Professional Documents
Culture Documents
) (1/5
) (1/9
التناول وسرعة الرجوع إلى تفسير الية من نفس الصفحة بدل من
الرجوع إليها من كتب التفاسير البعيدة .كما أنه سيعتني بتصحيح الصل
وجودة الطبع ،فأسأل الله أن يشكر للبن الشيخ عبد الرحمن بن معل
اللويحق هذا الصنيع المبارك وأن يجزيه أفضل الجزاء وأن ينفع بهذه
الطبعة كما نفع بسابقاتها وأن يجزي كل من ساهم في إخراج هذا
المشروع النافع أفضل الجزاء وأن يتغمد الجميع ومؤلف التفسير برحمته
إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم .حرر في
1416\9\27هـ
وكتبه الفقير إلى الله
عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل
رئيس الهيئة الدائمة بمجلس القضاء العلى سابقا
وعضو بمجلس القضاء العلى )متقاعد(
) (1/10
) (1/11
مقدمة المحقق
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ،ونعوذ بالله من شرور أنفسنا
وسيئات أعمالنا ،من يهده الله فل مضل له ،ومن يضلل فل هادي له،
وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك له ،وأشهد أن محمدا عبده
ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد:
فإن إنزال القرآن الكريم على هذه المة منة عظمى؛ لنه سبيل الهداية،
ْ
ع
ن ات ّب َ َ م ِ هدىً فَ َ مّني ُ م ِما ي َأت ِي َن ّك ُ ْ وطريق السلمة من الضلل والغواية } :فَإ ِ ّ
ضْنكا ً َ قى وم َ
ة َ ش ًمِعي َه َ نل ُ ري فَإ ِ ّ ن ذِك ْ ِ ض عَ ْ ن أعَْر َ َ َ ْ ش َ
َ
ل َول ي َ ْ ض ّدايَ َفل ي َ ِ هُ َ
مى { مةِ أعْ َ م ال ْ ِ
قَيا َ ح ُ
شُرهُ ي َوْ َ وَن َ ْ
ولكن الستفادة الحقة من هذا الكتاب الكريم تكون بدوام الصلة به علما
ه
ك ل ِي َد ّب ُّروا آَيات ِ ِ مَباَر ٌ ك ُ ب َأنزل َْناهُ إ ِل َي ْ َ
وعمل تلوة وتدبرا ،وفهما } :ك َِتا ٌ
ُ
ب { ومن سبل ذلك التدبر ،والفهم :النظر فيما كتب وَل ِي َت َذ َك َّر أوُلو الل َْبا ِ
أهل العلم في تفسير القرآن العظيم؛ فإن من كمال حفظ الله عز وجل
لهذا الذكر الحكيم أن قيض له جهابذة فهموا مراد الله عن الله وعن
رسوله صلى الله عليه وسلم فألفوا في ذلك كتبا بسطوا فيها ألفاظ
القرآن ،وأبانوا ما يعسر فهمه ،وفصلوا ما جاء فيه من القواعد والكليات،
ودفعوا التعارضات المتوهمة ،وبينوا مراجع الضمائر ،وعينوا المعاني
المرادة إذا احتمل الكلم أوجها متعددة وكانوا طرائق قددا في عنايتهم
بهذا الكتاب العظيم حتى جاء شيخ مشايخنا العلمة :عبد الرحمن بن ناصر
بن عبد الله بن سعدي رحمه الله فجعل جل عنايته بالمعاني التي هي
المراد العظم ،فكان كتابه فتحا في هذا العلم؛ إذ أوقف القارئ على
المراد ،وأعانه على تدبر التنزيل ،دون أن يقف به على المشغلت
الصارفات عن ذلك كالبحوث اللغوية الصرفة ،والسرائيليات ونحوها،
وليس ذلك عن قصور إذ ل يبلغ هذا المبلغ من القدرة على تسهيل
المعاني ،وبيان المراد إل من ملك من علوم اللة ،وسعة الطلع على كتب
التفسير ما يؤهله للقيام بهذه المهمة العظيمة.
ولقد من الله علي بالعناية بهذا التفسير ،ومحبة صاحبه رحمه الله وقراءة
التفسير وإقرائه ،والنصح بقراءته ،ومن الله علي بالعناية بطبعه في مجلد
واحد يهدم الحواجز النفسية الصادة عن قراءته في مجلداته السبعة التي
كان عليها في أشهر طبعاته السابقة ،وكان الهم منصرفا إلى ذلك ،ولم
يكن الذهن ملتفتا إلى طبعات الكتاب وما فيها من أخطاء حتى هاتفني
بعض أفاضل طلبة العلم من المشايخ الكرام كان منهم :فضيلة الدكتور:
عبد الرزاق بن الشيخ عبد المحسن العباد البدر ،وفضيلة الدكتور :خالد بن
عثمان السبت ،حيث جرت مهاتفات معهما ومقابلة للشيخ :عبد الرزاق
كانت فاتحة خير للهتمام بالتفسير وبنسخه المخطوطة ،وطبعاته فتبين أن
في الطبعات عوارا كثيرا ،وأن التفسير لم يخرج حتى الن على الصورة
التي تركها الشيخ -رحمه الله -وبيان ذلك يحتاج إلى تفصيل تأريخي لكتابة
الشيخ لهذا التفسير ،وما وقع من طباعته ،فرأيت أن أعرض المر مفصل
في هذه المقدمة حتى يستبين المر للقارئ الكريم ،ويرى ما يمكن أن
يفعله الكتبيون والناشرون في الكتب.
تأليف الشيخ للتفسير:
بدأ الشيخ -رحمه الله -تأليفه لهذا التفسير المبارك في عام 1342هـ
وأنهاه في عام 1344هـ.
وبهذا يظهر أنه قد بدأه وله من العمر خمسة وثلثون عاما وأتمه وله من
العمر سبعة وثلثون عاما.
) (1/13
والذي يقرأ التفسير يحسب أنه ل يمكن لمن كان في هذا السن أن يكتبه
إذ يمثل كتابة عالم ناضج متمكن من العلم وآلته ،واسع الطلع و } ذ َل ِ َ
ك
م {. سعٌ عَِلي ٌ شاُء َوالل ّ ُ
ه َوا ِ ن يَ َ ل الل ّهِ ي ُؤِْتيهِ َ
م ْ ض ُفَ ْ
وقد كتب نسخة واحدة ثم أمر من ينسخ له نسخة أخرى ،وبالتتبع والسؤال
يبدو لي أنه لم ينسخ من التفسير إل هاتان النسختان :نسخة الشيخ -رحمه
الله -والنسخة التي أمر النساخ بنسخها.
وابتغاء توضيح المر أبين تفاصيل متعلقة بهاتين النسختين مع وصف لهما:
النسخة الولى:
هذه النسخة هي التي كانت في حوزة الشيخ وملكه ،وهي في جملتها كما
سيظهر بخط الشيخ -رحمه الله -وهذا وصف لها:
تتكون هذه النسخة من تسعة أجزاء ،جعلها الشيخ رحمه الله في تسعة
مجلدات:
المجلد الول:
وقد كتب على غلفه )المجلد الول من تيسير الكريم الرحمن في تفسير
كلم المنان ،من منن الله على عبده ،وابن عبده ،وابن أمته :عبد الرحمن
بن ناصر بن عبد الله بن سعدي( ) (1وفوقها بخط الشيخ -رحمه الله-
ن
قْرآ َسْرَنا ال ْ ُ وبحرف صغير )هذه التسمية مأخوذة من قوله } :وَل َ َ
قد ْ ي َ ّ
نس َح َ
َ
حقّ وَأ ْ ك ِبال ْ َ
جئ َْنا َل ِإل ِ مث َ ٍ مد ّك ِرٍ { وقولهَ } :ول ي َأ ُْتون َ َ
ك بِ َ ن ُم ْل ِ ِللذ ّك ْرِ فَهَ ْ
سيًرا { وفي وسط الصفحة وبخط الشيخ أيضا" :شرعت في هذا ف ِ تَ ْ
التفسير المبارك غرة شهر ) ( ) (2سنة 1342هـ أرجو الله أن يتمه
بنعمته ".
وهذا المجلد بخط الشيخ -رحمه الله -وعليه هوامش وتعديلت بخطه أيضا،
ويقع في ) (150صفحة ،في كل صفحة ) (30سطرا تقريبا أوله المقدمة،
مات وَ َ ماَوا ِس َ ما ِفي ال ّ ثم تفسير الفاتحة إلى تفسير قوله تعالى } :وَل ِل ّهِ َ
م { الية ) حي ٌ فوٌر َر ِ ه غَ ُشاُء َوالل ّ ُ ن يَ َ
م ْ شاُء وَي ُعَذ ّ ُ
ب َ ن يَ َ
م ْفُر ل ِ َض ي َغْ ِ ِفي الْر ِ
(129من سورة آل عمران .
المجلد الثاني:
وهو بخط الشيخ -رحمه الله -ويقع في ) (192صفحة في كل صفحة )(30
سطرا تقريبا ،أوله تفسير الية ) (130من سورة آل عمران وهي قوله
َ ْ َ
ه ل َعَل ّك ُ ْ
م قوا الل ّ َة َوات ّ ُف ً
ضاعَ َم َضَعاًفا ُ مُنوا ل ت َأك ُُلوا الّرَبا أ ْ
نآ َ ذي َتعالىَ } :ياأي َّها ال ّ ِ
ن { وآخره :آخر تفسير سورة النعام. حو َ
فل ِ ُ
تُ ْ
المجلد الثالث:
وهو بخط الشيخ -رحمه الله -ويقع في ) (214صفحة في كل صفحة )(25
سطرا تقريبا أوله أول تفسير سورة العراف ،وآخره آخر تفسير سورة
هود.
المجلد الرابع:
وهو بخط الشيخ -رحمه الله -ويقع في ) (129صفحة في كل صفحة )(26
سطرا تقريبا أوله أول تفسير سورة يوسف ،وآخره آخر تفسير سورة
السراء.
__________
) (1يلحظ أن هذه العبارة كتبت على طرة كل مجلد بعد ذكر رقمه ،مع
اختلف يسير في بعض اللفاظ ،ففي طرة المجلد الثاني جاءت العبارة
هكذا) :المجلد الثاني من تيسير الكريم المنان في تفسير كلم الرحمن
لجامعه :عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن سعدي غفر الله له ولوالديه
وللمسلمين ..آمين( وفي المجلد الثالث) :المجلد الثالث من تيسير
الرحمن في تفسير القرآن لجامعة الفقير إلى الله :عبد الرحمن بن ناصر
بن سعدي(.
) (2الكلمة غير واضحة في الصل والذي يبدو أنه شهر صفر أو محرم لن
الشيخ أتم هذا الجزء في نهاية شهر ربيع الول.
) (1/14
المجلد الخامس:
وهو بخط الشيخ -رحمه الله -ويقع في ) (229صفحة في كل صفحة )(28
سطرا تقريبا ،أوله تفسير سورة الكهف وآخره آخر تفسير سورة النمل.
المجلد السادس:
وهذا المجلد بخط الشيخ :محمد بن منصور بن إبراهيم بن زامل -رحمه
الله -أتم كتابته في 24رجب سنة ) 1345هـ( وهو خط جميل ،ولكنه كثير
الخطاء ،ويفصل بين جزئي الكلمة في سطرين ،ويكثر هذا منه مما يربك
القارئ.
وعلى هذا الجزء هوامش وتعديلت بخط الشيخ عبد الرحمن بن سعدي
-رحمه الله -ويقع في ) (142صفحة في كل صفحة ) (29سطرا تقريبا،
أوله تفسير سورة القصص ،وآخره آخر تفسير سورة الصافات.
المجلد السابع:
وهو بخط الشيخ -رحمه الله -ويقع في ) (153صفحة في كل صفحة )(28
سطرا تقريبا ،أوله :تفسير سورة )ص( وآخره :آخر تفسير سورة الفتح.
المجلد الثامن:
وهو بخط الشيخ -رحمه الله -ويقع في ) (146صفحة في كل صفحة )(29
سطرا ،أوله أول تفسير سورة الحجرات ،وآخره آخر تفسير سورة
القيامة.
المجلد التاسع:
وهو بخط الشيخ -رحمه الله -ويقع في ) (50صفحة في كل صفحة )(30
سطرا تقريبا ،أوله تفسير سورة النسان ،وآخره آخر تفسير سورة الناس.
النسخة الثانية:
المجلد الول:
وقد كتب عليه) :المجلد الول من تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن
لمعلقه الفقير إلى الله عبد الرحمن بن ناصر السعدي غفر الله له
ولوالديه وجميع المسلمين( وهكذا كتبت هذه العبارة أو قريبا منها باختلف
يسير على طرة كل مجلد.
وفي وسط الصفحة ما يلي) :تنبيه :اعلم أن طريقتي في هذا التفسير أني
أذكر عند كل آية ما يحضرني من معانيها ،ول أكتفي بذكر ما يتعلق
بالمواضع السابقة عن ذكر ما تعلق بالمواضع اللحقة؛ لن الله وصف هذا
الكتاب أنه "مثاني " تثنى فيه الخبار ،والقصص ،والحكام ،وجميع
المواضيع النافعة ،لحكم عظيمة ،وأمر بتدبره جميعه؛ لما في ذلك من
زيادة العلوم والمعارف ،وصلح الظاهر والباطن ،وإصلح المور كلها(.
وكثير من هذا المجلد بخط الشيخ -رحمه الله -إل الصفحات ما بين
الصفحة ) (36والصفحة ) (96فهي بخط مغاير لخط الشيخ -رحمه الله-
وبداية المجلد ونهايته كالنسخة الولى.
المجلد الثاني:
" وهو بخط الشيخ علي الحسن العلي الحسن البريكان ،وبداية المجلد
ونهايته مثل النسخة الولى ،وللشيخ
) (1/15
عبد الرحمن السعدي رحمه الله عليه تصويبات مما يدل على أنه قرأه
ويقع في ) (177صفحة في كل صفحة ) (31سطرا تقريبا.
المجلد الثالث:
وقد نسخ هذا المجلد ناسخان بدأ الول بنسخ اثني عشرة صفحة ولكن
خطه سقيم ،وأخطاءه كثيرة ولذلك كتب الشيخ رحمه الله بخطه على
الصفحة الثانية) :الصحائف الولى من هذا الجزء خطها سقيم ،المل
التأني فيها عند تصحيحها( ثم نسخت الصحائف التالية إلى آخر الجزء بخط
مغاير أمثل من الخط الول ،ولم يكتب على هذا الجزء اسما الناسخين.
ويقع هذا الجزء في ) (152صفحة كل صفحة ) (31سطرا .وبداية المجلد
ونهايته كمثيله في النسخة الولى.
المجلد الرابع:
وهذا الجزء بخط الشيخ سليمان الحمد البسام وللشيخ عبد الرحمن
السعدي عليه بعض تصويبات بخط يده رحمه الله ويقع في )(103
صفحات في كل صفحة ) (28سطرا وبداية المجلد ونهايته كما في
النسخة الولى.
المجلد الخامس:
وهذا المجلد هو الذي بعث به الشيخ رحمه الله للطباعة أول المر.
وكتب الشيخ بخط يده المقدمة التي طبعت مع هذا الجزء أول ما طبع،
وهي مقدمة أثبتها في هامش هذه الطبعة عند أول تفسير سورة الكهف،
وهذا المجلد نقل عن خط الشيخ المؤلف رحمه الله وليس عليه اسم
كاتبه ،وقد ألحق الشيخ رحمه الله به أصول من أصول التفسير ،وتفسير
ألفاظ عامة يكثر في القرآن ورودها ويحتاج إلى معرفتها( وهي بخط
الشيخ رحمه الله وقد جعلتها ملحقة بهذه الطبعة في آخر التفسير.
وفي آخر الجزء فهرس لمحتوياته ،ثم نقل للخطاب الموجه من الشيخ
رحمه الله إلى الشيخ محمد نصيف رحمه الله وقد أرخ في 30/2/1374
هـ ونص الخطاب تجده في هذه المقدمة وعدد صفحات هذا المجلد )
(214صفحة في كل صفحة من صفحات هذا الجزء ) (30سطرا ،أوله
تفسير سورة الكهف ،وآخره آخر تفسير سورة النمل ثم بعدها أصول من
أصول التفسير وتفسير السماء الحسنى.
المجلد السادس:
وهذا المجلد بخط الشيخ رحمه الله وبدايته من أول سورة القصص ونهايته
بنهاية تفسير سورة الصافات .وعدد صفحات هذا الجزء ) (154صفحة في
كل صفحة ما بين ) (28 -25سطرا وبدايته ونهايته كمثيله في النسخة
الخرى.
المجلد السابع:
وهو بخط الشيخ :سليمان بن حمد العبد الله البسام رحمه الله وعدد
صفحات هذا الجزء ) (122صفحة في كل صفحة ) (22سطرا ،وبداية
الجزء ونهايته كمثيله في النسخة الخرى.
المجلد الثامن:
وهو بخط الشيخ رحمه الله وعدد صفحات هذا الجزء ) (201صفحة.
ويبدأ من أول تفسير سورة الحجرات وينتهي بتفسير سورة الناس.
وبهذا فإن هذه النسخة تحتوي على ثمانية أجزاء بينما النسخة الخرى على
تسعة أجزاء.
) (1/16
هذا عن نسخ التفسير المخطوطة وأما طباعته فقد كانت فاتحتها طباعة
الجزء الخامس منه ،إذ بعث الشيخ رحمه الله إلى الشيخ محمد نصيف
رحمه الله برسالة مدونة في خاتمة المجلد الخامس من النسخة )ب(
مؤرخة في 30/2/1374هـ .وقد نقلت من خط الشيخ بخط مغاير هذا
نصها :بسم الله الرحمن الرحيم ،حضرة محترم المقام الشيخ محمد
نصيف حفظه الله آمين.
السلم عليكم ورحمة الله وبركاته .سبق جواب كتابكم المل وصوله ،ثم
إننا نكلفكم حيث أرسلت لكم تفسيرنا الكبير المجلد الخامس منه وقع
النظر على القتصار على طبعه فجعلنا له مقدمة وختمناه بأصول وكليات
من أصول وكليات التفسير ،ونريد أن يطبع منه خمسة آلف نسخة،
وأحببت أن يكون الختيار لجنابكم في اختيار من يتولى طبعه ،إما محب
الدين الخطيب أو الشيخ حامد أو من ترجح وتحثه على العناية التامة فيه،
ولو زاد علينا المصرف ،وقد وصيت الشيخ :عبد الله المحمد العوهلي
يسلم لكم كل الذي تطلبون لجل طبعه وأرجو الله أن يثيبكم الثواب
الجزيل ،ويشكر مساعيك ويجزيك عنا أفضل الجزاء فأنت طال عمرك
عوض النفس في كل شيء والله الموفق والسلم .محبك ) (1عبد
الرحمن الناصر السعدي وتنبه الطابع على طبع خاتمة
الصول وكليات التفسير للحاجة الشديدة إليها
وقد أبان الشيخ -رحمه الله -عن مقصوده من إفراد هذا الجزء بالطباعة
في المقدمة التي كتبها لهذا الجزء ) (2فقال :وقد تكرر علي السؤال من
كثير من الصحاب في نشر تفسيرنا هذا جميعه وألحوا لما يرونه من
الفائدة الكبيرة فاعتذرت بأن ذلك يصعب جدا؛ لنه مبسوط ،وأيضا في
هذه الوقات قلت رغبات الناس في الكتب المطولة ،لذلك أحببت إجابتهم
لنشر بعض ما طلبوا وهو القتصار على جزء واحد من أجزاء هذا التفسير،
ووقع الختيار على الجزء الوسط من سورة الكهف إلى آخر النمل فما ل
يحصل جميعه ل يترك جميعه( .وقد طبع هذا المجلد عام 1375هـ ،ثم
بعث الشيخ -رحمه الله -ببقية أجزاء الكتاب للشيخ محب الدين الخطيب
-رحمه الله -فأتم طباعة الكتاب كله ،فطبع الكتاب في عام 1376هـ،
وقبل وفاته بشهر تقريبا بعث إلى شيخنا عبد الله بن عقيل رسالة قال
فيها) :التفسير مثل ما ذكرت لك ،وصلني منه الجزء الول عدة ملزم من
زمان ،وبعد ذلك ما جاءنا عنه خبر( ) (3وبعدها بعشرة أيام بعث برسالة
أخرى قال فيها) :أفيدكم وصلني ملزم أيضا من الجزء الثاني ،وبقية الجزء
الول من التفسير ،ويذكر الشيخ نصيف أنهم إن شاء الله مجتهدون في
إنجازه ،يسر الله ذلك وسهله( ) . (4وبهذا يتبين أن الشيخ رحمه الله لم
ير الكتاب كامل ويبدو أنه لم يبد ملحظات على ما طبع منه ،إذ توفى بعد
رسالته السابقة بشهر تقريبا.
وتتميز هذه الطبعة أول بالسبق الزمني فإنها أول الطبعات ،وهي أصل
جميع الطبعات السابقة فليس هناك طبعة إل وكان أصلها عائدا إلى هذه
الطبعة .وهي بذلك أسلم من غيرها ،وأقل في الخطاء والتصحيفات
والتحريفات ،وهذا ل يعني جودتها ،وموافقتها للصل ،إذ ثم ملحظ ل بد
من بيانها:
__________
) (1تصحفت الكلمة في النسخة إلى) :محمد( ،لن الخطاب فيما يظهر
منقول عن كتابة الشيخ -رحمه الله -فهو بخط مغاير لخط.
) (2انظر نص المقدمة عند أول تفسير سورة الكهف من هذه الطبعة.
) (3الجوبة النافعة عن المسائل الواقعة ).(296
) (4الجوبة النافعة عن المسائل الواقعة ).(298
) (1/17
الملحظ الول:
التصرف في طريقة الشيخ في تفسير اليات ،حيث يعمد الشيخ -رحمه
الله -إلى ذكر اليات أحيانا ،وأحيانا يقول إلخ القصة ،إذا كانت قصة من
القصص وأحيانا يورد كلما في سياق التفسير ل يقصد به ذكر الية فيغير
المصححون ذلك فيقومون بإيراد اليات كاملة ،ويغيرون كلمه ويشطبون
في المخطوطة ،ويضعون الية أو اليات بدل منه.
ومن أمثلة ذلك:
إن الشيخ رحمه الله أورد قصة قارون هكذا) :إن قارون كان من قوم
موسى فبغى عليهم( إلى آخر القصة فشطب المصححون على قوله) :إلى
آخر القصة( ،وأوردوا اليات كاملة ،وهي في هامش النسخة بخط
المصحح.
وكذا عند إيراد قصة لوط في سورة العنكبوت حيث أورد اليات من قوله
قوْم ِصْرِني عََلى ال ْ َ ب ان ْ ُ ل َر ّ مهِ { إلى قولهَ } :قا َ قوْ ِ ل لِ َ طا إ ِذ ْ َقا َ تعالى } :وَُلو ً
قوْم ٍ ة لِ َة ب َي ّن َ ًمن َْها آي َ ًقد ْ ت ََرك َْنا ِن { فأتموا اليات إلى قوله } :وَل َ َ دي َ
س ِ ف ِم ْ ال ْ ُ
ن { وهي في هامش النسخة بخط المصحح. قُلو َ ي َعْ ِ
الملحظ الثاني:
التصرف في تقسيم الكتاب ،حيث قسم الشيخ التفسير إلى ثمانية أجزاء
في إحدى النسخ وتسعة في الخرى ،وكانت النسخة التي اعتمدت عليها
المطبعة السلفية في ثمانية أجزاء ينتهي الول منها بنهاية تفسير قوله
بشاُء وَي ُعَذ ّ ُ ن يَ َ م ْفُر ل ِ َ ض ي َغْ ِ
ما ِفي الْر ِ ت وَ َ ماَوا ِ س َ ما ِفي ال ّ تعالى } :وَل ِل ّهِ َ
م { في سورة آل عمران ) (129فجعلوا نهاية حي ٌ فوٌر َر ِ ه غَ ُ شاُء َوالل ّ ُ ن يَ َ م ْ َ
الجزء بنهاية تفسير سورة آل عمران ،وكتبوا في نهاية الجزء )تم المجلد
الول من تيسير الرحيم الرحمن في تفسير القرآن عن نسخة مؤلفه
العلمة الجليل الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ويليه المجلد الثاني
وأوله تفسير سورة النساء ،والحمد لله رب العالمين( ) (1وليس المر كما
قالوا بل تقسيم النسخة التي اعتمدوها على خلف ما ذكروا.
الملحظ الثالث:
الزيادات ،لقد زاد القائمون على هذه الطبعة في التفسير زيادات وإن
كانت يسيرة إل أنه لم يتم الشارة إليها ل في المقدمة ،ول في مواضع
الزيادات فمن ذلك:
-1زيادة رقم الجزء من أجزاء القرآن الكريم قبل بدايته فقبل بداية الجزء
الثالث كتبوا عنوانا في وسط الصفحة )الجزء الثالث( ) (2وكذا عند الجزء
الرابع وليس في النسخة المخطوطة شيء من ذلك ،ولم يشيروا إلى
كونها ليست من كلم الشيخ رحمه الله.
-2زيادة جملة) :قوله تعالى( أو) :قال تعالى( في مواضع كثيرة ومن أمثلة
ذلك زيادتها في أول سورة النساء مع أن عادة الشيخ -رحمه الله -أن يبدأ
الكلم بذكر اليات المفسرة بعد البسملة ). (3
خذ َْنا َ
-3زيادة قوله من ديارهم ،وذلك في تفسير قوله تعالى } :وَإ ِذ ْ أ َ
م { الية ،حيث ن دَِيارِك ُ ْ م ْم ِ سك ُ ْف َ ن أ َن ْ ُ
جو َخرِ ُم َول ت ُ ْ ماَءك ُ ْ ن دِ َكو َ ف ُ س ِ م ل تَ ْ ميَثاقَك ُ ْ ِ
قال الشيخ) :ففرض عليهم أن ل يسفك بعضهم دم بعض ،ول يخرج
بعضهم بعضا وإذا وجدوا أسيرا منهم وجب عليهم فداؤه( فزادوا جملة من
ديارهم فصار النص
__________
).(288 /1) (1
).(1/149) (2
) (3المخطوطة ب ) (23 /2وطبعة السلفية ).(2/3
) (1/18
) (1/19
محمد زهري النجار بتصحيح الكتاب ،والنجار يوصف بأنه من علماء الزهر،
وله بعض العمال الخرى كتصحيحه لكتاب الم للشافعي ،وهذه الطبعة
طبعة تميزت بأنها أضحت الطبعة المعتمدة لسائر طبعات التفسير بعدها
بل اعتمدت طبعها الرئاسة العامة للفتاء والدعوة والرشاد في المملكة
العربية السعودية ،وقد كان ذلك لحسانهم الظن في المؤسسة
ومصححها ،ولقد تبين لي جملة من الملحظ تظهر عوار تلك الطبعة أذكر
هنا جملة منها:
الملحظ الول:
اعتماد هذه الطبعة اعتمادا كليا على الطبعة السلفية ،دون الشارة إلى
ذلك في مقدمة الطبعة ،وهذا العتماد جعل الملحظ المذكورة سابقا على
الطبعة السلفية تصدق على هذه الطبعة أيضا ،بل قد زادت طبعة النجار
المر فجمعت إلى ذلك ملحظ أخرى أشد وأخطر ،ولو أن الطبعة السلفية
صورت بدل أن يعهد بتصحيحها إلى النجار لكان المر أهون.
الملحظ الثاني:
التصرف في مواقع اليات من التفسير:
لقد جرت عادة الشيخ -رحمه الله -أن يبدأ فيذكر اليات التي يريد
تفسيرها كاملة ثم يشرع في تفسيرها مجزأة عقب ذلك ،وفي بعض
الحيان يقوم رحمه الله بذكر اليات إذا كانت قصصا للنبياء فيقول إلى
آخر القصة ،وفي أحيان قليلة يغفل ذكر اليات كاملة فيشرع في تفسيرها
مباشرة ،وعلى ذلك يجري سياق التفسير ،ولكن النجار عمد إلى جعل
اليات في أعلى الصفحة ،وجعل بينها وبين التفسير خطا ثم حذف اليات
في التفسير ،ومن هنا يأتي اضطراب السياق في بعض الحيان فيضطر
إلى حذف بعض الكلمات أو الضافة أو نحو ذلك.
الملحظ الثالث:
التصرف بالزيادة:
إن من أعجب ما عمل النجار أن زاد في التفسير ففي بعض المواضع ترك
الشيخ -رحمه الله -تفسير بعض اليات سهوا ،فيقوم النجار بتفسيرها من
عنده.
وفي مواضع أخرى تكون النسخة التي اعتمدت عليها الطبعة السلفية
ناقصة؛ لن الناسخ تجاوز اليات فيقوم النجار من قبله بتفسير هذه اليات.
وهذه المواضع كثيرة جدا تصل في بعض المواقع إلى صفحات ،وفي
بعضها إلى أسطر ،وفي أخرى إلى كلمات ،وهذه أمثلة لها:
ا -سقط من النسخة الخطية )ب( تفسير الية ) (207من سورة البقرة
تضا ِ
مْر َ
ه اب ْت َِغاَء َ
س ُ
ف َ
ري ن َ ْ ن يَ ْ
ش ِ م ْ
س َ
ن الّنا ِ
م َ
وهي قول الله عز وجل } :وَ ِ
ف ِبال ْعَِبادِ { وبناء على سقوطها من النسخة سقطت من الل ّهِ َوالل ّ ُ
ه َر ُ
ؤو ٌ
الطبعة السلفية فجاء النجار ففسر الية من عنده ،وبدأ بمعاني المفردات،
ورجع إلى جملة مراجع؛ كالقاموس والصحاح ،وتفسير ابن كثير ،ولم يشر
إلى أن الكلم من كلمه ،وليس من كلم الشيخ -رحمه الله -وقد وقع هذا
في صفحتين ونصف من طبعته ابتداء من منتصف الصفحة ) (252من
المجلد الول إلى نهاية ص ) ،(254والقارئ للكلم يعلم أنه ليس من كلم
الشيخ -رحمه الله -لن الشيخ ل ينقل من مصادر ،وإنما يفسر بما فتح الله
عليه كما قرر ذلك في أول الكتاب.
-2ومن الزيادات الطويلة التي زادها النجار زيادته في تفسير اليات رقم
) (107 -105من سورة النعام حيث تجاوزها الشيخ فلم يفسرها ففسرها
النجار في الصفحات ذوات الرقام ) (452 ،451 ،450من
) (1/20
الجزء الثاني ،ولم يشر إلى التصرف ،وظاهر من أسلوبه أنه ليس أسلوب
الشيخ حيث أتى ببعض العرابات والمعاني اللفظية ثم ذكر المعنى
الجمالي .ومن عجيب أمره أنه في الصفحة ) (449تصرف تصرفا يسيرا
بأن قدم كلمة على أخرى ،وأشار في الهامش إلى ذلك التصرف ،ولم
يشر إلى تصرفه بزيادة ثلث صفحات.
-3في تفسير اليتين ) (51 ،50من سورة الحج سبق قلم الشيخ -رحمه
مُنوانآ َ ذي َ الله -إلى الية رقم 56فجمع بينهما وبين هذه الية فكتب } َفال ّ ِ
ُ
ك ل َهُ ْ
م فُروا وَك َذ ُّبوا ِبآيات َِنا فَأول َئ ِ َ
ن كَ َ ت الن ِّعيم ِ َوال ّ ِ
ذي َ جّنا ِ ت ِفي َحا ِصال ِ َمُلوا ال ّ
وَعَ ِ
ن { ثم فسر الية على وفق ما كتب ،فعمد النجار إلى تغيير مِهي ٌ
ب ُذا ٌعَ َ
التفسير والزيادة زيادة طويلة يصل مجموعها إلى صفحة ونصف الصفحة
تقريبا ) (1ولم يشر إلى شيء من التعديل.
-4ومن الزيادات العجيبة أن الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمه الله-
ن{ ري َ من ْظ َ ِ كاُنوا ُ ما َ
ض وَ َ
ماُء َوالْر ُ س َم ال ّ ت عَل َي ْهِ ُ
ما ب َك َ ْ
أورد قوله سبحانه } :فَ َ
من الية رقم ) (29من سورة الدخان ،في سياق تفسيره للية رقم )(41
من سورة المؤمنون ،مستشهدا بها ،ولكن يبدو أن النجار ظنها من
السورة نفسها ففسرها تفسيرا من عند نفسه ونسبه إلى الشيخ ،ولم
يعلق ،ولم يبين أنه من كلمه ،وهذه الزيادة تقع في صفحة تقريبا ). (2
ومن عجيب حاله أنه يعلق أحيانا في الهامش على زياداته وكأنها تعليق
على كلم الشيخ رحمه الله ). (3
الملحظ الرابع:
الحواشي والتعقبات:
لقد قام النجار بتعقب الشيخ رحمه الله في مواضع كثيرة من التفسير
ووضع هوامش لتلك التعقبات فتعدى )مهمته ،وتجاوز طوره ،فراح يعلق
على هذا التفسير القيم بآراء بعدت عن الصواب ،وجانبت الحق في أجلى
معانيه مما شوه به هذا الكتاب ،وأساء إلى المؤلف ،وغش القراء ،وأضل
الناشئة كما أنه اعترض على المؤلف ،ورد أقواله بآراء من عنده لم يوفق
فيها إلى الحق والصواب ،مع أنه ليس من حقه ذلك ،ول من مهمته أن
يعترض على المؤلف فيما اختاره ،وإنما مهمته هي تحقيق النص
وتصحيحه( ). (4
)والذي في أول الكتاب من هذه التعقبات اعتراضات بسيطة على عبارة،
أو لفظة أو نحوها ،أما الذي في وسطه وآخره فهي اعتراضات وخيمة
تحريف لكلم الله ،وغلو في النبياء صلوات الله وسلمه عليهم ،وتنقص
للعلماء وكذب عليهم( ). (5
ولقد كان في معظم تعليقاته متهما للشيخ وأسلوبه وهذه بعض تعبيراته
التي تظهر ذلك قال) :والعبارة قلقة كما ترى( )) (6العبارة مبهمة تحتاج
إلى إيضاح( )) (7العبارة فيها شيء من الضطراب فالوضح أن يقال( )(8
)وفي العبارة غموض كما ترى( ). (9
__________
) (1انظر طبعة النجار ، 309 ، 308/ 5وقارنه بما في هذه الطبعة.
) (2ينظر طبعة النجار ).(5/350
) (3ينظر طبعة النجار ).(254/ 1
) (4الشيخ محمد سليمان البسام :كشف الستار عن تلفيق وتعليق النجار
على تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي ).(7
) (5المصدر السابق ).(9
).(104 /1) (6
).(159 /1) (7
).(240 /1) (8
).(346 /1) (9
) (1/21
ولقد أبان الشيخ محمد بن سليمان البسام عوار تلك التعقبات بيانا شافيا
في رسالة مستقلة عنوانها) :كشف الستار عن تلفيق وتعليق النجار على
تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي(.
وذكر أمثلة كثيرة دالة على أخطاء النجار فيما زعمه من أخطاء وقع فيها
الشيخ -رحمه الله -وأكتفي بالحالة على تلك الرسالة الماتعة ،ففيها نقد
علمي قوي لخطاء ظاهرة وقع فيها النجار وأشير هنا إلى ثلث تعقبات
فقط أبين من خللها شيئا يسيرا من سوء صنيع النجار ،وأما التعقبات التي
تحتاج إلى نقد علمي فأحيل فيها إلى رسالة الشيخ محمد البسام.
-1وقوع النجار في الخطأ ثم تخطئة الشيخ رحمه الله به:
هَ
لل ُ قَها َفل ت َ ِ
ح ّ ّ َ
ن طل َ قال الشيخ -رحمه الله -في تفسيره قوله تعالى } :فَإ ِ ْ
جا غَي َْرهُ { "أي نكاحا صحيحا ويطأها؛ لن النكاح ح َزوْ ً
حّتى ت َن ْك ِ َ
ن ب َعْد ُ َ
م ْ
ِ
الشرعي ل يكون إل صحيحا ،ويدخل فيه العقد والوطء ،وهذا بالتفاق(
هكذا في النسختين وفي الطبعة السلفية التي اعتمد عليها النجار ،ولكنه
أسقط )إل( فصارت العبارة" :لن النكاح الشرعي ل يكون صحيحا" وهذا
فعله ،وليس فعل الشيخ -رحمه الله -ثم قال النجار في الهامش قوله:
"لن النكاح الشرعي إلخ" في العبارة اضطراب ،والصواب أن يقال" :لن
النكاح الشرعي الصحيح ،يدخل فيه العقد والوطء بإجماع العلماء" فأخطأ
النجار ثم خطأ الشيخ ،وعدل خطأ الشيخ بزعمه.
-2إقحام تعليقات ل محل لها فمن ذلك .قال الشيخ -رحمه الله" -والظلم
الذي بين العبد وربه فيما دون الشرك تحت المشيئة والحكمة" .قال
النجار) :وفي هذا المعنى قال صاحب جوهرة التوحيد :ومن يمت ولم يتب
من ذنبه فأمره مفوض لربه
-3الستدراك في غير محله :قال الشيخ -رحمه الله" -فالشكر فيه بقاء
النعمة الموجودة وزيادة في النعم المفقودة" .قال في الهامش قوله:
"فالشكر فيه بقاء النعم ..إلخ " عبر العلماء عن هذا المعنى بقولهم:
"الشكر قيد للموجود ،وصيد للمفقود" ) (1فكأنه خطأ الشيخ في اختيار
اللفظ وليس هذا بخطأ بل المر واسع في اختيار اللفظ المناسب.
الملحظ الخامس:
سوء توزيع النص
حيث قام بإعادة توزيع النص إلى فقرات وعمد إلى أن تكون تلك الفقرات
قصيرة جدا وعليه فقد فرق أجزاء الجملة بين السطر ،وقطع الكلم عن
سياقه إذ نجد فعل الشرط في سطر وجوابه في آخر ،والمعلول في سطر
وتعليله في آخر ،ولذلك تضخم التفسير جدا مع أن صفحاته يمكن أن تكون
أقل من ذلك بكثير ،والله أعلم بالهدف من وراء ذلك التضخيم.
إن هذه الملحظ ليست إل أمثلة دالة على أن عمل النجار لم يكن عمل
أمينا على هذا التفسير.
وبمجمل هذا العرض يتضح أن التفسير لم يخرج بصورته التي كتبها الشيخ
-رحمه الله -إذ جميع الطبعات كانت نسخا مكرورة عن طبعة النجار ،التي
اعتمد فيها صاحبها على الطبعة السلفية ،والطبعة السلفية اعتمدت على
النسخة الثانية التي لم تكن بخط الشيخ وكان فيها بعض النقص وبعض
التحريف من النساخ.
ولما كان المر بهذه الصورة التي تظهر الحاجة الماسة إلى إخراج هذا
التفسير المبارك إخراجا علميا مصححا كما أراده الشيخ رحمه الله فقد
عمدت إلى العمل ثلث سنين في هذا الكتاب راجيا أن يكون العمل
__________
).(175 /1) (1
) (1/22
) (1/23
الثالث :أنها سالمة من التعديل والشطب اللذين وقعا من النساخ أو
الطابعين أو المصححين بعكس النسخة )ب( فإن هذه النسخة سلمت
للمطبعة السلفية ،فكان المصححون للطبعة يعدلون عليها ويشطبون ،بل
تجد على هوامشها أسماء )عمال الصف( فنجد اسم )محمود( أو فلن
منهم وذلك لتوزيع العمل عليهم ،بينما النسخة )أ( لم تمسها اليدي
بشطب أو تعديل.
الرابع :سلمة هذه النسخة من الخروم والنقص لن معظمها بخط الشيخ
-رحمه الله -بينما النسخة )ب( كتب معظمها بخطوط النساخ فوقع فيها
بعض النقص والخروم.
الخامس :أنها أجود كثيرا من النسخة الخرى في إملئها بينما تجد في
النسخة )ب( أخطاء ظاهرة.
ثانيا :يلحظ أنني ذكرت في وصف النسختين أن معظم النسخة الولى
كان بخط الشيخ -رحمه الله -وأن النسخة الثانية في جملتها بخطوط
النساخ وهذا توضيح تفاوت الكتابة على التفصيل مع بيان ما قمت به حيال
ذلك التفاوت:
-1أجزاء كانت في النسختين بخط الشيخ -رحمه الله -وذلك مثل كثير من
المجلد الول ،والمجلد الثامن ،والتاسع ،وفي هذه الجزاء يلحظ وجود
الشكالت التية:
)أ( أن الشيخ -رحمه الله -في المجلد فسر اليات من قوله تعالى:
ن { سورة موا ل ِل ّهِ َقان ِِتي َ
طى وَُقو ُ س َصلةِ ال ْوُ ْ ت َوال ّ صل َ َ
وا ِ ظوا عََلى ال ّ
حافِ ُ } َ
ما ِفي البقرة ،الية ، 238 :إلى نهاية تفسير قوله تعالى } :وَل ِل ّهِ َ
فوٌر شاُء َوالل ّ ُ
ه غَ ُ ن يَ َ
م ْ ب َشاُء وَي ُعَذ ّ ُ
ن يَ َم ْفُر ل ِ َ
ض ي َغْ ِ
ما ِفي الْر ِ ت وَ َ
ماَوا ِ
س َ ال ّ
م { سورة آل عمران ،الية 129 :تفسيرا جديدا فليس ما في حي ٌَر ِ
النسختين متوافقا بل هو متغاير من حيث اللفاظ والصياغة والسلوب
وكأن الشيخ -رحمه الله -كتب ذلك مرتين ،ولم يكن هناك احتمال لن
يكون الكلم ليس بكلمه ،لن ما في النسختين بخطه -رحمه الله -وروح
الكلم وأسلوبه هو ذات أسلوب الشيخ -رحمه الله -وقد قلبت النظر بين
خيارات عدة ،وكان ما استقر الرأي عليه أن أجعل في صلب التفسير ما
كان في النسخة )أ( وهي النسخة التي توفي الشيخ -رحمه الله -وهي في
بيته ،وأما ما في النسخة )ب( وهو المطبوع في طبعات الكتاب السابقة
فقد جعلته في ملحق في آخر التفسير.
)ب( أن الشيخ -رحمه الله -في المجلد الثامن من بداية سورة الحجرات
وحتى نهاية التفسير نسخ التفسير بخطه نسخة ثانية ،ولكنه كان يعدل في
اللفاظ ويزيد في الكلمات وينقص منها ،ولذلك تفاوت حجم المقابلة بين
بعض أجزاء الكتاب بشكل واضح ،حيث تجد فروقا كبيرة بين النسختين
في أجزاء ول تجد إل اليسير من الفروق في أجزاء أخرى.
)ج( أن بعض الجزاء كانت في النسخة )أ( بغير خط الشيخ -رحمه الله-
وفي النسخة )ب( بخط الشيخ -رحمه الله -كما في المجلد السادس وهنا
كثرت الخطاء في النسخة )أ( وقلت في )ب( فاستفدت من )ب( في
المقابلة وجعلت جل اعتمادي عليها إذ هي أصح لول ما عابها من تعديلت
مصححي المطبعة السلفية عليها.
ثالثا :الزيادات :جاءت زيادات في إحدى النسختين عن الخرى وقد جعلت
الزيادات بين قوسين مركنين ] [ وهي على ثلثة أنواع:
الول :الزيادات التي في الصل على )ب( وقد جعلتها بين قوسين
مركنين ،دون إشارة في الهامش إلى شيء.
الثاني :الزيادات التي في )ب( وقد جعلتها بين قوسين مركنين ،وأشرت
إلى الزيادة في الهامش بقولي :زيادة في ب ،وهذا النوع من الزيادات
يكثر في الجزاء التي كانت بخط الشيخ -رحمه الله -في النسختين
كلتيهما.
) (1/24
الثالث :الزيادات التي جعلتها لقتضاء السياق وعدم استقامته بدونها فقد
جعلتها بين قوسين مركنين وأشرت إلى الزيادة في الهامش بقولي:
)زيادة يقتضيها السياق(.
وبعد ،فيلحظ إني لم أثبت تخريج الحاديث في الكتاب ،لن ما في الكتاب
من الحاديث ليس بالكثير ،ومعظم ما نقل -رحمه الله -هو من صحيح
البخاري ومسلم ،كما لم أفهرس فهرسة تفصيلية ،لن الفهرسة التي
يمكن أن يستفاد منها هي الفهرسة الموضوعية للفوائد اليمانية،
والتربوية ،والسلوكية ،والعلمية ،ونحوها التي في الكتاب ،وإذا نظرنا إلى
الفهرسة بهذا العتبار فإن الكتاب يحتاج إلى فهرسة كبيرة وطويلة جدا
يمكن الستغناء عنها بقراءة الكتاب لمريد الستفادة ،وأما الفهارس
التفصيلية لليات والحاديث والعلم أو القبائل ..ونحوها ،فإن طبيعة
التفسير ل تدل على الحاجة لذلك ،وإن عمل على هذا التفسير فإنما هذا
العمل نوع من التزيد والتكثر ل حاجة له.
وبعد فهذا الجهد الذي بذلت وهو جهد استغرق ثلثة أعوام قرأت فيها
التفسير قراءة مقابلة ثلث مرات واجتهدت في إخراج التفسير على أتم
الوجوه -قدر المكان -وما كان لي أن أصل إلى هذا لول فضل الله عز
وجل فله الحمد أول وآخرا وظاهرا وباطنا.
ثم الشكر من بعد لمن كان عونا لي في إخراج هذا التفسير بأي وجه من
أوجه العون وأخص بالذكر صاحبي الفضيلة العالمين الجليلين الشيخ محمد
بن صالح العثيمين ،والشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل .وفضيلة
والدي الكريم الشيخ معل اللويحق ،والمشايخ الفضلء الدكتور عبد الرزاق
بن عبد المحسن البدر الذي أعانني على الحصول على النسخة الثانية )ب(
لمخطوط التفسير ،وأبدى من جميل الملحوظات ما كان عونا لي على
ضبط العمل ،والدكتور خالد السبت ،الذي كانت مهاتفاته بداية حفز لعادة
العمل في التفسير ،والشيخ صالح الهبدان ،والشيخ عبد الرحمن الراجحي،
والشيخ محمد الخضيري ،والخوة الذين عملوا معي في المقابلة فأمضوا
وقتا طويل في سبيل ذلك ،وبذلوا جهدا ل أنساه في إعانتي الشيخ إدريس
حامد محمد ،والشيخ تراوري مامادوا ،والخ فيصل بن طلع المطيري
فللجميع مني الشكر والعرفان والدعاء بالتوفيق والتسديد.
وأسأل الله المغفرة عما وقع من تقصير ،واستمد منه العون فهو وحده
المستعان.
والحمد لله أول وآخرا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله
وصحبه .وكتب
عبد الرحمن بن معل اللويحق المطيري
بعد عشاء ليلة الثامن والعشرين
من شهر ذي القعدة عام 1419هـ
) (1/25
تنبيه
اعلم أن طريقتي في هذا التفسير أني أذكر عند كل آية ما يحضرني من
معانيها ،ول أكتفي بذكر ما تعلق بالمواضع السابقة عن ذكر ما تعلق
بالمواضع اللحقة؛ لن الله وصف هذا الكتاب أنه )مثاني( تثنى فيه الخبار
والقصص والحكام ،وجميع المواضيع النافعة لحكم عظيمة ،وأمر بتدبره
جميعه ،لما في ذلك من زيادة العلوم والمعارف وصلح الظاهر والباطن،
وإصلح المور كلها ). (1
__________
) (1هذا التنبيه جعله الشيخ -رحمه الله -على غلف المجلد الول فصدرت
به التفسير كما فعل -رحمه الله.-
) (1/27
مقدمة المؤلف
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أنزل على عبده الفرقان الفارق بين الحلل والحرام،
والسعداء والشقياء ،والحق والباطل.
وجعله برحمته هدى للناس عموما ،وللمتقين خصوصا ،من ضلل الكفر
والمعاصي والجهل ،إلى نور اليمان والتقوى والعلم ،وأنزله شفاء للصدور
من أمراض الشبهات والشهوات ،ويحصل به اليقين والعلم في المطالب
العاليات ،وشفاء للبدان من أمراضها وعللها وآلمها وسقمها ) . (1وأخبر
أنه ل ريب فيه ول شك بوجه من الوجوه ،وذلك لشتماله على الحق
العظيم في أخباره ،وأوامره ،ونواهيه ،وأنزله مباركا ،فيه الخير الكثير،
والعلم الغزير ،والسرار البديعة ،والمطالب الرفيعة ،فكل بركة وسعادة
تنال في الدنيا والخرة ،فسببها الهتداء به واتباعه ،وأخبر أنه مصدق
ومهيمن على الكتب السابقة ،فما يشهد له فهو الحق ،وما رده فهو
ع
ن ات ّب َ َ م ِه َدي ب ِهِ الل ّ ُالمردود ،لنه تضمنها وزاد عليها ،وقال تعالى فيه } :ي َهْ ِ
سلم ِ { فهو هاد لدار السلم ،مبين لطريق الوصول إليها، سب ُ َ
ل ال ّ ه ُ
وان َ ُ
ض َ
رِ ْ
وحاث عليها ،كاشف عن الطريق الموصلة إلى دار اللم ومحذر منها،
ُ
كيم ٍح ِن َ ن ل َد ُ ْ
م ْت ِ صل َ ْم فُ ّ
ه ثُ ّ
ت آَيات ُ ُ
م ْ
حك ِ َ
بأ ْوقال تعالى مخبرا عنه } :ك َِتا ٌ
خِبيرٍ { فبين آياته أكمل تبيين ،وأتقنها أي إتقان ،وفصلها بتبيين ) (2الحق َ
من الباطل والرشد من الضلل ،تفصيل كاشفا للبس ،لكونه صادرا من
حكيم خبير ،فل يخبر إل بالصدق والحق واليقين ،ول يأمر إل بالعدل
والحسان والبر ،ول ينهى إل عن المضار الدينية والدنيوية.
وأقسم تعالى بالقرآن ووصفه بأنه" ،مجيد" ،والمجد :سعة الوصاف
وعظمتها ،وذلك لسعة معاني القرآن وعظمتها ،ووصفه بأنه "ذو الذكر"
أي :يتذكر به العلوم اللهية والخلق الجميلة والعمال الصالحة ،ويتعظ به
من يخشى.
ُ ُ ّ َ ْ َ
ن { فأنزله ) (3بهذاقلو َ وقال تعالى } :إ ِّنا أنزلَناهُ قُْرآًنا عََرب ِّيا لعَلك ْ
م ت َعْ ِ
اللسان لنعقله ونتفهمه ،وأمرنا بتدبره ،والتفكر فيه ،والستنباط لعلومه،
وما ذاك إل لن تدبره مفتاح كل خير ،محصل للعلوم والسرار .فلله الحمد
والشكر والثناء ،الذي جعل كتابه هدى وشفاء ورحمة ونورا ،وتبصرة
وتذكرة ،وبركة ،وهدى وبشرى للمسلمين.
فإذا علم هذا ،علم افتقار كل مكلف لمعرفة معانيه والهتداء بها.
وكان حقيقا بالعبد أن يبذل جهده ،ويستفرغ وسعه في تعلمه وتفهمه
بأقرب الطرق الموصلة إلى ذلك.
وقد كثرت تفاسير الئمة رحمهم الله لكتاب الله ،فمن مطول خارج في
أكثر بحوثه عن المقصود ،ومن مقصر ،يقتصر على حل بعض اللفاظ
اللغوية ].بقطع النظر عن المراد[ ). (4
__________
) (1في ب :وأسقامها.
) (2في ب :بتمييز.
) (3في ب :وأنزله.
) (4زيادة من هامش ب ،مشطوبة من أ.
) (1/29
وكان الذي ينبغي في ذلك ،أن يجعل المعنى هو المقصود ،واللفظ وسيلة
إليه .فينظر في سياق الكلم ،وما سيق لجله ،ويقابل بينه وبين نظيره في
موضع آخر؛ ويعرف أنه سيق لهداية الخلق كلهم ،عالمهم وجاهلهم،
حضريهم وبدويهم ،فالنظر لسياق اليات مع العلم بأحوال الرسول وسيرته
مع أصحابه وأعدائه وقت نزوله ،من أعظم ما يعين على معرفته وفهم
المراد منه ،خصوصا إذا انضم إلى ذلك معرفة علوم العربية على اختلف
أنواعها.
فمن وفق لذلك ،لم يبق عليه إل القبال على تدبره وتفهمه وكثرة التفكر
في ألفاظه ومعانيه ولوازمها ،وما تتضمنه ،وما تدل عليه منطوقا ومفهوما،
فإذا بذل وسعه في ذلك ،فالرب أكرم من عبده ،فل بد أن يفتح عليه من
علومه أمورا ل تدخل تحت كسبه.
ولما من الباري علي وعلى إخواني بالشتغال بكتابه العزيز بحسب الحال
اللئقة] بنا[ أحببت أن أرسم من تفسير كتاب الله ما تيسر ،وما من به
الله علينا ،ليكون تذكرة للمحصلين ،وآلة للمستبصرين ،ومعونة للسالكين،
ولقيده خوف الضياع ،ولم يكن قصدي في ذلك إل أن يكون المعنى هو
المقصود ،ولم أشتغل في حل اللفاظ والعقود ،للمعنى الذي ذكرت ،ولن
المفسرين قد كفوا من بعدهم ،فجزاهم الله عن المسلمين خيرا.
والله أرجو ،وعليه أعتمد ،أن ييسر ما قصدت ،ويذلل ما أردت ،فإنه إن لم
ييسره الله ،فل سبيل إلى حصوله ،وإن لم يعن عليه ،فل طريق إلى نيل
العبد مأموله.
وأسأله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم ،وأن ينفع به النفع العميم،
إنه جواد كريم .اللهم صل على محمد وآله وصحبه ،وسلم تسليما كثيرا.
) (1/30
) (1/31
فصل
ويستفاد كون المر المطلق للوجوب ،من ذمه لمن خالفه ،وتسميته إياه
عاصيا ،وترتيبه عليه العقاب بالعاجل أو الجل.
ويستفاد كون النهي للتحريم ،من ذمه لمن ارتكبه ،وتسميته عاصيا،
وترتيبه العقاب على فعله.
ويستفاد الوجوب بالمر تارة ،وبالتصريح باليجاب والفرض والكتب ،ولفظة
"على" ،ولفظة :حق على العباد وعلى المؤمنين.
ويستفاد التحريم من النهي ،والتصريح بالتحريم والحظر ،والوعيد على
الفعل ،وذم الفاعل ،وإيجاب الكفارة بالفعل.
وقوله" :ل ينبغي " فإنها في لغة القرآن والرسول للممتنع عقل وشرعا.
ولفظة "ما كان لهم كذا وكذا" و "لم يكن لهم" ،وترتيب الحد على الفعل،
ولفظة "ل يحل" و "ل يصلح" ،ووصف الفعل بأنه فساد ،وأنه من تزيين
الشيطان وعمله ،وأن الله تعالى ل يحبه ول يرضاه لعباده ،ول يزكي فاعله
ول يكلمه ول ينظر إليه ونحو ذلك.
وتستفاد الباحة من الذن والتخيير ،والمر بعد الحظر ،ونفي الجناح
والحرج والثم والمؤاخذة ،والخبار بأنه يعفو عنه ،والقرار على فعله في
زمن الوحي ،وبالنكار على من حرم الشيء ،والخبار بأنه خلق لنا كذا
وجعله لنا ،وامتنانه علينا به ،وإخباره عن فعل من قبلنا ،غير ذام لهم عليه.
فإن اقترن بإخباره مدح ،دل على رجحانه استحبابا أو وجوبا .فصل
وكل فعل عظمه الله ورسوله ،أو مدحه ،أو مدح فاعله لجله ،أو فرح به،
أو أحبه ،أو أحب فاعله ،أو رضي به ،أو رضي عن فاعله ،أو وصفه
بالطيب ،أو البركة ،أو الحسن ،أو نصبه سببا لمحبته أو لثواب عاجل أو
آجل ) (1أو نصبه سببا لذكره لعبده ،أو لشكره له ،أو لهدايته إياه ،أو
لرضاء فاعله ،أو وصف فاعله ) (2بالطيب ،أو وصف الفعل بأنه معروف،
أو نفى الحزن والخوف عن فاعله ،أو وعده بالمن ،أو نصبه سببا لوليته،
أو أخبر عن دعاء الرسل بحصوله ،أو وصفه بكونه قربة ،أو أقسم به أو
بفاعله ،كالقسم بخيل المجاهدين وإغارتها ) (3أو ضحك الرب جل جلله
من فاعله ،أو عجبه به ،فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب
والندب .فصل
وكل فعل طلب الشارع تركه ،أو ذم فاعله ،أو عيب عليه ،أو مقت فاعله،
أو لعنه ،أو نفى محبته إياه ،أو محبة فاعله ،أو نفى الرضا به ،أو الرضا عن
فاعله ،أو شبه فاعله بالبهائم أو الشياطين ،أو جعله مانعا من الهدى ،أو
وصفه بسوء أو كراهة ،أو استعاذ النبياء منه أو أبغضوه ،أو جعل سببا
لنفي الفلح ،أو لعذاب عاجل أو آجل ،أو لذم أو لوم ،أو ضللة أو معصية،
أو وصفه بخبث ) (4أو رجس ،أو نجس ،أو بكونه فسقا أو إثما ،أو سببا
لثم أو رجس ،أو لعن أو غضب ،أو زوال نعمة ،أو حلول نقمة ،أو حد من
الحدود ،أو قسوة ،أو خزي ،أو ارتهان نفس ،أو لعداوة الله أو محاربته ،أو
الستهزاء به وسخريته ،أو جعله سببا لنسيانه لفاعله ،أو وصف نفسه
بالصبر عليه ،أو الصفح أو الحلم عنه ،أو دعا إلى التوبة منه ،أو وصف
فاعله بخبث أو احتقار ،أو نسبه إلى الشيطان وتزيينه ،أو تولي الشيطان
لفاعله ،أو وصفه بصفة ذم ،مثل كونه ظلما أو بغيا ،أو عدوانا أو إثما ،أو
تبرأ النبياء منه أو من فاعله ،أو شكوا
__________
) (1في ب :أو لثوابه عاجل أو آجل.
) (2في ب :فاعليه.
) (3في ب :وإثارتها.
) (4في ب :بالخبث.
) (1/32
إلى الله من فاعله ،أو جاهروا فاعله بالعداوة ،أو نصب سببا لخيبة فاعله
عاجل أو آجل أو رتب عليه حرمان الجنة ،أو وصف فاعله بأنه عدو لله أو
الله عدوه ،أو أعلم فاعله بحرب من الله ورسوله ،أو حمل فاعله إثم
غيره ،أو قيل فيه "ل ينبغي هذا" أو "ل يصلح" أو أمر بالتقوى عند السؤال
عنه ،أو أمر بفعل يضاده ،أو هجر فاعله ،أو تلعن فاعلوه في الخرة ،أو
تبرأ بعضهم من بعض ،أو وصف فاعله بالضللة ،أو أنه "ليس من الله في
شيء" أو أنه ليس من الرسول وأصحابه ،أو قرن بمحرم ظاهر التحريم
في الحكم والخبر عنهما ) (1بخبر واحد ،أو جعل اجتنابه سببا للفلح ،أو
جعل سببا ليقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين ،أو قيل لفاعله "هل أنت
منته" أو نهى النبياء عن الدعاء لفاعله ،أو رتب عليه إبعاد ،أو طرد ،أو
لفظة "قتل من فعله" ،أو "قاتل الله من فعله" ،أو أخبر أن فاعله "ل
يكلمه الله يوم القيامة ،ول ينظر إليه ،ول يزكيه" ،أو أن الله ل يصلح
عمله ،ول يهدي كيده ،أو أن فاعله ل يفلح ،ول يكون يوم القيامة من
الشهداء ول من الشفعاء ،أو أن الله يغار من فعله ،أو نبه على وجه
المفسدة فيه ،أو أخبر أنه ل يقبل من فاعله صرفا ول عدل أو أخبر أن من
فعله قيض له الشيطان فهو له قرين ،أو جعل الفعل سببا لزاغة الله قلب
فاعله ،أو صرفه عن آياته وفهم آلئه ،أو سؤال الله سبحانه عن علة الفعل
ن
سو َم ت َل ْب ِ ُ ن { } لِ َم َ نآ َ م ْل الل ّهِ َ
سِبي ِن َن عَ ْ دو َص ّ
م تَ ُ
"لم فعل" نحو } :ل ِ َ
ُ ُ َ
ن { مافعَلو َ ما ل ت َ ْ
ن َ
قولو َ م تَ ُجد َ { } ل ِ َس ُ
ن تَ ْ َ
من َعَك أ ْ ما َل{} َ حقّ ِبال َْباط ِ ِال ْ َ
لم يقترن به جواب من المسئول ) (2فإذا قرن به جواب ،كان بحسب
جوابه.
فهذا ونحوه ،يدل على المنع من الفعل ،ودللته على التحريم أطرد من
دللته على مجرد الكراهة .وأما لفظة يكرهه الله ورسوله ،أو مكروه،
فأكثر ما يستعمل في المحرم ،وقد يستعمل في كراهة التنزيه.
وأما لفظة "وأما أنا فل أفعل" فالمتحقق ) (3منه الكراهة كقوله" :أما أنا
فل آكل متكئا".
وأما لفظة "ما يكون لك" و "ما يكون لنا" فاطرد استعمالها في المحرم،
َ كون ل َ َ َ
مان ن َُعود َ ِفيَها { } َ ن ل ََنا أ ْ
كو ُ ما ي َ ُ ن ت َت َك َب َّر ِفيَها { } َ كأ ْ ما ي َ ُ ُ نحو } فَ َ
حقّ { .فصل َ ن أُقو َ َ َ يَ ُ
س ِلي ب ِ َ ما لي ْ َ ل َ ن ِلي أ ْ كو ُ
وتستفاد الباحة من لفظ الحلل ،ورفع الجناح ،والذن ،والعفو ،و "إن
شئت فافعل" و "إن شئت فل تفعل" ،ومن المتنان بما في العيان من
ها وافَِها وَأ َوَْبارِ َ ص َ
المنافع ،وما يتعلق بها من الفعال ،نحو } :وم َ
نأ ْ َ ِ ْ
عا إ َِلى ِ شعار َ َ َ
ن {. دو َ م ي َهْت َ ُجم ِ هُ ْ ن { ونحو } وَِبالن ّ ْ حي ٍ مَتا ً ها أَثاًثا وَ َ وَأ ْ َ ِ
ومن السكوت عن التحريم ،ومن القرار على الفعل في زمن الوحي.
فائدة
التعجب كما يدل على محبة الله تعالى للفعل نحو "عجب ربك من شاب
ب
ج ْ ن ت َعْ َ ليست له صبوة" ونحوه ،قد يدل على بغض الفعل كقوله } :وَإ ِ ْ
ن {. خُرو َ س َ ت وَي َ ْ جب ْ َ ل عَ ِ م { وقوله } :ب َ ْ ب قَوْل ُهُ ْ ج ٌ فَعَ َ
َ
ه {. سول ُ ُ م َر ُ ت الل ّهِ وَِفيك ُ ْ م آَيا ُ م ت ُت َْلى عَل َي ْك ُ ْ ن وَأن ْت ُ ْ فُرو َ ف ت َك ْ ُ وقوله } :وَك َي ْ َ
ن
كي َ
شرِ ِ م ْ ن ل ِل ْ ُ كو ُ ف يَ ُ وقد يدل على امتناع الحكم ،وعدم حسنه ،كقوله } :ك َي ْ َ
عن ْد َ الل ّهِ {. عَهْد ٌ ِ
ويدل على حسن المنع منه قدرا ،وأنه ل يليق به فعله ،كقوله تعالى:
م {. مان ِهِ ْ فُروا ب َعْد َ ِإي َ ما ك َ َ ه قَوْ ً دي الل ّ ُ ف ي َهْ ِ} ك َي ْ َ
__________
) (1في ب :عنه.
) (2في ب :من السؤال.
) (3في ب :فالمحقق.
) (1/33
فائدة
َ
جعَل ْت ُ ْ
م نفي التساوي في كتاب الله ،قد يأتي بين الفعلين ،كقوله تعالى } :أ َ
خرِ { الية. ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ م َ نآ َ حَرام ِ ك َ َ
م ْ جدِ ال ْ َس ِ
م ْ ماَرةَ ال ْ َع َج وَ ِ حا ّ ة ال ْ َ
قاي َ َ
س َ
ِ
ن غَي ُْر ني
ُ ِ ِ َ م ْ ؤ مْ ل ا ن م ن
ِ ُ َ ِ َ دو ع قاَ ْ ل ا وي ت س
َ ْ َ ِ ي ل } كقوله: الفاعلين بين يأتي وقد
ل الل ّهِ {. ُ
سِبي ِن ِفي َ دو َ جاهِ ُم َضَررِ َوال ْ ُ أوِلي ال ّ
َ َ
جن ّةِ {. ب ال ْ َ حا ُ ص َ
ب الّنارِ وَأ ْ حا ُص َ وي أ ْ ست َ ِ
وقد يأتي بين الجزائين كقوله } ل ي َ ْ
وي ست َ ِ ما ي َ ْ وقد جمع الله بين الثلثة في آية واحدة ،وهي قوله تعالى } :وَ َ
ت َول الّنوُر { اليات .فائدة ما ُصيُر َول الظ ّل ُ َ مى َوال ْب َ ِ العْ َ
في ضرب المثال في القرآن يستفاد منه أمور:
التذكير ،والوعظ ،والحث ،والزجر ،والعتبار ،والتقرير ،وتقريب المراد
للعقل ،وتصويره في صورة المحسوس ،بحيث يكون نسبته للعقل ،كنسبة
المحسوس إلى الحس.
وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الجر ،وعلى المدح والذم،
وعلى الثواب ،وعلى تفخيم المر أو تحقيره ،وعلى تحقيق أمر ،وإبطال
أمر .فائدة
السياق يرشد إلى بيان المجمل ،وتعيين المحتمل ،والقطع بعدم )(1
احتمال غير المراد ،وتخصيص العام ،وتقييد المطلق ،وتنوع الدللة ،وهو
من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم ،فمن أهمله غلط في نظره،
وغالط في مناظرته ،فانظر إلى قوله } :ذ ُقْ إن َ َ
م{ ري ُزيُز ال ْك َ ِ ت ال ْعَ ِ
ك أن ْ َ ِّ
كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير .فائدة
إخبار الرب عن المحسوس الواقع له عدة فوائد:
منها :أن يكون توطئة وتقدمة لبطال ما بعده.
ومنها :أن يكون موعظة وتذكرة.
ومنها :أن يكون شاهدا على ما أخبر به من توحيده ،وصدق رسوله ،وإحياء
الموتى.
ومنها :أن يذكر في معرض المتنان.
ومنها :أن يذكر في معرض اللوم والتوبيخ.
ومنها :أن يذكر في معرض المدح والذم.
ومنها :أن يذكر في معرض الخبار عن اطلع الرب عليه .وغير ذلك من
الفوائد.
انتهى كلمه رحمه الله ،.وهو في غاية النفاسة ،والشتمال على كثير من
القواعد والضوابط المتعلقة بتفسير القرآن ،فجزاه الله خيرا.
قلت :وقد اشتمل القرآن على عدة علوم قد ثنيت فيه وأعيدت:
فمنها :ضرب المثال ،وقد ذكر ابن القيم فيما تقدم فوائدها.
ومنها ذكر صفات أهل السعادة والشقاوة ،وفي ذلك فوائد عديدة:
__________
) (1كذا في ب ،وفي أ :بعد.
) (1/34
منها :أن الوصاف التي يوصف بها أهل الخير ،تدل على محبة الله ورضاه
وأنها محمودة ،والصفات التي يوصف بها أهل الشر ،تدل على بغض الله
لها وأنها مذمومة.
ومنها :ما يكرم الله به أولياءه من الثناء الحسن بين عباده ،فهو ثواب
معجل ،ويهين به أعداءه من الوصاف القبيحة ،فيكون عقابا معجل.
ومنها :أن فيه حثا للنفوس على القتداء بأهل الخير ومنافستهم ،وتنشيط
العمال على العمال ببيان من عملها من أولياء الله.
وفيه الترهيب من أفعال أهل الشر ،وتبغيض المعاصي التي أثرت مع
عامليها ما أثرت.
ومنها :العتبار بصفات أهل الخير والشر ،وأن من فعل مثل فعلهم ناله ما
نالهم.
وقد حث تعالى على العتبار ،في غير موضع من كتابه .وحقيقته :العبور
من شيء إلى شيء ،وقياس الشيء على نظيره.
ومنها :أن العبد إذا رأى ) (1أعمال أهل الخير وعجزه عن القيام بها،
أوجب له ذلك الزراء على نفسه واحتقارها ،وهذا هو عين صلحه ،كما أن
رؤيته نفسه بعين العجاب والتكبر هو عين فساده ،إلى غير ذلك من
الفوائد.
ومنها :ذكر صفات الله وأسمائه وأفعاله ،وتقديسه عن النقائص ،وفي ذلك
فوائد عظيمة:
منها :أن هذا العلم -وهو العلم المتعلق بالله تعالى -أشرف العلوم وأجلها
على الطلق.
فالشتغال بفهمه والبحث التام عنه ،اشتغال بأعلى المطالب ،وحصوله
للعبد من أشرف المواهب.
ومنها :أن معرفة الله تعالى تدعو إلى محبته وخشيته ،وخوفه ورجائه،
وإخلص العمل له ،وهذا عين سعادة العبد ،ول سبيل إلى معرفة الله ،إل
بمعرفة أسمائه وصفاته ،والتفقه في فهم معانيها.
وقد اشتمل القرآن من ذلك على ما لم يشتمل عليه غيره ،من تفاصيل
ذلك وتوضيحها ،والتعرف بها إلى عباده ،وتعريفهم لنفسه كي يعرفوه.
ومنها :أن الله خلق الخلق ليعبدوه ويعرفوه ،فهذا هو الغاية المطلوبة
منهم ،فالشتغال بذلك اشتغال بما خلق له العبد ،وتركه وتضييعه إهمال
لما خلق له .وقبيح بعبد ،لم تزل نعم الله عليه متواترة ،وفضله عليه
عظيم من كل وجه ،أن يكون جاهل بربه معرضا عن معرفته.
ومنها :أن أحد أركان اليمان ،بل أفضلها وأصلها اليمان بالله ،وليس
اليمان بمجرد قوله" :آمنت بالله" من غير معرفة بربه.
بل حقيقة اليمان ،أن يعرف الرب الذي يؤمن به ،ويبذل جهده في معرفة
أسمائه وصفاته ،حتى يبلغ درجة اليقين ،وبحسب معرفته بربه يكون
إيمانه ،فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه وكلما نقص ،نقص.
وأقرب طريق يوصله إلى ذلك ،تدبر صفاته وأسمائه من القرآن.
والطريق في ذلك ،إذا مر به اسم من أسماء الله ،أثبت ) (2له ذلك
المعنى وكماله وعمومه ،ونزهه ) (3عما يضاد ذلك.
ومنها :أن العلم به تعالى أصل الشياء كلها ،حتى إن العارف به حقيقة
المعرفة ،يستدل بما عرف من صفاته وأفعاله على ما يفعله ،وعلى ما
يشرعه من الحكام ،لنه ل يفعل إل ما هو مقتضى أسمائه وصفاته،
فأفعاله دائرة
__________
) (1في ب :نظر إلى.
) (2في ب :أن يثبت.
) (3في ب :وينزهه.
) (1/35
) (1/36
ذلك من الفوائد المفيدة والنتائج السديدة.
ومن علوم القرآن :المر والنهي الموجه لهذه المة وغيرها ،وهذا هو
المقصود منهم ،وفي معرفة ذلك عدة فوائد:
منها :أن الله تعالى حث على معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله ،وذم
من لم يعرف ذلك.
ومن أعظم ما يجب معرفة حدوده؛ الوامر والنواهي التي كلفنا بها،
وألزمنا بالقيام بها وتعلمها وتعليمها.
ول سبيل إلى امتثالها] ،أو اجتنابها (1) [،إل بمعرفتها ،ليتأتى فعلها ] أو
تركها[ ) (2وذلك أن المكلف إذا أمر بأمر ،وجب عليه أول معرفة ما هو
الذي أمر به ،وما يدخل به وما ل يدخل.
فإذا عرف ذلك استعان بالله ،واجتهد في امتثاله بحسب القدرة والمكان.
وكذلك إذا نهي عن أمر من المور ،وجب عليه معرفة ذلك المنهي
وحقيقته ،ثم يبذل جهده مستعينا بربه على تركه ،امتثال لمر الله ،واجتنابا
لنهيه ،وامتثال المر ،واجتناب النهي ،كل منهما واجب ،وما ل يتم الواجب
إل به فهو واجب .فعرفت أن العلم بها قبل العمل ،ومتقدم عليه.
ومنها :أن الدعوة إلى الخير ،والمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،ل يمكن
حصولها وتحصيلها إل بعد معرفة الخير ليدعو له ،ومعرفة المعروف ليأمر
به ،ومعرفة المنكر لينهى عنه ،والقرآن مشتمل على ذلك أعظم اشتمال،
ومتضمن له أكمل تضمن.
ومن علوم القرآن أحوال اليوم الخر ،وهو ما يكون بعد الموت مما أخبر
به الله في كتابه ،أو أخبر به رسوله من أهوال الموت ،والقبر والموقف،
والجنة والنار ،وفي العلم بذلك فوائد كثيرة:
منها :أن اليمان باليوم الخر ،أحد أركان اليمان الستة ،التي ل يصح
اليمان بدونها ،وكلما ازدادت معرفته بتفاصيله ،ازداد إيمانه ). (3
ومنها :أن العلم بذلك ) (4حقيقة المعرفة ،يفتح للنسان باب الخوف
والرجاء ،اللذين إن خل القلب منهما خرب كل الخراب ،وإن عمر بهما
أوجب له الخوف النكفاف عن المعاصي ،والرجاء تيسير الطاعة
وتسهيلها ،ول يتم ذلك إل بمعرفة تفاصيل المور التي يخاف منها وتحذر؛
كأحوال القبر وشدته ،وأحوال الموقف الهائلة ،وصفات النار المفظعة.
وبمعرفة تفاصيل الجنة وما فيها من النعيم المقيم ،والحبرة والسرور،
ونعيم القلب والروح والبدن ،فيحدث بسبب ذلك الشتياق الداعي للجتهاد
في السعي للمحبوب المطلوب ،بكل ما يقدر عليه.
ومنها :أنه يعرف بذلك فضل الله وعدله ،في المجازاة على العمال
الصالحة ،والسيئة ،الموجب لكمال حمده والثناء عليه بما هو أهله.
وعلى قدر علم العبد بتفاصيل الثواب والعقاب ،يعرف بذلك فضل الله
وعدله وحكمته.
ومن علوم القرآن :مجادلة المبطلين ،ودفع شبه الظالمين ،وإقامة
البراهين العقلية الموافقة للدلة النقلية.
وهذا الفن من علوم القرآن من خواص العلماء الربانيين ،والجهابذة
الراسخين ،والعقلء المستبصرين ،وقد اشتمل القرآن من الدلة العقلية،
والقواطع البرهانية ،ما لو جمع ما عند جميع
__________
زيادة من هامش ب. )(1
زيادة من هامش ب. )(2
في ب :إيمان العبد به. )(3
في ب :أن معرفة ذلك. )(4
) (1/37
المتكلمين من حق ،لكان بالنسبة إليه كنقرة عصفور بالنسبة لماء البحر؛
ذلك بأن القرآن هو الحق ،وقد اشتمل على الحق والصدق والعدل
والميزان العادل والقسط والصلح والفلح ،فإن ذكر التوحيد والشرك،
وأمر بالول ونهى عن الثاني ،أقام من البراهين القاطعة على صحة
التوحيد وحسنه وتعينه طريقا للنجاة ،وقبح الشرك وبطلنه ،وكونه هو
الطريق للهلك ،ما يجعل ذلك للبصيرة كالشمس في نحر الظهيرة.
وإن أمر بالوامر الشرعية ،وحث على الداب ومكارم الخلق ،رأيته ينبه
العقول النيرة على ما اشتملت عليه من المصالح الضرورية ،التي
يحتاجونها في معاشهم ومعادهم ،ما يجزم بأنه ) (1ل أحسن منها ،وأن
حكمته تقتضي المر بها أشد اقتضاء.
وإن نهى عن المحارم والقبائح والخبائث ،أخبر بما في ضمنها من الفساد
والضرر ،والشر الحاصل بتناولها ،وأن نعمة الله عليهم بتحريمها عليهم
وتنزيههم عنها ،وتكريمهم وتعلية أقدارهم عن التلبس بها فوق كل نعمة،
فالمأمورات مشتملت ) (2على الصلح ،والمحرمات مشتملت ) (3على
المفاسد.
وإن شرع في الحجاج للمبطلين ،وتزييف شبه المشبهين ،وبطلن مذاهب
الضالين ،فقل ما شئت من إحقاق حق ،ودمغ باطل ،وإرشاد ضال ،وإقامة
الحجة على المعاند ،وبيان أن الباطل ل يقوم لقل شيء من الحق ،بل هو
على اسمه باطل ل حقيقة له ،إن هي إل أسماء يسمون بها الباطل إذا
جردت ،تبينت هباء منثورا.
ورأيته يسوق البراهين العقلية ،بأوضح عبارة وأوجزها وأسلمها من
العتراض والنقض والخفاء ،فيجمع بين الدليل العقلي والنقلي في كلمة
واحدة ،إيجازا غير مخل بالمطلوب ،وتارة يفصل ذلك ،ويسرد من البراهين
ما يكفي بعضه بالبيان .فلله الحمد والشكر.
فهذه مقدمة نافعة ،إن شاء الله ،ينبغي استقراؤها في ]كل[ مواردها،
والتنبه لكل ما يرد من هذه المطالب على وجه التفصيل ،فمن استعملها
في كل ما يرد عليه من اليات ،انتفع بها نفعا عظيما .وذلك فضل الله
يؤتيه من يشاء ،والله ذو الفضل العظيم.
__________
) (1كذا في ب ،وفي أ :به أنه.
) (2في ب :مشتملة.
) (3في ب :مشتملة.
) (1/38
] ص [ 39
تفسير الفاتحة
وهي مكية
) (1/39
حيم ِ
ن الّر ِم ِح َ ن ) (2الّر ْ ب ال َْعال َ ِ
مي َ مد ُ ل ِل ّهِ َر ّ
ح ْ حيم ِ ) (1ال ْ َ ن الّر ِم ِ سم ِ الل ّهِ الّر ْ
ح َ بِ ْ
صَراطَ ن ) (5اهْدَِنا ال ّ ست َِعي ُك نَ ْك ن َعْب ُد ُ وَإ ِّيا َ ن ) (4إ ِّيا َ
َ دي ِ
ك ي َوْم ِ ال ّمال ِ ِ )َ (3
م وَلَ َ
ب عَلي ْهِ ْ
ضو ِ مغْ ُ ْ
م غَي ْرِ ال َ َ
ت عَلي ْهِ ْ م َ ن أن ْعَ ْ ذي َ ّ َ
صَراط ال ِ م )ِ (6 قي َ ست َ ِ
م ْال ْ ُ
ن )(7 ضاّلي َ ال ّ
) (1/39
) (1/40
دى
ب ِفيهِ هُ ً ب ل َري ْ َ ك ال ْك َِتا ُ حيم ِ الم * ذ َل ِ َ ن الّر ِ م ِ ح َ سم ِ الل ّهِ الّر ْ } } { 5 - 1بِ ْ
ن* قو َ ف ُ
م ي ُن ْ ِما َرَزقَْناهُ ْ م ّ صلةَ وَ ِ ن ال ّ مو َ قي ُب وَي ُ ِ ْ
ن ِبالغَي ْ ِ مُنو َ ن ي ُؤْ ِ ذي َ ن * ال ّ ِ قي َ ل ِل ْ ُ
مت ّ ِ
ُ ل إ ِل َي ْ َ ُ
ن* م ُيوقُِنو َ خَرةِ هُ ْك وَِبال ِ ن قَب ْل ِ َ م ْ ل ِما أن ْزِ َ ك وَ َ ما أن ْزِ َ ن بِ َ مُنو َ ن ي ُؤْ ِذي َ َوال ّ ِ
ُ ُأول َئ ِ َ
ن{. حو َ فل ِ ُ م ال ْ ُ
م ْ ك هُ ُ م وَأول َئ ِ َ ن َرب ّهِ ْ م ْدى ِ ك عََلى هُ ً
تقدم الكلم على البسملة .وأما الحروف المقطعة في أوائل السور،
فالسلم فيها ،السكوت عن التعرض لمعناها ]من غير مستند شرعي[ ،مع
الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة ل نعلمها.
ب { أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على ك ال ْك َِتا ُ وقوله } ذ َل ِ َ
الحقيقة ،المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين
من العلم العظيم،
ب ِفيهِ { ول شك بوجه من الوجوه ،ونفي الريب والحق المبين .فـ } ل َري ْ َ
عنه ،يستلزم ضده ،إذ ضد الريب والشك اليقين ،فهذا الكتاب مشتمل
على علم اليقين المزيل للشك والريب ،وهذه قاعدة مفيدة ،أن النفي
المقصود به المدح ،ل بد أن يكون متضمنا لضده ،وهو الكمال ،لن النفي
عدم ،والعدم المحض ،ل مدح فيه.
دى فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية ل تحصل إل باليقين قال } :هُ ً
ن { والهدى :ما تحصل به الهداية من الضللة والشبه ،وما به قي َ ل ِل ْ ُ
مت ّ ِ
دى { وحذف المعمول ،فلم الهداية إلى سلوك الطرق النافعة ،وقال } هُ ً
يقل هدى للمصلحة الفلنية ،ول للشيء الفلني ،لرادة العموم ،وأنه هدى
لجميع مصالح الدارين ،فهو مرشد للعباد في المسائل الصولية والفروعية،
ومبين للحق من الباطل ،والصحيح من الضعيف ،ومبين لهم كيف يسلكون
الطرق النافعة لهم ،في دنياهم وأخراهم.
س { فعمم ،وفي هذا الموضع وغيره دى ِللّنا ِ وقال في موضع آخر } :هُ ً
ن { لنه في نفسه هدى لجميع الخلق .فالشقياء لم يرفعوا قي َ دى ل ِل ْ ُ
مت ّ ِ } هُ ً
به رأسا ،ولم يقبلوا هدى الله ،فقامت عليهم به الحجة ،ولم ينتفعوا به
لشقائهم ،وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الكبر ،لحصول الهداية ،وهو
التقوى التي حقيقتها :اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه ،بامتثال أوامره،
واجتناب النواهي ،فاهتدوا به ،وانتفعوا غاية النتفاع .قال تعالىَ } :يا أ َي َّها
م فُْرَقاًنا { فالمتقون هم المنتفعون ل ل َك ُ ْجع َ ْ ه يَ ْقوا الل ّ َن ت َت ّ ُ مُنوا إ ِ ْ نآ َذي َ ال ّ ِ
باليات القرآنية ،واليات الكونية.
ولن الهداية نوعان :هداية البيان ،وهداية التوفيق .فالمتقون حصلت لهم
الهدايتان ،وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق .وهداية البيان بدون
توفيق للعمل بها ،ليست هداية حقيقية ]تامة[.
ثم وصف المتقين بالعقائد والعمال الباطنة ،والعمال الظاهرة ،لتضمن
ب { حقيقة اليمان :هو التصديق ن ِبال ْغَي ْ ِمُنو َ ن ي ُؤْ ِذي َ التقوى لذلك فقال } :ال ّ ِ
التام بما أخبرت به الرسل ،المتضمن لنقياد الجوارح ،وليس الشأن في
اليمان بالشياء المشاهدة بالحس ،فإنه ل يتميز بها المسلم من الكافر.
إنما الشأن في اليمان بالغيب ،الذي لم نره ولم نشاهده ،وإنما نؤمن به،
لخبر الله وخبر رسوله .فهذا اليمان الذي يميز به المسلم من الكافر ،لنه
تصديق مجرد لله ورسله .فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به ،أو أخبر به
رسوله ،سواء شاهده ،أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله ،أو لم يهتد إليه
عقله وفهمه .بخلف الزنادقة والمكذبين بالمور الغيبية ،لن عقولهم
القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت
عقولهم ،ومرجت أحلمهم .وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين
بهدى الله.
ويدخل في اليمان بالغيب] ،اليمان بـ[ بجميع ما أخبر الله به من الغيوب
الماضية والمستقبلة ،وأحوال الخرة ،وحقائق أوصاف الله وكيفيتها] ،وما
أخبرت به الرسل من ] ص [ 41ذلك[ فيؤمنون بصفات الله ووجودها،
ويتيقنونها ،وإن لم يفهموا كيفيتها.
صلةَ { لم يقل :يفعلون الصلة ،أو يأتون بالصلة، ن ال ّ مو َ قي ُ ثم قال } :وَي ُ ِ
لنه ل يكفي فيها مجرد التيان بصورتها الظاهرة .فإقامة الصلة ،إقامتها
ظاهرا ،بإتمام أركانها ،وواجباتها ،وشروطها .وإقامتها باطنا ) (1بإقامة
روحها ،وهو حضور القلب فيها ،وتدبر ما يقوله ويفعله منها ،فهذه الصلة
من ْك َرِ { وهي شاِء َوال ْ ُ
ح َ ن ال ْ َ
ف ْ صلةَ ت َن َْهى عَ ِ ن ال ّ هي التي قال الله فيها } :إ ِ ّ
التي يترتب عليها الثواب .فل ثواب للنسان ) (2من صلته ،إل ما عقل
منها ،ويدخل في الصلة فرائضها ونوافلها.
ن { يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة، قو َ ف ُ م ي ُن ْ ِ ما َرَزقَْناهُ ْ م ّثم قال } :وَ ِ
والنفقة على الزوجات والقارب ،والمماليك ونحو ذلك .والنفقات
المستحبة بجميع طرق الخير .ولم يذكر المنفق عليهم ،لكثرة أسبابه وتنوع
أهله ،ولن النفقة من حيث هي ،قربة إلى الله ،وأتى بـ "من "الدالة على
التبعيض ،لينبههم أنه لم يرد منهم إل جزءا يسيرا من أموالهم ،غير ضار
لهم ول مثقل ،بل ينتفعون هم بإنفاقه ،وينتفع به إخوانهم.
م { إشارة إلى أن هذه الموال التي بين أيديكم، وفي قولهَ } :رَزقَْناهُ ْ
ليست حاصلة بقوتكم وملككم ،وإنما هي رزق الله الذي خولكم ،وأنعم به
عليكم ،فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده ،فاشكروه بإخراج
بعض ما أنعم به عليكم ،وواسوا إخوانكم المعدمين.
وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلة والزكاة في القرآن ،لن الصلة متضمنة
للخلص للمعبود ،والزكاة والنفقة متضمنة للحسان على عبيده ،فعنوان
سعادة العبد إخلصه للمعبود ،وسعيه في نفع الخلق ،كما أن عنوان شقاوة
العبد عدم هذين المرين منه ،فل إخلص ول إحسان.
ك { وهو القرآن والسنة ،قال ما ُأنز َ
ل إ ِل َي ْ َ ن بِ َ مُنو َ ن ي ُؤْ ِ ذي َ ثم قالَ } :وال ّ ِ
ة { فالمتقون يؤمنون بجميع ما حك ْ َ
م َ ب َوال ْ ِ ك ال ْك َِتا َ ه عَل َي ْ َ ل الل ّ ُ تعالى } :وََأنز َ
جاء به الرسول ،ول يفرقون بين بعض ما أنزل إليه ،فيؤمنون ببعضه ،ول
يؤمنون ببعضه ،إما بجحده أو تأويله ،على غير مراد الله ورسوله ،كما
يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة ،الذين يؤولون النصوص الدالة على
خلف قولهم ،بما حاصله عدم التصديق بمعناها ،وإن صدقوا بلفظها ،فلم
يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا.
ك { يشمل اليمان بالكتب ) (3السابقة، ن قَب ْل ِ َ م ْ ل ِ ما ُأنز َ وقوله } :وَ َ
ويتضمن اليمان بالكتب اليمان بالرسل وبما اشتملت عليه ،خصوصا
التوراة والنجيل والزبور ،وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب
السماوية ) (4وبجميع الرسل فل يفرقون بين أحد منهم.
ن { و "الخرة "اسم لما يكون بعد الموت، م ُيوقُِنو َ خَرةِ هُ ْ ثم قال } :وَِبال ِ
وخصه ]بالذكر[ بعد العموم ،لن اليمان باليوم الخر ،أحد أركان اليمان؛
ولنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل ،و "اليقين "هو العلم التام
الذي ليس فيه أدنى شك ،الموجب للعمل.
ن
م ْ دى ِ َ
ك { أي :الموصوفون بتلك الصفات الحميدة } عَلى هُ ً } ُأول َئ ِ َ
م { أي :على هدى عظيم ،لن التنكير للتعظيم ،وأي هداية أعظم من َرب ّهِ ْ
تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والعمال المستقيمة،
وهل الهداية ]الحقيقية[ إل هدايتهم ،وما سواها ]مما خالفها[ ،فهو )(5
ضللة.
وأتى بـ "على "في هذا الموضع ،الدالة على الستعلء ،وفي الضللة يأتي
َ َ
ن { لن مِبي ٍ
ل ُ
ضل ٍ م ل َعََلى هُ ً
دى أوْ ِفي َ بـ "في "كما في قوله } :وَإ ِّنا أوْ إ ِّياك ُ ْ
صاحب الهدى مستعل بالهدى ،مرتفع به ،وصاحب الضلل منغمس فيه
محَتقر.
ن { والفلح ]هو[ الفوز بالمطلوب والنجاة ْ َ َ ُ
حو َ فل ِ ُ م ْ م ال ُ ثم قال } :وَأولئ ِك هُ ُ
من المرهوب ،حصر الفلح فيهم؛ لنه ل سبيل إلى الفلح إل بسلوك
سبيلهم ،وما عدا تلك السبيل ،فهي سبل الشقاء والهلك والخسار التي
تفضي بسالكها إلى الهلك.
فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقا ،ذكر صفات الكفار المظهرين
لكفرهم ،المعاندين للرسول ،فقال:
__________
) (1كذا في ب ،وفي أ :وباطنها.
) (2في ب :للعبد.
) (3في ب :بجميع الكتب.
) (4في ب :بالكتب السماوية كلها.
) (5في ب :فهي ضللة.
) (1/40
) (1/41
ن )(8 مؤْ ِ مّنا ِبالل ّهِ وَِبال ْي َوْم ِ اْل َ ِ قو ُ َ
مِني َ م بِ ُ ما هُ ْ خرِ وَ َ لآ َ ن يَ ُ م ْ
س َ ن الّنا ِم َ وَ ِ
ن )ِ (9في ما ي َ ْ َ ّ َ ّ ّ
شعُُرو َ م وَ َ سهُ ْ
ف َ ن إ ِل أن ْ ُ عو َ خد َ ُ ما ي َ ْمُنوا وَ َ نآ َ ذي َ ه َوال ِ ن الل َعو َخادِ ُ يُ َ
ْ َ َ َ ّ ُ
ن )(10ما كاُنوا ي َكذُِبو َ م بِ َب أِلي ٌ ذا ٌ م عَ َضا وَلهُ ْ مَر ً ه َم الل ُ ض فََزاد َهُ ُ مَر ٌ م َقُلوب ِهِ ْ
م
ما هُ ْ خرِ وَ َ مّنا ِبالل ّهِ وَِبال ْي َوْم ِ ال ِ لآ َ قو ُ ن يَ ُ م ْ س َ ن الّنا ِ م َ } } { 10 - 8وَ ِ
َ
ما
م وَ َ سهُ ْ
ف َ ن ِإل أن ْ ُ عو َ خد َ ُ ما ي َ ْ مُنوا وَ َ نآ َ ذي َ ه َوال ّ ِ ن الل ّ َ عو َ خادِ ُ ن * يُ َ مؤْ ِ
مِني َ بِ ُ
َ
ما كاُنوا َ م عَ َ َ ّ َ ُ ُ يَ ْ
م بِ َب أِلي ٌ ذا ٌ ضا وَلهُ ْ مَر ً ه َ م الل ُ ض فَزاد َهُ ُ مَر ٌ م َ ن * ِفي قلوب ِهِ ْ شعُُرو َ
ن{. ي َك ْذُِبو َ
واعلم أن النفاق هو :إظهار الخير وإبطان الشر ،ويدخل في هذا التعريف
النفاق العتقادي ،والنفاق العملي ،كالذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم
في قوله" :آية المنافق ثلت :إذا حدث كذب ،وإذا وعد أخلف ،وإذا اؤتمن
خان "وفي رواية" :وإذا خاصم فجر "
وأما النفاق العتقادي المخرج عن دائرة السلم ،فهو الذي وصف الله به
المنافقين في هذه السورة وغيرها ،ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة
الرسول صلى الله عليه وسلم ]من مكة[ إلى المدينة ،وبعد أن هاجر ،فلما
كانت وقعة "بدر " ) (1وأظهر الله المؤمنين وأعزهم ،ذل ) (2من في
المدينة ممن لم يسلم ،فأظهر بعضهم السلم خوفا ومخادعة ،ولتحقن
دماؤهم ،وتسلم أموالهم ،فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم
منهم ،وفي الحقيقة ليسوا منهم.
فمن لطف الله بالمؤمنين ،أن جل أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها،
لئل يغتر بهم المؤمنون ،ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم ]قال
قو َ
م{ ما ِفي قُُلوب ِهِ ْ م بِ َ سوَرةٌ ت ُن َب ّئ ُهُ ْ م ُ ل عَل َي ْهِ ْ ن ُتنز َ نأ ْ مَنافِ ُ َ حذ َُر ال ْ ُ تعالى[ } :ي َ ْ
هّ
مّنا ِبالل ِ لآ َ قو ُ ن يَ ُ م ْ س َ ن الّنا ِ م َ فوصفهم الله بأصل النفاق فقال } :وَ ِ
ن { فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في مِني َ مؤْ ِ م بِ ُما هُ ْ خرِ وَ َ وَِبال ْي َوْم ِ ال ِ
ن { لن اليمان الحقيقي ،ما مِني َ مؤْ ِ م بِ ُ ما هُ ْ قلوبهم ،فأكذبهم الله بقوله } :وَ َ
تواطأ عليه القلب واللسان ،وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين.
والمخادعة :أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا ،ويبطن خلفه لكي يتمكن
من مقصوده ممن يخادع ،فهؤلء المنافقون ،سلكوا مع الله وعباده هذا
المسلك ،فعاد خداعهم على أنفسهم ،فإن ) (3هذا من العجائب؛ لن
المخادع ،إما أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد ) (4أو يسلم ،ل له ول
عليه ،وهؤلء عاد خداعهم عليهم ،وكأنهم ) (5يعملون ما يعملون من المكر
لهلك أنفسهم وإضرارها وكيدها؛ لن الله تعالى ل يتضرر بخداعهم ]شيئا[
وعباده المؤمنون ،ل يضرهم كيدهم شيئا ،فل يضر المؤمنين أن أظهر
المنافقون اليمان ،فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم ،وصار كيدهم
في نحورهم ،وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا ،والحزن
المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة.
ثم في الخرة لهم العذاب الليم الموجع المفجع ،بسبب كذبهم وكفرهم
وفجورهم ،والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم ل يشعرون بذلك.
ض { والمراد بالمرض هنا :مرض الشك مَر ٌ م َ وقولهِ } :في قُُلوب ِهِ ْ
والشبهات والنفاق ،لن ) (6القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته
واعتداله :مرض الشبهات الباطلة ،ومرض الشهوات المردية ،فالكفر
والنفاق والشكوك والبدع ،كلها من مرض الشبهات ،والزنا ،ومحبة
]الفواحش و[المعاصي وفعلها ،من مرض الشهوات ،كما قال تعالى:
ض { وهي شهوة الزنا ،والمعافى من عوفي ذي ِفي قَل ْب ِهِ َ
مَر ٌ معَ ال ّ ِ
} فَي َط ْ َ
من هذين المرضين ،فحصل له اليقين واليمان ،والصبر عن كل معصية،
فرفل في أثواب العافية.
__________
) (1في ب :ول بعد الهجرة حتى كانت وقعة بدر.
) (2في ب :فذل.
) (3في ب :وهذا.
) (4في ب :ويحصل له مقصوده.
) (5في ب :عاد خداعهم على أنفسهم فكأنهم.
) (6في ب :وذلك أن.
) (1/42
َ َْ
ن ) (11أَل إ ِن ّهُ ْ
م حو َ
صل ِ ُ
م ْ
ن ُ
ح ُ ض َقاُلوا إ ِن ّ َ
ما ن َ ْ دوا ِفي الْر ِ س ُف ِ م َل ت ُ ْل ل َهُ ْ
ذا ِقي َوَإ ِ َ
ن )(12 َ
ن ل يَ ْ
شعُُرو َ َ
ن وَلك ِ ْ دو َس ُف ِ م ْ ْ
م ال ُهُ ُ
ضا { بيان مَر ً ه َ م الل ّ ُ ض فََزاد َهُ ُ مَر ٌ م َ وفي قوله عن المنافقينِ } :في قُُلوب ِهِ ْ
لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين ،وأنه بسبب ذنوبهم
السابقة ،يبتليهم بالمعاصي اللحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى:
مّرةٍ { وقال تعالى: ل َ مُنوا ب ِهِ أ َوّ َ م ي ُؤْ ِ ما ل َ ْ م كَ َ صاَرهُ ْ
َ
م وَأب ْ َ ب أفْئ ِد َت َهُ ْ
َ
قل ّ ُ } وَن ُ َ
َ َ
ن ِفي قُُلوب ِهِ ْ
م ذي َ ما ال ّ ِ م { وقال تعالى } :وَأ ّ ه قُُلوب َهُ ْ غوا أَزاغَ الل ّ ُ ما َزا ُ } فَل َ ّ
م { فعقوبة المعصية ،المعصية بعدها، سهِ ْ ج ِ سا إ َِلى رِ ْ ج ً م رِ ْ ض فََزاد َت ْهُ ْ مَر ٌ َ
نذي َ ّ
ه ال ِ ّ
زيد ُ الل ُ كما أن من ثواب الحسنة ،الحسنة بعدها ،قال تعالى } :وَي َ ِ
دى { . اهْت َد َْوا هُ ً
] ص [ 43
ن
ح ُ ما ن َ ْ ُ
ض َقالوا إ ِن ّ َ َ ذا ِقي َ } } { 12 - 11وَإ ِ َ
دوا ِفي الْر ِ س ُ ف ِ م ل تُ ْ ل لهُ ْ
َ
ن{. شعُُرو َ ن ل يَ ْ َ
ن وَلك ِ ْ دو َ س ُ ف ِ م ْ ْ
م ال ُ م هُ ُ ن * أل إ ِن ّهُ ْ حو َ صل ِ ُ م ْ ُ
أي :إذا نهي هؤلء المنافقون عن الفساد في الرض ،وهو العمل بالكفر
والمعاصي ،ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالتهم للكافرين
ن { فجمعوا بين العمل بالفساد في الرض، حو َ صل ِ ُم ْ ن ُ ح ُ ما ن َ ْ } َقاُلوا إ ِن ّ َ
وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصلح ،قلبا للحقائق ،وجمعا بين فعل
الباطل واعتقاده حقا ،وهذا أعظم جناية ممن يعمل بالمعصية ،مع اعتقاد
أنها معصية ) (1فهذا أقرب للسلمة ،وأرجى لرجوعه.
ن { حصر للصلح في جانبهم - حو َ صل ِ ُ م ْ ن ُ ح ُ ما ن َ ْ ولما كان في قولهم } :إ ِن ّ َ
وفي ضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الصلح -قلب الله عليهم دعواهم
بقوله } :أل إنهم هم المفسدون { فإنه ل أعظم فسادا ) (2ممن كفر
بآيات الله ،وصد عن سبيل الله ،وخادع الله وأولياءه ،ووالى المحاربين لله
ورسوله ،وزعم مع ذلك أن هذا إصلح ،فهل بعد هذا الفساد فساد؟" ولكن
ل يعلمون علما ينفعهم ،وإن كانوا قد علموا بذلك علما تقوم به عليهم
حجة الله ،وإنما كان العمل بالمعاصي في الرض إفسادا ،لنه يتضمن
فساد ) (3ما على وجه الرض من الحبوب والثمار والشجار ،والنبات ،بما
) (4يحصل فيها من الفات بسبب ) (5المعاصي ،ولن الصلح في الرض
أن تعمر بطاعة الله واليمان به ،لهذا خلق الله الخلق ،وأسكنهم في
الرض ،وأدر لهم ) (6الرزاق ،ليستعينوا بها على طاعته ]وعبادته[ ،فإذا
عمل فيها بضده ،كان سعيا فيها بالفساد فيها ،وإخرابا لها عما خلقت له.
__________
) (1ممن يعمل بالمعاصي مع اعتقاد تحريمها.
) (2كذا في ب ،وفي أ :فسادا.
) (3في ب :لنه سبب فساد.
) (4في ب :لما.
) (5في ب :التي سببها.
) (6في ب :عليهم.
) (1/42
) (1/43
َ ذي َ
ما
م إ ِن ّ َ م َقاُلوا إ ِّنا َ
معَك ُ ْ طين ِهِ ْ
شَيا ِوا إ َِلى َ خل َ ْ مُنوا َقاُلوا آ َ
مّنا وَإ ِ َ
ذا َ نآ َ قوا ال ّ ِ َذا ل َ ُوَإ ِ َ
ن) مُهو َ م ِفي ط ُغَْيان ِهِ ْ
م ي َعْ َ مد ّهُ ْ ست َهْزِئُ ب ِهِ ْ
م وَي َ ُ ه يَ ْن ) (14الل ّ ُ ست َهْزُِئو َ
م ْن ُ ح ُ نَ ْ
(15
م
طين ِهِ ْ
شَيا ِ وا إ َِلى َ خل َ ْ ذا َ مّنا وَإ ِ َ مُنوا َقاُلوا آ َ نآ َ ذي َ قوا ال ّ ِ ذا ل َ ُ } } { 15 - 14وَإ ِ َ
م ِفي مد ّهُ ْ م وَي َ ُ ست َهْزِئُ ب ِهِ ْ ه يَ ْ ّ
ن * الل ُ ست َهْزُِئو َ م ْن ُ ح ُ ما ن َ ْ م إ ِن ّ َ معَك ُ ْ َقاُلوا إ ِّنا َ
ن{. مُهو َ م ي َعْ َ ط ُغَْيان ِهِ ْ
هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم ،و]ذلك[ أنهم إذا اجتمعوا
بالمؤمنين ،أظهروا أنهم على طريقتهم وأنهم معهم ،فإذا خلوا إلى
شياطينهم -أي :رؤسائهم وكبرائهم في الشر -قالوا :إنا معكم في
الحقيقة ،وإنما نحن مستهزءون بالمؤمنين بإظهارنا لهم ،أنا على طريقتهم،
فهذه حالهم الباطنة والظاهرة ،ول يحيق المكر السيئ إل بأهله.
ن { وهذا مُهو َ م ي َعْ َ م ِفي ط ُغَْيان ِهِ ْ مد ّهُ ْ
م وَي َ ُ ست َهْزِئُ ب ِهِ ْ ه يَ ْ قال تعالى } :الل ّ ُ
جزاء لهم ،على استهزائهم بعباده ،فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا
فيه من الشقاء والحالة الخبيثة ،حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين ،لما لم
يسلط الله المؤمنين عليهم ،ومن استهزائه بهم يوم القيامة ،أنه يعطيهم
مع المؤمنين نورا ظاهرا ،فإذا مشى المؤمنون بنورهم ،طفئ نور
المنافقين ،وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين ،فما أعظم اليأس بعد
سك ُ ْ
م ف َ م أ َن ْ ُ م فَت َن ْت ُ ْم َقاُلوا ب ََلى وَل َك ِن ّك ُ ْ معَك ُ ْن َ م ن َك ُ ْ
الطمع } ،ينادونه َ
م أل َ ْ َُ ُ َُ ْ
م { الية. م َواْرت َب ْت ُ ْ صت ُ ْ
وَت ََرب ّ ْ
م { أي :فجورهم وكفرهم} ، ُ
م { أي :يزيدهم } ِفي طغَْيان ِهِ ْ مد ّهُ ْ قوله } :وَي َ ُ
ن { أي :حائرون مترددون ،وهذا من استهزائه تعالى بهم. مُهو َ ي َعْ َ
ثم قال تعالى كاشفا عن حقيقة أحوالهم:
) (1/43
ن)
دي َ
مهْت َ ِ ما َ
كاُنوا ُ م وَ َ
جاَرت ُهُ ْ
ت تِ َ
ح ْ
ما َرب ِ َ ة ِبال ْهُ َ
دى فَ َ ضَلل َ َ نا ْ
شت ََرُوا ال ّ ذي َ ُأول َئ ِ َ
ك ال ّ ِ
(16
ما
م وَ َجاَرت ُهُ ْ ت تِ َ ح ْ
ما َرب ِ َ دى فَ َ ة ِبال ْهُ َ
ضلل َ َ
شت ََرُوا ال ّ نا ْ ذي َ } ُ } { 16أول َئ ِ َ
ك ال ّ ِ
ن{. دي َ مهْت َ ِ كاُنوا ُ َ
ضلل َ َ
ة شت ََرُوا ال ّ نا ْ ذي َأولئك ،أي :المنافقون الموصوفون بتلك الصفات } ال ّ ِ
دى { أي :رغبوا في الضللة ،رغبة المشتري بالسلعة ،التي من رغبته ِبال ْهُ َ
فيها يبذل فيها الثمان ) (1النفيسة .وهذا من أحسن المثلة ،فإنه جعل
الضللة ،التي هي غاية الشر ،كالسلعة ،وجعل الهدى الذي هو غاية الصلح
بمنزلة الثمن ،فبذلوا الهدى رغبة عنه بالضللة رغبة فيها ،فهذه تجارتهم،
فبئس التجارة ،وبئس الصفقة صفقتهم ). (2
] ص [ 44
وإذا كان من بذل ) (3دينارا في مقابلة درهم خاسرا ،فكيف من بذل
جوهرة وأخذ عنها درهما؟" فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضللة،
واختار الشقاء على السعادة ،ورغب في سافل المور عن عاليها ) (4؟"
ن
ذي َن ال ّ ِ ري َس ِخا ِ ن ال ْ َ ل إِ ّ فما ربحت تجارته ،بل خسر فيها أعظم خسارة } .قُ ْ
ن{. مِبي ُ ن ال ْ ُسَرا ُ خ ْ ك هُوَ ال ْ ُمةِ َأل ذ َل ِ َ م ال ْ ِ
قَيا َ م ي َوْ َ
َ
م وَأهِْليهِ ْ سهُ ْ
ف َ سُروا أ َن ْ ُخ ِ َ
ن { تحقيق لضللهم ،وأنهم لم يحصل لهم من دي َ مهْت َ ِ َ
ما كاُنوا ُ وقوله } :وَ َ
الهداية شيء ،فهذه أوصافهم القبيحة.
ثم ذكر مثلهم الكاشف لها غاية الكشف ،فقال:
__________
) (1في ب :الموال.
) (2في ب :وهذه صفقتهم فبئس الصفقة.
) (3في ب :يبذل.
) (4في ب :وترك عاليها.
) (1/43
َ
م
ه ب ُِنورِهِ ْ ب الل ّ ُ ه ذ َهَ َ حوْل َ ُ ما َ ت َ ضاَء ْ ما أ َ ست َوْقَد َ َناًرا فَل َ ّ ذي ا ْ ل ال ّ ِ مث َ ِ م كَ َ مث َل ُهُ ْ َ
ن )(18 عو
َْ ِ ُ َ ج ر ي َ
ل م
ْ ٌ ُ ْه َ ف ي م ُ ع م ْ
ُ ّ ُ ٌ ك ب م ص ( 17 ) نُْ ُ َ رو ص
ِ بي لَ ت ٍ ماَ ُ لُ ظ في ِ م َ
وَ َ ُ ْ
ه ك ر َ ت
َ َ َ
م
ذان ِهِ ْ م ِفي آ َ صاب ِعَهُ ْ نأ َ جعَُلو َ ت وََرعْد ٌ وَب َْرقٌ ي َ ْ ما ٌ ماِء ِفيهِ ظ ُل ُ َ س َ ن ال ّ م َ ب ِ صي ّ ٍ أو ْ ك َ َ
خط َ ُ
ف كاد ُ ال ْب َْرقُ ي َ ْ ن ) (19ي َ َ ري َ كافِ ِ ط ِبال ْ َ حي ٌ م ِ ه ُ ت َوالل ّ ُ موْ ِ حذ ََر ال ْ َ ق َ ع ِ وا ِ ص َ ن ال ّ م َ ِ
شاَء الل ُّ
ه موا وَل َوْ َ قا َ م ه ي َ ل ع م َ ل ْ ظ َ أ ذاَ إ و ه في وا َ
ش م م ه َ ل َ ء ضا َ أ ما ّ ل ُ ك م َ
ُ ِْ ْ َ َ ُ ْ َ ْ ِ ِ َِ َ َ أْ َ َ ُ ْ
ه ر صا ب
ه عََلى ك ُ ّ َ
ديٌر )(20 يٍء قَ ِ ش ْ ل َ ن الل ّ َ م إِ ّ صارِهِ ْ م وَأب ْ َ معِهِ ْ س ْ ب بِ َ ل َذ َهَ َ
َ
ب ه ذ َهَ َ حوْل َ ُ
ما َ ت َ ضاَء ْ ما أ َ ست َوْقَد َ َناًرا فَل َ ّ ذي ا ْ ل ال ّ ِ مث َ ِ م كَ َ مث َل ُهُ ْ } َ } { 20 - 17
مل ي فَهُ ْ م ٌ م عُ ْ م ب ُك ْ ٌ ص ّ ن* ُ صُرو َ ت ل ي ُب ْ ِ ما ٍ ُ ُ
م ِفي ظل َ م وَت ََرك َهُ ْ ه ب ُِنورِهِ ْ الل ّ ُ
م يرجعون * أ َو ك َصيب من السماِء فيه ظ ُل ُمات ورعْد وبرقٌ يجعُلو َ
صاب ِعَهُ ْ نأ َ َ َ ْ َ َ ٌ ََ ٌ ََْ ِ ِ ّ َ َ ّ ٍ ِ َ ْ َْ ِ ُ َ
كاد ُ ال ْب َْر ُ
ق ن * يَ َ ِ ِ َ ري ف كاَ ْ ل باِ ٌ
ط حي ِ م ه
َ ْ ِ َ ُ ُّ ل وال ت و م ْ ل ا ر
ِ َ ََ ذ ح ق ع
ِ واّ َ ص ال ن
ذان ِ ِ ْ ِ َ
م م ه ِفي آ َ
موا وَل َوْ َ َ َ َ
شاءَ م َقا ُ م عَل َي ْهِ ْ ذا أظ ْل َ َ وا ِفيهِ وَإ ِ َ ش ْ م َ م َ ضاَء ل َهُ ْ ما أ َ م ك ُل ّ َ صاَرهُ ْ ف أب ْ َ خط َ ُ يَ ْ
ه عََلى ك ُ ّ َ
ديٌر { . يٍء قَ ِ ش ْ ل َ ن الل ّ َ م إِ ّ صارِهِ ْ م وَأب ْ َ معِهِ ْ س ْ ب بِ َ ه ل َذ َهَ َ الل ّ ُ
أي :مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارا ،أي :كان في
ظلمة عظيمة ،وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره ،ولم تكن
عنده معدة ،بل هي خارجة عنه ،فلما أضاءت النار ما حوله ،ونظر المحل
الذي هو فيه ،وما فيه من المخاوف وأمنها ،وانتفع بتلك النار ،وقرت بها
عينه ،وظن أنه قادر عليها ،فبينما هو كذلك ،إذ ذهب الله بنوره ،فذهب عنه
النور ،وذهب معه السرور ،وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة،
فذهب ما فيها من الشراق ،وبقي ما فيها من الحراق ،فبقي في ظلمات
متعددة :ظلمة الليل ،وظلمة السحاب ،وظلمة المطر ،والظلمة الحاصلة
بعد النور ،فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلء المنافقون،
استوقدوا نار اليمان من المؤمنين ،ولم تكن صفة لهم ،فانتفعوا بها )(1
وحقنت بذلك دماؤهم ،وسلمت أموالهم ،وحصل لهم نوع من المن في
الدنيا ،فبينما هم على ذلك ) (2إذ هجم عليهم الموت ،فسلبهم النتفاع
بذلك النور ،وحصل لهم كل هم وغم وعذاب ،وحصل لهم ظلمة القبر،
وظلمة الكفر ،وظلمة النفاق ،وظلم ) (3المعاصي على اختلف أنواعها،
وبعد ذلك ظلمة النار ]وبئس القرار[.
م { ]أي[: ْ
م { أي :عن سماع الخير } ،ب ُك ٌ ص ّ فلهذا قال تعالى ]عنهم[ُ } :
ن { لنهم تركوا جُعو َ م ل ي َْر ِ َ
ي { عن رؤية الحق } ،فهُ ْ م ٌ عن النطق به } ،عُ ْ
الحق بعد أن عرفوه ،فل يرجعون إليه ،بخلف من ترك الحق عن جهل
وضلل ،فإنه ل يعقل ،وهو أقرب رجوعا منهم.
َ
ماِء { يعني :أو مثلهم كصيب ،أي: س َ ن ال ّ م َ ب ِ صي ّ ٍ ثم قال تعالى } :أوْ ك َ َ
كصاحب صيب من السماء ،وهو المطر الذي يصوب ،أي :ينزل بكثرة،
ت { ظلمة الليل ،وظلمة السحاب ،وظلمات المطر، ما ٌ} ِفيهِ ظ ُل ُ َ
} وََرعْد ٌ { وهو الصوت الذي يسمع من السحاب } ،وَب َْرقٌ { وهو الضوء
]اللمع[ المشاهد مع ) (4السحاب.
َ َ ْ َ َ
م
م عَلي ْهِ ْ ذا أظل َ وا ِفيهِ وَإ ِ َ ش ْم َم { البرق في تلك الظلمات } َ ضاَء ل َهُ ْ
ما أ َ } ك ُل ّ َ
موا { أي :وقفوا. َقا ُ
فهكذا حال ) (5المنافقين ،إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده
ووعيده ،جعلوا أصابعهم في آذانهم ،وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده
ووعيده ،فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده ،فهم يعرضون عنها غاية ما
يمكنهم ،ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد ،ويجعل )(6
أصابعه في أذنيه ) (7خشية الموت ،فهذا تمكن له ) (8السلمة .وأما
المنافقون فأنى لهم السلمة ،وهو تعالى محيط بهم ،قدرة وعلما فل
يفوتونه ول يعجزونه ،بل يحفظ عليهم أعمالهم ،ويجازيهم عليها أتم
الجزاء.
ولما كانوا مبتلين بالصمم ،والبكم ،والعمى المعنوي ،ومسدودة عليهم
َ
م{صارِهِ ْ م وَأب ْ َ معِهِ ْ س ْب بِ َه ل َذ َهَ َ
شاَء الل ّ ُ
طرق اليمان ،قال تعالى } :وَل َوْ َ
أي :الحسية ،ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية ،ليحذروا،
ديٌر { فل يٍء قَ ِ ش ْ ل َ ه عََلى ك ُ ّ ن الل ّ َ فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم } ،إ ِ ّ
يعجزه شيء ،ومن قدرته أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ول
معارض.
__________
) (1في ب :ما استضاءوا بها مؤقتا وانتفعوا فحقنت.
) (2في ب :هم كذلك.
) (3في ب :وظلمة.
) (4في ب :من.
) (5في ب :حالة.
) (6في ب :فيجعل.
) (7كذا في ب ،وفي أ :أذنه.
) (8في ب :ربما حصلت له.
) (1/44
َ
ن)قو َم ت َت ّ ُم ل َعَل ّك ُ ْ ن قَب ْل ِك ُ ْ م ْ ن ِ
ذي َ م َوال ّ ِقك ُ ْخل َ َ
ذي َ م ال ّ ِ
دوا َرب ّك ُ ُ س اعْب ُ ُ َيا أي َّها الّنا ُ
ماًء
ماِء َ س َن ال ّ م َ ل ِ ماَء ب َِناًء وَأ َن َْز َ س َشا َوال ّ ض فَِرا ً َ
م اْلْر َ ل ل َك ُ ُ جعَ َ ذي َ (21ال ّ ِ
ن )(22 مو َ م ت َعْل َ ُ
َ
دا وَأن ْت ُ ْ دا ً
َ
جعَُلوا ل ِل ّهِ أن ْ َ م فََل ت َ ْ ت رِْزًقا ل َك ُ ْ مَرا ِ ن الث ّ َ م َ ج ب ِهِ ِ فَأ َ ْ
خَر َ
وفي هذه الية وما أشبهها ،رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير
داخلة في قدرة الله تعالى ،لن أفعالهم من جملة الشياء الداخلة في
ديٌر { .يٍء قَ ِ ش ْ ل َ ه عََلى ك ُ ّ ن الل ّ َ
قوله } :إ ِ ّ
] ص [ 45
ُ ّ ُ َ ّ ُ َ
ن قَب ْل ِك ْ
م م ْن ِ ذي َ م َوال ِقك ْخل َ ذي َ م ال ِ دوا َرب ّك ُس اعْب ُ ُ } َ } { 22 - 21يا أي َّها الّنا ُ
َ
نم َ ل ِماَء ب َِناًء وَأن َْز َ س َ شا َوال ّ ض فَِرا ً م الْر َ ل ل َك ُ ُ
جعَ َ ذي َ ن * ال ّ ِ قو َ ل َعَل ّك ُ ْ
م ت َت ّ ُ
َ َ َ
مدا وَأن ْت ُ ْ دا ًجعَُلوا ل ِل ّهِ أن ْ َ م َفل ت َ ْ ت رِْزًقا ل َك ُ ْ مَرا ِ ن الث ّ َم َج ب ِهِ ِ
خَر َ ماًء فَأ ْ ماِء َ س َ ال ّ
ن{. مو َت َعْل َ ُ
هذا أمر عام لكل ) (1الناس ،بأمر عام ،وهو العبادة الجامعة ،لمتثال
أوامر الله ،واجتناب نواهيه ،وتصديق خبره ،فأمرهم تعالى بما خلقهم له،
ن{. دو ِ
س ِإل ل ِي َعْب ُ ُ
ن َوالن ْ َ ج ّ ت ال ْ ِ ق ُ خل َ ْما َ قال تعالى } :وَ َ
ثم استدل على وجوب عبادته وحده ،بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم،
فخلقكم بعد العدم ،وخلق الذين من قبلكم ،وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة
والباطنة ،فجعل لكم الرض فراشا تستقرون عليها ،وتنتفعون بالبنية،
والزراعة ،والحراثة ،والسلوك من محل إلى محل ،وغير ذلك من أنواع )
(2النتفاع بها ،وجعل السماء بناء لمسكنكم ،وأودع فيها من المنافع ما هو
من ضروراتكم وحاجاتكم ،كالشمس ،والقمر ،والنجوم.
ماًء { والسماء] :هو[ كل ما عل فوقك فهو سماء، ماِء َ س َ ن ال ّ م َل ِ } وََأنز َ
ولهذا قال المفسرون :المراد بالسماء هاهنا :السحاب ،فأنزل منه تعالى
ت { كالحبوب ،والثمار ،من نخيل ،وفواكه، مَرا ِ ن الث ّ َ م َ ج ب ِهِ ِ ماء } ،فَأ َ ْ
خَر َ
م { به ترتزقون ،وتقوتون وتعيشون وتفكهون. ]وزروع[ وغيرها } رِْزًقا ل َك ُ ْ
َ
دا { أي :نظراء وأشباها من المخلوقين ،فتعبدونهم دا ً جعَُلوا ل ِل ّهِ أن ْ َ } َفل ت َ ْ
كما تعبدون الله ،وتحبونهم كما تحبون الله ،وهم مثلكم ،مخلوقون،
مرزوقون مدبرون ،ل يملكون مثقال ذرة في السماء ول في الرض ،ول
َ
ن { أن الله ليس له شريك ،ول نظير، مو َم ت َعْل َ ُ
ينفعونكم ول يضرون } ،وَأن ْت ُ ْ
ل في الخلق ،والرزق ،والتدبير ،ول في العبادة ) (3فكيف تعبدون معه
آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب ،وأسفه السفه.
وهذه الية جمعت بين المر بعبادة الله وحده ،والنهي عن عبادة ما سواه،
وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته ،وبطلن عبادة من سواه ،وهو
]ذكر[ توحيد الربوبية ،المتضمن لنفراده بالخلق والرزق والتدبير ،فإذا كان
كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك ،فكذلك فليكن إقراره بأن
]الله[ ل شريك له في العبادة ،وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية
الباري ،وبطلن الشرك.
ن { يحتمل أن المعنى :أنكم إذا عبدتم الله قو َ م ت َت ّ ُ وقوله تعالى } :ل َعَل ّك ُ ْ
وحده ،اتقيتم بذلك سخطه وعذابه ،لنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك،
ويحتمل أن يكون المعنى :أنكم إذا عبدتم الله ،صرتم من المتقين
الموصوفين بالتقوى ،وكل المعنيين صحيح ،وهما متلزمان ،فمن أتى
بالعبادة كاملة ،كان من المتقين ،ومن كان من المتقين ،حصلت له النجاة
من عذاب الله وسخطه .ثم قال تعالى:
__________
) (1في ب :لجميع.
) (2في ب :وجوه.
) (3في ب :ول في اللوهية والكمال.
) (1/44
ْ
عوا مث ْل ِهِ َواد ْ ُ
ن ِ م ْسوَرةٍ ِ ما ن َّزل َْنا عََلى عَب ْدَِنا فَأُتوا ب ِ ُ م ّ
ب ِ م ِفي َري ْ ٍ ن ك ُن ْت ُ ْ وَإ ِ ْ
فعَُلوا
ن تَ ْفعَُلوا وَل َ ْ م تَ ْن لَ ْن ) (23فَإ ِ ْ صادِِقي َ م َ ن الل ّهِ إ ِ ْ
ن ك ُن ْت ُ ْ دو ِ ن ُ م ْ
م ِداَءك ُ ْ شه َ َ ُ
ن )(24 ت ل ِل ْ َ ُ س َوال ْ ِ قوا الّناَر ال ِّتي وَُقود ُ َ َفات ّ ُ
ري َ كافِ ِ عد ّ ْ
جاَرةُ أ ِ ح َ ها الّنا ُ
ْ
ن
م ْ سوَرةٍ ِ ما ن َّزل َْنا عََلى عَب ْدَِنا فَأُتوا ب ِ ُ م ّ ب ِ م ِفي َري ْ ٍ ن ك ُن ْت ُ ْ } } { 24 - 23وَإ ِ ْ
ن َ
فعَلوا وَل ْ ُ م تَ ْ َ
نل ْ ن * فَإ ِ ْ صادِِقي َ م َ ُ
ن كن ْت ُ ْ ّ
ن اللهِ إ ِ ْ دو ِ ن ُ م ْ م ِ داَءك ُ ْ شهَ َ عوا ُ مث ْل ِهِ َواد ْ ُ ِ
ن{. َ ْ ُ ْ قوا الّناَر الِتي وَُقود ُ َّ ُ
فعَلوا َفات ّ ُ
ري َ ت ل ِلكافِ ِ عد ّ ْ جاَرةُ أ ِ ح َس َوال ِ ها الّنا ُ تَ ْ
وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وصحة ما
جاء به ،فقال } :وإن كنتم { معشر المعاندين للرسول ،الرادين دعوته،
الزاعمين كذبه في شك واشتباه ،مما نزلنا على عبدنا ،هل هو حق أو غيره
؟ فهاهنا أمر نصف ،فيه الفيصلة بينكم وبينه ،وهو أنه بشر مثلكم ،ليس
بأفصحكم ول بأعلمكم ) (1وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم ،ل يكتب ول يقرأ،
وله وافتراه ،فإن كان فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله ،وقلتم أنتم أنه تق ّ
المر كما تقولون ،فأتوا بسورة من مثله ،واستعينوا بمن تقدرون عليه من
أعوانكم وشهدائكم ،فإن هذا أمر يسير عليكم ،خصوصا وأنتم أهل
الفصاحة والخطابة ،والعداوة العظيمة للرسول ،فإن جئتم بسورة من
مثله ،فهو كما زعمتم ،وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز،
ولن تأتوا بسورة من مثله ،ولكن هذا التقييم ) (2على وجه النصاف
والتنزل معكم ،فهذا آية كبرى ،ودليل واضح ]جلي[ على صدقه وصدق ما
جاء به ،فيتعين عليكم اتباعه ،واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة
]والشدة[ ،أن كانت وقودها الناس والحجارة ،ليست كنار الدنيا التي إنما
تتقد ] ص [ 46بالحطب ،وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين
بالله ورسله .فاحذروا الكفر برسوله ،بعد ما تبين لكم أنه رسول الله.
وهذه الية ونحوها يسمونها آيات التحدي ،وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل
ن ي َأ ُْتوا َ
ن عََلى أ ْ ج ّ س َوال ْ ِ ت الن ْ ُ مع َ ِ جت َ َنا ْ هذا القرآن ،قال تعالى } قُ ْ َ
ل لئ ِ ِ
ض ظ َِهيًرا { . مث ْل ِهِ وَل َوْ َ ْ ذا ال ْ ُ
م ل ِب َعْ ٍ ضه ُ ْ
ن ب َعْ ُ كا َ ن بِ ِ ن ل ي َأُتو َ قْرآ ِ ل هَ َمث ْ ِ بِ ِ
وكيف يقدر المخلوق من تراب ،أن يكون كلمه ككلم رب الرباب؟ أم
كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه ،أن يأتي بكلم ككلم الكامل،
الذي له الكمال المطلق ،والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في
المكان ،ول في قدرة النسان ،وكل من له أدنى ذوق ومعرفة ]بأنواع[
الكلم ،إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلم البلغاء ،ظهر له الفرق
العظيم.
ب { إلى آخره ،دليل على أن الذي يرجى له م ِفي َري ْ ٍ ُ
ن كن ْت ُ ْ وفي قوله } :وَإ ِ ْ
الهداية من الضللة] :هو[ الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلل،
فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق ) (3إن كان صادقا في طلب
الحق.
وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه ،فهذا ل يمكن رجوعه ،لنه ترك
الحق بعد ما تبين له ،لم يتركه عن جهل ،فل حيلة فيه.
وكذلك الشاك غير الصادق ) (4في طلب الحق ،بل هو معرض غير مجتهد
في طلبه ،فهذا في الغالب أنه ل يوفق.
وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم ،دليل على أن
أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم ،قيامه بالعبودية ،التي ل يلحقه فيها
أحد من الولين والخرين.
ه َ ّ
سَرى ب ِعَب ْدِ ِ ذي أ ْ ن ال ِ حا َ سب ْ َ
كما وصفه بالعبودية في مقام السراء ،فقالُ } :
ن عَلى عَب ْدِهِ { . َ فْرَقا َ ل ال ْ ُ ذي نز َ ك ال ّ ِ { وفي مقام النزال ،فقال } :ت ََباَر َ
ن { ونحوها من اليات ،دليل لمذهب أهل ري َ كافِ ِت ل ِل ْ َ عد ّ ْ وفي قوله } :أ ُ ِ
السنة والجماعة ،أن الجنة والنار مخلوقتان خلفا للمعتزلة ،وفيها أيضا ،أن
ت الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر ل يخلدون في النار ،لنه قال } :أ ُ ِ
عد ّ ْ
ن { فلو كان ]عصاة الموحدين[ يخلدون فيها ،لم تكن معدة ري َ ل ِل ْ َ
كافِ ِ
للكافرين وحدهم ،خلفا للخوارج والمعتزلة.
وفيها دللة على أن العذاب مستحق بأسبابه ،وهو الكفر ،وأنواع المعاصي
على اختلفها.
__________
) (1هكذا في أ ،وفي ب :شطب قوله )بأفصحكم ول بأعلمكم( وفي
هامش النسخة بخط المؤلف جملة أخرى هي )من جنس آخر( فتكون
الجملة هكذا )ليس من جنس آخر(.
) (2هكذا وردت الكلمة في هامش أ ،وهي ليست في ب ،ويبدو أن المراد
وهذا العرض.
) (3في ب :باتباعه.
) (4في ب :الذي ليس بصادق.
) (1/45
) (1/46
) (1/47
) (1/48
َْ
ن
واهُ ّ ماِء فَ َ
س ّ وى إ َِلى ال ّ
س َ ست َ َ ميًعا ث ُ ّ
ما ْ ج ِ
ض َما ِفي الْر ِ م َ خل َقَ ل َك ُ ْ
ذي َ هُوَ ال ّ ِ
م )(29 يٍء عَِلي ٌ ش ْ ت وَهُوَ ب ِك ُ ّ
ل َ وا ٍم َ
س َ
سب ْعَ َ َ
) (1/48
) (1/48
) (1/49
م )(37
حي ُ
ب الّر ِ
وا ُ ب عَل َي ْهِ إ ِن ّ ُ
ه هُوَ الت ّ ّ ت فََتا َ ن َرب ّهِ ك َل ِ َ
ما ٍ م ْ قى آ َد َ ُ
م ِ فَت َل َ ّ
) (1/50
ْ
ف دايَ فََل َ
خوْ ٌ ن ت َب ِعَ هُ َم ْدى فَ َ مّني هُ ًم ِما ي َأت ِي َن ّك ُ ْ
ميًعا فَإ ِ ّ
ج ِ
من َْها َ
طوا ِ قُل َْنا اهْب ِ ُ
َ ُ َ
فُروا وَك َذ ُّبوا ب ِآَيات َِنا أول َئ ِ َ
ب الّناِر
حا ُص َ
كأ ْ ن كَ َذي َن )َ (38وال ّ ِ حَزُنو َ
م يَ ْ م وََل هُ ْ عَل َي ْهِ ْ
ن )(39 دو َ خال ِ ُ
م ِفيَها َ هُ ْ
ْ } } { 39 - 38قُل َْنا اهْب ِ ُ
ع
ن ت َب ِ َم ْ دى فَ َمّني هُ ً م ِ ما ي َأت ِي َن ّك ُ ْ ميًعا فَإ ِ ّ
ج ِ
من َْها َ طوا ِ
ُ
فُروا وَك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا أول َئ ِ َ
ك ن كَ َ ذي َن * َوال ّ ِ حَزُنو َ م يَ ْ م َول هُ ْ ف عَل َي ْهِ ْ خوْ ٌ دايَ َفل َهُ َ
ن{. أَ
دو َ خال ِ ُم ِفيَها َ ب الّنارِ هُ ْ حا ُ
ص َْ
ْ
دى { مّني هُ ً م ِ ما ي َأت ِي َن ّك ُ ْ كرر الهباط ،ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله } :فَإ ِ ّ
أي :أيّ وقت وزمان جاءكم مني -يا معشر الثقلين -هدى ،أي :رسول
وكتاب يهديكم لما يقربكم مني ،ويدنيكم مني; ويدنيكم من رضائي،
} فمن تبع هداي { منكم ،بأن آمن برسلي وكتبي ،واهتدى بهم ،وذلك
بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب ،والمتثال للمر والجتناب للنهي،
ن{. حَزُنو َ م يَ ْ م َول هُ ْ ف عَل َي ْهِ ْ } َفل َ
خوْ ٌ
قى { . ش َ ل َول ي َ ْ ض ّ دايَ َفل ي َ ِ ن ات ّب َعَ هُ َ م ِوفي الية الخرى } :فَ َ
فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء:
نفي الخوف والحزن والفرق بينهما ،أن المكروه إن كان قد مضى ،أحدث
الحزن ،وإن كان منتظرا ،أحدث الخوف ،فنفاهما عمن اتبع هداه وإذا
انتفيا ،حصل ضدهما ،وهو المن التام ،وكذلك نفي الضلل والشقاء عمن
اتبع هداه وإذا انتفيا ثبت ضدهما ،وهو الهدى والسعادة ،فمن اتبع هداه،
حصل له المن والسعادة الدنيوية والخروية والهدى ،وانتفى عنه كل
مكروه ،من الخوف ،والحزن ،والضلل ،والشقاء ،فحصل له المرغوب،
واندفع عنه المرهوب ،وهذا عكس من لم يتبع هداه ،فكفر به ،وكذب
بآياته.
فـ } أولئك أصحاب النار { أي :الملزمون لها ،ملزمة الصاحب لصاحبه،
ن { ل يخرجون منها ،ول يفتر عنهم دو َ خال ِ ُ
م ِفيَها َ والغريم لغريمه } ،هُ ْ
العذاب ول هم ينصرون.
وفي هذه اليات وما أشبهها ،انقسام الخلق من الجن والنس ،إلى أهل
السعادة ،وأهل الشقاوة ،وفيها صفات الفريقين والعمال الموجبة لذلك،
وأن الجن كالنس في الثواب والعقاب ،كما أنهم مثلهم ،في المر والنهي.
كر بني إسرائيل نعمه عليهم وإحسانه فقال: ثم شرع تعالى يذ ّ
) (1/50
م وَأ َوُْفوا
ت عَل َي ْك ُ ْ
م ُ
َ
ي ال ِّتي أن ْعَ ْ ل اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ
مت ِ َ سَراِئي َ
} َ } { 43 - 40يا ب َِني إ ِ ْ
ْ َ ُ
معَك ُ ْ
م ما َ صد ًّقا ل ِ َ
م َت ُ ما أن َْزل ُ مُنوا ب ِ َ
ن * َوآ ِ ف ب ِعَهْدِك ُ ْ
م وَإ ِّيايَ َفاْرهَُبو ِ دي أو ِ
ب ِعَهْ ِ
ن * َول قو ِ مًنا قَِليل وَإ ِّيايَ َفات ّ ُ شت َُروا ِبآَياِتي ث َ َ كافِرٍ ب ِهِ َول ت َ ْ ل َ كوُنوا أ َوّ َ َول ت َ ُ
َ َ
صلةَ َوآُتوا موا ال ّ ن * وَأِقي ُ مو َ م ت َعْل َ ُ حقّ وَأن ْت ُ ْ موا ال ْ َ ل وَت َك ْت ُ ُ حقّ ِبال َْباط ِ ِ سوا ال ْ َ ت َل ْب ِ ُ
ن{. معَ الّراك ِِعي َ كاةَ َواْرك َُعوا َ الّز َ
ل { المراد بإسرائيل :يعقوب عليه السلم ،والخطاب مع سَراِئي َ } َيا ب َِني إ ِ ْ
فرق بني إسرائيل ،الذين بالمدينة وما حولها ،ويدخل فيهم من أتى من
َ
م{ ت عَل َي ْك ُ ْ م ُ ي ال ِّتي أن ْعَ ْ مت ِ َ بعدهم ،فأمرهم بأمر عام ،فقال } :اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ
وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها ،والمراد
بذكرها بالقلب اعترافا ،وباللسان ثناء ،وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه
ويرضيه.
َ
دي { وهو ما عهده إليهم من اليمان به ،وبرسله وإقامة } وَأوُْفوا ب ِعَهْ ِ
شرعه.
م { وهو المجازاة على ذلك. ُ ُ
ف ب ِعَهْدِك ْ } أو ِ
لسَراِئي َ ميَثاقَ ب َِني إ ِ ْ ه ِ خذ َ الل ّ ُ قد ْ أ َ َ والمراد بذلك :ما ذكره الله في قوله } :وَل َ َ
َ
م
صلةَ ]َوآت َي ْت ُ ُ م ال ّ مت ُ ُن أق َ ْ م ل َئ ِ ْ معَك ُ ْ ه إ ِّني َ ل الل ّ ُ قيًبا وََقا َ شَر ن َ ِ ي عَ َ م اث ْن َ ْ من ْهُ ُوَب َعَث َْنا ِ
ل{. سِبي ِ واَء ال ّ س َ ل َ ض ّ قد ْ َ سِلي[ { إلى قوله } :فَ َ م ب ُِر ُ من ْت ُ ْكاةَ َوآ َ الّز َ
ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده ،وهو الرهبة منه تعالى،
شَيه أوجبت له خشيته امتثال أمره واجتناب نخ ِ م ْوخشيته وحده ،فإن َ
نهيه.
ثم أمرهم بالمر الخاص ،الذي ل يتم إيمانهم ،ول يصح إل به فقال:
َ
ت { وهو القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد ما أنزل ْ ُ مُنوا ب ِ َ } َوآ ِ
صلى الله عليه وسلم ،فأمرهم باليمان به ،واتباعه ،ويستلزم ذلك ،اليمان
م{ معَك ُ ْ ما َ صد ًّقا ل ِ َ م َ بمن أنزل عليه ،وذكر الداعي ليمانهم به ،فقالُ } :
أي :موافقا له ل مخالفا ول مناقضا ،فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب،
غير مخالف لها; فل مانع لكم من اليمان به ،لنه جاء بما جاءت به
المرسلون ،فأنتم أولى من آمن به وصدق به ،لكونكم أهل الكتب والعلم.
م { إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا معَك ُ ْ ما َ صد ًّقا ل ِ َ م َ وأيضا فإن في قولهُ } :
به ،عاد ذلك عليكم ،بتكذيب ما معكم ،لن ما جاء به هو الذي جاء به
موسى وعيسى وغيرهما من النبياء ،فتكذيبكم له تكذيب لما معكم.
وأيضا ،فإن في الكتب التي بأيدكم ،صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن
والبشارة به ،فإن لم تؤمنوا به ،كذبتم ببعض ما أنزل إليكم ،ومن كذب
] ص [ 51ببعض ما أنزل إليه ،فقد كذب بجميعه ،كما أن من كفر
برسول ،فقد كذب الرسل جميعهم.
فلما أمرهم باليمان به ،نهاهم وحذرهم من ضده وهو الكفر به فقال:
كافِرٍ ب ِهِ { أي :بالرسول والقرآن. ل َ كوُنوا أ َوّ َ } َول ت َ ُ
كافِرٍ ب ِهِ { أبلغ من قوله } :ول تكفروا به { لنهم إذا ل َ َ
وفي قوله } :أوّ َ
كانوا أول كافر به ،كان فيه مبادرتهم إلى الكفر به ،عكس ما ينبغي منهم،
وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم.
ثم ذكر المانع لهم من اليمان ،وهو اختيار العرض الدنى على السعادة
مًنا قَِليل { وهو ما يحصل لهم من شت َُروا ِبآَياِتي ث َ َ البدية ،فقالَ } :ول ت َ ْ
المناصب والمآكل ،التي يتوهمون انقطاعها ،إن آمنوا بالله ورسوله،
فاشتروها بآيات الله واستحبوها ،وآثروها.
ن { فإنكم إذا اتقيتم الله وحده ،أوجبت قو ِ } وَإ ِّيايَ { أي :ل غيري } َفات ّ ُ
لكم تقواه ،تقديم اليمان بآياته على الثمن القليل ،كما أنكم إذا اخترتم
الثمن القليل ،فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم.
حق ّ { ْ
موا ال َ ْ حقّ ِبال َْباط ِ ِ
ل وَت َكت ُ ُ سوا { أي :تخلطوا } ال ْ َ ثم قالَ } :ول ت َل ْب ِ ُ
فنهاهم عن شيئين ،عن خلط الحق بالباطل ،وكتمان الحق؛ لن المقصود
من أهل الكتب والعلم ،تمييز الحق ،وإظهار الحق ،ليهتدي بذلك المهتدون،
ويرجع الضالون ،وتقوم الحجة على المعاندين؛ لن الله فصل آياته وأوضح
بيناته ،ليميز الحق من الباطل ،ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل
المجرمين ،فمن عمل بهذا من أهل العلم ،فهو من خلفاء الرسل وهداة
المم.
ومن لبس الحق بالباطل ،فلم يميز هذا من هذا ،مع علمه بذلك ،وكتم
الحق الذي يعلمه ،وأمر بإظهاره ،فهو من دعاة جهنم ،لن الناس ل
يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم ،فاختاروا لنفسكم إحدى الحالتين.
صلةَ { أي :ظاهرا وباطنا } َوآُتوا الّز َ
كاةَ { َ
موا ال ّ ثم قال } :وَأِقي ُ
ن { أي :صلوا مع المصلين ،فإنكم إذا معَ الّراك ِِعي َ مستحقيهاَ } ،واْرك َُعوا َ
فعلتم ذلك مع اليمان برسل الله وآيات الله ،فقد جمعتم بين العمال
الظاهرة والباطنة ،وبين الخلص للمعبود ،والحسان إلى عبيده ،وبين
العبادات القلبية البدنية والمالية.
ن { أي :صلوا مع المصلين ،ففيه المر وقولهَ } :واْرك َُعوا َ
معَ الّراك ِِعي َ
بالجماعة للصلة ووجوبها ،وفيه أن الركوع ركن من أركان الصلة لنه عّبر
عن الصلة بالركوع ،والتعبير عن العبادة بجزئها يدل على فرضيته فيها.
) (1/50
َ َ ن أ َن ْ ُ َ ْ
قُلو َ
ن) ب أفََل ت َعْ ِ
ن ال ْك َِتا َ
م ت َت ُْلو َ سك ُ ْ
م وَأن ْت ُ ْ ف َ س ِبال ْب ِّر وَت َن ْ َ
سوْ َ ن الّنا َ
مُرو َ
أت َأ ُ
(44
) (1/51
نذي َن ) (45ال ّ ِ شِعي َ خا ِ صَلةِ وَإ ِن َّها ل َك َِبيَرةٌ إ ِّل عََلى ال ْ َ صب ْرِ َوال ّ ست َِعيُنوا ِبال ّ َوا ْ
َ َ َ َ
ل اذ ْك ُُروا سَراِئي َ ن )َ (46يا ب َِني إ ِ ْ جُعو َ م إ ِلي ْهِ َرا ِ م وَأن ّهُ ْ ملُقو َرب ّهِ ْ م ُ ن أن ّهُ ْ ي َظ ُّنو َ
ما َل َ َ
قوا ي َوْ ً ن )َ (47وات ّ ُ مي َ م عََلى ال َْعال َ ِضل ْت ُك ُ ْ
م وَأّني فَ ّ ت عَل َي ْك ُ ْ م ُ ي ال ِّتي أن ْعَ ْ مت ِ َ ن ِعْ َ
ل وََل من َْها عَد ْ ٌ خذ ُ ِ ة وََل ي ُؤْ َ فاعَ ٌ من َْها َ
ش َ ل ِ شي ًْئا وََل ي ُ ْ
قب َ ُ س َ ف ٍ ن نَ ْس عَ ْ ف ٌ زي ن َ ْ ج ِتَ ْ
ن )(48 صُرو َ م ي ُن ْ َ هُ ْ
ن
شِعي َخا ِ صلةِ وَإ ِن َّها ل َك َِبيَرةٌ ِإل عََلى ال ْ َ صب ْرِ َوال ّ ست َِعيُنوا ِبال ّ } َ } { 48 - 45وا ْ
َ َ * ال ّذين يظ ُنو َ
سَراِئي َ
ل ن * َيا ب َِني إ ِ ْ جُعو َ م إ ِلي ْهِ َرا ِ م وَأن ّهُ ْ ملُقو َرب ّهِ ْ م ُ ن أن ّهُ ْ ِ َ َ ّ َ
َ ْ َ ُ ْ َ ُ َ َ ّ
قوا ن * َوات ّ ُ مي َ م عَلى الَعال ِ ضلت ُك ْ م وَأّني فَ ّ ت عَلي ْك ْ م ُ ي الِتي أن ْعَ ْ مت ِ َاذ ْك ُُروا ن ِعْ َ
من َْهاخذ ُ ِ ة َول ي ُؤْ َ فاعَ ٌ ش َ من َْها َل ِ شي ًْئا َول ي ُ ْ
قب َ ُ س َ ف ٍ ن نَ ْ س عَ ْ ف ٌ زي ن َ ْ ج ِما ل ت َ ْ ي َوْ ً
ن{. صُرو َ م ي ُن ْ َل َول هُ ْ عَد ْ ٌ
أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه ،وهو الصبر
على طاعة الله حتى يؤديها ،والصبر عن معصية الله حتى يتركها ،والصبر
على أقدار الله المؤلمة فل يتسخطها ،فبالصبر وحبس النفس على ما أمر
الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من المور ،ومن يتصبر
يصبره الله ،وكذلك الصلة التي هي ميزان اليمان ،وتنهى عن الفحشاء
والمنكر ،يستعان بها على كل أمر من المور } وَإ ِن َّها { أي :الصلة
ن { فإنها سهلة عليهم خفيفة؛ شِعي َ خا ِ } ل َك َِبيَرةٌ { أي :شاقة } ِإل عََلى ال ْ َ
لن الخشوع ،وخشية الله ،ورجاء ما عنده يوجب له فعلها ،منشرحا صدره
لترقبه للثواب ،وخشيته من العقاب ،بخلف من لم يكن كذلك ،فإنه ل
داعي له يدعوه إليها ،وإذا فعلها صارت من أثقل الشياء عليه.
والخشوع هو :خضوع القلب وطمأنينته ،وسكونه لله تعالى ،وانكساره بين
يديه ،ذل وافتقارا ،وإيمانا به وبلقائه.
] ص [ 52
َ
م{ ملُقو َرب ّهِ ْ م ُ ن { أي :يستيقنون } أن ّهُ ْ ن ي َظ ُّنو َ ذي َ ولهذا قال } :ال ّ ِ
َ
ن { فهذا الذي خفف عليهم جُعو َ م إ ِل َي ْهِ َرا ِ فيجازيهم بأعمالهم } وَأن ّهُ ْ
العبادات وأوجب لهم التسلي في المصيبات ،ونفس عنهم الكربات،
وزجرهم عن فعل السيئات ،فهؤلء لهم النعيم المقيم في الغرفات
العاليات ،وأما من لم يؤمن بلقاء ربه ،كانت الصلة وغيرها من العبادات
من أشق شيء عليه.
ثم كرر على بني إسرائيل التذكير بنعمته ،وعظا لهم ،وتحذيرا وحثا.
س { ولو ف ٌ زي { فيه ،أي :ل تغني } ن َ ْ ج ِ وخوفهم بيوم القيامة الذي } ل ت َ ْ
س { ولو كانت ف ٍ ن نَ ْكانت من النفس الكريمة كالنبياء والصالحين } عَ ْ
شي ًْئا { ل كبيرا ول صغيرا وإنما ينفع النسان عمله من العشيرة القربين } َ
الذي قدمه.
من َْها { أي :النفس ،شفاعة لحد بدون إذن الله ورضاه عن ل ِ قب َ ُ} َول ي ُ ْ
المشفوع له ،ول يرضى من العمل إل ما أريد به وجهه ،وكان على السبيل
ل { أي :فداء } ولو أن للذين ظلموا ما في من َْها عَد ْ ٌ
خذ ُ ِ
والسنةَ } ،ول ي ُؤْ َ
الرض جميعا ومثله معه لفتدوا به من سوء العذاب { ول يقبل منهم ذلك
ن { أي :يدفع عنهم المكروه ،فنفى النتفاع من الخلق صُرو َ م ي ُن ْ َ } َول هُ ْ
شي ًْئا { هذا في
س َ
ف ٍ
ن نَ ْ
س عَ ْ
ف ٌ زي ن َ ْ
ج ِبوجه من الوجوه ،فقوله } :ل ت َ ْ
ن { هذا في دفع المضار ،فهذا النفي صُرو َ م ي ُن ْ َ
تحصيل المنافعَ } ،ول هُ ْ
للمر المستقل ) (1به النافع.
} ول يقبل منها شفاعة ول يؤخذ منها عدل { هذا نفي للنفع الذي يطلب
ممن يملكه بعوض ،كالعدل ،أو بغيره ،كالشفاعة ،فهذا يوجب للعبد أن
ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين ،لعلمه أنهم ل يملكون له مثقال ذرة
من النفع ،وأن يعلقه بالله الذي يجلب المنافع ،ويدفع المضار ،فيعبده
وحده ل شريك له ويستعينه على عبادته.
__________
) (1في ب :المستقبل.
) (1/51
ذاب يذ َبحو َ م َ
ن أب َْناَءك ُ ْ
م سوَء ال ْعَ َ ِ ُ ّ ُ َ م ُ مون َك ُ ْ سو ُ ن يَ ُ ل فِْرعَوْ َ نآ ِ م ِ ْ جي َْناك ُ ْ وَإ ِذ ْ ن َ ّ
ُ
م ) (49وَإ ِذ ْ فََرقَْنا ب ِك ُ
م ظي ٌ م عَ ِ ُ
ن َرب ّك ْ م ْ م ب َلٌء ِ َ ُ
م وَِفي ذ َل ِك ْ ساَءك ْ ُ ن نِ َ حُيو َ ست َ ْ وَي َ ْ
ُ َ َ َ َ
سى مو َ ن ) (50وَإ ِذ ْ َواعَد َْنا ُ م ت َن ْظُرو َ ن وَأن ْت ُ ْ ل فِْرعَوْ َ م وَأغَْرقَْنا آ َ ُ
جي َْناك ْ حَر فَأن ْ َ ال ْب َ ْ
م َ َ َ
فوَْنا عَن ْك ُ ْ
م م عَ َ ن ) (51ث ُ ّ مو َ ظال ِ ُ ن ب َعْدِهِ وَأن ْت ُ ْ م ْ ل ِ ج َ م ال ْعِ ْ خذ ْت ُ ُ م ات ّ َ ة ثُ ّ ن ل َي ْل َ ً أْرب َِعي َ
َ
من ل َعَل ّك ُ ْ فْرَقا َ ب َوال ْ ُ سى ال ْك َِتا َ مو َ ن ) (52وَإ ِذ ْ آت َي َْنا ُ شك ُُرو َ م تَ ْ ك ل َعَل ّك ُ ْ ن ب َعْدِ ذ َل ِ َ م ْ ِ
َ َ َ
خاذِك ُ ُ
م م ِبات ّ َ سك ُ ْ ف َ م أن ْ ُ مت ُ ْ
م ظل ْ مهِ َيا قَوْم ِ إ ِن ّك ُ ْ قوْ ِ سى ل ِ َ مو َ ل ُ ن ) (53وَإ ِذ ْ َقا َ دو َ ت َهْت َ ُ
َ
ب م فََتا َ عن ْد َ َبارِئ ِك ُ ْ م ِ خي ٌْر ل َك ُ ْ م َ م ذ َل ِك ُ ْ سك ُ ْ ف َ م َفاقْت ُُلوا أن ْ ُ ل فَُتوُبوا إ َِلى َبارِئ ِك ُ ْ ج َ ال ْعِ ْ
حّتى ك َ ن لَ َ م َ ن ن ُؤْ ِ سى ل َ ْ مو َ م َيا ُ م ) (54وَإ ِذ ْ قُل ْت ُ ْ حي ُ ب الّر ِ وا ُ ه هُوَ الت ّ ّ م إ ِن ّ ُ عَل َي ْك ُ ْ
َ َ
ن ب َعْدِ م ْ م ِ م ب َعَث َْناك ُ ْ ن ) (55ث ُ ّ م ت َن ْظ ُُرو َ ة وَأن ْت ُ ْ ق ُ ع َ صا ِ م ال ّ خذ َت ْك ُ ُ جهَْرةً فَأ َ ه َ ن ََرى الل ّ َ
َ
ن
م ّ م ال ْ َ م وَأن َْزل َْنا عَل َي ْك ُ ُ ما َ م ال ْغَ َ ن ) (56وَظ َل ّل َْنا عَل َي ْك ُ ُ شك ُُرو َ م تَ ْ م ل َعَل ّك ُ ْ موْت ِك ُ ْ َ
م َ َ َ َ َ ُ ْ َ ُ ُ ْ
سهُ ْ ف َ ن كاُنوا أن ْ ُ موَنا وَلك ِ ْ ما ظل ُ م وَ َ ما َرَزقَناك ْ ت َ ن طي َّبا ِ م ْ وى كلوا ِ سل َ َوال ّ
ن )(57 مو َ ي َظ ْل ِ ُ
بذا ِ سوَء ال ْعَ َ م ُ مون َك ُ ْ سو ُ ن يَ ُ ل فِْرعَوْ َ نآ ِ م ْ م ِ جي َْناك ُ ْ } } { 57 - 49وَإ ِذ ْ ن َ ّ
يذ َبحو َ
م * وَإ ِذ ْ ظي ٌ م عَ ِ ن َرب ّك ُ ْ م ْ م َبلٌء ِ م وَِفي ذ َل ِك ُ ْ ساَءك ُ ْ ن نِ َ حُيو َ ست َ ْ م وَي َ ْ ن أب َْناَءك ُ ْ ُ ّ ُ َ
ن * وَإ ِذ ْ َواعَد َْنا رو ُ ظ ن ت م ت ن ل فرعَون وأ َ َ آ نا ْ ق ر ْ غ فَرقْنا بك ُم ال ْبحر فَأ َنجيناك ُم وأ َ
ِ ْ ْ َ َ ُْ ْ َْ ُ َ ْ َ َْ ْ َ َ َ َ َ ِ ُ َ ْ َ
فوَْنا م عَ َ ن * ث ُّ مو ل ظا َ م ت نَ أ و ه د ع ب ن م لَ ج ْ ْ ُ َ َ َ
ِ ُ َ ِ ْ َْ ِ ِ َ ُْ ْ ن ْ ً ّ ّ َ ُ ُ ِ ْ
ع ل ا م ت ذ خ ت ا م ث ة لي ل سى أْرب َِعي َ مو َ ُ
ن فْرقا َ َ ْ
ب َوال ُ سى الك َِتا َ ْ مو َ ن * وَإ ِذ ْ آت َي َْنا ُ شكُرو َ ُ م تَ ْ ُ ّ َ
ن ب َعْدِ ذ َل ِك لعَلك َْ م ْ م ِ ُ
عَن ْك ْ
َ َ َ
م ُ
سك ْ ف َ م أن ْ ُ مت ُ ْ م ظل ْ ُ
مهِ َيا قوْم ِ إ ِن ّك ْ َ قوْ ِ سى ل ِ َ مو َ َ َ
ن * وَإ ِذ ْ قال ُ دو َ م ت َهْت َ ُ ل َعَل ّك ُ ْ
َ
عن ْد َ م ِ خي ٌْر ل َك ُ ْ م َ م ذ َل ِك ُ ْ سك ُ ْ ف َ م َفاقْت ُُلوا أن ْ ُ ل فَُتوُبوا إ َِلى َبارِئ ِك ُ ْ ج َ م ال ْعِ ْ خاذِك ُ ُ ِبات ّ َ
نم َ ن ن ُؤْ ِ سى ل َْ مو َ م َيا ُ ْ
م * وَإ ِذ ْ قُلت ُ ْ حي ُ ب الّر ِ وا ُ ه هُوَ َ الت ّ ّ م إ ِن ّ ُ ُ
ب عَلي ْك ْ َ م فََتا َ ُ
َبارِئ ِك ْ
ُ ُ َ ُ جهَْرةً فَأ َ ّ لَ َ
ن
م ْ م ِ م ب َعَث َْناك ْ ن * ثُ ّ م ت َن ْظُرو َ ة وَأن ْت ُ ْ ق ُ ع َصا ِ م ال ّ خذ َت ْك ُ ه َ حّتى ن ََرى الل َ ك َ
َ
نم ّ م ال ْ َ م وَأن َْزل َْنا عَل َي ْك ُ ُ ما َ م ال ْغَ َ ن * وَظ َل ّل َْنا عَل َي ْك ُ ُ شك ُُرو َ م تَ ْ م ل َعَل ّك ُ ْ موْت ِك ُ ْ ب َعْدِ َ
َ َ َ َ َ ُ َ ُ ُ ْ
م
سهُ ْ ف َ ن كاُنوا أن ْ ُ موَنا وَلك ِ ْ ما ظل ُ م وَ َ ما َرَزقَْناك ْ ت َ ن طي َّبا ِ م ْ وى كلوا ِ سل َ َوال ّ
ن{. مو َ ي َظ ْل ِ ُ
هذا شروع في تعداد نعمه على بني إسرائيل على وجه التفصيل فقال:
ن { أي :من فرعون وملئه وجنوده وكانوا قبل ل فِْرعَوْ َ نآ ِ م ْ م ِ جي َْناك ُ ْ } وَإ ِذ ْ ن َ ّ
ب { أي: ذا ِ ْ
سوَء العَ َ م { أي :يولونهم ويستعملونهمُ } ، ُ
مون َك ْ سو ُ ذلك } ي َ ُ
ُ َ
ن
حُيو َ ست َ ْ م { خشية نموكم } ،وَي َ ْ ن أب َْناَءك ْ حو َ أشده بأن كانوا } ي ُذ َب ّ ُ
م { أي :فل يقتلونهن ،فأنتم بين قتيل ومذلل بالعمال الشاقة، ساَءك ُ ْ نِ َ
مستحيي على وجه المنة عليه والستعلء عليه فهذا غاية الهانة ،فمن الله
عليهم بالنجاة التامة وإغراق عدوهم وهم ينظرون لتقر أعينهم.
م { فهذا ظي ٌم عَ ِ ن َرب ّك ُ ْ م ْ } وَِفي ذ َِلكم { أي :النجاء } َبلٌء { أي :إحسان } ِ
مما يوجب عليكم الشكر والقيام بأوامره.
ثم ذكر منته عليهم بوعده لموسى أربعين ليلة لينزل عليهم التوراة
المتضمنة للنعم العظيمة والمصالح العميمة ،ثم إنهم لم يصبروا قبل
استكمال الميعاد حتى عبدوا العجل من بعده ،أي :ذهابه.
ن { عالمون بظلمكم ،قد قامت عليكم الحجة ،فهو أعظم م َ َ
مو َ ظال ِ ُ } وَأن ْت ُ ْ
جرما وأكبر إثما.
ثم إنه أمركم بالتوبة على لسان نبيه موسى بأن يقتل بعضكم بعضا فعفا
ن { الله. شك ُُرو َ م تَ ْ الله عنكم بسبب ذلك } ل َعَل ّك ُ ْ
جهَْرةً { وهذا غاية الظلم ه َ حّتى ن ََرى الل ّ َ ك َ ن لَ َ م َ ن ن ُؤْ ِ سى ل َ ْ مو َ م َيا ُ } وَإ ِذ ْ قُل ْت ُ ْ
َ
ة { إما الموت أو ق ُ ع َصا ِ
م ال ّ خذ َت ْك ُ ُ والجراءة على الله وعلى رسوله } ،فَأ َ
َ
ن { وقوع ذلك ،كل ينظر إلى صاحبه، م ت َن ْظ ُُرو َ الغشية العظيمة } ،وَأن ْت ُ ْ
ن{. شك ُُرو َ م ل َعَل ّك ُ ْ
م تَ ْ موْت ِك ُ ْ ن ب َعْدِ َ م ْ م ِ م ب َعَث َْناك ُ ْ } ثُ ّ
ثم ذكر نعمته عليكم في التيه والبرية الخالية من الظلل وسعة الرزاق،
َ
ن { وهو اسم جامع لكل م ّ م ال ْ َ م وَأنزل َْنا عَل َي ْك ُ ُ ما َ م ال ْغَ َ فقال } :وَظ َل ّل َْنا عَل َي ْك ُ ُ
رزق حسن يحصل بل تعب ،ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك.
وى { طائر صغير يقال له السماني ،طيب اللحم ،فكان ينزل سل ْ َ } َوال ّ
ت َ
ن طي َّبا ِ م ْ ُ ُ
عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم ] ص [ 53ويقيتهم } كلوا ِ
م { أي :رزقا ل يحصل نظيره لهل المدن المترفهين ،فلم ما َرَزقَْناك ُ ْ َ
يشكروا هذه النعمة ،واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب.
موَنا { يعني بتلك الفعال المخالفة لوامرنا لن الله ل تضره ما ظ َل َ ُ } وَ َ
م َ َ َ
سه ُ ْف َ ن كاُنوا أن ْ ُ معصية العاصين ،كما ل تنفعه طاعات الطائعين } ،وَلك ِ ْ
ن { فيعود ضرره عليهم. مو َ ي َظ ْل ِ ُ
) (1/52
بخُلوا ال َْبا َ دا َواد ْ ُ م َرغَ ً شئ ْت ُ ْ ث ِ حي ْ ُ من َْها َ ة فَك ُُلوا ِ قْري َ َ خُلوا هَذِهِ ال ْ َ وَإ ِذ ْ قُل َْنا اد ْ ُ
ن ) (58فَب َد ّ َ
ل سِني َ ح ِ م ْ زيد ُ ال ْ ُ سن َ ِ م وَ َ طاَياك ُ ْ خ َ م َ فْر ل َك ُ ْ ة ن َغْ ِ حط ّ ٌ دا وَُقوُلوا ِ ج ًس ّ ُ
َ َ ّ َ ْ َ َ ّ ً َ َ
ن
َ م
ِ زا ج
ِ ْ ً ر موا
ُ ل ظ ن
َ ذي
ِ ل ا لى َ ع نا
َ ل ز
َ ْ ن أ َ ف م
ُ ْ ه ل َ
ل قي
ِ ذي ِ لا ر
َْ يَ غ ل ْ وَ ق مواُ ل ظ ال ّ َ
ن ذي
ِ
ن )(59 قو َ س ُف ُ كاُنوا ي َ ْ ما َ ماِء ب ِ َ س َال ّ
م َرغَ ً
دا شئ ْت ُ ْ
ث ِ حي ْ ُ ة فَك ُُلوا ِ
من َْها َ قْري َ َخُلوا هَذِهِ ال ْ َ } } { 59 - 58وَإ ِذ ْ قُل َْنا اد ْ ُ
ن*سِني َ ح ِم ْ زيد ُ ال ْ ُسن َ ِ م وَ َطاَياك ُ ْ خ َ
م َفْر ل َك ُ ْ حط ّ ٌ
ة ن َغْ ِ دا وَُقوُلوا ِ ج ً س ّ
ب ُ خُلوا ال َْبا ََواد ْ ُ
َ َ ّ َ ْ َ َ ّ َ َ ّ
جًزا
موا رِ ْ ن ظل ُ ذي َ م فَأن َْزلَنا عَلى ال ِ ل له ُ ْ ذي ِقي َ ول غَي َْر ال ِ موا قَ ْ ن ظل ُ ذي َ ل ال ِفَب َد ّ َ
ن{. قو َ
س ُ
ف ُ كاُنوا ي َ ْ ما َ ماِء ب ِ َ س َ
ن ال ّ م َ
ِ
وهذا أيضا من نعمته عليهم بعد معصيتهم إياه ،فأمرهم بدخول قرية تكون
لهم عزا ووطنا ومسكنا ،ويحصل لهم فيها الرزق الرغد ،وأن يكون دخولهم
على وجه خاضعين لله فيه بالفعل ،وهو دخول الباب } سجدا { أي:
ة { أي أن يحط عنهم حط ّ ٌ خاضعين ذليلين ،وبالقول وهو أن يقولواِ } :
خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته.
ن{ سِني َح ِ م ْ ْ
سنزيد ُ ال ُ
م { بسؤالكم المغفرة } ،وَ َ طاَياك ُ ْ خ َ م َ فْر ل َك ُ ْ } ن َغْ ِ
بأعمالهم ،أي :جزاء عاجل وآجل.
موا { منهم ،ولم يقل فبدلوا لنهم لم يكونوا كلهم بدلوا ن ظ َل َ ُ ذي َ ل ال ّ ِ} فَب َد ّ َ
م { فقالوا بدل حطة :حبة في حنطة ،استهانة ل ل َهُ ْذي ِقي َ ول غَي َْر ال ّ ِ } قَ ْ
بأمر الله ،واستهزاء وإذا بدلوا القول مع خفته فتبديلهم للفعل من باب
أولى وأحرى ،ولهذا دخلوا يزحفون على أدبارهم ،ولما كان هذا الطغيان
َ
موا {ن ظ َل َ ُذي َأكبر سبب لوقوع عقوبة الله بهم ،قال } :فَأنزل َْنا عََلى ال ّ ِ
ماِء { بسبب فسقهم وبغيهم. س َ
ن ال ّ
م َ
جًزا { أي :عذابا } ِ منهم } رِ ْ
) (1/53
ه اث ْن ََتا
من ْ ُ
ت ِجَر ْ ف َجَر َفان ْ َ ك ال ْ َ
ح َ صا َب ب ِعَ َ ضرِ ْقل َْنا ا ْ
مهِ فَ ُ
قوْ ِسى ل ِ َ مو َ قى ُ س َ
ست َ ْ
وَإ ِذِ ا ْ
ق الل ّهِ وَلَ ُ ُ ُ ُ
ن رِْز ِ م ْ
شَرُبوا ِ م كلوا َوا ْ م ْ
شَرب َهُ ْ س َ ل أَنا ٍ مك ّ شَرةَ عَي ًْنا قَد ْ عَل ِ َ عَ ْ
َ ْ
ن )(60 دي َس ِ ف ِ
م ْض ُ وا ِفي الْر ِ ت َعْث َ ْ
جَر ك ال ْ َ
ح َ صا َ
ب ب ِعَ َ ضرِ ْقل َْنا ا ْ مه ِ ف َ ُ قوْ ِ سى ل ِ َ مو َ قى ُ س َ ست َ ْ } } { 60وَإ ِذِ ا ْ
شَرُبوا ُ
م كلوا َوا ْ ُ م ْ ُ ّ ُ َ ه اث ْن ََتا عَ ْ َفان ْ َ
شَرب َهُ ْ س َ م كل أَنا ٍ شَرةَ عَي ًْنا قد ْ عَل ِ َ من ْ ُت ِ جَر ْ ف َ
ن{. دي َ س ِ ف ِ م ْض ُ وا ِفي الْر ِ ق الل ّهِ َول ت َعْث َ ْ ن رِْز ِ م ْ ِ
استسقى ،أي :طلب لهم ماء يشربون منه.
جَر { إما حجر مخصوص معلوم عنده ،وإما اسم ح َ ك ال ْ َ صا َ ب ب ِعَ َ ضرِ ْ قل َْنا ا ْ
} فَ ُ
شَرةَ عَي ًْنا { وقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة ه اث ْن ََتا عَ ْ
من ْ ُ ت ِ جَر ْف َ جنسَ } ،فان ْ َ
ُ ُ
م { أي :محلهم الذي شَرب َهُ ْ م ْ س { منهم } َ ل أَنا ٍ مك ّ قبيلة } ،قَد ْ عَل ِ َ
يشربون عليه من هذه العين ،فل يزاحم بعضهم بعضا ،بل يشربونه
ق الل ّهِ { أي :الذي ن رِْز ِ م ْ شَرُبوا ِ متهنئين ل متكدرين ،ولهذا قال } :ك ُُلوا َوا ْ
ض { أي :تخربوا على وا ِفي الْر ِ آتاكم من غير سعي ول تعبَ } ،ول ت َعْث َ ْ
وجه الفساد.
) (1/53
ما م ّج ل ََنا ِ خرِ ْ ك يُ ْ حدٍ َفاد ْعُ ل ََنا َرب ّ َ صب َِر عََلى ط ََعام ٍ َوا ِ ن نَ ْ سى ل َ ْ مو َ م َيا ُ وَإ ِذ ْ قُل ْت ُ ْ
َ ت اْل َْر
ذي ن ال ّ ِ ست َب ْدُِلو َ ل أت َ ْ صل َِها َقا َ َ سَها وَب َ مَها وَعَد َ ِ قل َِها وَقِّثائ َِها وَُفو ِ ن بَ ْ ْ مض ِ ُ ت ُن ْب ِ ُ
َ َ
مت عَل َي ْهِ ُ ضرِب َ ْ م وَ ُ سأل ْت ُ ْ ما َ م َ ن ل َك ُ ْ صًرا فَإ ِ ّ م ْ طوا ِ خي ٌْر اهْب ِ ُ ذي هُوَ َ هُوَ أد َْنى ِبال ّ ِ
َ َ
ت الل ّ ِ
ه ن ب ِآَيا ِ فُرو َ كاُنوا ي َك ْ ُ م َ ك ب ِأن ّهُ ْ ن الل ّهِ ذ َل ِ َ م َب ِض ٍ ة وََباُءوا ب ِغَ َ سك َن َ ُ م ْ ة َوال ْ َ الذ ّل ّ ُ
ن )(61 دو َ كاُنوا ي َعْت َ ُ وا وَ َ ص ْما عَ َ حقّ ذ َل ِ َ
ك بِ َ ن ب ِغَي ْرِ ال ْ َ ن الن ّب ِّيي َ قت ُُلو َ وَي َ ْ
حدٍ َفاد ْعُ ل ََنا َرب ّ َ
ك صب َِر عََلى ط ََعام ٍ َوا ِ ن نَ ْ سى ل َ ْ مو َ م َيا ُ } } { 61وَإ ِذ ْ قُل ْت ُ ْ
صل َِها َقا َ
ل سَها وَب َ َ مَها وَعَد َ ِ قل َِها وَقِّثائ َِها وَُفو ِ ن بَ ْ م ْ ض ِ ت الْر ُ ما ت ُن ْب ِ ُ ج ل ََنا ِ
م ّ خرِ ْ يُ ْ
ْ َ ُ َ ُ ّ َ ّ ُ َ
مسألت ُ ْ ما َ م َ ن لك ْ صًرا فَإ ِ ّ ْ م
خي ٌْر اهْب ِطوا ِ ذي هُوَ َ ذي هُوَ أد َْنى ِبال ِ ن ال ِ ست َب ْدِلو َ أت َ ْ
كاُنوا م َ وضربت عَل َيهم الذ ّل ّة وال ْمسك َنة وباُءوا بغَضب من الل ّه ذ َل َ َ
ك ب ِأن ّهُ ْ ِ ِ ِ َ ٍ ِ َ ُ َ َ ْ َ ُ ََ ِْ ُ َ ُ َِ ْ
وا وَكاُنواَ ص ْ
ما عَ َ ك بِ َ حقّ ذ َل ِ َ ْ
ن ب ِغَي ْرِ ال َ ن الن ّب ِّيي َ ُ
قت ُلو َ ت اللهِ وَي َ ّْ ن ِبآَيا ِ فُرو َ ي َك ْ ُ
ن{. دو َ ي َعْت َ ُ
أي :واذكروا ،إذ قلتم لموسى ،على وجه التملل لنعم الله والحتقار لها،
حدٍ { أي :جنس من الطعام ،وإن كان كما تقدم صب َِر عََلى ط ََعام ٍ َوا ِ ن نَ ْ } لَ ْ
نم ْ ض ِ ت الْر ُ ما ت ُن ْب ِ ُ م ّ ج ل ََنا ِ خرِ ْ ك يُ ْ أنواعا ،لكنها ل تتغيرَ } ،فاد ْعُ ل ََنا َرب ّ َ
قل َِها { أي :نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه } ،وَقِّثائ َِها { وهو بَ ْ
مَها { أي :ثومها ،والعدس والبصل معروف ،قال لهم موسى الخيار } وَُفو ِ
َ َ
خي ٌْر { ذي هُوَ َ ذي هُوَ أد َْنى { وهو الطعمة المذكورةِ } ،بال ّ ِ ن ال ّ ِ ست َب ْدُِلو َ } أت َ ْ
وهو المن والسلوى ،فهذا غير لئق بكم ،فإن هذه الطعمة التي طلبتم ،أي
مصر هبطتموه وجدتموها ،وأما طعامكم الذي من الله به عليكم ،فهو خير
الطعمة وأشرفها ،فكيف تطلبون به بدل؟
ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم واحتقارهم
ةّ
م الذ ّل ُ ت عَل َي ْهِ ُ ضرِب َ ْ لوامر الله ونعمه ،جازاهم من جنس عملهم فقال } :وَ ُ
ة { بقلوبهم ،فلم تكن سك َن َ ُ م ْ { التي تشاهد على ظاهر أبدانهم } َوال ْ َ
أنفسهم عزيزة ،ول لهم همم عالية ،بل أنفسهم أنفس مهينة ،وهممهم
ن الل ّهِ { أي :لم تكن غنيمتهم التي رجعوا م َ ب ِ ض ٍ أردأ الهمم } ،وََباُءوا ب ِغَ َ
بها وفازوا ،إل أن رجعوا بسخطه عليهم ،فبئست الغنيمة غنيمتهم ،وبئست
الحالة حالتهم.
ت الل ّهِ { كاُنوا ي َك ْ ُ م َ َ } ذ َل ِ َ
ن ِبآَيا ِ فُرو َ ك { الذي استحقوا به غضبه } ب ِأن ّهُ ْ
الدالت على الحق الموضحة لهم ،فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليهم،
حق ّ { . ن ب ِغَي ْرِ ال ْ َ ن الن ّب ِّيي َ قت ُُلو َ وبما كانوا } ي َ ْ
حقّ { زيادة شناعة ،وإل فمن المعلوم أن قتل النبي ل ْ
وقوله } :ب ِغَي ْرِ ال َ
يكون بحق ،لكن لئل يظن جهلهم وعدم علمهم.
ن { على عباد دو َ َ
وا { بأن ارتكبوا معاصي الله } وَكاُنوا ي َعْت َ ُ ص ْما عَ َ ك بِ َ } ذ َل ِ َ
الله ،فإن المعاصي يجر بعضها بعضا ،فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير ،ثم
ينشأ عنه الذنب الكبير ،ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك ،فنسأل
الله العافية من كل بلء.
واعلم أن الخطاب في هذه اليات لمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين
وقت نزول القرآن ،وهذه الفعال ] ص [ 54المذكورة خوطبوا بها وهي
فعل أسلفهم ،ونسبت لهم لفوائد عديدة ،منها :أنهم كانوا يتمدحون
ويزكون أنفسهم ،ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به ،فبين الله من
أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم ،ما يبين به لكل أحد ]منهم[ أنهم
ليسوا من أهل الصبر ومكارم الخلق ،ومعالي العمال ،فإذا كانت هذه
حالة سلفهم ،مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم فكيف
الظن بالمخاطبين؟".
ومنها :أن نعمة الله على المتقدمين منهم ،نعمة واصلة إلى المتأخرين،
والنعمة على الباء ،نعمة على البناء ،فخوطبوا بها ،لنها نعم تشملهم
وتعمهم.
ومنها :أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم ،مما يدل على أن المة المجتمعة
على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها ،حتى كان متقدمهم ومتأخرهم
في وقت واحد ،وكان الحادث من بعضهم حادثا من الجميع.
لن ما يعمله بعضهم من الخير يعود بمصلحة الجميع ،وما يعمله من الشر
يعود بضرر الجميع.
ومنها :أن أفعالهم أكثرها لم ينكروها ،والراضي بالمعصية شريك للعاصي،
ح َ
كم التي ل يعلمها إل الله. إلى غير ذلك من ال ِ
) (1/53
ن
ذي َمُنوا َوال ّ ِ نآ َ
ذي َن ال ّ ِ
} { 62ثم قال تعالى حاكما بين الفرق الكتابية } :إ ِ ّ
م َ
حا فَلهُ ْ صال ِ ًل َم َ
خرِ وَعَ ِ ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ
م َ
نآ َ م ْن َصاب ِِئي َ
صاَرى َوال ّ دوا َوالن ّ َ ها َُ
ن{. َ َ
حَزُنو َ م يَ ْم َول هُ ْ ف عَلي ْهِ ْ
خوْ ٌ م َول َ عن ْد َ َرب ّهِ ْ
م ِ جُرهُ ْأ ْ
وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة ،لن الصابئين ،الصحيح أنهم من جملة
فرق النصارى ،فأخبر الله أن المؤمنين من هذه المة ،واليهود والنصارى،
والصابئين من آمن بالله واليوم الخر ،وصدقوا رسلهم ،فإن لهم الجر
العظيم والمن ،ول خوف عليهم ول هم يحزنون ،وأما من كفر منهم بالله
ورسله واليوم الخر ،فهو بضد هذه الحال ،فعليه الخوف والحزن.
والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف ،من حيث هم ،ل بالنسبة إلى
اليمان بمحمد ،فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم
وأن هذا مضمون أحوالهم ،وهذه طريقة القرآن إذا وقع في بعض النفوس
عند سياق اليات بعض الوهام ،فل بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم ،لنه
ن رحمته وسعت كل شيء. م ْ ن يعلم الشياء قبل وجودها ،و َ م ْتنزيل َ
وذلك والله أعلم -أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم ،وذكر معاصيهم
وقبائحهم ،ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم ،فأراد
الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه ،ولما كان أيضا ذكر
بني إسرائيل خاصة يوهم الختصاص بهم .ذكر تعالى حكما عاما يشمل
الطوائف كلها ،ليتضح الحق ،ويزول التوهم والشكال ،فسبحان من أودع
في كتابه ما يبهر عقول العالمين.
ثم عاد تبارك وتعالى يوبخ بني إسرائيل بما فعل سلفهم:
) (1/54
) (1/54
ن
سِئي َ
خا ِ
كوُنوا قَِرد َةً َ م ُ قل َْنا ل َهُ ْت فَ ُسب ْ ِ م ِفي ال ّ من ْك ُ ْ
ن اعْت َد َْوا ِ ذي َ م ال ّ ِ مت ُ ُ وَل َ َ
قد ْ عَل ِ ْ
ن )(66 قي َ ة ل ِل ْ ُ
مت ّ ِ عظ َ ً موْ ِ فَها وَ َخل ْ َ
ما َن ي َد َي َْها وَ َ كاًل ل ِ َ
ما ب َي ْ َ ها ن َ َ جعَل َْنا َ) (65فَ َ
) (1/54
خذ َُنا هُُزًوا قَرةً َقاُلوا أ َت َت ّ ِ قومه إن الل ّه يأ ْمرك ُ َ وَإ ِذ ْ َقا َ
حوا ب َ َ ن ت َذ ْب َ ُمأ ْ َ َ ُ ُ ْ سى ل ِ َ ْ ِ ِ ِ ّ مو َ ل ُ
َ َ َ ُ ْ ُ َ َ ّ ل أَ ُ
ما
ن لَنا َ ن )َ (67قالوا اد ْعُ لَنا َرب ّك ي ُب َي ّ ْ جاهِِلي َ ن ال َ م َن ِ ن أكو َ عوذ ُ ِباللهِ أ ْ َقا َ
ما ُ
ك َفافْعَلوا َ ن ذ َل ِ َ ن ب َي ْ َ وا ٌ ْ
ض وَل ب ِكٌر عَ َ َ قَرةٌ ل َفارِ ٌ َ ل إ ِن َّها ب َ َ قو ُه يَ ُ ي َقا َ
ل إ ِن ّ ُ هِ َ
قَرةٌل إ ِن َّها ب َ َ قو ُ ه يَ ُل إ ِن ّ ُ ما لوْن َُها َقا َ َ َ
ن لَنا َ ك ي ُب َي ّ ْ َ ُ
ن )َ (68قالوا اد ْعُ لَنا َرب ّ َ مُرو َ ت ُؤْ َ
ن )(69 ري َ سّر الّناظ ِ ِ َ
فَراُء َفاقِعٌ لوْن َُها ت َ ُ ص ْ َ
ن ي َد َي َْها { أي :لمن حضرها من المم،
ما ب َي ْ َ وجعل الله هذه العقوبة } ن َ َ
كال ل ِ َ
خل ْ َ
فَها { أي :من بعدهم ،فتقوم ما َ وبلغه خبرها ،ممن هو في وقتهم } .وَ َ
على العباد حجة الله ،وليرتدعوا عن معاصيه ،ولكنها ل تكون موعظة نافعة
إل للمتقين ،وأما من عداهم فل ينتفعون باليات.
] ص [ 55
قومه إن الل ّه يأ ْمرك ُ َ } } { 74 - 67وَإ ِذ ْ َقا َ
قَرةً حوا ب َ َ ن ت َذ ْب َ ُمأ ْ َ َ ُ ُ ْ سى ل ِ َ ْ ِ ِ ِ ّ مو َ ل ُ
َ
ن * َقالوا اد ْعُ لَنا ُ ْ ُ َ َ ّ ل أَ ُ خذ َُنا هُُزًوا َقا َ َقاُلوا أ َت َت ّ ِ
جاهِِلي َ ن ال َ م َ ن ِ ن أكو َ عوذ ُ ِباللهِ أ ْ
نن ب َي ْ َ وا ٌ ض َول ب ِك ٌْر عَ َ قَرةٌ ل َفارِ ٌ ل إ ِن َّها ب َ َ قو ُ ه يَ ُل إ ِن ّ ُ ي َقا َ ما هِ َ ن ل ََنا َ ك ي ُب َي ّ ْ َرب ّ َ
قو ُ
ل ه يَ ُ ل إ ِن ّ ُما ل َوْن َُها َقا َ ن ل ََنا َ ك ي ُب َي ّ ْ ن * َقاُلوا اد ْعُ ل ََنا َرب ّ َ مُرو َ ما ت ُؤْ َ ك َفافْعَُلوا َ ذ َل ِ َ
ن{. ري َ سّر الّناظ ِ ِ فَراُء َفاقِعٌ ل َوْن َُها ت َ ُ ص ْ
قَرةٌ َ إ ِن َّها ب َ َ
أي :واذكروا ما جرى لكم مع موسى ،حين قتلتم قتيل وادارأتم فيه ،أي:
تدافعتم واختلفتم في قاتله ،حتى تفاقم المر بينكم وكاد -لول تبيين الله
لكم -يحدث بينكم شر كبير ،فقال لكم موسى في تبيين القاتل :اذبحوا
بقرة ،وكان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره ،وعدم العتراض عليه،
عوذ ُخذ َُنا هُُزًوا { فقال نبي الله } :أ َ ُ ولكنهم أبوا إل العتراض ،فقالوا } :أ َت َت ّ ِ
ن { فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلم الذي ل جاهِِلي َ ن ال ْ َ م َ ن ِ كو َ ن أَ ُ َ
ِبالل ّهِ أ ْ
فائدة فيه ،وهو الذي يستهزئ بالناس ،وأما العاقل فيرى أن من أكبر
العيوب المزرية بالدين والعقل ،استهزاءه بمن هو آدمي مثله ،وإن كان قد
فضل عليه ،فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه ،والرحمة لعباده .فلما قال
ما ن ل ََنا َ ك ي ُب َي ّ ْلهم موسى ذلك ،علموا أن ذلك صدق فقالوا } :اد ْعُ ل ََنا َرب ّ َ
ي{. هِ َ
ْ
ض { أي :كبيرة } َول ب ِكٌر { قَرةٌ ل َفارِ ٌ ل إ ِن َّها ب َ َ قو ُ ه يَ ُ ل إ ِن ّ ُأي :ما سنها؟ } َقا َ
ن { واتركوا التشديد مُرو َ ما ت ُؤْ َ ُ
ك َفافْعَلوا َ ن ذ َل ِ َ ن ب َي ْ َ وا ٌ أي :صغيرة } عَ َ
والتعنت.
فَراُء َفاقِ ٌ
ع ص ْ قَرةٌ َ ل إ ِن َّها ب َ َقو ُ ه يَ ُ ل إ ِن ّ ُ ما لوْن َُها َقا َ َ َ
ن لَنا َ ك ي ُب َي ّ ْ } َقاُلوا اد ْعُ لَنا َرب ّ َ
َ
ن { من حسنها. ري َسّر الّناظ ِ ِ ل َوْن َُها { أي :شديد } ت َ ُ
) (1/54
شاَء الل ّ ُ
ه ن َ ه عَل َي َْنا وَإ ِّنا إ ِ ْ شاب َ َ قَر ت َ َ ن ال ْب َ َ ي إِ ّ ما هِ َ ن ل ََنا َ ك ي ُب َي ّ ْ َقاُلوا اد ْعُ ل ََنا َرب ّ َ
َ
قي س ِ ض وََل ت َ ْ ل ت ُِثيُر اْلْر َ قَرةٌ َل ذ َُلو ٌ ل إ ِن َّها ب َ َ قو ُ ه يَ ُ ل إ ِن ّ ُ ن )َ (70قا َ دو َ مهْت َ ُ لَ ُ
دوا كا ُ ما َ ها وَ َ حو َ حقّ فَذ َب َ ُ ت ِبال ْ َ جئ ْ َن ِ َ
ة ِفيَها َقاُلوا اْل َ شي َ َ ة َل ِ م ٌسل ّ َ م َ ث ُ حْر َ ال ْ َ
ْ
ن)مو َ م ت َك ْت ُ ُ ما ك ُن ْت ُ ْ ج َ خرِ ٌ م ْ ه ُ م ِفيَها َوالل ّ ُ داَرأت ُ ْ سا َفا ّ ف ً م نَ ْ ن ) (71وَإ ِذ ْ قَت َل ْت ُ ْ فعَُلو َ يَ ْ
م ُ ّ َ َ ُ ْ ّ َ
ضَها كذ َل ِك ي ُ ْ َ ْ َ
م آَيات ِهِ لعَلك ْ ريك ْ موَْتى وَي ُ ِ ه ال َ حِيي الل ُ ضرُِبوهُ ب ِب َعْ ِ قلَنا ا ْ (72ف ُ
َ َ ْ ُ
سوَةً َ
شد ّ ق ْ جاَرةِ أوْ أ َ ح َ ي كال َِ َ َ
ن ب َعْدِ ذ َل ِك فهِ َ م ْ م ِ ُ
ت قلوب ُك ْ ُ س ْ مق َ َ ن ) (73ث ُ ّ قُلو َ ت َعْ ِ
ه ققُ فَي َ ْ ما ي َ ّ َ َ ْ َ ْ
من ْ ُ ج ِ خُر ُ ش ّ من َْها ل َ ن ِ ه الن َْهاُر وَإ ِ ّ من ْ ُجُر ِ ف ّ ما ي َت َ َ جاَرةِ ل َ ح َن ال ِ م َ ن ِ وَإ ِ ّ
ن )(74 ملو َ ُ ما ت َعْ َ ل عَ ّ ه ب َِغافِ ٍ ّ
ما الل ُ ّ
شي َةِ اللهِ وَ َ خ ْ ن َ م ْ ُ
ما ي َهْب ِط ِ َ
من َْها ل َ ن ِ ماُء وَإ ِ ّ ال ْ َ
شاَء الل ّ ُ
ه ن َ ه عَل َي َْنا وَإ ِّنا إ ِ ْ شاب َ َ قَر ت َ َ ن ال ْب َ َ ي إِ ّ ما هِ َ ن ل ََنا َ ك ي ُب َي ّ ْ } َقاُلوا اد ْعُ ل ََنا َرب ّ َ
ثحْر َ قي ال ْ َ س ِ ض َول ت َ ْ ل ت ُِثيُر الْر َ قَرةٌ ل ذ َُلو ٌ ل إ ِن َّها ب َ َ قو ُ ه يَ ُ ل إ ِن ّ ُن * َقا َ دو َ مهْت َ ُ لَ ُ
ن* فعَُلو َ دوا ي َ ْ كا ُ ما َ ها وَ َ حو َ حقّ فَذ َب َ ُ ت ِبال ْ َ جئ ْ َ ن ِ ة ِفيَها َقاُلوا ال َ شي َ َ ةل ِ م ٌ سل ّ َ م َ ُ
ْ َ ْ ُ ّ ْ َ ْ َ
ضرُِبوهُ قلَنا ا ْ ن*ف ُ مو َ م ت َكت ُ ُ ما كن ْت ُ ْ ج َ خرِ ٌ م ْ ه ُ م ِفيَها َوالل ُ داَرأت ُ ْ سا فا ّ ف ً م نَ ْ وَإ ِذ ْ قت َلت ُ ْ
ت س ْ مق َ َ ن * ثُ ّ قلو َ ُ م ت َعْ ِ ُ ّ َ
م آَيات ِهِ لعَلك ْ ُ
ريك ْ موَْتى وَي ُ ِ ْ
ه ال َ ّ
حِيي الل ُ َ
ضَها كذ َل ِك ي ُ ْ َ ب ِب َعْ ِ
َ ْ َ َ ْ
ماجاَرةِ ل َ ح َ ن ال ِ م َ ن ِ سوَةً وَإ ِ ّ شد ّ قَ ْ جاَرةِ أوْ أ َ ح َ ي كال ِ َ َ
ن ب َعْدِ ذ َل ِك فَهِ َ م ْ م ِ قُُلوب ُك ْ
ُ
ما ي َهْب ِ ُ
ط من َْها ل َ َ ن ِ ماُء وَإ ِ ّ ه ال ْ َ من ْ ُ ج ِ خُر ُ ققُ فَي َ ْ ش ّ ما ي َ ّ من َْها ل َ َ ن ِ ه الن َْهاُر وَإ ِ ّ من ْ ُ جُر ِ ف ّ ي َت َ َ
ن{. ملو َ ُ ما ت َعْ َ ل عَ ّ ه ب َِغافِ ٍ ّ
ما الل ُ ّ
شي َةِ اللهِ وَ َ خ ْ ن َ م ْ ِ
ه عَلي َْنا { فلم نهتد إلى ما َ شاب َ َ قَر ت َ َ ْ
ن الب َ َ ي إِ ّ ما هِ َ ن لَنا َ َ ك ي ُب َي ّ ْ َ
} َقالوا اد ْعُ لَنا َرب ّ َ ُ
ن{. دو َ ه لَ ُ
مهْت َ ُ شاَء الل ّ ُ ن َ تريد } وَإ ِّنا إ ِ ْ
ض{ ل { أي :مذللة بالعمل } ،ت ُِثيُر الْر َ ُ
قَرةٌ ل ذ َلو ٌ ل إ ِن َّها ب َ َ قو ُ ه يَ ُ ل إ ِن ّ ُ} َقا َ
ة { من م ٌ ّ
سل َ م َث { أي :ليست بساقيةُ } ، حْر َ ْ
قي ال َ س ِ بالحراثة } َول ت َ ْ
ة ِفيَها { أي :ل لون فيها غير لونها الموصوف شي َ َ العيوب أو من العمل } ل ِ
المتقدم.
حقّ { أي :بالبيان الواضح ،وهذا من جهلهم ،وإل فقد ْ
ت ِبال َ جئ ْ َ ن ِ } َقاُلوا ال َ
جاءهم بالحق أول مرة ،فلو أنهم اعترضوا أي :بقرة لحصل المقصود،
ولكنهم شددوا بكثرة السئلة فشدد الله عليهم ،ولو لم يقولوا "إن شاء
ها { أي :البقرة التي وصفت بتلك حو َ الله "لم يهتدوا أيضا إليها } ،فَذ َب َ ُ
ن { بسبب التعنت الذي جرى منهم. فعَُلو َ دوا ي َ ْ كا ُ ما َ الصفات } ،وَ َ
فلما ذبحوها ،قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها ،أي :بعضو منها ،إما معين ،أو
أي عضو منها ،فليس في تعيينه فائدة ،فضربوه ببعضها فأحياه الله ،وأخرج
ما كانوا يكتمون ،فأخبر بقاتله ،وكان في إحيائه وهم يشاهدون ما يدل
على إحياء الله الموتى } ،لعلكم تعقلون { فتنزجرون عن ما يضركم.
م { أي :اشتدت وغلظت ،فلم تؤثر فيها الموعظة، ت قُُلوب ُك ُ ْ س ْ م قَ َ } ثُ ّ
ن ب َعْدِ ذ َل ِك { أي :من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم َ م ْ } ِ
اليات ،ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم ،لن ما شاهدتم ،مما يوجب رقة
جاَرةِ { التي هي أشد قسوة ح َكال ْ ِ
القلب وانقياده ،ثم وصف قسوتها بأنها } َ
من الحديد ،لن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار ،ذاب بخلف الحجار.
سوَةً { أي :إنها ل تقصر عن قساوة الحجار ،وليست شد ّ قَ ْ وقوله } :أ َوْ أ َ َ
ن
م َ ن ِ"أو "بمعنى "بل "ثم ذكر فضيلة الحجار على قلوبهم ،فقال } :وَإ ِ ّ
ن
ماُء وَإ ِ ّ ه ال ْ َمن ْ ُج ِ خُر ُ ققُ فَي َ ْ ش ّ من َْها ل َ َ
ما ي َ ّ ن ِ ه الن َْهاُر وَإ ِ ّ من ْ ُ جُر ِ ف ّ ما ي َت َ َ جاَرةِ ل َ َ ح َال ْ ِ
شي َةِ الل ّهِ { فبهذه المور فضلت قلوبكم .ثم توعدهم خ ْ ن َ م ْ ط ِ ما ي َهْب ِ ُ من َْها ل َ َ ِ
ن { بل هو عالم بها َ لو ُ م ع ت ما ع ل
ُ َِ ِ ٍ َ ّ َْ َ ف غا ب هّ ل ال ما َ َ و } فقال: الوعيد أشد تعالى
حافظ لصغيرها وكبيرها ،وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه.
واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله ،قد أكثروا في حشو تفاسيرهم
من قصص بني إسرائيل ،ونزلوا عليها اليات القرآنية ،وجعلوها تفسيرا
لكتاب الله ،محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم" :حدثوا عن بني إسرائيل
ول حرج "
والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة،
ول منزلة على كتاب الله ،فإنه ل يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا
لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ،وذلك أن مرتبتها كما قال
صلى الله عليه وسلم" :ل تصدقوا أهل الكتاب ] ص [ 56ول تكذبوهم
"فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها ،وكان من المعلوم بالضرورة
من دين السلم أن القرآن يجب اليمان به والقطع بألفاظه ومعانيه ،فل
يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة ،التي يغلب على
الظن كذبها أو كذب أكثرها ،معاني لكتاب الله ،مقطوعا بها ول يستريب
بهذا أحد ،ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل ،والله الموفق.
) (1/55
أ َفَتط ْمعو َ
م م الل ّهِ ث ُ ّ ن ك ََل َ مُعو َ س َ
م يَ ْ من ْهُ ْريقٌ ِ ن فَ ِ م وَقَد ْ َ
كا َ مُنوا ل َك ُ ْ ن ي ُؤْ ِ
نأ ْ َ َ ُ َ
ُ
مُنوا َقالوا َ ّ َ َ ُ
نآ َ ذي َقوا ال ِ ذا ل ُ ن ) (75وَإ ِ َ مو َ م ي َعْل ُقلوهُ وَهُ ْ ما عَ َ ن ب َعْدِ َ م ْ ه ِ حّرُفون َ ُ يُ َ
ُ َ ّ َ ُ َ َ َ
م
ه عَلي ْك ْ ح الل ُ ما فَت َ َ م بِ َ حد ُّثون َهُ ْض َقالوا أت ُ َ م إ ِلى َ ب َعْ ٍ ضه ُ ْخل ب َعْ ُ ذا َ مّنا وَإ ِ َآ َ
ن )(76 قُلو َ م أفََل ت َعْ ِ عن ْد َ َرب ّك ُ ْم ب ِهِ ِ جوك ُ ْ حا ّ
ل ِي ُ َ
} } { 78 - 75أ َفَتط ْمعو َ
ن
مُعو َ س َ م يَ ْ من ْهُ ْ ريقٌ ِ ن فَ ِ كا َم وَقَد ْ َ مُنوا ل َك ُ ْ ن ي ُؤْ ِ نأ ْ َ َ ُ َ
نذي َ ّ
قوا ال ِ َ
ذا ل ُ ن * وَإ ِ َ مو َ َ
م ي َعْل ُ قلوهُ وَهُ ْ ُ ما عَ َ ن ب َعْدِ َ م ْ
ه ِ حّرُفون َ ُ م يُ َم الل ّهِ ث ُ ّ كل َ َ
َ
ح الل ّ ُ
ه ما فَت َ َ م بِ َ حد ُّثون َهُ ْض َقاُلوا أت ُ َ م َ إ ِلى ب َعْ ٍ
ضه ُ ْ َ خل ب َعْ ُ ذا َ مّنا وَإ ِ َ مُنوا َقاُلوا آ َ آ َ
ن{. قلو َ ُ م أَفل ت َعْ ِ ُ
عن ْد َ َرب ّك ْ م ب ِهِ ِ ُ
جوك ْ حا ّ م ل ِي ُ َ ُ َ
عَلي ْك ْ
هذا قطع لطماع المؤمنين من إيمان أهل الكتاب ،أي :فل تطمعوا في
إيمانهم وحالتهم ) (1ل تقتضي الطمع فيهم ،فإنهم كانوا يحرفون كلم الله
من بعد ما عقلوه وعلموه ،فيضعون له معاني ما أرادها الله ،ليوهموا
الناس أنها من عند الله ،وما هي من عند الله ،فإذا كانت هذه حالهم في
كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم يصدون به الناس عن سبيل الله ،فكيف
يرجى منهم إيمان لكم؟! فهذا من أبعد الشياء.
مُنوا َقاُلوا نآ َ ذي َقوا ال ّ ِ ذا ل َ ُ ثم ذكر حال منافقي أهل الكتاب فقال } :وَإ ِ َ
خل مّنا { فأظهروا لهم اليمان قول بألسنتهم ،ما ليس في قلوبهم } ،وَإ ِ َ
ذا َ آ َ
ض { فلم يكن عندهم أحد من غير أهل دينهم ،قال بعضهم م إِ َ
لى ب َعْ ٍ َ
ضه ُ ْ ب َعْ ُ
م { أي :أتظهرون لهم اليمان ه عَل َي ْك ُ ْ ح الل ّ ُ ما فَت َ َم بِ َ حد ُّثون َهُ ْ لبعض } :أت ُ َ
وتخبروهم أنكم مثلهم ،فيكون ذلك حجة لهم عليكم؟
يقولون :إنهم قد أقروا بأن ما نحن عليه حق ،وما هم عليه باطل،
َ
ن { أي :أفل يكون لكم عقل، قُلو َ فيحتجون عليكم بذلك عند ربكم } أَفل ت َعْ ِ
فتتركون ما هو حجة عليكم؟ هذا يقوله بعضهم لبعض.
__________
) (1في ب :وأخلقهم.
) (1/56
ن َل أ َوَل يعل َمون أ َن الل ّه يعل َم ما يسرون وما يعل ِنون ) (77ومنه ُ
مّيو َ
مأ َّ ِ ُْ ْ َ َْ ُ َ ُ ِ ّ َ َ َ ُْ ُ َ َ َْ ُ َ ّ
ُ ّ َ ّ
ن )(78 م إ ِل ي َظّنو َ
ن هُ ْ
ي وَإ ِ ْ
مان ِ ّ
ب إ ِل أ َن ال ْك َِتا َ ي َعْل َ ُ
مو َ
نل } أ َول يعل َمون أ َن الل ّه يعل َم ما يسرون وما يعل ِنون * ومنه ُ
مّيو َ
مأ َّ ِ ُْ ْ َ َْ ُ َ ُ ِ ّ َ َ َ ُْ ُ َ َ َْ ُ َ ّ
ُ َ
ن{. م ِإل ي َظّنو َ ن هُ ْي وَإ ِ ْ مان ِ ّ ب ِإل أ َ ن ال ْك َِتا َ مو َ ي َعْل َ ُ
َ َ
ن { فهم وإن أسروا ما ما ي ُعْل ُِنو َ
ن وَ َسّرو َ ما ي ُ ِ
م َ ه ي َعْل َ ُ
ن الل ّ َ نأ ّ مو َ} أَول ي َعْل َ ُ
يعتقدونه فيما بينهم ،وزعموا أنهم بإسرارهم ل يتطرق عليهم حجة
للمؤمنين ،فإن هذا غلط منهم وجهل كبير ،فإن الله يعلم سرهم وعلنهم،
فيظهر لعباده ما أنتم عليه.
ن { أي :عوام ،ليسوا من أهل ُ
مّيو َم { أي :من أهل الكتاب } أ ّ من ْهُ ْ
} وَ ِ
ي { أي :ليس لهم حظ من كتاب الله إل َ ْ َ
مان ِ ّب ِإل أ َ ن الك َِتا َ مو َ العلم } ،ل ي َعْل ُ
التلوة فقط ،وليس عندهم خبر بما عند الولين الذين يعلمون حق
المعرفة حالهم ،وهؤلء إنما معهم ظنون وتقاليد لهل العلم منهم.
فذكر في هذه اليات علماءهم ،وعوامهم ،ومنافقيهم ،ومن لم ينافق
منهم ،فالعلماء منهم متمسكون بما هم عليه من الضلل ،والعوام مقلدون
لهم ،ل بصيرة عندهم فل مطمع لكم في الطائفتين.
) (1/56
) (1/56
ف
خل ِ َ
ن يُ ْ دا فَل َ ْ
عن ْد َ الل ّهِ عَهْ ًم ِ ل أ َت ّ َ
خذ ْت ُ ْ دود َةً قُ ْ مع ْ ُ ما َ
َ
سَنا الّناُر إ ِّل أّيا ً م ّ ن تَ َوََقاُلوا ل َ ْ
َ
سي ّئ َ ً
ة ب َ س َن كَ َم ْ ن ) (80ب ََلى َ مو َ ما َل ت َعْل َ ُ ن عََلى الل ّهِ َ قوُلو َ م تَ ُه عَهْد َهُ أ ْ الل ّ ُ
َ ُ َ
نذي َ ن )َ (81وال ّ ِ دو َ خال ِ ُ
م ِفيَها َ ب الّنارِ هُ ْ حا ُ ص َ كأ ْ ه فَأول َئ ِ َطيئ َت ُ ُ
خ ِ ت ب ِهِ َ حاط َ ْ وَأ َ
آ َمنوا وعَمُلوا الصال ِحات ُأول َئ ِ َ َ
ن )(82 دو َ خال ِ ُ
م ِفيَها َ جن ّةِ هُ ْ ب ال ْ َ حا ُ ص َكأ ْ ّ َ ِ َ ِ َ ُ
عن ْد َم ِ ل أ َت ّ َ
خذ ْت ُ ْ دود َةً قُ ْ مع ْ ُ ما َ
َ
سَنا الّناُر ِإل أّيا ً م ّ ن تَ َ } } { 82 - 80وََقاُلوا ل َ ْ
ن * ب ََلى َ
مو َ ما ل ت َعْل َ ُ ن عََلى الل ّهِ َ قوُلو َ م تَ ُ ه عَهْد َهُ أ ْ ف الل ّ ُ خل ِ َ ن يُ ْ دا فَل َ ْ الل ّهِ عَهْ ً
َ ه فَأول َئ ِ َ ُ َ
ن
دو َ خال ِ ُ م ِفيَها َ ب الّنارِ هُ ْ حا ُ ص َكأ ْ طيئ َت ُ ُ خ ِ ت ب ِهِ َ حاط َ ْ ة وَأ َ سي ّئ َ ً ب َ س َ ن كَ َ م َْ
ن{. ْ َ َ َ ُ ُ ّ
دو َ خال ِ ُم ِفيَها َ ْ ُ ه ِ ةّ ن ج
َ ل ا بُ حا َ ص ْ أ ك ِ ئ ل أو ت ِ حاَ ِ ل صاّ ال لوا مِ َ ع َ و نوا ُ م آ
َ َ ن ذيِ ل وا* َ
ذكر أفعالهم القبيحة ،ثم ذكر مع هذا أنهم يزكون أنفسهم ،ويشهدون لها
بالنجاة من عذاب الله ،والفوز بثوابه ،وأنهم لن تمسهم النار إل أياما
معدودة ،أي :قليلة تعد بالصابع ،فجمعوا بين الساءة والمن.
ل { لهم يا أيها ولما كان هذا مجرد دعوى ،رد الله تعالى عليهم فقال } :قُ ْ
دا { أي باليمان به وبرسله وبطاعته ،فهذا عن ْد َ الل ّهِ عَهْ ً م ِ خذ ْت ُ ْ الرسول } أ َت ّ َ
ن عََلى َ
قوُلو َ م تَ ُ الوعد الموجب لنجاة صاحبه الذي ل يتغير ول يتبدل } .أ ْ
ن { ؟ فأخبر تعالى أن صدق دعواهم متوقفة على أحد مو َ ما ل ت َعْل َ ُ الل ّهِ َ
هذين المرين اللذين ل ثالث لهما :إما أن يكونوا قد اتخذوا عند الله عهدا،
فتكون دعواهم صحيحة.
وإما أن يكونوا متقولين عليه فتكون كاذبة ،فيكون أبلغ لخزيهم وعذابهم،
وقد علم من حالهم أنهم لم يتخذوا عند الله عهدا ،لتكذيبهم كثيرا من
النبياء ،حتى وصلت بهم الحال إلى أن قتلوا طائفة منهم ،ولنكولهم عن
طاعة الله ونقضهم المواثيق ،فتعين بذلك أنهم متقولون مختلقون ،قائلون
عليه ما ل يعلمون ،والقول عليه بل علم ،من أعظم المحرمات ،وأشنع
القبيحات.
ثم ذكر تعالى حكما عاما لكل أحد ،يدخل به بنو إسرائيل وغيرهم ،وهو
الحكم الذي ل حكم غيره ،ل أمانيهم ودعاويهم بصفة الهالكين والناجين،
فقال } :ب ََلى { أي :ليس المر كما ذكرتم ،فإنه قول ل حقيقة له ،ولكن }
ة { وهو نكرة في سياق الشرط ،فيعم الشرك فما دونه، سي ّئ َ ً ب َ س َ ن كَ َ م ْ َ
ه { أي :أحاطت تَ ئ طي خ ه ب ت َ ط حا َ أ و } قوله: بدليل الشرك، هنا به والمراد
ْ ِ ِ َ ِ ُ ُ َ َ
بعاملها ،فلم تدع له منفذا ،وهذا ل يكون إل الشرك ،فإن من معه اليمان
ل تحيط به خطيئته.
ن { وقد احتج بها الخوارج على كفر } فَُأول َئ ِ َ َ
دو َ خال ِ ُ م ِفيَها َ ب الّنارِ هُ ْ حا ُ ص َ كأ ْ
صاحب المعصية ،وهي حجة عليهم كما ترى ،فإنها ظاهرة في الشرك،
وهكذا كل مبطل يحتج بآية ،أو حديث صحيح على قوله الباطل فل بد أن
يكون فيما احتج به حجة عليه.
ملوا ُ مُنوا { بالله وملئكته ،وكتبه ،ورسله ،واليوم الخر } ،وَعَ ِ نآ َ ذي َ } َوال ّ ِ
ت { ول تكون العمال صالحة إل بشرطين :أن تكون خالصة لوجه حا ِ صال ِ َ ال ّ
الله ،متبعا بها سنة رسوله.
فحاصل هاتين اليتين ،أن أهل النجاة والفوز ،هم أهل اليمان والعمل
الصالح ،والهالكون أهل النار المشركون بالله ،الكافرون به.
) (1/57
) (1/57
م ثُ ّ
م ن دَِيارِك ُ ْ م ْ م ِ سك ُ ْ ف َ ن أ َن ْ ُ جو َ خرِ ُ م وََل ت ُ ْ ماَءك ُ ْ ن دِ َ كو َ ف ُس ِم َل ت َ ْ ميَثاقَك ُ ْ خذ َْنا ِ وَإ ِذ ْ أ َ َ
ن
جو َ خرِ ُ م وَت ُ ْ سك ُ ْ ف َ ن أ َن ْ ُ قت ُُلو َ م هَؤَُلِء ت َ ْ شهدون ) (84ث ُ َ
م أن ْت ُ ْ ّ م تَ ْ َ ُ َ
َ
م وَأن ْت ُ ْ أقَْرْرت ُ ْ
َ
ْ
م ن ي َأُتوك ُ ْ ن وَإ ِ ْ م ِباْل ِث ْم ِ َوال ْعُد َْوا ِ ن عَل َي ْهِ ْ ظاهَُرو َ م تَ َ ن دَِيارِهِ ْ م ْ م ِ من ْك ُ ْ قا ِ ري ً ُفَ ِ
ْ َ ُ َ
ب ض الك َِتا ِ ن ب ِب َعْ ِ مُنو َ م أفَت ُؤْ ِ جه ُ ْخَرا ُ م إِ ْ م عَلي ْك ْ حّر ٌ م َ م وَهُوَ ُ دوهُ ْ فا ُ ساَرى ت ُ َ أ َ
حَياةِ الد ّن َْيا ْ
خْزيٌ ِفي ال َ ّ
م إ ِل ِ ُ
من ْك ْ ك ِ ل ذ َل ِ َ فعَ ُ ن يَ ْ م ْجَزاُء َ ما َ ض فَ َ ْ
َ ن ب ِب َعْ ٍ فُرو َ وَت َك ُ
ن )(85 ملو َ ُ ما ت َعْ َ ل عَ ّ ه ب َِغافِ ٍ ّ
ما الل ُ ب وَ َ ذا ِ ْ
شد ّ العَ َ ن إ ِلى أ َ َ دو َ مةِ ي َُر ّ قَيا َ ْ
م ال ِ وَي َوْ َ
م
ب وَل هُ ْ َ ذا ُ ْ
م العَ َ ف عَن ْهُ ُ ف ُ خ ّ َ
خَرةِ فَل ي ُ َ َ ْ
حَياةَ الد ّن َْيا ِبال ِ ْ
شت ََرُوا ال َ نا ْ ذي َ ّ
ك ال ِ ُأول َئ ِ َ
ن )(86 صُرو َ ي ُن ْ َ
ن
جو َ خرِ ُ م َول ت ُ ْ ماَءك ُ ْ ن دِ َ كو َ ف ُ س ِ
م ل تَ ْ ميَثاقَك ُ ْ خذ َْنا ِ } } { 86 - 84وَإ ِذ ْ أ َ َ
شهدون * ث ُ َ َ فسك ُم من ديارك ُم ث ُ َ َ
نقت ُُلو َ ؤلِء ت َ ْ م هَ ُ م أن ْت ُ ْ ّ م تَ ْ َ ُ َ م وَأن ْت ُ ْ م أقَْرْرت ُ ْ أن ْ ُ َ ْ ِ ْ ِ َ ِ ْ ّ
م ِبالث ْم ِ ن عَل َي ْهِ ْ ظاهَُرو َ م تَ َ ن دَِيارِهِ ْ م ْ م ِ من ْك ُ ْ قا ِ ري ً ن فَ ُِ جو َ خرِ ُ م وَت ُ ْ سك ُ ْ ف َ أ َن ْ ُ
ْ
مجه ُ ْ خَرا ُ م إِ ْ م عَل َي ْك ُ ْ حّر ٌ م َ م وَهُوَ ُ دوهُ ْ فا ُ ساَرى ت ُ َ مأ َ ن ي َأُتوك ُ ْ ن وَإ ِ ْ َوال ْعُد َْوا ِ
َ
م ِإل من ْك ُ ْ ك ِ ل ذ َل ِ َ فع َ ُ ن يَ ْ م ْ جَزاُء َ ما َ ض فَ َ ٍ ن ب ِب َعْ فُرو َ ب وَت َك ْ ُ ض ال ْك َِتا ِ ِ ن ب ِب َعْ مُنو َ أفَت ُؤْ ِ
ل
ه ب َِغافِ ٍ ما الل ّ ُ ب وَ َ ذا ِ شد ّ ال ْعَ َ ن إ َِلى أ َ َ دو َ مةِ ي َُر ّ قَيا َ م ال ْ ِ حَياةِ الد ّن َْيا وَي َوْ َ خْزيٌ ِفي ال ْ َ ِ
ُ
م
ف عَن ْهُ ُ ف ُ خ ّ خَرةِ َفل ي ُ َ حَياةَ الد ّن َْيا ِبال ِ شت ََرُوا ال ْ َ نا ْ ذي َ ك ال ّ ِ ن * أول َئ ِ َ مُلو َ ما ت َعْ َ عَ ّ
ن{. صُرو َ م ي ُن ْ َ ب َول هُ ْ ذا ُ ال ْعَ َ
وهذا الفعل المذكور في هذه الية ،فعل للذين كانوا في زمن الوحي
بالمدينة ،وذلك أن الوس والخزرج -وهم النصار -كانوا قبل مبعث النبي
صلى الله عليه وسلم مشركين ،وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية،
فنزلت عليهم الفرق الثلث من فرق اليهود ،بنو قريظة ،وبنو النضير ،وبنو
قينقاع ،فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة.
فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم )(1
الفرقة الخرى من اليهود ،فيقتل اليهودي اليهودي ،ويخرجه من دياره إذا
حصل جلء ونهب ،ثم إذا وضعت الحرب أوزارها ،وكان قد حصل أسارى
بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا.
والمور الثلثة كلها قد فرضت عليهم ،ففرض عليهم أن ل يسفك بعضهم
دم بعض ،ول يخرج بعضهم بعضا ،وإذا وجدوا أسيرا منهم ،وجب عليهم
فداؤه ،فعملوا بالخير وتركوا الولين ،فأنكر الله عليهم ذلك فقال:
َ
ض { وهو ن ب ِب َعْ ٍ فُرو َ ب { وهو فداء السير } وَت َك ْ ُ ض ال ْك َِتا ِ ن ب ِب َعْ ِ مُنو َ } أفَت ُؤْ ِ
القتل والخراج.
وفيها أكبر دليل على أن اليمان يقتضي فعل الوامر واجتناب النواهي،
م ُ
من ْك ْ ك ِ ل ذ َل ِ َ فعَ ُ ن يَ ْ م ْ جَزاُء َ ما َ وأن المأمورات من اليمان ،قال تعالى } :فَ َ
حَياةِ الد ّن َْيا { وقد وقع ذلك فأخزاهم الله ،وسلط رسوله خْزيٌ ِفي ال ْ َ ِإل ِ
عليهم ،فقتل من قتل ،وسبى من سبى منهم ،وأجلى من أجلى.
ل ه ب َِغافِ ٍ ما الل ّ ُ ب { أي :أعظمه } وَ َ ذا ِ شد ّ ال ْعَ َ ن إ َِلى أ َ َ دو َ مةِ ي َُر ّ قَيا َ م ال ْ ِ } وَي َوْ َ
ن{. ملو َ ُ ما ت َعْ َ عَ ّ
ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب ،واليمان
خَرةِ { توهموا أنهم إن حَياةَ الد ّن َْيا ِبال ِ شت ََرُوا ال ْ َ نا ْ ذي َ ك ال ّ ِ ببعضه فقالُ } :أول َئ ِ َ
لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار ،فاختاروا النار على العار ،فلهذا قال:
ب { بل هو باق على شدته ،ول يحصل لهم راحة ذا ُ م ال ْعَ َ ف عَن ْهُ ُ ف ُ خ ّ } َفل ي ُ َ
ن { أي :يدفع عنهم مكروه. صُرو َ م ي ُن ْ َ بوقت من الوقاتَ } ،ول هُ ْ
__________
) (1كذا في ب ،وفي أ :يعينونهم.
) (1/58
م
مْري َ َ
ن َ سى اب ْ َ عي َ ل وَآ َت َي َْنا ِس ِن ب َعْدِهِ ِبالّر ُ م ْ في َْنا ِ ب وَقَ ّ سى ال ْك َِتا َ مو َ
ول َ َ َ
قد ْ آت َي َْنا ُ َ
سك ُُ
م َ َ ٌ ُ ّ ُ َ َ ْ َ ْ
ف ُ وى أن ْ ُْ َ هَ ت ل ما ِ َ ب ل سوُ ر
ْ َم كَ ء جا
َ ما
َ ل ك ف أ سِ ُ د ُ ق لا ح رو
ُ ُِ ِب ه نا
َ ْ دّ ي أَ و تِ نا
َ ّ يَ ب ل ا
ن )(87 ُ
قت ُلو َقا ت َ ْ ري ً م وَفَ ِ َ
قا كذ ّب ْت ُ ْري ً م فَ َ
ف ِ ْ
ست َكب َْرت ُ ْ ا ْ
سىعي َ ل َوآت َي َْنا ِ س ِ ن ب َعْدِهِ ِبالّر ُ م ْفي َْنا ِ ب وَقَ ّ سى ال ْك َِتا َ مو َ قد ْ آت َي َْنا ُ } } { 87وَل َ َ
َ َ
وى ما ل ت َهْ َ ل بِ َسو ٌ م َر ُ جاَءك ُ ْ
ما َس أفَك ُل ّ َ قد ُ ِ ت وَأي ّد َْناهُ ب ُِروِح ال ْ ُ م ال ْب َي َّنا ِمْري َ َ ن َ اب ْ َ
ن{. ُ
قت ُلو َ قا ت َ ْري ًم وَفَ ِ َ
قا كذ ّب ْت ُ ْري ً م فَ َ
ف ِ ْ
ست َكب َْرت ُ ْ ما ْ ُ
سك ُ ف ُ أ َن ْ ُ
يمتن تعالى على بني إسرائيل أن أرسل لهم كليمه موسى ،وآتاه التوراة،
ثم تابع من بعده بالرسل الذين يحكمون بالتوراة ،إلى أن ختم أنبياءهم
بعيسى ابن مريم عليه السلم ،وآتاه من اليات البينات ما يؤمن على مثله
س { أي :قواه الله بروح القدس. قد ُ ِ البشر } ،وَأ َي ّد َْناهُ ب ُِروِح ال ْ ُ
قال أكثر المفسرين :إنه جبريل عليه السلم ،وقيل :إنه اليمان الذي يؤيد
الله به عباده.
َ
سك ُ ُ
م ف ُ وى أن ْ ُ ما ل ت َهْ َ ثم مع هذه النعم التي ل يقدر قدرها ،لما أتوكم } ب ِ َ
ن{ قت ُُلو َ قا ت َ ْ م وَفَ ِ
ري ً قا { منهم } ك َذ ّب ْت ُ ْ ري ًف ِم { عن اليمان بهم } ،فَ َ ست َك ْب َْرت ُ ْ ا ْ
فقدمتم الهوى على الهدى ،وآثرتم الدنيا على الخرة ،وفيها من التوبيخ
والتشديد ما ل يخفى.
) (1/58
ن )(88 قِليًل َ
ما ي ُؤْ ِ
مُنو َ م فَ َ
فرِهِ ْ م الل ّ ُ
ه ب ِك ُ ْ ل ل َعَن َهُ ُ وََقاُلوا قُُلوب َُنا غُل ْ ٌ
ف بَ ْ
) (1/58
ن
حو َ فت ِ ُست َ ْ
ل يَ ْ ن قَب ْ ُ
م ْ كاُنوا ِ م وَ َ معَهُ ْما َ صد ّقٌ ل ِ َ م َ عن ْدِ الل ّهِ ُ ن ِ م ْ ب ِ م ك َِتا ٌجاَءهُ ْ ما َوَل َ ّ
ن
ري َ كافِ ِ ة الل ّهِ عََلى ال ْ َ فُروا ب ِهِ فَل َعْن َ ُ ما عََرُفوا ك َ َ م َ جاَءهُ ْ ما َ فُروا فَل َ ّ ن كَ َ ذي َعََلى ال ّ ِ
َ َ َ َ
ل الل ّ ُ
ه ن ي ُن َّز َ ل الل ّ ُ
ه ب َغًْيا أ ْ ما أن َْز َفُروا ب ِ َ ن ي َك ْ ُمأ ْ سه ُ ْف َشت ََرْوا ب ِهِ أن ْ ُ ما ا ْ س َ) (89ب ِئ ْ َ
ن
ري َ كافِ ِ ب وَل ِل ْ َ ض ٍب عََلى غَ َ ض ٍ عَبادِهِ فََباُءوا ب ِغَ َ ن ِ م ْشاُء ِ ن يَ َ م ْضل ِهِ عََلى َ ن فَ ْ م ْ ِ
ن )(90 مِهي ٌ ب ُ ذا ٌعَ َ
كاُنوا م وَ َ معَهُ ْ ما َ صد ّقٌ ل ِ َ م َ عن ْدِ الل ّهِ ُ ن ِ م ْب ِ م ك َِتا ٌ جاَءهُ ْ ما َ } } { 90 - 89وَل َ ّ
ه
فُروا ب ِ ِ ما عََرُفوا ك َ َ م َ جاَءهُ ْ ما َ فُروا فَل َ ّ ن كَ َ ذي َ ن عََلى ال ّ ِ حو َ فت ِ ُ
ست َ ْل يَ ْ ن قَب ْ ُ م ْ ِ
َ ْ َ َ َ ْ َ ّ َ
ما أن َْز َ
ل فُروا ب ِ َ ن ي َك ُ مأ ْ سهُ ْف َ شت ََرْوا ب ِهِ أن ْ ُ ما ا ْ ن * ب ِئ ْ َ
س َ ري َ ة الل َهِ عَلى الكافِ ِ فَلعْن َ ُ
عَبادِهِ فََباُءوا ] ص ن ِ م ْ شاُء ِ ن يَ َ م ْ َ
ضل ِهِ عَلى َ ن فَ ْ م ْ ه ِ ّ
ل الل ُ ن ي ُن َّز َ ه ب َغًْيا أ ْ الل ّ ُ
ن{. مِهي ٌ ب ُذا ٌ ن عَ َ ري َ كافِ ِب وَل ِل ْ َ ض ٍ ب عََلى غَ َ ض ٍ [ 59ب ِغَ َ
أي :ولما جاءهم كتاب من عند الله على يد أفضل الخلق وخاتم النبياء،
المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة ،وقد علموا به ،وتيقنوه حتى
إنهم كانوا إذا وقع ) (1بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب،
استنصروا بهذا النبي ،وتوعدوهم بخروجه ،وأنهم يقاتلون المشركين معه،
فلما جاءهم هذا الكتاب والنبي الذي عرفوا ،كفروا به ،بغيا وحسدا ،أن
ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده ،فلعنهم الله ،وغضب عليهم
غضبا بعد غضب ،لكثرة كفرهم وتوالى شكهم وشركهم.
} وللكافرين عذاب مهين { أي :مؤلم موجع ،وهو صلي الجحيم ،وفوت
النعيم المقيم ،فبئس الحال حالهم ،وبئس ما استعاضوا واستبدلوا من
اليمان بالله وكتبه ورسله ،الكفر به ،وبكتبه ،وبرسله ،مع علمهم وتيقنهم،
فيكون أعظم لعذابهم.
__________
) (1في ب :على أنهم إذا كان وقع.
) (1/58
ما
ن بِ َ فُرو َ ل عَل َي َْنا وَي َك ْ ُ ما أ ُن ْزِ َ ن بِ َ م ُ ه َقاُلوا ن ُؤْ ِ ل الل ّ ُ ما أ َن َْز َ مُنوا ب ِ َ م آَ ِ ل ل َهُ ْ ذا ِقي َ وَإ ِ َ
ن قَب ْ ُ ّ َ ُ ْ
ن
ل إِ ْ م ْ ن أن ْب َِياَء اللهِ ِ قت ُلو َ م تَ ْ ل فَل ِ َ م قُ ْ معَهُ ْ ما َ صد ًّقا ل ِ َ م َحق ّ ُ وََراَءهُ وَهُوَ ال َ
ه
ن ب َعْدِ ِ
م ْ ل ِ ج َ ْ
م العِ ْ خذ ْت ُ ُم ات ّ َ ت ثُ ّ ْ
سى ِبالب َي َّنا ِ مو َ م ُ جاَءك ُ ْ قد ْ َ َ
ن ) (91وَل َ مِني َ مؤْ ِ م ُ ك ُن ْت ُ ْ
م ال ّ َ م َ َ
ما ذوا َ خ ُ طوَر ُ م وََرفَعَْنا فَوْقَك ُ ُ ميَثاقَك ُ ْ خذ َْنا ِ ن ) (92وَإ ِذ ْ أ َ مو َ ظال ِ ُ وَأن ْت ُ ْ
ج َ
ل م ال ْعِ ْ شرُِبوا ِفي قُُلوب ِهِ ُ صي َْنا وَأ ُ ْ معَْنا وَعَ َ س ِ مُعوا َقاُلوا َ س َقوّةٍ َوا ْ م بِ ُ آت َي َْناك ُ ْ
َ
ْ
ن )(93 مِني َ مؤْ ِ م ُ ن ك ُن ْت ُ ْ م إِ ْ مان ُك ُ ْم ب ِهِ ِإي َ مُرك ُ ْ ما ي َأ ُ س َل ب ِئ ْ َ م قُ ْ فرِهِ ْ ب ِك ُ ْ
ما أ ُن ْزِ َ
ل ن بِ َ م ُ ه َقاُلوا ن ُؤْ ِ ل الل ّ ُ ما أ َن َْز َ مُنوا ب ِ َ مآ ِ ل ل َهُ ْ ذا ِقي َ } } { 93 - 91وَإ ِ َ
َ ُ ْ عَل َي َْنا وَي َك ْ ُ
ن أن ْب َِياَء قت ُلو َ م تَ ْ ل فَل ِ َ م قُ ْ معَهُ ْ ما َ صد ًّقا ل ِ َ م َ حق ّ ُ ما وََراَءهُ وَهُوَ ال َ ن بِ َ فُرو َ
خذ ْت ُ ُ
م م ات ّ َ ت ثُ ّ سى ِبال ْب َي َّنا ِ مو َ م ُ جاَءك ُ ْ قد ْ َ ن * وَل َ َ مِني َ مؤْ ِ م ُ ن ك ُن ْت ُ ْ ل إِ ْن قَب ْ ُ م ْ الل ّهِ ِ
طوَر م ال ّ م وََرفَعَْنا فَوْقَك ُ ُ ميَثاقَك ُ ْ خذ َْنا ِ ن * وَإ ِذ ْ أ َ َ مو َ ظال ِ ُ م َ َ
ن ب َعْدِهِ وَأن ْت ُ ْ م ْ ل ِ ج َ ال ْعِ ْ
ُ
مشرُِبوا ِفي قُُلوب ِهِ ُ صي َْنا وَأ ْ معَْنا وَعَ َ س ِ مُعوا َقاُلوا َ س َ قوّةٍ َوا ْ م بِ ُما آت َي َْناك ُ ْ ذوا َ خ ُ ُ
ْ
ن{. مِني َ مؤْ ِ م ُ ن ك ُن ْت ُ ْ م إِ ْ مان ُك ُ ْم ب ِهِ ِإي َ مُرك ُ ْ ما ي َأ ُ س َ ل ب ِئ ْ َ م قُ ْ فرِهِ ْ ل ب ِك ُ ْ ج َ ال ْعِ ْ
أي :وإذا أمر اليهود باليمان بما أنزل الله على رسوله ،وهو القرآن
ما وََراَءهُ { أي: ن بِ َ فُرو َ ل عَل َي َْنا وَي َك ْ ُ ما ُأنز َ ن بِ َ م ُ استكبروا وعتوا ،و } َقاُلوا ن ُؤْ ِ
بما سواه من الكتب ،مع أن الواجب أن يؤمن بما أنزل الله مطلقا ،سواء
أنزل عليهم ،أو على غيرهم ،وهذا هو اليمان النافع ،اليمان بما أنزل الله
على جميع رسل الله.
وأما التفريق بين الرسل والكتب ،وزعم اليمان ببعضها دون بعض ،فهذا
نفُرو َ ن ي َك ْ ُ ذي َ ن ال ّ ِ ليس بإيمان ،بل هو الكفر بعينه ،ولهذا قال تعالى } :إ ِ ّ
بالل ّه ورسل ِه ويريدو َ
ض
ن ب ِب َعْ ٍ م ُ ن ن ُؤْ ِ قوُلو َ سل ِهِ وَي َ ُ ن الل ّهِ وَُر ُ فّرُقوا ب َي ْ َ ن يُ َ نأ ْ ِ ِ َُ ُ ِ َُ ِ ُ َ
قا {
ح ّن َ كافُِرو َ م ال ْ َ ك هُ ُ سِبيل ُأول َئ ِ َ ك َ ن ذ َل ِ َ ذوا ب َي ْ َ خ ُ ن ي َت ّ ِنأ ْ
فر ببعض ويريدو َ
وَن َك ْ ُ ُ ِ َ ْ ٍ َ ُ ِ ُ َ
.
ولهذا رد عليهم تبارك وتعالى هنا ردا شافيا ،وألزمهم إلزاما ل محيد لهم
حقّ { فإذا كان عنه ،فرد عليهم بكفرهم بالقرآن بأمرين فقال } :وَهُوَ ال ْ َ
هو الحق في جميع ما اشتمل عليه من الخبارات ،والوامر والنواهي ،وهو
من عند ربهم ،فالكفر به بعد ذلك كفر بالله ،وكفر بالحق الذي أنزله.
م { أي :موافقا له في كل ما دل عليه من معَهُ ْ ما َ صد ًّقا ل ِ َ م َ ثم قالُ } :
الحق ومهيمنا عليه.
فلم تؤمنون بما أنزل عليكم ،وتكفرون بنظيره؟ هل هذا إل تعصب واتباع
للهوى ل للهدى؟
وأيضا ،فإن كون القرآن مصدقا لما معهم ،يقتضي أنه حجة لهم على صدق
ما في أيديهم من الكتب ،قل سبيل لهم إلى إثباتها إل به ،فإذا كفروا به
وجحدوه ،صاروا بمنزلة من ادعى دعوى بحجة وبينة ليس له غيرها ،ول
تتم دعواه إل بسلمة بينته ،ثم يأتي هو لبينته وحجته ،فيقدح فيها ويكذب
بها; أليس هذا من الحماقة والجنون؟ فكان كفرهم بالقرآن ،كفرا بما في
أيديهم ونقضا له.
ل { لهم: ثم نقض عليهم تعالى دعواهم اليمان بما أنزل إليهم بقوله } :قُ ْ
ن وَل َ َ قتُلو َ
سى مو َ م ُ جاَءك ُ ْ قد ْ َ مِني َ مؤْ ِ م ُ ن ك ُن ْت ُ ْ ل إِ ْ ن قَب ْ ُ م ْ ن أن ْب َِياَء الل ّهِ ِ م تَ ْ ُ َ } فَل ِ َ
ت{ ِبال ْب َي َّنا ِ
ن ب َعْدِهِ { أي: م ْل ِ ج َم ال ْعِ ْ خذ ْت ُ ُ م ات ّ َأي :بالدلة الواضحات المبينة للحق } ،ث ُ ّ
ن { في ذلك ليس لكم عذر. م َ َ
مو َ ظال ِ ُ بعد مجيئه } وَأن ْت ُ ْ
ة
قوّ ٍ م بِ ُما آت َي َْناك ُ ْذوا َ خ ُ طوَر ُ م ال ّ م وََرفَعَْنا فَوْقَك ُ ُ ميَثاقَك ُ ْ خذ َْنا ِ} وَإ ِذ ْ أ َ َ
صي َْنا { معَْنا وَعَ َ س ِ مُعوا { أي :سماع قبول وطاعة واستجابةَ } ،قاُلوا َ س َ َوا ْ
ُ
ل { ) (1بسبب ج َ م ال ْعِ ْ شرُِبوا ِفي قُُلوب ِهِ ُ أي :صارت هذه حالتهم } وَأ ْ
كفرهم.
ُ ُ ُ ْ ْ } قُ ْ
ن { أي :أنتم تدعون اليمان مِني َ مؤْ ِم ُ ن كن ْت ُ ْ م إِ ْمان ُك ْ م ب ِهِ ِإي َ مُرك ْ ما ي َأ ُ س َ ل ب ِئ َ
وتتمدحون بالدين الحق ،وأنتم قتلتم أنبياء الله ،واتخذتم العجل إلها من
دون الله ،لما غاب عنكم موسى ،نبي الله ،ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إل
بعد التهديد ورفع الطور فوقكم ،فالتزمتم بالقول ،ونقضتم بالفعل ،فما
هذا اليمان الذي ادعيتم ،وما هذا الدين؟.
فإن كان هذا إيمانا على زعمكم ،فبئس اليمان الداعي صاحبه إلى
الطغيان ،والكفر برسل الله ،وكثرة العصيان ،وقد عهد أن اليمان
الصحيح ،يأمر صاحبه بكل خير ،وينهاه عن كل شر ،فوضح بهذا كذبهم،
وتبين تناقضهم.
__________
) (1في ب :وشربها.
) (1/59
وا س فَت َ َ
من ّ ُ ن ال ّ َنا ِ دو ِ ن ُم ْ ة ِ ص ً خال ِ َعن ْد َ الل ّهِ َ خَرةُ ِ داُر اْل َ ِ ت ل َك ُ ُ
م ال ّ ن َ
كان َ ْ قُ ْ
ل إِ ْ
َ
م َوالل ّ ُ
ه ديهِ ْت أي ْ ِم ْما قَد ّ َدا ب ِ َمن ّوْهُ أب َ ً
ن ي َت َ َن ) (94وَل َ ْ صادِِقي َ
م َ ن ك ُن ْت ُ ْ ت إِ ْموْ َال ْ َ
َ
نذي َ ن ال ّ ِم َ حَياةٍ وَ ِس عََلى َ ص الّنا ِ حَر َ مأ ْ جد َن ّهُ ْن ) (95وَل َت َ ِ مي َ م ِبال ّ
ظال ِ ِ عَِلي ٌ
َ ن ال ْعَ َ مُر أ َل ْ َ َ أَ ْ
ن
بأ ْذا ِ م َ
حه ِ ِ
حزِ ِ
مَز ْ
ما هُوَ ب ِ ُ
سن َةٍ وَ َ
ف َ م ل َوْ ي ُعَ ّحد ُهُ ْ
كوا ي َوَد ّ أ َ شَر ُ
ن )(96 مُلو َما ي َعْ َصيٌر ب ِ َه بَ ِمَر َوالل ّ ُ ي ُعَ ّ
ن
دو ِ ن ُ م ْ ة ِ ص ً
خال ِ َ عن ْد َ الل ّهِ َ خَرةُ ِ داُر ال ِ م ال ّ ت ل َك ُ ُ كان َ ْ ن َ ل إِ ْ } } { 96 - 94قُ ْ
َ َ
م
ديهِ ْت أي ْ ِ م ْما قَد ّ َ دا ب ِ َ من ّوْهُ أب َ ً ن ي َت َ َ ن * وَل َ ْ صادِِقي َ م َ ن ك ُن ْت ُ ْ ت إِ ْ موْ َ وا ال ْ َ من ّ ُ س فَت َ َ الّنا ِ
َ
ن
ذي َ ن ال ّ ِ م َ حَياةٍ وَ ِ س عََلى َ ص الّنا ِ حَر َ مأ ْ جد َن ّهُ ْ ن * وَل َت َ ِ مي َ ظال ِ ِم ِبال ّ ه عَِلي ٌ َوالل ّ ُ
َ ن ال ْعَ َ َ
مُر أل ْ َ َ أَ ْ
ن
بأ ْ ذا ِ م َ حه ِ ِ حزِ ِ مَز ْ ما هُوَ ب ِ ُ سن َةٍ وَ َ ف َ م ل َوْ ي ُعَ ّ حد ُهُ ْ كوا ي َوَد ّ أ َ شَر ُ
ن{. مُلو َ ما ي َعْ َ صيٌر ب ِ َ ه بَ ِ مَر َوالل ّ ُ ي ُعَ ّ
داُر
م ال ّ ُ
ت لك ُ َ ن كان َ ْ َ ل { لهم على وجه تصحيح دعواهم } :إ ِ ْ أي } :قُ ْ
س { كما زعمتم ،أنه لن يدخل ن الّنا ِ دو ِ ن ُ م ْ ة ِ ص ً خال ِ َ خَرةُ { يعني الجنة } َ ال ِ
الجنة إل من كان هودا أو نصارى ،وأن النار لن تمسهم إل أياما معدودة،
ت { وهذا نوع مباهلة بينهم موْ َ وا ال ْ َ من ّ ُفإن كنتم صادقين بهذه الدعوى } فَت َ َ
وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وليس بعد هذا اللجاء والمضايقة لهم بعد العناد منهم ،إل أحد أمرين :إما
أن يؤمنوا بالله ورسوله ،وإما أن يباهلوا على ما هم عليه بأمر يسير ] ص
[ 60عليهم ،وهو تمني الموت الذي يوصلهم إلى الدار التي هي خالصة
لهم ،فامتنعوا من ذلك.
فعلم كل أحد أنهم في غاية المعاندة والمحادة لله ولرسوله ،مع علمهم
َ َ
م { من الكفر ديهِ ْ ت أي ْ ِ م ْ ما قَد ّ َ دا ب ِ َ من ّوْهُ أب َ ً ن ي َت َ َبذلك ،ولهذا قال تعالى } وَل َ ْ
والمعاصي ،لنهم يعلمون أنه طريق لهم إلى المجازاة بأعمالهم الخبيثة،
فالموت أكره شيء إليهم ،وهم أحرص على الحياة من كل أحد من
الناس ،حتى من المشركين الذين ل يؤمنون بأحد من الرسل والكتب.
سن َةٍ { وهذا ف َ مُر أ َل ْ َ م ل َوْ ي ُعَ ّ حد ُهُ ْ
َ
ثم ذكر شدة محبتهم للدنيا فقال } :ي َوَد ّ أ َ
أبلغ ما يكون من الحرص ،تمنوا حالة هي من المحالت ،والحال أنهم لو
عمروا العمر المذكور ،لم يغن عنهم شيئا ول دفع عنهم من العذاب شيئا.
ن { تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم. مُلو َ ما ي َعْ َ صيٌر ب ِ َ ه بَ ِ } َوالل ّ ُ
) (1/59
ن الل ّهِ
ك ب ِإ ِذ ْ ِه عََلى قَل ْب ِ َه ن َّزل َ ُ
ل فَإ ِن ّ ُ ري َ جب ْ ِن عَد ُّوا ل ِ ِ كا َن َ م ْ ل َ } } { 98 - 97قُ ْ
َ
ملئ ِكت ِهِ ّ
ن عَد ُّوا ل ِلهِ وَ َ َ
ن كا َ م ْ ن* َ مِني َ مؤْ ِ ْ
شَرى ل ِل ُ دى وَب ُ ْ ن ي َد َي ْهِ وَهُ ً ما ب َي ْ َ صد ًّقا ل ِ َ م َُ
ن{. ِ َ ري ِ ف َ
كا ْ لِ ل ّ وُ دَ ع ه
َ ّ ل ال نّ إَ ف لَ َ
كا مي
ِ َ و َ
ل ري ْ
َ ِ ِبج و ِ هِ لسوَ ُ ُ
ر
ِ
أي :قل لهؤلء اليهود ،الذين زعموا أن الذي منعهم من اليمان بك ،أن
وليك جبريل عليه السلم ،ولو كان غيره من ملئكة الله ،لمنوا بك
وصدقوا ،إن هذا الزعم منكم تناقض وتهافت ،وتكبر على الله ،فإن جبريل
عليه السلم هو الذي نزل بالقرآن من عند الله على قلبك ،وهو الذي ينزل
على النبياء قبلك ،والله هو الذي أمره ،وأرسله بذلك ،فهو رسول محض.
مع أن هذا الكتاب الذي نزل به جبريل مصدقا لما تقدمه من الكتب غير
مخالف لها ول مناقض ،وفيه الهداية التامة من أنواع الضللت ،والبشارة
بالخير الدنيوي والخروي ،لمن آمن به ،فالعداوة لجبريل الموصوف بذلك،
كفر بالله وآياته ،وعداوة لله ولرسله وملئكته ،فإن عداوتهم لجبريل ،ل
لذاته بل لما ينزل به من عند الله من الحق على رسل الله.
فيتضمن الكفر والعداوة للذي أنزله وأرسله ،والذي أرسل به ،والذي
أرسل إليه ،فهذا وجه ذلك.
) (1/60
ن{.
قو َ
س ُ فُر ب َِها ِإل ال ْ َ
فا ِ ما ي َك ْ ُ
ت وَ َ ت ب َي َّنا ٍ
ك آَيا ٍقد ْ أ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ} } { 99وَل َ َ
) (1/60
) (1/60
ن ن ال ّ ِ
ذي َ م َ م ن َب َذ َ فَ ِ
ريقٌ ِ معَهُ ْ ما َصد ّقٌ ل ِ َم َعن ْدِ الل ّهِ ُ
ن ِ
م ْل ِسو ٌم َر ُ جاَءهُ ْ وَل َ ّ
ما َ
َ ُ
ن )(101 مو َ م َل ي َعْل َ ُ ب الل ّهِ وََراَء ظ ُُهورِهِ ْ
م ك َأن ّهُ ْ أوُتوا ال ْك َِتا َ
ب ك َِتا َ
) (1/60
نن وَل َك ِ ّ ما ُ سل َي ْ َ فَر ُ ما ك َ َ ن وَ َ ما َ سل َي ْ َ ك ُ مل ْ ِ ن عََلى ُ طي ُ شَيا ِ ما ت َت ُْلو ال ّ َوات ّب َُعوا َ
َ ْ َ ُ ّ
لن ب َِباب ِ َ ملك َي ْ ِ ل عَلى ال َ ما أن ْزِ َ حَر وَ َ س ْ س ال ّ
َ
ن الّنا َ مو َ فُروا ي ُعَل ُ ن كَ َ طي َ شَيا ِ ال ّ
َ
ة فَل ت َك ْفُْر ن فِت ْن َ ٌ ح ُما ن َ ْ قول إ ِن ّ ََ حّتى ي َ ُ حدٍ َ نأ َ م ْ ن ِ ما ِ ّ
ما ي ُعَل َ ت وَ َ ماُرو َ ت وَ َ هاُرو َ َ
نم ْ ن ب ِهِ ِ ضاّري َ م بِ َ ما هُ ْ جه ِ و َ َ مْرِء وََزوْ ِ ْ
ن ال َ ن ب ِهِ ب َي ْ َ فّرُقو َ ما ي ُ َ ما َ من ْهُ َ ن ِ مو َ ّ
فَي َت َعَل ُ
َ
شت ََراهُنا ْ م ِ موا ل َ َ قد ْ عَل ِ ُ م وَل َ َ فعُهُ ْ م وََل ي َن ْ َ ضّرهُ ْ ما ي َ ُ ن َ مو َ ن الل ّهِ وَي َت َعَل ّ ُ حدٍ إ ِّل ب ِإ ِذ ْ ِ أ َ
ن) مو َ كاُنوا ي َعْل َ ُ م ل َوْ َ سه ُ ْ ف َ شَرْوا ب ِهِ أ َن ْ ُ ما َ س َ ق وَل َب ِئ ْ َ خَل ٍ ن َ م ْ خَرةِ ِ ه ِفي اْل َ ِ ما ل َ ُ َ
ن) مو َ لع ي نوا َ
كا و َ ل ر يخ ه ّ لال د ن ع ن م ة ب ثو ُ مَ ل وا َ ق ت وا نوا مَ آ م ه نَ أ و َ لو ( 102
ِ َ ٌْ ْ ُ َْ ُ َ َ ّ ْ َ َ ٌ ِ ْ ِ ْ ِ َ ْ ُّ ْ َ ُ
(103
ن وَل َك ِ ّ
ن ما ُ سل َي ْ َ فَر ُ ما ك َ َ ن وَ َ ما َ سل َي ْ َ
ك ُ مل ْ ِن عََلى ُ طي ُ شَيا ِ ما ت َت ُْلو ال ّ } َوات ّب َُعوا َ
َ ْ َ ُ ّ
ن ب َِباب ِ َ
ل ملك َي ْ ِ ل عَلى ال َ ما أن ْزِ َ حَر وَ َ س ْ س ال ّ
َ
ن الّنا َ مو َ فُروا ي ُعَل ُ ن كَ َ طي َ شَيا ِ ال ّ
فْر ة َفل ت َك ْ ُ ن فِت ْن َ ٌ ح ُما ن َ ْ قول إ ِن ّ َ حّتى ي َ ُ حدٍ َ نأ َ م ْ ن ِ ما ِ ما ي ُعَل ّ َ ت وَ َ ماُرو َ ت وَ َ هاُرو َ َ
نم ْ ن ب ِهِ ِ ضاّري َ م بِ َ ما هُ ْ جه ِ و َ َ مْرِء وََزوْ ِ ن ال ْ َ ن ب ِهِ ب َي ْ َفّرُقو َ ما ي ُ َ ما َ من ْهُ َن ِ مو َ فَي َت َعَل ّ ُ
َ
شت ََراهُ نا ْ م ِموا ل َ َ قد ْ عَل ِ ُ م وَل َ َ فعُهُ ْ م َول ي َن ْ َ ضّرهُ ْ ما ي َ ُ ن َ مو َ ن الل ّهِ وَي َت َعَل ّ ُ حدٍ ِإل ب ِإ ِذ ْ ِ أ َ
ن* مو َ كاُنوا ي َعْل َ ُ م ل َوْ َ سه ُ ْ ف َ شَرْوا ب ِهِ أ َن ْ ُ ما َ س َ ق وَل َب ِئ ْ َ خل ٍ ن َ م ْ خَرةِ ِ ه ِفي ال ِ ما ل َ ُ َ
ن{. َ َ َ ّ ُ َ َ َ
مو َ خي ٌْر لوْ كاُنوا ي َعْل ُ عن ْدِ اللهِ َ ن ِ م ْ ة ِ مثوب َ ٌ وا ل َ ق ْ مُنوا َوات ّ َ مآ َ وَلوْ أن ّهُ ْ
وهم كذبة في ذلك ،فلم يستعمله سليمان ،بل نزهه الصادق في قيله:
ن
طي َ شَيا ِ ن ال ّ ن { أي :بتعلم السحر ،فلم يتعلمه } ،وَل َك ِ ّ ما ُ سل َي ْ َ فَر ُ ما ك َ َ } وَ َ
فُروا { بذلك. كَ َ
حَر { من إضللهم وحرصهم على إغواء بني آدم، س ْ س ال ّ ن الّنا َ مو َ } ي ُعَل ّ ُ
وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من
أرض العراق ،أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلء من الله لعباده فيعلمانهم
السحر.
فْر { ْ
ة َفل ت َك ُ ن فِت ْن َ ٌ َ ّ
ح ُ ما ن َ ْ قول إ ِن ّ َ حّتى { ينصحاه ،و } ي َ ُ حدٍ َ نأ َ م ْ ن ِما ِ ما ي ُعَل َ } وَ َ
أي :ل تتعلم السحر فإنه كفر ،فينهيانه عن السحر ،ويخبرانه عن مرتبته،
فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والضلل ،ونسبته وترويجه
إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلم ،وتعليم الملكين امتحانا
مع نصحهما لئل يكون لهم حجة.
فهؤلء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين ،والسحر الذي يعلمه
الملكان ،فتركوا علم النبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين ،وكل
يصبو إلى ما يناسبه.
مْرِء ن ال ْ َن ب ِهِ ب َي ْ َ فّرُقو َ ما ي ُ َ ما َ من ْهُ َن ِ مو َ ثم ذكر مفاسد السحر فقال } :فَي َت َعَل ّ ُ
جهِ { مع أن محبة الزوجين ل تقاس بمحبة غيرهما ،لن الله قال في وََزوْ ِ
ة { وفي هذا دليل على أن السحر له م ًح َ موَد ّةً وََر ْ م َ ُ َ
جعَل ب َي ْن َك ْ حقهما } :وَ َ
حقيقة ،وأنه يضر بإذن الله ،أي :بإرادة الله ،والذن نوعان :إذن قدري،
وهو المتعلق بمشيئة الله ،كما في هذه الية ،وإذن شرعي كما في قوله
ن الل ّهِ { وفي هذه الية ه عََلى قَل ْب ِ َ
ك ب ِإ ِذ ْ ِ ه نزل َ ُ تعالى في الية السابقة } :فَإ ِن ّ ُ
وما أشبهها أن السباب مهما بلغت في قوة التأثير ،فإنها تابعة للقضاء
والقدر ليست مستقلة في التأثير ،ولم يخالف في هذا الصل من فرق
المة غير القدرية في أفعال العباد ،زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة،
فأخرجوها عن قدرة الله ،فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة
والتابعين.
ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة ،ليس فيه منفعة ل دينية ول دنيوية
كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي ،كما قال تعالى في
َ
ن
م ْما أك ْب َُر ِ مه ُ َس وَإ ِث ْ ُ مَنافِعُ ِللّنا ِ م ك َِبيٌر وَ َ ما إ ِث ْ ٌ ل ِفيهِ َ الخمر والميسر } :قُ ْ
ما { فهذا السحر مضرة محضة ،فليس له داع أصل فالمنهيات كلها فعِهِ َ نَ ْ
إما مضرة محضة ،أو شرها أكبر من خيرها.
كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها.
شت ََراهُ { أي :رغب في السحر رغبة نا ْ م ِ موا { أي :اليهود } ل َ َ قد ْ عَل ِ ُ } وَل َ َ
المشتري في السلعة.
ق { أي :نصيب ،بل هو موجب للعقوبة ،فلم خل ٍ ن َ م ْ خَرةِ ِ ه ِفي ال ِ ما ل َ ُ } َ
يكن فعلهم إياه جهل ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الخرة.
ن { علما يثمر العمل ما مو َ كاُنوا ي َعْل َ ُ م ل َوْ َ سهُ ْ ف َشَرْوا ب ِهِ أ َن ْ ُ ما َ س َ } وَل َب ِئ ْ َ
فعلوه.
) (1/61
) (1/61
) (1/61
ل ال ْك ُ ْ أ َم تريدون أ َن ت َ
فَر ن ي َت َب َد ّ ِ م ْ ل وَ َ ن قَب ْ ُ م ْ سى ِ مو َ ل ُ سئ ِ َ ما ُ م كَ َ سول َك ُ ْ سأُلوا َر ُ ْ ُ ِ ُ َ ْ َ ْ
ب ل َْ ْ ل سواَء السبيل ) (108ود ك َِثير من أ َْ
و َِ ِ تا ك ل ا لِ ه ٌ ِ ْ
َ
َ ّ ّ ِ ِ ض ّ َ َ قد ْ َ ن فَ َ ما ِ لي َ ِبا ْ ِ
ن ل َهُ ُ
م ما ت َب َي ّ َ ن ب َعْدِ َ م ْ م ِ سهِ ْ ف ِ عن ْدِ أن ْ ُ ن ِ مَ ْ دا ِ س ًح َ فاًرا َ م كُ ّ مان ِك ُ ْ ن ب َعْدِ ِإي َ م ْ م ِ دون َك ُ ْ ي َُر ّ
ه عََلى ك ُ ّ ْ
ديٌر ) يٍء قَ ِ ش ْ ل َ ن الل ّ َ مرِهِ إ ِ ّ ه ب ِأ ْ ي الل ّ ُ حّتى ي َأت ِ َ حوا َ ف ُ ص َ فوا َوا ْ حقّ َفاعْ ُ ال ْ َ
َ صَلةَ وَآُتوا الّز َ َ َ
عن ْد َ دوهُ ِ ج ُ خي ْرٍ ت َ ِ ن َ م ْ م ِ سك ُ ْ ف ِ موا ِلن ْ ُ قد ّ ُ ما ت ُ َ كاةَ وَ َ موا ال ّ (109وَأِقي ُ
صيٌر )(110 ن بَ ِ ملو َ ُ ما ت َعْ َ ه بِ َ ن الل ّ َ الل ّهِ إ ِ ّ
} } { 110 - 108أ َم تريدون أ َن ت َ
ن
م ْ سى ِ مو َ ل ُ سئ ِ َ ما ُ م كَ َ سول َك ُ ْ سأُلوا َر ُ ْ ُ ِ ُ َ ْ َ ْ
َ ل ال ْك ُ ْ
ل ن أه ْ ِ م ْ ل * وَد ّ ك َِثيٌر ِ سِبي ِ واءَ ال ّ س َ ل َ ض ّ قد ْ َ ن فَ َ ما ِ فَر ِبالي َ ن ي َت َب َد ّ ِ م ْ ل وَ َ قَب ْ ُ
َ
ن ب َعْدِ م ْ م ِ سه ِ ْ ف ِ عن ْدِ أن ْ ُ ن ِ م ْ دا ِ س ً ح َ فاًرا َ م كُ ّ مان ِك ُ ْ ن ب َعْدِ ِإي َ م ْ م ِ دون َك ُ ْ ب ل َوْ ي َُر ّ ال ْك َِتا ِ
ه عََلى ك ُ ّ َ ْ
ل ن الل ّ َ مرِهِ إ ِ ّ ه ب ِأ ْ ي الل ّ ُ حّتى ي َأت ِ َ حوا َ ف ُ ص َ فوا َوا ْ حقّ َفاعْ ُ م ال ْ َ ن ل َهُ ُ ما ت َب َي ّ َ َ
ر ُ َ َ َ َ
خي ْ ٍ ن َ م ْ م ِ سك ْ ف ِ موا لن ْ ُ قد ّ ُ ما ت ُ َ صلةَ َوآُتوا الّزكاةَ وَ َ موا ال ّ ديٌر * وَأِقي ُ يٍء ق ِ ش ْ
صيٌر { . ن بَ ِ ملو َ ُ ما ت َعْ َ ه بِ َ ّ
ن الل َ ّ
عن ْد َ اللهِ إ ِ ّ دوهُ ِ ج ُ تَ ِ
نم ْ سى ِ مو َ ل ُ سئ ِ َ ما ُ َ
ينهى الله المؤمنين ،أو اليهود ،بأن يسألوا رسولهم } ك َ
سأ َل ُكَ ل { والمراد بذلك ،أسئلة التعنت والعتراض ،كما قال تعالى } :ي َ ْ قَب ْ ُ
ن ْ َ ُ َ ماِء فَ َ َ ن ُتنز َ َ ْ أ َهْ ُ
م ْ سى أكب ََر ِ مو َ سألوا ُ قد ْ َ س َ ن ال ّ م َ م ك َِتاًبا ِ ل عَلي ْهِ ْ بأ ْ ل الك َِتا ِ
َ
جهَْرةً { . ه َ قاُلوا أرَِنا الل ّ َ ك فَ َ ذ َل ِ َ
َ َ َ
من ت ُب ْد َ ل َك ُ ْ شَياَء إ ِ ْ نأ ْ سأُلوا عَ ْ مُنوا ل ت َ ْ نآ َ ذي َ وقال تعالىَ } :يا أي َّها ال ّ ِ
م { فهذه ونحوها ،هي المنهي عنها. سؤْك ُ ْ تَ ُ
وأما سؤال السترشاد والتعلم ،فهذا محمود قد أمر الله به كما قال تعالى
ن { ويقررهم ) (1عليه ،كما في مو َ م ل ت َعْل َ ُ ن ك ُن ْت ُ ْ ل الذ ّك ْرِ إ ِ ْ سأ َُلوا أ َهْ َ } َفا ْ
َ َ
مى { ونحو ن ال ْي ََتا َ ك عَ ِ سأُلون َ َ سرِ { و } ي َ ْ مي ْ ِ مرِ َوال ْ َ خ ْ ن ال ْ َ ك عَ ِ سأُلون َ َ قوله } ي َ ْ
ذلك.
ولما كانت المسائل المنهي عنها مذمومة ،قد تصل بصاحبها إلى الكفر،
ل{. سِبي ِ واَء ال ّ س َ ل َ ض ّ قد ْ َ ن فَ َ ما ِ فَر ِبالي َ ل ال ْك ُ ْ ن ي َت َب َد ّ ِ م ْ قال } :وَ َ
ثم أخبر عن حسد كثير من أهل الكتاب ،وأنهم بلغت بهم الحال ،أنهم ودوا
فاًرا { وسعوا في ذلك ،وأعملوا المكايد، م كُ ّ مان ِك ُ ْ ن ب َعْدِ ِإي َ م ْ م ِ دون َك ُ ْ } ل َوْ ي َُر ّ
َ
ب ل ال ْك َِتا ِ ن أه ْ ِ م ْ ة ِ ف ٌ طائ ِ َ ت َ وكيدهم راجع عليهم ]كما[ قال تعالى } :وََقال َ ْ
نجُعو َ م ي َْر ِ خَرهُ ل َعَل ّهُ ْ فُروا آ ِ ه الن َّهارِ َواك ْ ُ ج َ مُنوا وَ ْ نآ َ ذي َ ل عََلى ال ّ ِ ذي ُأنز َ مُنوا ِبال ّ ِ آ ِ
{ وهذا من حسدهم الصادر من عند أنفسهم.
فأمرهم الله بمقابلة من أساء إليهم غاية الساءة بالعفو عنهم والصفح
حتى يأتي الله بأمره.
ثم بعد ذلك ،أتى الله بأمره إياهم بالجهاد ،فشفى الله أنفس المؤمنين
هّ
ن الل َمنهم ،فقتلوا من قتلوا ،واسترقوا من استرقوا ،وأجلوا من أجلوا } إ ِ ّ
يٍء قَ ِ
ديٌر { . ل َ
ش ْ عََلى ك ُ ّ
ثم أمرهم ]الله[ بالشتغال في الوقت الحاضر ،بإقامة الصلة ،وإيتاء
الزكاة وفعل كل القربات ،ووعدهم أنهم مهما فعلوا من خير ،فإنه ل يضيع
مُلو َ
ن ما ت َعْ َ ن الل ّ َ
ه بِ َ عند الله ،بل يجدونه عنده وافرا موفرا قد حفظه } إ ِ ّ
صيٌر { .بَ ِ
__________
) (1في ب :ويقرهم.
) (1/62
هودا أ َو نصارى ت ِل ْ َ َ
هاُتوال َم قُ ْمان ِي ّهُ ْ
كأ َ ن ُ ً ْ َ َ َ ن َ
كا َ م ْ ة إ ِّل َ ل ال ْ َ
جن ّ َ خ َ وََقاُلوا ل َ ْ
ن ي َد ْ ُ
َ
ن فَل َ ُ
ه س ٌ ح ِم ْه ل ِل ّهِ وَهُوَ ُجه َ ُ سل َ َ
م وَ ْ نأ ْ م ْ ن ) (111ب ََلى َ صادِِقي َ م َ ن ك ُن ْت ُ ْ هان َك ُ ْ
م إِ ْ ب ُْر َ
َ
ن )(112 حَزُنو َ م وََل هُ ْ
م يَ ْ ف عَل َي ْهِ ْخوْ ٌ عن ْد َ َرب ّهِ وََل َ جُرهُ ِ أ ْ
صاَرى ت ِل ْ َ هو َ
ك دا أوْ ن َ َن ُ ً كا َ ن َ م ْ ة ِإل َ ل ال ْ َ
جن ّ َ خ َ } } { 112 - 111وََقاُلوا ل َ ْ
ن ي َد ْ ُ
هانك ُم إن ك ُنتم صادقين * بَلى م َ َ
ه ل ِل ّهِ وَهُ َ
و جه َ ُ
م وَ ْسل َ َ
نأ ْ َ ْ َ هاُتوا ب ُْر َ َ ْ ِ ْ ْ ُ ْ َ ِ ِ َ ل َ م قُ ْ مان ِي ّهُ ْ
أ َ
محسن فَل َ َ
ن{. حَزُنو َم يَ ْ
م َول هُ ْ ف عَل َي ْهِ ْ خوْ ٌ عن ْد َ َرب ّهِ َول َ
جُرهُ ِهأ ْ ُ ُ ْ ِ ٌ
أي :قال اليهود :لن يدخل الجنة إل من كان هودا ،وقالت النصارى :لن
يدخل الجنة إل من كان نصارى ،فحكموا لنفسهم بالجنة وحدهم ،وهذا
مجرد أماني غير مقبولة ،إل بحجة وبرهان ،فأتوا بها إن كنتم صادقين،
وهكذا كل من ادعى دعوى ،ل بد أن يقيم البرهان على صحة دعواه ،وإل
فلو قلبت عليه دعواه ،وادعى مدع عكس ما ادعى بل برهان ] ص [ 63
لكان ل فرق بينهما ،فالبرهان هو الذي يصدق الدعاوى أو يكذبها ،ولما لم
يكن بأيديهم برهان ،علم كذبهم بتلك الدعوى.
َ
ثم ذكر تعالى البرهان الجلي العام لكل أحد ،فقال } :ب َلى { أي :ليس
ه ل ِل ّهِ { أي :أخلص لله أعماله، بأمانيكم ودعاويكم ،ولكن } م َ
جه َ ُ م وَ ْ سل َ َنأ ْ َ ْ
ن { في عبادة ربه ،بأن ٌ س
ِ ح
ْ م
ُ } إخلصه متوجها إليه بقلبه } ،وَهُوَ { مع
عبده بشرعه ،فأولئك هم أهل الجنة وحدهم.
عن ْد َ َرب ّهِ { وهو الجنة بما اشتملت عليه من النعيمَ } ،ول جُرهُ ِ } فَل َ َ
هأ ْ ُ
ن { فحصل لهم المرغوب ،ونجوا من المرهوب. نو ز ح ي
ْ َ ْ َ ُ َ م ُ ه ول م
ِْ ْ َ ه يَ لَ ع ف
خوْ ٌ َ
ويفهم منها ،أن من ليس كذلك ،فهو من أهل النار الهالكين ،فل نجاة إل
لهل الخلص للمعبود ،والمتابعة للرسول.
) (1/62
ت ال ْي َُهود ُ
س ِصاَرى ل َي ْ َت الن ّ َ يٍء وََقال َ ِ ش ْ صاَرى عََلى َ ت الن ّ َ س ِ ت ال ْي َُهود ُ ل َي ْ َ وََقال َ ِ
م َفالل ّ ُ
ه ل قَوْل ِهِ ْ
مث ْ َن ِ ن َل ي َعْل َ ُ
مو َ ذي َ ل ال ّ ِ ك َقا َ ب ك َذ َل ِ َن ال ْك َِتا َم ي َت ُْلو َ يٍء وَهُ ْ ش ْ عََلى َ
ن )(113 فو َ خت َل ِ ُ
كاُنوا ِفيهِ ي َ ْ ما َمةِ ِفي َ قَيا َم ال ْ ِ م ي َوْ َ حك ُ ُ
م ب َي ْن َهُ ْ يَ ْ
صاَرى ت الن ّ َ يٍء وََقال َ ِ ش ْصاَرى عََلى َ ت الن ّ َ س ِ ت ال ْي َُهود ُ ل َي ْ َ } } { 113وََقال َ ِ
ن
مو َن ل ي َعْل َ ُ ذي َ ل ال ّ ِ
ك َقا َب ك َذ َل ِ َ ن ال ْك َِتا َ م ي َت ُْلو َيٍء وَهُ ْ ش ْ ت ال ْي َُهود ُ عََلى َ س ِل َي ْ َ
ن{. فو َ خت َل ِ ُ
كاُنوا ِفيهِ ي َ ْما َ مةِ ِفي َ قَيا َم ال ْ ِ
م ي َوْ َ م ب َي ْن َهُ ْحك ُ ُ
ه يَ ْم َفالل ّ ُ
ل قَوْل ِهِ ْ
مث ْ َ
ِ
وذلك أنه بلغ بأهل الكتاب الهوى والحسد ،إلى أن بعضهم ضلل بعضا،
وكفر بعضهم بعضا ،كما فعل الميون من مشركي العرب وغيرهم.
فكل فرقة تضلل الفرقة الخرى ،ويحكم الله في الخرة بين المختلفين
بحكمه العدل ،الذي أخبر به عباده ،فإنه ) (1ل فوز ول نجاة إل لمن صدق
جميع النبياء والمرسلين ،وامتثل أوامر ربه ،واجتنب نواهيه ،ومن عداهم،
فهو هالك.
__________
) (1كذا في ب ،وفي أ :وأنه.
) (1/63
َ وم َ
خَراب َِها
سَعى ِفي َ ه وَ َ م ُ ن ي ُذ ْك ََر ِفيَها ا ْ
س ُ جد َ الل ّهِ أ ْسا ِم َ من َعَ َ
ن َ م ْ م ّ م ِ ن أظ ْل َ ُ َ َ ْ
َ َ ّ ُ َ َ ُ
م ِفي خْزيٌ وَلهُ ْ
م ِفي الد ّن َْيا ِ ن لهُ ْ في َ خائ ِ ِ
ها إ ِل َ خلو َ ن ي َد ْ ُ
مأ ْ ن لهُ ْ َ
ما كا َ أول َئ ِك َ
َ
م )(114 ظي ٌب عَ ِ ذا ٌ خَرةِ عَ َ اْل َ ِ
َ } } { 114وم َ
سَعى ه وَ َ م ُ
س ُ ن ي ُذ ْك ََر ِفيَها ا ْ جد َ الل ّهِ أ ْ سا ِ م َ من َعَ َن َ م ْم ّ م ِن أظ ْل َ ُ َ َ ْ
ي ز خ يا ن د ال في م ه َ ل ن في ئ خا إل ها ُ
لو خ د ي ن َ أ م ه َ ل ن كاَ ما خَراب َِها ُأول َئ ِ َ
َّْ ِ ْ ٌ ِِ َ ُ ْ ِ َ َ ِ ُ َ ُ ْ ْ َ ْ ك َ ِفي َ
م{. ظي ٌب عَ ِ ذا ٌخَرةِ عَ َ م ِفي ال ِ وَل َهُ ْ
أي :ل أحد أظلم وأشد جرما ،ممن منع مساجد الله ،عن ذكر الله فيها،
وإقامة الصلة وغيرها من الطاعات.
خَراب َِها { الحسي والمعنوي، سَعى { أي :اجتهد وبذل وسعه } ِفي َ } وَ َ
فالخراب الحسي :هدمها وتخريبها ،وتقذيرها ،والخراب المعنوي :منع
الذاكرين لسم الله فيها ،وهذا عام ،لكل من اتصف بهذه الصفة ،فيدخل
في ذلك أصحاب الفيل ،وقريش ،حين صدوا رسول الله عنها عام
الحديبية ،والنصارى حين أخربوا بيت المقدس ،وغيرهم من أنواع الظلمة،
الساعين في خرابها ،محادة لله ،ومشاقة ،فجازاهم الله ،بأن منعهم
دخولها شرعا وقدرا ،إل خائفين ذليلين ،فلما أخافوا عباد الله ،أخافهم الله،
فالمشركون الذين صدوا رسوله ،لم يلبث رسول الله صلى الله عليه
وسلم إل يسيرا ،حتى أذن الله له في فتح مكة ،ومنع المشركين من
َ
س َفل ج ٌ ن نَ َ شرِ ُ
كو َ م ْ ما ال ْ ُ مُنوا إ ِن ّ َنآ َ ذي َ قربان بيته ،فقال تعالىَ } :يا أي َّها ال ّ ِ
ذا { . م هَ َ مهِ ْعا ِ م ب َعْد َ َ حَرا َ جد َ ال ْ َ س ِ قَرُبوا ال ْ َ
م ْ يَ ْ
وأصحاب الفيل ،قد ذكر الله ما جرى عليهم ،والنصارى ،سلط الله عليهم
المؤمنين ،فأجلوهم عنه.
وهكذا كل من اتصف بوصفهم ،فل بد أن يناله قسطه ،وهذا من اليات
العظيمة ،أخبر بها الباري قبل وقوعها ،فوقعت كما أخبر.
واستدل العلماء بالية الكريمة ،على أنه ل يجوز تمكين الكفار من دخول
المساجد.
بذا ٌ خَرةِ عَ َ م ِفي ال ِ َ
خْزيٌ { أي :فضيحة كما تقدم } وَلهُ ْ م ِفي الد ّن َْيا ِ } ل َهُ ْ
م{. ظي ٌ عَ ِ
وإذا كان ل أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ،فل أعظم
إيمانا ممن سعى في عمارة المساجد بالعمارة الحسية والمعنوية ،كما
ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ
خرِ { . م َ
نآ َ م ْجد َ الل ّهِ َ
سا ِ
م َ مُر َ ما ي َعْ ُقال تعالى } :إ ِن ّ َ
بل قد أمر الله تعالى برفع بيوته وتعظيمها وتكريمها ،فقال تعالىِ } :في
بيوت أ َذن الل ّ َ
ه{. م ُس ُن ت ُْرفَعَ وَي ُذ ْك ََر ِفيَها ا ْهأ ْ ُ ُُ ٍ ِ َ
وللمساجد أحكام كثيرة ،يرجع حاصلها إلى مضمون هذه اليات الكريمة.
) (1/63
َ
م)
سعٌ عَِلي ٌ ن الل ّ َ
ه َوا ِ ه الل ّهِ إ ِ ّ
ج ُ ما ت ُوَّلوا فَث َ ّ
م وَ ْ ب فَأي ْن َ َ شرِقُ َوال ْ َ
مغْرِ ُ وَل ِل ّهِ ال ْ َ
م ْ
(115
َ
ن الل ّ َ
ه ه الل ّهِ إ ِ ّ
ج ُ ما ت ُوَّلوا فَث َ ّ
م وَ ْ ب فَأي ْن َ َ
مغْرِ ُ شرِقُ َوال ْ َ م ْ} } { 115وَل ِل ّهِ ال ْ َ
م{. سعٌ عَِلي ٌ َوا ِ
ب { خصهما بالذكر ،لنهما محل اليات مغْرِ ُ ْ
شرِقُ َوال َ م ْ ْ ّ
أي } :وَل ِلهِ ال َ
العظيمة ،فهما مطالع النوار ومغاربها ،فإذا كان مالكا لها ،كان مالكا لكل
الجهات.
ّ َ
ما ت ُوَلوا { وجوهكم من الجهات ،إذا كان توليكم إياها بأمره ،إما أن } فَأي ْن َ َ
يأمركم باستقبال الكعبة بعد أن كنتم مأمورين باستقبال بيت المقدس ،أو
تؤمرون بالصلة في السفر على الراحلة ونحوها ،فإن القبلة حيثما توجه
العبد أو تشتبه القبلة ،فيتحرى الصلة إليها ،ثم يتبين له الخطأ ،أو يكون
معذورا بصلب أو مرض ونحو ذلك ،فهذه المور ،إما أن يكون العبد فيها
معذورا أو مأمورا.
وبكل حال ،فما استقبل جهة من الجهات ،خارجة عن ملك ربه.
م { فيه ] ص [ 64إثبات الوجه لله سعٌ عَِلي ٌ ه َوا ِ ن الل ّ َ ه الل ّهِ إ ِ ّ ج ُ م وَ ْ } فَث َ ّ
تعالى ،على الوجه اللئق به تعالى ،وأن لله وجها ل تشبهه الوجوه ،وهو -
تعالى -واسع الفضل والصفات عظيمها ،عليم بسرائركم ونياتكم.
فمن سعته وعلمه ،وسع لكم المر ،وقبل منكم المأمور ،فله الحمد
والشكر.
) (1/63
َْ
ل لَ ُ
ه ض كُ ّ ت َوالْر ِ ماَوا ِ
س َ
ما ِفي ال ّ ل لَ ُ
ه َ ه بَ ْحان َ ُ
سب ْ َ ه وَل َ ً
دا ُ خذ َ الل ّ ُ
وََقاُلوا ات ّ َ
َ َْ
ن ل لَ ُ
ه كُ ْ قو ُ مًرا فَإ ِن ّ َ
ما ي َ ُ ضى أ ْذا قَ َ
ض وَإ ِ َ
ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ ديعُ ال ّ ن ) (116ب َ ِ َقان ُِتو َ
ن )(117 كو ُفَي َ ُ
) (1/64
ْ
ن
م ْ
ن ِ ل ال ّ ِ
ذي َ ك َقا َ ة ك َذ َل ِ َ ه أ َوْ ت َأِتيَنا آ َي َ ٌ
مَنا الل ّ ُ ن ل َوَْل ي ُك َل ّ ُمو َ ن َل ي َعْل َ ُ ذي َ ل ال ّ ِوََقا َ
ن ) (118إ ِّنا قوْم ٍ ُيوقُِنو َ ت لِ َ َ
م قَد ْ ب َي ّّنا اْلَيا ِ ت قُُلوب ُهُ ْ شاب َهَ ْم تَ َ ل قَوْل ِهِ ْ مث ْ َم ِ قَب ْل ِهِ ْ
َ َ َ
حيم ِ )(119 ج ِب ال ْ َ حا ِ ص َ نأ ْ ل عَ ْ سأ ُ ذيًرا وََل ت ُ ْ شيًرا وَن َ ِحق ّ ب َ ِ ك ِبال ْ َ سل َْنا َأْر َ
ْ
ه أ َوْ ت َأِتيَنا آي َ ٌ
ة مَنا الل ّ ُ ول ي ُك َل ّ ُ ن لَ ْ مو َ ن ل ي َعْل َ ُ ذي َ ل ال ّ ِ } } { 119 - 118وََقا َ
م قَد ْ ب َي ّّنا الَيا ِ ُ
ت قُلوب ُهُ ْ م تَ َ ل قَوْل ِهِ ْ مث ْ َ ن قَب ْل ِهِ ْ ل ال ّ ِك َقا َ ك َذ َل ِ َ
قوْم ٍ ت لِ َ
َ َ
شاب َهَ ْ م ِ ْ م
ن ِ َ ذي
َ
حيم ِ { ج ِ ْ
ب ال َ حا ِ ص َنأ ْ ل عَ ْ سأ ُ ذيًرا َول ت ُ ْ شيًرا وَن َ ِ حق ّ ب َ ِ ْ
ك ِبال َ سلَنا َْ ن * إ ِّنا أْر َ ُيوقُِنو َ
.
أي :قال الجهلة من أهل الكتاب وغيرهم :هل يكلمنا ،كما كلم الرسل } ،أوَ
ْ ْ
ة { يعنون آيات القتراح ،التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة ،وآرائهم ت َأِتيَنا آي َ ٌ
الكاسدة ،التي تجرأوا بها على الخالق ،واستكبروا على رسله كقولهم:
ن ُتنز َ
ل بأ ْ
َ
ل ال ْك َِتا ِ ك أ َهْ ُ سأ َل ُ َ جهَْرةً { } ي َ ْ ه َ حّتى ن ََرى الل ّ َ ك َ ن لَ َ م َن ن ُؤْ ِ } لَ ْ
َ َ
ك { الية ،وقالوا: ن ذ َل ِ َ م ْ سى أك ْب ََر ِ مو َ سأُلوا ُ قد ْ َ ماِء فَ َ س َ ن ال ّ م َ م ك َِتاًبا ِ عَل َي ْهِ ْ
َ َ ُ
ة{ جن ّ ٌه َ ن لَ ُ
كو ُ كنز أوْ ت َ ُ قى إ ِل َي ْهِ َ ذيًرا أوْ ي ُل ْ َ ه نَ ِ
مع َ ُ ن َ كو َ ك فَي َ ُ مل َ ٌ ل إ ِل َي ْهِ َول أنز َ } لَ ْ
عا { ض ي َن ُْبو ً ن الْر ِ م َ جَر ل ََنا ِ ف ُ حّتى ت َ ْ ك َ ن لَ َم َ ن ن ُؤْ ِ اليات وقوله } :وََقاُلوا ل َ ْ
اليات.
فهذا دأبهم مع رسلهم ،يطلبون آيات التعنت ،ل آيات السترشاد ،ولم يكن
قصدهم تبين الحق ،فإن الرسل ،قد جاءوا من اليات ،بما يؤمن بمثله
ن { فكل موقن ،فقد قوْم ٍ ُيوقُِنو َ ت لِ َ البشر ،ولهذا قال تعالى } :قَد ْ ب َي ّّنا الَيا ِ
عرف من آيات الله الباهرة ،وبراهينه الظاهرة ،ما حصل له به اليقين،
واندفع عنه كل شك وريب.
ثم ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة لليات الدالة على صدقه
َ
شيًرا
حق ّ ب َ ِ ك ِبال ْ َ
سل َْنا َ
صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به فقال } :إ ِّنا أْر َ
ذيًرا { فهذا مشتمل على اليات التي جاء بها ،وهي ترجع إلى ثلثة وَن َ ِ
أمور:
الول :في نفس إرساله ،والثاني :في سيرته وهديه ودله ،والثالث :في
معرفة ما جاء به من القرآن والسنة.
ك { والثالث دخل في سل َْنا َ َ
فالول والثاني ،قد دخل في قوله } :إ ِّنا أْر َ
حق ّ { . قولهِ } :بال ْ َ
وبيان المر الول وهو -نفس إرساله -أنه قد علم حالة أهل الرض قبل
بعثته صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من عبادة الوثان والنيران،
والصلبان ،وتبديلهم للديان ،حتى كانوا في ظلمة من الكفر ،قد عمتهم
وشملتهم ،إل بقايا من أهل الكتاب ،قد انقرضوا قبيل البعثة.
وقد علم أن الله تعالى لم يخلق خلقه سدى ،ولم يتركهم همل لنه حكيم
عليم ،قدير رحيم ،فمن حكمته ورحمته بعباده ،أن أرسل إليهم هذا
الرسول العظيم ،يأمرهم بعبادة الرحمن وحده ل شريك له ،فبمجرد
رسالته يعرف العاقل صدقه ،وهو آية كبيرة على أنه رسول الله ،وأما
الثاني :فمن عرف النبي صلى الله عليه وسلم معرفة تامة ،وعرف سيرته
وهديه قبل البعثة ،ونشوءه على أكمل الخصال ،ثم من بعد ذلك،
قد ازدادت مكارمه وأخلقه العظيمة الباهرة للناظرين ،فمن عرفها ،وسبر
أحواله ،عرف أنها ل تكون إل أخلق النبياء الكاملين ،لن الله تعالى جعل
الوصاف أكبر دليل على معرفة أصحابها وصدقهم وكذبهم.
وأما الثالث :فهو معرفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الشرع
العظيم ،والقرآن الكريم ،المشتمل على الخبارات الصادقة ،والوامر
الحسنة ،والنهي عن كل قبيح ،والمعجزات الباهرة ،فجميع اليات تدخل
في هذه الثلثة.
ذيًرا { شيًرا { أي لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والخروية } ،ن َ ِ قوله } :ب َ ِ
لمن عصاك بالشقاوة والهلك الدنيوي والخروي.
حيم ِ { أي :لست مسئول عنهم ،إنما عليك ب ال ْ َ
ج ِ حا ِ
ص َ
ل عَ َ
نأ ْ ْ سأ َ ُ} َول ت ُ ْ
البلغ ،وعلينا الحساب.
) (1/64
حّتى ت َت ّب ِعَ
صاَرى َ ك ال ْي َُهود ُ ] ص َ [ 65ول الن ّ َ ضى عَن ْ َ ن ت َْر َ} } { 120وَل َ ْ
َ
ن
م َ جاَء َ
ك ِ ذي َ م ب َعْد َ ال ّ ِ
واَءهُ ْ
ت أه ْ َ
ن ات ّب َعْ َ َ
دى وَلئ ِ ِ دى الل ّهِ هُوَ ال ْهُ َ ن هُ َ ل إِ ّ مل ّت َهُ ْ
م قُ ْ ِ
صيرٍ { . ي َول ن َ ِ ن وَل ِ ّم ْ ّ
ن اللهِ ِ م َ ك ِ َ
ما ل َ ْ
العِلم ِ َ ْ
يخبر تعالى رسوله ،أنه ل يرضى منه اليهود ول النصارى ،إل باتباعه دينهم،
ن
لنهم دعاة إلى الدين الذي هم عليه ،ويزعمون أنه الهدى ،فقل لهم } :إ ِ ّ
دى { .دى الل ّهِ { الذي أرسلت به } هُوَ ال ْهُ َ هُ َ
ذي ّ َ َ
م ب َعْد َ ال ِ
واَءهُ ْ
ت أه ْ َ
ن ات ّب َعْ َ
وأما ما أنتم عليه ،فهو الهوى بدليل قوله } وَلئ ِ ِ
صيرٍ { . ي َول ن َ ِ
ن وَل ِ ّم ْن الل ّهِ ِ
م َ ما ل َ َ
ك ِ ن ال ْعِل ْم ِ َ
م َ جاَء َ
ك ِ َ
فهذا فيه النهي العظيم ،عن اتباع أهواء اليهود والنصارى ،والتشبه بهم
فيما يختص به دينهم ،والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه
وسلم فإن أمته داخلة في ذلك ،لن العتبار بعموم المعنى ل بخصوص
المخاطب ،كما أن العبرة بعموم اللفظ ،ل بخصوص السبب.
) (1/64
ه
فْر ب ِ ِ ن ي َك ْ ُم ْ ن ب ِهِ وَ َ مُنو َك ي ُؤْ ِ حقّ ت َِلوَت ِهِ ُأول َئ ِ َ ه َ ب ي َت ُْلون َ ُم ال ْك َِتا َ ذي َ
ن آت َي َْناهُ ُ ال ّ ُ ِ َ
َ
ت
م ُي ال ِّتي أن ْعَ ْ مت ِ َ ل اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ سَراِئي َ ن )َ (121يا ب َِني إ ِ ْ سُرو َ خا ِ م ال ْ َك هُ ُ فَأول َئ ِ َ
َ
ن
س عَ ْف ٌ زي ن َ ْ ج ِما َل ت َ ْ قوا ي َوْ ً ن )َ (122وات ّ ُ مي َم عََلى ال َْعال َ ِ ضل ْت ُك ُ ْم وَأّني فَ ّ عَل َي ْك ُ ْ
ن )(123 صُرو َ م ي ُن ْ َة وََل هُ ْ فاعَ ٌ ش َفعَُها َ ل وََل ت َن ْ َ من َْها عَد ْ ٌ ل ِ قب َ ُ شي ًْئا وََل ي ُ ْ س َ ف ٍ نَ ْ
ن
م ْ ن ب ِهِ وَ َمُنو َ ك ي ُؤْ ِحقّ ِتلوَت ِهِ ُأول َئ ِ َ ه َ ب ي َت ُْلون َ ُ م ال ْك َِتا َ ن آت َي َْناهُ ُ ذي َ ثم قال } :ال ّ ِ
ت
م ُ
َ
ي ال ِّتي أن ْعَ ْ مت ِ َل اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ سَراِئي َ ن * َيا ب َِني إ ِ ْ سُرو َ خا ِ م ال ْ َ ك هُ ُ فْر ب ِهِ فَُأول َئ ِ َ ي َك ْ ُ
َ
س
ف ٍ ن نَ ْ س عَ ْ ف ٌ زي ن َ ْ ج ِما ل ت َ ْ قوا ي َوْ ً ن * َوات ّ ُ مي َ م عََلى ال َْعال َ ِ ضل ْت ُك ُ ْم وَأّني فَ ّ عَل َي ْك ُ ْ
ن{. صُرو َ م ي ُن ْ َ
ة َول هُ ْ فاعَ ٌ ش َ فعَُها َ ل َول ت َن ْ َ من َْها عَد ْ ٌ ل ِ شي ًْئا َول ي ُ ْ
قب َ ُ َ
ن عليهم به منة مطلقة ،أنهم يخبر تعالى أن الذين آتاهم الكتاب ،وم ّ
حقّ ِتلوَت ِهِ { أي :يتبعونه حق اتباعه ،والتلوة :التباع ،فيحلون ه َ } ي َت ُْلون َ ُ
حلله ،ويحرمون حرامه ،ويعملون بمحكمه ،ويؤمنون بمتشابهه ،وهؤلء هم
السعداء من أهل الكتاب ،الذين عرفوا نعمة الله وشكروها،
وآمنوا بكل الرسل ،ولم يفرقوا بين أحد منهم.
فهؤلء ،هم المؤمنون حقا ،ل من قال منهم } :نؤمن بما أنزل علينا
ويكفرون بما وراءه { .
ن { وقد تقدم ْ َ ُ
فْر ب ِهِ فَأولئ ِ َ ْ
سُرو َ خا ِ م ال َ ك هُ ُ ن ي َك ُ م ْ
ولهذا توعدهم بقوله } وَ َ
تفسير الية التي بعدها.
) (1/65
عل ُ َ َ
ما َقا َ
ل ما ً س إِ َ ك ِللّنا ِ جا ِ ل إ ِّني َ ن َقا َ مه ُ ّ ت فَأت َ ّ ما ٍ ه ب ِك َل ِ َ م َرب ّ ُهي َ وَإ ِذِ اب ْت ََلى إ ِب َْرا ِ
مَثاب َ ً
ة ت َ جعَل َْنا ال ْب َي ْ َ ن ) (124وَإ ِذ ْ َ مي َ ظال ِ ِ دي ال ّ ل عَهْ ِ ل َل ي ََنا ُ ن ذ ُّري ِّتي َقا َ م ْ وَ ِ
َ
م
هي َ صّلى وَعَهِد َْنا إ َِلى إ ِب َْرا ِ م َ م ُ هي َ قام ِ إ ِب َْرا ِ م َ
ن َ م ْ ذوا ِ خ ُمًنا َوات ّ ِ س وَأ ْ ِللّنا ِ
َ
جودِ )(125 س ُ ن َوالّرك ِّع ال ّ في َ ن َوال َْعاك ِ ِ في َ ي ِلل ّ
طائ ِ ِ ن ط َهَّرا ب َي ْت ِ َ لأ ْ عي َ ما ِ س َوَإ ِ ْ
عل ُ َ َ
ك جا ِل إ ِّني َ ن َقا َ مه ُ ّ ت فَأت َ ّ ما ٍه ب ِك َل ِ َ م َرب ّ ُ هي َ } } { 125 - 124وَإ ِذِ اب ْت ََلى إ ِب َْرا ِ
جعَل َْنا ن * وَإ ِذ ْ َ مي َ ظال ِ ِدي ال ّ ل عَهْ ِ ل ل ي ََنا ُ ن ذ ُّري ِّتي َقا َ م ْ ل وَ ِ ما َقا َ ما ً س إِ َ ِللّنا ِ
َ ّ َ
صلى وَعَهِد َْنا إ ِلى م َ م ُ هي َقام ِ إ ِب َْرا ِ م َن َ م ْ ذوا ِ خ ُمًنا َوات ّ ِ س وَأ ْ ة ِللّنا ِ مَثاب َ ً ت َ ال ْب َي ْ َ
عي َ َ
جودِ { . س ُن َوالّرك ِّع ال ّ ن َوال َْعاك ِ ِ
في َ في َ ي ِلل ّ
طائ ِ ِ ن ط َهَّرا ب َي ْت ِ َ لأ ْ ما ِ س َ م وَإ ِ ْهي َ إ ِب َْرا ِ
يخبر تعالى ،عن عبده وخليله ،إبراهيم عليه السلم ،المتفق على إمامته
وجللته ،الذي كل من طوائف أهل الكتاب تدعيه ،بل وكذلك المشركون:
أن الله ابتله وامتحنه بكلمات ،أي :بأوامر ونواهي ،كما هي عادة الله في
ابتلئه لعباده ،ليتبين الكاذب الذي ل يثبت عند البتلء والمتحان من
الصادق ،الذي ترتفع درجته ،ويزيد قدره ،ويزكو عمله ،ويخلص ذهبه ،وكان
من أجّلهم في هذا المقام ،الخليل عليه السلم.
فأتم ما ابتله الله به ،وأكمله ووفاه ،فشكر الله له ذلك ،ولم يزل الله
ما { أي :يقتدون بك في الهدى، ما ً س إِ َ
ك ِللّنا ِ عل ُ َ جا ِ شكورا فقال } :إ ِّني َ
ويمشون خلفك إلى سعادتهم البدية ،ويحصل لك الثناء الدائم ،والجر
الجزيل ،والتعظيم من كل أحد.
وهذه -لعمر الله -أفضل درجة ،تنافس فيها المتنافسون ،وأعلى مقام،
شمر إليه العاملون ،وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين
وأتباعهم ،من كل صديق متبع لهم ،داع إلى الله وإلى سبيله.
فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام ،وأدرك هذا ،طلب ذلك لذريته ،لتعلو
درجته ودرجة ذريته ،وهذا أيضا من إمامته ،ونصحه لعباد الله ،ومحبته أن
يكثر فيهم المرشدون ،فلله عظمة هذه الهمم العالية ،والمقامات
السامية.
فأجابه الرحيم اللطيف ،وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام فقال } :ل ي ََنا ُ
ل
ن { أي :ل ينال المامة في الدين ،من ظلم نفسه وضرها، مي َ دي ال ّ
ظال ِ ِ عَهْ ِ
وحط قدرها ،لمنافاة الظلم لهذا المقام ،فإنه مقام آلته الصبر واليقين،
ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من اليمان والعمال الصالحة،
والخلق الجميلة ،والشمائل السديدة ،والمحبة التامة ،والخشية والنابة،
فأين الظلم وهذا المقام؟
ودل مفهوم الية ،أن غير الظالم ،سينال المامة ،ولكن مع إتيانه بأسبابها.
ثم ذكر تعالى ،نموذجا باقيا دال على إمامة إبراهيم ،وهو هذا البيت الحرام
الذي جعل قصده ،ركنا من أركان السلم ،حاطا للذنوب والثام.
وفيه من آثار الخليل وذريته ،ما عرف به إمامته ،وتذكرت به حالته فقال:
س { أي :مرجعا يثوبون إليه ،لحصول منافعهم ة ِللّنا ِ مَثاب َ ًت َ جعَل َْنا ال ْب َي ْ َ } وَإ ِذ ْ َ
الدينية والدنيوية ،يترددون إليه ،ول يقضون منه وطرا } ،و { جعله
مًنا { يأمن به كل أحد ،حتى الوحش ،وحتى الجمادات كالشجار. َ
}أ ْ
ولهذا كانوا في الجاهلية -على شركهم -يحترمونه أشد الحترام ،ويجد
أحدهم قاتل أبيه في الحرم ،فل يهيجه ،فلما جاء السلم ،زاده حرمة
وتعظيما ،وتشريفا وتكريما.
صّلى { يحتمل أن يكون المراد بذلك، م َ م ُ هي َ قام ِ إ ِب َْرا ِم َن َ م ْ ذوا ِ خ ُ} َوات ّ ِ
المقام المعروف الذي قد جعل الن ،مقابل باب الكعبة ،وأن المراد بهذا،
ركعتا الطواف ،يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم ،وعليه جمهور
المفسرين ،ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا ،فيعم جميع مقامات
إبراهيم في الحج ،وهي المشاعر كلها :من الطواف ،والسعي ،والوقوف
بعرفة ،ومزدلفة ورمي الجمار والنحر ،وغير ذلك من أفعال الحج.
صّلى { أي :معبدا ،أي :اقتدوا به في شعائر الحج، م َ فيكون معنى قولهُ } :
ولعل هذا المعنى أولى ،لدخول المعنى الول فيه ،واحتمال اللفظ له.
ل { أي :أوحينا إليهما ،وأمرناهما بتطهير عي َما ِ س َ
م وَإ ِ ْ } وَعَهِد َْنا إ َِلى إ ِب َْرا ِ
هي َ
بيت الله من الشرك ،والكفر والمعاصي ،ومن الرجس والنجاسات ] ص
جودِ { ن َوالّرك ِّع ال ّ
س ُ ن { فيه } َوال َْعاك ِ ِ
في َ في َ [ 66والقذار ،ليكون } ِلل ّ
طائ ِ ِ
أي :المصلين ،قدم الطواف ،لختصاصه بالمسجد ]الحرام[ ،ثم العتكاف،
لن من شرطه المسجد مطلقا ،ثم الصلة ،مع أنها أفضل ،لهذا المعنى.
وأضاف الباري البيت إليه لفوائد ،منها :أن ذلك يقتضي شدة اهتمام
إبراهيم وإسماعيل بتطهيره ،لكونه بيت الله ،فيبذلن جهدهما ،ويستفرغان
وسعهما في ذلك.
ومنها :أن الضافة تقتضي التشريف والكرام ،ففي ضمنها أمر عباده
بتعظيمه وتكريمه.
ومنها :أن هذه الضافة هي السبب الجاذب للقلوب إليه.
) (1/65
تم َ َ
ن
م َنآ َ مَرا ِ َ ْ ن الث ّ َ م َ
ه ِ مًنا َواْرُزقْ أهْل َ ُ دا آ َ ِذا ب َل َ ً
ل هَ َجعَ ْبا ْ م َر ّ هي ُ ل إ ِب َْرا ِ وَإ ِذ ْ َقا َ
َ ُ
ب
ذا ِ ضط َّرهُ إ َِلى عَ َ مأ ْ ه قَِليًل ث ُ ّ فَر فَأ َ
مت ّعُ ُ ن كَ َ م ْ ل وَ َخرِ َقا َم ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ اْل َ ِ من ْهُ ْ
ِ
صيُر )(126 م ِ ْ
س ال َ ْ
الّنارِ وَب ِئ َ
َ
ن
م َ
ه ِ مًنا َواْرُزقْ أهْل َ ُ دا آ ِ ذا ب َل َ ًل هَ َجع َ ْبا ْ م َر ّ هي ُ } } { 126وَإ ِذ ْ َقا َ
ل إ ِب َْرا ِ
ُ
ه قَِليل ث ُ ّ
م فَر فَأ َ
مت ّعُ ُ ن كَ َم ْ ل وَ َ خرِ َقا َ م ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ من ْهُ ْ
ن ِ م َ نآ َ م ْ
ت َمَرا ِ الث ّ َ
َ
صيُر { . م ِس ال ْ َب الّنارِ وَب ِئ ْ َ ذا ِ ضط َّرهُ إ َِلى عَ َ أ ْ
أي :وإذ دعا إبراهيم لهذا البيت ،أن يجعله الله بلدا آمنا ،ويرزق أهله من
أنواع الثمرات ،ثم قيد عليه السلم هذا الدعاء للمؤمنين ،تأدبا مع الله ،إذ
كان دعاؤه الول ،فيه الطلق ،فجاء الجواب فيه مقيدا بغير الظالم.
فلما دعا لهم بالرزق ،وقيده بالمؤمن ،وكان رزق الله شامل للمؤمن
فَر { أي :أرزقهم كلهم، ن كَ َ م ْ والكافر ،والعاصي والطائع ،قال تعالى } :وَ َ
مسلمهم وكافرهم ،أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة الله ،ثم ينتقل
ضط َّره ُ { أي: منه إلى نعيم الجنة ،وأما الكافر ،فيتمتع فيها قليل } ث ُ َ
مأ ْ ّ
صيُر { . م ِ س ال ْ َب الّنارِ وَب ِئ ْ َ ذا ِ ألجئه وأخرجه مكرها } إ َِلى عَ َ
) (1/66
ل منا إن َ َ
تك أن ْ َ قب ّ ْ ِ ّ ِ ّ ل َرب َّنا ت َ َ عي ُ ما ِس َ ت وَإ ِ ْ ن ال ْب َي ْ ِ م َ عد َ ِ وا ِ م ال ْ َ
ق َ هي ُ وَإ ِذ ْ ي َْرفَعُ إ ِب َْرا ِ
َ ُ َ ْ
ةل َ
ك م ًسل ِ َ
م ْ ة ُم ً ن ذ ُّري ّت َِنا أ ّ م ْك وَ ِ نل َ مي ْ ِ
سل ِ َ
م ْ جعَلَنا ُ م )َ (127رب َّنا َوا ْ ميعُ ال ْعَِلي ُ س ِال ّ
َ َ َ
م
ث ِفيهِ ْ م )َ (128رب َّنا َواب ْعَ ْ حي ُب الّر ِ وا ُ ت الت ّ ّ ك أن ْ َ ب عَلي َْنا إ ِن ّ َ سك ََنا وَت ُ ْ مَنا ِ وَأرَِنا َ
كيهم إن َ َ ب َوال ْ ِ م آ ََيات ِ َ
ت ك أن ْ َ ة وَي َُز ّ ِ ْ ِ ّ م َ حك ْ َ م ال ْك َِتا َ مه ُ ُك وَي ُعَل ّ ُ م ي َت ُْلو عَل َي ْهِ ْ سوًل ِ
من ْهُ ْ َر ُ
م )(129 كي ُح ِ زيُز ال ْ َال ْعَ ِ
ل َرب َّنا عي ُ
ما ِ س َت وَإ ِ ْ ن ال ْب َي ْ ِ
م َ عد َ ِ وا ِ ق َم ال ْ َ } } { 129 - 127وَإ ِذ ْ ي َْرفَعُ إ ِب َْرا ِ
هي ُ
َ ْ ل منا إن َ َ
ن ذ ُّري ّت َِنا
م ْ ك وَ ِ نل َ مي ْ ِسل ِ َم ْجعَلَنا ُ م * َرب َّنا َوا ْ ميعُ ال ْعَِلي ُ س ِ ت ال ّك أن ْ َ قب ّ ْ ِ ّ ِ ّ تَ َ
َ َ َ َ ُ
م * َرب َّنا حي ُ ب الّر ِ وا ُ ت الت ّ ّ ك أن ْ َ ب عَلي َْنا إ ِن ّ َ سك ََنا وَت ُ ْمَنا ِ ك وَأرَِنا َ ةل َ م ً سل ِ َ
م ْ
ة ُ
م ً
أ ّ
ة
م َ ب َوال ْ ِ
حك ْ َ م ال ْك َِتا َمه ُ ُ ك وَي ُعَل ّ ُ م آَيات ِ َ م ي َت ُْلو عَل َي ْهِ ْ من ْهُ ْ
سول ِ م َر ُ ث ِفيهِ ْ َواب ْعَ ْ
م{. ْ ْ َ َ وَي َُز ّ
كي ُ ح ِ زيُز ال َ ت العَ ِ م إ ِن ّك أن ْ َ كيهِ ْ
أي :واذكر إبراهيم وإسماعيل ،في حالة رفعهما القواعد من البيت
الساس ،واستمرارهما على هذا العمل العظيم ،وكيف كانت حالهما من
الخوف والرجاء ،حتى إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما
عملهما ،حتى يحصل ) (1فيه النفع العميم.
ودعوا لنفسهما ،وذريتهما بالسلم ،الذي حقيقته ،خضوع القلب ،وانقياده
سك ََنا { أي :علمناها على وجه َ
مَنا ِ لربه المتضمن لنقياد الجوارح } .وَأرَِنا َ
الراءة والمشاهدة ،ليكون أبلغ .يحتمل أن يكون المراد بالمناسك :أعمال
الحج كلها ،كما يدل عليه السياق والمقام ،ويحتمل أن يكون المراد ما هو
أعم من ذلك وهو الدين كله ،والعبادات كلها ،كما يدل عليه عموم اللفظ،
لن النسك :التعبد ،ولكن غلب على متعبدات الحج ،تغليبا عرفيا ،فيكون
حاصل دعائهما ،يرجع إلى التوفيق للعلم النافع ،والعمل الصالح ،ولما كان
ب
العبد -مهما كان -ل بد أن يعتريه التقصير ،ويحتاج إلى التوبة قال } وَت ُ ْ
م{. عَل َينا إن َ َ
حي ُ ب الّر ِ وا ُ ت الت ّ ّ ك أن ْ َ َْ ِّ
م { ليكون أرفع من ْهُ ْ سول ِ م { أي :في ذريتنا } َر ُ ث ِفيهِ ْ } َرب َّنا َواب ْعَ ْ
َ
م آَيات ِك { َ ُ
لدرجتهما ،ولينقادوا له ،وليعرفوه حقيقة المعرفة } .ي َت ْلو عَلي ْهِ ْ
ة { معنى. م َ حك ْ َ ب َوال ْ ِ م ال ْك َِتا َ مه ُ ُ لفظا ،وحفظا ،وتحفيظا } وَي ُعَل ّ ُ
م { بالتربية على العمال الصالحة والتبري من العمال الردية، } وَي َُز ّ
كيهِ ْ
زيُز { أي :القاهر لكل ْ َ التي ل تزكي النفوس ) (2معها } .إ ِن ّ َ
ت الع َ ِ ك أن ْ َ
م { الذي يضع الشياء كي ُ ح ِشيء ،الذي ل يمتنع على قوته شيء } .ال ْ َ
مواضعها ،فبعزتك وحكمتك ،ابعث فيهم هذا الرسول .فاستجاب الله لهما،
فبعث الله هذا الرسول الكريم ،الذي رحم الله به ذريتهما خاصة ،وسائر
الخلق عامة ،ولهذا قال عليه الصلة والسلم" :أنا دعوة أبي إبراهيم " .
ولما عظم الله إبراهيم هذا التعظيم ،وأخبر عن صفاته الكاملة قال تعالى:
__________
) (1في ب :حتى يجعل.
) (2في ب :النفس.
) (1/66
في َْناهُ ِفي الد ّن َْيا صط َ َ قدِ ا ْ ه وَل َ َ س ُف َ ه نَ ْ ف َس ِ ن َ م إ ِّل َ
م ْ هي َ مل ّةِ إ ِب َْرا ِن ِ ب عَ ْ ن ي َْرغَ ُ م ْ وَ َ
ت َ َ م َقا َ َ َ ن ) (130إ ِذ ْ َقا َ َ َ ْ
م ُ سل ْ لأ ْ سل ِ ْ هأ ْ ه َرب ّ ُ لل ُ حي َ صال ِ ِ ن ال ّ م َ خَرةِ ل ِ ه ِفي ال ِ وَإ ِن ّ ُ
هّ
ن الل َ ي إِ ّ ب َيا ب َن ِ ّ قو ُ م ب َِنيهِ وَي َعْ ُ هي ُ صى ب َِها إ ِب َْرا ِ ن ) (131وَوَ ّ مي َ َ
ب الَعال ِ ْ ل َِر ّ
ُ َ َ ّ َ ُ َ َ
داَء إ ِذ ْ شه َ َ م ُ م كن ْت ُ ْ ن ) (132أ ْ مو َ سل ِ ُ م ْ م ُ ن إ ِل وَأن ْت ُ ْ موت ُ ّ ن فَل ت َ ُ دي َ م ال ّ فى لك ُ صط َ ا ْ
هَ
ك وَإ ِل َ َ
دي َقالوا ن َعْب ُد ُ إ ِلهَ َ ُ ن ب َعْ ِ م ْ ن ِ دو َ ما ت َعْب ُ ُ ل ل ِب َِنيهِ َ ت إ ِذ ْ َقا َ موْ ُ ْ
ب ال َ قو َ ضَر ي َعْ ُ ح َ َ
ن )(133 مو َ سل ِ ُ م ْ ه ُ َ
نل ُ ُ ح
دا وَن َ ْ ح ً َ
حاقَ إ ِلًها َوا ِ س َ ل وَإ ِ ْ عي َ ما ِ س َم وَإ ِ ْ هي َ ك إ ِب َْرا ِ آ ََبائ ِ َ
خل َت ل َها ما ك َسبت ول َك ُم ما ك َسبتم وَل ت َ ت ِل ْ َ ُ
كاُنوا ما َ ن عَ ّ سأُلو َ َ ُْ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ ْ َ ة قَد ْ َ ْ َ َ م ٌ كأ ّ
ن )(134 مُلو َ ي َعْ َ
قدِه وَل َ َ
س ُ ف َه نَ ْ
ف َس ِن َ م ْم ِإل َهي َمل ّةِ إ ِب َْرا ِ
ن ِ ن ي َْرغَ ُ
ب عَ ْ م ْ } } { 134 - 130وَ َ
م َ َ ن * إ ِذ ْ َقا َ َ صط َ َ
سل ِ ْهأ ْ ه َرب ّ ُلل ُ حي َصال ِ ِ
ن ال ّ م َخَرةِ ل ِه ِفي ال ِ في َْناهُ ِفي الد ّن َْيا وَإ ِن ّ ُ ا ْ
َقا َ َ
ن
ي إِ ّ ب َيا ب َن ِ ّ قو ُ م ب َِنيهِ وَي َعْ ُ هي ُ صى ب َِها إ ِب َْرا ِ ن * وَوَ ّ مي َ ب ال َْعال َ ِ ت ل َِر ّ م ُ سل َ ْ لأ ْ
َ َ
داَء إ ِذ ْ شه َ َ م ُ م ك ُن ْت ُ ْ ن*أ ْ مو َ سل ِ ُ م ْ م ُ ن ِإل وَأن ْت ُ ْ موت ُ ّ ن َفل ت َ ُ دي َ م ال ّ فى ل َك ُ ُ صط َ َ ها ْ الل ّ َ
ك وَإ ِل َ َ
ه دي َقاُلوا ن َعْب ُد ُ إ ِل َهَ َ ن ب َعْ ِ م ْ ن ِ دو َ ما ت َعْب ُ ُ ل ل ِب َِنيهِ َ ت إ ِذ ْ َقا َ موْ ُ ب ال ْ َ قو َ ضَر ي َعْ ُ ح َ َ
ةم ٌ ُ َ ْ َ َ عي َ َ
ن * ت ِلك أ ّ مو َ سل ِ ُ م ْ ه ُ نل ُ ح ُ دا وَن َ ْ ح ً حاقَ إ ِلًها َوا ِ س َ ل وَإ ِ ْ ما ِ س َم وَإ ِ ْ هي َ آَبائ ِك إ ِب َْرا ِ
ُ ُ َ َ
ن{. ملو َ ما كاُنوا ي َعْ َ َ ن عَ ّ سألو َ م َول ت ُ ْ سب ْت ُ ْ َ
ما ك َ م َ ُ
ت وَلك ْ سب َ ْ ما ك ََ ت ل ََها َ خل َ ْ قَد ْ َ
ه
ف َ س ِ ن َ م ْ م { بعد ما عرف من فضله } ِإل َ هي َ ملةِ إ ِب َْرا ِ ّ ن ِ أي :ما يرغب } عَ ْ
ه { أي :جهلها وامتهنها ،ورضي لها بالدون ،وباعها بصفقة المغبون، س ُ ف َ نَ ْ
كما أنه ل أرشد وأكمل ،ممن رغب في ملة إبراهيم ،ثم أخبر عن حالته
في َْناهُ ِفي الد ّن َْيا { أي :اخترناه صط َ َ قدِ ا ْ في الدنيا والخرة فقال } :وَل َ َ
ووفقناه للعمال ،التي صار بها من ] ص [ 67المصطفين الخيار.
ن { الذين لهم أعلى الدرجات. حي َ صال ِ ِ ن ال ّ م َ خَرةِ ل َ ِ ه ِفي ال ِ } وَإ ِن ّ ُ
َ ْ َ َ َ َ َ
ن{ مي َ ب الَعال ِ ت ل َِر ّ م ُ سل ْ م قال { امتثال لربه } أ ْ َ سل ِ ْ هأ ْ ه َرب ّ ُ} إ ِذ ْ َقال ل ُ
َ
إخلصا وتوحيدا ،ومحبة ،وإنابة فكان التوحيد لله نعته.
ثم ورثه في ذريته ،ووصاهم به ،وجعلها كلمة باقية في عقبه ،وتوارثت
فيهم ،حتى وصلت ليعقوب فوصى بها بنيه.
فأنتم -يا بني يعقوب -قد وصاكم أبوكم بالخصوص ،فيجب عليكم كمال
ن{ دي َ م ال ّ فى ل َك ُ ُ صط َ َ ها ْ ن الل ّ َ ي إِ ّ النقياد ،واتباع خاتم النبياء قالَ } :يا ب َن ِ ّ
أي :اختاره وتخيره لكم ،رحمة بكم ،وإحسانا إليكم ،فقوموا به ،واتصفوا
بشرائعه ،وانصبغوا بأخلقه ،حتى تستمروا على ذلك فل يأتيكم الموت إل
وأنتم عليه ،لن من عاش على شيء ،مات عليه ،ومن مات على شيء،
بعث عليه.
ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم ،ومن بعده يعقوب ،قال
َ
بقو َ ضَر ي َعْ ُ ح َ داَء { أي :حضورا } إ ِذ ْ َ شه َ َ م ُ م ك ُن ْت ُ ْ تعالى منكرا عليهم } :أ ْ
ت { أي :مقدماته وأسبابه ،فقال لبنيه على وجه الختبار ،ولتقر عينه موْ ُ ال ْ َ
دي { ؟ فأجابوه بما ن ب َعْ ِ م ْ ن ِ دو َ ما ت َعْب ُ ُ في حياته بامتثالهم ما وصاهم بهَ } :
ق
حا َ س َ عيل وَإ ِ ْ َ ما ِ س َ م وَإ ِ ْ هي َ ه آَبائ ِك إ ِب َْرا ِ َ ك وَإ ِل َ َ قرت به عينه فقالوا } :ن َعْب ُد ُ إ ِل َهَ َ
ن{ مو َ سل ِ ُ م ْ ه ُ ن لَ ُ ح ُ دا { فل نشرك به شيئا ،ول نعدل به أحدا } ،وَن َ ْ ح ً إ ِل ًَها َوا ِ
فجمعوا بين التوحيد والعمل.
ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب ،لنهم لم يوجدوا بعد ،فإذا لم
يحضروا ،فقد أخبر الله عنه أنه وصى بنيه بالحنيفية ،ل باليهودية.
َ ثم قال تعالى } :ت ِل ْ َ ُ
مام َ ُ
ت وَلك ْ سب َ ْ ما ك َ َ ت { أي :مضت } ل ََها َ خل َ ْ ة قَد ْ َ م ٌ كأ ّ
م { أي :كل له عمله ،وكل سيجازى بما فعله ،ل يؤخذ ) (1أحد بذنب سب ْت ُ ْ كَ َ
أحد ول ينفع أحدا إل إيمانه وتقواه فاشتغالكم بهم وادعاؤكم ،أنكم على
ملتهم ،والرضا بمجرد القول ،أمر فارغ ل حقيقة له ،بل الواجب عليكم ،أن
تنظروا حالتكم التي أنتم عليها ،هل تصلح للنجاة أم ل؟
__________
) (1في ب :ل يؤاخذ.
) (1/66
) (1/67
ق
حا َ س َ ل وَإ ِ ْعي َ
ما ِ س َ م وَإ ِ ْ ل إ َِلى إ ِب َْرا ِ
هي َ ما أ ُن ْزِ َ ما أ ُن ْزِ َ
ل إ ِل َي َْنا وَ َ مّنا ِبالل ّهِ وَ َ
َ
ُقوُلوا آ َ
م َل ُ ُ َ
ن َرب ّهِ ْم ْ ن ِي الن ّب ِّيو َ ما أوت ِ َسى وَ َ عي َ سى وَ ِ مو َ ي ُ ما أوت ِ َ ط وَ َ سَبا ِب َواْل ْ قو َ وَي َعْ ُ
َ
ن )(136 مو َ سل ِ ُم ْ ه ُن لَ ُ ح ُ م وَن َ ْ من ْهُ ْ
حدٍ ِ نأ َفّرقُ ب َي ْ َ نُ َ
م
هي َل إ َِلى إ ِب َْرا ِما أ ُن ْزِ َ ما أ ُن ْزِ َ
ل إ ِل َي َْنا وَ َ مّنا ِبالل ّهِ وَ َ } ُ } { 136قوُلوا آ َ
ي ُ ُ عي َ
ما أوت ِ َ
سى وَ َعي َ سى وَ ِ مو َ ي ُ ما أوت ِ َ ط وَ َ سَبا ِ ب َوال ْ قو َ حاقَ وَي َعْ ُ س َ ل وَإ ِ ْ ما ِس َ
وَإ ِ ْ
َ
ن{. مو َ سل ِ ُم ْه ُ ن لَ ُ ح ُ م وَن َ ْ من ْهُ ْ
حدٍ ِ نأ َ فّرقُ ب َي ْ َ م ل نُ َن َرب ّهِ ْم ْن ِ الن ّب ِّيو َ
هذه الية الكريمة ،قد اشتملت على جميع ما يجب اليمان به.
واعلم أن اليمان الذي هو تصديق القلب التام ،بهذه الصول ،وإقراره
المتضمن لعمال القلوب والجوارح ،وهو بهذا العتبار يدخل فيه السلم،
وتدخل فيه العمال الصالحة كلها ،فهي من اليمان ،وأثر من آثاره ،فحيث
أطلق اليمان ،دخل فيه ما ذكر ،وكذلك السلم ،إذا أطلق دخل فيه
اليمان ،فإذا قرن بينهما ،كان اليمان اسما لما في القلب من القرار
والتصديق ،والسلم ،اسما للعمال الظاهرة وكذلك إذا جمع بين اليمان
والعمال الصالحة ،فقوله تعالىُ } :قوُلوا { أي :بألسنتكم ،متواطئة عليها
قلوبكم ،وهذا هو القول التام ،المترتب عليه الثواب والجزاء ،فكما أن
النطق باللسان ،بدون اعتقاد القلب ،نفاق وكفر ،فالقول الخالي من
العمل عمل القلب ،عديم التأثير ،قليل الفائدة ،وإن كان العبد يؤجر عليه،
إذا كان خيرا ومعه أصل اليمان ،لكن فرق بين القول المجرد ،والمقترن
به عمل القلب.
وفي قولهُ } :قوُلوا { إشارة إلى العلن بالعقيدة ،والصدع بها ،والدعوة
لها ،إذ هي أصل الدين وأساسه.
مّنا { ونحوه مما فيه صدور الفعل ،منسوبا إلى جميع المة، وفي قوله } :آ َ
إشارة إلى أنه يجب على المة ،العتصام بحبل الله جميعا ،والحث على
الئتلف حتى يكون داعيهم واحدا ،وعملهم متحدا ،وفي ضمنه النهي عن
الفتراق ،وفيه :أن المؤمنين كالجسد الواحد.
مّنا ِبالل ّهِ { إلخ دللة على جواز إضافة النسان إلى وفي قولهُ } :قوُلوا آ َ
نفسه اليمان ،على وجه التقييد ،بل على وجوب ذلك ،بخلف قوله" :أنا
مؤمن"ونحوه ،فإنه ل يقال إل مقرونا بالستثناء بالمشيئة ،لما فيه من
تزكية النفس ،والشهادة على نفسه باليمان.
مّنا ِبالل ّهِ { أي :بأنه موجود ،واحد أحد ،متصف بكل صفة كمال، فقوله } :آ َ
منزه عن كل نقص وعيب ،مستحق لفراده بالعبادة كلها ،وعدم الشراك
به في شيء منها ،بوجه من الوجوه.
] ص [ 68
ك َ
ه عَلي ْ َ ّ َ
ل إ ِلي َْنا { يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى } :وَأنز َ َ ما ُأنز َ
ل الل ُ } وَ َ
ة { فيدخل فيه اليمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله، م َ حك ْ َ ْ
ب َوال ِ ال ْك َِتا َ
من صفات الباري ،وصفات رسله ،واليوم الخر ،والغيوب الماضية
والمستقبلة ،واليمان بما تضمنه ذلك من الحكام الشرعية المرية،
وأحكام الجزاء وغير ذلك.
م { إلى آخر الية ،فيه اليمان بجميع الكتب المنزلة هي َ ل إ َِلى إ ِب َْرا ِ ما ُأنز َ } وَ َ
على جميع النبياء ،واليمان بالنبياء عموما وخصوصا ،ما نص عليه في
الية ،لشرفهم ولتيانهم بالشرائع الكبار .فالواجب في اليمان بالنبياء
والكتب ،أن يؤمن بهم على وجه العموم والشمول ،ثم ما عرف منهم
بالتفصيل ،وجب اليمان به مفصل.
م { أي :بل نؤمن بهم كلهم ،هذه خاصية فرقُ بي َ
من ْهُ ْحدٍ ِ نأ َ َْ َ وقوله } :ل ن ُ َ ّ
المسلمين ،التي انفردوا بها عن كل من يدعي أنه على دين.
فاليهود والنصارى والصابئون وغيرهم -وإن زعموا أنهم يؤمنون بما
يؤمنون به من الرسل والكتب -فإنهم يكفرون بغيره ،فيفرقون بين
الرسل والكتب ،بعضها يؤمنون به وبعضها يكفرون به ،وينقض تكذيبهم
تصديقهم ،فإن الرسول الذي زعموا ،أنهم قد آمنوا به ،قد صدق سائر
الرسل وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم ،فإذا كذبوا محمدا ،فقد
كذبوا رسولهم فيما أخبرهم به ،فيكون كفرا برسولهم.
م { دللة على أن عطية الدين ،هي ُ
ن َرب ّهِ ْ م ْ ن ِ ي الن ّب ِّيو َ ما أوت ِ َ وفي قوله } :وَ َ
العطية الحقيقية المتصلة بالسعادة الدنيوية والخروية .لم يأمرنا أن نؤمن
بما أوتي النبياء من الملك والمال ونحو ذلك ،بل أمرنا أن نؤمن بما أعطوا
من الكتب والشرائع.
وفيه أن النبياء مبلغون عن الله ،ووسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ
دينه ،ليس لهم من المر شيء.
م { إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده ،أن ينزل ن َرب ّهِ ْ م ْ وفي قولهِ } :
عليهم الكتب ،ويرسل إليهم الرسل ،فل تقتضي ربوبيته ،تركهم سدى ول
همل.
وإذا كان ما أوتي النبيون ،إنما هو من ربهم ،ففيه الفرق بين النبياء وبين
من يدعي النبوة ،وأنه يحصل الفرق بينهم بمجرد معرفة ما يدعون إليه،
فالرسل ل يدعون إل إلى لخير ،ول ينهون إل عن كل شر ،وكل واحد
منهم ،يصدق الخر ،ويشهد له بالحق ،من غير تخالف ول تناقض لكونه من
خِتلًفا ك َِثيًرا { .
دوا ِفيهِ ا ْ عن ْدِ غَي ْرِ الل ّهِ ل َوَ َ
ج ُ ن ِ م ْ ن ِ كا َعند ربهم } وَل َوْ َ
وهذا بخلف من ادعى النبوة ،فل بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم
ونواهيهم ،كما يعلم ذلك من سبر أحوال الجميع ،وعرف ما يدعون إليه.
فلما بّين تعالى جميع ما يؤمن به ،عموما وخصوصا ،وكان القول ل يغني
ن { أي :خاضعون لعظمته ،منقادون مو َ سل ِ ُم ْ ه ُن لَ ُ ح ُ عن العمل قال } :وَن َ ْ
لعبادته ،بباطننا وظاهرنا ،مخلصون له العبادة بدليل تقديم المعمول ،وهو
ن{. مو َ سل ِ ُ م ْ ه { على العامل وهو } ُ } لَ ُ
فقد اشتملت هذه الية الكريمة -على إيجازها واختصارها -على أنواع
التوحيد الثلثة :توحيد الربوبية ،وتوحيد اللوهية ،وتوحيد السماء والصفات،
واشتملت على اليمان بجميع الرسل ،وجميع الكتب ،وعلى التخصيص
الدال على الفضل بعد التعميم ،وعلى التصديق بالقلب واللسان والجوارح
والخلص لله في ذلك ،وعلى الفرق بين الرسل الصادقين ،ومن ادعى
النبوة من الكاذبين ،وعلى تعليم الباري عباده ،كيف يقولون ،ورحمته
وإحسانه عليهم بالنعم الدينية المتصلة بسعادة الدنيا والخرة ،فسبحان من
جعل كتابه تبيانا لكل شيء ،وهدى ورحمة لقوم يؤمنون.
) (1/67
َ فَإ ْ َ
ق
قا ٍ
ش َ
م ِفي ِ
ما هُ ْ ن ت َوَل ّ ْ
وا فَإ ِن ّ َ قدِ اهْت َد َْوا وَإ ِ ْ م ب ِهِ فَ َ
من ْت ُ ْما آ َل َ مث ْ ِ
مُنوا ب ِ ِ
نآ َ ِ
م )(137 ليعْ لا
ّ ِ ُ َ ِ ُ ع مي س ال و هو
ُ َ ُ َ هّ لال م هَ كفي ْ
فَ َ َ ِ ُ ُ كيس
م
ما هُ ْ ن ت َوَل ّ ْ
وا فَإ ِن ّ َ قدِ اهْت َد َْوا وَإ ِ ْم ب ِهِ فَ َمن ْت ُ ْ
ما آ َ مث ْ ِ
ل َ مُنوا ب ِ ِنآ َ } } { 137فَإ ِ ْ
م{. ْ
ميعُ العَِلي ُ س ِه وَهُوَ ال ّ ّ
م الل ُ َ
فيكهُ ُ ْ
سي َك ِ ق فَ َ
قا ٍ
ش َ
ِفي ِ
أي :فإن آمن أهل الكتاب } بمثل ما آمنتم به { -يا معشر المؤمنين -من
جميع الرسل ،وجميع الكتب ،الذين أول من دخل فيهم ،وأولى خاتمهم
وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن ،وأسلموا لله وحده ،ولم
قدِ اهْت َد َْوا { للصراط المستقيم، يفرقوا بين أحد من رسل الله } فَ َ
الموصل لجنات النعيم ،أي :فل سبيل لهم إلى الهداية ،إل بهذا اليمان ،ل
كما زعموا بقولهم" :كونوا هودا أو نصارى تهتدوا "فزعموا أن الهداية
خاصة بما كانوا عليه ،و "الهدى "هو العلم بالحق ،والعمل به ،وضده
الضلل عن العلم والضلل عن العمل بعد العلم ،وهو الشقاق الذي كانوا
عليه ،لما تولوا وأعرضوا ،فالمشاق :هو الذي يكون في شق والله ورسوله
في شق ،ويلزم من المشاقة المحادة ،والعداوة البليغة ،التي من لوازمها،
بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول ،فلهذا وعد الله رسوله ،أن يكفيه
إياهم ،لنه السميع لجميع الصوات ،باختلف اللغات ،على تفنن الحاجات،
العليم بما بين أيديهم وما خلفهم ،بالغيب والشهادة ،بالظواهر والبواطن،
فإذا كان كذلك ،كفاك الله شرهم.
وقد أنجز الله لرسوله وعده ،وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم ،وسبى
بعضهم ،وأجلى بعضهم ،وشردهم كل مشرد.
ففيه معجزة من معجزات القرآن ،وهو الخبار بالشيء قبل وقوعه ،فوقع
طبق ما أخبر.
) (1/68
ة الل ّه وم َ
ن )(138
دو َ
عاب ِ ُ ن لَ ُ
ه َ ح ُ
ة وَن َ ْ ن الل ّهِ ِ
صب ْغَ ً م َ
ن ِ
س ُ
ح َ
نأ ِْ َ َ ْ صب ْغَ َ
ِ
ة الل ّه وم َ
ن{.
دو َ
عاب ِ ُ ن لَ ُ
ه َ ح ُ
ة وَن َ ْ ن الل ّهِ ِ
صب ْغَ ً م َ
ن ِ
س ُ
ح َ
نأ ِْ َ َ ْ صب ْغَ َ
} ِ } { 138
أي :الزموا صبغة الله ،وهو دينه ،وقوموا به قياما تاما ،بجميع أعماله
الظاهرة والباطنة ،وجميع عقائده في جميع الوقات ،حتى يكون لكم
صبغة ،وصفة من صفاتكم ،فإذا كان صفة من صفاتكم ،أوجب ذلك لكم
النقياد لوامره ،طوعا واختيارا ومحبة ،وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة
الصبغ التام ] ص [ 69للثوب الذي صار له صفة ،فحصلت لكم السعادة
الدنيوية والخروية ،لحث الدين على مكارم الخلق ،ومحاسن العمال،
ومعالي المور ،فلهذا قال -على سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية:-
} وم َ
ة { أي :ل أحسن صبغة من صبغته ). (1 ن الل ّهِ ِ
صب ْغَ ً م َ ن ِ س ُح َ نأ َْ َ ْ
وإذا أردت أن تعرف نموذجا يبين لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من
الصبغ ،فقس الشيء بضده ،فكيف ترى في عبد آمن بربه إيمانا صحيحا،
أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح ،فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن،
وفعل جميل ،وخلق كامل ،ونعت جليل ،ويتخلى من كل وصف قبيح،
ورذيلة وعيب ،فوصفه :الصدق في قوله وفعله ،والصبر والحلم ،والعفة،
والشجاعة ،والحسان القولي والفعلي ،ومحبة الله وخشيته ،وخوفه،
ورجاؤه ،فحاله الخلص للمعبود ،والحسان لعبيده ،فقسه بعبد كفر بربه،
وشرد عنه ،وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة،
من الكفر ،والشرك والكذب ،والخيانة ،والمكر ،والخداع ،وعدم العفة،
والساءة إلى الخلق ،في أقواله ،وأفعاله ،فل إخلص للمعبود ،ول إحسان
إلى عبيده.
فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما ،ويتبين لك أنه ل أحسن صبغة من
صبغة الله ،وفي ضمنه أنه ل أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه.
ن { بيان لهذه الصبغة ،وهي القيام بهذين دو َعاب ِ ُه َن لَ ُح ُوفي قوله } :وَن َ ْ
الصلين :الخلص والمتابعة ،لن "العبادة "اسم جامع لكل ما يحبه الله
ويرضاه من العمال ،والقوال الظاهرة والباطنة ،ول تكون كذلك ،حتى
يشرعها الله على لسان رسوله ،والخلص :أن يقصد العبد وجه الله
وحده ،في تلك العمال ،فتقديم المعمول ،يؤذن بالحصر.
ن { فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت دو َ
عاب ِ ُ
ه َ ن لَ ُح ُوقال } :وَن َ ْ
والستقرار ،ليدل على اتصافهم بذلك وكونه صار صبغة لهم ملزما.
__________
) (1كذا في ب ،وفي أ :صبغه.
) (1/68
) (1/69
) (1/69
) (1/70
ل ل ِل ّهِ كاُنوا عَل َي َْها قُ ْ م ال ِّتي َ ن قِب ْل َت ِهِ ُ م عَ ْ ما وَّلهُ ْ س َن الّنا ِ م َ فَهاُء ِ س َ ل ال ّ قو ُ سي َ ُ َ
قيم ٍ ) (142وَك َذ َل ِ َ
ك ست َ ِ
ُ ْ م ط
ٍ راَ ص
ِ لى َ ِ إ ُ ء شا َ ي
َ ْ َن م دي ِ ه ي ب
َ َ ِ ُ َْ ر ْ غ م ْ لوا ُ ق ِ ر ْ
ش ال ْ َ
م
جعل ْناك ُ ُ
ل عَل َي ْك ُ ْ
م سو ُ ن الّر ُ كو َ س وَي َ ُ داَء عَلى الّنا ِ
َ شه َ َ كوُنوا ُ طا ل ِت َ ُ س ً ة وَ َ م ًمأ ّ َ َ َ ْ
ن
م ْ م ّ ل ِ سو َ ن ي َت ّب ِعُ الّر ُ م ْ م َ ت عَل َي َْها إ ِّل ل ِن َعْل َ َ ة ال ِّتي ك ُن ْ َ قب ْل َ َجعَل َْنا ال ْ ِ ما َ دا وَ َ شِهي ً َ
ن الل ّ ُ
ه كا َ ما َ ه وَ َدى الل ّ ُ ن هَ َ ذي َ ت ل َك َِبيَرةً إ ِّل عََلى ال ّ ِ ن َ
كان َ ْ ب عََلى عَ ِ
قب َي ْهِ وَإ ِ ْ قل ِ ُ ي َن ْ َ
م )(143 حي ٌ ف َر ِ س ل ََرُءو ٌ ه ِبالّنا ِ ن الل ّ َ م إِ ّ مان َك ُ ْ ضيعَ ِإي َ ل ِي ُ ِ
) (1/70
ها فَوَ ّ
ل ضا َ ة ت َْر َ ك قِب ْل َ ً ماءِ فَل َن ُوَل ّي َن ّ َ س َ
ك ِفي ال ّ جهِ َ ب وَ ْ قل ّ َ} } { 144قَد ْ ن ََرى ت َ َ
ن
شطَرهُ وَإ ِ ّ ْ م َ ُ
جوهَك ْ ّ
م فَوَلوا وُ ُ ُ
ما كن ْت ُ ْ حي ْث ُ َحَرام ِ وَ َ ْ
جدِ ال َ س ِ
م ْشط َْر ال ْ َ ك َ جه َ َ وَ ْ
ُ ّ ْ َ َ َ ْ ُ
ن
ملو َ ما ي َعْ َ ل عَ ّ ه ب َِغافِ ٍ ما الل ُ م وَ َ ن َرب ّهِ ْ م ْ حق ّ ِ ه ال َ ن أن ّ ُ مو َ ب لي َعْل ُ ن أوُتوا الك َِتا َ ذي َ ال ّ ِ
{.
ماِء { أي :كثرة تردده في س َ ك ِفي ال ّ جهِ َ
ب وَ ْ قل َّ يقول الله لنبيه } :قَد ْ ن ََرى ت َ َ
جميع جهاته ،شوقا وانتظارا لنزول الوحي باستقبال الكعبة ،وقال:
ك { ولم يقل" :بصرك "لزيادة اهتمامه ،ولن تقليب الوجه مستلزم جه َ } وَ ْ
لتقليب البصر.
ها { أي :تحبها ،وهي ضا َ ة ت َْر َ ك { أي :نوجهك لوليتنا إياك } ،قِب ْل َ ً } فَل َن ُوَل ّي َن ّ َ
الكعبة ،وفي هذا بيان لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم ،حيث إن الله
شط َْر ك َ جه َ َ ل وَ ْ تعالى يسارع في رضاه ،ثم صرح له باستقبالها فقال } :فَوَ ّ
م { أي: ما ك ُن ْت ُ ْ حي ْث ُ َحَرام ِ { والوجه :ما أقبل من بدن النسان } ،وَ َ جدِ ال ْ َ س ِ م ْ ال ْ َ
شط َْرهُ { م َ جوهَك ُ ْ من بر وبحر ،وشرق وغرب ،جنوب وشمال } .فَوَّلوا وُ ُ
أي :جهته.
ففيها اشتراط استقبال الكعبة ،للصلوات كلها ،فرضها ،ونفلها ،وأنه إن
أمكن استقبال عينها ،وإل فيكفي شطرها وجهتها ،وأن اللتفات بالبدن،
مبطل للصلة ،لن المر بالشيء نهي عن ضده ،ولما ذكر تعالى فيما
تقدم ،المعترضين على ذلك من أهل الكتاب وغيرهم ،وذكر جوابهم ،ذكر
هنا ،أن أهل الكتاب والعلم منهم ،يعلمون أنك في ذلك على حق وأمر ،لما
يجدونه في كتبهم ،فيعترضون عنادا وبغيا ،فإذا كانوا يعلمون بخطئهم فل
تبالوا بذلك ،فإن النسان إنما يغمه اعتراض من اعترض عليه ،إذا كان
المر مشتبها ،وكان ممكنا أن يكون معه صواب.
] ص [ 72
فأما إذا تيقن أن الصواب والحق مع المعترض عليه ،وأن المعترض معاند،
عارف ببطلن قوله ،فإنه ل محل للمبالة ،بل ينتظر بالمعترض العقوبة
ن { بلمُلو َ
ما ي َعْ َ
ل عَ ّ ما الل ّ ُ
ه ب َِغافِ ٍ الدنيوية والخروية ،فلهذا قال تعالى } :وَ َ
يحفظ عليهم أعمالهم ،ويجازيهم عليها ،وفيها وعيد للمعترضين ،وتسلية
للمؤمنين.
) (1/71
) (1/72
ه كَ َ
ما ب ي َعْرُِفون َ ُ م ال ْك َِتا َ
ن آت َي َْناهُ ُ } .{ 147 - 146ثم قال تعالى } :ال ّ ِ
ذي َ
يعرُفو َ
ن
م ْ حق ّ ِ ن * ال ْ َ مو َ م ي َعْل َ ُ
حقّ وَهُ ْ ن ال ْ َ مو َ م ل َي َك ْت ُ ُ
من ْهُ ْ
قا ِ ري ًن فَ ِ م وَإ ِ ّ ن أب َْناَءهُ ْ َ َْ ِ
ن{. ري َمت َ ِم ْ ْ
ن ال ُ م َن ِ ُ َ
َرب ّك فل ت َكون َ ّ َ
يخبر تعالى :أن أهل الكتاب قد تقرر عندهم ،وعرفوا أن محمدا رسول
الله ،وأن ما جاء به ،حق وصدق ،وتيقنوا ذلك ،كما تيقنوا أبناءهم بحيث ل
يشتبهون عليهم بغيرهم ،فمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم ،وصلت
إلى حد ل يشكون فيه ول يمترون ،ولكن فريقا منهم -وهم أكثرهم -
م َ ْ َ
ن أظل ُ م ْالذين كفروا به ،كتموا هذه الشهادة مع تيقنها ،وهم يعلمون } وَ َ
ن الل ّهِ { وفي ضمن ذلك ،تسلية للرسول م َ عن ْد َهُ ِ
شَهاد َةً ِ م َ ن ك َت َ َ م ْ م ّ
ِ
والمؤمنين ،وتحذير له من شرهم وشبههم ،وفريق منهم لم يكتموا الحق
وهم يعلمون ،فمنهم من آمن ]به[ ومنهم من كفر ]به[ جهل فالعالم عليه
إظهار الحق ،وتبيينه وتزيينه ،بكل ما يقدر عليه من عبارة وبرهان ومثال،
وغير ذلك ،وإبطال الباطل وتمييزه عن الحق ،وتشيينه ،وتقبيحه للنفوس،
بكل طريق مؤد لذلك ،فهولء الكاتمون ،عكسوا المر ،فانعكست أحوالهم.
ك { أي :هذا الحق الذي هو أحق أن يسمى حقا من كل ن َرب ّ َ م ْحق ّ ِ } ال ْ َ
شيء ،لما اشتمل عليه من المطالب العالية ،والوامر الحسنة ،وتزكية
النفوس وحثها على تحصيل مصالحها ،ودفع مفاسدها ،لصدوره من ربك،
الذي من جملة تربيته لك أن أنزل عليك هذا القرآن الذي فيه تربية العقول
والنفوس ،وجميع المصالح.
) (1/72
ْ َ
ميًعا
ج ِ م الل ّ ُ
ه َ ت ب ِك ُ ُ ما ت َ ُ
كوُنوا ي َأ ِ ن َ
ت أي ْ َ قوا ال ْ َ
خي َْرا ِ موَّليَها َفا ْ
ست َب ِ ُ ة هُوَ ُ
جهَ ٌ
ل وِ ْ وَل ِك ُ ّ
ديٌر )(148 يٍء قَ ِ
ش ْ ل َه عََلى ك ُ ّن الل ّ َ إِ ّ
) (1/72
ن َرب ّ َ
ك م ْ حق ّ ِ ه ل َل ْ َحَرام ِ وَإ ِن ّ ُ جدِ ال ْ َ س ِم ْ شط َْر ال ْ َ ك َ جهَ َ ل وَ ْ ت فَوَ ّ ج َ خَر ْ ث َ حي ْ ُن َ م ْ وَ ِ
شطَرْ جهَك ََ ّ
ت فوَل وَ ْ َ ج َ خَر ْث َ حي ْ ُ
ن َ م ْ ن ) (149وَ ِ ملو َ ُ ما ت َعْ َ ل عَ ّ ه ب َِغافِ ٍ ّ
ما الل ُ وَ َ
س ُ ّ َ ْ م َ ُ ّ َ ُ ْ ال ْ َ
ن ِللّنا ِ شطَرهُ ل ِئل ي َكو َ
ُ
جوهَك ْ م فوَلوا وُ ُ ما كن ْت ُ ْ ث َ حي ْ ُ
حَرام ِ وَ َ جدِ ال َ س ِ م ْ
مِتي م ن ِعْ َشوِْني وَِلت ِ ّ خ َ م َوا ْ شوْهُ ْ خ َم فََل ت َ ْ من ْهُ ْ
موا ِ ن ظ َل َ ُ ذي َ ة إ ِّل ال ّ ِ ج ٌ ح ّم ُ عَل َي ْك ُ ْ
ن )(150 دو َ م ت َهْت َ ُم وَل َعَل ّك ُ ْ عَل َي ْك ُ ْ
حَرام ِ جدِ ال ْ َ س ِ م ْ شط َْر ال ْ َ ك َ جهَ َ ل وَ ْ ت فَوَ ّ ج َ خَر ْ ث َ حي ْ ُ ن َ م ْ } } { 150 - 149وَ ِ
ت فَوَ ّ
ل ج َخَر ْ ث َ حي ْ ُ ن َم ْ ن * وَ ِ ملو َ ُ ما ت َعْ َ ل عَ ّ ه ب َِغافِ ٍ ّ
ما الل ُ ك وَ َ ن َرب ّ َ م ْ حق ّ ِ ه ل َل ْ َ وَإ ِن ّ ُ
ن ُ
شطَرهُ ل َِئل ي َكو َ ْ م َ ُ
جوهَك ْ ّ
م فَوَلوا وُ ُ ُ
ما كن ْت ُ ْ حي ْث ُ َ حَرام ِ وَ َ ْ
جدِ ال َ س ِ م ْ ْ
شطَر ال َ ْ جهَك َ َ وَ ْ
م
شوِْني َولت ِ ّ خ َ م َوا ْ شوْهُ ْ خ َم َفل ت َ ْ من ْهُ ْ موا ِ َ
ن ظل َُ ذي َ ّ
ة ِإل ال ِ ج ٌ ح ّ م ُ ُ
س عَلي ْك ْ َ
ِللّنا ِ
ن{. دو َ م ت َهْت َ ُ ُ
م وَلعَلك ْ ّ َ ُ
مِتي عَلي ْك ْ َ ن ِعْ َ
لت { في أسفارك وغيرها ،وهذا للعموم } ،فَوَ ّ ج َ خَر ْ ث َ حي ْ ُ ن َ م ْ أي } :وَ ِ
حَرام ِ { أي :جهته. جدِ ال َْ س ِ م ْ ْ
شطَر ال َ ْ ك َ جه َ َ وَ ْ
شط َْرهُ { م َ جوهَك ُ ْ م فَوَّلوا وُ ُ ما ك ُن ْت ُ ْ حي ْث ُ َ ثم خاطب المة عموما فقال } :وَ َ
ك { أكده بـ "إن "واللم ،لئل يقع لحد فيه أدنى ن َرب ّ َ م ْ حق ّ ِ ه ل َل ْ َ وقال } :وَإ ِن ّ ُ
شبهة ،ولئل يظن أنه على سبيل التشهي ل المتثال.
ن { بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم، مُلو َ ما ت َعْ َ ل عَ ّ ه ب َِغافِ ٍ ما الل ّ ُ } وَ َ
فتأدبوا معه ،وراقبوه بامتثال أوامره ،واجتناب نواهيه ،فإن أعمالكم غير
مغفول عنها ،بل مجازون عليها أتم الجزاء ،إن خيرا فخير ،وإن شرا فشر.
ة { أي :شرعنا لكم استقبال ج ٌح ّ م ُ س عَل َي ْك ُ ْ ن ِللّنا ِ كو َ وقال هنا } :ل َِئل ي َ ُ
الكعبة المشرفة ،لينقطع عنكم احتجاج الناس من أهل الكتاب
والمشركين ،فإنه لو بقي مستقبل بيت المقدس ،لتوجهت عليه الحجة،
فإن أهل الكتاب ،يجدون في كتابهم أن قبلته المستقرة ،هي الكعبة البيت
الحرام ،والمشركون يرون أن من مفاخرهم ،هذا البيت العظيم ،وأنه من
ملة إبراهيم ،وأنه إذا لم يستقبله محمد صلى الله عليه وسلم ،توجهت
نحوه حججهم ،وقالوا :كيف يدعي أنه على ملة إبراهيم ،وهو من ذريته،
وقد ترك استقبال قبلته؟
فباستقبال الكعبة ) (1قامت الحجة على أهل الكتاب والمشركين،
وانقطعت حججهم عليه.
م { أي :من احتج منهم بحجة ،هو ظالم فيها ،وليس من ْهُ ْ موا ِ ن ظ َل َ ُ ذي َ } ِإل ال ّ ِ
لها مستند إل اتباع الهوى والظلم ،فهذا ل سبيل إلى إقناعه والحتجاج
عليه ،وكذلك ل معنى لجعل الشبهة التي يوردونها على سبيل الحتجاج
م { لن شوْهُ ْ خ َ محل يؤبه لها ،ول يلقى لها بال ،فلهذا قال تعالىَ } :فل ت َ ْ
حجتهم باطلة ،والباطل كاسمه مخذول ،مخذول صاحبه ،وهذا بخلف
صاحب الحق ،فإن للحق صولة وعزا ،يوجب خشية من هو معه ،وأمر
تعالى بخشيته ،التي هي أصل ) (2كل خير ،فمن لم يخش الله ،لم ينكف
عن معصيته ،ولم يمتثل أمره.
وكان صرف المسلمين إلى الكعبة ،مما حصلت فيه فتنة كبيرة ،أشاعها
أهل الكتاب ،والمنافقون ،والمشركون ،وأكثروا فيها من الكلم والشبه،
فلهذا بسطها الله تعالى ،وبينها أكمل بيان ،وأكدها بأنواع من التأكيدات،
التي تضمنتها هذه اليات.
منها :المر بها ،ثلث مرات ،مع كفاية المرة الواحدة ،ومنها :أن المعهود،
أن المر ،إما أن يكون للرسول ،فتدخل فيه المة تبعا ،أو للمة عموما،
ك{ جهَ َ ل وَ ْ وفي هذه الية أمر فيها الرسول بالخصوص في قوله } :فَوَ ّ
م{. جوهَك ُ ْ والمة عموما في قوله } :فَوَّلوا وُ ُ
] ص [ 74
ومنها :أنه رد فيه جميع الحتجاجات الباطلة ،التي أوردها أهل العناد
وأبطلها شبهة شبهة ،كما تقدم توضيحها ،ومنها :أنه قطع الطماع من اتباع
ك { فمجرد ن َرب ّ َ م ْ
حق ّ ِ ه ل َل ْ َالرسول قبلة أهل الكتاب ،ومنها قوله } :وَإ ِن ّ ُ
ن
م ْ حق ّ ِ ْ َ
ه لل َ إخبار الصادق العظيم كاف شاف ،ولكن مع هذا قال } :وَإ ِن ّ ُ
ك{. َرب ّ َ
ومنها :أنه أخبر -وهو العالم بالخفيات -أن أهل الكتاب متقرر عندهم،
صحة هذا المر ،ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم.
ولما كان توليته لنا إلى استقبال القبلة ،نعمة عظيمة ،وكان لطفه بهذه
المة ورحمته ،لم يزل يتزايد ،وكلما شرع لهم شريعة ،فهي نعمة عظيمة
م{. مِتي عَل َي ْك ُ ْ م ن ِعْ َ قالَ } :ولت ِ ّ
فأصل النعمة ،الهداية لدينه ،بإرسال رسوله ،وإنزال كتابه ،ثم بعد ذلك،
النعم المتممات لهذا الصل ،ل تعد كثرة ،ول تحصر ،منذ بعث الله رسوله
إلى أن قرب رحيله من الدنيا ،وقد أعطاه الله من الحوال والنعم،
وأعطى أمته ،ما أتم به نعمته عليه وعليهم ،وأنزل الله عليه } :ال ْي َوْ َ
م
َ َ
م ِديًنا { . سل َ م ال ْ ت ل َك ُ ُضي ُ مِتي وََر ِ ت عَل َي ْك ُ ْ
م ن ِعْ َ م ُ م ْ م وَأت ْ َم ِدين َك ُ ْ ت ل َك ُ ْ مل ْ ُ أك ْ َ
فلله الحمد على فضله ،الذي ل نبلغ له عدا ،فضل عن القيام بشكره،
ن { أي :تعلمون الحق ،وتعملون به ،فالله تبارك وتعالى - دو َ م ت َهْت َ ُ } وَل َعَل ّك ُ ْ
من رحمته -بالعباد ،قد يسر لهم أسباب الهداية غاية التيسير ،ونبههم على
سلوك طرقها ،وبينها لهم أتم تبيين ،حتى إن من جملة ذلك أنه يقيض
للحق ،المعاندين له فيجادلون فيه ،فيتضح بذلك الحق ،وتظهر آياته
وأعلمه ،ويتضح بطلن الباطل ،وأنه ل حقيقة له ،ولول قيامه في مقابلة
الحق ،لربما لم يتبين حاله لكثر الخلق ،وبضدها تتبين الشياء ،فلول الليل،
ما عرف فضل النهار ،ولول القبيح ،ما عرف فضل الحسن ،ولول الظلمة
ما عرف منفعة النور ،ولول الباطل ما اتضح الحق اتضاحا ظاهرا ،فلله
الحمد على ذلك.
__________
) (1في ب :القبلة.
) (2في ب :رأس.
) (1/73
) (1/74
ذي َ َ
ن )(153
ري َ
صاب ِ ِ
معَ ال ّ ن الل ّ َ
ه َ صَلةِ إ ِ ّ
صب ْرِ َوال ّ
ست َِعيُنوا ِبال ّ
مُنوا ا ْ
نآ ََيا أي َّها ال ّ ِ َ
ن { المراد ولما كان الشكر ضده الكفر ،نهى عن ضده فقالَ } :ول ت َك ْ ُ
فُرو ِ
بالكفر هاهنا ما يقابل الشكر ،فهو كفر النعم وجحدها ،وعدم القيام بها،
ويحتمل أن يكون المعنى عاما ،فيكون الكفر أنواعا كثيرة ،أعظمه الكفر
بالله ،ثم أنواع المعاصي ،على اختلف أنواعها وأجناسها ،من الشرك ،فما
دونه.
] ص [ 75
ّ ّ َ
معَه َ ن الل َصلةِ إ ِ ّ صب ْرِ َوال ّ
ست َِعيُنوا ِبال ّ
مُنوا ا ْ
نآ َ
ذي َ
} َ } { 153يا أي َّها ال ِ
ن{. ري َ صاب ِ ِ
ال ّ
أمر الله تعالى المؤمنين ،بالستعانة على أمورهم الدينية والدنيوية
صلةِ { فالصبر هو :حبس النفس وكفها عما تكره ،فهو ثلثة صب ْرِ َوال ّ
} ِبال ّ
أقسام :صبرها على طاعة الله حتى تؤديها ،وعن معصية الله حتى تتركها،
وعلى أقدار الله المؤلمة فل تتسخطها ،فالصبر هو المعونة العظيمة على
كل أمر ،فل سبيل لغير الصابر ،أن يدرك مطلوبه ،خصوصا الطاعات
الشاقة المستمرة ،فإنها مفتقرة أشد الفتقار ،إلى تحمل الصبر ،وتجرع
المرارة الشاقة ،فإذا لزم صاحبها الصبر ،فاز بالنجاح ،وإن رده المكروه
والمشقة عن الصبر والملزمة عليها ،لم يدرك شيئا ،وحصل على
الحرمان ،وكذلك المعصية التي تشتد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي
في محل قدرة العبد ،فهذه ل يمكن تركها إل بصبر عظيم ،وكف لدواعي
قلبه ونوازعها لله تعالى ،واستعانة بالله على العصمة منها ،فإنها من الفتن
الكبار .وكذلك البلء الشاق ،خصوصا إن استمر ،فهذا تضعف معه القوى
النفسانية والجسدية ،ويوجد مقتضاها ،وهو التسخط ،إن لم يقاومها
صاحبها بالصبر لله ،والتوكل عليه ،واللجأ إليه ،والفتقار على الدوام.
فعلمت أن الصبر محتاج إليه العبد ،بل مضطر إليه في كل حالة من
ن { أي :مع من ري َ صاب ِ ِمعَ ال ّ
أحواله ،فلهذا أمر الله تعالى به ،وأخبر أنه } َ
كان الصبر لهم خلقا ،وصفة ،وملكة بمعونته وتوفيقه ،وتسديده ،فهانت
عليهم بذلك ،المشاق والمكاره ،وسهل عليهم كل عظيم ،وزالت عنهم كل
صعوبة ،وهذه معية خاصة ،تقتضي محبته ومعونته ،ونصره وقربه ،وهذه
]منقبة عظيمة[ ) (1للصابرين ،فلو لم يكن للصابرين فضيلة إل أنهم فازوا
بهذه المعية من الله ،لكفى بها فضل وشرفا ،وأما المعية العامة ،فهي
معية العلم والقدرة ،كما في قوله تعالى } :وهُو معك ُ َ
م{ ما ك ُن ْت ُ ْ ن َ
م أي ْ َ َ َ َ َ ْ
وهذه عامة للخلق.
وأمر تعالى بالستعانة بالصلة لن الصلة هي عماد الدين ،ونور المؤمنين،
وهي الصلة بين العبد وبين ربه ،فإذا كانت صلة العبد صلة كاملة ،مجتمعا
فيها ما يلزم فيها ،وما يسن ،وحصل فيها حضور القلب ،الذي هو لبها
فصار العبد إذا دخل فيها ،استشعر دخوله على ربه ،ووقوفه بين يديه،
موقف العبد الخادم المتأدب ،مستحضرا لكل ما يقوله وما يفعله،
مستغرقا بمناجاة ربه ودعائه ل جرم أن هذه الصلة ،من أكبر المعونة
على جميع المور فإن الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر ،ولن هذا
الحضور الذي يكون في الصلة ،يوجب للعبد في قلبه ،وصفا ،وداعيا
يدعوه إلى امتثال أوامر ربه ،واجتناب نواهيه ،هذه هي الصلة التي أمر
الله أن نستعين بها على كل شيء.
__________
) (1زيادة من هامش :ب.
) (1/74
ن َل ت َ ْ ل في سبيل الل ّه أ َموات ب ْ َ
ن)
شعُُرو َ حَياٌء وَل َك ِ ْ
لأ ْ ِ ْ َ ٌ َ َ ِ ِ قت َ ُ ِ
ن يُ ْ قوُلوا ل ِ َ
م ْ وََل ت َ ُ
(154
ل في سبيل الل ّه أ َموات ب ْ َ
نل حَياءٌ وَل َك ِ ْ لأ ْ ِ ْ َ ٌ َ َ ِ ِ قت َ ُ ِ ن يُ ْ م ْقوُلوا ل ِ َ } َ } { 154ول ت َ ُ
ن{. شعُُرو َ تَ ْ
لما ذكر تبارك وتعالى ،المر بالستعانة بالصبر على جميع المور ) (1ذكر
نموذجا مما يستعان بالصبر عليه ،وهو الجهاد في سبيله ،وهو أفضل
الطاعات البدنية ،وأشقها على النفوس ،لمشقته في نفسه ،ولكونه مؤديا
للقتل ،وعدم الحياة ،التي إنما يرغب الراغبون في هذه الدنيا لحصول
الحياة ولوازمها ،فكل ما يتصرفون به ،فإنه سعى لها ،ودفع لما يضادها.
ومن المعلوم أن المحبوب ل يتركه العاقل إل لمحبوب أعلى منه وأعظم،
فأخبر تعالى :أن من قتل في سبيله ،بأن قاتل في سبيل الله ،لتكون كلمة
الله هي العليا ،ودينه الظاهر ،ل لغير ذلك من الغراض ،فإنه لم تفته
الحياة المحبوبة ،بل حصل له حياة أعظم وأكمل ،مما تظنون وتحسبون.
َ
ه ن فَ ْ
ضل ِ ِ م ْ ه ِ م الل ّ ُ ما آَتاهُ ُ ن بِ َ حي َ ن فَرِ ِ م ي ُْرَزُقو َ عن ْد َ َرب ّهِ ْ حَياٌء ِ فالشهداء } أ ْ
م
م َول هُ ْ ف عَل َي ْهِ ْ خوْ ٌ م َأل َ فهِ ْ خل ْ ِ ن َ م ْ
م ِ قوا ب ِهِ ْ ح ُم ي َل ْ َ
ن لَ ْ ذي َ ن ِبال ّ ِ شُرو َ ست َب ْ ِ
وَي َ ْ
َ َ
جَرضيعُ أ ْ ه ل يُ ِ ن الل ّ َ ل وَأ ّ ض ٍ ن الل ّهِ وَفَ ْ م َمة ٍ ِ ن ب ِن ِعْ َشُرو َ ست َب ْ ِن يَ ْ حَزُنو َ يَ ْ
ن{. مِني َ مؤْ ِال ْ ُ
فهل أعظم من هذه الحياة المتضمنة للقرب من الله تعالى ،وتمتعهم
برزقه البدني في المأكولت والمشروبات اللذيذة ،والرزق الروحي ،وهو
الفرح ،والستبشار ) (2وزوال كل خوف وحزن ،وهذه حياة برزخية أكمل
من الحياة الدنيا ،بل قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أرواح
الشهداء في أجواف طيور ) (3خضر ترد أنهار الجنة ،وتأكل من ثمارها،
وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش .وفي هذه الية ،أعظم حث على الجهاد
في سبيل الله ،وملزمة الصبر عليه ،فلو شعر العباد بما للمقتولين في
سبيل الله من الثواب لم يتخلف عنه أحد ،ولكن عدم العلم اليقيني التام،
هو الذي فتر العزائم ،وزاد نوم النائم ،وأفات الجور العظيمة والغنائم ،لم
َ ن أ َن ْ ُ
موال َهُ ْم َم وَأ ْسهُ ْ ف َ مِني َ مؤْ ِ ن ال ْ ُ م َ شت ََرى ِ ل يكون كذلك والله تعالى قد } :ا ْ
َ
ن{. قت َُلو َ ن وَي ُ ْ قت ُُلو َ ل الل ّهِ فَي َ ْسِبي ِ ن ِفي َ قات ُِلو َ ة يُ َ م ال ْ َ
جن ّ َ ن ل َهُ ُ
ب ِأ ّ
فوالله لو كان للنسان ألف نفس ،تذهب نفسا فنفسا في سبيل الله ،لم
يكن عظيما في جانب هذا الجر العظيم ،ولهذا ل يتمنى الشهداء بعدما
عاينوا من ثواب الله وحسن جزائه إل أن يردوا إلى الدنيا ،حتى يقتلوا في
سبيله مرة بعد مرة.
__________
) (1في ب :الحوال.
) (2في ب :وهو الستبشار.
) (3في ب :طير.
) (1/75
س
ف ِ ل َواْل َن ْ ُ وا ِ
م َ
َ
ن اْل ْ م َ
ص ِق ٍ جوِع وَن َ ْف َوال ْ ُ
خوْ ِن ال ْ َم َيٍء ِ
ش ْ بِ َ وَل َن َب ْل ُوَن ّك ُ ْ
م
ة َقاُلوا إ ِّنا ل ِلهِّ َ ّ
صيب َ ٌ
م ِم ُ صاب َت ْهُ ْ ن إِ َ
ذا أ َ ذي َ ن ) (155ال ِ ري َصاب ِ ِشرِ ال ّوَب َ ّ تمَرا ِ َوالث ّ َ
م ة وَُأول َئ ِ َ
ك هُ ُ م ٌ
ح َ
م وََر ْ
ن َرب ّهِ ْ
م ْ
ت ِ صل َ َ
وا ٌ م َ ن )ُ (156أول َئ ِ َ
ك عَل َي ْهِ ْ وَإ ِّنا إ ِل َي ْهِ َرا ِ
جُعو َ
ن )(157 دو َ مهْت َ ُ ال ْ ُ
وفي الية ،دليل على نعيم البرزخ وعذابه ،كما تكاثرت بذلك النصوص.
] ص [ 76
ن
م َ ص ِق ٍ جوِع وَن َ ْ ف َوال ْ ُ خوْ ِ ن ال ْ َ م َ يٍء ِ ش ْ م بِ َ } } { 157 - 155وَل َن َب ْل ُوَن ّك ُ ْ
َ
ة
صيب َ ٌ م ِ م ُصاب َت ْهُ ْذا أ َ ن إِ َ ذي َن * ال ّ ِ ري َ صاب ِ ِشرِ ال ّ ت وَب َ ّ مَرا ِ س َوالث ّ َ ف ِ ل َوالن ْ ُ وا ِ م َ ال ْ
َ َ َ ُ
ة
م ٌ
ح َ م وََر ْ ن َرب ّهِ ْ م ْ ت ِ وا ٌصل َ م َ َ
ن * أولئ ِك عَلي ْهِ ْ جُعو َ َقاُلوا إ ِّنا ل ِلهِ وَإ ِّنا إ ِلي ْهِ َرا ِ
َ ّ
ن{. دو َ م ال ْ ُ
مهْت َ ُ ك هُ ُ وَُأول َئ ِ َ
أخبر تعالى أنه ل بد أن يبتلي عباده بالمحن ،ليتبين الصادق من الكاذب،
والجازع من الصابر ،وهذه سنته تعالى في عباده؛ لن السراء لو استمرت
لهل اليمان ،ولم يحصل معها محنة ،لحصل الختلط الذي هو فساد،
وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر .هذه فائدة المحن ،ل
إزالة ما مع المؤمنين من اليمان ،ول ردهم عن دينهم ،فما كان الله ليضيع
نم َ يٍء ِ ش ْ إيمان المؤمنين ،فأخبر في هذه الية أنه سيبتلي عباده } ب ِ َ
جوِع { أي :بشيء يسير منهما؛ لنه لو ابتلهم ف { من العداء } َوال ْ ُ خوْ ِ ال ْ َ
بالخوف كله ،أو الجوع ،لهلكوا ،والمحن تمحص ل تهلك.
ل { وهذا يشمل جميع النقص المعتري للموال من وا ِ م َ ن ال ْ م َ ص ِ ق ٍ } وَن َ ْ
جوائح سماوية ،وغرق ،وضياع ،وأخذ الظلمة للموال من الملوك الظلمة،
وقطاع الطريق وغير ذلك.
س { أي :ذهاب الحباب من الولد ،والقارب ،والصحاب ،ومن ف ِ } َوالن ْ ُ
ت { أي: مَرا ِ أنواع المراض في بدن العبد ،أو بدن من يحبهَ } ،والث ّ َ
الحبوب ،وثمار النخيل ،والشجار كلها ،والخضر ببرد ،أو برد ،أو حرق ،أو
آفة سماوية ،من جراد ) (1ونحوه.
فهذه المور ،ل بد أن تقع ،لن العليم الخبير ،أخبر بها ،فوقعت كما أخبر،
فإذا وقعت انقسم الناس قسمين :جازعين وصابرين ،فالجازع ،حصلت له
المصيبتان ،فوات المحبوب ،وهو وجود هذه المصيبة ،وفوات ما هو أعظم
منها ،وهو الجر بامتثال أمر الله بالصبر ،ففاز بالخسارة والحرمان ،ونقص
ما معه من اليمان ،وفاته الصبر والرضا والشكران ،وحصل ]له[ السخط
الدال على شدة النقصان.
وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب ،فحبس نفسه عن
التسخط ،قول وفعل واحتسب أجرها عند الله ،وعلم أن ما يدركه من
الجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له ،بل المصيبة تكون نعمة
في حقه ،لنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له وأنفع منها ،فقد امتثل
ن { أي :بشرهم ري َصاب ِ ِ شرِ ال ّ أمر الله ،وفاز بالثواب ،فلهذا قال تعالى } :وَب َ ّ
بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب.
فالصابرين ،هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة ،والمنحة الجسيمة ،ثم
ة { وهي كل ما يؤلم القلب أو صيب َ ٌ وصفهم بقوله } :ال ّذين إ َ َ
م ِ م ُ صاب َت ْهُ ْ
ذا أ َ ِ َ ِ
البدن أو كليهما مما تقدم ذكره.
} َقاُلوا إ ِّنا ل ِل ّهِ { أي :مملوكون لله ،مدبرون تحت أمره وتصريفه ،فليس
لنا من أنفسنا وأموالنا شيء ،فإذا ابتلنا بشيء منها ،فقد تصرف أرحم
الراحمين ،بمماليكه وأموالهم ،فل اعتراض عليه ،بل من كمال عبودية
العبد ،علمه ،بأن وقوع البلية من المالك الحكيم ،الذي أرحم بعبده من
نفسه ،فيوجب له ذلك ،الرضا عن الله ،والشكر له على تدبيره ،لما هو
خير لعبده ،وإن لم يشعر بذلك ،ومع أننا مملوكون لله ،فإنا إليه راجعون
يوم المعاد ،فمجاز كل عامل بعمله ،فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا
موفورا عنده ،وإن جزعنا وسخطنا ،لم يكن حظنا إل السخط وفوات
الجر ،فكون العبد لله ،وراجع إليه ،من أقوى أسباب الصبر.
م { أي: ن َرب ّهِ ْ
م ْت ِوا ٌ صل َ َم َ ك { الموصوفون بالصبر المذكور } عَل َي ْهِ ْ } ُأول َئ ِ َ
ة { عظيمة ،ومن رحمته إياهم ،أن وفقهم م ٌ
ح َ
ثناء وتنويه بحالهم } وََر ْ
ُ
ن { الذين عرفوا دو َمهْت َ ُ م ال ْ ُك هُ ُ للصبر الذي ينالون به كمال الجر } ،وَأول َئ ِ َ
الحق ،وهو في هذا الموضع ،علمهم بأنهم لله ،وأنهم إليه راجعون ،وعملوا
به وهو هنا صبرهم لله.
ودلت هذه الية ،على أن من لم يصبر ،فله ضد ما لهم ،فحصل له الذم
من الله ،والعقوبة ،والضلل والخسار ،فما أعظم الفرق بين الفريقين وما
أقل تعب الصابرين ،وأعظم عناء الجازعين ،فقد اشتملت هاتان اليتان
على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها ،لتخف وتسهل ،إذا
وقعت ،وبيان ما تقابل به ،إذا وقعت ،وهو الصبر ،وبيان ما يعين على
الصبر ،وما للصابر من الجر ،ويعلم حال غير الصابر ،بضد حال الصابر.
وأن هذا البتلء والمتحان ،سنة الله التي قد خلت ،ولن تجد لسنة الله
تبديل وبيان أنواع المصائب.
__________
) (1كذا في ب ،معدلة في الهامش وفي أ :جند.
) (1/75
َ
ح عَل َي ْ ِ
ه مَر فََل ُ
جَنا َ ت أوِ اعْت َ َ ج ال ْب َي ْ َ
ح ّ
ن َ شَعائ ِرِ الل ّهِ فَ َ
م ْ ن َ م ْمْروَةَ ِفا َوال ْ َص َ
ال ّ ن
إِ ّ
َ
م )(158 شاك ٌِر عَِلي ٌ ه َ ن الل ّ َ ن ت َط َوّعَ َ
خي ًْرا فَإ ِ ّ م ْما وَ َ
ف ب ِهِ َ ي َط ّوّ َ نأ ْ
َ
مَر َفلت أوِ اعْت َ َ ج ال ْب َي ْ َح ّن َ م ْ شَعائ ِرِ الل ّهِ فَ َ ن َ م ْ
مْروَةَ ِفا َوال ْ َ ص َ
ن ال ّ } } { 158إ ِ ّ
ّ َ ّ َ
م{. شاك ٌِر عَِلي ٌ ه َ ن الل َ خي ًْرا فَإ ِ ّن ت َطوّعَ َ م ْ
ما وَ َ ف ب ِهِ َن ي َطوّ َ ح عَل َي ْهِ أ ْ جَنا َ ُ
ّ
شَعائ ِرِ اللهِ { أي ن َ م ْ يخبر تعالى أن الصفا والمروة وهما معروفان } ِ
أعلم دينه الظاهرة ،التي تعبد الله بها عباده ،وإذا كانا من شعائر الله ،فقد
وىق َن تَ ْ
م ْشَعائ َِر الل ّهِ فَإ ِن َّها ِ م َ ن ي ُعَظ ّ ْ م ْأمر الله بتعظيم شعائره فقال } :وَ َ
ب { فدل مجموع النصين أنهما من شعائر الله ،وأن تعظيم شعائره، قُلو ِال ْ ُ
من تقوى القلوب.
والتقوى واجبة على كل مكلف ،وذلك يدل على أن السعي بهما فرض
لزم للحج والعمرة ،كما عليه الجمهور ،ودلت عليه الحاديث النبوية وفعله
النبي صلى الله عليه وسلم وقال" :خذوا عني مناسككم "
ن ي َط ّوّ َ َ َ
ما { هذا دفع لوهم ف ب ِهِ َ ح عَل َي ْهِ أ ْجَنا َمَر َفل ُ ت أوِ اعْت َ َ ج ال ْب َي ْ َح ّ
ن َ م ْ} فَ َ
من توهم وتحرج من المسلمين عن الطواف بينهما ،لكونهما في الجاهلية
تعبد عندهما الصنام ،فنفى تعالى الجناح لدفع هذا الوهم ،ل لنه غير لزم.
ودل تقييد نفي الجناح فيمن تطوف بهما في الحج والعمرة ،أنه ل يتطوع
بالسعي مفردا إل مع انضمامه لحج أو ] ص [ 77عمرة ،بخلف الطواف
بالبيت ،فإنه يشرع مع العمرة والحج ،وهو عبادة مفردة.
فأما السعي والوقوف بعرفة ومزدلفة ،ورمي الجمار فإنها تتبع النسك ،فلو
فعلت غير تابعة للنسك ،كانت بدعة ،لن البدعة نوعان :نوع يتعبد لله
بعبادة ،لم يشرعها أصل ونوع يتعبد له بعبادة قد شرعها على صفة
مخصوصة ،فتفعل على غير تلك الصفة ،وهذا منه.
ن ت َط َوّعَ { أي :فعل طاعة مخلصا بها لله تعالى } َ
خي ًْرا { من م ْوقوله } :وَ َ
ه { فدل هذا، َ حج وعمرة ،وطواف ،وصلة ،وصوم وغير ذلك } فَهُوَ َ
خي ٌْر ل ُ
على أنه كلما ازداد العبد من طاعة الله ،ازداد خيره وكماله ،ودرجته عند
الله ،لزيادة إيمانه.
ودل تقييد التطوع بالخير ،أن من تطوع بالبدع ،التي لم يشرعها الله ول
رسوله ،أنه ل يحصل له إل العناء ،وليس بخير له ،بل قد يكون شرا له إن
كان متعمدا عالما بعدم مشروعية العمل.
م { الشاكر والشكور ،من أسماء الله تعالى ،الذي شاك ٌِر عَِلي ٌه َ ن الل ّ َ
} فَإ ِ ّ
يقبل من عباده اليسير من العمل ،ويجازيهم عليه ،العظيم من الجر ،الذي
إذا قام عبده بأوامره ،وامتثل طاعته ،أعانه على ذلك ،وأثنى عليه ومدحه،
وجازاه في قلبه نورا وإيمانا وسعة ،وفي بدنه قوة ونشاطا ،وفي جميع
أحواله زيادة بركة ونماء ،وفي أعماله زيادة توفيق.
ثم بعد ذلك ،يقدم على الثواب الجل عند ربه كامل موفرا ،لم تنقصه هذه
المور.
ومن شكره لعبده ،أن من ترك شيئا لله أعاضه الله خيرا منه ،ومن تقرب
منه شبرا ،تقرب منه ذراعا ،ومن تقرب منه ذراعا ،تقرب منه باعا ،ومن
أتاه يمشي ،أتاه هرولة ،ومن عامله ،ربح عليه أضعافا مضاعفة.
ومع أنه شاكر ،فهو عليم بمن يستحق الثواب الكامل ،بحسب نيته وإيمانه
وتقواه ،ممن ليس كذلك ،عليم بأعمال العباد ،فل يضيعها ،بل يجدونها أوفر
ما كانت ،على حسب نياتهم التي اطلع عليها العليم الحكيم.
) (1/76
َ
س ِفي ما ب َي ّّناهُ ِللّنا َ ِ ن ب َعْدِ َم ْ
دى ِ ت َوال ْهُ َ ن ال ْب َي َّنا ِ م َ ما أن َْزل َْنا ِ ن َ مو َ ن ي َك ْت ُ ُ ذي َ ن ال ّ ِ إِ ّ
َ ّ ّ ّ ْ ّ ْ َ ُ
حوا
صل ُن َتاُبوا وَأ ْ ذي َ ن ) (159إ ِل ال ِ عُنو َ م الل ِ ه وَي َلعَن ُهُ ُ م الل ُ َ
ب أولئ ِك ي َلعَن ُهُ ُ
ُ ال ْك َِتا ِ
َ َ
ن كَ َ
فُروا ذي َ ن ال ّ ِ م ) (160إ ِ ّ حي ُب الّر ِ وا ُ م وَأَنا الت ّ ّ ب عَل َي ْهِ ْ ك أُتو ُ وَب َي ُّنوا فَأول َئ ِ َ
َ ة الل ّهِ َوال ْ َ َ م ل َعْن َ ُ ُ
ن )(161 مِعي َ ج َسأ ْ ملئ ِك َةِ َوالّنا ِ ك عَل َي ْهِ ْ فاٌر أول َئ ِ َ م كُ ّ ماُتوا وَهُ ْ وَ َ
ن )(162 َ
م ي ُن ْظُرو َ َ
ب وَل هُ ْ ذا ُ ْ
م الع َ َ ف عَن ْهُ ُ ف ُ خ ّ َ
ن ِفيَها ل ي ُ َ دي َ خال ِ ِ َ
َ
ن ب َعْدِم ْ دى ِ ت َوال ْهُ َ ن ال ْب َي َّنا ِ م َ ما أن َْزل َْنا ِ ن َ مو َ ن ي َك ْت ُ ُ ذي َ ن ال ّ ِ } } { 162 - 159إ ِ ّ
ُ
نذي َ ن * ِإل ال ّ ِ عُنو َم الل ِ ه وَي َل ْعَن ُهُ ُ م الل ّ ُ ك ي َل ْعَن ُهُ ُ ب أول َئ ِ َ س ِفي ال ْك ِ َُتا ِ هُ ِللّنا ِ ما ب َي ّّنا َ
ن ّ َ َ َ َ َ َ َ َ
ذي َ ن ال ِ م * إِ ّ حي ُب الّر ِ وا ُ م وَأَنا الت ّ ّ ب عَلي ْهِ ْ حوا وَب َي ُّنوا فأولئ ِك أُتو ُ صل ُ َتاُبوا وَأ ْ
ن* َ َ ْ ّ َ َ َ َ ُ ُ كَ َ
مِعي َ ج َسأ ْ ملئ ِكةِ َوالّنا ِ ة اللهِ َوال َ م لعْن َ ُ فاٌر أولئ ِك عَلي ْهِ ْ مك ّ ماُتوا وَهُ ْ فُروا وَ َ
ن{. م ي ُن ْظ َُرو َ ب َول هُ ْ ذا ُ م ال ْعَ َ ف عَن ْهُ ُ ف ُ خ ّ ن ِفيَها ل ي ُ َ دي َ خال ِ َِ
هذه الية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب ،وما كتموا من شأن الرسول
صلى الله عليه وسلم وصفاته ،فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما
دى { ت { الدالت على الحق المظهرات لهَ } ،وال ْهُ َ ن ال ْب َي َّنا ِ م َأنزل الله } ِ
وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم ،ويتبين به طريق
أهل النعيم ،من طريق أهل الجحيم ،فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم،
ن الله به عليهم من علم الكتاب ول يكتموه ،فمن نبذ بأن يبينوا الناس ما م ّ
ذلك وجمع بين المفسدتين ،كتم ما أنزل الله ،والغش لعباد الله ،فأولئك }
ه { أي :يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته. م الل ّ ُ ي َل ْعَن ُهُ ُ
ن { وهم جميع الخليقة ،فتقع عليهم اللعنة من جميع عُنو َ
م الل ِ } وَي َل ْعَن ُهُ ُ
الخليقة ،لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم ،وإبعادهم من رحمة الله،
فجوزوا من جنس عملهم ،كما أن معلم الناس الخير ،يصلي الله عليه
وملئكته ،حتى الحوت في جوف الماء ،لسعيه في مصلحة الخلق ،وإصلح
أديانهم ،وقربهم من رحمة الله ،فجوزي من جنس عمله ،فالكاتم لما أنزل
الله ،مضاد لمر الله ،مشاق لله ،يبين الله اليات للناس ويوضحها ،وهذا
يطمسها ) (1فهذا عليه هذا الوعيد الشديد.
ن َتاُبوا { أي رجعوا عما هم عليه من الذنوب ،ندما وإقلعا، ذي َ } ِإل ال ّ ِ
َ
حوا { ما فسد من أعمالهم ،فل يكفي صل َ ُ
وعزما على عدم المعاودة } وَأ ْ
ترك القبيح حتى يحصل فعل الحسن.
ول يكفي ذلك في الكاتم أيضا ،حتى يبين ما كتمه ،ويبدي ضد ما أخفى،
فهذا يتوب الله عليه ،لن توبة الله غير محجوب عنها ،فمن أتى بسبب
ب { أي :الرجاع على عباده بالعفو وا ُ التوبة ،تاب الله عليه ،لنه } الت ّ ّ
والصفح ،بعد الذنب إذا تابوا ،وبالحسان والنعم بعد المنع ،إذا رجعوا،
م { الذي اتصف بالرحمة العظيمة ،التي وسعت كل شيء ومن حي ُ } الّر ِ
رحمته أن وفقهم للتوبة والنابة فتابوا وأنابوا ،ثم رحمهم بأن قبل ذلك
منهم ،لطفا وكرما ،هذا حكم التائب من الذنب.
وأما من كفر واستمر على كفره حتى مات ولم يرجع إلى ربه ،ولم ينب
س ة الل ّهِ َوال ْ َ
ملئ ِك َةِ َوالّنا ِ م ل َعْن َ ُ
إليه ،ولم يتب عن قريب فأولئك } عَل َي ْهِ ْ
ن { لنه لما صار كفرهم وصفا ثابتا ،صارت اللعنة عليهم وصفا ثابتا َ
مِعي َ ج َ أ ْ
ل تزول ،لن الحكم يدور مع علته ،وجودا وعدما.
ن ِفيَها { أي :في اللعنة ،أو في العذاب والمعنيان ). (2 دي َ خال ِ ِ و} َ
مب { بل عذابهم دائم شديد مستمر } َول هُ ْ ذا ُ ْ
م العَ َ ف عَن ْهُ ُف ُ خ ّ } ل يُ َ
ن { أي :يمهلون ،لن وقت المهال وهو الدنيا قد مضى ،ولم يبق ي ُن ْظ َُرو َ
لهم عذر فيعتذرون.
__________
) (1في ب :وهذا يسعى في طمسها وإخفائها.
) (2في ب :وهما متلزمان.
) (1/77
م )(163
حي ُ
ن الّر ِ
م ُ ه إ ِّل هُوَ الّر ْ
ح َ حد ٌ َل إ ِل َ َ م إ ِل َ ٌ
ه َوا ِ وَإ ِل َهُك ُ ْ
م{. حي ُ
ن الّر ِ
م ُح َ
ه ِإل هُوَ الّر ْ حد ٌ ل إ ِل َ َ م إ ِل َ ٌ
ه َوا ِ } } { 163وَإ ِل َهُك ُ ْ
حد ٌ { أي :متوحد منفرد في ه َوا ِيخبر تعالى -وهو أصدق القائلين -أنه } إ ِل َ ٌ
ذاته ،وأسمائه ،وصفاته ،وأفعاله ،فليس له ] ص [ 78شريك في ذاته ،ول
سمي له ول كفو له ،ول مثل ،ول نظير ،ول خالق ،ول مدبر غيره ،فإذا كان
كذلك ،فهو المستحق لن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة ،ول يشرك به
م { المتصف بالرحمة العظيمة ،التي حي ُ
ن الّر ِ
م ُ
ح َ
أحد من خلقه ،لنه } الّر ْ
ل يماثلها رحمة أحد ،فقد وسعت كل شيء وعمت كل حي ،فبرحمته
وجدت المخلوقات ،وبرحمته حصلت لها أنواع الكمالت ،وبرحمته اندفع
عنها كل نقمة ،وبرحمته عّرف عباده نفسه بصفاته وآلئه ،وبّين لهم كل ما
يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم ،بإرسال الرسل ،وإنزال الكتب.
فإذا علم أن ما بالعباد من نعمة ،فمن الله ،وأن أحدا من المخلوقين ،ل
ينفع أحدا ،علم أن الله هو المستحق لجميع أنواع العبادة ،وأن يفرد
بالمحبة والخوف ،والرجاء ،والتعظيم ،والتوكل ،وغير ذلك من أنواع
الطاعات.
وأن من أظلم الظلم ،وأقبح القبيح ،أن يعدل عن عبادته إلى عبادة العبيد،
وأن يشرك المخلوق ) (1من تراب ،برب الرباب ،أو يعبد المخلوق المدبر
العاجز من جميع الوجوه ،مع الخالق المدبر القادر القوي ،الذي قد قهر
كل شيء ودان له كل شيء.
ففي هذه الية ،إثبات وحدانية الباري وإلهيته ،وتقريرها بنفيها عن غيره من
المخلوقين وبيان أصل الدليل على ذلك وهو إثبات رحمته التي من آثارها
وجود جميع النعم ،واندفاع ]جميع[ النقم ،فهذا دليل إجمالي على وحدانيته
تعالى.
__________
) (1في ب :المخلوقين.
) (1/77
ري ك ال ِّتي ت َ ْ
ج ِ فل ْ ِ
ل َوالن َّهارِ َوال ْ ُ ِ ف الل ّي ْ خت َِل ِ ض َوا ْ ِ ت َواْل َْر ماَوا ِ س َ ق ال ّ ِ
خل ْ
ن ِفي َ إِ ّ
َ َ
ه ماٍء فَأ ْ
حَيا ب ِ ِ ن َ م ْ
ماِء ِ س َ ن ال ّ م َ ه ِ ل الل ّ ُ ما أن َْز َ س وَ َ فعُ الّنا َ ما ي َن ْ َحرِ ب ِ َ ِفي ال ْب َ ْ
َ
ب
حا ِ س َ ف الّرَياِح َوال ّ ري ِ ص ِ داب ّةٍ وَت َ ْ ل َ ن كُ ّ م ْث ِفيَها ِ موْت َِها وَب َ ّ ض ب َعْد َ َ اْلْر َ
قُلو َ ض َل ََيا ٍ َْ
ن )(164 قوْم ٍ ي َعْ ِ ت لِ َ ماِء َوالْر ِ س َن ال ّ خرِ ب َي ْ َس ّ ال ْ ُ
م َ
) (1/78
ذي َ َ
مُنوا نآ َ ب الل ّهِ َوال ّ ِ َ ح ّ م كَ ُ حّبون َهُ ْ دا ي ُ ِ دا ًن الل ّهِ أن ْ َ دو ِ
ن ُ م ْ خذ ُ ِن ي َت ّ ِ م ْ س َ ن الّنا ِ م َ وَ ِ
ّ ْ َ ْ
ن العَ َ َ َ ّ َ ّ أَ َ
ميًعا ج ِقوّةَ ل ِلهِ َ ن ال ُ بأ ّ ذا َ موا إ ِذ ْ ي ََروْ َ ن ظل ُ ذي َ حّبا ل ِلهِ وَلوْ ي ََرى ال ِ شد ّ ُ
ن ات ّب َُعوا وََرأ َُوا ن ال ّ ِ
ذي َ م َ ن ات ّب ُِعوا ِ ذي َ
َ
ب ) (165إ ِذ ْ ت َب َّرأ ال ّ ِ ذا ِديد ُ ال ْعَ َ ش ِ ه َ ن الل ّ َ
َ
وَأ ّ
ن ل ََنا ك َّرةً َ َ
ن ات ّب َُعوا ل َوْ أ ّ ذي َ ل ال ّ ِ ب ) (166وََقا َ سَبا ُم اْل ْ ت ب ِهِ ُ قط ّعَ ْ ب وَت َ َ ذا َ ال ْعَ َ
ك يريهم الل ّ َ َ
ما
م وَ َ ت عَل َي ْهِ ْ سَرا ٍ ح َ م َ مال َهُ ْه أعْ َ ُ مّنا ك َذ َل ِ َ ُ ِ ِ ُ ما ت َب َّرُءوا ِ م كَ َ من ْهُ ْ فَن َت َب َّرأ ِ
ن الّنارِ )(167 م َ ن ِ جي َ خارِ ِ م بِ َهُ ْ
) (1/79
ن شي ْ َ
طا ِ ت ال ّ وا ِ خط ُ َ
حَلًل ط َي ًّبا وََل ت َت ّب ُِعوا ُ ض َِ ما ِفي اْل َْر س ك ُُلوا ِ
م ّ ُ َيا أ َي َّها الّنا
قوُلوا عََلى َ سوِء َوال ْ َ ْ
ن تَ ُ
شاِء وَأ ْ ح َ
ف ْ م ِبال ّ مُرك ُ ْ
ما ي َأ ُ ن ) (168إ ِن ّ َ مِبي ٌم عَد ُوّ ُ ه ل َك ُ ْإ ِن ّ ُ
ن )(169 مو َ ما َل ت َعْل َ ُ الل ّهِ َ
حلل ط َي ًّبا َول ت َت ّب ُِعوا ض َ
ِ ما ِفي الْر م ّ س ك ُُلوا ِ
ُ } َ } { 170 - 168يا أ َي َّها الّنا
َ سوِء َوال ْ َ ْ
ن
شاِء وَأ ْ ح َف ْ مُرك ُ ْ
م ِبال ّ ما ي َأ ُ
ن * إ ِن ّ َ
مِبي ٌم عَد ُوّ ُ ه ل َك ُ ْن إ ِن ّ ُ شي ْ َ
طا ِ ت ال ّ خط ُ َ
وا ِ ُ
ن{. مو َ َ
ما ل ت َعْل ُ ّ َ
قولوا عَلى اللهِ َ ُ تَ ُ
هذا خطاب للناس كلهم ،مؤمنهم وكافرهم ،فامتن عليهم بأن أمرهم أن
يأكلوا من جميع ما في الرض ،من حبوب ،وثمار ،وفواكه ،وحيوانات ،حالة
حلل { أي :محلل لكم تناوله ،ليس بغصب ول سرقة ،ول محصل كونها } َ
بمعاملة محرمة أو على وجه محرم ،أو معينا على محرم.
} ط َي ًّبا { أي :ليس بخبيث ،كالميتة والدم ،ولحم الخنزير ،والخبائث كلها،
ففي هذه الية ،دليل على أن الصل في العيان الباحة ،أكل وانتفاعا ،وأن
المحرم نوعان :إما محرم لذاته ،وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب ،وإما
محرم لما عرض له ،وهو المحرم لتعلق حق الله ،أو حق عباده به ،وهو
ضد الحلل.
وفيه دليل على أن الكل بقدر ما يقيم البنية واجب ،يأثم تاركه لظاهر
المر ،ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به -إذ هو عين صلحهم -نهاهم عن
ن { أي :طرقه التي يأمر بها ،وهي جميع طا ِ شي ْ َ ت ال ّ وا ِخط ُ َ اتباع } ُ
المعاصي من كفر ،وفسوق ،وظلم ،ويدخل في ذلك تحريم السوائب،
م ُ َ
ه لك ْ والحام ،ونحو ذلك ،ويدخل فيه أيضا تناول المأكولت المحرمة } ،إ ِن ّ ُ
ن { أي :ظاهر العداوة ،فل يريد بأمركم إل غشكم ] ،ص [ 81 مِبي ٌ
عَد ُوّ ُ
وأن تكونوا من أصحاب السعير ،فلم يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته،
حتى أخبرنا -وهو أصدق القائلين -بعداوته الداعية للحذر منه ،ثم لم
يكتف بذلك ،حتى أخبرنا بتفصيل ما يأمر به ،وأنه أقبح الشياء ،وأعظمها
ْ
سوِء { . مُرك ُ ْ
م ِبال ّ ما ي َأ ُ
مفسدة فقال } :إ ِن ّ َ
أي :الشر الذي يسوء صاحبه ،فيدخل في ذلك ،جميع المعاصي ،فيكون
شاِء { من باب عطف الخاص على العام؛ لن الفحشاء من ح َ قولهَ } :وال ْ َ
ف ْ
المعاصي ،ما تناهى قبحه ،كالزنا ،وشرب الخمر ،والقتل ،والقذف ،والبخل
َ
ما ل قوُلوا عََلى الل ّهِ َ
ن تَ ُ
ونحو ذلك ،مما يستفحشه من له عقل } ،وَأ ْ
ن { فيدخل في ذلك ،القول على الله بل علم ،في شرعه ،وقدره، مو َت َعْل َ ُ
فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه ،أو وصفه به رسوله ،أو نفى عنه
ما أثبته لنفسه ،أو أثبت له ما نفاه عن نفسه ،فقد قال على الله بل علم،
ومن زعم أن لله ندا ،وأوثانا ،تقرب من عبدها من الله ،فقد قال على الله
بل علم ،ومن قال :إن الله أحل كذا ،أو حرم كذا ،أو أمر بكذا ،أو نهى عن
كذا ،بغير بصيرة ،فقد قال على الله بل علم ،ومن قال :الله خلق هذا
الصنف من المخلوقات ،للعلة الفلنية بل برهان له بذلك ،فقد قال على
الله بل علم ،ومن أعظم القول على الله بل علم ،أن يتأول المتأول كلمه،
أو كلم رسوله ،على معان اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلل ،ثم
يقول :إن الله أرادها ،فالقول على الله بل علم ،من أكبر المحرمات،
وأشملها ،وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها ،فهذه طرق الشيطان
التي يدعو إليها هو وجنوده ،ويبذلون مكرهم وخداعهم ،على إغواء الخلق
بما يقدرون عليه.
وأما الله تعالى ،فإنه يأمر بالعدل والحسان ،وإيتاء ذي القربى ،وينهى عن
الفحشاء والمنكر والبغي ،فلينظر العبد نفسه ،مع أي الداعيين هو ،ومن
أي الحزبين؟ أتتبع داعي الله الذي يريد لك الخير والسعادة الدنيوية
والخروية ،الذي كل الفلح بطاعته ،وكل الفوز في خدمته ،وجميع الرباح
في معاملة المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة ،الذي ل يأمر إل بالخير ،ول
ينهى إل عن الشر ،أم تتبع داعي الشيطان ،الذي هو عدو النسان ،الذي
يريد لك الشر ،ويسعى بجهده على إهلكك في الدنيا والخرة؟ الذي كل
الشر في طاعته ،وكل الخسران في وليته ،الذي ل يأمر إل بشر ،ول ينهى
إل عن خير.
) (1/80
) (1/81
ذي َ َ
م إ ِّياهُ شك ُُروا ل ِل ّهِ إ ِ ْ
ن ك ُن ْت ُ ْ م َوا ْ ما َرَزقَْناك ُ ْ ت َ ن ط َي َّبا ِ مُنوا ك ُُلوا ِ
م ْ نآ َ َيا أي َّها ال ّ ِ َ
ه
ل بِ ِ ما أ ُهِ ّ زيرِ وَ َ م ال ْ ِ
خن ْ ِ ح َم وَل َ ْ ة َوالد ّ َ م ال ْ َ
مي ْت َ َ م عَل َي ْك ُ ُحّر َ
ما َن ) (172إ ِن ّ َ دو َ
ت َعْب ُ ُ
م) حي ٌ فوٌر َر ِ َ
هغ ُ ّ
ن الل َ َ
م عَلي ْهِ إ ِ ّ َ َ
عادٍ فل إ ِث ْ َ َ
ضطّر غي َْر َباٍغ وَل َ َ ُ نا ْ َ ّ
م ِ
ل ِغَي ْرِ اللهِ ف َ
(173
َ
مما َرَزقَْناك ُ ْ ت َ ن ط َي َّبا ِ م ْمُنوا ك ُُلوا ِ نآ َ ذي َ } َ } { 173 - 172يا أي َّها ال ّ ِ
مح َم وَل َ ْ ة َوالد ّ َ مي ْت َ َم ال ْ َ
م عَل َي ْك ُ ُحّر َ
ما َ ن * إ ِن ّ َدو َ ن ك ُن ْت ُ ْ
م إ ِّياهُ ت َعْب ُ ُ شك ُُروا ل ِل ّهِ إ ِ ْ َوا ْ
ُ
م عَل َي ْهِ إ ِ ّ
ن عادٍ َفل إ ِث ْ َ ضط ُّر غَي َْر َباٍغ َول َ نا ْ م ِل ب ِهِ ل ِغَي ْرِ الل ّهِ فَ َ ما أهِ ّ زيرِ وَ َ خن ْ ِ ال ْ ِ
م{. حي ٌ فوٌر َر ِ ه غَ ُ الل ّ َ
هذا أمر للمؤمنين خاصة ،بعد المر العام ،وذلك أنهم هم المنتفعون على
الحقيقة بالوامر والنواهي ،بسبب إيمانهم ،فأمرهم بأكل الطيبات من
الرزق ،والشكر لله على إنعامه ،باستعمالها بطاعته ،والتقوي بها على ما
ل ك ُُلوا س ُ َ
يوصل إليه ،فأمرهم بما أمر به المرسلين في قوله } َيا أي َّها الّر ُ
حا { . مُلوا َ
صال ِ ً ت َواعْ َ ن الط ّي َّبا ِ م َ ِ
فالشكر في هذه الية ،هو العمل الصالح ،وهنا لم يقل "حلل "لن المؤمن
أباح الله له الطيبات من الرزق خالصة من التبعة ،ولن إيمانه يحجزه عن
تناول ما ليس له.
ن { أي :فاشكروه ،فدل على أن من لم يشكر دو َ ن ك ُن ْت ُ ْ
م إ ِّياهُ ت َعْب ُ ُ وقوله } إ ِ ْ
الله ،لم يعبده وحده ،كما أن من شكره ،فقد عبده ،وأتى بما أمر به ،ويدل
أيضا على أن أكل الطيب ،سبب للعمل الصالح وقبوله ،والمر بالشكر،
عقيب النعم؛ لن الشكر يحفظ النعم الموجودة ،ويجلب النعم المفقودة
كما أن الكفر ،ينفر النعم المفقودة ويزيل النعم الموجودة.
محّر َ
ما َ ولما ذكر تعالى إباحة الطيبات ذكر تحريم الخبائث فقال } إ ِن ّ َ
ة { ] ص [ 82وهي :ما مات بغير تذكية شرعية ،لن الميتة م ال ْ َ
مي ْت َ َ عَل َي ْك ُ ُ
خبيثة مضرة ،لرداءتها في نفسها ،ولن الغلب ،أن تكون عن مرض،
فيكون زيادة ضرر ) (1واستثنى الشارع من هذا العموم ،ميتة الجراد،
وسمك البحر ،فإنه حلل طيب.
م { أي :المسفوح كما قيد في الية الخرى. } َوالد ّ َ
ل ب ِهِ ل ِغَي ْرِ اللهِ { أي :ذبح لغير الله ،كالذي يذبح للصنام والوثان ّ ما أ ُهِ ّ } وَ َ
من الحجار ،والقبور ونحوها ،وهذا المذكور غير حاصر للمحرمات ،جيء به
ت { فعموم لبيان أجناس الخبائث المدلول عليها بمفهوم قوله } :ط َي َّبا ِ
حلل ط َي ًّبا { كما تقدم. المحرمات ،تستفاد من الية السابقة ،من قولهَ } :
وإنما حرم علينا هذه الخبائث ونحوها ،لطفا بنا ،وتنزيها عن المضر ،ومع
ضط ُّر { أي :ألجئ إلى المحرم ،بجوع وعدم ،أو إكراه } ،غَي َْر نا ْ م ِ هذا } فَ َ
َباٍغ { أي :غير طالب للمحرم ،مع قدرته على الحلل ،أو مع عدم جوعه} ،
عادٍ { أي :متجاوز الحد في تناول ما أبيح له ،اضطرارا ،فمن اضطر َول َ
م{ وهو غير قادر على الحلل ،وأكل بقدر الضرورة فل يزيد عليهاَ } ،فل إ ِث ْ َ
]أي :جناح[ عليه ،وإذا ارتفع الجناح الثم ) (2رجع المر إلى ما كان عليه،
والنسان بهذه الحالة ،مأمور بالكل ،بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة،
وأن يقتل نفسه.
فيجب ،إًذا عليه الكل ،ويأثم إن ترك الكل حتى مات ،فيكون قاتل لنفسه.
وهذه الباحة والتوسعة ،من رحمته تعالى بعباده ،فلهذا ختمها بهذين
ه غَ ُ
فوٌر ن الل ّ َ السمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال } :إ ِ ّ
م{. حي ٌ َر ِ
ولما كان الحل مشروطا بهذين الشرطين ،وكان النسان في هذه الحالة،
ربما ل يستقصي تمام الستقصاء في تحقيقها -أخبر تعالى أنه غفور،
فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال ،خصوصا وقد غلبته الضرورة ،وأذهبت
حواسه المشقة.
وفي هذه الية دليل على القاعدة المشهورة" :الضرورات تبيح
المحظورات "فكل محظور ،اضطر إليه النسان ،فقد أباحه له ،الملك
الرحمن] .فله الحمد والشكر ،أول وآخرا ،وظاهرا وباطنا[.
__________
) (1في ب :مرض.
) (2في أ) :وإذا ارتفع الجناح( وفوق كلمة الجناح كلمة )الثم( وفي ب،
وردت الجملة هكذا )وإذا ارتفع الثم(.
) (1/81
ماك َ مًنا قَِليًل ُأول َئ ِ َ ن ب ِهِ ث َ َ
شت َُرو َ ب وَي َ ْ ن ال ْك َِتا ِ م َ
ه ِ ل الل ّ ُ ما أ َن َْز َ ن َ مو َ ن ي َك ْت ُ ُ
ذي َ ن ال ّ ِ إِ ّ
م َ ّ َ ْ ّ ّ َ َ ّ ُ ُ ُ ْ
م وَلهُ ْ مةِ وَل ي َُزكيهِ ْ قَيا َ
م ال ِ ه ي َوْ َ م الل ُ مه ُ ُ م إ ِل الّناَر وَل ي ُكل ُ ن ِفي ب ُطون ِهِ ْ ي َأكلو َ
ة
فَر ِ مغ ْ ِب ِبال ْ َ ذا َدى َوال ْعَ َ ة ِبال ْهُ َ ضَلل َ َ شت ََرُوا ال ّ نا ْ َ ذيك ال ّ ِم )ُ (174أول َئ ِ َ َ
ب أِلي ٌ ذا ٌ عَ َ
ّ ْ ْ ّ َ َ َ َ
ن
ذي َ ن ال ِ حقّ وَإ ِ ّ ب ِبال َ ل الك َِتا َ ه ن َّز َ ن الل َ م عَلى الّنارِ ) (175ذ َل ِك ب ِأ ّ صب ََرهُ ْ ما أ ْ فَ َ
ق ب َِعيدٍ )(176 قا ٍ ش َفي ِ َ
بل ِ ْ
فوا ِفي الك َِتا ِ َ
خت َل ُ ا ْ
ن ب ِهِشت َُرو َ ب وَي َ ْ ن ال ْك َِتا ِ م َ ه ِل الل ّ ُ ما أ َن َْز َ ن َ مو َ ن ي َك ْت ُ ُ ذي َ ن ال ّ ِ } } { 176 - 174إ ِ ّ
ْ ّ ّ َ ُ ُ ْ مًنا قَِليل ُأول َئ ِ َ
ة
م ِقَيا َم ال ِ ه ي َوْ َ م الل ُ مه ُ ُ م ِإل الّناَر َول ي ُكل ُ ن ِفي ب ُطون ِهِ ْ ما ي َأك ُلو َ ك َ ثَ َ
ب ْ
دى َوالعَ َ ْ َ نا ْ ّ َ َ ُ َ م عَ َ َ ّ
ذا َ ة ِبالهُ َ ضلل َ شت ََرُوا ال ّ ذي َ َم * أولئ ِك ال ِ ب أِلي ٌ ذا ٌ م وَلهُ ْ َول ي َُزكيهِ ْ
ْ ْ ّ َ َ
ن
حقّ وَإ ِ ّ ب ِبال َ ل الك َِتا َ ه ن َّز َ ن الل َ َ
م عَلى الّنارِ * ذ َل ِك ب ِأ ّ صب ََرهُ ْ ما أ ْ فَرةِ فَ َ مغْ ِ ِبال ْ َ
ق ب َِعيدٍ { . قا ٍ ش َ في ِ ب لَ ِ فوا ِفي ال ْك َِتا ِ خت َل َ ُنا ْ ذي َ ال ّ ِ
هذا وعيد شديد لمن كتم ما أنزل الله على رسله ،من العلم الذي أخذ الله
الميثاق على أهله ،أن يبينوه للناس ول يكتموه ،فمن تعوض عنه بالحطام
ن ِفي ب ُ ُ ْ
م ِإل الّناَر { لن طون ِهِ ْ ما ي َأك ُُلو َ الدنيوي ،ونبذ أمر الله ،فأولئكَ } :
هذا الثمن الذي اكتسبوه ،إنما حصل لهم بأقبح المكاسب ،وأعظم
م
ه ي َوْ َ م الل ّ ُ مه ُ ُ المحرمات ،فكان جزاؤهم من جنس عملهمَ } ،ول ي ُك َل ّ ُ
مةِ { بل قد سخط عليهم وأعرض عنهم ،فهذا أعظم عليهم من عذاب قَيا َ ال ْ ِ
م { أي :ل يطهرهم من الخلق الرذيلة ،وليس لهم كيهِ ْ النارَ } ،ول ي َُز ّ
أعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها ،وإنما لم يزكهم لنهم فعلوا
أسباب عدم التزكية التي أعظم أسبابها العمل بكتاب الله ،والهتداء به،
والدعوة إليه ،فهؤلء نبذوا كتاب الله ،وأعرضوا عنه ،واختاروا الضللة على
الهدى ،والعذاب على المغفرة ،فهؤلء ل يصلح لهم إل النار ،فكيف
يصبرون عليها ،وأنى لهم الجلد عليها؟"
ك { المذكور ،وهو مجازاته بالعدل ،ومنعه أسباب الهداية ،ممن أباها } ذ َل ِ َ
واختار سواها.
ْ ْ َ
حقّ { ومن الحق ،مجازاة المحسن بإحسانه، ب ِبال َ ل الك َِتا َ ه نز َ ن الل ّ َ } ب ِأ ّ
والمسيء بإساءته.
حقّ { ما يدل على أن الله أنزله لهداية ْ
ب ِبال َ ْ
ل الك َِتا َ وأيضا ففي قوله } :نز َ
خلقه ،وتبيين الحق من الباطل ،والهدى من الضلل ،فمن صرفه عن
مقصوده ،فهو حقيق بأن يجازى بأعظم العقوبة.
ق ب َِعيدٍ { أي :وإن الذين اختلفوا قا ٍ ش َ
في ِ ب لَ ِ فوا ِفي ال ْك َِتا ِ خت َل َ ُنا ْ ذي َ ن ال ّ ِ } وَإ ِ ّ
في الكتاب ،فآمنوا ببعضه ،وكفروا ببعضه ،والذين حرفوه وصرفوه على
ق { أي :محادة } ،ب َِعيدٍ { عن الحق لنهم قا ٍ ش َفي ِ أهوائهم ومراداتهم } ل َ ِ
قد خالفوا الكتاب الذي جاء بالحق الموجب للتفاق وعدم التناقض ،فمرج
أمرهم ،وكثر شقاقهم ،وترتب على ذلك افتراقهم ،بخلف أهل الكتاب
الذين آمنوا به ،وحكموه في كل شيء ،فإنهم اتفقوا وارتفقوا بالمحبة
والجتماع عليه.
وقد تضمنت هذه اليات ،الوعيد للكاتمين لما أنزل الله ،المؤثرين عليه،
عرض الدنيا بالعذاب والسخط ،وأن الله ل يطهرهم بالتوفيق ،ول
بالمغفرة ،وذكر السبب في ذلك بإيثارهم الضللة على الهدى ،فترتب على
ذلك اختيار العذاب على المغفرة ،ثم توجع لهم بشدة صبرهم على النار،
لعملهم بالسباب التي يعلمون أنها موصلة إليها ،وأن الكتاب مشتمل على
الحق الموجب للتفاق عليه ،وعدم الفتراق ،وأن كل من خالفه ،فهو في
غاية البعد عن الحق ،والمنازعة والمخاصمة ،والله أعلم.
) (1/82
] ص [ 83
ْ
ن الب ِّر َ ْ م ْ ْ م قِب َ َ ُ ّ َ ْ َ
ب وَلك ِ ّ مغْرِ ِ ق َوال َ شرِ ِ ل ال َ جوهَك ْ ن ت ُوَلوا وُ ُ س الب ِّر أ ْ } } { 177لي ْ َ
َ
ل عَلى ما َ ْ
ن َوآَتى ال َ ب َوالن ّب ِّيي َ ْ
ملئ ِكةِ َوالك َِتا ِ َ ْ
خرِ َوال َ ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ م َ نآ َ م ْ َ
ن وَِفي َ لي
ِ ِ ئ سا وال
ّ ِ ِ َ ّ ل بي س ال ن
َ َ َ ْ ب وا ن كي
ِ سا َ َ َ م ْ ل وا مى َ تا
َ َ يْ ل وا
َ بى َ ر
ْ ُ ق ْ لا وي ِ َ ذ ِ ه ّ بحُ
ُ ْ َ َ ب وأ َ
ن ري
َ ّ ِ ِ َ ب صا وال دوا ُ َ ه عا َ َ
ذا إ
ْ ِ م ِ ه ِ د ه
ِ ْ َ ع ب ن
َ فو مو َ ُ لوا َ ة كا
ْ
ز
ّ ال تى َ وآ
َ َ ة صل ّ ال م
َ قا الّرَقا ِ ْ َ
َ ُ ّ َ ُ ْ
مك هُ ُ صد َُقوا وَأولئ ِ َ ن َ ذي َ ك ال ِ س أولئ ِ َ ن الب َأ ِ حي َ ضّراِء وَ ِ ساِء َوال ّ ِفي ال ْب َأ َ
ن{. قو َ مت ّ ُ ال ْ ُ
َ
ب { أي: مغْرِ ِ ق َوال ْ َ شرِ ِ ل ال ْ َ
م ْ م قِب َ َ جوهَك ُ ْ ن ت ُوَّلوا وُ ُ س ال ْب ِّر أ ْ يقول تعالى } :ل َي ْ َ
ليس هذا هو البر المقصود من العباد ،فيكون كثرة البحث فيه والجدال من
العناء الذي ليس تحته إل الشقاق والخلف ،وهذا نظير قوله صلى الله
عليه وسلم" :ليس الشديد بالصرعة ،إنما الشديد الذي يملك نفسه عند
الغضب "ونحو ذلك.
ن ِباللهِ { أي :بأنه إله واحد ،موصوف بكل صفة كمال، ّ م َ نآ َ م ْ ن ال ْب ِّر َ } وَل َك ِ ّ
منزه عن كل نقص.
خرِ { وهو كل ما أخبر الله به في كتابه ،أو أخبر به الرسول، } َوال ْي َوْم ِ ال ِ
مما يكون بعد الموت.
ملئ ِك َةِ { الذين وصفهم الله لنا في كتابه ،ووصفهم رسوله صلى الله } َوال ْ َ
ب { أي :جنس الكتب التي أنزلها الله على رسوله، عليه وسلم } َوال ْك َِتا ِ
ن{ وأعظمها القرآن ،فيؤمن بما تضمنه من الخبار والحكامَ } ،والن ّب ِّيي َ
عموما ،خصوصا خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم.
ل { وهو كل ما يتموله النسان من مال ،قليل كان أو كثيرا، ما َ } َوآَتى ال ْ َ
حب ّهِ { أي :حب المال ،بّين به أن المال محبوب أي :أعطى المال } عََلى ُ
للنفوس ،فل يكاد يخرجه العبد.
فمن أخرجه مع حبه له تقربا إلى الله تعالى ،كان هذا برهانا ليمانه ،ومن
إيتاء المال على حبه ،أن يتصدق وهو صحيح شحيح ،يأمل الغنى ،ويخشى
الفقر ،وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة ،كانت أفضل ،لنه في هذه الحال،
يحب إمساكه ،لما يتوهمه من العدم والفقر.
ن َ
وكذلك إخراج النفيس من المال ،وما يحبه من ماله كما قال تعالى } :ل ْ
ن { فكل هؤلء ممن آتى المال على حبه. حّبو َ ما ت ُ ِ م ّ قوا ِ ف ُ حّتى ت ُن ْ ِ ت ََناُلوا ال ْب ِّر َ
ثم ذكر المنفق عليهم ،وهم أولى الناس ببرك وإحسانك .من القارب
الذين تتوجع لمصابهم ،وتفرح بسرورهم ،الذين يتناصرون ويتعاقلون ،فمن
أحسن البر وأوفقه ،تعاهد القارب بالحسان المالي والقولي ،على حسب
قربهم وحاجتهم.
ومن اليتامى الذين ل كاسب لهم ،وليس لهم قوة يستغنون بها ،وهذا من
رحمته ]تعالى[ بالعباد ،الدالة على أنه تعالى أرحم بهم من الوالد بولده،
فالله قد أوصى العباد ،وفرض عليهم في أموالهم ،الحسان إلى من فقد
آباؤهم ليصيروا كمن لم يفقد والديه ،ولن الجزاء من جنس العمل فمن
م يتيمه. ح َ رحم يتيم غيرهُ ،ر ِ
كين { وهم الذين أسكنتهم الحاجة ،وأذلهم الفقر فلهم حق على سا ِ م َ } َوال ْ َ
الغنياء ،بما يدفع مسكنتهم أو يخففها ،بما يقدرون عليه ،وبما يتيسر،
ل { وهو الغريب المنقطع به في غير بلده ،فحث الله عباده سِبي ِ ن ال ّ } َواب ْ َ
على إعطائه من المال ،ما يعينه على سفره ،لكونه مظنة الحاجة ،وكثرة
المصارف ،فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته ،وخوله من نعمته ،أن
يرحم أخاه الغريب ،الذي بهذه الصفة ،على حسب استطاعته ،ولو بتزويده
أو إعطائه آلة لسفره ،أو دفع ما ينوبه من المظالم وغيرها.
ن { أي :الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج ،توجب السؤال، سائ ِِلي َ } َوال ّ
كمن ابتلي بأرش جناية ،أو ضريبة عليه من ولة المور ،أو يسأل الناس
لتعمير المصالح العامة ،كالمساجد ،والمدارس ،والقناطر ،ونحو ذلك ،فهذا
ب { فيدخل فيه العتق والعانة عليه، له حق وإن كان غنيا } وَِفي الّرَقا ِ
وبذل مال للمكاتب ليوفي سيده ،وفداء السرى عند الكفار أو عند
الظلمة.
صلةَ َوآَتى الّز َ َ
كاةَ { قد تقدم مرارا ،أن الله تعالى يقرن بين م ال ّ } وَأَقا َ
الصلة والزكاة ،لكونهما أفضل العبادات ،وأكمل القربات ،عبادات قلبية،
وبدنية ،ومالية ،وبهما يوزن اليمان ،ويعرف ما مع صاحبه من اليقان.
دوا { والعهد :هو اللتزام بإلزام الله أو إلزام عاهَ ُ
ذا َ م إِ َ ن ب ِعَهْدِهِ ْ موُفو َ } َوال ْ ُ
العبد لنفسه .فدخل في ذلك حقوق الله كلها ،لكون الله ألزم بها عباده
والتزموها ،ودخلوا تحت عهدتها ،ووجب عليهم أداؤها ،وحقوق العباد ،التي
أوجبها الله عليهم ،والحقوق التي التزمها العبد كاليمان والنذور ،ونحو
ذلك.
ساِء { أي :الفقر ،لن الفقير يحتاج إلى الصبر من ْ ْ
ن ِفي الب َأ َ ري َ صاب ِ ِ} َوال ّ
وجوه كثيرة ،لكونه يحصل له من اللم القلبية والبدنية المستمرة ما ل
يحصل لغيره.
فإن تنعم الغنياء بما ل يقدر عليه تألم ،وإن جاع أو جاعت عياله تألم ،وإن
أكل طعاما غير موافق لهواه تألم ،وإن عرى أو كاد تألم ،وإن نظر إلى ما
بين يديه وما يتوهمه من المستقبل الذي يستعد له تألم ،وإن أصابه البرد
الذي ل يقدر على دفعه تألم.
فكل هذه ونحوها ،مصائب ،يؤمر بالصبر عليها ،والحتساب ،ورجاء الثواب
من الله عليها.
ضّراِء { أي :المرض على اختلف أنواعه ،من حمى ،وقروح ،ورياح، } َوال ّ
ووجع عضو ،حتى الضرس والصبع ونحو ذلك ،فإنه يحتاج إلى الصبر على
ذلك؛ لن النفس تضعف ،والبدن يألم ،وذلك في غاية المشقة على
النفوس ،خصوصا مع تطاول ذلك ،فإنه يؤمر بالصبر ،احتسابا لثواب الله
]تعالى[.
] ص [ 84
س { أي :وقت القتال للعداء المأمور بقتالهم ،لن الجلد، ْ حي َ ْ
ن الب َأ ِ } وَ ِ
يشق غاية المشقة على النفس ،ويجزع النسان من القتل ،أو الجراح أو
السر ،فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابا ،ورجاء لثواب الله ]تعالى[ الذي
منه النصر والمعونة ،التي وعدها الصابرين.
ك { أي :المتصفون بما ذكر من العقائد الحسنة ،والعمال التي هي } ُأول َئ ِ َ
آثار اليمان ،وبرهانه ونوره ،والخلق التي هي جمال النسان وحقيقة
صد َُقوا { في إيمانهم ،لن أعمالهم صدقت ن َ ذي َالنسانية ،فأولئك هم } ال ّ ِ
ن { لنهم تركوا المحظور ،وفعلوا المأمور؛ قو َمت ّ ُم ال ْ ُ إيمانهم } ،وَُأول َئ ِ َ
ك هُ ُ
لن هذه المور مشتملة على كل خصال الخير ،تضمنا ولزوما ،لن الوفاء
بالعهد ،يدخل فيه الدين كله ،ولن العبادات المنصوص عليها في هذه الية
أكبر العبادات ،ومن قام بها ،كان بما سواها أقوم ،فهؤلء هم البرار
الصادقون المتقون.
وقد علم ما رتب الله على هذه المور الثلثة ،من الثواب الدنيوي
والخروي ،مما ل يمكن تفصيله في ]مثل[ هذا الموضع.
) (1/83
ذي َ َ
حّر َوال ْعَب ْد ُ حّر ِبال ْ ُ قت َْلى ال ْ ُ ص ِفي ال ْ َ صا ُ ق َ م ال ْ ِب عَل َي ْك ُ ُ مُنوا ك ُت ِ َ نآ َ َيا أي َّها ال ّ ِ َ
َ ن أَ ِ ُ ُ
داٌء
ف وَأ َ معُْرو ِ يٌء َفات َّباعٌ ِبال ْ َ ش ْ خيهِ َ م ْه ِ ي لَ ُ ف َ
ن عُ ِ م ْ ِبال ْعَب ْدِ َواْلن َْثى ِباْلن َْثى فَ َ
ب ه عَ َ
ذا ٌ ك فَل َ ُ دى ب َعْد َ ذ َل ِ َ ن اعْت َ َ م َِ ة فَ َ
م ٌ ح َم وََر ْن َرب ّك ُ ْ م ْ ف ِ في ٌ خ ِك تَ ْ ن ذ َل ِ َ
سا ٍ ح َإ ِل َي ْهِ ب ِإ ِ ْ
ُ َ
ن )(179 قو َ م ت َت ّ ُب ل َعَل ّك ُ ْ حَياةٌ َيا أوِلي اْلل َْبا ِ ص َ صا ِ ق َ م ِفي ال ْ ِ م ) (178وَل َك ُ ْ أِلي ٌ
قت َْلى ص ِفي ال ْ َ َ
صا ُ ق َ م ال ْ ِ ب عَل َي ْك ُ ُ مُنوا ك ُت ِ َ نآ َ ذي َ } َ } { 179 - 178يا أي َّها ال ّ ِ
يٌء َفات َّباعٌ ش ْ خيهِ َ ن أَ ِ م ْ ه ِ ي لَ ُ ف َن عُ ِ م ْ حّر َوال ْعَب ْد ُ ِبال ْعَب ْدِ َوالن َْثى ِبالن َْثى فَ َ حّر ِبال ْ ُ ال ْ ُ
َ
دى ن اعْت َ َ م ِة فَ َم ٌح َ م وََر ْ ن َرب ّك ُ ْ م ْف ِ في ٌ خ ِك تَ ْ ن ذ َل ِ َ سا ٍ ح َ داٌء إ ِل َي ْهِ ب ِإ ِ ْ
ف وَأ َ معُْرو ِ ِبال ْ َ
ُ َ
ب ل َعَل ّك ُ ْ
م حَياةٌ َيا أوِلي الل َْبا ِ ص َ صا ِ ق َ م ِفي ال ْ ِ م * وَل َك ُ ْ ب أِلي ٌ ذا ٌ ه عَ َ ك فَل َ ُب َعْد َ ذ َل ِ َ
ن{. قو َ ت َت ّ ُ
َ
قت ْلى ْ
ص ِفي ال َ صا ُ ق َ ْ
يمتن تعالى على عباده المؤمنين ،بأنه فرض عليهم } ال ِ
{ أي :المساواة فيه ،وأن يقتل القاتل على الصفة ،التي قتل عليها
المقتول ،إقامة للعدل والقسط بين العباد.
وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين ،فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم،
حتى أولياء القاتل حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول ،إذا طلب
القصاص وتمكينه ) (1من القاتل ،وأنه ل يجوز لهم أن يحولوا بين هذا
الحد ،ويمنعوا الولي من القتصاص ،كما عليه عادة الجاهلية ،ومن أشبههم
من إيواء المحدثين.
حّر { يدخل بمنطوقها ،الذكر بالذكر، ْ
حّر ِبال ُ ْ
ثم بّين تفصيل ذلك فقال } :ال ُ
} َوالن َْثى ِبالن َْثى { والنثى بالذكر ،والذكر بالنثى ،فيكون منطوقها مقدما
على مفهوم قوله" :النثى بالنثى "مع دللة السنة ،على أن الذكر يقتل
بالنثى ،وخرج من عموم هذا البوان وإن علوا ،فل يقتلن بالولد ،لورود
ص { ما يدل على أنه ليس من صا ُ ق َ السنة بذلك ،مع أن في قوله } :ال ْ ِ
العدل ،أن يقتل الوالد بولده ،ولن في قلب الوالد من الشفقة والرحمة،
ما يمنعه من القتل لولده إل بسبب اختلل في عقله ،أو أذية شديدة جدا
من الولد له.
وخرج من العموم أيضا ،الكافر بالسنة ،مع أن الية في خطاب المؤمنين
خاصة.
وأيضا فليس من العدل أن يقتل ولي الله بعدوه ،والعبد بالعبد ،ذكرا كان
أو أنثى ،تساوت قيمتهما أو اختلفت ،ودل بمفهومها على أن الحر ،ل يقتل
بالعبد ،لكونه غير مساو له ،والنثى بالنثى ،أخذ بمفهومها بعض أهل العلم
فلم يجز قتل الرجل بالمرأة ،وتقدم وجه ذلك.
وفي هذه الية دليل على أن الصل وجوب القود في القتل ،وأن الدية بدل
يٌء { أي :عفا ولي المقتول ش ْ خيهِ َ ن أَ ِم ْه ِ ي لَ ُف َن عُ ِ م ْ عنه ،فلهذا قال } :فَ َ
عن القاتل إلى الدية ،أو عفا بعض الولياء ،فإنه يسقط القصاص ،وتجب
الدية ،وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي.
فإذا عفا عنه وجب على الولي] ،أي :ولي المقتول[ أن يتبع القاتل
ف { من غير أن يشق عليه ،ول يحمله ما ل يطيق ،بل يحسن معُْرو ِ} ِبال ْ َ
القتضاء والطلب ،ول يحرجه.
َ
ن { من غير مطل ول نقص ،ول إساءة سا ٍ ح َ داٌء إ ِل َي ْهِ ب ِإ ِ ْ
وعلى القاتل } أ َ
فعلية أو قولية ،فهل جزاء الحسان إليه بالعفو ،إل الحسان بحسن
القضاء ،وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للنسان ،مأمور من
له الحق بالتباع بالمعروف ،ومن عليه الحق ،بالداء بإحسان ). (2
خيهِ { ترقيق وحث على العفو إلى الدية، ن أَ ِ م ْه ِ ي لَ ُ ف َ ن عُ ِ م ْ وفي قوله } :فَ َ
وأحسن من ذلك العفو مجانا.
خيهِ { دليل على أن القاتل ل يكفر ،لن المراد بالخوة هنا وفي قوله } :أ َ ِ
أخوة اليمان ،فلم يخرج بالقتل منها ،ومن باب أولى أن سائر المعاصي
التي هي دون الكفر ،ل يكفر بها فاعلها ،وإنما ينقص بذلك إيمانه.
وإذا عفا أولياء المقتول ،أو عفا بعضهم ،احتقن دم القاتل ،وصار معصوما
ك { أي ] :ص [ 85 دى ب َعْد َ ذ َل ِ َن اعْت َ َ م ِمنهم ومن غيرهم ،ولهذا قال } :فَ َ
َ
م { أي :في الخرة ،وأما قتله وعدمه ،فيؤخذ ب أِلي ٌ ذا ٌ ه عَ َ بعد العفو } فَل َ ُ
مما تقدم ،لنه قتل مكافئا له ،فيجب قتله بذلك.
وأما من فسر العذاب الليم بالقتل ،فإن الية تدل على أنه يتعين قتله ،ول
يجوز العفو عنه ،وبذلك قال بعض العلماء والصحيح الول ،لن جنايته ل
تزيد على جناية غيره.
م ِفي َ
ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال } :وَلك ُ ْ
حَياةٌ { أي :تنحقن بذلك الدماء ،وتنقمع به الشقياء ،لن من ص َ
صا ِ ق َ ال ْ ِ
عرف أنه مقتول إذا قتل ،ل يكاد يصدر منه القتل ،وإذا رئي القاتل مقتول
انذعر بذلك غيره وانزجر ،فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل ،لم يحصل
انكفاف الشر ،الذي يحصل بالقتل ،وهكذا سائر الحدود الشرعية ،فيها من
كر "الحياة "لفادة النكاية والنزجار ،ما يدل على حكمة الحكيم الغفار ،ون ّ
التعظيم والتكثير.
ولما كان هذا الحكم ،ل يعرف حقيقته ،إل أهل العقول الكاملة واللباب
الثقيلة ،خصهم بالخطاب دون غيرهم ،وهذا يدل على أن الله تعالى ،يحب
من عباده ،أن يعملوا أفكارهم وعقولهم ،في تدبر ما في أحكامه من
الحكم ،والمصالح الدالة على كماله ،وكمال حكمته وحمده ،وعدله ورحمته
الواسعة ،وأن من كان بهذه المثابة فقد استحق المدح بأنه من ذوي
اللباب الذين وجه إليهم الخطاب ،وناداهم رب الرباب ،وكفى بذلك فضل
وشرفا لقوم يعقلون.
ن { وذلك أن من عرف ربه وعرف ما في دينه قو َ وقوله } :ل َعَل ّك ُ ْ
م ت َت ّ ُ
وشرعه من السرار العظيمة والحكم البديعة واليات الرفيعة ،أوجب له
ذلك أن ينقاد لمر الله ،ويعظم معاصيه فيتركها ،فيستحق بذلك أن يكون
من المتقين.
__________
) (1في ب :ويمكنه.
) (2في ب :بالحسان.
) (1/84
َ
ن
وال ِد َي ْ ِة ل ِل ْ َ
صي ّ ُخي ًْرا ال ْوَ ِ
ك َن ت ََر َ
ت إِ ْ موْ ُ م ال ْ َ حد َك ُ ُضَر أ َ ح َ م إِ َ
ذا َ ب عَل َي ْك ُ ْ ك ُت ِ َ
َ
ه
معَ ُ
س ِما َ ه ب َعْد َ َ ن ب َد ّل َ ُ ن ) (180فَ َ
م ْ قي َ قا عََلى ال ْ ُ
مت ّ ِ ح ّ ف َ معُْرو ِ ن ِبال ْ َ َواْلقَْرِبي َ
م )(181 ميعٌ عَِلي ٌ
س ِ ه َ ن الل ّ َ ه إِ ّ ن ي ُب َد ُّلون َ ُ ذي َه عََلى ال ّ ِ م ُ فَإ ِن ّ َ
ما إ ِث ْ ُ
َ
خي ًْراك َ ن ت ََر َ ت إِ ْ موْ ُ م ال ْ َ حد َك ُ ُ ضَر أ َ ح َ ذا َ م إِ َ ب عَل َي ْك ُ ْ } } { 182 - 180ك ُت ِ َ
ما
ه ب َعْد َ َن ب َد ّل َ ُ م ْ ن * فَ َ قي َ قا عََلى ال ْ ُ
مت ّ ِ ح ّ
ف َ معُْرو ِ ن ِبال ْ َ ن َوالقَْرِبي َ وال ِد َي ْ ِة ل ِل ْ َ ال ْوَ ِ
صي ّ ُ
م{. ميعٌ عَِلي ٌ س ِ ه َ ن الل ّ َ ه إِ ّن ي ُب َد ُّلون َ ُ ذي َ ه عََلى ال ّ ِ م ُما إ ِث ْ ُه فَإ ِن ّ َ مع َ ُ
س ِ
َ
ت { أي: و م ْ ل ا م ُ ك دح َ أ ر ض ح ذا َ إ } المؤمنين معشر يا عليكم، الله فرض أي:
َ ْ ُ َ َ َ َ َ ُ ِ
أسبابه ،كالمرض المشرف على الهلك ،وحضور أسباب المهالك ،وكان قد
خي ًْرا { ]أي :مال[ وهو المال الكثير عرفا ،فعليه أن يوصي لوالديه ك َ } ت ََر َ
وأقرب الناس إليه بالمعروف ،على قدر حاله من غير سرف ،ول اقتصار
على البعد ،دون القرب ،بل يرتبهم على القرب والحاجة ،ولهذا أتى فيه
بأفعل التفضيل.
ن { دل على وجوب ذلك ،لن الحق هو :الثابت، قي َ مت ّ ِ ْ َ
قا عَلى ال ُ ح ّ
وقولهَ } :
وقد جعله الله من موجبات التقوى.
واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الية منسوخة بآية المواريث،
وبعضهم يرى أنها في الوالدين والقربين غير الوارثين ،مع أنه لم يدل على
التخصيص بذلك دليل ،والحسن في هذا أن يقال :إن هذه الوصية للوالدين
والقربين مجملة ،ردها الله تعالى إلى العرف الجاري.
ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من القارب الوارثين هذا
المعروف في آيات المواريث ،بعد أن كان مجمل وبقي الحكم فيمن لم
يرثوا من الوالدين الممنوعين من الرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو
وصف ،فإن النسان مأمور بالوصية لهؤلء وهم أحق الناس ببره ،وهذا
القول تتفق عليه المة ،ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين ،لن كل
من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا ،واختلف المورد.
فبهذا الجمع ،يحصل التفاق ،والجمع بين اليات ،لنه ) (1مهما أمكن
الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ ،الذي لم يدل عليه دليل صحيح.
ولما كان الموصي قد يمتنع من الوصية ،لما يتوهمه أن من بعده ،قد يبدل
ه { أي :اليصاء للمذكورين أو غيرهم } ن ب َد ّل َ ُ م ْ ما وصى به قال تعالى } :فَ َ
ه
م ُ ه { ]أي [:بعدما عقله ،وعرف طرقه وتنفيذه } ،فَإ ِن ّ َ
ما إ ِث ْ ُ مع َ ُ
س ِ ما َ ب َعْد َ َ
ه { وإل فالموصي وقع أجره على الله ،وإنما الثم على ُ
ن ي ُب َد ّلون َ ُ ذي َ عََلى ال ِ
ّ
المبدل المغير.
ميعٌ { يسمع سائر الصوات ،ومنه سماعه لمقالة الموصي س ِ ه َ ن الل ّ َ } إِ ّ
ووصيته ،فينبغي له أن يراقب من يسمعه ويراه ،وأن ل يجور في وصيته،
م { بنيته ،وعليم بعمل الموصى إليه ،فإذا اجتهد الموصي ،وعلم الله } عَِلي ٌ
من نيته ذلك ،أثابه ولو أخطأ ،وفيه التحذير للموصى إليه من التبديل ،فإن
الله عليم به ،مطلع على ما فعله ،فليحذر من الله ،هذا حكم الوصية
العادلة.
__________
) (1في ب :فإنه.
) (1/85
َ ف من موص جن ً َ
فوٌر ن الل ّ َ
ه غَ ُ م عَل َي ْهِ إ ِ ّ
م فََل إ ِث ْ َ صل َ َ
ح ب َي ْن َهُ ْ ما فَأ ْ
فا أوْ إ ِث ْ ًٍ َ َ خا َ ِ ْ ُ
ن َم ْفَ َ
م )(182حي ٌ
َر ِ
َ ف من موص جن ً َ
ن الل ّ َ
ه م عَل َي ْهِ إ ِ ّ
م َفل إ ِث ْ َ صل َ َ
ح ب َي ْن َهُ ْ ما فَأ ْ
فا أوْ إ ِث ْ ً ٍ َ َ خا َ ِ ْ ُن َ م ْ} فَ َ
م{. حي ٌ
فوٌر َر ِ غَ ُ
وأما الوصية التي فيها حيف وجنف ،وإثم ،فينبغي لمن حضر الموصي وقت
الوصية بها ،أن ينصحه بما هو الحسن والعدل ،وأن ينهاه ] ص [ 86عن
الجور والجنف ،وهو :الميل بها عن خطأ ،من غير تعمد ،والثم :وهو التعمد
لذلك.
فإن لم يفعل ذلك ،فينبغي له أن يصلح بين الموصى إليهم ،ويتوصل إلى
العدل بينهم على وجه التراضي والمصالحة ،ووعظهم بتبرئة ذمة ميتهم
فهذا قد فعل معروفا عظيما ،وليس عليهم إثم ،كما على مبدل الوصية
فوٌر { أي :يغفر جميع الزلت ،ويصفح عن ه غَ ُ ن الل ّ َالجائزة ،ولهذا قال } :إ ِ ّ
التبعات لمن تاب إليه ،ومنه مغفرته لمن غض من نفسه ،وترك بعض حقه
لخيه ،لن من سامح ،سامحه الله ،غفور لميتهم الجائر في وصيته ،إذا
احتسبوا بمسامحة بعضهم بعضا لجل براءة ذمته ،رحيم بعباده ،حيث شرع
لهم كل أمر به يتراحمون ويتعاطفون ،فدلت هذه اليات على الحث على
الوصية ،وعلى بيان من هي له ،وعلى وعيد المبدل للوصية العادلة،
والترغيب في الصلح في الوصية الجائرة.
) (1/85
ذي َ َ
ن قَب ْل ِك ُ ْ
م م ْ ن ِ ذي َ ب عََلى ال ّ ِ ما ك ُت ِ َ م كَ َ صَيا ُ م ال ّ ب عَل َي ْك ُ ُ مُنوا ك ُت ِ َ نآ ََيا أي َّها ال ّ ِ َ
َ َ
ر
ف ٍس َضا أوْ عََلى َ ري ً م ِ م َ من ْك ُ ْ
ن ِ كا َ ن َ م ْت فَ َ دا ٍ دو َمعْ ُ ما َ ن ) (183أّيا ً قو َ م ت َت ّ ُل َعَل ّك ُ ْ
ن ت َط َوّعَ ُ َ
م ْ ن فَ َ كي ٍ س ِ م ْ م ِ ة ط ََعا ُ ه فِد ْي َ ٌ قون َ ُ طي ُ ن يُ ِ ذي َ خَر وَعََلى ال ّ ِ ن أّيام ٍ أ َ م ْ فَعِد ّةٌ ِ
َ
شهُْر ن )َ (184 مو َ م ت َعْل َ ُن ك ُن ْت ُ ْ م إِ ْ خي ٌْر ل َك ُ ْموا َ صو ُ ن تَ ُ ه وَأ ْ خي ٌْر ل َ ُ
خي ًْرا فَهُوَ َ َ
ن َ ْ ْ َ ْ ُ
ذي أن ْزِ َ ّ
فْرقا ِ دى َوال ُ ن ال ه ُ َ م َ ت ِ س وَب َي َّنا ٍ دى ِللّنا ِ ن هُ ً قْرآ ُ ل ِفيهِ ال ُ ن ال ِ ضا َ م َ َر َ
َ
ن
م ْفرٍ فَعِد ّةٌ ِ س َضا أوْ عََلى َ ري ًم ِ ن َكا َن َ م ْ ه وَ َ م ُ
ص ْشهَْر فَل ْي َ ُ م ال ّ من ْك ُ ُ
شهِد َ ِ ن َ م ْ فَ َ
َ ْ ُ
ملوا العِد ّةَ وَل ِت ُكب ُّروا ْ
سَر وَل ِت ُك ِ ْ
م العُ ْ ُ
ريد ُ ب ِك ُ َ
سَر وَل ي ُ ِ ْ
م الي ُ ْ ُ
ه ب ِك ُ ّ
ريد ُ الل ُ خَر ي ُ ِأ َّيام ٍ أ َ
ُ
ن )(185 شك ُُرو َ م تَ ْم وَل َعَل ّك ُ ْ داك ُ ْ ما هَ َ ه عََلى َ الل ّ َ
ب عََلى َ
ما ك ُت ِ َ م كَ َ صَيا ُ م ال ّ ب عَل َي ْك ُ ُ مُنوا ك ُت ِ َ نآ َ ذي َ } َ } { 185 - 183يا أي َّها ال ّ ِ
َ َ
ضا أوْ ري ً م ِ م َ من ْك ُ ْ ن ِ كا َ ن َ م ْ ت فَ َ دا ٍ دو َ معْ ُ ما َ ن * أّيا ً قو َ م ت َت ّ ُ م ل َعَل ّك ُ ْ ن قَب ْل ِك ُ ْ م ْ ن ِ ذي َ ال ّ ِ
ُ َ
ن
كي ٍ س ِم ْ م ِ ة ط ََعا ُ ه فِد ْي َ ٌ قون َ ُ طي ُن يُ ِ ذي َ خَر وَعََلى ال ّ ِ ن أّيام ٍ أ َ م ْ فرٍ فَعِد ّةٌ ِ س َ عََلى َ
َ
شهُْر ن* َ مو َ م ت َعْل َ ُ ن ك ُن ْت ُ ْ م إِ ْ خي ٌْر ل َك ُ ْ موا َ صو ُ ن تَ ُ ه وَأ ْ خي ٌْر ل َ ُ خي ًْرا فَهُوَ َ ن ت َط َوّعَ َ م ْ فَ َ
دى َوال ْ ُ ُ
نفْرَقا ِ ن ال ْهُ َ م َ ت ِ س وَب َي َّنا ٍ دى ِللّنا ِ ن هُ ً قْرآ ُ ل ِفيهِ ال ْ ُ ذي أن ْزِ َ ن ال ّ ِ ضا َ م َ َر َ
َ َ َ ْ ُ
نم ْ فرٍ فَعِد ّةٌ ِ س َ ضا أوْ عَلى َ ري ً م ِ ن َ ن كا َ م ْ ه وَ َ م ُ ص ْ شهَْر فَلي َ ُ م ال ّ من ْك ُ شهِد َ ِ ن َ م ْ فَ َ
َ
ملوا العِد ّةَ وَل ِت ُكب ُّروا ْ ُ ْ
سَر وَل ِت ُك ِ م العُ ْْ ُ
ريد ُ ب ِك ُ سَر َول ي ُ ِ م الي ُ ْ ْ ُ
ه ب ِك ُ ّ
ريد ُ الل ُ خَر ي ُ ِ أ َّيام ٍ أ َ
ُ
ن{. شك ُُرو َ م تَ ْ م وَل َعَل ّك ُ ْ داك ُ ْ ما هَ َ ه عََلى َ الل ّ َ
ن به على عباده ،بأنه فرض عليهم الصيام ،كما فرضه يخبر تعالى بما م ّ
على المم السابقة ،لنه من الشرائع والوامر التي هي مصلحة للخلق في
كل زمان.
وفيه تنشيط لهذه المة ،بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل
العمال ،والمسارعة إلى صالح الخصال ،وأنه ليس من المور الثقيلة،
التي اختصيتم بها.
ن { فإن قو َ م ت َت ّ ُ ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال } :ل َعَل ّك ُ ْ
الصيام من أكبر أسباب التقوى ،لن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه.
فمما اشتمل عليه من التقوى :أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من
الكل والشرب والجماع ونحوها ،التي تميل إليها نفسه ،متقربا بذلك إلى
الله ،راجيا بتركها ،ثوابه ،فهذا من التقوى.
ومنها :أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى ،فيترك ما تهوى
نفسه ،مع قدرته عليه ،لعلمه باطلع الله عليه ،ومنها :أن الصيام يضيق
مجاري الشيطان ،فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم ،فبالصيام ،يضعف
نفوذه ،وتقل منه المعاصي ،ومنها :أن الصائم في الغالب ،تكثر طاعته،
والطاعات من خصال التقوى ،ومنها :أن الغني إذا ذاق ألم الجوع ،أوجب
له ذلك ،مواساة الفقراء المعدمين ،وهذا من خصال التقوى.
ولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام ،أخبر أنه أيام معدودات ،أي :قليلة في
غاية السهولة.
َ
فرٍ فَعِد ّةٌ س َ ضا أوْ عََلى َ ري ً م ِم َ من ْك ُ ْ ن ِ كا َ ن َ م ْ ثم سهل تسهيل آخر .فقال } :فَ َ
خَر { وذلك للمشقة ،في الغالب ،رخص الله لهما ،في الفطر. ن أ َّيام ٍ أ ُ َ م ْ ِ
ولما كان ل بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن ،أمرهما أن يقضياه
في أيام أخر إذا زال المرض ،وانقضى السفر ،وحصلت الراحة.
ن أ َّيام ٍ { فيه دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان، م ْ وفي قوله } :فَعِد ّةٌ ِ
كامل كان ،أو ناقصا ،وعلى أنه يجوز أن يقضي أياما قصيرة باردة ،عن أيام
طويلة حارة كالعكس.
ة { عن كل ه { أي :يطيقون الصيام } فِد ْي َ ٌ قون َ ُ طي ُ ن يُ ِ ذي َ وقوله } :وَعََلى ال ّ ِ
ن { وهذا في ابتداء فرض الصيام ،لما كانوا كي ٍ س ِ م ْ م ِ يوم يفطرونه } ط ََعا ُ
غير معتادين للصيام ،وكان فرضه حتما ،فيه مشقة عليهم ،درجهم الرب
الحكيم ،بأسهل طريق ،وخّير المطيق للصوم بين أن يصوم ،وهو أفضل ،أو
َ
م{. خي ٌْر ل َك ُ ْ
موا َ صو ُ
ن تَ ُ يطعم ،ولهذا قال } :وَأ ْ
ثم بعد ذلك ،جعل الصيام حتما على المطيق وغير المطيق ،يفطر ويقضيه
ه { أي :يتكلفونه ،ويشق عليهم قون َ ُ طي ُن يُ ِ ذي َ في أيام أخر ]وقيل } :وَعََلى ال ّ ِ
مشقة غير محتملة ،كالشيخ الكبير ،فدية عن كل يوم مسكين ) (1وهذا هو
الصحيح[ ). (2
ن { أي :الصوم المفروض عليكم ،هو ْ ذي أنز َُ ّ } َ
قْرآ ُ ل ِفيهِ ال ُ ن ال ِ ضا َ م َ شهُْر َر َ
شهر رمضان ،الشهر العظيم ،الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل
العظيم ،وهو القرآن الكريم ،المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية
والدنيوية ،وتبيين الحق بأوضح بيان ،والفرقان بين الحق والباطل ،والهدى
والضلل ،وأهل السعادة وأهل الشقاوة.
فحقيق بشهر ،هذا فضله ،وهذا إحسان الله عليكم فيه ،أن يكون موسما
للعباد مفروضا فيه الصيام.
ن
م ْ َ
فلما قرره ،وبين فضيلته ،وحكمة الله تعالى في تخصيصه قال } :ف َ
ه { هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح م ُص ْشهَْر فَل ْي َ ُ م ال ّ من ْك ُ ُ شهِد َ ِ َ
الحاضر.
ولما كان النسخ للتخيير ،بين الصيام والفداء خاصة ،أعاد الرخصة للمريض
ه ب ِك ُ ُ
م ريد ُ الل ّ ُ
والمسافر ،لئل يتوهم أن الرخصة أيضا منسوخة ]فقال[ } ي ُ ِ
سَر { أي :يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق م ال ْعُ ْ ريد ُ ب ِك ُ ُسَر َول ي ُ ِ ال ْي ُ ْ
الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير ،ويسهلها أشد ) (3تسهيل ،ولهذا كان
جميع ما أمر الله به عباده في غاية ] ص [ 87السهولة في أصله.
وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله ،سّهله تسهيل آخر ،إما
بإسقاطه ،أو تخفيفه بأنواع التخفيفات.
وهذه جملة ل يمكن تفصيلها ،لن تفاصيلها ،جميع الشرعيات ،ويدخل فيها
جميع الرخص والتخفيفات.
مُلوا ال ْعِد ّةَ { وهذا -والله أعلم -لئل يتوهم متوهم ،أن صيام } وَل ِت ُك ْ ِ
رمضان ،يحصل المقصود منه ببعضه ،دفع هذا الوهم بالمر بتكميل عدته،
ويشكر الله ]تعالى[ عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده،
وبالتكبير عند انقضائه ،ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلل شوال إلى
فراغ خطبة العيد.
__________
) (1ظاهر أن المراد عن كل يوم طعام مسكين.
) (2زيادة من هامش ب.
) (3في ب :أبلغ تسهيل.
) (1/86
جيُبوا ن فَل ْي َ ْ
ست َ ِ عا ِ داِع إ ِ َ
ذا د َ َ ب د َعْوَةَ ال ّ
جي ُ
ُ
بأ ِ عَباِدي عَّني فَإ ِّني قَ ِ
ري ٌ سأ َل َ َ
ك ِ ذا َ وَإ ِ َ
ن )(186 دو َش ُ مُنوا ِبي ل َعَل ّهُ ْ
م ي َْر ُ ِلي وَل ْي ُؤْ ِ
داِع إ ِ َ
ذا ب د َعْوَةَ ال ّ
جي ُ
ُ
بأ ِ ري ٌعَباِدي عَّني فَإ ِّني قَ ِك ِ سأ َل َ َ } } { 186وَإ ِ َ
ذا َ
ن{. دو َ م ي َْر ُ
ش ُ ّ َ
مُنوا ِبي لعَلهُ ْ ْ
جيُبوا ِلي وَلي ُؤْ ِ ن فَل ْي َ ْ
ست َ ِ عا ِ
دَ َ
هذا جواب سؤال ،سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه فقالوا:
سأ َل َ َ
ك ذا َيا رسول الله ،أقريب ربنا فنناجيه ،أم بعيد فنناديه؟ فنزل } :وَإ ِ َ
ب { لنه تعالى ،الرقيب الشهيد ،المطلع على السر ري ٌ عَباِدي عَّني فَإ ِّني قَ ِ ِ
وأخفى ،يعلم خائنة العين وما تخفي الصدور ،فهو قريب أيضا من داعيه،
ن { والدعاء نوعان :دعاء داِع إ ِ َ ُ
عا ِذا د َ َ ب د َعْوَةَ ال ّ جي ُ بالجابة ،ولهذا قال } :أ ِ
عبادة ،ودعاء مسألة.
والقرب نوعان :قرب بعلمه من كل خلقه ،وقرب من عابديه وداعيه
بالجابة والمعونة والتوفيق.
فمن دعا ربه بقلب حاضر ،ودعاء مشروع ،ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء،
كأكل الحرام ونحوه ،فإن الله قد وعده بالجابة ،وخصوصا إذا أتى بأسباب
إجابة الدعاء ،وهي الستجابة لله تعالى بالنقياد لوامره ونواهيه القولية
جيُبوا ِلي ست َ ِوالفعلية ،واليمان به ،الموجب للستجابة ،فلهذا قال } :فَل ْي َ ْ
ن { أي :يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية دو َ ش ُ م ي َْر ُمُنوا ِبي ل َعَل ّهُ ْ
وَل ْي ُؤْ ِ
لليمان والعمال الصالحة ،ويزول عنهم الغي المنافي لليمان والعمال
الصالحة .ولن اليمان بالله والستجابة لمره ،سبب لحصول العلم كما
َ
م فُْرَقاًنا { . ل ل َك ُ ْ
جع َ ْه يَ ْقوا الل ّ َ ن ت َت ّ ُ
مُنوا إ ِ ْ
نآ َ ذي َ قال تعالىَ } :يا أي َّها ال ّ ِ
) (1/87
َ أُ ِ
س ل َهُ ّ
ن م ل َِبا ٌ م وَأن ْت ُ ْ س ل َك ُ ْ ن ل َِبا ٌ م هُ ّ سائ ِك ُ ْ ث إ َِلى ن ِ َ صَيام ِ الّرفَ ُ ة ال ّ م ل َي ْل َ َ ل ل َك ُ ْ ح ّ
م َفاْل َ َ
ن فا عَن ْك ُ ْ م وَعَ َ ب عَل َي ْك ُ ْ م فََتا َ سك ُ ْ ف َ ن أ َن ْ ُ خَتاُنو َ م تَ ْ م ك ُن ْت ُ ْ ه أن ّك ُ ْ
عَل ِم الل ّ َ
ُ َ
خي ْ ُ
ط م ال ْ َ ن ل َك ُُ َ ّ يَ بَ تَ ي تى ّ ح
َ بوا ُ ر
َ شْ واَ لوا ُ ُ ك و
ْ َ م ُ ك َ ل ه
ُ ّ ل ال ب َ َ ت َ ك ما
َ غوا ُ َ ت ْ ب وا
ّ َ ن ُ ه رو
ش ُ َبا ِ
ل وَلَ ّ َ َ ْ َ ْ ْ َ
م إ ِلى اللي ْ ِ صَيا َموا ال ّ م أت ِ ّ جرِ ث ُ ّ ف ْ ن ال َ م َ سوَدِ ِ ط ال ْ خي ْ ِ ن ال َ م َ ض ِ اْلب ْي َ ُ
دود ُ الل ّهِ فََل ت َ ْ جدِ ت ِل ْ َ َ
ها ك َذ َل ِ َ
ك قَرُبو َ ح ُ ك ُ سا ِ م َ ن ِفي ال ْ َ فو َ عاك ِ ُ م َ ن وَأن ْت ُ ْ شُروهُ ّ ت َُبا ِ
ن )(187 قو َ م ي َت ّ ُ ّ َ َ ّ
س لعَلهُ ْ ه آَيات ِهِ ِللّنا ِ ن الل ُ ي ُب َي ّ ُ
ن
م هُ ّ سائ ِك ُ ْ ث إ َِلى ن ِ َ صَيام ِ الّرفَ ُ ة ال ّ م ل َي ْل َ َ ل ل َك ُ ْ ح ّ } .{ 187ثم قال تعالى } :أ ُ ِ
ب م فََتا َ سك ُ ْ ف َ ن أ َن ْ ُ خَتاُنو َ م تَ ْ م ك ُن ْت ُ ْ
ل ِباس ل َك ُم وأ َنتم ل ِباس ل َهن عَل ِم الل ّ َ
ه أن ّك ُ ْ ُ َ ْ َ ُْ ْ َ ٌ ُ ّ َ ٌ
شَرُبوام وَكلوا َوا ْ ُ ُ ُ
ه لك ْ َ ّ
ب الل ُ َ
ما كت َ َ ن َواب ْت َُغوا َ شُروهُ ّ ن َبا ِ م َفال َ ُ
فا عَن ْك ْ م وَعَ َ عَل َي ْك ُ ْ
فجر ث ُ َ
موا م أت ِ ّ ن ال ْ َ ْ ِ ّ م َسوَدِ ِ ط ال ْ خي ْ ِ ن ال ْ َ م َض ِ ط الب ْي َ ُ خي ْ ُ م ال ْ َ ن ل َك ُ ُ حّتى ي َت َب َي ّ َ َ
دود ُ اللهِّ ْ
جدِ ت ِل َ ْ َ ّ َ
ح ُك ُ سا ِ م َ ن ِفي ال َ فو َ عاك ِ ُ م َ ن وَأن ْت ُ ْ شُروهُ ّ ل َول ت َُبا ِ م إ ِلى اللي ْ ِ صَيا َ ال ّ
ن{. قو َ م ي َت ّ ُ ّ
س لعَلهُ ْ َ ّ ها ك َذ َل ِ َ َفل ت َ ْ
ه آَيات ِهِ ِللّنا ِ ن الل ُ ك ي ُب َي ّ ُ قَرُبو َ
كان في أول فرض الصيام ،يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم
الكل والشرب والجماع ،فحصلت المشقة لبعضهم ،فخفف الله تعالى
عنهم ذلك ،وأباح في ليالي الصيام كلها الكل والشرب والجماع ،سواء نام
أو لم ينم ،لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به.
} فتاب { الله } عليكم { بأن وسع لكم أمرا كان -لول توسعته -موجبا
للثم } وعفا عنكم { ما سلف من التخون.
} فالن { بعد هذه الرخصة والسعة من الله } باشروهن { وطأ وقبلة
ولمسا وغير ذلك.
} وابتغوا ما كتب الله لكم { أي :انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب
إلى الله تعالى والمقصود العظم من الوطء ،وهو حصول الذرية وإعفاف
فرجه وفرج زوجته ،وحصول مقاصد النكاح.
ومما كتب الله لكم ليلة القدر ،الموافقة لليالي صيام رمضان ،فل ينبغي
لكم أن تشتغلوا بهذه اللذة عنها وتضيعوها ،فاللذة مدركة ،وليلة القدر إذا
فاتت لم تدرك.
} وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط البيض من الخيط السود من
الفجر { هذا غاية للكل والشرب والجماع ،وفيه أنه إذا أكل ونحوه شاكا
في طلوع الفجر فل بأس عليه.
وفيه :دليل على استحباب السحور للمر ،وأنه يستحب تأخيره أخذا من
معنى رخصة الله وتسهيله على العباد.
وفيه أيضا دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل
أن يغتسل ،ويصح صيامه ،لن لزم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر ،أن
يدركه الفجر وهو جنب ،ولزم الحق حق.
} ثم { إذا طلع الفجر } أتموا الصيام { أي :المساك عن المفطرات
} إلى الليل { وهو غروب الشمس ولما كان إباحة الوطء في ليالي
الصيام ليست إباحته ) (1عامة لكل أحد ،فإن المعتكف ل يحل له ذلك،
استثناه بقوله } :ول تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد { أي :وأنتم
متصفون بذلك ،ودلت الية على مشروعية العتكاف ،وهو لزوم المسجد
لطاعة الله ]تعالى[ ،وانقطاعا إليه ،وأن العتكاف ل يصح إل في المسجد.
ويستفاد من تعريف المساجد ،أنها المساجد المعروفة عندهم ،وهي التي
تقام فيها الصلوات الخمس.
وفيه أن الوطء من مفسدات العتكاف.
} تلك { المذكورات -وهو تحريم الكل والشرب والجماع ونحوه من
المفطرات في الصيام ،وتحريم الفطر على غير المعذور ،وتحريم الوطء
على المعتكف ،ونحو ذلك من المحرمات } حدود الله { التي حدها لعباده،
ونهاهم عنها ،فقال } :فل تقربوها { أبلغ من قوله" :فل تفعلوها "لن
القربان ،يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه ،والنهي عن وسائله
الموصلة ] ص [ 88إليه.
والعبد مأمور بترك المحرمات ،والبعد منها غاية ما يمكنه ،وترك كل سبب
يدعو إليها ،وأما الوامر فيقول الله فيها } :تلك حدود الله فل تعتدوها {
فينهى عن مجاوزتها.
} كذلك { أي :بّين ]الله[ لعباده الحكام السابقة أتم تبيين ،وأوضحها لهم
أكمل إيضاح.
} يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون { فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه،
وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه ،فإن النسان قد يفعل المحرم على وجه
الجهل بأنه محرم ،ولو علم تحريمه لم يفعله ،فإذا بين الله للناس آياته ،لم
يبق لهم عذر ول حجة ،فكان ذلك سببا للتقوى.
__________
) (1في ب :إباحة.
) (1/87
ن ت َأ ُْتوا َ
س ال ْب ِّر ب ِأ ْ
ج وَل َي ْ َ
ح ّ س َوال ْ َ
ِ ت ِللّنا واِقي ُ
م َ
ي َ ل هِ َ ن اْل َهِل ّةِ قُ ِْ ك عَ سأ َُلون َ َيَ ْ
هّ َ ْ ْ ْ َ ُ
قوا الل َ واب َِها َوات ّ ُن أب ْ َ م ْ
ت ِ قى وَأُتوا الب ُُيو َ ن ات ّ َ
م ِن الب ِّر َ ها وَلك ِ ّن ظُهورِ َ م ْت ِ ال ْب ُُيو َ
ن )(189 حو َ فل ِ ُم تُ ْل َعَل ّك ُ ْ
س ال ْب ِّرج وَل َي ْ َ ح ّس َوال ْ َِ ت ِللّناواِقي ُ م َي َ ل هِ َ ن الهِل ّةِ قُ ْ ِ ك عَ سأ َُلون َ َ
} } { 189ي َ ْ
َ ْ ْ َ
واب َِهان أب ْ َم ْ
ت ِ قى وَأُتوا ال ْب ُُيو َ ن ات ّ َم ِ ن ال ْب ِّر َها وَل َك ِ ّ ن ظ ُُهورِ َ م ْت ِ ن ت َأُتوا ال ْب ُُيو َب ِأ ْ
ن{. حو َ فل ِ ُ ه ل َعَل ّك ُ ْ
م تُ ْ قوا الل ّ ََوات ّ ُ
ن الهِلةِ { جمع -هلل -ما فائدتها ّ َ ُ َ
سألون َك عَ ِ يقول ) (1تعالى } :ي َ ْ
س { أي :جعلها الله تعالى ت ِللّنا ِ واِقي ُ م َي َل هِ َ ُ
وحكمتها؟ أو عن ذاتها } ،ق ْ
بلطفه ورحمته على هذا التدبير يبدو الهلل ضعيفا في أول الشهر ،ثم
يتزايد إلى نصفه ،ثم يشرع في النقص إلى كماله ،وهكذا ،ليعرف الناس
بذلك ،مواقيت عباداتهم من الصيام ،وأوقات الزكاة ،والكفارات ،وأوقات
الحج.
ولما كان الحج يقع في أشهر معلومات ،ويستغرق أوقاتا كثيرة قال:
ج { وكذلك تعرف بذلك ،أوقات الديون المؤجلت ،ومدة الجارات، } َوال ْ َ
ح ّ
ومدة العدد والحمل ،وغير ذلك مما هو من حاجات الخلق ،فجعله تعالى،
حسابا ،يعرفه كل أحد ،من صغير ،وكبير ،وعالم ،وجاهل ،فلو كان
الحساب بالسنة الشمسية ،لم يعرفه إل النادر من الناس.
ْ َ
ها { وهذا كما كان النصار ن ظ ُُهورِ َ
م ْ ن ت َأُتوا ال ْب ُُيو َ
ت ِ س ال ْب ِّر ب ِأ ْ
} وَل َي ْ َ
وغيرهم من العرب ،إذا أحرموا ،لم يدخلوا البيوت من أبوابها ،تعبدا بذلك،
وظنا أنه بر .فأخبر الله أنه ليس ببر ) (2لن الله تعالى ،لم يشرعه لهم،
وكل من تعبد بعبادة لم يشرعها الله ول رسوله ،فهو متعبد ببدعة ،وأمرهم
أن يأتوا البيوت من أبوابها لما فيه من السهولة عليهم ،التي هي قاعدة
من قواعد الشرع.
ويستفاد من إشارة الية أنه ينبغي في كل أمر من المور ،أن يأتيه
النسان من الطريق السهل القريب ،الذي قد جعل له موصل فالمر
بالمعروف ،والناهي عن المنكر ،ينبغي أن ينظر في حالة المأمور،
ويستعمل معه الرفق والسياسة ،التي بها يحصل المقصود أو بعضه،
والمتعلم والمعلم ،ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله ،يحصل به
مقصوده ،وهكذا كل من حاول أمرا من المور وأتاه من أبوابه وثابر عليه،
] ص [ 89فل بد أن يحصل له المقصود بعون الملك المعبود.
ه { هذا هو البر الذي أمر الله به ،وهو لزوم تقواه على الدوام، قوا الل ّ َ } َوات ّ ُ
بامتثال أوامره ،واجتناب نواهيه ،فإنه سبب للفلح ،الذي هو الفوز
بالمطلوب ،والنجاة من المرهوب ،فمن لم يتق الله تعالى ،لم يكن له
سبيل إلى الفلح ،ومن اتقاه ،فاز بالفلح والنجاح.
__________
) (1في ب :فقوله.
) (2في ب :ليس من البر.
) (1/88
ن
دي َ ب ال ْ ُ
معْت َ ِ ه َل ي ُ ِ
ح ّ ن الل ّ َ م وََل ت َعْت َ ُ
دوا إ ِ ّ قات ُِلون َك ُ ْ
ن يُ َ ل الل ّهِ ال ّ ِ
ذي َ وََقات ُِلوا ِفي َ
سِبي ِ
)(190
ن
دوا إ ِ ّ قات ُِلون َك ُ ْ
م َول ت َعْت َ ُ ن يُ َ
ذي َل الل ّهِ ال ّ ِ } } { 193 - 190وََقات ُِلوا ِفي َ
سِبي ِ
ن{. دي َ
معْت َ ِب ال ْ ُح ّ ه ل يُ ِ الل ّ َ
هذه اليات ،تتضمن المر بالقتال في سبيل الله ،وهذا كان بعد الهجرة إلى
المدينة ،لما قوي المسلمون للقتال ،أمرهم الله به ،بعد ما كانوا مأمورين
ل الل ّهِ { حث على الخلص، سِبي ِ بكف أيديهم ،وفي تخصيص القتال } ِفي َ
ونهي عن القتتال في الفتن بين المسلمين.
م { أي :الذين هم مستعدون لقتالكم ،وهم المكلفون قات ُِلون َك ُ ْ
ن يُ َ } ال ّ ِ
ذي َ
الرجال ،غير الشيوخ الذين ل رأي لهم ول قتال.
والنهي عن العتداء ،يشمل أنواع العتداء كلها ،من قتل من ل يقاتل ،من
النساء ،والمجانين والطفال ،والرهبان ونحوهم والتمثيل بالقتلى ،وقتل
الحيوانات ،وقطع الشجار ]ونحوها[ ،لغير مصلحة تعود للمسلمين.
ومن العتداء ،مقاتلة من تقبل منهم الجزية إذا بذلوها ،فإن ذلك ل يجوز.
) (1/89
ن
م َشد ّ ِ ة أَ َ فت ْن َ ُ م َوال ْ ِ جوك ُ ْ خَر ُث أَ ْ حي ْ ُ
ن َ م ْم ِ جوهُ ْ خرِ ُ م وَأ َ ْ موهُ ْ فت ُ ُ
ق ْ ث ثَ ِ حي ْ ُ م َ َواقْت ُُلوهُ ْ
ن َقات َُلوك ُ ْ
م م ِفيهِ فَإ ِ ْ قات ُِلوك ُ ْ حّتى ي ُ َ حَرام ِ َ جدِ ال ْ َ س ِ م ْ عن ْد َ ال ْ َم ِ قات ُِلوهُ ْ ل وََل ت ُ َقت ْ ِال ْ َ
م) حي ٌ فوٌر َر ِ ه غَ ُ ن الل ّ َ وا فَإ ِ ّن ان ْت َهَ ْن ) (191فَإ ِ ِ ري َ كافِ ِ جَزاُء ال ْ َ ك َ م ك َذ َل ِ َ َفاقْت ُُلوهُ ْ
وا فََل عُد َْوا َ
ن ن ان ْت َهَ ْ ن ل ِل ّهِ فَإ ِ ِدي ُ ن ال ّ كو َ ة وَي َ ُ ن فِت ْن َ ٌ كو َ حّتى َل ت َ ُ م َ (192وََقات ُِلوهُ ْ
ن )(193 مي َ إ ِّل عََلى ال ّ
ظال ِ ِ
شد ّ ة أَ َ م َوال ْ ِ
فت ْن َ ُ جوك ُ ْ خَر ُ ث أَ ْ حي ْ ُ ن َ م ْم ِ جوهُ ْ خرِ ُ م وَأ َ ْ موهُ ْ فت ُ ُ ق ْ ث ثَ ِ حي ْ ُ م َ } َواقْت ُُلوهُ ْ
م ِفيهِ فَإ ِ ْ
ن قات ُِلوك ُ ْ حّتى ي ُ َ حَرام ِ َ جدِ ال ْ َ س ِ م ْ عن ْد َ ال ْ َ م ِ قات ُِلوهُ ْ ل َول ت ُ َ ن ال ْ َ
قت ْ ِ م َ
ِ
م
حي ٌ فوٌر َر ِ ه غَ ُ ّ
ن الل َ وا فَإ ِ ّ ن ان ْت َهَ ْ ن * فَإ ِ ِ ري َ َ ْ
جَزاُء الكافِ ِ َ
م كذ َل ِك َ َ ُ
م َفاقْت ُلوهُ ْ ُ ُ
َقات َلوك ْ
ن ِإل وا َفل عُد َْوا َ ن ان ْت َهَ ْ ّ
ن ل ِلهِ فَإ ِ ِ دي ُن ال ّ ُ
ة وَي َكو َ ن فِت ْن َ ٌ ُ
حّتى ل ت َكو َ م َ * وََقات ُِلوهُ ْ
ن{. مي َ ظال ِ ِ عََلى ال ّ
م { هذا أمر بقتالهم ،أينما وجدوا في كل وقت، موهُ ْ فت ُ ُ ق ْ ث ثَ ِ حي ْ ُ م َ } َواقْت ُُلوهُ ْ
وفي كل زمان قتال مدافعة ،وقتال مهاجمة ثم استثنى من هذا العموم
حَرام ِ { وأنه ل يجوز إل أن يبدأوا بالقتال ،فإنهم جدِ ال ْ َ س ِ م ْ عن ْد َ ال ْ َ قتالهم } ِ
يقاتلون جزاء لهم على اعتدائهم ،وهذا مستمر في كل وقت ،حتى ينتهوا
عن كفرهم فيسلموا ،فإن الله يتوب عليهم ،ولو حصل منهم ما حصل من
الكفر بالله والشرك في المسجد الحرام ،وصد الرسول والمؤمنين عنه
وهذا من رحمته وكرمه بعباده.
ولما كان القتال عند المسجد الحرام ،يتوهم أنه مفسدة في هذا البلد
الحرام ،أخبر تعالى أن المفسدة بالفتنة عنده بالشرك ،والصد عن دينه،
أشد من مفسدة القتل ،فليس عليكم -أيها المسلمون -حرج في قتالهم.
ويستدل بهذه ) (1الية على القاعدة المشهورة ،وهي :أنه يرتكب أخف
المفسدتين ،لدفع أعلهما.
ثم ذكر تعالى المقصود من القتال في سبيله ،وأنه ليس المقصود به،
ندي ُ
ن ال ّ كو َ سفك دماء الكفار ،وأخذ أموالهم ،ولكن المقصود به أن } ي َ ُ
ل ِل ّهِ { تعالى ،فيظهر دين الله ]تعالى[ ،على سائر الديان ،ويدفع كل ما
يعارضه ،من الشرك وغيره ،وهو المراد بالفتنة ،فإذا حصل هذا المقصود،
وا { عن قتالكم عند المسجد الحرام } َفل ن ان ْت َهَ ْ فل قتل ول قتال } ،فَإ ِ ِ
ن { أي :فليس عليهم منكم اعتداء ،إل من ظلم مي َ ظال ِ ِ ن ِإل عََلى ال ّ عُد َْوا َ
منهم ،فإنه يستحق المعاقبة ،بقدر ظلمه.
__________
) (1في ب :ويستدل في هذه.
) (1/89
دى عَل َي ْك ُ ْ
م ن اعْت َ َ
م ِ ص فَ َ
صا ٌ ت قِ َما ُ حُر َحَرام ِ َوال ْ ُشهْرِ ال ْ َ
م ِبال ّ حَرا ُ شهُْر ال ْ َ ال ّ
ْ ّ َ َ ّ ُ َ َ
ن
قي َ
مت ّ ِ
م ع َ ال ُ
ه َ ن الل َموا أ ّ ه َواعْل ُ قوا الل َم َوات ّ ُ دى عَلي ْك ْ ما اعْت َ َل َمث ْ ِ
دوا عَلي ْهِ ب ِ ِ َفاعْت َ ُ
)(194
دى ن اعْت َ َ م ِ ص فَ َ
صا ٌ ت قِ َ ما ُ حُر َ حَرام ِ َوال ْ ُ شهْرِ ال ْ َ م ِبال ّ حَرا ُ شهُْر ال ْ َ } } { 194ال ّ
َ
ع
م َه َ ن الل ّ َ موا أ ّ ه َواعْل َ ُ قوا الل ّ َ م َوات ّ ُدى عَل َي ْك ُ ْ ما اعْت َ َ ل َ مث ْ ِ دوا عَل َي ْهِ ب ِ ِ م َفاعْت َ ُعَل َي ْك ُ ْ
ن{. قي َ ال ْ ُ
مت ّ ِ
حَرام ِ { يحتمل أن يكون المراد به شهْرِ ال ْ َ م ِبال ّ حَرا ُ شهُْر ال ْ َ يقول تعالى } :ال ّ
ما وقع من صد المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام
الحديبية ،عن الدخول لمكة ،وقاضوهم على دخولها من قابل ،وكان الصد
والقضاء في شهر حرام ،وهو ذو القعدة ،فيكون هذا بهذا ،فيكون فيه،
تطييب لقلوب الصحابة ،بتمام نسكهم ،وكماله.
ويحتمل أن يكون المعنى :إنكم إن قاتلتموهم في الشهر الحرام ) (1فقد
قاتلوكم فيه ،وهم المعتدون ،فليس عليكم في ذلك حرج ،وعلى هذا
ص { من باب عطف العام على الخاص، صا ٌ ت قِ َ ما ُ حُر َ فيكون قولهَ } :وال ْ ُ
أي :كل شيء يحترم من شهر حرام ،أو بلد حرام ،أو إحرام ،أو ما هو أعم
من ذلك ،جميع ما أمر الشرع باحترامه ،فمن تجرأ عليها فإنه يقتص منه،
فمن قاتل في الشهر الحرام ،قوتل ،ومن هتك البلد الحرام ،أخذ منه
الحد ،ولم يكن له حرمة ،ومن قتل مكافئا له قتل به ،ومن جرحه أو قطع
عضوا ،منه ،اقتص منه ،ومن أخذ مال غيره المحترم ،أخذ منه بدله ،ولكن
هل لصاحب الحق أن يأخذ من ماله بقدر حقه أم ل؟ خلف بين العلماء،
الراجح من ذلك ،أنه إن كان سبب الحق ظاهرا كالضيف ،إذا لم يقره
غيره ،والزوجة ،والقريب إذا امتنع من تجب عليه النفقة ]من النفاق عليه[
فإنه يجوز أخذه من ماله.
] ص [ 90
وإن كان السبب خفيا ،كمن جحد دين غيره ،أو خانه في وديعة ،أو سرق
منه ونحو ذلك ،فإنه ل يجوز له أن يأخذ من ماله مقابلة له ،جمعا بين
دى عَل َي ْك ُ ْ
م ن اعْت َ َ الدلة ،ولهذا قال تعالى ،تأكيدا وتقوية لما تقدم } :فَ َ
م ِ
م { هذا تفسير لصفة المقاصة ،وأنها دى عَل َي ْك ُ ْ ما اعْت َ َ ل َ دوا عَل َي ْهِ ب ِ ِ
مث ْ ِ َفاعْت َ ُ
هي المماثلة في مقابلة المعتدي.
ولما كانت النفوس -في الغالب -ل تقف على حدها إذا رخص لها في
المعاقبة لطلبها التشفي ،أمر تعالى بلزوم تقواه ،التي هي الوقوف عند
ن { أي :بالعون، قي َ مت ّ ِمعَ ال ْ ُ حدوده ،وعدم تجاوزها ،وأخبر تعالى أنه } َ
والنصر ،والتأييد ،والتوفيق.
ومن كان الله معه ،حصل له السعادة البدية ،ومن لم يلزم التقوى تخلى
عنه وليه ،وخذله ،فوكله إلى نفسه فصار هلكه أقرب إليه من حبل الوريد.
__________
) (1كذا في ب ،وفي أ :بالشهر الحرام.
) (1/89
َ َ وَأ َن ْفِ ُ
ب
ح ّ ن الل ّ َ
ه يُ ِ سُنوا إ ِ ّ م إ َِلى الت ّهْل ُك َةِ وَأ ْ
ح ِ ديك ُ ْ ل الل ّهِ وََل ت ُل ْ ُ
قوا ب ِأي ْ ِ سِبي ِ
قوا ِفي َ
ن )(195 سِني َ
ح ِ م ْال ْ ُ
َ َ َ
سُنواح ِم إ َِلى الت ّهْل ُك َةِ وَأ ْ
ديك ُ ْ
قوا ب ِأي ْ ِل الل ّهِ َول ت ُل ْ ُ سِبي ِ
قوا ِفي َ ف ُ} } { 195وَأن ْ ِ
ن{. سِني َ ح ِ م ْب ال ْ ُ ح ّ ن الل ّ َ
ه يُ ِ إِ ّ
يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله ،وهو إخراج الموال في الطرق
الموصلة إلى الله ،وهي كل طرق الخير ،من صدقة على مسكين ،أو
قريب ،أو إنفاق على من تجب مؤنته.
وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك النفاق في الجهاد في سبيل الله ،فإن
النفقة فيه جهاد بالمال ،وهو فرض كالجهاد بالبدن ،وفيها من المصالح
العظيمة ،العانة على تقوية المسلمين ،وعلى توهية الشرك وأهله ،وعلى
إقامة دين الله وإعزازه ،فالجهاد في سبيل الله ل يقوم إل على ساق
النفقة ،فالنفقة له كالروح ،ل يمكن وجوده بدونها ،وفي ترك النفاق في
سبيل الله ،إبطال للجهاد ،وتسليط للعداء ،وشدة تكالبهم ،فيكون قوله
م إ َِلى الت ّهْل ُك َةِ { كالتعليل لذلك ،واللقاء باليد إلى َ تعالىَ } :ول ت ُل ْ ُ
ديك ُ ْقوا ب ِأي ْ ِ
التهلكة يرجع إلى أمرين :ترك ما أمر به العبد ،إذا كان تركه موجبا أو
مقاربا لهلك البدن أو الروح ،وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو
الروح ،فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة ،فمن ذلك ،ترك الجهاد في سبيل
الله ،أو النفقة فيه ،الموجب لتسلط العداء ،ومن ذلك تغرير النسان
بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف ،أو محل مسبعة أو حيات ،أو يصعد
شجرا أو بنيانا خطرا ،أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك ،فهذا
ونحوه ،ممن ألقى بيده إلى التهلكة.
ومن اللقاء باليد إلى التهلكة ) (1القامة على معاصي الله ،واليأس من
التوبة ،ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض ،التي في تركها هلك للروح
والدين.
ولما كانت النفقة في سبيل الله نوعا من أنواع الحسان ،أمر بالحسان
َ
ن { وهذا يشمل جميع سِني َ ح ِ م ْب ال ْ ُح ّ ن الل ّ َ
ه يُ ِ سُنوا إ ِ ّ ح ِ عموما فقال } :وَأ ْ
أنواع الحسان ،لنه لم يقيده بشيء دون شيء ،فيدخل فيه الحسان
بالمال كما تقدم.
ويدخل فيه الحسان بالجاه ،بالشفاعات ونحو ذلك ،ويدخل في ذلك،
الحسان بالمر بالمعروف ،والنهي عن المنكر ،وتعليم العلم النافع ،ويدخل
في ذلك قضاء حوائج الناس ،من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم ،وعيادة
مرضاهم ،وتشييع جنائزهم ،وإرشاد ضالهم ،وإعانة من يعمل عمل والعمل
لمن ل يحسن العمل ونحو ذلك ،مما هو من الحسان الذي أمر الله به،
ويدخل في الحسان أيضا ،الحسان في عبادة الله تعالى ،وهو كما ذكر
النبي صلى الله عليه وسلم" :أن تعبد الله كأنك تراه ،فإن لم تكن تراه،
فإنه يراك "
سُنوا َ ّ
ح َنأ ْ ذي َ
فمن اتصف بهذه الصفات ،كان من الذين قال الله فيهم } :ل ِل ِ
سَنى وَزَِياد َة ٌ { وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره. ال ْ ُ
ح ْ
ولما فرغ تعالى من ]ذكر[ أحكام الصيام فالجهاد ،ذكر أحكام الحج فقال:
__________
) (1في ب :ومن ذلك.
) (1/90
) (1/90
دا َ
ل سوقَ وََل ِ
ج َ فُ ُ ث وََل ج فََل َرفَ َ ن ال ْ َ
ح ّ ض ِفيهِ ّ ن فََر َ ت فَ َ
م ْ ما ٌ معُْلو َشهٌُر َ ج أَ ْ ح ّال ْ َ
وى
ق َ
الّزادِ الت ّ ْ خي َْر
ن َدوا فَإ ِ ّ ه الل ّ ُ
ه وَت ََزوّ ُ خي ْرٍ ي َعْل َ ْ
م ُ ن َ م ْ فعَُلوا ِ ما ت َ ْ
ج وَ َ
ح ّ ِفي ال ْ َ
َ ُ
ب )(197 ن َيا أوِلي اْلل َْبا ِ قو ِ َوات ّ ُ
ث َول ج َفل َرفَ َ ح ّ ن ال ْ َض ِفيهِ ّ ن فََر َ م ْ ت فَ َ ما ٌ معُْلو َ شهٌُر َ ج أَ ْ ح ّ } } { 197ال ْ َ
خي َْر
ن َ دوا فَإ ِ ّ ه وَت ََزوّ ُ ه الل ّ ُم ُ خي ْرٍ ي َعْل َ ْن َ م ْفعَُلوا ِ ما ت َ ْج وَ َح ّ ل ِفي ال ْ َ دا َ ج َسوقَ َول ِ فُ ُ
ُ
ب{. ن َيا أوِلي الل َْبا ِ قو ِ وى َوات ّ ُ ق َ
الّزادِ الت ّ ْ
ج { واقع في } أشهر معلومات { عند المخاطبين، ح ّ ْ
يخبر تعالى أن } ال َ
مشهورات ،بحيث ل تحتاج إلى تخصيص ،كما احتاج الصيام إلى تعيين
شهره ،وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس.
وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم ،التي لم تزل مستمرة في ذريته
معروفة بينهم.
والمراد بالشهر المعلومات عند جمهور العلماء :شوال ،وذو القعدة،
وعشر من ذي الحجة ،فهي التي يقع فيها الحرام بالحج غالبا.
ج { أي :أحرم به ،لن الشروع فيه يصيره فرضا، ح ّ ن ال ْ َ ض ِفيهِ ّ ن فََر َ م ْ} فَ َ
ولو كان نفل.
واستدل بهذه الية الشافعي ومن تابعه ،على أنه ل يجوز الحرام بالحج
قبل أشهره ،قلت لو قيل :إن فيها دللة لقول الجمهور ،بصحة الحرام
ج{ ح ّ ن ال ْ َض ِفيهِ ّ ن فََر َ م ْ ]بالحج[ قبل أشهره لكان قريبا ،فإن قوله } :فَ َ
دليل على أن الفرض قد يقع في الشهر المذكورة وقد ل يقع فيها ،وإل لم
يقيده.
ج { أي :يجب أن تعظموا ح ّ ْ
ل ِفي ال َ دا َ ج َ سوقَ َول ِ ث َول فُ ُ وقولهَ } :فل َرفَ َ
الحرام بالحج ،وخصوصا الواقع في أشهره ،وتصونوه عن كل ما يفسده أو
ينقصه ،من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية ،خصوصا عند
النساء بحضرتهن.
والفسوق وهو :جميع المعاصي ،ومنها محظورات الحرام.
والجدال وهو :المماراة والمنازعة والمخاصمة ،لكونها تثير الشر ،وتوقع
العداوة.
والمقصود من الحج ،الذل ] ص [ 92والنكسار لله ،والتقرب إليه بما
أمكن من القربات ،والتنزه عن مقارفة السيئات ،فإنه بذلك يكون مبرورا
والمبرور ،ليس له جزاء إل الجنة ،وهذه الشياء وإن كانت ممنوعة في كل
مكان وزمان ،فإنها ) (1يتغلظ المنع عنها في الحج.
واعلم أنه ل يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الوامر ،ولهذا
ه { أتى بـ "من "لتنصيص على ه الل ّ ُ
م ُ خي ْرٍ ي َعْل َ ْن َ فعَُلوا ِ
م ْ ما ت َ ْ قال تعالى } :وَ َ
العموم ،فكل خير وقربة وعبادة ،داخل في ذلك ،أي :فإن الله به عليم،
وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير ،وخصوصا في تلك البقاع
الشريفة والحرمات المنيفة ،فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها ،من
صلة ،وصيام ،وصدقة ،وطواف ،وإحسان قولي وفعلي.
ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك ،فإن التزود فيه الستغناء عن
المخلوقين ،والكف عن أموالهم ،سؤال واستشرافا ،وفي الكثار منه نفع
وإعانة للمسافرين ،وزيادة قربة لرب العالمين ،وهذا الزاد الذي المراد منه
إقامة البنية بلغة ومتاع.
وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه ،في دنياه ،وأخراه ،فهو زاد
التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار ،وهو الموصل لكمل لذة ،وأجل نعيم
دائم أبدا ،ومن ترك هذا الزاد ،فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر،
وممنوع من الوصول إلى دار المتقين .فهذا مدح للتقوى.
ُ
ن َيا أوِلي الل َْبا ِ
ب { أي :يا أهل قو ِ
ثم أمر بها أولي اللباب فقالَ } :وات ّ ُ
العقول الرزينة ،اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول ،وتركها
دليل على الجهل ،وفساد الرأي.
__________
) (1في ب :فإنه.
) (1/91
) (1/92
َ
ن م عَل َي ْهِ وَ َ
م ْ ن فََل إ ِث ْ َ مي ْ ِ
ل ِفي ي َوْ َ ج َن ت َعَ ّ ت فَ َ
م ْ دا ٍدو َمع ْ ُ
ه ِفي أّيام ٍ َ َواذ ْك ُُروا الل ّ َ
ن )(203 شُرو َ ح َم إ ِل َي ْهِ ت ُ ْ
َ
موا أن ّك ُ ْه َواعْل َ ُ قوا الل ّ َقى َوات ّ ُ ن ات ّ َ م عَل َي ْهِ ل ِ َ
م ِ ت َأ َ ّ
خَر فََل إ ِث ْ َ
َ
ن َفل إ ِث ْ َ
م مي ْ ِ ل ِفي ي َوْ َ ج َ ن ت َعَ ّم ْ ت فَ َدا ٍ دو َ مع ْ ُه ِفي أّيام ٍ َ } َ } { 203واذ ْك ُُروا الل ّ َ
م إ ِل َي ْ ِ
ه َ
موا أن ّك ُ ْ ه َواعْل َ ُ قوا الل ّ َ قى َوات ّ ُ ن ات ّ َم ِ م عَل َي ْهِ ل ِ َ ن ت َأ َ ّ
خَر َفل إ ِث ْ َ م ْ عَل َي ْهِ وَ َ
ن{. شُرو َ ح َتُ ْ
يأمر تعالى بذكره في اليام المعدودات ،وهي أيام التشريق الثلثة بعد
العيد ،لمزيتها وشرفها ،وكون بقية أحكام المناسك تفعل بها ،ولكون الناس
أضيافا لله فيها ،ولهذا حرم صيامها ،فللذكر فيها مزية ليست لغيرها ،ولهذا
قال النبي صلى الله عليه وسلم" :أيام التشريق ،أيام أكل وشرب ،وذكر
الله "
ويدخل في ذكر الله فيها ،ذكره عند رمي الجمار ،وعند الذبح ،والذكر
المقيد عقب الفرائض ،بل قال بعض العلماء :إنه يستحب فيها التكبير
المطلق ،كالعشر ،وليس ببعيد.
ن { أي :خرج من "منى "ونفر منها قبل غروب مي ْ ِ ل ِفي ي َوْ َ ج َ ن ت َعَ ّ م ْ } فَ َ
َ
خَر { بأن بات بها ليلة الثالث ن ت َأ ّ م ْم عَل َي ْهِ وَ َ شمس اليوم الثاني } َفل إ ِث ْ َ
م عَل َي ْهِ { وهذا تخفيف من الله ]تعالى[ على عباده، ورمى من الغد } َفل إ ِث ْ َ
في إباحة كل المرين ،ولكن من المعلوم أنه إذا أبيح كل المرين ،فالمتأخر
أفضل ،لنه أكثر عبادة.
ولما كان نفي الحرج قد يفهم منه نفي الحرج في ذلك المذكور وفي
غيره ،والحاصل أن الحرج منفي عن المتقدم ،والمتأخر فقط قيده بقوله:
قى { أي :اتقى الله في جميع أموره ،وأحوال الحج ،فمن اتقى ن ات ّ َ م ِ } لِ َ
الله في كل شيء ،حصل له نفي الحرج في كل شيء ،ومن اتقاه في
شيء دون شيء ،كان الجزاء من جنس العمل.
َ َ َ
ه
م إ ِلي ْ ِ ُ
موا أن ّك ْ ه { بامتثال أوامره واجتناب معاصيهَ } ،واعْل ُ قوا الل ّ َ } َوات ّ ُ
ن { فمجازيكم بأعمالكم ،فمن اتقاه ،وجد جزاء التقوى عنده ،ومن شُرو َ ح َتُ ْ
لم يتقه ،عاقبه أشد العقوبة ،فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى
الله ،فلهذا حث تعالى على العلم بذلك.
) (1/93
) (1/93
ف
ه َرُءو ٌ ضاةِ الل ّهِ َوالل ّ ُمْر َ ه اب ْت َِغاَء َ
س ُف َري ن َ ْ ش ِ ن يَ ْم ْ س َن الّنا ِ م َ} } { 207وَ ِ
ِبال ْعَِبادِ { .
هؤلء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة
ي الرءوف بالعباد ،الذي الله ورجاء لثوابه ،فهم بذلوا الثمن للمليء الوف ّ
هّ
ن الل َ
من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك ،وقد وعد الوفاء بذلك ،فقال } :إ ِ ّ
َ َ ن أ َن ْ ُ
ة { إلى آخر الية. م ال ْ َ
جن ّ َ ن ل َهُ ُ وال َهُ ْ
م ب ِأ ّ م َم وَأ ْ سه ُ ْ
ف َ مؤْ ِ
مِني َ ن ال ْ ُ
م َ
شت ََرى ِ ا ْ
وفي هذه الية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها ،وأخبر برأفته الموجبة
لتحصيل ما طلبوا ،وبذل ما به رغبوا ،فل تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم
من الكريم ،وما ينالهم من الفوز والتكريم ). (1
__________
) (1من أول الية إلى هنا ساقط من ب ،وقد قام النجار بتفسير الية من
عند نفسه انظر طبعة النجار ) (254-1/252ولم يبين أن هذا ليس من
كلم الشيخ -رحمه الله.-
) (1/94
) (1/94
) (1/94
ة الل ّهِ ِ ن ي ُب َد ّ ْ م َ ل كَ َ
ما
ن ب َعْدِ َ
م ْ م َ
ل ن ِعْ َ م ْ
ن آي َةٍ ب َي ّن َةٍ وَ َ
م ِ ْ
م آت َي َْناهُ ْسَراِئي َ ْ
ل ب َِني إ ِ ْ س َْ
ب )(211 قا ِ ْ
ديد ُ العِ َ ه َ
ش ِ ّ
ن الل َ ه فَإ ِ ّ
جاَءت ْ ُ َ
ة الل ّهِ
م َ ن ي ُب َد ّ ْ
ل ن ِعْ َ م ْ
ن آي َةٍ ب َي ّن َةٍ وَ َ
م ْم ِم آت َي َْناهُ ْ ل كَ ْسَراِئي َ ل ب َِني إ ِ ْس ْ } َ } { 211
ب{. قا ِ ْ
ديد ُ العِ َ ه َ
ش ِ ّ
ن الل َ َ
ه فإ ِ ّ جاَءت ْ ُ
ما َ
ن ب َعْدِ َ
م ْ
ِ
ن آي َةٍ ب َي ّن َةٍ { تدل على م ْ م ِم آت َي َْناهُ ْ َ
لك ْ سَراِئي َل ب َِني إ ِ ْ س ْبقول تعالىَ } :
الحق ،وعلى صدق الرسل ،فتيقنوها وعرفوها ،فلم يقوموا بشكر هذه
النعمة ،التي تقتضي القيام بها.
بل كفروا بها وبدلوا نعمة الله كفرا ،فلهذا استحقوا أن ينزل الله عليهم
عقابه ويحرمهم من ثوابه ،وسمى الله تعالى كفر النعمة تبديل لها ،لن من
أنعم الله عليه نعمة دينية أو دنيوية ،فلم يشكرها ،ولم يقم بواجبها،
اضمحلت عنه وذهبت ،وتبدلت بالكفر والمعاصي ،فصار الكفر بدل النعمة،
وأما من شكر الله تعالى ،وقام بحقها ،فإنها تثبت وتستمر ،ويزيده الله
منها.
) (1/95
) (1/95
م
معَهُ ُ ل َ ن وَأ َن َْز َ من ْذِِري َن وَ ُري َ ش ِ مب َ ّن ُ ه الن ّب ِّيي َ ث الل ّ ُ حد َةً فَب َعَ َ ة َوا ِ م ً ُ
سأ ّ ن الّنا ُ كا َ َ
ن
ذي َ ّ ّ
ف ِفيهِ إ ِل ال ِ َ
خت َل َ ما ا ْ فوا ِفيهِ وَ َ َ
خت َل ُ ما ا ْ س ِفي َ حك ُ َ ْ ْ
ن الّنا ِ م ب َي ْ َ حقّ ل ِي َ ْ ب ِبال َ الك َِتا َ
ُ
َ ه ال ّ ِ
ما
مُنوا ل ِ َ نآ َ ذي َ دى الل ّ ُ م فَهَ َ ت ب َغًْيا ب َي ْن َهُ ْ م ال ْب َي َّنا ُ
جاَءت ْهُ ُ ما َ ن ب َعْدِ َ م ْأوُتوهُ ِ
قيم ٍ ) ست َ ِ
م ْ ط ُ صَرا ٍ شاُء إ َِلى ِ ن يَ َ م ْ دي َ ه ي َهْ ِ حقّ ب ِإ ِذ ْن ِهِ َوالل ّ ُ ن ال ْ َ م َ فوا ِفيهِ ِ خت َل َ ُ
ا ْ
(213
ُ
ن
من ْذِِري َ ن وَ ُ ري َ ش ِمب َ ّ ن ُ ه الن ّب ِّيي َ ث الل ّ ُ حد َةً فَب َعَ َ ة َوا ِ م ً سأ ّ ن الّنا ُ كا َ } َ } { 213
خت َل َ َ
ف ما ا ْ فوا ِفيهِ وَ َ خت َل َ ُ ما ا ْ س ِفي َ ن الّنا ِ م ب َي ْ َحك ُ َحقّ ل ِي َ ْ ب ِبال ْ َ م ال ْك َِتا َ معَهُ ُ ل َ وَأ َن َْز َ
فيه إل ال ّذي ُ
ن
ذي َه ال ّ ِ
دى الل ّ ُ م فَهَ َ ت ب َغًْيا ب َي ْن َهُ ْ م ال ْب َي َّنا ُ جاَءت ْهُ ُ ما َ ن ب َعْدِ َ م ْ ن أوُتوهُ ِ ِ َ ِ ِ ِ
ط
صَرا ٍ َ
شاُء إ ِلى ِ ن يَ َ م ْدي َ ه ي َهْ ِ ّ
حقّ ب ِإ ِذ ْن ِهِ َوالل ُ ْ
ن ال َ م َ فوا ِفيهِ ِ َ
خت َل ُ ما ا ْ مُنوا ل ِ َ آ َ
قيم ٍ { . ست َ ِم ْ ُ
)أي :كان الناس( ]أي :كانوا مجتمعين على الهدى ،وذلك عشرة قرون بعد
نوح عليه السلم ،فلما اختلفوا في الدين فكفر فريق منهم وبقي الفريق
الخر على الدين ،وحصل النزاع وبعث الله الرسل ليفصلوا بين الخلئق
ويقيموا الحجة عليهم ،وقيل بل كانوا[ ) (1مجتمعين على الكفر والضلل
والشقاء ،ليس لهم نور ول إيمان ،فرحمهم الله تعالى بإرسال الرسل
ن { من أطاع الله بثمرات الطاعات ،من الرزق ،والقوة ري َ ش ِ مب َ ّإليهم } ُ
في البدن والقلب ،والحياة الطيبة ،وأعلى ذلك ،الفوز برضوان الله والجنة.
ن { من عصى الله ،بثمرات المعصية ،من حرمان الرزق، من ْذِِري َ } وَ ُ
والضعف ،والهانة ،والحياة الضيقة ،وأشد ذلك ،سخط الله والنار.
حقّ { وهو الخبارات الصادقة ،والوامر العادلة، ب ِبال ْ َ م ال ْك َِتا َ معَهُ ُ ل َ} وََأنز َ
فكل ما اشتملت عليه الكتب ،فهو حق ،يفصل بين المختلفين في الصول
والفروع ،وهذا هو الواجب عند الختلف والتنازع ،أن يرد الختلف إلى الله
وإلى رسوله ،ولول أن في كتابه ،وسنة رسوله ،فصل النزاع ،لما أمر بالرد
إليهما.
ولما ذكر نعمته العظيمة بإنزال الكتب على أهل الكتاب ،وكان هذا ] ص
[ 96يقتضي اتفاقهم عليها واجتماعهم ،فأخبر تعالى أنهم بغى بعضهم
على بعض ،وحصل النزاع والخصام وكثرة الختلف.
فاختلفوا في الكتاب الذي ينبغي أن يكونوا أولى الناس بالجتماع عليه،
وذلك من بعد ما علموه وتيقنوه باليات البينات ،والدلة القاطعات ،فضلوا
بذلك ضلل بعيدا.
حق ّ { ْ
ن ال َ م َفوا ِفيهِ ِ َ
خت َل ُ ما ا ْ مُنوا { من هذه المة } ل ِ َ نآ َ ذي َ ه ال ّ ِ دى الل ّ ُ } فَهَ َ
فكل ما اختلف فيه أهل الكتاب ،وأخطأوا فيه الحق والصواب ،هدى الله
للحق فيه هذه المة } ب ِإ ِذ ْن ِهِ { تعالى وتيسيره لهم ورحمته.
م الخلق تعالى بالدعوة
قيم ٍ { فع ّ
ست َ ِ
م ْ
ط ُ شاُء إ َِلى ِ
صَرا ٍ ن يَ َ
م ْ
دي َ } َوالل ّ ُ
ه ي َهْ ِ
إلى الصراط المستقيم ،عدل منه تعالى ،وإقامة حجة على الخلق ،لئل
يقولوا } :ما جاءنا من بشير ول نذير { وهدى -بفضله ورحمته ،وإعانته
ولطفه -من شاء من عباده ،فهذا فضله وإحسانه ،وذاك عدله وحكمته.
__________
) (1زيادة في هامش ب ،وبالنظر إلى السياق يظهر أن القرب أن هذا
محلها ،ولهذا وليتسق الكلم يكون آخره هكذا )وقيل بل كانوا مجتمعين
على الكفر( ويكون قوله) :أي كان الناس( مكررا.
) (1/95
ْ أ َم حسبت َ
م
ست ْهُ ُ
م ّ ن قَب ْل ِك ُ ْ
م َ م ْ
وا ِ خل َ ْ
ن َذي َ ل ال ّ ِ
مث َ ُ
م َما ي َأت ِك ُ ْة وَل َ ّ خُلوا ال ْ َ
جن ّ َ ن ت َد ْ ُ مأ ْْ َ ِ ُْ ْ
ْ
َ ّ ُ ْ
صُر ن تى م
َ َ ُ َ َ َ ْ ه ع م نوا م آ
َ ِ َ َ ُن ذي ل وا ُ
ل سوّ ُ رال َ
ل قوُ ي
َ ّ َتى ح لوا ز
َُ ِل زو ُ ء را
ساُء َ ّ ّ
ض وال ال ْب َأ َ
َ
ب )(214 ري ٌ صَر الل ّهِ قَ ِ ن نَ ْالل ّهِ أَل إ ِ ّ
ْ } } { 214أ َم حسبت َ
نم ْ وا ِ خل َ ْن َ ذي َل ال ّ ِ مث َ ُ م َ ما ي َأت ِك ُ ْ ة وَل َ ّ جن ّ َ خُلوا ال ْ َ
ن ت َد ْ ُ مأ ْ ْ َ ِ ُْ ْ
ْ
مُنوا نآ َ ذي َ ّ
ل َوال ِ سو ُ ل الّر ُ قو َ حّتى ي َ ُ ُ ْ
ضّراُء وَُزلزِلوا َ ساُء َوال ّ م ال ْب َأ َ ست ْهُ ُم ّم َ قَب ْل ِك ُ ْ
ّ َ ّ
ب{. ري ٌ صَر اللهِ قَ ِ ن نَ ْ صُر اللهِ أل إ ِ ّ مَتى ن َ ْ ه َ مع َ ُ َ
يخبر تبارك وتعالى أنه ل بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة
كما فعل بمن قبلهم ،فهي سنته الجارية ،التي ل تتغير ول تتبدل ،أن من
قام بدينه وشرعه ،ل بد أن يبتليه ،فإن صبر على أمر الله ،ولم يبال
بالمكاره الواقفة في سبيله ،فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها،
ومن السيادة آلتها.
ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله ،بأن صدته المكاره عما هو بصدده،
وثنته المحن عن مقصده ،فهو الكاذب في دعوى اليمان ،فإنه ليس
اليمان بالتحلي والتمني ،ومجرد الدعاوى ،حتى تصدقه العمال أو تكذبه.
ْ
ساُء { أي: م ال ْب َأ َ ست ْهُ ُ م ّ فقد جرى على المم القدمين ما ذكر الله عنهم } َ
ضّراُء { أي :المراض في أبدانهم } وَُزل ْزِلوا { بأنواع المخاوف
ُ الفقر } َوال ّ
من التهديد بالقتل ،والنفي ،وأخذ الموال ،وقتل الحبة ،وأنواع المضار
حتى وصلت بهم الحال ،وآل بهم الزلزال ،إلى أن استبطأوا نصر الله مع
يقينهم به.
صُرمَتى ن َ ْ ه َ مع َ ُمُنوا َ نآ َ ذي َ ل َوال ّ ِ سو ُ ولكن لشدة المر وضيقه قال } الّر ُ
الل ّهِ { .
ن َ
فلما كان الفرج عند الشدة ،وكلما ضاق المر اتسع ،قال تعالى } :أل إ ِ ّ
ب { فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن. ري ٌ صَر الل ّهِ قَ ِ نَ ْ
فكلما اشتدت عليه وصعبت ،إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت
المحنة في حقه منحة ،والمشقات راحات ،وأعقبه ذلك ،النتصار على
م َ
العداء وشفاء ما في قلبه من الداء ،وهذه الية نظير قوله تعالى } :أ ْ
حسبت َ
ن
ري َصاب ِ ِ م ال ّ م وَي َعْل َ َ من ْك ُ ْ دوا ِ جاهَ ُ ن َ ذي َ ه ال ّ ِ ما ي َعْل َم ِ الل ّ ُ ة وَل َ ّ خُلوا ال ْ َ
جن ّ َ ن ت َد ْ ُ
مأ ْ َ ِ ُْ ْ
{.
مل ُ َ ُ َ َ
مّنا وَهُ ْ قولوا آ َ ن يَ ُ ن ي ُت َْركوا أ ْ سأ ْ ب الّنا ُ س َ ح ِ وقوله ]تعالى } [:الم أ َ
ن صد َُقوا وَل َي َعْل َ َ
م ّ ن َ ه ال ّ ِ
ذي َ ن الل ّ ُ م فَل َي َعْل َ َ
م ّ ن قَب ْل ِهِ ْ
م ْ
ن ِ قد ْ فَت َّنا ال ّ ِ
ذي َ ن وَل َ َفت َُنو َ
يُ ْ
ن { فعند المتحان ،يكرم المرء أو يهان. ال ْكاذِِبي َ
َ
) (1/96
ن َوال ْي ََتا َ
مى َ
ن َواْلقَْرِبي َ خي ْرٍ فَل ِل ْ َ
وال ِد َي ْ ِ ن َم ْم ِقت ُ ْ ما أ َن ْ َ
ف ْ ل َن قُ ْ قو َف ُ ما َ
ذا ي ُن ْ ِ ك َسأ َُلون َ َ يَ ْ
م )(215 ه ب ِهِ عَِلي ٌ ّ
ن الل َ خي ْرٍ فَإ ِ ّ ن َم ْ ُ
فعَلوا ِ ما ت َ ْ ل وَ َسِبي ِن ال ّ ْ
ن َواب ْ ِ كي ِ
سا ِ م َ َوال َ
ن خي ْرٍ فَل ِل ْ َ
وال ِد َي ْ ِ ن َ م ْ م ِ قت ُ ْ ما أ َن ْ َ
ف ْ ل َ ن قُ ْ قو َ ف ُ ما َ
ذا ي ُن ْ ِ ك َ سأ َُلون َ َ } } { 215ي َ ْ
هّ
ن الل َ َ
خي ْرٍ فإ ِ ّ ن َ م ْ ُ
فعَلوا ِ ما ت َ ْل وَ َ سِبي ِ ن ال ّ ْ ن َوال ْي ََتا ََوالقَْرِبي َ
ن َواب ْ ِ كي ِ سا ِ م َمى َوال َ
م{. ب ِهِ عَِلي ٌ
أي :يسألونك عن النفقة ،وهذا يعم السؤال عن المنفق والمنفق عليه،
خي ْرٍ { أي :مال قليل أو كثير، ن َ م ْ م ِقت ُ ْف ْما أ َن ْ َ ل َ فأجابهم عنهما فقال } :قُ ْ
فأولى الناس به وأحقهم بالتقديم ،أعظمهم حقا عليك ،وهم الوالدان
الواجب برهما ،والمحرم عقوقهما ،ومن أعظم برهما ،النفقة عليهما ،ومن
أعظم العقوق ،ترك النفاق عليهما ،ولهذا كانت النفقة عليهما واجبة ،على
الولد الموسر ،ومن بعد الوالدين القربون ،على اختلف طبقاتهم ،القرب
فالقرب ،على حسب القرب والحاجة ،فالنفاق عليهم صدقة وصلة،
مى { وهم الصغار الذين ل كاسب لهم ،فهم في مظنة الحاجة } َوال ْي ََتا َ
لعدم قيامهم بمصالح أنفسهم ،وفقد الكاسب ،فوصى الله بهم العباد،
ن { وهم أهل الحاجات ،وأرباب كي ِ سا ِ م َ رحمة منه بهم ولطفاَ } ،وال ْ َ
الضرورات الذين أسكنتهم الحاجة ،فينفق عليهم ،لدفع حاجاتهم وإغنائهم.
ل { أي :الغريب المنقطع به في غير بلده ،فيعان على سفره سِبي ِ ن ال ّ} َواب ْ َ
بالنفقة ،التي توصله إلى مقصده.
ولما خصص الله تعالى هؤلء الصناف ،لشدة الحاجة ،عمم تعالى فقال} :
خي ْرٍ { من صدقة على هؤلء وغيرهم ،بل ومن جميع أنواع ن َ م ْ فعَُلوا ِ ما ت َ ْ وَ َ
م{ ه ب ِهِ عَِلي ٌ ّ
ن الل َ الطاعات والقربات ،لنها تدخل في اسم الخير } ،فَإ ِ ّ
فيجازيكم عليه ،ويحفظه لكم ،كل على حسب نيته وإخلصه ،وكثرة نفقته
وقلتها ،وشدة الحاجة إليها ،وعظم وقعها ونفعها.
) (1/96
َ
خي ٌْر ل َك ُ ْ
م شي ًْئا وَهُوَ َ هوا َ ن ت َك َْر ُ سى أ ْ م وَعَ َ ل وَهُوَ ك ُْرهٌ ل َك ُ ْ م ال ْ ِ
قَتا ُ ب عَل َي ْك ُ ُك ُت ِ َ
َ َ
ن )(216 م َل ت َعْل َ ُ
مو َ م وَأن ْت ُ ْ ه ي َعْل َ ُ
م َوالل ّ ُ
شّر ل َك ُ ْ شي ًْئا وَهُوَ َ
حّبوا َ ن تُ ِسى أ ْ وَعَ َ
َ
شي ًْئا وَهُوَ ن ت َك َْر ُ
هوا َ سى أ ْ م وَعَ َ ل وَهُوَ ك ُْرهٌ ل َك ُ ْ
قَتا ُ م ال ْ ِ
ب عَل َي ْك ُ ُ } } { 216ك ُت ِ َ
َ َ
مل م وَأن ْت ُ ْه ي َعْل َ ُ
م َوالل ّ ُ شّر ل َك ُ ْ شي ًْئا وَهُوَ َ
حّبوا َ ن تُ ِ سى أ ْ خي ٌْر ل َك ُ ْ
م وَعَ َ َ
ن{. مو َ َ
ت َعْل ُ
هذه الية ،فيها فرض القتال في سبيل الله ،بعد ما كان المؤمنون
مأمورين بتركه ،لضعفهم ،وعدم احتمالهم لذلك ،فلما هاجر النبي صلى
الله عليه وسلم إلى المدينة ،وكثر ] ص [ 97المسلمون ،وقووا أمرهم
الله تعالى بالقتال ،وأخبر أنه مكروه للنفوس ،لما فيه من التعب
والمشقة ،وحصول أنواع المخاوف والتعرض للمتالف ،ومع هذا ،فهو خير
محض ،لما فيه من الثواب العظيم ،والتحرز من العقاب الليم ،والنصر
على العداء والظفر بالغنائم ،وغير ذلك ،مما هو مرب ،على ما فيه من
َ
م { وذلك مثل القعود عن شّر ل َك ُ ْ
شي ًْئا وَهُوَ َ
حّبوا َ
ن تُ ِ
سى أ ْ
الكراهة } وَعَ َ
الجهاد لطلب الراحة ،فإنه شر ،لنه يعقب الخذلن ،وتسلط العداء على
السلم وأهله ،وحصول الذل والهوان ،وفوات الجر العظيم وحصول
العقاب.
وهذه اليات عامة مطردة ،في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما
فيها من المشقة أنها خير بل شك ،وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما
تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شر بل شك.
وأما أحوال الدنيا ،فليس المر مطردا ،ولكن الغالب على العبد المؤمن،
أنه إذا أحب أمرا من المور ،فقيض الله ]له[ من السباب ما يصرفه عنه
أنه خير له ،فالوفق له في ذلك ،أن يشكر الله ،ويجعل الخير في الواقع،
لنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه ،وأقدر على مصلحة عبده
َ
مل ه ي َعْل َ ُ
م وَأن ْت ُ ْ منه ،وأعلم بمصلحته منه كما قال ]تعالىَ } [:والل ّ ُ
ن { فاللئق بكم أن تتمشوا مع أقداره ،سواء سرتكم أو ساءتكم. ت َعْل َ ُ
مو َ
ولما كان المر بالقتال ،لو لم يقيد ،لشمل الشهر الحرم وغيرها ،استثنى
تعالى ،القتال في الشهر الحرم فقال:
) (1/96
ل
سِبي ِ ن َ صد ّ عَ ْ ل ِفيهِ ك َِبيٌر وَ َ ل قَِتا ٌ ل ِفيهِ قُ ْ حَرام ِ قَِتا ٍ شهْرِ ال ْ َ ن ال ّ ِ ك عَ سأ َُلون َ َ يَ ْ
َ
ة أك ْب َُر فت ْن َ ُ ْ ّ َ
ه أك ْب َُر ِ َ ْ ْ الل ّهِ وَك ُ ْ
عن ْد َ اللهِ َوال ِ من ْ ُج أهْل ِهِ ِ خَرا ُ حَرام ِ وَإ ِ ْ جدِ ال َ س ِ م ْفٌر ب ِهِ َوال َ
ن
م ْ عوا وَ َ طا ُ ست َ َ
نا ْ م إِ ِ ن ِدين ِك ُ ْ م عَ ْ دوك ُ ْ حّتى ي َُر ّ م َ قات ُِلون َك ُ ْ
ن يُ َ ل وََل ي ََزاُلو َ قت ْ ِ ن ال ْ َ م َ ِ
م ِفي الد ّن َْيا هُ ل ما ع َ أ ت َ ط ب ح َ
ك ئَ ل أوُ َ ف ر فكاَ و ه و ت م يَ ف ه ندي ن ع م ُ
َ ُ ْ ْ ْ َ ِ ِ ِ ٌ ْ ِ ِ ِ َ ُ ْ َ ُ َ َ يَ ْ َ ِ ْ ِ ْ ْ
ك نم د د ت ر
ن )(217 َ خَرةِ وَُأول َئ ِ َ َواْل َ ِ
دو َ خال ِ ُ م ِفيَها َ ب الّنارِ هُ ْ حا ُ ص َ كأ ْ
ل ِفيهِ ك َِبيٌر وَ َ
صد ّ ل قَِتا ٌ ل ِفيهِ قُ ْ حَرام ِ قَِتا ٍ شهْرِ ال ْ َ ن ال ّ ِ ك عَ سأ َُلون َ َ } } { 217ي َ ْ
هّ َ
ه أك ْب َُر ِ َ ْ ْ ل الل ّهِ وَك ُ ْ
عن ْد َ الل ِ من ْ ُ
ج أهْل ِهِ ِ خَرا ُ حَرام ِ وَإ ِ ْ جدِ ال َ س ِ م ْ فٌر ب ِهِ َوال َ سِبي ِ ن َ عَ ْ
ُ ُ ْ َ
ن ن ِدين ِك ُ ْ
م إِ ِ م عَ ْ دوك ُ ْحّتى ي َُر ّ م َ قات ِلون َك ُ ْ ن يُ َل َول ي ََزالو َ ِ قت ْ
ن ال َ َ ة أك ْب َُر ِ
م َوال ْ ِ
فت ْن َ ُ
حب ِط َ ْ
ت ك َ كافٌِر فَُأول َئ ِ َ ت وَهُوَ َ م ْ ن ِدين ِهِ فَي َ ُ م عَ ْ من ْك ُ ْن ي َْرت َدِد ْ ِ م ْعوا وَ َ طا ُ ست َ َ ا ْ
َ ُ
خَرةِ وَأول َئ ِ َ َ
ن{. دو َ خال ِ ُم ِفيَها َ ب الّنارِ هُ ْ حا ُ ص َ كأ ْ م ِفي الد ّن َْيا َوال ِ مال ُهُ ْ أع ْ َ
الجمهور على أن تحريم القتال في الشهر الحرم ،منسوخ بالمر بقتال
المشركين حيثما وجدوا ،وقال بعض المفسرين :إنه لم ينسخ ،لن المطلق
محمول على المقيد ،وهذه الية مقيدة لعموم المر بالقتال مطلقا؛ ولن
من جملة مزية الشهر الحرم ،بل أكبر مزاياها ،تحريم القتال فيها ،وهذا
إنما هو في قتال البتداء ،وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الشهر الحرم،
كما يجوز في البلد الحرام.
ولما كانت هذه الية نازلة بسبب ما حصل ،لسرية عبد الله بن جحش،
وقتلهم عمرو بن الحضرمي ،وأخذهم أموالهم ،وكان ذلك -على ما قيل -
في شهر رجب ،عيرهم المشركون بالقتال بالشهر الحرم ،وكانوا في
تعييرهم ظالمين ،إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به
ل الل ّهِ { أي :صد سِبي ِ ن َ صد ّ عَ ْ المسلمين ،قال تعالى في بيان ما فيهم } :وَ َ
المشركين من يريد اليمان بالله وبرسوله ،وفتنتهم من آمن به ،وسعيهم
في ردهم عن دينهم ،وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام ،والبلد الحرام،
الذي هو بمجرده ،كاف في الشر ،فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد
ج أ َهْل ِهِ { أي :أهل المسجد الحرام ،وهم النبي صلى الله خَرا ُحرام؟! } وَإ ِ ْ
عليه وسلم وأصحابه ،لنهم أحق به من المشركين ،وهم عماره على
ه { ولم يمكنوهم من الوصول إليه ،مع أن هذا من ْ ُ
الحقيقة ،فأخرجوهم } ِ
َ
ن م َ البيت سواء العاكف فيه والباد ،فهذه المور كل واحد منها } أك ْب َُر ِ
ل { في الشهر الحرام ،فكيف وقد اجتمعت فيهم؟! فعلم أنهم فسقة قت ْ ِال ْ َ
ظلمة ،في تعييرهم المؤمنين.
ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين ،وليس غرضهم في
أموالهم وقتلهم ،وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم ،ويكونوا كفارا بعد
إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير ،فهم باذلون قدرتهم في ذلك،
ساعون بما أمكنهم } ،ويأبى الله إل أن يتم نوره ولو كره الكافرون { .
وهذا الوصف عام لكل الكفار ،ل يزالون يقاتلون غيرهم ،حتى يردوهم عن
دينهم ،وخصوصا ،أهل الكتاب ،من اليهود والنصارى ،الذين بذلوا
الجمعيات ،ونشروا الدعاة ،وبثوا الطباء ،وبنوا المدارس ،لجذب المم إلى
دينهم ،وتدخيلهم عليهم ،كل ما يمكنهم من الشبه ،التي تشككهم في
دينهم.
ن على المؤمنين بالسلم ،واختار م ّ ولكن المرجو من الله تعالى ،الذي َ
لهم دينه القيم ،وأكمل لهم دينه ،أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم القيام،
وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره ،ويجعل كيدهم في نحورهم ،وينصر
دينه ،ويعلي كلمته.
وتكون هذه الية صادقة على هؤلء الموجودين من الكفار ،كما صدقت
هّ قو َ
ل الل ِسِبي ِ ن َ دوا عَ ْ ص ّ وال َهُ ْ
م ل ِي َ ُ م َ نأ ْ ف ُ َ فُروا ي ُن ْ ِ ن كَ َ ذي َ ن ال ّ ِ
على من قبلهم } :إ ِ ّ
م
جهَن ّ َ َ
فُروا إ ِلى َ َ
نك َ ذي َ ّ
ن َوال ِ َ
م ي ُغْلُبو َ سَرةً ث ُ ّح ْ م َ َ
ن عَلي ْهِ ْ كو ُم تَ ُقون ََها ث ُ ّف ُ فَ َ
سي ُن ْ ِ
ن{. شُرو َ ح َ يُ ْ
ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن السلم ،بأن اختار عليه الكفر واستمر على
خَرةِ { لعدم م ِفي الد ّن َْيا َوال ِ مال ُهُ ْ ت أعْ َ
َ
حب ِط َ ْ ك َ ذلك حتى مات كافرا } ،فَُأول َئ ِ َ
ن{. وجود شرطها وهو السلم } ،وُأول َئ ِ َ َ
دو َخال ِ ُ م ِفيَها َ ب الّنارِ هُ ْ حا ُ ص َ كأ ْ َ
] ص [ 98
ودلت الية بمفهومها ،أن من ارتد ثم عاد إلى السلم ،أنه يرجع إليه عمله
الذي قبل ردته ،وكذلك من تاب من المعاصي ،فإنها تعود إليه أعماله
المتقدمة.
) (1/97
ة
م َ
ح َ
ن َر ْ
جو َ ل الل ّهِ ُأول َئ ِ َ
ك ي َْر ُ سِبي ِ
دوا ِفي َ
جاهَ ُ
جُروا وَ َ
ها َ
ن َ مُنوا َوال ّ ِ
ذي َ
ذي َ
نآ َ ن ال ّ ِ َ إِ ّ
م )(218 حي ٌ
فوٌر َر ِ الل ّهِ َوالل ّ ُ
ه غَ ُ
كل الل ّهِ ُأول َئ ِ َ
سِبي ِدوا ِفي َجاهَ ُ
جُروا وَ َ
ها َ
ن َذي َ مُنوا َوال ّ ِنآ َ ن ال ّ ِ
ذي َ } } { 218إ ِ ّ
م{. حي ٌ فوٌر َر ِ ه غَ ُ ّ
ة اللهِ َوالل ُّ م َ
ح َن َر ْ
جو َ
ي َْر ُ
هذه العمال الثلثة ،هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية ،وبها يعرف
ما مع النسان ،من الربح والخسران ،فأما اليمان ،فل تسأل عن فضيلته،
وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة ،وأهل
الجنة من أهل النار؟ وهو الذي إذا كان مع العبد ،قبلت أعمال الخير منه،
وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ول عدل ،ول فرض ،ول نفل.
وأما الهجرة :فهي مفارقة المحبوب المألوف ،لرضا الله تعالى ،فيترك
المهاجر وطنه وأمواله ،وأهله ،وخلنه ،تقربا إلى الله ونصرة لدينه.
وأما الجهاد :فهو بذل الجهد في مقارعة العداء ،والسعي التام في نصرة
دين الله ،وقمع دين الشيطان ،وهو ذروة العمال الصالحة ،وجزاؤه،
أفضل الجزاء ،وهو السبب الكبر ،لتوسيع دائرة السلم وخذلن عباد
الصنام ،وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولدهم.
فمن قام بهذه العمال الثلثة على لوائها ومشقتها كان لغيرها أشد قياما
به وتكميل.
فحقيق بهؤلء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله ،لنهم أتوا بالسبب
الموجب للرحمة ،وفي هذا دليل على أن الرجاء ل يكون إل بعد القيام
بأسباب السعادة ،وأما الرجاء المقارن للكسل ،وعدم القيام بالسباب،
فهذا عجز وتمن وغرور ،وهو دال على ضعف همة صاحبه ،ونقص عقله،
بمنزلة من يرجو وجود ولد بل نكاح ،ووجود الغلة بل بذر وسقي ،ونحو
ذلك.
ة الل ّهِ { إشارة إلى أن العبد ولو أتى من م َ ُ
وفي قوله } :أول َئ ِ َ
ح َ ن َر ْ
جو َ ك ي َْر ُ
العمال بما أتى به ل ينبغي له أن يعتمد عليها ،ويعول عليها ،بل يرجو
رحمة ربه ،ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه ،وستر عيوبه.
م { وسعت حي ٌ
فوٌر { أي :لمن تاب توبة نصوحا } َر ِ ه غَ ُولهذا قالَ } :والل ّ ُ
رحمته كل شيء ،وعم جوده وإحسانه كل حي.
وفي هذا دليل على أن من قام بهذه العمال المذكورة ،حصل له مغفرة
الله ،إذ الحسنات يذهبن السيئات وحصلت له رحمة الله.
وإذا حصلت له المغفرة ،اندفعت عنه عقوبات الدنيا والخرة ،التي هي آثار
الذنوب ،التي قد غفرت واضمحلت آثارها ،وإذا حصلت له الرحمة ،حصل
على كل خير في الدنيا والخرة؛ بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم،
فلول توفيقه إياهم ،لم يريدوها ،ولول إقدارهم عليها ،لم يقدروا عليها،
ن
ولول إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم ،فله الفضل أول وآخرا ،وهو الذي م ّ
بالسبب والمسبب.
ثم قال تعالى:
) (1/98
ما
مه ُ َس وَإ ِث ْ ُ مَنافِعُ ِللّنا ِ م ك َِبيٌر وَ َما إ ِث ْ ٌ
ل ِفيهِ َ سرِ قُ ْ مرِ َوال ْ َ
مي ْ ِ خ ْن ال ْ َ ِ ك عَ سأ َُلون َ َ
يَ ْ
َ َ
مه ل َك ُ ُ ن الل ّ ُ فوَ ك َذ َل ِ َ
ك ي ُب َي ّ ُ ل ال ْعَ ْن قُ ِ قو َ ف ُ ما َ
ذا ي ُن ْ ِ ك َسأُلون َ َ ما وَي َ ْ فعِهِ َ ن نَ ْم ْأك ْب َُر ِ
ن )(219 فك ُّرو َ م ت َت َ َ ت ل َعَل ّك ُ ْاْل ََيا ِ
مَنافِعُ م ك َِبيٌر وَ َما إ ِث ْ ٌ سرِ قُ ْ
ل ِفيهِ َ مي ْ ِمرِ َوال ْ َ خ ْن ال ْ َ ك عَ ِ سأ َُلون َ َ} } { 219ي َ ْ
ْ َ
ما { . فعِهِ َ ن نَ ْ
م ْ
ما أكب َُر ِ س وَإ ِث ْ ُ
مه ُ َ ِللّنا ِ
أي :يسألك -يا أيها الرسول -المؤمنون عن أحكام الخمر والميسر ،وقد
كانا مستعملين في الجاهلية وأول السلم ،فكأنه وقع فيهما إشكال ،فلهذا
سألوا عن حكمهما ،فأمر الله تعالى نبيه ،أن يبين لهم منافعهما
ومضارهما ،ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما ،وتحتيم تركهما.
فأخبر أن إثمهما ومضارهما ،وما يصدر منهما من ذهاب العقل والمال،
والصد عن ذكر الله ،وعن الصلة ،والعداوة ،والبغضاء -أكبر مما يظنونه
من نفعهما ،من كسب المال بالتجارة بالخمر ،وتحصيله بالقمار والطرب
للنفوس ،عند تعاطيهما ،وكان هذا البيان زاجرا للنفوس عنهما ،لن العاقل
يرجح ما ترجحت مصلحته ،ويجتنب ما ترجحت مضرته ،ولكن لما كانوا قد
ألفوهما ،وصعب التحتيم بتركهما أول وهلة ،قدم هذه الية ،مقدمة
َ
سُر مُر َوال ْ َ
مي ْ ِ ما ال ْ َ
خ ْ مُنوا إ ِن ّ َ
نآ َ ذي َللتحريم ،الذي ذكره في قولهَ } :يا أي َّها ال ّ ِ
ن{ من ْت َُهو َ ن { إلى قولهُ } : طا ِشي ْ َ ل ال ّ م ِ
ن عَ َ م ْ س ِ ج ٌ م رِ ْ ب َوالْزل ُ صا َُوالن ْ َ
وهذا من لطفه ورحمته وحكمته ،ولهذا لما نزلت ،قال عمر رضي الله
عنه :انتهينا انتهينا.
فأما الخمر :فهو كل مسكر خامر العقل وغطاه ،من أي نوع كان ،وأما
الميسر :فهو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين ،من النرد،
والشطرنج ،وكل مغالبة قولية أو فعلية ،بعوض ) (1سوى مسابقة الخيل،
والبل ،والسهام ،فإنها مباحة ،لكونها معينة على الجهاد ،فلهذا رخص فيها
الشارع.
__________
) (1زيادتان في ب بخط مغاير.
) (1/98
ه ل َك ُ ُ
م ن الل ّ ُ
ك ي ُب َي ّ ُ ل ال ْعَ ْ
فوَ ك َذ َل ِ َ ن قُ ِ قو َف ُ ما َ
ذا ي ُن ْ ِ ك َسأ َُلون َ َ} } { 220 - 219وَي َ ْ
خَرةِ { . ن * ِفي الد ّن َْيا َوال ِ فك ُّرو َ م ت َت َ َت ل َعَل ّك ُ ْ الَيا ِ
وهذا سؤال عن مقدار ما ينفقونه من أموالهم ،فيسر الله لهم المر،
وأمرهم أن ينفقوا العفو ،وهو المتيسر من أموالهم ،الذي ل تتعلق به
حاجتهم وضرورتهم ،وهذا يرجع إلى ] ص [ 99كل أحد بحسبه ،من غني
وفقير ومتوسط ،كل له قدرة على إنفاق ما عفا من ماله ،ولو شق تمرة.
ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم ،أن يأخذ العفو من أخلق
الناس وصدقاتهم ،ول يكلفهم ما يشق عليهم .ذلك بأن الله تعالى لم
يأمرنا بما أمرنا به حاجة منه لنا ،أو تكليفا لنا ]بما يشق[ ) (1بل أمرنا بما
فيه سعادتنا ،وما يسهل علينا ،وما به النفع لنا ولخواننا فيستحق على ذلك
أتم الحمد.
ولما بّين تعالى هذا البيان الشافي ،وأطلع العباد على أسرار شرعه قال:
ت { أي :الدالت على الحق ،المحصلت للعلم م الَيا ِ ه ل َك ُ ُ
ن الل ّ ُ ك ي ُب َي ّ ُ} ك َذ َل ِ َ
خَرةِ { أي :لكي ن ِفي الد ّن َْيا َوال ِ فك ُّرو َ النافع والفرقان } ،ل َعَل ّك ُ ْ
م ت َت َ َ
تستعملوا أفكاركم في أسرار شرعه ،وتعرفوا أن أوامره ،فيها مصالح
الدنيا والخرة ،وأيضا لكي تتفكروا في الدنيا وسرعة انقضائها ،فترفضوها
وفي الخرة وبقائها ،وأنها دار الجزاء فتعمروها.
__________
) (1في أ :لمع.
) (1/98
ن خي ٌْر وَإ ِ ْ م َ ح ل َهُ ْ صَل ٌ ل إِ ْ مى قُ ْ ن ال ْي ََتا َ ِ ك عَ سأ َُلون َ َ خَرةِ وَي َ ْ ِفي الد ّن َْيا َواْل َ ِ
َ
ه َلعْن َت َك ُ ْ
م شاَء الل ّ ُ صل ِِح وَل َوْ َ م ْ ن ال ْ ُ م َ سد َ ِ ف ِ م ْ م ال ْ ُ ه ي َعْل َ ُ م َوالل ّ ُ وان ُك ُ ْ خ َ م فَإ ِ ْ طوهُ ْ خال ِ ُ تُ َ
م )(220 كي ٌ ح ِ زيٌز َ ه عَ ِ ّ
ن الل َ إِ ّ
م
طوهُ ْ خال ِ ُ ن تُ َخي ٌْر وَإ ِ ْ م َ ح ل َهُ ْ صل ٌ ل إِ ْ مى قُ ْ ن ال ْي ََتا َ ك عَ ِ سأ َُلون َ َ } } { 220وَي َ ْ
هّ
ن الل َ م إِ ّ ُ
ه لعْن َت َك ْ ّ
شاَء الل ُ َ
صل ِِح وَلوْ َ م ْ ْ
ن ال ُ م َ سد َ ِ ف ِ م ْ ْ
م ال ُ َ
ه ي َعْل ُ م َوالل ّ ُ وان ُك ُ ْ فَإ ِ ْ
خ َ
م{ كي ٌ ح ِزيٌز َ عَ ِ
ن ُ ُ ْ ْ ُ ْ وا َ َ ُ ُ ْ ّ
ما ي َأكلو َ ما إ ِن ّ َمى ظل ً ل الي ََتا َ م َنأ ْ ن ي َأكلو َ ذي َ ن ال ِ لما نزل قوله تعالى } :إ ِ ّ
سِعيًرا { شق ذلك على المسلمين ،وعزلوا ن َ صل َوْ َ سي َ ْ م َناًرا وَ َ طون ِهِ ْ ِفي ب ُ ُ
طعامهم عن طعام اليتامى ،خوفا على أنفسهم من تناولها ،ولو في هذه
الحالة التي جرت العادة بالمشاركة فيها ،وسألوا النبي صلى الله عليه
وسلم عن ذلك ،فأخبرهم تعالى أن المقصود ،إصلح أموال اليتامى،
بحفظها وصيانتها ،والتجار فيها وأن خلطتهم إياهم في طعام أو غيره جائز
على وجه ل يضر باليتامى ،لنهم إخوانكم ،ومن شأن الخ مخالطة أخيه،
والمرجع في ذلك إلى النية والعمل ،فمن علم الله من نيته أنه مصلح
لليتيم ،وليس له طمع في ماله ،فلو دخل عليه شيء من غير قصد لم يكن
عليه بأس ،ومن علم الله من نيته ،أن قصده بالمخالطة ،التوصل إلى أكلها
وتناولها ،فذلك الذي حرج وأثم ،و "الوسائل لها أحكام المقاصد "
وفي هذه الية ،دليل على جواز أنواع المخالطات ،في المآكل والمشارب،
والعقود وغيرها ،وهذه الرخصة ،لطف من الله ]تعالى[ وإحسان ،وتوسعة
م { أي :شق عليكم بعدم ه لعْن َت َك ُ ْ شاَء الل ّ ُ على المؤمنين ،وإل فـ } ل َوْ َ
زيٌز { أي :له ه عَ ِ ن الل ّ َ الرخصة بذلك ،فحرجتم .وشق عليكم وأثمتم } ،إ ِ ّ
م { ل يفعل إل ما كي ٌ ح ِ القوة الكاملة ،والقهر لكل شيء ،ولكنه مع ذلك } َ
هو مقتضى حكمته الكاملة وعنايته التامة ،فعزته ل تنافي حكمته ،فل يقال:
إنه ما شاء فعل ،وافق الحكمة أو خالفها ،بل يقال :إن أفعاله وكذلك
أحكامه ،تابعة لحكمته ،فل يخلق شيئا عبثا ،بل ل بد له من حكمة،
عرفناها ،أم لم نعرفها وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة،
فل يأمر إل بما فيه مصلحة خالصة ،أو راجحة ،ول ينهى إل عما فيه مفسدة
خالصة أو راجحة ،لتمام حكمته ورحمته.
) (1/99
َ
شرِك َةٍ وَل َوْم ْن ُم ْ خي ٌْر ِ
ة َ مؤْ ِ
من َ ٌ ة ُ ن وََل َ
م ٌ م ّحّتى ي ُؤْ ِت َ شرِ َ
كا ِ م ْ حوا ال ْ ُوََل ت َن ْك ِ ُ
َ
ك م ْ
شرِ ٍ ن ُ م ْخي ٌْر ِن َم ٌ مُنوا وَل َعَب ْد ٌ ُ
مؤْ ِ حّتى ي ُؤْ ِن َ كي َ شرِ ِ حوا ال ْ ُ
م ْ م وََل ت ُن ْك ِ ُجب َت ْك ُ ْأع ْ َ
فَرةِ ب ِإ ِذ ْن ِهِ جن ّةِ َوال ْ َ
مغْ ِ عو إ َِلى ال ْ َ ن إ َِلى الّنارِ َوالل ّ ُ
ه ي َد ْ ُ عو َك ي َد ْ ُم ُأول َئ ِ َ
جب َك ُ ْ
َ
وَل َوْ أعْ َ
وي ُب َي ّ َ
ن )(221 س ل َعَل ّهُ ْ
م ي َت َذ َك ُّرو َ ن آَيات ِهِ ِللّنا ِ ُ َ
نم ْ خي ٌْر ِ ة َ من َ ٌمؤْ ِ ة ُ م ٌ ن َول َ م ّ حّتى ي ُؤْ ِ ت َ كا ِ شرِ َ م ْ حوا ال ْ ُ } َ } { 221ول ت َن ْك ِ ُ
َ
خي ٌْر
ن َ م ٌ مؤْ ِ مُنوا وَل َعَب ْد ٌ ُ حّتى ي ُؤْ ِ ن َ كي َ شرِ ِ م ْ حوا ال ْ ُ م َول ت ُن ْك ِ ُ جب َت ْك ُ ْ شرِك َةٍ وَل َوْ أعْ َ م ْ ُ
ْ َ ّ َ َ َ ُ ُ َ َ م ْ
جن ّةِعو إ ِلى ال َ ه ي َد ْ ُ
ن إ ِلى الّنارِ َوالل ُ عو َ م أولئ ِك ي َد ْ ُ جب َك ْ ك وَلوْ أعْ َ شرِ ٍ ن ُ م ْ ِ
ن{. ّ
م ي َت َذ َكُرو َ ّ
س لعَلهُ ْ َ فَرةِ ب ِإ ِذ ْن ِهِ وَي ُب َي ّ ُ ْ
ن آَيات ِهِ ِللّنا ِ مغ ْ ِ َوال َ
حّتى ت { ما دمن على شركهن } َ َ
شرِكا ِ م ْ ْ
حوا { النساء } ال ُ أيَ } :ول ت َن ْك ِ ُ
ن { لن المؤمنة ولو بلغت من الدمامة ما بلغت خير من المشركة، م ّ ي ُؤْ ِ
ولو بلغت من الحسن ما بلغت ،وهذه عامة في جميع النساء المشركات،
وخصصتها آية المائدة ،في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال تعالى:
} وال ْمحصنات من ال ّذي ُ
ب{. ن أوُتوا ال ْك َِتا َ ِ َ َ ُ ْ َ َ ُ ِ َ
مُنوا { وهذا عام ل تخصيص فيه. حّتى ي ُؤْ ِ ن َ كي َ شرِ ِ م ْ حوا ال ْ ُ } َول ت ُن ْك ِ ُ
ثم ذكر تعالى ،الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة ،لمن خالفهما
ن إ َِلى الّنارِ { أي :في أقوالهم أو أفعالهم عو َ ك ي َد ْ ُ في الدين فقالُ } :أول َئ ِ َ
وأحوالهم ،فمخالطتهم على خطر منهم ،والخطر ليس من الخطار
الدنيوية ،إنما هو الشقاء البدي.
ويستفاد من تعليل الية ،النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع ،لنه إذا لم
يجز التزوج مع ) (1أن فيه مصالح كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى،
وخصوصا ،الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم،
كالخدمة ونحوها.
ن { دليل على اعتبار الولي ]في كي َ شرِ ِ م ْ ْ
حوا ال ُ وفي قولهَ } :ول ت ُن ْك ِ ُ
النكاح[.
فَرةِ { أي :يدعو عباده لتحصيل الجنة مغ ْ ِ ْ
جن ّةِ َوال َ ْ
عو إ ِلى ال َ َ ه ي َد ْ ُ } َوالل ّ ُ
والمغفرة ،التي من آثارها ،دفع العقوبات وذلك بالدعوة إلى أسبابها من
العمال الصالحة ،والتوبة النصوح ،والعلم النافع ،والعمل الصالح.
ن { فيوجب م ي َت َذ َك ُّرو َ س ل َعَل ّهُ ْن آَيات ِهِ { أي :أحكامه وحكمها } ِللّنا ِ } وَي ُب َي ّ ُ
لهم ذلك التذكر لما نسوه ،وعلم ما جهلوه ،والمتثال لما ضيعوه.
] ص [ 100
ثم قال تعالى:
__________
) (1في أ :لمع.
) (1/99
ض وََل حي ِ م ِساَء ِفي ال ْ َ ذى َفاعْت َزُِلوا الن ّ َ ل هُوَ أ َ ً ض قُ ْ ِ حي ن ال ْ َ
م ِ ِ ك عَسأ َُلون َ َ وَي َ ْ
هّ ّ ُ َ ْ َ َ َ
ن فإ ِ َ ْ
ن الل َه إِ ّم الل ُ مَرك ُ ثأ َ حي ْ ُن َ م ْن ِ ن فأُتوهُ ّ ذا ت َطهّْر َ حّتى ي َطهُْر َ ن َ قَرُبوهُ ّ تَ ْ
ُ ْ َ ُ َ ُ َ ْ
حْرث َك ْ
م م فأُتوا َ ث لك ْ حْر ٌ م َ ساؤُك ْ ن ) (222ن ِ َ ري َ مت َطهّ ِ ب ال ُ ح ّ ن وَي ُ ِ واِبي َب الت ّ ّ ح ّ يُ ِ
ملُقوهُ وَب َ ّ َ ُ َ َ ّ ُ َ َ
ر
ش ِ م ُ موا أن ّك ْ ه َواعْل ُ قوا الل َ م َوات ّ ُ سك ْ ف ِ موا ِلن ْ ُ م وَقَد ّ ُ شئ ْت ُ ْ
أّنى ِ
ن )(223 مِني َ مؤْ ِال ْ ُ
ساَءذى َفاعْت َزُِلوا الن ّ َ ل هُوَ أ َ ً ض قُ ْ ِ حيم ِ ن ال ْ َ ِ ك عَسأ َُلون َ َ } } { 223 - 222وَي َ ْ
ْ َ ْ
ثحي ْ ُ ن َ م ْ ن ِ ن فَأُتوهُ ّ ذا ت َطهّْر َ ن فَإ ِ َ حّتى ي َطهُْر َ ن َ قَرُبوهُ ّ ض َول ت َ ْ حي ِ م ِ ِفي ال ْ َ
َ
مث ل َك ُ ْ حْر ٌ م َ ساؤُك ُ ْ ن * نِ َ ري َ ِ مت َط َهّ ب ال ْ ُ ح ّ ن وَي ُ ِ واِبي َ ب الت ّ ّ ح ّ ه يُ ِ ن الل ّ َ ه إِ ّ م الل ّ ُ مَرك ُ ُ أ َ
َ فَأ ْتوا حرث َك ُ َ
ملُقوهُ م ُ موا أن ّك ُ ْ ه َواعْل َ ُ قوا الل ّ َ م َوات ّ ُ سك ُ ْ ف ِ موا لن ْ ُ م وَقَد ّ ُ شئ ْت ُ ْم أّنى ِ ْ َ ْ ُ
ن{. مِني َ مؤْ ِ ْ
شرِ ال ُ وَب َ ّ
يخبر تعالى عن سؤالهم عن المحيض ،وهل تكون المرأة بحالها بعد
الحيض ،كما كانت قبل ذلك ،أم تجتنب مطلقا كما يفعله اليهود؟.
فأخبر تعالى أن الحيض أذى ،وإذا كان أذى ،فمن الحكمة أن يمنع الله
ساَء ِفي تعالى عباده عن الذى وحده ،ولهذا قالَ } :فاعْت َزُِلوا الن ّ َ
ض { أي :مكان الحيض ،وهو الوطء في الفرج خاصة ،فهذا هو حي ِ م ِ ال ْ َ
المحرم إجماعا ،وتخصيص العتزال في المحيض ،يدل على أن مباشرة
الحائض وملمستها ،في غير الوطء في الفرج جائز.
ن { يدل على أن المباشرة فيما حّتى ي َط ْهُْر َ ن َ قَرُبوهُ ّ لكن قولهَ } :ول ت َ ْ
قرب من الفرج ،وذلك فيما بين السرة والركبة ،ينبغي تركه كما كان النبي
صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأته وهي حائض ،أمرها أن تتزر،
فيباشرها.
ن { أي :ينقطع ْ
حّتى ي َطهُْر َ حّيض } َ وحد هذا العتزال وعدم القربان لل ُ
دمهن ،فإذا انقطع الدم ،زال المنع الموجود وقت جريانه ،الذي كان لحله
شرطان ،انقطاع الدم ،والغتسال منه.
ذافلما انقطع الدم ،زال الشرط الول وبقي الثاني ،فلهذا قال } :فَإ ِ َ
تط َهرن { أي :اغتسلن } فَأ ْتوهُن من حي ُ َ
ه { أي :في القبل ل م الل ّ ُ مَرك ُ ُ ثأ َ ّ ِ ْ َ ْ ُ َ ّ ْ َ
في الدبر ،لنه محل الحرث.
وفيه دليل على وجوب الغتسال للحائض ،وأن انقطاع الدم ،شرط
لصحته.
ولما كان هذا المنع لطفا منه تعالى بعباده ،وصيانة عن الذى قال تعالى:
بح ّ ن { أي :من ذنوبهم على الدوام } وَي ُ ِ واِبي َ ب الت ّ ّ ح ّ ه يُ ِ ن الل ّ َ } إِ ّ
ن { أي :المتنزهين عن الثام وهذا يشمل التطهر الحسي من ري َ مت َطهّ ِ َ ال ْ ُ
النجاس والحداث.
ففيه مشروعية الطهارة مطلقا ،لن الله يحب المتصف بها ،ولهذا كانت
الطهارة مطلقا ،شرطا لصحة الصلة والطواف ،وجواز مس المصحف،
ويشمل التطهر المعنوي عن الخلق الرذيلة ،والصفات القبيحة ،والفعال
الخسيسة.
َ ْ َ
م { مقبلة ومدبرة غير أنه ل شئ ْت ُ ْم أّنى ِ حْرث َك ُ ْم فَأُتوا َ ث لك ُ ْ حْر ٌ م َ ساؤُك ُ ْ } نِ َ
يكون إل في القبل ،لكونه موضع الحرث ،وهو الموضع الذي يكون منه
الولد.
وفيه دليل على تحريم الوطء في الدبر ،لن الله لم يبح إتيان المرأة إل
في الموضع الذي منه الحرث ،وقد تكاثرت الحاديث عن النبي صلى الله
عليه وسلم في تحريم ذلك ،ولعن فاعله.
م { أي :من التقرب إلى الله بفعل الخيرات ،ومن ذلك سك ُ ْ ف ِ موا لن ْ ُ } وَقَد ّ ُ
أن يباشر الرجل امرأته ،ويجامعها على وجه القربة والحتساب ،وعلى
رجاء تحصيل الذرية الذين ينفع الله بهم.
ه { أي :في جميع أحوالكم ،كونوا ملزمين لتقوى الله، قوا الل ّ َ } َوات ّ ُ
َ
ملُقوه ُ { ومجازيكم على أعمالكم مستعينين بذلك لعلمكم } ،أن ّك ُ ْ
م ُ
الصالحة وغيرها.
ن { لم يذكر المبشر به ليدل على العموم ،وأن مؤْ ِ
مِني َ ْ
شرِ ال ُثم قال } :وَب َ ّ
لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الخرة ،وكل خير واندفاع كل ضير،
رتب على اليمان فهو داخل في هذه البشارة.
وفيها محبة الله للمؤمنين ،ومحبة ما يسرهم ،واستحباب تنشيطهم
وتشويقهم بما أعد الله لهم من الجزاء الدنيوي والخروي.
) (1/100
ة ِل َيمان ِك ُ َ
س َوالل ّ ُ
ه ن الّنا ِ
حوا ب َي ْ َ
صل ِ ُ
قوا وَت ُ ْ
ن ت َب َّروا وَت َت ّ ُ
مأ ْْ ض ً ْ َ جعَُلوا الل ّ َ
ه عُْر َ وََل ت َ ْ
م )(224 ميعٌ عَِلي ٌ س ِ
َ
ة ليمان ِك ُ َ
نحوا ب َي ْ َ
صل ِ ُ
قوا وَت ُ ْ ن ت َب َّروا وَت َت ّ ُ
مأ ْْ ض ً ْ َ جعَُلوا الل ّ َ
ه عُْر َ } َ } { 224ول ت َ ْ
م{. ميعٌ عَِلي ٌ س ِ
ه َ س َوالل ّ ُ
الّنا ِ
المقصود من اليمين ،والقسم تعظيم المقسم به ،وتأكيد المقسم عليه،
وكان الله تعالى قد أمر بحفظ اليمان ،وكان مقتضى ذلك حفظها في كل
شيء ،ولكن الله تعالى استثنى من ذلك إذا كان البر باليمين ،يتضمن ترك
ما هو أحب إليه ،فنهى عباده أن يجعلوا أيمانهم عرضة ،أي :مانعة وحائلة
عن أن يبروا :أن ) (1يفعلوا خيرا ،أو يتقوا شرا ،أو يصلحوا بين الناس،
فمن حلف على ترك واجب وجب حنثه ،وحرم إقامته على يمينه ،ومن
حلف على ترك مستحب ،استحب له الحنث ،ومن حلف على فعل محرم،
وجب الحنث ،أو على فعل مكروه استحب الحنث ،وأما المباح فينبغي فيه
حفظ اليمين عن الحنث.
ويستدل بهذه الية على القاعدة المشهورة ،أنه "إذا تزاحمت المصالح،
قدم أهمها "فهنا تتميم اليمين مصلحة ،وامتثال أوامر الله في هذه الشياء،
مصلحة أكبر من ذلك ،فقدمت لذلك.
ميعٌ { أي :لجميع س ِ ه َ ّ
ثم ختم الية بهذين السمين الكريمين فقالَ } :والل ُ
م { بالمقاصد ] ص [ 101والنيات ،ومنه سماعه لقوال الصوات } عَِلي ٌ
الحالفين ،وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر ،وفي ضمن ذلك التحذير
من مجازاته ،وأن أعمالكم ونياتكم ،قد استقر علمها عنده.
__________
) (1في ب :أي.
) (1/100
َ
م َوالل ّ ُ
ه ت قُُلوب ُك ُ ْ ما ك َ َ
سب َ ْ خذ ُك ُ ْ
م بِ َ م وَل َك ِ ْ
ن يُ َ
ؤا ِ ه ِبالل ّغْوِ ِفي أي ْ َ
مان ِك ُ ْ الل ّ ُ مخذ ُك ُ ُ َل ي ُ َ
ؤا ِ
)(225 م
حِلي ٌ فوٌر َ غَ ُ
َ
م وَل َك ِ ْ
ن ه ِبالل ّغْوِ ِفي أي ْ َ
مان ِك ُ ْ م الل ّ ُ
خذ ُك ُ ُ
ؤا ِ } .{ 225ثم قال تعالى } :ل ي ُ َ
م{. حِلي ٌ فوٌر َ ه غَ ُم َوالل ّ ُت قُُلوب ُك ُ ْ ما ك َ َ
سب َ ْ خذ ُك ُ ْ
م بِ َ يُ َ
ؤا ِ
أي :ل يؤاخذكم بما يجري على ألسنتكم من اليمان اللغية ،التي يتكلم بها
العبد ،من غير قصد منه ول كسب قلب ،ولكنها جرت على لسانه كقول
الرجل في عرض كلمه" :ل والله "و "بلى والله "وكحلفه على أمر ماض،
يظن صدق نفسه ،وإنما المؤاخذة على ما قصده القلب.
وفي هذا دليل على اعتبار المقاصد في القوال ،كما هي معتبرة في
الفعال.
} والله غفور { لمن تاب إليه } ،حليم { بمن عصاه ،حيث لم يعاجله
بالعقوبة ،بل حلم عنه وستر ،وصفح مع قدرته عليه ،وكونه بين يديه.
) (1/101
م
حي ٌ
فوٌر َر ِ ن الل ّ َ
ه غَ ُ ن َفاُءوا فَإ ِ ّ ص أ َْرب َعَةِ أ َ ْ
شهُرٍ فَإ ِ ْ م ت ََرب ّ ُ
سائ ِهِ ْ
ن نِ َم ْ
ن ِن ي ُؤُْلو َ ل ِل ّ ِ
ذي َ
م )(227 ميعٌ عَِلي ٌس ِ ه َ ن الل ّ َ موا الط َّلقَ فَإ ِ ّ ن عََز ُ) (226وَإ ِ ْ
) (1/101
خل َقَ
ما َ ن َ ن ي َك ْت ُ ْ
م َ نأ ْ
ل ل َه َ
ح ّ ُ ّ ة قُُروٍء وََل ي َ ِ ن ث ََلث َ َسهِ ّ ف ِ ن ب ِأ َن ْ ُص َت ي َت ََرب ّ ْ قا ُ مط َل ّ َ َوال ْ ُ
َ ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ اْل َ ِ َ
ن
حقّ ب َِرد ّهِ ّ نأ َ خرِ وَب ُُعول َت ُهُ ّ م ّن ي ُؤْ ِن كُ ّ ن إِ ْ مهِ ّ حا ِ ه ِفي أْر َ الل ّ ُ
َ
ل
جا ِ ف وَِللّر َ معُْرو ِ ن ِبال ْ َ
ذي عَل َي ْهِ ّ ل ال ّ ِ
مث ْ ُ ن ِ حا وَل َهُ ّصَل ً دوا إ ِ ْ ن أَرا ُ ك إِ ْ ِفي ذ َل ِ َ
م )(228 كي ٌ ح ِزيٌز َ ه عَ ِ ة َوالل ّ ُ ج ٌ ن د ََر َ عَل َي ْهِ ّ
ننأ ْ
ل ل َه َ
ح ّ ُ ّ ة قُُروٍء َول ي َ ِ ن َثلث َ َ سه ِ ّ ف ِ ن ب ِأ َن ْ ُ ص َ ت ي َت ََرب ّ ْ قا ُ مط َل ّ َ } َ } { 228وال ْ ُ
َ
خرِ وَب ُُعول َت ُهُ ّ
ن ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ م ّن ي ُؤْ ِن كُ ّ ن إِ ْ مهِ ّ حا ِ ه ِفي أْر َ خل َقَ الل ّ ُ ما َ ن َ م َ ي َك ْت ُ ْ
َ َ
ف
معُْرو ِ ن ِبال ْ َ ذي عَل َي ْهِ ّ ل ال ّ ِ مث ْ ُ ن ِ حا وَل َهُ ّ صل ً دوا إ ِ ْ ن أَرا ُ ك إِ ْ ن ِفي ذ َل ِ َ حقّ ب َِرد ّهِ ّ أ َ
م{. كي ٌ ح ِ زيٌز َ ه عَ ِ ة َوالل ّ ُ ج ٌ ن د ََر َ ل عَل َي ْهِ ّ جا ِوَِللّر َ
ن { أي :ينتظرن َ
سهِ ّ ف ِن ب ِأن ْ ُ ص َ أي :النساء اللتي طلقهن أزواجهن } ي َت ََرب ّ ْ
ة قُُروٍء { أي :حيض ،أو أطهار على اختلف العلماء في ويعتددن مدة } َثلث َ َ
م،حك ٍَ عد ّةُ ِ المراد بذلك ،مع أن الصحيح أن القرء ،الحيض ،ولهذه العدةِ ِ
منها :العلم ببراءة الرحم ،إذا تكررت عليها ثلثة القراء ،علم أنه ليس في
رحمها حمل ،فل يفضي إلى اختلط النساب ،ولهذا أوجب تعالى عليهن
َ
ن { وحرم عليهن ،كتمان ذلك ،من مه ِ ّ حا ِ ه ِفي أْر َ خل َقَ الل ّ ُ ما َ الخبار عن } َ
حمل أو حيض ،لن كتمان ذلك ،يفضي إلى مفاسد كثيرة ،فكتمان الحمل،
موجب أن تلحقه بغير من هو له ،رغبة فيه واستعجال لنقضاء العدة ،فإذا
ألحقته بغير أبيه ،حصل من قطع الرحم والرث ،واحتجاب محارمه وأقاربه
عنه ،وربما تزوج ذوات محارمه ،وحصل في مقابلة ذلك ،إلحاقه بغير أبيه،
وثبوت توابع ذلك ،من الرث منه وله ،ومن جعل أقارب الملحق به ،أقارب
له ،وفي ذلك من الشر والفساد ،ما ل يعلمه إل رب العباد ،ولو لم يكن
في ذلك ،إل إقامتها مع من نكاحها باطل في حقه ،وفيه الصرار على
الكبيرة العظيمة ،وهي الزنا لكفى بذلك شرا.
وأما كتمان الحيض ،بأن استعجلت وأخبرت به وهي كاذبة ،ففيه من
انقطاع حق الزوج عنها ،وإباحتها لغيره وما يتفرع عن ذلك من الشر ،كما
ذكرنا ،وإن كذبت وأخبرت بعدم وجود الحيض ،لتطول العدة ،فتأخذ منه
نفقة غير واجبة عليه ،بل هي سحت عليها محرمة من جهتين:
من كونها ل تستحقه ،ومن كونها نسبته إلى حكم الشرع وهي كاذبة ،وربما
راجعها بعد انقضاء العدة ،فيكون ذلك سفاحا ،لكونها أجنبية عنه ،فلهذا
َ ل ل َه َ
ن كُ ّ
ن ن إِ ْ مه ِ ّ حا ِ ه ِفي أْر َ خل َقَ الل ّ ُ ما َ ن َ م َ ن ي َك ْت ُ ْ نأ ْ ح ّ ُ ّ قال تعالىَ } :ول ي َ ِ
خر ِ { . ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ م ّ ي ُؤْ ِ
] ص [ 102
فصدور الكتمان منهن دليل على عدم إيمانهن بالله واليوم الخر ،وإل فلو
ن بالله واليوم الخر ،وعرفن أنهن مجزيات عن أعمالهن ،لم يصدر آم ّ
منهن شيء من ذلك.
وفي ذلك دليل على قبول خبر المرأة ،عما تخبر به عن نفسها ،من المر
الذي ل يطلع عليه غيرها ،كالحيض والحمل ونحوه ). (1
ك { أي :لزواجهن ما دامت ن ِفي ذ َل ِ َ ثم قال تعالى } :وبعول َته َ
حقّ ب َِرد ّهِ ّ نأ َ َُُ ُُ ّ
حا { أي: َ
صل ً دوا إ ِ ْ ن أَرا ُ متربصة في تلك العدة ،أن يردوهن إلى نكاحهن } إ ِ ْ
رغبة وألفة ومودة.
ومفهوم الية أنهم إن لم يريدوا الصلح ،فليسوا بأحق بردهن ،فل يحل
لهم أن يراجعوهن ،لقصد المضارة لها ،وتطويل العدة عليها ،وهل يملك
ذلك ،مع هذا القصد؟ فيه قولن.
الجمهور على أنه يملك ذلك ،مع التحريم ،والصحيح أنه إذا لم يرد الصلح،
ل يملك ذلك ،كما هو ظاهر الية الكريمة ،وهذه حكمة أخرى في هذا
التربص ،وهي :أنه ربما أن زوجها ندم على فراقه لها ،فجعلت له هذه
المدة ،ليتروى بها ويقطع نظره.
وهذا يدل على محبته تعالى ،لللفة بين الزوجين ،وكراهته للفراق ،كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم" :أبغض الحلل إلى الله الطلق "وهذا
خاص في الطلق الرجعي ،وأما الطلق البائن ،فليس البعل بأحق برجعتها،
بل إن تراضيا على التراجع ،فل بد من عقد جديد مجتمع الشروط.
ف { أي :وللنساء على معُْرو ِن ِبال ْ َ ذي عَل َي ْهِ ّ ل ال ّ ِ
مث ْ ُن ِ ثم قال تعالى } :وَل َهُ ّ
بعولتهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لزواجهن من الحقوق
اللزمة والمستحبة.
ومرجع الحقوق بين الزوجين يرجع إلى المعروف ،وهو :العادة الجارية في
ذلك البلد وذلك الزمان من مثلها لمثله ،ويختلف ذلك باختلف الزمنة
والمكنة ،والحوال ،والشخاص والعوائد.
وفي هذا دليل على أن النفقة والكسوة ،والمعاشرة ،والمسكن ،وكذلك
الوطء -الكل يرجع إلى المعروف ،فهذا موجب العقد المطلق.
وأما مع الشرط ،فعلى شرطهما ،إل شرطا أحل حراما ،أو حرم حلل.
ة { أي :رفعة ورياسة ،وزيادة حق عليها ،كما قال ج ٌن د ََر َ ل عَل َي ْهِ ّ جا ِ} وَِللّر َ
ض َ ّ ض َما فَ ّ َ ل قَ ّ جا ُ
م عَلى ب َعْ ٍ
ضه ُ ْ
ه ب َعْ َ
ل الل ُ ساِء ب ِ َ ن عَلى الن ّ َ مو َ وا ُ
َ
تعالى } :الّر َ
م{. وال ِهِ ْم َنأ ْ م ْ قوا ِف ُما أ َن ْ َ
وَب ِ َ
ومنصب النبوة والقضاء ،والمامة الصغرى والكبرى ،وسائر الوليات
مختص بالرجال ،وله ضعفا ما لها في كثير من المور ،كالميراث ونحوه.
م { أي :له العزة القاهرة والسلطان العظيم ،الذي كي ٌ ح ِ زيٌز َ ه عَ ِ } َوالل ّ ُ
دانت له جميع الشياء ،ولكنه مع عزته حكيم في تصرفه.
ويخرج من عموم هذه الية ،الحوامل ،فعدتهن وضع الحمل ،واللتي لم
يدخل بهن ،فليس لهن عدة ،والماء ،فعدتهن حيضتان ،كما هو قول
الصحابة رضي الله عنهم ،وسياق اليات ) (2يدل على أن المراد بها
الحرة.
__________
) (1في ب :ونحوهما.
) (2في ب :الية.
) (1/101
ل ل َك ُ َ ن وََل ي َ ِ َ
ن
مأ ْ ْ ح ّ سا ٍ ح َ ح ب ِإ ِ ْ ري ٌِ س
ف أوْ ت َ ْ معُْرو ٍ ك بِ َ سا ٌ م َن فَإ ِ ْ مّرَتا ِ الط َّلقُ َ
م أ َّل فت ُ ْ
خ ْ دود َ الل ّهِ فَإ ِ ْ
ن ِ ح ُ ما ُ قي َ
َ
خاَفا أّل ي ُ ِ ن يَ َ َ
شي ًْئا إ ِّل أ ْ ن َ موهُ ّ
َ
ما آت َي ْت ُ ُم ّ ذوا ِ خ ُ ت َأ ْ ُ
ها
دو َدود ُ الل ّهِ فََل ت َعْت َ ُ ح ُ
ك ُ ت ب ِهِ ت ِل ْ َ ما افْت َد َ ْ ما ِفي َ ح عَل َي ْهِ َ جَنا َدود َ الل ّهِ فََل ُ ح ُما ُ قي َيُ ِ
ن )(229 م ال ّ ُ
دود َ الل ّهِ فَأول َئ ِ َ
مو َ ظال ِ ُ ك هُ ُ ح ُ ن ي َت َعَد ّ ُم ْ وَ َ
َ سا ٌ } } { 229ال ّ
ح ّ
ل ن َول ي َ ِ سا ٍ ح َ ح ب ِإ ِ ْ
ري ٌ
س ِ
ف أو ْ ت َ ْمعُْرو ٍ ك بِ َ م َ ن فَإ ِ ْمّرَتا ِ طلقُ َ
ندود َ الل ّهِ فَإ ِ ْح ُ ما ُقي َ
َ
خاَفا أل ي ُ ِ
ن يَ َ َ
شي ًْئا ِإل أ ْ
ن َ موهُ ّ ما آت َي ْت ُ ُ
م ّذوا ِ ن ت َأ ْ ُ
خ ُ ل َك ُ َ
مأ ْْ
دود ُ الل ّهِ َفل ت ب ِهِ ت ِل ْ َ فت َ
ح ُك ُ ما افْت َد َ ْ ما ِفي َ ح عَل َي ْهِ َ جَنا َ دود َ الل ّهِ َفل ُح ُما ُ قي َ م أل ي ُ ِ خ ْ ُ ْ ِ
ّ َ َ ُ ّ
ن{. مو َ م الظال ِ ُ دود َ اللهِ فَأولئ ِك هُ ُ ح ُ ن ي َت َعَد ّ ُ م ْ ها وَ َ دو َ ت َعْت َ ُ
كان الطلق في الجاهلية ،واستمر أول السلم ،يطلق الرجل زوجته بل
نهاية ،فكان إذا أراد مضارتها ،طلقها ،فإذا شارفت انقضاء عدتها ،راجعها،
ثم طلقها وصنع بها مثل ذلك أبدا ،فيحصل عليها من الضرر ما الله به
ن{ مّرَتا ِ طلقَ { أي :الذي تحصل به الرجعة } َ عليم ،فأخبر تعالى أن } ال ّ
ليتمكن الزوج إن لم يرد المضارة من ارتجاعها ،ويراجع رأيه في هذه
المدة ،وأما ما فوقها ،فليس محل لذلك ،لن من زاد على الثنتين ،فإما
متجرئ على المحرم ،أو ليس له رغبة في إمساكها ،بل قصده المضارة،
ف { أي :عشرة حسنة، معُْرو ٍ فلهذا أمر تعالى الزوج ،أن يمسك زوجته } ب ِ َ
ويجري مجرى أمثاله مع زوجاتهم ،وهذا هو الرجح ،وإل يسرحها ويفارقها
ن { ومن الحسان ،أن ل يأخذ على فراقه لها شيئا من مالها ،لنه سا ٍ ح َ } ب ِإ ِ ْ
ن َ ُ َ ح ّ
مأ ْ ل لك ْ ظلم ،وأخذ للمال في غير مقابلة بشيء ،فلهذا قالَ } :ول ي َ ِ
دود َ الل ّهِ { وهي المخالعة ح ُ ما ُ قي َ
َ
خاَفا أل ي ُ ِ ن يَ َ َ
شي ًْئا ِإل أ ْن َ موهُ ّ ما آت َي ْت ُ ُ م ّذوا ِ خ ُ ت َأ ْ ُ
بالمعروف ،بأن كرهت الزوجة زوجها ،لخلقه أو خلقه أو نقص دينه،
فت َ
ح
جَنا َ دود َ الل ّهِ َفل ُ ح ُ ما ُ قي َ م أل ي ُ ِ خ ْ ُ ْ ن ِ وخافت أن ل تطيع الله فيه } ،فَإ ِ ْ
ت ب ِهِ { لنه عوض لتحصيل مقصودها من الفرقة ،وفي ما افْت َد َ ْ ما ِفي َ عَل َي ْهِ َ
هذا مشروعية الخلع ،إذا وجدت هذه الحكمة.
دود ُ اللهِ { أي :أحكامه ّ ح ُك { أي ما تقدم من الحكام الشرعية } ُ } ت ِل ْ َ
م
ك هُ ُ دود َ الل ّهِ فَُأول َئ ِ َ ح ُ ن ي َت َعَد ّ ُ م ْ التي شرعها لكم ،وأمر بالوقوف معها } ،وَ َ
ن { وأي ظلم أعظم ممن اقتحم الحلل ،وتعدى منه إلى الحرام، مو َ ظال ِ ُ ال ّ
فلم يسعه ما أحل الله؟
والظلم ثلثة أقسام:
) (1/102
ح
جَنا َ قَها فََل ُ ن ط َل ّ َجا غَي َْرهُ فَإ ِ ْح َزوْ ً حّتى ت َن ْك ِ َ
ن ب َعْد ُ َم ْ ل لَ ُ
ه ِ ح ّقَها فََل ت َ ِ ن ط َل ّ َ فَإ ِ ْ
دود ُ الل ّهِ ي ُب َي ّن َُها ل ِ َ دود َ الل ّهِ وَت ِل ْ َ َ َ
قوْم ٍ ح ُك ُ ح ُ ما ُ
قي َ ن ظ َّنا أ ْ
ن يُ ِ جَعا إ ِ ْ ن ي َت ََرا َ
ما أ ْ عَل َي ْهِ َ
ن )(230 مو َ ي َعْل َ ُ
ظلم العبد فيما بينه وبين الله ،وظلم العبد الكبر الذي هو الشرك ،وظلم
العبد فيما بينه وبين الخلق ،فالشرك ل يغفره الله إل بالتوبة ،وحقوق
العباد ،ل يترك الله منها شيئا ،والظلم الذي بين العبد وربه فيما دون
الشرك ،تحت المشيئة والحكمة.
] ص [ 103
جا غَي َْرهُ ح َزوْ ً حّتى ت َن ْك ِ َ ن ب َعْد ُ َ
م ْ ل لَ ُ
ه ِ ح ّقَها َفل ت َ ِ ن ط َل ّ َ } } { 231 - 230فَإ ِ ْ
دود َ الل ّهِ وَت ِل ْ َ َ َ
ك ح ُ ما ُ قي َ ن ظ َّنا أ ْ
ن يُ ِ جَعا إ ِ ْن ي َت ََرا َ
ما أ ْ ح عَل َي ْهِ َ جَنا َ قَها َفل ُ ن ط َل ّ َ فَإ ِ ْ
ن{. مو َ قوْم ٍ ي َعْل َ ُ دود ُ الل ّهِ ي ُب َي ّن َُها ل ِ َ ح ُ ُ
حّتىن ب َعْد ُ َ م ْ ه ِ َ
لل ُ ح ّ قَها { أي :الطلقة الثالثة } َفل ت َ ِ ّ َ
ن طل َ يقول تعالى } :فَإ ِ ْ
جا غَي َْرهُ { أي :نكاحا صحيحا ويطؤها ،لن النكاح الشرعي ل يكون ح َزوْ ً ت َن ْك ِ َ
إل صحيحا ،ويدخل فيه العقد والوطء ،وهذا بالتفاق.
ويشترط ) (1أن يكون نكاح الثاني ،نكاح رغبة ،فإن قصد به تحليلها للول،
فليس بنكاح ،ول يفيد التحليل ،ول يفيد وطء السيد ،لنه ليس بزوج ،فإذا
ح عَل َي ْهِ َ
ما { تزوجها الثاني راغبا ووطئها ،ثم فارقها وانقضت عدتها } َفل ُ
جَنا َ
جَعا { أي :يجددا عقدا جديدا َ
ن ي َت ََرا َ
أي :على الزوج الول والزوجة } أ ْ
بينهما ،لضافته التراجع إليهما ،فدل على اعتبار التراضي.
دود َ الل ّهِ { بأن يقوم كل َ
ح ُ ما ُ قي َ
ن يُ ِ
ولكن يشترط في التراجع أن يظنا } أ ْ
منهما ،بحق صاحبه ،وذلك إذا ندما على عشرتهما السابقة الموجبة
للفراق ،وعزما أن يبدلها بعشرة حسنة ،فهنا ل جناح عليهما في التراجع.
ومفهوم الية الكريمة ،أنهما إن لم يظنا أن يقيما حدود الله ،بأن غلب على
ظنهما أن الحال السابقة باقية ،والعشرة السيئة غير زائلة أن عليهما في
ذلك جناحا ،لن جميع المور ،إن لم يقم فيها أمر الله ،ويسلك بها طاعته،
لم يحل القدام عليها.
وفي هذا دللة على أنه ينبغي للنسان ،إذا أراد أن يدخل في أمر من
المور ،خصوصا الوليات ،الصغار ،والكبار ،نظر في نفسه ) ، (2فإن رأى
من نفسه قوة على ذلك ،ووثق بها ،أقدم ،وإل أحجم.
ّ
دود ُ اللهِ { أي:
ح ُ ولما بين تعالى هذه الحكام العظيمة قال } :وَت ِل ْ َ
ك ُ
شرائعه التي حددها وبينها ووضحها.
ن { لنهم هم المنتفعون بها ،النافعون لغيرهم. مو َقوْم ٍ ي َعْل َ ُ
} ي ُب َي ّن َُها ل ِ َ
وفي هذا من فضيلة أهل العلم ،ما ل يخفى ،لن الله تعالى جعل تبيينه
لحدوده ،خاصا بهم ،وأنهم المقصودون بذلك ،وفيه أن الله تعالى يحب من
عباده ،معرفة حدود ما أنزل على رسوله والتفقه بها.
__________
) (1في ب :ويتعين.
) (2في ب :أن ينظر.
) (1/102
) (1/103
) (1/103
) (1/104
شًرا ة أَ ْ
شهُرٍ وَعَ ْ ن أ َْرب َعَ َ
سه ِ ّف ِ ن ب ِأ َن ْ ُ
ص َجا ي َت ََرب ّ ْ
وال ّذين يتوفّون منك ُم ويذ َرو َ
ن أْزَوا ً َ ِ َ َُ َ ْ َ ِ ْ ْ ََ ُ َ
هّ ْ َ ْ ذا بل َغْ َ
ف َوالل ُ
معُْرو ِ ن ِبال َ سه ِ ّ
ف ِ ن ِفي أن ْ ُ ما فَعَل َ م ِفي َح عَل َي ْك ْ
ُ ن فََل ُ
جَنا َ جل َهُ ّ
نأ َ فَإ ِ َ َ َ
خِبيٌر )(234 ن َ مُلو َ
ما ت َعْ َ
بِ َ
ن أ َْرب َعَ َ
ة سهِ ّ ف ِ ن ب ِأ َن ْ ُص َ جا ي َت ََرب ّ ْن أْزَوا ً
} } { 234وال ّذين يتوفّون منك ُم ويذ َرو َ
َ ِ َ َُ َ ْ َ ِ ْ ْ ََ ُ َ
َ ْ َ ذا بل َغْ َ أَ ْ
ن
سه ِ ّ ف ِ ن ِفي أن ْ ُ ما فعَل ََ م ِفي َ ُ
ح عَلي ْك ْ ن َفل ُ
جَنا َ جل َهُ ّ
نأ َ شًرا فَإ ِ َ َ َ شهُرٍ وَعَ ْ
خِبيٌر { .ن َمُلو َ ما ت َعْ َ ه بِ َف َوالل ّ ُ معُْرو ِ ِبال ْ َ
أي :إذا توفي الزوج ،مكثت زوجته ،متربصة أربعة أشهر وعشرة أيام
وجوبا ،والحكمة في ذلك ،ليتبين الحمل في مدة الربعة ،ويتحرك في
ابتدائه في الشهر الخامس ،وهذا العام مخصوص بالحوامل ،فإن عدتهن
بوضع الحمل ،وكذلك المة ،عدتها على النصف من عدة الحرة ،شهران
وخمسة أيام.
َ َ َ َ
ما
م ِفي َ ح عَلي ْك ُ ْ جَنا َ ن { أي :انقضت عدتهن } َفل ُ جلهُ ّ نأ َ ذا ب َلغْ َ وقوله } :فَإ ِ َ
ف{ معُْرو ِ ن { أي :من مراجعتها للزينة والطيبِ } ،بال ْ َ سهِ ّ ف ِ ن ِفي أ َن ْ ُ فَعَل ْ َ
أي :على وجه غير محرم ول مكروه.
وفي هذا وجوب الحداد مدة العدة ،على المتوفى عنها زوجها ،دون غيرها
من المطلقات والمفارقات ،وهو مجمع عليه بين العلماء.
خِبيٌر { أي :عالم بأعمالكم ،ظاهرها وباطنها ،جليلها ن َ مُلو َ ما ت َعْ َ } َوالل ّ ُ
ه بِ َ
وخفيها ،فمجازيكم عليها.
ن{ َ ْ َ ُ َ َ
سهِ ّ ف ِ ن ِفي أن ْ ُ ما فعَل َ م ِفي َ ح عَلي ْك ْ جَنا َ
وفي خطابه للولياء بقوله } :فل ُ
] ص [ 105دليل على أن الولي ينظر على المرأة ،ويمنعها مما ل يجوز
فعله ويجبرها على ما يجب ،وأنه مخاطب بذلك ،واجب عليه.
) (1/104
سك ُ ْ
م ف ِ م ِفي أ َن ْ ُ َ َ
ساِء أوْ أك ْن َن ْت ُ ْ خط ْب َةِ الن ّ َ ن ِ م ْم ب ِهِ ِ ضت ُ ْما عَّر ْ م ِفي َ ح عَل َي ْك ُ ْ جَنا َوََل ُ
قوُلوا قَوًْل َ َ
ن تَ ُ سّرا إ ِّل أ ْ ن ِ دوهُ ّ ع ُ وا ِن َل ت ُ َ ن وَل َك ِ ْ ست َذ ْك ُُرون َهُ ّ
م َ ه أن ّك ُ ْ م الل ّ ُعَل ِ َ
هّ َ َ َ َ ْ ُ َ َ
ن الل َ موا أ ّ ه َواعْل ُ جل ُبأ َ حّتى ي َب ْلغَ الك َِتا ُ قد َةَ الن ّكاِح َ موا عُ ْ معُْروًفا وَل ت َعْزِ ُ َ
ه غَ ُ ّ َ َ ُ َ َ
م )(235 حِلي ٌ فوٌر َ ن الل َموا أ ّ حذ َُروهُ َواعْل ُ م َفا ْ سك ْ ف ِ ما ِفي أن ْ ُ م َي َعْل ُ
َ َ
ساِء أوْ أك ْن َن ْت ُ ْ
م خط ْب َةِ الن ّ َ ن ِ م ْ م ب ِهِ ِ ضت ُ ْ ما عَّر ْ م ِفي َ ح عَل َي ْك ُ ْ جَنا َ } َ } { 235ول ُ
َ َ ِفي أ َن ْ ُ
ن
سّرا ِإل أ ْ ن ِ دوهُ ّ ع ُ وا ِن ل تُ َ ن وَل َك ِ ْ ست َذ ْك ُُرون َهُ ّ م َ ه أن ّك ُ ْ م الل ّ ُ م عَل ِ َ سك ُ ْ ف ِ
َ
مواه َواعْل َ ُ جل َ ُ
بأ َ حّتى ي َب ْل ُغَ ال ْك َِتا ُ كاِح َ قد َةَ الن ّ َ موا عُ ْ معُْروًفا َول ت َعْزِ ُ ول َ قوُلوا قَ ْ تَ ُ
َ ّ َ َ َ ُ َ َ ّ َ
م{. حِلي ٌ فوٌر َ هغ ُ ن الل َ موا أ ّ حذ َُروهُ َواعْل ُ م فا ْ سك ْ ف ِ ما ِفي أن ْ ُ م َ ه ي َعْل ُ ن الل َ أ ّ
هذا حكم المعتدة من وفاة ،أو المبانة في الحياة ،فيحرم على غير مبينها
سّرا { ن ِ دوهُ ّ ع ُ
وا ِ ن ل تُ َ أن يصرح لها في الخطبة ،وهو المراد بقوله } :وَل َك ِ ْ
وأما التعريض ،فقد أسقط تعالى فيه الجناح.
والفرق بينهما :أن التصريح ،ل يحتمل غير النكاح ،فلهذا حرم ،خوفا من
استعجالها ،وكذبها في انقضاء عدتها ،رغبة في النكاح ،ففيه دللة على منع
وسائل المحرم ،وقضاء لحق زوجها الول ،بعدم مواعدتها لغيره مدة
عدتها.
وأما التعريض ،وهو الذي يحتمل النكاح وغيره ،فهو جائز للبائن كأن يقول
لها :إني أريد التزوج ،وإني أحب أن تشاوريني عند انقضاء عدتك ،ونحو
ذلك ،فهذا جائز لنه ليس بمنزلة الصريح ،وفي النفوس داع قوي إليه.
وكذلك إضمار النسان في نفسه أن يتزوج من هي في عدتها ،إذا انقضت،
فسك ُم عَل ِم الل ّ َ َ َ َ
ن { هذا ست َذ ْك ُُرون َهُ ّ م َ ه أن ّك ُ ْ ُ َ م ِفي أن ْ ُ ِ ْ ولهذا قال } :أوْ أك ْن َن ْت ُ ْ
التفصيل كله في مقدمات العقد.
ه { أي :تنقضي العدة. َ َ ْ ُ
جل ُ بأ َ حّتى ي َب ْلغَ الك َِتا ُ وأما عقد النكاح فل يحل } َ
َ َ
م { أي :فانووا الخير ،ول تنووا ُ
سك ْ ف ِ ما ِفي أن ْ ُ م َ ه ي َعْل َ ُ ن الل ّ َ موا أ ّ } َواعْل َ ُ
الشر ،خوفا من عقابه ورجاء لثوابه.
َ
فوٌر { لمن صدرت منه الذنوب ،فتاب منها ،ورجع إلى ه غَ ُ ن الل ّ َ موا أ ّ } َواعْل َ ُ
م { حيث لم يعاجل العاصين على معاصيهم ،مع قدرته عليهم. حِلي ٌ ربه } َ
) (1/105
ة
ض ً
ري َن فَ ِضوا ل َهُ ّ فرِ ُ ن أ َوْ ت َ ْ
سوهُ ّم ّ م تَ َما ل َ ْ
ساَء َ
م الن ّ َ ن ط َل ّ ْ
قت ُ ُ ح عَل َي ْك ُ ْ
م إِ ْ َل ُ
جَنا َ
قا عََلى
ح ّ
ف َ معُْرو ِ عا ِبال ْ َ
مَتا ً قت ِرِ قَد َُرهُ َ سِع قَد َُرهُ وَعََلى ال ْ ُ
م ْ مو ِ ن عََلى ال ْ ُ مت ُّعوهُ ّوَ َ
ن )(236 سِني َح ِم ْال ْ ُ
ضوا ن أ َوْ ت َ ْ
فرِ ُ سوهُ ّ م ّم تَ َما ل َ ْ
ساَء َ
م الن ّ َ ن ط َل ّ ْ
قت ُ ُ ح عَل َي ْك ُ ْ
م إِ ْ جَنا َ
} } { 236ل ُ
عا
مَتا ً قت ِرِ قَد َُرهُ َ
م ْ ْ َ
سِع قَد َُرهُ وَعَلى ال ُ مو ِ ْ
ن عَلى ال َُ مت ُّعوهُ ّ
ة وَ َض ًري َ ل َهُ ّ
ن فَ ِ
ن{. سِني َح ِ م ْقا عََلى ال ْ ُ ح ّ
ف َ معُْرو ِ ِبال ْ َ
أي :ليس عليكم يا معشر الزواج جناح وإثم ،بتطليق النساء قبل
المسيس ،وفرض المهر ،وإن كان في ذلك كسر لها ،فإنه ينجبر بالمتعة،
فعليكم أن تمتعوهن بأن تعطوهن شيئا من المال ،جبرا لخواطرهن.
قت ِرِ { أي :المعسر } قَد َُرهُ { . سِع قَد َُرهُ وَعََلى ال ْ ُ
م ْ مو ِ } عََلى ال ْ ُ
عا
مَتا ً
وهذا يرجع إلى العرف ،وأنه يختلف باختلف الحوال ولهذا قالَ } :
ن { ليس لهم أن سِني َ
ح ِ ف { فهذا حق واجب } عََلى ال ْ ُ
م ْ ِبال ْ َ
معُْرو ِ
يبخسوهن.
فكما تسببوا لتشوفهن واشتياقهن ،وتعلق قلوبهن ،ثم لم يعطوهن ما
رغبن فيه ،فعليهم في مقابلة ذلك المتعة.
فلله ما أحسن هذا الحكم اللهي ،وأدله على حكمة شارعه ورحمته" ومن
أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟" فهذا حكم المطلقات قبل المسيس
وقبل فرض المهر.
ثم ذكر حكم المفروض لهن فقال:
) (1/105
قتموهُن من قَب َ
ما
ف َ
ص ُة فَن ِ ْ
ض ًري َ ِ ن فَم ل َهُ ّ ن وَقَد ْ فََر ْ
ضت ُ ْ سوهُ ّم ّ ن تَ َ لأ ْ ّ ِ ْ ْ ِ ن ط َل ّ ْ ُ ُ وَإ ِ ْ
َ َ َ َ
فوا أقَْر ُ
ب ن ت َعْ ُ
كاِح وَأ ْ قد َةُ الن ّ َ ذي ب ِي َدِهِ عُ ْ فوَ ال ّ ِ ن أوْ ي َعْ ُ فو َ م إ ِّل أ ْ
ن ي َعْ ُ ضت ُ ْفََر ْ
صيٌر )(237 ن بَ ِ مُلو َ ما ت َعْ َ ن الل ّ َ
ه بِ َ م إِ ّ ل ب َي ْن َك ُ ْ
ض َ ف ْ وا ال ْ َ
س ُ وى وََل ت َن ْ َ ق َِللت ّ ْ
قتموهُن من قَب َ
نم ل َهُ ّضت ُ ْن وَقَد ْ فََر ْ سوهُ ّ م ّ ن تَ َ لأ ْ ّ ِ ْ ْ ِ ن ط َل ّ ْ ُ ُ } } { 237وَإ ِ ْ
قد َةُ الن ّ َ ّ َ َ
كاِح ذي ب ِي َدِهِ عُ ْ فوَ ال ِ ن أوْ ي َعْ ُ فو َ ن ي َعْ ُ م ِإل أ ْ ضت ُ ْما فََر ْ ف َ ص ُة فَن ِ ْض ًري َ فَ َ ِ
َ
مُلو َ
ن ما ت َعْ َ ن الل ّ َ
ه بِ َ م إِ ّ ل ب َي ْن َك ُ ْض َ ف ْ وا ال ْ َ س ُ وى َول ت َن ْ َ ق َ
ب ِللت ّ ْ فوا أقَْر ُ ن ت َعْ ُ
وَأ ْ
صيٌر { . بَ ِ
أي :إذا طلقتم النساء قبل المسيس ،وبعد فرض المهر ،فللمطلقات من
المهر المفروض نصفه ،ولكم نصفه.
هذا هو الواجب ما لم يدخله عفو ومسامحة ،بأن تعفو عن نصفها لزوجها،
كاِح { وهو الزوج على قد َةُ الن ّ َ ذي ب ِي َدِهِ عُ ْ فوَ ال ّ ِ إذا كان يصح عفوها } ،أ َوْ ي َعْ ُ
الصحيح ) (1لنه الذي بيده حل عقدته؛ ولن الولي ل يصح أن يعفو عن ما
وجب للمرأة ،لكونه غير مالك ول وكيل.
ثم رغب في العفو ،وأن من عفا ،كان أقرب لتقواه ،لكونه إحسانا موجبا
لشرح الصدر ،ولكون النسان ل ينبغي أن يهمل نفسه من الحسان
والمعروف ،وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة ،لن معاملة
الناس فيما بينهم على درجتين :إما عدل وإنصاف واجب ،وهو :أخذ
الواجب ،وإعطاء الواجب .وإما فضل وإحسان ،وهو إعطاء ما ليس بواجب
والتسامح في الحقوق ،والغض مما في النفس ،فل ينبغي للنسان أن
ينسى هذه الدرجة ،ولو في بعض الوقات ،وخصوصا لمن بينك وبينه
معاملة ،أو مخالطة ،فإن الله مجاز المحسنين بالفضل ] ص [ 106
صيٌر { .ثم قال تعالى: ن بَ ِ مُلو َ ما ت َعْ َ ه بِ َ ن الل ّ َ والكرم ،ولهذا قال } :إ ِ ّ
__________
) (1جاء في هامش أ ما نصه) :هذا بحسب ما ظهر لي وقت كتابتي لهذا
الموضع ،ثم بعد ذلك تبين لي أن القول بأن الذي بيده عقدة النكاح هو
الولي القرب ،وهو الب ،وهو الصح لمساعدة اللفظ له والمعنى كما هو
ظاهر للمتدبر(.وفي هامش ب زيادة بخط المؤلف هي) :وقيل :إنه الب،
وهو الذي يدل عليه لفظ الية الكريمة(.
) (1/105
ن ) (238فَإ ِ ْ
ن موا ل ِل ّهِ َقان ِِتي َ طى وَُقو ُ س َ صَلةِ ال ْوُ ْ ت َوال ّ وا ِ صل َ َ
ظوا عََلى ال ّ حافِ ُ َ
م تَ ُ
كوُنوا َ ل ما م ُ كم ّ لَ ع ماَ ك ه ّ لال روا ُ ك ْ ذ َ
فا م تنم ذا أ َ
َ إَ ف نا با ْ ك ر وفتم فَرجاًل أ َ ْ خ
ْ َ ْ َ َ َ ُ ِ ُْ ْ ْ ُ َ ً ِ ِ ُ ْ ِ َ
ن )(239 مو َت َعْل َ ُ
) (1/106
) (1/106
ه ل َك ُ ْ
م ن الل ّ ُ ن ) (241ك َذ َل ِ َ
ك ي ُب َي ّ ُ قي َ قا عََلى ال ْ ُ
مت ّ ِ ح ّ
ف َ مَتاعٌ ِبال ْ َ
معُْرو ِ ت َ قا ِ مط َل ّ َ وَل ِل ْ ُ
قُلو َ َ
ن )(242 م ت َعْ ِآَيات ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ
ن * ك َذ َل ِ َ
ك قي َ قا عََلى ال ْ ُ
مت ّ ِ ح ّ
ف َ مَتاعٌ ِبال ْ َ
معُْرو ِ ت َ قا ِمط َل ّ َ} } { 242 - 241وَل ِل ْ ُ
ن{. قُلو َ
م ت َعْ ِم آَيات ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ
ه ل َك ُ ْ
ن الل ّ ُ
ي ُب َي ّ ُ
أي :لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على كل متق ،جبرا لخاطرها وأداء
لبعض حقوقها ،وهذه المتعة واجبة على من طلقت قبل المسيس،
والفرض سنة في حق غيرها كما تقدم ،هذا أحسن ما قيل فيها ،وقيل إن
المتعة واجبة على كل مطلقة احتجاجا بعموم هذه الية ،ولكن القاعدة أن
المطلق محمول على المقّيد ،وتقدم أن الله فرض المتعة للمطلقة قبل
الفرض والمسيس خاصة.
ولما بّين تعالى هذه الحكام العظيمة المشتملة على الحكمة والرحمة
امتن بها على عباده فقال } :كذلك يبين الله لكم آياته { أي :حدوده،
وحلله وحرامه والحكام النافعة لكم ،لعلكم تعقلونها فتعرفونها وتعرفون
المقصود منها ،فإن من عرف ذلك أوجب له العمل بها.
ثم قال تعالى:
) (1/106
هم الل ّ ُ
ل ل َهُ ُقا َت فَ َ موْ ِحذ ََر ال ْ َ ف َم أ ُُلو ٌم وَهُ ْن دَِيارِهِ ْ م ْ جوا ِ خَر ُ ن َ ذي َ م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ
َ
أل َ ْ
س َل ذو فَضل عََلى الناس ول َك َ ه لَ ُ موتوا ث ُ َ
ن أك ْث ََر الّنا ِ ّ ِ َ ِ ّ ْ ٍ ن الل ّ َ م إِ ّ حَياهُ ْ مأ ْ ّ ُ ُ
م) ّ َ َ ّ ُ َ ُ يَ ْ
ميعٌ عَِلي ٌ س ِ ه َ ن الل َ موا أ ّ ل اللهِ َواعْل ُ سِبي ِ
ن ) (243وَقات ِلوا ِفي َ شكُرو َ
َ
ضَعاًفا ك َِثيَرةً َوالل ّ ُ
ه هأ ْ ه لَ ُف ُ
ع َضا ِ سًنا فَي ُ َح َضا َ ه قَْر ً ض الل ّ َ قرِ ُ ذي ي ُ ْ ذا ال ّ ِ ن َ م ْ َ (244
ن )(245 جُعو َ َ
سط وَإ ِلي ْهِ ت ُْر َ ُ ض وَي َب ْ ُقب ِ ُيَ ْ
حذ ََر ف َ م أ ُُلو ٌ م وَهُ ْ ن دَِيارِهِ ْ م ْ
جوا ِ خَر ُ ن َذي َ م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ
َ
} } { 245 - 243أل َ ْ
ل ل َهم الل ّه موتوا ث ُ َ
س وَل َك ِ ّ
ن ل َعَلى الّنا ِ
ض ٍ َ ذو فَ ْ ه لَ ُن الل ّ َ م إِ ّ حَياهُ ْ مأ ْ ّ ُ ُ ُ قا َ ُ ُ ت فَ َ موْ ِ ال ْ َ
ع
مي ٌ س ِه َ ن الل ّ َ موا أ ّ ل الل ّهِ َواعْل َ ُ سِبي ِ ن * وََقات ُِلوا ِفي َ شك ُُرو َ س ل يَ ْ ِ أ َك ْث ََر الّنا
فه ل َ َ
ضَعاًفا ك َِثيَرةً هأ ْ ع َ ُ ُ ضا ِ سًنا فَي ُ َ ح َ ضا َ ه قَْر ً ض الل ّ َ قرِ ُ ذي ي ُ ْذا ال ّ ِ ن َ م ْم* َ عَِلي ٌ
ن{. جُعو َ َ
سط وَإ ِلي ْهِ ت ُْر َُ ض وَي َب ْ ُ
قب ِ ُ َوالل ّ ُ
ه يَ ْ
يقص تعالى علينا قصة الذين خرجوا من ديارهم على كثرتهم واتفاق
مقاصدهم ،بأن الذي أخرجهم منها حذر الموت من وباء أو غيره ،يقصدون
بهذا الخروج السلمة من الموت ،ولكن ل يغني حذر عن قدر } ،فقال الله
لهم موتوا { فماتوا } ثم { إن الله تعالى } أحياهم { إما بدعوة نبي أو
بغير ذلك ،رحمة بهم ولطفا وحلما ،وبيانا لياته لخلقه بإحياء الموتى ،ولهذا
قال } :إن الله لذو فضل { ] ص [ 107أي :عظيم } على الناس ولكن
أكثرهم ل يشكرون { فل تزيدهم النعمة شكرا ،بل ربما استعانوا بنعم الله
على معاصيه ،وقليل منهم الشكور الذي يعرف النعمة ويقر بها ويصرفها
في طاعة المنعم.
ثم أمر تعالى بالقتال في سبيله ،وهو قتال العداء الكفار لعلء كلمة الله
ونصر دينه ،فقال } :وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم {
أي :فأحسنوا نياتكم واقصدوا بذلك وجه الله ،واعلموا أنه ل يفيدكم القعود
عن القتال شيئا ،ولو ظننتم أن في القعود حياتكم وبقاءكم ،فليس المر
كذلك ،ولهذا ذكر القصة السابقة توطئة لهذا المر ،فكما لم ينفع الذين
خرجوا من ديارهم حذر الموت خروجهم ،بل أتاهم ما حذروا من غير أن
يحتسبوا ،فاعلموا أنكم كذلك.
ولما كان القتال في سبيل الله ل يتم إل بالنفقة وبذل الموال في ذلك،
أمر تعالى بالنفاق في سبيله ورغب فيه ،وسماه قرضا فقال } :من ذا
الذي يقرض الله قرضا حسنا { فينفق ما تيسر من أمواله في طرق
الخيرات ،خصوصا في الجهاد ،والحسن هو الحلل المقصود به وجه الله
تعالى } ،فيضاعفه له أضعافا كثيرة { الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع
مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ،بحسب حالة المنفق ،ونيته ونفع نفقته
والحاجة إليها ،ولما كان النسان ربما توهم أنه إذا أنفق افتقر دفع تعالى
هذا الوهم بقوله } :والله يقبض ويبسط { أي :يوسع الرزق على من يشاء
ويقبضه عمن يشاء ،فالتصرف كله بيديه ومدار المور راجع إليه،
فالمساك ل يبسط الرزق ،والنفاق ل يقبضه ،ومع ذلك فالنفاق غير ضائع
على أهله ،بل لهم يوم يجدون ما قدموه كامل موفرا مضاعفا ،فلهذا قال:
} وإليه ترجعون { فيجازيكم بأعمالكم.
ففي هذه اليات دليل على أن السباب ل تنفع مع القضاء والقدر،
وخصوصا السباب التي تترك بها أوامر الله .وفيها :الية العظيمة بإحياء
الموتى أعيانا في هذه الدار .وفيها :المر بالقتال والنفقة في سبيل الله،
وذكر السباب الداعية لذلك الحاثة عليه ،من تسميته قرضا ،ومضاعفته،
وأن الله يقبض ويبسط وإليه ترجعون.
) (1/106
َ
ث م اب ْعَ ْ ي ل َهُ ُ سى إ ِذ ْ َقاُلوا ل ِن َب ِ ّ مو َ ن ب َعْدِ ُ م ْ ل ِ سَراِئي َ ن ب َِني إ ِ ْ م ْ مَل ِ ِ م ت ََر إ َِلى ال ْ َ أل َ ْ
ل أ َّل قَتا ُ م ال ْ ِ ب عَل َي ْك ُ ُ ن ك ُت ِ َ م إِ ْ سي ْت ُ ْ ل عَ َ ل هَ ْ ل الل ّهِ َقا َ سِبي ِ ل ِفي َ قات ِ ْ كا ن ُ َ مل ِ ً ل ََنا َ
َ ُ
ل الل ّهِ وَقَد ْ أ ْ َ
ما ل ََنا أّل ن ُ َ
ن دَِيارَِنا وَأب َْنائ َِنا م ْ جَنا ِ خرِ ْ سِبي ِ ل ِفي َ قات ِ َ قات ُِلوا َقاُلوا وَ َ تُ َ
ن )(246 مي َ م ِبالظال ِ ِ ّ ه عَِلي ٌ ّ
م َوالل ُ من ْهُ ْ وا إ ِل قَِليل ِ ً ّ ل ت َوَل ّْ قَتا ُ م ال ِ ْ ب عَلي ْهِ ُ َ ما كت ِ َ ُ فَل ّ َ
هَ ُ َ ُ ً ُ َ ُ َ ّ َ
نل ُ مل ِكا َقالوا أّنى ي َكو ُ ت َ م طالو َ ث لك ْ ه قَد ْ ب َعَ َ ن الل َ م إِ ّ م ن َب ِي ّهُ ْ ل لهُ ْ وََقا َ
هّ ْ َ ْ ْ َ َ مل ْ ُ
ن الل َ ل إِ ّ ل َقا َ ما ِ ن ال َ م َ ة ِ سع َ ً ت َ م ي ُؤْ َ ه وَل ْ من ْ ُ ك ِ مل ِ حقّ ِبال ُ نأ َ ح ُ ك عَلي َْنا وَن َ ْ ال ْ ُ
شاُء ن يَ َ م ْ ه َ مل ْك َ ُ ه ي ُؤِْتي ُ سم ِ َوالل ّ ُ ج ْ ة ِفي ال ْعِل ْم ِ َوال ْ ِ سط َ ً م وََزاد َهُ ب َ ْ فاهُ عَل َي ْك ُ ْ صط َ َ ا ْ
ْ َ َ
ت م الّتاُبو ُ ن ي َأت ِي َك ُ ُ مل ْك ِهِ أ ْ ة ُ ن آي َ َ م إِ ّ م ن َب ِي ّهُ ْ ل ل َهُ ْ م ) (247وََقا َ سعٌ عَِلي ٌ ه َوا ِ َوالل ّ ُ
مَلئ ِك َ ُ َ َ
ة ه ال ْ َ مل ُ ُ ح ِ ن تَ ْ هاُرو َ ل َ سى وَآ ُ مو َ ل ُ كآ ُ ما ت ََر َ م ّ ة ِ قي ّ ٌ م وَب َ ِ ن َرب ّك ُ ْ م ْ ة ِ كين َ ٌ س ِ ِفيهِ َ
ن )(248 مؤْ ِ ن ك ُن ْت ُ ْ ة ل َك ُ ْ ك َلي َ ً َ ن ِفي ذ َل ِ َ
مِني َ م ُ م إِ ْ إِ ّ
َ
سى إ ِذ ْ مو َ ن ب َعْدِ ُ م ْ ل ِ سَراِئي َ ن ب َِني إ ِ ْ م ْ مل ِ م ت ََر إ َِلى ال ْ َ } } { 248- 246أل َ ْ
بن ك ُت ِ َ م إِ ْ سي ْت ُ ْ ل عَ َ ل هَ ْ ل الل ّهِ َقا َ سِبي ِ ل ِفي َ قات ِ ْ كا ن ُ َ مل ِ ً ث ل ََنا َ م اب ْعَ ْ ي ل َهُ ُ َقاُلوا ل ِن َب ِ ّ
جَنا خرِ ْ ل الل ّهِ وَقَد ْ أ ُ ْ سِبي ِ ل ِفي َ قات ِ َ ما ل ََنا َأل ن ُ َ قات ُِلوا َقاُلوا وَ َ ل َأل ت ُ َ قَتا ُ م ال ْ ِ عَل َي ْك ُ ُ
َ
م ه عَِلي ٌ م َوالل ّ ُ من ْهُ ْ وا ِإل قَِليل ِ ل ت َوَل ّ ْ قَتا ُ م ال ْ ِ ب عَل َي ْهِ ُ ما ك ُت ِ َ ن دَِيارَِنا وَأب َْنائ َِنا فَل َ ّ م ْ ِ
َ
كا َقاُلوا أّنى مل ِ ً ت َ طاُلو َ م َ ث ل َك ُ ْ ه قَد ْ ب َعَ َ ن الل ّ َ م إِ ّ م ن َب ِي ّهُ ْ ل ل َهُ ْ ن * وََقا َ مي َ ظال ِ ِ ِبال ّ
َ
ل ل َقا َ ما ِ ن ال ْ َ م َ ة ِ سعَ ً ت َ م ي ُؤْ َ ه وَل َ ْ من ْ ُ ك ِ مل ْ ِ حقّ ِبال ْ ُ نأ َ ح ُ ك عَل َي َْنا وَن َ ْ مل ْ ُ ه ال ْ ُ ن لَ ُ كو ُ يَ ُ
مل ْك َ ُ
ه ه ي ُؤِْتي ُ سم ِ َوالل ّ ُ ج ْ ة ِفي ال ْعِل ْم ِ َوال ْ ِ سط َ ً م وََزاد َهُ ب َ ْ فاهُ عَل َي ْك ُ ْ صط َ َ ها ْ ن الل ّ َ إِ ّ
ْ َ
من ي َأت ِي َك ُ ُ مل ْك ِهِ أ ْ ة ُ ن آي َ َ م إِ ّ م ن َب ِي ّهُ ْ ل ل َهُ ْ م * وََقا َ سعٌ عَِلي ٌ ه َوا ِ شاُء َوالل ّ ُ ن يَ َ م ْ َ
هُ
مل ُ ح ِ ن تَ ْ هاُرو َ سى َوآل َُ مو َ ُ
ما ت ََرك آل ُ َ م ّ ة ِ قي ّ ٌ م وَب َ ِ ن َرب ّك ْ ُ م ْ ة ِ كين َ ٌ س ِ ت ِفيهِ َ الّتاُبو ُ
ن{. مِني َ مؤْ ِ م ُ ن كن ْت ُ ْ ُ م إِ ْ ة لك ْ ُ َ ن ِفي ذ َل ِك لي َ ً َ ة إِ ّ ملئ ِك َ ُ ال ْ َ
يقص تعالى على نبيه قصة المل من بني إسرائيل وهم الشراف
والرؤساء ،وخص المل بالذكر ،لنهم في العادة هم الذين يبحثون عن
مصالحهم ليتفقوا فيتبعهم غيرهم على ما يرونه ،وذلك أنهم أتوا إلى نبي
لهم بعد موسى عليه السلم فقالوا له } ابعث لنا ملكا { أي :عّين لنا ملكا
} نقاتل في سبيل الله { ليجتمع متفرقنا ويقاوم بنا عدونا ،ولعلهم في
ذلك الوقت ليس لهم رئيس يجمعهم ،كما جرت عادة القبائل أصحاب
البيوت ،كل بيت ل يرضى أن يكون من البيت الخر رئيس ،فالتمسوا من
نبيهم تعيين ملك يرضي الطرفين ويكون تعيينه خاصا لعوائدهم ،وكانت
أنبياء بني إسرائيل تسوسهم ،كلما مات نبي خلفه نبي آخر ،فلما قالوا
لنبيهم تلك المقالة } قال { لهم نبيهم } هل عسيتم إن كتب عليكم القتال
أل تقاتلوا { أي :لعلكم تطلبون شيئا وهو إذا كتب عليكم ل تقومون به،
فعرض عليهم العافية فلم يقبلوها ،واعتمدوا على عزمهم ونيتهم ،فقالوا:
} وما لنا أل نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا { أي :أي
شيء يمنعنا من القتال وقد ألجأنا إليه ،بأن أخرجنا من أوطاننا وسبيت
ذرارينا ،فهذا موجب لكوننا نقاتل ولو لم يكتب علينا ،فكيف مع أنه فرض
علينا وقد حصل ما حصل ،ولهذا لما لم تكن نياتهم حسنة ولم يقوَ توكلهم
على ربهم } فلما كتب عليهم القتال تولوا { فجبنوا عن قتال العداء
وضعفوا عن المصادمة ،وزال ما كانوا عزموا عليه ،واستولى على أكثرهم
الخور والجبن } إل قليل منهم { فعصمهم الله وثبتهم وقوى قلوبهم
فالتزموا أمر الله ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه ،فحازوا شرف
الدنيا والخرة ،وأما أكثرهم فظلموا أنفسهم وتركوا أمر الله ،فلهذا قال} :
والله عليم بالظالمين وقال لهم نبيهم { مجيبا لطلبهم } إن الله قد بعث
لكم طالوت ملكا { فكان هذا تعيينا من الله الواجب عليهم فيه القبول
والنقياد وترك العتراض ،ولكن أبوا إل أن يعترضوا ،فقالوا } :أنى يكون
له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال { أي:
كيف يكون ملكا وهو دوننا في الشرف والنسب ونحن أحق بالملك منه.
ومع هذا فهو ] ص [ 108فقير ليس عنده ما يقوم به الملك من الموال،
وهذا بناء منهم على ظن فاسد ،وهو أن الملك ونحوه من الوليات
مستلزم لشرف النسب وكثرة المال ،ولم يعلموا أن الصفات الحقيقية
التي توجب التقديم مقدمة عليها ،فلهذا قال لهم نبيهم } :إن الله اصطفاه
عليكم { فلزمكم النقياد لذلك } وزاده بسطة في العلم والجسم { أي:
فضله عليكم بالعلم والجسم ،أي :بقوة الرأي والجسم اللذين بهما تتم
أمور الملك ،لنه إذا تم رأيه وقوي على تنفيذ ما يقتضيه الرأي المصيب،
حصل بذلك الكمال ،ومتى فاته واحد من المرين اختل عليه المر ،فلو
كان قوي البدن مع ضعف الرأي ،حصل في الملك خرق وقهر ومخالفة
للمشروع ،قوة على غير حكمة ،ولو كان عالما بالمور وليس له قوة على
تنفيذها لم يفده الرأي الذي ل ينفذه شيئا } والله واسع { الفضل كثير
الكرم ،ل يخص برحمته وبره العام أحدا عن أحد ،ول شريفا عن وضيع،
ولكنه مع ذلك } عليم { بمن يستحق الفضل فيضعه فيه ،فأزال بهذا
الكلم ما في قلوبهم من كل ريب وشك وشبهة لتبيينه أن أسباب الملك
متوفرة فيه ،وأن فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده ،ليس له راد ،ول
لحسانه صاد.
ثم ذكر لهم نبيهم أيضا آية حسية يشاهدونها وهي إتيان التابوت الذي قد
فقدوه زمانا طويل وفي ذلك التابوت سكينة تسكن بها قلوبهم ،وتطمئن
لها خواطرهم ،وفيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون ،فأتت به
الملئكة حاملة له وهم يرونه عيانا.
) (1/107
ه
من ْ ُ ب ِ شرِ َ ن َ م ْ م ب ِن َهَرٍ فَ َ مب ْت َِليك ُ ْ ه ُ ن الل ّ َ ل إِ ّ جُنودِ َقا َ ت ِبال ْ ُ طاُلو ُ ل َ ص َ ما فَ َ فَل َ ّ
شرُِبوا ة ب ِي َدِهِ فَ َ ف غُْرفَ ً ن اغْت ََر َ م ِ مّني إ ِّل َ ه ِ ه فَإ ِن ّ ُ م ُم ي َط ْعَ ْ ن لَ ْ م ْ مّني وَ َ س ِ فَل َي ْ َ
ة ل ََنا ال ْي َوْ َ ه َقاُلوا َل َ ذي َ
م طاقَ َ مع َ ُ مُنوا َ نآ َ جاوََزهُ هُوَ َوال ّ ِ َ ما َ م فَل َ ّ من ْهُ ْ ه إ ِّل قَِليًل ِ من ْ ُ ِ
َ َ َ ّ َ َ ُ ّ ُ
تن فِئ َةٍ قَِليلةٍ غَلب َ ْ م ْ م ِ ملُقو اللهِ ك ْ م ُ ن أن ّهُ ْ ن ي َظّنو َ ذي َ ل ال ِ جُنودِهِ َقا َ ت وَ ُ جالو َ بِ َ
جُنودِهِ ت وَ ُ جالو َ ُ ما ب ََرُزوا ل ِ َ َ
ن ) (249وَل ّ ري َ صاب ِ ِ معَ ال ّ ه َ ّ
ن اللهِ َوالل ُ ّ ة كِثيَرةً ب ِإ ِذ ْ ِ َ فِئ َ ً
ْ ْ َ َ َ
ن) ري َ َ
قوْم ِ الكافِ ِ صْرَنا عَلى ال َ مَنا َوان ْ ُ دا َت أقْ َ صب ًْرا وَث َب ّ ْ َقاُلوا َرب َّنا أفْرِغْ عَلي َْنا َ
َ
ك َوال ْ ِ مل ْ َ َ
ةم َ حك ْ َ ه ال ْ ُ ت وَآَتاهُ الل ّ ُ جاُلو َ داُوود ُ َ ل َ ن الل ّهِ وَقَت َ َ م ب ِإ ِذ ْ ِ موهُ ْ (250فَهََز ُ
َ َ ْ َ ّ َ َ
ن
ض وَلك ِ ّ ت الْر ُ سد َ ِ ف َ ضل َ م ب ِب َعْ ٍ ضه ُ ْ س ب َعْ َ شاُء وَلوْل د َفْعُ اللهِ الّنا َ ما ي َ َ م ّ
ه ِ م ُ وَعَل ّ َ
ك ِبال ْ َ ها عَل َي ْ َ ت الل ّهِ ن َت ُْلو َ مين ) (251ت ِل ْ َ َ
حقّ وَإ ِن ّ َ
ك ك آَيا ُ ل عََلى ال َْعال َ ِ َ ض ٍ ذو فَ ْ ه ُ الل ّ َ
ن )(252 سِلي َ مْر َ ن ال ْ ُ م َ لَ ِ
) (1/108
ه وََرفَ َ
ع م الل ّ ُ ن ك َل ّ َم ْ م َمن ْهُ ْ
ض ِ م عَلى ب َعْ َ ٍ
ضه ُ ْ َ ضل َْنا ب َعْ َ
ل فَ ّ س ُ ك الّر ُ } } { 253ت ِل ْ َ
س وَل َ ْ
و قد ُ ِ ت وَأي ّد َْناهُ ب ُِروِح ال ْ ُ م ال ْب َي َّنا ِمْري َ َن َ سى اب ْ َ عي َ ت َوآت َي َْنا ِ جا ٍ م د ََر َ ضه ُ ْ ب َعْ َ
ن م ال ْب َي َّنا ُ َ ل ال ّ ِ ما اقْت َت َ َ شاَء الل ّ ُ َ
ت وَلك ِ ِ جاَءت ْهُ ُ ما َ ن ب َعْدِ َ م ْ م ِ ن ب َعْدِهِ ْ م ْ ن ِ ذي َ ه َ
هّ
ن الل َ َ ُ ْ
ما اقت َت َلوا وَلك ِ ّ ه َ ّ
شاَء الل ُ َ
فَر وَلوْ َ َ
نك َ م ْم َ من ْهُ ْ
ن وَ ِم َ نآ َ م ْ م َ من ْهُ ْ َ
فوا ف ِ َ
خت َل ُا ْ
ريد ُ { . ما ي ُ ِ ل َ فع َ ُ يَ ْ
يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين سائر
الناس بإيحائه وإرسالهم إلى الناس ،ودعائهم الخلق إلى الله ،ثم فضل
بعضهم على بعض بما أودع فيهم من الوصاف الحميدة والفعال السديدة
والنفع العام ،فمنهم من كلمه الله كموسى بن عمران خصه بالكلم،
ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى الله عليه وسلم الذي
اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره ،وجمع الله له من المناقب ما
فاق به الولين والخرين } وآتينا عيسى ابن مريم البينات { الدالت على
نبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } وأيدناه
بروح القدس { أي :باليمان واليقين الذي أيده به الله وقواه على ما أمر
به ،وقيل أيده بجبريل عليه السلم يلزمه في أحواله } ولو شاء الله ما
اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات { الموجبة للجتماع على
اليمان } ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر { فكان موجب
هذا الختلف التفرق والمعاداة والمقاتلة ،ومع هذا فلو شاء الله بعد هذا
الختلف ما اقتتلوا ،فدل ذلك على أن مشيئة الله نافذة غالبة للسباب،
وإنما تنفع السباب مع عدم معارضة المشيئة ،فإذا وجدت اضمحل كل
سبب ،وزال كل موجب ،فلهذا قال } ولكن الله يفعل ما يريد { فإرادته
غالبة ومشيئته نافذة ،وفي هذا ونحوه دللة على أن الله تعالى لم يزل
يفعل ما اقتضته مشيئته وحكمته ،ومن جملة ما يفعله ما أخبر به عن
نفسه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من الستواء والنزول
والقوال ،والفعال التي يعبرون عنها بالفعال الختيارية.
فائدة :كما يجب على المكلف معرفته بربه ،فيجب عليه معرفته برسله ،ما
يجب لهم ويمتنع عليهم ويجوز في حقهم ،ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم
الله به في آيات متعددة ،منها :أنهم رجال ل نساء ،من أهل ] ص [ 110
القرى ل من أهل البوادي ،وأنهم مصطفون مختارون ،جمع الله لهم من
الصفات الحميدة ما به الصطفاء والختيار ،وأنهم سالمون من كل ما
يقدح في رسالتهم من كذب وخيانة وكتمان وعيوب مزرية ،وأنهم ل يقرون
على خطأ فيما يتعلق بالرسالة والتكليف ،وأن الله تعالى خصهم بوحيه،
فلهذا وجب اليمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم فهو كافر ،ومن قدح
في واحد منهم أو سبه فهو كافر يتحتم قتله ،ودلئل هذه الجمل كثيرة ،من
تدبر القرآن تبين له الحق ،ثم قال تعالى:
) (1/109
م َل ب َي ْعٌ ِفيهِ وََل ْ قوا مما رزقْناك ُم من قَب َ َ ذي َ َ
ي ي َوْ ٌ
ن ي َأت ِ َ
لأ ِْ ّ َ َ َ ْ ِ ْ ْ ِ ف ُ
مُنوا أن ْ ِنآ ََيا أي َّها ال ّ ِ َ
ن )(254مو َ م ال ّ
ظال ِ ُ ن هُ ُ
كافُِرو َة َوال ْ َ
فاعَ ٌ ة وََل َ
ش َ خل ّ ٌ
ُ
ْ قوا مما رزقْناك ُم من قَب َ مُنوا أ َن ْفِ ُ َ
مل ي ي َوْ ٌ
ن ي َأت ِ َ
لأ ِْ ّ َ َ َ ْ ِ ْ ْ ِ نآ َ } َ } { 254يا أي َّها ال ّ ِ
ذي َ
ن{. مو َ م ال ّ
ظال ِ ُ ن هُ ُ
كافُِرو َ ة َوال ْ َفاعَ ٌ
ش َ ة َول َ خل ّ ٌ
ب َي ْعٌ ِفيهِ َول ُ
وهذا من لطف الله بعباده أن أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم الله ،من
صدقة واجبة ومستحبة ،ليكون لهم ذخرا وأجرا موفرا في يوم يحتاج فيه
العاملون إلى مثقال ذرة من الخير ،فل بيع فيه ولو افتدى النسان نفسه
بملء الرض ذهبا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منه ،ولم ينفعه
خليل ول صديق ل بوجاهة ول بشفاعة ،وهو اليوم الذي فيه يخسر
المبطلون ويحصل الخزي على الظالمين ،وهم الذين وضعوا الشيء في
غير موضعه ،فتركوا الواجب من حق الله وحق عباده وتعدوا الحلل إلى
الحرام ،وأعظم أنواع الظلم الكفر بالله الذي هو وضع العبادة التي يتعين
أن تكون لله فيصرفها الكافر إلى مخلوق مثله ،فلهذا قال تعالى:
} والكافرون هم الظالمون { وهذا من باب الحصر ،أي :الذين ثبت لهم
الظلم التام ،كما قال تعالى } :إن الشرك لظلم عظيم { ثم قال تعالى:
) (1/110
) (1/110
هذه الية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها ،وذلك لما اشتملت
عليه من المور العظيمة والصفات الكريمة ،فلهذا كثرت الحاديث في
الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند
نومه وأدبار الصلوات المكتوبات ،فأخبر تعالى عن نفسه الكريمة بأن } ل
إله إل هو { أي :ل معبود بحق سواه ،فهو الله الحق الذي تتعين أن تكون
جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى ،لكماله وكمال صفاته وعظيم
نعمه ،ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه ،ممتثل أوامره مجتنبا
نواهيه ،وكل ما سوى الله تعالى باطل ،فعبادة ما سواه باطلة ،لكون ما
سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه ،فلم يستحق شيئا
من أنواع العبادة ،وقوله } :الحي القيوم { هذان السمان الكريمان يدلن
على سائر السماء الحسنى دللة مطابقة وتضمنا ولزوما ،فالحي من له
الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات ،كالسمع والبصر والعلم
والقدرة ،ونحو ذلك ،والقيوم :هو الذي قام بنفسه وقام بغيره ،وذلك
مستلزم لجميع الفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من
الستواء والنزول والكلم والقول والخلق والرزق والماتة والحياء ،وسائر
أنواع التدبير ،كل ذلك داخل في قيومية الباري ،ولهذا قال بعض
المحققين :إنهما السم العظم الذي إذا دعي الله به أجاب ،وإذا سئل به
أعطى ،ومن تمام حياته وقيوميته أن } ل تأخذه سنة ول نوم { والسنة
النعاس } له ما في السماوات وما في الرض { أي :هو المالك وما سواه
مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبر ل يملك
لنفسه ول لغيره مثقال ذرة في السماوات ول في الرض فلهذا قال:
} من ذا الذي يشفع عنده إل بإذنه { أي :ل أحد يشفع عنده بدون إذنه،
فالشفاعة كلها لله تعالى ،ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من
عباده أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه ،ل يبتدئ الشافع
قبل الذن ،ثم قال } يعلم ما بين أيديهم { أي :ما مضى من جميع المور
} وما خلفهم { أي :ما يستقبل منها ،فعلمه تعالى محيط بتفاصيل المور،
متقدمها ومتأخرها ،بالظواهر والبواطن ،بالغيب والشهادة ،والعباد ليس
لهم من المر شيء ول من العلم مثقال ذرة إل ما علمهم تعالى ،ولهذا
قال } :ول يحيطون بشيء من علمه إل بما شاء وسع كرسيه السماوات
والرض { وهذا يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه ،إذا كان هذه حالة
الكرسي أنه يسع السماوات والرض على عظمتهما وعظمة من فيهما،
والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى ،بل هنا ما هو أعظم منه وهو
العرش ،وما ل يعلمه إل هو ،وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الفكار
وتكل البصار ،وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال ،فكيف بعظمة
خالقها ومبدعها ،والذي أودع فيها من الحكم والسرار ما أودع ،والذي قد
أمسك السماوات والرض أن تزول من غير تعب ول نصب ،فلهذا قال:
} ول يؤوده { أي :يثقله } حفظهما وهو العلي { بذاته فوق عرشه ،العلي
بقهره لجميع المخلوقات ،العلي بقدره لكمال صفاته } العظيم { الذي
تتضائل عند عظمته جبروت الجبابرة ،وتصغر في جانب جلله أنوف
الملوك القاهرة ،فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة
والقهر والغلبة لكل شيء ،فقد اشتملت هذه الية على توحيد اللهية
وتوحيد الربوبية وتوحيد السماء والصفات ،وعلى إحاطة ملكه وإحاطة
علمه وسعة سلطانه وجلله ومجده ،وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع
مخلوقاته ،فهذه الية بمفردها عقيدة في أسماء الله وصفاته ،متضمنة
لجميع السماء الحسنى والصفات العل ثم قال تعالى:
] ص [ 111
فْر ْ
ن ي َك ُ م ْيف ََ ْ
ن الغَ ّ م َ ن الّر ْ
شد ُ ِ َ
ن قد ْ ت َب َي ّ َ ْ
دي ِ
} } { 257 - 256ل إ ِكَراهَ ِفي ال ّ
هّ
م لَها َوالل َُ صا َ
ف َ قى ل ان ْ ِ ْ ْ
سك ِبالعُْروَةِ الوُث ْ َ َ م َست َ ْ ن ِبالل ّهِ فَ َ
قدِ ا ْ ت وَي ُؤْ ِ
م ْ غو ِ ِبال ّ
طا ُ
م{. ميعٌ عَِلي ٌ
س ِ
َ
يخبر تعالى أنه ل إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الكراه عليه ،لن
الكراه ل يكون إل على أمر خفية أعلمه ،غامضة أثاره ،أو أمر في غاية
الكراهة للنفوس ،وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت
أعلمه للعقول ،وظهرت طرقه ،وتبين أمره ،وعرف الرشد من الغي،
فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره ،وأما من كان سيئ القصد
فاسد الرادة ،خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل ،ويبصر الحسن
فيميل إلى القبيح ،فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين ،لعدم
النتيجة والفائدة فيه ،والمكره ليس إيمانه صحيحا ،ول تدل الية الكريمة
على ترك قتال الكفار المحاربين ،وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو
موجب لقبوله لكل منصف قصده اتباع الحق ،وأما القتال وعدمه فلم
تتعرض له ،وإنما يؤخذ فرض القتال من نصوص أخر ،ولكن يستدل في
الية الكريمة على قبول الجزية من غير أهل الكتاب ،كما هو قول كثير من
العلماء ،فمن يكفر بالطاغوت فيترك عبادة ما سوى الله وطاعة
الشيطان ،ويؤمن بالله إيمانا تاما أوجب له عبادة ربه وطاعته } فقد
استمسك بالعروة الوثقى { أي :بالدين القويم الذي ثبتت قواعده
ورسخت أركانه ،وكان المتمسك به على ثقة من أمره ،لكونه استمسك
بالعروة الوثقى التي } ل انفصام لها { وأما من عكس القضية فكفر بالله
وآمن بالطاغوت ،فقد أطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة،
واستمسك بكل باطل مآله إلى الجحيم } والله سميع عليم { فيجازي كل
منهما بحسب ما علمه منهم من الخير والشر ،وهذا هو الغاية لمن
استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها.
) (1/110
) (1/111
) (1/111
ل أ َّنى شَها َقا َ ة عََلى عُُرو ِ خاوِي َ ٌي َ مّر عَ ََلى قَْري َةٍ وَهِ َ ذي َ } } { 259أ َوْ َ
كال ّ ِ
ت َقا َ
ل م ل َب ِث ْ َ
ل كَ ْ ه َقا َ م ب َعَث َ ُعام ٍ ث ُ ّ ة َ مائ َ َه ِه الل ّ ُ موْت َِها فَأ َ
مات َ ُ ه ب َعْد َ َحِيي هَذِهِ الل ّ ُ يُ ْ
َ َ ُ َ َ
شَراب ِ َ
ك ك وَ َ م َ عام ٍ َفان ْظْر إ ِلى طَعا ِ ة َ مائ َ َ ت ِ ل لب ِث ْ َ ل بَ ْ ض ي َوْم ٍ َقا َ ما أوْ ب َعْ َ ت ي َوْ ًل َب ِث ْ ُ
فظام ِ ك َي ْ َ ة ِللّناس َوان ْظ ُْر إ َِلى ال ْعِ َ ك آي َ ً جعَل َ َك وَل ِن َ ْ مارِ َ ح َ ه َوان ْظ ُْر إ َِلى ِ سن ّ ْ
م ي َت َ َ لَ ْ
َِ ها ل َحما فَل َما تبين ل َه َقا َ َ
يٍء ش ْ ل َ ه عََلى ك ُ ّ ن الل ّ َ مأ ّ ل أعْل َ ُ ّ ََّ َ ُ ْ ً سو َم ن َك ْ ُها ث ُ ّشُز َ ن ُن ْ ِ
ديٌر { . قَ ِ
وهذا أيضا دليل آخر على توحد الله بالخلق والتدبير والماتة والحياء،
فقال } :أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها { أي :قد باد
أهلها وفني سكانها وسقطت حيطانها على عروشها ،فلم يبق بها أنيس بل
بقيت موحشة من أهلها مقفرة ،فوقف عليها ذلك الرجل متعجبا و } قال
أنى يحيي هذه الله بعد موتها { استبعادا لذلك وجهل بقدرة الله تعالى،
فلما أراد الله به خيرا أراه آية في نفسه وفي حماره ،وكان معه طعام
وشراب } ،فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو
بعض يوم { استقصارا لتلك المدة التي مات فيها لكونه قد زالت معرفته
وحواسه وكان عهد حاله قبل موته ،فقيل له } بل لبثت مائة عام فانظر
إلى طعامك وشرابك لم يتسنه { أي :لم يتغير بل بقي على حاله على
تطاول السنين واختلف الوقات عليه ،ففيه أكبر دليل على قدرته حيث
أبقاه وحفظه عن التغير والفساد ،مع أن الطعام والشراب من أسرع
الشياء فسادا } وانظر إلى حمارك { وكان قد مات وتمزق لحمه وجلده
وانتثرت عظامه ،وتفرقت أوصاله } ولنجعلك آية للناس { على قدرة الله
وبعثه الموات من قبورهم ،لتكون أنموذجا محسوسا مشاهدا بالبصار،
فيعلموا بذلك صحة ما أخبرت به الرسل } وانظر إلى العظام كيف
ننشزها { أي :ندخل بعضها في بعض ،ونركب بعضها ببعض } ثم نكسوها
لحما { فنظر إليها عيانا كما وصفها الله تعالى } ،فلما تبين له { ذلك
وعلم قدرة الله تعالى } قال أعلم أن الله على كل شيء قدير { والظاهر
من سياق الية أن هذا رجل منكر للبعث أراد الله به خيرا ،وأن يجعله آية
ودليل للناس لثلثة أوجه أحدها قوله } أنى يحيي هذه الله بعد موتها { ولو
كان نبيا أو عبدا صالحا لم يقل ذلك ،والثاني :أن الله أراه آية في طعامه
وشرابه وحماره ونفسه ليراه بعينه فيقر بما أنكره ،ولم يذكر في الية أن
القرية المذكورة عمرت وعادت إلى حالتها ،ول في السياق ما يدل على
ذلك ،ول في ذلك كثير فائدة ،ما الفائدة الدالة على إحياء الله للموتى في
قرية خربت ثم رجع إليها أهلها أو غيرهم فعمروها؟! وإنما الدليل الحقيقي
في إحيائه وإحياء حماره وإبقاء طعامه وشرابه بحاله ،والثالث في قوله} :
فلما تبين له { أي :تبين له أمر كان يجهله ويخفى عليه ،فعلم بذلك صحة
ما ذكرناه ،والله أعلم .ثم قال تعالى:
) (1/112
) (1/112
َ قو َ
سَناب ِ َ
ل ِفي سب ْعَ َ
ت َ حب ّةٍ أن ْب َت َ ْ
ل َ ل الل ّهِ ك َ َ
مث َ ِ سِبي ِم ِفي َوال َهُ ْم َ
نأ ْف ُ َ
ن ي ُن ْ ِ
ذي َ ل ال ّ ِ
مث َ ُ َ
م )(261 لي َ ع ع
َ ُ َ ِ ٌ ِ ٌ سوا هّ لوال ُ ء َ
شا ي ن م ل ف ع ضا ي ه ّ لوال ة بح ة
ُ ُْ ٍ ِ ُ َ ّ ٍ َ ُ ُ َ ِ ُ ِ َ ْ َ َ ئ م ةَ ل بن س لّ ُ ك
وهذا فيه أيضا أعظم دللة حسية على قدرة الله وإحيائه الموتى للبعث
والجزاء ،فأخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يريه ببصره كيف
يحيي الموتى ،لنه قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى ،ولكنه أحب أن يشاهده
عيانا ليحصل له مرتبة عين اليقين ،فلهذا قال الله له } :أولم تؤمن قال
بلى ولكن ليطمئن قلبي { وذلك أنه بتوارد الدلة اليقينية مما يزداد به
اليمان ويكمل به اليقان ويسعى في نيله أولو العرفان ،فقال له ربه
} فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك { أي :ضمهن ليكون ذلك بمرأى
منك ومشاهدة وعلى يديك } .ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا { أي:
مزقهن ،اخلط أجزاءهن بعضها ببعض ،واجعل على كل جبل ،أي :من
الجبال التي في القرب منه ،جزء من تلك الجزاء } ثم ادعهن يأتينك سعيا
{ أي :تحصل لهن حياة كاملة ،ويأتينك في هذه القوة وسرعة الطيران،
ففعل إبراهيم عليه السلم ذلك وحصل له ما أراد وهذا من ملكوت
السماوات والرض الذي أراه الله إياه في قوله } وكذلك نري إبراهيم
ملكوت السماوات والرض وليكون من الموقنين { ثم قال } :واعلم أن
الله عزيز حكيم { أي :ذو قوة عظيمة سخر بها المخلوقات ،فلم يستعص
عليه شيء منها ،بل هي منقادة لعزته خاضعة لجلله ،ومع ذلك فأفعاله
مث َ ُ
ل تعالى تابعة لحكمته ،ل يفعل شيئا عبثا ،ثم قال تعالىَ } { 261 } :
َ قو َ
ل ُ
ل ِفي ك ّ سَناب ِ َ
سب ْعَ َ
ت َ حب ّةٍ أن ْب َت َ ْل َ ل الل ّهِ ك َ َ
مث َ ِ سِبي ِم ِفي َ وال َهُ ْم َنأ ْ ف ُ َ ن ي ُن ْ ِ
ذي َ ال ّ ِ
م{. سعٌ عَِلي ٌ ه َوا ِ شاُء َوالل ّ ُ ن يَ َم ْف لِ َع ُضا ِ
ه يُ َحب ّةٍ َوالل ّ ُ مائ َ ُ
ة َ سن ْب ُل َةٍ ُِ
هذا بيان للمضاعفة التي ذكرها الله في ] ص [ 113قوله } من ذا الذي
يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة { وهنا قال } :مثل
الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله { أي :في طاعته ومرضاته ،وأولها
إنفاقها في الجهاد في سبيله } كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة
مائة حبة { وهذا إحضار لصورة المضاعفة بهذا المثل ،الذي كان العبد
يشاهده ببصره فيشاهد هذه المضاعفة ببصيرته ،فيقوى شاهد اليمان مع
شاهد العيان ،فتنقاد النفس مذعنة للنفاق سامحة بها مؤملة لهذه
المضاعفة الجزيلة والمنة الجليلة } ،والله يضاعف { هذه المضاعفة
} لمن يشاء { أي :بحسب حال المنفق وإخلصه وصدقه وبحسب حال
النفقة وحلها ونفعها ووقوعها موقعها ،ويحتمل أن يكون } والله يضاعف {
أكثر من هذه المضاعفة } لمن يشاء { فيعطيهم أجرهم بغير حساب
} والله واسع { الفضل ،واسع العطاء ،ل ينقصه نائل ول يحفيه سائل ،فل
يتوهم المنفق أن تلك المضاعفة فيها نوع مبالغة ،لن الله تعالى ل
يتعاظمه شيء ول ينقصه العطاء على كثرته ،ومع هذا فهو } عليم { بمن
يستحق هذه المضاعفة ومن ل يستحقها ،فيضع المضاعفة في موضعها
لكمال علمه وحكمته.
) (1/112
) (1/113
) (1/113
ل م كَ َ
مث َ ِ سهِ ْ
ف ِ ن أ َن ْ ُ ضاةِ الل ّهِ وَت َث ِْبيًتا ِ
م ْ مْر َ وال َهُ ُ
م اب ْت َِغاَء َ م َ
قو َ
نأ ْ ف ُ َ ن ي ُن ْ ِ ل ال ّ ِ
ذي َ مث َ ُوَ َ
هّ َ َ َ ُ َ َ
ل َوالل ُ ل فَط ّ صب َْها َواب ِ ٌ
م يُ ِ نل ْ ن فَإ ِ ْفي ْ ِ ت أك ُلَها ِ
ضع ْ َ ل فَآت َ ْ صاب ََها َواب ِ ٌ جن ّةٍ ب َِرب ْوَةٍ أ َ َ
صيٌر )(265 َ َ ِ ب ن لوُ م
بِ َ َ ْ َ
ع ت ما
قو َ
نم ْ ضاةِ الل ّهِ وَت َث ِْبيًتا ِ مْر َ
م اب ْت َِغاَء َ وال َهُ ُ
م َنأ ْ ف ُ َ ن ي ُن ْ ِ
ذي َ ل ال ّ ِمث َ ُ } } { 265وَ َ
َ َ ُ ُ َ أ َن ْ ُ
صب َْها
م يُ ِنل ْ ن فَإ ِ ْ
في ْ ِ
ضعْ َت أكلَها ِ ل َفآت َ ْ صاب ََها َواب ِ ٌ
جن ّةٍ ب َِرب ْوَةٍ أ َ ل َ م كَ َ
مث َ ِ سهِ ْ
ف ِ
صيٌر { . ن بَ ِ مُلو َ ما ت َعْ َه بِ َ ل َوالل ّ ُ ل فَط َ َّواب ِ ٌ
هذا مثل المنفقين أموالهم على وجه تزكو عليه نفقاتهم وتقبل به
صدقاتهم فقال تعالى } :ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله {
أي :قصدهم بذلك رضى ربهم والفوز بقربه } وتثبيتا من أنفسهم { أي:
صدر النفاق على وجه منشرحة له النفس سخية به ،ل على وجه التردد
وضعف النفس في إخراجها وذلك أن النفقة يعرض لها آفتان إما أن يقصد
النسان بها محمدة الناس ومدحهم وهو الرياء ،أو يخرجها على خور
وضعف عزيمة وتردد ،فهؤلء سلموا من هاتين الفتين فأنفقوا ابتغاء
مرضات الله ل لغير ذلك من المقاصد ،وتثبيتا من أنفسهم ،فمثل نفقة
هؤلء } كمثل جنة { أي :كثيرة الشجار غزيرة الظلل ،من الجتنان وهو
الستر ،لستر أشجارها ما فيها ،وهذه الجنة } بربوة { أي :محل مرتفع
ضاح للشمس في أول النهار ووسطه وآخره ،فثماره أكثر الثمار وأحسنها،
ليست بمحل نازل عن الرياح والشمس ،فـ } أصابها { أي :تلك الجنة
التي بربوة } وابل { وهو المطر الغزير } فآتت أكلها ضعفين { أي:
تضاعفت ثمراتها لطيب أرضها ووجود السباب الموجبة لذلك ،وحصول
الماء الكثير الذي ينميها ويكملها } فإن لم يصبها وابل فطل { أي :مطر
قليل يكفيها لطيب منبتها ،فهذه حالة المنفقين أهل النفقات الكثيرة
والقليلة كل على حسب حاله ،وكل ينمى له ما أنفق أتم تنمية وأكملها
والمنمي لها هو الذي أرحم بك من نفسك ،الذي يريد مصلحتك حيث ل
تريدها ،فيالله لو قدر وجود بستان في هذه الدار بهذه الصفة لسرعت
إليه الهمم وتزاحم عليه كل أحد ،ولحصل القتتال عنده ،مع انقضاء هذه
الدار وفنائها وكثرة آفاتها وشدة نصبها وعنائها ،وهذا الثواب الذي ذكره
الله كأن المؤمن ينظر إليه بعين بصيرة اليمان ،دائم مستمر فيه أنواع
المسرات والفرحات ،ومع هذا تجد النفوس عنه راقدة ،والعزائم عن طلبه
خامدة ،أترى ذلك زهدا في الخرة ونعيمها ،أم ضعف إيمان بوعد الله
ورجاء ثوابه؟! وإل فلو تيقن العبد ذلك حق اليقين وباشر اليمان به
بشاشة قلبه لنبعثت من قلبه مزعجات الشوق إليه ،وتوجهت همم عزائمه
إليه ،وطوعت نفسه له بكثرة النفقات رجاء المثوبات ،ولهذا قال تعالى} :
والله بما تعملون بصير { فيعلم عمل كل عامل ومصدر ذلك العمل،
فيجازيه عليه أتم الجزاء ثم قال تعالى:
) (1/114
ه َ
حت َِها اْلن َْهاُر ل َ ُ
ن تَ ْم ْري ِ ِ ج
ب تَ ْ ٍ ل وَأ َعَْنا ٍ خي
ن نَ ِ ْ م
ة ِ جن ّ ٌ
ه َ ن لَ ُ كو َ ن تَ ُ أ َيود أ َحدك ُ َ
مأ ْ َ َ ّ َ ُ ْ
َ َ ْ َ ن كُ ّ
صاٌر ِفيهِ َناٌر صاب ََها إ ِعْ َفاُء فَأ َضعَ َ ة ُ ه ذ ُّري ّ ٌ
ه الك ِب َُر وَل ُ صاب َ ُ ت وَأ َ مَرا ِ ل الث ّ َ م ْ
ِفيَها ِ
ن )(266 فكُرو َّ م ت َت َ َ ُ ّ
ت لعَلك ْ َ َ ْ
م الَيا ِ ُ
ه لك ُ َ ّ
ن الل ُ َ
ت كذ َل ِ َ حت ََرقَ ْ
َفا ْ
ك ي ُب َي ّ ُ
َ } } { 266أ َيود أ َحدك ُ َ
نم ْ
ري ِ ج ِب تَ ْل وَأعَْنا ٍ خي ٍن نَ ِم ْ ة ِ جن ّ ٌه َن لَ ُ
كو َ ن تَ ُمأ ْ َ َ ّ َ ُ ْ
َ ْ َ
فاُء ضعَ َ ة ُ ه ذ ُّري ّ ٌ
ه الك ِب َُر وَل ُ صاب َ ُ ت وَأ َ مَرا ِ ل الث ّ َ ُ
نك ّ م ْ حت َِها الن َْهاُر ل َ ُ
ه ِفيَها ِ تَ ْ
ُ ّ َ ُ َ ّ َ َ َ
م
ت لعَلك ْ م الَيا ِ ه لك ُ ن الل ُ ت كذ َل ِك ي ُب َي ّ ُ حت ََرقَ ْ صاٌر ِفيهِ َناٌر َفا ْ صاب ََها إ ِعْ َ فَأ َ
ن{. فكُرو َّ ت َت َ َ
وهذا المثل مضروب لمن عمل عمل لوجه الله تعالى من صدقة أو غيرها
ثم عمل أعمال تفسده ،فمثله كمثل صاحب هذا البستان الذي فيه من كل
الثمرات ،وخص منها النخل والعنب لفضلهما وكثرة منافعهما ،لكونهما
غذاء وقوتا وفاكهة وحلوى ،وتلك الجنة فيها ) (1النهار الجارية التي
تسقيها من غير مؤنة ،وكان صاحبها قد اغتبط بها وسرته ،ثم إنه أصابه
الكبر فضعف عن العمل وزاد حرصه ،وكان له ذرية ضعفاء ما فيهم معاونة
له ،بل هم كل عليه ،ونفقته ونفقتهم من تلك الجنة ،فبينما هو كذلك إذ
أصاب تلك الجنة إعصار وهو الريح القوية التي تستدير ثم ترتفع في الجو،
وفي ذلك العصار نار فاحترقت تلك الجنة ،فل تسأل عما لقي ذلك الذي
أصابه الكبر من الهم والغم والحزن ،فلو قدر أن الحزن يقتل صاحبه لقتله
الحزن ،كذلك من عمل عمل لوجه الله فإن أعماله بمنزلة البذر للزروع
والثمار ،ول يزال كذلك حتى يحصل له من عمله جنة موصوفة بغاية
الحسن والبهاء ،وتلك المفسدات التي تفسد العمال بمنزلة العصار الذي
فيه نار ،والعبد أحوج ما يكون لعمله إذا مات وكان بحالة ل يقدر معها على
العمل ،فيجد عمله الذي يؤمل نفعه هباء منثورا ،ووجد الله عنده فوفاه
حسابه.
والله سريع الحساب فلو علم النسان وتصور هذه الحال وكان له أدنى
مسكة من عقل لم يقدم على ما فيه مضرته ونهاية حسرته ولكن ضعف
اليمان والعقل وقلة البصيرة يصير صاحبه إلى هذه الحالة التي لو صدرت
من مجنون ل يعقل لكان ذلك عظيما وخطره جسيما ،فلهذا أمر تعالى
ث عليه ،فقال } :كذلك يبين الله لكم اليات ] ص [ 115بالتفكر وح ّ
لعلكم تتفكرون { .
__________
) (1في النسختين :فيه.
) (1/114
ن
م َم ِ جَنا ل َك ُ ْ خَر ْ ما أ َ ْم ّ م وَ ِ سب ْت ُ ْما ك َ َ ت َن ط َي َّبا ِ م ْ قوا ِ ف ُ َ
مُنوا أن ْ ِ ذي َ
نآ َ
َ
َيا أي َّها ال ّ ِ َ
َ م ب ِآ َ ِ اْل َْر
ه
ضوا ِفي ِ م ُ ن ت ُغْ ِذيهِ إ ِّل أ ْ خ ِ ست ُ ْن وَل َ ْقو َف ُه ت ُن ْ ِ
من ْ ُ
ث ِ خِبي َ موا ال ْ َ م ُ ض وََل ت َي َ ّ
ِ
ْ م ال ْ َ شي ْ َ َ
مُرك ُ ْ
م قَر وَي َأ ُ ف ْ ن ي َعِد ُك ُ ُ طا ُ ميد ٌ ) (267ال ّ ح ِي َ ه غَن ِ ّن الل ّ َ موا أ ّ َواعْل َ ُ
م )(268 سعٌ عَِلي ٌ ه َوا ِ ضًل َوالل ّ ُ ه وَفَ ْمن ْ ُفَرةً ِ مغ ْ ِ م َ ه ي َعِد ُك ُ ْشاِء َوالل ّ ُ ح َ ف ِْبال ْ َ
ما
م ّ
م وَ ِ ما ك َ َ
سب ْت ُ ْ ت َ ن ط َي َّبا ِ م ْ قوا ِ مُنوا أ َن ْفِ ُ نآ َ ذي َ
َ
} َ } { 268 - 267يا أي َّها ال ّ ِ
َ أَ ْ
ن
ذيهِ ِإل أ ْ خ ِ م ِبآ ِ ن وَل َ ْ
ست ُ ْ قو َ ف ُ
ه ت ُن ْ ِ من ْ ُ
ث ِ خِبي َ موا ال ْ َ م ُ
ض َول ت َي َ ّ ِ ن الْر َ م
م ِجَنا ل َك ُ ْخَر ْ
ْ م ال ْ َ شي ْ َ َ
مُرك ُ ْ
م قَر وَي َأ ُ ف ْ ن ي َعِد ُك ُ ُ طا ُ ميد ٌ * ال ّ ح ِي َ ه غَن ِ ّ ن الل ّ َ موا أ ّ ضوا ِفيهِ َواعْل َ ُ م ُ ت ُغْ ِ
م{. سعٌ عَِلي ٌ ه َوا ِ ّ
ضل َوالل ُ ه وَفَ ْ من ْ ُفَرةً ِ مغ ْ ِ
م َ ُ
ه ي َعِد ُك ْ ّ
شاِء َوالل ُ ح َ ِبال ْ َ
ف ْ
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالنفقة من طيبات ما يسر لهم من المكاسب،
ن عليكم بتسهيل تحصيله فأنفقوا منه ومما أخرج لهم من الرض فكما م ّ
شكرا لله وأداء لبعض حقوق إخوانكم عليكم ،وتطهيرا لموالكم ،واقصدوا
في تلك النفقة الطيب الذي تحبونه لنفسكم ،ول تيمموا الرديء الذي ل
ترغبونه ول تأخذونه إل على وجه الغماض والمسامحة } واعلموا أن الله
غني حميد { فهو غني عنكم ونفع صدقاتكم وأعمالكم عائد إليكم ،ومع هذا
فهو حميد على ما يأمركم به من الوامر الحميدة والخصال السديدة،
فعليكم أن تمتثلوا أوامره لنها قوت القلوب وحياة النفوس ونعيم الرواح،
وإياكم أن تتبعوا عدوكم الشيطان الذي يأمركم بالمساك ،ويخوفكم
بالفقر والحاجة إذا أنفقتم ،وليس هذا نصحا لكم ،بل هذا غاية الغش
} إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير { بل أطيعوا ربكم الذي
يأمركم بالنفقة على وجه يسهل عليكم ول يضركم ،ومع هذا فهو } يعدكم
مغفرة { لذنوبكم وتطهيرا لعيوبكم } وفضل { وإحسانا إليكم في الدنيا
والخرة ،من الخلف العاجل ،وانشراح الصدر ونعيم القلب والروح والقبر،
وحصول ثوابها وتوفيتها يوم القيامة ،وليس هذا عظيما عليه لنه } واسع {
الفضل عظيم الحسان } عليم { بما يصدر منكم من النفقات قليلها
وكثيرها ،سرها وعلنها ،فيجازيكم عليها من سعته وفضله وإحسانه ،فلينظر
العبد نفسه إلى أي الداعيين يميل ،فقد تضمنت هاتان اليتان أمورا
عظيمة منها :الحث على النفاق ،ومنها :بيان السباب الموجبة لذلك،
ومنها :وجوب الزكاة من النقدين وعروض التجارة كلها ،لنها داخلة في
قوله } :من طيبات ما كسبتم { ومنها :وجوب الزكاة في الخارج من
الرض من الحبوب والثمار والمعادن ،ومنها :أن الزكاة على من له الزرع
والثمر ل على صاحب الرض ،لقوله } أخرجنا لكم { فمن أخرجت له
وجبت عليه ومنها :أن الموال المعدة للقتناء من العقارات والواني
ونحوها ليس فيها زكاة ،وكذلك الديون والغصوب ونحوهما إذا كانت
مجهولة ،أو عند من ل يقدر ربها على استخراجها منه ،ليس فيها زكاة ،لن
الله أوجب النفقة من الموال التي يحصل فيها النماء الخارج من الرض،
وأموال التجارة مواساة من نمائها ،وأما الموال التي غير معدة لذلك ول
مقدورا عليها فليس فيها هذا المعنى ،ومنها :أن الرديء ينهى عن إخراجه
ول يجزئ في الزكاة ثم قال تعالى:
) (1/115
ما ي َذ ّك ُّر إ ِّل ة فَ َ ُ ت ال ْ ِ ي ُؤِْتي ال ْ ِ
خي ًْرا ك َِثيًرا وَ َ
ي َ
قد ْ أوت ِ َ حك ْ َ
م َ ن ي ُؤْ َ
م ْ ن يَ َ
شاُء وَ َ م ْ
ة َ حك ْ َ
م َ
َ ُ
ب )(269 أوُلو اْلل َْبا ِ
ة فَ َ ُ ت ال ْ ِ } } { 269ي ُؤِْتي ال ْ ِ
خي ًْرا
ي َ
قد ْ أوت ِ َ حك ْ َ
م َ ن ي ُؤْ َ
م ْ ن يَ َ
شاُء وَ َ م ْة َ حك ْ َ
م َ
ُ
ب{. ما ي َذ ّك ُّر ِإل أوُلو الل َْبا ِ
ك َِثيًرا وَ َ
لما أمر تعالى بهذه الوامر العظيمة المشتملة على السرار والحكم وكان
ن عليه وآتاه الله الحكمة ،وهي العلم ذلك ل يحصل لكل أحد ،بل لمن م ّ
النافع والعمل الصالح ومعرفة أسرار الشرائع وحكمها ،وإن من آتاه الله
الحكمة فقد آتاه خيرا كثيرا وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدارين
والنجاة من شقاوتهما! وفيه التخصيص بهذا الفضل وكونه من ورثة النبياء،
فكمال العبد متوقف على الحكمة ،إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية
فتكميل قوته العلمية بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به ،وتكميل قوته
العملية بالعمل بالخير وترك الشر ،وبذلك يتمكن من الصابة بالقول
والعمل وتنزيل المور منازلها في نفسه وفي غيره ،وبدون ذلك ل يمكنه
ذلك ،ولما كان الله تعالى قد فطر عباده على عبادته ومحبة الخير والقصد
للحق ،فبعث الله الرسل مذكرين لهم بما ركز في فطرهم وعقولهم،
ومفصلين لهم ما لم يعرفوه ،انقسم الناس قسمين قسم أجابوا دعوتهم
فتذكروا ما ينفعهم ففعلوه ،وما يضرهم فتركوه ،وهؤلء هم أولو اللباب
الكاملة ،والعقول التامة ،وقسم لم يستجيبوا لدعوتهم ،بل أجابوا ما عرض
لفطرهم من الفساد ،وتركوا طاعة رب العباد ،فهؤلء ليسوا من أولي
اللباب ،فلهذا قال تعالى } :وما يذكر إل أولو اللباب { .
) (1/115
) (1/115
خي ٌْر ل َك ُ ْ
م قَراءَ فَهُوَ َ ها ال ْ ُ
ف َ ها وَت ُؤُْتو َ
فو َ خ ُن تُ ْي وَإ ِ ْما هِ َ ت فَن ِعِ ّ
صد ََقا ِ
دوا ال ّ ن ت ُب ْ ُإِ ْ
خِبيٌر )(271 ن َ ُ
ملو َ ما ت َعْ َ
ه بِ َ ّ
م َوالل ُ ُ
سي َّئات ِك ْن َم ْم ِ ُ
فُر عَن ْك ْ َ
وَي ُك ّ
قَراءَ فَهُ َ
و ها ال ْ ُ
ف َ ها وَت ُؤُْتو َ
فو َخ ُ
ن تُ ْي وَإ ِ ْما هِ َ ت فَن ِعِ ّ صد ََقا ِ
دوا ال ّ ن ت ُب ْ ُ
} } { 271إ ِ ْ
خِبيٌر { . ن َمُلو َما ت َعْ َ م َوالل ّ ُ
ه بِ َ سي َّئات ِك ُ ْ
ن َم ْ فُر عَن ْك ُ ْ
م ِ خي ٌْر ل َك ُ ْ
م وَي ُك َ ّ َ
أي } :إن تبدوا الصدقات { فتظهروها وتكون علنية حيث كان القصد بها
وجه الله } فنعما هي { أي :فنعم الشيء } هي { لحصول المقصود بها }
وإن تخفوها { أي :تسروها } وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم { ففي هذا أن
صدقة السر على الفقير أفضل من صدقة العلنية ،وأما إذا لم تؤت
الصدقات الفقراء فمفهوم الية أن السر ليس خيرا من العلنية ،فيرجع
في ذلك إلى المصلحة ،فإن كان في إظهارها إظهار شعائر الدين وحصول
القتداء ونحوه ،فهو أفضل من السرار ،ودل قوله } :وتؤتوها الفقراء {
على أنه ينبغي للمتصدق أن يتحرى بصدقته المحتاجين ،ول يعطي محتاجا
وغيره أحوج منه ،ولما ذكر تعالى أن الصدقة خير للمتصدق ويتضمن ذلك
حصول الثواب قال } :ويكفر عنكم من سيئاتكم { ففيه دفع العقاب
} والله بما تعملون خبير { من خير وشر ،قليل وكثير والمقصود من ذلك
المجازاة.
) (1/116
سك ُ ْ
م ف ِ خي ْرٍ فَِل َن ْ ُ ن َ م ْ قوا ِ ما ت ُن ْفِ ُشاُء وَ َ ن يَ َ م ْ دي َ ه ي َهْ ِ ن الل ّ َ م وَل َك ِ ّ داهُ ْ ك هُ َ س عَل َي ْ َ ل َي ْ َ
م َل َ
م وَأن ْت ُ ْ ف إ ِل َي ْك ُ ْخي ْرٍ ي ُوَ ّ ن َ م ْ قوا ِ ما ت ُن ْفِ ُ جهِ الل ّهِ وَ َ ن إ ِّل اب ْت َِغاَء وَ ْ قو َ ف ُ ما ت ُن ْ ِ وَ َ
ضْرًبا َ ّ ُ ّ ْ َ ْ
ن َ طيُعو َ ست َ ِ ل اللهِ ل ي َ ْ سِبي ِصُروا ِفي َ ح ِ نأ ْ ذي َ قَراِء ال ِ ف َن ) (272ل ِل ُ مو َ ت ُظل ُ
ن ُ َ َ ُ ْ َ جاهِ ُ ْ َ ْ
سألو َ م ل يَ ْ ماهُ ْ سي َ م بِ ِ ف ت َعْرِفهُ ْ ف ِن الت ّعَ ّ م َ ل أغن َِياَء ِ م ال َ سب ُهُ ُ ح َ ض يَ ْ ِفي الْر ِ
ن
قو َ ف ُ ن ي ُن ْ ِ ذي َ ّ
م ) (273ال ِ ه ب ِهِ عَِلي ٌ ّ
ن الل َ خي ْرٍ فَإ ِ ّ ن َ م ْ قوا ِ ف ُما ت ُن ْ ِ حاًفا وَ َ س إ ِل ْ َ الّنا َ
َ َ َ َ َ ّ َ
م
ف عَلي ْهِ ْ خوْ ٌ م وَل َ عن ْد َ َرب ّهِ ْ م ِ جُرهُ ْ مأ ْ ة فَلهُ ْ سّرا وَعَلن ِي َ ً ل َوالن َّهارِ ِ م ِباللي ْ ِ وال َهُ ْ م َ أ ْ
ن )(274 حَزُنو َ م يَ ْ وََل هُ ْ
ما
شاُء وَ َ ن يَ َ م ْ دي َ ه ي َهْ ِ ن الل ّ َ م وَل َك ِ ّ داهُ ْ ك هُ َ س عَل َي ْ َ } } { 274 - 272ل َي ْ َ
ن
م ْقوا ِ ف ُ ما ت ُن ْ ِ جهِ الل ّهِ وَ َ ن ِإل اب ْت َِغاَء وَ ْ قو َ ف ُما ت ُن ْ ِ م وَ َ سك ُ ْف ِ خي ْرٍ َفلن ْ ُ ن َ م ْ قوا ِ ف ُ ت ُن ْ ِ
ّ
ل اللهِ ل ُ ّ ْ َ ْ َ ُ َ
سِبي ِ صُروا ِفي َ ح ِ نأ ْ ذي َ قَراِء ال ِ ف َن * ل ِل ُ مو َ م ل ت ُظل ُ م وَأن ْت ُ ْ ف إ ِلي ْك ْ خي ْرٍ ي ُوَ ّ َ
م ُ ْ َ جاهِ ُ ْ
ف ت َعْرِفهُ ْ ف ِ ن الت ّعَ ّ م َ ل أغن َِياَء ِ م ال َ سب ُهُ ُح َ ض يَ ْ ضْر ًَبا ِفي الْر ِ ن َ طيُعو َ ست َ ِ يَ ْ
م* ه ب ِهِ عَِلي ٌ ّ
ن الل َ خي ْرٍ فَإ ِ ّ ن َ م ْ قوا ِ ف ُما ت ُن ْ ِ حاًفا وَ َ ْ
س إ ِل َ ن الّنا َ سألو َ ُ م ل يَ ْ ماهُ ْ سي َ بِ ِ
َ َ ّ َ َ
معن ْد َ َرب ّهِ ْ م ِ جُرهُ ْ مأ ْ ة فَلهُ ْ علن ِي َ ً سّرا وَ َ ل َوالن َّهارِ ِ م ِباللي ْ ِ والهُ ْ م َ نأ ْ قو َ ف ُن ي ُن ْ ِ
ذي َ ال ّ ِ
ن{. حَزُنو َ م يَ ْ م َول هُ ْ ف عَل َي ْهِ ْ خوْ ٌ َول َ
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليس عليك هدي الخلق ،وإنما
عليك البلغ المبين ،والهداية بيد الله تعالى ،ففيها دللة على أن النفقة كما
تكون على المسلم تكون على الكافر ولو لم يهتد ،فلهذا قال } :وما
تنفقوا من خير { أي :قليل أو كثير على أي شخص كان من مسلم وكافر
} فلنفسكم { أي :نفعه راجع إليكم } وما تنفقون إل ابتغاء وجه الله {
هذا إخبار عن نفقات المؤمنين الصادرة عن إيمانهم أنها ل تكون إل لوجه
الله تعالى ،لن إيمانهم يمنعهم عن المقاصد الردية ويوجب لهم الخلص
} وما تنفقوا من خير يوف إليكم { يوم القيامة تستوفون أجوركم } وأنتم
ل تظلمون { أي :تنقصون من أعمالكم شيئا ول مثقال ذرة ،كما ل يزاد
في سيئاتكم.
ثم ذكر مصرف النفقات الذين هم أولى الناس بها فوصفهم بست صفات
أحدها الفقر ،والثاني قوله } :أحصروا في سبيل الله { أي :قصروها على
طاعة الله من جهاد وغيره ،فهم مستعدون لذلك محبوسون له ،الثالث
عجزهم عن السفار لطلب الرزق فقال } :ل يستطيعون ضربا في الرض
{ أي :سفرا للتكسب ،الرابع قوله } :يحسبهم الجاهل أغنياء من
التعفف { وهذا بيان لصدق صبرهم وحسن تعففهم .الخامس :أنه قال:
} تعرفهم بسيماهم { أي :بالعلمة التي ذكرها الله في وصفهم ،وهذا ل
ينافي قوله } :يحسبهم الجاهل أغنياء { فإن الجاهل بحالهم ليس له فطنة
يتفرس بها ما هم عليه ،وأما الفطن المتفرس فمجرد ما يراهم )(1
يعرفهم بعلمتهم ،السادس قوله } :ل يسألون الناس إلحافا { أي :ل
يسألونهم سؤال إلحاف ،أي :إلحاح ،بل إن صدر منهم سؤال إذا احتاجوا
لذلك لم يلحوا على من سألوا ،فهؤلء أولى الناس وأحقهم بالصدقات لما
وصفهم به من جميل الصفات ،وأما النفقة من حيث هي على أي شخص
كان ،فهي خير وإحسان وبر يثاب عليها صاحبها ويؤجر ،فلهذا قال } :وما
تنفقوا من خير فإن الله به عليم { .
ثم ذكر حالة المتصدقين في جميع الوقات على جميع الحوال فقال:
} الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله { أي :طاعته وطريق مرضاته ،ل
في المحرمات والمكروهات وشهوات أنفسهم } بالليل والنهار سرا
وعلنية فلهم أجرهم عند ربهم { أي :أجر عظيم من خير عند الرب
الرحيم } ول خوف عليهم { إذا خاف المقصرون } ول هم يحزنون { إذا
حزن المفرطون ،ففازوا بحصول المقصود المطلوب ،ونجوا من الشرور
والمرهوب ،ولما كمل تعالى حالة المحسنين إلى عباده بأنواع النفقات ذكر
حالة الظالمين المسيئين إليهم غاية الساءة فقال:
__________
) (1في النسختين :يراه.
) (1/116
شي ْ َ ْ
نم َ ن ِ طا ُ ه ال ّ خب ّط ُ ُ ذي ي َت َ َ م ال ّ ِ قو ُ ما ي َ ُ ن إ ِّل ك َ َ مو َ قو ُ ن الّرَبا َل ي َ ُ ن ي َأك ُُلو َ ذي َ ال ّ ِ
َ َ
ن م الّرَبا فَ َ
م ْ حّر َ ه ال ْب َي ْعَ وَ َ ل الل ّ ُ ح ّ ل الّرَبا وَأ َ مث ْ ُما ال ْب َي ْعُ ِ م َقاُلوا إ ِن ّ َ ك ب ِأن ّهُ ْ س ذ َل ِ َ م ّ ال ْ َ
َ
عاد َ ن َ م ْ مُرهُ إ َِلى الل ّهِ وَ َ ف وَأ ْ سل َ َ ما َ ه َ ن َرب ّهِ َفان ْت ََهى فَل َ ُ م ْ ة ِ عظ َ ٌ موْ ِ جاَءهُ َ َ
ه الّرَبا وَي ُْرِبي ّ َ َ
فَأولئ ِ َ ُ
حقُ الل ُ م َن ) (275ي َ ْ دو َ خال ِ ُ م ِفيَها َ ب الّنارِ هُ ْ حا ُ ص َ كأ ْ
ُ َ ّ َ ل كَ ّ ب كُ ّ َ ّ
ملوا مُنوا وَعَ ِ نآ َ ذي َ ن ال ِ فارٍ أِثيم ٍ ) (276إ ِ ّ ح ّ ه ل يُ ِ ت َوالل ُ صد ََقا ِ ال ّ
َ َ َ وا الّز َ َ َ َ
فخوْ ٌ م وَل َ عن ْد َ َرب ّهِ ْ م ِ جُرهُ ْ مأ ْ كاةَ لهُ ْ صلةَ وَآت َ ُ موا ال ّ ت وَأَقا ُ حا ِ صال ِ َ ال ّ
َ َ
ي
ق َ ما ب َ ِ ه وَذ َُروا َ قوا الل ّ َ مُنوا ات ّ ُ نآ َ ذي َ ن )َ (277يا أي َّها ال ّ ِ حَزُنو َ م يَ ْ م وََل هُ ْ عَل َي ْهِ ْ
ْ
ن الل ّ ِ
ه م َ ب ِ حْر ٍ فعَُلوا فَأذ َُنوا ب ِ َ م تَ ْ ن لَ ْ ن ) (278فَإ ِ ْ مِني َ مؤْ ِ م ُ ن ك ُن ْت ُ ْ ن الّرَبا إ ِ ْ م َ ِ
ن )(279 مو َ لْ ظ ت ل َ و ن مو لْ ظ ت ل َ م ُ ك ل وا م َ أ س ءوُ ر م ُ ك َ لَ ف م
ُ َ َ ِ ُ َ َ ُ ُ ْ َ ِ ْ ْ ُ وَ َ ُ ِ ِ َ ِ ْ ُ ْ ُ ْ
ت ب ت ن إ و ه ل سو ر
َ
من ك ُن ْت ُ ْ م إِ ْ خي ٌْر ل َك ُ ْ صد ُّقوا َ ن تَ َ سَرةٍ وَأ ْ مي ْ َ سَرةٍ فَن َظ َِرةٌ إ َِلى َ ذو عُ ْ ن ُ كا َ ن َ وَإ ِ ْ
ما
س َ
ف ٍ
ل نَ ْ ن ِفيهِ إ َِلى الل ّهِ ث ُ ّ
م ت ُوَّفى ك ُ ّ جُعو َ
ما ت ُْر َ
قوا ي َوْ ًن )َ (280وات ّ ُ مو َ ت َعْل َ ُ
ن )(281 مو َم َل ي ُظ ْل َ ُ
ت وَهُ ْسب َ ْكَ َ
ْ
ذي م ال ّ ِ قو ُ ما ي َ ُ ن ِإل ك َ َ مو َ قو ُ ن الّرَبا ل ي َ ُ ن ي َأك ُُلو َ ذي َ } } { 281 - 275ال ّ ِ
َ َ
ل الل ّ ُ
ه ح ّ ل الّرَبا وَأ َ مث ْ ُ ما ال ْب َي ْعُ ِ م َقاُلوا إ ِن ّ َ ك ب ِأن ّهُ ْ س ذ َل ِ َ م ّ ن ال ْ َ م َ ن ِ طا ُ شي ْ َ ه ال ّ خب ّط ُ ُ ي َت َ َ
َ سل َ َ
مُرهُ ف وَأ ْ ما َ ه َ ن َرب ّهِ َفان ْت ََهى فَل َ ُ م ْ ة ِ عظ َ ٌ موْ ِ جاَءهُ َ ن َ م ُْ م الّرَبا فَ َ حّر َ ال ْب َي ْعَ وَ َ
َ
ه الّرَبا حقُ الل ّ ُ م َ ن * يَ ْ دو َ خال ِ ُ م ِفيَها َ ب الّنارِ هُ ْ حا ُ ص َ كأ ْ عاد َ فَأول َئ ِ َ ن َ م ْ إ َِلى الل ّهِ وَ َ
مُلوا ] ص َ
مُنوا وَعَ ِ نآ َ ذي َ ن ال ّ ِ فارٍ أِثيم ٍ * إ ِ ّ ل كَ ّ ب كُ ّ ح ّ ه ل يُ ِ ت َوالل ّ ُ صد ََقا ِ وَي ُْرِبي ال ّ
َ َ َ َ
م َول عن ْد َ َرب ّهِ ْ م ِ جُرهُ ْ مأ ْ وا الّزكاةَ لهُ ْ صلةَ َوآت َ ُ موا ال ّ ت وَأَقا ُ حا ِ صال ِ َ [ 117ال ّ
ّ ّ َ
ي
ق َ ما ب َ ِ ه وَذ َُروا َ قوا الل َ مُنوا ات ّ ُ نآ َ ذي َ ن * َيا أي َّها ال ِ حَزُنو َ م يَ ْ م َول هُ ْ ف عَل َي ْهِ ْ خوْ ٌ َ
ّ ْ ُ َ ُ
ه
سول ِ ِ ن اللهِ وََر ُ م َ ب ِ حْر ٍ فعَلوا فَأذ َُنوا ب ِ َ م تَ ْ نل ْ ن * فَإ ِ ْ مِني َ مؤْ ِ م ُ ن كن ْت ُ ْ ن الّرَبا إ ِ ْ م َ ِ
َ َ ْ ْ ُ َ ُ َ
ذو ن ُ ن كا َ ن * وَإ ِ ْ مو َ ن َول ت ُظل ُ مو َ م ل ت َظل ِ ُ وال ِك ْ م َ سأ ْ م ُرُءو ُ م فَلك ْ ن ت ُب ْت ُ ْ
وَإ ِ ْ
َ َ َ َ
قوا ن * َوات ّ ُ مو َ م ت َعْل ُ ن ك ُن ْت ُ ْ م إِ ْ خي ٌْر لك ُ ْ صد ُّقوا َ ن تَ َ سَرةٍ وَأ ْ مي ْ َ سَرةٍ فَن َظ َِرةٌ إ ِلى َ عُ ْ
ن{ مو َ َ
م ل ي ُظل ُ ْ ت وَهُ ْ سب َ ْ ما ك َ َ س َ م ت ُوَّفى ك ُ ّ ّ
ن ِفيهِ إ ِلى اللهِ ث ُ ّ َ
ف ٍ ل نَ ْ جُعو َ ما ت ُْر َ ي َوْ ً
.
يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم ،أنهم ل يقومون من
قبورهم ليوم نشورهم } إل كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس {
أي :يصرعه الشيطان بالجنون ،فيقومون من قبورهم حيارى سكارى
مضطربين ،متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال ،فكما تقلبت عقولهم و
} قالوا إنما البيع مثل الربا { وهذا ل يكون إل من جاهل عظيم جهله ،أو
متجاهل عظيم عناده ،جازاهم الله من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم
أحوال المجانين ،ويحتمل أن يكون قوله } :ل يقومون إل كما يقوم الذي
يتخبطه الشيطان من المس { أنه لما انسلبت عقولهم في طلب
المكاسب الربوية خفت أحلمهم وضعفت آراؤهم ،وصاروا في هيئتهم
وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلخ العقل الدبي
عنهم ،قال الله تعالى رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة } وأحل الله
البيع { أي :لما فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر
بتحريمه ،وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما
يدل على المنع } وحرم الربا { لما فيه من الظلم وسوء العاقبة ،والربا
نوعان :ربا نسيئة كبيع الربا بما يشاركه في العلة نسيئة ،ومنه جعل ما في
الذمة رأس مال ،سلم ،وربا فضل ،وهو بيع ما يجري فيه الربا بجنسه
متفاضل وكلهما محرم بالكتاب والسنة ،والجماع على ربا النسيئة ،وشذ
من أباح ربا الفضل وخالف النصوص المستفيضة ،بل الربا من كبائر
الذنوب وموبقاتها } فمن جاءه موعظة من ربه { أي :وعظ وتذكير
وترهيب عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمة من الله
بالموعوظ ،وإقامة للحجة عليه } فانتهى { عن فعله وانزجر عن تعاطيه }
فله ما سلف { أي :ما تقدم من المعاملت التي فعلها قبل أن تبلغه
الموعظة جزاء لقبوله للنصيحة ،دل مفهوم الية أن من لم ينته جوزي
بالول والخر } وأمره إلى الله { في مجازاته وفيما يستقبل من أموره
} ومن عاد { إلى تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة ،بل أصر على ذلك
} فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون { اختلف العلماء رحمهم الله في
نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي دون
الشرك بالله ،والحسن فيها أن يقال هذه المور التي رتب الله عليها
الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك ،ولكن الموجب إن لم يوجد ما
يمنعه ترتب عليه مقتضاه ،وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف المة
أن التوحيد واليمان مانع من الخلود في النار ،فلول ما مع النسان من
التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره.
ثم قال تعالى } :يمحق الله الربا { أي :يذهبه ويذهب بركته ذاتا ووصفا،
فيكون سببا لوقوع الفات فيه ونزع البركة عنه ،وإن أنفق منه لم يؤجر
عليه بل يكون زادا له إلى النار } ويربي الصدقات { أي :ينميها وينزل
البركة في المال الذي أخرجت منه وينمي أجر صاحبها وهذا لن الجزاء
من جنس العمل ،فإن المرابي قد ظلم الناس وأخذ أموالهم على وجه غير
شرعي ،فجوزي بذهاب ماله ،والمحسن إليهم بأنواع الحسان ربه أكرم
منه ،فيحسن عليه كما أحسن على عباده } والله ل يحب كل كفار { لنعم
الله ،ل يؤدي ما أوجب عليه من الصدقات ،ول يسلم منه ومن شره عباد
الله } أثيم { أي :قد فعل ما هو سبب لثمه وعقوبته.
لما ذكر أكلة الربا وكان من المعلوم أنهم لو كانوا مؤمنين إيمانا ينفعهم لم
يصدر منهم ما صدر ذكر حالة المؤمنين وأجرهم ،وخاطبهم باليمان،
ونهاهم عن أكل الربا إن كانوا مؤمنين ،وهؤلء هم الذين يقبلون موعظة
ربهم وينقادون لمره ،وأمرهم أن يتقوه ،ومن جملة تقواه أن يذروا ما
بقي من الربا أي :المعاملت الحاضرة الموجودة ،وأما ما سلف ،فمن
اتعظ عفا الله عنه ما سلف ،وأما من لم ينزجر بموعظة الله ولم يقبل
نصيحته فإنه مشاق لربه محارب له ،وهو عاجز ضعيف ليس له يدان في
محاربة العزيز الحكيم الذي يمهل للظالم ول يهمله حتى إذا أخذه ،أخذه
أخذ عزيز مقتدر } وإن تبتم { عن الربا } فلكم رءوس أموالكم { أي:
أنزلوا عليها } ل تظلمون { من عاملتموه بأخذ الزيادة التي هي الربا } ول
تظلمون { بنقص رءوس أموالكم.
} وإن كان { المدين } ذو عسرة { ل يجد وفاء } فنظرة إلى ميسرة {
وهذا واجب عليه أن ينظره حتى يجد ما يوفي به } وأن تصدقوا خير لكم
إن كنتم تعلمون { إما بإسقاطها أو بعضها.
} واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم ل
يظلمون { وهذه الية من آخر ما نزل من القرآن ،وجعلت خاتمة لهذه
الحكام والوامر والنواهي ،لن فيها الوعد على الخير ،والوعيد على فعل ]
ص [ 118الشر ،وأن من علم أنه راجع إلى الله فمجازيه على الصغير
والكبير والجلي والخفي ،وأن الله ل يظلمه مثقال ذرة ،أوجب له الرغبة
والرهبة ،وبدون حلول العلم في ذلك في القلب ل سبيل إلى ذلك.
) (1/116
) (1/118
ة فَإ َ
مضك ُ ْن ب َعْ ُم َ
نأ ِ ض ٌ ِ ْ قُبو َ م ْ
ن َ ها ٌ دوا َ
كات ًِبا فَرِ َ ج ُم تَ ِ فرٍ وَل َ ْ س َ م عََلى َ ن ك ُن ْت ُ ْوَإ ِ ْ
َ
ن
م ْ شَهاد َةَ وَ َموا ال ّه وََل ت َك ْت ُ ُه َرب ّ ُق الل ّ َ مان َت َ ُ ْ
ه وَلي َت ّ ِ نأ َ م َ ذي اؤْت ُ ِ ضا فَل ْي ُؤَد ّ ال ّ ِ ب َعْ ً
مُلو َ َ
م )(283 ن عَِلي ٌ ما ت َعْ َ ه َوالل ّ ُ
ه بِ َ م قَل ْب ُ ُ
ه آث ِ ٌ مَها فَإ ِن ّ ُ ي َك ْت ُ ْ
ة فَإ َ
ن
م َ
نأ ِ ض ٌ ِ ْ قُبو َ م ْ
ن َ
ها ٌ دوا َ
كات ًِبا فَرِ َ ج ُ م تَ ِفرٍ وَل َ ْس َم عََلى َ ن ك ُن ْت ُ ْ
} } { 283وَإ ِ ْ
ّ ْ َ
شَهاد َةَموا ال ّ ْ
ه َول ت َكت ُ ُه َرب ّ ُ
ق الل َه وَلي َت ّ ِ مان َت َ ُ
نأ َ م َ ضا فَل ْي ُؤَد ّ ال ِ
ذي اؤْت ُ ِ ّ ضك ُ ْ
م ب َعْ ً ب َعْ ُ
م{. مُلو َ
ن عَِلي ٌ ما ت َعْ َ ه َوالل ّ ُ
ه بِ َ م قَل ْب ُ ُ
ه آث ِ ٌ ن ي َك ْت ُ ْ
مَها فَإ ِن ّ ُ م ْ
وَ َ
أي :إن كنتم مسافرين } ولم تجدوا كاتبا { يكتب بينكم ويحصل به التوثق
} فرهان مقبوضة { أي :يقبضها صاحب الحق وتكون وثيقة عنده حتى
يأتيه حقه ،ودل هذا على أن الرهن غير المقبوضة ل يحصل منها التوثق،
ودل أيضا على أن الراهن والمرتهن لو اختلفا في قدر ما رهنت به ،كان
القول قول المرتهن ،ووجه ذلك أن الله جعل الرهن عوضا عن الكتابة في
توثق صاحب الحق ،فلول أن قول المرتهن مقبول في قدر الذي رهنت به
لم يحصل المعنى المقصود ،ولما كان المقصود بالرهن التوثق جاز حضرا
وسفرا ،وإنما نص الله على السفر ،لنه في مظنة الحاجة ] ص [ 120
إليه لعدم الكاتب فيه ،هذا كله إذا كان صاحب الحق يحب أن يتوثق لحقه،
فما كان صاحب الحق آمنا من غريمه وأحب أن يعامله من دون رهن
فعلى من عليه الحق أن يؤدي إليه كامل غير ظالم له ول باخس حقه
} وليتق الله ربه { في أداء الحق ويجازي من أحسن به الظن بالحسان
} ول تكتموا الشهادة { لن الحق مبني عليها ل يثبت بدونها ،فكتمها من
أعظم الذنوب ،لنه يترك ما وجب عليه من الخبر الصدق ويخبر بضده وهو
الكذب ،ويترتب على ذلك فوات حق من له الحق ،ولهذا قال تعالى:
} ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم { وقد اشتملت هذه
الحكام الحسنة التي أرشد الله عباده إليها على حكم عظيمة ومصالح
عميمة دلت على أن الخلق لو اهتدوا بإرشاد الله لصلحت دنياهم مع صلح
دينهم ،لشتمالها على العدل والمصلحة ،وحفظ الحقوق وقطع
المشاجرات والمنازعات ،وانتظام أمر المعاش ،فلله الحمد كما ينبغي
لجلل وجهه وعظيم سلطانه ل نحصي ثناء عليه.
) (1/119
) (1/120
مَلئ ِك َت ِهِن ِبالل ّهِ وَ َ
م َ
ن كُ ّ َ
لآ َ مُنو َ ن َرب ّهِ َوال ْ ُ
مؤْ ِ م ْ ما أ ُن ْزِ َ
ل إ ِل َي ْهِ ِ سو ُ
ل بِ َ ن الّر ُ م َ
َ
آ َ
فَران َ َ
ك َرب َّنا معَْنا وَأ َط َعَْنا غُ ْ سل ِهِ وََقاُلوا َ
س ِ ن ُر ُ م ْ حدٍ ِ
فرقُ بي َ
نأ ََْ َ سل ِهِ َل ن ُ َ ّ
وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُ
صيُر )(285 م ِك ال ْ َ
وَإ ِل َي ْ َ
ن ِبالل ّ ِ
ه م َ ن كُ ّ
لآ َ مُنو َ ن َرب ّهِ َوال ْ ُ
مؤْ ِ م ْ ما أ ُن ْزِ َ
ل إ ِل َي ْهِ ِ ل بِ َ سو ُن الّر ُ م َ } } { 285آ َ
َ
معَْنا وَأط َعَْنا َ
س ِسل ِهِ وََقاُلوا َن ُر ُ م ْحدٍ ِ نأ َ فّرقُ ب َي ْ َ سل ِهِ ل ن ُ َملئ ِك َت ِهِ وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُوَ َ
صيُر { . م ِك ال ْ َ
ك َرب َّنا وَإ ِل َي ْ َ
فَران َ َ
غُ ْ
يخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه ،وانقيادهم وطاعتهم
وسؤالهم مع ذلك المغفرة ،فأخبر أنهم آمنوا بالله وملئكته وكتبه ورسله،
وهذا يتضمن اليمان بجميع ما أخبر الله به عن نفسه ،وأخبرت به عنه
رسله من صفات كماله ونعوت جلله على وجه الجمال والتفصيل،
وتنزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع صفات النقص ،ويتضمن اليمان
بالملئكة الذين نصت عليهم الشرائع جملة وتفصيل وعلى اليمان بجميع
الرسل والكتب ،أي :بكل ما أخبرت به الرسل وتضمنته الكتب من الخبار
والوامر والنواهي ،وأنهم ل يفرقون بين أحد من رسله ،بل يؤمنون
بجميعهم ،لنهم وسائط بين الله وبين عباده ،فالكفر ببعضهم كفر بجميعهم
بل كفر بالله } وقالوا سمعنا { ما أمرتنا به ونهيتنا } وأطعنا { لك في
ذلك ،ولم يكونوا ممن قالوا سمعنا وعصينا ،ولما كان العبد ل بد أن يحصل
منه تقصير في حقوق الله تعالى وهو محتاج إلى مغفرته على الدوام،
قالوا } غفرانك { أي :نسألك مغفرة لما صدر منا من التقصير والذنوب،
ومحو ما اتصفنا به من العيوب } وإليك المصير { أي :المرجع لجميع
الخلئق فتجزيهم بما عملوا من خير وشر.
) (1/120
) (1/120
) (1/121
صد ًّقا
م َ حق ّ ُ ب ِبال ْ َ ك ال ْك َِتا َ ل عَل َي ْ َ م ) (2ن َّز َ قّيو ُ ي ال ْ َ ح ّ ه إ ِّل هُوَ ال ْ َ ه َل إ ِل َ َ الم ) (1الل ّ ُ
َ َ
س وَأن َْز َ
ل دى ِللّنا ِ ل هُ ً ن قَب ْ ُم ْ ل )ِ (3 جي َ ل الت ّوَْراةَ َواْل ِن ْ ِ ن ي َد َي ْهِ وَأن َْز َ ما ب َي ْ َ لِ َ
زيٌز ُ ّ ب َ م عَ َ َ ّ َ َ ّ فْرَقا َ ال ْ ُ
قام ٍذو ان ْت ِ َ ه عَ ِديد ٌ َوالل ُ ش ِ ذا ٌ ت اللهِ لهُ ْ
َْ
فُروا ب ِآَيا ِ نك َ ذي َ ن ال ِ ن إِ ّ
ذي ماِء ) (5هُوَ ال ّ ِ س َض وََل ِفي ال ّ يٌء ِفي الْر ِ ش ْ فى عَل َي ْهِ َ خ َ ه َل ي َ ْ ن الل ّ َ ) (4إ ِ ّ
م )(6 ْ ْ ّ َ َ ف يَ َ َ َ ْ ُ
كي ُ ح ِزيُز ال َ ه إ ِل هُوَ العَ ِ شاُء ل إ ِل َ حام ِ كي ْ َ م ِفي الْر َ صوُّرك ْ يُ َ
نزل صدرها إلى بضع وثمانين آية في مخاصمة النصارى وإبطال مذهبهم
ودعوتهم إلى الدخول في الدين الحق دين السلم كما نزل صدر البقرة
حيم ِ الم * ن الّر ِ م ِ ح َ سم ِ الل ّهِ الّر ْ في محاجة اليهود كما تقدم } { 6 - 1 } .ب ِ ْ
ن صد ًّقا ل ِ َ
ما ب َي ْ َ م َ حق ّ ُ ْ
ب ِبال َ ك ال ْك َِتا َ ل عَل َي ْ َ م * ن َّز َ ي ال ْ َ
قّيو ُ ح ّه ِإل هُوَ ال ْ َ ه ل إ ِل َ َ الل ّ ُ
ل ال ْ ُ َ َ
ن
ن إِ ّفْرَقا َ س وَأن َْز َ دى ِللّنا ِ ل هُ ً ن قَب ْ ُ م ْ ل* ِ جي َ ل الت ّوَْراةَ َوالن ْ ِ ي َد َي ْهِ وَأن َْز َ
هل ّ
ن الل َ قام ٍ * إ ِ ّ ذو ان ْت ِ َ زيٌز ُ ه عَ ِ ّ
ديد ٌ َوالل ُ ش ِب َ ذا ٌم عَ َ َ
ت اللهِ لهُ ّْ فُروا ِبآَيا ِ ن كَ َ ذي َ ال ّ ِ
م ِفي صوُّرك ُ ْ ذي ي ُ َ ماِء * هُوَ ال ّ ِ س َ ض َول ِفي ال ّ يٌء ِفي الْر ِ ش ْ فى عَل َي ْهِ َ خ َ يَ ْ
م{. كي ُ
ح ِ ْ
زيُز ال َ ْ
ه ِإل هُوَ العَ ِ َ
شاُء ل إ ِل َ ف يَ َ َ
حام ِ كي ْ َ الْر َ
افتتحها تبارك وتعالى بالخبار بألوهيته ،وأنه الله الذي ل إله إل هو الذي ل
ينبغي التأله والتعبد إل لوجهه ،فكل معبود سواه فهو باطل ،والله هو الله
الحق المتصف بصفات اللوهية التي مرجعها إلى الحياة والقيومية ،فالحي
من له الحياة العظيمة الكاملة المستلزمة لجميع الصفات التي ل تتم ول
تكمل الحياة إل بها كالسمع والبصر والقدرة والقوة والعظمة والبقاء
والدوام والعز الذي ل يرام } القيوم { الذي قام بنفسه فاستغنى عن
جميع مخلوقاته ،وقام بغيره فافتقرت إليه جميع مخلوقاته في اليجاد
والعداد والمداد ،فهو الذي قام بتدبير الخلئق وتصريفهم ،تدبير للجسام
وللقلوب والرواح.
ومن قيامه تعالى بعباده ورحمته بهم أن نزل على رسوله محمد صلى الله
عليه وسلم الكتاب ،الذي هو أجل الكتب وأعظمها المشتمل على الحق
في إخباره وأوامره ونواهيه ،فما أخبر به صدق ،وما حكم به فهو العدل،
وأنزله بالحق ليقوم الخلق بعبادة ربهم ويتعلموا كتابه } مصدقا لما بين
يديه { من الكتب السابقة ،فهو المزكي لها ،فما شهد له فهو المقبول،
وما رده فهو المردود ،وهو المطابق لها في جميع المطالب التي اتفق
عليها المرسلون ،وهي شاهدة له بالصدق ،فأهل الكتاب ل يمكنهم
التصديق بكتبهم إن لم يؤمنوا به ،فإن كفرهم به ينقض إيمانهم بكتبهم ،ثم
قال تعالى } وأنزل التوراة { أي :على موسى } والنجيل { على عيسى.
} من قبل { إنزال القرآن } هدى للناس { الظاهر أن هذا راجع لكل ما
تقدم ،أي :أنزل الله القرآن والتوراة والنجيل هدى للناس من الضلل،
فمن قبل هدى الله فهو المهتدي ،ومن لم يقبل ذلك بقي على ضلله
} وأنزل الفرقان { أي :الحجج والبينات والبراهين القاطعات الدالة على
جميع المقاصد والمطالب ،وكذلك فصل وفسر ما يحتاج إليه الخلق حتى
بقيت الحكام جلية ظاهرة ،فلم يبق لحد عذر ول حجة لمن لم يؤمن به
وبآياته ،فلهذا قال } إن الذين كفروا بآيات الله { أي :بعد ما بينها ووضحها
وأزاح العلل } لهم عذاب شديد { ل يقدر قدره ول يدرك وصفه } والله
عزيز { أي :قوي ل يعجزه شيء } ذو انتقام { ممن عصاه.
} إن الله ل يخفى عليه شيء في الرض ول في السماء { وهذا فيه تقرير
إحاطة علمه بالمعلومات كلها ،جليها وخفيها ،ظاهرها وباطنها ،ومن جملة
ذلك الجنة في البطون التي ل يدركها بصر المخلوقين ،ول ينالها علمهم،
وهو تعالى يدبرها بألطف تدبير ،ويقدرها بكل تقدير ،فلهذا قال ] ص
} [ 122هو الذي يصوركم في الرحام كيف يشاء { .
} هو الذي يصوركم في الرحام كيف يشاء { من كامل الخلق وناقصه،
وحسن وقبيح ،وذكر وأنثى } ل إله إل هو العزيز الحكيم { تضمنت هذه
اليات تقرير إلهية الله وتعينها ،وإبطال إلهية ما سواه ،وفي ضمن ذلك رد
على النصارى الذين يزعمون إلهية عيسى ابن مريم عليه السلم،
وتضمنت إثبات حياته الكاملة وقيوميته التامة ،المتضمنتين جميع الصفات
المقدسة كما تقدم ،وإثبات الشرائع الكبار ،وأنها رحمة وهداية للناس،
وتقسيم الناس إلى مهتد وغيره ،وعقوبة من لم يهتد بها ،وتقرير سعة علم
الباري ونفوذ مشيئته وحكمته.
) (1/121
) (1/122
) (1/123
ن
م َ قن ْط ََرةِ ِ م َطيرِ ال ْ ُ قَنا ِ ن َوال ْ َ ساِء َوال ْب َِني َ ن الن ّ َم َت ِ وا ِ شه َ َ ب ال ّ ح ّ س ُ ن ِللّنا ِ ُزي ّ َ
مَتاعُ ال ْ َ َ
مةِ َواْلن َْعام ِ َوال ْ َ
حَياةِ الد ّن َْيا ك َ ث ذ َل ِ َ حْر ِ سوّ َم َل ال ْ ُ خي ْ ِضةِ َوال ْ َ ف ّ ب َوال ْ ِ الذ ّهَ ِ
َ َ
عن ْد َ وا ِ ق ْن ات ّ َذي َ م ل ِل ّ ِ ن ذ َل ِك ُ ْم ْ خي ْرٍ ِم بِ َ ل أؤُن َب ّئ ُك ُ ْ ب ) (14قُ ْ مآ ِ ن ال ْ َ س ُ ح ْ عن ْد َهُ ُ ه ِ َوالل ّ ُ
َ َ
ن
وا ٌ ض َ مط َهَّرةٌ وَرِ ْ ج ُ ن ِفيَها وَأْزَوا ٌ دي َ خال ِ ِ حت َِها اْلن َْهاُر َن تَ ْ م ْ ري ِ ج ِت تَ ْ جّنا ٌ م َ َرب ّهِ ْ
صيٌر ِبال ْعَِبادِ )(15 ه بَ ِ ن الل ّهِ َوالل ّ ُ م َ ِ
} قد كان لكم آية { أي :عبرة عظيمة } في فئتين التقتا { وهذا يوم بدر
} فئة تقاتل في سبيل الله { وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه
} وأخرى كافرة { أي :كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرا وفخرا
ورئاء الناس ،ويصدون عن سبيل الله ،فجمع الله بين الطائفتين في بدر،
وكان المشركون أضعاف المؤمنين ،فلهذا قال } يرونهم مثليهم رأي العين
{ أي :يرى المؤمنون الكافرين يزيدون عليها زيادة كثيرة ،تبلغ المضاعفة
وتزيد عليها ،وأكد هذا بقوله } رأي العين { فنصر الله المؤمنين وأيدهم
بنصره فهزموهم ،وقتلوا صناديدهم ،وأسروا كثيرا منهم ،وما ذاك إل لن
الله ناصر من نصره ،وخاذل من كفر به ،ففي هذا عبرة لولي البصار،
أي :أصحاب البصائر النافذة والعقول الكاملة ،على أن الطائفة المنصورة
معها الحق ،والخرى مبطلة ،وإل فلو نظر الناظر إلى مجرد السباب
الظاهرة والعدد والُعدد لجزم بأن غلبة هذه الفئة القليلة لتلك الفئة الكثيرة
من أنواع المحالت ،ولكن وراء هذا السبب المشاهد بالبصار سبب أعظم
منه ل يدركه إل أهل البصائر واليمان بالله والتوكل على الله والثقة
بكفايته ،وهو نصره وإعزازه لعباده المؤمنين على أعدائه الكافرين.
] ص [ 124
ر
طي ِقَنا ِ ْ
ن َوال َ ْ
ساِء َوالب َِني َ ن الن ّ َ م َ ت ِ وا ِ شه َ َب ال ّ ح ّس ُ ن ِللّنا ِ } ُ } { 17 - 14زي ّ َ
مَتاعُ ك َ ث ذ َل ِ َ حْر ِ ْ
مةِ َوالن َْعام ِ َوال َ سوّ َم َ ْ
ل ال ُ خي ْ ِ ْ
ضةِ َوال َ ف ّ ْ
ب َوال ِ ن الذ ّهَ ِ م َقن ْط ََرةِ ِ م َ ال ْ ُ
عنده حسن ال ْمآب * قُ ْ َ
ن
ذي َ م ل ِل ّ ِن ذ َل ِك ُ ْم ْ خي ْرٍ ِ
م بِ َل أؤُن َب ّئ ُك ُ ْ َ ِ ه ِ ْ َ ُ ُ ْ ُ حَياةِ الد ّن َْيا َوالل ّ ُ ال ْ َ
مط َهَّرةٌ َ
ج ُ ن ِفيَها وَأْزَوا ٌ دي َخال ِ ِ حت َِها الن َْهاُر َ ن تَ ْ
م ْ ري ِ ج ِت تَ ْ جّنا ٌ م َ عن ْد َ َرب ّهِ ْ
وا ِ ق ْ ات ّ َ
صيٌر ِبال ْعَِبادِ { . ه بَ ِ ن الل ّهِ َوالل ّ ُ م َ ن ِ وا ٌض َ
وَرِ ْ
يخبر تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية ،وخص هذه المور
المذكورة لنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تبع لها ،قال تعالى } إنا جعلنا
ما على الرض زينة لها { فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من
الدواعي المثيرات ،تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم ،وانقسموا
بحسب الواقع إلى قسمين :قسم :جعلوها هي المقصود ،فصارت أفكارهم
وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها ،فشغلتهم عما خلقوا لجله،
وصحبوها صحبة البهائم السائمة ،يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها ،ول
يبالون على أي :وجه حصلوها ،ول فيما أنفقوها وصرفوها ،فهؤلء كانت
زادا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب ،والقسم الثاني :عرفوا المقصود
منها وأن الله جعلها ابتلء وامتحانا لعباده ،ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته
على لذاته وشهواته ،فجعلوها وسيلة لهم وطريقا يتزودون منها لخرتهم
ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الستعانة به على مرضاته ،قد صحبوها
بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم ،وعلموا أنها كما قال الله فيها } ذلك متاع
الحياة الدنيا { فجعلوها معبرا إلى الدار الخرة ومتجرا يرجون بها الفوائد
الفاخرة ،فهؤلء صارت لهم زادا إلى ربهم .وفي هذه الية تسلية للفقراء
الذين ل قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الغنياء ،وتحذير
للمغترين بها وتزهيد لهل العقول النيرة بها ،وتمام ذلك أن الله تعالى
أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين البرار ،وأخبر أنها خير من ذلكم
المذكور ،أل وهي الجنات العاليات ذات المنازل النيقة والغرف العالية،
والشجار المتنوعة المثمرة بأنواع الثمار ،والنهار الجارية على حسب
مرادهم والزواج المطهرة من كل قذر ودنس وعيب ظاهر وباطن ،مع
الخلود الدائم الذي به تمام النعيم ،مع الرضوان من الله الذي هو أكبر
نعيم ،فقس هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة ،ثم اختر لنفسك
أحسنهما واعرض على قلبك المفاضلة بينهما } والله بصير بالعباد { أي:
عالم بما فيهم من الوصاف الحسنة والوصاف القبيحة ،وما هو اللئق
بأحوالهم ،يوفق من شاء منهم ويخذل من شاء .فالجنة التي ذكر الله
وصفها ونعتها بأكمل نعت وصف أيضا المستحقين لها وهم الذين اتقوه
بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه ،وكان من دعائهم أن قالوا:
) (1/123
) (1/124
) (1/126
أ َل َم تر إَلى ال ّذي ُ
حك ُ َ
م ب الل ّهِ ل ِي َ ْ تا ِ ن إ َِلى ك ِ َ ب ي ُد ْعَوْ َ ِ ن ال ْك َِتاَ م
صيًبا ِ ن أوُتوا ن َ ِ ِ َ ْ ََ ِ
َ
سَنام ّ ن تَ َ م َقاُلوا ل َ ْ ك ب ِأن ّهُ ْ ن ) (23ذ َل ِ َ ضو َ معْرِ ُ م ُ م وَهُ ْمن ْهُ ْ
ريقٌ ِ م َ ي َت َوَّلى فَ ِ
م ثُ ّ
ب َي ْن َهُ ْ
ذاف إِ َ ن ) (24فَك َي ْ َ فت َُرو َ ما َ
كاُنوا ي َ ْ م َ م ِفي ِدين ِهِ ْ ت وَغَّرهُ ْ دا ٍدو َ معْ ُ
ما َالّناُر إ ِّل أّيا ً
ن) مو َ م َل ي ُظ ْل َ ُ ت وَهُ ْ سب َ ْما ك َ َس َف ٍ ل نَ ْت كُ ّ ب ِفيهِ وَوُفّي َ ْ م ل ِي َوْم ٍ َل َري ْ َمعَْناهُ ْ
ج َ َ
(25
} } { 25 - 23أ َل َم تر إَلى ال ّذي ُ
ن إ َِلى ك َِتا ِ
ب ب ي ُد ْعَوْ َ
َ ن ال ْك َِتا ِ م َصيًبا ِ ن أوُتوا ن َ ِ ِ َ ْ ََ ِ
ُ
م َقالوا ك ب ِأن ّهُ ْ ن * ذ َل ِ َ ضو َ معْرِ ُ م ُ
م وَهُ ْ من ْهُ ْ
ريقٌ ِ م ي َت َوَّلى فَ ِم ثُ ّ حك ُ َ
م ب َي ْن َهُ ْ الل ّهِ ل ِي َ ْ
َ
ن* فت َُرو َ كاُنوا ي َ ْ ما َ م َ م ِفي ِدين ِهِ ْ ت وَغَّرهُ ْ دا ٍدو َ معْ ُما َسَنا الّناُر ِإل أّيا ً م ّ ن تَ َ لَ ْ
مل ت وَهُ ْ سب َ ْ ما ك َ َ س َف ٍ ل نَ ْت كُ ّب ِفيهِ وَوُفّي َ ْ م ل ِي َوْم ٍ ل َري ْ َ معَْناهُ ْ ج َ ذا َ ف إِ َ فَك َي ْ َ
ن{. مو َ ي ُظ ْل َ ُ
يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب الذين أنعم الله عليهم بكتابه ،فكان يجب
أن يكونوا أقوم الناس به وأسرعهم انقيادا لحكامه ،فأخبر الله عنهم أنهم
إذا دعوا إلى حكم الكتاب تولى فريق منهم وهم يعرضون ،تولوا بأبدانهم،
وأعرضوا بقلوبهم ،وهذا غاية الذم ،وفي ضمنها التحذير لنا أن نفعل
كفعلهم ،فيصيبنا من الذم والعقاب ما أصابهم ،بل الواجب على كل أحد
إذا دعي إلى كتاب الله أن يسمع ويطيع وينقاد ،كما قال تعالى } إنما كان
قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا
وأطعنا { والسبب الذي غر أهل الكتاب بتجرئهم على معاصي الله هو
قولهم } لن تمسنا النار إل أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا
يفترون { .
افتروا هذا القول فظنوه حقيقة فعملوا على ذلك ولم ينزجروا عن
المحارم ،لن أنفسهم منتهم وغرتهم أن مآلهم إلى الجنة ،وكذبوا في ذلك،
فإن هذا مجرد كذب وافتراء ،وإنما مآلهم شر مآل ،وعاقبتهم عاقبة
وخيمة ،فلهذا قال تعالى } فكيف إذا جمعناهم ليوم ل ريب فيه { .
) (1/126
) (1/126
كافري َ
ك فَل َي ْ َ
س ل ذ َل ِ َ
فع َ ْ ن يَ ْم ْ ن وَ َ مِني َمؤْ ِن ال ْ ُ دو ِن ُ م ْ ن أوْل َِياَء ِ ن ال ْ َ ِ ِ َ مُنو َ خذِ ال ْ ُ
مؤْ ِ َل ي َت ّ ِ
َ
ه وَإ َِلى الل ّ ِ
ه س ُ ف َه نَ ْ م الل ّ ُ
حذ ُّرك ُ ُ قاةً وَي ُ َ م تُ َمن ْهُ ْقوا ِ ن ت َت ّ ُ يٍء إ ِّل أ ْ ش ْ ن الل ّهِ ِفي َ م َ ِ
ما مَ ل ع ي و هّ ل ال ه م َ لع ي ه دو بت و َ أ م ُ ك ردو ص في ما فوا ُ خ ت ن إ لْ ُ ق ( 28 ) ر ْ
ُ ََْ ُ َ ُ ُ ِ ْ ْ ُْ ُ ُ َْ ْ ُ َ ِ ْ ِ ْ ُ ا َ ِ ُ
صي م ل
ه عََلى ك ُ ّ َ
ديٌر )(29 يٍء قَ ِش ْ ل َ ض َوالل ّ ُ ْ
ما ِفي الْر ِ ت وَ َ ماَوا ِس َ ِفي ال ّ
كافري َ
ن
م ْن وَ َ مِني َ مؤْ ِن ال ْ ُ دو ِ ن ُ م ْن أوْل َِياَء ِ ن ال ْ َ ِ ِ َمُنو َ مؤْ ِخذِ ال ْ ُ} } { 30 - 28ل ي َت ّ ِ
هّ َ ّ
م الل ُ حذ ُّرك ُ ُ قاةً وَي ُ َ م تُ َ من ْهُ ْ
قوا ِ ن ت َت ّ ُيٍء ِإل أ ْش ْ ن اللهِ ِفي َ م َ س ِك فَل َي ْ َل ذ َل ِ َ فع َ ْ يَ ْ
َ َ ْ ّ َ
ه
م ُ
دوهُ ي َعْل ْ م أوْ ت ُب ْ ُ دورِك ُ ْ ص ُ ما ِفي ُ فوا َ
خ ُن تُ ْل إِ ْ صيُر * قُ ْ م ِ ه وَإ ِلى اللهِ ال َ س ُف َ نَ ْ
ديٌر { . يٍء قَ ِ ش ْ ل َ ه عََلى ك ُ ّ ض َوالل ّ ُ ما ِفي الْر ِ ت وَ َ ماَوا ِ س َ ما ِفي ال ّ م َه وَي َعْل َ ُ الل ّ ُ
وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالة الكافرين بالمحبة والنصرة
والستعانة بهم على أمر من أمور المسلمين ،وتوعد على ذلك فقال:
} ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء { أي :فقد انقطع عن الله،
وليس له في دين الله نصيب ،لن موالة الكافرين ل تجتمع مع اليمان،
لن اليمان يأمر بموالة الله وموالة أوليائه المؤمنين المتعاونين على
إقامة دين الله وجهاد أعدائه ،قال تعالى } :والمؤمنون والمؤمنات بعضهم
أولياء بعض { فمن والى -الكافرين من دون المؤمنين الذين يريدون أن
يطفؤا نور الله ويفتنوا أولياءه خرج من حزب المؤمنين ،وصار من حزب
الكافرين ،قال تعالى } :ومن يتولهم منكم فإنه منهم { وفي هذه الية
دليل على البتعاد عن الكفار وعن معاشرتهم وصداقتهم ،والميل إليهم
] ص [ 128والركون إليهم ،وأنه ل يجوز أن يولى كافر ولية من وليات
المسلمين ،ول يستعان به على المور التي هي مصالح لعموم المسلمين.
قال الله تعالى } :إل أن تتقوا منهم تقاة { ) (1أي :تخافوهم على
أنفسكم فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية باللسان
وإظهار ما به تحصل التقية .ثم قال تعالى } :ويحذركم الله نفسه { أي:
فل تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه فيعاقبكم على ذلك } وإلى الله
المصير { أي :مرجع العباد ليوم التناد ،فيحصي أعمالهم ويحاسبهم عليها
ويجازيهم ،فإياكم أن تفعلوا من العمال القباح ما تستحقون به العقوبة،
واعملوا ما به يحصل الجر والمثوبة ،ثم أخبر عن سعة علمه لما في
النفوس خصوصا ،ولما في السماء والرض عموما ،وعن كمال قدرته،
ففيه إرشاد إلى تطهير القلوب واستحضار علم الله كل وقت فيستحي
العبد من ربه أن يرى قلبه محل لكل فكر رديء ،بل يشغل أفكاره فيما
يقرب إلى الله من تدبر آية من كتاب ،أو سنة من أحاديث رسول الله ،أو
تصور وبحث في علم ينفعه ،أو تفكر في مخلوقات الله ونعمه ،أو نصح
لعباد الله.
__________
) (1جاء في هامش النسخة ما يلي) :قال شيخ السلم ابن تيمية في
"المنهاج" :وأما قوله" :إل أن تتقوا منهم تقاة" قال مجاهد :ل مصانعة،
والتقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي ،فإن هذا نفاق،
ولكن أفعل ما أقدر عليه كما في "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه
وسلم" :من رأى منكم منكرا" إلخ ،فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار
لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه ،ولكن إن أمكنه بلسانه وإل
فبقلبه ،مع أنه ل يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه ،إما أن يظهر دينه
وإما أن يكتمه ،وهو مع هذا ل يوافقهم على دينهم كله بل غايته أن يكون
كمؤمن آل فرعون وامرأة فرعون ،وهو لم يكن موافقا لهم على جميع
دينهم ،ول كان يكذب ،ول يقول بلسانه ما ليس في قلبه ،بل كان يكتم
إيمانه ،وكتمان الدين شيء وإظهار الدين الباطل شيء آخر ،فهذا لم يبحه
الله إل لمن أكره إلخ
) (1/127
سوٍء ت َوَد ّ ل َ ْ
و ن ُ م ْ
ت ِ مل َ ْ
ما عَ ِ ضًرا وَ َح َم ْخي ْرٍ ُ
ن َ م ْ
ت ِمل َ ْما عَ ِ س َ فَ ٍ ل نَ ْ جد ُ ك ُ ّ م تَ ِ ي َوْ َ
ْ ّ ّ ُ َ
ف ِبالعَِبادِ )(30 ه َرُءو ٌ ه َوالل ُ س ُ
ف َه نَ ْ
م الل ُ حذ ُّرك ُ
دا وَي ُ َدا ب َِعي ً
م ً
هأ َ ن ب َي ْن ََها وَب َي ْن َ ُأ ّ
سوءٍ ت َوَد ّ ل َ ْ
و ن ُم ْ ت ِ مل َ ْ
ما عَ ِ
ضًرا وَ َ ح َم ْخي ْرٍ ُن َ م ْ ت ِ مل َ ْما عَ ِ س َ ف ٍ ل نَ ْ جد ُ ك ُ ّ م تَ ِ} ي َوْ َ
ف ِبال ْعَِبادِ { . َ َ
ه َرُءو ٌ ه َوالل ّ ُس ُف َ م الل ّ ُ
ه نَ ْ حذ ُّرك ُ ُ
دا وَي ُ َ
دا ب َِعي ً
م ً هأ َ ن ب َي ْن ََها وَب َي ْن َ ُ
أ ّ
وفي ضمن إخبار الله عن علمه وقدرته الخبار بما هو لزم ذلك من
المجازاة على العمال ،ومحل ذلك يوم القيامة ،فهو الذي توفى به
النفوس بأعمالها فلهذا قال } يوم تجد كل نفس ما عملت من خير
محضًرا { .
أي :كامل موفرا لم ينقص مثقال ذرة ،كما قال تعالى } :فمن يعمل مثقال
ذرة خيًرا يره { والخير :اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله من العمال
الصالحة صغيرها وكبيرها ،كما أن السوء اسم جامع لكل ما يسخط الله
من العمال السيئة صغيرها وكبيرها } وما عملت من سوء تود لو أن بينها
دا { أي :مسافة بعيدة ،لعظم أسفها وشدة حزنها ،فليحذر دا بعي ً
وبينه أم ً
العبد من أعمال السوء التي ل بد أن يحزن عليها أشد الحزن ،وليتركها
وقت المكان قبل أن يقول } يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله { }
يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الرض { } ويوم
يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيل يا ويلتا
ليتني لم أتخذ فلًنا خليل { } حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد
المشرقين فبئس القرين { فوالله لترك كل شهوة ولذة وان عسر تركها
على النفس في هذه الدار أيسر من معاناة تلك الشدائد واحتمال تلك
الفضائح ،ولكن العبد من ظلمه وجهله ل ينظر إل المر الحاضر ،فليس له
عقل كامل يلحظ به عواقب المور فيقدم على ما ينفعه عاجل وآجل
ويحجم عن ما يضره عاجل وآجل ثم أعاد تعالى تحذيرنا نفسه رأفة بنا
ورحمة لئل يطول علينا المد فتقسو قلوبنا ،وليجمع لنا بين الترغيب
الموجب للرجاء والعمل الصالح ،والترهيب الموجب للخوف وترك الذنوب،
ف بالعباد { فنسأله أن يمن علينا فقال } ويحذركم الله نفسه والله رءو ٌ
بالحذر منه على الدوام ،حتى ل نفعل ما يسخطه ويغضبه.
) (1/128
م َوالل ّ ُ
ه فْر ل َك ُ ْ
م ذ ُُنوب َك ُ ْ م الل ّ ُ
ه وَي َغْ ِ حب ِب ْك ُ ُ ن الل ّ َ
ه َفات ّب ُِعوِني ي ُ ْ حّبو َ ن ك ُن ْت ُ ْ
م تُ ِ قُ ْ
ل إِ ْ
م )(31 حي ٌ فوٌر َر ِ غَ ُ
فْر ل َك ُ ْ
م م الل ّ ُ
ه وَي َغْ ِ حب ِب ْك ُ ُ ن الل ّ َ
ه َفات ّب ُِعوِني ي ُ ْ حّبو َ ن ك ُن ْت ُ ْ
م تُ ِ } } { 31قُ ْ
ل إِ ْ
م{. حي ٌفوٌر َر ِ م َوالل ّ ُ
ه غَ ُ ذ ُُنوب َك ُ ْ
وهذه الية فيها وجوب محبة الله ،وعلماتها ،ونتيجتها ،وثمراتها ،فقال
} قل إن كنتم تحبون الله { أي :ادعيتم هذه المرتبة العالية ،والرتبة التي
ليس فوقها رتبة فل يكفي فيها مجرد الدعوى ،بل ل بد من الصدق فيها،
وعلمة الصدق اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله ،في
أقواله وأفعاله ،في أصول الدين وفروعه ،في الظاهر والباطن ،فمن اتبع
الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى ،وأحبه الله وغفر له ذنبه،
ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته ،ومن لم يتبع الرسول فليس
محبا لله تعالى ،لن محبته لله توجب له اتباع رسوله ،فما لم يوجد ذلك
دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها ،مع أنها على تقدير وجودها غير
نافعة بدون شرطها ،وبهذه الية يوزن جميع الخلق ،فعلى حسب حظهم
من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله ،وما نقص من ذلك نقص.
) (1/128
ب ال ْ َ ه َل ي ُ ِ قُ ْ َ
ن )(32
ري َ
كافِ ِ ح ّ ن الل ّ َ ن ت َوَل ّ ْ
وا فَإ ِ ّ ل فَإ ِ ْ
سو َ طيُعوا الل ّ َ
ه َوالّر ُ لأ ِ
} } { 32قُ ْ َ
بح ّ ن الل ّ َ
ه ل يُ ِ ن ت َوَل ّ ْ
وا فَإ ِ ّ ل فَإ ِ ْ
سو َ طيُعوا الل ّ َ
ه َوالّر ُ لأ ِ
ن{. ري َ ال ْ َ
كافِ ِ
وهذا أمر من الله تعالى لعباده بأعم الوامر ،وهو طاعته وطاعة رسوله
التي يدخل بها اليمان والتوحيد ،وما هو من فروع ذلك من العمال
والقوال الظاهرة والباطنة ،بل يدخل في طاعته وطاعة رسوله اجتناب ما
نهى عنه ،لن اجتنابه امتثال لمر الله هو من طاعته ،فمن أطاع الله
ورسوله ،فأولئك هم المفلحون } فإن تولوا { أي :أعرضوا عن طاعة الله
ورسوله فليس ثم أمر يرجعون إليه إل الكفر وطاعة كل شيطان مريد
} كتب عليه أنه من توله فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير { فلهذا
قال } :فإن تولوا فإن الله ل يحب الكافرين { بل يبغضهم ويمقتهم
ويعاقبهم أشد العقوبة ،وكأن في هذه الية الكريمة بيانا وتفسيرا لتباع
رسوله ،وأن ذلك بطاعة الله وطاعة رسوله ،هذا هو التباع الحقيقي ،ثم
قال تعالى:
) (1/128
ن )(33 مي َ ن عََلى ال َْعال َ ِ مَرا َ ع ْ ل ِ م وَآ َ َ هي َ ل إ ِب َْرا ِ حا وَآ َ َ م وَُنو ً فى آ َد َ َ صط َ َ ها ْ ن الل ّ َ إِ ّ
َ َ ّ
ب ن َر ّ مَرا َ ع ْ مَرأةُ ِ تا ْ م ) (34إ ِذ ْ َقال ِ ميعٌ عَِلي ٌ س ِ ه َ ض َوالل ُ ن ب َعْ ٍ م ْ ضَها ِ ة ب َعْ ُ ذ ُّري ّ ً
ْ َ َ قب ّ ْحّرًرا فَت َ َ ْ َ َ
م) ميعُ العَِلي ُ س ِ ت ال ّ مّني إ ِن ّك أن ْ َ ل ِ م َ ما ِفي ب َطِني ُ ت لك َ إ ِّني ن َذ َْر ُ
َ َ َ ّ ُ َ
س
ت وَلي ْ َ ضع َ ْ ما وَ َ م بِ َ ه أعْل ُ ضعْت َُها أن َْثى َوالل ُ ب إ ِّني وَ َ ت َر ّ ضعَت َْها َقال ْ ما وَ َ (35فَل َ ّ
شي ْ َ ُ الذ ّك َر َ ُ
ن
طا ِ ن ال ّ م َ ك وَذ ُّري ّت ََها ِ ها ب ِ َ عيذ ُ َ م وَإ ِّني أ ِ مْري َ َ مي ْت َُها َ س ّ كاْلن َْثى وَإ ِّني َ ُ
مافل ََها َزك َرِّيا ك ُل َّ سًنا وَك َ ّ ح تا با ن ها ت ب نقبول حسن وأ َ َ ب ها ب ر ها َ ل بَ ق ت َ ف (36 )
َ
َ َ ً َ َ َ َ َ ْ َ ٍ َ َ ٍ ُ َ َ َ ِ ّ ّ َ الّر ِ ِ
م جي
ت َ
ذا َقال ْ ك هَ َ َ
م أّنى ل ِ مْري َ ُ ل َيا َ ها رِْزًقا َقا َ عن ْد َ َجد َ ِ ب وَ َ حَرا َ م ْ ْ
ل عَلي َْها َزك َرِّيا ال ِ َ خ َ دَ َ
ب )(37 سا ٍ ح َ شاُء ب ِغَي ْرِ ِ ن يَ َ م ْ ه ي َْرُزقُ َ ّ
ن الل َ ّ
عن ْدِ اللهِ إ ِ ّ ن ِ م ْ هُوَ ِ
ن عََلى مَرا َ ع ْ ل ِ م َوآ َ هي َ ل إ ِب َْرا ِ حا َوآ َ م وَُنو ً فى آد َ َ صط َ َ ها ْ ن الل ّ َ } } { 37 - 33إ ِ ّ
َ َ ّ
ن
مَرا َ ع ْ مَرأةُ ِ تا ْ م * إ ِذ ْ َقال ِ ميعٌ عَِلي ٌ س ِ ه َ ض َوالل ُ ن ب َعْ ٍ م ْضَها ِ ة ب َعْ ُ ن * ذ ُّري ّ ً مي َ ال َْعال َ ِ
َ
ميعُ ال ْعَِلي ُ
م س ِ ت ال ّ ك أن ْ َ مّني إ ِن ّ َ ل ِ قب ّ ْ حّرًرا فَت َ َ م َما ِفي ب َط ِْني ُ ك َ ت لَ َ ب إ ِّني ن َذ َْر ُ َر ّ
َ َ َ ّ ُ َ َ
س
ت وَلي ْ َ ضعَ ْ ما وَ َ م بِ َ ه أعْل ُ ضعْت َُها أن َْثى َوالل ُ ب إ ِّني وَ َ ت َر ّ ضعَت َْها َقال ْ ما وَ َ * فَل ّ
َ ها ب ِ َ ُ الذ ّك َُر َ
ن
شي ْطا ِ ن ال ّ م َ ك وَذ ُّري ّت ََها ِ عيذ ُ َ م وَإ ِّني أ ِ مْري َ َمي ْت َُها َ س ّ كالن َْثى وَإ ِّني َ
ّ َ َ َ
فلَها َزك َرِّيا ك ُل َ
ما سًنا وَك َ ّ ح َ ن وَأن ْب َت ََها ن ََباًتا َ س ٍ ح َ ل َ قُبو ٍ قب ّلَها َرب َّها ب ِ َ جيم ِ * فَت َ َ الّر ِ
َ
ذا َقال َ ْ
ت ك هَ َ م أّنى ل َ ِ مْري َ ُ ل َيا َ ها رِْزًقا َقا َ عن ْد َ َ جد َ ِ ب وَ َ حَرا َ م ْل عَل َي َْها َزك َرِّيا ال ْ ِ خ َ دَ َ
ب{. سا ٍ ح َ شاُء ب ِغَي ْرِ ِ ن يَ َ م ْ ه ي َْرُزقُ َ ن الل ّ َ عن ْدِ الل ّهِ إ ِ ّ ن ِ م ْ هُوَ ِ
يخبر تعالى باختيار من اختاره من أوليائه وأصفيائه وأحبابه ،فأخبر أنه
اصطفى آدم ،أي :اختاره على سائر المخلوقات ،فخلقه بيده ونفخ فيه من
روحه ،وأمر الملئكة بالسجود له ،وأسكنه جنته ،وأعطاه من العلم ] ص
[ 129والحلم والفضل ما فاق به سائر المخلوقات ،ولهذا فضل بنيه،
فقال تعالى } :ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم
من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيل { .
واصطفى نوحا فجعله أول رسول إلى أهل الرض حين عبدت الوثان،
ووفقه من الصبر والحتمال والشكر والدعوة إلى الله في جميع الوقات
ما أوجب اصطفاءه واجتباءه ،وأغرق الله أهل الرض بدعوته ،ونجاه ومن
) (1معه في الفلك المشحون ،وجعل ذريته هم الباقين ،وترك عليه ثناء
يذكر في جميع الحيان والزمان.
واصطفى آل إبراهيم وهو إبراهيم خليل الرحمن الذي اختصه الله بخلته،
وبذل نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان ،ودعا إلى ربه ليل
ونهارا وسرا وجهارا ،وجعله الله أسوة يقتدي به من بعده ،وجعل في ذريته
النبوة والكتاب ،ويدخل في آل إبراهيم جميع النبياء الذين بعثوا من بعده
لنهم من ذريته ،وقد خصهم بأنواع الفضائل ما كانوا به صفوة على
العالمين ،ومنهم سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله
تعالى جمع فيه من الكمال ما تفرق في غيره ،وفاق صلى الله عليه وسلم
الولين والخرين ،فكان سيد المرسلين المصطفى من ولد إبراهيم.
واصطفى الله آل عمران وهو والد مريم بنت عمران ،أو والد موسى بن
عمران عليه السلم ،فهذه البيوت التي ذكرها الله هي صفوته من
العالمين ،وتسلسل الصلح والتوفيق بذرياتهم ،فلهذا قال تعالى } ذرية
بعضها من بعض { .
أي :حصل التناسب والتشابه بينهم في الخلق والخلق الجميلة ،كما قال
تعالى لما ذكر جملة من النبياء الداخلين في ضمن هذه البيوت الكبار
} ومن آبائهم وإخوانهم وذرياتهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم
{ } والله سميع عليم { يعلم من يستحق الصطفاء فيصطفيه ومن ل
يستحق ذلك فيخذله ويرديه ،ودل هذا على أن هؤلء اختارهم لما علم من
أحوالهم الموجبة لذلك فضل منه وكرما ،ومن الفائدة والحكمة في قصه
علينا أخبار هؤلء الصفياء أن نحبهم ونقتدي بهم ،ونسأل الله أن يوفقنا
لما وفقهم ،وأن ل نزال نزري ) (2أنفسنا بتأخرنا عنهم وعدم اتصافنا
بأوصافهم ومزاياهم الجميلة ،وهذا أيضا من لطفه بهم ،وإظهاره الثناء
عليهم في الولين والخرين ،والتنويه بشرفهم ،فلله ما أعظم جوده وكرمه
وأكثر فوائد معاملته ،لو لم يكن لهم من الشرف إل أن أذكارهم مخلدة
ومناقبهم مؤبدة لكفى بذلك فضل
ولما ذكر فضائل هذه البيوت الكريمة ذكر ما جرى لمريم والدة عيسى
وكيف لطف الله بها في تربيتها ونشأتها ،فقال } :إذ قالت امرأة عمران {
أي :والدة مريم لما حملت } رب إني نذرت لك ما في بطني محرًرا {
أي :جعلت ما في بطني خالصا لوجهك ،محررا لخدمتك وخدمة بيتك
} فتقبل مني { هذا العمل المبارك } إنك أنت السميع العليم { تسمع
دعائي وتعلم نيتي وقصدي ،هذا وهي في البطن قبل وضعها
} فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى { كأنها تشوفت أن يكون ذكرا
ليكون أقدر على الخدمة وأعظم موقعا ،ففي كلمها ]نوع[ ) (3عذر من
ربها ،فقال الله } :والله أعلم بما وضعت { أي :ل يحتاج إلى إعلمها ،بل
علمه متعلق بها قبل أن تعلم أمها ما هي } وليس الذكر كالنثى وإني
سميتها مريم { فيه دللة على تفضيل الذكر على النثى ،وعلى التسمية
وقت الولدة ،وعلى أن للم تسمية الولد إذا لم يكره الب } وإني أعيذها
بك وذريتها من الشيطان الرجيم { دعت لها ولذريتها أن يعيذهم الله من
الشيطان الرجيم.
} فتقبلها ربها بقبول حسن { أي :جعلها نذيرة مقبولة ،وأجارها وذريتها
من الشيطان } وأنبتها نباًتا حسًنا { أي :نبتت نباتا حسنا في بدنها وخلقها
وأخلقها ،لن الله تعالى قيض لها زكريا عليه السلم } وكفلها { إياه ،وهذا
من رفقه بها ليربيها على أكمل الحوال ،فنشأت في عبادة ربها وفاقت
النساء ،وانقطعت لعبادة ربها ،ولزمت محرابها أي :مصلها فكان } كلما
دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزًقا { أي :من غير كسب ول تعب،
بل رزق ساقه الله إليها ،وكرامة أكرمها الله بها ،فيقول لها زكريا } أنى
لك هذا قالت هو من عند الله { فضل وإحسانا } إن الله يرزق من يشاء
بغير حساب { أي :من غير حسبان من العبد ول كسب ،قال تعالى:
جا ويرزقه من حيث ل يحتسب { وفي هذه } ومن يتق الله يجعل له مخر ً
الية دليل على إثبات كرامات الولياء الخارقة للعادة كما قد تواترت
الخبار بذلك ،خلفا لمن نفى ذلك ،فلما رأى زكريا عليه السلم ما من الله
به على مريم ،وما أكرمها به من رزقه الهنيء الذي أتاها بغير سعي منها
ول كسب ،طمعت نفسه بالولد ،فلهذا قال تعالى:
__________
) (1في الصل :وممن.
) (2في الصل :نزدي.
) (3الكلمة غير واضحة في الصل ويبدو -والله أعلم -أنها كما أثبت.
) (1/128
ميعُ س ِ ك َ ة إ ِن ّ َ ة ط َي ّب َ ً ك ذ ُّري ّ ً ن ل َد ُن ْ َم ْ ب ِلي ِ ب هَ ْ ل َر ّ ه َقا َ عا َزك َرِّيا َرب ّ ُ ك دَ َهَُنال ِ َ
َ
شُر َ
ك ه ي ُب َ ّ ن الل ّ َ بأ ّ حَرا ِ م ْصّلي ِفي ال ْ ِ م يُ َ ة وَهُوَ َقائ ِ ٌ مَلئ ِك َ ُ ه ال ْ َ عاِء ) (38فََناد َت ْ ُ الد ّ َ
ن )َ (39قا َ
ل حي َ صال ِ ِ ن ال ّ م َ صوًرا وَن َب ِّيا ِ ح ُ دا وَ َ سي ّ ً ّ
ن اللهِ وَ َ م َ مةٍ ِ صد ًّقا ب ِك َل ِ َ م َ حَيى ُ ب ِي َ ْ
هّ ل ك َذ َل ِ َ َ ْ َ َ ب أّنى ي َ َُ
ك الل ُ عاقٌِر َقا َ مَرأِتي َ ي الك ِب َُر َوا ْ م وَقَد ْ ب َلغَن ِ َ ن ِلي غُل ٌ كو ُ َر ّ
َ ّ ّ َ َ َ
س ث َلث َ َ
ة م الّنا َ ك أل ت ُك َل َ ل آي َت ُ َ ة َقا َ ل ِلي آي َ ً جع َ ْ با ْ ل َر ّ شاُء )َ (40قا َ ما ي َ َ ل َ فع َ ُ يَ ْ
ي َواْل ِب ْ َ َ
كارِ )(41 ش ّ ح ِبال ْعَ ِ سب ّ ْ ك ك َِثيًرا وَ َ مًزا َواذ ْك ُْر َرب ّ َ أّيام ٍ إ ِّل َر ْ
ك ذ ُّري ّ ً
ة ن ل َد ُن ْ َم ْب ِلي ِ ب هَ ْ ل َر ّ ه َقا َ عا َزك َرِّيا َرب ّ ُ ك دَ َ } } { 41 - 38هَُنال ِ َ
َ
ن
بأ ّ حَرا ِ م ْ صّلي ِفي ال ْ ِ م يُ َ ة وَهُوَ َقائ ِ ٌ ملئ ِك َ ُ ه ال ْ َعاِء * فََناد َت ْ ُ ميعُ الد ّ َ س ِ ك َ ة إ ِن ّ َط َي ّب َ ً
نم َ صوًرا وَن َب ِّيا ِ ح ُ دا وَ َ سي ّ ًن الل ّهِ وَ َ م َ مةٍ ِ صد ًّقا ب ِك َل ِ َ
م َ حَيى ُ ك ب ِي َ ْ شُر َ ه ي ُب َ ّ الل ّ َ
عاقٌِر مَرأ َِتي َ ي ال ْك ِب َُر َوا ْ م وَقَد ْ ب َل َغَن ِ َ غل ٌ ن ِلي ُ كو ُ ب أ َّنى ي َ ُ ل َر ّ ن * َقا َ حي َ صال ِ ِ ال ّ
ّ َ ّ
مك أل ت ُك َل َ ل آي َت ُ َ ة َقا َ ل ِلي آي َ ً جعَ ْ با ْ ل َر ّ شاُء * َقا َ ما ي َ َل َ فعَ ُه يَ ْك الل ُ ل ك َذ َل ِ َ َقا َ
َ
كارِ { . ي َوالب ْ َ ش ّ ح ِبال ْعَ ِ سب ّ ْك ك َِثيًرا وَ َ مًزا َواذ ْك ُْر َرب ّ َ ة أّيام ٍ ِإل َر ْ س َثلث َ َ الّنا َ
أي :دعا زكريا عليه السلم ربه أن يرزقه ذرية طيبة ،أي :طاهرة الخلق،
طيبة الداب ،لتكمل النعمة الدينية والدنيوية بهم .فاستجاب له ] ص
[ 130دعاءه.
وبينما هو قائم في محرابه يتعبد لربه ويتضرع نادته الملئكة } أن الله
يبشرك بيحيى مصدًقا بكلمة من الله { أي :بعيسى عليه السلم ،لنه كان
دا { أي :يحصل له من الصفات الجميلة ما يكون به بكلمة الله } وسي ً
سيدا يرجع إليه في المور } وحصوًرا { أي :ممنوعا من إتيان النساء،
فليس في قلبه لهن شهوة ،اشتغال بخدمة ربه وطاعته } ونبًيا من
الصالحين { فأي :بشارة أعظم من هذا الولد الذي حصلت البشارة
بوجوده ،وبكمال صفاته ،وبكونه نبيا من الصالحين ،فقال زكريا من شدة
فرحه } رب أنى يكون لي غلم وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر { وكل
واحد من المرين مانع من وجود الولد ،فكيف وقد اجتمعا ،فأخبره الله
تعالى أن هذا خارق للعادة ،فقال } :كذلك الله يفعل ما يشاء { فكما أنه
تعالى قدر وجود الولد بالسباب التي منها التناسل ،فإذا أراد أن يوجدهم
من غير ما سبب فعل ،لنه ل يستعصي عليه شيء ،فقال زكريا عليه
السلم استعجال لهذا المر ،وليحصل له كمال الطمأنينة.
} رب اجعل لي آية { أي :علمة على وجود الولد قال } آيتك أل تكلم
الناس ثلثة أيام إل رمًزا { أي :ينحبس لسانك عن كلمهم من غير آفة ول
سوء ،فل تقدر إل على الشارة والرمز ،وهذا آية عظيمة أن ل تقدر على
الكلم ،وفيه مناسبة عجيبة ،وهي أنه كما يمنع نفوذ السباب مع وجودها،
فإنه يوجدها بدون أسبابها ليدل ذلك أن السباب كلها مندرجة في قضائه
وقدره ،فامتنع من الكلم ثلثة أيام ،وأمره الله أن يشكره ويكثر من ذكره
بالعشي والبكار ،حتى إذا خرج على قومه من المحراب } فأوحى إليهم
أن سبحوا بكرة وعشّيا { أي :أول النهار وآخره.
) (1/129
ك عََلى ن ِ َ
ساِء فا ِصط َ َك َوا ْ ك وَط َهَّر ِ فا ِ صط َ َ ها ْ ن الل ّ َ م إِ ّ مْري َ ُ ة َيا َ مَلئ ِك َ ُت ال ْ َ وَإ ِذ ْ َقال َ ِ
ن )(43 معَ الّراك ِِعي َ دي َواْرك َِعي َ ج ِس ُ ك َوا ْ م اقْن ُِتي ل َِرب ّ ِ مْري َ ُن )َ (42يا َ مي َ ال َْعال َ ِ
َ َ َ
م
م أي ّهُ ْ ن أقَْل َ
مه ُ ْ قو َم إ ِذ ْ ي ُل ْ ُ
ت ل َد َي ْهِ ْ ما ك ُن ْ َ ك وَ َ حيهِ إ ِل َي ْ َ ب ُنو ِ ن أن َْباِء ال ْغَي ْ ِ م ْك ِ ذ َل ِ َ
ن )(44 مو َ ص ُ
خت َ ِم إ ِذ ْ ي َ ْ ت ل َد َي ْهِ ْ ما ك ُن ْ َ م وَ َ مْري َ َ ل َ ف ُ ي َك ْ ُ
كك وَط َهَّر ِ فا ِ صط َ َ ها ْ ن الل ّ َ م إِ ّ مْري َ ُ ة َيا َ ملئ ِك َ ُ ت ال ْ َ } } { 44 - 42وَإ ِذ ْ َقال َ ِ
ع
م َدي َواْرك َِعي َ ج ِ س ُ ك َوا ْ م اقْن ُِتي ل َِرب ّ ِ مْري َ ُ ن * َيا َ مي َ ساِء ال َْعال َ ِ ك عََلى ن ِ َ فا ِ صط َ َ َوا ْ
ْ
م إ ِذ ْ ي ُل ُ َ ُ َ َ ْ َ َ
نقو َ ت لد َي ْهِ ْ ما كن ْ َ حيهِ إ ِلي ْك وَ َ ب ُنو ِ ن أن َْباِء الغَي ْ ِ م ْ ن * ذ َل ِك ِ الّراك ِِعي َ
َ ُ ْ َ َ
ن{. مو َ ص ُ خت َ ِم إ ِذ ْ ي َ ْت لد َي ْهِ ْ ما كن ْ َ م وَ َ مْري َ َ ل َ ف ُم ي َك ُ
م أي ّهُ ْ مهُ ْ أْقل َ
ينوه تعالى بفضيلة مريم وعلو قدرها ،وأن الملئكة خاطبتها بذلك فقالت }
يا مريم إن الله اصطفاك { أي :اختارك } وطّهرك { من الفات المنقصة
} واصطفاك على نساء العالمين { الصطفاء الول يرجع إلى الصفات
الحميدة والفعال السديدة ،والصطفاء الثاني يرجع إلى تفضيلها على
سائر نساء العالمين ،إما على عالمي زمانها ،أو مطلقا ،وإن شاركها أفراد
من النساء في ذلك كخديجة وعائشة وفاطمة ،لم يناف الصطفاء
المذكور ،فلما أخبرتها الملئكة باصطفاء الله إياها وتطهيرها ،كان في هذا
من النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ما يوجب لها القيام بشكرها ،فلهذا
قالت لها الملئكة } :يا مريم اقنتي لربك {
} اقنتي لربك { القنوت دوام الطاعة في خضوع وخشوع } ،واسجدي
واركعي مع الراكعين { خص السجود والركوع لفضلهما ودللتهما على
غاية الخضوع لله ،ففعلت مريم ،ما أمرت به شكرا لله تعالى وطاعة ،ولما
أخبر الله نبيه بما أخبر به عن مريم ،وكيف تنقلت بها الحوال التي قيضها
الله لها ،وكان هذا من المور الغيبية التي ل تعلم إل بالوحي.
قال } ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم { أي :عندهم } إذ
يلقون أقلمهم أيهم يكفل مريم { لما ذهبت بها أمها إلى من لهم المر
على بيت المقدس ،فتشاحوا وتخاصموا أيهم يكفل مريم ،واقترعوا عليها
بأن ألقوا أقلمهم في النهر ،فأيهم لم يجر قلمه مع الماء فله كفالتها،
فوقع ذلك لزكريا نبيهم وأفضلهم ،فلما أ َ ْ
خَبرت َُهم يا محمد بهذه الخبار التي
ل علم لك ول لقومك بها دل على أنك صادق وأنك رسول الله حقا ،فوجب
عليهم النقياد لك وامتثال أوامرك ،كما قال تعالى } :وما كنت بجانب
الغربي إذ قضينا إلى موسى المر { اليات.
) (1/130
سى
عي َ
ح ِ
سي ُ ه ال ْ َ
م ِ م ُ
س ُ
ها ْ
من ْ ُ
مةٍ ِ ك ب ِك َل ِ َ شُر ِ ن الل ّ َ
ه ي ُب َ ّ م إِ ّ مْري َ ُ مَلئ ِك َ ُ
ة َيا َ ت ال ْ َ إ ِذ ْ َقال َ ِ
ن )(45 قّرِبي َ م َ ن ال ْ ُم َ
خَرةِ وَ ِ جيًها ِفي الد ّن َْيا َواْل َ ِ م وَ ِ مْري َ َن َ اب ْ ُ
ه
م ُ
س ُ
ها ْمن ْ ُ ك ب ِك َل ِ َ
مةٍ ِ شُر ِ ن الل ّ َ
ه ي ُب َ ّ م إِ ّ
مْري َ ُ ملئ ِك َ ُ
ة َيا َ ت ال ْ َ} } { 58 - 45إ ِذ ْ َقال َ ِ
ن{].ص قّرِبي َ م َن ال ْ ُ
م َخَرةِ وَ ِ جيًها ِفي الد ّن َْيا َوال ِ م وَ ِ مْري َ َ
ن َسى اب ْ ُ عي َ
ح ِ
سي ُ ال ْ َ
م ِ
[ 131
يخبر تعالى أن الملئكة بشرت مريم عليها السلم بأعظم بشارة ،وهو
كلمة الله عبده ورسوله عيسى ابن مريم ،سمي كلمة الله لنه كان
بالكلمة من الله ،لن حالته خارجة عن السباب ،وجعله الله من آياته
وعجائب مخلوقاته ،فأرسل الله جبريل عليه السلم إلى مريم ،فنفخ في
جيب درعها فولجت فيها تلك النفخة الذكية من ذلك الملك الزكي ،فأنشأ
الله منها تلك الروح الزكية ،فكان روحانيا نشأ من مادة روحانية ،فلهذا
سمى روح الله } وجيها في الدنيا والخرة { أي :له الوجاهة العظيمة في
الدنيا ،جعله الله أحد أولي العزم من المرسلين أصحاب الشرائع الكبار
والتباع ،ونشر الله له من الذكر ما مل ما بين المشرق والمغرب ،وفي
الخرة وجيها عند الله يشفع أسوة إخوانه من النبيين والمرسلين ،ويظهر
فضله على أكثر العالمين ،فلهذا كان من المقربين إلى الله ،أقرب الخلق
إلى ربهم ،بل هو عليه السلم من سادات المقربين.
) (1/130
نكو ُ ب أ َّنى ي َ ُ ت َر ّ ن )َ (46قال َ ْ حي َ صال ِ ِ ن ال ّ م َ مهْدِ وَك َهًْل وَ ِ س ِفي ال ْ َ م الّنا َ وَي ُك َل ّ ُ
َ
مًرا ضى أ ْ ذا قَ َ شاُء إ ِ َ ما ي َ َ خل ُقُ َ ه يَ ْ ك الل ّ ُ ل ك َذ َل ِ ِ شٌر َقا َ سِني ب َ َ س ْ م َ م يَ ْ ِلي وَل َد ٌ وَل َ ْ
جي َ
ل ة َوالت ّوَْراةَ َواْل ِن ْ ِ م َ حك ْ َ ب َوال ْ ِ ه ال ْك َِتا َ م ُ ن ) (47وَي ُعَل ّ ُ كو ُ ن فَي َ ُ ه كُ ْ ل لَ ُ قو ُ ما ي َ ُ فَإ ِن ّ َ
ُ َ َ َ َ َ ً
ق
خل ُ م أّني أ ْ ن َرب ّك ُ ْ م ْ م ب ِآي َةٍ ِ جئ ْت ُك ُ ْ ل أّني قَد ْ ِ سَراِئي َ سول إ ِلى ب َِني إ ِ ْ ) (48وََر ُ
َ ْ ُ ّ َ َ ّ ّ
ه
م َن اللهِ وَأب ْرِئُ الك ْ َ طي ًْرا ب ِإ ِذ ْ ِ نكو ُ خ ِفيهِ فَي َ ُ ف ُ ن ك َهَي ْئ َةِ الطي ْرِ فَأن ْ ُ ِ ن الطي َ م
م ِ ل َك ُ ْ
ْ ُ ُ َ
ن ِفي خُرو َ ما ت َد ّ ِ ن وَ َ ما ت َأك ُُلو َ م بِ َ ن الل ّهِ وَأن َب ّئ ُك ُ ْ موَْتى ب ِإ ِذ ْ ِ حِيي ال ْ َ ص وَأ ْ َواْلب َْر َ
ي
ن ي َد َ ّ ما ب َي ْ َ صد ًّقا ل ِ َ م َ ن ) (49وَ ُ مِني َ مؤْ ِ م ُ ن ك ُن ْت ُ ْ م إِ ْ ة ل َك ُ ْ ك َل َي َ ً ن ِفي ذ َل ِ َ م إِ ّ ب ُُيوت ِك ُ ْ
َ ُ
م ن َرب ّك ُ ْ م ْ م ب ِآي َةٍ ِ جئ ْت ُك ُ ْ م وَ ِ م عَل َي ْك ُ ْ حّر َ ذي ُ ض ال ّ ِ م ب َعْ َ ل ل َك ُ ْ ح ّ ن الت ّوَْراةِ وَِل ِ م َ
ِ
صَراطٌ َ َ ُ ّ َ ّ َفات ّ ُ
دوهُ هَذا ِ م فاعْب ُ ُ ه َرّبي وََرب ّك ْ ن الل َ ن ) (50إ ِ ّ طيُعو ِ ه وَأ ِ قوا الل َ
َ َ
صاِري إ َِلى الل ّ ِ
ه ن أن ْ َ م ْ ل َ فَر َقا َ م ال ْك ُ ْ من ْهُ ُ سى ِ عي َ س ِ ح ّ ما أ َ م ) (51فَل َ ّ قي ٌ ست َ ِ م ْ ُ
ن )(52 َ مّنا ِباللهِ َوا ْ ّ َ ّ َ ْ َقا َ
مو َ سل ِ ُ م ْ شهَد ْ ب ِأّنا ُ صاُر اللهِ آ َ ن أن ْ َ ح ُ ن نَ ْ وارِّيو َ ح َ ل ال َ
ن ِلي كو ُ ب أ َّنى ي َ ُ ت َر ّ ن * َقال َ ْ حي َ صال ِ ِ ن ال ّ م َ مهْدِ وَك َْهل وَ ِ س ِفي ال ْ َ م الّنا َ } وَي ُك َل ّ ُ
َ
مامًرا فَإ ِن ّ َ ضى أ ْ ذا قَ َ شاُء إ ِ َ ما ي َ َ خل ُقُ َ ه يَ ْ ك الل ّ ُ ل ك َذ َل ِ ِ شٌر َقا َ سِني ب َ َ س ْ م َ م يَ ْ وَل َد ٌ وَل َ ْ
سول ل * وََر ُ جي َ ة َوالت ّوَْراةَ َوالن ْ ِ م َ حك ْ َ ب َوال ْ ِ ه ال ْك َِتا َ م ُ ن * وَي ُعَل ّ ُ كو ُ ن فَي َ ُ ه كُ ْ ل لَ ُ قو ُ يَ ُ
ّ َ ُ َ َ َ
نن الطي ِ م َ م ِ ُ
خلقُ لك ْ م أّني أ ْ ُ
ن َرب ّك ْ م ْ م ِبآي َةٍ ِ ُ
جئ ْت ُك ْ ل أّني قَد ْ ِ سَراِئي َ إ َِلى ب َِني إ ِ ْ
ُ َ
ص
ه َوالب َْر َ م َ ن الل ّهِ وَأب ْرِئُ الك ْ َ ن ط َي ًْرا ب ِإ ِ ْذ ْ ِ كو ُ خ ِفيهِ فَي َ ُ ف ُ ك َهَي ْئ َةِ الط ّي ْرِ فَأن ْ ُ
ُ ُ
نم إِ ّ ن ِفي ب ُُيوت ِك ُ ْ خُرو َ ما ت َد ّ ِ ن وَ َ ما ت َأك ُُلو َ م بِ َ ن الل ّهِ وَأن َب ّئ ُك ُ ْ موَْتى ب ِإ ِذ ْ ِ حِيي ال ْ َ وَأ ْ
ة
ن الت ّوَْرا ِ م َ ن ي َد َيّ ِ ما ب َي ْ َ صد ًّقا ل ِ َ م َ ن * وَ ُ مِني َ مؤْ ِ م ُ ن ك ُن ْت ُ ْ م إِ ْ ة ل َك ُ ْ ك لي َ ً ِفي ذ َل ِ َ
قوا الل ّ َ
ه م َفات ّ ُ ن َرب ّك ُ ْ م ْم ِبآي َةٍ ِ جئ ْت ُك ُ ْ م وَ ِ م عَل َي ْك ُ ْ حّر َ ذي ُ ض ال ّ ِ م ب َعْ َ ل ل َك ُ ْ ح ّ َول ِ
َ َ
س
ح ّ ما أ َ م * فَل َ ّ قي ٌ ست َ ِ م ْ ط ُ صَرا ٌ ذا ِ دوهُ هَ َ م َفاعْب ُ ُ ه َرّبي وََرب ّك ُ ْ ن الل ّ َ ن * إِ ّ طيُعو ِ وَأ ِ
ل ال ْحواريون نح َ صاِري إ َِلى الل ّهِ َقا َ لم َ م ال ْك ُ ْ
صاُر ن أن ْ َ َ َ ِّ َ َ ْ ُ ن أن ْ َ فَر َقا ََ َ ْ من ْهُ ُ سى ِ عي َ ِ
ن{. مو َ سل ِ ُ م ْ ْ
مّنا ِباللهِ َواشهَد ْ ب ِأّنا ُ ّ اللهِ آ َ ّ
} ويكلم الناس في المهد وكهل { وهذا غير التكليم المعتاد ،بل المراد
يكلم الناس بما فيه صلحهم وفلحهم ،وهو تكليم المرسلين ،ففي هذا
إرساله ودعوته الخلق إلى ربهم ،وفي تكليمهم في المهد آية عظيمة من
آيات الله ينتفع بها المؤمنون ،وتكون حجة على المعاندين ،أنه رسول رب
العالمين ،وأنه عبد الله ،وليكون نعمة وبراءة لوالدته مما رميت به } ومن
ن عليهم ،ويدخله في جملتهم، الصالحين { أي :يمن عليه بالصلح ،من م ّ
وفي هذا عدة بشارات لمريم مع ما تضمن من التنويه بذكر المسيح عليه
السلم.
} قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر { والولد في العادة ل
يكون إل من مس البشر ،وهذا استغراب منها ،ل شك في قدرة الله
تعالى } :قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن
فيكون { فأخبرها أن هذا أمر خارق للعادة ،خلقه من يقول لكل أمر
أراده :كن فيكون ،فمن تيقن ذلك زال عنه الستغراب والتعجب ،ومن
حكمة الباري تعالى أن تدرج بأخبار العباد من الغريب إلى ما هو أغرب
منه ،فذكر وجود يحيى بن زكريا بين أبوين أحدهما كبير والخر عاقر ،ثم
ذكر أغرب من ذلك وأعجب ،وهو وجود عيسى عليه السلم من أم بل أب
ليدل عباده أنه الفعال لما يريد وأنه ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن.
ثم أخبر تعالى عن منته العظيمة على عبده ورسوله عيسى عليه السلم،
فقال } ويعلمه الكتاب { يحتمل أن يكون المراد جنس الكتاب ،فيكون
ذكر التوراة والنجيل تخصيصا لهما ،لشرفهما وفضلهما واحتوائهما على
الحكام والشرائع التي يحكم بها أنبياء بني إسرائيل والتعليم ،لذلك يدخل
فيه تعليم ألفاظه ومعانيه ،ويحتمل أن يكون المراد بقوله } ويعلمه الكتاب
{ أي :الكتابة ،لن الكتابة من أعظم نعم الله على عباده ولهذا امتن تعالى
على عباده بتعليمهم بالقلم في أول سورة أنزلها فقال } اقرأ باسم ربك
الذي خلق خلق النسان من علق اقرأ وربك الكرم الذي علم بالقلم { .
والمراد بالحكمة معرفة أسرار الشرع ،ووضع الشياء مواضعها ،فيكون
ذلك امتنانا على عيسى عليه السلم بتعليمه الكتابة والعلم والحكمة ،وهذا
هو الكمال للنسان في نفسه.
ثم ذكر له كمال آخر وفضل زائدا على ما أعطاه الله من الفضائل ،فقال }
ورسول إلى بني إسرائيل { فأرسله الله إلى هذا الشعب الفاضل الذين
هم أفضل العالمين في زمانهم يدعوهم إلى الله ،وأقام له من اليات ما
دلهم أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا ولهذا قال } أني قد جئتكم بآية من
ربكم أني أخلق لكم من الطين { طيرا ،أي :أصوره على شكل الطير
} فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله { أي :طيرا له روح تطير بإذن الله
} وأبرئ الكمه { وهو الذي يولد أعمى } والبرص { بإذن الله } وأحيي
الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك
لية لكم إن كنتم مؤمنين { وأي :آية أعظم من جعل الجماد حيوانا ،وإبراء
ذوي العاهات التي ل قدرة للطباء في معالجتها ،وإحياء الموتى ،والخبار
بالمور الغيبية ،فكل واحدة من هذه المور آية عظيمة بمفردها ،فكيف بها
إذا اجتمعت وصدق بعضها بعضها؟ فإنها موجبة لليقان وداعية لليمان.
} ومصدقا لما بين يدي من التوراة { أي :أتيت بجنس ما جاءت به التوراة
وما جاء به موسى عليه السلم ،وعلمة الصادق أن يكون خبره من جنس
خبر الصادقين ،يخبر بالصدق ،ويأمر بالعدل من غير تخالف ول تناقض،
بخلف من ادعى دعوى كاذبة ،خصوصا أعظم الدعاوى وهي دعوى النبوة،
فالكاذب فيها ل بد أن يظهر لكل أحد كذب صاحبها وتناقضه ومخالفته
لخبار الصادقين وموافقته لخبار الكاذبين ،هذا موجب السنن الماضية
والحكمة اللهية والرحمة الربانية بعباده ،إذ ل يشتبه الصادق بالكاذب في
دعوى النبوة أبدا ،بخلف بعض المور الجزئية ،فإنه قد يشتبه فيها الصادق
بالكاذب ،وأما النبوة فإنه ] ص [ 132يترتب عليها هداية الخلق أو ضللهم
وسعادتهم وشقاؤهم ،ومعلوم أن الصادق فيها من أكمل الخلق ،والكاذب
فيها من أخس الخلق وأكذبهم وأظلمهم ،فحكمة الله ورحمته بعباده أن
يكون بينهما من الفروق ما يتبين لكل من له عقل ،ثم أخبر عيسى عليه
السلم أن شريعة النجيل شريعة فيها سهولة ويسرة فقال } ولحل لكم
بعض الذي حرم عليكم { فدل ذلك على أن أكثر أحكام التوراة لم ينسخها
النجيل بل كان متمما لها ومقررا } وجئتكم بآية من ربكم { تدل على
صدقي ووجوب اتباعي ،وهي ما تقدم من اليات ،والمقصود من ذلك كله
قوله } فاتقوا الله { بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وأطيعوني فإن
طاعة الرسول طاعة لله.
} إن الله ربي وربكم فاعبدوه { استدل بتوحيد الربوبية الذي يقر به كل
أحد على توحيد اللهية الذي ينكره المشركون ،فكما أن الله هو الذي
خلقنا ورزقنا وأنعم علينا نعما ظاهرة وباطنة ،فليكن هو معبودنا الذي نألهه
بالحب والخوف والرجاء والدعاء والستعانة وجميع أنواع العبادة ،وفي هذا
رد على النصارى القائلين بأن عيسى إله أو ابن الله ،وهذا إقراره عليه
السلم بأنه عبد مدبر مخلوق ،كما قال } إني عبد الله آتاني الكتاب
وجعلني نبيا { وقال تعالى } :وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت
للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن
أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته { إلى قوله } ما قلت لهم
إل ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم { وقوله } هذا { أي :عبادة
الله وتقواه وطاعة رسوله } صراط مستقيم { موصل إلى الله وإلى
جنته ،وما عدا ذلك فهي طرق موصلة إلى الجحيم.
} فلما أحس عيسى منهم الكفر { أي :رأى منهم عدم النقياد له ،وقالوا
هذا سحر مبين ،وهموا بقتله وسعوا في ذلك } قال من أنصاري إلى
الله { من يعاونني ويقوم معي بنصرة دين الله } قال الحواريون { وهم
النصار } نحن أنصار الله { أي :انتدبوا معه وقاموا بذلك.
) (1/131
َ َ
مك َُروا ن ) (53وَ َ دي َ شاهِ ِ معَ ال ّ ل َفاك ْت ُب َْنا َ سو َ ت َوات ّب َعَْنا الّر ُ ما أن َْزل ْ َ مّنا ب ِ َ َرب َّنا آ َ
ك مت َوَّفي َ سى إ ِّني ُ عي َ ه َيا ِ ل الل ّ ُ ن ) (54إ ِذ ْ َقا َ ري َ ماك ِ ِ خي ُْر ال ْ َ ه َ ه َوالل ّ ُ مك ََر الل ّ ُ وَ َ
ن
ذي َ ّ
ك فَوْقَ ال ِ ن ات ّب َُعو َ ذي َ ّ
ل ال ِ ع ُ جا ِ فُروا وَ َ نك ََ ذي َ ن ال ِّ م َ ك ِ مطهُّر َ َ ي وَ ُ َ
ك إ ِل ّ وََرافِعُ َ
َ َ ْ َ
ه
م ِفي ِ ما ك ُن ْت ُ ْم ِفي َ م ب َي ْن َك ُ ْ حك ُ ُ م فَأ ْ جعُك ُ ْ مْر ِ ي َ م إ ِل ّ مة ِ ث ُ ّ قَيا َفُروا إ ِلى ي َوْم ِ ال ِ كَ َ
َ ْ ُ ن كَ َ ّ َ
خَرةِ دا ِفي الد ّن َْيا َوال ِ دي ً ش ِ ذاًبا َ م عَ َ فُروا فَأعَذ ّب ُهُ ْ ذي َ ما ال ِ ن ) (55فَأ ّ فو َ خت َل ِ ُ تَ ْ
َ َ
مت فَي ُوَّفيهِ ْ حا ِ صال ِ َ مُلوا ال ّ مُنوا وَعَ ِ نآ َ ذي َ ما ال ّ ِن ) (56وَأ ّ ري َ ص ِ ن َنا ِ م ْ م ِ ما ل َهُ ْ وَ َ
َ ُ
ت َوالذ ّك ْ ِ
ر ن اْلَيا ِ م َ ك ِ ك ن َت ُْلوهُ عَل َي ْ َ ن ) (57ذ َل ِ َ مي َ ظال ِ ِب ال ّ ح ّه َل ي ُ ِ م َوالل ّ ُ جوَرهُ ْ أ ُ
كيم ِ )(58 ح ِ ال ْ َ
َ
مك ََر مك َُروا وَ َ ن * وَ َ دي َ شاهِ ِ معَ ال ّ ل َفاك ْت ُب َْنا َ سو َ ت َوات ّب َعَْنا الّر ُ ما أن َْزل ْ َ مّنا ب ِ َ } َرب َّنا آ َ
ي َ
ك إ ِل ّ ك وََرافِعُ َ مت َوَّفي َ سى إ ِّني ُ عي َه َيا ِ ّ
ل الل ُ ن * إ ِذ ْ َقا َ ري َ ماك ِ ِ ْ
خي ُْر ال َ ه َ ه َوالل ّ ُ الل ّ ُ
َ ن كَ َ ك فَوْقَ ال ّ ِ ن ات ّب َُعو َ ل ال ّ ِ ع ُ ن كَ َ ن ال ّ ِ مط َهُّر َ
فُروا َ إ ِلى ي َوْم ِ ذي َ ذي َ جا ِ فُروا وَ َ
َ َ ذي َ م
ك ِ وَ ُ
ن
ذي َ ّ
ما ال ِ ن * فَأ ّ فو َ خت َل ِ ُم ِفيهِ ت َ ْ ما ك ُن ْت ُ ْم ِفي َ م ب َي ْن َك ُ ْحك ُ ُ م فَأ ْ جعُك ُ ْ مْر ِ ي َ َ
م إ ِل ّ مة ِ ث ُ ّ قَيا َ ال ْ ِ
َ ُ
مان * وَأ ّ ري َ
ص ِن َنا ِ م ْ م ِ ما ل َهُ ْ خَرةِ وَ َ دا ِفي الد ّن َْيا َوال ِ دي ً ش ِ ذاًبا َ م عَ َ فُروا فَأعَذ ّب ُهُ ْ كَ َ
ب ال ّ ُ
ن* مي َ ظال ِ ِ ح ّ ه ل يُ ِ م َوالل ّ ُ جوَرهُ ْ مأ ُ ت فَي ُوَّفيهِ ْ حا ِ صال ِ َمُلوا ال ّ مُنوا وَعَ ِ نآ َ ذي َ ال ّ ِ
كيم ِ { . ح ِت َوالذ ّك ْرِ ال ْ َ ن الَيا ِ م َ ك ِ علي ْ َ ك ن َت ُْلوهُ َ ذ َل ِ َ
وقالوا } :آمنا بالله { } فاكتبنا مع الشاهدين { أي :الشهادة النافعة ،وهي
الشهادة بتوحيد الله وتصديق رسوله مع القيام بذلك ،فلما قاموا مع
عيسى بنصر دين الله وإقامة شرعه آمنت طائفة من بني إسرائيل
وكفرت طائفة ،فاقتتلت الطائفتان فأيد الله الذين آمنوا بنصره على
عدوهم فأصبحوا ظاهرين ،فلهذا قال تعالى هنا } ومكروا { أي :الكفار
بإرادة قتل نبي الله وإطفاء نوره } ومكر الله { بهم جزاء لهم على
مكرهم } والله خير الماكرين { رد الله كيدهم في نحورهم ،فانقلبوا
خاسرين.
} إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين
كفروا { فرفع الله عبده ورسوله عيسى إليه ،وألقي شبهه على غيره،
فأخذوا من ألقي شبهه عليه فقتلوه وصلبوه ،وباءوا بالثم العظيم بنيتهم
أنه رسول الله ،قال الله } وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم { وفي
هذه الية دليل على علو الله تعالى واستوائه على عرشه حقيقة ،كما دلت
على ذلك النصوص القرآنية والحاديث النبوية التي تلقاها أهل السنة
بالقبول واليمان والتسليم ،وكان الله عزيزا قويا قاهرا ،ومن عزته أن كف
بني إسرائيل بعد عزمهم الجازم وعدم المانع لهم عن قتل عيسى عليه
السلم ،كما قال تعالى } وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات
فقال الذين كفروا منهم إن هذا إل سحر مبين { حكيم يضع الشياء
مواضعها ،وله أعظم حكمة في إلقاء الشبه على بني إسرائيل ،فوقعوا في
الشبه كما قال تعالى } وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من
علم إل اتباع الظن وما قتلوه يقينا { ثم قال تعالى } :وجاعل الذين
اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة { وتقدم أن الله أيد المؤمنين
منهم على الكافرين ،ثم إن النصارى المنتسبين لعيسى عليه السلم لم
يزالوا قاهرين لليهود لكون النصارى أقرب إلى اتباع عيسى من اليهود،
حتى بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فكان المسلمون هم
المتبعين لعيسى حقيقة ،فأيدهم الله ونصرهم على اليهود والنصارى
وسائر الكفار ،وإنما يحصل في بعض الزمان إدالة الكفار من النصارى
وغيرهم على المسلمين ،حكمة من الله وعقوبة على تركهم لتباع
الرسول صلى الله عليه وسلم } ثم إلي مرجعكم { أي :مصير الخلئق
كلها } فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون { كل يدعي أن الحق معه
وأنه المصيب وغيره مخطئ ،وهذا مجرد دعاوى تحتاج إلى برهان.
ثم أخبر عن حكمه بينهم بالقسط والعدل ،فقال } فأما الذين كفروا { أي:
بالله وآياته ورسله } فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والخرة { أما عذاب
الدنيا ،فهو ما أصابهم الله به من القوارع والعقوبات المشاهدة والقتل
والذل ،وغير ذلك مما هو نموذج من عذاب الخرة ،وأما عذاب الخرة فهو
الطامة الكبرى والمصيبة العظمى ،أل وهو عذاب النار وغضب الجبار
وحرمانهم ثواب البرار } وما لهم من ناصرين { ينصرونهم من عذاب
الله ،ل من زعموا أنهم شفعاء لهم عند الله ،ول ما اتخذوهم أولياء من
دونه ،ول أصدقائهم وأقربائهم ،ول أنفسهم ينصرون.
} وأما الذين آمنوا { بالله وملئكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وغير
ذلك مما أمر الله باليمان به } وعملوا الصالحات { القلبية والقولية
والبدنية التي جاءت بشرعها المرسلون ،وقصدوا بها رضا رب العالمين
} فيوفيهم أجورهم { دل ذلك على أنه يحصل لهم في الدنيا ثواب
لعمالهم من الكرام والعزاز والنصر والحياة الطيبة ،وإنما توفية الجور
يوم القيامة ،يجدون ما قدموه من الخيرات محضرا موفرا ،فيعطي منهم
كل عامل أجر عمله ويزيدهم من فضله وكرمه } والله ل يحب
الظالمين { بل يبغضهم ويحل عليهم سخطه وعذابه.
} ذلك نتلوه عليك من اليات والذكر الحكيم { وهذا منة عظيمة على
رسوله ] ص [ 133محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته ،حيث أنزل
عليهم هذا الذكر الحكيم ،المحكم المتقن ،المفصل للحكام والحلل
والحرام وإخبار النبياء القدمين ،وما أجرى الله على أيديهم من اليات
البينات والمعجزات الباهرات ،فهذا القرآن يقص علينا كل ما ينفعنا من
الخبار والحكام ،فيحصل فيها العلم والعبرة وتثبيت الفؤاد ما هو من
أعظم رحمة رب العباد ،ثم قال تعالى:
) (1/132
ن) ن فَي َ ُ
كو ُ ل لَ ُ
ه كُ ْ م َقا َ
ب ثُ ّ
ن ت َُرا ٍ
م ْ
ه ِق ُخل َ َم َ ل آ َد َ َ
مث َ ِعن ْد َ الل ّهِ ك َ َ
سى ِ عي َ ل ِ مث َ َ
ن َ
إِ ّ
ن )(60 ري َمت َ ِ ن ال ْ ُ
م ْ م َن ِ ك فََل ت َك ُ ْ ن َرب ّ َ
م ْحق ّ ِ (59ال ْ َ
م َقا َ
ل ب ثُ ّ
ن ت َُرا ٍ
م ْ
ه ِ خل َ َ
ق ُ م َل آد َ َ عن ْد َ الل ّهِ ك َ َ
مث َ ِ سى ِ عي َ
ل ِ مث َ َ
ن َ
} } { 60 - 59إ ِ ّ
ن{. ري َمت َ ِ
م ْ ْ
ن ال ُ م َ
ن ِ ُ َ
ن َرب ّك َفل ت َك ْم ْحق ّ ِ ن * ال ْ َ ن فَي َ ُ
كو ُ لَ ُ
ه كُ ْ
يخبر تعالى محتجا على النصارى الزاعمين بعيسى عليه السلم ما ليس له
بحق ،بغير برهان ول شبهة ،بل بزعمهم أنه ليس له والد استحق بذلك أن
يكون ابن الله أو شريكا لله في الربوبية ،وهذا ليس بشبهة فضل أن يكون
حجة ،لن خلقه كذلك من آيات الله الدالة على تفرد الله بالخلق والتدبير
وأن جميع السباب طوع مشيئته وتبع لرادته ،فهو على نقيض قولهم أدل،
وعلى أن أحدا ل يستحق المشاركة لله بوجه من الوجوه أولى ،ومع هذا
فآدم عليه السلم خلقه الله من تراب ل من أب ول أم ،فإذا كان ذلك ل
يوجب لدم ما زعمه النصارى في المسيح ،فالمسيح المخلوق من أم بل
أب من باب أولى وأحرى ،فإن صح إدعاء البنوة واللهية في المسيح،
فادعاؤها في آدم من باب أولى وأحرى ،فلهذا قال تعالى } إن مثل عيسى
عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك {
أي :هذا الذي أخبرناك به من شأن المسيح عليه السلم هو الحق الذي
في أعلى رتب الصدق ،لكونه من ربك الذي من جملة تربيته الخاصة لك
ولمتك أن قص عليكم ما قص من أخبار النبياء عليهم السلم } .فل تكن
من الممترين { أي :الشاكين في شيء مما أخبرك به ربك ،وفي هذه الية
وما بعدها دليل على قاعدة شريفة وهو أن ما قامت الدلة على أنه حق
وجزم به العبد من مسائل العقائد وغيرها ،فإنه يجب أن يجزم بأن كل ما
عارضه فهو باطل ،وكل شبهة تورد عليه فهي فاسدة ،سواء قدر العبد
على حلها أم ل فل يوجب له عجزه عن حلها القدح فيما علمه ،لن ما
خالف الحق فهو باطل ،قال تعالى } فماذا بعد الحق إل الضلل { وبهذه
القاعدة الشرعية تنحل عن النسان إشكالت كثيرة يوردها المتكلمون
ويرتبها المنطقيون ،إن حلها النسان فهو تبرع منه ،وإل فوظيفته أن يبين
الحق بأدلته ويدعو إليه.
) (1/133
َ َ
وا ن َد ْعُ أب َْناَءَنا وَأب َْناَءك ُ ْ
م ل ت ََعال َ ْ ق ْن ال ْعِل ْم ِ فَ ُ م َ ك ِجاَء َ ما َ
ن ب َعْدِ َ م ْ
ك ِفيهِ ِ ج َ حا ّن َ م ْفَ َ
ة الل ّهِ عََلى ل ل َعْن َ َ َ َ
جع َ ْل فَن َ ْ م ن َب ْت َهِ ْ
م ثُ ّسك ُ ْف َ
سَنا وَأن ْ ُ
ف َم وَأن ْ ُساَءك ُ ْ
ساَءَنا وَن ِ َوَن ِ َ
ن )(61 ال ْ َ
كاذِِبي َ
ل ت ََعال َ ْ
وا ق ْن ال ْعِل ْم ِ فَ ُ م َك ِ جاَء َ ما َ ن ب َعْدِ َ م ْك ِفيهِ ِ ج َ حا ّ
ن َ م ْ} } { 63 - 61فَ َ
َ َ َ َ
لجع َ ْ ل فَن َ ْم ن َب ْت َهِ ْ سك ُ ْ
م ثُ ّ ف َسَنا وَأن ْ ُ
ف َ ساَءك ُ ْ
م وَأن ْ ُ ساَءَنا وَن ِ َم وَن ِ َن َد ْعُ أب َْناَءَنا وَأب َْناَءك ُ ْ
ن{. كاذِِبي َة الل ّهِ عََلى ال ْ َ ل َعْن َ َ
أي } :فمن { جادلك } وحاجك { في عيسى عليه السلم وزعم أنه فوق
منزلة العبودية ،بل رفعه فوق منزلته } من بعد ما جاءك من العلم { بأنه
عبد الله ورسوله وبينت لمن جادلك ما عندك من الدلة الدالة على أنه
عبد أنعم الله عليه ،دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني ،فلم
يبق في مجادلته فائدة تستفيدها ول يستفيدها هو ،لن الحق قد تبين،
فجداله فيه جدال معاند مشاق لله ورسوله ،قصده اتباع هواه ،ل اتباع ما
أنزل الله ،فهذا ليس فيه حيلة ،فأمر الله نبيه أن ينتقل إلى مباهلته
وملعنته ،فيدعون الله ويبتهلون إليه أن يجعل لعنته وعقوبته على الكاذب
من الفريقين ،هو وأحب الناس إليه من الولد والبناء والنساء ،فدعاهم
النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فتولوا وأعرضوا ونكلوا ،وعلموا أنهم
إن لعنوه رجعوا إلى أهليهم وأولدهم فلم يجدوا أهل ول مال وعوجلوا
بالعقوبة ،فرضوا بدينهم مع جزمهم ببطلنه ،وهذا غاية الفساد والعناد،
فلهذا قال تعالى:
) (1/133
م)
كي ُ زيُز ال ْ َ
ح ِ ه ل َهُوَ ال ْعَ ِ
ن الل ّ َ ن إ ِل َهٍ إ ِّل الل ّ ُ
ه وَإ ِ ّ م ْ ما ِ
حق ّ و َ َص ال ْ َ
ص ُ ق َذا ل َهُوَ ال ْ َن هَ َ
إِ ّ
ن )(63 دي َ س ِ
ف ِ م ْ ْ
م ِبال ُه عَِلي ٌ ّ
ن الل َ وا فَإ ِ ّ ّ (62فَإ ِ ْ
ن ت َوَل ْ
ه ل َهُوَ ال ْعَ ِ
زيُز ن الل ّ َ ن إ ِل َهٍ ِإل الل ّ ُ
ه وَإ ِ ّ م ْ
ما ِ حق ّ و َ َص ال ْ َ ص ُ ق َ ذا ل َهُوَ ال ْ َ
ن هَ َ} إِ ّ
ن{. دي َ
س ِ
ف ِ م ْ ْ
م ِبال ُ ه عَِلي ٌ ّ
ن الل َ َ
وا فإ ِ ّ ّ
ن ت َوَل ْ َ
م * فإ ِ ْ كي ُ ال ْ َ
ح ِ
} فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين { فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة.
وأخبر تعالى } إن هذا { الذي قصه الله على عباده هو } القصص الحق {
وكل قصص يقص عليهم مما يخالفه ويناقضه فهو باطل } وما من إله إل
الله { فهو المألوه المعبود حقا الذي ل تنبغي العبادة إل له ،ول يستحق
غيره مثقال ذرة من العبادة } وإن الله لهو العزيز { الذي قهر كل شيء
وخضع له كل شيء } الحكيم { الذي يضع الشياء مواضعها ،وله الحكمة
التامة في ابتلء المؤمنين بالكافرين ،يقاتلونهم ويجادلونهم ويجاهدونهم
بالقول والفعل ). (1
__________
) (1في تفسير هذه اليات تقديم وتأخير يسير فقد أخر تفسير قوله" :وما
من إله إل الله" وقد أبقيتها على ما هي عليه.
) (1/133
ه وََل ل ال ْكتاب تعال َوا إَلى ك َل ِمة سواٍء بيننا وبينك ُ َ ل َيا أ َهْ َ
م أّل ن َعْب ُد َ إ ِّل الل ّ ََ ٍ َ َ َََْ َََْ ْ ِ َِ ِ ََ ْ قُ ْ
قوُلوا َ
وا فَ ُ ن ت َوَل ّ ْ
ن الل ّهِ فَإ ِ ْ
دو ِ
ن ُ
م ْ
ضا أْرَباًبا ِ
ضَنا ب َعْ ً شي ًْئا وََل ي َت ّ ِ
خذ َ ب َعْ ُ ك ب ِهِ َ
َ
شرِ َ نُ ْ
ن )(64 مو َ سل ِ ُ
م ْ دوا ب ِأّنا ُشه َ ُ ا ْ
) (1/133
) (1/134
ما
م وَ َسه ُ ْ ن إ ِّل أ َن ْ ُ
ف َ ضّلو َما ي ُ ِ
م وَ َضّلون َك ُ ْب ل َوْ ي ُ ِل ال ْك َِتا ِ
ةم َ
ن أه ْ ِ
ف ٌ ِ ْ ت َ
طائ ِ َ وَد ّ ْ
ن )(70 م تَ ْ َ ّ َ ْ ْ َ
ن )َ (69يا أهْ َ يَ ْ
دو َشه َ ُ ت اللهِ وَأن ْت ُ ْن ب ِآَيا ِ
فُرو َ م ت َك ُب لِ َ ل الك َِتا ِ شعُُرو َ
ةم َ
ضّلو َ
ن ِإل ما ي ُ ِ ضّلون َك ُ ْ
م وَ َ ب ل َوْ ي ُ ِل ال ْك َِتا ِن أه ْ ِ ف ٌ ِ ْ ت َ
طائ ِ َ } } { 74 - 69وَد ّ ْ
م َ ّ ْ ْ َ
ن * َيا أهْ َ ما ي َ ْ أ َن ْ ُ
ت اللهِ وَأن ْت ُ ْ ن ِبآَيا ِفُرو َ م ت َك ُ ب لِ َل الك َِتا ِ شعُُرو َ م وَ َ
سهُ ْف َ
ن{. دو َشه َ ُتَ ْ
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن مكر هذه الطائفة الخبيثة من أهل الكتاب،
وأنهم يودون أن يضلوكم ،كما قال تعالى } ود كثير من أهل الكتاب لو
يردونكم من بعد إيمانكم كفارا { ومن المعلوم أن من ود شيئا سعى
بجهده على تحصيل مراده ،فهذه الطائفة تسعى وتبذل جهدها في رد
المؤمنين وإدخال الشبه عليهم بكل طريق يقدرون عليه ،ولكن من لطف
الله أنه ل يحيق المكر السيئ إل بأهله فلهذا قال تعالى } وما يضلون إل
أنفسهم { فسعيهم في إضلل المؤمنين زيادة في ضلل أنفسهم وزيادة
عذاب لهم ،قال تعالى } الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا
فوق العذاب بما كانوا يفسدون { } وما يشعرون { بذلك أنهم يسعون في
ضرر أنفسهم وأنهم ل يضرونكم شيئا.
) (1/134
) (1/134
ْ ْ
ديَناٍر ه بِ ِ من ْ ُ ن ت َأ َ ن إِ ْ م ْم َ من ْهُ ْك وَ ِ طارٍ ي ُؤَد ّهِ إ ِل َي ْ َ قن ْ َ ه بِ ِ من ْ ُ
ن ت َأ َ ن إِ ْ ْ م
ب َ ِ ل ال ْك َِتا ِ ن أ َهْ م ْ وَ ِ
ُ ْ َ َ ُ َ ما ذ َل ِ َ َ ّ َل ي ُؤَد ّهِ إ ِلي ْ َ
َ
ن
مّيي َ س عَلي َْنا ِفي ال ّ م َقالوا لي ْ َ ك ب ِأن ّهُ ْ ت عَلي ْهِ َقائ ِ ً م َ ما د ُ ْ ك إ ِل َ
قوُلون عََلى الل ّه ال ْك َذب وهُم يعل َمون ) (75بَلى م َ
ن أوَْفى ب ِعَهْدِ ِ
ه َ ْ َ ِ َ َ ْ َْ ُ َ ِ َ ل وَي َ ُ سِبي ٌ َ
م هِ ن ما يَ أو ه ّ ل ال د هع ب ن رو ت ْ
ش ي ن ذي ّ لا ن إ ( 76 ) ن قي ت م ْ لا ب ح
ِ ي ه ّ لال ن إَ ف قى َ ت َوا
َ ْ َ ِ ْ ِ ِ ُ َ َِ ْ َ َ َ ِ ِ ّ َ ِ ّ ُ َ ُ ّ ِ ّ ّ
َ ُ
م
م ي َوْ َ ه وََل ي َن ْظ ُُر إ ِل َي ْهِ ْ م الل ّ ُ مه ُ ُ خَرةِ وََل ي ُك َل ّ ُ م ِفي اْل ِ خَلقَ ل َهُ ْ ك َل َ مًنا قَِليًل أول َئ ِ َ ثَ َ
َ
م )(77 ب أِلي ٌ ذا ٌ م عَ َ م وَل َهُ ْ كيهِ ْمةِ وََل ي َُز ّ قَيا َ ال ْ ِ
ْ
ممن ْهُ ْ ك وَ ِ طارٍ ي ُؤَد ّهِ إ ِل َي ْ َ قن ْ َ ه بِ ِ من ْ ُ ن ت َأ َ ن إِ ْ ْ م
ب َ ِ ل ال ْك َِتا ِ ن أ َهْ
م ْ } } { 77 - 75وَ ِ
ُ
م َقالوا َ َ َ َ َ ْ
ما ذ َل ِك ب ِأن ّهُ ْ ت عَلي ْهِ َقائ ِ ً م َ ما د ُ ْ ديَنارٍ ل ي ُؤَد ّهِ إ ِلي ْك ِإل َ ه بِ ِ من ْ ُ ن ت َأ َ ن إِ ْ م ْ َ
َ
ن * ب َلى مو َ ُ َ لْ عَ ي م
َ ْ ُ ه و بَ ِ ذَ ك ْ ل ا ِ ه ّ لال لى َ َ ع ن
َ لوُ قو ُ َ ي َ و ٌ
ل بي س
ّ َ َ ِ ن يي
ّ م ال في ِ نا
َ ْ يَ لَ ع لَ َ
س ْ ي
ن ب ِعَهْدِ شت َُرو َ ن يَ ْ ن ال ّ ِ
ذي َ ن * إِ ّ قي َ مت ّ ِ ب ال ْ ُ ح ّ ه يُ ِ ن الل ّ َ قى فَإ ِ ّ ن أ َوَْفى ب ِعَهْدِهِ َوات ّ َ م ْ َ
ه َول ّ لال م ه م ّ لَ ك ي ول ة ر خ
ِ ال في م ه َ ل َ ق خل َ ل ك َ ِ ئَ ل أوُ ليلِ َ ق نا م َ ث م ه ِ ن ما يَ أو ه ّ ل ال
ُ َ َ ُ ُ ُ ُ ِ ِ ُ ْ ً َ ْ َ ِ ْ َ ِ
ذاب أ َ َ ْ
م{. ٌ لي
ِ ٌ َ َ ع م
م ِ َ َ ِ َ َُ ِ ْ َ ُ ْ
ه ل و م ه كيّ ز ي ول ة م يا ق ل ا م ي َوْ َ ي َن ْظ ُُر إ ِل َي ْهِ ْ
يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب في الوفاء والخيانة في الموال ،لما ذكر
خيانتهم في الدين ومكرهم وكتمهم الحق ،فأخبر أن منهم الخائن والمين،
وأن منهم } من إن تأمنه بقنطار { وهو المال الكثير } يؤده { وهو على
أداء ما دونه من باب أولى ،ومنهم } من إن تأمنه بدينار ل يؤده إليك {
وهو على عدم أداء ما فوقه من باب أولى وأحرى ،والذي أوجب لهم
الخيانة وعدم الوفاء إليكم بأنهم زعموا أنه } ليس { عليهم } في الميين
سبيل { أي :ليس عليهم إثم في عدم أداء أموالهم إليهم ،لنهم بزعمهم
الفاسد ورأيهم الكاسد قد احتقروهم غاية الحتقار ،ورأوا أنفسهم في غاية
العظمة ،وهم الذلء الحقرون ،فلم يجعلوا للميين حرمة ،وأجازوا ذلك،
فجمعوا بين أكل الحرام واعتقاد حله وكان هذا كذبا على الله ،لن العالم
الذي يحلل الشياء المحرمة قد كان عند الناس معلوم أنه يخبر عن حكم
الله ليس يخبر عن نفسه ،وذلك هو الكذب ،فلهذا قال } ويقولون على
الله الكذب وهم يعلمون { وهذا أعظم إثما من القول على الله بل علم،
ثم رد عليهم زعمهم الفاسد.
فقال } بلى { أي :ليس المر كما تزعمون أنه ليس عليكم في الميين
حرج ،بل عليكم في ذلك أعظم الحرج وأشد الثم.
} من أوفى بعهده واتقى { والعهد يشمل العهد الذي بين العبد وبين ربه،
وهو جميع ما أوجبه الله على العبد من حقه ،ويشمل العهد الذي بينه وبين
العباد ،والتقوى تكون في هذا الموضع ،ترجع إلى اتقاء المعاصي التي بين
العبد وبين ربه ،وبينه وبين الخلق ،فمن كان كذلك فإنه من المتقين الذين
يحبهم الله تعالى ،سواء كانوا من الميين أو غيرهم ،فمن قال ليس علينا
في الميين سبيل ،فلم يوف بعهده ولم يتق الله ،فلم يكن ممن يحبه الله،
بل ممن يبغضه الله ،وإذا كان الميون قد عرفوا بوفاء العهود وبتقوى الله
وعدم ] ص [ 136التجرئ على الموال المحترمة ،كانوا هم المحبوبين
لله ،المتقين الذين أعدت لهم الجنة ،وكانوا أفضل خلق الله وأجلهم،
بخلف الذين يقولون ليس علينا في الميين سبيل ،فإنهم داخلون في
قوله } :إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليل { ويدخل في ذلك
كل من أخذ شيئا من الدنيا في مقابلة ما تركه من حق الله أو حق عباده،
وكذلك من حلف على يمين يقتطع بها مال معصوم فهو داخل في هذه
الية ،فهؤلء } ل خلق لهم في الخرة { أي :ل نصيب لهم من الخير } ول
يكلمهم الله { يوم القيامة غضبا عليهم وسخطا ،لتقديمهم هوى أنفسهم
على رضا ربهم } ول يزكيهم { أي :يطهرهم من ذنوبهم ،ول يزيل عيوبهم
} ولهم عذاب أليم { أي :موجع للقلوب والبدان ،وهو عذاب السخط
والحجاب ،وعذاب جهنم ،نسأل الله العافية.
) (1/135
قا يل ْوو َ
ن
م َما هُوَ ِ ب وَ َن ال ْك َِتا ِ م َسُبوهُ ِ ح َ م ِبال ْك َِتا ِ
ب ل ِت َ ْ ن أل ْ ِ
سن َت َهُ ْ ري ً َ ُ َ ف ِ م لَ َ من ْهُ ْ ن ِوَإ ِ ّ
هّ َ
ن عَلى الل ِ ُ
قولو َ ّ
عن ْدِ اللهِ وَي َ ُن ِم ْ ما هُوَ ِ ّ
عن ْدِ اللهِ وَ َ ن ِ م ْن هُوَ ِقولو َ ُ ب وَي َ ُ ال ْك َِتا ِ
ن )(78 مو َم ي َعْل َ ُ ب وَهُ ْ ال ْك َذِ َ
قا يل ْوو َ
بن ال ْك َِتا ِم َ سُبوهُ ِ ح َ م ِبال ْك َِتا ِ
ب ل ِت َ ْ ن أل ْ ِ
سن َت َهُ ْ ري ً َ ُ َ ف ِم لَ َ من ْهُ ْ
ن ِ } } { 78وَإ ِ ّ
قوُلو َ
ن عن ْدِ الل ّهِ وَي َ ُ
ن ِ م ْ ما هُوَ ِ عن ْدِ الل ّهِ وَ َ ن ِ م ْ قوُلو َ
ن هُوَ ِ ب وَي َ ُ ن ال ْك َِتا ِ
م َما هُوَ ِ
وَ َ
ن{. مو َم ي َعْل َ ُ ب وَهُ ْ عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ
يخبر تعالى أن من أهل الكتاب فريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب ،أي :يميلونه
ويحرفونه عن المقصود به ،وهذا يشمل اللي والتحريف للفاظه ومعانيه،
وذلك أن المقصود من الكتاب حفظ ألفاظه وعدم تغييرها ،وفهم المراد
منها وإفهامه ،وهؤلء عكسوا القضية وأفهموا غير المراد من الكتاب ،إما
تعريضا وإما تصريحا ،فالتعريض في قوله } لتحسبوه من الكتاب { أي:
يلوون ألسنتهم ويوهمونكم أنه هو المراد من كتاب الله ،وليس هو المراد،
والتصريح في قولهم } :ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله
ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون { وهذا أعظم جرما ممن يقول
على الله بل علم ،هؤلء يقولون على الله الكذب فيجمعون بين نفي
المعنى الحق ،وإثبات المعنى الباطل ،وتنزيل اللفظ الدال على الحق على
المعنى الفاسد ،مع علمهم بذلك.
) (1/136
كان ل ِب َ َ
كوُنواس ُ ل ِللّنا ِ قو َ
م يَ ُم َوالن ّب ُوّةَ ث ُ ّ حك ْ َ ب َوال ْ ُه ال ْك َِتا َ ه الل ّ ُ ن ي ُؤْت ِي َ ُ شرٍ أ ْ ما َ َ َ َ
ما ب و
َِ َ َِ َب تاك ْ لا ن مو ّ لع
ُْ ْ َُ ُ َت م تنُ ك ما
ِ َ ب ن يي ن با ر
ُ َ ّ ِّ نوا ُ
كو ن ك َ ل
ِ َ ِْ ْ و ه ّ لال ن دو
ِ ْ ُ ِ ن م لي دا
ِ َ ً ِبا ع
مُرك ُْ ذوا َ ال ْمَلئك َة والنبيين أ َربابا أ َيأ ْ َ ُ َ
م َ ِ َ َ ِّّ َ ْ َ ً َ ُ ُ خ تت ن أ م
َ َ ُ َ ْ ْ َّ ِ ك ر م أ ي ل و ( 79 ) ن
م تَ ْ ُ ُ َ
سو ر د ك ُن ْت ُ ْ
َ ِبال ْك ُ ْ
ن )(80 مو َ سل ِ ُم ْ م ُ فرِ ب َعْد َ إ ِذ ْ أن ْت ُ ْ
كان ل ِب َ َ
م َوالن ّب ُوّةَ ث ُ ّ
م حك ْ َ ب َوال ْ ُ ه ال ْك َِتا َ ه الل ّ ُ ن ي ُؤْت ِي َ ُشرٍ أ ْ ما َ َ َ } َ } { 80 - 79
م ُ
ما كن ْت ُ ْ ن بِ َ ن كوُنوا َرّبان ِّيي َ ُ َ ّ
ن اللهِ ْوَلك ِ ْ دو ِ ن ُ م ْدا ِلي ِ عَبا ً كوُنوا ِ س ُ قو َ
َ ل ِللّنا ِ يَ ُ
ةَ
ملئ ِك َ ْ
ذوا ال َ خ ُ ن ت َت ّ ِ
مأ ْ ُ
مَرك ْ ن * َول ي َأ ُ سو َ م ت َد ُْر ُ ُ
ما كن ْت ُ ْ ب وَب ِ َ ْ
ن الك َِتا َ مو َ ّ
ت ُعَل ُ
َ ُ ْ ُ ْ َ َ
ن{. مو َ سل ِ ُ
م ْ م ُ فرِ ب َعْد َ إ ِذ ْ أن ْت ُ ْم ِبالك ْ مُرك ْ ن أْرَباًبا أي َأ ُ َوالن ّب ِّيي َ
وهذه الية نزلت ردا لمن قال من أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم
لما أمرهم باليمان به ودعاهم إلى طاعته :أتريد يا محمد أن نعبدك مع
ن الله عليه م ّ الله ،فقوله } ما كان لبشر { أي :يمتنع ويستحيل على بشر َ
بإنزال الكتاب وتعليمه ما لم يكن يعلم وإرساله للخلق } أن يقول للناس
كونوا عبادا لي من دون الله { فهذا من أمحل المحال صدوره من أحد من
النبياء عليهم أفضل الصلة والسلم ،لن هذا أقبح الوامر على الطلق،
والنبياء أكمل الخلق على الطلق ،فأوامرهم تكون مناسبة لحوالهم ،فل
يأمرون إل بمعالي المور وهم أعظم الناس نهيا عن المور القبيحة ،فلهذا
قال } ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون {
أي :ولكن يأمرهم بأن يكونوا ربانيين ،أي :علماء حكماء حلماء معلمين
للناس ومربيهم ،بصغار العلم قبل كباره ،عاملين بذلك ،فهم يأمرون بالعلم
والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة ،وبفوات شيء منها يحصل النقص
والخلل ،والباء في قوله } بما كنتم تعلمون { إلخ ،باء السببية ،أي :بسبب
تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه ،التي
بدرسها يرسخ العلم ويبقى ،تكونون ربانيين.
} ول يأمركم أن تتخذوا الملئكة والنبيين أربابا { وهذا تعميم بعد تخصيص،
أي :ل يأمركم بعبادة نفسه ول بعبادة أحد من الخلق من الملئكة والنبيين
وغيرهم } أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون { هذا ما ل يكون ول
ن الله عليه بالنبوة ،فمن قدح في أحد منهم م ّ يتصور أن يصدر من أحد َ
بشيء من ذلك فقد ارتكب إثما عظيما وكفرا وخيما.
) (1/136
لسو ٌ م َر ُ جاَءك ُ ْ
م َ مة ٍ ث ُ ّ حك ْ َ ب وَ ِ ن ك َِتا ٍم ْم ِ َ
ما آت َي ْت ُك ُ ْ ن لَ َميَثاقَ الن ّب ِّيي َ ه ِ وَإ ِذ ْ أ َ َ
خذ َ الل ّ ُ
مم عََلى ذ َل ِك ُ ْ خذ ْت ُ ْم وَأ َ َ مصدقٌ ل ِما معك ُم ل َتؤْمنن به ول َتنصرنه َقا َ َ َ
ل أأقَْرْرت ُ ْ َ َ َ ْ ُ ِ ُ ّ ِ ِ َ َْ ُ ُ ّ ُ ُ َ ّ
ّ
ن ت َوَلى َ ن ال ّ ُ َ َ
ل فا ْ َ ْ َ
ري قالوا أقَرْرَنا قا َ ُ َ
م ْ ن ) (81ف َ دي َ شاهِ ِ م َم ِ معَك ْدوا وَأَنا َ شه َ ُ
ُ ص ِ إِ ْ
ن )(82 قو َ س ُ
فا ِ ْ
م ال َ َ َ َ
ب َعْد َ ذ َل ِك فَأولئ ِك هُ ُ
مة ٍ ث ُ ّ
م حك ْ َ ب وَ ِ ن ك َِتا ٍ م ْ
م ِما آت َي ْت ُك ُ ْ ن لَ َ
ميَثاقَ الن ّب ِّيي َ ه ِ خذ َ الل ّ ُ } } { 82 - 81وَإ ِذ ْ أ َ َ
خذ ْت ُ ْ
م م وَأ َ َ ل مصدقٌ ل ِما معك ُم ل َتؤْمنن به ول َتنصرنه َقا َ َ َ
ل أأقَْرْرت ُ ْ َ َ َ ْ ُ ِ ُ ّ ِ ِ َ َْ ُ ُ ّ ُ سو ٌ ُ َ ّ م َر ُ جاَءك ُ ْ َ
ن* دي ه شاّ ال ن م م ُ ك ع م ناَ أ و دوا ه شْ َ
فا لَ َ
قا نا ر ر ْ قَ أ لوا ُ قاَ ري ص إ مُ ك لَ ذ لى َ َ ع
ِ ِ َ َ َ َ َ ْ ِ َ َ ُ َ ْ َ
ُ ِ ْ ِ ْ ِ
ن{. قو َ س ُ
فا ِ ْ
م ال َ َ َ َ َ
ن ت َوَلى ب َعْد َ ذ َل ِك فأولئ ِك هُ ُ ّ م ْفَ َ
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق النبيين وعهدهم المؤكد بسبب ما أعطاهم من
كتاب الله المنزل ،والحكمة الفاصلة بين الحق والباطل والهدى والضلل،
إنه إن بعث الله رسول مصدقا لما معهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ويأخذوا
ذلك على أممهم ،فالنبياء عليهم الصلة والسلم قد أوجب الله عليهم أن
يؤمن بعضهم ببعض ،ويصدق بعضهم بعضا لن جميع ما عندهم هو من عند
الله ،وكل ما من عند الله يجب التصديق به واليمان ،فهم كالشيء
الواحد ،فعلى هذا قد علم أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتمهم،
فكل النبياء عليهم الصلة والسلم لو أدركوه لوجب عليهم اليمان به
واتباعه ونصرته ،وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم ،فهذه الية الكريمة
من أعظم الدلئل على علو مرتبته وجللة قدره ،وأنه أفضل النبياء
وسيدهم صلى الله عليه وسلم لما قررهم تعالى ] ص } [ 137قالوا
أقررنا { أي :قبلنا ما أمرتنا به على الرأس والعين } قال { الله لهم:
} فاشهدوا { على أنفسكم وعلى أممكم بذلك ،قال } وأنا معكم من
الشاهدين فمن تولى بعد ذلك { العهد والميثاق المؤكد بالشهادة من الله
ومن رسله } فأولئك هم الفاسقون { فعلى هذا كل من ادعى أنه من
أتباع النبياء كاليهود والنصارى ومن تبعهم ،فقد تولوا عن هذا الميثاق
الغليظ ،واستحقوا الفسق الموجب للخلود في النار إن لم يؤمنوا بمحمد
صلى الله عليه وسلم.
) (1/136
) (1/137
حاقَ
س َ ل وَإ ِ ْعي َ ما ِس َ
م وَإ ِ ْ
هي َ ل عََلى إ ِب َْرا ِما أ ُن ْزِ َ
ل عَل َي َْنا وَ َما أ ُن ْزِ َ مّنا ِبالل ّهِ وَ َلآ َ
قُ ْ َ
م َل ن ُ َ ُ َ
فّرقُ ن َرب ّهِ ْم ْ ن ِ سى َوالن ّب ِّيو َ عي َسى وَ ِ مو َ ي ُ ما أوت ِ َ ط وَ َسَبا ِ ب َواْل ْ قو َ وَي َعْ ُ
ن )(84 َ َ
مو َ سل ِ ُ
م ْ ه ُنل ُ ح ُم وَن َ ْ
من ْهُ ْ
حدٍ ِ نأ َ ب َي ْ َ
عي َ
ل ما ِ س َ
م وَإ ِ ْهي َ ما أ ُن ْزِ َ
ل عََلى إ ِب َْرا ِ ل عَل َي َْنا وَ َ ما أ ُن ْزِ َ مّنا ِبالل ّهِ وَ َلآ َ } } { 84قُ ْ
مل ُ
ن َرب ّهِ ْ م ْن ِ سى َوالن ّب ِّيو َ عي َسى وَ ِ مو َ ي ُ ما أوت ِ َ ط وَ َ سَبا ِ ب َوال ْ قو َحاقَ وَي َعْ ُ س َ
وَإ ِ ْ
ن{. َ َ
مو َ سل ِ ُ م ْ
ه ُ نل ُ ح ُم وَن َ ْمن ْهُ ْ
حدٍ ِنأ َ فّرقُ ب َي ْ َ نُ َ
تقدم نظير هذه الية في سورة البقرة ،ثم قال تعالى.
) (1/137
ن)
ري َ
س ِ ن ال ْ َ
خا ِ م َ ه وَهُوَ ِفي اْل َ ِ
خَرةِ ِ من ْ ُ قب َ َ
ل ِ سَلم ِ ِديًنا فَل َ ْ
ن يُ ْ ن ي َب ْت َِغ غَي َْر اْل ِ ْ
م ْ
وَ َ
(85
نم َ
خَرةِ ِ
ه وَهُوَ ِفي ال ِ
من ْ ُ قب َ َ
ل ِ سلم ِ ِديًنا فَل َ ْ
ن يُ ْ ن ي َب ْت َِغ غَي َْر ال ْ
م ْ
} } { 85وَ َ
ن{. ري َ
س ِ ال ْ َ
خا ِ
أي :من يدين لله بغير دين السلم الذي ارتضاه الله لعباده ،فعمله مردود
غير مقبول ،لن دين السلم هو المتضمن للستسلم لله ،إخلصا وانقيادا
لرسله فما لم يأت به العبد لم يأت بسبب النجاة من عذاب الله والفوز
بثوابه ،وكل دين سواه فباطل ،ثم قال تعالى:
) (1/137
َ
م
جاَءهُ ُ حق ّ و َ َ ل َ سو َ ن الّر ُ دوا أ ّ شه ِ ُ م وَ َ مان ِهِ ْ
فُروا ب َعْد َ ِإي َ ما ك َ َ
ه قَوْ ً دي الل ّ ُ ف ي َهْ ِ ك َي ْ َ
م ل َعْن َ َ َ ُ
ة ن عَل َي ْهِ ْ مأ ّ جَزاؤُهُ ْ ك َ ن ) (86أول َئ ِ َ مي َ م ال ّ
ظال ِ ِ قوْ َدي ال ْ َ ه َل ي َهْ ِ ت َوالل ّ ُ ال ْب َي َّنا ُ
م ال ْعَ َ ن ِفيَها َل ي ُ َ َ مَلئ ِك َةِ َوالّنا
بذا ُ ف عَن ْهُ ُ ف ُ خ ّ دي َ خال ِ ِ
ن )َ (87 مِعي َ ج َ
سأ ْ ِ الل ّهِ َوال ْ َ
وَل هُم ينظ َرون ) (88إّل ال ّذين تابوا من بعد ذ َل ِ َ َ
فوٌر ه غَ ُ ن الل ّ َ حوا فَإ ِ ّ صل َ ُك وَأ ْ ِ ْ َْ ِ ِ َ َ ُ ِ ْ ُْ ُ َ َ
م )(89 ٌ حيِ َر
َ
ن
دوا أ ّ شه ِ ُ م وَ َمان ِهِ ْ
فُروا ب َعْد َ ِإي َما ك َ َ
ه قَوْ ً دي الل ّ ُ ف ي َهْ ِ } } { 88 - 86ك َي ْ َ
ُ
ن * أول َئ ِ َ م ال ّ دي ال ْ َ
ك مي َظال ِ ِ قوْ َ ه ل ي َهْ ِ ت َوالل ّ ُ م ال ْب َي َّنا ُ جاَءهُ ُ حقّ وَ َ ل َ سو َ الّر ُ
َ َ ْ ّ َ َ َ
ن ِفيَها ل دي َ خال ِ ِن* َ مِعي َ
ج َ سأ ْ ملئ ِكةِ َوالّنا ِ ة اللهِ َوال َ م لعْن َ َ ن عَلي ْهِ ْ مأ ّ جَزاؤُهُ ْ َ
ن{. َ
م ي ُن ْظُرو َ ب َول هُ ْ ذا ُ ْ
م العَ َ ف عَن ْهُ ُ ف ُ خ ّ
يُ َ
هذا من باب الستبعاد ،أي :من المر البعيد أن يهدي الله قوما اختاروا
الكفر والضلل بعدما آمنوا وشهدوا أن الرسول حق بما جاءهم به من
اليات البينات والبراهين القاطعات } والله ل يهدي القوم الظالمين {
فهؤلء ظلموا وتركوا الحق بعدما عرفوه ،واتبعوا الباطل مع علمهم
ببطلنه ظلما وبغيا واتباعا لهوائهم ،فهؤلء ل يوفقون للهداية ،لن الذي
يرجى أن يهتدي هو الذي لم يعرف الحق وهو حريص على التماسه ،فهذا
بالحري أن ييسر الله له أسباب الهداية ويصونه من أسباب الغواية.
ثم أخبر عن عقوبة هؤلء المعاندين الظالمين الدنيوية والخروية ،فقال
} أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملئكة والناس أجمعين خالدين
فيها ل يخفف عنهم العذاب ول هم ينظرون { أي :ل يفتر عنهم العذاب
ساعة ول لحظة ،ل بإزالته أو إزالة بعض شدته } ،ول هم ينظرون { أي:
يمهلون ،لن زمن المهال قد مضى ،وقد أعذر الله منهم وعمرهم ما
يتذكر فيه من تذكر ،فلو كان فيهم خير لوجد ،ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه.
) (1/137
م
ك هُ ُ م وَُأول َئ ِ َ ل ت َوْب َت ُهُ ْقب َ َ ن تُ ْفًرا ل َ ْ دوا ك ُ ْدا ُم اْز َم ثُ ّمان ِهِ ْ
فُروا ب َعْد َ ِإي َن كَ َذي َ ن ال ّ ِإِ ّ
َ َ ُ َ ّ ّ
م ْ
لُء م ِ حدِهِ ْ نأ َ م ْل ِ قب َ َ ن يُ ْ فاٌر فَل ْ مك ّ ماُتوا وَهُ ْ فُروا وَ َ نك َ ذي َ
ن ال ِ ن ) (90إ ِ ّ ضالو َ ال ّ
َ َ َ َ ُ
دى ب ِهِ أولئ ِ َ َ َْ
ن )(91 ري َص ِ ن َنا ِ م ْ م ِ ما لهُ ْ م وَ َ ب أِلي ٌ ذا ٌ م عَ َك لهُ ْ ض ذ َهًَبا وَلوِ افْت َ َ
الْر ِ
قب َ َ
ل فًرا ل َ ْ
ن تُ ْ دوا ك ُ ْ دا ُم اْز َ م ثُ ّمان ِهِ ْفُروا ب َعْد َ ِإي َن كَ َذي َ ن ال ّ ِ
} } { 91 - 90إ ِ ّ
ن ي ُقْب َ َ
ل َ
فاٌر فَل ْ ُ
مك ّ ماُتوا وَهُ ْ فُروا وَ َ َ
نك َ ذي َ ّ
ن ال ِ ن * إِ ّ ّ
ضالو َ م ال ّ ك هُ ُم وَُأول َئ ِ َ ت َوْب َت ُهُ ْ
َ َ َ َ َ ُ َ م َ
مما لهُ ْ م وَ َ ب أِلي ٌ ذا ٌ م عَ َ دى ب ِهِ أولئ ِك لهُ ْ ض ذ َهًَبا وَلوِ افْت َ َ لُء الْر ِ م ْ م ِ حدِهِ ْنأ َ ِ ْ
ن{. ري َ ص ِن َنا ِ م ْ ِ
يخبر تعالى أن من كفر بعد إيمانه ،ثم ازداد كفرا إلى كفره بتماديه في
الغي والضلل ،واستمراره على ترك الرشد والهدى ،أنه ل تقبل توبتهم،
أي :ل يوفقون لتوبة تقبل بل يمدهم الله في طغيانهم يعمهون ،قال تعالى
} ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة { } فلما زاغوا
أزاغ الله قلوبهم { فالسيئات ينتج بعضها بعضا ،وخصوصا لمن أقدم على
الكفر العظيم وترك الصراط المستقيم ،وقد قامت عليه الحجة ووضح الله
له اليات والبراهين ،فهذا هو الذي سعى في قطع أسباب رحمة ربه عنه،
وهو الذي سد على نفسه باب التوبة ،ولهذا حصر الضلل في هذا الصنف،
فقال } وأولئك هم الضالون { وأي :ضلل أعظم من ضلل من ترك
الطريق عن بصيرة ،وهؤلء الكفرة إذا استمروا على كفرهم إلى الممات
تعين هلكهم وشقاؤهم البدي ،ولم ينفعهم شيء ،فلو أنفق أحدهم ملء
الرض ذهبا ليفتدي به من عذاب الله ما نفعه ذلك ،بل ل يزالون في
العذاب الليم ،ل شافع لهم ول ناصر ول مغيث ول مجير ينقذهم من عذاب
الله فأيسوا من كل خير ،وجزموا على الخلود الدائم في العقاب والسخط،
فعياذا بالله من حالهم.
) (1/137
ن الل ّ َ
ه ب ِهِ يءٍ فَإ ِ ّ ن َ
ش ْ م ْ
قوا ِ
ف ُ
ما ت ُن ْ ِ
ن وَ َ
حّبو َ
ما ت ُ ِ
م ّ
قوا ِ
ف ُ ن ت ََناُلوا ال ْب ِّر َ
حّتى ت ُن ْ ِ لَ ْ
م )(92 عَِلي ٌ
] ص [ 138
يٍء فَإ ِ ّ
ن ن َ
ش ْ م ْ
قوا ِ
ف ُ
ما ت ُن ْ ِ
ن وَ َ
حّبو َ
ما ت ُ ِ
م ّ
قوا ِ
ف ُ
حّتى ت ُن ْ ِ ْ ُ } } { 92ل َ ْ
ن ت ََنالوا الب ِّر َ
م{. الل ّ َ
ه ب ِهِ عَِلي ٌ
هذا حث من الله لعباده على النفاق في طرق الخيرات ،فقال } لن تنالوا
{ أي :تدركوا وتبلغوا البر الذي هو كل خير من أنواع الطاعات وأنواع
المثوبات الموصل لصاحبه إلى الجنة } ،حتى تنفقوا مما تحبون { أي :من
أموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم ،فإنكم إذا قدمتم محبة الله على
محبة الموال فبذلتموها في مرضاته ،دل ذلك على إيمانكم الصادق وبر
قلوبكم ويقين تقواكم ،فيدخل في ذلك إنفاق نفائس الموال ،والنفاق في
حال حاجة المنفق إلى ما أنفقه ،والنفاق في حال الصحة ،ودلت الية أن
العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بره ،وأنه ينقص من بره بحسب ما
نقص من ذلك ،ولما كان النفاق على أي :وجه كان مثابا عليه العبد ،سواء
كان قليل أو كثيرا ،محبوبا للنفس أم ل وكان قوله } لن تنالوا البر حتى
تنفقوا مما تحبون { مما يوهم أن إنفاق غير هذا المقيد غير نافع ،احترز
تعالى عن هذا الوهم بقوله } وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم { فل
يضيق عليكم ،بل يثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه.
) (1/138
ن قَب ْ ِ
ل م ْسه ِ ِ ل عََلى ن َ ْ
ف ِ سَراِئي ُ م إِ ْ حّر َ ما َ ل إ ِّل َ سَراِئي َ حّل ل ِب َِني إ ِ ْ ن ِ كا َ ل الط َّعام ِ َ كُ ّ
ْ َ
نم ِن ) (93فَ َ صادِِقي َ م َ ن ك ُن ْت ُ ْ ها إ ِ ْ ل فَأُتوا ِبالت ّوَْراةِ َفات ُْلو َ ل الت ّوَْراةُ قُ ْ ن ت ُن َّز َ أ ْ
ق
صد َ َل َ ن ) (94قُ ْ مو َ م ال ّ
ظال ِ ُ ك هُ ُ ك فَُأول َئ ِ َ ن ب َعْدِ ذ َل ِ َم ْ ب ِ افْت ََرى عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ
ن )(95 كي َ
شرِ ِ م ْ ن ال ْ ُ م َ ن ِكا َما َ فا وَ َ حِني ًم َهي َ ة إ ِب َْرا ِمل ّ َه َفات ّب ُِعوا ِ الل ّ ُ
لسَراِئي ُ م إِ ْ حّر َ ما َ ل ِإل َسَراِئي َ حل ل ِب َِني إ ِ ْ ن ِ كا َ ل الط َّعام ِ َ } } { 95 - 93ك ُ ّ
ْ فسه من قَب َ
من ك ُن ْت ُ ْها إ ِ ْل فَأُتوا ِبالت ّوَْراةِ َفات ُْلو َ ل الت ّوَْراةُ قُ ْ ن ت ُن َّز َلأ ْ ِ عََلى ن َ ْ ِ ِ ِ ْ ْ
ن
مو َظال ِ ُم ال ّ ك هُ ُ ك فَُأول َئ ِ َ ن ب َعْدِ ذ َل ِ َ م ْب ِ ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ م ِ ن * فَ َ صادِِقي َ َ
ن{. كي
ُ ِ ِ َر ْ
ش م ْ لا ن م
َ ِ َ ن َ
كا ما َ َ و فا
ً ني
ِ ح م هي
َِْ ِ َ َ را ب إ ة
َ ّ لمِ عوا ب
ُِّ ت فاَ ه
ُ ّ لال َ ق دص
َ َ ْ
ل ُ ق *
وهذا رد على اليهود بزعمهم الباطل أن النسخ غير جائز ،فكفروا بعيسى
ومحمد صلى الله عليهما وسلم ،لنهما قد أتيا بما يخالف بعض أحكام
التوراة بالتحليل والتحريم فمن تمام النصاف في المجادلة إلزامهم بما
في كتابهم التوراة من أن جميع أنواع الطعمة محللة لبني إسرائيل } إل
ما حرم إسرائيل { وهو يعقوب عليه السلم } على نفسه { أي :من غير
تحريم من الله تعالى ،بل حرمه على نفسه لما أصابه عرق النسا نذر لئن
شفاه الله تعالى ليحرمن أحب الطعمة عليه ،فحرم فيما يذكرون لحوم
البل وألبانها وتبعه بنوه على ذلك وكان ذلك قبل نزول التوراة ،ثم نزل
في التوراة أشياء من المحرمات غير ما حرم إسرائيل مما كان حلل لهم
طيبا ،كما قال تعالى } فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت
لهم { وأمر الله رسوله إن أنكروا ذلك أن يأمرهم بإحضار التوراة،
فاستمروا بعد هذا على الظلم والعناد ،فلهذا قال تعالى } فمن افترى
على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون { وأي ظلم أعظم من
ظلم من يدعى إلى تحكيم كتابه فيمتنع من ذلك عنادا وتكبرا وتجبرا ،وهذا
من أعظم الدلة على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيام
اليات البينات المتنوعات على صدقه وصدق من نبأه وأخبره بما أخبره به
من المور التي ل يعلمها إل بإخبار ربه له بها ،فلهذا قال تعالى } قل صدق
الله { أي :فيما أخبر به وحكم ،وهذا أمر من الله لرسوله ولمن يتبعه أن
يقولوا بألسنتهم :صدق الله ،معتقدين بذلك في قلوبهم عن أدلة يقينية،
مقيمين هذه الشهادة على من أنكرها ،ومن هنا تعلم أن أعظم الناس
تصديقا لله أعظمهم علما ويقينا بالدلة التفصيلية السمعية والعقلية ،ثم
أمرهم باتباع ملة أبيهم إبراهيم عليه السلم بالتوحيد وترك الشرك الذي
هو مدار السعادة ،وبتركه حصول الشقاوة ،وفي هذا دليل على أن اليهود
وغيرهم ممن ليس على ملة إبراهيم مشركون غير موحدين ،ولما أمرهم
باتباع ملة إبراهيم في التوحيد وترك الشرك أمرهم باتباعه بتعظيم بيته
الحرام بالحج وغيره ،فقال:
) (1/138
ت َ
ن )ِ (96فيهِ آَيا ٌ مي َدى ل ِل َْعال َ ِ كا وَهُ ًمَباَر ً ة ُ ذي ب ِب َك ّ َ س ل َل ّ ِضعَ ِللّنا ِ ت وُ ِ ل ب َي ْ ٍن أ َوّ َإِ ّ
ن ْ َ ّ َ َ َ
م ِت َج الب َي ْ ِ
ح ّ
س ِمًنا وَل ِلهِ عَلى الّنا ِ نآ ِ ه كا َ خل ُ ن دَ َ م ْم وَ َهي َم إ ِب َْرا ِقا ُ م َت َ ب َي َّنا ٌ
ن )(97 مي َ َ
ن الَعال ِْ ه غَن ِ ّ ّ فَر فَإ ِ ّ َ ً َ َ
ي عَ ِ ن الل َ نك َ م ْسِبيل وَ َ ست َطاعَ إ ِلي ْهِ َ ا ْ
) (1/138
) (1/141
) (1/141
) (1/141
م أ َك َ َ َ
م ب َعْد َ
فْرت ُ ْ جوهُهُ ْ ت وُ ُ سوَد ّ ْ
نا ْ ما ال ّ ِ
ذي َ جوهٌ فَأ ّ سوَد ّ وُ ُجوهٌ وَت َ ْ ض وُ ُ م ت َب ْي َ ّي َوْ َ
َ
ت
ض ْ ن اب ْي َ ّ ذي َ ما ال ّ ِن ) (106وَأ ّ فُرو َ م ت َك ْ ُ ما ك ُن ْت ُ ْ ب بِ َذا َ ذوُقوا ال ْعَ َ م فَ ُ مان ِك ُ ِْإي َ
ت الل ّهِ ن َت ُْلو َ َ ن ) (107ت ِل ْ َ
ها ك آَيا ُ دو َ خال ِ ُ م ِفيَها َ مةِ الل ّهِ هُ ْ ح َ
في َر ْ م فَ ِ جوهُهُ ْ وُ ُ
ن )(108 مي َ ما ل ِل َْعال َ ِ ريد ُ ظ ُل ْ ً ه يُ ِما الل ّ ُ حق ّ و َ َ ك ِبال ْ َ عَل َي ْ َ
َ
تسوَد ّ ْنا ْ ما ال ّ ِ
ذي َ جوهٌ فَأ ّ سوَد ّ وُ ُ جوهٌ وَت َ ْ ض وُ ُ م ت َب ْي َ ّ } } { 108 - 106ي َوْ َ
ّ َ م ت َك ْ ُ ْ م أ َك َ َ
ن
ذي َ
ما ال ِ ن * وَأ ّ
فُرو َ ما ك ُن ْت ُ ْب بِ َ ذوُقوا العَ َ
ذا َ م فَ ُ مان ِك ُ ْم ب َعْد َ ِإي َفْرت ُ ْ جوهُهُ ْ وُ ُ
ها ُ ّ
ت اللهِ ن َت ْلو َك آَيا ُ ْ
ن * ت ِل َ دو َ خال ِ ُ
م ِفيَها َ ّ
مةِ اللهِ هُ ْ ح َ في َر ْ م فَ ِجوهُهُ ْ ت وُ ُ ض ْاب ْي َ ّ
ن{. مي َ ما ل ِل َْعال َ ِ ريد ُ ظ ُل ْ ً ما الل ّ ُ
ه يُ ِ حق ّ و َ َ ك ِبال ْ َعَل َي ْ َ
يخبر تعالى عن حال يوم القيامة وما فيه من آثار الجزاء بالعدل والفضل،
ويتضمن ذلك الترغيب والترهيب الموجب للخوف والرجاء فقال } :يوم
تبيض وجوه { وهي وجوه أهل السعادة والخير ،أهل الئتلف والعتصام
بحبل الله } وتسود وجوه { وهي وجوه أهل الشقاوة والشر ،أهل الفرقة
والختلف ،هؤلء اسودت وجوههم بما في قلوبهم من الخزي والهوان
والذلة والفضيحة ،وأولئك ابيضت وجوههم ،لما في قلوبهم من البهجة
] ص [ 143والسرور والنعيم والحبور الذي ظهرت آثاره على وجوههم
كما قال تعالى } :ولقاهم نضرة وسرورا { نضرة في وجوههم وسرورا
في قلوبهم ،وقال تعالى } :والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها
وترهقهم ذلة كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب
النار هم فيها خالدون { } فأما الذين اسودت وجوههم { فيقال لهم على
وجه التوبيخ والتقريع } :أكفرتم بعد إيمانكم { أي :كيف آثرتم الكفر
والضلل على اليمان والهدى؟ وكيف تركتم سبيل الرشاد وسلكتم طريق
الغي؟ } فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون { فليس يليق بكم إل النار ،ول
تستحقون إل الخزي والفضيحة والعار.
} وأما الذين ابيضت وجوههم { فيهنئون أكمل تهنئة ويبشرون أعظم
بشارة ،وذلك أنهم يبشرون بدخول الجنات ورضى ربهم ورحمته } ففي
رحمة الله هم فيها خالدون { وإذا كانوا خالدين في الرحمة ،فالجنة أثر
من آثار رحمته تعالى ،فهم خالدون فيها بما فيها من النعيم المقيم
والعيش السليم ،في جوار أرحم الراحمين ،لما بين الله لرسوله صلى الله
عليه وسلم الحكام المرية والحكام الجزائية قال } :تلك آيات الله
نتلوها { أي :نقصها } عليك بالحق { لن أوامره ونواهيه مشتملة على
الحكمة والرحمة وثوابها وعقابها ،كذلك مشتمل على الحكمة والرحمة
والعدل الخالي من الظلم ،ولهذا قال } :وما الله يريد ظلما للعالمين {
نفى إرادته ظلمهم فضل عن كونه يفعل ذلك فل ينقص أحدا شيئا من
حسناته ،ول يزيد في ظلم الظالمين ،بل يجازيهم بأعمالهم فقط ،ثم قال
تعالى:
) (1/142
ُ َْ
جعُ اْل ُ
موُر )(109 ض وَإ َِلى الل ّهِ ت ُْر َ
ما ِفي الْر ِ
ت وَ َ
ماَوا ِ
س َ وَل ِل ّهِ َ
ما ِفي ال ّ
) (1/143
ْ
من ْك َ ِ
ر ن ال ْ ُ ن عَ ِ ف وَت َن ْهَوْ َ معُْرو ِ ن ِبال ْ َ مُرو َ س ت َأ ُ ت ِلل َّنا ِ ج ْ خرِ َ مة ٍ أ ُ ْ ُ
خي َْر أ ّ م َ ك ُن ْت ُ ْ
َ
ن
مُنو َ مؤْ ِ م ال ْ ُ من ْهُ ُ م ِ خي ًْرا ل َهُ ْ ن َ كا َ ب لَ َ ل ال ْك َِتا ِ ن أه ْ ُ م َ ن ِبالل ّهِ وَل َوْ آ َ مُنو َ وَت ُؤْ ِ
ُ ّ ُ ُ َ ّ ُ َ ْ َ
م
م ي ُوَلوك ُ قات ِلوك ْ ن يُ َ ذى وَإ ِ ْ م إ ِل أ ً ضّروك ْ ن يَ ُ ن ) (110ل ْ قو َ س ُ فا ِ م ال َ وَأك ْث َُرهُ ُ
اْل َدبار ث ُم َل ينصرون ) (111ضربت عَل َيهم الذ ّل ّ ُ َ
ن
م َ ل ِ حب ْ ٍ فوا إ ِّل ب ِ َ ق ُما ث ُ ِ ن َ ة أي ْ َ ِْ ُ ُ َِ ْ ُْ َ ُ َ َْ َ ّ
ة ذ َل ِكَ سكن َ ُ َ م ْ ْ
م ال َ ت عَلي ْهِ َُ ضرِب َ ْ ن اللهِ وَ ُ ّ م َ ب ِ ض ٍ س وََباُءوا ب ِغَ َ ن الّنا م َ ل ِ حب ْ ٍ الل ّهِ وَ َ
ِ َ
وا ص ْ ما عَ َ ك بِ َ حقّ ذ َل ِ َ ن اْل َن ْب َِياَء ب ِغَي ْرِ َ قت ُُلو َ ت الل ّهِ وَي َ ْ ن ب ِآ ََيا ِ فُرو َ كاُنوا ي َك ْ ُ م َ ب ِأن ّهُ ْ
ن )(112 دو َ كاُنوا ي َعْت َ ُ وَ َ
ْ
ف
معُْرو ِ ن ِبال ْ َ مُرو َ س ت َأ ُ ت ِ َللّنا ِ ج ْ خرِ َ مة ٍ أ ُ ْ ُ
خي َْر أ ّ م َ } } { 112 - 110ك ُن ْت ُ ْ
مخي ًْرا ل َهُ ْ ن َ كا َ ب لَ َ ل ال ْك َِتا ِ ن أه ْ ُ م َ ن ِبالل ّهِ وَل َوْ آ َ مُنو َ من ْك َرِ وَت ُؤْ ِ ن ال ْ ُ ن عَ ِ وَت َن ْهَوْ َ
ُ ُ َ ُ َ ْ ْ َ ْ
م
قات ِلوك ْ ن يُ َ ذى وَإ ِ ْ م ِإل أ ً ضّروك ْ ن يَ ُ ن*ل ْ قو َ س ُ فا ِ م ال َ ن وَأكث َُرهُ ُ مُنو َ مؤْ ِ م ال ُ من ْهُ ُ ِ
َ ّ َ ُ ّ
ل حب ْ ٍ فوا ِإل ب ِ َ ق ُما ث ُ ِ ن َ ة أي ْ َ م الذ ّل ُ ت عَلي ْهِ ُ ضرِب َ ْ ن* ُ صُرو َ م ل ي ُن ْ َ م الد َْباَر ث ُ ّ ي ُوَلوك ُ
ة َ
سكن َ ُ م ْ ْ
م ال َ ت عَلي ْهِ ُ َ ضرِب َ ْ ن اللهِ وَ ُ ّ م َ ب ِ ض ٍ س وََباُءوا ب ِغَ َ ن الل ّهِ وَ َ
ن الّنا ِ م َ ل ِ حب ْ ٍ َ م َ ِ
وا
ص ْما عَ َ ك بِ َ حقّ ذ َل ِ َ ن الن ْب َِياَء ب ِغَي ْرِ َ قت ُلو َ ُ ت اللهِ وَي َ ْ ّ ن ِبآَيا ِ فُرو َ كاُنوا ي َك ْ ُ م َ ك ب ِأن ّهُ ْ ذ َل ِ َ
ن{. دو َ كاُنوا ي َعْت َ ُ وَ َ
يمدح تعالى هذه المة ويخبر أنها خير المم التي أخرجها الله للناس ،وذلك
بتكميلهم لنفسهم باليمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به ،وبتكميلهم
لغيرهم بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى
الله وجهادهم على ذلك وبذل المستطاع في ردهم عن ضللهم وغيهم
وعصيانهم ،فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس ،لما كانت الية السابقة
وهي قوله } :ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف
وينهون عن المنكر { أمرا منه تعالى لهذه المة ،والمر قد يمتثله المأمور
ويقوم به ،وقد ل يقوم به ،أخبر في هذه الية أن المة قد قامت بما أمرها
الله بالقيام به ،وامتثلت أمر ربها واستحقت الفضل على سائر المم } ولو
آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم { وفي هذا من دعوته بلطف الخطاب ما
يدعوهم إلى اليمان ،ولكن لم يؤمن منهم إل قليل ،وأكثرهم الفاسقون
الخارجون عن طاعة الله المعادون لولياء الله بأنواع العداوة ،ولكن من
لطف الله بعباده المؤمنين أنه رد كيدهم في نحورهم ،فليس على
المؤمنين منهم ضرر في أديانهم ول أبدانهم ،وإنما غاية ما يصلون إليه من
الذى أذية الكلم التي ل سبيل إلى السلمة منها من كل معادي ،فلو
قاتلوا المؤمنين لولوا الدبار فرارا ثم تستمر هزيمتهم ويدوم ذلهم ول هم
ينصرون في وقت من الوقات ،ولهذا أخبر تعالى أنه عاقبهم بالذلة في
بواطنهم والمسكنة على ظواهرهم ،فل يستقرون ول يطمئنون } إل
بحبل { أي :عهد } من الله وحبل من الناس { فل يكون اليهود إل تحت
أحكام المسلمين وعهدهم ،تؤخذ منهم الجزية ويستذلون ،أو تحت أحكام
النصارى وقد } باءوا { مع ذلك } بغضب من الله { وهذا أعظم
العقوبات ،والسبب الذي أوصلهم إلى هذه الحال ذكره الله بقوله } :ذلك
بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله { التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى
الله عليه وسلم الموجبة لليقين واليمان ،فكفروا بها بغيا وعنادا
} ويقتلون النبياء بغير حق { أي :يقابلون أنبياء الله الذين يحسنون إليهم
أعظم إحسان بأشر مقابلة ،وهو القتل ،فهل بعد هذه الجراءة والجناية
شيء أعظم منها ،وذلك كله بسبب عصيانهم واعتدائهم ،فهو الذي جرأهم
على الكفر بالله وقتل أنبياء الله ،ثم قال تعالى:
) (1/143
) (1/143
) (1/144
) (1/144
م )(121
ميعٌ عَِلي ٌ
س ِ ل َوالل ّ ُ
ه َ عد َ ل ِل ْ ِ
قَتا ِ قا ِ
م َ
ن َ مؤْ ِ
مِني َ ن أ َهْل ِ َ
ك ت ُب َوّئُ ال ْ ُ م ْ وَإ ِذ ْ غَد َوْ َ
ت ِ
ل عد َ ل ِل ْ ِ
قَتا ِ قا ِ
م َ
ن َ مؤْ ِ
مِني َ ن أ َهْل ِ َ
ك ت ُب َوّئُ ال ْ ُ م ْ } } { 122 - 121وَإ ِذ ْ غَد َوْ َ
ت ِ
م{. ميعٌ عَِلي ٌ
س ِ َوالل ّ ُ
ه َ
هذه اليات نزلت في وقعة "أحد" وقصتها مشهورة في السير والتواريخ، ُ
ولعل الحكمة في ذكرها في هذا الموضع ،وأدخل في أثنائها وقعة "بدر"
لما أن الله تعالى قد وعد المؤمنين أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم ،ورد كيد
العداء عنهم ،وكان هذا حكما عاما ووعدا صادقا ل يتخلف مع التيان
بشرطه ،فذكر نموذجا من هذا في هاتين القصتين ،وأن الله نصر المؤمنين
في "بدر" لما صبروا واتقوا ،وأدال عليهم العدو لما صدر من بعضهم من
الخلل بالتقوى ما صدر ،ومن حكمة الجمع بين القصتين أن الله يحب من
عباده إذا أصابهم ما يكرهون أن يتذكروا ما يحبون ،فيخف عنهم البلء
ويشكروا الله على نعمه العظيمة التي إذا قوبلت بما ينالهم من المكروه
الذي هو في الحقيقة خير لهم ،كان المكروه بالنسبة إلى المحبوب نزرا
يسيرا ،وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة في قوله } أولما أصابتكم مصيبة
قد أصبتم مثليها { وحاصل قضية "أحد" وإجمالها أن المشركين لما رجع
فلهم من "بدر" إلى مكة ،وذلك في سنة اثنتين من الهجرة ،استعدوا بكل
ما يقدرون عليه من العدد بالموال والرجال والعدد ،حتى اجتمع عندهم
من ذلك ما جزموا بحصول غرضهم وشفاء غيظهم ،ثم وجهوا من مكة
للمدينة في ثلثة آلف مقاتل ،حتى نزلوا قرب المدينة ،فخرج النبي صلى
الله عليه وسلم إليهم هو وأصحابه بعد المراجعة والمشاورة حتى استقر
رأيهم على الخروج ،وخرج في ألف ،فلما ساروا قليل رجع عبد الله بن أبي
المنافق بثلث الجيش ممن هو على مثل طريقته ،وهمت طائفتان من
المؤمنين أن يرجعوا وهم بنو سلمة وبنو حارثة فثبتهم الله ،فلما وصلوا
إلى أحد رتبهم النبي صلى الله عليه وسلم في مواضعهم وأسندوا
ظهورهم إلى أحد ،ورتب النبي صلى الله عليه وسلم خمسين رجل من
أصحابه في خلة في جبل "أحد" وأمرهم أن يلزموا مكانهم ول يبرحوا منه
ليأمنوا أن يأتيهم أحد من ظهورهم ،فلما التقى المسلمون والمشركون
انهزم المشركون هزيمة قبيحة وخلفوا معسكرهم خلف ظهورهم ،واتبعهم
المسلمون يقتلون ويأسرون ،فلما رآهم الرماة الذين جعلهم النبي صلى
الله عليه وسلم في الجبل ،قال بعضهم لبعض :الغنيمة الغنيمة ،ما يقعدنا
هاهنا والمشركون قد انهزموا ،ووعظهم أميرهم عبد الله بن جبير عن
المعصية فلم يلتفتوا إليه ،فلما أخلوا موضعهم فلم يبق فيه إل نفر يسير،
منهم أميرهم عبد الله بن جبير ،جاءت خيل المشركين من ذلك الموضع
واستدبرت المسلمين وقاتلت ساقتهم ،فجال المسلمون جولة ابتلهم الله
بها وكفر بها عنهم ،وأذاقهم فيها عقوبة المخالفة ،فحصل ما حصل من
قتل من قتل منهم ،ثم إنهم انحازوا إلى رأس جبل "أحد" وكف الله عنهم
أيدي المشركين وانكفأوا إلى بلدهم ،ودخل رسول الله صلى الله عليه
وسلم وأصحابه المدينة قال الله تعالى } وإذ غدوت من أهلك { والغدو
هاهنا مطلق الخروج ،ليس المراد به الخروج في أول النهار ،لن النبي
صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يخرجوا إل بعدما صلوا الجمعة } تبوئ
المؤمنين مقاعد للقتال { أي :تنزلهم وترتبهم كل في مقعده اللئق به،
وفيها أعظم مدح للنبي صلى الله عليه وسلم حيث هو الذي يباشر
تدبيرهم وإقامتهم في مقاعد القتال ،وما ذاك إل لكمال علمه ورأيه،
وسداد نظره وعلو همته ،حيث يباشر هذه المور بنفسه وشجاعته الكاملة
صلوات الله وسلمه عليه } والله سميع { لجميع المسموعات ،ومنه أنه
يسمع ما يقول المؤمنون والمنافقون كل يتكلم بحسب ما في قلبه
} عليم { بنيات العبيد ،فيجازيهم عليها أتم الجزاء ،وأيضا فالله سميع عليم
بكم ،يكلؤكم ،ويتولى تدبير أموركم ،ويؤيدكم بنصره كما قال تعالى
لموسى وهارون } إنني معكما أسمع وأرى { .
) (1/145
فتان منك ُ َ
ما وَعََلى الل ّهِ فَل ْي َت َوَك ّ ِ
ل شَل َوالل ّ ُ
ه وَل ِي ّهُ َ ف َ
ن تَ ْ
مأ ْ ت َ
طائ ِ َ َ ِ ِ ْ ْ م ْ إ ِذ ْ هَ ّ
ن )(122 مؤْ ِ
مُنو َ ال ْ ُ
فتان منك ُ َ
لما وَعََلى الل ّهِ فَل ْي َت َوَك ّ ِ شل َوالل ّ ُ
ه وَل ِي ّهُ َ ف َ
ن تَ ْ
مأ ْ ت َ
طائ ِ َ َ ِ ِ ْ ْ م ْ} إ ِذ ْ هَ ّ
ن{. مُنو َمؤْ ِ ال ْ ُ
ومن لطفه بهم وإحسانه إليهم أنه ،لما } همت طائفتان { من المؤمنين
بالفشل وهم بنو سلمة وبنو حارثة كما تقدم ثبتهما الله تعالى نعمة عليهما
وعلى سائر المؤمنين ،فلهذا قال ] ص } [ 146والله وليهما { أي :بوليته
الخاصة ،التي هي لطفه بأوليائه ،وتوفيقهم لما فيه صلحهم وعصمتهم عما
فيه مضرتهم ،فمن توليه لهما أنهما لما هما بهذه المعصية العظيمة وهي
الفشل والفرار عن رسول الله عصمهما ،لما معهما من اليمان كما قال
تعالى } :الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور { ثم قال
} وعلى الله فليتوكل المؤمنون { ففيها المر بالتوكل الذي هو اعتماد
القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار ،مع الثقة بالله ،وأنه
بحسب إيمان العبد يكون توكله ،وأن المؤمنين أولى بالتوكل على الله من
غيرهم ،وخصوصا في مواطن الشدة والقتال ،فإنهم مضطرون إلى التوكل
والستعانة بربهم والستنصار له ،والتبري من حولهم وقوتهم ،والعتماد
على حول الله وقوته ،فبذلك ينصرهم ويدفع عنهم البليا والمحن ،ثم قال
تعالى:
) (1/145
ه ل َعَل ّك ُ ْ
م قوا الل ّ َة َفات ّ ُم أ َذِل ّ ٌ َ
م الل ّ ُ
ه ب ِب َد ْرٍ وَأن ْت ُ ْ صَرك ُ ُ } } { 126 - 123وَل َ َ
قد ْ ن َ َ
ل ل ِل ْمؤْمِنين أ َل َن يك ْفيك ُ َ
ن
م َ
ف ِ م ب َِثلث َةِ آل ٍ م َرب ّك ُ ْ مد ّك ُ ْن يُ ِ مأ ْْ َ ِ َ ْ ُ ِ َ قو ُ شك ُُرو َ
ن * إ ِذ ْ ت َ ُ تَ ْ
ْ
ممدِد ْك ُ ْ م هَ َ
ذا ي ُ ْ ن فَوْرِهِ ْ م ْ م ِ قوا وَي َأُتوك ُ ْ صب ُِروا وَت َت ّ ُ
ن تَ ْ ن * ب ََلى إ ِ ْ ملئ ِك َةِ ُ
من َْزِلي َ ال ْ َ
م شَرى ل َك ُ ْ ه ِإل ب ُ ْ ه الل ّ ُجعَل َ ُما َ ن * وَ َ مي َسوّ ِ م َ ملئ ِك َةِ ُ ن ال ْ َم َف ِ سةِ آل ٍ م َ خ ْ م بِ َ َرب ّك ُ ْ
كيم ِ { . ح ِزيزِ ال ْ َ عن ْدِ الل ّهِ ال ْعَ ِ
ن ِ م ْ صُر ِإل ِ ما الن ّ ْ ن قُُلوب ُك ُ ْ
م ب ِهِ وَ َ وَل ِت َط ْ َ
مئ ِ ّ
وهذا امتنان منه على عباده المؤمنين ،وتذكير لهم بما نصرهم به يوم بدر
عددهم ،وكانت عددهم مع كثرة عدد عدوهم و ُ عددهم و ُ وهم أذلة في قلة َ
وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة ،خرج النبي صلى الله عليه وسلم
من المدينة بثلث مئة وبضعة عشر من أصحابه ،ولم يكن معهم إل سبعون
بعيرا وفرسان لطلب عير لقريش قدمت من الشام ،فسمع به المشركون
فتجهزوا من مكة لفكاك عيرهم ،وخرجوا في زهاء ألف مقاتل مع العدة
الكاملة والسلح العام والخيل الكثيرة ،فالتقوا هم والمسلمون في ماء
يقال له "بدر" بين مكة والمدينة فاقتتلوا ،ونصر الله المسلمين نصرا
عظيما ،فقتلوا من المشركين سبعين قتيل من صناديد المشركين
وشجعانهم ،وأسروا سبعين ،واحتووا على معسكرهم ستأتي -إن شاء الله
-القصة في سورة النفال ،فإن ذلك موضعها ،ولكن الله تعالى هنا أتى بها
ليتذكر بها المؤمنون ليتقوا ربهم ويشكروه ،فلهذا قال } فاتقوا الله لعلكم
تشكرون { لن من اتقى ربه فقد شكره ،ومن ترك التقوى فلم يشكره،
إذ تقول يا محمد للمؤمنين يوم بدر مبشرا لهم بالنصر.
} ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلثة آلف من الملئكة منزلين بلى إن
تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا { أي :من مقصدهم هذا ،وهو وقعة
بدر } يمددكم ربكم بخمسة آلف من الملئكة مسومين { أي :معلمين
بعلمة الشجعان ،فشرط الله لمدادهم ثلثة شروط :الصبر ،والتقوى،
وإتيان المشركين من فورهم هذا ،فهذا الوعد بإنزال الملئكة المذكورين
وإمدادهم بهم ،وأما وعد النصر وقمع كيد العداء فشرط الله له الشرطين
الولين كما تقدم في قوله } :وإن تصبروا وتتقوا ل يضركم كيدهم
شيئا { .
} وما جعله الله { أي :إمداده لكم بالملئكة } إل بشرى { تستبشرون بها
وتفرحون } ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إل من عند الله { فل تعتمدوا
على ما معكم من السباب ،بل السباب فيها طمأنينة لقلوبكم ،وأما النصر
الحقيقي الذي ل معارض له ،فهو مشيئة الله لنصر من يشاء من عباده،
فإنه إن شاء نصر من معه السباب كما هي سنته في خلقه ،وإن شاء نصر
المستضعفين الذلين ليبين لعباده أن المر كله بيديه ،ومرجع المور إليه،
ولهذا قال } عند الله العزيز { فل يمتنع عليه مخلوق ،بل الخلق كلهم
أذلء مدبرون تحت تدبيره وقهره } الحكيم { الذي يضع الشياء مواضعها،
وله الحكمة في إدالة الكفار في بعض الوقات على المسلمين إدالة غير
مستقرة ،قال تعالى } :ذلك ولو يشاء الله لنتصر منهم ولكن ليبلو
بعضكم ببعض { .
) (1/146
َ
ن )(127
خائ ِِبي َ
قل ُِبوا َ فُروا أوْ ي َك ْب ِت َهُ ْ
م فَي َن ْ َ ن كَ َ ن ال ّ ِ
ذي َ قط َعَ ط ََرًفا ِ
م َ ل ِي َ ْ
َ
ن{.
خائ ِِبي َ
قل ُِبوا َ فُروا أوْ ي َك ْب ِت َهُ ْ
م فَي َن ْ َ ن كَ َ ن ال ّ ِ
ذي َ قط َعَ ط ََرًفا ِ
م َ } } { 127ل ِي َ ْ
) (1/146
) (1/146
) (1/147
تعد ّ ْ ض أُ ِ َ
ت َواْلْر ُ وا ُ م َس َضَها ال ّ جن ّةٍ عَْر ُ م وَ َ ن َرب ّك ُ ْ م ْ فَرةٍ ِ مغ ْ ِعوا إ َِلى َ سارِ ُ وَ َ
ن ال ْغَي ْ َ
ظ مي َ كاظ ِ ِ ضّراِء َوال ْ َ سّراِء َوال ّ ن ِفي ال ّ قو َ ف ُن ي ُن ْ ِ ذي َن ) (133ال ّ ِ قي َ مت ّ ِل ِل ْ ُ
ة
ش ً ح َذا فَعَُلوا َفا ِ ن إِ َ ذي َ ن )َ (134وال ّ ِ سِني َ ح ِ م ْ ب ال ْ ُ ح ّ ه يُ ِ س َوالل ّ ُ ن الّنا ِ عَ ِ َوال َْعاِفي َ
ن
َ َ
ب إ ِّل الل ّ ُ
ه فُر الذ ُّنو َ ن ي َغْ ِ م ْ م وَ َ فُروا ل ِذ ُُنوب ِهِ ْ ست َغْ َ ه َفا ْ م ذ َك َُروا الل ّ َ سه ُ ْ ف َ موا أن ْ ُ أوْ ظ َل َ ُ
ن
م ْفَرةٌ ِ مغ ْ ِم َ جَزاؤُهُ ْ ك َ ن )ُ (135أول َئ ِ َ مو َ م ي َعْل َ ُما فَعَُلوا وَهُ ْ صّروا عََلى َ م يُ ِ وَل َ ْ
َ َ
ن )(136 مِلي َ جُر ال َْعا ِ مأ ْ ن ِفيَها وَن ِعْ َ دي َ خال ِ ِ حت َِها اْلن َْهاُر َ ن تَ ْ م ْري ِ ج ِ ت تَ ْ جّنا ٌ م وَ َ َرب ّهِ ْ
ت
عد ّ ْ ض أُ ِ ت َوالْر ُ ماَوا ُ س َضَها ال ّ جن ّةٍ عَْر ُ م وَ َ ن َرب ّك ُ ْ م ْ فَرةٍ ِ مغ ْ ِ عوا إ َِلى َ سارِ ُ } وَ َ
ن ْ َ
ن الغَي ْظ َوالَعاِفي َ ْ مي َ كاظ ِ ِ ْ
ضّراِء َوال َ سّراِء َوال ّ ن ِفي ال ّ قو َف ُ ن ي ُن ْ ِ ذي َ ّ
ن * ال ِ قي َ مت ّ ِل ِل ْ ُ
ش ً َ
موا ة أوْ ظ َل َ ُ ح َ ذا فَعَُلوا َفا ِ ن إِ َذي َ ن * َوال ّ ِ سِني َ ح ِ م ْ ب ال ْ ُ
ح ّ ه يُ ِ س َوالل ّ ُ ن الّنا ِ َعَ ِ
مه وَل َ ْ ب ِإل الل ّ ُ فُر الذ ُّنو َ ن ي َغْ ِ م ْم وَ َ فُروا ل ِذ ُُنوب ِهِ ْ ست َغْ َ ه َفا ْ م ذ َك َُروا الل ّ َ سهُ ْف َ أن ْ ُ
ُ
ن * أول َئ ِ َ
م
ن َرب ّهِ ْ م ْ فَرةٌ ِ مغ ْ ِم َ جَزاؤُهُ ْ ك َ مو َ م ي َعْل َ ُ ما فَعَُلوا وَهُ ْ صّروا عََلى َ يُ ِ
َ
ن{. مِلي َ جُر ال َْعا ِ مأ ْ ن ِفيَها وَن ِعْ َ دي َ خال ِ ِ حت َِها الن َْهاُر َ ن تَ ْ م ْ ري ِ ج ِت تَ ْ جّنا ٌ وَ َ
ثم أمرهم تعالى بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها
السماوات والرض ،فكيف بطولها ،التي أعدها الله للمتقين ،فهم أهلها
وأعمال التقوى هي الموصلة إليها ،ثم وصف المتقين وأعمالهم ،فقال:
} الذين ينفقون في السراء والضراء { أي :في حال عسرهم ويسرهم،
إن أيسروا أكثروا من النفقة ،وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئا
ولو قل.
} والكاظمين الغيظ { أي :إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم
-وهو امتلء قلوبهم من الحنق ،الموجب للنتقام بالقول والفعل ،-هؤلء ل
يعملون بمقتضى الطباع البشرية ،بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ،
ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم.
} والعافين عن الناس { يدخل في العفو عن الناس ،العفو عن كل من
أساء إليك بقول أو فعل ،والعفو أبلغ من الكظم ،لن العفو ترك المؤاخذة
مع السماحة عن المسيء ،وهذا إنما يكون ممن تحلى بالخلق الجميلة،
وتخلى عن الخلق الرذيلة ،وممن تاجر مع الله ،وعفا عن عباد الله رحمة
بهم ،وإحسانا إليهم ،وكراهة لحصول الشر عليهم ،وليعفو الله عنه ،ويكون
أجره على ربه الكريم ،ل على العبد الفقير ،كما قال تعالى } :فمن عفا
وأصلح فأجره على الله { .
ثم ذكر حالة أعم من غيرها ،وأحسن وأعلى وأجل ،وهي الحسان ،فقال
]تعالى[ } :والله يحب المحسنين { والحسان نوعان :الحسان في عبادة
الخالق] .والحسان إلى المخلوق ،فالحسان في عبادة ] ص [ 149
الخالق[. (1) .
فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله" :أن تعبد الله كأنك تراه ،فإن
لم تكن تراه فإنه يراك"
وأما الحسان إلى المخلوق ،فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم ،ودفع
الشر الديني والدنيوي عنهم ،فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف ،ونهيهم
عن المنكر ،وتعليم جاهلهم ،ووعظ غافلهم ،والنصيحة لعامتهم وخاصتهم،
والسعي في جمع كلمتهم ،وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة
إليهم ،على اختلف أحوالهم وتباين أوصافهم ،فيدخل في ذلك بذل الندى
وكف الذى ،واحتمال الذى ،كما وصف الله به المتقين في هذه اليات،
فمن قام بهذه المور ،فقد قام بحق الله وحق عبيده.
ثم ذكر اعتذارهم لربهم من جناياتهم وذنوبهم ،فقال } :والذين إذا فعلوا
فاحشة أو ظلموا أنفسهم { أي :صدر منهم أعمال ]سيئة[ ) (2كبيرة ،أو
ما دون ذلك ،بادروا إلى التوبة والستغفار ،وذكروا ربهم ،وما توعد به
العاصين ووعد به المتقين ،فسألوه المغفرة لذنوبهم ،والستر لعيوبهم ،مع
إقلعهم عنها وندمهم عليها ،فلهذا قال } :ولم يصروا على ما فعلوا وهم
يعلمون { .
} أولئك { الموصوفون بتلك الصفات } جزاؤهم مغفرة من ربهم { تزيل
عنهم كل محذور } وجنات تجري من تحتها النهار { فيها من النعيم
المقيم ،والبهجة والسرور والبهاء ،والخير والسرور ،والقصور والمنازل
النيقة العاليات ،والشجار المثمرة البهية ،والنهار الجاريات في تلك
المساكن الطيبات } ،خالدين فيها { ل يحولون عنها ،ول يبغون بها بدل ول
يغير ما هم فيه من النعيم } ،ونعم أجر العاملين { عملوا لله قليل فأجروا
كثيرا فـ "عند الصباح يحمد القوم السرى" وعند الجزاء يجد العامل أجره
كامل موفرا.
وهذه اليات الكريمات من أدلة أهل السنة والجماعة ،على أن العمال
تدخل في اليمان ،خلفا للمرجئة ،ووجه الدللة إنما يتم بذكر الية ،التي
في سورة الحديد ،نظير هذه اليات ،وهي قوله تعالى } :سابقوا إلى
مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والرض أعدت للذين آمنوا
بالله ورسله { فلم يذكر فيها إل لفظ اليمان به وبرسله ،وهنا قال:
} أعدت للمتقين { ثم وصف المتقين بهذه العمال المالية والبدنية ،فدل
على أن هؤلء المتقين الموصوفين بهذه الصفات هم أولئك المؤمنون.
__________
) (1زيادة من هامش ب.
) (2زيادة من هامش ب.
) (1/148
ن فَ ِ
سيُروا ِفي سن َ ٌ
م ُ ن قَب ْل ِك ُ ْ
م ْ ت ِخل َ ْ
ثم قال تعالى } { 138 - 137 } :قَد ْ َ
دىس وَهُ ًن ِللّنا ِ ذا ب ََيا ٌن * هَ َ ة ال ْ ُ
مك َذ ِّبي َ عاقِب َ ُ
ن َ ف َ
كا َ الْرض َفان ْ ُ
ظروا ك َي ْ َ ِ
ن{. قي َ ة ل ِل ْ ُ
مت ّ ِ عظ َ ٌ
موْ ِ
وَ َ
وهذه اليات الكريمات ،وما بعدها في قصة "أحد" يعزي تعالى عباده
المؤمنين ويسليهم ،ويخبرهم أنه مضى قبلهم أجيال وأمم كثيرة ،امتحنوا،
وابتلي المؤمنون منهم بقتال الكافرين ،فلم يزالوا في مداولة ومجاولة،
حتى جعل الله العاقبة للمتقين ،والنصر لعباده المؤمنين ،وآخر المر
حصلت الدولة على المكذبين ،وخذلهم الله بنصر رسله وأتباعهم.
} فسيروا في الرض { بأبدانكم وقلوبكم } فانظروا كيف كان عاقبة
المكذبين { فإنكم ل تجدونهم إل معذبين بأنواع العقوبات الدنيوية ،قد
خوت ديارهم ،وتبين لكل أحد خسارهم ،وذهب عزهم وملكهم ،وزال
بذخهم وفخرهم ،أفليس في هذا أعظم دليل ،وأكبر شاهد على صدق ما
جاءت به الرسل؟"
وحكمة الله التي يمتحن بها عباده ،ليبلوهم ويتبين صادقهم من كاذبهم،
ولهذا قال تعالى } :هذا بيان للناس { أي :دللة ظاهرة ،تبين للناس الحق
من الباطل ،وأهل السعادة من أهل الشقاوة ،وهو الشارة إلى ما أوقع
الله بالمكذبين.
} وهدى وموعظة للمتقين { لنهم هم المنتفعون باليات فتهديهم إلى
سبيل الرشاد ،وتعظهم وتزجرهم عن طريق الغي ،وأما باقي الناس فهي
بيان لهم ،تقوم ]به[ عليهم الحجة من الله ،ليهلك من هلك عن بينة.
ويحتمل أن الشارة في قوله } :هذا بيان للناس { للقرآن العظيم ،والذكر
الحكيم ،وأنه بيان للناس عموما ،وهدى وموعظة للمتقين خصوصا ،وكل
المعنيين حق.
) (1/149
َ
سك ُ ْ
م س ْ م َ ن يَ ْن ) (139إ ِ ْ مِني َمؤْ ِ م ُ ك ُن ْت ُ ْ نن إِ ْ م اْل َعْل َوْ َ حَزُنوا وَأن ْت ُ ُ وََل ت َهُِنوا وََل ت َ ْ
َ
م الل ّ ُ
ه س وَل ِي َعْل َ َن الّنا ِ داوِل َُها ب َي ْ َم نُ َاْلّيا ُ ك ه وَت ِل ْ َمث ْل ُ ُ
ح ِم قَْر ٌ س ال ْ َ
قوْ َ م ّ قد ْ َح فَ َقَْر ٌ
ب ال ّ َل ي ُ ِ َ
ن )(140 مي َ ظال ِ ِ ح ّ داَء َوالل ّ ُ
ه م ُ
شه َ َ من ْك ُ ْ خذ َ ِ مُنوا وَي َت ّ ِ
نآ َ ذي َال ّ ِ
َ
ن* مؤْ ِ
مِني َ م ُ ن ك ُن ْت ُ ْ
ن إِ ْ م العْل َوْ َ حَزُنوا وَأن ْت ُ ُ } َ } { 143 - 139ول ت َهُِنوا َول ت َ ْ
س ُ ْ
ه وَت ِل َ ُ
مث ْل ُ م قَْر ٌ س ال ْ َ ح فَ َ
م قَْر ٌ سك ُ ْ
ن الّنا ِ
داوِلَها ب َي ْ َ م نُ َك الّيا ُ ح ِ قوْ َ م ّ قد ْ َ س ْم َ ن يَ ْإِ ْ
ن{. مي َ ّ
ب الظال ِ ِ ح ّ ه ل يُ ِ ّ
داَء َوالل ُ م ُ
شه َ َ من ْك ُ ْخذ َ ِ مُنوا وَي َت ّ ِنآ َذي َ ّ
ه ال ِ ّ
م الل ُ َ
وَل ِي َعْل َ
يقول تعالى مشجعا ] ص [ 150لعباده المؤمنين ،ومقويا لعزائمهم
ومنهضا لهممهم } :ول تهنوا ول تحزنوا { أي :ول تهنوا وتضعفوا في
أبدانكم ،ول تحزنوا في قلوبكم ،عندما أصابتكم المصيبة ،وابتليتم بهذه
البلوى ،فإن الحزن في القلوب ،والوهن على البدان ،زيادة مصيبة عليكم،
وعون لعدوكم عليكم ،بل شجعوا قلوبكم وصبروها ،وادفعوا عنها الحزن
وتصلبوا على قتال عدوكم ،وذكر تعالى أنه ل ينبغي ول يليق بهم الوهن
والحزن ،وهم العلون في اليمان ،ورجاء نصر الله وثوابه ،فالمؤمن
المتيقن ما وعده الله من الثواب الدنيوي والخروي ل ينبغي منه ذلك،
ولهذا قال ]تعالى[ } :وأنتم العلون إن كنتم مؤمنين { .
ثم سلهم بما حصل لهم من الهزيمة ،وبّين الحكم العظيمة المترتبة على
ذلك ،فقال } :إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله { فأنتم
وإياهم قد تساويتم في القرح ،ولكنكم ترجون من الله ما ل يرجون كما
قال تعالى } :إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله
ما ل يرجون { .
ومن الحكم في ذلك أن هذه الدار يعطي الله منها المؤمن والكافر ،والبر
والفاجر ،فيداول الله اليام بين الناس ،يوم لهذه الطائفة ،ويوم للطائفة
الخرى؛ لن هذه الدار الدنيا منقضية فانية ،وهذا بخلف الدار الخرة ،فإنها
خالصة للذين آمنوا.
} وليعلم الله الذين آمنوا { هذا أيضا من الحكم أنه يبتلي الله عباده
بالهزيمة والبتلء ،ليتبين المؤمن من المنافق؛ لنه لو استمر النصر
للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في السلم من ل يريده ،فإذا حصل في
بعض الوقائع بعض أنواع البتلء ،تبين المؤمن حقيقة الذي يرغب في
السلم ،في الضراء والسراء ،واليسر والعسر ،ممن ليس كذلك.
} ويتخذ منكم شهداء { وهذا أيضا من بعض الحكم ،لن الشهادة عند الله
من أرفع المنازل ،ول سبيل لنيلها إل بما يحصل من وجود أسبابها ،فهذا
من رحمته بعباده المؤمنين ،أن قّيض لهم من السباب ما تكرهه النفوس،
لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم } ،والله ل يحب
الظالمين { الذين ظلموا أنفسهم ،وتقاعدوا عن القتال في سبيله ،وكأن
في هذا تعريضا بذم المنافقين ،وأنهم مبغضون لله ،ولهذا ثبطهم عن
القتال في سبيله.
} ولو أرادوا الخروج لعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل
اقعدوا مع القاعدين { .
) (1/149
) (1/150
مقل َب ْت ُ ْ
ل ان ْ َ ت أ َوْ قُت ِ َما َ ن َ
خل َت من قَبل ِه الرس ُ َ
ل أفَإ ِ ْ ل قَد ْ َ ْ ِ ْ ْ ِ ّ ُ سو ٌ مد ٌ إ ِّل َر ُ ح ّ م َ ما ُ وَ َ
هّ ّ َ َ ُ َ َ
زي الل ُ ج ِ سي َ ْشي ًْئا وَ َ ه َضّر الل َ ن يَ ُ قب َي ْهِ فَل ْ ب عَلى عَ ِ قل ِ ْ
ن ي َن ْ َ
م ْ م وَ َ قاب ِك ْعَلى أعْ َ
ً ّ ّ َ ما َ
ن
م ْ جل وَ َ مؤَ ّ ن اللهِ ك َِتاًبا ُ ت إ ِل ب ِإ ِذ ْ ِ مو َ ن تَ ُسأ ْ ف ٍ ن ل ِن َ ْ
كا َ ن ) (144وَ َ ري َ شاك ِ ِ ال ّ
َ ْ
زي ج ِ سن َ ْمن َْها وَ َ خَرةِ ن ُؤْت ِهِ ِ ب ال ِ وا َ ن ي ُرِد ْ ث َ َ
م ْ من َْها وَ َب الد ّن َْيا ن ُؤْت ِهِ ِ وا َ ي ُرِد ْ ث َ َ
ن )(145 ري َ شاك ِ ِ ال ّ
خل َت من قَبل ِه الرس ُ َ
ل أفَإ ِ ْ
ن ل قَد ْ َ ْ ِ ْ ْ ِ ّ ُ سو ٌ مد ٌ ِإل َر ُ ح ّ
م َ ما ُ } } { 145 - 144وَ َ
هّ َ َ َ َ ت أ َوْ قُت ِ َ
ضّر الل َ ن يَ ُ قب َي ْهِ فَل ْ
ب عَلى عَ ِ قل ِ ْن ي َن ْ َ م ْ م وَ َ ُ
قاب ِك ْم عَلى أعْ َ قل َب ْت ُ ْل ان ْ َ ما َ َ
ّ َ َ ّ
ن اللهِ ك َِتاًبا ت ِإل ب ِإ ِذ ْ ِ
مو َ ن تَ ُسأ ْ ف ٍ ن ل ِن َ ْ ما كا َ ن * وَ َ ري َ شاك ِ ِ ه ال ّ زي الل ُ ج ِ سي َ ْشي ًْئا وَ َ َ
خَرةِ ن ُؤْت ِهِ ِ
من َْها ب ال ِ وا َ ن ي ُرِد ْ ث َ َ م ْ من َْها وَ َ ب الد ّن َْيا ن ُؤْت ِهِ ِ وا َ ن ي ُرِد ْ ث َ َ م ْ جل وَ َ مؤَ ّ ُ
ن{. ِ َ ري ِ ك شاّ ال زي ِ ج
ْ َ نسوَ َ
يقول تعالى } :وما محمد إل رسول قد خلت من قبله الرسل { أي :ليس
ببدع من الرسل ،بل هو من جنس الرسل الذين قبله ،وظيفتهم تبليغ
رسالت ربهم وتنفيذ أوامره ،ليسوا بمخلدين ،وليس بقاؤهم شرطا في
امتثال أوامر الله ،بل الواجب على المم عبادة ربهم في كل وقت وبكل
حال ،ولهذا قال } :أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم { بترك ما
جاءكم من إيمان أو جهاد ،أو غير ذلك.
قال ]الله[ تعالى } :ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا { إنما
يضر نفسه ،وإل فالله تعالى غني عنه ،وسيقيم دينه ،ويعز عباده المؤمنين،
فلما وبخ تعالى من انقلب على عقبيه ،مدح من ثبت مع رسوله ،وامتثل
أمر ربه ،فقال } :وسيجزي الله الشاكرين { ] ص [ 151والشكر ل يكون
إل بالقيام بعبودية الله تعالى في كل حال.
وفي هذه الية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة ل
يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه ،فقد ُ رئيس ولو عظم ،وما ذاك
إل بالستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه،
إذا فقد أحدهم قام به غيره ،وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين
الله ،والجهاد عنه ،بحسب المكان ،ل يكون لهم قصد في رئيس دون
رئيس ،فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم ،وتستقيم أمورهم.
وفي هذه الية أيضا أعظم دليل على فضيلة الصديق الكبر أبي بكر،
وأصحابه الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لنهم
هم سادات الشاكرين.
ثم أخبر تعالى أن النفوس جميعها متعلقة بآجالها بإذن الله وقدره وقضائه،
فمن حّتم عليه بالقدر أن يموت ،مات ولو بغير سبب ،ومن أراد بقاءه ،فلو
أتى ) (1من السباب كل سبب ،لم يضره ذلك قبل بلوغ أجله ،وذلك أن
الله قضاه وقدره وكتبه إلى أجل مسمى } :إذا جاء أجلهم فل يستأخرون
ساعة ول يستقدمون { .
ثم أخبر تعالى أنه يعطي الناس من ثواب الدنيا والخرة ما تعلقت به
إراداتهم ،فقال } :ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الخرة
نؤته منها { .
قال الله تعالى } :كل نمد ّ هؤلء وهؤلء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك
محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللخرة أكبر درجات وأكبر
تفضيل { .
} وسنجزي الشاكرين { ولم يذكر جزاءهم ليدل ذلك على كثرته وعظمته،
وليعلم أن الجزاء على قدر الشكر ،قلة وكثرة وحسنا.
__________
) (1في ب :فلو وقع.
) (1/150
َ َ
ل الل ّ ِ
ه سِبي ِ م ِفي َ صاب َهُ ْ ما أ َ ما وَهَُنوا ل ِ َ ن ك َِثيٌر فَ َ ه رِب ّّيو َ معَ ُ ل َ ي َقات َ َ ن ن َب ِ ّ م ْ ن ِ وَك َأي ّ ْ
م إ ِّل ن قَوْل َهُ ْ كا َما َ ن ) (146وَ َ ري َ صاب ِ َ ِب ال ّ ح ّ ه يُ ِ كاُنوا َوالل ّ ُ ست َ َ ما ا ْ فوا وَ َ ضعُ ُ ما َ وَ َ
َ ْ َ َ َ َ ْ ُ َ َ
صْرَنا عَلى مَنا َوان ْ ُ دا َ ت أق َ مرَِنا وَثب ّ ْ سَرافَنا ِفي أ ْ فْر لَنا ذ ُُنوب ََنا وَإ ِ ْ ن قالوا َرب َّنا اغ ِ أ ْ
ب اْل َ ِ َ
خَرةِ َوالل ّ ُ
ه وا ِ ن ثَ َ س َ ح ْ ب الد ّن َْيا وَ ُ وا َ ه ثَ َ م الل ّ ُ ن ) (147فَآَتاهُ ُ ري َ كافِ ِ قوْم ِ ال ْ َ ال ْ َ
ن )(148 سِني َ ح ِ م ْ ب ال ْ ُ ح ّ يُ ِ
َ
ما
ما وَهَُنوا ل ِ َ ن ك َِثيٌر فَ َ ه رِب ّّيو َ معَ ُ ل َ ي َقات َ َ ن ن َب ِ ّ م ْ ن ِ } } { 148 - 146وَك َأي ّ ْ
َ
مان * وَ َ ري َ ِ صاب ِ ب ال ّ ح ّ ه يُ ِ كاُنوا َوالل ّ ُ ست َ َ ما ا ْ فوا وَ َ ضعُ ُ ما َ ل الل ّهِ وَ َ سِبي ِ م ِفي َ صاب َهُ ْ أ َ
َ َ َ
مَنا
دا َ ت أق ْ َ مرَِنا وَث َب ّ ْ سَرافََنا ِفي أ ْ فْر ل ََنا ذ ُُنوب ََنا وَإ ِ ْ ن َقاُلوا َرب َّنا اغْ ِ م ِإل أ ْ ن قَوْل َهُ ْ كا َ َ
ب
وا ِ ن ثَ َ س َح ْ ب الد ّن َْيا وَ ُ وا َ ه ثَ َ م الل ّ ُ ن * َفآَتاهُ ُ ري َكافِ ِ قوْم ِ ال ْ َ صْرَنا عََلى ال ْ َ َوان ْ ُ
ن{. سِني َ ح ِ م ْ ْ
ب ال ُ ح ّ ه يُ ِ ّ
خَرةِ َوالل ُ ال ِ
هذا تسلية للمؤمنين ،وحث على القتداء بهم ،والفعل كفعلهم ،وأن هذا
أمر قد كان متقدما ،لم تزل سنة الله جارية بذلك ،فقال } :وكأين من نبي
{ أي :وكم من نبي } قاتل معه ربيون كثير { أي :جماعات كثيرون من
أتباعهم ،الذين قد ربتهم النبياء باليمان والعمال الصالحة ،فأصابهم قتل
وجراح وغير ذلك.
} فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا { أي :ما
ضعفت قلوبهم ،ول وهنت أبدانهم ،ول استكانوا ،أي :ذلوا لعدوهم ،بل
صبروا وثبتوا ،وشجعوا أنفسهم ،ولهذا قال } :والله يحب الصابرين { .
ثم ذكر قولهم واستنصارهم لربهم ،فقال } :وما كان قولهم { أي :في تلك
المواطن الصعبة } إل أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا {
والسراف :هو مجاوزة الحد إلى ما حرم ،علموا أن الذنوب والسراف من
أعظم أسباب الخذلن ،وأن التخلي منها من أسباب النصر ،فسألوا ربهم
مغفرتها.
ثم إنهم لم يتكلوا على ما بذلوا جهدهم به من الصبر ،بل اعتمدوا على
الله ،وسألوه أن يثبت أقدامهم عند ملقاة العداء الكافرين ،وأن ينصرهم
عليهم ،فجمعوا بين الصبر وترك ضده ،والتوبة والستغفار ،والستنصار
بربهم ،ل جرم أن الله نصرهم ،وجعل لهم العاقبة في الدنيا والخرة ،ولهذا
حسن قال } :فآتاهم الله ثواب الدنيا { من النصر والظفر والغنيمة } ،و ُ
ثواب الخرة { وهو الفوز برضا ربهم ،والنعيم المقيم الذي قد سلم من
جميع المنكدات ،وما ذاك إل أنهم أحسنوا له العمال ،فجازاهم بأحسن
الجزاء ،فلهذا قال } :والله يحب المحسنين { في عبادة الخالق ومعاملة
الخلق ،ومن الحسان أن يفعل عند جهاد العداء ،كفعل هؤلء الموصوفين
) (1ثم قال تعالى:
__________
) (1في ب" :المؤمنين".
) (1/151
م فَت َن ْ َ
قل ُِبوا م عََلى أ َعْ َ
قاب ِك ُ ْ دوك ُ ْ ن كَ َ
فُروا ي َُر ّ ذي َ طيُعوا ال ّ ِ ن تُ ِ مُنوا إ ِ ْ ذي َ
نآ َ
َ
َيا أي َّها ال ّ ِ َ
قي ِفي سن ُل ْ ِ
ن )َ (150 ري َ ص ِخي ُْر الّنا ِم وَهُوَ َ موَْلك ُ ْه َ ل الل ّ ُ ن ) (149ب َ ِ ري َ س ِخا ِ َ
سل ْ َ َ
طاًنا ل ب ِهِ ُ م ي ُن َّز ْما ل َ ْكوا ِبالل ّهِ َ شَر ُ ما أ ْ ب بِ َفُروا الّرعْ َ ن كَ َ
ذي َب ال ّ ِ قُُلو ْ ِ
ن )(151 مي َظال ِ ِ وى ال ّ مث ْ َس َ م الّناُر وَب ِئ ْ َ مأَواهُ ُ وَ َ
م عََلى َ
دوك ُ ْ فُروا ي َُر ّ ن كَ َ ذي َطيُعوا ال ّ ِ ن تُ ِ مُنوا إ ِ ْ نآ َ ذي َ } َ } { 151 - 149يا أي َّها ال ّ ِ
قي سن ُل ْ ِ
ن* َ ري َ
ص ِخي ُْر الّنا ِ م وَهُوَ َ ولك ُ ْ م ْ
ه َ ل الل ّ ُ ن * بَ ِ ري َ ِ س
خا ِ قل ُِبوا َم فَت َن ْ َ أ َعْ َ
قاب ِك ُ ْ
طاًنا سل ْ َل ب ِهِ ُ م ي ُن َّز ْما ل َ ْكوا ِبالل ّهِ َ شَر ُ ما أ َ ْ ب بِ َ فُروا الّرعْ َ ن كَ َذي َب ال ّ ِ ِفي ْ قُُلو ِ
ن{. مي َ ظال ِ ِوى ال ّ مث ْ َ س َم الّناُر وَب ِئ ْ َ مأَواهُ ُ وَ َ
وهذا نهي من الله للمؤمنين أن يطيعوا الكافرين من المنافقين
والمشركين ،فإنهم إن أطاعوهم لم يريدوا لهم إل الشر ،وهم ]قصدهم[ )
(1ردهم إلى الكفر الذي عاقبته الخيبة والخسران.
ثم أخبر أنه مولهم وناصرهم ،ففيه إخبار لهم بذلك ،وبشارة بأنه سيتولى
أمورهم بلطفه ،ويعصمهم من أنواع الشرور.
وفي ضمن ذلك الحث لهم على اتخاذه وحده وليا وناصرا من دون كل
أحد ،فمن وليته ونصره لهم أنه وعدهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم من
الكافرين الرعب ،وهو الخوف العظيم الذي يمنعهم من كثير من
مقاصدهم ،وقد فعل تعالى.
وذلك أن المشركين -بعدما انصرفوا من وقعة "أحد" -تشاوروا بينهم،
وقالوا :كيف ننصرف ،بعد أن قتلنا منهم من قتلنا ،وهزمناهم ولما
نستأصلهم؟ فهموا بذلك ،فألقى الله الرعب في قلوبهم ،فانصرفوا خائبين،
ول شك أن هذا من أعظم النصر ،لنه قد تقدم أن نصر الله لعباده
المؤمنين ل يخرج عن أحد أمرين :إما أن يقطع ] ص [ 152طرفا من
الذين كفروا ،أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ،وهذا من الثاني.
ثم ذكر السبب الموجب للقاء الرعب في قلوب الكافرين ،فقال } :بما
أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا { أي :ذلك بسبب ما اتخذوا من دونه
من النداد والصنام ،التي اتخذوها على حسب أهوائهم وإرادتهم الفاسدة،
من غير حجة ول برهان ،وانقطعوا من ولية الواحد الرحمن ،فمن ثم كان
المشرك مرعوبا من المؤمنين ،ل يعتمد على ركن وثيق ،وليس له ملجأ
عند كل شدة وضيق ،هذا حاله في الدنيا ،وأما في الخرة فأشد وأعظم،
ولهذا قال } :ومأواهم النار { أي :مستقرهم الذي يأوون إليه وليس لهم
عنها خروج } ،وبئس مثوى الظالمين { بسبب ظلمهم وعدوانهم صارت
النار مثواهم.
__________
) (1زيادة من هامش ب.
) (1/151
شل ْت ُ ْ
م ذا فَ ِ حّتى إ ِ َ م ب ِإ ِذ ْن ِهِ َ سون َهُ ْ ح ّ ه وَعْد َهُ إ ِذ ْ ت َ ُم الل ّ ُصد َقَك ُ ُ
قد ْ َ } } { 152وَل َ َ
َ
ريد ُ ن يُ ِ
م ْ م َ من ْك ُ ْ ن ِحّبو َ ما ت ُ ِم َ ما أَراك ُ ْ ن ب َعْدِ َم ْ م ِصي ْت ُ ْ
مرِ وَعَ َ م ِفي ال ْ وَت ََناَزعْت ُ ْ
م ُ
فا عَن ْك ْ قد ْ عَ َ َ
م وَل َ ُ
م ل ِي َب ْت َل ِي َك ْم عَن ْهُ ْ ُ
صَرفَك ْ م َ خَرةَ ث ُ ّ ريد ُ ال ِ
ن يُ ِ م ْ م َ ُ
من ْك ْالد ّن َْيا وَ ِ
ن{. مِني َمؤْ ِ ْ َ
ل عَلى ال ُ ذو فَ ْ
ض ٍ ه َُوالل ّ ُ
أي } :ولقد صدقكم الله وعده { بالنصر ،فنصركم عليهم ،حتى ولوكم
أكتافهم ،وطفقتم فيهم قتل حتى صرتم سببا لنفسكم ،وعونا لعدائكم
عليكم ،فلما حصل منكم الفشل وهو الضعف والخور } وتنازعتم في المر
{ الذي فيه ترك أمر الله بالئتلف وعدم الختلف ،فاختلفتم ،فمن قائل
نقيم في مركزنا الذي جعلنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم ،ومن قائل:
ما مقامنا فيه وقد انهزم العدو ،ولم يبق محذور ،فعصيتم الرسول ،وتركتم
أمره من بعد ما أراكم الله ما تحبون وهو انخذال أعدائكم؛ لن الواجب
على من أنعم الله عليه بما أحب ،أعظم من غيره.
صا ،وفي غيرها عموما ،امتثال أمر الله فالواجب في هذه الحال خصو ً
ورسوله.
} منكم من يريد الدنيا { وهم الذين أوجب لهم ذلك ما أوجب } ،ومنكم
من يريد الخرة { وهم الذين لزموا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم
وثبتوا حيث أمروا.
} ثم صرفكم عنهم { أي :بعدما وجدت هذه المور منكم ،صرف الله
وجوهكم عنهم ،فصار الوجه لعدوكم ،ابتلء من الله لكم وامتحانا ،ليتبين
المؤمن من الكافر ،والطائع من العاصي ،وليكفر الله عنكم بهذه المصيبة
ما صدر منكم ،فلهذا قال } :ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين
ن عليهم بالسلم ،وهداهم لشرائعه، { أي :ذو فضل عظيم عليهم ،حيث م ّ
وعفا عنهم سيئاتهم ،وأثابهم على مصيباتهم.
در عليهم خيرا ول مصيبة ،إل كان خيرا ومن فضله على المؤمنين أنه ل يق ّ
لهم .إن أصابتهم سراء فشكروا جازاهم جزاء الشاكرين ،وإن أصابتهم
ضراء فصبروا ،جازاهم جزاء الصابرين.
) (1/152
َ
ما م فَأَثاب َك ُ ْ
م غَ ّ خَراك ُ ْ م ِفي أ ُ ْ عوك ُ ْ
ل ي َد ْ ُسو ُ حدٍ َوالّر ُ
َ
ن عََلى أ َ وو َن وََل ت َل ْ ُدو َ صع ِ ُ إ ِذ ْ ت ُ ْ
َ
ن) مُلو َ ما ت َعْ َ خِبيٌر ب ِ َه َم َوالل ّ ُصاب َك ُ ْما أ َم وََل َ حَزُنوا عََلى َ
ما َفات َك ُ ْ م ل ِك َي َْل ت َ ْ
ب ِغَ ّ
(153
َ
م ِفي عوك ُ ْل ي َد ْ ُ سو ُحدٍ َوالّر ُ ن عََلى أ َ وو َن َول ت َل ْ ُ دو َ صع ِ ُ } } { 154َ - 153إ ِذ ْ ت ُ ْ
هّ َ َ أُ ْ
م َوالل ُ صاب َك ُ ْ
ما أ َ م َول َ ما َفات َك ُ ْ
حَزُنوا عَلى َ م ل ِك َْيل ت َ ْ
ما ب ِغَ ّ م غَ ّم فَأَثاب َك ُ ْخَراك ُ ْ
ن{. مُلو َ ما ت َعْ َ
خِبيٌر ب ِ ََ
يذكرهم تعالى حالهم في وقت انهزامهم عن القتال ،ويعاتبهم على ذلك،
فقال } :إذ تصعدون { أي :تجدون في الهرب } ول تلوون على أحد { أي:
ل يلوي أحد منكم على أحد ،ول ينظر إليه ،بل ليس لكم هم إل الفرار
والنجاء عن القتال.
والحال أنه ليس عليكم خطر كبير ،إذ لستم آخر الناس مما يلي العداء،
ويباشر الهيجاء ،بل } الرسول يدعوكم في أخراكم { أي :مما يلي القوم
ي عباد الله" فلم تلتفتوا إليه ،ول عرجتم عليه ،فالفرار نفسه يقول" :إل ّ
ما َ
موجب للوم ،ودعوة الرسول الموجبة لتقديمه على النفس ،أعظم لوْ ً
بتخلفكم عنها } ،فأثابكم { أي :جازاكم على فعلكم } غما بغم { أي :غما
يتبع غما ،غم بفوات النصر وفوات الغنيمة ،وغم بانهزامكم ،وغم أنساكم
كل غم ،وهو سماعكم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل.
ولكن الله -بلطفه وحسن نظره لعباده -جعل اجتماع هذه المور لعباده
المؤمنين خيرا لهم ،فقال } :لكيل تحزنوا على ما فاتكم { من النصر
والظفر } ،ول ما أصابكم { من الهزيمة والقتل والجراح ،إذا تحققتم أن
الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل هانت عليكم تلك المصيبات،
واغتبطتم بوجوده المسلي عن كل مصيبة ومحنة ،فلله ما في ضمن البليا
والمحن من السرار والحكم ،وكل هذا صادر عن علمه وكمال خبرته
بأعمالكم ،وظواهركم وبواطنكم ،ولهذا قال } :والله خبير بما تعملون { .
ويحتمل أن معنى قوله } :لكيل ] ص [ 153تحزنوا على ما فاتكم ول ما
در ذلك الغم والمصيبة عليكم ،لكي تتوطن نفوسكم، أصابكم { يعني :أنه ق ّ
وتمرنوا على الصبر على المصيبات ،ويخف عليكم تحمل المشقات:
) (1/152
م وَ َ شى َ ل عَل َيك ُم من بعد ال ْغَ َ م أ َن َْز َ
ة قَد ْ ف ٌ طائ ِ َ من ْك ُ ْ ة ِ ف ًطائ ِ َ سا ي َغْ َ ة ن َُعا ً من َ ً مأ َ ّ ْ ْ ِ ْ َْ ِ ثُ ّ
َ ُ ْ َ ْ ّ ُ َ َ
ن
م َ ل لَنا ِ ن هَ ْ قولو َ جاهِل ِي ّةِ ي َ ُ ن ال َ حق ّ ظ ّ ن ِباللهِ غَي َْر ال َ م ي َظّنو َ سه ُ ْ ف ُ م أن ْ ُ مت ْهُ ْأه َ ّ
ن لَ َ
ك دو َ ما َل ي ُب ْ ُ م َ سه ِ ْ ف ِ ن ِفي أ َن ْ ُ فو َ خ ُه ل ِل ّهِ ي ُ ْمَر ك ُل ّ ُ
لإ ّ َ
ن اْل ْ ِ يٍء قُ ْ ش ْ ن َ م ْ مرِ ِ َ
اْل ْ
َ
م م ِفي ب ُُيوت ِك ُ ْ ل ل َوْ ك ُن ْت ُ ْ هاهَُنا قُ ْ ما قُت ِل َْنا َ يٌء َ ش ْ مرِ َ ن اْل ْ م َن ل ََنا ِ كا َ ن ل َوْ َ قوُلو َ يَ ُ
م ُ
دورِك ْ ص ُ ما ِفي ُ ه َ ّ
ي الل ُ م وَل ِي َب ْت َل ِ َ جعِهِ ْ ضا ِ م َ ل إ ِلى َ َ قت ْ ُ ْ
م ال َ َ
ب عَلي ْهِ ُ ُ
ن كت ِ َ ذي َ ل َب ََرَز ال ِ
ّ
دورِ )(154 ص ُ ت ال ّ ذا ِ م بِ َ ه عَِلي ٌ م َوالل ّ ُ ما ِفي قُُلوب ِك ُ ْ ص َ ح َ م ّوَل ِي ُ َ
م وَ َ شى َ ل عَل َيك ُم من بعد ال ْغَ َ م أ َن َْز َ
ة قَد ْ ف ٌ طائ ِ َ من ْك ُ ْة ِ ف ً طائ ِ َ سا ي َغْ َ ة ن َُعا ً من َ ًمأ َ ّ ْ ْ ِ ْ َْ ِ } ثُ ّ
ن َ ن هَ ْ ُ ْ َ ْ َ ّ ُ َ َ
م َ ل لَنا ِ قولو َ جاهِل ِي ّةِ ي َ ُ ن ال َ حق ّ ظ ّ ن ِباللهِ غي َْر ال َ م ي َظّنو َ سه ُ ْ ف ُ م أن ْ ُ مت ْهُ ْ أه َ ّ
ن لَ َ
ك دو َ ما ل ي ُب ْ ُ م َ سه ِ ْ ف ِ ن ِفي أ َن ْ ُ فو َ خ ُه ل ِل ّهِ ي ُ ْ مَر ك ُل ّ ُ ن ال ْ ل إِ ّ يٍء قُ ْ ش ْ ن َ م ْ مرِ ِ ال ْ
م ُ
م ِفي ب ُُيوت ِك ْ ُ
ل لوْ كن ْت ُ ْ َ هاهَُنا قُ ْ ْ
ما قُت ِلَنا َ يٌء َ ش ْ مرِ َ ن ال ْ م َن لَنا ِ َ َ
ن لوْ كا َ َ قولو َ ُ يَ ُ
م ُ
دورِك ْ ص ُ ما ِفي ُ ه َ ّ
ي الل ُ م وَل ِي َب ْت َل ِ َجعِهِ ْ ضا ِ م َ ل إ ِلى َ َ قت ْ ُ ْ
م ال َ َ
ب عَلي ْهِ ُ ُ
ن كت ِ َ ذي َ ل َب ََرَز ال ِ
ّ
ت{. ذا ِ م بِ َ ه عَِلي ٌ م َوالل ّ ُ ما ِفي قُُلوب ِك ُ ْ ص َ ح َ م ّ وَل ِي ُ َ
} ثم أنزل عليكم من بعد الغم { الذي أصابكم } أمنة نعاسا يغشى طائفة
منكم { .
ول شك أن هذا رحمة بهم ،وإحسان وتثبيت لقلوبهم ،وزيادة طمأنينة؛ لن
الخائف ل يأتيه النعاس لما في قلبه من الخوف ،فإذا زال الخوف عن
القلب أمكن أن يأتيه النعاس.
وهذه الطائفة التي أنعم الله عليها بالنعاس هم المؤمنون الذين ليس لهم
هم إل إقامة دين الله ،ورضا الله ورسوله ،ومصلحة إخوانهم المسلمين.
وأما الطائفة الخرى الذين } قد أهمتهم أنفسهم { فليس لهم هم في
غيرها ،لنفاقهم أو ضعف إيمانهم ،فلهذا لم يصبهم من النعاس ما أصاب
غيرهم } ،يقولون هل لنا من المر من شيء { وهذا استفهام إنكاري ،أي:
ما لنا من المر -أي :النصر والظهور -شيء ،فأساءوا الظن بربهم وبدينه
ونبيه ،وظنوا أن الله ل يتم أمر رسوله ،وأن هذه الهزيمة هي الفيصلة
والقاضية على دين الله ،قال الله في جوابهم } :قل إن المر كله لله {
المر يشمل المر القدري ،والمر الشرعي ،فجميع الشياء بقضاء الله
وقدره ،وعاقبة ) (1النصر والظفر لوليائه وأهل طاعته ،وإن جرى عليهم
ما جرى.
} يخفون { يعني المنافقين } في أنفسهم ما ل يبدون لك { ثم بين المر
الذي يخفونه ،فقال } :يقولون لو كان لنا من المر شيء { أي :لو كان لنا
في هذه الواقعة رأي ومشورة } ما قتلنا هاهنا { وهذا إنكار منهم وتكذيب
بقدر الله ،وتسفيه منهم لرأي رسول الله صلى الله عليه وسلم ،ورأي
أصحابه ،وتزكية منهم لنفسهم ،فرد الله عليهم بقوله } :قل لو كنتم في
بيوتكم { التي هي أبعد شيء عن مظان القتل } لبرز الذين كتب عليهم
القتل إلى مضاجعهم { فالسباب -وإن عظمت -إنما تنفع إذا لم يعارضها
القدر والقضاء ،فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئا ،بل ل بد أن يمضي الله ما
كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة } ،وليبتلي الله ما في
صدوركم { أي :يختبر ما فيها من نفاق وإيمان وضعف إيمان } ،وليمحص
ما في قلوبكم { من وساوس الشيطان ،وما تأثر عنها من الصفات غير
الحميدة.
} والله عليم بذات الصدور { أي :بما فيها وما أكنته ،فاقتضى علمه
وحكمته أن قدر من السباب ،ما به تظهر مخبآت الصدور وسرائر المور.
ثم قال تعالى:
__________
) (1في ب :وعاقبته.
) (1/153
ما
ض َ شي ْ َ ست ََزل ّهُ ُ
م ال ّ قى ال ْ َم ال ْت َ َ من ْك ُ ْ ن ت َوَل ّ ْ ن ال ّ ِ
ن ب ِب َعْ ِ
طا ُ ما ا ْ
ن إ ِن ّ َ
مَعا ِج ْ م ي َوْ َ وا ِ ذي َ إِ ّ
م )(155 حِلي ٌفوٌر َ ه غَ ُ ّ
ن الل َ
م إِ ّ ه عَن ْهُ ْ ّ
فا الل ُ قد ْ عَ َ َ
سُبوا وَل َ كَ َ
) (1/153
) (1/153
ول َئ ِن مت َ
ن )(158 شُرو َح َ م َل َِلى الل ّهِ ت ُ ْ م أوْ قُت ِل ْت ُ ْ َ ْ ُ ّ ْ
} ول َئ ِن مت َ
ن{. ح َ
شُرو َ م لَلى الل ّهِ ت ُ ْ م أوْ قُت ِل ْت ُ ْ َ ْ ُ ّ ْ
وأن الخلق أيضا إذا ماتوا أو قتلوا بأي حالة كانت ،فإنما مرجعهم إلى الله،
ومآلهم إليه ،فيجازي كل بعمله ،فأين الفرار إل إلى الله ،وما للخلق عاصم
إل العتصام بحبل الله؟"
) (1/154
حوْل ِ َ
ك ن َ م ْ
ضوا ِف ّ ب َلن ْ َقل ْ ِ
ظ ال ْ َ ظا غَِلي َ ت فَ ّ
م وَل َوْ ك ُن ْ َت ل َهُ ْن الل ّهِ ل ِن ْ َم َ مة ٍ ِ ح َ
ما َر ْ فَب ِ َ
َ
ل عَلى ّ
ت فَت َوَك ْ مرِ فَإ ِ َ َ ْ م وَ َ َ َفاعْ ُ
م َذا عََز ْ م ِفي ال ْ شاوِْرهُ ْ فْر لهُ ْ ست َغْ ِ
م َوا ْ ف عَن ْهُ ْ
ن )(159 ّ
مت َوَكِلي َ ْ
ب ال ُ ح ّه يُ ِ ّ
ن الل َ الل ّهِ إ ِ ّ
ب قل ْ ِ
ظ ال ْ َ
ظا غَِلي َ
ت فَ ّ م وَل َوْ ك ُن ْ َت ل َهُ ْ ن الل ّهِ ل ِن ْ َ م َمة ٍ ِ ح َ
ما َر ْ } } { 159فَب ِ َ
مرِ فَإ ِ َ
ذا م ِفي ال ْ شاوِْرهُ ْم وَ َ فْر ل َهُ ْ ست َغْ ِم َوا ْ ف عَن ْهُ ْ ك َفاعْ ُ حوْل ِ َ ن َ م ْ
ضوا ِف ّ لن ْ َ
ن{. ّ
مت َوَكِلي َ ْ
ب ال ُ ح ّ ه يُ ِ ّ
ن الل َ ّ َ
ت فت َوَكل عَلى اللهِ إ ِ ّْ ّ َ م َعََز ْ
ن الله عليك أن ألنت ) (1لهم جانبك، أي :برحمة الله لك ولصحابك ،م ّ
وخفضت لهم جناحك ،وترققت عليهم ،وحسنت لهم خلقك ،فاجتمعوا
عليك وأحبوك ،وامتثلوا أمرك.
} ولو كنت فظا { أي :سيئ الخلق } غليظ القلب { أي :قاسيه،
} لنفضوا من حولك { لن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق
السيئ.
فالخلق الحسنة من الرئيس في الدين ،تجذب الناس إلى دين الله،
وترغبهم فيه ،مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص ،والخلق السيئة
من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين ،وتبغضهم إليه ،مع ما
لصاحبها من الذم والعقاب الخاص ،فهذا الرسول المعصوم يقول الله له
ما يقول ،فكيف بغيره؟!
أليس من أوجب الواجبات ،وأهم المهمات ،القتداء بأخلقه الكريمة،
ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلى الله عليه وسلم ،من اللين وحسن
الخلق والتأليف ،امتثال لمر الله ،وجذبا لعباد الله لدين الله.
ثم أمره الله تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه
صلى الله عليه وسلم ،ويستغفر لهم في التقصير في حق الله ،فيجمع بين
العفو والحسان.
} وشاورهم في المر { أي :المور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر،
فإن في الستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما ل يمكن
حصره:
منها :أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله.
ومنها :أن فيها تسميحا لخواطرهم ،وإزالة لما يصير في القلوب عند
الحوادث ،فإن من له المر على الناس -إذا جمع أهل الرأي :والفضل
وشاورهم في حادثة من الحوادث -اطمأنت نفوسهم وأحبوه ،وعلموا أنه
ليس بمستبد ) (2عليهم ،وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع،
فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته ،لعلمهم بسعيه في مصالح العموم،
بخلف من ليس كذلك ،فإنهم ل يكادون يحبونه محبة صادقة ،ول يطيعونه
وإن أطاعوه فطاعة غير تامة.
ومنها :أن في الستشارة تنور الفكار ،بسبب إعمالها فيما وضعت له،
فصار في ذلك زيادة للعقول.
ومنها :ما تنتجه الستشارة من الرأي :المصيب ،فإن المشاور ل يكاد
يخطئ في فعله ،وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب ،فليس بملوم ،فإذا كان
الله يقول لرسوله -صلى الله عليه وسلم -وهو أكمل الناس عقل وأغزرهم
علما ،وأفضلهم رأيا } :-وشاورهم في المر { فكيف بغيره؟!
ثم قال تعالى } :فإذا عزمت { أي :على أمر من المور بعد الستشارة
فيه ،إن كان يحتاج إلى استشارة } فتوكل على الله { أي :اعتمد على
حول الله وقوته ،متبرئا من حولك وقوتك } ،إن الله يحب المتوكلين {
عليه ،اللجئين إليه.
__________
) (1في الصل) :لنت(.
) (2في ب :يستبد.
) (1/154
ه
ن ب َعْدِ ِ
م ْ صُرك ُ ْ
م ِ ذا ال ّ ِ
ذي ي َن ْ ُ ن َ
م ْ خذ ُل ْك ُ ْ
م فَ َ ن يَ ْ ب ل َك ُ ْ
م وَإ ِ ْ ه فََل َ
غال ِ َ م الل ّ ُ صْرك ُ ُ
ن ي َن ْ ُ
إِ ْ
ن )(160 مُنو َ مؤْ ِل ال ْ ُ
وَعََلى الل ّهِ فَل ْي َت َوَك ّ ِ
ذا ال ّ ِ
ذي ن َ
م ْ خذ ُل ْك ُ ْ
م فَ َ ن يَ ْ
م وَإ ِ ْب ل َك ُ ْ ه َفل َ
غال ِ َ م الل ّ ُ
صْرك ُ ُ
ن ي َن ْ ُ
} } { 160إ ِ ْ
ن{. مُنو َمؤْ ِ ْ
ل ال ُ ّ ْ ّ َ
ن ب َعْدِهِ وَعَلى اللهِ فَلي َت َوَك ِ م ْ صُرك ُ ْ
م ِ ي َن ْ ُ
أي :إن يمددكم الله بنصره ومعونته } فل غالب لكم { فلو اجتمع عليكم
من في أقطارها وما عندهم من العدد والُعدد ،لن الله ل مغالب له ،وقد
قهر العباد وأخذ بنواصيهم ،فل تتحرك دابة إل بإذنه ،ول تسكن إل بإذنه.
} وإن يخذلكم { ويكلكم إلى أنفسكم } فمن ذا الذي ينصركم من بعده {
فل بد أن تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق.
وفي ) (1ضمن ذلك المر بالستنصار بالله والعتماد عليه ،والبراءة من
الحول والقوة ،ولهذا قال } :وعلى الله فليتوكل المؤمنون { بتقديم
المعمول يؤذن بالحصر ،أي :على الله ] ص [ 155توكلوا ل على غيره،
لنه قد علم أنه هو الناصر وحده ،فالعتماد عليه توحيد محصل للمقصود،
والعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه ،بل ضار.
وفي هذه الية المر بالتوكل على الله وحده ،وأنه بحسب إيمان العبد
يكون توكله.
__________
) (1في ب :وقد.
) (1/154
) (1/155
) (1/155
مسه ِ ْ
ف ِن أ َن ْ ُم ْسول ِ م َر ُ ث ِفيهِ ْ ن إ ِذ ْ ب َعَ َ
مِني َ مؤْ ِه عََلى ال ْ ُ ن الل ّ ُم ّقد ْ َ} } { 164ل َ َ
في ل لَ ِ
ن قَب ْ ُ م ْكاُنوا ِن َة وَإ ِ ْ
م َحك ْ َب َوال ْ ِ م ال ْك َِتا َ م وَي ُعَل ّ ُ
مه ُ ُ كيهِ ْ ي َت ُْلو عَل َي ْهِ ْ
م آَيات ِهِ وَي َُز ّ
ن{. مِبي ٍ ل ُ ضل ٍ َ
هذه المنة التي امتن الله بها على عباده ،أكبر النعم ،بل أصلها ،وهي
المتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي أنقذهم الله به من الضللة،
ن الله على المؤمنين إذ بعث فيهم وعصمهم به من الهلكة ،فقال } :لقد م ّ
رسول من أنفسهم { يعرفون نسبه ،وحاله ،ولسانه ،من قومهم وقبيلتهم،
ناصحا لهم ،مشفقا عليهم ،يتلو عليهم آيات الله ،يعلمهم ألفاظها ومعانيها.
} ويزكيهم { من الشرك ،والمعاصي ،والرذائل ،وسائر مساوئ الخلق.
و } يعلمهم الكتاب { إما جنس الكتاب الذي هو القرآن ،فيكون قوله:
} يتلو عليهم آياته { المراد به اليات الكونية ،أو المراد بالكتاب -هنا-
الكتابة ،فيكون قد امتن عليهم ،بتعليم الكتاب والكتابة ،التي بها تدرك
العلوم وتحفظ } ،والحكمة { هي :السنة ،التي هي شقيقة القرآن ،أو
وضع الشياء مواضعها ،ومعرفة أسرار الشريعة.
فجمع لهم بين تعليم الحكام ،وما به تنفذ الحكام ،وما به تدرك فوائدها
وثمراتها ،ففاقوا بهذه المور العظيمة جميع المخلوقين ،وكانوا من العلماء
الربانيين } ،وإن كانوا من قبل { بعثة هذا الرسول } لفي ضلل مبين { ل
يعرفون الطريق الموصل إلى ربهم ،ول ما يزكي النفوس ويطهرها ،بل ما
زين لهم جهلهم فعلوه ،ولو ناقض ] ص [ 156ذلك عقول العالمين.
) (1/155
عن ْدِ
ن ِ
م ْ
ل هُوَ ِ م أ َّنى هَ َ
ذا قُ ْ مث ْل َي َْها قُل ْت ُ ْ
م ِصب ْت ُ ْ
َ
ة قَد ْ أ َصيب َ ٌ
م ِ
م ُ صاب َت ْك ُ ْ
َ
ما أ َ أوَل َ ّ
َ
ديٌر )(165 يٍء قَ ِش ْ ل َ ه عََلى ك ُ ّ ن الل ّ َ م إِ ّ سك ُ ْ
ف ِ أ َن ْ ُ
م أ َّنى هَ َ
ذا مث ْل َي َْها قُل ْت ُ ْ
م ِ
َ
ة قَد ْ أ َ
صب ْت ُ ْ صيب َ ٌ
م ِ
م ُ صاب َت ْك ُ ْ
َ
ما أ َ
َ
} } { 168 - 165أوَل َ ّ
ديٌر { . يٍء قَ ِ ش ْل َ ه عََلى ك ُ ّ ن الل ّ َم إِ ّسك ُ ْ عن ْدِ أ َن ْ ُ
ف ِ ن ِ
م ْ قُ ْ
ل هُوَ ِ
هذا تسلية من الله تعالى لعباده المؤمنين ،حين أصابهم ما أصابهم يوم
"أحد" وقتل منهم نحو سبعين ،فقال الله :إنكم } قد أصبتم { من
المشركين } مثليها { يوم بدر فقتلتم سبعين من كبارهم وأسرتم سبعين،
فليهن المر ولتخف المصيبة عليكم ،مع أنكم ل تستوون أنتم وهم ،فإن
قتلكم في الجنة وقتلهم في النار.
} قلتم أنى هذا { أي :من أين أصابنا ما أصابنا وهزمنا؟ } قل هو من عند
أنفسكم { حين تنازعتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون ،فعودوا على
أنفسكم باللوم ،واحذروا من السباب المردية.
} إن الله على كل شيء قدير { فإياكم وسوء الظن بالله ،فإنه قادر على
نصركم ،ولكن له أتم الحكمة في ابتلئكم ومصيبتكم } .ذلك ولو يشاء الله
لنتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض { .
) (1/156
َ
ن ) (166وَل ِي َعْل َ َ
م مؤْ ِ
مِني َ م ال ْ ُ ن الل ّهِ وَل ِي َعْل َ َ ن فَب ِإ ِذ ْ ِ مَعا ِ ج ْ قى ال ْ َ م ال ْت َ َ
م ي َوْ َ صاب َك ُ ْ ما أ َ وَ َ
َ َ ُ َ ّ ُ َ َ
ل اللهِ أوِ اد ْفَُعوا َقالوا لوْ ن َعْل ُ
م ِ سِبيوا َقات ِلوا ِفي َ ْ م ت ََعال ل لهُ ْ قوا وَِقي َ ن َنافَ ُ َ ال ّ ِ
ذي
َ َ
ما م َ ن ب ِأْفواهِهِ ْ قوُلو َ ن يَ ُ ما ِ لي َ م لِ ْ ِ من ْهُ ْ
ب ِ مئ ِذٍ أقَْر ُ فرِ ي َوْ َ م ل ِل ْك ُ ْ م هُ ْ قَِتاًل َلت ّب َعَْناك ُ ْ
ن َقاُلوا ِل ِ ْ ل َيس في قُُلوبهم والل ّ َ
م
وان ِهِ ْخ َ ذي َ ن ) (167ال ّ ِ مو َ ما ي َك ْت ُ ُ م بِ َ ه أعْل َ ُ ِِ ْ َ ُ ْ َ ِ
ُ ْ ُ ل َفادرُءوا عَن أ َ ُ ُ ُ َ َ َ
م تن ك ن
َ ْ َ ِ ْ ُْ ْ إ ت و م لا م ك
ْ ْ ِ ُ س ُ ف ن َْ ْ ق لوا ِ ت ق ما
َ َ نا عوُ طا أ ْ و ل دوا وَقَعَ ُ
ن )(168 صادِِقي َ َ
َ
ن * وَل ِي َعْل َ َ
م م ال ْ ُ
مؤْ ِ
مِني َ ن الل ّهِ وَل ِي َعْل َ َ
ن فَب ِإ ِذ ْ ِ
مَعا ِ قى ال ْ َ
ج ْ م ال ْت َ َ صاب َك ُ ْ
م ي َوْ َ ما أ َ } وَ َ
َ َ ُ َ ّ ُ َ َ
ل اللهِ أوِ اد ْفَُعوا َقالوا لوْ ن َعْل ُ
م سِبي ِوا َقات ِلوا ِفي َ م ت ََعال ْل لهُ ْ قوا وَِقي َ ن َنافَ ُ
ذي َ ال ّ ِ
َ َ
ما
م َ ن ب ِأْفواهِهِ ْ قوُلو َ ن يَ ُما ِم ِللي َ من ْهُ ْب ِ مئ ِذٍ أقَْر ُ م ل ِل ْك ُ ْ
فرِ ي َوْ َ م هُ ْ قَِتال لت ّب َعَْناك ُ ْ
َ
دوا ل َ ْ
و م وَقَعَ ُوان ِهِ ْ
خ َن َقاُلوا ل ْ ذي َن * ال ّ ِ مو َ ما ي َك ْت ُ ُم بِ َه أعْل َ ُم َوالل ّ ُ س ِفي قُُلوب ِهِ ْ ل َي ْ َ
َ أَ َ
ن{. صادِِقي َ م َ ن ك ُن ْت ُ ْت إِ ْموْ َ م ال ْ َسك ُ ُ ف ِن أن ْ ُ ل َفاد َْرُءوا عَ ْ ما قُت ُِلوا قُ ْ عوَنا َ طا ُ
ثم أخبر أن ما أصابهم يوم التقى الجمعان ،جمع المسلمين وجمع
المشركين في "أحد" من القتل والهزيمة ،أنه بإذنه وقضائه وقدره ،ل مرد
له ول بد من وقوعه .والمر القدري -إذا نفذ ،لم يبق إل التسليم له ،وأنه
قدره لحكم عظيمة وفوائد جسيمة ،وأنه ليتبين بذلك المؤمن من المنافق،
الذين لما أمروا بالقتال } ،وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله { أي :ذبا
عن دين الله ،وحماية له وطلبا لمرضاة الله } ،أو ادفعوا { عن محارمكم
وبلدكم ،إن لم يكن لكم نية صالحة ،فأبوا ذلك واعتذروا بأن } قالوا لو
نعلم قتال لتبعناكم { أي :لو نعلم أنكم يصير بينكم وبينهم قتال لتبعناكم،
وهم كذبة في هذا .قد علموا وتيقنوا وعلم كل أحد أن هؤلء المشركين،
قد ملئوا من الحنق والغيظ على المؤمنين بما أصابوا منهم ،وأنهم قد بذلوا
أموالهم ،وجمعوا ما يقدرون عليه من الرجال والعدد ،وأقبلوا في جيش
عظيم قاصدين المؤمنين في بلدهم ،متحرقين على قتالهم ،فمن كانت
هذه حالهم ،كيف يتصور أنهم ل يصير بينهم وبين المؤمنين قتال؟ خصوصا
وقد خرج المسلمون من المدينة وبرزوا لهم ،هذا من المستحيل ،ولكن
المنافقين ظنوا أن هذا العذر ،يروج على المؤمنين ،قال تعالى } :هم
للكفر يومئذ { أي :في تلك الحال التي تركوا فيها الخروج مع المؤمنين
} أقرب منهم لليمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم { وهذه خاصة
المنافقين ،يظهرون بكلمهم وفعالهم ما يبطنون ضده في قلوبهم
وسرائرهم.
ومنه قولهم } :لو نعلم قتال لتبعناكم { فإنهم قد علموا وقوع القتال.
ويستدل بهذه الية على قاعدة "ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلهما،
وفعل أدنى المصلحتين ،للعجز عن أعلهما" ؛ ]لن المنافقين أمروا أن
يقاتلوا للدين ،فإن لم يفعلوا فللمدافعة عن العيال والوطان[ ) } (1والله
أعلم بما يكتمون { فيبديه لعباده المؤمنين ،ويعاقبهم عليه.
ثم قال تعالى } :الذين قالوا لخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا { أي:
جمعوا بين التخلف عن الجهاد ،وبين العتراض والتكذيب بقضاء الله
دا عليهم } :قل فادرءوا { أي :ادفعوا } عن أنفسكم وقدره ،قال الله ر ّ
الموت إن كنتم صادقين { إنهم لو أطاعوكم ما قتلوا ،ل تقدرون على ذلك
ول تستطيعونه.
وفي هذه اليات دليل على أن العبد قد يكون فيه خصلة كفر وخصلة
إيمان ،وقد يكون إلى أحدهما أقرب منه إلى الخرى.
__________
) (1زيادة من هامش ب.
) (1/156
حَياءٌ } } { 171 - 169ول تحسبن ال ّذين قُت ُِلوا في سبيل الل ّه أ َمواتا ب ْ َ
لأ ْ ِ ْ َ ً َ َ ِ ِ ِ ِ َ َ َ ْ َ َ ّ
ن ذيّ لبا ن رو ش
ْ ِ ِ ََ ْ َْ ِ ُ َ ِ ِ َبتس ي و ه ل ض َ ف ن
ُ ِ ْم ه ّ لال من بِ َ َ ُ ُ
ه تا آ ما حي َن * فَرِ ِ م ي ُْرَزُقو َعن ْد َ َرب ّهِ ِْ
َ َ ْ ْ
نشُرو َ ست َب ْ ِ
ن * يَ ْ حَزُنو َم يَ ْم َول هُ ْ ف عَلي ْهِ ْ خوْ ٌ م أل َ فهِ ْ
خل ِ ن َم ْم ِقوا ب ِهِ ْح ُ م ي َل َ لَ ْ
َ َ
ن{. مؤْ ِ
مِني َ جَر ال ْ ُ
ضيعُ أ ْ ه ل يُ ِ ن الل ّ َ ل وَأ ّ ن الل ّهِ وَفَ ْ
ض ٍ م َ مة ٍ ِ ب ِن ِعْ َ
ن الله هذه اليات الكريمة ) (1فيها فضيلة ) (2الشهداء وكرامتهم ،وما م ّ
عليهم به من فضله وإحسانه ،وفي ضمنها تسلية الحياء عن قتلهم
وتعزيتهم ،وتنشيطهم للقتال في سبيل الله والتعرض للشهادة ،فقال:
} ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله { أي :في جهاد أعداء الدين،
قاصدين بذلك إعلء كلمة الله } أمواتا { أي :ل يخطر ببالك وحسبانك
أنهم ماتوا وفقدوا ،وذهبت عنهم لذة الحياة الدنيا والتمتع بزهرتها ] ،ص
[ 157الذي يحذر من فواته ،من جبن عن القتال ،وزهد في الشهادة.
} بل { قد حصل لهم أعظم مما يتنافس فيه المتنافسون .فهم } أحياء
عند ربهم { في دار كرامته.
ولفظ } :عند ربهم { يقتضي علو درجتهم ،وقربهم من ربهم } ،يرزقون {
من أنواع النعيم الذي ل يعلم وصفه ،إل من أنعم به عليهم ،ومع هذا
} فرحين بما آتاهم الله من فضله { أي :مغتبطين بذلك ،قد قرت به
عيونهم ،وفرحت به نفوسهم ،وذلك لحسنه وكثرته ،وعظمته ،وكمال اللذة
في الوصول إليه ،وعدم المنغص ،فجمع الله لهم بين نعيم البدن بالرزق،
ونعيم القلب والروح بالفرح بما آتاهم من فضله :فتم لهم ) (3النعيم
والسرور ،وجعلوا } يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم { أي:
يبشر بعضهم بعضا ،بوصول إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم ،وأنهم سينالون
ما نالوا } ،أل خوف عليهم ول هم يحزنون { أي :يستبشرون بزوال
المحذور عنهم وعن إخوانهم المستلزم كمال السرور
} يستبشرون بنعمة من الله وفضل { أي :يهنىء بعضهم بعضا ،بأعظم
مهنأ به ،وهو :نعمة ربهم ،وفضله ،وإحسانه } ،وأن الله ل يضيع أجر
المؤمنين { بل ينميه ويشكره ،ويزيده من فضله ،ما ل يصل إليه سعيهم.
وفي هذه اليات إثبات نعيم البرزخ ،وأن الشهداء في أعلى مكان عند
ربهم ،وفيه تلقي أرواح أهل الخير ،وزيارة بعضهم بعضا ،وتبشير بعضهم
بعضا.
__________
) (1في ب :الكريمات.
) (2في ب :فضل.
) (3في النسختين :فتم له.
) (1/156
) (1/157
ن الل ّ ِ
ه وا َض َسوٌء َوات ّب َُعوا رِ ْم ُ سهُ ْس ْم َ ل لَ ْ
م يَ ْ ض ٍ ن الل ّهِ وَفَ ْ م َ مة ٍ ِقل َُبوا ب ِن ِعْ َ
} َفان ْ َ
َ شي ْ َ
خاُفوهُ ْ
م ف أوْل َِياَءهُ َفل ت َ َخوّ ُ ن يُ َطا ُ م ال ّ ما ذ َل ِك ُ ُ
ظيم ٍ * إ ِن ّ َل عَ ِ ض ٍ ذو فَ ْ ه ُ َوالل ّ ُ
ن{. مؤْ ِ
مِني َ م ُن ك ُن ْت ُ ْ خاُفو ِ
ن إِ ْ وَ َ
} فانقلبوا { أي :رجعوا } بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء { .
وجاء الخبر المشركين أن الرسول وأصحابه قد خرجوا إليكم ،وندم من
تخلف منهم ،فألقى الله الرعب في قلوبهم ،واستمروا راجعين إلى مكة،
ن عليهم بالتوفيق للخروج م ّ
ورجع المؤمنون بنعمة من الله وفضل ،حيث َ
بهذه الحالة والتكال على ربهم ،ثم إنه قد كتب لهم أجر غزاة تامة،
فبسبب إحسانهم بطاعة ربهم ،وتقواهم عن معصيته ،لهم أجر عظيم،
وهذا فضل الله عليهم.
ثم قال تعالى } :إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه { أي :إن ترهيب من
رهب من المشركين ،وقال :إنهم جمعوا لكم ،داع من دعاة الشيطان،
يخوف أولياءه الذين عدم إيمانهم ،أو ضعف } .فل تخافوهم وخافون إن
كنتم مؤمنين { أي :فل تخافوا المشركين أولياء الشيطان ،فإن نواصيهم
بيد الله ،ل يتصرفون إل بقدره ،بل خافوا الله الذي ينصر أولياءه الخائفين
منه ) (1المستجيبين لدعوته.
وفي هذه الية وجوب الخوف من الله وحده ،وأنه من لوازم اليمان،
فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله ،والخوف المحمود :ما حجز
العبد عن محارم الله.
__________
) (1في النسختين :الخائفين له ،ولعل القرب ما أثبت.
) (1/157
ه أ َّل
ريد ُ الل ّ ُشي ًْئا ي ُ ِه َ ضّروا الل ّ َ
ن يَ ُم لَ ْفرِ إ ِن ّهُ ْن ِفي ال ْك ُ ْ عو َ سارِ ُ ن يُ َذي َ ك ال ّ ِ
حُزن ْ َ وََل ي َ ْ
نا ْ
شت ََرُوا ذي َ ن ال ّ ِم ) (176إ ِ ّ ظي ٌ
ب عَ ِ ذا ٌم عَ َ ظا ِفي اْل َ ِ
خَرةِ وَل َهُ ْ ح ّ م َ ل ل َهُ ْجع َ َ يَ ْ
َ َ ّ َ ْ ال ْك ْ
ُ
م )(177 ب أِلي ٌ
ذا ٌم عَ َ شي ًْئا وَلهُ ْ ه َ ضّروا الل َ ن يَ ُنل ْ ما ِ لي َفَر ِبا ِ
ضّروا م لَ ْ
ن يَ ُ فرِ إ ِن ّهُ ْن ِفي ال ْك ُ ْ عو َ سارِ ُ ن يُ َذي َ ك ال ّ ِحُزن ْ َ} َ } { 177 - 176ول ي َ ْ
شيًئا يريد الل ّ َ
ن
م * إِ ّظي ٌ
ب عَ ِ ذا ٌ م عَ َ خَرةِ وَل َهُ ْ ظا ِفي ال ِ ح ّ م َ ل ل َهُ ْجع َ َه أل ي َ ْ
ُ ه َ ْ ُ ِ ُ الل ّ َ
َ
م{. ب أِلي ٌ ذا ٌ م عَ َ شي ًْئا وَل َهُ ْ ه َ ضّروا الل ّ َ ن يَ ُ ن لَ ْ ما ِ فَر ِبالي َ شت ََرُوا ال ْك ُ ْ
نا ْ
ذي َال ّ ِ
كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على الخلق ،مجتهدا في هدايتهم،
وكان يحزن إذا لم يهتدوا ،قال الله تعالى } :ول يحزنك الذين يسارعون
في الكفر { من شدة رغبتهم فيه ،وحرصهم عليه } إنهم لن يضروا الله
شيئا { فالله ناصر دينه ،ومؤيد رسوله ،ومنفذ أمره من دونهم ،فل تبالهم
ول تحفل بهم ،إنما يضرون ويسعون في ضرر أنفسهم ،بفوات اليمان في
الدنيا ،وحصول العذاب الليم في الخرى ،من هوانهم على الله وسقوطهم
من عينه ،وإرادته أن ل يجعل لهم نصيبا في الخرة من ثوابه .خذلهم فلم
يوفقهم لما وفق له ] ص [ 158أولياءه ومن أراد به خيرا ،عدل منه
وحكمة ،لعلمه بأنهم غير زاكين على الهدى ،ول قابلين للرشاد ،لفساد
أخلقهم وسوء قصدهم.
ثم أخبر أن الذين اختاروا الكفر على اليمان ،ورغبوا فيه رغبة من بذل ما
يحب من المال ،في شراء ما يحب من السلع } لن يضروا الله شيئا { بل
ضرر فعلهم يعود على أنفسهم ،ولهذا قال } :ولهم عذاب أليم { وكيف
يضرون الله شيئا ،وهم قد زهدوا أشد الزهد في اليمان ،ورغبوا كل
الرغبة بالكفر بالرحمن؟! فالله غني عنهم ،وقد قيض لدينه من عباده
البرار الزكياء سواهم ،وأعد له -ممن ارتضاه لنصرته -أهل البصائر
والعقول ،وذوي اللباب من الرجال الفحول ،قال الله تعالى } :قل آمنوا
به أو ل تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون
للذقان سجدا { اليات.
) (1/157
) (1/158
َ
ن الط ّي ّ ِ
ب م َث ِخِبي َ ميَز ال ْ َ م عَل َي ْهِ َ
حّتى ي َ ِ ما أن ْت ُ ْ ن عََلى َ مِني َ مؤْ ِ ه ل ِي َذ ََر ال ْ ُ ن الل ّ ُكا َما َ َ
شاُءن يَ َ
م ْسل ِهِ َ
ن ُر ُ م ْ جت َِبي ِه يَ ْ ّ
ن الل َ َ
ب وَلك ِ ّ ْ َ
م عَلى الغَي ْ ِ ُ ْ
ه ل ِي ُطل ِعَك ْ ّ
ن الل ُ َ
ما كا َ وَ َ
َ
م )(179 ظي ٌ جٌر عَ ِ مأ ْ ُ َ
قوا فَلك ْ ن ت ُؤْ ِ
مُنوا وَت َت ّ ُ سل ِهِ وَإ ِ ْ ّ
مُنوا ِباللهِ وَُر ُ فَآ َ ِ
َ
ميَز حّتى ي َ ِ م عَل َي ْهِ َ ما أن ْت ُ ْ ن عََلى َ مِني َ ه ل ِي َذ ََر ال ْ ُ
مؤْ ِ ن الل ّ ُ كا َما َ } َ } { 179
جت َِبي
ه يَ ْ ّ
ن الل َ َ
ب وَلك ِ ّ ْ
م عَلى الغَي ْ ِ َ ُ ْ
ه ل ِي ُطل ِعَك ْ ّ
ن الل ُ ما كا ََ ب وَ َ ّ
ن الطي ّ ِ م َ
ث ِ خِبي َال ْ َ
َ
م
ظي ٌ
جٌر عَ ِ مأ ْ قوا فَل َك ُ ْ مُنوا وَت َت ّ ُ ن ت ُؤْ ِ مُنوا ِبالل ّهِ وَُر ُ
سل ِهِ وَإ ِ ْ شاُء َفآ ِ ن يَ َ
م ْسل ِهِ َ
ن ُر ُم ْ ِ
{.
أي :ما كان في حكمة الله أن يترك المؤمنين على ما أنتم عليه من
الختلط وعدم التميز ) (1حتى يميز الخبيث من الطيب ،والمؤمن من
المنافق ،والصادق من الكاذب.
ولم يكن في حكمته أيضا أن يطلع عباده على الغيب الذي يعلمه من
عباده ،فاقتضت حكمته الباهرة أن يبتلي عباده ،ويفتنهم بما به يتميز
الخبيث من الطيب ،من أنواع البتلء والمتحان ،فأرسل ]الله[ رسله،
وأمر بطاعتهم ،والنقياد لهم ،واليمان بهم ،ووعدهم على اليمان والتقوى
الجر العظيم.
فانقسم الناس بحسب اتباعهم للرسل قسمين :مطيعين وعاصين،
ومؤمنين ومنافقين ،ومسلمين وكافرين ،ليرتب على ذلك الثواب والعقاب،
وليظهر عدله وفضله ،وحكمته لخلقه.
__________
) (1في ب :التمييز.
) (1/158
َ
ل هُوَ َ
شّر خي ًْرا ل َهُ ْ
م بَ ْ ن فَ ْ
ضل ِهِ هُوَ َ م ْ ه ِم الل ّ ُ ما آَتاهُ ُ ن بِ َخُلو َن ي َب ْ َذي َن ال ّ ِسب َ ّ
ح َ وََل ي َ ْ
َْ مةِ وَل ِل ّهِ ِ م ال ْ ِ
ض
ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ ث ال ّ ميَرا ُ قَيا َ خُلوا ب ِهِ ي َوْ َ
ما ب َ ِ ن َ سي ُط َوُّقو َ م َ ل َهُ ْ
خِبيٌر )(180 ن َ مُلو َ ما ت َعْ َه بِ ََوالل ّ ُ
خي ًْرا ن فَ ْ
ضل ِهِ هُوَ َ م ْ
ه ِم الل ّ ُ
ما آَتاهُ ُ ن بِ َ خُلو َ ن ي َب ْ َ
ذي َ ن ال ّ ِ سب َ ّ
ح َ } َ } { 180ول ي َ ْ
ث
ميَرا ُ ّ
مةِ وَل ِلهِ ِ
قَيا َ ْ
م ال ِ
خلوا ب ِهِ ي َوْ َُ ما ب َ ِن َ ُ
سي ُطوّقو َ َ م َ شّر ل َهُ ْ ل هُوَ َم بَ ْل َهُ ْ
خِبيٌر { . ن َ مُلو َ ما ت َعْ َ ه بِ َ ض َوالل ّ ُت َوالْر ِ ماَوا ِس َ
ال ّ
أي :ول يظن الذين يبخلون ،أي :يمنعون ما عندهم مما آتاهم الله من
فضله ،من المال والجاه والعلم ،وغير ذلك مما منحهم الله ،وأحسن إليهم
به ،وأمرهم ببذل ما ل يضرهم منه لعباده ،فبخلوا بذلك ،وأمسكوه ،وضنوا
به على عباد الله ،وظنوا أنه خير لهم ،بل هو شر لهم ،في دينهم ودنياهم،
وعاجلهم وآجلهم } سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة { أي :يجعل ما
بخلوا به طوقا في أعناقهم ،يعذبون به كما ورد في الحديث الصحيح" ،إن
البخيل يمثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع ،له زبيبتان ،يأخذ بلهزمتيه
يقول :أنا مالك ،أنا كنزك" وتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداق
ذلك ،هذه الية.
فهؤلء حسبوا أن بخلهم نافعهم ،ومجد عليهم ،فانقلب عليهم المر ،وصار
من أعظم مضارهم ،وسبب عقابهم.
} ولله ميراث السماوات والرض { أي :هو تعالى مالك الملك ،وترد جميع
الملك إلى مالكها ،وينقلب العباد من الدنيا ما معهم درهم ول دينار ،ول
غير ذلك من المال.
قال تعالى } :إنا نحن نرث الرض ومن عليها وإلينا يرجعون { وتأمل كيف
ذكر السبب البتدائي والسبب الغائي ،الموجب كل واحد منهما أن ل يبخل
العبد بما أعطاه الله.
أخبر أول أن الذي عنده وفي يده فضل من الله ونعمة ،ليس ملكا للعبد،
بل لول فضل الله عليه وإحسانه ،لم يصل إليه منه شيء ،فمنعه لذلك منع
لفضل الله وإحسانه؛ ولن إحسانه موجب للحسان إلى عبيده كما قال
تعالى } :وأحسن كما أحسن الله إليك { .
فمن تحقق أن ما بيده ،فضل من الله ،لم يمنع الفضل الذي ل يضره ،بل
ينفعه في قلبه وماله ،وزيادة إيمانه ،وحفظه من الفات.
ثم ذكر ثانيا :أن هذا الذي بيد ] ص [ 159العباد كلها ترجع إلى الله،
ويرثها تعالى ،وهو خير الوارثين ،فل معنى للبخل بشيء هو زائل عنك
منتقل إلى غيرك.
ثم ذكر ثالثا :السبب الجزائي ،فقال } :والله بما تعملون خبير { فإذا كان
خبيرا بأعمالكم جميعها -ويستلزم ذلك الجزاء الحسن على الخيرات،
والعقوبات على الشر -لم يتخلف من في قلبه مثقال ذرة من إيمان عن
النفاق الذي يجزى به الثواب ،ول يرضى بالمساك الذي به العقاب.
) (1/158
) (1/159
) (1/159
) (1/159
) (1/160
) (1/160
ه عََلى ك ُ ّ َْ
يٍء قَ ِ
ديٌر )(189 ل َ
ش ْ ض َوالل ّ ُ
ت َوالْر ِ
ماَوا ِ
س َ مل ْ ُ
ك ال ّ وَل ِل ّهِ ُ
يٍء قَ ِ
ديٌر { . ش ْ ه عََلى ك ُ ّ
ل َ ض َوالل ّ ُ
ت َوالْر ِ
ماَوا ِ
س َ مل ْ ُ
ك ال ّ } } { 189وَل ِل ّهِ ُ
أي :هو المالك للسماوات والرض وما فيهما ،من سائر أصناف الخلق،
المتصرف فيهم بكمال القدرة ،وبديع الصنعة ،فل يمتنع عليه منهم أحد ،ول
يعجزه أحد.
) (1/161
) (1/161
) (1/162
ل ث ُم ْ
م
جهَن ّ ُم َ مأَواهُ ْ مَتاعٌ قَِلي ٌ ّ َ فُروا ِفي ال ْب َِلدِ )َ (196 ن كَ َ ب ال ّ ِ
ذي َ قل ّ ُك تَ َ َل ي َغُّرن ّ َ
حت َِها
ن تَ ْ
م ْ ري ِ ج ِ ت تَ ْ
جّنا ٌ
م َ م ل َهُ ْ
وا َرب ّهُ ْق ْ
ن ات ّ َ ن ال ّ ِ
ذي َ ِ مَهاد ُ ) (197ل َك ِ س ال ْ ِ وَب ِئ ْ َ
َ ْ
خي ٌْر ل ِلب َْرارِ )(198 ّ
عن ْد َ اللهِ َ ما ِ ّ ً اْل َن َْهاُر َ
عن ْدِ اللهِ وَ َ
ن ِ م ْ
ن ِفيَها ن ُُزل ِ دي َخال ِ ِ
ل ثُ ّ
م مَتاعٌ قَِلي ٌفُروا ِفي ال ِْبلدِ * َ ن كَ َ ذي َ ب ال ّ ِ قل ّ ُ } } { 198 - 196ل ي َغُّرن ّ َ
ك تَ َ
ْ
ن
م ْري ِ ج ِت تَ ْجّنا ٌ
م َم ل َهُ ْ
وا َرب ّهُ ْ
ق ْن ات ّ َ ذي َ ن ال ّ ِ َ
مَهاد ُ * لك ِ ِ س ال ْ ِ
م وَب ِئ ْ َجهَن ّ ُ
م َ
مأَواهُ ْ َ
خي ٌْر ِللب َْرارِ { . ّ
عن ْد َ اللهِ َ ما ِ ّ
عن ْدِ اللهِ وَ َ ن ِ م ْ ن ِفيَها ن ُُزل ِ دي َ
خال ِ ِ
حت َِها الن َْهاُر َ تَ ْ
وهذه الية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا،
وتنعمهم فيها ،وتقلبهم في البلد بأنواع التجارات والمكاسب واللذات،
وأنواع العز ،والغلبة في بعض الوقات ،فإن هذا كله } متاع قليل { ليس
له ثبوت ول بقاء ،بل يتمتعون به قليل ويعذبون عليه طويل هذه أعلى حالة
تكون للكافر ،وقد رأيت ما تؤول إليه.
وأما المتقون لربهم ،المؤمنون به -فمع ما يحصل لهم من عز الدنيا
ونعيمها } لهم جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها { .
فلو قدر أنهم في دار الدنيا ،قد حصل لهم كل بؤس وشدة ،وعناء ومشقة،
لكان هذا بالنسبة إلى النعيم المقيم ،والعيش السليم ،والسرور والحبور،
والبهجة نزرا يسيرا ،ومنحة في صورة محنة ،ولهذا قال تعالى } :وما عند
الله خير للبرار { وهم الذين برت قلوبهم ،فبرت أقوالهم وأفعالهم،
فأثابهم البر الرحيم من بره أجرا عظيما ،وعطاء جسيما ،وفوزا دائما.
) (1/162
ل إ ِل َي ْهِ ْ
م ما أ ُن ْزِ َ م وَ َ ما أ ُن ْزِ َ
ل إ ِل َي ْك ُ ْ ن ِبالل ّهِ وَ َ ن ي ُؤْ ِ
م ُ م ْب لَ َ ل ال ْك َِتا ِ ن أه ْ ِ
وإ ن م َ
َِ ّ ِ ْ
َ َ َ َ ُ ً َ ّ َ َ ّ
م
عن ْد َ َرب ّهِ ْ م ِ جُرهُ ْ مأ ْ مًنا قِليل أولئ ِك لهُ ْ ت اللهِ ث َ َ ن ب ِآَيا ِشت َُرو َ ن ل ِلهِ ل ي َ ْ شِعي َخا ِ َ
ُ
صاب ُِروا وََراب ِطوا َ ّ َ ْ ّ
صب ُِروا وَ َ مُنوا ا ْ نآ َ ذي َ ب )َ (199يا أي َّها ال ِ سا ِ ح َريعُ ال ِ س ِ ه َ ن الل َ إِ ّ
ن )(200 حو َ فل ِ ُ
م تُ ْ ُ ّ
ه لعَلك ْ َ ّ
قوا الل َ َوات ّ ُ
ل إ ِل َي ْك ُ ْ
م ما أ ُن ْزِ َ ن ِبالل ّهِ وَ َ م ُ ن ي ُؤْ ِ ب لَ َ
م ْ ل ال ْك َِتا ِ
} } { 200 - 199وإن م َ
ن أه ْ ِ َِ ّ ِ ْ
َ َ ُ ّ ما أ ُن ْزِ َ
م
ُ ْ ه ل كَ ِ ئ لأو ليل َ ق نا
ِ َ ً ِ م َ ث ه لال ت يا بآ ن
َ َُ َ ِ َ ِ رو تش ْ ي ل ن ل ِل ّهِشِعي َ خا ِم َ ل إ ِل َي ْهِ ْ وَ َ
َ َ
صب ُِروا مُنوا ا ْ نآ َ ذي َب * َيا أي َّها ال ّ ِ سا ِ ح َريعُ ال ْ ِ س ِ ه َ ن الل ّ َ م إِ ّعن ْد َ َرب ّهِ ْ م ِ جُرهُ ْ أ ْ
ن{. حو َ فل ِ ُ
م تُ ْه ل َعَل ّك ُ ْقوا الل ّ َ طوا َوات ّ ُ صاب ُِروا وََراب ِ ُ وَ َ
أي :وإن من أهل الكتاب طائفة موفقة للخير ،يؤمنون بالله ،ويؤمنون بما
أنزل إليكم وما أنزل إليهم ،وهذا اليمان النافع ل كمن يؤمن ببعض الرسل
والكتب ،ويكفر ببعض.
ولهذا -لما كان إيمانهم عاما حقيقيا -صار نافعا ،فأحدث لهم خشية الله،
وخضوعهم لجلله الموجب للنقياد لوامره ونواهيه ،والوقوف عند حدوده.
وهؤلء أهل الكتاب والعلم على الحقيقة ،كما قال تعالى } :إنما يخشى
الله من عباده العلماء { ومن تمام خشيتهم لله ،أنهم } ل يشترون بآيات
الله ثمًنا قليل { فل يقدمون الدنيا على الدين كما فعل أهل النحراف
الذين يكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمنا قليل وأما هؤلء فعرفوا المر
على الحقيقة ،وعلموا أن من أعظم الخسران ،الرضا بالدون عن الدين،
والوقوف مع بعض حظوظ النفس السفلية ،وترك الحق الذي هو :أكبر
حظ وفوز في الدنيا والخرة ،فآثروا الحق وبينوه ،ودعوا إليه ،وحذروا عن
الباطل ،فأثابهم الله على ذلك بأن وعدهم الجر الجزيل ،والثواب الجميل،
وأخبرهم بقربه ،وأنه سريع الحساب ،فل يستبطؤون ما وعدهم الله ،لن
ما هو آت محقق حصوله ،فهو قريب.
ثم حض المؤمنين على ما يوصلهم إلى الفلح -وهو :الفوز والسعادة
والنجاح ،وأن الطريق الموصل إلى ذلك لزوم الصبر ،الذي هو حبس
النفس على ما تكرهه ،من ترك المعاصي ،ومن الصبر على المصائب،
وعلى الوامر الثقيلة على النفوس ،فأمرهم بالصبر على جميع ذلك.
والمصابرة أي ) (1الملزمة والستمرار على ذلك ،على الدوام ،ومقاومة
العداء في جميع الحوال.
والمرابطة :وهي ) (2لزوم المحل ] ص [ 163الذي يخاف من وصول
العدو منه ،وأن يراقبوا أعداءهم ،ويمنعوهم من الوصول إلى مقاصدهم،
لعلهم يفلحون :يفوزون بالمحبوب الديني والدنيوي والخروي ،وينجون من
المكروه كذلك.
فعلم من هذا أنه ل سبيل إلى الفلح بدون الصبر والمصابرة والمرابطة
المذكورات ،فلم يفلح من أفلح إل بها ،ولم يفت أحدا الفلح إل بالخلل بها
أو ببعضها.
والله الموفق ول حول ول قوة إل به.
تم تفسير "سورة آل عمران" والحمد لله على نعمته ،ونسأله تمام النعمة.
__________
) (1في ب :هي.
) (2في النسختين وهو ،ولعل الصواب ما أثبت.
) (1/162
) (1/163
َ
جَها خل َقَ ِ
من َْها َزوْ َ حد َةٍ وَ َ
س َوا ٍِ ن نَ ْ
ف م ْ م ِ خل َ َ
قك ُ ْ ذي َ م ال ّ ِ
قوا َرب ّك ُ ُ
س ات ّ َُيا أي َّها الّنا ُ
ن
م إِ ّ ن ب ِهِ َواْل َْر َ
حا َ ساَءُلو َ ه ال ّ ِ
ذي ت َ َ قوا الل ّ َ ساًء َوات ّ ُجاًل ك َِثيًرا وَن ِ َ ما رِ َ
من ْهُ َ
ث ِوَب َ ّ
م َرِقيًبا )(1 ُ َ
ن عَلي ْك ْ َ
ه كا َ الل ّ َ
خل َ َ َ
قك ُ ْ
م ذي َ م ال ّ ِقوا َرب ّك ُ ُ
س ات ّ ُ حيم ِ َيا أي َّها الّنا ُ ن الّر ِ م ِ سم ِ الل ّهِ الّر ْ
ح َ } } { 1بِ ْ
قواساًء َوات ّ ُ جال ك َِثيًرا وَن ِ َ ما رِ َ من ْهُ َ
ث ِ جَها وَب َ ّ خل َقَ ِ
من َْها َزوْ َ حد َةٍ وَ َ س َوا ِ ف ٍ ن نَ ْم ْ ِ
م َرِقيًبا { . ن عَل َي ْك ُْ َ َ
كا ه
َ ّ لال ن إ م حا ر وال
َ ِ ِ َ ْ َ َ ِ ّ ه ب ن لو ُ َ ءسا ت
َ ِ َ َ ذي ّ لا ه ّ لال
افتتح تعالى هذه السورة بالمر بتقواه ،والحث على عبادته ،والمر بصلة
الرحام ،والحث على ذلك.
وبّين السبب الداعي الموجب لكل من ذلك ،وأن الموجب لتقواه أن
م { ورزقكم ،ورباكم بنعمه العظيمة ،التي من جملتها قك ُ ْخل َ َذي َ م ال ّ ِ
} َرب ّك ُ ُ
جَها { ليناسبها ،فيسكن إليها، خل َقَ ِ
من َْها َزوْ َ حد َةٍ وَ َ
س َوا ِ
ف ٍمن ن ّ ْ
خلقكم } ِ
وتتم بذلك النعمة ،ويحصل به السرور ،وكذلك من الموجب الداعي لتقواه
تساؤلكم به وتعظيمكم ،حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم،
توسلتم بها بالسؤال بالله .فيقول من يريد ذلك لغيره :أسألك بالله أن
تفعل المر الفلني؛ لعلمه بما قام في قلبه من تعظيم الله الداعي أن ل
يرد من سأله بالله ،فكما عظمتموه بذلك فلتعظموه بعبادته وتقواه.
وكذلك الخبار بأنه رقيب ،أي :مطلع على العباد في حال حركاتهم
وسكونهم ،وسرهم وعلنهم ،وجميع أحوالهم ،مراقبا لهم فيها مما يوجب
مراقبته ،وشدة الحياء منه ،بلزوم تقواه.
وفي الخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة ،وأنه بثهم في أقطار الرض ،مع
رجوعهم إلى أصل واحد -ليعطف بعضهم على بعض ،ويرقق بعضهم على
بعض .وقرن المر بتقواه بالمر ببر الرحام والنهي عن قطيعتها ،ليؤكد هذا
الحق ،وأنه كما يلزم القيام بحق الله ،كذلك يجب القيام بحقوق الخلق،
خصوصا القربين منهم ،بل القيام بحقوقهم هو من حق الله الذي أمر به.
وتأمل كيف افتتح هذه السورة بالمر بالتقوى ،وصلة الرحام والزواج
عموما ،ثم بعد ذلك فصل هذه المور أتم تفصيل ،من أول السورة إلى
آخرها .فكأنها مبنية على هذه المور المذكورة ،مفصلة لما أجمل منها،
موضحة لما أبهم.
جَها { تنبيه على مراعاة حق الزواج من َْها َزوْ َ
وفي قوله } :وخلق ِ
والزوجات والقيام به ،لكون الزوجات مخلوقات من الزواج ،فبينهم وبينهن
أقرب نسب وأشد اتصال ،وأقرب ) (1علقة.
__________
) (1في ب :وأوثق.
) (1/163
) (1/163
مث َْنى
ساِء َ ن الن ّ َ م َ م ِ ب ل َك ُ ْ طا َ ما َ حوا َ مى َفان ْك ِ ُ طوا ِفي ال ْي ََتا َ س ُ ق ِ م أ َّل ت ُ ْ
فت ُ ْ
خ ْ
ن ِوَإ ِ ْ
ك أ َد َْنى أ َلّ م ذ َل ِ َمان ُك ُ ْ
َ
ت أي ْ َ ملك َ َْ ما َ
َ
حد َةً أوْ َ وا ِ ُ
م أل ت َعْدِلوا فَ َّ َ
فت ُ ْ
خ ْن ِ ث وَُرَباعَ فَإ ِ ْ وَث َُل َ
َ
سا ف ً
ه نَ ْ من ْ ُيٍء ِ ش ْ ن َ م عَ ْ ن ل َك ُ ْ ن ط ِب ْ َة فَإ ِ ْ حل َ ً صد َُقات ِهِ ّ
ن نِ ْ ساَء َ ت َُعوُلوا ) (3وَآُتوا الن ّ َ
ريًئا )(4 م ِ فَك ُُلوهُ هَِنيًئا َ
وفيه المر بإصلح مال اليتيم ،لن تمام إيتائه ماله حفظه والقيام به بما
يصلحه وينميه وعدم تعريضه للمخاوف والخطار ] .ص [ 164
نم َ م ِ ُ
ب لك ْ َ طا َ ما َ حوا َ مى َفان ْك ِ ُ طوا ِفي ال ْي ََتا َ س ُ ق ِ م َأل ت ُ ْ فت ُ ْ
خ ْن ِ } } { 4 ، 3وَإ ِ ْ
َ َ َ ُ َ
مان ُك ُ ْ
م ت أي ْ َ ملك َ ْ ما َحد َةً أوْ َ وا ِ م أل ت َعْدِلوا فَ َ فت ُ ْ
خ ْ
ن ِ ث وَُرَباعَ فَإ ِ ْ مث َْنى وَُثل َساِء َ الن ّ َ
َ َ ُ َ َ
يءٍ ش ْ ن َ م عَ ْ ن لك ُ ْ ن ط ِب ْ َ ة فَإ ِ ْ حل ً ن نِ ْصد َُقات ِهِ ّ ساَء َ ك أد َْنى أل ت َُعولوا * َوآُتوا الن ّ َ ذ َل ِ َ
ريًئا { . سا فَك ُُلوهُ هَِنيًئا َ
م ِ ف ً
ه نَ ْمن ْ ُ
ِ
أي :وإن خفتم أل تعدلوا في يتامى النساء اللتي تحت حجوركم ووليتكم
وخفتم أن ل تقوموا بحقهن لعدم محبتكم إياهن ،فاعدلوا إلى غيرهن،
ساء { أي :ما وقع عليهن اختياركم من ن الن ّ َ م َ
كم ّ ب لَ ُ طا َ ما َ وانكحوا } َ
ذوات الدين ،والمال ،والجمال ،والحسب ،والنسب ،وغير ذلك من الصفات
الداعية لنكاحهن ،فاختاروا على نظركم ،ومن أحسن ما يختار من ذلك
صفة الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم" :تنكح المرأة لربع لمالها
ت يمينك" ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين ت َرِب َ ْ
وفي هذه الية -أنه ينبغي للنسان أن يختار قبل النكاح ،بل وقد أباح له
ن يريد تزوجها ليكون على بصيرة من أمره .ثم ذكر م ْ الشارع النظر إلى َ
ن أحب م ْ ث وَُرَباعَ { أيَ : مث َْنى وَُثل َ العدد الذي أباحه من النساء فقالَ } :
أن يأخذ اثنتين فليفعل ،أو ثلثا فليفعل ،أو أربعا فليفعل ،ول يزيد عليها،
لن الية سيقت لبيان المتنان ،فل يجوز الزيادة على غير ما سمى الله
تعالى إجماعا.
وذلك لن الرجل قد ل تندفع شهوته بالواحدة ،فأبيح له واحدة بعد واحدة،
حتى يبلغ أربعا ،لن في الربع غنية لكل أحد ،إل ما ندر ،ومع هذا فإنما يباح
له ذلك إذا أمن على نفسه الجور والظلم ،ووثق بالقيام بحقوقهن.
فإن خاف شيئا من هذا فليقتصر على واحدة ،أو على ملك يمينه .فإنه ل
يجب عليه القسم في ملك اليمين } ذ َِلك { أي :القتصار على واحدة أو ما
ملكت اليمين } أ َد َْنى َأل ت َُعوُلوا { أي :تظلموا.
وفي هذا أن تعرض العبد للمر الذي يخاف منه الجور والظلم ،وعدم
حا -أنه ل ينبغي له أن يتعرض له ،بل يلزم القيام بالواجب -ولو كان مبا ً
السعة والعافية ،فإن العافية خير ما أعطي العبد.
ولما كان كثير من الناس يظلمون النساء ويهضمونهن حقوقهن ،خصوصا
الصداق الذي يكون شيئا كثيًرا ،ودفعة واحدة ،يشق دفعه للزوجة ،أمرهم
ة { أي :عن حل َ ًن { أي :مهورهن } ن ِ ْ صد َُقات ِهِ ّ وحثهم على إيتاء النساء } َ
طيب نفس ،وحال طمأنينة ،فل تمطلوهن أو تبخسوا منه شيئا .وفيه :أن
المهر يدفع إلى المرأة إذا كانت مكلفة ،وأنها تملكه بالعقد ،لنه أضافه
إليها ،والضافة تقتضي التمليك.
سا { بأن سمحن ف ً ه { أي :من الصداق } ن َ ْ من ْ ُيٍء ّش ْ ن َ كم عَ ْ ن لَ ُ
ن ط ِب ْ َ} فَإ ِ ْ
لكم عن رضا واختيار بإسقاط شيء منه ،أو تأخيره أو المعاوضة عنه.
ريًئا { أي :ل حرج عليكم في ذلك ول تبعة. م ِ} فَك ُُلوهُ هَِنيًئا َ
وفيه دليل على أن للمرأة التصرف في مالها -ولو بالتبرع -إذا كانت
رشيدة ،فإن لم تكن كذلك فليس لعطيتها حكم ،وأنه ليس لوليها من
الصداق شيء ،غير ما طابت به.
ساء { دليل على أن نكاح ن الن ّ َم َ ُ
ب لكم ّ َ طا َ ما َ حوا َ وفي قولهَ } :فان ْك ِ ُ
الخبيثة غير مأمور به ،بل منهي عنه كالمشركة ،وكالفاجرة ،كما قال
حَها
ة ل َينك ِ ُ
ن { وقالَ } :والّزان ِي َ ُ حّتى ي ُؤْ ِ
م ّ ت َ كا ِ شرِ َم ْحوا ال ْ ُ تعالىَ } :ول َتنك ِ ُ
ك{. شرِ ٌ م ْ إل زا َ
ن أو ْ ُِ َ ٍ
) (1/163
َ
ما َواْرُزُقوهُ ْ
م ِفيَها ه ل َك ُ ْ
م قَِيا ً ل الل ّ ُ م ال ِّتي َ
جعَ َ وال َك ُ ُ
م َفَهاَء أ ْ وََل ت ُؤُْتوا ال ّ
س َ
معُْروًفا )(5م قَوًْل َ م وَُقوُلوا ل َهُ ْ
سوهُ َْواك ْ ُ
َ
ما َواْرُزُقوهُ ْ
م ه ل َك ُ ْ
م قَِيا ً ل الل ّ ُ م ال ِّتي َ
جعَ َ وال َك ُ ُ
م َ
فَهاَء أ ْس َ} َ } { 5ول ت ُؤُْتوا ال ّ
معُْروًفا { . ول َ م وَُقوُلوا ل َهُ ْ
م قَ ْ سوهُ ْ ِفيَها َواك ْ ُ
وقوله تعالى } :ول تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما
وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قول معروفا { السفهاء :جمع
"سفيه" وهو :من ل يحسن التصرف في المال ،إما لعدم عقله كالمجنون
والمعتوه ،ونحوهما ،وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد .فنهى الله
الولياء أن يؤتوا هؤلء أموالهم خشية إفسادها وإتلفها ،لن الله جعل
الموال قياما لعباده في مصالح دينهم ودنياهم ،وهؤلء ل يحسنون القيام
عليها وحفظها ،فأمر الولي أن ل يؤتيهم إياها ،بل يرزقهم منها ويكسوهم،
ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية ،وأن يقولوا
لهم قول معروفا ،بأن يعدوهم -إذا طلبوها -أنهم سيدفعونها لهم بعد
رشدهم ،ونحو ذلك ،ويلطفوا لهم في القوال جبًرا لخواطرهم.
وفي إضافته تعالى الموال إلى الولياء ،إشارة إلى أنه يجب عليهم أن
يعملوا في أموال السفهاء ما يفعلونه في أموالهم ،من الحفظ والتصرف
وعدم التعريض للخطار .وفي الية دليل على أن نفقة المجنون والصغير
م ِفيَهاوالسفيه في مالهم ،إذا كان لهم مال ،لقولهَ } :واْرُزُقوهُ ْ
م{. سوهُ ْ َواك ْ ُ
وفيه دليل على أن قول الولي مقبول فيما يدعيه من النفقة الممكنة
والكسوة؛ لن الله جعله مؤتمنا على مالهم فلزم قبول قول المين.
) (1/164
ح فَإ ْ َ
دا َفاد ْفَُعوا إ ِل َي ْهِ ْ
م ش ً م ُر ْ من ْهُ ْ
م ِ ست ُ ْ
ن آن َ ْ كا ََ ِ ذا ب َل َُغوا الن ّ َ حّتى إ ِ َ مى َ َواب ْت َُلوا ال ْي ََتا َ
ْ َ
ف ف ْ ست َعْ ِن غَن ِّيا فَل ْي َ ْ كا َن َ ْ ن ي َك ْب َُروا وَ َ
م داًرا أ ْ سَراًفا وَب ِ َ ها إ ِ ْ م وََل ت َأك ُُلو َ وال َهُ َْ م
أ ْ
دوا شه ِ ُم فَأ َ ْ وال َهُ ْم َ
ذا دفَعتم إل َيه َ
مأ ْ ف فَإ ِ َ َ ْ ُ ْ ِ ْ ِ ْ معُْرو ِ قيًرا فَل ْي َأ ْك ُ ْ
ل ِبال ْ َ ن فَ ِ كا َن َ م ْ وَ َ
سيًبا )(6 ح ِ ّ
فى ِباللهِ َ َ
م وَك َ َ
عَلي ْهِ ْ
دا
ش ً م ُر ْ من ْهُ ْ م ِ ست ُ ْن آن َ ْح فَإ ِ ْ كا َ ذا ب َل َُغوا الن ّ َحّتى إ ِ َ مى َ } َ } { 6واب ْت َُلوا ال ْي ََتا َ
َ ْ َفادفَعوا إل َيه َ
ن غَن ِّيا كا َ ن َ م ْ ن ي َك ْب َُروا وَ َ داًرا أ ْ سَراًفا وَب ِ َ ها إ ِ ْ م َول ت َأك ُُلو َ وال َهُ ْ َ م
مأ ْ ْ ُ ِ ِْ ْ
َ َ َ ْ ْ ْ
م
والهُ ْ م َ مأ ْ م إ ِلي ْهِ ْ َ
ذا د َفعْت ُ ْ َ
ف فإ ِ َ معُْرو ِ ْ ُ
قيًرا فلي َأكل ِبال َ َ نف َِ ن كا ََ م ْ ف وَ َ ف ْست َعْ ِفَل ْي َ ْ
سيًبا { . ح ِ فى ِبالل ّهِ َ م وَك َ َ دوا عَل َي ْهِ ْ شه ِ ُ فَأ َ ْ
البتلء :هو الختبار والمتحان ،وذلك بأن يدفع لليتيم المقارب للرشد،
الممكن رشده ،شيئا من ماله ،ويتصرف فيه التصرف اللئق بحاله ،فيتبين
بذلك رشده من سفهه ،فإن ] ص [ 165استمر غير محسن للتصرف لم
يدفع إليه ماله ،بل هو باق على سفهه ،ولو بلغ عمرا كثيرا.
َ َ
م{ والهُ ْ م َ مأ ْ فإن تبين رشده وصلحه في ماله وبلغ النكاح } َفاد ْفَُعوا إ ِل َي ْهِ ْ
ْ
سَراًفا { أي :مجاوزة للحد الحلل الذي أباحه ها إ ِ ْكاملة موفرةَ } .ول ت َأك ُُلو َ
الله لكم من أموالكم ،إلى الحرام الذي حرمه الله عليكم من أموالهم.
ن ي َك ْب َُروا { أي :ول تأكلوها في حال صغرهم التي ل يمكنهم فيها َ
داًرا أ ْ } وَب ِ َ
أخذها منكم ،ول منعكم من أكلها ،تبادرون بذلك أن يكبروا ،فيأخذوها منكم
ويمنعوكم منها.
وهذا من المور الواقعة من كثير من الولياء ،الذين ليس عندهم خوف من
الله ،ول رحمة ومحبة للمولى عليهم ،يرون هذه الحال حال فرصة
فيغتنمونها ويتعجلون ما حرم الله عليهم ،فنهى الله تعالى عن هذه الحالة
بخصوصها.
) (1/164
ما ت ََر َ
ك م ّ
ب ِ
صي ٌ
ساِء ن َ ِ ن َواْل َقَْرُبو َ
ن وَِللن ّ َ دا ِ ك ال ْ َ
وال ِ َ ما ت ََر َم ّ
ب ِصي ٌ ل نَ ِجا ِ ِللّر َ
َ َ ْ
ضا )(7 فُرو ً م ْ
صيًبا َ َ
ه أوْ كث َُر ن َ ِ من ْ ُل ِ ما قَ ّم ّ
ن ِ ن َوالقَْرُبو َ دا ِ ال ْ َ
وال ِ َ
ما
م ّ
ب ِصي ٌ
ساِء ن َ ِ
ن وَِللن ّ َن َوالقَْرُبو َ دا ِ ك ال ْ َ
وال ِ َ ما ت ََر َ م ّ ب ِ صي ٌ
ل نَ ِ جا ِ
} ِ } { 7للّر َ
َ
ضا { . فُرو ً م ْصيًبا َه أوْ ك َث َُر ن َ ِ من ْ ُ
ل ِ ما قَ ّ م ّ ن ِ ن َوالقَْرُبو َ دا ِ ك ال ْ َ
وال ِ َ ت ََر َ
كان العرب في الجاهلية -من جبروتهم ) (1وقسوتهم ل يورثون الضعفاء
كالنساء والصبيان ،ويجعلون الميراث للرجال القوياء لنهم -بزعمهم -أهل
الحرب والقتال والنهب والسلب ،فأراد الرب الرحيم الحكيم أن يشرع
عا ،يستوي فيه رجالهم ونساؤهم ،وأقوياؤهم وضعفاؤهم .وقدم لعباده شر ً
ّ
بين يدي ذلك أمرا مجمل لتتوطن على ذلك النفوس.
فيأتي التفصيل بعد الجمال ،قد تشوفت له النفوس ،وزالت الوحشة التي
ب { :أي :قسط وحصة صي ٌ ل نَ ِ جا ِ منشؤها العادات القبيحة ،فقالِ } :للّر َ
ن { عموم دان { أي :الب والم } َوالقَْرُبو َ وال ِ َك { أي :خلف } ال ْ َ ما ت ََر َ م ّ} ِ
ن{ ن َوالقَْرُبو َ دا ِ
وال ِ َ ْ
ك ال َ ما ت ََر َ م ّ ب ّ صي ٌ ساِء ن َ ِ
بعد خصوص } وَِللن ّ َ
فكأنه قيل :هل ذلك النصيب راجع إلى العرف والعادة ،وأن يرضخوا لهم
ضا { :أي :قد فُرو ًم ْ
صيًبا َ
ما يشاءون؟ أو شيئا مقدرا؟ فقال تعالى } :ن َ ِ
قدره العليم الحكيم .وسيأتي -إن شاء الله -تقدير ذلك.
وأيضا فهاهنا توهم آخر ،لعل أحدا يتوهم أن النساء والولدان ليس لهم
ه أ َوْ ك َث َُر {
من ْ ُ
ل ِما قَ ّم ّ
نصيب إل من المال الكثير ،فأزال ذلك بقولهِ } :
فتبارك الله أحسن الحاكمين.
__________
) (1في النسختين :جبريتهم.
) (1/165
ه وَُقوُلوا
من ْ ُ ن َفاْرُزُقوهُ ْ
م ِ كي ُ
سا ِ مى َوال ْ َ
م َ ة ُأوُلو ال ْ ُ
قْرَبى َوال ْي ََتا َ م َ
س َ ضَر ال ْ ِ
ق ْ ح َذا َوَإ ِ َ
معُْروًفا )(8 م قَوًْل َ
ل َهُ ْ
من َفاْرُزُقوهُ ْ كي ُ
سا ِ مى َوال ْ َ
م َ قْرَبى َوال ْي ََتا َ ة ُأوُلو ال ْ ُم َس َ ضَر ال ْ ِ
ق ْ ح َذا َ } } { 8وَإ ِ َ
معُْروًفا { . ول َ م قَ ْه وَُقوُلوا ل َهُ ْ من ْ ُ ِ
ضَر
ح َ ذا َ وهذا من أحكام الله الحسنة الجليلة الجابرة للقلوب فقال } :وَإ ِ َ
قْرَبى { أي :القارب غير ة { أي :قسمة المواريث } ُأوُلو ال ْ ُ م َس َ ق ْ ال ْ ِ
ة { لن الوارثين من المقسوم عليهم. م َ
س َق ْالوارثين بقرينة قوله } :ال ْ ِ
هم كين { أي :المستحقون من الفقراءَ } .فاْرُزُقو ُ سا ِ
م َمى َوال ْ َ } َوال ْي ََتا َ
ه { أي :أعطوهم ما تيسر من هذا المال الذي جاءكم بغير كد ول تعب، من ْ ُ ّ
صب ،فإن نفوسهم متشوفة إليه ،وقلوبهم متطلعة ،فاجبروا َ َ ن ول عناء ول
خواطرهم بما ل يضركم وهو نافعهم.
ويؤخذ من المعنى أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي
النسان ،ينبغي له أن يعطيه منه ما تيسر ،كما كان النبي صلى الله عليه
مه بطعامه فليجلسه معه ،فإن لم يجلسه دكم خاد ُ وسلم يقول" :إذا جاء أح َ
معه ،فليناوله لقمة أو لقمتين" أو كما قال.
وكان الصحابة رضي الله عنهم -إذا بدأت باكورة أشجارهم -أتوا بها رسول
الله صلى الله عليه وسلم فبّرك عليها ،ونظر إلى أصغر وليد عنده فأعطاه
ذلك ،علما منه بشدة تشوفه لذلك ،وهذا كله مع إمكان العطاء ،فإن لم
يمكن ذلك -لكونه حق سفهاء ،أو َثم أهم من ذلك -فليقولوا لهم } َقول
معُْروًفا { يردوهم ) (1رّدا جميل بقول حسن غير فاحش ول قبيح. َ
__________
) (1في ب :يردونهم.
) (1/165
قوا الل ّ َ
ه م فَل ْي َت ّ ُ خاُفوا عَل َي ْهِ ْ ضَعاًفا َ ة ِ م ذ ُّري ّ ً خل ْ ِ
فه ِ ْ ن َ م ْكوا ِن ل َوْ ت ََر ُ ش ال ّ ِ
ذي َ خ َ وَل ْي َ ْ
ْ َ ْ
ما ي َأك ُُلو َ
ن ما إ ِن ّ َ مى ظ ُل ْ ً ل ال ْي ََتا َ
وا َ
م َ
نأ ْ ن ي َأك ُُلو َ ذي َ ن ال ّ ِ
دا ) (9إ ِ ّ دي ً
س ِ قوُلوا قَوًْل َ وَل ْي َ ُ
سِعيًرا )(10 ن َ صل َوْ َ
سي َ ْ
م َناًرا وَ َطون ِهِ ِْفي ب ُ ُ
خاُفوا عَل َي ْهِ ْ
م ضَعاًفا َ ة ِ م ذ ُّري ّ ً خل ْ ِ
فه ِ ْ ن َ م ْ كوا ِ ن ل َوْ ت ََر ُ ذي َش ال ّ ِ خ َ } } { 10 ، 9وَل ْي َ ْ
َ ْ
ما مى ظ ُل ْ ً ل ال ْي ََتا َ وا َ م َنأ ْ ن ي َأك ُُلو َ ذي َ ن ال ّ ِ دا * إ ِ ّ دي ً
س ِ ول َ قوُلوا قَ ْ ه وَل ْي َ ُ
قوا الل ّ َ فَل ْي َت ّ ُ
ْ
سِعيًرا { . ن َ صل َوْ َسي َ ْ م َناًرا وَ َ ن ِفي ب ُ ُ
طون ِهِ ْ ما ي َأك ُُلو َ إ ِن ّ َ
ن حضره الموت وأجنف في وصيته ،أن م ْ قيل :إن هذا خطاب لمن يحضر َ
ول قولوا قَ ْ ُ ْ
يأمره بالعدل في وصيته والمساواة فيها ،بدليل قوله } :وَلي َ ُ
دا { أي :سدادا ،موافقا للقسط والمعروف .وأنهم يأمرون من يريد دي ً س ِ َ
الوصية على أولده بما يحبون معاملة أولدهم بعدهم.
وقيل :إن المراد بذلك أولياء السفهاء من المجانين والصغار والضعاف أن
ن
م ْ يعاملوهم في مصالحهم الدينية والدنيوية بما يحبون أن يعامل به َ
ه { في وليتهم لغيرهم ،أي: قوا الل ّ َ بعدهم من ذريتهم الضعاف } فَل ْي َت ّ ُ
يعاملونهم بما فيه تقوى الله ،من عدم إهانتهم والقيام عليهم ،وإلزامهم
لتقوى الله.
ولما أمرهم بذلك ،زجرهم عن أكل أموال اليتامى ،وتوعد على ذلك أشد
] ص [ 166العذاب فقال } :إن ال ّذين يأ ْك ُُلو َ
ما { أي: مى ظ ُل ْ ً ل ال ْي ََتا َ وا َ
م َنأ ْ َ ِ َ َ ِ ّ
بغير حق .وهذا القيد يخرج به ما تقدم ،من جواز الكل للفقير بالمعروف،
ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى.
ُ ْ
م َناًرا { أي :فإن الذي أكلوه ن ِفي ب ُطون ِهِ ْ ما فـ } إنما ي َأك ُُلو َ ن أكلها ظل ً م ْ ف َ
ن
صلوْ َ َ سي َ ْ نار تتأجج في أجوافهم وهم الذين أدخلوها في بطونهم } .وَ َ
سِعيًرا { أي :ناًرا محرقة متوقدة .وهذا أعظم وعيد ورد في الذنوب ،يدل َ
على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها ،وأنها موجبة لدخول النار ،فدل
ذلك أنها من أكبر الكبائر .نسأل الله العافية.
) (1/165
َ
ساًء فَوْقَ اث ْن َت َي ْ ِ
ن ن نِ َ ن كُ ّ ن فَإ ِ ْ ِ ظ اْل ُن ْث َي َي ْ ح ّ ل َ م ِللذ ّك َرِ ِ
مث ْ ُ ه ِفي أوَْلدِك ُ ْ م الل ّ ُ صيك ُ ُ ُيو ِ
َ
ما من ْهُ َ حدٍ ِ ل َوا ِ ف وَِلب َوَي ْهِ ل ِك ُ ّ ص ُ حد َةً فَل ََها الن ّ ْ ت َوا ِ كان َ ْن َ ك وَإ ِ ْ ما ت ََر َ ن ث ُل َُثا َ فَل َهُ ّ
ُ َ
ه
م ِ واهُ فَِل ّ ه أب َ َه وَل َد ٌ وَوَرِث َ ُ ن لَ ُ م ي َك ُ ْ ن لَ ْه وَل َد ٌ فَإ ِ ْن لَ ُ كا َ ن َك إِ ْ ما ت ََر َ م ّس ِ سد ُ ُ ال ّ
َ ُ
ن صي ب َِها أوْ د َي ْ ٍ صي ّةٍ ُيو ِ ن ب َعْدِ وَ ِ م ْس ِ سد ُ ُ مهِ ال ّ خوَةٌ فَِل ّ ه إِ ْن لَ ُكا َن َ ث فَإ ِ ْ الث ّل ُ ُ
َ َ َ َ
نكا َ ه َ ن الل ّ َ ن الل ّهِ إ ِ ّ م َ ة ِ ض ًري َ فًعا فَ ِ ب ل َك ُ ْ
م نَ ْ م أقَْر ُ ن أي ّهُ ْ م َل ت َد ُْرو َ م وَأب َْناؤُك ُ ْ آَباؤُك ُ ْ
ما )(11 كي ًح ِ ما َ عَِلي ً
ل َ ّ َ
ن كُ ّ
ن ن فَإ ِ ْ حظ الن ْث َي َي ْ ِ م ِللذ ّك َرِ ِ
مث ْ ُ ه ِفي أْولدِك ُ ْ م الل ّ ُ صيك ُ ُ } ُ } { 12 ، 11يو ِ
ه
ف َولب َوَي ْ ِ ص ُ حد َةً فَل ََها الن ّ ْ ت َوا ِ كان َ ْن َ ك وَإ ِ ْ ما ت ََر َ ن ث ُل َُثا َ ن فَل َهُ ّ ساًء فَوْقَ اث ْن َت َي ْ ِ نِ َ
ه وَل َد ٌ ن لَ ُ م ي َك ُ ْ ن لَ ْ
ه وَل َد ٌ فَإ ِ ْ ن لَ ُ كا َ ن َ ك إِ ْ ما ت ََر َ م ّ س ِسد ُ ُ ما ال ّ من ْهُ َ حدٍ ِ ل َوا ِ ل ِك ُ ّ
َ
ة
صي ّ ٍ ن ب َعْدِ وَ ِ م ْس ِ سد ُ ُ مهِ ال ّ خوَةٌ َفل ّ ه إِ ْ ن لَ ُ كا َن َ ث فَإ ِ ْ مهِ الث ّل ُ ُ واهُ َفل ّ ه أب َ َ وَوَرِث َ ُ
َ َ َ َ
ة
ض ً ري َ فًعا فَ ِ م نَ ْب ل َك ُ ْم أقَْر ُ ن أي ّهُ ْ م ل ت َد ُْرو َ م وَأب َْناؤُك ُ ْ ن آَباؤُك ُ ْ صي ب َِها أوْ د َي ْ ٍ ُيو ِ
ما { . كي ًح ِ ما َ ن عَِلي ً َ
ه كا َ ّ
ن الل َ ّ
ن اللهِ إ ِ ّ م َِ
هذه اليات والية التي هي آخر السورة هن آيات المواريث المتضمنة لها.
حقوا فإنها مع حديث عبد الله بن عباس الثابت في صحيح البخاري "أل ْ ِ
الفرائض بأهلها ،فما بقي فلولى رجل ذكر" -مشتملت على جل أحكام
الفرائض ،بل على جميعها كما سترى ذلك ،إل ميراث الجدات فإنه غير
مذكور في ذلك .لكنه قد ثبت في السنن عن المغيرة بن شعبة ومحمد بن
مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس ،مع إجماع
العلماء على ذلك.
م { أي :أولدكم -يا معشر ُ َ ّ ُ
ه ِفي أْولدِك ْ م الل ُ صيك ُ فقوله تعالىُ } :يو ِ
دين -عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم ،لتقوموا بمصالحهم الدينية الوال ِ ِ
والدنيوية ،فتعلمونهم وتؤدبونهم وتكفونهم عن المفاسد ،وتأمرونهم بطاعة
َ
مُنوا ُقوا نآ َ الله وملزمة التقوى على الدوام كما قال تعالىَ } :يا أي َّها ال ّ ِ
ذي َ
س َوال ْ ِ َ َأن ُ
جاَرةُ { فالولد عند والديهم ح َ ها الّنا ُ م َناًرا وَُقود ُ َ م وَأهِْليك ُ ْ سك ُ ْف َ
موصى بهم ،فإما أن يقوموا بتلك الوصية ،وإما أن يضيعوها فيستحقوا
بذلك الوعيد والعقاب.
وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين ،حيث أوصى
الوالدين مع كمال شفقتهم ،عليهم.
ن { أي :الولد للصلب، َ ّ ُ ْ ثم ذكر كيفية إرثهم فقالِ } :للذ ّك َرِ ِ
حظ الن ْثي َي ْ ِ مثل َ
والولد للبن ،للذكر مثل حظ النثيين ،إن لم يكن معهم صاحب فرض ،أو
ما أبقت الفروض يقتسمونه كذلك ،وقد أجمع العلماء على ذلك ،وأنه -مع
وجود أولد الصلب -فالميراث لهم .وليس لولد البن شيء ،حيث كان
أولد الصلب ذكوًرا وإناثا ،هذا مع اجتماع الذكور والناث .وهنا حالتان:
ن
نك ُّ انفراد الذكور ،وسيأتي حكمها .وانفراد الناث ،وقد ذكره بقوله } :فَإ ِ ْ
مان ث ُل َُثا َ ن { أي :بنات صلب أو بنات ابن ،ثلثا فأكثر } فَل َهُ ّ ساًء فَوْقَ اث ْن َت َي ْ ِ نِ َ
ف { وهذا إجماع. ص ُ َ
دة { أي :بنتا أو بنت ابن } فَلَها الن ّ ْ ح َت َوا ِ كان َ ْ ك وَِإن َ ت ََر َ
بقي أن يقال :من أين يستفاد أن للبنتين الثنتين الثلثين بعد الجماع على
ذلك؟
ف { فمفهوم ص ُ حد َةً فَل ََها الن ّ ْ ت َوا ِ كان َ ْ ن َ فالجواب أنه يستفاد من قوله } :وَإ ِ ْ
م بعده إل ذلك أنه إن زادت على الواحدة ،انتقل الفرض عن النصف ،ول ث َ ّ
ن { إذا خّلف ابًنا وبنًتا ،فإن حظ الن ْث َي َي ْ ِ
ل َ ّ الثلثان .وأيضا فقولهِ } :للذ ّك َرِ ِ
مث ْ ُ
البن له الثلثان ،وقد أخبر الله أنه مثل حظ النثيين ،فدل ذلك على أن
للبنتين الثلثين.
ضا فإن البنت إذا أخذت الثلث مع أخيها -وهو أزيد ضرًرا عليها من وأي ً
أختها ،فأخذها له مع أختها من باب أولى وأحرى.
ُ
ما الث ّلَثا ِ َ
ن فَلهُ َ ن َ وأيضا فإن قوله تعالى في الختين } :فَإ ِ ْ
ما
م ّ ن ِ كان ََتا اث ْن َت َي ْ ِ
ك { نص في الختين الثنتين. ت ََر َ
فإذا كان الختان الثنتان -مع ُبعدهما -يأخذان الثلثين فالبنتان -مع قربهما-
من باب أولى وأحرى .وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنتي سعد
الثلثين كما في الصحيح.
بقي أن يقال :فما الفائدة في قوله } :فَوْقَ اث ْن َت َْين { ؟ .قيل :الفائدة في
ذلك -والله أعلم -أنه ليعلم أن الفرض الذي هو الثلثان ل يزيد بزيادتهن
دا .ودلت الية الكريمة أنه إذا وجد بنت على الثنتين بل من الثنتين فصاع ً
صلب واحدة ،وبنت ابن أو بنات ابن ،فإن لبنت الصلب النصف ،ويبقى من
الثلثين اللذين فرضهما الله للبنات أو بنات البن السدس ،فيعطى بنت
البن ،أو بنات البن ،ولهذا يسمى هذا السدس تكملة الثلثين ] .ص [ 167
ومثل ذلك بنت البن ،مع بنات البن اللتي أنزل منها.
ن
م ْ وتدل الية أنه متى استغرق البنات أو بنات البن الثلثين ،أنه يسقط َ
ن بنات البن لن الله لم يفرض لهن إل الثلثين ،وقد تم .فلو لم م ْ
دونهن ِ
يسقطن لزم من ذلك أن يفرض لهن أزَيد من الثلثين ،وهو خلف النص.
وكل هذه الحكام مجمع عليها بين العلماء ولله الحمد.
ك { أن الوارثين يرثون كل ما خلف الميت من عقار ما ت ََر َ م ّ ودل قولهِ } :
وأثاث وذهب وفضة وغير ذلك ،حتى الدية التي لم تجب إل بعد موته،
وحتى الديون التي في الذمم ). (1
ما
من ْهُ َحدٍ ّ ل َوا ِ ثم ذكر ميراث البوين فقالَ } :ولب َوَي ْهِ { أي :أبوه وأمه } ل ِك ُ ّ
ه وَل َد ٌ { أي :ولد صلب أو ولد ابن ذكًرا كان أو ن لَ ُ كا َن َ ك إِ ْ ما ت ََر َ م ّ س ِ سد ُ ُ ال ّ
دا. دا أو متعد ً أنثى ،واح ً
فأما الم فل تزيد على السدس مع أحد من الولد.
وأما الب فمع الذكور منهم ،ل يستحق أزيد من السدس ،فإن كان الولد
أنثى أو إناثا ولم يبق بعد الفرض شيء -كأبوين وابنتين -لم يبق له
تعصيب .وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء أخذ الب السدس
ضا ،والباقي تعصيًبا ،لننا ألحقنا الفروض بأهلها ،فما بقي فلولى رجل فر ً
ذكر ،وهو أولى من الخ والعم وغيرهما.
ُ كن ل ّه ول َد وورث َ َ
ث { أي :والباقي للب لنه مهِ الث ّل ُ واهُ َفل ّ ه أب َ َ ُ َ ٌ َ َ ِ ُ م يَ ُ } فَِإن ل ّ ْ
أضاف المال إلى الب والم إضافة واحدة ،ثم قدر نصيب الم ،فدل ذلك
على أن الباقي للب.
وعلم من ذلك أن الب مع عدم الولد ل فرض له ،بل يرث تعصيبا المال
كله ،أو ما أبقت الفروض ،لكن لو وجد مع البوين أحد الزوجين -ويعبر
عنهما بالعمريتين -فإن الزوج أو الزوجة يأخذ فرضه ،ثم تأخذ الم ثلث
الباقي والب الباقي.
مهِ الث ّل ُ ُ َ
ث { أي :ثلث ما ورثه واهُ َفل ّ ه أب َ َ وقد دل على ذلك قوله } :وَوَرِث َ ُ
البوان .وهو في هاتين الصورتين إما سدس في زوج وأم وأب ،وإما ربع
ث المال كامل مع عدم في زوجة وأم وأب .فلم تدل الية على إرث الم ثل َ
الولد حتى يقال :إن هاتين الصورتين قد استثنيتا من هذا.
ويوضح ذلك أن الذي يأخذه الزوج أو الزوجة بمنزلة ما يأخذه الغرماء،
فيكون من رأس المال ،والباقي بين البوين.
ولنا لو أعطينا الم ثلث المال ،لزم زيادتها على الب في مسألة الزوج ،أو
ف السدس ،وهذا ل نظير له، أخذ الب في مسألة الزوجة زيادة عنها نص َ
ف ما تأخذه الم. فإن المعهود مساواتها للب ،أو أخذه ضع َ
س { أشقاء ،أو لب ،أو لم ،ذكوًرا كانوا أو سد ُ ُ مهِ ال ّ خوَةٌ َفل ّ ه إِ ْ ن لَ ُ كا َ } فَِإن َ
إناًثا ،وارثين أو محجوبين بالب أو الجد ]لكن قد يقال :ليس ظاهُر قوله} :
خوَةٌ { شامل لغير الوارثين بدليل عدم تناولها للمحجوب ه إِ ْ ن لَ ُ كا َ ن َ فَإ ِ ْ
بالنصف ،فعلى هذا ل يحجبها عن الثلث من الخوة إل الخوة الوارثون.
ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث لجل أن يتوفر لهم شيء من
المال ،وهو معدوم ،والله أعلم[ ) (2ولكن بشرط كونهم اثنين فأكثر،
ويشكل على ذلك إتيان لفظ "الخوة" بلفظ الجمع .وأجيب عن ذلك بأن
المقصود مجرد التعدد ،ل الجمع ،ويصدق ذلك باثنين.
وقد يطلق الجمع ويراد به الثنان ،كما في قوله تعالى عن داود وسليمان
ثل ُيوَر ُ ج ٌن َر ُ كا َن { وقال في الخوة للم } :وَِإن َ دي َ شاهِ ِ م َ مه ِ ْ حك ْ ِ } وَك ُّنا ل ِ ُ
َ ُ َ َ َ كلل َ ً َ
كاُنوا أك ْث ََر س فَِإن َ سد ُ ُما ال ّ من ْهُ َ حدٍ ِ ل َوا ِ ت فَل ِك ُ ّ خ ٌ خ أو ْ أ ْ هأ ٌ مَرأةٌ وَل َ ُ ة أوِ ا ْ َ
ث{. كاُء ِفي الث ّل ُ ِ شَر َ م ُ ك فَهُ ْ ن ذ َل ِ َم ْ ِ
ما
فأطلق لفظ الجمع والمراد به اثنان فأكثر بالجماع .فعلى هذا لو خلف أ ّ
وأًبا وإخوة ،كان للم السدس ،والباقي للب فحجبوها عن الثلث ،مع حجب
الب إياهم ]إل على الحتمال الخر فإن للم الثلث والباقي للب[ ). (3
ن { أي :هذه الفروض َ
صي ب َِها أوْ د َي ْ ٍصي ّةٍ ُيو ِ
من ب َعْدِ وَ ِ ثم قال تعالىِ } :
والنصباء والمواريث إنما ترد وتستحق بعد نزع الديون التي على الميت
لله أو للدميين ،وبعد الوصايا التي قد أوصى الميت بها بعد موته ،فالباقي
عن ذلك هو التركة الذي يستحقه الورثة.
وقدم الوصية مع أنها مؤخرة عن الدين للهتمام بشأنها ،لكون إخراجها
شاّقا على الورثة ،وإل فالديون مقدمة عليها ،وتكون من رأس المال ] .ص
[ 168
وأما الوصية فإنها تصح من الثلث فأقل للجنبي الذي هو غير وارث .وأما
َ
ن م وَأب َْناؤُك ُ ْ
م ل ت َد ُْرو َ غير ذلك فل ينفذ إل بإجازة الورثة ،قال تعالى } :آَباؤُك ُ ْ
أ َيه َ
فًعا { . م نَ ْب ل َك ُ ْم أقَْر ُ ُّ ْ
فلو رد ّ تقدير الرث إلى عقولكم واختياركم لحصل من الضرر ما الله به
عليم ،لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللئق الحسن ،في كل زمان
ومكان .فل يدرون أ َيّ الولدِ أو الواِلدين أنفع لهم ،وأقرب لحصول
مقاصدهم الدينية والدنيوية.
ما { أي :فرضها الله الذي قد كي ً
ح ِما َن عَِلي ً َ
ه كا َ ن الل ّ َ
ن الل ّهِ إ ِ ّ م َة ِ ض ً
ري َ} فَ ِ
دره على أحسن تقدير در ما ق ّ ما ،وأحكم ما شرعه وق ّ أحاط بكل شيء عل ً
ل تستطيع العقول أن تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة لكل زمان
ومكان وحال.
__________
) (1في ب :الذمة.
) (2زيادة من هامش ب وهناك زيادة أخرى في هامش أ وإن لم يتبين
محلها ،لكنها ذات صلة بهذا الموضوع وهي قوله] :وعند شيخ السلم إذا
كان الخوة غير وارثين فإنهم ل يحجبون الم[ وبعد كلمة الم كلمة غير
واضحة في الصل.
) (3زيادة من هامش ب.
) (1/166
ف ما تر َ َ
ن وَل َد ٌ فَل َك ُ ُ
م ن ل َهُ ّ كا َ ن َ ن وَل َد ٌ فَإ ِ ْ ن ل َهُ ّ م ي َك ُ ْن لَ ْ م إِ ْ جك ُ ْ ك أْزَوا ُ ص ُ َ ََ م نِ ْ وَل َك ُ ْ
َ
ن
م إِ ْ ما ت ََرك ْت ُ ْ م ّ ن الّرب ُعُ ِ ن وَل َهُ ّ ن ب َِها أوْ د َي ْ ٍ صي َصي ّةٍ ُيو ِ ن ب َعْدِ وَ ِ م ْ ن ِ ما ت ََرك ْ َ م ّ الّرب ُعُ ِ
ة
صي ّ ٍ ن ب َعْدِ وَ ِ م ْ م ِ ْ
ما ت ََركت ُ ْ م ّن ِ م ُ ن الث ّ ُ َ َ
م وَلد ٌ فَلهُ ّ ُ
ن لك ْ َ َ
ن كا َ م وَلد ٌ فَإ ِ ْ َ ُ َ
ن لك ْ م ي َك ُ ْلَ ْ
تخ ٌ خ أ َوْ أ ُ ْ ه أَ ٌمَرأةٌ وَل َ ُ
ة أ َو ا َ
ث ك ََلل َ ً ِ ْ ل ُيوَر ُ ج ٌن َر ُ كا َ ن َ ن وَإ ِ ْ ٍ
َ
ن ب َِها أوْ د َي ْ صو َ ُتو ُ
ُ شَر َ َ
ث كاُء ِفي الث ّل ِ م ُ ك فَهُ ْ ن ذ َل ِ َ م ْ كاُنوا أك ْث ََر ِ ن َ س فَإ ِ ْ سد ُ ُ ما ال ّ من ْهُ َ حدٍ ِ ل َوا ِ فَل ِك ُ ّ
ّ ّ َ
م
حِلي ٌ م َ ه عَِلي ٌ ن اللهِ َوالل ُ م َ ة ِ صي ّ ًضاّر وَ ِ م َ ن غَي َْر ُ صى ب َِها أوْ د َي ْ ٍ صي ّةٍ ُيو َ ن ب َعْدِ وَ ِ م ْ ِ
)(12
ف ما تر َ َ
ن وَل َد ٌ ن ل َهُ ّ
كا َ ن َ ن وَل َد ٌ فَإ ِ ْ ن ل َهُ ّ م ي َك ُ ْن لَ ْ جك ُ ْ
م إِ ْ ك أْزَوا ُ ص ُ َ ََ م نِ ْ } وَل َك ُ ْ
َ
ما م ّن الّرب ُعُ ِ ن وَل َهُ ّ ن ب َِها أوْ د َي ْ ٍ صي َ صي ّةٍ ُيو ِ ن ب َعْدِ وَ ِ م ْ ن ِما ت ََرك ْ َم ّم الّرب ُعُ ِ فَل َك ُ ُ
ن
م ْم ِ ما ت ََرك ْت ُ ْم ّن ِ م ُن الث ّ ُ م وَل َد ٌ فَل َهُ ّ ن ل َك ُ ْ
كا َن َ م وَل َد ٌ فَإ ِ ْن ل َك ُ ْ ن لَ ْ
م ي َك ُ ْ م إِ ْ ت ََرك ْت ُ ْ
خ أ َْو ه أَ ٌ مَرأةٌ وَل َ ُ
ة أ َو ا َ
كلل َ ً ِ ْ ث َ ل ُيوَر ُ ج ٌ ن َر ُ كا َ ن َ ن وَإ ِ ْ ٍ
َ
ن ب َِها أوْ د َي ْ صو َ صي ّةٍ ُتو ُ ب َعْدِ وَ ِ
َ َ ْ َ َ ُ أُ ْ
شَركاُء ِفي م ُ ن ذ َل ِك فَهُ ْ م ْ ن كاُنوا أكث ََر ِ س فَإ ِ ْ سد ُ ُ ما ال ّ من ْهُ َ حدٍ ِ ل َوا ِ ت فَل ِك ّ خ ٌ
َ
م
ه عَِلي ٌ ن الل ّهِ َوالل ّ ُ م َ ة ِ صي ّ ً
ضاّر وَ ِ م َ ن غَي َْر ُ صى ب َِها أوْ د َي ْ ٍ صي ّةٍ ُيو َ ن ب َعْدِ وَ ِ م ْ ث ِ الث ّل ُ ِ
م{. حِلي ٌ َ
ُ
م ي َكن ّ ُ َ ما ت ََر َ ُ َ
م ِإن ل ْ جك ْ ك أْزَوا ُ ف َ ص ُ م { أيها الزواج } ن ِ ْ ثم قال تعالى } :وَلك ْ
ن ب َِهاصي َ صي ّةٍ ُيو ِ من ب َعْدِ وَ ِ ن ِ ما ت ََرك ْ َ م ّ م الّرب ُعُ ِ َ
ن وَلد ٌ فَلك ُ ُ َ ن ل َهُ ّ كا َ ن َ ن وَل َد ٌ فَإ ِ ْ ل ّهُ ّ
َ
نم وَل َد ٌ فَل َهُ ّ ن ل َك ُ ْ كا َ م وَل َد ٌ فَِإن َ ن ل ّك ُ ْ م ي َك ُ ْ م ِإن ل ّ ْ ما ت ََرك ْت ُ ْ م ّ ن الّرب ُعُ ِ ن وَل َهُ ّ ٍ أوْ د َي ْ
َ
ن{. ن ب َِها أوْ د َي ْ ٍ صو َ صي ّةٍ ُتو ُ ن ب َعْدِ وَ ِ م ْ ما ت ََرك ُْتم ّ م ّن ِ م ُ الث ّ ُ
ويدخل في مسمى الولد المشروط وجوده أو عدمه ،ولد الصلب أو ولد
البن الذكر والنثى ،الواحد والمتعدد ،الذي من الزوج أو من غيره ،ويخرج
عا. عنه ولد البنات إجما ً
ت { أي: ُ َ َ
هأ ٌ َ َ َ َ َ ٌ َ
خ ٌ خ أوْ أ ْ مَرأةٌ وَل ُ ة أو ِ ا ْ ث كلل ً جل ُيوَر ُ ن َر ُ ن كا َ ثم قال تعالى } :وَإ ِ ْ
من أم ،كما هي في بعض القراءات .وأجمع العلماء على أن المراد بالخوة
هنا الخوة للم ،فإذا كان يورث كللة أي :ليس للميت والد ول ولد أي :ل
أب ول جد ول ابن ول ابن ابن ول بنت ول بنت ابن وإن نزلوا .وهذه هي
الكللة كما فسرها بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه ،وقد حصل على
ذلك التفاق ولله الحمد.
َ
س { } ،فَِإن كاُنوا سد ُ ُ ما { أي :من الخ والخت } ال ّ من ْهُ َ حدٍ ّ ل َوا ِ } فَل ِك ُ ّ
َ
ث { أي :ل يزيدون كاُء ِفي الث ّل ُ ِ شَر َ م ُ ك { أي :من واحد } فَهُ ْ ن ذ َل ِ َ م ْ أك ْث ََر ِ
ث { أن كاُء ِفي الث ّل ُ ِ شَر َ م ُ على الثلث ولو زادوا عن اثنين .ودل قوله } :فَهُ ْ
كرهم وأنثاهم سواء ،لن لفظ "التشريك" ) (1يقتضي التسوية. ذَ َ
ل الذكور وإن كلل َةِ { على أن الفروع وإن نزلوا ،والصو َ ودل لفظ } ال ْ َ
علواُ ،يسقطون أولد الم ،لن الله لم يورثهم إل في الكللة ،فلو لم يكن
يورث كللة ،لم يرثوا منه شيًئا اتفاًقا.
قطون في ث { أن الخوة الشقاء َيس ُ كاُء ِفي الث ّل ُ ِ شَر َ م ُ ودل قوله } :فَهُ ْ
المسألة المسماة بالحمارية .وهى :زوج ،وأم ،وإخوة لم ،وإخوة أشقاء.
للزوج النصف ،وللم السدس ،وللخوة للم الثلث ،ويسقط الشقاء ،لن
الله أضاف الثلث للخوة من الم ،فلو شاركهم الشقاء لكان جمعا لما
فّرق الله حكمه .وأيضا فإن الخوة للم أصحاب فروض ،والشقاء عصبات.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم" - :ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي
در الله أنصباءهم ،ففي فلولى رجل ذكر" -وأهل الفروض هم الذين ق ّ
قط الشقاء ،وهذا هو الصواب في س ُ هذه المسألة ل يبقى بعدهم شيء ،في َ ْ
ذلك.
وأما ميراث الخوة والخوات الشقاء أو لب ،فمذكور في قوله:
كلل َةِ { الية. م ِفي ال ْ َ فِتيك ُ ْ ه يُ ْ ل الل ّ ُ ك قُ ِ فُتون َ َ ست َ ْ } يَ ْ
فالخت الواحدة شقيقة أو لب لها النصف ،والثنتان لهما الثلثان،
والشقيقة الواحدة مع الخت للب أو الخوات تأخذ النصف ،والباقي من
الثلثين للخت أو الخوات لب ) (2وهو السدس تكملة الثلثين .وإذ
استغرقت الشقيقات الثلثين سقط الخوات للب كما تقدم في البنات
وبنات البن .وإن كان الخوة رجال ونساًء فللذكر مثل حظ النثيين.
فإن قيل :فهل يستفاد حكم ميراث القاتل ،والرقيق ،والمخالف في الدين،
والمبعض ،والخنثى ،والجد مع الخوة لغير أم ،والعول ،والرد ،وذوي
الرحام ،وبقية العصبة ،والخوات لغير أم مع البنات أو بنات البن من
القرآن أم ل؟
قيل :نعم ،فيه تنبيهات وإشارات دقيقة يعسر فهمها على غير المتأمل تدل
على جميع المذكورات .فأما )القاتل والمخالف في الدين( فيعرف أنهما
غير وارثين من بيان الحكمة اللهية في توزيع المال على الورثة بحسب
قربهم ونفعهم الديني والدنيوي.
َ َ َ
ب لك ُ ْ
م م أقَْر ُ ن أي ّهُ ْ
وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة بقوله } :ل ت َد ُْرو َ
علم أن القاتل قد سعى لمورثه ) (3بأعظم الضرر ،فل ينتهض فًعا { وقد ُ نَ ْ
ما فيه من موجب الرث أن يقاوم ضرر القتل الذي هو ضد النفع الذي
] ص [ 169رتب عليه الرث .فُعلم من ذلك أن القتل أكبر مانع يمنع
م أ َوَْلىضه ُ ْ حام ِ ب َعْ ُ
ُ
الميراث ،ويقطع الرحم الذي قال الله فيه } :وَأوُلو الْر َ
ب الل ّهِ { مع أنه قد استقرت القاعدة الشرعية أن "من ض ِفي ك َِتا ِ ب ِب َعْ ٍ
استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه"
وبهذا ونحوه يعرف أن المخالف لدين الموروث ل إرث له ،وذلك أنه قد
تعارض الموجب الذي هو اتصال النسب الموجب للرث ،والمانعُ الذي هو
المخالفة في الدين الموجبة للمباينة من كل وجه ،فقوي المانع ومنع
موجب الرث الذي هو النسب ،فلم يعمل الموجب لقيام المانع .يوضح
ذلك أن الله تعالى قد جعل حقوق المسلمين أولى من حقوق القارب
الكفار الدنيوية ،فإذا مات المسلم انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به.
ب الل ّهِ { ض ِفي ك َِتا ِ ضهُ ْ َ َ ُ
فيكون قوله تعالى } :وَأوُلو الْر َ
م أوْلى ب ِب َعْ ٍ حام ِ ب َعْ ُ
إذا اتفقت أديانهم ،وأما مع تباينهم فالخوة الدينية مقدمة على الخوة
النسبية المجردة.
قال ابن القيم في "جلء الفهام" :وتأمل هذا المعنى في آية المواريث،
وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة دون المرأة ،كما في قوله
ف ما تر َ َ
م { إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع جك ُ ْ
ك أْزَوا ُ ص ُ َ ََ م نِ ْ تعالى } :وَل َك ُ ْ
بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب ،والمؤمن والكافر ل تشاكل بينهما
ول تناسب ،فل يقع بينهما التوارث .وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق
عقول العالمين )] (4انتهى[.
وأما ) الرقيق ( فإنه ل يرث ول يورث ،أما كونه ل يورث فواضح ،لنه ليس
له مال يورث عنه ،بل كل ما معه فهو لسيده .وأما كونه ل يرث فلنه ل
يملك ،فإنه لو ملك لكان لسيده ،وهو أجنبي من الميت فيكون مثل قوله
ف ما تر َ َ
م{ جك ُ ْ ك أْزَوا ُ ص ُ َ ََ ظ الن ْث َي َْين { } وَل َك ُ ْ
م نِ ْ ح ّ ل َ تعالىِ } :للذ ّك َرِ ِ
مث ْ ُ
س { ونحوها لمن يتأتى منه التملك ،وأما الرقيق سد ُ ُ ما ال ّمن ْهُ َ
حدٍ ّ } فَل ِك ُ ّ
ل َوا ِ
ن بعضه حر وبعضه رقيق م ْ فل يتأتى منه ذلك ،فعلم أنه ل ميراث له .وأما َ
فإنه تتبعض أحكامه .فما فيه من الحرية يستحق بها ما رتبه الله في
المواريث ،لكون ما فيه من الحرية قابل للتملك ،وما فيه من الرق فليس
بقابل لذلك ،فإذا يكون المبعض ،يرث ويورث ،ويحجب بقدر ما فيه من
الحرية .وإذا كان العبد يكون محمودا مذموما ،مثابا ومعاقبا ،بقدر ما فيه
من موجبات ذلك ،فهذا كذلك .وأما ) الخنثى ( فل يخلو إما أن يكون
واضحا ذكوريته أو أنوثيته ،أو مشكل .فإن كان واضحا فالمر فيه واضح.
إن كان ذكرا فله حكم الذكور ،ويشمله النص الوارد فيهم.
وإن كان أنثى فله حكم الناث ،ويشملها النص الوارد فيهن.
وإن كان مشكل فإن كان الذكر والنثى ل يختلف إرثهما -كالخوة للم-
فالمر فيه واضح ،وإن كان يختلف إرثه بتقدير ذكوريته وبتقدير أنوثيته،
ولم يبق لنا طريق إلى العلم بذلك ،لم نعطه أكثر التقديرين ،لحتمال ظلم
من معه من الورثة ،ولم نعطه القل ،لحتمال ظلمنا له .فوجب التوسط
َ
ب ك أعدل الطريقين ،قال تعالى } :اعْدُِلوا هُوَ أقَْر ُ بين المرين ،وسلو ُ
وى { وليس لنا طريق إلى العدل في مثل هذا أكثر من هذا الطريق ق َ ِللت ّ ْ
م{ َ
ست َطعْت ُ ْ ما ا ْ ه َ ّ
قوا الل َ سعََها { } َفات ّ ُ سا ِإل وُ ْ ف ً ه نَ ْ ّ
ف الل ُ ّ
المذكور .و } ل ي ُك َل ُ
وأما ) ميراث الجد ( مع الخوة الشقاء أو لب ،وهل يرثون معه أم ل؟
فقد دل كتاب الله على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه ،وأن الجد
يحجب الخوة أشقاء أو لب أو لم ،كما يحجبهم الب.
وبيان ذلك :أن الجد أب في غير موضع من القرآن كقوله تعالى } :إ ِذ ْ
ك وَإ ِل َ َ
ه دي َقاُلوا ن َعْب ُد ُ إ ِل َهَ َ ن ب َعْ ِم ْ
ن ِدو َ ما ت َعْب ُ ُ
ل ل ِب َِنيهِ َ ت إ ِذ ْ َقا َ موْ ُ ب ال ْ َ قو َضَر ي َعْ ُ ح َ َ
حاقَ { الية .وقال يوسف عليه السلم: س َ ل وَإ ِ ْ عي َما ِ س َم وَإ ِ ْ هي َ َ
آَبائ ِك إ ِب َْرا ِ
ب{ قو َحاقَ وَي َعْ ُ س َ
م وَإ ِ ْ هي َ ة آَباِئي إ ِب َْرا ِ ّ
مل َ ت ِ } َوات ّب َعْ ُ
فسمى الله الجد وجد الب أبا ،فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الب ،يرث
ما يرثه الب ،ويحجب من يحجبه.
وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أن الجد حكمه حكم الب عند عدمه في
ميراثه مع الولد وغيرهم من بني الخوة والعمام وبنيهم ،وسائر أحكام )
مه في حجب الخوة لغير مه حك َ (5المواريث ،فينبغي أيضا أن يكون حك ُ
أم.
وإذا كان ابن البن بمنزلة ابن الصلب فلم ل يكون الجد بمنزلة الب؟ وإذا
كان جد الب مع ابن الخ قد اتفق العلماء على أنه يحجبه .فلم ل يحجب
ن يوّرث الخوةَ مع الجد ،نص ول إشارة ول م ْ جد الميت أخاه؟ فليس مع َ
تنبيه ول قياس صحيح.
وأما مسائل )العول( فإنه يستفاد حكمها من القرآن ،وذلك أن الله تعالى
قد فرض وقدر لهل المواريث أنصباء ] ،ص [ 170وهم بين حالتين:
ضا أو ل .فإن حجب بعضهم بعضا ،فالمحجوب إما أن يحجب بعضهم بع ً
حم ول يستحق شيئا ،وإن لم يحجب بعضهم بعضا فل يخلو، ساقط ل يزا ِ
إما أن ل تستغرق الفروض التركة ،أو تستغرقها من غير زيادة ول نقص ،أو
تزيد الفروض على التركة ،ففي الحالتين الوليين كل يأخذ فرضه كامل.
وفي الحالة الخيرة وهي ما إذا زادت الفروض على التركة فل يخلو من
حالين:
ض الورثة عن فرضه الذي فرضه الله له ،ونكمل للباقين إما أن ننقص بع َ
منهم فروضهم ،وهذا ترجيح بغير مرجح ،وليس نقصان أحدهم بأولى من
الخر ،فتعينت الحال الثانية ،وهي :أننا نعطي كل واحد منهم نصيبه بقدر
المكان ،ونحاصص بينهم كديون الغرماء الزائدة على مال الغريم ،ول
طريق موصل إلى ذلك إل بالعول ،فعلم من هذا أن العول في الفرائض
قد بينه الله في كتابه.
وبعكس هذه الطريقة بعينها يعلم ) الرد ( فإن أهل الفروض إذا لم
ة وبقي شيء ليس له مستحق من عاصب قريب ضهم الترك َ تستغرق فرو ُ
ول بعيد ،فإن رده على أحدهم ترجيح بغير مرجح ،وإعطاؤه غيَرهم ممن
ُ
مضه ُ ْ حام ِ ب َعْ ُ ليس بقريب للميت جنف وميل ،ومعارضة لقوله } :وَأوُلو الْر َ
ب الل ّهِ { فتعين أن ي َُرد ّ على أهل الفروض بقدر ض ِفي ك َِتا ِ َ َ
أوْلى ب ِب َعْ ٍ
فروضهم.
ولما كان الزوجان ليسا من القرابة ،لم يستحقا زيادة على فرضهم المقدر
]هذا عند من ل يوّرث الزوجين بالرد ،وهم جمهور القائلين بالرد ،فعلى هذا
تكون علة الرد كونه صاحب فرض قريبا ،وعلى القول الخر ،أن الزوجين
كغيرهما من ذوي الفروض ي َُرد ّ عليهما؛ فكما ينقصان بالعول فإنهما يزادان
بالرد كغيرهما ،فالعلة على هذا كونه وارثا صاحب فرض ،فهذا هو الظاهر
من دللة الكتاب والسنة ،والقياس الصحيح ،والله أعلم[ ). (6
وبهذا يعلم أيضا ) ميراث ذوي الرحام ( فإن الميت إذا لم يخلف صاحب
فرض ول عاصبا ،وبقي المر دائرا بين كون ماله يكون لبيت المال لمنافع
الجانب ،وبين كون ماله يرجع إلى أقاربه المدلين بالورثة المجمع عليهم،
ب
ض ِفي ك َِتا ِ ضه ُ ْ َ َ ُ
ويدل على ذلك قوله تعالى } :وَأوُلو الْر َ
م أوْلى ب ِب َعْ ٍ حام ِ ب َعْ ُ
الل ّهِ { فصرفه لغيرهم ترك لمن هو أولى من غيره ،فتعين توريث ذوي
الرحام.
وإذا تعين توريثهم ،فقد علم أنه ليس لهم نصيب مقدر بأعيانهم في كتاب
الله .وأن بينهم وبين الميت وسائط ،صاروا بسببها من القارب .فينزلون
منزلة من أدلوا به من تلك الوسائط .والله أعلم.
وأما ) ميراث بقية العصبة ( كالبنوة والخوة وبنيهم ،والعمام وبنيهم إلخ
فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال" :ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي
ندا ِ ك ال ْ َ
وال ِ َ ما ت ََر َ
م ّ
ي ِ
وال ِ َ جعَل َْنا َ
م َ فلولي رجل ذكر"وقال تعالى } :وَل ِك ُ ّ
ل َ
ن { فإذا ألحقنا الفروض بأهلها ولم يبق شيء ،لم يستحق َوالقَْرُبو َ
العاصب شيًئا ،وإن بقي شيء أخذه أولي العصبة ،وبحسب جهاتهم
ودرجاتهم.
فإن جهات العصوبة خمس :البنوة ،ثم البوة ،ثم الخوة وبنوهم ،ثم
العمومة وبنوهم ،ثم الولء ،فيقدم منهم القرب جهة .فإن كانوا في جهة
واحدة فالقرب منزلة ،فإن كانوا في منزلة واحدة فالقوى ،وهو الشقيق،
فإن تساووا من كل وجه اشتركوا .والله أعلم.
وأما كون الخوات لغير أم مع البنات أو بنات البن عصبات ،يأخذن ما
فضل عن فروضهن ،فلنه ليس في القرآن ما يدل على أن الخوات
يسقطن بالبنات.
فإذا كان المر كذلك ،وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن ،فإنه يعطى
للخوات ول يعدل عنهن إلى عصبة أبعد منهن ،كابن الخ والعم ،ومن هو
أبعد منهم .والله أعلم.
__________
) (1في ب" :الشريك.
) (2في النسختين الب ،والصواب .والله أعلم .ما أثبته وظاهر أنه سبق
قلم.
) (3في الصل :لموروثه.
) (4في ب :العاقلين.
) (5كذا في ب ،وفي أ :الحكام.
) (6ما بين القوسين زيادة من هامش أ ،وقد جاء في ب بدل هذه الزيادة
ما نصه] :عند القائلين بعدم الرد عليهما .وأما على القول الصحيح أن حكم
الزوجين حكم باقي الورثة في الرد فالدليل المذكور شامل للجميع كما
شملهم دليل العول[.
) (1/168
ريج ِت تَ ْ جّنا ٍ ه َخل ْ ُه ي ُد ْ ِ سول َ ُه وََر ُ ن ي ُط ِِع الل ّ َ م ْ دود ُ الل ّهِ وَ َ ح ُك ُ } } { 14 ، 13ت ِل ْ َ
ص الل ّ َ
ه ن ي َعْ ِ م ْ م * وَ َ ظي ُفوُْز ال ْعَ ِ ك ال ْ َ ن ِفيَها وَذ َل ِ َ دي َ خال ِ ِحت َِها الن َْهاُر َ ن تَ ْ م ْ ِ
ن{. مِهي ٌ ب ُ ذا ٌه عَ َ َ
دا ِفيَها وَل ُ خال ِ ً ه َناًرا َ ْ
خل ُ دود َهُ ي ُد ْ ِ ح ُه وَي َت َعَد ّ ُ َ
سول ُ وََر ُ
أي :تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث حدود الله التي يجب الوقوف
معها وعدم مجاوزتها ،ول القصور عنها ،وفي ذلك دليل على أن الوصية
للوارث منسوخة بتقديره تعالى أنصباء الوارثين.
دود ُ الل ّهِ { ) (1فالوصية للوارث بزيادة ] ص 171 ح ُ ك ُ ثم قوله تعالى } :ت ِل ْ َ
[ على حقه يدخل في هذا التعدي ،مع قوله صلى الله عليه وسلم" :ل
وصية لوارث" ثم ذكر طاعة الله ورسوله ومعصيتهما عموما ليدخل في
ن ي ُط ِِع الل ّ َ
ه م ْ العموم لزوم حدوده في الفرائض أو ترك ذلك فقال } :وَ َ
ه { بامتثال أمرهما الذي أعظمه طاعتهما في التوحيد ،ثم الوامر سول َ ُ وََر ُ
مه الشرك بالله ،ثم على اختلف درجاتها واجتناب نهيهما الذي أعظ ُ
حت َِها الن َْهاُر ن تَ ْ م ْ ري ِ ج ِ
ت تَ ْ جّنا ٍ ه َ خل ْ ُ المعاصي على اختلف طبقاتها } ي ُد ْ ِ
ن ِفيَها { فمن أدى الوامر واجتنب النواهي فل بد له من دخول الجنة دي َ خال ِ ِ
َ
م { الذي حصل به النجاة من ظي ُ فوُْز العَ ِْ ْ َ
والنجاة من النار } .وَذ َل ِك ال َ
سخطه وعذابه ،والفوز بثوابه ورضوانه بالنعيم المقيم الذي ل يصفه
الواصفون.
بذا ٌ ه عَ َ َ
دا ِفيَها وَل ُ خال ِ ً ه َناًرا َ خل ُ ْ دود َهُ ي ُد ْ ِ ح ُ ه وَي َت َعَد ّ ُ سول ُ َ ه وََر ُ ّ
ص الل َ ن ي َعْ ِ م ْ } وَ َ
ن { ويدخل في اسم المعصية الكفر فما دونه من المعاصي ،فل يكون مِهي ٌ ّ
فيها شبهة للخوارج القائلين بكفر أهل المعاصي فإن الله تعالى رتب
دخول الجنة على طاعته وطاعة رسوله .ورتب دخول النار على معصيته
ومعصية رسوله ،فمن أطاعه طاعة تامة دخل الجنة بل عذاب.
ومن عصى الله ورسوله معصية تامة يدخل فيها الشرك فما دونه ،دخل
النار وخلد فيها ،ومن اجتمع فيه معصية وطاعة ،كان فيه من موجب
الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية .وقد دلت النصوص
المتواترة على أن الموحدين الذين معهم طاعة التوحيد ،غير مخلدين في
النار ،فما معهم من التوحيد مانع لهم من الخلود فيها.
__________
) (1هنا سبق قلم من الشيخ -رحمه الله -فالية "تلك حدودالله " وأثبت
ها" وليس هنا محلها ،وعلى مقتضى ما أثبت فسر، دو َ الشيخ -زيادة "فَل َ ت َعْت َ ُ
فأبقيت الكلم كما هو ،وعدلت الية.
) (1/170
ْ
م فَإ ِ ْ
ن من ْك ُ ْة ِ ن أ َْرب َعَ ً دوا عَل َي ْهِ ّ شه ِ ُست َ ْم َفا ْ سائ ِك ُ ْ ن نِ َم ْ ة ِ ش َ ح َ ن ال ْ َ
فا ِ َوالّلِتي ي َأ َِتي َ
َ
ه ل َهُ ّ
ن ل الل ّ ُجع َ َ
َ
ت أوْ ي َ ْ موْ ُ ن ال ْ َ حّتى ي َت َوَّفاهُ ّ ت َ ن ِفي ال ْب ُُيو ِ
ْ كوهُ ّ س ُ م ِ دوا فَأ ْ شه ِ ُ َ
َ َ َ ُ ّ ً
ما
ضوا عَن ْهُ َ حا فَأعْرِ ُ صل َ ن َتاَبا وَأ ْ ما فَإ ِ ْ ذوهُ َ م فَآ ُ من ْك ْ ن ي َأت َِيان َِها ِ ذا ِسِبيل )َ (15والل َ َ
ما )(16 حي ً واًبا َر ِ ن تَ ّ ه كا ََ ّ
ن الل َ إِ ّ
ْ
دوا عَل َي ْهِ ّ
ن شه ِ ُست َ ْ م َفا ْ سائ ِك ُ ْ ن نِ َ م ْ ة ِ ش َ ح َ فا ِ ن ال ْ َ } َ } { 16 ، 15واللِتي ي َأ َِتي َ
َ أ َْرب َعَ ً
ت أوْ موْ ُ ن ال ْ َ حّتى ي َت َوَّفاهُ ّ ت َ ن ِفي ال ْب ُُيو ِ كو ْهُ ّ س ُ م ِ دوا فَأ ْ شه ِ ُ ن َ م فَإ ِ ْ من ْك ُ ْ
ة ِ
َ
حاصل َ َ
ن َتاَبا وَأ ْ ما فَإ ِ ْ ذوهُ َ م َفآ ُمن ْك ُ ْ ن ي َأت َِيان َِها ِ ذا ِ سِبيل * َوالل ّ َ ن َ ه ل َهُ ّ ل الل ّ ُ جع َ َ يَ ْ
َ ّ َ
ما { . حي ً واًبا َر ِ ن تَ ّ ه كا َ ن الل َ ما إ ِ ّ ضوا عَن ْهُ َ فَأعْرِ ُ
ة { أي :الزنا ،ووصفها بالفاحشة ح َ ن ال ْ َ ْ
ش َ فا ِ أي :النساء } اللتي ي َأِتي َ
لشناعتها وقبحها.
ُ َ َ
م { أي :من رجالكم المؤمنين العدول. من ْك ْ ة ِ ن أْرب َعَ ً دوا عَ َلي ْهِ ّ شه ِ ُ ست َ ْ} َفا ْ
ت { أي :احبسوهن عن الخروج ْ
ن ِفي الب ُُيو ِ سكوهُ ّ ُ م ِ دوا فَأ ْ شه ِ ُ ن َ } فَإ ِ ْ
حّتى ي َت َوَّفاهُ ّ
ن الموجب للريبة .وأيضا فإن الحبس من جملة العقوبات } َ
َ
سِبيل { أي :طريقا ن َ ه ل َهُ ّ ل الل ّ ُ
جع َ َ ت { أي :هذا منتهى الحبس } .أوْ ي َ ْ موْ ُ ال ْ َ
غير الحبس في البيوت ،وهذه الية ليست منسوخة ،وإنما هي مغياة إلى
ذلك الوقت ،فكان المر في أول السلم كذلك حتى جعل الله لهن سبيل
وهو رجم المحصن وجلد غير المحصن.
ْ } و { كذلك } اّلل َ
م { من الرجال من ْك ُ ْ ن ي َأت َِيان َِها { أي :الفاحشة } ِ ذا ِ
ما { بالقول والتوبيخ والتعيير والضرب الرادع عن هذه ذوهُ َ والنساء } َفآ ُ
الفاحشة ،فعلى هذا يكون الرجال إذا فعلوا الفاحشة يؤذون ،والنساء
يحبسن ويؤذين.
فالحبس غايته إلى الموت ،والذية نهايتها إلى التوبة والصلح ،ولهذا قال:
ن َتاَبا { أي :رجعا عن الذنب الذي فعله وندما عليه ،وعزما على أن } فَإ ِ ْ
َ َ َ
ما { ضوا عَن ْهُ َ حا { العمل الدال على صدق التوبة } فَأعْرِ ُ صل َ ل يعودا } وَأ ْ
ما { أي :كثير التوبة على المذنبين حي ً واًبا َر ِ ن تَ ّ ه كا َ َ ّ
ن الل َ أي :عن أذاهما } إ ِ ّ
الخطائين ،عظيم الرحمة والحسان ،الذي -من إحسانه -وفقهم للتوبة
وقبلها منهم ،وسامحهم عن ما صدر منهم.
ويؤخذ من هاتين اليتين أن بينة الزنا ،ل بد أن تكون أربعة رجال مؤمنين،
ومن باب أولى وأحرى اشتراط عدالتهم؛ لن الله تعالى شدد في أمر هذه
الفاحشة ،ستًرا لعباده ،حتى إنه ل يقبل فيها النساء منفردات ،ول مع
الرجال ،ول ما دون أربعة.
ول بد من التصريح بالشهادة ،كما دلت على ذلك الحاديث الصحيحة،
م { لم من ْك ُ ْ
ة ِ ن أ َْرب َعَ ً دوا عَل َي ْهِ ّ شه ِ ُ ست َ ْ وتومئ إليه هذه الية لما قالَ } :فا ْ
دوا { أي :ل بد من شهادة صريحة عن شه ِ ُ ن َ يكتف بذلك حتى قال } :فَإ ِ ْ
أمر يشاهد عياًنا ،من غير تعريض ول كناية.
ويؤخذ منهما أن الذية بالقول والفعل والحبس ،قد شرعه الله تعزيًرا
لجنس المعصية الذي يحصل به الزجر.
) (1/171
بري ٍ ن قَ ِ م ْ ن ِ م ي َُتوُبو َ جَهال َةٍ ث ُ ّ سوَء ب ِ َ ن ال ّ مُلو َ ن ي َعْ َ ذي َ ة عََلى الل ّهِ ل ِل ّ ِ ما الت ّوْب َ ُإ ِن ّ َ
ّ َ ّ َ َ ّ َ َ ُ
ن
ذي َة ل ِل ِت الت ّوْب َ ُ س ِ ما ) (17وَلي ْ َ كي ً ح ِ ما َ ه عَِلي ً ن الل ُ م وَكا َ ه عَلي ْهِ ْ ب الل ُ فَأولئ ِك ي َُتو ُ
َ
ن
ذي َن وََل ال ّ ِ ت اْل َ َل إ ِّني ت ُب ْ ُت َقا َ موْ ُ م ال ْ َ حد َهُ ُ ضَر أ َ ح َ ذا َ حّتى إ ِ َ ت َ سي َّئا ِن ال ّ مُلو َ ي َعْ َ
ما )(18 َ م عَ َ َ َ َ َ ُ ُ
ذاًبا أِلي ً فاٌر أولئ ِك أعْت َد َْنا لهُ ْ مك ّ ن وَهُ ْ موُتو َ يَ ُ
جَهال َةٍ ث ُ ّ
م سوَء ب ِ َ ن ال ّ مُلو َ ن ي َعْ َ ذي َ ة عََلى الل ّهِ ل ِل ّ ِ ما الت ّوْب َ ُ } } { 18 ، 17إ ِن ّ َ
ّ َ َ ّ َ َ ُ
ما * كي ً ح ِ ما َ ه عَِلي ً ن الل ُ م وَكا َ ه عَلي ْهِ ْ ب الل ُ ب فَأولئ ِك ي َُتو ُ ري ٍ ن قَ ِ م ْ ن ِ ي َُتوُبو َ
ْ َ ُ ّ
لت قا َ َ موْ ُ م ال َ حد َهُ ُ ضَر أ َ ح َ ذا َ حّتى إ ِ َ ت َ سي ّئا ِ َ ن ال ّ ملو َ ن ي َعْ َ ذي َ ة ل ِل ِ ت الت ّوْب َ ُ س ِ وَل َي ْ َ
َ َ ُ
ما { . ذاًبا أِلي ً م عَ َ ك أعْت َد َْنا ل َهُ ْ فاٌر أول َئ ِ َ م كُ ّ ن وَهُ ْ موُتو َ ن يَ ُ ذي َ ن َول ال ّ ِ ت ال َ إ ِّني ت ُب ْ ُ
توبة الله على عباده نوعان :توفيق منه للتوبة ،وقبول لها بعد وجودها من
العبد ،فأخبر هنا -أن التوبة المستحقة على الله حق أحقه على نفسه،
جَهال َةٍ { أي :جهالة كرما منه وجودا ،لمن عمل السوء أي :المعاصي } ب ِ َ
منه بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه ،وجهل منه بنظر الله ومراقبته
له ،وجهل منه بما تئول إليه من نقص اليمان أو إعدامه ،فكل عاص لله،
فهو جاهل بهذا العتبار وإن كان عالما بالتحريم .بل العلم بالتحريم شرط
ب { يحتمل أن يكون ري ٍ ن قَ ِ م ْ ن ِ م ي َُتوُبو َ لكونها معصية معاقبا عليها } ث ُ ّ
المعنى :ثم ] ص [ 172يتوبون قبل معاينة الموت ،فإن الله يقبل توبة
العبد إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب قطعا .وأما بعد حضور الموت فل
ُيقبل من العاصين توبة ول من الكفار رجوع ،كما قال تعالى عن فرعون:
َ } حتى إ َ َ
ت ب ِهِ ب َُنو من َ ْ ذي آ َ ه ِإل ال ّ ِ ه ل إ ِل َ َ ت أن ّ ُ من ْ ُ لآ َ ه ال ْغََرقُ َقا َ ذا أد َْرك َ ُ َ ّ ِ
ّ ُ َ ْ َ َ َ سَراِئي َ
حد َهُ مّنا ِباللهِ وَ ْ سَنا قالوا آ َ ما َرأْوا ب َأ َ ل { الية .وقال تعالى } :فل ّ إِ ْ
ْ َ َ ُ َ ُ َ
ة
سن ّ َسَنا ُ ما َرأْوا ب َأ َ مل ّ مان ُهُ ْ م ِإي َ فعُهُ ْ م ي َك ي َن ْ َ ن * فَل ْ كي َ شرِ ِ م ْ ما كّنا ب ِهِ ُ فْرَنا ب ِ َ وَك َ
عَبادِهِ { . ت ِفي ِ خل ْ َ الل ّهِ الِتي قَد ْ َ ّ
وقال هنا:
ت { أي :المعاصي فيما دون الكفر. سي َّئا ِ ن ال ّ ملو َ ُ ن ي َعْ َ ذي َ ّ
ة ل ِل ِ ت الت ّوْب َ ُ س ِ } وَل َي ْ َ
َ
م
ن وَهُ ْ موُتو َ ن يَ ُ ذي َ ن َول ال ّ ِ ت ال َ ل إ ِّني ت ُب ْ ُ ت َقا َ موْ ُ م ال ْ َ حد َهُ ُ ضَر أ َ ح َ ذا َ حّتى إ ِ َ } َ
ما { وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة َ م عَ َ َ َ َ
فاٌر أولئ ِ َ ُ كُ ّ
ذاًبا أِلي ً ك أعْت َد َْنا لهُ ْ
اضطرار ل تنفع صاحبها ،إنما تنفع توبة الختيار .ويحتمل ) (1أن يكون
ب { أي :قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة، ري ٍ ن قَ ِ م ْ معنى قولهِ } :
فيكون المعنى :أن من بادر إلى القلع من حين صدور الذنب وأناب إلى
الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه ،بخلف من استمر على ذنوبه )(2
ة فإنه يعسر عليه إيجاد ت راسخ ً وأصر على عيوبه ،حتى صارت فيه صفا ٍ
التوبة التامة.
والغالب أنه ل يوفق للتوبة ول ييسر لسبابها ،كالذي يعمل السوء على
علم تام ) (3ويقين وتهاون ) (4بنظر الله إليه ،فإنه سد ) (5على نفسه
باب الرحمة.
نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة ) (6تامة
)] (7التي[ يمحو بها ما سلف من سيئاته وما تقدم من جناياته ،ولكن
هّ
ن الل ُ كا َ الرحمة والتوفيق للول أقرب ،ولهذا ختم الية الولى بقوله } :وَ َ
ما { . كي ً ح ِ ما َ عَِلي ً
من علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها فيجازي كل منهما بحسب ما ف ِ
قهيستحق بحكمته ،ومن حكمته أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته توفي َ
م توفيقه .والله أعلم.
للتوبة ،ويخذل من اقتضت حكمته وعدله عد َ
__________
) (1في هامش أ ]ويؤيد هذا الحتمال أن الله قال" :إنما التوبة على الله"
الحاضرة ولم يقل :إنما يتوب الله ،وبين اللفظين فرق ظاهر[.
) (2في ب :ذنبه.
) (3في ب :قائم.
) (4في ب :متهاون.
) (5في ب :يسد.
) (6في ب :للتوبة.
) (7في ب :النافعة.
) (1/171
ل ل َك ُ َ ذي َ َ
ضُلوهُ ّ
ن ل ِت َذ ْهَُبوا ها وََل ت َعْ ُ
ساءَ ك َْر ًن ت َرُِثوا الن ّ َ مأ ْ ْ
ْ
ح ّ مُنوا َل ي َ ِنآ َ َ َيا أي َّها ال ّ ِ
َ َ
ف فَإ ِ ْ
ن معُْرو ِ ن ِبال ْ َشُروهُ ّعا ِمب َي ّن َةٍ وَ َشة ٍ ُ ح َ فا ِن بِ َ
ن ي َأِتي َ ن إ ِّل أ ْ موهُ ّ ما آت َي ْت ُ ُ ض َب ِب َعْ ِ
َ ّ ْ َ
خي ًْرا كِثيًرا )(19 ه ِفيهِ َ جعَل الل ُ َ ً
شي ْئا وَي َ ْهوا َ ن ت َكَر ُ سى أ ْ َ
ن فع َ َ موهُ ّ ك َرِهْت ُ ُ
ل ل َك ُ َ َ
ها َول ساءَ ك َْر ً ن ت َرُِثوا الن ّ َ مأ ْ ْ ح ّ مُنوا ل ي َ ِ نآ َ َ } َ } { 21 - 19يا أي َّها ال ّ ِ
ذي
ْ َ
ة
مب َي ّن َ ٍشة ٍ ُح َ فا ِ ن بِ َ ن ي َأِتي َ ن ِإل أ ْ موهُ ّ ما آت َي ْت ُ ُ ض َ ن ل ِت َذ ْهَُبوا ب ِب َعْ ِ ضُلوهُ ّ ت َعْ ُ
َ
ل الل ّ ُ
ه جع َ َ شي ًْئا وَي َ ْ هوا َ ن ت َك َْر ُ سى أ ْ ن فَعَ َ موهُ ّ ن ك َرِهْت ُ ُ ف فَإ ِ ْ معُْرو ِ ن ِبال ْ َ شُروهُ ّ عا ِ وَ َ
خي ًْرا ك َِثيًرا { . ِفيهِ َ
كانوا في الجاهلية إذا مات أحدهم عن زوجته ،رأى قريُبه كأخيه وابن عمه
ونحوهما أنه أحق بزوجته من كل أحد ،وحماها عن غيره ،أحبت أو كرهت.
فإن أحبها تزوجها على صداق يحبه دونها ،وإن لم يرضها عضلها فل يزوجها
إل من يختاره هو ،وربما امتنع من تزويجها حتى تبذل له شيًئا من ميراث
قريبه أو من صداقها ،وكان الرجل أيضا يعضل زوجته التي ]يكون[ يكرهها
ليذهب ببعض ما آتاها ،فنهى الله المؤمنين عن جميع هذه الحوال إل
حالتين :إذا رضيت واختارت نكاح قريب زوجها الول ،كما هو مفهوم قوله:
ها { وإذا أتين بفاحشة مبينة كالزنا والكلم الفاحش وأذيتها لزوجها } ك َْر ً
فإنه في هذه الحال يجوز له أن يعضلها ،عقوبة لها على فعلها لتفتدي منه
إذا كان عضل بالعدل.
ف { وهذا يشمل المعاشرة القولية معُْرو ِ ن ِبال ْ َ شُروهُ ّ عا ِ ثم قال } :وَ َ
والفعلية ،فعلى الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف ،من الصحبة الجميلة،
وكف الذى وبذل الحسان ،وحسن المعاملة ،ويدخل في ذلك النفقة
والكسوة ونحوهما ،فيجب على الزوج لزوجته المعروف من مثله لمثلها
في ذلك الزمان والمكان ،وهذا يتفاوت بتفاوت الحوال.
َ
َ
خي ًْرا كِثيًرا { ه ِفيهِ َ ل الل ّ ُ جع َ َ شي ًْئا وَي َ ْهوا َ ن ت َك َْر ُ سى أ ْ ن فَعَ َ موهُ ّ ن ك َرِهْت ُ ُ} فَإ ِ ْ
أي :ينبغي لكم -أيها الزواج -أن تمسكوا زوجاتكم مع الكراهة لهن ،فإن
ل وصيته التي فيها في ذلك خيًرا كثيًرا .من ذلك امتثال أمر الله ،وقبو ُ
سعادة الدنيا والخرة.
سه -مع عدم محبته لها -فيه مجاهدة النفس ،والتخلق ومنها أن إجباره نف َ
بالخلق الجميلة .وربما أن الكراهة تزول وتخلفها المحبة ،كما هو الواقع
في ذلك .وربما رزق منها ولدا صالحا نفع والديه في الدنيا والخرة .وهذا
كله مع المكان في المساك وعدم المحذور.
فإن كان ل بد من الفراق ،وليس للمساك محل ،فليس المساك بلزم.
) (1/172
ه
من ْ ُذوا ِ طاًرا فََل ت َأ ْ ُ
خ ُ ن قِن ْ َ داهُ ّح َ م إِ ْ َ
ن َزوٍْج وَآت َي ْت ُ ْ م َ
كا َ ل َزوٍْج َ دا َ ست ِب ْ َ ما ْ
وإ َ
ن أَرد ْت ُ َُِ ْ
ُ َ ْ َ ْ َ
مضك ْضى ب َعْ ُ ه وَقَد ْ أفْ َ ذون َ ُخ ُ
ف ت َأ ُ مِبيًنا ) (20وَكي ْ َ ه ب ُهَْتاًنا وَإ ِث ْ ً
ما ُ خ ُ
ذون َ ُ شي ًْئا أت َأ ُ
َ
ً َ َ
ميَثاًقا غَِليظا )(21 م ِ من ْك ُ ْ
ن ِ خذ ْ َ ض وَأ َ إ ِلى ب َعْ ٍ
ه
من ْ ُذوا ِ خ ُ طاًرا َفل ت َأ ْ ُ ن قِن ْ َداهُ ّ ح َ م إِ ْ ن َزوٍْج َوآت َي ْت ُ ْ كا َ م َ ل َزوٍْج َ دا َ ست ِب ْ َ ما ْ ن أَرد ْت ُ ُ
} وإ َ
َِ ْ
َ ُ َ ْ َ ْ َ
م إ ِلى ضك ْ ضى ب َعْ ُ ه وَقَد ْ أفْ َ ذون َ ُ خ ُ ف ت َأ ُ مِبيًنا * وَكي ْ َ ما ُ ه ب ُهَْتاًنا وَإ ِث ْ ً ذون َ ُ خ ُ شي ًْئا أت َأ َُ
ميَثاًقا غَِليظا { ] .ص [ 173 ً ُ َ
م ِ من ْك ْ ن ِ خذ ْ َ ض وَأ َ ب َعْ ٍ
ج َ دا َ َ
ن َزوٍْج { أي :تطليقَ زوجة وتزو َ مكا َ ل َزوٍْج َ ست ِب ْ َما ْ بل متى } أَرد ْت ُ ُ
ن{ داهُ ّ ح َ م إِ ْ أخرى .أي :فل جناح عليكم في ذلك ول حرج .ولكن إذا } آت َي ْت ُ ْ
ْ أي :المفارقة أو التي تزوجها } قِن ْ َ
ه
من ْ ُ
ذوا ِ خ ُ طاًرا { أي :مال كثيراَ } .فل ت َأ ُ
شي ًْئا { بل وفروه لهن ول تمطلوا بهن. َ
وفي هذه الية دللة على عدم تحريم كثرة المهر ،مع أن الفضل واللئق
القتداُء بالنبي صلى الله عليه وسلم في تخفيف المهر .ووجه الدللة أن
الله أخبر عن أمر يقع منهم ،ولم ينكره عليهم ،فدل على عدم تحريمه
]لكن قد ينهي عن كثرة الصداق إذا تضمن مفسدة دينية وعدم مصلحة
تقاوم[ ). (1
ْ
مِبيًنا { فإن هذا ل يحل ولو تحيلتم عليه ما ُ ْ
ه ب ُهَْتاًنا وَإ ِث ً ذون َ ُ خ ُ ثم قال } :أ َت َأ ُ
بأنواع الحيل ،فإن إثمه واضح.
َ ُ َ ْ َ
م إ ِلى ضك ْ ضى ب َعْ ُ ه وَقَد ْ أفْ َ ذون َ ُ خ ُ ف ت َأ ُ وقد بين تعالى حكمة ذلك بقوله } :وَكي ْ َ
ظا { وبيان ذلك :أن الزوجة قبل عقد النكاح ميَثاًقا غَِلي ً م ِ من ْك ُ ْ ن ِ خذ ْ َ ض وَأ َ َ ب َعْ ٍ
محرمة على الزوج ولم ترض بحلها له إل بذلك المهر الذي يدفعه لها ،فإذا
دخل بها وأفضى إليها وباشرها المباشرة التي كانت حراما قبل ذلك ،والتي
لم ترض ببذلها إل بذلك العوض ،فإنه قد استوفى المعوض فثبت عليه
العوض.
فكيف يستوفي المعوض ثم بعد ذلك يرجع على العوض؟ هذا من أعظم
الظلم والجور ،وكذلك أخذ الله على الزواج ميثاقا غليظا بالعقد ،والقيام
بحقوقها .ثم قال تعالى:
__________
) (1زيادة من هامش ب.
) (1/172
سل َ َ حوا ما ن َك َ َ َ
قًتا
م ْ
ة وَ َ
ش ً ن َفا ِ
ح َ ه َ
كا َ ف إ ِن ّ ُ ساِء إ ِّل َ
ما قَد ْ َ ن الن ّ َ
م َ ح آَباؤُك ُ ْ
م ِ َ وََل ت َن ْك ِ ُ
سِبيًل )(22 ساَء َ وَ َ
ن
كا َه َ سل َ َ
ف إ ِن ّ ُ ما قَد ْ َساِء ِإل َ
ن الن ّ َ
م َ ح آَباؤُك ُ ْ
م ِ ما ن َك َ َ
حوا َ} َ } { 22ول ت َن ْك ِ ُ
سِبيل { . ساَء َ قًتا وَ َ م ْ
ة وَ َ
ش ً ح ََفا ِ
ن َ
ه كا َ أي :ل تتزوجوا من النساء ما تزوجهن آباؤكم أي :الب وإن عل } .إ ِن ّ ُ
قًتا { من الله لكم م ْة { أي :أمرا قبيحا يفحش ويعظم قبحه } وَ َ ش ً ح ََفا ِ
ومن الخلق بل يمقت بسبب ذلك البن أباه والب ابنه ،مع المر ببره.
سِبيل { أي :بئس الطريق طريقا لمن سلكه لن هذا من عوائد ساَء َ } وَ َ
الجاهلية ،التي جاء السلم بالتنزه عنها والبراءة منها.
) (1/173
ت اْل َِخ م وَب ََنا ُ خاَلت ُك ُ ْ م وَ َ مات ُك ُ ْ م وَعَ ّ وات ُك ُ ْ خ َ م وَأ َ َ م وَب ََنات ُك ُ ْ مَهات ُك ُ ْ مأ ّ
حرمت عَل َيك ُ ُ
ْ ْ ُ ّ َ ْ
ت ها م خواتك ُم من الرضاعَة وأ ُ خت وأ ُمهاتك ُم الّلِتي أ َرضعنك ُم وأ َ ُ لْ ا ت
ْ َ ْ َ ْ َ َ ُ ْ ِ َ ّ َ ِ َ ّ َ ُ َ ِ َ ّ َ ُ ُ ْ وَب ََنا ُ
ن فَإ ِ ْ
ن م ب ِهِ ّ خل ْت ُ ْ م الّلِتي د َ َ سائ ِك ُ ُ ن نِ َ م ْ م ِ جورِك ُ ْ ح ُ م الّلِتي ِفي ُ م وََرَبائ ِب ُك ُ ُ سائ ِك ُ ْ نِ َ
َ َ
مصَلب ِك ُ ْ نأ ْ م ْ ن ِ ذي َ م ال ّ ِ ل أب َْنائ ِك ُ ُ حَلئ ِ ُ م وَ َ ح عَل َي ْك ُ ْ جَنا َ ن فََل ُ م ب ِهِ ّ خل ْت ُ ْ كوُنوا د َ َ م تَ ُ لَ ْ
ُ َ
ما )(23 حي ً فوًرا َر ِ ن غَ ُ كا َ ه َ ن الل ّ َ ف إِ ّ سل َ َ ما قَد ْ َ ن إ ِّل َ خت َي ْ ِ ن اْل ْ مُعوا ب َي ْ َ ج َ ن تَ ْ وَأ ْ
مات ُك ُ ْ
م م وَعَ ّ وات ُك ُ ْ خ َ م وَأ َ َ م وَب ََنات ُك ُ ْ مَهات ُك ُ ْ
} } { 24 ، 23حرمت عَل َيك ُ ُ
مأ ّ ْ ْ ُ ّ َ ْ
َ َ ُ
نم َ
م ِ وات ُك ُ ْ خ َ م وَأ َ ضعْن َك ُ ْ م اللِتي أْر َ مَهات ُك ُ ُ ت وَأ ّ خ ِ ت ال ْ ت الِخ وَب ََنا ُ م وَب ََنا ُ خالت ُك ُ ْ وَ َ
ُ
م اللِتي سائ ِك ُ ُ ن نِ َ م ْ م ِ جورِك ُ ْ ح ُ م اللِتي ِفي ُ م وََرَبائ ِب ُك ُ ُ سائ ِك ُ ْ ت نِ َ مَها ُ ضاعَةِ وَأ ّ الّر َ
َ
ن
ذي َ م ال ّ ِ ل أب َْنائ ِك ُ ُ حلئ ِ ُ م وَ َ ح عَل َي ْك ُ ْ جَنا َ ن َفل ُ م ب ِهِ ّ خل ْت ُ ْ كوُنوا د َ َ م تَ ُ ن لَ ْ ن فَإ ِ ْ م ب ِهِ ّ خل ْت ُ ْ دَ َ
َ َ
فوًرا ن غَ ُ كا َ ه َ ن الل ّ َ ف إِ ّ سل َ َ ما قَد ْ َ ن ِإل َ خت َي ْ ِن ال ْ مُعوا ب َي ْ َ ج َ ن تَ ْ م وَأ ْ صلب ِك ُ ْ نأ ْ م ْ ِ
ما { . حي ً َر ِ
هذه اليات الكريمات مشتملت على المحرمات بالنسب ،والمحرمات
بالرضاع ،والمحرمات بالصهر ،والمحرمات بالجمع ،وعلى المحللت من
النساء .فأما المحرمات في النسب فهن السبع اللتي ذكرهن الله.
الم يدخل فيها كل من لها عليك ولدة ،وإن بعدت ،ويدخل في البنت كل
من لك عليها ولدة ،والخوات الشقيقات ،أو لب أو لم .والعمة :كل أخت
لبيك أو لجدك وإن عل.
والخالة :كل أخت لمك ،أو جدتك وإن علت وارثة أم ل .وبنات الخ وبنات
الخت أي :وإن نزلت.
فهؤلء هن المحرمات من النسب بإجماع العلماء كما هو نص الية الكريمة
م { وذلك كبنت ما وََراَء ذ َل ِك ُ ْ م َ ل ل َك ُ ْ ح ّ وما عداهن فيدخل في قوله } :وَأ ُ ِ
العمة والعم وبنت الخال والخالة.
وأما المحرمات بالرضاع فقد ذكر الله منهن الم والخت .وفي ذلك تحريم
الم مع أن اللبن ليس لها ،إنما هو لصاحب اللبن ،دل بتنبيهه على أن
صاحب اللبن يكون أبا للمرتضع فإذا ثبتت البوة والمومة ثبت ما هو فرع
عنهما كإخوتهما وأصولهم وفروعهم ). (1
وقال النبي صلى الله عليه وسلم" :يحرم من الرضاع ما يحرم من
النسب" فينتشر التحريم من جهة المرضعة ومن له اللبن كما ينتشر في
القارب ،وفي الطفل المرتضع إلى ذريته فقط .لكن بشرط أن يكون
الرضاع خمس رضعات في الحولين كما بينت السنة.
وأما المحرمات بالصهر فهن أربع .حلئل الباء وإن علوا ،وحلئل البناء
وإن نزلوا ،وارثين أو محجوبين .وأمهات الزوجة وإن علون ،فهؤلء الثلث
يحرمن بمجرد العقد.
والرابعة :الربيبة وهي بنت زوجته وإن نزلت ،فهذه ل تحرم حتى يدخل
سائ ِك ُ ُ
م اللِتي ن نِ َ
م ْ جورِك ُ ْ
م ِ ح ُ بزوجته كما قال هنا } وََرَبائ ِب ُك ُ ُ
م اللِتي ِفي ُ
ن { الية. خل ْت ُ ْ
م ب ِهِ ّ دَ َ
م { قيد خرج مخرج ] ص جورِك ُ ْح ُوقد قال الجمهور :إن قوله } :اللِتي ِفي ُ
[ 174الغالب ل مفهوم له ،فإن الربيبة تحرم ولو لم تكن في حجره ولكن
للتقييد بذلك فائدتان:
إحداهما :فيه التنبيه على الحكمة في تحريم الربيبة وأنها كانت بمنزلة
البنت فمن المستقبح إباحتها.
والثانية :فيه دللة على جواز الخلوة بالربيبة وأنها بمنزلة من هي في
حجره من بناته ونحوهن .والله أعلم.
وأما المحرمات بالجمع فقد ذكر الله الجمع بين الختين وحرمه وحرم
النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها ،فكل
امرأتين بينهما رحم محرم لو قدر إحداهما ذكًرا والخرى أنثى حرمت عليه
فإنه يحرم الجمع بينهما ،وذلك لما في ذلك من أسباب التقاطع بين
الرحام.
__________
) (1في ب :وأصولهما وفروعهما.
) (1/173
ل ل َك ُ ْ
م ح ّ م وَأ ُ ِ
ب الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْم ك َِتا َ مان ُك ُ ْ
َ
ت أي ْ َ مل َك َ ْما َ ساِء إ ِّل َ ن الن ّ َ َ مت ِ صَنا َُ ح
م ْ َوال ْ ُ
َ ما وراَء ذ َل ِك ُ َ
ه
م بِ ِ مت َعْت ُ ْ
ست َ ْما ا ْ ن فَ َ حي َ
سافِ ِم َ ن غَي َْر ُ صِني َ ح ِ م ْم ُ وال ِك ُ ْ
م َ
ن ت َب ْت َُغوا ب ِأ ْ
مأ ْ ْ َ ََ
د ع ب ن م ه ب م ت يض را ت ما في م ُ ك يَ ل َ ع ح نا ج لَ و ة
ً ض ري َ ف ن ُ ه ر جو منهن فَآ َتوهُن أ ُ
ْ ْ ِ َ ََ َ ُْ ْ ِ ِ ِ ْ َْ ِ ّ ُ َ ّ ِ َ َ ُ َ َ ُ ِ ُْ ّ
ما )(24 كي ح
َ ِ ً َ ِ ً ما لي َ ع ن َ
كا ه
َ ّ لال ن
ري َ ِ ِ ّ
إ ة ض ف ِ ال ْ َ
ل ل َك ُ ْ
م ح ّ م وَأ ُ ِ ب الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ م ك َِتا َ مان ُك ُ ْ ت أي ْ َ
َ
مل َك َ ْما َ ساِء ِإل َ ن الن ّ َ م َت ِ صَنا ُ ح َ م ْ} َوال ْ ُ
َ ما وراَء ذ َل ِك ُ َ
ه
م بِ ِمت َعْت ُ ْست َ ْ ما ا ْ ن فَ َ حي َ سافِ ِ م َ ن غَي َْر ُ صِني َ ح ِ م ْم ُ وال ِك ُ ْ م َ ن ت َب ْت َُغوا ب ِأ ْ مأ ْ ْ َ ََ
ُ َ َ منهن َفآتوهُن أ ُ
ن ب َعْدِ ْ م
ِ ِ ه ب
ْ ِ م ُ تْ يضَ را َ
َ َت ما فيِ م
ْ ك ْ ي ل َ ع ح
َ نا
َ ج
ُ ول َ ة
ً ض
َ ري
َ ّ ِ ف ن ُ ه ر جو ُ ّ ُ ِ ُْ ّ
ما { . كي ً ح ِ ما َ ن عَِلي ً كا َ ه َ ّ
ن الل َ ضة ِ إ ِ ّري َ ف ِال ْ َ
ساِء { أي :ذوات ن الن ّ َ م َ ت ِ صَنا ُ ح َ م ْ } وَ { من المحرمات في النكاح } ال ْ ُ
الزواج .فإنه يحرم نكاحهن ما دمن في ذمة الزوج حتى تطلق وتنقضي
َ
م { أي :بالسبي ،فإذا سبيت الكافرة ذات مان ُك ُ ْ ت أي ْ َ مل َك َ ْما َ عدتهاِ } .إل َ
الزوج حلت للمسلمين بعد أن تستبرأ .وأما إذا بيعت المة المزوجة أو
وهبت فإنه ل ينفسخ نكاحها لن المالك الثاني نزل منزلة الول ولقصة
بريرة حين خيرها النبي صلى الله عليه وسلم.
م { أي :الزموه واهتدوا به فإن فيه الشفاء ب الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ وقوله } :ك َِتا َ
والنور وفيه تفصيل الحلل من الحرام.
ل ما لم يذكر في هذه م{ك ّ ُ
ما وََراَء ذ َل ِك ْ م َ ل ل َك ُ ْ ح ّ ودخل في قوله } :وَأ ُ ِ
الية ،فإنه حلل طيب .فالحرام محصور والحلل ليس له حد ول حصر
فا من الله ورحمة وتيسيًرا للعباد. لط ً
َ َ
م { أي :تطلبوا من وقع عليه نظركم واختياركم وال ِك ُ ْم َن ت َب ْت َُغوا ب ِأ ْ وقوله } :أ ْ
ن { أي :مستعفين عن صِني َ ح ِ م ْ من اللتي أباحهن الله لكم حالة كونكم } ُ
الزنا ،ومعفين نساءكم.
ن { والسفح :سفح الماء في الحلل والحرام ،فإن الفاعل حي َ سافِ ِ م َ } غَي َْر ُ
لذلك ل يحصن زوجته لكونه وضع شهوته في الحرام فتضعف داعيته
للحلل فل يبقى محصنا لزوجته .وفيها دللة على أنه ل يزوج غير العفيف
ن شرِك َ ً م ْ لقوله تعالى } :الزاِني ل ينكح إل زان ِي ً َ
حَها ِإل َزا ٍ ة ل ي َن ْك ِ ُ
ة َوالّزان ِي َ ُ ة أو ْ ُ َ َ َْ ِ ُ ّ
َ شرِ ٌ َ
ن
ّ ُ ه تو
ُ فآ } تزوجتموها ممن أي: { ن ه ن م ه ب م تع
ْ َ ْ َْ ُ ْ ِ ِ ِ ُْ ّ ت م ت س ا ماك { } .فَ َ م ْ أو ْ ُ
ن { أي :الجور في مقابلة الستمتاع .ولهذا إذا دخل الزوج بزوجته ُ
جوَرهُ ّ أ ُ
ة { أي :إتيانكم إياهن أجورهن فرض فرضه ض ًري َ تقرر عليه صداقها } فَ ِ
الله عليكم ،ليس بمنزلة التبرع الذي إن شاء أمضاه وإن شاء رده .أو
معنى قوله فريضة :أي :مقدرة قد قدرتموها فوجبت عليكم ،فل تنقصوا
منها شيًئا.
ضةِ { أي :بزيادة من ري َ ف ِن ب َعْدِ ال ْ َم ْم ب ِهِ ِضي ْت ُ ْما ت ََرا َ م ِفي َ ح عَل َي ْك ُ ْ جَنا َ } َول ُ
الزوج أو إسقاط من الزوجة عن رضا وطيب نفس ]هذا قول كثير من
المفسرين ،وقال كثير منهم :إنها نزلت في متعة النساء التي كانت حلل
في أول السلم ثم حرمها النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يؤمر بتوقيتها
وأجرها ،ثم إذا انقضى المد الذي بينهما فتراضيا بعد الفريضة فل حرج
عليهما ،والله أعلم[. (1) .
ما { أي :كامل العلم واسعه ،كامل الحكمة :فمن كي ً
ح ِ ما َ ن عَِلي ً كا َه َ ن الل ّ َ } إِ ّ
علمه وحكمته شرع لكم هذه الشرائع وحد لكم هذه الحدود الفاصلة بين
الحلل والحرام.
__________
) (1زيادة من هامش ب ،والزيادة غير واضحة ،وقد أتممتها من طبعة
السلفية.
) (1/174
َ
تمل َك َ ْما َ ن َ م ْ ت فَ ِ مَنا ِ مؤْ ِ ت ال ْ ُ صَنا ِ ح َ م ْ ح ال ْ ُ ن ي َن ْك ِ َم ط َوًْل أ ْ من ْك ُ ْ ست َط ِعْ ِ م يَ ْ ن لَ ْ م ْ وَ َ
ُ ُ َ َ ّ ْ ُ َ ُ َ
ض
ن ب َعْ ٍ م ْ م ِ ضك ْ م ب َعْ ُ مان ِك ْ م ب ِِإي َ ه أعْل ُ ت َوالل ُ مَنا ِ مؤْ ِ م ال ُ ن فت ََيات ِك ُ م ْ م ِمان ُك ْ أي ْ َ
َفانكحوهُن بإذ ْن أ َهْل ِهن وآ َتوهُ ُ
ت غَي َْر صَنا ٍ ح َ م ْ ف ُ معُْرو ِ ن ِبال ْ َ جوَرهُ ّ نأ ُ ّ ِ ّ َ ُ ّ ِِ ِ ْ ِ ُ
َ َ ُ َ َ
ف
ص ُ ن نِ ْ شةٍ فَعَلي ْهِ ّ ح َ فا ِن بِ َ ن أت َي ْ َ ن فَإ ِ ْ ص ّ ح ِ ذا أ ْ ن فَإ ِ َ دا ٍ خ َ تأ ْ ذا ِ خ َ مت ّ ِ ت وَل ُ حا ٍ سافِ َ م َ ُ
َ ُ ْ َ ْ ْ َ
صب ُِروان تَ ْ م وَأ ْ من ْك ْ ت ِ ي العَن َ َ ش َ خ ِ ن َ م ْ ب ذ َل ِك ل ِ َ ذا ِ ن العَ َ م َ ت ِ صَنا ِ ح َ م ْ ما عَلى ال ُ َ
م )(25 ٌ حي
ِ ر
ٌ َ ر فو ُ َ غ ه
ْ َ ُّ ل وال م ُ ك َ ل ر
ٌ ْ يخَ
َ
ن
م ْت فَ ِ مَنا ِ مؤْ ِ ت ال ْ ُ صَنا ِ ح َ م ْح ال ْ ُ ن ي َن ْك ِ َ ول أ ْ م طَ ْ من ْك ُ ْ ست َط ِعْ ِ م يَ ْ ن لَ ْ م ْ} } { 25وَ َ
َ َ ّ ْ َ
ن
م ْم ِ ُ
ضك ْ م ب َعْ ُ ُ
مان ِك ْ م ب ِِإي َ ه أعْل ُ ت َوالل ُ مَنا ِ مؤْ ِ م ال ُ ُ
ن فت ََيات ِك ُ َ م ْ م ِ ُ
مان ُك ْ ت أي ْ َ مل َك َ ْ ما َ َ
َ ْ ُ َ َ
ت غي َْر صَنا ٍ ح َ م ْ ف ُ معُْرو ِ ن ِبال َ جوَرهُ ّ نأ ُ ن َوآُتوهُ ّ ن أهْل ِهِ ّ ن ب ِإ ِذ ْ ِ حوهُ ّ ض فان ْك ِ ُ ب َعْ ٍ
َ َ ُ َ
ف
ص ُ ن نِ ْ شةٍ فَعَلي ْهِ ّ ح َفا ِن بِ َ ن أت َي ْ َ ن فَإ ِ ْ ص ّ ح ِ ذا أ ْ ن فَإ ِ َ دا ٍ خ َتأ ْ ذا ِ خ َ مت ّ ِ
ت َول ُ حا ٍ سافِ َ م َ ُ
َ ُ ْ َ ْ ْ َ
صب ُِروا ن تَ ْ م وَأ ْ من ْك ْ ت ِ ي العَن َ َ ش َ خ ِ ن َ م ْ ب ذ َل ِك ل ِ َ ذا ِ ن العَ َ م َ ت ِ صَنا ِ ح َ م ْ ما عَلى ال ُ َ
م{. حي ٌ فوٌر َر ِ ه غَ ُ ّ
م َوالل ُ ُ َ
خي ٌْر لك ْ َ
ول { الية. مط َْ ُ
من ْك ْ ست َط ِعْ ِ م يَ ْ نل ْ َ م ْ ثم قال تعالى } وَ َ
أي :ومن لم يستطع الطول الذي هو المهر لنكاح المحصنات أي :الحرائر
المؤمنات وخاف على نفسه العََنت أي :الزنا والمشقة الكثيرة ،فيجوز له
نكاح الماء المملوكات المؤمنات .وهذا بحسب ما يظهر ،وإل فالله أعلم
بالمؤمن الصادق من غيره ،فأمور الدنيا مبنية على ظواهر المور ،وأحكام
الخرة مبنية على ما في البواطن.
َ
ن { أي :سيدهن واحدا أو ن أهْل ِهِ ّ ن { أي :المملوكات } ب ِإ ِذ ْ ِ حوهُ ّ } َفان ْك ِ ُ
متعددا.
ُ
ف { أي :ولو كن إماء ،فإنه كما يجب المهر معُْرو ِ ن ِبال ْ َ جوَرهُ ّ نأ ُ } َوآُتوهُ ّ
للحرة فكذلك يجب للمة .ولكن ل يجوز نكاح الماء إل إذا كن
ت { أي :زانيات حا ٍسافِ َ م َ ت { أي :عفيفات عن الزنا } غَي َْر ُ صَنا ٍح َ م ْ} ُ
ن { أي :أخلء في السر. َ خ َ
دا ٍخ َ
تأ ْ ذا ِ مت ّ ِ علنيةَ } .ول ُ
فالحاصل أنه ل يجوز للحر المسلم نكاح أمة إل بأربعة شروط ذكرها الله:
اليمان بهن والعفة ظاهرا وباطنا ،وعدم استطاعة طول الحرة ،وخوف
العنت ،فإذا تمت هذه الشروط جاز له نكاحهن.
ومع هذا فالصبر عن نكاحهن أفضل لما فيه من تعريض الولد للرق ،ولما
فيه من الدناءة والعيب .وهذا إذا أمكن الصبر ،فإن لم يمكن الصبر عن
هّ َ
م َوالل ُخي ٌْر ل َك ُ ْ
صب ُِروا َ
ن تَ ْ
المحرم إل بنكاحهن وجب ذلك .ولهذا قال } :وَأ ْ
م{. حي ٌ
فوٌر َر ِ غَ ُ
َ ُ
ف
ص ُ ن { أي :تزوجن أو أسلمن أي :الماء } فَعَلي ْهِ ّ
ن نِ ْ ص ّح ِ ذا أ ْ وقوله } :فَإ ِ َ
ب{. ذا ِ ْ
ن العَ َ م َت { أي :الحرائر } ِ صَنا ِ ح َ م ْ ما عََلى ال ْ ُ َ
جلد فيكون عليهن خمسون َ ال [ 175 ص ] وهو: تنصيفه يمكن الذي وذلك
جلدة .وأما الرجم فليس على الماء رجم لنه ل يتنصف ،فعلى القول َ
الول إذا لم يتزوجن فليس عليهن حد ،إنما عليهن تعزير يردعهن عن فعل
الفاحشة.
وعلى القول الثاني :إن الماء غير المسلمات ،إذا فعلن فاحشة أيضا
عزرن.
وختم هذه الية بهذين السمين الكريمين "الغفور والرحيم" لكون هذه
ما وإحساًنا إليهم فلم يضيق عليهم ،بل وسع غاية ة بالعباد وكر ً الحكام رحم ً
السعة.
ولعل في ذكر المغفرة بعد ذكر الحد إشارة إلى أن الحدود كفارات ،يغفر
الله بها ذنوب عباده كما ورد بذلك الحديث .وحكم العبد الذكر في الحد
المذكور حكم المة لعدم الفارق بينهما.
) (1/174
م َوالل ّ ُ
ه ب عَل َي ْك ُ ْ ن قَب ْل ِك ُ ْ
م وَي َُتو َ م ْ
ن ِ ن ال ّ ِ
ذي َ سن َ َ
م ُ ن ل َك ُ ْ
م وَي َهْدِي َك ُ ْ ه ل ِي ُب َي ّ َريد ُ الل ّ ُ
يُ ِ
م )(26 كي ٌ ح ِ م َعَِلي ٌ
ب ن قَب ْل ِك ُ ْ
م وَي َُتو َ م ْ
ن ِ ن ال ّ ِ
ذي َ سن َ َم ُ م وَي َهْدِي َك ُ ْ ن ل َك ُ ْ ريد ُ الل ّ ُ
ه ل ِي ُب َي ّ َ } } { 28 - 26ي ُ ِ
م{. كي ٌ
ح ِم َ م َوالل ّ ُ
ه عَِلي ٌ عَل َي ْك ُ ْ
يخبر تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة ،وحسن تربيته لعباده
م { أي :جميع ما ن ل َك ُ ْ ريد ُ الل ّ ُ
ه ل ِي ُب َي ّ َ المؤمنين وسهولة دينه فقال } :ي ُ ِ
ن
سن َ َ
م ُتحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل ،والحلل والحرام } ،وَي َهْدِي َك ُ ْ
م { أي :الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم ،في ن قَب ْل ِك ُ ْ
م ْن ِ
ذي َ ال ّ ِ
سيرهم الحميدة ،وأفعالهم السديدة ،وشمائلهم الكاملة ،وتوفيقهم التام.
فلذلك نفذ ما أراده ،ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم ،وهداكم
هداية عظيمة في العلم والعمل.
م { أي :يلطف لكم في أحوالكم وما شرعه لكم حتى ب عَل َي ْك ُ ْ} وَي َُتو َ
تمكنوا ) (1من الوقوف على ما حده الله ،والكتفاء بما أحله فتقل ذنوبكم
بسبب ما يسر الله عليكم فهذا من توبته على عباده.
ومن توبته عليهم أنهم إذا أذنبوا فتح لهم أبواب الرحمة وأوزع قلوبهم
النابة إليه ،والتذلل بين يديه ثم يتوب عليهم بقبول ما وفقهم له .فله
الحمد والشكر على ذلك.
م { أي :كامل الحكمة ،فمن علمه أن علمكم ما كي ٌ
ح ِ
م َ
ه عَِلي ٌ وقولهَ } :والل ّ ُ
لم تكونوا تعلمون ،ومنها هذه الشياء والحدود .ومن حكمته أنه يتوب على
من اقتضت حكمته ورحمته التوبة عليه ،ويخذل من اقتضت حكمته وعدله
من ل يصلح للتوبة.
__________
) (1في ب :تتمكنوا.
) (1/175
) (1/175
) (1/175
ما ) خًل ك َ ِ
ري ً مد ْ َ خل ْك ُ ْ
م ُ سي َّئات ِك ُ ْ
م وَن ُد ْ ِ فْر عَن ْك ُ ْ
م َ ه ن ُك َ ّ
ن عَن ْ ُ جت َن ُِبوا ك ََبائ َِر َ
ما ت ُن ْهَوْ َ ن تَ ْ
إِ ْ
(31
خل ْك ُ ْ
م سي َّئات ِك ُ ْ
م وَن ُد ْ ِ م َفْر عَن ْك ُ ْ
ه ن ُك َ ّ
ن عَن ْ ُ جت َن ُِبوا ك ََبائ َِر َ
ما ت ُن ْهَوْ َ ن تَ ْ
} } { 31إ ِ ْ
ما { . خل ك َ ِ
ري ً مد ْ َ
ُ
وهذا من فضل الله وإحسانه على عباده المؤمنين وعدهم أنهم إذا اجتنبوا
كبائر المنهيات غفر لهم جميع الذنوب والسيئات وأدخلهم مدخل كريما كثير
الخير وهو الجنة المشتملة على ما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر
على قلب بشر.
ويدخل في اجتناب الكبائر فعل الفرائض التي يكون تاركها مرتكبا كبيرة،
كالصلوات الخمس ،والجمعة ،وصوم رمضان ،كما قال النبي صلى الله
عليه وسلم "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان
مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر" .
حدت به الكبائر ،أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا ،أو وعيد في وأحسن ما ُ
الخرة ،أو نفي إيمان ،أو ترتيب لعنة ،أو غضب عليه.
) (1/176
ما اك ْت َ َ
سُبوا م ّ
ب ِصي ٌ ل نَ ِ جا ِض ِللّر َ ضك ُ ْ َ ل الل ّ ُض َما فَ ّ وََل ت َت َ َ
م عَلى ب َعْ ٍ َ
ه ب ِهِ ب َعْ َ وا َمن ّ ْ
يٍء
ش ْل َ ن ب ِك ُ ّ
كا َه َن الل ّ َ ن فَ ْ
ضل ِهِ إ ِ ّ م ْ
ه ِسأُلوا الل ّ َن َوا ْ
سب ْ َما اك ْت َ َم ّب ِصي ٌساِء ن َ ِ وَِللن ّ َ
ما )(32 عَِلي ً
ب صي ٌ
ل نَ ِ
جا ِ ض ِللّر َ ضك ُ ْ َ ل الل ّ ُ ما فَ ّ
ض َ
م َعَلى ب َعْ ٍ ه ب ِهِ ب َعْ َ وا َ من ّ ْ
} َ } { 32ول ت َت َ َ
ن الل ّ َ
ه ن فَ ْ
إِ ّ
ضل ِهِ م ْ سأُلوا الل ّ َ
ه ِ ن َوا ْ ما اك ْت َ َ
سب ْ َ م ّ
ب ِ صي ٌ
ساِء ن َ ِ سُبوا وَِللن ّ َ ما اك ْت َ َم ّ ِ
ما { . يٍء عَِلي ً ش ْ ّ ُ
ن ب ِكل َ كا ََ
ينهى تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل الله به غيره من
المور الممكنة وغير الممكنة .فل تتمنى النساء خصائص الرجال التي بها
فضلهم على النساء ،ول صاحب الفقر والنقص حالة الغنى والكمال تمنيا
مجردا لن هذا هو الحسد بعينه ،تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك
ويسلب إياها .ولنه يقتضي السخط على قدر الله والخلد إلى الكسل
والماني الباطلة التي ل يقترن بها عمل ول كسب .وإنما المحمود أمران:
أن يسعى العبد على حسب قدرته بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية،
ويسأل الله تعالى من فضله ،فل يتكل على نفسه ول على غير ربه .ولهذا
سُبوا { أي :من أعمالهم المنتجة ما اك ْت َ َ م ّ ب ِ صي ٌ ل نَ ِ جا ِقال تعالىِ } :للّر َ
ن { فكل منهم ل يناله غير ما
سب ْ َ ْ
ما اكت َ َ م ّ ب ِ صي ٌ ساِء ن َ ِللمطلوب } .وَِللن ّ َ
ّ ُ َ
ضل ِهِ { أي :من جميع مصالحكم فين فَ ْ م ْ ه ِسألوا الل َ كسبه وتعب فيهَ } .وا ْ
الدين والدنيا .فهذا كمال العبد وعنوان سعادته ل من يترك العمل ،أو يتكل
على نفسه غير مفتقر لربه ،أو يجمع بين المرين فإن هذا مخذول خاسر.
ما { فيعطي من يعلمه أهل لذلك، يٍء عَِلي ً ش ْ ل َ ن ب ِك ُ ّ كا َه َ ن الل ّ َ
وقوله } :إ ِ ّ
ويمنع من يعلمه غير مستحق.
) (1/176
َ
مان ُك ُ ْ
م ت أي ْ َ
قد َ ْ
ن عَ َ ن َوال ّ ِ
ذي َ ن َواْل َقَْرُبو َدا ِ ك ال ْ َ
وال ِ َ ما ت ََر َم ّي ِ وال ِ َ جعَل َْنا َ
م َ ل َ وَل ِك ُ ّ
ن عََلى ك ُ ّ َ
دا )(33 يٍء َ
شِهي ً ش ْ ل َ ه َ
كا َ ن الل ّ َ
م إِ ّ صيب َهُ ْ
م نَ ِفَآُتوهُ ْ
تقد َ ْ
ن عَ َ ن َوال ّ ِ
ذي َ ن َوالقَْرُبو َ دا ِ وال ِ َك ال ْ َ ما ت ََر َ م ّي ِ وال ِ َ م َجعَل َْنا َ ل َ} } { 33وَل ِك ُ ّ
ن عََلى ك ُ ّ َ
دا { . شِهي ً يٍء َ ش ْ ل َ ه َ
كا َ ن الل ّ َ م إِ ّصيب َهُ ْم نَ ِم َفآُتوهُ ْ مان ُك ُ ْ
أي ْ َ
ي { أي :يتولونه ويتولهم بالتعزز وال ِ َم َجعَل َْنا َ ل { من الناس } َ أي } :وَل ِك ُ ّ
ن { وهذا ن َوالقَْرُبو َ دا ِ وال ِ َ ْ
ك ال َ ما ت ََر َ م ّوالنصرة والمعاونة على المورِ } .
يشمل سائر القارب من الصول والفروع والحواشي ،هؤلء الموالي من
القرابة.
َ
م { أي: مان ُك ُ ْ ت أي ْ َ قد َ ْ ن عَ َ ذي َ ثم ذكر نوعا آخر من الموالي فقالَ } :وال ّ ِ
حالفتموهم بما عقدتم معهم من عقد المحالفة على النصرة والمساعدة
والشتراك بالموال وغير ذلك .وكل هذا من نعم الله على عباده ،حيث
كان الموالي يتعاونون بما ل يقدر عليه بعضهم مفردا.
م { أي :آتوا الموالي نصيبهم الذي يجب القيام صيب َهُ ْم نَ ِ قال تعالىَ } :فآُتوهُ ْ
به من النصرة والمعاونة والمساعدة على غير معصية الله .والميراث
للقارب الدنين من الموالي.
دا { أي :مطلعا على كل شيء بعلمه شِهي ً يٍء َ ش ْ ل َ ن عََلى ك ُ ّ كا َ ه َ ن الل ّ َ } إِ ّ
لجميع المور ،وبصره لحركات عباده ،وسمعه لجميع أصواتهم.
) (1/176
قوا ما أ َن ْ َ
ف ُ ض وَب ِ َ ضه ُ ْ َ
م عَلى ب َعْ ٍ ه ب َعْ َ ل الل ّ ُ ض َ ما فَ ّ ساِء ب ِ َ ن عََلى الن ّ َ مو َ وا ُ ل قَ ّ جا ُ الّر َ
ّ ّ َ ْ َ َ
ه َواللِتي فظ الل ُ ح ِما َب بِ َ ت ل ِلغَي ْ ِ حافِظا ٌ ت َ ت َقان َِتا ٌ حا ُ م َفال ّ
صال ِ َ وال ِهِ ْم َنأ ْ م ْ ِ
نن فَإ ِ ْ ضرُِبوهُ ّ جِع َوا ْ
ضا ِ م َ ْ
ن ِفي ال َ جُروهُ ّ ن َواهْ ُ ُ
ن فَعِظوهُ ّ شوَزهُ ّ ن نُ ُ خاُفو َ تَ َ
َ
ن عَل ِّيا ك َِبيًرا )(34 كا َ ه َ ن الل ّ َسِبيًل إ ِ ّ ن َ م فََل ت َب ُْغوا عَل َي ْهِ ّ أط َعْن َك ُ ْ
] ص [ 177
ض َ ّ ما فَ ّ
ض َ َ ل قَ ّ جا ُ
م عَلى ب َعْ ٍ ضه ُ ْ ه ب َعْ َل الل ُ ساِء ب ِ َن عَلى الن ّ َ مو َ وا ُ
َ
} } { 34الّر َ
هّ َ
حفِظ الل ُ ما َب بِ َ ْ
ت ل ِلغَي ْ ِ َ
حافِظا ٌ ت َت َقان َِتا ٌ حا ُصال ِ َ م َفال ّ وال ِهِ ْ
م َنأ ْ م ْ
قوا ِف ُما أ َن ْ َ
وَب ِ َ
ن
ضرُِبوهُ ّجِع َوا ْ ضا ِم َ ْ
ن ِفي ال َ جُروهُ ّ ن َواهْ ُ ُ
ن فَعِظوهُ ّ شوَزهُ ّ ن نُ ُ خاُفو َ
َواللِتي ت َ َ
فَإ َ
ن عَل ِّيا ك َِبيًرا { . كا َه َ ن الل ّ َ
سِبيل إ ِ ّ ن َ م َفل ت َب ُْغوا عَل َي ْهِ ّ ن أط َعْن َك ُ ْ ِ ْ
ساِء { أي :قوامون عليهن َ
ن عَلى الن ّ َ مو َ وا ُ جال } قَ ّ يخبر تعالى أن الّر َ
بإلزامهن بحقوق الله تعالى ،من المحافظة على فرائضه وكفهن عن
المفاسد ،والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك ،وقوامون عليهن أيضا
بالنفاق عليهن ،والكسوة والمسكن ،ثم ذكر السبب الموجب لقيام الرجال
ن
م ْقوا ِ ف ُما َأن َ
ض وَب ِ َ
م عَلى ب َعْ ٍ
ضه ُ ْ َ ه ب َعْ َل الل ّ ُ ض َ ما فَ ّ على النساء فقال } :ب ِ َ
م { أي :بسبب فضل الرجال على النساء وإفضالهم عليهن، َ
وال ِهِ ْم َأ ْ
فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة :من كون الوليات مختصة
بالرجال ،والنبوة ،والرسالة ،واختصاصهم بكثير من العبادات كالجهاد
والعياد والجمع .وبما خصهم الله به من العقل والرزانة والصبر والجلد
الذي ليس للنساء مثله .وكذلك خصهم بالنفقات على الزوجات بل وكثير
من النفقات يختص بها الرجال ويتميزون عن النساء.
قوا { وحذف المفعول ليدل على عموم ف ُما أ َن ْ َ ولعل هذا سر قوله } :وَب ِ َ
النفقة .فعلم من هذا كله أن الرجل كالوالي والسيد لمرأته ،وهي عنده
عانية أسيرة خادمة،فوظيفته أن يقوم بما استرعاه الله به.
تحا ُ صال ِ َووظيفتها :القيام بطاعة ربها وطاعة زوجها فلهذا قالَ } :فال ّ
ب { أي :مطيعات ت ل ِل ْغَي ْ ِظا ٌحافِ َ ت { أي :مطيعات لله تعالى } َ َقان َِتا ٌ
لزواجهن حتى في الغيب تحفظ بعلها بنفسها وماله ،وذلك بحفظ الله لهن
وتوفيقه لهن ،ل من أنفسهن ،فإن النفس أمارة بالسوء ،ولكن من توكل
على الله كفاه ما أهمه من أمر دينه ودنياه.
ن { أي :ارتفاعهن عن طاعة أزواجهن شوَزهُ ّ ن نُ ُ خاُفو َ ثم قالَ } :واللِتي ت َ َ
ن{ ظوهُ ّ بأن تعصيه بالقول أو الفعل فإنه يؤدبها بالسهل فالسهل } ،فَعِ ُ
أي :ببيان حكم الله في طاعة الزوج ومعصيته والترغيب في الطاعة،
والترهيب من معصيته ،فإن انتهت فذلك المطلوب ،وإل فيهجرها الزوج
في المضجع ،بأن ل يضاجعها ،ول يجامعها بمقدار ما يحصل به المقصود،
وإل ضربها ضرًبا غير مبرح ،فإن حصل المقصود بواحد من هذه المور
سِبيل { أي :فقد حصل لكم ما تحبون فاتركوا ن َ وأطعنكم } َفل ت َب ُْغوا عَل َي ْهِ ّ
معاتبتها على المور الماضية ،والتنقيب عن العيوب التي يضر ذكرها
ويحدث بسببه الشر.
ن عَل ِّيا كِبيًرا { أي :له العلو المطلق بجميع الوجوه َ كا َه َ ن الل ّ َ } إِ ّ
والعتبارات ،علو الذات وعلو القدر وعلو القهر الكبير الذي ل أكبر منه ول
أجل ول أعظم ،كبير الذات والصفات.
) (1/177
) (1/177
ما بجميع الظواهر والبواطن ،مطلعا خِبيًرا { أي :عال ً ما َ ن عَِلي ً كا َ ه َ ن الل ّ َ} إِ ّ
على خفايا المور وأسرارها .فمن علمه وخبره أن شرع لكم هذه الحكام
الجليلة والشرائع الجميلة ] .ص [ 178
ذي ساًنا وَب ِ ِ ح َ ن إِ ْ ْ
شي ًْئا وَِبال َ شرِكوا ب ِهِ َ ُ ه َول ت ُ ْ دوا الل ّ َ
وال ِد َي ْ ِ } َ } { 38 - 36واعْب ُ ُ
بح ِ صا ِ ب َوال ّ جن ُ ِ ْ
جارِ ال ُ ْ
قْرَبى َوال َ ْ
جارِ ِذي ال ُ ْ
ن َوال َ كيسا ِم َ مى َوال ْ َ قْرَبى َوال ْي ََتا َ ال ْ ُ
َ ِ
خَتال م ْ ن ُ كا َن َ م ْ ب َ ح ّ ه ل يُ ِ ن الل ّ َم إِ ّ مان ُك ُ ْ ت أي ْ َ مل َك َ ْ ما َ ل وَ َ سِبي ِ ن ال ّ ب َواب ْ ِ ِبال ْ َ
جن ْ ِ
ْ
ن
م ْ ه ِ م الل ّ ُما آَتاهُ ُ ن َ مو َ ل وَي َك ْت ُ ُ س ِبال ْب ُ ْ
خ ِ ن الّنا َ مُرو َ ن وَي َأ ُ خُلو َ ن ي َب ْ َ
ذي َ خوًرا * ال ّ ِ فَ ُ
ْ َ
ضل ِهِ وَأعْت َد َْنا ل ِل َ
مِهيًنا { . ذاًبا ُ ن عَ َ ري َ كافِ ِ فَ ْ
يأمر تعالى عباده بعبادته وحده ل شريك له ،وهو الدخول تحت رق
عبوديته ،والنقياد لوامره ونواهيه ،محبة وذل وإخلصا له ،في جميع
العبادات الظاهرة والباطنة.
وينهى عن الشرك به شيئا ل شركا أصغر ول أكبر ،ل ملكا ول نبيا ول وليا
ول غيرهم من المخلوقين الذين ل يملكون لنفسهم نفعا ول ضرا ول موتا
ول حياة ول نشورا ،بل الواجب المتعين إخلص العبادة لمن له الكمال
المطلق من جميع الوجوه ،وله التدبير الكامل الذي ل يشركه ول يعينه
عليه أحد .ثم بعد ما أمر بعبادته والقيام بحقه أمر بالقيام بحقوق العباد
ساًنا { أي :أحسنوا إليهم بالقول ح َ ن إِ ْ وال ِد َي ْ ِ القرب فالقرب .فقال } :وَِبال ْ َ
الكريم والخطاب اللطيف والفعل الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما
والنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما وصلة الرحم التي ل رحم لك إل
م الحسان .وكلهما منهي عنه. بهما .وللحسان ضدان ،الساءةُ وعد ُ
قْرَبى { أيضا إحسانا ،ويشمل ذلك جميع القارب ،قربوا أو ذي ال ْ ُ } وَب ِ ِ
بعدوا ،بأن يحسن إليهم بالقول والفعل ،وأن ل يقطع برحمه بقوله أو
فعله.
مى { أي :الذين فقدوا آباءهم ) (1وهم صغار ،فلهم حق على } َوال ْي ََتا َ
المسلمين ،سواء كانوا أقارب أو غيرهم بكفالتهم وبرهم وجبر خواطرهم
وتأديبهم ،وتربيتهم أحسن تربية في مصالح دينهم ودنياهم.
كين { وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر ،فلم يحصلوا على سا ِ م َ } َوال ْ َ
كفايتهم ،ول كفاية من يمونون ،فأمر الله تعالى بالحسان إليهم ،بسد
خلتهم وبدفع فاقتهم ،والحض على ذلك ،والقيام بما يمكن منه.
قْرَبى { أي :الجار القريب الذي له حقان حق الجوار وحق جارِ ِذي ال ْ ُ } َوال ْ َ
القرابة ،فله على جاره حق وإحسان راجع إلى العرف } .وَ { كذلك
ب { أي :الذي ليس له قرابة .وكلما كان الجار أقرب باًبا كان جن ُ ِ جارِ ال ْ ُ } ال ْ َ
قا ،فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة والدعوة واللطافة آكد ح ّ
بالقوال والفعال وعدم أذيته بقول أو فعل.
ب { قيل :الرفيق في السفر ،وقيل :الزوجة ،وقيل جن ْ ِب ِبال ْ َ ح ِ صا ِ } َوال ّ
الصاحب مطلقا ،ولعله أولى ،فإنه يشمل الصاحب في الحضر والسفر
ويشمل الزوجة .فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلمه ،من
مساعدته على أمور دينه ودنياه ،والنصح له؛ والوفاء معه في اليسر
والعسر ،والمنشط والمكره ،وأن يحب له ما يحب لنفسه ،ويكره له ما
يكره لنفسه ،وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد.
ل { وهو :الغريب الذي احتاج في بلد الغربة أو لم يحتج ،فله سِبي ِ ن ال ّ } َواب ْ ِ
حق على المسلمين لشدة حاجته وكونه في غير وطنه بتبليغه إلى
مقصوده أو بعض مقصوده ]وبإكرامه وتأنيسه[ ). (2
َ
م { :أي :من الدميين والبهائم بالقيام بكفايتهم وعدم مان ُك ُ ْ ت أي ْ َ مل َك َ ْ ما َ } وَ َ
تحميلهم ما يشق عليهم وإعانتهم على ما يتحملون ،وتأديبهم لما فيه
مصلحتهم .فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لربه ،المتواضع لعباد
الله ،المنقاد لمر الله وشرعه ،الذي يستحق الثواب الجزيل والثناء
الجميل ،ومن لم يقم بذلك فإنه عبد معرض عن ربه ،غير منقاد لوامره،
ول متواضع للخلق ،بل هو متكبر على عباد الله معجب بنفسه فخور بقوله،
خَتال { أي :معجبا بنفسه متكبًرا م ْ ن ُ كا َن َ م ْ
ب َح ّ ه ل يُ ِ ن الل ّ َ ولهذا قال } :إ ِ ّ
خوًرا { يثني على نفسه ويمدحها على وجه الفخر والبطر على الخلق } فَ ُ
على عباد الله ،فهؤلء ما بهم من الختيال والفخر يمنعهم من القيام
ن { أي :يمنعون ما عليهم من خُلو َ ن ي َب ْ َذي َ بالحقوق .ولهذا ذمهم بقوله } :ال ّ ِ
ْ
ل { بأقوالهم وأفعالهم خ ِ س ِبال ْب ُ ْن الّنا َ مُرو َ الحقوق الواجبة } .وَي َأ ُ
ضل ِهِ { أي :من العلم الذي يهتدي به ن فَ ْ
م ْ ه ِ م الل ّ ُ ما آَتاهُ ُ ن َ مو َ } وَي َك ْت ُ ُ
الضالون ويسترشد به الجاهلون فيكتمونه عنهم ،ويظهرون لهم من
الباطل ما يحول بينهم وبين الحق .فجمعوا بين البخل بالمال والبخل
بالعلم ،وبين السعي في خسارة أنفسهم وخسارة غيرهم ،وهذه هي
مِهيًنا { أي: ن عَ َ
ذاًبا ُ ري َ صفات الكافرين ،فلهذا قال تعالى } :وَأ َعْت َد َْنا ل ِل ْ َ
كافِ ِ
كما تكبروا على عباد الله ومنعوا حقوقه وتسببوا في منع غيرهم من البخل
ذا بك اللهم من وعدم الهتداء ،أهانهم بالعذاب الليم والخزي الدائم .فعيا ً
كل سوء.
__________
) (1كذا في ب ،وفي أ :الذين فقد آباؤهم.
) (2زيادة من هامش ب.
) (1/177
) (1/178
ن الل ّ ُ
ه كا َ م الل ّ ُ
ه وَ َ ما َرَزقَهُ ُ
م ّ
قوا ِ خرِ وَأ َن ْ َ
ف ُ مُنوا ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ اْل َ ِ َ
م ل َوْ آ َ
ذا عَل َي ْهِ ْ
ما َوَ َ
ما )(39 م عَِلي ً ب ِهِ ْ
م الل ّ ُ
ه ما َرَزقَهُ ُ
م ّ
قوا ِ خرِ وَأ َن ْ َ
ف ُ مُنوا ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ
م ل َوْ آ َ
ذا عَل َي ْهِ ْما َ
} } { 39وَ َ
ما { . م عَِلي ً ن الل ّ ُ
ه ب ِهِ ْ وَ َ
كا َ
أي :أي شيء عليهم وأي حرج ومشقة تلحقهم لو حصل منهم اليمان بالله
الذي هو الخلص ،وأنفقوا من أموالهم التي رزقهم الله وأنعم بها عليهم
فجمعوا بين الخلص والنفاق ،ولما كان الخلص سّرا بين العبد وبين ربه،
ن الل ّ ُ
ه ل يطلع عليه إل الله أخبر تعالى بعلمه بجميع الحوال فقال } :وَ َ
كا َ
ما { م عَِلي ًب ِهِ ْ
) (1/179
فها ويؤْت من ل َدن َ
جًراهأ ْ ع ْ َ َُ ِ ِ ْ ُْ ُ ضا ِ
ة يُ َ
سن َ ًح َ ك َ ن تَ ُل ذ َّرةٍ وَإ ِ ْ قا َمث ْ َ م ِ ه َل ي َظ ْل ِ ُ ن الل ّ َ إِ ّ
َ َ َ
جئ َْنا ب ِك عَلى هَؤُلِء َ ُ ُ َ
دا
شِهي ً مة ٍ ب ِ َ
شِهيدٍ وَ ِ لأ ّ نك ّ م ْ جئ َْنا ِ
ذا ِ ف إِ َما ) (40فَكي ْ َ ظي ً
عَ ِ
ض وَلَ ل ل َو ت ُسوى بهم اْلرَ َ ّ
ْ ُ سو َ ْ َ ّ ِ ِ ُ وا الّر ُ ص ُفُروا وَعَ َ نك َ ذي َ مئ ِذٍ ي َوَد ّ ال ِ ) (41ي َوْ َ
ديًثا )(42 ح ِه َ ّ
ن الل َ مو َ ي َك ْت ُ ُ
) (1/179
) (1/179
ة ويريدو َ أ َل َم تر إَلى ال ّذي ُ
ن
نأ ْضَلل َ َ َ ُ ِ ُ َ
ن ال ّ
شت َُرو َ ن ال ْك َِتا ِ
ب يَ ْ م َ
صيًبا ِ
ن أوُتوا ن َ ِ
ِ َ ْ ََ ِ
ل )(44 ضّلوا ال ّ
سِبي َ تَ ِ
) (1/180
َ والل ّ َ
ن
ذي َ ن ال ّ ِ م َ صيًرا )ِ (45 فى ِبالل ّهِ ن َ ِ فى ِبالل ّهِ وَل ِّيا وَك َ َ م وَك َ َ دائ ِك ُ ْ م ب ِأعْ َ ه أعْل َ ُ َ ُ
معْ غَي َْر َ ْ َ س وا نا َ ْ ي صَ َ َ ع و ناَ ْ ع م
ِ س
َ ن
َ لو ُ قو
ُ َ يَ و ِ ه ِ عضِ وا
ْ َ َ م ن َ ع م
َ ِ ل َ ك ْ ل ا نَ فو ُ ر ّ ح
َ ُ ي دوا ها ُ َ
َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ
معَْنا وَأطعَْنا س ِ م َقالوا َ ن وَلوْ أن ّهُ ْ دي ِ م وَطعًْنا ِفي ال ّ سن َت ِهِ ْ عَنا لّيا ب ِأل ِ مٍع وََرا ِ س َ م ْ ُ
َ ُ ّ َ َ َ َ َ َ ُ
ن
مُنو َ م فَل ي ُؤْ ِ ِ ْ ِ ه ر ْ ف ك ب
ُ ِ ه ل ال مُ ُ هَ ن َ ع ل ن
ْ ِ ك ل و م و
ً ُ ْ َ َ َ َ ْ ق أ و م ه ل را ْ يخَ نَ كا ل نا َ ر
ْ ظ ْ ن وا َ ْ َ َ ْ ع م س وا
إ ِّل قَِليًل )(46
َ } والل ّ َ
ن
ذي َ ن ال ّ ِ م َ صيًرا * ِ فى ِبالل ّهِ ن َ ِ فى ِبالل ّهِ وَل ِّيا وَك َ َ م وَك َ َ دائ ِك ُ ْ م ب ِأعْ َ ه أعْل َ ُ َ ُ
معْ غَي َْر س َ صي َْنا َوا ْ معَْنا وَعَ َ س ِ ن َ قولو َ ُ ضعِهِ وَي َ ُ وا ِ م َ ن َ م عَ ْ ن الكل ِ َ َ ْ حّرُفو َ دوا ي ُ َ ها ُ َ
َ َ ُ َ َ َ ْ َ َ
معَْنا وَأطعَْنا س ِ م َقالوا َ ن وَلوْ أن ّهُ ْ دي ِ م وَطعًْنا ِفي ال ّ سن َت ِهِ ْ عَنا لّيا ب ِأل ِ مٍع وََرا ِ س َ م ْ ُ
ُ ّ َ َ َ َ َ َ ُ
نمُنو َ م َفل ي ُؤْ ِ ِ ْ ِ ه ر ْ ف ك ب
ُ ِ ه ل ال م ُ ُ ه َ ن َ ع ل ن ْ ِ ك ل و م
َ
ً ُ ْ َ َ َو ْ ق أ و م ه ل را ْ يخ َ ن َ كا ل نا َ ر ْ ظ ْ ن وا َ ْ َ َ ْ ع م س وا
ِإل قَِليل { .
فهم حريصون على إضللكم غاية الحرص ،باذلون جهدهم في ذلك .ولكن
لما كان الله ولي عباده المؤمنين وناصرهم ،بّين لهم ما اشتملوا عليه من
فى ِبالل ّهِ وَل ِّيا { أي :يتولى أحوال عباده الضلل والضلل ،ولهذا قال } :وَك َ َ
ويلطف بهم في جميع أمورهم ] ،ص [ 181وييسر لهم ما به سعادتهم
صيًرا { ينصرهم على أعدائهم ويبين لهم ما فى ِبالل ّهِ ن َ ِ وفلحهم } .وَك َ َ
يحذرون منهم ويعينهم عليهم .فوليته تعالى فيها حصول الخير ،ونصره فيه
زوال الشر.
ن
م َ ثم بين كيفية ضللهم وعنادهم وإيثارهم الباطل على الحق فقالِ } :
دوا { أي :اليهود وهم علماء الضلل منهم. ها ُ ن َ ذي َ ال ّ ِ
ضعِهِ { إما بتغيير اللفظ أو المعنى ،أو هما جميعا. وا ِ م َ ن َ م عَ ْ ن ال ْك َل ِ َ حّرُفو َ } يُ َ
فمن تحريفهم تنزيل الصفات التي ذكرت في كتبهم التي ل تنطبق ول
تصدق إل على محمد صلى الله عليه وسلم على أنه غير مراد بها ،ول
مقصود بها بل أريد بها غيره ،وكتمانهم ذلك.
فهذا حالهم في العلم أشر حال ،قلبوا فيه الحقائق ،ونزلوا الحق على
الباطل ،وجحدوا لذلك الحق ،وأما حالهم في العمل والنقياد فإنهم
صي َْنا { أي :سمعنا قولك وعصينا أمرك ،وهذا غاية معَْنا وَعَ َ س ِ قولون َ } يَ ُ
الكفر والعناد والشرود عن النقياد ،وكذلك يخاطبون الرسول صلى الله
معْ غَي َْر س َ
عليه وسلم بأقبح خطاب وأبعده عن الدب فيقولون } :ا ْ
مٍع { قصدهم :اسمع منا غير مسمع ما تحب ،بل مسمع ما تكره، س َم ْ ُ
عَنا { قصدهم بذلك الرعونة ،بالعيب القبيح ،ويظنون أن اللفظ -لما } وََرا ِ
كان محتمل لغير ما أرادوا من المور -أنه يروج على الله وعلى رسوله،
ظ الذي يلوون به ألسنتهم إلى الطعن في الدين فتوصلوا بذلك اللف ِ
م ْ َ َ
سن َت ِهِ ْوالعيب للرسول ،ويصرحون بذلك فيما بينهم ،فلهذا قال } :لّيا ب ِأل ِ
ن{. ِ وَط َعًْنا ِفي ال ّ
دي
َ
معَْنا س ِم َقاُلوا َ ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال } :وَل َوْ أن ّهُ ْ
َ َ
م { وذلك لما تضمنه هذا م وَأقْوَ َ خي ًْرا ل َهُ ْن َ كا َ معْ َوان ْظ ُْرَنا ل َ َ وَأط َعَْنا َوا ْ
س َ
الكلم من حسن الخطاب والدب اللئق في مخاطبة الرسول ،والدخول
تحت طاعة الله والنقياد لمره ،وحسن التلطف في طلبهم العلم بسماع
سؤالهم ،والعتناء بأمرهم ،فهذا هو الذي ينبغي لهم سلوكه .ولكن لما
كانت طبائعهم غير زكية ،أعرضوا عن ذلك ،وطردهم الله بكفرهم
ن ِإل قَِليل { . مُنو َم َفل ي ُؤْ ِ فرِهِ ْه ب ِك ُ ْم الل ّ ُن ل َعَن َهُ ُ
وعنادهم ،ولهذا قال } :وَل َك ِ ْ
) (1/180
ن يا أ َيها ال ّذين ُأوتوا ال ْكتاب آ َمنوا بما نزل ْنا مصدًقا ل ِما معك ُم من قَب َ
لأ ْ َ َ َ ْ ِ ْ ْ ِ َِ َ ِ ُ ِ َ َّ َ ُ َ ّ ُ ِ َ َ َّ
َ َ ْ َ َ َ
ت
سب ْ ِب ال ّ
حا َ
ص َ
ما لعَّنا أ ْ َ
مك َ ها أوْ ن َلعَن َهُ ْ ها فَن َُرد ّ َ
ها عَلى أد َْبارِ َ جو ً س وُ ُم َ ن َط ْ ِ
فُعوًل )(47 َ
مُر الل ّهِ َ
م ْ نأ ْكا َ وَ َ
} } { 47يا أ َيها ال ّذي ُ
ن
م ْم ِ معَك ُ ْ ما َ صد ًّقا ل ِ َ م َ ما ن َّزل َْنا ُ مُنوا ب ِ َ بآ ِ ن أوُتوا ال ْك َِتا َ ِ َ َ َّ
َ َ ْ َ َ َ قَب َ
ب حا َ ص َ ما لعَّنا أ ْ َ
مك َ ها أوْ ن َلعَن َهُ ْ ها عَلى أد َْبارِ َ َ
ها فن َُرد ّ َ جو ً س وُ ُم َ ن ن َط ْ ِ
لأ ْ ْ ِ
فُعول { . م ْ ّ َ َ
مُر اللهِ َ نأ ْت وَكا َ سب ْ ِال ّ
يأمر تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن يؤمنوا بالرسول محمد
صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله عليه من القرآن العظيم ،المهيمن
على غيره من الكتب السابقة التي قد صدقها ،فإنها أخبرت به فلما وقع
المخبر به كان تصديقا لذلك الخبر.
وأيضا فإنهم إن لم يؤمنوا بهذا القرآن فإنهم لم يؤمنوا بما في أيديهم من
ضا .فدعوى الكتب ،لن كتب الله يصدق بعضها بعضا ،ويوافق بعضها بع ً
اليمان ببعضها دون بعض دعوى باطلة ل يمكن صدقها.
م { حث لهم وأنهم ينبغي أن معَك ُ ْ ما َ صد ًّقا ل ِ َ م َ ما نزل َْنا ُ مُنوا ب ِ َوفي قوله } :آ ِ
يكونوا قبل غيرهم مبادرين إليه بسبب ما أنعم الله عليهم به من العلم،
والكتاب الذي يوجب أن يكون ما عليهم أعظم من غيرهم ،ولهذا توعدهم
ها عََلى على عدم اليمان فقال } :من قَب َ
ها فَن َُرد ّ َ جو ً س وُ ُ م َ ن ن َط ْ ِ لأ ْ ِ ْ ْ ِ
ها { وهذا جزاء من جنس ما عملوا ،كما تركوا الحق ،وآثروا الباطل أ َد َْبارِ َ
وقلبوا الحقائق ،فجعلوا الباطل حقا والحق باطل جوزوا من جنس ذلك
بطمس وجوههم كما طمسوا الحق ،وردها على أدبارها ،بأن تجعل في
َ َ
ت { بأن سب ْ ِ ب ال ّ حا َ ص َ ما ل َعَّنا أ ْ م كَ َ أقفائهم وهذا أشنع ما يكون } أوْ ن َل ْعَن َهُ ْ
يطردهم من رحمته ،ويعاقبهم بجعلهم قردة ،كما فعل بإخوانهم الذين
كا َ
مُر الل ّ ِ
ه نأ ْ ن { } وَ َ َ سِئي َ خا ِ كوُنوا قَِرد َةً َ م ُ قل َْنا ل َهُ ْ اعتدوا في السبت } فَ ُ
ُ ُ َ َ َ َ
ن{. ن فَي َكو ُ هك ْ لل ُ قو َ ن يَ ُ شي ًْئا أ ْ ذا أَراد َ َ مُرهُ إ ِ َ ما أ ْ فُعول { كقوله } :إ ِن ّ َ م ْ َ
) (1/181
َ
شرِ ْ
ك ن يُ ْ
م ْ ن يَ َ
شاُء وَ َ م ْ ن ذ َل ِ َ
ك لِ َ دو َ
ما ُ
فُر َ
ك ب ِهِ وَي َغْ ِشَر َن يُ ْ ه َل ي َغْ ِ
فُر أ ْ ن الل ّ َ
إِ ّ
ما )(48 ظي ًما عَ ِقدِ افْت ََرى إ ِث ْ ًِبالل ّهِ فَ َ
َ
نم ْ شاُء وَ َ ن يَ َ م ْك لِ َ ن ذ َل ِ َدو َ ما ُ فُر َ ك ب ِهِ وَي َغْ ِشَر َ ن يُ ْ فُر أ ْ ه ل ي َغْ ِ ن الل ّ َ} } { 48إ ِ ّ
ما { . ظي ً ما عَ ِ قدِ افْت ََرى إ ِث ْ ً ك ِبالل ّهِ فَ َ شرِ ْ يُ ْ
يخبر تعالى :أنه ل يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين ،ويغفر ما دون
الشرك ) (1من الذنوب صغائرها وكبائرها ،وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك،
إذا اقتضت حكمُته مغفرَته.
فالذنوب التي دون الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسبابا كثيرة ،كالحسنات
الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا ،والبرزخ ويوم القيامة ،وكدعاء
المؤمنين بعضهم لبعض ،وبشفاعة الشافعين .ومن فوق ذلك كله رحمته
التي أحق بها أهل اليمان والتوحيد.
وهذا بخلف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة،
وأغلق دونه أبواب الرحمة ،فل تنفعه الطاعات من دون التوحيد ،ول تفيده
ميم ٍ {. ح ِق َ دي ٍ ص ِ ن * َول َ شافِِعي َ ن َ م ْ المصائب شيئا ،وما لهم يوم القيامة } ِ
] ص [ 182
ما { أي افترى ظي ً
ما عَ ِ قدِ افْت ََرى إ ِث ْ ً ّ
شرِك ِباللهِ فَ َ ْ ن يُ ْ م ْ ولهذا قال تعالى } وَ َ
جرما كبيرا وأي ظلم أعظم ممن سوى المخلوق -من تراب الناقص من
جميع الوجوه الفقير بذاته من كل وجه الذي ل يملك لنفسه -فضل عمن
عبده -نفًعا ول ضّرا ول موًتا ول حياة ول نشوًرا -بالخالق لكل شيء الكامل
من جميع الوجوه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته الذي بيده النفع والضر
والعطاء والمنع الذي ما من نعمة بالمخلوقين إل فمنه تعالى فهل أعظم
من هذا الظلم شيء؟
ك شرِ ْ ن يُ ْ م ْه َ ولهذا حتم على صاحبه بالخلود بالعذاب وحرمان الثواب } إ ِن ّ ُ
مأ َْواهُ الّناُر { وهذه الية الكريمة في حق ة وَ َ ه عَل َي ْهِ ال ْ َ
جن ّ َ م الل ّ ُ حّر َ قد ْ َِبالل ّهِ فَ َ
غير التائب وأما التائب فإنه يغفر له الشرك فما دونه كما قال تعالى } قُ ْ
ل
فُر ن الل ّ َ
ه ي َغْ ِ مةِ الل ّهِ إ ِ ّ ح َ
ن َر ْ م ْ طوا ِ قن َ ُ م ل تَ ْ سه ِ ْف ِ سَرُفوا عََلى أ َن ْ ُ نأ ْ
عبادي ال ّذي َ
َيا ِ َ ِ َ ِ َ
ميًعا { أي لمن تاب إليه وأناب. ج ِ
ب َ الذ ُّنو َ
__________
) (1في ب :ذلك.
) (1/181
ن يَ َ
شاُء م ْ كي َ ه ي َُز ّل الل ّ ُم بَ ِ سهُ ْف َ ن أ َن ْ ُ ن ي َُز ّ
كو َ ذي َ م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ
َ
} } { 50 ، 49أل َ ْ
فى ب ِهِ إ ِث ْ ً
ما ب وَك َ َ ن عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ فت َُرو َ
ف يَ ْ ن فَِتيل * ان ْظ ُْر ك َي ْ َ َول ي ُظ ْل َ ُ
مو َ
مِبيًنا { . ُ
هذا تعجيب من الله لعباده ،وتوبيخ للذين يزكون أنفسهم من اليهود
والنصارى ،ومن نحا نحوهم من كل من زكى نفسه بأمر ليس فيه .وذلك
حّباؤُهُ { ويقولون } :ل َ ْ
ن ن أ َب َْناُء الل ّهِ وَأ َ ِح ُ أن اليهود والنصارى يقولون } :ن َ ْ
هو َ
صاَرى { وهذا مجرد دعوى ل برهان دا أوْ ن َ َ ن ُ ً كا َ ن َ م ْة ِإل َ ل ال ْ َ
جن ّ َ خ َ ي َد ْ ُ
م َ َ َ
سل َ نأ ْ م ْعليها ،وإنما البرهان ما أخبر به في القرآن في قوله } :ب َلى َ
وجهه ل ِل ّه وهُو محسن فَل َ َ
ن{
حَزُنو َ م يَ ْم َول هُ ْ ف عَل َي ْهِ ْ خوْ ٌ عن ْد َ َرب ّهِ َول َ جُرهُ ِ هأ ْ ُ ِ َ َ ُ ْ ِ ٌ َ ْ َ ُ
شاُء { ن يَ َ م ْكي َ ه ي َُز ّ ّ
ل الل ُ فهؤلء هم الذين زكاهم الله ولهذا قال هنا } :ب َ ِ
أي :باليمان والعمل الصالح بالتخلي عن الخلق الرذيلة ،والتحلي
بالصفات الجميلة.
وأما هؤلء فهم -وإن زكوا أنفسهم بزعمهم أنهم على شيء ،وأن الثواب
لهم وحدهم -فإنهم كذبة في ذلك ،ليس لهم من خصال الزاكين نصيب،
ن
مو َ بسبب ظلمهم وكفرهم ل بظلم من الله لهم ،ولهذا قالَ } :ول ي ُظ ْل َ ُ
فَِتيل { وهذا لتحقيق العموم أي :ل يظلمون شيئا ول مقدار الفتيل الذي
في شق النواة أو الذي يفتل من وسخ اليد وغيرها.
ب { أي :بتزكيتهم ن عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ فت َُرو َ قال تعالى } :ان ْظ ُْر ك َي ْ َ
ف يَ ْ
أنفسهم ،لن هذا من أعظم الفتراء على الله .لن مضمون تزكيتهم
لنفسهم الخبار بأن الله جعل ما هم عليه حقا وما عليه المؤمنون
المسلمون باطل .وهذا أعظم الكذب وقلب الحقائق بجعل الحق باطل
مِبيًنا { أي :ظاهرا بينا موجبا ما ُ فى ب ِهِ إ ِث ْ ً قا .ولهذا قال } :وَك َ َ لح ّ والباط ِ
للعقوبة البليغة والعذاب الليم.
) (1/182
) (1/182
َ ُأول َئ ِ َ
م ل َهُ ْ
م صيًرا ) (52أ ْ ه نَ ِ جد َ ل َ ُ ن تَ ِ ه فَل َ ْ ن الل ّ ُ ِ ن ي َل ْعَ م ْ ه وَ َ م الل ّ ُ ن ل َعَن َهُ ُ ذي َ ك ال ّ ِ
س عََلى َ
ن الّنا َ دو َ س ُ ح ُ م يَ ْ قيًرا ) (53أ ْ س نَ ِ ن الّنا َ ذا َل ي ُؤُْتو َ ك فَإ ِ ً مل ْ ِ ن ال ْ ُ م َ ب ِ صي ٌ نَ ِ
ْ
مل ً َ ْ ْ َ َ ّ َ
كا م ُ ة وَآت َي َْناهُ ْ حك ْ َ
م َ ب َوال ِ م الك َِتا َ هي َ ل إ ِب َْرا ِ قد ْ آت َي َْنا آ َ ضل ِهِ فَ َ ن فَ ْ م ْ ه ِ م الل ُ ما آَتاهُ ُ َ
سِعيًرا ) م ّ نه ج ب فى َ َ ك و ه ْ نَ ع د ص ن م م هْ نمِ و ِ ه ب ن م َ آ ن م م ه ْ ن م
ِ َ ف ( 54 ) ما ظي ِ َ ع
ِ َ َ َ َ ُ َ ُ ْ َ ْ َ َ ِ َ ُ ْ َ ْ َ ّ ً
م ُ ه د لوُ ج ت ج ض ن ما ّ لُ ك را نا م ه لي
ِ ص ن ف َ و س نا ِ ت ياَ آ ب روا َ ف َ ك ن ذي ّ ل ا ن
(55إ ِ ّ
َ َ ِ َ ْ ُ ُ ْ ُ ْ ِ ْ َ ً ِ َ َ َ ْ ُ ِ َ
ما )(56 كي ًح ِ زيًزا َ ن عَ ِ كا َ ه َ ن الل ّ َ ب إِ ّ ذا َ ذوُقوا ال ْعَ َ ها ل ِي َ ُ دا غَي َْر َ جُلو ً م ُ ب َد ّل َْناهُ ْ
َ
حت َِها اْلن َْهاُر َ
ن تَ ْ م ْ ري ِ ج ِ ت تَ ْ جّنا ٍ م َ خل ُهُ ْ سن ُد ْ ِ ت َ حا ِ صال ِ َ مُلوا ال ّ مُنوا وَعَ ِ نآ َ ذي َ َوال ّ ِ
م ظ ِّل ظ َِليًل )(57 َ َ
خل ُهُ ْ مط َهَّرةٌ وَن ُد ْ ِ ج ُ م ِفيَها أْزَوا ٌ دا ل َهُ ْ ن ِفيَها أب َ ً دي َ خال ِ ِ َ
َ } ُأول َئ ِ َ
مم ل َهُ ْ صيًرا * أ ْ ه نَ ِ جد َ ل َ ُ ن تَ ِ ه فَل َ ْ ن الل ّ ُ ِ ن ي َل ْعَ م ْ ه وَ َ م الل ّ ُ ن ل َعَن َهُ ُ ذي َ ك ال ّ ِ
َ
ما س عََلى َ ن الّنا َ دو َ س ُ ح ُ م يَ ْ قيًرا * أ ْ س نَ ِ ن الّنا َ ذا ل ي ُؤُْتو َ ك فَإ ِ ً مل ْ ِ ن ال ْ ُ م َ ب ِ صي ٌ نَ ِ
مل ْكاً م ُ ة َوآت َي َْناهُ ْ م َ حك َْ ْ
ب َوال ِ م الك َِتا َ ْ هي َ ل إ ِب َْرا ِ قد ْ آت َي َْنا آ َ ضل ِهِ فَ َ ن فَ ْ م ْ ه ِ م الل ُّ آَتاهُ ُ
ن
سِعيًرا * إ ِ ّ م َ جهَن ّ َ فى ب ِ َ َ
ه وَك َ صد ّ عَن ْ ُ ن َ م ْ م َ من ْهُ ْ ن ب ِهِ وَ ِ م َ نآ َ م ْ م َ من ْهُ ْ ما * فَ ِ ظي ً عَ ِ
داجلو ً ُ م ُ م ب َد ّلَناهُ ْْ جلود ُهُ ْ ُ ت ُ ج ْ ض َ ما ن َ ِ ّ ُ
م َناًرا كل َ صِليهِ ْ ف نُ ْ سوْ َ فُروا ِبآَيات َِنا َ نك َ َ ذي َ ال ّ ِ
مُلوا مُنوا وَعَ ِ نآ َ ذي َ ما * َوال ّ ِ كي ً ح ِ زيًزا َ ِ ن عَ كا َ ه َ ن الل ّ َ ب إِ ّ ذا َ ذوُقوا ال ْعَ َ ها ل ِي َ ُ غَي َْر َ
م َ َ ُ
دا لهُ ْ ن ِفيَها أب َ ً دي َ خال ِ ِ حت َِها الن َْهاُر َ ن تَ ْ م ْ ري ِ ج ِ ت تَ ْ جّنا ٍ م َ خلهُ ْ سن ُد ْ ِ ت َ حا ِ صال ِ َ ال ّ
ظل ظ َِليل { . َ
م ِ خل ُهُ ْ مط َهَّرةٌ وَن ُد ْ ِ ج ُ ِفيَها أْزَوا ٌ
وهذا من قبائح اليهود وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ،أن
أخلقهم الرذيلة وطبعهم الخبيث ،حملهم على ترك اليمان بالله ورسوله،
والتعوض عنه باليمان بالجبت والطاغوت ،وهو اليمان بكل عبادة لغير
الله ،أو حكم بغير شرع الله.
فدخل في ذلك السحر والكهانة ،وعبادة غير الله ،وطاعة الشيطان ،كل
ملهم الكفر والحسد على أن فضلوا ح َ هذا من الجبت والطاغوت ،وكذلك َ
طريقة الكافرين بالله -عبدة الصنام -على طريق المؤمنين فقال:
فُروا { أي :لجلهم تملقا لهم ومداهنة ،وبغضا لليمان: ن كَ َ ذي َ ن ل ِل ّ ِ قوُلو َ } وَي َ ُ
سِبيل { أي :طريقا .فما أسمجهم وأشد ّ َ } هَ ُ
مُنوا َ نآ َ ذي َ ن ال ِ م َ دى ِ ؤلِء أهْ َ
عنادهم وأقل عقولهم! كيف سلكوا هذا المسلك الوخيم والوادي الذميم؟.
ل أحد من هل ظنوا أن هذا يروج على أحد من العقلء ،أو يدخل عق َ
ضل دين قام على عبادة الصنام والوثان ،واستقام على ف ّ الجهلء ،فهل ي ُ َ
تحريم الطيبات ،وإباحة الخبائث ،وإحلل كثير من المحرمات ،وإقامة
الظلم بين الخلق ،وتسوية الخالق بالمخلوقين ،والكفر بالله ورسله وكتبه،
على دين قام على عبادة الرحمن ،والخلص لله في السر والعلن،
والكفر بما يعبد من دونه من الوثان والنداد والكاذبين ،وعلى صلة الرحام
والحسان إلى جميع الخلق ،حتى البهائم ،وإقامة العدل والقسط بين
الناس ،وتحريم كل خبيث وظلم ،والصدق في جميع القوال والعمال،
فهل هذا إل من الهذيان ،وصاحب هذا القول إما من أجهل الناس
وأضعفهم عقل وإما من أعظمهم عنادا وتمردا ومراغمة للحق ] ،ص
ن ل َعَن َهُ ُ
م ذي َ ك ال ّ ِ [ 183وهذا هو الواقع ،ولهذا قال تعالى عنهمُ } :أول َئ ِ َ
نه فَل َ ْ ن الل ّ ُ م ْ ْ
ن ي َلعَ ِ ه { أي :طردهم عن رحمته وأحل عليهم نقمته } .وَ َ الل ّ ُ
صيًرا { أي :يتوله ويقوم بمصالحه ويحفظه عن المكاره ،وهذا ه نَ ِ جد َ ل َ ُ تَ ِ
غاية الخذلن.
ْ ْ َ
ضلون من شاءوا على من شاءوا ك { أي :فيف ّ مل ِ ن ال ُ م َ ب ِ صي ٌ م نَ ِ م ل َهُ ْ }أ ْ
بمجرد أهوائهم ،فيكونون شركاء لله في تدبير المملكة ،فلو كانوا كذلك
ذا { أي :لو كان لهم نصيب من لشحوا وبخلوا أشد البخل ،ولهذا قال } :فَإ ِ ً
قيًرا { أي :شيًئا ول قليل .وهذا وصف لهم بشدة س نَ ِ ن الّنا َ الملك } ل ي ُؤُْتو َ
البخل على تقدير وجود ملكهم المشارك لملك الله .وأخرج هذا مخرج
الستفهام المتقرر إنكاره عند كل أحد.
ّ َ
ضل ِهِ { أي :هل الحامل لهم نف ْ َ م ْ ه ِ م الل ُ ما آَتاهُ ُ س عََلى َ ن الّنا َ دو َ س ُ ح ُ م يَ ْ }أ ْ
على قولهم كونهم شركاَء لله فيفضلون من شاءوا؟ أم الحامل لهم على
ذلك الحسد ُ للرسول وللمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله؟ وذلك ليس
ة
م َ حك ْ َ ب َوال ْ ِ م ال ْك َِتا َ هي َ ل إ ِب َْرا ِ قد ْ آت َي َْنا آ َ ببدع ول غريب على فضل الله } .فَ َ
ما { وذلك ما أنعم الله به على إبراهيم وذريته من ظي ً كا عَ ِ مل ْ ًم ُ َوآت َي َْناهُ ْ
النبوة والكتاب والملك الذي أعطاه من أعطاه من أنبيائه كـ "داود" و
"سليمان" .فإنعامه لم يزل مستمًرا على عباده المؤمنين .فكيف ينكرون
إنعامه بالنبوة والنصر والملك لمحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق
وأجلهم وأعظمهم معرفة بالله وأخشاهم له؟.
ن ب ِهِ { أي :بمحمد صلى الله عليه وسلم فنال بذلك م َ نآ َ م ْ م َ من ْهُ ْ } فَ ِ
دا وبغًيا ه { عنا ً صد ّ عَن ْ ُ
ن َ م ْم َ من ْهُ ْ السعادة الدنيوية والفلح الخروي } .وَ ِ
دا فحصل لهم من شقاء الدنيا ومصائبها ما هو بعض آثار معاصيهم وحس ً
سِعيًرا { تسعر على من كفر بالله ،وجحد نبوة أنبيائه من م َ جهَن ّ َفى ب ِ َ } وَك َ َ
اليهود والنصارى وغيرهم من أصناف الكفرة.
م َناًرا { أي :عظيمة صِليهِ ْ ف نُ ْ سوْ َ فُروا ِبآَيات َِنا َ ن كَ َ ذي َ ن ال ّ ِ ولهذا قال } :إ ِ ّ
م ْ
م { أي :احترقت } ب َد ّلَناهُ ْ جلود ُهُ ْ ُ ت ُ ج ْ ض َما ن َ ِ ّ ُ
الوقود شديدة الحرارة } كل َ
ب { أي :ليبلغ العذاب منهم كل مبلغ .وكما تكرر ذا َ ذوُقوا ال ْعَ َ ها ل ِي َ ُ دا غَي َْر َ جُلو ً ُ
منهم الكفر والعناد وصار وصفا لهم وسجية؛ كرر عليهم العذاب جزاء
ما { أي :له العزة العظيمة كي ًح ِ زيًزا َ ن عَ ِ كا َه َ ن الل ّ َ ِوفاقا ،ولهذا قال } :إ ِ ّ
والحكمة في خلقه وأمره ،وثوابه وعقابه.
ت{ حا ِ صال ِ َ ملوا ال ّ ُ ن به } وَعَ ِ مُنوا { أي :بالله وما أوجب اليما َ نآ َ ذي َ } َوال ّ ِ
حت َِها الن َْهاُر ن تَ ْ م ْ ري ِ ج ِ
ت تَ ْ جّنا ٍ م َ خل ُهُ ْ سن ُد ْ ِمن الواجبات والمستحبات } َ
ْ َ َ َ
مطهَّرة ٌ { أي :من الخلق الرذيلة ،والخلق ج ُ م ِفيَها أْزَوا ٌ دا ل َهُ ْ ن ِفيَها أب َ ً دي َ خال ِ ِ َ
ظلم ِ خلهُ ُْ الذميم ،ومما يكون من نساء الدنيا من كل دنس وعيب } وَن ُد ْ ِ
ظ َِليل { .
) (1/182
) (1/183
ما
ك وَ َ ل إ ِل َي ْ َما أ ُن ْزِ َ مُنوا ب ِ َمآ َ
} } { 63 - 60أ َل َم تر إَلى ال ّذين يزعُمو َ
ن أن ّهُ ْ ِ َ َْ ُ َ ْ َ َ َِ
ْ َ ُ ّ
موا إ ِلى الطا ُ َ َ ن قَب ْل ِ َ أ ُن ْزِ َ
ه
فُروا ب ِ ِ ن ي َك ُ مُروا أ ْ ت وَقَد ْ أ ِ غو ِ حاك ُ ن ي َت َ َ نأ ْ دو َري ُِ ك يُ م ْ ل ِ
ما أ َن َْز َ
ل وا إ َِلى َ م ت ََعال َ ْل ل َهُ ْذا ِقي َ دا * وَإ ِ َ ضلل ب َِعي ً م َ ضل ّهُ ْ
ن يُ ِ نأ ْ
طا َ
شي ْ َ ُ ريد ُ ال ّ وَي ُ ِ
ْ َ َ
ذا ف إِ َ َ
دا * فَكي ْ َ دو ًص ُ
ك ُ ن عَن ْ َ دو َص ّ
ن يَ ُ قي َ مَنافِ ِ ت ال ُ ل َرأي ْ َ سو ِ ه وَإ ِلى الّر ُ الل ّ ُ
ن أ ََرد َْنا ِإل ن ِبالل ّهِ إ ِ ْ فو َ حل ِ ُك يَ ْ جاُءو َ م َ م ثُ ّ ديهِ ْ
َ
ت أي ْ ِ م ْ ما قَد ّ َ ة بِ َ صيب َ ٌ م ِ م ُ صاب َت ْهُ ْ َ
أَ
َ قا * ُأول َئ ِ َ
م
ض عَن ْهُ ْ م فَأعْرِ ْ ما ِفي قُُلوب ِهِ ْ ه َ م الل ّ ُ ن ي َعْل َ ُ ذي َ ك ال ّ ِ ساًنا وَت َوِْفي ً ح َ إِ ْ
َ َ ْ
ول ب َِليًغا { . م قَ ْ سهِ ْ ف ِ م ِفي أن ْ ُ ل له ُ ْ م وَقُ ْ عظ ه ُ ْ وَ ِ
م { مؤمنون َ ّ
ن أن ّهُ ْ مو َ ن ي َْزعُ ُ ذي َ يعجب تعالى عباده من حالة المنافقين } .ال ِ
َ
موا إ ِلى َ َ
حاك ُ ن ي َت َ َ نأ ْ دو َ ري ُ بما جاء به الرسول وبما قبله ،ومع هذا } ي ُ ِ
ت { وهو كل من حكم بغير شرع الله فهو طاغوت. غو ِ طا ُ ال ّ
فُروا ب ِهِ { فكيف يجتمع هذا واليمان؟ فإن ن ي َك ْ ُ َ ُ
مُروا أ ْ والحال أنهم } قد أ ِ
نم ْ اليمان يقتضي النقياد لشرع الله وتحكيمه في كل أمر من المور ،ف َ
زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم الله ،فهو كاذب في ذلك.
طا َ
ضل ّهُ ْ
م ن يُ ِ نأ ْ شي ْ َ ُ ريد ُ ال ّ وهذا من إضلل الشيطان إياهم ،ولهذا قال } :وَي ُ ِ
دا { عن الحق. ضلل ب َِعي ً َ
ت َ َ ف { يكون حال هؤلء الضالين } إ ِ َ َ َ
م ْ ما قد ّ َ ة بِ َ صيب َ ٌ م ِ م ُ صاب َت ْهُ ْ ذا أ َ } فكي ْ َ
م { من المعاصي ومنها تحكيم الطاغوت؟! َ
ديهِ ْ أي ْ ِ
ن أ ََرد َْنا ِإل ك { معتذرين ) (1لما صدر منهم ،ويقولون } :إ ِ ْ جاُءو َ م َ } ثُ ّ
قا { أي :ما قصدنا في ذلك إل الحسان إلى المتخاصمين ساًنا وَت َوِْفي ً ح َ إِ ْ
ذبة في ذلك .فإن الحسان كل الحسان تحكيم الله َ
والتوفيق بينهم ،وهم ك َ
ما لقوْم ٍ يوقنون { . سن من الله حك ً ح َ نأ ْ م ْ ورسوله } و َ
ُ ّ َ ّ َ ُ
ولهذا قال } :أولئ ِ َ
م { أي :من النفاق ما ِفي قُلوب ِهِ ْ ه َ م الل ُ ن ي َعْل ُ ذي َ ك ال ِ
َ
م { أي :ل تبال بهم ول تقابلهم على ما ض عَن ْهُ ْ والقصد السيئ } .فَأعْرِ ْ
م { أي :بين لهم حكم الله تعالى مع الترغيب عظ ْهُ ْ فعلوه واقترفوه } .وَ ِ
َ
ول ب َِليًغا { م قَ ْ سهِ ْ ف ِ م ِفي أن ْ ُ ل ل َهُ ْ في النقياد لله ،والترهيب من تركه } وَقُ ْ
أي :انصحهم سرا بينك وبينهم ،فإنه أنجح لحصول المقصود ،وبالغ في
ما كانوا عليه ،وفي هذا دليل على أن مقترف المعاصي زجرهم وقمعهم ع ّ
وإن أعرض عنه فإنه ينصح سًرا ،ويبالغ في وعظه بما يظن حصول
المقصود به.
__________
) (1في النسختين :متعذرين.
) (1/184
م
سهُ ْف َ موا أ َن ْ ُ م إ ِذ ْ ظ َل َ ُ
َ
ن الل ّهِ وَل َوْ أن ّهُ ْ طاعَ ب ِإ ِذ ْ ِ ل إ ِّل ل ِي ُ َسو ٍ ن َر ُ م ْ سل َْنا ِ
َ
ما أْر َ وَ َ
ما )حي ً
واًبا َر ِ ه تَ ّ ّ
دوا الل َ ج ُ َ
ل لوَ َ سو ُ م الّر ُ َ
فَر لهُ ُ ست َغْ َ
ه َوا ْ ّ
فُروا الل َ ست َغْ َ َ
جاُءوك َفا ْ َ
دوا ِفي ج ُ
م ل يَ ِ َ م ثُ ّ جَر ب َي ْن َهُ ْش َ ما َ موك ِفي ََ ّ
حك ُ حّتى ي ُ َ ن َ مُنو َ َ َ
(64فَل وََرب ّك ل ي ُؤْ ِ َ
ما )(65 سِلي ًموا ت َ ْ ّ
سل ُ ت وَي ُ َ ضي ْ َما قَ َ م ّ
جا ِ حَر ًم َ سهِ ْ أ َن ْ ُ
ف ِ
َ َ
م إ ِذ ْ ن الل ّهِ وَل َوْ أن ّهُ ْ طاعَ ب ِإ ِذ ْ ِ ل ِإل ل ِي ُ َ سو ٍ ن َر ُ م ْسل َْنا ِ ما أْر َ } } { 65 ، 64وَ َ
هّ
دوا الل َ ج ُ سول لوَ ََ ُ م الّر ُ َ
فَر لهُ ُ ست َغْ َه َوا ْ ّ
فُروا الل َ ست َغْ َ َ َ
جاُءوك فا ْ م َسه ُ ْ ف َ موا أ َن ْ ُظ َل َ ُ
مل م ثُ ّ جَر ب َي ْن َهُ ْ ما َ
ش َ ك ِفي َ مو َ حك ّ ُ حّتى ي ُ َ ن َ مُنو َ ك ل ي ُؤْ ِ ما * َفل وََرب ّ َ حي ً واًبا َر ِ تَ ّ
ّ َ
ما { . سِلي ً موا ت َ ْ سل ُ ت وَي ُ َ ما قَ َ
ضي ْ َ م ّ
جا ِ حَر ً م َ سهِ ْ
ف ِ دوا ِفي أن ْ ُ ج ُ يَ ِ
يخبر تعالى خبرا في ضمنه المر والحث على طاعة الرسول والنقياد له.
ل إليهم وأن الغاية من إرسال الرسل أن يكونوا مطاعين ينقاد لهم المرس ُ
في جميع ما أمروا به ونهوا عنه ،وأن يكونوا معظمين تعظيم المطيع )(1
للمطاع.
وفي هذا إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله ،وفيما يأمرون به
وينهون عنه؛ لن الله أمر بطاعتهم مطلقا ،فلول أنهم معصومون ل
يشرعون ما هو خطأ ،لما أمر بذلك مطلقا.
ن الل ّهِ { أي :الطاعة من المطيع صادرة بقضاء الله وقدره. وقوله } :ب ِإ ِذ ْ ِ
ففيه إثبات القضاء والقدر ،والحث على الستعانة بالله ،وبيان أنه ل يمكن
النسان -إن لم يعنه الله -أن يطيع الرسول.
ثم أخبر عن كرمه العظيم وجوده ،ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن
م
سه ُ ْ
ف َ موا أ َن ْ ُ
م إ ِذ ْ ظ َل َ ُ
َ
يعترفوا ويتوبوا ويستغفروا الله فقال } :وَل َوْ أن ّهُ ْ
ك { أي :معترفين بذنوبهم باخعين بها ] .ص [ 185 جاُءو َ
َ
ما { أي: حي ً واًبا َر ِ ه تَ ّ ّ
دوا الل َ ج ُ َ ُ
سول لوَ َ م الّر ُ َ
فَر لهُ ُ
ست َغْ َ
ه َوا ْ ّ
فُروا الل َ ست َغْ َ َ
} فا ْ
مهم ،ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها والثواب ْ
لتاب عليهم بمغفرته ظل َ
عليها ،وهذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مختص بحياته؛ لن
السياق يدل على ذلك لكون الستغفار من الرسول ل يكون إل في حياته،
وأما بعد موته فإنه ل يطلب منه شيء بل ذلك شرك.
ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم ل يؤمنون حتى يحكموا رسوله فيما
شجر بينهم ،أي :في كل شيء يحصل فيه اختلف ،بخلف مسائل الجماع،
فإنها ل تكون إل مستندة للكتاب والسنة ،ثم ل يكفي هذا التحكيم حتى
ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق ،وكونهم يحكمونه على وجه الغماض ،ثم
ما بانشراح صدر ،وطمأنينة ل يكفي ذلك ) (2حتى يسلموا لحكمه تسلي ً
نفس ،وانقياد بالظاهر والباطن.
فالتحكيم في مقام السلم ،وانتفاء الحرج في مقام اليمان ،والتسليم في
من استكمل هذه المراتب وكملها ،فقد استكمل مراتب مقام الحسان .ف َ
منمن ترك هذا التحكيم المذكور غير ملتزم له فهو كافر ،و َ الدين كلها .ف َ
تركه ،مع التزامه فله حكم أمثاله من العاصين.
__________
) (1في النسختين :تعظيم المطاع للمطيع ،وهو سبق قلم ،وقد عدلت في
ب عن طريق المطبعة السلفية إلى تعظيم المطاع من المطيع.
) (2في ب :هذا التحكيم.
) (1/184
) (1/185
) (1/185
) (1/186
) (1/187
) (1/187
) (1/187
َ
ة
سن َ ٌح َ
م َصب ْهُ ْ
ن تُ ِ م َ
شي ّد َةٍ وَإ ِ ْ م ِفي ب ُُروٍج ُ ت وَل َوْ ك ُن ْت ُ ْ موْ ُم ال ْ َ
كوُنوا ي ُد ْرِك ُك ُ ُ
ما ت َ ُ
أي ْن َ َ
لل كُ ّ
ك قُ ْعن ْدِ َ
ن ِ م ْ قوُلوا هَذِهِ ِة يَ ُسي ّئ َ ٌ
م َ صب ْهُ ْ ن تُ ِ عن ْدِ الل ّهِ وَإ ِ ْ
ن ِ م ْ قوُلوا هَذِهِ ِ يَ ُ
َ قوْم ِ َل ي َ َ
ل هَؤَُلِء ال ْ َ
كصاب َ َ
ما أ َديًثا )َ (78 ح ِ
ن َ قُهو َف َن يَ ْ
دو َ كا ُ ما ِعن ْدِ الل ّهِ فَ َ ن ِم ِْ
َ ْ َ َ َ َ ّ
س
سلَناك ِللّنا ِ سك وَأْر َ ف ِ
ن نَ ْ
م ْسي ّئ َةٍ فَ ِ
ن َ م ْصاب َك ِ ما أ َ ن اللهِ وَ َ م َسن َةٍ فَ ِ
ح َ ن َ م ْ ِ
دا )(79 شِهي ً ّ
فى ِباللهِ َ َ
سول وَك ًَ َر ُ
) (1/188
َ
خت َِلًفا ك َِثيًرا )
دوا ِفيهِ ا ْ عن ْدِ غَي ْرِ الل ّهِ ل َوَ َ
ج ُ ن ِ
م ْ
ن ِ
كا َ قْرآ َ َ
ن وَل َوْ َ ن ال ْ ُ
أفََل ي َت َد َب ُّرو َ
(82
َ
ه
دوا ِفي ِج ُعن ْدِ غَي ْرِ الل ّهِ ل َوَ َ ن ِم ْ
ن ِ ن وَل َوْ َ
كا َ قْرآ َ ن ال ْ ُ} } { 82أَفل ي َت َد َب ُّرو َ
خِتلًفا ك َِثيًرا { . ا ْ
يأمر تعالى بتدبر كتابه ،وهو التأمل في معانيه ،وتحديق الفكر فيه ،وفي
مبادئه وعواقبه ،ولوازم ] ،ص [ 190ذلك فإن تدبر كتاب الله مفتاح
للعلوم والمعارف ،وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم ،وبه
يزداد اليمان في القلب وترسخ شجرته .فإنه يعّرف بالرب المعبود ،وما له
من صفات الكمال; وما ينزه عنه من سمات النقص ،ويعّرف الطريق
الموصلة إليه وصفة أهلها ،وما لهم عند القدوم عليه ،ويعّرف العدو الذي
هو العدو على الحقيقة ،والطريق الموصلة إلى العذاب ،وصفة أهلها ،وما
لهم عند وجود أسباب العقاب.
وكلما ازداد العبد تأمل فيه ازداد علما وعمل وبصيرة ،لذلك أمر الله بذلك
وحث عليه وأخبر أنه ]هو[ المقصود بإنزال القرآن ،كما قال تعالى:
ُ ب َأنزل َْناهُ إ ِل َي ْ َ
ب { وقال ك ل ِي َد ّب ُّروا آَيات ِهِ وَل ِي َت َذ َك َّر أوُلو الل َْبا ِمَباَر ٌ ك ُ } ك َِتا ٌ
ُ َ
ب أق ْ َ ُ َ َ ْ َ
فالَها { . م عَلى قُلو ٍ نأ ْ قْرآ َ ن ال ُ تعالى } :أَفل ي َت َد َب ُّرو َ
ومن فوائد التدبر لكتاب الله :أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم
بأنه كلم الله ،لنه يراه يصدق بعضه بعضا ،ويوافق بعضه بعضا .فترى
الحكم والقصة والخبارات تعاد في القرآن في عدة مواضع ،كلها متوافقة
متصادقة ،ل ينقض بعضها بعضا ،فبذلك يعلم كمال القرآن وأنه من عند
عن ْدِ غَي ْ ِ
ر ن ِ
م ْ ن ِ كا َمن أحاط علمه بجميع المور ،فلذلك قال تعالى } :وَل َوْ َ
خِتلًفا ك َِثيًرا { أي :فلما كان من عند الله لم يكن فيه دوا ِفيهِ ا ْ ج ُالل ّهِ ل َوَ َ
اختلف أصل.
) (1/189
ل وَإ َِلىسو ِ دوهُ إ َِلى الّر ُ عوا ب ِهِ وَل َوْ َر ّذا ُ ف أَ َخوْ ِ ن أ َوِ ال ْ َم ِ
َ
ن اْل ْ م َ مٌر ِ
ذا جاَءهُ َ
مأ ْ ْ وَإ ِ َ َ
َ ُ
ل الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ
م م وَل َوَْل فَ ْ
ض ُ من ْهُ ْ
ه ِطون َ ُ ست َن ْب ِ ُ
ن يَ ْ ذي َ ه ال ّ ِ م ُم ل َعَل ِ َمن ْهُ ْمرِ ِ أوِلي اْل ْ
ن إ ِّل قَِليًل )(83 طا َ شي ْ َ م ال ّ ه َلت ّب َعْت ُ ُ مت ُ ُ
ح َ
وََر ْ
دوهُ إ َِلىعوا ب ِهِ وَل َوْ َر ّ ذا ُ ف أَ َ خوْ ِ ن أ َوِ ال ْ َ م ِ ن ال ْ م َ
مٌر ِ
ذا جاَءهُ َ
مأ ْ ْ } } { 83وَإ ِ َ َ
َ ُ ّ َ ُ
ض ُ
ل ول فَ ْ م وَل ْ من ْهُ ْ
ه ِ ست َن ْب ِطون َ ُ ن يَ ْ ذي َه ال ِ م ُ م لعَل ِ َ من ْهُ ْمرِ ِ ل وَإ َِلى أوِلي ال ْ سو ِ الّر ُ
ن ِإل قَِليل { . شي ْطا ََ م ال ّ ه لت ّب َعْت ُ ُ مت ُ ُح َ م وََر ْ الل ّهِ عَلي ْك ْ
ُ َ
هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللئق .وأنه ينبغي لهم إذا
جاءهم أمر من المور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالمن وسرور
المؤمنين ،أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ول يستعجلوا
ل
بإشاعة ذلك الخبر ،بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي المر منهم ،أه ِ
الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة ،الذين يعرفون المور ويعرفون
المصالح وضدها .فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا
لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك .وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة ) (1أو
فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته ،لم يذيعوه ،ولهذا قال:
م { أي :يستخرجونه بفكرهم وآرائهم من ْهُ ْه ِ طون َ ُ ست َن ْب ِ ُ ن يَ ْ ذي َه ال ّ ِ
م ُ } ل َعَل ِ َ
السديدة وعلومهم الرشيدة.
وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من المور
ن هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله ،ول يتقدم بين أيديهم، م ْ ينبغي أن يوّلى َ
فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلمة من الخطأ .وفيه النهي عن
العجلة والتسرع لنشر المور من حين سماعها ،والمر بالتأمل قبل الكلم
دم عليه النسان؟ أم ل فيحجم عنه؟ ق ِ والنظر فيه ،هل هو مصلحة ،في ُ ْ
ه { أي :في توفيقكم مت ُ ُح َ
م وََر ْ ل الل ّهِ عَلي ْك ُ ْ
َ ض ُ ول فَ ْ ثم قال تعالى } :وَل َ ْ
ن ِإل قَِليل { طا َ شي ْ َ م ال ّ وتأديبكم ،وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون } ،لت ّب َعْت ُ ُ
لن النسان بطبعه ظالم جاهل ،فل تأمره نفسه إل بالشر .فإذا لجأ إلى
ربه واعتصم به واجتهد في ذلك ،لطف به ربه ووفقه لكل خير ،وعصمه
من الشيطان الرجيم.
__________
) (1في ب :ما فيه مصلحة.
) (1/190
ن
مِني َمؤْ ِ ض ال ْ ُ حّر َ ِ ك وَ َ س َف َ ف ِإل ن َ ْ ل الل ّهِ ل ت ُك َل ّ ُ سِبي ِ ل ِفي َ } } { 84فَ َ
قات ِ ْ
ْ َ ْ عَسى الل ّ َ
كيل { . شد ّ ت َن ْ ِسا وَأ َ شد ّ ب َأ ً هأ َ فُروا َوالل ّ ُ ن كَ َ ذي َس ال ّ ِ
ف ب َأ َ ن ي َك ُ ّ هأ ْ ُ َ
هذه الحالة أفضل أحوال العبد ،أن يجتهد في نفسه على امتثال أمر الله
من الجهاد وغيره ،ويحرض غيره عليه ،وقد يعدم في العبد المران أو
ك{ س َف َ ف ِإل ن َ ْ ل الل ّهِ ل ت ُك َل ّ ُ سِبي ِ ل ِفي َ قات ِ ْأحدهما فلهذا قال لرسوله } :فَ َ
أي :ليس لك ) (1قدرة على غير نفسك ،فلن تكلف بفعل غيرك.
ن { على القتال ،وهذا يشمل كل أمر يحصل به نشاط مِني َ مؤْ ِ ض ال ْ ُحّر ِ } وَ َ
المؤمنين وقوة قلوبهم ،من تقويتهم والخبار بضعف العداء وفشلهم ،وبما
ُأعد للمقاتلين من الثواب ،وما على المتخلفين من العقاب ،فهذا وأمثاله
كله يدخل في التحريض على القتال.
ْ } عَسى الل ّ َ
فُروا { أي :بقتالكم في سبيل الله، ن كَ َ ذي َ س ال ّ ِ ف ب َأ َ ن ي َك ُ ّ هأ ْ ُ َ
سا { أي :قوة وعزة } وَأ َ َ ْ ه أَ َ
شد ّ شد ّ ب َأ ً ضاَ } .والل ّ ُ
وتحريض بعضكم بع ً
كيل { بالمذنب في نفسه ،وتنكيل لغيره ،فلو شاء تعالى لنتصر من ت َن ْ ِ
الكفار بقوته ولم يجعل لهم باقية.
__________
) (1في النسختين :ليس عليك.
) (1/190
ة ي َك ُ ْ
ن سي ّئ َ ً
ة َ
فاعَ ً فع ْ َ
ش َ ن يَ ْ
ش َ م ْ
من َْها وَ َب ِصي ٌ ن لَ ُ
ه نَ ِ ة ي َك ُ ْ سن َ ً ح َ ة َفاعَ ً فع ْ َ
ش َ ش َ ن يَ ْ م ْ َ
قيًتا )(85 م ِ
ْ ٍُ ء ي َ
ش ّ
ل ُ ك لى َ َ ع ه
ُ ّ لال ن َ
كا
َ َ َ و هاْ نمِ ٌ
ل ْ فِ ك لَ ُ
ه
ولكن من حكمته يبلو بعض عباده ببعض ليقوم سوق الجهاد ،ويحصل
اليمان النافع ،إيمان الختيار ،ل إيمان الضطرار والقهر الذي ل يفيد شيئا.
] ص [ 191
ة
فاعَ ً فع ْ َ
ش َ ش َن يَ ْ
م ْ من َْها وَ َ
ب ِ صي ٌ ه نَ ِ َ
نل ُ ُ
ة ي َك ْ سن َ ًح َ ة َفاعَ ً فع ْ َ
ش َ ن يَ ْ
ش َ م ْ } َ } { 85
قيًتا { . م ِ
يٍء ُ ش ْ ل َ ُ
ه عَلى ك ّ َ ّ
ن الل ُ َ
من َْها وَكا َ
ل ِ ف ٌ
ه كِ ْن لَ ُ
ة ي َك ُ ْسي ّئ َ ً
َ
المراد بالشفاعة هنا :المعاونة على أمر من المور ،فمن شفع غيره وقام
معه على أمر من أمور الخير -ومنه الشفاعة للمظلومين لمن ظلمهم-
كان له نصيب من شفاعته بحسب سعيه وعمله ونفعه ،ول ينقص من أجر
ن عاون غيره على أمر من الشر كان عليه م ْ الصيل والمباشر شيء ،و َ
كفل من الثم بحسب ما قام به وعاون عليه .ففي هذا الحث العظيم على
التعاون على البر والتقوى ،والزجر العظيم عن التعاون على الثم
قيًتا { أي: م ِ يٍء ُ
ش ْ ل َ ه عََلى ك ُ ّ ن الل ّ ُكا َ والعدوان ،وقرر ذلك بقوله } :وَ َ
كل ما يستحقه. ظا حسيًبا على هذه العمال ،فيجازي ُ دا حفي ً شاه ً
) (1/190
) (1/191
نم ْ
ب ِفيهِ وَ َ مةِ ل َري ْ َ م إ َِلى ي َوْم ِ ال ْ ِ
قَيا َ معَن ّك ُ ْج َه ِإل هُوَ ل َي َ ْ ه ل إ ِل َ َ } } { 87الل ّ ُ
َ
ديًثا { . ح ِ ن الل ّهِ َ م َ صد َقُ ِ أ ْ
يخبر تعالى عن انفراده بالوحدانية وأنه ل معبود ول مألوه إل هو ،لكماله
في ذاته وأوصافه ولكونه المنفرد بالخلق والتدبير ،والنعم الظاهرة
والباطنة.
وذلك يستلزم المر بعبادته والتقرب إليه بجميع أنواع العبودية .لكونه
المستحق لذلك وحده والمجازي للعباد بما قاموا به من عبوديته أو تركوه
منها ،ولذلك أقسم على وقوع محل الجزاء وهو يوم القيامة ،فقال:
خركم في مقام واحد. م { أي :أولكم وآ ِ معَن ّك ُ ْ ج َ} ل َي َ ْ
ب ِفيهِ { أي :ل شك ول شبهة بوجه من الوجوه، مةِ ل َري ْ َ قَيا َ في } ي َوْم ِ ال ْ ِ
بالدليل العقلي والدليل السمعي ،فالدليل العقلي ما نشاهده من إحياء
الرض بعد موتها ،ومن وجود النشأة الولى التي وقوع الثانية أ َْولى منها
بالمكان ،ومن الحكمة التي تجزم بأن الله لم يخلق خلقه عبًثا ،يحيون ثم
يموتون .وأما الدليل السمعي فهو إخبار أصدق الصادقين بذلك ،بل
إقسامه عليه ولهذا قال } :وم َ
ديًثا { كذلك أمر رسوله ح ِن الل ّهِ َ م َ
صد َقُ ِ نأ ْ َ َ ْ
صلى الله عليه وسلم أن يقسم عليه في غير موضع من القرآن ،كقوله
َ
م ل َت ُن َب ّؤُ ّ
ن ل ب ََلى وََرّبي ل َت ُب ْعَث ُ ّ
ن ثُ ّ ن ي ُب ْعَُثوا قُ ْن لَ ْ فُروا أ ْ ن كَ َ ذي َ م ال ّ ِ تعالىَ } :زعَ َ
سيٌر {. ك عََلى الل ّهِ ي َ ِ م وَذ َل ِ َ مل ْت ُ ْما عَ ِ بِ َ
) (1/191
دوا فَما ل َك ُم في ال ْمنافقين فئ َتين والل ّه أ َرك َسهم بما ك َسبوا أ َتريدو َ
ن ت َهْ ُ
نأ ْ ُ ِ ُ َ َ ُ ُ َ ِ ِ َ ِ َْ ِ َ ُ ْ َ ُ ْ ِ َ ْ ِ َ
ما َ ْ َ ً َ َ َ ّ ّ ض ّ َ
نك َ فُرو َ دوا لوْ ت َك ُ
سِبيل ) (88وَ ّه َ جد َ ل ُ
ن تَ ِ
ه فل ْل الل ُ
ضل ِ ِ
ن يُ ْ
م ْ
ه وَ َ
ل الل ُ نأ َم َْ
ذوا منه َ
ل الل ّهِ سِبي ِ جُروا ِفي َ حّتى ي َُها ِ م أوْل َِياَء َ ِ ُْ ْ خ ُ واًء فََل ت َت ّ ِ س َ ن َ كوُنو َ فُروا فَت َ ُ كَ َ
م وَل ِّيا وََل من ْهُ ْ ذوا ِ خ ُ م وََل ت َت ّ ِ موهُ ْ جد ْت ُ ُ ث وَ َ حي ْ ُ م َ م َواقْت ُُلوهُ ْ ذوهُ ْ خ ُ وا فَ ُ ن ت َوَل ّ ْ فَإ ِ ْ
ُ َ ُ َ ُ ّ ّ
م
جاُءوك ْ ميَثاقٌ أوْ َ م ِ م وَب َي ْن َهُ ْ ن إ ِلى قَوْم ٍ ب َي ْن َك ْ صلو َ ن يَ ِ ذي َ صيًرا ) (89إ ِل ال ِ نَ ِ
َ ّ َ ّ َ ُ َ ُ ُ َ
م
سلطهُ ْ هل َ شاَء الل ُ م وَلوْ َ مه ُ ْ قات ِلوا قَوْ َ م أوْ ي ُ َ قات ِلوك ْ ن يُ َ مأ ْ دوُرهُ ْ ص ُ ت ُ صَر ْ ح ِ َ
َ ُ َ ْ َ ُ ُ َ ُ ُ ُ ُ َ ُ َ
ما م فَ َ سل َ م ال ّ وا إ ِلي ْك ُ ق ْ م وَأل َ قات ِلوك ْ م يُ َ م فَل ْ ن اعْت ََزلوك ْ م فَإ ِ ِ قات َلوك ْ م فَل َ عَلي ْك ْ
ْ َ َ ً َ َ ّ
ممُنوك ُ ْ ن ي َأ َ نأ ْ دو َ ري ُ ن يُ ِ ري َ خ ِ نآ َ دو َ ج ُ ست َ ِ سِبيل )َ (90 م َ م عَلي ْهِ ْ ه لك ُ ْ ل الل ُ جعَ َ َ
ْ ُ َ ُ ْ َ ْ
قوا
م وَي ُل ُ م ي َعْت َزِلوك ُ ْ نل ْ سوا ِفيَها فَإ ِ ْ فت ْن َةِ أْرك ِ ُ دوا إ ِلى ال ِ ما ُر ّ ل َ م كُ ّ مه ُ ْ مُنوا قَوْ َ وَي َأ َ
ُ َ
مم وَأول َئ ِك ُ ْ موهُ ْ فت ُ ُ ق ْ ث ثَ ِ حي ْ ُ م َ م َواقْت ُُلوهُ ْ ذوهُ ْ خ ُ م فَ ُ فوا أي ْدِي َهُ ْ م وَي َك ُ ّ سل َ َ م ال ّ إ ِل َي ْك ُ ُ
مِبيًنا )(91 طاًنا ُ سل ْ َ م ُ م عَل َي ْهِ ْ جعَل َْنا ل َك ُ ْ َ
) (1/192
ب الل ّ ُ
ه ض َدا ِفيَها وَغَ ِ
خال ِ ً
م َجهَن ّ ُ دا فَ َ
جَزاؤُهُ َ م ً
مت َعَ ّ مؤْ ِ
مًنا ُ ل ُ قت ُ ْ
ن يَ ْ
م ْ} } { 93وَ َ
َ َ
ما { . ظي ً ه عَ َ
ذاًبا عَ ِ ه وَأعَد ّ ل ُعَل َي ْهِ وَل َعَن َ ُ
تقدم أن الله أخبر أنه ل يصدر قتل المؤمن من المؤمن ،وأن القتل من
الكفر العملي ،وذكر هنا وعيد القاتل عمدا ،وعيدا ترجف له القلوب
وتنصدع له الفئدة ،وتنزعج منه أولو العقول.
فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد ،بل ول مثله ،أل وهو ] ص
[ 194الخبار بأن جزاءه جهنم ،أي :فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده
أن يجازى صاحبه بجهنم ،بما فيها من العذاب العظيم ،والخزي المهين،
وسخط الجبار ،وفوات الفوز والفلح ،وحصول الخيبة والخسار .فعيا ً
ذا
بالله من كل سبب يبعد عن رحمته.
وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد ،على بعض الكبائر
والمعاصي بالخلود في النار ،أو حرمان الجنة.
وقد اختلف الئمة رحمهم الله في تأويلها مع اتفاقهم على بطلن قول
الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين .والصواب
في تأويلها ما قاله المام المحقق :شمس الدين بن القيم رحمه الله في
"المدارج" فإنه قال -بعدما ذكر تأويلت الئمة في ذلك وانتقدها فقال:
وقالت ِفرَقة :هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة ،ول
يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده ،فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه
وانتفاء موانعه.
وغاية هذه النصوص العلم بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها ،وقد قام
الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالجماع ،وبعضها بالنص .فالتوبة مانع
بالجماع ،والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي ل مدفع لها ،والحسنات
العظيمة الماحية مانعة ،والمصائب الكبار المكفرة مانعة ،وإقامة الحدود
في الدنيا مانع بالنص ،ول سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فل بد من
إعمال النصوص من الجانبين.
ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات ،اعتباًرا بمقتضي العقاب
ومانعه ،وإعمال لرجحها.
قالوا :وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما .وعلى هذا بناء الحكام
الشرعية والحكام القدرية ،وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود ،وبه
ارتباط السباب ومسبباتها خلقا وأمرا ،وقد جعل الله سبحانه لكل ضد
ضدا يدافعه ويقاومه ،ويكون الحكم للغلب منهما.
فالقوة مقتضية للصحة والعافية ،وفساد الخلط وبغيها مانع من عمل
الطبيعة ،وفعل القوة والحكم للغالب منهما ،وكذلك قوى الدوية
والمراض .والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب ،وأحدهما يمنع
كمال تأثير الخر ويقاومه ،فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له.
ن يدخل الجنة ول يدخل النار ،وعكسه، م ْ
ن هنا يعلم انقسام الخلق إلى َم ْو ِ
ن يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من م ْو َ
مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه .ومن له بصيرة منورة يرى بها
كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله ،حتى كأنه يشاهده
رأي عين.
ويعلم أن هذا هو مقتضى إلهيته سبحانه ،وربوبيته وعزته وحكمته وأنه
يستحيل عليه خلف ذلك ،ونسبة ذلك إليه نسبة ما ل يليق به إليه ،فيكون
نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره.
وهذا يقين اليمان ،وهو الذي يحرق السيئات ،كما تحرق النار الحطب،
وصاحب هذا المقام من اليمان يستحيل إصراره على السيئات ،وإن
وقعت منه وكثرت ،فإن ما معه من نور اليمان يأمره بتجديد التوبة كل
وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه ،وهذا من أحب الخلق إلى الله.
انتهى كلمه قدس الله روحه ،وجزاه عن السلم والمسلمين خيرا.
) (1/193
قى ن أ َل ْ َ
م ْ قوُلوا ل ِ َ ل الل ّهِ فَت َب َي ُّنوا وََل ت َ ُ سِبي ِم ِفي َ ضَرب ْت ُ ْذا َ مُنوا إ ِ َ ذي َ
نآ َ
َ
َيا أي َّها ال ّ ِ َ
م ك َِثيَرةٌ مَغان ِ ُحَياةِ الد ّن َْيا فَعِن ْد َ الل ّهِ َ ض ال ْ َ ن عََر َ مًنا ت َب ْت َُغو َمؤْ ِت ُ س َ م لَ ْسَل َ م ال ّ إ ِل َي ْك ُ ُ
خِبيًرا ن َ مُلو َ ما ت َعْ َن بِ َكا َ ه َن الل ّ َ م فَت َب َي ُّنوا إ ِ ّه عَل َي ْك ُ ْ
ن الل ّ ُ م ّل فَ َ ن قَب ْ ُم ْ م ِك ك ُن ْت ُ ْ
ك َذ َل ِ َ
)(94
) (1/194
ُ
ل
سِبي ِ
ن ِفي َ دو َ جاهِ ُ م َضَررِ َوال ْ ُ ن غَي ُْر أوِلي ال ّ مِني َ مؤْ ِ ن ال ْ ُ
م َن ِ دو َ ع ُ قا ِوي ال ْ َ ِ َل ي َ ْ
ست َ
م عََلى م وَأ َن ْ ُ َ م وَأ َن ْ ُ َ
سه ِ ْ ف ِ وال ِهِ ْم َن ب ِأ ْدي َ جاهِ ِ م َه ال ْ ُ ل الل ّ ُ ض َ م فَ ّ سهِ ْف ِ وال ِهِ ْ م َ الل ّهِ ب ِأ ْ
ن عََلى دي َ جاهِ ِ م َ ه ال ْ ُ
ل الل ّ ُ ض َسَنى وَفَ ّ ح ْ ه ال ْ ُة وَك ُّل وَعَد َ الل ّ ُ ج ًن د ََر َ دي َ ع ِ ال ْ َ
قا ِ
عدي َ
فوًرا ن الل ّ ُ
ه غَ ُ كا َ ة وَ َ م ً ح َ فَرةً وََر ْ مغْ ِه وَ َمن ْ ُ
ت ِ جا ٍ ما ) (95د ََر َ ظي ًجًرا عَ ِ نأ ْ قا ِ ِ َ ال ْ َ
ما )(96 حي ً َر ِ
ُ
ضَرِر ن غَي ُْر أوِلي ال ّ مؤْ ِ
مِني َ ن ال ْ ُم َ ن ِ دو َ ع ُ قا ِ وي ال ْ َ ست َ ِ
} } { 96 ، 95ل ي َ ْ
ْ ّ َ َ ّ
ن
دي َ جاهِ ِ م َ
ه ال ُ ل الل ُ ض َ م فَ ّ سهِ ْ ف ِ م وَأن ْ ُ وال ِهِ ْم َل اللهِ ب ِأ ْ سِبي ِ ن ِفي َ دو َ جاهِ ُ م َ َوال ْ ُ
م وَأ َن ْ ُ َ
ل الل ّ ُ
ه ض َ سَنى وَفَ ّ ح ْ ه ال ْ ُ كل وَعَد َ الل ّ ُ ة وَ ُ ج ًن د ََر َ دي َ ع ِ قا ِ م عََلى ال ْ َ سه ِ ْف ِ وال ِهِ ْم َ ب ِأ ْ
عدي َ ن عََلى ال ْ َ
ن
كا َ ة وَ َ م ً ح َفَرةً وََر ْ مغْ ِ ه وَ َمن ْ ُت ِ جا ٍ ما * د ََر َ ظي ًجًرا عَ ِ نأ ْ قا ِ ِ َ دي َ جاهِ ِ م َ ال ْ ُ
ما { . حي ً فوًرا َر ِ ه غَ ُ الل ّ ُ
أي :ل يستوي من جاهد من المؤمنين بنفسه وماله ومن لم يخرج للجهاد
ولم يقاتل أعداء الله ،ففيه الحث على الخروج للجهاد ،والترغيب في ذلك،
والترهيب من التكاسل والقعود عنه من غير عذر.
وأما أهل الضرر كالمريض والعمى والعرج والذي ل يجد ما يتجهز به،
فإنهم ليسوا بمنزلة القاعدين من غير عذر ،فمن كان من أولي الضرر
دث ح ّ
راضًيا بقعوده ل ينوي الخروج في سبيل الله لول ]وجود[ المانع ،ول ي ُ َ
نفسه بذلك ،فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر.
ما على الخروج في سبيل الله لول وجود المانع يتمنى ذلك ومن كان عاز ً
دث به نفسه ،فإنه بمنزلة من خرج للجهاد ،لن النية الجازمة إذا اقترن ح ّ وي ُ َ
بها مقدورها من القول أو الفعل ينزل صاحبها منزلة الفاعل.
ثم صّرح تعالى بتفضيل المجاهدين على القاعدين بالدرجة ،أي :الرفعة،
وهذا تفضيل على وجه الجمال ،ثم صرح بذلك على وجه التفصيل،
ووعدهم بالمغفرة الصادرة من ربهم ،والرحمة التي تشتمل على حصول
كل خير ،واندفاع كل شر.
والدرجات التي فصلها النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الثابت عنه
في "الصحيحين" أن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين
السماء والرض ،أعدها الله للمجاهدين في سبيله.
وهذا الثواب الذي رتبه الله على الجهاد ،نظير الذي في سورة الصف في
ب أ َِليم ٍ * ذا ٍ ن عَ َ م ْ م ِ جيك ُ ْ جاَرةٍ ت ُن ْ ِ م عََلى ت ِ َ
قوله } :يا أ َيها ال ّذين آمنوا هَ ْ َ
ل أد ُل ّك ُ ْ ِ َ َ ُ َ َّ
م ذ َل ِك ُْ
م سك ُْ ُ ف نتؤْمنون بالل ّه ورسول ِه وتجاهدون في سبيل الل ّه بأ َموال ِك ُم وأ َ
ْ َ ْ ِ ِ ِ ْ َ َ ِ ِ ُ ِ ُ َ ِ ِ ََ ُ ِ َُ َ ِ ُ َ ِ
ن
م ْري ِ ج ِ ت تَ ْ جّنا ٍ م َ ُ
خلك ْ ْ م وَي ُد ْ ِ ُ
م ذُنوب َك ْ ُ ُ َ
فْر لك ْ ن * ي َغْ ِ مو َ م ت َعْل َ ُن ك ُن ْت ُ ْ م إِ ْخي ٌْر ل َك ُ ْ َ
م { إلى آخر ظي ُ فوُْز العَ ِْ ْ َ
ن ذ َل ِك ال َ ت عَد ْ ٍ جّنا ِ ة ِفي َ َ
ن طي ّب َ ً ساك ِ َ م َ حت َِها الن َْهاُر وَ َ تَ ْ
السورة
وتأمل حسن هذا النتقال من حالة إلى أعلى منها فإنه نفى التسوية أول
بين المجاهد وغيره ثم صّرح بتفضيل المجاهد على القاعد بدرجة ثم انتقل
إلى تفضيله بالمغفرة والرحمة والدرجات
وهذا النتقال من حالة إلى أعلى منها عند التفضيل والمدح أو النزول من
حالة إلى ما دونها عند القدح والذم -أحسن لفظا وأوقع في النفس
ضل تعالى شيئا على شيء وكل منهما له فضل احترز بذكر وكذلك إذا ف ّ
الفضل الجامع للمرين لئل يتوهم أحد ذم المفضل عليه كما قال هنا
سَنى {. ح ْ ه ال ْ ُ كل وَعَد َ الل ّ ُ } وَ ُ
ر
ش ِ وكما قال تعالى في اليات المذكورة في الصف في قوله } وَب َ ّ
ن قَب ْ ِ
ل م ْ فق َ ِ ن أ َن ْ َ م ْ م َ من ْك ُ ْ وي ِ ست َ ِن { وكما في قوله تعالى } ل ي َ ْ مِني َ مؤْ ِال ْ ُ
ل { أي ممن لم يكن كذلك فت ِْح وََقات َ َ ال ْ َ
نما َ سل َي ْ َ ها ُ مَنا َ فهّ ْ سَنى { وكما قال تعالى } فَ َ ح ْ ه ال ْ ُ كل وَعَد َ الل ّ ُ ثم قال } وَ ُ
ما { فينبغي لمن بحث في التفضيل بين الشخاص عل ْ ًما وَ ِ حك ْ ً كل آت َي َْنا ُ وَ ُ
والطوائف والعمال أن يتفطن لهذه النكتة
وكذلك لو تكلم في ذم الشخاص والمقالت ذكر ما تجتمع فيه عند تفضيل
ضل قد حصل له الكمال كما إذا قيل بعضها على بعض لئل يتوهم أن المف ّ
النصارى خير من المجوس فليقل مع ذلك وكل منهما كافر
والقتل أشنع من الزنا وكل منهما معصية كبيرة حرمها الله ورسوله وزجر
عنها
ولما وعد المجاهدين بالمغفرة والرحمة الصادَرْين عن اسميه الكريمين
ما {. حي ً فوًرا َر ِ ه غَ ُ ن الل ّ ُ كا َ م { ختم هذا الية بهما فقال } وَ َ حي ُ فوُر الّر ِ } ال ْغَ ُ
) (1/195
) (1/195
ج
خُر ْ
ن يَ ْ
م ْ
ة وَ َ ما ك َِثيًرا وَ َ
سع َ ً مَراغَ ًض ُ ِ جد ْ ِفي اْل َْر ل الل ّهِ ي َ ِسِبي ِ جْر ِفي َ ن ي َُها ِ م ْوَ َ
َ َ ْ ْ ّ َ
جُرهُ عَلى قد ْ وَقَعَ أ ْ
ت فَ َ موْ ُ ه ال َ
م ي ُد ْرِك ُسول ِهِ ث ُ ّ
جًرا إ ِلى اللهِ وََر ُ مَها ِ
ن ب َي ْت ِهِ ُم ْ ِ
ما )(100 حي ً فوًرا َر ِ ه غَ ُ ّ
ن الل ُ اللهِ وَ َ
كا َ ّ
ة
سع َ ًما ك َِثيًرا وَ َ مَراغَ ً ض ُ
جد ْ ِفي الْر ِ ل الل ّهِ ي َ ِ سِبي ِ
جْر ِفي َ ن ي َُها ِم ْ } } { 100وَ َ
قد ْ وَقَ َ
ع ت فَ َ موْ ُ ْ
ه ال َ ْ سول ِهِ ث ُ ّ
م ي ُد ْرِك ُ ّ َ
جًرا إ ِلى اللهِ وََر ُ مَها ِ ن ب َي ْت ِهِ ُ م ْ ج ِ خُر ْ ن يَ ْ م ْ وَ َ
ما { . ه غَ ُ ّ َ ّ َ َ
حي ًفوًرا َر ِ ن الل ُ جُرهُ عَلى اللهِ وَكا َ أ ْ
هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب ،وبيان ما فيها من المصالح،
فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته ،أنه يجد
مراغما في الرض وسعة ،فالمراغم مشتمل على مصالح الدين ،والسعة
على مصالح الدنيا.
وذلك أن كثيًرا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاًتا بعد اللفة ،وفقًرا بعد
الغنى ،وذل بعد العز ،وشدة بعد الرخاء.
والمر ليس كذلك ،فإن المؤمن ما دام بين أظهر المشركين فدينه في
غاية النقص ،ل في العبادات القاصرة عليه كالصلة ونحوها ،ول في
العبادات المتعدية كالجهاد بالقول والفعل ،وتوابع ذلك ،لعدم تمكنه من
فا.ذلك ،وهو بصدد أن يفتن عن دينه ،خصوصا إن كان مستضع ً
فإذا هاجر في سبيل الله تمكن من إقامة دين الله وجهاد أعداء الله
ومراغمتهم ،فإن المراغمة اسم جامع لكل ما يحصل به إغاظة لعداء الله
من قول وفعل ،وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه ،وقد وقع كما أخبر
الله تعالى.
واعتبر ذلك بالصحابة رضي الله عنهم فإنهم لما هاجروا في سبيل الله
وتركوا ديارهم وأولدهم وأموالهم لله ،كمل بذلك إيمانهم وحصل لهم من
اليمان التام والجهاد العظيم والنصر لدين الله ،ما كانوا به أئمة لمن
بعدهم ،وكذلك حصل لهم مما يترتب على ذلك من الفتوحات والغنائم ،ما
كانوا به أغنى الناس ،وهكذا كل من فعل فعلهم ،حصل له ما حصل لهم
إلى يوم القيامة.
سول ِهِ { أي :قاصدا ربه جًرا إ َِلى الل ّهِ وََر ُ مَها ِن ب َي ْت ِهِ ُ
م ْ ج ِخُر ْ ن يَ ْ م ْ ثم قال } :وَ َ
مورضاه ،ومحبة لرسوله ونصًرا لدين الله ،ل لغير ذلك من المقاصد } ث ُ ّ
جُرهُ عََلى الل ّهِ { أي :فقد َ
قد ْ وَقَعَ أ ْ ت { بقتل أو غيره } ،فَ َ موْ ُه ال ْ َي ُد ْرِك ْ ُ
حصل له أجر المهاجر الذي أدرك مقصوده بضمان الله تعالى ،وذلك لنه
نوى وجزم ،وحصل منه ابتداء وشروع في العمل ،فمن رحمة الله به
وبأمثاله أن أعطاهم أجرهم كامل ولو لم يكملوا العمل ،وغفر لهم ما
حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها.
فوًراه غَ ُ ّ
ن الل ُ َ
ولهذا ختم هذه الية بهذين السمين الكريمين فقال } :وَكا َ
ما { يغفر للمؤمنين ما اقترفوه من الخطيئات ،خصوصا التائبين حي ً َر ِ
المنيبين إلى ربهم ] .ص [ 197
ما { بجميع الخلق رحمة أوجدتهم وعافتهم ورزقتهم من المالحي ً
} َر ِ
ما بالمؤمنين حيث وفقهم لليمان ،وعلمهموالبنين والقوة ،وغير ذلك .رحي ً
من العلم ما يحصل به اليقان ،ويسر لهم أسباب السعادة والفلح وما به
يدركون غاية الرباح ،وسيرون من رحمته وكرمه ما ل عين رأت ،ول أذن
سمعت ،ول خطر على قلب بشر ،فنسأل الله أن ل يحرمنا خيره بشر ما
عندنا.
) (1/196
) (1/197
) (1/198
ذا اط ْ ْ
م
مأن َن ْت ُ ْ
َ جُنوب ِك ُ ْ
م فَإ ِ َ دا وَعََلى ُ ما وَقُُعو ً صَلةَ َفاذ ْك ُُروا الل ّ َ
ه قَِيا ً م ال ّ ذا قَ َ
ضي ْت ُ ُ فَإ ِ َ
َ
موُْقوًتا )(103 ن ك َِتاًبا َ ت عََلى ال ْ ُ
مؤْ ِ
مِني َ صَلةَ َ
كان َ ْ ن ال ّ صَلةَ إ ِ ّ
موا ال ّ فَأِقي ُ
جُنوب ِك ُ ْ
م دا وَعََلى ُ ما وَقُُعو ً ه قَِيا ً صلةَ َفاذ ْك ُُروا الل ّ َ م ال ّ ضي ْت ُ ُذا قَ َ } } { 103فَإ ِ َ
ْ َ صلةَ َ َ ذا اط ْ ْ
ن ك َِتاًبا مؤْ ِ
مِني َ ت عَلى ال ُ كان َ ْ ن ال ّ صلةَ إ ِ ّ موا ال ّ م فَأِقي ُ مأن َن ْت ُ َْ فَإ ِ َ
موُْقوًتا { . َ
أي :فإذا فرغتم من صلتكم ،صلة الخوف وغيرها ،فاذكروا الله في جميع
أحوالكم وهيئاتكم ،ولكن خصت صلة الخوف بذلك لفوائد .منها :أن القلب
صلحه وفلحه وسعادته بالنابة إلى الله تعالى في المحبة وامتلء القلب
من ذكره والثناء عليه.
وأعظم ما يحصل به هذا المقصود الصلة ،التي حقيقتها أنها صلة بين العبد
وبين ربه.
ومنها :أن فيها من حقائق اليمان ومعارف اليقان ما أوجب أن يفرضها
الله على عباده كل يوم وليلة .ومن المعلوم أن صلة الخوف ل تحصل
فيها هذه المقاصد الحميدة بسبب اشتغال القلب والبدن والخوف فأمر
بجبرها بالذكر بعدها.
ومنها :أن الخوف يوجب من قلق القلب وخوفه ما هو مظنة لضعفه ،وإذا
ضعف القلب ضعف البدن عن مقاومة العدو ،والذكر لله والكثار منه من
أعظم مقويات القلب ] .ص [ 199
ومنها :أن الذكر لله تعالى مع الصبر والثبات سبب للفلح والظفر بالعداء،
َ
ة َفاث ْب ُُتوا َواذ ْك ُُروا الل ّ َ
ه م فِئ َ ً
قيت ُ ْ ذا ل َ ِ
مُنوا إ ِ َنآ َ ذي َ كما قال تعالىَ } :يا أي َّها ال ّ ِ
ن { فأمر بالكثار منه في هذه الحال إلى غير ذلك من حو َ فل ِ ُ م تُ ْ ك َِثيًرا ل َعَل ّك ُ ْ
كم. ح َ ال ِ
َ ْ
صلة { أي :إذا أمنتم من الخوف موا ال ّ م فَأِقي ُ مأن َن ْت ُ ْ ذا اط ْ َ وقوله } :فَإ ِ َ
واطمأنت قلوبكم وأبدانكم فأتموا صلتكم على الوجه الكمل ظاهرا
وباطنا ،بأركانها وشروطها وخشوعها وسائر مكملتها.
موُْقوًتا { أي :مفروضا في وقته، ن ك َِتاًبا َ
مِني َ مؤْ ِ ت عََلى ال ْ ُ كان َ ْ صلةَ َ ن ال ّ } إِ ّ
فدل ذلك على فرضيتها ،وأن لها وقتا ل تصح إل به ،وهو هذه الوقات التي
قد تقررت عند المسلمين صغيرهم وكبيرهم ،عالمهم وجاهلهم ،وأخذوا
ذلك عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله" :صلوا كما رأيتموني
ن { على أن الصلة ميزان اليمانمِني َ أصلي" ودل قوله } :عََلى ال ْ ُ
مؤْ ِ
وعلى حسب إيمان العبد تكون صلته وتتم وتكمل ،ويدل ذلك على أن
الكفار وإن كانوا ملتزمين لحكام المسلمين كأهل الذمة -أنهم ل
يخاطبون بفروع الدين كالصلة ،ول يؤمرون بها ،بل ول تصح منهم ما داموا
على كفرهم ،وإن كانوا يعاقبون عليها وعلى سائر الحكام في الخرة.
) (1/198
) (1/199
ه وََل ت َك ُ ْ
ن ما أ ََرا َ
ك الل ّ ُ س بِ َ
ن الّنا ِ حك ُ َ
م ب َي ْ َ ب ِبال ْ َ
حقّ ل ِت َ ْ ك ال ْك َِتا َإ ِّنا أ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ
ما )(105 صي ًخ ِ ن َ خائ ِِني َ ل ِل ْ َ
ما
س بِ َ
ن الّنا ِ حك ُ َ
م ب َي ْ َ ب ِبال ْ َ
حقّ ل ِت َ ْ } } { 113 - 105إ ِّنا أ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ
ك ال ْك َِتا َ
ما { . صي ًخ ِ ن َ خائ ِِني َ ن ل ِل ْ َ أ ََرا َ
ك الل ّ ُ
ه َول ت َك ُ ْ
ظا في يخبر تعالى أنه أنزل على عبده ورسوله الكتاب بالحق ،أي :محفو ً
إنزاله من الشياطين ،أن يتطرق إليه منهم باطل ،بل نزل بالحق ،ومشتمل
كة َرب ّ َ م ُت ك َل ِ َ م ْ أيضا على الحق ،فأخباره صدق ،وأوامره ونواهيه عدل } وَت َ ّ
دل { وأخبر أنه أنزله ليحكم بين الناس. صد ًْقا وَعَ ِْ
َ ما نز َ ْ َ َ ْ َ
م{ ل إ ِلي ْهِ ْ س َ ن ِللّنا ِوفي الية الخرى } :وَأنزلَنا إ ِلي ْك الذ ّكَر ل ِت ُب َي ّ َ
.فيحتمل أن هذه الية في الحكم بين الناس في مسائل النزاع والختلف،
وتلك في تبيين جميع الدين وأصوله وفروعه ،ويحتمل أن اليتين كلتيهما
معناهما واحد ،فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء
والعراض والموال وسائر الحقوق وفي العقائد وفي جميع مسائل
الحكام.
ه { أي :ل بهواك بل بما عّلمك الله وألهمك ،كقوله َ
ك الل ّ ُ
ما أَرا َ وقوله } :ب ِ َ
حى { وفي هذا دليل على ي ُيو َح ٌن هُوَ ِإل وَ ْ وى إ ِ ْ ن ال ْهَ َ ما ي َن ْط ِقُ عَ ِ
تعالى } :وَ َ
عصمته صلى الله عليه وسلم فيما ي ُب َّلغ عن الله من جميع الحكام ] ص
ما [ 200وغيرها ،وأنه يشترط في الحاكم ) (1العلم والعدل لقوله } :ب ِ َ
ه { ولم يقل :بما رأيت .ورتب أيضا الحكم بين الناس على معرفة أ ََرا َ
ك الل ّ ُ
الكتاب ،ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط نهاه
ما { صي ً خ ِ ن َ خائ ِِني َ ن ل ِل ْ َ
عن الجور والظلم الذي هو ضد العدل فقالَ } :ول ت َك ُ ْ
من عرفت خيانته ،من مدع ما ليس له ،أو منكرٍ حقا أي :ل تخاصم عن َ
عليه ،سواء علم ذلك أو ظنه .ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في
باطل ،والنيابة عن المبطل في الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية.
ويدل مفهوم الية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف
منه ظلم.
__________
) (1في أ :الحكم.
) (1/199
ن
ذي َ ن ال ّ ِ ل عَ ِ جادِ ْ ما ) (106وََل ت ُ َ حي ً فوًرا َر ِ ن غَ ُ كا َ ه َ ن الل ّ َ ه إِ ّ فرِ الل ّ َ ست َغْ ِ َوا ْ
َ ه َل ي ُ ِ َ
ن
م َن ِ فو َ خ ُ ست َ ْ ما ) (107ي َ ْ واًنا أِثي ً خ ّ ن َ كا َ ن َ م ْ ب َ ح ّ ن الل ّ َ م إِ ّ سهُ ْ ف َ ن أن ْ ُ خَتاُنو َ يَ ْ
لقوْ ِ ن ال ْ َ م َ ضى ِ ما َل ي َْر َ ن َ م إ ِذ ْ ي ُب َي ُّتو َ معَهُ ْ ن الل ّهِ وَهُوَ َ م َ ن ِ فو َ خ ُ ست َ ْ س وََل ي َ ْ الّنا ِ
ْ ْ َ َ ً ُ ّ وَ َ
ة
حَيا ِ م ِفي ال َ م عَن ْهُ ْ جاد َلت ُ ْ م هَؤُلِء َ ها أن ْت ُ ْ حيطا )َ (108 م ِ ن ُ ملو َ ما ي َعْ َ ه بِ َ ن الل ُ كا َ
كيًل )(109 َ
م وَ ِ ن عَل َي ْهِ ْ كو ُ ن يَ ُ م ْ م َ مة ِ أ ْ قَيا َ م ال ْ ِ م ي َوْ َ ه عَن ْهُ ْ ل الل ّ َ جادِ ُ ن يُ َ م ْ الد ّن َْيا فَ َ
َ
ما ) حي ً فوًرا َر ِ ه غَ ُ جدِ الل ّ َ ه يَ ِ فرِ الل ّ َ ست َغْ ِ م يَ ْ ه ثُ ّ س ُ ف َ م نَ ْ سوًءا أوْ ي َظ ْل ِ ْ ل ُ م ْ ن ي َعْ َ م ْ وَ َ
ما ) كي ً ح ِ ما َ ه عَِلي ً ّ
ن الل ُ سهِ وَكا َ َ ف ِ ه عَلى ن َ ْ َ سب ُ ُ ْ
ما ي َك ِ ما فَإ ِن ّ َ ب إ ِث ْ ً س ْ ْ
ن ي َك ِ م ْ (110وَ َ
ريًئا فَ َ َ طيئ َ ً ْ
مال ب ُهَْتاًنا وَإ ِث ْ ً م َ حت َ َ قدِ ا ْ م ي َْرم ِ ب ِهِ ب َ ِ ما ث ُ ّ ة أوْ إ ِث ْ ً خ ِ ب َ س ْ ن ي َك ِ م ْ (111وَ َ
ضّلوكَ َ َ َ َ َ ّ َ َ
ن يُ ِ مأ ْ من ْهُ ْ ة ِ ف ٌ ت طائ ِ َ م ْ ه لهَ ّ مت ُ ُ ح َ ل اللهِ عَلي ْك وََر ْ ض ُ مِبيًنا ) (112وَلوْل فَ ْ ُ
ب ْ َ
ه عَلي ْ َ ّ َ َ َ َ وما يضّلون إّل أ َ
ك الك َِتا َ ُ ل ال ل زَ ْ ن أ و
ْ َ ٍ ء ي ش ن
ْ مِ ك َ ن رو ّ ض
ُ َ ي ما و
َ ُ ْ َ َ م ه س ُ ف ْ ن ِ َ ِ ُ َ َ
ما )(113 ً ظي
ِ َ ع َ
ك ْ ي َ ل َ ع ِ ه ّ لال ُ
ل ضْ َ ف ن َ َ
كا و
ُ َ م َ ل ْ ع َ ت ن
ْ ُ ك َ ت م
ْ َ ل ما
َ ك َ م َ َ َّ ل َ ع و ةَ م ْ ك ح
ِ ْ ل َوا
ن
خَتاُنو َ ن يَ ْ ذي َ ن ال ّ ِ ل عَ ِ جادِ ْ ما * َول ت ُ َ حي ً فوًرا َر ِ ن غَ ُ كا َ ه َ ن الل ّ َ ه إِ ّ فرِ الل ّ َ ست َغْ ِ } َوا ْ
س َول َ َ ّ أ َن ْ ُ
ن الّنا ِ م َ ن ِ فو َ خ ُ ست َ ْ ما * ي َ ْ واًنا أِثي ً خ ّن َ ن كا َ م ْ ب َ ح ّه ل يُ ِ ن الل َ م إِ ّ سهُ ْ ف َ
ن الل ّ ُ
ه كا َ ل وَ َ قوْ ِ ن ال ْ َ م َ ضى ِ ما ل ي َْر َ ن َ م إ ِذ ْ ي ُب َي ُّتو َ معَهُ ْ ن الل ّهِ وَهُوَ َ م َن ِ فو َ خ ُست َ ْ
يَ ْ
ْ ْ َ ً ُ
ن
م ْحَياةِ الد ّن َْيا فَ َ م ِفي ال َ م عَن ْهُ ْ جاد َلت ُ ْ ؤلِء َ م هَ ُ ها أن ْت ُ ْ حيطا * َ م ِ ن ُ ملو َ ما ي َعْ َ بِ َ
سوًءا م ْ َ ُ َ ْ ّ جادِ ُ
ل ُ ن ي َعْ َ م ْ كيل * وَ َ م وَ ِ ن عَلي ْهِ ْ ن ي َكو ُ م ْ م َ مة ِ أ ْ قَيا َ م ال ِ م ي َوْ َ
ه عَن ْهُ ْ ل الل َ يُ َ
َ
ما ب إ ِث ْ ً س ْ ن ي َك ْ ِ م ْ ما * وَ َ حي ً فوًرا َر ِ ه غَ ُ جدِ الل ّ َ ه يَ ِ فرِ الل ّ َ ست َغْ ِ م يَ ْ ه ثُ ّ س ُ ف َ م نَ ْ أوْ ي َظ ْل ِ ْ
ة أ َْو طيئ َ ً خ ِ ب َ س ْ ن ي َك ْ ِ م ْ ما * وَ َ كي ً ح ِ ما َ ه عَِلي ً ن الل ّ ُ كا َ سه ِ و َ َ ف ِ ه عََلى ن َ ْ سب ُ ُ ما ي َك ْ ِ فَإ ِن ّ َ
ل الل ّهِ عَل َي ْكَ ض ُ ول فَ ْ َ
مِبيًنا * وَل ْ ما ُ ل ب ُهَْتاًنا وَإ ِث ْ ً م َ حت َ َ قدِ ا ْ ريًئا فَ َ م ي َْرم ِ ب ِهِ ب َ ِ ما ث ُ ّ إ ِث ْ ً
ضّرون َكَ َ ّ َ ّ َ َ َ
ما ي َ ُ م وَ َ سه ُ ْ ف َ ن ِإل أن ْ ُ ضلو َ ما ي ُ ِ ضلوك وَ َ ن يُ ِ مأ ْ من ْهُ ْ ة ِ ف ٌ ت طائ ِ َ م ْ ه لهَ ّ مت ُ ُ ح َ وََر ْ
ن َ َ ُ َ م َ ّ ْ ْ ْ َ
ه عَلي ْ َ ّ يٍء وَأن َْز َ َ ن َ
م وَكا َ ن ت َعْل ُ م ت َك ْ ما ل ْ ك َ ة وَعَل َ م َ حك َ ب َوال ِ ك الك َِتا َ ل الل ُ ش ْ م ْ ِ
ما { . ظي ً ك عَ ِ َ
ل اللهِ عَلي ْ َ ّ ض ُ فَ ْ
ه { مما صدر منك إن صدر. ّ
فرِ الل َ ست َغْ ِ } َوا ْ
ما { أي :يغفر الذنب العظيم لمن استغفره، حي ً فوًرا َر ِ ن غَ ُ كا َ ه َ ن الل ّ َ } إِ ّ
جب لثوابه وزوال وتاب إليه وأناب ويوفقه للعمل الصالح بعد ذلك المو ِ
عقابه.
َ
م { "الختيان" و "الخيانة" بمعنى سهُ ْ ف َ ن أن ْ ُ خَتاُنو َ ن يَ ْ ذي َ ن ال ّ ِ ل عَ ِ جادِ ْ } َول ت ُ َ
الجناية والظلم والثم ،وهذا يشمل النهي عن المجادلة ،عن من أذنب
وتوجه عليه عقوبة من حد أو تعزير ،فإنه ل يجادل عنه بدفع ما صدر منه
هل ن الل ّ َ من الخيانة ،أو بدفع ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية } .إ ِ ّ
ما { أي :كثير الخيانة والثم ،وإذا انتفى الحب ثبت َ ن َ
واًنا أِثي ً خ ّ ن َ كا َ م ْ ب َ ح ّ يُ ِ
ضده وهو الب ُْغض ،وهذا كالتعليل ،للنهي المتقدم.
ن
م َ ن ِ فو َ خ ُ ست َ ْس َول ي َ ْ ن الّنا ِ م َ ن ِ فو َ خ ُست َ ْ ثم ذكر عن هؤلء الخائنين أنهم } ي َ ْ
ل { وهذا من ضعف اليمان، قوْ ِ ْ
ن ال َ م َ ضى ِ ما ل ي َْر َ ن َ م إ ِذ ْ ي ُب َي ُّتو َ معَهُ ْ الل ّهِ وَهُوَ َ
ونقصان اليقين ،أن تكون مخافة الخلق عندهم أعظم من مخافة الله،
فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة على عدم الفضيحة عند الناس ،وهم
مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم ،ولم يبالوا بنظره واطلعه عليهم.
صا في حال تبييتهم ما ل يرضيه وهو معهم بالعلم في جميع أحوالهم ،خصو ً
من القول ،من تبرئة الجاني ،ورمي البريء بالجناية ،والسعي في ذلك
للرسول صلى الله عليه وسلم ليفعل ما بيتوه.
فقد جمعوا بين عدة جنايات ،ولم يراقبوا رب الرض والسماوات ،المطلع
ما ه بِ َ ن الل ّ ُ كا َ على سرائرهم وضمائرهم ،ولهذا توعدهم تعالى بقوله } :وَ َ
طا { أي :قد أحاط بذلك علما ،ومع هذا لم يعاجلهم بالعقوبة حي ً م ِ ن ُ مُلو َ ي َعْ َ
بل استأنى بهم ،وعرض عليهم التوبة وحذرهم من الصرار على ذنبهم
الموجب للعقوبة البليغة.
ّ ْ } َ َ
م
م ي َوْ َ ه عَن ْهُ ْ ل الل َ جادِ ُ ن يُ َ م ْ حَياةِ الد ّن َْيا فَ َ م ِفي ال َ م عَن ْهُ ْ جاد َل ْت ُ ْ ؤلِء َ م هَ ُ ها أن ْت ُ ْ
َ
كيل { أي :هبكم جادلتم عنهم في هذه الحياة م وَ ِ ن عَل َي ْهِ ْ كو ُ ن يَ ُ م ْ م َ مة ِ أ ْ قَيا َ ال ْ ِ
الدنيا ،ودفع عنهم جداُلكم بعض ما تحذرون ) (1من العار والفضيحة عند
خْلق ،فماذا يغني عنهم وينفعهم؟ ومن يجادل الله عنهم يوم القيامة حين ال َ
تتوجه عليهم الحجة ،وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا
يعملون؟ } يومئ ِذ يوّفيهم الل ّه دينهم ال ْحق ويعل َمو َ
ق
ح ّ ه هُوَ ال ْ َ ن الل ّ َ نأ ّ َ ّ ََْ ُ َ ُ ِ َُ ُ َ ْ َ ٍ ُ َ ِ ُ
ن{. مِبي ُ ال ْ ُ
فمن يجادل عنهم من يعلم السر وأخفى ومن أقام عليهم من الشهود ما ل
يمكن معه النكار؟ وفي هذه الية إرشاد ) (2إلى المقابلة بين ما يتوهم
من مصالح الدنيا المترتبة على ترك أوامر الله أو فعل مناهيه ،وبين ما
يفوت من ثواب الخرة أو يحصل من عقوباتها.
فيقول من أمرته نفسه بترك أمر الله ها أنت تركت أمره كسل وتفريطا
فما النفع الذي انتفعت به؟ وماذا فاتك من ثواب الخرة؟ وماذا ترتب على
هذا الترك من الشقاء والحرمان والخيبة والخسران؟
وكذلك إذا دعته نفسه إلى ما تشتهيه من الشهوات المحرمة قال لها :هبك
فعلت ما اشتهيت فإن لذته تنقضي ويعقبها من الهموم والغموم
والحسرات ،وفوات الثواب وحصول العقاب -ما بعضه يكفي العاقل في
الحجام عنها .وهذا من أعظم ما ينفع العبد َ تدبُره ،وهو خاصة العقل
الحقيقي .بخلف الذي ) (3يدعي العقل ،وليس كذلك ،فإنه بجهله وظلمه
يؤثر اللذة الحاضرة والراحة الراهنة ،ولو ترتب عليها ما ترتب .والله
المستعان.
َ
جدِ الل ّ َ
ه ه يَ ِفرِ الل ّ َ ست َغْ ِ ه ثُ ّ
م يَ ْ س ُ ف َ سوًءا أوْ ي َظ ْل ِ ْ
م نَ ْ ل ُ م ْ ن ي َعْ َ
م ْثم قال تعالى } :وَ َ
ما { أي :من تجرأ على المعاصي واقتحم على الثم ثم استغفر حي ً
فوًرا َر ِغَ ُ
الله استغفارا تاما يستلزم القرار بالذنب والندم عليه والقلع والعزم على
أن ل يعود .فهذا قد وعده من ل يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة.
فيغفر له ما صدر منه من الذنب ،ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص
والعيب ،ويعيد إليه ما تقدم من العمال الصالحة ،ويوفقه فيما يستقبله
من عمره ،ول يجعل ذنبه حائل عن توفيقه ،لنه قد غفره ،وإذا غفره غفر
ما يترتب عليه.
واعلم أن عمل السوء عند الطلق يشمل سائر المعاصي ،الصغيرة
والكبيرة ،وسمي "سوًءا" لكونه يسوء عامله بعقوبته ،ولكونه في نفسه
سيًئا غير حسن.
وكذلك ظلم النفس عند الطلق يشمل ظلمها بالشرك فما دونه .ولكن
] ص [ 201عند اقتران أحدهما بالخر قد يفسر كل واحد منهما بما
يناسبه ،فيفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس ،وهو ظلمهم
في دمائهم وأموالهم وأعراضهم.
ويفسر ظلم النفس بالظلم والمعاصي التي بين الله وبين عبده ،وسمي
ظلم النفس "ظلما" لن نفس العبد ليست ملكا له يتصرف فيها بما يشاء،
وإنما هي ملك لله تعالى قد جعلها أمانة عند العبد وأمره أن يقيمها على
ما وعمل فيسعى في تعليمها طريق العدل ،بإلزامها للصراط المستقيم عل ً
ما أمر به ويسعى في العمل بما يجب ،فسعيه في غير هذا الطريق ظلم
لنفسه وخيانة وعدول بها عن العدل ،الذي ضده الجور والظلم.
سهِ { وهذا يشمل كل ما ف ِ ه عََلى ن َ ْ ما ي َك ْ ِ
سب ُ ُ ما فَإ ِن ّ َب إ ِث ْ ً
س ْن ي َك ْ ِ
م ْ
ثم قال } :وَ َ
يؤثم من صغير وكبير ،فمن كسب سيئة فإن عقوبتها الدنيوية والخروية
على نفسه ،ل تتعداها إلى غيرها ،كما قال تعالىَ } :ول ت َزُِر َوازَِرةٌ وِْزَر
خَرى { لكن إذا ظهرت السيئات فلم تنكر عمت عقوبتها وشمل إثمها ،فل أُ ْ
تخرج أيضا عن حكم هذه الية الكريمة ،لن من ترك النكار الواجب فقد
كسب سيئة.
وفي هذا بيان عدل الله وحكمته ،أنه ل يعاقب أحدا بذنب أحد ،ول يعاقب
ماه عَِلي ً ن الل ّ ُكا َ أحدا أكثر من العقوبة الناشئة عن ذنبه ،ولهذا قال } :وَ َ
ما { أي :له العلم الكامل والحكمة التامة. كي ً
ح ِ َ
ومن علمه وحكمته أنه يعلم الذنب وما صدر منه ،والسبب الداعي لفعله،
والعقوبة المترتبة على فعله ،ويعلم حالة المذنب ،أنه إن صدر منه الذنب
بغلبة دواعي نفسه المارة بالسوء مع إنابته إلى ربه في كثير من أوقاته،
أنه سيغفر له ويوفقه للتوبة.
وإن صدر منه بتجرئه على المحارم استخفافا بنظر ربه ،وتهاونا بعقابه،
فإن هذا بعيد من المغفرة بعيد من التوفيق للتوبة.
َ
ما { ما دون ذلك. ة { أي :ذنبا كبيرا } أوْ إ ِث ْ ً طيئ َ ً
خ ِ ب َ س ْ ن ي َك ْ ِ م ْ ثم قال } :وَ َ
ريًئا { من ذلك الذنب ،وإن كان مذنبا} . م ي َْرم ِ ب ِهِ { أي :يتهم بذنبه } ب َ ِ } ثُ ّ
مامِبيًنا { أي :فقد حمل فوق ظهره بهتا للبريء وإث ً ما ُ ل ب ُهَْتاًنا وَإ ِث ْ ً م َ حت َ َقدِ ا ْ فَ َ
ظاهًرا بيًنا ،وهذا يدل على أن ذلك من كبائر الذنوب وموبقاتها ،فإنه قد
من لم يفعلها بفعلها ،ثم مي َ جمع عدة مفاسد :كسب الخطيئة والثم ،ثم َر ْ
الكذب الشنيع بتبرئة نفسه واتهام البريء ،ثم ما يترتب على ذلك من
العقوبة الدنيوية ،تندفع عمن وجبت عليه ،وتقام على من ل يستحقها.
ثم ما يترتب على ذلك أيضا من كلم الناس في البريء إلى غير ذلك من
المفاسد التي نسأل الله العافية منها ومن كل شر.
ثم ذكر منته على رسوله بحفظه وعصمته ممن أراد أن يضله فقال:
ضّلو َ ة منه َ ت َ
ك { وذلك أن ن يُ ِمأ ْ ف ٌ ِ ُْ ْ طائ ِ َ م ْه ل َهَ ّ
مت ُ ُح َ ك وََر ْ ل الل ّهِ عَل َي ْ َ ض ُول فَ ْ } وَل َ ْ
هذه اليات الكريمات قد ذكر المفسرون أن سبب نزولها :أن أهل بيت
سرقوا في المدينة ،فلما اطلع على سرقتهم خافوا الفضيحة ،وأخذوا
سرقتهم فرموها ببيت من هو بريء من ذلك.
واستعان السارق بقومه أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلبوا
منه أن يبرئ صاحبهم على رءوس الناس ،وقالوا :إنه لم يسرق وإنما الذي
م رسول الله صلى الله سرق من وجدت السرقة ببيته وهو البريء .فهَ ّ
عليه وسلم أن يبرئ صاحبهم ،فأنزل الله هذه اليات تذكيرا وتبيينا لتلك
الواقعة وتحذيرا للرسول صلى الله عليه وسلم من المخاصمة عن
الخائنين ،فإن المخاصمة عن المبطل من الضلل ،فإن الضلل نوعان:
ضلل في العلم ،وهو الجهل بالحق .وضلل في العمل ،وهو العمل بغير ما
يجب .فحفظ الله رسوله عن هذا النوع من الضلل ]كما حفظه عن
الضلل في العمال[ ). (4
وأخبر أن كيدهم ومكرهم يعود على أنفسهم ،كحالة كل ماكر ،فقال:
م { لكون ذلك المكر وذلك التحيل لم يحصل لهم سهُ ْ ف َ ن ِإل أ َن ْ ُ ضّلو َ ما ي ُ ِ } وَ َ
فيه مقصودهم ،ولم يحصل لهم ) (5إل الخيبة والحرمان والثم والخسران.
وهذه ) (6نعمة كبيرة على رسوله صلى الله عليه وسلم تتضمن النعمة
بالعمل ،وهو التوفيق لفعل ما يجب ،والعصمة له عن كل محرم.
ة{ م َ ْ
حك َ ب َوال ْ ِ ك ال ْك َِتا َ ه عَل َي ْ َ ل الل ّ ُ ثم ذكر نعمته عليه بالعلم فقال } :وََأنز َ
أي :أنزل عليك هذا القرآن العظيم والذكر الحكيم الذي فيه تبيان كل
خرين. شيء وعلم الولين وال ِ
سّنة تنزل عليه سّنة التي قد قال فيها بعض السلف :إن ال ّ والحكمة :إما ال ّ
كما ينزل القرآن.
وإما معرفة أسرار الشريعة الزائدة على معرفة أحكامها ،وتنزيل الشياء
منازلها وترتيب كل شيء بحسبه.
م { وهذا يشمل جميع ما علمه الله تعالى .فإنه ن ت َعْل َ ُ م ت َك ُ ْ ما ل َ ْ ك َ م َ } وَعَل ّ َ
مات ت َد ِْري َ ما ك ُن ْ َ صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله قبل النبوة بقولهَ } :
دى { . ضال فَهَ َ ك َ جد َ َ ن { } وَوَ َ ما ُ ب َول الي َ ال ْك َِتا ُ
ثم لم يزل يوحي الله إليه ويعلمه ويكمله حتى ارتقى مقاما من العلم
يتعذر وصوله على الولين والخرين ] ،ص [ 202فكان أعلم الخلق على
ن الطلق ،وأجمعهم لصفات الكمال ،وأكملهم فيها ،ولهذا قال } :وَ َ
كا َ
ما { ففضله على الرسول محمد صلى الله عليه ظي ً ل الل ّهِ عَل َي ْ َ
ك عَ ِ فَ ْ
ض ُ
وسلم أعظم من فضله على كل مخلوق ). (7
وأجناس الفضل الذي قد فضله الله به ل يمكن استقصاؤها ) (8ول يتيسر
إحصاؤها ). (9
__________
) (1في ب :ما يحذرون.
) (2في ب :الرشاد.
) (3في ب :من.
) (4زيادة من هامش ب.
) (5في النسختين :له وقد غيرتها للتوافق مع ما سبق من الضمائر.
) (6في النسختين :وهذا.
) (7في ب :الخلق.
) (8في النسختين :استقصاؤه ،وقد عدلت في ب ،ولعل الصواب ما أثبت.
) (9في النسختين :إحصاؤه ،وقد عدلت في ب ،ولعل الصواب ما أثبت.
) (1/200
) (1/202
ن مؤْ ِ
مِني َ ل ال ْ ُسِبي ِ دى وَي َت ّب ِعْ غَي َْر َ ه ال ْهُ َ
ن لَ ُ
ما ت َب َي ّ َن ب َعْدِ َ م ْ ل ِسو َ ق الّر ُ شاقِ ِ ن يُ َ
م ْ وَ َ
ن َ َ ّ ّ ّ
فُر أ ْ ه ل ي َغْ ِ ن الل َصيًرا ) (115إ ِ ّ م ِ ت َ ساَء ْ م وَ َ جهَن ّ َصل ِهِ َ ما ت َوَلى وَن ُ ْ ن ُوَلهِ َ
ضَللًل َ ض ّ قد ْ َ ّ ْ
شرِك ِباللهِ فَ َ ن يُ ْ
م ْ شاُء وَ َ ن يَ َ م ْ َ
ن ذ َل ِك ل ِ َ دو َ ما ُ فُر َ ك ب ِهِ وَي َغْ ِشَر َ يُ ْ
دا )(116 ب َِعي ً
ه الل ّ ُ
ه دا ) (117ل َعَن َ ُ ري ً م ِ طاًنا َ شي ْ َن إ ِّل َ عو َ ن ي َد ْ ُدون ِهِ إ ِّل إ َِناًثا وَإ ِ ْ ن ُ م ْ ن ِ عو َ ن ي َد ْ ُ إِ ْ
ُ ُ َ
م
من ّي َن ّهُ ْم وََل َ ضل ّن ّهُ ْ
ضا ) (118وََل ِ فُرو ً م ْ
صيًبا َ ك نَ ِ عَبادِ َ ن ِ م ْن ِ خذ َ ّ ل َلت ّ ِ وََقا َ
َ َ َ
خذِ ن ي َت ّ ِم ْ خل ْقَ الل ّهِ وَ َ ن َم فَل َي ُغَي ُّر ّمَرن ّهُ ْن اْلن َْعام ِ وََل ُ ذا َ نآ َ م فَل َي ُب َت ّك ُ ّ مَرن ّهُ ْ وََل َ ُ
م
مّنيهِ ْ م وَي ُ َ مِبيًنا ) (119ي َعِد ُهُ ْ سَراًنا ُ خ ْ سَر ُ خ ِ قد ْ َ ن الل ّهِ فَ َ دو ِ ن ُ م ْ ن وَل ِّيا ِ طا َ شي ْ َ ال ّ
ْ ُ
ن عَن َْها دو َ ج ُ م وََل ي َ ِ جهَن ّ ُ
م َ مأَواهُ ْ ك َ ن إ ِّل غُُروًرا ) (120أول َئ ِ َ طا ُ شي ْ َ م ال ّ ما ي َعِد ُهُ ُ وَ َ
صا )(121 حي ً م ِ َ
شي ْ َ
طاًنا ن ِإل َ عو َ ن ي َد ْ ُ دون ِهِ ِإل إ َِناًثا وَإ ِ ْ ن ُ م ْ ن ِ عو َ ن ي َد ْ ُ } } { 121 - 117إ ِ ْ
ضل ّن ّهُ ْ
م ضا * َول ِ فُرو ً م ْصيًبا َ ك نَ ِ عَبادِ َ ن ِ م ْ ن ِ خذ َ ّ ل لت ّ ِ ه وََقا َ ه الل ّ ُ دا * ل َعَن َ ُ ري ً م َِ
ن م و
ِ َ َ ْ ه ّ ل ال َ ق ْ لخَ ن ر
ُ ُّ ّ ي َ غ يَ ل َ ف م ه ن ر م
َْ ِ َ ُ َ ُّ ْول م عا ن ال ن
َ ذا َ آ ن ُ
َُّ ّك ت ب يَ لَ ف م ه ن ر م ول
َ َ َُّّ ْ َ ُ َ ُّ ْ م ه ن ي نم ول
م ه ني م ي و
َِ ُ ُ ْ َُ َ ّ ِ ْم ه د ع ي * نا بي م
ْ َ ً ُ ِ ً نا را س خ
ُ ر س
ِْ َ خ
َ ْ د َ ق َ ف ِ هّ ل ال نن وَل ِ ّ ِ ْ ُ ِ
دو ن م يا طا َ شي ْ َ خذِ ال ّ ي َت ّ ِ
ن عَن َْها ُ
ن ِإل غُُروًرا * أول َئ ِ َ شي ْ َ م ال ّ
دو َ ج ُ م َول ي َ ِ جهَن ّ ُ م َ مأَواهُ ْ ك َ طا ُ ما ي َعِد ُهُ ُ وَ َ
صا { . حي ً م ِ َ
أي :ما يدعو هؤلء المشركون من دون الله إل إناثا ،أي :أوثانا وأصناما
مسميات بأسماء الناث كـ "العزى" و "مناة" ونحوهما ،ومن المعلوم أن
السم دال على المسمى .فإذا كانت أسماؤها أسماء مؤنثة ناقصة ،دل
ذلك على نقص المسميات بتلك السماء ،وفقدها لصفات الكمال ،كما
أخبر الله تعالى في غير موضع من كتابه ،أنها ل تخلق ول ترزق ول تدفع
عن عابديها بل ول عن نفسها؛ نفعا ول ضرا ول تنصر أنفسها ممن يريدها
بسوء ،وليس لها أسماع ول أبصار ول أفئدة ،فكيف ُيعبد من هذا وصفه
ويترك الخلص لمن له السماء الحسنى والصفات العليا والحمد والكمال،
والمجد والجلل ،والعز والجمال ،والرحمة والبر والحسان ،والنفراد
بالخلق والتدبير ،والحكمة العظيمة في المر والتقدير؟" هل هذا إل من
أقبح القبيح الدال على نقص صاحبه ،وبلوغه من الخسة والدناءة أدنى ما
يتصوره متصور ،أو يصفه واصف؟" ] ص [ 204
ومع ذلك ) (1فعبادتهم إنما صورتها فقط لهذه الوثان الناقصة .وبالحقيقة
ما عبدوا غير الشيطان الذي هو عدوهم الذي يريد إهلكهم ويسعى في
ذلك بكل ما يقدر عليه ،الذي هو في غاية البعد من الله ،لعنه الله وأبعده
عن رحمته ،فكما أبعده الله من رحمته يسعى في إبعاد العباد عن رحمة
كونوا م َ
سِعيرِ { ولهذا أخبر الله عن ب ال ّ حا ِ ص َ نأ ْ ِ ْ ه ل ِي َ ُ ُ حْزب َ ُ عو ِ ما ي َد ْ ُ الله } .إ ِن ّ َ
سعيه في إغواء العباد ،وتزيين الشر لهم والفساد وأنه قال لربه مقسما:
ضا { أي :مقدرا .علم اللعين أنه ل يقدر فُرو ً م ْصيًبا َ ك نَ ِ عَبادِ َ ن ِ م ْ ن ِ خذ َ ّ } لت ّ ِ
على إغواء جميع عباد الله ،وأن عباد الله المخلصين ليس له عليهم
سلطان ،وإنما سلطانه على من توله ،وآثر طاعته على طاعة موله.
م عَباد َ َ وأقسم في موضع آخر ليغوينهم } لغْوينه َ
من ْهُ ُ ك ِ ن ِإل ِ مِعي َ ج َمأ ْ َُِّ ْ
ن { فهذا الذي ظنه الخبيث وجزم به ،أخبر الله تعالى بوقوعه صي َ خل َ ِ م ْال ْ ُ
ن{. مِني َ مؤْ ِ ن ال ْ ُ م َ قا ِ ري ً ه َفات ّب َُعوهُ ِإل فَ ِ س ظ َن ّ ُ م إ ِب ِْلي ُ صد ّقَ عَل َي ْهِ ْ قد ْ َ بقوله } :وَل َ َ
وهذا النصيب المفروض الذي أقسم لله إنه يتخذهم ) (2ذكر ما يريد بهم
م { أي :عن الصراط المستقيم ضلل ضل ّن ّهُ ْ وما يقصده لهم بقولهَ } :ول ِ
في العلم ،وضلل في العمل.
م { أي :مع الضلل ،لمنينهم أن ينالوا ما ناله المهتدون .وهذا من ّي َن ّهُ ْ } َول َ
هو الغرور بعينه ،فلم يقتصر على مجرد إضللهم حتى زين لهم ما هم فيه
من الضلل .وهذا زيادة شر إلى شرهم حيث عملوا أعمال أهل النار
الموجبة للعقوبة وحسبوا أنها موجبة للجنة ،واعتبر ذلك باليهود والنصارى
نكا َن َ م ْ ة ِإل َ ل ال ْ َ
جن ّ َ خ َ ن ي َد ْ ُ ونحوهم فإنهم كما حكى الله عنهم } ،وََقاُلوا ل َ ْ
ك زينا ل ِك ُ ّ ُ هودا أ َو نصارى ت ِل ْ َ َ
ل هَ ْ
ل م { } قُ ْ مل َهُ ْمة ٍ ع َ َ لأ ّ م { } ك َذ َل ِ َ َ ّ ّ مان ِي ّهُ ْ كأ َ ُ ً ْ َ َ َ
ْ ّ َ
م
حَياةِ الد ّن َْيا وَهُ ْ م ِفي ال َ سعْي ُهُ ْل َ ض ّ ن َ ذي َ مال * ال ِ ن أع ْ َ ري َ س ِخ َ م ِبال ْ ن ُن َب ّئ ُك ُ ْ
صن ًْعا { . َ
ن ُ سُنو َ ح ِ م يُ ْ ن أن ّهُ ْ سُبو َ ح َ يَ ْ
َ
م ن َك ُ ْ
ن وقال تعالى عن المنافقين إنهم يقولون يوم القيامة للمؤمنين } :أل َ ْ
ي
مان ِ ّم ال َ م وَغَّرت ْك ُ ُ م َواْرت َب ْت ُ ْ صت ُ ْ
م وَت ََرب ّ ْ سك ُ ْ ف َ م أ َن ْ ُ م فَت َن ْت ُ ْ م َقاُلوا ب ََلى وَل َك ِن ّك ُ ْ معَك ُ ْ َ
ْ
م ِباللهِ الغَُروُر { . ّ ُ َ ّ َ
مُر اللهِ وَغّرك ْ جاَء أ ْ حّتى َ َ
ن الن َْعام ِ { أي :بتقطيع آذانها ،وذلك ذا َنآ َ ُ
م فلي ُب َت ّك ّ َ َ مَرن ّهُ ْ وقولهَ } :ول ُ
كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فنبه ببعض ذلك على جميعه ،وهذا نوع
من الضلل يقتضي تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله ،ويلتحق
بذلك من العتقادات الفاسدة والحكام الجائرة ما هو من أكبر الضلل.
خل ْقَ الل ّهِ { وهذا يتناول تغيير الخلقة الظاهرة ن َ م فَل َي ُغَي ُّر ّ مَرن ّهُ ْ } َول ُ
بالوشم ،والوشر والنمص والتفلج للحسن ،ونحو ذلك مما أغواهم به
الشيطان فغيروا خلقة الرحمن.
وذلك يتضمن التسخط من خلقته والقدح في حكمته ،واعتقاد أن ما
يصنعون بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن ،وعدم الرضا بتقديره وتدبيره،
ويتناول أيضا تغيير الخلقة الباطنة ،فإن الله تعالى خلق عباده حنفاء
مفطورين على قبول الحق وإيثاره ،فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا
الخلق الجميل ،وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان.
صرانه أو ودانه أو ين ّ فإن كل مولود يولد على الفطرة ولكن أبواه يه ّ
جسانه ،ونحو ذلك مما يغيرون به ما فطر الله عليه العباد من توحيده يم ّ
وحبه ومعرفته .فافترستهم الشياطين في هذا الموضع افتراس السبع
والذئاب للغنم المنفردة .لول لطف الله وكرمه بعباده المخلصين لجرى
عليهم ما جرى على هؤلء المفتونين ،وهذا الذي جرى عليهم من توليهم
عن ربهم وفاطرهم ) (3وتوليهم لعدوهم المريد لهم الشر من كل وجه،
فخسروا الدنيا والخرة ،ورجعوا بالخيبة والصفقة الخاسرة ،ولهذا قال:
مِبيًنا { وأي سَراًنا ُ خ ْ سَر ُ خ ِ قد ْ َ ن الل ّهِ فَ َ دو ِ ن ُ م ْ ن وَل ِّيا ِ طا َ شي ْ َ خذِ ال ّ ن ي َت ّ ِم ْ } وَ َ
خسار أبين وأعظم ممن خسر دينه ودنياه وأوبقته معاصيه وخطاياه؟!!
فحصل له الشقاء البدي ،وفاته النعيم السرمدي.
كما أن من تولى موله وآثر رضاه ،ربح كل الربح ،وأفلح كل الفلح ،وفاز
بسعادة الدارين ،وأصبح قرير العين ،فل مانع لما أعطيت ،ول معطي لما
منعت ،اللهم تولنا فيمن توليت ،وعافنا فيمن عافيت.
م { أي :يعد الشيطان من يسعى في إضللهم، مّنيهِ ْ م وَي ُ َ ثم قال } :ي َعِد ُهُ ْ
قَر { ف ْ م ال ْ َ ن ي َعِد ُك ُ ُ طا ُ شي ْ َ والوعد يشمل حتى الوعيد كما قال تعالى } :ال ّ
فإنه يعدهم إذا أنفقوا في سبيل الله افتقروا ،ويخوفهم إذا جاهدوا بالقتل
ف أ َوْل َِياَءهُ { الية. خوّ ُ ن يُ َ طا ُ شي ْ َ م ال ّ ما ذ َل ِك ُ ُ وغيره ،كما قال تعالى } :إ ِن ّ َ
ويخوفهم عند إيثار مرضاة الله بكل ما يمكن وما ل يمكن مما يدخله في
عقولهم حتى يكسلوا عن فعل الخير ،وكذلك يمنيهم الماني الباطلة التي
م
ما ي َعِد ُهُ ُ
هي عند التحقيق كالسراب الذي ل حقيقة له ،ولهذا قال } :وَ َ
ك ْ ُ
م { أي :من انقاد للشيطان جهَن ّ ُ
م َ ن ِإل غُُروًرا * أول َئ ِ َ َ
مأَواهُ ْ شي ْ َ
طا ُ ال ّ
وأعرض عن ربه ،وصار من أتباع إبليس وحزبه ،مستقرهم النارَ } .ول
صا { أي :مخلصا ول ملجأ بل هم خالدون فيها أبد الباد. حي ًم ِ
ن عَن َْها َ دو َج ُيَ ِ
__________
) (1في ب :ومع هذا.
) (2في النسختين :إنهم يتخذهم.
) (3كذا في ب وفي أ :وفاطركم.
) (1/203
} { 122ولما بين مآل الشقياء أولياء الشيطان ذكر مآل السعداء أوليائه
حت َِها
ن تَ ْ م ْ ري ِ ج ِ ت تَ ْ جّنا ٍ م َ خل ُهُ ْ
سن ُد ْ ِ
ت َ حا ِ مُلوا ال ّ
صال ِ َ مُنوا وَعَ ِ نآ َ فقالَ } :وال ّ ِ
ذي َ
ن الل ّهِ ِقيل { . (1) . قا وم َ َ
م َ صد َقُ ِ نأ ْ ح ّ َ َ ْ دا وَعْد َ الل ّهِ َن ِفيَها أب َ ًدي َ خال ِ ِالن َْهاُر َ
] ص [ 205
در خيره ق َ مُنوا { بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر ،وال َ أي } :آ َ
مُلواوشره على الوجه الذي أمروا به علما وتصديقا وإقرارا } .وَعَ ِ
ت { الناشئة عن اليمان؟ حا ِ صال ِ َ
ال ّ
وهذا يشمل سائر المأمورات من واجب ومستحب ،الذي على القلب،
والذي على اللسان ،والذي على بقية الجوارح .كل له من الثواب المرتب
على ذلك بحسب حاله ومقامه ،وتكميله لليمان والعمل الصالح.
ويفوته ما رتب على ذلك بحسب ما أخل به من اليمان والعمل ،وذلك
بحسب ما علم من حكمة الله ورحمته ،وكذلك وعده الصادق الذي يعرف
من تتبع كتاب الله وسنة رسوله.
ن
م ْ ري ِ ج ِت تَ ْ جّنا ٍ م َ ُ
خلهُ ْ سن ُد ْ ِ
ولهذا ذكر الثواب المرتب على ذلك بقولهَ } :
حت َِها الن َْهاُر { فيها ما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على قلب تَ ْ
بشر ،من أنواع المآكل والمشارب اللذيذة ،والمناظر العجيبة ،والزواج
الحسنة ،والقصور ،والغرف المزخرفة ،والشجار المتدلية ،والفواكه
المستغربة ،والصوات الشجية ،والنعم السابغة ،وتزاور الخوان ،وتذكرهم
ل رضوان الله ما كان منهم في رياض الجنان ،وأعلى من ذلك كله وأج ّ
عليهم وتمتع الرواح بقربه ،والعيون برؤيته ،والسماع بخطابه الذي
ينسيهم كل نعيم وسرور ،ولول الثبات من الله لهم لطاروا وماتوا من
الفرح والحبور ،فلله ما أحلى ذلك النعيم وما أعلى ما أنالهم الرب الكريم،
وماذا حصل لهم من كل خير وبهجة ل يصفه الواصفون ،وتمام ذلك وكماله
دا َ
ن ِفيَها أب َ ً دي َ خال ِ ِ الخلود الدائم في تلك المنازل العاليات ،ولهذا قالَ } :
ن الل ّهِ ِقيل { . قا وم َ
م َ صد َقُ ِ نأ ْ ح ّ َ َ ْ وَعْد َ الل ّهِ َ
فصدق الله العظيم الذي بلغ قوُله وحديُثه في الصدق أعلى ما يكون،
ة وتضمًنا ولهذا لما كان كلمه صدقا وخبره حقا ،كان ما يدل عليه مطابق ً
ة كل ذلك مراد من كلمه ،وكذلك كلم رسوله صلى الله عليه وملزم ً
وسلم لكونه ل يخبر إل بأمره ول ينطق إل عن وحيه.
__________
) (1في ب :الية كاملة ،بينما في أ ،اقتصر على أولها.
) (1/204
) (1/205
) (1/206
حي ً
طا )(126 م ِ
يءٍ ُ
ش ْ ن الل ّ ُ
ه ب ِك ُ ّ
ل َ ما ِفي اْل َْرض وَ َ
كا َ ت وَ َ
ماَوا ِ
س َ وَل ِل ّهِ َ
ما ِفي ال ّ
ِ
يٍء ل َ
ش ْ ن الل ّ ُ
ه ب ِك ُ ّ ما ِفي الْرض وَ َ
كا َ ِ ت وَ َماَوا ِ
س َ
ما ِفي ال ّ} } { 126وَل ِل ّهِ َ
طا { .حي ً
م ِ
ُ
وهذه الية الكريمة فيها بيان إحاطة الله تعالى بجميع الشياء ،فأخبر أنه له
ض { أي :الجميع ملكه وعبيده ،فهم ما ِفي الْر ِ ت وَ َ
ماَوا ِ س َما ِفي ال ّ
} َ
المملوكون وهو المالك المتفرد بتدبيرهم ،وقد أحاط علمه بجميع
المعلومات ،وبصره بجميع المبصرات ،وسمعه بجميع المسموعات ،ونفذت
مشيئته وقدرته بجميع الموجودات ،ووسعت رحمته أهل الرض
والسماوات ،وقهر بعزه وقهره كل مخلوق ،ودانت له جميع الشياء.
) (1/206
م ِفي ال ْك َِتا ِ
ب ما ي ُت َْلى عَل َي ْك ُ ْ
ن وَ َ م ِفيهِ ّ فِتيك ُ ْ ه يُ ْل الل ّ ُساِء قُ ِ ك ِفي الن ّ َ فُتون َ َ ست َ ْوَي َ ْ
َ َ َ ّ
ن
حوهُ ّ ن ت َن ْك ِ ُنأ ْ ن وَت َْرغَُبو َب لهُ ّ ما ك ُت ِ َ ن َساِء اللِتي ل ت ُؤُْتون َهُ ّ مى الن ّ َ ِفي ي ََتا َ
ُ ْ ْ َ ْ ْ
ن
م ْفعَلوا ِ ما ت َ ْ ط وَ َ س ِق ْمى ِبال ِ موا ل ِلي ََتا َ قو ُ ن تَ ُ ن وَأ ْ دا ِ ن الوِل َ م َن ِ في َ ضع َ ِ
ست َ ْ م ْ َوال ْ ُ
ما )(127 ن ب ِهِ عَِلي ً ه َ
كا َ ن الل ّ َ خي ْرٍ فَإ ِ ّ َ
) (1/206
) (1/206
َ
ل ل ال ْ َ
مي ْ ِ ميُلوا ك ُ ّ
م فََل ت َ ِصت ُ ْحَر ْ ساِء وَل َوْ َ ن الن ّ َ ن ت َعْدُِلوا ب َي ْ َ
طيُعوا أ ْ ست َ ِ
ن تَ ْوَل َ ْ
ما )(129 حي ً فوًرا َر ِن غَ ُ ه َ
كا َ ن الل ّ َ
قوا فَإ ِ ّحوا وَت َت ّ ُصل ِ ُ ن تُ ْ
قةِ وَإ ِ ْ معَل ّ َ
كال ْ ُ
ها َ فَت َذ َُرو َ
ميُلوا َ
م َفل ت َ ِصت ُ ْ
حَر ْساِء وَل َوْ َ ن الن ّ َ ن ت َعْدُِلوا ب َي ْ َ طيُعوا أ ْ ست َ ِ ن تَ ْ } } { 129وَل َ ْ
ما
حي ً
فوًرا َر ِ ن غَ ُكا َ ن الل ّ َ
ه َ قوا فَإ ِ ّ حوا وَت َت ّ ُ صل ِ ُ
ن تُ ْ قةِ وَإ ِ ْ معَل ّ َكال ْ ُ
ها َ ل فَت َذ َُرو َ ل ال ْ َ
مي ْ ِ كُ ّ
{.
يخبر تعالى :أن الزواج ل يستطيعون وليس في قدرتهم العدل التام بين
النساء ،وذلك لن العدل يستلزم وجود المحبة على السواء ،والداعي على
السواء ،والميل في القلب إليهن على السواء ،ثم العمل بمقتضى ذلك.
وهذا متعذر غير ممكن ،فلذلك عفا الله عما ل يستطاع ،ونهى عما هو
قةِ { أي :ل تميلوا ميل معَل ّ َكال ْ ُ
ها َ ل فَت َذ َُرو َ ل ال ْ َ
مي ْ ِ ميُلوا ك ُ ّ ممكن بقولهَ } :فل ت َ ِ
كثيرا بحيث ل تؤدون حقوقهن الواجبة ،بل افعلوا ما هو باستطاعتكم من
العدل.
فالنفقة والكسوة والقسم ونحوها عليكم أن تعدلوا بينهن فيها ،بخلف
الحب والوطء ونحو ذلك ،فإن الزوجة إذا ترك زوجها ما يجب لها ،صارت
كالمعلقة التي ل زوج لها فتستريح وتستعد للتزوج ،ول ذات زوج يقوم
بحقوقها.
حوا { ما بينكم وبين زوجاتكم ،بإجبار أنفسكم على فعل ما ل صل ِ ُن تُ ْ } وَإ ِ ْ
تهواه النفس ،احتسابا وقياما بحق الزوجة ،وتصلحوا أيضا فيما بينكم وبين
الناس ،وتصلحوا أيضا بين الناس فيما تنازعوا فيه ،وهذا يستلزم الحث
على كل طريق يوصل إلى الصلح مطلقا كما تقدم.
قوا { الله بفعل المأمور وترك المحظور ،والصبر على المقدور. } وَت َت ّ ُ
ما { يغفر ما صدر منكم من الذنوب والتقصير حي ًفوًرا َر ِ ن غَ ُ كا َ ه َ ن الل ّ َ } فَإ ِ ّ
في الحق الواجب ،ويرحمكم كما عطفتم على أزواجكم ورحمتموهن.
) (1/207
ما )(130
كي ً
ح ِ
سًعا َ ن الل ّ ُ
ه َوا ِ سعَت ِهِ وَ َ
كا َ ن َ ه ك ُّل ِ
م ْ ن الل ّ ُ
فّرَقا ي ُغْ ِ
ن ي َت َ َ
وَإ ِ ْ
ما { .كي ً
ح ِسًعا َ ن الل ّ ُ
ه َوا ِ سعَت ِهِ وَ َ
كا َ ن َ م ْكل ِ ن الل ّ ُ
ه ُ فّرَقا ي ُغْ ِ ن ي َت َ َ} } { 130وَإ ِ ْ
هذه الحالة الثالثة بين الزوجين ،إذا تعذر التفاق فإنه ل بأس بالفراق،
هّ
فّرَقا { أي :بطلق أو فسخ أو خلع أو غير ذلك } ي ُغْ ِ
ن الل ُ ن ي َت َ َ
فقال } :وَإ ِ ْ
سعَت ِهِ { أي :من فضله وإحسانه الواسع الشامل. ن َ م ْ
كل { من الزوجين } ِ ُ
فيغني الزوج بزوجة خير له منها ،ويغنيها من فضله وإن انقطع نصيبها من
زوجها ،فإن رزقها على المتكفل بأرزاق جميع الخلق ،القائم بمصالحهم،
سًعا { أي :كثير الفضل ه َوا ِ ن الل ّ ُ ولعل الله يرزقها زوجا خيرا منه } ،وَ َ
كا َ
واسع الرحمة ،وصلت رحمته وإحسانه إلى حيث وصل إليه علمه.
ما { أي :يعطي بحكمة ،ويمنع لحكمة .فإذا اقتضت كي ً
ح ِ ولكنه مع ذلك } َ
حكمته منع بعض عباده من إحسانه ،بسبب من العبد ل يستحق معه
الحسان ،حرمه عدل وحكمة.
) (1/207
صي َْنا
قد ْ وَ ّ ض وَل َ َ ما ِفي الْر ِ ت وَ َ ماَوا ِ س َ ما ِفي ال ّ } } { 132 ، 131وَل ِل ّهِ َ
َ ال ّذي ُ
ن ل ِل ّهِ َ
ما فُروا فَإ ِ ّ ن ت َك ْ ُ
ه وَإ ِ ْ قوا الل ّ َ ن ات ّ ُ مأ ِ م وَإ ِّياك ُ ْ ن قَب ْل ِك ُ ْم ْب ِ ن أوُتوا ال ْك َِتا َ ِ َ
ما ِفي ّ
دا * وَل ِلهِ َ مي ً ح ِ َ
ه غن ِّيا َ ّ
ن الل ُ َ
ض وَكا َ ما ِفي الْر ِ ت وَ َ ماَوا ِ س َ ِفي ال ّ
كيل { . ّ
فى ِباللهِ وَ ِ َ
ض وَك َ ما ِفي الْر ِ ت وَ َماَوا ِ س َال ّ
يخبر تعالى عن عموم ملكه العظيم الواسع المستلزم تدبيره بجميع أنواع
التدبير ،وتصرفه بأنواع التصريف قدرا وشرعا ،فتصرفه الشرعي أن وصى
الولين والخرين أهل الكتب السابقة واللحقة بالتقوى المتضمنة للمر
والنهي ،وتشريع الحكام ،والمجازاة لمن قام بهذه الوصية بالثواب،
فُروا { ن ت َك ْ ُ
والمعاقبة لمن أهملها وضيعها بأليم العذاب ،ولهذا قال } :وَإ ِ ْ
بأن تتركوا تقوى الله ،وتشركوا بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا ،فإنكم
ل تضرون بذلك إل أنفسكم ،ول تضرون الله شيئا ول تنقصون ملكه ،وله
عبيد خير منكم وأعظم وأكثر ،مطيعون له خاضعون لمره .ولهذا رتب
ض
ما ِفي الْر ِ ت وَ َ ماَوا ِ س َ ما ِفي ال ّ ن ل ِل ّهِ َ فُروا فَإ ِ ّ ن ت َك ْ ُ
على ذلك قوله } :وَإ ِ ْ
دا { له الجود الكامل والحسان ] ص [ 208الشامل مي ً ه غَن ِّيا َ
ح ِ ن الل ّ ُ وَ َ
كا َ
الصادر من خزائن رحمته التي ل ينقصها النفاق ول يغيضها نفقة ،سحاء
الليل والنهار ،لو اجتمع أهل السماوات وأهل الرض أولهم وآخرهم ،فسأل
كل ]واحد[ منهم ما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه شيئا ،ذلك بأنه جواد
واجد ماجد ،عطاؤه كلم وعذابه كلم ،إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول
له كن فيكون.
ومن تمام غناه أنه كامل الوصاف ،إذ لو كان فيه نقص بوجه من الوجوه،
لكان فيه نوع افتقار إلى ذلك الكمال ،بل له كل صفة كمال ،ومن تلك
الصفة كمالها ،ومن تمام غناه أنه لم يتخذ صاحبة ول ولدا ،ول شريكا في
ملكه ول ظهيرا ،ول معاونا له على شيء من تدابير ملكه.
ومن كمال غناه افتقار العالم العلوي والسفلي في جميع أحوالهم
وشئونهم إليه وسؤالهم إياه جميع حوائجهم الدقيقة والجليلة ،فقام تعالى
ن عليهم بلطفه وهداهم. م ّ
بتلك المطالب والسئلة وأغناهم وأقناهم ،و َ
وأما الحميد فهو من أسماء الله تعالى الجليلة الدال على أنه ]هو[
المستحق لكل حمد ومحبة وثناء وإكرام ،وذلك لما اتصف به من صفات
الحمد ،التي هي صفة الجمال والجلل ،ولما أنعم به على خلقه من الّنعم
الجزال ،فهو المحمود على كل حال.
ميد ُ { !! فإنه غني ي ال ْ َ
ح ِ وما أحسن اقتران هذين السمين الكريمين } ال ْغَن ِ ّ
محمود ،فله كمال من غناه ،وكمال من حمده ،وكمال من اقتران أحدهما
بالخر.
ثم كرر إحاطة ملكه لما في السماوات وما في الرض ،وأنه على كل
شيء وكيل ،أي :عالم قائم بتدبير الشياء على وجه الحكمة ،فإن ذلك من
تمام الوكالة ،فإن الوكالة تستلزم العلم بما هو وكيل عليه ،والقوة والقدرة
على تنفيذه وتدبيره ،وكون ذلك التدبير على وجه الحكمة والمصلحة ،فما
نقص من ذلك فهو لنقص بالوكيل ،والله تعالى منزه عن كل نقص.
) (1/207
) (1/208
م أ َِوسك ُ ْف ِداَء ل ِل ّهِ وَل َوْ عََلى أ َن ْ ُ شه َ َط ُس ِ ن ِبال ْ ِ
ق ْ مي َ كوُنوا قَ ّ
وا ِ مُنوا ُ ذي َ
نآ َ
َ
َيا أي َّها ال ّ ِ َ
ال ْوال ِدين واْل َقْربين إن يك ُن غَن ِيا أ َو فَقيرا َفالل ّ َ
وى ما فََل ت َت ّب ُِعوا ال ْهَ َ
ه أوَْلى ب ِهِ َ ُ ّ ْ ِ ً َ ِ َ ِ ْ َ ْ َ َْ ِ َ
ُ ّ َ ْ َ
خِبيًرا )(135 ن َملو َ ما ت َعْ َن بِ َ َ
ه كا َن الل َ ضوا فَإ ِ ّووا أوْ ت ُعْرِ ُ
ن ت َل ُن ت َعْدُِلوا وَإ ِ ْ أ ْ
َ
ط
س ِ ق ْ ن ِبال ْ ِمي َ وا ِكوُنوا قَ ّ مُنوا ُ نآ َ ذي َ } .{ 135ثم قال تعالىَ } :يا أي َّها ال ّ ِ
َ فسك ُ َ َ
ن غَن ِّيا أوْ فَ ِ
قيًرا ن ي َك ُ ْ ن إِ ْ ن َوالقَْرِبي َ ِ وال ِد َي ْم أ و ِ ال ْ َ داَء ل ِل ّهِ وَل َوْ عََلى أن ْ ُ ِ ْ شه َ َُ
هّ َ َ ْ ُ َ ْ َ َ َ ّ
ن الل َ ضوا فإ ِ ّ ووا أوْ ت ُعْرِ ُ ن ت َل ُ ن ت َعْدِلوا وَإ ِ ْ وى أ ْ ما فل ت َت ّب ُِعوا الهَ َ ه أوْلى ب ِهِ َ َفالل ُ
خِبيًرا { . ن َ مُلو َ ما ت َعْ َن بِ َ كا ََ
داَء ل ِل ّهِ { شه َ َط ُ س ِ ق ْ ن ِبال ْ ِ مي َ يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا } قَ ّ
وا ِ
وام صيغة مبالغة ،أي :كونوا في كل أحوالكم قائمين بالقسط الذي هو والق ّ
العدل في حقوق الله وحقوق عباده ،فالقسط في حقوق الله أن ل
يستعان بنعمه على معصيته ،بل تصرف في طاعته.
والقسط في حقوق الدميين أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك ) (1كما
تطلب حقوقك .فتؤدي النفقات الواجبة ،والديون ،وتعامل الناس بما تحب
أن يعاملوك به ،من الخلق والمكافأة وغير ذلك.
ومن أعظم أنواع القسط القسط في المقالت والقائلين ،فل يحكم لحد
القولين أو أحد المتنازعين لنتسابه أو ميله لحدهما ،بل يجعل وجهته
العدل بينهما ،ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان،
داَء ل ِل ّهِ وَل َوْ عََلى شه َ َ حتى على الحباب بل على النفس ،ولهذا قالُ } :
َ َ فسك ُ َ َ
ما { أي: ه أوَْلى ب ِهِ َ قيًرا َفالل ّ ُ ن غَن ِّيا أوْ فَ ِ ن ي َك ُ ْ ن إِ ْ ن َوالقَْرِبي َ وال ِد َي ْ ِم أوِ ال ْ َ أن ْ ُ ِ ْ
فل تراعوا الغني لغناه ،ول الفقير بزعمكم رحمة له ،بل اشهدوا بالحق
على من كان.
والقيام بالقسط من أعظم المور وأدل على دين القائم به ،وورعه
ومقامه في السلم ،فيتعين على من نصح نفسه وأراد نجاتها أن يهتم له
صب عينيه ] ،ص [ 209ومحل إرادته ،وأن غاية الهتمام ،وأن يجعله ن ُ ْ
يزيل عن نفسه كل مانع وعائق يعوقه عن إرادة القسط أو العمل به.
وأعظم عائق لذلك اتباع الهوى ،ولهذا نبه تعالى على إزالة هذا المانع
ن ت َعْدُِلوا { أي :فل تتبعوا شهوات أنفسكم َ
وى أ ْ بقولهَ } :فل ت َت ّب ُِعوا ال ْهَ َ
المعارضة للحق ،فإنكم إن اتبعتموها عدلتم عن الصواب ،ولم توفقوا
للعدل ،فإن الهوى إما أن يعمي بصيرة صاحبه حتى يرى الحق باطل
والباطل حقا ،وإما أن يعرف الحق ويتركه لجل هواه ،فمن سلم من هوى
نفسه وفق للحق وهدي إلى الصراط المستقيم.
ولما بّين أن الواجب القيام بالقسط نهى عن ما يضاد ذلك ،وهو لي
اللسان عن الحق في الشهادات وغيرها ،وتحريف النطق عن الصواب
المقصود من كل وجه ،أو من بعض الوجوه ،ويدخل في ذلك تحريف
الشهادة وعدم تكميلها ،أو تأويل الشاهد على أمر آخر ،فإن هذا من اللي
ضوا { أي :تتركوا القسط المنوط بكم، َ
لنه النحراف عن الحق } .أوْ ت ُعْرِ ُ
كترك الشاهد لشهادته ،وترك الحاكم لحكمه الذي يجب عليه القيام به.
خِبيًرا { أي :محيط بما فعلتم ،يعلم أعمالكم ن َ مُلو َ ما ت َعْ َن بِ َ كا َ ه َ ن الل ّ َ } فَإ ِ ّ
خفيها وجليها ،وفي هذا تهديد شديد للذي يلوي أو يعرض .ومن باب أولى
وأحرى الذي يحكم بالباطل أو يشهد بالزور ،لنه أعظم جرما ،لن الولين
تركا الحق ،وهذا ترك الحق وقام بالباطل.
__________
) (1في النسختين :الذي عليك.
) (1/208
َ
ل عََلى َر ُ
سول ِهِ ذي ن َّز َ ب ال ّ ِسول ِهِ َوال ْك َِتا ِ مُنوا ِبالل ّهِ وََر ُ مُنوا آ َ ِ ذي َ
نآ ََيا أي َّها ال ّ ِ َ
ْ مَلئ ِك َت ِهِ وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُ
سل ِهِ َوالي َوْم ِ فْر ِبالل ّهِ وَ َن ي َك ْ ُ
م ْ
ل وَ َن قَب ْ ُم ْ ل ِ ذي أ َن َْز َ ب ال ّ ِ َوال ْك َِتا ِ
دا )(136 ضَلًل ب َِعي ً ل َ ض ّ
قد ْ َ خرِ فَ َ اْل َ ِ
ل عََلى َ
ذي ن َّز َ ب ال ّ ِسول ِهِ َوال ْك َِتا ِ مُنوا ِبالل ّهِ وََر ُ مُنوا آ ِ نآ َ ذي َ } َ } { 136يا أي َّها ال ّ ِ
ه
سل ِ ِملئ ِك َت ِهِ وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُ فْر ِبالل ّهِ وَ َ ن ي َك ْ ُم ْ ل وَ َ ن قَب ْ ُم ْ ل ِ ذي أ َن َْز َ ب ال ّ ِ سول ِهِ َوال ْك َِتا ِ َر ُ
دا { . ضلل ب َِعي ً ل َ ض ّ قد ْ َ خرِ فَ َ َوال ْي َوْم ِ ال ِ
اعلم أن المر إما أن يوجه إلى من لم يدخل في الشيء ولم يتصف
بشيء منه ،فهذا يكون أمرا له في الدخول فيه ،وذلك كأمر من ليس
ْ بمؤمن باليمان ،كقوله تعالى } :يأ َيها ال ّذي ُ
ما نزلَنا مُنوا ب ِ َ بآ ِ ن أوُتوا ال ْك َِتا َ ِ َ َ َّ
م { الية. معَك ُ ْ ما َ صد ًّقا ل ّ َ
م َ ُ
وإما أن يوجه إلى من دخل في الشيء فهذا يكون أمره ليصحح ما وجد
منه ويحصل ما لم يوجد ،ومنه ما ذكره الله في هذه الية من أمر
المؤمنين باليمان ،فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم من الخلص
والصدق ،وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات.
ويقتضي أيضا المر بما لم يوجد من المؤمن من علوم اليمان وأعماله،
فإنه كلما وصل إليه نص وفهم معناه واعتقده فإن ذلك من اليمان
المأمور به.
وكذلك سائر العمال الظاهرة والباطنة ،كلها من اليمان كما دلت على
ذلك النصوص الكثيرة ،وأجمع عليه سلف المة.
َ
ثم الستمرار على ذلك والثبات عليه إلى الممات كما قال تعالى } :ي َأي َّها
َ
ن { وأمر هنا مو َ سل ِ ُم ْن ِإل وَأنُتم ّ موت ُ ّ قات ِهِ َول ت َ ُ حق ّ ت ُ َ ه َ قوا الل ّ َ مُنوا ات ّ ُ نآ َذي َ ال ّ ِ
باليمان به وبرسوله ،وبالقرآن وبالكتب المتقدمة ،فهذا كله من اليمان
الواجب الذي ل يكون العبد مؤمنا إل به ،إجمال فيما لم يصل إليه تفصيله
وتفصيل فيما علم من ذلك بالتفصيل ،فمن آمن هذا اليمان المأمور به،
ر
خ ِ سل ِهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ ملئ ِك َت ِهِ وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُ فْر ِبالل ّهِ وَ َ من ي َك ْ ُ فقد اهتدى وأنجح } .وَ َ
دا { وأي ضلل أبعد من ضلل من ترك طريق الهدى ضلل ب َِعي ً ل َ ض ّقد ْ َ فَ َ
المستقيم ،وسلك الطريق الموصلة له إلى العذاب الليم؟"
واعلم أن الكفر بشيء من هذه المذكورات كالكفر بجميعها ،لتلزمها
وامتناع وجود اليمان ببعضها دون بعض ،ثم قال:
) (1/209
فروا ث ُ َ ذي َ
ن الل ّ ُ
ه فًرا ل َ ْ
م ي َك ُ ِ دوا ك ُ ْ
دا ُ
م اْز َ م كَ َ
فُروا ث ُ ّ مُنوا ث ُ ّ
مآ َّ م كَ َ ُ مُنوا ث ُ ّنآ َ ن ال ّ ِ َإِ ّ
سِبيل )(137 ً م َ َ
م وَل ل ِي َهْدِي َهُ ْ َ
فَر لهُ ْل ِي َغْ ِ
فًرادوا ك ُ ْدا ُ
م اْز َ فُروا ث ُ ّم كَ َ
مُنوا ث ُ ّ
مآ َ فُروا ث ُ ّ م كَ َمُنوا ث ُ ّنآ َ ذي َ ن ال ّ ِ} } { 137إ ِ ّ
َ ن الل ّ ُ لَ ْ
سِبيل { . م َم َول ل ِي َهْدِي َهُ ْ
فَر لهُ ْ ه ل ِي َغْ ِ م ي َك ُ ِ
أي :من تكرر منه الكفر بعد اليمان فاهتدى ثم ضل ،وأبصر ثم عمي،
وآمن ثم كفر واستمر على كفره وازداد منه ،فإنه بعيد من التوفيق
والهداية لقوم الطريق ،وبعيد من المغفرة لكونه أتى بأعظم مانع يمنعه
َ
من حصولها .فإن كفره يكون عقوبة وطبًعا ل يزول كما قال تعالى } :فَل ّ
ما
َ َ زا ُ َ
ه ما ل َ ْ
م ي ُؤْ ِ
مُنوا ب ِ ِ م كَ َ
صاَرهُ ْم وَأب ْ َب أفْئ ِد َت َهُ ْقل ّ ُ
م { } وَن ُ َ ه قُُلوب َهُ ْ غوا أَزاغَ الل ّ ُ َ
مّرةٍ { ودلت الية :أنهم إن لم يزدادوا كفرا بل رجعوا إلى اليمان، لَ َ
َ أ ّ
و
وتركوا ما هم عليه من الكفران ،فإن الله يغفر لهم ،ولو تكررت منهم
الردة.
وإذا كان هذا الحكم في الكفر فغيره من المعاصي التي دونه من باب
أولى أن العبد لو تكررت منه ثم عاد إلى التوبة ،عاد الله له بالمغفرة.
) (1/209
) (1/209
ست َهَْزأ ُ ب َِها ت الل ّهِ ي ُك ْ َ
فُر ب َِها وَي ُ ْ م آ ََيا ِ
معْت ُ ْس ِذا َ ن إِ َ َ
بأ ْ م ِفي ال ْك َِتا ِ ل عَل َي ْك ُ ْوَقَد ْ ن َّز َ
هّ
ن الل َ م إِ ّ ُ
مث ْلهُ ْ
ذا ِ م إِ ً ُ
ث غَي ْرِهِ إ ِن ّك ْدي ٍ ح ِضوا ِفي َ خو ُ حّتى ي َ ُ م َ معَهُ ْ دوا َ فََل ت َ ْ
قع ُ ُ
ميًعا )(140 ج ِم َ جهَن ّ َ ن ِفي َ ري َكافِ ِ ن َوال ْ َقي َ مَنافِ ِ معُ ال ْ ُ جا ِ
َ
َ
ت الل ّ ِ
ه م آَيا ِ معْت ُ ْس ِ ذا َ ن إِ َ بأ ْ م ِفي ال ْك َِتا ِ ل عَل َي ْك ُ ْ } } { 141 ، 140وَقَد ْ ن َّز َ
ث غَي ْرِهِ إ ِن ّك ُ ْ
م دي ٍ ح ِ ضوا ِفي َ خو ُ حّتى ي َ ُ م َ معَهُ ْ دوا َ قع ُ ُ ست َهَْزأ ُ ب َِها َفل ت َ ْ فُر ب َِها وَي ُ ْ ي ُك ْ َ
ميًعا { . ج ِ م َ جهَن ّ َ ن ِفي َ ري َ كافِ ِ ن َوال ْ َ قي َ مَنافِ ِ معُ ال ْ ُ جا ِ
ه َ ن الل ّ َ م إِ ّ مث ْل ُهُ ْذا ِ إِ ً
أي :وقد بّين الله لكم فيما أنزل عليكم حكمه الشرعي عند حضور
فر بها ويستهزأ ُ َ
ت الل ّهِ ي ُك ْ َ ُ ِ َ َ ُ ْ َ ْ َ م آَيا ِ معْت ُ ْ س ِ ذا َ ن إِ َ مجالس الكفر والمعاصي } أ ْ
ب َِها { أي :يستهان بها .وذلك أن الواجب على كل مكلف في آيات الله
اليمان بها وتعظيمها وإجللها وتفخيمها ،وهذا المقصود بإنزالها ،وهو الذي
خْلق لجله ،فضد اليمان الكفر بها ،وضد تعظيمها الستهزاء بها خَلق الله ال َ َ
واحتقارها ،ويدخل في ذلك مجادلة الكفار والمنافقين لبطال آيات الله
ونصر كفرهم.
وكذلك المبتدعون على اختلف أنواعهم ،فإن احتجاجهم على باطلهم
يتضمن الستهانة بآيات الله لنها ل تدل إل على حق ،ول تستلزم إل صدقا،
بل وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها
بأوامر الله ونواهيه ،وتقتحم حدوده التي حدها لعباده ومنتهى هذا النهي
ث غَي ْرِهِ { أي :غير الكفر بآيات دي ٍ ح ِ ضوا ِفي َ خو ُ حّتى ي َ ُ عن القعود معهم } َ
الله والستهزاء بها.
م { لنكم ُ
مث ْلهُ ْ ذا { أي :إن قعدتم معهم في الحال المذكورة } ِ م إِ ً } إ ِن ّك ُ ْ
رضيتم بكفرهم واستهزائهم ،والراضي بالمعصية كالفاعل لها ،والحاصل أن
من حضر مجلسا يعصى الله به ،فإنه يتعين عليه النكار عليهم مع القدرة،
أو القيام مع عدمها.
ميًعا { كما اجتمعوا على ج ِ م َ جهَن ّ َن ِفي َ ري َ َ
ن َوالكافِ ِ ْ قي َ مَنافِ ِمعُ ال ْ ُ جا ِ ه َ ن الل ّ َ } إِ ّ
الكفر والموالة ول ينفع الكافرين ) (1مجرد كونهم في الظاهر مع
مُنوا نآ َ ت ل ِل ّ ِ
ذي َ قا ُ مَنافِ َن َوال ْ ُ قو َ مَنافِ ُ ل ال ْ ُ قو ُ م يَ ُ المؤمنين كما قال تعالى } :ي َوْ َ
م { إلى آخر اليات. من ّنورِك ُ ْ س ِ انظ ُُروَنا ن َ ْ
قت َب ِ ْ
__________
) (1في ب :المنافقين.
) (1/210
َ
ن
م وَإ ِ ْمعَك ُ ْن َ م ن َك ُ ْ ن الل ّهِ َقاُلوا أل َ ْ م َ ح ِ م فَت ْ ٌ ن ل َك ُ ْكا َ ن َ م فَإ ِ ْن ب ِك ُ ْصو َ ن ي َت ََرب ّ ُ ذي َ ال ّ ِ
َ
ن َفالل ّ ُ
ه مِني َمؤْ ِن ال ْ ُ م َ م ِ من َعْك ُ ْ
م وَن َ ْحوِذ ْ عَل َي ْك ُ ْ ست َ ْ
م نَ ْ ب َقاُلوا أل َ ْ صي ٌ ن نَ ِري َ كافِ ِ ن ل ِل ْ َ كا َ َ
سِبيًل ) ن َ مِني َ مؤْ ِن عََلى ال ْ ُ ري َ كافِ ِ ه ل ِل ْ َل الل ّ ُ جع َ َن يَ ْ مةِ وَل َ ْقَيا َم ال ْ ِ
م ي َوْ َم ب َي ْن َك ُ ْ حك ُ ُ يَ ْ
(141
َ
ن
م وَإ ِ ْمعَك ُ ْ
ن َ م ن َك ُ ْن الل ّهِ َقاُلوا أل َ ْ م َ ح ِ م فَت ْ ٌ ن ل َك ُ ْكا َن َ م فَإ ِ ْن ب ِك ُ ْصو َ ن ي َت ََرب ّ ُ ذي َ } ال ّ ِ
َ
ن َفالل ّ ُ
ه مِني َمؤْ ِن ال ْ ُم َ م ِ من َعْك ُ ْ
م وَن َ ْحوِذ ْ عَل َي ْك ُ ْ ست َ ْم نَ ْ ب َقاُلوا أل َ ْ صي ٌ ن نَ ِري َ كافِ ِ ن ل ِل ْ َ كا ََ
سِبيل { . ن َ مِني َ مؤْ ِن عََلى ال ْ ُ ري َ كافِ ِ ه ل ِل ْ َ ل الل ّ ُ جع َ َ
ن يَ ْ مةِ وَل َ ْقَيا َم ال ْ ِم ي َوْ َم ب َي ْن َك ُ ْ حك ُ ُيَ ْ
ثم ذكر تحقيق موالة المنافقين للكافرين ومعاداتهم للمؤمنين فقال:
م { أي :ينتظرون الحالة التي تصيرون عليها ،وتنتهون ن ب ِك ُ ْ صو َ ن ي َت ََرب ّ ُذي َ } ال ّ ِ
ن إليها من خير أو شر ،قد أعدوا لكل حالة جوابا بحسب نفاقهم } .فَِإن َ
كا َ
َ
م { فيظهرون أنهم مع المؤمنين معَك ُ ْكن ّ م نَ ُ ن الل ّهِ َقاُلوا أل َ ْ م َ ح ّ م فَت ْ ٌ ل َك ُ ْ
ظاهرا وباطنا ليسلموا من القدح والطعن عليهم ،وليشركوهم في الغنيمة
والفيء ولينتصروا بهم.
ب { ولم يقل فتح؛ لنه ل يحصل لهم فتح ،يكون صي ٌ ن نَ ِ ري َ كافِ ِ ن ل ِل ْ َ
كا َ } وَِإن َ
مبدأ لنصرتهم المستمرة ،بل غاية ما يكون أن يكون لهم نصيب غير
َ
م { أي: حوِذ ْ عَل َي ْك ُ ْ
ست َ ْ مستقر ،حكمة من الله .فإذا كان ذلك } َقاُلوا أل َ ْ
م نَ ْ
ن { أي :يتصنعون عندهم بكف مِني َمؤْ ِن ال ْ ُ
م َ كم ّ من َعْ ُ نستولي عليكم } وَن َ ْ
أيديهم عنهم مع القدرة ،ومنعهم من المؤمنين بجميع وجوه المنع في
تفنيدهم وتزهيدهم في القتال ،ومظاهرة العداء عليهم ،وغير ذلك مما هو
معروف منهم.
مةِ { فيجازي المؤمنين ظاهرا وباطنا بالجنة، قَيا َ ْ
م ال ِ م ي َوْ َ ُ
م ب َي ْن َك ْحك ُ ُ ه يَ ْ } َفالل ّ ُ
ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات.
) (1/210
صَلةِ َقا ُ
موا موا إ َِلى ال ّ ذا َقا ُم وَإ ِ َ خادِعُهُ ْ ه وَهُوَ َ ن الل ّ َ
عو َ خادِ ُ
ن يُ َ
قي َ ن ال ْ ُ
مَنافِ ِ إِ ّ
ك لَ
ن ذ َل ِ َن ب َي ْ َ ً
ه إ ِل قَِليل )ُ (142
مذ َب ْذ َِبي َ ّ ّ
ن الل َ ُ َ
س وَل ي َذ ْكُرو َ ن الّنا َ َ
سالى ي َُراُءو َ كُ َ
سِبيًل )(143 جد َ ل َ ُ
ه َ ن تَ ِ ه فَل َ ْ ل الل ّ ُ
ضل ِ ِ
ن يُ ْم ْإ َِلى هَؤَُلِء وََل إ َِلى هَؤَُلِء وَ َ
سِبيل { أي :تسلطا واستيلء ن َ مِني َمؤْ ِن عََلى ال ْ ُ ري َ كافِ ِ ه ل ِل ْ َ
ل الل ّ ُ جع َ َ } وََلن ي َ ْ
عليهم ،بل ل تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة ،ل يضرهم من
خذلهم ول من خالفهم ،ول يزال الله يحدث من أسباب النصر للمؤمنين،
ودفٍع لتسلط الكافرين ،ما هو مشهود بالعيان .حتى إن ]بعض[ )(1
المسلمين الذين تحكمهم الطوائف الكافرة ،قد بقوا محترمين ل يتعرضون
لديانهم ول يكونون مستصغرين عندهم ،بل لهم العز التام من الله ،فله )
(2الحمد أّول وآخًرا ،وظاهًرا وباطًنا ] .ص [ 211
موا ذا َقا ُ م وَإ ِ َ خادِعُهُ ْ ه وَهُوَ َ ن الل ّ َ عو َ خادِ ُن يُ َ قي َ مَنافِ ِن ال ْ ُ } } { 143 ، 142إ ِ ّ
ه ِإل قَِليل * ّ
ن الل َ س َول ي َذ ْك ُُرو َ ن الّنا َ سالى ي َُراُءو َ َ موا ك ُ َ صلةِ َقا ُ إ َِلى ال ّ
جد َ ل َ ُ
ه ن تَ ِه فَل َ ْ ل الل ّ ُ ضل ِ ِ
ن يُ ْم ْ ؤلِء وَ َ ؤلِء َول إ َِلى هَ ُ ك ل إ َِلى هَ ُ ن ذ َل ِ َ ن ب َي ْ َ مذ َب ْذ َِبي َ ُ
سِبيل { . َ
يخبر تعالى عن المنافقين بما كانوا عليه ،من قبيح الصفات وشنائع
السمات ،وأن طريقتهم مخادعة الله تعالى ،أي :بما أظهروه من اليمان
وأبطنوه من الكفران ،ظنوا أنه يروج على الله ول يعلمه ول يبديه لعباده،
والحال أن الله خادعهم ،فمجرد وجود هذه الحال منهم ومشيهم عليها،
خداع لنفسهم .وأي خداع أعظم ممن يسعى سعًيا يعود عليه بالهوان
والذل والحرمان؟"
ويدل بمجرده على نقص عقل صاحبه ،حيث جمع بين المعصية ،ورآها
حسنة ،وظنها من العقل والمكر ،فلله ما يصنع الجهل والخذلن بصاحبه.
لقو ُ م يَ ُ ومن خداعه لهم يوم القيامة ما ذكره الله في قوله } :ي َوْ َ
جُعوا ل اْر ِ م ِقي َ ُ
من ّنورِك ْ س ِقت َب ِ ْ مُنوا انظ ُُروَنا ن َ ْ نآ َ ذي َ ت ل ِل ّ ِ قا ُ مَنافِ َ ن َوال ْ ُ قو َ مَنافِ ُ ال ْ ُ
ة
م ُ
ح َ ه ِفيهِ الّر ْ ب َباط ِن ُ ُ ه َبا ٌ سورٍ ل َ ُ ب ب َي ْن َُهم ب ِ ُ ضرِ َ سوا ُنوًرا فَ ُ م ُ م َفال ْت َ ِ وََراَءك ُ ْ
َ
م { ......إلى آخر اليات. معَك ُ ْن َ م ن َك ُ ْ م أل َ ْدون َهُ ْ ب ي َُنا ُ ذا ُ من قِب َل ِهِ ال ْعَ َ ظاهُِرهُ ِ وَ َ
صلةِ { -إن قاموا -التي هي أكبر موا إ َِلى ال ّ ذا َقا ُ " وَ " من صفاتهم أنهم } إ ِ َ
سالى { متثاقلين لها متبرمين من فعلها، َ موا ك ُ َ الطاعات العملية } َقا ُ
والكسل ل يكون إل من فقد الرغبة من قلوبهم ،فلول أن قلوبهم فارغة
من الرغبة إلى الله وإلى ما عنده ،عادمة لليمان ،لم يصدر منهم الكسل،
س { أي :هذا الذي انطوت عليه سرائرهم وهذا مصدر ن الّنا َ } ي َُراُءو َ
أعمالهم ،مراءاة الناس ،يقصدون رؤية الناس وتعظيمهم واحترامهم ول
ه ِإل قَِليل { لمتلء قلوبهم من الرياء، ن الل ّ َيخلصون لله ،فلهذا } ل ي َذ ْك ُُرو َ
فإن ذكر الله تعالى وملزمته ل يكون إل من مؤمن ممتلئ قلبه بمحبة الله
وعظمته.
ؤلِء { أي :مترددين بين فريق َ
ؤلِء َول إ ِلى هَ ُ َ
ن ذ َل ِك ل إ ِلى هَ ُ َ ن ب َي ْ َ مذ َب ْذ َِبي َ
} ُ
المؤمنين وفريق الكافرين .فل من المؤمنين ظاهرا وباطنا ،ول من
الكافرين ظاهرا وباطنا .أعطوا باطنهم للكافرين وظاهرهم للمؤمنين،
سِبيل {ه َ جد َ ل َ ُ
ه فََلن ت َ ِ ل الل ّ ُضل ِ ِمن ي ُ ْ وهذا أعظم ضلل يقدر .ولهذا قال } :وَ َ
أي :لن تجد طريقا لهدايته ول وسيلة لترك غوايته ،لنه انغلق عنه باب
الرحمة ،وصار بدله كل نقمة.
فهذه الوصاف المذمومة تدل بتنبيهها على أن المؤمنين متصفون بضدها،
من الصدق ظاهرا وباطنا ،والخلص ،وأنهم ل يجهل ما عندهم ،ونشاطهم
في صلتهم وعباداتهم ،وكثرة ذكرهم لله تعالى .وأنهم قد هداهم الله
ووفقهم للصراط المستقيم .فليعرض العاقل نفسه على هذين المرين
وليختر أيهما أولى به ،وبالله ) (3المستعان.
__________
) (1زيادة من هامش ب.
) (2في ب :فلله.
) (3في ب :والله.
) (1/210
جد َ ن تَ ِ ن الّنارِ وَل َ ْ م َ ل ِ ف ِ س َ ك ال ْ ن ِفي الد ّْر ِ قي َ مَنافِ ِ ن ال ْ ُ } } { 147 - 145إ ِ ّ
م ل ِلهِّ َ َ ّ َ َ
صوا ِدين َهُ ْ خل ُ موا ِباللهِ وَأ ْ ص ُ حوا َواعْت َ َ صل ُ ن َتاُبوا وَأ ْ ذي َ صيًرا * ِإل ال ّ ِ م نَ ِ ل َهُ ْ
فع َ ُ
ل ما ي َ ْ ما * َ ظي ً
جًرا عَ ِ نأ ْ
ف يؤْت الل ّه ال ْمؤْمِني َ
ُ ُ ِ َ سوْ َ ُ ِ ن وَ َ مِني َ مؤْ ِ معَ ال ْ ُ ك َ فَُأول َئ ِ َ
ما { . شاك ًِرا عَِلي ً ه َ ن الل ّ ُ كا َم وَ َ من ْت ُ ْ م َوآ َ شك َْرت ُ ْ ن َ م إِ ْ ذاب ِك ُ ْه ب ِعَ َ الل ّ ُ
يخبر تعالى عن مآل المنافقين أنهم في أسفل الدركات من العذاب ،وأشر
الحالت من العقاب .فهم تحت سائر الكفار لنهم شاركوهم بالكفر بالله
ومعاداة رسله ،وزادوا عليهم المكر والخديعة والتمكن من كثير من أنواع
العداوة للمؤمنين ،على وجه ل يشعر به ول يحس .ورتبوا على ذلك جريان
أحكام السلم عليهم ،واستحقاق ما ل يستحقونه ،فبذلك ونحوه استحقوا
أشد العذاب ،وليس لهم منقذ من عذابه ول ناصر يدفع عنهم بعض عقابه،
ن الله عليهم بالتوبة من السيئات. م ّ ن َ م ْ وهذا عام لكل منافق إل َ
ّ َ
موا ِباللهِ { والتجأوا إليه في ص ُ حوا { له الظواهر والبواطن } َواعْت َ َ صل َ ُ} وَأ ْ
م { الذي هو السلم صوا ِدين َهُ ْ خل َ ُ جلب منافعهم ودفع المضار عنهم } .وَأ َ ْ
واليمان والحسان } ل ِل ّهِ { .
موا من الرياء والنفاق، فقصدوا وجه الله بأعمالهم الظاهرة والباطنة وسل ِ ُ
ن { أي :في الدنيا، مِني َمؤْ ِ معَ ال ْ ُ ك َ فمن اتصف بهذه الصفات } فَُأول َئ ِ َ
ما { ل يعلم ف يؤْت الل ّه ال ْمؤْمِني َ
ظي ً
جًرا عَ ِ نأ ْ ُ ُ ِ َ سوْ َ ُ ِ والبرزخ ،ويوم القيامة } وَ َ
كنهه ] ص [ 212إل الله ،مما ل عين رأت ،ول أذن سمعت ،ول خطر على
قلب بشر .وتأمل كيف خص العتصام والخلص بالذكر ،مع دخولهما في
َ
حوا { لن العتصام والخلص من جملة الصلح ،لشدة صل َ ُقوله } :وَأ ْ
الحاجة إليهما خصوصا في هذا المقام الحرج الذي يمكن من القلوب
النفاق ،فل يزيله إل شدة العتصام بالله ،ودوام اللجأ والفتقار إليه في
ف
دفعه ،وكون الخلص منافيا كل المنافاة للنفاق ،فذكرهما لفضلهما وتوق ِ
العمال الظاهرة والباطنة عليهما ،ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما.
وتأمل كيف لما ذكر أن هؤلء مع المؤمنين لم يقل :وسوف يؤتيهم أجرا
جًرا ف يؤْت الل ّه ال ْمؤْمِني َ
نأ ْ ُ ُ ِ َ سوْ َ ُ ِ عظيما ،مع أن السياق فيهم .بل قال } :وَ َ
ما { لن هذه القاعدة الشريفة -لم يزل الله يبدئ فيها ويعيد ،إذا كان ظي ً عَ ِ
السياق في بعض الجزئيات ،وأراد أن يرتب ) (1عليه ثواًبا أو عقابا وكان
كا بينه وبين الجنس الداخل فيه ،رتب الثواب في مقابلة الحكم ذلك مشتر ً
العام الذي تندرج تحته تلك القضية وغيرها ،ولئل يتوهم اختصاص الحكم
بالمر الجزئي ،فهذا من أسرار القرآن البديعة ،فالتائب من المنافقين مع
المؤمنين وله ثوابهم.
ماثم أخبر تعالى عن كمال غناه وسعة حلمه ورحمته وإحسانه فقالَ } :
م { والحال أن الله شاكر عليم .يعطي منت ُ ْ م َوآ َ شك َْرت ُ ْ م ِإن َ ذاب ِك ُ ْه ب ِعَ َ ل الل ّ ُ فع َ ُ يَ ْ
المتحملين لجله الثقال ،الدائبين في العمال ،جزيل الثواب وواسع
الحسان .ومن ترك شيًئا لله أعطاه الله خيًرا منه.
ومع هذا يعلم ظاهركم وباطنكم ،وأعمالكم وما تصدر عنه من إخلص
وصدق ،وضد ذلك .وهو يريد منكم التوبة والنابة والرجوع إليه ،فإذا أنبتم
إليه ،فأي شيء يفعل بعذابكم؟ فإنه ل يتشفى بعذابكم ،ول ينتفع بعقابكم،
بل العاصي ل يضر إل نفسه ،كما أن عمل المطيع لنفسه.
والشكر هو خضوع القلب واعترافه بنعمة الله ،وثناء اللسان على
المشكور ،وعمل الجوارح بطاعته وأن ل يستعين بنعمه على معاصيه.
__________
) (1غي ب :يترتب.
) (1/211
ن م وَ َ
كا َ ن ظ ُل ِ َ م ْ
ل ِإل َ قوْ ِ ن ال ْ َ م َ سوءِ ِ جهَْر ِبال ّ ه ال ْ َ ب الل ّ ُح ّ } } { 149 ، 148ل ي ُ ِ
هّ َ َ
ن الل َ سوٍء فَإ ِ ّ ن ُ فوا عَ ْ فوهُ أوْ ت َعْ ُ خ ُ خي ًْرا أوْ ت ُ ْ دوا َ ن ت ُب ْ ُ ما * إ ِ ْ ميًعا عَِلي ً س ِ ه َ الل ّ ُ
ديًرا { . وا قَ ِ
ف ّن عَ ُ كا َ َ
يخبر تعالى أنه ل يحب الجهر بالسوء من القول ،أي :يبغض ذلك ويمقته
ويعاقب عليه ،ويشمل ذلك جميع القوال السيئة التي تسوء وتحزن،
كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي
يبغضه الله .ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من القول كالذكر والكلم
الطيب اللين.
م { أي :فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه ُ
من ظل ِ َ وقولهِ } :إل َ
ويتشكى ) (1منه ،ويجهر بالسوء لمن جهر له به ،من غير أن يكذب عليه
ول يزيد على مظلمته ،ول يتعدى بشتمه غير ظالمه ،ومع ذلك فعفوه
جُرهُ عََلى اللهِ {
ّ َ وعدم مقابلته أولى ،كما قال تعالى } :فَمن عَ َ َ
ح فَأ ْ صل َ َفا وَأ ْ َ ْ
.
ما { ولما كانت الية قد اشتملت على الكلم ميًعا عَِلي ً س ِه َ ّ
ن الل ُ كا َ} وَ َ
السيئ والحسن والمباح ،أخبر تعالى أنه } سميع { فيسمع أقوالكم،
فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم على ذلك .وفيه أيضا
م { بنياتكم ومصدر أقوالكم. ترغيب على القول الحسن } .عَِلي ٌ
ي
فوهُ { وهذا يشمل كل خير قول ّ خ ُخي ًْرا أ َوْ ت ُ ْ
دوا َ ن ت ُب ْ ُ ثم قال تعالى } :إ ِ ْ
ي ،ظاهر وباطن ،من واجب ومستحب. وفعل ّ
سوٍء { أي :عمن ساءكم في أبدانكم وأموالكم وأعراضكم، عن ُ فوا َ } أ َوْ ت َعْ ُ
فتسمحوا عنه ،فإن الجزاء من جنس العمل .فمن عفا لله عفا الله عنه،
ديًرا { أي: وا قَ ِ ف ّ
ن عَ ُ كا َ ه َ ن الل ّ َ ومن أحسن أحسن الله إليه ،فلهذا قال } :فَإ ِ ّ
يعفو عن زلت عباده وذنوبهم العظيمة فيسدل عليهم ستره ،ثم يعاملهم
بعفوه التام الصادر عن قدرته.
وفي هذه الية إرشاد إلى التفقه في معاني أسماء الله وصفاته ،وأن
الخلق والمر صادر عنها ،وهي مقتضية له ،ولهذا يعلل الحكام بالسماء
الحسنى ،كما في هذه الية.
لما ذكر عمل الخير والعفو عن المسيء رتب على ذلك ،بأن أحالنا على
معرفة أسمائه وأن ذلك يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص.
__________
) (1في ب :ويشتكي.
) (1/212
) (1/212
) (1/213
م حقّ وَقَوْل ِهِ ْ م الن ْب َِياَء ب ِغَي ْرِ َ ت الل ّهِ وَقَت ْل ِهِ ُ م ِبآَيا ِ فرِهِ ْ م وَك ُ ْ ميَثاقَهُ ْ م ِ ضه ِ ْ ق ِ ما ن َ ْ } فَب ِ َ
مفرِهِ ْ ن ِإل قَِليل * وَب ِك ُ ْ مُنو َ م َفل ي ُؤْ ِ فرِهِ ْ ه عَل َي َْها ب ِك ُ ْ ل ط َب َعَ الل ّ ُ ف بَ ْ قُُلوب َُنا غُل ْ ٌ
ن سى اب ْ َ عي َ ح ِ سي َ م ِ م إ ِّنا قَت َل َْنا ال ْ َ ما * وَقَوْل ِهِ ْ ظي ً م ب ُهَْتاًنا عَ ِ مْري َ َ م عََلى َ وَقَوْل ِهِ ْ
فوا خت َل َ ُنا ْ ذي َ ن ال ّ ِ م وَإ ِ ّ ه ل َهُ ْ شب ّ َن ُ صل َُبوهُ وَل َك ِ ْ ما َ ما قَت َُلوهُ وَ َ ل الل ّهِ وَ َ سو َ م َر ُ مْري َ ََ
قيًنا * ب َلْ ُ
ما قت َلوهُ ي َ ِ َ ن وَ َ ّ
علم ٍ ِإل ات َّباعَ الظ ّ ْ ن ِ م ْ م ب ِهِ ِ ما لهُ ْ َ ه َ من ْ ُفي شك ِ ّ َ َ
ِفيهِ ل ِ
َ ْ َ ّ َ َ ّ
ه
ن بِ ِ من َ ّ ب ِإل لي ُؤْ ِ ل الك َِتا ِ ن أهْ ِ م ْ
ن ِ ما * وَإ ِ ْ كي ً ح ِ زيًزا َ ه عَ ِ ن الل ُ ه إ ِلي ْهِ وَكا َ ه الل ُ َرفَعَ ُ
مَنا حّر ْ دوا َ ها ُ ن َ ذي َ ن ال ّ ِ م َ دا * فَب ِظ ُل ْم ٍ ِ شِهي ً م َ ن عَل َي ْهِ ْ كو ُ مة ِ ي َ ُ قَيا َ م ال ْ ِ موْت ِهِ وَي َوْ َ ل َ قَب ْ َ
َ
ل الل ّهِ ك َِثيًرا * وَأ ْ ُ
م الّرَبا وَقَد ْ خذِهِ ُ سِبي ِ ن َ م عَ ْ صد ّهِ ْ م وَب ِ َ ت ل َهُ ْ حل ّ ْ تأ ِ م ط َي َّبا ٍ عَل َي ْهِ ْ
َ َ
ل وَأعْت َد َْنا ل ِل ْ َ َ َ
ما { ذاًبا أِلي ً م عَ َ من ْهُ ْ ن ِ ري َ كافِ ِ س ِبال َْباط ِ ِ ل الّنا ِ وا َ م َ مأ ْ ه وَأك ْل ِهِ ْ ن ُُهوا عَن ْ ُ
.
وكفروا بآيات الله وقتلوا رسله بغير حق .ومن قولهم :إنهم قتلوا المسيح
شّبه لهم غيره، عيسى وصلبوه ،والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه بل ُ
فقتلوا غيره وصلبوه.
وادعائهم أن قلوبهم غلف ل تفقه ما تقول لهم ول تفهمه ،وبصدهم الناس
عن سبيل الله ،فصدوهم عن الحق ،ودعوهم إلى ما هم عليه من الضلل
والغي .وبأخذهم السحت والربا مع نهي الله لهم عنه والتشديد فيه.
فالذين فعلوا هذه الفاعيل ل يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا أن
ينزل عليهم كتابا من السماء ،وهذه الطريقة من أحسن الطرق لمحاجة
الخصم المبطل ،وهو أنه إذا صدر منه من العتراض الباطل ما جعله شبهة
له ولغيره في رد الحق أن يبين من حاله الخبيثة وأفعاله الشنيعة ما هو
من أقبح ما صدر منه ،ليعلم كل أحد أن هذا العتراض من ذلك الوادي
الخسيس ،وأن له مقدمات ُيجعل هذا معها.
وكذلك كل اعتراض يعترضون به على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم
يمكن أن يقابل بمثله أو ما هو أقوى منه في نبوة من يدعون إيمانهم به
ليكتفى بذلك شرهم وينقمع باطلهم ،وكل حجة سلكوها في تقريرهم لنبوة
من آمنوا ] ص [ 214به فإنها ونظيرها وما هو أقوى منها ،دالة ومقررة
لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة لم
يبسطها في هذا الموضع ،بل أشار إليها ،وأحال على مواضعها وقد بسطها
في غير هذا الموضع في المحل اللئق ببسطها.
وقوله } :وإن م َ
موْت ِهِ { يحتمل أن الضمير ن ب ِهِ قَب ْ َ
ل َ ب ِإل ل َي ُؤْ ِ
من َ ّ ل ال ْك َِتا ِن أه ْ ِ َِ ّ ْ
موْت ِهِ { يعود إلى أهل الكتاب ،فيكون على هذا كل َ َ
هنا في قولهَ ْ } :
ل ب ق
كتابي يحضره الموت ويعاين المر حقيقة ،فإنه يؤمن بعيسى عليه السلم
ولكنه إيمان ل ينفع ،إيمان اضطرار ،فيكون مضمون هذا التهديد لهم
والوعيد ،وأن ل يستمروا على هذه الحال التي سيندمون عليها قبل
مماتهم ،فكيف يكون حالهم يوم حشرهم وقيامهم؟"
موْت ِهِ { راجع إلى عيسى عليه ل َ ويحتمل أن الضمير في قوله } :قَب ْ َ
السلم ،فيكون المعنى :وما من أحد من أهل الكتاب إل ليؤمنن بالمسيح
عليه السلم قبل موت المسيح ،وذلك يكون عند اقتراب الساعة وظهور
علماتها الكبار.
فإنه تكاثرت الحاديث الصحيحة في نزوله عليه السلم في آخر هذه المة.
يقتل الدجال ،ويضع الجزية ،ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين .ويوم
القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا ،يشهد عليهم بأعمالهم ،وهل هي
موافقة لشرع الله أم ل؟
وحينئذ ل يشهد إل ببطلن كل ما هم عليه ،مما هو مخالف لشريعة القرآن
ما دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم ،علمنا بذلك ،ل ِعِل ْ ِ
مَنا بكمال وَل ِ َ
عدالة المسيح عليه السلم وصدقه ،وأنه ل يشهد إل بالحق ،إل أن ما جاء
به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وما عداه فهو ضلل وباطل.
ثم أخبر تعالى أنه حرم على أهل الكتاب كثيرا من الطيبات التي كانت
حلل عليهم ،وهذا تحريم عقوبة بسبب ظلمهم واعتدائهم ،وصدهم الناس
عن سبيل الله ،ومنعهم إياهم من الهدى ،وبأخذهم الربا وقد نهوا عنه،
فمنعوا المحتاجين ممن يبايعونه عن العدل ،فعاقبهم الله من جنس فعلهم
فمنعهم من كثير من الطيبات التي كانوا بصدد حلها ،لكونها طيبة ،وأما
التحريم الذي على هذه المة فإنه تحريم تنزيه لهم عن الخبائث التي
تضرهم في دينهم ودنياهم.
) (1/213
ما أ ُن ْزِ َ
ل ك وَ َ ما أ ُن ْزِ َ
ل إ ِل َي ْ َ ن بِ َمُنو َ ن ي ُؤْ ِ مؤْ ِ
مُنو َ م َوال ْ ُ ن ِفي ال ْعِل ْم ِ ِ
من ْهُ ْ خو َ س ُن الّرا ِ لك ِ ِ
َ
ر ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ اْل َ ِ
خ ِ مُنو َمؤْ ِكاةَ َوال ْ ُ ن الّز َ مؤُْتو َ صَلةَ َوال ْ ُ ن ال ّ مي َقي ِم ِ ك َوال ْ ُن قَب ْل ِ َم ِْ
َ ُأولئ ِ َ
َ
ما )(162 ظي ً
جًرا عَ ِ مأ ْ سن ُؤِْتيهِ ْك َ
ما أ ُن ْزِ َ
ل ن بِ َمُنو َ ن ي ُؤْ ِ
مُنو َمؤْ ِم َوال ْ ُ ن ِفي ال ْعِل ْم ِ ِ
من ْهُ ْ خو َ س ُ ن الّرا ِ َ
} } ُ { 162لك ِ ِ
ن
مُنو َ مؤْ ِكاةَ َوال ْ ُ ن الّز َ مؤُْتو َ صلةَ َوال ْ ُ ن ال ّ مي َقي ِ
م ِك َوال ْ ُ ن قَب ْل ِ َم ْل ِ ما أن ْزِ َ
ك وَ َإ ِل َي ْ َ
َ ُ
خرِ أول َئ ِ َ ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ
ما { . ظي ً جًرا عَ ِ مأ ْ سن ُؤِْتيهِ ْك َ
ن َ
لما ذكر معايب أهل الكتاب ،ذكر الممدوحين منهم فقال } :لك ِ ِ
ن ِفي ال ْعِل ْم ِ { أي :الذين ثبت العلم في قلوبهم ورسخ اليقان في خو َس ُالّرا ِ
من ما ُأنز َ
ل ِ ك وَ َ ما ُأنز َ
ل إ ِل َي ْ َ أفئدتهم فأثمر لهم اليمان التام العام } ب ِ َ
ك{. قَب ْل ِ َ
وأثمر لهم العمال الصالحة من إقامة الصلة وإيتاء الزكاة اللذين هما
أفضل العمال ،وقد اشتملتا على الخلص للمعبود والحسان إلى العبيد.
وآمنوا باليوم الخر فخافوا الوعيد ورجوا الوعد.
ك سنؤِْتيه َ ُ
ما { لنهم جمعوا بين العلم واليمان والعمل ظي ً
جًرا عَ ِ
مأ ْ} أول َئ ِ َ َ ُ ِ ْ
الصالح ،واليمان بالكتب والرسل السابقة واللحقة.
) (1/214
َ ك كَ َ َ
م
هي َ حي َْنا إ َِلى إ ِب َْرا ِ ن ب َعْدِهِ وَأوْ َ م ْ ن ِحي َْنا إ َِلى ُنوٍح َوالن ّب ِّيي َ ما أوْ َ حي َْنا إ ِل َي ْ َ َ إ ِّنا أوْ َ
َ َ
نهاُرو َ س وَ َ ب وَُيون ُ َ سى وَأّيو َ عي َ ط وَ ِ سَبا ِ ب َواْل ْ قو َ حاقَ وَي َعْ ُ س َل وَإ ِ ْ عي َ ما ِ س َ وَإ ِ ْ
م عَل َي ْ َ َ
ن قَب ْ ُ
ل م ْ ك ِ صَناهُ ْص ْ سًل قَد ْ قَ َ داُوود َ َزُبوًرا ) (163وَُر ُ ن وَآت َي َْنا َ ما َ سل َي ْ َ وَ ُ
ن
ري َ ش ِ مب َ ّسًل ُ ما )ُ (164ر ُ سى ت َك ِْلي ً مو َ ه ُ م الل ّ ُ
ك وَك َل ّ َم عَل َي ْ َصه ُ ْ ص ْ ق ُ م نَ ْ سًل ل َ ْ وَُر ُ
زيًزاه عَ ِ ن الل ّ ُ كا َل وَ َ س ِ ة ب َعْد َ الّر ُ ج ٌح ّ س عََلى الل ّهِ ُ ن ِللّنا ِ كو َ ن ل ِئ َّل ي َ ُمن ْذِِري َ وَ ُ
ما )(165 كي ً ح ِ َ
ك كَ َ َ
ن ب َعْدِهِ م ْ ن ِ حي َْنا إ َِلى ُنوٍح َوالن ّب ِّيي َ ما أوْ َ حي َْنا إ ِل َي ْ َ َ } } { 165 - 163إ ِّنا أوْ َ
َ َ
ب
سى وَأّيو َ عي َ ط وَ ِ سَبا ِ ب َوال ْ قو َ حاقَ وَي َعْ ُ س َ
ل وَإ ِ ْ عي َ ما ِ س َ م وَإ ِ ْ هي َحي َْنا إ َِلى إ ِب َْرا ِ وَأوْ َ
م عَل َي ْ َ
ك صَناهُ ْ ص ْ سل قَد ْ قَ َ داوُد َ َزُبوًرا * وَُر ُ ن َوآت َي َْنا َ ما َ سل َي ْ َن وَ ُ هاُرو َ س وَ َ وَُيون ُ َ
سل ما * ُر ُ سى ت َك ِْلي ً مو َ ه ُ م الل ّ ُ ك وَك َل ّ َ م عَل َي ْ َ صه ُ ْ ص ْ ق ُ م نَ ْ سل ل َ ْ ل وَُر ُ ن قَب ْ ُ م ْ ِ
هّ
ن الل ُ َ
ل وَكا َ س ِة ب َعْد َ الّر ُ ج ٌ ح ّ ّ
س عَلى اللهِ ُ َ ُ َ ّ
ن ِللّنا ِ ن ل ِئل ي َكو َ من ْذِِري َ ن وَ ُ ري َ مب َش ِ ُ
ما { . كي ًح ِ زيًزا َ عَ ِ
يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله من الشرع العظيم والخبار
الصادقة ما أوحى إلى هؤلء النبياء عليهم الصلة والسلم وفي هذا عدة
فوائد:
منها :أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل ،بل أرسل
الله قبله من المرسلين العدد الكثير والجم الغفير فاستغراب رسالته ل
وجه له إل الجهل والعناد.
ومنها :أنه أوحى إليه كما أوحى إليهم من الصول والعدل الذي اتفقوا
عليه ،وأن بعضهم يصدق بعضا ويوافق بعضهم بعضا.
ومنها :أنه من جنس هؤلء الرسل ،فليعتبره المعتبر بإخوانه المرسلين،
فدعوته دعوتهم؛ وأخلقهم متفقة؛ ومصدرهم واحد؛ وغايتهم واحدة ،فلم
يقرنه بالمجهولين؛ ول بالكذابين ول بالملوك الظالمين.
ومنها :أن في ذكر هؤلء الرسل وتعدادهم من التنويه بهم ،والثناء الصادق
عليهم ،وشرح أحوالهم مما يزداد به المؤمن إيمانا بهم ومحبة لهم ،واقتداء
بهديهم ،واستنانا بسنتهم ومعرفة بحقوقهم ،ويكون ذلك مصداقا لقوله:
م عََلى سل ٌ م{} َ هي َ م عََلى إ ِب َْرا ِ سل ٌ ن{} َ مي َ م عََلى ُنوٍح ِفي ال َْعال َ ِ سل ٌ } َ
ن {. سِني َ ح ِ م ْ ْ
زي ال ُ ج ِ َ َ
ن * إ ِّنا كذ َل ِك ن َ ْ سي َ ل َيا ِ م عَلى إ ِ ْ َ سل ٌ ن{} َ هاُرو َ سى وَ َ مو َ ُ
فكل محسن له من الثناء الحسن بين النام بحسب إحسانه والرسل
-خصوصا هؤلء المسمون -في المرتبة العليا من الحسان.
ولما ذكر اشتراكهم بوحيه ذكر تخصيص بعضهم فذكر أنه آتى داود الزبور
وهو الكتاب المعروف المزبور ] ص [ 215الذي خص الله به داود عليه
السلم لفضله وشرفه وأنه كلم موسى تكليما أي مشافهة منه إليه ل
بواسطة حتى اشتهر بهذا عند العالمين فيقال "موسى كليم الرحمن".
وذكر أن الرسل منهم من قصه الله على رسوله ومنهم من لم يقصصه
عليه وهذا يدل على كثرتهم وأن الله أرسلهم مبشرين لمن أطاع الله
واتبعهم بالسعادة الدنيوية والخروية ومنذرين من عصى الله وخالفهم
ما
بشقاوة الدارين لئل يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فيقولوا } َ
ذيٌر {.
شيٌر وَن َ ِ جاَء ُ
كم ب َ ِ ذيرٍ فَ َ
قد ْ َ شيرٍ َول ن َ ِ
من ب َ ِ
جاَءَنا ِ
َ
خْلق على الله حجة لرساله الرسل تترى يبينون لهم أمر دينهم فلم يبق لل َ
ومراضي ربهم ومساخطه وطرق الجنة وطرق النار فمن كفر منهم بعد
ذلك فل يلومن إل نفسه.
وهذا من كمال عزته تعالى وحكمته أن أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم
الكتب وذلك أيضا من فضله وإحسانه حيث كان الناس مضطرين إلى
النبياء أعظم ضرورة تقدر فأزال هذا الضطرار فله الحمد وله الشكر
ونسأله كما ابتدأ علينا نعمته بإرسالهم أن يتمها بالتوفيق لسلوك طريقهم
إنه جواد كريم.
) (1/214
ل إل َي َ َ َ
فى ِبالل ّهِ
ن وَك َ َ
دو َ مَلئ ِك َ ُ
ة يَ ْ
شه َ ُ مهِ َوال ْ َ
ه ب ِعِل ْ ِ
ك أن َْزل َ ُ ما أن َْز َ ِ ْ ن الل ّ ُ
ه يَ ْ
شهَد ُ ب ِ َ لك ِ ِ
َ
دا )(166 شِهي ًَ
ل إل َي َ َ َ
ندو َ ة يَ ْ
شهَ ُ مهِ َوال ْ َ
ملئ ِك َ ُ ه ب ِعِل ْ ِ
ك أن َْزل َ ُ ما أن َْز َ ِ ْ شهَد ُ ب ِ َه يَ ْ ن الل ّ ُ َ
} } { 166لك ِ ِ
دا { . شِهي ً فى ِبالل ّهِ َ وَك َ َ
لما ذكر أن الله أوحى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى
إلى إخوانه من المرسلين ،أخبر هنا بشهادته تعالى على رسالته وصحة ما
َ
مهِ { يحتمل أن يكون المراد أنزله مشتمل على ه ب ِعِل ْ ِ جاء به ،وأنه } أنزل َ ُ
علمه ،أي :فيه من العلوم اللهية والحكام الشرعية والخبار الغيبية ما هو
من علم الله تعالى الذي علم به عباده.
ويحتمل أن يكون المراد :أنزله صادرا عن علمه ،ويكون في ذلك إشارة
وتنبيه على وجه شهادته ،وأن المعنى :إذا كان تعالى أنزل هذا القرآن
المشتمل على الوامر والنواهي ،وهو يعلم ذلك ويعلم حالة الذي أنزله
عليه ،وأنه دعا الناس إليه ،فمن أجابه وصدقه كان وليه ،ومن كذبه وعاداه
كان عدوه واستباح ماله ودمه ،والله تعالى يمكنه ويوالي نصره ويجيب
دعواته ،ويخذل أعداءه وينصر أولياءه ،فهل توجد شهادة أعظم من هذه
الشهادة وأكبر؟" ول يمكن القدح في هذه الشهادة إل بعد القدح بعلم الله
وقدرته وحكمته وإخباره تعالى بشهادة الملئكة على ما أنزل على رسوله،
لكمال إيمانهم ولجللة هذا المشهود عليه.
فإن المور العظيمة ل يستشهد عليها إل الخواص ،كما قال تعالى في
ْ ملئ ِك َ ُ ُ ُ ْ ه ِإل هُوَ َوال ْ َ ه ل إ ِل َ َ
شهد الل ّ َ
الشهادة على التوحيدَ ِ َ } :
ة وَأولو العِلم ِ ه أن ّ ُُ
م { وكفى بالله شهيدا. كي ُح ِ ْ
زيُز ال َه ِإل هُوَ ال ْعَ ِ ط ل إ ِل َ َ س ِق ْ ما ِبال ْ ِ
َقائ ِ ً
) (1/215
ن
دا ) (167إ ِ ّ ضَلًل ب َِعي ً ضّلوا َ ل الل ّهِ قَد ْ َ سِبي ِ ن َ دوا عَ ْ ص ّفُروا وَ َ ن كَ َ ن ال ّ ِ
ذي َ إِ ّ
قا ) (168إ ِّل م طَ ِ
ري ً م وََل ل ِي َهْدِي َهُ ْ
فَر ل َهُ ْه ل ِي َغْ ِن الل ّ ُ موا ل َ ْ
م ي َكَ ُ ِ فُروا وَظ َل َ ُ ن كَ َذي َ ال ّ ِ
سيًرا )(169 ك عََلى الل ّهِ ي َ ِ ن ذ َل ِ َ كا َ دا وَ َن ِفيَها أب َ ً دي َ خال ِ ِ
م َ جهَن ّ َ ريقَ َ طَ ِ
ضلل ضّلوا َ ل الل ّهِ قَد ْ َ سِبي ِ ن َ دوا عَ ْ ص ّفُروا وَ َ ن كَ َ ذي َ ن ال ّ ِ
} } { 169 - 167إ ِ ّ
قا
ري ً َ
مط ِ م َول ل ِي َهْدِي َهُ ْ َ
فَر لهُ ْ ه ل ِي َغْ ِ ّ
ن الل ُ ُ َ َ َ ن كَ َ ن ال ّ ِ
م ي َك ِ موا ل ْ
َ
فُروا وَظل ُ ذي َ دا * إ ِ ّ ب َِعي ً
سيًرا { . ّ
ك عَلى اللهِ ي َ ِ َ ن ذ َل ِ َ كا َ دا وَ َ ن ِفيَها أب َ ً دي َخال ِ ِم َ جهَن ّ َريقَ َ َ
* ِإل ط ِ
لما أخبر عن رسالة الرسل صلوات الله وسلمه عليهم وأخبر برسالة
خاتمهم محمد ،وشهد بها وشهدت ملئكته -لزم من ذلك ثبوت المر
المقرر والمشهود به ،فوجب تصديقهم ،واليمان بهم واتباعهم.
ل الل ّهِ { سِبي ِ عن َ دوا َ ص ّفُروا وَ َ ن كَ َذي َ ن ال ّ ِ ثم توعد من كفر بهم فقال } :إ ِ ّ
دهم الناس عن سبيل الله .وهؤلء هم أي :جمعوا بين الكفر بأنفسهم وص ّ
دا { وأي ضلل أعظم من ضلل ب َِعي ً ضّلوا َ أئمة الكفر ودعاة الضلل } قَد ْ َ
ضلل من ضل بنفسه وأضل غيره ،فباء بالثمين ورجع بالخسارتين وفاتته
موا { وهذا الظلم هو زيادة فُروا وَظ َل َ ُ ن كَ َ ذي َ ن ال ّ ِ الهدايتان ،ولهذا قال } :إ ِ ّ
على كفرهم ،وإل فالكفر عند إطلق الظلم يدخل فيه.
والمراد بالظلم هنا أعمال الكفر والستغراق فيه ،فهؤلء بعيدون من
َ ن الل ّ ُ المغفرة والهداية للصراط المستقيم .ولهذا قال } :ل َ ْ
م
فَر لهُ ْ ه ل ِي َغْ ِ م ي َك ُ ِ
م {. جهَن ّ َ ريقَ َ قا * ِإل ط َ ِ ري ً م طَ ِ َول ل ِي َهْدِي َهُ ْ
وإنما تعذرت المغفرة لهم والهداية لنهم استمروا في طغيانهم وازدادوا
في كفرانهم فطبع على قلوبهم وانسدت عليهم طرق الهداية بما كسبوا }
ظلم ٍ ل ِل ْعَِبيدِ {. ك بِ َ ما َرب ّ َ وَ َ
سيًرا { أي ل يبالي الله بهم ول يعبأ لنهم ل ك عََلى الل ّهِ ي َ ِ ن ذ َل ِ َ كا َ } وَ َ
يصلحون للخير ول يليق بهم إل الحالة التي اختاروها لنفسهم
) (1/215
َ
ن خي ًْرا ل َك ُ ْ
م وَإ ِ ْ مُنوا َ م فَآ َ ِن َرب ّك ُ ْم ْ ل ِبال ْ َ
حق ّ ِ سو ُ جاَءك ُ ُ
م الّر ُ س قَد ْ َ َيا أي َّها الّنا ُ
ما )(170 كي ًح ِما َ ه عَِلي ًن الل ّ ُكا َ ت َواْل َْرض وَ َ ماَوا ِ
س َ
ما ِفي ال ّ ن ل ِل ّهِ َ ت َك ْ ُ
فُروا فَإ ِ ّ
ِ
َ
خي ًْرا
مُنوا َ ن َرب ّك ُ ْ
م َفآ ِ م ْحق ّ ِل ِبال ْ َ
سو ُ جاَءك ُ ُ
م الّر ُ س قَد ْ َ} َ } { 170يا أي َّها الّنا ُ
ما
ه عَِلي ًن الل ّ ُ كا َت َوالْرض وَ َ
ِ ماَوا ِ
س َما ِفي ال ّ ن ل ِل ّهِ َ ن ت َك ْ ُ
فُروا فَإ ِ ّ م وَإ ِ ْل َك ُ ْ
ما { . كي ً
ح ِ َ
يأمر تعالى جميع الناس أن يؤمنوا بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه
وسلم .وذكر السبب الموجب لليمان به ،والفائدة في اليمان به،
والمضرة من عدم اليمان به ،فالسبب الموجب هو إخباره ] ص [ 216
بأنه جاءهم بالحق.أي :فمجيئه نفسه حق ،وما جاء به من الشرع حق ،فإن
العاقل يعرف أن بقاء الخلق في جهلهم يعمهون ،وفي كفرهم يترددون،
والرسالة قد انقطعت عنهم غير لئق بحكمة الله ورحمته ،فمن حكمته
ورحمته العظيمة نفس إرسال الرسول إليهم ،ليعرفهم الهدى من الضلل،
والغي من الرشد ،فمجرد النظر في رسالته دليل قاطع على صحة نبوته.
وكذلك النظر إلى ما جاء به من الشرع العظيم والصراط المستقيم .فإن
فيه من الخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة ،والخبر عن الله وعن اليوم
الخر -ما ل يعرف إل بالوحي والرسالة .وما فيه من المر بكل خير
وصلح ،ورشد وعدل وإحسان ،وصدق وبر وصلة وحسن خلق ،ومن النهي
عن الشر والفساد والبغي والظلم وسوء الخلق ،والكذب والعقوق ،مما
يقطع به أنه من عند الله.
وكلما ازداد به العبد بصيرة ،ازداد إيمانه ويقينه ،فهذا السبب الداعي
لليمان .وأما الفائدة في اليمان فأخبر أنه خير لكم والخير ضد الشر.
فاليمان خير للمؤمنين في أبدانهم وقلوبهم وأرواحهم ودنياهم وأخراهم.
وذلك لما يترتب عليه من المصالح والفوائد ،فكل ثواب عاجل وآجل فمن
ثمرات اليمان ،فالنصر والهدى والعلم والعمل الصالح والسرور والفراح،
والجنة وما اشتملت عليه من النعيم كل ذلك مسبب عن اليمان.
كما أن الشقاء الدنيوي والخروي من عدم اليمان أو نقصه .وأما مضرة
عدم اليمان به صلى الله عليه وسلم فيعرف بضد ما يترتب على اليمان
به .وأن العبد ل يضر إل نفسه ،والله تعالى غني عنه ل تضره معصية
ض { أي :الجميع ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ ن ل ِل ّهِ َ
ما ِفي ال ّ العاصين ،ولهذا قال } :فَإ ِ ّ
ما { بكل شيء ه عَِلي ً ّ
ن الل ُ
كا َخلقه وملكه ،وتحت تدبيره وتصريفه } وَ َ
ما { في خلقه وأمره .فهو العليم بمن يستحق الهداية والغواية، كي ً
ح ِ
} َ
الحكيم في وضع الهداية والغواية موضعهما.
) (1/215
ح
سي ُ م ِ ما ال ْ َ حقّ إ ِن ّ َ قوُلوا عََلى الل ّهِ إ ِّل ال ْ َ م وََل ت َ ُ ب َل ت َغُْلوا ِفي ِدين ِك ُ ْ ل ال ْك َِتا ِ َيا أ َهْ َ
مُنوا ه فَآ َ ِ من ْ ُ
ح ِ م وَُرو ٌ مْري َ َ ها إ َِلى َ قا َ ه أ َل ْ َ ل الل ّهِ وَك َل ِ َ
مت ُ ُ سو ُ م َر ُ مْري َ َ ن َ سى اب ْ ُ عي َ ِ
نَ أ ه ن حا ب س د ح وا ه َ لإ هّ لال ما ن إ مُ كَ ل را ي خ هوا تن ا ة َ ث َ
ل َ ث لواُ قو
ُ ت ل َ و ه ل س ر و ه ّ ل بال
ُ ِ ٌ َ ِ ٌ ُ ْ َ َ ُ ْ ْ ِّ َ َ ًْ ٌ َُْ ِ ِ َُ ُ ِ ِ َ َ
ً ّ َ ْ
كيل )(171 فى ِباللهِ وَ ِ َ
ض وَك َ ما ِفي الْر ِ ت وَ َ ماَوا ِ س َ ما ِفي ال ّ ه َ ه وَل َد ٌ ل َ ُ ن لَ ُكو َ يَ ُ
ق
ح ّ قوُلوا عََلى الل ّهِ ِإل ال ْ َ م َول ت َ ُ ب ل ت َغُْلوا ِفي ِدين ِك ُ ْ ل ال ْك َِتا ِ} َ } { 171يا أ َهْ َ
ح
م وَُرو ٌ مْري َ َ ها إ َِلى َ قا َ ه أ َل ْ َ
مت ُ ُل الل ّهِ وَك َل ِ َ سو ُم َر ُ مْري َ َن َ سى اب ْ ُ عي َح ِ سي ُ
م ِ ما ال ْ َ إ ِن ّ َ
حد ٌ ه إ ِل َ ٌ
ه َوا ِ ما الل ّ ُ
م إ ِن ّ َخي ًْرا ل َك ُ ْ ة ان ْت َُهوا َ قوُلوا َثلث َ ٌسل ِهِ َول ت َ ُ مُنوا ِبالل ّهِ وَُر ُ ه َفآ ِ من ْ ُِ
فى ِبالل ِّ
ه ض وَك َ َ ر ال في ما و ت وا ما س ال في ما ه َ ل دَ لو ه َ ل ن كوُ ي ن َ أ ه ن حا ب س
ْ ِ ّ َ َ ِ َ َ ِ َ ُ َ ٌ ُ َ ِ ُ ْ َ َ ُ ْ َ
كيل { . وَ ِ
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد والقدر
المشروع إلى ما ليس بمشروع .وذلك كقول النصارى في غلوهم بعيسى
عليه السلم ،ورفعه عن مقام النبوة والرسالة إلى مقام الربوبية الذي ل
يليق بغير الله ،فكما أن التقصير والتفريط من المنهيات ،فالغلو كذلك،
حقّ { وهذا الكلم يتضمن ثلثة قوُلوا عََلى الل ّهِ ِإل ال ْ َ ولهذا قالَ } :ول ت َ ُ
أشياء:
أمرين منهي عنهما ،وهما قول الكذب على الله ،والقول بل علم في
أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه ورسله ،والثالث :مأمور به وهو قول الحق
في هذه المور.
ولما كانت هذه قاعدة عامة كلية ،وكان السياق في شأن عيسى عليه
ص على قول الحق فيه ،المخالف لطريقة اليهودية والنصرانية السلم ن ّ
ل اللهِ { أي :غاية المسيح ّ سو ُ
م َر ُ مْري َ َ
ن َسى اب ْ ُ عي َ ح ِ سي ُ م ِ ْ
ما ال َ فقال } :إ ِن ّ َ
عليه السلم ومنتهى ما يصل إليه من مراتب الكمال أعلى حالة تكون
للمخلوقين ،وهي درجة الرسالة التي هي أعلى الدرجات وأج ّ
ل المثوبات.
م { أي :كلمة تكلم الله بها فكان بها مْري َ َها إ َِلى َقا َه { التي } أ َل ْ َ مت ُ ُ وأنه } ك َل ِ َ
عيسى ،ولم يكن تلك الكلمة ،وإنما كان بها ،وهذا من باب إضافة
التشريف والتكريم.
ه { أي :من الرواح التي خلقها وكملها بالصفات من ْ ُ ح ّ وكذلك قوله } :وَُرو ٌ
الفاضلة والخلق الكاملة ،أرسل الله روحه جبريل عليه السلم فنفخ في
فرج مريم عليها السلم ،فحملت بإذن الله بعيسى عليه السلم.
فلما بّين حقيقة عيسى عليه السلم ،أمر أهل الكتاب باليمان به وبرسله،
ونهاهم أن يجعلوا الله ثالث ثلثة أحدهم عيسى ،والثاني مريم ،فهذه مقالة
النصارى قبحهم الله.
فأمرهم أن ينتهوا ،وأخبر أن ذلك خير لهم ،لنه الذي يتعين أنه سبيل
النجاة ،وما سواه فهو طريق الهلك ،ثم نزه نفسه عن الشريك والولد
حد ٌ { أي :هو المنفرد باللوهية ،الذي ل تنبغي ه َوا ِ ه إ ِل َ ٌ
ما الل ّ ُ فقال } :إ ِن ّ َ
هَ َ َ َ
ه { أي :تنزه وتقدس } أن ي َ ُ
ه وَلد ٌ { لن } ل ُ
نل ُكو َ حان َ ُ سب ْ َ العبادة إل لهُ } .
ض { فالكل مملوكون له مفتقرون إليه، ما ِفي الْر ِ ت وَ َ ماَوا ِ س َ ما ِفي ال ّ َ
فمحال أن يكون له شريك منهم أو ولد.
ولما أخبر أنه المالك للعالم العلوي والسفلي أخبر أنه قائم بمصالحهم
الدنيوية والخروية وحافظها ،ومجازيهم عليها تعالى.
) (1/216
ف ال ْمسي َ
ن
م ْ ن وَ َ قّرُبو َ م َة ال ْ ُمَلئ ِك َ ُدا ل ِل ّهِ وََل ال ْ َ ن عَب ْ ًكو َ ن يَ ُ حأ ْ َ ِ ُ ست َن ْك ِ َن يَ ْ لَ ْ
َ
ن ما ال ّ ِ
ذي َ ميًعا ) (172فَأ ّ ج ِم إ ِل َي ْهِ َ شُرهُ ْح ُ سي َ ْست َك ْب ِْر فَ َ عَباد َت ِهِ وَي َ ْ
ن ِ ف عَ ْ ست َن ْك ِ ْ يَ ْ
ن ّ َ َ ُ ّ َ ُ َ
ذي َ
ما ال ِ ضل ِهِ وَأ ّنف ْ م ْ م ِ زيد ُهُ ْ م وَي َ ِجوَرهُ ْ مأ ُ ت في ُوَفيهِ ْ حا ِ صال ِ َ ملوا ال ّ مُنوا وَعَ ِ آ َ
ن الل ّهِ وَل ِّيا َ
دو ِ ن ُم ْم ِ ن ل َهُ ْدو َ ما وََل ي َ ِ
ج ُ ذاًبا أِلي ً م عَ َست َك ْب َُروا فَي ُعَذ ّب ُهُ ْفوا َوا ْ ست َن ْك َ ُا ْ
صيًرا )(173 وََل ن َ ِ
ف ال ْمسي َ
ملئ ِك َ ُ
ة دا ل ِل ّهِ َول ال ْ َ ن عَب ْ ً كو َ ن يَ ُحأ ْ َ ِ ُ ست َن ْك ِ َن يَ ْ } } { 173 ، 172ل َ ْ
ميًعا * ج ِ م إ ِل َي ْهِ َ
شُرهُ ْ ح ُ سي َ ْست َك ْب ِْر فَ َعَباد َت ِهِ وَي َ ْ ن ِ ف عَ ْ ست َن ْك ِ ْ ن يَ ْ م ْن وَ َقّرُبو َ م َ ال ْ ُ
ُ َ
ه
ضل ِ ِن فَ ْ م ْ م ِ زيد ُهُ ْ م وَي َ ِ جوَرهُ ْ مأ ُ ت فَي ُوَّفيهِ ْ حا ِصال ِ َمُلوا ال ّ مُنوا وَعَ ِ نآ َ ذي َما ال ّ ِ فَأ ّ
َ َ
ن
م ْ م ِ ن ل َهُ ْ دو َ ج ُما َول ي َ ِ ذاًبا أِلي ً م عَ َ ست َك ْب َُروا فَي ُعَذ ّب ُهُ ْفوا َوا ْ ست َن ْك َ ُ
نا ْ ذي َما ال ّ ِ وَأ ّ
صيًرا { . ن الل ّهِ وَل ِّيا َول ن َ ِ دو ِ ُ
لما ذكر تعالى غلو النصارى في عيسى عليه السلم ،وذكر أنه عبده
ورسوله ،ذكر هنا أنه ل يستنكف عن عبادة ربه ،أي :ل يمتنع عنها رغبة
ن { فنزههم عن الستنكاف وتنزيههم قّرُبو َ ة ال ْ ُ
م َ ملئ ِك َ ُ عنها ،ل هو } َول ال ْ َ
عن الستكبار من باب أولى ،ونفي الشيء فيه إثبات ضده.
أي :فعيسى والملئكة المقربون قد رغبوا في عبادة ربهم ،وأحبوها وسعوا
فيها بما يليق بأحوالهم ،فأوجب لهم ذلك الشرف العظيم والفوز العظيم] ،
ص [ 217فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته ول للهيته ،بل يرون
افتقارهم لذلك فوق كل افتقار.
ول يظن أن رفع عيسى أو غيره من الخلق فوق مرتبته التي أنزله الله
فيها وترفعه عن العبادة كمال بل هو النقص بعينه ،وهو محل الذم
م
شُرهُ ْ ح ُ ست َك ْب ِْر فَ َ
سي َ ْ عَباد َت ِهِ وَي َ ْ
ن ِ ف عَ ْ سَتنك ِ ْ من ي َ ْ والعقاب ،ولهذا قال } :وَ َ
ميًعا { أي :فسيحشر الخلق كلهم إليه ،المستنكفين والمستكبرين ج ِإ ِل َي ْهِ َ
وعباده المؤمنين ،فيحكم بينهم بحكمه العدل ،وجزائه الفصل.
َ
ت { أي: حا ِ مُلوا ال ّ
صال ِ َ مُنوا وَعَ ِ نآ َ ما ال ّ ِ
ذي َ ثم فصل حكمه فيهم فقال } :فَأ ّ
جمعوا بين اليمان المأمور به ،وعمل الصالحات من واجبات ومستحبات،
من حقوق الله وحقوق عباده.
ّ ُ
م { أي :الجور التي رتبها على العمال ،كل بحسب } فَيوّفيه ُ
جوَرهُ ْ
مأ ُ ُ َ ِ ْ
إيمانه وعمله.
ضل ِهِ { من الثواب الذي لم تنله أعمالهم ولم تصل إليه من فَ ْ هم ِ زيد ُ ُ } وَي َ ِ
أفعالهم ،ولم يخطر على قلوبهم .ودخل في ذلك كل ما في الجنة من
المآكل والمشارب ،والمناكح ،والمناظر والسرور ،ونعيم القلب والروح،
ونعيم البدن ،بل يدخل في ذلك كل خير ديني ودنيوي رتب على اليمان
والعمل الصالح.
َ
ست َك ْب َُروا { أي :عن عبادة الله تعالى } فَي ُعَذ ّب ُهُ ْ
م سَتنك َ ُ
فوا َوا ْ نا ْ ذي َ ما ال ّ ِ } وَأ ّ
ما { وهو سخط الله وغضبه ،والنار الموقدة التي تطلع على َ عَ َ
ذاًبا أِلي ً
الفئدة.
صيًرا { أي :ل يجدون أحدا من ن الل ّهِ وَل ِّيا َول ن َ ِدو ِمن ُ ن ل َُهم ّ دو َ ج ُ } َول ي َ ِ
من ينصرهم فيدفع عنهم الخلق يتولهم فيحصل لهم المطلوب ،ول َ
المرهوب ،بل قد تخلى عنهم أرحم الراحمين ،وتركهم في عذابهم خالدين،
وما حكم به تعالى فل راد ّ لحكمه ول مغّير لقضائه.
) (1/216
َ َ
مِبيًنا )(174 م ُنوًرا ُ م وَأن َْزل َْنا إ ِل َي ْك ُ ْ ن َرب ّك ُ ْ
م ْ
ن ِها ٌ جاَءك ُ ْ
م ب ُْر َ س قَد ْ ََيا َأي َّها الّنا ُ
ذي َ
ل ه وَفَ ْ
ض ٍ من ْ ُ
مة ٍ ِ
ح َم ِفي َر ْ خل ُهُ ْ سي ُد ْ ِموا ب ِهِ فَ َ
ص ُ مُنوا ِبالل ّهِ َواعْت َ َ
نآ َ ما ال ّ ِ َ فَأ ّ
ما )(175 قي ًست َ ِ
م ْ طا ُصَرا ًم إ ِل َي ْهِ ِ
ديهِ ْ
وَي َهْ ِ
َ َ
مم وَأن َْزل َْنا إ ِل َي ْك ُ ْ
ن َرب ّك ُ ْم ْ ن ِ ها ٌم ب ُْر َجاَءك ُ ْ س قَد ْ َ َ } { 175يا أي َّها الّنا ُ } ، 174
َ
ه
من ْ ُمة ٍ ِ ح َ م ِفي َر ْ خل ُهُ ْ موا ب ِهِ فَ َ
سي ُد ْ ِ ص ُمُنوا ِبالل ّهِ َواعْت َ َ نآ َ ذي َ ما ال ّ ِمِبيًنا * فَأ ّ ُنوًرا ُ
ما { . قي ًست َ ِم ْ صَرا ً
طا ُ م إ ِل َي ْهِ ِ ديهِ ْ
ل وَي َهْ ِ
ض ٍوَفَ ْ
يمتن تعالى على سائر الناس بما أوصل إليهم من البراهين القاطعة
َ
والنوار الساطعة ،ويقيم عليهم الحجة ،ويوضح لهم المحجة ،فقال } :ي َأي َّها
م { أي :حجج قاطعة على الحق تبينه من ّرب ّك ُ ْن ِ ها ٌ كم ب ُْر َ جاَء ُ س قَد ْ َ الّنا ُ
وتوضحه ،وتبين ضده.
مريهِ ْ سن ُ ِوهذا يشمل الدلة العقلية والنقلية ،اليات الفقية والنفسية } َ
فسهم حتى يتبين ل َه َ َ
حق ّ { . ه ال ْ َ
م أن ّ ُق وَِفي أن ْ ُ ِ ِ ْ َ ّ َ َ َ ّ َ ُ ْ آَيات َِنا ِفي الَفا ِ
م { ما يدل على شرف هذا البرهان وعظمته ،حيث ُ
من ّرب ّك ْ وفي قولهِ } :
كان من ربكم الذي رباكم التربية الدينية والدنيوية ،فمن تربيته لكم التي
يحمد عليها ويشكر ،أن أوصل إليكم البينات ،ليهديكم بها إلى الصراط
المستقيم ،والوصول إلى جنات النعيم.
َ
مِبيًنا { وهو هذا القرآن العظيم ،الذي قد اشتمل على م ُنوًرا ّ } وَأنزل َْنا إ ِل َي ْك ُ ْ
علوم الولين والخرين والخبار الصادقة النافعة ،والمر بكل عدل وإحسان
وخير ،والنهي عن كل ظلم وشر ،فالناس في ظلمة إن لم يستضيئوا
بأنواره ،وفي شقاء عظيم إن لم يقتبسوا من خيره.
ولكن انقسم الناس -بحسب اليمان بالقرآن والنتفاع به -قسمين:
مُنوا ِبالل ّهِ { أي :اعترفوا بوجوده واتصافه بكل وصف كامل، َ
نآ َ ذي َ ما ال ّ ِ } فَأ ّ
موا ب ِهِ { أي :لجأوا إلى الله
ص ُوتنزيهه من كل نقص وعيبَ } .واعْت َ َ
خل ُهُ ْ
م واعتمدوا عليه وتبرؤوا من حولهم وقوتهم واستعانوا بربهم } .فَ َ
سي ُد ْ ِ
ل { أي :فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة ،فيوفقهم ه وَفَ ْ
ض ٍ من ْ ُ
مةٍ ّ ح َِفي َر ْ
للخيرات ويجزل لهم المثوبات ،ويدفع عنهم البليات والمكروهات.
ما { أي :يوفقهم للعلم والعمل ،معرفة قي ً
ست َ ِ
م ْ صَرا ً
طا ّ م إ ِل َي ْهِ ِ ديهِ ْ } وَي َهْ ِ
الحق والعمل به.
أي :ومن لم يؤمن بالله ويعتصم به ويتمسك بكتابه ،منعهم من رحمته،
وحرمهم من فضله ،وخلى بينهم وبين أنفسهم ،فلم يهتدوا ،بل ضلوا ضلل
مبينا ،عقوبة لهم على تركهم اليمان فحصلت لهم الخيبة والحرمان ،نسأله
تعالى العفو والعافية والمعافاة.
) (1/217
ت
خ ٌ ه أُ ْه وَل َد ٌ وَل َ ُ س لَ ُك ل َي ْ َمُرؤٌ هَل َ َنا ْ م ِفي ال ْك ََلل َةِ إ ِ ِ فِتيك ُ ْ ه يُ ْ ل الل ّ ُك قُ ِ فُتون َ َ ست َ ْيَ ْ
ما َ
ن فَلهُ َ ن َ
كان ََتا اث ْن َت َي ْ َ َ
ن لَها وَلد ٌ فَإ ِ ْ م ي َك ُ ْ َ
نل ْ ك وَهُوَ ي َرِث َُها إ ِ ْ ما ت ََر َ ف َ ص ُ فَل ََها ن ِ ْ
ِ
ل َ ّ ُْ
ن
ن ي ُب َي ّ ُحظ الن ْث َي َي ْ ِ مث ْ ُساًء فَِللذ ّك َرِ ِجاًل وَن ِ َ خوَةً رِ َ كاُنوا إ ِ ْ ن َ ك وَإ ِ ْ ما ت ََر َ م ّن ِ الث ّل َُثا ِ
َ
م )(176 يٍء عَِلي ٌ ش ْ ل َ ه ب ِك ُ ّ ضّلوا َوالل ّ ُ ن تَ ِمأ ْ ه ل َك ُ ْ الل ّ ُ
س لَ ُ
ه ك ل َي ْ َ مُرؤٌ هَل َ َ نا ْ كلل َةِ إ ِ ِ م ِفي ال ْ َ فِتيك ُ ْ ه يُ ْل الل ّ ُ ك قُ ِ فُتون َ َ ست َ ْ } } { 176ي َ ْ
َ
ن كان ََتا َ
ن لَها وَلد ٌ فَإ ِ ْ َ ُ
م ي َك ْ َ
نل ْ ك وَهُوَ ي َرِث َُها إ ِ ْ ما ت ََر َ ف َ ص ُ ت فَلَها ن ِ َْ خ ٌ ه أُ ْ وَل َد ٌ وَل َ ُ
ح ّ مث ْ ُ ساًء فَِللذ ّك َرِ ِ ن َ ما ت ََر َ ما الث ّل َُثا ِ ن فَل َهُ َ
ظ ل َ جال وَن ِ َ خوَةً رِ َ كاُنوا إ ِ ْ ك وَإ ِ ْ
َ
م ّ ن ِ اث ْن َت َي ْ ِ
ه ب ِك ُ ّ ّ ّ َ
ه لك ُ ْ ّ
م{. يٍء عَِلي ٌ ش ْ ل َ ضلوا َوالل ُ ن تَ ِمأ ْ ن الل ُ ن ي ُب َي ّ ُ الن ْث َي َي ْ ِ
أخبر تعالى أن الناس استفتوا رسوله صلى الله عليه وسلم أي :في
كلل َةِ { وهي الميت يموت م ِفي ال ْ َ فِتيك ُ ْ ه يُ ْ ل الل ّ ُالكللة بدليل قوله } :قُ ِ
مُرؤٌ نا ْ وليس له ولد صلب ول ولد ابن ،ول أب ،ول جد ،ولهذا قال } :إ ِ ِ
ه وَل َد ٌ { أي :ل ذكر ول أنثى ،ل ولد صلب ول ولد ابن. س لَ ُ ك ل َي ْ َ هَل َ َ
وكذلك ليس له والد ،بدليل أنه ورث فيه الخوة ،والخوات بالجماع ل
ت { أي :شقيقة خ ٌه أُ ْ يرثون مع الوالد ،فإذا هلك وليس له ولد ول والد } وَل َ ُ
ك { أي نصف ما ت ََر َ ف َ ص ُ أو لب ،ل لم ،فإنه قد تقدم حكمها } .فَل ََها ن ِ ْ
متروكات أخيها ،من نقود وعقار وأثاث وغير ذلك ،وذلك من بعد الدين
والوصية كما تقدم.
َ
م ي َكن لَها وَلد ٌ {ّ ُ ّ
} وَهُوَ { أي :أخوها الشقيق أو الذي للب } ي َرِث َُها ِإن ل ْ
ولم يقدر له إرثا لنه عاصب فيأخذ مالها كله ،إن لم يكن صاحب فرض ول
عاصب يشاركه ،أو ما أبقت الفروض.
ُ َ
ن { أي :فما فوق } فَلهُ َ
ما الث ّلَثا ِ } فَِإن َ
ما
م ّ
ن ِ كان ََتا { أي :الختان } اث ْن َت َي ْ ِ
ساًء { أي :اجتمع الذكور من الخوة لغير أم جال وَن ِ َ خوَةً رِ َ كاُنوا إ ِ ْ ك وَِإن َ ت ََر َ
ل َ ّ مع الناث } فَِللذ ّك َرِ ِ
ن { فيسقط فرض الناث ويعصبهن حظ الن ْث َي َي ْ ِ مث ْ ُ
إخوتهن.
ّ َ َ ّ
ضلوا { أي ] :ص [ 218يبين لكم أحكامه التي م أن ت َ ِ ه لك ُ ْ ن الل ُ } ي ُب َي ّ ُ
تحتاجونها ،ويوضحها ويشرحها لكم فضل منه وإحسانا لكي تهتدوا ببيانه،
وتعملوا بأحكامه ،ولئل تضلوا عن الصراط المستقيم بسبب جهلكم وعدم
علمكم.
م { أي :عالم بالغيب والشهادة والمور الماضية يٍء عَِلي ٌ ش ْ ل َ ه ب ِك ُ ّ} َوالل ّ ُ
والمستقبلة ،ويعلم حاجتكم إلى بيانه وتعليمه ،فيعلمكم من علمه الذي
ينفعكم على الدوام في جميع الزمنة والمكنة.
آخر تفسير سورة النساء فلله الحمد والشكر.
) (1/217
) (1/218
) (1/218
ة
ق ُ خن ِ َمن ْ َل ل ِغَي ْرِ الل ّهِ ب ِهِ َوال ْ ُ ما أ ُهِ ّ زيرِ وَ َ خن ْ ِ م ال ْ ِ ح ُم وَل َ ْ ة َوالد ّ ُ مي ْت َ ُم ال ْ َ ت عَل َي ْك ُ ُ م ْ حّر َ ُ
ح عََلى ب ُ ذ ما و م ت يّ ك َ ذ ما لّ إ ع ب س ال َ
ل َ ك َ أ ما و ة
ُ ح طي ن وال ة
ُ ي د ر ت م ْ لوا ُ ة َ ذ قو ُ و م ْ لوا
ُْ ْ َ َ ِ َ ّ ُ ُ ِ َ َ ُ ََ َّ َ ّ ِ َ َ َ َ َ ْ
ن م روا َ فَ ك ن ذي ّ ل ا س ئ ي م و يْ ل ا ق س ف م ُ ك لَ ذ م لَ ز َ لْ با موا َ
ِ ْ ُ ِ َ ِ ْ ِ ِ ْ ِ ْ ٌ َ ْ َ َِ َ ص ِ َ ْ َ ْ َ ِ ُ
س ْ ق تس ت ن أ و ب الن ّ ُ
َ َ
مت عَل َي ْك ُ ْ م ُم ْ
م وَأت ْ َ م ِدين َك ُ ْ ت ل َك ُ ْمل ْ ُ م أك ْ َ ن ال ْي َوْ َ شوْ ِ خ َ م َوا ْ شوْهُ ْ خ َ م فََل ت َ ْ ِدين ِك ُ ْ
ف ِل ِث ْم ٍ جان ِ ٍ مت َ َ صةٍ غَي َْر ُ م َ خ َ م ْضط ُّر ِفي َ نا ْ م ِ م ِديًنا فَ َ سَل َ م اْل ِ ْ ت ل َك ُ ُ ضي ُ مِتي وََر ِ ن ِعْ َ
م )(3 حي ٌ فوٌر َر ِ َ
هغ ُ ّ
ن الل َ فَإ ِ ّ
ل ل ِغَي ْرِ الل ّهِ ب ِهِ ما أ ُهِ ّ زيرِ وَ َ خن َْ ِ م ال ْ ِ ح ُ م وَل َ ْ
ة َوالد ّ ُ م ال ْ َ
مي ْت َ ُ ت عَل َي ْك ُ ُ م ْ حّر َ }ُ }{3
ما
م وَ َ ما ذ َك ّي ْت ُ ْ سب ُعُ ِإل َ ل ال ّ ما أك َ َ ة وَ َ ح ُ طي َة َوالن ّ ِ مت ََرد ّي َ ُ موُْقوذ َةُ َوال ْ ُ ة َوال ْ َق ُخن ِ َ َوال ْ ُ
من ْ َ
َ
ن ذي َ س ال ّ ِ م ي َئ ِ َ سقٌ ال ْي َوْ َ م فِ ْ موا ِبالْزلم ِ ذ َل ِك ُ ْ س ُ ق ِ ست َ ْ ن تَ ْ ب وَأ ْ ص ِ ح عََلى الن ّ ُ ذ ُب ِ َ
َ َ
تم ُ م ْ م وَأت ْ َ م ِدين َك ُ ْ ت ل َك ُ ْ مل ْ ُم أك ْ َ ن ال ْي َوْ َ شوْ ِ خ َ م َوا ْ شوْهُ ْ خ َ م َفل ت َ ْ ن ِدين ِك ُ ْ م ْ فُروا ِ كَ َ
صةٍ غَي َْر م َ خ َ م ْ ضط ُّر ِفي َ نا ْ م ِ م ِديًنا فَ َ سل َ م ال ْ ت ل َك ُ ُ ضي ُ مِتي وََر ِ م ن ِعْ َ عَل َي ْك ُ ْ
م{. حي ٌ فوٌر َر ِ ه غَ ُ ن الل ّ َ ف لث ْم ٍ فَإ ِ ّ جان ِ ٍ مت َ َ ُ
م { واعلم أن الله ُ َ
ما ي ُت ْلى عَلي ْك ْ َ هذا الذي حولنا الله عليه في قولهِ } :إل َ
تبارك وتعالى ل يحّرم ما يحّرم إل صيانة لعباده ،وحماية لهم من الضرر
الموجود في المحرمات ،وقد يبين للعباد ذلك وقد ل يبين.
ه
دت حيات ُ ُ ق َ مي َْتة { والمراد ] ص [ 220بالميتة :ما فُ ِ فأخبر أنه حرم } ال ْ َ
بغير ذكاة شرعية ،فإنها تحرم لضررها ،وهو احتقان الدم في جوفها
ولحمها المضر بآكلها .وكثيرا ما تموت بعلة تكون سببا لهلكها ،فتضر
بالكل.
ويستثنى من ذلك ميتة الجراد والسمك ،فإنه حلل.
خنزيرِ { ْ
حم ال ِ َ
دم { أي :المسفوح ،كما قيد في الية الخرى } .وَل ْ } َوال ّ
وذلك شامل لجميع أجزائه ،وإنما نص الله عليه من بين سائر الخبائث من
السباع ،لن طائفة من أهل الكتاب من النصارى يزعمون أن الله أحله
لهم .أي :فل تغتروا بهم ،بل هو محرم من جملة الخبائث.
ذكر عليه اسم غير الله تعالى ،من الصنام ل ل ِغَي ْرِ الل ّهِ ب ِهِ { أيُ : ما أ ُهِ ّ } وَ َ
والولياء والكواكب وغير ذلك من المخلوقين .فكما أن ذكر الله تعالى
يطيب الذبيحة ،فذكر اسم غيره عليها ،يفيدها خبثا معنويا ،لنه شرك بالله
تعالى.
ة { أي :الميتة بخنق ،بيد أو حبل ،أو إدخالها رأسها بشيء ق ُ خن ِ َ من ْ َ } َوال ْ ُ
ضيق ،فتعجز عن إخراجه حتى تموت.
موُْقوذ َةُ { أي :الميتة بسبب الضرب بعصا أو حصى أو خشبة ،أو هدم } َوال ْ َ
شيء عليها ،بقصد أو بغير قصد.
ة { أي :الساقطة من علو ،كجبل أو جدار أو سطح ونحوه، مت ََرد ّي َ ُ } َوال ْ ُ
فتموت بذلك.
ة { وهي التي تنطحها غيرها فتموت. ح ُ طي َ } َوالن ّ ِ
سب ُعُ { من ذئب أو أسد أو نمر ،أو من الطيور التي تفترس ل ال ّ ما أ َك َ
َ } وَ َ
الصيود ،فإنها إذا ماتت بسبب أكل السبع ،فإنها ل تحل.
م { راجع لهذه المسائل ،من منخنقة ،وموقوذة، ما ذ َك ّي ْت ُ ْ وقولهِ } :إل َ
ومتردية ،ونطيحة ،وأكيلة سبع ،إذا ذكيت وفيها حياة مستقرة لتتحقق
الذكاة فيها ،ولهذا قال الفقهاء " :لو أبان السبع أو غيره حشوتها ،أو قطع
حلقومها ،كان وجود حياتها كعدمه ،لعدم فائدة الذكاة فيها " ]وبعضهم لم
يعتبر فيها إل وجود الحياة فإذا ذكاها وفيها حياة حلت ولو كانت مبانة
الحشوة وهو ظاهر الية الكريمة[ )(1
موا ِبالْزلم ِ { أي :وحرم عليكم الستقسام بالزلم .ومعنى َ
س ُ ق ِ ست َ ْ } وَأن ت َ ْ
الستقسام :طلب ما يقسم لكم ويقدر بها ،وهي قداح ثلثة كانت تستعمل
في الجاهلية ،مكتوب على أحدها "افعل" وعلى الثاني "ل تفعل" والثالث
غفل ل كتابة فيه.
م أحدهم بسفر أو عرس أو نحوهما ،أجال تلك القداح المتساوية في فإذا هَ ّ
الجرم ،ثم أخرج واحدا منها ،فإن خرج المكتوب عليه "افعل" مضى في
أمره ،وإن ظهر المكتوب عليه"ل تفعل" لم يفعل ولم يمض في شأنه،
وإن ظهر الخر الذي ل شيء عليه ،أعادها حتى يخرج أحد القدحين فيعمل
به .فحرمه ) (2الله عليهم ،الذي في هذه الصورة وما يشبهه ،وعوضهم
عنه بالستخارة لربهم في جميع أمورهم.
سقٌ { الشارة لكل ما تقدم من المحرمات ،التي حرمها الله م فِ ْ } ذ َل ِك ُ ْ
صيانة لعباده ،وأنها فسق ،أي :خروج عن طاعته إلى طاعة الشيطان.
ثم امتن على عباده بقوله:
م ْ
ن الي َوْ َشوْ ِخ َ م َوا ْ شوْهُ ْ خ َ م فل ت َ َْ ُ
من ِدين ِك ْ فُروا ِ ن كَ َذي َ س ال ّ ِ م ي َئ ِ َ } ....ال ْي َوْ َ
َ َ
ن
م ِم ِديًنا فَ َ سل َم ال ْ ت ل َك ُ ُ ضي ُ مِتي وََر ِ ت عَل َي ْك ُ ْ
م ن ِعْ َ م ُم ْم وَأت ْ َ م ِدين َك ُ ْ ت ل َك ُ ْ مل ْ ُ أك ْ َ
م{. حي ٌفوٌر ّر ِ ه غَ ُ ن الل ّ َف لث ْم ٍ فَإ ِ ّ جان ِ ٍ مت َ َصة غَي َْر ُ م َ خ َ م ْضط ُّر ِفي َ ا ْ
واليوم المشار إليه يوم عرفة ،إذ أتم الله دينه ،ونصر عبده ورسوله،
وانخذل أهل الشرك انخذال بليغا ،بعد ما كانوا حريصين على رد المؤمنين
عن دينهم ،طامعين في ذلك.
فلما رأوا عز السلم وانتصاره وظهوره ،يئسوا كل اليأس من المؤمنين،
أن يرجعوا إلى دينهم ،وصاروا يخافون منهم ويخشون ،ولهذا في هذه
السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع -
لم يحج فيها مشرك ،ولم يطف بالبيت عريان.
ن { أي :فل تخشوا المشركين ،واخشوا شوْ ِ خ َ م َوا ْ
شوْهُ ْ خ َولهذا قالَ } :فل ت َ ْ
الله الذي نصركم عليهم وخذلهم ،ورد كيدهم في نحورهم.
} ال ْيو َ
م { بتمام النصر ،وتكميل الشرائع الظاهرة م ِدين َك ُ ْ ت ل َك ُ ْ مل ْ ُ م أك ْ ََ ْ َ
والباطنة ،الصول والفروع ،ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية،
في أحكام الدين أصوله وفروعه.
فكل متكلف يزعم أنه ل بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى
علوم غير علم الكتاب والسنة ،من علم الكلم وغيره ،فهو جاهل ،مبطل
في دعواه ،قد زعم أن الدين ل يكمل إل بما قاله ودعا إليه ،وهذا من
أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله.
َ َ
م
سل َم ال ْ ُ
ت لك ُضي ُ
مِتي { الظاهرة والباطنة } وََر ِ م ن ِعْ َ ت عَل َي ْك ُ ْ م ُم ْ} وَأت ْ َ
ِديًنا { أي :اخترته واصطفيته لكم دينا ،كما ارتضيتكم له ،فقوموا به شكرا
ن عليكم بأفضل الديان وأشرفها وأكملها. م ّلربكم ،واحمدوا الذي َ
ضط ُّر { أي :ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من المحرمات ] ص نا ْ م ِ } فَ َ
صةٍ { أي: م َ خ َ
م ْ
ة { } ِفي َ مي ْت َ ُ ْ
م ال َ َ
ت عَلي ْك ُ ُ م ْ حّر َ [ 221السابقة ،في قولهُ } :
ف { أي :مائل } لث ْم ٍ { بأن ل يأكل حتى يضطر ،ول جان ِ ٍ مجاعة } غَي َْر ُ
مت َ َ
م { حيث أباح له الكل حي ٌ فوٌر ّر ِ ه غَ ُ ن الل ّ َ يزيد في الكل على كفايته } فَإ ِ ّ
في هذه الحال ،ورحمه بما يقيم به بنيته من غير نقص يلحقه في دينه.
__________
) (1كذا في ب ،وفي أ :كعدمه
) (2كذا في النسختين ،ولعل القرب :فحرم.
) (1/219
وارِِح
ج َ ن ال ْ َ
م َ م ِ ما عَل ّ ْ
مت ُ ْ ت وَ َ م الط ّي َّبا ُ ل ل َك ُ ُ ل أُ ِ
ح ّ م قُ ْل ل َهُ ْ ح ّذا أ ُ ِما َ سأ َُلون َ َ
ك َ يَ ْ
ُ ُ َ ْ َ ُ ُ ّ ُ ّ ّ ّ َ
م م َواذ ْكُروا ا ْ
س َ ن عَلي ْك ْ سك َم َ ما أ ْم ّه فَكلوا ِ م الل ُ مك ُ ما عَل َم ّ ن ِ مون َهُ ّ ن ت ُعَل ُ مكلِبي َ ُ
ب )(4 سا ِ ح َ ْ
ريعُ ال ِ س ِه َ ّ
ن الل َ ه إِ ّ ّ
قوا الل َ َ
اللهِ عَلي ْهِ َوات ّ ُ ّ
ن
م َ م ِ مت ُ ْ ما عَل ّ ْ ت وَ َ م الط ّي َّبا ُ ل ل َك ُ ُ ح ّل أُ ِ م قُ ْ ل ل َهُ ْ ح ّ ذا أ ُ ِما َك َ سأ َُلون َ َ} } { 4يَ ْ
َ
من عَل َي ْك ُ ْ سك ْ َم َ ما أ ْ م ّه فَك ُُلوا ِ م الل ّ ُ مك ُ ُما عَل ّ َ م ّ ن ِ مون َهُ ّ ن ت ُعَل ّ ُمك َل ِّبي َ
وارِِح ُ ج َال ْ َ
ب{. سا ِ ح َ ريعُ ال ْ ِ
س ِ ه َ ن الل ّ َ ه إِ ّ قوا الل ّ َ م الل ّهِ عَل َي ْهِ َوات ّ ُ س َ َواذ ْك ُُروا ا ْ
ُ َ
م{ل ل َهُ ْ ح ّ ذا أ ِ ما َ ك َ سأُلون َ َ يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم } :ي َ ْ
ت { وهي كل ما فيه نفع أو لذة ،من م الط ّي َّبا ُ ل ل َك ُ ُ ح ّ ل أُ ِمن الطعمة؟ } قُ ْ
غير ضرر بالبدن ول بالعقل ،فدخل في ذلك جميع الحبوب والثمار التي في
القرى والبراري ،ودخل في ذلك جميع حيوانات البحر وجميع حيوانات البر،
إل ما استثناه الشارع ،كالسباع والخبائث منها.
ولهذا دلت الية بمفهومها على تحريم الخبائث ،كما صرح به في قوله
ث{. خَبائ ِ َم ال ْ َ م عَل َي ْهِ ُ حّر ُ
ت وَي ُ َم الط ّي َّبا ِ ل ل َهُ ُح ّ تعالى } :وَي ُ ِ
وارِِح { أي :أحل لكم ما علمتم من الجوارح إلى آخر ج َ ْ
ن ال َ م َ م ِ ما عَل ّ ْ
مت ُ ْ } وَ َ
الية .دلت هذه الية على أمور:
أحدها :لطف الله بعباده ورحمته لهم ،حيث وسع عليهم طرق الحلل،
وأباح لهم ما لم يذكوه مما صادته الجوارح ،والمراد بالجوارح :الكلب،
والفهود ،والصقر ،ونحو ذلك ،مما يصيد بنابه أو بمخلبه.
الثاني :أنه يشترط أن تكون معلمة ،بما يعد في العرف تعليما ،بأن
يسترسل إذا أرسل ،وينزجر إذا زجر ،وإذا أمسك لم يأكل ،ولهذا قال:
َ
م { أي :أمسكن من ن عَل َي ْك ُ ْسك ْ َ م َ ما أ ْ م ّه فَك ُُلوا ِ م الل ّ ُ مك ُ ُ ما عَل ّ َ م ّ ن ِ مون َهُ ّ} ت ُعَل ّ ُ
الصيد لجلكم.
وما أكل منه الجارح فإنه ل يعلم أنه أمسكه على صاحبه ،ولعله أن يكون
أمسكه على نفسه.
ن
م َالثالث :اشتراط أن يجرحه الكلب أو الطير ونحوهما ،لقولهِ } :
وارِِح { مع ما تقدم من تحريم المنخنقة .فلو خنقه الكلب أو غيره ،أو ج َ ال ْ َ
قتله بثقله لم يبح ]هذا بناء على أن الجوارح اللتي يجرحن الصيد بأنيابها أو
مخالبها ،والمشهور أن الجوارح بمعنى الكواسب أي :المحصلت للصيد
والمدركات لها فل يكون فيها على هذا دللة -والله أعلم. (1) [-
الرابع :جواز اقتناء كلب الصيد ،كما ورد في الحديث الصحيح ،مع أن اقتناء
الكلب محرم ،لن من لزم إباحة صيده وتعليمه جواز اقتنائه.
الخامس :طهارة ما أصابه فم الكلب من الصيد ،لن الله أباحه ولم يذكر
له غسل فدل على طهارته.
السادس :فيه فضيلة العلم ،وأن الجارح المعلم -بسبب العلم -يباح صيده،
والجاهل بالتعليم ل يباح صيده.
السابع :أن الشتغال بتعليم الكلب أو الطير أو نحوهما ،ليس مذموما،
وليس من العبث والباطل .بل هو أمر مقصود ،لنه وسيلة لحل صيده
والنتفاع به.
الثامن :فيه حجة لمن أباح بيع كلب الصيد ،قال :لنه قد ل يحصل له إل
بذلك.
التاسع :فيه اشتراط التسمية عند إرسال الجارح ،وأنه إن لم يسم الله
متعمدا ،لم يبح ما قتل الجارح.
العاشر :أنه يجوز أكل ما صاده الجارح ،سواء قتله الجارح أم ل .وأنه إن
أدركه صاحبه ،وفيه حياة مستقرة فإنه ل يباح إل بها.
ثم حث تعالى على تقواه ،وحذر من إتيان الحساب في يوم القيامة ،وأن
ب{. سا ِح َ ريعُ ال ْ ِ
س ِ
ه َ ن الل ّ َه إِ ّ قوا الل ّ َ ذلك أمر قد دنا واقترب ،فقالَ } :وات ّ ُ
__________
) (1زيادة من هامش ب.
) (1/221
) (1/221
) (1/222
معَْنا
س ِ م ب ِهِ إ ِذ ْ قُل ْت ُ ْ
م َ قك ُ ْ
ذي َواث َ َ ه ال ّ ِ ميَثاقَ ُ م وَ ِة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ } َ } { 7واذ ْك ُُروا ن ِعْ َ
م َ
دورِ { . ص ُ ت ال ّ م بِ َ
ذا ِ ه عَِلي ٌ ن الل ّ َه إِ ّقوا الل ّ َوَأ َط َعَْنا َوات ّ ُ
يأمر تعالى عباده بذكر نعمه الدينية والدنيوية ،بقلوبهم وألسنتهم .فإن في
استدامة ذكرها داعيا لشكر الله تعالى ومحبته ،وامتلء القلب من إحسانه.
وفيه زوال للعجب من النفس بالنعم الدينية ،وزيادة لفضل الله وإحسانه.
م ب ِهِ { أي :عهده الذي قك ُ ْ ذي َواث َ َ ميَثاَقه { أي :واذكروا ميثاقه } ال ّ ِ و} ِ
أخذه عليكم.
وليس المراد بذلك أنهم لفظوا ونطقوا بالعهد والميثاق ،وإنما المراد بذلك
أنهم بإيمانهم بالله ورسوله قد التزموا طاعتهما ،ولهذا قال } :إ ِذ ْ قُل ْت ُ ْ
م
معَْنا وَأ َط َعَْنا { أي :سمعنا ما دعوتنا به من آياتك القرآنية والكونية ،سمع س ِ
َ
فهم وإذعان وانقياد .وأطعنا ما أمرتنا به بالمتثال ،وما نهيتنا عنه
بالجتناب .وهذا شامل لجميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة.
وأن المؤمنين يذكرون في ذلك عهد الله وميثاقه عليهم ،وتكون منهم على
مُروا به كامل غير ناقص. ُ
بال ،ويحرصون على أداء ما أ ِ
دورِ { أي :بما ص ُ
ت ال ّ م بِ َ
ذا ِ ن الل ّ َ
ه عَِلي ٌ ه { في جميع أحوالكم } إ ِ ّ قوا الل ّ َ
} َوات ّ ُ
تنطوي عليه من الفكار والسرار والخواطر .فاحذروا أن يطلع من قلوبكم
على أمر ل يرضاه ،أو يصدر منكم ما يكرهه ،واعمروا قلوبكم بمعرفته
ومحبته والنصح لعباده .فإنكم -إن كنتم كذلك -غفر لكم السيئات ،وضاعف
لكم الحسنات ،لعلمه بصلح قلوبكم.
) (1/224
َ
نشن َآ َ ُ
م َمن ّك ُ ْجرِ َيَ ْ ط وََل س ِق ْ داَء ِبال ْ ِشه َ َ ن ل ِل ّهِ ُ مي َ
وا ِ مُنوا ُ
كوُنوا قَ ّ
ذي َ
نآ ََيا أي َّها ال ّ ِ َ
ّ َ َ
ما
خِبيٌر ب ِ َ
ه َ ن الل َ إِ ّ قوا الل ّ َ
ه وى َوات ّ ُ ق َب ِللت ّ ْقَوْم ٍ عََلى أّل ت َعْدُِلوا اعْدُِلوا هُوَ أقَْر ُ
ن )(8 مُلو َ ت َعْ َ
َ
ممن ّك ُ ْ
جرِ َ ط َول ي َ ْ س ِ داَء ِبال ْ ِ
ق ْ شه َ َ ن ل ِل ّهِ ُمي َ
وا ِ كوُنوا قَ ّ مُنوا ُ نآ َ ذي َ } َ } { 8يا أي َّها ال ّ ِ
َ َ
خِبيٌر ه َ ن الل ّ َ قوا الل ّ َ
ه إِ ّ وى َوات ّ ُ ق َ ن قَوْم ٍ عََلى أل ت َعْدُِلوا اعْدُِلوا هُوَ أقَْر ُ
ب ِللت ّ ْ شَنآ ُ َ
ن{. مُلو َ ما ت َعْ َ
بِ َ
مُروا باليمان به ،قوموا بلزم إيمانكم ،بأن ُ ّ َ
مُنوا { بما أ ِ نآ َ ذي َ أي } ي َأي َّها ال ِ
ط { بأن تنشط للقيام بالقسط س ِ ق ْ ْ
داَء ِبال ِ شه َ َ ّ
ن ل ِلهِ ُ مي َ وا ِ تكونوا } قَ ّ
حركاتكم الظاهرة والباطنة.
وأن يكون ذلك القيام لله وحده ،ل لغرض من الغراض الدنيوية ،وأن
تكونوا قاصدين للقسط ،الذي هو العدل ،ل الفراط ول التفريط ،في
أقوالكم ول أفعالكم ،وقوموا بذلك على القريب والبعيد ،والصديق والعدو.
م { أي :ل يحملنكم بغض } قَوْم ٍ عََلى َأل ت َعْدُِلوا { كما يفعله من ّك ُ ْ جرِ َ } َول ي َ ْ
من ل عدل عنده ول قسط ،بل كما تشهدون لوليكم ،فاشهدوا عليه ،وكما
تشهدون على عدوكم فاشهدوا له ،ولو كان كافرا أو مبتدعا ،فإنه يجب
العدل فيه ،وقبول ما يأتي به من الحق ،لنه حق ل لنه قاله ،ول يرد الحق
لجل قوله ،فإن هذا ظلم للحق.
َ
وى { أي :كلما حرصتم على العدل واجتهدتم في ق َب ِللت ّ ْ } اعْدُِلوا هُوَ أقَْر ُ
العمل به ،كان ذلك أقرب لتقوى قلوبكم ،فإن تم العدل كملت التقوى.
ن { فمجازيكم بأعمالكم ،خيرها وشرها ،صغيرها مُلو َ ما ت َعْ َ خِبيٌر ب ِ َ ه َ ن الل ّ َ } إِ ّ
وكبيرها ،جزاء عاجل وآجل.
) (1/224
َ ذي َ
م )(9
ظي ٌ
جٌر عَ ِ
فَرةٌ وَأ ْ
مغْ ِ ت ل َهُ ْ
م َ حا ِ مُلوا ال ّ
صال ِ َ مُنوا وَعَ ِ
نآ َه ال ّ ِ َ
وَعَد َ الل ّ ُ
َ
جٌر
فَرةٌ وَأ ْمغْ ِم َت ل َهُ ْ
حا ِ صال ِ َمُلوا ال ّ مُنوا وَعَ ِ
نآ َ ه ال ّ ِ
ذي َ } } { 10 ، 9وَعَد َ الل ّ ُ
م{. ظي ٌ
عَ ِ
ه { الذي ل يخلف الميعاد وهو أصدق القائلين -المؤمنين به أي } وَعَد َ الل ّ ُ
ت { من واجبات حا ِصال ِ َمُلوا ال ّ وبكتبه ورسله واليوم الخر } ،وَعَ ِ
ومستحبات -بالمغفرة لذنوبهم ،بالعفو عنها وعن عواقبها ،وبالجر العظيم
الذي ل يعلم عظمه إل الله تعالى.
ُ َ ما أ ُ ْ
ن{. ملو َ َ
ما كاُنوا ي َعْ َ جَزاًء ب ِ َ ن َ من قُّرةِ أعْي ُ ٍ ي ل َُهم ِ ف َخ ِ س َف ٌ } َفل ت َعْل َ ُ
م نَ ْ
) (1/224
ل الل ّ ُ
ه قيًبا وََقا َ شَر ن َ ِ ي عَ َ م اث ْن َ ْ من ْهُ ُ ل وَب َعَث َْنا ِ سَراِئي َ ميَثاقَ ب َِني إ ِ ْ ه ِ خذ َ الل ّ ُ قد ْ أ َ َ وَل َ َ
َ َ إني معك ُم ل َئ ِ َ
م
موهُ ْ سِلي وَعَّزْرت ُ ُ م ب ُِر ُ من ْت ُ ْ كاةَ وَآ َ م الّز َ صَلةَ وَآت َي ْت ُ ُ م ال ّ مت ُ ُ ن أق َ ْ ْ َ َ ْ ِّ
ري ج ت ت نا ج م ُ ك نَ ل خ د ُ ل َ و م ُ ك ت َ
ئا ي س م ُ ك ن ع ن ر ّ ف َ ك ُ لَ نا س ح ضا ر َ ق ه ّ ل ال م ْ َ
َ ّ ْ ْ َ ّ ِ ْ َ ْ ِ ّ ْ َ ّ ٍ َ ْ ِ َ َ ْ ً َ َ ً وَ َ ْ ُ ُ
ت ض ر ق أ
َ
ل )(12 سِبي ِ واَء ال ّ س َ ل َ ض ّ قد ْ َ م فَ َ من ْك ُ ْ ك ِ فَر ب َعْد َ ذ َل ِ َ ن كَ َ م ْ حت َِها اْلن َْهاُر فَ َ ن تَ ْ م ْ ِ
ن
م عَ ْ َ
ن الكل ِ َ ْ حّرفو َ ُ ة يُ َ سي َ ً م قا ِ َ جعَلَنا قلوب َهُ ْ ُ ُ ْ م وَ َ م لعَّناهُ ْ َ ميثاقهُ ْ َ َ م ِ ضه ِ ْ ق ِ ما ن َ ْ فَب ِ َ
م إ ِّل قَِليًل من ْهُ ْ خائ ِن َةٍ ِ ل ت َط ّل ِعُ عََلى َ ما ذ ُك ُّروا ب ِهِ وََل ت ََزا ُ م ّ ظا ِ ح ّ سوا َ ضعِهِ وَن َ ُ وا ِ م َ َ
ن )(13 سِني َ ح ِ م ْ ب ال ُ ْ ح ّ ه يُ ِ ن الل َ ّ ح إِ ّ ف ْ ص َ م َوا ْ ف عَن ْهُ ْ م فاعْ ُ َ من ْهُ ْ ِ
شَر ي عَ َ م اث ْن َ ْ من ْهُ ُ ل وَب َعَث َْنا ِ سَراِئي َ ميَثاقَ ب َِني إ ِ ْ ه ِ خذ َ الل ّ ُ قد ْ أ َ َ } } { 13 ، 12وَل َ َ
َ
سِلي م ب ُِر ُ من ْت ُ ْ كاةَ َوآ َ م الّز َ صلةَ َوآت َي ْت ُ ُ م ال ّ مت ُ ُ ن أق َ ْ م ل َئ ِ ْ معَك ُ ْ ه إ ِّني َ ل الل ّ ُ قيًبا وََقا َ نَ ِ
َ
خل َن ّك ُ ْ
م م َولد ْ ِ سي َّئات ِك ُ ْ م َ ن عَن ْك ُ ْ فَر ّ سًنا لك َ ّ ح َ ضا َ ه قَْر ً م الل ّ َ ضت ُ ُ م وَأقَْر ْ موهُ ْ وَعَّزْرت ُ ُ
واَء س َ ل َ ض ّ قد ْ َ م فَ َ من ْك ُ ْ ك ِ فَر ب َعْد َ ذ َل ِ َ ن كَ َ م ْ حت َِها الن َْهاُر فَ َ ن تَ ْ م ْ ري ِ ج ِ ت تَ ْ جّنا ٍ َ
م َ
ن الكل ِ َ ْ حّرفو َ ُ ة يُ َ سي َ ً م قا ِ َ جعَلَنا قلوب َهُ ْ ُ ُ ْ م وَ َ م لعَّناهُ ْ َ ميثاقهُ ْ َ َ م ِ ضه ِ ْ ق ِ ما ن َ ْ ل * فب ِ َ َ سِبي ِ ال ّ
م ِإل من ْهُ ْ خائ ِن َةٍ ِ َ
ما ذ ُكُروا ب ِهِ َول ت ََزال ت َطل ِعُ عَلى َ ّ ُ ّ م ّ حظا ِ ّ سوا َ ضعِهِ وَن َ ُ وا ِ م َ ن َ عَ ْ
ن{. سِني َ ح ِ م ْ ب ال ُ ْ ح ّ ه يُ ِ ن الل َ ّ ح إِ ّ ف ْ ص َ م َوا ْ ف عَن ْهُ ْ م فاعْ ُ َ من ْهُ ْ قَِليل ِ
يخبر تعالى أنه أخذ على بني إسرائيل الميثاق الثقيل المؤكد ،وذكر صفة
الميثاق وأجرهم إن قاموا به ،وإثمهم إن لم يقوموا به ،ثم ذكر أنهم ما
ميَثاقَ ب َِني ه ِ خذ َ الل ّ ُ قد ْ أ َ َ قاموا به ،وذكر ما عاقبهم به ،فقال } :وَل َ َ
قيًبا { شَر ن َ ِ ي عَ َ م اث ْن َ ْ من ْهُ ُ ل { أي :عهدهم المؤكد الغليظ } ،وَب َعَث َْنا ِ سَراِئي َ إِ ْ
أي :رئيسا وعريفا على من تحته ،ليكون ناظرا عليهم ،حاثا لهم على القيام
مُروا به ،مطالبا يدعوهم. ُ
بما أ ِ
م{ معَك ُ ْ ه { للنقباء الذين تحملوا من العباء ما تحملوا } :إ ِّني َ ل الل ّ ُ } وََقا َ
أي :بالعون والنصر ،فإن المعونة بقدر المؤنة.
ثم ذكر ما واثقهم عليه فقال } :ل َئ ِ َ
صلةَ { ظاهرا وباطنا، م ال ّ مت ُ ُ ن أق َ ْ ْ
كاةَ { م الّز َ َ َُْ ُت ي ت وآ } ذلك على والمداومة بالتيان بما يلزم وينبغي فيها،
سِلي { جميعهم ،الذين أفضلهم وأكملهم محمد م ب ُِر ُ من ْت ُ ْ لمستحقيها } َوآ َ
م { أي :عظمتموهم ،وأديتم ما يجب موهُ ْ صلى الله عليه وسلم } ،وَعَّزْرت ُ ُ
َ ّ َ
سًنا { وهو الصدقة ح َ ضا َ ه قْر ً م الل َ ضت ُ ُ لهم من الحترام والطاعة } وَأقَْر ْ
والحسان ،الصادر عن الصدق والخلص وطيب المكسب ،فإذا قمتم بذلك
حت َِها الن َْهاُر { فجمع من ت َ ْ ري ِ ج ِ ت تَ ْ جّنا ٍ م َ خل َن ّك ُ ْ م َولد ْ ِ سي َّئات ِك ُ ْ م َ عنك ُ ْ ن َ فَر ّ } لك َ ّ
لهم بين حصول المحبوب بالجنة وما فيها من النعيم ،واندفاع المكروه
بتكفير السيئات ،ودفع ما يترتب عليها من العقوبات.
ك { العهد والميثاق المؤكد باليمان واللتزامات، فَر ب َعْد َ ذ َل ِ َ من ك َ َ } فَ َ
المقرون بالترغيب بذكر ثوابه.
ل { أي :عن عمد وعلم ،فيستحق ما يستحقه سِبي ِ واَء ال ّ س َ ل َ ض ّ قد ْ َ } فَ َ
الضالون من حرمان الثواب ،وحصول العقاب .فكأنه قيل :ليت شعري ماذا
فعلوا؟ وهل وفوا بما عاهدوا الله عليه أم نكثوا؟
م{. ميَثاقَهُ ْ ضِهم ّ ق ِ ما ن َ ْ فبين أنهم نقضوا ذلك فقال } :فَب ِ َ
م { أي :طردناهم أي :بسببه عاقبناهم بعدة عقوبات :الولى :أنا } ل َعَّناهُ ْ
وأبعدناهم من رحمتنا ،حيث أغلقوا على أنفسهم أبواب الرحمة ،ولم
يقوموا بالعهد الذي أخذ عليهم ،الذي هو سببها العظم.
ة { أي :غليظة ل تجدي فيها م َقا ِ
سي َ ً جعَل َْنا قُُلوب َهُ ْ الثانية :قوله } :وَ َ
المواعظ ،ول تنفعها اليات والنذر ،فل يرغبهم تشويق ،ول يزعجهم
تخويف ،وهذا من أعظم العقوبات على العبد ،أن يكون قلبه بهذه الصفة
التي ل يفيده الهدى ،والخير إل شرا.
ضعِهِ { أي :ابتلوا بالتغيير والتبديل، وا ِ م َعن َ م َ ن ال ْك َل ِ َحّرُفو َ الثالثة :أنهم } ي ُ َ
فيجعلون للكلم الذي أراد الله معنى غير ما أراده الله ول رسوله.
ما ذ ُك ُّروا ب ِهِ { فإنهم ذكروا بالتوراة ،وبما أنزل م ّ ظا ّ ح ّ الرابعة :أنهم } نسوا َ
الله على موسى ،فنسوا حظا منه ،وهذا شامل لنسيان علمه ،وأنهم نسوه
وضاع عنهم ،ولم يوجد كثير مما أنساهم الله إياه عقوبة منه لهم.
وشامل لنسيان العمل الذي هو الترك ،فلم يوفقوا للقيام بما أمروا به،
ويستدل بهذا على أهل الكتاب بإنكارهم بعض الذي قد ذكر في كتابهم ،أو
وقع في زمانهم ،أنه مما نسوه.
م { أي: من ْهُ ْ خائ ِن َةٍ ّ َ
ل ت َطل ِعُ عَلى َ ّ الخامسة :الخيانة المستمرة التي } ل ت ََزا ُ
خيانة لله ولعباده المؤمنين.
ومن أعظم الخيانة منهم ،كتمهم ]عن[ من يعظهم ويحسن فيهم الظن
الحق ،وإبقاؤهم على كفرهم ،فهذه خيانة عظيمة .وهذه الخصال الذميمة،
حاصلة لكل من اتصف بصفاتهم.
فكل من لم يقم بما أمر الله به ،وأخذ به عليه اللتزام ،كان له نصيب من
اللعنة وقسوة القلب ،والبتلء بتحريف الكلم ،وأنه ل يوفق للصواب،
كر به ،وأنه ل بد أن يبتلى بالخيانة ،نسأل الله العافية. ونسيان حظ مما ذ ُ ّ
وسمى الله تعالى ما ذكروا به حظا ،لنه هو أعظم الحظوظ ،وما عداه
ه
مهِ ِفي ِزين َت ِ ِ ج عََلى قَوْ ِ خَر َ فإنما هي حظوظ دنيوية ،كما قال تعالى } :فَ َ
ح ّ ه لَ ُ ُ
ظ ذو َ ي َقاُرو ُ
ن إ ِن ّ ُ ما أوت ِ َ ل َ مث ْ َت ل ََنا ِ
حَياةَ الد ّن َْيا َيا ل َي ْ َ ن ال ْ َ دو َ ري ُ ن يُ ِذي َل ال ّ ِ َقا َ
صب َُروا ن َ ذي َ ها ِإل ال ّ ِ ما ي ُل َ ّ
قا َ ظيم ٍ { ] ص [ 226وقال في الحظ النافع } :وَ َ عَ ِ
ظيم ٍ { حظ عَ ِ ّ ذو َ ها ِإل ُ قا َ َ
ما ي ُل ّ وَ َ
م { أي :فإنهم وفوا بما عاهدوا الله عليه فوفقهم من ْهُ ْ َ
وقولهِ } :إل قِليل ِ
وهداهم للصراط المستقيم.
ح { أي :ل تؤاخذهم بما يصدر منهم من الذى ،الذي ف ْ ص َ م َوا ْ ف عَن ْهُ ْ } َفاعْ ُ
بح ّ ه يُ ِ ّ
يقتضي أن يعفى عنهم ،واصفح ،فإن ذلك من الحسان } إن الل ُ
ن { والحسان :هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه ،فإنه سِني َ ح ِ م ْال ْ ُ
يراك .وفي حق المخلوقين :بذل النفع الديني والدنيوي لهم.
) (1/225
ما م ّ ظا ِ ح ّسوا َ م فَن َ ُميَثاقَهُ ْخذ َْنا ِصاَرى أ َ َ ن َقاُلوا إ ِّنا ن َ َذي َ ن ال ّ ِ م َ } } { 14وَ ِ
ْ َ ْ ْ َ
ف ي ُن َب ّئ ُهُ ُ
م سوْ َ
مة ِ و َ َ
قَيا َضاَء إ ِلى ي َوْم ِ ال ِ داوَةَ َوالب َغْ َ ذ ُك ُّروا ب ِهِ فَأغَْري َْنا ب َي ْن َهُ ُ
م العَ َ
ن{. صن َُعو َ كاُنوا ي َ ْ ما َ الل ّ ُ
ه بِ َ
نذي َ أي :وكما أخذنا على اليهود العهد والميثاق ،فكذلك أخذنا على } ال ّ ِ
صاَرى { لعيسى ابن مريم ،وزكوا أنفسهم باليمان بالله ورسله َقاُلوا إ ِّنا ن َ َ
ما ذ ُك ُّروا ب ِهِ { نسيانا علميا، م ّظا ّ ح ّ سوا َوما جاءوا به ،فنقضوا العهد } ،فَن َ ُ
ْ َ ْ َ
مةِ { أي: قَيا َ
ضاَء إ ِلى ي َوْم ِ ال ِ م ال ْعَ َ
داوَةَ َوالب َغْ َ ونسيانا عمليا } .فَأغَْري َْنا ب َي ْن َهُ ُ
سلطنا بعضهم على بعض ،وصار بينهم من الشرور والحن ما يقتضي بغض
بعضهم بعضا ومعاداة بعضهم بعضا إلى يوم القيامة ،وهذا أمر مشاهد ،فإن
ف ي ُن َب ّئ ُهُ ُ
م سوْ َالنصارى لم يزالوا ول يزالون في بغض وعداوة وشقاق } .وَ َ
ن { فيعاقبهم عليه. صن َُعو َ ما َ
كاُنوا ي َ ْ الل ّ ُ
ه بِ َ
) (1/226
ن
م َ ن ِ فو َ
خ ُ
م تُ ْما ك ُن ْت ُ ْ م ّم ك َِثيًرا ِ ن ل َك ُ ْ سول َُنا ي ُب َي ّ ُ
م َر ُ جاَءك ُ ْ ب قَد ْ َ ل ال ْك َِتا ِ َيا أ َهْ َ
ه
دي ب ِ ِ ن ) (15ي َهْ ِ مِبي ٌ ب ُ ن الل ّهِ ُنوٌر وَك َِتا ٌ م َ م ِ جاَءك ُ ْن ك َِثيرٍ قَد ْ َ فو عَ ْ ب وَي َعْ ُ ال ْك َِتا ِ
ت إ َِلى الّنورِ ب ِإ ِذ ْن ِ ِ
ه ما ِ ن الظ ّل ُ َ م َ
م ِ جه ُ ْخرِ ُ سَلم ِ وَي ُ ْ ل ال ّ سب ُ َ
ه ُ وان َ ُ
ض َن ات ّب َعَ رِ ْم ِ ه َ الل ّ ُ
قيم ٍ )(16 ست َ ِم ْ ط ُ صَرا ٍ م إ َِلى ِ ديهِ ْ وَي َهْ ِ
ما ك ُن ْت ُ ْ
م م ّم ك َِثيًرا ِن ل َك ُ ْ
سول َُنا ي ُب َي ّ ُ م َر ُ جاَءك ُ ْ ب قَد ْ َ ل ال ْك َِتا ِ } َ } { 16 ، 15يا أ َهْ َ
ن* مِبي ٌب ُ ن الل ّهِ ُنوٌر وَك َِتا ٌ م َ م ِ جاَءك ُ ْ ن ك َِثيرٍ قَد ْ َ فو عَ ْ ب وَي َعْ ُ ن ال ْك َِتا ِ م َ ن ِ فو َ خ ُتُ ْ
ت إ َِلى ن الظ ّل ُ َ
ما ِ م َ م ِ جه ُ ْ خرِ ُ سلم ِ وَي ُ ْ ل ال ّ سب ُ َ
ه ُ وان َ ُض َ
ن ات ّب َعَ رِ ْ م ِ ه َ دي ب ِهِ الل ّ ُ ي َهْ ِ
قيم ٍ { . ست َ ِم ْ ط ُ
صَرا ٍ م إ َِلى ِ ديهِ ْ الّنورِ ب ِإ ِذ ْن ِهِ وَي َهْ ِ
لما ذكر تعالى ما أخذه الله على أهل الكتاب من اليهود والنصارى ،وأنهم
نقضوا ذلك إل قليل منهم ،أمرهم جميعا أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه
وسلم ،واحتج عليهم بآية قاطعة دالة على صحة نبوته ،وهي :أنه بين لهم
فون عن الناس ،حتى عن العوام من أهل ملتهم ،فإذا كانوا خ ُ كثيرا مما ي ُ ْ
هم المشار إليهم في العلم ول علم عند أحد في ذلك الوقت إل ما عندهم،
فالحريص على العلم ل سبيل له إلى إدراكه إل منهم ،فإتيان الرسول
صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن العظيم الذي بّين به ما كانوا يتكاتمونه
ي ل يقرأ ول يكتب -من أدل الدلئل على القطع برسالته، ُ
م ّ بينهم ،وهو أ ّ
وذلك مثل صفة محمد في كتبهم ،ووجود البشائر به في كتبهم ،وبيان آية
الرجم ونحو ذلك.
عن ك َِثيرٍ { أي :يترك بيان ما ل تقتضيه الحكمة. فو َ } وَي َعْ ُ
ن الل ّهِ ُنوٌر { وهو القرآن ،يستضاء به في ظلمات الجهالة م َ كم ّ جاَء ُ } قَد ْ َ
وعماية الضللة.
ن { لكل ما يحتاج الخلق إليه من أمور دينهم ودنياهم .من مِبي ٌ ب ّ } وَك َِتا ٌ
العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله ،ومن العلم بأحكامه الشرعية
وأحكامه الجزائية.
ن الذي يهتدي بهذا القرآن ،وما هو السبب الذي من العبد م ْ ثم ذكر َ
سلم ِ { أي: ل ال ّ سب ُ َه ُ وان َ ُ ض َ ن ات ّب َعَ رِ ْ ّ
م ِه َ دي ب ِهِ الل ُ لحصول ذلك ،فقال } :ي َهْ ِ
يهدي به من اجتهد وحرص على بلوغ مرضاة الله ،وصار قصده حسنا
-سبل السلم التي تسلم صاحبها من العذاب ،وتوصله إلى دار السلم،
وهو العلم بالحق والعمل به ،إجمال وتفصيل.
من { ظلمات الكفر والبدعة والمعصية ،والجهل والغفلة ،إلى جُهم ّ خرِ ُ } وَي ُ ْ
نور اليمان والسنة والطاعة والعلم ،والذكر .وكل هذه الهداية بإذن الله،
قيم ٍ { .
ست َ ِ
م ْ
ط ّ م إ َِلى ِ
صَرا ٍ ديهِ ْ
الذي ما شاء كان ،وما لم يشأ لم يكن } .وَي َهْ ِ
) (1/226
ن الل ّهِ م َ
ك ِ مل ِ ُن يَ ْ
م ْ ل فَ َ م قُ ْمْري َ َن َ ح اب ْ ُسي ُ م ِ ه هُوَ ال ْ َ ن الل ّ َ ن َقاُلوا إ ِ ّ ذي َ فَر ال ّ ِ قد ْ ك َ َ لَ َ
َْ ُ َ َ
ميًعا وَل ِل ّهِج ِض َ ن ِفي الْر ِ م ْ ه وَ َ م ُم وَأ ّ مْري َ َ ن َ ح اب ْ َ سي َم ِ ك ال ْ َ ن ي ُهْل ِ َ
ن أَراد َ أ ْ شي ًْئا إ ِ ْ َ
يٍء ل َ ُ
ه عَلى ك َّ ّ ما ي َ َ ُ َ ْ مل ُ ْ
ش ْ شاُء َوالل ُ خلقُ َ ما ي َ ْ ما ب َي ْن َهُ َ ض وَ َ ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َك ال ّ ُ
ديٌر )(17 قَ ِ
لم قُ ْ مْري َ َ ن َ ح اب ْ ُ سي ُم ِ ه هُوَ ال ْ َ ن الل ّ َ ن َقاُلوا إ ِ ّ ذي َ فَر ال ّ ِقد ْ ك َ َ } } { 18 ، 17ل َ َ
ُ َ َ
ن ِفي م ْ ه وَ َ م ُم وَأ ّ مْري َ َ ن َ ح اب ْ َ سي َ م ِ ك ال ْ َ ن ي ُهْل ِ َ ن أَراد َ أ ْ شي ًْئا إ ِ ْ ن الل ّهِ َ م َ ك ِ مل ِ ُ ن يَ ْ م ْفَ َ
هّ
شاُء َوالل ُ ما ي َ َ خلقُ َ ُ ما ي ْ ما ب َي ْن َهُ َ ض وَ َ ُ ْ ّ
ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ ملك ال ّ ميًعا وَل ِلهِ ُ ج ِض َ الْر ِ
ديٌر { . يٍء قَ ِ ش ْ ل َ عََلى ك ّ
ُ
لما ذكر تعالى أخذ الميثاق على أهل الكتابين ،وأنهم لم يقوموا به بل
نقضوه ،ذكر أقوالهم الشنيعة.
فذكر قول النصارى ،القول الذي ما قاله أحد غيرهم ،بأن الله هو المسيح
ابن مريم ،ووجه شبهتهم أنه ولد من غير أب ،فاعتقدوا فيه هذا العتقاد
قت بل أم ،وآدم أولى منه ،خلق بل أب ول خل ِ َالباطل مع أن حواء نظيرهُ ،
أم ،فهل ادعوا فيهما اللهية كما ادعوها في المسيح؟
فدل على أن قولهم اتباع هوى من غير برهان ول شبهة .فرد الله عليهم
ن أ ََراد َ َأن ي ُهْل ِ َ
ك شي ًْئا إ ِ ْ ن الل ّهِ َ م َ ك ِ مل ِ ُ من ي َ ْ ل فَ َ بأدلة عقلية واضحة فقال } :قُ ْ
ُ
ميًعا { . ج ِ ض َ من ِفي الْر ِ ه وَ َ م ُم وَأ ّ مْري َ َ ن َ ح اب ْ َ سي َم ِ ال ْ َ
فإذا كان المذكورون ل امتناع عندهم يمنعهم لو أراد الله أن يهلكهم ] ،ص
[ 227ول قدرة لهم على ذلك -دل على بطلن إلهية من ل يمتنع من
الهلك ،ول في قوته شيء من الفكاك.
ض { يتصرف فيهم ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ ك ال ّ مل ْ ُ ومن الدلة أن } ل ِل ّهِ { وحده } ُ
بحكمه الكوني والشرعي والجزائي ،وهم مملوكون مدبرون ،فهل يليق أن
يكون المملوك العبد الفقير ،إلها معبودا غنيا من كل وجه؟ هذا من أعظم
المحال.
ول وجه لستغرابهم لخلق المسيح عيسى ابن مريم من غير أب ،فإن الله
شاُء { إن شاء من أب وأم ،كسائر بني آدم ،وإن شاء من أب ما ي َ َ خل ُقُ َ } يَ ْ
بل أم ،كحواء .وإن شاء من أم بل أب ،كعيسى .وإن شاء من غير أب ول
أم ]كآدم[ ). (1
__________
) (1زيادة من هامش ب.
) (1/226
م ب ِذ ُُنوب ِك ُ ْ
م بَ ْ
ل م ي ُعَذ ّب ُك ُ ْ
ل فَل ِ َحّباؤُهُ قُ ْن أ َب َْناُء الل ّهِ وَأ َ ِح ُ صاَرى ن َ ْ ت ال ْي َُهود ُ َوالن ّ َ وََقال َ ِ
مل ْ ُ َ
تماَوا ِ س َك ال ّ شاُء وَل ِل ّهِ ُ ن يَ َم ْ
ب َ شاُء وَي ُعَذ ّ ُ ن يَ َ م ْ فُر ل ِ َ خل َقَ ي َغْ ِ ن َ م ْ م ّ
شٌر ِ م بَ َأن ْت ُ ْ
َْ
صيُر )(18 م ِ ما وَإ ِل َي ْهِ ال ْ َ ما ب َي ْن َهُ َض وَ َ
َوالْر ِ
م ب ِذ ُُنوب ِك ُ ْ
م م ي ُعَذ ّب ُك ُ ْ ل فَل ِ َ حّباؤُهُ قُ ْ ن أ َب َْناُء الل ّهِ وَأ َ ِ ح ُصاَرى ن َ ْ ت ال ْي َُهود ُ َوالن ّ َ } وََقال َ ِ
مل ْ ُ ب ْ َ
ك شاُء وَل ِل ّهِ ُ ن يَ َ م ْ ب َ شاُء وَي ُعَذ ّ ُ ن يَ َ م ْ فُر ل ِ َ خل َقَ ي َغْ ِ ن َ م ْ م ّ
شٌر ِ م بَ َ ل أن ْت ُ ْ َ
صيُر { . م ِ ْ َ
ما وَإ ِلي ْهِ ال َ ما ب َي ْن َهُ َض وَ َ ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ ال ّ
فنوع خليقته تعالى بمشيئته النافذة ،التي ل يستعصي عليها شيء ،ولهذا
ديٌر { . يٍء قَ ِ ش ْ ل َ ه عََلى ك ُ ّ قالَ } :والل ّ ُ
ومن مقالت اليهود والنصارى أن كل منهما ادعى دعوى باطلة ،يزكون بها
حّباؤُهُ { . ن أ َب َْناُء الل ّهِ وَأ َ ِ ح ُ أنفسهم ،بأن قال كل منهما } :ن َ ْ
والبن في لغتهم هو الحبيب ،ولم يريدوا البنوة الحقيقية ،فإن هذا ليس
من مذهبهم إل مذهب النصارى في المسيح.
م{؟ م ب ِذ ُُنوب ِك ُ ْ م ي ُعَذ ّب ُك ُ ْل فَل ِ َ قال الله ردا عليهم حيث ادعوا بل برهان } :قُ ْ
فلو كنتم أحبابه ما عذبكم ]لكون الله ل يحب إل من قام بمراضيه[ ). (1
فُرخل َقَ { تجري عليكم أحكام العدل والفضل } ي َغْ ِ ن َ م ْم ّ شٌر ّ ل َأنُتم ب َ َ } بَ ْ
شاُء { إذا أتوا بأسباب المغفرة أو أسباب العذاب، من ي َ َ ب َ شاُء وَي ُعَذ ّ ُ من ي َ َ لِ َ
صيُر { أي :فأي شيء م ِ ما وَإ ِل َي ْهِ ال ْ َ ما ب َي ْن َهُ َض وَ َ ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َك ال ّ مل ْ ُ} وَل ِل ّهِ ُ
خصكم بهذه الفضيلة ،وأنتم من جملة المماليك ومن جملة من يرجع إلى
الله في الدار الخرة ،فيجازيكم بأعمالكم.
__________
) (1زيادة من هامش ب.
) (1/227
قوُلوان تَ ُ ل ال ْكتاب قَد جاَءك ُم رسول ُنا يبين ل َك ُم عََلى فَترة من الرس َ َيا أ َهْ َ
لأ ْ َْ ٍ ِ َ ّ ُ ِ ْ ْ َ ُ َ َُّ ُ ْ َ َِ ِ
يٍءش ْ ل َ ه عََلى ك ُ ّ
ذيٌر َوالل ّ ُ
شيٌر وَن َ ِ جاَءك ُ ْ
م بَ ِ قد ْ َ شيرٍ وََل ن َ ِ
ذيرٍ فَ َ ن بَ ِ
م ْجاَءَنا ِ
ما َ َ
ديٌر )(19 قَ ِ
ن
م َ م عََلى فَت َْرةٍ ِ ن ل َك ُ ْ
سول َُنا ي ُب َي ّ ُ جاَءك ُ ْ
م َر ُ ب قَد ْ َ ل ال ْك َِتا ِ } َ } { 19يا أ َهْ َ
الرس َ
ذيٌر َوالل ّ ُ
ه شيٌر وَن َ ِ
م بَ ِجاَءك ُ ْ قد ْ َذيرٍ فَ َ شيرٍ َول ن َ ِ ن بَ ِ
م ْجاَءَنا ِما َ قوُلوا َ ن تَ ُ
لأ ْ ّ ُ ِ
ديٌر { . َ
يٍء ق ِ ش ْ ل َ عََلى ك ّ
ُ
يدعو تبارك وتعالى أهل الكتاب -بسبب ما من عليهم من كتابه -أن يؤمنوا
برسوله محمد صلى الله عليه وسلم ،ويشكروا الله تعالى الذي أرسله
ل { وشدة حاجة إليه. س ِ ن الّر ُم َ إليهم على حين } فَت َْرةٍ ّ
وهذا مما يدعو إلى اليمان به ،وأنه يبين لهم جميع المطالب اللهية
والحكام الشرعية.
ذيرٍ فَ َ
قد ْ شيرٍ َول ن َ ِ من ب َ ِ جاَءَنا ِ ما َ وقد قطع الله بذلك حجتهم ،لئل يقولواَ } :
ذيٌر { يبشر بالثواب العاجل والجل ،وبالعمال الموجبة شيٌر وَن َ ِ كم ب َ ِ جاَء ُ
َ
لذلك ،وصفة العاملين بها .وينذر بالعقاب العاجل والجل ،وبالعمال
الموجبة لذلك ،وصفة العاملين بها.
ديٌر { انقادت الشياء طوعا وإذعانا لقدرته ،فل يٍء قَ ِش ْ ل َ ه عََلى ك ُ ّ } َوالل ّ ُ
يستعصي عليه شيء منها ،ومن قدرته أن أرسل الرسل ،وأنزل الكتب،
وأنه يثيب من أطاعهم ويعاقب من عصاهم.
) (1/227
م أ َن ْب َِياَء ل ِفيك ُ ْ جعَ َ م إ ِذ ْ َ ة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ م َ مهِ َيا قَوْم ِ اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ قوْ ِ سى ل ِ َ مو َ ل ُ وَإ ِذ ْ َقا َ
ُ َ ْ َ َ َ ُ
خلوا ن )َ (20يا قَوْم ِ اد ْ ُ مي َ ن الَعال ِ م َ دا ِ ح ًتأ َ م ي ُؤْ ِ ما ل ْ م َ ُ
ملوكا وَآَتاك ْ ً م ُ جعَل َك ُ ْ وَ َ
َ َ َ َ ّ ّ ْ َ
قل ُِبوا م فَت َن ْ َ ُ
دوا عَلى أد َْبارِك ْ م وَل ت َْرت َ ّ ه لك ُْ ب الل ُ َ
ة الِتي كت َ َ س َ قد ّ َ م َض ال ُ اْلْر َ
حّتى خل ََها َ ن ن َد ْ ُ ن وَإ ِّنا ل َ ْ جّباِري َ ما َ ن ِفيَها قَوْ ً سى إ ِ ّ مو َ ن )َ (21قاُلوا َيا ُ ري َ س ِ خا ِ َ
نذي َ ّ
ن ال ِ م َ ن ِ جل ِ َ ل َر ُ ن )َ (22قا َ خلو َ ُ دا ِ من َْها فَإ ِّنا َ جوا ِ خُر ُ ن يَ ْ من َْها فَإ ِ ْ جوا ِ خُر ُ يَ ْ
َ
ن غال ُِبو َ م َ موهُ فَإ ِن ّك ُ ْ خل ْت ُ ُ ذا د َ َ ب فَإ ِ َ م ال َْبا َ خُلوا عَل َي ْهِ ُ ما اد ْ ُ ه عَل َي ْهِ َ م الل ّ ُ ن أن ْعَ َ خاُفو َ يَ َ
َ
خل ََها أب َ ً
دا ن ن َد ْ ُ سى إ ِّنا ل َ ْ مو َ ن )َ (23قاُلوا َيا ُ مِني َ مؤْ ِ م ُ ن ك ُن ْت ُ ْ وَعََلى الل ّهِ فَت َوَك ُّلوا إ ِ ْ
ن )َ (24قا َ هاهَُنا َقا ِ قات َِل إ ِّنا َ ك فَ َ ت وََرب ّ َ َ
ب إ ِّني ل َر ّ دو َ ع ُ ب أن ْ َ موا ِفيَها َفاذ ْهَ ْ دا ُ ما َ َ
ْ ْ َ َ
ل فَإ ِن َّها ن )َ (25قا َ قي س
ْ ِ ْ ِ ِ َ فا
َ ل ا م و َ ق ل ا ن ي ب و
ُ ْ َََْ ََْ َ نا ن ي ب ق ر ْ ف فا َ خي َ ِ أ و سي َ ْ ِ ِ َ ِ
ْ فن ل ّ إ ُ
ك لم أ ل
س عََلى ال ْ َ َ َ
قوْم ِ ض فََل ت َأ َ ن ِفي الْر ِ
ْ ة ي َِتيُهو َ سن َ ً ن َ م أْرب َِعي َ ة عَل َي ْهِ ْ م ٌ حّر َ م َ ُ
ن )(26 قي َ س ِ فا ِ ال َ ْ
م إ ِذ ْة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ م َ مهِ َيا قَوْم ِ اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ قوْ ِسى ل ِ َ مو َ ل ُ } } { 26 - 20وَإ ِذ ْ َقا َ
َ ل فيك ُ َ
ن * َيا مي َ ن ال َْعال َ ِ م َ دا ِ ح ًتأ َ م ي ُؤْ ِ ما ل َ ْ كا َوآَتاك ُ ْ
م َ مُلو ً م ُ جعَل َك ُ ْ جعَ َ ِ ْ
م أن ْب َِياَء وَ َ َ
ة{. س
ُ ّ َ َد َ ق مْ لا ضْ َ ر ال لوا ُ خ
ُ قَ ْ ِ ْ
د ا م و
إلى آخر القصة ) . (1لما امتن الله على موسى وقومه بنجاتهم من
فرعون وقومه وأسرهم واستبعادهم ،ذهبوا قاصدين لوطانهم ومساكنهم،
وهي بيت المقدس وما حواليه ،وقاربوا وصول بيت المقدس ،وكان الله
قد فرض عليهم جهاد عدوهم ليخرجوه من ديارهم .فوعظهم موسى عليه
ة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ
م م َالسلم؛ وذكرهم ليقدموا على الجهاد فقال لهم } :اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ
{ بقلوبكم وألسنتكم .فإن ذكرها داع إلى محبته تعالى ومنشط على
م َأنب َِياَء { يدعونكم إلى الهدى ،ويحذرونكم من ل ِفيك ُ ْ جعَ َ
العبادة } ،إ ِذ ْ َ
الردى ،ويحثونكم على سعادتكم البدية ،ويعلمونكم ما لم تكونوا تعلمون }
كا { تملكون أمركم ،بحيث إنه زال عنكم استعباد عدوكم مُلو ً كم ّ جعَل َ ُ وَ َ
لكم ،فكنتم تملكون أمركم ،وتتمكنون من إقامة دينكم.
َ ْ َ
ن{ مي َ ن الَعال ِ م َ دا ّ ح ًتأ َ م ي ُؤْ ِما ل َ ْ م { من النعم الدينية والدنيوية } َ } َوآَتاك ُ ْ
فإنهم في ذلك الزمان خيرة الخلق ،وأكرمهم على الله تعالى .وقد أنعم
عليهم بنعم ما كانت لغيرهم.
فذكرهم بالنعم الدينية والدنيوية ،الداعي ذلك ليمانهم وثباته ،وثباتهم على
ة{. س َ قد ّ َ م َ ض ال ْ ُ خُلوا الْر َ الجهاد ،وإقدامهم عليه ،ولهذا قالَ } :يا قَوْم ِ اد ْ ُ
م { فأخبرهم خبرا تطمئن به أنفسهم، ه ل َك ُ ْب الل ّ ُ أي :المطهرة } ال ِّتي ك َت َ َ
إن كانوا مؤمنين مصدقين بخبر الله ،وأنه قد كتب الله لهم دخولها،
َ
دوا { أي :ترجعوا } عََلى أد َْبارِك ُ ْ
م وانتصارهم على عدوهمَ } .ول ت َْرت َ ّ
ن { قد ] ص [ 228خسرتم دنياكم بما فاتكم من النصر ري َ
س ِ خا ِ قل ُِبوا َ فَت َن ْ َ
على العداء وفتح بلدكم .وآخرتكم بما فاتكم من الثواب ،وما استحققتم
-بمعصيتكم -من العقاب ،فقالوا قول يدل على ضعف قلوبهم ،وخور
نفوسهم ،وعدم اهتمامهم بأمر الله ورسوله.
ن { شديدي القوة والشجاعة ،أي :فهذا جّباِري َ ما َ ن ِفيَها قَوْ ً سى إ ِ ّ مو َ } َيا ُ
من الموانع لنا من دخولها.
ن { وهذا ُ
خلو َ من َْها فَإ ِّنا َ
دا ِ جوا ِ خُر ُ من َْها فَِإن ي َ ْ جوا ِ خُر ُ حّتى ي َ ْ خل ََها َ
} وَإ ِّنا َلن ن ّد ْ ُ
من الجبن وقلة اليقين ،وإل فلو كان معهم رشدهم ،لعلموا أنهم كلهم من
بني آدم ،وأن القوي من أعانه الله بقوة من عنده ،فإنه ل حول ول قوة إل
بالله ،ولعلموا أنهم سينصرون عليهم ،إذ وعدهم الله بذلك ،وعدا خاصا.
ن { الله تعالى ،مشجعين لقومهم ،منهضين خاُفو َ ن يَ َ ذي َن ال ّ ِ
م َ
ن ِ جل ِ } َقا َ
ل َر ُ
َ
ما { بالتوفيق، ه عَل َي ْهِ َم الل ّ ُلهم على قتال عدوهم واحتلل بلدهم } .أن ْعَ َ
وكلمة الحق في هذا الموطن المحتاج إلى مثل كلمهم ،وأنعم عليهم
بالصبر واليقين.
ن { أي :ليس بينكم وبين م َ
غال ُِبو َ خل ْت ُ ُ
موهُ فَإ ِن ّك ُ ْ ذا د َ َب فَإ ِ َ م ال َْبا َخُلوا عَل َي ْهِ ُ } اد ْ ُ
نصركم عليهم إل أن تجزموا عليهم ،وتدخلوا عليهم الباب ،فإذا دخلتموه
مَراهم بعدة هي أقوى العدد ،فقال } وَعََلى عليهم فإنهم سينهزمون ،ثم أ َ
ن { فإن في التوكل على الله -وخصوصا في مِني َ مؤْ ِ الل ّهِ فَت َوَك ُّلوا ِإن ك ُن ُْتم ّ
هذا الموطن -تيسيرا للمر ،ونصرا على العداء .ودل هذا على وجوب
التوكل ،وعلى أنه بحسب إيمان العبد يكون توكله ،فلم ينجع فيهم هذا
الكلم ،ول نفع فيهم الملم ،فقالوا قول الذلين:
__________
) (1في ب :كتب اليات إلى قوله" :فل تأس على القوم الفاسقين".
) (1/227
َ َ
قاِتل إ ِّنا ك فَ َ ت وََرب ّ َ ب أن َ موا ِفيَها َفاذ ْهَ ْ دا ُما َ دا ّخل ََها أب َ ًسى إ ِّنا َلن ن َد ْ ُ مو َ } َيا ُ
ن{. دو َ ع ُ هاهَُنا َقا ِ َ
فما أشنع هذا الكلم منهم ،ومواجهتهم لنبيهم في هذا المقام الحرج
الضيق ،الذي قد دعت الحاجة والضرورة إلى نصرة نبيهم ،وإعزاز
أنفسهم.
وبهذا وأمثاله يظهر التفاوت بين سائر المم ،وأمة محمد صلى الله عليه
وسلم حيث قال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم -حين
شاورهم في القتال يوم "بدر" مع أنه لم يحتم عليهم :يا رسول الله ،لو
خضت بنا هذا البحر لخضناه معك ،ولو بلغت بنا برك الغماد ما تخلف عنك
ك فَ َ ت وََرب ّ َ َ
قاِتل إ ِّنا ب أن َ أحد .ول نقول كما قال قوم موسى لموسى } :اذ ْهَ ْ
ن { ولكن اذهب أنت وربك فقاتل إنا معكما مقاتلون ،من بين دو َ ع ُ هاهَُنا َقا ِ َ
يديك ومن خلفك ،وعن يمينك وعن يسارك.
ك ِإل مل ِ ُ َ فلما رأى موسى عليه السلم عتوهم عليه } َقا َ
ب إ ِّني ل أ ْ ل َر ّ
خي { أي :فل يدان لنا بقتالهم ،ولست بجبار على هؤلء. سي وَأ َ ِ ف ِ نَ ْ
ن { أي :احكم بيننا وبينهم ،بأن تنزل قي َس ِ
فا ِ ْ
قوْم ِ ال َ ْ
ن ال َ } َفافُْرقْ ب َي ْن ََنا وَب َي ْ َ
فيهم من العقوبة ما اقتضته حكمتك ،ودل ذلك على أن قولهم وفعلهم من
الكبائر العظيمة الموجبة للفسق.
َ
ة
سن َ ًن َ م أْرب َِعي َ ة عَل َي ْهِ ْ م ٌ حّر َ
م َل { الله مجيبا لدعوة موسى } :فَإ ِن َّها ُ } َقا َ
ض { أي :إن من عقوبتهم أن نحرم عليهم دخول هذه ن ِفي الْر ِ ي َِتيُهو َ
القرية التي كتبها الله لهم ،مدة أربعين سنة ،وتلك المدة أيضا يتيهون في
الرض ،ل يهتدون إلى طريق ول يبقون مطمئنين ،وهذه عقوبة دنيوية ،لعل
الله تعالى كفر بها عنهم ،ودفع عنهم عقوبة أعظم منها ،وفي هذا دليل
على أن العقوبة على الذنب قد تكون بزوال نعمة موجودة ،أو دفع نقمة
قد انعقد سبب وجودها أو تأخرها إلى وقت آخر.
ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلء الذين قالوا هذه المقالة،
الصادرة عن قلوب ل صبر فيها ول ثبات ،بل قد ألفت الستعباد لعدوها،
ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها ،ولتظهر ناشئة جديدة
تتربى عقولهم على طلب قهر العداء ،وعدم الستعباد ،والذل المانع من
السعادة.
ولما علم الله تعالى أن عبده موسى في غاية الرحمة على الخلق،
خصوصا قومه ،وأنه ربما رق لهم ،واحتملته الشفقة على الحزن عليهم
َ
في هذه العقوبة ،أو الدعاء لهم بزوالها ،مع أن الله قد حتمها ،قال } :فل
ن { أي :ل تأسف عليهم ول تحزن ،فإنهم قد قوْم ِ ال ْ َ
س عََلى ال ْ َ ْ
قي َ
س ِ
فا ِ ت َأ َ
فسقوا ،وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل بهم ل ظلما منا.
) (1/228
لم َ َ
قب ّ ْ
ل م ي ُت َ َ ما وَل َ ْ حدِهِ َ نأ َ قب ّ َ ِ ْ حقّ إ ِذ ْ قَّرَبا قُْرَباًنا فَت ُ ُ م ِبال ْ َ ي آ َد َ َ م ن َب َأ اب ْن َ ْ ل عَل َي ْهِ ْ َوات ْ ُ
ت ْ َ ْ ّ قب ّ ُ َ
ل لقْت ُلن ّك َقا َ َ َ َ خرِ َقا َ َ ْ
سط َ ن بَ َ ن ) (27لئ ِ ْ قي َ مت ّ ِ ن ال ُ م َ ه ِ ل الل ُ ما ي َت َ َ ل إ ِن ّ َ ن ال َ م َ ِ
ب ّ َ َ َ
ط ي َدِيَ إ ِلي ْك ِلقْت ُلك إ ِّني أ َ َ َ َ َ َ َ َ
ه َر ّ ف الل َ خا ُ س ٍ ما أَنا ب َِبا ِ قت ُلِني َ ي ي َد َك ل ِت َ ْ إ ِل ّ
َ َ ُ
ب الّناِر حا ِ ص َ نأ ْ م ْ ن ِ ُ
ك فَت َكو َ م َ مي وَإ ِث ْ ِ ن ت َُبوَء ب ِإ ِث ْ ِ ن ) (28إ ِّني أِريد ُ أ ْ مي َ ال َْعال ِ
َ
َ
نم َح ِ صب َ َ ه فَأ ْ قت َل َ ُ
خيهِ فَ َ ل أَ ِ ه قَت ْ َ س ُ ف ُ ه نَ ْ ت لَ ُ ن ) (29فَط َوّعَ ْ مي َ ظال ِ ِ جَزاُء ال ّ ك َ وَذ َل ِ َ
ف يواري سوأةََ َ ْ ّ ال ْ َ
َ ْ ه ك َي ْ َ ُ َ َ َِ ض ل ِي ُرِي َ ُ
ُ ِ ث ِفي الْر ح ُ ه غَُراًبا ي َب ْ َ ث الل ُ ن ) (30فَب َعَ َ َ ري ِ س
خا ِ
خي سوْأةَ أ ِ ب فَأَوارِيَ َ ذا ال ْغَُرا ِ ل هَ َ مث ْ َ ن ِ كو َ ن أَ ُ تأ ْ
َ
جْز ُ
َ
ل َيا وَي ْل ََتا أعَ َ خيهِ َقا َ أَ ِ
َ
ن )(31 مي َ ن الّنادِ ِ م َ ح ِ صب َ َ فَأ ْ
َ
حق ّ { . م ِبال ْ َ ي آد َ َ م ن َب َأ اب ْن َ ْ ل عَل َي ْهِ ْ } َ } { 31 - 27وات ْ ُ
إلى آخر القصة ) (1أي :قص على الناس وأخبرهم بالقضية التي جرت
على ابني آدم بالحق ،تلوة يعتبر بها المعتبرون ،صدقا ل كذبا ،وجدا ل لعبا،
والظاهر أن ابني آدم هما ابناه لصلبه ،كما يدل عليه ظاهر الية والسياق،
وهو قول جمهور المفسرين.
أي :اتل عليهم نبأهما في حال تقريبهما للقربان ،الذي أداهما إلى الحال
] ص [ 229المذكورة.
} إ ِذ ْ قَّرَبا قُْرَباًنا { أي :أخرج كل منهما شيئا من ماله لقصد التقرب إلى
لم َ
خرِ { بأن علم ذلك بخبر من ن ال َ م َ ل ِ قب ّ ْ م ي ُت َ َ ما وَل َ ْ حدِهِ َ نأ َ قب ّ َ ِ ْ الله } ،فَت ُ ُ
السماء ،أو بالعادة السابقة في المم ،أن علمة تقبل الله لقربان ،أن تنزل
نار من السماء فتحرقه.
َ َ ْ
ل { البن ،الذي لم يتقبل منه للخر حسدا وبغيا } لقت ُلن ّك { فقال له } َقا َ
ن { فأي ذنب لي قي َ مت ّ ِن ال ْ ُ م َ ه ِ ل الل ّ ُ قب ّ ُ ما ي َت َ َ الخر -مترفقا له في ذلك } -إ ِن ّ َ
وجناية توجب لك أن تقتلني؟ إل أني اتقيت الله تعالى ،الذي تقواه واجبة
ي وعليك ،وعلى كل أحد ،وأصح القوال في تفسير المتقين هنا ،أي: عل ّ
المتقين لله في ذلك العمل ،بأن يكون عملهم خالصا لوجه الله ،متبعين
فيه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال له مخبرا أنه ل يريد أن يتعرض لقتله ،ل ابتداء ول مدافعة فقال:
ك لقْت ُل َ َط ي َدِيَ إ ِل َي ْ َ َ
ك { وليس س ٍ ما أَنا ب َِبا ِ قت ُل َِني َك ل ِت َ ْ ي ي َد َ َ ت إ ِل َ ّ سط ْ َ } ل َِئن ب َ َ
َ
ن{ مي َ ب ال َْعال َ ِ ه َر ّ ف الل ّ َ خا ُ ذلك جبنا مني ول عجزا .وإنما ذلك لني } أ َ
والخائف لله ل يقدم ) (2على الذنوب ،خصوصا الذنوب الكبار .وفي هذا
تخويف لمن يريد القتل ،وأنه ينبغي لك أن تتقي الله وتخافه.
م َ َ ُ
ك { أي :إنه إذا دار المر بين مي وَإ ِث ْ ِ } إ ِّني أِريد ُ أن ت َُبوَء { أي :ترجع } ب ِإ ِث ْ ِ
ن
م ْ
ن ِكو َأن أكون قاتل أو تقتلني فإني أوثر أن تقتلني ،فتبوء بالوزرين } فَت َ ُ
ن { دل هذا على أن القتل من كبائر جَزاُء ال ّ ب الّنارِ وَذ َل ِ َ َ
مي َ ظال ِ ِ ك َ حا ِ ص َ أ ْ
الذنوب ،وأنه موجب لدخول النار.
فلم يرتدع ذلك الجاني ولم ينزجر ،ولم يزل يعزم نفسه ويجزمها ،حتى
طوعت له قتل أخيه الذي يقتضي الشرع والطبع احترامه.
َ
ن { دنياهم وآخرتهم ،وأصبح قد سن هذه ري َس ِ خا ِ ن ال ْ َ م َ ح ِ ه فَأ ْ
صب َ َ قت َل َ ُ } فَ َ
السنة لكل قاتل.
"ومن سن سنة سيئة ،فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".
ولهذا ورد في الحديث الصحيح أنه "ما من نفس تقتل إل كان على ابن آدم
الول شطر من دمها ،لنه أول من سن القتل".
فلما قتل أخاه لم يدر كيف يصنع به؛ لنه أول ميت مات من بني آدم
ض { أي :يثيرها ليدفن غرابا آخر ميتا. ِ ث ِفي الْر ح ُ ه غَُراًبا ي َب ْ َ ث الل ّ ُ } فَب َعَ َ
خيهِ { أي :بدنه ،لن بدن الميت َ
سوْأةَ أ ِ َ ه { بذلك } ك َي ْ َ
واِري َ ف يُ َ } ل ِي ُرِي َ ُ
َ
ن { وهكذا عاقبة المعاصي الندامة مي َ ن الّنادِ ِ م َح ِ صب َ َيكون عورة } فَأ ْ
والخسارة.
__________
) (1في ب :كتب اليات إلى قوله تعالى" :فأصبح من النادمين".
) (2في ب :ل يقوم.
) (1/228
) (1/229
ن إنما جزاُء ال ّذين يحاربون الل ّه ورسول َه ويسعون في اْل َرض فَسا َ
دا أ ْ َ ً َ ْ ِ َ ََ ُ ُ ََ ْ َ ْ َ ِ ِ َ ُ َ ُِ َ ِّ َ َ َ
َ ْ َ ُ َ َ ّ َ ّ َ
ض
ن الْر ِ م َ وا ِ
ف ْ
ف أوْ ي ُن ْ َ خل ٍ ن ِ م ْ
م ِ جلهُ ْ م وَأْر ُديهِ ْ قطعَ أي ْ ِ صلُبوا أوْ ت ُ َقت ُّلوا أوْ ي ُ َ يُ َ
ن َتاُبوا م ) (33إ ِّل ال ّ ِ خَرةِ عَ َ َ
م ِفي اْل ِ خْزيٌ ِفي الد ّن َْيا وَل َهُ ْ ك ل َهُ ْ
ذ َل ِ َ
ذي َ ظي ٌب عَ ِ ذا ٌ م ِ
َ َ
م )(34 حي ٌفوٌر َر ِ ه غَ ُن الل ّ َ موا أ ّ م َفاعْل َ ُ قدُِروا عَل َي ْهِ ْ ن تَ ْ
لأ ْ ن قَب ْ ِ
م ْ ِ
ن ِفي سعَوْ َ ه وَي َ ْ سول َ ُ ه وََر ُ ن الل ّ َ حارُِبو َ ن يُ َذي َ جَزاُء ال ّ ِ ما َ } } { 34 ، 33إ ِن ّ َ
خلف أوَ ن ِ ُ َ َ ّ َ ّ َ ُ الرض فَسا َ
ٍ ْ م ْ م ِ جلهُ ْ م وَأْر ُ ديهِ ْ قطعَ أي ْ ِ صلُبوا أوْ ت ُ َ قت ّلوا أوْ ي ُ َ ن يُ َ دا أ ْ
َ ً ْ ِ
م*ٌ ظي
ِ َ ع ب ٌ َ
ذا َ ع ِ ةرَ خ
ِ ال في ِ م
َ ُ ْه َ لو ياَ ْ نّ د ال في ِ ٌ ي ز
ْ خ
ِ م
ُ ْ ه َ ل َ
ك ِ لَ ذ ض ر ال ن م
ِ واف ْ
ي ُن ْ َ
َ َ ْ ِ َ
م{. حي ٌ فوٌر َر ِ ه غَ ُ ّ
ن الل َ موا أ ّ َ
م َفاعْل ُ َ
قدُِروا عَلي ْهِ ْ ن تَ ْ
لأ ْ ن قَب ْ ِ م ْن َتاُبوا ِ ذي َ ّ
ِإل ال ِ
المحاربون لله ولرسوله ،هم الذين بارزوه بالعداوة ،وأفسدوا في الرض ]
ص [ 230بالكفر والقتل ،وأخذ الموال ،وإخافة السبل.
والمشهور أن هذه الية الكريمة في أحكام قطاع الطريق ،الذين يعرضون
للناس في القرى والبوادي ،فيغصبونهم أموالهم ،ويقتلونهم ،ويخيفونهم،
فيمتنع الناس من سلوك الطريق التي هم بها ،فتنقطع بذلك.
فأخبر الله أن جزاءهم ونكالهم -عند إقامة الحد عليهم -أن يفعل بهم واحد
من هذه المور.
واختلف المفسرون :هل ذلك على التخيير ،وأن كل قاطع طريق يفعل به
المام أو نائبه ما رآه المصلحة من هذه المور المذكورة؟ وهذا ظاهر
اللفظ ،أو أن عقوبتهم تكون بحسب جرائمهم ،فكل جريمة لها قسط
يقابلها ،كما تدل عليه الية بحكمتها وموافقتها لحكمة الله تعالى .وأنهم إن
قتلوا وأخذوا مال تحتم قتُلهم وصلبهم ،حتى يشتهروا ويختزوا ويرتدع
غيرهم.
وإن قتلوا ولم يأخذوا مال تحتم قتلهم فقط .وإن أخذوا مال ولم يقتلوا
تحتم أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلف ،اليد اليمنى والرجل اليسرى.
وإن أخافوا الناس ولم يقتلوا ،ول أخذوا مال نفوا من الرض ،فل يتركون
يأوون في بلد حتى تظهر توبتهم .وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه
وكثير من الئمة ،على اختلف في بعض التفاصيل.
م ِفيخْزيٌ ِفي الد ّن َْيا { أي :فضيحة وعار } وَل َهُ ْ م ِ ك { النكال } ل َهُ ْ } ذ َل ِ َ
م { فدل هذا أن قطع الطريق من أعظم الذنوب، ظي ٌب عَ ِ ذا ٌخَرةِ عَ َ ال ِ
موجب لفضيحة الدنيا وعذاب الخرة ،وأن فاعله محارب لله ولرسوله.
وإذا كان هذا شأن عظم هذه الجريمة ،علم أن تطهير الرض من
المفسدين ،وتأمين السبل والطرق ،عن القتل ،وأخذ الموال ،وإخافة
الناس ،من أعظم الحسنات وأجل الطاعات ،وأنه إصلح في الرض ،كما
أن ضده إفساد في الرض.
م { أي :من هؤلء المحاربين، َ ل َأن ت َ ْ
قدُِروا عَلي ْهِ ْ من قَب ْ ِ ن َتاُبوا ِذي َ} ِإل ال ّ ِ
َ
م { أي :فيسقط عنه ما كان لله ،من تحتم حي ٌفوٌر ّر ِ ه غَ ُن الل ّ َ
موا أ ّ } َفاعْل َ ُ
القتل والصلب والقطع والنفي ،ومن حق الدمي أيضا ،إن كان المحارب
كافرا ثم أسلم ،فإن كان المحارب مسلما فإن حق الدمي ،ل يسقط عنه
من القتل وأخذ المال .ودل مفهوم الية على أن توبة المحارب -بعد
القدرة عليه -أنها ل تسقط عنه شيئا ،والحكمة في ذلك ظاهرة.
وإذا كانت التوبة قبل القدرة عليه ،تمنع من إقامة الحد في الحرابة،
فغيرها من الحدود -إذا تاب من فعلها ،قبل القدرة عليه -من باب أولى.
) (1/229
ذي َ َ
سِبيل ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ
م دوا ِفي َ
جاهِ ُ سيل َ َ
ة وَ َ ه َواب ْت َُغوا إ ِل َي ْهِ ال ْوَ ِ
قوا الل ّ َ
مُنوا ات ّ ُ
نآ َ َيا أي َّها ال ّ ِ َ
ن )(35 حو َ فل ِ ُ
تُ ْ
سيل َ َ َ
دوا ِفي
جاهِ ُ
ة وَ َ ه َواب ْت َُغوا إ ِل َي ْهِ ال ْوَ ِ قوا الل ّ َ
مُنوا ات ّ ُ نآ َ ذي َ} َ } { 35يا أي َّها ال ّ ِ
ن{. حو َ فل ِ ُ سِبيل ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ
م تُ ْ َ
هذا أمر من الله لعباده المؤمنين ،بما يقتضيه اليمان من تقوى الله
والحذر من سخطه وغضبه ،وذلك بأن يجتهد العبد ،ويبذل غاية ما يمكنه
من المقدور في اجتناب ما َيسخطه الله ،من معاصي القلب واللسان
والجوارح ،الظاهرة والباطنة .ويستعين بالله على تركها ،لينجو بذلك من
ة { أي :القرب منه ،والحظوة سيل َ َ
سخط الله وعذابهَ } .واب ْت َُغوا إ ِل َي ْهِ ال ْوَ ِ
لديه ،والحب له ،وذلك بأداء فرائضه القلبية ،كالحب له وفيه ،والخوف
والرجاء ،والنابة والتوكل .والبدنية :كالزكاة والحج .والمركبة من ذلك
كالصلة ونحوها ،من أنواع القراءة والذكر ،ومن أنواع الحسان إلى الخلق
بالمال والعلم والجاه ،والبدن ،والنصح لعباد الله ،فكل هذه العمال تقرب
إلى الله .ول يزال العبد يتقرب بها إلى الله حتى يحبه الله ،فإذا أحبه كان
سمعه الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصر به ،ويده التي يبطش بها ،ورجله
التي يمشي ]بها[ ويستجيب الله له الدعاء.
ثم خص تبارك وتعالى من العبادات المقربة إليه ،الجهاد في سبيله ،وهو:
بذل الجهد في قتال الكافرين بالمال ،والنفس ،والرأي ،واللسان ،والسعي
في نصر دين الله بكل ما يقدر عليه العبد ،لن هذا النوع من أجل
الطاعات وأفضل القربات.
ن{حو َ
فل ِ ُ
م تُ ْ ُ ّ َ
ولن من قام به ،فهو على القيام بغيره أحرى وأولى } لعَلك ْ
إذا اتقيتم الله بترك المعاصي ،وابتغيتم الوسيلة إلى الله ،بفعل الطاعات،
وجاهدتم في سبيله ابتغاء مرضاته.
والفلح هو الفوز والظفر بكل مطلوب مرغوب ،والنجاة من كل مرهوب،
فحقيقته السعادة البدية والنعيم المقيم.
) (1/230
) (1/230
يريدو َ
م )(37 قي ٌم ِ
ب ُ ذا ٌ م عَ َ من َْها وَل َهُ ْن ِ
جي َ خارِ ِم بِ َما هُ ْن الّنارِ وَ َ
م َ
جوا ِ خُر ُن يَ ْ
نأ ْ ُ ِ ُ َ
} يريدو َ
م{.قي ٌ
م ِب ُ ذا ٌم عَ َ من َْها وَل َهُ ْ
ن ِ جي َخارِ ِم بِ َما هُ ْن الّنارِ وَ َم َ
جوا ِخُر ُن يَ ْنأ ْ ُ ِ ُ َ
) (1/230
َ
ن الل ّهِ َوالل ّ ُ
ه كاًل ِ
م َ سَبا ن َ َ ما ك َ َ جَزاًء ب ِ َ ة َفاقْط َُعوا أي ْدِي َهُ َ
ما َ سارِقَ ُ سارِقُ َوال ّ َوال ّ
َ ّ َ َ ْ ُ
ن
ب عَلي ْهِ إ ِ ّ ه ي َُتو ُن الل َ ح فَإ ِ ّ صل َمهِ وَأ ْ ن ب َعْدِ ظل ِ م ْ ب ِ ن َتا َ م ) (38فَ َ
م ْ كي ٌ
ح ِ
زيٌز َ عَ ِ
َ ْ ْ َ ّ َ َ َ َ
ض ي ُعَذ ّ ُ
ب ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ ك ال ّ مل ُ ه ُ هل ُ ن الل َ مأ ّ م ت َعْل ْ
م ) (39أل ْ حي ٌ فوٌر َر ِ ه غَ ُالل ّ َ
ديٌر )(40 يٍء قَ ِ ش ْ ل َ ه عََلى ك ُ ّ شاُء َوالل ّ ُ ن يَ َم ْفُر ل ِ َ شاُء وَي َغْ ِ ن يَ َم ْ َ
ولم يبق إل العذاب الليم ،الموجع الدائم الذي ل يخرجون منه أبدا ،بل هم
ماكثون فيه سرمدا.
] ص [ 231
َ َ َ َ
سَبا ن َكال ما ك َ جَزاًء ب ِ َ ما َة َفاقْطُعوا أي ْدِي َهُ َ سارِقَ ُ سارِقُ َوال ّ } َ } { 40 - 38وال ّ
ّ َ َ ْ ُ
ب
ه ي َُتو ُ
ن الل َ ح فَإ ِ ّ صل َ مهِ وَأ ْ ن ب َعْدِ ظل ِ م ْ
ب ِ ن َتا َم ْ م * فَ َ كي ٌ ح ِ زيٌز َ ِ ه عَ ن الل ّهِ َوالل ّ ُ م َِ
ض مل ُ ْ َ ّ َ َ َ َ ه غَ ُ ّ َ
ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ ك ال ّ ه ُ هل ُن الل َ مأ ّ م ت َعْل ْم * أل ْ حي ٌ فوٌر َر ِ ن الل َ عَلي ْهِ إ ِ ّ
ديٌر { . يٍء قَ ِ
ش ْ ل َ ه عََلى ك ُ ّ شاُء َوالل ّ ُ ن يَ َ م ْفُر ل ِ َ شاُء وَي َغْ ِ ن يَ َ م ْ
ب َ ي ُعَذ ّ ُ
السارق :هو من أخذ مال غيره المحترم خفية ،بغير رضاه .وهو من كبائر
الذنوب الموجبة لترتب العقوبة الشنيعة ،وهو قطع اليد اليمنى ،كما هو في
قراءة بعض الصحابة.
وحد اليد عند الطلق من الكوع ،فإذا سرق قطعت يده من الكوع،
وحسمت في زيت لتنسد العروق فيقف الدم ،ولكن السنة قيدت عموم
هذه الية من عدة أوجه:
منها :الحرز ،فإنه ل بد أن تكون السرقة من حرز ،وحرز كل مال :ما
يحفظ به عادة .فلو سرق من غير حرز فل قطع عليه.
ومنها :أنه ل بد أن يكون المسروق نصابا ،وهو ربع دينار ،أو ثلثة دراهم ،أو
ما يساوي أحدهما ،فلو سرق دون ذلك فل قطع عليه.
ولعل هذا يؤخذ من لفظ السرقة ومعناها ،فإن لفظ"السرقة" أخذ الشيء
على وجه ل يمكن الحتراز منه ،وذلك أن يكون المال محرزا ،فلو كان غير
محرز لم يكن ذلك سرقة شرعية.
ومن الحكمة أيضا أن ل تقطع اليد في الشيء النزر التافه ،فلما كان ل بد
من التقدير ،كان التقدير الشرعي مخصصا للكتاب.
والحكمة في قطع اليد في السرقة ،أن ذلك حفظ للموال ،واحتياط لها،
وليقطع العضو الذي صدرت منه الجناية ،فإن عاد السارق قطعت رجله
اليسرى ،فإن عاد ،فقيل :تقطع يده اليسرى ،ثم رجله اليمنى ،وقيل:
سَبا { أي :ذلك القطع جزاء ما ك َ َجَزاًء ب ِ َ يحبس حتى يموت .وقولهَ } :
للسارق بما سرقه من أموال الناس.
ن الل ّهِ { أي :تنكيل وترهيبا للسارق ولغيره ،ليرتدع السراق -إذا م َكال ّ } نَ َ
علموا -أنهم سيقطعون إذا سرقوا.
م { أي :عَّز وحكم فقطع السارق. كي ٌ ح ِ
زيٌز َه عَ ِ} َوالل ّ ُ
َ
فوٌر ن الل ّ َ
ه غَ ُ ب عَل َي ْهِ إ ِ ّ ن الل ّ َ
ه ي َُتو ُ ح فَإ ِ ّصل َ َ من ب َعْدِ ظ ُل ْ ِ
مهِ وَأ ْ ب ِمن َتا َ } فَ َ
م { فيغفر لمن تاب فترك الذنوب ،وأصلح العمال والعيوب. حي ٌ َر ِ
وذلك أن لله ) (1ملك السماوات والرض ،يتصرف فيهما بما شاء من
التصاريف القدرية والشرعية ،والمغفرة والعقوبة ،بحسب ما اقتضته
حكمته ورحمته الواسعة ومغفرته.
__________
) (1في ب :الله له.
) (1/230
َ َ
مّنان َقاُلوا آ َ ذي َ ن ال ّ ِ م َ فرِ ِ ن ِفي ال ْك ُ ْ عو َ سارِ ُ ن يُ َ ذي َك ال ّ ِ حُزن ْ َ ل َل ي َ ْ سو ُ َيا أي َّها الّر ُ
َ
ن
عو َ ما ُ س ّ ب َ ن ل ِل ْك َذِ ِ عو َ ما ُ س ّ دوا َ ها ُن َ ذي َ ن ال ّ ِ م َم وَ ِ ن قُُلوب ُهُ ْ مْ ْ م ت ُؤْ ِ م وَل َ ْ واهِهِ ْ ب ِأفْ َ
قوُلون إ ُ قوْم ٍ آ َ َ
من أوِتيت ُ ْ َ ِ ْ ضعِهِ ي َ ُ وا ِ م َ ن ب َعْدِ َ م ْ
م ِ ن ال ْك َل ِ َ حّرُفو َ ك يُ َ م ي َأُتو َ ن لَ ْ ري َخ ِ لِ َ
ن
م َ ه ِ َ
كل ُ مل ِ َن تَ ْ َ
ه فَل ْ ه فِت ْن َت َ ُ ّ
ن ي ُرِدِ الل ُ م ْحذ َُروا وَ َ م ت ُؤْت َوْهُ َفا ْ نل َْ ذوهُ وَإ ِ ْ خ ُذا فَ ُ هَ َ
َ ُ
ي
خْز ٌ م ِفي الد ّن َْيا ِ م ل َهُ ْ ن ي ُط َهَّر قُُلوب َهُ ْ هأ ْ م ي ُرِدِ الل ّ ُ ن لَ ْ ذي َ ك ال ّ ِ شي ًْئا أول َئ ِ َ الل ّهِ َ
م )(41 ظي ٌب عَ ِ ذا ٌ خَرةِ عَ َ َ
م ِفي اْل ِ وَل َهُ ْ
ن ِفي ال ْك ُ ْ َ
ن
م َفرِ ِ عو َ
سارِ ُ ن يُ َذي َك ال ّ ِحُزن ْ َل ل يَ ْ سو ُ } َ } { 44 - 41يا أي َّها الّر ُ
َ
ن
عو َ ما ُ س ّ دوا َها ُ
ن َ ن ال ّ ِ
ذي َ م َم وَ ِ ن قُُلوب ُهُ ْم ْ م وَل َ ْ
م ت ُؤْ ِ واهِهِ ْ ن َقاُلوا آ َ
مّنا ب ِأفْ َ ال ّ ِ
ذي َ
ضعِهِ وا ِ م َ ن ب َعْدِ َ م ْ م ِ ن ال ْك َل ِ َ حّرُفو َ ك يُ َ م ي َأ ُْتو َ ن لَ ْ ري َ خ ِ قوْم ٍ آ َ ن لِ َ عو َ ما ُ س ّ ب َ ل ِل ْك َذِ ِ
ُ
هه فِت ْن َت َ ُ ن ي ُرِدِ الل ّ ُ م ْ حذ َُروا وَ َ م ت ُؤْت َوْهُ َفا ْ ن لَ ْ ذوهُ وَإ ِ ْ خ ُ ذا فَ ُ م هَ َ ن أوِتيت ُ ْ ن إِ ْ قوُلو َ يَ ُ
َ ُ َ َ ّ َ ّ َ َ ُ ّ َ َ َ
م
م لهُ ْ ن ي ُطهَّر قُلوب َهُ ْ هأ ْ م ي ُرِدِ الل ُ نل ْ ذي َ شي ًْئا أولئ ِك ال ِ ن اللهِ َ م َ ه ِ مل ِك ل ُ ن تَ ْ فَل ْ
م{. ظي ٌب عَ ِ ذا ٌ خَرةِ عَ َ م ِفي ال ِ َ
خْزيٌ وَلهُ ْ ِفي الد ّن َْيا ِ
كان الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على الخلق يشتد
حزنه لمن يظهر اليمان ،ثم يرجع إلى الكفر ،فأرشده الله تعالى ،إلى أنه
ل يأسى ول يحزن على أمثال هؤلء .فإن هؤلء ل في العير ول في النفير.
إن حضروا لم ينفعوا ،وإن غابوا لم يفقدوا ،ولهذا قال مبينا للسبب
َ
م وَل َ ْ
م واهِهِ ْ مّنا ب ِأفْ َ ن َقاُلوا آ َ ذي َ ن ال ّ ِ م َ الموجب لعدم الحزن عليهم -فقالِ } :
م { فإن الذين ) (1يؤسى ويحزن عليهم ،من كان معدودا من من قُُلوب ُهُ ْ ت ُؤْ ِ
المؤمنين ،وهم المؤمنون ظاهرا وباطنا ،وحاشا لله أن يرجع هؤلء عن
دينهم ويرتدوا ،فإن اليمان -إذا خالطت بشاشته القلوب -لم يعدل به
صاحبه غيره ،ولم يبغ به بدل.
نري َ خ ِ قوْم ٍ آ َ ن لِ َ عو َ ما ُ س ّ ب َ َ
ن ل ِلكذِ ِ ْ عو َ ما ُ س ّ دوا { أي :اليهود } َ ها ُ ن َ ذي َ ن ال ّ ِ مْ َ} وَ ِ
م ي َأُتوك { أي :مستجيبون ومقلدون لرؤسائهم ،المبني أمرهم على َ لَ ْ
ْ
ك { بل م ي َأُتو َ الكذب والضلل والغي .وهؤلء الرؤساء المتبعون } ل َ ْ
أعرضوا عنك ،وفرحوا بما عندهم من الباطل وهو تحريف الكلم عن
مواضعه ،أي :جلب معان لللفاظ ما أرادها الله ول قصدها ،لضلل الخلق
ولدفع الحق ،فهؤلء المنقادون للدعاة إلى الضلل ،المتبعين للمحال،
الذين يأتون بكل كذب ،ل عقول لهم ول ] ص [ 232همم .فل تبال أيضا
إذا لم يتبعوك ،لنهم في غاية النقص ،والناقص ل يؤبه له ول يبالى به.
قوُلون إ ُ
حذ َُروا { أي :هذا قولهم م ت ُؤْت َوْهُ َفا ْ ذوهُ وَِإن ل ّ ْ خ ُ ذا فَ ُ م هَ َ ن أوِتيت ُ ْ َ ِ ْ } يَ ُ
عند محاكمتهم إليك ،ل قصد لهم إل اتباع الهوى.
يقول بعضهم لبعض :إن حكم لكم محمد بهذا الحكم الذي يوافق أهواءكم،
فاقبلوا حكمه ،وإن لم يحكم لكم به ،فاحذروا أن تتابعوه على ذلك ،وهذا
فتنة واتباع ما تهوى النفس.
َ
شي ْئا { كقوله تعالى } :إ ِن ّك ل ً ن اللهِ َّ م َ ه ِ َ
مل ِك ل ُ َ ه فََلن ت َ ْ ه فِت ْن َت َ ُ من ي ُرِدِ الل ّ ُ } وَ َ
شاُء { . ن يَ َ ّ َ َ
م ْ دي َ ه ي َهْ ِ ن الل َ ت وَلك ِ ّ حب َب ْ َ نأ ْ م ْ دي َ ت َهْ ِ
ُ َ َ ّ َ ّ َ َ ُ
م { أي :فلذلك صدر منهم ما ه أن ي ُطهَّر قُلوب َهُ ْ م ي ُرِدِ الل ُ نل ْ ذي َ } أولئ ِك ال ِ
صدر .فدل ذلك على أن من كان مقصوده بالتحاكم إلى الحكم الشرعي
اتباع هواه ،وأنه إن حكم له رضي ،وإن لم يحكم له سخط ،فإن ذلك من
عدم طهارة قلبه ،كما أن من حاكم وتحاكم إلى الشرع ورضي به ،وافق
هواه أو خالفه ،فإنه من طهارة القلب ،ودل على أن طهارة القلب ،سبب
لكل خير ،وهو أكبر داع إلى كل قول رشيد وعمل سديد.
م
ظي ٌ ب عَ ِ ذا ٌ خَرةِ عَ َ خْزيٌ { أي :فضيحة وعار } وَل َُهم ِفي ال ِ } ل َُهم ِفي الد ّن َْيا ِ
{ هو :النار وسخط الجبار.
__________
) (1كذا في ب ،وفي أ :الذي.
) (1/231
ك َفاحك ُم بينه َ َ ب أَ ّ
م ض عَن ْهُ ْ م أوْ أعْرِ ْ ْ ْ ََُْ ْ جاُءو َ ن َ ت فَإ ِ ْ ح ِ س ْ ن ِلل ّ كاُلو َ ن ل ِل ْك َذِ ِ عو َ ما ُ س ّ َ
نط إِ ّ س ِ ق ْ ْ
م ِبال ِ م ب َي ْن َهُ ْحك ْ ُ ت َفا ْ م َ حك ْ َ ن َ شي ًْئا وَإ ِ ْ ضّروك َ َ ن يَ ُ َ
م فَل ْ ض عَن ْهُ ْ ن ت ُعْرِ ْ وَإ ِ ْ
م اللهِّ حك ُْ م الت ّوَْراةُ ِفيَها ُ عن ْد َهُ ُ مون َك وَ ِ َ حك ُ ّ ف يُ َ َ
ن ) (42وَكي ْ َ طي َ س ِ ق ِ م ْ
ب ال ُ ْ ح ّ ه يُ ِالل ّ َ
َ
ن ) (43إ ِّنا أن َْزل َْنا الت ّوَْراةَ ِفيَها ُ
مِني َ مؤْ ِ ك ِبال ْ ُ ما أول َئ ِ َ ك وَ َ ن ب َعْدِ ذ َل ِ َ م ْ ن ِ م ي َت َوَل ّوْ َ ثُ ّ
حَباُر َ ْ ّ َ َ ّ ُ
ن َوال ْ دوا َوالّرّبان ِّيو َ ها ُ ن َ ذي َ موا ل ِل ِ سل ُ نأ ْ ذي َ ن ال ِ م ب َِها الن ّب ِّيو َ حك ُ دى وَُنوٌر ي َ ْ هُ ً
س
وا الّنا َ ش ُ خ َ َ
داَء فَل ت َ ْ شه َ َ َ
كاُنوا عَلي ْهِ ُ ب اللهِ وَ َ ّ ن ك َِتا ِ م ْفظوا ِ ُ ح ِ ست ُ ْ ما ا ْ بِ َ
َ ُ ّ َ َ ً َ َ
كه فَأولئ ِ َ ل الل ُ ما أن َْز َ م بِ َ حك ُ ْ
م يَ ْ نل ْ م ْ مًنا قَِليل وَ َ شت َُروا ب ِآَياِتي ث َ َ ن وَل ت َ ْ شوْ ِ خ َ َوا ْ
ن )(44 كافُِرو َ م ال ْ َ هُ ُ
ك َفاحك ُم بينه َ َ ب أَ ّ
ض
م أوْ أعْرِ ْ ْ ْ ََُْ ْ جاُءو َ ن َ ت فَإ ِ ْ ح ِ س ْ ن ِلل ّ كاُلو َ ن ل ِل ْك َذِ ِ عو َ ما ُ س ّ } َ
مم ب َي ْن َهُ ْ حك ُْ ت َفا ْ م َ حك َْ ن َ شي ًْئا وَإ ِ ْ ضّروك َ َ ن يَ ُ َ
م فَل ْ ض عَن ْهُ ْ ن ت ُعْرِ ْ م وَإ ِ ْ عَن ْهُ ْ
م الت ّوَْراةُ ِفيَها عن ْد َهُ ُ ك وَ ِ مون َ َ حك ُ ّ ف يُ َ ن * وَكي ْ َ َ طي َ س ِ ق ِ م ْ ْ
ب ال ُ ح ّ ه يُ ِ ّ
ن الل َ ط إِ ّ س ِ ق ْ ِبال ْ ِ
ن * إ ِّنا أ َن َْزل َْنا الت ّوَْراةَ مِني َ مؤْ ِ ك ِبال ْ ُ ما ُأول َئ ِ َ ك وَ َ ن ب َعْدِ ذ َل ِ َ م ْ ن ِ م ي َت َوَل ّوْ َ م الل ّهِ ث ُ ّ حك ْ ُ ُ
ّ َ َ ّ
ن
دوا َوالّرّبان ِّيو َ ها ُ ن َ ذي َ موا ل ِل ِ سل ُ نأ ْ ذي َ ن ال ِ م ب َِها الن ّب ِّيو َ حك ُ ُ دى وَُنوٌر ي َ ْ ِفيَها هُ ً
س
وا ُ الّنا َ ش ُ خ َ داَء َفل ت َ ْ شه َ َ كاُنوا عَلي ْهِ َُ ب اللهِ وَ َ ّ ن ك َِتا ِ م ْ فظوا ِ ُ ح ِ ست ُ ْ ما ا ْ حَباُر ب ِ َ َوال ْ
ه فَأول َئ ِ َ َ
ك ل الل ّ ُ ما أن َْز َ م بِ َ حك ُ ْ م يَ ْ ن لَ ْ م ْ مًنا قَِليل وَ َ شت َُروا ِبآَياِتي ث َ َ ن َول ت َ ْ شوْ ِ خ َ َوا ْ
ن{. كافُِرو َ م ال ْ َ هُ ُ
ب { والسمع هاهنا سمع استجابة ،أي :من قلة دينهم ن ل ِل ْك َذِ ِ عو َ ما ُ س ّ } َ
وعقلهم ،أن استجابوا لمن دعاهم إلى القول الكذب.
ت { أي :المال الحرام ،بما يأخذونه على سفلتهم ح ِ س ْ ن ِلل ّ كاُلو َ } أَ ّ
وعوامهم من المعلومات والرواتب ،التي بغير الحق ،فجمعوا بين اتباع
الكذب وأكل الحرام.
َ َ
م { فأنت مخير في ذلك. ض عَن ْهُ ْ م أوْ أعْرِ ْ م ب َي ْن َهُ ْ حك ُ ْ ك َفا ْ جاُءو َ ن َ } فَإ ِ ْ
وليست هذه منسوخة ،فإنه-عند تحاكم هذا الصنف إليه -يخير بين أن
يحكم بينهم ،أو يعرض عن الحكم بينهم ،بسبب أنه ل قصد لهم في الحكم
الشرعي إل أن يكون موافقا لهوائهم ،وعلى هذا فكل مستفت ومتحاكم
إلى عالم ،يعلم من حاله أنه إن حكم عليه لم يرض ،لم يجب الحكم ول
الفتاء لهم ،فإن حكم بينهم وجب أن يحكم بالقسط ،ولهذا قال } :وَِإن
ن الل ّ َ
ه ط إِ ّ س ِ ق ْ كم ب َي ْن َُهم ِبال ْ ِ ح ُ ت َفا ْ م َ حك َ ْ ن َ شي ًْئا وَإ ِ ْ ك َ ضّرو َ م فََلن ي َ ُ ض عَن ْهُ ْ ت ُعْرِ ْ
ن { حتى ولو كانوا ظلمة وأعداء ،فل يمنعك ذلك من طي َ س ِ ق ِ م ْ ب ال ْ ُ ح ّ يُ ِ
العدل في الحكم بينهم.
وفي هذا بيان فضيلة العدل والقسط في الحكم بين الناس ،وأن الله
تعالى يحبه.
هّ
م الل ِ ْ
حك ُ م الت ّوَْراةُ ِفيَها ُ عند َهُ ُ مون َك وَ ِ َ حك ُّ ف يُ َ َ
ثم قال متعجبا لهم ) } (1وَكي ْ َ
ُ
ن { فإنهم -لو كانوا مؤمنين مِني َ مؤْ ِ ما أول َئ ِك ِبال ُ
ْ َ ك وَ َ من ب َعْدِ ذ َل ِ َ ن ِ م ي َت َوَل ّوْ َ ثُ ّ
عاملين بما يقتضيه اليمان ويوجبه -لم يصدفوا عن حكم الله الذي في
التوراة التي بين أيديهم ،لعلهم أن يجدوا عندك ما يوافق أهواءهم.
وحين حكمت بينهم بحكم الله الموافق لما عندهم أيضا ،لم يرضوا بذلك
بل أعرضوا عنه ،فلم يرتضوه أيضا.
ن { أي :ليس هذا مِني َ مؤْ ِ ْ
ك { الذين هذا صنيعهم } ِبال ُ ما ُأول َئ ِ َ قال تعالى } :وَ َ
دأب المؤمنين ،وليسوا حريين باليمان .لنهم جعلوا آلهتهم أهواءهم،
وجعلوا أحكام اليمان تابعة لهوائهم.
} إ ِّنا َأنزل َْنا الت ّوَْراةَ { على موسى بن عمران عليه الصلة والسلمِ } .فيَها
دى { يهدي إلى اليمان والحق ،ويعصم من الضللة } وَُنوٌر { يستضاء به هُ ً
في ظلم الجهل والحيرة والشكوك ،والشبهات والشهوات ،كما قال تعالى:
حك ُ ُ
م ن { } يَ ْ قي َمت ّ ِضَياًء وَذِك ًْرا ل ِل ْ ُ
ن وَ ِفْرَقا َن ال ْ ُ
هاُرو َ
سى وَ َ مو َ } وَل َ َ
قد ْ آت َي َْنا ُ
ن
ذي َن ال ّ ِب َِها { بين الذين هادوا ،أي :اليهود في القضايا والفتاوى } الن ّب ِّيو َ
َ
موا { لله وانقادوا لوامره ،الذين إسلمهم أعظم من إسلم غيرهم، سل َ ُ أ ْ
وهم صفوة الله من العباد .فإذا كان هؤلء النبيون الكرام والسادة للنام
قد اقتدوا بها وائتموا ومشوا خلفها ،فما الذي منع هؤلء الراذل من اليهود
من القتداء بها؟ وما الذي أوجب لهم أن ينبذوا أشرف ما فيها من اليمان
بمحمد صلى الله عليه وسلم ،الذي ل يقبل عمل ظاهر وباطن ،إل بتلك
العقيدة؟ هل لهم إمام في ذلك؟ نعم لهم أئمة دأبهم التحريف ،وإقامة
رياستهم ومناصبهم بين الناس ،والتأكل بكتمان الحق ،وإظهار الباطل،
أولئك أئمة الضلل الذين يدعون إلى النار.
حَباُر { أي :وكذلك يحكم بالتوراة للذين هادوا أئمة ن َوال ْوقولهَ } :والّرّبان ِّيو َ
الدين من الربانيين ،أي :العلماء العاملين المعلمين الذين يربون الناس
بأحسن تربية ،ويسلكون معهم مسلك النبياء المشفقين.
والحبار أي :العلماء الكبار الذين يقتدى بأقوالهم ،وترمق آثارهم ،ولهم
لسان الصدق بين أممهم.
] ص [ 233
هّ
ب الل ِ من ك َِتا ِ فظوا ُِ ح ِ ست ُ ْما ا ْ وذلك الحكم الصادر منهم الموافق للحق } ب ِ َ
داَء { أي :بسبب أن الله استحفظهم على كتابه ،وجعلهم شهَ َ كاُنوا عَل َي ْهِ ُ وَ َ
أمناء عليه ،وهو أمانة عندهم ،أوجب عليهم حفظه من الزيادة والنقصان
والكتمان ،وتعليمه لمن ل يعلمه.
وهم شهداء عليه ،بحيث أنهم المرجوع إليهم فيه ،وفيما اشتبه على الناس
منه ،فالله تعالى قد حمل أهل العلم ،ما لم يحمله الجهال ،فيجب عليهم
القيام بأعباء ما حملوا.
وأن ل يقتدوا بالجهال ،بالخلد إلى البطالة والكسل ،وأن ل يقتصروا على
مجرد العبادات القاصرة ،من أنواع الذكر ،والصلة ،والزكاة ،والحج،
والصوم ،ونحو ذلك من المور ،التي إذا قام بها غير أهل العلم سلموا
ونجوا.
وأما أهل العلم فكما أنهم مطالبون بالقيام بما عليهم أنفسهم ،فإنهم
مطالبون أن يعلموا الناس وينبهوهم على ما يحتاجون إليه من أمور دينهم،
خصوصا المور الصولية والتي يكثر وقوعها وأن ل يخشوا الناس بل
شت َُروا ِبآَياِتي ن َول ت َ ْ شوْ ِ خ َ س َوا ْ وا الّنا َ خ َ
ش ُ يخشون ربهم ،ولهذا قالَ } :فل ت َ ْ
مًنا قَِليل { فتكتمون الحق ،وتظهرون الباطل ،لجل متاع الدنيا القليل، ثَ َ
وهذه الفات إذا سلم منها العالم فهو من توفيقه وسعادته ،بأن يكون همه
الجتهاد في العلم والتعليم ،ويعلم أن الله قد استحفظه ما ) (2أودعه من
العلم واستشهده عليه ،وأن يكون خائفا من ربه ،ول يمنعه خوف الناس
وخشيتهم من القيام بما هو لزم له ،وأن ل يؤثر الدنيا على الدين.
كما أن علمة شقاوة العالم أن يكون مخلدا للبطالة ،غير قائم بما أمر به،
ول مبال بما استحفظ عليه ،قد أهمله وأضاعه ،قد باع الدين بالدنيا ،قد
ارتشى في أحكامه ،وأخذ المال على فتاويه ،ولم يعلم عباد الله إل بأجرة
وجعالة.
فهذا قد من الله عليه بمنة عظيمة ،كفرها ودفع حظا جسيما ،محروما منه
غيره ،فنسألك اللهم علما نافعا ،وعمل متقبل وأن ترزقنا العفو والعافية
من كل بلء يا كريم.
ّ َ
ه { من الحق المبين ،وحكم بالباطل الذي ما أنز َ
ل الل ُ كم ب ِ َح ُ من ل ّ ْ
م يَ ْ } وَ َ
ن { فالحكم بغير ْ
م ال َ َ ُ
يعلمه ،لغرض من أغراضه الفاسدة } فَأولئ ِ َ
كافُِرو َ ك هُ ُ
ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر ،وقد يكون كفرا ينقل عن الملة ،وذلك
إذا اعتقد حله وجوازه .وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب ،ومن أعمال
الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد.
__________
) (1في ب :منهم.
) (2في ب :بما.
) (1/232
َ
ف َواْل ُذ ُ َ
ن ف ِباْل َن ْ ِ ن َواْل َن ْ َ فس َوال ْعَي ْ َ ْ
ن ِبالعَي ْ ِ س ِبالن ّ ْ ِف َ ن الن ّ ْ م ِفيَها أ ّ وَك َت َب َْنا عَل َي ْهِ ْ
ن
م ْه وَ َ فاَرةٌ ل َ ُ صد ّقَ ب ِهِ فَهُوَ ك َ ّ ن تَ َ ص فَ َ
م ْ صا ٌح قِ َجُرو َ ن َوال ْ ُ ّ س ن ِبال ّ ّ سن َوال ّ ِ ِباْل ُذ ُ
ن )(45 مو َ م ال ّ
ظال ِ ُ ك هُ ُه فَُأول َئ ِ َ ل الل ّ ُ ما أ َن َْز َم بِ َ حك ُ ْ م يَ ْ لَ ْ
فس َوال ْعَي ْ َ ْ َ
فن َوالن ْ َ ن ِبالعَي ْ ِ س ِبالن ّ ْ ِ ف َ ن الن ّ ْم ِفيَها أ ّ } } { 45وَك َت َب َْنا عَل َي ْهِ ْ
صد ّقَ ب ِهِ فَهُ َ
و ن تَ َ م ْص فَ َصا ٌ ح قِ َ جُرو َ ن َوال ْ ُ س ّن ِبال ّ س ّ ن َوال ّ ن ِبالذ ُ ِ ف َوالذ ُ َ ِبالن ْ ِ
م ال ّ ُ
ه فَأول َئ ِ َ َ
ن{. مو َ ظال ِ ُ ك هُ ُ ل الل ّ ُ ما أن َْز َ حك ُ ْ
م بِ َ م يَ ْ ن لَ ْ م ْ ه وَ َ فاَرةٌ ل َ ُ كَ ّ
هذه الحكام من جملة الحكام التي في التوراة ،يحكم بها النبيون الذين
أسلموا للذين هادوا والربانيون والحبار .إن الله أوجب عليهم فيها أن
النفس -إذا قتلت -تقتل بالنفس بشرط العمد والمكافأة ،والعين تقلع
بالعين ،والذن تؤخذ بالذن ،والسن ينزع بالسن.
ومثل هذه ما أشبهها من الطراف التي يمكن القتصاص منها بدون حيف.
ص { والقتصاص :أن يفعل به كما فعل .فمن جرح غيره صا ٌ ح قِ َ جُرو َ } َوال ْ ُ
عمدا اقتص من الجارح جرحا مثل جرحه للمجروح ،حدا ،وموضعا ،وطول
وعرضا وعمقا ،وليعلم أن شرع من قبلنا شرع لنا ،ما لم يرد شرعنا
بخلفه.
صد ّقَ ب ِهِ { أي :بالقصاص في النفس ،وما دونها من الطراف من ت َ َ } فَ َ
والجروح ،بأن عفا عمن جنى ،وثبت له الحق قبله.
ه { أي :كفارة للجاني ،لن الدمي عفا عن حقه .والله فاَرةٌ ل ّ ُ } فَهُوَ ك َ ّ
تعالى أحق وأولى بالعفو عن حقه ،وكفارة أيضا عن العافي ،فإنه كما عفا
عمن جنى عليه ،أو على من يتعلق به ،فإن الله يعفو عن زلته وجناياته.
ن { قال ابن عباس: مو َ م ال ّ
ظال ِ ُ ك هُ ُ ه فَُأول َئ ِ َ ل الل ّ ُ ما َأنز َ كم ب ِ َ ح ُ م يَ ْمن ل ّ ْ } وَ َ
كفر دون كفر ،وظلم دون ظلم ،وفسق دون فسق ،فهو ظلم أكبر ،عند
استحلله ،وعظيمة كبيرة عند فعله غير مستحل له.
) (1/233
َ
ن الت ّوَْراةِ
م َ
ن ي َد َي ْهِ ِ
ما ب َي ْ َ صد ًّقا ل ِ َ م َ م ُ مْري َ َ ن َ سى اب ْ ِ م ب ِِعي َ في َْنا عََلى آَثارِهِ ْ وَقَ ّ
ْ َ
دى ن الت ّوَْراةِ وَهُ ً م َن ي َد َي ْهِ ِ ما ب َي ْ َصد ًّقا ل ِ َ م َ دى وَُنوٌر وَ ُ ل ِفيهِ هُ ً جي َ وَآت َي َْناهُ ال ِن ْ ِ
َ َ
ن لَ ْ
م م ْ
ه ِفيهِ وَ َ ل الل ّ ُما أن َْز َ ل بِ َ جي ِ ل اْل ِن ْ ِم أه ْ ُ حك ُ ْ ن ) (46وَل ْي َ ْ قي َ
مت ّ ِ ة ل ِل ْ ُ عظ َ ًموْ ِ وَ َ
ْ َ َ ُ ّ َ ُ
ن )(47 قو َ س ُ
فا ِ م ال َ ه فَأولئ ِك هُ ُ ل الل ُ ما أن َْز َ م بِ َحك ْ يَ ْ
ن ي َد َي ْهِ ما ب َي ْ َ صد ًّقا ل ِ َ م َ م ُ مْري َ َ ن َ سى اب ْ ِ م ب ِِعي َ في َْنا عََلى آَثارِهِ ْ } } { 47 ، 46وَقَ ّ
ن الت ّوَْراةِ م َ ن ي َد َي ْهِ ِ ما ب َي ْ َ صد ًّقا ل ِ َم َ دى وَُنوٌر وَ ُ ل ِفيهِ هُ ً جي َ ن الت ّوَْراةِ َوآت َي َْناهُ الن ْ ِ م َ ِ
م َ ّ َ
ما أن َْز َ َ
م أه ْ ُ ُ ْ ْ َ
نل ْ م ْ ه ِفيهِ وَ َ ل الل ُ ل بِ َ جي ِ ل الن ْ ِ حك ْ ن * وَلي َ ْ قي َ مت ّ ِ
ة ل ِل ُ عظ ً موْ ِ دى وَ َ وَهُ ً
ْ َ َ ُ ّ َ ُ
ن{. قو َ س ُفا ِ م ال َ ه فَأولئ ِك هُ ُ ل الل ُ ما أن َْز َ م بِ َ حك ْ يَ ْ
أي :وأتبعنا هؤلء النبياَء والمرسلين ،الذين يحكمون بالتوراة ،بعبدنا
ورسولنا عيسى ابن مريم ،روِح الله وكلمِته التي ألقاها إلى مريم.
بعثه الله مصدقا لما بين يديه من التوراة ،فهو شاهد لموسى ولما جاء به
من التوراة بالحق والصدق ،ومؤيد لدعوته ،وحاكم بشريعته ،وموافق له
في أكثر المور الشرعية.
وقد يكون عيسى عليه السلم أخف في بعض الحكام ،كما قال تعالى عنه
م
حّر َ ذي ُ ض ال ّ ِ كم ب َعْ َ ل لَ ُ ح ّ ] ص [ 234أنه قال لبني إسرائيلَ } :ول ِ
م{. عَل َي ْك ُ ْ
دى وَُنوٌر { ل { الكتاب العظيم المتمم للتوراةِ } .فيهِ هُ ً جي َ } َوآت َي َْناهُ الن ْ ِ
نما ب َي ْ َ صد ًّقا ل ّ َ م َ يهدي إلى الصراط المستقيم ،ويبين الحق من الباطل } .وَ ُ
عظةَ موْ ِ دى وَ َ ن الت ّوَْراةِ { بتثبيتها والشهادة لها والموافقة } .وَهُ ً م َ ي َد َي ْهِ ِ
ن { فإنهم الذين ينتفعون بالهدى ،ويتعظون بالمواعظ ،ويرتدعون قي َ مت ّ ِ ل ّل ْ ُ
عما ل يليق.
ّ َ م أ َهْ ُ
ه ِفيهِ { أي :يلزمهم التقيد بكتابهم ،ول ل الل ُ ما أنز َ ل بِ َ ِ جيل الن ِ حك ُ ْ } وَل ْي َ ْ
ُ
ه فَأول َئ ِ َ َ
مك هُ ُ ل الل ّ ُ ما أنز َ حك ُ ْ
م بِ َ م يَ ْ من ل ّ ْ يجوز لهم العدول عنه } .وَ َ
ن{. قو َ س ُ فا ِ ال ْ َ
) (1/233
مًنا عَل َي ْهِ مهَي ْ ِ ب وَ ُ ن ال ْك َِتا ِ م َ ن ي َد َي ْهِ ِ ما ب َي ْ َ صد ًّقا ل ِ َ م َ حق ّ ُ ب ِبال ْ َ ك ال ْك َِتا َ وَأ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ
جعَل َْنا َ ما أ َن َْز َ
ل َ حقّ ل ِك ُ ّ ن ال ْ َ م َ ك ِ جاَء َ ما َ م عَ ّ واَءهُ ْ ه وََل ت َت ّب ِعْ أهْ َ ل الل ّ ُ م بِ َ م ب َي ْن َهُ ْ حك ُ ْ َفا ْ
ُ َ ُ َ َ ّ َ
م ِفي ن ل ِي َب ْلوَك ُ ْ حد َةً وَلك ِ ْ ة َوا ِ م ً مأ ّ جعَلك ُ ْ هل َ شاَء الل ُ جا وَلوْ َ من َْها ً ة وَ ِ شْرعَ ً م ِ من ْك ُ ْ ِ
َ
ه
م ِفي ِ ما ك ُن ْت ُ ْ م بِ َ ميًعا فَي ُن َب ّئ ُك ُ ْ ج ِ م َ جعُك ُ ْ مْر ِ ت إ َِلى الل ّهِ َ خي َْرا ِ قوا ال ْ َ ست َب ِ ُ م َفا ْ ما آَتاك ُ ْ َ
ن َ أ م ه ر َ ذ ح وا م ه َ ء وا ه َ أ ع ب ت ت َ
ل و ه ّ ل ال لَ ز ن َ أ ما ب م ه ن يب م ُ ك ح ا ن َ أ و ( 48 ) ن فو ُ تَ َ ِ
ل ت خ
ْ
ُ َ َِّ ْ ْ َ ُ ْ َ ْ ْ ُ ْ ْ َ ِ ْ ْ ََُْ ْ ِ َ َْ َ
َ َ َ
نهأ ْ ريد ُ الل ّ ُ ما ي ُ ِ م أن ّ َ وا َفاعْل َ ْ ن ت َوَل ّ ْ ك فَإ ِ ْ ه إ ِل َي ْ َ ل الل ّ ُ ما أن َْز َ ض َ ن ب َعْ ِ ك عَ ْ فت ُِنو َ يَ ْ
َ س لَ َ
محك ْ َ ن ) (49أفَ ُ قو َ س ُ فا ِ ن الّنا ِ م َ ن ك َِثيًرا ِ م وَإ ِ ّ ض ذ ُُنوب ِهِ ْ م ب ِب َعْ ِ صيب َهُ ْ يُ ِ
َ
ن )(50 قوْم ٍ ُيوقُِنو َ ما ل ِ َ حك ْ ً ن الل ّهِ ُ م َ ن ِ س ُ ح َ نأ ْ م ْ ن وَ َ جاهِل ِي ّةِ ي َب ُْغو َ ال ْ َ
ن
م َ ن ي َد َي ْهِ ِ ما ب َي ْ َ صد ًّقا ل ِ َ م َ حق ّ ُ ب ِبال ْ َ ك ال ْك َِتا َ } } { 50 - 48وَأ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ
َ ما أ َن َْز َ
مام عَ ّ واَءهُ ْ ه َول ت َت ّب ِعْ أهْ َ ل الل ّ ُ م بِ َ م ب َي ْن َهُ ْ حك ُ ْ مًنا عَل َي ْهِ َفا ْ مهَي ْ ِ ب وَ ُ ال ْك َِتا ِ
شاَء الل ّه ل َجعل َك ُ ُ جا وَل َوْ َ
ة
م ً مأ ّ ُ َ َ ْ من َْها ً ة وَ ِ شْرعَ ً م ِ من ْك ُ ْ جعَل َْنا ِ ل َ حقّ ل ِك ُ ّ ن ال ْ َ م َ ك ِ جاَء َ َ
جعُك ُْ
م ر
ِ َ ْ ِ م ه ّ ل ال لى َ إ
َْ ِ ِ ت را ي خ
َ ْ ل ا قوا ُ ب
ْ َِت س فا َ م
َ َ ْ ُ ك تا آ ما في م ُ ك و
َ ِ َ ً َ ِ ْ َِْ َ ْ ُِ ل ب ي ل ن ك َ ل و ة د ح وا
ه َول ل الل ُّ ما أ َن َْز َ ب م
َ ِ ْ ْ ََُْ ْ ِ َ ه ني ب م ُ ك ح ا ن فون * وأ َ
َ ُ ما ك ُن ْت ُ ْ ِ ِ َ ْ َ ِ
ل ت خ ت ه في م م بِ َ ميًعا فَي ُن َب ّئ ُك ُ ْ ج ِ َ
ن ت َوَل ّ ْ
وا ك فَإ ِ ْ ه إ ِل َي ْ َل الل ّ ُ ما أ َن َْز َ ض َ ن ب َعْ ِ ك عَ ْ فت ُِنو َ ن يَ ْ مأ ْ
تتبع أ َهْواَءهُم واحذ َرهُ َ
ْ َ ْ ْ ْ َ َِّ ْ
َ َ ّ َ َ
سن الّنا ِ م َ ن كِثيًرا ِ م وَإ ِ ّ ض ذ ُُنوب ِهِ ْ م ب ِب َعْ ِ صيب َهُ ْ ن يُ ِ هأ ْ ريد ُ الل ُ ما ي ُ َ ِم أن ّ َ َفاعْل ْ
ْ ّ َ ْ ْ لَ َ
قوْم ٍ ما ل ِ َ
حك ً ن اللهِ ُ م َ ن ِ س ُ ح َ نأ ْ م ْن وَ َ جاهِل ِي ّةِ ي َب ُْغو َ م ال َ حك َ ن * أف َ ُ قو َ س ُ فا ِ
ن{. ُيوقُِنو َ
ب { الذي هو القرآن العظيم ،أفضل ْ َ ْ
يقول تعالى } :وَأنزلَنا إ ِلي ْ َ َ
ك الك َِتا َ
الكتب وأجلها.
حقّ { أي :إنزال بالحق ،ومشتمل على الحق في أخباره وأوامره } ِبال ْ َ
ب { لنه شهد لها ووافقها، ن ال ْك َِتا ِ م َ ن ي َد َي ْهِ ِ ما ب َي ْ َ صد ًّقا ل ّ َ م َ ونواهيهُ } .
وطابقت أخباره أخبارها ،وشرائعه الكبار شرائعها ،وأخبرت به ،فصار
وجوده مصداقا لخبرها.
مًنا عَل َي ْهِ { أي :مشتمل على ما اشتملت عليه الكتب السابقة، مهَي ْ ِ } وَ ُ
وزيادة في المطالب اللهية والخلق النفسية .فهو الكتاب الذي تتبع كل
حق جاءت به الكتب فأمر به ،وحث عليه ،وأكثر من الطرق الموصلة إليه.
وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللحقين ،وهو الكتاب الذي فيه الحكم
والحكمة ،والحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة ،فما شهد له
بالصدق فهو المقبول ،وما شهد له بالرد فهو مردود ،قد دخله التحريف
والتبديل ،وإل فلو كان من عند الله ،لم يخالفه.
ه { من الحكم الشرعي الذي أنزله الله عليك. ل الل ّ ُ ما َأنز َ م بِ َ م ب َي ْن َهُ ْ حك ُ ْ } َفا ْ
حقّ { أي :ل تجعل اتباع أهوائهم ْ جاَء َ َ
ن ال َ م َ ك ِ ما َ م عَ ّ واَءهُ ْ } َول ت َت ّب ِعْ أهْ َ
الفاسدة المعارضة للحق بدل عما جاءك من الحق فتستبدل الذي هو أدنى
بالذي هو خير.
جا { أي :سبيل وسنة، من َْها ً
ة وَ ِ شْرعَ ً م { أيها المم جعلنا } ِ منك ُ ْ جعَل َْنا ِ ل َ } ل ِك ُ ّ
وهذه الشرائع التي تختلف باختلف المم ،هي التي تتغير بحسب تغير
الزمنة والحوال ،وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها ،وأما الصول
الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان ،فإنها ل تختلف ،فتشرع في
حد َةً { تبعا لشريعة واحدة، ة َوا ِ م ً شاَء الل ّه ل َجعل َك ُ ُ جميع الشرائع } .وَل َوْ َ
مأ ّ ُ َ َ ْ
ل يختلف متأخرها و]ل[ متقدمها.
م { فيختبركم وينظر كيف تعملون ،ويبتلي كل ما آَتاك ُ ْ م ِفي َ كن ل ّي َب ْل ُوَك ُ ْ } وَل َ ِ
أمة بحسب ما تقتضيه حكمته ،ويؤتي كل أحد ما يليق به ،وليحصل
التنافس بين المم فكل أمة تحرص على سبق غيرها ،ولهذا قال:
ت { أي :بادروا إليها وأكملوها ،فإن الخيرات الشاملة خي َْرا ِ قوا ال ْ َ ست َب ِ ُ } َفا ْ
لكل فرض ومستحب ،من حقوق الله وحقوق عباده ،ل يصير فاعلها سابقا
لغيره مستوليا على المر ،إل بأمرين:
المبادرة إليها ،وانتهاز الفرصة حين يجيء وقتها ويعرض عارضها ،والجتهاد
في أدائها كاملة على الوجه المأمور به .ويستدل بهذه الية ،على المبادرة
لداء الصلة وغيرها في أول وقتها ،وعلى أنه ينبغي أن ل يقتصر العبد على
مجرد ما يجزئ في الصلة وغيرها من العبادات من المور الواجبة ،بل
ينبغي أن يأتي بالمستحبات ،التي يقدر عليها لتتم وتكمل ،ويحصل بها
السبق.
ميًعا { المم السابقة واللحقة ،كلهم سيجمعهم الله ج ِ م َ ُ
جعُك ْ مْر ِ } إ َِلى اللهِ َ
ّ
ن { من الشرائع فو َ خت َل ِ ُم ِفيهِ ت َ ْ ما ُ
كنت ُ ْ كم ب ِ َ ليوم ل ريب فيه } .فَي ُن َب ّئ ُ ُ
والعمال ،فيثيب أهل الحق والعمل الصالح ،ويعاقب أهل الباطل والعمل
السيئ.
ه { هذه الية هي التي قيل :إنها ناسخة ّ ما أنز ََ ُ َ
ل الل ُ حكم ب َي ْن َُهم ب ِ َ نا ْ } وَأ ِ
كم بينه َ َ
م{. ض عَن ْهُ ْ م أوْ أعْرِ ْ ح ُ ََُْ ْ لقولهَ } :فا ْ
والصحيح :أنها ليست بناسخة ،وأن تلك الية تدل على أنه صلى الله عليه
وسلم مخير بين الحكم بينهم وبين عدمه ،وذلك لعدم قصدهم بالتحاكم
للحق .وهذه الية تدل على أنه إذا حكم ،فإنه يحكم بينهم بما أنزل الله من
ت
م َحك َ ْ
ن َ
الكتاب والسنة ،وهو القسط الذي تقدم أن الله قال } :وَإ ِ ْ
ط { ودل هذا على بيان القسط ،وأن مادته هو ما س ِ ق ْ كم ب َي ْن َُهم ِبال ْ ِ ح ُ َفا ْ
شرعه الله من الحكام ،فإنها المشتملة على غاية العدل والقسط ،وما
خالف ذلك فهو جور وظلم.
م { كرر النهي عن اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها. َ
واَءهُ ْ } َول ت َت ّب ِعْ أهْ َ
ولن ذلك في مقام الحكم والفتوى ،وهو أوسع ،وهذا في مقام الحكم
وحده ،وكلهما يلزم فيه أن ل يتبع أهواءهم المخالفة للحق ،ولهذا قال:
ك { أي :إياك والغترار ه إ ِل َي ْ َل الل ّ ُما َأنز َ ض َ عن ب َعْ ِ ك َ فت ُِنو َ م َأن ي َ ْ حذ َْرهُ ْ } َوا ْ
بهم ،وأن يفتنوك فيصدوك عن بعض ما أنزل ]الله[ إليك ،فصار اتباع
أهوائهم سببا موصل إلى ترك الحق الواجب ،والفرض اتباعه.
م { أن ذلك عقوبة عليهم وا { عن اتباعك واتباع الحق } َفاعْل َ ْ } فَِإن ت َوَل ّ ْ
َ
م { ] ص [ 235فإن للذنوب ض ذ ُُنوب ِهِ ْصيب َُهم ب ِب َعْ ِ وأن الله يريد } أن ي ُ ِ
عقوبات عاجلة وآجلة ،ومن أعظم العقوبات أن يبتلى العبد ويزين له ترك
اتباع الرسول ،وذلك لفسقه.
ن { أي :طبيعتهم الفسق والخروج عن قو َ س ُفا ِ س لَ َ ن الّنا ِ م َ ن ك َِثيًرا ّ } وَإ ِ ّ
طاعة الله واتباع رسوله.
َ
ن { أي :أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم جاهِل ِي ّةِ ي َب ُْغو َ م ال ْ َ حك ْ َ } أف َ ُ
الجاهلية ،وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله .فل ثم إل حكم
الله ورسوله أو حكم الجاهلية .فمن أعرض عن الول ابتلي بالثاني المبني
على الجهل والظلم والغي ،ولهذا أضافه الله للجاهلية ،وأما حكم الله
تعالى فمبني على العلم ،والعدل والقسط ،والنور والهدى.
} وم َ
ن { فالموقن هو الذي يعرف قوْم ٍ ُيوقُِنو َ ما ل ِ َ حك ْ ً ن الل ّهِ ُ م َ ن ِ س ُ ح َ نأ ْ َ َ ْ
الفرق بين الحكمين ويميز -بإيقانه -ما في حكم الله من الحسن والبهاء،
وأنه يتعين -عقل وشرعا -اتباعه .واليقين ،هو العلم التام الموجب للعمل.
) (1/234
) (1/235
) (1/235
ن
مو َقي ُ ن يُ ِ ذي َمُنوا ال ّ ِ نآ َ ذي َه َوال ّ ِ سول ُ ُه وََر ُ م الل ّ ُ ما وَل ِي ّك ُ ُ } } { 56 ، 55إ ِن ّ َ
مُنوا
نآ َ ه َوال ّ ِ
ذي َ سول َ ُ ه وََر ُل الل ّ َ ن ي َت َوَ ّم ْ ن * وَ َ م َراك ُِعو َ كاةَ وَهُ ْ ن الّز َ صلةَ وَي ُؤُْتو َ ال ّ
ن{. م ال َْغال ُِبو َ ب الل ّهِ هُ ُ حْز َ ن ِ فَإ ِ ّ
لما نهى عن ولية الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم ،وذكر مآل توليهم
من يجب ويتعين توليه ،وذكر فائدة ذلك أنه الخسران المبين ،أخبر تعالى َ
ه { فولية الله تدرك باليمان ُ
سول ُ ه وََر ُ م الل ّ ُ ما وَل ِي ّك ُ ُ ومصلحته فقال } :إ ِن ّ َ
والتقوى .فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا ،ومن كان وليا لله فهو ولي
لرسوله ،ومن تولى الله ورسوله كان تمام ذلك تولي من توله ،وهم
المؤمنون الذين قاموا باليمان ظاهرا وباطنا ،وأخلصوا للمعبود ،بإقامتهم
الصلة بشروطها وفروضها ومكملتها ،وأحسنوا للخلق ،وبذلوا الزكاة من
أموالهم لمستحقيها منهم.
ن { أي :خاضعون لله ذليلون .فأداة الحصر في قوله م َراك ُِعو َ وقوله } :وَهُ ْ
مُنوا { تدل على أنه يجب قصر الولية نآ َ ذي َ ّ
ه َوال ِ ُ
سول ُ ه وََر ُ ّ
م الل ُما وَل ِي ّك ُ ُ} إ ِن ّ َ
على المذكورين ،والتبري من ولية غيرهم.
مُنوا
نآ َ ذي َ ه َوال ّ ِ سول َ ُ ه وََر ُ ل الل ّ َ من ي َت َوَ ّ ثم ذكر فائدة هذه الولية فقال } :وَ َ
ن { أي :فإنه من الحزب المضافين إلى الله م ال َْغال ُِبو َ ب الل ّهِ هُ ُ حْز َ ن ِ فَإ ِ ّ
إضافة عبودية وولية ،وحزبه هم الغالبون الذين لهم العاقبة في الدنيا
ن{. م ال َْغال ُِبو َ جن ْد ََنا ل َهُ ُ ن ُ والخرة ،كما قال تعالى } :وَإ ِ ّ
وهذه بشارة عظيمة ،لمن قام بأمر الله وصار من حزبه وجنده ،أن له
الغلبة ،وإن أديل عليه في بعض الحيان لحكمة يريدها الله تعالى ،فآخر
أمره الغلبة والنتصار ،ومن أصدق من الله قيل.
) (1/236
ن ُأوُتوا ن ال ّ ِ
ذي َ م َم هُُزًوا وَل َعًِبا ِ ذوا ِدين َك ُ ْ خ ُ
ن ات ّ َ ذوا ال ّ ِ
ذي َ خ ُمُنوا َل ت َت ّ ِ نآ َ
ذي َ َ
َيا أي َّها ال ّ ِ َ
ن )(57 مِني َمؤْ ِ م ُن ك ُن ْت ُ ْه إِ ْ قوا الل ّ َفاَر أ َوْل َِياَء َوات ّ ُ
م َوال ْك ُ ّن قَب ْل ِك ُ ْ
م ْ
ب ِ ال ْك َِتا َ
) (1/236
) (1/237
ما أ ُن ْزِ َ
ل ل إ ِل َي َْنا وَ َ ما أ ُن ْزِ َ مّنا ِبالل ّهِ وَ َ
مّنا إّل أ َ ْ َ
نآ َ ِ ن ِ مو َ ق ُ ل ت َن ْ ِب هَ ْ ل ال ْك َِتا ِ ل َيا أ َهْ َ قُ ْ
َ ُ ُ ُ ْ َ َ
مُثوب َ ً
ة ن ذ َل ِك َ م ْ شّر ِ م بِ َ ل أن َب ّئ ُك ْل هَ ْ ن ) (59قُ ْ قو َ س ُ م َفا ِ ن أكث ََرك ْ ل وَأ ّ ن قَب ْ ُ م ْ ِ
خَناِزيَر وَعَب َد َ ْ
قَرد َةَ َوال َ ْ
م ال ِ من ْهُ ُل ِ جع َ َ َ
ب عَلي ْهِ وَ َ ض َه وَغَ ِ ّ
ه الل ُ ن لعَن َ َُ م ْ ّ
عن ْد َ اللهِ َ ِ
م ُ ل ) (60وَإ ِ َ ض ّ َ َ ك َ َ
ت أولئ ِ َُ ّ
الطا ُ
جاُءوك ْ ذا َ سِبي ِ واِء ال ّ س َن َ ل عَ ْ مكاًنا وَأ َ شّر َ غو َ
َ َ ّ ْ ُ َ
ن
مو َ كاُنوا ي َك ْت ُ ُما َ م بِ َ ه أعْل ُ جوا ب ِهِ َوالل ُ خَر ُ م قَد ْ َ فرِ وَهُ ْ خلوا ِبالك ُ ْ مّنا وَقَد ْ د َ َ َقاُلوا آ َ
َ
ت ل َب ِئ ْ َ
س ح َ س ْم ال ّ ن ِفي اْل ِث ْم ِ َوال ْعُد َْوا ِ
ن وَأك ْل ِهِ ُ عو َسارِ ُ م يُ َ ) (61وَت ََرى ك َِثيًرا ِ
من ْهُ ْ
َ
م اْل ِث ْ َ
م ن قَوْل ِهِ ُ ن َواْل ْ
حَباُر عَ ْ م الّرّبان ِّيو َ ن ) (62ل َوَْل ي َن َْهاهُ ُ مُلو َ ما َ
كاُنوا ي َعْ َ َ
َ َ ْ َ
ن )(63 صن َُعو َ
ما كاُنوا ي َ ْ س َ ت لب ِئ ْ َح َ س ْم ال ّ وَأكل ِهِ ُ
َ ل َيا أ َهْ َ
ما مّنا ِبالل ّهِ وَ َ نآ َ مّنا ِإل أ ْ ن ِمو َ ق ُل ت َن ْ ِ ب هَ ْ ل ال ْك َِتا ِ } } { 63 - 59قُ ْ
ُ َ َ ما أ ُن ْزِ َ أ ُن ْزِ َ
شّر م بِ َ ل أن َب ّئ ُك ُ ْ ل هَ ْ ن * قُ ْ قو َ س ُم َفا ِ ن أك ْث ََرك ُ ْ ل وَأ ّ ن قَب ْ ُ م ْ ل ِ ل إ ِل َي َْنا وَ َ
قَرد َةَ م ال ْ ِ من ْهُ ُ ل ِ جعَ َ ب عَل َي ْهِ وَ َ ض َ ه وَغَ ِ ه الل ّ ُ ن ل َعَن َ ُ م ْ عن ْد َ الل ّهِ َ ة ِ مُثوب َ ً ك َ ن ذ َل ِ َ م ْ ِ
ذال * وَإ ِ َ ض ّ َ َ َ
ت أولئ ِك َ َ ُ ُ ّ ْ
سِبي ِ واِء ال ّ س َ ن َ ل عَ ْ مكاًنا وَأ َ شّر َ خَناِزيَر وَعَب َد َ الطاغو َ َوال َ
َ َ َ ّ م قَد ْ َ ُ ْ ُ مّنا وَقَد ْ د َ َ ُ ُ
ما كاُنوا م بِ َ ه أعْل ُ جوا ب ِهِ َوالل ُ خَر ُ فرِ وَهُ ْ خلوا ِبالك ْ م َقالوا آ َ جاُءوك ْ َ
ْ َ ْ َ ْ
ت ح َ س ْ م ال ّ ن وَأكل ِهِ ُ ن ِفي الث ْم ِ َوالعُد َْوا ِ عو َ سارِ ُ م يُ َ من ْهُ ْ ن * وَت ََرى كِثيًرا ِ مو َ ي َكت ُ ُ
م م الث ْ َ ن قَوْل ِهِ ُ حَباُر عَ ْ ن َوال ْ م الّرّبان ِّيو َ ول ي َن َْهاهُ ُ ن*ل ْ َ ملو َ ُ ما كاُنوا ي َعْ َ َ س َ ل َب ِئ ْ َ
َ
ن{. صن َُعو َ كاُنوا ي َ ْ ما َ س َ ت ل َب ِئ ْ َ ح َ س ْ م ال ّ وَأك ْل ِهِ ُ
ب { ملزما لهم ،إن دين السلم ل ال ْك َِتا ِ ل { يا أيها الرسول } َيا أ َهْ َ أي } :قُ ْ
لهو الدين الحق ،وإن قدحهم فيه قدح بأمر ينبغي المدح عليه } :هَ ْ
ل وأ َ َ ما ُأنز َ ما ُأنز َ َ
ن أك ْث ََرك ُ ْ
م من قَب ْ ُ َ ّ ل ِ ل إ ِل َي َْنا وَ َ مّنا ِبالل ّهِ وَ َ نآ َ مّنا ِإل أ ْ ن ِ مو َ ق ُ َتن ِ
ن { أي :هل لنا عندكم من العيب إل إيماننا بالله ،وبكتبه السابقة قو َ س ُ َفا ِ
واللحقة ،وبأنبيائه المتقدمين والمتأخرين ،وبأننا نجزم أن من لم يؤمن
كهذا اليمان فإنه كافر فاسق؟
فهل تنقمون منا بهذا الذي هو أوجب الواجبات على جميع المكلفين؟"
ومع هذا فأكثركم فاسقون ،أي :خارجون عن طاعة الله ،متجرئون على
معاصيه ،فأولى لكم -أيها الفاسقون -السكوت ،فلو كان عيبكم وأنتم
سالمون من الفسق ،وهيهات ذلك -لكان الشر أخف من قدحكم فينا مع
فسقكم.
ولما كان قدحهم في المؤمنين يقتضي أنهم يعتقدون أنهم على شر ،قال
منشّر ِ كم ب ِ َ ل أ ُن َب ّئ ُ ُ ل { لهم مخبرا عن شناعة ما كانوا عليه } :هَ ْ تعالى } :قُ ْ
ه { أي: ّ
ه الل ُ من لعَن َ ُ ّ ك { الذي نقمتم فيه علينا ،مع التنزل معكمَ } . ذ َل ِ َ
ل جع َ َ ب عَلي ْهِ { وعاقبه في الدنيا والخرة } وَ َ َ ض َ أبعده عن رحمته } وَغَ ِ
ت { وهو الشيطان ،وكل ما عبد من غو َ ّ
خَناِزيَر وَعَب َد َ الطا ُ قَرد َةَ َوال ْ َ م ال ْ ِ من ْهُ ُ ِ
شّرك { المذكورون بهذه الخصال القبيحة } َ ُ
دون الله فهو طاغوت } .أول َئ ِ َ
كاًنا { من المؤمنين الذين رحمة الله قريب منهم ،ورضي الله عنهم م َ ّ
وأثابهم في الدنيا والخرة ،لنهم أخلصوا له الدين.
وهذا النوع من باب استعمال أفعل التفضيل في غير بابه وكذلك قوله:
ل { أي :وأبعد عن قصد السبيل. ض ّ َ
سِبي ِ واِء ال ّ س َ عن َ ل َ } وَأ َ
خُلوا { مشتملين مّنا { نفاقا ومكرا } و { هم } قد د ّ َ م َقاُلوا آ َ جاُءوك ُ ْ ذا َ } وَإ ِ َ
جوا ب ِهِ { فمدخلهم ومخرجهم بالكفر -وهم خَر ُ م قَد ْ َ على الكفر } وَهُ ْ
يزعمون أنهم مؤمنون ،فهل أشر من هؤلء وأقبح حال منهم؟
} والل ّ َ
ن { فيجازيهم بأعمالهم خيرها وشرها. مو َ كاُنوا ي َك ْت ُ ُ ما َ م بِ َ ه أعْل َ ُ َ ُ
ثم استمر تعالى يعدد معايبهم ،انتصارا لقدحهم في عباده المؤمنين ،فقال:
ن{ ن ِفي الث ْم ِ َوال ْعُد َْوا ِ عو َ سارِ ُ م { أي :من اليهود } ي ُ َ من ْهُ ْ } وَت ََرى ك َِثيًرا ّ
أي :يحرصون ،ويبادرون المعاصي المتعلقة في حق الخالق والعدوان على
المخلوقين.
َ
ت { الذي هو الحرام .فلم يكتف بمجرد الخبار أنهم ح َ س ْ م ال ّ } وَأك ْل ِهِ ُ
يفعلون ذلك ،حتى أخبر أنهم يسارعون فيه ،وهذا يدل على خبثهم
وشرهم ،وأن أنفسهم مجبولة على حب المعاصي والظلم .هذا وهم
ن { وهذا فيمُلو َ ما َ
كاُنوا ي َعْ َ يدعون لنفسهم المقامات العالية } .ل َب ِئ ْ َ
س َ
غاية الذم لهم والقدح فيهم.
) (1/237
) (1/237
ت
جّنا ِ م َ خل َْناهُ ْم وََل َد ْ َ سي َّئات ِهِ ْم َ فْرَنا عَن ْهُ ْ وا ل َك َ ّ
ق ْ مُنوا َوات ّ َ َ
بآ َ ن أ َهْ َ
ل ال ْك َِتا ِ
َ
وَل َوْ أ ّ
م
ن َرب ّهِ ْ م ْم ِ ما أ ُن ْزِ َ
ل إ ِل َي ْهِ ْ ل وَ َجي َ موا الت ّوَْراةَ َواْل ِن ْ ِ
النِعيم ) (65ول َو أ َنه َ
م أَقا ُ َ ْ ُّ ْ َّ ِ
ُ َ
ما
ساءَ َم َ من ْهُ ْ َ
صد َةٌ وَكِثيٌر ِ قت َ ِم ْ ة ُم ٌمأ ّ من ْهُ ْ
م ِ جل ِهِ ْ ت أْر ُ ح ِ ن تَ ْ
م ْ ن فَوْقِهِ ْ
م وَ ِ م ْ َلك َُلوا ِ
ن )(66 مُلو َ
ي َعْ َ
ت
جّنا ِ م َ خل َْناهُ ْم َولد ْ َ سي َّئات ِهِ ْ م َ فْرَنا عَن ْهُ ْ وا ل َك َ ّ ق ْ
مُنوا َوات ّ َ بآ َ ل ال ْك َِتا ِن أ َهْ َ َ
} وَل َوْ أ ّ
م لك َُلوا ن َرب ّهِ ْ م ْ
م ِ ما أ ُن ْزِ َ
ل إ ِل َي ْهِ ْ ل وَ َ جي َ موا الت ّوَْراةَ َوالن ْ ِ
النِعيم * ول َو أ َنه َ
م أَقا ُ ّ ِ َ ْ ُّ ْ
َ ُ َ
ما ساَء َ م َ من ْهُ ْ
صد َةٌ وَكِثيٌر ِ قت َ ِ
م ْ
ة ُ م ٌ
مأ ّ من ْهُ ْم ِ جل ِهِ ْت أْر ُ ح ِن تَ ْ م ْم وَ ِ ن فَوْقِهِ ْ م ِْ
ن{. ُ
ملو َ ي َعْ َ
َ َ ْ َ َ َ
سي َّئات ِهِ ْ
م م َ فْرَنا عَن ْهُ ْ وا لك ّ ق ْ
مُنوا َوات ّ َ بآ َ ل الك َِتا ِ ن أه ْ َ ]ثم قال تعالى[ } :وَلوْ أ ّ
ت الن ِّعيم ِ { وهذا من كرمه وجوده ،حيث ذكر قبائح أهل جّنا ِ م َ خل َْناهُ ْ َولد ْ َ
الكتاب ومعايبهم وأقوالهم الباطلة ،دعاهم إلى التوبة ،وأنهم لو آمنوا بالله
وملئكته ،وجميع كتبه ،وجميع رسله ،واتقوا المعاصي ،لكفر عنهم سيئاتهم
ولو كانت ما كانت ،ولدخلهم جنات النعيم التي فيها ما تشتهيه النفس
وتلذ العين.
َ َ ُ َ َ
م { أي :قاموا من ّرب ّهِ ْ م ِل إ ِلي ْهِ ْ ما أنز َ ل وَ َ جي َ
موا الت ّوَْراةَ َوالن ِ م أَقا ُ} وَل َوْ أن ّهُ ْ
بأوامرهما ونواهيهما ،كما ندبهم الله وحثهم.
ومن إقامتهما اليمان بما دعيا إليه ،من اليمان بمحمد صلى الله عليه
وسلم وبالقرآن ،فلو قاموا بهذه النعمة العظيمة التي أنزلها ربهم إليهم،
َ
م { أي: جل ِهِ ْت أْر ُ ح ِ من ت َ ْ م وَ ِ من فَوْقِهِ ْ أي :لجلهم وللعتناء بهم } لك َُلوا ِ
لدر الله عليهم ] ص [ 239الرزق ،ولمطر عليهم السماء ،وأنبت لهم
حَنا عَل َي ِْهمفت َ ْوا ل َ َ ق ْ
مُنوا َوات ّ َ قَرى آ َ ل ال ْ ُن أ َهْ َ َ
الرض كما قال تعالى } :وَل َوْ أ ّ
ض{. ب ََر َ
ُ ماِء َوالْر ِ س َن ال ّ م َ
ت ّ كا ٍ
صد َة ٌ { أي :عاملة بالتوراة قت َ ِ م ْة ّم ٌم { أي :من أهل الكتاب } أ ّ من ْهُ ْ} ِ
ن { أي: ُ
ملو َ ما ي َعْ َ ساَء َ م َ من ْهُ ْ َ
والنجيل ،عمل غير قوي ول نشيط } ،وَكِثيٌر ِ
والمسيء منهم الكثير .وأما السابقون منهم فقليل ما هم.
) (1/238
سال َت َ ُ
ه ما ب َل ّغْ َ
ت رِ َ ل فَ َ
فع َ ْ
م تَ ْ ن لَ ْك وَإ ِ ْن َرب ّ َ م ْ ك ِ ل إ ِل َي ْ َما أ ُن ْزِ َ
ل ب َل ّغْ َسو ُ َ
َيا أي َّها الّر ُ
ن )(67 ري َ
كافِ ِم ال ْ َقوْ َدي ال ْ َ ه َل ي َهْ ِن الل ّ َ س إِ ّ
ن الّنا ِ م َ ك ِ م َص ُ َوالل ّ ُ
ه ي َعْ ِ
ل فَ َ
ما فع َ ْ م تَ ْ ن لَ ْ ك وَإ ِ ْن َرب ّ َ
م ْ ك ِ ل إ ِل َي ْ َما أ ُن ْزِ َ
ل ب َل ّغْ َ
سو ُ َ
} َ } { 67يا أي َّها الّر ُ
ن{. ري َكافِ ِم ال ْ َ قوْ َ دي ال ْ َ ه ل ي َهْ ِن الل ّ َ
س إِ ّ ن الّنا ِ م َ
ك ِ م َص ُ
ه ي َعْ ِه َوالل ّ ُ سال َت َ ُت رِ َ ب َل ّغْ َ
هذا أمر من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم الوامر
وأجلها ،وهو التبليغ لما أنزل الله إليه ،ويدخل في هذا كل أمر تلقته المة
عنه صلى الله عليه وسلم من العقائد والعمال والقوال ،والحكام
الشرعية والمطالب اللهية .فبلغ صلى الله عليه وسلم أكمل تبليغ ،ودعا
وأنذر ،وبشر ويسر ،وعلم الجهال الميين حتى صاروا من العلماء
الربانيين ،وبلغ بقوله وفعله وكتبه ورسله .فلم يبق خير إل دل أمته عليه،
ول شر إل حذرها عنه ،وشهد له بالتبليغ أفاضل المة من الصحابة ،فمن
بعدهم من أئمة الدين ورجال المسلمين.
ت ما ب َل ّغْ َ ل { أي :لم تبلغ ما أنزل إليك من ربك } فَ َ فعَ ْ م تَ ْ } وَِإن ل ّ ْ
ه { أي :فما امتثلت أمره. سال َت َ ُ
رِ َ
س { هذه حماية وعصمة من الله لرسوله من ن الّنا ِ م َ ك ِ م َ ص ُ ه ي َعْ ِ } َوالل ّ ُ
الناس ،وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ ،ول يثنيك عنه
خوف من المخلوقين فإن نواصيهم بيد الله وقد تكفل بعصمتك ،فأنت إنما
عليك البلغ المبين ،فمن اهتدى فلنفسه ،وأما الكافرون الذين ل قصد لهم
إل اتباع أهوائهم فإن الله ل يهديهم ول يوفقهم للخير ،بسبب كفرهم.
) (1/239
ما أ ُن ْزِ َ
ل جي َ
ل وَ َ موا الت ّوَْراةَ َواْل ِن ْ ِ قي ُحّتى ت ُ ِ
َ يءٍ ش ْ م عََلى َ ست ُ ْ ب لَ ْ ل ال ْك َِتا ِ ل َيا أ َهْ َ قُ ْ
ُ َ ُ َ
فًرا ُ َ
ن َرب ّك طغَْياًنا وَك ْ م ْ َ
ل إ ِلي ْك ِ ما أن ْزِ َ َ ممن ْهُ ْ ن كِثيًرا ِ َ زيد َ ّ م وَلي َ ِ ُ
ن َرب ّك ْ م ْ م ِ إ ِل َي ْك ْ
ُ
قوْم ِ ال ْ َ س عََلى ال ْ َ ْ
ن )(68 ري َ كافِ ِ فََل ت َأ َ
موا الت ّوَْراةَ قي ُ حّتى ت ُ ِ يٍء َ ش ْ م عََلى َ ست ُ ْ ب لَ ْ ل ال ْك َِتا ِ ل َيا أ َهْ َ } } { 68قُ ْ
ل إ ِل َي ْ َ ُ ُ
ن
م ْك ِ ما أن ْزِ َ
م َ ن ك َِثيًرا ِ
من ْهُ ْ زيد َ ّ م وَل َي َ ِ ن َرب ّك ُ ْ م ْ م ِل إ ِل َي ْك ُ ْ
ْ
ما أن ْزِ َ ل وَ َ جي َ َوالن ْ ِ
ن{. ري َ َ ْ
قوْم ِ الكافِ ِ ْ
س عَلى ال َ َ فًرا فل ت َأ َ َ ُ
ك طغَْياًنا وَك ْ ُ َرب ّ َ
م عََلى ست ُ ْ أي :قل لهل الكتاب ،مناديا على ضللهم ،ومعلنا بباطلهم } :ل َ ْ
يٍء { من المور الدينية ،فإنكم ل بالقرآن ومحمد آمنتم ،ول بنبيكم ش ْ َ
مواقي ُحّتى ت ُ ِ وكتابكم صدقتم ،ول بحق تمسكتم ،ول على أصل اعتمدتم } َ
ل { أي :تجعلوهما قائمين باليمان بهما واتباعهما ،والتمسك جي َ الت ّوَْراةَ َوالن ِ
بكل ما يدعوان إليه.
م { الذي رباكم ،وأنعم عليكم، من َرب ّك ُ ْ م ِ َ
ل إ ِلي ْك ُ ْ } و { تقيموا } ما ُأنز َ
ل الكتب إليكم .فالواجب عليكم ،أن تقوموا بشكر ل إنعامه إنزا َ وجعل أج ّ
الله ،وتلتزموا أحكام الله ،وتقوموا بما حملتم من أمانة الله وعهده.
س عََلى ْ ك ط ُغَْياًنا وَك ُ ْ ل إ ِل َي ْ َ ما ُأنز َ
فًرا َفل ت َأ َ ن َرب ّ َ م ْ ك ِ م ّ من ْهُ ْ ن ك َِثيًرا ّ زيد َ ّ } وَل َي َ ِ
ن{. ري َ كافِ ِ قوْم ِ ال ْ َ ال ْ َ
) (1/239
ن ِبالل ّهِ
م َ
نآ َ
م ْ
صاَرى َ
ن َوالن ّ َصاب ُِئو َ
دوا َوال ّ ها ُن َ
ذي َمُنوا َوال ّ ِ نآ َ ن ال ّ ِ
ذي َ } } { 69إ ِ ّ
ن{.حَزُنو َم يَ ْم َول هُ ْ َ
ف عَلي ْهِ ْ خوْ ٌحا َفل َ صال ِ ًل َم َخرِ وَعَ ِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ
يخبر تعالى عن أهل الكتب ) (1من أهل القرآن والتوراة والنجيل ،أن
سعادتهم ونجاتهم في طريق واحد ،وأصل واحد ،وهو اليمان بالله واليوم
الخر ]والعمل الصالح[ ) (2فمن آمن منهم بالله واليوم الخر ،فله النجاة،
ول خوف عليهم فيما يستقبلونه من المور المخوفة ،ول هم يحزنون على
ما خلفوا منها .وهذا الحكم المذكور يشمل سائر الزمنة.
__________
) (1في ب :الكتاب.
) (2زيادة من هامش ب.
) (1/239
موا
ص ّ
موا وَ َ
م عَ ُ ه عَل َي ْهِ ْ
م ثُ ّ ب الل ّ ُ موا ث ُ ّ
م َتا َ ص ّموا وَ َ ة فَعَ ُ ن فِت ْن َ ٌكو َ سُبوا أ َّل ت َ ُح ِ
وَ َ
ن )(71 مُلو َ
ما ي َعْ َصيٌر ب ِ َ ه بَ ِم َوالل ّ ُ ك َِثيٌر ِ
من ْهُ ْ
مواص ّ
موا وَ َ م عَ ُ ه عَل َي ْهِ ْ
م ثُ ّ ب الل ّ ُ موا ث ُ ّ
م َتا َ ص ّموا وَ َ ة فَعَ ُ ن فِت ْن َ ٌ كو َ سُبوا َأل ت َ ُ ح ِ } وَ َ
ن{. ملو َ ُ ما ي َعْ َ
صيٌر ب ِ َ ه بَ ِ ّ
م َوالل ُ من ْهُ ْ ك َِثيٌر ِ
ة { أي :ظنوا أن معصيتهم وتكذيبهم ل يجر عليهم ن فِت ْن َ ٌ كو َ سُبوا َأل ت َ ُ ح ِ } وَ َ
موا { عن الحق ص ّ موا وَ َ عذابا ول عقوبة ،فاستمروا على باطلهم } .فَعَ ُ
م { لم م { حين تابوا إليه وأنابوا } ث ُ ّ م { نعشهم و } تاب الله عَل َي ْهِ ْ } ثُ ّ
يستمروا على ذلك حتى انقلب أكثرهم إلى الحال القبيحةَ .فـ } عَ ُ
موا
م { بهذا الوصف ،والقليل استمروا على توبتهم وإيمانهم. من ْهُ ْ موا ك َِثيٌر ِ ص ّوَ َ
ن { فيجازي كل عامل بعمله ،إن خيرا فخير وإن مُلو َ ما ي َعْ َ صيٌر ب ِ َه بَ ِ } َوالل ّ ُ
شرا فشر.
) (1/239
ح َيا ب َِني سي ُ م ِ ل ال ْ َ م وََقا َ مْري َ َ ن َ ح اب ْ ُ سي ُ م ِ ه هُوَ ال ْ َ ن الل ّ َ ن َقاُلوا إ ِ ّ ذي َ فَر ال ّ ِ قد ْ ك َ َ لَ َ
ه عَل َي ْ ِ
ه م الل ّ ُ حّر َ قد ْ َ ك ِبالل ّهِ فَ َ شرِ ْ ن يُ ْ م ْ ه َ م إ ِن ّ ُ ه َرّبي وََرب ّك ُ ْ دوا الل ّ َ ل اعْب ُ ُ سَراِئي َ إِ ْ
ُ ّ َ َ ّ ْ
نن قالوا إ ِ ّ َ ذي َ فَر ال ِ َ
قد ْ ك َ صارٍ ) (72ل َ ن أن ْ َ م ْ ن ِ مي َ ما ِللظال ِ ِ مأَواهُ الّناُر وَ َ ة وَ َ جن ّ َال ْ َ
ن
س ّ م ّ ن ل َي َ َ قوُلو َ ما ي َ ُ م ي َن ْت َُهوا عَ ّ ن لَ ْ حد ٌ وَإ ِ ْ ه َوا ِ ن إ ِل َهٍ إ ِّل إ ِل َ ٌ م ْ ما ِ ث ث ََلث َةٍ وَ َ ه َثال ِ ُ الل ّ َ
َ َ
ه َوالل ّ ُ
ه فُرون َ ُ ست َغْ ِ ن إ َِلى الل ّهِ وَي َ ْ م ) (73أفََل ي َُتوُبو َ ب أِلي ٌ ذا ٌ م عَ َ من ْهُ ْ فُروا ِ ن كَ َ ذي َ ال ّ ِ
س ُ
ل ن قَب ْل ِهِ الّر ُ م ْ ت ِ خل َ ْ ل قَد ْ َ سو ٌ م إ ِّل َر ُ مْري َ َ ن َ ح اب ْ ُ سي ُ م ِما ال ْ َ م )َ (74 حي ٌ فوٌر َر ِ غَ ُ
َ ُ َ ْ َ َ ُ ّ َ ُ ْ َ ُ
م ان ْظْر أّنى ت ثُ ّ م الَيا ِ ن لهُ ُ ف ن ُب َي ّ ُم ان ْظْر كي ْ َ ن الطَعا َ ة كاَنا ي َأكل ِ ق ٌ دي َص ّ ه ِ م ُوَأ ّ
ن )(75 كو َ ي ُؤْفَ ُ
ل م وََقا َ مْري َ َ ن َ ح اب ْ ُ سي ُ م ِ ه هُوَ ال ْ َ ن الل ّ َ ن َقاُلوا إ ِ ّ ذي َ فَر ال ّ ِ قد ْ ك َ َ } } { 75 - 72ل َ َ
شرِ ْ
ك ن يُ ْ م ْ ه َ م إ ِن ّ ُ ه َرّبي ] ص [ 240وََرب ّك ُ ْ دوا الل ّ َ ل اعْب ُ ُ سَراِئي َ ح َيا ب َِني إ ِ ْ سي ُ م ِ ال ْ َ
صارٍ * ل َ َ َ ما ِلل ّ ْ
قد ْ ن أن ْ َ م ْ ن ِ مي َ ظال ِ ِ مأَواهُ الّناُر وَ َ ة وَ َ جن ّ َ ه عَل َي ْهِ ال ْ َ م الل ّ ُ حّر َ قد ْ َِبالل ّهِ فَ َ
م ي َن ْت َُهوان لَ ْ حد ٌ وَإ ِ ْ ه َوا ِ ن إ ِل َهٍ ِإل إ ِل َ ٌ م ْ ما ِ ث َثلث َةٍ وَ َ ه َثال ِ ُ ن الل ّ َ ن َقاُلوا إ ِ ّ ذي َفَر ال ّ ِ كَ َ
َ َ
ن إ َِلى الل ّ ِ
ه م * أَفل ي َُتوُبو َ ب أِلي ٌ ذا ٌ م عَ َ من ْهُ ْ فُروا ِ ن كَ َ ذي َ ن ال ّ ِ س ّ م ّ ن ل َي َ َقوُلو َ ما ي َ ُعَ ّ
ت َ
خل ْ ل قَد ْ َ سو ٌ م ِإل َر ُ مْري َ َ ن َ ح اب ْ ُ سي ُ م ِ ْ
ما ال َ م* َ حي ٌ فوٌر َر ِ ه غَ ُ ّ
ه َوالل ُ فُرون َ ُ ست َغْ ِ وَي َ ْ
َ ُ ّ ْ ُ
من لهُ ُ ف ن ُب َي ّ ُ م ان ْظْر ك َي ْ َ ن الطَعا َ كل ِ كاَنا ي َأ ُ ة َ ق ٌ دي َ ص ّ
ه ِ م ُل وَأ ّ س ُ ن قَب ْل ِهِ الّر ُ م ْ ِ
ن{. كو َ م ان ْظ ُْر أ َّنى ي ُؤْفَ ُ ت ثُ ّ الَيا ِ
م{ مْري َ َن َ ح اب ْ ُ سي ُ م ِ ْ
ه هُوَ ال َ ّ
ن الل َ يخبر تعالى عن كفر النصارى بقولهم } :إ ِ ّ
بشبهة أنه خرج من أم بل أب ،وخالف المعهود من الخلقة اللهية ،والحال
أنه عليه الصلة والسلم قد كذبهم في هذه الدعوى ،وقال لهمَ } :يا ب َِني
م { فأثبت لنفسه العبودية التامة ،ولربه ه َرّبي وََرب ّك ُ ْ دوا الل ّ َ ل اعْب ُ ُ سَراِئي َ إِ ْ
الربوبية الشاملة لكل مخلوق.
قد ْك ِبالل ّهِ { أحدا من المخلوقين ،ل عيسى ول غيره } .فَ َ شرِ ْ من ي ُ ْ ه َ } إ ِن ّ ُ
ْ
مأَواهُ الّناُر { وذلك لنه سوى الخلق بالخالق، ة وَ َ جن ّ َ ه عَل َي ْهِ ال ْ َ م الل ّ ُ حّر َ َ
وصرف ما خلقه الله له -وهو العبادة الخالصة -لغير من هي له ،فاستحق
أن يخلد في النار.
صارٍ { ينقذونهم من عذاب الله ،أو يدفعون عنهم َ ما ِلل ّ
ن أن َ م ْ ن ِ مي َ ظال ِ ِ } وَ َ
بعض ما نزل بهم.
ث َثلث َةٍ { وهذا من أقوال النصارى ه َثال ِ ُ ّ
ن الل َ ن قالوا إ ِ ّ ُ َ ذي َ فَر ال ّ ِ قد ْ ك َ َ } لَ َ
المنصورة عندهم ،زعموا أن الله ثالث ثلثة :الله ،وعيسى ،ومريم ،تعالى
الله عن قولهم علوا كبيرا.
وهذا أكبر دليل على قلة عقول النصارى ،كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء،
والعقيدة القبيحة؟! كيف اشتبه عليهم الخالق بالمخلوقين ) (1؟! كيف
خفي عليهم رب العالمين؟! قال تعالى -رادا عليهم وعلى أشباههم :-
حد ٌ { متصف بكل صفة كمال ،منزه عن كل نقص، ه َوا ِ ن إ ِل َهٍ ِإل إ ِل َ ٌ م ْ ما ِ } وَ َ
منفرد بالخلق والتدبير ،ما بالخلق من نعمة إل منه .فكيف يجعل معه إله
غيره؟" تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.
ممن ْهُ ْفُروا ِ ن كَ َ ذي َ ن ال ّ ِ س ّ م ّ ن ل َي َ َقوُلو َ ما ي َ ُ
م َينت َُهوا عَ ّ ثم توعدهم بقوله } :وَِإن ل ّ ْ
م{. َ عَ َ
ب أِلي ٌ ذا ٌ
ثم دعاهم إلى التوبة عما صدر منهم ،وبين أنه يقبل التوبة عن عباده
ن إ َِلى الل ّهِ { أي :يرجعون إلى ما يحبه ويرضاه من َ
فقال } :أَفل ي َُتوُبو َ
القرار لله بالتوحيد ،وبأن عيسى عبد الله ورسوله ،عما كانوا يقولونه
م { أي :يغفر ذنوب حي ٌ فوٌر ّر ِ ه { عن ما صدر منهم } َوالل ّ ُ
ه غَ ُ فُرون َ ُ ست َغْ ِ } وَي َ ْ
التائبين ،ولو بلغت عنان السماء ،ويرحمهم بقبول توبتهم ،وتبديل سيئاتهم
حسنات.
وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين في قوله:
ن إ َِلى الل ّهِ { . َ
} أَفل ي َُتوُبو َ
ُ
نح اب ْ ُسي ُ م ِ ما ال ْ َ مه ،الذي هو الحق ،فقالَ } : ثم ذكر حقيقة المسيح وأ ّ
ل { أي :هذا غايته ومنتهى أمره، س ُمن قَب ْل ِهِ الّر ُ ت ِ خل َ ْ ل قَد ْ َ سو ٌ م ِإل َر ُ مْري َ َ َ
أنه من عباد الله المرسلين ،الذين ليس لهم من المر ول من التشريع ،إل
ما أرسلهم به الله ،وهو من جنس الرسل قبله ،ل مزية له عليهم تخرجه
عن البشرية إلى مرتبة الربوبية.
ة { أي :هذا أيضا غايتها ،أن كانت من الصديقين ق ٌ دي َ ُ
ص ّ ه { مريم } ِ م ُ
} وَأ ّ
الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد النبياء .والصديقية ،هي العلم النافع المثمر
لليقين ،والعمل الصالح .وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية ،بل أعلى
أحوالها الصديقية ،وكفى بذلك فضل وشرفا .وكذلك سائر النساء لم يكن
منهن نبية ،لن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين ،في الرجال كما
َ
م { فإذا كان عيسى حي إ ِل َي ْهِ ْ جال ّنو ِ ك ِإل رِ َمن قَب ْل ِ َ سل َْنا ِ ما أْر َ قال تعالى } :وَ َ
عليه السلم من جنس النبياء والرسل من قبله ،وأمه صديقة ،فلي شيء
اتخذهما النصارى إلهين مع الله؟
م { دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران، ن الط َّعا َ كاَنا ي َأ ْ ُ
كل ِ وقولهَ } :
محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب ،فلو كانا إلهين لستغنيا
عن الطعام والشراب ،ولم يحتاجا إلى شيء ،فإن الله هو الغني الحميد.
ت { الموضحة ن ل َهُ ُ
م الَيا ِ ولما بين تعالى البرهان قال } :انظ ُْر ك َي ْ َ
ف ن ُب َي ّ ُ
للحق ،الكاشفة لليقين ،ومع هذا ل تفيد فيهم شيئا ،بل ل يزالون على
إفكهم وكذبهم وافترائهم ،وذلك ظلم وعناد منهم.
__________
) (1في ب :المخلوق
) (1/239
قُ ْ َ
ع
مي ُ
س ِ فًعا َوالل ّ ُ
ه هُوَ ال ّ ضّرا وََل ن َ ْ ك ل َك ُ ْ
م َ ما َل ي َ ْ
مل ِ ُ ن الل ّهِ َ
دو ِ
ن ُ
م ْ
ن ِ
دو َ
ل أت َعْب ُ ُ
م )(76 ال ْعَِلي ُ
} } { 76قُ ْ َ
و فًعا َوالل ّ ُ
ه هُ َ ضّرا َول ن َ ْ ك ل َك ُ ْ
م َ مل ِ ُ
ما ل ي َ ْ ن الل ّهِ َ دو ِ ن ُ م ْ
ن ِ
دو َ
ل أت َعْب ُ ُ
م{. ميعُ ال ْعَِلي ُس ِ ال ّ
ن الل ّهِ { من المخلوقين َ أي } :قُ ْ
دو ِ من ُ ن ِ دو َل { لهم أيها الرسول } :أت َعْب ُ ُ
فًعا { وتدعون من انفرد ضّرا َول ن َ ْ م َ ك ل َك ُ ْ
مل ِ ُ
الفقراء المحتاجين } ،ما ل ي َ ْ
ميعُ { لجميع الصوات س ِه هُوَ ال ّ بالضر والنفع والعطاء والمنعَ } ،والل ّ ُ
باختلف اللغات ،على تفنن الحاجات.
م { بالظواهر والبواطن ،والغيب والشهادة ،والمور الماضية } ال ْعَِلي ُ
والمستقبلة ،فالكامل تعالى الذي هذه أوصافه هو الذي يستحق أن يفرد
بجميع أنواع العبادة ،ويخلص له الدين.
) (1/240
) (1/240
) (1/242
ه َل َ ذي َ َ
ن الل ّ َ دوا إ ِ ّم وََل ت َعْت َ ُ ه ل َك ُ ْ
ل الل ّ ُح ّ ما أ َت َ موا ط َي َّبا ِحّر ُ مُنوا َل ت ُ َ
نآ َ َيا أي َّها ال ّ ِ َ
َ
م
ذي أن ْت ُ ْ ه ال ّ ِقوا الل ّ َ حَلًل ط َي ًّبا َوات ّ ُ ه َم الل ّ ُما َرَزقَك ُ ُ ن ) (87وَك ُُلوا ِ
م ّ دي َ ب ال ْ ُ
معْت َ ِ ح ّ يُ ِ
ن )(88 مُنو َ مؤْ ِب ِهِ ُ
َ َ
م َول ه ل َك ُ ْ ل الل ّ ُ ح ّ ما أ َ ت َ موا ط َي َّبا ِ حّر ُ مُنوا ل ت ُ َ نآ َ ذي َ } َ } { 88 ، 87يا أي َّها ال ّ ِ
قوا حلل ط َي ًّبا َوات ّ ُ ه َ م الل ّ ُ ما َرَزقَك ُ ُ م ّ ن * وَك ُُلوا ِ دي َ معْت َ ِ ب ال ْ ُ ح ّ ه ل يُ ِ ن الل ّ َ دوا إ ِ ّ ت َعْت َ ُ
َ ّ
ن{. مُنو َ مؤْ ِ م ب ِهِ ُذي أن ْت ُ ْ ه ال ِ الل ّ َ
َ َ
م { من ه ل َك ُ ْ ل الل ّ ُ ح ّ ما أ َ ت َ موا ط َي َّبا ِ حّر ُ مُنوا ل ت ُ َ نآ َ ذي َ يقول تعالى } َيا أي َّها ال ّ ِ
المطاعم والمشارب ،فإنها نعم أنعم الله بها عليكم ،فاحمدوه إذ أحلها
لكم ،واشكروه ول تردوا نعمته بكفرها أو عدم قبولها ،أو اعتقاد تحريمها،
فتجمعون بذلك بين القول على الله الكذب ،وكفر النعمة ،واعتقاد الحلل
الطيب حراما خبيثا ،فإن هذا من العتداء.
ن{ دي َ معْت َ ِ ْ
ب ال ُ ح ّ ه ل يُ ِ ّ
ن الل َ دوا إ ِ ّوالله قد نهى عن العتداء فقالَ } :ول ت َعْت َ ُ
بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم على ذلك.
ثم أمر بضد ما عليه المشركون ،الذين يحرمون ما أحل الله فقال:
حلل ط َي ًّبا { أي :كلوا من رزقه الذي ساقه إليكم، ه َ م الل ّ ُ ما َرَزقَك ُ ُ م ّ} وَك ُُلوا ِ
بما يسره من السباب ،إذا كان حلل ل سرقة ول غصبا ول غير ذلك من
أنواع الموال التي تؤخذ بغير حق ،وكان أيضا طيبا ،وهو الذي ل خبث فيه،
فخرج بذلك الخبيث من السباع والخبائث.
َ ّ
ه
م بِ ِ ذي أن ْت ُ ْ ه { في امتثال أوامره ،واجتناب نواهيه } .ال ِ قوا الل ّ َ } َوات ّ ُ
ن { فإن إيمانكم بالله يوجب عليكم تقواه ومراعاة حقه ،فإنه ل يتم مُنو َ مؤْ ِ ُ
إل بذلك.
ودلت الية الكريمة على أنه إذا حرم حلل عليه من طعام وشراب ،وسرية
وأمة ،ونحو ذلك ،فإنه ل يكون حراما بتحريمه ،لكن لو فعله فعليه كفارة
ه لَ َ َ َ
ك { الية. ل الل ّ ُ ح ّ ما أ َ م َ حّر ُ م تُ َ ي لِ َيمين ،كما قال تعالىَ } :يا أي َّها الن ّب ِ ّ
إل أن تحريم الزوجة فيه كفارة ظهار ،ويدخل في هذه الية أنه ل ينبغي
للنسان أن يتجنب الطيبات ويحرمها على نفسه ،بل يتناولها مستعينا بها
على طاعة ربه.
) (1/242
َ َ
نما َم اْلي ْ َ قد ْت ُ ُ ما عَ ّم بِ َ خذ ُك ُ ْ ؤا ِن يُ َ م وَل َك ِ ْ ه ِبالل ّغْوِ ِفي أي ْ َ
مان ِك ُ ْ م الل ّ ُ خذ ُك ُ ُ ؤا َِل ي ُ َ
َ َ َ
م
سوَت ُهُ ْ م أوْ ك ِ ْ ن أهِْليك ُ ْ مو َ ما ت ُط ْعِ ُ ط َ س ِ ن أو ْ َ م ْ ن ِ كي َ سا ِ م َشَرةِ َ م عَ َ ه إ ِط َْعا ُ فاَرت ُ ُ فَك َ ّ
حل َ ْ َ َ
م ث ََلث َةِ أّيام ٍ ذ َل ِ َ َ
م
فت ُ ْ ذا َم إِ َ مان ِك ُ ْ
فاَرةُ أي ْ َ ك كَ ّ صَيا ُ جد ْ فَ ِ ن لَ ْ
م يَ ِ ريُر َرقَب َةٍ فَ َ
م ْ ِ ح
أو ْ ت َ ْ
ك ي ُب َي ّن الل ّه ل َك ُ َ ف ُ َ
ن )(89 شك ُُرو َ م تَ ْ م آَيات ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ ْ ُ ُ م ك َذ َل ِ َ مان َك ُ ْظوا أي ْ َ ح َ َوا ْ
َ
م { ). (1 ه ِبالل ّغْوِ ِفي أي ْ َ
مان ِك ُ ْ م الل ّ ُخذ ُك ُ ُؤا ِ } } { 89ل ي ُ َ
أي :في أيمانكم التي صدرت على وجه اللغو ،وهي اليمان التي حلف بها
المقسم من غير نية ول قصد ،أو عقدها يظن صدق نفسه ،فبان بخلف
ن { أي :بما عزمتم عليه ،وعقدت ما َ م الي ْ َ
قد ْت ُ ُ
ما عَ ّ خذ ُك ُ ْ
م بِ َ ؤا ِن يُ َ ذلك } .وَل َك ِ ْ
ت ما ك َ َ
سب َ ْ خذ ُك ُ ْ
م بِ َ ؤا ِ عليه قلوبكم .كما قال في الية الخرى } :وَل َك ِ ْ
ن يُ َ
ه { أي :كفارة اليمين الذي عقدتموها بقصدكم فاَرت ُ ُم { } فَك َ ّ قُُلوب ُك ُ ْ
ن{. كي َ سا ِ م َ شَرةِ َ م عَ َ } إ ِط َْعا ُ
َ َ َ
م { أي :كسوة سوَت ُهُ ْم أو ْ ك ِ ْ ن أهِْليك ُ ْ ما ت ُط ْعِ ُ
مو َ ط َس ِ ن أوْ َ م ْ وذلك الطعام } ِ
ريُر َرقَب َةٍ { َ
ح ِعشرة مساكين ،والكسوة هي التي تجزئ في الصلة } .أوْ ت َ ْ
أي :عتق رقبة مؤمنة كما قيدت في غير هذا الموضع ،فمتى فعل واحدا
من هذه الثلثة فقد انحلت يمينه.
َ
ك { المذكور م َثلث َةِ أّيام ٍ ذ َل ِ َ صَيا ُجد ْ { واحدا من هذه الثلثة } فَ ِ م يَ ِ ن لَ ْ م ْ } فَ َ
َ َ
م { تكفرها وتمحوها وتمنع من الثم. فت ُ ْحل ْ ذا َ م إِ َ مان ِك ُ ْ فاَرةُ أي ْ َ } كَ ّ
َ ف ُ
م { عن الحلف بالله كاذبا ،وعن كثرة اليمان، مان َك ُ ْ ظوا أي ْ َ ح َ} َوا ْ
واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيها ،إل إذا كان الحنث خيرا ،فتمام
الحفظ :أن يفعل الخير ،ول يكون يمينه عرضة لذلك الخير.
م آَيات ِهِ { المبينة للحلل من الحرام ،الموضحة ه ل َك ُ ْ ن الل ّ ُ ك ي ُب َي ّ ُ} ك َذ َل ِ َ
ه حيث علمكم ما لم تكونوا تعلمون. ن { الل َ شك ُُرو َ م تَ ْ للحكام } .ل َعَل ّك ُ ْ
ن به ] ص [ 243عليهم ،من فعلى العباد شكر الله تعالى على ما م ّ
معرفة الحكام الشرعية وتبيينها.
__________
) (1في ب كتب الية كاملة
) (1/242
) (1/243
ذي َ
وا
ق ْ
ما ات ّ َذا َ ما ط َعِ ُ
موا إ ِ َ ح ِفي َ جَنا ٌت ُ حا ِ مُلوا ال ّ
صال ِ َ مُنوا وَعَ ِ نآ َ س عََلى ال ّ ِ َ ل َي ْ َ
َ َ َ
ب
ح ّ ه يُ ِسُنوا َوالل ّ ُ ح َ وا وَأ ْق ْم ات ّ َمُنوا ث ُ ّ
وا وَآ َ ق ْ ت ثُ ّ
م ات ّ َ حا ِصال ِ َمُلوا ال ّ مُنوا وَعَ ِوَآ َ
ن )(93 سِني َ
ح ِم ْال ْ ُ
موا إ ِ َ
ذا ما ط َعِ ُح ِفي َجَنا ٌ ت ُ حا ِ صال ِ َمُلوا ال ّ مُنوا وَعَ ِ
نآ َ س عََلى ال ّ ِ
ذي َ } } { 93ل َي ْ َ
َ
سُنوا َوالل ّ ُ
ه ح َ
وا وَأ ْ م ات ّقَ ْ مُنوا ث ُ ّوا َوآ َ ق ْ
م ات ّ َت ثُ ّ
حا ِ مُلوا ال ّ
صال ِ َ مُنوا وَعَ ِ وا َوآ َ ق ْ ما ات ّ َ َ
ن{. َ ني
ِ س
ِ ح
ْ م
ُ ْ ل ا ب ّ ح
ِ يُ
لما نزل تحريم الخمر والنهي الكيد والتشديد فيه ،تمنى أناس من
المؤمنين أن يعلموا حال إخوانهم الذين ماتوا على السلم قبل تحريم
الخمر وهم يشربونها.
مُلوامُنوا وَعَ ِ نآ َذي َ س عََلى ال ّ ِ فأنزل الله هذه الية ،وأخبر تعالى أنه } ل َي ْ َ
موا { من الخمر والميسر ما ط َعِ ُ ح { أي :حرج وإثم } ِفي َ جَنا ٌ ت ُ حا ِ صال ِ َ ال ّ
قبل تحريمهما.
) (1/243
) (1/243
قَلئ ِد َم َوال ْهَد ْيَ َوال ْ َ حَرا َ شهَْر ال ْ َ س َوال ّ ِ ما ِللّنا م قَِيا ً حَرا َ ت ال ْ َ ة ال ْب َي ْ َ
ه ال ْك َعْب َ َ ل الل ّ ُجعَ َ َ
ه ب ِك ُ ّ
ل ّ َ َ ْ َ ّ َ َ ذ َل ِ َ
ن الل َ ض وَأ ّفي الْر ِ ما ِ ت وَ َ ماَوا ِ س َ ما ِفي ال ّ م َ ه ي َعْل ُن الل َ موا أ ّ ك ل ِت َعْل ُ
م )(98 ه غَ ُ ّ َ ْ ه َ ّ َ َ َ
حي ٌ
فوٌر َر ِ ن الل َ ب وَأ ّ قا ِديد ُ العِ َ ش ِ ن الل َ موا أ ّ م ) (97اعْل ُ يٍء عَِلي ٌ ش ْ
ن )(99 مو َ ما ت َك ْت ُ ُ ن وَ َدو َما ت ُب ْ ُم َ ه ي َعْل َ ُ ل إ ِّل ال ْب ََلغُ َوالل ّ ُ سو ِ ما عََلى الّر ُ َ
ولما كان الصيد يشمل الصيد البري والبحري ،استثنى تعالى الصيد البحري
ه { أي :أحل لكم -في حال إحرامكم- م ُ حرِ وَط ََعا ُ صي ْد ُ ال ْب َ ْ م َ ل ل َك ُ ْ ح ّ فقال } :أ ُ ِ
صيد البحر ،وهو الحي من حيواناته ،وطعامه ،وهو الميت منها ،فدل ذلك
سّياَرةِ { أي :الفائدة في إباحته ] ص م وَِلل ّ عا ل َك ُ ْ مَتا ً على حل ميتة البحرَ } .
[ 245لكم أنه لجل انتفاعكم وانتفاع رفقتكم الذين يسيرون معكم.
ما { ويؤخذ من لفظ "الصيد" أنه ل حُر ً م ُ مت ُ ْ ما د ُ ْ صي ْد ُ ال ْب َّر َ م َ م عَل َي ْك ُ ْ حّر َ } وَ ُ
بد أن يكون وحشيا ،لن النسي ليس بصيد .ومأكول فإن غير المأكول ل
ن { أي: شُرو َ ح َذي إ ِل َي ْهِ ت ُ ْ ه ال ّ ِ قوا الل ّ َ يصاد ول يطلق عليه اسم الصيدَ } .وات ّ ُ
اتقوه بفعل ما أمر به ،وترك ما نهى عنه ،واستعينوا على تقواه بعلمكم
أنكم إليه تحشرون .فيجازيكم ،هل قمتم بتقواه فيثيبكم الثواب الجزيل ،أم
م
حَرا َ ت ال ْ َ ة ال ْب َي ْ َ ه ال ْك َعْب َ َ ل الل ّ ُ جع َ َ لم تقوموا بها فيعاقبكم؟َ } { 99 - 97 } .
َ ّ َ َ م َوال ْهَد ْيَ َوال ْ َ
ما م َ
ه ي َعْل ُ ن الل َ موا أ ّ َ
قلئ ِد َ ذ َل ِك ل ِت َعْل ُ حَرا َ شهَْر ال ْ َ س َوال ّ ما ِللّنا ِ قَِيا ً
هّ َ َ ل َ ُ
ه ب ِك ّ ّ َ
ن الل َ موا أ ّ م * اعْل ُ يٍء عَِلي ٌ ش ْ ن الل َ ض وَأ ّ ما ِفي الْر ِ ت وَ َ ماَوا ِ س َ ِفي ال ّ
َ ّ ْ َ ّ َ ْ
م
ه ي َعْل ُ ل ِإل الَبلغُ َوالل ُ سو ِ ما عَلى الّر ُ م* َ حي ٌ فوٌر َر ِ ه غَ ُ ن الل َ ب وَأ ّ قا ِ ديد ُ العِ َ ش َِ
ن{. مو َ ْ
ما ت َكت ُ ُ ن وَ َ دو َ ما ت ُب ْ ُ َ
س { يقوم بالقيام نا
ّ للِ ما ً ياَ ِ ق م
َ را
َ ح
َ ْ ل ا تَ ْ ي َ ب ْ لا ة
َ َ ب ْ عَ ك ْ ل ا } جعل أنه تعالى يخبر
ِ
بتعظيمه ديُنهم ودنياهم ،فبذلك يتم إسلمهم ،وبه تحط أوزارهم ،وتحصل
لهم -بقصده -العطايا الجزيلة ،والحسان الكثير ،وبسببه تنفق الموال،
وتتقحم ) - (1من أجله -الهوال.
ويجتمع فيه من كل فج عميق جميع أجناس المسلمين ،فيتعارفون
ويستعين بعضهم ببعض ،ويتشاورون على المصالح العامة ،وتنعقد بينهم
الروابط في مصالحهم الدينية والدنيوية.
ُ َ ّ
تما ٍ معْلو َ م اللهِ ِفي أّيام ٍ َ م وَي َذ ْك ُُروا ا ْ
س َ مَنافِعَ ل َهُ ْ دوا َ شهَ ُ قال تعالى } :ل ِي َ ْ
مةِ الن َْعام ِ { ومن أجل كون البيت قياما للناس قال ن ب َِهي َ م ْ م ِ ما َرَزقَهُ ْ عََلى َ
من قال من العلماء :إن حج بيت الله فرض كفاية في كل سنة .فلو ترك
الناس حجه لثم كل قادر ،بل لو ترك الناس حجه لزال ما به قوامهم،
وقامت القيامة.
قلئ ِد َ { أي :وكذلك جعل الهدي والقلئد -التي هي وقولهَ } :وال ْهَد ْيَ َوال ْ َ
كأشرف أنواع الهدي -قياما للناس ،ينتفعون بهما ويثابون عليهما } .ذ َل ِ َ
َ َ
يءٍش ْ ل َ ه ب ِك ُ ّن الل ّ َ ض وَأ ّ ما ِفي الْر ِ ت وَ َ ماَوا ِ س َما ِفي ال ّ م َ ه ي َعْل َ ُ ن الل ّ َ موا أ ّ ل ِت َعْل َ ُ
م { فمن علمه أن جعل لكم هذا البيت الحرام ،لما يعلمه من عَِلي ٌ
مصالحكم الدينية والدنيوية.
ّ َ ديد ُ ال ْعِ َ َ
م { أي :ليكن هذان حي ٌفوٌر َر ِه غَ ُن الل َ ب وَأ ّ قا ِ ش ِ ه َ ن الل ّ َ موا أ ّ } اعْل َ ُ
العلمان موجودين في قلوبكم على وجه الجزم واليقين ،تعلمون أنه شديد
العقاب العاجل والجل على من عصاه ،وأنه غفور رحيم لمن تاب إليه
ف من عقابه ،والرجاَء لمغفرته وثوابه، م الخو َ وأطاعه.فيثمر لكم هذا العل ُ
وتعملون على ما يقتضيه الخوف والرجاء.
ُ
مر ،وقام ل ِإل ال َْبلغُ { وقد بّلغ كما أ ِ سو ِ ما عََلى الّر ُ ثم قال تعالىَ } :
ن
دو َما ت ُب ْ ُم َ ه ي َعْل َ ُ بوظيفته ،وما سوى ذلك فليس له من المر شيءَ } .والل ّ ُ
ن { فيجازيكم بما يعلمه تعالى منكم. مو َ ما ت َك ْت ُ ُ وَ َ
__________
) (1في ب :وتقتحم.
) (1/244
ه َيا ُأوِلي
قوا الل ّ َ
ث َفات ّ ُ ك ك َث َْرةُ ال ْ َ
خِبي ِ جب َ َ َ
ب وَل َوْ أعْ َ
ث َوالط ّي ّ ُ خِبي ُوي ال ْ َ ل َل ي َ ْ
ست َ ِ قُ ْ
َ
ن )(100 حو َفل ِ ُ ب ل َعَل ّك ُ ْ
م تُ ْ اْلل َْبا ِ
ك ك َث َْرةُ ال ْ َ َ
ث َفات ّ ُ
قوا خِبي ِ ب وَل َوْ أعْ َ
جب َ َ ث َوالط ّي ّ ُ خِبي ُ وي ال ْ َ ست َ ِل ل يَ ْ } } { 100قُ ْ
ُ
ن{. حو َ فل ِ ُم تُ ْب ل َعَل ّك ُ ْ ه َيا أوِلي الل َْبا ِ الل ّ َ
ويست َ ِل { للناس محذرا عن الشر ومرغبا في الخير } :ل ي َ ْ أي } :قُ ْ
ب { من كل شيء ،فل يستوي اليمان والكفر ،ول الطاعة ث َوالط ّي ّ ُ خِبي ُ ال ْ َ
والمعصية ،ول أهل الجنة وأهل النار ،ول العمال الخبيثة والعمال الطيبة،
ول المال الحرام بالمال الحلل.
ك ك َث َْرةُ ال ْ َ َ
ث { فإنه ل ينفع صاحبه شيئا ،بل يضره في دينه خِبي ِ جب َ َ} وَل َوْ أعْ َ
ودنياه.
ن { فأمر أولي اللباب ،أي :أهل ُ ُ ّ َ ْ ُ ّ } َفات ّ ُ
حو َ فل ِ ُ
م تُ ْ
ب لعَلك ْ ه َيا أوِلي اللَبا ِ قوا الل َ
العقول الوافية ،والراء الكاملة ،فإن الله تعالى يوجه إليهم الخطاب .وهم
الذين يؤبه لهم ،ويرجى أن يكون فيهم خير.
ثم أخبر أن الفلح متوقف على التقوى التي هي موافقة الله في أمره
ونهيه ،فمن اتقاه أفلح كل الفلح ،ومن ترك تقواه حصل له الخسران
وفاتته الرباح.
) (1/245
) (1/245
ن كَ َ
فُروا ن ال ّ ِ
ذي َ حام ٍ وَل َك ِ ّ
صيل َةٍ وََل َ سائ ِب َةٍ وََل وَ ِ
حيَرةٍ وََل َ ن بَ ِ
م ْ ل الل ّ ُ
ه ِ جع َ َ
ما َ َ
ُ َ ْ َ َ ْ ّ َ
ن )(103 قلو َ ب وَأكث َُرهُ ْ
م ل ي َعْ ِ ن عَلى اللهِ الكذِ َ فت َُرو َ
يَ ْ
حام ٍ صيل َةٍ َول َ سائ ِب َةٍ َول وَ ِ حيَرةٍ َول َ ن بَ ِم ْ ه ِ ل الل ّ ُ
جعَ َ
ما َ } َ } { 104 ، 103
ُ َ ْ ّ َ
ن{. قلو َ م ل ي َعْ ِ ْ
ب وَأكث َُرهُ ْ َ
ن عَلى اللهِ الكذِ َ فت َُرو َ
فُروا ي َ ْن كَ َ ن ال ّ ِ
ذي َ وَل َك ِ ّ
هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله ،وحرموا ما
أحله الله ،فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئا من مواشيهم محرما ،على حسب
حيَرةٍ { ن بَ ِم ْ
ه ِل الل ّ ُ جعَ َما َ اصطلحاتهم التي عارضت ما أنزل الله فقالَ } :
وهي :ناقة يشقون أذنها ،ثم يحرمون ركوبها ويرونها محترمة.
سائ ِب َةٍ { وهي :ناقة ،أو بقرة ،أو شاة ،إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه، } َول َ
سيبوها فل تركب ول يحمل عليها ول تؤكل ،وبعضهم ينذر شيئا من ماله
يجعله سائبة.
حام ٍ { أي :جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل ،إذا وصل إلى } َول َ
حالة معروفة بينهم.
فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ول برهان .وإنما ذلك
نافتراء على الله ،وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم ،ولهذا قال } :وَل َك ِ ّ
َ
ن { فل نقل فيها قُلو َ
م ل ي َعْ ِ ب وَأك ْث َُرهُ ْ ن عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ فت َُرو َفُروا ي َ ْن كَ َذي َ ال ّ ِ
ول عقل ،ومع هذا فقد أعجبوا بآرائهم التي بنيت على الجهالة والظلم.
) (1/246
جد َْنا
ما وَ َ
سب َُنا َ ل َقاُلوا َ
ح ْ سو ِ ه وَإ َِلى الّر ُ
ل الل ّ ُما أ َن َْز َوا إ َِلى َم ت ََعال َ ْل ل َهُ ْ
ذا ِقي َ
وَإ ِ َ
َ َ َ َ َ َ
ن )(104 دو َشي ًْئا وَل ي َهْت َ ُ
ن َ
مو َ م ل ي َعْل ُ عَل َي ْهِ آَباَءَنا أوَلوْ كا َ
ن آَباؤُهُ ْ َ َ
ما
سب َُنا َ ل َقاُلوا َ
ح ْ سو ِه وَإ َِلى الّر ُ ما أ َن َْز َ
ل الل ّ ُ وا إ َِلى َم ت ََعال َ ْل ل َهُ ْ
ذا ِقي َ} وَإ ِ َ
َ
ن{. شي ًْئا َول ي َهْت َ ُ
دو َ ن َ
مو َ م ل ي َعْل َ ُن آَباؤُهُ ْ جد َْنا عَل َي ْهِ آَباَءَنا أوَل َوْ َ
كا َ وَ َ
ل { أعرضوا فلم يقبلوا ،و َ ّ َ
ما أنز َ َ
سو ِ ه وَإ ِلى الّر ُ ل الل ُ فإذا دعوا } إ ِلى َ
جد َْنا عَلي ْهِ آَباَءَنا { من الدين ،ولو كان غير سديد ،ول َ ما وَ َ سب َُنا َح ْ} َقاُلوا َ
ديًنا ينجي من عذاب الله.
ولو كان في آبائهم كفاية ومعرفة ودراية لهان المر .ولكن آباءهم ل
يعقلون شيئا ،أي :ليس عندهم من المعقول شيء ،ول من العلم والهدى
شيء .فتبا لمن قلد من ل علم عنده صحيح ،ول عقل رجيح ،وترك اتباع ما
أنزل الله ،واتباع رسله الذي يمل القلوب علما وإيمانا ،وهدى ،وإيقانا.
) (1/246
) (1/246
عل ْم ل َنا إن َ َ ل ما َ ُ
ت عَّل ُ
م ك أن ْ َ م َقاُلوا َل ِ َ َ ِ ّ جب ْت ُ ْ ذا أ ِ قو ُ َ ل فَي َ ُ س َ ه الّر ُ معُ الل ّ ُ ج َ م يَ ْ ي َوْ َ
َ
مِتي عَلي ْك وَعَلى َ َ م اذ ْكْر ن ِعْ َ ُ مْري َ َ ن َ سى اب ْ َ عي َ ه َيا ِ ل الل ُ ّ ب ) (109إ ِذ ْ َقا َ ال ْغُُيو ِ
َ
كمت ُ َ مهْدِ وَك َهًْل وَإ ِذ ْ عَل ّ ْ س ِفي ال ْ َ م الّنا َ س ت ُك َل ّ ُ قد ُ ِ ك ب ُِروِح ال ْ ُ ك إ ِذ ْ أي ّد ْت ُ َ َوال ِد َت ِ َ
ن ك َهَي ْئ َةِ الط ّي ْرِ ب ِإ ِذ ِْني ن الطي ِ
ّ م َ خل ُقُ ِ ل وَإ ِذ ْ ت َ ْ جي َ ة َوالت ّوَْراةَ َواْل ِن ْ ِ م َ حك ْ َ ب َوال ْ ِ ال ْك َِتا َ
َ َ
ج
خرِ ُ ص ب ِإ ِذ ِْني وَإ ِذ ْ ت ُ ْ ه َواْلب َْر َ م َ ن ط َي ًْرا ب ِإ ِذ ِْني وَت ُب ْرِئُ اْلك ْ َ كو ُ خ ِفيَها فَت َ ُ ف ُ فَت َن ْ ُ
نذي َ ل ال ِ ّ قا َ ت فَ َ م ِبالب َي َّنا ِ ْ جئ ْت َهُ ْ ك إ ِذ ْ ِ ل عَن ْ َ سَراِئي َ ت ب َِني إ ِ ْ ف ُ ف ْ موَْتى ب ِإ ِذ ِْني وَإ ِذ ْ ك َ َ ال ْ َ
ذا إّل سحر مبين ) (110وإذ ْ أ َوحيت إَلى ال ْحواريي َ كَ َ
ن
نأ ْ َ َ ِّ َ َِ ْ َ ْ ُ ِ َ ِ ْ ٌ ُ ِ ٌ ن هَ َ ِ م إِ ْ من ْهُ ْ فُروا ِ
َ آَ ِ
لن ) (111إ ِذ ْ َقا َ مو َ سل ِ ُ م ْ شهَد ْ ب ِأن َّنا ُ مّنا َوا ْ سوِلي َقاُلوا آ َ مُنوا ِبي وَب َِر ُ
ل يستطيع رب َ َ
نم َ مائ ِد َةً ِ ل عَل َي َْنا َ ن ي ُن َّز َ كأ ْ م هَ ْ َ ْ َ ِ ُ َ ّ مْري َ َ ن َ سى اب ْ َ عي َ ن َيا ِ وارِّيو َ ح َ ال ْ َ
ْ َ
من َْها ل ِ ن ن َأك ُ َ ريد ُ أ ْ ن )َ (112قاُلوا ن ُ ِ مِني َ مؤْ ِ م ُ ن ك ُن ْت ُ ْ ه إِ ْ
َ
قوا الل ّ َ ل ات ّ ُ ماِء َقا َ س َ ال ّ
ن )(113 دي َ شاهِ ِ ن ال ّ م َ ن عَل َي َْها ِ كو َ صد َقْت ََنا وَن َ ُ ن قَد ْ َ مأ ْ ن قُُلوب َُنا وَن َعْل َ َ مئ ِ ّ وَت َط ْ َ
ن ل ََنا َ
كو ُ ماِء ت َ ُ س َ ن ال ّ م َ مائ ِد َةً ِ ل عَل َي َْنا َ م َرب َّنا أن ْزِ ْ م الل ّهُ ّ مْري َ َ ن َ سى اب ْ ُ عي َ ل ِ َقا َ
َ َ َ َ
ل الل ّ ُ
ه ن )َ (114قا َ خي ُْر الّرازِِقي َ ت َ ك َواْرُزقَْنا وَأن ْ َ من ْ َ ة ِ خرَِنا وَآي َ ً دا ِلوّل َِنا وَآ ِ عي ً ِ
َ ُ َ ُ ُ ْ ُ َ ُ
ن
م َ دا ِ ح ً هأ َ ذاًبا ل أعَذ ّب ُ ُ ه عَ َ م فَإ ِّني أعَذ ّب ُ ُ من ْك ْ فْر ب َعْد ُ ِ ن ي َك ُ م ْ م فَ َ من َّزلَها عَلي ْك ْ إ ِّني ُ
ْ َ َ ّ
ست ِلل َّنا َ ِ ت قُل َ م أ أن ْ َ مْري َ َ ن َ سى اب ْ َ عي َ ه َيا ِ ل الل ُ ن ) (115وَإ ِذ ْ َقا َ مي َ ال َْعال َ ِ
ما ن أُقو َ ما ي َ ُ حان َ َ ن الل ّهِ َقا َ م َ َ ُ خ ُ
ل َ ن ِلي أ ْ كو ُ ك َ سب ْ َ ل ُ دو ِ ن ُ م ْ ن ِ ي إ ِلهَي ْ ِ ذوِني وَأ ّ ات ّ ِ
َ َ َ َ ْ
ما ِفي م َ سي وَل أعْل ُ ف ِ ما ِفي ن َ ْ م َ ه ت َعْل ُ مت َ ُ قد ْ عَل ِ ْ ه فَ َ ت قُلت ُ ُ ن كن ْ ُ ُ حق ّ إ ِ ْ س ِلي ب ِ َ ل َي ْ َ
َ َ ك إن َ َ
ن مْرت َِني ب ِهِ أ ِ ما أ َ م إ ِّل َ ت ل َهُ ْ ما قُل ْ ُ ب )َ (116 م ال ْغُُيو ِ ت عَّل ُ ك أن ْ َ س َ ِّ ف ِ نَ ْ
ما ت َوَفّي ْت َِني م فَل َّ ت ِفيهِ ْ م ُ ما د ُ ْ دا َ شِهي ً م َ ت عَلي ْهِ ْ َ م وَك ُن ْ ُ ه َرّبي وََرب ّك ُ ْ ّ
دوا الل َ اعْب ُ ُ
ت عَلى ك ُ ّ َ َ َ َ
من ت ُعَذ ّب ْهُ ْ شِهيد ٌ ) (117إ ِ ْ يٍء َ ش ْ ل َ م وَأن ْ َ ب عَلي ْهِ ْ ت الّرِقي َ ت أن ْ َ ك ُن ْ َ
َ
ذاه هَ َ ل الل ّ ُ م )َ (118قا َ كي ُ ح ِ زيُز ال ْ َ ت ال ْعَ ِ ك أن ْ َ م فَإ ِن ّ َ فْر ل َهُ ْ ن ت َغْ ِ ك وَإ ِ ْ عَباد ُ َ م ِ فَإ ِن ّهُ ْ
حت َِها اْلن َْهاُر َ َ
ن ِفيَها دي َ خال ِ ِ ن تَ ْ م ْ ري ِ ج ِ ت تَ ْ جّنا ٌ م َ م ل َهُ ْ صد ْقُهُ ْ ن ِ صادِِقي َ فعُ ال ّ م ي َن ْ َ ي َوْ ُ
مل ْ ُ َ
ك م ) (119ل ِل ّهِ ُ ظي ُ فوُْز ال ْعَ ِ ك ال ْ َ ه ذ َل ِ َ ضوا عَن ْ ُ م وََر ُ ه عَن ْهُ ْ ي الل ّ ُ ض َ دا َر ِ أب َ ً
ديٌر )(120 يٍء قَ ِ ل َ ن وَهُوَ عََلى ك ُ ّ َْ
ش ْ ما ِفيهِ ّ ض وَ َ ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ ال ّ
ل ما َ ُ
معل ْ َم َقاُلوا ل ِ جب ْت ُ ْ
ذا أ ِ قو ُ َ ل فَي َ ُ س َ ه الّر ُ معُ الل ّ ُ ج َ م يَ ْ } } { 110 ، 109ي َوْ َ
ّ ل َنا إن َ َ
مِتي ُ
م اذ ْكْر ن ِعْ َ مْري َ َ ن َ سى اب ْ َ عي َ ه َيا ِ ل الل ُ ب * إ ِذ ْ َقا َ م ال ْغُُيو ِ عل ُ ت َ ك أن ْ َ َ ِّ
َ
مهْدِ وَكْهل وَإ ِذ ْ ْ ّ َ ْ َ
على َوال ِد َت ِك إ ِذ ْ أي ّد ْت ُك ب ُِروِح ال ُ َ َ عَل َي ْك وَ َ َ
س ِفي ال َ م الّنا َ س ت ُكل ُ قد ُ ِ
ن ك َهَي ْئ َ ِ
ة ّ خل ُقُ ِ ل وَإ ِذ ْ ت َ ْ جي َ حك ْ َ ب َوال ْ ِ ك ال ْك َِتا َ مت ُ َ عَل ّ ْ
ن الطي ِ م َ ة َوالت ّوَْراةَ َوالن ْ ِ م َ
ص ب ِإ ِذ ِْني ه َوالب َْر َ م َ ن ط َي ًْرا ب ِإ ِذ ِْني وَت ُب ْرِئُ الك ْ َ كو ُ خ ِفيَها فَت َ ُ ف ُ الط ّي ْرِ ب ِإ ِذ ِْني فَت َن ْ ُ
تم ِبال ْب َي َّنا ِ جئ ْت َهُ ْ ك إ ِذ ْ ِ ل عَن ْ َ سَراِئي َ ت ب َِني إ ِ ْ ف ُ ف ْ موَْتى ب ِإ ِذ ِْني وَإ ِذ ْ ك َ َ ج ال ْ َ خرِ ُ وَإ ِذ ْ ت ُ ْ
ن{. مِبي ٌ حٌر ُ س ْ ذا ِإل ِ ن هَ َ م إِ ْ من ْهُ ْ فُروا ِ ن كَ َ ذي َ ل ال ِّ قا َ فَ َ
يخبر تعالى عن يوم القيامة وما فيه من الهوال العظام ،وأن الله يجمع به
م { أي :ماذا أجابتكم به أممكم. جميع الرسل فيسألهم } :ما َ ُ
جب ْت ُ ْ ذا أ ِ َ
ك أَ م ل ََنا {
ت ْ َ ن َ ن
ِّ إ } منا. أعلم فأنت ربنا، يا لك العلم وإنما عل ْ َ فـ } َقاُلوا ل ِ
ب { أي :تعلم المور الغائبة والحاضرة. م ال ْغُُيو ِ عل ُ َ
َ
على َوال ِد َت ِك { أي: َ
مِتي عَلي ْك وَ َ َ م اذ ْكْر ن ِعْ َ ُ مْري َ َ ن َ سى اب ْ َ عي َ ه َيا ِ ّ
} إ ِذ ْ قال الل ُ َ َ
اذكرها بقلبك ولسانك ،وقم بواجبها شكرا لربك ،حيث أنعم عليك نعما ما
أنعم بها على غيرك.
س { أي :إذ قويتك بالروح والوحي ،الذي طهرك قد ُ ِ ك ب ُِروِح ال ْ ُ } إ ِذ ْ أ َي ّد ْت ُ َ
وزكاك ،وصار لك قوة على القيام بأمر الله والدعوة إلى سبيله .وقيل :إن
المراد "بروح القدس" جبريل عليه السلم ،وأن الله أعانه به وبملزمته له،
وتثبيته في المواطن المشقة.
مهْدِ وَك َْهل { المراد بالتكليم هنا ،غير التكليم المعهود س ِفي ال ْ َ م الّنا َ } ت ُك َل ّ ُ
الذي هو مجرد الكلم ،وإنما المراد بذلك التكليم الذي ينتفع به المتكلم
والمخاطب ،وهو الدعوة إلى الله.
ولعيسى عليه السلم من ذلك ،ما لخوانه من أولي العزم من المرسلين،
من التكليم في حال الكهولة ،بالرسالة والدعوة إلى الخير ،والنهي عن
يالشر ،وامتاز عنهم بأنه كلم الناس في المهد ،فقال } :إ ِّني عَب ْد ُ الل ّهِ آَتان ِ َ
صلةِ َوالّز َ َ ال ْكتاب وجعل َِني نبيا * وجعل َِني مبار ً َ
ة
كا ِ صاِني ِبال ّ ت وَأوْ َ ما ك ُن ْ ُ ن َ كا أي ْ َ ُ َ َ َ َ َ َِّ َِ َ َ َ َ
حّيا { اليات ت َ م ُ ما د ُ ْ َ
ة { فالكتاب يشمل الكتب السابقة وخصوصا م َحك َ ْ ْ
ب َوال ِ مت ُك الك َِتا َ ْ َ ّ
} وَإ ِذ ْ عَل ْ
التوراة فإنه من أعلم أنبياء بني إسرائيل -بعد موسى -بها ويشمل النجيل
الذي أنزله الله عليه
والحكمة هي معرفة أسرار الشرع وفوائده وحكمه وحسن الدعوة
والتعليم ومراعاة ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي
ن ك َهَي ْئ َةِ الط ّي ْرِ { أي طيرا مصورا ل روح فيه فتنفخ ّ
ن الطي ِ م َ خل ُقُ ِ } وَإ ِذ ْ ت َ ْ
فيه فيكون طيرا بإذن الله وتبرئ الكمه الذي ل بصر له ول عين
موَْتى ب ِإ ِذ ِْني { فهذه آيات بي َّنات ومعجزات ج ال ْ َ خرِ ُ ص ب ِإ ِذ ِْني وَإ ِذ ْ ت ُ ْ } َوالب َْر َ
باهرات يعجز عنها الطباء وغيرهم أيد الله بها عيسى وقوى بها دعوته
فُروا ن كَ َ ذي َ ل ال ّ ِ قا َ ت فَ َ م ِبال ْب َي َّنا ِ جئ ْت َهُ ْ ك إ ِذ ْ ِ ل عَن ْ َ سَراِئي َ ت ب َِني إ ِ ْ ف ُ ف ْ } وَإ ِذ ْ ك َ َ
ذا ِإل ن هَ َ م { لما جاءهم الحق مؤيدا بالبينات الموجبة لليمان به } إ ِ ْ من ْهُ ْ ِ
ف الله أيديهم ن { وهموا بعيسى أن يقتلوه وسعوا في ذلك فك ّ مِبي ٌ حٌر ُ س ْ ِ
عنه وحفظه منهم وعصمه
ن الله بها على عبده ورسوله عيسى ابن مريم ودعاه إلى ن امت َ ّ من َ ٌ فهذه ِ
شكرها والقيام بها فقام بها عليه السلم أتم القيام وصبر كما صبر إخوانه
من أولي العزم
سوِلي َقاُلوا } } { 120 - 111وإذ ْ أ َوحيت إَلى ال ْحواريي َ
مُنوا ِبي وَب َِر ُ نآ ِ نأ ْ َ َ ِّ َ َِ ْ َ ْ ُ ِ
مّنا { . آ َ
إلى آخر اليات ) (1أي :واذكر نعمتي عليك إذ يسرت لك أتباعا وأعوانا.
فأوحيت إلى الحواريين أي :ألهمتهم ،وأوزعت قلوبهم اليمان بي
وبرسولي ،أو أوحيت إليهم على لسانك ،أي :أمرتهم بالوحي الذي جاءك
من عند الله ،فأجابوا لذلك وانقادوا ،وقالوا :آمنا بالله ،واشهد بأننا
مسلمون ،فجمعوا بين السلم الظاهر ،والنقياد بالعمال الصالحة،
واليمان الباطن المخرج لصاحبه من النفاق ومن ضعف اليمان.
والحواريون هم :النصار ،كما قال تعالى كما قال عيسى ابن مريم )(2
صاُر الل ّهِ { . ل ال ْحواريون نح َ صاِري إ َِلى الل ّهِ َقا َ للحواريين } :م َ
ن أن ْ َ َ َ ِّ َ َ ْ ُ ن أن ْ َ َ ْ
َ َ
َ
ن ُينزل عَلي َْنا َ
طيعُ َرب ّك أ ْ ست َ ِ ْ
م هَل ي َ ْ مْري َ َن َ سى اب ْ َ عي َ ن َيا ِ وارِّيو َ ح َل ال ْ َ } إ ِذ ْ َقا َ
ماِء { أي :مائدة فيها طعام ،وهذا ليس منهم عن شك في س َن ال ّ م َ مائ ِد َةً ِ َ
قدرة الله ،واستطاعته على ذلك .وإنما ذلك من باب العرض والدب منهم.
ولما كان سؤال آيات القتراح منافيا للنقياد للحق ،وكان هذا الكلم
الصادر من الحواريين ربما أوهم ذلك ،وعظهم عيسى عليه السلم فقال:
ن { فإن المؤمن يحمله ما معه مِني َ مؤْ ِم ُ ن ك ُن ْت ُ ْ قوا الل ّ َ
ه إِ ْ ] ص } [ 249ات ّ ُ
من اليمان على ملزمة التقوى ،وأن ينقاد لمر الله ،ول يطلب من آيات
القتراح التي ل يدري ما يكون بعدها شيئا.
فأخبر الحواريون أنهم ليس مقصودهم هذا المعنى ،وإنما لهم مقاصد
من َْها { وهذا دليل ل ِ ن ن َأ ْك ُ َ َ
ريد ُ أ ْ صالحة ،ولجل الحاجة إلى ذلك فـ } َقاُلوا ن ُ ِ
ن قُُلوب َُنا { باليمان حين نرى اليات مئ ِ ّ على أنهم محتاجون لها } ،وَت َط ْ َ
العيانية ،فيكون ) (3اليمان عين اليقين ،كما كان قبل ذلك علم اليقين.
كما سأل الخليل عليه الصلة والسلم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى
ن قَل ِْبي { فالعبد محتاج إلى زيادة } َقا َ َ
مئ ِ ّن ل ِي َط ْ َ ل ب ََلى وَل َك ِ ْ ن َقا َ م ْ م ت ُؤْ ِ ل أوَل َ ْ
صد َقْت ََنا { أي: العلم واليقين واليمان كل وقت ،ولهذا قال } :ونعل َ َ
ن قَد ْ َ مأ ْ ََْ َ
ن{ دي َ
شاهِ ِ ن ال ّ م َ ن عَل َي َْها ِ كو َ نعلم صدق ما جئت به ،أنه حق وصدق } ،وَن َ ُ
فتكون مصلحة لمن بعدنا ،نشهدها لك ،فتقوم الحجة ،ويحصل زيادة
البرهان بذلك.
__________
) (1في ب أكمل اليات إلى قوله) :وهو على كل شيء قدير(.
ن وهو كما قال الله تعالى حكاية لقول ) (2هكذا في الصل والمراد ب َي ّ ٌ
عيسى ابن مريم للحواريين.
) (3في ب :حتى يكون.
) (1/248
فلما سمع عيسى عليه الصلة والسلم ذلك ،وعلم مقصودهم ،أجابهم إلى
ن ل ََنا ماِء ت َ ُ
كو ُ س َ
ن ال ّ
م َ
مائ ِد َةً ِ م َرب َّنا َأنز ْ
ل عَل َي َْنا َ طلبهم في ذلك ،فقال } :الل ّهُ ّ
ك { أي :يكون وقت نزولها عيدا وموسما ،يتذكر من ْ َ
ة ِ
خرَِنا َوآي َ ً
دا لوّل َِنا َوآ ِ
عي ً
ِ
به هذه الية العظيمة ،فتحفظ ول تنسى على مرور الوقات وتكرر
السنين.
كما جعل الله تعالى أعياد المسلمين ومناسكهم مذكرا لياته ،ومنبها على
سنن المرسلين وطرقهم القويمة ،وفضله وإحسانه عليهمَ } .واْرُزقَْنا
ن { أي :اجعلها لنا رزقا ،فسأل عيسى عليه السلم َ
خيُر الّرازِِقي َ ت َ وَأن ْ َ
نزولها وأن تكون لهاتين المصلحتين ،مصلحة الدين بأن تكون آية باقية،
ومصلحة الدنيا ،وهي أن تكون رزقا.
ُ
ذاًبا ل ه عَ َ م فَإ ِّني أعَذ ّب ُ ُ ُ
من ْك ْ فْر ب َعْد ُ ِ ْ
ن ي َك ُ م ْ م فَ َ منزل َُها عَل َي ْك ُ ْ ه إ ِّني ُ ل الل ّ ُ } َقا َ
َ ْ َ ُ
ن { لنه شاهد الية الباهرة وكفر عنادا وظلما، مي َ ن الَعال ِ م َ دا ِ ح ًهأ َ أعَذ ّب ُ ُ
فاستحق العذاب الليم والعقاب الشديد .واعلم أن الله تعالى وعد أنه
سينزلها ،وتوعدهم -إن كفروا -بهذا الوعيد ،ولم يذكر أنه أنزلها ،فيحتمل
أنه لم ينزلها بسبب أنهم لم يختاروا ذلك ،ويدل على ذلك ،أنه لم يذكر في
النجيل الذي بأيدي النصارى ،ول له وجود .ويحتمل أنها نزلت كما وعد
الله ،والله ل يخلف الميعاد ،ويكون عدم ذكرها في الناجيل التي بأيديهم
من الحظ الذي ذكروا به فنسوه.
أو أنه لم يذكر في النجيل أصل وإنما ذلك كان متوارثا بينهم ،ينقله الخلف
عن السلف ،فاكتفى الله بذلك عن ذكره في النجيل ،ويدل على هذا
ن { والله أعلم بحقيقة الحال. دي َ شاهِ ِ ن ال ّ م َ ن عَل َي َْها ِ كو َ المعنى قوله } :وَن َ ُ
م َ َ ُ َ َ
ن
ي إ ِلهَي ْ ِ ذوِني وَأ ّ خ ُ س ات ّ ِ ت ِللّنا ِ ت قُل ْ َ م أ أن ْ َ مْري َ َ ن َ سى اب ْ َ عي َ ه َيا ِ ل الل ّ ُ } وَإ ِذ ْ َقا َ
ن اللهِ { وهذا توبيخ للنصارى الذين قالوا :إن الله ثالث ثلثة ،فيقول ّ دو ِ ن ُ م ْ ِ
ك { عن هذا الكلم حان َ َ سب ْ َ الله هذا الكلم لعيسى .فيتبرأ عيسى ويقولُ } :
ما ل يليق بك. القبيح ،وع ّ
حقّ { أي :ما ينبغي لي ،ول يليق أن َ ن أُقو َ َ َ ما ي َ ُ
س ِلي ب ِ َ ما لي ْ َ ل َ ن ِلي أ ْ كو ُ } َ
أقول شيئا ليس من أوصافي ول من حقوقي ،فإنه ليس أحد من
المخلوقين ،ل الملئكة المقربون ول النبياء المرسلون ول غيرهم له حق
ول استحقاق لمقام اللهية وإنما الجميع عباد ،مدبرون ،وخلق مسخرون،
َ
ما
م َ سي َول أعْل َ ُ ف ِ ما ِفي ن َ ْ م َ ه ت َعْل َ ُ مت َ ُ قد ْ عَل ِ ْ ه فَ َ ت قُل ْت ُ ُ ن ك ُن ْ ُ وفقراء عاجزون } إ ِ ْ
َ
ب { وهذا م ال ْغُُيو ِ عل ُ ت َ ك أن ْ َ ك { فأنت أعلم بما صدر مني و } إ ِن ّ َ س َ ف ِ ِفي ن َ ْ
من كمال أدب المسيح عليه الصلة والسلم في خطابه لربه ،فلم يقل
عليه السلم" :لم أقل شيئا من ذلك" وإنما أخبر بكلم ينفي عن نفسه أن
يقول كل مقالة تنافي منصبه الشريف ،وأن هذا من المور المحالة ،ونزه
ربه عن ذلك أتم تنزيه ،ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة.
َ
مْرت َِني ما أ َ م ِإل َ ت ل َهُ ْ ما قُل ْ ُ ثم صرح بذكر ما أمر به بني إسرائيل ،فقالَ } :
ه َرّبي ّ َ
دوا الل َ ن اعْب ُ ُ ب ِهِ { فأنا عبد متبع لمرك ،ل متجرئ على عظمتك } ،أ ِ
م { أي :ما أمرتهم إل بعبادة الله وحده وإخلص الدين له ،المتضمن وََرب ّك ُ ْ
للنهي عن اتخاذي وأمي إلهين من دون الله ،وبيان أني عبد مربوب ،فكما
أنه ربكم فهو ربي.
م { أشهد على من قام بهذا المر، ت ِفيهِ ْ م ُ ما د ُ ْ دا َ شِهي ً م َ ت عَل َي ْهِ ْ } وَك ُن ْ ُ
َ
م { أي :المطلع ب عَل َي ْهِ ْ ت الّرِقي َ ت أن ْ َ ما ت َوَفّي ْت َِني ك ُن ْ َ ممن لم يقم به } .فَل َ ّ
شِهيد ٌ { علما وسمعا يٍء َ ل َ ت عََلى ك ُ ّ َ
ش ْ على سرائرهم وضمائرهم } .وَأن ْ َ
وبصرا ،فعلمك قد أحاط بالمعلومات ،وسمعك بالمسموعات ،وبصرك
بالمبصرات ،فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر.
] ص [ 250
عَباد ُك { وأنت أرحم بهم من أنفسهم وأعلم بأحوالهم، َ م ِ م فَإ ِن ّهُ ْ ن ت ُعَذ ّب ْهُ ْ } إِ ْ
ْ َ َ َ
زيُز ت العَ ِ م فَإ ِن ّك أن ْ َ فْر لهُ ْ ن ت َغْ ِ فلول أنهم عباد متمردون لم تعذبهم } .وَإ ِ ْ
م { أي :فمغفرتك صادرة عن تمام عزة وقدرة ،ل كمن يغفر ويعفو كي ُ
ح ِ ال ْ َ
عن عجز وعدم قدرة.
الحكيم حيث كان من مقتضى حكمتك أن تغفر لمن أتى بأسباب المغفرة.
من الهالك، من الفائز منهم و َ ه { مبينا لحال عباده يوم القيامة ،و َ ل الل ّ ُ } َقا َ
م{ صد ْقُهُ ْن ِ صادِِقي َ فعُ ال ّم ي َن ْ َ من السعيد } ،هَ َ
ذا ي َوْ ُ من الشقي و َ و َ
والصادقون هم الذين استقامت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم على الصراط
دي القويم ،فيوم القيامة يجدون ثمرة ذلك الصدق ،إذا المستقيم واله ْ
تجّنا ٌ م َأحلهم الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر ،ولهذا قال } :ل َهُ ْ
َ
ه ذ َل ِ َ
ك ضوا عَن ْ ُم وََر ُ ه عَن ْهُ ْي الل ّ ُض َ
دا َر ِ ن ِفيَها أب َ ً دي َ
خال ِ ِ
حت َِها الن َْهاُر َن تَ ْم ْ ري ِ ج ِ تَ ْ
م { والكاذبون بضدهم ،سيجدون ضرر كذبهم وافترائهم، ظي ُفوُْز ال ْعَ ِ ال ْ َ
وثمرة أعمالهم الفاسدة.
ض { لنه الخالق لهما والمدبر لذلك بحكمه ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ ك ال ّ مل ْ ُ } ل ِل ّهِ ُ
القدري ،وحكمه الشرعي ،وحكمه الجزائي ،ولهذا قال } :وَهُوَ عََلى ك ُ ّ
ل
ديٌر { فل يعجزه شيء ،بل جميع الشياء منقادة لمشيئته، يٍء قَ ِ ش ْ َ
ومسخرة بأمره.
تم تفسير سورة المائدة بفضل من الله وإحسان ،والحمد لله رب
العالمين.
) (1/249
) (1/250
م ال ّ ِ َ
ن
ذي َ ت َوالّنوَر ث ُ ّما ِل الظ ّل ُ َجعَ َ
ض وَ َت َواْلْر َ ماَوا ِ خل َقَ ال ّ
س َ ذي َ مد ُ ل ِل ّهِ ال ّ ِح ْال ْ َ
َ َ
ج ٌ
ل جًل وَأ َ ضى أ َ م قَ َ
ن ثُ ّ طي ٍ
ن ِ م ْم ِ خل َ َ
قك ُ ْ ن ) (1هُوَ ال ّ ِ
ذي َ م ي َعْدُِلو َ فُروا ب َِرب ّهِ ْ كَ َ
َ
ن )(2 مت َُرو َ
م تَ ْ
م أن ْت ُ ْ عن ْد َهُ ث ُ ّمى ِ س ّم َ ُ
تماَوا ِس َخل َقَ ال ّ ذي َ مد ُ ل ِل ّهِ ال ّ ِ
ح ْ حيم ِ ال ْ َ ن الّر ِ م ِ
ح َسم ِ الل ّهِ الّر ْ } } { 2 ، 1بِ ْ
ذي ّ
ن * هُوَ ال ِ ُ
م ي َعْدِلو َ فُروا ب َِرب ّهِ ْ َ
نك َ ذي َ ّ
م ال ِ ت َوالّنوَر ث ُ ّ ما ِ ُ ّ
ل الظل َ جع َ َ
ض وَ َ َوالْر َ
َ َ َ خل َ َ
ن{. مت َُرو َم تَ ْ عن ْد َهُ ث ُ ّ
م أن ْت ُ ْ مى ِ س ّ
م َ ل ُ ج ٌ
جل وَأ َ ضى أ َ م قَ َ ن ثُ ّطي ٍن ِ م ْ
م ِ قك ُ ْ َ
هذا إخبار عن حمده والثناء عليه بصفات الكمال ،ونعوت العظمة والجلل
عموما ،وعلى هذه المذكورات خصوصا .فحمد نفسه على خلقه السماوات
والرض ،الدالة على كمال قدرته ،وسعة علمه ورحمته ،وعموم
حكمته،وانفراده بالخلق والتدبير ،وعلى جعله الظلمات والنور ،وذلك
شامل للحسي من ذلك ،كالليل والنهار ،والشمس والقمر .والمعنوي،
كظلمات الجهل ،والشك ،والشرك ،والمعصية ،والغفلة ،ونور العلم
واليمان ،واليقين ،والطاعة ،وهذا كله ،يدل دللة قاطعة أنه تعالى ،هو
المستحق للعبادة ،وإخلص الدين له ،ومع هذا الدليل ووضوح البرهان
ن { أي يعدلون به سواه ،يسوونهم به في م ي َعْدُِلو َ
فُروا ب َِرب ّهِ ْ ن كَ َ ذي َم ال ّ ِ } ثُ ّ
العبادة والتعظيم ،مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال ،وهم
فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه.
ن { وذلك بخلق مادتكم وأبيكم آدم عليه طي ٍ
ن ِ م ْم ِ خل َ َ
قك ُ ْ ذي َ } هُوَ ال ّ ِ
َ
جل { أي :ضرب لمدة إقامتكم في هذه الدار أجل ضى أ َ م قَ َ السلم } .ث ُ ّ
م ُ َ ُ ُ
م أي ّك ْتتمتعون به وتمتحنون ،وتبتلون بما يرسل إليكم به رسله } .ل ِي َب ْلوَك ْ
عن ْد َهُ { مى ِ ج ٌ َ َ
س ّ م َ
ل ُ مل { ويعمركم ما يتذكر فيه من تذكر } .وَأ َ ن عَ َ س ُ ح َأ ْ
وهي :الدار الخرة ،التي ينتقل العباد إليها من هذه الدار ،فيجازيهم
بأعمالهم من خير وشر.
َ
ن { أي :تشكون في مت َُرو َ
م تَ ْ
م { مع هذا البيان التام وقطع الحجة } أن ْت ُ ْ } ثُ ّ
وعد اللهو ووعيده ،ووقوع الجزاء يوم القيامة.
) (1/250
َْ
ما م وَي َعْل َ ُ
م َ جهَْرك ُ ْ سّرك ُ ْ
م وَ َ ض ي َعْل َ ُ
م ِ ت وَِفي الْر ِ
ماَوا ِ
س َ وَهُوَ الل ّ ُ
ه ِفي ال ّ
ن )(3سُبو َ ت َك ْ ِ
وذكر الله الظلمات بالجمع ،لكثرة موادها وتنوع طرقها .ووحد النور لكون
الصراط الموصلة إلى الله واحدة ل تعدد فيها ،،وهي :الصراط المتضمنة
ما ن هَ َ َ
قي ًست َ ِ
م ْطي ُ صَرا ِ ذا ِ للعلم بالحق والعمل به ،كما قال تعالى } :وَأ ّ
سِبيل ِهِ { } { 3 } .وَهُوَ الل ّ ُ
ه ِفي ن َ م عَ ْفّرقَ ب ِك ُ ْ
ل فَت َ َ َفات ّب ُِعوهُ َول ت َت ّب ُِعوا ال ّ
سب ُ َ
ن{. ما ت َك ْ ِ
سُبو َ م وَي َعْل َ ُ
م َ جهَْرك ُ ْ
م وَ َسّرك ُ ْم ِ ض ي َعْل َ ُ
ت وَِفي الْر ِ ماَوا ِ
س َ ال ّ
أي :وهو المألوه المعبود في السماوات وفي الرض ،فأهل السماء
والرض ،متعبدون لربهم ،خاضعون لعظمته ،مستكينون لعزه وجلله،
الملئكة المقربون ،والنبياء والمرسلون ،والصديقون ،والشهداء
والصالحون.
) (1/250
ْ
قد ْ ك َذ ُّبوا ن ) (4فَ َ ضي َ معْرِ ِ م إ ِّل َ
كاُنوا عَن َْها ُ ت َرب ّهِ ْ ن آ ََيا ِ ْ ن آ َي َةٍ ِ
م ْ مم ِ ما ت َأِتيهِ ْ وَ َ
َ َ َ ْ َ
م ي ََرْوا ن ) (5أل ْ ست َهْزُِئو َ َ
ما كاُنوا ب ِهِ ي َ ْ م أن َْباُء َ ف ي َأِتيهِ ْ سوْ َ م فَ َ جاَءهُ ْ ما َ حق ّ ل ّ ِبال ْ َ
سل َْنا َ َْ َ
م وَأْر َ ن ل َك ُ ْ
مك ّ ْ م نُ َ ما ل َ ْض َ م ِفي الْر ِ مك ّّناهُ ْ ن َ ن قَْر ٍ م ْ
م ِ ن قَب ْل ِهِ ْ م ْ م أهْل َك َْنا ِ كَ ْ
َ
م ب ِذ ُُنوب ِهِ ْ
م م فَأهْل َك َْناهُ ْ حت ِهِ ْ
ن تَ ْم ْ ري ِج ِجعَل َْنا اْل َن َْهاَر ت َ ْ مد َْراًرا وَ َ م ِ ماَء عَل َي ْهِ ْ س َ ال ّ
َ ْ وَأ َن ْ َ
ن )(6 ري َ خ ِم قَْرًنا آ َ ن ب َعْدِهِ ْ م ْ شأَنا ِ
) (1/250
َ
ن
فُروا إ ِ ْ ن كَ َ ل ال ّ ِ
ذي َ قا َم لَ َديهِ ْ سوهُ ب ِأي ْ ِ
م ُس فَل َ َ َ
ك ك َِتاًبا ِفي قِْرطا ٍ وَل َوْ ن َّزل َْنا عَل َي ْ َ
كا ل َ ُمل َ ً َ ُ
ي
ض َ ق ِ ك وَل َوْ أن َْزل َْنا َمل َ ٌل عَل َي ْهِ َ
ن ) (7وََقاُلوا ل َوَْل أن ْزِ َمِبي ٌ
حٌر ُ ذا إ ِّل ِ
س ْ هَ َ
م َل ي ُن ْظ َُرو َ َ
ن )(8 مُر ث ُ ّ اْل ْ
فهذه سنة الله ودأبه في المم السابقين واللحقين فاعتبروا بمن قص الله
سوهُ م ُ س فَل َ َ َ
ك ك َِتاًبا ِفي قِْرطا ٍ عليكم نبأهم } { 9 - 7 }.وَل َوْ ن َّزل َْنا عَل َي ْ َ
ُ َ
ل عَل َي ْ ِ
ه ول أن ْزِ َ ن * وََقاُلوا ل َ ْ مِبي ٌ
حٌر ُ س ْ ذا ِإل ِ ن هَ َ فُروا إ ِ ْ ن كَ َ ذي َ ل ال ّ ِقا َ م لَ َ ديهِ ْ
ب ِأي ْ ِ
َ
ن{. م ل ي ُن ْظ َُرو َ مُر ث ُ ّ ي ال ْ ض َ ق ِكا ل َ ُ
مل َ ًك وَل َوْ أن َْزل َْنا َ مل َ ٌ َ
هذا إخبار من الله لرسوله عن شدة عناد الكافرين ،وأنه ليس تكذيبهم
لقصور فيما جئتهم به ،ول لجهل منهم بذلك ،وإنما ذلك ظلم وبغي ،ل حيلة
َ
م{ ديهِ ْ سوهُ ب ِأي ْ ِ م ُ س فَل َ َ َ
ك ك َِتاًبا ِفي قِْرطا ٍ لكم فيه،فقال } :وَل َوْ نزل َْنا عَل َي ْ َ
ن{. مِبي ٌ حٌر ُ س ْ ذا ِإل ِ ن هَ َ
فُروا { ظلما وعلوا } إ ِ ْ ن كَ َ ذي َ ل ال ّ ِقا َ وتيقنوه } ل َ َ
فأي بينة أعظم من هذه البينة ،وهذا قولهم الشنيع فيها ،حيث كابروا
من عقل دفعه؟" من له أدنى مسكة ِ المحسوس الذي ل يمكن َ
ُ
ول أنز َ
ل } وََقاُلوا { أيضا تعنتا مبنيا على الجهل ،وعدم العلم بالمعقول } .ل ْ
َ
ك { أي :هل أنزل مع محمد ملك ،يعاونه ويساعده على ما هو مل َ ٌعَل َي ْهِ َ
عليه بزعمهم أنه بشر ،وأن رسالة الله ،ل تكون إل على أيدي الملئكة.
قال الله في بيان رحمته ولطفه بعباده ،حيث أرسل إليهم بشرا منهم
مل َ ً َ
كا { يكون اليمان بما جاء به ،عن علم وبصيرة ،وغيب } .وَل َوْ أنزل َْنا َ
برسالتنا ،لكان اليمان ل يصدر عن معرفة بالحق ،ولكان إيمانا بالشهادة،
الذي ل ينفع شيئا وحده ،هذا إن آمنوا ،والغالب أنهم ل يؤمنون بهذه
الحالة ،فإذا لم يؤمنوا قضي المر بتعجيل الهلك عليهم وعدم إنظارهم،
لن هذه سنة الله ،فيمن طلب اليات المقترحة فلم يؤمن بها ،فإرسال
الرسول البشري إليهم باليات البينات ،التي يعلم الله أنها أصلح للعباد،
وأرفق بهم ،مع إمهال الله للكافرين والمكذبين خير لهم وأنفع ،فطلُبهم
لنزال الملك شر لهم لو كانوا يعلمون ،ومع ذلك ،فالملك لو أنزل عليهم،
وأرسل ،لم يطيقوا التلقي عنه ،ول احتملوا ذلك ،ول أطاقته قواهم الفانية.
) (1/251
ن )(9 ما ي َل ْب ِ ُ
سو َ سَنا عَل َي ْهِ ْ
م َ جًل وَل َل َب َ ْ
جعَل َْناهُ َر ُ
كا ل َ َ
مل َ ً
جعَل َْناهُ َ
وَل َوْ َ
ن{. ما ي َل ْب ِ ُ
سو َ سَنا عَل َي ْهِ ْ
م َ جل وَل َل َب َ ْ
جعَل َْناهُ َر ُ كا ل َ َمل َ ًجعَل َْناهُ َ } وَل َوْ َ
جل { لن الحكمة ل تقتضي سوى ذلك. جعَل َْناهُ َر ُ كا ل َ َمل َ ًجعَل َْناهُ َ } وَل َوْ َ
ن { أي :ولكان المر ،مختلطا عليهم ،وملبوسا ما ي َل ْب ِ ُ
سو َ م َ سَنا عَل َي ْهِ ْ
} وَل َل َب َ ْ
وذلك بسبب ما لبسوه على أنفسهم ،فإنهم بنوا أمرهم على هذه القاعدة
التي فيها اللبس ،وبها عدم بيان الحق.
) (1/251
ه
كاُنوا ب ِ ِ ما َ
م َمن ْهُ ْ
خُروا ِ س ِن َ ذي َحاقَ ِبال ّ ِ ن قَب ْل ِ َ
ك فَ َ م ْل ِ
س ٍست ُهْزِئَ ب ُِر ُ
قدِ ا ْ وَل َ َ
ف َ م ان ْظ ُُروا ك َي ْ َ َ ْ ن ) (10قُ ْ ست َهْزُِئو َ
ة
عاقِب َ ُ
ن َكا َ ض ثُ ّ سيُروا ِفي الْر ِ ل ِ يَ ْ
ن )(11 َ
مكذ ِّبي َ ال ْ ُ
فلما جاءهم الحق ،بطرقه الصحيحة ،وقواعده التي هي قواعده ،لم يكن
ذلك هداية لهم ،إذا اهتدى بذلك غيرهم ،والذنب ذنبهم ،حيث أغلقوا على
ست ُهْزِئَ
قدِ ا ْ أنفسهم باب الهدى ،وفتحوا أبواب الضلل } { 11 ، 10 } .وَل َ َ
ن * قُ ْ
ل ست َهْزُِئو َ كاُنوا ب ِهِ ي َ ْ ما َ م َ من ْهُ ْخُروا ِ س ِ ن َ ذي َحاقَ ِبال ّ ِ ك فَ َن قَب ْل ِ َ
م ْ ل ِس ٍب ُِر ُ
ن{. مك َذ ِّبي َة ال ْ ُعاقِب َ ُن َ ف َ
كا َ م ان ْظ ُُروا ك َي ْ َ ض ثُ ّ
سيُروا ِفي الْر ِ ِ
قدِ َ
يقول تعالى مسليا لرسوله ومصبرا ،ومتهددا أعداءه ومتوعدا } .وَل َ
ك { لما جاءوا أممهم بالبينات ،كذبوهم واستهزأوا ن قَب ْل ِ َم ْل ِ س ٍ ست ُهْزِئَ ب ُِر ُا ْ
بهم وبما جاءوا به .فأهلكهم الله بذلك الكفر والتكذيب ،ووفى لهم من
ه ما َ
كاُنوا ب ِ ِ م َ من ْهُ ْ
خُروا ِ س ِ ن َ حاقَ ِبال ّ ِ
ذي َ العذاب أكمل نصيب } .فَ َ
ن { فاحذروا -أيها المكذبون -أن تستمروا على تكذيبكم ،فيصيبكم ست َهْزُِئو َ
يَ ْ
ما أصابهم.
) (1/251
ةم َ
ح َسهِ الّر ْ
ف ِب عََلى ن َ ْ ل ل ِل ّهِ ك َت َ َ
ض قُ ِْ ت َواْل َْر
ماَوا ِ س َ ما ِفي ال ّ ن َ م ْ ل لِ َ قُ ْ
م َل َ
م فَهُ ْ
سهُ ْف َسُروا أن ْ ُ
خ ِن َ ذي َب ِفيهِ ال ّ ِ مةِ َل َري ْ َ م إ َِلى ي َوْم ِ ال ْ ِ
قَيا َ معَن ّك ُ ْج َل َي َ ْ
ن )(12 مُنو َ ي ُؤْ ِ
فإن شككتم في ذلك ،أو ارتبتم ،فسيروا في الرض ،ثم انظروا ،كيف كان
عاقبة المكذبين ،فلن تجدوا إل قوما مهلكين ،وأمما في المثلت تالفين ،قد
أوحشت منهم المنازل ،وعدم من تلك الربوع كل متمتع بالسرور نازل،
أبادهم الملك الجبار ،وكان بناؤهم عبرة لولي البصار .وهذا السير المأمور
به ،سير القلوب والبدان ،الذي يتولد منه العتبار .وأما مجرد النظر من
ت ماَوا ِ
س َما ِفي ال ّ ن َ
م ْ ل لِ َغير اعتبار ،فإن ذلك ل يفيد شيئا } { 12 } .قُ ْ
ب
مةِ ل َري ْ َ قَيا َ ْ َ
م إ ِلى ي َوْم ِ ال ِ ُ
معَن ّك ْ
ج َة ل َي َ ْم َ
ح َ
سهِ الّر ْ ف ِب عََلى ن َ ْ ل ل ِل ّهِ ك َت َ َض قُ ْ
َ َوالْر ِ
ن{. مُنو َ م ل ي ُؤْ ِ م فَهُ ْ سهُ ْ
ف َ
سُروا أن ْ ُ خ ِ ن َ ِفيهِ ال ّ ِ
ذي َ
ل { لهؤلء المشركين بالله، يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم } قُ ْ
من ض { أيَ : ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ
ما ِفي ال ّ ن َ م ْمقررا لهم وملزما بالتوحيد } :ل ِ َ
الخالق لذلك ،المالك له ،المتصرف فيه؟
ل { لهم } :ل ِل ّهِ { وهم مقرون بذلك ل ينكرونه ،أفل حين اعترفوا } قُ ْ
بانفراد الله بالملك والتدبير ،أن يعترفوا له بالخلص والتوحيد؟".
) (1/251
خذ ُل أ َغَي َْر الل ّهِ أ َت ّ ِ م ) (13قُ ْ ميعُ ال ْعَِلي ُ س ِ ل َوالن َّهارِ وَهُوَ ال ّ ن ِفي الل ّي ْ ِ سك َ َما َ ه َ وَل َ ُ
َ َ ُ َ
ن
كو َ نأ ُ تأ ْ مْر ُ ل إ ِّني أ ِ م قُ ْ م وََل ي ُط ْعَ ُ ض وَهُوَ ي ُط ْعِ ُ ْ
ت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ وَل ِّيا َفاط ِرِ ال ّ
َ لم َ َ
ت صي ْ ُ ن عَ َ ف إِ ْ خا ُ ل إ ِّني أ َ ن ) (14قُ ْ كي َ شرِ ِ م ْن ال ْ ُ م َن ِ كون َ ّم وََل ت َ ُ سل َ َنأ ْ أو ّ َ َ ْ
فوُْز ك ال ْ َ ه وَذ َل ِ َ م ُ ح َقد ْ َر ِ مئ ِذٍ فَ َ ه ي َوْ َف عَن ْ ُ صَر ْ ن يُ ْ م ْ ظيم ٍ )َ (15 ب ي َوْم ٍ عَ ِ َرّبي عَ َ
ذا َ
س َ
ك س ْ م َ ن يَ ْ ه إ ِّل هُوَ وَإ ِ ْ ف لَ ُ ش َ كا ِ ضّر فََل َ ه بِ ُ ك الل ّ ُ س َ س ْ م َ ن يَ ْن ) (16وَإ ِ ْ مِبي ُ ال ْ ُ
م
كي ُ ح ِ عَبادِهِ وَهُوَ ال ْ َ قاهُِر فَوْقَ ِ ديٌر ) (17وَهُوَ ال ْ َ يٍء قَ ِ ش ْ ل َ خي ْرٍ فَهُوَ عََلى ك ُ ّ بِ َ
خِبيُر )(18 ال ْ َ
) (1/251
ذاي هَ َ ي إ ِل َ ّ
ح َ م وَُأو ِ شِهيد ٌ ب َي ِْني وَب َي ْن َك ُ ْ ه َ ل الل ّ ُ شَهاد َةً قُ ِيٍء أ َك ْب َُر َ ش ْ ل أ َيّ َ قُ ْ
ل لَخَرى قُ ْ ةأ ُْ َ ّ
معَ اللهِ آل ِهَ ً َ َ
م لت َ ْ ُ َ َ ُ ُ َ ال ْ ُ
ن َ نأ ّ دو َ شه َ ُ ن ب َلغَ أئ ِن ّك ْ م ْ
م ب ِهِ وَ َ ن ِلن ْذَِرك ْ قْرآ ُ
م ذي َ
ن ) (19ال ّ ِ َ
ن آت َي َْناهُ ُ كو َ شرِ ُ ما ت ُ ْم ّريٌء ِ ِ حد ٌ وَإ ِن ِّني ب َ ه َوا ِما هُوَ إ ِل َ ٌ ل إ ِن ّ َ شهَد ُ قُ ْ أَ ْ
ن م َل ي ُؤْ ِ
مُنو َ م فَهُ ْ سهُ ْ سُروا أ َن ْ ُ
ف َ خ ِ ن َ ذي َم ال ّ ِن أب َْناَءهُ ُ
ال ْكتاب يعرُفونه ك َما يعرُفو َ
َ َِ َ َْ ِ َ ُ َ َْ ِ
)(20
ي هَ َ
ذا ي إ ِل َ ّ ح َ م وَُأو ِ شِهيد ٌ ب َي ِْني وَب َي ْن َك ُ ْ ه َ ل الل ّ ُ شَهاد َةً قُ ِ يٍء أ َك ْب َُر َ ش ْ ل أ َيّ َ } قُ ْ
لل خَرى قُ ْ ةأ ْ ُ ّ
معَ اللهِ آل ِهَ ً َ َ
م لت َ ْ ُ َ َ ُ ال ْ ُ
ن َ نأ ّ دو َ شه َ ُ ن ب َلغَ أئ ِن ّك ْ م ْم ب ِهِ وَ َ ن لن ْذَِرك ْ قْرآ ُ
م
ن آت َي َْناهُ ُ ذي َ ن * ال ّ ِ كو َ شرِ ُ ما ت ُ ْ م ّريٌء ِ ِ حد ٌ وَإ ِن ِّني ب َ ه َوا ِ ما هُوَ إ ِل َ ٌ ل إ ِن ّ َ شهَد ُ قُ ْ أَ ْ
مل م فَهُ ْ سهُ ْ ف َ سُروا أ َن ْ ُ خ ِ ن َ ذي َ م ال ّ ِ ن أب َْناَءهُ ُ
ال ْكتاب يعرُفونه ك َما يعرُفو َ
َ َِ َ َْ ِ َ ُ َ َْ ِ
ن{. مُنو َ ي ُؤْ ِ
َ
يٍء أك ْب َُر َ
ل { لهم -لما بينا لهم الهدى ،وأوضحنا لهم المسالك } :-أيّ َ } قُ ْ
ش ْ
شِهيد ٌ ه { أكبر شهادة ،فهو } َ ل الل ّ ُ شَهاد َةً { على هذا الصل العظيم } .قُ ِ َ
م { فل أعظم منه شهادة ،ول أكبر ،وهو يشهد لي بإقراره ب َي ِْني وَب َي ْن َك ُ ْ
ل عَل َي َْنا ب َعْ َ
ض قوّ َ وفعله ،فيقرني على ما قلت لكم ،كما قال تعالى } وَل َوْ ت َ َ
ن { فالله حكيم قدير ه ال ْوَِتي َ من ْ ُ قط َعَْنا ِ م لَ َ ن * ثُ ّ مي ِ ه ِبال ْي َ ِ من ْ ُ خذ َْنا ِ ل*ل َ الَقاِوي ِ
فل يليق بحكمته وقدرته أن يقر كاذبا عليه زاعما أن الله أرسله ولم
يرسله وأن الله أمره بدعوة الخلق ولم يأمره وأن الله أباح له دماء من
خالفه وأموالهم ونساءهم وهو مع ذلك يصدقه بإقراره وبفعله فيؤيده على
ما ] ص [ 253قال بالمعجزات الباهرة واليات الظاهرة وينصره ويخذل
من خالفه وعاداه فأي شهادة أكبر من هذه الشهادة؟"
ن ب َل َغَ { أي وأوحى الله إل ّ
ي م ْ م ب ِهِ وَ َ ن لن ْذَِرك ُ ْ قْرآ ُ ذا ال ْ ُ ي هَ َ ي إ ِل َ ّح َ وقوله } وَُأو ِ
هذا القرآن الكريم لمنفعتكم ومصلحتكم لنذركم به من العقاب الليم
والنذارة إنما تكون بذكر ما ينذرهم به من الترغيب والترهيب وببيان
من قام بها فقد قبل النذارة فهذا العمال والقوال الظاهرة والباطنة التي َ
القرآنفيه النذارة لكم أيها المخاطبون وكل من بلغه القرآن إلى يوم
القيامة فإن فيه بيان كل ما يحتاج إليه من المطالب اللهية.
لما بّين تعالى شهادته التي هي أكبر الشهادات على توحيده قال قل لهؤلء
معَ الل ّهِ آل ِهَ ً شهدو َ َ
ة ن َ نأ ّ م ل َت َ ْ َ ُ َ المعارضين لخبر الله والمكذبين لرسله } أئ ِن ّك ُ ْ
شهَد ُ { أي إن شهدوا فل تشهد معهم. ل ل أَ ْ خَرى قُ ْ أُ ْ
ن بين شهادة أصدق القائلين ورب العالمين وشهادة أزكى الخلق فوازِ ْ
المؤيدة بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة على توحيد الله وحده ل
شريك له وشهادة أهل الشرك الذين مرجت عقولهم وأديانهم وفسدت
آراؤهم وأخلقهم وأضحكوا على أنفسهم العقلء.
بل خالفوا بشهادة فطرهم وتناقضت أقوالهم على إثبات أن مع الله آلهة
أخرى مع أنه ل يقوم على ما قالوه أدنى شبهة فضل عن الحجج واختر
لنفسك أي الشهادتين إن كنت تعقل ونحن نختار لنفسنا ما اختاره الله
حد ٌ { أي منفرد ه َوا ِ ما هُوَ إ ِل َ ٌ لنبيه الذي أمرنا الله بالقتداء به فقال } قُ ْ
ل إ ِن ّ َ
ل يستحق العبودية واللهية سواه كما أنه المنفرد بالخلق والتدبير.
ن { به من الوثان والنداد وكل ما أشرك به مع كو َشرِ ُ ما ت ُ ْم ّ
ريٌء ِ } وَإ ِن ِّني ب َ ِ
الله فهذا حقيقة التوحيد إثبات اللهية لله ونفيها عما عداه.
لما بّين شهادته وشهادة رسوله على التوحيد وشهادةَ المشركين الذين ل
علم لديهم على ضده ذكر أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى
م { أي ل شك } يعرُفونه { أي يعرفون صحة التوحيد } ك َما يعرُفو َ
ن أب َْناَءهُ ْ َ َ َْ ِ َْ ِ َ ُ
عندهم فيه بوجهكما أنهم ل يشتبهون بأولدهم خصوصا البنين الملزمين
في الغالب لبائهم.
ويحتمل أن الضمير عائد إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأن
أهل الكتاب ل يشتبهون بصحة رسالته ول يمترون بها لما عندهم من
البشارات به ونعوته التي تنطبق عليه ول تصلح لغيره والمعنيان متلزمان.
م { أي فوتوها ما خلقت له من اليمان سهُ ْف َسُروا أ َن ْ ُ خ ِ ن َذي َقوله } ال ّ ِ
ن { فإذا لم مُنو َ م ل ي ُؤْ ِ والتوحيد وحرموها الفضل من الملك المجيد } فَهُ ْ
يوجد اليمان منهم فل تسأل عن الخسار والشر الذي يحصل لهم.
) (1/252
) (1/253
شر ُ َ ل ل ِل ّذي َ
ن ك ُن ْت ُ ْ
م ذي َم ال ّ ِ كاؤُك ُ ُشَر َ ن ُ كوا أي ْ َ نأ ْ َ ِ َ قو ُ م نَ ُ ميًعا ث ُ ّج ِ م َ ح ُ
شُرهُ ْ م نَ ْوَي َوْ َ
ُ ّ ُ َ ّ ُ َ
ن)كي َ شرِ ِم ْ ما كّنا ُ ن َقالوا َواللهِ َرب َّنا َ م إ ِل أ ْ ن فِت ْن َت ُهُ ْ م ت َك ْ مل ْ ن ) (22ث ُ ّ مو َ ت َْزعُ ُ
ن )(24 َ ض ّ َ َ
ف كذ َُبوا عَلى أن ْ ُ َ َ ُ
فت َُرو َ ما كاُنوا ي َ ْ م َ ل عَن ْهُ ْ م وَ َ سهِ ْف ِ (23ان ْظْر كي ْ َ
) (1/253
يخبر تعالى عن مآل أهل الشرك يوم القيامة ،وأنهم يسألون ويوبخون
َ
ن { أي إن الله ليس له مو َ ن ك ُن ْت ُ ْ
م ت َْزعُ ُ ذي َ م ال ّ ِ كاؤُك ُ ُ شَر َن ُ فيقال لهم } أي ْ َ
م{ م ت َك ُ ْ
ن فِت ْن َت ُهُ ْ م لَ ْ شريك ،وإنما ذلك على وجه الزعم منهم والفتراء } .ث ُ ّ
أي :لم يكن جوابهم حين يفتنون ويختبرون بذلك السؤالل إنكارهم
لشركهم وحلفهم أنهم ما كانوا مشركين } .ان ْظ ُْر { متعجبا منهم ومن
م { أي :كذبوا كذبا عاد بالخسار على سه ِ ْف ِ ف ك َذ َُبوا عََلى أ َن ْ ُ أحوالهم } ك َي ْ َ
ن { من فت َُرو َ
كاُنوا ي َ ْ ما َ م َل عَن ْهُ ْ ض ّ
أنفسهم وضرهم -والله -غاية الضرر } وَ َ
الشركاء الذين زعموهم مع الله ،تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا{ 25 } .
ك وجعل ْنا عََلى قُُلوبهم أ َكن ً َ
م قُهوهُ وَِفي آ َ
ذان ِهِ ْ ف َ
ن يَ ْ ةأ ْ ِِ ْ ِّ معُ إ ِل َي ْ َ َ َ َ َ ست َ ِن يَ ْ م ْم َ من ْهُ ْ
} وَ ِ
ن
ذي َ ل ال ّ ِ قو ُك يَ ُ جادُِلون َ َ ك يُ َجاُءو َ ذا َ حّتى إ ِ َ مُنوا ب َِها َ ل آي َةٍ ل ي ُؤْ ِ ن ي ََرْوا ك ُ ّ وَقًْرا وَإ ِ ْ
ن{. َ ن هَ َ كَ َ
طيُر الوِّلي َ سا ِ ذا ِإل أ َ فُروا إ ِ ْ
ض الدواعي إلى ض الوقات ،بع ُ أي :ومن هؤلء المشركين ،قوم يحملهم بع َ
الستماع لما تقول ،ولكنه استماع خال من قصد الحق واتباعه ،ولهذا ل
جعَل َْنا عََلى ينتفعون بذلك الستماع ،لعدم ] ص [ 254إرادتهم للخير } وَ َ
ة { أي :أغطية وأغشية ،لئل يفقهوا كلم الله ،فصان كلمه عن م أ َك ِن ّ ً قُُلوب ِهِ ْ
م { جعلنا } وَقًْرا { أي :صمما ،فل يستمعون ما ذان ِهِ ْأمثال هؤلء } .وَِفي آ َ
ينفعهم.
مُنوا ب َِها { وهذا غاية الظلم والعناد ،أن اليات ل آي َةٍ ل ي ُؤْ ِ ُ
ن ي ََرْوا ك ّ } وَإ ِ ْ
البينات الدالة على الحق ،ل ينقادون لها ،ول يصدقون بها ،بل يجادلون
بالباطل الحقّ ليدحضوه.
) (1/253
ن ب ب ِآ ََيا ِ
ت َرب َّنا وَن َ ُ
كو َ قاُلوا َيا ل َي ْت ََنا ن َُرد ّ وََل ن ُك َذ ّ َ
فوا عََلى الّنارِ فَ َ
ت ََرى إ ِذ ْ وُقِ ُ وَل َوْ
ن )(27 مِني َ ال ْ ُ
مؤْ ِ ن
م َ ِ
) (1/254
م
ه وَإ ِن ّهُ ْ
ما ن ُُهوا عَن ْ ُ دوا ل ِ َدوا ل ََعا ُ
ل وَل َوْ ُر ّ ن قَب ْ ُ م ْ
ن ِفو َخ ُ ما َ
كاُنوا ي ُ ْ دا ل َهُ ْ
م َ ل بَ َ بَ ْ
ن )(29 مب ُْعوِثي َ
ن بِ َ ح ُ
ما ن َ ْ
حَيات َُنا الد ّن َْيا وَ َ ّ
ي إ ِل َ ن هِ َ ُ
ن ) (28وََقالوا إ ِ ْ ل َكاذُِبو َ
َ
م
ه وَإ ِن ّهُ ْ
ما ن ُُهوا عَن ْ ُ
دوا ل ِ َدوا ل ََعا ُ ل وَل َوْ ُر ّ ن قَب ْ ُ
م ْ ن ِ فو َخ ُ
كاُنوا ي ُ ْما َم َ دا ل َهُ ْ } بَ ْ
ل بَ َ
ن{. مب ُْعوِثي َن بِ َح ُما ن َ ْحَيات َُنا الد ّن َْيا وَ َ
ي ِإل َ ن هِ َ ن * وََقاُلوا إ ِ ْ لَ َ
كاذُِبو َ
) (1/254
حقّ َقاُلوا ب ََلى وََرب َّنا َقا َ فوا عََلى ربهم َقا َ َ
ل ذا ِبال ْ َ ل أل َي ْ َ
س هَ َ َ ِّ ْ وَل َوْ ت ََرى إ ِذ ْ وُقِ ُ
ن )(30 م ت َك ْ ُ
فُرو َ ما ك ُن ْت ُ ْ
ب بِ َذا َذوُقوا ال ْعَ َ فَ ُ
) (1/254
ة َقاُلوا َياة ب َغْت َ ً
ساعَ ُم ال ّجاَءت ْهُ ُ حّتى إ ِ َ
ذا َ قاِء الل ّهِ َن ك َذ ُّبوا ب ِل ِ َ سَر ال ّ ِ
ذي َ خ ِقَد ْ َ
َ َ ُ َ َ ُ ْ َ
ساَء
م أل َ م عَلى ظُهورِهِ ْ ن أوَْزاَرهُ ْ ملو َ ح ِ ما فَّرطَنا ِفيَها وَهُ ْ
م يَ ْ سَرت ََنا عَلى َ ح َْ
ن )(31 ما ي َزُِرو َ َ
م { لرأيت أمرا عظيما، فوا عََلى َرب ّهِ ْ أي } :وَل َوْ ت ََرى { الكافرين } إ ِذ ْ وُقِ ُ
َ
ذا { الذي ترون من س هَ َ ل { لهم موبخا ومقرعا } :أل َي ْ َ ول جسيماَ } ،قا َ وه َ ْ
حقّ قالوا ب َلى وََرب َّنا { فأقروا ،واعترفوا حيث ل ينفعهم ذلك، َ ُ َ ْ
العذاب } ِبال َ
ن
ذي َ ّ
سَر ال ِخ ِ َ
ن { } { 31 } .قد ْ َ فُرو َ ْ
م ت َك ُ ُ
ما كن ْت ُ ْ ب بِ َ ذا َ ْ
ذوُقوا العَ َ ل فَ ُ } َقا َ
سَرت ََنا عََلى َ
ما ح ْ ة َقاُلوا َيا َ ة ب َغْت َ ً
ساعَ ُم ال ّ جاَءت ْهُ ُ ذا َ حّتى إ ِ َ قاِء الل ّهِ َ ك َذ ُّبوا ب ِل ِ َ
َ َ
ن{. ما ي َزُِرو َساَء َ م أل َ م عََلى ظ ُُهورِهِ ْ ن أوَْزاَرهُ ْ مُلو َ ح ِ م يَ ْفَّرط َْنا ِفيَها وَهُ ْ
) (1/254
أي :قد خاب وخسر ،وحرم الخير كله ،من كذب بلقاء الله ،فأوجب له هذا
م
جاَءت ْهُ ُ ذا َ حّتى إ ِ َالتكذيب ،الجتراء على المحرمات ،واقتراف الموبقات } َ
ُ َ
ة { وهم على أقبح حال وأسوئه ،فأظهروا غاية الندم .و } قالوا َيا ساعَ ُال ّ
ن
ملو َ ُ ح ِ
م يَ ْ ما فَّرطَنا ِفيَها { ولكن هذا تحسر ذهب وقته } ،وَهُ ْ ْ َ
سَرت ََنا عَلى َح ْ َ
ن { فإن وزرهم وزر يثقلهم ،ول َ ُ َ َ
ما ي َزُِرو َ ساَء َ م أل َ م عَلى ظُهورِهِ ْ أوَْزاَرهُ ْ
يقدرون على التخلص منه ،ولهذا خلدوا في النار ،واستحقوا التأبيد في
خي ٌْر خَرةُ َ داُر ال ِ ب وَل َهْوٌ وََلل ّ
حَياةُ الد ّن َْيا ِإل ل َعِ ٌما ال ْ َ
غضب الجبار } { 32 } .وَ َ
قو َ
ن{. قُلو َن أَفل ت َعْ ِ
ن ي َت ّ ُ َ
ذي َل ِل ّ ِ
هذه حقيقة الدنيا وحقيقة الخرة ،أما حقيقة الدنيا فإنها لعب ولهو ،لعب
في البدان ولهو في القلوب ،فالقلوب لها والهة ،والنفوس لها عاشقة،
والهموم فيها متعلقة ،والشتغال بها كلعب الصبيان.
) (1/254
تن ب ِآ ََيا ِ
مي َ ظال ِ ِ ن ال ّ ك وَل َك ِ ّم َل ي ُك َذ ُّبون َ َ ن فَإ ِن ّهُ ْ قوُلو َ ذي ي َ ُ ك ال ّ ِ حُزن ُ َ ه ل َي َ ْ م إ ِن ّ ُقَد ْ ن َعْل َ ُ
ما ك ُذ ُّبوا صب َُروا عََلى َ ك فَ َ ن قَب ْل ِ َ م ْ ل ِ س ٌ ت ُر ُ قد ْ ك ُذ ّب َ ْ ن ) (33وَل َ َ دو َ ح ُ ج َ الل ّهِ ي َ ْ
ت الل ّهِ وَل َ َ َ وَُأو ُ
ن ن َب َإ ِ م ْ ك ِ جاَء َ قد ْ َ ما ِ ل ل ِك َل ِ َ مب َد ّ َصُرَنا وََل ُ م نَ ْ حّتى أَتاهُ ْ ذوا َ
َ
قا
ف ً
ي نَ َ
ن ت َب ْت َغِ َ تأ ْ ست َط َعْ َ نا ْ م فَإ ِ ِضه ُ ْ ك إ ِعَْرا ُ ن ك َب َُر عَل َي ْ َكا َ ن َ ن ) (34وَإ ِ ْ سِلي َ مْر َ ال ْ ُ
م عََلى َ ْ َ َ
معَهُ ْ ج َ ه لَ َشاَء الل ّ ُ م ب ِآي َةٍ وَل َوْ َ ماِء فَت َأت ِي َهُ ْ س َما ِفي ال ّ سل ّ ًض أو ْ ُ ِفي الْر ِ
ْ
ن )(35 جاهِِلي َ ن ال ْ َ م َ ن ِ كون َ ّ دى فََل ت َ ُ ال ْهُ َ
) (1/254
م إ ِل َي ْهِ
ه ثُ ّم الل ّ ُ
موَْتى ي َب ْعَث ُهُ ُ ن َوال ْ َ مُعو َ س َ
ن يَ ْذي َ ب ال ّ ِ جي ُست َ ِ
ما ي َ ْ } } { 37 ، 36إ ِن ّ َ
َ َ ّ َ
ن ي ُن َّز َ
ل ه قادٌِر عَلى أ ْ َ ن الل َ ل إِ ّ ُ
ن َرب ّهِ ق ْ م ْة ِل عَلي ْهِ آي َ ٌ ول ن ُّز َ ن * وََقاُلوا ل َ ْ جُعو َي ُْر َ
َ ْ َ َ
ن{. مو َ م ل ي َعْل ُ ن أكث ََرهُ ْة وَلك ِ ّآي َ ً
ب { لدعوتك ،ويلبي جي ُ ست َ ِما ي َ ْ يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم } :إ ِن ّ َ
ن { بقلوبهم ما ينفعهم ،وهم مُعو َ س َ
ن يَ ْ رسالتك ،وينقاد لمرك ونهيك } ال ّ ِ
ذي َ
أولو اللباب والسماع.
والمراد بالسماع هنا :سماع القلب والستجابة ،وإل فمجرد سماع
الذن،يشترك فيه البر والفاجر .فكل المكلفين قد قامت عليهم حجة الله
تعالى،باستماع آياته ،فلم يبق لهم عذر ،في عدم القبول.
ن { يحتمل أن المعنى ،مقابل جُعو َ م إ ِل َي ْهِ ي ُْر َ ه ثُ ّ م الل ّ ُ موَْتى ي َب ْعَث ُهُ ُ } َوال ْ َ
للمعنى المذكور .أي :إنما يستجيب لك أحياء القلوب ،وأما أموات القلوب،
الذين ل يشعرون بسعادتهم ،ول يحسون بما ينجيهم ،فإنهم ل يستجيبون
لك ،ول ينقادون ،وموعدهم القيامة ،يبعثهم الله ثم إليه يرجعون ،ويحتمل
أن المراد بالية ،على ظاهرها ،وأن الله تعالى يقرر المعاد ،وأنه سيبعث
الموات يوم القيامة ثم ينبئهم بما كانوا يعملون.
ويكون هذا ،متضمنا للترغيب في الستجابة لله ورسوله ،والترهيب من
عدم ذلك.
ن
م ْ ة ِ َ َ
ول نزل عَلي ْهِ آي َ ٌ } وََقاُلوا { أي :المكذبون بالرسول ،تعنتا وعنادا } :ل ْ
َ
َرب ّهِ { يعنون بذلك آيات القتراح ،التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة وآرائهم
الكاسدة.
ُ َ َ َ َ َ ُ
ن
عا * أوْ ت َكو َ ض ي َن ُْبو ً
ن الْر َ ِ م َ جَر لَنا ِ ف ُ حّتى ت َ ْن لك َ م َ ن ن ُؤْ ِ كقولهم } :وََقالوا ل ْ
ماَء س َ قط ال ّ َ س ِ
جيًرا * أوْ ت ُ ْ ف ِ َ
خللَها ت َ ْ جَر الن َْهاَر ِ ف ّ ب فَت ُ َ عن َ ٍ ل وَ ِ خي ٍ ن نَ ِ م ْ ة ِ جن ّ ٌك َ لَ َ
ْ َ
ملئ ِك َةِ قَِبيل { اليات ي ِبالل ّهِ َوال ْ َ فا أوْ ت َأت ِ َ س ً ت عَل َي َْنا ك ِ َ م َ ما َزعَ ْ كَ َ
َ
ة { فليس في قدرته ن ُينز َ
ل آي َ ً ه َقادٌِر عََلى أ ْ ن الل ّ َ ل { مجيبا لقولهم } إ ِ ّ } قُ ْ
قصور عن ذلك كيف وجميع الشياء منقادة لعزته مذعنة لسلطانه؟
ولكن أكثر الناس ل يعلمون فهم لجهلهم وعدم علمهم يطلبون ما هو شر
لهممن اليات التي لو جاءتهم فلم يؤمنوا بها لعوجلوا بالعقاب كما هي
سنة الله التي ل تبديل لها ومع هذا فإن كان قصدهم اليات التي تبين لهم
الحق وتوضح السبيل فقد أتى محمد صلى الله عليه وسلم بكل آية
قاطعةوحجة ساطعة دالة على ما جاء به من الحق بحيث يتمكن العبد في
كل مسألة من مسائل الدين أن يجد فيما جاء به عدة أدلة عقلية ونقلية
بحيث ل تبقي في القلوب أدنى شك وارتياب فتبارك الذي أرسل رسوله
بالهدى ودين الحق وأيده باليات البينات ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من
حي عن بينةوإن الله لسميع عليم
) (1/255
) (1/255
شأ ْ َ
ن يَ َ
م ْ ضل ِل ْ ُ
ه وَ َ شأ ِ الل ّ ُ
ه يُ ْ ن يَ َ
م ْ
ت َ م ِفي الظ ّل ُ َ
ما ِ م وَب ُك ْ ٌ ص ّن ك َذ ُّبوا ب ِآَيات َِنا ُ
ذي َ َوال ّ ِ
قيم ٍ )(39 ست َ ِم ْط ُ
صَرا ٍ ه عََلى ِ جعَل ْ ُ يَ ْ
ضل ِل ْ ُ
ه ه يُ ْ شأ ِ الل ّ ُن يَ َم ْت َما ِ م ِفي الظ ّل ُ َم وَب ُك ْ ٌ ص ّ ن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا ُ
ذي َ } َ } { 39وال ّ ِ
ومن ي َ ْ
قيم ٍ { . ست َ ِ م ْط ُصَرا ٍ ه عََلى ِ جعَل ْ ُ شأ ي َ ْ َ َ ْ َ
هذا بيان لحال المكذبين بآيات الله ،المكذبين لرسله ،أنهم قد سدوا على
م { عن سماع الحق } ص ّ
أنفسهم باب الهدى ،وفتحوا باب الردى ،وأنهم } ُ
م { عن النطق به ،فل ينطقون إل بباطل ). (1 وَب ُك ْ ٌ
ت { أي :منغمسون في ظلمات الجهل ،والكفر ،والظلم، ما ِ } ِفي الظ ّل ُ َ
ضل ِل ْ ُ
ه ه يُ ْ شأ ِ الل ّ ُ
ن يَ َ
م ْوالعناد،والمعاصي .وهذا من إضلل الله إياهم ،فـ } َ
ومن ي َ ْ
قيم ٍ { لنه المنفرد بالهداية والضلل، ست َ ِ م ْط ُصَرا ٍ ه عََلى ِ جعَل ْ ُ شأ ي َ ْ َ َ ْ َ
بحسب ما اقتضاه فضله وحكمته.
__________
) (1في ب :بالباطل.
) (1/256
ن ك ُن ْت ُ ْ
م ن إِ ْ
عو َ ة أ َغَي َْر الل ّهِ ت َد ْ ُ ساعَ ُم ال ّ
َ َ
ب الل ّهِ أوْ أت َت ْك ُ ُذا ُ م عَ َ ل أ َرأ َيتك ُم إ َ
ن أَتاك ُ ْ قُ ْ َ ْ َ ْ ِ ْ
مان َ سوْ َشاَء وَت َن ْ َ ن َ َ
ن إ ِلي ْهِ إ ِ ْ
عو َ ما ت َد ْ ُ
ف َ ش ُ ن فَي َك ْ ِ
عو َ ن ) (40ب َ ْ
ل إ ِّياهُ ت َد ْ ُ صادِِقي َ َ
ن )(41 َ ُ
كو ْ
تُ ِ
رش
ذاب الل ّه أ َو أ َتتك ُم الساعَ ُ َ ل أ َرأ َيتك ُم إ َ
ة أغَي َْر الل ّهِ ّ ِ ْ َْ ُ م عَ َ ُ ن أَتاك ُ ْ } } { 41 ، 40قُ ْ َ ْ َ ْ ِ ْ
شاَء ن َ َ
ن إ ِلي ْهِ إ ِ ْ عو َ ما ت َد ْ ُ
ف َش ُ ْ
ن فَي َك ِ
عو َل إ ِّياهُ ت َد ْ ُن * بَ ْ صادِِقي َ
م َ ن ك ُن ْت ُ ْن إِ ْ
عو َت َد ْ ُ
ن{. ُ
شرِكو َ ما ت ُ ْ ن َ سوْ َ
وَت َن ْ َ
ل { للمشركين بالله ،العادلين به غيره: يقول تعالى لرسوله } :قُ ْ
ّ َ َ َ ّ } أ َرأ َيتك ُم إ َ
ن ك ُن ْت ُ ْ
م ن إِ ْ عو َ ة أغَي َْر اللهِ ت َد ْ ُساعَ ُ ب اللهِ أوْ أت َت ْك ُ ُ
م ال ّ ذا ُ ن أَتاك ُ ْ
م عَ َ َ َْ ْ ِ ْ
ن { أي :إذا حصلت هذه المشقات ،وهذه الكروب ،التي يضطر إلى صادِِقي َ َ
دفعها ،هل تدعون آلهتكم وأصنامكم ،أم تدعون ربكم الملك الحق المبين.
ن{ شرِ ُ
كو َ ما ت ُ ْ
ن َ
سوْ َ
شاَء وَت َن ْ َ ن إ ِل َي ْهِ إ ِ ْ
ن َ عو َ
ما ت َد ْ ُ
ف َ ن فَي َك ْ ِ
ش ُ عو َ } بَ ْ
ل إ ِّياهُ ت َد ْ ُ
فإذا كانت هذه حالكم مع أندادكم عند الشدائد ،تنسونهم ،لعلمكم أنهم ل
يملكون لكم ضرا ول نفعا ،ول موتا ،ول حياة ،ول نشورا.
وتخلصون لله الدعاء ،لعلمكم أنه هو النافع الضار ،المجيب لدعوة
المضطر،فما بالكم في الرخاء تشركون به ،وتجعلون له شركاء؟ .هل
دلكم على ذلك،عقل أو نقل ،أم عندكم من سلطان بهذا؟ بل ) (1تفترون
على الله الكذب؟
__________
) (1في ب :أم.
) (1/256
ْ
ضّراِء ل َعَل ّهُ ْ
م ساِء َوال ّ م ِبال ْب َأ َخذ َْناهُ ْك فَأ َ َ ن قَب ْل ِ َ ْ م
مم ٍ ِ
ُ
سل َْنا إ َِلى أ َ
ول َ َ َ
قد ْ أْر َ َ
ُ ُ َ َ ْ َ َ َ
ن
م وََزي ّ َ ت قلوب ُهُ ْ س ْ نق َ عوا وَلك ِ ْ ضّر ُسَنا ت َ َ م ب َأ ُ جاَءهُ ْ ن ) (42فلوْل إ ِذ ْ َ عو َ ضّر ُي َت َ َ
م َ
حَنا عَلي ْهِ ْ َ ّ
ما ذ ُكُروا ب ِهِ فت َ ْ سوا َ ما ن َ ُ َ َ
ن ) (43فل ّ ملو َ ُ َ
ما كاُنوا ي َعْ َ ن َ َ
شي ْطا ُ م ال ّ ل َهُ ُ
ة فَإ ِ َ َ ُ ب كُ ّ َ
ن)سو َ مب ْل ِ ُ
م ُ ذا هُ ْ خذ َْناهُ ْ
م ب َغْت َ ً ما أوُتوا أ َ حوا ب ِ َ ذا فَرِ ُ حّتى إ ِ َ يٍء َ ش ْ ل َ وا َ أب ْ َ
(44
ْ
ساءِ م ِبال ْب َأ َ خذ َْناهُ ْ ك فَأ َ َ ن قَب ْل ِ َ ْ م
مم ٍ ِ
ُ
سل َْنا إ َِلى أ َ قد ْ أْر َ
} } { 45 - 42ول َ َ َ
َ
َ ْ َ
ت
س ْ نق َ َ عوا وَلك ِ ْ ضّر ُ سَنا ت َ َ م ب َأ ُ جاَءهُ ْ ول إ ِذ َْ ن * فل ْ َ عو َ ضّر ُ م ي َت َ َ ضّراِء ل َعَل ّهُ ْ َوال ّ
حَنا َ
ما ذ ُكُروا ب ِهِ فت َ ْ ّ سوا َ ما ن َ ُ َ َ
ن * فل ّ ملو َ ُ ما كاُنوا ي َعْ َ َ ن َ شي ْطا َُ م ال ّ َ
ن لهُ ُ م وََزي ّ َ قُُلوب ُهُ ْ
َ ُ َ
مذا هُ ْ ة فَإ ِ َ م ب َغْت َ ً خذ َْناهُ ْ ما أوُتوا أ َ حوا ب ِ َ ذا فَرِ ُ حّتى إ ِ َ يٍء َ ش ْ ل َ ب كُ ّ وا َ م أب ْ َ عَل َي ْهِ ْ
ن{. سو َ مب ْل ِ ُ
ُ
ن قَب ْل ِك { من المم السالفين، َ ُ َ ْ َ َ
ْ َ م ْ مم ٍ ِ سلَنا إ ِلى أ َ قد ْ أْر َ يقول تعالى } :وَل َ
ساِء ْ
م ِبالب َأ َ خذ َْناهُ ْ والقرون المتقدمين ،فكذبوا رسلنا ،وجحدوا بآياتنا } .فَأ َ
ضّراِء { أي :بالفقر والمرض والفات ،والمصائب ،رحمة منا بهم. َوال ّ
ن { إلينا ،ويلجأون عند الشدة إلينا. عو َ ضّر ُ م ي َت َ َ } ل َعَلهُ ْ
ّ
ْ
م { أي :استحجرت فل ت قُُلوب ُهُ ْ س ْ ن قَ َ عوا وَل َك ِ ْ ضّر ُ سَنا ت َ َ م ب َأ ُ جاَءهُ ْ ول إ ِذ ْ َ } فَل َ ْ
ن { فظنوا أن ما هم مُلو َ كاُنوا ي َعْ َ ما َ ن َ طا ُ شي ْ َ م ال ّ ن ل َهُ ُ تلين للحق } .وََزي ّ َ
عليه دين الحق ،فتمتعوا في باطلهم برهة من الزمان ،ولعب بعقولهم
الشيطان.
َ
يٍء { من الدنيا ولذاتها ش ْ ل َ ب كُ ّ وا َ م أب ْ َ حَنا عَل َي ْهِ ْ ما ذ ُك ُّروا ب ِهِ فَت َ ْ سوا َ ما ن َ ُ } فَل َ ّ
ة فَإ ِ َ َ ُ
ن { أي: سو َ مب ْل ِ ُ م ُ ذا هُ ْ م ب َغْت َ ً خذ َْناهُ ْ ما أوُتوا أ َ حوا ب ِ َ ذا فَرِ ُ حّتى إ ِ َ وغفلتهاَ } .
آيسون من كل خير ،وهذا أشد ما يكون من العذاب ،أن يؤخذوا على غرة،
وغفلة وطمأنينة ،ليكون أشد لعقوبتهم ،وأعظم لمصيبتهم.
) (1/256
ن )(45 ب ال َْعال َ ِ
مي َ مد ُ ل ِل ّهِ َر ّ موا َوال ْ َ
ح ْ ن ظ َل َ ُ قوْم ِ ال ّ ِ
ذي َ داب ُِر ال ْ َ فَ ُ
قط ِعَ َ
ن{. ب ال َْعال َ ِ
مي َ مد ُ ل ِل ّهِ َر ّ موا َوال ْ َ
ح ْ ن ظ َل َ ُ ذي َقوْم ِ ال ّ ِ
داب ُِر ال ْ َ
قط ِعَ َ} فَ ُ
موا { أي اصطلموا بالعذاب ،وتقطعت بهم َ
ن ظل َُ ذي َ ّ
قوْم ِ ال ِ ْ
داب ُِر ال َ قط ِعَ َ} فَ ُ
ن { على ما قضاه وقدره ،من هلك مي َ َ ْ
ب الَعال ِ ّ
مد ُ ل ِلهِ َر ّح ْ ْ
السبابَ } .وال َ
المكذبين .فإن بذلك ،تتبين آياته ،وإكرامه لوليائه ،وإهانته لعدائه ،وصدق
ما جاءت به المرسلون.
) (1/256
َ ن أَ َ قُ ْ َ َ
ه غَي ُْر ن إ ِل َ ٌ
م ْ م عََلى قُُلوب ِك ُ ْ
م َ خت َ َ
م وَ َ صاَرك ُ ْم وَأب ْ َمعَك ُ ْس ْ
ه َ خذ َ الل ّ ُ م إِ ْ ل أَرأي ْت ُ ْ
ف اْل َيات ث ُم هُم يصدُفون ) (46قُ ْ َ َ ْ
ل أَرأي ْت َك ُ ْ
م َ ْ َ ْ ِ َ ِ ّ صّر ُ ف نُ َم ب ِهِ ان ْظ ُْر ك َي ْ َ
الل ّهِ ي َأِتيك ُ ْ
م ال ّ ك إ ِّل ال ْ َل ي ُهْل َ ُ ذاب الل ّه بغْت ً َ إ َ
ن )(47 مو َظال ِ ُ قوْ ُ جهَْرةً هَ ْ ة أوْ َ ِ َ َ م عَ َ ُ ن أَتاك ُ ْ ِ ْ
) (1/256
ن
م َنآ َ م ْن فَ َ من ْذِِري َن وَ ُ ري َ
ش ِمب َ ّ
ن ِإل ُ سِلي َ
مْر َل ال ْ ُ
س ُما ن ُْر ِ } } { 49 ، 48وَ َ
ّ َ َ
م
سه ُ ُ
م ّ َ
ن كذ ُّبوا ِبآَيات َِنا ي َ َ ذي َ
ن * َوال ِ حَزُنو َم يَ ْم َول هُ ْ ف عَلي ْهِ ْ خوْ ٌ ح َفل َ صل َ َوَأ ْ
ن{. قو َ س ُف ُ ما َ
كاُنوا ي َ ْ ب بِ َ
ذا ُ ال ْعَ َ
يذكر تعالى ،زبدة ما أرسل به المرسلين؛ أنه البشارة والنذارة ،وذلك
مستلزم لبيان المبشر والمبشر به ،والعمال التي إذا عملها العبد ،حصلت
له البشارة .والمنذر والمنذر به ،والعمال التي من عملها ،حقت عليه
النذارة.
ولكن الناس انقسموا -بحسب إجابتهم لدعوتهم وعدمها -إلى قسمين:
َ
ح { أي :آمن بالله وملئكته ،وكتبه ،ورسله واليوم الخر، صل َ َن وَأ ْ م َنآ َ م ْ } فَ َ
م
م { فيما يستقبل } َول هُ ْ َ
ف عَلي ْهِ ْ
خوْ ٌوأصلح إيمانه وأعماله ونيته } َفل َ
ن { على ما مضى. حَزُنو َ يَ ْ
ما َ
كاُنوا ب { أي :ينالهم ،ويذوقونه } ب ِ َ ذا ُم ال ْعَ َ
سه ُ ُ ن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا ي َ َ
م ّ ذي َ } َوال ّ ِ
ن{. قو َ س ُ ف ُ يَ ْ
) (1/257
مل َ ٌ
ك م إ ِّني َل ل َك ُ ْ ب وََل أ َُقو ُ م ال ْغَي ْ َ
َ
ن الل ّهِ وََل أعْل َ ُ
خَزائ ِ ُ
دي َ عن ْ ِ
م ِ ل َل أ َُقو ُ
ل ل َك ُ ْ قُ ْ
َ
صيُر أفََل ت َت َ َ َ َ
ن) فك ُّرو َ مى َوال ْب َ ِ وي اْلعْ َ ست َ ِ ل هَ ْ
ل يَ ْ حى إ ِل َ ّ
ي قُ ْ ما ُيو َ ن أت ّب ِعُ إ ِّل َ إِ ْ
(50
ل ل َك ُ ْ
م ب َول أ َُقو ُ م ال ْغَي ْ َ
َ
ن الل ّهِ َول أعْل َ ُ خَزائ ِ ُدي َ عن ْ ِ ل ل َك ُ ْ
م ِ ل ل أ َُقو ُ } } { 50قُ ْ
َ ْ َ كإ َ
صيُر أَفل مى َوالب َ ِ وي العْ َ ست َ ِ
ل يَ ْ ل هَ ْ ي قُ ْ حى إ ِل ّ ما ُيو َ ن أت ّب ِعُ ِإل َ مل َ ٌ ِ ْ إ ِّني َ
ن{. فك ُّرو َت َت َ َ
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ المقترحين ) (1عليه اليات ،أو
نخَزائ ِ ُدي َ عن ْ ِم ِ ل ل َك ُ ْ القائلين له :إنما تدعونا لنتخذك إلها مع اللهَ } .ول أ َُقو ُ
َ
ب { وإنما ذلك كله عند م ال ْغَي ْ َ الل ّهِ { أي :مفاتيح رزقه ورحمتهَ } .ول أعْل َ ُ
الله فهو الذي ما يفتح للناس من رحمة فل ممسك لها وما يمسك فل
مرسل له من بعده ،وهو وحده عالم الغيب والشهادة .فل يظهر على غيبه
أحدا إل من ارتضى من رسول.
ك { فأكون نافذ التصرف قويا ،فلست أدعي فوق مل َ ٌ م إ ِّني َ ل ل َك ُ ْ} َول أ َُقو ُ
منزلتي ،التي أنزلني الله بها } .إ َ
ي { أي :هذا غايتي حى إ ِل َ ّ ما ُيو َ ن أت ّب ِعُ ِإل َ ِ ْ
ومنتهى أمري وأعله ،إن أتبع إل ما يوحى إلي ،فأعمل به في نفسي،
وأدعو الخلق كلهم إلى ذلك.
فإذا عرفت منزلتي ،فلي شيء يبحث الباحث معي ،أو يطلب مني أمرا
لست أدعيه ،وهل يلزم النسان ،بغير ما هو بصدده؟.
ولي شيء إذا دعوتكم ،بما أوحي إلي أن تلزموني أني أدعي لنفسي غير
مرتبتي .وهل هذا إل ظلم منكم ،وعناد ،وتمرد؟ قل لهم في بيان الفرق،
بين من قبل دعوتي ،وانقاد لما أوحي إلي ،وبين من لم يكن كذلك } قُ ْ
ل
ن { فتنزلون الشياء منازلها، فك ُّرو َ صيُر أ ََفل ت َت َ َ مى َوال ْب َ ِ وي العْ َ ست َ ِ هَ ْ
ل يَ ْ
وتختارون ما هو أولى بالختيار واليثار؟
__________
) (1زاد هنا في طبعة السلفية قبل كلمة المقترحين) :أن يخاطب(
المقترحين.
) (1/257
ي وََل خاُفو َ َ
دون ِهِ وَل ِ ّن ُ م ْ م ِ س ل َهُ ْم ل َي ْ َشُروا إ َِلى َرب ّهِ ْ ح َن يُ ْنأ ْ َ ن يَ َ ذي َ وَأن ْذِْر ب ِهِ ال ّ ِ
يش ّ داةِ َوال ْعَ ِ م ِبال ْغَ َ ن َرب ّهُ ْعو َ ن ي َد ْ ُذي َن ) (51وََل ت َط ُْردِ ال ّ ِ قو َ م ي َت ّ ُ فيعٌ ل َعَل ّهُ ْ ش ِ َ
ن
م ْم ِ َ َ
ساب ِك عَلي ْهِ ْ ح َ ن ِ م ْ ما ِ يٍء وَ َ ش ْ ن َ م ْم ِ ساب ِهِ ْ ح َن ِ م ْ َ َ
ما عَلي ْك ِ ه َ جه َ ُ ن وَ ْ دو َ ري ُ يُ ِ
ن )(52 مي َ ّ
ن الظال ِ ِ م َن ِ ُ
م فَت َكو َ ْ
يٍء فَت َطُرد َهُ ْ ش ْ َ
خاُفو َ َ
س ل َهُ ْ
م م ل َي ْ َ شُروا إ َِلى َرب ّهِ ْ ح َ ن يُ ْ نأ ْ َ ن يَ َ ذي َ } } { 55 - 51وَأن ْذِْر ب ِهِ ال ّ ِ
ة م ِبال ْغَ َ
دا ِ ن َرب ّهُ ْ عو َ ن ي َد ْ ُ ذي َ ن * َول ت َط ُْردِ ال ّ ِ قو َ م ي َت ّ ُ فيعٌ ل َعَل ّهُ ْ ش ِي َول َ دون ِهِ وَل ِ ّ ن ُ م ْ ِ
ساب ِكَ ح َ ن ِم ْ ما ِ يٍء وَ َ ش ْ ن َ م ْ م ِ ساب ِهِ ْ ح َ ن ِ م ْ َ
ما عَلي ْك ِ َ ه َ جهَ ُ ن وَ ْ دو َ ري ُ ي يُ ِ ش ّ َوالعَ ِ ْ
ن{. مي َ ّ
ن الظال ِ ِ م َ ن ِ م فَت َكو َُ ْ
يٍء فَت َطُرد َهُ ْ ش ْ ن َ م ْ م ِ عَل َي ْهِ ْ
َ
ن
نأ ْ خاُفو َ ن يَ َ ذي َ هذا القرآن نذارة للخلق كلهم ،ولكن إنما ينتفع به } ال ّ ِ
م { فهم متيقنون للنتقال ،من هذه الدار ،إلى دار القرار، شُروا إ َِلى َرب ّهِ ْ ح َ يُ ْ
دون ِهِ { ن ُ م ْ م ِس لهُ ْ َ َ
عون ما يضرهم } .لي ْ َ فلذلك يستصحبون ما ينفعهم ويد َ ُ
صل لهم فيعٌ { أي :من يتولى أمرهم فيح ّ ش ِ ي َول َ أي :ل من دون الله } وَل ِ ّ
المطلوب ،ويدفع عنهم المحذور ،ول من يشفع لهم ،لن الخلق كلهم،
ن { الله ،بامتثال أوامره ،واجتناب قو َ م ي َت ّ ُ ليس لهم من المر شيء } .ل َعَل ّهُ ْ
نواهيه ،فإن النذار موجب لذلك ،وسبب من أسبابه.
ه { أي :ل جهَ ُ ن وَ ْ دو َ ري ُ ي يُ ِ ش ّ داةِ َوال ْعَ ِ م ِبال ْغَ َ ن َرب ّهُ ْ عو َ ن ي َد ْ ُ ذي َ } َول ت َط ُْردِ ال ّ ِ
تطرد عنك ،وعن مجالستك ،أهل العبادة والخلص ،رغبة في مجالسة
غيرهم ،من الملزمين لدعاء ربهم ،دعاء العبادة بالذكر والصلة ونحوها،
ودعاء المسألة ،في أول النهار وآخره ،وهم قاصدون بذلك وجه الله ،ليس
لهم من الغراض سوى ذلك الغرض الجليل ،فهؤلء ليسوا مستحقين
للطرد والعراض عنهم ،بل مستحقون لموالتهم ومحبتهم ،وإدنائهم،
وتقريبهم ،لنهم الصفوة من الخلق وإن كانوا فقراء ،والعزاء في الحقيقة
وإن كانوا ] ص [ 258عند الناس أذلء.
يٍء { أي: ش ْ ن َ م ْ م ِ َ
ساب ِك عَلي ْهِ ْ َ ح َ ن ِ م ْ ما ِ يٍء وَ َ ش ْ ن َ م ْ م ِ ساب ِهِ ْ ح َ ن ِ م ْ ك ِ ما عَل َي ْ َ } َ
ن
م َ ن ِ ُ
م فَت َكو َ ْ
ل له حسابه ،وله عمله الحسن ،وعمله القبيح } .فَت َطُرد َهُ ْ ك ّ
ن { وقد امتثل صلى الله عليه وسلم هذا المر ،أشد امتثال ،فكان مي َ ّ
الظال ِ ِ
سه معهم ،وأحسن معاملتهم ،وألن إذا جلس الفقراء من المؤمنين صبر نف َ
قه ،وقربهم منه ،بل كانوا هم أكثر أهل مجلسه رضي لهم جانبه ،وحسن خل َ
الله عنهم.
وكان سبب نزول هذه اليات ،أن أناسا ]من قريش ،أو[ من أجلف العرب
قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم :إن أردت أن نؤمن لك ونتبعك ،فاطرد
فلنا وفلنا ،أناسا من فقراء الصحابة ،فإنا نستحيي أن ترانا العرب
جالسين مع هؤلء الفقراء ،فحمله حبه لسلمهم ،واتباعهم له ،فحدثته
نفسه بذلك .فعاتبه الله بهذه الية ونحوها.
) (1/257
َ َ
س الل ّ ُ
ه ن ب َي ْن َِنا أل َي ْ َم ْ م ِ ه عَل َي ْهِ ْ ن الل ّ ُم ّقوُلوا أهَؤَُلِء َ ض ل ِي َ ُ ٍ م ب ِب َعْ ك فَت َّنا ب َعْ َ
ضه ُ ْ وَك َذ َل ِ َ
ن ب ِآ ََيات َِنا فَ ُ َ
م عَل َي ْك ُ ْ
م سَل ٌل َ ق ْ مُنو َ ن ي ُؤْ ِذي َك ال ّ ِجاَء َ ذا َ ن ) (53وَإ ِ َ ري َ
ِ شاك ِم ِبال ّ ب ِأعْل َ َ
فسه الرحم َ َ
نم ْ ب ِ م َتا َ جَهال َةٍ ث ُ ّ سوًءا ب ِ َ م ُ من ْك ُ ْ
ل ِ م َ ن عَ ِم ْ ه َ ة أن ّ ُ م عََلى ن َ ْ ِ ِ ّ ْ َ ب َرب ّك ُ ْ ك َت َ َ
َ َ
سِبي ُ
ل ن َ
ست َِبي َ ل اْل ََيا ِ
ت وَل ِت َ ْ ص ُ
ف ّ م ) (54وَك َذ َل ِ َ
ك نُ َ حي ٌ ه غَ ُ
فوٌر َر ِ صل َ َ
ح فَأن ّ ُ ب َعْدِهِ وَأ ْ
ن )(55 مي َ جرِ ِ ال ْ ُ
م ْ
َ قوُلوا أ َهَ ُ
ن ب َي ْن َِنا أل َي ْ َ
س م ْ م ِ ه عَل َي ْهِ ْ ن الل ّ ُ م ّ ؤلِء َ ض ل ِي َ ُ م ب ِب َعْ ٍ ضه ُ ْ ك فَت َّنا ب َعْ َ } وَك َذ َل ِ َ
الل ّ َ
م عَل َي ْك ُ ْ
م سل ٌ ل َ ق ْ ن ِبآَيات َِنا فَ ُ مُنو َ ن ي ُؤْ ِ ذي َ ك ال ّ ِ جاَء َ ذا َ ن * وَإ ِ َ ري َ ِ شاك ِ م ِبال ّ ه ب ِأعْل َ َ ُ
َ ُ َ َ ُ
ن
م ْ ب ِ م َتا َ ُ
جَهالةٍ ث ّ سوًءا ب ِ َ م ُ من ْك ْ مل ِ َ ن عَ ِ م ْ ه َ ة أن ّ ُ م َ ح َ سهِ الّر ْ ف ِ م عَلى ن َ ْ ب َرب ّك ْ ك َت َ َ
َ َ
سِبي ُ
ل ن َ ست َِبي َ ت وَل ِت َ ْ ل الَيا ِ ص ُ ف ّ ك نُ َ م * وَك َذ َل ِ َ حي ٌ فوٌر َر ِ ه غَ ُ ح فَأن ّ ُ صل َ َ ب َعْدِهِ وَأ ْ
ن{. مي َ جرِ ِ م ْ ال ْ ُ
َ
ن ب َي ْن َِنا { أي: م ْ م ِ ه عَل َي ْهِ ْ ن الل ّ ُ م ّ ؤلِء َ قوُلوا أهَ ُ ض ل ِي َ ُ م ب ِب َعْ ٍ ضه ُ ْ ك فَت َّنا ب َعْ َ } وَك َذ َل ِ َ
هذا من ابتلء الله لعباده ،حيث جعل بعضهم غنيا؛ وبعضهم فقيرا ،وبعضهم
ن الله باليمان على الفقير أو الوضيع؛ .كان م ّ شريفا ،وبعضهم وضيعا ،فإذا َ
ذلك محل محنة للغني والشريف فإن كان قصده الحق واتباعه ،آمن
وأسلم ،ولم يمنعه من ذلك مشاركه الذي يراه دونه بالغنى أو الشرف،
وإن لم يكن صادقا في طلب الحق ،كانت هذه عقبة ترده عن اتباع الحق.
ن ب َي ْن َِنا { م ْ م ِ ه عَل َي ْهِ ْ ن الل ّ ُ م ّ ؤلءِ َ وقالوا محتقرين لمن يرونهم دونهم } :أ َهَ ُ
فمنعهم هذا من اتباع الحق ،لعدم زكائهم ،قال الله مجيبا لكلمهم
َ
المتضمن العتراض على الله في هداية هؤلء ،وعدم هدايتهم هم } .أل َي ْ َ
س
الل ّ َ
ن { الذين يعرفون النعمة ،ويقرون بها ،ويقومون بما ري َ شاك ِ ِ م ِبال ّ ه ب ِأعْل َ َ ُ
تقتضيه من العمل الصالح ،فيضع فضله ومنته عليهم ،دون من ليس
بشاكر ،فإن الله تعالى حكيم ،ل يضع فضله عند من ليس له بأهل ،وهؤلء
ن الله عليهم باليمان ،من الفقراء م ّ المعترضون بهذا الوصف ،بخلف من َ
َ
وغيرهم فإنهم هم الشاكرون.ولما نهى الله رسوله ،عن طرد المؤمنين
مره بمقابلتهم بالكرام والعظام ،والتبجيل والحترام ،فقال: القانتين ،أ َ
م { أي :وإذا جاءك ُ
م عَلي ْك ْ َ سل ٌ ل َ ق ْ ن ِبآَيات َِنا فَ ُ مُنو َ ن ي ُؤْ ِ ذي َ ّ
جاَءك ال ِ َ ذا َ } وَإ ِ َ
قهم منك تحية وسلما ،وبشرهم بما َ
حب بهم ول ّ حّيهم ور ّ المؤمنون ،ف َ
سعة جوده وإحسانه ،وحثهم ينشط عزائمهم وهممهم ،من رحمة الله ،و َ
على كل سبب وطريق ،يوصل لذلك.
مْرهم بالتوبة من المعاصي ،لينالوا ْ
وَرهّْبهم من القامة على الذنوب ،وأ ُ
فسه الرحم َ َ
نم ْه َ ة أن ّ ُ م عََلى ن َ ْ ِ ِ ّ ْ َ ب َرب ّك ُ ْ مغفرة ربهم وجوده ،ولهذا قال } :ك َت َ َ
َ
ح { أي :فل بد مع ترك صل َ َ ن ب َعْدِهِ وَأ ْ م ْ ب ِ م َتا َ جَهال َةٍ ث ُ ّ سوًءا ب ِ َ م ُ من ْك ُ ْ ل ِ م َ عَ ِ
الذنوب والقلع ،والندم عليها ،من إصلح العمل ،وأداء ما أوجب الله،
وإصلح ما فسد من العمال الظاهرة والباطنة.
ه غَ ُ َ
م { أي :صب عليهم من مغفرته حي ٌ فوٌر َر ِ فإذا وجد ذلك كله } فَأن ّ ُ
ورحمته،بحسب ما قاموا به ،مما أمرهم به.
ت { أي :نوضحها ونبينها ،ونميز بين طريق الهدى من ل الَيا ِ ص ُ ف ّ ك نُ َ } وَك َذ َل ِ َ
الضلل ،والغي والرشاد ،ليهتدي بذلك المهتدون ،ويتبين الحق الذي ينبغي
ن { الموصلة إلى سخط الله وعذابه، مي َ جرِ ِ م ْ ل ال ْ ُ سِبي ُ ن َ ست َِبي َ سلوكه } .وَل ِت َ ْ
فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت ،أمكن اجتنابها ،والبعد منها،
بخلفما لو كانت مشتبهة ملتبسة ،فإنه ل يحصل هذا المقصود الجليل.
) (1/258
َ َ ل إني نهيت أ َ َ
م قَد ْ ل َل أت ّب ِعُ أهْ َ
واَءك ُ ْ ن الل ّهِ قُ ْ دو ِ ن ُ م ْ ن ِ عو َ ن ت َد ْ ُ ذي َ ن أعْب ُد َ ال ّ ِ قُ ْ ِ ّ ُ ِ ُ ْ
َ ْ َ
ه
م بِ ِ َ
ن َرّبي وَكذ ّب ْت ُ ْ م ْ ل إ ِّني عَلى ب َي ّن َةٍ ِ ن ) (56قُ ْ دي َ مهْت َ ِ ن ال ُ م َ ما أَنا ِ ذا وَ َ ت إِ ً ضل َل ْ ُ
َ
ن
صِلي َ فا ِ ْ
خي ُْر ال َ
حقّ وَهُوَ َ ْ
ص ال َ ق ّ ّ
م إ ِل ل ِلهِ ي َ ُ ّ حك ُْ ْ
ن ال ُ ن ب ِهِ إ ِ ِ جلو َُ ست َعْ ِ ما ت َ ْ دي َ عن ْ ِما ِ َ
هّ ل وال م ُ ك ن ي ب و نيِ ي ب ر مَ ْ
ل ا ي ض ُ ق َ ل ه ب ن ُ
لو ج ع ت س ت ما دي نعِ ن َ أ وَ ل لْ ُ ق ( 57 )
ْ َ ُ َ ْ َ َ ْ َ ْ ُ َ ِ ِ ِ َ ْ ِْ َ َ َ ِ ْ ّ ْ
ن )(58 ّ َ َ
مي َ م ِبالظال ِ ِ أعْل ُ
ن الل ّهِ قُ ْ ل إني نهيت أ َ َ
لل دو ِ ن ُ م ْ ن ِ عو َ ن ت َد ْ ُ ذي َ ن أعْب ُد َ ال ّ ِ } } { 58 - 56قُ ْ ِ ّ ُ ِ ُ ْ
َ َ َ
ن
م ْ ل إ ِّني عََلى ب َي ّن َةٍ ِ ن * قُ ْ دي َ مهْت َ ِ ن ال ْ ُ م َ ما أَنا ِ ذا وَ َ ت إِ ًضل َل ْ ُ م قَد ْ َ واَءك ُ ْ أت ّب ِعُ أهْ َ
و
حقّ وَهُ َ ص ال ْ َ ق ّ م ِإل ل ِل ّهِ ي َ ُ حك ْ ُ ن ال ْ ُ ن ب ِهِ إ ِ ِ جُلو َ ست َعْ ِما ت َ ْ دي َ عن ْ ِما ِ م ب ِهِ َ َرّبي وَك َذ ّب ْت ُ ْ
ن ب ِهِ ل َ ُ َ
ممُر ب َي ِْني وَب َي ْن َك ُ ْ ي ال ْ ض َ ق ِ جُلو َ ست َعْ ِ ما ت َ ْ دي َ عن ْ ِ
ن ِ ل ل َوْ أ ّ ن * قُ ْ صِلي َ فا ِ خي ُْر ال ْ َ َ
ن{. ّ َ َ ّ
مي َ م ِبالظال ِ ِ ه أعْل ُ َوالل ُ
ل { لهؤلء المشركين الذين يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم } :قُ ْ
ن ّ يدعون مع الله آلهة أخرى } :إني نهيت أ َ َ
دو ِ ن ُ م ْ ن ِ عو َ ن ت َد ْ ُ ذي َ ن أعْب ُد َ ال ِ ِّ ُ ِ ُ ْ
الل ّهِ { من النداد والوثان ،التي ل تملك نفعا ول ضرا ،ول موتا ول حياة ول
نشورا ،فإن هذا باطل ،وليس لكم فيه حجة بل ول شبهة ،ول اتباع الهوى
َ َ
تضل َل ْ ُم قَد ْ َ واَءك ُ ْ ل ل أت ّب ِعُ أهْ َ الذي اتباعه أعظم الضلل ،ولهذا قال } قُ ْ
َ
ن { بوجه من الوجوه. دي َ مهْت َ ِن ال ْ ُ م َ ما أَنا ِ ذا { أي :إن اتبعت أهواءكم } وَ َ إِ ً
وأما ما أنا عليه ،من توحيد الله وإخلص العمل له ،فإنه هو الحق الذي
تقوم عليه البراهين والدلة القاطعة.
ن َرّبي { أي :على يقين مبين ،بصحته ،وبطلن ما عداه، م ْ وأنا } عََلى ب َي ّن َةٍ ِ
وهذه شهادة من الرسول جازمة ،ل تقبل التردد ،وهو أعدل الشهود على
الطلق .فصدق بها المؤمنون ،وتبين لهم من صحتها وصدقها ،بحسب ما
ن الله به عليهم. م ّ َ
} وَ { لكنكم أيها المشركون } -كذبتم به { وهو ل يستحق هذا منكم ،ول
يليق به إل التصديق ،وإذا استمررتم ) (1علىتكذيبكم ،فاعلموا أن العذاب
واقع بكم ل محالة ،وهو عند الله ،هو الذي ينزله عليكم ،إذا شاء ،وكيف
م ِإل ل ِل ّهِ { حك ْ ُ ن ال ْ ُ شاء ،وإن استعجلتم به ،فليس بيدي من المر شيء } إ ِ ِ
فكما أنه هو الذي حكم بالحكم الشرعي ،فأمر ونهى ،فإنه سيحكم بالحكم
الجزائي ،فيثيب ويعاقب ،بحسب ما تقتضيه حكمته .فالعتراض على
حكمه مطلقا مدفوع ،وقد أوضح السبيل ،وقص على عباده ] ص [ 259
الحق قصا ،قطع به معاذيرهم ،وانقطعت له حجتهم ،ليهلك من هلك عن
ن { بين عباده ،في الدنيا صِلي َ فا ِ خي ُْر ال ْ َ بينة ،ويحيا من حي عن بينة } وَهُوَ َ
والخرة ،فيفصل بينهم فصل يحمده عليه ،حتى من قضى عليه ،ووجه
الحق نحوه.
َ َ
ما دي َ عن ْ ِ ن ِ } ُقل { للمستعجلين بالعذاب ،جهل وعنادا وظلما } ،لوْ أ ّ
م { فأوقعته بكم ول خير لكم في مُر ب َي ِْني وَب َي ْن َك ُ ْ ي ال ْ ض َ ق ِ ن ب ِهِ ل َ ُجُلو َ ست َعْ ِ تَ ْ
ذلك ،ولكن المر ،عند الحليم الصبور ،الذي يعصيه العاصون ،ويتجرأ عليه
المتجرئون ،وهو يعافيهم ،ويرزقهم ،ويسدي عليهم نعمه ،الظاهرة
م ِبال ّ والباطنة } .والل ّ َ
ن { ل يخفى عليه من أحوالهم شيء، مي َظال ِ ِ ه أعْل َ ُ َ ُ
فيمهلهم ول يهملهم.
__________
) (1كذا في ب ،وفي أ :استمريتم.
) (1/258
ق ُ
ط س ُما ت َ ْ ما ِفي ال ْب َّر َوال ْب َ ْ
حرِ وَ َ م َمَها إ ِّل هُوَ وَي َعْل َ ُ
ب َل ي َعْل َ ُ
ح ال ْغَي ْ ِ فات ِ ُ
م َعن ْد َهُ َ
وَ ِ
س إ ِّل ِفي ت اْلْرض وََل َرط ْ ٍ َ َ
ب وَل َياب ِ ٍ ِ ما ِ حب ّةٍ ِفي ظ ُل ُ َ مَها وََل َ ن وََرقَةٍ إ ِّل ي َعْل َ ُ م ِْ
ن )(59 كِ َ ٍ ُ ِ ٍ
بيم ب تا
ر
ح ِما ِفي ال ْب َّر َوال ْب َ ْ مَها ِإل هُوَ وَي َعْل َ ُ
م َ ب ل ي َعْل َ ُ
ح ال ْغَي ْ ِفات ِ ُم َ
عن ْد َهُ َ} } { 59وَ ِ
ب َول ْ
ض َول َرط ٍ ُ ُ َ
ن وََرقَةٍ ِإل ي َعْل ُ ق ُ
ت الْر ِ ما ِ حب ّةٍ ِفي ظل َ مَها َول َ م ْ ط ِ س ُ
ما ت َ ْوَ َ
ن{. مِبي ٍ ب ُ س ِإل ِفي ك َِتا ٍ َياب ِ ٍ
هذه الية العظيمة ،من أعظم اليات تفصيل لعلمه المحيط ،وأنه شامل
للغيوب كلها ،التي يطلع منها ما شاء من خلقه .وكثير منها طوى علمه عن
الملئكة المقربين ،والنبياء المرسلين ،فضل عن غيرهم من العالمين ،وأنه
يعلم ما في البراري والقفار ،من الحيوانات ،والشجار ،والرمال والحصى،
والتراب ،وما في البحار من حيواناتها ،ومعادنها ،وصيدها ،وغير ذلك مما
تحتويه أرجاؤها ،ويشتمل عليه ماؤها.
ن وََرقَةٍ { من أشجار البر والبحر ،والبلدان والقفر ،والدنيا م ْط ِ ق ُ س ُما ت َ ْ} وَ َ
ض { من حبوب الثمار ُ ُ َ
ت الْر ِ ما ِحب ّةٍ ِفي ظل َ مَها َول َ والخرة } ِإل ي َعْل ُ
والزروع ،وحبوب البذور التي يبذرها الخلق؛ وبذور النوابت البرية التيينشئ
منها أصناف النباتات.
ن{ مِبي ٍ ب ُ س { هذا عموم بعد خصوص } ِإل ِفي ك َِتا ٍ ب َول َياب ِ ٍ } َول َرط ْ ٍ
وهو اللوح المحفوظ ،قد حواها ،واشتمل عليها ،وبعض هذا المذكور ،يبهر
عقول العقلء ،ويذهل أفئدة النبلء ،فدل هذا على عظمة الرب العظيم
وسعته ،في أوصافه كلها.
وأن الخلق -من أولهم إلى آخرهم -لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض
صفاته ،لم يكن لهم قدرة ول وسع في ذلك ،فتبارك الرب العظيم ،الواسع
العليم ،الحميد المجيد ،الشهيد ،المحيط.
ن إله ،ل يحصي أحد ثناء عليه ،بل كما أثنى على نفسه ،وفوق ما م ْ وجل ِ
يثني عليه عباده ،فهذه الية ،دلت على علمه المحيط بجميع الشياء،
وكتابه المحيط بجميع الحوادث.
) (1/259
ضى ق َ م ِفيهِ ل ِي ُ ْ م ي َب ْعَث ُك ُ ْ م ِبالن َّهارِ ث ُ ّ حت ُ ْ جَر ْ ما َ م َ ل وَي َعْل َ ُ م ِبالل ّي ْ ِ ذي ي َت َوَّفاك ُ ْ وَهُوَ ال ّ ِ
ن ) (60وَهُوَ ال ْ َ َ
قاهُِر مُلو َ م ت َعْ َ ما ك ُن ْت ُ ْم بِ َ م ي ُن َب ّئ ُك ُ ْ م ثُ ّ جعُك ُ ْ مْر ِ م إ ِل َي ْهِ َ مى ث ُ ّ س ّ م َ ل ُ ج ٌأ َ
سل َُنا َ
ه ُر ُ ت ت َوَفّت ْ ُموْ ُ م ال ْ َ حد َك ُ ُ جاءَ أ َ ذا َ حّتى إ ِ َ ة َ فظ َ ً ح َ م َ ل عَل َي ْك ُ ْ س ُ عَبادِهِ وَي ُْر ِ فَوْقَ ِ
ْ ْ َ َ َ ْ َ ّ َ ُ م َل ي ُ َ
و
م وَهُ َ حك ُ ه ال ُ حق ّ أل ل ُ م ال َ موْلهُ ُ دوا إ ِلى اللهِ َ م ُر ّ ن ) (61ث ُ ّ فّرطو َ وَهُ ْ
ن )(62 ْ َ
سِبي َ حا ِسَرعُ ال َ أ ْ
م ِبالن َّهارِ ث ُ ّ
م حت ُ ْجَر ْ ما َ م َ ل وَي َعْل َ ُ م ِبالل ّي ْ ِ ذي ي َت َوَّفاك ُ ْ} } { 62 - 60وَهُوَ ال ّ ِ
َ
ما ك ُن ْت ُ ْ
م م بِ َم ي ُن َب ّئ ُك ُ ْ
م ثُ ّجعُك ُ ْ م إ ِل َي ْهِ َ
مْر ِ مى ث ُ ّ س ّ م َ
ل ُ ج ٌ ضى أ َ ق َم ِفيهِ ل ِي ُ ْ ي َب ْعَث ُك ُ ْ
جاَء ذا َ حّتى إ ِ َ ة َ فظ َ ً ح َ
م َ ل عَل َي ْك ُ ْ س ُ عَبادِهِ وَي ُْر ِ قاهُِر فَوْقَ ِ ن * وَهُوَ ال ْ َ مُلو َ ت َعْ َ
َ
م
ولهُ ُ م ْ دوا إ َِلى الل ّهِ َ م ُر ّن * ثُ ّ طو َ فّر ُ م ل يُ َ سل َُنا وَهُ ْ ه ُر ُ ت ت َوَفّت ْ ُ موْ ُ م ال ْ َ حد َك ُ ُ أ َ
َ َ
ن{. سِبي َ حا ِ سَرعُ ال ْ َ م وَهُوَ أ ْ حك ْ ُ ه ال ْ ُ حقّ أل ل َ ُ ال ْ َ
هذا كله ،تقرير للوهيته ،واحتجاج على المشركين به ،وبيان أنه تعالى
المستحق للحب والتعظيم ،والجلل والكرام ،فأخبر أنه وحده ،المتفرد
بتدبير عباده ،في يقظتهم ومنامهم ،وأنه يتوفاهم بالليل ،وفاة النوم ،فتهدأ
حركاتهم ،وتستريح أبدانهم ،ويبعثهم في اليقظة من نومهم ،ليتصرفوا في
مصالحهم الدينية والدنيوية وهو -تعالى -يعلم ما جرحوا وما كسبوا من تلك
العمال .ثم ل يزال تعالى هكذا ،يتصرف فيهم ،حتى يستوفوا آجالهم.
فيقضى بهذا التدبير ،أجل مسمى ،وهو :أجل الحياة ،وأجل آخر فيما بعد
م { ل إلى غيره جعُك ُ ْ م إ ِل َي ْهِ َ
مْر ِ ذلك ،وهو البعث بعد الموت ،ولهذا قال } :ث ُ ّ
ن { من خير وشر. مُلو َ م ت َعْ َ ما ك ُن ْت ُ ْ م بِ َ م ي ُن َب ّئ ُك ُ ْ } ثُ ّ
عَبادِهِ { ينفذ فيهم إرادته الشاملة ،ومشيئته قاهُِر فَوْقَ ِ } وَهُوَ { تعالى } ال ْ َ
العامة ،فليسوا يملكون من المر شيئا ،ول يتحركون ول يسكنون إل بإذنه،
ة من الملئكة ،يحفظون العبد ويحفظون ومع ذلك ،فقد وكل بالعباد حفظ ً
ن* ما كات ِِبي ََ ن * ك َِرا ً ظي َحافِ ِ َ
مل َ ُ َ
ن عَلي ْك ْ عليه ما عمل ،كما قال تعالى } :وَإ ِ ّ
لن قَوْ ٍ م ْ فظ ِ ُ ْ
ما ي َل ِ ل قَِعيد ٌ * َما ِ ش َ ن ال ّ ن ال ْي َ ِ فعَُلو َ ي َعْل َ ُ
ن وَعَ ِ مي ِ ن { } عَ ِ ما ت َ ْ ن َ مو َ
ب عَِتيد ٌ { فهذا حفظه لهم في حال الحياة ِإل ل َد َي ْهِ َرِقي ٌ
سل َُنا { أي الملئكة الموكلون بقبض َ
ه ُر ُ ت ت َوَفّت ْ ُ موْ ُ م ال ْ َ حد َك ُ ُ جاَء أ َ ذا َ حّتى إ ِ َ } َ
ن { في ذلك فل يزيدون ساعة مما قدره الله فّرطو َ ُ م ل يُ َ الرواح } وَهُ ْ
وقضاه ول ينقصون ول ينفذون من ذلك إل بحسب المراسيم اللهية
والتقادير الربانية
دوا إ َِلى م { بعد الموت والحياة البرزخية وما فيها من الخير والشر } ُر ّ } ثُ ّ
حقّ { أي الذي تولهم بحكمه القدري فنفذ فيهم ما شاء من م ال ْ َ ولهُ ُ م ْ الل ّهِ َ
أنواع التدبير ثم تولهم بأمره ونهيه وأرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم
الكتب ثم ردوا إليه ليتولى الحكم فيهم بالجزاء ويثيبهم على ما عملوا من
َ
م{ حك ْ ُ ه ال ْ ُ الخيرات ويعاقبهم على الشرور والسيئات َولهذا قال } أل ل َ ُ
َ
ن { لكمال علمه وحفظه لعمالهم سِبي َ حا ِ سَرعُ ال ْ َ وحده ل شريك له } وَهُوَ أ ْ
بما أثبتته في اللوح المحفوظ ثم أثبته ملئكته في الكتاب الذي بأيديهم
فإذا كان تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير وهو القاهر فوق عباده وقد
اعتنى بهم كل العتناء في جميع أحوالهم وهو الذي له الحكم القدري
ل عن من هذا والحكم الشرعي والحكم الجزائي فأين للمشركين العدو ُ
وصفه ونعته إلى عبادة من ليس له من المر شيء ول عنده مثقال ذرة
من النفع ول له قدرة وإرادة؟
أما والله لو علموا حلم الله عليهم وعفوه ورحمته بهم وهم يبارزونه
بالشرك والكفران ويتجرءون على عظمته بالفك والبهتان وهو يعافيهم
] ص [ 260ويرزقهم لنجذبت دواعيهم إلى معرفته وذهلت عقولهم في
حبه ولمقتوا أنفسهم أشد المقت حيث انقادوا لداعي الشيطان الموجب
للخزي والخسران ولكنهم قوم ل يعقلون.
) (1/259
ة ل َئ ِ َ
جاَنا
ن أن ْ َْ في َ ً
خ ْ
عا وَ ُضّر ً ه تَ َ عون َ ُ حرِ ت َد ْ ُت ال ْب َّر َوال ْب َ ْما ِن ظ ُل ُ َ
م ْم ِ جيك ُ ْن ي ُن َ ّ
م ْ ل َ قُ ْ
ب َ
ل كْر ٍ نك ُّ م ْمن َْها وَ ِ
م ِ ُ
جيك ْ ه ي ُن َ ّ ّ
ل الل ُ ن ) (63قُ ِ ري َ شاك ِ ِن ال ّ م َن ِ ُ َ
ن هَذِهِ لن َكون َ ّ م ْ ِ
ُ َ
ن )(64 شرِكو َ م تُ ْ م أن ْت ُ ْ ثُ ّ
عا ضّر ً ه تَ َ عون َ ُ حرِ ت َد ْ ُت ال ْب َّر َوال ْب َ ْ ما ِ ن ظ ُل ُ َ م ْ م ِ جيك ُ ْ ن ي ُن َ ّم ْ
ل َ } } { 64 - 63قُ ْ
ة ل َئ ِ َ
من َْها م ِ جيك ُ ْ ل الل ّ ُ
ه ي ُن َ ّ ن * قُ ِ ري َ شاك ِ ِ ن ال ّ م َ ن ِ كون َ ّ ن هَذِهِ ل َن َ ُ م ْ جاَنا ِ ن أن ْ َ ْ في َ ًخ ْ وَ ُ
ن{. ُ م تُ ْ َ ُ َ ّ ُ
شرِكو َ م أن ْت ُ ْ بث ّ ن كل كْر ٍ م ْ وَ ِ
ل { للمشركين بالله ،الداعين معه آلهة أخرى ،ملزما لهم بما ُ
أي } ق ْ
م ُ
جيك ْ ن ي ُن َ ّ م ْ أثبتوه من توحيد الربوبية ،على ما أنكروا من توحيد اللهية } َ
حرِ { أي :شدائدهما ومشقاتهما ،وحين يتعذر أو ت ال ْب َّر َوال ْب َ ْ ما ِ ن ظ ُل ُ َ م ْ ِ
دعون ربكم تضرعا بقلب خاضع ،ولسان ل يتعسر عليكم وجه الحيلة ،فت ْ
جاَنا َ َ
ن أن ْ َ يزال يلهج بحاجته في الدعاء ،وتقولون وأنتم في تلك الحال } :لئ ِ ْ
ن { لله ،أي ري َشاك ِ ِ ن ال ّ م َ ن ِ كون َ ّ ن هَذِهِ { الشدة التي وقعنا فيها } ل َن َ ُ م ْ ِ
المعترفين بنعمته ،الواضعين لها في طاعة ربهم ،الذين حفظوها عن أن
يبذلوها في معصيته.
ب { أي :من هذه الشدة الخاصة ،ومن ل ك َْر ٍ ن كُ ّ م ْ من َْها وَ ِ م ِ جيك ُ ْ ه ي ُن َ ّ ل الل ّ ُ } قُ ِ
شرِ ُ َ
ن { ل تفون لله بما قلتم ،وتنسون كو َ م تُ ْ م أن ْت ُ ْ جميع الكروب العامة } .ث ُ ّ
نعمه عليكم ،فأي برهان أوضح من هذا على بطلن الشرك ،وصحة
التوحيد؟"
) (1/260
) (1/260
) (1/260
ن)
قو َ ن ذِك َْرى ل َعَل ّهُ ْ
م ي َت ّ ُ يءٍ وَل َك ِ ْ ن َ
ش ْ م ْ
م ِ
ساب ِهِ ْ
ح َ
ن ِ
م ْ
ن ِ
قو َ
ن ي َت ّ ُ ما عََلى ال ّ ِ
ذي َ وَ َ
(69
ن ذِك َْرى ل َعَل ّهُ ْ
م يءٍ وَل َك ِ ْ
ش ْن َم ْم ِساب ِهِ ْح َن ِم ْن ِقو َن ي َت ّ ُذي َما عََلى ال ّ ِ} وَ َ
ن{. قو َ ي َت ّ ُ
م ّ َ ْ
ن ذِكَرى لعَلهُ ْ َ
يٍء وَلك ِ ْ ش ْن َم ْم ِساب ِهِ ْح َن ِم ْن ِقو َن ي َت ّ ُذي َ ّ َ
ما عَلى ال ِ } وَ َ
ن { أي :ولكن ليذكرهم ،ويعظهم ،لعلهم يتقون الله تعالى. قو َ ي َت ّ ُ
ّ
] ص [ 261وفي هذا دليل على أنه ينبغي أن يستعمل المذكُر من الكلم،
ما يكون أقرب إلى حصول مقصود التقوى .وفيه دليل على أنه إذا كان
التذكير والوعظ ،مما يزيد الموعوظ شرا إلى شره ،إلى أن تركه هو
الواجب ) (1لنه إذا ناقض المقصود ،كان تركه مقصودا.
__________
) (1في ب :كان تركه هو الواجب.
) (1/260
َ
لس َن ت ُب ْ َ م ال ْ َ
حَياةُ الد ّن َْيا وَذ َك ّْر ب ِهِ أ ْ وا وَغَّرت ْهُ ُ م ل َعًِبا وَل َهْ ً
ذوا ِدين َهُ ْ خ ُ ن ات ّ َذي َ وَذ َرِ ال ّ ِ
ل
ل عَد ْ ٍ ل كُ ّ ن ت َعْدِ ْفيعٌ وَإ ِ ْ ي وََل َ
ش ِ ن الل ّهِ وَل ِ ّ دو ِ ن ُ م ْس ل ََها ِ ت ل َي ْ َ سب َ ْ ما ك َ َ س بِ َ ف ٌ نَ ْ
ميم ٍ وَعَ َ م َ َ َ ُ ُ ّ َ َ ُ َل ي ُؤْ َ
ب ذا ٌ ح ِ
ن َ م ْ ب ِ شَرا ٌ سُبوا لهُ ْ ما ك َ سلوا ب ِ َ ن أب ْ ِذي َمن َْها أولئ ِك ال ِ خذ ْ ِ
ن )(70 كاُنوا ي َك ْ ُ ما َ َ
فُرو َ م بِ َأِلي ٌ
ه م ال ْ َ
حَياةُ الد ّن َْيا وَذ َك ّْر ب ِ ِ وا وَغَّرت ْهُ ُ م ل َعًِبا وَل َهْ ً ذوا ِدين َهُ ْ خ ُ ن ات ّ َ ذي َ} } { 70وَذ َرِ ال ّ ِ
َ
ن ت َعْدِ ْ
ل فيعٌ وَإ ِ ْ ش ِي َول َ ن الل ّهِ وَل ِ ّ دو ِ ن ُ م ْ س ل ََها ِ ت ل َي ْ َ سب َ ْ ما ك َ َ س بِ َف ٌ ل نَ ْ س َ ن ت ُب ْ َأ ْ
ك ال ّذي ُ من َْها ُأول َئ ِ َ
ميم ٍ ح ِن َ م ْب ِ شَرا ٌ م َ سُبوا ل َهُ ْ ما ك َ َ سُلوا ب ِ َ ن أب ْ ِ ِ َ خذ ْ ِ ل ل ي ُؤْ َ ل عَد ْ ٍ كُ ّ
ن{. كاُنوا ي َك ْ ُ ما َ َ وَعَ َ
فُرو َ م بِ َب أِلي ٌ ذا ٌ
المقصود من العباد ،أن يخلصوا لله الدين ،بأن يعبدوه وحده ل شريك له،
ويبذلوا مقدورهم في مرضاته ومحابه .وذلك متضمن لقبال القلب على
دا ،ل هزل وإخلصا لوجه الله، الله وتوجهه إليه ،وكون سعي العبد نافعا ،وج ّ
ل رياء وسمعة ،هذا هو الدين الحقيقي ،الذي يقال له دين ،فأما من زعم
أنه على الحق ،وأنه صاحب دين وتقوى ،وقد اتخذ ديَنه لعبا ولهوا .بأن ل ََها
قلُبه عن محبة الله ومعرفته ،وأقبل على كل ما يضره ،ول ََها في باطله،
مر َ
ولعب فيه ببدنه ،لن العمل والسعي إذا كان لغير الله ،فهو لعب ،فهذا أ َ
الله تعالى أن يترك ويحذر ،ول يغتر به ،وتنظر حاله ،ويحذر من أفعاله ،ول
يغتر بتعويقه عما يقرب إلى الله.
} وَذ َك ّْر ب ِهِ { أي :ذكر بالقرآن ،ما ينفع العباد ،أمرا ،وتفصيل وتحسينا له،
بذكر ما فيه من أوصاف الحسن ،وما يضر العباد نهيا عنه ،وتفصيل لنواعه،
وبيان ما فيه ،من الوصاف القبيحة الشنيعة ،الداعية لتركه ،وكل هذا لئل
تبسل نفس بما كسبت ،أي :قبل اقتحام العبد للذنوب وتجرئه على علم
الغيوب ،واستمرارها على ذلك المرهوب ،فذكرها ،وعظها ،لترتدع وتنزجر،
وتكف عن فعلها.
فيعٌ { أي :قبل ]أن[ تحيط بها ش ِ ي َول َ ّ
ن اللهِ وَل ِ ّ دو ِ ن ُ م ْ س ل ََها ِ وقوله } ل َي ْ َ
ذنوبها ،ثم ل ينفعها أحد من الخلق ،ل قريب ول صديق ،ول يتولها من دون
ل { أي :تفتدي بكل ل عَد ْ ٍ ل كُ ّ ن ت َعْدِ ْ الله أحد ،ول يشفع لها شافع } وَإ ِ ْ
من َْها { أي :ل يقبل ول يفيد. خذ ْ ِ فداء ،ولو بملء الرض ذهبا } ل ي ُؤْ َ
سلوا { أي :أهلكوا وأيسوا من ُ ُ ّ } ُأول َئ ِ َ
ن أب ْ ِ ذي َ ك { الموصوفون بما ذكر } ال ِ
ميم ٍ { أي :ماء حار قد انتهى ح ِ
ن َم ْ
ب ِ
شَرا ٌ سُبوا ل َهُ ْ
م َ ما ك َ َ
الخير ،وذلك } ب ِ َ
َ
ما كاُنوا َ حره ،يشوي وجوههم ،ويقطع أمعاءهم } وَعَ َ
م بِ َ
ب أِلي ٌ
ذا ٌ
ن{. ي َك ْ ُ
فُرو َ
) (1/261
ضّرَنا وَن َُرد ّ عََلى فعَُنا َول ي َ ُ ما ل ي َن ْ َ ن الل ّهِ َ دو ِ ن ُ م ْ عو ِ ل أ َن َد ْ ُ } } { 73 - 71قُ ْ
هَ
نل ُ حي َْرا َ ض َ ن ِفي الْر ُِ طي ُ شَيا ِ ه ال ّ ست َهْوَت ْ ُ ذي ا ْ ّ َ
ه كال ِ ّ
داَنا الل ُ قاب َِنا ب َعْد َ إ ِذ ْ هَ َ أ َعْ َ
َ
مسل ِ َمْرَنا ل ِن ُ ْ دى وَأ ِ دى الل ّهِ هُوَ ال ْهُ َ ن هُ َ ل إِ ّ دى ائ ْت َِنا قُ ْ ه إ َِلى ال ْهُ َ عون َ ُ ب ي َد ْ ُ حا ٌ ص َ أ ْ
ل ِرب ال ْعال َمين * وأ َ َ
و
ن * وَهُ َ شُرو َ ح َ ذي إ ِل َي ْهِ ت ُ ْ قوهُ وَهُوَ ال ّ ِ صلةَ َوات ّ ُ موا ال ّ ن أِقي ُ َ ْ َ ِ َ َ ّ
هَ
حقّ وَل ُ ْ
ه ال َ ُ
ن قَوْل ُ كو ُ ن فَي َ ُ ل كُ ْ قو ُ م يَ ُ حقّ وَي َوْ َ ْ
ض ِبال َ ت َوالْر َ ماَوا ِ س َ خلقَ ال ّ َ ذي َ ال ّ ِ
خِبيُر { . م ال ْ َ كي ُح ِ شَهاد َةِ وَهُوَ ال ْ َ ب َوال ّ م ال ْغَي ْ ِ عال ِ ُصورِ َ خ ِفي ال ّ ف ُ م ي ُن ْ َ ك ي َوْ َ مل ْ ُ ال ْ ُ
ل { يا أيها الرسول للمشركين بالله ،الداعين معه غيره ،الذين } قُ ْ
يدعونكم إلى دينهم ،مبينا وشارحا لوصف آلهتهم ،التي يكتفي العاقل بذكر
وصفها ،عن النهي عنها ،فإن كل عاقل إذا تصور مذهب المشركين جزم
ن الل ّهِ َ
ما دو ِ ن ُ م ْ عو ِ ببطلنه ،قبل أن تقام البراهين على ذلك ،فقال } :أ َن َد ْ ُ
ن دون الله، م ْ من عُِبد ِ ضّرَنا { وهذا وصف ،يدخل فيه كل َ فعَُنا َول ي َ ُ ل ي َن ْ َ
فإنه ل ينفع ول يضر ،وليس له من المر شيء ،إن المر إل لله.
ه { أي :وننقلب بعد هداية الله لنا إلى داَنا الل ّ ُ قاب َِنا ب َعْد َ إ ِذ ْ هَ َ } وَن َُرد ّ عََلى أ َعْ َ
الضلل ،ومن الرشد إلى الغي ،ومن الصراط الموصل إلى جنات النعيم،
إلى الطرق التي تفضي بسالكها إلى العذاب الليم .فهذه حال ل يرتضيها
ض { أي :أضلته ن ِفي الْر ِ طي ُ
شَيا ِ ه ال ّ ست َهْوَت ْ ُ ذي ا ْ كال ّ ِ
ذو رشد ،وصاحبها } َ
ن لَ ُ
ه حي َْرا َ وتيهته عن طريقه ومنهجه له الموصل إلى مقصده .فبقي } َ
َ
دى { والشياطين يدعونه إلى الردى ،فبقي بين ه إ َِلى ال ْهُ َ عون َ ُ ب ي َد ْ ُ حا ٌ ص َ أ ْ
الداعين حائرا وهذه حال الناس كلهم ،إل من عصمه الله تعالى ،فإنهم
يجدون فيهم جواذب ودواعي ) (1متعارضة ،دواعي ) (2الرسالة والعقل
دى { والصعود إلى أعلى ه إ َِلى ال ْهُ َ عون َ ُ الصحيح ،والفطرة المستقيمة } ي َد ْ ُ
عليين.
ودواعي ) (3الشيطان ،ومن سلك مسلكه ،والنفس المارة بالسوء،
يدعونه إلى الضلل ،والنزول إلى أسفل سافلين ،فمن الناس من يكون
مع داعي الهدى ،في أموره كلها أو أغلبها ،ومنهم من بالعكس من ذلك.
ومنهم من يتساوى لديه الداعيان ،ويتعارض عنده الجاذبان،وفي هذا
الموضع ،تعرف أهل السعادة من أهل الشقاوة.
دى { أي :ليس الهدى إل الطريق ] ص دى الل ّهِ هُوَ ال ْهُ َ ن هُ َ ل إِ ّ وقوله } :قُ ْ
[ 262التي شرعها الله على لسان رسوله ،وما عداه ،فهو ضلل وردى
ُ
ن { بأن ننقاد لتوحيده ،ونستسلم مي َ ب ال َْعال َ ِ
م ل َِر ّ سل ِ َمْرَنا ل ِن ُ ْ وهلك } .وَأ ِ
لوامره ونواهيه ،وندخل تحت عبوديته ،فإن هذا أفضل نعمة أنعم الله بها
على العباد ،وأكمل تربية أوصلها إليهم.
صلةَ { أي :وأمرنا أن نقيم الصلة بأركانها وشروطها } وأ َ َ
موا ال ّ ن أِقي ُ َ ْ
قوهُ { بفعل ما أمر به ،واجتناب ما عنه نهى. وسننها ومكملتهاَ } .وات ّ ُ
معون ليوم القيامة ،فيجازيكم ج َ ن { أي :ت ُ ْ شُرو َ ح َذي إ ِل َي ْهِ ت ُ ْ } وَهُوَ ال ّ ِ
بأعمالكم ،خيرها وشرها.
حقّ { ليأمر العباد وينهاهم، ض ِبال ْ َ ت َوالْر َ ماَوا ِ س َخل َقَ ال ّ ذي َ } وَهُوَ ال ّ ِ
حقّ { الذي ل مرية فيه ه ال ْ َ ن قَوْل ُ ُ كو ُ ن فَي َ ُ ل كُ ْ قو ُ م يَ ُ
ويثيبهم ويعاقبهم } ،وَي َوْ َ
صورِ { أي :يوم خ ِفي ال ّ ف ُ م ي ُن ْ َك ي َوْ َ مل ْ ُ
ه ال ْ ُ ول مثنوية ،ول يقول شيئا عبثا } وَل َ ُ
القيامة ،خصه بالذكر -مع أنه مالك كل شيء -لنه تنقطع فيه الملك ،فل
م
كي ُ شَهاد َةِ وَهُوَ ال ْ َ
ح ِ ب َوال ّ م ال ْغَي ْ ِعال ِ ُيبقى ملك إل الله الواحد القهارَ } .
خِبيُر { الذي له الحكمة التامة ،والنعمة السابغة ،والحسان العظيم، ال ْ َ
والعلم المحيط بالسرائر والبواطن والخفايا ،ل إله إل هو ،ول رب سواه.
__________
) (1كذا في ب ،وفي أ :دواع.
) (2كذا في ب ،وفي أ :داع.
) (3كذا في ب ،وفي أ :داعي.
) (1/261
ضَل ٍ
ل ك ِفي َ م َ ك وَقَوْ َ ة إ ِّني أ ََرا َ ما آ َل ِهَ ً صَنا ً خذ ُ أ ْ
ل إبراهيم ِل َبيه آ َزر أ َتت ِ َ
وَإ ِذ ْ َقا َ ِ ْ َ ِ ُ ِ ِ َ َ َ ّ
ن ت َوالْرض وَل ِي َ ُ َ ْ مل ُ َ ن ) (74وَك َذ َل ِ َ
م َ ن ِ كو َ ِ ماَوا ِ س َ ت ال ّ كو َ م َ هي َ ري إ ِب َْرا ِ ك نُ ِ مِبي ٍ ُ
ل َقا َ
ل ما أفَ َ َ َ لَ ف بي ر ذا َ ه ل َ قا َ با َ ك و َ ك أى َ ر ُ
ل ي ّ ل ال ه ي َ ل ع ن ج ما َ لَ ف ( 75 ) ن ني ق مو ْ
ّ َ ّ َ ْ ً ْ َ ِ ْ َ ّ َ ّ َ ِ ِ ا ُ ل
َ َ َ ُ
ل ل َئ ِ ْ
ن ل َقا َ ما أفَ َ ذا َرّبي فَل َ ّ ل هَ َ غا َقا َ مَر َبازِ ً ق َ ما َرأى ال ْ َ ن ) (76فَل َ ّ ب اْلفِِلي َ ح ّ َل أ ِ
َ َ
س َبازِغَ ً
ة م َ ش ْ ما َرأى ال ّ ن ) (77فَل َ ّ ضاّلي َ قوْم ِ ال ّ ن ال ْ َ م َ ن ِ كون َ ّ م ي َهْدِِني َرّبي َل ُ لَ ْ
َ َ
ن) كو َ شرِ ُ ما ت ُ ْ م ّ ريٌء ِ ل َيا قَوْم ِ إ ِّني ب َ ِ ت َقا َ ما أفَل َ ْ ذا أك ْب َُر فَل َ ّ ذا َرّبي هَ َ ل هَ َ َقا َ
َ َ
ن
م َ ما أَنا ِ فا وَ َ حِني ً ض َ ت َواْلْر َ ماَوا ِ س َ ذي فَط ََر ال ّ ي ل ِل ّ ِ جه ِ َ ت وَ ْ جهْ ُ (78إ ِّني وَ ّ
َ َ ّ َ
ف
خا ُ ن وَل أ َ دا ِ َ
جوّني ِفي اللهِ وَقد ْ هَ َ حا ّ ه قال أت ُ َ َ َ م ُ ه قوْ ُ َ ج ُ حا ّ ن ) (79وَ َ كي َ شرِ ِ م ْ ال ْ ُ
ما أفََل َ َ
عل ْ ً يٍء ِ ش ْ ل َ سعَ َرّبي ك ُ ّ شي ًْئا وَ ِ شاَء َرّبي َ ن يَ َ ن ب ِهِ إ ِّل أ ْ كو َ شرِ ُ ما ت ُ ْ َ
ّ ْ َ ُ َ َ ْ َ َ َ ّ
مام ِباللهِ َ شَركت ُ ْ مأ ْ ن أن ّك ْ خاُفو َ م وَل ت َ َ شَركت ُ ْ ما أ ْ ف َ خا ُ فأ َ ن ) (80وَكي ْ َ ت َت َذ َكُرو َ
َ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ
ن) مو َ م ت َعْل ُ ن كن ْت ُ ْ ُ ن إِ ْ ِ م
حقّ ِبال ْ نأ َ ِ قي ْ ري َ ف ِ سلطاًنا فَأيّ ال َ م ُ ُ
ل ب ِهِ عَلي ْك ْ م ي ُن َّز ْ لَ ْ
َ ُ ذي َ
ن) دو َ مهْت َ ُ م ُ ن وَهُ ْ م ُ م اْل ْ ك ل َهُ ُ م ب ِظ ُل ْم ٍ أول َئ ِ َ مان َهُ ْ سوا ِإي َ م ي َل ْب ِ ُ مُنوا وَل َ ْ نآ َ (81ال ّ ِ َ
ن َرب ّ َ
ك شاُء إ ِ ّ ن نَ َ م ْ ت َ جا ٍ مهِ ن َْرفَعُ د ََر َ م عََلى قَوْ ِ هي َ ها إ ِب َْرا ِ جت َُنا آ َت َي َْنا َ ح ّ ك ُ (82وَت ِل ْ َ
م )(83 م عَِلي ٌ كي ٌ ح ِ َ
سوا { أي: م ي َل ْب ِ ُ
مُنوا وَل َ ْ نآ َ قال الله تعالى فاصل بين الفريقين } ال ّ ِ
ذي َ
ن { المن من دو َ مهْت َ ُ
م ُ ن وَهُ ْم ُ م ال ْ م ب ِظ ُل ْم ٍ ُأول َئ ِ َ
ك ل َهُ ُ مان َهُ ْيخلطوا } ِإي َ
ة إلى الصراط المستقيم ،فإن كانوا لم ف والعذاب والشقاء ،والهداي ُ المخاو ِ
يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا ،ل بشرك ،ول بمعاص ،حصل لهم المن التام،
والهداية التامة .وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده ،ولكنهم
يعملون السيئات ،حصل لهم أصل الهداية ،وأصل المن ،وإن لم يحصل
لهم كمالها .ومفهوم الية الكريمة ،أن الذين لم يحصل لهم المران ،لم
يحصل لهم هداية ،ول أمن ،بل حظهم الضلل والشقاء.
ولما حكم لبراهيم عليه السلم ،بما بين به من البراهين القاطعة قال:
مهِ { أي :عل بها عليهم ،وفلجهم بها. م عََلى قَوْ ِ هي َها إ ِب َْرا ِجت َُنا آت َي َْنا َح ّك ُ } وَت ِل ْ َ
شاُء { كما رفعنا درجات إبراهيم عليه السلم في ن نَ َ م ْ ت َ جا ٍ } ن َْرفَعُ د ََر َ
الدنيا والخرة ،فإن العلم يرفع الله به صاحبه فوق العباد درجات .خصوصا
العالم العامل المعلم ،فإنه يجعله الله إماما للناس ،بحسب حاله ترمق
أفعاله ،وتقتفى آثاره ،ويستضاء بنوره ،ويمشى بعلمه في ظلمة ديجوره.
قال تعالى } يرفَع الل ّه ال ّذين آمنوا منك ُم وال ّذي ُ
ت{. جا ٍ ن أوُتوا ال ْعِل ْ َ
م د ََر َ ِ ْ ْ َ ِ َ ُ ِ َ َ ُ َْ ِ
م { فل يضع العلم والحكمة ،إل في المحل اللئق بها، م ِ ٌ
لي َ ع كي ٌ
ح ِ ك َ ن َرب ّ َ } إِ ّ
وهو أعلم بذلك المحل ،وبما ينبغي له.
) (1/263
داُوود َ ن ذ ُّري ّت ِهِ َ م ْ ل وَ ِ ن قَب ْ ُ م ْ حا هَد َي َْنا ِ ب ك ُّل هَد َي َْنا وَُنو ً قو َ حاقَ وَي َعْ ُ س َ ه إِ ْ وَوَهَب َْنا ل َ ُ
َ
ن )(84 سِني َ ح ِ م ْ زي ال ْ ُ ج ِ ك نَ ْ ن وَك َذ َل ِ َ هاُرو َ سى وَ َ مو َ ف وَ ُ س َ ب وَُيو ُ ن وَأّيو َ ما َ سل َي ْ َ وَ ُ
سعَ ْ
عيل َوالي َ َ َ ما ِ س َ ن ) (85وَإ ِ ْ حي َ صال ِ ِن ال ّ م َ س كل ِ ّ ُ سى وَإ ِلَيا َ ْ عي َ حَيى وَ ِ وََزكرِّيا وَي َ ْ َ
َ َ ْ َ ْ س وَُلوطا وَكل ف ّ
َ ّ ُ ً
م وَذ ُّرّيات ِهِ ْ
م ن آَبائ ِهِ ْ م ْ ن ) (86وَ ِ مي َ ضلَنا عَلى الَعال ِ وَُيون ُ َ
هّ
دى الل ِ َ
قيم ٍ ) (87ذ َل ِك هُ َ ست َ ِم ْ ط ُ صَرا ٍ م إ ِلى ِ َ م وَهَد َي َْناهُ ْ جت َب َي َْناهُ ْ م َوا ْ وان ِهِ ْ خ َ وَإ ِ ْ
ن) ُ َ َ َ ُ َ َ
عَبادِهِ وَلوْ أ ْ ن يَ َ
ملو َ ما كاُنوا ي َعْ َ م َ حب ِط عَن ْهُ ْ شَركوا ل َ ن ِ م ْ شاُء ِ م ْ دي ب ِهِ َ ي َهْ ِ
َ
فْر ب َِها هَؤُلِء فَ َ ْ ْ ْ ْ َ ّ َ َ ُ
قد ْ ن ي َك ُ م َوالن ّب ُوّةَ فَإ ِ ْ حك َ ب َوال ُ م الك َِتا َ ن آت َي َْناهُ ُ ذي َ (88أولئ ِك ال ِ
ّ ّ َ ُ َ
م
داهُ ُ ه فَب ِهُ َ دى الل ُ ن هَ َ ذي َ َ
ن ) (89أولئ ِك ال ِ ري َ كافِ ِ َ سوا ب َِها ب ِ ما لي ْ ُ وَك ّل َْنا ب َِها قَوْ ً
َ َ َ
ن )(90 مي َ ن هُوَ إ ِّل ذِك َْرى ل ِل َْعال َ ِ جًرا إ ِ ْ م عَل َي ْهِ أ ْ سأل ُك ُ ْ ل َل أ ْ اقْت َدِهِ قُ ْ
ن قَب ْ ُ
ل م ْ حا هَد َي َْنا ِ كل هَد َي َْنا وَُنو ً ب ُ قو َ حاقَ وَي َعْ ُ س َ ه إِ ْ } } { 90 - 84وَوَهَب َْنا ل َ ُ
َ
زي ج ِ ك نَ ْ ن وَك َذ َل ِ َ هاُرو َ سى وَ َ مو َ ف وَ ُ س َ ب وَُيو ُ ن وَأّيو َ ما َ سل َي ْ َداوُد َ وَ ُ ن ذ ُّري ّت ِهِ َ م ْ وَ ِ
ن* حي َ صال ِ ِ ن ال ّ م َ ل ِ سك ّ ُ سى وَإ ِلَيا َ ْ عي َ حَيى وَ ِ َ
ن * وََزكرِّيا وَي َ ْ سِني َ ح ِ م ْ ال ْ ُ
من آَبائ ِهِ ْ م ْن * وَ ِ مي َ ضل َْنا عََلى ال َْعال َ ِ كل فَ ّ طا وَ ُ س وَُلو ً سعَ وَُيون ُ َ ل َوال ْي َ َ عي َ ما ِ س َ وَإ ِ ْ
دى َ
قيم ٍ * ذ َل ِك هُ َ ست َ ِ م ْ ط ُ صَرا ٍ م إ ِلى ِ َ م وَهَد َي َْناهُ ْ جت َب َي َْناهُ ْ م َوا ْ وان ِهِ ْ خ َم وَإ ِ ْ وَذ ُّرّيات ِهِ ْ
ُ َ َ َ َ
نملو َ ما كاُنوا ي َعْ َ َ م َ حب ِط عَن ْهُ ْ شَركوا ل َ ُ عَبادِهِ وَلوْ أ ْ ن ِ م ْ شاُء ِ ن يَ َ م ْدي ب ِهِ َ الل ّهِ ي َهْ ِ
قد ْ وَك ّل َْنا ؤلِء فَ َ فْر ب َِها هَ ُ ن ي َك ْ ُ م َوالن ّب ُوّةَ فَإ ِ ْ حك ْ َ ب َوال ْ ُ م ال ْك َِتا َ ن آت َي َْناهُ ُ ذي َ ك ال ّ ِ * ُأول َئ ِ َ
لل م اقْت َدِهِ قُ ْ داهُ ُ ه فَب ِهُ َ دى الل ّ ُ ن هَ َ ذي َ ك ال ّ ِ ن * ُأول َئ ِ َ ري َ كافِ ِ سوا ب َِها ب ِ َ ما ل َي ْ ُ ب َِها قَوْ ً
َ ْ َ َ أَ َ
ن{. مي َ ن هُوَ ِإل ذِك َْرى ل ِلَعال ِ جًرا إ ِ ْ م عَلي ْهِ أ ْ سأل ُك ُ ْ ْ
ن الله م ّ لما ذكر الله تعالى عبده وخليله ،إبراهيم عليه السلم ،وذكر ما َ
عليه به ،من العلم والدعوة ،والصبر ،ذكر ما أكرمه الله به من الذرية
الصالحة ،والنسل الطيب .وأن الله جعل صفوة الخلق من نسله ،وأعظم
هَ
بهذه المنقبة والكرامة الجسيمة ،التي ل يدرك لها نظير فقال } :وَوَهَب َْنا ل ُ
ب { ابنه،الذي هو إسرائيل ،أبو الشعب الذي فضله الله قو َ حاقَ وَي َعْ ُ س َ إِ ْ
على العالمين.
كل { منهما } هَد َي َْنا { الصراط المستقيم ،في علمه وعمله. } ُ
ل { وهدايته من أنواع ) (1الهدايات الخاصة التي لم ن قَب ْ ُ م ْ حا هَد َي َْنا ِ } وَُنو ً
تحصل إل لفراد من العالم؛ وهم أولو العزم من الرسل ،الذي هو أحدهم.
ن ذ ُّري ّت ِهِ { يحتمل أن الضمير عائد إلى نوح ،لنه أقرب مذكور ،ولن م ْ } وَ ِ
الله ذكر مع من ذكر لوطا ،وهو من ذرية نوح ،ل من ذرية إبراهيم لنه ابن
أخيه.
ويحتمل أن الضمير يعود إلى إبراهيم لن السياق في مدحه والثناء عليه،
ولوط -وإن لم يكن من ذريته -فإنه ممن آمن على يده ،فكان منقبة
الخليل وفضيلته بذلك ،أبلغ من كونه مجرد ابن له.
َ
سى مو َ ف { بن يعقوب } .وَ ُ س َ ب وَُيو ُ ن { بن داود } وَأّيو َ ما َ سل َي ْ َ داوُد َ وَ ُ } َ
ن { ابني عمران } ،وَكذ َل ِك { كما أصلحنا ذرية إبراهيم الخليل ،لنه َ َ هاُرو َ وَ َ
ن { بأن سِني َ ح ِ م ْ ْ
زي ال ُ ج ِ أحسن في عبادة ربه ،وأحسن في نفع الخلق } ن َ ْ
نجعل لهم من الثناء الصدق ،والذرية الصالحة ،بحسب إحسانهم.
ل { هؤلء س كُ ّ سى { ابن مريم } .وَإ ِل َْيا َ عي َ حَيى { ابنه } وَ ِ } وََزك َرِّيا وَي َ ْ
ن { في أخلقهم وأعمالهم وعلومهم ،بل هم سادة حي َ صال ِ ِ ن ال ّ م َ } ِ
الصالحين وقادتهم وأئمتهم.
ل { بن إبراهيم أبو الشعب الذي هو أفضل الشعوب ،وهو عي َ ما ِ س َ } وَإ ِ ْ
الشعب العربي ،ووالد سيد ولد آدم ،محمد صلى الله عليه وسلم.
كل { طا { بن هاران ،أخي إبراهيم } .وَ ُ س { بن متى } وَُلو ً سعَ وَُيون ُ َ } َوال ْي َ َ
ن { لن درجات مي َ ضل َْنا عََلى ال َْعال َ ِ من هؤلء النبياء والمرسلين } فَ ّ
سو َ
ل ه َوالّر ُ ن ي ُط ِِع الل ّ َ م ْ الفضائل أربع -وهي التي ذكرها الله بقوله } :وَ َ
ك مع ال ّذي َ ُ
داِء شهَ َ ن َوال ّ قي َ دي ِص ّ ن َوال ّ ن الن ّب ِّيي َم َ م ِ ه عَل َي ْهِ ْ م الل ّ ُ ن أن ْعَ َ فَأول َئ ِ َ َ َ ِ َ
ن { فهؤلء من الدرجة العليا ،بل هم أفضل الرسل على حي َ صال ِ ِ َوال ّ
الطلق ،فالرسل الذين قصهم الله ] ص [ 264في كتابه ،أفضل ممن لم
يقص علينا نبأهم بل شك.
م { أي: وان ِهِ ْ خ َم وَإ ِ ْم { أي :آباء هؤلء المذكورين } وَذ ُّرّيات ِهِ ْ ن آَبائ ِهِ ْ م ْ } وَ ِ
م { أي :اخترناهم جت َب َي َْناهُ ْ وهدينا من آباء هؤلء وذرياتهم وإخوانهمَ } .وا ْ
قيم ٍ { . ست َ ِم ْ ط ُ صَرا ٍ م إ َِلى ِ } وَهَد َي َْناهُ ْ
ه
دي ب ِ ِ دى الل ّهِ { الذي ل هدى إل هداه } .ي َهْ ِ ك { الهدى المذكور } هُ َ } ذ َل ِ َ
عَبادِهِ { فاطلبوا منه الهدى فإنه إن لم يهدكم فل هادي لكم ن ِ م ْ شاُء ِ ن يَ َ م ْ َ
كوا { على الفرض شَر ُ َ
غيره ،وممن شاء هدايته هؤلء المذكورون } .وَل َوْ أ ْ
ن { فإن الشرك محبط للعمل، مُلو َ كاُنوا ي َعْ َ ما َ م َ ط عَن ْهُ ْ حب ِ َ والتقدير } ل َ َ
موجب للخلود في النار .فإذا كان هؤلء الصفوة الخيار ،لو أشركوا
-وحاشاهم -لحبطت أعمالهم فغيرهم أولى.
م اقْت َدِهِ { أي :امش -أيها داهُ ُ ه فَب ِهُ َدى الل ّ ُ ن هَ َ ذي َ ك { المذكورون } ال ّ ِ } ُأول َئ ِ َ
الرسول الكريم -خلف هؤلء النبياء الخيار ،واتبع ملتهم وقد امتثل صلى
الله عليه وسلم ،فاهتدى بهدي الرسل قبله ،وجمع كل كمال فيهم.
فاجتمعت لديه فضائل وخصائص ،فاق بها جميع العالمين ،وكان سيد
المرسلين ،وإمام المتقين ،صلوات الله وسلمه عليه وعليهم أجمعين،
وبهذا الملحظ ،استدل بهذه من استدل من الصحابة ،أن رسول الله صلى
الله عليه وسلم ،أفضل الرسل كلهم.
َ َ ُ َ َ
جًرا { أي :ل أطلب سألك ُ ْ
م عَلي ْهِ أ ْ ل { للذين أعرضوا عن دعوتك } :ل أ ْ } قُ ْ
منكم مغرما ومال جزاء عن إبلغي إياكم ،ودعوتي لكم فيكون من أسباب
امتناعكم ،إن أجري إل على الله.
ن { يتذكرون به ما ينفعهم ،فيفعلونه ،وما ن هُوَ ِإل ذِك َْرى ل ِل َْعال َ ِ
مي َ } إِ ْ
يضرهم،فيذرونه ،ويتذكرون به معرفة ربهم بأسمائه وأوصافه .ويتذكرون
به الخلق الحميدة ،والطرق الموصلة إليها ،والخلق الرذيلة ،والطرق
المفضية إليها،فإذا كان ذكرى للعالمين ،كان أعظم نعمة أنعم الله بها
عليهم ،فعليهم قبولها والشكر عليها.
__________
) (1في ب :أعلى أنواع.
) (1/263
ن
م ْ يٍء قُ ْ
ل َ ش ْ ن َم ْ شرٍ ِ ه عََلى ب َ َ ل الل ّ ُما أ َن َْز َحقّ قَد ْرِهِ إ ِذ ْ َقاُلوا َ ه َ ما قَد َُروا الل ّ َ وَ َ
س
طي َ ه قََرا ِ ُ
جعَلون َ ُ س تَ ْ
دى َ ِللّنا ِ سى ُنوًرا وَهُ ً مو َ جاَء ب ِهِ ُ ذي َ ّ
ب ال ِ ْ
ل الك َِتا َ أ َن َْز َ
َ
م ل الل ّ ُ
ه ثُ ّ م قُ ِ م وََل آَباؤُك ُ ْموا أن ْت ُ ْ م ت َعْل َ ُ
ما ل َ ْ
م َ مت ُ ْن ك َِثيًرا وَعُل ّ ْفو َ خ ُدون ََها وَت ُ ْ
ت ُب ْ ُ
ن )(91 ْ
م ي َلعَُبو َ
ضه ِ ْخوْ ِ م ِفي َ ذ َْرهُ ْ
ن
م ْ شرٍ ِ ه عََلى ب َ َ ل الل ّ ُ ما أ َن َْز َ
حقّ قَد ْرِهِ إ ِذ ْ َقاُلوا َ ه َ ما قَد َُروا الل ّ َ } } { 91وَ َ
ه ُ ّ ْ َ
ن أن َْز َ يٍء قُ ْ َ
جعَلون َ ُ س تَ ْ دى ِللّنا ِ سى ُنوًرا وَهُ ً مو َجاَء ب ِهِ ُ ذي َ ب ال ِ ل الك َِتا َ م ْ ل َ ش ْ
ُ َ َ َ ّ َ
م قُ ِ
ل م َول آَباؤُك ْ موا أن ْت ُ ْم ت َعْل ُ ما ل ْ
م َ مت ُ ْن كِثيًرا وَعُل ْ فو َ خ ُ دون ََها وَت ُ ْ س ت ُب ْ ُ طي َ قََرا ِ
ن{. ْ
م ي َلعَُبو َ ضهِ ْ خوْ ِ م ِفي َ م ذ َْرهُ ْ ه ثُ ّ الل ّ ُ
هذا تشنيع على من نفى الرسالة] ،من اليهود والمشركين[ ) (1وزعم أن
الله ما أنزل على بشر من شيء ،فمن قال هذا ،فما قدر الله حق قدره،
ول عظمه حق عظمته ،إذ هذا قدح في حكمته ،وزعم أنه يترك عباده همل
ل يأمرهم ول ينهاهم ،ونفي لعظم منة ،امتن الله بها على عباده ،وهي
الرسالة ،التي ل طريق للعباد إلى نيل السعادة ،والكرامة ،والفلح ،إل بها،
فأي قدح في الله أعظم من هذا؟"
لن أنز َ َ } قُ ْ
م ْ ل { لهم -ملزما بفساد قولهم ،وقّرْرهم ،بما به يقرونَ } :-
سى { وهو التوراة العظيمة } ُنوًرا { في ظلمات مو َ جاَء ب ِهِ ُ ذي َ ب ال ّ ِ ال ْك َِتا َ
دى { من الضللة ،وهاديا إلى الصراط المستقيم علما وعمل الجهل } وَهُ ً
وهو الكتاب الذي شاع وذاع ،ومل ذكره القلوب والسماع .حتى أنهم جعلوا
يتناسخونه في القراطيس ،ويتصرفون فيه بما شاءوا ،فما وافق أهواءهم
منه ،أبدوه وأظهروه ،وما خالف ذلك ،أخفوه وكتموه ،وذلك كثير.
موا َ
م ت َعْل ُ ما ل َ ْ
م { من العلوم التي بسبب ذلك الكتاب الجليل } َ } وَعُل ّ ْ
مت ُ ْ
َ
م { فإذا سألتهم عمن أنزل هذا الكتاب الموصوف بتلك م َول آَباؤُك ُ ْ أن ْت ُ ْ
الصفات ،فأجب عن هذا السؤال .و } قل الله { الذي أنزله ،فحينئذ يتضح
الحق وينجلي مثل الشمس ،وتقوم عليهم الحجة ،ثم إذا ألزمتهم بهذا
ن { أي :اتركهم يخوضوا في الباطل، م ي َل ْعَُبو َ
ضهِ ْ
خوْ ِ اللزام } ذ َْرهُ ْ
م ِفي َ
ويلعبوا بما ل فائدة فيه ،حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون.
__________
) (1زيادة من هامش ب.
) (1/264
م ال ْ ُ ُ َ
نم ْقَرى وَ َ ن ي َد َي ْهِ وَل ِت ُن ْذَِر أ ّ
ذي ب َي ْ َصد ّقُ ال ّ ِ م َك ُ ب أن َْزل َْناهُ ُ
مَباَر ٌ وَهَ َ
ذا ك َِتا ٌ
ن )(92 ُ
حافِظو َ م يُ َ َ
صلت ِهِ ْم عَلى َ َ ن ب ِهِ وَهُ ْمُنو َ خَرةِ ي ُؤْ ِ َ ْ
ن ِبال ِ ن ي ُؤْ ِ
مُنو َ حوْل ََها َوال ِ
ّ
ذي َ َ
ُ َ
م
ن ي َد َي ْهِ وَل ِت ُن ْذَِر أ ّذي ب َي ْ َ صد ّقُ ال ّ ِ م َ مَباَر ٌ
ك ُ ب أن َْزل َْناهُ ُ ذا ك َِتا ٌ} } { 92وَهَ َ
م
صلت ِهِ ْ م عَلى َ َ ن ب ِهِ وَهُ ْ مُنو َ خَرةِ ي ُؤْ ِن ِبال ِ ن ي ُؤْ ِ
مُنو َ ذي َ ّ
حوْلَها َوال َِ ن َ م ْ قَرى وَ َ ال ْ ُ
ن{. ظو َحافِ ُ يُ َ
فه البركة، ص ُ ٌ ْ َ أي } :وَهَ َ
مَباَرك { أي :وَ ْ ذا { القرآن الذي } أنزلَناهُ { إليك } ُ
ن ي َد َي ْهِ { أي :موافق ذي ب َي ْ َ ّ
صد ّقُ ال ِ م َوذلك لكثرة خيراته ،وسعة مبراتهُ } .
للكتب السابقة ،وشاهد لها بالصدق.
حوْل ََها { أي :وأنزلناه أيضا لتنذر أم القرى ،وهي: م ال ْ ُ ُ
ن َ م ْ قَرى وَ َ } وَل ِت ُن ْذَِر أ ّ
مكة المكرمة ،ومن حولها ،من ديار العرب ،بل ،ومن سائر البلدان .فتحذر
ن
ذي َ الناس عقوبة الله ،وأخذه المم ،وتحذرهم مما يوجب ذلكَ } .وال ّ ِ
ن ب ِهِ { لن الخوف إذا كان في القلب عمرت أركانه، مُنو َ خَرةِ ي ُؤْ ِ ن ِبال ِ مُنو َ ي ُؤْ ِ
وانقاد لمراضي الله.
) (1/264
ح إ ِل َي ْهِ م ُيو َ ي وَل َ ْ ي إ ِل َ ّ ح َ ل ُأو ِ ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ ك َذًِبا أ َوْ َقا َ ِ م
م ّ م ِ ن أظ ْل َ ُ
وم َ
َ َ ْ
ت َ ّ َ ّ َ َ َ ْ ُ ُ َ َ َ
مَرا ِ ن ِفي غ َ مو َ ه وَلوْ ت ََرى إ ِذِ الظال ِ ُ ما أن َْزل الل ُ مثل َ سأن ْزِل ِ ن قال َ م ْ يٌء وَ َ ش ْ
ْ َ َ َ ُ َ ْ
بذا َ ن عَ َ جَزوْ َ م تُ ْ م الي َوْ َ ُ
سك ُ ف َ جوا أن ْ ُ خرِ ُمأ ْ ديهِ ْ سطو أي ْ ِ ة َبا ِ َ
ملئ ِك ُ ت َوال َ موْ ِ ال ْ َ
حق وك ُن ْت ُم عَ َ
ن) ست َك ْب ُِرو َ ن آَيات ِهِ ت َ ْ ْ ْ ن عََلى الل ّهِ غَي َْر ال ْ َ ّ َ قوُلو َ م تَ ُ ما ك ُن ْت ُ ْ ن بِ َ ال ُْهو ِ
َ
م وََراَء خوّل َْناك ُ ْ ما َ م َ مّرةٍ وَت ََرك ْت ُ ْ ل َ م أو ّ َ قَناك ُ ْخل َ ْما َ دى ك َ َ موَنا فَُرا َ جئ ْت ُ ُ قد ْ ِ (93وَل َ َ
كاُء ل َ َ َ
قد ْ شَر َ م ُ م ِفيك ُ ْ م أن ّهُ ْ مت ُ ْ
ن َزعَ ْ ذي َ م ال ّ ِ فَعاَءك ُ ُ ش َ م ُ معَك ُ ْ ما ن ََرى َ م وَ َ ظ ُُهورِك ُ ْ
ن )(94 مو َ م ت َْزعُ ُ ما ك ُن ْت ُ ْ م َ ل عَن ْك ُ ْ ض ّ م وَ َ قط ّعَ ب َي ْن َك ُ ْ تَ َ
ن { أي :يداومون عليها ،ويحفظون أركانها ظو َ حافِ ُ م يُ َ صلت ِهِ ْ م عََلى َ } وَهُ ْ
وحدودها وشروطها وآدابها ،ومكملتها .جعلنا الله منهم ] .ص [ 265
ي َ
ي إ ِل ّ ح َ ل ُأو ِ ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ ك َذًِبا أ َوْ َقا َ ِ م
م ّم ِ ن أظ ْل َ ُ
} } { 94 ، 93وم َ
َ َ ْ
َ ّ َ ُ ح إ ِل َي ْهِ َ
ه وَلوْ ت ََرى إ ِذِ ل الل ُ ما أن َْز َ ل َ مث ْ َل ِ سأن ْزِ ُ ل َ ن َقا َ م ْ يٌء وَ َ ش ْ م ُيو َ وَل َ ْ
َ َ َ س ُ
سك ُ ُ
م ف َ جوا أن ْ ُ خرِ ُمأ ْ ديهِ ْ طو أي ْ ِ ة َبا ِ ملئ ِك َ ُ ت َوال ْ َ موْ ِ ت ال ْ َ مَرا ِ ن ِفي غَ َ مو َ ال ّ
ظال ِ ُ
ن
م عَ ْ حقّ وَك ُن ْت ُ ْ ن عََلى الل ّهِ غَي َْر ال ْ َ قوُلو َ م تَ ُما ك ُن ْت ُ ْ ن بِ َ ب ال ُْهو ِ ذا َ ن عَ َ جَزوْ َ م تُ ْ ال ْي َوْ َ
َ خل َ ْ ن * وَل َ َ
مام َ مّرةٍ وَت ََرك ْت ُ ْ ل َ م أوّ َ قَناك ُ ْ ما َ دى ك َ َ موَنا فَُرا َ جئ ْت ُ ُ قد ْ ِ ست َك ْب ُِرو َ آَيات ِهِ ت َ ْ
َ ّ ُ
م ِفيك ُ ْ
م م أن ّهُ ْ مت ُ ْ
ن َزعَ ْ ذي َ م ال ِ فَعاَءك ُ ُ ش َ م ُ معَك ُ ْ ما ن ََرى َ م وَ َ م وََراَء ظُهورِك ُ ْ خوّل َْناك ُ ْ َ
ن{. مو َ م ت َْزعُ ُ ما ك ُن ْت ُ ْ م َ ل عَن ْك ُ ْ ض ّ م وَ َ قط ّعَ ب َي ْن َك ُ ْ قد ْ ت َ َ كاُء ل َ َ شَر َ ُ
يقول تعالى :ل أحد أعظم ظلما ،ول أكبر جرما ،ممن كذب ]على[ الله.
بأن نسب إلى الله قول أو حكما وهو تعالى بريء منه ،وإنما كان هذا أظلم
الخلق ،لن فيه من الكذب ،وتغيير الديان أصولها ،وفروعها ،ونسبة ذلك
إلى الله -ما هو من أكبر المفاسد.
ويدخل في ذلك ،ادعاء النبوة ،وأن الله يوحي إليه ،وهو كاذب في ذلك،
فإنه -مع كذبه على الله ،وجرأته على عظمته وسلطانه -يوجب على
الخلق أن يتبعوه ،ويجاهدهم على ذلك ،ويستحل دماء من خالفه وأموالهم.
ويدخل في هذه الية ،كل من ادعى النبوة ،كمسيلمة الكذاب والسود
العنسي والمختار ،وغيرهم ممن اتصف بهذا الوصف.
ه { أي :ومن أظلم ممن زعم .أنه ل الل ّ ُ ما َأنز َ ل َ مث ْ َ ل ِ سُأنز ُ ل َ ن َقا َ م ْ } وَ َ
يقدر على ما يقدر الله عليه ويجاري الله في أحكامه ،ويشرع من الشرائع،
كما شرعه الله .ويدخل في هذا ،كل من يزعم أنه يقدر على معارضة
القرآن ،وأنه في إمكانه أن يأتي بمثله.وأي :ظلم أعظم من دعوى الفقير
ة القوي الغني ،الذي له العاجز بالذات ،الناقص من كل وجه ،مشارك َ
الكمال المطلق ،من جميع الوجوه ،في ذاته وأسمائه وصفاته؟"
ولما ذم الظالمين ،ذكر ما أعد لهم من العقوبة في حال الحتضار ،ويوم
ت { أي :شدائده موْ ِت ال ْ َ مَرا ِ ن ِفي غَ َ مو َ ظال ِ ُ القيامة فقال } :وَل َوْ ت ََرى إ ِذِ ال ّ
وأهواله الفظيعة ،وك َُربه الشنيعة -لرأيت أمرا هائل وحالة ل يقدر الواصف
أن يصفها.
َ س ُ
م { إلى أولئك الظالمين المحتضرين بالضرب ديهِ ْ طو أي ْ ِ ة َبا ِ ملئ ِك َ ُ } َوال ْ َ
والعذاب ،يقولون لهم عند منازعة أرواحهم وقلقها ،وتعصيها للخروج من
ن { أي :العذاب ب ال ُْهو ِ ذا َ ن عَ َ جَزوْ َ م تُ ْ م ال ْي َوْ َ سك ُ ُ ف َ جوا أ َن ْ ُ خرِ ُ البدان } :أ َ ْ
الشديد ،الذي يهينكم ويذلكم والجزاء من جنس العمل ،فإن هذا العذاب }
حقّ { من كذبكم عليه ،وردكم للحق، ن عََلى الل ّهِ غَي َْر ال ْ َ قوُلو َ م تَ ُ ما ك ُن ْت ُ ْ بِ َ
ّ
ن { أي :ت ََرفعون عن ْ
ست َكب ُِرو َ ن آَيات ِهِ ت َ ْ م عَ ْ ُ
الذي جاءت به الرسل } .وَكن ْت ُ ْ
النقياد لها ،والستسلم لحكامها.وفي هذا دليل على عذاب البرزخ
ونعيمه ،فإن هذا الخطاب ،والعذاب الموجه إليهم ،إنما هو عند الحتضار
وقبيل الموت وبعده.
وفيه دليل ،على أن الروح جسم ،يدخل ويخرج ،ويخاطب ،ويساكن
الجسد ،ويفارقه ،فهذه حالهم في البرزخ.
وأما يوم القيامة ،فإنهم إذا وردوها ،وردوها مفلسين فرادى بل أهل ول
مال ،ول أولد ول جنود ،ول أنصار ،كما خلقهم الله أول مرة ،عارين من
كل شيء.
فإن الشياء ،إنما تتمول وتحصل بعد ذلك ،بأسبابها ،التي هي أسبابها ،وفي
ذلك اليوم تنقطع جميع المور ،التي كانت مع العبد في الدنيا ،سوى العمل
الصالح والعمل السيء ،الذي هو مادة الدار الخرة ،الذي تنشأ عنه ،ويكون
حسنها وقبحها ،وسرورها وغمومها ،وعذابها ونعيمها ،بحسب العمال .فهي
التي تنفع أو تضر ،وتسوء أو تسر ،وما سواها من الهل والولد ،والمال
والنصار ،فعواري خارجية ،وأوصاف زائلة ،وأحوال حائلة ،ولهذا قال
تعالى:
ُ ْ ْ َ ُ َ َ } وَل َ َ
م { أي:خوّلَناك ْ
ما َ م َ مّرةٍ وَت ََركت ُ ْ ل َ م أوّ َ قَناك ْ خل ْ ما َ دى ك َ موَنا فَُرا َ جئ ْت ُ ُقد ْ ِ
ما
م { ل يغنون عنكم شيئا } وَ َ أعطيناكم ،وأنعمنا به عليكم } وََراَء ظ ُُهورِك ُ ْ
شَر َ فعاَءك ُم ال ّذين زعَمت َ
كاُء { . م ُ م ِفيك ُ ْ م أن ّهُ ْ
ِ َ َ ْ ُ ْ ُ ش َ َم ُمعَك ُ ْ
ن ََرى َ
فإن المشركين يشركون بالله ،ويعبدون معه الملئكة ،والنبياء،
والصالحين ،وغيرهم ،وهم كلهم لله ،ولكنهم يجعلون لهذه المخلوقات
نصيبا من أنفسهم ،وشركة في عبادتهم ،وهذا زعم منهم وظلم ،فإن
الجميع عبيد لله ،والله مالكهم ،والمستحق لعبادتهم .فشركهم في العبادة،
وصرفها لبعض العبيد ،تنزيل لهم منزلة الخالق المالك ،فيوبخون يوم
القيامة ويقال لهم هذه المقالة.
َ
قط ّ َ
ع قد ْ ت َ َكاُء ل َ َ
شَر َ م ُ م ِفيك ُ ْ م أن ّهُ ْ مت ُ ْن َزعَ ْ ذي َم ال ّ ِ
فَعاَءك ُ ُ ش َ م ُمعَك ُ ْما ن ََرى َ } وَ َ
م { أي :تقطعت الوصل والسباب بينكم وبين شركائكم ،من الشفاعة ب َي ْن َك ُ ْ
ن { من مو َ ما ك ُن ْت ُ ْ
م ت َْزعُ ُ م َ ل عَن ْك ُ ْ ض ّ جد شيئا } .وَ َ وغيرها فلم تنفع ولم ت ُ ْ
الربح ،والمن والسعادة ،والنجاة ،التي زينها لكم الشيطان ،وحسنها في
قلوبكم ،فنطقت بها ألسنتكم .واغتررتم بهذا الزعم الباطل ،الذي ل حقيقة
له ،حين تبين لكم نقيض ما كنتم تزعمون ،وظهر أنكم الخاسرون لنفسكم
وأهليكم وأموالكم.
) (1/264
ن
م َ ت ِ مي ّ ِ ج ال ْ َ خرِ ُ م ْت وَ ُ مي ّ ِن ال ْ َ م َي ِ ح ّ ج ال ْ َ خرِ ُ وى ي ُ ْ ب َوالن ّ َ ح ّ ه َفال ِقُ ال ْ َ ن الل ّ َ إِ ّ
ّ ْ َ ّ
سكًناَ ل َ ل اللي ْ َ جع َ َ صَباِح وَ َ ن )َ (95فال ِقُ ال ِ ْ ُ
ه فَأّنى ت ُؤْفَكو َ م الل ُ ُ
ي ذ َل ِك ُ ح ّ ال ْ َ
جعَ َ
ل ذي َ زيزِ ال ْعَِليم ِ ) (96وَهُوَ ال ّ ِ ديُر ال ْعَ ِ ق ِ ك تَ ْ سَباًنا ذ َل ِ َ ح ْ مَر ُ ق َ س َوال ْ َ م َ ش ْ َوال ّ
َ ْ ْ حرِ قَد ْ فَ ّ ْ ْ ُ ُ ل َك ُ ُ
قوْم ٍ ت لِ َ صلَنا الَيا ِ ت الب َّر َوالب َ ْ ما ِ دوا ب َِها ِفي ظل َ
َ
م ل ِت َهْت َ ُ جو َ م الن ّ ُ
ست َوْد َعٌ قَد ْ م ْ قّر وَ ُ ست َ َ م ْ حد َةٍ فَ ُ س َوا ِ ف ٍ ن نَ ْ م ْ م ِ شأك ُ ْ ذي أ َن ْ َ ن ) (97وَهُوَ ال ّ ِ مو َ ي َعْل َ ُ
ن )(98 قُهو َ ف َ قوْم ٍ ي َ ْ ت لِ َ صل َْنا اْل ََيا ِ فَ ّ
جخرِ ُ م ْ
ت وَ ُ مي ّ ِن ال ْ َ م َ ي ِ ح ّ ج ال ْ َ خرِ ُ وى ي ُ ْ ب َوالن ّ َ ح ّ ه َفال ِقُ ال ْ َ ن الل ّ َ } } { 98 - 95إ ِ ّ
َ ّ
صَباِحن * َفال ِقُ ال ْ ُ
ه فَأّنى ] ص [ 266ت ُؤْفَكو َ م الل ُ ُ
ي ذ َل ِك ُ ح ّ ن ال ْ َ م َ ت ِ مي ّ ِال ْ َ
زيزِ ال ْعَِليم ِ * وَهُ َ
و ديُر ال ْعَ ِ ق ِ ك تَ ْ سَباًنا ذ َل ِ َ ح ْ مَر ُ ق َ س َوال ْ َ م َ ش ْ سك ًَنا َوال ّ ل َ ل الل ّي ْ َ جع َ َ وَ َ
تصلَنا الَيا ِ ْ حرِ قَد ْ فَ ّ ْ
ت الب َّر َوالب َ ْ ْ ما ِ ُ ُ
دوا ب َِها ِفي ظل َ م ل ِت َهْت َ ُ جو َ م الن ّ ُ ُ
ل لك ُ َ جع َ َ ذي َ ال ّ ِ
َ ذي أ َن ْ َ
ست َوْد َعٌ قَد ْم ْ قّر وَ ُ ست َ َ
م ْ حد َةٍ فَ ُ س َوا ِ ف ٍ ن نَ ْم ْ
م ِ شأك ُ ْ ن * وَهُوَ ال ّ ِ مو َ قوْم ٍ ي َعْل َ ُ لِ َ
ن{. قُهو َ ف َ قوْم ٍ ي َ ْ ت لِ َ صلَنا الَيا ِ ْ فَ ّ
يخبر تعالى عن كماله ،وعظمة سلطانه ،وقوة اقتداره ،وسعة رحمته،
ب { شامل ح ّ ه َفال ِقُ ال ْ َ ن الل ّ َ وعموم كرمه ،وشدة عنايته بخلقه ،فقال } :إ ِ ّ
لسائر الحبوب ،التي يباشر الناس زرعها ،والتي ل يباشرونها ،كالحبوب
التي يبثها الله في البراري والقفار ،فيفلق الحبوب عن الزروع والنوابت،
على اختلف أنواعها ،وأشكالها ،ومنافعها ،ويفلق النوى عن الشجار ،من
النخيل والفواكه ،وغير ذلك .فينتفع الخلق ،من الدميين والنعام ،والدواب.
ويرتعون فيما فلق الله من الحب والنوى ،ويقتاتون ،وينتفعون بجميع أنواع
المنافع التي جعلها الله في ذلك .ويريهم الله من بره وإحسانه ما يبهر
العقول ،ويذهل الفحول ،ويريهم من بدائع صنعته ،وكمال حكمته ،ما به
يعرفونه ويوحدونه ،ويعلمون أنه هو الحق ،وأن عبادة ما سواه باطلة.
ت { كما يخرج من المني حيوانا ،ومن البيضة مي ّ ِ ن ال ْ َ م َي ِ ح ّ ج ال ْ َ خرِ ُ } يُ ْ
فرخا ،ومن الحب والنوى زرعا وشجرا.
ي { كما ح ّ ْ
ن ال َ
م َ ت { وهو الذي ل نمو فيه ،أو ل روح } ِ ج ال ْ َ
مي ّ ِ خرِ ُ م ْ } وَ ُ
يخرج من الشجار والزروع النوى والحب ،ويخرج من الطائر بيضا ونحو
ذلك.
ه{ ّ
م { الذي فعل ما فعل ،وانفرد بخلق هذه الشياء وتدبيرها } الل ُ ُ
} ذ َل ِك ْ
م أي :الذي له اللوهية والعبادة على خلقه أجمعين ،وهو الذي ربى َرب ّك ُ ْ
ن { أي :فأنى َ
جميع العالمين بنعمه ،وغذاهم بكرمه } .فَأّنى ت ُؤْفَ ُ
كو َ
تصرفون ،وتصدون عن عبادة من هذا شأنه ،إلى عبادة من ل يملك لنفسه
نفعا ول ضرا ،ول موتا ،ول حياة ،ول نشورا؟"
ولما ذكر تعالى مادة خلق القوات ،ذكر منته بتهيئة المساكن ،وخلقه كل
ما يحتاج إليه العباد ،من الضياء والظلمة ،وما يترتب على ذلك من أنواع
صَباِح { أي :كما أنه فالق الحب المنافع والمصالح فقالَ } :فال ِقُ ال ْ
والنوى ،كذلك هو فالق ظلمة الليل الداجي ،الشامل لما على وجه الرض،
بضياء الصبح الذي يفلقه شيئا فشيئا ،حتى تذهب ظلمة الليل كلها،
ويخلفها الضياء والنور العام،الذي يتصرف به الخلق في مصالحهم،
ومعايشهم ،ومنافع دينهم ودنياهم.
ولما كان الخلق محتاجين إلى السكون والستقرار والراحة ،التي ل تتم
سك ًَنا { يسكن فيه الدميون ل َ ل { الله } الل ّي ْ َ جعَ َ بوجود النهار والنور } َ
إلى دورهم ومنامهم ،والنعام إلى مأواها ،والطيور إلى أوكارها ،فتأخذ
نصيبها من الراحة ،ثم يزيل الله ذلك بالضياء ،وهكذا أبدا إلى يوم القيامة
سَباًنا { بهما تعرف الزمنة ح ْ مَر ُ ق َ} و { جعل تعالى } الشمس َوال ْ َ
والوقات ،فتنضبط بذلك أوقات العبادات ،وآجال المعاملت ،ويعرف بها
مدة ما مضى من الوقات التي لول وجود الشمس والقمر ،وتناوبهما
واختلفهما -لما عرف ذلك عامة الناس ،واشتركوا في علمه ،بل كان ل
يعرفه إل أفراد من الناس ،بعد الجتهاد ،وبذلك يفوت من المصالح
الضرورية ما يفوت.
زيزِ العَِليم ِ { الذي من عزته انقادت ْ ْ
ديُر العَ ِ ق ِ ك { التقدير المذكور } ت َ ْ } ذ َل ِ َ
له هذه المخلوقات العظيمة ،فجرت مذللة مسخرة بأمره ،بحيث ل تتعدى
ما حده الله لها ،ول تتقدم عنه ول تتأخر } ال ْعَِليم { الذي أحاط علمه،
بالظواهر والبواطن،والوائل والواخر.
ومن الدلة العقلية على إحاطة علمه ،تسخير هذه المخلوقات العظيمة،
على تقدير ،ونظام بديع ،تحي ُّر العقول في حسنه وكماله ،وموافقته
للمصالح والحكم.
حرِ { حين ْ ْ
ت الب َّر َوالب َ ْ ما ِ ُ ُ
دوا ب َِها ِفي ظل َ م ل ِت َهْت َ ُ جو َم الن ّ ُ َ
ل لك ُ ُجعَ َ ذي َ } وَهُوَ ال ّ ِ
تشتبه عليكم المسالك ،ويتحير في سيره السالك ،فجعل الله النجوم
هداية للخلق إلى السبل ،التي يحتاجون إلى سلوكها لمصالحهم،
وتجاراتهم ،وأسفارهم.
منها :نجوم ل تزال ترى ،ول تسير عن محلها ،ومنها :ما هو مستمر
السير،يعرف سيَره أهل المعرفة بذلك ،ويعرفون به الجهات والوقات.
ودلت هذه الية ونحوها ،على مشروعية تعلم سير الكواكب ومحاّلها الذي
يسمى علم التسيير ،فإنه ل تتم الهداية ول تمكن إل بذلك.
ت { أي بيناها ،ووضحناها ،وميزنا كل جنس ونوع منها عن صل َْنا الَيا ِ } قَد ْ فَ ّ
ن { أي :لهل مو َ قوْم ٍ ي َعْل َ ُ
الخر ،بحيث صارت آيات الله بادية ظاهرة } ل ِ َ
العلم والمعرفة ،فإنهم الذين يوجه إليهم الخطاب ،ويطلب منهم الجواب،
بخلف أهل الجهل والجفاء ،المعرضين عن آيات الله ،وعن العلم الذي
جاءت به الرسل ،فإن البيان ل يفيدهم شيئا ،والتفصيل ل يزيل عنهم
ملتبسا ،واليضاح ل يكشف لهم مشكل.
} وهو ال ّذي أ َن َ َ
حد َةٍ { وهو آدم عليه السلم .أنشأ الله س َوا ِ
ف ٍن نَ ْ
م ْ شأك ُ ْ
م ِ ْ َ ُ َ ِ
منه هذا العنصر الدمي؛ الذي قد مل الرض ولم يزل في زيادة ونمو ،الذي
قد تفاوت في أخلقه وخلقه ،وأوصافه تفاوتا ل يمكن ضبطه ،ول يدرك
وصفه ،وجعل الله لهم مستقرا ،أي منتهى ينتهون إليه ،وغاية يساقون
إليها ،وهي دار القرار ،التي ل مستقر وراءها ،ول نهاية فوقها ،فهذه الدار،
هي التي خلق الخلق لسكناها ،وأوجدوا في الدنيا ليسعوا في أسبابها ،التي
تنشأ عليها وتعمر بها ،وأودعهم الله في أصلب آبائهم وأرحام أمهاتهم ،ثم
في دار الدنيا ،ثم في البرزخ ،كل ذلك ،على وجه الوديعة ،التي ل تستقر ]
ص [ 267ول تثبت ،بل ينتقل منها حتى يوصل إلى الدار التي هي
قوْم ٍ صل َْنا الَيا ِ
ت لِ َ المستقر ،وأما هذه الدار ،فإنها مستودع وممر } قَد ْ فَ ّ
ن { عن الله آياته ،ويفهمون عنه حججه ،وبيناته. قُهو َ
ف َ
يَ ْ
) (1/265
ه
من ْ ُجَنا ِ خَر ْ يٍء فَأ َ ْ ش ْ ل َ ت كُ ّ جَنا ب ِهِ ن ََبا َخَر ْ ماًء فَأ َ ْ ماِء َ س َن ال ّ م َ ل ِ ذي أ َن َْز َ وَهُوَ ال ّ ِ
ن
م ْ
ت ِ جّنا ٍ ة وَ َ دان ِي َ ٌ ن َ
وا ٌن ط َل ْعَِها قِن ْ َ م ْل ِ خ ِ ن الن ّ ْ م َ مت ََراك ًِبا وَ ِ
حّبا ُ ه َ من ْ ُج ِ خرِ ُ ضًرا ن ُ ْ خ ِ َ
َ َ ُ َ
مَرذا أث ْ َ
مرِهِ إ ِ َ شاب ِهٍ ان ْظُروا إ ِلى ث َ َ شت َب ًِها وَغَي َْر ُ
مت َ َ م ْ ن ُ ما َ ن َوالّر ّ ب َوالّزي ُْتو َ أعَْنا ٍ
ن )(99 مُنو َ قوْم ٍ ي ُؤْ ِت لِ َ م َل ََيا ٍ ن ِفي ذ َل ِك ُ ْ وَي َن ْعِهِ إ ِ ّ
يءٍش ْ ل َ ت كُ ّ جَنا ب ِهِ ن ََبا َ خَر ْ ماًء فَأ َ ْ ماِء َ س َن ال ّ م َ ل ِ ذي أ َن َْز َ } } { 99وَهُوَ ال ّ ِ
ن
وا ٌ ن ط َل ْعَِها قِن ْ َ م ْل ِ خ ِن الن ّ ْ م َ مت ََراك ًِبا وَ ِحّبا ُ ه َ من ْ ُ
ج ِ خرِ ُ ضًرا ن ُ ْ خ ِ ه َمن ْ ُ
جَنا ِ خَر ْفَأ َ ْ
شاب ِهٍ ان ْظ ُُروا إ َِلى ة وجنات م َ
شت َب ًِها وَغَي َْر ُ
مت َ َ م ْ ن ُما َ ن َوالّر ّ ب َوالّزي ُْتو َ ن أعَْنا ٍ دان ِي َ ٌ َ َ ّ ٍ ِ ْ َ
ُ َ
ن{. مُنو َ قوْم ٍ ي ُؤْ ِت لِ َ م لَيا ٍ ن ِفي ذ َل ِك ْ مَر وَي َن ْعِهِ إ ِ ّذا أث ْ َمرِهِ إ ِ َ ثَ َ
وهذا من أعظم مننه العظيمة ،التي يضطر إليها الخلق ،من الدميين
وغيرهم ،وهو أنه أنزل من السماء ماء متتابعا وقت حاجة الناس إليه،
فأنبت الله به كل شيء ،مما يأكل الناس والنعام ،فرتع الخلق بفضل الله،
وانبسطوا برزقه،وفرحوا بإحسانه ،وزال عنهم الجدب واليأس والقحط،
ففرحت القلوب ،وأسفرت الوجوه ،وحصل للعباد من رحمة الرحمن
الرحيم ،ما به يتمتعون وبه يرتعون ،مما يوجب لهم ،أن يبذلوا جهدهم في
شكر من أسدى النعم ،وعبادته والنابة إليه ،والمحبة له.
ولما ذكر عموم ما ينبت بالماء ،من أنواع الشجار والنبات ،ذكر الزرع
ه
من ْ ُجَنا ِ خَر ْوالنخل ،لكثرة نفعهما وكونهما قوتا لكثر الناس فقال } :فَأ َ ْ
مت ََراك ًِبا { بعضه حّبا ُ ه { أي :من ذلك النبات الخضرَ } ، من ْ ُ
ج ِ خرِ ُ ضًرا ن ُ ْخ ِ َ
فوق بعض ،من بر ،وشعير ،وذرة ،وأرز ،وغير ذلك ،من أصناف الزروع،
وفي وصفه بأنه متراكب ،إشارة إلى أن حبوبه متعددة ،وجميعها تستمد
من مادة واحدة ،وهي ل تختلط ،بل هي متفرقة الحبوب ،مجتمعة الصول،
وإشارة أيضا إلى كثرتها ،وشمول ريعها وغلتها ،ليبقى أصل البذر ،ويبقى
بقية كثيرة للكل والدخار.
ن طلعَِها { وهو الكفرى ،والوعاء قبل ْ َ م ْل { أخرج الله } ِ خ ِن الن ّ ْم َ
} وَ ِ
ة { أي :قريبة سهلة دان ِي َ ٌ
ن َوا ٌ
ظهور القنو منه ،فيخرج من ذلك الوعاء } قِن ْ َ
التناول ،متدلية على من أرادها ،بحيث ل يعسر التناول من النخل وإن
طالت ،فإنه يوجد فيها كرب ومراقي ،يسهل صعودها.
ن { فهذه } و { أخرج تعالى بالماء } جنات م َ
ما َ
ن َوالّر ّب َوالّزي ُْتو َ ن أعَْنا ٍ
ِ ْ
من الشجار الكثيرة النفع ،العظيمة الوقع ،فلذلك خصصها الله بالذكر بعد
أن عم جميع الشجار والنوابت.
شاب ِهٍ { يحتمل أن يرجع إلى الرمان والزيتون، شت َب ًِها وَغَي َْر ُ
مت َ َ م ْوقوله } ُ
أي :مشتبها في شجره وورقه ،غير متشابه في ثمره.
ويحتمل أن يرجع ذلك ،إلى سائر الشجار والفواكه ،وأن بعضها
مشتبه،يشبه بعضه بعضا ،ويتقارب في بعض أوصافه ،وبعضها ل مشابهة
بينه وبين غيره ،والكل ينتفع به العباد ،ويتفكهون ،ويقتاتون ،ويعتبرون،
ولهذا أمر تعالى بالعتبار به ،فقال } :ان ْظ ُُروا { نظر فكر واعتبار } إ َِلى
مرِهِ { أي :الشجار كلها ،خصوصا :النخل } إذا أثمر { . ثَ َ
} وَي َن ْعِهِ { أي :انظروا إليه ،وقت إطلعه ،ووقت نضجه وإيناعه ،فإن في
ذلك عبرا وآيات ،يستدل بها على رحمة الله ،وسعة إحسانه وجوده،
وكمال اقتداره وعنايته بعباده.
ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر وليس كل من تفكر ،أدرك المعنى
ن ِفي ذ َل ِ َ
كم المقصود ،ولهذا قيد تعالى النتفاع باليات بالمؤمنين فقال } :إ ِ ّ
ن { فإن المؤمنين يحملهم ما معهم من اليمان ،على مُنو َقوْم ٍ ي ُؤْ ِ ت لِ َلَيا ٍ
العمل بمقتضياته ولوازمه ،التي منها التفكر في آيات الله ،والستنتاج منها
ما يراد منها ،وما تدل عليه ،عقل وفطرة ،وشرعا.
) (1/267
ه
حان َ ُ
سب ْ َعل ْم ٍ ُ
ت ب ِغَي ْرِ ِ
ن وَب ََنا ٍ خَرُقوا ل َ ُ
ه ب َِني َ م وَ َقه ُ ْ خل َ َ
ن وَ َج ّكاَء ال ْ ِ
شَر َ جعَُلوا ل ِل ّهِ ُوَ َ
َ َ
ه وَل َد ٌ وَل َ ْ
م ن لَ ُ ت َواْلْرض أّنى ي َ ُ
كو ُ ِ ماَوا ِ س َديعُ ال ّ ن ) (100ب َ ِ فو َ ص ُ
ما ي َ ِوَت ََعاَلى عَ ّ
م )(101 يٍء عَِلي ٌ ش ْ ل َ يٍء وَهُوَ ب ِك ُ ّ ش ْ ل َخل َقَ ك ُ ّ ة وَ َحب َ ٌ
صا ِ
ه َ ن لَ ُ
ت َك ُ ْ
ن خَرُقوا ل َ ُ
ه ب َِني َ م وَ َ خل َ َ
قهُ ْ ن وَ َ
ج ّ كاَء ال ْ ِشَر َ جعَُلوا ل ِل ّهِ ُ } } { 104 - 100وَ َ
َ
ض أّنىت َوالْر ِ ماَوا ِ س َ ديعُ ال ّ ن * بَ ِ فو َ ص ُ ما ي َ ِه وَت ََعاَلى عَ ّ حان َ ُ عل ْم ٍ ُ
سب ْ َ ت ب ِغَي ْرِ ِ وَب ََنا ٍ
م{. يٍء عَِلي ٌ ش ْ ل َ يٍء وَهُوَ ب ِك ُ ّ ش ْل َ خل َقَ ك ُ ّ ة وَ َحب َ ٌ
صا ِه َ ن لَ ُ ه وَل َد ٌ وَل َ ْ
م ت َك ُ ْ ن لَ ُكو ُيَ ُ
يخبر تعالى :أنه مع إحسانه لعباده وتعرفه إليهم ،بآياته البينات ،وحججه
الواضحات -أن المشركين به ،من قريش وغيرهم ،جعلوا له
شركاء،يدعونهم ،ويعبدونهم ،من الجن والملئكة ،الذين هم خلق من خلق
الله ،ليس فيهم من خصائص الربوبية واللوهية شيء ،فجعلوها شركاء
لمن له الخلق والمر ،وهو المنعم بسائر أصناف النعم ،الدافع لجميع
النقم ،وكذلك "خرق المشركون" أي :ائتفكوا ،وافتروا من تلقاء أنفسهم
لله ،بنين وبنات بغير علم منهم ،ومن أظلم ممن قال على الله بل علم،
وافترى عليه أشنع النقص ،الذي يجب تنزيه الله عنه؟!!.
ما َ
ه وَت ََعالى عَ ّ حان َ ُ
سب ْ َولهذا نزه نفسه عما افتراه عليه المشركون فقالُ } :
ن { فإنه تعالى ،الموصوف بكل كمال ،المنزه عن كل نقص ،وآفة فو َ ص ُيَ ِ
وعيب.
ض { أي :خالقهما ،ومتقن صنعتهما ،على غير مثال ت َوالْر ِ ماَوا ِس َديعُ ال ّ } بَ ِ
سبق ،بأحسن خلق ،ونظام وبهاء ،ل تقترح عقول أولي اللباب مثله،
وليسله في خلقهما مشارك.
ة { أي :كيف يكون لله الولد ،وهو حب َ ٌ
صا ِ ه َ َ
نل ُ م ت َك ُ ْه وَل َد ٌ وَل َ ْ
ن لَ ُ
كو ُ } أ َّنى ي َ ُ
الله السيد الصمد ،الذي ل صاحبة له أي :ل زوجة له ،وهو الغني عن
مخلوقاته،وكلها فقيرة إليه ،مضطرة في جميع أحوالها إليه ،والولد ل بد أن
يكون من جنس والده؛ والله خالق كل شيء وليس شيء من المخلوقات
مشابها لله بوجه من الوجوه.
ولما ذكر عموم خلقه للشياء ،ذكر إحاطة علمه بها فقال } :وَهُوَ ب ِك ُ ّ
ل
م { وفي ذكر العلم بعد الخلق ،إشارة إلى الدليل العقلي إلى يٍء عَِلي ٌ ش ْ َ
] ص [ 268ثبوت علمه ،وهو هذه المخلوقات ،وما اشتملت عليه من
النظام التام ،والخلق الباهر ،فإن في ذلك دللة على سعة علم الخالق،
ف ال ْ َ َ
خِبيُر { طي ُخل َقَ وَهُوَ الل ّ ِ
ن َ
م ْ وكمال حكمته ،كما قال تعالى } :أل ي َعْل َ ُ
م َ
م { ذلكم الذي خلق ما خلق ،وقدر ما خلقُ ال ْعَِلي ُ وكما قال تعالى } :وَهُوَ ال ْ َ
قدر.
) (1/267
يٍءش ْ ل َ دوهُ وَهُوَ عََلى ك ُ ّ يٍء َفاعْب ُ ُ ش ْ ل َ خال ِقُ ك ُ ّ ه إ ِّل هُوَ َ م َل إ ِل َ َ ه َرب ّك ُ ْ م الل ّ ُ ذ َل ِك ُ ُ
ف ال ْ َ صاَر وَهُوَ الل ّ ِ ل )َ (102ل ت ُد ْرك ُه اْل َب ْصار وهُو ي ُد ْر ُ َ
خِبيُر ) طي ُ ك اْلب ْ َ ِ َ ُ َ َ ِ ُ كي ٌ وَ ِ
َ َ
ي فَعَلي َْها وَ َ
ما م َن عَ ِ م ْسه ِ و َ َ ف ِ صَر فَل ِن َ ْ ن أب ْ َ م ْ م فَ َ ن َرب ّك ُ ْ م ْ
صائ ُِر ِ م بَ َ جاَءك ُ ْ (103قَد ْ َ
ُ َ ْ َ
ه
ت وَل ِن ُب َي ّن َ ُ س َ قولوا د ََر ْ ت وَل ِي َ ُ ف الَيا ِ صّر ُ ك نُ َ ظ ) (104وَك َذ َل ِ َ في ٍ ح ِم بِ َ أَنا عَل َي ْك ُ ْ
َ ما ُأو ِ
ن
ض عَ ِ ه إ ِّل هُوَ وَأعْرِ ْ ك َل إ ِل َ َ ن َرب ّ َ م ْ ك ِ ي إ ِل َي ْ َ ح َ ن ) (105ات ّب ِعْ َ مو َ قوْم ٍ ي َعْل َ ُ لِ َ
في ً َ
ماظا وَ َ ح ِم َ ك عَل َي ْهِ ْ جعَل َْنا َ ما َ كوا وَ َ شَر ُ ما أ ْ ه َ شاَء الل ّ ُ ن ) (106وَل َوْ َ كي َ شرِ ِ م ْ ال ْ ُ
َ
ل )(107 كي ٍ م ب ِوَ ِت عَل َي ْهِ ْ أن ْ َ
دوهُ وَهُوَ عََلى ك ُ ّ
ل يٍء َفاعْب ُ ُ ش ْ ل َ خال ِقُ ك ُ ّ ه ِإل هُوَ َ م ل إ ِل َ َ م الل ّ ُ
ه َرب ّك ُ ْ } ذ َل ِك ُ ُ
خِبيُر * قَد ْ ف ال ْ َ طي ُ صاَر وَهُوَ الل ّ ِ ك الب ْ َ صاُر وَهُوَ ي ُد ْرِ ُ ه الب ْ َ ل * ل ت ُد ْرِك ُ ُ كي ٌ يٍء وَ ِ ش ْ َ
َ َ َ َ
ما أَنا عَلي ْك ُ ْ
م ي فَعَلي َْها وَ َ
م َ ن عَ ِ م ْسهِ وَ َف ِ صَر فَل ِن َ ْن أب ْ َم ْ م فَ َ ن َرب ّك ُ ْ م ْ صائ ُِر ِ م بَ َ جاَءك ُ ْ َ
ظ{. بِ َ ِ ٍ
في ح
م { أي :المألوه المعبود ،الذي يستحق نهاية الذل ،ونهاية ه َرب ّك ُ ْ } الل ّ ُ
الحب،الرب ،الذي ربى جميع الخلق بالنعم ،وصرف عنهم صنوف النقم.
دوه ُ { أي :إذا استقر وثبت ،أنه الله يٍء َفاعْب ُ ُش ْ ل َ خال ِقُ ك ُ ّ ه ِإل هُوَ َ } ل إ ِل َ َ
الذي ل إله إل هو،فاصرفوا له جميع أنواع العبادة ،وأخلصوها لله ،واقصدوا
ت ق ُخل َ ْ ما َ بها وجهه .فإن هذا هو المقصود من الخلق ،الذي خلقوا لجله } وَ َ
ن{. دو ِ س ِإل ل ِي َعْب ُ ُ ن َوالن ْ َ ج ّال ْ ِ
ل { أي :جميع الشياء ،تحت وكالة الله كي ٌ يٍء وَ ِ ش ْ ل َ } وَهُوَ عََلى ك ُ ّ
وتدبيره،خلقا ،وتدبيرا ،وتصريفا.
ومن المعلوم ،أن المر المتصرف فيه يكون استقامته وتمامه ،وكمال
انتظامه ،بحسب حال الوكيل عليه .ووكالته تعالى على الشياء ،ليست من
جنس وكالة الخلق ،فإن وكالتهم ،وكالة نيابة ،والوكيل فيها تابع لموكله.
وأما الباري ،تبارك وتعالى ،فوكالته من نفسه لنفسه ،متضمنة لكمال
العلم،وحسن التدبير والحسان فيه ،والعدل ،فل يمكن لحد أن يستدرك
على الله،ول يرى في خلقه خلل ول فطورا ،ول في تدبيره نقصا وعيبا.
ومن وكالته :أنه تعالى ،توكل ببيان دينه ،وحفظه عن المزيلت
والمغيرات،وأنه تولى حفظ المؤمنين وعصمتهم عما يزيل إيمانهم ودينهم.
صاُر { لعظمته ،وجلله وكماله ،أي :ل تحيط به البصار ،وإن ه الب ْ َ } ل ت ُد ْرِك ُ ُ
كانت تراه ،وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم ،فنفي الدراك ل ينفي الرؤية،
بل يثبتها بالمفهوم .فإنه إذا نفى الدراك ،الذي هو أخص أوصاف الرؤية،
دل على أن الرؤية ثابتة.
فإنه لو أراد نفي الرؤية ،لقال "ل تراه البصار" ونحو ذلك ،فعلم أنه ليس
في الية حجة لمذهب المعطلة ،الذين ينفون رؤية ربهم في الخرة ،بل
فيها ما يدل على نقيض قولهم.
صاَر { أي :هو الذي أحاط علمه ،بالظواهر ك الب ْ َ } وَهُوَ ي ُد ْرِ ُ
والبواطن،وسمعه بجميع الصوات الظاهرة ،والخفية ،وبصره بجميع
خِبيُر { الذي ف ال ْ َطي ُ المبصرات،صغارها ،وكبارها ،ولهذا قال } :وَهُوَ الل ّ ِ
لطف علمه وخبرته ،ودق حتى أدرك السرائر والخفايا ،والخبايا والبواطن.
ومن لطفه ،أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه ،ويوصلها إليه بالطرق التي ل
يشعر بها العبد ،ول يسعى فيها ،ويوصله إلى السعادة البدية ،والفلح
السرمدي ،من حيث ل يحتسب ،حتى أنه يقدر عليه المور ،التي يكرهها
العبد ،ويتألم منها ،ويدعو الله أن يزيلها ،لعلمه أن دينه أصلح ،وأن كماله
متوقف عليها ،فسبحان اللطيف لما يشاء ،الرحيم بالمؤمنين.
فسه ومن عَمي فَعل َيها وما أناَ } قَد جاَءك ُم بصائ ِر من ربك ُم فَم َ
ِ َ َ َْ َ َ َ صَر فَل ِن َ ْ ِ ِ َ َ ْ ن أب ْ َْ َ َ ُ ِ ْ َ ّ ْ َ ْ ْ َ
ظ { لما بين تعالى من اليات البينات ،والدلة الواضحات، م ِ َ ِ ٍ
في ح ب عَل َي ْك ُ ْ
الدالة على الحق في جميع المطالب والمقاصد ،نبه العباد عليها ،وأخبر أن
م { أي :آيات ن َرب ّك ُ ْم ْصائ ُِر ِ جاَءك ُ ْ
م بَ َ هدايتهم وضدها لنفسهم ،فقال } :قَد ْ َ
تبين الحق،وتجعله للقلب بمنزلة الشمس للبصار ،لما اشتملت عليه من
فصاحة اللفظ،وبيانه ،ووضوحه ،ومطابقته للمعاني الجليلة ،والحقائق
الجميلة ،لنها صادرة من الرب ،الذي ربى خلقه ،بصنوف نعمه الظاهرة
والباطنة ،التي من أفضلها وأجلها ،تبيين اليات ،وتوضيح المشكلت.
سهِ { صَر { بتلك اليات ،مواقع العبرة ،وعمل بمقتضاها } فَل ِن َ ْ } فَم َ
ف ِ ن أب ْ َ َ ْ
فإن الله هو الغني الحميد.
جر فلم ينزجر ،وبين له الحق ،فما صر فلم يتبصر ،وُز ِ ي { بأن ب ُ ّ م َن عَ ِ م ْ} وَ َ
انقاد له ول تواضع ،فإنما عماه مضرته عليه.
َ
ظ { أحفظ أعمالكم وأرقبها على في ٍ ح ِ
م بِ َما أَنا { أي :الرسول } عَل َي ْك ُ ْ } وَ َ
ي ،فهذه ي البلغ المبين وقد أديته ،وبلغت ما أنزل الله إل ّ الدوام إنما عل ّ
وظيفتي ،وما عدا ذلك فلست موظفا فيه ). (1
__________
) (1انتقل الشيخ -رحمه الله -بعد تفسير هذه الية إلى قوله تعالى) :ول
تسبوا (...فلم يفسر اليات من قوله تعالى) :وكذلك نصرف اليات( إلى
قوله) :وما أنت عليهم بوكيل( ذات الرقام ) (107-105فقام النجار
بتفسيرها دون الشارة إلى أنها ليست من كلم الشيخ -رحمه الله -انظر
طبعة النجار ).(452-2/450
) (1/268
ك َزي ّّناعل ْم ٍ ك َذ َل ِ َ
ه عَد ًْوا ب ِغَي ْرِ ِسّبوا الل ّ َ ن الل ّهِ فَي َ ُدو ِ
ن ُ م ْ ن ِ
عو َ ن ي َد ْ ُذي َ سّبوا ال ّ ِوََل ت َ ُ
ل ِك ُ ّ ُ
ن )(108 مُلو َ
كاُنوا ي َعْ َ ما َم بِ َ م فَي ُن َب ّئ ُهُ ْ
جعُهُ ْ مْر ِ
م َم إ َِلى َرب ّهِ ْم ثُ ّ مل َهُ ْمة ٍ ع َ َ
لأ ّ
) (1/268
م آ َي َ ٌ َ َ
عن ْد َ
ت ِ ما اْل ََيا ُ ل إ ِن ّ َ ن ب َِها قُ ْ من ُ ّة ل َي ُؤْ ِ جاَءت ْهُ ْ ن َ م ل َئ ِ ْ مان ِهِ ْ جهْد َ أي ْ َ موا ِبالل ّهِ َ س ُ وَأقْ َ
َ م أ َن َّها إ ِ َ
ب أفْئ ِد َت َهُ ْ
م قل ّ ُ ن ) (109وَن ُ َ مُنو َ ت َل ي ُؤْ ِ جاَء ْ ذا َ شعُِرك ُ ْ ما ي ُ ْ الل ّهِ وَ َ
َ َ
ن )(110 مُهو َ م ي َعْ َ م ِفي ط ُغَْيان ِهِ ْ مّرةٍ وَن َذ َُرهُ ْ ل َ مُنوا ب ِهِ أوّ َ م ي ُؤْ ِما ل َ ْ م كَ َ صاَرهُ ْ وَأب ْ َ
َ َ
ن ب َِها من ُ ّ ة ل َي ُؤْ ِم آي َ ٌ جاَءت ْهُ ْ ن َ م ل َئ ِ ْمان ِهِ ْ جهْد َ أي ْ َ موا ِبالل ّهِ َ س ُ } } { 111 - 109وَأقْ َ
بقل ّ ُ ن * وَن ُ َ مُنو َ ت ل ي ُؤْ ِ جاَء ْ ذا َ م أ َن َّها إ ِ َ شعُِرك ُ ْ ما ي ُ ْ عن ْد َ الل ّهِ وَ َ ت ِ ما الَيا ُ قُ ْ
ل إ ِن ّ َ
َ َ َ
ن
مُهو َ م ي َعْ َ م ِفي ط ُغَْيان ِهِ ْ مّرةٍ وَن َذ َُرهُ ْ ل َ مُنوا ب ِهِ أوّ َ م ي ُؤْ ِ ما ل َ ْ م كَ َ صاَرهُ ْ م وَأب ْ َ أفْئ ِد َت َهُ ْ
{.
أي :وأقسم المشركون المكذبون للرسول محمد صلى الله عليه وسلم} .
َ
ة{ م آي َ ٌ جاَءت ْهُ ْ ن َ م { أي :قسما اجتهدوا فيه وأكدوه } .ل َئ ِ ْ مان ِهِ ْ جهْد َ أي ْ َ ِبالل ّهِ َ
ن ب َِها { وهذا الكلم من ُ ّتدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم } ل َي ُؤْ ِ
الذي صدر منهم ،لم يكن قصدهم فيه الرشاد ،وإنما قصدهم دفع
العتراض عليهم ،ورد ما جاء به الرسول قطعا ،فإن الله أيد رسوله صلى
الله عليه وسلم ،باليات البينات،والدلة الواضحات ،التي -عند اللتفات لها-
ل تبقي أدنى شبهة ول إشكال في صحة ما جاء به ،فطلبهم -بعد ذلك-
لليات من باب التعنت ،الذي ل يلزم إجابته ،بل قد يكون المنع من إجابتهم
أصلح لهم ،فإن الله جرت سنته في عباده ،أن المقترحين لليات على
رسلهم ،إذا جاءتهم ،فلم يؤمنوا بها -أنه يعاجلهم بالعقوبة ،ولهذا قال:
عن ْد َ الل ّهِ { أي :هو الذي يرسلها إذا شاء ،ويمنعها إذا ت ِ ما الَيا ُ ل إ ِن ّ َ} قُ ْ
شاء ،ليس لي من المر شيء ،فطلبكم مني اليات ظلم،وطلب لما ل
أملك ،وإنما توجهون إلى توضيح ما جئتكم به ،وتصديقه ،وقد حصل ،ومع
ذلك ،فليس معلوما ،أنهم إذا جاءتهم اليات يؤمنون ويصدقون ،بل الغالب
تل جاَء ْ م أ َن َّها إ ِ َ
ذا َ شعُِرك ُ ْ
ما ي ُ ْ
ممن هذه حاله ،أنه ل يؤمن ،ولهذا قال } :وَ َ
ن{. مُنو َ ي ُؤْ ِ
َ َ َ
مّرةٍ وَن َذ َُرهُ ْ
م ِفي ل َمُنوا ب ِهِ أوّ َ ما ل َ ْ
م ي ُؤْ ِ م كَ َ
صاَرهُ ْ ب أفْئ ِد َت َهُ ْ
م وَأب ْ َ قل ّ ُ } وَن ُ َ
ن { أي :ونعاقبهم ،إذا لم يؤمنوا أول مرة يأتيهم فيها مُهو َ م ي َعْ َ ط ُغَْيان ِهِ ْ
الداعي ،وتقوم عليهم الحجة ،بتقليب القلوب ،والحيلولة بينهم وبين
اليمان ،وعدم التوفيق لسلوك الصراط المستقيم.
وهذا من عدل الله ،وحكمته بعباده ،فإنهم الذين جنوا على أنفسهم ،وفتح
لهم الباب فلم يدخلوا ،وبين لهم الطريق فلم يسلكوا ،فبعد ذلك إذا حرموا
التوفيق ،كان مناسبا لحوالهم.
) (1/269
) (1/269
ض ضه ُ ْ َ س َوال ْ ِ طي َ ْ ي عَد ُّوا َ جعَل َْنا ل ِك ُ ّ وَك َذ َل ِ َ
م إ ِلى ب َعْ ٍ حي ب َعْ ُ ن ُيو ِ ج ّ ن ال ِن ْ ِ شَيا ِ ل ن َب ِ ّ ك َ
ن )(112 فت َُرو َ ما ي َ ْ ما فَعَُلوهُ فَذ َْرهُ ْ
م وَ َ ك َ شاَء َرب ّ َ ل غُُروًرا وَل َوْ َ قوْ ِ ف ال ْ َ
خُر َ ُز ْ
َ ْ َ ّ َ َ
م قت َرُِفوا َ
ما هُ ْ ضوْهُ وَل ِي َ ْخَرةِ وَل ِي َْر َ
ن ِبال ِ مُنو َ ن ل ي ُؤْ ِ ذي َ صَغى إ ِلي ْهِ أفْئ ِد َةُ ال ِ وَل ِت َ ْ
ن )(113 قت َرُِفو َ م ْ
ُ
ن
ج ّ س َوال ْ ِ
ن الن ْ ِ طي َ شَيا ِ ي عَد ُّوا َ ل ن َب ِ ّجعَل َْنا ل ِك ُ ّ ك َ } } { 113 ، 112وَك َذ َل ِ َ
ما فَعَُلوهُ
ك َ شاَء َرب ّ َ ل غُُروًرا وَل َوْ َ قوْ ِ ف ال ْ َخُر َ ض ُز ْ م إ ِلى ب َعْ ٍ
ضه ُ ْ َ حي ب َعْ ُ ُيو ِ
ّ ْ َ َ
ضوْهُ
خَرةِ وَل ِي َْر َ ن ِبال ِمُنو َ ن ل ي ُؤْ ِذي َ صَغى إ ِلي ْهِ أفئ ِد َةُ ال ِ ن * وَل ِت َ ْ فت َُرو َ ما ي َ ْ م وَ َفَذ َْرهُ ْ
ن{. قت َرُِفو َ م ْ م ُ
ما هُ ْ قت َرُِفوا َ وَل ِي َ ْ
يقول تعالى -مسليا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم -وكما جعلنا لك
أعداء يردون دعوتك ،ويحاربونك ،ويحسدونك ،فهذه سنتنا ،أن نجعل لكل
نبي نرسله إلى الخلق أعداء ،من شياطين النس والجن ،يقومون بضد ما
جاءت به الرسل.
ل غُُروًرا { أي :يزين بعضهم لبعض قوْ ِ ف ال َْ خُر َ ض ُز ْ َ
م إ ِلى ب َعْ ٍ ضه ُ ْحي ب َعْ ُ } ُيو ِ
المر الذي يدعون إليه من الباطل ،ويزخرفون له العبارات حتى يجعلوه
في أحسن صورة ،ليغتر به السفهاء ،وينقاد له الغبياء ،الذين ل يفهمون
الحقائق،ول يفقهون المعاني ،بل تعجبهم اللفاظ المزخرفة ،والعبارات
المموهة،فيعتقدون الحق ] ص [ 270باطل والباطل حقا ،ولهذا قال
صَغى إ ِل َي ْهِ { أي :ولتميل إلى ذلك الكلم المزخرف } أ َفْئ ِد َةُ تعالى } :وَل ِت َ ْ
خَرةِ { لن عدم إيمانهم باليوم الخر وعدم عقولهم ن ِبال ِ مُنو َ ن ل ي ُؤْ ِ ذي َ ال ّ ِ
ضوْهُ { بعد أن يصغوا إليه ،فيصغون إليه النافعة ،يحملهم على ذلك } ،وَل ِي َْر َ
أول فإذا مالوا إليه ورأوا تلك العبارات المستحسنة ،رضوه ،وزين في
قلوبهم ،وصار عقيدة راسخة،وصفة لزمة ،ثم ينتج من ذلك ،أن يقترفوا
من العمال والقوال ما هم مقترفون ،أي :يأتون من الكذب بالقول
والفعل ،ما هو من لوازم تلك العقائد القبيحة ،فهذه حال المغترين
بشياطين النس والجن ،المستجيبين لدعوتهم،وأما أهل اليمان بالخرة،
وأولو العقول الوافية واللباب الرزينة ،فإنهم ل يغترون بتلك العبارات ،ول
تخلبهم تلك التمويهات ،بل همتهم مصروفة إلى معرفة الحقائق ،فينظرون
إلى المعاني التي يدعو إليها الدعاة ،فإن كانت حقا قبلوها ،وانقادوا لها،
ولو كسيت عبارات ردية ،وألفاظا غير وافية ،وإن كانت باطل ردوها على
من قالها ،كائنا من كان ،ولو ألبست من العبارات المستحسنة ،ما هو أرق
من الحرير.
ومن حكمة الله تعالى ،في جعله للنبياء أعداء ،وللباطل أنصارا قائمين
بالدعوة إليه ،أن يحصل لعباده البتلء والمتحان ،ليتميز الصادق من
الكاذب ،والعاقل من الجاهل ،والبصير من العمى.
ومن حكمته أن في ذلك بيانا للحق ،وتوضيحا له ،فإن الحق يستنير ويتضح
إذا قام الباطل يصارعه ويقاومه .فإنه -حينئذ -يتبين من أدلة الحق،
وشواهده الدالة على صدقه وحقيقته ،ومن فساد الباطل وبطلنه ،ما هو
من أكبر المطالب ،التي يتنافس فيها المتنافسون.
) (1/269
م ذي َ
صًل َوال ّ ِ َ
ن آت َي َْناهُ ُ ف ّ م َب ُم ال ْك َِتا َ ذي أ َن َْز َ
ل إ ِل َي ْك ُ ُ ما وَهُوَ ال ّ ِ حك َ ً
َ
أفَغَي َْر الل ّهِ أب ْت َِغي َ
َ
ال ْكتاب يعل َمو َ
ن )(114 ري َ
مت َ ِ ن ال ْ ُ
م ْ م َن ِ حقّ فََل ت َ ُ
كون َ ّ ك ِبال ْ َ ن َرب ّ َ م ْل ِ من َّز ٌه ُن أن ّ َُِ َ َْ ُ َ
م )(115 ْ
ميعُ العَِلي ُ س ِ مات ِهِ وَهُوَ ال ّ َ
ل ل ِكل ِ َ مب َد ّ َ َ ً
صد ًْقا وَعَد ْل ل ُ َ
ة َرب ّك ِ ت ك َل ِ َ
م ُ م ْ
وَت َ ّ
م ال ْك َِتا َ
ب ل إ ِل َي ْك ُ ُ ذي أ َن َْز َ ما وَهُوَ ال ّ ِ حك َ ً
َ َ
} } { 115 ، 114أفَغَي َْر الل ّهِ أب ْت َِغي َ
فصل وال ّذين آتيناهُم ال ْكتاب يعل َمو َ
نكون َ ّ حقّ َفل ت َ ُ ك ِبال ْ َ ن َرب ّ َ م ْ ل ِ من َّز ٌ ه ُ ن أن ّ ُ َِ َ َْ ُ َ م َ ّ َ ِ َ ََْ ُ ُ
ع
مي ُ س ِ مات ِهِ وَهُوَ ال ّ َ َ
مب َد ّل ل ِكل ِ َ دل ل ُ صد ْقا وَعَ ًْ َ
ة َرب ّك ِ م ُ َ
ت كل ِ َ م ْ ن * وَت َ ّ ري َ مت َ ِ
م ْ ْ
ن ال ُ م َ ِ
م{. العَِلي ُ ْ
َ َ ّ َ
ما { أحاكم إليه ،وأتقيد حك ً أي :قل يا أيها الرسول } أفَغَي َْر اللهِ أب ْت َِغي َ
بأوامره ونواهيه .فإن غير الله محكوم عليه ل حاكم .وكل تدبير وحكم
للمخلوق فإنه مشتمل على النقص ،والعيب ،والجور ،وإنما الذي يجب أن
يتخذ حاكما ،فهو الله وحده ل شريك له ،الذي له الخلق والمر.
ضحا فيه الحلل والحرام، صل { أي :مو ّ ف ّ م َب ُ م ال ْك َِتا َ ل إ ِل َي ْك ُ ُذي َأنز َ } ال ّ ِ
والحكام الشرعية ،وأصول الدين وفروعه ،الذي ل بيان فوق بيانه ،ول
برهان أجلى من برهانه ،ول أحسن منه حكما ول أقوم قيل لن أحكامه
مشتملة على الحكمة والرحمة.
َ
ه
ن أن ّ ُ مو َ وأهل الكتب السابقة ،من اليهود والنصارى ،يعترفون بذلك } وي َعْل َ ُ
ن في ذلك شك ّ ّ حقّ { ولهذا ،تواطأت الخبارات } َفل { ت ُ ك ِبال ْ َ ن َرب ّ َ م ْ ل ِ منز ٌ ُ
ن{. ري َ مت َ ِ م ْ ْ
ن ال ُ م َ ن ِ ُ
ول } ت َكون َ ّ
دل { أي :صدقا في صد ْقا وَعَ ْ ً َ
ة َرب ّك ِ م ُ َ
ت كل ِ َ م ْ ثم وصف تفصيلها فقال } :وَت َ ّ
الخبار ،وعدل في المر والنهي .فل أصدق من أخبار الله التي أودعها هذا
مات ِهِ { ]حيث ل ل ِك َل ِ َ مب َد ّ َ
الكتاب العزيز ،ول أعدل من أوامره ونواهيه } ل ُ
حفظها وأحكمها بأعلى أنواع الصدق ،وبغاية الحق ،فل يمكن تغييرها ،ول
اقتراح أحسن منها[ ). (1
ميعُ { لسائر الصوات ،باختلف اللغات على تفنن الحاجات. س ِ } وَهُوَ ال ّ
م { الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن ،والماضي والمستقبل. } ال ْعَِلي ُ
__________
) (1زيادة من هامش ب بخط الشيخ -رحمه الله.-
) (1/270
) (1/270
) (1/270
م إ ِّل وما ل َك ُ َ ْ
م عَل َي ْك ُ ْ
حّر َما َ
م َ ل ل َك ُ ْ م الل ّهِ عَ َل َي ْهِ وَقَد ْ فَ ّ
ص َ س ُما ذ ُك َِر ا ْم ّم أّل ت َأك ُُلوا ِ ْ َ َ
م َ َ َ ْ ّ َ َ َ ُ
ن َرب ّك هُوَ أعْل ُ علم ٍ إ ِ ّ م ب ِغَي ْرِ ِ
وائ ِهِ ْ
ن ب ِأهْ َ
ضلو َ ن كِثيًرا لي ُ ِ م إ ِلي ْهِ وَإ ِ ّ
ضطرِْرت ُ ْ ما ا ْ َ
ن )(119 َ دي
ِ َ تْ عم ْ
ِ ُ ل با
} وما ل َك ُ َ ْ
م عَل َي ْك ُ ْ
م حّر َ
ما َم َ ل ل َك ُ ْ
ص َم الل ّهِ عَ َل َي ْهِ وَقَد ْ فَ ّس ُ ما ذ ُك َِر ا ْ
م ّ م أل ت َأك ُُلوا ِ ْ َ َ
و َ
ن َرب ّك هُ َ ْ
علم ٍ إ ِ ّ م ب ِغَي ْرِ ِ
وائ ِهِ ْ
ن ب ِأهْ َ
ضلو َّ َ َ
ن كِثيًرا لي ُ ِ َ
م إ ِلي ْهِ وَإ ِ ّضطرِْرت ُ ُْ ما ا ْ ِإل َ
ْ َ
ن{. دي َ معْت َ ِم ِبال ُأعْل َ ُ
وأنه ،أي شيء يمنعهم من أكل ما ذكر اسم الله عليه ،وقد فصل الله
لعباده ما حرم عليهم ،وبينه ،ووضحه؟ فلم يبق فيه إشكال ول شبهة،
توجب أن يمتنع من أكل بعض الحلل ،خوفا من الوقوع في الحرام ،ودلت
الية الكريمة ،على أن الصل في الشياء والطعمة الباحة،وأنه إذا لم يرد
الشرع بتحريم شيء منها ،فإنه باق على الباحة ،فما سكت الله عنه فهو
حلل ،لن الحرام قد فصله الله ،فما لم يفصله الله فليس بحرام.
ومع ذلك ،فالحرام الذي قد فصله الله وأوضحه ،قد أباحه عند الضرورة
خنزيرِ { م ال ْ ِ ح ُ م وَل َ ْة َوالد ّ ُ مي ْت َ ُم ال ْ َ
ت عَل َي ْك ُ ُم ْحّر َوالمخمصة ،كما قال تعالىُ } :
فوٌره غَ ُ ّ
ن الل َ ف لث ْم ٍ فَإ ِ ّ جان ِ ٍ صةٍ غَي َْر ُ
مت َ َ م َخ َ ضط ُّر ِفي َ
م ْ نا ْ إلى أن قال } :فَ َ
م ِ
م{.حي ٌ
َر ِ
َ ّ َ
م { أي: وائ ِهِ ْن ب ِأهْ َ ضلو َ ن ك َِثيًرا لي ُ ِ ثم حذر عن كثير من الناس ،فقال } :وَإ ِ ّ
عل ْم ٍ { ول حجة .فليحذر العبد من أمثال بمجرد ما تهوى أنفسهم } ب ِغَي ْرِ ِ
هؤلء،وعلمُتهم -كما وصفهم الله لعباده -أن دعوتهم غير مبنية على
برهان ،ول لهم حجة شرعية ،وإنما يوجد لهم شبه بحسب أهوائهم
الفاسدة ،وآرائهم القاصرة ،فهؤلء معتدون على شرع الله وعلى عباد
الله ،والله ل يحب المعتدين ،بخلف الهادين المهتدين ،فإنهم يدعون إلى
الحق والهدى ،ويؤيدون دعوتهم بالحجج العقلية والنقلية ،ول يتبعون في
دعوتهم إل رضا ربهم والقرب منه.
) (1/271
ما َ
كاُنوا ن بِ َ
جَزوْ َ
سي ُ ْ ن اْل ِث ْ َ
م َ ن ي َك ْ ِ
سُبو َ ن ال ّ ِ
ذي َ ظاهَِر اْل ِث ْم ِ وََباط ِن َ ُ
ه إِ ّ وَذ َُروا َ
ن )(120 قت َرُِفو َ
يَ ْ
ن
جَزوْ َسي ُ ْ ن الث ْ َ
م َ ن ي َك ْ ِ
سُبو َ ن ال ّ ِ
ذي َ ه إِ ّ } } { 120وَذ َُروا َ
ظاهَِر الث ْم ِ وََباط ِن َ ُ
ن{. قت َرُِفو َ ما َ
كاُنوا ي َ ْ بِ َ
المراد بالثم :جميع المعاصي ،التي تؤثم العبد ،أي :توقعه في الثم،
والحرج،من الشياء المتعلقة بحقوق الله ،وحقوق عباده .فنهى الله عباده،
عن اقتراف الثم الظاهر والباطن ،أي :السر والعلنية ،المتعلقة بالبدن
والجوارح،والمتعلقة بالقلب ،ول يتم للعبد ،ترك المعاصي الظاهرة
والباطنة ،إل بعد معرفتها ،والبحث عنها ،فيكون البحث عنها ومعرفة
م بذلك واجبا متعينا على المكلف. معاصي القلب والبدن،والعل ُ
وكثير من الناس ،تخفى عليه كثير من المعاصي ،خصوصا معاصي
القلب،كالكبر والعجب والرياء ،ونحو ذلك ،حتى إنه يكون به كثير منها ،وهو
ل يحس به ول يشعر ،وهذا من العراض عن العلم ،وعدم البصيرة.
ثم أخبر تعالى ،أن الذين يكسبون الثم الظاهر والباطن ،سيجزون على
حسب كسبهم ،وعلى قدر ذنوبهم ،قّلت أو كثرت ،وهذا الجزاء يكون في
الخرة،وقد يكون في الدنيا ،يعاقب العبد ،فيخفف عنه بذلك من سيئاته.
) (1/271
ْ
ن ن ل َُيو ُ
حو َ طي َ ن ال ّ
شَيا ِ سقٌ وَإ ِ ّ ف ْه لَ ِ م الل ّهِ عَل َي ْهِ وَإ ِن ّ ُ س ُ ما ل َ ْ
م ي ُذ ْك َرِ ا ْ وََل ت َأك ُُلوا ِ
م ّ
إَلى أ َول ِيائ ِهم ل ِيجادُلوك ُم وإ َ
ن )(121 كو َشرِ ُ م لَ ُ
م ْ م إ ِن ّك ُ ْ موهُ ْ ن أط َعْت ُ ُ
ْ َِ ْ ْ َ ِ ْ ُ َ ِ ِ
ْ
ن
سقٌ وَإ ِ ّ ف ْ ه لَ ِ
م الل ّهِ عَل َي ْهِ وَإ ِن ّ ُ
س ُ ما ل َ ْ
م ي ُذ ْك َرِ ا ْ } َ } { 121ول ت َأك ُُلوا ِ
م ّ
شياطين ل َيوحون إَلى أ َول ِيائ ِهم ل ِيجادُلوك ُم وإ َ
ن شرِ ُ
كو َ م ْم لَ ُم إ ِن ّك ُ ْ
موهُ ْ ن أط َعْت ُ ُ ْ َِ ْ ْ َ ِ ْ ُ َ ِ ال ّ َ ِ َ ُ ُ َ ِ
{.
ويدخل تحت هذا المنهي عنه ،ما ذكر عليه اسم غير الله كالذي يذبح
للصنام،وآلهتهم ،فإن هذا مما أهل لغير الله به ،المحرم بالنص عليه
خصوصا.
ويدخل في ذلك ،متروك التسمية ،مما ذبح لله ،كالضحايا ،والهدايا ،أو للحم
والكل ،إذا كان الذابح متعمدا ترك التسمية ،عند كثير من العلماء.
ويخرج من هذا العموم ،الناسي بالنصوص الخر ،الدالة على رفع الحرج
عنه ،ويدخل في هذه الية ،ما مات بغير ذكاة من الميتات ،فإنها مما لم
يذكر اسم الله عليه.
ة { ولعلها م ال ْ َ
مي ْت َ ُ ت عَل َي ْك ُ ُ م ْحّر َ ونص الله عليها بخصوصها ،في قولهُ } :
َ
ن إ َِلى أوْل َِيائ ِهِ ْ
م حو َ ن ل َُيو ُ
طي َ ن ال ّ
شَيا ِ سبب نزول الية ،لقوله } وَإ ِ ّ
م { بغير علم. جادُِلوك ُ ْ ل ِي ُ َ
ة ،وتحليله فإن المشركين -حين سمعوا تحريم الله ورسوله الميت َ
للمذكاة،وكانوا يستحلون أكل الميتة -قالوا -معاندة لله ورسوله ،ومجادلة
بغير حجة ول برهان -أتأكلون ما قتلتم ،ول تأكلون ما قتل الله؟ يعنون
بذلك :الميتة.
وهذا رأي فاسد ،ل يستند على حجة ول دليل بل يستند إلى آرائهم
الفاسدة التي لو كان الحق تبعا لها لفسدت السماوات والرض ،ومن
فيهن.
فتبا لمن قدم هذه العقول على شرع الله وأحكامه ،الموافقة للمصالح
العامة والمنافع الخاصة .ول يستغرب هذا منهم ،فإن هذه الراء وأشباهها،
صادرة عن وحي أوليائهم من الشياطين ،الذين يريدون أن يضلوا الخلق
عن دينهم،ويدعوهم ليكونوا من أصحاب السعير.
} وإ َ
م { في شركهم وتحليلهم الحرام ،وتحريمهم الحلل موهُ ْن أط َعْت ُ ُ َِ ْ
ن { لنكم اتخذتموهم أولياء من دون الله ،ووافقتموهم ُ
شرِكو َ م ْ َ
مل ُ } إ ِن ّك ُ ْ
على ما به فارقوا المسلمين ،فلذلك كان طريقكم ،طريقهم.
ودلت هذه الية الكريمة على أن ما يقع في القلوب من اللهامات
والكشوف،التي يكثر وقوعها عند الصوفية ونحوهم ،ل تدل -بمجردها على
أنها حق،ول تصدق حتى تعرض على كتاب الله وسنة رسوله.
) (1/271
َ َ
ه ِفيمث َل ُ ُن َ م ْ س كَ َ شي ب ِهِ ِفي الّنا ِ م ِ ه ُنوًرا ي َ ْ جعَل َْنا ل َ ُ مي ًْتا فَأ ْ
حي َي َْناهُ وَ َ ن َ كا َ ن َ م ْ أو َ َ
ن )(122 مُلو َ كاُنوا ي َعْ َ ما َ ن َ ري َ كافِ ِ ن ل ِل ْ َ ك ُزي ّ َ من َْها ك َذ َل ِ َ خارٍِج ِ س بِ َ ت ل َي ْ َ ما ِ الظ ّل ُ َ
ن إ ِّل مك ُُرو َ ما ي َ ْ مك ُُروا ِفيَها وَ َ ميَها ل ِي َ ْ جرِ ِ م ْ كاب َِر ُ ل قَْري َةٍ أ َ َجعَل َْنا ِفي ك ُ ّ ك َ وَك َذ َل ِ َ
حّتى ن ُؤَْتى ن َ م َ ة َقاُلوا ل َ ْ
ن ن ُؤْ ِ م آ َي َ ٌ جاَءت ْهُ ْ ذا َ ن ) (123وَإ ِ َ شعُُرو َ ما ي َ ْم وَ َ سهِ ْ ف ِ ب ِأ َن ْ ُ
ل الل ّه الل ّ َ ُ
نذي َ ب ال ّ ِ صي ُ سي ُ ِه َ سال َت َ ُل رِ َ جعَ ُ ث يَ ْ حي ْ ُم َ ه أعْل َ ُ ُ ِ س ُ ي ُر ُ ما أوت ِ َ ل َ مث ْ َ ِ
عن ْد َ الل ّهِ وَعَ َ َ
ن )(124 مك ُُرو َ كاُنوا ي َ ْ ما َ ديد ٌ ب ِ َ ش ِ ب َ ذا ٌ صَغاٌر ِ موا َ جَر ُ أ ْ
فإن شهدا لها بالقبول قبلت ،وإن ناقضتهما ردت ،وإن لم يعلم شيء من
ذلك،توقف فيها ولم تصدق ولم تكذب ،لن الوحي واللهام ،يكون الرحمن
ويكون من الشيطان،فل بد من التمييز بينهما والفرقان ،وبعدم التفريق
بين المرين ،حصل من الغلط والضلل ،ما ل يحصيه إل الله.
] ص [ 272
َ ْ َ َ َ
شي ب ِهِ ِفي م ِ ه ُنوًرا ي َ ْ جعَلَنا ل ُ حي َي َْناهُ وَ َ مي ًْتا فَأ ْ ن َ ن كا َ م ْ } } { 124 - 122أوَ َ
ما
ن َ ري َ َ
ن ل ِلكافِ ِ ْ َ
من َْها كذ َل ِك ُزي ّ ََ خارٍِج ِ س بِ َ ت لي ْ َ َ ما ِ ُ ّ
ه ِفي الظل َ مث َل ُ ُن َ م ْ س كَ َ
َ الّنا ِ
مامكُروا ِفيَها وَ َ ُ ميَها ل ِي َ ْ جرِ ِ م ْ َ
ل قَْري َةٍ أكاب َِر ُ ُ
جعَلَنا ِفي ك ّ ْ ك َ َ
ن * وَكذ َل ِ َ ملو َ ُ كاُنوا ي َعْ َ َ
َ
حّتى ن َ م َ ن ن ُؤْ ِ ة َقاُلوا ل َ ْ م آي َ ٌ جاَءت ْهُ ْ ذا َ ن * وَإ ِ َ شعُُرو َ ما ي َ ْ م وَ َ سه ِ ْ ف ِ ن ِإل ب ِأن ْ ُ مك ُُرو َ يَ ْ
ّ َ جع َ ُ َ َ ّ ّ س ُ ُ مث ْ َ
ن
ذي َ ب ال ِ صي ُ سي ُ ِ ه َ سالت َ ُ ل رِ َ ث يَ ْ حي ْ ُم َ ه أعْل ُ ل اللهِ الل ُ ي ُر ُ ما أوت ِ َ ل َ ن ُؤَْتى ِ
عن ْد َ الل ّهِ وَعَ َ َ
ن{. مك ُُرو َ كاُنوا ي َ ْ ما َ ديد ٌ ب ِ َ ش ِ ب َ ذا ٌ صَغاٌر ِ موا َ جَر ُأ ْ
مي ًْتا { في ظلمات ن َ َ
ن { من قبل هداية الله له } َ كا َ ْ م
يقول تعالى } :أوَ َ
َ
حي َي َْناهُ { بنور العلم واليمان والطاعة، الكفر،والجهل ،والمعاصي } ،فَأ ْ
فصار يمشي بين الناس في النور ،متبصرا في أموره ،مهتديا لسبيله،
عارفا للخير مؤثرا له ،مجتهدا في تنفيذه في نفسه وغيره ،عارفا بالشر
مبغضا له ،مجتهدا فيتركه وإزالته عن نفسه وعن غيره .أفيستوي هذا بمن
هو في الظلمات،ظلمات الجهل والغي ،والكفر والمعاصي.
من َْها { قد التبست عليه الطرق ،وأظلمت عليه المسالك، خارٍِج ِ س بِ َ } ل َي ْ َ
فحضرها لهم والغم والحزن والشقاء .فنبه تعالى العقول بما تدركه
وتعرفه ،أنه ل يستوي هذا ول هذا كما ل يستوي الليل والنهار ،والضياء
والظلمة ،والحياء والموات.
فكأنه قيل :فكيف يؤثر من له أدنى مسكة من عقل ،أن يكون بهذه
ما ن َ ري َ كافِ ِ ن ل ِل ْ َ الحالة،وأن يبقى في الظلمات متحيرا :فأجاب بأنه } ُزي ّ َ
ن { فلم يزل الشيطان يحسن لهم أعمالهم ،ويزينها في مُلو َ كاُنوا ي َعْ َ َ
قلوبهم ،حتى استحسنوها ورأوها حقا .وصار ذلك عقيدة في قلوبهم،
وصفة راسخة ملزمة لهم ،فلذلك رضوا بما هم عليه من الشر والقبائح.
وهؤلء الذين في الظلمات يعمهون،وفي باطلهم يترددون ،غير متساوين.
فمنهم :القادة ،والرؤساء ،والمتبوعون،ومنهم :التابعون المرءوسون،
والولون ،منهم الذين فازوا بأشقى الحوال،ولهذا قال:
ميَها { أي :الرؤساء الذين قد كبر جرِ ِ م ْ كاب َِر ُ ل قَْري َةٍ أ َ َ جعَل َْنا ِفي ك ُ ّ ك َ } وَك َذ َل ِ َ
مك ُُروا ِفيَها { بالخديعة والدعوة إلى سبيل جرمهم ،واشتد طغيانهم } ل ِي َ ْ
الشيطان،ومحاربة الرسل وأتباعهم ،بالقول والفعل ،وإنما مكرهم وكيدهم
يعود على أنفسهم ،لنهم يمكرون ،ويمكر الله والله خير الماكرين.
وكذلك يجعل الله كبار أئمة الهدى وأفاضلهم ،يناضلون هؤلء المجرمين،
ويردون عليهم أقوالهم ويجاهدونهم في سبيل الله ،ويسلكون بذلك السبل
الموصلة إلى ذلك ،ويعينهم الله ويسدد رأيهم ،ويثبت أقدامهم ،ويداول
اليام بينهم وبين أعدائهم ،حتى يدول المر في عاقبته بنصرهم وظهورهم،
والعاقبة للمتقين.
وإنما ثبت أكابر المجرمين على باطلهم ،وقاموا برد الحق الذي جاءت به
ُ
ي
ما أوت ِ َ ل َ مث ْ َ حّتى ن ُؤَْتى ِ ن َ م َ ن ن ُؤْ ِ الرسل ،حسدا منهم وبغيا ،فقالوا } :ل َ ْ
ل الل ّهِ { من النبوة والرسالة .وفي هذا اعتراض منهم على الله، س ُ ُر ُ
وعجب بأنفسهم،وتكبر على الحق الذي أنزله على أيدي رسله ،وتحجر
على فضل الله وإحسانه.
فرد الله عليهم اعتراضهم الفاسد ،وأخبر أنهم ل يصلحون للخير ،ول فيهم
ما يوجب أن يكونوا من عباد الله الصالحين ،فضل أن يكونوا من النبيين
والمرسلين ،فقال } :الل ّ َ
ه { فيمن علمه يصلح سال َت َ ُ
ل رِ َجع َ ُ
ث يَ ْحي ْ ُ ه أعْل َ ُ
م َ ُ
لها ،ويقوم بأعبائها ،وهو متصف بكل خلق جميل ،ومتبرئ من كل خلق
دنيء ،أعطاه الله ما تقتضيه حكمته أصل وتبعا ،ومن لم يكن كذلك ،لم
يضع أفضل مواهبه،عند من ل يستأهله ،ول يزكو عنده.
وفي هذه الية ،دليل على كمال حكمة الله تعالى ،لنه ،وإن كان تعالى
رحيما واسع الجود ،كثير الحسان ،فإنه حكيم ل يضع جوده إل عند أهله،
عن ْد َ الل ّهِ { أي:صَغاٌر ِ ثم توعد المجرمين فقال } :سيصيب ال ّذي َ
موا َ جَر ُنأ ِْ َ َ ُ ِ ُ
ما َ
كاُنوا ديد ٌ ب ِ َ
ش ِب َ إهانة وذل ،كما تكبروا على الحق ،أذلهم الله } .وَعَ َ
ذا ٌ
ن { أي :بسبب مكرهم ،ل ظلما منه تعالى. مك ُُرو َ
يَ ْ
) (1/271
) (1/272
) (1/273
س وََقا َ
ل م َ ْ ست َك ْث َْرت ُ ْ ن قَدِ ا ْ شَر ال ْ ِ معْ َ ح ُ
َ ن ال ِن ْ ِ َ
م ِ ج ّ ميًعا َيا َ ج ِ م َ شُرهُ ْ م يَ ْ وَي َوْ َ
َ
َ
ت لَنا جل َْ ذي أ ّ ّ
جلَنا ال ِ َ َ
ض وَب َلغَْنا أ َ ْ أوْل َِياؤُهُ ْ
ضَنا ب ِب َعْ ٍ مت َعَ ب َعْ ُ ست َ ْس َرب َّنا ا ْ ن ال ِن ْ ِ م َ م ِ
م )(128 م عَِلي ٌ كي ٌ
ح ِ ك َ ن َرب ّ َ ه إِ ّ شاَء الل ّ ُ ما َ ن ِفيَها إ ِّل َ دي َ خال ِ ِم َ واك ُ ْ مث ْ َل الّناُر َ َقا َ
ن
ج ّ ْ
شَر ال ِ معْ َ ن )َ (129يا َ سُبو َ كاُنوا ي َك ْ ِ ما َ ضا ب ِ َ ن ب َعْ ً مي َ ّ
ض الظال ِ ِ ك ن ُوَلي ْب َعْ َ ّ وَك َذ َل ِ َ
َ َ َ َ
مك ُ ْ
م قاَء ي َوْ ِ م آَياِتي وَي ُن ْذُِرون َك ُ ْ
م لِ َ ن عَلي ْك ُ ْ صو َ ق ّم يَ ُمن ْك ُ ْ ل ِ س ٌ م ُر ُ م ي َأت ِك ُ ْ س أل ْ ِ َواْل ِن ْ
م سهِ ْ ف ِ دوا عََلى أ َن ْ ُ شهِ ُ حَياةُ الد ّن َْيا وَ َ م ال ْ َ سَنا وَغَّرت ْهُ ُ ف ِ شهِد َْنا عََلى أ َن ْ ُ ذا َقاُلوا َ هَ َ
َ
قَرى ب ِظ ُل ْم ٍ وَأهْل َُها ك ال ْ ُ َ َ
مهْل ِ َ ك ُ ن َرب ّ َ م ي َك ُ ْ ن لَ ْ كأ ْ ن ) (130ذ َل ِ َ ري َ كافِ ِ كاُنوا َ م َ أن ّهُ ْ
ن )(131 غافُِلو َ َ
ن
م َ م ِ ست َك ْث َْرت ُ ْ ن قَدِ ا ْ ج ّ شَر ال ْ ِ معْ َ ميًعا َيا َ ج ِ م َ شُرهُ ْ ح ُ م يَ ْ } } { 135 - 128وَي َوْ َ
ّ َ َ َ النس وَقا َ َ
ذي جلَنا ال ِ ض وَب َلغَْنا أ َ ضَنا ب ِب َعْ ٍ مت َعَ ب َعْ ُ ست َ ْ س َرب َّنا ا ْ ن الن ْ ِ م َ م ِ ل أوْل َِياؤُهُ ْ ْ ِ َ
ّ ت ل ََنا َقا َ َ
م
م عَِلي ٌ كي ٌ ح ِ ك َ ن َرب ّ َ ه إِ ّ شاَء الل ُ ما َ ن ِفيَها ِإل َ دي َ خال ِ ِ م َ واك ُ ْ مث ْ َل الّناُر َ جل ْ َأ ّ
نج ّ شَر ال ْ ِ مع ْ َ ن * َيا َ سُبو َ كاُنوا ي َك ْ ِ ما َ ضا ب ِ َ ن ب َعْ ً مي َ ظال ِ ِ ض ال ّ لي ب َعْ َ ك ن ُوَ ّ * وَك َذ َل ِ َ
ْ َ
مك ُ ْ
م قاَء ي َوْ ِ م لِ َ م آَياِتي وَي ُن ْذُِرون َك ُ ْ ن عَل َي ْك ُ ْ صو َ ق ّ م يَ ُ من ْك ُ ْ ل ِ س ٌ م ُر ُ م ي َأت ِك ُ ْ س أل َ ْ َوالن ْ ِ
َ
دوا عََلى أن ْ ُ َ
م
سهِ ْ ف ِ شهِ ُ حَياةُ الد ّن َْيا وَ َ م ال ْ َ سَنا وَغَّرت ْهُ ُ ف ِ شهِد َْنا عََلى أن ْ ُ ذا َقاُلوا َ هَ َ
َ
قَرى ب ِظ ُل ْم ٍ وَأهْل َُها ك ال ْ ُ َ َ
مهْل ِ َك ُ ن َرب ّ َ م ي َك ُ ْ ن لَ ْ كأ ْ ن * ذ َل ِ َ ري َ كافِ ِ كاُنوا َ م َ أن ّهُ ْ
ن{. غافُِلو َ َ
ميًعا { أي :جميع الثقلين ،من النس ج ِ م َ شُرهُ ْ ح ُ م يَ ْ يقول تعالى } وَي َوْ َ
والجن ،من ضل منهم ،ومن أضل غيره ،فيقول موبخا للجن الذين أضلوا
ن قَدِ ج ّ شَر ال ْ ِ مع ْ َ النس ،وزينوا لهم الشر ،وأّزوهم إلى المعاصيَ } :يا َ
س { أي :من إضللهم ،وصدهم عن سبيل الله ،فكيف ن الن ْ ِ م َ م ِ ست َك ْث َْرت ُ ْا ْ
أقدمتم على محارمي ،وتجرأتم على معاندة رسلي؟ وقمتم محاربين لله،
ساعين في صد عباد الله عن سبيله إلى سبيل الجحيم؟
فاليوم حقت عليكم لعنتي ،ووجبت لكم نقمتي وسنزيدكم من العذاب
بحسب كفركم ،وإضللكم لغيركم .وليس لكم عذر به تعتذرون ،ول ملجأ
إليه تلجأون ،ول شافع يشفع ول دعاء يسمع ،فل تسأل حينئذ عما يحل بهم
من النكال ،والخزي والوبال ،ولهذا لم يذكر الله لهم اعتذارا ،وأما أولياؤهم
ض{ ضَنا ب ِب َعْ ٍ
مت َعَ ب َعْ ُ ست َ ْمن النس ،فأبدوا عذرا غير مقبول فقالواَ } :رب َّنا ا ْ
جّني والنسي بصاحبه ،وانتفع به. أي :تمتع كل من ال ِ
فالجّني يستمتع بطاعة النسي له وعبادته ،وتعظيمه ،واستعاذته به.
جّني له بعض والنسي يستمتع بنيل أغراضه ،وبلوغه بسبب خدمة ال ِ
جّني ،ويحصل له منه بعض جّني ،فيخدمه ال ِ شهواته ،فإن النسي يعبد ال ِ
الحوائج الدنيوية،أي :حصل منا من الذنوب ما حصل ،ول يمكن رد ذلك،
ت ل ََنا { أي :وقد وصلنا المحل الذي نجازي فيه َ َ
جل ْ َ ذي أ ّ جل ََنا ال ّ ِ } وَب َل َغَْنا أ َ
بالعمال ،فافعل بنا الن ما تشاء ،واحكم فينا بما تريد ،فقد انقطعت
حجتنا ولم يبق لنا عذر ،والمر أمرك ،والحكم حكمك .وكأن في هذا الكلم
منهم نوع تضرع وترقق ،ولكن في غير أوانه .ولهذا حكم فيهم بحكمه
ن ِفيَها { . دي َ خال ِ ِ م َ واك ُ ْ مث ْ َ
العادل ،الذي ل جور فيه ،فقال } :الّناُر َ
نولما كان هذا الحكم من مقتضى حكمته وعلمه ،ختم الية بقوله } :إ ِ ّ
مها ،فحكمته الغائية م { فكما أن علمه وسع الشياء كلها وع ّ م عَِلي ٌ كي ٌ ح ِ ك َ َرب ّ َ
شملت الشياء وعمتها ووسعتها.
ّ
ن { أي :وكما ولي َْنا سُبو َ كاُنوا ي َك ْ ِ ما َ ضا ب ِ َ
ن ب َعْ ً مي َ ظال ِ ِ ض ال ّ ك ن ُوَّلي ب َعْ َ } وَك َذ َل ِ َ
الجن المردة وسلطناهم على إضلل أوليائهم من النس وعقدنا بينهم عقد
الموالة والموافقة ،بسبب كسبهم وسعيهم بذلك.
كذلك من سنتنا أن نولي كل ظالم ظالما مثله ،يؤزه إلى الشر ويحثه
عليه ،ويزهده في الخير وينفره عنه ،وذلك من عقوبات الله العظيمة
الشنيع أثرها ،البليغ خطرها.
والذنب ذنب الظالم ،فهو الذي أدخل الضرر على نفسه ،وعلى نفسه جنى
ظلم ٍ ل ِل ْعَِبيدِ { ومن ذلك ،أن العباد إذا كثر ظلمهم ك بِ َ ما َرب ّ َ } وَ َ
وفسادهم،ومْنعهم الحقوق الواجبة ،ولى عليهم ظلمة ،يسومونهم سوء ّ
] ص [ 274العذاب ،ويأخذون منهم بالظلم والجور أضعاف ما منعوا من
حقوق الله ،وحقوق عباده ،على وجه غير مأجورين فيه ول محتسبين.
كما أن العباد إذا صلحوا واستقاموا ،أصلح الله رعاتهم ،وجعلهم أئمة عدل
وإنصاف ،ل ولة ظلم واعتساف .ثم وبخ الله جميع من أعرض عن الحق
ورده ،من الجن والنس ،وبين خطأهم ،فاعترفوا بذلك ،فقال:
ْ َ
م آَياِتي { ن عَل َي ْك ُ ْ صو َ ق ّ م يَ ُ من ْك ُ ْل ِ س ٌ م ُر ُ م ي َأت ِك ُ ْس أل َ ْ ن َوالن ْ ِ ج ّ شَر ال ْ ِ مع ْ َ } َيا َ
الواضحات البينات ،التي فيها تفاصيل المر والنهي ،والخير والشر ،والوعد
والوعيد.
ذا { ويعلمونكم أن النجاة فيه ،والفوز إنما هو م هَ َ مك ُ ْقاَء ي َوْ ِ م لِ َ } وَي ُن ْذُِرون َك ُ ْ
بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه ،وأن الشقاء والخسران في تضييع ذلك،
سَنا وَغَّرت ْهُ ُ
م ف ِ شهِد َْنا عََلى أ َن ْ ُ فأقروا بذلك واعترفوا ،فـ } قالوا { بلى } َ
حَياةُ الد ّن َْيا { بزينتها وزخرفها ،ونعيمها فاطمأنوا بها ورضوا ،وألهتهم عن ال ْ َ
ن { فقامت عليهم حجة كاُنوا َ م َ َ َ
دوا عََلى أن ْ ُ الخرة } ،وَ َ
ري َ كافِ ِ م أن ّهُ ْ سه ِ ْف ِ شه ِ ُ
الله ،وعلم حينئذ كل أحد ،حتى هم بأنفسهم عدل الله فيهم ،فقال لهم:
ُ
ن م ْ ت ِخل َ ْ
مم ٍ قَد ْ َ خُلوا ِفي { جملة } أ َ حاكما عليهم بالعذاب الليم } :اد ْ ُ
س { صنعوا كصنيعكم ،واستمتعوا بخلقهم كما ن َوالن ْ ِ ن ال ْ ِ
ج ّ م َ قَب ْل ِك ُ ْ
م ِ
استمعتم ،وخاضوا بالباطل كما خضتم،إنهم كانوا خاسرين ،أي :الولون من
هؤلء والخرون ،وأي خسران أعظم من خسران جنات النعيم ،وحرمان
جوار أكرم الكرمين؟! ولكنهم وإن اشتركوا في الخسران ،فإنهم يتفاوتون
في مقداره تفاوتا عظيما.
) (1/273
ك َ ال ْغَن ِ ّ
ي ن ) (132وََرب ّ َ مُلو َ ما ي َعْ َ
ل عَ ّ ك ب َِغافِ ٍما َرب ّ َ مُلوا وَ َ ما عَ ِ
ْ
م ّت ِ جا ٌ ل د ََر َ وَل ِك ُ ّ
َ
نم ْم ِ شأك ُ ْ ما أن ْ َ شاُء ك َ َ ما ي َ َ م َ ن ب َعْدِك ُ ْم ْف ِ خل ِ ْست َ ْ
م وَي َ ْ شأ ي ُذ ْهِب ْك ُ ْن يَ َ مة ِ إ ِ ْ ح َ ذو الّر ْ ُ
َ َ َ
لن ) (134قُ ْ زي َج ِمعْ ِ
م بِ ُ ما أن ْت ُ ْ ت وَ َ ن َل ٍ دو َ ما ُتوعَ ُ ن َ ن ) (133إ ِ ّ ري َ خ ِ ذ ُّري ّةِ قَوْم ٍ آ َ
ة
عاقِب َ ُه َ ن لَ ُ كو ُ ن تَ ُ م ْن َ مو َ ف ت َعْل َ ُ سوْ َ ل فَ َ م ٌعا ِم إ ِّني َ كان َت ِك ُ ْم َ مُلوا عََلى َ َيا قَوْم ِ اعْ َ
ن )(135 مو َ ظال ِ ُح ال ّ فل ِ ُه َل ي ُ ْ دارِ إ ِن ّ ُ
ال ّ
ذوي ُ ك َ ال ْغَن ِ ّ ن * وََرب ّ َ مُلو َ ما ي َعْ َ ل عَ ّ ك ب َِغافِ ٍ ما َرب ّ َ مُلوا وَ َ ما عَ ِ م ّ ت ِ
ْ
جا ٌ ل د ََر َ } وَل ِك ُ ّ
نم ْ م ِ شأك ُ ْ ما أ َن ْ َ شاُء ك َ َ ما ي َ َ م َ ن ب َعْدِك ُ ْ م ْ ف ِ خل ِ ْ ست َ ْ م وَي َ ْ شأ ي ُذ ْهِب ْك ُ ْ ن يَ َ مة ِ إ ِ ْ ح َالّر ْ
َ
ل َيا قَوْم ِ ن * قُ ْ زي َ ج ِمعْ ِ م بِ ُ ما أن ْت ُ ْ ت وَ َ نل ٍ دو َ ما ُتوعَ ُ ن َ ن * إِ ّ ري َ خ ِ ذ ُّري ّةِ قَوْم ٍ آ َ
داِر ة ال ّ عاقِب َ ُ ه َ نل َُ كو ُ ن تَ ُ م ْ ن َ مو َ َ
ف ت َعْل ُ سوْ َ ل فَ َ م ٌ عا ِم إ ِّني َ كان َت ِك ُ ْ م َ مُلوا عََلى َ اع ْ َ
ن{. مو َ ظال ِ ُ ح ال ّ فل ِ ُ
ه ل يُ ْ إ ِن ّ ُ
مُلوا { بحسب أعمالهم ،ل يجعل قليل ما عَ ِ م ّت ِ جا ٌ ل { منهم } د ََر َ } وَل ِك ُ ّ
الشر منهم ككثيره ،ول التابع كالمتبوع ،ول المرءوس كالرئيس ،كما أن
أهل الثواب والجنة وإن اشتركوا في الربح والفلح ودخول الجنة ،فإن
بينهم من الفرق ما ل يعلمه إل الله ،مع أنهم كلهم ،قد رضوا بما آتاهم
مولهم ،وقنعوا بما حباهم.
فنسأله تعالى أن يجعلنا من أهل الفردوس العلى ،التي أعدها الله
للمقربين من عباده ،والمصطفين من خلقه ،وأهل الصفوة من أهل وداده.
ن { فيجازي كل بحسب علمه ،وبما يعلمه من مُلو َ ما ي َعْ َ ل عَ ّ ك ب َِغافِ ٍ ما َرب ّ َ } وَ َ
مقصده ،وإنما أمر الله العباد بالعمال الصالحة ،ونهاهم عن العمال
السيئة ،رحمة بهم ،وقصدا لمصالحهم .وإل فهو الغني بذاته ،عن جميع
مخلوقاته ،فل تنفعه طاعة الطائعين ،كما ل تضره معصية العاصين.
َ َ } إن ي َ ْ
شأك ُ ْ
م ما أن ْ َ شاُء ك َ َ ما ي َ َ م َ ن ب َعْدِك ُ ْ م ْ ف ِ خل ِ ْست َ ْم { بالهلك } وَي َ ْ شأ ي ُذ ْهِب ْك ُ ْ ِ ْ َ
ن { فإذا عرفتم بأنكم ل بد أن تنتقلوا من هذه الدار، ِ َري خ
َ آ م وَ
ن ذ ُّر ّ ِ ْ ٍ
ق ة ي م ْ ِ
كما انتقل غيركم ،وترحلون منها وتخلونها لمن بعدكم ،كما رحل عنها من
قبلكم وخلوها لكم ،فلم اتخذتموها قرارا؟ وتوطنتم بها ونسيتم ،أنها دار
ممر ل دار مقر .وأن أمامكم داًرا ،هي الدار التي جمعت كل نعيم وسلمت
من كل آفة ونقص؟
وهي الدار التي يسعى إليها الولون والخرون ،ويرتحل نحوها السابقون
م الخلود الدائم ،والقامة اللزمة ،والغاية واللحقون ،التي إذا وصلوها ،فث َ ّ
التي ل غاية وراءها ،والمطلوب الذي ينتهي إليه كل مطلوب ،والمرغوب
الذي يضمحل دونه كل مرغوب ،هنالك والله ،ما تشتهيه النفس ،وتلذ
العين ،ويتنافس فيه المتنافسون ،من لذة الرواح ،وكثرة الفراح ،ونعيم
البدان والقلوب ،والقرب من علم الغيوب ،فلله همة تعلقت بتلك
الكرامات ،وإرادة سمت إلى أعلى الدرجات" وما أبخس حظ من رضي
بالدون ،وأدنى همة من اختار صفقة المغبون" ول يستبعد المعرض الغافل،
م َ
ما أن ْت ُ ْ
ت وَ َ
نل ٍ
دو َ
ما ُتوعَ ُ
ن َ
سرعة الوصول إلى هذه الدار.فـ } إ ِ ّ
ن { لله ،فارين من عقابه ،فإن نواصيكم تحت قبضته ،وأنتم تحت زي َ
ج ِ
مع ْ ِ
بِ ُ
تدبيره وتصرفه.
) (1/274
َ
م وَهَ َ
ذا مه ِ ْذا ل ِل ّهِ ب َِزعْ ِقاُلوا هَ َ صيًبا فَ َ ث َواْل َن َْعام ِ ن َ ِ حْر ِ ن ال ْ َم َ ما ذ ََرأ ِ م ّجعَُلوا ل ِل ّهِ ِ وَ َ
َ
ل إ ِلى ص ُن ل ِلهِ فَهُوَ ي َ ِّ ما َ
كا َ ّ
ل إ ِلى اللهِ وَ َ َ ص ُ م فَل ي َ َِ شَر َ
كائ ِهِ ْ ن لِ ُ ما َ
كا َ شَر َ
كائ َِنا فَ َ لِ ُ
ن قَت ْ َ
ل كي َشرِ ِ م ْن ال ْ ُم َ ن ل ِك َِثيرٍ ِك َزي ّ َن ) (136وَك َذ َل ِ َ مو َ حك ُ ُ ما ي َ ْ ساَء َ م َ كائ ِهِ ْشَر َ ُ
َ
ما فَعَُلوهُ ه َ شاَء الل ّ ُ م وَل َوْ َ م ِدين َهُ ْ سوا عَل َي ْهِ ْ م وَل ِي َل ْب ِ ُدوهُ ْ م ل ِي ُْر ُ كاؤُهُ ْشَر َ م ُ أوَْلدِهِ ْ
ن )(137 فت َُرو َما ي َ ْم وَ َ فَذ َْرهُ ْ
ل { يا أيها الرسول لقومك إذا دعوتهم إلى الله ،وبينت لهم ما لهم وما } قُ ْ
عليهم من حقوقه ،فامتنعوا من النقياد لمره ،واتبعوا أهواءهم ،واستمروا
م { أي :على حالتكم التي أنتم كان َت ِك ُ ْ م َ مُلوا عََلى َ على شركهمَ } :يا قَوْم ِ اعْ َ
ل { على أمر الله ،ومتبع لمراضي م ٌ عا ِ عليها ،ورضيتموها لنفسكم } .إ ِّني َ
دارِ { أنا أو أنتم ،وهذا من ة ال ّ عاقِب َ ُ ه َ ن لَ ُ كو ُ ن تَ ُ م ْ ن َ مو َ ف ت َعْل َ ُ سوْ َ الله } .فَ َ
النصاف بموضع عظيم ،حيث بّين العمال وعامليها ،وجعل الجزاء مقرونا
بنظر البصير ،ضاربا فيه صفحا عن التصريح الذي يغني عنه التلويح .وقد
علم أن العاقبة الحسنة في الدنيا والخرة للمتقين ،وأن المؤمنين لهم
عقبى الدار ،وأن كل معرض عما جاءت به الرسل ،عاقبته سوء وشر،
ن { فكل ظالم ،وإن تمتع في الدنيا بما مو َ ظال ِ ُح ال ّ فل ِ ُه ل يُ ْ ولهذا قال } :إ ِن ّ ُ
تمتع به،فنهايته ]فيه[ الضمحلل والتلف "إن الله ليملي للظالم ،حتى إذا
أخذه لم يفلته" ] ص [ 275
ُ ْ َ
قالوا صيًبا فَ َ ث َوالن َْعام ِ ن َ ِ حْر ِ ن ال َ م َ ما ذ ََرأ ِ م ّ جعَُلوا ل ِلهِ ِ
ّ } } { 140 - 136وَ َ
ما ّ
ل إ ِلى اللهِ وَ َ َ ص ُ م َفل ي َ ِ َ
شَركائ ِهِ ْ ن لِ ُ ما كا َ َ َ
شَركائ َِنا فَ َ ذا ل ِ ُ م وَهَ َ مه ِ ْذا ل ِل ّهِ ب َِزعْ ِ هَ َ
ن
م َ ن ل ِكِثيرٍ َِ ك َزي ّ َ َ
ن * وَكذ َل ِ َ مو َ ُ
حك ُ ما ي َ ْ ساَء َ م َ َ
شَركائ ِهِ ْ ل إ ِلى ُ َ ص ُ ّ
ن ل ِلهِ فَهُوَ ي َ ِ كا َ َ
م وَل َوْ َ شركين قَت َ َ
شاَء م ِدين َهُ ْ سوا عَل َي ْهِ ْ م وَل ِي َل ْب ِ ُ دوهُ ْ م ل ِي ُْر ُ كاؤُهُ ْ شَر َ م ُ ل أْولدِهِ ْ م ْ ِ ِ َ ْ ال ْ ُ
ن{. فت َُرو َ ما ي َ ْ م وَ َ ما فَعَُلوهُ فَذ َْرهُ ْ ه َ الل ّ ُ
ما عليه المشركون المكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم، يخبر تعالى ،ع ّ
دد تبارك وتعالى شيئا من سفاهة العقل ،وخفة الحلم ،والجهل البليغ ،وع ّ
من خرافاتهم ،لينبه بذلك على ضللهم والحذر منهم ،وأن معارضة أمثال
هؤلءالسفهاء للحق الذي جاء به الرسول ،ل تقدح فيه أصل فإنهم ل أهلية
َ
ثحْر ِ ن ال ْ َ م َ ما ذ ََرأ ِ م ّلهم في مقابلة الحق ،فذكر من ذلك أنهم } جعلوا ل ِل ّهِ ِ
صيًبا { ولشركائهم من ذلك نصيبا ،والحال أن الله تعالى هو الذي َوالن َْعام ِ ن َ ِ
ذرأه للعباد ،وأوجده رزقا ،فجمعوا بين محذورين محظورين ،بل ثلثة
محاذير ،مّنتهم على الله ،في جعلهم له نصيبا ،مع اعتقادهم أن ذلك منهم
تبرع ،وإشراك الشركاء الذين لم يرزقوهم ،ولم يوجدوا لهم شيئا في ذلك،
وحكمهم الجائر في أن ما كان لله لم يبالوا به ،ولم يهتموا ،ولو كان واصل
إلى الشركاء ،وما كان لشركائهم اعتنوا به واحتفظوا به ولم يصل إلى الله
منه شيء ،وذلك أنهم إذا حصل لهم -من زروعهم وثمارهم وأنعامهم ،التي
أوجدها الله لهم -شيء ،جعلوه قسمين:
ما قالوا :هذا لله بقولهم وزعمهم ،وإل فالله ل يقبل إل ما كان خالصا قس ً
من أشرك به. لوجهه ،ول يقبل عمل َ
ما جعلوه حصة شركائهم من الوثان والنداد. وقس ً
فإن وصل شيء مما جعلوه لله ،واختلط بما جعلوه لغيره ،لم يبالوا بذلك،
وقالوا :الله غني عنه ،فل يردونه ،وإن وصل شيء مما جعلوه للهتهم إلى
ما جعلوه لله ،ردوه إلى محله ،وقالوا :إنها فقيرة ،ل بد من رد نصيبها.
فهل أسوأ من هذا الحكم .وأظلم؟" حيث جعلوا ما للمخلوق ،يجتهد فيه
وينصح ويحفظ ،أكثر مما يفعل بحق الله.
ويحتمل أن تأويل الية الكريمة ،ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله
عليه وسلم أنه قال عن الله تعالى أنه قال" :أنا أغنى الشركاء عن
الشرك ،من أشرك معي شيئا تركته وشركه".
وأن معنى الية أن ما جعلوه وتقربوا به لوثانهم ،فهو تقرب خالص لغير
الله ،ليس لله منه شيء ،وما جعلوه لله -على زعمهم -فإنه ل يصل إليه
كا ،بل يكون حظ الشركاء والنداد ،لن الله غني عنه ،ل يقبل لكونه شر ً
رك به معه أحد من الخلق. ُ
العمل الذي أش ِ
ومن سفه المشركين وضللهم ،أنه زّين لكثير من المشركين شركاؤهم
-أي :رؤساؤهم وشياطينهم -قتل أولدهم ،وهو :الوأد ،الذين يدفنون
أولدهم الذكور خشية الفتقار ،والناث خشية العار.
دوهم بالهلك ،ويلبسوا وكل هذا من خدع الشياطين ،الذين يريدون أن ي ُْر ُ
عليهم دينهم ،فيفعلون الفعال التي في غاية القبح ،ول يزال شركاؤهم
يزينونها لهم ،حتى تكون عندهم من المور الحسنة والخصال المستحسنة،
ولو شاء الله أن يمنعهم ويحول بينهم وبين هذه الفعال ،ويمنع أولدهم
عن قتل البوين لهم ،ما فعلوه ،ولكن اقتضت حكمته التخلية بينهم وبين
أفعالهم،استدراجا منه لهم ،وإمهال لهم ،وعدم مبالة بما هم عليه ،ولهذا
ن { أي :دعهم مع كذبهم وافترائهم ،ول تحزن فت َُرو َ
ما ي َ ْ قال } :فَذ َْرهُ ْ
م وَ َ
عليهم ،فإنهم لنيضروا الله شيئا.
) (1/274
َ َ
مم وَأن َْعا ٌ مهِ ْشاُء ب َِزعْ ِ ن نَ َ م ْ مَها إ ِّل َ جٌر َل ي َط ْعَ ُ ح ْث ِ حْر ٌ م وَ َ وََقاُلوا هَذِهِ أن َْعا ٌ
حرمت ظ ُهور َ َ
ما
م بِ َ زيهِ ْ ج ِ سي َ ْ م الل ّهِ عَل َي َْها افْت َِراًء عَل َي ْهِ َ س َ نا ْ م َل ي َذ ْك ُُرو َ ها وَأن َْعا ٌ ُ ُ ُ ّ َ ْ
ُ َ ْ ُ ُ َ
ة ل ِذ ُكورَِنا ص ٌ
خال ِ َن هَذِهِ الن َْعام ِ َ ما ِفي ب ُطو ِ ن ) (138وََقالوا َ فت َُرو َ
كاُنوا ي َ ْ
َ
ه
م إ ِن ّ ُفهُ ْ ص َم وَ ْ زيهِ ْ ج ِسي َ ْكاُء َ شَر َ م ِفيهِ ُ ة فَهُ ْ مي ْت َ ً
ن َ ن ي َك ُ ْ جَنا وَإ ِ ْ م عََلى أْزَوا ِ حّر ٌ م َوَ ُ
ْ َ َ ُ ّ
موا حّر ُ علم ٍ وَ َ فًها ب ِغَي ْرِ ِ س َم َ ن قَت َلوا أوْلد َهُ ْ ذي َ سَر ال ِ خ ِ م ) (139قَد ْ َ م عَِلي ٌ كي ٌح ِ َ
ن )(140 دي َ مهْت َ ِكاُنوا ُ ما َ ضلوا وَ َ ّ ّ َ
ه افْت َِراًء عَلى اللهِ قَد ْ َ ّ
م الل ُ ما َرَزقَهُ ُ َ
َ َ
م
م وَأن َْعا ٌ مه ِ ْشاُء ب َِزعْ ِ ن نَ َم ْمَها ِإل َ جٌر ل ي َط ْعَ ُ ح ْث ِ حْر ٌ م وَ َ } وََقاُلوا هَذِهِ أن َْعا ٌ
حرمت ظ ُهور َ َ
ما
م بِ َزيهِ ْ ج ِ سي َ ْ م الل ّهِ عَل َي َْها افْت َِراًء عَل َي ْهِ َس َ نا ْ م ل ي َذ ْك ُُرو َ ها وَأن َْعا ٌ ُ ُ ُ ّ َ ْ
م
حّر ٌ م َ ُ
ة ل ِذ ُكورَِنا وَ ُ ص ٌ
خال ِ َن هَذِهِ الن َْعام ِ َ ُ
ما ِفي ب ُطو ِ ُ
ن * وََقالوا َ فت َُرو َ َ
كاُنوا ي َ ْ
َ
م
كي ٌ ح ِ ه َ م إ ِن ّ ُفه ُ ْ ص َ
م وَ ْ زيهِ ْ
ج ِسي َ ْ
كاُء َ شَر َ م ِفيهِ ُ ة فَهُ ْمي ْت َ ً
ن َ ن ي َك ُ ْ
جَنا وَإ ِ ْعََلى أْزَوا ِ
َ
ما َرَزقَهُ ُ
م موا َ حّر ُ عل ْم ٍ وَ َ
فًها ب ِغَي ْرِ ِ س َ
م َن قَت َُلوا أْولد َهُ ْ ذي َ سَر ال ّ ِ خ ِ م * قَد ْ َ عَِلي ٌ
ن{. دي َ مهْت َ ِ َ
ما كاُنوا ُ ضلوا وَ َ ّ ّ َ
ه افْت َِراًء عَلى اللهِ قَد ْ َ الل ّ ُ
ومن أنواع سفاهتهم أن النعام التي أحلها الله لهم عموما ،وجعلها رزقا
عا وأقوال من تلقاء ورحمة ،يتمتعون بها وينتفعون ،قد اخترعوا فيها ِبد ً
أنفسهم ،فعندهم اصطلح في بعض النعام ]والحرث[ أنهم يقولون فيها} :
َ
شاُء { أي :ل ن نَ َ م ْ مَها ِإل َ جٌر { أي :محرم } ل ي َط ْعَ ُ ح ْ ث ِ حْر ٌ م وَ َ هَذِهِ أن َْعا ٌ
يجوز أن يطعمه أحد ،إل من أردنا أن يطعمه ،أو وصفناه بوصف -من
عندهم.-
وكل هذا بزعمهم ل مستند لهم ول حجة إل أهويتهم ،وآراؤهم الفاسدة.
وأنعام ليست محرمة من كل وجه ،بل يحرمون ظهورها ،أي :بالركوب
والحمل عليها ،ويحمون ظهرها ،ويسمونها الحام ،وأنعام ل يذكرون اسم
الله عليها ،بل يذكرون اسم أصنامهم وما كانوا يعبدون من دون الله عليها،
جار في ذلك. وينسبون تلك الفعال إلى الله ،وهم كذبة فُ ّ
ن { على الله ،من إحلل الشرك ،وتحريم فت َُرو َ كاُنوا ي َ ْ ما َ م بِ َ زيهِ ْ ج ِ سي َ ْ } َ
الحلل من الكل ،والمنافع ] .ص [ 276
ومن آرائهم السخيفة أنهم يجعلون بعض النعام ،ويعينونها -محرما ما في
ما ِفي ب ُ ُ
ن هَذِهِ الن َْعام ِ طو ِ بطنها على الناث دون الذكور ،فيقولونَ } :
َ
م عَلى حّر ٌ م َ
كورَِنا { أي :حلل لهم ،ل يشاركهم فيها النساء } ،وَ ُ ة ل ِذ ُ ُ ص ٌ خال ِ َ َ
جَنا { أي :نسائنا ،هذا إذا ولد حيا ،وإن يكن ما ]في[ بطنها يولد ميتا، َ
أْزَوا ِ
فهم فيه شركاء ،أي :فهو حلل للذكور والناث.
م { حين وصفوا ما أحله الله بأنه حرام، فه ُ ْص َ
م { الله } وَ ْ زيهِ ْ ج ِ سي َ ْ } َ
ووصفوا الحرام بالحلل ،فناقضوا شرع الله وخالفوه ،ونسبوا ذلك إلى
م { حيث أمهل لهم ،ومكنهم مما هم فيه من الضلل. كي ٌح ِ ه َ الله } .إ ِن ّ ُ
م { بهم ،ل تخفى عليه خافية ،وهو تعالى يعلم بهم وبما قالوه عليه } عَِلي ٌ
وافتروه ،وهو يعافيهم ويرزقهم جل جلله.
م َ ُ َ ّ َ
ن قت َلوا أْولد َهُ ْ ذي َ سَر ال ِ خ ِ ثم بين خسرانهم وسفاهة عقولهم فقال } :قد ْ َ
فهم ص ُ عل ْم ٍ { أي :خسروا دينهم وأولدهم وعقولهم ،وصار و ْ فًها ب ِغَي ْرِ ِ س َ َ
-بعد العقول الرزينة -السفه المردي ،والضلل.
ه { أي :ما جعله رحمة لهم ،وساقه رزقا لهم. م الل ّ ُ ما َرَزقَهُ ُ موا َ حّر ُ } وَ َ
فردوا كرامة ربهم ،ولم يكتفوا بذلك ،بل وصفوها بأنها حرام ،وهي من
ل الحلل. ح ّ َ
أ َ
فار } .قَد ْ وكل هذا } افْت َِراًء عََلى الل ّهِ { أي :كذبا يكذب به كل معاند ك َ ّ
ن { أي :قد ضلوا ضلل بعيدا ،ولم يكونوا مهتدين في دي َ مهْت َ ِ كاُنوا ُ ما َ ضّلوا وَ َ َ
شيء من أمورهم.
) (1/275
وهو ال ّذي أ َن َ َ
فاخت َل ِ ً
م ْ
ل َوالّزْرعَ ُ خ َ ت َوالن ّ ْ شا ٍ معُْرو َ ت وَغَي َْر َ شا ٍ معُْرو َ ت َ جّنا ٍ
شأ َ ْ َ ُ َ ِ
َ َ ُ
مَر وَآُتوا ذا أث ْ َ
مرِهِ إ ِ َن ثَ َ شاب ِهٍ ك ُُلوا ِ
م ْ مت َ َشاب ًِها وَغَي َْر ُ مت َ َ
ن ُ ما َن َوالّر ّ ه َوالّزي ُْتو َ أك ُل ُ ُ
ن )(141 سرِِفي َ
م ْ ب ال ْ ُ ح ّه َل ي ُ ِسرُِفوا إ ِن ّ ُ صادِهِ وََل ت ُ ْ ح َ م َ ه ي َوْ َ
ق ُ ح َّ
} } { 141وهو ال ّذي أ َن َ َ
خ َ
ل ت َوالن ّ ْ شا ٍ معُْرو َ ت وَغَي َْر َ شا ٍ معُْرو َ ت َ جّنا ٍ
شأ َ ْ َ ُ َ ِ
ُ ختل ِ ً ُ
ه ن ثَ َ
مرِ ِ م ْ ُ
شاب ِهٍ كلوا ِ مت َ َ شاب ًِها وَغَي َْر ُ مت َ َ
ن ُ ما َ ن َوالّر ّ ه َوالّزي ُْتو َ فا أك ُل ُ ُ م ْ ََوالّزْرعَ ُ
ْ إ َ َ
ن{. سرِِفي َ م ْ ب ال ُ ح ّ ه ل يُ ِ سرُِفوا إ ِن ّ ُ صادِهِ َول ت ُ ْ ح َ م َ
ه ي َوْ َ ق ُ ح ّمَر َوآُتوا َ ذا أث ْ َِ
لما ذكر تعالى تصرف المشركين في كثير مما أحله الله لهم من الحروث
والنعام ،ذكر تبارك وتعالى نعمته عليهم بذلك ،ووظيفتهم اللزمة عليهم
ت { أي :بساتين ،فيها في الحروث والنعام فقال } :وهو ال ّذي أ َن َ َ
جّنا ٍ شأ َ ْ َ ُ َ ِ
أنواع الشجار المتنوعة ،والنباتات المختلفة.
ت { أي :بعض تلك الجنات ،مجعول لها عرش، شا ٍ معُْرو َ ت وَغَي َْر َ شا ٍ معُْرو َ } َ
تنتشر عليه الشجار ،ويعاونها في النهوض عن الرض.وبعضها خال من
العروش ،تنبت على ساق ،أو تنفرش في الرض ،وفي هذاتنبيه على كثرة
منافعها ،وخيراتها ،وأنه تعالى ،علم العباد كيف يعرشونها ،وينمونها.
ختل ِ ً ُ
ه { أي :كله في محل واحد، فا أك ُل ُ ُ م ْ َ} وَ { أنشأ تعالى } النخل َوالّزْرعَ ُ
ويشرب من ماء واحد ،ويفضل الله بعضه على بعض في الكل.
وخص تعالى النخل والزرع على اختلف أنواعه لكثرة منافعها ،ولكونها هي
شاب ًِها { مت َ َن ُ ما َ القوت لكثر الخلق } .وَ { أنشأ تعالى } الزيتون َوالّر ّ
شاب ِهٍ { في ثمره وطعمه .كأنه قيل :لي شيء أنشأ مت َ َفيشجره } وَغَي َْر ُ
الله هذه الجنات ،وما عطف عليها؟ فأخبر أنه أنشأها لمنافع العباد فقال:
} ك ُُلوا منث َمره { أي :النخل والزرع } إ َ َ
صادِهِ { ح َ م َ ه ي َوْ َ ق ُ ح ّمَر َوآُتوا َ ذا أث ْ َ ِ ِ ْ َ ِ ِ
أي :أعطوا حقالزرع ،وهو الزكاة ذات النصباء المقدرة في الشرع ،أمرهم
أن يعطوها يوم حصادها ،وذلك لن حصاد الزرع بمنزلة حولن الحول ،لنه
الوقت الذي تتشوف إليه نفوس الفقراء ،ويسهل حينئذ إخراجه على أهل
الزرع ،ويكون المر فيها ظاهرا لمن أخرجها ،حتى يتميز المخرج ممن ل
يخرج.
سرُِفوا { يعم النهي عن السراف في الكل ،وهو مجاوزة وقولهَ } :ول ت ُ ْ
الحد والعادة ،وأن يأكل صاحب الزرع أكل يضر بالزكاة ،والسراف في
إخراج حق الزرع بحيث يخرج فوق الواجب عليه ،ويضر نفسه أو عائلته
أوغرماءه ،فكل هذا من السراف الذي نهى الله عنه ،الذي ل يحبه الله بل
يبغضه ويمقت عليه.
وفي هذه الية دليل على وجوب الزكاة في الثمار ،وأنه ل حول لها ،بل
حولها حصادها في الزروع ،وجذاذ النخيل ،وأنه ل تتكرر فيها الزكاة ،لو
مكثت عند العبد أحوال كثيرة ،إذا كانت لغير التجارة ،لن الله لم يأمر
بالخراج منه إل وقت حصاده.
وأنه لو أصابها آفة قبل ذلك بغير تفريط من صاحب الزرع والثمر ،أنه ل
يضمنها ،وأنه يجوز الكل من النخل والزرع قبل إخراج الزكاة منه ،وأنه ل
يحسب ذلك من الزكاة ،بل يزكي المال الذي يبقى بعده.
) (1/276
ت خط ُ َ
وا ِ ه وََل ت َت ّب ُِعوا ُ
م الل ّ ُ
ما َرَزقَك ُ ُ شا ك ُُلوا ِ
م ّ ة وَفَْر ً مول َ ً ح ُن اْل َن َْعام ِ َم َوَ ِ
ن )(142 مِبي ٌم عَد ُوّ ُ ه ل َك ُ ْ
ن إ ِن ّ ُ شي ْ َ
طا ِ ال ّ
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم ،يبعث خارصا ،يخرص للناس ثمارهم،
ويأمره أن يدع لهلها الثلث ،أو الربع ،بحسب ما يعتريها من الكل وغيره،
من أهلها ،وغيرهم.
] ص [ 277
ه َول ّ
م الل ُ ُ
ما َرَزقَك ُ م ّ شا كلوا ِ ُ ُ ة وَفَْر ً َ
مول ً ح ُن الن َْعام ِ َ م َ } } { 144 - 142وَ ِ
ن { .أي } :و { خلق وأنشأ مِبي ٌ
م عَد ُوّ ُ َ
ه لك ُ ْ ن إ ِن ّ ُطا ِ شي ْ َ ت ال ّ وا ِخط ُ َت َت ّب ُِعوا ُ
شا { أي :بعضها تحملون عليه وتركبونه ،وبعضها ة وَفَْر ً َ
مول ً ح ُ
} من الن َْعام ِ َ
ل تصلح للحمل والركوب عليها لصغرها كالفصلن ونحوها ،وهي الفرش،
فهي من جهة الحمل والركوب ،تنقسم إلى هذين القسمين.
وأما من جهة الكل وأنواع النتفاع ،فإنها كلها تؤكل وينتفع بها .ولهذا قال:
ن { أي :طرقه وأعماله طا ِ شي ْ َ
ت ال ّ وا ِ خط ُ َ ه َول ت َت ّب ُِعوا ُ م الل ّ ُ ما َرَزقَك ُ ُ } ك ُُلوا ِ
م ّ
ن { فل مِبي ٌ ه ل َك ُ ْ
م عَد ُوّ ُ التيمن جملتها أن تحرموا بعض ما رزقكم الله } .إ ِن ّ ُ
يأمركم إل بما فيه مضرتكم وشقاؤكم البدي.
) (1/276
) (1/277
ة أ َْو
مي ْت َ ً ن َ كو َ ن يَ ُ َ
ه إ ِّل أ ْ م ُ عم ٍ ي َط ْعَ ُ طا ِما عََلى َ حّر ً م َ ي ُ ي إ ِل َ ّ ح َ ما ُأو ِ جد ُ ِفي َ
َ
ل َل أ ِ قُ ْ
ّ ُ َ َ َ
ن
م ِ ل ل ِغَي ْرِ اللهِ ب ِهِ فَ َ قا أهِ ّ س ً
س أو ْ ف ِ ْ ج ٌ ه رِ ْ زيرٍ فَإ ِن ّ ُ خن ْ ِم ِ ح َ
حا أوْ ل ْ فو ً س ُم ْ ما َ دَ ً
دوا ها ُ ن َ ذي َ ّ َ
م ) (145وَعَلى ال ِ حي ٌ فوٌر َر ِ ك غَ ُ ن َرب ّ َ عادٍ فَإ ِ ّ َ
ضطّر غَي َْر َباٍغ وَل َ ُ ا ْ
تمل َ ْح َ ما َ ما إ ِّل َ مه ُ َ
حو َ ش ُ م ُ مَنا عَل َي ْهِ ْ حّر ْ قرِ َوال ْغَن َم ِ َ ن ال ْب َ َ م َ فرٍ وَ ِ ل ِذي ظ ُ ُ مَنا ك ُ ّ حّر ْ َ
ن قو ُ دصا َ ل نا إ و م هيْ غ بب م ه نا ي ز ج ك َ لَ ذ م ْ ظ ع ب َ
ط َ ل ت خ
ْ ا ما وَ أ يا وا حْ ل ا وَ أ ما ه ر هو ُ ظ
َ َ ِ َ َ َْ ُ ْ َِ ِ ِ ْ َ ِّ ٍ ِ َِ َ ُ ُ ُ َ ِ َ َ َ ْ َ
)(146
ه
م ُعم ٍ ي َط ْعَ ُ ما عََلى َ
طا ِ حّر ً م َ ي ُ ي إ ِل َ ّ ح َ ما ُأو ِ جد ُ ِفي َ
َ
للأ ِ } } { 146 ، 145قُ ْ
ُ َ َ َ كون ميت ً َ َ
لقا أهِ ّ س ً
س أو ْ ف ِ ْ ج ٌ ه رِ ْ زيرٍ فَإ ِن ّ ُ خن ْ ِم ِ ح َ حا أوْ ل ْ فو ً س ُ م ْ ما َ ة أوْ د َ ً ن يَ ُ َ َ ْ َ ِإل أ ْ
م * وَعََلى حي ٌ فوٌر َر ِ ك غَ ُ ن َرب ّ َ عادٍ فَإ ِ ّ ضط ُّر غَي َْر َباٍغ َول َ نا ْ م ِ ل ِغَي ْرِ الل ّهِ ب ِهِ فَ َ
مامه ُ َ
حو َ ش ُ م ُ مَنا عَل َي ْهِ ْ حّر ْ قرِ َوال ْغَن َم ِ َ ن ال ْب َ َ م َ فرٍ وَ ِ ل ِذي ظ ُ ُ مَنا ك ُ ّ حّر ْ دوا َ ها ُ ن َ ذي َ ال ّ ِ
ط ب ِعَظ ْم ٍ ذ َل ِ َ خت َل َ َ َ َ
م
م ب ِب َغْي ِهِ ْ جَزي َْناهُ ْ ك َ ما ا ْ واَيا أوْ َ ح َ ما أوِ ال ْ َ ت ظ ُُهوُرهُ َ مل َ ْ ح َ ما َ ِإل َ
ن{. صادُِقو َ وَإ ِّنا ل َ َ
لما ذكر تعالى ذم المشركين على ما حرموا من الحلل ونسبوه إلى
الله،وأبطل قولهم .أمر تعالى رسوله أن يبين للناس ما حرمه الله عليهم،
ن نسب تحريمه إلى الله فهو كاذب مبطل، م ْ ليعلموا أن ما عدا ذلك حللَ ،
لن التحريم ل يكون إل من عند الله على لسان رسوله ،وقد قال لرسوله:
عم ٍ { أي :محرما أكله ،بقطع طا ِ ما عََلى َ حّر ً م َي ُ ي إ ِل َ ّح َ ما ُأو ِ جد ُ ِفي َ
َ
للأ ِ } قُ ْ
النظر عن تحريم النتفاع بغير الكل وعدمه.
ة { والميتة :ما مات بغير ذكاة شرعية ،فإن ذلك ل يحل. مي ْت َ ً ن يَ ُ َ
ن َ كو َ } ِإل أ ْ
خنزيرِ { . م ال ْ ِ ح ُ م وَل َ ْ ة َوالد ّ ُ مي ْت َ ُ م ال ْ َ ت عَل َي ْك ُ ُ م ْ حّر َ كما قال تعالىُ } :
حا { وهو الدم الذي يخرج من الذبيحة عند ذكاتها ،فإنه َ
فو ً س ُ م ْ ما َ } أوْ د َ ً
الدم الذي يضر احتباسه في البدن ،فإذا خرج من البدن زال الضرر بأكل
اللحم ،ومفهوم هذا اللفظ ،أن الدم الذي يبقى في اللحم والعروق بعد
الذبح ،أنه حلل طاهر.
َ
س { أي :فإن هذه الشياء الثلثة ،رجس ،أي: ج ٌ ه رِ ْ خنزيرٍ فَإ ِن ّ ُ م ِ ح َ } أوْ ل َ ْ
خبث نجس مضر ،حرمه الله لطفا بكم ،ونزاهة لكم عن مقاربة الخبائث.
} أ َوْ { إل أن يكون } فسقا أهل لغير الله به { أي :إل أن تكون الذبيحة
مذبوحة لغير الله ،من الوثان واللهة التي يعبدها المشركون ،فإن هذا من
الفسق الذي هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته ،أي :ومع هذا ،فهذه
الشياء المحرمات ،من اضطر إليها ،أي :حملته الحاجة والضرورة إلى أكل
] ص [ 278شيء منها ،بأن لم يكن عنده شيء وخاف على نفسه التلف.
} غَي َْر َباٍغ ول عاد { أي } :غَي َْر َباٍغ { أي :مريدٍ لكلها من غير اضطرار َول
متعد ،أي :متجاوز للحد ،بأن يأكل زيادة عن حاجته } .فمن اضطر غير باغ
م { أي :فالله قد سامح من كان بهذه الحال. حي ٌفوٌر َر ِ ك غَ ُ ن َرب ّ َ ول عاد فَإ ِ ّ
واختلف العلماء رحمهم الله في هذا الحصر المذكور في هذه الية ،مع أن
م محرمات لم تذكر فيها ،كالسباع وكل ذي مخلب من الطير ونحو ذلك، ثَ ّ
فقال بعضهم :إن هذه الية نازلة قبل تحريم ما زاد على ما ذكر فيها ،فل
ينافي هذا الحصر المذكور فيها التحريم المتأخر بعد ذلك؛ لنه لم يجده
فيما أوحي إليه في ذلك الوقت ،وقال بعضهم :إن هذه الية مشتملة على
سائر المحرمات ،بعضها صريحا ،وبعضها يؤخذ من المعنى وعموم العلة.
فإن قوله تعالى في تعليل الميتة والدم ولحم الخنزير ،أو الخير منها فقط:
س { وصف شامل لكل محرم ،فإن المحرمات كلها رجس ج ٌ ه رِ ْ } فَإ ِن ّ ُ
وخبث ،وهي من الخبائث المستقذرة التي حرمها الله على عباده ،صيانة
لهم ،وتكرمة عن مباشرة الخبيث الرجس.
سّنة ،فإنها تفسر القرآن ،وتبين ويؤخذ تفاصيل الرجس المحرم من ال ّ
المقصود منه ،فإذا كان الله تعالى لم يحرم من المطاعم إل ما ذكر،
والتحريم ل يكون مصدره ،إل شرع الله -دل ذلك على أن المشركين،
الذين حرموا ما رزقهم الله مفترون على الله ،متقولون عليه ما لم يقل.
وفي الية احتمال قوي ،لول أن الله ذكر فيها الخنزير ،وهو :أن السياق في
نقض أقوال المشركين المتقدمة ،في تحريمهم لما أحله الله وخوضهم
بذلك ،بحسب ما سولت لهم أنفسهم ،وذلك في بهيمة النعام خاصة،
وليس منها محرم إل ما ذكر في الية :الميتة منها ،وما أهل لغير الله به،
وما سوى ذلك فحلل.
ولعل مناسبة ذكر الخنزير هنا على هذا الحتمال ،أن بعض الجهال قد
يدخله في بهيمة النعام ،وأنه نوع من أنواع الغنم ،كما قد يتوهمه جهلة
النصارى وأشباههم ،فينمونها كما ينمون المواشي ،ويستحلونها ،ول
يفرقون بينها وبين النعام ،فهذا المحرم على هذه المة كله ) (1من باب
التنزيه لهم والصيانة.
وأما ما حرم على أهل الكتاب ،فبعضه طيب ولكنه حرم عليهم عقوبة لهم،
فرٍ { وذلك كالبل ،وما ل ِذي ظ ُ ُ مَنا ك ُ ّ حّر ْدوا َ ها ُن َ ذي َولهذا قال } :وَعََلى ال ّ ِ
قرِ َوال ْغَن َم ِ { بعض أجزائها ،وهو: ن ال ْب َ َم َأشبهها } وَ { حرمنا عليهم } وَ ِ
ما { وليس المحرم جميع الشحوم منها ،بل شحم اللية والثرب، مه ُ َ حو َ ش ُ } ُ
ما أ َِو
ت ظ ُُهوُرهُ َ
مل َ ْ
ح َ
ما َولهذا استثنى الشحم الحلل من ذلك فقالِ } :إل َ
خت َل َط ب ِعَظم ٍ { .
ْ َ َ
ما ا ْواَيا { أي :الشحم المخالط للمعاء } أوْ َ ح َال ْ َ
م { أي :ظلمهم وتعديهم م ب ِب َغْي ِهِ ْ
جَزي َْناهُ ْ
ك { التحريم على اليهود } َ } ذ َل ِ َ
في حقوق الله وحقوق عباده ،فحرم الله عليهم هذه الشياء عقوبة لهم
ن { في كل ما نقول ونفعل ونحكم به ،ومن أصدق ونكال } .وَإ ِّنا ل َ َ
صادُِقو َ
من الله حديثا ،ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون.
__________
) (1في ب :كلها.
) (1/277
ْ
ن
مي َ
جرِ ِ قوْم ِ ال ْ ُ
م ْ ن ال ْ َ
ه عَ ِ سعَةٍ وََل ي َُرد ّ ب َأ ُ
س ُ مةٍ َوا ِ
ح َ
ذو َر ْ ل َرب ّك ُ ْ
م ُ ق ْ ن ك َذ ُّبو َ
ك فَ ُ فَإ ِ ْ
)(147
ْ
نه عَ ِ
س ُ
سعَةٍ َول ي َُرد ّ ب َأ ُ
مةٍ َوا ِ
ح َ
ذو َر ْم ُ ل َرب ّك ُ ْ ق ْك فَ ُ ن ك َذ ُّبو َ} } { 147فَإ ِ ْ
ن{. مي َ جرِ ِ قوْم ِ ال ْ ُ
م ْ ال ْ َ
أي :فإن كذبك هؤلء المشركون ،فاستمر على دعوتهم ،بالترغيب
سعَةٍ { أي :عامة شاملة مةٍ َوا ِ
ح َذو َر ْ والترهيب،وأخبرهم بأن الله } ُ
]لجميع[ المخلوقات كلها ،فسارعوا إلى رحمته بأسبابها ،التي رأسها وأسها
ومادتها ،تصديق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به.
ْ
ن { أي :الذين كثر إجرامهم مي َ جرِ ِ قوْم ِ ال ْ ُ
م ْ ن ال ْ َه عَ ِ س ُ} َول ي َُرد ّ ب َأ ُ
وذنوبهم.فاحذروا الجرائم الموصلة لبأس الله ،التي أعظمها ورأسها
تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم.
) (1/278
يٍء
ش ْن َ م ْ مَنا ِ
حّر ْشَرك َْنا وََل آ ََباؤَُنا وََل َ ما أ َ ْ ه َ شاَء الل ّ ُ كوا ل َوْ َ شَر ُ ن أَ ْ ذي َ ل ال ّ ِ قو ُ سي َ َُ
ْ ُ ْ ّ
علم ٍ ن ِ م ْم ِعن ْد َك ْ
ل ِل هَ ْ ُ
سَنا ق ْ ذاقوا ب َأ َ ُ حّتى َ م َ َ
ن قب ْل ِهِ ْ م ْ ن ِ ذي َ ب ال ِ ك َذ َل ِك كذ ّ َ
َ َ
َ
ل فَل ِل ّ ِ
ه ن ) (148قُ ْ صو َخُر ُ م إ ِّل ت َ ْ ن أن ْت ُ ْ ن وَإ ِ ْ ن إ ِّل الظ ّ ّ ن ت َت ّب ُِعو َ جوهُ ل ََنا إ ِ ْ خرِ ُ فَت ُ ْ
َ َ َ ْ
ن )(149 مِعي َ ج َمأ ْ ُ
داك ْ شاَء لهَ َ ة فَلوْ َ ة الَبال ِغَ ُ ج ُ ح ّ ال ْ ُ
شَرك َْنا َول آَباؤَُنا ما أ َ ْه َ شاَء الل ّ ُ كوا ل َوْ َ شَر ُ ن أَ ْ ذي َ ل ال ّ ِ قو ُ سي َ ُ} َ } { 149 ، 148
ْ
لل هَ ْ سَنا قُ ْذاُقوا ب َأ َ حّتى َ م َ ن قَب ْل ِهِ ْم ْ ن ِ ذي َ ب ال ّ ِ ك ك َذ ّ َ يٍء ك َذ َل ِ َ ش ْ ن َ م ْ مَنا ِ حّر ْ َول َ
َ
ن* صو َ خُر ُم ِإل ت َ ْ ن أن ْت ُ ْ ن ِإل الظ ّ ّ
ن وَإ ِ ْ ن ت َت ّب ُِعو َ جوهُ ل ََنا إ ِ ْ خرِ ُ عل ْم ٍ فَت ُ ْن ِ م ْم ِ عن ْد َك ُ ْ ِ
َ ُ َ َ َ ْ ْ ّ
ن{. مِعي َ ج َ
مأ ْ داك ْ شاَء لهَ َ ة فلوْ َ ة الَبال ِغَ ُ ج ُح ّ قُل فل ِلهِ ال ُ
َ ْ
هذا إخبار من الله أن المشركين سيحتجون على شركهم وتحريمهم ما
أحل الله ،بالقضاء والقدر ،ويجعلون مشيئة الله الشاملة لكل شيء من
الخير والشر حجة لهم في دفع اللوم عنهم.
لوقد قالوا ما أخبر الله أنهم سيقولونه ،كما قال في الية الخرى } :وََقا َ
يٍء { ...الية. ش ْ ن َ م ْ دون ِهِ ِ ن ُ م ْ ما عَب َد َْنا ِ ه َشاَء الل ّ ُ كوا ل َوْ َ شَر ُ ن أَ ْ ذي َ ال ّ ِ
فأخبر تعالى أن هذه الحجة ،لم تزل المم المكذبة تدفع بها عنهم دعوة
الرسل ،ويحتجون بها ،فلم تجد فيهم شيئا ولم تنفعهم ،فلم يزل هذا دأبهم
حتى أهكلهم الله ،وأذاقهم بأسه.
فلو كانت حجة صحيحة ،لدفعت عنهم العقاب ،ولما أحل الله بهم العذاب،
لنه ل يحل بأسه إل بمن استحقه ،فعلم أنها حجة فاسدة ،وشبهة كاسدة،
من عدة أوجه:
منها :ما ذكر الله من أنها لو كانت صحيحة ،لم تحل بهم العقوبة.
ومنها :أن الحجة ،ل بد أن تكون حجة مستندة إلى العلم والبرهان ،فأما إذا
كانت مستندة إلى مجرد الظن والخرص ،الذي ل يغني من الحق شيئا،
جوهُ ل ََنا { فلو كان عل ْم ٍ فَت ُ ْ
خرِ ُ ن ِم ْ عن ْد َك ُ ْ
م ِ ل ِل هَ ْفإنها باطلة ،ولهذا قال } :قُ ْ
لهم علم -وهم خصوم ألداء -لخرجوه ،فلما لم يخرجوه علم أنه ل علم
ن بنى حججه عندهم } .إن تتبعون إل الظ ّن وإ َ
م ْ
ن{و َ صو َ خُر ُم ِإل ت َ ْن أن ْت ُ ّْ َِ ْ ِ ْ َُِّ َ ِ
على الخرص والظن ،فهو مبطل ] ص [ 279خاسر ،فكيف إذا بناها على
البغي والعناد والشر والفساد؟
ومنها :أن الحجة لله البالغة ،التي لم تبق لحد عذرا ،التي اتفقت عليها
النبياء والمرسلون ،والكتب اللهية ،والثار النبوية ،والعقول الصحيحة،
والفطر المستقيمة ،والخلق القويمة ،فعلم بذلك أن كل ما خالف هذه
الدلة ) (1القاطعة باطل ،لن نقيض الحق ،ل يكون إل باطل.
ومنها :أن الله تعالى أعطى كل مخلوق قدرة ،وإرادة ،يتمكن بها من فعل
ما كلف به ،فل أوجب الله على أحد ما ل يقدر على فعله ،ول حرم على
أحد ما ل يتمكن من تركه ،فالحتجاج بعد هذا بالقضاء والقدر ،ظلم محض
وعناد صرف.
ومنها :أن الله تعالى لم يجبر العباد على أفعالهم ،بل جعل أفعالهم تبعا
لختيارهم ،فإن شاءوا فعلوا ،وإن شاءوا كفوا .وهذا أمر مشاهد ل ينكره
إل من كابر ،وأنكر المحسوسات ،فإن كل أحد يفرق بين الحركة الختيارية
والحركة القسرية ،وإن كان الجميع داخل في مشيئة الله ،ومندرجا تحت
إرادته.
ومنها :أن المحتجين على المعاصي بالقضاء والقدر يتناقضون في ذلك.
فإنهم ل يمكنهم أن يطردوا ذلك ،بل لو أساء إليهم مسيء بضرب أو أخذ
مال أو نحو ذلك ،واحتج بالقضاء والقدر لما قبلوا منه هذا الحتجاج،
ولغضبوا من ذلك أشد الغضب.
فيا عجبا كيف يحتجون به على معاصي الله ومساخطه .ول يرضون من
أحد أن يحتج به في مقابلة مساخطهم؟"
ومنها :أن احتجاجهم بالقضاء والقدر ليس مقصودا ،ويعلمون أنه ليس
بحجة،وإنما المقصود منه دفع الحق ،ويرون أن الحق بمنزلة الصائل ،فهم
يدفعونه بكل ما يخطر ببالهم من الكلم وإن كانوا يعتقدونه خطأ ). (2
__________
) (1في ب :الية.
) (2في ب :من الكلم المصيب عندهم والمخطئ.
) (1/278
دوا فََل ت َ ْ شهدو َ
شهَد ْ شه ِ ُ ذا فَإ ِ ْ
ن َ م هَ َ حّر َه َ ن الل ّ َ
نأ ّ ن يَ ْ َ ُ َ ذي َ م ال ّ ِ
داَءك ُ ُشهَ َ م ُ ل هَل ُ ّ قُ ْ
َ ْ َ ّ َ َ ّ َ َ
م
م ب َِرب ّهِ ْ
خَرةِ وَهُ ْن ِبال ِ مُنو َن ل ي ُؤْ ِ ذي َن كذ ُّبوا ب ِآَيات َِنا َوال ِ
ذي َواَء ال ِ م وَل ت َت ّب ِعْ أهْ َ معَهُ ْ
َ
ن )(150 ُ
ي َعْدِلو َ
شهدو َ
ذا فَإ ِ ْ
ن م هَ َ حّر َ ه َن الل ّ َ نأ ّ ن يَ ْ َ ُ َ ذي َ م ال ّ ِ داَءك ُ ُشه َ َ م ُ ل هَل ُ ّ } } { 150قُ ْ
َ
نمُنو َن ل ي ُؤْ ِ ذي َن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا َوال ّ ِذي َواَء ال ّ ِم َول ت َت ّب ِعْ أهْ َ معَهُ ْ شهَد ْ َ دوا َفل ت َ ْ شه ِ َُ
ن{. ُ
م ي َعْدِلو َ م ب َِرب ّهِ ْ خَرةِ وَهُ ْ ِبال ِ
ضروا شهداءكم ح ِ أي :قل لمن حّرم ما أحل الله ،ونسب ذلك إلى الله :أ ْ
الذين يشهدون أن الله حرم هذا ،فإذا قيل لهم هذا الكلم ،فهم بين
أمرين:
ذا باطلة ،خلية من إما :أن ل يحضروا أحدا يشهد بهذا ،فتكون دعواهم إ ً
الشهود والبرهان.
وإما :أن يحضروا أحدا يشهد لهم بذلك ،ول يمكن أن يشهد بهذا إل كل
أفاك أثيم غير مقبول الشهادة ،وليس هذا من المور التي يصح أن يشهد
بها العدول؛ ولهذا قال تعالى -ناهيا نبيه ،وأتباعه عن هذه الشهادة } :-فَإ ِ ْ
ن
َ
ن مُنو َن ل ي ُؤْ ِ ذي َن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا َوال ّ ِذي َواَء ال ّ ِم َول ت َت ّب ِعْ أهْ َ معَهُ ْ شهَد ْ َ دوا َفل ت َ ْ شه ِ ُ َ
ن { أي :يسوون به غيره من النداد والوثان. م ي َعْدُِلو َ م ب َِرب ّهِ ْ خَرةِ وَهُ ْ ِبال ِ
فإذا كانوا كافرين باليوم الخر غير موحدين لله ،كانت أهويتهم مناسبة
لعقيدتهم ،وكانت دائرة بين الشرك والتكذيب بالحق ،فحري بهوى هذا
شأنه،أن ينهى الله خيار خلقه عن اتباعه ،وعن الشهادة مع أربابه ،وعلم
حينئذ أن تحريمهم لما أحل الله صادر عن تلك الهواء المضلة.
) (1/279
) (1/279
) (1/280
) (1/280
) (1/281
م إ َِلى َ
مُرهُ ْما أ ْ
يٍء إ ِن ّ َ
ش ْم ِفي َ من ْهُ ْ
ت ِ س َشي ًَعا ل َ ْ
كاُنوا ِ م وَ َ ن فَّرُقوا ِدين َهُ ْ ذي َ ن ال ّ ِ إِ ّ
َ َ ْ ُ ما َ ّ
مَثال َِها
شُر أ ْ ه عَ ْ سن َةِ فَل ُح َجاَء ِبال َ ن َ م ْن )َ (159 فعَلو َكاُنوا ي َ ْ م ي ُن َب ّئ ُهُ ْ
م بِ َ اللهِ ث ُ ّ
ن )(160 مو َ م َل ي ُظ ْل َ ُ مث ْل ََها وَهُ ْ
جَزى إ ِّل ِ سي ّئ َةِ فََل ي ُ ْجاَء ِبال ّ ن َ م ْ وَ َ
م ِفي من ْهُ ْ ت ِ س َ شي ًَعا ل َ ْ كاُنوا ِ م وَ َ ن فَّرُقوا ِدين َهُ ْ ذي َ ن ال ّ ِ} } { 160 ، 159إ ِ ّ
ْ ُ َ
ة
سن َ ِ
ح َ جاَء ِبال َ ن َ م ْ ن* َ فعَلو َ ما كاُنوا ي َ ْ َ م بِ َ م إ َِلى اللهِ ث ُ ّ
م ي ُن َب ّئ ُهُ ْ ّ مُرهُ ْ ما أ ْيٍء إ ِن ّ َ
ش ْ َ
َ ْ َ َ َ
ن{. مو َ م ل ي ُظل ُ مث ْلَها وَهُ ْ جَزى ِإل ِ سي ّئ َةِ َفل ي ُ ْ جاَء ِبال ّ ن َ م ْمَثال َِها وَ َشُر أ ْ ه عَ ْ فَل ُ
ل أخذ لنفسه يتوعد تعالى الذين فرقوا دينهم ،أي :شتتوه وتفرقوا فيه ،وك ّ
نصيبا من السماء التي ل تفيد النسان في دينه شيئا ،كاليهودية والنصرانية
والمجوسية .أو ل يكمل بها إيمانه ،بأن يأخذ من الشريعة شيئا ويجعله
دينه ،ويدع مثله ،أو ما هو أولى منه ،كما هو حال أهل الفرقة من أهل
البدع والضلل والمفرقين للمة.
ودلت الية الكريمة أن الدين يأمر بالجتماع والئتلف ،وينهى عن التفرق
والختلف في أهل الدين ،وفي سائر مسائله الصولية والفروعية.
يٍء { أي ش ْ م ِفي َ من ْهُ ْ ت ِ س َ وأمره أن يتبرأ ممن فرقوا دينهم فقال } :ل َ ْ
م إ َِلى َ
مُرهُ ْ ما أ ْ لست منهم وليسوا منك ،لنهم خالفوك وعاندوك } .إ ِن ّ َ
ن{. فعَلو َ ُ كاُنوا ي َ ْ ما َ م بِ َ الل ّهِ { يردون إليه فيجازيهم بأعمالهم } ث ُ ّ
م ي ُن َب ّئ ُهُ ْ
سن َةِ { القولية والفعلية، ح َ جاَء ِبال ْ َ ن َ م ْ ثم ذكر صفة الجزاء فقالَ } :
َ َ
مَثال َِها { شُر أ ْ ه عَ ْ الظاهرة والباطنة ،المتعلقة بحق الله أو حق خلقه } فَل ُ
هذا أقل ما يكون من التضعيف.
مث ْل ََها { وهذا من تمام عدله تعالى سي ّئ َةِ َفل ي ُ ْ
جَزى ِإل ِ جاَء ِبال ّ
ن َ
م ْ
} وَ َ
ن{.مو َ َ ْ
م ل ي ُظل ُ
وإحسانه ،وأنه ل يظلم مثقال ذرة ،ولهذا قال } :وَهُ ْ
) (1/282
مل ّ َ
ة ما ِ قيم ٍ ِديًنا قِي َ ً ست َ ِ
م ْ ط ُ صَرا ٍ داِني َرّبي إ َِلى ِ ل إ ِن ِّني هَ َ } } { 165 - 161قُ ْ
ي
حَيا َ م ْكي وَ َ س ِ صلِتي وَن ُ ُ ن َ ل إِ ّ ن * قُ ْ كي َ شرِ ِ م ْ ْ
ن ال ُ م َ ن ِ كا َ ما َ فا وَ َ حِني ً م َ هي َ إ ِب َْرا ِ
ن* ْ َ
ت وَأَنا أوّ ُ َ ُ ه وَب ِذ َل ِ َ َ ري َ ن*ل َ َ ْ ّ
مي َ سل ِ ِ م ْ ل ال ُ مْر ُ كأ ِ كل ُ ش ِ مي َ ب الَعال ِ ماِتي ل ِلهِ َر ّ م َوَ َ
َ ب كُ ّ َ ّ َ
س ِإل عَلي َْها َول ف ٍ ل نَ ْ س ُ يٍء َول ت َك ْ ِ ش ْ ل َ ب كُ ّ ل أغَي َْر اللهِ أب ِْغي َرّبا وَهُوَ َر ّ قُ ْ
َ ُ
ن
فو َ خت َل ِ ُ م ِفيهِ ت َ ْ ما ك ُن ْت ُ ْ م بِ َ م فَي ُن َب ّئ ُك ُ ْ جعُك ُ ْ مْر ِ م َ م إ ِلى َرب ّك ُ ْ خَرى ث ُ ّ ت َزُِر َوازَِرةٌ وِْزَر أ ْ
ت ل ِي َب ْل ُوَك ُ ْ
م جا ٍ ض د ََر َ م فَوْقَ ب َعْ ٍ ضك ُ ْ ض وََرفَعَ ب َعْ َ ف الْر ِ خلئ ِ َ م َ جعَل َك ُ ْ ذي َ * وَهُوَ ال ّ ِ
م{. حي ٌ فوٌر َر ِ ه ل َغَ ُب وَإ ِن ّ ُ قا ِ ريعُ ال ْعِ َ س ِ ك َ ن َرب ّ َ م إِ ّ ما آَتاك ُ ْ ِفي َ
يأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم ،أن يقول ويعلن بما هو عليه من
الهداية إلى الصراط المستقيم :الدين المعتدل المتضمن للعقائد النافعة،
والعمال الصالحة ،والمر بكل حسن ،والنهي عن كل قبيح ،الذي عليه
النبياء والمرسلون ،خصوصا إمام الحنفاء ،ووالد من بعث من بعد موته
من النبياء ،خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلة والسلم ،وهو الدين الحنيف
المائل عن كل دين غير مستقيم ،من أديان أهل النحراف ،كاليهود
والنصارى والمشركين.
صلِتي ن َ ل إِ ّ وهذا عموم ،ثم خصص من ذلك أشرف العبادات فقال } :قُ ْ
كي { أي :ذبحي ،وذلك لشرف هاتين العبادتين وفضلهما ،ودللتهما س ِ وَن ُ ُ
على محبة الله تعالى ،وإخلص الدين له ،والتقرب إليه بالقلب واللسان
والجوارح ،وبالذبح الذي هو بذل ما تحبه النفس من المال ،لما هو أحب
إليها وهو الله تعالى.
ومن أخلص في صلته ونسكه ،استلزم ذلك إخلصه لله في سائر أعماله.
ي، ماِتي { أي :ما آتيه في حياتي ،وما يجريه الله عل ّ م َ حَيايَ وَ َ م ْ وقوله } :وَ َ
ه{ ك لَ ُ ري َ ش ِ ن{}ل َ مي َ ب ال َْعال َ ِ ي في مماتي ،الجميع } ل ِل ّهِ َر ّ وما يقدر عل ّ
في العبادة ،كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير ،وليس هذا
ت{ ُ الخلص لله ابتداعا مني ،وبدعا أتيته من تلقاء نفسي ،بل } ب ِذ َل ِ َ
مْر ُ كأ ِ
ن { من هذه مي َ سل ِ ِ م ْ ل ال ْ ُ أمرا حتما ،ل أخرج من التبعة إل بامتثاله } وَأ ََنا أ َوّ ُ
المة.
ل أغَي َْر اللهِ { من المخلوقين } أب ِْغي َرّبا { أي :يحسن ذلك ويليق بي، َ ّ َ } قُ ْ
أن أتخذ غيره ،مربيا ومدبرا والله رب كل شيء ،فالخلق كلهم داخلون
تحت ربوبيته ،منقادون لمره؟".
فتعين علي وعلى غيري ،أن يتخذ الله ربا ،ويرضى به ،وأل يتعلق بأحد من
المربوبين الفقراء العاجزين.
س { من خير ف ٍ ل نَ ْ ُ
بك ّ س ُ ْ
ثم رغب ورهب بذكر ) (1الجزاء فقالَ } :ول ت َك ِ
َ
ساَء نأ َ م ْ سهِ وَ َ ف ِ حا فَل ِن َ ْ صال ِ ًل َ م َن عَ ِم ْ وشر } ِإل عَل َي َْها { كما قال تعالىَ } :
فَعَل َي َْها { .
خَرى { بل كل عليه وزر نفسه ،وإن كان أحد قد } َول ت َزُِر َوازَِرةٌ وِْزَر أ ُ ْ
تسبب في ضلل غيره ووزره ،فإن عليه وزر التسبب من غير أن ينقص
من وزر المباشر شيء.
مما ك ُن ْت ُ ْ م بِ َم { يوم ] ص [ 283القيامة } فَي ُن َب ّئ ُك ُ ْ جعُك ُ ْ مْر ِ م َ م إ َِلى َرب ّك ُ ْ } ثُ ّ
ن { من خير وشر ،ويجازيكم على ذلك أوفى الجزاء. فو َ خت َل ِ ُِفيهِ ت َ ْ
ض { أي :يخلف بعضكم بعضا ،واستخلفكم ف الْر ِ خلئ ِ َ م َ جعَل َك ُ ْ ذي َ } وَهُوَ ال ّ ِ
خر لكم جميع ما فيها ،وابتلكم ،لينظر كيف تعملون. الله في الرض ،وس ّ
ْ ضك ُ ْ
خلق ت { في القوة والعافية ،والرزق وال َ جا ٍ م فَوْقَ ب َعْ ٍ
ض د ََر َ } وََرفَعَ ب َعْ َ
ع
ري ُس ِ ك َ ن َرب ّ َ م { فتفاوتت أعمالكم } .إ ِ ّ ما آَتاك ُ ْ م ِفي َ خُلق } .ل ِي َب ْل ُوَك ُ ْ وال ُ
م { لمن آمن به حي ٌ فوٌر َر ِ َ
ه لغَ ُ
ذب بآياته } وَإ ِن ّ ُ ب { لمن عصاه وك ّ قا ِ ال ْعِ َ
وعمل صالحا ،وتاب من الموبقات.
آخر تفسير سورة النعام ،فلله الحمد والثناء وصلى الله وسلم على نبينا
محمد.
]وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين[ ). (2
المجلد الثالث من تيسير الرحمن في تفسير القرآن لجامعه الفقير إلى
الله :عبد الرحمن بن ناصر السعدي.
__________
) (1في ب :بذلك.
) (2زيادة من ب ،وقد جاء بعدها قول الناسخ) :وكان الفراغ من كتابته في
يوم الجمعة الموافق خمس وعشرين من جمادى الخرة سنة 1345هـ،
بقلم الفقير إلى ربه المنان :علي الحسن العلي الحسن البريكان ،وقد
نسخته على نسخة المؤلف غفر الله له وأثابه على ذلك الثواب الجزيل،
وجزاه الله عنا وعن جميع المسلمين أفضل الجزاء في دار الجزاء ،وأدخله
الله برحمته فسيح الجنان ،ووقانا وإياه عذاب النيران بفضله وكرمه ،إنه
قريب مجيب ،وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين آمين
ثم آمين يا رب العالمين (.
) (1/282
) (1/283
ه ل ِت ُن ْذَِر ب ِهِ وَذِك َْرى من ْ ُ ج ِ حَر ٌ ك َ صد ْرِ َ ن ِفي َ ك فََل ي َك ُ ْ ل إ ِل َي ْ َ ب أ ُن ْزِ َ المص ) (1ك َِتا ٌ
دون ِهِ أ َوْل َِياَء قَِليلً ن ُ م ْ م وَل ت َت ّب ُِعوا ِ َ ُ
ن َرب ّك ْ م ْ م ِ ُ َ
ل إ ِلي ْك ْ ما أن ْزِ َ ُ
ن ) (2ات ّب ُِعوا َ مِني َ مؤْ ِل ِل ْ ُ
َ ْ َ
ن )(4 م َقائ ُِلو َ سَنا ب ََياًتا أوْ هُ ْ ها ب َأ ُ جاَء َ ها فَ َ ن قَْري َةٍ أهْل َك َْنا َ م ْ م ِ ن ) (3وَك َ ْ ما ت َذ َك ُّرو َ َ
َ َ َ َ َ ُ ُ َ َ ّ ْ َ
ن
ْ ّ ل أ سَ ن ل ف (5 ) ن
َ ميِ ِ ل ظا نا
ّ ك ناّ ِ إ لوا قا نْ أ ل إ
ُ ِ نا
َ س أَ ب م
ْ ُ ه َ ءجا َ ْ ذ إ م
َ ْ ِ ُ ه وا ْ ع َ د ن
َ كا ما فَ َ
ْ َ َ ْ َ َ َ َ ُ
ما كّناُ م ب ِعِلم ٍ وَ َ ن عَلي ْهِ ْ ص ّ ق ّ ن ) (6فَلن َ ُ سِلي َ مْر َ ن ال ُ سأل ّ م وَلن َ ْ س َ
ل إ ِلي ْهِ ْ ن أْر ِ ذي َ ال ّ ِ
ن )(7 غائ ِِبي َ َ
ن ك َفل ي َك ُ ْ ل إ ِل َي ْ َ ب أ ُن ْزِ َ حيم ِ المص * ك َِتا ٌ ن الّر ِ م ِ ح َ سم ِ الل ّهِ الّر ْ } } { 7 - 1بِ ْ
ُ َ ما أن ْزِ َ ُ ْ ْ صد ْرِ َ
نم ْ م ِ ل إ ِلي ْك ْ ن * ات ّب ُِعوا َ مِني َ مؤْ ِ ه ل ِت ُن ْذَِر ب ِهِ وَذِكَرى ل ِل ُ من ْ ُ ج ِ حَر ٌ ك َ ِفي َ
ْ َ َ َ ّ َ
ها ن قَْري َةٍ أهْلكَنا َ م ْ م ِ ن * وَك ْ ما ت َذ َكُرو َ دون ِهِ أوْل َِياَء قَِليل َ ن ُ م ْ م َول ت َت ّب ُِعوا ِ َرب ّك ُ ْ
َ ْ َ ْ
نسَنا ِإل أ ْ م ب َأ ُ جاَءهُ ْ م إ ِذ ْ َ واهُ ْ ن د َعْ َ كا َ ما َ ن * فَ َ م َقائ ُِلو َ سَنا ب ََياًتا أوْ هُ ْ ها ب َأ ُ جاَء َ فَ َ
ْ َ َ َ َ ُ ّ َ َ َ َ ُ ُ
ن* سِلي َ مْر َ ن ال ُ سأل ّ م وَلن َ ْ ل إ ِلي ْهِ ْ س َ ن أْر ِ ذي َ ن ال ِ سأل ّ ن * فَلن َ ْ مي َ َقالوا إ ِّنا كّنا ظال ِ ِ
ن{. غائ ِِبي َ ما ك ُّنا َ ْ
م ب ِعِلم ٍ وَ َ ن عَل َي ْهِ ْ ص ّ ق ّ فَل َن َ ُ
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مبينا له عظمة القرآن:
ك { أي :كتاب جليل حوى كل ما يحتاج إليه العباد ،وجميع ل إ ِل َي ْ َ ب ُأنز َ } ك َِتا ٌ
صد ْرِ َ
ك ن ِفي َ المطالب اللهية ،والمقاصد الشرعية ،محكما مفصل } َفل ي َك ُ ْ
ه { أي :ضيق وشك واشتباه ،بل لتعلم أنه تنزيل من حكيم حميد } من ْ ُ ج ِ حَر ٌ َ
ميدٍ { وأنه ح م كي ح ن م لٌ تنزي ه ف ْ ل خ ن م ول ه ي د ي ن ي ب ن م ُ
ل ْ ْ
ِ ْ َ ِ ٍ َ ِ ِ ْ َْ ِ َ َْ ِ َ ِ ْ َ ِ ِ َ ل َ ِ ِ َ ِ
ط با ل ا ه تي أ ي
أصدق الكلم فلينشرح له صدرك ،ولتطمئن به نفسك ،ولتصدع بأوامره
ونواهيه ،ول تخش لئما ومعارضا.
} ل ِت ُن ْذَِر ب ِهِ { الخلق ،فتعظهم وتذكرهم ،فتقوم الحجة على المعاندين.
ن الذ ّك َْرى ن { كما قال تعالى } :وَذ َك ّْر فَإ ِ ّ مِني َ مؤْ ِ } و { ليكون } ذِك َْرى ل ِل ْ ُ
ن { يتذكرون به الصراط المستقيم ،وأعماله الظاهرة مِني َ مؤْ ِ ف ع ُ ال ْ ُ ت َن ْ َ
والباطنة ،وما يحول بين العبد ،وبين سلوكه.
َ ُ
م ُ
ل إ ِلي ْك ْ ما أنز َ ثم خاطب الّله العباد ،وألفتهم إلى الكتاب فقال } :ات ّب ُِعوا َ
م { الذي ن َرب ّك ُ ْ م ْ م { أي :الكتاب الذي أريد إنزاله لجلكم ،وهوِ } : ن َرب ّك ُ ْ م ْ ِ
يريد أن يتم تربيته لكم ،فأنزل عليكم هذا الكتاب الذي ،إن اتبعتموه،
كملت تربيتكم ،وتمت عليكم النعمة ،وهديتم لحسن العمال والخلق
دون ِهِ أ َوْل َِياَء { أي :تتولونهم ،وتتبعون أهواءهم، ن ُ م ْ ومعاليها } َول ت َت ّب ُِعوا ِ
وتتركون لجلها الحق.
ن { فلو تذكرتم وعرفتم المصلحة ،لما آثرتم الضار على ما ت َذ َك ُّرو َ } قَِليل َ
ي. النافع ،والعدو على الول ّ
ثم حذرهم عقوباته للمم الذين كذبوا ما جاءتهم به رسلهم ،لئل يشابهوهم
ْ
سَنا { أي :عذابنا الشديد ها ب َأ ُ جاَء َ ها فَ َ ن قَْري َةٍ أ َهْل َك َْنا َ م ْ م ِ ) (1فقال } :وَك َ ْ
َ
ن { أي :في حين غفلتهم ،وعلى غرتهم غافلون ،لم م َقائ ُِلو َ } ب ََياًتا أوْ هُ ْ
يخطر الهلك على قلوبهم .فحين جاءهم العذاب لم يدفعوه عن أنفسهم،
ول أغنت عنهم آلهتهم التي كانوا يرجونهم ،ول أنكروا ما كانوا يفعلونه من
الظلم والمعاصي.
َ ُ ُ َ ْ ما َ
ن { كما قال مي َ ن َقالوا إ ِّنا كّنا ظال ِ ِ سَنا ِإل أ ْ م ب َأ ُ جاَءهُ ْ م إ ِذ ْ َ واهُ ْ ن د َعْ َ كا َ } فَ َ
ْ َ َ ن قَْري َةٍ َ
ن* ري َ خ ِ ما آ َ ها قَوْ ً شأَنا ب َعْد َ َ ة وَأن ْ َ م ً ت ظال ِ َ كان َ ْ م ْ مَنا ِ ص ْ م ْ قَ َ تعالى } :وَك َ ْ
ُ َ َ
ما أت ْرِفْت ُ ْ
م جُعوا إ ِلى َ ضوا َواْر ِ ن * ل ت َْرك ُ ُ ضو َ من َْها ي َْرك ُ ُ م ِ ذا هُ ْ سَنا إ ِ َ سوا ب َأ َ ح ّ ما أ َ فَل َ ّ
فيه ومساكنك ُم ل َعل ّك ُم ت َ
تما َزال َ ْ ن * فَ َ مي َ ظال ِ ِ ن * َقاُلوا َيا وَي ْل ََنا إ ِّنا ك ُّنا َ سأُلو َ ِ ِ َ َ َ ِِ ْ َ ْ ُ ْ
ن {. دي َ م ِ
خا ِدا َ صي ً ح ِم َ جعَل َْناهُ ْ حّتى َ م َ واهُ ْ ك د َعْ َ ت ِل ْ َ
م { أي لنسألن المم الذين أرسل الّله ُ َ
ل إ ِل َي ْهِ ْس َن أْر ِ ذي َ ن ال ّ ِسأل َ ّ وقوله } فَل َن َ ْ
م َ ما َ م فَي َ ُ
قو ُ
جب ْت ُ ُ
ذا أ َ ل َ م ي َُناِديهِ ْإليهم المرسلين عما أجابوا به رسلهم } وَي َوْ َ
ن { اليات سِلي َ َ مْر َ ال ْ ُ
ن { عن تبليغهم لرسالت ربهم وعما أجابتهم به سِلي َ مْر َ ن ال ْ ُ سأل َ ّ } وَل َن َ ْ
أممهم
ْ
م { أي على الخلق كلهم ما عملوا } ب ِعِلم ٍ { منه تعالى َ
ن عَلي ْهِ ْ ص ّق ّ } فَل َن َ ُ
ن { في وقت من الوقات كما قال تعالى غائ ِِبي َ ما ك ُّنا َ لعمالهم } وَ َ
َ
سب ْعَ ط ََرائ ِقَ وَ َ
ما م َ قَنا فَوْقَك ُ ْخل َ ْ
قد ْ َ سوه ُ { وقال تعالى } وَل َ َ ه وَن َ ُ صاهُ الل ّ ُ ح َ }أ ْ
ن {. غافِِلي َ ق َ ك ُّنا عَن ال ْ َ ْ
خل ِ ِ
__________
) (1في ب :فل يشابهونهم.
) (1/283
نم ْ
ن ) (8وَ َ حو َ فل ِ ُ م ال ْ ُ
م ْ ك هُ ُه فَُأول َئ ِ َ
واِزين ُ ُ
م َ
ت َقل َ ْ
ن ثَ ُم ْ حق ّ ف َ َ مئ ِذٍ ال ْ َ
ن ي َوْ ََوال ْوَْز ُ
َ َ ُ
ن )(9 مو َكاُنوا ب ِآَيات َِنا ي َظ ْل ِ ُ ما َم بِ َ سهُ ْف َسُروا أن ْ ُ
خ ِن َ ذي َك ال ّ ِ ه فَأول َئ ِ َ واِزين ُ ُم َت َ ف ْ خ َّ
نحو َفل ِ ُ
م ْ م ال ْ ُ ك هُ ُ ه فَُأول َئ ِ َ واِزين ُ ُ م َت َ قل َ ْ
ن ثَ ُم ْ حق ّ ف َ َ مئ ِذٍ ال ْ َ ن ي َوْ َ } َ } { 9 ، 8وال ْوَْز ُ
َ ُ
كاُنوا ِبآَيات َِنا ما َ م بِ َ سهُ ْ ف َ سُروا أن ْ ُ خ ِ ن َ ذي َك ال ّ ِ ه فَأول َئ ِ َ واِزين ُ ُ م َ ت َ ف ْ خ ّ ن َ م ْ * وَ َ
ن{. مو َ ي َظ ْل ِ ُ
تقل َ ْ ن ثَ ُم ْحق ّ ف َ َ مئ ِذٍ ال ْ َ ن ي َوْ َ ثم ذكر الجزاء على العمال ،فقالَ } :وال ْوَْز ُ
ُ ه فَُأول َئ ِ َ
سُروا خ ِ ن َ ذي َك ال ّ ِ ه فَأول َئ ِ َ واِزين ُ ُ م َت َ ف ْخ ّن َ م ْ ن وَ َ حو َ فل ِ ُ م ْم ال ْ ُ ك هُ ُ واِزين ُ ُ م ََ
ن { أي :والوزن يوم القيامة يكون بالعدل مو َ ْ
ما كاُنوا ِبآيات َِنا ي َظل ِ ُ َ م بِ َ سهُ ْ ف َ أ َن ْ ُ
والقسط ،الذي ل جور ] ص [ 284فيه ول ظلم بوجه.
َ ُ
م َ
ه { بأن رجحت كفة حسناته على سيئاته } فَأولئ ِك هُ ُ واِزين ُ ُ م َ ت َ قل َ ْ ن ثَ ُ م ْ } فَ َ
ن { أي :الناجون من المكروه ،المدركون للمحبوب ،الذين حصل حو َ فل ِ ُ ال ْ ُ
م ْ
لهم الربح العظيم ،والسعادة الدائمة.
ك َ ُ
ه { بأن رجحت سيئاته ،وصار الحكم لها } ،فَأولئ ِ َ واِزين ُ ُ م َ ت َ ف ْ خ ّ ن َ م ْ } وَ َ
َ
م { إذ فاتهم النعيم المقيم ،وحصل لهم العذاب الليم سهُ ْ ف َ سُروا أن ْ ُ خ ِ ن َ ذي َ ال ّ ِ
ن { فلم ينقادوا لها كما يجب عليهم ذلك. مو َ كاُنوا ِبآَيات َِنا ي َظ ْل ِ ُ ما َ } بِ َ
) (1/283
َْ
شك ُُرو َ
ن )(10 ش قَِليًل َ
ما ت َ ْ مَعاي ِ َ جعَل َْنا ل َك ُ ْ
م ِفيَها َ ض وَ َ مك ّّناك ُ ْ
م ِفي الْر ِ وَل َ َ
قد ْ َ
ماش قَِليل َ مَعاي ِ َ جعَل َْنا ل َك ُ ْ
م ِفيَها َ ض وَ َ
م ِفي الْر ِ مك ّّناك ُ ْ } } { 10وَل َ َ
قد ْ َ
ن{. شك ُُرو َ
تَ ْ
م ُ ّ
مكّناك ْ قد ْ َ َ
يقول تعالى ممتنا على عباده بذكر المسكن والمعيشة } :وَل َ
ض { أي :هيأناها لكم ،بحيث تتمكنون من البناء عليها وحرثها، ِفي الْر ِ
ش { مما يخرج من الشجار مَعاي ِ َ م ِفيَها َ َ ْ
جعَلَنا لك ُ ْ
ووجوه النتفاع بها } وَ َ
والنبات ،ومعادن الرض ،وأنواع الصنائع والتجارات ،فإنه هو الذي هيأها،
وسخر أسبابها.
ّ
ن { الله ،الذي أنعم عليكم بأصناف النعم ،وصرف عنكم ُ
شكُرو َ } قَِليل َ
ما ت َ ْ
النقم.
) (1/284
دوا إ ِّل
ج ُ دوا ِل َد َ َ
م فَ َ
س َ ج ُ مَلئ ِك َةِ ا ْ
س ُ م قُل َْنا ل ِل ْ َ
م ثُ ّصوّْرَناك ُ ْ
م َم ثُ ّقَناك ُ ْخل َ ْ وَل َ َ
قد ْ َ
ن )(11 دي َج ِ سا ِن ال ّم َن ِم ي َك ُ ْس لَ ْ إ ِب ِْلي َ
م
دوا لد َ َ
ج ُ ملئ ِك َةِ ا ْ
س ُ م قُل َْنا ل ِل ْ َ
م ثُ ّ صوّْرَناك ُ ْم َ م ثُ ّقَناك ُ ْ خل َ ْ
قد ْ َ} } { 15 - 11وَل َ َ
ن{. دي َ ج ِ
سا ِ ن ال ّ م َ ن ِ م ي َك ُ ْس لَ ْ دوا ِإل إ ِب ِْلي َ
ج ُ فَ َ
س َ
م { بخلق أصلكم ومادتكم ُ
قَناك ْ َ
خل ْ قد ْ َ َ
يقول تعالى مخاطبا لبني آدم } :وَل َ
م { في أحسن ُ
صوّْرَناك ْ م َ التي منها خرجتم :أبيكم آدم عليه السلم } ث ُ ّ
صورة ،وأحسن تقويم ،وعلمه الله تعالى ما به تكمل صورته الباطنة،
أسماء كل شيء.
ثم أمر الملئكة الكرام أن يسجدوا لدم ،إكراما واحتراما ،وإظهارا لفضله،
س { أبى أن دوا { كلهم أجمعون } ِإل إ ِب ِْلي َ ج ُس َ فامتثلوا أمر ربهم } ،فَ َ
يسجد له ،تكبرا عليه وإعجابا بنفسه.
) (1/284
ه خل َ ْ
قت َ ُ ن َنارٍ وَ َ م ْ خل َ ْ
قت َِني ِ ه َ من ْ ُخي ٌْر ِل أ ََنا َك َقا َ مْرت ُ َ َ
جد َ إ ِذ ْ أ َ س ُ
ل ما منع َ َ
ك أّل ت َ ْ َقا َ َ َ َ َ
ج إ ِن ّ َ ن ت َت َك َب َّر ِفيَها َفا ْ َ ن لَ َ ما ي َ ُ ل َفاهْب ِ ْ
ك خُر ْ كأ ْ كو ُ من َْها فَ َ
ط ِ ن )َ (12قا َ طي ٍن ِ م ْ ِ
ن م كَ ن إ َ
ل َ
قا ( 14 ) ن ُ
ثو عبي م و ي لى َ إ ني ر ظ نَ أ َ
ل َ
قا ( 13 ) ن ري غ صا ال ن م
ِ َ ِّ َ ْ ِ َُْ َ ْ ِْ ِ ِ ّ ِ ِ َ ِ َ
ن )(15 ري َ َ
من ْظ ِ ال ْ ُ
ه خل َ ْ
قت َ ُ ن َنارٍ وَ َ م ْ قت َِني ِ خل َ ْ
ه َمن ْ ُخي ٌْر ِل أ ََنا َ ك َقا َ مْرت ُ َ َ
جد َ إ ِذ ْ أ َس ُ
ل ما منع َ َ
ك أل ت َ ْ } َقا َ َ َ َ َ
ج إ ِن ّ َ ن ت َت َك َب َّر ِفيَها َفا ْ َ نل َ َ ما ي َ ُ ْ
ن
م َك ِ خُر ْ كأ ْ كو ُ من َْها فَ َ ل َفاهْب ِط ِ ن * َقا َ طي ٍن ِ م ْ
ِ
َ
ن{. ري َ من ْظ َ ِ
ن ال ْ ُ
م َ ك ِل إ ِن ّ َ
ن * َقا َ ل أن ْظ ِْرِني إ َِلى ي َوْم ِ ي ُب ْعَُثو َ
َ
ن * َقا َ ري َصاِغ ِ ال ّ
ي ،أي: جد َ { لما خلقت بيد ّ س ُ
ك أل ت َ ْ من َعَ َ ما َ فوبخه الّله على ذلك وقالَ } :
شرفته وفضلته بهذه الفضيلة ،التي لم تكن لغيره ،فعصيت أمري وتهاونت
بي؟
ه { ثم برهن على هذه الدعوى َ } َقا َ
من ْ ُ
خي ٌْر ِ ل { إبليس معارضا لربه } :أَنا َ
ن{. طي ٍن ِ م ْ ه ِ خل َ ْ
قت َ ُ ن َنارٍ وَ َ م ْ قت َِني ِ خل َ ْ
الباطلة بقولهَ } :
وموجب هذا أن المخلوق من نار أفضل من المخلوق من طين لعلو النار
على الطين وصعودها ،وهذا القياس من أفسد القيسة ،فإنه باطل من
عدة أوجه:
منها :أنه في مقابلة أمر الله له بالسجود ،والقياس إذا عارض النص ،فإنه ّ
قياس باطل ،لن المقصود بالقياس ،أن يكون الحكم الذي لم يأت فيه
نص ،يقارب المور المنصوص عليها ،ويكون تابعا لها.
فأما قياس يعارضها ،ويلزم من اعتباره إلغاُء النصوص ،فهذا القياس من
أشنع القيسة.
ه { بمجردها كافية لنقص إبليس الخبيث. َ
من ْ ُخي ٌْر ِ
ومنها :أن قوله } :أَنا َ
ّ
فإنه برهن على نقصه بإعجابه بنفسه وتكبره ،والقول على الله بل علم.
وأي نقص أعظم من هذا؟"
ومنها :أنه كذب في تفضيل مادة النار على مادة الطين والتراب ،فإن مادة
الطين فيها الخشوع والسكون والرزانة ،ومنها تظهر بركات الرض من
الشجار وأنواع النبات ،على اختلف أجناسه وأنواعه ،وأما النار ففيها
الخفة والطيش والحراق.
ولهذا لما جرى من إبليس ما جرى ،انحط من مرتبته العالية إلى أسفل
السافلين.
َ َ
َ
ن ت َت َكب َّر ن لك أ ْ َ ُ
ما ي َكو ُ َ
من َْها { أي :من الجنة } ف َ فقال الّله له } :فاهْب ِط ِ
ْ َ
ِفيَها { لنها دار الطيبين الطاهرين ،فل تليق بأخبث خلق الّله وأشرهم.
ن { أي :المهانين الذلين ،جزاء على كبره ري َصاِغ ِ ن ال ّ م َ
ك ِج إ ِن ّ َ
خُر ْ } َفا ْ
وعجبه بالهانة والذل.
ه الن ّظ َِرةَ فلما أعلن عدو الّله بعداوة الله ،وعداوة آدم وذريته ،سأل الل َ
ّ ّ
والمهال إلى يوم البعث ،ليتمكن من إغواء ما يقدر عليه من بني آدم.
ولما كانت حكمة الّله مقتضية لبتلء العباد واختبارهم ،ليتبين الصادق من
نم َ ك ِ الكاذب ،ومن يطيعه ممن يطيع عدوه ،أجابه لما سأل ،فقال } :إ ِن ّ َ
ن{. ري َمن ْظ َ ِال ْ ُ
) (1/284
َ
ن
ن ب َي ْ ِ
م ْ م ِم َل َت ِي َن ّهُ ْ
م ) (16ث ُ ّ قي َ
ست َ ِ
م ْ ك ال ْ ُ
صَراط َ َم ِ ن ل َهُ ْما أغْوَي ْت َِني َل َقْعُد َ ّ ل فَب ِ ََقا َ
َ َ َ
ن) ري َ م َ
شاك ِ ِ جد ُ أك ْث ََرهُ ْ م وََل ت َ ِ
مائ ِل ِهِ ْش َ ن َ م وَعَ ْمان ِهِ ْ
ن أي ْ َ م وَعَ ْ خل ْ ِ
فه ِ ْ ن َم ْم وَ ِ ديهِ ْأي ْ ِ
(17
َ
م * ثُ ّ
م قي َ ست َ ِم ْ ك ال ْ ُ صَراط َ َ م ِ ن ل َهُ ْ ما أغْوَي ْت َِني لقْعُد َ ّ ل فَب ِ َ } َ } { 17 ، 16قا َ
ن َ َ ْ لت ِينهم من بي َ
جد ُ م َول ت َ ِ مائ ِل ِهِ ْ ش َ م وَعَ ْ مان ِهِ ْ ن أي ْ َم وَعَ ْ فه ِ ْ خل ِ ن َ م ْم وَ ِ ديهِ ْ
ن أي ْ َِ َُّ ْ ِ ْ َْ ِ
ن{. ري َ م َ
شاك ِ ِ أك ْث ََرهُ ْ
َ ّ
ما أغْوَي ْت َِني لقْعُد َ ّ
ن أي :قال إبليس -لما أبلس وأيس من رحمة الله } -فَب ِ َ
م { أي :للزمن الصراط ولسعى قي َست َ ِ
م ْ ك ال ْ ُ صَراط َ َ م { أي :للخلق } ِ ل َهُ ْ
غاية جهدي على صد الناس عنه وعدم سلوكهم إياه.
م{ ن َ خل ْفهم وعَ َ } ث ُم لت ِينهم من بي َ
مائ ِل ِهِ ْ ش َ م وَعَ ْ مان ِهِ ْ ن أي ْ َ ن َ ِ ِ ْ َ ْ م ْ م وَ ِ ديهِ ْ ن أي ْ ِ َُّ ْ ِ ْ َْ ِ ّ
أي :من جميع الجهات والجوانب ،ومن كل طريق يتمكن فيه من إدراك
بعض مقصوده فيهم.
] ص [ 285
ولما علم الخبيث أنهم ضعفاء قد تغلب الغفلة على كثير منهم ،وكان جازما
َ
جد ُ أك ْث ََرهُ ْ
م دق ظنه فقالَ } :ول ت َ ِ ببذل مجهوده على إغوائهم ،ظن وص ّ
ن { فإن القيام بالشكر من سلوك الصراط المستقيم ،وهو يريد ري َشاك ِ ِ َ
نم ْ ُ
ه ل ِي َكوُنوا ِ حْزب َ ُ عو ِ ما ي َد ْ ُ صدهم عنه ،وعدم قيامهم به ،قال تعالى } :إ ِن ّ َ
سِعيرِ { . َ
ب ال ّحا ِ ص َأ ْ
وإنما نبهنا الّله على ما قال وعزم على فعله ،لنأخذ منه حذرنا ونستعد
لعدونا ،ونحترز منه بعلمنا ،بالطريق التي يأتي منها ،ومداخله التي ينفذ
منها ،فله تعالى علينا بذلك ،أكمل نعمة.
) (1/284
مجهَن ّ َ
ن َ
مل ّ
مل ْ
من ْهُ ْ ن ت َب ِعَ َ
ك ِ م ْ حوًرا ل َ َ
مد ْ ُ مذ ُْءو ً
ما َ من َْها َ
ج ِخُر ْ } َ } { 18قا َ
لا ْ
ن{. منك ُ َ
مِعي َ ج َمأ ْ ِ ْ ْ
من َْها { خروج صغار واحتقار، ج ِ خُر ْ أي :قال الله لبليس لما قال ما قال } :ا ْ ّ
حوًرا { مبعدا عن اللهّ مد ْ ُ ما { أي :مذموما } َ مذ ُْءو ً
ل خروج إكرام بل } َ
وعن رحمته وعن كل خير.
ن { وهذا قسم منه َ
مِعي َ ج َم { منك وممن تبعك منهم } أ ْ جهَن ّ َ ن َ مل ّ }ل ْ
تعالى ،أن النار دار العصاة ،ل بد أن يملها من إبليس وأتباعه من الجن
والنس.
) (1/285
ت ثم حذر آدم شره وفتنته فقال } { 23 - 19 } :ويا آدم اسك ُ َ
ن أن ْ َ ََ َ ُ ْ ْ
نجَرةَ فَت َ ُ َ ِ َ
م نا كو ش َ قَرَبا هَذِهِ ال ّ ما َول ت َ ْ شئ ْت ُ َ ث ِ حي ْ ُ ن َ م ْ كل ِ ة فَ ُ جن ّ َ ك ال ْ َ ج َ وََزوْ ُ
نم ْ ما ِ ما ُوورِيَ عَن ْهُ َ ما َ ن ل ِي ُب ْدِيَ ل َهُ َ طا ُ شي ْ َ ما ال ّ س ل َهُ َ سوَ َ ن * فَوَ ْ مي َ ظال ِ ِ ال ّ
كونا مل َك َين أوَ َ
ن تَ ُ َ َ ْ ِ ْ جَرةِ ِإل أ ْ ش َ ن هَذِهِ ال ّ ما عَ ْ ما َرب ّك ُ َ ما ن ََهاك ُ َ ل َ ما وََقا َ وآت ِهِ َ س ْ َ
ما ب ِغُُروٍر َ ُ َ ه دل َ ف * ن حي
ِ َ ّ ِ ِ َ ص نا ال ن م َ ل ماَ ُ كَ ل ني إ ما
َ َ ُ َ ِّ ه م س قا َ َ و * نَ ِ ِ َ دي ل خا ْ ل ا ن
تَ َ ِ َ
م نا كو ُ
ق
ن وََر ِ م ْ ما ِ ن عَل َي ْهِ َ فا ِ ص َ خ ِ قا ي َ ْ ف َ ما وَط َ ِ وآت ُهُ َ س ْ ما َ ت ل َهُ َ جَرةَ ب َد َ ْ ش َ ذاَقا ال ّ ما َ فَل َ ّ
شي ْ َ َ َ َ
ن
طا َ ن ال ّ ما إ ِ ّ ل ل َك ُ َ جَرةِ وَأقُ ْ ش َ ما ال ّ ن ت ِل ْك ُ َ ما عَ ْ م أن ْهَك ُ َ ما أل َ ْ ما َرب ّهُ َ داهُ َ جن ّةِ وََنا َ ال ْ َ
ن{. مِبي ٌ ما عَد ُوّ ُ ل َك ُ َ
أي :أمر الّله تعالى آدم وزوجته حواء ،التي أنعم الّله بها عليه ليسكن إليها،
أن يأكل من الجنة حيث شاءا ويتمتعا فيها بما أرادا ،إل أنه عين لهما
شجرة ،ونهاهما عن أكلها ،والّله أعلم ما هي ،وليس في تعيينها فائدة لنا.
ن{. مي َ ظال ِ ِ ن ال ّ م َ كوَنا ِ وحرم عليهما أكلها ،بدليل قوله } :فَت َ ُ
فلم يزال ممتثل َْين لمر الّله ،حتى تغلغل إليهما عدوهما إبليس بمكره،
ما َرب ّك ُ َ
ما ما ن ََهاك ُ َ
فوسوس لهما وسوسة خدعهما بها ،وموه عليهما وقالَ } :
َ َ
ُ
ن { أي :من جنس الملئكة } أوْ ت َكوَنا ِ مل َك َي ْ
كوَنا َ ن تَ ُجَرةِ ِإل أ ْ ش َ ن هَذِهِ ال ّ عَ ْ
خلدِْ ْ
جَرةِ ال ُ َ
ل أد ُلك عَلى َ َ ّ َ ن { كما قال في الية الخرى } :هَ ْ ْ
ش َ دي َ خال ِ ِ
ن ال َ م َ ِ
َ
ك ل ي َب ْلى { . مل ٍ ْ وَ ُ
ن { أي :من جملة حي َ ص ِ ن الّنا ِ م َ َ
ما ل ِ ُ َ ّ
ومع قوله هذا أقسم لهما بالله } إ ِّني لك َ
الناصحين حيث قلت لكما ما قلت ،فاغترا بذلك ،وغلبت الشهوة في تلك
الحال على العقل.
ما { أي :نزلهما عن رتبتهما العالية ،التي هي البعد عن الذنوب دلهُ َ } فَ َ
والمعاصي إلى التلوث بأوضارها ،فأقدما على أكلها.
ما { أي :ظهرت عورة كل منهما بعد وآت ُهُ َ س ْ ما َ ت ل َهُ َ جَرةَ ب َد َ ْ ش َ ذاَقا ال ّ ما َ} فَل َ ّ
ما كانت مستورة ،فصار للعري الباطن من التقوى في هذه الحال أثر في
جل خ ِ اللباس الظاهر ،حتى انخلع فظهرت عوراتهما ،ولما ظهرت عوراتهما َ
جَعل يخصفان على عوراتهما من أوراق شجر الجنة ،ليستترا بذلك. و َ
ن ُ َ َ َ
ما عَ ْ م أن ْهَك َ
ما { وهما بتلك الحال موبخا ومعاتبا } :أل ْ ما َرب ّهُ َ داهُ َ} وََنا َ
َ َ َ َ
ن { فلم اقترفتما مِبي ٌ ما عَد ُوّ ُ ُ
ن لك َ شي ْطا َ ن ال ّ ما إ ِ ّ ُ
ل لك َ جَرةِ وَأقُ ْ ش َ ما ال ّ ت ِل ْك ُ َ
كما؟ المنهي ،وأطعتما عدوّ ُ
) (1/285
ن
م َ ن ِ كون َ ّمَنا ل َن َ ُ فْر ل ََنا وَت َْر َ
ح ْ م ت َغْ ِن لَ ْ سَنا وَإ ِ ْ ف َمَنا أ َن ْ ُ
} َقال َرب َّنا ظ َل َ ْ
ن{. ري َ س ِخا ِ ال ْ َ
ن الّله عليهما بالتوبة وقبولها ،فاعترفا بالذنب ،وسأل من الّله م ّ فحينئذ َ
ن ُ َ َ َ َ َ َ
م َ ن ِ
مَنا لن َكون َ ّ ح ْفْر لَنا وَت َْر َ م ت َغْ ِنل ْ سَنا وَإ ِ ْف َ مَنا أن ْ ُمغفرته فقال } َرب َّنا ظل ْ
ن { أي :قد فعلنا الذنب ،الذي نهيتنا عنه ،وأضررنا أنفسنا ري َ س ِخا ِ ال ْ َ
باقتراف الذنب ،وقد فعلنا سبب الخسار إن لم تغفر لنا ،بمحو أثر الذنب
وعقوبته ،وترحمنا بقبول التوبة والمعافاة من أمثال هذه الخطايا.
ه َ
ب عَلي ْ ِ ه فََتا َجت ََباهُ َرب ّ ُما ْ وى * ث ُ ّ ه فَغَ َ م َرب ّ ُصى آد َ ُ فغفر الّله لهما ذلك } وَعَ َ
دى {. وَهَ َ
هذا وإبليس مستمر على طغيانه غير مقلع عن عصيانه فمن أشبه آدم
بالعتراف وسؤال المغفرة والندم والقلع -إذا صدرت منه الذنوب -
اجتباه ربه وهداه.
ومن أشبه إبليس -إذا صدر منه الذنب ل يزال يزداد من المعاصي -فإنه
دا. ل يزداد من الّله إل ب ُعْ ً
) (1/285
م قَد ْ أ َن َْزل َْنا
ن )َ (25يا ب َِني آ َد َ َ جو َ خَر ُ
من َْها ت ُ ْن وَ ِ
موُتو َن وَِفيَها ت َ ُ
حي َوْ َ ل ِفيَها ت َ ْ َقا َ
َ َ
ت
ن آَيا ِ م ْ َ
خي ٌْر ذ َل ِك ِ َ
وى ذ َل ِك َ ق َ
س الت ّ ْ
شا وَل َِبا ُ م وَِري ً ُ
سوْآت ِك ْ واِري َ سا ي ُ َ م ل َِبا ً عَل َي ْك ْ
ُ
ن )(26 م ي َذ ّك ُّرو َ الل ّهِ ل َعَل ّهُ ْ
م
ن * َيا ب َِني آد َ َ جو َ خَر ُ من َْها ت ُ ْ
ن وَ ِ
موُتو َ ن وَِفيَها ت َ ُ حي َوْ َ
ل ِفيَها ت َ ْ } َ } { 26 ، 25قا َ
َ
خي ٌْر ذ َل ِ َ
ك ك َ وى ذ َل ِ َ ق َ س الت ّ ْ
شا وَل َِبا ُ م وَِري ً وآت ِك ُ ْ
س ْواِري َ سا ي ُ َم ل َِبا ً قَد ْ أن َْزل َْنا عَل َي ْك ُ ْ
ن{. م ي َذ ّك ُّرو َ ت الل ّهِ ل َعَل ّهُ ْ ن آَيا ِ م ِْ
أي :لما أهبط الله آدم وزوجته وذريتهما إلى الرض ،أخبرهما بحال إقامتهم ّ
فيها ،وأنه جعل لهم فيها حياة يتلوها الموت ،مشحونة بالمتحان والبتلء،
وأنهم ل يزالون فيها ،يرسل إليهم رسله ،وينزل عليهم كتبه ،حتى يأتيهم
الموت ،فيدفنون فيها ،ثم إذا استكملوا بعثهم الّله وأخرجهم منها إلى الدار
التي هي الدار حقيقة ،التي هي دار المقامة.
ثم امتن عليهم بما يسر لهم من اللباس الضروري ،واللباس الذي ] ص
[ 286المقصود منه الجمال ،وهكذا سائر الشياء ،كالطعام والشراب
والمراكب ،والمناكح ونحوها ،قد يسر الّله للعباد ضروريها ،ومكمل ذلك،
و]بين لهم[ ) (1أن هذا ليس مقصودا بالذات ،وإنما أنزله الّله ليكون
خي ٌْر { ك َ وى ذ َل ِ َ ق َس الت ّ ْ معونة لهم على عبادته وطاعته ،ولهذا قال } :وَل َِبا ُ
من اللباس الحسي ،فإن لباس التقوى يستمر مع العبد ،ول يبلى ول يبيد،
وهو جمال القلب والروح.
وأما اللباس الظاهري ،فغايته أن يستر العورة الظاهرة ،في وقت من
الوقات ،أو يكون جمال للنسان ،وليس وراء ذلك منه نفع.
وأيضا ،فبتقدير عدم هذا اللباس ،تنكشف عورته الظاهرة ،التي ل يضره
كشفها ،مع الضرورة ،وأما بتقدير عدم لباس التقوى ،فإنها تنكشف عورته
الباطنة ،وينال الخزي والفضيحة.
ن { أي :ذلك المذكور لكم من ّ
م ي َذ ّكُرو َ ت الل ّهِ ل َعَل ّهُ ْ ن آَيا ِ م ْ ك ِ وقوله } :ذ َل ِ َ
اللباس ،مما تذكرون به ما ينفعكم ويضركم وتشبهون ) (2باللباس الظاهر
على الباطن.
__________
) (1زيادة من هامش ب.
) (2هكذا في أ ،وفي ب :وتستعينون.
) (1/285
خر َ طان ك َ َ
ما ن ال ْ َ
جن ّةِ ي َن ْزِعُ عَن ْهُ َ م َم ِ ج أب َوَي ْك ُ ْ ما أ ْ َ َشي ْ َ ُ َ م ال ّ م َل ي َ ْ
فت ِن َن ّك ُ ُ َيا ب َِني آ َد َ َ
جعَل َْنا َ
م إ ِّنا َ ث َل ت ََروْن َهُ ْ حي ْ ُ
ن َ م ْ ه ِ م هُوَ وَقَِبيل ُ ُ
ه ي ََراك ُ ْما إ ِن ّ ُ
سوْآت ِهِ َ ما َ ما ل ِي ُرِي َهُ َ سه ُ َ
ل َِبا َ
َ
ن )(27 مُنو َ ن َل ي ُؤْ ِ ذي َ ن أوْل َِياَء ل ِل ّ ِ طي َ شَيا ِ ال ّ
خر َ طان ك َ َ
جن ّةِ ي َن ْزِعُن ال ْ َ
م َ
م ِج أب َوَي ْك ُ ْما أ ْ َ َ شي ْ َ ُ َ م ال ّ فت ِن َن ّك ُ ُم ل يَ ْ } َ } { 27يا ب َِني آد َ َ
م إ ِّناث ل ت ََروْن َهُ ْحي ْ ُ
ن َ م ْ ه ِ ُ ه ي ََراك ُ ْ
م هُوَ وَقَِبيل ُ ما إ ِن ّ ُوآت ِهِ َ س ْ ما َ ما ل ِي ُرِي َهُ َ سه ُ َما ل َِبا َ
عَن ْهُ َ
َ
ن{. مُنو َ ن ل ي ُؤْ ِ ذي َ ن أوْل َِياَء ل ِل ّ ِ طي َ شَيا ِ جعَل َْنا ال ّ َ
يقول تعالى ،محذرا لبني آدم أن يفعل بهم الشيطان كما فعل بأبيهمَ } :يا
ن { بأن يزين لكم العصيان ،ويدعوكم إليه، طا ُ شي ْ َ م ال ّ فت ِن َن ّك ُ ُم ل يَ ْ ب َِني آد َ َ
خر َ ويرغبكم فيه ،فتنقادون له } ك َ َ
جن ّةِ { وأنزلهما من ن ال ْ َ م َ م ِ ج أب َوَي ْك ُ ْما أ ْ َ َ َ
المحل العالي إلى أنزل منه ،فأنتم يريد أن يفعل بكم كذلك ،ول يألو جهده
عنكم ،حتى يفتنكم ،إن استطاع ،فعليكم أن تجعلوا الحذر منه في بالكم،
فلوا عن المواضع التي يدخل ة الحرب بينكم وبْينه ،وأن ل تغ ُ م َوأن تلبسوا ل َ
منها إليكم.
ه { من شياطين الجن ُ
م هُوَ وَقَِبيل ُ ه { يراقبكم على الدوام ،و } ي ََراك ُ ْ فـ } إ ِن ّ ُ
ّ َ ْ
ن { فعدم مُنو َن ل ي ُؤْ ِ ذي َ ن أوْل َِياَء ل ِل ِ طي َشَيا ِ جعَلَنا ال ّ م إ ِّنا َ ث ل ت ََروْن َهُ ْ حي ْ ُ
ن َ م ْ } ِ
اليمان هو الموجب لعقد الولية بين النسان والشيطان.
ما
ن * إ ِن ّ َم ي َت َوَك ُّلو َ مُنوا وَعََلى َرب ّهِ ْ نآ َ ذي َ ن عََلى ال ّ ِ طا ٌ سل ْ َ ه ُ س لَ ُه ل َي ْ َ } إ ِن ّ ُ
ن {. كو َ شرِ ُ م ْ م ب ِهِ ُ ن هُ ْذي َ ه َوال ّ ِن ي َت َوَل ّوْن َ ُذي َ ه عََلى ال ّ ِ طان ُ ُسل ْ َ ُ
) (1/286
مَرَنا ب َِها ة َقاُلوا وجدنا عَل َيها آباَءنا والل ّ َ ح َ ذا فَعَُلوا َفا ِ } } { 30 - 28وَإ ِ َ
هأ َ َْ َ َ َ ُ َ َ َْ ش ً
َ َ ْ
مَر
لأ َ ن * قُ ْ مو َ ما ل ت َعْل َ ُ ن عََلى الل ّهِ َ قوُلو َ شاِء أت َ ُ ح َ ف ْ مُر ِبال ْ َ ه ل ي َأ ُ ن الل ّ َ ل إِ ّ قُ ْ
َ
ندي َ ه ال ّ ن لَ ُصي َ خل ِ ِ م ْ عوهُ ُ جدٍ َواد ْ ُ س ِ م ْ ل َ عن ْد َ ك ُ ّ م ِ جوهَك ُ ْ موا وُ ُ ط وَأِقي ُ س ِ ق ْ َرّبي ِبال ْ ِ
ضلل َ ُ َ
ذواخ ُ م ات ّ َ ة إ ِن ّهُ ُ م ال ّ حقّ عَل َي ْهِ ُ قا َ ري ً ِ دى وَفَ قا هَ َ ري ً ِ ن * فَ دو َ م ت َُعو ُ ما ب َد َأك ُ ْ كَ َ
َ َ
ن{. دو َ مهْت َ ُ م ُ ن أن ّهُ ْ سُبو َ ح َ ن الل ّهِ وَي َ ْ دو ِ ن ُ م ْ ن أوْل َِياَء ِ طي َ شَيا ِ ال ّ
يقول تعالى مبينا لقبح حال المشركين الذين يفعلون الذنوب ،وينسبون أن
ة { وهي :كل ما يستفحش ويستقبح، ش ً ح َ ذا فَعَُلوا َفا ِ الله أمرهم بها } .وَإ ِ َ
جد َْنا عَلي َْها آَباَءَنا { وصدقوا في َ ُ
ومن ذلك طوافهم بالبيت عراة } َقالوا وَ َ
ّ
مَرَنا ب َِها { وكذبوا في هذا ،ولهذا رد الله عليهم هذه النسبة هذا } .والل ّ َ
هأ َ َ ُ
مُر ِبال ْ َ ل إن الل ّه ل يأ ْ
شاِء { أي :ل يليق بكماله وحكمته أن ح َ ف ْ ُ َ َ ّ فقال } :قُ ْ ِ
يأمر عباده بتعاطي الفواحش ل هذا الذي يفعله المشركون ول غيره
ن { وأي افتراء أعظم من هذا؟. مو َ ما ل ت َعْل َ ُ ن عََلى الل ّهِ َ قوُلو َ } أ َت َ ُ
ثم ذكر ما يأمر به ،فقال } :قُ ْ َ
ط { أي :بالعدل في س ِ ق ْ مَر َرّبي ِبال ْ ِ لأ َ
عن ْد َ ك ُ ّ َ
ل م ِ جوهَك ُ ْ موا وُ ُ العبادات والمعاملت ،ل بالظلم والجور } .وَأِقي ُ
جدٍ { أي :توجهوا لّله ،واجتهدوا في تكميل العبادات ،خصوصا "الصلة" س ِ م ْ َ
ن صي ل خ
َ ْ ُ ُ ُ ْ ِ ِ َ م ه عو د وا } ومفسد. نقص كل من ونقوها وباطنا، ظاهرا أقيموها،
ن { أي :قاصدين بذلك وجهه وحده ل شريك له .والدعاء يشمل دي َ ه ال ّ لَ ُ
دعاء المسألة ،ودعاء العبادة ،أي :ل تراءوا ول تقصدوا من الغراض في
دعائكم سوى عبودية الّله ورضاه.
َ
ن { للبعث ،فالقادر على بدء خلقكم، دو َ م { أول مرة } ت َُعو ُ ما ب َد َأك ُ ْ } كَ َ
قادر على إعادته ،بل العادة ،أهون من البداءة.
دى { الّله ،أي :وفقهم للهداية ،ويسر لهم أسبابها، قا { منكم } هَ َ ري ً } فَ ِ
ة { أي :وجبت عليهم َ
ضلل ُ م ال ّ َ
حقّ عَلي ْهِ ُ قا َ ري ً وصرف عنهم موانعها } .وَفَ ِ
الضللة بما تسببوا لنفسهم وعملوا بأسباب الغواية.
َ شياطي َ
ن
شي ْطا َ خذِ ال ّ
ن ي َت ّ ِ ن الل ّهِ { } وَ َ
م ْ دو ِن ُم ْ ذوا ال ّ َ ِ َ
ن أوْل َِياَء ِ خ ُ
م ات ّ َفـ } إ ِن ّهُ ُ
مِبينا { فحين انسلخوا من ولية ً ً
سَرانا ُ خ ْ سَر ُ
خ ِ
قد ْ َ ّ
ن اللهِ فَ َ دو ِ ن ُ م ْ وَل ِي ّا ً ِ
الرحمن ،واستحبوا ولية الشيطان ،حصل لهم النصيب الوافر من الخذلن،
م ووكلوا إلى أنفسهم فخسروا أشد الخسران } .و { هم } يحسبو َ
ن أن ّهُ ْ
َ ْ َ ُ َ َ
ن { لنهم انقلبت عليهم الحقائق ،فظنوا الباطل حقا والحق باطل دو َ مهْت َ ُ ُ
وفي هذه اليات دليل على أن الوامر والنواهي تابعة للحكمة والمصلحة،
حيث ذكر تعالى أنه ل يتصور أن يأمر بما تستفحشه وتنكره العقول ،وأنه
ل يأمر إل ] ص [ 287بالعدل والخلص ،وفيه دليل على أن الهداية بفضل
ن،
مّنه ،وأن الضللة بخذلنه للعبد ،إذا تولى -بجهله وظلمه -الشيطا َ الّله و َ
ل ،أنه ل عذر له، وتسبب لنفسه بالضلل ،وأن من حسب أنه مهتدٍ وهو ضا ّ
لنه متمكن من الهدى ،وإنما أتاه حسبانه من ظلمه بترك الطريق
الموصل إلى الهدى.
) (1/286
) (1/287
ي ق قُ ْ
ل هِ َ ن الّرْز ِ م َت ِ ج ل ِعَِبادِهِ َوالط ّي َّبا ِ خَر َة الل ّهِ ال ِّتي أ َ ْ م ِزين َ َ
حّر َ
ن َ م ْل َقُ ْ
ل اْل ََيا ِص ُ مةِ ك َذ َل ِ َ م ال ْ ِ مُنوا ِفي ال ْ َ َ ل ِل ّ ِ
قوْم ٍ
ت لِ َ ف ّك نُ َ قَيا َ ة ي َوْ َ
ص ً
خال ِ َ
حَياةِ الد ّن َْيا َ نآ َ ذي َ
ن َواْل ِث ْ َ
م ما ب َط َ َ ما ظ َهََر ِ
من َْها وَ َ ش َ ح َ وا ِ ي ال ْ َ
ف َ م َرب ّ َحّر َ
ما َ ل إ ِن ّ َ ن ) (32قُ ْ مو َ ي َعْل َ ُ
قوُلوا َ سل ْ َ َ
ن تَ ُطاًنا وَأ ْ ل ب ِهِ ُم ي ُن َّز ْما ل َ ْكوا ِبالل ّهِ َ شرِ ُن تُ ْحقّ وَأ ْ ي ب ِغَي ْرِ ال ْ َ
َوال ْب َغْ َ
ن )(33 مو َ ما َل ت َعْل َ ُ عََلى الل ّهِ َ
ن
م َ ت ِ ج ل ِعَِبادِهِ َوالط ّي َّبا ِ خَر َ ة الل ّهِ ال ِّتي أ َ ْ م ِزين َ َ حّر َ ن َ م ْ ل َ } } { 33 ، 32قُ ْ
مةِ ك َذ َل ِ َ
ك قَيا َم ال ْ ِ ة ي َوْ َ ص ً خال ِ َ حَياةِ الد ّن َْيا َ مُنوا ِفي ال ْ َ نآ َ ذي َ ي ل ِل ّ ِ ل هِ َ ق قُ ْ الّرْز ِ
من َْها ما ظهََر َِ ش َ ح َ وا ِ
ف َ ْ
ي ال َ م َرب ّ َ حّر َ ما َ ن * قل إ ِن ّ َْ ُ مو َ َ
قوْم ٍ ي َعْل ُ ت لِ َ صل الَيا ِ ُ ف ّ نُ َ
َ ْ م ي ُن َّز ْ َ ّ ُ َ ْ ْ َ
سلطاًنا ل ب ِهِ ُ ما ل ْ شرِكوا ِباللهِ َ ن تُ ْ حقّ وَأ ْ ي ب ِغَي ْرِ ال َ م َوالب َغْ َ ن َوالث ْ َ ما ب َط َ وَ َ
ن{. َ ّ َ ُ َ
مو َ ما ل ت َعْل ُ قولوا عَلى اللهِ َ ن تَ ُ وَأ ْ
يقول تعالى منكرا على من تعنت ،وحرم ما أحل الّله من الطيبات } قُ ْ
ل
ج ل ِعَِبادِهِ { من أنواع اللباس على اختلف خَر َ ة الل ّهِ ال ِّتي أ َ ْ م ِزين َ َ حّر َ ن َ م ْ َ
من َ أي: أنواعه، بجميع ومشرب مأكل من الرزق، من والطيبات أصنافه،
هذا الذي يقدم على تحريم ما أنعم الّله بها على العباد ،ومن ذا الذي
سعه الّله؟". يضيق عليهم ما و ّ
وهذا التوسيع من الله لعباده بالطيبات ،جعله لهم ليستعينوا به على ّ
مُنوا نآ َ ذي َ ي ل ِل ّ ِل هِ َ عبادته ،فلم يبحه إل لعباده المؤمنين ،ولهذا قال } :قُ ْ
مةِ { أي :ل تبعة عليهم فيها. قَيا َ م ال ْ ِ ة ي َوْ َ ص ً خال ِ َ حَياةِ الد ّن َْيا َ ِفي ال ْ َ
ومفهوم الية أن من لم يؤمن بالّله ،بل استعان بها على معاصيه ،فإنها
غير خالصة له ول مباحة ،بل يعاقب عليها وعلى التنعم بها ،وُيسأل عن
النعيم يوم القيامة.
ن { لنهم الذين مو َ َ
قوْم ٍ ي َعْل ُ ت { أي :نوضحها ونبينها } ل ِ َ ل الَيا ِ ص ُ ف ّ ك نُ َ } ك َذ َل ِ َ
ينتفعون بما فصله الّله من اليات ،ويعلمون أنها من عند الّله ،فيعقلونها
ويفهمونها.
ثم ذكر المحرمات التي حرمها الله في كل شريعة من الشرائع فقال: ّ
ش { أي :الذنوب الكبار التي تستفحش ح َ وا ِ ف َ ي ال ْ َ م َرب ّ َ حّر َ ما َ ل إ ِن ّ َ } قُ ْ
وتستقبح لشناعتها وقبحها ،وذلك كالزنا واللواط ونحوهما.
ن { أي :الفواحش التي تتعلق بحركات ما ب َط َ َ من َْها وَ َ ما ظ َهََر ِ وقولهَ } :
البدن ،والتي تتعلق بحركات القلوب ،كالكبر والعجب والرياء والنفاق،
حقّ { أي :الذنوب التي تؤثم وتوجب ي ب ِغَي ْرِ ال ْ َ م َوال ْب َغْ َ ونحو ذلكَ } ،والث ْ َ
العقوبة في حقوق الّله ،والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم
ة بحق ة بحق الّله ،والمتعلق ُ ب المتعلق ُ وأعراضهم ،فدخل في هذا الذنو ُ
العباد.
سلطاًنا { أي :حجة ،بل أنزل الحجة َ ْ ْ َ ّ ُ ن تُ ْ َ
م ُينزل ب ِهِ ُ ما ل ْ شرِكوا ِباللهِ َ } وَأ ْ
ك هو أن يشرك مع الّله في عبادته أحد من والبرهان على التوحيد .والشر ُ
الخلق ،وربما دخل في هذا الشرك الصغر كالرياء والحلف بغير الّله ،ونحو
ذلك.
ن { في أسمائه وصفاته وأفعاله َ ّ َ ُ َ
مو َ ما ل ت َعْل ُ قولوا عَلى اللهِ َ ن تَ ُ } وَأ ْ
وشرعه ،فكل هذه قد حرمها الّله ،ونهى العباد عن تعاطيها ،لما فيها من
المفاسد الخاصة والعامة ،ولما فيها من الظلم والتجري على الّله،
والستطالة على عباد الّله ،وتغيير دين الّله وشرعه.
) (1/287
ْ َ َ ول ِك ُ ّ ُ
ن )(34مو َ قدِ ُست َ ْة وََل ي َ ْساعَ ًن َ خُرو َ ست َأ ِ م َل ي َ ْ
جل ُهُ ْجاَء أ َ ذا َ ل فَإ ِ َ
ج ٌمة ٍ أ َلأ ّ َ
ْ َ َ } } { 34ول ِك ُ ّ ُ
ة َول ساعَ ً ن َ خُرو َست َأ ِ
م ل يَ ْجل ُهُ ْ جاَء أ َ ذا َل فَإ ِ َج ٌمةٍ أ َلأ ّ َ
ن{. مو َقدِ ُ
ست َ ْ
يَ ْ
أي :وقد أخرج الّله بني آدم إلى الرض ،وأسكنهم فيها ،وجعل لهم أجل
مسمى ل تتقدم أمة من المم على وقتها المسمى ،ول تتأخر ،ل المم
المجتمعة ول أفرادها.
) (1/287
) (1/287
م
صيب ُهُ ْ م نَ ِ ك ي ََنال ُهُ ْ ب ب ِآ ََيات ِهِ ُأول َئ ِ َ َ
ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ ك َذًِبا أوْ ك َذ ّ َ ِ م م ّم ِ ن أظ ْل َ ُ
فَم َ
َ ْ
ن م ن عو د ت م ت نُ ك ما ن يذا جاَءتهم رسل ُنا يتوفّونهم َقاُلوا أ َ َ إ تى ح ب تا ك ْ ل ا ن
َ ِ ْ ُ ُْ ْ َ ْ ْ َ َ َ ُْ ْ ُ ُ َ ََ َ َُْ ْ َِ ِ َ ّ ِ م َ ِ
ن )(37 ريف َ
كا نوا َ
كا م ه نَ أ م ه س ُ ف نَ أ لى َ َ ع دوا ه َ
ش و ناع لوا ّ ض لوا ُ قاَ ه ّ لال ن دو
ِ ِ َ ُ ْ ِ ِ ْ ُّ ْ َّ َ ِ ُ َ ِ ُ ِ
ما ّ ُ ْ ْ ُ َ َ َ ُ ُ َقا َ
س ِفي الّنارِ كل َ ن َوال ِن ْ ِ ج ّ ن ال ِ م َم ِ ن قب ْل ِك ْ م ْت ِ خل ْ مم ٍ قد ْ َ خلوا ِفي أ َ ل اد ْ ُ
ُ ُ ُ ُ
م ِلوَلهُ ْ
م خَراهُ ْ تأ ْ ميًعا َقال َ ْ ج ِ كوا ِفيَها َ داَر ُ ذا ا ّ حّتى إ ِ َ خت ََها َ تأ ْ ة ل َعَن َ ْ م ٌ تأ ّ خل َ ْ دَ َ
ن لَ َ ُ
ل ل ِك ّ َ
ن الّنارِ قا َ م عَ َ َ َ ّ َ َ
ف وَلك ِ ْ ضعْ ٌ ل ِ م َ فا ِ ضع ْ ً ذاًبا ِ ضلوَنا فآت ِهِ ْ َرب َّنا هَؤُلِء أ َ
ن )(38 مو َ ت َعْل َ ُ
ب ِبآَيات ِهِ ُأول َئ ِ َ
ك َ
ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ ك َذًِبا أوْ ك َذ ّ َ
ِ م
م ّم ِن أظ ْل َ ُ
} } { 37فَم َ
َ ْ
ذا جاَءتهم رسل ُنا يتوفّونهم َقاُلوا أ َ ْ
ما ن
ْ َ َ ي َ ُْ ْ ُ ُ َ ََ َ َُْ ْ َ إ تىح ب
َِ ِ َ ّ ِ تا ك ل ا ن
م ِ َ
م صيب ُهُ ْ
م نَ ِ ي ََنال ُهُ ْ
َ َ
دوا عََلى أن ْ ُ ضّلوا عَّنا وَ َ
م َ
كاُنوا م أن ّهُ ْ سه ِ ْف ِ شه ِ ُ ن الل ّهِ َقاُلوا َدو ِ ن ُ م ْن ِ عو َ ك ُن ْت ُ ْ
م ت َد ْ ُ
ن{. ري َ كافِ َِ
ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ ك َذًِبا { بنسبة الشريك له ،أو م ِ م ّ
أي :ل أحد أظلم } ِ
َ َ
ب ِبآَيات ِهِ { الواضحة المبينة النقص له ،أو التقول عليه ما لم يقل } ،أوْ كذ ّ َ
للحق المبين ،الهادية إلى الصراط المستقيم ،فهؤلء وإن تمتعوا بالدنيا،
ونالهم نصيبهم مما كان مكتوبا لهم في اللوح المحفوظ ،فليس ذلك بمغن
سل َُنا
م ُر ُجاَءت ْهُ ْ ذا َ حّتى إ ِ َ عنهم شيئا ،يتمتعون قليل ثم يعذبون طويل } َ
م { أي :الملئكة الموكلون بقبض أرواحهم واستيفاء آجالهم. ي َت َوَفّوْن َهُ ْ
َ
ن
دو ِن ُم ْ ن ِ عو َم ت َد ْ ُما ك ُن ْت ُ ْ } َقاُلوا { لهم في تلك الحالة توبيخا وعتابا } أي ْ َ
ن َ
الل ّهِ { من الصنام والوثان ،فقد جاء وقت الحاجة إن كان فيها منفعة لكم
ضّلوا عَّنا { أي :اضمحلوا وبطلوا ،وليسوا مغنين أو دفع مضرةَ } .قاُلوا َ
عنا من عذاب الّله من شيء.
فسه َ َ
ن { مستحقين للعذاب المهين ري َ كاُنوا َ
كافِ ِ م َم أن ّهُ ْدوا عََلى أن ْ ُ ِ ِ ْشه ِ ُ} وَ َ
الدائم.
) (1/288
ُ
ن
م ْ ت ِ خل َ ْ
مم ٍ { أي :في جملة أمم } قَد ْ َ خُلوا ِفي أ َ
فقالت لهم الملئكة } اد ْ ُ
س { أي :مضوا على ما مضيتم عليه من الكفر ن َوالن ْ ِ ج ّن ال ْ ِم َ م ِ قَب ْل ِك ُ ْ
والستكبار ،فاستحق الجميع الخزي والبوار ،كلما دخلت أمة من المم
م ُ
ضك ْ فُر ب َعْ ُ مةِ ي َك ْ ُقَيا َم ال ْ ِخت ََها { كما قال تعالى } :وي َوْ َ ت أُ ْ العاتية النار } ل َعَن َ ْ
ميًعا { أي :اجتمع ج ِ كوا ِفيَها َ داَر ُ حّتى إ ِ َ
ذا ا ّ ضا { } َ ضك ُ ْ
م ب َعْ ً ن ب َعْ ُ ض وَي َل ْعَ ُ ب ِب َعْ ٍ
في النار جميع أهلها ،من الولين والخرين ،والقادة والرؤساء والمقلدين
التباع.
ُ
م { أي: م { أي :متأخروهم ،المتبعون للرؤساء } لولهُ ْ خَراهُ ْ تأ ْ } َقال َ ْ
َ
م عَ َ
ذاًبا ضّلوَنا َفآت ِهِ ْ ؤلِء أ َ لرؤسائهم ،شاكين إلى الّله إضللهم إياهمَ } :رب َّنا هَ ُ
ن الّنارِ { أي :عذبهم عذابا مضاعفا لنهم أضلونا ،وزينوا لنا م َفا ِ ضع ْ ً ِ
العمال الخبيثة.
ف { ونصيب من العذاب. ضع ْ ٌل { منكم } ِ ل { الّله } ل ِك ُ ّ } َقا َ
) (1/288
) (1/288
) (1/288
) (1/289
) (1/289
َ
ب
حا َ
ص َ م وََناد َْوا أ ْ ماهُ ْ سي َ ن ك ُّل ب ِ ِ ل ي َعْرُِفو َ جا ٌ ف رِ َ ب وَعََلى اْل َعَْرا ِ جا ٌ ح َ ما ِ وَب َي ْن َهُ َ
ْ ُ َ َ َ َ
تصرِفَ ْ ذا ُ ن ) (46وَإ ِ َ مُعو َ م ي َط َ ها وَهُ ْ خلو َ م ي َد ْ ُ
مل ْ ُ
م عَلي ْك ْ سل ٌ ن َ جن ّةِ أ ْ ال ْ َ
قوْم ال ّ م ع َ ال ْ َ َ َ
ن )(47 مي َ ظال ِ ِ ِ جعَل َْنا َ ب الّنارِ َقاُلوا َرب َّنا َل ت َ ْ حا ِ ص َ قاَء أ ْ م ت ِل ْ َ صاُرهُ ْ أب ْ َ
َ َ
مما أغَْنى عَن ْك ُ ْ م َقاُلوا َ ماهُ ْ سي َ م بِ ِ جاًل ي َعْرُِفون َهُ ْ ف رِ َ ب اْل َعَْرا ِ حا ُ ص َ دى أ ْ وََنا َ
هّ ُ َ َ ّ َ َ ْ ُ ُ
م الل ُ م ل ي ََنالهُ ُ مت ُ ْس ْ ن أق ْ َ ذي َ ن ) (48أهَؤُلِء ال ِ ست َكب ُِرو َ م تَ ْ ما كن ْت ُ ْ م وَ َ معُك ْ ج ْ َ
َ َ َ َ ْ ُ
ن )(49 حَزُنو َ م تَ ْ م وَل أن ْت ُ ْ ف عَلي ْك ُ ْ خوْ ٌ ةل َ جن ّ َ خلوا ال َ مةٍ اد ْ ُ ح َب َِر ْ
م
ماهُ ْ سي َ كل ب ِ ِ ن ُ ل ي َعْرُِفو َ جا ٌ ف رِ َ ب وَعََلى العَْرا ِ جا ٌ ح َ ما ِ } } { 49 - 46وَب َي ْن َهُ َ
ْ ُ َ َ َ َ
ذا ن * وَإ ِ َ مُعو َ م ي َط َ ها وَهُ ْ خلو َ م ي َد ْ ُ مل ْ ُ
م عَلي ْك ْ سل ٌ ن َ جن ّةِ أ ْ ب ال ْ َ حا َ ص َ وََناد َْوا أ ْ
قوْم ال ّ ْ صرفَت أ َبصارهُم ت ِل ْ َ َ
نمي َ ظال ِ ِ م ع َ ال َ َ ِ جعَل َْنا َ ب الّنارِ َقاُلوا َرب َّنا ل ت َ ْ حا ِ ص َ قاَء أ ْ ُ ِ ْ ْ َ ُ ْ
ُ ُ َ
ما أغَْنى عَن ْك ْ
م م َقالوا َ ماهُ ْ سي َ م بِ ِ جال ي َعْرُِفون َهُ ْ ف رِ َ ب العَْرا ِ حا ُ ص َ دى أ ْ * وََنا َ
ّ ُ َ ّ َ ْ ُ
ة
م ٍ ح َ ه ب َِر ْ م الل ُ م ل ي ََنالهُ ُ مت ُ ْ س ْ ن أق ْ َ ذي َ ؤلِء ال ِ ن * أه َ ُ ست َكب ُِرو َ م تَ ْ ما كن ْت ُ ْ م وَ َ معُك ُ ْ ج ْ َ
َ َ ْ ُ
ن{. حَزُنو َ م تَ ْ م َول أن ْت ُ ْ ف عَلي ْك ُ ْ خوْ ٌ ةل َ جن ّ َ خلوا ال َ اد ْ ُ
أي :وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار حجاب يقال له } :العَْراف { ل من
ل الفريقين، ن عليه حا ُ م ْ الجنة ول من النار ،يشرف على الدارين ،وينظر ِ
وعلى هذا الحجاب رجال يعرفون كل من أهل الجنة والنار بسيماهم ،أي:
علماتهم ،التي بها يعرفون ويميزون ،فإذا نظروا إلى أهل الجنة َناد َْوهم
َ
م { أي :يحيونهم ويسلمون عليهم ،وهم -إلى الن -لم م عَل َي ْك ُ ْ سل ٌ ن َ }أ ْ
يدخلوا الجنة ،ولكنهم يطمعون في دخولها ،ولم يجعل الّله الطمع في
قلوبهم إل لما يريد بهم من كرامته.
ذا صرفَت أ َبصارهُم ت ِل ْ َ َ
ول ب الّنارِ { ورأوا منظرا شنيعا ،وهَ ْ حا ِ ص َ قاَء أ ْ } وَإ ِ َ ُ ِ ْ ْ َ ُ ْ
ن { فأهل الجنة ]إذا رآهم مي َ ّ
قوْم ِ الظال ِ ِ ْ
م ع َ ال َ جعَلَنا َ ْ فظيعا } َقاُلوا َرب َّنا ل ت َ ْ
أهل العراف[ ) (1يطمعون أن يكونوا معهم في الجنة ،ويحيونهم
ويسلمون عليهم ،وعند انصراف أبصارهم بغير اختيارهم لهل النار،
يستجيرون بالله من حالهم هذا على وجه العموم.
جال َ
ف رِ َ ب العَْرا ِ حا ُ ص َ دى أ ْ ثم ذكر الخصوص بعد العموم فقال } :وََنا َ
م { وهم من أهل النار ،وقد كانوا في الدنيا لهم أبهة ماهُ ْ سي َ م بِ ِ ي َعْرُِفون َهُ ْ
وشرف ،وأموال وأولد ،فقال لهم أصحاب العراف ،حين رأوهم منفردين
َ
م { في الدنيا، معُك ُ ْ ج ْ م َ ما أغَْنى عَن ْك ُ ْ في العذاب ،بل ناصر ول مغيثَ } :
الذي تستدفعون به المكاره ،وتتوسلون به إلى مطالبكم في الدنيا ،فاليوم
اضمحل ،ول أغني عنكم شيئا ،وكذلك ،أي شيء نفعكم استكباركم على
الحق وعلى من جاء به وعلى من اتبعه.
ثم أشاروا لهم إلى أناس من أهل الجنة كانوا في الدنيا فقراء ضعفاء
ؤلِء { الذين أدخلهم اللهّ يستهزئ بهم أهل النار ،فقالوا لهل النار } :أ َهَ ُ
الجنة } ال ّذي َ
مةٍ { احتقارا لهم وازدراء وإعجابا ح َ ه ب َِر ْ م الل ّ ُ م ل ي ََنال ُهُ ُ مت ُ ْ س ْ ن أق ْ َ ِ َ
بأنفسكم ،قد حنثتم في أيمانكم ،وبدا لكم من الله ما لم يكن لكم في ّ
ة { بما كنتم تعملون ،أي :قيل لهؤلء الضعفاء جن ّ َ خُلوا ال ْ َ حساب } ،اد ْ ُ
م { فيما ُ
ف عَلي ْك ْ َ خوْ ٌ إكراما واحتراما :ادخلوا الجنة بأعمالكم الصالحة } ل َ
ن { على ما مضى ،بل آمنون َ
حَزُنو َ م تَ ْ يستقبل من المكاره } َول أن ْت ُ ْ
مطمئنون فرحون بكل خير.
ّ َ
ن* كو َ ح ُ ض َ مُنوا ي َ ْ نآ َ ذي َ ن ال ِ م َ كاُنوا ِ موا َ جَر ُ نأ ْ ذي َ ن ال ّ ِ وهذا كقوله تعالى } :إ ِ ّ
فاِر ن ال ْك ُ ّ م َ مُنوا ِ نآ َ ذي َ م ال ّ ِ ن { إلى أن قال } َفال ْي َوْ َ مُزو َ م ي َت ََغا َ مّروا ب ِهِ ْ ذا َ وَإ ِ َ
ن { واختلف أهل العلم والمفسرون من ك ي َن ْظ ُُرو َ
ن * عََلى الَرائ ِ ِ ح ُ
كو َ ض َ
يَ ْ
هم أصحاب العراف وما أعمالهم؟
والصحيح من ذلك أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فل رجحت
سيئاتهم فدخلوا النار ول رجحت حسناتهم فدخلوا الجنة فصاروا في
العراف ما شاء الّله ثم إن الّله تعالى يدخلهم برحمته الجنة فإن رحمته
تسبق وتغلب غضبه ورحمته وسعت كل شيء
__________
) (1زيادة من هامش ب.
) (1/290
) (1/290
ن ) (52هَ ْ
ل مُنو َقوْم ٍ ي ُؤْ ِ
ة لِ َ
م ًح َ
دى وََر ْ عل ْم ٍ هُ ً
صل َْناهُ عََلى ِ ب فَ ّ م ْب ِك َِتا ٍجئ َْناهُ ْ وَل َ َ
قد ْ ِ
ْ ْ
ت ل قَد ْ َ
جاَء ْ ن قَب ْ ُ م ْ
سوهُ ِ ن نَ ُذي َل ال ّ ِقو ُ م ي َأِتي ت َأِويل ُ ُ
ه يَ ُ ن إ ِّل ت َأِويل َ ُ
ه ي َوْ َ ي َن ْظ ُُرو َ
َ
ل غَي َْر ال ّ ِ
ذي فُعوا ل ََنا أوْ ن َُرد ّ فَن َعْ َ
م َ فَعاَء فَي َ ْ
ش َ ن ُ
ش َ ل ل ََنا ِ
م ْ حقّ فَهَ ْل َرب َّنا ِبال ْ َ س ُ ُر ُ
َ َ
ن )(53 فت َُرو َ ما كاُنوا ي َ ْ م َ ض ّ
ل عَن ْهُ ْ م وَ َ
سهُ ْ
ف َسُروا أن ْ ُ ل قَد ْ َ
خ ِ م ُ ك ُّنا ن َعْ َ
ن * هَ ْ
ل مُنو َ قوْم ٍ ي ُؤْ ِ ة لِ َم ًح َ دى وََر ْ عل ْم ٍ هُ ً صل َْناهُ عََلى ِ ب فَ ْ ّ م ب ِك َِتا ٍ جئ َْناهُ ْ قد ْ ِ } وَل َ َ
ْ ْ
ت
جاَء ْ ل قَد ْ َ ن قَب ْ ُ م ْ سوهُ ِ ن نَ ُ ذي َ ل ال ّ ِ قو ُ ه يَ ُ م ي َأِتي ت َأِويل ُ ُ ه ي َوْ َ ن ِإل ت َأِويل َ ُ ي َن ْظ ُُرو َ
َ
ذيل غَي َْر ال ّ ِ م َ فُعوا ل ََنا أوْ ن َُرد ّ فَن َعْ َ ش َ فَعاَء فَي َ ْ ش َ ن ُ م ْ ل ل ََنا ِ حقّ فَهَ ْ ل َرب َّنا ِبال ْ َ س ُ ُر ُ
َ َ
ن{. فت َُرو َ ما كاُنوا ي َ ْ م َ ضل عَن ْهُ ْ ّ م وَ َ سهُ ْ ف َ سُروا أن ْ ُ خ ِ مل قد ْ َ َ ُ ك ُّنا ن َعْ َ
صل َْناهُ { أي :بينا فيه جميع المطالب التي يحتاج ب فَ ّ م ب ِك َِتا ٍ جئ َْناهُ ْ بل قد } ِ
علم ٍ { من الله بأحوال العباد في كل زمان ومكان ،وما ّ ْ َ
إليها الخلق } عَلى ِ
يصلح لهم وما ل يصلح ،ليس تفصيله تفصيل غير عالم بالمور ،فتجهله
بعض الحوال ،فيحكم حكما غير مناسب ،بل تفصيل من أحاط علمه بكل
شيء ،ووسعت رحمته كل شيء.
ن { أي :تحصل للمؤمنين بهذا الكتاب الهداية مُنو َ قوْم ٍ ي ُؤْ ِ ة لِ َ م ً ح َدى وََر ْ } هُ ً
ي والرشد ،ويحصل أيضا لهم به من الضلل ،وبيان الحق والباطل ،والغ ّ
الرحمة ،وهي :الخير والسعادة في الدنيا والخرة ،فينتفى عنهم بذلك
الضلل والشقاء.
وهؤلء الذين حق عليهم العذاب ،لم يؤمنوا بهذا الكتاب العظيم ،ول انقادوا
لوامره ونواهيه ،فلم يبق فيهم حيلة إل استحقاقهم أن يحل بهم ما أخبر
به القرآن.
ه { أي :وقوع ما أخبر به كما قال َ ْ ُ ْ
ن ِإل ت َأِويل ُ ولهذا قال } :هَل ي َن ْظُرو َ
َ
ن قب ْ ُ ْ
ذا ت َأِوي ُ
ل{. م ْ ل ُرؤَْيايَ ِ يوسف عليه السلم حين وقعت رؤياه } :هَ َ
ْ ْ
ل { متندمين متأسفين على ما ن قَب ْ ُ م ْ سوهُ ِ ن نَ ُ ذي َ ل ال ّ ِ قو ُ ه يَ ُ م ي َأِتي ت َأِويل ُ ُ } ي َوْ َ
مضى منهم ،متشفعين في مغفرة ذنوبهم .مقرين بما أخبرت به الرسل:
فُعوا ل ََنا أ َوْ ن َُرد ّ { إلى ش َفَعاَء فَي َ ْ ش َ ن ُ م ْ ل ل ََنا ِ حقّ فَهَ ْ ل َرب َّنا ِبال ْ َ س ُ ت ُر ُ جاَء ْ } قَد ْ َ
ل { وقد فات الوقت عن الرجوع إلى م ُ ذي كّنا ن َعْ َُ ّ
ل غَي َْر ال ِ م َ الدنيا } فَن َعْ َ
ن{. شافِِعي َ ة ال ّ فاعَ ُ ش َ م َ فعُهُ ْ ما ت َن ْ َ الدنيا } .فَ َ
وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا ،ليعملوا غير عملهم كذب منهم ،مقصودهم به،
مه وَإ ِن ّهُ ْ ما ن ُُهوا عَن ْ ُ دوا ل ِ َ دوا ل ََعا ُ دفع ما حل بهم ،قال تعالى } :وَل َوْ ُر ّ
ن{. كاذُِبو َ لَ َ
م { حين فوتوها الرباح ،وسلكوا بها سبيل الهلك، َ } قَد ْ َ
سه ُ ْ ف َ سُروا أن ْ ُ خ ِ
وليس ذلك كخسران الموال والثاث أو الولد ،إنما هذا خسران ل جبران
ن { في الدنيا مما تمنيهم أنفسهم فت َُرو َ كاُنوا ي َ ْ ما َ م َ ل عَن ْهُ ْ ض ّ لمصابه } ،وَ َ
به ،ويعدهم به الشيطان ،قدموا على ما لم يكن لهم في حساب ،وتبين
لهم باطلهم وضللهم ،وصدق ما جاءتهم به الرسل.
) (1/291
) (1/291
دوا ِفيس ُ
ف ِن ) (55وََل ت ُ ْ دي َمعْت َ ِب ال ْ ُ ه َل ي ُ ِ
ح ّ ة إ ِن ّ ُ
في َ ً
خ ْ
عا وَ ُ
ضّر ً
م تَ َعوا َرب ّك ُ ْ اد ْ ُ
َْ
ن
م َ
ب ِ ري ٌة الل ّهِ قَ ِ
م َ
ح َ
ن َر ْ مًعا إ ِ ّ خوًْفا وَط َ َ عوهُ َ صَل ِ
حَها َواد ْ ُ ض ب َعْد َ إ ِ ْالْر ِ
ن )(56 سِني َ ح ِم ْال ْ ُ
ن * َول دي َمعْت َ ِب ال ْ ُ ح ّ ه ل يُ ِ ة إ ِن ّ ُ
في َ ً
خ ْعا وَ ُ ضّر ً م تَ َ عوا َرب ّك ُ ْ } } { 56 ، 55اد ْ ُ
ب
ري ٌ ّ
ت اللهِ قَ ِ م َ
ح َ ن َر ْ مًعا إ ِ ّ َ
خوًْفا وَط َ عوهُ َ حَها َواد ْ ُ صل ِ ض ب َعْد َ إ ِ ْ دوا ِفي الْر ِ س ُ ف ِ تُ ْ
ن{. سِني َ ح ِ م ْ ْ
ن ال ُ م َ ِ
عا { ضّر ًالدعاء يدخل فيه دعاء المسألة ،ودعاء العبادة ،فأمر بدعائه } ت َ َ
ة { أي :ل جهرا في َ ًخ ْأي :إلحاحا في المسألة ،ود ُُءوبا في العبادة } ،وَ ُ
وعلنية ،يخاف منه الرياء ،بل خفية وإخلصا لّله تعالى.
ن { أي :المتجاوزين للحد في كل المور ،ومن دي َ معْت َ ِب ال ْ ُ ح ّ ه ل يُ ِ } إ ِن ّ ُ
العتداء كون العبد يسأل الّله مسائل ] ص [ 292ل تصلح له ،أو يتنطع
في السؤال ،أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء ،فكل هذا داخل في العتداء
المنهي عنه.
حَها { بالطاعات، صل ِ ض { بعمل المعاصي } ب َعْد َ إ ِ ْ دوا ِفي الْر ِ س ُ ف ِ } َول ت ُ ْ
َ
فإن المعاصي تفسد الخلق والعمال والرزاق ،كما قال تعالى } :ظهََر
َ
س { كما أن الطاعات تصلح دي الّنا ِ ت أي ْ ِ ما ك َ َ
سب َ ْ حرِ ب ِ َ ساد ُ ِفي ال ْب َّر َوال ْب َ ْ ف َ ال ْ َ
بها الخلق ،والعمال ،والرزاق ،وأحوال الدنيا والخرة.
مًعا { أي :خوفا من عقابه ،وطمعا في ثوابه ،طمعا في خوًْفا وَط َ َ عوهُ َ } َواد ْ ُ
قبولها ،وخوفا من ردها ،ل دعاء عبد مدل على ربه قد أعجبته نفسه ،ونزل
ه. نفسه فوق منزلته ،أو دعاء من هو غافل ل ٍ
وحاصل ما ذكر الّله من آداب الدعاء :الخلص فيه لله وحده ،لن ذلك
ّ
يتضمنه الخفية ،وإخفاؤه وإسراره ،وأن يكون القلب خائفا طامعا ل غافل
ول آمنا ول غير مبال بالجابة ،وهذا من إحسان الدعاء ،فإن الحسان في
كل عبادة بذل الجهد فيها ،وأداؤها كاملة ل نقص فيها بوجه من الوجوه،
ن { في عبادة الّله، سِني َح ِ م ْن ال ْ ُم َ ب ِ ري ٌت الل ّهِ قَ ِ م َ ح َ ن َر ْ ولهذا قال } :إ ِ ّ
المحسنين إلى عباد الّله ،فكلما كان العبد أكثر إحسانا ،كان أقرب إلى
رحمة ربه ،وكان ربه قريبا منه برحمته ،وفي هذا من الحث على الحسان
ما ل يخفى.
) (1/291
) (1/292
ك ج إ ِّل ن َك ِ ً
دا ك َذ َل ِ َ ث َل ي َ ْ
خُر ُ خب ُ َ ن َرب ّهِ َوال ّ ِ
ذي َ ه ب ِإ ِذ ْ ِ
ج ن ََبات ُ ُ
خُر ُب يَ َْوال ْب َل َد ُ الط ّي ّ ُ
ن )(58 شك ُُرو َ قوْم ٍ ي َ ْت لِ َف اْل ََيا ِ
صّر ُ نُ َ
دا ك َذ َل ِ َ
ك ج ِإل ن َك ِ ً خُر ُ ث ل يَ ْ خب ُ َذي َ ن َرب ّهِ َوال ّ ِ ه ب ِإ ِذ ْ ِ
ج ن ََبات ُ ُ خُر ُ ب يَ ْ } َوال ْب َل َد ُ الط ّي ّ ُ
ن{. شك ُُرو َ قوْم ٍ ي َ ْ ت لِ َ ف الَيا ِ صّر ُ نُ َ
ب{ ثم ذكر تفاوت الراضي ،التي ينزل عليها المطر ،فقالَ } :وال ْب َل َد ُ الط ّي ّ ُ
ه { الذي هو ج ن ََبات ُ ُ خُر ُأي :طيب التربة والمادة ،إذا نزل عليه مطر } ي َ ْ
ن َرب ّهِ { أي :بإرادة الّله ومشيئته ،فليست السباب مستعد له } ب ِإ ِذ ْ ِ
مستقلة بوجود الشياء ،حتى يأذن الّله بذلك.
دا { أي :إل نباتا خاسا ل نفع ج ِإل ن َك ِ ً خُر ُ ث { من الراضي } ل ي َ ْ خب ُ َذي َ } َوال ّ ِ
فيه ول بركة.
ن { أي :ننوعها ونبينها ونضرب فيها شكُرو َ ُ قوْم ٍ ي َ ْ ت لِ َ ف الَيا ِ صّر ُ ك نُ َ} ك َذ َل ِ َ
المثال ونسوقها لقوم يشكرون الّله بالعتراف بنعمه ،والقرار بها،
وصرفها في مرضاة الّله ،فهم الذين ينتفعون بما فصل الّله في كتابه من
الحكام والمطالب اللهية ،لنهم يرونها من أكبر النعم الواصلة إليهم من
ربهم ،فيتلقونها مفتقرين إليها فرحين بها ،فيتدبرونها ويتأملونها ،فيبين لهم
من معانيها بحسب استعدادهم ،وهذا مثال للقلوب حين ينزل عليها الوحي
الذي هو مادة الحياة ،كما أن الغيث مادة الحياة ،فإن القلوب الطيبة حين
يجيئها الوحي ،تقبله وتعلمه وتنبت بحسب طيب أصلها ،وحسن عنصرها.
وأما القلوب الخبيثة التي ل خير فيها ،فإذا جاءها الوحي لم يجد محل قابل
بل يجدها غافلة معرضة ،أو معارضة ،فيكون كالمطر الذي يمر على
َ
السباخ والرمال والصخور ،فل يؤثر فيها شيئا ،وهذا كقوله تعالى } :أنز َ
ل
دا َراب ًِيا { ...اليات. ل َزب َ ً سي ْ ُ
ل ال ّ م َ ها َفا ْ
حت َ َ قد َرِ َة بِ َت أ َوْدِي َ ٌ سال َ ْ ماًء فَ َ ماِء َ س َ
ن ال ّ م َِ
) (1/292
لَ َ َ
ن إ ِل َهٍ غَي ُْرهُم ْم ِ ما ل َك ُ ْه َدوا الل ّ َ ل َيا قَوْم ِ اعْب ُ ُ مهِ فَ َ
قا َ حا إ َِلى قَوْ ِ سل َْنا ُنو ً
قد ْ أْر َ
ك ِفي مهِ إ ِّنا ل َن ََرا َ
ن قَوْ ِ مَل ُ ِ
م ْ ل ال ْ َ
ظيم ٍ )َ (59قا َ ب ي َوْم ٍ عَ ِ م عَ َ
ذا َ ف عَل َي ْك ُ ْ
خا ُإ ِّني أ َ َ
ب ن َر ّ م ْ ل ِسو ٌ ة وَل َك ِّني َر ُ ضَلل َ ٌ س ِبي َ ل َيا قَوْم ِ ل َي ْ َ ن )َ (60قا َ مِبي ٍ ل ُ ضَل ٍ َ
ما لَ ّ َ َ َ َ َ ّ ُ
ن اللهِ َ م َ م ِ م وَأعْل ُ ُ
ح لك ْ ص ُ ت َرّبي وَأن ْ َ سال ِ م رِ َ ُ
ن ) (61أب َلغُك ْ مي َال َْعال ِ
َ
َ َ
م ل ِي ُن ْذَِرك ُ ْ
م من ْك ُ ْل ِ ج ٍم عََلى َر ُ ن َرب ّك ُ ْ م َْ م ذِك ٌْر ِ جاَءك ُ ْ ن َ مأ ْ جب ْت ُ ْن ) (62أوَعَ ِ مو َ ت َعْل َ ُ
كفل ْ ِ ه ِفي ال ْ ُ مع َ ُن َ ذي َ جي َْناهُ َوال ّ ِ ن ) (63فَك َذ ُّبوهُ فَأن ْ َ مو َ ح ُ م ت ُْر َ قوا وَل َعَل ّك ُ ْ وَل ِت َت ّ ُ
َ َ َ ّ َ
ن )(64 مي َ ما عَ ِ م كاُنوا قَوْ ً ن كذ ُّبوا ب ِآَيات َِنا إ ِن ّهُ ْ ذي َ وَأغَْرقَْنا ال ِ
} } { 64 - 59ل َ َ َ
مهِ { .إلى آخر القصة ). (1 حا إ َِلى قَوْ ِ سل َْنا ُنو ًقد ْ أْر َ
لما ذكر تعالى من أدلة توحيده جملة صالحة ،أيد ذلك بذكر ما جرى للنبياء
الداعين إلى توحيده مع أممهم المنكرين لذلك ،وكيف أيد الّله أهل
قد ْ لهم ،وكيف اتفقت دعوة المرسلين التوحيد ،وأهلك من عاندهم ولم ي َن ْ َ
على دين واحد ] ص [ 293ومعتقد واحد ،فقال عن نوح -أول المرسلين
مهِ { يدعوهم إلى عبادة الّله وحده ،حين كانوا } :-ل َ َ َ
حا إ َِلى قَوْ ِ سل َْنا ُنو ً قد ْ أْر َ
مما ل َك ُ ْه { أي :وحده } َ دوا الل ّ َل { لهمَ } :يا قَوْم ِ اعْب ُ ُ قا َ يعبدون الوثان } فَ َ
ن إ ِل َهٍ غَي ُْرهُ { لنه الخالق الرازق المدّبر لجميع المور ،وما سواه مخلوق م ْ ِ
ّ
مدّبر ،ليس له من المر شيء ،ثم خوفهم إن لم يطيعوه عذاب الله،
ظيم ٍ { وهذا من نصحه عليه ب ي َوْم ٍ عَ ِ ذا َم عَ َ ف عَل َي ْك ُ ْ خا ُ فقال } :إ ِّني أ َ َ
الصلة والسلم وشفقته عليهم ،حيث خاف عليهم العذاب البدي ،والشقاء
السرمدي ،كإخوانه من المرسلين الذين يشفقون على الخلق أعظم من
شفقة آبائهم وأمهاتهم ،فلما قال لهم هذه المقالة ،ردوا عليه أقبح رد.
مهِ { أي :الرؤساء الغنياء المتبوعون الذين قد جرت ن قَوْ ِ م ْ مل ِ ل ال ْ َ } َقا َ
ك ِفي العادة باستكبارهم على الحق ،وعدم انقيادهم للرسل } ،إ ِّنا ل َن ََرا َ
ن { فلم يكفهم -قبحهم الّله -أنهم لم ينقادوا له ،بل استكبروا مِبي ٍ ل ُ ضل ٍ َ
عن النقياد له ،وقدحوا فيه أعظم قدح ،ونسبوه إلى الضلل ،ولم يكتفوا
بمجرد الضلل حتى جعلوه ضلل مبينا واضحا لكل أحد.
وهذا من أعظم أنواع المكابرة ،التي ل تروج على أضعف الناس عقل وإنما
هذا الوصف منطبق على قوم نوح ،الذين جاءوا إلى أصنام قد صوروها
ونحتوها بأيديهم ،من الجمادات التي ل تسمع ول تبصر ،ول تغني عنهم
شيئا ،فنزلوها منزلة فاطر السماوات ،وصرفوا لها ما أمكنهم من أنواع
القربات ،فلول أن لهم أذهانا تقوم بها حجة الّله عليهم لحكم عليهم بأن
المجانين أهدى منهم ،بل هم أهدى منهم وأعقل ،فرد نوح عليهم ردا
ة{ ضلل َ ٌ س ِبي َ لطيفا ،وترقق لهم لعلهم ينقادون له فقالَ } :يا قَوْم ِ ل َي ْ َ
أي :لست ضال في مسألة من المسائل بوجه من الوجوه ،وإنما أنا هاد
مهتد ،بل هدايته عليه الصلة والسلم من جنس هداية إخوانه ،أولي العزم
من المرسلين ،أعلى أنواع الهدايات وأكملها وأتمها ،وهي هداية الرسالة
ن { أي :ربي مي َ ب ال َْعال َ ِ ن َر ّ م ْ ل ِ سو ٌ التامة الكاملة ،ولهذا قال } :وَل َك ِّني َر ُ
وربكم ورب جميع الخلق ،الذي ربى جميع الخلق بأنواع التربية ،الذي من
أعظم تربيته أن أرسل إلى عباده رسل تأمرهم بالعمال الصالحة والخلق
ُ
الفاضلة والعقائد الحسنة وتنهاهم عن أضدادها ،ولهذا قال } :أب َل ّغُك ُ ْ
م
َ
م { أي :وظيفتي تبليغكم ،ببيان توحيده وأوامره ح ل َك ُ ْ ص ُت َرّبي وَأن ْ َ سال ِ رِ َ
ما ل ّ َ َ
ن اللهِ َ م َم ِ ونواهيه ،على وجه النصيحة لكم والشفقة عليكم } ،وَأعْل ُ
ن { فالذي يتعين أن تطيعوني وتنقادوا لمري إن كنتم تعلمون. مو َ ت َعْل َ ُ
} أ َو عَجبت َ
م { أي :كيف تعجبون من ْك ُ ْل ِج ٍ م عََلى َر ُ ن َرب ّك ُ ْ م ْ م ذِك ٌْر ِ جاَءك ُ ْ ن َ مأ ْ ِ ُْ ْ َ
من حالة ل ينبغي العجب منها ،وهو أن جاءكم التذكير والموعظة
والنصيحة ،على يد رجل منكم ،تعرفون حقيقته وصدقه وحاله؟" فهذه
الحال من عناية الّله بكم وبره وإحسانه الذي يتلقى بالقبول والشكر،
ن { أي :لينذركم العذاب الليم، مو َ ح ُ قوا وَل َعَل ّك ُ ْ
م ت ُْر َ وقوله } :ل ِي ُن ْذَِرك ُ ْ
م وَل ِت َت ّ ُ
وتفعلوا السباب المنجية من استعمال تقوى الّله ظاهرا وباطنا ،وبذلك
تحصل عليهم وتنزل رحمة الّله الواسعة.
َ
ك { أي:فل ْ ِ
ه ِفي ال ْ ُ
معَ ُ
ن َذي َجي َْناهُ َوال ّ ِ
فلم يفد فيهم ،ول نجح } فَك َذ ُّبوهُ فَأن ْ َ
السفينة التي أمر الّله نوحا عليه الصلة والسلم بصنعتها ،وأوحى إليه أن
يحمل من كل صنف من الحيوانات ،زوجين اثنين وأهله ومن آمن معه،
فحملهم فيها ونجاهم الّله بها.
َ
ن { عن الهدى ،أبصروا مي َما عَ ِ كاُنوا قَوْ ً م َن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا إ ِن ّهُ ْ ذي َ} وَأغَْرقَْنا ال ّ ِ
الحق ،وأراهم الّله -على يد نوح -من اليات البينات ،ما بهم يؤمن أولوا
اللباب ،فسخروا منه ،واستهزءوا به وكفروا.
__________
) (1في ب :ذكر اليات كاملة.
) (1/292
ن إ ِل َهٍ غَي ُْرهُ أ َفََل م ْ م ِ ما ل َك ُ ْ ه َ دوا الل ّ َ ل َيا قَوْم ِ اعْب ُ ُ دا َقا َ هو ً م ُ خاهُ ْ عادٍ أ َ َ وَإ َِلى َ
فاهَةٍ وَإ ِّنا س َ ك ِفي َ مهِ إ ِّنا ل َن ََرا َ ن قَوْ ِ م ْ فُروا ِ ن كَ َ ذي َ مَل ُ ال ّ ِ ل ال ْ َ ن )َ (65قا َ قو َ ت َت ّ ُ
نم ْ ل ِ سو ٌ ة وَلك ِّني َر ُ َ فاهَ ٌ س َ س ِبي َ َ
ل َيا قَوْم ِ لي ْ َ ن )َ (66قا َ َ
ن الكاذِِبي َ ْ م َ ك ِ ل َن َظن ّ َ
ُ
ن )(68 رب ال ْعال َمين ) (67أ ُبل ّغُك ُم رساَلت ربي وأ َنا ل َك ُم ناص َ
مي ٌ حأ ِ ْ َ ِ ٌ َ َ ِ َ ّ ْ ِ َ َ َ ِ َ َ ّ
م َواذ ْك ُُروا إ ِذ ْ َ َ َ
م ل ِي ُن ْذَِرك ُ ْ من ْك ُ ْ ل ِ ج ٍ م عَلى َر ُ ن َرب ّك ُ ْ م ْ م ذِك ٌْر ِ جاَءك ُ ْ ن َ مأ ْ جب ْت ُ ْأوَعَ ِ
ة َفاذ ْك ُُروا آ ََلَء الل ّهِ سط َ ً ق بَ ْ خل ِ
م ِفي ال ْ َ ْ ن ب َعْدِ قَوْم ِ ُنوٍح وََزاد َك ُ ْ م ْ فاَء ِ خل َ َ م ُ جعَل َك ُ ْ َ
ن ي َعْب ُد ُ آ ََباؤَُنا ّ فل ِحون )َ (69قاُلوا أ َ
َ كا َ ما رَ ذ ن
َ َ ْ َ ُ ََ َ َ و ه د ح و ه لال د ب ع
ِ ََ َْ ُ َ ن ِ ل نا ت ْ ئج لَ َ ْ ُ ُ َ ْ ت م ُ ك ّ ل ع
ْ
ن َرب ّك ُ ْ
م م ْ م ِ ل قَد ْ وَقَعَ عَل َي ْك ُ ْ ن )َ (70قا َ صادِِقي َ ن ال ّ م َ ت ِ ن ك ُن ْ َ ما ت َعِد َُنا إ ِ ْ فَأت َِنا ب ِ َ
َ رجس وغَضب أ َتجادُلونِني في أ َسماٍء سميتمو َ َ
هل الل ّ ُ ما ن َّز َ م َ م وَآَباؤُك ُ ْ ها أن ْت ُ ْ َ ّ ُْ ُ ْ َ ِ ِ ْ ٌ َ َ ٌ ُ َ ِ َ
ّ َ َ ْ ُ سل ْ َ
نذي َ جي َْناهُ َوال ِ ن ) (71فأن ْ َ ري َ من ْت َظ ِ ِ ن ال ُ م َ م ِ معَك ْ ن َفان ْت َظ ُِروا إ ِّني َ طا ٍ ن ُ م ْ ب َِها ِ
مؤْ ِ َ َ َ ّ َ َ
ن )(72 مِني َ ما كاُنوا ُ ن كذ ُّبوا ب ِآَيات َِنا وَ َ ذي َ داب َِر ال ِ مّنا وَقطعَْنا َ مة ٍ ِ ح َ ه ب َِر ْ مع َ ُ َ
دا { .إلى آخر القصة ). (1 هو ً م ُخاهُ ْ عادٍ أ َ َ
} } { 72 - 65وَإ َِلى َ
عادٍ { الولى ،الذين كانوا في أرض اليمن أي } :و { أرسلنا } إ َِلى َ
دا { عليه السلم ،يدعوهم إلى التوحيد هو ً م { في النسب } ُ خاهُ ْ } أَ َ
وينهاهم عن الشرك والطغيان في الرض.
َ
ن إ ِل َهٍ غَي ُْرهُ أَفل ت َت ّ ُ
ن{ قو َ م ْ
م ِما ل َك ُ ْه َدوا الل ّ َ ل { لهمَ } :يا قَوْم ِ اعْب ُ ُ فـ } َقا َ
سخطه وعذابه ،إن أقمتم على ما أنتم عليه ،فلم يستجيبوا ول انقادوا.
مهِ { رادين لدعوته ،قادحين في رأيه: ن قَوْ ِ م ْ فُروا ِ ن كَ َ
ذي َمل ال ّ ِ
ل ال ْ َفـ } َقا َ
ن { أي :ما نراك إل سفيها ن ال ْ َ
كاذِِبي َ م َ ك ِ فاهَةٍ وَإ ِّنا ل َن َظ ُن ّ َس َ
ك ِفي َ } إ ِّنا ل َن ََرا َ
غير رشيد ،ويغلب على ظننا أنك من جملة الكاذبين ،وقد انقلبت عليهم
الحقيقة ،واستحكم عماهم حيث رموا نبيهم عليه السلم بما هم متصفون
به ،وهو أبعد الناس عنه ،فإنهم السفهاء حقا الكاذبون.
وأي سفه أعظم ممن قابل أحق الحق بالرد والنكار ،وتكبر عن النقياد
للمرشدين والنصحاء ،وانقاد قلبه وقالبه لكل شيطان مريد ،ووضع العبادة
في غير موضعها ،فعبد من ] ص [ 294ل يغني عنه شيئا من الشجار
والحجار؟"
ّ
وأي كذب أبلغ من كذب من نسب هذه المور إلى الله تعالى؟"
ة { بوجه من الوجوه ،بل هو الرسول فاهَ ٌس َ
س ِبي َ ل َيا قَوْم ِ ل َي ْ َ
} َقا َ
ّ ُ َ ْ َ
ت َرّبيسال ِ ن * أب َلغُك ُ ْ
م رِ َ مي َ
ب الَعال ِ
ن َر ّ
م ْ سو ٌ
ل ِ المرشد الرشيد } ،وَلك ِّني َر ُ
ن{. وأ َنا ل َك ُم ناص َ
مي ٌ
حأ ِ ْ َ ِ ٌ َ َ
فالواجب عليكم أن تتلقوا ذلك بالقبول والنقياد وطاعة رب العباد.
__________
) (1في ب :كتب اليات كاملة.
) (1/293
} أ َو عَجبت َ
م { أي :كيف م ل ِي ُن ْذَِرك ُ ْ من ْك ُ ْل ِ ج ٍ م عََلى َر ُ ن َرب ّك ُ ْ م ْ م ذِك ٌْر ِ جاَءك ُ ْ ن َ مأ ْ ِ ُْ ْ َ
ّ
تعجبون من أمر ل يتعجب منه ،وهو أن الله أرسل إليكم رجل منكم
تعرفون أمره ،يذكركم بما فيه مصالحكم ،ويحثكم على ما فيه النفع لكم،
فتعجبتم من ذلك تعجب المنكرين.
ن ب َعْدِ قَوْم ِ ُنوٍح { أي :واحمدوا ربكم م ْ فاَء ِ خل َ َ
م ُ جعَل َك ُ ْ } َواذ ْك ُُروا إ ِذ ْ َ
واشكروه ،إذ مكن لكم في الرض ،وجعلكم تخلفون المم الهالكة الذين
كذبوا الرسل ،فأهلكهم الّله وأبقاكم ،لينظر كيف تعملون ،واحذروا أن
تقيموا على التكذيب كما أقاموا ،فيصيبكم ما أصابهم } ،و { اذكروا نعمة
ة { في سط َ ً ق بَ ْ خل ِ
م ِفي ال ْ َ ْ الّله عليكم التي خصكم بها ،وهي أن } َزاد َك ُ ْ
القوة وكبر الجسام ،وشدة البطشَ } ،فاذ ْك ُُروا آلَء الل ّهِ { أي :نعمه
م { إذا ذكرتموها بشكرها وأداء حقها الواسعة ،وأياديه المتكررة } ل َعَل ّك ُ ْ
ن { أي :تفوزون بالمطلوب ،وتنجون من المرهوب ،فوعظهم حو َ فل ِ ُ
} تُ ْ
وذكرهم ،وأمرهم بالتوحيد ،وذكر لهم وصف نفسه ،وأنه ناصح أمين،
وحذرهم أن يأخذهم الّله كما أخذ من قبلهم ،وذكرهم نعم الّله عليهم
وإدرار الرزاق إليهم ،فلم ينقادوا ول استجابوا.
فـ } َقاُلوا { متعجبين من دعوته ،ومخبرين له أنهم من المحال أن
ن ي َعْب ُد ُ آَباؤَُنا { قبحهم الّله، َ
كا َ ما َ حد َهُ وَن َذ ََر َ ه وَ ْجئ ْت ََنا ل ِن َعْب ُد َ الل ّ َيطيعوه } :أ ِ
جعلوا المر الذي هو أوجب الواجبات وأكمل المور ،من المور التي ل
يعارضون بها ما وجدوا عليه آباءهم ،فقدموا ما عليه الباء الضالون من
الشرك وعبادة الصنام ،على ما دعت إليه الرسل من توحيد الّله وحده ل
ْ
ن{ صادِِقي َ
ن ال ّ م َ ت ِ ن ك ُن ْ َ ما ت َعِد َُنا إ ِ ْ شريك له ،وكذبوا نبيهم ،وقالوا } :فَأت َِنا ب ِ َ
وهذا استفتاح منهم على أنفسهم.
ب{ ض ٌس وَغَ َ ج ٌ م رِ ْ ن َرب ّك ُ ْ م ْم ِ َ
ل لهم هود عليه السلم } :قَد ْ وَقَعَ عَلي ْك ُ ْ قا َ ف َ
أي :ل بد من وقوعه ،فإنه قد انعقدت أسبابه ،وحان وقت الهلك.
} أ َتجادُلونِني في أ َسماٍء سميتمو َ َ
م { أي :كيف تجادلون على م َوآَباؤُك ُ ْ ها أن ْت ُ ْ َ ّ ُْ ُ ْ َ ِ ُ َ ِ َ
أمور ،ل حقائق لها ،وعلى أصنام سميتموها آلهة ،وهي ل شيء من اللهة
ن { فإنها لو كانت طا ٍسل ْ َ ن ُ م ْ ه ب َِها ِ ل الل ّ ُ ما َأنز َ فيها ،ول مثقال ذرة و } َ
صحيحة لنزل الّله بها سلطانا ،فعدم إنزاله له دليل على بطلنها ،فإنه ما
من مطلوب ومقصود -وخصوصا المور الكبار -إل وقد بين الّله فيها من
الحجج ،ما يدل عليها ،ومن السلطان ،ما ل تخفى معه.
ن
م َم ِ ُ
معَك ْ } َفان ْت َظ ُِروا { ما يقع بكم من العقاب ،الذي وعدتكم به } إ ِّني َ
ن { وفرق بين النتظارين ،انتظار من يخشى وقوع العقاب ،ومن ري َمن ْت َظ ِ ِال ْ ُ
يرجو من الّله النصر والثواب ،ولهذا فتح الّله بين الفريقين فقال:
َ
مّنا { فإنه الذي مة ٍ ِ ح َه ب َِر ْمعَ ُن { آمنوا } َ ذي َ جي َْناهُ { أي :هودا } َوال ّ ِ } فَأن ْ َ
هداهم لليمان ،وجعل إيمانهم سببا ينالون به رحمته فأنجاهم برحمته،
ن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا { أي :استأصلناهم بالعذاب الشديد الذي ذي َداب َِر ال ّ ِ
} وَقَط َعَْنا َ
لم يبق منهم أحدا ،وسلط الّله عليهم الريح العقيم ،ما تذر من شيء أتت
عليه إل جعلته كالرميم ،فأهلكوا فأصبحوا ل يرى إل مساكنهم ،فانظر كيف
كان عاقبة المنذرين الذين أقيمت عليهم الحجج ،فلم ينقادوا لها ،وأمروا
باليمان فلم يؤمنوا فكان عاقبتهم الهلك ،والخزي والفضيحة.
َ َ } وَأ ُت ْب ُِعوا ِفي هَذِهِ الد ّن َْيا ل َعْن َ ً
دا
م أل ب ُعْ ً فُروا َرب ّهُ ْ دا ك َ َ
عا ًن َ مةِ أل إ ِ ّ م ال ْ ِ
قَيا َ ة وَي َوْ َ
هودٍ { . ل َِعادٍ قَوْم ِ ُ
ن { بوجه من مِني َ مؤْ ِ
كاُنوا ُ ما َ ن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا وَ َ ذي َ داب َِر ال ّ ِ وقال هنا } وَقَط َعَْنا َ
الوجوه ،بل وصفهم التكذيب والعناد ،ونعتهم الكبر والفساد.
) (1/294
ن إ ِل َهٍ غَي ُْرهُ قَد ْ م ْ م ِ ما ل َك ُ ْ ه َ دوا الل ّ َ ل َيا قَوْم ِ اعْب ُ ُ حا َقا َ صال ِ ً َ مخاهُ ْ مود َ أ َ َ وَإ َِلى ث َ ُ
َ ْ
ض الل ّ ِ
ه ل ِفي أْر ِ ها ت َأك ُ ْ ة فَذ َُرو َ م آ َي َ ً ة الل ّهِ ل َك ُ ْ م هَذِهِ َناقَ ُ ن َرب ّك ُ ْ م ْ ة ِ م ب َي ّن َ ٌ جاَءت ْك ُ ْ َ
َ ُ َ ُ َ ُ ْ َ
ن
م ْ فاَء ِ خل َ م ُ جعَلك ْ م )َ (73واذ ْكُروا إ ِذ ْ َ ب أِلي ٌ ذا ٌ م عَ َ خذ َك ْ سوٍء فَي َأ ُ ها ب ِ ُ سو َ م ّ وَل ت َ َ
ْ َ ْ َ
جَبا َ
ل ن ال ِ حُتو َ صوًرا وَت َن ْ ِ سُهول َِها قُ ُ ن ُ م ْ ن ِ ذو َ خ ُ ض ت َت ّ ِ م ِفي الْر ِ عادٍ وَب َوّأك ُ ْ ب َعْدِ َ
ّ ُ َ ْ َ ْ َ ّ َ َ
نذي َ م ل ال ِ ل ال َ ن )َ (74قا َ دي َ س ِ ف ِ م ْ ض ُ وا ِفي الْر ِ ب ُُيوًتا َفاذ ْك ُُروا آلَء اللهِ وَل ت َعْث َ ْ
َ َ َ َ
حا صال ِ ً ن َ نأ ّ مو َ م أت َعْل ُ من ْهُ ْ ن ِ م َ نآ َ م ْ فوا ل ِ َ ضع ِ ُ ست ُ ْ نا ْ ذي َ مهِ ل ِل ّ ِ ن قَوْ ِ م ْ ست َك ْب َُروا ِ ا ْ
ُ
ست َك ْب َُروا نا ْ ذي َ ل ال ّ ِ ن )َ (75قا َ مُنو َ مؤْ ِ ل ب ِهِ ُ س َ ما أْر ِ ن َرب ّهِ َقاُلوا إ ِّنا ب ِ َ م ْ ل ِ س ٌ مْر َ ُ
م وََقاُلوا ه ب ر ر م َ أ ن ع وا ت ع و ة َ ق نا ال روا َ ق ع َ ف ( 76 ) ن رو ف كا َ ه ب م ت ن م َ آ ذي ّ
ْ ْ ِ َ ِّ ْ َ َ
ّ َ َ َ ْ َ ُ ِ ُ َ َ ُْ ْ ِ ِ إِ ّ ِ ِ ل با نا
َ
ة
ف ُ ج َ م الّر ْ خذ َت ْهُ ُ ن ) (77فَأ َ سِلي َ مْر َ ن ال ْ ُ م َ ت ِ ن ك ُن ْ َ ما ت َعِد َُنا إ ِ ْ ح ائ ْت َِنا ب ِ َ صال ِ ُ َيا َ َ
َ
م قد ْ أب ْل َغْت ُك ُ ْ ل َيا قَوْم ِ ل َ َ م وََقا َ ن ) (78فَت َوَّلى عَن ْهُ ْ مي َ جاث ِ ِ م َ دارِهِ ْ حوا ِفي َ صب َ ُ فَأ ْ
ن )(79 حي َ ص ِ ن الّنا ِ حّبو َ ن َل ت ُ ِ م وَل َك ِ ْ ت ل َك ُ ْ ح ُ ص ْ ة َرّبي وَن َ َ سال َ َ رِ َ
) (1/294
فاَء { في الرض تتمتعون بها وتدركون مطالبكم } خل َ َم ُ جعَل َك ُ ْ } َواذ ْك ُُروا إ ِذ ْ َ
َ
م ِفي عادٍ { الذين أهلكهم الّله ،وجعلكم خلفاء من بعدهم } ،وَب َوّأك ُ ْ ن ب َعْدِ َ م ْ ِ
ض { أي :مكن لكم فيها ،وسهل لكم السباب الموصلة إلى ما تريدون ْ ِ ر ال
صوًرا { أي :من الراضي السهلة التي ُ
سُهول َِها ق ُ ن ُ م ْ ن ِ ذو َ خ ُ وتبتغون } ت َت ّ ِ
نحُتو َ ليست بجبال ،تتخذون فيها القصور العالية والبنية الحصينة } ،وَت َن ْ ِ
ل ب ُُيوًتا { كما هو مشاهد إلى الن من أعمالهم التي في الجبال ،من جَبا َ ال ْ ِ
المساكن والحجر ونحوها ،وهي باقية ما بقيت الجبالَ } ،فاذ ْك ُُروا آلَء
وا ِفي الل ّهِ { أي :نعمه ،وما خولكم من الفضل والرزق والقوةَ } ،ول ت َعْث َ ْ
ن { أي :ل تخربوا الرض بالفساد والمعاصي ،فإن المعاصي دي َ س ِ ف ِ م ْض ُ الْر ِ
تدع الديار العامرة بلقع ،وقد أخلت ديارهم منهم ،وأبقت مساكنهم
موحشة بعدهم.
مهِ { أي :الرؤساء والشراف الذين ن قَوْ ِ م ْ ست َك ْب َُروا ِ نا ْ ذي َ مل ال ّ ِ ل ال ْ َ } َقا َ
فوا { ولما كان المستضعفون ليسوا ضع ِ ُ ست ُ ْ نا ْ ذي َ ّ
تكبروا عن الحق } ،ل ِل ِ
َ َ
ن َرب ّهِ { م ْ ل ِ س ٌمْر َ حا ُ صال ِ ً ن َ نأ ّ مو َ م أت َعْل َ ُ من ْهُ ْ ن ِ م َ نآ َ م ْ كلهم مؤمنين ،قالوا } ل ِ َ
أي :أهو صادق أم كاذب؟.
ن { من توحيد الّله والخبر س َ ُ
مُنو َ مؤْ ِ ل ب ِهِ ُ ما أْر ِ فقال المستضعفون } :إ ِّنا ب ِ َ
عنه وأمره ونهيه.
ن { حملهم الكبر أن ل م ب ِهِ كافُِرو َ َ من ْت ُ ْذي آ َ ّ
ست َكب َُروا إ ِّنا ِبال ِ ْ نا ْ ذي َ ل ال ّ ِ } َقا َ
ينقادوا للحق الذي انقاد له الضعفاء.
ة { التي توعدهم إن مسوها بسوء أن يصيبهم عذاب أليم، قُروا الّناقَ َ } فَعَ َ
م { أي :قسوا عنه ،واستكبروا عن أمره الذي من عتا َ
مرِ َرب ّهِ ْ نأ ْ وا عَ ْ } وَعَت َ ْ
عنه أذاقه العذاب الشديد .ل جرم أحل الله بهم من النكال ما لم يحل ّ
بغيرهم } وََقاُلوا { مع هذه الفعال متجرئين على الّله ،معجزين له ،غير
ما ت َعِد َُنا { إن كنت من ح ائ ْت َِنا ب ِ َ صال ِ ُ مبالين بما فعلوا ،بل مفتخرين بهاَ } :يا َ
َ
ك وَعْد ٌ غَي ُْر ة أّيام ٍ ذ َل ِ َ م َثلث َ َ دارِك ُ ْ مت ُّعوا ِفي َ الصادقين من العذاب فقال } :ت َ َ
ب{. ذو ٍ مك ْ ُ َ
ن { على ركبهم ،قد أبادهم مي ث جا م ه ر دا في حوا بص َ أَ ف ة َ ف ج ر ال م ه تَ ذ خ َ أَ ف }
ِ
َ ِ ِ ْ َ ِ َ ِ ْ َ ُ ُ ُْ ُ ّ ْ َ
الّله ،وقطع دابرهم.
ل{ م { صالح عليه السلم حين أحل الّله بهم العذاب } ،وََقا َ } فَت َوَّلى عَن ْهُ ْ
سال َ َ َ
ة م رِ َ قد ْ أب ْل َغْت ُك ُ ْ
مخاطبا لهم توبيخا وعتابا بعدما أهلكهم الّلهَ } :يا قَوْم ِ ل َ َ
م { أي :جميع ما أرسلني الّله به إليكم ،قد أبلغتكم به ت ل َك ُ ْ ح ُ ص ْ َرّبي وَن َ َ
وحرصت على هدايتكم ،واجتهدت في سلوككم الصراط المستقيم والدين
ن { بل رددتم قول النصحاء ،وأطعتم كل حي َ
ص ِ
ن الّنا ِ حّبو َ ن ل تُ ِ القويم } .وَل َك ِ ْ
شيطان رجيم.
واعلم أن كثيرا من المفسرين يذكرون في هذه القصة أن الناقة قد
خرجت من صخرة صماء ملساء اقترحوها على صالح وأنها تمخضت
تمخض الحامل فخرجت الناقة وهم ينظرون وأن لها فصيل حين عقروها
رغى ثلث رغيات وانفلق له الجبل ودخل فيه وأن صالحا عليه السلم قال
لهم :آية نزول العذاب بكم ،أن تصبحوا في اليوم الول من اليام الثلثة
ووجوهكم مصفرة ،واليوم الثاني :محمرة ،والثالث :مسودة ،فكان كما
قال.
وكل هذا من السرائيليات التي ل ينبغي نقلها في تفسير كتاب الّله ،وليس
في القرآن ما يدل على شيء منها بوجه من الوجوه ،بل لو كانت صحيحة
لذكرها الّله تعالى ،لن فيها من العجائب والعبر واليات ما ل يهمله تعالى
ويدع ذكره ،حتى يأتي من طريق من ل يوثق بنقله ،بل القرآن يكذب بعض
ة أ َّيام ٍ { أي: دارِك ُ ْ
م َثلث َ َ مت ُّعوا ِفي َ
هذه المذكورات ،فإن صالحا قال لهم } :ت َ َ
تنعموا وتلذذوا بهذا الوقت القصير جدا ،فإنه ليس لكم من المتاع واللذة
سوى هذا ،وأي لذة وتمتع لمن وعدهم نبيهم وقوع العذاب ،وذكر لهم
وقوع مقدماته ،فوقعت يوما فيوما ،على وجه يعمهم ويشملهم ]احمرار
وجوههم ،واصفرارها واسودادها من العذاب[ ). (1
هل هذا إل مناقض للقرآن ،ومضاد له؟" .فالقرآن فيه الكفاية والهداية عن
ما سواه.
نعم لو صح شيء عن رسول الّله صلى الّله عليه وسلم مما ل يناقض
كتاب الّله ،فعلى الرأس والعين ،وهو مما أمر القرآن باتباعه } وَ َ
ما آَتاك ُ ُ
م
ه َفان ْت َُهوا { ] ص [ 296وقد تقدم أنه ل ما ن ََهاك ُ ْ
م عَن ْ ُ ذوهُ وَ َ خ ُ ل فَ ُ
سو ُ
الّر ُ
يجوز تفسير كتاب الّله بالخبار السرائيلية ،ولو على تجويز الرواية عنهم
بالمور التي ل يجزم بكذبها ،فإن معاني كتاب الّله يقينية ،وتلك أمور ل
تصدق ول تكذب ،فل يمكن اتفاقهما.
__________
) (1زيادة من هامش ب.
) (1/295
قك ُم بها م َ َ ْ
ن) مي َ ن ال َْعال َ ِم َحدٍ ِ نأ َ سب َ َ ْ ِ َ ِ ْ ما َ ة َ ش َ ح َ فا ِ ن ال ْ َ مهِ أت َأُتو َ قوْ ِ طا إ ِذ ْ َقا َ
ل لِ َ وَُلو ً
َ ْ
ن) سرُِفو َ م ْ م ُم قَوْ ٌ ل أن ْت ُ ْ ساِء ب َ ْن الن ّ َ دو ِ ن ُ م ْ شهْوَةً ِ ل َ جا َ ن الّر َ م ل َت َأُتو َ (80إ ِن ّك ُ ْ
خرجوهُم من قَريت ِك ُم إنه ُ َ َ
س
م أَنا ٌ ْ ِ ْ ْ َ ْ ِّ ُ ْ ن َقاُلوا أ ْ ِ ُ مهِ إ ِّل أ ْ ب قَوْ ِ وا َ ج َ ن َ ما َ
كا َ (81وَ َ
َ َ ْ َ ّ َ َ َ
مطْرَنا ن ) (83وَأ ْ ري َ ن الَغاب ِ ِ م َ ت ِ ه َ
كان َ ْ مَرأت َ ُ ه إ ِل ا ْ جي َْناهُ وَأهْل ُ ن ) (82فَأن ْ َ ي َت َط َهُّرو َ
ن )(84 مي َجرِ ِم ْ ة ال ْ ُعاقِب َ ُ ن َ ف َ
كا َ مط ًَرا َفان ْظ ُْر ك َي ْ َ م َ عَل َي ْهِ ْ
ن ال ْ َ َ ْ } } { 84 - 80وَُلو ً
ن
م ْ قك ُ ْ
م ب َِها ِ سب َ َ
ما َ
ة َ ح َ
ش َ فا ِ مهِ أت َأُتو َ
قوْ ِ طا إ ِذ ْ َقا َ
ل لِ َ
َ
ن { .إلى آخر القصة ). (1 ن ال َْعال َ ِ
مي َ م َ
حدٍ ِ
أ َ
طا { عليه الصلة والسلم ،إذ أرسلناه إلى أي } :و { اذكر عبدنا } ُلو ً
قومه يأمرهم بعبادة الّله وحده ،وينهاهم عن الفاحشة التي ما سبقهم بها
ة { أي :الخصلة التي بلغت - ح َ ن ال ْ َ َ ْ
ش َ فا ِ أحد من العالمين ،فقال } :أت َأُتو َ
قك ُ ْ
م ب َِها سب َ َ
ما َ
في العظم والشناعة -إلى أن استغرقت أنواع الفحشَ } ،
م َ
ن { فكونها فاحشة من أشنع الشياء ،وكونهم ابتدعوها مي َ ن ال َْعال َ ِ
م َ
حدٍ ِ
نأ َِ ْ
وابتكروها ،وسنوها لمن بعدهم ،من أشنع ما يكون أيضا.
ْ
ساِء { أي :كيف ن الن ّ َ
دو ِ
ن ُ
م ْشهْوَةً ِ ل َ جا َ ن الّر َ م ل َت َأُتو َ
ثم بينها بقوله } :إ ِن ّك ُ ْ
تذرون النساء اللتي خلقهن الّله لكم ،وفيهن المستمتع الموافق للشهوة
والفطرة ،وتقبلون على أدبار الرجال ،التي هي غاية ما يكون في الشناعة
والخبث ،ومحل تخرج منه النتان والخباث ،التي يستحيي من ذكرها فضل
عن ملمستها وقربها } ،ب ْ َ
ن { أي :متجاوزون لما حده سرُِفو َ م ْ م ُ م قَوْ ٌل أن ْت ُ ْ َ
الّله متجرئون على محارمه.
__________
) (1في ب :أورد اليات كاملة.
) (1/296
) (1/296
ن إ ِل َهٍ غَي ُْرهُ قَد ْ م ْ م ِ ما ل َك ُ ْ ه َ دوا الل ّ َ ل َيا قَوْم ِ اعْب ُ ُ شعَي ًْبا َقا َ م ُ خاهُ ْ ن أَ َ مد ْي َ َ وَإ َِلى َ
َ َ
مشَياَءهُ ْ سأ ْ سوا الّنا َ خ ُ ن وََل ت َب ْ َ ميَزا َ ل َوال ْ ِ م فَأوُْفوا ال ْك َي ْ َ ن َرب ّك ُ ْ م ْ ة ِ م ب َي ّن َ ٌ جاَءت ْك ُ ْ َ
ن )(85 ني م ْ ؤ م م ت نُ ك ن إ م ُ ك َ ل ر ي خ
َ م ُ ك ل َ ذ ها ح ل َ ص إ د ع ب ض رَ ل ْ ا في دوا وَ ُ ِ ُ
س ْ ف ت لَ
ْ ِ ْ ُْ ْ ُ ِ ِ َ ْ ِ َْ َ ِ ْ ِ َ ِ ْ ٌْ ِ
َ
ه
ن بِ ِ م َ نآ َ م ْ ل الل ّهِ َ سِبي ِ ن َ ن عَ ْ دو َ ص ّ ن وَت َ ُ دو َ ع ُ ط ُتو ِ صَرا ٍ ل ِ دوا ب ِك ُ ّ قع ُ ُ وََل ت َ ْ
ة
عاقِب َ ُ ن َ كا َ ف َ م َوان ْظ ُُروا ك َي ْ َ م قَِليًل فَك َث َّرك ُ ْ جا َواذ ْك ُُروا إ ِذ ْ ك ُن ْت ُ ْ عوَ ً وَت َب ُْغون ََها ِ
َ َ ْ ُ ّ َ َ
م
ةل ْ ف ٌ ت ب ِهِ وَطائ ِ َ سل ُ ذي أْر ِ مُنوا ِبال ِ مآ َ ُ
من ْك ْ ة ِ ف ٌ ن طائ ِ َ ن كا َ َ ن ) (86وَإ ِ ْ دي َ س ِ ف ِ م ْ ال ْ ُ
ل ال ْمَل ُ خي ُْر ال ْ َ
َ ن )َ (87قا َ مي َ حاك ِ ِ ه ب َي ْن ََنا وَهُوَ َ م الل ّ ُ حك ُ َ حّتى ي َ ْ صب ُِروا َ مُنوا َفا ْ ي ُؤْ ِ
ن قَْري َت َِنا َ َ ّ جن ّك َيا ُ َ َ ن قَوْ ِ ْ ال ّ ِ
م ْ معَك ِ مُنوا َ نآ َ ذي َ ب َوال ِ شعَي ْ ُ خرِ َ مهِ لن ُ ْ م ْ ست َكب َُروا ِ نا ْ ذي َ
َ َ
ن ) (88قَدِ افْت ََري َْنا عََلى الل ّهِ ك َذًِبا إ ِ ْ
ن هي َ كارِ ِ ل أوَل َوْ ك ُّنا َ مل ّت َِنا َقا َ ن ِفي ِ أوْ ل َت َُعود ُ ّ
َ َ
ن ن َُعود َ ِفيَها إ ِّل أ ْ
ن ن ل ََنا أ ْ كو ُ ما ي َ ُ من َْها وَ َ ه ِ جاَنا الل ّ ُ م ب َعْد َ إ ِذ ْ ن َ ّ مل ّت ِك ُ ْ عُد َْنا ِفي ِ
نح ب َي ْن ََنا وَب َي ْ َ ما عَلى اللهِ ت َوَكلَنا َرب َّنا افْت َ ْ ْ ّ ّ َ عل ً ْ يٍء ِ ش ْ ل َ ُ
سعَ َرب َّنا ك ّ ه َرب َّنا وَ ِ شاَء الل ّ ُ يَ َ
ن كَ َ ّ ُ َ ْ ْ َ ْ
ه
م ِ ن قَوْ ِ م ْ فُروا ِ ذي َ م ل ال ِ ل ال َ ن ) (89وََقا َ حي َ فات ِ ِ خي ُْر ال َ ت َ حقّ وَأن ْ َ مَنا ِبال َ قَوْ ِ
َ َ َ
حوا ِفي صب َ ُ ة فَأ ْ ف ُ ج َ م الّر ْ خذ َت ْهُ ُ ن ) (90فَأ َ سُرو َ خا ِ ذا ل َ م إِ ً شعَي ًْبا إ ِن ّك ُ ْ م ُ ن ات ّب َعْت ُ ْ ِ ل َئ ِ
َ
ن ك َذ ُّبوا ذي َ وا ِفيَها ال ّ ِ م ي َغْن َ ْ ن لَ ْ شعَي ًْبا ك َأ ْ ن ك َذ ُّبوا ُ ذي َ ن ) (91ال ّ ِ مي َ جاث ِ ِ م َ دارِهِ ْ َ
ل يا قَوم ل َ َ َ
قد ْ أب ْل َغْت ُك ُ ْ
م ْ ِ م وََقا َ َن ) (92فَت َوَّلى عَن ْهُ ْ ري َ س ِ
خا ِم ال ْ َ شعَي ًْبا َ
كاُنوا هُ ُ ُ
َ َ َ َ ُ َ َ
ن )(93 سى عَلى قَوْم ٍ كافِ ِ
ري َ فآ َ م فَكي ْ َ
ت لك ْ ح ُ
ص ْت َرّبي وَن َ َ سال ِ رِ َ
شعَي ًْبا { .إلى آخر القصة ). (1 م ُ خاهُ ْ ن أَ َ مد ْي َ َ } } { 93 - 85وَإ َِلى َ
م { في النسب َ
خاهُ ْ أي } :و { أرسلنا إلى القبيلة المعروفة بمدين } أ َ
شعَي ًْبا { يدعوهم إلى عبادة الّله وحده ل شريك له ،ويأمرهم بإيفاء } ُ
المكيال والميزان ،وأن ل يبخسوا الناس أشياءهم ،وأن ل يعثوا في الرض
ض
دوا ِفي الْر ِ س ُ
ف ِ مفسدين ،بالكثار من عمل المعاصي ،ولهذا قالَ } :ول ت ُ ْ
ن { فإن ترك المعاصي امتثال مِني َ مؤْ ِ م ُ ن ك ُن ْت ُ ْ م إِ ْ خي ٌْر ل َك ُ ْ م َ حَها ذ َل ِك ُ ْ صل ِ ب َعْد َ إ ِ ْ
لمر الله وتقربا إليه خير ،وأنفع للعبد من ارتكابها الموجب لسخط الجبار، ّ
وعذاب النار.
ط { أي :طريق من الطرق التي يكثر صَرا ٍ ل ِ ُ
دوا { للناس } ب ِك ّ قعُ ُ
} َول ت َ ْ
ن
ن عَ ْدو َص ّن { من سلكها } وَت َ ُ دو َ ع ُ سلوكها ،تحذرون الناس منها و } ُتو ِ
جا { أي :تبغون سبيل اللهّ عوَ ًل الل ّهِ { من أراد الهتداء به } وَت َب ُْغون ََها ِ سِبي َِ
تكون معوجة ،وتميلونها اتباعا لهوائكم ،وقد كان الواجب عليكم وعلى
غيركم الحترام والتعظيم للسبيل التي نصبها الّله لعباده ليسلكوها إلى
مرضاته ودار كرامته ،ورحمهم بها أعظم رحمة ،وتصدون لنصرتها والدعوة
إليها والذب عنها ،ل أن تكونوا أنتم قطاع طريقها ،الصادين الناس عنها،
فإن هذا كفر لنعمة الّله ومحادة لّله ،وجعل أقوم الطرق وأعدلها مائلة،
وتشنعون على من سلكها.
م { أي :نماكم بما ُ َ َ
م قِليل فكث َّرك ْ َ } َواذ ْك ُُروا { نعمة الّله عليكم } إ ِذ ْ كن ْت ُ ْ
ُ
أنعم عليكم من الزوجات والنسل ،والصحة ،وأنه ما ابتلكم بوباء أو
أمراض من المراض المقللة لكم ،ول سلط عليكم عدوا يجتاحكم ول
فرقكم في الرض ،بل أنعم عليكم باجتماعكم ،وإدرار الرزاق وكثرة
النسل.
ن { فإنكم ل تجدون في جموعهم إل دي َ س ِ ف ِ م ْ ْ
ة ال ُ عاقِب َ ُ ن َ َ
ف كا َ َ ُ
} َوان ْظُروا كي ْ َ
الشتات ،ول في ربوعهم إل الوحشة والنبتات ولم يورثوا ذكرا حسنا ،بل
أتبعوا في هذه الدنيا لعنة ،ويوم القيامة أشد خزيا وفضيحة.
ُ
مُنوا { وهم م ي ُؤْ ِ ة لَ ْف ٌطائ ِ َ ت ب ِهِ وَ َ سل ْ ُذي أْر ِ مُنوا ِبال ّ ِ مآ َ من ْك ُ ْ ة ِ ف ٌطائ ِ َ ن َ كا َن َ } وَإ ِ ْ
ن{ مي َحاك ِ ِ خي ُْر ال ْ َه ب َي ْن ََنا وَهُوَ َ م الل ّ ُ حك ُ َ حّتى ي َ ْ صب ُِروا َ الجمهور منهمَ } .فا ْ
فينصر المحق ،ويوقع العقوبة على المبطل.
__________
) (1في ب :أورد اليات كاملة.
) (1/296