You are on page 1of 981

‫الكتاب ‪ :‬تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلم المنان‬

‫المؤلف ‪ :‬عبد الرحمن بن ناصر بن السعدي‬


‫المحقق ‪ :‬عبد الرحمن بن معل اللويحق‬
‫الناشر ‪ :‬مؤسسة الرسالة‬
‫الطبعة ‪ :‬الولى ‪1420‬هـ ‪ 2000-‬م‬
‫عدد الجزاء ‪1 :‬‬
‫مصدر الكتاب ‪ :‬موقع مجمع الملك فهد لطباعة المصحف‬
‫الشريف‬
‫‪www.qurancomplex.com‬‬
‫] ترقيم الكتاب موافق للمطبوع ‪ ،‬والصفحات مذيلة بحواشي‬
‫المحقق [‬

‫مقدمة أبناء المؤلف‬


‫بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫الحمد لله وحده‪ ،‬والصلة والسلم على من ل نبي بعده أما بعد‪:‬‬
‫ن به على والدنا الشيخ‪ :‬عبد الرحمن بن‬ ‫فإن من نعم الله ‪-‬عز وجل‪ -‬ما م ّ‬
‫ناصر السعدي من تأليف تفسيره المعروف بـ )تيسير الكريم الرحمن في‬
‫تفسير كلم المنان( فقد كتب الله لهذا التفسير القبول فانتفع به الجم‬
‫ت عديدة أولها‪ :‬طبعة المكتبة السلفية‬ ‫الغفير من الّناس فطبع مرا ٍ‬
‫ومطبعتها لمحب الدين الخطيب ‪-‬رحمه الله‪ -‬أعقبتها طبعة المكتبة‬
‫السعيدية بمراجعة وتصحيح‪ :‬محمد زهري النجار‪ ،‬ولكن كثيرا من العلماء‬
‫وطلبة العلم لحظوا على هاتين الطبعتين ‪-‬خاصة طبعة النجار‪ -‬ملحظات‬
‫عديدة‪ ،‬جرت عليها الطبعات اللحقة جميعها‪ ،‬وقد تبين صدق هذه‬
‫الملحظات وظهرت أضعافها عند مراجعة التفسير على نسختيه‬
‫المخطوطتين‪ ،‬فبان ما في المطبوع من الخطاء والنقص والزيادة ‪.‬‬
‫ولقد علمنا جهد د‪ :‬عبد الرحمن بن معل اللويحق ‪-‬الستاذ المساعد في‬
‫كلية الشريعة بالرياض‪ -‬من تصحيح تفسير والدنا‪ ،‬ومقابلته على النسختين‬
‫الخطيتين مع إخراجه في مجلد واحد على هامش المصحف‪ ،‬فرأينا أن هذا‬
‫العمل قد سلم من عوار العمال السابقة فتميز عنها بطباعة التفسير‬
‫على النسخة التي بخط الوالد ‪-‬رحمه الله‪ -‬ومراجعته على النسخة الخطية‬
‫التي اعتمدتها المطبعة السلفية‪ ،‬فصار التفسير بهذا أقرب ما يكون لما‬
‫أراده مؤلفه ‪-‬رحمه الله‪ -‬فلهذه العتبارات فإننا نعتمد هذه الطبعة بتحقيق‬
‫ومقابلة عبد الرحمن بن معل اللويحق‪ ،‬ونعدها الطبعة التي يجب أن تكون‬
‫أصل لغيرها من الطبعات اللحقة‪ ،‬ونأمل أن تكف المطابع ودور النشر عن‬
‫إعادة طباعة الطبعات السابقة لما فيها من أخطاء تتبين بقراءة مقدمة‬
‫هذا العمل المبارك‪.‬‬
‫مع دعائنا الله ‪-‬عز وجل‪ -‬أن يغفر للوالد الشيخ‪ :‬عبد الرحمن بن ناصر‬
‫السعدي‪ ،‬وأن يجزل له الجر والمثوبة وصلى الله على نبينا محمد وآله‬
‫وصحبه وسلم‪.‬‬
‫عن أبناء المؤلف ‪-‬رحمه الله‪-‬‬
‫مساعد العبد بن السعدي‬
‫محمد العبد الرحمن الناصر السعدي‬
‫أحمد العبد الرحمن الناصر السعدي‬
‫‪ 1420/ 14/3‬هـ‬

‫) ‪(1/5‬‬

‫مقدمة صاحب الفضيلة الشيخ‪ :‬عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل‬


‫الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا‪ .‬وأشهد أن ل‬
‫إله إل الله وحده ل شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله‬
‫عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫فإن الله بحكمته ورحمته أنزل كتابه تبيانا لكل شيء‪ ،‬وجعله هدى وبرهانا‬
‫سْرَنا‬ ‫لهذه المة‪ ،‬ويسره للذكر والتلوة والهداية بجميع أنواعها } وَل َ َ‬
‫قد ْ ي َ ّ‬
‫مد ّك ِرٍ { أنزله بلسان عربي مبين‪ ،‬وتكفل بحفظه‬ ‫ن ُ‬
‫م ْ‬ ‫ن ِللذ ّك ْرِ فَهَ ْ‬
‫ل ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫قْرآ َ‬
‫وإبلغه لجميع البشر‪ ،‬وقيض له من العلماء من يفسرونه‪ ،‬ويبلغونه للناس‬
‫ألفاظه ومعانيه‪ ،‬لتتم بذلك الهداية وتقوم به الحجة‪ .‬وقد أكثر العلماء من‬
‫التأليف في تفسير القرآن العظيم كل بما أوتي من علم‪ ،‬فمنهم من يفسر‬
‫القرآن بالقرآن‪ ،‬ومنهم من يفسره بالخبار والثار‪ ،‬ومنهم من يفسره من‬
‫حيث اللغة العربية بأنواعها‪ ،‬ومنهم من يعتني بآيات الحكام إلى غير ذلك‪.‬‬
‫وقد كان لشيخنا العلمة الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ‪ -‬رحمه الله‬
‫‪ -‬من ذلك حظ وافر وذلك بتفسيره المسمى‪) :‬تيسير الكريم الرحمن في‬
‫تفسير كلم المنان( حيث جاء هذا التفسير سهل العبارة‪ ،‬واضح الشارة‪،‬‬
‫وصاغه على نمط بديع بعبارات قريبة ل خفاء فيها ول غموض‪ ،‬فهو يعتني‬
‫بإيضاح المعنى المقصود من الية بكلم مختصر مفيد‪ ،‬مستوعب لجميع ما‬
‫تضمنته الية من معنى أو حكم سواء من منطوقها أو مفهومها‪ ،‬دون إطالة‬
‫أو استطراد أو ذكر قصص أو إسرائيليات‪ ،‬أو حكاية أقوال تخرج عن‬
‫المقصود‪ ،‬أو ذكر أنواع العراب إل في النادر الذي يتوقف عليه المعنى‪،‬‬
‫بل يركز على المعنى المقصود من الية بعبارة واضحة يفهمها كل من‬
‫يقرؤها مهما كان مستواه العلمي فهو في الحقيقة سهل ممتنع يفهم معناه‬
‫من مجرد تلوة لفظه‪ ،‬وقد اهتم بترسيخ العقيدة السلفية‪ ،‬والتوجه إلى‬
‫الله‪ ،‬واستنباط الحكام الشرعية‪ ،‬والقواعد الصولية‪ ،‬والفوائد الفقهية إلى‬
‫غير ذلك من الفوائد الخرى التي ل توجد في غير تفسيره مع اهتمامه‬
‫بتفسير آيات الصفات بمقتضى عقيدة السلف خلفا لما يؤولها بعض‬
‫المفسرين‪.‬‬
‫وقد من الله علي فسمعت منه بعض تفسيره شفهيا في حلقات الدروس‬
‫في مسجد الجامع بعنيزة‪ ،‬كما أنني ممن أشار عليه بطبعه فطبع الجزء‬
‫الخامس فقط في حياته عام ‪ 1375‬هـ في المطبعة السلفية بمصر‪ ،‬وبعد‬
‫ذلك تشاورنا في طبع بقيته‪ ،‬وساهمت في ذلك أيام كنت قاضيا في عنيزة‬
‫فطبع باقيه بعد وفاته في عامي ‪ 76‬و ‪ ،77‬وبعد تمام طبعه تداوله الناس‬
‫بالقراءة والتدريس‪ ،‬ودرسناه لخواننا وأبنائنا الطلب وحصل بذلك خير‬
‫كثير وقرأه أئمة المساجد على جماعاتهم لوضوح عباراته‪ .‬وقد طبع بعد‬
‫ذلك طبعات أخرى ل يخلو كل منها من ملحظة أو مؤاخذة‪.‬‬
‫ولما صارت طبعاته بهذه المثابة مع حاجة الناس إليه سمت همة ابننا‬
‫الشيخ الفاضل‪ :‬عبد الرحمن بن معل اللويحق الستاذ بكلية الشريعة‬
‫بجامعة المام محمد بن سعود السلمية إلى طبعه على هامش المصحف‬
‫الموجه كل جزء )‪ (20‬صفحة مراعيا في كل صفحة وضع ما يتعلق‬
‫بتفسيرها‪ .‬وقد عرض علي النماذج الولى لهذه الطبعة فأعجبتني‪،‬‬
‫وسررت بها جدا مؤمل أن تكون هذه الطبعة خير معين على فهم كتاب‬
‫الله تعالى‪ ،‬والعتناء به تلوة وحفظا وفهما‪ ،‬لنه بهذا الصنيع يقرب‬
‫الستفادة لتالي القرآن لسهولة‬

‫) ‪(1/9‬‬

‫التناول وسرعة الرجوع إلى تفسير الية من نفس الصفحة بدل من‬
‫الرجوع إليها من كتب التفاسير البعيدة‪ .‬كما أنه سيعتني بتصحيح الصل‬
‫وجودة الطبع‪ ،‬فأسأل الله أن يشكر للبن الشيخ عبد الرحمن بن معل‬
‫اللويحق هذا الصنيع المبارك وأن يجزيه أفضل الجزاء وأن ينفع بهذه‬
‫الطبعة كما نفع بسابقاتها وأن يجزي كل من ساهم في إخراج هذا‬
‫المشروع النافع أفضل الجزاء وأن يتغمد الجميع ومؤلف التفسير برحمته‬
‫إنه جواد كريم وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم‪ .‬حرر في‬
‫‪ 1416\9\27‬هـ‬
‫وكتبه الفقير إلى الله‬
‫عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل‬
‫رئيس الهيئة الدائمة بمجلس القضاء العلى سابقا‬
‫وعضو بمجلس القضاء العلى )متقاعد(‬

‫) ‪(1/10‬‬

‫مقدمة صاحب الفضيلة الشيخ‪ :‬محمد بن صالح العثيمين‬


‫الحمد لله رب العالمين والصلة والسلم على نبينا محمد وعلى آله‬
‫وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين‪.‬‬
‫أما بعد‪ :‬فإن تفسير شيخنا عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله‬
‫تعالى المسمى )تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلم المنان( من أحسن‬
‫التفاسير حيث كان له ميزات كثيرة‪:‬‬
‫منها سهولة العبارة ووضوحها حيث يفهمها الراسخ في العلم ومن دونه‪.‬‬
‫ومنها تجنب الحشو والتطويل الذي ل فائدة منه إل إضاعة وقت القارئ‬
‫وتبلبل فكره‪.‬‬
‫ومنها تجنب ذكر الخلف إل أن يكون الخلف قويا تدعو الحاجة إلى ذكره‬
‫وهذه ميزة مهمة بالنسبة للقارئ حتى يثبت فهمه على شيء واحد‪.‬‬
‫ومنها السير على منهج السلف في آيات الصفات فل تحريف ول تأويل‬
‫يخالف مراد الله بكلمه فهو عمدة في تقرير العقيدة‪.‬‬
‫ومنها دقة الستنباط فيما تدل عليه اليات من الفوائد والحكام والحكم‬
‫وهذا يظهر جليا في بعض اليات كآية الوضوء في سورة المائدة حيث‬
‫استنبط منها خمسين حكما وكما في قصة داود وسليمان في سورة ص‪.‬‬
‫ومنها أنه كتاب تفسير وتربية على الخلق الفاضلة كما يتبين في تفسير‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن‬‫ض عَ ِ‬ ‫مْر ِبال ْعُْر ِ‬
‫ف وَأعْرِ ْ‬ ‫خذِ ال ْعَ ْ‬
‫فوَ وَأ ُ‬ ‫قوله تعالى في سورة العراف } ُ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫ال ْ َ‬
‫جاهِِلي َ‬
‫ومن أجل هذا أشير على كل مريد لقتناء كتب التفسير أن ل تخلو مكتبته‬
‫من هذا التفسير القيم‪.‬‬
‫وأسأل الله تعالى أن ينفع به مؤلفه وقارئه إنه كريم جواد وصلى الله على‬
‫نبينا محمد وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان‪ .‬كتبه محمد الصالح‬
‫العثيمين‬
‫في ‪ /15‬رمضان ‪ 1416‬هـ‬

‫) ‪(1/11‬‬

‫مقدمة المحقق‬
‫الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ بالله من شرور أنفسنا‬
‫وسيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده الله فل مضل له‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له‪،‬‬
‫وأشهد أن ل إله إل الله وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدا عبده‬
‫ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫فإن إنزال القرآن الكريم على هذه المة منة عظمى؛ لنه سبيل الهداية‪،‬‬
‫ْ‬
‫ع‬
‫ن ات ّب َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫هدىً فَ َ‬ ‫مّني ُ‬ ‫م ِ‬‫ما ي َأت ِي َن ّك ُ ْ‬ ‫وطريق السلمة من الضلل والغواية‪ } :‬فَإ ِ ّ‬
‫ضْنكا ً‬ ‫َ‬ ‫قى وم َ‬
‫ة َ‬ ‫ش ً‬‫مِعي َ‬‫ه َ‬ ‫نل ُ‬ ‫ري فَإ ِ ّ‬ ‫ن ذِك ْ ِ‬ ‫ض عَ ْ‬ ‫ن أعَْر َ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ش َ‬
‫َ‬
‫ل َول ي َ ْ‬ ‫ض ّ‬‫دايَ َفل ي َ ِ‬ ‫هُ َ‬
‫مى {‬ ‫مةِ أعْ َ‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫ح ُ‬
‫شُرهُ ي َوْ َ‬ ‫وَن َ ْ‬
‫ولكن الستفادة الحقة من هذا الكتاب الكريم تكون بدوام الصلة به علما‬
‫ه‬
‫ك ل ِي َد ّب ُّروا آَيات ِ ِ‬ ‫مَباَر ٌ‬ ‫ك ُ‬ ‫ب َأنزل َْناهُ إ ِل َي ْ َ‬
‫وعمل تلوة وتدبرا‪ ،‬وفهما‪ } :‬ك َِتا ٌ‬
‫ُ‬
‫ب { ومن سبل ذلك التدبر‪ ،‬والفهم‪ :‬النظر فيما كتب‬ ‫وَل ِي َت َذ َك َّر أوُلو الل َْبا ِ‬
‫أهل العلم في تفسير القرآن العظيم؛ فإن من كمال حفظ الله عز وجل‬
‫لهذا الذكر الحكيم أن قيض له جهابذة فهموا مراد الله عن الله وعن‬
‫رسوله صلى الله عليه وسلم فألفوا في ذلك كتبا بسطوا فيها ألفاظ‬
‫القرآن‪ ،‬وأبانوا ما يعسر فهمه‪ ،‬وفصلوا ما جاء فيه من القواعد والكليات‪،‬‬
‫ودفعوا التعارضات المتوهمة‪ ،‬وبينوا مراجع الضمائر‪ ،‬وعينوا المعاني‬
‫المرادة إذا احتمل الكلم أوجها متعددة وكانوا طرائق قددا في عنايتهم‬
‫بهذا الكتاب العظيم حتى جاء شيخ مشايخنا العلمة‪ :‬عبد الرحمن بن ناصر‬
‫بن عبد الله بن سعدي رحمه الله فجعل جل عنايته بالمعاني التي هي‬
‫المراد العظم‪ ،‬فكان كتابه فتحا في هذا العلم؛ إذ أوقف القارئ على‬
‫المراد‪ ،‬وأعانه على تدبر التنزيل‪ ،‬دون أن يقف به على المشغلت‬
‫الصارفات عن ذلك كالبحوث اللغوية الصرفة‪ ،‬والسرائيليات ونحوها‪،‬‬
‫وليس ذلك عن قصور إذ ل يبلغ هذا المبلغ من القدرة على تسهيل‬
‫المعاني‪ ،‬وبيان المراد إل من ملك من علوم اللة‪ ،‬وسعة الطلع على كتب‬
‫التفسير ما يؤهله للقيام بهذه المهمة العظيمة‪.‬‬
‫ولقد من الله علي بالعناية بهذا التفسير‪ ،‬ومحبة صاحبه رحمه الله وقراءة‬
‫التفسير وإقرائه‪ ،‬والنصح بقراءته‪ ،‬ومن الله علي بالعناية بطبعه في مجلد‬
‫واحد يهدم الحواجز النفسية الصادة عن قراءته في مجلداته السبعة التي‬
‫كان عليها في أشهر طبعاته السابقة‪ ،‬وكان الهم منصرفا إلى ذلك‪ ،‬ولم‬
‫يكن الذهن ملتفتا إلى طبعات الكتاب وما فيها من أخطاء حتى هاتفني‬
‫بعض أفاضل طلبة العلم من المشايخ الكرام كان منهم‪ :‬فضيلة الدكتور‪:‬‬
‫عبد الرزاق بن الشيخ عبد المحسن العباد البدر‪ ،‬وفضيلة الدكتور‪ :‬خالد بن‬
‫عثمان السبت‪ ،‬حيث جرت مهاتفات معهما ومقابلة للشيخ‪ :‬عبد الرزاق‬
‫كانت فاتحة خير للهتمام بالتفسير وبنسخه المخطوطة‪ ،‬وطبعاته فتبين أن‬
‫في الطبعات عوارا كثيرا‪ ،‬وأن التفسير لم يخرج حتى الن على الصورة‬
‫التي تركها الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬وبيان ذلك يحتاج إلى تفصيل تأريخي لكتابة‬
‫الشيخ لهذا التفسير‪ ،‬وما وقع من طباعته‪ ،‬فرأيت أن أعرض المر مفصل‬
‫في هذه المقدمة حتى يستبين المر للقارئ الكريم‪ ،‬ويرى ما يمكن أن‬
‫يفعله الكتبيون والناشرون في الكتب‪.‬‬
‫تأليف الشيخ للتفسير‪:‬‬
‫بدأ الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬تأليفه لهذا التفسير المبارك في عام ‪ 1342‬هـ‬
‫وأنهاه في عام ‪ 1344‬هـ‪.‬‬
‫وبهذا يظهر أنه قد بدأه وله من العمر خمسة وثلثون عاما وأتمه وله من‬
‫العمر سبعة وثلثون عاما‪.‬‬

‫) ‪(1/13‬‬

‫والذي يقرأ التفسير يحسب أنه ل يمكن لمن كان في هذا السن أن يكتبه‬
‫إذ يمثل كتابة عالم ناضج متمكن من العلم وآلته‪ ،‬واسع الطلع و } ذ َل ِ َ‬
‫ك‬
‫م {‪.‬‬ ‫سعٌ عَِلي ٌ‬ ‫شاُء َوالل ّ ُ‬
‫ه َوا ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫ل الل ّهِ ي ُؤِْتيهِ َ‬
‫م ْ‬ ‫ض ُ‬‫فَ ْ‬
‫وقد كتب نسخة واحدة ثم أمر من ينسخ له نسخة أخرى‪ ،‬وبالتتبع والسؤال‬
‫يبدو لي أنه لم ينسخ من التفسير إل هاتان النسختان‪ :‬نسخة الشيخ ‪-‬رحمه‬
‫الله‪ -‬والنسخة التي أمر النساخ بنسخها‪.‬‬
‫وابتغاء توضيح المر أبين تفاصيل متعلقة بهاتين النسختين مع وصف لهما‪:‬‬
‫النسخة الولى‪:‬‬
‫هذه النسخة هي التي كانت في حوزة الشيخ وملكه‪ ،‬وهي في جملتها كما‬
‫سيظهر بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬وهذا وصف لها‪:‬‬
‫تتكون هذه النسخة من تسعة أجزاء‪ ،‬جعلها الشيخ رحمه الله في تسعة‬
‫مجلدات‪:‬‬
‫المجلد الول‪:‬‬
‫وقد كتب على غلفه )المجلد الول من تيسير الكريم الرحمن في تفسير‬
‫كلم المنان‪ ،‬من منن الله على عبده‪ ،‬وابن عبده‪ ،‬وابن أمته‪ :‬عبد الرحمن‬
‫بن ناصر بن عبد الله بن سعدي( )‪ (1‬وفوقها بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪-‬‬
‫ن‬
‫قْرآ َ‬‫سْرَنا ال ْ ُ‬ ‫وبحرف صغير )هذه التسمية مأخوذة من قوله‪ } :‬وَل َ َ‬
‫قد ْ ي َ ّ‬
‫ن‬‫س َ‬‫ح َ‬
‫َ‬
‫حقّ وَأ ْ‬ ‫ك ِبال ْ َ‬
‫جئ َْنا َ‬‫ل ِإل ِ‬ ‫مث َ ٍ‬ ‫مد ّك ِرٍ { وقوله‪َ } :‬ول ي َأ ُْتون َ َ‬
‫ك بِ َ‬ ‫ن ُ‬‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫ِللذ ّك ْرِ فَهَ ْ‬
‫سيًرا { وفي وسط الصفحة وبخط الشيخ أيضا‪" :‬شرعت في هذا‬ ‫ف ِ‬ ‫تَ ْ‬
‫التفسير المبارك غرة شهر ) ( )‪ (2‬سنة ‪ 1342‬هـ أرجو الله أن يتمه‬
‫بنعمته "‪.‬‬
‫وهذا المجلد بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬وعليه هوامش وتعديلت بخطه أيضا‪،‬‬
‫ويقع في )‪ (150‬صفحة‪ ،‬في كل صفحة )‪ (30‬سطرا تقريبا أوله المقدمة‪،‬‬
‫ما‬‫ت وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫ثم تفسير الفاتحة إلى تفسير قوله تعالى‪ } :‬وَل ِل ّهِ َ‬
‫م { الية )‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬‫شاُء َوالل ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬ ‫شاُء وَي ُعَذ ّ ُ‬
‫ب َ‬ ‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬‫فُر ل ِ َ‬‫ض ي َغْ ِ‬ ‫ِفي الْر ِ‬
‫‪ (129‬من سورة آل عمران ‪.‬‬
‫المجلد الثاني‪:‬‬
‫وهو بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬ويقع في )‪ (192‬صفحة في كل صفحة )‪(30‬‬
‫سطرا تقريبا‪ ،‬أوله تفسير الية )‪ (130‬من سورة آل عمران وهي قوله‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ه ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م‬ ‫قوا الل ّ َ‬‫ة َوات ّ ُ‬‫ف ً‬
‫ضاعَ َ‬‫م َ‬‫ضَعاًفا ُ‬ ‫مُنوا ل ت َأك ُُلوا الّرَبا أ ْ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫تعالى‪َ } :‬ياأي َّها ال ّ ِ‬
‫ن { وآخره‪ :‬آخر تفسير سورة النعام‪.‬‬ ‫حو َ‬
‫فل ِ ُ‬
‫تُ ْ‬
‫المجلد الثالث‪:‬‬
‫وهو بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬ويقع في )‪ (214‬صفحة في كل صفحة )‪(25‬‬
‫سطرا تقريبا أوله أول تفسير سورة العراف‪ ،‬وآخره آخر تفسير سورة‬
‫هود‪.‬‬
‫المجلد الرابع‪:‬‬
‫وهو بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬ويقع في )‪ (129‬صفحة في كل صفحة )‪(26‬‬
‫سطرا تقريبا أوله أول تفسير سورة يوسف‪ ،‬وآخره آخر تفسير سورة‬
‫السراء‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬يلحظ أن هذه العبارة كتبت على طرة كل مجلد بعد ذكر رقمه‪ ،‬مع‬
‫اختلف يسير في بعض اللفاظ‪ ،‬ففي طرة المجلد الثاني جاءت العبارة‬
‫هكذا‪) :‬المجلد الثاني من تيسير الكريم المنان في تفسير كلم الرحمن‬
‫لجامعه‪ :‬عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن سعدي غفر الله له ولوالديه‬
‫وللمسلمين‪ ..‬آمين( وفي المجلد الثالث‪) :‬المجلد الثالث من تيسير‬
‫الرحمن في تفسير القرآن لجامعة الفقير إلى الله‪ :‬عبد الرحمن بن ناصر‬
‫بن سعدي(‪.‬‬
‫)‪ (2‬الكلمة غير واضحة في الصل والذي يبدو أنه شهر صفر أو محرم لن‬
‫الشيخ أتم هذا الجزء في نهاية شهر ربيع الول‪.‬‬

‫) ‪(1/14‬‬

‫المجلد الخامس‪:‬‬
‫وهو بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬ويقع في )‪ (229‬صفحة في كل صفحة )‪(28‬‬
‫سطرا تقريبا‪ ،‬أوله تفسير سورة الكهف وآخره آخر تفسير سورة النمل‪.‬‬
‫المجلد السادس‪:‬‬
‫وهذا المجلد بخط الشيخ‪ :‬محمد بن منصور بن إبراهيم بن زامل ‪-‬رحمه‬
‫الله‪ -‬أتم كتابته في ‪ 24‬رجب سنة )‪ 1345‬هـ( وهو خط جميل‪ ،‬ولكنه كثير‬
‫الخطاء‪ ،‬ويفصل بين جزئي الكلمة في سطرين‪ ،‬ويكثر هذا منه مما يربك‬
‫القارئ‪.‬‬
‫وعلى هذا الجزء هوامش وتعديلت بخط الشيخ عبد الرحمن بن سعدي‬
‫‪-‬رحمه الله‪ -‬ويقع في )‪ (142‬صفحة في كل صفحة )‪ (29‬سطرا تقريبا‪،‬‬
‫أوله تفسير سورة القصص‪ ،‬وآخره آخر تفسير سورة الصافات‪.‬‬
‫المجلد السابع‪:‬‬
‫وهو بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬ويقع في )‪ (153‬صفحة في كل صفحة )‪(28‬‬
‫سطرا تقريبا‪ ،‬أوله‪ :‬تفسير سورة )ص( وآخره‪ :‬آخر تفسير سورة الفتح‪.‬‬
‫المجلد الثامن‪:‬‬
‫وهو بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬ويقع في )‪ (146‬صفحة في كل صفحة )‪(29‬‬
‫سطرا‪ ،‬أوله أول تفسير سورة الحجرات‪ ،‬وآخره آخر تفسير سورة‬
‫القيامة‪.‬‬
‫المجلد التاسع‪:‬‬
‫وهو بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬ويقع في )‪ (50‬صفحة في كل صفحة )‪(30‬‬
‫سطرا تقريبا‪ ،‬أوله تفسير سورة النسان‪ ،‬وآخره آخر تفسير سورة الناس‪.‬‬
‫النسخة الثانية‪:‬‬
‫المجلد الول‪:‬‬
‫وقد كتب عليه‪) :‬المجلد الول من تيسير الكريم المنان في تفسير القرآن‬
‫لمعلقه الفقير إلى الله عبد الرحمن بن ناصر السعدي غفر الله له‬
‫ولوالديه وجميع المسلمين( وهكذا كتبت هذه العبارة أو قريبا منها باختلف‬
‫يسير على طرة كل مجلد‪.‬‬
‫وفي وسط الصفحة ما يلي‪) :‬تنبيه‪ :‬اعلم أن طريقتي في هذا التفسير أني‬
‫أذكر عند كل آية ما يحضرني من معانيها‪ ،‬ول أكتفي بذكر ما يتعلق‬
‫بالمواضع السابقة عن ذكر ما تعلق بالمواضع اللحقة؛ لن الله وصف هذا‬
‫الكتاب أنه "مثاني " تثنى فيه الخبار‪ ،‬والقصص‪ ،‬والحكام‪ ،‬وجميع‬
‫المواضيع النافعة‪ ،‬لحكم عظيمة‪ ،‬وأمر بتدبره جميعه؛ لما في ذلك من‬
‫زيادة العلوم والمعارف‪ ،‬وصلح الظاهر والباطن‪ ،‬وإصلح المور كلها(‪.‬‬
‫وكثير من هذا المجلد بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬إل الصفحات ما بين‬
‫الصفحة )‪ (36‬والصفحة )‪ (96‬فهي بخط مغاير لخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪-‬‬
‫وبداية المجلد ونهايته كالنسخة الولى‪.‬‬
‫المجلد الثاني‪:‬‬
‫" وهو بخط الشيخ علي الحسن العلي الحسن البريكان‪ ،‬وبداية المجلد‬
‫ونهايته مثل النسخة الولى‪ ،‬وللشيخ‬

‫) ‪(1/15‬‬

‫عبد الرحمن السعدي رحمه الله عليه تصويبات مما يدل على أنه قرأه‬
‫ويقع في )‪ (177‬صفحة في كل صفحة )‪ (31‬سطرا تقريبا‪.‬‬
‫المجلد الثالث‪:‬‬
‫وقد نسخ هذا المجلد ناسخان بدأ الول بنسخ اثني عشرة صفحة ولكن‬
‫خطه سقيم‪ ،‬وأخطاءه كثيرة ولذلك كتب الشيخ رحمه الله بخطه على‬
‫الصفحة الثانية‪) :‬الصحائف الولى من هذا الجزء خطها سقيم‪ ،‬المل‬
‫التأني فيها عند تصحيحها( ثم نسخت الصحائف التالية إلى آخر الجزء بخط‬
‫مغاير أمثل من الخط الول‪ ،‬ولم يكتب على هذا الجزء اسما الناسخين‪.‬‬
‫ويقع هذا الجزء في )‪ (152‬صفحة كل صفحة )‪ (31‬سطرا‪ .‬وبداية المجلد‬
‫ونهايته كمثيله في النسخة الولى‪.‬‬
‫المجلد الرابع‪:‬‬
‫وهذا الجزء بخط الشيخ سليمان الحمد البسام وللشيخ عبد الرحمن‬
‫السعدي عليه بعض تصويبات بخط يده رحمه الله ويقع في )‪(103‬‬
‫صفحات في كل صفحة )‪ (28‬سطرا وبداية المجلد ونهايته كما في‬
‫النسخة الولى‪.‬‬
‫المجلد الخامس‪:‬‬
‫وهذا المجلد هو الذي بعث به الشيخ رحمه الله للطباعة أول المر‪.‬‬
‫وكتب الشيخ بخط يده المقدمة التي طبعت مع هذا الجزء أول ما طبع‪،‬‬
‫وهي مقدمة أثبتها في هامش هذه الطبعة عند أول تفسير سورة الكهف‪،‬‬
‫وهذا المجلد نقل عن خط الشيخ المؤلف رحمه الله وليس عليه اسم‬
‫كاتبه‪ ،‬وقد ألحق الشيخ رحمه الله به أصول من أصول التفسير‪ ،‬وتفسير‬
‫ألفاظ عامة يكثر في القرآن ورودها ويحتاج إلى معرفتها( وهي بخط‬
‫الشيخ رحمه الله وقد جعلتها ملحقة بهذه الطبعة في آخر التفسير‪.‬‬
‫وفي آخر الجزء فهرس لمحتوياته‪ ،‬ثم نقل للخطاب الموجه من الشيخ‬
‫رحمه الله إلى الشيخ محمد نصيف رحمه الله وقد أرخ في ‪30/2/1374‬‬
‫هـ ونص الخطاب تجده في هذه المقدمة وعدد صفحات هذا المجلد )‬
‫‪ (214‬صفحة في كل صفحة من صفحات هذا الجزء )‪ (30‬سطرا‪ ،‬أوله‬
‫تفسير سورة الكهف‪ ،‬وآخره آخر تفسير سورة النمل ثم بعدها أصول من‬
‫أصول التفسير وتفسير السماء الحسنى‪.‬‬
‫المجلد السادس‪:‬‬
‫وهذا المجلد بخط الشيخ رحمه الله وبدايته من أول سورة القصص ونهايته‬
‫بنهاية تفسير سورة الصافات‪ .‬وعدد صفحات هذا الجزء )‪ (154‬صفحة في‬
‫كل صفحة ما بين )‪ (28 -25‬سطرا وبدايته ونهايته كمثيله في النسخة‬
‫الخرى‪.‬‬
‫المجلد السابع‪:‬‬
‫وهو بخط الشيخ‪ :‬سليمان بن حمد العبد الله البسام رحمه الله وعدد‬
‫صفحات هذا الجزء )‪ (122‬صفحة في كل صفحة )‪ (22‬سطرا‪ ،‬وبداية‬
‫الجزء ونهايته كمثيله في النسخة الخرى‪.‬‬
‫المجلد الثامن‪:‬‬
‫وهو بخط الشيخ رحمه الله وعدد صفحات هذا الجزء )‪ (201‬صفحة‪.‬‬
‫ويبدأ من أول تفسير سورة الحجرات وينتهي بتفسير سورة الناس‪.‬‬
‫وبهذا فإن هذه النسخة تحتوي على ثمانية أجزاء بينما النسخة الخرى على‬
‫تسعة أجزاء‪.‬‬

‫) ‪(1/16‬‬

‫هذا عن نسخ التفسير المخطوطة وأما طباعته فقد كانت فاتحتها طباعة‬
‫الجزء الخامس منه‪ ،‬إذ بعث الشيخ رحمه الله إلى الشيخ محمد نصيف‬
‫رحمه الله برسالة مدونة في خاتمة المجلد الخامس من النسخة )ب(‬
‫مؤرخة في ‪ 30/2/1374‬هـ‪ .‬وقد نقلت من خط الشيخ بخط مغاير هذا‬
‫نصها‪ :‬بسم الله الرحمن الرحيم‪ ،‬حضرة محترم المقام الشيخ محمد‬
‫نصيف حفظه الله آمين‪.‬‬
‫السلم عليكم ورحمة الله وبركاته‪ .‬سبق جواب كتابكم المل وصوله‪ ،‬ثم‬
‫إننا نكلفكم حيث أرسلت لكم تفسيرنا الكبير المجلد الخامس منه وقع‬
‫النظر على القتصار على طبعه فجعلنا له مقدمة وختمناه بأصول وكليات‬
‫من أصول وكليات التفسير‪ ،‬ونريد أن يطبع منه خمسة آلف نسخة‪،‬‬
‫وأحببت أن يكون الختيار لجنابكم في اختيار من يتولى طبعه‪ ،‬إما محب‬
‫الدين الخطيب أو الشيخ حامد أو من ترجح وتحثه على العناية التامة فيه‪،‬‬
‫ولو زاد علينا المصرف‪ ،‬وقد وصيت الشيخ‪ :‬عبد الله المحمد العوهلي‬
‫يسلم لكم كل الذي تطلبون لجل طبعه وأرجو الله أن يثيبكم الثواب‬
‫الجزيل‪ ،‬ويشكر مساعيك ويجزيك عنا أفضل الجزاء فأنت طال عمرك‬
‫عوض النفس في كل شيء والله الموفق والسلم‪ .‬محبك )‪ (1‬عبد‬
‫الرحمن الناصر السعدي وتنبه الطابع على طبع خاتمة‬
‫الصول وكليات التفسير للحاجة الشديدة إليها‬
‫وقد أبان الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬عن مقصوده من إفراد هذا الجزء بالطباعة‬
‫في المقدمة التي كتبها لهذا الجزء )‪ (2‬فقال‪ :‬وقد تكرر علي السؤال من‬
‫كثير من الصحاب في نشر تفسيرنا هذا جميعه وألحوا لما يرونه من‬
‫الفائدة الكبيرة فاعتذرت بأن ذلك يصعب جدا؛ لنه مبسوط‪ ،‬وأيضا في‬
‫هذه الوقات قلت رغبات الناس في الكتب المطولة‪ ،‬لذلك أحببت إجابتهم‬
‫لنشر بعض ما طلبوا وهو القتصار على جزء واحد من أجزاء هذا التفسير‪،‬‬
‫ووقع الختيار على الجزء الوسط من سورة الكهف إلى آخر النمل فما ل‬
‫يحصل جميعه ل يترك جميعه(‪ .‬وقد طبع هذا المجلد عام ‪ 1375‬هـ‪ ،‬ثم‬
‫بعث الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬ببقية أجزاء الكتاب للشيخ محب الدين الخطيب‬
‫‪-‬رحمه الله‪ -‬فأتم طباعة الكتاب كله‪ ،‬فطبع الكتاب في عام ‪ 1376‬هـ‪،‬‬
‫وقبل وفاته بشهر تقريبا بعث إلى شيخنا عبد الله بن عقيل رسالة قال‬
‫فيها‪) :‬التفسير مثل ما ذكرت لك‪ ،‬وصلني منه الجزء الول عدة ملزم من‬
‫زمان‪ ،‬وبعد ذلك ما جاءنا عنه خبر( )‪ (3‬وبعدها بعشرة أيام بعث برسالة‬
‫أخرى قال فيها‪) :‬أفيدكم وصلني ملزم أيضا من الجزء الثاني‪ ،‬وبقية الجزء‬
‫الول من التفسير‪ ،‬ويذكر الشيخ نصيف أنهم إن شاء الله مجتهدون في‬
‫إنجازه‪ ،‬يسر الله ذلك وسهله( )‪ . (4‬وبهذا يتبين أن الشيخ رحمه الله لم‬
‫ير الكتاب كامل ويبدو أنه لم يبد ملحظات على ما طبع منه‪ ،‬إذ توفى بعد‬
‫رسالته السابقة بشهر تقريبا‪.‬‬
‫وتتميز هذه الطبعة أول بالسبق الزمني فإنها أول الطبعات‪ ،‬وهي أصل‬
‫جميع الطبعات السابقة فليس هناك طبعة إل وكان أصلها عائدا إلى هذه‬
‫الطبعة‪ .‬وهي بذلك أسلم من غيرها‪ ،‬وأقل في الخطاء والتصحيفات‬
‫والتحريفات‪ ،‬وهذا ل يعني جودتها‪ ،‬وموافقتها للصل‪ ،‬إذ ثم ملحظ ل بد‬
‫من بيانها‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬تصحفت الكلمة في النسخة إلى‪) :‬محمد(‪ ،‬لن الخطاب فيما يظهر‬
‫منقول عن كتابة الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬فهو بخط مغاير لخط‪.‬‬
‫)‪ (2‬انظر نص المقدمة عند أول تفسير سورة الكهف من هذه الطبعة‪.‬‬
‫)‪ (3‬الجوبة النافعة عن المسائل الواقعة )‪.(296‬‬
‫)‪ (4‬الجوبة النافعة عن المسائل الواقعة )‪.(298‬‬
‫) ‪(1/17‬‬

‫الملحظ الول‪:‬‬
‫التصرف في طريقة الشيخ في تفسير اليات‪ ،‬حيث يعمد الشيخ ‪-‬رحمه‬
‫الله‪ -‬إلى ذكر اليات أحيانا‪ ،‬وأحيانا يقول إلخ القصة‪ ،‬إذا كانت قصة من‬
‫القصص وأحيانا يورد كلما في سياق التفسير ل يقصد به ذكر الية فيغير‬
‫المصححون ذلك فيقومون بإيراد اليات كاملة‪ ،‬ويغيرون كلمه ويشطبون‬
‫في المخطوطة‪ ،‬ويضعون الية أو اليات بدل منه‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك‪:‬‬
‫إن الشيخ رحمه الله أورد قصة قارون هكذا‪) :‬إن قارون كان من قوم‬
‫موسى فبغى عليهم( إلى آخر القصة فشطب المصححون على قوله‪) :‬إلى‬
‫آخر القصة(‪ ،‬وأوردوا اليات كاملة‪ ،‬وهي في هامش النسخة بخط‬
‫المصحح‪.‬‬
‫وكذا عند إيراد قصة لوط في سورة العنكبوت حيث أورد اليات من قوله‬
‫قوْم ِ‬‫صْرِني عََلى ال ْ َ‬ ‫ب ان ْ ُ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫مهِ { إلى قوله‪َ } :‬قا َ‬ ‫قوْ ِ‬ ‫ل لِ َ‬ ‫طا إ ِذ ْ َقا َ‬ ‫تعالى‪ } :‬وَُلو ً‬
‫قوْم ٍ‬ ‫ة لِ َ‬‫ة ب َي ّن َ ً‬‫من َْها آي َ ً‬‫قد ْ ت ََرك َْنا ِ‬‫ن { فأتموا اليات إلى قوله‪ } :‬وَل َ َ‬ ‫دي َ‬
‫س ِ‬ ‫ف ِ‬‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ن { وهي في هامش النسخة بخط المصحح‪.‬‬ ‫قُلو َ‬ ‫ي َعْ ِ‬
‫الملحظ الثاني‪:‬‬
‫التصرف في تقسيم الكتاب‪ ،‬حيث قسم الشيخ التفسير إلى ثمانية أجزاء‬
‫في إحدى النسخ وتسعة في الخرى‪ ،‬وكانت النسخة التي اعتمدت عليها‬
‫المطبعة السلفية في ثمانية أجزاء ينتهي الول منها بنهاية تفسير قوله‬
‫ب‬‫شاُء وَي ُعَذ ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬‫فُر ل ِ َ‬ ‫ض ي َغْ ِ‬
‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫تعالى‪ } :‬وَل ِل ّهِ َ‬
‫م { في سورة آل عمران )‪ (129‬فجعلوا نهاية‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫شاُء َوالل ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫الجزء بنهاية تفسير سورة آل عمران‪ ،‬وكتبوا في نهاية الجزء )تم المجلد‬
‫الول من تيسير الرحيم الرحمن في تفسير القرآن عن نسخة مؤلفه‬
‫العلمة الجليل الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي ويليه المجلد الثاني‬
‫وأوله تفسير سورة النساء‪ ،‬والحمد لله رب العالمين( )‪ (1‬وليس المر كما‬
‫قالوا بل تقسيم النسخة التي اعتمدوها على خلف ما ذكروا‪.‬‬
‫الملحظ الثالث‪:‬‬
‫الزيادات‪ ،‬لقد زاد القائمون على هذه الطبعة في التفسير زيادات وإن‬
‫كانت يسيرة إل أنه لم يتم الشارة إليها ل في المقدمة‪ ،‬ول في مواضع‬
‫الزيادات فمن ذلك‪:‬‬
‫‪ -1‬زيادة رقم الجزء من أجزاء القرآن الكريم قبل بدايته فقبل بداية الجزء‬
‫الثالث كتبوا عنوانا في وسط الصفحة )الجزء الثالث( )‪ (2‬وكذا عند الجزء‬
‫الرابع وليس في النسخة المخطوطة شيء من ذلك‪ ،‬ولم يشيروا إلى‬
‫كونها ليست من كلم الشيخ رحمه الله‪.‬‬
‫‪ -2‬زيادة جملة‪) :‬قوله تعالى( أو‪) :‬قال تعالى( في مواضع كثيرة ومن أمثلة‬
‫ذلك زيادتها في أول سورة النساء مع أن عادة الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬أن يبدأ‬
‫الكلم بذكر اليات المفسرة بعد البسملة )‪. (3‬‬
‫خذ َْنا‬ ‫َ‬
‫‪ -3‬زيادة قوله من ديارهم‪ ،‬وذلك في تفسير قوله تعالى‪ } :‬وَإ ِذ ْ أ َ‬
‫م { الية‪ ،‬حيث‬ ‫ن دَِيارِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫سك ُ ْ‬‫ف َ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬
‫جو َ‬‫خرِ ُ‬‫م َول ت ُ ْ‬ ‫ماَءك ُ ْ‬ ‫ن دِ َ‬‫كو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫س ِ‬ ‫م ل تَ ْ‬ ‫ميَثاقَك ُ ْ‬ ‫ِ‬
‫قال الشيخ‪) :‬ففرض عليهم أن ل يسفك بعضهم دم بعض‪ ،‬ول يخرج‬
‫بعضهم بعضا وإذا وجدوا أسيرا منهم وجب عليهم فداؤه( فزادوا جملة من‬
‫ديارهم فصار النص‬
‫__________‬
‫)‪.(288 /1) (1‬‬
‫)‪.(1/149) (2‬‬
‫)‪ (3‬المخطوطة ب )‪ (23 /2‬وطبعة السلفية )‪.(2/3‬‬

‫) ‪(1/18‬‬

‫هكذا‪) :‬ول يخرج بعضهم بعضا من ديارهم(‪.‬‬


‫‪ -4‬ومن أمثلة ذلك قال رحمه الله‪) :‬أي )و( أرسلنا )إلى مدين( القبيلة‬
‫المعروفة المشهورة )شعيبا( فأمرهم(‪ .‬فعدل النص حتى صار بزياداته‬
‫هكذا‪) :‬أي‪) :‬و(‪ :‬أرسلنا )إلى مدين( القبيلة المعروفة المشهورة أخاهم‬
‫شعيبا الذي أمرهم(‪.‬‬
‫وبعدها بقليل قال الشيخ )فكذبوه( فأخذهم عذاب الله فعدلت فصارت‬
‫)فكذبوه فأخذتهم الرجفة( أي‪ :‬عذاب الله( )‪. (1‬‬
‫وهذا كثير جدا‪ ،‬وبعض التصرف تصرف مقبول في الصل؛ للحاجة إليه‪ ،‬أو‬
‫لخطأ في سياق الكلم‪ ،‬إما بعود الضمير المذكر على مؤنث أو نحو ذلك‪،‬‬
‫وإما بنقص أو نحوه‪ ،‬ولكن هذا التصرف وإن كان مقبول في الصل إل إنه‬
‫لم ينبه عليه‪ ،‬ولم يشر المصحح إلى شيء من التغيير‪.‬‬
‫الملحظ الرابع‪:‬‬
‫التصحيح في بعض الجمل تصحيحا خاطئا ‪-‬بل ظاهر الخطأ‪ -‬ومن ذلك‪:‬‬
‫هُ‬ ‫َ‬
‫ن أهْل ُ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬‫م ْ‬ ‫ك لِ َ‬ ‫‪ -1‬قال الشيخ رحمه الله في تفسير قوله تعالى‪ } :‬ذ َل ِ َ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫حاضري ال ْمسجد ال ْحرام { ) } ل ِمن ل َم يك ُ َ‬
‫حَرام ِ‬ ‫جدِ ال َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬‫ري ال َ‬ ‫ض ِ‬ ‫حا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن أهْل ُ ُ‬
‫َ ْ ْ َ ْ‬ ‫َ ْ ِ ِ َ َ ِ‬ ‫َ ِ ِ‬
‫{ بأن كان عنه مسافة قصر فأكثر‪ ،‬أو بعيدا عنه عرفا‪ ،‬فهذا الذي يجب‬
‫عليه الهدي(‪.‬‬
‫وقد جاء التعديل عجبا من العجب حيث غيرت عنه إلى عند أو كلمة‬
‫)عرفا( إلى )عرفات( فجاء النص هكذا‪) :‬بأن كان عند مسافة قصر فأكثر‬
‫أو بعيدا عند عرفات فهذا الذي يجب عليه الهدي( )‪. (2‬‬
‫وقد تتابعت كل الطبعات مقلدة هذا الخطأ‪.‬‬
‫‪ -2‬ومن التعديل ما يكون بدون مسوغ ظاهر أو بمسوغ من وجهة نظر‬
‫المصحح دون إشارة للتعديل ومثال ذلك‪:‬‬
‫ما‬ ‫م ّ‬‫ب ِ‬ ‫م ِفي َري ْ ٍ‬ ‫ُ‬
‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫قال الشيخ رحمه الله في تفسير قوله تعالى‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫نزل َْنا عََلى عَب ْدَِنا { الية‪ ) ،‬وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم ل يكتب ول يقرأ‬
‫فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله ( غيرت كلمة زعم إلى‪) :‬أخبركم أنه‬
‫من عند الله( )‪. (3‬‬
‫الملحظ الخامس‪:‬‬
‫بعض الخطاء الظاهرة مثل‪:‬‬
‫دود َ الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ح ُ‬‫ن ي َت َعَد ّ ُ‬ ‫م ْ‬‫قال الشيخ رحمه الله في تفسير قوله تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫ن {‪.‬‬
‫مو َ‬ ‫م ال ّ‬
‫ظال ِ ُ‬ ‫فَُأول َئ ِ َ‬
‫ك هُ ُ‬
‫)فالشرك ل يغفره الله إل بالتوبة( هكذا في المخطوطتين وجاء في طبعة‬
‫السلفية )فالشرك ل يغفره الله بالتوبة( )‪ (4‬وهذا خطأ شنيع‪ ،‬وعلى ذلك‬
‫تتابعت الطبعات )‪. (5‬‬
‫وبعد ظهور هذه الطبعة بسنين طبع التفسير طبعة أخرى عن طريق‬
‫المؤسسة السعيدية‪ ،‬التي كلفت الستاذ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬ينظر الطبعة السلفية )‪ ،(43 /6‬والمخطوطة ب )‪.(6/33‬‬
‫)‪ (2‬المخطوطة ب )‪ ،(82‬طبعة السلفية‪.(117 /1) ،‬‬
‫)‪ (3‬انظر ص ‪ 28‬من المخطوط )ب( من الطبعة السلفية )‪.(27 /1‬‬
‫)‪.(138 /1) (4‬‬
‫)‪ (5‬ينظرطبعة النجار )‪.(287 /1‬‬

‫) ‪(1/19‬‬

‫محمد زهري النجار بتصحيح الكتاب‪ ،‬والنجار يوصف بأنه من علماء الزهر‪،‬‬
‫وله بعض العمال الخرى كتصحيحه لكتاب الم للشافعي‪ ،‬وهذه الطبعة‬
‫طبعة تميزت بأنها أضحت الطبعة المعتمدة لسائر طبعات التفسير بعدها‬
‫بل اعتمدت طبعها الرئاسة العامة للفتاء والدعوة والرشاد في المملكة‬
‫العربية السعودية‪ ،‬وقد كان ذلك لحسانهم الظن في المؤسسة‬
‫ومصححها‪ ،‬ولقد تبين لي جملة من الملحظ تظهر عوار تلك الطبعة أذكر‬
‫هنا جملة منها‪:‬‬
‫الملحظ الول‪:‬‬
‫اعتماد هذه الطبعة اعتمادا كليا على الطبعة السلفية‪ ،‬دون الشارة إلى‬
‫ذلك في مقدمة الطبعة‪ ،‬وهذا العتماد جعل الملحظ المذكورة سابقا على‬
‫الطبعة السلفية تصدق على هذه الطبعة أيضا‪ ،‬بل قد زادت طبعة النجار‬
‫المر فجمعت إلى ذلك ملحظ أخرى أشد وأخطر‪ ،‬ولو أن الطبعة السلفية‬
‫صورت بدل أن يعهد بتصحيحها إلى النجار لكان المر أهون‪.‬‬
‫الملحظ الثاني‪:‬‬
‫التصرف في مواقع اليات من التفسير‪:‬‬
‫لقد جرت عادة الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬أن يبدأ فيذكر اليات التي يريد‬
‫تفسيرها كاملة ثم يشرع في تفسيرها مجزأة عقب ذلك‪ ،‬وفي بعض‬
‫الحيان يقوم رحمه الله بذكر اليات إذا كانت قصصا للنبياء فيقول إلى‬
‫آخر القصة‪ ،‬وفي أحيان قليلة يغفل ذكر اليات كاملة فيشرع في تفسيرها‬
‫مباشرة‪ ،‬وعلى ذلك يجري سياق التفسير‪ ،‬ولكن النجار عمد إلى جعل‬
‫اليات في أعلى الصفحة‪ ،‬وجعل بينها وبين التفسير خطا ثم حذف اليات‬
‫في التفسير‪ ،‬ومن هنا يأتي اضطراب السياق في بعض الحيان فيضطر‬
‫إلى حذف بعض الكلمات أو الضافة أو نحو ذلك‪.‬‬
‫الملحظ الثالث‪:‬‬
‫التصرف بالزيادة‪:‬‬
‫إن من أعجب ما عمل النجار أن زاد في التفسير ففي بعض المواضع ترك‬
‫الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬تفسير بعض اليات سهوا‪ ،‬فيقوم النجار بتفسيرها من‬
‫عنده‪.‬‬
‫وفي مواضع أخرى تكون النسخة التي اعتمدت عليها الطبعة السلفية‬
‫ناقصة؛ لن الناسخ تجاوز اليات فيقوم النجار من قبله بتفسير هذه اليات‪.‬‬
‫وهذه المواضع كثيرة جدا تصل في بعض المواقع إلى صفحات‪ ،‬وفي‬
‫بعضها إلى أسطر‪ ،‬وفي أخرى إلى كلمات‪ ،‬وهذه أمثلة لها‪:‬‬
‫ا‪ -‬سقط من النسخة الخطية )ب( تفسير الية )‪ (207‬من سورة البقرة‬
‫ت‬‫ضا ِ‬
‫مْر َ‬
‫ه اب ْت َِغاَء َ‬
‫س ُ‬
‫ف َ‬
‫ري ن َ ْ‬ ‫ن يَ ْ‬
‫ش ِ‬ ‫م ْ‬
‫س َ‬
‫ن الّنا ِ‬
‫م َ‬
‫وهي قول الله عز وجل‪ } :‬وَ ِ‬
‫ف ِبال ْعَِبادِ { وبناء على سقوطها من النسخة سقطت من‬ ‫الل ّهِ َوالل ّ ُ‬
‫ه َر ُ‬
‫ؤو ٌ‬
‫الطبعة السلفية فجاء النجار ففسر الية من عنده‪ ،‬وبدأ بمعاني المفردات‪،‬‬
‫ورجع إلى جملة مراجع؛ كالقاموس والصحاح‪ ،‬وتفسير ابن كثير‪ ،‬ولم يشر‬
‫إلى أن الكلم من كلمه‪ ،‬وليس من كلم الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬وقد وقع هذا‬
‫في صفحتين ونصف من طبعته ابتداء من منتصف الصفحة )‪ (252‬من‬
‫المجلد الول إلى نهاية ص )‪ ،(254‬والقارئ للكلم يعلم أنه ليس من كلم‬
‫الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬لن الشيخ ل ينقل من مصادر‪ ،‬وإنما يفسر بما فتح الله‬
‫عليه كما قرر ذلك في أول الكتاب‪.‬‬
‫‪ -2‬ومن الزيادات الطويلة التي زادها النجار زيادته في تفسير اليات رقم‬
‫)‪ (107 -105‬من سورة النعام حيث تجاوزها الشيخ فلم يفسرها ففسرها‬
‫النجار في الصفحات ذوات الرقام )‪ (452 ،451 ،450‬من‬

‫) ‪(1/20‬‬

‫الجزء الثاني‪ ،‬ولم يشر إلى التصرف‪ ،‬وظاهر من أسلوبه أنه ليس أسلوب‬
‫الشيخ حيث أتى ببعض العرابات والمعاني اللفظية ثم ذكر المعنى‬
‫الجمالي‪ .‬ومن عجيب أمره أنه في الصفحة )‪ (449‬تصرف تصرفا يسيرا‬
‫بأن قدم كلمة على أخرى‪ ،‬وأشار في الهامش إلى ذلك التصرف‪ ،‬ولم‬
‫يشر إلى تصرفه بزيادة ثلث صفحات‪.‬‬
‫‪ -3‬في تفسير اليتين )‪ (51 ،50‬من سورة الحج سبق قلم الشيخ ‪-‬رحمه‬
‫مُنوا‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫الله‪ -‬إلى الية رقم ‪ 56‬فجمع بينهما وبين هذه الية فكتب } َفال ّ ِ‬
‫ُ‬
‫ك ل َهُ ْ‬
‫م‬ ‫فُروا وَك َذ ُّبوا ِبآيات َِنا فَأول َئ ِ َ‬
‫ن كَ َ‬ ‫ت الن ِّعيم ِ َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫جّنا ِ‬ ‫ت ِفي َ‬‫حا ِ‬‫صال ِ َ‬‫مُلوا ال ّ‬
‫وَعَ ِ‬
‫ن { ثم فسر الية على وفق ما كتب‪ ،‬فعمد النجار إلى تغيير‬ ‫مِهي ٌ‬
‫ب ُ‬‫ذا ٌ‬‫عَ َ‬
‫التفسير والزيادة زيادة طويلة يصل مجموعها إلى صفحة ونصف الصفحة‬
‫تقريبا )‪ (1‬ولم يشر إلى شيء من التعديل‪.‬‬
‫‪ -4‬ومن الزيادات العجيبة أن الشيخ عبد الرحمن السعدي ‪-‬رحمه الله‪-‬‬
‫ن{‬ ‫ري َ‬ ‫من ْظ َ ِ‬ ‫كاُنوا ُ‬ ‫ما َ‬
‫ض وَ َ‬
‫ماُء َوالْر ُ‬ ‫س َ‬‫م ال ّ‬ ‫ت عَل َي ْهِ ُ‬
‫ما ب َك َ ْ‬
‫أورد قوله سبحانه‪ } :‬فَ َ‬
‫من الية رقم )‪ (29‬من سورة الدخان‪ ،‬في سياق تفسيره للية رقم )‪(41‬‬
‫من سورة المؤمنون‪ ،‬مستشهدا بها‪ ،‬ولكن يبدو أن النجار ظنها من‬
‫السورة نفسها ففسرها تفسيرا من عند نفسه ونسبه إلى الشيخ‪ ،‬ولم‬
‫يعلق‪ ،‬ولم يبين أنه من كلمه‪ ،‬وهذه الزيادة تقع في صفحة تقريبا )‪. (2‬‬
‫ومن عجيب حاله أنه يعلق أحيانا في الهامش على زياداته وكأنها تعليق‬
‫على كلم الشيخ رحمه الله )‪. (3‬‬
‫الملحظ الرابع‪:‬‬
‫الحواشي والتعقبات‪:‬‬
‫لقد قام النجار بتعقب الشيخ رحمه الله في مواضع كثيرة من التفسير‬
‫ووضع هوامش لتلك التعقبات فتعدى )مهمته‪ ،‬وتجاوز طوره‪ ،‬فراح يعلق‬
‫على هذا التفسير القيم بآراء بعدت عن الصواب‪ ،‬وجانبت الحق في أجلى‬
‫معانيه مما شوه به هذا الكتاب‪ ،‬وأساء إلى المؤلف‪ ،‬وغش القراء‪ ،‬وأضل‬
‫الناشئة كما أنه اعترض على المؤلف‪ ،‬ورد أقواله بآراء من عنده لم يوفق‬
‫فيها إلى الحق والصواب‪ ،‬مع أنه ليس من حقه ذلك‪ ،‬ول من مهمته أن‬
‫يعترض على المؤلف فيما اختاره‪ ،‬وإنما مهمته هي تحقيق النص‬
‫وتصحيحه( )‪. (4‬‬
‫)والذي في أول الكتاب من هذه التعقبات اعتراضات بسيطة على عبارة‪،‬‬
‫أو لفظة أو نحوها‪ ،‬أما الذي في وسطه وآخره فهي اعتراضات وخيمة‬
‫تحريف لكلم الله‪ ،‬وغلو في النبياء صلوات الله وسلمه عليهم‪ ،‬وتنقص‬
‫للعلماء وكذب عليهم( )‪. (5‬‬
‫ولقد كان في معظم تعليقاته متهما للشيخ وأسلوبه وهذه بعض تعبيراته‬
‫التي تظهر ذلك قال‪) :‬والعبارة قلقة كما ترى( )‪) (6‬العبارة مبهمة تحتاج‬
‫إلى إيضاح( )‪) (7‬العبارة فيها شيء من الضطراب فالوضح أن يقال( )‪(8‬‬
‫)وفي العبارة غموض كما ترى( )‪. (9‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬انظر طبعة النجار ‪ ، 309 ، 308/ 5‬وقارنه بما في هذه الطبعة‪.‬‬
‫)‪ (2‬ينظر طبعة النجار )‪.(5/350‬‬
‫)‪ (3‬ينظر طبعة النجار )‪.(254/ 1‬‬
‫)‪ (4‬الشيخ محمد سليمان البسام‪ :‬كشف الستار عن تلفيق وتعليق النجار‬
‫على تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي )‪.(7‬‬
‫)‪ (5‬المصدر السابق )‪.(9‬‬
‫)‪.(104 /1) (6‬‬
‫)‪.(159 /1) (7‬‬
‫)‪.(240 /1) (8‬‬
‫)‪.(346 /1) (9‬‬

‫) ‪(1/21‬‬

‫ولقد أبان الشيخ محمد بن سليمان البسام عوار تلك التعقبات بيانا شافيا‬
‫في رسالة مستقلة عنوانها‪) :‬كشف الستار عن تلفيق وتعليق النجار على‬
‫تفسير الشيخ عبد الرحمن السعدي(‪.‬‬
‫وذكر أمثلة كثيرة دالة على أخطاء النجار فيما زعمه من أخطاء وقع فيها‬
‫الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬وأكتفي بالحالة على تلك الرسالة الماتعة‪ ،‬ففيها نقد‬
‫علمي قوي لخطاء ظاهرة وقع فيها النجار وأشير هنا إلى ثلث تعقبات‬
‫فقط أبين من خللها شيئا يسيرا من سوء صنيع النجار‪ ،‬وأما التعقبات التي‬
‫تحتاج إلى نقد علمي فأحيل فيها إلى رسالة الشيخ محمد البسام‪.‬‬
‫‪ -1‬وقوع النجار في الخطأ ثم تخطئة الشيخ رحمه الله به‪:‬‬
‫هَ‬
‫لل ُ‬ ‫قَها َفل ت َ ِ‬
‫ح ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن طل َ‬ ‫قال الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬في تفسيره قوله تعالى‪ } :‬فَإ ِ ْ‬
‫جا غَي َْرهُ { "أي نكاحا صحيحا ويطأها؛ لن النكاح‬ ‫ح َزوْ ً‬
‫حّتى ت َن ْك ِ َ‬
‫ن ب َعْد ُ َ‬
‫م ْ‬
‫ِ‬
‫الشرعي ل يكون إل صحيحا‪ ،‬ويدخل فيه العقد والوطء‪ ،‬وهذا بالتفاق(‬
‫هكذا في النسختين وفي الطبعة السلفية التي اعتمد عليها النجار‪ ،‬ولكنه‬
‫أسقط )إل( فصارت العبارة‪" :‬لن النكاح الشرعي ل يكون صحيحا" وهذا‬
‫فعله‪ ،‬وليس فعل الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬ثم قال النجار في الهامش قوله‪:‬‬
‫"لن النكاح الشرعي إلخ" في العبارة اضطراب‪ ،‬والصواب أن يقال‪" :‬لن‬
‫النكاح الشرعي الصحيح‪ ،‬يدخل فيه العقد والوطء بإجماع العلماء" فأخطأ‬
‫النجار ثم خطأ الشيخ‪ ،‬وعدل خطأ الشيخ بزعمه‪.‬‬
‫‪ -2‬إقحام تعليقات ل محل لها فمن ذلك‪ .‬قال الشيخ ‪-‬رحمه الله‪" -‬والظلم‬
‫الذي بين العبد وربه فيما دون الشرك تحت المشيئة والحكمة"‪ .‬قال‬
‫النجار‪) :‬وفي هذا المعنى قال صاحب جوهرة التوحيد‪ :‬ومن يمت ولم يتب‬
‫من ذنبه فأمره مفوض لربه‬
‫‪ -3‬الستدراك في غير محله‪ :‬قال الشيخ ‪-‬رحمه الله‪" -‬فالشكر فيه بقاء‬
‫النعمة الموجودة وزيادة في النعم المفقودة"‪ .‬قال في الهامش قوله‪:‬‬
‫"فالشكر فيه بقاء النعم‪ ..‬إلخ " عبر العلماء عن هذا المعنى بقولهم‪:‬‬
‫"الشكر قيد للموجود‪ ،‬وصيد للمفقود" )‪ (1‬فكأنه خطأ الشيخ في اختيار‬
‫اللفظ وليس هذا بخطأ بل المر واسع في اختيار اللفظ المناسب‪.‬‬
‫الملحظ الخامس‪:‬‬
‫سوء توزيع النص‬
‫حيث قام بإعادة توزيع النص إلى فقرات وعمد إلى أن تكون تلك الفقرات‬
‫قصيرة جدا وعليه فقد فرق أجزاء الجملة بين السطر‪ ،‬وقطع الكلم عن‬
‫سياقه إذ نجد فعل الشرط في سطر وجوابه في آخر‪ ،‬والمعلول في سطر‬
‫وتعليله في آخر‪ ،‬ولذلك تضخم التفسير جدا مع أن صفحاته يمكن أن تكون‬
‫أقل من ذلك بكثير‪ ،‬والله أعلم بالهدف من وراء ذلك التضخيم‪.‬‬
‫إن هذه الملحظ ليست إل أمثلة دالة على أن عمل النجار لم يكن عمل‬
‫أمينا على هذا التفسير‪.‬‬
‫وبمجمل هذا العرض يتضح أن التفسير لم يخرج بصورته التي كتبها الشيخ‬
‫‪ -‬رحمه الله‪ -‬إذ جميع الطبعات كانت نسخا مكرورة عن طبعة النجار‪ ،‬التي‬
‫اعتمد فيها صاحبها على الطبعة السلفية‪ ،‬والطبعة السلفية اعتمدت على‬
‫النسخة الثانية التي لم تكن بخط الشيخ وكان فيها بعض النقص وبعض‬
‫التحريف من النساخ‪.‬‬
‫ولما كان المر بهذه الصورة التي تظهر الحاجة الماسة إلى إخراج هذا‬
‫التفسير المبارك إخراجا علميا مصححا كما أراده الشيخ رحمه الله فقد‬
‫عمدت إلى العمل ثلث سنين في هذا الكتاب راجيا أن يكون العمل‬
‫__________‬
‫)‪.(175 /1) (1‬‬

‫) ‪(1/22‬‬

‫سادا للثلمة ومبرئا للذمة‪.‬‬


‫العمل الذي قمت به‪:‬‬
‫لقد من الله علي بأمر لم يتوفر لمن اعتنى بهذا التفسير من قبل وهو‬
‫الحصول على النسخة )أ( التي كانت بحوزة الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬وتحت‬
‫نظره ومحل عنايته إلى أن توفي‪ ،‬وهي في الجملة أسلم من النسخة )ب(‬
‫التي كانت أصل جميع الطبعات‪ ،‬ولما بدأت في العمل كان الهدف الذي‬
‫سعيت إليه جاهدا هو‪ :‬إخراج التفسير كما كتبه الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬دون‬
‫تعديل أو تبديل‪ ،‬أو زيادة أو نقص‪ ،‬وعلى ذلك قمت بما يلي‪:‬‬
‫أول‪ :‬نسخ التفسير كما هو ويتضمن ذلك‪ :‬إثبات اليات المفسرة كما كتبها‬
‫الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬فحين يورد اليات كاملة‪ ،‬أوردها كاملة كما فعل‪ ،‬وحين‬
‫يورد جزءا منها ويقول‪ :‬إلخ القصة‪ ،‬أثبتها على هذا الوجه‪ ،‬وحين تفترق‬
‫النسختان أطبق قواعد المقابلة التي سأبينها لحقا بحول الله‪ ،‬وقد راعيت‬
‫في النسخ ما يلي‪:‬‬
‫‪ -1‬توزيع النص توزيعا جيدا‪ ،‬بحيث يكون تقسيم فقرات الكلم وأجزائه‬
‫متصل بمعانية‪ ،‬واجتهدت أل أقطع السياق الواحد بين فقرتين مختلفتين‪،‬‬
‫وأن أبدأ تفسير الية أو اليات من أول السطر‪.‬‬
‫‪ -2‬ترقيم اليات المفسرة في بداية تفسيرها‪ ،‬وهذا لم يكن من عمل‬
‫الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬ولكن وجدته مهما لجل سهولة معرفة مواضع اليات‪.‬‬
‫‪ -3‬تصحيح بعض الخطاء الملئية الظاهرة التي ل تخفى على الشيخ‬
‫‪-‬رحمه الله‪ -‬ولكنها سبق قلم‪.‬‬
‫ولقد حرصت على عدم التدخل في التفسير والتعديل فيه بأي وجه من‬
‫الوجوه إل في ثلث حالت‪:‬‬
‫الولى‪ :‬أن يكون الخطأ في اليات فهنا أثبت الصواب ول ألتفت إلى‬
‫الخطأ‪ ،‬ولكن في بعض الحيان يحدث أن يكون قلم الشيخ سبق إلى آيات‬
‫في غير السورة‪ ،‬أو في السورة نفسها‪ ،‬وليست في ذلك الموضع‪ ،‬ثم‬
‫يفسر اليات التي كتب‪ ،‬فأثبت الصواب في اليات‪ ،‬وأبقي التفسير كما‬
‫هو‪ ،‬وأشير إلى ما عملت في الهامش‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن يكون الخطأ ظاهرا‪ ،‬ول يمكن أن يقبل به المؤلف ‪-‬رحمه الله‪-‬‬
‫فهنا أثبت التعديل الذي أراه صوابا‪ ،‬وأشير في الهامش إلى ما في الصل‬
‫من خطأ‪ ،‬أو سبق قلم‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬أن يكون التعديل طفيفا كأن يكون تعديل في ضمير فيقول‪:‬‬
‫)خالقهما( والصواب )خالقها( أو العكس أو يقول )التي( والصواب )الذي(‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬فهنا أصوب الكلم‪ ،‬وأشير في أحيان يسيرة إلى ما عملت‪،‬‬
‫خاصة وأن الشيخ ‪-‬رحمه الله‪) :-‬كان سريع الكتابة‪ ،‬ويكتب بخط دقيق‪،‬‬
‫وبدون نظارة‪ ،‬لكنه على قاعدة صحيحة( )‪ (1‬وكانت جل عنايته بالمعاني‪،‬‬
‫ولذلك قال في رسالة للشيخ عبد الله بن عقيل ‪-‬حفظه الله‪) -‬فحسن‬
‫الملء والجري مع المعاني أولى من اعتبار حسن الخط‪ ،‬فذاك أهميته‬
‫بالنسبة لحسن النشاء قليلة(‪. (2) .‬‬
‫ثانيا‪ -‬المقابلة‪:‬‬
‫وابتغاء توضيح المر أبين ما قمت به في نقاط‪:‬‬
‫أول‪ :‬اعتمدت النسخة )أ( وجعلتها أصل لمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬أن معظمها بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪.-‬‬
‫والثاني‪ :‬أنها النسخة التي كانت بيد الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬إلى حين وفاته‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬الشيخ عبد الله بن عقيل‪ :‬الجوبة النافعة )المقدمة( )‪.(7‬‬
‫)‪ (2‬الجوبة النافعة عن المسائل الواقعة )‪.(67‬‬

‫) ‪(1/23‬‬
‫الثالث‪ :‬أنها سالمة من التعديل والشطب اللذين وقعا من النساخ أو‬
‫الطابعين أو المصححين بعكس النسخة )ب( فإن هذه النسخة سلمت‬
‫للمطبعة السلفية‪ ،‬فكان المصححون للطبعة يعدلون عليها ويشطبون‪ ،‬بل‬
‫تجد على هوامشها أسماء )عمال الصف( فنجد اسم )محمود( أو فلن‬
‫منهم وذلك لتوزيع العمل عليهم‪ ،‬بينما النسخة )أ( لم تمسها اليدي‬
‫بشطب أو تعديل‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬سلمة هذه النسخة من الخروم والنقص لن معظمها بخط الشيخ‬
‫‪-‬رحمه الله‪ -‬بينما النسخة )ب( كتب معظمها بخطوط النساخ فوقع فيها‬
‫بعض النقص والخروم‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬أنها أجود كثيرا من النسخة الخرى في إملئها بينما تجد في‬
‫النسخة )ب( أخطاء ظاهرة‪.‬‬
‫ثانيا‪ :‬يلحظ أنني ذكرت في وصف النسختين أن معظم النسخة الولى‬
‫كان بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬وأن النسخة الثانية في جملتها بخطوط‬
‫النساخ وهذا توضيح تفاوت الكتابة على التفصيل مع بيان ما قمت به حيال‬
‫ذلك التفاوت‪:‬‬
‫‪ -1‬أجزاء كانت في النسختين بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬وذلك مثل كثير من‬
‫المجلد الول‪ ،‬والمجلد الثامن‪ ،‬والتاسع‪ ،‬وفي هذه الجزاء يلحظ وجود‬
‫الشكالت التية‪:‬‬
‫)أ( أن الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬في المجلد فسر اليات من قوله تعالى‪:‬‬
‫ن { سورة‬ ‫موا ل ِل ّهِ َقان ِِتي َ‬
‫طى وَُقو ُ‬ ‫س َ‬‫صلةِ ال ْوُ ْ‬ ‫ت َوال ّ‬ ‫صل َ َ‬
‫وا ِ‬ ‫ظوا عََلى ال ّ‬
‫حافِ ُ‬ ‫} َ‬
‫ما ِفي‬ ‫البقرة‪ ،‬الية‪ ، 238 :‬إلى نهاية تفسير قوله تعالى‪ } :‬وَل ِل ّهِ َ‬
‫فوٌر‬ ‫شاُء َوالل ّ ُ‬
‫ه غَ ُ‬ ‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬ ‫ب َ‬‫شاُء وَي ُعَذ ّ ُ‬
‫ن يَ َ‬‫م ْ‬‫فُر ل ِ َ‬
‫ض ي َغْ ِ‬
‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬
‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫م { سورة آل عمران‪ ،‬الية‪ 129 :‬تفسيرا جديدا فليس ما في‬ ‫حي ٌ‬‫َر ِ‬
‫النسختين متوافقا بل هو متغاير من حيث اللفاظ والصياغة والسلوب‬
‫وكأن الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬كتب ذلك مرتين‪ ،‬ولم يكن هناك احتمال لن‬
‫يكون الكلم ليس بكلمه‪ ،‬لن ما في النسختين بخطه ‪-‬رحمه الله‪ -‬وروح‬
‫الكلم وأسلوبه هو ذات أسلوب الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬وقد قلبت النظر بين‬
‫خيارات عدة‪ ،‬وكان ما استقر الرأي عليه أن أجعل في صلب التفسير ما‬
‫كان في النسخة )أ( وهي النسخة التي توفي الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬وهي في‬
‫بيته‪ ،‬وأما ما في النسخة )ب( وهو المطبوع في طبعات الكتاب السابقة‬
‫فقد جعلته في ملحق في آخر التفسير‪.‬‬
‫)ب( أن الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬في المجلد الثامن من بداية سورة الحجرات‬
‫وحتى نهاية التفسير نسخ التفسير بخطه نسخة ثانية‪ ،‬ولكنه كان يعدل في‬
‫اللفاظ ويزيد في الكلمات وينقص منها‪ ،‬ولذلك تفاوت حجم المقابلة بين‬
‫بعض أجزاء الكتاب بشكل واضح‪ ،‬حيث تجد فروقا كبيرة بين النسختين‬
‫في أجزاء ول تجد إل اليسير من الفروق في أجزاء أخرى‪.‬‬
‫)ج( أن بعض الجزاء كانت في النسخة )أ( بغير خط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪-‬‬
‫وفي النسخة )ب( بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬كما في المجلد السادس وهنا‬
‫كثرت الخطاء في النسخة )أ( وقلت في )ب( فاستفدت من )ب( في‬
‫المقابلة وجعلت جل اعتمادي عليها إذ هي أصح لول ما عابها من تعديلت‬
‫مصححي المطبعة السلفية عليها‪.‬‬
‫ثالثا‪ :‬الزيادات‪ :‬جاءت زيادات في إحدى النسختين عن الخرى وقد جعلت‬
‫الزيادات بين قوسين مركنين ] [ وهي على ثلثة أنواع‪:‬‬
‫الول‪ :‬الزيادات التي في الصل على )ب( وقد جعلتها بين قوسين‬
‫مركنين‪ ،‬دون إشارة في الهامش إلى شيء‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬الزيادات التي في )ب( وقد جعلتها بين قوسين مركنين‪ ،‬وأشرت‬
‫إلى الزيادة في الهامش بقولي‪ :‬زيادة في ب‪ ،‬وهذا النوع من الزيادات‬
‫يكثر في الجزاء التي كانت بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬في النسختين‬
‫كلتيهما‪.‬‬

‫) ‪(1/24‬‬

‫الثالث‪ :‬الزيادات التي جعلتها لقتضاء السياق وعدم استقامته بدونها فقد‬
‫جعلتها بين قوسين مركنين وأشرت إلى الزيادة في الهامش بقولي‪:‬‬
‫)زيادة يقتضيها السياق(‪.‬‬
‫وبعد‪ ،‬فيلحظ إني لم أثبت تخريج الحاديث في الكتاب‪ ،‬لن ما في الكتاب‬
‫من الحاديث ليس بالكثير‪ ،‬ومعظم ما نقل ‪-‬رحمه الله‪ -‬هو من صحيح‬
‫البخاري ومسلم‪ ،‬كما لم أفهرس فهرسة تفصيلية‪ ،‬لن الفهرسة التي‬
‫يمكن أن يستفاد منها هي الفهرسة الموضوعية للفوائد اليمانية‪،‬‬
‫والتربوية‪ ،‬والسلوكية‪ ،‬والعلمية‪ ،‬ونحوها التي في الكتاب‪ ،‬وإذا نظرنا إلى‬
‫الفهرسة بهذا العتبار فإن الكتاب يحتاج إلى فهرسة كبيرة وطويلة جدا‬
‫يمكن الستغناء عنها بقراءة الكتاب لمريد الستفادة‪ ،‬وأما الفهارس‬
‫التفصيلية لليات والحاديث والعلم أو القبائل‪ ..‬ونحوها‪ ،‬فإن طبيعة‬
‫التفسير ل تدل على الحاجة لذلك‪ ،‬وإن عمل على هذا التفسير فإنما هذا‬
‫العمل نوع من التزيد والتكثر ل حاجة له‪.‬‬
‫وبعد فهذا الجهد الذي بذلت وهو جهد استغرق ثلثة أعوام قرأت فيها‬
‫التفسير قراءة مقابلة ثلث مرات واجتهدت في إخراج التفسير على أتم‬
‫الوجوه ‪-‬قدر المكان‪ -‬وما كان لي أن أصل إلى هذا لول فضل الله عز‬
‫وجل فله الحمد أول وآخرا وظاهرا وباطنا‪.‬‬
‫ثم الشكر من بعد لمن كان عونا لي في إخراج هذا التفسير بأي وجه من‬
‫أوجه العون وأخص بالذكر صاحبي الفضيلة العالمين الجليلين الشيخ محمد‬
‫بن صالح العثيمين‪ ،‬والشيخ عبد الله بن عبد العزيز بن عقيل‪ .‬وفضيلة‬
‫والدي الكريم الشيخ معل اللويحق‪ ،‬والمشايخ الفضلء الدكتور عبد الرزاق‬
‫بن عبد المحسن البدر الذي أعانني على الحصول على النسخة الثانية )ب(‬
‫لمخطوط التفسير‪ ،‬وأبدى من جميل الملحوظات ما كان عونا لي على‬
‫ضبط العمل‪ ،‬والدكتور خالد السبت‪ ،‬الذي كانت مهاتفاته بداية حفز لعادة‬
‫العمل في التفسير‪ ،‬والشيخ صالح الهبدان‪ ،‬والشيخ عبد الرحمن الراجحي‪،‬‬
‫والشيخ محمد الخضيري‪ ،‬والخوة الذين عملوا معي في المقابلة فأمضوا‬
‫وقتا طويل في سبيل ذلك‪ ،‬وبذلوا جهدا ل أنساه في إعانتي الشيخ إدريس‬
‫حامد محمد‪ ،‬والشيخ تراوري مامادوا‪ ،‬والخ فيصل بن طلع المطيري‬
‫فللجميع مني الشكر والعرفان والدعاء بالتوفيق والتسديد‪.‬‬
‫وأسأل الله المغفرة عما وقع من تقصير‪ ،‬واستمد منه العون فهو وحده‬
‫المستعان‪.‬‬
‫والحمد لله أول وآخرا وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله‬
‫وصحبه‪ .‬وكتب‬
‫عبد الرحمن بن معل اللويحق المطيري‬
‫بعد عشاء ليلة الثامن والعشرين‬
‫من شهر ذي القعدة عام ‪ 1419‬هـ‬

‫) ‪(1/25‬‬

‫تنبيه‬
‫اعلم أن طريقتي في هذا التفسير أني أذكر عند كل آية ما يحضرني من‬
‫معانيها‪ ،‬ول أكتفي بذكر ما تعلق بالمواضع السابقة عن ذكر ما تعلق‬
‫بالمواضع اللحقة؛ لن الله وصف هذا الكتاب أنه )مثاني( تثنى فيه الخبار‬
‫والقصص والحكام‪ ،‬وجميع المواضيع النافعة لحكم عظيمة‪ ،‬وأمر بتدبره‬
‫جميعه‪ ،‬لما في ذلك من زيادة العلوم والمعارف وصلح الظاهر والباطن‪،‬‬
‫وإصلح المور كلها )‪. (1‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬هذا التنبيه جعله الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬على غلف المجلد الول فصدرت‬
‫به التفسير كما فعل ‪-‬رحمه الله‪.-‬‬

‫) ‪(1/27‬‬

‫مقدمة المؤلف‬
‫بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫الحمد لله الذي أنزل على عبده الفرقان الفارق بين الحلل والحرام‪،‬‬
‫والسعداء والشقياء‪ ،‬والحق والباطل‪.‬‬
‫وجعله برحمته هدى للناس عموما‪ ،‬وللمتقين خصوصا‪ ،‬من ضلل الكفر‬
‫والمعاصي والجهل‪ ،‬إلى نور اليمان والتقوى والعلم‪ ،‬وأنزله شفاء للصدور‬
‫من أمراض الشبهات والشهوات‪ ،‬ويحصل به اليقين والعلم في المطالب‬
‫العاليات‪ ،‬وشفاء للبدان من أمراضها وعللها وآلمها وسقمها )‪ . (1‬وأخبر‬
‫أنه ل ريب فيه ول شك بوجه من الوجوه‪ ،‬وذلك لشتماله على الحق‬
‫العظيم في أخباره‪ ،‬وأوامره‪ ،‬ونواهيه‪ ،‬وأنزله مباركا‪ ،‬فيه الخير الكثير‪،‬‬
‫والعلم الغزير‪ ،‬والسرار البديعة‪ ،‬والمطالب الرفيعة‪ ،‬فكل بركة وسعادة‬
‫تنال في الدنيا والخرة‪ ،‬فسببها الهتداء به واتباعه‪ ،‬وأخبر أنه مصدق‬
‫ومهيمن على الكتب السابقة‪ ،‬فما يشهد له فهو الحق‪ ،‬وما رده فهو‬
‫ع‬
‫ن ات ّب َ َ‬ ‫م ِ‬‫ه َ‬‫دي ب ِهِ الل ّ ُ‬‫المردود‪ ،‬لنه تضمنها وزاد عليها‪ ،‬وقال تعالى فيه‪ } :‬ي َهْ ِ‬
‫سلم ِ { فهو هاد لدار السلم‪ ،‬مبين لطريق الوصول إليها‪،‬‬ ‫سب ُ َ‬
‫ل ال ّ‬ ‫ه ُ‬
‫وان َ ُ‬
‫ض َ‬
‫رِ ْ‬
‫وحاث عليها‪ ،‬كاشف عن الطريق الموصلة إلى دار اللم ومحذر منها‪،‬‬
‫ُ‬
‫كيم ٍ‬‫ح ِ‬‫ن َ‬ ‫ن ل َد ُ ْ‬
‫م ْ‬‫ت ِ‬ ‫صل َ ْ‬‫م فُ ّ‬
‫ه ثُ ّ‬
‫ت آَيات ُ ُ‬
‫م ْ‬
‫حك ِ َ‬
‫بأ ْ‬‫وقال تعالى مخبرا عنه‪ } :‬ك َِتا ٌ‬
‫خِبيرٍ { فبين آياته أكمل تبيين‪ ،‬وأتقنها أي إتقان‪ ،‬وفصلها بتبيين )‪ (2‬الحق‬ ‫َ‬
‫من الباطل والرشد من الضلل‪ ،‬تفصيل كاشفا للبس‪ ،‬لكونه صادرا من‬
‫حكيم خبير‪ ،‬فل يخبر إل بالصدق والحق واليقين‪ ،‬ول يأمر إل بالعدل‬
‫والحسان والبر‪ ،‬ول ينهى إل عن المضار الدينية والدنيوية‪.‬‬
‫وأقسم تعالى بالقرآن ووصفه بأنه‪" ،‬مجيد"‪ ،‬والمجد‪ :‬سعة الوصاف‬
‫وعظمتها‪ ،‬وذلك لسعة معاني القرآن وعظمتها‪ ،‬ووصفه بأنه "ذو الذكر"‬
‫أي‪ :‬يتذكر به العلوم اللهية والخلق الجميلة والعمال الصالحة‪ ،‬ويتعظ به‬
‫من يخشى‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن { فأنزله )‪ (3‬بهذا‬‫قلو َ‬ ‫وقال تعالى‪ } :‬إ ِّنا أنزلَناهُ قُْرآًنا عََرب ِّيا لعَلك ْ‬
‫م ت َعْ ِ‬
‫اللسان لنعقله ونتفهمه‪ ،‬وأمرنا بتدبره‪ ،‬والتفكر فيه‪ ،‬والستنباط لعلومه‪،‬‬
‫وما ذاك إل لن تدبره مفتاح كل خير‪ ،‬محصل للعلوم والسرار‪ .‬فلله الحمد‬
‫والشكر والثناء‪ ،‬الذي جعل كتابه هدى وشفاء ورحمة ونورا‪ ،‬وتبصرة‬
‫وتذكرة‪ ،‬وبركة‪ ،‬وهدى وبشرى للمسلمين‪.‬‬
‫فإذا علم هذا‪ ،‬علم افتقار كل مكلف لمعرفة معانيه والهتداء بها‪.‬‬
‫وكان حقيقا بالعبد أن يبذل جهده‪ ،‬ويستفرغ وسعه في تعلمه وتفهمه‬
‫بأقرب الطرق الموصلة إلى ذلك‪.‬‬
‫وقد كثرت تفاسير الئمة رحمهم الله لكتاب الله‪ ،‬فمن مطول خارج في‬
‫أكثر بحوثه عن المقصود‪ ،‬ومن مقصر‪ ،‬يقتصر على حل بعض اللفاظ‬
‫اللغوية‪ ].‬بقطع النظر عن المراد[ )‪. (4‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬وأسقامها‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬بتمييز‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬وأنزله‪.‬‬
‫)‪ (4‬زيادة من هامش ب‪ ،‬مشطوبة من أ‪.‬‬

‫) ‪(1/29‬‬

‫وكان الذي ينبغي في ذلك‪ ،‬أن يجعل المعنى هو المقصود‪ ،‬واللفظ وسيلة‬
‫إليه‪ .‬فينظر في سياق الكلم‪ ،‬وما سيق لجله‪ ،‬ويقابل بينه وبين نظيره في‬
‫موضع آخر؛ ويعرف أنه سيق لهداية الخلق كلهم‪ ،‬عالمهم وجاهلهم‪،‬‬
‫حضريهم وبدويهم‪ ،‬فالنظر لسياق اليات مع العلم بأحوال الرسول وسيرته‬
‫مع أصحابه وأعدائه وقت نزوله‪ ،‬من أعظم ما يعين على معرفته وفهم‬
‫المراد منه‪ ،‬خصوصا إذا انضم إلى ذلك معرفة علوم العربية على اختلف‬
‫أنواعها‪.‬‬
‫فمن وفق لذلك‪ ،‬لم يبق عليه إل القبال على تدبره وتفهمه وكثرة التفكر‬
‫في ألفاظه ومعانيه ولوازمها‪ ،‬وما تتضمنه‪ ،‬وما تدل عليه منطوقا ومفهوما‪،‬‬
‫فإذا بذل وسعه في ذلك‪ ،‬فالرب أكرم من عبده‪ ،‬فل بد أن يفتح عليه من‬
‫علومه أمورا ل تدخل تحت كسبه‪.‬‬
‫ولما من الباري علي وعلى إخواني بالشتغال بكتابه العزيز بحسب الحال‬
‫اللئقة] بنا[ أحببت أن أرسم من تفسير كتاب الله ما تيسر‪ ،‬وما من به‬
‫الله علينا‪ ،‬ليكون تذكرة للمحصلين‪ ،‬وآلة للمستبصرين‪ ،‬ومعونة للسالكين‪،‬‬
‫ولقيده خوف الضياع‪ ،‬ولم يكن قصدي في ذلك إل أن يكون المعنى هو‬
‫المقصود‪ ،‬ولم أشتغل في حل اللفاظ والعقود‪ ،‬للمعنى الذي ذكرت‪ ،‬ولن‬
‫المفسرين قد كفوا من بعدهم‪ ،‬فجزاهم الله عن المسلمين خيرا‪.‬‬
‫والله أرجو‪ ،‬وعليه أعتمد‪ ،‬أن ييسر ما قصدت‪ ،‬ويذلل ما أردت‪ ،‬فإنه إن لم‬
‫ييسره الله‪ ،‬فل سبيل إلى حصوله‪ ،‬وإن لم يعن عليه‪ ،‬فل طريق إلى نيل‬
‫العبد مأموله‪.‬‬
‫وأسأله تعالى أن يجعله خالصا لوجهه الكريم‪ ،‬وأن ينفع به النفع العميم‪،‬‬
‫إنه جواد كريم‪ .‬اللهم صل على محمد وآله وصحبه‪ ،‬وسلم تسليما كثيرا‪.‬‬

‫) ‪(1/30‬‬

‫فوائد مهمة تتعلق بتفسير القرآن من بدائع الفوائد‬


‫لبن القيم رحمه الله تعالى )‪(1‬‬
‫] قال‪ :‬فصل[ النكرة في سياق النفي تعم‪ ،‬مستفاد من قوله تعالى‪َ } :‬ول‬
‫َ‬ ‫ما أ ُ ْ‬ ‫يظ ْل ِم رب َ َ‬
‫ن { وفي‬ ‫ن قُّرةِ أعْي ُ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ي ل َهُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫خ ِ‬ ‫س َ‬ ‫ف ٌ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫دا { } َفل ت َعْل َ ُ‬ ‫ح ً‬ ‫كأ َ‬ ‫ُ َ ّ‬ ‫َ‬
‫مّيا { وفي الشرط من قوله‪:‬‬ ‫س‬
‫َْ ُ ُ َ ِ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ت‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫}‬ ‫تعالى‪:‬‬ ‫قوله‬ ‫من‬ ‫الستفهام‬
‫ْ‬ ‫شر أ َحدا { } وإ َ‬
‫ك { وفي‬ ‫جاَر َ‬ ‫ت‬ ‫س‬
‫ُ ِ ِ َ ْ َ َ‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫كي‬ ‫ر‬ ‫ش‬‫ْ‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫م َ‬ ‫حد ٌ ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫َِ ْ‬ ‫ن ال ْب َ َ ِ َ ً‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ما ت ََري ِ ّ‬ ‫} فَإ ِ ّ‬
‫َ‬
‫حد ٌ {‬ ‫مأ َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫ف ْ‬ ‫النهي من قوله تعالى‪َ } :‬ول ي َل ْت َ ِ‬
‫ما‬ ‫س َ‬ ‫ف ٌ‬ ‫ت نَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫وفي سياق الثبات‪ ،‬بعموم العلة والمقتضى كقوله‪ } :‬عَل ِ َ‬
‫ت{‬ ‫َ‬
‫ضَر ْ‬ ‫ح َ‬ ‫أ ْ‬
‫شِهيد ٌ { ومن‬ ‫سائ ِقٌ وَ َ‬ ‫معََها َ‬ ‫س َ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫ت كُ ّ‬ ‫جاَء ْ‬ ‫وإذا أضيف إليها "كل" نحو } وَ َ‬
‫ها { فصل‬ ‫وا َ‬ ‫س ّ‬ ‫ما َ‬ ‫س وَ َ‬ ‫ف ٍ‬ ‫عمومها بعموم المقتضى } وَن َ ْ‬
‫سرٍ {‬ ‫خ ْ‬ ‫في ُ‬ ‫َ‬
‫نل ِ‬ ‫سا َ‬ ‫ن الن ْ َ‬ ‫ويستفاد عموم المفرد المحلى باللم من قوله‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ت‬ ‫صد ّقَ ْ‬ ‫كافُِر { وعموم المفرد المضاف من قوله‪ } :‬وَ َ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫وقوله‪ } :‬وَي َ ُ‬
‫ت َرب َّها وَكت ُب ِهِ { )وكتابه( )‪. (2‬‬ ‫ُ‬ ‫ما ِ‬ ‫ب ِك َل ِ َ‬
‫حقّ { والمراد جميع الكتب التي‬ ‫م ِبال ْ َ‬ ‫ذا ك َِتاب َُنا ي َن ْط ِقُ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫وقوله‪ } :‬هَ َ‬
‫ذا‬ ‫أحصيت فيها أعمالهم‪ ،‬وعموم الجمع المحلى باللم من قوله‪ } :‬وَإ ِ َ‬
‫م { وقوله تعالى‪:‬‬ ‫ميَثاقَهُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن الن ّب ِّيي َ‬ ‫م َ‬ ‫خذ َْنا ِ‬ ‫ت { وقوله‪ } :‬وَإ ِذ ْ أ َ َ‬ ‫ل أقّت َ ْ‬
‫الرس ُ ُ‬
‫ّ ُ‬
‫ن‬ ‫َ َ‬‫م‬ ‫آ‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫}‬ ‫قوله‪:‬‬ ‫من‬ ‫والمضاف‬ ‫آخرها‪.‬‬ ‫إلى‬ ‫{‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫ما‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫س‬
‫َ َ ُ ْ َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫وا‬ ‫ن‬ ‫مي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫س‬
‫ُ ْ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫} إِ ّ‬
‫سل ِهِ {‬ ‫ملئ ِك َت ِهِ وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُ‬ ‫ِبالل ّهِ وَ َ‬
‫و‬
‫ت وَهُ َ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وعموم أدوات الشرط من قوله تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫خي ًْرا‬ ‫ل ذ َّرةٍ َ‬ ‫قا َ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫ل ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ما { وقوله‪ } :‬فَ َ‬ ‫ض ً‬ ‫ما َول هَ ْ‬ ‫ف ظ ُل ْ ً‬ ‫خا ُ‬ ‫ن َفل ي َ َ‬ ‫م ٌ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ُ‬
‫ما ت َكوُنوا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ه { وقوله } أي ْن َ َ‬ ‫ه الل ُ‬ ‫م ُ‬ ‫خي ْرٍ ي َعْل ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫فعَلوا ِ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫ي ََرهُ { ] وقال[ } وَ َ‬
‫شطَره ُ { وقوله‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫جوهَك ْ‬ ‫م فوَلوا وُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ما كن ْت ُ ْ‬‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حي ْث َ‬ ‫ت { وقوله‪ } :‬وَ َ‬ ‫موْ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ي ُد ْرِك ُك ُ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫م { وقوله‪ } :‬وَإ ِ َ‬ ‫ض عَن ْهُ ْ‬ ‫ن ِفي آَيات َِنا فَأعْرِ ْ‬ ‫ضو َ‬ ‫خو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ت ال ّ ِ‬ ‫ذا َرأي ْ َ‬ ‫} وَإ ِ َ‬
‫ة‬
‫م َ‬ ‫ح َ‬‫سهِ الّر ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫م عَلى ن َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ب َرب ّك ْ‬ ‫م كت َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م عَلي ْك ْ‬ ‫َ‬ ‫سل ٌ‬ ‫ل َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن ِبآَيات َِنا فَ ُ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ك ال ِ‬ ‫جاَء َ‬ ‫َ‬
‫{ هذا إذا كان الجواب طلبا مثل هاتين اليتين‪.‬‬
‫وا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫فإن كان خبرا ماضيا‪ ،‬لم يلزم العموم‪ ،‬كقوله‪ } :‬وَإ ِ َ‬
‫جاَرةً أوْ لهْ ً‬ ‫ذا َرأْوا ت ِ َ‬
‫ل اللهِ {‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫سو ُ‬ ‫َ‬
‫شهَد ُ إ ِن ّك لَر ُ‬ ‫َ‬ ‫ن َقاُلوا ن َ ْ‬ ‫قو َ‬ ‫مَنافِ ُ‬ ‫ك ال ْ ُ‬ ‫جاَء َ‬ ‫ذا َ‬ ‫ضوا إ ِل َي َْها { } إ ِ َ‬ ‫ف ّ‬ ‫ان ْ َ‬
‫كاُلوهُم أوَ‬ ‫َ‬ ‫ذا‬ ‫وإن كان مستقبل فالتزموا رد العموم‪ ،‬كقوله تعالى‪ } :‬وَإ ِ َ‬
‫ْ ْ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫سُرو َ‬ ‫خ ِ‬ ‫م يُ ْ‬ ‫وََزُنوهُ ْ‬
‫هَ‬
‫م ل إ ِل َ‬ ‫ل لهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ذا ِقي َ‬ ‫كاُنوا إ ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن { وقوله‪ } :‬إ ِن ّهُ ْ‬ ‫مُزو َ‬ ‫م ي َت ََغا َ‬ ‫مّروا ب ِهِ ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫وقوله‪ } :‬وَإ ِ َ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫ِإل الل ّ ُ‬
‫م {‪.‬‬ ‫َ‬ ‫جب ُ َ‬ ‫َ‬ ‫وقد ل يعم‪ ،‬كقوله تعالى‪ } :‬وَإ ِ َ‬
‫مه ُ ْ‬ ‫سا ُ‬ ‫ج َ‬ ‫كأ ْ‬ ‫م ت ُعْ ِ‬ ‫ذا َرأي ْت َهُ ْ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬جاءت هذه الفوائد في‪ :‬أ بعد تفسير سورة الفاتحة‪ ،‬وقد كتب الشيخ‬
‫‪-‬رحمه الله‪ -‬في هامش النسخة‪) :‬حق هذه المقدمة أن تتقدم على‬
‫الفاتحة(‪.‬‬
‫)‪ (2‬كتبت الكلمة مرتين مرة بالفراد‪ ،‬ومرة بالجمع‪ ،‬وجاء في هامش أ ما‬
‫نصه‪) :‬قرأ أهل البصرة وحفص )وكتبه(‪ .‬وقرأ الخرون )وكتابه( على‬
‫التوحيد(‪.‬‬

‫) ‪(1/31‬‬

‫فصل‬
‫ويستفاد كون المر المطلق للوجوب‪ ،‬من ذمه لمن خالفه‪ ،‬وتسميته إياه‬
‫عاصيا‪ ،‬وترتيبه عليه العقاب بالعاجل أو الجل‪.‬‬
‫ويستفاد كون النهي للتحريم‪ ،‬من ذمه لمن ارتكبه‪ ،‬وتسميته عاصيا‪،‬‬
‫وترتيبه العقاب على فعله‪.‬‬
‫ويستفاد الوجوب بالمر تارة‪ ،‬وبالتصريح باليجاب والفرض والكتب‪ ،‬ولفظة‬
‫"على"‪ ،‬ولفظة‪ :‬حق على العباد وعلى المؤمنين‪.‬‬
‫ويستفاد التحريم من النهي‪ ،‬والتصريح بالتحريم والحظر‪ ،‬والوعيد على‬
‫الفعل‪ ،‬وذم الفاعل‪ ،‬وإيجاب الكفارة بالفعل‪.‬‬
‫وقوله‪" :‬ل ينبغي " فإنها في لغة القرآن والرسول للممتنع عقل وشرعا‪.‬‬
‫ولفظة "ما كان لهم كذا وكذا" و "لم يكن لهم"‪ ،‬وترتيب الحد على الفعل‪،‬‬
‫ولفظة "ل يحل" و "ل يصلح"‪ ،‬ووصف الفعل بأنه فساد‪ ،‬وأنه من تزيين‬
‫الشيطان وعمله‪ ،‬وأن الله تعالى ل يحبه ول يرضاه لعباده‪ ،‬ول يزكي فاعله‬
‫ول يكلمه ول ينظر إليه ونحو ذلك‪.‬‬
‫وتستفاد الباحة من الذن والتخيير‪ ،‬والمر بعد الحظر‪ ،‬ونفي الجناح‬
‫والحرج والثم والمؤاخذة‪ ،‬والخبار بأنه يعفو عنه‪ ،‬والقرار على فعله في‬
‫زمن الوحي‪ ،‬وبالنكار على من حرم الشيء‪ ،‬والخبار بأنه خلق لنا كذا‬
‫وجعله لنا‪ ،‬وامتنانه علينا به‪ ،‬وإخباره عن فعل من قبلنا‪ ،‬غير ذام لهم عليه‪.‬‬
‫فإن اقترن بإخباره مدح‪ ،‬دل على رجحانه استحبابا أو وجوبا‪ .‬فصل‬
‫وكل فعل عظمه الله ورسوله‪ ،‬أو مدحه‪ ،‬أو مدح فاعله لجله‪ ،‬أو فرح به‪،‬‬
‫أو أحبه‪ ،‬أو أحب فاعله‪ ،‬أو رضي به‪ ،‬أو رضي عن فاعله‪ ،‬أو وصفه‬
‫بالطيب‪ ،‬أو البركة‪ ،‬أو الحسن‪ ،‬أو نصبه سببا لمحبته أو لثواب عاجل أو‬
‫آجل )‪ (1‬أو نصبه سببا لذكره لعبده‪ ،‬أو لشكره له‪ ،‬أو لهدايته إياه‪ ،‬أو‬
‫لرضاء فاعله‪ ،‬أو وصف فاعله )‪ (2‬بالطيب‪ ،‬أو وصف الفعل بأنه معروف‪،‬‬
‫أو نفى الحزن والخوف عن فاعله‪ ،‬أو وعده بالمن‪ ،‬أو نصبه سببا لوليته‪،‬‬
‫أو أخبر عن دعاء الرسل بحصوله‪ ،‬أو وصفه بكونه قربة‪ ،‬أو أقسم به أو‬
‫بفاعله‪ ،‬كالقسم بخيل المجاهدين وإغارتها )‪ (3‬أو ضحك الرب جل جلله‬
‫من فاعله‪ ،‬أو عجبه به‪ ،‬فهو دليل على مشروعيته المشتركة بين الوجوب‬
‫والندب‪ .‬فصل‬
‫وكل فعل طلب الشارع تركه‪ ،‬أو ذم فاعله‪ ،‬أو عيب عليه‪ ،‬أو مقت فاعله‪،‬‬
‫أو لعنه‪ ،‬أو نفى محبته إياه‪ ،‬أو محبة فاعله‪ ،‬أو نفى الرضا به‪ ،‬أو الرضا عن‬
‫فاعله‪ ،‬أو شبه فاعله بالبهائم أو الشياطين‪ ،‬أو جعله مانعا من الهدى‪ ،‬أو‬
‫وصفه بسوء أو كراهة‪ ،‬أو استعاذ النبياء منه أو أبغضوه‪ ،‬أو جعل سببا‬
‫لنفي الفلح‪ ،‬أو لعذاب عاجل أو آجل‪ ،‬أو لذم أو لوم‪ ،‬أو ضللة أو معصية‪،‬‬
‫أو وصفه بخبث )‪ (4‬أو رجس‪ ،‬أو نجس‪ ،‬أو بكونه فسقا أو إثما‪ ،‬أو سببا‬
‫لثم أو رجس‪ ،‬أو لعن أو غضب‪ ،‬أو زوال نعمة‪ ،‬أو حلول نقمة‪ ،‬أو حد من‬
‫الحدود‪ ،‬أو قسوة‪ ،‬أو خزي‪ ،‬أو ارتهان نفس‪ ،‬أو لعداوة الله أو محاربته‪ ،‬أو‬
‫الستهزاء به وسخريته‪ ،‬أو جعله سببا لنسيانه لفاعله‪ ،‬أو وصف نفسه‬
‫بالصبر عليه‪ ،‬أو الصفح أو الحلم عنه‪ ،‬أو دعا إلى التوبة منه‪ ،‬أو وصف‬
‫فاعله بخبث أو احتقار‪ ،‬أو نسبه إلى الشيطان وتزيينه‪ ،‬أو تولي الشيطان‬
‫لفاعله‪ ،‬أو وصفه بصفة ذم‪ ،‬مثل كونه ظلما أو بغيا‪ ،‬أو عدوانا أو إثما‪ ،‬أو‬
‫تبرأ النبياء منه أو من فاعله‪ ،‬أو شكوا‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬أو لثوابه عاجل أو آجل‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬فاعليه‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬وإثارتها‪.‬‬
‫)‪ (4‬في ب‪ :‬بالخبث‪.‬‬

‫) ‪(1/32‬‬

‫إلى الله من فاعله‪ ،‬أو جاهروا فاعله بالعداوة‪ ،‬أو نصب سببا لخيبة فاعله‬
‫عاجل أو آجل أو رتب عليه حرمان الجنة‪ ،‬أو وصف فاعله بأنه عدو لله أو‬
‫الله عدوه‪ ،‬أو أعلم فاعله بحرب من الله ورسوله‪ ،‬أو حمل فاعله إثم‬
‫غيره‪ ،‬أو قيل فيه "ل ينبغي هذا" أو "ل يصلح" أو أمر بالتقوى عند السؤال‬
‫عنه‪ ،‬أو أمر بفعل يضاده‪ ،‬أو هجر فاعله‪ ،‬أو تلعن فاعلوه في الخرة‪ ،‬أو‬
‫تبرأ بعضهم من بعض‪ ،‬أو وصف فاعله بالضللة‪ ،‬أو أنه "ليس من الله في‬
‫شيء" أو أنه ليس من الرسول وأصحابه‪ ،‬أو قرن بمحرم ظاهر التحريم‬
‫في الحكم والخبر عنهما )‪ (1‬بخبر واحد‪ ،‬أو جعل اجتنابه سببا للفلح‪ ،‬أو‬
‫جعل سببا ليقاع العداوة والبغضاء بين المسلمين‪ ،‬أو قيل لفاعله "هل أنت‬
‫منته" أو نهى النبياء عن الدعاء لفاعله‪ ،‬أو رتب عليه إبعاد‪ ،‬أو طرد‪ ،‬أو‬
‫لفظة "قتل من فعله"‪ ،‬أو "قاتل الله من فعله"‪ ،‬أو أخبر أن فاعله "ل‬
‫يكلمه الله يوم القيامة‪ ،‬ول ينظر إليه‪ ،‬ول يزكيه"‪ ،‬أو أن الله ل يصلح‬
‫عمله‪ ،‬ول يهدي كيده‪ ،‬أو أن فاعله ل يفلح‪ ،‬ول يكون يوم القيامة من‬
‫الشهداء ول من الشفعاء‪ ،‬أو أن الله يغار من فعله‪ ،‬أو نبه على وجه‬
‫المفسدة فيه‪ ،‬أو أخبر أنه ل يقبل من فاعله صرفا ول عدل أو أخبر أن من‬
‫فعله قيض له الشيطان فهو له قرين‪ ،‬أو جعل الفعل سببا لزاغة الله قلب‬
‫فاعله‪ ،‬أو صرفه عن آياته وفهم آلئه‪ ،‬أو سؤال الله سبحانه عن علة الفعل‬
‫ن‬
‫سو َ‬‫م ت َل ْب ِ ُ‬ ‫ن { } لِ َ‬‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬‫ل الل ّهِ َ‬
‫سِبي ِ‬‫ن َ‬‫ن عَ ْ‬ ‫دو َ‬‫ص ّ‬
‫م تَ ُ‬
‫"لم فعل" نحو‪ } :‬ل ِ َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن { ما‬‫فعَلو َ‬ ‫ما ل ت َ ْ‬
‫ن َ‬
‫قولو َ‬ ‫م تَ ُ‬‫جد َ { } ل ِ َ‬‫س ُ‬
‫ن تَ ْ‬ ‫َ‬
‫من َعَك أ ْ‬ ‫ما َ‬‫ل{} َ‬ ‫حقّ ِبال َْباط ِ ِ‬‫ال ْ َ‬
‫لم يقترن به جواب من المسئول )‪ (2‬فإذا قرن به جواب‪ ،‬كان بحسب‬
‫جوابه‪.‬‬
‫فهذا ونحوه‪ ،‬يدل على المنع من الفعل‪ ،‬ودللته على التحريم أطرد من‬
‫دللته على مجرد الكراهة‪ .‬وأما لفظة يكرهه الله ورسوله‪ ،‬أو مكروه‪،‬‬
‫فأكثر ما يستعمل في المحرم‪ ،‬وقد يستعمل في كراهة التنزيه‪.‬‬
‫وأما لفظة "وأما أنا فل أفعل" فالمتحقق )‪ (3‬منه الكراهة كقوله‪" :‬أما أنا‬
‫فل آكل متكئا"‪.‬‬
‫وأما لفظة "ما يكون لك" و "ما يكون لنا" فاطرد استعمالها في المحرم‪،‬‬
‫َ‬ ‫كون ل َ َ َ‬
‫ما‬‫ن ن َُعود َ ِفيَها { } َ‬ ‫ن ل ََنا أ ْ‬
‫كو ُ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫ن ت َت َك َب َّر ِفيَها { } َ‬ ‫كأ ْ‬ ‫ما ي َ ُ ُ‬ ‫نحو } فَ َ‬
‫حقّ {‪ .‬فصل‬ ‫َ‬ ‫ن أُقو َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫يَ ُ‬
‫س ِلي ب ِ َ‬ ‫ما لي ْ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ِلي أ ْ‬ ‫كو ُ‬
‫وتستفاد الباحة من لفظ الحلل‪ ،‬ورفع الجناح‪ ،‬والذن‪ ،‬والعفو‪ ،‬و "إن‬
‫شئت فافعل" و "إن شئت فل تفعل"‪ ،‬ومن المتنان بما في العيان من‬
‫ها‬ ‫وافَِها وَأ َوَْبارِ َ‬ ‫ص َ‬
‫المنافع‪ ،‬وما يتعلق بها من الفعال‪ ،‬نحو‪ } :‬وم َ‬
‫نأ ْ‬ ‫َ ِ ْ‬
‫عا إ َِلى ِ‬ ‫شعار َ َ‬ ‫َ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫دو َ‬ ‫م ي َهْت َ ُ‬‫جم ِ هُ ْ‬ ‫ن { ونحو } وَِبالن ّ ْ‬ ‫حي ٍ‬ ‫مَتا ً‬ ‫ها أَثاًثا وَ َ‬ ‫وَأ ْ َ ِ‬
‫ومن السكوت عن التحريم‪ ،‬ومن القرار على الفعل في زمن الوحي‪.‬‬
‫فائدة‬
‫التعجب كما يدل على محبة الله تعالى للفعل نحو "عجب ربك من شاب‬
‫ب‬
‫ج ْ‬ ‫ن ت َعْ َ‬ ‫ليست له صبوة" ونحوه‪ ،‬قد يدل على بغض الفعل كقوله‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫خُرو َ‬ ‫س َ‬ ‫ت وَي َ ْ‬ ‫جب ْ َ‬ ‫ل عَ ِ‬ ‫م { وقوله‪ } :‬ب َ ْ‬ ‫ب قَوْل ُهُ ْ‬ ‫ج ٌ‬ ‫فَعَ َ‬
‫َ‬
‫ه {‪.‬‬ ‫سول ُ ُ‬ ‫م َر ُ‬ ‫ت الل ّهِ وَِفيك ُ ْ‬ ‫م آَيا ُ‬ ‫م ت ُت َْلى عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ن وَأن ْت ُ ْ‬ ‫فُرو َ‬ ‫ف ت َك ْ ُ‬ ‫وقوله‪ } :‬وَك َي ْ َ‬
‫ن‬
‫كي َ‬
‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ل ِل ْ ُ‬ ‫كو ُ‬ ‫ف يَ ُ‬ ‫وقد يدل على امتناع الحكم‪ ،‬وعدم حسنه‪ ،‬كقوله‪ } :‬ك َي ْ َ‬
‫عن ْد َ الل ّهِ {‪.‬‬ ‫عَهْد ٌ ِ‬
‫ويدل على حسن المنع منه قدرا‪ ،‬وأنه ل يليق به فعله‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬
‫م {‪.‬‬ ‫مان ِهِ ْ‬ ‫فُروا ب َعْد َ ِإي َ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫ه قَوْ ً‬ ‫دي الل ّ ُ‬ ‫ف ي َهْ ِ‬‫} ك َي ْ َ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬عنه‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬من السؤال‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬فالمحقق‪.‬‬

‫) ‪(1/33‬‬

‫فائدة‬
‫َ‬
‫جعَل ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫نفي التساوي في كتاب الله‪ ،‬قد يأتي بين الفعلين‪ ،‬كقوله تعالى‪ } :‬أ َ‬
‫خرِ { الية‪.‬‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫حَرام ِ ك َ َ‬
‫م ْ‬ ‫جدِ ال ْ َ‬‫س ِ‬
‫م ْ‬ ‫ماَرةَ ال ْ َ‬‫ع َ‬‫ج وَ ِ‬ ‫حا ّ‬ ‫ة ال ْ َ‬
‫قاي َ َ‬
‫س َ‬
‫ِ‬
‫ن غَي ُْر‬ ‫ني‬
‫ُ ِ ِ َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ؤ‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ن‬
‫ِ ُ َ ِ َ‬ ‫دو‬ ‫ع‬ ‫قا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫وي‬ ‫ت‬ ‫س‬
‫َ ْ َ ِ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫}‬ ‫كقوله‪:‬‬ ‫الفاعلين‬ ‫بين‬ ‫يأتي‬ ‫وقد‬
‫ل الل ّهِ {‪.‬‬ ‫ُ‬
‫سِبي ِ‬‫ن ِفي َ‬ ‫دو َ‬ ‫جاهِ ُ‬‫م َ‬‫ضَررِ َوال ْ ُ‬ ‫أوِلي ال ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫جن ّةِ {‪.‬‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬
‫ب الّنارِ وَأ ْ‬ ‫حا ُ‬‫ص َ‬ ‫وي أ ْ‬ ‫ست َ ِ‬
‫وقد يأتي بين الجزائين كقوله } ل ي َ ْ‬
‫وي‬ ‫ست َ ِ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫وقد جمع الله بين الثلثة في آية واحدة‪ ،‬وهي قوله تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫ت َول الّنوُر { اليات‪ .‬فائدة‬ ‫ما ُ‬‫صيُر َول الظ ّل ُ َ‬ ‫مى َوال ْب َ ِ‬ ‫العْ َ‬
‫في ضرب المثال في القرآن يستفاد منه أمور‪:‬‬
‫التذكير‪ ،‬والوعظ‪ ،‬والحث‪ ،‬والزجر‪ ،‬والعتبار‪ ،‬والتقرير‪ ،‬وتقريب المراد‬
‫للعقل‪ ،‬وتصويره في صورة المحسوس‪ ،‬بحيث يكون نسبته للعقل‪ ،‬كنسبة‬
‫المحسوس إلى الحس‪.‬‬
‫وتأتي أمثال القرآن مشتملة على بيان تفاوت الجر‪ ،‬وعلى المدح والذم‪،‬‬
‫وعلى الثواب‪ ،‬وعلى تفخيم المر أو تحقيره‪ ،‬وعلى تحقيق أمر‪ ،‬وإبطال‬
‫أمر‪ .‬فائدة‬
‫السياق يرشد إلى بيان المجمل‪ ،‬وتعيين المحتمل‪ ،‬والقطع بعدم )‪(1‬‬
‫احتمال غير المراد‪ ،‬وتخصيص العام‪ ،‬وتقييد المطلق‪ ،‬وتنوع الدللة‪ ،‬وهو‬
‫من أعظم القرائن الدالة على مراد المتكلم‪ ،‬فمن أهمله غلط في نظره‪،‬‬
‫وغالط في مناظرته‪ ،‬فانظر إلى قوله‪ } :‬ذ ُقْ إن َ َ‬
‫م{‬ ‫ري ُ‬‫زيُز ال ْك َ ِ‬ ‫ت ال ْعَ ِ‬
‫ك أن ْ َ‬ ‫ِّ‬
‫كيف تجد سياقه يدل على أنه الذليل الحقير‪ .‬فائدة‬
‫إخبار الرب عن المحسوس الواقع له عدة فوائد‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن يكون توطئة وتقدمة لبطال ما بعده‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن يكون موعظة وتذكرة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن يكون شاهدا على ما أخبر به من توحيده‪ ،‬وصدق رسوله‪ ،‬وإحياء‬
‫الموتى‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن يذكر في معرض المتنان‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن يذكر في معرض اللوم والتوبيخ‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن يذكر في معرض المدح والذم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن يذكر في معرض الخبار عن اطلع الرب عليه‪ .‬وغير ذلك من‬
‫الفوائد‪.‬‬
‫انتهى كلمه رحمه الله‪ ،.‬وهو في غاية النفاسة‪ ،‬والشتمال على كثير من‬
‫القواعد والضوابط المتعلقة بتفسير القرآن‪ ،‬فجزاه الله خيرا‪.‬‬
‫قلت‪ :‬وقد اشتمل القرآن على عدة علوم قد ثنيت فيه وأعيدت‪:‬‬
‫فمنها‪ :‬ضرب المثال‪ ،‬وقد ذكر ابن القيم فيما تقدم فوائدها‪.‬‬
‫ومنها ذكر صفات أهل السعادة والشقاوة‪ ،‬وفي ذلك فوائد عديدة‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬بعد‪.‬‬

‫) ‪(1/34‬‬

‫منها‪ :‬أن الوصاف التي يوصف بها أهل الخير‪ ،‬تدل على محبة الله ورضاه‬
‫وأنها محمودة‪ ،‬والصفات التي يوصف بها أهل الشر‪ ،‬تدل على بغض الله‬
‫لها وأنها مذمومة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ما يكرم الله به أولياءه من الثناء الحسن بين عباده‪ ،‬فهو ثواب‬
‫معجل‪ ،‬ويهين به أعداءه من الوصاف القبيحة‪ ،‬فيكون عقابا معجل‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن فيه حثا للنفوس على القتداء بأهل الخير ومنافستهم‪ ،‬وتنشيط‬
‫العمال على العمال ببيان من عملها من أولياء الله‪.‬‬
‫وفيه الترهيب من أفعال أهل الشر‪ ،‬وتبغيض المعاصي التي أثرت مع‬
‫عامليها ما أثرت‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬العتبار بصفات أهل الخير والشر‪ ،‬وأن من فعل مثل فعلهم ناله ما‬
‫نالهم‪.‬‬
‫وقد حث تعالى على العتبار‪ ،‬في غير موضع من كتابه‪ .‬وحقيقته‪ :‬العبور‬
‫من شيء إلى شيء‪ ،‬وقياس الشيء على نظيره‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن العبد إذا رأى )‪ (1‬أعمال أهل الخير وعجزه عن القيام بها‪،‬‬
‫أوجب له ذلك الزراء على نفسه واحتقارها‪ ،‬وهذا هو عين صلحه‪ ،‬كما أن‬
‫رؤيته نفسه بعين العجاب والتكبر هو عين فساده‪ ،‬إلى غير ذلك من‬
‫الفوائد‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ذكر صفات الله وأسمائه وأفعاله‪ ،‬وتقديسه عن النقائص‪ ،‬وفي ذلك‬
‫فوائد عظيمة‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن هذا العلم ‪-‬وهو العلم المتعلق بالله تعالى‪ -‬أشرف العلوم وأجلها‬
‫على الطلق‪.‬‬
‫فالشتغال بفهمه والبحث التام عنه‪ ،‬اشتغال بأعلى المطالب‪ ،‬وحصوله‬
‫للعبد من أشرف المواهب‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن معرفة الله تعالى تدعو إلى محبته وخشيته‪ ،‬وخوفه ورجائه‪،‬‬
‫وإخلص العمل له‪ ،‬وهذا عين سعادة العبد‪ ،‬ول سبيل إلى معرفة الله‪ ،‬إل‬
‫بمعرفة أسمائه وصفاته‪ ،‬والتفقه في فهم معانيها‪.‬‬
‫وقد اشتمل القرآن من ذلك على ما لم يشتمل عليه غيره‪ ،‬من تفاصيل‬
‫ذلك وتوضيحها‪ ،‬والتعرف بها إلى عباده‪ ،‬وتعريفهم لنفسه كي يعرفوه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الله خلق الخلق ليعبدوه ويعرفوه‪ ،‬فهذا هو الغاية المطلوبة‬
‫منهم‪ ،‬فالشتغال بذلك اشتغال بما خلق له العبد‪ ،‬وتركه وتضييعه إهمال‬
‫لما خلق له‪ .‬وقبيح بعبد‪ ،‬لم تزل نعم الله عليه متواترة‪ ،‬وفضله عليه‬
‫عظيم من كل وجه‪ ،‬أن يكون جاهل بربه معرضا عن معرفته‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن أحد أركان اليمان‪ ،‬بل أفضلها وأصلها اليمان بالله‪ ،‬وليس‬
‫اليمان بمجرد قوله‪" :‬آمنت بالله" من غير معرفة بربه‪.‬‬
‫بل حقيقة اليمان‪ ،‬أن يعرف الرب الذي يؤمن به‪ ،‬ويبذل جهده في معرفة‬
‫أسمائه وصفاته‪ ،‬حتى يبلغ درجة اليقين‪ ،‬وبحسب معرفته بربه يكون‬
‫إيمانه‪ ،‬فكلما ازداد معرفة بربه ازداد إيمانه وكلما نقص‪ ،‬نقص‪.‬‬
‫وأقرب طريق يوصله إلى ذلك‪ ،‬تدبر صفاته وأسمائه من القرآن‪.‬‬
‫والطريق في ذلك‪ ،‬إذا مر به اسم من أسماء الله‪ ،‬أثبت )‪ (2‬له ذلك‬
‫المعنى وكماله وعمومه‪ ،‬ونزهه )‪ (3‬عما يضاد ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن العلم به تعالى أصل الشياء كلها‪ ،‬حتى إن العارف به حقيقة‬
‫المعرفة‪ ،‬يستدل بما عرف من صفاته وأفعاله على ما يفعله‪ ،‬وعلى ما‬
‫يشرعه من الحكام‪ ،‬لنه ل يفعل إل ما هو مقتضى أسمائه وصفاته‪،‬‬
‫فأفعاله دائرة‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬نظر إلى‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬أن يثبت‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬وينزهه‪.‬‬

‫) ‪(1/35‬‬

‫بين العدل والفضل والحكمة‪.‬‬


‫وكذلك ل يشرع ما يشرعه من الحكام‪ ،‬إل على حسب ما اقتضاه حمده‬
‫وحكمته وفضله وعدله‪.‬‬
‫فأخباره كلها حق وصدق‪ ،‬وأوامره ونواهيه عدل وحكمة‪.‬‬
‫وهذا العلم أعظم وأشهر من أن ينبه عليه لوضوحه‪ :‬وكيف يصح في‬
‫الذهان شيء‬
‫إذا احتاج النهار إلى دليل‬
‫ومنها‪ :‬ذكر النبياء والمرسلين‪ ،‬وما أرسلوا به‪ ،‬وما جرى لهم مع أممهم‪.‬‬
‫وفي ذلك عدة فوائد‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن من تمام اليمان بهم معرفتهم بصفاتهم وسيرهم وأحوالهم‪ .‬وكلما‬
‫كان المؤمن بذلك أعرف‪ ،‬كان أعظم إيمانا بهم‪ ،‬ومحبة لهم‪ ،‬وتعظيما لهم‪،‬‬
‫وتعزيزا وتوقيرا‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن من بعض حقوقهم علينا ‪-‬خصوصا النبي محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ -‬معرفتهم ومحبتهم محبة صادقة‪ ،‬ول سبيل لذلك إل بمعرفة‬
‫أحوالهم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن معرفة النبياء موجبة لشكر الله تعالى على ما من به على‬
‫المؤمنين‪ ،‬إذ بعث فيهم رسول منهم يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة‪ ،‬بعد‬
‫أن كانوا في ضلل مبين‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الرسل هم المربون للمؤمنين‪ ،‬الذين ما نال المؤمنون )‪(1‬‬
‫مثقال ذرة من الخير‪ ،‬ول اندفع عنهم مثقال ذرة من الشر‪ ،‬إل على أيديهم‬
‫وبسببهم‪.‬‬
‫فقبيح بالمؤمن أن يجهل حالة مربيه ومزكيه ومعلمه‪.‬‬
‫وإذا كان من المستنكر جهل النسان بحال أبويه ومباعدته لذلك‪ ،‬فكيف‬
‫بحالة الرسول‪ ،‬الذي هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم‪ ،‬وهو أبوهم‬
‫الحقيقي‪ ،‬الذي حقه مقدم على سائر الحقوق بعد حق الله تعالى؟!!‬
‫ومنها‪ :‬أن في معرفة ما جرى لهم وجرى عليهم‪ ،‬تحصل للمؤمن )‪(2‬‬
‫السوة والقدوة‪ ،‬وتخف عنه كثير من المقلقات والمزعجات‪ ،‬لنها مهما‬
‫بلغت من الثقل والشدة‪ ،‬فل تصل إلى بعض ما جرى على النبياء‪ .‬قال‬
‫ُ‬
‫ة{‬‫سن َ ٌ‬
‫ح َ‬ ‫ل الل ّهِ أ ْ‬
‫سوَةٌ َ‬ ‫سو ِ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬
‫م ِفي َر ُ‬ ‫كا َ‬ ‫تعالى‪ } :‬ل َ َ‬
‫قد ْ َ‬
‫ومن أعظم القتداء بهم‪ ،‬القتداء بتعليماتهم‪ ،‬وكيفية إلقاء العلم على‬
‫حسب مراتب الخلق‪ ،‬والصبر على التعليم‪ ،‬والدعوة إلى الله بالحكمة‬
‫والموعظة الحسنة‪ ،‬والمجادلة بالتي هي أحسن‪ ،‬وبهذا وأمثاله كان العلماء‬
‫ورثة النبياء‪.‬‬
‫ومن فوائد معرفة الرسول صلى الله عليه وسلم‪ ،‬معرفة اليات القرآنية‬
‫المنزلة عليه وفهم المعنى‪ .‬والمراد منها موقوف على معرفة أحوال‬
‫الرسول‪ ،‬وسيرته مع قومه وأصحابه وغيرهم من الناس‪ ،‬فإن الزمنة‬
‫والمكنة والشخاص تختلف اختلفا كثيرا‪.‬‬
‫فلو أراد إنسان )‪ (3‬أن يصرف همه لمعرفة معاني القرآن من دون معرفة‬
‫منه لذلك‪ ،‬لحصل من الغلط على الله وعلى رسوله‪ ،‬وعلى مراد الله من‬
‫كلمه‪ ،‬شيء كثير‪.‬‬
‫وهذا إنما يعرفه من عرف ما في أكثر التفاسير من الغلط القبيحة التي‬
‫ينزه عنها كلم الله )‪ (4‬وغير‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬المؤمن‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬للمؤمنين‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬النسان‪.‬‬
‫)‪ (4‬في ب جاءت الجملة هكذا )ما في كثير من التفاسير من الغلط التي‬
‫ينزه عنها كلم الله( وقد شطبت هذه الجملة‪ ،‬وكتب الشيخ‪ -‬رحمه الله‪-‬‬
‫في الهامش بدل عنها ما يلي )كيف كثر حمل مراد الله ورسوله على‬
‫العرف الحادث فوقع الخلل الكثير(‪.‬‬

‫) ‪(1/36‬‬
‫ذلك من الفوائد المفيدة والنتائج السديدة‪.‬‬
‫ومن علوم القرآن‪ :‬المر والنهي الموجه لهذه المة وغيرها‪ ،‬وهذا هو‬
‫المقصود منهم‪ ،‬وفي معرفة ذلك عدة فوائد‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن الله تعالى حث على معرفة حدود ما أنزل الله على رسوله‪ ،‬وذم‬
‫من لم يعرف ذلك‪.‬‬
‫ومن أعظم ما يجب معرفة حدوده؛ الوامر والنواهي التي كلفنا بها‪،‬‬
‫وألزمنا بالقيام بها وتعلمها وتعليمها‪.‬‬
‫ول سبيل إلى امتثالها‪] ،‬أو اجتنابها‪ (1) [،‬إل بمعرفتها‪ ،‬ليتأتى فعلها ] أو‬
‫تركها[ )‪ (2‬وذلك أن المكلف إذا أمر بأمر‪ ،‬وجب عليه أول معرفة ما هو‬
‫الذي أمر به‪ ،‬وما يدخل به وما ل يدخل‪.‬‬
‫فإذا عرف ذلك استعان بالله‪ ،‬واجتهد في امتثاله بحسب القدرة والمكان‪.‬‬
‫وكذلك إذا نهي عن أمر من المور‪ ،‬وجب عليه معرفة ذلك المنهي‬
‫وحقيقته‪ ،‬ثم يبذل جهده مستعينا بربه على تركه‪ ،‬امتثال لمر الله‪ ،‬واجتنابا‬
‫لنهيه‪ ،‬وامتثال المر‪ ،‬واجتناب النهي‪ ،‬كل منهما واجب‪ ،‬وما ل يتم الواجب‬
‫إل به فهو واجب‪ .‬فعرفت أن العلم بها قبل العمل‪ ،‬ومتقدم عليه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الدعوة إلى الخير‪ ،‬والمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ل يمكن‬
‫حصولها وتحصيلها إل بعد معرفة الخير ليدعو له‪ ،‬ومعرفة المعروف ليأمر‬
‫به‪ ،‬ومعرفة المنكر لينهى عنه‪ ،‬والقرآن مشتمل على ذلك أعظم اشتمال‪،‬‬
‫ومتضمن له أكمل تضمن‪.‬‬
‫ومن علوم القرآن أحوال اليوم الخر‪ ،‬وهو ما يكون بعد الموت مما أخبر‬
‫به الله في كتابه‪ ،‬أو أخبر به رسوله من أهوال الموت‪ ،‬والقبر والموقف‪،‬‬
‫والجنة والنار‪ ،‬وفي العلم بذلك فوائد كثيرة‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن اليمان باليوم الخر‪ ،‬أحد أركان اليمان الستة‪ ،‬التي ل يصح‬
‫اليمان بدونها‪ ،‬وكلما ازدادت معرفته بتفاصيله‪ ،‬ازداد إيمانه )‪. (3‬‬
‫ومنها‪ :‬أن العلم بذلك )‪ (4‬حقيقة المعرفة‪ ،‬يفتح للنسان باب الخوف‬
‫والرجاء‪ ،‬اللذين إن خل القلب منهما خرب كل الخراب‪ ،‬وإن عمر بهما‬
‫أوجب له الخوف النكفاف عن المعاصي‪ ،‬والرجاء تيسير الطاعة‬
‫وتسهيلها‪ ،‬ول يتم ذلك إل بمعرفة تفاصيل المور التي يخاف منها وتحذر؛‬
‫كأحوال القبر وشدته‪ ،‬وأحوال الموقف الهائلة‪ ،‬وصفات النار المفظعة‪.‬‬
‫وبمعرفة تفاصيل الجنة وما فيها من النعيم المقيم‪ ،‬والحبرة والسرور‪،‬‬
‫ونعيم القلب والروح والبدن‪ ،‬فيحدث بسبب ذلك الشتياق الداعي للجتهاد‬
‫في السعي للمحبوب المطلوب‪ ،‬بكل ما يقدر عليه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه يعرف بذلك فضل الله وعدله‪ ،‬في المجازاة على العمال‬
‫الصالحة‪ ،‬والسيئة‪ ،‬الموجب لكمال حمده والثناء عليه بما هو أهله‪.‬‬
‫وعلى قدر علم العبد بتفاصيل الثواب والعقاب‪ ،‬يعرف بذلك فضل الله‬
‫وعدله وحكمته‪.‬‬
‫ومن علوم القرآن‪ :‬مجادلة المبطلين‪ ،‬ودفع شبه الظالمين‪ ،‬وإقامة‬
‫البراهين العقلية الموافقة للدلة النقلية‪.‬‬
‫وهذا الفن من علوم القرآن من خواص العلماء الربانيين‪ ،‬والجهابذة‬
‫الراسخين‪ ،‬والعقلء المستبصرين‪ ،‬وقد اشتمل القرآن من الدلة العقلية‪،‬‬
‫والقواطع البرهانية‪ ،‬ما لو جمع ما عند جميع‬
‫__________‬
‫زيادة من هامش ب‪.‬‬ ‫)‪(1‬‬
‫زيادة من هامش ب‪.‬‬ ‫)‪(2‬‬
‫في ب‪ :‬إيمان العبد به‪.‬‬ ‫)‪(3‬‬
‫في ب‪ :‬أن معرفة ذلك‪.‬‬ ‫)‪(4‬‬

‫) ‪(1/37‬‬

‫المتكلمين من حق‪ ،‬لكان بالنسبة إليه كنقرة عصفور بالنسبة لماء البحر؛‬
‫ذلك بأن القرآن هو الحق‪ ،‬وقد اشتمل على الحق والصدق والعدل‬
‫والميزان العادل والقسط والصلح والفلح‪ ،‬فإن ذكر التوحيد والشرك‪،‬‬
‫وأمر بالول ونهى عن الثاني‪ ،‬أقام من البراهين القاطعة على صحة‬
‫التوحيد وحسنه وتعينه طريقا للنجاة‪ ،‬وقبح الشرك وبطلنه‪ ،‬وكونه هو‬
‫الطريق للهلك‪ ،‬ما يجعل ذلك للبصيرة كالشمس في نحر الظهيرة‪.‬‬
‫وإن أمر بالوامر الشرعية‪ ،‬وحث على الداب ومكارم الخلق‪ ،‬رأيته ينبه‬
‫العقول النيرة على ما اشتملت عليه من المصالح الضرورية‪ ،‬التي‬
‫يحتاجونها في معاشهم ومعادهم‪ ،‬ما يجزم بأنه )‪ (1‬ل أحسن منها‪ ،‬وأن‬
‫حكمته تقتضي المر بها أشد اقتضاء‪.‬‬
‫وإن نهى عن المحارم والقبائح والخبائث‪ ،‬أخبر بما في ضمنها من الفساد‬
‫والضرر‪ ،‬والشر الحاصل بتناولها‪ ،‬وأن نعمة الله عليهم بتحريمها عليهم‬
‫وتنزيههم عنها‪ ،‬وتكريمهم وتعلية أقدارهم عن التلبس بها فوق كل نعمة‪،‬‬
‫فالمأمورات مشتملت )‪ (2‬على الصلح‪ ،‬والمحرمات مشتملت )‪ (3‬على‬
‫المفاسد‪.‬‬
‫وإن شرع في الحجاج للمبطلين‪ ،‬وتزييف شبه المشبهين‪ ،‬وبطلن مذاهب‬
‫الضالين‪ ،‬فقل ما شئت من إحقاق حق‪ ،‬ودمغ باطل‪ ،‬وإرشاد ضال‪ ،‬وإقامة‬
‫الحجة على المعاند‪ ،‬وبيان أن الباطل ل يقوم لقل شيء من الحق‪ ،‬بل هو‬
‫على اسمه باطل ل حقيقة له‪ ،‬إن هي إل أسماء يسمون بها الباطل إذا‬
‫جردت‪ ،‬تبينت هباء منثورا‪.‬‬
‫ورأيته يسوق البراهين العقلية‪ ،‬بأوضح عبارة وأوجزها وأسلمها من‬
‫العتراض والنقض والخفاء‪ ،‬فيجمع بين الدليل العقلي والنقلي في كلمة‬
‫واحدة‪ ،‬إيجازا غير مخل بالمطلوب‪ ،‬وتارة يفصل ذلك‪ ،‬ويسرد من البراهين‬
‫ما يكفي بعضه بالبيان‪ .‬فلله الحمد والشكر‪.‬‬
‫فهذه مقدمة نافعة‪ ،‬إن شاء الله‪ ،‬ينبغي استقراؤها في ]كل[ مواردها‪،‬‬
‫والتنبه لكل ما يرد من هذه المطالب على وجه التفصيل‪ ،‬فمن استعملها‬
‫في كل ما يرد عليه من اليات‪ ،‬انتفع بها نفعا عظيما‪ .‬وذلك فضل الله‬
‫يؤتيه من يشاء‪ ،‬والله ذو الفضل العظيم‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬به أنه‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬مشتملة‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬مشتملة‪.‬‬

‫) ‪(1/38‬‬
‫] ص ‪[ 39‬‬
‫تفسير الفاتحة‬
‫وهي مكية‬

‫) ‪(1/39‬‬

‫حيم ِ‬
‫ن الّر ِ‬‫م ِ‬‫ح َ‬ ‫ن )‪ (2‬الّر ْ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫مد ُ ل ِل ّهِ َر ّ‬
‫ح ْ‬ ‫حيم ِ )‪ (1‬ال ْ َ‬ ‫ن الّر ِ‬‫م ِ‬ ‫سم ِ الل ّهِ الّر ْ‬
‫ح َ‬ ‫بِ ْ‬
‫صَراطَ‬ ‫ن )‪ (5‬اهْدَِنا ال ّ‬ ‫ست َِعي ُ‬‫ك نَ ْ‬‫ك ن َعْب ُد ُ وَإ ِّيا َ‬ ‫ن )‪ (4‬إ ِّيا َ‬
‫َ‬ ‫دي ِ‬
‫ك ي َوْم ِ ال ّ‬‫مال ِ ِ‬ ‫)‪َ (3‬‬
‫م وَلَ‬ ‫َ‬
‫ب عَلي ْهِ ْ‬
‫ضو ِ‬ ‫مغْ ُ‬ ‫ْ‬
‫م غَي ْرِ ال َ‬ ‫َ‬
‫ت عَلي ْهِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن أن ْعَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫صَراط ال ِ‬ ‫م )‪ِ (6‬‬ ‫قي َ‬ ‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬‫ال ْ ُ‬
‫ن )‪(7‬‬ ‫ضاّلي َ‬ ‫ال ّ‬

‫ن*‬ ‫مي َ‬‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫مد ُ ل ِل ّهِ َر ّ‬


‫ح ْ‬ ‫حيم ِ * ال ْ َ‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫سم ِ الل ّهِ الّر ْ‬
‫ح َ‬ ‫} ‪ } { 7 - 1‬بِ ْ‬
‫ن * اهْدَِنا‬ ‫ست َِعي ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن * إ ِّياك ن َعْب ُد ُ وَإ ِّياك ن َ ْ‬ ‫دي ِ‬‫ك ي َوْم ِ ال ّ‬ ‫مال ِ ِ‬
‫حيم ِ * َ‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫م ِ‬‫ح َ‬ ‫الّر ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م َول‬‫ب عَلي ْهِ ْ‬ ‫ضو ِ‬ ‫مغْ ُ‬ ‫م غَي ْرِ ال َ‬ ‫ت عَلي ْهِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن أن ْعَ ْ‬
‫ذي َ‬‫صَراط ال ِ‬ ‫م* ِ‬ ‫قي َ‬‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬‫صَراط ال ُ‬ ‫ال ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ضالي َ‬ ‫ال ّ‬
‫سم ِ اللهِ { أي‪ :‬أبتدئ بكل اسم لله تعالى‪ ،‬لن لفظ } اسم { مفرد‬ ‫ّ‬ ‫} بِ ْ‬
‫ّ‬
‫مضاف‪ ،‬فيعم جميع السماء ]الحسنى[‪ } .‬اللهِ { هو المألوه المعبود‪،‬‬
‫المستحق لفراده بالعبادة‪ ،‬لما اتصف به من صفات اللوهية وهي صفات‬
‫حيم ِ { اسمان دالن على أنه تعالى ذو الرحمة‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫م ِ‬‫ح َ‬ ‫الكمال‪ } .‬الّر ْ‬
‫الواسعة العظيمة التي وسعت كل شيء‪ ،‬وعمت كل حي‪ ،‬وكتبها للمتقين‬
‫المتبعين لنبيائه ورسله‪ .‬فهؤلء لهم الرحمة المطلقة‪ ،‬ومن عداهم فلهم )‬
‫‪ (1‬نصيب منها‪.‬‬
‫واعلم أن من القواعد المتفق عليها بين سلف المة وأئمتها‪ ،‬اليمان‬
‫بأسماء الله وصفاته‪ ،‬وأحكام الصفات‪.‬‬
‫فيؤمنون مثل بأنه رحمن رحيم‪ ،‬ذو الرحمة التي اتصف بها‪ ،‬المتعلقة‬
‫بالمرحوم‪ .‬فالنعم كلها‪ ،‬أثر من آثار رحمته‪ ،‬وهكذا في سائر السماء‪ .‬يقال‬
‫في العليم‪ :‬إنه عليم ذو علم‪ ،‬يعلم ]به[ كل شيء‪ ،‬قدير‪ ،‬ذو قدرة يقدر‬
‫على كل شيء‪.‬‬
‫مد ُ ل ِل ّهِ { ]هو[ الثناء على الله بصفات الكمال‪ ،‬وبأفعاله الدائرة بين‬ ‫ح ْ‬ ‫} ال ْ َ‬
‫ن{‬ ‫مي َ‬‫ب ال َْعال َ ِ‬‫الفضل والعدل‪ ،‬فله الحمد الكامل‪ ،‬بجميع الوجوه‪َ } .‬ر ّ‬
‫الرب‪ ،‬هو المربي جميع العالمين ‪-‬وهم من سوى الله‪ -‬بخلقه إياهم‪،‬‬
‫وإعداده لهم اللت‪ ،‬وإنعامه عليهم بالنعم العظيمة‪ ،‬التي لو فقدوها‪ ،‬لم‬
‫يمكن لهم البقاء‪ .‬فما بهم من نعمة‪ ،‬فمنه تعالى‪.‬‬
‫وتربيته تعالى لخلقه نوعان‪ :‬عامة وخاصة‪.‬‬
‫فالعامة‪ :‬هي خلقه للمخلوقين‪ ،‬ورزقهم‪ ،‬وهدايتهم لما فيه مصالحهم‪ ،‬التي‬
‫فيها بقاؤهم في الدنيا‪.‬‬
‫والخاصة‪ :‬تربيته لوليائه‪ ،‬فيربيهم باليمان‪ ،‬ويوفقهم له‪ ،‬ويكمله لهم‪،‬‬
‫ويدفع عنهم الصوارف‪ ،‬والعوائق الحائلة بينهم وبينه‪ ،‬وحقيقتها‪ :‬تربية‬
‫التوفيق لكل خير‪ ،‬والعصمة عن كل شر‪ .‬ولعل هذا ]المعنى[ هو السر في‬
‫كون أكثر أدعية النبياء بلفظ الرب‪ .‬فإن مطالبهم كلها داخلة تحت ربوبيته‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫ن { على انفراده بالخلق والتدبير‪ ،‬والنعم‪ ،‬وكمال‬ ‫مي َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ب الَعال ِ‬ ‫فدل قوله } َر ّ‬
‫غناه‪ ،‬وتمام فقر العالمين إليه‪ ،‬بكل وجه واعتبار‪.‬‬
‫ن { المالك‪ :‬هو من اتصف بصفة الملك التي من آثارها‬ ‫دي ِ‬ ‫ك ي َوْم ِ ال ّ‬
‫مال ِ ِ‬
‫} َ‬
‫أنه يأمر وينهى‪ ،‬ويثيب ويعاقب‪ ،‬ويتصرف بمماليكه بجميع أنواع التصرفات‪،‬‬
‫وأضاف الملك ليوم الدين‪ ،‬وهو يوم القيامة‪ ،‬يوم يدان الناس فيه‬
‫بأعمالهم‪ ،‬خيرها وشرها‪ ،‬لن في ذلك اليوم‪ ،‬يظهر للخلق تمام الظهور‪،‬‬
‫كمال ملكه وعدله وحكمته‪ ،‬وانقطاع أملك الخلئق‪ .‬حتى ]إنه[ يستوي في‬
‫ذلك اليوم‪ ،‬الملوك والرعايا والعبيد والحرار‪.‬‬
‫كلهم مذعنون لعظمته‪ ،‬خاضعون لعزته‪ ،‬منتظرون لمجازاته‪ ،‬راجون ثوابه‪،‬‬
‫خائفون من عقابه‪ ،‬فلذلك خصه بالذكر‪ ،‬وإل فهو المالك ليوم الدين ولغيره‬
‫من اليام‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬نخصك وحدك بالعبادة‬ ‫ست َِعي ُ‬‫ك نَ ْ‬ ‫ك ن َعْب ُد ُ وَإ ِّيا َ‬
‫وقوله } إ ِّيا َ‬
‫والستعانة‪ ،‬لن تقديم المعمول يفيد الحصر‪ ،‬وهو إثبات الحكم للمذكور‪،‬‬
‫ونفيه عما عداه‪ .‬فكأنه يقول‪ :‬نعبدك‪ ،‬ول نعبد غيرك‪ ،‬ونستعين بك‪ ،‬ول‬
‫نستعين بغيرك‪.‬‬
‫وقدم )‪ (2‬العبادة على الستعانة‪ ،‬من باب تقديم العام على الخاص‪،‬‬
‫واهتماما بتقديم حقه تعالى على حق عبده‪.‬‬
‫و } العبادة { اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من العمال‪ ،‬والقوال‬
‫الظاهرة والباطنة‪ .‬و } الستعانة { هي العتماد على الله تعالى في جلب‬
‫المنافع‪ ،‬ودفع المضار‪ ،‬مع الثقة به في تحصيل ذلك‪.‬‬
‫والقيام بعبادة الله والستعانة به هو الوسيلة للسعادة البدية‪ ،‬والنجاة من‬
‫جميع الشرور‪ ،‬فل سبيل إلى النجاة إل بالقيام بهما‪ .‬وإنما تكون العبادة‬
‫عبادة‪ ،‬إذا كانت مأخوذة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مقصودا بها‬
‫وجه الله‪ .‬فبهذين المرين تكون عبادة‪ ،‬وذكر } الستعانة { بعد‬
‫} العبادة { مع دخولها فيها‪ ،‬لحتياج العبد في جميع عباداته إلى الستعانة‬
‫بالله تعالى‪ .‬فإنه إن لم يعنه الله‪ ،‬لم يحصل له ما يريده من فعل الوامر‪،‬‬
‫واجتناب النواهي‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬دلنا وأرشدنا‪ ،‬ووفقنا‬ ‫قي َ‬
‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫صَراط ال ُ‬ ‫ثم قال تعالى‪ } :‬اهْدَِنا ال ّ‬
‫للصراط المستقيم‪ ،‬وهو الطريق الواضح الموصل إلى الله‪ ،‬وإلى جنته‪،‬‬
‫وهو معرفة الحق والعمل به‪ ،‬فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط‪.‬‬
‫فالهداية إلى الصراط‪ :‬لزوم دين السلم‪ ،‬وترك ما سواه من الديان‪،‬‬
‫والهداية في الصراط‪ ،‬تشمل الهداية لجميع التفاصيل الدينية علما وعمل‪.‬‬
‫فهذا الدعاء من أجمع الدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على النسان أن‬
‫يدعو الله به في كل ركعة من صلته‪ ،‬لضرورته إلى ذلك‪.‬‬
‫ط ال ّذي َ‬
‫م { من النبيين‬ ‫ت عَل َي ْهِ ْ‬
‫م َ‬ ‫صَرا َ ِ َ‬
‫ن أن ْعَ ْ‬ ‫وهذا الصراط المستقيم هو‪ِ } :‬‬
‫م{‬ ‫ب عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ضو ِ‬ ‫مغْ ُ‬ ‫والصديقين والشهداء والصالحين‪ } .‬غَي ْرِ { صراط } ال ْ َ‬
‫ن{‬ ‫ضاّلي َ‬ ‫الذين عرفوا الحق وتركوه كاليهود ونحوهم‪ .‬وغير صراط } ال ّ‬
‫الذين تركوا الحق على جهل وضلل‪ ،‬كالنصارى ونحوهم‪.‬‬
‫فهذه السورة على إيجازها‪ ،‬قد ] ص ‪ [ 40‬احتوت على ما لم تحتو عليه‬
‫سورة من سور القرآن‪ ،‬فتضمنت أنواع التوحيد الثلثة‪ :‬توحيد الربوبية‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬‫يؤخذ من قوله‪َ } :‬ر ّ‬
‫ّ‬
‫وتوحيد اللهية وهو إفراد الله بالعبادة‪ ،‬يؤخذ من لفظ‪ } :‬اللهِ { ومن قوله‪:‬‬
‫ك ن َعْب ُد ُ { وتوحيد السماء والصفات‪ ،‬وهو إثبات صفات الكمال لله‬ ‫} إ ِّيا َ‬
‫تعالى‪ ،‬التي أثبتها لنفسه‪ ،‬وأثبتها له رسوله من غير تعطيل ول تمثيل ول‬
‫مد ُ { كما تقدم‪ .‬وتضمنت إثبات النبوة‬ ‫ح ْ‬‫تشبيه‪ ،‬وقد دل على ذلك لفظ } ال ْ َ‬
‫م { لن ذلك ممتنع بدون الرسالة‪.‬‬ ‫قي َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫ط ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫صَرا َ‬
‫في قوله‪ } :‬اهْدَِنا ال ّ‬
‫ن { وأن الجزاء‬ ‫دي ِ‬
‫ك ي َوْم ِ ال ّ‬
‫مال ِ ِ‬
‫وإثبات الجزاء على العمال في قوله‪َ } :‬‬
‫يكون بالعدل‪ ،‬لن الدين معناه الجزاء بالعدل‪.‬‬
‫وتضمنت إثبات القدر‪ ،‬وأن العبد فاعل حقيقة‪ ،‬خلفا للقدرية والجبرية‪ .‬بل‬
‫صَرا َ‬
‫ط‬ ‫تضمنت الرد على جميع أهل البدع ]والضلل[ في قوله‪ } :‬اهْدَِنا ال ّ‬
‫م { لنه معرفة الحق والعمل به‪ .‬وكل مبتدع ]وضال[ فهو مخالف‬ ‫قي َ‬
‫ست َ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫لذلك‪.‬‬
‫وتضمنت إخلص الدين لله تعالى‪ ،‬عبادة واستعانة في قوله‪ } :‬إ ِّيا َ‬
‫ك ن َعْب ُد ُ‬
‫ن { فالحمد لله رب العالمين‪.‬‬ ‫ست َِعي ُ‬‫ك نَ ْ‬ ‫وَإ ِّيا َ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬فله‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬وتقديم‪.‬‬

‫) ‪(1/39‬‬

‫تفسير سورة البقرة‬


‫وهي مدنية‬

‫) ‪(1/40‬‬

‫ب‬‫ن ِبال ْغَي ْ ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬


‫ذي َ‬ ‫ن )‪ (2‬ال ّ ِ‬ ‫قي َ‬ ‫دى ل ِل ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫ب ِفيهِ هُ ً‬ ‫ب َل َري ْ َ‬ ‫ك ال ْك َِتا ُ‬ ‫الم )‪ (1‬ذ َل ِ َ‬
‫ل إ ِل َي ْ َ‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫ما أن ْزِ َ‬‫ن بِ َ‬‫مُنو َ‬‫ن ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن )‪َ (3‬وال ّ ِ‬ ‫قو َ‬
‫ف ُ‬‫م ي ُن ْ ِ‬‫ما َرَزقَْناهُ ْ‬‫م ّ‬‫صَلةَ وَ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫مو َ‬ ‫قي ُ‬ ‫وَي ُ ِ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن )‪ (4‬أولئ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن قَب ْل ِ َ‬ ‫ُ‬
‫ما أن ْزِ َ‬
‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫دى ِ‬ ‫ك عَلى هُ ً‬ ‫م ُيوقُِنو َ‬ ‫خَرةِ هُ ْ‬ ‫ك وَِبال ِ‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫وَ َ‬
‫ن )‪(5‬‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫م ال ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫وَُأولئ ِ َ‬
‫َ‬

‫دى‬
‫ب ِفيهِ هُ ً‬ ‫ب ل َري ْ َ‬ ‫ك ال ْك َِتا ُ‬ ‫حيم ِ الم * ذ َل ِ َ‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ح َ‬ ‫سم ِ الل ّهِ الّر ْ‬ ‫} ‪ } { 5 - 1‬بِ ْ‬
‫ن*‬ ‫قو َ‬ ‫ف ُ‬
‫م ي ُن ْ ِ‬‫ما َرَزقَْناهُ ْ‬ ‫م ّ‬ ‫صلةَ وَ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫مو َ‬ ‫قي ُ‬‫ب وَي ُ ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ِبالغَي ْ ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن * ال ّ ِ‬ ‫قي َ‬ ‫ل ِل ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬
‫ُ‬ ‫ل إ ِل َي ْ َ‬ ‫ُ‬
‫ن*‬ ‫م ُيوقُِنو َ‬ ‫خَرةِ هُ ْ‬‫ك وَِبال ِ‬ ‫ن قَب ْل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬‫ما أن ْزِ َ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫ما أن ْزِ َ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬‫ذي َ‬ ‫َوال ّ ِ‬
‫ُ‬ ‫ُأول َئ ِ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫م ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫م وَأول َئ ِ َ‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬‫دى ِ‬ ‫ك عََلى هُ ً‬
‫تقدم الكلم على البسملة‪ .‬وأما الحروف المقطعة في أوائل السور‪،‬‬
‫فالسلم فيها‪ ،‬السكوت عن التعرض لمعناها ]من غير مستند شرعي[‪ ،‬مع‬
‫الجزم بأن الله تعالى لم ينزلها عبثا بل لحكمة ل نعلمها‪.‬‬
‫ب { أي هذا الكتاب العظيم الذي هو الكتاب على‬ ‫ك ال ْك َِتا ُ‬ ‫وقوله } ذ َل ِ َ‬
‫الحقيقة‪ ،‬المشتمل على ما لم تشتمل عليه كتب المتقدمين والمتأخرين‬
‫من العلم العظيم‪،‬‬
‫ب ِفيهِ { ول شك بوجه من الوجوه‪ ،‬ونفي الريب‬ ‫والحق المبين‪ .‬فـ } ل َري ْ َ‬
‫عنه‪ ،‬يستلزم ضده‪ ،‬إذ ضد الريب والشك اليقين‪ ،‬فهذا الكتاب مشتمل‬
‫على علم اليقين المزيل للشك والريب‪ ،‬وهذه قاعدة مفيدة‪ ،‬أن النفي‬
‫المقصود به المدح‪ ،‬ل بد أن يكون متضمنا لضده‪ ،‬وهو الكمال‪ ،‬لن النفي‬
‫عدم‪ ،‬والعدم المحض‪ ،‬ل مدح فيه‪.‬‬
‫دى‬ ‫فلما اشتمل على اليقين وكانت الهداية ل تحصل إل باليقين قال‪ } :‬هُ ً‬
‫ن { والهدى‪ :‬ما تحصل به الهداية من الضللة والشبه‪ ،‬وما به‬ ‫قي َ‬ ‫ل ِل ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬
‫دى { وحذف المعمول‪ ،‬فلم‬ ‫الهداية إلى سلوك الطرق النافعة‪ ،‬وقال } هُ ً‬
‫يقل هدى للمصلحة الفلنية‪ ،‬ول للشيء الفلني‪ ،‬لرادة العموم‪ ،‬وأنه هدى‬
‫لجميع مصالح الدارين‪ ،‬فهو مرشد للعباد في المسائل الصولية والفروعية‪،‬‬
‫ومبين للحق من الباطل‪ ،‬والصحيح من الضعيف‪ ،‬ومبين لهم كيف يسلكون‬
‫الطرق النافعة لهم‪ ،‬في دنياهم وأخراهم‪.‬‬
‫س { فعمم‪ ،‬وفي هذا الموضع وغيره‬ ‫دى ِللّنا ِ‬ ‫وقال في موضع آخر‪ } :‬هُ ً‬
‫ن { لنه في نفسه هدى لجميع الخلق‪ .‬فالشقياء لم يرفعوا‬ ‫قي َ‬ ‫دى ل ِل ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫} هُ ً‬
‫به رأسا‪ ،‬ولم يقبلوا هدى الله‪ ،‬فقامت عليهم به الحجة‪ ،‬ولم ينتفعوا به‬
‫لشقائهم‪ ،‬وأما المتقون الذين أتوا بالسبب الكبر‪ ،‬لحصول الهداية‪ ،‬وهو‬
‫التقوى التي حقيقتها‪ :‬اتخاذ ما يقي سخط الله وعذابه‪ ،‬بامتثال أوامره‪،‬‬
‫واجتناب النواهي‪ ،‬فاهتدوا به‪ ،‬وانتفعوا غاية النتفاع‪ .‬قال تعالى‪َ } :‬يا أ َي َّها‬
‫م فُْرَقاًنا { فالمتقون هم المنتفعون‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬‫جع َ ْ‬ ‫ه يَ ْ‬‫قوا الل ّ َ‬‫ن ت َت ّ ُ‬ ‫مُنوا إ ِ ْ‬ ‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫باليات القرآنية‪ ،‬واليات الكونية‪.‬‬
‫ولن الهداية نوعان‪ :‬هداية البيان‪ ،‬وهداية التوفيق‪ .‬فالمتقون حصلت لهم‬
‫الهدايتان‪ ،‬وغيرهم لم تحصل لهم هداية التوفيق‪ .‬وهداية البيان بدون‬
‫توفيق للعمل بها‪ ،‬ليست هداية حقيقية ]تامة[‪.‬‬
‫ثم وصف المتقين بالعقائد والعمال الباطنة‪ ،‬والعمال الظاهرة‪ ،‬لتضمن‬
‫ب { حقيقة اليمان‪ :‬هو التصديق‬ ‫ن ِبال ْغَي ْ ِ‬‫مُنو َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬‫ذي َ‬ ‫التقوى لذلك فقال‪ } :‬ال ّ ِ‬
‫التام بما أخبرت به الرسل‪ ،‬المتضمن لنقياد الجوارح‪ ،‬وليس الشأن في‬
‫اليمان بالشياء المشاهدة بالحس‪ ،‬فإنه ل يتميز بها المسلم من الكافر‪.‬‬
‫إنما الشأن في اليمان بالغيب‪ ،‬الذي لم نره ولم نشاهده‪ ،‬وإنما نؤمن به‪،‬‬
‫لخبر الله وخبر رسوله‪ .‬فهذا اليمان الذي يميز به المسلم من الكافر‪ ،‬لنه‬
‫تصديق مجرد لله ورسله‪ .‬فالمؤمن يؤمن بكل ما أخبر الله به‪ ،‬أو أخبر به‬
‫رسوله‪ ،‬سواء شاهده‪ ،‬أو لم يشاهده وسواء فهمه وعقله‪ ،‬أو لم يهتد إليه‬
‫عقله وفهمه‪ .‬بخلف الزنادقة والمكذبين بالمور الغيبية‪ ،‬لن عقولهم‬
‫القاصرة المقصرة لم تهتد إليها فكذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ففسدت‬
‫عقولهم‪ ،‬ومرجت أحلمهم‪ .‬وزكت عقول المؤمنين المصدقين المهتدين‬
‫بهدى الله‪.‬‬
‫ويدخل في اليمان بالغيب‪] ،‬اليمان بـ[ بجميع ما أخبر الله به من الغيوب‬
‫الماضية والمستقبلة‪ ،‬وأحوال الخرة‪ ،‬وحقائق أوصاف الله وكيفيتها‪] ،‬وما‬
‫أخبرت به الرسل من ] ص ‪ [ 41‬ذلك[ فيؤمنون بصفات الله ووجودها‪،‬‬
‫ويتيقنونها‪ ،‬وإن لم يفهموا كيفيتها‪.‬‬
‫صلةَ { لم يقل‪ :‬يفعلون الصلة‪ ،‬أو يأتون بالصلة‪،‬‬ ‫ن ال ّ‬ ‫مو َ‬ ‫قي ُ‬ ‫ثم قال‪ } :‬وَي ُ ِ‬
‫لنه ل يكفي فيها مجرد التيان بصورتها الظاهرة‪ .‬فإقامة الصلة‪ ،‬إقامتها‬
‫ظاهرا‪ ،‬بإتمام أركانها‪ ،‬وواجباتها‪ ،‬وشروطها‪ .‬وإقامتها باطنا )‪ (1‬بإقامة‬
‫روحها‪ ،‬وهو حضور القلب فيها‪ ،‬وتدبر ما يقوله ويفعله منها‪ ،‬فهذه الصلة‬
‫من ْك َرِ { وهي‬ ‫شاِء َوال ْ ُ‬
‫ح َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ف ْ‬ ‫صلةَ ت َن َْهى عَ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫هي التي قال الله فيها‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫التي يترتب عليها الثواب‪ .‬فل ثواب للنسان )‪ (2‬من صلته‪ ،‬إل ما عقل‬
‫منها‪ ،‬ويدخل في الصلة فرائضها ونوافلها‪.‬‬
‫ن { يدخل فيه النفقات الواجبة كالزكاة‪،‬‬ ‫قو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫م ي ُن ْ ِ‬ ‫ما َرَزقَْناهُ ْ‬ ‫م ّ‬‫ثم قال‪ } :‬وَ ِ‬
‫والنفقة على الزوجات والقارب‪ ،‬والمماليك ونحو ذلك‪ .‬والنفقات‬
‫المستحبة بجميع طرق الخير‪ .‬ولم يذكر المنفق عليهم‪ ،‬لكثرة أسبابه وتنوع‬
‫أهله‪ ،‬ولن النفقة من حيث هي‪ ،‬قربة إلى الله‪ ،‬وأتى بـ "من "الدالة على‬
‫التبعيض‪ ،‬لينبههم أنه لم يرد منهم إل جزءا يسيرا من أموالهم‪ ،‬غير ضار‬
‫لهم ول مثقل‪ ،‬بل ينتفعون هم بإنفاقه‪ ،‬وينتفع به إخوانهم‪.‬‬
‫م { إشارة إلى أن هذه الموال التي بين أيديكم‪،‬‬ ‫وفي قوله‪َ } :‬رَزقَْناهُ ْ‬
‫ليست حاصلة بقوتكم وملككم‪ ،‬وإنما هي رزق الله الذي خولكم‪ ،‬وأنعم به‬
‫عليكم‪ ،‬فكما أنعم عليكم وفضلكم على كثير من عباده‪ ،‬فاشكروه بإخراج‬
‫بعض ما أنعم به عليكم‪ ،‬وواسوا إخوانكم المعدمين‪.‬‬
‫وكثيرا ما يجمع تعالى بين الصلة والزكاة في القرآن‪ ،‬لن الصلة متضمنة‬
‫للخلص للمعبود‪ ،‬والزكاة والنفقة متضمنة للحسان على عبيده‪ ،‬فعنوان‬
‫سعادة العبد إخلصه للمعبود‪ ،‬وسعيه في نفع الخلق‪ ،‬كما أن عنوان شقاوة‬
‫العبد عدم هذين المرين منه‪ ،‬فل إخلص ول إحسان‪.‬‬
‫ك { وهو القرآن والسنة‪ ،‬قال‬ ‫ما ُأنز َ‬
‫ل إ ِل َي ْ َ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ثم قال‪َ } :‬وال ّ ِ‬
‫ة { فالمتقون يؤمنون بجميع ما‬ ‫حك ْ َ‬
‫م َ‬ ‫ب َوال ْ ِ‬ ‫ك ال ْك َِتا َ‬ ‫ه عَل َي ْ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫تعالى‪ } :‬وََأنز َ‬
‫جاء به الرسول‪ ،‬ول يفرقون بين بعض ما أنزل إليه‪ ،‬فيؤمنون ببعضه‪ ،‬ول‬
‫يؤمنون ببعضه‪ ،‬إما بجحده أو تأويله‪ ،‬على غير مراد الله ورسوله‪ ،‬كما‬
‫يفعل ذلك من يفعله من المبتدعة‪ ،‬الذين يؤولون النصوص الدالة على‬
‫خلف قولهم‪ ،‬بما حاصله عدم التصديق بمعناها‪ ،‬وإن صدقوا بلفظها‪ ،‬فلم‬
‫يؤمنوا بها إيمانا حقيقيا‪.‬‬
‫ك { يشمل اليمان بالكتب )‪ (3‬السابقة‪،‬‬ ‫ن قَب ْل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ما ُأنز َ‬ ‫وقوله‪ } :‬وَ َ‬
‫ويتضمن اليمان بالكتب اليمان بالرسل وبما اشتملت عليه‪ ،‬خصوصا‬
‫التوراة والنجيل والزبور‪ ،‬وهذه خاصية المؤمنين يؤمنون بجميع الكتب‬
‫السماوية )‪ (4‬وبجميع الرسل فل يفرقون بين أحد منهم‪.‬‬
‫ن { و "الخرة "اسم لما يكون بعد الموت‪،‬‬ ‫م ُيوقُِنو َ‬ ‫خَرةِ هُ ْ‬ ‫ثم قال‪ } :‬وَِبال ِ‬
‫وخصه ]بالذكر[ بعد العموم‪ ،‬لن اليمان باليوم الخر‪ ،‬أحد أركان اليمان؛‬
‫ولنه أعظم باعث على الرغبة والرهبة والعمل‪ ،‬و "اليقين "هو العلم التام‬
‫الذي ليس فيه أدنى شك‪ ،‬الموجب للعمل‪.‬‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫دى ِ‬ ‫َ‬
‫ك { أي‪ :‬الموصوفون بتلك الصفات الحميدة } عَلى هُ ً‬ ‫} ُأول َئ ِ َ‬
‫م { أي‪ :‬على هدى عظيم‪ ،‬لن التنكير للتعظيم‪ ،‬وأي هداية أعظم من‬ ‫َرب ّهِ ْ‬
‫تلك الصفات المذكورة المتضمنة للعقيدة الصحيحة والعمال المستقيمة‪،‬‬
‫وهل الهداية ]الحقيقية[ إل هدايتهم‪ ،‬وما سواها ]مما خالفها[‪ ،‬فهو )‪(5‬‬
‫ضللة‪.‬‬
‫وأتى بـ "على "في هذا الموضع‪ ،‬الدالة على الستعلء‪ ،‬وفي الضللة يأتي‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن { لن‬ ‫مِبي ٍ‬
‫ل ُ‬
‫ضل ٍ‬ ‫م ل َعََلى هُ ً‬
‫دى أوْ ِفي َ‬ ‫بـ "في "كما في قوله‪ } :‬وَإ ِّنا أوْ إ ِّياك ُ ْ‬
‫صاحب الهدى مستعل بالهدى‪ ،‬مرتفع به‪ ،‬وصاحب الضلل منغمس فيه‬
‫محَتقر‪.‬‬
‫ن { والفلح ]هو[ الفوز بالمطلوب والنجاة‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ال ُ‬ ‫ثم قال‪ } :‬وَأولئ ِك هُ ُ‬
‫من المرهوب‪ ،‬حصر الفلح فيهم؛ لنه ل سبيل إلى الفلح إل بسلوك‬
‫سبيلهم‪ ،‬وما عدا تلك السبيل‪ ،‬فهي سبل الشقاء والهلك والخسار التي‬
‫تفضي بسالكها إلى الهلك‪.‬‬
‫فلهذا لما ذكر صفات المؤمنين حقا‪ ،‬ذكر صفات الكفار المظهرين‬
‫لكفرهم‪ ،‬المعاندين للرسول‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬وباطنها‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬للعبد‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬بجميع الكتب‪.‬‬
‫)‪ (4‬في ب‪ :‬بالكتب السماوية كلها‪.‬‬
‫)‪ (5‬في ب‪ :‬فهي ضللة‪.‬‬

‫) ‪(1/40‬‬

‫فروا سواٌء عَل َيهم أ َأ َنذ َرته َ‬


‫م‬
‫خت َ َ‬
‫ن )‪َ (6‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫م َل ي ُؤْ ِ‬ ‫م لَ ْ‬
‫م ت ُن ْذِْرهُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ِْ ْ ْ ْ َُ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ن كَ َ ُ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫إِ ّ‬
‫َ‬
‫م‬
‫ظي ٌ‬
‫ب عَ ِ‬ ‫م عَ َ‬
‫ذا ٌ‬ ‫شاوَةٌ وَل َهُ ْ‬ ‫م ِغ َ‬ ‫صارِهِ ْ‬ ‫م وَعََلى أب ْ َ‬ ‫معِهِ ْ‬ ‫م وَعََلى َ‬
‫س ْ‬ ‫ه عََلى قُُلوب ِهِ ْ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫)‪(7‬‬
‫فروا سواٌء عَل َيهم أ َأ َنذ َرته َ‬
‫مل‬ ‫م ت ُن ْذِْرهُ ْ‬‫م لَ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ِْ ْ ْ ْ َُ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ن كَ َ ُ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫} ‪ } { 7 - 6‬إِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫شاوَةٌ‬ ‫م ِغ َ‬ ‫صارِهِ ْ‬ ‫م وَعَلى أب ْ َ‬ ‫معِهِ ْ‬‫س ْ‬
‫م وَعَلى َ‬ ‫ه عَلى قُلوب ِهِ ْ‬ ‫م الل ُ‬ ‫خت َ َ‬ ‫ن* َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ي ُؤْ ِ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ظي ٌ‬ ‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬ ‫وَل َهُ ْ‬
‫يخبر تعالى أن الذين كفروا‪ ،‬أي‪ :‬اتصفوا بالكفر‪ ،‬وانصبغوا به‪ ،‬وصار وصفا‬
‫لهم لزما‪ ،‬ل يردعهم عنه رادع‪ ،‬ول ينجع فيهم وعظ‪ ،‬إنهم مستمرون على‬
‫كفرهم‪ ،‬فسواء عليهم أأنذرتهم‪ ،‬أم لم تنذرهم ل يؤمنون‪ ،‬وحقيقة الكفر‪:‬‬
‫هو الجحود لما جاء به الرسول‪ ،‬أو جحد بعضه‪ ،‬فهؤلء الكفار ل تفيدهم‬
‫] ص ‪ [ 42‬الدعوة إل إقامة الحجة‪ ،‬وكأن في هذا قطعا لطمع الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم في إيمانهم‪ ،‬وأنك ل تأس عليهم‪ ،‬ول تذهب نفسك‬
‫عليهم حسرات‪.‬‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ه عَلى قُلوب ِهِ ْ‬ ‫ّ‬
‫م الل ُ‬ ‫خت َ َ‬ ‫ثم ذكر الموانع المانعة لهم من اليمان فقال‪َ } :‬‬
‫م { أي‪ :‬طبع عليها بطابع ل يدخلها اليمان‪ ،‬ول ينفذ فيها‪ ،‬فل‬ ‫معِهِ ْ‬ ‫س ْ‬ ‫وَعََلى َ‬
‫يعون ما ينفعهم‪ ،‬ول يسمعون ما يفيدهم‪.‬‬
‫َ‬
‫شاوَةٌ { أي‪ :‬غشاء وغطاء وأكنة تمنعها عن النظر الذي‬ ‫م ِغ َ‬ ‫صارِهِ ْ‬ ‫} وَعََلى أب ْ َ‬
‫ينفعهم‪ ،‬وهذه طرق العلم والخير‪ ،‬قد سدت عليهم‪ ،‬فل مطمع فيهم‪ ،‬ول‬
‫خير يرجى عندهم‪ ،‬وإنما منعوا ذلك‪ ،‬وسدت عنهم أبواب اليمان بسبب‬
‫كفرهم وجحودهم ومعاندتهم بعد ما تبين لهم الحق‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫مّرةٍ { وهذا عقاب‬ ‫ل َ‬ ‫مُنوا ب ِهِ أ َوّ َ‬‫م ي ُؤْ ِ‬‫ما ل َ ْ‬ ‫م كَ َ‬‫صاَرهُ ْ‬
‫َ‬
‫م وَأب ْ َ‬
‫َ‬
‫ب أفْئ ِد َت َهُ ْ‬ ‫قل ّ ُ‬
‫} وَن ُ َ‬
‫عاجل‪.‬‬
‫م { وهو عذاب النار‪،‬‬ ‫ظي ٌ‬‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬‫م عَ َ‬ ‫ثم ذكر العقاب الجل‪ ،‬فقال‪ } :‬وَل َهُ ْ‬
‫وسخط الجبار المستمر الدائم‪.‬‬
‫ثم قال تعالى في وصف المنافقين الذين ظاهرهم السلم وباطنهم الكفر‬
‫فقال‪:‬‬

‫) ‪(1/41‬‬
‫ن )‪(8‬‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫مّنا ِبالل ّهِ وَِبال ْي َوْم ِ اْل َ ِ‬ ‫قو ُ َ‬
‫مِني َ‬ ‫م بِ ُ‬ ‫ما هُ ْ‬ ‫خرِ وَ َ‬ ‫لآ َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫م ْ‬
‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬‫م َ‬ ‫وَ ِ‬
‫ن )‪ِ (9‬في‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫شعُُرو َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫سهُ ْ‬
‫ف َ‬ ‫ن إ ِل أن ْ ُ‬ ‫عو َ‬ ‫خد َ ُ‬ ‫ما ي َ ْ‬‫مُنوا وَ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه َوال ِ‬ ‫ن الل َ‬‫عو َ‬‫خادِ ُ‬ ‫يُ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ن )‪(10‬‬‫ما كاُنوا ي َكذُِبو َ‬ ‫م بِ َ‬‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬‫ضا وَلهُ ْ‬ ‫مَر ً‬ ‫ه َ‬‫م الل ُ‬ ‫ض فََزاد َهُ ُ‬ ‫مَر ٌ‬ ‫م َ‬‫قُلوب ِهِ ْ‬
‫م‬
‫ما هُ ْ‬ ‫خرِ وَ َ‬ ‫مّنا ِبالل ّهِ وَِبال ْي َوْم ِ ال ِ‬ ‫لآ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫} ‪ } { 10 - 8‬وَ ِ‬
‫َ‬
‫ما‬
‫م وَ َ‬ ‫سهُ ْ‬
‫ف َ‬ ‫ن ِإل أن ْ ُ‬ ‫عو َ‬ ‫خد َ ُ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫مُنوا وَ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه َوال ّ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫عو َ‬ ‫خادِ ُ‬ ‫ن * يُ َ‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫بِ ُ‬
‫َ‬
‫ما كاُنوا‬ ‫َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫م بِ َ‬‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫ضا وَلهُ ْ‬ ‫مَر ً‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ُ‬ ‫ض فَزاد َهُ ُ‬ ‫مَر ٌ‬ ‫م َ‬ ‫ن * ِفي قلوب ِهِ ْ‬ ‫شعُُرو َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ي َك ْذُِبو َ‬
‫واعلم أن النفاق هو‪ :‬إظهار الخير وإبطان الشر‪ ،‬ويدخل في هذا التعريف‬
‫النفاق العتقادي‪ ،‬والنفاق العملي‪ ،‬كالذي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫في قوله‪" :‬آية المنافق ثلت‪ :‬إذا حدث كذب‪ ،‬وإذا وعد أخلف‪ ،‬وإذا اؤتمن‬
‫خان "وفي رواية‪" :‬وإذا خاصم فجر "‬
‫وأما النفاق العتقادي المخرج عن دائرة السلم‪ ،‬فهو الذي وصف الله به‬
‫المنافقين في هذه السورة وغيرها‪ ،‬ولم يكن النفاق موجودا قبل هجرة‬
‫الرسول صلى الله عليه وسلم ]من مكة[ إلى المدينة‪ ،‬وبعد أن هاجر‪ ،‬فلما‬
‫كانت وقعة "بدر " )‪ (1‬وأظهر الله المؤمنين وأعزهم‪ ،‬ذل )‪ (2‬من في‬
‫المدينة ممن لم يسلم‪ ،‬فأظهر بعضهم السلم خوفا ومخادعة‪ ،‬ولتحقن‬
‫دماؤهم‪ ،‬وتسلم أموالهم‪ ،‬فكانوا بين أظهر المسلمين في الظاهر أنهم‬
‫منهم‪ ،‬وفي الحقيقة ليسوا منهم‪.‬‬
‫فمن لطف الله بالمؤمنين‪ ،‬أن جل أحوالهم ووصفهم بأوصاف يتميزون بها‪،‬‬
‫لئل يغتر بهم المؤمنون‪ ،‬ولينقمعوا أيضا عن كثير من فجورهم ]قال‬
‫قو َ‬
‫م{‬ ‫ما ِفي قُُلوب ِهِ ْ‬ ‫م بِ َ‬ ‫سوَرةٌ ت ُن َب ّئ ُهُ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ل عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ن ُتنز َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫مَنافِ ُ َ‬ ‫حذ َُر ال ْ ُ‬ ‫تعالى[‪ } :‬ي َ ْ‬
‫هّ‬
‫مّنا ِبالل ِ‬ ‫لآ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫فوصفهم الله بأصل النفاق فقال‪ } :‬وَ ِ‬
‫ن { فإنهم يقولون بألسنتهم ما ليس في‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م بِ ُ‬‫ما هُ ْ‬ ‫خرِ وَ َ‬ ‫وَِبال ْي َوْم ِ ال ِ‬
‫ن { لن اليمان الحقيقي‪ ،‬ما‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م بِ ُ‬ ‫ما هُ ْ‬ ‫قلوبهم‪ ،‬فأكذبهم الله بقوله‪ } :‬وَ َ‬
‫تواطأ عليه القلب واللسان‪ ،‬وإنما هذا مخادعة لله ولعباده المؤمنين‪.‬‬
‫والمخادعة‪ :‬أن يظهر المخادع لمن يخادعه شيئا‪ ،‬ويبطن خلفه لكي يتمكن‬
‫من مقصوده ممن يخادع‪ ،‬فهؤلء المنافقون‪ ،‬سلكوا مع الله وعباده هذا‬
‫المسلك‪ ،‬فعاد خداعهم على أنفسهم‪ ،‬فإن )‪ (3‬هذا من العجائب؛ لن‬
‫المخادع‪ ،‬إما أن ينتج خداعه ويحصل له ما يريد )‪ (4‬أو يسلم‪ ،‬ل له ول‬
‫عليه‪ ،‬وهؤلء عاد خداعهم عليهم‪ ،‬وكأنهم )‪ (5‬يعملون ما يعملون من المكر‬
‫لهلك أنفسهم وإضرارها وكيدها؛ لن الله تعالى ل يتضرر بخداعهم ]شيئا[‬
‫وعباده المؤمنون‪ ،‬ل يضرهم كيدهم شيئا‪ ،‬فل يضر المؤمنين أن أظهر‬
‫المنافقون اليمان‪ ،‬فسلمت بذلك أموالهم وحقنت دماؤهم‪ ،‬وصار كيدهم‬
‫في نحورهم‪ ،‬وحصل لهم بذلك الخزي والفضيحة في الدنيا‪ ،‬والحزن‬
‫المستمر بسبب ما يحصل للمؤمنين من القوة والنصرة‪.‬‬
‫ثم في الخرة لهم العذاب الليم الموجع المفجع‪ ،‬بسبب كذبهم وكفرهم‬
‫وفجورهم‪ ،‬والحال أنهم من جهلهم وحماقتهم ل يشعرون بذلك‪.‬‬
‫ض { والمراد بالمرض هنا‪ :‬مرض الشك‬ ‫مَر ٌ‬ ‫م َ‬ ‫وقوله‪ِ } :‬في قُُلوب ِهِ ْ‬
‫والشبهات والنفاق‪ ،‬لن )‪ (6‬القلب يعرض له مرضان يخرجانه عن صحته‬
‫واعتداله‪ :‬مرض الشبهات الباطلة‪ ،‬ومرض الشهوات المردية‪ ،‬فالكفر‬
‫والنفاق والشكوك والبدع‪ ،‬كلها من مرض الشبهات‪ ،‬والزنا‪ ،‬ومحبة‬
‫]الفواحش و[المعاصي وفعلها‪ ،‬من مرض الشهوات ‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ض { وهي شهوة الزنا‪ ،‬والمعافى من عوفي‬ ‫ذي ِفي قَل ْب ِهِ َ‬
‫مَر ٌ‬ ‫معَ ال ّ ِ‬
‫} فَي َط ْ َ‬
‫من هذين المرضين‪ ،‬فحصل له اليقين واليمان‪ ،‬والصبر عن كل معصية‪،‬‬
‫فرفل في أثواب العافية‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ول بعد الهجرة حتى كانت وقعة بدر‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬فذل‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬وهذا‪.‬‬
‫)‪ (4‬في ب‪ :‬ويحصل له مقصوده‪.‬‬
‫)‪ (5‬في ب‪ :‬عاد خداعهم على أنفسهم فكأنهم‪.‬‬
‫)‪ (6‬في ب‪ :‬وذلك أن‪.‬‬

‫) ‪(1/42‬‬

‫َ‬ ‫َْ‬
‫ن )‪ (11‬أَل إ ِن ّهُ ْ‬
‫م‬ ‫حو َ‬
‫صل ِ ُ‬
‫م ْ‬
‫ن ُ‬
‫ح ُ‬ ‫ض َقاُلوا إ ِن ّ َ‬
‫ما ن َ ْ‬ ‫دوا ِفي الْر ِ‬ ‫س ُ‬‫ف ِ‬ ‫م َل ت ُ ْ‬‫ل ل َهُ ْ‬
‫ذا ِقي َ‬‫وَإ ِ َ‬
‫ن )‪(12‬‬ ‫َ‬
‫ن ل يَ ْ‬
‫شعُُرو َ‬ ‫َ‬
‫ن وَلك ِ ْ‬ ‫دو َ‬‫س ُ‬‫ف ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫م ال ُ‬‫هُ ُ‬
‫ضا { بيان‬ ‫مَر ً‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ض فََزاد َهُ ُ‬ ‫مَر ٌ‬ ‫م َ‬ ‫وفي قوله عن المنافقين‪ِ } :‬في قُُلوب ِهِ ْ‬
‫لحكمته تعالى في تقدير المعاصي على العاصين‪ ،‬وأنه بسبب ذنوبهم‬
‫السابقة‪ ،‬يبتليهم بالمعاصي اللحقة الموجبة لعقوباتها كما قال تعالى‪:‬‬
‫مّرةٍ { وقال تعالى‪:‬‬ ‫ل َ‬ ‫مُنوا ب ِهِ أ َوّ َ‬ ‫م ي ُؤْ ِ‬ ‫ما ل َ ْ‬ ‫م كَ َ‬ ‫صاَرهُ ْ‬
‫َ‬
‫م وَأب ْ َ‬ ‫ب أفْئ ِد َت َهُ ْ‬
‫َ‬
‫قل ّ ُ‬ ‫} وَن ُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ِفي قُُلوب ِهِ ْ‬
‫م‬ ‫ذي َ‬ ‫ما ال ّ ِ‬ ‫م { وقال تعالى‪ } :‬وَأ ّ‬ ‫ه قُُلوب َهُ ْ‬ ‫غوا أَزاغَ الل ّ ُ‬ ‫ما َزا ُ‬ ‫} فَل َ ّ‬
‫م { فعقوبة المعصية‪ ،‬المعصية بعدها‪،‬‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫سا إ َِلى رِ ْ‬ ‫ج ً‬ ‫م رِ ْ‬ ‫ض فََزاد َت ْهُ ْ‬ ‫مَر ٌ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ه ال ِ‬ ‫ّ‬
‫زيد ُ الل ُ‬ ‫كما أن من ثواب الحسنة‪ ،‬الحسنة بعدها‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬وَي َ ِ‬
‫دى { ‪.‬‬ ‫اهْت َد َْوا هُ ً‬
‫] ص ‪[ 43‬‬
‫ن‬
‫ح ُ‬ ‫ما ن َ ْ‬ ‫ُ‬
‫ض َقالوا إ ِن ّ َ‬ ‫َ‬ ‫ذا ِقي َ‬ ‫} ‪ } { 12 - 11‬وَإ ِ َ‬
‫دوا ِفي الْر ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ل تُ ْ‬ ‫ل لهُ ْ‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫شعُُرو َ‬ ‫ن ل يَ ْ‬ ‫َ‬
‫ن وَلك ِ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫س ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫م ال ُ‬ ‫م هُ ُ‬ ‫ن * أل إ ِن ّهُ ْ‬ ‫حو َ‬ ‫صل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫أي‪ :‬إذا نهي هؤلء المنافقون عن الفساد في الرض‪ ،‬وهو العمل بالكفر‬
‫والمعاصي‪ ،‬ومنه إظهار سرائر المؤمنين لعدوهم وموالتهم للكافرين‬
‫ن { فجمعوا بين العمل بالفساد في الرض‪،‬‬ ‫حو َ‬ ‫صل ِ ُ‬‫م ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫ما ن َ ْ‬ ‫} َقاُلوا إ ِن ّ َ‬
‫وإظهارهم أنه ليس بإفساد بل هو إصلح‪ ،‬قلبا للحقائق‪ ،‬وجمعا بين فعل‬
‫الباطل واعتقاده حقا‪ ،‬وهذا أعظم جناية ممن يعمل بالمعصية‪ ،‬مع اعتقاد‬
‫أنها معصية )‪ (1‬فهذا أقرب للسلمة‪ ،‬وأرجى لرجوعه‪.‬‬
‫ن { حصر للصلح في جانبهم ‪-‬‬ ‫حو َ‬ ‫صل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫ما ن َ ْ‬ ‫ولما كان في قولهم‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫وفي ضمنه أن المؤمنين ليسوا من أهل الصلح ‪ -‬قلب الله عليهم دعواهم‬
‫بقوله‪ } :‬أل إنهم هم المفسدون { فإنه ل أعظم فسادا )‪ (2‬ممن كفر‬
‫بآيات الله‪ ،‬وصد عن سبيل الله‪ ،‬وخادع الله وأولياءه‪ ،‬ووالى المحاربين لله‬
‫ورسوله‪ ،‬وزعم مع ذلك أن هذا إصلح‪ ،‬فهل بعد هذا الفساد فساد؟" ولكن‬
‫ل يعلمون علما ينفعهم‪ ،‬وإن كانوا قد علموا بذلك علما تقوم به عليهم‬
‫حجة الله‪ ،‬وإنما كان العمل بالمعاصي في الرض إفسادا‪ ،‬لنه يتضمن‬
‫فساد )‪ (3‬ما على وجه الرض من الحبوب والثمار والشجار‪ ،‬والنبات‪ ،‬بما‬
‫)‪ (4‬يحصل فيها من الفات بسبب )‪ (5‬المعاصي‪ ،‬ولن الصلح في الرض‬
‫أن تعمر بطاعة الله واليمان به‪ ،‬لهذا خلق الله الخلق‪ ،‬وأسكنهم في‬
‫الرض‪ ،‬وأدر لهم )‪ (6‬الرزاق‪ ،‬ليستعينوا بها على طاعته ]وعبادته[‪ ،‬فإذا‬
‫عمل فيها بضده‪ ،‬كان سعيا فيها بالفساد فيها‪ ،‬وإخرابا لها عما خلقت له‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬ممن يعمل بالمعاصي مع اعتقاد تحريمها‪.‬‬
‫)‪ (2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬فسادا‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬لنه سبب فساد‪.‬‬
‫)‪ (4‬في ب‪ :‬لما‪.‬‬
‫)‪ (5‬في ب‪ :‬التي سببها‪.‬‬
‫)‪ (6‬في ب‪ :‬عليهم‪.‬‬

‫) ‪(1/42‬‬

‫َ‬ ‫من ك َ َ‬ ‫َ‬ ‫مُنوا ك َ َ‬


‫فَهاُء أَل إ ِن ّهُ ْ‬
‫م‬ ‫س َ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬ ‫س َقاُلوا أن ُؤْ ِ ُ َ‬
‫ما آ َ‬ ‫ن الّنا ُ‬‫م َ‬
‫ما آ َ‬ ‫َ‬ ‫م آَ ِ‬
‫ل ل َهُ ْ‬‫ذا ِقي َ‬
‫وَإ ِ َ‬
‫ن )‪(13‬‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ل ي َعْل ُ‬ ‫َ‬
‫فَهاُء وَلك ِ ْ‬ ‫س َ‬‫م ال ّ‬‫هُ ُ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ن كَ َ‬
‫ما آ َ‬ ‫س َقاُلوا أن ُؤْ ِ‬
‫م ُ‬ ‫ن الّنا ُ‬ ‫م َ‬
‫ما آ َ‬ ‫مُنوا ك َ َ‬‫مآ ِ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬‫ذا ِقي َ‬ ‫} ‪ } { 13‬وَإ ِ َ‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ن ل ي َعْل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫فَهاُء وَل َك ِ ْ‬‫س َ‬
‫م ال ّ‬ ‫م هُ ُ‬ ‫فَهاُء أل إ ِن ّهُ ْ‬
‫س َ‬
‫ال ّ‬
‫أي‪ :‬إذا قيل للمنافقين آمنوا كما آمن الناس‪ ،‬أي‪ :‬كإيمان الصحابة رضي‬
‫الله عنهم‪ ،‬وهو اليمان بالقلب واللسان‪ ،‬قالوا بزعمهم الباطل‪ :‬أنؤمن كما‬
‫آمن السفهاء؟ يعنون ‪ -‬قبحهم الله ‪ -‬الصحابة رضي الله عنهم‪ ،‬بزعمهم )‬
‫‪ (1‬أن سفههم أوجب لهم اليمان‪ ،‬وترك الوطان‪ ،‬ومعاداة الكفار‪ ،‬والعقل‬
‫عندهم يقتضي ضد ذلك‪ ،‬فنسبوهم إلى السفه; وفي ضمنه )‪ (2‬أنهم هم‬
‫العقلء أرباب الحجى والنهى‪.‬‬
‫فرد الله ذلك عليهم‪ ،‬وأخبر أنهم هم السفهاء على الحقيقة‪ ،‬لن حقيقة‬
‫السفه )‪ (3‬جهل النسان بمصالح نفسه‪ ،‬وسعيه فيما يضرها‪ ،‬وهذه الصفة‬
‫منطبقة عليهم وصادقة عليهم‪ ،‬كما أن العقل والحجا‪ ،‬معرفة النسان‬
‫بمصالح نفسه‪ ،‬والسعي فيما ينفعه‪ ،‬و]في[ دفع ما يضره‪ ،‬وهذه الصفة‬
‫منطبقة على ]الصحابة و[المؤمنين وصادقة عليهم‪ ،‬فالعبرة بالوصاف‬
‫والبرهان‪ ،‬ل بالدعاوى المجردة‪ ،‬والقوال الفارغة‪ .‬ثم قال تعالى‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬لزعمهم‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬في ضمن ذلك‪.‬‬
‫)‪ (3‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬السفه‪.‬‬

‫) ‪(1/43‬‬

‫َ‬ ‫ذي َ‬
‫ما‬
‫م إ ِن ّ َ‬ ‫م َقاُلوا إ ِّنا َ‬
‫معَك ُ ْ‬ ‫طين ِهِ ْ‬
‫شَيا ِ‬‫وا إ َِلى َ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫مُنوا َقاُلوا آ َ‬
‫مّنا وَإ ِ َ‬
‫ذا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫قوا ال ّ ِ َ‬‫ذا ل َ ُ‬‫وَإ ِ َ‬
‫ن)‬ ‫مُهو َ‬ ‫م ِفي ط ُغَْيان ِهِ ْ‬
‫م ي َعْ َ‬ ‫مد ّهُ ْ‬ ‫ست َهْزِئُ ب ِهِ ْ‬
‫م وَي َ ُ‬ ‫ه يَ ْ‬‫ن )‪ (14‬الل ّ ُ‬ ‫ست َهْزُِئو َ‬
‫م ْ‬‫ن ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫نَ ْ‬
‫‪(15‬‬
‫م‬
‫طين ِهِ ْ‬
‫شَيا ِ‬ ‫وا إ َِلى َ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫مّنا وَإ ِ َ‬ ‫مُنوا َقاُلوا آ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫قوا ال ّ ِ‬ ‫ذا ل َ ُ‬ ‫} ‪ } { 15 - 14‬وَإ ِ َ‬
‫م ِفي‬ ‫مد ّهُ ْ‬ ‫م وَي َ ُ‬ ‫ست َهْزِئُ ب ِهِ ْ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫ّ‬
‫ن * الل ُ‬ ‫ست َهْزُِئو َ‬ ‫م ْ‬‫ن ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫ما ن َ ْ‬ ‫م إ ِن ّ َ‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫َقاُلوا إ ِّنا َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُهو َ‬ ‫م ي َعْ َ‬ ‫ط ُغَْيان ِهِ ْ‬
‫هذا من قولهم بألسنتهم ما ليس في قلوبهم‪ ،‬و]ذلك[ أنهم إذا اجتمعوا‬
‫بالمؤمنين‪ ،‬أظهروا أنهم على طريقتهم وأنهم معهم‪ ،‬فإذا خلوا إلى‬
‫شياطينهم ‪ -‬أي‪ :‬رؤسائهم وكبرائهم في الشر ‪ -‬قالوا‪ :‬إنا معكم في‬
‫الحقيقة‪ ،‬وإنما نحن مستهزءون بالمؤمنين بإظهارنا لهم‪ ،‬أنا على طريقتهم‪،‬‬
‫فهذه حالهم الباطنة والظاهرة‪ ،‬ول يحيق المكر السيئ إل بأهله‪.‬‬
‫ن { وهذا‬ ‫مُهو َ‬ ‫م ي َعْ َ‬ ‫م ِفي ط ُغَْيان ِهِ ْ‬ ‫مد ّهُ ْ‬
‫م وَي َ ُ‬ ‫ست َهْزِئُ ب ِهِ ْ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫قال تعالى‪ } :‬الل ّ ُ‬
‫جزاء لهم‪ ،‬على استهزائهم بعباده‪ ،‬فمن استهزائه بهم أن زين لهم ما كانوا‬
‫فيه من الشقاء والحالة الخبيثة‪ ،‬حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين‪ ،‬لما لم‬
‫يسلط الله المؤمنين عليهم‪ ،‬ومن استهزائه بهم يوم القيامة‪ ،‬أنه يعطيهم‬
‫مع المؤمنين نورا ظاهرا‪ ،‬فإذا مشى المؤمنون بنورهم‪ ،‬طفئ نور‬
‫المنافقين‪ ،‬وبقوا في الظلمة بعد النور متحيرين‪ ،‬فما أعظم اليأس بعد‬
‫سك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ف َ‬ ‫م أ َن ْ ُ‬ ‫م فَت َن ْت ُ ْ‬‫م َقاُلوا ب ََلى وَل َك ِن ّك ُ ْ‬ ‫معَك ُ ْ‬‫ن َ‬ ‫م ن َك ُ ْ‬
‫الطمع‪ } ،‬ينادونه َ‬
‫م أل َ ْ‬ ‫َُ ُ َُ ْ‬
‫م { الية‪.‬‬ ‫م َواْرت َب ْت ُ ْ‬ ‫صت ُ ْ‬
‫وَت ََرب ّ ْ‬
‫م { أي‪ :‬فجورهم وكفرهم‪} ،‬‬ ‫ُ‬
‫م { أي‪ :‬يزيدهم } ِفي طغَْيان ِهِ ْ‬ ‫مد ّهُ ْ‬ ‫قوله‪ } :‬وَي َ ُ‬
‫ن { أي‪ :‬حائرون مترددون‪ ،‬وهذا من استهزائه تعالى بهم‪.‬‬ ‫مُهو َ‬ ‫ي َعْ َ‬
‫ثم قال تعالى كاشفا عن حقيقة أحوالهم‪:‬‬

‫) ‪(1/43‬‬

‫ن)‬
‫دي َ‬
‫مهْت َ ِ‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ُ‬ ‫م وَ َ‬
‫جاَرت ُهُ ْ‬
‫ت تِ َ‬
‫ح ْ‬
‫ما َرب ِ َ‬ ‫ة ِبال ْهُ َ‬
‫دى فَ َ‬ ‫ضَلل َ َ‬ ‫نا ْ‬
‫شت ََرُوا ال ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫ُأول َئ ِ َ‬
‫ك ال ّ ِ‬
‫‪(16‬‬

‫ما‬
‫م وَ َ‬‫جاَرت ُهُ ْ‬ ‫ت تِ َ‬ ‫ح ْ‬
‫ما َرب ِ َ‬ ‫دى فَ َ‬ ‫ة ِبال ْهُ َ‬
‫ضلل َ َ‬
‫شت ََرُوا ال ّ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪ُ } { 16‬أول َئ ِ َ‬
‫ك ال ّ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دي َ‬ ‫مهْت َ ِ‬ ‫كاُنوا ُ‬ ‫َ‬
‫ضلل َ َ‬
‫ة‬ ‫شت ََرُوا ال ّ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬‫أولئك‪ ،‬أي‪ :‬المنافقون الموصوفون بتلك الصفات } ال ّ ِ‬
‫دى { أي‪ :‬رغبوا في الضللة‪ ،‬رغبة المشتري بالسلعة‪ ،‬التي من رغبته‬ ‫ِبال ْهُ َ‬
‫فيها يبذل فيها الثمان )‪ (1‬النفيسة‪ .‬وهذا من أحسن المثلة‪ ،‬فإنه جعل‬
‫الضللة‪ ،‬التي هي غاية الشر‪ ،‬كالسلعة‪ ،‬وجعل الهدى الذي هو غاية الصلح‬
‫بمنزلة الثمن‪ ،‬فبذلوا الهدى رغبة عنه بالضللة رغبة فيها‪ ،‬فهذه تجارتهم‪،‬‬
‫فبئس التجارة‪ ،‬وبئس الصفقة صفقتهم )‪. (2‬‬
‫] ص ‪[ 44‬‬
‫وإذا كان من بذل )‪ (3‬دينارا في مقابلة درهم خاسرا‪ ،‬فكيف من بذل‬
‫جوهرة وأخذ عنها درهما؟" فكيف من بذل الهدى في مقابلة الضللة‪،‬‬
‫واختار الشقاء على السعادة‪ ،‬ورغب في سافل المور عن عاليها )‪ (4‬؟"‬
‫ن‬
‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬ ‫ري َ‬‫س ِ‬‫خا ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫فما ربحت تجارته‪ ،‬بل خسر فيها أعظم خسارة‪ } .‬قُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِبي ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫سَرا ُ‬ ‫خ ْ‬ ‫ك هُوَ ال ْ ُ‬‫مةِ َأل ذ َل ِ َ‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫م ي َوْ َ‬
‫َ‬
‫م وَأهِْليهِ ْ‬ ‫سهُ ْ‬
‫ف َ‬ ‫سُروا أ َن ْ ُ‬‫خ ِ‬ ‫َ‬
‫ن { تحقيق لضللهم‪ ،‬وأنهم لم يحصل لهم من‬ ‫دي َ‬ ‫مهْت َ ِ‬ ‫َ‬
‫ما كاُنوا ُ‬ ‫وقوله‪ } :‬وَ َ‬
‫الهداية شيء‪ ،‬فهذه أوصافهم القبيحة‪.‬‬
‫ثم ذكر مثلهم الكاشف لها غاية الكشف‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬الموال‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬وهذه صفقتهم فبئس الصفقة‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬يبذل‪.‬‬
‫)‪ (4‬في ب‪ :‬وترك عاليها‪.‬‬

‫) ‪(1/43‬‬

‫َ‬
‫م‬
‫ه ب ُِنورِهِ ْ‬ ‫ب الل ّ ُ‬ ‫ه ذ َهَ َ‬ ‫حوْل َ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ت َ‬ ‫ضاَء ْ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ست َوْقَد َ َناًرا فَل َ ّ‬ ‫ذي ا ْ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫مث َ ِ‬ ‫م كَ َ‬ ‫مث َل ُهُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(18‬‬ ‫عو‬
‫َْ ِ ُ َ‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫م‬
‫ْ ٌ ُ ْ‬‫ه‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ْ‬
‫ُ ّ ُ ٌ‬ ‫ك‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ص‬ ‫(‬ ‫‪17‬‬ ‫)‬ ‫ن‬‫ُْ ُ َ‬ ‫رو‬ ‫ص‬
‫ِ‬ ‫ب‬‫ي‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫ٍ‬ ‫ما‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ل‬‫ُ‬ ‫ظ‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫وَ َ ُ ْ‬
‫ه‬ ‫ك‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ذان ِهِ ْ‬ ‫م ِفي آ َ‬ ‫صاب ِعَهُ ْ‬ ‫نأ َ‬ ‫جعَُلو َ‬ ‫ت وََرعْد ٌ وَب َْرقٌ ي َ ْ‬ ‫ما ٌ‬ ‫ماِء ِفيهِ ظ ُل ُ َ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫صي ّ ٍ‬ ‫أو ْ ك َ َ‬
‫خط َ ُ‬
‫ف‬ ‫كاد ُ ال ْب َْرقُ ي َ ْ‬ ‫ن )‪ (19‬ي َ َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ط ِبال ْ َ‬ ‫حي ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ُ‬ ‫ت َوالل ّ ُ‬ ‫موْ ِ‬ ‫حذ ََر ال ْ َ‬ ‫ق َ‬ ‫ع ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫شاَء الل ُّ‬
‫ه‬ ‫موا وَل َوْ َ‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ظ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ذا‬‫َ‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫في‬ ‫وا‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫ضا‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ِْ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ َ ْ ِ ِ َِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أْ َ َ ُ ْ‬
‫ه‬ ‫ر‬ ‫صا‬ ‫ب‬
‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ديٌر )‪(20‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫صارِهِ ْ‬ ‫م وَأب ْ َ‬ ‫معِهِ ْ‬ ‫س ْ‬ ‫ب بِ َ‬ ‫ل َذ َهَ َ‬
‫َ‬
‫ب‬ ‫ه ذ َهَ َ‬ ‫حوْل َ ُ‬
‫ما َ‬ ‫ت َ‬ ‫ضاَء ْ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ست َوْقَد َ َناًرا فَل َ ّ‬ ‫ذي ا ْ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫مث َ ِ‬ ‫م كَ َ‬ ‫مث َل ُهُ ْ‬ ‫} ‪َ } { 20 - 17‬‬
‫مل‬ ‫ي فَهُ ْ‬ ‫م ٌ‬ ‫م عُ ْ‬ ‫م ب ُك ْ ٌ‬ ‫ص ّ‬ ‫ن* ُ‬ ‫صُرو َ‬ ‫ت ل ي ُب ْ ِ‬ ‫ما ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫م ِفي ظل َ‬ ‫م وَت ََرك َهُ ْ‬ ‫ه ب ُِنورِهِ ْ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫م‬ ‫يرجعون * أ َو ك َصيب من السماِء فيه ظ ُل ُمات ورعْد وبرقٌ يجعُلو َ‬
‫صاب ِعَهُ ْ‬ ‫نأ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ ٌ ََ ٌ ََْ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ّ َ‬ ‫َ ّ ٍ ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫َْ ِ ُ َ‬
‫كاد ُ ال ْب َْر ُ‬
‫ق‬ ‫ن * يَ َ‬ ‫ِ ِ َ‬ ‫ري‬ ‫ف‬ ‫كا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫ط‬ ‫حي‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫َ ْ ِ َ ُ ُ‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وال‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ر‬
‫ِ َ َ‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ح‬ ‫ق‬ ‫ع‬
‫ِ‬ ‫وا‬‫ّ َ‬ ‫ص‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫ذان ِ ِ ْ ِ َ‬
‫م‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ِفي آ َ‬
‫موا وَل َوْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫شاءَ‬ ‫م َقا ُ‬ ‫م عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ذا أظ ْل َ َ‬ ‫وا ِفيهِ وَإ ِ َ‬ ‫ش ْ‬ ‫م َ‬ ‫م َ‬ ‫ضاَء ل َهُ ْ‬ ‫ما أ َ‬ ‫م ك ُل ّ َ‬ ‫صاَرهُ ْ‬ ‫ف أب ْ َ‬ ‫خط َ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ديٌر { ‪.‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫صارِهِ ْ‬ ‫م وَأب ْ َ‬ ‫معِهِ ْ‬ ‫س ْ‬ ‫ب بِ َ‬ ‫ه ل َذ َهَ َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫أي‪ :‬مثلهم المطابق لما كانوا عليه كمثل الذي استوقد نارا‪ ،‬أي‪ :‬كان في‬
‫ظلمة عظيمة‪ ،‬وحاجة إلى النار شديدة فاستوقدها من غيره‪ ،‬ولم تكن‬
‫عنده معدة‪ ،‬بل هي خارجة عنه‪ ،‬فلما أضاءت النار ما حوله‪ ،‬ونظر المحل‬
‫الذي هو فيه‪ ،‬وما فيه من المخاوف وأمنها‪ ،‬وانتفع بتلك النار‪ ،‬وقرت بها‬
‫عينه‪ ،‬وظن أنه قادر عليها‪ ،‬فبينما هو كذلك‪ ،‬إذ ذهب الله بنوره‪ ،‬فذهب عنه‬
‫النور‪ ،‬وذهب معه السرور‪ ،‬وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة‪،‬‬
‫فذهب ما فيها من الشراق‪ ،‬وبقي ما فيها من الحراق‪ ،‬فبقي في ظلمات‬
‫متعددة‪ :‬ظلمة الليل‪ ،‬وظلمة السحاب‪ ،‬وظلمة المطر‪ ،‬والظلمة الحاصلة‬
‫بعد النور‪ ،‬فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلء المنافقون‪،‬‬
‫استوقدوا نار اليمان من المؤمنين‪ ،‬ولم تكن صفة لهم‪ ،‬فانتفعوا بها )‪(1‬‬
‫وحقنت بذلك دماؤهم‪ ،‬وسلمت أموالهم‪ ،‬وحصل لهم نوع من المن في‬
‫الدنيا‪ ،‬فبينما هم على ذلك )‪ (2‬إذ هجم عليهم الموت‪ ،‬فسلبهم النتفاع‬
‫بذلك النور‪ ،‬وحصل لهم كل هم وغم وعذاب‪ ،‬وحصل لهم ظلمة القبر‪،‬‬
‫وظلمة الكفر‪ ،‬وظلمة النفاق‪ ،‬وظلم )‪ (3‬المعاصي على اختلف أنواعها‪،‬‬
‫وبعد ذلك ظلمة النار ]وبئس القرار[‪.‬‬
‫م { ]أي[‪:‬‬ ‫ْ‬
‫م { أي‪ :‬عن سماع الخير‪ } ،‬ب ُك ٌ‬ ‫ص ّ‬ ‫فلهذا قال تعالى ]عنهم[‪ُ } :‬‬
‫ن { لنهم تركوا‬ ‫جُعو َ‬ ‫م ل ي َْر ِ‬ ‫َ‬
‫ي { عن رؤية الحق‪ } ،‬فهُ ْ‬ ‫م ٌ‬ ‫عن النطق به‪ } ،‬عُ ْ‬
‫الحق بعد أن عرفوه‪ ،‬فل يرجعون إليه‪ ،‬بخلف من ترك الحق عن جهل‬
‫وضلل‪ ،‬فإنه ل يعقل‪ ،‬وهو أقرب رجوعا منهم‪.‬‬
‫َ‬
‫ماِء { يعني‪ :‬أو مثلهم كصيب‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫صي ّ ٍ‬ ‫ثم قال تعالى‪ } :‬أوْ ك َ َ‬
‫كصاحب صيب من السماء‪ ،‬وهو المطر الذي يصوب‪ ،‬أي‪ :‬ينزل بكثرة‪،‬‬
‫ت { ظلمة الليل‪ ،‬وظلمة السحاب‪ ،‬وظلمات المطر‪،‬‬ ‫ما ٌ‬‫} ِفيهِ ظ ُل ُ َ‬
‫} وََرعْد ٌ { وهو الصوت الذي يسمع من السحاب‪ } ،‬وَب َْرقٌ { وهو الضوء‬
‫]اللمع[ المشاهد مع )‪ (4‬السحاب‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫م عَلي ْهِ ْ‬ ‫ذا أظل َ‬ ‫وا ِفيهِ وَإ ِ َ‬ ‫ش ْ‬‫م َ‬‫م { البرق في تلك الظلمات } َ‬ ‫ضاَء ل َهُ ْ‬
‫ما أ َ‬ ‫} ك ُل ّ َ‬
‫موا { أي‪ :‬وقفوا‪.‬‬ ‫َقا ُ‬
‫فهكذا حال )‪ (5‬المنافقين‪ ،‬إذا سمعوا القرآن وأوامره ونواهيه ووعده‬
‫ووعيده‪ ،‬جعلوا أصابعهم في آذانهم‪ ،‬وأعرضوا عن أمره ونهيه ووعده‬
‫ووعيده‪ ،‬فيروعهم وعيده وتزعجهم وعوده‪ ،‬فهم يعرضون عنها غاية ما‬
‫يمكنهم‪ ،‬ويكرهونها كراهة صاحب الصيب الذي يسمع الرعد‪ ،‬ويجعل )‪(6‬‬
‫أصابعه في أذنيه )‪ (7‬خشية الموت‪ ،‬فهذا تمكن له )‪ (8‬السلمة‪ .‬وأما‬
‫المنافقون فأنى لهم السلمة‪ ،‬وهو تعالى محيط بهم‪ ،‬قدرة وعلما فل‬
‫يفوتونه ول يعجزونه‪ ،‬بل يحفظ عليهم أعمالهم‪ ،‬ويجازيهم عليها أتم‬
‫الجزاء‪.‬‬
‫ولما كانوا مبتلين بالصمم‪ ،‬والبكم‪ ،‬والعمى المعنوي‪ ،‬ومسدودة عليهم‬
‫َ‬
‫م{‬‫صارِهِ ْ‬ ‫م وَأب ْ َ‬ ‫معِهِ ْ‬ ‫س ْ‬‫ب بِ َ‬‫ه ل َذ َهَ َ‬
‫شاَء الل ّ ُ‬
‫طرق اليمان‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬وَل َوْ َ‬
‫أي‪ :‬الحسية‪ ،‬ففيه تحذير لهم وتخويف بالعقوبة الدنيوية‪ ،‬ليحذروا‪،‬‬
‫ديٌر { فل‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫فيرتدعوا عن بعض شرهم ونفاقهم‪ } ،‬إ ِ ّ‬
‫يعجزه شيء‪ ،‬ومن قدرته أنه إذا شاء شيئا فعله من غير ممانع ول‬
‫معارض‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ما استضاءوا بها مؤقتا وانتفعوا فحقنت‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬هم كذلك‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬وظلمة‪.‬‬
‫)‪ (4‬في ب‪ :‬من‪.‬‬
‫)‪ (5‬في ب‪ :‬حالة‪.‬‬
‫)‪ (6‬في ب‪ :‬فيجعل‪.‬‬
‫)‪ (7‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬أذنه‪.‬‬
‫)‪ (8‬في ب‪ :‬ربما حصلت له‪.‬‬

‫) ‪(1/44‬‬

‫َ‬
‫ن)‬‫قو َ‬‫م ت َت ّ ُ‬‫م ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م َوال ّ ِ‬‫قك ُ ْ‬‫خل َ َ‬
‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫دوا َرب ّك ُ ُ‬ ‫س اعْب ُ ُ‬ ‫َيا أي َّها الّنا ُ‬
‫ماًء‬
‫ماِء َ‬ ‫س َ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ماَء ب َِناًء وَأ َن َْز َ‬ ‫س َ‬‫شا َوال ّ‬ ‫ض فَِرا ً‬ ‫َ‬
‫م اْلْر َ‬ ‫ل ل َك ُ ُ‬ ‫جعَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫‪ (21‬ال ّ ِ‬
‫ن )‪(22‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬
‫َ‬
‫دا وَأن ْت ُ ْ‬ ‫دا ً‬
‫َ‬
‫جعَُلوا ل ِل ّهِ أن ْ َ‬ ‫م فََل ت َ ْ‬ ‫ت رِْزًقا ل َك ُ ْ‬ ‫مَرا ِ‬ ‫ن الث ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ج ب ِهِ ِ‬ ‫فَأ َ ْ‬
‫خَر َ‬

‫وفي هذه الية وما أشبهها‪ ،‬رد على القدرية القائلين بأن أفعالهم غير‬
‫داخلة في قدرة الله تعالى‪ ،‬لن أفعالهم من جملة الشياء الداخلة في‬
‫ديٌر { ‪.‬‬‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫قوله‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫] ص ‪[ 45‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن قَب ْل ِك ْ‬
‫م‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫م َوال ِ‬‫قك ْ‬‫خل َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ِ‬ ‫دوا َرب ّك ُ‬‫س اعْب ُ ُ‬ ‫} ‪َ } { 22 - 21‬يا أي َّها الّنا ُ‬
‫َ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫ل ِ‬‫ماَء ب َِناًء وَأن َْز َ‬ ‫س َ‬ ‫شا َوال ّ‬ ‫ض فَِرا ً‬ ‫م الْر َ‬ ‫ل ل َك ُ ُ‬
‫جعَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن * ال ّ ِ‬ ‫قو َ‬ ‫ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م ت َت ّ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫دا وَأن ْت ُ ْ‬ ‫دا ً‬‫جعَُلوا ل ِل ّهِ أن ْ َ‬ ‫م َفل ت َ ْ‬ ‫ت رِْزًقا ل َك ُ ْ‬ ‫مَرا ِ‬ ‫ن الث ّ َ‬‫م َ‬‫ج ب ِهِ ِ‬
‫خَر َ‬ ‫ماًء فَأ ْ‬ ‫ماِء َ‬ ‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬‫ت َعْل َ ُ‬
‫هذا أمر عام لكل )‪ (1‬الناس‪ ،‬بأمر عام‪ ،‬وهو العبادة الجامعة‪ ،‬لمتثال‬
‫أوامر الله‪ ،‬واجتناب نواهيه‪ ،‬وتصديق خبره‪ ،‬فأمرهم تعالى بما خلقهم له‪،‬‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دو ِ‬
‫س ِإل ل ِي َعْب ُ ُ‬
‫ن َوالن ْ َ‬ ‫ج ّ‬ ‫ت ال ْ ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫خل َ ْ‬‫ما َ‬ ‫قال تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫ثم استدل على وجوب عبادته وحده‪ ،‬بأنه ربكم الذي رباكم بأصناف النعم‪،‬‬
‫فخلقكم بعد العدم‪ ،‬وخلق الذين من قبلكم‪ ،‬وأنعم عليكم بالنعم الظاهرة‬
‫والباطنة‪ ،‬فجعل لكم الرض فراشا تستقرون عليها‪ ،‬وتنتفعون بالبنية‪،‬‬
‫والزراعة‪ ،‬والحراثة‪ ،‬والسلوك من محل إلى محل‪ ،‬وغير ذلك من أنواع )‬
‫‪ (2‬النتفاع بها‪ ،‬وجعل السماء بناء لمسكنكم‪ ،‬وأودع فيها من المنافع ما هو‬
‫من ضروراتكم وحاجاتكم‪ ،‬كالشمس‪ ،‬والقمر‪ ،‬والنجوم‪.‬‬
‫ماًء { والسماء‪] :‬هو[ كل ما عل فوقك فهو سماء‪،‬‬ ‫ماِء َ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬‫ل ِ‬ ‫} وََأنز َ‬
‫ولهذا قال المفسرون‪ :‬المراد بالسماء هاهنا‪ :‬السحاب‪ ،‬فأنزل منه تعالى‬
‫ت { كالحبوب‪ ،‬والثمار‪ ،‬من نخيل‪ ،‬وفواكه‪،‬‬ ‫مَرا ِ‬ ‫ن الث ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ج ب ِهِ ِ‬ ‫ماء‪ } ،‬فَأ َ ْ‬
‫خَر َ‬
‫م { به ترتزقون‪ ،‬وتقوتون وتعيشون وتفكهون‪.‬‬ ‫]وزروع[ وغيرها } رِْزًقا ل َك ُ ْ‬
‫َ‬
‫دا { أي‪ :‬نظراء وأشباها من المخلوقين‪ ،‬فتعبدونهم‬ ‫دا ً‬ ‫جعَُلوا ل ِل ّهِ أن ْ َ‬ ‫} َفل ت َ ْ‬
‫كما تعبدون الله‪ ،‬وتحبونهم كما تحبون الله‪ ،‬وهم مثلكم‪ ،‬مخلوقون‪،‬‬
‫مرزوقون مدبرون‪ ،‬ل يملكون مثقال ذرة في السماء ول في الرض‪ ،‬ول‬
‫َ‬
‫ن { أن الله ليس له شريك‪ ،‬ول نظير‪،‬‬ ‫مو َ‬‫م ت َعْل َ ُ‬
‫ينفعونكم ول يضرون‪ } ،‬وَأن ْت ُ ْ‬
‫ل في الخلق‪ ،‬والرزق‪ ،‬والتدبير‪ ،‬ول في العبادة )‪ (3‬فكيف تعبدون معه‬
‫آلهة أخرى مع علمكم بذلك؟ هذا من أعجب العجب‪ ،‬وأسفه السفه‪.‬‬
‫وهذه الية جمعت بين المر بعبادة الله وحده‪ ،‬والنهي عن عبادة ما سواه‪،‬‬
‫وبيان الدليل الباهر على وجوب عبادته‪ ،‬وبطلن عبادة من سواه‪ ،‬وهو‬
‫]ذكر[ توحيد الربوبية‪ ،‬المتضمن لنفراده بالخلق والرزق والتدبير‪ ،‬فإذا كان‬
‫كل أحد مقرا بأنه ليس له شريك في ذلك‪ ،‬فكذلك فليكن إقراره بأن‬
‫]الله[ ل شريك له في العبادة‪ ،‬وهذا أوضح دليل عقلي على وحدانية‬
‫الباري‪ ،‬وبطلن الشرك‪.‬‬
‫ن { يحتمل أن المعنى‪ :‬أنكم إذا عبدتم الله‬ ‫قو َ‬ ‫م ت َت ّ ُ‬ ‫وقوله تعالى‪ } :‬ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫وحده‪ ،‬اتقيتم بذلك سخطه وعذابه‪ ،‬لنكم أتيتم بالسبب الدافع لذلك‪،‬‬
‫ويحتمل أن يكون المعنى‪ :‬أنكم إذا عبدتم الله‪ ،‬صرتم من المتقين‬
‫الموصوفين بالتقوى‪ ،‬وكل المعنيين صحيح‪ ،‬وهما متلزمان‪ ،‬فمن أتى‬
‫بالعبادة كاملة‪ ،‬كان من المتقين‪ ،‬ومن كان من المتقين‪ ،‬حصلت له النجاة‬
‫من عذاب الله وسخطه‪ .‬ثم قال تعالى‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬لجميع‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬وجوه‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬ول في اللوهية والكمال‪.‬‬

‫) ‪(1/44‬‬

‫ْ‬
‫عوا‬ ‫مث ْل ِهِ َواد ْ ُ‬
‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫سوَرةٍ ِ‬ ‫ما ن َّزل َْنا عََلى عَب ْدَِنا فَأُتوا ب ِ ُ‬ ‫م ّ‬
‫ب ِ‬ ‫م ِفي َري ْ ٍ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫وَإ ِ ْ‬
‫فعَُلوا‬
‫ن تَ ْ‬‫فعَُلوا وَل َ ْ‬ ‫م تَ ْ‬‫ن لَ ْ‬‫ن )‪ (23‬فَإ ِ ْ‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن الل ّهِ إ ِ ْ‬
‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬‫داَءك ُ ْ‬ ‫شه َ َ‬ ‫ُ‬
‫ن )‪(24‬‬ ‫ت ل ِل ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫س َوال ْ ِ‬ ‫قوا الّناَر ال ِّتي وَُقود ُ َ‬ ‫َفات ّ ُ‬
‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫عد ّ ْ‬
‫جاَرةُ أ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ها الّنا ُ‬
‫ْ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫سوَرةٍ ِ‬ ‫ما ن َّزل َْنا عََلى عَب ْدَِنا فَأُتوا ب ِ ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ب ِ‬ ‫م ِفي َري ْ ٍ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫} ‪ } { 24 - 23‬وَإ ِ ْ‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫فعَلوا وَل ْ‬ ‫ُ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫َ‬
‫نل ْ‬ ‫ن * فَإ ِ ْ‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫ن اللهِ إ ِ ْ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫داَءك ُ ْ‬ ‫شهَ َ‬ ‫عوا ُ‬ ‫مث ْل ِهِ َواد ْ ُ‬ ‫ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫قوا الّناَر الِتي وَُقود ُ َ‬‫ّ‬ ‫ُ‬
‫فعَلوا َفات ّ ُ‬
‫ري َ‬ ‫ت ل ِلكافِ ِ‬ ‫عد ّ ْ‬ ‫جاَرةُ أ ِ‬ ‫ح َ‬‫س َوال ِ‬ ‫ها الّنا ُ‬ ‫تَ ْ‬
‫وهذا دليل عقلي على صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وصحة ما‬
‫جاء به‪ ،‬فقال‪ } :‬وإن كنتم { معشر المعاندين للرسول‪ ،‬الرادين دعوته‪،‬‬
‫الزاعمين كذبه في شك واشتباه‪ ،‬مما نزلنا على عبدنا‪ ،‬هل هو حق أو غيره‬
‫؟ فهاهنا أمر نصف‪ ،‬فيه الفيصلة بينكم وبينه‪ ،‬وهو أنه بشر مثلكم‪ ،‬ليس‬
‫بأفصحكم ول بأعلمكم )‪ (1‬وأنتم تعرفونه منذ نشأ بينكم‪ ،‬ل يكتب ول يقرأ‪،‬‬
‫وله وافتراه‪ ،‬فإن كان‬ ‫فأتاكم بكتاب زعم أنه من عند الله‪ ،‬وقلتم أنتم أنه تق ّ‬
‫المر كما تقولون‪ ،‬فأتوا بسورة من مثله‪ ،‬واستعينوا بمن تقدرون عليه من‬
‫أعوانكم وشهدائكم‪ ،‬فإن هذا أمر يسير عليكم‪ ،‬خصوصا وأنتم أهل‬
‫الفصاحة والخطابة‪ ،‬والعداوة العظيمة للرسول‪ ،‬فإن جئتم بسورة من‬
‫مثله‪ ،‬فهو كما زعمتم‪ ،‬وإن لم تأتوا بسورة من مثله وعجزتم غاية العجز‪،‬‬
‫ولن تأتوا بسورة من مثله‪ ،‬ولكن هذا التقييم )‪ (2‬على وجه النصاف‬
‫والتنزل معكم‪ ،‬فهذا آية كبرى‪ ،‬ودليل واضح ]جلي[ على صدقه وصدق ما‬
‫جاء به‪ ،‬فيتعين عليكم اتباعه‪ ،‬واتقاء النار التي بلغت في الحرارة العظيمة‬
‫]والشدة[‪ ،‬أن كانت وقودها الناس والحجارة‪ ،‬ليست كنار الدنيا التي إنما‬
‫تتقد ] ص ‪ [ 46‬بالحطب‪ ،‬وهذه النار الموصوفة معدة ومهيأة للكافرين‬
‫بالله ورسله‪ .‬فاحذروا الكفر برسوله‪ ،‬بعد ما تبين لكم أنه رسول الله‪.‬‬
‫وهذه الية ونحوها يسمونها آيات التحدي‪ ،‬وهو تعجيز الخلق أن يأتوا بمثل‬
‫ن ي َأ ُْتوا‬ ‫َ‬
‫ن عََلى أ ْ‬ ‫ج ّ‬ ‫س َوال ْ ِ‬ ‫ت الن ْ ُ‬ ‫مع َ ِ‬ ‫جت َ َ‬‫نا ْ‬ ‫هذا القرآن‪ ،‬قال تعالى } قُ ْ َ‬
‫ل لئ ِ ِ‬
‫ض ظ َِهيًرا { ‪.‬‬ ‫مث ْل ِهِ وَل َوْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ذا ال ْ ُ‬
‫م ل ِب َعْ ٍ‬ ‫ضه ُ ْ‬
‫ن ب َعْ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ن بِ ِ‬ ‫ن ل ي َأُتو َ‬ ‫قْرآ ِ‬ ‫ل هَ َ‬‫مث ْ ِ‬ ‫بِ ِ‬
‫وكيف يقدر المخلوق من تراب‪ ،‬أن يكون كلمه ككلم رب الرباب؟ أم‬
‫كيف يقدر الناقص الفقير من كل الوجوه‪ ،‬أن يأتي بكلم ككلم الكامل‪،‬‬
‫الذي له الكمال المطلق‪ ،‬والغنى الواسع من كل الوجوه؟ هذا ليس في‬
‫المكان‪ ،‬ول في قدرة النسان‪ ،‬وكل من له أدنى ذوق ومعرفة ]بأنواع[‬
‫الكلم‪ ،‬إذا وزن هذا القرآن العظيم بغيره من كلم البلغاء‪ ،‬ظهر له الفرق‬
‫العظيم‪.‬‬
‫ب { إلى آخره‪ ،‬دليل على أن الذي يرجى له‬ ‫م ِفي َري ْ ٍ‬ ‫ُ‬
‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫وفي قوله‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫الهداية من الضللة‪] :‬هو[ الشاك الحائر الذي لم يعرف الحق من الضلل‪،‬‬
‫فهذا إذا بين له الحق فهو حري بالتوفيق )‪ (3‬إن كان صادقا في طلب‬
‫الحق‪.‬‬
‫وأما المعاند الذي يعرف الحق ويتركه‪ ،‬فهذا ل يمكن رجوعه‪ ،‬لنه ترك‬
‫الحق بعد ما تبين له‪ ،‬لم يتركه عن جهل‪ ،‬فل حيلة فيه‪.‬‬
‫وكذلك الشاك غير الصادق )‪ (4‬في طلب الحق‪ ،‬بل هو معرض غير مجتهد‬
‫في طلبه‪ ،‬فهذا في الغالب أنه ل يوفق‪.‬‬
‫وفي وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم‪ ،‬دليل على أن‬
‫أعظم أوصافه صلى الله عليه وسلم‪ ،‬قيامه بالعبودية‪ ،‬التي ل يلحقه فيها‬
‫أحد من الولين والخرين‪.‬‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫سَرى ب ِعَب ْدِ ِ‬ ‫ذي أ ْ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫حا َ‬ ‫سب ْ َ‬
‫كما وصفه بالعبودية في مقام السراء‪ ،‬فقال‪ُ } :‬‬
‫ن عَلى عَب ْدِهِ { ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫فْرَقا َ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫ذي نز َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫{ وفي مقام النزال‪ ،‬فقال‪ } :‬ت ََباَر َ‬
‫ن { ونحوها من اليات‪ ،‬دليل لمذهب أهل‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬‫ت ل ِل ْ َ‬ ‫عد ّ ْ‬ ‫وفي قوله‪ } :‬أ ُ ِ‬
‫السنة والجماعة‪ ،‬أن الجنة والنار مخلوقتان خلفا للمعتزلة‪ ،‬وفيها أيضا‪ ،‬أن‬
‫ت‬ ‫الموحدين وإن ارتكبوا بعض الكبائر ل يخلدون في النار‪ ،‬لنه قال‪ } :‬أ ُ ِ‬
‫عد ّ ْ‬
‫ن { فلو كان ]عصاة الموحدين[ يخلدون فيها‪ ،‬لم تكن معدة‬ ‫ري َ‬ ‫ل ِل ْ َ‬
‫كافِ ِ‬
‫للكافرين وحدهم‪ ،‬خلفا للخوارج والمعتزلة‪.‬‬
‫وفيها دللة على أن العذاب مستحق بأسبابه‪ ،‬وهو الكفر‪ ،‬وأنواع المعاصي‬
‫على اختلفها‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬هكذا في أ‪ ،‬وفي ب‪ :‬شطب قوله )بأفصحكم ول بأعلمكم( وفي‬
‫هامش النسخة بخط المؤلف جملة أخرى هي )من جنس آخر( فتكون‬
‫الجملة هكذا )ليس من جنس آخر(‪.‬‬
‫)‪ (2‬هكذا وردت الكلمة في هامش أ‪ ،‬وهي ليست في ب‪ ،‬ويبدو أن المراد‬
‫وهذا العرض‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬باتباعه‪.‬‬
‫)‪ (4‬في ب‪ :‬الذي ليس بصادق‪.‬‬

‫) ‪(1/45‬‬

‫حت َِها اْل َن َْهاُر‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬


‫ن تَ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ِ‬ ‫ج‬
‫ت تَ ْ‬‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫ن ل َهُ ْ‬‫تأ ّ‬ ‫حا ِ‬ ‫مُلوا ال ّ‬
‫صال ِ َ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬‫نآ َ‬ ‫شرِ ال ّ ِ َ‬ ‫وَب َ ّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ه‬
‫ل وَأُتوا ب ِ ِ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ذي ُرزِقَْنا ِ‬ ‫ذا ال ِ‬ ‫مَرةٍ رِْزًقا َقالوا هَ َ‬ ‫ن ثَ َ‬ ‫م ْ‬
‫من َْها ِ‬‫ما ُرزُِقوا ِ‬ ‫ك ُل ّ َ‬
‫َ‬
‫ن )‪(25‬‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬
‫م ِفيَها َ‬ ‫مط َهَّرةٌ وَهُ ْ‬
‫ج ُ‬‫م ِفيَها أْزَوا ٌ‬ ‫شاب ًِها وَل َهُ ْ‬
‫مت َ َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬
‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬‫م َ‬ ‫ن ل َهُ ْ‬ ‫تأ ّ‬ ‫حا ِ‬ ‫مُلوا ال ّ‬
‫صال ِ َ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫شرِ ال ّ ِ‬ ‫} ‪ } { 25‬وَب َ ّ‬
‫ن قَب ْ ُ‬
‫ل‬ ‫م ْ‬‫ذي ُرزِقَْنا ِ‬ ‫ذا ال ّ ِ‬ ‫مَرةٍ رِْزًقا َقاُلوا هَ َ‬ ‫ن ثَ َ‬‫م ْ‬‫من َْها ِ‬‫ما ُرزُِقوا ِ‬ ‫حت َِها الن َْهاُر ك ُل ّ َ‬ ‫تَ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مت َ َ‬ ‫ُ‬
‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫م ِفيَها َ‬ ‫مطهَّرةٌ وَهُ ْ‬ ‫ج ُ‬ ‫م ِفيَها أْزَوا ٌ‬ ‫شاب ًِها وَلهُ ْ‬ ‫وَأُتوا ب ِهِ ُ‬
‫لما ذكر جزاء الكافرين‪ ،‬ذكر جزاء المؤمنين‪ ،‬أهل العمال الصالحات‪ ،‬على‬
‫طريقته تعالى في القرآن )‪ (1‬يجمع بين الترغيب والترهيب‪ ،‬ليكون العبد‬
‫شرِ { أي‪] :‬يا أيها الرسول ومن قام‬ ‫راغبا راهبا‪ ،‬خائفا راجيا فقال‪ } :‬وَب َ ّ‬
‫ت { بجوارحهم‪،‬‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬‫ملوا ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫مُنوا { بقلوبهم } وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫مقامه[ )‪ } (2‬ال ّ ِ‬
‫فصدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة‪.‬‬
‫ووصفت أعمال الخير بالصالحات‪ ،‬لن بها تصلح أحوال العبد‪ ،‬وأمور دينه‬
‫ودنياه‪ ،‬وحياته الدنيوية والخروية‪ ،‬ويزول بها عنه فساد الحوال‪ ،‬فيكون‬
‫بذلك من الصالحين‪ ،‬الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته‪.‬‬
‫َ‬
‫ت { أي‪ :‬بساتين جامعة من الشجار العجيبة‪،‬‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫ن ل َهُ ْ‬ ‫فبشرهم } أ ّ‬
‫والثمار النيقة‪ ،‬والظل المديد‪] ،‬والغصان والفنان وبذلك[ )‪ (3‬صارت جنة‬
‫يجتن بها داخلها‪ ،‬وينعم فيها ساكنها‪.‬‬
‫حت َِها الن َْهاُر { أي‪ :‬أنهار الماء‪ ،‬واللبن‪ ،‬والعسل‪ ،‬والخمر‪،‬‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬
‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫} تَ ْ‬
‫يفجرونها كيف شاءوا‪ ،‬ويصرفونها أين أرادوا‪ ،‬وتشرب )‪ (4‬منها تلك‬
‫الشجار فتنبت أصناف الثمار‪.‬‬
‫ل { أي‪ :‬هذا‬ ‫ن قَب ْ ُ‬‫م ْ‬ ‫ذي ُرزِقَْنا ِ‬ ‫ّ‬
‫ذا ال ِ‬ ‫ُ‬
‫مَرةٍ رِْزًقا َقالوا هَ َ‬ ‫ن ثَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫من َْها ِ‬ ‫ما ُرزُِقوا ِ‬ ‫} ك ُل ّ َ‬
‫من جنسه‪ ،‬وعلى وصفه‪ ،‬كلها متشابهة في الحسن واللذة‪ ،‬ليس فيها ثمرة‬
‫خاصة‪ ،‬وليس لهم وقت خال من اللذة‪ ،‬فهم دائما متلذذون بأكلها‪.‬‬
‫شاب ًِها { قيل‪ :‬متشابها في السم‪ ،‬مختلف الطعوم )‬ ‫مت َ َ‬ ‫ُ‬
‫وقوله‪ } :‬وَأُتوا ب ِهِ ُ‬
‫‪ (5‬وقيل‪ :‬متشابها في اللون‪ ،‬مختلفا في السم‪ ،‬وقيل‪ :‬يشبه بعضه بعضا‪،‬‬
‫في الحسن‪ ،‬واللذة‪ ،‬والفكاهة‪ ،‬ولعل هذا الصحيح )‪. (6‬‬
‫ثم لما ذكر مسكنهم‪ ،‬وأقواتهم من الطعام والشراب وفواكههم‪ ،‬ذكر‬
‫م ِفيَها‬‫أزواجهم‪ ،‬فوصفهن بأكمل وصف وأوجزه‪ ،‬وأوضحه فقال‪ } :‬وَل َهُ ْ‬
‫مط َهَّرةٌ { فلم يقل "مطهرة من ] ص ‪ [ 47‬العيب الفلني "ليشمل‬ ‫َ‬
‫ج ُ‬‫أْزَوا ٌ‬
‫جميع أنواع التطهير‪ ،‬فهن مطهرات الخلق‪ ،‬مطهرات الخلق‪ ،‬مطهرات‬
‫اللسان‪ ،‬مطهرات البصار‪ ،‬فأخلقهن‪ ،‬أنهن عرب متحببات إلى أزواجهن‬
‫بالخلق الحسن‪ ،‬وحسن التبعل‪ ،‬والدب القولي والفعلي‪ ،‬ومطهر خلقهن‬
‫من الحيض والنفاس والمني‪ ،‬والبول والغائط‪ ،‬والمخاط والبصاق‪ ،‬والرائحة‬
‫الكريهة‪ ،‬ومطهرات الخلق أيضا‪ ،‬بكمال الجمال‪ ،‬فليس فيهن عيب‪ ،‬ول‬
‫دمامة خلق‪ ،‬بل هن خيرات حسان‪ ،‬مطهرات اللسان والطرف‪ ،‬قاصرات‬
‫طرفهن على أزواجهن‪ ،‬وقاصرات ألسنتهن عن كل كلم قبيح‪.‬‬
‫شُر به‪ ،‬والسبب‬ ‫شر‪ ،‬والمب ّ‬
‫شر والمب ّ‬‫ففي هذه الية الكريمة‪ ،‬ذكر المب ّ‬
‫شر‪ :‬هو الرسول صلى الله عليه وسلم ومن‬ ‫الموصل لهذه البشارة‪ ،‬فالمب ّ‬
‫شر‪ :‬هم المؤمنون العاملون الصالحات‪،‬‬ ‫قام مقامه من أمته‪ ،‬والمب ّ‬
‫شر به‪ :‬هي الجنات الموصوفات بتلك الصفات‪ ،‬والسبب الموصل‬ ‫والمب ّ‬
‫لذلك‪ ،‬هو اليمان والعمل الصالح‪ ،‬فل سبيل إلى الوصول إلى هذه‬
‫البشارة‪ ،‬إل بهما‪ ،‬وهذا أعظم بشارة حاصلة‪ ،‬على يد أفضل الخلق‪،‬‬
‫بأفضل السباب‪.‬‬
‫وفيه استحباب بشارة المؤمنين‪ ،‬وتنشيطهم على العمال بذكر جزائها‬
‫]وثمراتها[‪ ،‬فإنها بذلك تخف وتسهل‪ ،‬وأعظم بشرى حاصلة للنسان‪،‬‬
‫توفيقه لليمان والعمل الصالح‪ ،‬فذلك أول البشارة وأصلها‪ ،‬ومن بعده‬
‫البشرى عند الموت‪ ،‬ومن بعده الوصول إلى هذا النعيم المقيم‪ ،‬نسأل الله‬
‫أن يجعلنا منهم )‪. (7‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬كما هي طريقته تعالى في كتابه‪.‬‬
‫)‪ (2‬في أ‪ :‬أ‪ :‬يا محمد‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬المديد ما صارت به جنة‪.‬‬
‫)‪ (4‬في ب‪ :‬وتسقى‪.‬‬
‫)‪ (5‬في ب‪ :‬مختلفا في الطعم‪.‬‬
‫)‪ (6‬في ب‪ :‬أحسن‪.‬‬
‫)‪ (7‬في ب‪ :‬نسأل الله من فضله‪.‬‬

‫) ‪(1/46‬‬

‫ذي َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫مُنوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ما ال ّ ِ َ‬ ‫ما فَوْقََها فَأ ّ‬ ‫ة فَ َ‬
‫ض ً‬‫ما ب َُعو َ‬ ‫مث ًَل َ‬ ‫ب َ‬ ‫ضرِ َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫حِيي أ ْ‬ ‫ست َ ْ‬‫ه َل ي َ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫إِ ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫فُروا فَي َ ُ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه ب ِهَ َ‬
‫ذا‬ ‫ذا أَراد َ الل ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن َ‬ ‫قولو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما ال ِ‬ ‫م وَأ ّ‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬‫حق ّ ِ‬ ‫ه ال َ‬ ‫ن أن ّ ُ‬ ‫مو َ‬ ‫فَي َعْل ُ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ن )‪ (26‬ال ّ ِ‬ ‫قي َ‬ ‫س ِ‬‫فا ِ‬ ‫ل ب ِهِ إ ِّل ال ْ َ‬ ‫ض ّ‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫دي ب ِهِ ك َِثيًرا وَ َ‬ ‫ل ب ِهِ ك َِثيًرا وَي َهْ ِ‬ ‫ض ّ‬‫مث ًَل ي ُ ِ‬ ‫َ‬
‫ل‬‫ص َ‬ ‫يو‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫ن‬ ‫عو‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫ْ‬ ‫ق‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ق‬ ‫َ‬
‫ثا‬ ‫مي‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬
‫ُ ِ ِ ْ ُ َ‬ ‫ُ َ َ َ َ‬ ‫ِ ِ ْ َْ ِ ِ ِ ِ ََ‬ ‫يَ ْ ُ َ ْ َ‬
‫د‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫ضو‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫ن‬
‫ن )‪(27‬‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ُ‬
‫ض أول َئ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫سُرو َ‬ ‫خا ِ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫دو َ‬ ‫س ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫وَي ُ ْ‬
‫َ‬
‫ما فَوْقََها‬ ‫ة فَ َ‬ ‫ض ً‬ ‫ما ب َُعو َ‬ ‫مَثل َ‬ ‫ب َ‬ ‫ضرِ َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫حِيي أ ْ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ه ل يَ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} ‪ } { 27 - 26‬إ ِ ّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫قولو َ‬ ‫فُروا فَي َ ُ‬ ‫نك َ‬‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما ال ِ‬ ‫م وَأ ّ‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫حق ّ ِ‬ ‫ه ال َ‬ ‫ن أن ّ ُ‬ ‫مو َ‬ ‫مُنوا فَي َعْل ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما ال ّ ِ‬ ‫فَأ ّ‬
‫ما َ َ‬
‫ل ب ِهِ ِإل‬ ‫ض ّ‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫دي ب ِهِ ك َِثيًرا وَ َ‬ ‫ل ب ِهِ ك َِثيًرا وَي َهْ ِ‬ ‫ض ّ‬ ‫مَثل ي ُ ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫ه ب ِهَ َ‬ ‫ذا أَراد َ الل ّ ُ‬ ‫َ‬
‫مَر الل ُّ‬
‫ه‬ ‫قط َعون ما أ َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ق‬ ‫ثا‬‫َ‬ ‫مي‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫د‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫ضو‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫*‬ ‫ن‬ ‫قي‬ ‫س‬ ‫فا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ض أولئ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ص َ‬ ‫َ‬
‫سُرو َ‬ ‫خا ِ‬ ‫م ال َ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫دو َ‬ ‫س ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫ل وَي ُ ْ‬ ‫ن ُيو َ‬ ‫ب ِهِ أ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ما { أي‪ :‬أيّ مثل كان‬ ‫مَثل َ‬ ‫ب َ‬ ‫ضرِ َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫حِيي أ ْ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ه ل يَ ْ‬ ‫ن الل َ‬ ‫يقول تعالى } إ ِ ّ‬
‫ما فَوْقََها { لشتمال المثال على الحكمة‪ ،‬وإيضاح الحق‪ ،‬والله‬ ‫ة فَ َ‬ ‫ض ً‬ ‫} ب َُعو َ‬
‫ل يستحيي من الحق‪ ،‬وكأن في هذا‪ ،‬جوابا لمن أنكر ضرب المثال في‬
‫الشياء الحقيرة‪ ،‬واعترض على الله في ذلك‪ .‬فليس في ذلك محل‬
‫اعتراض‪ .‬بل هو من تعليم الله لعباده ورحمته بهم‪ .‬فيجب أن تتلقى‬
‫بالقبول والشكر‪ .‬ولهذا قال‪ } :‬فَأ َما ال ّذين آمنوا فَيعل َمو َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫حق ّ ِ‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫ن أن ّ ُ‬ ‫َْ ُ َ‬ ‫ِ َ َ ُ‬ ‫ّ‬
‫م { فيتفهمونها‪ ،‬ويتفكرون فيها‪.‬‬ ‫َرب ّهِ ْ‬
‫فإن علموا ما اشتملت عليه على وجه التفصيل‪ ،‬ازداد بذلك علمهم‬
‫وإيمانهم‪ ،‬وإل علموا أنها حق‪ ،‬وما اشتملت عليه حق‪ ،‬وإن خفي عليهم‬
‫وجه الحق فيها لعلمهم بأن الله لم يضربها عبثا‪ ،‬بل لحكمة بالغة‪ ،‬ونعمة‬
‫سابغة‪.‬‬
‫مَثل { فيعترضون‬ ‫ه ب ِهَ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ما َ‬ ‫ُ‬ ‫فُروا فَي َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ذا َ‬ ‫ذا أَراد َ الل ُ‬ ‫ن َ‬ ‫قولو َ‬ ‫نك َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما ال ِ‬ ‫} وَأ ّ‬
‫ويتحيرون‪ ،‬فيزدادون كفرا إلى كفرهم‪ ،‬كما ازداد المؤمنون إيمانا على‬
‫دي ب ِهِ ك َِثيًرا { فهذه حال المؤمنين‬ ‫ل ب ِهِ ك َِثيًرا وَي َهْ ِ‬ ‫ض ّ‬ ‫إيمانهم‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬ي ُ ِ‬
‫سوَرةٌ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫والكافرين عند نزول اليات القرآنية‪ .‬قال تعالى‪ } :‬وَإ ِ َ‬
‫ت ُ‬ ‫ما أنزل ْ‬ ‫ذا َ‬
‫َ‬ ‫قو ُ َ‬
‫م‬
‫ماًنا وَهُ ْ‬ ‫م ِإي َ‬ ‫مُنوا فََزاد َت ْهُ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما ال ّ ِ‬ ‫ماًنا فَأ ّ‬ ‫ه هَذِهِ ِإي َ‬ ‫م َزاد َت ْ ُ‬ ‫ل أي ّك ُ ْ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫فَ ِ‬
‫َ‬
‫م‬
‫سه ِ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫سا إ َِلى رِ ْ‬ ‫ج ً‬ ‫م رِ ْ‬ ‫ض فََزاد َت ْهُ ْ‬ ‫مَر ٌ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِفي قُُلوب ِهِ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما ال ّ ِ‬ ‫ن وَأ ّ‬ ‫شُرو َ‬ ‫ست َب ْ ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن { فل أعظم نعمة على العباد من نزول اليات‬ ‫كافُِرو َ‬ ‫م َ‬ ‫ماُتوا وَهُ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫القرآنية‪ ،‬ومع هذا تكون لقوم محنة وحيرة ]وضللة[ وزيادة شر إلى‬
‫شرهم‪ ،‬ولقوم منحة ]ورحمة[ وزيادة خير إلى خيرهم‪ ،‬فسبحان من فاوت‬
‫بين عباده‪ ،‬وانفرد بالهداية والضلل‪.‬‬
‫ثم ذكر حكمته في إضلل من يضلهم وأن ذلك عدل منه تعالى )‪ (1‬فقال‪:‬‬
‫ن { أي‪ :‬الخارجين عن طاعة الله; المعاندين‬ ‫قي َ‬ ‫س ِ‬ ‫فا ِ‬ ‫ل ب ِهِ ِإل ال ْ َ‬ ‫ض ّ‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫} وَ َ‬
‫لرسل الله; الذين صار الفسق وصفهم; فل يبغون به بدل فاقتضت حكمته‬
‫تعالى إضللهم لعدم صلحيتهم للهدى‪ ،‬كما اقتضت حكمته وفضله هداية‬
‫من اتصف باليمان وتحلى بالعمال الصالحة‪.‬‬
‫والفسق نوعان‪ :‬نوع مخرج من الدين‪ ،‬وهو الفسق المقتضي للخروج من‬
‫اليمان; كالمذكور في هذه الية ونحوها‪ ،‬ونوع غير مخرج من اليمان كما‬
‫َ‬
‫سقٌ ب ِن َب َإ ٍ فَت َب َي ُّنوا {‬ ‫م َفا ِ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫مُنوا إ ِ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫في قوله تعالى‪َ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫]الية[‪.‬‬
‫ميَثاقِهِ {‬ ‫ن ب َعْدِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن عَهْد َ الل ّهِ ِ‬ ‫ضو َ‬ ‫ق ُ‬ ‫ن ي َن ْ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ثم وصف الفاسقين فقال‪ } :‬ال ّ ِ‬
‫وهذا يعم العهد الذي بينهم وبينه )‪ (2‬والذي بينهم وبين عباده )‪ (3‬الذي‬
‫أكده عليهم بالمواثيق الثقيلة واللزامات‪ ،‬فل يبالون بتلك المواثيق; بل‬
‫ينقضونها ويتركون أوامره ويرتكبون نواهيه; وينقضون العهود التي بينهم‬
‫وبين الخلق‪.‬‬
‫] ص ‪[ 48‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ل { وهذا يدخل فيه أشياء كثيرة‪ ،‬فإن‬ ‫ص َ‬ ‫ن ُيو َ‬ ‫ه ب ِهِ أ ْ‬ ‫مَر الل ُ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ن َ‬ ‫قط َُعو َ‬ ‫} وَي َ ْ‬
‫الله أمرنا أن نصل ما بيننا وبينه باليمان به والقيام بعبوديته‪ ،‬وما بيننا وبين‬
‫رسوله باليمان به ومحبته وتعزيره والقيام بحقوقه‪ ،‬وما بيننا وبين الوالدين‬
‫والقارب والصحاب; وسائر الخلق بالقيام بتلك الحقوق )‪ (4‬التي أمر الله‬
‫أن نصلها‪.‬‬
‫فأما المؤمنون فوصلوا ما أمر الله به أن يوصل من هذه الحقوق‪ ،‬وقاموا‬
‫بها أتم القيام‪ ،‬وأما الفاسقون‪ ،‬فقطعوها‪ ،‬ونبذوها وراء ظهورهم; معتاضين‬
‫عنها بالفسق والقطيعة; والعمل بالمعاصي; وهو‪ :‬الفساد في الرض‪.‬‬
‫ن { في الدنيا والخرة‪،‬‬ ‫سُرو َ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫خا ِ‬ ‫ك { أي‪ :‬من هذه صفته } هُ ُ‬ ‫فـ } فَُأول َئ ِ َ‬
‫فحصر الخسارة فيهم; لن خسرانهم عام في كل أحوالهم; ليس لهم نوع‬
‫من الربح؛ لن كل عمل صالح شرطه اليمان; فمن ل إيمان له ل عمل له;‬
‫وهذا الخسار هو خسار الكفر‪ ،‬وأما الخسار الذي قد يكون كفرا; وقد يكون‬
‫معصية; وقد يكون تفريطا في ترك مستحب‪ ،‬المذكور في قوله تعالى‪:‬‬
‫سرٍ { فهذا عام لكل مخلوق; إل من اتصف باليمان‬ ‫خ ْ‬
‫في ُ‬‫ن لَ ِ‬
‫سا َ‬‫ن الن ْ َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫والعمل الصالح; والتواصي بالحق; والتواصي بالصبر; وحقيقة فوات الخير;‬
‫الذي ]كان[ العبد بصدد تحصيله وهو تحت إمكانه‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ثم ذكر حكمته وعدله في إضلل من يضل‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬وبين ربهم‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬الخلق‪.‬‬
‫)‪ (4‬في ب‪" :‬بحقوقهم"‪.‬‬

‫) ‪(1/47‬‬

‫َ‬ ‫فرون بالل ّه وك ُنت َ‬


‫م إ ِل َي ْهِ‬ ‫حِييك ُ ْ‬
‫م ثُ ّ‬ ‫ميت ُك ُ ْ‬
‫م ثُ ّ‬
‫م يُ ْ‬ ‫حَياك ُ ْ‬
‫م ثُ ّ‬
‫م يُ ِ‬ ‫واًتا فَأ ْ‬
‫م َ‬
‫مأ ْ‬‫ف ت َك ْ ُ ُ َ ِ ِ َ ْ ُ ْ‬
‫ك َي ْ َ‬
‫ن )‪(28‬‬
‫جُعو َ‬ ‫ت ُْر َ‬
‫َ‬ ‫فرون بالل ّه وك ُنت َ‬
‫م‬ ‫حَياك ُ ْ‬
‫م ثُ ّ‬ ‫واًتا فَأ ْ‬
‫م َ‬
‫مأ ْ‬‫ف ت َك ْ ُ ُ َ ِ ِ َ ْ ُ ْ‬
‫} ‪.{ 28‬ثم قال تعالى‪ } :‬ك َي ْ َ‬
‫ن{‪.‬‬‫جُعو َ‬ ‫م إ ِل َي ْهِ ت ُْر َ‬ ‫حِييك ُ ْ‬
‫م ثُ ّ‬ ‫ميت ُك ُ ْ‬
‫م ثُ ّ‬
‫م يُ ْ‬ ‫يُ ِ‬
‫هذا استفهام بمعنى التعجب والتوبيخ والنكار‪ ،‬أي‪ :‬كيف يحصل منكم‬
‫الكفر بالله; الذي خلقكم من العدم; وأنعم عليكم بأصناف النعم; ثم‬
‫يميتكم عند استكمال آجالكم; ويجازيكم في القبور; ثم يحييكم بعد البعث‬
‫والنشور; ثم إليه ترجعون; فيجازيكم الجزاء الوفى‪ ،‬فإذا كنتم في تصرفه;‬
‫وتدبيره; وبره; وتحت أوامره الدينية; ومن بعد ذلك تحت دينه الجزائي;‬
‫أفيليق بكم أن تكفروا به; وهل هذا إل جهل عظيم وسفه وحماقة )‪ (1‬؟‬
‫بل الذي يليق بكم أن تؤمنوا به وتتقوه وتشكروه وتخافوا عذابه; وترجوا‬
‫ثوابه‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬وسفه كبير ‪ ،‬بل‪.‬‬

‫) ‪(1/48‬‬
‫َْ‬
‫ن‬
‫واهُ ّ‬ ‫ماِء فَ َ‬
‫س ّ‬ ‫وى إ َِلى ال ّ‬
‫س َ‬ ‫ست َ َ‬ ‫ميًعا ث ُ ّ‬
‫ما ْ‬ ‫ج ِ‬
‫ض َ‬‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫م َ‬ ‫خل َقَ ل َك ُ ْ‬
‫ذي َ‬ ‫هُوَ ال ّ ِ‬
‫م )‪(29‬‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫ت وَهُوَ ب ِك ُ ّ‬
‫ل َ‬ ‫وا ٍ‬‫م َ‬
‫س َ‬
‫سب ْعَ َ‬ ‫َ‬

‫ماِء‬ ‫س َ‬ ‫وى إ َِلى ال ّ‬ ‫ست َ َ‬


‫ما ْ‬ ‫ميًعا ث ُ ّ‬ ‫ج ِ‬
‫ض َ‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫م َ‬ ‫خل َقَ ل َك ُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪ } { 29‬هُوَ ال ّ ِ‬
‫م{‪.‬‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ت وَهُوَ ب ِك ُ ّ‬ ‫ماَوا ٍ‬ ‫س َ‬ ‫سب ْعَ َ‬ ‫ن َ‬ ‫واهُ ّ‬ ‫س ّ‬‫فَ َ‬
‫ميًعا { أي‪ :‬خلق لكم‪ ،‬برا بكم‬ ‫ج ِ‬ ‫ض َ‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫م َ‬ ‫خل َقَ ل َك ُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫} هُوَ ال ّ ِ‬
‫ورحمة‪ ،‬جميع ما على الرض‪ ،‬للنتفاع والستمتاع والعتبار‪.‬‬
‫وفي هذه الية العظيمة )‪ (1‬دليل على أن الصل في الشياء الباحة‬
‫والطهارة‪ ،‬لنها سيقت في معرض المتنان‪ ،‬يخرج بذلك الخبائث‪ ،‬فإن‬
‫]تحريمها أيضا[ يؤخذ من فحوى الية‪ ،‬ومعرفة المقصود منها‪ ،‬وأنه خلقها‬
‫لنفعنا‪ ،‬فما فيه ضرر‪ ،‬فهو خارج من ذلك‪ ،‬ومن تمام نعمته‪ ،‬منعنا من‬
‫الخبائث‪ ،‬تنزيها لنا‪.‬‬
‫يٍء‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ت وَهُوَ ب ِك ُ ّ‬ ‫ماَوا ٍ‬ ‫س َ‬ ‫سب ْعَ َ‬ ‫ن َ‬ ‫واهُ ّ‬ ‫س ّ‬‫ماِء فَ َ‬ ‫س َ‬ ‫وى إ ِلى ال ّ‬ ‫َ‬ ‫ست َ َ‬ ‫ما ْ‬ ‫وقوله‪ } :‬ث ُ ّ‬
‫م{‪.‬‬ ‫عَِلي ٌ‬
‫وى { ترد في القرآن على ثلثة معاني‪ :‬فتارة ل تعدى بالحرف‪،‬‬ ‫ست َ َ‬ ‫}ا ْ‬
‫َ‬
‫ما ب َل َغَ أ ُ‬
‫شد ّهُ‬ ‫فيكون معناها‪ ،‬الكمال والتمام‪ ،‬كما في قوله عن موسى‪ } :‬وَل َ ّ‬
‫وى { وتارة تكون بمعنى "عل "و "ارتفع "وذلك إذا عديت بـ "على‬ ‫ست َ َ‬‫َوا ْ‬
‫ووا عََلى‬ ‫ست َ ُ‬
‫"كما في قوله تعالى‪ } :‬ثم استوى على العرش { )‪ } (2‬ل ِت َ ْ‬
‫ظ ُُهورِهِ { وتارة تكون بمعنى "قصد "كما إذا عديت بـ "إلى "كما في هذه‬
‫الية‪ ،‬أي‪ :‬لما خلق تعالى الرض‪ ،‬قصد إلى خلق السماوات } فسواهن‬
‫سبع سماوات { فخلقها وأحكمها‪ ،‬وأتقنها‪ } ،‬وهو بكل شيء عليم { فـ‬
‫} يعلم ما يلج في الرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج‬
‫ن { يعلم السر وأخفى‪.‬‬ ‫ما ت ُعْل ُِنو َ‬‫ن وَ َ‬ ‫سّرو َ‬ ‫ما ت ُ ِ‬ ‫م َ‬ ‫فيها { و } ي َعْل َ ُ‬
‫وكثيرا ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الية‪ ،‬وكما في‬
‫ف ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫خِبيُر { لن خلقه‬ ‫طي ُ‬ ‫خل َقَ وَهُوَ الل ّ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫م َ‬ ‫قوله تعالى‪ } :‬أل ي َعْل َ ُ‬
‫للمخلوقات‪ ،‬أدل دليل على علمه‪ ،‬وحكمته‪ ،‬وقدرته‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬الكريمة‪.‬‬
‫وى "‪.‬‬ ‫ست َ َ‬‫شا ْ‬ ‫ْ‬ ‫م ُ َ‬
‫ن عَلى العَْر ِ‬ ‫ح َ‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬أورد آية أخرى هي‪ " :‬الّر ْ‬

‫) ‪(1/48‬‬

‫َ‬ ‫ل ِفي اْل َْر‬


‫ن‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِفيَها َ‬ ‫جع َ ُ‬ ‫ة َقاُلوا أت َ ْ‬ ‫ف ً‬ ‫خِلي َ‬ ‫ض َ‬ ‫ِ‬ ‫ع ٌ‬ ‫جا ِ‬ ‫مَلئ ِك َةِ إ ِّني َ‬ ‫ك ل ِل ْ َ‬ ‫ل َرب ّ َ‬ ‫وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫َ‬
‫ل إ ِّني أعْل َ ُ‬
‫م‬ ‫ك َقا َ‬ ‫س لَ َ‬ ‫قد ّ ُ‬ ‫ك وَن ُ َ‬ ‫مدِ َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ح بِ َ‬ ‫سب ّ ُ‬‫ن نُ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ماَء وَن َ ْ‬ ‫ك الد ّ َ‬ ‫ف ُ‬ ‫س ِ‬ ‫سد ُ ِفيَها وَي َ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫يُ ْ‬
‫مَلئ ِك َةِ فَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قا َ‬
‫ل‬ ‫م عََلى ال ْ َ‬ ‫ضه ُ ْ‬ ‫م عََر َ‬ ‫ماَء ك ُل َّها ث ُ ّ‬ ‫س َ‬‫م اْل ْ‬ ‫م آد َ َ‬ ‫ن )‪ (30‬وَعَل ّ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ما َل ت َعْل َ ُ‬ ‫َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫م لَنا إ ِل َ‬ ‫عل َ‬ ‫حان َك ل ِ‬ ‫سب ْ َ‬‫ن )‪ (31‬قالوا ُ‬ ‫َ‬ ‫صادِِقي‬ ‫َ‬ ‫م‬‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫ماِء هَؤُلِء إ ِ ْ‬ ‫س َ‬ ‫أن ْب ِئوِني ب ِأ ْ‬
‫َ‬ ‫ل يا آ َد َ‬ ‫عَل ّمتنا إن َ َ‬
‫م فَل َ ّ‬
‫ما‬ ‫مائ ِهِ ْ‬ ‫س َ‬ ‫م ب ِأ ْ‬ ‫م أن ْب ِئ ْهُ ْ‬ ‫م )‪َ (32‬قا َ َ َ ُ‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ت ال ْعَِلي ُ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫ْ ََ ِّ‬
‫ض‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م أق ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م قا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫م غي ْ َ‬ ‫م إ ِّني أعْل ُ‬ ‫ل لك ْ‬ ‫ل أل ْ‬ ‫مائ ِهِ ْ‬ ‫س َ‬‫م ب ِأ ْ‬ ‫أن ْب َأهُ ْ‬
‫َ‬
‫دوا ِل َد َ َ‬
‫م‬ ‫ج ُ‬ ‫س ُ‬ ‫مَلئ ِك َةِ ا ْ‬ ‫ن )‪ (33‬وَإ ِذ ْ قُل َْنا ل ِل ْ َ‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َك ْت ُ ُ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ت ُب ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫وَأعْل َ ُ‬
‫ن ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(34‬‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ست َك ْب ََر وَ َ‬ ‫س أَبى َوا ْ‬ ‫دوا إ ِّل إ ِب ِْلي َ‬ ‫ج ُ‬ ‫س َ‬ ‫فَ َ‬
‫ة َقاُلوا‬ ‫ف ً‬
‫خِلي َ‬ ‫ض َ‬ ‫ل ِفي الْر ِ‬ ‫ع ٌ‬ ‫جا ِ‬ ‫ملئ ِك َةِ إ ِّني َ‬ ‫ك ل ِل ْ َ‬ ‫ل َرب ّ َ‬ ‫} ‪ } { 34 - 30‬وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫س ل َكَ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫جع َ ُ‬ ‫َ‬
‫قد ّ ُ‬ ‫مدِك وَن ُ َ‬ ‫ح ْ‬‫ح بِ َ‬ ‫سب ّ ُ‬‫ن نُ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ماَء وَن َ ْ‬ ‫فك الد ّ َ‬ ‫س ِ‬ ‫سد ُ ِفيَها وَي َ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِفيَها َ‬ ‫أت َ ْ‬
‫م عََلى‬ ‫َ‬
‫ضه ُ ْ‬‫م عََر َ‬ ‫ماَء ك ُل َّها ث ُ ّ‬ ‫س َ‬ ‫م ال ْ‬ ‫م آد َ َ‬ ‫ن * وَعَل ّ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ما ل ت َعْل َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ل إ ِّني أعْل َ ُ‬ ‫َقا َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫حان َك ل‬ ‫سب ْ َ‬‫ن * َقالوا ُ‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫ؤلِء إ ِ ْ‬ ‫ماِء هَ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ل أن ْب ُِئوِني ب ِأ ْ‬ ‫قا َ‬ ‫ملئ ِكةِ فَ َ‬ ‫َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬ ‫ل يا آد َ‬ ‫عل ْم ل َنا إل ما عَل ّمتنا إن َ َ‬
‫م‬
‫مائ ِهِ ْ‬ ‫س َ‬‫م ب ِأ ْ‬ ‫م أن ْب ِئ ْهُ ْ‬ ‫م * َقا َ َ َ ُ‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ت ال ْعَِلي ُ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫ْ ََ ِّ‬ ‫ِ َ َ ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ض‬
‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫م غَي ْ َ‬ ‫م إ ِّني أعْل ُ‬ ‫ل لك ُ ْ‬ ‫م أق ُ ْ‬ ‫ل أل ْ‬ ‫م َقا َ‬ ‫مائ ِهِ ْ‬ ‫س َ‬ ‫م ب ِأ ْ‬ ‫ما أن ْب َأهُ ْ‬ ‫فَل َ ّ‬
‫َ‬
‫دوا‬ ‫ج ُ‬‫س َ‬ ‫م فَ َ‬ ‫دوا لد َ َ‬ ‫ج ُ‬ ‫س ُ‬ ‫ملئ ِك َةِ ا ْ‬ ‫ن * وَإ ِذ ْ قُل َْنا ل ِل ْ َ‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َك ْت ُ ُ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ت ُب ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫وَأعْل َ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ست َك ْب ََر وَ َ‬ ‫َ‬
‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫س أَبى َوا ْ‬ ‫ِإل إ ِب ِْلي َ‬
‫هذا شروع في ذكر فضل آدم عليه السلم أبي البشر )‪ (1‬أن الله حين‬
‫أراد خلقه أخبر الملئكة بذلك‪ ،‬وأن الله مستخلفه في الرض‪.‬‬
‫سد ُ ِفيَها { بالمعاصي‬ ‫جع َ ُ‬ ‫َ‬
‫ف ِ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِفيَها َ‬ ‫فقالت الملئكة عليهم السلم‪ } :‬أت َ ْ‬
‫ماَء { ]و[هذا تخصيص بعد تعميم‪ ،‬لبيان ]شدة[ مفسدة‬ ‫ك الد ّ َ‬ ‫ف ُ‬ ‫س ِ‬ ‫} وَي َ ْ‬
‫القتل‪ ،‬وهذا بحسب ظنهم أن الخليفة المجعول في الرض سيحدث منه‬
‫ذلك‪ ،‬فنزهوا الباري عن ذلك‪ ،‬وعظموه‪ ،‬وأخبروا أنهم قائمون بعبادة الله‬
‫ك { أي‪ :‬ننزهك‬ ‫مدِ َ‬ ‫ح ْ‬‫ح بِ َ‬ ‫سب ّ ُ‬ ‫ن نُ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫على وجه خال من المفسدة فقالوا‪ } :‬وَن َ ْ‬
‫س ل َك { يحتمل أن معناها‪:‬‬ ‫َ‬ ‫قد ّ ُ‬ ‫التنزيه اللئق بحمدك وجللك‪ } ،‬وَن ُ َ‬
‫ونقدسك‪ ،‬فتكون اللم مفيدة للتخصيص والخلص‪ ،‬ويحتمل أن يكون‪:‬‬
‫ونقدس لك أنفسنا‪ ،‬أي‪ ] :‬ص ‪ [ 49‬نطهرها بالخلق الجميلة‪ ،‬كمحبة الله‬
‫وخشيته وتعظيمه‪ ،‬ونطهرها من الخلق الرذيلة‪.‬‬
‫َ‬
‫ما ل‬ ‫م { من هذا الخليفة } َ‬ ‫قال الله تعالى للملئكة‪ } :‬إ ِّني أعْل َ ُ‬
‫ن { ؛ لن كلمكم بحسب ما ظننتم‪ ،‬وأنا عالم بالظواهر والسرائر‪،‬‬ ‫مو َ‬ ‫ت َعْل َ ُ‬
‫وأعلم أن الخير الحاصل بخلق هذا الخليفة‪ ،‬أضعاف أضعاف ما في ضمن‬
‫ذلك من الشر فلو لم يكن في ذلك‪ ،‬إل أن الله تعالى أراد أن يجتبي منهم‬
‫النبياء والصديقين‪ ،‬والشهداء والصالحين‪ ،‬ولتظهر آياته للخلق‪ ،‬ويحصل من‬
‫العبوديات التي لم تكن تحصل بدون خلق هذا الخليفة‪ ،‬كالجهاد وغيره‪،‬‬
‫وليظهر ما كمن في غرائز بني آدم )‪ (2‬من الخير والشر بالمتحان‪،‬‬
‫وليتبين عدوه من وليه‪ ،‬وحزبه من حربه‪ ،‬وليظهر ما كمن في نفس إبليس‬
‫من الشر الذي انطوى عليه‪ ،‬واتصف به‪ ،‬فهذه حكم عظيمة‪ ،‬يكفي بعضها‬
‫في ذلك‪.‬‬
‫ثم لما كان قول الملئكة عليهم السلم‪ ،‬فيه إشارة إلى فضلهم على‬
‫الخليفة الذي يجعله الله في الرض‪ ،‬أراد الله تعالى‪ ،‬أن يبين لهم من‬
‫م‬
‫م آد َ َ‬ ‫فضل آدم‪ ،‬ما يعرفون به فضله‪ ،‬وكمال حكمة الله وعلمه فـ } عَل ّ َ‬
‫ماَء ك ُل َّها { أي‪ :‬أسماء الشياء‪ ،‬وما هو مسمى بها‪ ،‬فعلمه السم‬ ‫س َ‬ ‫ال ْ‬
‫والمسمى‪ ،‬أي‪ :‬اللفاظ والمعاني‪ ،‬حتى المكبر من السماء كالقصعة‪،‬‬
‫والمصغر كالقصيعة‪.‬‬
‫ملئ ِك َةِ { امتحانا لهم‪ ،‬هل‬ ‫م { أي‪ :‬عرض المسميات } عََلى ال ْ َ‬ ‫ضه ُ ْ‬ ‫م عََر َ‬ ‫} ثُ ّ‬
‫يعرفونها أم ل؟‪.‬‬
‫َ‬ ‫قا َ َ‬
‫ن { في قولكم وظنكم‪ ،‬أنكم‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ؤلِء إ ِ ْ‬ ‫ماِء هَ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ل أن ْب ُِئوِني ب ِأ ْ‬ ‫} فَ َ‬
‫أفضل من هذا الخليفة‪.‬‬
‫ك { أي‪ :‬ننزهك من العتراض منا عليك‪ ،‬ومخالفة أمرك‪.‬‬ ‫حان َ َ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫} َقاُلوا ُ‬
‫مت ََنا { إياه‪ ،‬فضل منك وجودا‪،‬‬ ‫ما عَل ّ ْ‬ ‫م ل ََنا { بوجه من الوجوه } ِإل َ‬ ‫عل ْ َ‬ ‫}ل ِ‬
‫م { العليم الذي أحاط علما بكل شيء‪ ،‬فل يغيب‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫} إ ِن ّ َ‬
‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ال َ‬ ‫ت العَِلي ُ‬ ‫ك أن ْ َ‬
‫عنه ول يعزب مثقال ذرة في السماوات والرض‪ ،‬ول أصغر من ذلك ول‬
‫أكبر‪.‬‬
‫الحكيم‪ :‬من له الحكمة التامة التي ل يخرج عنها مخلوق‪ ،‬ول يشذ عنها‬
‫مأمور‪ ،‬فما خلق شيئا إل لحكمة‪ :‬ول أمر بشيء إل لحكمة‪ ،‬والحكمة‪ :‬وضع‬
‫الشيء في موضعه اللئق به‪ ،‬فأقروا‪ ،‬واعترفوا بعلم الله وحكمته‪،‬‬
‫وقصورهم عن معرفة أدنى شيء‪ ،‬واعترافهم بفضل الله عليهم; وتعليمه‬
‫إياهم ما ل يعلمون‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م { أي‪ :‬أسماء المسميات التي‬ ‫مائ ِهِ ْ‬ ‫س َ‬ ‫م أن ْب ِئ ْهُ ْ‬
‫م ب ِأ ْ‬ ‫فحينئذ قال الله‪َ } :‬يا آد َ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م { تبين‬ ‫مائ ِهِ ْ‬‫س َ‬‫م ب ِأ ْ‬‫ما أن ْب َأهُ ْ‬ ‫عرضها الله على الملئكة; فعجزوا عنها‪ } ،‬فَل َ ّ‬
‫للملئكة فضل آدم عليهم; وحكمة الباري وعلمه في استخلف هذا‬
‫َ‬ ‫م أ َقُ ْ‬ ‫الخليفة‪َ } ،‬قا َ َ‬
‫ض { وهو ما‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫م غَي ْ َ‬ ‫م إ ِّني أعْل َ ُ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ل أل َ ْ‬
‫غاب عنا; فلم نشاهده‪ ،‬فإذا كان عالما بالغيب; فالشهادة من باب أولى‪} ،‬‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َك ْت ُ ُ‬‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬‫ن { أي‪ :‬تظهرون } وَ َ‬ ‫دو َ‬
‫ما ت ُب ْ ُ‬
‫م َ‬‫وَأعْل َ ُ‬
‫ثم أمرهم تعالى بالسجود لدم; إكراما له وتعظيما; وعبودية لله تعالى‪،‬‬
‫س أ ََبى { امتنع عن‬ ‫فامتثلوا أمر الله; وبادروا كلهم بالسجود‪ِ } ،‬إل إ ِب ِْلي َ‬
‫طيًنا‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ت ِ‬ ‫ق َ‬
‫خل ْ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫جد ُ ل ِ َ‬‫س ُ‬‫السجود; واستكبر عن أمر الله وعلى آدم‪ ،‬قال‪ } :‬أأ ْ‬
‫{ وهذا الباء منه والستكبار; نتيجة الكفر الذي هو منطو عليه; فتبينت‬
‫حينئذ عداوته لله ولدم وكفره واستكباره‪.‬‬
‫وفي هذه اليات من العبر واليات; إثبات الكلم لله تعالى; وأنه لم يزل‬
‫متكلما; يقول ما شاء; ويتكلم بما شاء; وأنه عليم حكيم‪ ،‬وفيه أن العبد إذا‬
‫خفيت عليه حكمة الله في بعض المخلوقات والمأمورات فالوجب عليه;‬
‫التسليم; واتهام عقله; والقرار لله بالحكمة‪ ،‬وفيه اعتناء الله بشأن‬
‫الملئكة; وإحسانه بهم; بتعليمهم ما جهلوا; وتنبيههم على ما لم يعلموه‪.‬‬
‫وفيه فضيلة العلم من وجوه‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن الله تعرف لملئكته; بعلمه وحكمته ‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الله عرفهم فضل‬
‫آدم بالعلم; وأنه أفضل صفة تكون في العبد‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الله أمرهم‬
‫بالسجود لدم; إكراما له; لما بان فضل علمه‪ ،‬ومنها‪ :‬أن المتحان للغير;‬
‫إذا عجزوا عما امتحنوا به; ثم عرفه صاحب الفضيلة; فهو أكمل مما عرفه‬
‫ابتداء‪ ،‬ومنها‪ :‬العتبار بحال أبوي النس والجن; وبيان فضل آدم; وأفضال‬
‫الله عليه; وعداوة إبليس له; إلى غير ذلك من العبر‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬هذا شروع في ابتداء خلق آدم عليه السلم أبي البشر‬
‫وفضله‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬المكلفين‪.‬‬

‫) ‪(1/48‬‬

‫ما وََل ت َ ْ‬ ‫وقُل ْنا يا آ َدم اسك ُ َ‬


‫قَرَبا‬ ‫شئ ْت ُ َ‬
‫ث ِ‬ ‫حي ْ ُ‬
‫دا َ‬ ‫من َْها َرغَ ً‬ ‫ة وَك َُل ِ‬
‫جن ّ َ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫ج َ‬‫ت وََزوْ ُ‬ ‫ن أن ْ َ‬ ‫َ َ َ َ ُ ْ ْ‬
‫طان عَنها فَأ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ظالمين )‪ (35‬فَأ َ‬ ‫ّ‬
‫ما‬ ‫ه‬ ‫ج‬
‫َ َ ُ َ‬ ‫ر‬ ‫خ‬‫ْ‬ ‫ُ َْ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫ش‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ما‬ ‫ه‬
‫َ ُ َ‬ ‫ل‬ ‫ز‬ ‫ِ ِ َ‬ ‫ال‬ ‫جَرةَ فَت َ ُ َ ِ َ‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫نا‬ ‫كو‬ ‫ش َ‬‫هَذِهِ ال ّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫قّر‬‫ست َ َ‬
‫م ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫م ِفي الْر ِ‬ ‫ض عَد ُوّ وَل َك ُ ْ‬ ‫م ل ِب َعْ ٍ‬ ‫ضك ُ ْ‬‫طوا ب َعْ ُ‬‫كاَنا ِفيهِ وَقُل َْنا اهْب ِ ُ‬
‫ما َ‬
‫م ّ‬‫ِ‬
‫ن )‪(36‬‬ ‫َ‬
‫حي ٍ‬‫مَتاعٌ إ ِلى ِ‬‫وَ َ‬
‫} ‪ } { 36 - 35‬وقُل ْنا يا آدم اسك ُ َ‬
‫ث‬
‫حي ْ ُ‬‫دا َ‬ ‫من َْها َرغَ ً‬ ‫كل ِ‬ ‫ة وَ ُ‬ ‫ك ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫ج َ‬ ‫ت وََزوْ ُ‬ ‫ن أن ْ َ‬ ‫َ َ َ َ ُ ْ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫جَرةَ فَت َ ُ‬
‫ن‬‫شي ْطا ُ‬ ‫ما ال ّ‬ ‫ن * فَأَزلهُ َ‬ ‫مي َ‬ ‫ن الظال ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫كوَنا ِ‬ ‫ش َ‬ ‫قَرَبا هَذِهِ ال ّ‬ ‫ما َول ت َ ْ‬ ‫شئ ْت ُ َ‬
‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ِفي‬ ‫ض عَد ُوّ وَلك ْ‬ ‫م ل ِب َعْ ٍ‬ ‫ضك ْ‬ ‫ما كاَنا ِفيهِ وَقُلَنا اهْب ِطوا ب َعْ ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ما ِ‬ ‫جهُ َ‬ ‫خَر َ‬ ‫عَن َْها فَأ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫َ‬
‫حي ٍ‬‫مَتاعٌ إ ِلى ِ‬ ‫قّر وَ َ‬ ‫ست َ َ‬‫م ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫الْر ِ‬
‫لما خلق الله آدم وفضله; أتم نعمته عليه; بأن خلق منه زوجة ليسكن‬
‫إليها; ويستأنس بها; وأمرهما بسكنى الجنة; والكل منها رغدا; أي‪ :‬واسعا‬
‫ما { أي‪ :‬من أصناف الثمار والفواكه; وقال الله له‪:‬‬ ‫شئ ْت ُ َ‬ ‫ث ِ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫هنيئا‪َ } ،‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حى { ‪.‬‬ ‫ض َ‬ ‫مأ ِفيَها َول ت َ ْ‬ ‫ك ل ت َظ ْ َ‬ ‫جوعَ ِفيَها َول ت َعَْرى وَأن ّ َ‬ ‫ك أل ت َ ُ‬ ‫ن لَ َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫جَرة َ { نوع من أنواع شجر الجنة; الله أعلم بها‪ ،‬وإنما‬ ‫ش َ‬‫قَرَبا هَذِهِ ال ّ‬ ‫} َول ت َ ْ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫كوَنا ِ‬ ‫نهاهما عنها امتحانا وابتلء ]أو لحكمة غير معلومة لنا[ )‪ } (1‬فَت َ ُ‬
‫ن { دل على أن النهي للتحريم; لنه رتب عليه الظلم‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫فلم يزل عدوهما يوسوس لهما ويزين لهما تناول ما نهيا عنه; حتى أزلهما‪،‬‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ما ل َ ِ‬ ‫ما { بالله } إ ِّني ل َك ُ َ‬ ‫مهُ َ‬ ‫س َ‬ ‫أي‪ :‬حملهما على الزلل بتزيينه‪ } .‬وََقا َ‬
‫ن { فاغترا به وأطاعاه; فأخرجهما مما كانا فيه من النعيم والرغد;‬ ‫حي َ‬ ‫ص ِ‬ ‫الّنا ِ‬
‫وأهبطوا إلى دار التعب والنصب والمجاهدة‪.‬‬
‫] ص ‪[ 50‬‬
‫ض عَد ُوّ { أي‪ :‬آدم وذريته; أعداء لبليس وذريته‪ ،‬ومن‬ ‫م ل ِب َعْ ٍ‬ ‫ضك ُ ْ‬ ‫} ب َعْ ُ‬
‫المعلوم أن العدو; يجد ويجتهد في ضرر عدوه وإيصال الشر إليه بكل‬
‫طريق; وحرمانه الخير بكل طريق‪ ،‬ففي ضمن هذا‪ ،‬تحذير بني آدم من‬
‫عو‬‫ما ي َد ْ ُ‬ ‫ذوهُ عَد ُّوا إ ِن ّ َ‬ ‫خ ُ‬ ‫م عَد ُوّ َفات ّ ِ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫طا َ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫الشيطان كما قال تعالى } إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫كونوا م َ‬
‫دوِني‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ه أوْل َِياَء ِ‬ ‫ه وَذ ُّري ّت َ ُ‬ ‫ذون َ ُ‬ ‫خ ُ‬ ‫سِعيرِ { } أفَت َت ّ ِ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫حا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ِ ْ‬ ‫ه ل ِي َ ُ ُ‬ ‫حْزب َ ُ‬ ‫ِ‬
‫دل { ‪.‬‬ ‫ن بَ َ‬ ‫مي َ‬
‫ظال ِ ِ‬‫س ِلل ّ‬ ‫م عَد ُوّ ب ِئ ْ َ‬ ‫م ل َك ُ ْ‬ ‫وَهُ ْ‬
‫قّر {‬ ‫ست َ َ‬‫م ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫م ِفي الْر ِ‬ ‫ثم ذكر منتهى الهباط إلى الرض‪ ،‬فقال‪ } :‬وَل َك ُ ْ‬
‫ن { انقضاء آجالكم‪ ،‬ثم تنتقلون منها‬ ‫حي ٍ‬ ‫مَتاعٌ إ َِلى ِ‬ ‫أي‪ :‬مسكن وقرار‪ } ،‬وَ َ‬
‫للدار التي خلقتم لها‪ ،‬وخلقت لكم‪ ،‬ففيها أن مدة هذه الحياة‪ ،‬مؤقتة‬
‫عارضة‪ ،‬ليست مسكنا حقيقيا‪ ،‬وإنما هي معبر يتزود منها لتلك الدار‪ ،‬ول‬
‫تعمر للستقرار‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫) ‪(1/49‬‬

‫م )‪(37‬‬
‫حي ُ‬
‫ب الّر ِ‬
‫وا ُ‬ ‫ب عَل َي ْهِ إ ِن ّ ُ‬
‫ه هُوَ الت ّ ّ‬ ‫ت فََتا َ‬ ‫ن َرب ّهِ ك َل ِ َ‬
‫ما ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫قى آ َد َ ُ‬
‫م ِ‬ ‫فَت َل َ ّ‬

‫م{‪.‬‬ ‫قى آد َ ُ‬ ‫} ‪ } { 37‬فَت َل َ ّ‬


‫ت { وهي‬ ‫ن َرب ّهِ ك َل ِ َ‬
‫ما ٍ‬ ‫م ْ‬
‫م { أي‪ :‬تلقف وتلقن‪ ،‬وألهمه الله } ِ‬ ‫قى آد َ ُ‬ ‫} فَت َل َ ّ‬
‫َ‬
‫سَنا { الية‪ ،‬فاعترف بذنبه وسأل الله مغفرته‬ ‫ف َ‬
‫مَنا أن ْ ُ‬‫قوله‪َ } :‬رب َّنا ظ َل َ ْ‬
‫ب { لمن تاب إليه وأناب‪.‬‬ ‫وا ُ‬ ‫ب { الله } عَل َي ْهِ { ورحمه } إ ِن ّ ُ‬
‫ه هُوَ الت ّ ّ‬ ‫} فََتا َ‬
‫وتوبته نوعان‪ :‬توفيقه أول ثم قبوله للتوبة إذا اجتمعت شروطها ثانيا‪.‬‬
‫حيم ِ { بعباده‪ ،‬ومن رحمته بهم‪ ،‬أن وفقهم للتوبة‪ ،‬وعفا عنهم وصفح‪.‬‬ ‫} الّر ِ‬

‫) ‪(1/50‬‬
‫ْ‬
‫ف‬ ‫دايَ فََل َ‬
‫خوْ ٌ‬ ‫ن ت َب ِعَ هُ َ‬‫م ْ‬‫دى فَ َ‬ ‫مّني هُ ً‬‫م ِ‬‫ما ي َأت ِي َن ّك ُ ْ‬
‫ميًعا فَإ ِ ّ‬
‫ج ِ‬
‫من َْها َ‬
‫طوا ِ‬ ‫قُل َْنا اهْب ِ ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫فُروا وَك َذ ُّبوا ب ِآَيات َِنا أول َئ ِ َ‬
‫ب الّناِر‬
‫حا ُ‬‫ص َ‬
‫كأ ْ‬ ‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬‫ن )‪َ (38‬وال ّ ِ‬ ‫حَزُنو َ‬
‫م يَ ْ‬ ‫م وََل هُ ْ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫ن )‪(39‬‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬
‫م ِفيَها َ‬ ‫هُ ْ‬
‫ْ‬ ‫} ‪ } { 39 - 38‬قُل َْنا اهْب ِ ُ‬
‫ع‬
‫ن ت َب ِ َ‬‫م ْ‬ ‫دى فَ َ‬‫مّني هُ ً‬ ‫م ِ‬ ‫ما ي َأت ِي َن ّك ُ ْ‬ ‫ميًعا فَإ ِ ّ‬
‫ج ِ‬
‫من َْها َ‬ ‫طوا ِ‬
‫ُ‬
‫فُروا وَك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا أول َئ ِ َ‬
‫ك‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬‫ن * َوال ّ ِ‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫م َول هُ ْ‬ ‫ف عَل َي ْهِ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫دايَ َفل َ‬‫هُ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫أَ‬
‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬‫م ِفيَها َ‬ ‫ب الّنارِ هُ ْ‬ ‫حا ُ‬
‫ص َ‬‫ْ‬
‫ْ‬
‫دى {‬ ‫مّني هُ ً‬ ‫م ِ‬ ‫ما ي َأت ِي َن ّك ُ ْ‬ ‫كرر الهباط‪ ،‬ليرتب عليه ما ذكر وهو قوله‪ } :‬فَإ ِ ّ‬
‫أي‪ :‬أيّ وقت وزمان جاءكم مني ‪-‬يا معشر الثقلين‪ -‬هدى‪ ،‬أي‪ :‬رسول‬
‫وكتاب يهديكم لما يقربكم مني‪ ،‬ويدنيكم مني; ويدنيكم من رضائي‪،‬‬
‫} فمن تبع هداي { منكم‪ ،‬بأن آمن برسلي وكتبي‪ ،‬واهتدى بهم‪ ،‬وذلك‬
‫بتصديق جميع أخبار الرسل والكتب‪ ،‬والمتثال للمر والجتناب للنهي‪،‬‬
‫ن{‪.‬‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫م َول هُ ْ‬ ‫ف عَل َي ْهِ ْ‬ ‫} َفل َ‬
‫خوْ ٌ‬
‫قى { ‪.‬‬ ‫ش َ‬ ‫ل َول ي َ ْ‬ ‫ض ّ‬ ‫دايَ َفل ي َ ِ‬ ‫ن ات ّب َعَ هُ َ‬ ‫م ِ‬‫وفي الية الخرى‪ } :‬فَ َ‬
‫فرتب على اتباع هداه أربعة أشياء‪:‬‬
‫نفي الخوف والحزن والفرق بينهما‪ ،‬أن المكروه إن كان قد مضى‪ ،‬أحدث‬
‫الحزن‪ ،‬وإن كان منتظرا‪ ،‬أحدث الخوف‪ ،‬فنفاهما عمن اتبع هداه وإذا‬
‫انتفيا‪ ،‬حصل ضدهما‪ ،‬وهو المن التام‪ ،‬وكذلك نفي الضلل والشقاء عمن‬
‫اتبع هداه وإذا انتفيا ثبت ضدهما‪ ،‬وهو الهدى والسعادة‪ ،‬فمن اتبع هداه‪،‬‬
‫حصل له المن والسعادة الدنيوية والخروية والهدى‪ ،‬وانتفى عنه كل‬
‫مكروه‪ ،‬من الخوف‪ ،‬والحزن‪ ،‬والضلل‪ ،‬والشقاء‪ ،‬فحصل له المرغوب‪،‬‬
‫واندفع عنه المرهوب‪ ،‬وهذا عكس من لم يتبع هداه‪ ،‬فكفر به‪ ،‬وكذب‬
‫بآياته‪.‬‬
‫فـ } أولئك أصحاب النار { أي‪ :‬الملزمون لها‪ ،‬ملزمة الصاحب لصاحبه‪،‬‬
‫ن { ل يخرجون منها‪ ،‬ول يفتر عنهم‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬
‫م ِفيَها َ‬ ‫والغريم لغريمه‪ } ،‬هُ ْ‬
‫العذاب ول هم ينصرون‪.‬‬
‫وفي هذه اليات وما أشبهها‪ ،‬انقسام الخلق من الجن والنس‪ ،‬إلى أهل‬
‫السعادة‪ ،‬وأهل الشقاوة‪ ،‬وفيها صفات الفريقين والعمال الموجبة لذلك‪،‬‬
‫وأن الجن كالنس في الثواب والعقاب‪ ،‬كما أنهم مثلهم‪ ،‬في المر والنهي‪.‬‬
‫كر بني إسرائيل نعمه عليهم وإحسانه فقال‪:‬‬ ‫ثم شرع تعالى يذ ّ‬

‫) ‪(1/50‬‬

‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫ف‬‫دي أو ِ‬ ‫م وَأوُْفوا ب ِعَهْ ِ‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م ُ‬‫ي ال ِّتي أن ْعَ ْ‬ ‫ل اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬
‫مت ِ َ‬ ‫سَراِئي َ‬
‫َيا ب َِني إ ِ ْ‬
‫م وََل ت َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كوُنوا‬ ‫معَك ُ ْ‬‫ما َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ُ‬ ‫ما أن َْزل ْ ُ‬‫مُنوا ب ِ َ‬ ‫ن )‪ (40‬وَآ ِ‬ ‫م وَإ ِّيايَ َفاْرهَُبو ِ‬ ‫ب ِعَهْدِك ُ ْ‬
‫سوا‬ ‫ن )‪ (41‬وََل ت َل ْب ِ ُ‬ ‫قو ِ‬ ‫مًنا قَِليًل وَإ ِّيايَ َفات ّ ُ‬ ‫َ‬
‫شت َُروا ب ِآَياِتي ث َ َ‬ ‫كافِرٍ ب ِهِ وََل ت َ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫أ َوّ َ‬
‫صَلةَ وَآ َُتوا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫موا ال ّ‬ ‫ن )‪ (42‬وَأِقي ُ‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬
‫حقّ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫موا ال ْ َ‬‫ل وَت َك ْت ُ ُ‬‫حقّ ِبال َْباط ِ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن )‪(43‬‬ ‫معَ الّراك ِِعي َ‬ ‫كاةَ َواْرك َُعوا َ‬ ‫الّز َ‬

‫م وَأ َوُْفوا‬
‫ت عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م ُ‬
‫َ‬
‫ي ال ِّتي أن ْعَ ْ‬ ‫ل اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬
‫مت ِ َ‬ ‫سَراِئي َ‬
‫} ‪َ } { 43 - 40‬يا ب َِني إ ِ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫معَك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ما َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬
‫م َ‬‫ت ُ‬ ‫ما أن َْزل ُ‬ ‫مُنوا ب ِ َ‬
‫ن * َوآ ِ‬ ‫ف ب ِعَهْدِك ُ ْ‬
‫م وَإ ِّيايَ َفاْرهَُبو ِ‬ ‫دي أو ِ‬
‫ب ِعَهْ ِ‬
‫ن * َول‬ ‫قو ِ‬ ‫مًنا قَِليل وَإ ِّيايَ َفات ّ ُ‬ ‫شت َُروا ِبآَياِتي ث َ َ‬ ‫كافِرٍ ب ِهِ َول ت َ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫كوُنوا أ َوّ َ‬ ‫َول ت َ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫صلةَ َوآُتوا‬ ‫موا ال ّ‬ ‫ن * وَأِقي ُ‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬ ‫حقّ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫موا ال ْ َ‬ ‫ل وَت َك ْت ُ ُ‬ ‫حقّ ِبال َْباط ِ ِ‬ ‫سوا ال ْ َ‬ ‫ت َل ْب ِ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫معَ الّراك ِِعي َ‬ ‫كاةَ َواْرك َُعوا َ‬ ‫الّز َ‬
‫ل { المراد بإسرائيل‪ :‬يعقوب عليه السلم‪ ،‬والخطاب مع‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫} َيا ب َِني إ ِ ْ‬
‫فرق بني إسرائيل‪ ،‬الذين بالمدينة وما حولها‪ ،‬ويدخل فيهم من أتى من‬
‫َ‬
‫م{‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ي ال ِّتي أن ْعَ ْ‬ ‫مت ِ َ‬ ‫بعدهم‪ ،‬فأمرهم بأمر عام‪ ،‬فقال‪ } :‬اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬
‫وهو يشمل سائر النعم التي سيذكر في هذه السورة بعضها‪ ،‬والمراد‬
‫بذكرها بالقلب اعترافا‪ ،‬وباللسان ثناء‪ ،‬وبالجوارح باستعمالها فيما يحبه‬
‫ويرضيه‪.‬‬
‫َ‬
‫دي { وهو ما عهده إليهم من اليمان به‪ ،‬وبرسله وإقامة‬ ‫} وَأوُْفوا ب ِعَهْ ِ‬
‫شرعه‪.‬‬
‫م { وهو المجازاة على ذلك‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ف ب ِعَهْدِك ْ‬ ‫} أو ِ‬
‫ل‬‫سَراِئي َ‬ ‫ميَثاقَ ب َِني إ ِ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬ ‫قد ْ أ َ َ‬ ‫والمراد بذلك‪ :‬ما ذكره الله في قوله‪ } :‬وَل َ َ‬
‫َ‬
‫م‬
‫صلةَ ]َوآت َي ْت ُ ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫مت ُ ُ‬‫ن أق َ ْ‬ ‫م ل َئ ِ ْ‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫ه إ ِّني َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫قيًبا وََقا َ‬ ‫شَر ن َ ِ‬ ‫ي عَ َ‬ ‫م اث ْن َ ْ‬ ‫من ْهُ ُ‬‫وَب َعَث َْنا ِ‬
‫ل{‪.‬‬ ‫سِبي ِ‬ ‫واَء ال ّ‬ ‫س َ‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫سِلي[ { إلى قوله‪ } :‬فَ َ‬ ‫م ب ُِر ُ‬ ‫من ْت ُ ْ‬‫كاةَ َوآ َ‬ ‫الّز َ‬
‫ثم أمرهم بالسبب الحامل لهم على الوفاء بعهده‪ ،‬وهو الرهبة منه تعالى‪،‬‬
‫شَيه أوجبت له خشيته امتثال أمره واجتناب‬ ‫نخ ِ‬ ‫م ْ‬‫وخشيته وحده‪ ،‬فإن َ‬
‫نهيه‪.‬‬
‫ثم أمرهم بالمر الخاص‪ ،‬الذي ل يتم إيمانهم‪ ،‬ول يصح إل به فقال‪:‬‬
‫َ‬
‫ت { وهو القرآن الذي أنزله على عبده ورسوله محمد‬ ‫ما أنزل ْ ُ‬ ‫مُنوا ب ِ َ‬ ‫} َوآ ِ‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فأمرهم باليمان به‪ ،‬واتباعه‪ ،‬ويستلزم ذلك‪ ،‬اليمان‬
‫م{‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫بمن أنزل عليه‪ ،‬وذكر الداعي ليمانهم به‪ ،‬فقال‪ُ } :‬‬
‫أي‪ :‬موافقا له ل مخالفا ول مناقضا‪ ،‬فإذا كان موافقا لما معكم من الكتب‪،‬‬
‫غير مخالف لها; فل مانع لكم من اليمان به‪ ،‬لنه جاء بما جاءت به‬
‫المرسلون‪ ،‬فأنتم أولى من آمن به وصدق به‪ ،‬لكونكم أهل الكتب والعلم‪.‬‬
‫م { إشارة إلى أنكم إن لم تؤمنوا‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫وأيضا فإن في قوله‪ُ } :‬‬
‫به‪ ،‬عاد ذلك عليكم‪ ،‬بتكذيب ما معكم‪ ،‬لن ما جاء به هو الذي جاء به‬
‫موسى وعيسى وغيرهما من النبياء‪ ،‬فتكذيبكم له تكذيب لما معكم‪.‬‬
‫وأيضا‪ ،‬فإن في الكتب التي بأيدكم‪ ،‬صفة هذا النبي الذي جاء بهذا القرآن‬
‫والبشارة به‪ ،‬فإن لم تؤمنوا به‪ ،‬كذبتم ببعض ما أنزل إليكم‪ ،‬ومن كذب‬
‫] ص ‪ [ 51‬ببعض ما أنزل إليه‪ ،‬فقد كذب بجميعه‪ ،‬كما أن من كفر‬
‫برسول‪ ،‬فقد كذب الرسل جميعهم‪.‬‬
‫فلما أمرهم باليمان به‪ ،‬نهاهم وحذرهم من ضده وهو الكفر به فقال‪:‬‬
‫كافِرٍ ب ِهِ { أي‪ :‬بالرسول والقرآن‪.‬‬ ‫ل َ‬ ‫كوُنوا أ َوّ َ‬ ‫} َول ت َ ُ‬
‫كافِرٍ ب ِهِ { أبلغ من قوله‪ } :‬ول تكفروا به { لنهم إذا‬ ‫ل َ‬ ‫َ‬
‫وفي قوله‪ } :‬أوّ َ‬
‫كانوا أول كافر به‪ ،‬كان فيه مبادرتهم إلى الكفر به‪ ،‬عكس ما ينبغي منهم‪،‬‬
‫وصار عليهم إثمهم وإثم من اقتدى بهم من بعدهم‪.‬‬
‫ثم ذكر المانع لهم من اليمان‪ ،‬وهو اختيار العرض الدنى على السعادة‬
‫مًنا قَِليل { وهو ما يحصل لهم من‬ ‫شت َُروا ِبآَياِتي ث َ َ‬ ‫البدية‪ ،‬فقال‪َ } :‬ول ت َ ْ‬
‫المناصب والمآكل‪ ،‬التي يتوهمون انقطاعها‪ ،‬إن آمنوا بالله ورسوله‪،‬‬
‫فاشتروها بآيات الله واستحبوها‪ ،‬وآثروها‪.‬‬
‫ن { فإنكم إذا اتقيتم الله وحده‪ ،‬أوجبت‬ ‫قو ِ‬ ‫} وَإ ِّيايَ { أي‪ :‬ل غيري } َفات ّ ُ‬
‫لكم تقواه‪ ،‬تقديم اليمان بآياته على الثمن القليل‪ ،‬كما أنكم إذا اخترتم‬
‫الثمن القليل‪ ،‬فهو دليل على ترحل التقوى من قلوبكم‪.‬‬
‫حق ّ {‬ ‫ْ‬
‫موا ال َ‬ ‫ْ‬ ‫حقّ ِبال َْباط ِ ِ‬
‫ل وَت َكت ُ ُ‬ ‫سوا { أي‪ :‬تخلطوا } ال ْ َ‬ ‫ثم قال‪َ } :‬ول ت َل ْب ِ ُ‬
‫فنهاهم عن شيئين‪ ،‬عن خلط الحق بالباطل‪ ،‬وكتمان الحق؛ لن المقصود‬
‫من أهل الكتب والعلم‪ ،‬تمييز الحق‪ ،‬وإظهار الحق‪ ،‬ليهتدي بذلك المهتدون‪،‬‬
‫ويرجع الضالون‪ ،‬وتقوم الحجة على المعاندين؛ لن الله فصل آياته وأوضح‬
‫بيناته‪ ،‬ليميز الحق من الباطل‪ ،‬ولتستبين سبيل المهتدين من سبيل‬
‫المجرمين‪ ،‬فمن عمل بهذا من أهل العلم‪ ،‬فهو من خلفاء الرسل وهداة‬
‫المم‪.‬‬
‫ومن لبس الحق بالباطل‪ ،‬فلم يميز هذا من هذا‪ ،‬مع علمه بذلك‪ ،‬وكتم‬
‫الحق الذي يعلمه‪ ،‬وأمر بإظهاره‪ ،‬فهو من دعاة جهنم‪ ،‬لن الناس ل‬
‫يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهم‪ ،‬فاختاروا لنفسكم إحدى الحالتين‪.‬‬
‫صلةَ { أي‪ :‬ظاهرا وباطنا } َوآُتوا الّز َ‬
‫كاةَ {‬ ‫َ‬
‫موا ال ّ‬ ‫ثم قال‪ } :‬وَأِقي ُ‬
‫ن { أي‪ :‬صلوا مع المصلين‪ ،‬فإنكم إذا‬ ‫معَ الّراك ِِعي َ‬ ‫مستحقيها‪َ } ،‬واْرك َُعوا َ‬
‫فعلتم ذلك مع اليمان برسل الله وآيات الله‪ ،‬فقد جمعتم بين العمال‬
‫الظاهرة والباطنة‪ ،‬وبين الخلص للمعبود‪ ،‬والحسان إلى عبيده‪ ،‬وبين‬
‫العبادات القلبية البدنية والمالية‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬صلوا مع المصلين‪ ،‬ففيه المر‬ ‫وقوله‪َ } :‬واْرك َُعوا َ‬
‫معَ الّراك ِِعي َ‬
‫بالجماعة للصلة ووجوبها‪ ،‬وفيه أن الركوع ركن من أركان الصلة لنه عّبر‬
‫عن الصلة بالركوع‪ ،‬والتعبير عن العبادة بجزئها يدل على فرضيته فيها‪.‬‬

‫) ‪(1/50‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬ ‫َ ْ‬
‫قُلو َ‬
‫ن)‬ ‫ب أفََل ت َعْ ِ‬
‫ن ال ْك َِتا َ‬
‫م ت َت ُْلو َ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫م وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫س ِبال ْب ِّر وَت َن ْ َ‬
‫سوْ َ‬ ‫ن الّنا َ‬
‫مُرو َ‬
‫أت َأ ُ‬
‫‪(44‬‬

‫س ِبال ْب ِّر { ‪.‬‬ ‫َ ْ‬


‫ن الّنا َ‬ ‫مُرو َ‬‫} ‪ } { 44‬أت َأ ُ‬
‫َ ْ‬
‫م { أي‪:‬‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬ ‫س ِبال ْب ِّر { أي‪ :‬باليمان والخير } وَت َن ْ َ‬
‫سوْ َ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫مُرو َ‬ ‫} أت َأ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‬ ‫قُلو َ‬ ‫ب أَفل ت َعْ ِ‬ ‫ن ال ْك َِتا َ‬
‫م ت َت ُْلو َ‬
‫تتركونها عن أمرها بذلك‪ ،‬والحال‪ } :‬وَأن ْت ُ ْ‬
‫وأسمى العقل )‪ (1‬عقل لنه يعقل به ما ينفعه من الخير‪ ،‬وينعقل به عما‬
‫يضره‪ ،‬وذلك أن العقل يحث صاحبه أن يكون أول فاعل لما يأمر به‪ ،‬وأول‬
‫تارك لما ينهى عنه‪ ،‬فمن أمر غيره بالخير ولم يفعله‪ ،‬أو نهاه عن الشر‬
‫فلم يتركه‪ ،‬دل على عدم عقله وجهله‪ ،‬خصوصا إذا كان عالما بذلك‪ ،‬قد‬
‫قامت عليه الحجة‪.‬‬
‫وهذه الية‪ ،‬وإن كانت نزلت في سبب بني إسرائيل‪ ،‬فهي عامة لكل أحد‬
‫َ‬
‫عن ْد َ‬
‫قًتا ِ‬
‫م ْ‬‫ن ك َب َُر َ‬ ‫فعَُلو َ‬‫ما ل ت َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م تَ ُ‬
‫مُنوا ل ِ َ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫لقوله تعالى‪َ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن { وليس في الية أن النسان إذا لم يقم بما‬ ‫فعَُلو َ‬ ‫ما ل ت َ ْ‬ ‫قوُلوا َ‬ ‫الل ّهِ أ ْ‬
‫ن تَ ُ‬
‫أمر به أنه يترك المر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬لنها دلت على‬
‫التوبيخ بالنسبة إلى الواجبين‪ ،‬وإل فمن المعلوم أن على النسان واجبين‪:‬‬
‫أمر غيره ونهيه‪ ،‬وأمر نفسه ونهيها‪ ،‬فترك أحدهما‪ ،‬ل يكون رخصة في ترك‬
‫الخر‪ ،‬فإن الكمال أن يقوم النسان بالواجبين‪ ،‬والنقص الكامل أن‬
‫يتركهما‪ ،‬وأما قيامه بأحدهما دون الخر‪ ،‬فليس في رتبة الول‪ ،‬وهو دون‬
‫الخير‪ ،‬وأيضا فإن النفوس مجبولة على عدم النقياد لمن يخالف قوله‬
‫فعله‪ ،‬فاقتداؤهم بالفعال أبلغ من اقتدائهم بالقوال المجردة‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬وسمي‪.‬‬

‫) ‪(1/51‬‬

‫ن‬‫ذي َ‬‫ن )‪ (45‬ال ّ ِ‬ ‫شِعي َ‬ ‫خا ِ‬ ‫صَلةِ وَإ ِن َّها ل َك َِبيَرةٌ إ ِّل عََلى ال ْ َ‬ ‫صب ْرِ َوال ّ‬ ‫ست َِعيُنوا ِبال ّ‬ ‫َوا ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل اذ ْك ُُروا‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ن )‪َ (46‬يا ب َِني إ ِ ْ‬ ‫جُعو َ‬ ‫م إ ِلي ْهِ َرا ِ‬ ‫م وَأن ّهُ ْ‬ ‫ملُقو َرب ّهِ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ن أن ّهُ ْ‬ ‫ي َظ ُّنو َ‬
‫ما َل‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قوا ي َوْ ً‬ ‫ن )‪َ (47‬وات ّ ُ‬ ‫مي َ‬ ‫م عََلى ال َْعال َ ِ‬‫ضل ْت ُك ُ ْ‬
‫م وَأّني فَ ّ‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ي ال ِّتي أن ْعَ ْ‬ ‫مت ِ َ‬ ‫ن ِعْ َ‬
‫ل وََل‬ ‫من َْها عَد ْ ٌ‬ ‫خذ ُ ِ‬ ‫ة وََل ي ُؤْ َ‬ ‫فاعَ ٌ‬ ‫من َْها َ‬
‫ش َ‬ ‫ل ِ‬ ‫شي ًْئا وََل ي ُ ْ‬
‫قب َ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ن نَ ْ‬‫س عَ ْ‬ ‫ف ٌ‬ ‫زي ن َ ْ‬ ‫ج ِ‬‫تَ ْ‬
‫ن )‪(48‬‬ ‫صُرو َ‬ ‫م ي ُن ْ َ‬ ‫هُ ْ‬
‫ن‬
‫شِعي َ‬‫خا ِ‬ ‫صلةِ وَإ ِن َّها ل َك َِبيَرةٌ ِإل عََلى ال ْ َ‬ ‫صب ْرِ َوال ّ‬ ‫ست َِعيُنوا ِبال ّ‬ ‫} ‪َ } { 48 - 45‬وا ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫* ال ّذين يظ ُنو َ‬
‫سَراِئي َ‬
‫ل‬ ‫ن * َيا ب َِني إ ِ ْ‬ ‫جُعو َ‬ ‫م إ ِلي ْهِ َرا ِ‬ ‫م وَأن ّهُ ْ‬ ‫ملُقو َرب ّهِ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ن أن ّهُ ْ‬ ‫ِ َ َ ّ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫قوا‬ ‫ن * َوات ّ ُ‬ ‫مي َ‬ ‫م عَلى الَعال ِ‬ ‫ضلت ُك ْ‬ ‫م وَأّني فَ ّ‬ ‫ت عَلي ْك ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ي الِتي أن ْعَ ْ‬ ‫مت ِ َ‬‫اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬
‫من َْها‬‫خذ ُ ِ‬ ‫ة َول ي ُؤْ َ‬ ‫فاعَ ٌ‬ ‫ش َ‬ ‫من َْها َ‬‫ل ِ‬ ‫شي ًْئا َول ي ُ ْ‬
‫قب َ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫س عَ ْ‬ ‫ف ٌ‬ ‫زي ن َ ْ‬ ‫ج ِ‬‫ما ل ت َ ْ‬ ‫ي َوْ ً‬
‫ن{‪.‬‬ ‫صُرو َ‬ ‫م ي ُن ْ َ‬‫ل َول هُ ْ‬ ‫عَد ْ ٌ‬
‫أمرهم الله أن يستعينوا في أمورهم كلها بالصبر بجميع أنواعه‪ ،‬وهو الصبر‬
‫على طاعة الله حتى يؤديها‪ ،‬والصبر عن معصية الله حتى يتركها‪ ،‬والصبر‬
‫على أقدار الله المؤلمة فل يتسخطها‪ ،‬فبالصبر وحبس النفس على ما أمر‬
‫الله بالصبر عليه معونة عظيمة على كل أمر من المور‪ ،‬ومن يتصبر‬
‫يصبره الله‪ ،‬وكذلك الصلة التي هي ميزان اليمان‪ ،‬وتنهى عن الفحشاء‬
‫والمنكر‪ ،‬يستعان بها على كل أمر من المور } وَإ ِن َّها { أي‪ :‬الصلة‬
‫ن { فإنها سهلة عليهم خفيفة؛‬ ‫شِعي َ‬ ‫خا ِ‬ ‫} ل َك َِبيَرةٌ { أي‪ :‬شاقة } ِإل عََلى ال ْ َ‬
‫لن الخشوع‪ ،‬وخشية الله‪ ،‬ورجاء ما عنده يوجب له فعلها‪ ،‬منشرحا صدره‬
‫لترقبه للثواب‪ ،‬وخشيته من العقاب‪ ،‬بخلف من لم يكن كذلك‪ ،‬فإنه ل‬
‫داعي له يدعوه إليها‪ ،‬وإذا فعلها صارت من أثقل الشياء عليه‪.‬‬
‫والخشوع هو‪ :‬خضوع القلب وطمأنينته‪ ،‬وسكونه لله تعالى‪ ،‬وانكساره بين‬
‫يديه‪ ،‬ذل وافتقارا‪ ،‬وإيمانا به وبلقائه‪.‬‬
‫] ص ‪[ 52‬‬
‫َ‬
‫م{‬ ‫ملُقو َرب ّهِ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ن { أي‪ :‬يستيقنون } أن ّهُ ْ‬ ‫ن ي َظ ُّنو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ولهذا قال‪ } :‬ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن { فهذا الذي خفف عليهم‬ ‫جُعو َ‬ ‫م إ ِل َي ْهِ َرا ِ‬ ‫فيجازيهم بأعمالهم } وَأن ّهُ ْ‬
‫العبادات وأوجب لهم التسلي في المصيبات‪ ،‬ونفس عنهم الكربات‪،‬‬
‫وزجرهم عن فعل السيئات‪ ،‬فهؤلء لهم النعيم المقيم في الغرفات‬
‫العاليات‪ ،‬وأما من لم يؤمن بلقاء ربه‪ ،‬كانت الصلة وغيرها من العبادات‬
‫من أشق شيء عليه‪.‬‬
‫ثم كرر على بني إسرائيل التذكير بنعمته‪ ،‬وعظا لهم‪ ،‬وتحذيرا وحثا‪.‬‬
‫س { ولو‬ ‫ف ٌ‬ ‫زي { فيه‪ ،‬أي‪ :‬ل تغني } ن َ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫وخوفهم بيوم القيامة الذي } ل ت َ ْ‬
‫س { ولو كانت‬ ‫ف ٍ‬ ‫ن نَ ْ‬‫كانت من النفس الكريمة كالنبياء والصالحين } عَ ْ‬
‫شي ًْئا { ل كبيرا ول صغيرا وإنما ينفع النسان عمله‬ ‫من العشيرة القربين } َ‬
‫الذي قدمه‪.‬‬
‫من َْها { أي‪ :‬النفس‪ ،‬شفاعة لحد بدون إذن الله ورضاه عن‬ ‫ل ِ‬ ‫قب َ ُ‬‫} َول ي ُ ْ‬
‫المشفوع له‪ ،‬ول يرضى من العمل إل ما أريد به وجهه‪ ،‬وكان على السبيل‬
‫ل { أي‪ :‬فداء } ولو أن للذين ظلموا ما في‬ ‫من َْها عَد ْ ٌ‬
‫خذ ُ ِ‬
‫والسنة‪َ } ،‬ول ي ُؤْ َ‬
‫الرض جميعا ومثله معه لفتدوا به من سوء العذاب { ول يقبل منهم ذلك‬
‫ن { أي‪ :‬يدفع عنهم المكروه‪ ،‬فنفى النتفاع من الخلق‬ ‫صُرو َ‬ ‫م ي ُن ْ َ‬ ‫} َول هُ ْ‬
‫شي ًْئا { هذا في‬
‫س َ‬
‫ف ٍ‬
‫ن نَ ْ‬
‫س عَ ْ‬
‫ف ٌ‬ ‫زي ن َ ْ‬
‫ج ِ‬‫بوجه من الوجوه‪ ،‬فقوله‪ } :‬ل ت َ ْ‬
‫ن { هذا في دفع المضار‪ ،‬فهذا النفي‬ ‫صُرو َ‬ ‫م ي ُن ْ َ‬
‫تحصيل المنافع‪َ } ،‬ول هُ ْ‬
‫للمر المستقل )‪ (1‬به النافع‪.‬‬
‫} ول يقبل منها شفاعة ول يؤخذ منها عدل { هذا نفي للنفع الذي يطلب‬
‫ممن يملكه بعوض‪ ،‬كالعدل‪ ،‬أو بغيره‪ ،‬كالشفاعة‪ ،‬فهذا يوجب للعبد أن‬
‫ينقطع قلبه من التعلق بالمخلوقين‪ ،‬لعلمه أنهم ل يملكون له مثقال ذرة‬
‫من النفع‪ ،‬وأن يعلقه بالله الذي يجلب المنافع‪ ،‬ويدفع المضار‪ ،‬فيعبده‬
‫وحده ل شريك له ويستعينه على عبادته‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬المستقبل‪.‬‬

‫) ‪(1/51‬‬

‫ذاب يذ َبحو َ‬ ‫م َ‬
‫ن أب َْناَءك ُ ْ‬
‫م‬ ‫سوَء ال ْعَ َ ِ ُ ّ ُ َ‬ ‫م ُ‬ ‫مون َك ُ ْ‬ ‫سو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫ل فِْرعَوْ َ‬ ‫نآ ِ‬ ‫م ِ ْ‬ ‫جي َْناك ُ ْ‬ ‫وَإ ِذ ْ ن َ ّ‬
‫ُ‬
‫م )‪ (49‬وَإ ِذ ْ فََرقَْنا ب ِك ُ‬
‫م‬ ‫ظي ٌ‬ ‫م عَ ِ‬ ‫ُ‬
‫ن َرب ّك ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ب َلٌء ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م وَِفي ذ َل ِك ْ‬ ‫ساَءك ْ‬ ‫ُ‬ ‫ن نِ َ‬ ‫حُيو َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫وَي َ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سى‬ ‫مو َ‬ ‫ن )‪ (50‬وَإ ِذ ْ َواعَد َْنا ُ‬ ‫م ت َن ْظُرو َ‬ ‫ن وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ل فِْرعَوْ َ‬ ‫م وَأغَْرقَْنا آ َ‬ ‫ُ‬
‫جي َْناك ْ‬ ‫حَر فَأن ْ َ‬ ‫ال ْب َ ْ‬
‫م َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فوَْنا عَن ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م عَ َ‬ ‫ن )‪ (51‬ث ُ ّ‬ ‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫ن ب َعْدِهِ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ج َ‬ ‫م ال ْعِ ْ‬ ‫خذ ْت ُ ُ‬ ‫م ات ّ َ‬ ‫ة ثُ ّ‬ ‫ن ل َي ْل َ ً‬ ‫أْرب َِعي َ‬
‫َ‬
‫م‬‫ن ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫فْرَقا َ‬ ‫ب َوال ْ ُ‬ ‫سى ال ْك َِتا َ‬ ‫مو َ‬ ‫ن )‪ (52‬وَإ ِذ ْ آت َي َْنا ُ‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ك ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫ن ب َعْدِ ذ َل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫خاذِك ُ ُ‬
‫م‬ ‫م ِبات ّ َ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫م أن ْ ُ‬ ‫مت ُ ْ‬
‫م ظل ْ‬ ‫مهِ َيا قَوْم ِ إ ِن ّك ُ ْ‬ ‫قوْ ِ‬ ‫سى ل ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬ ‫ن )‪ (53‬وَإ ِذ ْ َقا َ‬ ‫دو َ‬ ‫ت َهْت َ ُ‬
‫َ‬
‫ب‬ ‫م فََتا َ‬ ‫عن ْد َ َبارِئ ِك ُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫م ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫م َفاقْت ُُلوا أن ْ ُ‬ ‫ل فَُتوُبوا إ َِلى َبارِئ ِك ُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫ال ْعِ ْ‬
‫حّتى‬ ‫ك َ‬ ‫ن لَ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ن ُؤْ ِ‬ ‫سى ل َ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫م َيا ُ‬ ‫م )‪ (54‬وَإ ِذ ْ قُل ْت ُ ْ‬ ‫حي ُ‬ ‫ب الّر ِ‬ ‫وا ُ‬ ‫ه هُوَ الت ّ ّ‬ ‫م إ ِن ّ ُ‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ب َعْدِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫م ب َعَث َْناك ُ ْ‬ ‫ن )‪ (55‬ث ُ ّ‬ ‫م ت َن ْظ ُُرو َ‬ ‫ة وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ق ُ‬ ‫ع َ‬ ‫صا ِ‬ ‫م ال ّ‬ ‫خذ َت ْك ُ ُ‬ ‫جهَْرةً فَأ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن ََرى الل ّ َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م ّ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫م وَأن َْزل َْنا عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫م ال ْغَ َ‬ ‫ن )‪ (56‬وَظ َل ّل َْنا عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫م ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫موْت ِك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫سهُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ن كاُنوا أن ْ ُ‬ ‫موَنا وَلك ِ ْ‬ ‫ما ظل ُ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ما َرَزقَناك ْ‬ ‫ت َ‬ ‫ن طي َّبا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وى كلوا ِ‬ ‫سل َ‬ ‫َوال ّ‬
‫ن )‪(57‬‬ ‫مو َ‬ ‫ي َظ ْل ِ ُ‬
‫ب‬‫ذا ِ‬ ‫سوَء ال ْعَ َ‬ ‫م ُ‬ ‫مون َك ُ ْ‬ ‫سو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫ل فِْرعَوْ َ‬ ‫نآ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جي َْناك ُ ْ‬ ‫} ‪ } { 57 - 49‬وَإ ِذ ْ ن َ ّ‬
‫يذ َبحو َ‬
‫م * وَإ ِذ ْ‬ ‫ظي ٌ‬ ‫م عَ ِ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م َبلٌء ِ‬ ‫م وَِفي ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫ساَءك ُ ْ‬ ‫ن نِ َ‬ ‫حُيو َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫م وَي َ ْ‬ ‫ن أب َْناَءك ُ ْ‬ ‫ُ ّ ُ َ‬
‫ن * وَإ ِذ ْ َواعَد َْنا‬ ‫رو‬ ‫ُ‬ ‫ظ‬ ‫ن‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ل فرعَون وأ َ‬ ‫َ‬ ‫آ‬ ‫نا‬ ‫ْ‬ ‫ق‬ ‫ر‬ ‫ْ‬ ‫غ‬ ‫فَرقْنا بك ُم ال ْبحر فَأ َنجيناك ُم وأ َ‬
‫ِ ْ ْ َ َ ُْ ْ َْ ُ َ‬ ‫ْ َ َْ ْ َ َ َ‬ ‫َ َ ِ ُ َ ْ َ‬
‫فوَْنا‬ ‫م عَ َ‬ ‫ن * ث ُّ‬ ‫مو‬ ‫ل‬ ‫ظا‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ج‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِ ُ َ‬ ‫ِ ْ َْ ِ ِ َ ُْ ْ‬ ‫ن ْ ً ّ ّ َ ُ ُ ِ ْ‬
‫ع‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ذ‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ث‬ ‫ة‬ ‫ل‬‫ي‬ ‫ل‬ ‫سى أْرب َِعي َ‬ ‫مو َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬ ‫فْرقا َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ب َوال ُ‬ ‫سى الك َِتا َ‬ ‫ْ‬ ‫مو َ‬ ‫ن * وَإ ِذ ْ آت َي َْنا ُ‬ ‫شكُرو َ‬ ‫ُ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن ب َعْدِ ذ َل ِك لعَلك ْ‬‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫عَن ْك ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫سك ْ‬ ‫ف َ‬ ‫م أن ْ ُ‬ ‫مت ُ ْ‬ ‫م ظل ْ‬ ‫ُ‬
‫مهِ َيا قوْم ِ إ ِن ّك ْ‬ ‫َ‬ ‫قوْ ِ‬ ‫سى ل ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن * وَإ ِذ ْ قال ُ‬ ‫دو َ‬ ‫م ت َهْت َ ُ‬ ‫ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫َ‬
‫عن ْد َ‬ ‫م ِ‬ ‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫م ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫م َفاقْت ُُلوا أن ْ ُ‬ ‫ل فَُتوُبوا إ َِلى َبارِئ ِك ُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫م ال ْعِ ْ‬ ‫خاذِك ُ ُ‬ ‫ِبات ّ َ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫ن ن ُؤْ ِ‬ ‫سى ل ْ‬‫َ‬ ‫مو َ‬ ‫م َيا ُ‬ ‫ْ‬
‫م * وَإ ِذ ْ قُلت ُ ْ‬ ‫حي ُ‬ ‫ب الّر ِ‬ ‫وا ُ‬ ‫ه هُوَ َ الت ّ ّ‬ ‫م إ ِن ّ ُ‬ ‫ُ‬
‫ب عَلي ْك ْ‬ ‫َ‬ ‫م فََتا َ‬ ‫ُ‬
‫َبارِئ ِك ْ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫جهَْرةً فَأ َ‬ ‫ّ‬ ‫لَ َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫م ب َعَث َْناك ْ‬ ‫ن * ثُ ّ‬ ‫م ت َن ْظُرو َ‬ ‫ة وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ق ُ‬ ‫ع َ‬‫صا ِ‬ ‫م ال ّ‬ ‫خذ َت ْك ُ‬ ‫ه َ‬ ‫حّتى ن ََرى الل َ‬ ‫ك َ‬
‫َ‬
‫ن‬‫م ّ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫م وَأن َْزل َْنا عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫م ال ْغَ َ‬ ‫ن * وَظ َل ّل َْنا عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫م ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫موْت ِك ُ ْ‬ ‫ب َعْدِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫م‬
‫سهُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ن كاُنوا أن ْ ُ‬ ‫موَنا وَلك ِ ْ‬ ‫ما ظل ُ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ما َرَزقَْناك ْ‬ ‫ت َ‬ ‫ن طي َّبا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وى كلوا ِ‬ ‫سل َ‬ ‫َوال ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫ي َظ ْل ِ ُ‬
‫هذا شروع في تعداد نعمه على بني إسرائيل على وجه التفصيل فقال‪:‬‬
‫ن { أي‪ :‬من فرعون وملئه وجنوده وكانوا قبل‬ ‫ل فِْرعَوْ َ‬ ‫نآ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جي َْناك ُ ْ‬ ‫} وَإ ِذ ْ ن َ ّ‬
‫ب { أي‪:‬‬ ‫ذا ِ‬ ‫ْ‬
‫سوَء العَ َ‬ ‫م { أي‪ :‬يولونهم ويستعملونهم‪ُ } ،‬‬ ‫ُ‬
‫مون َك ْ‬ ‫سو ُ‬ ‫ذلك } ي َ ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫حُيو َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫م { خشية نموكم‪ } ،‬وَي َ ْ‬ ‫ن أب َْناَءك ْ‬ ‫حو َ‬ ‫أشده بأن كانوا } ي ُذ َب ّ ُ‬
‫م { أي‪ :‬فل يقتلونهن‪ ،‬فأنتم بين قتيل ومذلل بالعمال الشاقة‪،‬‬ ‫ساَءك ُ ْ‬ ‫نِ َ‬
‫مستحيي على وجه المنة عليه والستعلء عليه فهذا غاية الهانة‪ ،‬فمن الله‬
‫عليهم بالنجاة التامة وإغراق عدوهم وهم ينظرون لتقر أعينهم‪.‬‬
‫م { فهذا‬ ‫ظي ٌ‬‫م عَ ِ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫} وَِفي ذ َِلكم { أي‪ :‬النجاء } َبلٌء { أي‪ :‬إحسان } ِ‬
‫مما يوجب عليكم الشكر والقيام بأوامره‪.‬‬
‫ثم ذكر منته عليهم بوعده لموسى أربعين ليلة لينزل عليهم التوراة‬
‫المتضمنة للنعم العظيمة والمصالح العميمة‪ ،‬ثم إنهم لم يصبروا قبل‬
‫استكمال الميعاد حتى عبدوا العجل من بعده‪ ،‬أي‪ :‬ذهابه‪.‬‬
‫ن { عالمون بظلمكم‪ ،‬قد قامت عليكم الحجة‪ ،‬فهو أعظم‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫} وَأن ْت ُ ْ‬
‫جرما وأكبر إثما‪.‬‬
‫ثم إنه أمركم بالتوبة على لسان نبيه موسى بأن يقتل بعضكم بعضا فعفا‬
‫ن { الله‪.‬‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫الله عنكم بسبب ذلك } ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫جهَْرةً { وهذا غاية الظلم‬ ‫ه َ‬ ‫حّتى ن ََرى الل ّ َ‬ ‫ك َ‬ ‫ن لَ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ن ُؤْ ِ‬ ‫سى ل َ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫م َيا ُ‬ ‫} وَإ ِذ ْ قُل ْت ُ ْ‬
‫َ‬
‫ة { إما الموت أو‬ ‫ق ُ‬ ‫ع َ‬‫صا ِ‬
‫م ال ّ‬ ‫خذ َت ْك ُ ُ‬ ‫والجراءة على الله وعلى رسوله‪ } ،‬فَأ َ‬
‫َ‬
‫ن { وقوع ذلك‪ ،‬كل ينظر إلى صاحبه‪،‬‬ ‫م ت َن ْظ ُُرو َ‬ ‫الغشية العظيمة‪ } ،‬وَأن ْت ُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫م ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م تَ ْ‬ ‫موْت ِك ُ ْ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫م ب َعَث َْناك ُ ْ‬ ‫} ثُ ّ‬
‫ثم ذكر نعمته عليكم في التيه والبرية الخالية من الظلل وسعة الرزاق‪،‬‬
‫َ‬
‫ن { وهو اسم جامع لكل‬ ‫م ّ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫م وَأنزل َْنا عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫م ال ْغَ َ‬ ‫فقال‪ } :‬وَظ َل ّل َْنا عَل َي ْك ُ ُ‬
‫رزق حسن يحصل بل تعب‪ ،‬ومنه الزنجبيل والكمأة والخبز وغير ذلك‪.‬‬
‫وى { طائر صغير يقال له السماني‪ ،‬طيب اللحم‪ ،‬فكان ينزل‬ ‫سل ْ َ‬ ‫} َوال ّ‬
‫ت‬ ‫َ‬
‫ن طي َّبا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫عليهم من المن والسلوى ما يكفيهم ] ص ‪ [ 53‬ويقيتهم } كلوا ِ‬
‫م { أي‪ :‬رزقا ل يحصل نظيره لهل المدن المترفهين‪ ،‬فلم‬ ‫ما َرَزقَْناك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫يشكروا هذه النعمة‪ ،‬واستمروا على قساوة القلوب وكثرة الذنوب‪.‬‬
‫موَنا { يعني بتلك الفعال المخالفة لوامرنا لن الله ل تضره‬ ‫ما ظ َل َ ُ‬ ‫} وَ َ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سه ُ ْ‬‫ف َ‬ ‫ن كاُنوا أن ْ ُ‬ ‫معصية العاصين‪ ،‬كما ل تنفعه طاعات الطائعين‪ } ،‬وَلك ِ ْ‬
‫ن { فيعود ضرره عليهم‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫ي َظ ْل ِ ُ‬
‫) ‪(1/52‬‬

‫ب‬‫خُلوا ال َْبا َ‬ ‫دا َواد ْ ُ‬ ‫م َرغَ ً‬ ‫شئ ْت ُ ْ‬ ‫ث ِ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫من َْها َ‬ ‫ة فَك ُُلوا ِ‬ ‫قْري َ َ‬ ‫خُلوا هَذِهِ ال ْ َ‬ ‫وَإ ِذ ْ قُل َْنا اد ْ ُ‬
‫ن )‪ (58‬فَب َد ّ َ‬
‫ل‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫زيد ُ ال ْ ُ‬ ‫سن َ ِ‬ ‫م وَ َ‬ ‫طاَياك ُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫م َ‬ ‫فْر ل َك ُ ْ‬ ‫ة ن َغْ ِ‬ ‫حط ّ ٌ‬ ‫دا وَُقوُلوا ِ‬ ‫ج ً‬‫س ّ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫زا‬ ‫ج‬
‫ِ ْ ً‬ ‫ر‬ ‫موا‬
‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ظ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ذي‬
‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ز‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫م‬
‫ُ ْ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫قي‬
‫ِ‬ ‫ذي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ر‬
‫َْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫غ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫و‬‫َ‬ ‫ق‬ ‫موا‬‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ظ‬ ‫ال ّ َ‬
‫ن‬ ‫ذي‬
‫ِ‬
‫ن )‪(59‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬‫ف ُ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ماِء ب ِ َ‬ ‫س َ‬‫ال ّ‬

‫م َرغَ ً‬
‫دا‬ ‫شئ ْت ُ ْ‬
‫ث ِ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫ة فَك ُُلوا ِ‬
‫من َْها َ‬ ‫قْري َ َ‬‫خُلوا هَذِهِ ال ْ َ‬ ‫} ‪ } { 59 - 58‬وَإ ِذ ْ قُل َْنا اد ْ ُ‬
‫ن*‬‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬‫م ْ‬ ‫زيد ُ ال ْ ُ‬‫سن َ ِ‬ ‫م وَ َ‬‫طاَياك ُ ْ‬ ‫خ َ‬
‫م َ‬‫فْر ل َك ُ ْ‬ ‫حط ّ ٌ‬
‫ة ن َغْ ِ‬ ‫دا وَُقوُلوا ِ‬ ‫ج ً‬ ‫س ّ‬
‫ب ُ‬ ‫خُلوا ال َْبا َ‬‫َواد ْ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫جًزا‬
‫موا رِ ْ‬ ‫ن ظل ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫م فَأن َْزلَنا عَلى ال ِ‬ ‫ل له ُ ْ‬ ‫ذي ِقي َ‬ ‫ول غَي َْر ال ِ‬ ‫موا قَ ْ‬ ‫ن ظل ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ِ‬‫فَب َد ّ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قو َ‬
‫س ُ‬
‫ف ُ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ماِء ب ِ َ‬ ‫س َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬
‫ِ‬
‫وهذا أيضا من نعمته عليهم بعد معصيتهم إياه‪ ،‬فأمرهم بدخول قرية تكون‬
‫لهم عزا ووطنا ومسكنا‪ ،‬ويحصل لهم فيها الرزق الرغد‪ ،‬وأن يكون دخولهم‬
‫على وجه خاضعين لله فيه بالفعل‪ ،‬وهو دخول الباب } سجدا { أي‪:‬‬
‫ة { أي أن يحط عنهم‬ ‫حط ّ ٌ‬ ‫خاضعين ذليلين‪ ،‬وبالقول وهو أن يقولوا‪ِ } :‬‬
‫خطاياهم بسؤالهم إياه مغفرته‪.‬‬
‫ن{‬ ‫سِني َ‬‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫سنزيد ُ ال ُ‬
‫م { بسؤالكم المغفرة‪ } ،‬وَ َ‬ ‫طاَياك ُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫م َ‬ ‫فْر ل َك ُ ْ‬ ‫} ن َغْ ِ‬
‫بأعمالهم‪ ،‬أي‪ :‬جزاء عاجل وآجل‪.‬‬
‫موا { منهم‪ ،‬ولم يقل فبدلوا لنهم لم يكونوا كلهم بدلوا‬ ‫ن ظ َل َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬‫} فَب َد ّ َ‬
‫م { فقالوا بدل حطة‪ :‬حبة في حنطة‪ ،‬استهانة‬ ‫ل ل َهُ ْ‬‫ذي ِقي َ‬ ‫ول غَي َْر ال ّ ِ‬ ‫} قَ ْ‬
‫بأمر الله‪ ،‬واستهزاء وإذا بدلوا القول مع خفته فتبديلهم للفعل من باب‬
‫أولى وأحرى‪ ،‬ولهذا دخلوا يزحفون على أدبارهم‪ ،‬ولما كان هذا الطغيان‬
‫َ‬
‫موا {‬‫ن ظ َل َ ُ‬‫ذي َ‬‫أكبر سبب لوقوع عقوبة الله بهم‪ ،‬قال‪ } :‬فَأنزل َْنا عََلى ال ّ ِ‬
‫ماِء { بسبب فسقهم وبغيهم‪.‬‬ ‫س َ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬
‫جًزا { أي‪ :‬عذابا } ِ‬ ‫منهم } رِ ْ‬

‫) ‪(1/53‬‬

‫ه اث ْن ََتا‬
‫من ْ ُ‬
‫ت ِ‬‫جَر ْ‬ ‫ف َ‬‫جَر َفان ْ َ‬ ‫ك ال ْ َ‬
‫ح َ‬ ‫صا َ‬‫ب ب ِعَ َ‬ ‫ضرِ ْ‬‫قل َْنا ا ْ‬
‫مهِ فَ ُ‬
‫قوْ ِ‬‫سى ل ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫قى ُ‬ ‫س َ‬
‫ست َ ْ‬
‫وَإ ِذِ ا ْ‬
‫ق الل ّهِ وَلَ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ن رِْز ِ‬ ‫م ْ‬
‫شَرُبوا ِ‬ ‫م كلوا َوا ْ‬ ‫م ْ‬
‫شَرب َهُ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ل أَنا ٍ‬ ‫مك ّ‬ ‫شَرةَ عَي ًْنا قَد ْ عَل ِ َ‬ ‫عَ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن )‪(60‬‬ ‫دي َ‬‫س ِ‬ ‫ف ِ‬
‫م ْ‬‫ض ُ‬ ‫وا ِفي الْر ِ‬ ‫ت َعْث َ ْ‬
‫جَر‬ ‫ك ال ْ َ‬
‫ح َ‬ ‫صا َ‬
‫ب ب ِعَ َ‬ ‫ضرِ ْ‬‫قل َْنا ا ْ‬ ‫مه ِ ف َ ُ‬ ‫قوْ ِ‬ ‫سى ل ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫قى ُ‬ ‫س َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫} ‪ } { 60‬وَإ ِذِ ا ْ‬
‫شَرُبوا‬ ‫ُ‬
‫م كلوا َوا ْ‬ ‫ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ه اث ْن ََتا عَ ْ‬ ‫َفان ْ َ‬
‫شَرب َهُ ْ‬ ‫س َ‬ ‫م كل أَنا ٍ‬ ‫شَرةَ عَي ًْنا قد ْ عَل ِ َ‬ ‫من ْ ُ‬‫ت ِ‬ ‫جَر ْ‬ ‫ف َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ْ‬‫ض ُ‬ ‫وا ِفي الْر ِ‬ ‫ق الل ّهِ َول ت َعْث َ ْ‬ ‫ن رِْز ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫استسقى‪ ،‬أي‪ :‬طلب لهم ماء يشربون منه‪.‬‬
‫جَر { إما حجر مخصوص معلوم عنده‪ ،‬وإما اسم‬ ‫ح َ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫صا َ‬ ‫ب ب ِعَ َ‬ ‫ضرِ ْ‬ ‫قل َْنا ا ْ‬
‫} فَ ُ‬
‫شَرةَ عَي ًْنا { وقبائل بني إسرائيل اثنتا عشرة‬ ‫ه اث ْن ََتا عَ ْ‬
‫من ْ ُ‬ ‫ت ِ‬ ‫جَر ْ‬‫ف َ‬ ‫جنس‪َ } ،‬فان ْ َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫م { أي‪ :‬محلهم الذي‬ ‫شَرب َهُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫س { منهم } َ‬ ‫ل أَنا ٍ‬ ‫مك ّ‬ ‫قبيلة‪ } ،‬قَد ْ عَل ِ َ‬
‫يشربون عليه من هذه العين‪ ،‬فل يزاحم بعضهم بعضا‪ ،‬بل يشربونه‬
‫ق الل ّهِ { أي‪ :‬الذي‬ ‫ن رِْز ِ‬ ‫م ْ‬ ‫شَرُبوا ِ‬ ‫متهنئين ل متكدرين‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬ك ُُلوا َوا ْ‬
‫ض { أي‪ :‬تخربوا على‬ ‫وا ِفي الْر ِ‬ ‫آتاكم من غير سعي ول تعب‪َ } ،‬ول ت َعْث َ ْ‬
‫وجه الفساد‪.‬‬

‫) ‪(1/53‬‬

‫ما‬ ‫م ّ‬‫ج ل ََنا ِ‬ ‫خرِ ْ‬ ‫ك يُ ْ‬ ‫حدٍ َفاد ْعُ ل ََنا َرب ّ َ‬ ‫صب َِر عََلى ط ََعام ٍ َوا ِ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫سى ل َ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫م َيا ُ‬ ‫وَإ ِذ ْ قُل ْت ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ت اْل َْر‬
‫ذي‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫ست َب ْدُِلو َ‬ ‫ل أت َ ْ‬ ‫صل َِها َقا َ‬ ‫َ‬ ‫سَها وَب َ‬ ‫مَها وَعَد َ ِ‬ ‫قل َِها وَقِّثائ َِها وَُفو ِ‬ ‫ن بَ ْ‬ ‫ْ‬ ‫م‬‫ض ِ‬ ‫ُ‬ ‫ت ُن ْب ِ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ت عَل َي ْهِ ُ‬ ‫ضرِب َ ْ‬ ‫م وَ ُ‬ ‫سأل ْت ُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫صًرا فَإ ِ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫طوا ِ‬ ‫خي ٌْر اهْب ِ ُ‬ ‫ذي هُوَ َ‬ ‫هُوَ أد َْنى ِبال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ت الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ن ب ِآَيا ِ‬ ‫فُرو َ‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ك ب ِأن ّهُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ ذ َل ِ َ‬ ‫م َ‬‫ب ِ‬‫ض ٍ‬ ‫ة وََباُءوا ب ِغَ َ‬ ‫سك َن َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ة َوال ْ َ‬ ‫الذ ّل ّ ُ‬
‫ن )‪(61‬‬ ‫دو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْت َ ُ‬ ‫وا وَ َ‬ ‫ص ْ‬‫ما عَ َ‬ ‫حقّ ذ َل ِ َ‬
‫ك بِ َ‬ ‫ن ب ِغَي ْرِ ال ْ َ‬ ‫ن الن ّب ِّيي َ‬ ‫قت ُُلو َ‬ ‫وَي َ ْ‬
‫حدٍ َفاد ْعُ ل ََنا َرب ّ َ‬
‫ك‬ ‫صب َِر عََلى ط ََعام ٍ َوا ِ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫سى ل َ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫م َيا ُ‬ ‫} ‪ } { 61‬وَإ ِذ ْ قُل ْت ُ ْ‬
‫صل َِها َقا َ‬
‫ل‬ ‫سَها وَب َ َ‬ ‫مَها وَعَد َ ِ‬ ‫قل َِها وَقِّثائ َِها وَُفو ِ‬ ‫ن بَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ض ِ‬ ‫ت الْر ُ‬ ‫ما ت ُن ْب ِ ُ‬ ‫ج ل ََنا ِ‬
‫م ّ‬ ‫خرِ ْ‬ ‫يُ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م‬‫سألت ُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫م َ‬ ‫ن لك ْ‬ ‫صًرا فَإ ِ ّ‬ ‫ْ‬ ‫م‬
‫خي ٌْر اهْب ِطوا ِ‬ ‫ذي هُوَ َ‬ ‫ذي هُوَ أد َْنى ِبال ِ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫ست َب ْدِلو َ‬ ‫أت َ ْ‬
‫كاُنوا‬ ‫م َ‬ ‫وضربت عَل َيهم الذ ّل ّة وال ْمسك َنة وباُءوا بغَضب من الل ّه ذ َل َ َ‬
‫ك ب ِأن ّهُ ْ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ َ ٍ ِ َ‬ ‫ُ َ َ ْ َ ُ ََ‬ ‫ِْ ُ‬ ‫َ ُ َِ ْ‬
‫وا وَكاُنوا‬‫َ‬ ‫ص ْ‬
‫ما عَ َ‬ ‫ك بِ َ‬ ‫حقّ ذ َل ِ َ‬ ‫ْ‬
‫ن ب ِغَي ْرِ ال َ‬ ‫ن الن ّب ِّيي َ‬ ‫ُ‬
‫قت ُلو َ‬ ‫ت اللهِ وَي َ ْ‬‫ّ‬ ‫ن ِبآَيا ِ‬ ‫فُرو َ‬ ‫ي َك ْ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دو َ‬ ‫ي َعْت َ ُ‬
‫أي‪ :‬واذكروا‪ ،‬إذ قلتم لموسى‪ ،‬على وجه التملل لنعم الله والحتقار لها‪،‬‬
‫حدٍ { أي‪ :‬جنس من الطعام‪ ،‬وإن كان كما تقدم‬ ‫صب َِر عََلى ط ََعام ٍ َوا ِ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫} لَ ْ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ض ِ‬ ‫ت الْر ُ‬ ‫ما ت ُن ْب ِ ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ج ل ََنا ِ‬ ‫خرِ ْ‬ ‫ك يُ ْ‬ ‫أنواعا‪ ،‬لكنها ل تتغير‪َ } ،‬فاد ْعُ ل ََنا َرب ّ َ‬
‫قل َِها { أي‪ :‬نباتها الذي ليس بشجر يقوم على ساقه‪ } ،‬وَقِّثائ َِها { وهو‬ ‫بَ ْ‬
‫مَها { أي‪ :‬ثومها‪ ،‬والعدس والبصل معروف‪ ،‬قال لهم موسى‬ ‫الخيار } وَُفو ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫خي ٌْر {‬ ‫ذي هُوَ َ‬ ‫ذي هُوَ أد َْنى { وهو الطعمة المذكورة‪ِ } ،‬بال ّ ِ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫ست َب ْدُِلو َ‬ ‫} أت َ ْ‬
‫وهو المن والسلوى‪ ،‬فهذا غير لئق بكم‪ ،‬فإن هذه الطعمة التي طلبتم‪ ،‬أي‬
‫مصر هبطتموه وجدتموها‪ ،‬وأما طعامكم الذي من الله به عليكم‪ ،‬فهو خير‬
‫الطعمة وأشرفها‪ ،‬فكيف تطلبون به بدل؟‬
‫ولما كان الذي جرى منهم فيه أكبر دليل على قلة صبرهم واحتقارهم‬
‫ةّ‬
‫م الذ ّل ُ‬ ‫ت عَل َي ْهِ ُ‬ ‫ضرِب َ ْ‬ ‫لوامر الله ونعمه‪ ،‬جازاهم من جنس عملهم فقال‪ } :‬وَ ُ‬
‫ة { بقلوبهم‪ ،‬فلم تكن‬ ‫سك َن َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫{ التي تشاهد على ظاهر أبدانهم } َوال ْ َ‬
‫أنفسهم عزيزة‪ ،‬ول لهم همم عالية‪ ،‬بل أنفسهم أنفس مهينة‪ ،‬وهممهم‬
‫ن الل ّهِ { أي‪ :‬لم تكن غنيمتهم التي رجعوا‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫ض ٍ‬ ‫أردأ الهمم‪ } ،‬وََباُءوا ب ِغَ َ‬
‫بها وفازوا‪ ،‬إل أن رجعوا بسخطه عليهم‪ ،‬فبئست الغنيمة غنيمتهم‪ ،‬وبئست‬
‫الحالة حالتهم‪.‬‬
‫ت الل ّهِ {‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬ ‫} ذ َل ِ َ‬
‫ن ِبآَيا ِ‬ ‫فُرو َ‬ ‫ك { الذي استحقوا به غضبه } ب ِأن ّهُ ْ‬
‫الدالت على الحق الموضحة لهم‪ ،‬فلما كفروا بها عاقبهم بغضبه عليهم‪،‬‬
‫حق ّ { ‪.‬‬ ‫ن ب ِغَي ْرِ ال ْ َ‬ ‫ن الن ّب ِّيي َ‬ ‫قت ُُلو َ‬ ‫وبما كانوا } ي َ ْ‬
‫حقّ { زيادة شناعة‪ ،‬وإل فمن المعلوم أن قتل النبي ل‬ ‫ْ‬
‫وقوله‪ } :‬ب ِغَي ْرِ ال َ‬
‫يكون بحق‪ ،‬لكن لئل يظن جهلهم وعدم علمهم‪.‬‬
‫ن { على عباد‬ ‫دو َ‬ ‫َ‬
‫وا { بأن ارتكبوا معاصي الله } وَكاُنوا ي َعْت َ ُ‬ ‫ص ْ‬‫ما عَ َ‬ ‫ك بِ َ‬ ‫} ذ َل ِ َ‬
‫الله‪ ،‬فإن المعاصي يجر بعضها بعضا‪ ،‬فالغفلة ينشأ عنها الذنب الصغير‪ ،‬ثم‬
‫ينشأ عنه الذنب الكبير‪ ،‬ثم ينشأ عنها أنواع البدع والكفر وغير ذلك‪ ،‬فنسأل‬
‫الله العافية من كل بلء‪.‬‬
‫واعلم أن الخطاب في هذه اليات لمة بني إسرائيل الذين كانوا موجودين‬
‫وقت نزول القرآن‪ ،‬وهذه الفعال ] ص ‪ [ 54‬المذكورة خوطبوا بها وهي‬
‫فعل أسلفهم‪ ،‬ونسبت لهم لفوائد عديدة‪ ،‬منها‪ :‬أنهم كانوا يتمدحون‬
‫ويزكون أنفسهم‪ ،‬ويزعمون فضلهم على محمد ومن آمن به‪ ،‬فبين الله من‬
‫أحوال سلفهم التي قد تقررت عندهم‪ ،‬ما يبين به لكل أحد ]منهم[ أنهم‬
‫ليسوا من أهل الصبر ومكارم الخلق‪ ،‬ومعالي العمال‪ ،‬فإذا كانت هذه‬
‫حالة سلفهم‪ ،‬مع أن المظنة أنهم أولى وأرفع حالة ممن بعدهم فكيف‬
‫الظن بالمخاطبين؟"‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن نعمة الله على المتقدمين منهم‪ ،‬نعمة واصلة إلى المتأخرين‪،‬‬
‫والنعمة على الباء‪ ،‬نعمة على البناء‪ ،‬فخوطبوا بها‪ ،‬لنها نعم تشملهم‬
‫وتعمهم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الخطاب لهم بأفعال غيرهم‪ ،‬مما يدل على أن المة المجتمعة‬
‫على دين تتكافل وتتساعد على مصالحها‪ ،‬حتى كان متقدمهم ومتأخرهم‬
‫في وقت واحد‪ ،‬وكان الحادث من بعضهم حادثا من الجميع‪.‬‬
‫لن ما يعمله بعضهم من الخير يعود بمصلحة الجميع‪ ،‬وما يعمله من الشر‬
‫يعود بضرر الجميع‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن أفعالهم أكثرها لم ينكروها‪ ،‬والراضي بالمعصية شريك للعاصي‪،‬‬
‫ح َ‬
‫كم التي ل يعلمها إل الله‪.‬‬ ‫إلى غير ذلك من ال ِ‬

‫) ‪(1/53‬‬

‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫دوا والن ّصارى والصابِئين م َ‬ ‫مُنوا َوال ّ ِ‬ ‫ذي َ‬


‫ن ِباللهِ َوالي َوْم ِ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫َ ّ ِ َ َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ها ُ‬
‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ن ال ّ ِ َ‬ ‫إِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫حَزُنو َ‬‫م يَ ْ‬ ‫م وََل هُ ْ‬‫ف عَل َي ْهِ ْ‬ ‫م وََل َ‬
‫خوْ ٌ‬ ‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬
‫م ِ‬
‫جُرهُ ْ‬
‫مأ ْ‬ ‫حا فَل َهُ ْ‬ ‫صال ِ ً‬
‫ل َ‬‫م َ‬ ‫خرِ وَعَ ِ‬ ‫اْل ِ‬
‫)‪(62‬‬

‫ن‬
‫ذي َ‬‫مُنوا َوال ّ ِ‬ ‫نآ َ‬
‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬
‫} ‪ { 62‬ثم قال تعالى حاكما بين الفرق الكتابية‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫حا فَلهُ ْ‬ ‫صال ِ ً‬‫ل َ‬‫م َ‬
‫خرِ وَعَ ِ‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬
‫م َ‬
‫نآ َ‬ ‫م ْ‬‫ن َ‬‫صاب ِِئي َ‬
‫صاَرى َوال ّ‬ ‫دوا َوالن ّ َ‬ ‫ها ُ‬‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حَزُنو َ‬ ‫م يَ ْ‬‫م َول هُ ْ‬ ‫ف عَلي ْهِ ْ‬
‫خوْ ٌ‬ ‫م َول َ‬ ‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬
‫م ِ‬ ‫جُرهُ ْ‬‫أ ْ‬
‫وهذا الحكم على أهل الكتاب خاصة‪ ،‬لن الصابئين‪ ،‬الصحيح أنهم من جملة‬
‫فرق النصارى‪ ،‬فأخبر الله أن المؤمنين من هذه المة‪ ،‬واليهود والنصارى‪،‬‬
‫والصابئين من آمن بالله واليوم الخر‪ ،‬وصدقوا رسلهم‪ ،‬فإن لهم الجر‬
‫العظيم والمن‪ ،‬ول خوف عليهم ول هم يحزنون‪ ،‬وأما من كفر منهم بالله‬
‫ورسله واليوم الخر‪ ،‬فهو بضد هذه الحال‪ ،‬فعليه الخوف والحزن‪.‬‬
‫والصحيح أن هذا الحكم بين هذه الطوائف‪ ،‬من حيث هم‪ ،‬ل بالنسبة إلى‬
‫اليمان بمحمد‪ ،‬فإن هذا إخبار عنهم قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم‬
‫وأن هذا مضمون أحوالهم‪ ،‬وهذه طريقة القرآن إذا وقع في بعض النفوس‬
‫عند سياق اليات بعض الوهام‪ ،‬فل بد أن تجد ما يزيل ذلك الوهم‪ ،‬لنه‬
‫ن رحمته وسعت كل شيء‪.‬‬ ‫م ْ‬ ‫ن يعلم الشياء قبل وجودها‪ ،‬و َ‬ ‫م ْ‬‫تنزيل َ‬
‫وذلك والله أعلم ‪ -‬أنه لما ذكر بني إسرائيل وذمهم‪ ،‬وذكر معاصيهم‬
‫وقبائحهم‪ ،‬ربما وقع في بعض النفوس أنهم كلهم يشملهم الذم‪ ،‬فأراد‬
‫الباري تعالى أن يبين من لم يلحقه الذم منهم بوصفه‪ ،‬ولما كان أيضا ذكر‬
‫بني إسرائيل خاصة يوهم الختصاص بهم‪ .‬ذكر تعالى حكما عاما يشمل‬
‫الطوائف كلها‪ ،‬ليتضح الحق‪ ،‬ويزول التوهم والشكال‪ ،‬فسبحان من أودع‬
‫في كتابه ما يبهر عقول العالمين‪.‬‬
‫ثم عاد تبارك وتعالى يوبخ بني إسرائيل بما فعل سلفهم‪:‬‬

‫) ‪(1/54‬‬

‫قوّةٍ َواذ ْك ُُروا َ‬


‫ما‬ ‫م بِ ُ‬ ‫َ‬
‫ما آت َي َْناك ُ ْ‬
‫ذوا َ‬ ‫خ ُ‬‫طوَر ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫م وََرفَعَْنا فَوْقَك ُ ُ‬ ‫ميَثاقَك ُ ْ‬ ‫خذ َْنا ِ‬ ‫وَإ ِذ ْ أ َ َ‬
‫م‬‫ل الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬‫ض ُ‬‫ك فَل َوَْل فَ ْ‬ ‫ن ب َعْدِ ذ َل ِ َ‬‫م ْ‬
‫م ِ‬‫م ت َوَل ّي ْت ُ ْ‬‫ن )‪ (63‬ث ُ ّ‬ ‫قو َ‬ ‫م ت َت ّ ُ‬ ‫ِفيهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫ن )‪(64‬‬ ‫ري َ‬ ‫س ِ‬ ‫خا ِ‬‫ن ال ْ َ‬
‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ل َك ُن ْت ُ ْ‬‫مت ُ ُ‬‫ح َ‬‫وََر ْ‬
‫ما آت َي َْناك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ذوا َ‬ ‫خ ُ‬ ‫طوَر ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫م وََرفَعَْنا فَوْقَك ُ ُ‬ ‫ميَثاقَك ُ ْ‬ ‫خذ َْنا ِ‬ ‫} ‪ } { 63-64‬وَإ ِذ ْ أ َ َ‬
‫ل الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ض ُ‬ ‫ول فَ ْ‬ ‫ك فَل َ ْ‬ ‫ن ب َعْدِ ذ َل ِ َ‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫م ت َوَل ّي ْت ُ ْ‬‫ن * ثُ ّ‬ ‫قو َ‬ ‫م ت َت ّ ُ‬ ‫ما ِفيهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫قوّةٍ َواذ ْك ُُروا َ‬ ‫بِ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫س ِ‬ ‫خا ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫م َ‬‫م ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ه لكن ْت ُ ْ‬ ‫مت ُ ُ‬
‫ح َ‬
‫م وََر ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫عَلي ْك ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫م { وهو العهد الثقيل المؤكد بالتخويف لهم‪،‬‬ ‫ميَثاقَك ْ‬ ‫خذ َْنا ِ‬ ‫أي‪ :‬واذكروا } إ ِذ ْ أ َ‬
‫قوّةٍ‬ ‫م { من التوراة } ب ِ ُ‬ ‫ُ‬
‫ما آت َي َْناك ْ‬ ‫ذوا َ‬ ‫خ ُ‬ ‫برفع الطور فوقهم )‪ (1‬وقيل لهم‪ُ } :‬‬
‫ما ِفيهِ { أي‪ :‬ما في‬ ‫{ أي‪ :‬بجد واجتهاد‪ ،‬وصبر على أوامر الله‪َ } ،‬واذ ْك ُُروا َ‬
‫ن { عذاب الله وسخطه‪ ،‬أو‬ ‫قو َ‬ ‫كتابكم بأن تتلوه وتتعلموه‪ } ،‬ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م ت َت ّ ُ‬
‫لتكونوا من أهل التقوى‪.‬‬
‫م { وأعرضتم‪ ،‬وكان ذلك موجبا لن يحل‬ ‫فبعد هذا التأكيد البليغ } ت َوَل ّي ْت ُ ْ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ل َك ُن ْت ُ ْ‬‫مت ُ ُ‬‫ح َ‬‫م وََر ْ‬ ‫ل الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫ول فَ ْ‬ ‫بكم أعظم العقوبات‪ ،‬ولكن } ل َ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬‫س ِ‬‫خا ِ‬‫ال ْ َ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬برفع الطور فوقكم‪.‬‬

‫) ‪(1/54‬‬

‫ن‬
‫سِئي َ‬
‫خا ِ‬
‫كوُنوا قَِرد َةً َ‬ ‫م ُ‬ ‫قل َْنا ل َهُ ْ‬‫ت فَ ُ‬‫سب ْ ِ‬ ‫م ِفي ال ّ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫ن اعْت َد َْوا ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫مت ُ ُ‬ ‫وَل َ َ‬
‫قد ْ عَل ِ ْ‬
‫ن )‪(66‬‬ ‫قي َ‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫عظ َ ً‬ ‫موْ ِ‬ ‫فَها وَ َ‬‫خل ْ َ‬
‫ما َ‬‫ن ي َد َي َْها وَ َ‬ ‫كاًل ل ِ َ‬
‫ما ب َي ْ َ‬ ‫ها ن َ َ‬ ‫جعَل َْنا َ‬‫)‪ (65‬فَ َ‬

‫كوُنوا‬‫م ُ‬ ‫قل َْنا ل َهُ ْ‬ ‫ت فَ ُ‬ ‫سب ْ ِ‬


‫م ِفي ال ّ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫ن اعْت َد َْوا ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫مت ُ ُ‬
‫قد ْ عَل ِ ْ‬ ‫} ‪ } { 65-66‬وَل َ َ‬
‫ن{‬ ‫قي َ‬‫مت ّ ِ‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬ ‫عظ َ ً‬ ‫موْ ِ‬ ‫فَها وَ َ‬‫خل ْ َ‬
‫ما َ‬ ‫ن ي َد َي َْها وَ َ‬‫ما ب َي ْ َ‬
‫كال ل ِ َ‬ ‫ها ن َ َ‬ ‫جعَل َْنا َ‬‫ن * فَ َ‬ ‫سِئي َ‬
‫خا ِ‬‫قَِرد َةً َ‬
‫‪.‬‬
‫ت { وهم الذين‬ ‫سب ْ ِ‬‫م ِفي ال ّ‬ ‫ُ‬
‫من ْك ْ‬ ‫ن اعْت َد َْوا ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫أي‪ :‬ولقد تقرر عندكم حالة } ال ِ‬
‫ن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م عَ ِ‬ ‫سألهُ ْ‬ ‫ذكر الله قصتهم مبسوطة في سورة العراف في قوله‪َ } :‬وا ْ‬
‫ت { اليات‪.‬‬ ‫سب ْ ِ‬ ‫ن ِفي ال ّ‬ ‫دو َ‬ ‫حرِ إ ِذ ْ ي َعْ ُ‬ ‫ضَرةَ ال ْب َ ْ‬ ‫حا ِ‬ ‫ت َ‬ ‫قْري َةِ ال ِّتي َ‬
‫كان َ ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫فأوجب لهم هذا الذنب العظيم‪ ،‬أن غضب الله عليهم وجعلهم } قَِرد َةً‬
‫ن { حقيرين ذليلين‪.‬‬ ‫سِئي َ‬‫خا ِ‬ ‫َ‬

‫) ‪(1/54‬‬

‫خذ َُنا هُُزًوا‬ ‫قَرةً َقاُلوا أ َت َت ّ ِ‬ ‫قومه إن الل ّه يأ ْمرك ُ َ‬ ‫وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫حوا ب َ َ‬ ‫ن ت َذ ْب َ ُ‬‫مأ ْ‬ ‫َ َ ُ ُ ْ‬ ‫سى ل ِ َ ْ ِ ِ ِ ّ‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل أَ ُ‬
‫ما‬
‫ن لَنا َ‬ ‫ن )‪َ (67‬قالوا اد ْعُ لَنا َرب ّك ي ُب َي ّ ْ‬ ‫جاهِِلي َ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫ن أكو َ‬ ‫عوذ ُ ِباللهِ أ ْ‬ ‫َقا َ‬
‫ما‬ ‫ُ‬
‫ك َفافْعَلوا َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫ن ب َي ْ َ‬ ‫وا ٌ‬ ‫ْ‬
‫ض وَل ب ِكٌر عَ َ‬ ‫َ‬ ‫قَرةٌ ل َفارِ ٌ‬ ‫َ‬ ‫ل إ ِن َّها ب َ َ‬ ‫قو ُ‬‫ه يَ ُ‬ ‫ي َقا َ‬
‫ل إ ِن ّ ُ‬ ‫هِ َ‬
‫قَرةٌ‬‫ل إ ِن َّها ب َ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ه يَ ُ‬‫ل إ ِن ّ ُ‬ ‫ما لوْن َُها َقا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن لَنا َ‬ ‫ك ي ُب َي ّ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن )‪َ (68‬قالوا اد ْعُ لَنا َرب ّ َ‬ ‫مُرو َ‬ ‫ت ُؤْ َ‬
‫ن )‪(69‬‬ ‫ري َ‬ ‫سّر الّناظ ِ ِ‬ ‫َ‬
‫فَراُء َفاقِعٌ لوْن َُها ت َ ُ‬ ‫ص ْ‬ ‫َ‬
‫ن ي َد َي َْها { أي‪ :‬لمن حضرها من المم‪،‬‬
‫ما ب َي ْ َ‬ ‫وجعل الله هذه العقوبة } ن َ َ‬
‫كال ل ِ َ‬
‫خل ْ َ‬
‫فَها { أي‪ :‬من بعدهم‪ ،‬فتقوم‬ ‫ما َ‬ ‫وبلغه خبرها‪ ،‬ممن هو في وقتهم‪ } .‬وَ َ‬
‫على العباد حجة الله‪ ،‬وليرتدعوا عن معاصيه‪ ،‬ولكنها ل تكون موعظة نافعة‬
‫إل للمتقين‪ ،‬وأما من عداهم فل ينتفعون باليات‪.‬‬
‫] ص ‪[ 55‬‬
‫قومه إن الل ّه يأ ْمرك ُ َ‬ ‫} ‪ } { 74 - 67‬وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫قَرةً‬ ‫حوا ب َ َ‬ ‫ن ت َذ ْب َ ُ‬‫مأ ْ‬ ‫َ َ ُ ُ ْ‬ ‫سى ل ِ َ ْ ِ ِ ِ ّ‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬
‫َ‬
‫ن * َقالوا اد ْعُ لَنا‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل أَ ُ‬ ‫خذ َُنا هُُزًوا َقا َ‬ ‫َقاُلوا أ َت َت ّ ِ‬
‫جاهِِلي َ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن أكو َ‬ ‫عوذ ُ ِباللهِ أ ْ‬
‫ن‬‫ن ب َي ْ َ‬ ‫وا ٌ‬ ‫ض َول ب ِك ٌْر عَ َ‬ ‫قَرةٌ ل َفارِ ٌ‬ ‫ل إ ِن َّها ب َ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ه يَ ُ‬‫ل إ ِن ّ ُ‬ ‫ي َقا َ‬ ‫ما هِ َ‬ ‫ن ل ََنا َ‬ ‫ك ي ُب َي ّ ْ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫قو ُ‬
‫ل‬ ‫ه يَ ُ‬ ‫ل إ ِن ّ ُ‬‫ما ل َوْن َُها َقا َ‬ ‫ن ل ََنا َ‬ ‫ك ي ُب َي ّ ْ‬ ‫ن * َقاُلوا اد ْعُ ل ََنا َرب ّ َ‬ ‫مُرو َ‬ ‫ما ت ُؤْ َ‬ ‫ك َفافْعَُلوا َ‬ ‫ذ َل ِ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫سّر الّناظ ِ ِ‬ ‫فَراُء َفاقِعٌ ل َوْن َُها ت َ ُ‬ ‫ص ْ‬
‫قَرةٌ َ‬ ‫إ ِن َّها ب َ َ‬
‫أي‪ :‬واذكروا ما جرى لكم مع موسى‪ ،‬حين قتلتم قتيل وادارأتم فيه‪ ،‬أي‪:‬‬
‫تدافعتم واختلفتم في قاتله‪ ،‬حتى تفاقم المر بينكم وكاد ‪ -‬لول تبيين الله‬
‫لكم ‪ -‬يحدث بينكم شر كبير‪ ،‬فقال لكم موسى في تبيين القاتل‪ :‬اذبحوا‬
‫بقرة‪ ،‬وكان من الواجب المبادرة إلى امتثال أمره‪ ،‬وعدم العتراض عليه‪،‬‬
‫عوذ ُ‬‫خذ َُنا هُُزًوا { فقال نبي الله‪ } :‬أ َ ُ‬ ‫ولكنهم أبوا إل العتراض‪ ،‬فقالوا‪ } :‬أ َت َت ّ ِ‬
‫ن { فإن الجاهل هو الذي يتكلم بالكلم الذي ل‬ ‫جاهِِلي َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كو َ‬ ‫ن أَ ُ‬ ‫َ‬
‫ِبالل ّهِ أ ْ‬
‫فائدة فيه‪ ،‬وهو الذي يستهزئ بالناس‪ ،‬وأما العاقل فيرى أن من أكبر‬
‫العيوب المزرية بالدين والعقل‪ ،‬استهزاءه بمن هو آدمي مثله‪ ،‬وإن كان قد‬
‫فضل عليه‪ ،‬فتفضيله يقتضي منه الشكر لربه‪ ،‬والرحمة لعباده‪ .‬فلما قال‬
‫ما‬ ‫ن ل ََنا َ‬ ‫ك ي ُب َي ّ ْ‬‫لهم موسى ذلك‪ ،‬علموا أن ذلك صدق فقالوا‪ } :‬اد ْعُ ل ََنا َرب ّ َ‬
‫ي{‪.‬‬ ‫هِ َ‬
‫ْ‬
‫ض { أي‪ :‬كبيرة } َول ب ِكٌر {‬ ‫قَرةٌ ل َفارِ ٌ‬ ‫ل إ ِن َّها ب َ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ه يَ ُ‬ ‫ل إ ِن ّ ُ‬‫أي‪ :‬ما سنها؟ } َقا َ‬
‫ن { واتركوا التشديد‬ ‫مُرو َ‬ ‫ما ت ُؤْ َ‬ ‫ُ‬
‫ك َفافْعَلوا َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫ن ب َي ْ َ‬ ‫وا ٌ‬ ‫أي‪ :‬صغيرة } عَ َ‬
‫والتعنت‪.‬‬
‫فَراُء َفاقِ ٌ‬
‫ع‬ ‫ص ْ‬ ‫قَرةٌ َ‬ ‫ل إ ِن َّها ب َ َ‬‫قو ُ‬ ‫ه يَ ُ‬ ‫ل إ ِن ّ ُ‬ ‫ما لوْن َُها َقا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن لَنا َ‬ ‫ك ي ُب َي ّ ْ‬ ‫} َقاُلوا اد ْعُ لَنا َرب ّ َ‬
‫َ‬
‫ن { من حسنها‪.‬‬ ‫ري َ‬‫سّر الّناظ ِ ِ‬ ‫ل َوْن َُها { أي‪ :‬شديد } ت َ ُ‬

‫) ‪(1/54‬‬

‫شاَء الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ن َ‬ ‫ه عَل َي َْنا وَإ ِّنا إ ِ ْ‬ ‫شاب َ َ‬ ‫قَر ت َ َ‬ ‫ن ال ْب َ َ‬ ‫ي إِ ّ‬ ‫ما هِ َ‬ ‫ن ل ََنا َ‬ ‫ك ي ُب َي ّ ْ‬ ‫َقاُلوا اد ْعُ ل ََنا َرب ّ َ‬
‫َ‬
‫قي‬ ‫س ِ‬ ‫ض وََل ت َ ْ‬ ‫ل ت ُِثيُر اْلْر َ‬ ‫قَرةٌ َل ذ َُلو ٌ‬ ‫ل إ ِن َّها ب َ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ه يَ ُ‬ ‫ل إ ِن ّ ُ‬ ‫ن )‪َ (70‬قا َ‬ ‫دو َ‬ ‫مهْت َ ُ‬ ‫لَ ُ‬
‫دوا‬ ‫كا ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ها وَ َ‬ ‫حو َ‬ ‫حقّ فَذ َب َ ُ‬ ‫ت ِبال ْ َ‬ ‫جئ ْ َ‬‫ن ِ‬ ‫َ‬
‫ة ِفيَها َقاُلوا اْل َ‬ ‫شي َ َ‬ ‫ة َل ِ‬ ‫م ٌ‬‫سل ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ث ُ‬ ‫حْر َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ْ‬
‫ن)‬‫مو َ‬ ‫م ت َك ْت ُ ُ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫خرِ ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫م ِفيَها َوالل ّ ُ‬ ‫داَرأت ُ ْ‬ ‫سا َفا ّ‬ ‫ف ً‬ ‫م نَ ْ‬ ‫ن )‪ (71‬وَإ ِذ ْ قَت َل ْت ُ ْ‬ ‫فعَُلو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ضَها كذ َل ِك ي ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م آَيات ِهِ لعَلك ْ‬ ‫ريك ْ‬ ‫موَْتى وَي ُ ِ‬ ‫ه ال َ‬ ‫حِيي الل ُ‬ ‫ضرُِبوهُ ب ِب َعْ ِ‬ ‫قلَنا ا ْ‬ ‫‪ (72‬ف ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫سوَةً‬ ‫َ‬
‫شد ّ ق ْ‬ ‫جاَرةِ أوْ أ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ي كال ِ‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ب َعْدِ ذ َل ِك فهِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫ت قلوب ُك ْ‬ ‫ُ‬ ‫س ْ‬ ‫مق َ‬ ‫َ‬ ‫ن )‪ (73‬ث ُ ّ‬ ‫قُلو َ‬ ‫ت َعْ ِ‬
‫ه‬ ‫ققُ فَي َ ْ‬ ‫ما ي َ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫من ْ ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫خُر ُ‬ ‫ش ّ‬ ‫من َْها ل َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ه الن َْهاُر وَإ ِ ّ‬ ‫من ْ ُ‬‫جُر ِ‬ ‫ف ّ‬ ‫ما ي َت َ َ‬ ‫جاَرةِ ل َ‬ ‫ح َ‬‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫وَإ ِ ّ‬
‫ن )‪(74‬‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ل عَ ّ‬ ‫ه ب َِغافِ ٍ‬ ‫ّ‬
‫ما الل ُ‬ ‫ّ‬
‫شي َةِ اللهِ وَ َ‬ ‫خ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫ما ي َهْب ِط ِ‬ ‫َ‬
‫من َْها ل َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ماُء وَإ ِ ّ‬ ‫ال ْ َ‬

‫شاَء الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ن َ‬ ‫ه عَل َي َْنا وَإ ِّنا إ ِ ْ‬ ‫شاب َ َ‬ ‫قَر ت َ َ‬ ‫ن ال ْب َ َ‬ ‫ي إِ ّ‬ ‫ما هِ َ‬ ‫ن ل ََنا َ‬ ‫ك ي ُب َي ّ ْ‬ ‫} َقاُلوا اد ْعُ ل ََنا َرب ّ َ‬
‫ث‬‫حْر َ‬ ‫قي ال ْ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ض َول ت َ ْ‬ ‫ل ت ُِثيُر الْر َ‬ ‫قَرةٌ ل ذ َُلو ٌ‬ ‫ل إ ِن َّها ب َ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ه يَ ُ‬ ‫ل إ ِن ّ ُ‬‫ن * َقا َ‬ ‫دو َ‬ ‫مهْت َ ُ‬ ‫لَ ُ‬
‫ن*‬ ‫فعَُلو َ‬ ‫دوا ي َ ْ‬ ‫كا ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ها وَ َ‬ ‫حو َ‬ ‫حقّ فَذ َب َ ُ‬ ‫ت ِبال ْ َ‬ ‫جئ ْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ة ِفيَها َقاُلوا ال َ‬ ‫شي َ َ‬ ‫ةل ِ‬ ‫م ٌ‬ ‫سل ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ضرُِبوهُ‬ ‫قلَنا ا ْ‬ ‫ن*ف ُ‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َكت ُ ُ‬ ‫ما كن ْت ُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫خرِ ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫م ِفيَها َوالل ُ‬ ‫داَرأت ُ ْ‬ ‫سا فا ّ‬ ‫ف ً‬ ‫م نَ ْ‬ ‫وَإ ِذ ْ قت َلت ُ ْ‬
‫ت‬ ‫س ْ‬ ‫مق َ‬ ‫َ‬ ‫ن * ثُ ّ‬ ‫قلو َ‬ ‫ُ‬ ‫م ت َعْ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م آَيات ِهِ لعَلك ْ‬ ‫ُ‬
‫ريك ْ‬ ‫موَْتى وَي ُ ِ‬ ‫ْ‬
‫ه ال َ‬ ‫ّ‬
‫حِيي الل ُ‬ ‫َ‬
‫ضَها كذ َل ِك ي ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ب ِب َعْ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ما‬‫جاَرةِ ل َ‬ ‫ح َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫سوَةً وَإ ِ ّ‬ ‫شد ّ قَ ْ‬ ‫جاَرةِ أوْ أ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ي كال ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ب َعْدِ ذ َل ِك فَهِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫قُُلوب ُك ْ‬
‫ُ‬
‫ما ي َهْب ِ ُ‬
‫ط‬ ‫من َْها ل َ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ماُء وَإ ِ ّ‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫خُر ُ‬ ‫ققُ فَي َ ْ‬ ‫ش ّ‬ ‫ما ي َ ّ‬ ‫من َْها ل َ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ه الن َْهاُر وَإ ِ ّ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫جُر ِ‬ ‫ف ّ‬ ‫ي َت َ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ل عَ ّ‬ ‫ه ب َِغافِ ٍ‬ ‫ّ‬
‫ما الل ُ‬ ‫ّ‬
‫شي َةِ اللهِ وَ َ‬ ‫خ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ه عَلي َْنا { فلم نهتد إلى ما‬ ‫َ‬ ‫شاب َ َ‬ ‫قَر ت َ َ‬ ‫ْ‬
‫ن الب َ َ‬ ‫ي إِ ّ‬ ‫ما هِ َ‬ ‫ن لَنا َ‬ ‫َ‬ ‫ك ي ُب َي ّ ْ‬ ‫َ‬
‫} َقالوا اد ْعُ لَنا َرب ّ َ‬ ‫ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دو َ‬ ‫ه لَ ُ‬
‫مهْت َ ُ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫تريد } وَإ ِّنا إ ِ ْ‬
‫ض{‬ ‫ل { أي‪ :‬مذللة بالعمل‪ } ،‬ت ُِثيُر الْر َ‬ ‫ُ‬
‫قَرةٌ ل ذ َلو ٌ‬ ‫ل إ ِن َّها ب َ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ه يَ ُ‬ ‫ل إ ِن ّ ُ‬‫} َقا َ‬
‫ة { من‬ ‫م ٌ‬ ‫ّ‬
‫سل َ‬ ‫م َ‬‫ث { أي‪ :‬ليست بساقية‪ُ } ،‬‬ ‫حْر َ‬ ‫ْ‬
‫قي ال َ‬ ‫س ِ‬ ‫بالحراثة } َول ت َ ْ‬
‫ة ِفيَها { أي‪ :‬ل لون فيها غير لونها الموصوف‬ ‫شي َ َ‬ ‫العيوب أو من العمل } ل ِ‬
‫المتقدم‪.‬‬
‫حقّ { أي‪ :‬بالبيان الواضح‪ ،‬وهذا من جهلهم‪ ،‬وإل فقد‬ ‫ْ‬
‫ت ِبال َ‬ ‫جئ ْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫} َقاُلوا ال َ‬
‫جاءهم بالحق أول مرة‪ ،‬فلو أنهم اعترضوا أي‪ :‬بقرة لحصل المقصود‪،‬‬
‫ولكنهم شددوا بكثرة السئلة فشدد الله عليهم‪ ،‬ولو لم يقولوا "إن شاء‬
‫ها { أي‪ :‬البقرة التي وصفت بتلك‬ ‫حو َ‬ ‫الله "لم يهتدوا أيضا إليها‪ } ،‬فَذ َب َ ُ‬
‫ن { بسبب التعنت الذي جرى منهم‪.‬‬ ‫فعَُلو َ‬ ‫دوا ي َ ْ‬ ‫كا ُ‬ ‫ما َ‬ ‫الصفات‪ } ،‬وَ َ‬
‫فلما ذبحوها‪ ،‬قلنا لهم اضربوا القتيل ببعضها‪ ،‬أي‪ :‬بعضو منها‪ ،‬إما معين‪ ،‬أو‬
‫أي عضو منها‪ ،‬فليس في تعيينه فائدة‪ ،‬فضربوه ببعضها فأحياه الله‪ ،‬وأخرج‬
‫ما كانوا يكتمون‪ ،‬فأخبر بقاتله‪ ،‬وكان في إحيائه وهم يشاهدون ما يدل‬
‫على إحياء الله الموتى‪ } ،‬لعلكم تعقلون { فتنزجرون عن ما يضركم‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬اشتدت وغلظت‪ ،‬فلم تؤثر فيها الموعظة‪،‬‬ ‫ت قُُلوب ُك ُ ْ‬ ‫س ْ‬ ‫م قَ َ‬ ‫} ثُ ّ‬
‫ن ب َعْدِ ذ َل ِك { أي‪ :‬من بعد ما أنعم عليكم بالنعم العظيمة وأراكم‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫} ِ‬
‫اليات‪ ،‬ولم يكن ينبغي أن تقسو قلوبكم‪ ،‬لن ما شاهدتم‪ ،‬مما يوجب رقة‬
‫جاَرةِ { التي هي أشد قسوة‬ ‫ح َ‬‫كال ْ ِ‬
‫القلب وانقياده‪ ،‬ثم وصف قسوتها بأنها } َ‬
‫من الحديد‪ ،‬لن الحديد والرصاص إذا أذيب في النار‪ ،‬ذاب بخلف الحجار‪.‬‬
‫سوَةً { أي‪ :‬إنها ل تقصر عن قساوة الحجار‪ ،‬وليست‬ ‫شد ّ قَ ْ‬ ‫وقوله‪ } :‬أ َوْ أ َ َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ن ِ‬‫"أو "بمعنى "بل "ثم ذكر فضيلة الحجار على قلوبهم‪ ،‬فقال‪ } :‬وَإ ِ ّ‬
‫ن‬
‫ماُء وَإ ِ ّ‬ ‫ه ال ْ َ‬‫من ْ ُ‬‫ج ِ‬ ‫خُر ُ‬ ‫ققُ فَي َ ْ‬ ‫ش ّ‬ ‫من َْها ل َ َ‬
‫ما ي َ ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫ه الن َْهاُر وَإ ِ ّ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫جُر ِ‬ ‫ف ّ‬ ‫ما ي َت َ َ‬ ‫جاَرةِ ل َ َ‬ ‫ح َ‬‫ال ْ ِ‬
‫شي َةِ الل ّهِ { فبهذه المور فضلت قلوبكم‪ .‬ثم توعدهم‬ ‫خ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ط ِ‬ ‫ما ي َهْب ِ ُ‬ ‫من َْها ل َ َ‬ ‫ِ‬
‫ن { بل هو عالم بها‬ ‫َ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫ما‬ ‫ع‬ ‫ل‬
‫ُ َِ ِ ٍ َ ّ َْ َ‬ ‫ف‬ ‫غا‬ ‫ب‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ما‬ ‫َ َ‬ ‫و‬ ‫}‬ ‫فقال‪:‬‬ ‫الوعيد‬ ‫أشد‬ ‫تعالى‬
‫حافظ لصغيرها وكبيرها‪ ،‬وسيجازيكم على ذلك أتم الجزاء وأوفاه‪.‬‬
‫واعلم أن كثيرا من المفسرين رحمهم الله‪ ،‬قد أكثروا في حشو تفاسيرهم‬
‫من قصص بني إسرائيل‪ ،‬ونزلوا عليها اليات القرآنية‪ ،‬وجعلوها تفسيرا‬
‫لكتاب الله‪ ،‬محتجين بقوله صلى الله عليه وسلم‪" :‬حدثوا عن بني إسرائيل‬
‫ول حرج "‬
‫والذي أرى أنه وإن جاز نقل أحاديثهم على وجه تكون مفردة غير مقرونة‪،‬‬
‫ول منزلة على كتاب الله‪ ،‬فإنه ل يجوز جعلها تفسيرا لكتاب الله قطعا إذا‬
‫لم تصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وذلك أن مرتبتها كما قال‬
‫صلى الله عليه وسلم‪" :‬ل تصدقوا أهل الكتاب ] ص ‪ [ 56‬ول تكذبوهم‬
‫"فإذا كانت مرتبتها أن تكون مشكوكا فيها‪ ،‬وكان من المعلوم بالضرورة‬
‫من دين السلم أن القرآن يجب اليمان به والقطع بألفاظه ومعانيه‪ ،‬فل‬
‫يجوز أن تجعل تلك القصص المنقولة بالروايات المجهولة‪ ،‬التي يغلب على‬
‫الظن كذبها أو كذب أكثرها‪ ،‬معاني لكتاب الله‪ ،‬مقطوعا بها ول يستريب‬
‫بهذا أحد‪ ،‬ولكن بسبب الغفلة عن هذا حصل ما حصل‪ ،‬والله الموفق‪.‬‬

‫) ‪(1/55‬‬
‫أ َفَتط ْمعو َ‬
‫م‬ ‫م الل ّهِ ث ُ ّ‬ ‫ن ك ََل َ‬ ‫مُعو َ‬ ‫س َ‬
‫م يَ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ريقٌ ِ‬ ‫ن فَ ِ‬ ‫م وَقَد ْ َ‬
‫كا َ‬ ‫مُنوا ل َك ُ ْ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬
‫نأ ْ‬ ‫َ َ ُ َ‬
‫ُ‬
‫مُنوا َقالوا‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫قوا ال ِ‬ ‫ذا ل ُ‬ ‫ن )‪ (75‬وَإ ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫م ي َعْل ُ‬‫قلوهُ وَهُ ْ‬ ‫ما عَ َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫حّرُفون َ ُ‬ ‫يُ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ه عَلي ْك ْ‬ ‫ح الل ُ‬ ‫ما فَت َ َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫حد ُّثون َهُ ْ‬‫ض َقالوا أت ُ َ‬ ‫م إ ِلى َ ب َعْ ٍ‬ ‫ضه ُ ْ‬‫خل ب َعْ ُ‬ ‫ذا َ‬ ‫مّنا وَإ ِ َ‬‫آ َ‬
‫ن )‪(76‬‬ ‫قُلو َ‬ ‫م أفََل ت َعْ ِ‬ ‫عن ْد َ َرب ّك ُ ْ‬‫م ب ِهِ ِ‬ ‫جوك ُ ْ‬ ‫حا ّ‬
‫ل ِي ُ َ‬
‫} ‪ } { 78 - 75‬أ َفَتط ْمعو َ‬
‫ن‬
‫مُعو َ‬ ‫س َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ريقٌ ِ‬ ‫ن فَ ِ‬ ‫كا َ‬‫م وَقَد ْ َ‬ ‫مُنوا ل َك ُ ْ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫َ َ ُ َ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫قوا ال ِ‬ ‫َ‬
‫ذا ل ُ‬ ‫ن * وَإ ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫م ي َعْل ُ‬ ‫قلوهُ وَهُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ما عَ َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬
‫ه ِ‬ ‫حّرُفون َ ُ‬ ‫م يُ َ‬‫م الل ّهِ ث ُ ّ‬ ‫كل َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ح الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ما فَت َ َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫حد ُّثون َهُ ْ‬‫ض َقاُلوا أت ُ َ‬ ‫م َ إ ِلى ب َعْ ٍ‬
‫ضه ُ ْ َ‬ ‫خل ب َعْ ُ‬ ‫ذا َ‬ ‫مّنا وَإ ِ َ‬ ‫مُنوا َقاُلوا آ َ‬ ‫آ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قلو َ‬ ‫ُ‬ ‫م أَفل ت َعْ ِ‬ ‫ُ‬
‫عن ْد َ َرب ّك ْ‬ ‫م ب ِهِ ِ‬ ‫ُ‬
‫جوك ْ‬ ‫حا ّ‬ ‫م ل ِي ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫عَلي ْك ْ‬
‫هذا قطع لطماع المؤمنين من إيمان أهل الكتاب‪ ،‬أي‪ :‬فل تطمعوا في‬
‫إيمانهم وحالتهم )‪ (1‬ل تقتضي الطمع فيهم‪ ،‬فإنهم كانوا يحرفون كلم الله‬
‫من بعد ما عقلوه وعلموه‪ ،‬فيضعون له معاني ما أرادها الله‪ ،‬ليوهموا‬
‫الناس أنها من عند الله‪ ،‬وما هي من عند الله‪ ،‬فإذا كانت هذه حالهم في‬
‫كتابهم الذي يرونه شرفهم ودينهم يصدون به الناس عن سبيل الله‪ ،‬فكيف‬
‫يرجى منهم إيمان لكم؟! فهذا من أبعد الشياء‪.‬‬
‫مُنوا َقاُلوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫قوا ال ّ ِ‬ ‫ذا ل َ ُ‬ ‫ثم ذكر حال منافقي أهل الكتاب فقال‪ } :‬وَإ ِ َ‬
‫خل‬ ‫مّنا { فأظهروا لهم اليمان قول بألسنتهم‪ ،‬ما ليس في قلوبهم‪ } ،‬وَإ ِ َ‬
‫ذا َ‬ ‫آ َ‬
‫ض { فلم يكن عندهم أحد من غير أهل دينهم‪ ،‬قال بعضهم‬ ‫م إِ َ‬
‫لى ب َعْ ٍ‬ ‫َ‬
‫ضه ُ ْ‬ ‫ب َعْ ُ‬
‫م { أي‪ :‬أتظهرون لهم اليمان‬ ‫ه عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ح الل ّ ُ‬ ‫ما فَت َ َ‬‫م بِ َ‬ ‫حد ُّثون َهُ ْ‬ ‫لبعض‪ } :‬أت ُ َ‬
‫وتخبروهم أنكم مثلهم‪ ،‬فيكون ذلك حجة لهم عليكم؟‬
‫يقولون‪ :‬إنهم قد أقروا بأن ما نحن عليه حق‪ ،‬وما هم عليه باطل‪،‬‬
‫َ‬
‫ن { أي‪ :‬أفل يكون لكم عقل‪،‬‬ ‫قُلو َ‬ ‫فيحتجون عليكم بذلك عند ربكم } أَفل ت َعْ ِ‬
‫فتتركون ما هو حجة عليكم؟ هذا يقوله بعضهم لبعض‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬وأخلقهم‪.‬‬

‫) ‪(1/56‬‬

‫ن َل‬ ‫أ َوَل يعل َمون أ َن الل ّه يعل َم ما يسرون وما يعل ِنون )‪ (77‬ومنه ُ‬
‫مّيو َ‬
‫مأ ّ‬‫َ ِ ُْ ْ‬ ‫َ َْ ُ َ ُ ِ ّ َ َ َ ُْ ُ َ‬ ‫َ َْ ُ َ ّ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن )‪(78‬‬ ‫م إ ِل ي َظّنو َ‬
‫ن هُ ْ‬
‫ي وَإ ِ ْ‬
‫مان ِ ّ‬
‫ب إ ِل أ َ‬‫ن ال ْك َِتا َ‬ ‫ي َعْل َ ُ‬
‫مو َ‬

‫نل‬ ‫} أ َول يعل َمون أ َن الل ّه يعل َم ما يسرون وما يعل ِنون * ومنه ُ‬
‫مّيو َ‬
‫مأ ّ‬‫َ ِ ُْ ْ‬ ‫َ َْ ُ َ ُ ِ ّ َ َ َ ُْ ُ َ‬ ‫َ َْ ُ َ ّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫م ِإل ي َظّنو َ‬ ‫ن هُ ْ‬‫ي وَإ ِ ْ‬ ‫مان ِ ّ‬ ‫ب ِإل أ َ‬ ‫ن ال ْك َِتا َ‬ ‫مو َ‬ ‫ي َعْل َ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن { فهم وإن أسروا ما‬ ‫ما ي ُعْل ُِنو َ‬
‫ن وَ َ‬‫سّرو َ‬ ‫ما ي ُ ِ‬
‫م َ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬
‫ن الل ّ َ‬ ‫نأ ّ‬ ‫مو َ‬‫} أَول ي َعْل َ ُ‬
‫يعتقدونه فيما بينهم‪ ،‬وزعموا أنهم بإسرارهم ل يتطرق عليهم حجة‬
‫للمؤمنين‪ ،‬فإن هذا غلط منهم وجهل كبير‪ ،‬فإن الله يعلم سرهم وعلنهم‪،‬‬
‫فيظهر لعباده ما أنتم عليه‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬عوام‪ ،‬ليسوا من أهل‬ ‫ُ‬
‫مّيو َ‬‫م { أي‪ :‬من أهل الكتاب } أ ّ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫} وَ ِ‬
‫ي { أي‪ :‬ليس لهم حظ من كتاب الله إل‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫مان ِ ّ‬‫ب ِإل أ َ‬ ‫ن الك َِتا َ‬ ‫مو َ‬ ‫العلم‪ } ،‬ل ي َعْل ُ‬
‫التلوة فقط‪ ،‬وليس عندهم خبر بما عند الولين الذين يعلمون حق‬
‫المعرفة حالهم‪ ،‬وهؤلء إنما معهم ظنون وتقاليد لهل العلم منهم‪.‬‬
‫فذكر في هذه اليات علماءهم‪ ،‬وعوامهم‪ ،‬ومنافقيهم‪ ،‬ومن لم ينافق‬
‫منهم‪ ،‬فالعلماء منهم متمسكون بما هم عليه من الضلل‪ ،‬والعوام مقلدون‬
‫لهم‪ ،‬ل بصيرة عندهم فل مطمع لكم في الطائفتين‪.‬‬

‫) ‪(1/56‬‬

‫عن ْدِ الل ّهِ ل ِي َ ْ‬ ‫َ‬


‫شت َُروا ب ِهِ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬
‫ذا ِ‬‫ن هَ َ‬‫قوُلو َ‬ ‫م ثُ ّ‬
‫م يَ ُ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ب ب ِأي ْ ِ‬ ‫ن ال ْك َِتا َ‬‫ن ي َك ْت ُُبو َ‬ ‫ل ل ِل ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫فَوَي ْ ٌ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫م وَوَي ْ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫مًنا قَِليل فَوَي ْ ٌ‬
‫ن )‪(79‬‬ ‫سُبو َ‬ ‫ما ي َك ِ‬‫م ّ‬‫م ِ‬‫ل لهُ ْ‬ ‫ديهِ ْ‬‫ت أي ْ ِ‬ ‫ما كت َب َ ْ‬ ‫م ّ‬‫م ِ‬‫ل لهُ ْ‬ ‫ثَ َ‬
‫َ‬
‫عن ْدِ الل ّهِ‬‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ب ب ِأي ْ ِ‬ ‫ن ال ْك َِتا َ‬‫ن ي َك ْت ُُبو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ل ِل ّ ِ‬
‫} ‪ } { 79‬فَوَي ْ ٌ‬
‫َ‬
‫ن{‬ ‫سُبو َ‬ ‫ما ي َك ْ ِ‬‫م ّ‬ ‫م ِ‬‫ل ل َهُ ْ‬ ‫م وَوَي ْ ٌ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ت أي ْ ِ‬ ‫ما ك َت َب َ ْ‬‫م ّ‬ ‫م ِ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫مًنا قَِليل فَوَي ْ ٌ‬ ‫شت َُروا ب ِهِ ث َ َ‬
‫ل ِي َ ْ‬
‫‪.‬‬
‫توعد تعالى المحرفين للكتاب‪ ،‬الذين يقولون لتحريفهم وما يكتبون‪ } :‬هَ َ‬
‫ذا‬
‫عن ْدِ الل ّهِ { وهذا فيه إظهار الباطل وكتم الحق‪ ،‬وإنما فعلوا ذلك مع‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫ِ‬
‫مًنا قَِليل { والدنيا كلها من أولها إلى آخرها ثمن‬ ‫شت َُروا ب ِهِ ث َ َ‬ ‫علمهم } ل ِي َ ْ‬
‫قليل‪ ،‬فجعلوا باطلهم شركا يصطادون به ما في أيدي الناس‪ ،‬فظلموهم‬
‫من وجهين‪ :‬من جهة تلبيس دينهم عليهم‪ ،‬ومن جهة أخذ أموالهم بغير حق‪،‬‬
‫بل بأبطل الباطل‪ ،‬وذلك أعظم ممن يأخذها غصبا وسرقة ونحوهما‪ ،‬ولهذا‬
‫َ‬
‫م { أي‪ :‬من‬ ‫ديهِ ْ‬‫ت أي ْ ِ‬ ‫ما ك َت َب َ ْ‬ ‫م ّ‬ ‫م ِ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫توعدهم بهذين المرين فقال‪ } :‬فَوَي ْ ٌ‬
‫ن { من الموال‪ ،‬والويل‪ :‬شدة‬ ‫سُبو َ‬ ‫ما ي َك ْ ِ‬ ‫م ّ‬‫م ِ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬‫التحريف والباطل } وَوَي ْ ٌ‬
‫العذاب والحسرة‪ ،‬وفي ضمنها الوعيد الشديد‪.‬‬
‫َ‬
‫ن { إلى‬ ‫مُعو َ‬ ‫قال شيخ السلم لما ذكر هذه اليات من قوله‪ } :‬أفَت َط ْ َ‬
‫ن { فإن الله ذم الذين يحرفون الكلم عن مواضعه‪ ،‬وهو متناول‬ ‫} ي َك ْ ِ‬
‫سُبو َ‬
‫لمن حمل الكتاب والسنة‪ ،‬على ما أصله من البدع الباطلة‪.‬‬
‫وذم الذين ل يعلمون الكتاب إل أماني‪ ،‬وهو متناول لمن ترك تدبر القرآن‬
‫ولم يعلم إل مجرد تلوة حروفه‪ ،‬ومتناول لمن كتب كتابا بيده مخالفا‬
‫لكتاب الله‪ ،‬لينال به دنيا وقال‪ :‬إنه من عند الله‪ ،‬مثل أن يقول‪ :‬هذا هو‬
‫الشرع والدين‪ ،‬وهذا معنى الكتاب والسنة‪ ،‬وهذا معقول السلف والئمة‪،‬‬
‫وهذا هو أصول الدين‪ ،‬الذي يجب اعتقاده على العيان والكفاية‪ ،‬ومتناول‬
‫لمن كتم ما عنده من الكتاب والسنة‪ ،‬لئل يحتج به مخالفه في الحق الذي‬
‫يقوله‪.‬‬
‫] ص ‪[ 57‬‬
‫وهذه المور كثيرة جدا في أهل الهواء جملة‪ ،‬كالرافضة‪ ،‬وتفصيل مثل‬
‫كثير من المنتسبين إلى الفقهاء‪.‬‬

‫) ‪(1/56‬‬

‫ف‬
‫خل ِ َ‬
‫ن يُ ْ‬ ‫دا فَل َ ْ‬
‫عن ْد َ الل ّهِ عَهْ ً‬‫م ِ‬ ‫ل أ َت ّ َ‬
‫خذ ْت ُ ْ‬ ‫دود َةً قُ ْ‬ ‫مع ْ ُ‬ ‫ما َ‬
‫َ‬
‫سَنا الّناُر إ ِّل أّيا ً‬ ‫م ّ‬ ‫ن تَ َ‬‫وََقاُلوا ل َ ْ‬
‫َ‬
‫سي ّئ َ ً‬
‫ة‬ ‫ب َ‬ ‫س َ‬‫ن كَ َ‬‫م ْ‬ ‫ن )‪ (80‬ب ََلى َ‬ ‫مو َ‬ ‫ما َل ت َعْل َ ُ‬ ‫ن عََلى الل ّهِ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م تَ ُ‬‫ه عَهْد َهُ أ ْ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ن )‪َ (81‬وال ّ ِ‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬
‫م ِفيَها َ‬ ‫ب الّنارِ هُ ْ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫كأ ْ‬ ‫ه فَأول َئ ِ َ‬‫طيئ َت ُ ُ‬
‫خ ِ‬ ‫ت ب ِهِ َ‬ ‫حاط َ ْ‬ ‫وَأ َ‬
‫آ َمنوا وعَمُلوا الصال ِحات ُأول َئ ِ َ َ‬
‫ن )‪(82‬‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬
‫م ِفيَها َ‬ ‫جن ّةِ هُ ْ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬‫كأ ْ‬ ‫ّ َ ِ‬ ‫َ ِ‬ ‫َ ُ‬
‫عن ْد َ‬‫م ِ‬ ‫ل أ َت ّ َ‬
‫خذ ْت ُ ْ‬ ‫دود َةً قُ ْ‬ ‫مع ْ ُ‬ ‫ما َ‬
‫َ‬
‫سَنا الّناُر ِإل أّيا ً‬ ‫م ّ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫} ‪ } { 82 - 80‬وََقاُلوا ل َ ْ‬
‫ن * ب ََلى‬ ‫َ‬
‫مو َ‬ ‫ما ل ت َعْل َ ُ‬ ‫ن عََلى الل ّهِ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م تَ ُ‬ ‫ه عَهْد َهُ أ ْ‬ ‫ف الل ّ ُ‬ ‫خل ِ َ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫دا فَل َ ْ‬ ‫الل ّهِ عَهْ ً‬
‫َ‬ ‫ه فَأول َئ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫م ِفيَها َ‬ ‫ب الّنارِ هُ ْ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬‫كأ ْ‬ ‫طيئ َت ُ ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫ت ب ِهِ َ‬ ‫حاط َ ْ‬ ‫ة وَأ َ‬ ‫سي ّئ َ ً‬ ‫ب َ‬ ‫س َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫م ْ‬‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬‫م ِفيَها َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ة‬‫ّ‬ ‫ن‬ ‫ج‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ب‬‫ُ‬ ‫حا‬ ‫َ‬ ‫ص‬ ‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫ل‬ ‫أو‬ ‫ت‬ ‫ِ‬ ‫حا‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫صا‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫لوا‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬ ‫م‬ ‫آ‬
‫َ َ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫وا‬‫* َ‬
‫ذكر أفعالهم القبيحة‪ ،‬ثم ذكر مع هذا أنهم يزكون أنفسهم‪ ،‬ويشهدون لها‬
‫بالنجاة من عذاب الله‪ ،‬والفوز بثوابه‪ ،‬وأنهم لن تمسهم النار إل أياما‬
‫معدودة‪ ،‬أي‪ :‬قليلة تعد بالصابع‪ ،‬فجمعوا بين الساءة والمن‪.‬‬
‫ل { لهم يا أيها‬ ‫ولما كان هذا مجرد دعوى‪ ،‬رد الله تعالى عليهم فقال‪ } :‬قُ ْ‬
‫دا { أي باليمان به وبرسله وبطاعته‪ ،‬فهذا‬ ‫عن ْد َ الل ّهِ عَهْ ً‬ ‫م ِ‬ ‫خذ ْت ُ ْ‬ ‫الرسول } أ َت ّ َ‬
‫ن عََلى‬ ‫َ‬
‫قوُلو َ‬ ‫م تَ ُ‬ ‫الوعد الموجب لنجاة صاحبه الذي ل يتغير ول يتبدل‪ } .‬أ ْ‬
‫ن { ؟ فأخبر تعالى أن صدق دعواهم متوقفة على أحد‬ ‫مو َ‬ ‫ما ل ت َعْل َ ُ‬ ‫الل ّهِ َ‬
‫هذين المرين اللذين ل ثالث لهما‪ :‬إما أن يكونوا قد اتخذوا عند الله عهدا‪،‬‬
‫فتكون دعواهم صحيحة‪.‬‬
‫وإما أن يكونوا متقولين عليه فتكون كاذبة‪ ،‬فيكون أبلغ لخزيهم وعذابهم‪،‬‬
‫وقد علم من حالهم أنهم لم يتخذوا عند الله عهدا‪ ،‬لتكذيبهم كثيرا من‬
‫النبياء‪ ،‬حتى وصلت بهم الحال إلى أن قتلوا طائفة منهم‪ ،‬ولنكولهم عن‬
‫طاعة الله ونقضهم المواثيق‪ ،‬فتعين بذلك أنهم متقولون مختلقون‪ ،‬قائلون‬
‫عليه ما ل يعلمون‪ ،‬والقول عليه بل علم‪ ،‬من أعظم المحرمات‪ ،‬وأشنع‬
‫القبيحات‪.‬‬
‫ثم ذكر تعالى حكما عاما لكل أحد‪ ،‬يدخل به بنو إسرائيل وغيرهم‪ ،‬وهو‬
‫الحكم الذي ل حكم غيره‪ ،‬ل أمانيهم ودعاويهم بصفة الهالكين والناجين‪،‬‬
‫فقال‪ } :‬ب ََلى { أي‪ :‬ليس المر كما ذكرتم‪ ،‬فإنه قول ل حقيقة له‪ ،‬ولكن }‬
‫ة { وهو نكرة في سياق الشرط‪ ،‬فيعم الشرك فما دونه‪،‬‬ ‫سي ّئ َ ً‬ ‫ب َ‬ ‫س َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ه { أي‪ :‬أحاطت‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ئ‬ ‫طي‬ ‫خ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫حا‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫}‬ ‫قوله‪:‬‬ ‫بدليل‬ ‫الشرك‪،‬‬ ‫هنا‬ ‫به‬ ‫والمراد‬
‫ْ ِ ِ َ ِ ُ ُ‬ ‫َ َ‬
‫بعاملها‪ ،‬فلم تدع له منفذا‪ ،‬وهذا ل يكون إل الشرك‪ ،‬فإن من معه اليمان‬
‫ل تحيط به خطيئته‪.‬‬
‫ن { وقد احتج بها الخوارج على كفر‬ ‫} فَُأول َئ ِ َ َ‬
‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫م ِفيَها َ‬ ‫ب الّنارِ هُ ْ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫كأ ْ‬
‫صاحب المعصية‪ ،‬وهي حجة عليهم كما ترى‪ ،‬فإنها ظاهرة في الشرك‪،‬‬
‫وهكذا كل مبطل يحتج بآية‪ ،‬أو حديث صحيح على قوله الباطل فل بد أن‬
‫يكون فيما احتج به حجة عليه‪.‬‬
‫ملوا‬ ‫ُ‬ ‫مُنوا { بالله وملئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪ ،‬واليوم الخر‪ } ،‬وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫ت { ول تكون العمال صالحة إل بشرطين‪ :‬أن تكون خالصة لوجه‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ال ّ‬
‫الله‪ ،‬متبعا بها سنة رسوله‪.‬‬
‫فحاصل هاتين اليتين‪ ،‬أن أهل النجاة والفوز‪ ،‬هم أهل اليمان والعمل‬
‫الصالح‪ ،‬والهالكون أهل النار المشركون بالله‪ ،‬الكافرون به‪.‬‬

‫) ‪(1/57‬‬

‫ساًنا وَِذي‬ ‫ح َ‬‫ن إِ ْ‬ ‫ه وَِبال ْ َ‬


‫وال ِد َي ْ ِ‬ ‫ن إ ِّل الل ّ َ‬ ‫ل َل ت َعْب ُ ُ‬
‫دو َ‬ ‫سَراِئي َ‬‫ميَثاقَ ب َِني إ ِ ْ‬ ‫خذ َْنا ِ‬ ‫وَإ ِذ ْ أ َ َ‬
‫صَلةَ وَآ َُتوا‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫موا ال ّ‬ ‫سًنا وَأِقي ُ‬ ‫ح ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ن وَُقو َلوا ِللّنا ِ‬ ‫كي ِ‬‫سا ِ‬
‫م َ‬ ‫مى َوال ْ َ‬ ‫قْرَبى َوال ْي ََتا َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ن )‪(83‬‬ ‫ضو َ‬ ‫معْرِ ُ‬ ‫م ُ‬‫م وَأن ْت ُ ْ‬ ‫م إ ِّل قَِليًل ِ‬
‫من ْك ُ ْ‬ ‫م ت َوَل ّي ْت ُ ْ‬
‫كاةَ ث ُ ّ‬ ‫الّز َ‬
‫ن‬ ‫وا َل ِد َي ْ ِ‬‫ه وَِبال ْ َ‬‫ن ِإل الل ّ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ل ل ت َعْب ُ ُ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ميَثاقَ ب َِني إ ِ ْ‬ ‫خذ َْنا ِ‬ ‫} ‪ } { 83‬وَإ ِذ ْ أ َ َ‬
‫ُ‬ ‫مى َوال ْ َ‬ ‫قْرَبى َوال ْي ََتا َ‬ ‫ساًنا وَِذي ال ْ ُ‬
‫موا‬ ‫سًنا وَأِقي ُ‬ ‫ح ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ن وَُقو َلوا ِللّنا ِ‬ ‫كي ِ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ح َ‬ ‫إِ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ضو َ‬ ‫معْرِ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫م وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫من ْك ْ‬ ‫م ِإل قَِليل ِ‬ ‫ّ‬
‫م ت َوَلي ْت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫صلةَ َوآُتوا الّزكاةَ ث ُ ّ‬ ‫ال ّ‬
‫وهذه الشرائع من أصول الدين‪ ،‬التي أمر الله بها في كل شريعة‪،‬‬
‫لشتمالها على المصالح العامة‪ ،‬في كل زمان ومكان‪ ،‬فل يدخلها نسخ‪،‬‬
‫ه‬
‫كوا ب ِ ِ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ه َول ت ُ ْ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫كأصل الدين‪ ،‬ولهذا أمرنا بها في قوله‪َ } :‬واعْب ُ ُ‬
‫شي ًْئا { إلى آخر الية‪.‬‬ ‫َ‬
‫سَراِئي َ‬ ‫َ‬
‫ل { هذا من قسوتهم أن كل أمر‬ ‫ميَثاقَ ب َِني إ ِ ْ‬ ‫خذ َْنا ِ‬ ‫فقوله‪ } :‬وَإ ِذ ْ أ َ‬
‫أمروا به‪ ،‬استعصوا؛ فل يقبلونه إل باليمان الغليظة‪ ،‬والعهود الموثقة } ل‬
‫ه { هذا أمر بعبادة الله وحده‪ ،‬ونهى عن الشرك به‪ ،‬وهذا‬ ‫ن ِإل الل ّ َ‬‫دو َ‬‫ت َعْب ُ ُ‬
‫أصل الدين‪ ،‬فل تقبل العمال كلها إن لم يكن هذا أساسها‪ ،‬فهذا حق الله‬
‫ساًنا { أي‪ :‬أحسنوا بالوالدين‬ ‫ح َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫وال ِد َي ْ ِ‬ ‫تعالى على عباده‪ ،‬ثم قال‪ } :‬وَِبال ْ َ‬
‫إحسانا‪ ،‬وهذا يعم كل إحسان قولي وفعلي مما هو إحسان إليهم‪ ،‬وفيه‬
‫النهي عن الساءة إلى الوالدين‪ ،‬أو عدم الحسان والساءة‪ ،‬لن الواجب‬
‫الحسان‪ ،‬والمر بالشيء نهي عن ضده‪.‬‬
‫وللحسان ضدان‪ :‬الساءة‪ ،‬وهي أعظم جرما‪ ،‬وترك الحسان بدون إساءة‪،‬‬
‫وهذا محرم‪ ،‬لكن ل يجب أن يلحق بالول‪ ،‬وكذا يقال في صلة القارب‬
‫واليتامى‪ ،‬والمساكين‪ ،‬وتفاصيل الحسان ل تنحصر بالعد‪ ،‬بل تكون بالحد‪،‬‬
‫كما تقدم‪.‬‬
‫ُ‬
‫سًنا { ومن‬ ‫ح ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ثم أمر بالحسان إلى الناس عموما فقال‪ } :‬وَُقولوا ِللّنا ِ‬
‫القول الحسن أمرهم بالمعروف‪ ،‬ونهيهم عن المنكر‪ ،‬وتعليمهم العلم‪،‬‬
‫وبذل السلم‪ ،‬والبشاشة وغير ذلك من كل كلم طيب‪.‬‬
‫ولما كان النسان ل يسع الناس بماله‪ ،‬أمر بأمر يقدر به على الحسان إلى‬
‫كل مخلوق‪ ،‬وهو الحسان بالقول‪ ،‬فيكون في ضمن ذلك النهي عن الكلم‬
‫ب ِإل‬‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫جادُِلوا أ َهْ َ‬ ‫القبيح للناس حتى للكفار‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪َ } :‬ول ت ُ َ‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫يأ ْ‬ ‫ِبال ِّتي هِ َ‬
‫ومن أدب النسان الذي أدب الله به ] ص ‪ [ 58‬عباده‪ ،‬أن يكون النسان‬
‫نزيها في أقواله وأفعاله‪ ،‬غير فاحش ول بذيء‪ ،‬ول شاتم‪ ،‬ول مخاصم‪ ،‬بل‬
‫يكون حسن الخلق‪ ،‬واسع الحلم‪ ،‬مجامل لكل أحد‪ ،‬صبورا على ما يناله من‬
‫أذى الخلق‪ ،‬امتثال لمر الله‪ ،‬ورجاء لثوابه‪.‬‬
‫ثم أمرهم بإقامة الصلة‪ ،‬وإيتاء الزكاة‪ ،‬لما تقدم أن الصلة متضمنة‬
‫للخلص للمعبود‪ ،‬والزكاة متضمنة للحسان إلى العبيد‪.‬‬
‫م { بعد هذا المر لكم بهذه الوامر الحسنة التي إذا نظر إليها البصير‬ ‫} ثُ ّ‬
‫العاقل‪ ،‬عرف أن من إحسان الله على عباده أن أمرهم بها‪ ،،‬وتفضل بها‬
‫م { على وجه العراض‪ ،‬لن المتولي‬ ‫عليهم وأخذ المواثيق عليكم } ت َوَل ّي ْت ُ ْ‬
‫قد يتولى‪ ،‬وله نية رجوع إلى ما تولى عنه‪ ،‬وهؤلء ليس لهم رغبة ول رجوع‬
‫في هذه الوامر‪ ،‬فنعوذ بالله من الخذلن‪.‬‬
‫م { هذا استثناء‪ ،‬لئل يوهم أنهم تولوا كلهم‪ ،‬فأخبر‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫وقوله‪ِ } :‬إل قَِليل ِ‬
‫أن قليل منهم‪ ،‬عصمهم الله وثبتهم‪.‬‬

‫) ‪(1/57‬‬
‫م ثُ ّ‬
‫م‬ ‫ن دَِيارِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬ ‫جو َ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫م وََل ت ُ ْ‬ ‫ماَءك ُ ْ‬ ‫ن دِ َ‬ ‫كو َ‬ ‫ف ُ‬‫س ِ‬‫م َل ت َ ْ‬ ‫ميَثاقَك ُ ْ‬ ‫خذ َْنا ِ‬ ‫وَإ ِذ ْ أ َ َ‬
‫ن‬
‫جو َ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫م وَت ُ ْ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬ ‫قت ُُلو َ‬ ‫م هَؤَُلِء ت َ ْ‬ ‫شهدون )‪ (84‬ث ُ َ‬
‫م أن ْت ُ ْ‬ ‫ّ‬ ‫م تَ ْ َ ُ َ‬
‫َ‬
‫م وَأن ْت ُ ْ‬ ‫أقَْرْرت ُ ْ‬
‫َ‬
‫ْ‬
‫م‬ ‫ن ي َأُتوك ُ ْ‬ ‫ن وَإ ِ ْ‬ ‫م ِباْل ِث ْم ِ َوال ْعُد َْوا ِ‬ ‫ن عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ظاهَُرو َ‬ ‫م تَ َ‬ ‫ن دَِيارِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫قا ِ‬ ‫ري ً‬ ‫ُفَ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ب‬ ‫ض الك َِتا ِ‬ ‫ن ب ِب َعْ ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫م أفَت ُؤْ ِ‬ ‫جه ُ ْ‬‫خَرا ُ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫م عَلي ْك ْ‬ ‫حّر ٌ‬ ‫م َ‬ ‫م وَهُوَ ُ‬ ‫دوهُ ْ‬ ‫فا ُ‬ ‫ساَرى ت ُ َ‬ ‫أ َ‬
‫حَياةِ الد ّن َْيا‬ ‫ْ‬
‫خْزيٌ ِفي ال َ‬ ‫ّ‬
‫م إ ِل ِ‬ ‫ُ‬
‫من ْك ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬ ‫فعَ ُ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫م ْ‬‫جَزاُء َ‬ ‫ما َ‬ ‫ض فَ َ‬ ‫ْ‬
‫َ‬ ‫ن ب ِب َعْ ٍ‬ ‫فُرو َ‬ ‫وَت َك ُ‬
‫ن )‪(85‬‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ل عَ ّ‬ ‫ه ب َِغافِ ٍ‬ ‫ّ‬
‫ما الل ُ‬ ‫ب وَ َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ْ‬
‫شد ّ العَ َ‬ ‫ن إ ِلى أ َ‬ ‫َ‬ ‫دو َ‬ ‫مةِ ي َُر ّ‬ ‫قَيا َ‬ ‫ْ‬
‫م ال ِ‬ ‫وَي َوْ َ‬
‫م‬
‫ب وَل هُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ذا ُ‬ ‫ْ‬
‫م العَ َ‬ ‫ف عَن ْهُ ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫خ ّ‬ ‫َ‬
‫خَرةِ فَل ي ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫حَياةَ الد ّن َْيا ِبال ِ‬ ‫ْ‬
‫شت ََرُوا ال َ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ك ال ِ‬ ‫ُأول َئ ِ َ‬
‫ن )‪(86‬‬ ‫صُرو َ‬ ‫ي ُن ْ َ‬
‫ن‬
‫جو َ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫م َول ت ُ ْ‬ ‫ماَءك ُ ْ‬ ‫ن دِ َ‬ ‫كو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫س ِ‬
‫م ل تَ ْ‬ ‫ميَثاقَك ُ ْ‬ ‫خذ َْنا ِ‬ ‫} ‪ } { 86 - 84‬وَإ ِذ ْ أ َ َ‬
‫شهدون * ث ُ َ‬ ‫َ‬ ‫فسك ُم من ديارك ُم ث ُ َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫قت ُُلو َ‬ ‫ؤلِء ت َ ْ‬ ‫م هَ ُ‬ ‫م أن ْت ُ ْ‬ ‫ّ‬ ‫م تَ ْ َ ُ َ‬ ‫م وَأن ْت ُ ْ‬ ‫م أقَْرْرت ُ ْ‬ ‫أن ْ ُ َ ْ ِ ْ ِ َ ِ ْ ّ‬
‫م ِبالث ْم ِ‬ ‫ن عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ظاهَُرو َ‬ ‫م تَ َ‬ ‫ن دَِيارِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫قا ِ‬ ‫ري ً‬ ‫ن فَ ُِ‬ ‫جو َ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫م وَت ُ ْ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫ْ‬
‫م‬‫جه ُ ْ‬ ‫خَرا ُ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫م عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫حّر ٌ‬ ‫م َ‬ ‫م وَهُوَ ُ‬ ‫دوهُ ْ‬ ‫فا ُ‬ ‫ساَرى ت ُ َ‬ ‫مأ َ‬ ‫ن ي َأُتوك ُ ْ‬ ‫ن وَإ ِ ْ‬ ‫َوال ْعُد َْوا ِ‬
‫َ‬
‫م ِإل‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬ ‫فع َ ُ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫جَزاُء َ‬ ‫ما َ‬ ‫ض فَ َ‬ ‫ٍ‬ ‫ن ب ِب َعْ‬ ‫فُرو َ‬ ‫ب وَت َك ْ ُ‬ ‫ض ال ْك َِتا ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن ب ِب َعْ‬ ‫مُنو َ‬ ‫أفَت ُؤْ ِ‬
‫ل‬
‫ه ب َِغافِ ٍ‬ ‫ما الل ّ ُ‬ ‫ب وَ َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫شد ّ ال ْعَ َ‬ ‫ن إ َِلى أ َ َ‬ ‫دو َ‬ ‫مةِ ي َُر ّ‬ ‫قَيا َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا وَي َوْ َ‬ ‫خْزيٌ ِفي ال ْ َ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫م‬
‫ف عَن ْهُ ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫خ ّ‬ ‫خَرةِ َفل ي ُ َ‬ ‫حَياةَ الد ّن َْيا ِبال ِ‬ ‫شت ََرُوا ال ْ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫ن * أول َئ ِ َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫عَ ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫صُرو َ‬ ‫م ي ُن ْ َ‬ ‫ب َول هُ ْ‬ ‫ذا ُ‬ ‫ال ْعَ َ‬
‫وهذا الفعل المذكور في هذه الية‪ ،‬فعل للذين كانوا في زمن الوحي‬
‫بالمدينة‪ ،‬وذلك أن الوس والخزرج ‪ -‬وهم النصار ‪ -‬كانوا قبل مبعث النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم مشركين‪ ،‬وكانوا يقتتلون على عادة الجاهلية‪،‬‬
‫فنزلت عليهم الفرق الثلث من فرق اليهود‪ ،‬بنو قريظة‪ ،‬وبنو النضير‪ ،‬وبنو‬
‫قينقاع‪ ،‬فكل فرقة منهم حالفت فرقة من أهل المدينة‪.‬‬
‫فكانوا إذا اقتتلوا أعان اليهودي حليفه على مقاتليه الذين تعينهم )‪(1‬‬
‫الفرقة الخرى من اليهود‪ ،‬فيقتل اليهودي اليهودي‪ ،‬ويخرجه من دياره إذا‬
‫حصل جلء ونهب‪ ،‬ثم إذا وضعت الحرب أوزارها‪ ،‬وكان قد حصل أسارى‬
‫بين الطائفتين فدى بعضهم بعضا‪.‬‬
‫والمور الثلثة كلها قد فرضت عليهم‪ ،‬ففرض عليهم أن ل يسفك بعضهم‬
‫دم بعض‪ ،‬ول يخرج بعضهم بعضا‪ ،‬وإذا وجدوا أسيرا منهم‪ ،‬وجب عليهم‬
‫فداؤه‪ ،‬فعملوا بالخير وتركوا الولين‪ ،‬فأنكر الله عليهم ذلك فقال‪:‬‬
‫َ‬
‫ض { وهو‬ ‫ن ب ِب َعْ ٍ‬ ‫فُرو َ‬ ‫ب { وهو فداء السير } وَت َك ْ ُ‬ ‫ض ال ْك َِتا ِ‬ ‫ن ب ِب َعْ ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫} أفَت ُؤْ ِ‬
‫القتل والخراج‪.‬‬
‫وفيها أكبر دليل على أن اليمان يقتضي فعل الوامر واجتناب النواهي‪،‬‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫من ْك ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬ ‫فعَ ُ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫جَزاُء َ‬ ‫ما َ‬ ‫وأن المأمورات من اليمان‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬فَ َ‬
‫حَياةِ الد ّن َْيا { وقد وقع ذلك فأخزاهم الله‪ ،‬وسلط رسوله‬ ‫خْزيٌ ِفي ال ْ َ‬ ‫ِإل ِ‬
‫عليهم‪ ،‬فقتل من قتل‪ ،‬وسبى من سبى منهم‪ ،‬وأجلى من أجلى‪.‬‬
‫ل‬ ‫ه ب َِغافِ ٍ‬ ‫ما الل ّ ُ‬ ‫ب { أي‪ :‬أعظمه } وَ َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫شد ّ ال ْعَ َ‬ ‫ن إ َِلى أ َ َ‬ ‫دو َ‬ ‫مةِ ي َُر ّ‬ ‫قَيا َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫} وَي َوْ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫عَ ّ‬
‫ثم أخبر تعالى عن السبب الذي أوجب لهم الكفر ببعض الكتاب‪ ،‬واليمان‬
‫خَرةِ { توهموا أنهم إن‬ ‫حَياةَ الد ّن َْيا ِبال ِ‬ ‫شت ََرُوا ال ْ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫ببعضه فقال‪ُ } :‬أول َئ ِ َ‬
‫لم يعينوا حلفاءهم حصل لهم عار‪ ،‬فاختاروا النار على العار‪ ،‬فلهذا قال‪:‬‬
‫ب { بل هو باق على شدته‪ ،‬ول يحصل لهم راحة‬ ‫ذا ُ‬ ‫م ال ْعَ َ‬ ‫ف عَن ْهُ ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫خ ّ‬ ‫} َفل ي ُ َ‬
‫ن { أي‪ :‬يدفع عنهم مكروه‪.‬‬ ‫صُرو َ‬ ‫م ي ُن ْ َ‬ ‫بوقت من الوقات‪َ } ،‬ول هُ ْ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬يعينونهم‪.‬‬

‫) ‪(1/58‬‬

‫م‬
‫مْري َ َ‬
‫ن َ‬ ‫سى اب ْ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ل وَآ َت َي َْنا ِ‬‫س ِ‬‫ن ب َعْدِهِ ِبالّر ُ‬ ‫م ْ‬ ‫في َْنا ِ‬ ‫ب وَقَ ّ‬ ‫سى ال ْك َِتا َ‬ ‫مو َ‬
‫ول َ َ َ‬
‫قد ْ آت َي َْنا ُ‬ ‫َ‬
‫سك ُُ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ف ُ‬ ‫وى أن ْ ُ‬‫ْ َ‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ما‬ ‫ِ َ‬ ‫ب‬ ‫ل‬ ‫سو‬‫ُ‬ ‫ر‬
‫ْ َ‬‫م‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ء‬ ‫جا‬
‫َ‬ ‫ما‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫ف‬ ‫أ‬ ‫س‬‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫د‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ح‬ ‫رو‬
‫ُ ُِ ِ‬‫ب‬ ‫ه‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫د‬‫ّ‬ ‫ي‬ ‫أ‬‫َ‬ ‫و‬ ‫ت‬‫ِ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ب‬ ‫ل‬ ‫ا‬
‫ن )‪(87‬‬ ‫ُ‬
‫قت ُلو َ‬‫قا ت َ ْ‬ ‫ري ً‬ ‫م وَفَ ِ‬ ‫َ‬
‫قا كذ ّب ْت ُ ْ‬‫ري ً‬ ‫م فَ َ‬
‫ف ِ‬ ‫ْ‬
‫ست َكب َْرت ُ ْ‬ ‫ا ْ‬

‫سى‬‫عي َ‬ ‫ل َوآت َي َْنا ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ن ب َعْدِهِ ِبالّر ُ‬ ‫م ْ‬‫في َْنا ِ‬ ‫ب وَقَ ّ‬ ‫سى ال ْك َِتا َ‬ ‫مو َ‬ ‫قد ْ آت َي َْنا ُ‬ ‫} ‪ } { 87‬وَل َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وى‬ ‫ما ل ت َهْ َ‬ ‫ل بِ َ‬‫سو ٌ‬ ‫م َر ُ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬
‫ما َ‬‫س أفَك ُل ّ َ‬ ‫قد ُ ِ‬ ‫ت وَأي ّد َْناهُ ب ُِروِح ال ْ ُ‬ ‫م ال ْب َي َّنا ِ‬‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫اب ْ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ُ‬
‫قت ُلو َ‬ ‫قا ت َ ْ‬‫ري ً‬‫م وَفَ ِ‬ ‫َ‬
‫قا كذ ّب ْت ُ ْ‬‫ري ً‬ ‫م فَ َ‬
‫ف ِ‬ ‫ْ‬
‫ست َكب َْرت ُ ْ‬ ‫ما ْ‬ ‫ُ‬
‫سك ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫يمتن تعالى على بني إسرائيل أن أرسل لهم كليمه موسى‪ ،‬وآتاه التوراة‪،‬‬
‫ثم تابع من بعده بالرسل الذين يحكمون بالتوراة‪ ،‬إلى أن ختم أنبياءهم‬
‫بعيسى ابن مريم عليه السلم‪ ،‬وآتاه من اليات البينات ما يؤمن على مثله‬
‫س { أي‪ :‬قواه الله بروح القدس‪.‬‬ ‫قد ُ ِ‬ ‫البشر‪ } ،‬وَأ َي ّد َْناهُ ب ُِروِح ال ْ ُ‬
‫قال أكثر المفسرين‪ :‬إنه جبريل عليه السلم‪ ،‬وقيل‪ :‬إنه اليمان الذي يؤيد‬
‫الله به عباده‪.‬‬
‫َ‬
‫سك ُ ُ‬
‫م‬ ‫ف ُ‬ ‫وى أن ْ ُ‬ ‫ما ل ت َهْ َ‬ ‫ثم مع هذه النعم التي ل يقدر قدرها‪ ،‬لما أتوكم } ب ِ َ‬
‫ن{‬ ‫قت ُُلو َ‬ ‫قا ت َ ْ‬ ‫م وَفَ ِ‬
‫ري ً‬ ‫قا { منهم } ك َذ ّب ْت ُ ْ‬ ‫ري ً‬‫ف ِ‬‫م { عن اليمان بهم‪ } ،‬فَ َ‬ ‫ست َك ْب َْرت ُ ْ‬ ‫ا ْ‬
‫فقدمتم الهوى على الهدى‪ ،‬وآثرتم الدنيا على الخرة‪ ،‬وفيها من التوبيخ‬
‫والتشديد ما ل يخفى‪.‬‬

‫) ‪(1/58‬‬

‫ن )‪(88‬‬ ‫قِليًل َ‬
‫ما ي ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫م فَ َ‬
‫فرِهِ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ه ب ِك ُ ْ‬ ‫ل ل َعَن َهُ ُ‬ ‫وََقاُلوا قُُلوب َُنا غُل ْ ٌ‬
‫ف بَ ْ‬

‫ن{‪.‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫ما ي ُؤْ ِ‬ ‫م فَ َ‬


‫قِليل َ‬ ‫فرِهِ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ه ب ِك ُ ْ‬ ‫ل ل َعَن َهُ ُ‬ ‫} ‪ } { 88‬وََقاُلوا قُُلوب َُنا غُل ْ ٌ‬
‫ف بَ ْ‬
‫أي‪ :‬اعتذروا عن اليمان لما دعوتهم إليه‪ ،‬يا أيها الرسول‪ ،‬بأن قلوبهم‬
‫غلف‪ ،‬أي‪ :‬عليها غلف وأغطية‪ ،‬فل تفقه ما تقول‪ ،‬يعني فيكون لهم ‪-‬‬
‫ل ل َعَن َهُ ُ‬
‫م‬ ‫بزعمهم ‪ -‬عذر لعدم العلم‪ ،‬وهذا كذب منهم‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪ } :‬ب َ ْ‬
‫م { أي‪ :‬أنهم مطرودون ملعونون‪ ،‬بسبب كفرهم‪ ،‬فقليل‬ ‫فرِهِ ْ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ه ب ِك ُ ْ‬
‫المؤمن منهم‪ ،‬أو قليل إيمانهم‪ ،‬وكفرهم هو الكثير‪.‬‬

‫) ‪(1/58‬‬

‫ن‬
‫حو َ‬ ‫فت ِ ُ‬‫ست َ ْ‬
‫ل يَ ْ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫كاُنوا ِ‬ ‫م وَ َ‬ ‫معَهُ ْ‬‫ما َ‬ ‫صد ّقٌ ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫عن ْدِ الل ّهِ ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫م ك َِتا ٌ‬‫جاَءهُ ْ‬ ‫ما َ‬‫وَل َ ّ‬
‫ن‬
‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ة الل ّهِ عََلى ال ْ َ‬ ‫فُروا ب ِهِ فَل َعْن َ ُ‬ ‫ما عََرُفوا ك َ َ‬ ‫م َ‬ ‫جاَءهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫فُروا فَل َ ّ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬‫عََلى ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ن ي ُن َّز َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬
‫ه ب َغًْيا أ ْ‬ ‫ما أن َْز َ‬‫فُروا ب ِ َ‬ ‫ن ي َك ْ ُ‬‫مأ ْ‬ ‫سه ُ ْ‬‫ف َ‬‫شت ََرْوا ب ِهِ أن ْ ُ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫س َ‬‫)‪ (89‬ب ِئ ْ َ‬
‫ن‬
‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ب وَل ِل ْ َ‬ ‫ض ٍ‬‫ب عََلى غَ َ‬ ‫ض ٍ‬ ‫عَبادِهِ فََباُءوا ب ِغَ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫شاُء ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬‫ضل ِهِ عََلى َ‬ ‫ن فَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ن )‪(90‬‬ ‫مِهي ٌ‬ ‫ب ُ‬ ‫ذا ٌ‬‫عَ َ‬
‫كاُنوا‬ ‫م وَ َ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫صد ّقٌ ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫عن ْدِ الل ّهِ ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫ب ِ‬ ‫م ك َِتا ٌ‬ ‫جاَءهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫} ‪ } { 90 - 89‬وَل َ ّ‬
‫ه‬
‫فُروا ب ِ ِ‬ ‫ما عََرُفوا ك َ َ‬ ‫م َ‬ ‫جاَءهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫فُروا فَل َ ّ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن عََلى ال ّ ِ‬ ‫حو َ‬ ‫فت ِ ُ‬
‫ست َ ْ‬‫ل يَ ْ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ما أن َْز َ‬
‫ل‬ ‫فُروا ب ِ َ‬ ‫ن ي َك ُ‬ ‫مأ ْ‬ ‫سهُ ْ‬‫ف َ‬ ‫شت ََرْوا ب ِهِ أن ْ ُ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ن * ب ِئ ْ َ‬
‫س َ‬ ‫ري َ‬ ‫ة الل َهِ عَلى الكافِ ِ‬ ‫فَلعْن َ ُ‬
‫عَبادِهِ فََباُءوا ] ص‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫شاُء ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ضل ِهِ عَلى َ‬ ‫ن فَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ّ‬
‫ل الل ُ‬ ‫ن ي ُن َّز َ‬ ‫ه ب َغًْيا أ ْ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِهي ٌ‬ ‫ب ُ‬‫ذا ٌ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬‫ب وَل ِل ْ َ‬ ‫ض ٍ‬ ‫ب عََلى غَ َ‬ ‫ض ٍ‬ ‫‪ [ 59‬ب ِغَ َ‬
‫أي‪ :‬ولما جاءهم كتاب من عند الله على يد أفضل الخلق وخاتم النبياء‪،‬‬
‫المشتمل على تصديق ما معهم من التوراة‪ ،‬وقد علموا به‪ ،‬وتيقنوه حتى‬
‫إنهم كانوا إذا وقع )‪ (1‬بينهم وبين المشركين في الجاهلية حروب‪،‬‬
‫استنصروا بهذا النبي‪ ،‬وتوعدوهم بخروجه‪ ،‬وأنهم يقاتلون المشركين معه‪،‬‬
‫فلما جاءهم هذا الكتاب والنبي الذي عرفوا‪ ،‬كفروا به‪ ،‬بغيا وحسدا‪ ،‬أن‬
‫ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده‪ ،‬فلعنهم الله‪ ،‬وغضب عليهم‬
‫غضبا بعد غضب‪ ،‬لكثرة كفرهم وتوالى شكهم وشركهم‪.‬‬
‫} وللكافرين عذاب مهين { أي‪ :‬مؤلم موجع‪ ،‬وهو صلي الجحيم‪ ،‬وفوت‬
‫النعيم المقيم‪ ،‬فبئس الحال حالهم‪ ،‬وبئس ما استعاضوا واستبدلوا من‬
‫اليمان بالله وكتبه ورسله‪ ،‬الكفر به‪ ،‬وبكتبه‪ ،‬وبرسله‪ ،‬مع علمهم وتيقنهم‪،‬‬
‫فيكون أعظم لعذابهم‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬على أنهم إذا كان وقع‪.‬‬

‫) ‪(1/58‬‬

‫ما‬
‫ن بِ َ‬ ‫فُرو َ‬ ‫ل عَل َي َْنا وَي َك ْ ُ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫م ُ‬ ‫ه َقاُلوا ن ُؤْ ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬ ‫مُنوا ب ِ َ‬ ‫م آَ ِ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫ذا ِقي َ‬ ‫وَإ ِ َ‬
‫ن قَب ْ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ن‬
‫ل إِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن أن ْب َِياَء اللهِ ِ‬ ‫قت ُلو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ل فَل ِ َ‬ ‫م قُ ْ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬‫حق ّ ُ‬ ‫وََراَءهُ وَهُوَ ال َ‬
‫ه‬
‫ن ب َعْدِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ج َ‬ ‫ْ‬
‫م العِ ْ‬ ‫خذ ْت ُ ُ‬‫م ات ّ َ‬ ‫ت ثُ ّ‬ ‫ْ‬
‫سى ِبالب َي َّنا ِ‬ ‫مو َ‬ ‫م ُ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪ (91‬وَل َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م ال ّ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫ذوا َ‬ ‫خ ُ‬ ‫طوَر ُ‬ ‫م وََرفَعَْنا فَوْقَك ُ ُ‬ ‫ميَثاقَك ُ ْ‬ ‫خذ َْنا ِ‬ ‫ن )‪ (92‬وَإ ِذ ْ أ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫وَأن ْت ُ ْ‬
‫ج َ‬
‫ل‬ ‫م ال ْعِ ْ‬ ‫شرُِبوا ِفي قُُلوب ِهِ ُ‬ ‫صي َْنا وَأ ُ ْ‬ ‫معَْنا وَعَ َ‬ ‫س ِ‬ ‫مُعوا َقاُلوا َ‬ ‫س َ‬‫قوّةٍ َوا ْ‬ ‫م بِ ُ‬ ‫آت َي َْناك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ْ‬
‫ن )‪(93‬‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫مان ُك ُ ْ‬‫م ب ِهِ ِإي َ‬ ‫مُرك ُ ْ‬ ‫ما ي َأ ُ‬ ‫س َ‬‫ل ب ِئ ْ َ‬ ‫م قُ ْ‬ ‫فرِهِ ْ‬ ‫ب ِك ُ ْ‬

‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل‬ ‫ن بِ َ‬ ‫م ُ‬ ‫ه َقاُلوا ن ُؤْ ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬ ‫مُنوا ب ِ َ‬ ‫مآ ِ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫ذا ِقي َ‬ ‫} ‪ } { 93 - 91‬وَإ ِ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫عَل َي َْنا وَي َك ْ ُ‬
‫ن أن ْب َِياَء‬ ‫قت ُلو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ل فَل ِ َ‬ ‫م قُ ْ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫حق ّ ُ‬ ‫ما وََراَءهُ وَهُوَ ال َ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫فُرو َ‬
‫خذ ْت ُ ُ‬
‫م‬ ‫م ات ّ َ‬ ‫ت ثُ ّ‬ ‫سى ِبال ْب َي َّنا ِ‬ ‫مو َ‬ ‫م ُ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ن * وَل َ َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ل إِ ْ‬‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫الل ّهِ ِ‬
‫طوَر‬ ‫م ال ّ‬ ‫م وََرفَعَْنا فَوْقَك ُ ُ‬ ‫ميَثاقَك ُ ْ‬ ‫خذ َْنا ِ‬ ‫ن * وَإ ِذ ْ أ َ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫ن ب َعْدِهِ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ج َ‬ ‫ال ْعِ ْ‬
‫ُ‬
‫م‬‫شرُِبوا ِفي قُُلوب ِهِ ُ‬ ‫صي َْنا وَأ ْ‬ ‫معَْنا وَعَ َ‬ ‫س ِ‬ ‫مُعوا َقاُلوا َ‬ ‫س َ‬ ‫قوّةٍ َوا ْ‬ ‫م بِ ُ‬‫ما آت َي َْناك ُ ْ‬ ‫ذوا َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ُ‬
‫ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫مان ُك ُ ْ‬‫م ب ِهِ ِإي َ‬ ‫مُرك ُ ْ‬ ‫ما ي َأ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ل ب ِئ ْ َ‬ ‫م قُ ْ‬ ‫فرِهِ ْ‬ ‫ل ب ِك ُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫ال ْعِ ْ‬
‫أي‪ :‬وإذا أمر اليهود باليمان بما أنزل الله على رسوله‪ ،‬وهو القرآن‬
‫ما وََراَءهُ { أي‪:‬‬ ‫ن بِ َ‬ ‫فُرو َ‬ ‫ل عَل َي َْنا وَي َك ْ ُ‬ ‫ما ُأنز َ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫م ُ‬ ‫استكبروا وعتوا‪ ،‬و } َقاُلوا ن ُؤْ ِ‬
‫بما سواه من الكتب‪ ،‬مع أن الواجب أن يؤمن بما أنزل الله مطلقا‪ ،‬سواء‬
‫أنزل عليهم‪ ،‬أو على غيرهم‪ ،‬وهذا هو اليمان النافع‪ ،‬اليمان بما أنزل الله‬
‫على جميع رسل الله‪.‬‬
‫وأما التفريق بين الرسل والكتب‪ ،‬وزعم اليمان ببعضها دون بعض‪ ،‬فهذا‬
‫ن‬‫فُرو َ‬ ‫ن ي َك ْ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫ليس بإيمان‪ ،‬بل هو الكفر بعينه‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫بالل ّه ورسل ِه ويريدو َ‬
‫ض‬
‫ن ب ِب َعْ ٍ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ن ُؤْ ِ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫سل ِهِ وَي َ ُ‬ ‫ن الل ّهِ وَُر ُ‬ ‫فّرُقوا ب َي ْ َ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ِ ِ َُ ُ ِ َُ ِ ُ َ‬
‫قا {‬
‫ح ّ‬‫ن َ‬ ‫كافُِرو َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫سِبيل ُأول َئ ِ َ‬ ‫ك َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫ذوا ب َي ْ َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬‫نأ ْ‬
‫فر ببعض ويريدو َ‬
‫وَن َك ْ ُ ُ ِ َ ْ ٍ َ ُ ِ ُ َ‬
‫‪.‬‬
‫ولهذا رد عليهم تبارك وتعالى هنا ردا شافيا‪ ،‬وألزمهم إلزاما ل محيد لهم‬
‫حقّ { فإذا كان‬ ‫عنه‪ ،‬فرد عليهم بكفرهم بالقرآن بأمرين فقال‪ } :‬وَهُوَ ال ْ َ‬
‫هو الحق في جميع ما اشتمل عليه من الخبارات‪ ،‬والوامر والنواهي‪ ،‬وهو‬
‫من عند ربهم‪ ،‬فالكفر به بعد ذلك كفر بالله‪ ،‬وكفر بالحق الذي أنزله‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬موافقا له في كل ما دل عليه من‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ثم قال‪ُ } :‬‬
‫الحق ومهيمنا عليه‪.‬‬
‫فلم تؤمنون بما أنزل عليكم‪ ،‬وتكفرون بنظيره؟ هل هذا إل تعصب واتباع‬
‫للهوى ل للهدى؟‬
‫وأيضا‪ ،‬فإن كون القرآن مصدقا لما معهم‪ ،‬يقتضي أنه حجة لهم على صدق‬
‫ما في أيديهم من الكتب‪ ،‬قل سبيل لهم إلى إثباتها إل به‪ ،‬فإذا كفروا به‬
‫وجحدوه‪ ،‬صاروا بمنزلة من ادعى دعوى بحجة وبينة ليس له غيرها‪ ،‬ول‬
‫تتم دعواه إل بسلمة بينته‪ ،‬ثم يأتي هو لبينته وحجته‪ ،‬فيقدح فيها ويكذب‬
‫بها; أليس هذا من الحماقة والجنون؟ فكان كفرهم بالقرآن‪ ،‬كفرا بما في‬
‫أيديهم ونقضا له‪.‬‬
‫ل { لهم‪:‬‬ ‫ثم نقض عليهم تعالى دعواهم اليمان بما أنزل إليهم بقوله‪ } :‬قُ ْ‬
‫ن وَل َ َ‬ ‫قتُلو َ‬
‫سى‬ ‫مو َ‬ ‫م ُ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ل إِ ْ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن أن ْب َِياَء الل ّهِ ِ‬ ‫م تَ ْ ُ َ‬ ‫} فَل ِ َ‬
‫ت{‬ ‫ِبال ْب َي َّنا ِ‬
‫ن ب َعْدِهِ { أي‪:‬‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫ج َ‬‫م ال ْعِ ْ‬ ‫خذ ْت ُ ُ‬ ‫م ات ّ َ‬‫أي‪ :‬بالدلة الواضحات المبينة للحق‪ } ،‬ث ُ ّ‬
‫ن { في ذلك ليس لكم عذر‪.‬‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫بعد مجيئه } وَأن ْت ُ ْ‬
‫ة‬
‫قوّ ٍ‬ ‫م بِ ُ‬‫ما آت َي َْناك ُ ْ‬‫ذوا َ‬ ‫خ ُ‬ ‫طوَر ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫م وََرفَعَْنا فَوْقَك ُ ُ‬ ‫ميَثاقَك ُ ْ‬ ‫خذ َْنا ِ‬‫} وَإ ِذ ْ أ َ َ‬
‫صي َْنا {‬ ‫معَْنا وَعَ َ‬ ‫س ِ‬ ‫مُعوا { أي‪ :‬سماع قبول وطاعة واستجابة‪َ } ،‬قاُلوا َ‬ ‫س َ‬ ‫َوا ْ‬
‫ُ‬
‫ل { )‪ (1‬بسبب‬ ‫ج َ‬ ‫م ال ْعِ ْ‬ ‫شرُِبوا ِفي قُُلوب ِهِ ُ‬ ‫أي‪ :‬صارت هذه حالتهم } وَأ ْ‬
‫كفرهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫} قُ ْ‬
‫ن { أي‪ :‬أنتم تدعون اليمان‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫م ُ‬ ‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫م إِ ْ‬‫مان ُك ْ‬ ‫م ب ِهِ ِإي َ‬ ‫مُرك ْ‬ ‫ما ي َأ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ل ب ِئ َ‬
‫وتتمدحون بالدين الحق‪ ،‬وأنتم قتلتم أنبياء الله‪ ،‬واتخذتم العجل إلها من‬
‫دون الله‪ ،‬لما غاب عنكم موسى‪ ،‬نبي الله‪ ،‬ولم تقبلوا أوامره ونواهيه إل‬
‫بعد التهديد ورفع الطور فوقكم‪ ،‬فالتزمتم بالقول‪ ،‬ونقضتم بالفعل‪ ،‬فما‬
‫هذا اليمان الذي ادعيتم‪ ،‬وما هذا الدين؟‪.‬‬
‫فإن كان هذا إيمانا على زعمكم‪ ،‬فبئس اليمان الداعي صاحبه إلى‬
‫الطغيان‪ ،‬والكفر برسل الله‪ ،‬وكثرة العصيان‪ ،‬وقد عهد أن اليمان‬
‫الصحيح‪ ،‬يأمر صاحبه بكل خير‪ ،‬وينهاه عن كل شر‪ ،‬فوضح بهذا كذبهم‪،‬‬
‫وتبين تناقضهم‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬وشربها‪.‬‬

‫) ‪(1/59‬‬

‫وا‬ ‫س فَت َ َ‬
‫من ّ ُ‬ ‫ن ال ّ َنا ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ص ً‬ ‫خال ِ َ‬‫عن ْد َ الل ّهِ َ‬ ‫خَرةُ ِ‬ ‫داُر اْل َ ِ‬ ‫ت ل َك ُ ُ‬
‫م ال ّ‬ ‫ن َ‬
‫كان َ ْ‬ ‫قُ ْ‬
‫ل إِ ْ‬
‫َ‬
‫م َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ديهِ ْ‬‫ت أي ْ ِ‬‫م ْ‬‫ما قَد ّ َ‬‫دا ب ِ َ‬‫من ّوْهُ أب َ ً‬
‫ن ي َت َ َ‬‫ن )‪ (94‬وَل َ ْ‬ ‫صادِِقي َ‬
‫م َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ت إِ ْ‬‫موْ َ‬‫ال ْ َ‬
‫َ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫م َ‬ ‫حَياةٍ وَ ِ‬‫س عََلى َ‬ ‫ص الّنا ِ‬ ‫حَر َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫جد َن ّهُ ْ‬‫ن )‪ (95‬وَل َت َ ِ‬ ‫مي َ‬ ‫م ِبال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫عَِلي ٌ‬
‫َ‬ ‫ن ال ْعَ َ‬ ‫مُر أ َل ْ َ‬ ‫َ‬ ‫أَ ْ‬
‫ن‬
‫بأ ْ‬‫ذا ِ‬ ‫م َ‬
‫حه ِ ِ‬
‫حزِ ِ‬
‫مَز ْ‬
‫ما هُوَ ب ِ ُ‬
‫سن َةٍ وَ َ‬
‫ف َ‬ ‫م ل َوْ ي ُعَ ّ‬‫حد ُهُ ْ‬
‫كوا ي َوَد ّ أ َ‬ ‫شَر ُ‬
‫ن )‪(96‬‬ ‫مُلو َ‬‫ما ي َعْ َ‬‫صيٌر ب ِ َ‬‫ه بَ ِ‬‫مَر َوالل ّ ُ‬ ‫ي ُعَ ّ‬
‫ن‬
‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ص ً‬
‫خال ِ َ‬ ‫عن ْد َ الل ّهِ َ‬ ‫خَرةُ ِ‬ ‫داُر ال ِ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ت ل َك ُ ُ‬ ‫كان َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ل إِ ْ‬ ‫} ‪ } { 96 - 94‬قُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ديهِ ْ‬‫ت أي ْ ِ‬ ‫م ْ‬‫ما قَد ّ َ‬ ‫دا ب ِ َ‬ ‫من ّوْهُ أب َ ً‬ ‫ن ي َت َ َ‬ ‫ن * وَل َ ْ‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ت إِ ْ‬ ‫موْ َ‬ ‫وا ال ْ َ‬ ‫من ّ ُ‬ ‫س فَت َ َ‬ ‫الّنا ِ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫حَياةٍ وَ ِ‬ ‫س عََلى َ‬ ‫ص الّنا ِ‬ ‫حَر َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫جد َن ّهُ ْ‬ ‫ن * وَل َت َ ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬‫م ِبال ّ‬ ‫ه عَِلي ٌ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫َ‬ ‫ن ال ْعَ َ‬ ‫َ‬
‫مُر أل ْ َ‬ ‫َ‬ ‫أَ ْ‬
‫ن‬
‫بأ ْ‬ ‫ذا ِ‬ ‫م َ‬ ‫حه ِ ِ‬ ‫حزِ ِ‬ ‫مَز ْ‬ ‫ما هُوَ ب ِ ُ‬ ‫سن َةٍ وَ َ‬ ‫ف َ‬ ‫م ل َوْ ي ُعَ ّ‬ ‫حد ُهُ ْ‬ ‫كوا ي َوَد ّ أ َ‬ ‫شَر ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ي َعْ َ‬ ‫صيٌر ب ِ َ‬ ‫ه بَ ِ‬ ‫مَر َوالل ّ ُ‬ ‫ي ُعَ ّ‬
‫داُر‬
‫م ال ّ‬ ‫ُ‬
‫ت لك ُ‬ ‫َ‬ ‫ن كان َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ل { لهم على وجه تصحيح دعواهم‪ } :‬إ ِ ْ‬ ‫أي‪ } :‬قُ ْ‬
‫س { كما زعمتم‪ ،‬أنه لن يدخل‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ص ً‬ ‫خال ِ َ‬ ‫خَرةُ { يعني الجنة } َ‬ ‫ال ِ‬
‫الجنة إل من كان هودا أو نصارى‪ ،‬وأن النار لن تمسهم إل أياما معدودة‪،‬‬
‫ت { وهذا نوع مباهلة بينهم‬ ‫موْ َ‬ ‫وا ال ْ َ‬ ‫من ّ ُ‬‫فإن كنتم صادقين بهذه الدعوى } فَت َ َ‬
‫وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫وليس بعد هذا اللجاء والمضايقة لهم بعد العناد منهم‪ ،‬إل أحد أمرين‪ :‬إما‬
‫أن يؤمنوا بالله ورسوله‪ ،‬وإما أن يباهلوا على ما هم عليه بأمر يسير ] ص‬
‫‪ [ 60‬عليهم‪ ،‬وهو تمني الموت الذي يوصلهم إلى الدار التي هي خالصة‬
‫لهم‪ ،‬فامتنعوا من ذلك‪.‬‬
‫فعلم كل أحد أنهم في غاية المعاندة والمحادة لله ولرسوله‪ ،‬مع علمهم‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م { من الكفر‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ت أي ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما قَد ّ َ‬ ‫دا ب ِ َ‬ ‫من ّوْهُ أب َ ً‬ ‫ن ي َت َ َ‬‫بذلك‪ ،‬ولهذا قال تعالى } وَل َ ْ‬
‫والمعاصي‪ ،‬لنهم يعلمون أنه طريق لهم إلى المجازاة بأعمالهم الخبيثة‪،‬‬
‫فالموت أكره شيء إليهم‪ ،‬وهم أحرص على الحياة من كل أحد من‬
‫الناس‪ ،‬حتى من المشركين الذين ل يؤمنون بأحد من الرسل والكتب‪.‬‬
‫سن َةٍ { وهذا‬ ‫ف َ‬ ‫مُر أ َل ْ َ‬ ‫م ل َوْ ي ُعَ ّ‬ ‫حد ُهُ ْ‬
‫َ‬
‫ثم ذكر شدة محبتهم للدنيا فقال‪ } :‬ي َوَد ّ أ َ‬
‫أبلغ ما يكون من الحرص‪ ،‬تمنوا حالة هي من المحالت‪ ،‬والحال أنهم لو‬
‫عمروا العمر المذكور‪ ،‬لم يغن عنهم شيئا ول دفع عنهم من العذاب شيئا‪.‬‬
‫ن { تهديد لهم على المجازاة بأعمالهم‪.‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ي َعْ َ‬ ‫صيٌر ب ِ َ‬ ‫ه بَ ِ‬ ‫} َوالل ّ ُ‬
‫) ‪(1/59‬‬

‫ن‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬


‫ما ب َي ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن الل ّهِ ُ‬ ‫ه عََلى قَل ْب ِ َ‬
‫ك ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫ه ن َّزل َ ُ‬‫ل فَإ ِن ّ ُ‬‫ري َ‬ ‫جب ْ ِ‬
‫ن عَد ُّوا ل ِ ِ‬ ‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫ل َ‬ ‫قُ ْ‬
‫ه‬
‫سل ِ ِ‬ ‫َ‬
‫ملئ ِك َت ِهِ وَُر ُ‬ ‫ّ‬
‫ن عَد ُّوا ل ِلهِ وَ َ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬
‫ن )‪َ (97‬‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ْ‬
‫شَرى ل ِل ُ‬ ‫دى وَب ُ ْ‬ ‫ي َد َي ْهِ وَهُ ً‬
‫ن )‪(98‬‬ ‫ري َ‬‫كافِ ِ‬ ‫ه عَد ُوّ ل ِل ْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ل فَإ ِ ّ‬‫كا َ‬ ‫مي َ‬‫ل وَ ِ‬ ‫ري َ‬‫جب ْ ِ‬‫وَ ِ‬

‫ن الل ّهِ‬
‫ك ب ِإ ِذ ْ ِ‬‫ه عََلى قَل ْب ِ َ‬‫ه ن َّزل َ ُ‬
‫ل فَإ ِن ّ ُ‬ ‫ري َ‬ ‫جب ْ ِ‬‫ن عَد ُّوا ل ِ ِ‬ ‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫} ‪ } { 98 - 97‬قُ ْ‬
‫َ‬
‫ملئ ِكت ِهِ‬ ‫ّ‬
‫ن عَد ُّوا ل ِلهِ وَ َ‬ ‫َ‬
‫ن كا َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن* َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ْ‬
‫شَرى ل ِل ُ‬ ‫دى وَب ُ ْ‬ ‫ن ي َد َي ْهِ وَهُ ً‬ ‫ما ب َي ْ َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬‫ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ِ َ‬ ‫ري‬ ‫ِ‬ ‫ف‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫و‬‫ُ‬ ‫د‬‫َ‬ ‫ع‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫إ‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫مي‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ري‬ ‫ْ‬
‫َ ِ ِ‬‫ب‬‫ج‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ل‬‫س‬‫وَ ُ ُ‬
‫ر‬
‫ِ‬
‫أي‪ :‬قل لهؤلء اليهود‪ ،‬الذين زعموا أن الذي منعهم من اليمان بك‪ ،‬أن‬
‫وليك جبريل عليه السلم‪ ،‬ولو كان غيره من ملئكة الله‪ ،‬لمنوا بك‬
‫وصدقوا‪ ،‬إن هذا الزعم منكم تناقض وتهافت‪ ،‬وتكبر على الله‪ ،‬فإن جبريل‬
‫عليه السلم هو الذي نزل بالقرآن من عند الله على قلبك‪ ،‬وهو الذي ينزل‬
‫على النبياء قبلك‪ ،‬والله هو الذي أمره‪ ،‬وأرسله بذلك‪ ،‬فهو رسول محض‪.‬‬
‫مع أن هذا الكتاب الذي نزل به جبريل مصدقا لما تقدمه من الكتب غير‬
‫مخالف لها ول مناقض‪ ،‬وفيه الهداية التامة من أنواع الضللت‪ ،‬والبشارة‬
‫بالخير الدنيوي والخروي‪ ،‬لمن آمن به‪ ،‬فالعداوة لجبريل الموصوف بذلك‪،‬‬
‫كفر بالله وآياته‪ ،‬وعداوة لله ولرسله وملئكته‪ ،‬فإن عداوتهم لجبريل‪ ،‬ل‬
‫لذاته بل لما ينزل به من عند الله من الحق على رسل الله‪.‬‬
‫فيتضمن الكفر والعداوة للذي أنزله وأرسله‪ ،‬والذي أرسل به‪ ،‬والذي‬
‫أرسل إليه‪ ،‬فهذا وجه ذلك‪.‬‬

‫) ‪(1/60‬‬

‫ن )‪(99‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫فا ِ‬‫فُر ب َِها إ ِّل ال ْ َ‬


‫ما ي َك ْ ُ‬‫ت وَ َ‬
‫ت ب َي َّنا ٍ‬ ‫ك آ ََيا ٍ‬ ‫قد ْ أ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ‬
‫وَل َ َ‬

‫ن{‪.‬‬
‫قو َ‬
‫س ُ‬ ‫فُر ب َِها ِإل ال ْ َ‬
‫فا ِ‬ ‫ما ي َك ْ ُ‬
‫ت وَ َ‬ ‫ت ب َي َّنا ٍ‬
‫ك آَيا ٍ‬‫قد ْ أ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ‬‫} ‪ } { 99‬وَل َ َ‬

‫) ‪(1/60‬‬

‫عاهَدوا عَهدا نبذ َه فَريق منهم ب ْ َ‬ ‫َ‬


‫ن )‪(100‬‬ ‫م َل ي ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫ل أك ْث َُرهُ ْ‬ ‫ْ ً ََ ُ ِ ٌ ِ ُْ ْ َ‬ ‫ما َ ُ‬‫أوَك ُل ّ َ‬
‫ت { تحصل‬ ‫ت ب َي َّنا ٍ‬ ‫قد ْ َأنزل َْنا إ ِل َي ْ َ‬
‫ك آَيا ٍ‬ ‫يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم‪ } :‬وَل َ َ‬
‫بها الهداية لمن استهدى‪ ،‬وإقامة الحجة على من عاند‪ ،‬وهي في الوضوح‬
‫والدللة على الحق‪ ،‬قد بلغت مبلغا عظيما ووصلت إلى حالة ل يمتنع من‬
‫قبولها إل من فسق عن أمر الله‪ ،‬وخرج عن طاعة الله‪ ،‬واستكبر غاية‬
‫عاهَدوا عَهدا نبذ َه فَريق منهم ب ْ َ‬ ‫َ‬
‫مل‬ ‫ل أك ْث َُرهُ ْ‬ ‫ْ ً ََ ُ ِ ٌ ِ ُْ ْ َ‬ ‫ما َ ُ‬ ‫التكبر‪ } { 100 } .‬أوَك ُل ّ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫ي ُؤْ ِ‬
‫وهذا فيه التعجيب )‪ (1‬من كثرة معاهداتهم‪ ،‬وعدم صبرهم على الوفاء بها‪.‬‬
‫ما "تفيد التكرار‪ ،‬فكلما وجد العهد ترتب عليه النقض‪ ،‬ما السبب في‬ ‫فـ "ك ُل ّ َ‬
‫ذلك؟ السبب أن أكثرهم ل يؤمنون‪ ،‬فعدم إيمانهم هو الذي أوجب لهم‬
‫ن‬
‫م َ‬‫نقض العهود‪ ،‬ولو صدق إيمانهم‪ ،‬لكانوا مثل من قال الله فيهم‪ِ } :‬‬
‫ه عَل َي ْهِ { ‪.‬‬ ‫دوا الل ّ َ‬
‫عاهَ ُ‬
‫ما َ‬‫صد َُقوا َ‬ ‫جا ٌ‬
‫ل َ‬ ‫ن رِ َ‬
‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ال ْ ُ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬التعجب‪.‬‬

‫) ‪(1/60‬‬

‫ن‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م َ‬ ‫م ن َب َذ َ فَ ِ‬
‫ريقٌ ِ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫ما َ‬‫صد ّقٌ ل ِ َ‬‫م َ‬‫عن ْدِ الل ّهِ ُ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬‫ل ِ‬‫سو ٌ‬‫م َر ُ‬ ‫جاَءهُ ْ‬ ‫وَل َ ّ‬
‫ما َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن )‪(101‬‬ ‫مو َ‬ ‫م َل ي َعْل َ ُ‬ ‫ب الل ّهِ وََراَء ظ ُُهورِهِ ْ‬
‫م ك َأن ّهُ ْ‬ ‫أوُتوا ال ْك َِتا َ‬
‫ب ك َِتا َ‬

‫م ن َب َذ َ‬‫معَهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫صد ّقٌ ل ِ َ‬ ‫م َ‬‫عن ْدِ الل ّهِ ُ‬


‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫سو ٌ‬
‫ل ِ‬ ‫م َر ُ‬ ‫جاَءهُ ْ‬‫ما َ‬ ‫} ‪ } { 103 - 101‬وَل َ ّ‬
‫َ‬ ‫فَريق من ال ّذي ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ل ي َعْل َ ُ‬ ‫م ك َأن ّهُ ْ‬‫ب الل ّهِ وََراَء ظ ُُهورِهِ ْ‬ ‫ب ك َِتا َ‬‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ ٌ ِ َ‬
‫أي‪ :‬ولما جاءهم هذا الرسول الكريم بالكتاب العظيم بالحق الموافق لما‬
‫معهم‪ ،‬وكانوا يزعمون أنهم متمسكون بكتابهم‪ ،‬فلما كفروا بهذا الرسول‬
‫ب الل ّهِ { الذي أنزل‬ ‫وبما جاء به‪ } ،‬نبذ َ فَريق من ال ّذي ُ‬
‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬
‫ب ك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ ٌ ِ َ‬ ‫ََ‬
‫م { وهذا أبلغ في العراض‬ ‫إليهم أي‪ :‬طرحوه رغبة عنه } وََراَء ظ ُُهورِهِ ْ‬
‫كأنهم في فعلهم هذا من الجاهلين وهم يعلمون صدقه‪ ،‬وحقّية )‪ (1‬ما جاء‬
‫به‪.‬‬
‫تبين بهذا أن هذا الفريق من أهل الكتاب لم يبق في أيديهم شيء حيث لم‬
‫يؤمنوا بهذا الرسول‪ ،‬فصار كفرهم به كفرا بكتابهم من حيث ل يشعرون‪.‬‬
‫ولما كان من العوائد القدرية والحكمة اللهية أن من ترك ما ينفعه‪ ،‬وأمكنه‬
‫النتفاع به فلم ينتفع‪ ،‬ابتلي بالشتغال بما يضره‪ ،‬فمن ترك عبادة الرحمن‪،‬‬
‫ابتلي بعبادة الوثان‪ ،‬ومن ترك محبة الله وخوفه ورجاءه‪ ،‬ابتلي بمحبة غير‬
‫الله وخوفه ورجائه‪ ،‬ومن لم ينفق ماله في طاعة الله أنفقه في طاعة‬
‫الشيطان‪ ،‬ومن ترك الذل لربه‪ ،‬ابتلي ] ص ‪ [ 61‬بالذل للعبيد‪ ،‬ومن ترك‬
‫الحق ابتلي بالباطل‪.‬‬
‫كذلك هؤلء اليهود لما نبذوا كتاب الله اتبعوا ما تتلوا الشياطين وتختلق‬
‫من السحر على ملك سليمان حيث أخرجت الشياطين للناس السحر‪،‬‬
‫وزعموا أن سليمان عليه السلم كان يستعمله وبه حصل له الملك‬
‫العظيم‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬وحقيقة‪.‬‬

‫) ‪(1/60‬‬

‫ن‬‫ن وَل َك ِ ّ‬ ‫ما ُ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫فَر ُ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫ك ُ‬ ‫مل ْ ِ‬ ‫ن عََلى ُ‬ ‫طي ُ‬ ‫شَيا ِ‬ ‫ما ت َت ُْلو ال ّ‬ ‫َوات ّب َُعوا َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ل‬‫ن ب َِباب ِ َ‬ ‫ملك َي ْ ِ‬ ‫ل عَلى ال َ‬ ‫ما أن ْزِ َ‬ ‫حَر وَ َ‬ ‫س ْ‬ ‫س ال ّ‬
‫َ‬
‫ن الّنا َ‬ ‫مو َ‬ ‫فُروا ي ُعَل ُ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫طي َ‬ ‫شَيا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫َ‬
‫ة فَل ت َك ْفُْر‬ ‫ن فِت ْن َ ٌ‬ ‫ح ُ‬‫ما ن َ ْ‬ ‫قول إ ِن ّ َ‬‫َ‬ ‫حّتى ي َ ُ‬ ‫حدٍ َ‬ ‫نأ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫ّ‬
‫ما ي ُعَل َ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ماُرو َ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫هاُرو َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ن ب ِهِ ِ‬ ‫ضاّري َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ما هُ ْ‬ ‫جه ِ و َ َ‬ ‫مْرِء وََزوْ ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫ن ب ِهِ ب َي ْ َ‬ ‫فّرُقو َ‬ ‫ما ي ُ َ‬ ‫ما َ‬ ‫من ْهُ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ّ‬
‫فَي َت َعَل ُ‬
‫َ‬
‫شت ََراهُ‬‫نا ْ‬ ‫م ِ‬ ‫موا ل َ َ‬ ‫قد ْ عَل ِ ُ‬ ‫م وَل َ َ‬ ‫فعُهُ ْ‬ ‫م وََل ي َن ْ َ‬ ‫ضّرهُ ْ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ن الل ّهِ وَي َت َعَل ّ ُ‬ ‫حدٍ إ ِّل ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫أ َ‬
‫ن)‬ ‫مو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْل َ ُ‬ ‫م ل َوْ َ‬ ‫سه ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫شَرْوا ب ِهِ أ َن ْ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫ق وَل َب ِئ ْ َ‬ ‫خَل ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫خَرةِ ِ‬ ‫ه ِفي اْل َ ِ‬ ‫ما ل َ ُ‬ ‫َ‬
‫ن)‬ ‫مو‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ي‬ ‫نوا‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ر‬ ‫ي‬‫خ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫د‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ة‬ ‫ب‬ ‫ثو‬ ‫ُ‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ت‬ ‫وا‬ ‫نوا‬ ‫م‬‫َ‬ ‫آ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫و‬ ‫(‬ ‫‪102‬‬
‫ِ َ ٌْ ْ ُ َْ ُ َ‬ ‫َ ّ ْ َ َ ٌ ِ ْ ِ ْ ِ‬ ‫َ ْ ُّ ْ َ ُ‬
‫‪(103‬‬

‫ن وَل َك ِ ّ‬
‫ن‬ ‫ما ُ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫فَر ُ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬
‫ك ُ‬ ‫مل ْ ِ‬‫ن عََلى ُ‬ ‫طي ُ‬ ‫شَيا ِ‬ ‫ما ت َت ُْلو ال ّ‬ ‫} َوات ّب َُعوا َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ن ب َِباب ِ َ‬
‫ل‬ ‫ملك َي ْ ِ‬ ‫ل عَلى ال َ‬ ‫ما أن ْزِ َ‬ ‫حَر وَ َ‬ ‫س ْ‬ ‫س ال ّ‬
‫َ‬
‫ن الّنا َ‬ ‫مو َ‬ ‫فُروا ي ُعَل ُ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫طي َ‬ ‫شَيا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫فْر‬ ‫ة َفل ت َك ْ ُ‬ ‫ن فِت ْن َ ٌ‬ ‫ح ُ‬‫ما ن َ ْ‬ ‫قول إ ِن ّ َ‬ ‫حّتى ي َ ُ‬ ‫حدٍ َ‬ ‫نأ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫ما ي ُعَل ّ َ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ماُرو َ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫هاُرو َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ن ب ِهِ ِ‬ ‫ضاّري َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ما هُ ْ‬ ‫جه ِ و َ َ‬ ‫مْرِء وََزوْ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ن ب ِهِ ب َي ْ َ‬‫فّرُقو َ‬ ‫ما ي ُ َ‬ ‫ما َ‬ ‫من ْهُ َ‬‫ن ِ‬ ‫مو َ‬ ‫فَي َت َعَل ّ ُ‬
‫َ‬
‫شت ََراهُ‬ ‫نا ْ‬ ‫م ِ‬‫موا ل َ َ‬ ‫قد ْ عَل ِ ُ‬ ‫م وَل َ َ‬ ‫فعُهُ ْ‬ ‫م َول ي َن ْ َ‬ ‫ضّرهُ ْ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ن الل ّهِ وَي َت َعَل ّ ُ‬ ‫حدٍ ِإل ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫أ َ‬
‫ن*‬ ‫مو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْل َ ُ‬ ‫م ل َوْ َ‬ ‫سه ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫شَرْوا ب ِهِ أ َن ْ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫ق وَل َب ِئ ْ َ‬ ‫خل ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫خَرةِ ِ‬ ‫ه ِفي ال ِ‬ ‫ما ل َ ُ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مو َ‬ ‫خي ٌْر لوْ كاُنوا ي َعْل ُ‬ ‫عن ْدِ اللهِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫مثوب َ ٌ‬ ‫وا ل َ‬ ‫ق ْ‬ ‫مُنوا َوات ّ َ‬ ‫مآ َ‬ ‫وَلوْ أن ّهُ ْ‬
‫وهم كذبة في ذلك‪ ،‬فلم يستعمله سليمان‪ ،‬بل نزهه الصادق في قيله‪:‬‬
‫ن‬
‫طي َ‬ ‫شَيا ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن { أي‪ :‬بتعلم السحر‪ ،‬فلم يتعلمه‪ } ،‬وَل َك ِ ّ‬ ‫ما ُ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫فَر ُ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫} وَ َ‬
‫فُروا { بذلك‪.‬‬ ‫كَ َ‬
‫حَر { من إضللهم وحرصهم على إغواء بني آدم‪،‬‬ ‫س ْ‬ ‫س ال ّ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫مو َ‬ ‫} ي ُعَل ّ ُ‬
‫وكذلك اتبع اليهود السحر الذي أنزل على الملكين الكائنين بأرض بابل من‬
‫أرض العراق‪ ،‬أنزل عليهما السحر امتحانا وابتلء من الله لعباده فيعلمانهم‬
‫السحر‪.‬‬
‫فْر {‬ ‫ْ‬
‫ة َفل ت َك ُ‬ ‫ن فِت ْن َ ٌ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ح ُ‬ ‫ما ن َ ْ‬ ‫قول إ ِن ّ َ‬ ‫حّتى { ينصحاه‪ ،‬و } ي َ ُ‬ ‫حدٍ َ‬ ‫نأ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬‫ما ِ‬ ‫ما ي ُعَل َ‬ ‫} وَ َ‬
‫أي‪ :‬ل تتعلم السحر فإنه كفر‪ ،‬فينهيانه عن السحر‪ ،‬ويخبرانه عن مرتبته‪،‬‬
‫فتعليم الشياطين للسحر على وجه التدليس والضلل‪ ،‬ونسبته وترويجه‬
‫إلى من برأه الله منه وهو سليمان عليه السلم‪ ،‬وتعليم الملكين امتحانا‬
‫مع نصحهما لئل يكون لهم حجة‪.‬‬
‫فهؤلء اليهود يتبعون السحر الذي تعلمه الشياطين‪ ،‬والسحر الذي يعلمه‬
‫الملكان‪ ،‬فتركوا علم النبياء والمرسلين وأقبلوا على علم الشياطين‪ ،‬وكل‬
‫يصبو إلى ما يناسبه‪.‬‬
‫مْرِء‬ ‫ن ال ْ َ‬‫ن ب ِهِ ب َي ْ َ‬ ‫فّرُقو َ‬ ‫ما ي ُ َ‬ ‫ما َ‬ ‫من ْهُ َ‬‫ن ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ثم ذكر مفاسد السحر فقال‪ } :‬فَي َت َعَل ّ ُ‬
‫جهِ { مع أن محبة الزوجين ل تقاس بمحبة غيرهما‪ ،‬لن الله قال في‬ ‫وََزوْ ِ‬
‫ة { وفي هذا دليل على أن السحر له‬ ‫م ً‬‫ح َ‬ ‫موَد ّةً وََر ْ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫جعَل ب َي ْن َك ْ‬ ‫حقهما‪ } :‬وَ َ‬
‫حقيقة‪ ،‬وأنه يضر بإذن الله‪ ،‬أي‪ :‬بإرادة الله‪ ،‬والذن نوعان‪ :‬إذن قدري‪،‬‬
‫وهو المتعلق بمشيئة الله‪ ،‬كما في هذه الية‪ ،‬وإذن شرعي كما في قوله‬
‫ن الل ّهِ { وفي هذه الية‬ ‫ه عََلى قَل ْب ِ َ‬
‫ك ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫ه نزل َ ُ‬ ‫تعالى في الية السابقة‪ } :‬فَإ ِن ّ ُ‬
‫وما أشبهها أن السباب مهما بلغت في قوة التأثير‪ ،‬فإنها تابعة للقضاء‬
‫والقدر ليست مستقلة في التأثير‪ ،‬ولم يخالف في هذا الصل من فرق‬
‫المة غير القدرية في أفعال العباد‪ ،‬زعموا أنها مستقلة غير تابعة للمشيئة‪،‬‬
‫فأخرجوها عن قدرة الله‪ ،‬فخالفوا كتاب الله وسنة رسوله وإجماع الصحابة‬
‫والتابعين‪.‬‬
‫ثم ذكر أن علم السحر مضرة محضة‪ ،‬ليس فيه منفعة ل دينية ول دنيوية‬
‫كما يوجد بعض المنافع الدنيوية في بعض المعاصي‪ ،‬كما قال تعالى في‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ما أك ْب َُر ِ‬ ‫مه ُ َ‬‫س وَإ ِث ْ ُ‬ ‫مَنافِعُ ِللّنا ِ‬ ‫م ك َِبيٌر وَ َ‬ ‫ما إ ِث ْ ٌ‬ ‫ل ِفيهِ َ‬ ‫الخمر والميسر‪ } :‬قُ ْ‬
‫ما { فهذا السحر مضرة محضة‪ ،‬فليس له داع أصل فالمنهيات كلها‬ ‫فعِهِ َ‬ ‫نَ ْ‬
‫إما مضرة محضة‪ ،‬أو شرها أكبر من خيرها‪.‬‬
‫كما أن المأمورات إما مصلحة محضة أو خيرها أكثر من شرها‪.‬‬
‫شت ََراهُ { أي‪ :‬رغب في السحر رغبة‬ ‫نا ْ‬ ‫م ِ‬ ‫موا { أي‪ :‬اليهود } ل َ َ‬ ‫قد ْ عَل ِ ُ‬ ‫} وَل َ َ‬
‫المشتري في السلعة‪.‬‬
‫ق { أي‪ :‬نصيب‪ ،‬بل هو موجب للعقوبة‪ ،‬فلم‬ ‫خل ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫خَرةِ ِ‬ ‫ه ِفي ال ِ‬ ‫ما ل َ ُ‬ ‫} َ‬
‫يكن فعلهم إياه جهل ولكنهم استحبوا الحياة الدنيا على الخرة‪.‬‬
‫ن { علما يثمر العمل ما‬ ‫مو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْل َ ُ‬ ‫م ل َوْ َ‬ ‫سهُ ْ‬ ‫ف َ‬‫شَرْوا ب ِهِ أ َن ْ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫} وَل َب ِئ ْ َ‬
‫فعلوه‪.‬‬

‫) ‪(1/61‬‬

‫مُعوا وَل ِل ْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫ب‬ ‫ن عَ َ‬
‫ذا ٌ‬ ‫ري َ‬‫كافِ َ ِ‬ ‫س َ‬‫عَنا وَُقوُلوا ان ْظ ُْرَنا َوا ْ‬ ‫قوُلوا َرا ِ‬ ‫مُنوا َل ت َ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫فروا م َ‬ ‫َ‬
‫ل‬‫ن ي ُن َّز َ‬‫نأ ْ‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫ب وََل ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬‫ن أه ْ ِ‬‫ِ ْ‬ ‫ن كَ َ ُ‬‫ذي َ‬‫ما ي َوَد ّ ال ّ ِ‬ ‫م )‪َ (104‬‬ ‫أِلي ٌ‬
‫ل‬
‫ض ِ‬ ‫ف ْ‬ ‫ذو ال ْ َ‬ ‫ه ُ‬ ‫شاُء َوالل ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬‫مت ِهِ َ‬‫ح َ‬ ‫ص ب َِر ْ‬
‫خت َ ّ‬
‫ه يَ ْ‬‫م َوالل ّ ُ‬‫ن َرب ّك ُ ْ‬‫م ْ‬ ‫خي ْرٍ ِ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫ظيم ِ )‪(105‬‬ ‫ال ْعَ ِ‬

‫عَنا وَُقوُلوا ان ْظ ُْرَنا‬


‫قوُلوا َرا ِ‬ ‫َ‬
‫مُنوا ل ت َ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫} ‪َ } { 105 - 104‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫فروا م َ‬ ‫َ‬
‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ب َول‬ ‫ن أهْ ِ‬
‫ِ ْ‬ ‫ن كَ َ ُ‬ ‫ما ي َوَد ّ ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م* َ‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫ن عَ َ‬‫ري َ‬ ‫مُعوا وَل ِل ْ َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫س َ‬
‫َوا ْ‬
‫شركي َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬
‫مت ِهِ َ‬
‫ح َ‬‫ص ب َِر ْ‬‫خت َ ّ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬‫ن َرب ّك ُ ْ‬
‫م ْ‬
‫خي ْرٍ ِ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ن ي ُن َّز َ‬
‫نأ ْ‬ ‫م ْ ِ ِ َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ظيم ِ { ‪.‬‬‫ل ال ْعَ ِ‬ ‫ض ِ‬ ‫ف ْ‬ ‫ذو ال ْ َ‬ ‫ه ُ‬ ‫شاُء َوالل ّ ُ‬ ‫يَ َ‬
‫كان المسلمون يقولون حين خطابهم للرسول عند تعلمهم أمر الدين‪:‬‬
‫عَنا { أي‪ :‬راع أحوالنا‪ ،‬فيقصدون بها معنى صحيحا‪ ،‬وكان اليهود‬ ‫} َرا ِ‬
‫يريدون بها معنى فاسدا‪ ،‬فانتهزوا الفرصة‪ ،‬فصاروا يخاطبون الرسول‬
‫بذلك‪ ،‬ويقصدون المعنى الفاسد‪ ،‬فنهى الله المؤمنين عن هذه الكلمة‪،‬‬
‫سدا لهذا الباب‪ ،‬ففيه النهي عن الجائز‪ ،‬إذا كان وسيلة إلى محرم‪ ،‬وفيه‬
‫الدب‪ ،‬واستعمال اللفاظ‪ ،‬التي ل تحتمل إل الحسن‪ ،‬وعدم الفحش‪ ،‬وترك‬
‫اللفاظ القبيحة‪ ،‬أو التي فيها نوع تشويش أو احتمال لمر غير لئق‪،‬‬
‫فأمرهم بلفظة ل تحتمل إل الحسن فقال‪ } :‬وَُقوُلوا ان ْظ ُْرَنا { فإنها كافية‬
‫مُعوا { لم يذكر المسموع‪،‬‬ ‫س َ‬ ‫يحصل بها المقصود من غير محذور‪َ } ،‬وا ْ‬
‫ليعم ما أمر باستماعه‪ ،‬فيدخل فيه سماع القرآن‪ ،‬وسماع السنة التي هي‬
‫الحكمة‪ ،‬لفظا ومعنى واستجابة‪ ،‬ففيه الدب والطاعة‪.‬‬
‫ثم توعد الكافرين بالعذاب المؤلم الموجع‪ ،‬وأخبر عن عداوة اليهود‬
‫َ‬
‫خي ْرٍ { أي‪ :‬ل‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ن ُينز َ‬ ‫والمشركين للمؤمنين‪ ،‬أنهم ما يودون } أ ْ‬
‫م { حسدا منهم‪ ،‬وبغضا لكم أن يختصكم بفضله‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬‫م ْ‬ ‫قليل ول كثيرا } ِ‬
‫ظيم ِ { ومن فضله عليكم‪ ،‬إنزال الكتاب على‬ ‫ل العَ ِ‬‫ْ‬ ‫ض ِ‬ ‫ف ْ‬‫ذو ال ْ َ‬ ‫فإنه } ُ‬
‫رسولكم‪ ،‬ليزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة‪ ،‬ويعلمكم ما لم تكونوا‬
‫تعلمون‪ ،‬فله الحمد والمنة‪.‬‬

‫) ‪(1/61‬‬

‫خير منها أ َو مث ْل ِها أ َل َم تعل َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬


‫ه عََلى ك ُ ّ‬
‫ل‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫مأ ّ‬ ‫ْ َْ ْ‬ ‫ت بِ َ ْ ٍ ِ ْ َ ْ ِ َ‬ ‫سَها ن َأ ِ‬ ‫ن آ َي َةٍ أوْ ن ُن ْ ِ‬
‫م ْ‬ ‫خ ِ‬ ‫س ْ‬ ‫ما ن َن ْ َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫ما لك ُْ‬ ‫و‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫وا‬ ‫ت‬ ‫وا‬ ‫ما‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫م‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫(‬ ‫‪106‬‬ ‫)‬ ‫ر‬ ‫دي‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ٍ‬ ‫ء‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ش‬
‫َ ْ ِ َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ّ َ َ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫ْ ْ ْ ّ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬
‫صيرٍ )‪(107‬‬ ‫ن‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫و‬
‫ِ ِ ْ َ ّ َ َ ِ‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫و‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ن‬‫ن ُ ِ‬‫دو‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫مث ْل َِها أل َ ْ‬
‫م‬ ‫من َْها أوْ ِ‬ ‫خي ْرٍ ِ‬ ‫ت بِ َ‬ ‫سَها ن َأ ِ‬ ‫ن آي َةٍ أوْ ن ُن ْ ِ‬‫م ْ‬ ‫خ ِ‬ ‫س ْ‬‫ما ن َن ْ َ‬
‫} ‪َ } { 107 - 106‬‬
‫مل ْكُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫تعل َ َ‬
‫ه ُ‬ ‫هل ُ‬ ‫ن الل َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫م ت َعْل ْ‬‫ديٌر * ] ص ‪ [ 62‬أل ْ‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫َْ ْ‬
‫صيرٍ { ‪.‬‬ ‫ي َول ن َ ِ‬ ‫ن وَل ِ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ّ‬
‫ن اللهِ ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ما لك ْ‬ ‫ض وَ َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ال ّ‬
‫النسخ‪ :‬هو النقل‪ ،‬فحقيقة النسخ نقل المكلفين من حكم مشروع‪ ،‬إلى‬
‫حكم آخر‪ ،‬أو إلى إسقاطه‪ ،‬وكان اليهود ينكرون النسخ‪ ،‬ويزعمون أنه ل‬
‫يجوز‪ ،‬وهو مذكور عندهم في التوراة‪ ،‬فإنكارهم له كفر وهوى محض‪.‬‬
‫فأخبر الله تعالى عن حكمته في النسخ‪ ،‬وأنه ما ينسخ من آية } أ َْو‬
‫من َْها { وأنفع‬ ‫ْ‬
‫خي ْرٍ ِ‬ ‫ت بِ َ‬ ‫سَها { أي‪ :‬ننسها العباد‪ ،‬فنزيلها من قلوبهم‪ } ،‬ن َأ ِ‬ ‫ن ُن ْ ِ‬
‫مث ْل َِها { ‪.‬‬ ‫َ‬
‫لكم } أوْ ِ‬
‫فدل على أن النسخ ل يكون لقل مصلحة لكم من الول؛ لن فضله تعالى‬
‫يزداد خصوصا على هذه المة‪ ،‬التي سهل عليها دينها غاية التسهيل‪.‬‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ت َعْل ْ‬ ‫وأخبر أن من قدح في النسخ فقد قدح في ملكه وقدرته فقال‪ } :‬أل ْ‬
‫مل ْ ُ‬ ‫شيٍء قَدير أ َل َم تعل َ َ‬ ‫َ‬
‫ض{‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ك ال ّ‬ ‫ه ُ‬ ‫ه لَ ُ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫ْ َْ ْ‬ ‫ِ ٌ‬ ‫ل َ ْ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫أ ّ‬
‫‪.‬‬
‫فإذا كان مالكا لكم‪ ،‬متصرفا فيكم‪ ،‬تصرف المالك البر الرحيم في أقداره‬
‫وأوامره ونواهيه‪ ،‬فكما أنه ل حجر عليه في تقدير ما يقدره على عباده من‬
‫أنواع التقادير‪ ،‬كذلك ل يعترض عليه فيما يشرعه لعباده من الحكام‪.‬‬
‫فالعبد مدبر مسخر تحت أوامر ربه الدينية والقدرية‪ ،‬فما له والعتراض؟‬
‫وهو أيضا‪ ،‬ولي عباده‪ ،‬ونصيرهم‪ ،‬فيتولهم في تحصيل منافعهم‪ ،‬وينصرهم‬
‫في دفع مضارهم‪ ،‬فمن وليته لهم‪ ،‬أن يشرع لهم من الحكام‪ ،‬ما تقتضيه‬
‫حكمته ورحمته بهم‪.‬‬
‫ومن تأمل ما وقع في القرآن والسنة من النسخ‪ ،‬عرف بذلك حكمة الله‬
‫ورحمته عباده‪ ،‬وإيصالهم إلى مصالحهم‪ ،‬من حيث ل يشعرون بلطفه‪.‬‬

‫) ‪(1/61‬‬

‫ل ال ْك ُ ْ‬ ‫أ َم تريدون أ َن ت َ‬
‫فَر‬ ‫ن ي َت َب َد ّ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫سى ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬ ‫سئ ِ َ‬ ‫ما ُ‬ ‫م كَ َ‬ ‫سول َك ُ ْ‬ ‫سأُلوا َر ُ‬ ‫ْ ُ ِ ُ َ ْ َ ْ‬
‫ب ل َْ‬ ‫ْ‬ ‫ل سواَء السبيل )‪ (108‬ود ك َِثير من أ َْ‬
‫و‬ ‫َِ ِ‬ ‫تا‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ل‬‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ٌ ِ ْ‬
‫َ‬
‫َ ّ‬ ‫ّ ِ ِ‬ ‫ض ّ َ َ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ن فَ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫لي َ‬ ‫ِبا ْ ِ‬
‫ن ل َهُ ُ‬
‫م‬ ‫ما ت َب َي ّ َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫عن ْدِ أن ْ ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫مَ ْ‬ ‫دا ِ‬ ‫س ً‬‫ح َ‬ ‫فاًرا َ‬ ‫م كُ ّ‬ ‫مان ِك ُ ْ‬ ‫ن ب َعْدِ ِإي َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫دون َك ُ ْ‬ ‫ي َُر ّ‬
‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫ْ‬
‫ديٌر )‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫مرِهِ إ ِ ّ‬ ‫ه ب ِأ ْ‬ ‫ي الل ّ ُ‬ ‫حّتى ي َأت ِ َ‬ ‫حوا َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ص َ‬ ‫فوا َوا ْ‬ ‫حقّ َفاعْ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬ ‫صَلةَ وَآُتوا الّز َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عن ْد َ‬ ‫دوهُ ِ‬ ‫ج ُ‬ ‫خي ْرٍ ت َ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫موا ِلن ْ ُ‬ ‫قد ّ ُ‬ ‫ما ت ُ َ‬ ‫كاةَ وَ َ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫‪ (109‬وَأِقي ُ‬
‫صيٌر )‪(110‬‬ ‫ن بَ ِ‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫الل ّهِ إ ِ ّ‬
‫} ‪ } { 110 - 108‬أ َم تريدون أ َن ت َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫سى ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬ ‫سئ ِ َ‬ ‫ما ُ‬ ‫م كَ َ‬ ‫سول َك ُ ْ‬ ‫سأُلوا َر ُ‬ ‫ْ ُ ِ ُ َ ْ َ ْ‬
‫َ‬ ‫ل ال ْك ُ ْ‬
‫ل‬ ‫ن أه ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل * وَد ّ ك َِثيٌر ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫واءَ ال ّ‬ ‫س َ‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ن فَ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫فَر ِبالي َ‬ ‫ن ي َت َب َد ّ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫قَب ْ ُ‬
‫َ‬
‫ن ب َعْدِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫سه ِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫عن ْدِ أن ْ ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫دا ِ‬ ‫س ً‬ ‫ح َ‬ ‫فاًرا َ‬ ‫م كُ ّ‬ ‫مان ِك ُ ْ‬ ‫ن ب َعْدِ ِإي َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫دون َك ُ ْ‬ ‫ب ل َوْ ي َُر ّ‬ ‫ال ْك َِتا ِ‬
‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫مرِهِ إ ِ ّ‬ ‫ه ب ِأ ْ‬ ‫ي الل ّ ُ‬ ‫حّتى ي َأت ِ َ‬ ‫حوا َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ص َ‬ ‫فوا َوا ْ‬ ‫حقّ َفاعْ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ن ل َهُ ُ‬ ‫ما ت َب َي ّ َ‬ ‫َ‬
‫ر‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫خي ْ ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫سك ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫موا لن ْ ُ‬ ‫قد ّ ُ‬ ‫ما ت ُ َ‬ ‫صلةَ َوآُتوا الّزكاةَ وَ َ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫ديٌر * وَأِقي ُ‬ ‫يٍء ق ِ‬ ‫ش ْ‬
‫صيٌر { ‪.‬‬ ‫ن بَ ِ‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ّ‬
‫عن ْد َ اللهِ إ ِ ّ‬ ‫دوهُ ِ‬ ‫ج ُ‬ ‫تَ ِ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫سى ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬ ‫سئ ِ َ‬ ‫ما ُ‬ ‫َ‬
‫ينهى الله المؤمنين‪ ،‬أو اليهود‪ ،‬بأن يسألوا رسولهم } ك َ‬
‫سأ َل ُكَ‬ ‫ل { والمراد بذلك‪ ،‬أسئلة التعنت والعتراض‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬ي َ ْ‬ ‫قَب ْ ُ‬
‫ن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ماِء فَ َ‬ ‫َ‬ ‫ن ُتنز َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫أ َهْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫سى أكب ََر ِ‬ ‫مو َ‬ ‫سألوا ُ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫م ك َِتاًبا ِ‬ ‫ل عَلي ْهِ ْ‬ ‫بأ ْ‬ ‫ل الك َِتا ِ‬
‫َ‬
‫جهَْرةً { ‪.‬‬ ‫ه َ‬ ‫قاُلوا أرَِنا الل ّ َ‬ ‫ك فَ َ‬ ‫ذ َل ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ن ت ُب ْد َ ل َك ُ ْ‬ ‫شَياَء إ ِ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫سأُلوا عَ ْ‬ ‫مُنوا ل ت َ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وقال تعالى‪َ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫م { فهذه ونحوها‪ ،‬هي المنهي عنها‪.‬‬ ‫سؤْك ُ ْ‬ ‫تَ ُ‬
‫وأما سؤال السترشاد والتعلم‪ ،‬فهذا محمود قد أمر الله به كما قال تعالى‬
‫ن { ويقررهم )‪ (1‬عليه‪ ،‬كما في‬ ‫مو َ‬ ‫م ل ت َعْل َ ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ل الذ ّك ْرِ إ ِ ْ‬ ‫سأ َُلوا أ َهْ َ‬ ‫} َفا ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مى { ونحو‬ ‫ن ال ْي ََتا َ‬ ‫ك عَ ِ‬ ‫سأُلون َ َ‬ ‫سرِ { و } ي َ ْ‬ ‫مي ْ ِ‬ ‫مرِ َوال ْ َ‬ ‫خ ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ك عَ ِ‬ ‫سأُلون َ َ‬ ‫قوله } ي َ ْ‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ولما كانت المسائل المنهي عنها مذمومة‪ ،‬قد تصل بصاحبها إلى الكفر‪،‬‬
‫ل{‪.‬‬ ‫سِبي ِ‬ ‫واَء ال ّ‬ ‫س َ‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ن فَ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫فَر ِبالي َ‬ ‫ل ال ْك ُ ْ‬ ‫ن ي َت َب َد ّ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قال‪ } :‬وَ َ‬
‫ثم أخبر عن حسد كثير من أهل الكتاب‪ ،‬وأنهم بلغت بهم الحال‪ ،‬أنهم ودوا‬
‫فاًرا { وسعوا في ذلك‪ ،‬وأعملوا المكايد‪،‬‬ ‫م كُ ّ‬ ‫مان ِك ُ ْ‬ ‫ن ب َعْدِ ِإي َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫دون َك ُ ْ‬ ‫} ل َوْ ي َُر ّ‬
‫َ‬
‫ب‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ن أه ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ف ٌ‬ ‫طائ ِ َ‬ ‫ت َ‬ ‫وكيدهم راجع عليهم ]كما[ قال تعالى‪ } :‬وََقال َ ْ‬
‫ن‬‫جُعو َ‬ ‫م ي َْر ِ‬ ‫خَرهُ ل َعَل ّهُ ْ‬ ‫فُروا آ ِ‬ ‫ه الن َّهارِ َواك ْ ُ‬ ‫ج َ‬ ‫مُنوا وَ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل عََلى ال ّ ِ‬ ‫ذي ُأنز َ‬ ‫مُنوا ِبال ّ ِ‬ ‫آ ِ‬
‫{ وهذا من حسدهم الصادر من عند أنفسهم‪.‬‬
‫فأمرهم الله بمقابلة من أساء إليهم غاية الساءة بالعفو عنهم والصفح‬
‫حتى يأتي الله بأمره‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك‪ ،‬أتى الله بأمره إياهم بالجهاد‪ ،‬فشفى الله أنفس المؤمنين‬
‫هّ‬
‫ن الل َ‬‫منهم‪ ،‬فقتلوا من قتلوا‪ ،‬واسترقوا من استرقوا‪ ،‬وأجلوا من أجلوا } إ ِ ّ‬
‫يٍء قَ ِ‬
‫ديٌر { ‪.‬‬ ‫ل َ‬
‫ش ْ‬ ‫عََلى ك ُ ّ‬
‫ثم أمرهم ]الله[ بالشتغال في الوقت الحاضر‪ ،‬بإقامة الصلة‪ ،‬وإيتاء‬
‫الزكاة وفعل كل القربات‪ ،‬ووعدهم أنهم مهما فعلوا من خير‪ ،‬فإنه ل يضيع‬
‫مُلو َ‬
‫ن‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه بِ َ‬ ‫عند الله‪ ،‬بل يجدونه عنده وافرا موفرا قد حفظه } إ ِ ّ‬
‫صيٌر { ‪.‬‬‫بَ ِ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ويقرهم‪.‬‬

‫) ‪(1/62‬‬

‫هودا أ َو نصارى ت ِل ْ َ َ‬
‫هاُتوا‬‫ل َ‬‫م قُ ْ‬‫مان ِي ّهُ ْ‬
‫كأ َ‬ ‫ن ُ ً ْ َ َ َ‬ ‫ن َ‬
‫كا َ‬ ‫م ْ‬ ‫ة إ ِّل َ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫خ َ‬ ‫وََقاُلوا ل َ ْ‬
‫ن ي َد ْ ُ‬
‫َ‬
‫ن فَل َ ُ‬
‫ه‬ ‫س ٌ‬ ‫ح ِ‬‫م ْ‬‫ه ل ِل ّهِ وَهُوَ ُ‬‫جه َ ُ‬ ‫سل َ َ‬
‫م وَ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن )‪ (111‬ب ََلى َ‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫هان َك ُ ْ‬
‫م إِ ْ‬ ‫ب ُْر َ‬
‫َ‬
‫ن )‪(112‬‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫م وََل هُ ْ‬
‫م يَ ْ‬ ‫ف عَل َي ْهِ ْ‬‫خوْ ٌ‬ ‫عن ْد َ َرب ّهِ وََل َ‬ ‫جُرهُ ِ‬ ‫أ ْ‬
‫صاَرى ت ِل ْ َ‬ ‫هو َ‬
‫ك‬ ‫دا أوْ ن َ َ‬‫ن ُ ً‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِإل َ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫خ َ‬ ‫} ‪ } { 112 - 111‬وََقاُلوا ل َ ْ‬
‫ن ي َد ْ ُ‬
‫هانك ُم إن ك ُنتم صادقين * بَلى م َ‬ ‫َ‬
‫ه ل ِل ّهِ وَهُ َ‬
‫و‬ ‫جه َ ُ‬
‫م وَ ْ‬‫سل َ َ‬
‫نأ ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫هاُتوا ب ُْر َ َ ْ ِ ْ ْ ُ ْ َ ِ ِ َ‬ ‫ل َ‬ ‫م قُ ْ‬ ‫مان ِي ّهُ ْ‬
‫أ َ‬
‫محسن فَل َ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫حَزُنو َ‬‫م يَ ْ‬
‫م َول هُ ْ‬ ‫ف عَل َي ْهِ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫عن ْد َ َرب ّهِ َول َ‬
‫جُرهُ ِ‬‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ْ ِ ٌ‬
‫أي‪ :‬قال اليهود‪ :‬لن يدخل الجنة إل من كان هودا‪ ،‬وقالت النصارى‪ :‬لن‬
‫يدخل الجنة إل من كان نصارى‪ ،‬فحكموا لنفسهم بالجنة وحدهم‪ ،‬وهذا‬
‫مجرد أماني غير مقبولة‪ ،‬إل بحجة وبرهان‪ ،‬فأتوا بها إن كنتم صادقين‪،‬‬
‫وهكذا كل من ادعى دعوى‪ ،‬ل بد أن يقيم البرهان على صحة دعواه‪ ،‬وإل‬
‫فلو قلبت عليه دعواه‪ ،‬وادعى مدع عكس ما ادعى بل برهان ] ص ‪[ 63‬‬
‫لكان ل فرق بينهما‪ ،‬فالبرهان هو الذي يصدق الدعاوى أو يكذبها‪ ،‬ولما لم‬
‫يكن بأيديهم برهان‪ ،‬علم كذبهم بتلك الدعوى‪.‬‬
‫َ‬
‫ثم ذكر تعالى البرهان الجلي العام لكل أحد‪ ،‬فقال‪ } :‬ب َلى { أي‪ :‬ليس‬
‫ه ل ِل ّهِ { أي‪ :‬أخلص لله أعماله‪،‬‬ ‫بأمانيكم ودعاويكم‪ ،‬ولكن } م َ‬
‫جه َ ُ‬ ‫م وَ ْ‬ ‫سل َ َ‬‫نأ ْ‬ ‫َ ْ‬
‫ن { في عبادة ربه‪ ،‬بأن‬ ‫ٌ‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫}‬ ‫إخلصه‬ ‫متوجها إليه بقلبه‪ } ،‬وَهُوَ { مع‬
‫عبده بشرعه‪ ،‬فأولئك هم أهل الجنة وحدهم‪.‬‬
‫عن ْد َ َرب ّهِ { وهو الجنة بما اشتملت عليه من النعيم‪َ } ،‬ول‬ ‫جُرهُ ِ‬ ‫} فَل َ َ‬
‫هأ ْ‬ ‫ُ‬
‫ن { فحصل لهم المرغوب‪ ،‬ونجوا من المرهوب‪.‬‬ ‫نو‬ ‫ز‬ ‫ح‬ ‫ي‬
‫ْ َ ْ َ ُ َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ول‬ ‫م‬
‫ِْ ْ َ‬ ‫ه‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ع‬ ‫ف‬
‫خوْ ٌ‬ ‫َ‬
‫ويفهم منها‪ ،‬أن من ليس كذلك‪ ،‬فهو من أهل النار الهالكين‪ ،‬فل نجاة إل‬
‫لهل الخلص للمعبود‪ ،‬والمتابعة للرسول‪.‬‬

‫) ‪(1/62‬‬

‫ت ال ْي َُهود ُ‬
‫س ِ‬‫صاَرى ل َي ْ َ‬‫ت الن ّ َ‬ ‫يٍء وََقال َ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫صاَرى عََلى َ‬ ‫ت الن ّ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ت ال ْي َُهود ُ ل َي ْ َ‬ ‫وََقال َ ِ‬
‫م َفالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ل قَوْل ِهِ ْ‬
‫مث ْ َ‬‫ن ِ‬ ‫ن َل ي َعْل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫ك َقا َ‬ ‫ب ك َذ َل ِ َ‬‫ن ال ْك َِتا َ‬‫م ي َت ُْلو َ‬ ‫يٍء وَهُ ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫عََلى َ‬
‫ن )‪(113‬‬ ‫فو َ‬ ‫خت َل ِ ُ‬
‫كاُنوا ِفيهِ ي َ ْ‬ ‫ما َ‬‫مةِ ِفي َ‬ ‫قَيا َ‬‫م ال ْ ِ‬ ‫م ي َوْ َ‬ ‫حك ُ ُ‬
‫م ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫يَ ْ‬
‫صاَرى‬ ‫ت الن ّ َ‬ ‫يٍء وََقال َ ِ‬ ‫ش ْ‬‫صاَرى عََلى َ‬ ‫ت الن ّ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ت ال ْي َُهود ُ ل َي ْ َ‬ ‫} ‪ } { 113‬وََقال َ ِ‬
‫ن‬
‫مو َ‬‫ن ل ي َعْل َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫ك َقا َ‬‫ب ك َذ َل ِ َ‬ ‫ن ال ْك َِتا َ‬ ‫م ي َت ُْلو َ‬‫يٍء وَهُ ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫ت ال ْي َُهود ُ عََلى َ‬ ‫س ِ‬‫ل َي ْ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫فو َ‬ ‫خت َل ِ ُ‬
‫كاُنوا ِفيهِ ي َ ْ‬‫ما َ‬ ‫مةِ ِفي َ‬ ‫قَيا َ‬‫م ال ْ ِ‬
‫م ي َوْ َ‬ ‫م ب َي ْن َهُ ْ‬‫حك ُ ُ‬
‫ه يَ ْ‬‫م َفالل ّ ُ‬
‫ل قَوْل ِهِ ْ‬
‫مث ْ َ‬
‫ِ‬
‫وذلك أنه بلغ بأهل الكتاب الهوى والحسد‪ ،‬إلى أن بعضهم ضلل بعضا‪،‬‬
‫وكفر بعضهم بعضا‪ ،‬كما فعل الميون من مشركي العرب وغيرهم‪.‬‬
‫فكل فرقة تضلل الفرقة الخرى‪ ،‬ويحكم الله في الخرة بين المختلفين‬
‫بحكمه العدل‪ ،‬الذي أخبر به عباده‪ ،‬فإنه )‪ (1‬ل فوز ول نجاة إل لمن صدق‬
‫جميع النبياء والمرسلين‪ ،‬وامتثل أوامر ربه‪ ،‬واجتنب نواهيه‪ ،‬ومن عداهم‪،‬‬
‫فهو هالك‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬وأنه‪.‬‬

‫) ‪(1/63‬‬

‫َ‬ ‫وم َ‬
‫خَراب َِها‬
‫سَعى ِفي َ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ي ُذ ْك ََر ِفيَها ا ْ‬
‫س ُ‬ ‫جد َ الل ّهِ أ ْ‬‫سا ِ‬‫م َ‬ ‫من َعَ َ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬ ‫م ِ‬ ‫ن أظ ْل َ ُ‬ ‫َ َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م ِفي‬ ‫خْزيٌ وَلهُ ْ‬
‫م ِفي الد ّن َْيا ِ‬ ‫ن لهُ ْ‬ ‫في َ‬ ‫خائ ِ ِ‬
‫ها إ ِل َ‬ ‫خلو َ‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬
‫مأ ْ‬ ‫ن لهُ ْ‬ ‫َ‬
‫ما كا َ‬ ‫أول َئ ِك َ‬
‫َ‬
‫م )‪(114‬‬ ‫ظي ٌ‬‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫خَرةِ عَ َ‬ ‫اْل َ ِ‬
‫َ‬ ‫} ‪ } { 114‬وم َ‬
‫سَعى‬ ‫ه وَ َ‬ ‫م ُ‬
‫س ُ‬ ‫ن ي ُذ ْك ََر ِفيَها ا ْ‬ ‫جد َ الل ّهِ أ ْ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫من َعَ َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫م ّ‬ ‫م ِ‬‫ن أظ ْل َ ُ‬ ‫َ َ ْ‬
‫ي‬ ‫ز‬ ‫خ‬ ‫يا‬ ‫ن‬ ‫د‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫في‬ ‫ئ‬ ‫خا‬ ‫إل‬ ‫ها‬ ‫ُ‬
‫لو‬ ‫خ‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫كا‬‫َ‬ ‫ما‬ ‫خَراب َِها ُأول َئ ِ َ‬
‫َّْ ِ ْ ٌ‬ ‫ِِ َ ُ ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ْ ْ َ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ِفي َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ظي ٌ‬‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬‫خَرةِ عَ َ‬ ‫م ِفي ال ِ‬ ‫وَل َهُ ْ‬
‫أي‪ :‬ل أحد أظلم وأشد جرما‪ ،‬ممن منع مساجد الله‪ ،‬عن ذكر الله فيها‪،‬‬
‫وإقامة الصلة وغيرها من الطاعات‪.‬‬
‫خَراب َِها { الحسي والمعنوي‪،‬‬ ‫سَعى { أي‪ :‬اجتهد وبذل وسعه } ِفي َ‬ ‫} وَ َ‬
‫فالخراب الحسي‪ :‬هدمها وتخريبها‪ ،‬وتقذيرها‪ ،‬والخراب المعنوي‪ :‬منع‬
‫الذاكرين لسم الله فيها‪ ،‬وهذا عام‪ ،‬لكل من اتصف بهذه الصفة‪ ،‬فيدخل‬
‫في ذلك أصحاب الفيل‪ ،‬وقريش‪ ،‬حين صدوا رسول الله عنها عام‬
‫الحديبية‪ ،‬والنصارى حين أخربوا بيت المقدس‪ ،‬وغيرهم من أنواع الظلمة‪،‬‬
‫الساعين في خرابها‪ ،‬محادة لله‪ ،‬ومشاقة‪ ،‬فجازاهم الله‪ ،‬بأن منعهم‬
‫دخولها شرعا وقدرا‪ ،‬إل خائفين ذليلين‪ ،‬فلما أخافوا عباد الله‪ ،‬أخافهم الله‪،‬‬
‫فالمشركون الذين صدوا رسوله‪ ،‬لم يلبث رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم إل يسيرا‪ ،‬حتى أذن الله له في فتح مكة‪ ،‬ومنع المشركين من‬
‫َ‬
‫س َفل‬ ‫ج ٌ‬ ‫ن نَ َ‬ ‫شرِ ُ‬
‫كو َ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ال ْ ُ‬ ‫مُنوا إ ِن ّ َ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫قربان بيته‪ ،‬فقال تعالى‪َ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذا { ‪.‬‬ ‫م هَ َ‬ ‫مهِ ْ‬‫عا ِ‬ ‫م ب َعْد َ َ‬ ‫حَرا َ‬ ‫جد َ ال ْ َ‬ ‫س ِ‬ ‫قَرُبوا ال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫يَ ْ‬
‫وأصحاب الفيل‪ ،‬قد ذكر الله ما جرى عليهم‪ ،‬والنصارى‪ ،‬سلط الله عليهم‬
‫المؤمنين‪ ،‬فأجلوهم عنه‪.‬‬
‫وهكذا كل من اتصف بوصفهم‪ ،‬فل بد أن يناله قسطه‪ ،‬وهذا من اليات‬
‫العظيمة‪ ،‬أخبر بها الباري قبل وقوعها‪ ،‬فوقعت كما أخبر‪.‬‬
‫واستدل العلماء بالية الكريمة‪ ،‬على أنه ل يجوز تمكين الكفار من دخول‬
‫المساجد‪.‬‬
‫ب‬‫ذا ٌ‬ ‫خَرةِ عَ َ‬ ‫م ِفي ال ِ‬ ‫َ‬
‫خْزيٌ { أي‪ :‬فضيحة كما تقدم } وَلهُ ْ‬ ‫م ِفي الد ّن َْيا ِ‬ ‫} ل َهُ ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ظي ٌ‬ ‫عَ ِ‬
‫وإذا كان ل أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه‪ ،‬فل أعظم‬
‫إيمانا ممن سعى في عمارة المساجد بالعمارة الحسية والمعنوية‪ ،‬كما‬
‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬
‫خرِ { ‪.‬‬ ‫م َ‬
‫نآ َ‬ ‫م ْ‬‫جد َ الل ّهِ َ‬
‫سا ِ‬
‫م َ‬ ‫مُر َ‬ ‫ما ي َعْ ُ‬‫قال تعالى‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫بل قد أمر الله تعالى برفع بيوته وتعظيمها وتكريمها‪ ،‬فقال تعالى‪ِ } :‬في‬
‫بيوت أ َذن الل ّ َ‬
‫ه{‪.‬‬ ‫م ُ‬‫س ُ‬‫ن ت ُْرفَعَ وَي ُذ ْك ََر ِفيَها ا ْ‬‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُُ ٍ ِ َ‬
‫وللمساجد أحكام كثيرة‪ ،‬يرجع حاصلها إلى مضمون هذه اليات الكريمة‪.‬‬

‫) ‪(1/63‬‬

‫َ‬
‫م)‬
‫سعٌ عَِلي ٌ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َوا ِ‬ ‫ه الل ّهِ إ ِ ّ‬
‫ج ُ‬ ‫ما ت ُوَّلوا فَث َ ّ‬
‫م وَ ْ‬ ‫ب فَأي ْن َ َ‬ ‫شرِقُ َوال ْ َ‬
‫مغْرِ ُ‬ ‫وَل ِل ّهِ ال ْ َ‬
‫م ْ‬
‫‪(115‬‬
‫َ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫ه الل ّهِ إ ِ ّ‬
‫ج ُ‬ ‫ما ت ُوَّلوا فَث َ ّ‬
‫م وَ ْ‬ ‫ب فَأي ْن َ َ‬
‫مغْرِ ُ‬ ‫شرِقُ َوال ْ َ‬ ‫م ْ‬‫} ‪ } { 115‬وَل ِل ّهِ ال ْ َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫سعٌ عَِلي ٌ‬ ‫َوا ِ‬
‫ب { خصهما بالذكر‪ ،‬لنهما محل اليات‬ ‫مغْرِ ُ‬ ‫ْ‬
‫شرِقُ َوال َ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫أي‪ } :‬وَل ِلهِ ال َ‬
‫العظيمة‪ ،‬فهما مطالع النوار ومغاربها‪ ،‬فإذا كان مالكا لها‪ ،‬كان مالكا لكل‬
‫الجهات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ما ت ُوَلوا { وجوهكم من الجهات‪ ،‬إذا كان توليكم إياها بأمره‪ ،‬إما أن‬ ‫} فَأي ْن َ َ‬
‫يأمركم باستقبال الكعبة بعد أن كنتم مأمورين باستقبال بيت المقدس‪ ،‬أو‬
‫تؤمرون بالصلة في السفر على الراحلة ونحوها‪ ،‬فإن القبلة حيثما توجه‬
‫العبد أو تشتبه القبلة‪ ،‬فيتحرى الصلة إليها‪ ،‬ثم يتبين له الخطأ‪ ،‬أو يكون‬
‫معذورا بصلب أو مرض ونحو ذلك‪ ،‬فهذه المور‪ ،‬إما أن يكون العبد فيها‬
‫معذورا أو مأمورا‪.‬‬
‫وبكل حال‪ ،‬فما استقبل جهة من الجهات‪ ،‬خارجة عن ملك ربه‪.‬‬
‫م { فيه ] ص ‪ [ 64‬إثبات الوجه لله‬ ‫سعٌ عَِلي ٌ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ه الل ّهِ إ ِ ّ‬ ‫ج ُ‬ ‫م وَ ْ‬ ‫} فَث َ ّ‬
‫تعالى‪ ،‬على الوجه اللئق به تعالى‪ ،‬وأن لله وجها ل تشبهه الوجوه‪ ،‬وهو ‪-‬‬
‫تعالى ‪ -‬واسع الفضل والصفات عظيمها‪ ،‬عليم بسرائركم ونياتكم‪.‬‬
‫فمن سعته وعلمه‪ ،‬وسع لكم المر‪ ،‬وقبل منكم المأمور‪ ،‬فله الحمد‬
‫والشكر‪.‬‬

‫) ‪(1/63‬‬

‫َْ‬
‫ل لَ ُ‬
‫ه‬ ‫ض كُ ّ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬
‫ما ِفي ال ّ‬ ‫ل لَ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ه بَ ْ‬‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫ه وَل َ ً‬
‫دا ُ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬
‫وََقاُلوا ات ّ َ‬
‫َ‬ ‫َْ‬
‫ن‬ ‫ل لَ ُ‬
‫ه كُ ْ‬ ‫قو ُ‬ ‫مًرا فَإ ِن ّ َ‬
‫ما ي َ ُ‬ ‫ضى أ ْ‬‫ذا قَ َ‬
‫ض وَإ ِ َ‬
‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ديعُ ال ّ‬ ‫ن )‪ (116‬ب َ ِ‬ ‫َقان ُِتو َ‬
‫ن )‪(117‬‬ ‫كو ُ‬‫فَي َ ُ‬

‫ت‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬‫ه َ‬‫ل لَ ُ‬‫ه بَ ْ‬ ‫حان َ ُ‬


‫سب ْ َ‬ ‫ه وَل َ ً‬
‫دا ُ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬
‫} ‪ } { 117 - 116‬وََقاُلوا ات ّ َ‬
‫َ‬
‫ما‬‫مًرا فَإ ِن ّ َ‬
‫ضى أ ْ‬‫ذا قَ َ‬‫ض وَإ ِ َ‬‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ديعُ ال ّ‬ ‫ن * بَ ِ‬‫ه َقان ُِتو َ‬‫ل لَ ُ‬‫ض كُ ّ‬ ‫َوالْر ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ن فَي َكو ُ‬ ‫ُ‬
‫هك ْ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫قو ُ‬ ‫يَ ُ‬
‫خذ َ‬‫} وََقالوا { أي‪ :‬اليهود والنصارى والمشركون‪ ،‬وكل من قال ذلك‪ } :‬ات ّ َ‬ ‫ُ‬
‫دا { فنسبوه إلى ما ل يليق بجلله‪ ،‬وأساءوا كل الساءة‪ ،‬وظلموا‬ ‫ه وَل َ ً‬‫الل ّ ُ‬
‫أنفسهم‪.‬‬
‫وهو ‪ -‬تعالى ‪ -‬صابر على ذلك منهم‪ ،‬قد حلم عليهم‪ ،‬وعافاهم‪ ،‬ورزقهم مع‬
‫تنقصهم إياه‪.‬‬
‫ه { أي‪ :‬تنزه وتقدس عن كل ما وصفه به المشركون والظالمون‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫} ُ‬
‫مما ل يليق بجلله‪ ،‬فسبحان من له الكمال المطلق‪ ،‬من جميع الوجوه‪،‬‬
‫الذي ل يعتريه نقص بوجه من الوجوه‪.‬‬
‫ل‬‫ومع رده لقولهم‪ ،‬أقام الحجة والبرهان على تنزيهه عن ذلك فقال‪ } :‬ب َ ْ‬
‫ض { أي‪ :‬جميعهم ملكه وعبيده‪ ،‬يتصرف فيهم‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫لَ ُ‬
‫ه َ‬
‫تصرف المالك بالمماليك‪ ،‬وهم قانتون له مسخرون تحت تدبيره‪ ،‬فإذا‬
‫كانوا كلهم عبيده‪ ،‬مفتقرين إليه‪ ،‬وهو غني عنهم‪ ،‬فكيف يكون منهم أحد‪،‬‬
‫يكون له ولدا‪ ،‬والولد ل بد أن يكون من جنس والده‪ ،‬لنه جزء منه‪.‬‬
‫والله تعالى المالك القاهر‪ ،‬وأنتم المملوكون المقهورون‪ ،‬وهو الغني وأنتم‬
‫الفقراء‪ ،‬فكيف مع هذا‪ ،‬يكون له ولد؟ هذا من أبطل الباطل وأسمجه‪.‬‬
‫والقنوت نوعان‪ :‬قنوت عام‪ :‬وهو قنوت الخلق كلهم‪ ،‬تحت تدبير الخالق‪،‬‬
‫وخاص‪ :‬وهو قنوت العبادة‪.‬‬
‫فالنوع الول كما في هذه الية‪ ،‬والنوع الثاني‪ :‬كما في قوله تعالى‪:‬‬
‫ن{‪.‬‬ ‫موا ل ِل ّهِ َقان ِِتي َ‬ ‫} وَُقو ُ‬
‫ض { أي‪ :‬خالقهما على وجه قد أتقنهما‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ديعُ ال ّ‬ ‫ثم قال‪ } :‬ب َ ِ‬
‫وأحسنهما على غير مثال سبق‪.‬‬
‫َ‬
‫ن { فل يستعصى عليه‪ ،‬ول يمتنع‬ ‫ن فَي َ ُ‬
‫كو ُ‬ ‫ل لَ ُ‬
‫ه كُ ْ‬ ‫قو ُ‬ ‫مًرا فَإ ِن ّ َ‬
‫ما ي َ ُ‬ ‫ضى أ ْ‬ ‫ذا قَ َ‬ ‫} وَإ ِ َ‬
‫منه‪.‬‬

‫) ‪(1/64‬‬

‫ْ‬
‫ن‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ك َقا َ‬ ‫ة ك َذ َل ِ َ‬ ‫ه أ َوْ ت َأِتيَنا آ َي َ ٌ‬
‫مَنا الل ّ ُ‬ ‫ن ل َوَْل ي ُك َل ّ ُ‬‫مو َ‬ ‫ن َل ي َعْل َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬‫وََقا َ‬
‫ن )‪ (118‬إ ِّنا‬ ‫قوْم ٍ ُيوقُِنو َ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫َ‬
‫م قَد ْ ب َي ّّنا اْلَيا ِ‬ ‫ت قُُلوب ُهُ ْ‬ ‫شاب َهَ ْ‬‫م تَ َ‬ ‫ل قَوْل ِهِ ْ‬ ‫مث ْ َ‬‫م ِ‬ ‫قَب ْل ِهِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حيم ِ )‪(119‬‬ ‫ج ِ‬‫ب ال ْ َ‬ ‫حا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ل عَ ْ‬ ‫سأ ُ‬ ‫ذيًرا وََل ت ُ ْ‬ ‫شيًرا وَن َ ِ‬‫حق ّ ب َ ِ‬ ‫ك ِبال ْ َ‬ ‫سل َْنا َ‬‫أْر َ‬
‫ْ‬
‫ه أ َوْ ت َأِتيَنا آي َ ٌ‬
‫ة‬ ‫مَنا الل ّ ُ‬ ‫ول ي ُك َل ّ ُ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫ن ل ي َعْل َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫} ‪ } { 119 - 118‬وََقا َ‬
‫م قَد ْ ب َي ّّنا الَيا ِ‬ ‫ُ‬
‫ت قُلوب ُهُ ْ‬ ‫م تَ َ‬ ‫ل قَوْل ِهِ ْ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫ن قَب ْل ِهِ ْ‬ ‫ل ال ّ ِ‬‫ك َقا َ‬ ‫ك َذ َل ِ َ‬
‫قوْم ٍ‬ ‫ت لِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫شاب َهَ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ْ‬ ‫م‬
‫ن ِ‬ ‫َ‬ ‫ذي‬
‫َ‬
‫حيم ِ {‬ ‫ج ِ‬ ‫ْ‬
‫ب ال َ‬ ‫حا ِ‬ ‫ص َ‬‫نأ ْ‬ ‫ل عَ ْ‬ ‫سأ ُ‬ ‫ذيًرا َول ت ُ ْ‬ ‫شيًرا وَن َ ِ‬ ‫حق ّ ب َ ِ‬ ‫ْ‬
‫ك ِبال َ‬ ‫سلَنا َ‬‫ْ‬ ‫ن * إ ِّنا أْر َ‬ ‫ُيوقُِنو َ‬
‫‪.‬‬
‫أي‪ :‬قال الجهلة من أهل الكتاب وغيرهم‪ :‬هل يكلمنا‪ ،‬كما كلم الرسل‪ } ،‬أوَ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ة { يعنون آيات القتراح‪ ،‬التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة‪ ،‬وآرائهم‬ ‫ت َأِتيَنا آي َ ٌ‬
‫الكاسدة‪ ،‬التي تجرأوا بها على الخالق‪ ،‬واستكبروا على رسله كقولهم‪:‬‬
‫ن ُتنز َ‬
‫ل‬ ‫بأ ْ‬
‫َ‬
‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ك أ َهْ ُ‬ ‫سأ َل ُ َ‬ ‫جهَْرةً { } ي َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫حّتى ن ََرى الل ّ َ‬ ‫ك َ‬ ‫ن لَ َ‬ ‫م َ‬‫ن ن ُؤْ ِ‬ ‫} لَ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ك { الية‪ ،‬وقالوا‪:‬‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫سى أك ْب ََر ِ‬ ‫مو َ‬ ‫سأُلوا ُ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ماِء فَ َ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫م ك َِتاًبا ِ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ة{‬ ‫جن ّ ٌ‬‫ه َ‬ ‫ن لَ ُ‬
‫كو ُ‬ ‫كنز أوْ ت َ ُ‬ ‫قى إ ِل َي ْهِ َ‬ ‫ذيًرا أوْ ي ُل ْ َ‬ ‫ه نَ ِ‬
‫مع َ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫كو َ‬ ‫ك فَي َ ُ‬ ‫مل َ ٌ‬ ‫ل إ ِل َي ْهِ َ‬‫ول أنز َ‬ ‫} لَ ْ‬
‫عا {‬ ‫ض ي َن ُْبو ً‬ ‫ن الْر ِ‬ ‫م َ‬ ‫جَر ل ََنا ِ‬ ‫ف ُ‬ ‫حّتى ت َ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ن لَ َ‬‫م َ‬ ‫ن ن ُؤْ ِ‬ ‫اليات وقوله‪ } :‬وََقاُلوا ل َ ْ‬
‫اليات‪.‬‬
‫فهذا دأبهم مع رسلهم‪ ،‬يطلبون آيات التعنت‪ ،‬ل آيات السترشاد‪ ،‬ولم يكن‬
‫قصدهم تبين الحق‪ ،‬فإن الرسل‪ ،‬قد جاءوا من اليات‪ ،‬بما يؤمن بمثله‬
‫ن { فكل موقن‪ ،‬فقد‬ ‫قوْم ٍ ُيوقُِنو َ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫البشر‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ } :‬قَد ْ ب َي ّّنا الَيا ِ‬
‫عرف من آيات الله الباهرة‪ ،‬وبراهينه الظاهرة‪ ،‬ما حصل له به اليقين‪،‬‬
‫واندفع عنه كل شك وريب‪.‬‬
‫ثم ذكر تعالى بعض آية موجزة مختصرة جامعة لليات الدالة على صدقه‬
‫َ‬
‫شيًرا‬
‫حق ّ ب َ ِ‬ ‫ك ِبال ْ َ‬
‫سل َْنا َ‬
‫صلى الله عليه وسلم وصحة ما جاء به فقال‪ } :‬إ ِّنا أْر َ‬
‫ذيًرا { فهذا مشتمل على اليات التي جاء بها‪ ،‬وهي ترجع إلى ثلثة‬ ‫وَن َ ِ‬
‫أمور‪:‬‬
‫الول‪ :‬في نفس إرساله‪ ،‬والثاني‪ :‬في سيرته وهديه ودله‪ ،‬والثالث‪ :‬في‬
‫معرفة ما جاء به من القرآن والسنة‪.‬‬
‫ك { والثالث دخل في‬ ‫سل َْنا َ‬ ‫َ‬
‫فالول والثاني‪ ،‬قد دخل في قوله‪ } :‬إ ِّنا أْر َ‬
‫حق ّ { ‪.‬‬ ‫قوله‪ِ } :‬بال ْ َ‬
‫وبيان المر الول وهو ‪ -‬نفس إرساله ‪ -‬أنه قد علم حالة أهل الرض قبل‬
‫بعثته صلى الله عليه وسلم وما كانوا عليه من عبادة الوثان والنيران‪،‬‬
‫والصلبان‪ ،‬وتبديلهم للديان‪ ،‬حتى كانوا في ظلمة من الكفر‪ ،‬قد عمتهم‬
‫وشملتهم‪ ،‬إل بقايا من أهل الكتاب‪ ،‬قد انقرضوا قبيل البعثة‪.‬‬
‫وقد علم أن الله تعالى لم يخلق خلقه سدى‪ ،‬ولم يتركهم همل لنه حكيم‬
‫عليم‪ ،‬قدير رحيم‪ ،‬فمن حكمته ورحمته بعباده‪ ،‬أن أرسل إليهم هذا‬
‫الرسول العظيم‪ ،‬يأمرهم بعبادة الرحمن وحده ل شريك له‪ ،‬فبمجرد‬
‫رسالته يعرف العاقل صدقه‪ ،‬وهو آية كبيرة على أنه رسول الله‪ ،‬وأما‬
‫الثاني‪ :‬فمن عرف النبي صلى الله عليه وسلم معرفة تامة‪ ،‬وعرف سيرته‬
‫وهديه قبل البعثة‪ ،‬ونشوءه على أكمل الخصال‪ ،‬ثم من بعد ذلك‪،‬‬
‫قد ازدادت مكارمه وأخلقه العظيمة الباهرة للناظرين‪ ،‬فمن عرفها‪ ،‬وسبر‬
‫أحواله‪ ،‬عرف أنها ل تكون إل أخلق النبياء الكاملين‪ ،‬لن الله تعالى جعل‬
‫الوصاف أكبر دليل على معرفة أصحابها وصدقهم وكذبهم‪.‬‬
‫وأما الثالث‪ :‬فهو معرفة ما جاء به صلى الله عليه وسلم من الشرع‬
‫العظيم‪ ،‬والقرآن الكريم‪ ،‬المشتمل على الخبارات الصادقة‪ ،‬والوامر‬
‫الحسنة‪ ،‬والنهي عن كل قبيح‪ ،‬والمعجزات الباهرة‪ ،‬فجميع اليات تدخل‬
‫في هذه الثلثة‪.‬‬
‫ذيًرا {‬ ‫شيًرا { أي لمن أطاعك بالسعادة الدنيوية والخروية‪ } ،‬ن َ ِ‬ ‫قوله‪ } :‬ب َ ِ‬
‫لمن عصاك بالشقاوة والهلك الدنيوي والخروي‪.‬‬
‫حيم ِ { أي‪ :‬لست مسئول عنهم‪ ،‬إنما عليك‬ ‫ب ال ْ َ‬
‫ج ِ‬ ‫حا ِ‬
‫ص َ‬
‫ل عَ َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫سأ َ ُ‬‫} َول ت ُ ْ‬
‫البلغ‪ ،‬وعلينا الحساب‪.‬‬

‫) ‪(1/64‬‬

‫دى الل ّهِ هُ َ‬


‫و‬ ‫ن هُ َ‬
‫ل إِ ّ‬‫م قُ ْ‬ ‫مل ّت َهُ ْ‬
‫حّتى ت َت ّب ِعَ ِ‬
‫صاَرى َ‬ ‫ك ال ْي َُهود ُ وََل الن ّ َ‬
‫ضى عَن ْ َ‬ ‫ن ت َْر َ‬ ‫وَل َ ْ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫ن الل ّهِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬‫ك ِ‬‫ما ل َ َ‬‫ن ال ْعِل ْم ِ َ‬ ‫م َ‬
‫ك ِ‬ ‫جاَء َ‬‫ذي َ‬‫م ب َعْد َ ال ّ ِ‬
‫واَءهُ ْ‬
‫ت أه ْ َ‬ ‫ن ات ّب َعْ َ‬ ‫َ‬
‫دى وَلئ ِ ِ‬ ‫ال ْهُ َ‬
‫صيرٍ )‪(120‬‬ ‫ي وََل ن َ ِ‬ ‫وَل ِ ّ‬

‫حّتى ت َت ّب ِعَ‬
‫صاَرى َ‬ ‫ك ال ْي َُهود ُ ] ص ‪َ [ 65‬ول الن ّ َ‬ ‫ضى عَن ْ َ‬ ‫ن ت َْر َ‬‫} ‪ } { 120‬وَل َ ْ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫جاَء َ‬
‫ك ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ب َعْد َ ال ّ ِ‬
‫واَءهُ ْ‬
‫ت أه ْ َ‬
‫ن ات ّب َعْ َ‬ ‫َ‬
‫دى وَلئ ِ ِ‬ ‫دى الل ّهِ هُوَ ال ْهُ َ‬ ‫ن هُ َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫مل ّت َهُ ْ‬
‫م قُ ْ‬ ‫ِ‬
‫صيرٍ { ‪.‬‬ ‫ي َول ن َ ِ‬ ‫ن وَل ِ ّ‬‫م ْ‬ ‫ّ‬
‫ن اللهِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫َ‬
‫ما ل َ‬ ‫ْ‬
‫العِلم ِ َ‬ ‫ْ‬
‫يخبر تعالى رسوله‪ ،‬أنه ل يرضى منه اليهود ول النصارى‪ ،‬إل باتباعه دينهم‪،‬‬
‫ن‬
‫لنهم دعاة إلى الدين الذي هم عليه‪ ،‬ويزعمون أنه الهدى‪ ،‬فقل لهم‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫دى { ‪.‬‬‫دى الل ّهِ { الذي أرسلت به } هُوَ ال ْهُ َ‬ ‫هُ َ‬
‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ب َعْد َ ال ِ‬
‫واَءهُ ْ‬
‫ت أه ْ َ‬
‫ن ات ّب َعْ َ‬
‫وأما ما أنتم عليه‪ ،‬فهو الهوى بدليل قوله } وَلئ ِ ِ‬
‫صيرٍ { ‪.‬‬ ‫ي َول ن َ ِ‬
‫ن وَل ِ ّ‬‫م ْ‬‫ن الل ّهِ ِ‬
‫م َ‬ ‫ما ل َ َ‬
‫ك ِ‬ ‫ن ال ْعِل ْم ِ َ‬
‫م َ‬ ‫جاَء َ‬
‫ك ِ‬ ‫َ‬
‫فهذا فيه النهي العظيم‪ ،‬عن اتباع أهواء اليهود والنصارى‪ ،‬والتشبه بهم‬
‫فيما يختص به دينهم‪ ،‬والخطاب وإن كان لرسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم فإن أمته داخلة في ذلك‪ ،‬لن العتبار بعموم المعنى ل بخصوص‬
‫المخاطب‪ ،‬كما أن العبرة بعموم اللفظ‪ ،‬ل بخصوص السبب‪.‬‬

‫) ‪(1/64‬‬

‫ه‬
‫فْر ب ِ ِ‬ ‫ن ي َك ْ ُ‬‫م ْ‬ ‫ن ب ِهِ وَ َ‬ ‫مُنو َ‬‫ك ي ُؤْ ِ‬ ‫حقّ ت َِلوَت ِهِ ُأول َئ ِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ب ي َت ُْلون َ ُ‬‫م ال ْك َِتا َ‬ ‫ذي َ‬
‫ن آت َي َْناهُ ُ‬ ‫ال ّ ُ ِ َ‬
‫َ‬
‫ت‬
‫م ُ‬‫ي ال ِّتي أن ْعَ ْ‬ ‫مت ِ َ‬ ‫ل اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ن )‪َ (121‬يا ب َِني إ ِ ْ‬ ‫سُرو َ‬ ‫خا ِ‬ ‫م ال ْ َ‬‫ك هُ ُ‬ ‫فَأول َئ ِ َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫س عَ ْ‬‫ف ٌ‬ ‫زي ن َ ْ‬ ‫ج ِ‬‫ما َل ت َ ْ‬ ‫قوا ي َوْ ً‬ ‫ن )‪َ (122‬وات ّ ُ‬ ‫مي َ‬‫م عََلى ال َْعال َ ِ‬ ‫ضل ْت ُك ُ ْ‬‫م وَأّني فَ ّ‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫ن )‪(123‬‬ ‫صُرو َ‬ ‫م ي ُن ْ َ‬‫ة وََل هُ ْ‬ ‫فاعَ ٌ‬ ‫ش َ‬‫فعَُها َ‬ ‫ل وََل ت َن ْ َ‬ ‫من َْها عَد ْ ٌ‬ ‫ل ِ‬ ‫قب َ ُ‬ ‫شي ًْئا وََل ي ُ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ف ٍ‬ ‫نَ ْ‬

‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ن ب ِهِ وَ َ‬‫مُنو َ‬ ‫ك ي ُؤْ ِ‬‫حقّ ِتلوَت ِهِ ُأول َئ ِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ب ي َت ُْلون َ ُ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬ ‫ن آت َي َْناهُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ثم قال‪ } :‬ال ّ ِ‬
‫ت‬
‫م ُ‬
‫َ‬
‫ي ال ِّتي أن ْعَ ْ‬ ‫مت ِ َ‬‫ل اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ن * َيا ب َِني إ ِ ْ‬ ‫سُرو َ‬ ‫خا ِ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫فْر ب ِهِ فَُأول َئ ِ َ‬ ‫ي َك ْ ُ‬
‫َ‬
‫س‬
‫ف ٍ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫س عَ ْ‬ ‫ف ٌ‬ ‫زي ن َ ْ‬ ‫ج ِ‬‫ما ل ت َ ْ‬ ‫قوا ي َوْ ً‬ ‫ن * َوات ّ ُ‬ ‫مي َ‬ ‫م عََلى ال َْعال َ ِ‬ ‫ضل ْت ُك ُ ْ‬‫م وَأّني فَ ّ‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫صُرو َ‬ ‫م ي ُن ْ َ‬
‫ة َول هُ ْ‬ ‫فاعَ ٌ‬ ‫ش َ‬ ‫فعَُها َ‬ ‫ل َول ت َن ْ َ‬ ‫من َْها عَد ْ ٌ‬ ‫ل ِ‬ ‫شي ًْئا َول ي ُ ْ‬
‫قب َ ُ‬ ‫َ‬
‫ن عليهم به منة مطلقة‪ ،‬أنهم‬ ‫يخبر تعالى أن الذين آتاهم الكتاب‪ ،‬وم ّ‬
‫حقّ ِتلوَت ِهِ { أي‪ :‬يتبعونه حق اتباعه‪ ،‬والتلوة‪ :‬التباع‪ ،‬فيحلون‬ ‫ه َ‬ ‫} ي َت ُْلون َ ُ‬
‫حلله‪ ،‬ويحرمون حرامه‪ ،‬ويعملون بمحكمه‪ ،‬ويؤمنون بمتشابهه‪ ،‬وهؤلء هم‬
‫السعداء من أهل الكتاب‪ ،‬الذين عرفوا نعمة الله وشكروها‪،‬‬
‫وآمنوا بكل الرسل‪ ،‬ولم يفرقوا بين أحد منهم‪.‬‬
‫فهؤلء‪ ،‬هم المؤمنون حقا‪ ،‬ل من قال منهم‪ } :‬نؤمن بما أنزل علينا‬
‫ويكفرون بما وراءه { ‪.‬‬
‫ن { وقد تقدم‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫فْر ب ِهِ فَأولئ ِ َ‬ ‫ْ‬
‫سُرو َ‬ ‫خا ِ‬ ‫م ال َ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ن ي َك ُ‬ ‫م ْ‬
‫ولهذا توعدهم بقوله } وَ َ‬
‫تفسير الية التي بعدها‪.‬‬

‫) ‪(1/65‬‬

‫عل ُ َ‬ ‫َ‬
‫ما َقا َ‬
‫ل‬ ‫ما ً‬ ‫س إِ َ‬ ‫ك ِللّنا ِ‬ ‫جا ِ‬ ‫ل إ ِّني َ‬ ‫ن َقا َ‬ ‫مه ُ ّ‬ ‫ت فَأت َ ّ‬ ‫ما ٍ‬ ‫ه ب ِك َل ِ َ‬ ‫م َرب ّ ُ‬‫هي َ‬ ‫وَإ ِذِ اب ْت ََلى إ ِب َْرا ِ‬
‫مَثاب َ ً‬
‫ة‬ ‫ت َ‬ ‫جعَل َْنا ال ْب َي ْ َ‬ ‫ن )‪ (124‬وَإ ِذ ْ َ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫دي ال ّ‬ ‫ل عَهْ ِ‬ ‫ل َل ي ََنا ُ‬ ‫ن ذ ُّري ِّتي َقا َ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ ِ‬
‫َ‬
‫م‬
‫هي َ‬ ‫صّلى وَعَهِد َْنا إ َِلى إ ِب َْرا ِ‬ ‫م َ‬ ‫م ُ‬ ‫هي َ‬ ‫قام ِ إ ِب َْرا ِ‬ ‫م َ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬‫مًنا َوات ّ ِ‬ ‫س وَأ ْ‬ ‫ِللّنا ِ‬
‫َ‬
‫جودِ )‪(125‬‬ ‫س ُ‬ ‫ن َوالّرك ِّع ال ّ‬ ‫في َ‬ ‫ن َوال َْعاك ِ ِ‬ ‫في َ‬ ‫ي ِلل ّ‬
‫طائ ِ ِ‬ ‫ن ط َهَّرا ب َي ْت ِ َ‬ ‫لأ ْ‬ ‫عي َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬‫وَإ ِ ْ‬
‫عل ُ َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫جا ِ‬‫ل إ ِّني َ‬ ‫ن َقا َ‬ ‫مه ُ ّ‬ ‫ت فَأت َ ّ‬ ‫ما ٍ‬‫ه ب ِك َل ِ َ‬ ‫م َرب ّ ُ‬ ‫هي َ‬ ‫} ‪ } { 125 - 124‬وَإ ِذِ اب ْت ََلى إ ِب َْرا ِ‬
‫جعَل َْنا‬ ‫ن * وَإ ِذ ْ َ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬‫دي ال ّ‬ ‫ل عَهْ ِ‬ ‫ل ل ي ََنا ُ‬ ‫ن ذ ُّري ِّتي َقا َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل وَ ِ‬ ‫ما َقا َ‬ ‫ما ً‬ ‫س إِ َ‬ ‫ِللّنا ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫صلى وَعَهِد َْنا إ ِلى‬ ‫م َ‬ ‫م ُ‬ ‫هي َ‬‫قام ِ إ ِب َْرا ِ‬ ‫م َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬‫مًنا َوات ّ ِ‬ ‫س وَأ ْ‬ ‫ة ِللّنا ِ‬ ‫مَثاب َ ً‬ ‫ت َ‬ ‫ال ْب َي ْ َ‬
‫عي َ َ‬
‫جودِ { ‪.‬‬ ‫س ُ‬‫ن َوالّرك ِّع ال ّ‬ ‫ن َوال َْعاك ِ ِ‬
‫في َ‬ ‫في َ‬ ‫ي ِلل ّ‬
‫طائ ِ ِ‬ ‫ن ط َهَّرا ب َي ْت ِ َ‬ ‫لأ ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫م وَإ ِ ْ‬‫هي َ‬ ‫إ ِب َْرا ِ‬
‫يخبر تعالى‪ ،‬عن عبده وخليله‪ ،‬إبراهيم عليه السلم‪ ،‬المتفق على إمامته‬
‫وجللته‪ ،‬الذي كل من طوائف أهل الكتاب تدعيه‪ ،‬بل وكذلك المشركون‪:‬‬
‫أن الله ابتله وامتحنه بكلمات‪ ،‬أي‪ :‬بأوامر ونواهي‪ ،‬كما هي عادة الله في‬
‫ابتلئه لعباده‪ ،‬ليتبين الكاذب الذي ل يثبت عند البتلء والمتحان من‬
‫الصادق‪ ،‬الذي ترتفع درجته‪ ،‬ويزيد قدره‪ ،‬ويزكو عمله‪ ،‬ويخلص ذهبه‪ ،‬وكان‬
‫من أجّلهم في هذا المقام‪ ،‬الخليل عليه السلم‪.‬‬
‫فأتم ما ابتله الله به‪ ،‬وأكمله ووفاه‪ ،‬فشكر الله له ذلك‪ ،‬ولم يزل الله‬
‫ما { أي‪ :‬يقتدون بك في الهدى‪،‬‬ ‫ما ً‬ ‫س إِ َ‬
‫ك ِللّنا ِ‬ ‫عل ُ َ‬ ‫جا ِ‬ ‫شكورا فقال‪ } :‬إ ِّني َ‬
‫ويمشون خلفك إلى سعادتهم البدية‪ ،‬ويحصل لك الثناء الدائم‪ ،‬والجر‬
‫الجزيل‪ ،‬والتعظيم من كل أحد‪.‬‬
‫وهذه ‪ -‬لعمر الله ‪ -‬أفضل درجة‪ ،‬تنافس فيها المتنافسون‪ ،‬وأعلى مقام‪،‬‬
‫شمر إليه العاملون‪ ،‬وأكمل حالة حصلها أولو العزم من المرسلين‬
‫وأتباعهم‪ ،‬من كل صديق متبع لهم‪ ،‬داع إلى الله وإلى سبيله‪.‬‬
‫فلما اغتبط إبراهيم بهذا المقام‪ ،‬وأدرك هذا‪ ،‬طلب ذلك لذريته‪ ،‬لتعلو‬
‫درجته ودرجة ذريته‪ ،‬وهذا أيضا من إمامته‪ ،‬ونصحه لعباد الله‪ ،‬ومحبته أن‬
‫يكثر فيهم المرشدون‪ ،‬فلله عظمة هذه الهمم العالية‪ ،‬والمقامات‬
‫السامية‪.‬‬
‫فأجابه الرحيم اللطيف‪ ،‬وأخبر بالمانع من نيل هذا المقام فقال‪ } :‬ل ي ََنا ُ‬
‫ل‬
‫ن { أي‪ :‬ل ينال المامة في الدين‪ ،‬من ظلم نفسه وضرها‪،‬‬ ‫مي َ‬ ‫دي ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫عَهْ ِ‬
‫وحط قدرها‪ ،‬لمنافاة الظلم لهذا المقام‪ ،‬فإنه مقام آلته الصبر واليقين‪،‬‬
‫ونتيجته أن يكون صاحبه على جانب عظيم من اليمان والعمال الصالحة‪،‬‬
‫والخلق الجميلة‪ ،‬والشمائل السديدة‪ ،‬والمحبة التامة‪ ،‬والخشية والنابة‪،‬‬
‫فأين الظلم وهذا المقام؟‬
‫ودل مفهوم الية‪ ،‬أن غير الظالم‪ ،‬سينال المامة‪ ،‬ولكن مع إتيانه بأسبابها‪.‬‬
‫ثم ذكر تعالى‪ ،‬نموذجا باقيا دال على إمامة إبراهيم‪ ،‬وهو هذا البيت الحرام‬
‫الذي جعل قصده‪ ،‬ركنا من أركان السلم‪ ،‬حاطا للذنوب والثام‪.‬‬
‫وفيه من آثار الخليل وذريته‪ ،‬ما عرف به إمامته‪ ،‬وتذكرت به حالته فقال‪:‬‬
‫س { أي‪ :‬مرجعا يثوبون إليه‪ ،‬لحصول منافعهم‬ ‫ة ِللّنا ِ‬ ‫مَثاب َ ً‬‫ت َ‬ ‫جعَل َْنا ال ْب َي ْ َ‬ ‫} وَإ ِذ ْ َ‬
‫الدينية والدنيوية‪ ،‬يترددون إليه‪ ،‬ول يقضون منه وطرا‪ } ،‬و { جعله‬
‫مًنا { يأمن به كل أحد‪ ،‬حتى الوحش‪ ،‬وحتى الجمادات كالشجار‪.‬‬ ‫َ‬
‫}أ ْ‬
‫ولهذا كانوا في الجاهلية ‪ -‬على شركهم ‪ -‬يحترمونه أشد الحترام‪ ،‬ويجد‬
‫أحدهم قاتل أبيه في الحرم‪ ،‬فل يهيجه‪ ،‬فلما جاء السلم‪ ،‬زاده حرمة‬
‫وتعظيما‪ ،‬وتشريفا وتكريما‪.‬‬
‫صّلى { يحتمل أن يكون المراد بذلك‪،‬‬ ‫م َ‬ ‫م ُ‬ ‫هي َ‬ ‫قام ِ إ ِب َْرا ِ‬‫م َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬‫} َوات ّ ِ‬
‫المقام المعروف الذي قد جعل الن‪ ،‬مقابل باب الكعبة‪ ،‬وأن المراد بهذا‪،‬‬
‫ركعتا الطواف‪ ،‬يستحب أن تكونا خلف مقام إبراهيم‪ ،‬وعليه جمهور‬
‫المفسرين‪ ،‬ويحتمل أن يكون المقام مفردا مضافا‪ ،‬فيعم جميع مقامات‬
‫إبراهيم في الحج‪ ،‬وهي المشاعر كلها‪ :‬من الطواف‪ ،‬والسعي‪ ،‬والوقوف‬
‫بعرفة‪ ،‬ومزدلفة ورمي الجمار والنحر‪ ،‬وغير ذلك من أفعال الحج‪.‬‬
‫صّلى { أي‪ :‬معبدا‪ ،‬أي‪ :‬اقتدوا به في شعائر الحج‪،‬‬ ‫م َ‬ ‫فيكون معنى قوله‪ُ } :‬‬
‫ولعل هذا المعنى أولى‪ ،‬لدخول المعنى الول فيه‪ ،‬واحتمال اللفظ له‪.‬‬
‫ل { أي‪ :‬أوحينا إليهما‪ ،‬وأمرناهما بتطهير‬ ‫عي َ‬‫ما ِ‬ ‫س َ‬
‫م وَإ ِ ْ‬ ‫} وَعَهِد َْنا إ َِلى إ ِب َْرا ِ‬
‫هي َ‬
‫بيت الله من الشرك‪ ،‬والكفر والمعاصي‪ ،‬ومن الرجس والنجاسات ] ص‬
‫جودِ {‬ ‫ن َوالّرك ِّع ال ّ‬
‫س ُ‬ ‫ن { فيه } َوال َْعاك ِ ِ‬
‫في َ‬ ‫في َ‬ ‫‪ [ 66‬والقذار‪ ،‬ليكون } ِلل ّ‬
‫طائ ِ ِ‬
‫أي‪ :‬المصلين‪ ،‬قدم الطواف‪ ،‬لختصاصه بالمسجد ]الحرام[‪ ،‬ثم العتكاف‪،‬‬
‫لن من شرطه المسجد مطلقا‪ ،‬ثم الصلة‪ ،‬مع أنها أفضل‪ ،‬لهذا المعنى‪.‬‬
‫وأضاف الباري البيت إليه لفوائد‪ ،‬منها‪ :‬أن ذلك يقتضي شدة اهتمام‬
‫إبراهيم وإسماعيل بتطهيره‪ ،‬لكونه بيت الله‪ ،‬فيبذلن جهدهما‪ ،‬ويستفرغان‬
‫وسعهما في ذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الضافة تقتضي التشريف والكرام‪ ،‬ففي ضمنها أمر عباده‬
‫بتعظيمه وتكريمه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن هذه الضافة هي السبب الجاذب للقلوب إليه‪.‬‬

‫) ‪(1/65‬‬

‫تم َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬‫نآ َ‬ ‫مَرا ِ َ ْ‬ ‫ن الث ّ َ‬ ‫م َ‬
‫ه ِ‬ ‫مًنا َواْرُزقْ أهْل َ ُ‬ ‫دا آ َ ِ‬‫ذا ب َل َ ً‬
‫ل هَ َ‬‫جعَ ْ‬‫با ْ‬ ‫م َر ّ‬ ‫هي ُ‬ ‫ل إ ِب َْرا ِ‬ ‫وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ب‬
‫ذا ِ‬ ‫ضط َّرهُ إ َِلى عَ َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ه قَِليًل ث ُ ّ‬ ‫فَر فَأ َ‬
‫مت ّعُ ُ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل وَ َ‬‫خرِ َقا َ‬‫م ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ اْل َ ِ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫ِ‬
‫صيُر )‪(126‬‬ ‫م ِ‬ ‫ْ‬
‫س ال َ‬ ‫ْ‬
‫الّنارِ وَب ِئ َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬
‫ه ِ‬ ‫مًنا َواْرُزقْ أهْل َ ُ‬ ‫دا آ ِ‬ ‫ذا ب َل َ ً‬‫ل هَ َ‬‫جع َ ْ‬‫با ْ‬ ‫م َر ّ‬ ‫هي ُ‬ ‫} ‪ } { 126‬وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫ل إ ِب َْرا ِ‬
‫ُ‬
‫ه قَِليل ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫فَر فَأ َ‬
‫مت ّعُ ُ‬ ‫ن كَ َ‬‫م ْ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫خرِ َقا َ‬ ‫م ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬
‫ت َ‬‫مَرا ِ‬ ‫الث ّ َ‬
‫َ‬
‫صيُر { ‪.‬‬ ‫م ِ‬‫س ال ْ َ‬‫ب الّنارِ وَب ِئ ْ َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ضط َّرهُ إ َِلى عَ َ‬ ‫أ ْ‬
‫أي‪ :‬وإذ دعا إبراهيم لهذا البيت‪ ،‬أن يجعله الله بلدا آمنا‪ ،‬ويرزق أهله من‬
‫أنواع الثمرات‪ ،‬ثم قيد عليه السلم هذا الدعاء للمؤمنين‪ ،‬تأدبا مع الله‪ ،‬إذ‬
‫كان دعاؤه الول‪ ،‬فيه الطلق‪ ،‬فجاء الجواب فيه مقيدا بغير الظالم‪.‬‬
‫فلما دعا لهم بالرزق‪ ،‬وقيده بالمؤمن‪ ،‬وكان رزق الله شامل للمؤمن‬
‫فَر { أي‪ :‬أرزقهم كلهم‪،‬‬ ‫ن كَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫والكافر‪ ،‬والعاصي والطائع‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫مسلمهم وكافرهم‪ ،‬أما المسلم فيستعين بالرزق على عبادة الله‪ ،‬ثم ينتقل‬
‫ضط َّره ُ { أي‪:‬‬ ‫منه إلى نعيم الجنة‪ ،‬وأما الكافر‪ ،‬فيتمتع فيها قليل } ث ُ َ‬
‫مأ ْ‬ ‫ّ‬
‫صيُر { ‪.‬‬ ‫م ِ‬ ‫س ال ْ َ‬‫ب الّنارِ وَب ِئ ْ َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ألجئه وأخرجه مكرها } إ َِلى عَ َ‬

‫) ‪(1/66‬‬

‫ل منا إن َ َ‬
‫ت‬‫ك أن ْ َ‬ ‫قب ّ ْ ِ ّ ِ ّ‬ ‫ل َرب َّنا ت َ َ‬ ‫عي ُ‬ ‫ما ِ‬‫س َ‬ ‫ت وَإ ِ ْ‬ ‫ن ال ْب َي ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫عد َ ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫ق َ‬ ‫هي ُ‬ ‫وَإ ِذ ْ ي َْرفَعُ إ ِب َْرا ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ةل َ‬
‫ك‬ ‫م ً‬‫سل ِ َ‬
‫م ْ‬ ‫ة ُ‬‫م ً‬ ‫ن ذ ُّري ّت َِنا أ ّ‬ ‫م ْ‬‫ك وَ ِ‬ ‫نل َ‬ ‫مي ْ ِ‬
‫سل ِ َ‬
‫م ْ‬ ‫جعَلَنا ُ‬ ‫م )‪َ (127‬رب َّنا َوا ْ‬ ‫ميعُ ال ْعَِلي ُ‬ ‫س ِ‬‫ال ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ث ِفيهِ ْ‬ ‫م )‪َ (128‬رب َّنا َواب ْعَ ْ‬ ‫حي ُ‬‫ب الّر ِ‬ ‫وا ُ‬ ‫ت الت ّ ّ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫ب عَلي َْنا إ ِن ّ َ‬ ‫سك ََنا وَت ُ ْ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫وَأرَِنا َ‬
‫كيهم إن َ َ‬ ‫ب َوال ْ ِ‬ ‫م آ ََيات ِ َ‬
‫ت‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫ة وَي َُز ّ ِ ْ ِ ّ‬ ‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬ ‫مه ُ ُ‬‫ك وَي ُعَل ّ ُ‬ ‫م ي َت ُْلو عَل َي ْهِ ْ‬ ‫سوًل ِ‬
‫من ْهُ ْ‬ ‫َر ُ‬
‫م )‪(129‬‬ ‫كي ُ‬‫ح ِ‬ ‫زيُز ال ْ َ‬‫ال ْعَ ِ‬
‫ل َرب َّنا‬ ‫عي ُ‬
‫ما ِ‬ ‫س َ‬‫ت وَإ ِ ْ‬ ‫ن ال ْب َي ْ ِ‬
‫م َ‬ ‫عد َ ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫ق َ‬‫م ال ْ َ‬ ‫} ‪ } { 129 - 127‬وَإ ِذ ْ ي َْرفَعُ إ ِب َْرا ِ‬
‫هي ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل منا إن َ َ‬
‫ن ذ ُّري ّت َِنا‬
‫م ْ‬ ‫ك وَ ِ‬ ‫نل َ‬ ‫مي ْ ِ‬‫سل ِ َ‬‫م ْ‬‫جعَلَنا ُ‬ ‫م * َرب َّنا َوا ْ‬ ‫ميعُ ال ْعَِلي ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ت ال ّ‬‫ك أن ْ َ‬ ‫قب ّ ْ ِ ّ ِ ّ‬ ‫تَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م * َرب َّنا‬ ‫حي ُ‬ ‫ب الّر ِ‬ ‫وا ُ‬ ‫ت الت ّ ّ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫ب عَلي َْنا إ ِن ّ َ‬ ‫سك ََنا وَت ُ ْ‬‫مَنا ِ‬ ‫ك وَأرَِنا َ‬ ‫ةل َ‬ ‫م ً‬ ‫سل ِ َ‬
‫م ْ‬
‫ة ُ‬
‫م ً‬
‫أ ّ‬
‫ة‬
‫م َ‬ ‫ب َوال ْ ِ‬
‫حك ْ َ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬‫مه ُ ُ‬ ‫ك وَي ُعَل ّ ُ‬ ‫م آَيات ِ َ‬ ‫م ي َت ُْلو عَل َي ْهِ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫سول ِ‬ ‫م َر ُ‬ ‫ث ِفيهِ ْ‬ ‫َواب ْعَ ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وَي َُز ّ‬
‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيُز ال َ‬ ‫ت العَ ِ‬ ‫م إ ِن ّك أن ْ َ‬ ‫كيهِ ْ‬
‫أي‪ :‬واذكر إبراهيم وإسماعيل‪ ،‬في حالة رفعهما القواعد من البيت‬
‫الساس‪ ،‬واستمرارهما على هذا العمل العظيم‪ ،‬وكيف كانت حالهما من‬
‫الخوف والرجاء‪ ،‬حتى إنهما مع هذا العمل دعوا الله أن يتقبل منهما‬
‫عملهما‪ ،‬حتى يحصل )‪ (1‬فيه النفع العميم‪.‬‬
‫ودعوا لنفسهما‪ ،‬وذريتهما بالسلم‪ ،‬الذي حقيقته‪ ،‬خضوع القلب‪ ،‬وانقياده‬
‫سك ََنا { أي‪ :‬علمناها على وجه‬ ‫َ‬
‫مَنا ِ‬ ‫لربه المتضمن لنقياد الجوارح‪ } .‬وَأرَِنا َ‬
‫الراءة والمشاهدة‪ ،‬ليكون أبلغ‪ .‬يحتمل أن يكون المراد بالمناسك‪ :‬أعمال‬
‫الحج كلها‪ ،‬كما يدل عليه السياق والمقام‪ ،‬ويحتمل أن يكون المراد ما هو‬
‫أعم من ذلك وهو الدين كله‪ ،‬والعبادات كلها‪ ،‬كما يدل عليه عموم اللفظ‪،‬‬
‫لن النسك‪ :‬التعبد‪ ،‬ولكن غلب على متعبدات الحج‪ ،‬تغليبا عرفيا‪ ،‬فيكون‬
‫حاصل دعائهما‪ ،‬يرجع إلى التوفيق للعلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح‪ ،‬ولما كان‬
‫ب‬
‫العبد ‪ -‬مهما كان ‪ -‬ل بد أن يعتريه التقصير‪ ،‬ويحتاج إلى التوبة قال } وَت ُ ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫عَل َينا إن َ َ‬
‫حي ُ‬ ‫ب الّر ِ‬ ‫وا ُ‬ ‫ت الت ّ ّ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫َْ ِّ‬
‫م { ليكون أرفع‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫سول ِ‬ ‫م { أي‪ :‬في ذريتنا } َر ُ‬ ‫ث ِفيهِ ْ‬ ‫} َرب َّنا َواب ْعَ ْ‬
‫َ‬
‫م آَيات ِك {‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫لدرجتهما‪ ،‬ولينقادوا له‪ ،‬وليعرفوه حقيقة المعرفة‪ } .‬ي َت ْلو عَلي ْهِ ْ‬
‫ة { معنى‪.‬‬ ‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ب َوال ْ ِ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬ ‫مه ُ ُ‬ ‫لفظا‪ ،‬وحفظا‪ ،‬وتحفيظا } وَي ُعَل ّ ُ‬
‫م { بالتربية على العمال الصالحة والتبري من العمال الردية‪،‬‬ ‫} وَي َُز ّ‬
‫كيهِ ْ‬
‫زيُز { أي‪ :‬القاهر لكل‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫التي ل تزكي النفوس )‪ (2‬معها‪ } .‬إ ِن ّ َ‬
‫ت الع َ ِ‬ ‫ك أن ْ َ‬
‫م { الذي يضع الشياء‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬‫شيء‪ ،‬الذي ل يمتنع على قوته شيء‪ } .‬ال ْ َ‬
‫مواضعها‪ ،‬فبعزتك وحكمتك‪ ،‬ابعث فيهم هذا الرسول‪ .‬فاستجاب الله لهما‪،‬‬
‫فبعث الله هذا الرسول الكريم‪ ،‬الذي رحم الله به ذريتهما خاصة‪ ،‬وسائر‬
‫الخلق عامة‪ ،‬ولهذا قال عليه الصلة والسلم‪" :‬أنا دعوة أبي إبراهيم " ‪.‬‬
‫ولما عظم الله إبراهيم هذا التعظيم‪ ،‬وأخبر عن صفاته الكاملة قال تعالى‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬حتى يجعل‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬النفس‪.‬‬

‫) ‪(1/66‬‬

‫في َْناهُ ِفي الد ّن َْيا‬ ‫صط َ َ‬ ‫قدِ ا ْ‬ ‫ه وَل َ َ‬ ‫س ُ‬‫ف َ‬ ‫ه نَ ْ‬ ‫ف َ‬‫س ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م إ ِّل َ‬
‫م ْ‬ ‫هي َ‬ ‫مل ّةِ إ ِب َْرا ِ‬‫ن ِ‬ ‫ب عَ ْ‬ ‫ن ي َْرغَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ َ‬
‫ت‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م َقا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن )‪ (130‬إ ِذ ْ َقا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م ُ‬ ‫سل ْ‬ ‫لأ ْ‬ ‫سل ِ ْ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ه َرب ّ ُ‬ ‫لل ُ‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫خَرةِ ل ِ‬ ‫ه ِفي ال ِ‬ ‫وَإ ِن ّ ُ‬
‫هّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ي إِ ّ‬ ‫ب َيا ب َن ِ ّ‬ ‫قو ُ‬ ‫م ب َِنيهِ وَي َعْ ُ‬ ‫هي ُ‬ ‫صى ب َِها إ ِب َْرا ِ‬ ‫ن )‪ (131‬وَوَ ّ‬ ‫مي َ‬ ‫َ‬
‫ب الَعال ِ‬ ‫ْ‬ ‫ل َِر ّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫داَء إ ِذ ْ‬ ‫شه َ َ‬ ‫م ُ‬ ‫م كن ْت ُ ْ‬ ‫ن )‪ (132‬أ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ن إ ِل وَأن ْت ُ ْ‬ ‫موت ُ ّ‬ ‫ن فَل ت َ ُ‬ ‫دي َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫فى لك ُ‬ ‫صط َ‬ ‫ا ْ‬
‫هَ‬
‫ك وَإ ِل َ‬ ‫َ‬
‫دي َقالوا ن َعْب ُد ُ إ ِلهَ َ‬ ‫ُ‬ ‫ن ب َعْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ت َعْب ُ ُ‬ ‫ل ل ِب َِنيهِ َ‬ ‫ت إ ِذ ْ َقا َ‬ ‫موْ ُ‬ ‫ْ‬
‫ب ال َ‬ ‫قو َ‬ ‫ضَر ي َعْ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(133‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫َ‬
‫نل ُ‬ ‫ُ‬ ‫ح‬
‫دا وَن َ ْ‬ ‫ح ً‬ ‫َ‬
‫حاقَ إ ِلًها َوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ل وَإ ِ ْ‬ ‫عي َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬‫م وَإ ِ ْ‬ ‫هي َ‬ ‫ك إ ِب َْرا ِ‬ ‫آ ََبائ ِ َ‬
‫خل َت ل َها ما ك َسبت ول َك ُم ما ك َسبتم وَل ت َ‬ ‫ت ِل ْ َ ُ‬
‫كاُنوا‬ ‫ما َ‬ ‫ن عَ ّ‬ ‫سأُلو َ‬ ‫َ ُْ ْ َ ُ ْ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ‬ ‫ة قَد ْ َ ْ َ َ‬ ‫م ٌ‬ ‫كأ ّ‬
‫ن )‪(134‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ي َعْ َ‬

‫قدِ‬‫ه وَل َ َ‬
‫س ُ‬ ‫ف َ‬‫ه نَ ْ‬
‫ف َ‬‫س ِ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫م ِإل َ‬‫هي َ‬‫مل ّةِ إ ِب َْرا ِ‬
‫ن ِ‬ ‫ن ي َْرغَ ُ‬
‫ب عَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫} ‪ } { 134 - 130‬وَ َ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن * إ ِذ ْ َقا َ‬ ‫َ‬ ‫صط َ َ‬
‫سل ِ ْ‬‫هأ ْ‬ ‫ه َرب ّ ُ‬‫لل ُ‬ ‫حي َ‬‫صال ِ ِ‬
‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬‫خَرةِ ل ِ‬‫ه ِفي ال ِ‬ ‫في َْناهُ ِفي الد ّن َْيا وَإ ِن ّ ُ‬ ‫ا ْ‬
‫َقا َ َ‬
‫ن‬
‫ي إِ ّ‬ ‫ب َيا ب َن ِ ّ‬ ‫قو ُ‬ ‫م ب َِنيهِ وَي َعْ ُ‬ ‫هي ُ‬ ‫صى ب َِها إ ِب َْرا ِ‬ ‫ن * وَوَ ّ‬ ‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫ت ل َِر ّ‬ ‫م ُ‬ ‫سل َ ْ‬ ‫لأ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫داَء إ ِذ ْ‬ ‫شه َ َ‬ ‫م ُ‬ ‫م ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ن*أ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ِإل وَأن ْت ُ ْ‬ ‫موت ُ ّ‬ ‫ن َفل ت َ ُ‬ ‫دي َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫فى ل َك ُ ُ‬ ‫صط َ َ‬ ‫ها ْ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ك وَإ ِل َ َ‬
‫ه‬ ‫دي َقاُلوا ن َعْب ُد ُ إ ِل َهَ َ‬ ‫ن ب َعْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ت َعْب ُ ُ‬ ‫ل ل ِب َِنيهِ َ‬ ‫ت إ ِذ ْ َقا َ‬ ‫موْ ُ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫قو َ‬ ‫ضَر ي َعْ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫َ‬
‫ة‬‫م ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫عي َ‬ ‫َ‬
‫ن * ت ِلك أ ّ‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫نل ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫دا وَن َ ْ‬ ‫ح ً‬ ‫حاقَ إ ِلًها َوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ل وَإ ِ ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬‫م وَإ ِ ْ‬ ‫هي َ‬ ‫آَبائ ِك إ ِب َْرا ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ملو َ‬ ‫ما كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫َ‬ ‫ن عَ ّ‬ ‫سألو َ‬ ‫م َول ت ُ ْ‬ ‫سب ْت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ما ك َ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ت وَلك ْ‬ ‫سب َ ْ‬ ‫ما ك َ‬‫َ‬ ‫ت ل ََها َ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫قَد ْ َ‬
‫ه‬
‫ف َ‬ ‫س ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م { بعد ما عرف من فضله } ِإل َ‬ ‫هي َ‬ ‫ملةِ إ ِب َْرا ِ‬ ‫ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫أي‪ :‬ما يرغب } عَ ْ‬
‫ه { أي‪ :‬جهلها وامتهنها‪ ،‬ورضي لها بالدون‪ ،‬وباعها بصفقة المغبون‪،‬‬ ‫س ُ‬ ‫ف َ‬ ‫نَ ْ‬
‫كما أنه ل أرشد وأكمل‪ ،‬ممن رغب في ملة إبراهيم‪ ،‬ثم أخبر عن حالته‬
‫في َْناهُ ِفي الد ّن َْيا { أي‪ :‬اخترناه‬ ‫صط َ َ‬ ‫قدِ ا ْ‬ ‫في الدنيا والخرة فقال‪ } :‬وَل َ َ‬
‫ووفقناه للعمال‪ ،‬التي صار بها من ] ص ‪ [ 67‬المصطفين الخيار‪.‬‬
‫ن { الذين لهم أعلى الدرجات‪.‬‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫خَرةِ ل َ ِ‬ ‫ه ِفي ال ِ‬ ‫} وَإ ِن ّ ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‬ ‫مي َ‬ ‫ب الَعال ِ‬ ‫ت ل َِر ّ‬ ‫م ُ‬ ‫سل ْ‬ ‫م قال { امتثال لربه } أ ْ‬ ‫َ‬ ‫سل ِ ْ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ه َرب ّ ُ‬‫} إ ِذ ْ َقال ل ُ‬
‫َ‬
‫إخلصا وتوحيدا‪ ،‬ومحبة‪ ،‬وإنابة فكان التوحيد لله نعته‪.‬‬
‫ثم ورثه في ذريته‪ ،‬ووصاهم به‪ ،‬وجعلها كلمة باقية في عقبه‪ ،‬وتوارثت‬
‫فيهم‪ ،‬حتى وصلت ليعقوب فوصى بها بنيه‪.‬‬
‫فأنتم ‪ -‬يا بني يعقوب ‪ -‬قد وصاكم أبوكم بالخصوص‪ ،‬فيجب عليكم كمال‬
‫ن{‬ ‫دي َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫فى ل َك ُ ُ‬ ‫صط َ َ‬ ‫ها ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ي إِ ّ‬ ‫النقياد‪ ،‬واتباع خاتم النبياء قال‪َ } :‬يا ب َن ِ ّ‬
‫أي‪ :‬اختاره وتخيره لكم‪ ،‬رحمة بكم‪ ،‬وإحسانا إليكم‪ ،‬فقوموا به‪ ،‬واتصفوا‬
‫بشرائعه‪ ،‬وانصبغوا بأخلقه‪ ،‬حتى تستمروا على ذلك فل يأتيكم الموت إل‬
‫وأنتم عليه‪ ،‬لن من عاش على شيء‪ ،‬مات عليه‪ ،‬ومن مات على شيء‪،‬‬
‫بعث عليه‪.‬‬
‫ولما كان اليهود يزعمون أنهم على ملة إبراهيم‪ ،‬ومن بعده يعقوب‪ ،‬قال‬
‫َ‬
‫ب‬‫قو َ‬ ‫ضَر ي َعْ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫داَء { أي‪ :‬حضورا } إ ِذ ْ َ‬ ‫شه َ َ‬ ‫م ُ‬ ‫م ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫تعالى منكرا عليهم‪ } :‬أ ْ‬
‫ت { أي‪ :‬مقدماته وأسبابه‪ ،‬فقال لبنيه على وجه الختبار‪ ،‬ولتقر عينه‬ ‫موْ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫دي { ؟ فأجابوه بما‬ ‫ن ب َعْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ت َعْب ُ ُ‬ ‫في حياته بامتثالهم ما وصاهم به‪َ } :‬‬
‫ق‬
‫حا َ‬ ‫س َ‬ ‫عيل وَإ ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫م وَإ ِ ْ‬ ‫هي َ‬ ‫ه آَبائ ِك إ ِب َْرا ِ‬ ‫َ‬ ‫ك وَإ ِل َ َ‬ ‫قرت به عينه فقالوا‪ } :‬ن َعْب ُد ُ إ ِل َهَ َ‬
‫ن{‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫دا { فل نشرك به شيئا‪ ،‬ول نعدل به أحدا‪ } ،‬وَن َ ْ‬ ‫ح ً‬ ‫إ ِل ًَها َوا ِ‬
‫فجمعوا بين التوحيد والعمل‪.‬‬
‫ومن المعلوم أنهم لم يحضروا يعقوب‪ ،‬لنهم لم يوجدوا بعد‪ ،‬فإذا لم‬
‫يحضروا‪ ،‬فقد أخبر الله عنه أنه وصى بنيه بالحنيفية‪ ،‬ل باليهودية‪.‬‬
‫َ‬ ‫ثم قال تعالى‪ } :‬ت ِل ْ َ ُ‬
‫ما‬‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ت وَلك ْ‬ ‫سب َ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫ت { أي‪ :‬مضت } ل ََها َ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫ة قَد ْ َ‬ ‫م ٌ‬ ‫كأ ّ‬
‫م { أي‪ :‬كل له عمله‪ ،‬وكل سيجازى بما فعله‪ ،‬ل يؤخذ )‪ (1‬أحد بذنب‬ ‫سب ْت ُ ْ‬ ‫كَ َ‬
‫أحد ول ينفع أحدا إل إيمانه وتقواه فاشتغالكم بهم وادعاؤكم‪ ،‬أنكم على‬
‫ملتهم‪ ،‬والرضا بمجرد القول‪ ،‬أمر فارغ ل حقيقة له‪ ،‬بل الواجب عليكم‪ ،‬أن‬
‫تنظروا حالتكم التي أنتم عليها‪ ،‬هل تصلح للنجاة أم ل؟‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ل يؤاخذ‪.‬‬

‫) ‪(1/66‬‬

‫ن‬ ‫ما َ‬ ‫مل ّ َ‬ ‫دوا قُ ْ‬


‫ل بَ ْ‬ ‫هو َ‬ ‫وََقاُلوا ُ‬
‫م َ‬
‫ن ِ‬
‫كا َ‬ ‫فا وَ َ‬
‫حِني ً‬
‫م َ‬
‫هي َ‬
‫ة إ ِب َْرا ِ‬ ‫ل ِ‬ ‫صاَرى ت َهْت َ ُ‬
‫دا أوْ ن َ َ‬
‫كوُنوا ُ ً‬
‫ن )‪(135‬‬ ‫كي َ‬‫شرِ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫فا‬
‫حِني ً‬ ‫مل ّ َ‬ ‫ل بَ ْ‬ ‫دوا قُ ْ‬ ‫هو َ‬ ‫} ‪ } { 135‬وََقاُلوا ُ‬
‫م َ‬‫هي َ‬
‫ة إ ِب َْرا ِ‬ ‫ل ِ‬ ‫صاَرى ت َهْت َ ُ‬
‫دا أوْ ن َ َ‬
‫كوُنوا ُ ً‬
‫ن{‪.‬‬ ‫كي َ‬‫شرِ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫وَ َ‬
‫أي‪ :‬دعا كل من اليهود والنصارى المسلمين إلى الدخول في دينهم‪،‬‬
‫زاعمين أنهم هم المهتدون وغيرهم ضال‪.‬‬
‫فا { أي‪:‬‬ ‫حِني ً‬ ‫م َ‬ ‫هي َ‬
‫ة إ ِب َْرا ِ‬ ‫ّ‬
‫مل َ‬‫ل { نتبع } ِ‬ ‫قل له )‪ (1‬مجيبا جوابا شافيا‪ } :‬ب َ ْ‬
‫مقبل على الله‪ ،‬معرضا عما سواه‪ ،‬قائما بالتوحيد‪ ،‬تاركا للشرك والتنديد‪.‬‬
‫فهذا الذي في اتباعه الهداية‪ ،‬وفي العراض عن ملته الكفر والغواية‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬قال له‪.‬‬

‫) ‪(1/67‬‬

‫ق‬
‫حا َ‬ ‫س َ‬ ‫ل وَإ ِ ْ‬‫عي َ‬
‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫م وَإ ِ ْ‬ ‫ل إ َِلى إ ِب َْرا ِ‬
‫هي َ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل إ ِل َي َْنا وَ َ‬ ‫مّنا ِبالل ّهِ وَ َ‬
‫َ‬
‫ُقوُلوا آ َ‬
‫م َل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن َرب ّهِ ْ‬‫م ْ‬ ‫ن ِ‬‫ي الن ّب ِّيو َ‬ ‫ما أوت ِ َ‬‫سى وَ َ‬ ‫عي َ‬ ‫سى وَ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ي ُ‬ ‫ما أوت ِ َ‬ ‫ط وَ َ‬ ‫سَبا ِ‬‫ب َواْل ْ‬ ‫قو َ‬ ‫وَي َعْ ُ‬
‫َ‬
‫ن )‪(136‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬‫م ْ‬ ‫ه ُ‬‫ن لَ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫م وَن َ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫حدٍ ِ‬ ‫نأ َ‬‫فّرقُ ب َي ْ َ‬ ‫نُ َ‬

‫م‬
‫هي َ‬‫ل إ َِلى إ ِب َْرا ِ‬‫ما أ ُن ْزِ َ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل إ ِل َي َْنا وَ َ‬ ‫مّنا ِبالل ّهِ وَ َ‬ ‫} ‪ُ } { 136‬قوُلوا آ َ‬
‫ي‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫عي َ‬
‫ما أوت ِ َ‬
‫سى وَ َ‬‫عي َ‬ ‫سى وَ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ي ُ‬ ‫ما أوت ِ َ‬ ‫ط وَ َ‬ ‫سَبا ِ‬ ‫ب َوال ْ‬ ‫قو َ‬ ‫حاقَ وَي َعْ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ل وَإ ِ ْ‬ ‫ما ِ‬‫س َ‬
‫وَإ ِ ْ‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬‫م ْ‬‫ه ُ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫م وَن َ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫حدٍ ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫فّرقُ ب َي ْ َ‬ ‫م ل نُ َ‬‫ن َرب ّهِ ْ‬‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫الن ّب ِّيو َ‬
‫هذه الية الكريمة‪ ،‬قد اشتملت على جميع ما يجب اليمان به‪.‬‬
‫واعلم أن اليمان الذي هو تصديق القلب التام‪ ،‬بهذه الصول‪ ،‬وإقراره‬
‫المتضمن لعمال القلوب والجوارح‪ ،‬وهو بهذا العتبار يدخل فيه السلم‪،‬‬
‫وتدخل فيه العمال الصالحة كلها‪ ،‬فهي من اليمان‪ ،‬وأثر من آثاره‪ ،‬فحيث‬
‫أطلق اليمان‪ ،‬دخل فيه ما ذكر‪ ،‬وكذلك السلم‪ ،‬إذا أطلق دخل فيه‬
‫اليمان‪ ،‬فإذا قرن بينهما‪ ،‬كان اليمان اسما لما في القلب من القرار‬
‫والتصديق‪ ،‬والسلم‪ ،‬اسما للعمال الظاهرة وكذلك إذا جمع بين اليمان‬
‫والعمال الصالحة‪ ،‬فقوله تعالى‪ُ } :‬قوُلوا { أي‪ :‬بألسنتكم‪ ،‬متواطئة عليها‬
‫قلوبكم‪ ،‬وهذا هو القول التام‪ ،‬المترتب عليه الثواب والجزاء‪ ،‬فكما أن‬
‫النطق باللسان‪ ،‬بدون اعتقاد القلب‪ ،‬نفاق وكفر‪ ،‬فالقول الخالي من‬
‫العمل عمل القلب‪ ،‬عديم التأثير‪ ،‬قليل الفائدة‪ ،‬وإن كان العبد يؤجر عليه‪،‬‬
‫إذا كان خيرا ومعه أصل اليمان‪ ،‬لكن فرق بين القول المجرد‪ ،‬والمقترن‬
‫به عمل القلب‪.‬‬
‫وفي قوله‪ُ } :‬قوُلوا { إشارة إلى العلن بالعقيدة‪ ،‬والصدع بها‪ ،‬والدعوة‬
‫لها‪ ،‬إذ هي أصل الدين وأساسه‪.‬‬
‫مّنا { ونحوه مما فيه صدور الفعل‪ ،‬منسوبا إلى جميع المة‪،‬‬ ‫وفي قوله‪ } :‬آ َ‬
‫إشارة إلى أنه يجب على المة‪ ،‬العتصام بحبل الله جميعا‪ ،‬والحث على‬
‫الئتلف حتى يكون داعيهم واحدا‪ ،‬وعملهم متحدا‪ ،‬وفي ضمنه النهي عن‬
‫الفتراق‪ ،‬وفيه‪ :‬أن المؤمنين كالجسد الواحد‪.‬‬
‫مّنا ِبالل ّهِ { إلخ دللة على جواز إضافة النسان إلى‬ ‫وفي قوله‪ُ } :‬قوُلوا آ َ‬
‫نفسه اليمان‪ ،‬على وجه التقييد‪ ،‬بل على وجوب ذلك‪ ،‬بخلف قوله‪" :‬أنا‬
‫مؤمن"ونحوه‪ ،‬فإنه ل يقال إل مقرونا بالستثناء بالمشيئة‪ ،‬لما فيه من‬
‫تزكية النفس‪ ،‬والشهادة على نفسه باليمان‪.‬‬
‫مّنا ِبالل ّهِ { أي‪ :‬بأنه موجود‪ ،‬واحد أحد‪ ،‬متصف بكل صفة كمال‪،‬‬ ‫فقوله‪ } :‬آ َ‬
‫منزه عن كل نقص وعيب‪ ،‬مستحق لفراده بالعبادة كلها‪ ،‬وعدم الشراك‬
‫به في شيء منها‪ ،‬بوجه من الوجوه‪.‬‬
‫] ص ‪[ 68‬‬
‫ك‬ ‫َ‬
‫ه عَلي ْ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ل إ ِلي َْنا { يشمل القرآن والسنة لقوله تعالى‪ } :‬وَأنز َ‬ ‫َ‬ ‫ما ُأنز َ‬
‫ل الل ُ‬ ‫} وَ َ‬
‫ة { فيدخل فيه اليمان بما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله‪،‬‬ ‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ْ‬
‫ب َوال ِ‬ ‫ال ْك َِتا َ‬
‫من صفات الباري‪ ،‬وصفات رسله‪ ،‬واليوم الخر‪ ،‬والغيوب الماضية‬
‫والمستقبلة‪ ،‬واليمان بما تضمنه ذلك من الحكام الشرعية المرية‪،‬‬
‫وأحكام الجزاء وغير ذلك‪.‬‬
‫م { إلى آخر الية‪ ،‬فيه اليمان بجميع الكتب المنزلة‬ ‫هي َ‬ ‫ل إ َِلى إ ِب َْرا ِ‬ ‫ما ُأنز َ‬ ‫} وَ َ‬
‫على جميع النبياء‪ ،‬واليمان بالنبياء عموما وخصوصا‪ ،‬ما نص عليه في‬
‫الية‪ ،‬لشرفهم ولتيانهم بالشرائع الكبار‪ .‬فالواجب في اليمان بالنبياء‬
‫والكتب‪ ،‬أن يؤمن بهم على وجه العموم والشمول‪ ،‬ثم ما عرف منهم‬
‫بالتفصيل‪ ،‬وجب اليمان به مفصل‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬بل نؤمن بهم كلهم‪ ،‬هذه خاصية‬ ‫فرقُ بي َ‬
‫من ْهُ ْ‬‫حدٍ ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫َْ َ‬ ‫وقوله‪ } :‬ل ن ُ َ ّ‬
‫المسلمين‪ ،‬التي انفردوا بها عن كل من يدعي أنه على دين‪.‬‬
‫فاليهود والنصارى والصابئون وغيرهم ‪ -‬وإن زعموا أنهم يؤمنون بما‬
‫يؤمنون به من الرسل والكتب ‪ -‬فإنهم يكفرون بغيره‪ ،‬فيفرقون بين‬
‫الرسل والكتب‪ ،‬بعضها يؤمنون به وبعضها يكفرون به‪ ،‬وينقض تكذيبهم‬
‫تصديقهم‪ ،‬فإن الرسول الذي زعموا‪ ،‬أنهم قد آمنوا به‪ ،‬قد صدق سائر‬
‫الرسل وخصوصا محمد صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فإذا كذبوا محمدا‪ ،‬فقد‬
‫كذبوا رسولهم فيما أخبرهم به‪ ،‬فيكون كفرا برسولهم‪.‬‬
‫م { دللة على أن عطية الدين‪ ،‬هي‬ ‫ُ‬
‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ي الن ّب ِّيو َ‬ ‫ما أوت ِ َ‬ ‫وفي قوله‪ } :‬وَ َ‬
‫العطية الحقيقية المتصلة بالسعادة الدنيوية والخروية‪ .‬لم يأمرنا أن نؤمن‬
‫بما أوتي النبياء من الملك والمال ونحو ذلك‪ ،‬بل أمرنا أن نؤمن بما أعطوا‬
‫من الكتب والشرائع‪.‬‬
‫وفيه أن النبياء مبلغون عن الله‪ ،‬ووسائط بين الله وبين خلقه في تبليغ‬
‫دينه‪ ،‬ليس لهم من المر شيء‪.‬‬
‫م { إشارة إلى أنه من كمال ربوبيته لعباده‪ ،‬أن ينزل‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫وفي قوله‪ِ } :‬‬
‫عليهم الكتب‪ ،‬ويرسل إليهم الرسل‪ ،‬فل تقتضي ربوبيته‪ ،‬تركهم سدى ول‬
‫همل‪.‬‬
‫وإذا كان ما أوتي النبيون‪ ،‬إنما هو من ربهم‪ ،‬ففيه الفرق بين النبياء وبين‬
‫من يدعي النبوة‪ ،‬وأنه يحصل الفرق بينهم بمجرد معرفة ما يدعون إليه‪،‬‬
‫فالرسل ل يدعون إل إلى لخير‪ ،‬ول ينهون إل عن كل شر‪ ،‬وكل واحد‬
‫منهم‪ ،‬يصدق الخر‪ ،‬ويشهد له بالحق‪ ،‬من غير تخالف ول تناقض لكونه من‬
‫خِتلًفا ك َِثيًرا { ‪.‬‬
‫دوا ِفيهِ ا ْ‬ ‫عن ْدِ غَي ْرِ الل ّهِ ل َوَ َ‬
‫ج ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬‫عند ربهم } وَل َوْ َ‬
‫وهذا بخلف من ادعى النبوة‪ ،‬فل بد أن يتناقضوا في أخبارهم وأوامرهم‬
‫ونواهيهم‪ ،‬كما يعلم ذلك من سبر أحوال الجميع‪ ،‬وعرف ما يدعون إليه‪.‬‬
‫فلما بّين تعالى جميع ما يؤمن به‪ ،‬عموما وخصوصا‪ ،‬وكان القول ل يغني‬
‫ن { أي‪ :‬خاضعون لعظمته‪ ،‬منقادون‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬‫م ْ‬ ‫ه ُ‬‫ن لَ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫عن العمل قال‪ } :‬وَن َ ْ‬
‫لعبادته‪ ،‬بباطننا وظاهرنا‪ ،‬مخلصون له العبادة بدليل تقديم المعمول‪ ،‬وهو‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ه { على العامل وهو } ُ‬ ‫} لَ ُ‬
‫فقد اشتملت هذه الية الكريمة ‪ -‬على إيجازها واختصارها ‪ -‬على أنواع‬
‫التوحيد الثلثة‪ :‬توحيد الربوبية‪ ،‬وتوحيد اللوهية‪ ،‬وتوحيد السماء والصفات‪،‬‬
‫واشتملت على اليمان بجميع الرسل‪ ،‬وجميع الكتب‪ ،‬وعلى التخصيص‬
‫الدال على الفضل بعد التعميم‪ ،‬وعلى التصديق بالقلب واللسان والجوارح‬
‫والخلص لله في ذلك‪ ،‬وعلى الفرق بين الرسل الصادقين‪ ،‬ومن ادعى‬
‫النبوة من الكاذبين‪ ،‬وعلى تعليم الباري عباده‪ ،‬كيف يقولون‪ ،‬ورحمته‬
‫وإحسانه عليهم بالنعم الدينية المتصلة بسعادة الدنيا والخرة‪ ،‬فسبحان من‬
‫جعل كتابه تبيانا لكل شيء‪ ،‬وهدى ورحمة لقوم يؤمنون‪.‬‬

‫) ‪(1/67‬‬

‫َ‬ ‫فَإ ْ َ‬
‫ق‬
‫قا ٍ‬
‫ش َ‬
‫م ِفي ِ‬
‫ما هُ ْ‬ ‫ن ت َوَل ّ ْ‬
‫وا فَإ ِن ّ َ‬ ‫قدِ اهْت َد َْوا وَإ ِ ْ‬ ‫م ب ِهِ فَ َ‬
‫من ْت ُ ْ‬‫ما آ َ‬‫ل َ‬ ‫مث ْ ِ‬
‫مُنوا ب ِ ِ‬
‫نآ َ‬ ‫ِ‬
‫م )‪(137‬‬ ‫لي‬‫ع‬‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬
‫ّ ِ ُ َ ِ ُ‬ ‫ع‬ ‫مي‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ه‬‫و‬
‫ُ َ ُ َ‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫م‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫ك‬‫في‬ ‫ْ‬
‫فَ َ َ ِ ُ ُ‬ ‫ك‬‫ي‬‫س‬

‫م‬
‫ما هُ ْ‬ ‫ن ت َوَل ّ ْ‬
‫وا فَإ ِن ّ َ‬ ‫قدِ اهْت َد َْوا وَإ ِ ْ‬‫م ب ِهِ فَ َ‬‫من ْت ُ ْ‬
‫ما آ َ‬ ‫مث ْ ِ‬
‫ل َ‬ ‫مُنوا ب ِ ِ‬‫نآ َ‬ ‫} ‪ } { 137‬فَإ ِ ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ْ‬
‫ميعُ العَِلي ُ‬ ‫س ِ‬‫ه وَهُوَ ال ّ‬ ‫ّ‬
‫م الل ُ‬ ‫َ‬
‫فيكهُ ُ‬ ‫ْ‬
‫سي َك ِ‬ ‫ق فَ َ‬
‫قا ٍ‬
‫ش َ‬
‫ِفي ِ‬
‫أي‪ :‬فإن آمن أهل الكتاب } بمثل ما آمنتم به { ‪ -‬يا معشر المؤمنين ‪ -‬من‬
‫جميع الرسل‪ ،‬وجميع الكتب‪ ،‬الذين أول من دخل فيهم‪ ،‬وأولى خاتمهم‬
‫وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن‪ ،‬وأسلموا لله وحده‪ ،‬ولم‬
‫قدِ اهْت َد َْوا { للصراط المستقيم‪،‬‬ ‫يفرقوا بين أحد من رسل الله } فَ َ‬
‫الموصل لجنات النعيم‪ ،‬أي‪ :‬فل سبيل لهم إلى الهداية‪ ،‬إل بهذا اليمان‪ ،‬ل‬
‫كما زعموا بقولهم‪" :‬كونوا هودا أو نصارى تهتدوا "فزعموا أن الهداية‬
‫خاصة بما كانوا عليه‪ ،‬و "الهدى "هو العلم بالحق‪ ،‬والعمل به‪ ،‬وضده‬
‫الضلل عن العلم والضلل عن العمل بعد العلم‪ ،‬وهو الشقاق الذي كانوا‬
‫عليه‪ ،‬لما تولوا وأعرضوا‪ ،‬فالمشاق‪ :‬هو الذي يكون في شق والله ورسوله‬
‫في شق‪ ،‬ويلزم من المشاقة المحادة‪ ،‬والعداوة البليغة‪ ،‬التي من لوازمها‪،‬‬
‫بذل ما يقدرون عليه من أذية الرسول‪ ،‬فلهذا وعد الله رسوله‪ ،‬أن يكفيه‬
‫إياهم‪ ،‬لنه السميع لجميع الصوات‪ ،‬باختلف اللغات‪ ،‬على تفنن الحاجات‪،‬‬
‫العليم بما بين أيديهم وما خلفهم‪ ،‬بالغيب والشهادة‪ ،‬بالظواهر والبواطن‪،‬‬
‫فإذا كان كذلك‪ ،‬كفاك الله شرهم‪.‬‬
‫وقد أنجز الله لرسوله وعده‪ ،‬وسلطه عليهم حتى قتل بعضهم‪ ،‬وسبى‬
‫بعضهم‪ ،‬وأجلى بعضهم‪ ،‬وشردهم كل مشرد‪.‬‬
‫ففيه معجزة من معجزات القرآن‪ ،‬وهو الخبار بالشيء قبل وقوعه‪ ،‬فوقع‬
‫طبق ما أخبر‪.‬‬

‫) ‪(1/68‬‬

‫ة الل ّه وم َ‬
‫ن )‪(138‬‬
‫دو َ‬
‫عاب ِ ُ‬ ‫ن لَ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ح ُ‬
‫ة وَن َ ْ‬ ‫ن الل ّهِ ِ‬
‫صب ْغَ ً‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬
‫س ُ‬
‫ح َ‬
‫نأ ْ‬‫ِ َ َ ْ‬ ‫صب ْغَ َ‬
‫ِ‬
‫ة الل ّه وم َ‬
‫ن{‪.‬‬
‫دو َ‬
‫عاب ِ ُ‬ ‫ن لَ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ح ُ‬
‫ة وَن َ ْ‬ ‫ن الل ّهِ ِ‬
‫صب ْغَ ً‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬
‫س ُ‬
‫ح َ‬
‫نأ ْ‬‫ِ َ َ ْ‬ ‫صب ْغَ َ‬
‫} ‪ِ } { 138‬‬
‫أي‪ :‬الزموا صبغة الله‪ ،‬وهو دينه‪ ،‬وقوموا به قياما تاما‪ ،‬بجميع أعماله‬
‫الظاهرة والباطنة‪ ،‬وجميع عقائده في جميع الوقات‪ ،‬حتى يكون لكم‬
‫صبغة‪ ،‬وصفة من صفاتكم‪ ،‬فإذا كان صفة من صفاتكم‪ ،‬أوجب ذلك لكم‬
‫النقياد لوامره‪ ،‬طوعا واختيارا ومحبة‪ ،‬وصار الدين طبيعة لكم بمنزلة‬
‫الصبغ التام ] ص ‪ [ 69‬للثوب الذي صار له صفة‪ ،‬فحصلت لكم السعادة‬
‫الدنيوية والخروية‪ ،‬لحث الدين على مكارم الخلق‪ ،‬ومحاسن العمال‪،‬‬
‫ومعالي المور‪ ،‬فلهذا قال ‪ -‬على سبيل التعجب المتقرر للعقول الزكية‪:-‬‬
‫} وم َ‬
‫ة { أي‪ :‬ل أحسن صبغة من صبغته )‪. (1‬‬ ‫ن الل ّهِ ِ‬
‫صب ْغَ ً‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫س ُ‬‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬‫َ َ ْ‬
‫وإذا أردت أن تعرف نموذجا يبين لك الفرق بين صبغة الله وبين غيرها من‬
‫الصبغ‪ ،‬فقس الشيء بضده‪ ،‬فكيف ترى في عبد آمن بربه إيمانا صحيحا‪،‬‬
‫أثر معه خضوع القلب وانقياد الجوارح‪ ،‬فلم يزل يتحلى بكل وصف حسن‪،‬‬
‫وفعل جميل‪ ،‬وخلق كامل‪ ،‬ونعت جليل‪ ،‬ويتخلى من كل وصف قبيح‪،‬‬
‫ورذيلة وعيب‪ ،‬فوصفه‪ :‬الصدق في قوله وفعله‪ ،‬والصبر والحلم‪ ،‬والعفة‪،‬‬
‫والشجاعة‪ ،‬والحسان القولي والفعلي‪ ،‬ومحبة الله وخشيته‪ ،‬وخوفه‪،‬‬
‫ورجاؤه‪ ،‬فحاله الخلص للمعبود‪ ،‬والحسان لعبيده‪ ،‬فقسه بعبد كفر بربه‪،‬‬
‫وشرد عنه‪ ،‬وأقبل على غيره من المخلوقين فاتصف بالصفات القبيحة‪،‬‬
‫من الكفر‪ ،‬والشرك والكذب‪ ،‬والخيانة‪ ،‬والمكر‪ ،‬والخداع‪ ،‬وعدم العفة‪،‬‬
‫والساءة إلى الخلق‪ ،‬في أقواله‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬فل إخلص للمعبود‪ ،‬ول إحسان‬
‫إلى عبيده‪.‬‬
‫فإنه يظهر لك الفرق العظيم بينهما‪ ،‬ويتبين لك أنه ل أحسن صبغة من‬
‫صبغة الله‪ ،‬وفي ضمنه أنه ل أقبح صبغة ممن انصبغ بغير دينه‪.‬‬
‫ن { بيان لهذه الصبغة‪ ،‬وهي القيام بهذين‬ ‫دو َ‬‫عاب ِ ُ‬‫ه َ‬‫ن لَ ُ‬‫ح ُ‬‫وفي قوله‪ } :‬وَن َ ْ‬
‫الصلين‪ :‬الخلص والمتابعة‪ ،‬لن "العبادة "اسم جامع لكل ما يحبه الله‬
‫ويرضاه من العمال‪ ،‬والقوال الظاهرة والباطنة‪ ،‬ول تكون كذلك‪ ،‬حتى‬
‫يشرعها الله على لسان رسوله‪ ،‬والخلص‪ :‬أن يقصد العبد وجه الله‬
‫وحده‪ ،‬في تلك العمال‪ ،‬فتقديم المعمول‪ ،‬يؤذن بالحصر‪.‬‬
‫ن { فوصفهم باسم الفاعل الدال على الثبوت‬ ‫دو َ‬
‫عاب ِ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ن لَ ُ‬‫ح ُ‬‫وقال‪ } :‬وَن َ ْ‬
‫والستقرار‪ ،‬ليدل على اتصافهم بذلك وكونه صار صبغة لهم ملزما‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬صبغه‪.‬‬

‫) ‪(1/68‬‬

‫ل أ َتحاجوننا في الل ّه وهُو ربنا وربك ُم ول َنا أ َعْمال ُنا ول َك ُ َ‬


‫ن لَ ُ‬
‫ه‬ ‫ح ُ‬ ‫مال ُك ُ ْ‬
‫م وَن َ ْ‬ ‫م أعْ َ‬
‫َ َ َ ْ‬ ‫ِ َ َ َ َّ ََ ّ ْ َ َ‬ ‫قُ ْ ُ َ ّ َ َ ِ‬
‫ن )‪(139‬‬ ‫صو َ‬
‫خل ِ ُ‬
‫م ْ‬
‫ُ‬
‫َ‬ ‫} ‪ } { 139‬قُ ْ َ‬
‫م‬‫مال َُنا وَل َك ُ ْ‬
‫م وَل ََنا أعْ َ‬
‫جون ََنا ِفي الل ّهِ وَهُوَ َرب َّنا وََرب ّك ُ ْ‬ ‫حا ّ‬‫ل أت ُ َ‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫صو َ‬ ‫خل ِ ُ‬‫م ْ‬‫ه ُ‬ ‫ن لَ ُ‬
‫ح ُ‬ ‫مال ُك ُ ْ‬
‫م وَن َ ْ‬ ‫أع ْ َ‬
‫المحاجة هي‪ :‬المجادلة بين اثنين فأكثر‪ ،‬تتعلق بالمسائل الخلفية‪ ،‬حتى‬
‫يكون كل من الخصمين يريد نصرة قوله‪ ،‬وإبطال قول خصمه‪ ،‬فكل واحد‬
‫منهما‪ ،‬يجتهد في إقامة الحجة على ذلك‪ ،‬والمطلوب منها‪ ،‬أن تكون بالتي‬
‫هي أحسن‪ ،‬بأقرب طريق يرد الضال إلى الحق‪ ،‬ويقيم الحجة على‬
‫المعاند‪ ،‬ويوضح الحق‪ ،‬ويبين الباطل‪ ،‬فإن خرجت عن هذه المور‪ ،‬كانت‬
‫مماراة‪ ،‬ومخاصمة ل خير فيها‪،‬‬
‫وأحدثت من الشر ما أحدثت‪ ،‬فكان أهل الكتاب‪ ،‬يزعمون أنهم أولى بالله‬
‫من المسلمين‪ ،‬وهذا مجرد دعوى‪ ،‬تفتقر إلى برهان ودليل‪ .‬فإذا كان رب‬
‫الجميع واحدا‪ ،‬ليس ربا لكم دوننا‪ ،‬وكل منا ومنكم له عمله‪ ،‬فاستوينا نحن‬
‫وإياكم بذلك‪ .‬فهذا ل يوجب أن يكون أحد الفريقين أولى بالله من غيره؛‬
‫لن التفريق مع الشتراك في الشيء‪ ،‬من غير فرق مؤثر‪ ،‬دعوى باطلة‪،‬‬
‫وتفريق بين متماثلين‪ ،‬ومكابرة ظاهرة‪ .‬وإنما يحصل التفضيل‪ ،‬بإخلص‬
‫العمال الصالحة لله وحده‪ ،‬وهذه الحالة‪ ،‬وصف المؤمنين وحدهم‪ ،‬فتعين‬
‫أنهم أولى بالله من غيرهم؛ لن الخلص‪ ،‬هو الطريق إلى الخلص‪ ،‬فهذا‬
‫هو الفرق بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان‪ ،‬بالوصاف الحقيقية التي‬
‫يسلمها أهل العقول‪ ،‬ول ينازع فيها إل كل مكابر جهول‪ ،‬ففي هذه الية‪،‬‬
‫إرشاد لطيف لطريق المحاجة‪ ،‬وأن المور مبنية على الجمع بين‬
‫المتماثلين‪ ،‬والفرق بين المختلفين‪.‬‬

‫) ‪(1/69‬‬

‫هو َ‬ ‫سَبا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫دا أوْ‬‫كاُنوا ُ ً‬‫ط َ‬ ‫ب َواْل ْ‬‫قو َ‬ ‫حاقَ وَي َعْ ُ‬‫س َ‬ ‫ل وَإ ِ ْ‬‫عي َ‬
‫ما ِ‬
‫س َ‬‫م وَإ ِ ْ‬ ‫هي َ‬ ‫ن إ ِب َْرا ِ‬ ‫قوُلو َ‬
‫ن إِ ّ‬ ‫م تَ ُ‬‫أ ْ‬
‫ل أ َأ َنتم أ َعْل َم أ َم الل ّه وم َ‬
‫ن الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م َ‬
‫عن ْد َهُ ِ‬
‫شَهاد َةً ِ‬‫م َ‬‫ن ك َت َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ن أظ ْل َ ُ‬
‫م ِ‬ ‫ُ َ َ ْ‬ ‫ُ ِ‬ ‫صاَرى قُ ْ ْ ُ ْ‬ ‫نَ َ‬
‫ن )‪(140‬‬ ‫ملو َ‬‫ُ‬ ‫ما ت َعْ َ‬‫ل عَ ّ‬ ‫ه ب َِغافِ ٍ‬ ‫ّ‬
‫ما الل ُ‬ ‫وَ َ‬
‫سَبا َ‬ ‫َ‬
‫ط‬ ‫ب َوال ْ‬ ‫قو َ‬ ‫حاقَ وَي َعْ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ل وَإ ِ ْ‬ ‫عي َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫م وَإ ِ ْ‬ ‫هي َ‬ ‫ن إ ِب َْرا ِ‬
‫ن إِ ّ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م تَ ُ‬
‫} ‪ } { 140‬أ ْ‬
‫ل أ َأ َنتم أ َعْل َم أ َم الل ّه وم َ‬ ‫هو َ‬
‫شَهاد َةً‬‫م َ‬ ‫ن ك َت َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬ ‫م ِ‬‫ن أظ ْل َ ُ‬ ‫ُ َ َ ْ‬ ‫ُ ِ‬ ‫صاَرى قُ ْ ْ ُ ْ‬ ‫دا أوْ ن َ َ‬‫كاُنوا ُ ً‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ل عَ ّ‬ ‫ه ب َِغافِ ٍ‬ ‫ما الل ّ ُ‬ ‫ن الل ّهِ وَ َ‬‫م َ‬ ‫عن ْد َهُ ِ‬ ‫ِ‬
‫وهذه دعوى أخرى منهم‪ ،‬ومحاجة في رسل الله‪ ،‬زعموا أنهم أولى بهؤلء‬
‫الرسل المذكورين من المسلمين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫فرد الله عليهم بقوله‪ } :‬أ َأ َنت َ‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫ما كا َ‬ ‫ه { فالله يقول‪َ } :‬‬ ‫م أم ِ الل ُ‬ ‫م أعْل َ ُ‬ ‫ُْ ْ‬
‫ن‬‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫ما كا َ‬‫َ‬ ‫ما وَ َ‬ ‫سل ِ ً‬‫م ْ‬ ‫فا ُ‬ ‫حِني ً‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬
‫ن كا َ‬ ‫صَران ِّيا وَل َك ِ ْ‬ ‫م ي َُهودِّيا َول ن َ ْ‬ ‫هي ُ‬‫إ ِب َْرا ِ‬
‫ن { وهم يقولون‪ :‬بل كان يهوديا أو نصرانيا‪.‬‬ ‫كي َ‬‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬‫ال ْ ُ‬
‫فإما أن يكونوا‪ ،‬هم الصادقين العالمين‪ ،‬أو يكون الله تعالى هو الصادق‬
‫العالم بذلك‪ ،‬فأحد المرين متعين ل محالة‪ ،‬وصورة الجواب مبهم‪ ،‬وهو في‬
‫غاية الوضوح والبيان‪ ،‬حتى إنه ‪ -‬من وضوحه ‪ -‬لم يحتج أن يقول بل الله‬
‫أعلم وهو أصدق‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬لنجلئه لكل أحد‪ ،‬كما إذا قيل‪ :‬الليل أنور‪ ،‬أم‬
‫النهار؟ والنار أحر أم الماء؟ والشرك أحسن أم التوحيد؟ ونحو ذلك‪.‬‬
‫وهذا يعرفه كل من له أدنى عقل حتى إنهم بأنفسهم يعرفون ذلك‪،‬‬
‫ويعرفون أن إبراهيم وغيره من النبياء‪ ،‬لم يكونوا هودا ول نصارى‪ ،‬فكتموا‬
‫هذا العلم وهذه الشهادة‪ ،‬فلهذا كان ظلمهم أعظم الظلم‪ .‬ولهذا قال‬
‫ن الل ّهِ { فهي شهادة‬ ‫تعالى‪ } :‬وم َ‬
‫م َ‬‫عن ْد َهُ ِ‬ ‫شَهاد َةً ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ك َت َ َ‬‫م ْ‬ ‫م ّ‬‫م ِ‬ ‫ن أظ ْل َ ُ‬ ‫َ َ ْ‬
‫عندهم‪ ،‬مودعة من الله‪ ،‬ل من الخلق‪ ،‬فيقتضي الهتمام بإقامتها‪،‬‬
‫فكتموها‪ ،‬وأظهروا ضدها‪ ،‬جمعوا بين كتم الحق‪ ،‬وعدم النطق به‪ ،‬وإظهار‬
‫الباطل‪ ،‬والدعوة إليه‪ ،‬أليس هذا أعظم الظلم؟ بلى والله‪ ،‬وسيعاقبهم‬
‫ن { بل قد‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ل عَ ّ‬ ‫ه ب َِغافِ ٍ‬ ‫ما الل ّ ُ‬ ‫عليه أشد العقوبة‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬وَ َ‬
‫أحصى أعمالهم‪ ،‬وعدها وادخر لهم جزاءها‪ ،‬فبئس الجزاء جزاؤهم‪ ،‬وبئست‬
‫النار‪ ،‬مثوى للظالمين‪ ،‬وهذه طريقة القرآن في ذكر العلم والقدرة‪ ،‬عقب‬
‫اليات المتضمنة للعمال التي يجازى عليها‪.‬‬
‫فيفيد ذلك الوعد والوعيد‪ ] ،‬ص ‪ [ 70‬والترغيب والترهيب‪ ،‬ويفيد أيضا ذكر‬
‫السماء الحسنى بعد الحكام‪ ،‬أن المر الديني والجزائي‪ ،‬أثر من آثارها‪،‬‬
‫وموجب من موجباتها‪ ،‬وهي مقتضية له‪.‬‬

‫) ‪(1/69‬‬

‫خل َت ل َها ما ك َسبت ول َك ُم ما ك َسبتم وَل ت َ‬ ‫ت ِل ْ َ ُ‬


‫ما َ‬
‫كاُنوا‬ ‫سأُلو َ‬
‫ن عَ ّ‬ ‫َ ُْ ْ َ ُ ْ‬ ‫َ َ ْ َ ْ َ‬ ‫ة قَد ْ َ ْ َ َ‬
‫م ٌ‬
‫كأ ّ‬
‫مُلو َ‬
‫ن )‪(141‬‬ ‫ي َعْ َ‬
‫} ‪. { 141‬ثم قال تعالى‪ } :‬ت ِل ْ َ ُ‬
‫ما‬ ‫ت وَل َك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫سب َ ْ‬ ‫ت ل ََها َ‬
‫ما ك َ َ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ة قَد ْ َ‬‫م ٌ‬
‫كأ ّ‬
‫ك َسبتم ول ت َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫سأُلو َ‬
‫ن عَ ّ‬ ‫َ ُْ ْ َ ُ ْ‬
‫تقدم تفسيرها‪ ،‬وكررها‪ ،‬لقطع التعلق بالمخلوقين‪ ،‬وأن المعول عليه ما‬
‫اتصف به النسان‪ ،‬ل عمل أسلفه وآبائه‪ ،‬فالنفع الحقيقي بالعمال‪ ،‬ل‬
‫بالنتساب المجرد للرجال‪.‬‬

‫) ‪(1/70‬‬

‫ل ل ِل ّهِ‬ ‫كاُنوا عَل َي َْها قُ ْ‬ ‫م ال ِّتي َ‬ ‫ن قِب ْل َت ِهِ ُ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫ما وَّلهُ ْ‬ ‫س َ‬‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫فَهاُء ِ‬ ‫س َ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫قو ُ‬ ‫سي َ ُ‬ ‫َ‬
‫قيم ٍ )‪ (142‬وَك َذ َل ِ َ‬
‫ك‬ ‫ست َ ِ‬
‫ُ ْ‬ ‫م‬ ‫ط‬
‫ٍ‬ ‫را‬‫َ‬ ‫ص‬
‫ِ‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫ُ‬ ‫ء‬ ‫شا‬ ‫َ‬ ‫ي‬
‫َ ْ َ‬‫ن‬ ‫م‬ ‫دي‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫ب‬
‫َ َ ِ ُ َْ‬ ‫ر‬ ‫ْ‬ ‫غ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫وا‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ْ‬
‫ش‬ ‫ال ْ َ‬
‫م‬
‫جعل ْناك ُ ُ‬
‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫سو ُ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫كو َ‬ ‫س وَي َ ُ‬ ‫داَء عَلى الّنا ِ‬
‫َ‬ ‫شه َ َ‬ ‫كوُنوا ُ‬ ‫طا ل ِت َ ُ‬ ‫س ً‬ ‫ة وَ َ‬ ‫م ً‬‫مأ ّ‬ ‫َ َ َ ْ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ل ِ‬ ‫سو َ‬ ‫ن ي َت ّب ِعُ الّر ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫ت عَل َي َْها إ ِّل ل ِن َعْل َ َ‬ ‫ة ال ِّتي ك ُن ْ َ‬ ‫قب ْل َ َ‬‫جعَل َْنا ال ْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫دا وَ َ‬ ‫شِهي ً‬ ‫َ‬
‫ن الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫ه وَ َ‬‫دى الل ّ ُ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ت ل َك َِبيَرةً إ ِّل عََلى ال ّ ِ‬ ‫ن َ‬
‫كان َ ْ‬ ‫ب عََلى عَ ِ‬
‫قب َي ْهِ وَإ ِ ْ‬ ‫قل ِ ُ‬ ‫ي َن ْ َ‬
‫م )‪(143‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫ف َر ِ‬ ‫س ل ََرُءو ٌ‬ ‫ه ِبالّنا ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫مان َك ُ ْ‬ ‫ضيعَ ِإي َ‬ ‫ل ِي ُ ِ‬

‫م ال ِّتي‬ ‫ن قِب ْل َت ِهِ ُ‬


‫م عَ ْ‬ ‫ما َولهُ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫فَهاُء ِ‬ ‫س َ‬‫ل ال ّ‬ ‫قو ُ‬ ‫سي َ ُ‬
‫} ‪َ } { 143 - 142‬‬
‫َ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ل ِل ّهِ ال ْ َ‬ ‫كاُنوا عَل َي َْها قُ ْ‬ ‫َ‬
‫قيم ٍ‬ ‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫شاُء إ ِلى ِ‬ ‫م ْ‬ ‫دي َ‬ ‫ب ي َهْ ِ‬ ‫مغْرِ ُ‬ ‫شرِقُ َوال َ‬
‫ُ‬
‫ل‬‫سو ُ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫كو َ‬‫س وَي َ ُ‬ ‫َ‬ ‫كوُنوا ُ‬ ‫سطا ل ِت َ ُ‬‫ً‬ ‫ْ‬
‫جعَلَناك ُ ْ‬ ‫* وَك َذ َل ِ َ‬
‫داَء عَلى الّنا ِ‬ ‫شه َ َ‬ ‫ة وَ َ‬ ‫م ً‬‫مأ ّ‬ ‫ك َ‬
‫سو َ‬
‫ل‬ ‫ن ي َت ّب ِعُ الّر ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫ت عَل َي َْها ِإل ل ِن َعْل َ َ‬ ‫ة ال ِّتي ك ُن ْ َ‬ ‫قب ْل َ َ‬
‫جعَل َْنا ال ْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫دا وَ َ‬ ‫شِهي ً‬ ‫م َ‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫ن‬‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫دى الل ّ ُ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ت ل َك َِبيَرةً ِإل عََلى ال ّ ِ‬ ‫كان َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫قب َي ْهِ وَإ ِ ْ‬ ‫ب عََلى عَ ِ‬ ‫قل ِ ُ‬ ‫ن ي َن ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ِ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حي‬
‫ٌ َ ِ ٌ‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫ءو‬ ‫ُ‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫س‬
‫َ ِ ّ ِ َ‬ ‫نا‬ ‫بال‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫ما‬
‫ُ ُِ ِ َ ِ َ َ ْ ِ ّ‬ ‫إي‬ ‫ع‬ ‫ضي‬ ‫ي‬‫ل‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬
‫قد اشتملت الية الولى على معجزة‪ ،‬وتسلية‪ ،‬وتطمين قلوب المؤمنين‪،‬‬
‫واعتراض وجوابه‪ ،‬من ثلثة أوجه‪ ،‬وصفة المعترض‪ ،‬وصفة المسلم لحكم‬
‫الله دينه‪.‬‬
‫فأخبر تعالى أنه سيعترض السفهاء من الناس‪ ،‬وهم الذين ل يعرفون‬
‫مصالح أنفسهم‪ ،‬بل يضيعونها ويبيعونها بأبخس ثمن‪ ،‬وهم اليهود‬
‫والنصارى‪ ،‬ومن أشبههم من المعترضين على أحكام الله وشرائعه‪ ،‬وذلك‬
‫أن المسلمين كانوا مأمورين باستقبال بيت المقدس‪ ،‬مدة مقامهم بمكة‪،‬‬
‫ثم بعد الهجرة إلى المدينة‪ ،‬نحو سنة ونصف ‪ -‬لما لله تعالى في ذلك من‬
‫الحكم التي سيشير إلى بعضها‪ ،‬وكانت حكمته تقتضي أمرهم باستقبال‬
‫ن‬
‫م عَ ْ‬ ‫ما َولهُ ْ‬ ‫الكعبة‪ ،‬فأخبرهم أنه ل بد أن يقول السفهاء من الناس‪َ } :‬‬
‫كاُنوا عَل َي َْها { وهي استقبال بيت المقدس‪ ،‬أي‪ :‬أيّ شيء‬ ‫م ال ِّتي َ‬ ‫قِب ْل َت ِهِ ُ‬
‫صرفهم عنه؟ وفي ذلك العتراض على حكم الله وشرعه‪ ،‬وفضله‬
‫وإحسانه‪ ،‬فسلهم‪ ،‬وأخبر بوقوعه‪ ،‬وأنه إنما يقع ممن اتصف بالسفه‪ ،‬قليل‬
‫العقل‪ ،‬والحلم‪ ،‬والديانة‪ ،‬فل تبالوا بهم‪ ،‬إذ قد علم مصدر هذا الكلم‪،‬‬
‫فالعاقل ل يبالي باعتراض السفيه‪ ،‬ول يلقي له ذهنه‪ .‬ودلت الية على أنه‬
‫ل يعترض على أحكام الله‪ ،‬إل سفيه جاهل معاند‪ ،‬وأما الرشيد المؤمن‬
‫العاقل‪ ،‬فيتلقى أحكام ربه بالقبول‪ ،‬والنقياد‪ ،‬والتسليم كما قال تعالى‪:‬‬
‫َ‬ ‫ذا قَضى الل ّه ورسول ُ َ‬
‫م‬‫ن ل َهُ ُ‬ ‫كو َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫مًرا أ ْ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ُ ََ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫من َةٍ إ ِ َ‬‫مؤْ ِ‬ ‫ن َول ُ‬ ‫م ٍ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ن لِ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫} وَ َ‬
‫َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫جَر‬ ‫ش َ‬ ‫ما َ‬ ‫ك ِفي َ‬ ‫مو َ‬ ‫حك ّ ُ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫ن َ‬‫مُنو َ‬‫ك ل ي ُؤْ ِ‬ ‫م { } َفل وََرب ّ َ‬ ‫مرِهِ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬‫خي ََرةُ ِ‬
‫م‬‫حك ُ َ‬‫سول ِهِ ل ِي َ ْ‬ ‫عوا إ َِلى الل ّهِ وََر ُ‬ ‫ذا د ُ ُ‬‫ن إِ َ‬
‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫ن قَوْ َ‬ ‫كا َ‬‫ما َ‬ ‫م { الية‪ } ،‬إ ِن ّ َ‬ ‫ب َي ْن َهُ ْ‬
‫معَْنا وَأطعَْنا { وقد كان في قوله } السفهاء { ما يغني‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫س ِ‬ ‫قولوا َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ب َي ْن َهُ ْ‬
‫عن رد قولهم‪ ،‬وعدم المبالة به‪.‬‬
‫ولكنه تعالى مع هذا لم يترك هذه الشبهة‪ ،‬حتى أزالها وكشفها مما‬
‫ل { لهم مجيبا‪} :‬‬ ‫سيعرض لبعض القلوب من العتراض‪ ،‬فقال تعالى‪ } :‬قُ ْ‬
‫قيم ٍ { أي‪ :‬فإذا كان‬ ‫ست َ ِ‬‫م ْ‬ ‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫شاُء إ َِلى ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫دي َ‬ ‫ب ي َهْ ِ‬ ‫مغْرِ ُ‬ ‫شرِقُ َوال ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِل ّهِ ال ْ َ‬
‫المشرق والمغرب ملكا لله‪ ،‬ليس جهة من الجهات خارجة عن ملكه‪ ،‬ومع‬
‫هذا يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‪ ،‬ومنه هدايتكم إلى هذه القبلة‬
‫التي هي من ملة أبيكم إبراهيم‪ ،‬فلي شيء يعترض المعترض بتوليتكم‬
‫قبلة داخلة تحت ملك الله‪ ،‬لم تستقبلوا جهة ليست ملكا له؟ فهذا يوجب‬
‫التسليم لمره‪ ،‬بمجرد ذلك‪ ،‬فكيف وهو من فضل الله عليكم‪ ،‬وهدايته‬
‫وإحسانه‪ ،‬أن هداكم لذلك فالمعترض عليكم‪ ،‬معترض على فضل الله‪،‬‬
‫حسدا لكم وبغيا‪.‬‬
‫قيم ٍ { والمطلق يحمل‬ ‫ست َ ِ‬‫م ْ‬‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫شاُء إ َِلى ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫دي َ‬ ‫ولما كان قوله‪ } :‬ي َهْ ِ‬
‫على المقيد‪ ،‬فإن الهداية والضلل‪ ،‬لهما أسباب أوجبتها حكمة الله وعدله‪،‬‬
‫وقد أخبر في غير موضع من كتابه بأسباب الهداية‪ ،‬التي إذا أتى بها العبد‬
‫سب ُ َ‬
‫ل‬ ‫ه ُ‬ ‫وان َ ُ‬
‫ض َ‬‫ن ات ّب َعَ رِ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه َ‬‫دي ب ِهِ الل ّ ُ‬ ‫حصل له الهدى كما قال تعالى‪ } :‬ي َهْ ِ‬
‫سلم ِ { ذكر في هذه الية السبب الموجب لهداية هذه المة مطلقا‬ ‫ال ّ‬
‫بجميع أنواع الهداية‪ ،‬ومنة الله عليها فقال‪:‬‬
‫س ً‬ ‫ك جعل ْناك ُ ُ‬
‫طا { أي‪ :‬عدل خيارا‪ ،‬وما عدا الوسط‪ ،‬فأطراف‬ ‫ة وَ َ‬ ‫م ً‬ ‫مأ ّ‬ ‫} وَك َذ َل ِ َ َ َ َ ْ‬
‫داخلة تحت الخطر‪ ،‬فجعل الله هذه المة‪ ،‬وسطا في كل أمور الدين‪،‬‬
‫وسطا في النبياء‪ ،‬بين من غل فيهم‪ ،‬كالنصارى‪ ،‬وبين من جفاهم‪ ،‬كاليهود‪،‬‬
‫بأن آمنوا بهم كلهم على الوجه اللئق بذلك‪ ،‬ووسطا في الشريعة‪ ،‬ل‬
‫تشديدات اليهود وآصارهم‪ ،‬ول تهاون النصارى‪.‬‬
‫وفي باب الطهارة والمطاعم‪ ،‬ل كاليهود الذين ل تصح لهم صلة إل في‬
‫بيعهم وكنائسهم‪ ،‬ول يطهرهم الماء من النجاسات‪ ،‬وقد حرمت عليهم‬
‫الطيبات‪ ،‬عقوبة لهم‪ ،‬ول كالنصارى الذين ل ينجسون شيئا‪ ،‬ول يحرمون‬
‫شيئا‪ ،‬بل أباحوا ما دب ودرج‪.‬‬
‫بل طهارتهم أكمل طهارة وأتمها‪ ،‬وأباح الله لهم الطيبات من المطاعم‬
‫والمشارب والملبس والمناكح‪ ،‬وحرم عليهم الخبائث من ذلك‪ ،‬فلهذه‬
‫المة من الدين أكمله‪ ،‬ومن الخلق أجلها‪ ،‬ومن العمال أفضلها‪.‬‬
‫ووهبهم الله من العلم والحلم‪ ،‬والعدل والحسان‪ ،‬ما لم يهبه لمة سواهم‪،‬‬
‫س{‬ ‫َ‬ ‫طا { ]كاملين[ ليكونوا } ُ‬ ‫س ً‬ ‫ُ‬
‫داَء عَلى الّنا ِ‬ ‫شه َ َ‬ ‫ة وَ َ‬ ‫م ً‬‫فلذلك كانوا } أ ّ‬
‫بسبب عدالتهم وحكمهم بالقسط‪ ،‬يحكمون على الناس من سائر أهل‬
‫الديان‪ ،‬ول يحكم عليهم غيرهم‪ ،‬فما شهدت له هذه المة بالقبول‪ ،‬فهو‬
‫مقبول‪ ،‬وما شهدت له بالرد‪ ،‬فهو مردود‪ .‬فإن قيل‪ :‬كيف يقبل حكمهم‬
‫على غيرهم‪ ،‬والحال أن كل مختصمين غير مقبول قول بعضهم على‬
‫بعض؟ قيل‪ :‬إنما لم يقبل قول أحد المتخاصمين‪ ،‬لوجود التهمة فأما إذا‬
‫انتفت التهمة‪ ،‬وحصلت العدالة التامة‪ ،‬كما في هذه المة‪ ،‬فإنما المقصود‪،‬‬
‫الحكم بالعدل والحق‪ ،‬وشرط ذلك‪ ،‬العلم والعدل‪ ،‬وهما موجودان في هذه‬
‫المة‪ ،‬فقبل قولها‪.‬‬
‫فإن شك شاك في فضلها‪ ،‬وطلب مزكيا لها‪ ،‬فهو أكمل الخلق‪ ،‬نبيهم صلى‬
‫دا { ‪.‬‬ ‫شِهي ً‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫سو ُ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫كو َ‬ ‫الله عليه وسلم‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪ } :‬وَي َ ُ‬
‫] ص ‪[ 71‬‬
‫ومن شهادة هذه المة على غيرهم‪ ،‬أنه إذا كان يوم القيامة‪ ،‬وسأل الله‬
‫المرسلين عن تبليغهم‪ ،‬والمم المكذبة عن ذلك‪ ،‬وأنكروا أن النبياء‬
‫بلغتهم‪ ،‬استشهدت النبياء بهذه المة‪ ،‬وزكاها نبيها‪.‬‬
‫وفي الية دليل على أن إجماع هذه المة‪ ،‬حجة قاطعة‪ ،‬وأنهم معصومون‬
‫طا { فلو قدر اتفاقهم على الخطأ‪ ،‬لم‬ ‫س ً‬ ‫عن الخطأ‪ ،‬لطلق قوله‪ } :‬وَ َ‬
‫يكونوا وسطا‪ ،‬إل في بعض المور‪ ،‬ولقوله‪ } :‬ولتكونوا شهداء على‬
‫الناس { يقتضي أنهم إذا شهدوا على حكم أن الله أحله أو حرمه أو‬
‫أوجبه‪ ،‬فإنها معصومة في ذلك‪ .‬وفيها اشتراط العدالة في الحكم‪،‬‬
‫والشهادة‪ ،‬والفتيا‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫ت عَل َي َْها { وهي استقبال بيت‬ ‫ة ال ِّتي ك ُن ْ َ‬ ‫قب ْل َ َ‬
‫جعَل َْنا ال ْ ِ‬‫ما َ‬ ‫يقول تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫م { أي‪ :‬علما يتعلق به الثواب والعقاب‪ ،‬وإل فهو‬ ‫المقدس أول } ِإل ل ِن َعْل َ َ‬
‫تعالى عالم بكل المور قبل وجودها‪.‬‬
‫ولكن هذا العلم‪ ،‬ل يعلق عليه ثوابا ول عقابا‪ ،‬لتمام عدله‪ ،‬وإقامة الحجة‬
‫على عباده‪ ،‬بل إذا وجدت أعمالهم‪ ،‬ترتب عليها الثواب والعقاب‪ ،‬أي‪:‬‬
‫ل { ويؤمن به‪ ،‬فيتبعه‬ ‫سو َ‬ ‫ن ي َت ّب ِعُ الّر ُ‬
‫م ْ‬ ‫شرعنا تلك القبلة لنعلم ونمتحن } َ‬
‫على كل حال‪ ،‬لنه عبد مأمور مدبر‪ ،‬ولنه قد أخبرت الكتب المتقدمة‪ ،‬أنه‬
‫يستقبل الكعبة‪ ،‬فالمنصف الذي مقصوده الحق‪ ،‬مما يزيده ذلك إيمانا‪،‬‬
‫وطاعة للرسول‪.‬‬
‫وأما من انقلب على عقبيه‪ ،‬وأعرض عن الحق‪ ،‬واتبع هواه‪ ،‬فإنه يزداد‬
‫كفرا إلى كفره‪ ،‬وحيرة إلى حيرته‪ ،‬ويدلي بالحجة الباطلة‪ ،‬المبنية على‬
‫شبهة ل حقيقة لها‪.‬‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ت { أي‪ :‬صرفك عنها } لك َِبيَرةٌ { أي‪ :‬شاقة } ِإل عَلى ال ِ‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬
‫كان َ ْ‬ ‫} وَإ ِ ْ‬
‫ه { فعرفوا بذلك نعمة الله عليهم‪ ،‬وشكروا‪ ،‬وأقروا له بالحسان‪،‬‬ ‫دى الل ّ ُ‬ ‫هَ َ‬
‫حيث وجههم إلى هذا البيت العظيم‪ ،‬الذي فضله على سائر بقاع الرض‪،‬‬
‫وجعل قصده‪ ،‬ركنا من أركان السلم‪ ،‬وهادما للذنوب والثام‪ ،‬فلهذا خف‬
‫عليهم ذلك‪ ،‬وشق على من سواهم‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬ما ينبغي له ول يليق‬ ‫ُ‬
‫مان َك ْ‬ ‫ضيعَ ِإي َ‬‫ه ل ِي ُ ِ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫ثم قال تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫به تعالى‪ ،‬بل هي من الممتنعات عليه‪ ،‬فأخبر أنه ممتنع عليه‪ ،‬ومستحيل‪،‬‬
‫ن الله عليهم بالسلم‬ ‫م ّ‬ ‫أن يضيع إيمانكم‪ ،‬وفي هذا بشارة عظيمة لمن َ‬
‫واليمان‪ ،‬بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم‪ ،‬فل يضيعه‪ ،‬وحفظه نوعان‪:‬‬
‫حفظ عن الضياع والبطلن‪ ،‬بعصمته لهم عن كل مفسد ومزيل له ومنقص‬
‫من المحن المقلقة‪ ،‬والهواء الصادة‪ ،‬وحفظ له بتنميته لهم‪ ،‬وتوفيقهم لما‬
‫يزداد به إيمانهم‪ ،‬ويتم به إيقانهم‪ ،‬فكما ابتدأكم‪ ،‬بأن هداكم لليمان‪،‬‬
‫فسيحفظه لكم‪ ،‬ويتم نعمته بتنميته وتنمية أجره‪ ،‬وثوابه‪ ،‬وحفظه من كل‬
‫مكدر‪ ،‬بل إذا وجدت المحن المقصود منها‪ ،‬تبيين المؤمن الصادق من‬
‫الكاذب‪ ،‬فإنها تمحص المؤمنين‪ ،‬وتظهر صدقهم‪ ،‬وكأن في هذا احترازا عما‬
‫ع‬
‫ن ي َت ّب ِ ُ‬
‫م ْ‬
‫م َ‬‫ت عَل َي َْها ِإل ل ِن َعْل َ َ‬ ‫ة ال ِّتي ك ُن ْ َ‬ ‫قب ْل َ َ‬
‫جعَل َْنا ال ْ ِ‬
‫ما َ‬
‫قد يقال إن قوله‪ } :‬وَ َ‬
‫قب َي ْهِ { قد يكون سببا لترك بعض المؤمنين‬ ‫ب عََلى عَ ِ‬ ‫قل ِ ُ‬
‫ن ي َن ْ َ‬
‫م ْ‬‫م ّ‬ ‫سو َ‬
‫ل ِ‬ ‫الّر ُ‬
‫م { بتقديره‬ ‫مان َك ُ ْ‬ ‫ضيعَ ِإي َ‬‫ه ل ِي ُ ِ‬‫ن الل ّ ُ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫إيمانهم‪ ،‬فدفع هذا الوهم بقوله‪ } :‬وَ َ‬
‫لهذه المحنة أو غيرها‪.‬‬
‫ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة‪ ،‬فإن الله ل يضيع‬
‫إيمانهم‪ ،‬لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها‪ ،‬وطاعة الله‪،‬‬
‫امتثال أمره في كل وقت‪ ،‬بحسب ذلك‪ ،‬وفي هذه الية‪ ،‬دليل لمذهب أهل‬
‫السنة والجماعة‪ ،‬أن اليمان تدخل فيه أعمال الجوارح‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬شديد الرحمة بهم عظيمها‪،‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫ف َر ِ‬ ‫س ل ََرُءو ٌ‬ ‫ه ِبالّنا ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫وقوله‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫فمن رأفته ورحمته بهم‪ ،‬أن يتم عليهم نعمته التي ابتدأهم بها‪ ،‬وأن مي َّز‬
‫عنهم من دخل في اليمان بلسانه دون قلبه‪ ،‬وأن امتحنهم امتحانا‪ ،‬زاد به‬
‫إيمانهم‪ ،‬وارتفعت به درجتهم‪ ،‬وأن وجههم إلى أشرف البيوت‪ ،‬وأجلها‪.‬‬

‫) ‪(1/70‬‬

‫شط َْر‬ ‫ك َ‬ ‫جه َ َ‬‫ل وَ ْ‬‫ها فَوَ ّ‬ ‫ضا َ‬ ‫ك قِب ْل َ ً‬


‫ة ت َْر َ‬ ‫ماِء فَل َن ُوَل ّي َن ّ َ‬ ‫س َ‬‫ك ِفي ال ّ‬ ‫جهِ َ‬ ‫قل ّ َ‬
‫ب وَ ْ‬ ‫قَد ْ ن ََرى ت َ َ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫ن أوُتوا‬ ‫ذي َ‬‫ن ال ِ‬ ‫شطَرهُ وَإ ِ ّ‬ ‫م َ‬ ‫جوهَك ُ ْ‬ ‫م فَوَلوا وُ ُ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬‫ث َ‬ ‫حي ْ ُ‬‫حَرام ِ وَ َ‬‫جدِ ال َ‬ ‫س ِ‬
‫م ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ال ْكتاب ل َيعل َمو َ‬
‫ن )‪(144‬‬ ‫مُلو َ‬‫ما ي َعْ َ‬‫ل عَ ّ‬ ‫ه ب َِغافِ ٍ‬ ‫ما الل ّ ُ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫حق ّ ِ‬‫ه ال ْ َ‬
‫ن أن ّ ُ‬‫َِ َ َْ ُ َ‬

‫ها فَوَ ّ‬
‫ل‬ ‫ضا َ‬ ‫ة ت َْر َ‬ ‫ك قِب ْل َ ً‬ ‫ماءِ فَل َن ُوَل ّي َن ّ َ‬ ‫س َ‬
‫ك ِفي ال ّ‬ ‫جهِ َ‬ ‫ب وَ ْ‬ ‫قل ّ َ‬‫} ‪ } { 144‬قَد ْ ن ََرى ت َ َ‬
‫ن‬
‫شطَرهُ وَإ ِ ّ‬ ‫ْ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫جوهَك ْ‬ ‫ّ‬
‫م فَوَلوا وُ ُ‬ ‫ُ‬
‫ما كن ْت ُ ْ‬ ‫حي ْث ُ َ‬‫حَرام ِ وَ َ‬ ‫ْ‬
‫جدِ ال َ‬ ‫س ِ‬
‫م ْ‬‫شط َْر ال ْ َ‬ ‫ك َ‬ ‫جه َ َ‬ ‫وَ ْ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫ملو َ‬ ‫ما ي َعْ َ‬ ‫ل عَ ّ‬ ‫ه ب َِغافِ ٍ‬ ‫ما الل ُ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫حق ّ ِ‬ ‫ه ال َ‬ ‫ن أن ّ ُ‬ ‫مو َ‬ ‫ب لي َعْل ُ‬ ‫ن أوُتوا الك َِتا َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫{‪.‬‬
‫ماِء { أي‪ :‬كثرة تردده في‬ ‫س َ‬ ‫ك ِفي ال ّ‬ ‫جهِ َ‬
‫ب وَ ْ‬ ‫قل َ‬‫ّ‬ ‫يقول الله لنبيه‪ } :‬قَد ْ ن ََرى ت َ َ‬
‫جميع جهاته‪ ،‬شوقا وانتظارا لنزول الوحي باستقبال الكعبة‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫ك { ولم يقل‪" :‬بصرك "لزيادة اهتمامه‪ ،‬ولن تقليب الوجه مستلزم‬ ‫جه َ‬ ‫} وَ ْ‬
‫لتقليب البصر‪.‬‬
‫ها { أي‪ :‬تحبها‪ ،‬وهي‬ ‫ضا َ‬ ‫ة ت َْر َ‬ ‫ك { أي‪ :‬نوجهك لوليتنا إياك‪ } ،‬قِب ْل َ ً‬ ‫} فَل َن ُوَل ّي َن ّ َ‬
‫الكعبة‪ ،‬وفي هذا بيان لفضله وشرفه صلى الله عليه وسلم‪ ،‬حيث إن الله‬
‫شط َْر‬ ‫ك َ‬ ‫جه َ َ‬ ‫ل وَ ْ‬ ‫تعالى يسارع في رضاه‪ ،‬ثم صرح له باستقبالها فقال‪ } :‬فَوَ ّ‬
‫م { أي‪:‬‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫حي ْث ُ َ‬‫حَرام ِ { والوجه‪ :‬ما أقبل من بدن النسان‪ } ،‬وَ َ‬ ‫جدِ ال ْ َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫شط َْرهُ {‬ ‫م َ‬ ‫جوهَك ُ ْ‬ ‫من بر وبحر‪ ،‬وشرق وغرب‪ ،‬جنوب وشمال‪ } .‬فَوَّلوا وُ ُ‬
‫أي‪ :‬جهته‪.‬‬
‫ففيها اشتراط استقبال الكعبة‪ ،‬للصلوات كلها‪ ،‬فرضها‪ ،‬ونفلها‪ ،‬وأنه إن‬
‫أمكن استقبال عينها‪ ،‬وإل فيكفي شطرها وجهتها‪ ،‬وأن اللتفات بالبدن‪،‬‬
‫مبطل للصلة‪ ،‬لن المر بالشيء نهي عن ضده‪ ،‬ولما ذكر تعالى فيما‬
‫تقدم‪ ،‬المعترضين على ذلك من أهل الكتاب وغيرهم‪ ،‬وذكر جوابهم‪ ،‬ذكر‬
‫هنا‪ ،‬أن أهل الكتاب والعلم منهم‪ ،‬يعلمون أنك في ذلك على حق وأمر‪ ،‬لما‬
‫يجدونه في كتبهم‪ ،‬فيعترضون عنادا وبغيا‪ ،‬فإذا كانوا يعلمون بخطئهم فل‬
‫تبالوا بذلك‪ ،‬فإن النسان إنما يغمه اعتراض من اعترض عليه‪ ،‬إذا كان‬
‫المر مشتبها‪ ،‬وكان ممكنا أن يكون معه صواب‪.‬‬
‫] ص ‪[ 72‬‬
‫فأما إذا تيقن أن الصواب والحق مع المعترض عليه‪ ،‬وأن المعترض معاند‪،‬‬
‫عارف ببطلن قوله‪ ،‬فإنه ل محل للمبالة‪ ،‬بل ينتظر بالمعترض العقوبة‬
‫ن { بل‬‫مُلو َ‬
‫ما ي َعْ َ‬
‫ل عَ ّ‬ ‫ما الل ّ ُ‬
‫ه ب َِغافِ ٍ‬ ‫الدنيوية والخروية‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫يحفظ عليهم أعمالهم‪ ،‬ويجازيهم عليها‪ ،‬وفيها وعيد للمعترضين‪ ،‬وتسلية‬
‫للمؤمنين‪.‬‬

‫) ‪(1/71‬‬

‫َ‬ ‫ب بك ُ ّ َ‬ ‫ول َئ ِن أ َتيت ال ّذي ُ‬


‫ت ب َِتاب ٍِع قِب ْل َت َهُ ْ‬
‫م‬ ‫ما أن ْ َ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫ما ت َب ُِعوا قِب ْل َت َ َ‬‫ل آي َةٍ َ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ ْ َْ َ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م َ‬ ‫جاَءك ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫واءَهُ ْ‬
‫ت أه ْ َ‬ ‫ن ات ّب َعْ َ‬
‫ض وَلئ ِ ِ‬
‫ة ب َعْ ٍ‬ ‫م ب َِتاب ٍِع قِب ْل َ‬ ‫ضهُ ْ‬‫ما ب َعْ ُ‬‫وَ َ‬
‫ن )‪(145‬‬ ‫مي َ‬ ‫ّ‬
‫ن الظال ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫ذا ل ِ‬ ‫ال ْعِلم ِ إ ِن ّك إ ِ ً‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫َ‬ ‫ما ت َب ُِعوا قِب ْل َت َ َ‬ ‫} ‪ } { 145‬ول َئ ِن أ َتيت ال ّذي ُ‬
‫ت‬
‫ما أن ْ َ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫ل آي َةٍ َ‬‫ب ب ِك ُ ّ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ ْ َْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫ضه ُ ْ ِ َ ِ ٍ ِ ْ َ َ ْ ٍ َ ِ ِ ّ َ ْ َ ْ َ ُ ْ ِ ْ َ ْ ِ َ‬
‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫وا‬‫ه‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫ع‬ ‫ب‬‫ت‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ئ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ض‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ة‬ ‫ل‬ ‫ب‬‫ق‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫تا‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ما ب َعْ ُ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ب َِتاب ٍِع قِب ْل َت َهُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ذا ل َ ِ‬
‫ك إِ ً‬‫ن ال ْعِل ْم ِ إ ِن ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫جاَء َ‬ ‫َ‬
‫كان النبي صلى الله عليه وسلم من كمال حرصه على هداية الخلق يبذل‬
‫لهم غاية ما يقدر عليه من النصيحة‪ ،‬ويتلطف بهدايتهم‪ ،‬ويحزن إذا لم‬
‫ينقادوا لمر الله‪ ،‬فكان من الكفار‪ ،‬من تمرد عن أمر الله‪ ،‬واستكبر على‬
‫رسل الله‪ ،‬وترك الهدى‪ ،‬عمدا وعدوانا‪ ،‬فمنهم‪ :‬اليهود والنصارى‪ ،‬أهل‬
‫الكتاب الول‪ ،‬الذين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم عن يقين‪ ،‬ل عن‬
‫جهل‪ ،‬فلهذا أخبره الله تعالى أنك لو } أ َتيت ال ّذي ُ‬
‫ل آي َةٍ {‬ ‫ب ب ِك ُ ّ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬ ‫َْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما ت َب ُِعوا قِب ْلت َك {‬ ‫أي‪ :‬بكل برهان ودليل يوضح قولك ويبين ما تدعو إليه‪َ } ،‬‬
‫أي‪ :‬ما تبعوك‪ ،‬لن اتباع القبلة‪ ،‬دليل على اتباعه‪ ،‬ولن السبب هو شأن‬
‫القبلة‪ ،‬وإنما كان المر كذلك‪ ،‬لنهم معاندون‪ ،‬عرفوا الحق وتركوه‪،‬‬
‫فاليات إنما تفيد وينتفع بها من يتطلب الحق‪ ،‬وهو مشتبه عليه‪ ،‬فتوضح له‬
‫اليات البينات‪ ،‬وأما من جزم بعدم اتباع الحق‪ ،‬فل حيلة فيه‪.‬‬
‫وأيضا فإن اختلفهم فيما بينهم‪ ،‬حاصل‪ ،‬وبعضهم‪ ،‬غير تابع قبلة بعض‪،‬‬
‫فليس بغريب منهم مع ذلك أن ل يتبعوا قبلتك يا محمد‪ ،‬وهم العداء‬
‫َ‬
‫ع‬
‫م { أبلغ من قوله‪َ" :‬ول ت َت ّب ِ ْ‬ ‫ت ب َِتاب ٍِع قِب ْل َت َهُ ْ‬ ‫ما أن ْ َ‬ ‫حقيقة الحسدة‪ ،‬وقوله‪ } :‬وَ َ‬
‫"لن ذلك يتضمن أنه صلى الله عليه وسلم اتصف بمخالفتهم‪ ،‬فل يمكن‬
‫وقوع ذلك منه‪ ،‬ولم يقل‪" :‬ولو أتوا بكل آية "لنهم ل دليل لهم على‬
‫قولهم‪.‬‬
‫وكذلك إذا تبين الحق بأدلته اليقينية‪ ،‬لم يلزم التيان بأجوبة الشبه الواردة‬
‫عليه‪ ،‬لنها ل حد لها‪ ،‬ولنه يعلم بطلنها‪ ،‬للعلم بأن كل ما نافى الحق‬
‫الواضح‪ ،‬فهو باطل‪ ،‬فيكون حل الشبه من باب التبرع‪.‬‬
‫م { إنما قال‪" :‬أهواءهم "ولم يقل "دينهم "لن ما‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫واَءهُ ْ‬ ‫ت أه ْ َ‬ ‫ن ات ّب َعْ َ‬ ‫} وَلئ ِ ِ‬
‫هم عليه مجرد أهوية )‪ (1‬نفس‪ ،‬حتى هم في قلوبهم يعلمون أنه ليس‬
‫َ َ‬
‫ن‬
‫م ِ‬ ‫بدين‪ ،‬ومن ترك الدين‪ ،‬اتبع الهوى ول محالة‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬أفََرأي ْ َ‬
‫ت َ‬
‫واهُ { ‪.‬‬ ‫خذ َ إ ِل َهَ ُ‬
‫ه هَ َ‬ ‫ات ّ َ‬
‫ن ال ْعِل ْم ِ { بأنك على الحق‪ ،‬وهم على الباطل‪ } ،‬إ ِن ّكَ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫جاَءك ِ‬ ‫ما َ‬‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬‫} ِ‬
‫ذا { أي‪ :‬إن اتبعتهم‪ ،‬فهذا احتراز‪ ،‬لئل تنفصل هذه الجملة عما قبلها‪ ،‬ولو‬ ‫إِ ً‬
‫ن { أي‪ :‬داخل فيهم‪ ،‬ومندرج في جملتهم‪ ،‬وأي‬ ‫مي َ‬ ‫ّ‬
‫ن الظال ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫في الفهام‪ } ،‬ل ِ‬
‫ظلم أعظم‪ ،‬من ظلم‪ ،‬من علم الحق والباطل‪ ،‬فآثر الباطل على الحق‪،‬‬
‫وهذا‪ ،‬وإن كان الخطاب له صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فإن أمته داخلة في‬
‫ذلك‪ ،‬وأيضا‪ ،‬فإذا كان هو صلى الله عليه وسلم لو فعل ذلك ‪-‬وحاشاه‪-‬‬
‫صار ظالما مع علو مرتبته‪ ،‬وكثرة حسناته )‪ (2‬فغيره من باب أولى‬
‫وأحرى‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬أهواء‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬إحسانه‪.‬‬

‫) ‪(1/72‬‬

‫ال ّذين آ َتيناهُم ال ْكتاب يعرُفونه ك َما يعرُفو َ‬


‫م‬
‫من ْهُ ْ‬
‫قا ِ‬‫ري ً‬‫ن فَ ِ‬
‫م وَإ ِ ّ‬ ‫ن أب َْناَءهُ ْ‬‫َ‬ ‫َِ َ َْ ِ َ ُ َ َْ ِ‬ ‫ِ َ ََْ ُ‬
‫ن‬
‫ري َ‬
‫مت َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن َرب ّك فَل ت َكون َ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫حق ّ ِ‬ ‫ْ‬
‫ن )‪ (146‬ال َ‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫م ي َعْل ُ‬
‫حقّ وَهُ ْ‬‫ن ال ْ َ‬ ‫ل َي َك ْت ُ ُ‬
‫مو َ‬
‫)‪(147‬‬

‫ه كَ َ‬
‫ما‬ ‫ب ي َعْرُِفون َ ُ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬
‫ن آت َي َْناهُ ُ‬ ‫} ‪.{ 147 - 146‬ثم قال تعالى‪ } :‬ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫يعرُفو َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫حق ّ ِ‬ ‫ن * ال ْ َ‬ ‫مو َ‬ ‫م ي َعْل َ ُ‬
‫حقّ وَهُ ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫مو َ‬ ‫م ل َي َك ْت ُ ُ‬
‫من ْهُ ْ‬
‫قا ِ‬ ‫ري ً‬‫ن فَ ِ‬ ‫م وَإ ِ ّ‬ ‫ن أب َْناَءهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬‫مت َ ِ‬‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫َرب ّك فل ت َكون َ ّ‬ ‫َ‬
‫يخبر تعالى‪ :‬أن أهل الكتاب قد تقرر عندهم‪ ،‬وعرفوا أن محمدا رسول‬
‫الله‪ ،‬وأن ما جاء به‪ ،‬حق وصدق‪ ،‬وتيقنوا ذلك‪ ،‬كما تيقنوا أبناءهم بحيث ل‬
‫يشتبهون عليهم بغيرهم‪ ،‬فمعرفتهم بمحمد صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وصلت‬
‫إلى حد ل يشكون فيه ول يمترون‪ ،‬ولكن فريقا منهم ‪ -‬وهم أكثرهم ‪-‬‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن أظل ُ‬ ‫م ْ‬‫الذين كفروا به‪ ،‬كتموا هذه الشهادة مع تيقنها‪ ،‬وهم يعلمون } وَ َ‬
‫ن الل ّهِ { وفي ضمن ذلك‪ ،‬تسلية للرسول‬ ‫م َ‬ ‫عن ْد َهُ ِ‬
‫شَهاد َةً ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ك َت َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬
‫ِ‬
‫والمؤمنين‪ ،‬وتحذير له من شرهم وشبههم‪ ،‬وفريق منهم لم يكتموا الحق‬
‫وهم يعلمون‪ ،‬فمنهم من آمن ]به[ ومنهم من كفر ]به[ جهل فالعالم عليه‬
‫إظهار الحق‪ ،‬وتبيينه وتزيينه‪ ،‬بكل ما يقدر عليه من عبارة وبرهان ومثال‪،‬‬
‫وغير ذلك‪ ،‬وإبطال الباطل وتمييزه عن الحق‪ ،‬وتشيينه‪ ،‬وتقبيحه للنفوس‪،‬‬
‫بكل طريق مؤد لذلك‪ ،‬فهولء الكاتمون‪ ،‬عكسوا المر‪ ،‬فانعكست أحوالهم‪.‬‬
‫ك { أي‪ :‬هذا الحق الذي هو أحق أن يسمى حقا من كل‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ْ‬‫حق ّ ِ‬ ‫} ال ْ َ‬
‫شيء‪ ،‬لما اشتمل عليه من المطالب العالية‪ ،‬والوامر الحسنة‪ ،‬وتزكية‬
‫النفوس وحثها على تحصيل مصالحها‪ ،‬ودفع مفاسدها‪ ،‬لصدوره من ربك‪،‬‬
‫الذي من جملة تربيته لك أن أنزل عليك هذا القرآن الذي فيه تربية العقول‬
‫والنفوس‪ ،‬وجميع المصالح‪.‬‬

‫) ‪(1/72‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ميًعا‬
‫ج ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ت ب ِك ُ ُ‬ ‫ما ت َ ُ‬
‫كوُنوا ي َأ ِ‬ ‫ن َ‬
‫ت أي ْ َ‬ ‫قوا ال ْ َ‬
‫خي َْرا ِ‬ ‫موَّليَها َفا ْ‬
‫ست َب ِ ُ‬ ‫ة هُوَ ُ‬
‫جهَ ٌ‬
‫ل وِ ْ‬ ‫وَل ِك ُ ّ‬
‫ديٌر )‪(148‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬
‫ش ْ‬ ‫ل َ‬‫ه عََلى ك ُ ّ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫إِ ّ‬

‫ن { أي‪ :‬فل يحصل لك أدنى شك وريبة فيه‪ ،‬بل‬ ‫ري َ‬ ‫مت َ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬


‫م ْ‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬ ‫} َفل ت َ ُ‬
‫كر فيه وتأمل‪ ،‬حتى تصل بذلك إلى اليقين‪ ،‬لن التفكر فيه ل محالة‪،‬‬ ‫تف ّ‬
‫دافع للشك‪ ،‬موصل لليقين‪.‬‬
‫] ص ‪[ 73‬‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ت ب ِك ُ‬ ‫ما ت َكوُنوا ي َأ ِ‬ ‫ت أي ْن َ َ‬ ‫خي َْرا ِ‬ ‫قوا ال َ‬ ‫ست َب ِ ُ‬
‫موَليَها فا ْ‬ ‫ة هُوَ ُ‬ ‫جه َ ٌ‬‫} ‪ } { 148‬وَل ِكل وِ ْ‬
‫ديٌر { ‪.‬‬ ‫َ‬
‫يٍء ق ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬‫ه عََلى ك ّ‬
‫ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ميًعا إ ِ ّ‬ ‫ج ِ‬‫ه َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫أي‪ :‬كل أهل دين وملة‪ ،‬له وجهة يتوجه إليها في عبادته‪ ،‬وليس الشأن في‬
‫استقبال القبلة‪ ،‬فإنه من الشرائع التي تتغير بها الزمنة والحوال‪ ،‬ويدخلها‬
‫النسخ والنقل‪ ،‬من جهة إلى جهة‪ ،‬ولكن الشأن كل الشأن‪ ،‬في امتثال‬
‫طاعة الله‪ ،‬والتقرب إليه‪ ،‬وطلب الزلفى عنده‪ ،‬فهذا هو عنوان السعادة‬
‫ومنشور الولية‪ ،‬وهو الذي إذا لم تتصف به النفوس‪ ،‬حصلت لها خسارة‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬كما أنها إذا اتصفت به فهي الرابحة على الحقيقة‪ ،‬وهذا أمر‬
‫متفق عليه في جميع الشرائع‪ ،‬وهو الذي خلق الله له الخلق‪ ،‬وأمرهم به‪.‬‬
‫والمر بالستباق إلى الخيرات قدر زائد على المر بفعل الخيرات‪ ،‬فإن‬
‫الستباق إليها‪ ،‬يتضمن فعلها‪ ،‬وتكميلها‪ ،‬وإيقاعها على أكمل الحوال‪،‬‬
‫والمبادرة إليها‪ ،‬ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات‪ ،‬فهو السابق في الخرة‬
‫إلى الجنات‪ ،‬فالسابقون أعلى الخلق درجة‪ ،‬والخيرات تشمل جميع‬
‫الفرائض والنوافل‪ ،‬من صلة‪ ،‬وصيام‪ ،‬وزكوات )‪ (1‬وحج‪ ،‬عمرة‪ ،‬وجهاد‪،‬‬
‫ونفع متعد وقاصر‪.‬‬
‫ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير‪ ،‬وينشطها‪ ،‬ما‬
‫هّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن الل َ‬ ‫ميًعا إ ِ ّ‬
‫ج ِ‬
‫ه َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ت ب ِك ُ ُ‬‫كوُنوا ي َأ ِ‬ ‫ما ت َ ُ‬ ‫رتب الله عليها من الثواب قال‪ } :‬أي ْن َ َ‬
‫ديٌر { فيجمعكم ليوم القيامة بقدرته‪ ،‬فيجازي كل عامل‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫عََلى ك ُ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫سُنوا‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ذي َ‬‫جزِيَ ال ّ ِ‬ ‫مُلوا وَي َ ْ‬ ‫ما عَ ِ‬ ‫ساُءوا ب ِ َ‬ ‫نأ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫جزِيَ ال ّ ِ‬ ‫بعمله } ل ِي َ ْ‬
‫سَنى { ‪.‬‬ ‫ح ْ‬‫ِبال ْ ُ‬
‫ويستدل بهذه الية الشريفة على التيان بكل فضيلة يتصف بها العمل‪،‬‬
‫كالصلة في أول وقتها‪ ،‬والمبادرة إلى إبراء الذمة‪ ،‬من الصيام‪ ،‬والحج‪،‬‬
‫والعمرة‪ ،‬وإخراج الزكاة‪ ،‬والتيان بسنن العبادات وآدابها‪ ،‬فلله ما أجمعها‬
‫وأنفعها من آية"‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬وزكاة‪.‬‬

‫) ‪(1/72‬‬

‫ن َرب ّ َ‬
‫ك‬ ‫م ْ‬ ‫حق ّ ِ‬ ‫ه ل َل ْ َ‬‫حَرام ِ وَإ ِن ّ ُ‬ ‫جدِ ال ْ َ‬ ‫س ِ‬‫م ْ‬ ‫شط َْر ال ْ َ‬ ‫ك َ‬ ‫جهَ َ‬ ‫ل وَ ْ‬ ‫ت فَوَ ّ‬ ‫ج َ‬ ‫خَر ْ‬ ‫ث َ‬ ‫حي ْ ُ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ ِ‬
‫شطَرْ‬ ‫جهَك َ‬‫َ‬ ‫ّ‬
‫ت فوَل وَ ْ‬ ‫َ‬ ‫ج َ‬ ‫خَر ْ‬‫ث َ‬ ‫حي ْ ُ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن )‪ (149‬وَ ِ‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ل عَ ّ‬ ‫ه ب َِغافِ ٍ‬ ‫ّ‬
‫ما الل ُ‬ ‫وَ َ‬
‫س‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن ِللّنا ِ‬ ‫شطَرهُ ل ِئل ي َكو َ‬
‫ُ‬
‫جوهَك ْ‬ ‫م فوَلوا وُ ُ‬ ‫ما كن ْت ُ ْ‬ ‫ث َ‬ ‫حي ْ ُ‬
‫حَرام ِ وَ َ‬ ‫جدِ ال َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬
‫مِتي‬ ‫م ن ِعْ َ‬‫شوِْني وَِلت ِ ّ‬ ‫خ َ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫شوْهُ ْ‬ ‫خ َ‬‫م فََل ت َ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫موا ِ‬ ‫ن ظ َل َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ة إ ِّل ال ّ ِ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ح ّ‬‫م ُ‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫ن )‪(150‬‬ ‫دو َ‬ ‫م ت َهْت َ ُ‬‫م وَل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫حَرام ِ‬ ‫جدِ ال ْ َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫شط َْر ال ْ َ‬ ‫ك َ‬ ‫جهَ َ‬ ‫ل وَ ْ‬ ‫ت فَوَ ّ‬ ‫ج َ‬ ‫خَر ْ‬ ‫ث َ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫} ‪ } { 150 - 149‬وَ ِ‬
‫ت فَوَ ّ‬
‫ل‬ ‫ج َ‬‫خَر ْ‬ ‫ث َ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫ن * وَ ِ‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ل عَ ّ‬ ‫ه ب َِغافِ ٍ‬ ‫ّ‬
‫ما الل ُ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫حق ّ ِ‬ ‫ه ل َل ْ َ‬ ‫وَإ ِن ّ ُ‬
‫ن‬ ‫ُ‬
‫شطَرهُ ل َِئل ي َكو َ‬ ‫ْ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫جوهَك ْ‬ ‫ّ‬
‫م فَوَلوا وُ ُ‬ ‫ُ‬
‫ما كن ْت ُ ْ‬ ‫حي ْث ُ َ‬ ‫حَرام ِ وَ َ‬ ‫ْ‬
‫جدِ ال َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫شطَر ال َ‬ ‫ْ‬ ‫جهَك َ‬ ‫َ‬ ‫وَ ْ‬
‫م‬
‫شوِْني َولت ِ ّ‬ ‫خ َ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫شوْهُ ْ‬ ‫خ َ‬‫م َفل ت َ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫موا ِ‬ ‫َ‬
‫ن ظل ُ‬‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ة ِإل ال ِ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ح ّ‬ ‫م ُ‬ ‫ُ‬
‫س عَلي ْك ْ‬ ‫َ‬
‫ِللّنا ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دو َ‬ ‫م ت َهْت َ ُ‬ ‫ُ‬
‫م وَلعَلك ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫مِتي عَلي ْك ْ‬ ‫َ‬ ‫ن ِعْ َ‬
‫ل‬‫ت { في أسفارك وغيرها‪ ،‬وهذا للعموم‪ } ،‬فَوَ ّ‬ ‫ج َ‬ ‫خَر ْ‬ ‫ث َ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫أي‪ } :‬وَ ِ‬
‫حَرام ِ { أي‪ :‬جهته‪.‬‬ ‫جدِ ال َ‬‫ْ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫شطَر ال َ‬ ‫ْ‬ ‫ك َ‬ ‫جه َ َ‬ ‫وَ ْ‬
‫شط َْرهُ {‬ ‫م َ‬ ‫جوهَك ُ ْ‬ ‫م فَوَّلوا وُ ُ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫حي ْث ُ َ‬ ‫ثم خاطب المة عموما فقال‪ } :‬وَ َ‬
‫ك { أكده بـ "إن "واللم‪ ،‬لئل يقع لحد فيه أدنى‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫حق ّ ِ‬ ‫ه ل َل ْ َ‬ ‫وقال‪ } :‬وَإ ِن ّ ُ‬
‫شبهة‪ ،‬ولئل يظن أنه على سبيل التشهي ل المتثال‪.‬‬
‫ن { بل هو مطلع عليكم في جميع أحوالكم‪،‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ل عَ ّ‬ ‫ه ب َِغافِ ٍ‬ ‫ما الل ّ ُ‬ ‫} وَ َ‬
‫فتأدبوا معه‪ ،‬وراقبوه بامتثال أوامره‪ ،‬واجتناب نواهيه‪ ،‬فإن أعمالكم غير‬
‫مغفول عنها‪ ،‬بل مجازون عليها أتم الجزاء‪ ،‬إن خيرا فخير‪ ،‬وإن شرا فشر‪.‬‬
‫ة { أي‪ :‬شرعنا لكم استقبال‬ ‫ج ٌ‬‫ح ّ‬ ‫م ُ‬ ‫س عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ن ِللّنا ِ‬ ‫كو َ‬ ‫وقال هنا‪ } :‬ل َِئل ي َ ُ‬
‫الكعبة المشرفة‪ ،‬لينقطع عنكم احتجاج الناس من أهل الكتاب‬
‫والمشركين‪ ،‬فإنه لو بقي مستقبل بيت المقدس‪ ،‬لتوجهت عليه الحجة‪،‬‬
‫فإن أهل الكتاب‪ ،‬يجدون في كتابهم أن قبلته المستقرة‪ ،‬هي الكعبة البيت‬
‫الحرام‪ ،‬والمشركون يرون أن من مفاخرهم‪ ،‬هذا البيت العظيم‪ ،‬وأنه من‬
‫ملة إبراهيم‪ ،‬وأنه إذا لم يستقبله محمد صلى الله عليه وسلم‪ ،‬توجهت‬
‫نحوه حججهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬كيف يدعي أنه على ملة إبراهيم‪ ،‬وهو من ذريته‪،‬‬
‫وقد ترك استقبال قبلته؟‬
‫فباستقبال الكعبة )‪ (1‬قامت الحجة على أهل الكتاب والمشركين‪،‬‬
‫وانقطعت حججهم عليه‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬من احتج منهم بحجة‪ ،‬هو ظالم فيها‪ ،‬وليس‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫موا ِ‬ ‫ن ظ َل َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ِإل ال ّ ِ‬
‫لها مستند إل اتباع الهوى والظلم‪ ،‬فهذا ل سبيل إلى إقناعه والحتجاج‬
‫عليه‪ ،‬وكذلك ل معنى لجعل الشبهة التي يوردونها على سبيل الحتجاج‬
‫م { لن‬ ‫شوْهُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫محل يؤبه لها‪ ،‬ول يلقى لها بال‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪َ } :‬فل ت َ ْ‬
‫حجتهم باطلة‪ ،‬والباطل كاسمه مخذول‪ ،‬مخذول صاحبه‪ ،‬وهذا بخلف‬
‫صاحب الحق‪ ،‬فإن للحق صولة وعزا‪ ،‬يوجب خشية من هو معه‪ ،‬وأمر‬
‫تعالى بخشيته‪ ،‬التي هي أصل )‪ (2‬كل خير‪ ،‬فمن لم يخش الله‪ ،‬لم ينكف‬
‫عن معصيته‪ ،‬ولم يمتثل أمره‪.‬‬
‫وكان صرف المسلمين إلى الكعبة‪ ،‬مما حصلت فيه فتنة كبيرة‪ ،‬أشاعها‬
‫أهل الكتاب‪ ،‬والمنافقون‪ ،‬والمشركون‪ ،‬وأكثروا فيها من الكلم والشبه‪،‬‬
‫فلهذا بسطها الله تعالى‪ ،‬وبينها أكمل بيان‪ ،‬وأكدها بأنواع من التأكيدات‪،‬‬
‫التي تضمنتها هذه اليات‪.‬‬
‫منها‪ :‬المر بها‪ ،‬ثلث مرات‪ ،‬مع كفاية المرة الواحدة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن المعهود‪،‬‬
‫أن المر‪ ،‬إما أن يكون للرسول‪ ،‬فتدخل فيه المة تبعا‪ ،‬أو للمة عموما‪،‬‬
‫ك{‬ ‫جهَ َ‬ ‫ل وَ ْ‬ ‫وفي هذه الية أمر فيها الرسول بالخصوص في قوله‪ } :‬فَوَ ّ‬
‫م{‪.‬‬ ‫جوهَك ُ ْ‬ ‫والمة عموما في قوله‪ } :‬فَوَّلوا وُ ُ‬
‫] ص ‪[ 74‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه رد فيه جميع الحتجاجات الباطلة‪ ،‬التي أوردها أهل العناد‬
‫وأبطلها شبهة شبهة‪ ،‬كما تقدم توضيحها‪ ،‬ومنها‪ :‬أنه قطع الطماع من اتباع‬
‫ك { فمجرد‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ْ‬
‫حق ّ ِ‬ ‫ه ل َل ْ َ‬‫الرسول قبلة أهل الكتاب‪ ،‬ومنها قوله‪ } :‬وَإ ِن ّ ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫حق ّ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ه لل َ‬ ‫إخبار الصادق العظيم كاف شاف‪ ،‬ولكن مع هذا قال‪ } :‬وَإ ِن ّ ُ‬
‫ك{‪.‬‬ ‫َرب ّ َ‬
‫ومنها‪ :‬أنه أخبر ‪ -‬وهو العالم بالخفيات ‪ -‬أن أهل الكتاب متقرر عندهم‪،‬‬
‫صحة هذا المر‪ ،‬ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم‪.‬‬
‫ولما كان توليته لنا إلى استقبال القبلة‪ ،‬نعمة عظيمة‪ ،‬وكان لطفه بهذه‬
‫المة ورحمته‪ ،‬لم يزل يتزايد‪ ،‬وكلما شرع لهم شريعة‪ ،‬فهي نعمة عظيمة‬
‫م{‪.‬‬ ‫مِتي عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م ن ِعْ َ‬ ‫قال‪َ } :‬ولت ِ ّ‬
‫فأصل النعمة‪ ،‬الهداية لدينه‪ ،‬بإرسال رسوله‪ ،‬وإنزال كتابه‪ ،‬ثم بعد ذلك‪،‬‬
‫النعم المتممات لهذا الصل‪ ،‬ل تعد كثرة‪ ،‬ول تحصر‪ ،‬منذ بعث الله رسوله‬
‫إلى أن قرب رحيله من الدنيا‪ ،‬وقد أعطاه الله من الحوال والنعم‪،‬‬
‫وأعطى أمته‪ ،‬ما أتم به نعمته عليه وعليهم‪ ،‬وأنزل الله عليه‪ } :‬ال ْي َوْ َ‬
‫م‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م ِديًنا { ‪.‬‬ ‫سل َ‬ ‫م ال ْ‬ ‫ت ل َك ُ ُ‬‫ضي ُ‬ ‫مِتي وََر ِ‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م ن ِعْ َ‬ ‫م ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م وَأت ْ َ‬‫م ِدين َك ُ ْ‬ ‫ت ل َك ُ ْ‬ ‫مل ْ ُ‬ ‫أك ْ َ‬
‫فلله الحمد على فضله‪ ،‬الذي ل نبلغ له عدا‪ ،‬فضل عن القيام بشكره‪،‬‬
‫ن { أي‪ :‬تعلمون الحق‪ ،‬وتعملون به‪ ،‬فالله تبارك وتعالى ‪-‬‬ ‫دو َ‬ ‫م ت َهْت َ ُ‬ ‫} وَل َعَل ّك ُ ْ‬
‫من رحمته ‪ -‬بالعباد‪ ،‬قد يسر لهم أسباب الهداية غاية التيسير‪ ،‬ونبههم على‬
‫سلوك طرقها‪ ،‬وبينها لهم أتم تبيين‪ ،‬حتى إن من جملة ذلك أنه يقيض‬
‫للحق‪ ،‬المعاندين له فيجادلون فيه‪ ،‬فيتضح بذلك الحق‪ ،‬وتظهر آياته‬
‫وأعلمه‪ ،‬ويتضح بطلن الباطل‪ ،‬وأنه ل حقيقة له‪ ،‬ولول قيامه في مقابلة‬
‫الحق‪ ،‬لربما لم يتبين حاله لكثر الخلق‪ ،‬وبضدها تتبين الشياء‪ ،‬فلول الليل‪،‬‬
‫ما عرف فضل النهار‪ ،‬ولول القبيح‪ ،‬ما عرف فضل الحسن‪ ،‬ولول الظلمة‬
‫ما عرف منفعة النور‪ ،‬ولول الباطل ما اتضح الحق اتضاحا ظاهرا‪ ،‬فلله‬
‫الحمد على ذلك‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬القبلة‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬رأس‪.‬‬

‫) ‪(1/73‬‬

‫م آ ََيات َِنا وَي َُز ّ‬ ‫كَ َ‬


‫ب‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬‫مك ُ ُ‬ ‫م وَي ُعَل ّ ُ‬
‫كيك ُ ْ‬ ‫م ي َت ُْلو عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫سوًل ِ‬
‫من ْك ُ ْ‬ ‫م َر ُ‬ ‫سل َْنا ِفيك ُ ْ‬ ‫ما أْر َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫شكُروا‬ ‫م َوا ْ‬ ‫ن )‪َ (151‬فاذ ْكُروِني أذ ْكْرك ْ‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َكوُنوا ت َعْل ُ‬ ‫ما ل ْ‬
‫م َ‬‫مك ْ‬ ‫ة وَي ُعَل ُ‬ ‫م َ‬‫حك َ‬ ‫َوال ِ‬
‫ن )‪(152‬‬ ‫فُرو ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِلي وَل ت َك ُ‬
‫} ‪ } { 152 - 151‬ك َ َ‬
‫م ي َت ُْلو عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م آَيات َِنا‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫سول ِ‬ ‫م َر ُ‬ ‫سل َْنا ِفيك ُ ْ‬ ‫ما أْر َ‬
‫َ‬
‫ن*‬ ‫مو‬ ‫َ‬ ‫ل‬
‫ْ َ ُ َْ ُ َ‬‫ع‬ ‫ت‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬
‫كو‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ما‬‫م ال ْك ِ َ َ َ ِ َ َ َ ُ َ ُ ْ َ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫م‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ي‬‫و‬ ‫ة‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ك‬‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ب‬ ‫تا‬ ‫م وَي ُعَل ّ ُ‬
‫مك ُ ُ‬ ‫كيك ُ ْ‬
‫وَي َُز ّ‬
‫شك ُُروا ِلي َول ت َك ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫فُرو ِ‬ ‫َفاذ ْك ُُروِني أذ ْك ُْرك ُ ْ‬
‫م َوا ْ‬
‫يقول تعالى‪ :‬إن إنعامنا عليكم باستقبال الكعبة وإتمامها بالشرائع والنعم‬
‫المتممة‪ ،‬ليس ذلك ببدع من إحساننا‪ ،‬ول بأوله‪ ،‬بل أنعمنا عليكم بأصول‬
‫النعم ومتمماتها‪ ،‬فأبلغها إرسالنا إليكم هذا الرسول الكريم منكم‪ ،‬تعرفون‬
‫نسبه وصدقه‪ ،‬وأمانته وكماله ونصحه‪.‬‬
‫م آَيات َِنا { وهذا يعم اليات القرآنية وغيرها‪ ،‬فهو يتلو عليكم‬ ‫} ي َت ُْلو عَل َي ْك ُ ْ‬
‫اليات المبينة للحق من الباطل‪ ،‬والهدى من الضلل‪ ،‬التي دلتكم أول على‬
‫توحيد الله وكماله‪ ،‬ثم على صدق رسوله‪ ،‬ووجوب اليمان به‪ ،‬ثم على‬
‫جميع ما أخبر به من المعاد والغيوب‪ ،‬حتى حصل لكم الهداية التامة‪،‬‬
‫والعلم اليقيني‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬يطهر أخلقكم ونفوسكم‪ ،‬بتربيتها على الخلق الجميلة‪،‬‬ ‫كيك ُ ْ‬
‫} وَي َُز ّ‬
‫وتنزيهها عن الخلق الرذيلة‪ ،‬وذلك كتزكيتكم من الشرك‪ ،‬إلى التوحيد‬
‫ومن الرياء إلى الخلص‪ ،‬ومن الكذب إلى الصدق‪ ،‬ومن الخيانة إلى‬
‫المانة‪ ،‬ومن الكبر إلى التواضع‪ ،‬ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق‪ ،‬ومن‬
‫التباغض والتهاجر والتقاطع‪ ،‬إلى التحاب والتواصل والتوادد‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫أنواع التزكية‪.‬‬
‫ة { قيل‪ :‬هي‬ ‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬‫ب { أي‪ :‬القرآن‪ ،‬ألفاظه ومعانيه‪َ } ،‬وال ْ ِ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬
‫مك ُ ُ‬‫} وَي ُعَل ّ ُ‬
‫السنة‪ ،‬وقيل‪ :‬الحكمة‪ ،‬معرفة أسرار الشريعة والفقه فيها‪ ،‬وتنزيل المور‬
‫منازلها‪.‬‬
‫فيكون ‪ -‬على هذا ‪ -‬تعليم السنة داخل في تعليم الكتاب‪ ،‬لن السنة‪ ،‬تبين‬
‫ن { لنهم كانوا‬ ‫مو َ‬ ‫كوُنوا ت َعْل َ ُ‬ ‫م تَ ُ‬‫ما ل َ ْ‬ ‫القرآن وتفسره‪ ،‬وتعبر عنه‪ } ،‬وَي ُعَل ّ ُ‬
‫مك ُ ْ‬
‫م َ‬
‫قبل بعثته‪ ،‬في ضلل مبين‪ ،‬ل علم ول عمل‪ ،‬فكل علم أو عمل‪ ،‬نالته هذه‬
‫المة فعلى يده صلى الله عليه وسلم‪ ،‬وبسببه كان‪ ،‬فهذه النعم هي أصول‬
‫النعم على الطلق‪ ،‬ولهي أكبر نعم ينعم بها على عباده‪ ،‬فوظيفتهم شكر‬
‫َ‬
‫م { فأمر تعالى‬ ‫الله عليها والقيام بها؛ فلهذا قال تعالى‪َ } :‬فاذ ْك ُُروِني أذ ْك ُْرك ُ ْ‬
‫بذكره‪ ،‬ووعد عليه أفضل جزاء‪ ،‬وهو ذكره لمن ذكره‪ ،‬كما قال تعالى على‬
‫لسان رسوله‪ } :‬من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي‪ ،‬ومن ذكرني في‬
‫مل ذكرته في مل خير منهم { ‪.‬‬
‫وذكر الله تعالى‪ ،‬أفضله‪ ،‬ما تواطأ عليه القلب واللسان‪ ،‬وهو الذكر الذي‬
‫يثمر معرفة الله ومحبته‪ ،‬وكثرة ثوابه‪ ،‬والذكر هو رأس الشكر‪ ،‬فلهذا أمر‬
‫شك ُُروا ِلي { أي‪:‬‬ ‫به خصوصا‪ ،‬ثم من بعده أمر بالشكر عموما فقال‪َ } :‬وا ْ‬
‫على ما أنعمت عليكم بهذه النعم‪ ،‬ودفعت عنكم صنوف النقم‪ ،‬والشكر‬
‫يكون بالقلب‪ ،‬إقرارا بالنعم‪ ،‬واعترافا‪ ،‬وباللسان‪ ،‬ذكرا وثناء‪ ،‬وبالجوارح‪،‬‬
‫طاعة لله وانقيادا لمره‪ ،‬واجتنابا لنهيه‪ ،‬فالشكر فيه بقاء النعمة الموجودة‪،‬‬
‫م { وفي‬ ‫م لِزيد َن ّك ُ ْ‬ ‫شك َْرت ُ ْ‬‫ن َ‬ ‫وزيادة في النعم المفقودة‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬ل َئ ِ ْ‬
‫التيان بالمر بالشكر بعد النعم الدينية‪ ،‬من العلم وتزكية الخلق والتوفيق‬
‫للعمال‪ ،‬بيان أنها أكبر النعم‪ ،‬بل هي النعم الحقيقية؟ التي تدوم‪ ،‬إذا زال‬
‫غيرها وأنه ينبغي لمن وفقوا لعلم أو عمل‪ ،‬أن يشكروا الله على ذلك‪،‬‬
‫ليزيدهم من فضله‪ ،‬وليندفع عنهم العجاب‪ ،‬فيشتغلوا بالشكر‪.‬‬

‫) ‪(1/74‬‬

‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(153‬‬
‫ري َ‬
‫صاب ِ ِ‬
‫معَ ال ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫صَلةِ إ ِ ّ‬
‫صب ْرِ َوال ّ‬
‫ست َِعيُنوا ِبال ّ‬
‫مُنوا ا ْ‬
‫نآ َ‬‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫ن { المراد‬ ‫ولما كان الشكر ضده الكفر‪ ،‬نهى عن ضده فقال‪َ } :‬ول ت َك ْ ُ‬
‫فُرو ِ‬
‫بالكفر هاهنا ما يقابل الشكر‪ ،‬فهو كفر النعم وجحدها‪ ،‬وعدم القيام بها‪،‬‬
‫ويحتمل أن يكون المعنى عاما‪ ،‬فيكون الكفر أنواعا كثيرة‪ ،‬أعظمه الكفر‬
‫بالله‪ ،‬ثم أنواع المعاصي‪ ،‬على اختلف أنواعها وأجناسها‪ ،‬من الشرك‪ ،‬فما‬
‫دونه‪.‬‬
‫] ص ‪[ 75‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫معَ‬‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬‫صلةِ إ ِ ّ‬ ‫صب ْرِ َوال ّ‬
‫ست َِعيُنوا ِبال ّ‬
‫مُنوا ا ْ‬
‫نآ َ‬
‫ذي َ‬
‫} ‪َ } { 153‬يا أي َّها ال ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬
‫ال ّ‬
‫أمر الله تعالى المؤمنين‪ ،‬بالستعانة على أمورهم الدينية والدنيوية‬
‫صلةِ { فالصبر هو‪ :‬حبس النفس وكفها عما تكره‪ ،‬فهو ثلثة‬ ‫صب ْرِ َوال ّ‬
‫} ِبال ّ‬
‫أقسام‪ :‬صبرها على طاعة الله حتى تؤديها‪ ،‬وعن معصية الله حتى تتركها‪،‬‬
‫وعلى أقدار الله المؤلمة فل تتسخطها‪ ،‬فالصبر هو المعونة العظيمة على‬
‫كل أمر‪ ،‬فل سبيل لغير الصابر‪ ،‬أن يدرك مطلوبه‪ ،‬خصوصا الطاعات‬
‫الشاقة المستمرة‪ ،‬فإنها مفتقرة أشد الفتقار‪ ،‬إلى تحمل الصبر‪ ،‬وتجرع‬
‫المرارة الشاقة‪ ،‬فإذا لزم صاحبها الصبر‪ ،‬فاز بالنجاح‪ ،‬وإن رده المكروه‬
‫والمشقة عن الصبر والملزمة عليها‪ ،‬لم يدرك شيئا‪ ،‬وحصل على‬
‫الحرمان‪ ،‬وكذلك المعصية التي تشتد دواعي النفس ونوازعها إليها وهي‬
‫في محل قدرة العبد‪ ،‬فهذه ل يمكن تركها إل بصبر عظيم‪ ،‬وكف لدواعي‬
‫قلبه ونوازعها لله تعالى‪ ،‬واستعانة بالله على العصمة منها‪ ،‬فإنها من الفتن‬
‫الكبار‪ .‬وكذلك البلء الشاق‪ ،‬خصوصا إن استمر‪ ،‬فهذا تضعف معه القوى‬
‫النفسانية والجسدية‪ ،‬ويوجد مقتضاها‪ ،‬وهو التسخط‪ ،‬إن لم يقاومها‬
‫صاحبها بالصبر لله‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬واللجأ إليه‪ ،‬والفتقار على الدوام‪.‬‬
‫فعلمت أن الصبر محتاج إليه العبد‪ ،‬بل مضطر إليه في كل حالة من‬
‫ن { أي‪ :‬مع من‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬‫معَ ال ّ‬
‫أحواله‪ ،‬فلهذا أمر الله تعالى به‪ ،‬وأخبر أنه } َ‬
‫كان الصبر لهم خلقا‪ ،‬وصفة‪ ،‬وملكة بمعونته وتوفيقه‪ ،‬وتسديده‪ ،‬فهانت‬
‫عليهم بذلك‪ ،‬المشاق والمكاره‪ ،‬وسهل عليهم كل عظيم‪ ،‬وزالت عنهم كل‬
‫صعوبة‪ ،‬وهذه معية خاصة‪ ،‬تقتضي محبته ومعونته‪ ،‬ونصره وقربه‪ ،‬وهذه‬
‫]منقبة عظيمة[ )‪ (1‬للصابرين‪ ،‬فلو لم يكن للصابرين فضيلة إل أنهم فازوا‬
‫بهذه المعية من الله‪ ،‬لكفى بها فضل وشرفا‪ ،‬وأما المعية العامة‪ ،‬فهي‬
‫معية العلم والقدرة‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ } :‬وهُو معك ُ َ‬
‫م{‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ن َ‬
‫م أي ْ َ‬ ‫َ َ َ َ ْ‬
‫وهذه عامة للخلق‪.‬‬
‫وأمر تعالى بالستعانة بالصلة لن الصلة هي عماد الدين‪ ،‬ونور المؤمنين‪،‬‬
‫وهي الصلة بين العبد وبين ربه‪ ،‬فإذا كانت صلة العبد صلة كاملة‪ ،‬مجتمعا‬
‫فيها ما يلزم فيها‪ ،‬وما يسن‪ ،‬وحصل فيها حضور القلب‪ ،‬الذي هو لبها‬
‫فصار العبد إذا دخل فيها‪ ،‬استشعر دخوله على ربه‪ ،‬ووقوفه بين يديه‪،‬‬
‫موقف العبد الخادم المتأدب‪ ،‬مستحضرا لكل ما يقوله وما يفعله‪،‬‬
‫مستغرقا بمناجاة ربه ودعائه ل جرم أن هذه الصلة‪ ،‬من أكبر المعونة‬
‫على جميع المور فإن الصلة تنهى عن الفحشاء والمنكر‪ ،‬ولن هذا‬
‫الحضور الذي يكون في الصلة‪ ،‬يوجب للعبد في قلبه‪ ،‬وصفا‪ ،‬وداعيا‬
‫يدعوه إلى امتثال أوامر ربه‪ ،‬واجتناب نواهيه‪ ،‬هذه هي الصلة التي أمر‬
‫الله أن نستعين بها على كل شيء‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش‪ :‬ب‪.‬‬

‫) ‪(1/74‬‬
‫ن َل ت َ ْ‬ ‫ل في سبيل الل ّه أ َموات ب ْ َ‬
‫ن)‬
‫شعُُرو َ‬ ‫حَياٌء وَل َك ِ ْ‬
‫لأ ْ‬ ‫ِ ْ َ ٌ َ‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫قت َ ُ ِ‬
‫ن يُ ْ‬ ‫قوُلوا ل ِ َ‬
‫م ْ‬ ‫وََل ت َ ُ‬
‫‪(154‬‬
‫ل في سبيل الل ّه أ َموات ب ْ َ‬
‫نل‬ ‫حَياءٌ وَل َك ِ ْ‬ ‫لأ ْ‬ ‫ِ ْ َ ٌ َ‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫قت َ ُ ِ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬‫قوُلوا ل ِ َ‬ ‫} ‪َ } { 154‬ول ت َ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫شعُُرو َ‬ ‫تَ ْ‬
‫لما ذكر تبارك وتعالى‪ ،‬المر بالستعانة بالصبر على جميع المور )‪ (1‬ذكر‬
‫نموذجا مما يستعان بالصبر عليه‪ ،‬وهو الجهاد في سبيله‪ ،‬وهو أفضل‬
‫الطاعات البدنية‪ ،‬وأشقها على النفوس‪ ،‬لمشقته في نفسه‪ ،‬ولكونه مؤديا‬
‫للقتل‪ ،‬وعدم الحياة‪ ،‬التي إنما يرغب الراغبون في هذه الدنيا لحصول‬
‫الحياة ولوازمها‪ ،‬فكل ما يتصرفون به‪ ،‬فإنه سعى لها‪ ،‬ودفع لما يضادها‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن المحبوب ل يتركه العاقل إل لمحبوب أعلى منه وأعظم‪،‬‬
‫فأخبر تعالى‪ :‬أن من قتل في سبيله‪ ،‬بأن قاتل في سبيل الله‪ ،‬لتكون كلمة‬
‫الله هي العليا‪ ،‬ودينه الظاهر‪ ،‬ل لغير ذلك من الغراض‪ ،‬فإنه لم تفته‬
‫الحياة المحبوبة‪ ،‬بل حصل له حياة أعظم وأكمل‪ ،‬مما تظنون وتحسبون‪.‬‬
‫َ‬
‫ه‬ ‫ن فَ ْ‬
‫ضل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ما آَتاهُ ُ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫حي َ‬ ‫ن فَرِ ِ‬ ‫م ي ُْرَزُقو َ‬ ‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬ ‫حَياٌء ِ‬ ‫فالشهداء } أ ْ‬
‫م‬
‫م َول هُ ْ‬ ‫ف عَل َي ْهِ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫م َأل َ‬ ‫فهِ ْ‬ ‫خل ْ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫قوا ب ِهِ ْ‬ ‫ح ُ‬‫م ي َل ْ َ‬
‫ن لَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ِبال ّ ِ‬ ‫شُرو َ‬ ‫ست َب ْ ِ‬
‫وَي َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫جَر‬‫ضيعُ أ ْ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ل وَأ ّ‬ ‫ض ٍ‬ ‫ن الل ّهِ وَفَ ْ‬ ‫م َ‬‫مة ٍ ِ‬ ‫ن ب ِن ِعْ َ‬‫شُرو َ‬ ‫ست َب ْ ِ‬‫ن يَ ْ‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ال ْ ُ‬
‫فهل أعظم من هذه الحياة المتضمنة للقرب من الله تعالى‪ ،‬وتمتعهم‬
‫برزقه البدني في المأكولت والمشروبات اللذيذة‪ ،‬والرزق الروحي‪ ،‬وهو‬
‫الفرح‪ ،‬والستبشار )‪ (2‬وزوال كل خوف وحزن‪ ،‬وهذه حياة برزخية أكمل‬
‫من الحياة الدنيا‪ ،‬بل قد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن أرواح‬
‫الشهداء في أجواف طيور )‪ (3‬خضر ترد أنهار الجنة‪ ،‬وتأكل من ثمارها‪،‬‬
‫وتأوي إلى قناديل معلقة بالعرش‪ .‬وفي هذه الية‪ ،‬أعظم حث على الجهاد‬
‫في سبيل الله‪ ،‬وملزمة الصبر عليه‪ ،‬فلو شعر العباد بما للمقتولين في‬
‫سبيل الله من الثواب لم يتخلف عنه أحد‪ ،‬ولكن عدم العلم اليقيني التام‪،‬‬
‫هو الذي فتر العزائم‪ ،‬وزاد نوم النائم‪ ،‬وأفات الجور العظيمة والغنائم‪ ،‬لم‬
‫َ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬
‫م‬‫وال َهُ ْ‬‫م َ‬‫م وَأ ْ‬‫سهُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫شت ََرى ِ‬ ‫ل يكون كذلك والله تعالى قد‪ } :‬ا ْ‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قت َُلو َ‬ ‫ن وَي ُ ْ‬ ‫قت ُُلو َ‬ ‫ل الل ّهِ فَي َ ْ‬‫سِبي ِ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫قات ُِلو َ‬ ‫ة يُ َ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫ن ل َهُ ُ‬
‫ب ِأ ّ‬
‫فوالله لو كان للنسان ألف نفس‪ ،‬تذهب نفسا فنفسا في سبيل الله‪ ،‬لم‬
‫يكن عظيما في جانب هذا الجر العظيم‪ ،‬ولهذا ل يتمنى الشهداء بعدما‬
‫عاينوا من ثواب الله وحسن جزائه إل أن يردوا إلى الدنيا‪ ،‬حتى يقتلوا في‬
‫سبيله مرة بعد مرة‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬الحوال‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬وهو الستبشار‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬طير‪.‬‬

‫) ‪(1/75‬‬

‫س‬
‫ف ِ‬ ‫ل َواْل َن ْ ُ‬ ‫وا ِ‬
‫م َ‬
‫َ‬
‫ن اْل ْ‬ ‫م َ‬
‫ص ِ‬‫ق ٍ‬ ‫جوِع وَن َ ْ‬‫ف َوال ْ ُ‬
‫خوْ ِ‬‫ن ال ْ َ‬‫م َ‬‫يٍء ِ‬
‫ش ْ‬ ‫بِ َ‬ ‫وَل َن َب ْل ُوَن ّك ُ ْ‬
‫م‬
‫ة َقاُلوا إ ِّنا ل ِلهِّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫صيب َ ٌ‬
‫م ِ‬‫م ُ‬ ‫صاب َت ْهُ ْ‬ ‫ن إِ َ‬
‫ذا أ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن )‪ (155‬ال ِ‬ ‫ري َ‬‫صاب ِ ِ‬‫شرِ ال ّ‬‫وَب َ ّ‬ ‫ت‬‫مَرا ِ‬ ‫َوالث ّ َ‬
‫م‬ ‫ة وَُأول َئ ِ َ‬
‫ك هُ ُ‬ ‫م ٌ‬
‫ح َ‬
‫م وََر ْ‬
‫ن َرب ّهِ ْ‬
‫م ْ‬
‫ت ِ‬ ‫صل َ َ‬
‫وا ٌ‬ ‫م َ‬ ‫ن )‪ُ (156‬أول َئ ِ َ‬
‫ك عَل َي ْهِ ْ‬ ‫وَإ ِّنا إ ِل َي ْهِ َرا ِ‬
‫جُعو َ‬
‫ن )‪(157‬‬ ‫دو َ‬ ‫مهْت َ ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫وفي الية‪ ،‬دليل على نعيم البرزخ وعذابه‪ ،‬كما تكاثرت بذلك النصوص‪.‬‬
‫] ص ‪[ 76‬‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ص ِ‬‫ق ٍ‬ ‫جوِع وَن َ ْ‬ ‫ف َوال ْ ُ‬ ‫خوْ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫م بِ َ‬ ‫} ‪ } { 157 - 155‬وَل َن َب ْل ُوَن ّك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ة‬
‫صيب َ ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫م ُ‬‫صاب َت ْهُ ْ‬‫ذا أ َ‬ ‫ن إِ َ‬ ‫ذي َ‬‫ن * ال ّ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬‫شرِ ال ّ‬ ‫ت وَب َ ّ‬ ‫مَرا ِ‬ ‫س َوالث ّ َ‬ ‫ف ِ‬ ‫ل َوالن ْ ُ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ال ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ة‬
‫م ٌ‬
‫ح َ‬ ‫م وََر ْ‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫وا ٌ‬‫صل َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫ن * أولئ ِك عَلي ْهِ ْ‬ ‫جُعو َ‬ ‫َقاُلوا إ ِّنا ل ِلهِ وَإ ِّنا إ ِلي ْهِ َرا ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دو َ‬ ‫م ال ْ ُ‬
‫مهْت َ ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫وَُأول َئ ِ َ‬
‫أخبر تعالى أنه ل بد أن يبتلي عباده بالمحن‪ ،‬ليتبين الصادق من الكاذب‪،‬‬
‫والجازع من الصابر‪ ،‬وهذه سنته تعالى في عباده؛ لن السراء لو استمرت‬
‫لهل اليمان‪ ،‬ولم يحصل معها محنة‪ ،‬لحصل الختلط الذي هو فساد‪،‬‬
‫وحكمة الله تقتضي تمييز أهل الخير من أهل الشر‪ .‬هذه فائدة المحن‪ ،‬ل‬
‫إزالة ما مع المؤمنين من اليمان‪ ،‬ول ردهم عن دينهم‪ ،‬فما كان الله ليضيع‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫إيمان المؤمنين‪ ،‬فأخبر في هذه الية أنه سيبتلي عباده } ب ِ َ‬
‫جوِع { أي‪ :‬بشيء يسير منهما؛ لنه لو ابتلهم‬ ‫ف { من العداء } َوال ْ ُ‬ ‫خوْ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫بالخوف كله‪ ،‬أو الجوع‪ ،‬لهلكوا‪ ،‬والمحن تمحص ل تهلك‪.‬‬
‫ل { وهذا يشمل جميع النقص المعتري للموال من‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ال ْ‬ ‫م َ‬ ‫ص ِ‬ ‫ق ٍ‬ ‫} وَن َ ْ‬
‫جوائح سماوية‪ ،‬وغرق‪ ،‬وضياع‪ ،‬وأخذ الظلمة للموال من الملوك الظلمة‪،‬‬
‫وقطاع الطريق وغير ذلك‪.‬‬
‫س { أي‪ :‬ذهاب الحباب من الولد‪ ،‬والقارب‪ ،‬والصحاب‪ ،‬ومن‬ ‫ف ِ‬ ‫} َوالن ْ ُ‬
‫ت { أي‪:‬‬ ‫مَرا ِ‬ ‫أنواع المراض في بدن العبد‪ ،‬أو بدن من يحبه‪َ } ،‬والث ّ َ‬
‫الحبوب‪ ،‬وثمار النخيل‪ ،‬والشجار كلها‪ ،‬والخضر ببرد‪ ،‬أو برد‪ ،‬أو حرق‪ ،‬أو‬
‫آفة سماوية‪ ،‬من جراد )‪ (1‬ونحوه‪.‬‬
‫فهذه المور‪ ،‬ل بد أن تقع‪ ،‬لن العليم الخبير‪ ،‬أخبر بها‪ ،‬فوقعت كما أخبر‪،‬‬
‫فإذا وقعت انقسم الناس قسمين‪ :‬جازعين وصابرين‪ ،‬فالجازع‪ ،‬حصلت له‬
‫المصيبتان‪ ،‬فوات المحبوب‪ ،‬وهو وجود هذه المصيبة‪ ،‬وفوات ما هو أعظم‬
‫منها‪ ،‬وهو الجر بامتثال أمر الله بالصبر‪ ،‬ففاز بالخسارة والحرمان‪ ،‬ونقص‬
‫ما معه من اليمان‪ ،‬وفاته الصبر والرضا والشكران‪ ،‬وحصل ]له[ السخط‬
‫الدال على شدة النقصان‪.‬‬
‫وأما من وفقه الله للصبر عند وجود هذه المصائب‪ ،‬فحبس نفسه عن‬
‫التسخط‪ ،‬قول وفعل واحتسب أجرها عند الله‪ ،‬وعلم أن ما يدركه من‬
‫الجر بصبره أعظم من المصيبة التي حصلت له‪ ،‬بل المصيبة تكون نعمة‬
‫في حقه‪ ،‬لنها صارت طريقا لحصول ما هو خير له وأنفع منها‪ ،‬فقد امتثل‬
‫ن { أي‪ :‬بشرهم‬ ‫ري َ‬‫صاب ِ ِ‬ ‫شرِ ال ّ‬ ‫أمر الله‪ ،‬وفاز بالثواب‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪ } :‬وَب َ ّ‬
‫بأنهم يوفون أجرهم بغير حساب‪.‬‬
‫فالصابرين‪ ،‬هم الذين فازوا بالبشارة العظيمة‪ ،‬والمنحة الجسيمة‪ ،‬ثم‬
‫ة { وهي كل ما يؤلم القلب أو‬ ‫صيب َ ٌ‬ ‫وصفهم بقوله‪ } :‬ال ّذين إ َ َ‬
‫م ِ‬ ‫م ُ‬ ‫صاب َت ْهُ ْ‬
‫ذا أ َ‬ ‫ِ َ ِ‬
‫البدن أو كليهما مما تقدم ذكره‪.‬‬
‫} َقاُلوا إ ِّنا ل ِل ّهِ { أي‪ :‬مملوكون لله‪ ،‬مدبرون تحت أمره وتصريفه‪ ،‬فليس‬
‫لنا من أنفسنا وأموالنا شيء‪ ،‬فإذا ابتلنا بشيء منها‪ ،‬فقد تصرف أرحم‬
‫الراحمين‪ ،‬بمماليكه وأموالهم‪ ،‬فل اعتراض عليه‪ ،‬بل من كمال عبودية‬
‫العبد‪ ،‬علمه‪ ،‬بأن وقوع البلية من المالك الحكيم‪ ،‬الذي أرحم بعبده من‬
‫نفسه‪ ،‬فيوجب له ذلك‪ ،‬الرضا عن الله‪ ،‬والشكر له على تدبيره‪ ،‬لما هو‬
‫خير لعبده‪ ،‬وإن لم يشعر بذلك‪ ،‬ومع أننا مملوكون لله‪ ،‬فإنا إليه راجعون‬
‫يوم المعاد‪ ،‬فمجاز كل عامل بعمله‪ ،‬فإن صبرنا واحتسبنا وجدنا أجرنا‬
‫موفورا عنده‪ ،‬وإن جزعنا وسخطنا‪ ،‬لم يكن حظنا إل السخط وفوات‬
‫الجر‪ ،‬فكون العبد لله‪ ،‬وراجع إليه‪ ،‬من أقوى أسباب الصبر‪.‬‬
‫م { أي‪:‬‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬
‫م ْ‬‫ت ِ‬‫وا ٌ‬ ‫صل َ َ‬‫م َ‬ ‫ك { الموصوفون بالصبر المذكور } عَل َي ْهِ ْ‬ ‫} ُأول َئ ِ َ‬
‫ة { عظيمة‪ ،‬ومن رحمته إياهم‪ ،‬أن وفقهم‬ ‫م ٌ‬
‫ح َ‬
‫ثناء وتنويه بحالهم } وََر ْ‬
‫ُ‬
‫ن { الذين عرفوا‬ ‫دو َ‬‫مهْت َ ُ‬ ‫م ال ْ ُ‬‫ك هُ ُ‬ ‫للصبر الذي ينالون به كمال الجر‪ } ،‬وَأول َئ ِ َ‬
‫الحق‪ ،‬وهو في هذا الموضع‪ ،‬علمهم بأنهم لله‪ ،‬وأنهم إليه راجعون‪ ،‬وعملوا‬
‫به وهو هنا صبرهم لله‪.‬‬
‫ودلت هذه الية‪ ،‬على أن من لم يصبر‪ ،‬فله ضد ما لهم‪ ،‬فحصل له الذم‬
‫من الله‪ ،‬والعقوبة‪ ،‬والضلل والخسار‪ ،‬فما أعظم الفرق بين الفريقين وما‬
‫أقل تعب الصابرين‪ ،‬وأعظم عناء الجازعين‪ ،‬فقد اشتملت هاتان اليتان‬
‫على توطين النفوس على المصائب قبل وقوعها‪ ،‬لتخف وتسهل‪ ،‬إذا‬
‫وقعت‪ ،‬وبيان ما تقابل به‪ ،‬إذا وقعت‪ ،‬وهو الصبر‪ ،‬وبيان ما يعين على‬
‫الصبر‪ ،‬وما للصابر من الجر‪ ،‬ويعلم حال غير الصابر‪ ،‬بضد حال الصابر‪.‬‬
‫وأن هذا البتلء والمتحان‪ ،‬سنة الله التي قد خلت‪ ،‬ولن تجد لسنة الله‬
‫تبديل وبيان أنواع المصائب‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬معدلة في الهامش وفي أ‪ :‬جند‪.‬‬

‫) ‪(1/75‬‬

‫َ‬
‫ح عَل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫مَر فََل ُ‬
‫جَنا َ‬ ‫ت أوِ اعْت َ َ‬ ‫ج ال ْب َي ْ َ‬
‫ح ّ‬
‫ن َ‬ ‫شَعائ ِرِ الل ّهِ فَ َ‬
‫م ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫مْروَةَ ِ‬‫فا َوال ْ َ‬‫ص َ‬
‫ال ّ‬ ‫ن‬
‫إِ ّ‬
‫َ‬
‫م )‪(158‬‬ ‫شاك ٌِر عَِلي ٌ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن ت َط َوّعَ َ‬
‫خي ًْرا فَإ ِ ّ‬ ‫م ْ‬‫ما وَ َ‬
‫ف ب ِهِ َ‬ ‫ي َط ّوّ َ‬ ‫ن‬‫أ ْ‬
‫َ‬
‫مَر َفل‬‫ت أوِ اعْت َ َ‬ ‫ج ال ْب َي ْ َ‬‫ح ّ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫شَعائ ِرِ الل ّهِ فَ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫مْروَةَ ِ‬‫فا َوال ْ َ‬ ‫ص َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫} ‪ } { 158‬إ ِ ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫شاك ٌِر عَِلي ٌ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫خي ًْرا فَإ ِ ّ‬‫ن ت َطوّعَ َ‬ ‫م ْ‬
‫ما وَ َ‬ ‫ف ب ِهِ َ‬‫ن ي َطوّ َ‬ ‫ح عَل َي ْهِ أ ْ‬ ‫جَنا َ‬ ‫ُ‬
‫ّ‬
‫شَعائ ِرِ اللهِ { أي‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫يخبر تعالى أن الصفا والمروة وهما معروفان } ِ‬
‫أعلم دينه الظاهرة‪ ،‬التي تعبد الله بها عباده‪ ،‬وإذا كانا من شعائر الله‪ ،‬فقد‬
‫وى‬‫ق َ‬‫ن تَ ْ‬
‫م ْ‬‫شَعائ َِر الل ّهِ فَإ ِن َّها ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ي ُعَظ ّ ْ‬ ‫م ْ‬‫أمر الله بتعظيم شعائره فقال‪ } :‬وَ َ‬
‫ب { فدل مجموع النصين أنهما من شعائر الله‪ ،‬وأن تعظيم شعائره‪،‬‬ ‫قُلو ِ‬‫ال ْ ُ‬
‫من تقوى القلوب‪.‬‬
‫والتقوى واجبة على كل مكلف‪ ،‬وذلك يدل على أن السعي بهما فرض‬
‫لزم للحج والعمرة‪ ،‬كما عليه الجمهور‪ ،‬ودلت عليه الحاديث النبوية وفعله‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم وقال‪" :‬خذوا عني مناسككم "‬
‫ن ي َط ّوّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما { هذا دفع لوهم‬ ‫ف ب ِهِ َ‬ ‫ح عَل َي ْهِ أ ْ‬‫جَنا َ‬‫مَر َفل ُ‬ ‫ت أوِ اعْت َ َ‬ ‫ج ال ْب َي ْ َ‬‫ح ّ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫} فَ َ‬
‫من توهم وتحرج من المسلمين عن الطواف بينهما‪ ،‬لكونهما في الجاهلية‬
‫تعبد عندهما الصنام‪ ،‬فنفى تعالى الجناح لدفع هذا الوهم‪ ،‬ل لنه غير لزم‪.‬‬
‫ودل تقييد نفي الجناح فيمن تطوف بهما في الحج والعمرة‪ ،‬أنه ل يتطوع‬
‫بالسعي مفردا إل مع انضمامه لحج أو ] ص ‪ [ 77‬عمرة‪ ،‬بخلف الطواف‬
‫بالبيت‪ ،‬فإنه يشرع مع العمرة والحج‪ ،‬وهو عبادة مفردة‪.‬‬
‫فأما السعي والوقوف بعرفة ومزدلفة‪ ،‬ورمي الجمار فإنها تتبع النسك‪ ،‬فلو‬
‫فعلت غير تابعة للنسك‪ ،‬كانت بدعة‪ ،‬لن البدعة نوعان‪ :‬نوع يتعبد لله‬
‫بعبادة‪ ،‬لم يشرعها أصل ونوع يتعبد له بعبادة قد شرعها على صفة‬
‫مخصوصة‪ ،‬فتفعل على غير تلك الصفة‪ ،‬وهذا منه‪.‬‬
‫ن ت َط َوّعَ { أي‪ :‬فعل طاعة مخلصا بها لله تعالى } َ‬
‫خي ًْرا { من‬ ‫م ْ‬‫وقوله‪ } :‬وَ َ‬
‫ه { فدل هذا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫حج وعمرة‪ ،‬وطواف‪ ،‬وصلة‪ ،‬وصوم وغير ذلك } فَهُوَ َ‬
‫خي ٌْر ل ُ‬
‫على أنه كلما ازداد العبد من طاعة الله‪ ،‬ازداد خيره وكماله‪ ،‬ودرجته عند‬
‫الله‪ ،‬لزيادة إيمانه‪.‬‬
‫ودل تقييد التطوع بالخير‪ ،‬أن من تطوع بالبدع‪ ،‬التي لم يشرعها الله ول‬
‫رسوله‪ ،‬أنه ل يحصل له إل العناء‪ ،‬وليس بخير له‪ ،‬بل قد يكون شرا له إن‬
‫كان متعمدا عالما بعدم مشروعية العمل‪.‬‬
‫م { الشاكر والشكور‪ ،‬من أسماء الله تعالى‪ ،‬الذي‬ ‫شاك ٌِر عَِلي ٌ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫} فَإ ِ ّ‬
‫يقبل من عباده اليسير من العمل‪ ،‬ويجازيهم عليه‪ ،‬العظيم من الجر‪ ،‬الذي‬
‫إذا قام عبده بأوامره‪ ،‬وامتثل طاعته‪ ،‬أعانه على ذلك‪ ،‬وأثنى عليه ومدحه‪،‬‬
‫وجازاه في قلبه نورا وإيمانا وسعة‪ ،‬وفي بدنه قوة ونشاطا‪ ،‬وفي جميع‬
‫أحواله زيادة بركة ونماء‪ ،‬وفي أعماله زيادة توفيق‪.‬‬
‫ثم بعد ذلك‪ ،‬يقدم على الثواب الجل عند ربه كامل موفرا‪ ،‬لم تنقصه هذه‬
‫المور‪.‬‬
‫ومن شكره لعبده‪ ،‬أن من ترك شيئا لله أعاضه الله خيرا منه‪ ،‬ومن تقرب‬
‫منه شبرا‪ ،‬تقرب منه ذراعا‪ ،‬ومن تقرب منه ذراعا‪ ،‬تقرب منه باعا‪ ،‬ومن‬
‫أتاه يمشي‪ ،‬أتاه هرولة‪ ،‬ومن عامله‪ ،‬ربح عليه أضعافا مضاعفة‪.‬‬
‫ومع أنه شاكر‪ ،‬فهو عليم بمن يستحق الثواب الكامل‪ ،‬بحسب نيته وإيمانه‬
‫وتقواه‪ ،‬ممن ليس كذلك‪ ،‬عليم بأعمال العباد‪ ،‬فل يضيعها‪ ،‬بل يجدونها أوفر‬
‫ما كانت‪ ،‬على حسب نياتهم التي اطلع عليها العليم الحكيم‪.‬‬

‫) ‪(1/76‬‬

‫َ‬
‫س ِفي‬ ‫ما ب َي ّّناهُ ِللّنا َ ِ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬‫م ْ‬
‫دى ِ‬ ‫ت َوال ْهُ َ‬ ‫ن ال ْب َي َّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ما أن َْزل َْنا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫إِ ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫حوا‬
‫صل ُ‬‫ن َتاُبوا وَأ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن )‪ (159‬إ ِل ال ِ‬ ‫عُنو َ‬ ‫م الل ِ‬ ‫ه وَي َلعَن ُهُ ُ‬ ‫م الل ُ‬ ‫َ‬
‫ب أولئ ِك ي َلعَن ُهُ ُ‬
‫ُ‬ ‫ال ْك َِتا ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن كَ َ‬
‫فُروا‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م )‪ (160‬إ ِ ّ‬ ‫حي ُ‬‫ب الّر ِ‬ ‫وا ُ‬ ‫م وَأَنا الت ّ ّ‬ ‫ب عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ك أُتو ُ‬ ‫وَب َي ُّنوا فَأول َئ ِ َ‬
‫َ‬ ‫ة الل ّهِ َوال ْ َ َ‬ ‫م ل َعْن َ ُ‬ ‫ُ‬
‫ن )‪(161‬‬ ‫مِعي َ‬ ‫ج َ‬‫سأ ْ‬ ‫ملئ ِك َةِ َوالّنا ِ‬ ‫ك عَل َي ْهِ ْ‬ ‫فاٌر أول َئ ِ َ‬ ‫م كُ ّ‬ ‫ماُتوا وَهُ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫ن )‪(162‬‬ ‫َ‬
‫م ي ُن ْظُرو َ‬ ‫َ‬
‫ب وَل هُ ْ‬ ‫ذا ُ‬ ‫ْ‬
‫م الع َ َ‬ ‫ف عَن ْهُ ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫خ ّ‬ ‫َ‬
‫ن ِفيَها ل ي ُ َ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ن ب َعْدِ‬‫م ْ‬ ‫دى ِ‬ ‫ت َوال ْهُ َ‬ ‫ن ال ْب َي َّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ما أن َْزل َْنا ِ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫} ‪ } { 162 - 159‬إ ِ ّ‬
‫ُ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ن * ِإل ال ّ ِ‬ ‫عُنو َ‬‫م الل ِ‬ ‫ه وَي َل ْعَن ُهُ ُ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ك ي َل ْعَن ُهُ ُ‬ ‫ب أول َئ ِ َ‬ ‫س ِفي ال ْك ِ َُتا ِ‬ ‫هُ ِللّنا ِ‬ ‫ما ب َي ّّنا‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫م * إِ ّ‬ ‫حي ُ‬‫ب الّر ِ‬ ‫وا ُ‬ ‫م وَأَنا الت ّ ّ‬ ‫ب عَلي ْهِ ْ‬ ‫حوا وَب َي ُّنوا فأولئ ِك أُتو ُ‬ ‫صل ُ‬ ‫َتاُبوا وَأ ْ‬
‫ن*‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫كَ َ‬
‫مِعي َ‬ ‫ج َ‬‫سأ ْ‬ ‫ملئ ِكةِ َوالّنا ِ‬ ‫ة اللهِ َوال َ‬ ‫م لعْن َ ُ‬ ‫فاٌر أولئ ِك عَلي ْهِ ْ‬ ‫مك ّ‬ ‫ماُتوا وَهُ ْ‬ ‫فُروا وَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫م ي ُن ْظ َُرو َ‬ ‫ب َول هُ ْ‬ ‫ذا ُ‬ ‫م ال ْعَ َ‬ ‫ف عَن ْهُ ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫خ ّ‬ ‫ن ِفيَها ل ي ُ َ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬‫َ‬
‫هذه الية وإن كانت نازلة في أهل الكتاب‪ ،‬وما كتموا من شأن الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم وصفاته‪ ،‬فإن حكمها عام لكل من اتصف بكتمان ما‬
‫دى {‬ ‫ت { الدالت على الحق المظهرات له‪َ } ،‬وال ْهُ َ‬ ‫ن ال ْب َي َّنا ِ‬ ‫م َ‬‫أنزل الله } ِ‬
‫وهو العلم الذي تحصل به الهداية إلى الصراط المستقيم‪ ،‬ويتبين به طريق‬
‫أهل النعيم‪ ،‬من طريق أهل الجحيم‪ ،‬فإن الله أخذ الميثاق على أهل العلم‪،‬‬
‫ن الله به عليهم من علم الكتاب ول يكتموه‪ ،‬فمن نبذ‬ ‫بأن يبينوا الناس ما م ّ‬
‫ذلك وجمع بين المفسدتين‪ ،‬كتم ما أنزل الله‪ ،‬والغش لعباد الله‪ ،‬فأولئك }‬
‫ه { أي‪ :‬يبعدهم ويطردهم عن قربه ورحمته‪.‬‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ي َل ْعَن ُهُ ُ‬
‫ن { وهم جميع الخليقة‪ ،‬فتقع عليهم اللعنة من جميع‬ ‫عُنو َ‬
‫م الل ِ‬ ‫} وَي َل ْعَن ُهُ ُ‬
‫الخليقة‪ ،‬لسعيهم في غش الخلق وفساد أديانهم‪ ،‬وإبعادهم من رحمة الله‪،‬‬
‫فجوزوا من جنس عملهم‪ ،‬كما أن معلم الناس الخير‪ ،‬يصلي الله عليه‬
‫وملئكته‪ ،‬حتى الحوت في جوف الماء‪ ،‬لسعيه في مصلحة الخلق‪ ،‬وإصلح‬
‫أديانهم‪ ،‬وقربهم من رحمة الله‪ ،‬فجوزي من جنس عمله‪ ،‬فالكاتم لما أنزل‬
‫الله‪ ،‬مضاد لمر الله‪ ،‬مشاق لله‪ ،‬يبين الله اليات للناس ويوضحها‪ ،‬وهذا‬
‫يطمسها )‪ (1‬فهذا عليه هذا الوعيد الشديد‪.‬‬
‫ن َتاُبوا { أي رجعوا عما هم عليه من الذنوب‪ ،‬ندما وإقلعا‪،‬‬ ‫ذي َ‬ ‫} ِإل ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫حوا { ما فسد من أعمالهم‪ ،‬فل يكفي‬ ‫صل َ ُ‬
‫وعزما على عدم المعاودة } وَأ ْ‬
‫ترك القبيح حتى يحصل فعل الحسن‪.‬‬
‫ول يكفي ذلك في الكاتم أيضا‪ ،‬حتى يبين ما كتمه‪ ،‬ويبدي ضد ما أخفى‪،‬‬
‫فهذا يتوب الله عليه‪ ،‬لن توبة الله غير محجوب عنها‪ ،‬فمن أتى بسبب‬
‫ب { أي‪ :‬الرجاع على عباده بالعفو‬ ‫وا ُ‬ ‫التوبة‪ ،‬تاب الله عليه‪ ،‬لنه } الت ّ ّ‬
‫والصفح‪ ،‬بعد الذنب إذا تابوا‪ ،‬وبالحسان والنعم بعد المنع‪ ،‬إذا رجعوا‪،‬‬
‫م { الذي اتصف بالرحمة العظيمة‪ ،‬التي وسعت كل شيء ومن‬ ‫حي ُ‬ ‫} الّر ِ‬
‫رحمته أن وفقهم للتوبة والنابة فتابوا وأنابوا‪ ،‬ثم رحمهم بأن قبل ذلك‬
‫منهم‪ ،‬لطفا وكرما‪ ،‬هذا حكم التائب من الذنب‪.‬‬
‫وأما من كفر واستمر على كفره حتى مات ولم يرجع إلى ربه‪ ،‬ولم ينب‬
‫س‬ ‫ة الل ّهِ َوال ْ َ‬
‫ملئ ِك َةِ َوالّنا ِ‬ ‫م ل َعْن َ ُ‬
‫إليه‪ ،‬ولم يتب عن قريب فأولئك } عَل َي ْهِ ْ‬
‫ن { لنه لما صار كفرهم وصفا ثابتا‪ ،‬صارت اللعنة عليهم وصفا ثابتا‬ ‫َ‬
‫مِعي َ‬ ‫ج َ‬ ‫أ ْ‬
‫ل تزول‪ ،‬لن الحكم يدور مع علته‪ ،‬وجودا وعدما‪.‬‬
‫ن ِفيَها { أي‪ :‬في اللعنة‪ ،‬أو في العذاب والمعنيان )‪. (2‬‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫و} َ‬
‫م‬‫ب { بل عذابهم دائم شديد مستمر } َول هُ ْ‬ ‫ذا ُ‬ ‫ْ‬
‫م العَ َ‬ ‫ف عَن ْهُ ُ‬‫ف ُ‬ ‫خ ّ‬ ‫} ل يُ َ‬
‫ن { أي‪ :‬يمهلون‪ ،‬لن وقت المهال وهو الدنيا قد مضى‪ ،‬ولم يبق‬ ‫ي ُن ْظ َُرو َ‬
‫لهم عذر فيعتذرون‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬وهذا يسعى في طمسها وإخفائها‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬وهما متلزمان‪.‬‬

‫) ‪(1/77‬‬

‫م )‪(163‬‬
‫حي ُ‬
‫ن الّر ِ‬
‫م ُ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ الّر ْ‬
‫ح َ‬ ‫حد ٌ َل إ ِل َ َ‬ ‫م إ ِل َ ٌ‬
‫ه َوا ِ‬ ‫وَإ ِل َهُك ُ ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حي ُ‬
‫ن الّر ِ‬
‫م ُ‬‫ح َ‬
‫ه ِإل هُوَ الّر ْ‬ ‫حد ٌ ل إ ِل َ َ‬ ‫م إ ِل َ ٌ‬
‫ه َوا ِ‬ ‫} ‪ } { 163‬وَإ ِل َهُك ُ ْ‬
‫حد ٌ { أي‪ :‬متوحد منفرد في‬ ‫ه َوا ِ‬‫يخبر تعالى ‪ -‬وهو أصدق القائلين ‪ -‬أنه } إ ِل َ ٌ‬
‫ذاته‪ ،‬وأسمائه‪ ،‬وصفاته‪ ،‬وأفعاله‪ ،‬فليس له ] ص ‪ [ 78‬شريك في ذاته‪ ،‬ول‬
‫سمي له ول كفو له‪ ،‬ول مثل‪ ،‬ول نظير‪ ،‬ول خالق‪ ،‬ول مدبر غيره‪ ،‬فإذا كان‬
‫كذلك‪ ،‬فهو المستحق لن يؤله ويعبد بجميع أنواع العبادة‪ ،‬ول يشرك به‬
‫م { المتصف بالرحمة العظيمة‪ ،‬التي‬ ‫حي ُ‬
‫ن الّر ِ‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫أحد من خلقه‪ ،‬لنه } الّر ْ‬
‫ل يماثلها رحمة أحد‪ ،‬فقد وسعت كل شيء وعمت كل حي‪ ،‬فبرحمته‬
‫وجدت المخلوقات‪ ،‬وبرحمته حصلت لها أنواع الكمالت‪ ،‬وبرحمته اندفع‬
‫عنها كل نقمة‪ ،‬وبرحمته عّرف عباده نفسه بصفاته وآلئه‪ ،‬وبّين لهم كل ما‬
‫يحتاجون إليه من مصالح دينهم ودنياهم‪ ،‬بإرسال الرسل‪ ،‬وإنزال الكتب‪.‬‬
‫فإذا علم أن ما بالعباد من نعمة‪ ،‬فمن الله‪ ،‬وأن أحدا من المخلوقين‪ ،‬ل‬
‫ينفع أحدا‪ ،‬علم أن الله هو المستحق لجميع أنواع العبادة‪ ،‬وأن يفرد‬
‫بالمحبة والخوف‪ ،‬والرجاء‪ ،‬والتعظيم‪ ،‬والتوكل‪ ،‬وغير ذلك من أنواع‬
‫الطاعات‪.‬‬
‫وأن من أظلم الظلم‪ ،‬وأقبح القبيح‪ ،‬أن يعدل عن عبادته إلى عبادة العبيد‪،‬‬
‫وأن يشرك المخلوق )‪ (1‬من تراب‪ ،‬برب الرباب‪ ،‬أو يعبد المخلوق المدبر‬
‫العاجز من جميع الوجوه‪ ،‬مع الخالق المدبر القادر القوي‪ ،‬الذي قد قهر‬
‫كل شيء ودان له كل شيء‪.‬‬
‫ففي هذه الية‪ ،‬إثبات وحدانية الباري وإلهيته‪ ،‬وتقريرها بنفيها عن غيره من‬
‫المخلوقين وبيان أصل الدليل على ذلك وهو إثبات رحمته التي من آثارها‬
‫وجود جميع النعم‪ ،‬واندفاع ]جميع[ النقم‪ ،‬فهذا دليل إجمالي على وحدانيته‬
‫تعالى‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬المخلوقين‪.‬‬

‫) ‪(1/77‬‬

‫ري‬ ‫ك ال ِّتي ت َ ْ‬
‫ج ِ‬ ‫فل ْ ِ‬
‫ل َوالن َّهارِ َوال ْ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ف الل ّي ْ‬ ‫خت َِل ِ‬ ‫ض َوا ْ‬ ‫ِ‬ ‫ت َواْل َْر‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ق ال ّ‬ ‫ِ‬
‫خل ْ‬
‫ن ِفي َ‬ ‫إِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ه‬ ‫ماٍء فَأ ْ‬
‫حَيا ب ِ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫ماِء ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫س وَ َ‬ ‫فعُ الّنا َ‬ ‫ما ي َن ْ َ‬‫حرِ ب ِ َ‬ ‫ِفي ال ْب َ ْ‬
‫َ‬
‫ب‬
‫حا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ف الّرَياِح َوال ّ‬ ‫ري ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫داب ّةٍ وَت َ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫م ْ‬‫ث ِفيَها ِ‬ ‫موْت َِها وَب َ ّ‬ ‫ض ب َعْد َ َ‬ ‫اْلْر َ‬
‫قُلو َ‬ ‫ض َل ََيا ٍ‬ ‫َْ‬
‫ن )‪(164‬‬ ‫قوْم ٍ ي َعْ ِ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫ماِء َوالْر ِ‬ ‫س َ‬‫ن ال ّ‬ ‫خرِ ب َي ْ َ‬‫س ّ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م َ‬

‫ت‬‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ق ال ّ‬ ‫ن ِفي َ ْ‬


‫خل ِ‬ ‫} ‪.{ 164‬ثم ذكر الدلة التفصيلية فقال‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ع‬
‫ما ي َن ْفَ ُ‬‫حرِ ب ِ َ‬ ‫ْ‬
‫ري ِفي الب َ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫ك ال ِّتي ت َ ْ‬‫فل ْ ِ‬
‫ل َوالن َّهارِ َوال ْ ُ‬ ‫ف الل ّي ْ‬ ‫خِتل ِ‬ ‫ض َوا ْ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َوالْر ِ‬
‫ث‬‫موْت َِها وَب َ ّ‬ ‫ض ب َعْد َ َ‬ ‫حَيا ب ِهِ الْر َ‬ ‫ماٍء فَأ ْ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫ماِء ِ‬ ‫س َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ّ‬
‫ل الل ُ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫س وَ َ‬ ‫الّنا َ‬
‫ض‬
‫ماِء َوالْر ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫خرِ ب َي ْ َ‬
‫س ّ‬
‫م َ‬‫ب ال ْ ُ‬ ‫حا ِ‬
‫س َ‬‫ف الّرَياِح َوال ّ‬ ‫ري ِ‬ ‫ص ِ‬ ‫داب ّةٍ وَت َ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ِفيَها ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قُلو َ‬‫قوْم ٍ ي َعْ ِ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫لَيا ٍ‬
‫أخبر تعالى أن في هذه المخلوقات العظيمة‪ ،‬آيات أي‪ :‬أدلة على وحدانية‬
‫قوْم ٍ‬ ‫الباري وإلهيته‪ ،‬وعظيم سلطانه ورحمته وسائر صفاته‪ ،‬ولكنها } ل ِ َ‬
‫ن { أي‪ :‬لمن لهم عقول يعملونها فيما خلقت له‪ ،‬فعلى حسب ما‬ ‫قُلو َ‬‫ي َعْ ِ‬
‫ن الله على عبده من العقل‪ ،‬ينتفع باليات ويعرفها بعقله وفكره وتدّبره‪،‬‬ ‫م ّ‬
‫ت { في ارتفاعها واتساعها‪ ،‬وإحكامها‪ ،‬وإتقانها‪ ،‬وما‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬
‫ق ال ّ‬ ‫ْ‬
‫خل ِ‬ ‫ففي } َ‬
‫جعل الله فيها من الشمس والقمر‪ ،‬والنجوم‪ ،‬وتنظيمها لمصالح العباد‪.‬‬
‫ض { مهادا للخلق‪ ،‬يمكنهم القرار عليها والنتفاع بما‬ ‫وفي خلق } الْر ِ‬
‫عليها‪ ،‬والعتبار‪ .‬ما يدل ذلك على انفراد الله تعالى بالخلق والتدبير‪ ،‬وبيان‬
‫قدرته العظيمة التي بها خلقها‪ ،‬وحكمته التي بها أتقنها‪ ،‬وأحسنها ونظمها‪،‬‬
‫وعلمه ورحمته التي بها أودع ما أودع‪ ،‬من منافع الخلق ومصالحهم‪،‬‬
‫وضروراتهم وحاجاتهم‪ .‬وفي ذلك أبلغ الدليل على كماله‪ ،‬واستحقاقه أن‬
‫يفرد بالعبادة‪ ،‬لنفراده بالخلق والتدبير‪ ،‬والقيام بشئون عباده } و { في }‬
‫ل َوالن َّهارِ { وهو تعاقبهما على الدوام‪ ،‬إذا ذهب أحدهما‪ ،‬خلفه‬ ‫ف الل ّي ْ ِ‬
‫خِتل ِ‬ ‫ا ْ‬
‫الخر‪ ،‬وفي اختلفهما في الحر‪ ،‬والبرد‪ ،‬والتوسط‪ ،‬وفي الطول‪ ،‬والقصر‪،‬‬
‫والتوسط‪ ،‬وما ينشأ عن ذلك من الفصول‪ ،‬التي بها انتظام مصالح بني آدم‬
‫وحيواناتهم‪ ،‬وجميع ما على وجه الرض‪ ،‬من أشجار ونوابت‪ ،‬كل ذلك‬
‫بانتظام وتدبير‪ ،‬وتسخير‪ ،‬تنبهر له العقول‪ ،‬وتعجز عن إدراكه من الرجال‬
‫الفحول‪ ،‬ما يدل ذلك على قدرة مصرفها‪ ،‬وعلمه وحكمته‪ ،‬ورحمته‬
‫الواسعة‪ ،‬ولطفه الشامل‪ ،‬وتصريفه وتدبيره‪ ،‬الذي تفرد به‪ ،‬وعظمته‪،‬‬
‫وعظمة ملكه وسلطانه‪ ،‬مما يوجب أن يؤله ويعبد‪ ،‬ويفرد بالمحبة‬
‫والتعظيم‪ ،‬والخوف والرجاء‪ ،‬وبذل الجهد في محابه ومراضيه‪.‬‬
‫حرِ { وهي السفن والمراكب‬ ‫ري ِفي ال ْب َ ْ‬ ‫ج ِ‬‫ك ال ِّتي ت َ ْ‬‫فل ْ ِ‬ ‫} و { في } َوال ْ ُ‬
‫ونحوها‪ ،‬مما ألهم الله عباده صنعتها‪ ،‬وخلق لهم من اللت الداخلية‬
‫والخارجية ما أقدرهم عليها‪.‬‬
‫ثم سخر لها هذا البحر العظيم والرياح‪ ،‬التي تحملها بما فيها من الركاب‬
‫والموال‪ ،‬والبضائع التي هي من منافع الناس‪ ،‬وبما تقوم به مصالحهم‬
‫وتنتظم معايشهم‪.‬‬
‫فمن الذي ألهمهم صنعتها‪ ،‬وأقدرهم عليها‪ ،‬وخلق لهم من اللت ما به‬
‫يعملونها؟ أم من الذي سخر لها البحر‪ ،‬تجري فيه بإذنه وتسخيره‪ ،‬والرياح؟‬
‫أم من الذي خلق للمراكب البرية والبحرية‪ ،‬النار والمعادن المعينة على‬
‫حملها‪ ،‬وحمل ما فيها من الموال؟ فهل هذه المور‪ ،‬حصلت اتفاقا‪ ،‬أم‬
‫استقل بعملها هذا المخلوق الضعيف العاجز‪ ،‬الذي خرج من بطن أمه‪ ،‬ل‬
‫علم له ول قدرة‪ ،‬ثم خلق له ربه القدرة‪ ،‬وعلمه ما يشاء تعليمه‪ ،‬أم‬
‫المسخر لذلك رب واحد‪ ،‬حكيم عليم‪ ،‬ل يعجزه شيء‪ ،‬ول يمتنع عليه‬
‫شيء؟ بل الشياء قد دانت لربوبيته‪ ،‬واستكانت لعظمته‪ ] ،‬ص ‪[ 79‬‬
‫وخضعت لجبروته‪.‬‬
‫وغاية العبد الضعيف‪ ،‬أن جعله الله جزءا من أجزاء السباب‪ ،‬التي بها‬
‫وجدت هذه المور العظام‪ ،‬فهذا يدل على رحمة الله وعنايته بخلقه‪ ،‬وذلك‬
‫يوجب أن تكون المحبة كلها له‪ ،‬والخوف والرجاء‪ ،‬وجميع الطاعة‪ ،‬والذل‬
‫والتعظيم‪.‬‬
‫ماٍء { وهو المطر النازل من السحاب‪.‬‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬‫ماِء ِ‬ ‫س َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ّ‬
‫ل الل ُ‬ ‫ما َأنز َ‬ ‫} وَ َ‬
‫َ‬
‫موْت َِها { فأظهرت من أنواع القوات‪ ،‬وأصناف‬ ‫ض ب َعْد َ َ‬‫حَيا ب ِهِ الْر َ‬ ‫} فَأ ْ‬
‫النبات‪ ،‬ما هو من ضرورات الخلئق‪ ،‬التي ل يعيشون بدونها‪.‬‬
‫أليس ذلك دليل على قدرة من أنزله‪ ،‬وأخرج به ما أخرج ورحمته‪ ،‬ولطفه‬
‫بعباده‪ ،‬وقيامه بمصالحهم‪ ،‬وشدة افتقارهم وضرورتهم إليه من كل وجه؟‬
‫أما يوجب ذلك أن يكون هو معبودهم وإلههم؟ أليس ذلك دليل على إحياء‬
‫ة‬
‫داب ّ ٍ‬
‫ل َ‬‫ن كُ ّ‬
‫م ْ‬
‫ث ِفيَها { أي‪ :‬في الرض } ِ‬ ‫الموتى ومجازاتهم بأعمالهم؟ } وَب َ ّ‬
‫{ أي‪ :‬نشر في أقطار الرض من الدواب المتنوعة‪ ،‬ما هو دليل على‬
‫قدرته وعظمته‪ ،‬ووحدانيته وسلطانه العظيم‪ ،‬وسخرها للناس‪ ،‬ينتفعون بها‬
‫بجميع وجوه النتفاع‪.‬‬
‫فمنها‪ :‬ما يأكلون من لحمه‪ ،‬ويشربون من دره‪ ،‬ومنها‪ :‬ما يركبون‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫ما هو ساع في مصالحهم وحراستهم‪ ،‬ومنها‪ :‬ما يعتبر به‪ ،‬ومع )‪ (1‬أنه بث‬
‫فيها من كل دابة‪ ،‬فإنه سبحانه هو القائم بأرزاقهم‪ ،‬المتكفل بأقواتهم‪ ،‬فما‬
‫من دابة في الرض إل على الله رزقها‪ ،‬ويعلم مستقرها ومستودعها‪.‬‬
‫ف الّرَياِح { باردة وحارة‪ ،‬وجنوبا وشمال وشرقا ودبورا وبين‬ ‫ري ِ‬
‫ص ِ‬
‫وفي } ت َ ْ‬
‫ذلك‪ ،‬وتارة تثير السحاب‪ ،‬وتارة تؤلف بينه‪ ،‬وتارة تلقحه‪ ،‬وتارة تدره‪ ،‬وتارة‬
‫تمزقه وتزيل ضرره‪ ،‬وتارة تكون رحمة‪ ،‬وتارة ترسل بالعذاب‪.‬‬
‫فمن الذي صرفها هذا التصريف‪ ،‬وأودع فيها من منافع العباد‪ ،‬ما ل‬
‫يستغنون عنه؟ وسخرها ليعيش فيها جميع الحيوانات‪ ،‬وتصلح البدان‬
‫والشجار‪ ،‬والحبوب والنوابت‪ ،‬إل العزيز الحكيم الرحيم‪ ،‬اللطيف بعباده‬
‫المستحق لكل ذل وخضوع‪ ،‬ومحبة وإنابة وعبادة؟‪.‬‬
‫وفي تسخير السحاب بين السماء والرض على خفته ولطافته يحمل الماء‬
‫الكثير‪ ،‬فيسوقه الله إلى حيث شاء‪ ،‬فيحيي به البلد والعباد‪ ،‬ويروي التلول‬
‫والوهاد‪ ،‬وينزله على الخلق وقت حاجتهم إليه‪ ،‬فإذا كان يضرهم كثرته‪،‬‬
‫أمسكه عنهم‪ ،‬فينزله رحمة ولطفا‪ ،‬ويصرفه عناية وعطفا‪ ،‬فما أعظم‬
‫سلطانه‪ ،‬وأغزر إحسانه‪ ،‬وألطف امتنانه"‬
‫أليس من القبيح بالعباد‪ ،‬أن يتمتعوا برزقه‪ ،‬ويعيشوا ببره وهم يستعينون‬
‫بذلك على مساخطه ومعاصيه؟ أليس ذلك دليل على حلمه وصبره‪ ،‬وعفوه‬
‫وصفحه‪ ،‬وعميم لطفه؟‬
‫فله الحمد أول وآخرا‪ ،‬وباطنا وظاهرا‪.‬‬
‫والحاصل‪ ،‬أنه كلما تدبر العاقل في هذه المخلوقات‪ ،‬وتغلغل فكره في‬
‫بدائع المبتدعات‪ ،‬وازداد تأمله للصنعة وما أودع فيها من لطائف البر‬
‫والحكمة‪ ،‬علم بذلك‪ ،‬أنها خلقت للحق وبالحق‪ ،‬وأنها صحائف آيات‪ ،‬وكتب‬
‫دللت‪ ،‬على ما أخبر به الله عن نفسه ووحدانيته‪ ،‬وما أخبرت به الرسل‬
‫من اليوم الخر‪ ،‬وأنها مسخرات‪ ،‬ليس لها تدبير ول استعصاء على مدبرها‬
‫ومصرفها‪.‬‬
‫فتعرف أن العالم العلوي والسفلي كلهم إليه مفتقرون‪ ،‬وإليه صامدون‪،‬‬
‫وأنه الغني بالذات عن جميع المخلوقات‪ ،‬فل إله إل الله‪ ،‬ول رب سواه‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ومنها‪.‬‬

‫) ‪(1/78‬‬

‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫مُنوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ب الل ّهِ َوال ّ ِ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫م كَ ُ‬ ‫حّبون َهُ ْ‬ ‫دا ي ُ ِ‬ ‫دا ً‬‫ن الل ّهِ أن ْ َ‬ ‫دو ِ‬
‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫خذ ُ ِ‬‫ن ي َت ّ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫وَ ِ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن العَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫أَ َ‬
‫ميًعا‬ ‫ج ِ‬‫قوّةَ ل ِلهِ َ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫بأ ّ‬ ‫ذا َ‬ ‫موا إ ِذ ْ ي ََروْ َ‬ ‫ن ظل ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫حّبا ل ِلهِ وَلوْ ي ََرى ال ِ‬ ‫شد ّ ُ‬
‫ن ات ّب َُعوا وََرأ َُوا‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ات ّب ُِعوا ِ‬ ‫ذي َ‬
‫َ‬
‫ب )‪ (165‬إ ِذ ْ ت َب َّرأ ال ّ ِ‬ ‫ذا ِ‬‫ديد ُ ال ْعَ َ‬ ‫ش ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫َ‬
‫وَأ ّ‬
‫ن ل ََنا ك َّرةً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ات ّب َُعوا ل َوْ أ ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫ب )‪ (166‬وََقا َ‬ ‫سَبا ُ‬‫م اْل ْ‬ ‫ت ب ِهِ ُ‬ ‫قط ّعَ ْ‬ ‫ب وَت َ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫ال ْعَ َ‬
‫ك يريهم الل ّ َ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫م وَ َ‬ ‫ت عَل َي ْهِ ْ‬ ‫سَرا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫م َ‬ ‫مال َهُ ْ‬‫ه أعْ َ‬ ‫ُ‬ ‫مّنا ك َذ َل ِ َ ُ ِ ِ ُ‬ ‫ما ت َب َّرُءوا ِ‬ ‫م كَ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫فَن َت َب َّرأ ِ‬
‫ن الّنارِ )‪(167‬‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫جي َ‬ ‫خارِ ِ‬ ‫م بِ َ‬‫هُ ْ‬

‫ن الل ّهِ‬‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫خذ ُ ِ‬


‫م ْ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬
‫م ْ‬
‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫} ‪. { 167 - 165‬ثم قال تعالى‪ } :‬وَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫موا‬‫ن ظل ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫حّبا ل ِلهِ وَلوْ ي ََرى ال ِ‬ ‫شد ّ ُ‬ ‫مُنوا أ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ب الل ّهِ َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ح ّ‬‫م كَ ُ‬‫حّبون َهُ ْ‬
‫دا ي ُ ِ‬
‫دا ً‬‫أن ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ب * إ ِذ ْ ت َب َّرأ ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ذا ِ‬‫ديد ُ ال ْعَ َ‬ ‫ش ِ‬‫ه َ‬‫ن الل ّ َ‬‫ميًعا وَأ ّ‬ ‫ج ِ‬‫قوّةَ ل ِل ّهِ َ‬‫ن ال ْ ُ‬
‫بأ ّ‬ ‫ذا َ‬‫ن ال ْعَ َ‬‫إ ِذ ْ ي ََروْ َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫ب * وََقا َ‬ ‫سَبا ُ‬ ‫م ال ْ‬ ‫ت ب ِهِ ُ‬ ‫قط ّعَ ْ‬ ‫ب وَت َ َ‬‫ذا َ‬ ‫ن ات ّب َُعوا وََرأ َُوا ال ْعَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ات ّب ُِعوا ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫مالهُ ْ‬ ‫ه أعْ َ‬ ‫م الل ُ‬ ‫ريهِ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مّنا كذ َل ِك ي ُ ِ‬ ‫ما ت َب َّرُءوا ِ‬ ‫مك َ‬‫َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ن لَنا كّرةً فَن َت َب َّرأ ِ‬ ‫َ‬ ‫ات ّب َُعوا ل َوْ أ ّ‬
‫ن الّنارِ { ‪.‬‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫جي َ‬ ‫خارِ ِ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ما هُ ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ت عَل َي ْهِ ْ‬ ‫سَرا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫َ‬
‫ما أحسن اتصال هذه الية بما قبلها‪ ،‬فإنه تعالى‪ ،‬لما بين وحدانيته وأدلتها‬
‫القاطعة‪ ،‬وبراهينها الساطعة الموصلة إلى علم اليقين‪ ،‬المزيلة لكل شك‪،‬‬
‫س { مع هذا البيان التام من يتخذ من المخلوقين‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ذكر هنا أن } ِ‬
‫أندادا لله أي‪ :‬نظراء ومثلء‪ ،‬يساويهم في الله بالعبادة والمحبة‪ ،‬والتعظيم‬
‫والطاعة‪.‬‬
‫ومن كان بهذه الحالة ‪ -‬بعد إقامة الحجة‪ ،‬وبيان التوحيد ‪ -‬علم أنه معاند‬
‫لله‪ ،‬مشاق له‪ ،‬أو معرض عن تدبر آياته والتفكر في مخلوقاته‪ ،‬فليس له‬
‫أدنى عذر في ذلك‪ ،‬بل قد حقت عليه كلمة العذاب‪.‬‬
‫وهؤلء الذين يتخذون النداد ] ص ‪ [ 80‬مع الله‪ ،‬ل يسوونهم بالله في‬
‫الخلق والرزق والتدبير‪ ،‬وإنما يسوونهم به في العبادة‪ ،‬فيعبدونهم‪،‬‬
‫ليقربوهم إليه‪ ،‬وفي قوله‪ } :‬اتخذوا { دليل على أنه ليس لله ند وإنما‬
‫المشركون جعلوا بعض المخلوقات أندادا له‪ ،‬تسمية مجردة‪ ،‬ولفظا فارغا‬
‫ل سموهُ َ‬ ‫شَر َ‬ ‫جعَُلوا ل ِل ّهِ ُ‬
‫م ت ُن َب ُّئون َ ُ‬
‫ه‬ ‫مأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫كاَء قُ ْ َ ّ‬ ‫من المعنى‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫ْ‬ ‫م بِ َ‬ ‫َ‬
‫ل{‪.‬‬ ‫قوْ ِ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ظاهِرٍ ِ‬ ‫ضأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫م ِفي الْر‬ ‫ما ل ي َعْل َ ُ‬ ‫بِ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ما أنز َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫سلطا ٍ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ب َِها ِ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫م َ‬ ‫م َوآَباؤُك ْ‬ ‫ها أن ْت ُ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫مي ْت ُ ُ‬ ‫س ّ‬‫ماٌء َ‬ ‫س َ‬ ‫ي ِإل أ ْ‬ ‫ن هِ َ‬ ‫} إِ ْ‬
‫ن { فالمخلوق ليس ندا لله لن الله هو الخالق‪ ،‬وغيره‬ ‫ّ‬
‫ن ِإل الظ ّ‬ ‫ن ي َت ّب ُِعو َ‬‫إِ ْ‬
‫مخلوق‪ ،‬والرب الرازق ومن عداه مرزوق‪ ،‬والله هو الغني وأنتم الفقراء‪،‬‬
‫وهو الكامل من كل الوجوه‪ ،‬والعبيد ناقصون من جميع الوجوه‪ ،‬والله هو‬
‫النافع الضار‪ ،‬والمخلوق ليس له من النفع والضر والمر شيء‪ ،‬فعلم علما‬
‫يقينا‪ ،‬بطلن قول من اتخذ من دون الله آلهة وأندادا‪ ،‬سواء كان ملكا أو‬
‫نبيا‪ ،‬أو صالحا‪ ،‬صنما‪ ،‬أو غير ذلك‪ ،‬وأن الله هو المستحق للمحبة الكاملة‪،‬‬
‫حّبا‬ ‫شد ّ ُ‬ ‫مُنوا أ َ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫والذل التام‪ ،‬فلهذا مدح الله المؤمنين بقوله‪َ } :‬وال ّ ِ‬
‫ل ِل ّهِ { أي‪ :‬من أهل النداد لندادهم‪ ،‬لنهم أخلصوا محبتهم له‪ ،‬وهؤلء‬
‫أشركوا بها‪ ،‬ولنهم أحبوا من يستحق المحبة على الحقيقة‪ ،‬الذي محبته‬
‫هي عين صلح العبد وسعادته وفوزه‪ ،‬والمشركون أحبوا من ل يستحق من‬
‫الحب شيئا‪ ،‬ومحبته عين شقاء العبد وفساده‪ ،‬وتشتت أمره‪.‬‬
‫موا { باتخاذ النداد والنقياد‬ ‫ن ظ َل َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫فلهذا توعدهم الله بقوله‪ } :‬وَل َوْ ي ََرى ال ّ ِ‬
‫لغير رب العباد وظلموا الخلق بصدهم عن سبيل الله‪ ،‬وسعيهم فيما‬
‫يضرهم‪.‬‬
‫هّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ن العَ َ‬ ‫ْ‬
‫قوّةَ ل ِل ِ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫ب { أي‪ :‬يوم القيامة عيانا بأبصارهم‪ } ،‬أ ّ‬ ‫ذا َ‬ ‫} إ ِذ ْ ي ََروْ َ‬
‫ب { أي‪ :‬لعلموا علما جازما‪ ،‬أن القوة والقدرة‬ ‫ْ‬
‫ديد ُ العَ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ذا ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ميًعا وَأ ّ‬ ‫ج ِ‬ ‫َ‬
‫لله كلها‪ ،‬وأن أندادهم ليس فيها من القوة شيء‪ ،‬فتبين لهم في ذلك اليوم‬
‫ضعفها وعجزها‪ ،‬ل كما اشتبه عليهم في الدنيا‪ ،‬وظنوا أن لها من المر‬
‫شيئا‪ ،‬وأنها تقربهم إليه وتوصلهم إليه‪ ،‬فخاب ظنهم‪ ،‬وبطل سعيهم‪ ،‬وحق‬
‫عليهم شدة العذاب‪ ،‬ولم تدفع عنهم أندادهم شيئا‪ ،‬ولم تغن عنهم مثقال‬
‫ذرة من النفع‪ ،‬بل يحصل لهم الضرر منها‪ ،‬من حيث ظنوا نفعها‪.‬‬
‫وتبرأ المتبوعون من التابعين‪ ،‬وتقطعت بينهم الوصل‪ ،‬التي كانت في‬
‫الدنيا‪ ،‬لنها كانت لغير الله‪ ،‬وعلى غير أمر الله‪ ،‬ومتعلقة بالباطل الذي ل‬
‫حقيقة له‪ ،‬فاضمحلت أعمالهم‪ ،‬وتلشت أحوالهم‪ ،‬وتبين لهم أنهم كانوا‬
‫كاذبين‪ ،‬وأن أعمالهم التي يؤملون نفعها وحصول نتيجتها‪ ،‬انقلبت عليهم‬
‫حسرة وندامة‪ ،‬وأنهم خالدون في النار ل يخرجون منها أبدا‪ ،‬فهل بعد هذا‬
‫الخسران خسران؟ ذلك بأنهم اتبعوا الباطل‪ ،‬فعملوا العمل الباطل ورجوا‬
‫غير مرجو‪ ،‬وتعلقوا بغير متعلق‪ ،‬فبطلت العمال ببطلن متعلقها‪ ،‬ولما‬
‫بطلت وقعت الحسرة بما فاتهم من المل فيها‪ ،‬فضرتهم غاية الضرر‪،‬‬
‫وهذا بخلف من تعلق بالله الملك الحق المبين‪ ،‬وأخلص العمل لوجهه‪،‬‬
‫ورجا نفعه‪ ،‬فهذا قد وضع الحق في موضعه‪ ،‬فكانت أعماله حقا‪ ،‬لتعلقها‬
‫بالحق‪ ،‬ففاز بنتيجة عمله‪ ،‬ووجد جزاءه عند ربه‪ ،‬غير منقطع كما قال‬
‫فروا وصدوا عَن سبيل الل ّه أ َض ّ َ‬
‫مُنوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م َوال ّ ِ‬ ‫مال َهُ ْ‬ ‫ل أعْ َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ْ َ ِ ِ‬ ‫َ َ ّ‬ ‫ن كَ َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫تعالى‪ } :‬ال ّ ِ‬
‫فَر‬‫م كَ ّ‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬‫حق ّ ِ‬ ‫مدٍ وَهُوَ ال ْ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫م َ‬‫ل عََلى ُ‬ ‫ما نز َ‬ ‫مُنوا ب ِ َ‬ ‫ت َوآ َ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫وَعَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬ ‫ل وَأ ّ‬ ‫فُروا ات ّب َُعوا ال َْباط ِ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫ك ب ِأ ّ‬ ‫م ذ َل ِ َ‬ ‫ح َبال َهُ ْ‬ ‫صل َ َ‬ ‫م وَأ ْ‬ ‫سي َّئات ِهِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫عَن ْهُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫مثالهُ ْ‬ ‫سأ ْ‬ ‫ه ِللّنا ِ‬ ‫ب الل ُ‬ ‫ضرِ ُ‬ ‫م كذ َل ِك ي َ ْ‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫حق ّ ِ‬ ‫مُنوا ات ّب َُعوا ال َ‬ ‫آ َ‬
‫وحينئذ يتمنى التابعون أن يردوا إلى الدنيا فيتبرأوا من متبوعيهم‪ ،‬بأن‬
‫يتركوا الشرك بالله‪ ،‬ويقبلوا على إخلص العمل لله‪ ،‬وهيهات‪ ،‬فات المر‪،‬‬
‫وليس الوقت وقت إمهال وإنظار‪ ،‬ومع هذا‪ ،‬فهم كذبة‪ ،‬فلو ردوا لعادوا لما‬
‫نهوا عنه‪ ،‬وإنما هو قول يقولونه‪ ،‬وأماني يتمنونها‪ ،‬حنقا وغيظا على‬
‫المتبوعين لما تبرأوا منهم والذنب ذنبهم‪ ،‬فرأس المتبوعين على الشر‬
‫ق‬
‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫م وَعْد َ ال َ‬ ‫ه وَعَد َك ُ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫إبليس‪ ،‬ومع هذا يقول لتباعه لما قضي المر } إ ِ ّ‬
‫ن د َعَوْت ُك ُ ْ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫ن ِإل أ ْ‬ ‫طا ٍ‬ ‫سل ْ َ‬
‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ِلي عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫خل َ ْ‬
‫فت ُك ُ ْ‬ ‫م فَأ َ ْ‬ ‫وَوَعَد ْت ُك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫م{‪.‬‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫موا أن ْ ُ‬ ‫موِني وَلو ُ‬ ‫م ِلي َفل ت َلو ُ‬ ‫جب ْت ُ ْ‬
‫ست َ َ‬ ‫َفا ْ‬

‫) ‪(1/79‬‬

‫ن‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ِ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫وا ِ‬ ‫خط ُ َ‬
‫حَلًل ط َي ًّبا وََل ت َت ّب ُِعوا ُ‬ ‫ض َ‬‫ِ‬ ‫ما ِفي اْل َْر‬ ‫س ك ُُلوا ِ‬
‫م ّ‬ ‫ُ‬ ‫َيا أ َي َّها الّنا‬
‫قوُلوا عََلى‬ ‫َ‬ ‫سوِء َوال ْ َ‬ ‫ْ‬
‫ن تَ ُ‬
‫شاِء وَأ ْ‬ ‫ح َ‬
‫ف ْ‬ ‫م ِبال ّ‬ ‫مُرك ُ ْ‬
‫ما ي َأ ُ‬ ‫ن )‪ (168‬إ ِن ّ َ‬ ‫مِبي ٌ‬‫م عَد ُوّ ُ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬‫إ ِن ّ ُ‬
‫ن )‪(169‬‬ ‫مو َ‬ ‫ما َل ت َعْل َ ُ‬ ‫الل ّهِ َ‬
‫حلل ط َي ًّبا َول ت َت ّب ُِعوا‬ ‫ض َ‬
‫ِ‬ ‫ما ِفي الْر‬ ‫م ّ‬ ‫س ك ُُلوا ِ‬
‫ُ‬ ‫} ‪َ } { 170 - 168‬يا أ َي َّها الّنا‬
‫َ‬ ‫سوِء َوال ْ َ‬ ‫ْ‬
‫ن‬
‫شاِء وَأ ْ‬ ‫ح َ‬‫ف ْ‬ ‫مُرك ُ ْ‬
‫م ِبال ّ‬ ‫ما ي َأ ُ‬
‫ن * إ ِن ّ َ‬
‫مِبي ٌ‬‫م عَد ُوّ ُ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬‫ن إ ِن ّ ُ‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ِ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫خط ُ َ‬
‫وا ِ‬ ‫ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫ما ل ت َعْل ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫قولوا عَلى اللهِ َ‬ ‫ُ‬ ‫تَ ُ‬
‫هذا خطاب للناس كلهم‪ ،‬مؤمنهم وكافرهم‪ ،‬فامتن عليهم بأن أمرهم أن‬
‫يأكلوا من جميع ما في الرض‪ ،‬من حبوب‪ ،‬وثمار‪ ،‬وفواكه‪ ،‬وحيوانات‪ ،‬حالة‬
‫حلل { أي‪ :‬محلل لكم تناوله‪ ،‬ليس بغصب ول سرقة‪ ،‬ول محصل‬ ‫كونها } َ‬
‫بمعاملة محرمة أو على وجه محرم‪ ،‬أو معينا على محرم‪.‬‬
‫} ط َي ًّبا { أي‪ :‬ليس بخبيث‪ ،‬كالميتة والدم‪ ،‬ولحم الخنزير‪ ،‬والخبائث كلها‪،‬‬
‫ففي هذه الية‪ ،‬دليل على أن الصل في العيان الباحة‪ ،‬أكل وانتفاعا‪ ،‬وأن‬
‫المحرم نوعان‪ :‬إما محرم لذاته‪ ،‬وهو الخبيث الذي هو ضد الطيب‪ ،‬وإما‬
‫محرم لما عرض له‪ ،‬وهو المحرم لتعلق حق الله‪ ،‬أو حق عباده به‪ ،‬وهو‬
‫ضد الحلل‪.‬‬
‫وفيه دليل على أن الكل بقدر ما يقيم البنية واجب‪ ،‬يأثم تاركه لظاهر‬
‫المر‪ ،‬ولما أمرهم باتباع ما أمرهم به ‪ -‬إذ هو عين صلحهم ‪ -‬نهاهم عن‬
‫ن { أي‪ :‬طرقه التي يأمر بها‪ ،‬وهي جميع‬ ‫طا ِ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫وا ِ‬‫خط ُ َ‬ ‫اتباع } ُ‬
‫المعاصي من كفر‪ ،‬وفسوق‪ ،‬وظلم‪ ،‬ويدخل في ذلك تحريم السوائب‪،‬‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ه لك ْ‬ ‫والحام‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬ويدخل فيه أيضا تناول المأكولت المحرمة‪ } ،‬إ ِن ّ ُ‬
‫ن { أي‪ :‬ظاهر العداوة‪ ،‬فل يريد بأمركم إل غشكم‪ ] ،‬ص ‪[ 81‬‬ ‫مِبي ٌ‬
‫عَد ُوّ ُ‬
‫وأن تكونوا من أصحاب السعير‪ ،‬فلم يكتف ربنا بنهينا عن اتباع خطواته‪،‬‬
‫حتى أخبرنا ‪ -‬وهو أصدق القائلين ‪ -‬بعداوته الداعية للحذر منه‪ ،‬ثم لم‬
‫يكتف بذلك‪ ،‬حتى أخبرنا بتفصيل ما يأمر به‪ ،‬وأنه أقبح الشياء‪ ،‬وأعظمها‬
‫ْ‬
‫سوِء { ‪.‬‬ ‫مُرك ُ ْ‬
‫م ِبال ّ‬ ‫ما ي َأ ُ‬
‫مفسدة فقال‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫أي‪ :‬الشر الذي يسوء صاحبه‪ ،‬فيدخل في ذلك‪ ،‬جميع المعاصي‪ ،‬فيكون‬
‫شاِء { من باب عطف الخاص على العام؛ لن الفحشاء من‬ ‫ح َ‬ ‫قوله‪َ } :‬وال ْ َ‬
‫ف ْ‬
‫المعاصي‪ ،‬ما تناهى قبحه‪ ،‬كالزنا‪ ،‬وشرب الخمر‪ ،‬والقتل‪ ،‬والقذف‪ ،‬والبخل‬
‫َ‬
‫ما ل‬ ‫قوُلوا عََلى الل ّهِ َ‬
‫ن تَ ُ‬
‫ونحو ذلك‪ ،‬مما يستفحشه من له عقل‪ } ،‬وَأ ْ‬
‫ن { فيدخل في ذلك‪ ،‬القول على الله بل علم‪ ،‬في شرعه‪ ،‬وقدره‪،‬‬ ‫مو َ‬‫ت َعْل َ ُ‬
‫فمن وصف الله بغير ما وصف به نفسه‪ ،‬أو وصفه به رسوله‪ ،‬أو نفى عنه‬
‫ما أثبته لنفسه‪ ،‬أو أثبت له ما نفاه عن نفسه‪ ،‬فقد قال على الله بل علم‪،‬‬
‫ومن زعم أن لله ندا‪ ،‬وأوثانا‪ ،‬تقرب من عبدها من الله‪ ،‬فقد قال على الله‬
‫بل علم‪ ،‬ومن قال‪ :‬إن الله أحل كذا‪ ،‬أو حرم كذا‪ ،‬أو أمر بكذا‪ ،‬أو نهى عن‬
‫كذا‪ ،‬بغير بصيرة‪ ،‬فقد قال على الله بل علم‪ ،‬ومن قال‪ :‬الله خلق هذا‬
‫الصنف من المخلوقات‪ ،‬للعلة الفلنية بل برهان له بذلك‪ ،‬فقد قال على‬
‫الله بل علم‪ ،‬ومن أعظم القول على الله بل علم‪ ،‬أن يتأول المتأول كلمه‪،‬‬
‫أو كلم رسوله‪ ،‬على معان اصطلح عليها طائفة من طوائف الضلل‪ ،‬ثم‬
‫يقول‪ :‬إن الله أرادها‪ ،‬فالقول على الله بل علم‪ ،‬من أكبر المحرمات‪،‬‬
‫وأشملها‪ ،‬وأكبر طرق الشيطان التي يدعو إليها‪ ،‬فهذه طرق الشيطان‬
‫التي يدعو إليها هو وجنوده‪ ،‬ويبذلون مكرهم وخداعهم‪ ،‬على إغواء الخلق‬
‫بما يقدرون عليه‪.‬‬
‫وأما الله تعالى‪ ،‬فإنه يأمر بالعدل والحسان‪ ،‬وإيتاء ذي القربى‪ ،‬وينهى عن‬
‫الفحشاء والمنكر والبغي‪ ،‬فلينظر العبد نفسه‪ ،‬مع أي الداعيين هو‪ ،‬ومن‬
‫أي الحزبين؟ أتتبع داعي الله الذي يريد لك الخير والسعادة الدنيوية‬
‫والخروية‪ ،‬الذي كل الفلح بطاعته‪ ،‬وكل الفوز في خدمته‪ ،‬وجميع الرباح‬
‫في معاملة المنعم بالنعم الظاهرة والباطنة‪ ،‬الذي ل يأمر إل بالخير‪ ،‬ول‬
‫ينهى إل عن الشر‪ ،‬أم تتبع داعي الشيطان‪ ،‬الذي هو عدو النسان‪ ،‬الذي‬
‫يريد لك الشر‪ ،‬ويسعى بجهده على إهلكك في الدنيا والخرة؟ الذي كل‬
‫الشر في طاعته‪ ،‬وكل الخسران في وليته‪ ،‬الذي ل يأمر إل بشر‪ ،‬ول ينهى‬
‫إل عن خير‪.‬‬

‫) ‪(1/80‬‬

‫ن‬ ‫في َْنا عَل َي ْهِ آ ََباَءَنا أ َوَل َوْ َ‬


‫كا َ‬ ‫ما أ َل ْ َ‬ ‫ه َقاُلوا ب َ ْ‬
‫ل ن َت ّب ِعُ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬ ‫ل ل َهُ ُ‬
‫م ات ّب ُِعوا َ‬ ‫ذا ِقي َ‬ ‫وَإ ِ َ‬
‫ل ال ّ ِ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫شي ًْئا وََل ي َهْت َ ُ‬ ‫قُلو َ‬‫م َل ي َعْ ِ‬ ‫َ‬
‫ذي‬ ‫فُروا ك َ َ‬
‫مث َ ِ‬ ‫ن كَ َ‬
‫ذي َ‬ ‫مث َ ُ‬
‫ن )‪ (170‬وَ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ن َ‬ ‫آَباؤُهُ ْ‬
‫ن )‪(171‬‬ ‫قُلو َ‬ ‫م َل ي َعْ ِ‬ ‫ي فَهُ ْ‬ ‫م ٌ‬‫م عُ ْ‬ ‫م ب ُك ْ ٌ‬
‫ص ّ‬
‫داًء ُ‬ ‫عاًء وَن ِ َ‬ ‫معُ إ ِّل د ُ َ‬ ‫ما َل ي َ ْ‬
‫س َ‬ ‫ي َن ْعِقُ ب ِ َ‬
‫َ‬ ‫ما أ َل ْ َ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬
‫في َْنا عَل َي ْهِ آَباَءَنا أوَل َ ْ‬
‫و‬ ‫ه َقاُلوا ب َ ْ‬
‫ل ن َت ّب ِعُ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫م ات ّب ُِعوا َ‬‫ل ل َهُ ُ‬‫ذا ِقي َ‬‫} وَإ ِ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دو َ‬ ‫شي ًْئا َول ي َهْت َ ُ‬ ‫ن َ‬‫قلو َ‬ ‫ُ‬ ‫م ل ي َعْ ِ‬ ‫ن آَباؤُهُ ْ‬ ‫َ‬
‫كا َ‬
‫ثم أخبر تعالى عن حال المشركين إذا أمروا باتباع ما أنزل الله على‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫ما أ َل ْ َ‬
‫في َْنا عَلي ْ ِ‬ ‫ل ن َت ّب ِعُ َ‬‫رسوله ‪ -‬مما تقدم وصفه ‪ -‬رغبوا عن ذلك وقالوا‪ } :‬ب َ ْ‬
‫آَباَءَنا { فاكتفوا بتقليد الباء‪ ،‬وزهدوا في اليمان بالنبياء‪ ،‬ومع هذا فآباؤهم‬
‫أجهل الناس‪ ،‬وأشدهم ضلل وهذه شبهة لرد الحق واهية‪ ،‬فهذا دليل على‬
‫إعراضهم عن الحق‪ ،‬ورغبتهم عنه‪ ،‬وعدم إنصافهم‪ ،‬فلو هدوا لرشدهم‪،‬‬
‫وحسن قصدهم‪ ،‬لكان الحق هو القصد‪ ،‬ومن جعل الحق قصده‪ ،‬ووازن‬
‫بينه وبين غيره‪ ،‬تبين له الحق قطعا‪ ،‬واتبعه إن كان منصفا‪.‬‬
‫معُ ِإل‬ ‫س َ‬ ‫ما ل ي َ ْ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫ذي ي َن ْعِقُ ب ِ َ‬ ‫فُروا ك َ َ‬
‫مث َ ِ‬ ‫ن كَ َ‬
‫ذي َ‬‫ل ال ّ ِ‬‫مث َ ُ‬
‫ثم قال ]تعالى[‪ } :‬وَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قُلو َ‬‫م ل ي َعْ ِ‬ ‫ي فَهُ ْ‬ ‫م ٌ‬ ‫م عُ ْ‬ ‫م ب ُك ْ ٌ‬
‫ص ّ‬
‫داًء ُ‬
‫عاًء وَن ِ َ‬
‫دُ َ‬
‫لما بين تعالى عدم انقيادهم لما جاءت به الرسل‪ ،‬وردهم لذلك بالتقليد‪،‬‬
‫علم من ذلك أنهم غير قابلين للحق‪ ،‬ول مستجيبين له‪ ،‬بل كان معلوما‬
‫لكل أحد أنهم لن يزولوا عن عنادهم‪ ،‬أخبر تعالى‪ ،‬أن مثلهم عند دعاء‬
‫الداعي لهم إلى اليمان كمثل البهائم التي ينعق لها راعيها‪ ،‬وليس لها علم‬
‫بما يقول راعيها ومناديها‪ ،‬فهم يسمعون مجرد الصوت‪ ،‬الذي تقوم به‬
‫عليهم الحجة‪ ،‬ولكنهم ل يفقهونه فقها ينفعهم‪ ،‬فلهذا كانوا صما ل يسمعون‬
‫الحق سماع فهم وقبول‪ ،‬عميا ل ينظرون نظر اعتبار‪ ،‬بكما فل ينطقون بما‬
‫فيه خير لهم‪.‬‬
‫والسبب الموجب لذلك كله‪ ،‬أنه ليس لهم عقل صحيح‪ ،‬بل هم أسفه‬
‫السفهاء‪ ،‬وأجهل الجهلء‪.‬‬
‫فهل يستريب العاقل‪ ،‬أن من دعي إلى الرشاد‪ ،‬وذيد عن الفساد‪ ،‬ونهي‬
‫عن اقتحام العذاب‪ ،‬وأمر بما فيه صلحه وفلحه‪ ،‬وفوزه‪ ،‬ونعيمه فعصى‬
‫الناصح‪ ،‬وتولى عن أمر ربه‪ ،‬واقتحم النار على بصيرة‪ ،‬واتبع الباطل‪ ،‬ونبذ‬
‫الحق ‪ -‬أن هذا ليس له مسكة من عقل‪ ،‬وأنه لو اتصف بالمكر والخديعة‬
‫والدهاء‪ ،‬فإنه من أسفه السفهاء‪.‬‬

‫) ‪(1/81‬‬

‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫م إ ِّياهُ‬ ‫شك ُُروا ل ِل ّهِ إ ِ ْ‬
‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫ما َرَزقَْناك ُ ْ‬ ‫ت َ‬ ‫ن ط َي َّبا ِ‬ ‫مُنوا ك ُُلوا ِ‬
‫م ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫ه‬
‫ل بِ ِ‬ ‫ما أ ُهِ ّ‬ ‫زيرِ وَ َ‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫خن ْ ِ‬ ‫ح َ‬‫م وَل َ ْ‬ ‫ة َوالد ّ َ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫مي ْت َ َ‬ ‫م عَل َي ْك ُ ُ‬‫حّر َ‬
‫ما َ‬‫ن )‪ (172‬إ ِن ّ َ‬ ‫دو َ‬
‫ت َعْب ُ ُ‬
‫م)‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫َ‬
‫هغ ُ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫َ‬
‫م عَلي ْهِ إ ِ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عادٍ فل إ ِث ْ َ‬ ‫َ‬
‫ضطّر غي َْر َباٍغ وَل َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫نا ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫م ِ‬
‫ل ِغَي ْرِ اللهِ ف َ‬
‫‪(173‬‬
‫َ‬
‫م‬‫ما َرَزقَْناك ُ ْ‬ ‫ت َ‬ ‫ن ط َي َّبا ِ‬ ‫م ْ‬‫مُنوا ك ُُلوا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 173 - 172‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫م‬‫ح َ‬‫م وَل َ ْ‬ ‫ة َوالد ّ َ‬ ‫مي ْت َ َ‬‫م ال ْ َ‬
‫م عَل َي ْك ُ ُ‬‫حّر َ‬
‫ما َ‬ ‫ن * إ ِن ّ َ‬‫دو َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م إ ِّياهُ ت َعْب ُ ُ‬ ‫شك ُُروا ل ِل ّهِ إ ِ ْ‬ ‫َوا ْ‬
‫ُ‬
‫م عَل َي ْهِ إ ِ ّ‬
‫ن‬ ‫عادٍ َفل إ ِث ْ َ‬ ‫ضط ُّر غَي َْر َباٍغ َول َ‬ ‫نا ْ‬ ‫م ِ‬‫ل ب ِهِ ل ِغَي ْرِ الل ّهِ فَ َ‬ ‫ما أهِ ّ‬ ‫زيرِ وَ َ‬ ‫خن ْ ِ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫الل ّ َ‬
‫هذا أمر للمؤمنين خاصة‪ ،‬بعد المر العام‪ ،‬وذلك أنهم هم المنتفعون على‬
‫الحقيقة بالوامر والنواهي‪ ،‬بسبب إيمانهم‪ ،‬فأمرهم بأكل الطيبات من‬
‫الرزق‪ ،‬والشكر لله على إنعامه‪ ،‬باستعمالها بطاعته‪ ،‬والتقوي بها على ما‬
‫ل ك ُُلوا‬ ‫س ُ‬ ‫َ‬
‫يوصل إليه‪ ،‬فأمرهم بما أمر به المرسلين في قوله } َيا أي َّها الّر ُ‬
‫حا { ‪.‬‬ ‫مُلوا َ‬
‫صال ِ ً‬ ‫ت َواعْ َ‬ ‫ن الط ّي َّبا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫فالشكر في هذه الية‪ ،‬هو العمل الصالح‪ ،‬وهنا لم يقل "حلل "لن المؤمن‬
‫أباح الله له الطيبات من الرزق خالصة من التبعة‪ ،‬ولن إيمانه يحجزه عن‬
‫تناول ما ليس له‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬فاشكروه‪ ،‬فدل على أن من لم يشكر‬ ‫دو َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م إ ِّياهُ ت َعْب ُ ُ‬ ‫وقوله } إ ِ ْ‬
‫الله‪ ،‬لم يعبده وحده‪ ،‬كما أن من شكره‪ ،‬فقد عبده‪ ،‬وأتى بما أمر به‪ ،‬ويدل‬
‫أيضا على أن أكل الطيب‪ ،‬سبب للعمل الصالح وقبوله‪ ،‬والمر بالشكر‪،‬‬
‫عقيب النعم؛ لن الشكر يحفظ النعم الموجودة‪ ،‬ويجلب النعم المفقودة‬
‫كما أن الكفر‪ ،‬ينفر النعم المفقودة ويزيل النعم الموجودة‪.‬‬
‫م‬‫حّر َ‬
‫ما َ‬ ‫ولما ذكر تعالى إباحة الطيبات ذكر تحريم الخبائث فقال } إ ِن ّ َ‬
‫ة { ] ص ‪ [ 82‬وهي‪ :‬ما مات بغير تذكية شرعية‪ ،‬لن الميتة‬ ‫م ال ْ َ‬
‫مي ْت َ َ‬ ‫عَل َي ْك ُ ُ‬
‫خبيثة مضرة‪ ،‬لرداءتها في نفسها‪ ،‬ولن الغلب‪ ،‬أن تكون عن مرض‪،‬‬
‫فيكون زيادة ضرر )‪ (1‬واستثنى الشارع من هذا العموم‪ ،‬ميتة الجراد‪،‬‬
‫وسمك البحر‪ ،‬فإنه حلل طيب‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬المسفوح كما قيد في الية الخرى‪.‬‬ ‫} َوالد ّ َ‬
‫ل ب ِهِ ل ِغَي ْرِ اللهِ { أي‪ :‬ذبح لغير الله‪ ،‬كالذي يذبح للصنام والوثان‬ ‫ّ‬ ‫ما أ ُهِ ّ‬ ‫} وَ َ‬
‫من الحجار‪ ،‬والقبور ونحوها‪ ،‬وهذا المذكور غير حاصر للمحرمات‪ ،‬جيء به‬
‫ت { فعموم‬ ‫لبيان أجناس الخبائث المدلول عليها بمفهوم قوله‪ } :‬ط َي َّبا ِ‬
‫حلل ط َي ًّبا { كما تقدم‪.‬‬ ‫المحرمات‪ ،‬تستفاد من الية السابقة‪ ،‬من قوله‪َ } :‬‬
‫وإنما حرم علينا هذه الخبائث ونحوها‪ ،‬لطفا بنا‪ ،‬وتنزيها عن المضر‪ ،‬ومع‬
‫ضط ُّر { أي‪ :‬ألجئ إلى المحرم‪ ،‬بجوع وعدم‪ ،‬أو إكراه‪ } ،‬غَي َْر‬ ‫نا ْ‬ ‫م ِ‬ ‫هذا } فَ َ‬
‫َباٍغ { أي‪ :‬غير طالب للمحرم‪ ،‬مع قدرته على الحلل‪ ،‬أو مع عدم جوعه‪} ،‬‬
‫عادٍ { أي‪ :‬متجاوز الحد في تناول ما أبيح له‪ ،‬اضطرارا‪ ،‬فمن اضطر‬ ‫َول َ‬
‫م{‬ ‫وهو غير قادر على الحلل‪ ،‬وأكل بقدر الضرورة فل يزيد عليها‪َ } ،‬فل إ ِث ْ َ‬
‫]أي‪ :‬جناح[ عليه‪ ،‬وإذا ارتفع الجناح الثم )‪ (2‬رجع المر إلى ما كان عليه‪،‬‬
‫والنسان بهذه الحالة‪ ،‬مأمور بالكل‪ ،‬بل منهي أن يلقي بيده إلى التهلكة‪،‬‬
‫وأن يقتل نفسه‪.‬‬
‫فيجب‪ ،‬إًذا عليه الكل‪ ،‬ويأثم إن ترك الكل حتى مات‪ ،‬فيكون قاتل لنفسه‪.‬‬
‫وهذه الباحة والتوسعة‪ ،‬من رحمته تعالى بعباده‪ ،‬فلهذا ختمها بهذين‬
‫ه غَ ُ‬
‫فوٌر‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫السمين الكريمين المناسبين غاية المناسبة فقال‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫َر ِ‬
‫ولما كان الحل مشروطا بهذين الشرطين‪ ،‬وكان النسان في هذه الحالة‪،‬‬
‫ربما ل يستقصي تمام الستقصاء في تحقيقها ‪ -‬أخبر تعالى أنه غفور‪،‬‬
‫فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال‪ ،‬خصوصا وقد غلبته الضرورة‪ ،‬وأذهبت‬
‫حواسه المشقة‪.‬‬
‫وفي هذه الية دليل على القاعدة المشهورة‪" :‬الضرورات تبيح‬
‫المحظورات "فكل محظور‪ ،‬اضطر إليه النسان‪ ،‬فقد أباحه له‪ ،‬الملك‬
‫الرحمن‪] .‬فله الحمد والشكر‪ ،‬أول وآخرا‪ ،‬وظاهرا وباطنا[‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬مرض‪.‬‬
‫)‪ (2‬في أ‪) :‬وإذا ارتفع الجناح( وفوق كلمة الجناح كلمة )الثم( وفي ب‪،‬‬
‫وردت الجملة هكذا )وإذا ارتفع الثم(‪.‬‬

‫) ‪(1/81‬‬
‫ما‬‫ك َ‬ ‫مًنا قَِليًل ُأول َئ ِ َ‬ ‫ن ب ِهِ ث َ َ‬
‫شت َُرو َ‬ ‫ب وَي َ ْ‬ ‫ن ال ْك َِتا ِ‬ ‫م َ‬
‫ه ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ُ‬
‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫إِ ّ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫م وَلهُ ْ‬ ‫مةِ وَل ي َُزكيهِ ْ‬ ‫قَيا َ‬
‫م ال ِ‬ ‫ه ي َوْ َ‬ ‫م الل ُ‬ ‫مه ُ ُ‬ ‫م إ ِل الّناَر وَل ي ُكل ُ‬ ‫ن ِفي ب ُطون ِهِ ْ‬ ‫ي َأكلو َ‬
‫ة‬
‫فَر ِ‬ ‫مغ ْ ِ‬‫ب ِبال ْ َ‬ ‫ذا َ‬‫دى َوال ْعَ َ‬ ‫ة ِبال ْهُ َ‬ ‫ضَلل َ َ‬ ‫شت ََرُوا ال ّ‬ ‫نا ْ‬ ‫َ‬ ‫ذي‬‫ك ال ّ ِ‬‫م )‪ُ (174‬أول َئ ِ َ‬ ‫َ‬
‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫عَ َ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫حقّ وَإ ِ ّ‬ ‫ب ِبال َ‬ ‫ل الك َِتا َ‬ ‫ه ن َّز َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫م عَلى الّنارِ )‪ (175‬ذ َل ِك ب ِأ ّ‬ ‫صب ََرهُ ْ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫فَ َ‬
‫ق ب َِعيدٍ )‪(176‬‬ ‫قا ٍ‬ ‫ش َ‬‫في ِ‬ ‫َ‬
‫بل ِ‬ ‫ْ‬
‫فوا ِفي الك َِتا ِ‬ ‫َ‬
‫خت َل ُ‬ ‫ا ْ‬

‫ن ب ِهِ‬‫شت َُرو َ‬ ‫ب وَي َ ْ‬ ‫ن ال ْك َِتا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ِ‬‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫} ‪ } { 176 - 174‬إ ِ ّ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫مًنا قَِليل ُأول َئ ِ َ‬
‫ة‬
‫م ِ‬‫قَيا َ‬‫م ال ِ‬ ‫ه ي َوْ َ‬ ‫م الل ُ‬ ‫مه ُ ُ‬ ‫م ِإل الّناَر َول ي ُكل ُ‬ ‫ن ِفي ب ُطون ِهِ ْ‬ ‫ما ي َأك ُلو َ‬ ‫ك َ‬ ‫ثَ َ‬
‫ب‬ ‫ْ‬
‫دى َوالعَ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫نا ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ذا َ‬ ‫ة ِبالهُ َ‬ ‫ضلل َ‬ ‫شت ََرُوا ال ّ‬ ‫ذي َ َ‬‫م * أولئ ِك ال ِ‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م وَلهُ ْ‬ ‫َول ي َُزكيهِ ْ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫حقّ وَإ ِ ّ‬ ‫ب ِبال َ‬ ‫ل الك َِتا َ‬ ‫ه ن َّز َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫َ‬
‫م عَلى الّنارِ * ذ َل ِك ب ِأ ّ‬ ‫صب ََرهُ ْ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫فَرةِ فَ َ‬ ‫مغْ ِ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫ق ب َِعيدٍ { ‪.‬‬ ‫قا ٍ‬ ‫ش َ‬ ‫في ِ‬ ‫ب لَ ِ‬ ‫فوا ِفي ال ْك َِتا ِ‬ ‫خت َل َ ُ‬‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫هذا وعيد شديد لمن كتم ما أنزل الله على رسله‪ ،‬من العلم الذي أخذ الله‬
‫الميثاق على أهله‪ ،‬أن يبينوه للناس ول يكتموه‪ ،‬فمن تعوض عنه بالحطام‬
‫ن ِفي ب ُ ُ‬ ‫ْ‬
‫م ِإل الّناَر { لن‬ ‫طون ِهِ ْ‬ ‫ما ي َأك ُُلو َ‬ ‫الدنيوي‪ ،‬ونبذ أمر الله‪ ،‬فأولئك‪َ } :‬‬
‫هذا الثمن الذي اكتسبوه‪ ،‬إنما حصل لهم بأقبح المكاسب‪ ،‬وأعظم‬
‫م‬
‫ه ي َوْ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫مه ُ ُ‬ ‫المحرمات‪ ،‬فكان جزاؤهم من جنس عملهم‪َ } ،‬ول ي ُك َل ّ ُ‬
‫مةِ { بل قد سخط عليهم وأعرض عنهم‪ ،‬فهذا أعظم عليهم من عذاب‬ ‫قَيا َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫م { أي‪ :‬ل يطهرهم من الخلق الرذيلة‪ ،‬وليس لهم‬ ‫كيهِ ْ‬ ‫النار‪َ } ،‬ول ي َُز ّ‬
‫أعمال تصلح للمدح والرضا والجزاء عليها‪ ،‬وإنما لم يزكهم لنهم فعلوا‬
‫أسباب عدم التزكية التي أعظم أسبابها العمل بكتاب الله‪ ،‬والهتداء به‪،‬‬
‫والدعوة إليه‪ ،‬فهؤلء نبذوا كتاب الله‪ ،‬وأعرضوا عنه‪ ،‬واختاروا الضللة على‬
‫الهدى‪ ،‬والعذاب على المغفرة‪ ،‬فهؤلء ل يصلح لهم إل النار‪ ،‬فكيف‬
‫يصبرون عليها‪ ،‬وأنى لهم الجلد عليها؟"‬
‫ك { المذكور‪ ،‬وهو مجازاته بالعدل‪ ،‬ومنعه أسباب الهداية‪ ،‬ممن أباها‬ ‫} ذ َل ِ َ‬
‫واختار سواها‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫حقّ { ومن الحق‪ ،‬مجازاة المحسن بإحسانه‪،‬‬ ‫ب ِبال َ‬ ‫ل الك َِتا َ‬ ‫ه نز َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} ب ِأ ّ‬
‫والمسيء بإساءته‪.‬‬
‫حقّ { ما يدل على أن الله أنزله لهداية‬ ‫ْ‬
‫ب ِبال َ‬ ‫ْ‬
‫ل الك َِتا َ‬ ‫وأيضا ففي قوله‪ } :‬نز َ‬
‫خلقه‪ ،‬وتبيين الحق من الباطل‪ ،‬والهدى من الضلل‪ ،‬فمن صرفه عن‬
‫مقصوده‪ ،‬فهو حقيق بأن يجازى بأعظم العقوبة‪.‬‬
‫ق ب َِعيدٍ { أي‪ :‬وإن الذين اختلفوا‬ ‫قا ٍ‬ ‫ش َ‬
‫في ِ‬ ‫ب لَ ِ‬ ‫فوا ِفي ال ْك َِتا ِ‬ ‫خت َل َ ُ‬‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫} وَإ ِ ّ‬
‫في الكتاب‪ ،‬فآمنوا ببعضه‪ ،‬وكفروا ببعضه‪ ،‬والذين حرفوه وصرفوه على‬
‫ق { أي‪ :‬محادة‪ } ،‬ب َِعيدٍ { عن الحق لنهم‬ ‫قا ٍ‬ ‫ش َ‬‫في ِ‬ ‫أهوائهم ومراداتهم } ل َ ِ‬
‫قد خالفوا الكتاب الذي جاء بالحق الموجب للتفاق وعدم التناقض‪ ،‬فمرج‬
‫أمرهم‪ ،‬وكثر شقاقهم‪ ،‬وترتب على ذلك افتراقهم‪ ،‬بخلف أهل الكتاب‬
‫الذين آمنوا به‪ ،‬وحكموه في كل شيء‪ ،‬فإنهم اتفقوا وارتفقوا بالمحبة‬
‫والجتماع عليه‪.‬‬
‫وقد تضمنت هذه اليات‪ ،‬الوعيد للكاتمين لما أنزل الله‪ ،‬المؤثرين عليه‪،‬‬
‫عرض الدنيا بالعذاب والسخط‪ ،‬وأن الله ل يطهرهم بالتوفيق‪ ،‬ول‬
‫بالمغفرة‪ ،‬وذكر السبب في ذلك بإيثارهم الضللة على الهدى‪ ،‬فترتب على‬
‫ذلك اختيار العذاب على المغفرة‪ ،‬ثم توجع لهم بشدة صبرهم على النار‪،‬‬
‫لعملهم بالسباب التي يعلمون أنها موصلة إليها‪ ،‬وأن الكتاب مشتمل على‬
‫الحق الموجب للتفاق عليه‪ ،‬وعدم الفتراق‪ ،‬وأن كل من خالفه‪ ،‬فهو في‬
‫غاية البعد عن الحق‪ ،‬والمنازعة والمخاصمة‪ ،‬والله أعلم‪.‬‬

‫) ‪(1/82‬‬

‫شرق وال ْمغْرب ول َك ِن ال ْبر م َ‬ ‫َ‬


‫ن‬
‫م َ‬‫نآ َ‬ ‫ّ ِّ َ ْ‬ ‫م ْ ِ ِ َ َ ِ ِ َ‬ ‫ل ال ْ َ‬‫م قِب َ َ‬ ‫جوهَك ُ ْ‬ ‫ن ت ُوَّلوا وُ ُ‬ ‫س ال ْب ِّر أ ْ‬ ‫ل َي ْ َ‬
‫ل عََلى ُ‬ ‫َ‬ ‫ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ اْل َ ِ‬
‫حب ّهِ ذ َِوي‬ ‫ما َ‬ ‫ن وَآَتى ال ْ َ‬ ‫ب َوالن ّب ِّيي َ‬ ‫مَلئ ِك َةِ َوال ْك َِتا ِ‬ ‫خرِ َوال ْ َ‬
‫َ‬
‫ب وَأَقا َ‬
‫م‬ ‫ن وَِفي الّرَقا ِ‬ ‫سائ ِِلي َ‬ ‫ل َوال ّ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن َواب ْ َ‬‫كي َ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫مى َوال ْ َ‬ ‫قْرَبى َوال ْي ََتا َ‬‫ال ْ ُ‬
‫ْ‬ ‫صَلةَ وَآ ََتى الّز َ‬
‫ساءِ‬‫ن ِفي ال ْب َأ َ‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬‫دوا َوال ّ‬ ‫عاهَ ُ‬ ‫ذا َ‬ ‫م إِ َ‬ ‫ن ب ِعَهْدِهِ ْ‬ ‫موُفو َ‬ ‫كاةَ َوال ْ ُ‬ ‫ال ّ‬
‫ن )‪(177‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫صد َُقوا وَأولئ ِ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫س أولئ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫قو َ‬‫مت ّ ُ‬‫م ال ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ِ‬ ‫ن الب َأ ِ‬ ‫حي َ‬ ‫ضّراِء وَ ِ‬ ‫َوال ّ‬

‫] ص ‪[ 83‬‬
‫ْ‬
‫ن الب ِّر‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬ ‫م قِب َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ب وَلك ِ ّ‬ ‫مغْرِ ِ‬ ‫ق َوال َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫ل ال َ‬ ‫جوهَك ْ‬ ‫ن ت ُوَلوا وُ ُ‬ ‫س الب ِّر أ ْ‬ ‫} ‪ } { 177‬لي ْ َ‬
‫َ‬
‫ل عَلى‬ ‫ما َ‬ ‫ْ‬
‫ن َوآَتى ال َ‬ ‫ب َوالن ّب ِّيي َ‬ ‫ْ‬
‫ملئ ِكةِ َوالك َِتا ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫خرِ َوال َ‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ن وَِفي‬ ‫َ‬ ‫لي‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫سا‬ ‫وال‬
‫ّ ِ ِ َ ّ‬ ‫ل‬ ‫بي‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫وا‬ ‫ن‬ ‫كي‬
‫ِ‬ ‫سا‬ ‫َ َ َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫مى‬ ‫َ‬ ‫تا‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ي‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫وا‬
‫َ‬ ‫بى‬ ‫َ‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫وي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ب‬‫ح‬‫ُ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ب وأ َ‬
‫ن‬ ‫ري‬
‫َ ّ ِ ِ َ‬ ‫ب‬ ‫صا‬ ‫وال‬ ‫دوا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫عا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫إ‬
‫ْ ِ‬ ‫م‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫د‬ ‫ه‬
‫ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫فو‬ ‫مو‬ ‫َ ُ‬ ‫ل‬‫وا‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫كا‬
‫ْ‬
‫ز‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫تى‬ ‫َ‬ ‫وآ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫صل‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫قا‬ ‫الّرَقا ِ ْ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫م‬‫ك هُ ُ‬ ‫صد َُقوا وَأولئ ِ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ِ‬ ‫س أولئ ِ َ‬ ‫ن الب َأ ِ‬ ‫حي َ‬ ‫ضّراِء وَ ِ‬ ‫ساِء َوال ّ‬ ‫ِفي ال ْب َأ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قو َ‬ ‫مت ّ ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫َ‬
‫ب { أي‪:‬‬ ‫مغْرِ ِ‬ ‫ق َوال ْ َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫م قِب َ َ‬ ‫جوهَك ُ ْ‬ ‫ن ت ُوَّلوا وُ ُ‬ ‫س ال ْب ِّر أ ْ‬ ‫يقول تعالى‪ } :‬ل َي ْ َ‬
‫ليس هذا هو البر المقصود من العباد‪ ،‬فيكون كثرة البحث فيه والجدال من‬
‫العناء الذي ليس تحته إل الشقاق والخلف‪ ،‬وهذا نظير قوله صلى الله‬
‫عليه وسلم‪" :‬ليس الشديد بالصرعة‪ ،‬إنما الشديد الذي يملك نفسه عند‬
‫الغضب "ونحو ذلك‪.‬‬
‫ن ِباللهِ { أي‪ :‬بأنه إله واحد‪ ،‬موصوف بكل صفة كمال‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْب ِّر َ‬ ‫} وَل َك ِ ّ‬
‫منزه عن كل نقص‪.‬‬
‫خرِ { وهو كل ما أخبر الله به في كتابه‪ ،‬أو أخبر به الرسول‪،‬‬ ‫} َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬
‫مما يكون بعد الموت‪.‬‬
‫ملئ ِك َةِ { الذين وصفهم الله لنا في كتابه‪ ،‬ووصفهم رسوله صلى الله‬ ‫} َوال ْ َ‬
‫ب { أي‪ :‬جنس الكتب التي أنزلها الله على رسوله‪،‬‬ ‫عليه وسلم } َوال ْك َِتا ِ‬
‫ن{‬ ‫وأعظمها القرآن‪ ،‬فيؤمن بما تضمنه من الخبار والحكام‪َ } ،‬والن ّب ِّيي َ‬
‫عموما‪ ،‬خصوصا خاتمهم وأفضلهم محمد صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫ل { وهو كل ما يتموله النسان من مال‪ ،‬قليل كان أو كثيرا‪،‬‬ ‫ما َ‬ ‫} َوآَتى ال ْ َ‬
‫حب ّهِ { أي‪ :‬حب المال ‪ ،‬بّين به أن المال محبوب‬ ‫أي‪ :‬أعطى المال } عََلى ُ‬
‫للنفوس‪ ،‬فل يكاد يخرجه العبد‪.‬‬
‫فمن أخرجه مع حبه له تقربا إلى الله تعالى‪ ،‬كان هذا برهانا ليمانه‪ ،‬ومن‬
‫إيتاء المال على حبه‪ ،‬أن يتصدق وهو صحيح شحيح‪ ،‬يأمل الغنى‪ ،‬ويخشى‬
‫الفقر‪ ،‬وكذلك إذا كانت الصدقة عن قلة‪ ،‬كانت أفضل‪ ،‬لنه في هذه الحال‪،‬‬
‫يحب إمساكه‪ ،‬لما يتوهمه من العدم والفقر‪.‬‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫وكذلك إخراج النفيس من المال‪ ،‬وما يحبه من ماله كما قال تعالى‪ } :‬ل ْ‬
‫ن { فكل هؤلء ممن آتى المال على حبه‪.‬‬ ‫حّبو َ‬ ‫ما ت ُ ِ‬ ‫م ّ‬ ‫قوا ِ‬ ‫ف ُ‬ ‫حّتى ت ُن ْ ِ‬ ‫ت ََناُلوا ال ْب ِّر َ‬
‫ثم ذكر المنفق عليهم‪ ،‬وهم أولى الناس ببرك وإحسانك‪ .‬من القارب‬
‫الذين تتوجع لمصابهم‪ ،‬وتفرح بسرورهم‪ ،‬الذين يتناصرون ويتعاقلون‪ ،‬فمن‬
‫أحسن البر وأوفقه‪ ،‬تعاهد القارب بالحسان المالي والقولي‪ ،‬على حسب‬
‫قربهم وحاجتهم‪.‬‬
‫ومن اليتامى الذين ل كاسب لهم‪ ،‬وليس لهم قوة يستغنون بها‪ ،‬وهذا من‬
‫رحمته ]تعالى[ بالعباد‪ ،‬الدالة على أنه تعالى أرحم بهم من الوالد بولده‪،‬‬
‫فالله قد أوصى العباد‪ ،‬وفرض عليهم في أموالهم‪ ،‬الحسان إلى من فقد‬
‫آباؤهم ليصيروا كمن لم يفقد والديه‪ ،‬ولن الجزاء من جنس العمل فمن‬
‫م يتيمه‪.‬‬ ‫ح َ‬ ‫رحم يتيم غيره‪ُ ،‬ر ِ‬
‫كين { وهم الذين أسكنتهم الحاجة‪ ،‬وأذلهم الفقر فلهم حق على‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫} َوال ْ َ‬
‫الغنياء‪ ،‬بما يدفع مسكنتهم أو يخففها‪ ،‬بما يقدرون عليه‪ ،‬وبما يتيسر‪،‬‬
‫ل { وهو الغريب المنقطع به في غير بلده‪ ،‬فحث الله عباده‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫} َواب ْ َ‬
‫على إعطائه من المال‪ ،‬ما يعينه على سفره‪ ،‬لكونه مظنة الحاجة‪ ،‬وكثرة‬
‫المصارف‪ ،‬فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته‪ ،‬وخوله من نعمته‪ ،‬أن‬
‫يرحم أخاه الغريب‪ ،‬الذي بهذه الصفة‪ ،‬على حسب استطاعته‪ ،‬ولو بتزويده‬
‫أو إعطائه آلة لسفره‪ ،‬أو دفع ما ينوبه من المظالم وغيرها‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬الذين تعرض لهم حاجة من الحوائج‪ ،‬توجب السؤال‪،‬‬ ‫سائ ِِلي َ‬ ‫} َوال ّ‬
‫كمن ابتلي بأرش جناية‪ ،‬أو ضريبة عليه من ولة المور‪ ،‬أو يسأل الناس‬
‫لتعمير المصالح العامة‪ ،‬كالمساجد‪ ،‬والمدارس‪ ،‬والقناطر‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فهذا‬
‫ب { فيدخل فيه العتق والعانة عليه‪،‬‬ ‫له حق وإن كان غنيا } وَِفي الّرَقا ِ‬
‫وبذل مال للمكاتب ليوفي سيده‪ ،‬وفداء السرى عند الكفار أو عند‬
‫الظلمة‪.‬‬
‫صلةَ َوآَتى الّز َ‬ ‫َ‬
‫كاةَ { قد تقدم مرارا‪ ،‬أن الله تعالى يقرن بين‬ ‫م ال ّ‬ ‫} وَأَقا َ‬
‫الصلة والزكاة‪ ،‬لكونهما أفضل العبادات‪ ،‬وأكمل القربات‪ ،‬عبادات قلبية‪،‬‬
‫وبدنية‪ ،‬ومالية‪ ،‬وبهما يوزن اليمان‪ ،‬ويعرف ما مع صاحبه من اليقان‪.‬‬
‫دوا { والعهد‪ :‬هو اللتزام بإلزام الله أو إلزام‬ ‫عاهَ ُ‬
‫ذا َ‬ ‫م إِ َ‬ ‫ن ب ِعَهْدِهِ ْ‬ ‫موُفو َ‬ ‫} َوال ْ ُ‬
‫العبد لنفسه‪ .‬فدخل في ذلك حقوق الله كلها‪ ،‬لكون الله ألزم بها عباده‬
‫والتزموها‪ ،‬ودخلوا تحت عهدتها‪ ،‬ووجب عليهم أداؤها‪ ،‬وحقوق العباد‪ ،‬التي‬
‫أوجبها الله عليهم‪ ،‬والحقوق التي التزمها العبد كاليمان والنذور‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ساِء { أي‪ :‬الفقر‪ ،‬لن الفقير يحتاج إلى الصبر من‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ِفي الب َأ َ‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬‫} َوال ّ‬
‫وجوه كثيرة‪ ،‬لكونه يحصل له من اللم القلبية والبدنية المستمرة ما ل‬
‫يحصل لغيره‪.‬‬
‫فإن تنعم الغنياء بما ل يقدر عليه تألم‪ ،‬وإن جاع أو جاعت عياله تألم‪ ،‬وإن‬
‫أكل طعاما غير موافق لهواه تألم‪ ،‬وإن عرى أو كاد تألم‪ ،‬وإن نظر إلى ما‬
‫بين يديه وما يتوهمه من المستقبل الذي يستعد له تألم‪ ،‬وإن أصابه البرد‬
‫الذي ل يقدر على دفعه تألم‪.‬‬
‫فكل هذه ونحوها‪ ،‬مصائب‪ ،‬يؤمر بالصبر عليها‪ ،‬والحتساب‪ ،‬ورجاء الثواب‬
‫من الله عليها‪.‬‬
‫ضّراِء { أي‪ :‬المرض على اختلف أنواعه‪ ،‬من حمى‪ ،‬وقروح‪ ،‬ورياح‪،‬‬ ‫} َوال ّ‬
‫ووجع عضو‪ ،‬حتى الضرس والصبع ونحو ذلك‪ ،‬فإنه يحتاج إلى الصبر على‬
‫ذلك؛ لن النفس تضعف‪ ،‬والبدن يألم‪ ،‬وذلك في غاية المشقة على‬
‫النفوس‪ ،‬خصوصا مع تطاول ذلك‪ ،‬فإنه يؤمر بالصبر‪ ،‬احتسابا لثواب الله‬
‫]تعالى[‪.‬‬
‫] ص ‪[ 84‬‬
‫س { أي‪ :‬وقت القتال للعداء المأمور بقتالهم‪ ،‬لن الجلد‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫حي َ ْ‬
‫ن الب َأ ِ‬ ‫} وَ ِ‬
‫يشق غاية المشقة على النفس‪ ،‬ويجزع النسان من القتل‪ ،‬أو الجراح أو‬
‫السر‪ ،‬فاحتيج إلى الصبر في ذلك احتسابا‪ ،‬ورجاء لثواب الله ]تعالى[ الذي‬
‫منه النصر والمعونة‪ ،‬التي وعدها الصابرين‪.‬‬
‫ك { أي‪ :‬المتصفون بما ذكر من العقائد الحسنة‪ ،‬والعمال التي هي‬ ‫} ُأول َئ ِ َ‬
‫آثار اليمان‪ ،‬وبرهانه ونوره‪ ،‬والخلق التي هي جمال النسان وحقيقة‬
‫صد َُقوا { في إيمانهم‪ ،‬لن أعمالهم صدقت‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫النسانية‪ ،‬فأولئك هم } ال ّ ِ‬
‫ن { لنهم تركوا المحظور‪ ،‬وفعلوا المأمور؛‬ ‫قو َ‬‫مت ّ ُ‬‫م ال ْ ُ‬ ‫إيمانهم‪ } ،‬وَُأول َئ ِ َ‬
‫ك هُ ُ‬
‫لن هذه المور مشتملة على كل خصال الخير‪ ،‬تضمنا ولزوما‪ ،‬لن الوفاء‬
‫بالعهد‪ ،‬يدخل فيه الدين كله‪ ،‬ولن العبادات المنصوص عليها في هذه الية‬
‫أكبر العبادات‪ ،‬ومن قام بها‪ ،‬كان بما سواها أقوم‪ ،‬فهؤلء هم البرار‬
‫الصادقون المتقون‪.‬‬
‫وقد علم ما رتب الله على هذه المور الثلثة‪ ،‬من الثواب الدنيوي‬
‫والخروي‪ ،‬مما ل يمكن تفصيله في ]مثل[ هذا الموضع‪.‬‬

‫) ‪(1/83‬‬

‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫حّر َوال ْعَب ْد ُ‬ ‫حّر ِبال ْ ُ‬ ‫قت َْلى ال ْ ُ‬ ‫ص ِفي ال ْ َ‬ ‫صا ُ‬ ‫ق َ‬ ‫م ال ْ ِ‬‫ب عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫مُنوا ك ُت ِ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫َ‬ ‫ن أَ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫داٌء‬
‫ف وَأ َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫يٌء َفات َّباعٌ ِبال ْ َ‬ ‫ش ْ‬ ‫خيهِ َ‬ ‫م ْ‬‫ه ِ‬ ‫ي لَ ُ‬ ‫ف َ‬
‫ن عُ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ِبال ْعَب ْدِ َواْلن َْثى ِباْلن َْثى فَ َ‬
‫ب‬ ‫ه عَ َ‬
‫ذا ٌ‬ ‫ك فَل َ ُ‬ ‫دى ب َعْد َ ذ َل ِ َ‬ ‫ن اعْت َ َ‬ ‫م َِ‬ ‫ة فَ َ‬
‫م ٌ‬ ‫ح َ‬‫م وََر ْ‬‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫في ٌ‬ ‫خ ِ‬‫ك تَ ْ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬
‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬‫إ ِل َي ْهِ ب ِإ ِ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(179‬‬ ‫قو َ‬ ‫م ت َت ّ ُ‬‫ب ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫حَياةٌ َيا أوِلي اْلل َْبا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫صا ِ‬ ‫ق َ‬ ‫م ِفي ال ْ ِ‬ ‫م )‪ (178‬وَل َك ُ ْ‬ ‫أِلي ٌ‬
‫قت َْلى‬ ‫ص ِفي ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫صا ُ‬ ‫ق َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫ب عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫مُنوا ك ُت ِ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 179 - 178‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫يٌء َفات َّباعٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫خيهِ َ‬ ‫ن أَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ي لَ ُ‬ ‫ف َ‬‫ن عُ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫حّر َوال ْعَب ْد ُ ِبال ْعَب ْدِ َوالن َْثى ِبالن َْثى فَ َ‬ ‫حّر ِبال ْ ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫َ‬
‫دى‬ ‫ن اعْت َ َ‬ ‫م ِ‬‫ة فَ َ‬‫م ٌ‬‫ح َ‬ ‫م وََر ْ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬‫ف ِ‬ ‫في ٌ‬ ‫خ ِ‬‫ك تَ ْ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫داٌء إ ِل َي ْهِ ب ِإ ِ ْ‬
‫ف وَأ َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ب ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م‬ ‫حَياةٌ َيا أوِلي الل َْبا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫صا ِ‬ ‫ق َ‬ ‫م ِفي ال ْ ِ‬ ‫م * وَل َك ُ ْ‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫ه عَ َ‬ ‫ك فَل َ ُ‬‫ب َعْد َ ذ َل ِ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قو َ‬ ‫ت َت ّ ُ‬
‫َ‬
‫قت ْلى‬ ‫ْ‬
‫ص ِفي ال َ‬ ‫صا ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ْ‬
‫يمتن تعالى على عباده المؤمنين‪ ،‬بأنه فرض عليهم } ال ِ‬
‫{ أي‪ :‬المساواة فيه‪ ،‬وأن يقتل القاتل على الصفة‪ ،‬التي قتل عليها‬
‫المقتول‪ ،‬إقامة للعدل والقسط بين العباد‪.‬‬
‫وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين‪ ،‬فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم‪،‬‬
‫حتى أولياء القاتل حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول‪ ،‬إذا طلب‬
‫القصاص وتمكينه )‪ (1‬من القاتل‪ ،‬وأنه ل يجوز لهم أن يحولوا بين هذا‬
‫الحد‪ ،‬ويمنعوا الولي من القتصاص‪ ،‬كما عليه عادة الجاهلية‪ ،‬ومن أشبههم‬
‫من إيواء المحدثين‪.‬‬
‫حّر { يدخل بمنطوقها‪ ،‬الذكر بالذكر‪،‬‬ ‫ْ‬
‫حّر ِبال ُ‬ ‫ْ‬
‫ثم بّين تفصيل ذلك فقال‪ } :‬ال ُ‬
‫} َوالن َْثى ِبالن َْثى { والنثى بالذكر‪ ،‬والذكر بالنثى‪ ،‬فيكون منطوقها مقدما‬
‫على مفهوم قوله‪" :‬النثى بالنثى "مع دللة السنة‪ ،‬على أن الذكر يقتل‬
‫بالنثى‪ ،‬وخرج من عموم هذا البوان وإن علوا‪ ،‬فل يقتلن بالولد‪ ،‬لورود‬
‫ص { ما يدل على أنه ليس من‬ ‫صا ُ‬ ‫ق َ‬ ‫السنة بذلك‪ ،‬مع أن في قوله‪ } :‬ال ْ ِ‬
‫العدل‪ ،‬أن يقتل الوالد بولده‪ ،‬ولن في قلب الوالد من الشفقة والرحمة‪،‬‬
‫ما يمنعه من القتل لولده إل بسبب اختلل في عقله‪ ،‬أو أذية شديدة جدا‬
‫من الولد له‪.‬‬
‫وخرج من العموم أيضا‪ ،‬الكافر بالسنة‪ ،‬مع أن الية في خطاب المؤمنين‬
‫خاصة‪.‬‬
‫وأيضا فليس من العدل أن يقتل ولي الله بعدوه‪ ،‬والعبد بالعبد‪ ،‬ذكرا كان‬
‫أو أنثى‪ ،‬تساوت قيمتهما أو اختلفت‪ ،‬ودل بمفهومها على أن الحر‪ ،‬ل يقتل‬
‫بالعبد‪ ،‬لكونه غير مساو له‪ ،‬والنثى بالنثى‪ ،‬أخذ بمفهومها بعض أهل العلم‬
‫فلم يجز قتل الرجل بالمرأة‪ ،‬وتقدم وجه ذلك‪.‬‬
‫وفي هذه الية دليل على أن الصل وجوب القود في القتل‪ ،‬وأن الدية بدل‬
‫يٌء { أي‪ :‬عفا ولي المقتول‬ ‫ش ْ‬ ‫خيهِ َ‬ ‫ن أَ ِ‬‫م ْ‬‫ه ِ‬ ‫ي لَ ُ‬‫ف َ‬‫ن عُ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عنه‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬فَ َ‬
‫عن القاتل إلى الدية‪ ،‬أو عفا بعض الولياء‪ ،‬فإنه يسقط القصاص‪ ،‬وتجب‬
‫الدية‪ ،‬وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي‪.‬‬
‫فإذا عفا عنه وجب على الولي‪] ،‬أي‪ :‬ولي المقتول[ أن يتبع القاتل‬
‫ف { من غير أن يشق عليه‪ ،‬ول يحمله ما ل يطيق‪ ،‬بل يحسن‬ ‫معُْرو ِ‬‫} ِبال ْ َ‬
‫القتضاء والطلب‪ ،‬ول يحرجه‪.‬‬
‫َ‬
‫ن { من غير مطل ول نقص‪ ،‬ول إساءة‬ ‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫داٌء إ ِل َي ْهِ ب ِإ ِ ْ‬
‫وعلى القاتل } أ َ‬
‫فعلية أو قولية‪ ،‬فهل جزاء الحسان إليه بالعفو‪ ،‬إل الحسان بحسن‬
‫القضاء‪ ،‬وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للنسان‪ ،‬مأمور من‬
‫له الحق بالتباع بالمعروف‪ ،‬ومن عليه الحق‪ ،‬بالداء بإحسان )‪. (2‬‬
‫خيهِ { ترقيق وحث على العفو إلى الدية‪،‬‬ ‫ن أَ ِ‬ ‫م ْ‬‫ه ِ‬ ‫ي لَ ُ‬ ‫ف َ‬ ‫ن عُ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وفي قوله‪ } :‬فَ َ‬
‫وأحسن من ذلك العفو مجانا‪.‬‬
‫خيهِ { دليل على أن القاتل ل يكفر‪ ،‬لن المراد بالخوة هنا‬ ‫وفي قوله‪ } :‬أ َ ِ‬
‫أخوة اليمان‪ ،‬فلم يخرج بالقتل منها‪ ،‬ومن باب أولى أن سائر المعاصي‬
‫التي هي دون الكفر‪ ،‬ل يكفر بها فاعلها‪ ،‬وإنما ينقص بذلك إيمانه‪.‬‬
‫وإذا عفا أولياء المقتول‪ ،‬أو عفا بعضهم‪ ،‬احتقن دم القاتل‪ ،‬وصار معصوما‬
‫ك { أي‪ ] :‬ص ‪[ 85‬‬ ‫دى ب َعْد َ ذ َل ِ َ‬‫ن اعْت َ َ‬ ‫م ِ‬‫منهم ومن غيرهم‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬فَ َ‬
‫َ‬
‫م { أي‪ :‬في الخرة‪ ،‬وأما قتله وعدمه‪ ،‬فيؤخذ‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫ه عَ َ‬ ‫بعد العفو } فَل َ ُ‬
‫مما تقدم‪ ،‬لنه قتل مكافئا له‪ ،‬فيجب قتله بذلك‪.‬‬
‫وأما من فسر العذاب الليم بالقتل‪ ،‬فإن الية تدل على أنه يتعين قتله‪ ،‬ول‬
‫يجوز العفو عنه‪ ،‬وبذلك قال بعض العلماء والصحيح الول‪ ،‬لن جنايته ل‬
‫تزيد على جناية غيره‪.‬‬
‫م ِفي‬ ‫َ‬
‫ثم بين تعالى حكمته العظيمة في مشروعية القصاص فقال‪ } :‬وَلك ُ ْ‬
‫حَياةٌ { أي‪ :‬تنحقن بذلك الدماء‪ ،‬وتنقمع به الشقياء‪ ،‬لن من‬ ‫ص َ‬
‫صا ِ‬ ‫ق َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫عرف أنه مقتول إذا قتل‪ ،‬ل يكاد يصدر منه القتل‪ ،‬وإذا رئي القاتل مقتول‬
‫انذعر بذلك غيره وانزجر‪ ،‬فلو كانت عقوبة القاتل غير القتل‪ ،‬لم يحصل‬
‫انكفاف الشر‪ ،‬الذي يحصل بالقتل‪ ،‬وهكذا سائر الحدود الشرعية‪ ،‬فيها من‬
‫كر "الحياة "لفادة‬ ‫النكاية والنزجار‪ ،‬ما يدل على حكمة الحكيم الغفار‪ ،‬ون ّ‬
‫التعظيم والتكثير‪.‬‬
‫ولما كان هذا الحكم‪ ،‬ل يعرف حقيقته‪ ،‬إل أهل العقول الكاملة واللباب‬
‫الثقيلة‪ ،‬خصهم بالخطاب دون غيرهم‪ ،‬وهذا يدل على أن الله تعالى‪ ،‬يحب‬
‫من عباده‪ ،‬أن يعملوا أفكارهم وعقولهم‪ ،‬في تدبر ما في أحكامه من‬
‫الحكم‪ ،‬والمصالح الدالة على كماله‪ ،‬وكمال حكمته وحمده‪ ،‬وعدله ورحمته‬
‫الواسعة‪ ،‬وأن من كان بهذه المثابة فقد استحق المدح بأنه من ذوي‬
‫اللباب الذين وجه إليهم الخطاب‪ ،‬وناداهم رب الرباب‪ ،‬وكفى بذلك فضل‬
‫وشرفا لقوم يعقلون‪.‬‬
‫ن { وذلك أن من عرف ربه وعرف ما في دينه‬ ‫قو َ‬ ‫وقوله‪ } :‬ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م ت َت ّ ُ‬
‫وشرعه من السرار العظيمة والحكم البديعة واليات الرفيعة‪ ،‬أوجب له‬
‫ذلك أن ينقاد لمر الله‪ ،‬ويعظم معاصيه فيتركها‪ ،‬فيستحق بذلك أن يكون‬
‫من المتقين‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ويمكنه‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬بالحسان‪.‬‬

‫) ‪(1/84‬‬

‫َ‬
‫ن‬
‫وال ِد َي ْ ِ‬‫ة ل ِل ْ َ‬
‫صي ّ ُ‬‫خي ًْرا ال ْوَ ِ‬
‫ك َ‬‫ن ت ََر َ‬
‫ت إِ ْ‬ ‫موْ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫حد َك ُ ُ‬‫ضَر أ َ‬ ‫ح َ‬ ‫م إِ َ‬
‫ذا َ‬ ‫ب عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ك ُت ِ َ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫معَ ُ‬
‫س ِ‬‫ما َ‬ ‫ه ب َعْد َ َ‬ ‫ن ب َد ّل َ ُ‬ ‫ن )‪ (180‬فَ َ‬
‫م ْ‬ ‫قي َ‬ ‫قا عََلى ال ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ف َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬ ‫َواْلقَْرِبي َ‬
‫م )‪(181‬‬ ‫ميعٌ عَِلي ٌ‬
‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫ن ي ُب َد ُّلون َ ُ‬ ‫ذي َ‬‫ه عََلى ال ّ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫فَإ ِن ّ َ‬
‫ما إ ِث ْ ُ‬
‫َ‬
‫خي ًْرا‬‫ك َ‬ ‫ن ت ََر َ‬ ‫ت إِ ْ‬ ‫موْ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫حد َك ُ ُ‬ ‫ضَر أ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ذا َ‬ ‫م إِ َ‬ ‫ب عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫} ‪ } { 182 - 180‬ك ُت ِ َ‬
‫ما‬
‫ه ب َعْد َ َ‬‫ن ب َد ّل َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن * فَ َ‬ ‫قي َ‬ ‫قا عََلى ال ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫ح ّ‬
‫ف َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬ ‫ن َوالقَْرِبي َ‬ ‫وال ِد َي ْ ِ‬‫ة ل ِل ْ َ‬ ‫ال ْوَ ِ‬
‫صي ّ ُ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ميعٌ عَِلي ٌ‬ ‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ه إِ ّ‬‫ن ي ُب َد ُّلون َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه عََلى ال ّ ِ‬ ‫م ُ‬‫ما إ ِث ْ ُ‬‫ه فَإ ِن ّ َ‬ ‫مع َ ُ‬
‫س ِ‬
‫َ‬
‫ت { أي‪:‬‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫د‬‫ح‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ر‬ ‫ض‬ ‫ح‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫}‬ ‫المؤمنين‬ ‫معشر‬ ‫يا‬ ‫عليكم‪،‬‬ ‫الله‬ ‫فرض‬ ‫أي‪:‬‬
‫َ ْ ُ‬ ‫َ َ َ َ َ ُ‬ ‫ِ‬
‫أسبابه‪ ،‬كالمرض المشرف على الهلك‪ ،‬وحضور أسباب المهالك‪ ،‬وكان قد‬
‫خي ًْرا { ]أي‪ :‬مال[ وهو المال الكثير عرفا‪ ،‬فعليه أن يوصي لوالديه‬ ‫ك َ‬ ‫} ت ََر َ‬
‫وأقرب الناس إليه بالمعروف‪ ،‬على قدر حاله من غير سرف‪ ،‬ول اقتصار‬
‫على البعد‪ ،‬دون القرب‪ ،‬بل يرتبهم على القرب والحاجة‪ ،‬ولهذا أتى فيه‬
‫بأفعل التفضيل‪.‬‬
‫ن { دل على وجوب ذلك‪ ،‬لن الحق هو‪ :‬الثابت‪،‬‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫قا عَلى ال ُ‬ ‫ح ّ‬
‫وقوله‪َ } :‬‬
‫وقد جعله الله من موجبات التقوى‪.‬‬
‫واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الية منسوخة بآية المواريث‪،‬‬
‫وبعضهم يرى أنها في الوالدين والقربين غير الوارثين‪ ،‬مع أنه لم يدل على‬
‫التخصيص بذلك دليل‪ ،‬والحسن في هذا أن يقال‪ :‬إن هذه الوصية للوالدين‬
‫والقربين مجملة‪ ،‬ردها الله تعالى إلى العرف الجاري‪.‬‬
‫ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من القارب الوارثين هذا‬
‫المعروف في آيات المواريث‪ ،‬بعد أن كان مجمل وبقي الحكم فيمن لم‬
‫يرثوا من الوالدين الممنوعين من الرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو‬
‫وصف‪ ،‬فإن النسان مأمور بالوصية لهؤلء وهم أحق الناس ببره‪ ،‬وهذا‬
‫القول تتفق عليه المة‪ ،‬ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين‪ ،‬لن كل‬
‫من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا‪ ،‬واختلف المورد‪.‬‬
‫فبهذا الجمع‪ ،‬يحصل التفاق‪ ،‬والجمع بين اليات‪ ،‬لنه )‪ (1‬مهما أمكن‬
‫الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ‪ ،‬الذي لم يدل عليه دليل صحيح‪.‬‬
‫ولما كان الموصي قد يمتنع من الوصية‪ ،‬لما يتوهمه أن من بعده‪ ،‬قد يبدل‬
‫ه { أي‪ :‬اليصاء للمذكورين أو غيرهم }‬ ‫ن ب َد ّل َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ما وصى به قال تعالى‪ } :‬فَ َ‬
‫ه‬
‫م ُ‬ ‫ه { ]أي‪ [:‬بعدما عقله‪ ،‬وعرف طرقه وتنفيذه‪ } ،‬فَإ ِن ّ َ‬
‫ما إ ِث ْ ُ‬ ‫مع َ ُ‬
‫س ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ب َعْد َ َ‬
‫ه { وإل فالموصي وقع أجره على الله‪ ،‬وإنما الثم على‬ ‫ُ‬
‫ن ي ُب َد ّلون َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫عََلى ال ِ‬
‫ّ‬
‫المبدل المغير‪.‬‬
‫ميعٌ { يسمع سائر الصوات‪ ،‬ومنه سماعه لمقالة الموصي‬ ‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫ووصيته‪ ،‬فينبغي له أن يراقب من يسمعه ويراه‪ ،‬وأن ل يجور في وصيته‪،‬‬
‫م { بنيته‪ ،‬وعليم بعمل الموصى إليه‪ ،‬فإذا اجتهد الموصي‪ ،‬وعلم الله‬ ‫} عَِلي ٌ‬
‫من نيته ذلك‪ ،‬أثابه ولو أخطأ‪ ،‬وفيه التحذير للموصى إليه من التبديل‪ ،‬فإن‬
‫الله عليم به‪ ،‬مطلع على ما فعله‪ ،‬فليحذر من الله‪ ،‬هذا حكم الوصية‬
‫العادلة‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬فإنه‪.‬‬

‫) ‪(1/85‬‬

‫َ‬ ‫ف من موص جن ً َ‬
‫فوٌر‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه غَ ُ‬ ‫م عَل َي ْهِ إ ِ ّ‬
‫م فََل إ ِث ْ َ‬ ‫صل َ َ‬
‫ح ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫ما فَأ ْ‬
‫فا أوْ إ ِث ْ ً‬‫ٍ َ َ‬ ‫خا َ ِ ْ ُ‬
‫ن َ‬‫م ْ‬‫فَ َ‬
‫م )‪(182‬‬‫حي ٌ‬
‫َر ِ‬
‫َ‬ ‫ف من موص جن ً َ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫م عَل َي ْهِ إ ِ ّ‬
‫م َفل إ ِث ْ َ‬ ‫صل َ َ‬
‫ح ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫ما فَأ ْ‬
‫فا أوْ إ ِث ْ ً‬ ‫ٍ َ َ‬ ‫خا َ ِ ْ ُ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫} فَ َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حي ٌ‬
‫فوٌر َر ِ‬ ‫غَ ُ‬
‫وأما الوصية التي فيها حيف وجنف‪ ،‬وإثم‪ ،‬فينبغي لمن حضر الموصي وقت‬
‫الوصية بها‪ ،‬أن ينصحه بما هو الحسن والعدل‪ ،‬وأن ينهاه ] ص ‪ [ 86‬عن‬
‫الجور والجنف‪ ،‬وهو‪ :‬الميل بها عن خطأ‪ ،‬من غير تعمد‪ ،‬والثم‪ :‬وهو التعمد‬
‫لذلك‪.‬‬
‫فإن لم يفعل ذلك‪ ،‬فينبغي له أن يصلح بين الموصى إليهم‪ ،‬ويتوصل إلى‬
‫العدل بينهم على وجه التراضي والمصالحة‪ ،‬ووعظهم بتبرئة ذمة ميتهم‬
‫فهذا قد فعل معروفا عظيما‪ ،‬وليس عليهم إثم‪ ،‬كما على مبدل الوصية‬
‫فوٌر { أي‪ :‬يغفر جميع الزلت‪ ،‬ويصفح عن‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫الجائزة‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫التبعات لمن تاب إليه‪ ،‬ومنه مغفرته لمن غض من نفسه‪ ،‬وترك بعض حقه‬
‫لخيه‪ ،‬لن من سامح‪ ،‬سامحه الله‪ ،‬غفور لميتهم الجائر في وصيته‪ ،‬إذا‬
‫احتسبوا بمسامحة بعضهم بعضا لجل براءة ذمته‪ ،‬رحيم بعباده‪ ،‬حيث شرع‬
‫لهم كل أمر به يتراحمون ويتعاطفون‪ ،‬فدلت هذه اليات على الحث على‬
‫الوصية‪ ،‬وعلى بيان من هي له‪ ،‬وعلى وعيد المبدل للوصية العادلة‪،‬‬
‫والترغيب في الصلح في الوصية الجائرة‪.‬‬

‫) ‪(1/85‬‬

‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب عََلى ال ّ ِ‬ ‫ما ك ُت ِ َ‬ ‫م كَ َ‬ ‫صَيا ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ب عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫مُنوا ك ُت ِ َ‬ ‫نآ َ‬‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ر‬
‫ف ٍ‬‫س َ‬‫ضا أوْ عََلى َ‬ ‫ري ً‬ ‫م ِ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ت فَ َ‬ ‫دا ٍ‬ ‫دو َ‬‫معْ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن )‪ (183‬أّيا ً‬ ‫قو َ‬ ‫م ت َت ّ ُ‬‫ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫ن ت َط َوّعَ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م ْ‬ ‫ن فَ َ‬ ‫كي ٍ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ة ط ََعا ُ‬ ‫ه فِد ْي َ ٌ‬ ‫قون َ ُ‬ ‫طي ُ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫خَر وَعََلى ال ّ ِ‬ ‫ن أّيام ٍ أ َ‬ ‫م ْ‬ ‫فَعِد ّةٌ ِ‬
‫َ‬
‫شهُْر‬ ‫ن )‪َ (184‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬‫موا َ‬ ‫صو ُ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫ه وَأ ْ‬ ‫خي ٌْر ل َ ُ‬
‫خي ًْرا فَهُوَ َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ذي أن ْزِ َ‬ ‫ّ‬
‫فْرقا ِ‬ ‫دى َوال ُ‬ ‫ن ال ه ُ َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫س وَب َي َّنا ٍ‬ ‫دى ِللّنا ِ‬ ‫ن هُ ً‬ ‫قْرآ ُ‬ ‫ل ِفيهِ ال ُ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫ضا َ‬ ‫م َ‬ ‫َر َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫فرٍ فَعِد ّةٌ ِ‬ ‫س َ‬‫ضا أوْ عََلى َ‬ ‫ري ً‬‫م ِ‬ ‫ن َ‬‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫م ُ‬
‫ص ْ‬‫شهَْر فَل ْي َ ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫من ْك ُ ُ‬
‫شهِد َ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫فَ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ملوا العِد ّةَ وَل ِت ُكب ُّروا‬ ‫ْ‬
‫سَر وَل ِت ُك ِ‬ ‫ْ‬
‫م العُ ْ‬ ‫ُ‬
‫ريد ُ ب ِك ُ‬ ‫َ‬
‫سَر وَل ي ُ ِ‬ ‫ْ‬
‫م الي ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫ه ب ِك ُ‬ ‫ّ‬
‫ريد ُ الل ُ‬ ‫خَر ي ُ ِ‬‫أ َّيام ٍ أ َ‬
‫ُ‬
‫ن )‪(185‬‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫م تَ ْ‬‫م وَل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫داك ُ ْ‬ ‫ما هَ َ‬ ‫ه عََلى َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ب عََلى‬ ‫َ‬
‫ما ك ُت ِ َ‬ ‫م كَ َ‬ ‫صَيا ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ب عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫مُنوا ك ُت ِ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 185 - 183‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ضا أوْ‬ ‫ري ً‬ ‫م ِ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت فَ َ‬ ‫دا ٍ‬ ‫دو َ‬ ‫معْ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن * أّيا ً‬ ‫قو َ‬ ‫م ت َت ّ ُ‬ ‫م ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫كي ٍ‬ ‫س ِ‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ة ط ََعا ُ‬ ‫ه فِد ْي َ ٌ‬ ‫قون َ ُ‬ ‫طي ُ‬‫ن يُ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫خَر وَعََلى ال ّ ِ‬ ‫ن أّيام ٍ أ َ‬ ‫م ْ‬ ‫فرٍ فَعِد ّةٌ ِ‬ ‫س َ‬ ‫عََلى َ‬
‫َ‬
‫شهُْر‬ ‫ن* َ‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬ ‫موا َ‬ ‫صو ُ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫ه وَأ ْ‬ ‫خي ٌْر ل َ ُ‬ ‫خي ًْرا فَهُوَ َ‬ ‫ن ت َط َوّعَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫فَ َ‬
‫دى َوال ْ ُ‬ ‫ُ‬
‫ن‬‫فْرَقا ِ‬ ‫ن ال ْهُ َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫س وَب َي َّنا ٍ‬ ‫دى ِللّنا ِ‬ ‫ن هُ ً‬ ‫قْرآ ُ‬ ‫ل ِفيهِ ال ْ ُ‬ ‫ذي أن ْزِ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫ضا َ‬ ‫م َ‬ ‫َر َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫فرٍ فَعِد ّةٌ ِ‬ ‫س َ‬ ‫ضا أوْ عَلى َ‬ ‫ري ً‬ ‫م ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ن كا َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫م ُ‬ ‫ص ْ‬ ‫شهَْر فَلي َ ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫من ْك ُ‬ ‫شهِد َ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫فَ َ‬
‫َ‬
‫ملوا العِد ّةَ وَل ِت ُكب ُّروا‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫سَر وَل ِت ُك ِ‬ ‫م العُ ْ‬‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ريد ُ ب ِك ُ‬ ‫سَر َول ي ُ ِ‬ ‫م الي ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ه ب ِك ُ‬ ‫ّ‬
‫ريد ُ الل ُ‬ ‫خَر ي ُ ِ‬ ‫أ َّيام ٍ أ َ‬
‫ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫م وَل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫داك ُ ْ‬ ‫ما هَ َ‬ ‫ه عََلى َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ن به على عباده‪ ،‬بأنه فرض عليهم الصيام‪ ،‬كما فرضه‬ ‫يخبر تعالى بما م ّ‬
‫على المم السابقة‪ ،‬لنه من الشرائع والوامر التي هي مصلحة للخلق في‬
‫كل زمان‪.‬‬
‫وفيه تنشيط لهذه المة‪ ،‬بأنه ينبغي لكم أن تنافسوا غيركم في تكميل‬
‫العمال‪ ،‬والمسارعة إلى صالح الخصال‪ ،‬وأنه ليس من المور الثقيلة‪،‬‬
‫التي اختصيتم بها‪.‬‬
‫ن { فإن‬ ‫قو َ‬ ‫م ت َت ّ ُ‬ ‫ثم ذكر تعالى حكمته في مشروعية الصيام فقال‪ } :‬ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫الصيام من أكبر أسباب التقوى‪ ،‬لن فيه امتثال أمر الله واجتناب نهيه‪.‬‬
‫فمما اشتمل عليه من التقوى‪ :‬أن الصائم يترك ما حرم الله عليه من‬
‫الكل والشرب والجماع ونحوها‪ ،‬التي تميل إليها نفسه‪ ،‬متقربا بذلك إلى‬
‫الله‪ ،‬راجيا بتركها‪ ،‬ثوابه‪ ،‬فهذا من التقوى‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الصائم يدرب نفسه على مراقبة الله تعالى‪ ،‬فيترك ما تهوى‬
‫نفسه‪ ،‬مع قدرته عليه‪ ،‬لعلمه باطلع الله عليه‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الصيام يضيق‬
‫مجاري الشيطان‪ ،‬فإنه يجري من ابن آدم مجرى الدم‪ ،‬فبالصيام‪ ،‬يضعف‬
‫نفوذه‪ ،‬وتقل منه المعاصي‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الصائم في الغالب‪ ،‬تكثر طاعته‪،‬‬
‫والطاعات من خصال التقوى‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الغني إذا ذاق ألم الجوع‪ ،‬أوجب‬
‫له ذلك‪ ،‬مواساة الفقراء المعدمين‪ ،‬وهذا من خصال التقوى‪.‬‬
‫ولما ذكر أنه فرض عليهم الصيام‪ ،‬أخبر أنه أيام معدودات‪ ،‬أي‪ :‬قليلة في‬
‫غاية السهولة‪.‬‬
‫َ‬
‫فرٍ فَعِد ّةٌ‬ ‫س َ‬ ‫ضا أوْ عََلى َ‬ ‫ري ً‬ ‫م ِ‬‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ثم سهل تسهيل آخر‪ .‬فقال‪ } :‬فَ َ‬
‫خَر { وذلك للمشقة‪ ،‬في الغالب‪ ،‬رخص الله لهما‪ ،‬في الفطر‪.‬‬ ‫ن أ َّيام ٍ أ ُ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ولما كان ل بد من حصول مصلحة الصيام لكل مؤمن‪ ،‬أمرهما أن يقضياه‬
‫في أيام أخر إذا زال المرض‪ ،‬وانقضى السفر‪ ،‬وحصلت الراحة‪.‬‬
‫ن أ َّيام ٍ { فيه دليل على أنه يقضي عدد أيام رمضان‪،‬‬ ‫م ْ‬ ‫وفي قوله‪ } :‬فَعِد ّةٌ ِ‬
‫كامل كان‪ ،‬أو ناقصا‪ ،‬وعلى أنه يجوز أن يقضي أياما قصيرة باردة‪ ،‬عن أيام‬
‫طويلة حارة كالعكس‪.‬‬
‫ة { عن كل‬ ‫ه { أي‪ :‬يطيقون الصيام } فِد ْي َ ٌ‬ ‫قون َ ُ‬ ‫طي ُ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫وقوله‪ } :‬وَعََلى ال ّ ِ‬
‫ن { وهذا في ابتداء فرض الصيام‪ ،‬لما كانوا‬ ‫كي ٍ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫يوم يفطرونه } ط ََعا ُ‬
‫غير معتادين للصيام‪ ،‬وكان فرضه حتما‪ ،‬فيه مشقة عليهم‪ ،‬درجهم الرب‬
‫الحكيم‪ ،‬بأسهل طريق‪ ،‬وخّير المطيق للصوم بين أن يصوم‪ ،‬وهو أفضل‪ ،‬أو‬
‫َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬
‫موا َ‬ ‫صو ُ‬
‫ن تَ ُ‬ ‫يطعم‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَأ ْ‬
‫ثم بعد ذلك‪ ،‬جعل الصيام حتما على المطيق وغير المطيق‪ ،‬يفطر ويقضيه‬
‫ه { أي‪ :‬يتكلفونه‪ ،‬ويشق عليهم‬ ‫قون َ ُ‬ ‫طي ُ‬‫ن يُ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫في أيام أخر ]وقيل‪ } :‬وَعََلى ال ّ ِ‬
‫مشقة غير محتملة‪ ،‬كالشيخ الكبير‪ ،‬فدية عن كل يوم مسكين )‪ (1‬وهذا هو‬
‫الصحيح[ )‪. (2‬‬
‫ن { أي‪ :‬الصوم المفروض عليكم‪ ،‬هو‬ ‫ْ‬ ‫ذي أنز َ‬‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫} َ‬
‫قْرآ ُ‬ ‫ل ِفيهِ ال ُ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫ضا َ‬ ‫م َ‬ ‫شهُْر َر َ‬
‫شهر رمضان‪ ،‬الشهر العظيم‪ ،‬الذي قد حصل لكم فيه من الله الفضل‬
‫العظيم‪ ،‬وهو القرآن الكريم‪ ،‬المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية‬
‫والدنيوية‪ ،‬وتبيين الحق بأوضح بيان‪ ،‬والفرقان بين الحق والباطل‪ ،‬والهدى‬
‫والضلل‪ ،‬وأهل السعادة وأهل الشقاوة‪.‬‬
‫فحقيق بشهر‪ ،‬هذا فضله‪ ،‬وهذا إحسان الله عليكم فيه‪ ،‬أن يكون موسما‬
‫للعباد مفروضا فيه الصيام‪.‬‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫َ‬
‫فلما قرره‪ ،‬وبين فضيلته‪ ،‬وحكمة الله تعالى في تخصيصه قال‪ } :‬ف َ‬
‫ه { هذا فيه تعيين الصيام على القادر الصحيح‬ ‫م ُ‬‫ص ْ‬‫شهَْر فَل ْي َ ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫من ْك ُ ُ‬ ‫شهِد َ ِ‬ ‫َ‬
‫الحاضر‪.‬‬
‫ولما كان النسخ للتخيير‪ ،‬بين الصيام والفداء خاصة‪ ،‬أعاد الرخصة للمريض‬
‫ه ب ِك ُ ُ‬
‫م‬ ‫ريد ُ الل ّ ُ‬
‫والمسافر‪ ،‬لئل يتوهم أن الرخصة أيضا منسوخة ]فقال[ } ي ُ ِ‬
‫سَر { أي‪ :‬يريد الله تعالى أن ييسر عليكم الطرق‬ ‫م ال ْعُ ْ‬ ‫ريد ُ ب ِك ُ ُ‬‫سَر َول ي ُ ِ‬ ‫ال ْي ُ ْ‬
‫الموصلة إلى رضوانه أعظم تيسير‪ ،‬ويسهلها أشد )‪ (3‬تسهيل‪ ،‬ولهذا كان‬
‫جميع ما أمر الله به عباده في غاية ] ص ‪ [ 87‬السهولة في أصله‪.‬‬
‫وإذا حصلت بعض العوارض الموجبة لثقله‪ ،‬سّهله تسهيل آخر‪ ،‬إما‬
‫بإسقاطه‪ ،‬أو تخفيفه بأنواع التخفيفات‪.‬‬
‫وهذه جملة ل يمكن تفصيلها‪ ،‬لن تفاصيلها‪ ،‬جميع الشرعيات‪ ،‬ويدخل فيها‬
‫جميع الرخص والتخفيفات‪.‬‬
‫مُلوا ال ْعِد ّةَ { وهذا ‪ -‬والله أعلم ‪ -‬لئل يتوهم متوهم‪ ،‬أن صيام‬ ‫} وَل ِت ُك ْ ِ‬
‫رمضان‪ ،‬يحصل المقصود منه ببعضه‪ ،‬دفع هذا الوهم بالمر بتكميل عدته‪،‬‬
‫ويشكر الله ]تعالى[ عند إتمامه على توفيقه وتسهيله وتبيينه لعباده‪،‬‬
‫وبالتكبير عند انقضائه‪ ،‬ويدخل في ذلك التكبير عند رؤية هلل شوال إلى‬
‫فراغ خطبة العيد‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬ظاهر أن المراد عن كل يوم طعام مسكين‪.‬‬
‫)‪ (2‬زيادة من هامش ب‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬أبلغ تسهيل‪.‬‬

‫) ‪(1/86‬‬

‫جيُبوا‬ ‫ن فَل ْي َ ْ‬
‫ست َ ِ‬ ‫عا ِ‬ ‫داِع إ ِ َ‬
‫ذا د َ َ‬ ‫ب د َعْوَةَ ال ّ‬
‫جي ُ‬
‫ُ‬
‫بأ ِ‬ ‫عَباِدي عَّني فَإ ِّني قَ ِ‬
‫ري ٌ‬ ‫سأ َل َ َ‬
‫ك ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫وَإ ِ َ‬
‫ن )‪(186‬‬ ‫دو َ‬‫ش ُ‬ ‫مُنوا ِبي ل َعَل ّهُ ْ‬
‫م ي َْر ُ‬ ‫ِلي وَل ْي ُؤْ ِ‬

‫داِع إ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫ب د َعْوَةَ ال ّ‬
‫جي ُ‬
‫ُ‬
‫بأ ِ‬ ‫ري ٌ‬‫عَباِدي عَّني فَإ ِّني قَ ِ‬‫ك ِ‬ ‫سأ َل َ َ‬ ‫} ‪ } { 186‬وَإ ِ َ‬
‫ذا َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دو َ‬ ‫م ي َْر ُ‬
‫ش ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫مُنوا ِبي لعَلهُ ْ‬ ‫ْ‬
‫جيُبوا ِلي وَلي ُؤْ ِ‬ ‫ن فَل ْي َ ْ‬
‫ست َ ِ‬ ‫عا ِ‬
‫دَ َ‬
‫هذا جواب سؤال‪ ،‬سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه فقالوا‪:‬‬
‫سأ َل َ َ‬
‫ك‬ ‫ذا َ‬‫يا رسول الله‪ ،‬أقريب ربنا فنناجيه‪ ،‬أم بعيد فنناديه؟ فنزل‪ } :‬وَإ ِ َ‬
‫ب { لنه تعالى‪ ،‬الرقيب الشهيد‪ ،‬المطلع على السر‬ ‫ري ٌ‬ ‫عَباِدي عَّني فَإ ِّني قَ ِ‬ ‫ِ‬
‫وأخفى‪ ،‬يعلم خائنة العين وما تخفي الصدور‪ ،‬فهو قريب أيضا من داعيه‪،‬‬
‫ن { والدعاء نوعان‪ :‬دعاء‬ ‫داِع إ ِ َ‬ ‫ُ‬
‫عا ِ‬‫ذا د َ َ‬ ‫ب د َعْوَةَ ال ّ‬ ‫جي ُ‬ ‫بالجابة‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬أ ِ‬
‫عبادة‪ ،‬ودعاء مسألة‪.‬‬
‫والقرب نوعان‪ :‬قرب بعلمه من كل خلقه‪ ،‬وقرب من عابديه وداعيه‬
‫بالجابة والمعونة والتوفيق‪.‬‬
‫فمن دعا ربه بقلب حاضر‪ ،‬ودعاء مشروع‪ ،‬ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء‪،‬‬
‫كأكل الحرام ونحوه‪ ،‬فإن الله قد وعده بالجابة‪ ،‬وخصوصا إذا أتى بأسباب‬
‫إجابة الدعاء‪ ،‬وهي الستجابة لله تعالى بالنقياد لوامره ونواهيه القولية‬
‫جيُبوا ِلي‬ ‫ست َ ِ‬‫والفعلية‪ ،‬واليمان به‪ ،‬الموجب للستجابة‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬فَل ْي َ ْ‬
‫ن { أي‪ :‬يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية‬ ‫دو َ‬ ‫ش ُ‬ ‫م ي َْر ُ‬‫مُنوا ِبي ل َعَل ّهُ ْ‬
‫وَل ْي ُؤْ ِ‬
‫لليمان والعمال الصالحة‪ ،‬ويزول عنهم الغي المنافي لليمان والعمال‬
‫الصالحة‪ .‬ولن اليمان بالله والستجابة لمره‪ ،‬سبب لحصول العلم كما‬
‫َ‬
‫م فُْرَقاًنا { ‪.‬‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬
‫جع َ ْ‬‫ه يَ ْ‬‫قوا الل ّ َ‬ ‫ن ت َت ّ ُ‬
‫مُنوا إ ِ ْ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫قال تعالى‪َ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬

‫) ‪(1/87‬‬

‫َ‬ ‫أُ ِ‬
‫س ل َهُ ّ‬
‫ن‬ ‫م ل َِبا ٌ‬ ‫م وَأن ْت ُ ْ‬ ‫س ل َك ُ ْ‬ ‫ن ل َِبا ٌ‬ ‫م هُ ّ‬ ‫سائ ِك ُ ْ‬ ‫ث إ َِلى ن ِ َ‬ ‫صَيام ِ الّرفَ ُ‬ ‫ة ال ّ‬ ‫م ل َي ْل َ َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ح ّ‬
‫م َفاْل َ َ‬
‫ن‬ ‫فا عَن ْك ُ ْ‬ ‫م وَعَ َ‬ ‫ب عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م فََتا َ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬ ‫خَتاُنو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫م ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ه أن ّك ُ ْ‬
‫عَل ِم الل ّ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫خي ْ ُ‬
‫ط‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ن ل َك ُُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ب‬‫َ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫تى‬ ‫ّ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫بوا‬ ‫ُ‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫ش‬‫ْ‬ ‫وا‬‫َ‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫و‬
‫ْ َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ما‬
‫َ‬ ‫غوا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ب‬ ‫وا‬
‫ّ َ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫رو‬
‫ش ُ‬ ‫َبا ِ‬
‫ل وَلَ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م إ ِلى اللي ْ ِ‬ ‫صَيا َ‬‫موا ال ّ‬ ‫م أت ِ ّ‬ ‫جرِ ث ُ ّ‬ ‫ف ْ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫سوَدِ ِ‬ ‫ط ال ْ‬ ‫خي ْ ِ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ض ِ‬ ‫اْلب ْي َ ُ‬
‫دود ُ الل ّهِ فََل ت َ ْ‬ ‫جدِ ت ِل ْ َ‬ ‫َ‬
‫ها ك َذ َل ِ َ‬
‫ك‬ ‫قَرُبو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِفي ال ْ َ‬ ‫فو َ‬ ‫عاك ِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن وَأن ْت ُ ْ‬ ‫شُروهُ ّ‬ ‫ت َُبا ِ‬
‫ن )‪(187‬‬ ‫قو َ‬ ‫م ي َت ّ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫س لعَلهُ ْ‬ ‫ه آَيات ِهِ ِللّنا ِ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫ي ُب َي ّ ُ‬
‫ن‬
‫م هُ ّ‬ ‫سائ ِك ُ ْ‬ ‫ث إ َِلى ن ِ َ‬ ‫صَيام ِ الّرفَ ُ‬ ‫ة ال ّ‬ ‫م ل َي ْل َ َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫} ‪.{ 187‬ثم قال تعالى‪ } :‬أ ُ ِ‬
‫ب‬ ‫م فََتا َ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬ ‫خَتاُنو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫م ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ل ِباس ل َك ُم وأ َنتم ل ِباس ل َهن عَل ِم الل ّ َ‬
‫ه أن ّك ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ُْ ْ َ ٌ ُ ّ‬ ‫َ ٌ‬
‫شَرُبوا‬‫م وَكلوا َوا ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ه لك ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ب الل ُ‬ ‫َ‬
‫ما كت َ َ‬ ‫ن َواب ْت َُغوا َ‬ ‫شُروهُ ّ‬ ‫ن َبا ِ‬ ‫م َفال َ‬ ‫ُ‬
‫فا عَن ْك ْ‬ ‫م وَعَ َ‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫فجر ث ُ َ‬
‫موا‬ ‫م أت ِ ّ‬ ‫ن ال ْ َ ْ ِ ّ‬ ‫م َ‬‫سوَدِ ِ‬ ‫ط ال ْ‬ ‫خي ْ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬‫ض ِ‬ ‫ط الب ْي َ ُ‬ ‫خي ْ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ن ل َك ُ ُ‬ ‫حّتى ي َت َب َي ّ َ‬ ‫َ‬
‫دود ُ اللهِّ‬ ‫ْ‬
‫جدِ ت ِل َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ح ُ‬‫ك ُ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِفي ال َ‬ ‫فو َ‬ ‫عاك ِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن وَأن ْت ُ ْ‬ ‫شُروهُ ّ‬ ‫ل َول ت َُبا ِ‬ ‫م إ ِلى اللي ْ ِ‬ ‫صَيا َ‬ ‫ال ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قو َ‬ ‫م ي َت ّ ُ‬ ‫ّ‬
‫س لعَلهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ها ك َذ َل ِ َ‬ ‫َفل ت َ ْ‬
‫ه آَيات ِهِ ِللّنا ِ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫ك ي ُب َي ّ ُ‬ ‫قَرُبو َ‬
‫كان في أول فرض الصيام‪ ،‬يحرم على المسلمين في الليل بعد النوم‬
‫الكل والشرب والجماع‪ ،‬فحصلت المشقة لبعضهم‪ ،‬فخفف الله تعالى‬
‫عنهم ذلك‪ ،‬وأباح في ليالي الصيام كلها الكل والشرب والجماع‪ ،‬سواء نام‬
‫أو لم ينم‪ ،‬لكونهم يختانون أنفسهم بترك بعض ما أمروا به‪.‬‬
‫} فتاب { الله } عليكم { بأن وسع لكم أمرا كان ‪ -‬لول توسعته ‪ -‬موجبا‬
‫للثم } وعفا عنكم { ما سلف من التخون‪.‬‬
‫} فالن { بعد هذه الرخصة والسعة من الله } باشروهن { وطأ وقبلة‬
‫ولمسا وغير ذلك‪.‬‬
‫} وابتغوا ما كتب الله لكم { أي‪ :‬انووا في مباشرتكم لزوجاتكم التقرب‬
‫إلى الله تعالى والمقصود العظم من الوطء‪ ،‬وهو حصول الذرية وإعفاف‬
‫فرجه وفرج زوجته‪ ،‬وحصول مقاصد النكاح‪.‬‬
‫ومما كتب الله لكم ليلة القدر‪ ،‬الموافقة لليالي صيام رمضان‪ ،‬فل ينبغي‬
‫لكم أن تشتغلوا بهذه اللذة عنها وتضيعوها‪ ،‬فاللذة مدركة‪ ،‬وليلة القدر إذا‬
‫فاتت لم تدرك‪.‬‬
‫} وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط البيض من الخيط السود من‬
‫الفجر { هذا غاية للكل والشرب والجماع‪ ،‬وفيه أنه إذا أكل ونحوه شاكا‬
‫في طلوع الفجر فل بأس عليه‪.‬‬
‫وفيه‪ :‬دليل على استحباب السحور للمر‪ ،‬وأنه يستحب تأخيره أخذا من‬
‫معنى رخصة الله وتسهيله على العباد‪.‬‬
‫وفيه أيضا دليل على أنه يجوز أن يدركه الفجر وهو جنب من الجماع قبل‬
‫أن يغتسل‪ ،‬ويصح صيامه‪ ،‬لن لزم إباحة الجماع إلى طلوع الفجر‪ ،‬أن‬
‫يدركه الفجر وهو جنب‪ ،‬ولزم الحق حق‪.‬‬
‫} ثم { إذا طلع الفجر } أتموا الصيام { أي‪ :‬المساك عن المفطرات‬
‫} إلى الليل { وهو غروب الشمس ولما كان إباحة الوطء في ليالي‬
‫الصيام ليست إباحته )‪ (1‬عامة لكل أحد‪ ،‬فإن المعتكف ل يحل له ذلك‪،‬‬
‫استثناه بقوله‪ } :‬ول تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد { أي‪ :‬وأنتم‬
‫متصفون بذلك‪ ،‬ودلت الية على مشروعية العتكاف‪ ،‬وهو لزوم المسجد‬
‫لطاعة الله ]تعالى[‪ ،‬وانقطاعا إليه‪ ،‬وأن العتكاف ل يصح إل في المسجد‪.‬‬
‫ويستفاد من تعريف المساجد‪ ،‬أنها المساجد المعروفة عندهم‪ ،‬وهي التي‬
‫تقام فيها الصلوات الخمس‪.‬‬
‫وفيه أن الوطء من مفسدات العتكاف‪.‬‬
‫} تلك { المذكورات ‪ -‬وهو تحريم الكل والشرب والجماع ونحوه من‬
‫المفطرات في الصيام‪ ،‬وتحريم الفطر على غير المعذور‪ ،‬وتحريم الوطء‬
‫على المعتكف‪ ،‬ونحو ذلك من المحرمات } حدود الله { التي حدها لعباده‪،‬‬
‫ونهاهم عنها‪ ،‬فقال‪ } :‬فل تقربوها { أبلغ من قوله‪" :‬فل تفعلوها "لن‬
‫القربان‪ ،‬يشمل النهي عن فعل المحرم بنفسه‪ ،‬والنهي عن وسائله‬
‫الموصلة ] ص ‪ [ 88‬إليه‪.‬‬
‫والعبد مأمور بترك المحرمات‪ ،‬والبعد منها غاية ما يمكنه‪ ،‬وترك كل سبب‬
‫يدعو إليها‪ ،‬وأما الوامر فيقول الله فيها‪ } :‬تلك حدود الله فل تعتدوها {‬
‫فينهى عن مجاوزتها‪.‬‬
‫} كذلك { أي‪ :‬بّين ]الله[ لعباده الحكام السابقة أتم تبيين‪ ،‬وأوضحها لهم‬
‫أكمل إيضاح‪.‬‬
‫} يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون { فإنهم إذا بان لهم الحق اتبعوه‪،‬‬
‫وإذا تبين لهم الباطل اجتنبوه‪ ،‬فإن النسان قد يفعل المحرم على وجه‬
‫الجهل بأنه محرم‪ ،‬ولو علم تحريمه لم يفعله‪ ،‬فإذا بين الله للناس آياته‪ ،‬لم‬
‫يبق لهم عذر ول حجة‪ ،‬فكان ذلك سببا للتقوى‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬إباحة‪.‬‬

‫) ‪(1/87‬‬

‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬


‫ن‬
‫م ْ‬
‫قا ِ‬ ‫كام ِ ل ِت َأك ُُلوا فَ ِ‬
‫ري ً‬ ‫ل وَت ُد ُْلوا ب َِها إ َِلى ال ْ ُ‬
‫ح ّ‬ ‫م ِبال َْباط ِ ِ‬
‫َ‬
‫وال َك ُ ْ‬
‫م ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫وََل ت َأك ُُلوا أ ْ‬
‫م َ‬
‫َ‬
‫ن )‪(188‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬
‫س ِباْل ِث ْم ِ وَأن ْت ُ ْ‬‫ل الّنا ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬
‫أ ْ‬
‫كام ِ ل ِت َأ ْك ُُلوا‬ ‫ل وَت ُد ُْلوا ب َِها إ َِلى ال ْ ُ‬
‫ح ّ‬ ‫م ِبال َْباط ِ ِ‬ ‫وال َك ُ ْ‬
‫م ب َي ْن َك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫} ‪َ } { 188‬ول ت َأك ُُلوا أ ْ‬
‫م َ‬
‫َ‬ ‫قا م َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬‫م ت َعْل َ ُ‬ ‫س ِبالث ْم ِ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ل الّنا ِ‬ ‫وا ِ‬
‫م َ‬
‫نأ ْ‬ ‫فَ ِ‬
‫ري ً ِ ْ‬
‫أي‪ :‬ول تأخذوا أموالكم أي‪ :‬أموال غيركم‪ ،‬أضافها إليهم‪ ،‬لنه ينبغي‬
‫للمسلم أن يحب لخيه ما يحب لنفسه‪ ،‬ويحترم ماله كما يحترم ماله؛ ولن‬
‫أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة‪.‬‬
‫ولما كان أكلها نوعين‪ :‬نوعا بحق‪ ،‬ونوعا بباطل‪ ،‬وكان المحرم إنما هو‬
‫أكلها بالباطل‪ ،‬قيده تعالى بذلك‪ ،‬ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب‬
‫والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية‪ ،‬أو نحو ذلك‪ ،‬ويدخل فيه أيضا‪،‬‬
‫أخذها على وجه المعاوضة‪ ،‬بمعاوضة محرمة‪ ،‬كعقود الربا‪ ،‬والقمار كلها‪،‬‬
‫فإنها من أكل المال بالباطل‪ ،‬لنه ليس في مقابلة عوض مباح‪ ،‬ويدخل في‬
‫ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والجارة‪ ،‬ونحوها‪ ،‬ويدخل في‬
‫ذلك استعمال الجراء وأكل أجرتهم‪ ،‬وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم‬
‫يقوموا بواجبه‪ ،‬ويدخل في ذلك أخذ الجرة على العبادات والقربات التي ل‬
‫تصح حتى يقصد بها وجه الله تعالى‪ ،‬ويدخل في ذلك الخذ من الزكوات‬
‫والصدقات‪ ،‬والوقاف‪ ،‬والوصايا‪ ،‬لمن ليس له حق منها‪ ،‬أو فوق حقه‪.‬‬
‫فكل هذا ونحوه‪ ،‬من أكل المال بالباطل‪ ،‬فل يحل ذلك بوجه من الوجوه‪،‬‬
‫حتى ولو حصل فيه النزاع وحصل الرتفاع إلى حاكم الشرع‪ ،‬وأدلى من‬
‫يريد أكلها بالباطل بحجة‪ ،‬غلبت حجة المحق‪ ،‬وحكم له الحاكم بذلك‪ ،‬فإن‬
‫حكم الحاكم‪ ،‬ل يبيح محرما‪ ،‬ول يحلل حراما‪ ،‬إنما يحكم على نحو مما‬
‫يسمع‪ ،‬وإل فحقائق المور باقية‪ ،‬فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة‪،‬‬
‫ول شبهة‪ ،‬ول استراحة‪.‬‬
‫فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة‪ ،‬وحكم له بذلك‪ ،‬فإنه ل يحل له‪ ،‬ويكون‬
‫آكل لمال غيره‪ ،‬بالباطل والثم‪ ،‬وهو عالم بذلك‪ .‬فيكون أبلغ في عقوبته‪،‬‬
‫وأشد في نكاله‪.‬‬
‫وعلى هذا فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه‪ ،‬لم يحل له أن‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫صي ً‬
‫خ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫خائ ِِني َ‬‫ن ل ِل ْ َ‬
‫يخاصم عن الخائن كما قال تعالى‪َ } :‬ول ت َك ُ ْ‬
‫) ‪(1/88‬‬

‫ن ت َأ ُْتوا‬ ‫َ‬
‫س ال ْب ِّر ب ِأ ْ‬
‫ج وَل َي ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫س َوال ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ت ِللّنا‬ ‫واِقي ُ‬
‫م َ‬
‫ي َ‬ ‫ل هِ َ‬ ‫ن اْل َهِل ّةِ قُ ْ‬‫ِ‬ ‫ك عَ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬‫يَ ْ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫قوا الل َ‬ ‫واب َِها َوات ّ ُ‬‫ن أب ْ َ‬ ‫م ْ‬
‫ت ِ‬ ‫قى وَأُتوا الب ُُيو َ‬ ‫ن ات ّ َ‬
‫م ِ‬‫ن الب ِّر َ‬ ‫ها وَلك ِ ّ‬‫ن ظُهورِ َ‬ ‫م ْ‬‫ت ِ‬ ‫ال ْب ُُيو َ‬
‫ن )‪(189‬‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬‫م تُ ْ‬‫ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫س ال ْب ِّر‬‫ج وَل َي ْ َ‬ ‫ح ّ‬‫س َوال ْ َ‬‫ِ‬ ‫ت ِللّنا‬‫واِقي ُ‬ ‫م َ‬‫ي َ‬ ‫ل هِ َ‬ ‫ن الهِل ّةِ قُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ك عَ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬
‫} ‪ } { 189‬ي َ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫واب َِها‬‫ن أب ْ َ‬‫م ْ‬
‫ت ِ‬ ‫قى وَأُتوا ال ْب ُُيو َ‬ ‫ن ات ّ َ‬‫م ِ‬ ‫ن ال ْب ِّر َ‬‫ها وَل َك ِ ّ‬ ‫ن ظ ُُهورِ َ‬ ‫م ْ‬‫ت ِ‬ ‫ن ت َأُتوا ال ْب ُُيو َ‬‫ب ِأ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫ه ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م تُ ْ‬ ‫قوا الل ّ َ‬‫َوات ّ ُ‬
‫ن الهِلةِ { جمع ‪ -‬هلل ‪ -‬ما فائدتها‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫سألون َك عَ ِ‬ ‫يقول )‪ (1‬تعالى‪ } :‬ي َ ْ‬
‫س { أي‪ :‬جعلها الله تعالى‬ ‫ت ِللّنا ِ‬ ‫واِقي ُ‬ ‫م َ‬‫ي َ‬‫ل هِ َ‬ ‫ُ‬
‫وحكمتها؟ أو عن ذاتها‪ } ،‬ق ْ‬
‫بلطفه ورحمته على هذا التدبير يبدو الهلل ضعيفا في أول الشهر‪ ،‬ثم‬
‫يتزايد إلى نصفه‪ ،‬ثم يشرع في النقص إلى كماله‪ ،‬وهكذا‪ ،‬ليعرف الناس‬
‫بذلك‪ ،‬مواقيت عباداتهم من الصيام‪ ،‬وأوقات الزكاة‪ ،‬والكفارات‪ ،‬وأوقات‬
‫الحج‪.‬‬
‫ولما كان الحج يقع في أشهر معلومات‪ ،‬ويستغرق أوقاتا كثيرة قال‪:‬‬
‫ج { وكذلك تعرف بذلك‪ ،‬أوقات الديون المؤجلت‪ ،‬ومدة الجارات‪،‬‬ ‫} َوال ْ َ‬
‫ح ّ‬
‫ومدة العدد والحمل‪ ،‬وغير ذلك مما هو من حاجات الخلق‪ ،‬فجعله تعالى‪،‬‬
‫حسابا‪ ،‬يعرفه كل أحد‪ ،‬من صغير‪ ،‬وكبير‪ ،‬وعالم‪ ،‬وجاهل‪ ،‬فلو كان‬
‫الحساب بالسنة الشمسية‪ ،‬لم يعرفه إل النادر من الناس‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ها { وهذا كما كان النصار‬ ‫ن ظ ُُهورِ َ‬
‫م ْ‬ ‫ن ت َأُتوا ال ْب ُُيو َ‬
‫ت ِ‬ ‫س ال ْب ِّر ب ِأ ْ‬
‫} وَل َي ْ َ‬
‫وغيرهم من العرب‪ ،‬إذا أحرموا‪ ،‬لم يدخلوا البيوت من أبوابها‪ ،‬تعبدا بذلك‪،‬‬
‫وظنا أنه بر‪ .‬فأخبر الله أنه ليس ببر )‪ (2‬لن الله تعالى‪ ،‬لم يشرعه لهم‪،‬‬
‫وكل من تعبد بعبادة لم يشرعها الله ول رسوله‪ ،‬فهو متعبد ببدعة‪ ،‬وأمرهم‬
‫أن يأتوا البيوت من أبوابها لما فيه من السهولة عليهم‪ ،‬التي هي قاعدة‬
‫من قواعد الشرع‪.‬‬
‫ويستفاد من إشارة الية أنه ينبغي في كل أمر من المور‪ ،‬أن يأتيه‬
‫النسان من الطريق السهل القريب‪ ،‬الذي قد جعل له موصل فالمر‬
‫بالمعروف‪ ،‬والناهي عن المنكر‪ ،‬ينبغي أن ينظر في حالة المأمور‪،‬‬
‫ويستعمل معه الرفق والسياسة‪ ،‬التي بها يحصل المقصود أو بعضه‪،‬‬
‫والمتعلم والمعلم‪ ،‬ينبغي أن يسلك أقرب طريق وأسهله‪ ،‬يحصل به‬
‫مقصوده‪ ،‬وهكذا كل من حاول أمرا من المور وأتاه من أبوابه وثابر عليه‪،‬‬
‫] ص ‪ [ 89‬فل بد أن يحصل له المقصود بعون الملك المعبود‪.‬‬
‫ه { هذا هو البر الذي أمر الله به‪ ،‬وهو لزوم تقواه على الدوام‪،‬‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫} َوات ّ ُ‬
‫بامتثال أوامره‪ ،‬واجتناب نواهيه‪ ،‬فإنه سبب للفلح‪ ،‬الذي هو الفوز‬
‫بالمطلوب‪ ،‬والنجاة من المرهوب‪ ،‬فمن لم يتق الله تعالى‪ ،‬لم يكن له‬
‫سبيل إلى الفلح‪ ،‬ومن اتقاه‪ ،‬فاز بالفلح والنجاح‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬فقوله‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬ليس من البر‪.‬‬

‫) ‪(1/88‬‬

‫ن‬
‫دي َ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫معْت َ ِ‬ ‫ه َل ي ُ ِ‬
‫ح ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م وََل ت َعْت َ ُ‬
‫دوا إ ِ ّ‬ ‫قات ُِلون َك ُ ْ‬
‫ن يُ َ‬ ‫ل الل ّهِ ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫وََقات ُِلوا ِفي َ‬
‫سِبي ِ‬
‫)‪(190‬‬

‫ن‬
‫دوا إ ِ ّ‬ ‫قات ُِلون َك ُ ْ‬
‫م َول ت َعْت َ ُ‬ ‫ن يُ َ‬
‫ذي َ‬‫ل الل ّهِ ال ّ ِ‬ ‫} ‪ } { 193 - 190‬وََقات ُِلوا ِفي َ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دي َ‬
‫معْت َ ِ‬‫ب ال ْ ُ‬‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫الل ّ َ‬
‫هذه اليات‪ ،‬تتضمن المر بالقتال في سبيل الله‪ ،‬وهذا كان بعد الهجرة إلى‬
‫المدينة‪ ،‬لما قوي المسلمون للقتال‪ ،‬أمرهم الله به‪ ،‬بعد ما كانوا مأمورين‬
‫ل الل ّهِ { حث على الخلص‪،‬‬ ‫سِبي ِ‬ ‫بكف أيديهم‪ ،‬وفي تخصيص القتال } ِفي َ‬
‫ونهي عن القتتال في الفتن بين المسلمين‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬الذين هم مستعدون لقتالكم‪ ،‬وهم المكلفون‬ ‫قات ُِلون َك ُ ْ‬
‫ن يُ َ‬ ‫} ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫الرجال‪ ،‬غير الشيوخ الذين ل رأي لهم ول قتال‪.‬‬
‫والنهي عن العتداء‪ ،‬يشمل أنواع العتداء كلها‪ ،‬من قتل من ل يقاتل‪ ،‬من‬
‫النساء‪ ،‬والمجانين والطفال‪ ،‬والرهبان ونحوهم والتمثيل بالقتلى‪ ،‬وقتل‬
‫الحيوانات‪ ،‬وقطع الشجار ]ونحوها[‪ ،‬لغير مصلحة تعود للمسلمين‪.‬‬
‫ومن العتداء‪ ،‬مقاتلة من تقبل منهم الجزية إذا بذلوها‪ ،‬فإن ذلك ل يجوز‪.‬‬

‫) ‪(1/89‬‬

‫ن‬
‫م َ‬‫شد ّ ِ‬ ‫ة أَ َ‬ ‫فت ْن َ ُ‬ ‫م َوال ْ ِ‬ ‫جوك ُ ْ‬ ‫خَر ُ‬‫ث أَ ْ‬ ‫حي ْ ُ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫جوهُ ْ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫م وَأ َ ْ‬ ‫موهُ ْ‬ ‫فت ُ ُ‬
‫ق ْ‬ ‫ث ثَ ِ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫َواقْت ُُلوهُ ْ‬
‫ن َقات َُلوك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م ِفيهِ فَإ ِ ْ‬ ‫قات ُِلوك ُ ْ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫حَرام ِ َ‬ ‫جدِ ال ْ َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عن ْد َ ال ْ َ‬‫م ِ‬ ‫قات ُِلوهُ ْ‬ ‫ل وََل ت ُ َ‬‫قت ْ ِ‬‫ال ْ َ‬
‫م)‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫وا فَإ ِ ّ‬‫ن ان ْت َهَ ْ‬‫ن )‪ (191‬فَإ ِ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫جَزاُء ال ْ َ‬ ‫ك َ‬ ‫م ك َذ َل ِ َ‬ ‫َفاقْت ُُلوهُ ْ‬
‫وا فََل عُد َْوا َ‬
‫ن‬ ‫ن ان ْت َهَ ْ‬ ‫ن ل ِل ّهِ فَإ ِ ِ‬‫دي ُ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫كو َ‬ ‫ة وَي َ ُ‬ ‫ن فِت ْن َ ٌ‬ ‫كو َ‬ ‫حّتى َل ت َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫‪ (192‬وََقات ُِلوهُ ْ‬
‫ن )‪(193‬‬ ‫مي َ‬ ‫إ ِّل عََلى ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬

‫شد ّ‬ ‫ة أَ َ‬ ‫م َوال ْ ِ‬
‫فت ْن َ ُ‬ ‫جوك ُ ْ‬ ‫خَر ُ‬ ‫ث أَ ْ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫جوهُ ْ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫م وَأ َ ْ‬ ‫موهُ ْ‬ ‫فت ُ ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ث ثَ ِ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫} َواقْت ُُلوهُ ْ‬
‫م ِفيهِ فَإ ِ ْ‬
‫ن‬ ‫قات ُِلوك ُ ْ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫حَرام ِ َ‬ ‫جدِ ال ْ َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عن ْد َ ال ْ َ‬ ‫م ِ‬ ‫قات ُِلوهُ ْ‬ ‫ل َول ت ُ َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫قت ْ ِ‬ ‫م َ‬
‫ِ‬
‫م‬
‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫وا فَإ ِ ّ‬ ‫ن ان ْت َهَ ْ‬ ‫ن * فَإ ِ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫جَزاُء الكافِ ِ‬ ‫َ‬
‫م كذ َل ِك َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م َفاقْت ُلوهُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫َقات َلوك ْ‬
‫ن ِإل‬ ‫وا َفل عُد َْوا َ‬ ‫ن ان ْت َهَ ْ‬ ‫ّ‬
‫ن ل ِلهِ فَإ ِ ِ‬ ‫دي ُ‬‫ن ال ّ‬ ‫ُ‬
‫ة وَي َكو َ‬ ‫ن فِت ْن َ ٌ‬ ‫ُ‬
‫حّتى ل ت َكو َ‬ ‫م َ‬ ‫* وََقات ُِلوهُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫عََلى ال ّ‬
‫م { هذا أمر بقتالهم‪ ،‬أينما وجدوا في كل وقت‪،‬‬ ‫موهُ ْ‬ ‫فت ُ ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ث ثَ ِ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫} َواقْت ُُلوهُ ْ‬
‫وفي كل زمان قتال مدافعة‪ ،‬وقتال مهاجمة ثم استثنى من هذا العموم‬
‫حَرام ِ { وأنه ل يجوز إل أن يبدأوا بالقتال‪ ،‬فإنهم‬ ‫جدِ ال ْ َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عن ْد َ ال ْ َ‬ ‫قتالهم } ِ‬
‫يقاتلون جزاء لهم على اعتدائهم‪ ،‬وهذا مستمر في كل وقت‪ ،‬حتى ينتهوا‬
‫عن كفرهم فيسلموا‪ ،‬فإن الله يتوب عليهم‪ ،‬ولو حصل منهم ما حصل من‬
‫الكفر بالله والشرك في المسجد الحرام‪ ،‬وصد الرسول والمؤمنين عنه‬
‫وهذا من رحمته وكرمه بعباده‪.‬‬
‫ولما كان القتال عند المسجد الحرام‪ ،‬يتوهم أنه مفسدة في هذا البلد‬
‫الحرام‪ ،‬أخبر تعالى أن المفسدة بالفتنة عنده بالشرك‪ ،‬والصد عن دينه‪،‬‬
‫أشد من مفسدة القتل‪ ،‬فليس عليكم ‪ -‬أيها المسلمون ‪ -‬حرج في قتالهم‪.‬‬
‫ويستدل بهذه )‪ (1‬الية على القاعدة المشهورة‪ ،‬وهي‪ :‬أنه يرتكب أخف‬
‫المفسدتين‪ ،‬لدفع أعلهما‪.‬‬
‫ثم ذكر تعالى المقصود من القتال في سبيله‪ ،‬وأنه ليس المقصود به‪،‬‬
‫ن‬‫دي ُ‬
‫ن ال ّ‬ ‫كو َ‬ ‫سفك دماء الكفار‪ ،‬وأخذ أموالهم‪ ،‬ولكن المقصود به أن } ي َ ُ‬
‫ل ِل ّهِ { تعالى‪ ،‬فيظهر دين الله ]تعالى[‪ ،‬على سائر الديان‪ ،‬ويدفع كل ما‬
‫يعارضه‪ ،‬من الشرك وغيره‪ ،‬وهو المراد بالفتنة‪ ،‬فإذا حصل هذا المقصود‪،‬‬
‫وا { عن قتالكم عند المسجد الحرام } َفل‬ ‫ن ان ْت َهَ ْ‬ ‫فل قتل ول قتال‪ } ،‬فَإ ِ ِ‬
‫ن { أي‪ :‬فليس عليهم منكم اعتداء‪ ،‬إل من ظلم‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ن ِإل عََلى ال ّ‬ ‫عُد َْوا َ‬
‫منهم‪ ،‬فإنه يستحق المعاقبة‪ ،‬بقدر ظلمه‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ويستدل في هذه‪.‬‬

‫) ‪(1/89‬‬
‫دى عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن اعْت َ َ‬
‫م ِ‬ ‫ص فَ َ‬
‫صا ٌ‬ ‫ت قِ َ‬‫ما ُ‬ ‫حُر َ‬‫حَرام ِ َوال ْ ُ‬‫شهْرِ ال ْ َ‬
‫م ِبال ّ‬ ‫حَرا ُ‬ ‫شهُْر ال ْ َ‬ ‫ال ّ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫قي َ‬
‫مت ّ ِ‬
‫م ع َ ال ُ‬
‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬‫موا أ ّ‬ ‫ه َواعْل ُ‬ ‫قوا الل َ‬‫م َوات ّ ُ‬ ‫دى عَلي ْك ْ‬ ‫ما اعْت َ َ‬‫ل َ‬‫مث ْ ِ‬
‫دوا عَلي ْهِ ب ِ ِ‬ ‫َفاعْت َ ُ‬
‫)‪(194‬‬

‫دى‬ ‫ن اعْت َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ص فَ َ‬
‫صا ٌ‬ ‫ت قِ َ‬ ‫ما ُ‬ ‫حُر َ‬ ‫حَرام ِ َوال ْ ُ‬ ‫شهْرِ ال ْ َ‬ ‫م ِبال ّ‬ ‫حَرا ُ‬ ‫شهُْر ال ْ َ‬ ‫} ‪ } { 194‬ال ّ‬
‫َ‬
‫ع‬
‫م َ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ه َواعْل َ ُ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫م َوات ّ ُ‬‫دى عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ما اعْت َ َ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ ِ‬ ‫دوا عَل َي ْهِ ب ِ ِ‬ ‫م َفاعْت َ ُ‬‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قي َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬
‫حَرام ِ { يحتمل أن يكون المراد به‬ ‫شهْرِ ال ْ َ‬ ‫م ِبال ّ‬ ‫حَرا ُ‬ ‫شهُْر ال ْ َ‬ ‫يقول تعالى‪ } :‬ال ّ‬
‫ما وقع من صد المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام‬
‫الحديبية‪ ،‬عن الدخول لمكة‪ ،‬وقاضوهم على دخولها من قابل‪ ،‬وكان الصد‬
‫والقضاء في شهر حرام‪ ،‬وهو ذو القعدة‪ ،‬فيكون هذا بهذا‪ ،‬فيكون فيه‪،‬‬
‫تطييب لقلوب الصحابة‪ ،‬بتمام نسكهم‪ ،‬وكماله‪.‬‬
‫ويحتمل أن يكون المعنى‪ :‬إنكم إن قاتلتموهم في الشهر الحرام )‪ (1‬فقد‬
‫قاتلوكم فيه‪ ،‬وهم المعتدون‪ ،‬فليس عليكم في ذلك حرج‪ ،‬وعلى هذا‬
‫ص { من باب عطف العام على الخاص‪،‬‬ ‫صا ٌ‬ ‫ت قِ َ‬ ‫ما ُ‬ ‫حُر َ‬ ‫فيكون قوله‪َ } :‬وال ْ ُ‬
‫أي‪ :‬كل شيء يحترم من شهر حرام‪ ،‬أو بلد حرام‪ ،‬أو إحرام‪ ،‬أو ما هو أعم‬
‫من ذلك‪ ،‬جميع ما أمر الشرع باحترامه‪ ،‬فمن تجرأ عليها فإنه يقتص منه‪،‬‬
‫فمن قاتل في الشهر الحرام‪ ،‬قوتل‪ ،‬ومن هتك البلد الحرام‪ ،‬أخذ منه‬
‫الحد‪ ،‬ولم يكن له حرمة‪ ،‬ومن قتل مكافئا له قتل به‪ ،‬ومن جرحه أو قطع‬
‫عضوا‪ ،‬منه‪ ،‬اقتص منه‪ ،‬ومن أخذ مال غيره المحترم‪ ،‬أخذ منه بدله‪ ،‬ولكن‬
‫هل لصاحب الحق أن يأخذ من ماله بقدر حقه أم ل؟ خلف بين العلماء‪،‬‬
‫الراجح من ذلك‪ ،‬أنه إن كان سبب الحق ظاهرا كالضيف‪ ،‬إذا لم يقره‬
‫غيره‪ ،‬والزوجة‪ ،‬والقريب إذا امتنع من تجب عليه النفقة ]من النفاق عليه[‬
‫فإنه يجوز أخذه من ماله‪.‬‬
‫] ص ‪[ 90‬‬
‫وإن كان السبب خفيا‪ ،‬كمن جحد دين غيره‪ ،‬أو خانه في وديعة‪ ،‬أو سرق‬
‫منه ونحو ذلك‪ ،‬فإنه ل يجوز له أن يأخذ من ماله مقابلة له‪ ،‬جمعا بين‬
‫دى عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن اعْت َ َ‬ ‫الدلة‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ ،‬تأكيدا وتقوية لما تقدم‪ } :‬فَ َ‬
‫م ِ‬
‫م { هذا تفسير لصفة المقاصة‪ ،‬وأنها‬ ‫دى عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ما اعْت َ َ‬ ‫ل َ‬ ‫دوا عَل َي ْهِ ب ِ ِ‬
‫مث ْ ِ‬ ‫َفاعْت َ ُ‬
‫هي المماثلة في مقابلة المعتدي‪.‬‬
‫ولما كانت النفوس ‪ -‬في الغالب ‪ -‬ل تقف على حدها إذا رخص لها في‬
‫المعاقبة لطلبها التشفي‪ ،‬أمر تعالى بلزوم تقواه‪ ،‬التي هي الوقوف عند‬
‫ن { أي‪ :‬بالعون‪،‬‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬‫معَ ال ْ ُ‬ ‫حدوده‪ ،‬وعدم تجاوزها‪ ،‬وأخبر تعالى أنه } َ‬
‫والنصر‪ ،‬والتأييد‪ ،‬والتوفيق‪.‬‬
‫ومن كان الله معه‪ ،‬حصل له السعادة البدية‪ ،‬ومن لم يلزم التقوى تخلى‬
‫عنه وليه‪ ،‬وخذله‪ ،‬فوكله إلى نفسه فصار هلكه أقرب إليه من حبل الوريد‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬بالشهر الحرام‪.‬‬

‫) ‪(1/89‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫وَأ َن ْفِ ُ‬
‫ب‬
‫ح ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه يُ ِ‬ ‫سُنوا إ ِ ّ‬ ‫م إ َِلى الت ّهْل ُك َةِ وَأ ْ‬
‫ح ِ‬ ‫ديك ُ ْ‬ ‫ل الل ّهِ وََل ت ُل ْ ُ‬
‫قوا ب ِأي ْ ِ‬ ‫سِبي ِ‬
‫قوا ِفي َ‬
‫ن )‪(195‬‬ ‫سِني َ‬
‫ح ِ‬ ‫م ْ‬‫ال ْ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سُنوا‬‫ح ِ‬‫م إ َِلى الت ّهْل ُك َةِ وَأ ْ‬
‫ديك ُ ْ‬
‫قوا ب ِأي ْ ِ‬‫ل الل ّهِ َول ت ُل ْ ُ‬ ‫سِبي ِ‬
‫قوا ِفي َ‬ ‫ف ُ‬‫} ‪ } { 195‬وَأن ْ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه يُ ِ‬ ‫إِ ّ‬
‫يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله‪ ،‬وهو إخراج الموال في الطرق‬
‫الموصلة إلى الله‪ ،‬وهي كل طرق الخير‪ ،‬من صدقة على مسكين‪ ،‬أو‬
‫قريب‪ ،‬أو إنفاق على من تجب مؤنته‪.‬‬
‫وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك النفاق في الجهاد في سبيل الله‪ ،‬فإن‬
‫النفقة فيه جهاد بالمال‪ ،‬وهو فرض كالجهاد بالبدن‪ ،‬وفيها من المصالح‬
‫العظيمة‪ ،‬العانة على تقوية المسلمين‪ ،‬وعلى توهية الشرك وأهله‪ ،‬وعلى‬
‫إقامة دين الله وإعزازه‪ ،‬فالجهاد في سبيل الله ل يقوم إل على ساق‬
‫النفقة‪ ،‬فالنفقة له كالروح‪ ،‬ل يمكن وجوده بدونها‪ ،‬وفي ترك النفاق في‬
‫سبيل الله‪ ،‬إبطال للجهاد‪ ،‬وتسليط للعداء‪ ،‬وشدة تكالبهم‪ ،‬فيكون قوله‬
‫م إ َِلى الت ّهْل ُك َةِ { كالتعليل لذلك‪ ،‬واللقاء باليد إلى‬ ‫َ‬ ‫تعالى‪َ } :‬ول ت ُل ْ ُ‬
‫ديك ُ ْ‬‫قوا ب ِأي ْ ِ‬
‫التهلكة يرجع إلى أمرين‪ :‬ترك ما أمر به العبد‪ ،‬إذا كان تركه موجبا أو‬
‫مقاربا لهلك البدن أو الروح‪ ،‬وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو‬
‫الروح‪ ،‬فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة‪ ،‬فمن ذلك‪ ،‬ترك الجهاد في سبيل‬
‫الله‪ ،‬أو النفقة فيه‪ ،‬الموجب لتسلط العداء‪ ،‬ومن ذلك تغرير النسان‬
‫بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف‪ ،‬أو محل مسبعة أو حيات‪ ،‬أو يصعد‬
‫شجرا أو بنيانا خطرا‪ ،‬أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك‪ ،‬فهذا‬
‫ونحوه‪ ،‬ممن ألقى بيده إلى التهلكة‪.‬‬
‫ومن اللقاء باليد إلى التهلكة )‪ (1‬القامة على معاصي الله‪ ،‬واليأس من‬
‫التوبة‪ ،‬ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض‪ ،‬التي في تركها هلك للروح‬
‫والدين‪.‬‬
‫ولما كانت النفقة في سبيل الله نوعا من أنواع الحسان‪ ،‬أمر بالحسان‬
‫َ‬
‫ن { وهذا يشمل جميع‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬‫ب ال ْ ُ‬‫ح ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه يُ ِ‬ ‫سُنوا إ ِ ّ‬ ‫ح ِ‬ ‫عموما فقال‪ } :‬وَأ ْ‬
‫أنواع الحسان‪ ،‬لنه لم يقيده بشيء دون شيء‪ ،‬فيدخل فيه الحسان‬
‫بالمال كما تقدم‪.‬‬
‫ويدخل فيه الحسان بالجاه‪ ،‬بالشفاعات ونحو ذلك‪ ،‬ويدخل في ذلك‪،‬‬
‫الحسان بالمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر‪ ،‬وتعليم العلم النافع‪ ،‬ويدخل‬
‫في ذلك قضاء حوائج الناس‪ ،‬من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم‪ ،‬وعيادة‬
‫مرضاهم‪ ،‬وتشييع جنائزهم‪ ،‬وإرشاد ضالهم‪ ،‬وإعانة من يعمل عمل والعمل‬
‫لمن ل يحسن العمل ونحو ذلك‪ ،‬مما هو من الحسان الذي أمر الله به‪،‬‬
‫ويدخل في الحسان أيضا‪ ،‬الحسان في عبادة الله تعالى‪ ،‬وهو كما ذكر‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم‪" :‬أن تعبد الله كأنك تراه‪ ،‬فإن لم تكن تراه‪،‬‬
‫فإنه يراك "‬
‫سُنوا‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ح َ‬‫نأ ْ‬ ‫ذي َ‬
‫فمن اتصف بهذه الصفات‪ ،‬كان من الذين قال الله فيهم‪ } :‬ل ِل ِ‬
‫سَنى وَزَِياد َة ٌ { وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره‪.‬‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ح ْ‬
‫ولما فرغ تعالى من ]ذكر[ أحكام الصيام فالجهاد‪ ،‬ذكر أحكام الحج فقال‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ومن ذلك‪.‬‬
‫) ‪(1/90‬‬

‫وأ َت ِموا ال ْحج وال ْعمرةَ ل ِل ّه فَإ ُ‬


‫قوا‬ ‫حل ِ ُ‬‫ي وََل ت َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ن ال ْهَد ْ‬ ‫م َ‬ ‫سَر ِ‬ ‫ست َي ْ َ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫م فَ َ‬ ‫صْرت ُ ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ِ ِ ْ‬ ‫َ ّ َ ُ ْ َ‬ ‫َ ّ‬
‫ه‬ ‫س‬ ‫ْ‬ ‫أ‬‫ر‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ذى‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫و‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫ضا‬ ‫ري‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫د‬ ‫ه‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫غ‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ُ‬
‫ِ ْ َ ِ ِ‬ ‫َ ِ ْ ْ َ ِ ً ْ ِ ِ‬ ‫ُ َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ُرُءو َ ْ َ ّ َ ْ‬
‫ب‬ ‫ي‬ ‫تى‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ج‬
‫ح ّ‬ ‫مَرةِ إ َِلى ال ْ َ‬ ‫مت ّعَ ِبال ْعُ ْ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م فَ َ‬ ‫من ْت ُ ْ‬
‫ذا أ ِ‬ ‫ك فَإ ِ َ‬ ‫س ٍ‬ ‫صد َقَةٍ أوْ ن ُ ُ‬ ‫صَيام ٍ أوْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫فد ْي َ ٌ‬ ‫فَ ِ‬
‫َ‬
‫سب ْعَةٍ إ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫ج وَ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫م ث ََلث َةِ أّيام ٍ ِفي ال ْ َ‬ ‫صَيا ُ‬ ‫جد ْ فَ ِ‬ ‫م يَ ِ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ي فَ َ‬ ‫ن ال ْهَد ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫سَر ِ‬‫ست َي ْ َ‬‫ما ا ْ‬ ‫فَ َ‬
‫َ‬
‫حَرام ِ‬ ‫جدِ ال ْ َ‬‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ال ْ َ‬ ‫ض ِ‬ ‫حا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن أهْل ُ ُ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ك لِ َ‬ ‫ة ذ َل ِ َ‬ ‫مل َ ٌ‬
‫كا ِ‬ ‫شَرةٌ َ‬ ‫م ت ِل ْ َ‬
‫ك عَ َ‬ ‫جعْت ُ ْ‬ ‫َر َ‬
‫ب )‪(196‬‬ ‫ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫قا ِ‬ ‫ديد ُ العِ َ‬ ‫ش ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ه َواعْل ُ‬ ‫قوا الل َ‬ ‫َوات ّ ُ‬
‫} ‪ } { 196‬وأ َت ِموا ال ْحج وال ْعمرةَ ل ِل ّه فَإ ُ‬
‫ن ال ْهَد ْ ِ‬
‫ي‬ ‫م َ‬
‫َ‬
‫سَر ِ‬ ‫ست َي ْ َ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫م فَ َ‬ ‫صْرت ُ ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ِ ِ ْ‬ ‫َ ّ َ ُ ْ َ‬ ‫َ ّ‬
‫ه‬ ‫ب‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫ضا‬
‫َ ِ ْ ْ َ ِ ً ْ ِ ِ‬ ‫ري‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫كا‬‫َ‬ ‫ن‬‫ُ َ ْ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ح‬‫ِ‬ ‫م‬ ‫ي‬
‫َ ْ ُ َ‬ ‫د‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫غ‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫س ْ َ ّ َْ‬
‫ب‬ ‫ي‬ ‫تى‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫قوا ُرُءو َ‬ ‫حل ِ ُ‬ ‫َول ت َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫أَ ً‬
‫ع‬
‫مت ّ َ‬‫ن تَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م فَ َ‬ ‫من ْت ُ ْ‬ ‫ذا أ ِ‬ ‫ك فَإ ِ َ‬ ‫س ٍ‬ ‫صد َقَةٍ أوْ ن ُ ُ‬ ‫صَيام ٍ أوْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫فد ْي َ ٌ‬ ‫سهِ فَ ِ‬ ‫ن َرأ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ذى ِ‬
‫َ‬
‫ثلث َةِ أّيام ٍ‬ ‫م َ‬ ‫صَيا ُ‬ ‫جد ْ فَ ِ‬ ‫م يَ ِ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ي فَ َ‬ ‫ن ال ْهَد ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫سَر ِ‬ ‫ست َي ْ َ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ج فَ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫مَرةِ إ َِلى ال ْ َ‬ ‫ِبال ْعُ ْ‬
‫َ‬
‫ن أهْل ُ ُ‬
‫ه‬ ‫م ي َك ُ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ك لِ َ‬ ‫ة ذ َل ِ َ‬ ‫مل َ ٌ‬ ‫كا ِ‬ ‫شَرةٌ َ‬ ‫ك عَ َ‬ ‫م ت ِل ْ َ‬ ‫جعْت ُ ْ‬ ‫ذا َر َ‬ ‫سب ْعَةٍ إ ِ َ‬ ‫ج وَ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ِفي ال ْ َ‬
‫ديد ُ ال ْعِ َ‬ ‫َ‬
‫ب{‪.‬‬ ‫قا ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ه َواعْل َ ُ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫حَرام ِ َوات ّ ُ‬ ‫جدِ ال ْ َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ال ْ َ‬ ‫ض ِ‬ ‫حا ِ‬ ‫َ‬
‫مَرة َ { على أمور‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ج َوالعُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫موا ال َ‬ ‫يستدل بقوله ]تعالى[‪ } :‬وَأت ِ ّ‬
‫أحدها‪ :‬وجوب الحج والعمرة‪ ،‬وفرضيتهما‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬وجوب إتمامهما بأركانهما‪ ،‬وواجباتهما‪ ،‬التي قد دل عليها فعل النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم وقوله‪" :‬خذوا عني مناسككم "‬
‫الثالث‪ :‬أن فيه حجة لمن قال بوجوب العمرة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن الحج والعمرة يجب إتمامهما بالشروع فيهما‪ ،‬ولو كانا نفل‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬المر بإتقانهما وإحسانهما‪ ،‬وهذا قدر زائد على فعل ما يلزم‬
‫لهما‪.‬‬
‫السادس‪ :‬وفيه المر بإخلصهما لله تعالى‪.‬‬
‫السابع‪ :‬أنه ل يخرج المحرم بهما بشيء من الشياء حتى يكملهما‪ ،‬إل بما‬
‫م { أي‪ :‬منعتم من‬ ‫استثناه الله‪ ،‬وهو الحصر‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬فَإ ُ‬
‫صْرت ُ ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ِ ْ‬
‫الوصول إلى البيت لتكميلهما‪ ،‬بمرض‪ ،‬أو ضللة‪ ،‬أو عدو‪ ،‬ونحو ذلك من‬
‫أنواع الحصر‪ ،‬الذي هو المنع‪.‬‬
‫ي { أي‪ :‬فاذبحوا ما استيسر من الهدي‪ ،‬وهو سبع‬ ‫ن ال ْهَد ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫سَر ِ‬ ‫ست َي ْ َ‬‫ما ا ْ‬ ‫} فَ َ‬
‫بدنة‪ ،‬أو سبع بقرة‪ ،‬أو شاة يذبحها المحصر‪ ،‬ويحلق ويحل من إحرامه‬
‫بسبب الحصر كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬لما صدهم ]‬
‫ص ‪ [ 91‬المشركون عام الحديبية‪ ،‬فإن لم يجد الهدي‪ ،‬فليصم بدله عشرة‬
‫أيام كما في المتمتع ثم يحل‪.‬‬
‫ه { وهذا من‬ ‫حل ُ‬‫ّ‬ ‫م ِ‬ ‫ْ‬
‫حّتى ي َب ْلغَ الهَد ْيُ َ‬ ‫ُ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫سك ْ‬ ‫قوا ُرُءو َ‬ ‫حل ِ ُ‬ ‫ثم قال تعالى‪َ } :‬ول ت َ ْ‬
‫محظورات الحرام‪ ،‬إزالة الشعر‪ ،‬بحلق أو غيره‪ ،‬لن المعنى واحد من‬
‫الرأس‪ ،‬أو من البدن‪ ،‬لن المقصود من ذلك‪ ،‬حصول الشعث والمنع من‬
‫الترفه بإزالته‪ ،‬وهو موجود في بقية الشعر‪.‬‬
‫وقاس كثير من العلماء على إزالة الشعر‪ ،‬تقليم الظفار بجامع الترفه‪،‬‬
‫ويستمر المنع مما ذكر‪ ،‬حتى يبلغ الهدي محله‪ ،‬وهو يوم النحر‪ ،‬والفضل‬
‫أن يكون الحلق بعد النحر‪ ،‬كما تدل عليه الية‪.‬‬
‫ويستدل بهذه الية على أن المتمتع إذا ساق الهدي‪ ،‬لم يتحلل من عمرته‬
‫قبل يوم النحر‪ ،‬فإذا طاف وسعى للعمرة‪ ،‬أحرم بالحج‪ ،‬ولم يكن له إحلل‬
‫بسبب سوق الهدي‪ ،‬وإنما منع تبارك وتعالى من ذلك‪ ،‬لما فيه من الذل‬
‫والخضوع لله والنكسار له‪ ،‬والتواضع الذي هو عين مصلحة العبد‪ ،‬وليس‬
‫عليه في ذلك من ضرر‪ ،‬فإذا حصل الضرر بأن كان به أذى من مرض‪،‬‬
‫ينتفع بحلق رأسه له‪ ،‬أو قروح‪ ،‬أو قمل ونحو ذلك فإنه يحل له أن يحلق‬
‫رأسه‪ ،‬ولكن يكون عليه فدية من صيام ثلثة أيام‪ ،‬أو صدقة على ستة‬
‫مساكين )‪ (1‬أو نسك ما يجزئ في أضحية‪ ،‬فهو مخير‪ ،‬والنسك أفضل‪،‬‬
‫فالصدقة‪ ،‬فالصيام‪.‬‬
‫ومثل هذا‪ ،‬كل ما كان في معنى ذلك‪ ،‬من تقليم الظفار‪ ،‬أو تغطية الرأس‪،‬‬
‫أو لبس المخيط‪ ،‬أو الطيب‪ ،‬فإنه يجوز عند الضرورة‪ ،‬مع وجوب الفدية‬
‫المذكورة لن القصد من الجميع‪ ،‬إزالة ما به يترفه‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬بأن قدرتم على البيت من غير مانع عدو‬ ‫ثم قال تعالى‪ } :‬فَإ َ َ‬
‫من ْت ُ ْ‬
‫ذا أ ِ‬ ‫ِ‬
‫ج { بأن توصل بها إليه‪ ،‬وانتفع بتمتعه‬ ‫مَرةِ إ َِلى ال ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫مت ّعَ ِبال ْعُ ْ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وغيره‪ } ،‬فَ َ‬
‫بعد الفراغ منها‪.‬‬
‫ي { أي‪ :‬فعليه ما تيسر من الهدي‪ ،‬وهو ما يجزئ‬ ‫ْ‬
‫ن الهَد ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫سَر ِ‬ ‫ست َي ْ َ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫} فَ َ‬
‫في أضحية‪ ،‬وهذا دم نسك‪ ،‬مقابلة لحصول النسكين له في سفرة واحدة‪،‬‬
‫ولنعام الله عليه بحصول النتفاع بالمتعة بعد فراغ العمرة‪ ،‬وقبل الشروع‬
‫قران لحصول النسكين له‪.‬‬ ‫في الحج‪ ،‬ومثلها ال ِ‬
‫ويدل مفهوم الية‪ ،‬على أن المفرد للحج‪ ،‬ليس عليه هدي‪ ،‬ودلت الية‪،‬‬
‫على جواز‪ ،‬بل فضيلة المتعة‪ ،‬وعلى جواز فعلها في أشهر الحج‪.‬‬
‫َ‬
‫ج { أول‬ ‫ح ّ‬‫م َثلث َةِ أّيام ٍ ِفي ال ْ َ‬ ‫جد ْ { أي الهدي أو ثمنه } فَ ِ‬
‫صَيا ُ‬ ‫م يَ ِ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫} فَ َ‬
‫جوازها من حين الحرام بالعمرة‪ ،‬وآخرها ثلثة أيام بعد النحر‪ ،‬أيام رمي‬
‫الجمار‪ ،‬والمبيت بـ "منى" ولكن الفضل منها‪ ،‬أن يصوم السابع‪ ،‬والثامن‪،‬‬
‫م { أي‪ :‬فرغتم من أعمال الحج‪ ،‬فيجوز فعلها‬ ‫جعْت ُ ْ‬ ‫ذا َر َ‬ ‫سب ْعَةٍ إ ِ َ‬ ‫والتاسع‪ } ،‬وَ َ‬
‫في مكة‪ ،‬وفي الطريق‪ ،‬وعند وصوله إلى أهله‪.‬‬
‫َ‬
‫ن أهْل ُ ُ‬
‫ه‬ ‫م ي َك ُ ْ‬‫ن لَ ْ‬
‫م ْ‬
‫ك { المذكور من وجوب الهدي على المتمتع } ل ِ َ‬ ‫} ذ َل ِ َ‬
‫حَرام ِ { بأن كان عند مسافة قصر فأكثر‪ ،‬أو بعيدا عنه‬ ‫جدِ ال ْ َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ال ْ َ‬ ‫ض ِ‬ ‫حا ِ‬‫َ‬
‫عرفات‪ ،‬فهذا الذي يجب عليه الهدي‪ ،‬لحصول النسكين له في سفر واحد‪،‬‬
‫وأما من كان أهله من حاضري المسجد الحرام‪ ،‬فليس عليه هدي لعدم‬
‫الموجب لذلك‪.‬‬
‫ه { أي‪ :‬في جميع أموركم‪ ،‬بامتثال أوامره‪ ،‬واجتناب نواهيه‪،‬‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫} َوات ّ ُ‬
‫ومن ذلك‪ ،‬امتثالكم‪ ،‬لهذه المأمورات‪ ،‬واجتناب هذه المحظورات المذكورة‬
‫في هذه الية‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ب { أي‪ :‬لمن عصاه‪ ،‬وهذا هو الموجب‬ ‫قا ِ‬ ‫ديد ُ العِ َ‬ ‫ش ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫} َواعْل َ ُ‬
‫للتقوى‪ ،‬فإن من خاف عقاب الله‪ ،‬انكف عما يوجب العقاب‪ ،‬كما أن من‬
‫رجا ثواب الله عمل لما يوصله إلى الثواب‪ ،‬وأما من لم يخف العقاب‪ ،‬ولم‬
‫يرج الثواب‪ ،‬اقتحم المحارم‪ ،‬وتجرأ على ترك الواجبات‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬أو إطعام ستة مساكين‪.‬‬

‫) ‪(1/90‬‬
‫دا َ‬
‫ل‬ ‫سوقَ وََل ِ‬
‫ج َ‬ ‫فُ ُ‬ ‫ث وََل‬ ‫ج فََل َرفَ َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ح ّ‬ ‫ض ِفيهِ ّ‬ ‫ن فََر َ‬ ‫ت فَ َ‬
‫م ْ‬ ‫ما ٌ‬ ‫معُْلو َ‬‫شهٌُر َ‬ ‫ج أَ ْ‬ ‫ح ّ‬‫ال ْ َ‬
‫وى‬
‫ق َ‬
‫الّزادِ الت ّ ْ‬ ‫خي َْر‬
‫ن َ‬‫دوا فَإ ِ ّ‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫ه وَت ََزوّ ُ‬ ‫خي ْرٍ ي َعْل َ ْ‬
‫م ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫فعَُلوا ِ‬ ‫ما ت َ ْ‬
‫ج وَ َ‬
‫ح ّ‬ ‫ِفي ال ْ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ب )‪(197‬‬ ‫ن َيا أوِلي اْلل َْبا ِ‬ ‫قو ِ‬ ‫َوات ّ ُ‬

‫ث َول‬ ‫ج َفل َرفَ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫ض ِفيهِ ّ‬ ‫ن فََر َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت فَ َ‬ ‫ما ٌ‬ ‫معُْلو َ‬ ‫شهٌُر َ‬ ‫ج أَ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫} ‪ } { 197‬ال ْ َ‬
‫خي َْر‬
‫ن َ‬ ‫دوا فَإ ِ ّ‬ ‫ه وَت ََزوّ ُ‬ ‫ه الل ّ ُ‬‫م ُ‬ ‫خي ْرٍ ي َعْل َ ْ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫فعَُلوا ِ‬ ‫ما ت َ ْ‬‫ج وَ َ‬‫ح ّ‬ ‫ل ِفي ال ْ َ‬ ‫دا َ‬ ‫ج َ‬‫سوقَ َول ِ‬ ‫فُ ُ‬
‫ُ‬
‫ب{‪.‬‬ ‫ن َيا أوِلي الل َْبا ِ‬ ‫قو ِ‬ ‫وى َوات ّ ُ‬ ‫ق َ‬
‫الّزادِ الت ّ ْ‬
‫ج { واقع في } أشهر معلومات { عند المخاطبين‪،‬‬ ‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫يخبر تعالى أن } ال َ‬
‫مشهورات‪ ،‬بحيث ل تحتاج إلى تخصيص‪ ،‬كما احتاج الصيام إلى تعيين‬
‫شهره‪ ،‬وكما بين تعالى أوقات الصلوات الخمس‪.‬‬
‫وأما الحج فقد كان من ملة إبراهيم‪ ،‬التي لم تزل مستمرة في ذريته‬
‫معروفة بينهم‪.‬‬
‫والمراد بالشهر المعلومات عند جمهور العلماء‪ :‬شوال‪ ،‬وذو القعدة‪،‬‬
‫وعشر من ذي الحجة‪ ،‬فهي التي يقع فيها الحرام بالحج غالبا‪.‬‬
‫ج { أي‪ :‬أحرم به‪ ،‬لن الشروع فيه يصيره فرضا‪،‬‬ ‫ح ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ض ِفيهِ ّ‬ ‫ن فََر َ‬ ‫م ْ‬‫} فَ َ‬
‫ولو كان نفل‪.‬‬
‫واستدل بهذه الية الشافعي ومن تابعه‪ ،‬على أنه ل يجوز الحرام بالحج‬
‫قبل أشهره‪ ،‬قلت لو قيل‪ :‬إن فيها دللة لقول الجمهور‪ ،‬بصحة الحرام‬
‫ج{‬ ‫ح ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫ض ِفيهِ ّ‬ ‫ن فََر َ‬ ‫م ْ‬ ‫]بالحج[ قبل أشهره لكان قريبا‪ ،‬فإن قوله‪ } :‬فَ َ‬
‫دليل على أن الفرض قد يقع في الشهر المذكورة وقد ل يقع فيها‪ ،‬وإل لم‬
‫يقيده‪.‬‬
‫ج { أي‪ :‬يجب أن تعظموا‬ ‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫ل ِفي ال َ‬ ‫دا َ‬ ‫ج َ‬ ‫سوقَ َول ِ‬ ‫ث َول فُ ُ‬ ‫وقوله‪َ } :‬فل َرفَ َ‬
‫الحرام بالحج‪ ،‬وخصوصا الواقع في أشهره‪ ،‬وتصونوه عن كل ما يفسده أو‬
‫ينقصه‪ ،‬من الرفث وهو الجماع ومقدماته الفعلية والقولية‪ ،‬خصوصا عند‬
‫النساء بحضرتهن‪.‬‬
‫والفسوق وهو‪ :‬جميع المعاصي‪ ،‬ومنها محظورات الحرام‪.‬‬
‫والجدال وهو‪ :‬المماراة والمنازعة والمخاصمة‪ ،‬لكونها تثير الشر‪ ،‬وتوقع‬
‫العداوة‪.‬‬
‫والمقصود من الحج‪ ،‬الذل ] ص ‪ [ 92‬والنكسار لله‪ ،‬والتقرب إليه بما‬
‫أمكن من القربات‪ ،‬والتنزه عن مقارفة السيئات‪ ،‬فإنه بذلك يكون مبرورا‬
‫والمبرور‪ ،‬ليس له جزاء إل الجنة‪ ،‬وهذه الشياء وإن كانت ممنوعة في كل‬
‫مكان وزمان‪ ،‬فإنها )‪ (1‬يتغلظ المنع عنها في الحج‪.‬‬
‫واعلم أنه ل يتم التقرب إلى الله بترك المعاصي حتى يفعل الوامر‪ ،‬ولهذا‬
‫ه { أتى بـ "من "لتنصيص على‬ ‫ه الل ّ ُ‬
‫م ُ‬ ‫خي ْرٍ ي َعْل َ ْ‬‫ن َ‬ ‫فعَُلوا ِ‬
‫م ْ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫قال تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫العموم‪ ،‬فكل خير وقربة وعبادة‪ ،‬داخل في ذلك‪ ،‬أي‪ :‬فإن الله به عليم‪،‬‬
‫وهذا يتضمن غاية الحث على أفعال الخير‪ ،‬وخصوصا في تلك البقاع‬
‫الشريفة والحرمات المنيفة‪ ،‬فإنه ينبغي تدارك ما أمكن تداركه فيها‪ ،‬من‬
‫صلة‪ ،‬وصيام‪ ،‬وصدقة‪ ،‬وطواف‪ ،‬وإحسان قولي وفعلي‪.‬‬
‫ثم أمر تعالى بالتزود لهذا السفر المبارك‪ ،‬فإن التزود فيه الستغناء عن‬
‫المخلوقين‪ ،‬والكف عن أموالهم‪ ،‬سؤال واستشرافا‪ ،‬وفي الكثار منه نفع‬
‫وإعانة للمسافرين‪ ،‬وزيادة قربة لرب العالمين‪ ،‬وهذا الزاد الذي المراد منه‬
‫إقامة البنية بلغة ومتاع‪.‬‬
‫وأما الزاد الحقيقي المستمر نفعه لصاحبه‪ ،‬في دنياه‪ ،‬وأخراه‪ ،‬فهو زاد‬
‫التقوى الذي هو زاد إلى دار القرار‪ ،‬وهو الموصل لكمل لذة‪ ،‬وأجل نعيم‬
‫دائم أبدا‪ ،‬ومن ترك هذا الزاد‪ ،‬فهو المنقطع به الذي هو عرضة لكل شر‪،‬‬
‫وممنوع من الوصول إلى دار المتقين‪ .‬فهذا مدح للتقوى‪.‬‬
‫ُ‬
‫ن َيا أوِلي الل َْبا ِ‬
‫ب { أي‪ :‬يا أهل‬ ‫قو ِ‬
‫ثم أمر بها أولي اللباب فقال‪َ } :‬وات ّ ُ‬
‫العقول الرزينة‪ ،‬اتقوا ربكم الذي تقواه أعظم ما تأمر به العقول‪ ،‬وتركها‬
‫دليل على الجهل‪ ،‬وفساد الرأي‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬فإنه‪.‬‬

‫) ‪(1/91‬‬

‫ل َيس عَل َيك ُم جناح أ َن تبتُغوا فَضًل من ربك ُم فَإ َ َ‬


‫ن عََرَفا ٍ‬
‫ت‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ضت ُ ْ‬ ‫ذا أفَ ْ‬ ‫ْ ِ ْ َ ّ ْ ِ‬ ‫ْ ْ ُ َ ٌ ْ ََْ‬ ‫ْ َ‬
‫ه‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ن‬
‫ُ ُ َ َ َ ْ َِ ْ ُْ ْ ِ ْ ِْ ِ‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫إ‬‫و‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫دا‬ ‫ه‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ه‬ ‫رو‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬‫وا‬ ‫م‬
‫َ َ ِ َ‬ ‫را‬ ‫ح‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ر‬ ‫ع‬ ‫ش‬ ‫ْ‬
‫َ ِ ْ َ َ َ ِ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫د‬ ‫ن‬‫ع‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫روا‬ ‫َفاذ ْك ُ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ه إِ ّ‬ ‫فُروا الل ّ َ‬ ‫ست َغْ ِ‬ ‫س َوا ْ‬ ‫ض الّنا ُ‬ ‫ث أَفا َ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ضوا ِ‬ ‫م أِفي ُ‬ ‫ن )‪ (198‬ث ُ ّ‬ ‫ضاّلي َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫لَ ِ‬
‫َ‬
‫م آَباءَك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ه ك َذِك ْرِك ُ ْ‬ ‫م َفاذ ْك ُُروا الل ّ َ‬ ‫سك َك ُ ْ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ذا قَ َ‬
‫ضي ْت ُ ْ‬ ‫م )‪ (199‬فَإ ِ َ‬ ‫حي ٌ‬
‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫خَرةِ ِ‬ ‫ه ِفي اْل َ ِ‬ ‫ما ل َ ُ‬ ‫ل َرب َّنا آت َِنا ِفي الد ّن َْيا وَ َ‬
‫َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬‫شد ّ ذِك ًْرا فَ ِ‬ ‫أ َوْ أ َ‬
‫َ‬
‫ة‬
‫سن َ ً‬‫ح َ‬ ‫خَرةِ َ‬ ‫ة وَِفي اْل َ ِ‬ ‫سن َ ً‬
‫ح َ‬ ‫ل َرب َّنا آ َت َِنا ِفي الد ّن َْيا َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬‫من ْهُ ْ‬‫ق )‪ (200‬وَ ِ‬ ‫خَل ٍ‬ ‫َ‬
‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وَقَِنا عَ َ‬
‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ريعُ ال ِ‬ ‫س ِ‬
‫ه َ‬ ‫سُبوا َوالل ُ‬ ‫ما ك َ‬ ‫م ّ‬ ‫ب ِ‬ ‫صي ٌ‬ ‫م نَ ِ‬ ‫ب الّنارِ )‪ (201‬أولئ ِك لهُ ْ‬ ‫ذا َ‬
‫)‪(202‬‬
‫} ‪ } { 202 - 198‬ل َيس عَل َيك ُم جناح أ َن تبتُغوا فَضل من ربك ُم فَإ َ َ‬
‫م‬
‫ضت ُ ْ‬‫ذا أفَ ْ‬ ‫ْ ِ ْ َ ّ ْ ِ‬ ‫ْ ْ ُ َ ٌ ْ ََْ‬ ‫ْ َ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫م وَإ ِ ْ‬ ‫ُ‬
‫داك ْ‬ ‫ما هَ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫حَرام ِ َواذ ْكُروهُ ك َ‬ ‫ْ‬
‫شعَرِ ال َ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫عن ْد َ ال َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ت َفاذ ْك ُُروا الل ّ َ‬ ‫ن عََرَفا ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فُروا الل َ‬ ‫ست َغْ ِ‬ ‫س َوا ْ‬ ‫ض الّنا ُ‬ ‫ث أفا َ‬ ‫حي ْ ُ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ضوا ِ‬ ‫م أِفي ُ‬ ‫ن * ثُ ّ‬ ‫ضالي َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ن قب ْل ِهِ ل ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ذا قَضيتم مناسك َك ُم َفاذ ْك ُروا الل ّه ك َذك ْرك ُم آباَءك ُم أوَ‬ ‫م * فَإ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ْ ْ‬ ‫َ ِ ِ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُْ ْ َ َ ِ‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫هغ ُ‬ ‫ن الل َ‬ ‫إِ ّ‬
‫ن‬ ‫م ْ‬
‫خَرةِ ِ‬ ‫ه ِفي ال ِ‬ ‫َ‬
‫ما ل ُ‬‫ل َرب َّنا آت َِنا ِفي الد ّن َْيا وَ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ْ‬
‫شد ّ ذِكًرا فَ ِ‬ ‫أَ َ‬
‫ة وَقَِنا‬ ‫سن َ ً‬‫ح َ‬ ‫خَرةِ َ‬ ‫ة وَِفي ال ِ‬ ‫سن َ ً‬ ‫ح َ‬‫ل َرب َّنا آت َِنا ِفي الد ّن َْيا َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ق * وَ ِ‬ ‫خل ٍ‬ ‫َ‬
‫ب{‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫عَ َ‬
‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ريعُ ال ِ‬ ‫س ِ‬‫ه َ‬ ‫سُبوا َوالل ُ‬ ‫ما ك َ‬ ‫م ّ‬‫ب ِ‬ ‫صي ٌ‬ ‫م نَ ِ‬ ‫ب الّنارِ * أولئ ِك لهُ ْ‬ ‫ذا َ‬
‫لما أمر تعالى بالتقوى‪ ،‬أخبر تعالى أن ابتغاء فضل الله بالتكسب في‬
‫مواسم الحج وغيره‪ ،‬ليس فيه حرج إذا لم يشغل عما يجب إذا كان‬
‫المقصود هو الحج‪ ،‬وكان الكسب حلل منسوبا إلى فضل الله‪ ،‬ل منسوبا‬
‫إلى حذق العبد‪ ،‬والوقوف مع السبب‪ ،‬ونسيان المسبب‪ ،‬فإن هذا هو‬
‫الحرج بعينه‪.‬‬
‫َ‬
‫حَرام ِ {‬ ‫شعَرِ ال ْ َ‬ ‫م ْ‬‫عن ْد َ ال ْ َ‬
‫ه ِ‬ ‫ت َفاذ ْك ُُروا الل ّ َ‬ ‫ن عََرَفا ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ضت ُ ْ‬ ‫ذا أفَ ْ‬ ‫وفي قوله‪ } :‬فَإ ِ َ‬
‫دللة على أمور‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬الوقوف بعرفة‪ ،‬وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج‪،‬‬
‫فالفاضة من عرفات‪ ،‬ل تكون إل بعد الوقوف‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬المر بذكر الله عند المشعر الحرام‪ ،‬وهو المزدلفة‪ ،‬وذلك أيضا‬
‫معروف‪ ،‬يكون ليلة النحر بائتا بها‪ ،‬وبعد صلة الفجر‪ ،‬يقف في المزدلفة‬
‫داعيا‪ ،‬حتى يسفر جدا‪ ،‬ويدخل في ذكر الله عنده‪ ،‬إيقاع الفرائض والنوافل‬
‫فيه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن الوقوف بمزدلفة‪ ،‬متأخر عن الوقوف بعرفة‪ ،‬كما تدل عليه‬
‫الفاء والترتيب‪.‬‬
‫الرابع‪ ،‬والخامس‪ :‬أن عرفات ومزدلفة‪ ،‬كلهما من مشاعر الحج المقصود‬
‫فعلها‪ ،‬وإظهارها‪.‬‬
‫السادس‪ :‬أن مزدلفة في الحرم‪ ،‬كما قيده بالحرام‪.‬‬
‫السابع‪ :‬أن عرفة في الحل‪ ،‬كما هو مفهوم التقييد بـ "مزدلفة "‬
‫ن { أي‪ :‬اذكروا الله‬ ‫ضاّلي َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ن قَب ْل ِهِ ل َ ِ‬
‫م َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫داك ُ ْ‬
‫م وَإ ِ ْ‬ ‫ما هَ َ‬ ‫} َواذ ْك ُُروهُ ك َ َ‬
‫ن عليكم بالهداية بعد الضلل‪ ،‬وكما علمكم ما لم تكونوا‬ ‫تعالى كما م ّ‬
‫تعلمون‪ ،‬فهذه من أكبر النعم‪ ،‬التي يجب شكرها ومقابلتها بذكر المنعم‬
‫بالقلب واللسان‪.‬‬
‫َ‬ ‫} ثُ َ‬
‫س { أي‪ :‬ثم أفيضوا من مزدلفة من‬ ‫ض الّنا ُ‬ ‫ث أَفا َ‬ ‫حي ْ ُ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ضوا ِ‬ ‫م أِفي ُ‬ ‫ّ‬
‫حيث أفاض الناس‪ ،‬من لدن إبراهيم عليه السلم إلى الن‪ ،‬والمقصود من‬
‫هذه الفاضة كان معروفا عندهم‪ ،‬وهو رمي الجمار‪ ،‬وذبح الهدايا‪،‬‬
‫والطواف‪ ،‬والسعي‪ ،‬والمبيت بـ "منى "ليالي التشريق وتكميل باقي‬
‫المناسك‪.‬‬
‫ولما كانت ]هذه[ الفاضة‪ ،‬يقصد بها ما ذكر‪ ،‬والمذكورات آخر المناسك‪،‬‬
‫أمر تعالى عند الفراغ منها باستغفاره والكثار من ذكره‪ ،‬فالستغفار للخلل‬
‫الواقع من العبد‪ ،‬في أداء عبادته وتقصيره فيها‪ ،‬وذكر الله شكر الله على‬
‫إنعامه عليه بالتوفيق لهذه العبادة العظيمة والمنة الجسيمة‪.‬‬
‫وهكذا ينبغي للعبد‪ ،‬كلما فرغ من عبادة‪ ،‬أن يستغفر الله عن التقصير‪،‬‬
‫ويشكره على التوفيق‪ ،‬ل كمن يرى أنه قد أكمل العبادة‪ ،‬ومن بها على‬
‫ربه‪ ،‬وجعلت له محل ومنزلة رفيعة‪ ،‬فهذا حقيق بالمقت‪ ،‬ورد الفعل‪ ،‬كما‬
‫أن ] ص ‪ [ 93‬الول‪ ،‬حقيق بالقبول والتوفيق لعمال أخر‪.‬‬
‫ثم أخبر تعالى عن أحوال الخلق‪ ،‬وأن الجميع يسألونه مطالبهم‪،‬‬
‫ل َرب َّنا‬‫قو ُ‬‫ن يَ ُ‬‫م ْ‬
‫ويستدفعونه ما يضرهم‪ ،‬ولكن مقاصدهم تختلف‪ ،‬فمنهم‪َ } :‬‬
‫آت َِنا ِفي الد ّن َْيا { أي‪ :‬يسأله من مطالب الدنيا ما هو من شهواته‪ ،‬وليس له‬
‫في الخرة من نصيب‪ ،‬لرغبته عنها‪ ،‬وقصر همته على الدنيا‪ ،‬ومنهم من‬
‫يدعو الله لمصلحة الدارين‪ ،‬ويفتقر إليه في مهمات دينه ودنياه‪ ،‬وكل من‬
‫هؤلء وهؤلء‪ ،‬لهم نصيب من كسبهم وعملهم‪ ،‬وسيجازيهم تعالى على‬
‫حسب أعمالهم‪ ،‬وهماتهم ونياتهم‪ ،‬جزاء دائرا بين العدل والفضل‪ ،‬يحمد‬
‫عليه أكمل حمد وأتمه‪ ،‬وفي هذه الية دليل على أن الله يجيب دعوة كل‬
‫داع‪ ،‬مسلما أو كافرا‪ ،‬أو فاسقا‪ ،‬ولكن ليست إجابته دعاء من دعاه‪ ،‬دليل‬
‫على محبته له وقربه منه‪ ،‬إل في مطالب الخرة ومهمات الدين‪.‬‬
‫والحسنة المطلوبة في الدنيا يدخل فيها كل ما يحسن وقعه عند العبد‪ ،‬من‬
‫رزق هنيء واسع حلل‪ ،‬وزوجة صالحة‪ ،‬وولد تقر به العين‪ ،‬وراحة‪ ،‬وعلم‬
‫نافع‪ ،‬وعمل صالح‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬من المطالب المحبوبة والمباحة‪.‬‬
‫وحسنة الخرة‪ ،‬هي السلمة من العقوبات‪ ،‬في القبر‪ ،‬والموقف‪ ،‬والنار‪،‬‬
‫وحصول رضا الله‪ ،‬والفوز بالنعيم المقيم‪ ،‬والقرب من الرب الرحيم‪ ،‬فصار‬
‫هذا الدعاء‪ ،‬أجمع دعاء وأكمله‪ ،‬وأوله باليثار‪ ،‬ولهذا كان النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم يكثر من الدعاء به‪ ،‬والحث عليه‪.‬‬

‫) ‪(1/92‬‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫م عَل َي ْهِ وَ َ‬
‫م ْ‬ ‫ن فََل إ ِث ْ َ‬ ‫مي ْ ِ‬
‫ل ِفي ي َوْ َ‬ ‫ج َ‬‫ن ت َعَ ّ‬ ‫ت فَ َ‬
‫م ْ‬ ‫دا ٍ‬‫دو َ‬‫مع ْ ُ‬
‫ه ِفي أّيام ٍ َ‬ ‫َواذ ْك ُُروا الل ّ َ‬
‫ن )‪(203‬‬ ‫شُرو َ‬ ‫ح َ‬‫م إ ِل َي ْهِ ت ُ ْ‬
‫َ‬
‫موا أن ّك ُ ْ‬‫ه َواعْل َ ُ‬ ‫قوا الل ّ َ‬‫قى َوات ّ ُ‬ ‫ن ات ّ َ‬ ‫م عَل َي ْهِ ل ِ َ‬
‫م ِ‬ ‫ت َأ َ ّ‬
‫خَر فََل إ ِث ْ َ‬
‫َ‬
‫ن َفل إ ِث ْ َ‬
‫م‬ ‫مي ْ ِ‬ ‫ل ِفي ي َوْ َ‬ ‫ج َ‬ ‫ن ت َعَ ّ‬‫م ْ‬ ‫ت فَ َ‬‫دا ٍ‬ ‫دو َ‬ ‫مع ْ ُ‬‫ه ِفي أّيام ٍ َ‬ ‫} ‪َ } { 203‬واذ ْك ُُروا الل ّ َ‬
‫م إ ِل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫موا أن ّك ُ ْ‬ ‫ه َواعْل َ ُ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫قى َوات ّ ُ‬ ‫ن ات ّ َ‬‫م ِ‬ ‫م عَل َي ْهِ ل ِ َ‬ ‫ن ت َأ َ ّ‬
‫خَر َفل إ ِث ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫عَل َي ْهِ وَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫شُرو َ‬ ‫ح َ‬‫تُ ْ‬
‫يأمر تعالى بذكره في اليام المعدودات‪ ،‬وهي أيام التشريق الثلثة بعد‬
‫العيد‪ ،‬لمزيتها وشرفها‪ ،‬وكون بقية أحكام المناسك تفعل بها‪ ،‬ولكون الناس‬
‫أضيافا لله فيها‪ ،‬ولهذا حرم صيامها‪ ،‬فللذكر فيها مزية ليست لغيرها‪ ،‬ولهذا‬
‫قال النبي صلى الله عليه وسلم‪" :‬أيام التشريق‪ ،‬أيام أكل وشرب‪ ،‬وذكر‬
‫الله "‬
‫ويدخل في ذكر الله فيها‪ ،‬ذكره عند رمي الجمار‪ ،‬وعند الذبح‪ ،‬والذكر‬
‫المقيد عقب الفرائض‪ ،‬بل قال بعض العلماء‪ :‬إنه يستحب فيها التكبير‬
‫المطلق‪ ،‬كالعشر‪ ،‬وليس ببعيد‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬خرج من "منى "ونفر منها قبل غروب‬ ‫مي ْ ِ‬ ‫ل ِفي ي َوْ َ‬ ‫ج َ‬ ‫ن ت َعَ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫} فَ َ‬
‫َ‬
‫خَر { بأن بات بها ليلة الثالث‬ ‫ن ت َأ ّ‬ ‫م ْ‬‫م عَل َي ْهِ وَ َ‬ ‫شمس اليوم الثاني } َفل إ ِث ْ َ‬
‫م عَل َي ْهِ { وهذا تخفيف من الله ]تعالى[ على عباده‪،‬‬ ‫ورمى من الغد } َفل إ ِث ْ َ‬
‫في إباحة كل المرين‪ ،‬ولكن من المعلوم أنه إذا أبيح كل المرين‪ ،‬فالمتأخر‬
‫أفضل‪ ،‬لنه أكثر عبادة‪.‬‬
‫ولما كان نفي الحرج قد يفهم منه نفي الحرج في ذلك المذكور وفي‬
‫غيره‪ ،‬والحاصل أن الحرج منفي عن المتقدم‪ ،‬والمتأخر فقط قيده بقوله‪:‬‬
‫قى { أي‪ :‬اتقى الله في جميع أموره‪ ،‬وأحوال الحج‪ ،‬فمن اتقى‬ ‫ن ات ّ َ‬ ‫م ِ‬ ‫} لِ َ‬
‫الله في كل شيء‪ ،‬حصل له نفي الحرج في كل شيء‪ ،‬ومن اتقاه في‬
‫شيء دون شيء‪ ،‬كان الجزاء من جنس العمل‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫م إ ِلي ْ ِ‬ ‫ُ‬
‫موا أن ّك ْ‬ ‫ه { بامتثال أوامره واجتناب معاصيه‪َ } ،‬واعْل ُ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫} َوات ّ ُ‬
‫ن { فمجازيكم بأعمالكم‪ ،‬فمن اتقاه‪ ،‬وجد جزاء التقوى عنده‪ ،‬ومن‬ ‫شُرو َ‬ ‫ح َ‬‫تُ ْ‬
‫لم يتقه‪ ،‬عاقبه أشد العقوبة‪ ،‬فالعلم بالجزاء من أعظم الدواعي لتقوى‬
‫الله‪ ،‬فلهذا حث تعالى على العلم بذلك‪.‬‬

‫) ‪(1/93‬‬

‫ما ِفي قَل ْب ِ ِ‬


‫ه‬ ‫ه عََلى َ‬ ‫شهِد ُ الل ّ َ‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا وَي ُ ْ‬‫ه ِفي ال ْ َ‬ ‫ك قَوْل ُ ُ‬ ‫جب ُ َ‬‫ن ي ُعْ ِ‬
‫م ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن َالّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫وَ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ك‬‫سد َ ِفيَها وَي ُهْل ِ َ‬ ‫ف ِ‬ ‫ض ل ِي ُ ْ‬
‫سَعى ِفي الْر ِ‬ ‫ذا ت َوَّلى َ‬ ‫صام ِ )‪ (204‬وَإ ِ َ‬ ‫خ َ‬ ‫وَهُوَ أل َد ّ ال ْ ِ‬
‫َ‬
‫ه‬‫خذ َت ْ ُ‬
‫هأ َ‬ ‫ق الل ّ َ‬
‫ه ات ّ ِ‬‫ل لَ ُ‬ ‫ذا ِقي َ‬‫ساد َ )‪ (205‬وَإ ِ َ‬ ‫ف َ‬‫ب ال ْ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َل ي ُ ِ‬ ‫ل َوالل ّ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ث َوالن ّ ْ‬ ‫حْر َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫مَهاد ُ )‪(206‬‬ ‫س ال ْ ِ‬‫م وَل َب ِئ ْ َ‬ ‫جهَن ّ ُ‬‫ه َ‬ ‫سب ُ ُ‬
‫ح ْ‬ ‫ال ْعِّزةُ ِباْل ِث ْم ِ فَ َ‬

‫شهِد ُ‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا وَي ُ ْ‬‫ه ِفي ال ْ َ‬ ‫ك قَوْل ُ ُ‬ ‫جب ُ َ‬


‫ن ي ُعْ ِ‬‫م ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال َّنا ِ‬ ‫م َ‬‫} ‪ } { 206 - 204‬وَ ِ‬
‫سد َ‬
‫ف ِ‬ ‫ض ل ِي ُ ْ‬ ‫ّ‬ ‫صام ِ * وَإ ِ َ‬ ‫ما ِفي قَل ْب ِهِ وَهُوَ ألد ّ ال ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ه عََلى َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫سَعى ِفي الْر ِ‬ ‫ذا ت َوَلى َ‬ ‫خ َ‬
‫ه‬‫ق الل ّ َ‬ ‫ه ات ّ ِ‬ ‫ل لَ ُ‬
‫ذا ِقي َ‬ ‫ساد َ * وَإ ِ َ‬ ‫ف َ‬‫ب ال ْ َ‬ ‫ح ّ‬‫ه ل يُ ِ‬ ‫ل َوالل ّ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ث َوالن ّ ْ‬ ‫حْر َ‬‫ك ال ْ َ‬‫ِفيَها وَي ُهْل ِ َ‬
‫مَهاد ُ { ‪.‬‬ ‫س ال ْ ِ‬‫م وَل َب ِئ ْ َ‬ ‫جهَن ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫سب ُ ُ‬
‫ح ْ‬ ‫ه ال ْعِّزةُ ِبالث ْم ِ فَ َ‬ ‫خذ َت ْ ُ‬ ‫أَ َ‬
‫لما أمر تعالى بالكثار من ذكره‪ ،‬وخصوصا في الوقات الفاضلة الذي هو‬
‫خير ومصلحة وبر‪ ،‬أخبر تعالى بحال من يتكلم بلسانه ويخالف فعله قوله‪،‬‬
‫ك‬‫جب ُ َ‬‫ن ي ُعْ ِ‬
‫م ْ‬ ‫س َ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬
‫فالكلم إما أن يرفع النسان أو يخفضه فقال‪ } :‬وَ ِ‬
‫حَياةِ الد ّن َْيا { أي‪ :‬إذا تكلم راق كلمه للسامع‪ ،‬وإذا نطق‪ ،‬ظننته‬ ‫ه ِفي ال ْ َ‬ ‫قَوْل ُ ُ‬
‫ما ِفي قَل ْب ِهِ { بأن‬ ‫ه عََلى َ‬‫شهِد ُ الل ّ َ‬
‫يتكلم بكلم نافع‪ ،‬ويؤكد ما يقول بأنه } وَي ُ ْ‬
‫يخبر أن الله يعلم‪ ،‬أن ما في قلبه موافق لما نطق به‪ ،‬وهو كاذب في‬
‫ذلك‪ ،‬لنه يخالف قوله فعله‪.‬‬
‫فلو كان صادقا‪ ،‬لتوافق القول والفعل‪ ،‬كحال المؤمن غير المنافق‪ ،‬فلهذا‬
‫صام ِ { أي‪ :‬إذا خاصمته‪ ،‬وجدت فيه من اللدد والصعوبة‬ ‫خ َ‬‫قال‪ } :‬وَهُوَ أ َل َد ّ ال ْ ِ‬
‫والتعصب‪ ،‬وما يترتب على ذلك‪ ،‬ما هو من مقابح الصفات‪ ،‬ليس كأخلق‬
‫المؤمنين‪ ،‬الذين جعلوا السهولة مركبهم‪ ،‬والنقياد للحق وظيفتهم‪،‬‬
‫والسماحة سجيتهم‪.‬‬
‫ض‬
‫سَعى ِفي الْر ِ‬ ‫ذا ت َوَّلى { هذا الذي يعجبك قوله إذا حضر عندك } َ‬ ‫} وَإ ِ َ‬
‫سد َ ِفيَها { أي‪ :‬يجتهد على أعمال المعاصي‪ ،‬التي هي إفساد في الرض‬ ‫ف ِ‬ ‫ل ِي ُ ْ‬
‫ل { فالزروع والثمار والمواشي‪،‬‬ ‫س َ‬‫ث َوالن ّ ْ‬
‫حْر َ‬ ‫ْ‬
‫} وَي ُهْل ِك { بسبب ذلك } ال َ‬ ‫َ‬
‫ب‬‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ّ‬
‫تتلف وتنقص‪ ،‬وتقل بركتها‪ ،‬بسبب العمل في المعاصي‪َ } ،‬والل ُ‬
‫ساد َ { وإذا كان ل يحب الفساد‪ ،‬فهو يبغض العبد المفسد في الرض‪،‬‬ ‫ف َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫غاية البغض‪ ،‬وإن قال بلسانه قول حسنا‪.‬‬
‫] ص ‪[ 94‬‬
‫ففي هذه الية دليل على أن القوال التي تصدر من الشخاص‪ ،‬ليست‬
‫دليل على صدق ول كذب‪ ،‬ول بر ول فجور حتى يوجد العمل المصدق لها‪،‬‬
‫المزكي لها وأنه ينبغي اختبار أحوال الشهود‪ ،‬والمحق والمبطل من الناس‪،‬‬
‫بسبر أعمالهم‪ ،‬والنظر لقرائن أحوالهم‪ ،‬وأن ل يغتر بتمويههم وتزكيتهم‬
‫أنفسهم‪.‬‬
‫ثم ذكر أن هذا المفسد في الرض بمعاصي الله‪ ،‬إذا أمر بتقوى الله تكبر‬
‫ه ال ْعِّزةُ ِبالث ْم ِ { فيجمع بين العمل بالمعاصي والكبر )‪(1‬‬ ‫خذ َت ْ ُ‬‫وأنف‪ ،‬و } أ َ َ‬
‫على الناصحين‪.‬‬
‫مَهاد ُ {‬ ‫ْ‬
‫س ال ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م { التي هي دار العاصين والمتكبرين‪ } ،‬وَلب ِئ َ‬ ‫جهَن ّ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫سب ُ ُ‬‫ح ْ‬‫} فَ َ‬
‫أي‪ :‬المستقر والمسكن‪ ،‬عذاب دائم‪ ،‬وهم ل ينقطع‪ ،‬ويأس مستمر‪ ،‬ل‬
‫يخفف عنهم العذاب‪ ،‬ول يرجون الثواب‪ ،‬جزاء لجناياتهم ومقابلة لعمالهم‪،‬‬
‫فعياذا بالله من أحوالهم‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬والتكبر‪.‬‬

‫) ‪(1/93‬‬

‫ف ِبال ْعَِبادِ )‪(207‬‬ ‫ضاةِ الل ّهِ َوالل ّ ُ‬


‫ه َرُءو ٌ‬ ‫مْر َ‬
‫ه اب ْت َِغاَء َ‬
‫س ُ‬
‫ف َ‬
‫ري ن َ ْ‬ ‫ن يَ ْ‬
‫ش ِ‬ ‫م ْ‬
‫س َ‬
‫ن الّنا ِ‬
‫م َ‬
‫وَ ِ‬

‫ف‬
‫ه َرُءو ٌ‬ ‫ضاةِ الل ّهِ َوالل ّ ُ‬‫مْر َ‬ ‫ه اب ْت َِغاَء َ‬
‫س ُ‬‫ف َ‬‫ري ن َ ْ‬ ‫ش ِ‬ ‫ن يَ ْ‬‫م ْ‬ ‫س َ‬‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬‫} ‪ } { 207‬وَ ِ‬
‫ِبال ْعَِبادِ { ‪.‬‬
‫هؤلء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة‬
‫ي الرءوف بالعباد‪ ،‬الذي‬ ‫الله ورجاء لثوابه‪ ،‬فهم بذلوا الثمن للمليء الوف ّ‬
‫هّ‬
‫ن الل َ‬
‫من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك‪ ،‬وقد وعد الوفاء بذلك‪ ،‬فقال‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬
‫ة { إلى آخر الية‪.‬‬ ‫م ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫ن ل َهُ ُ‬ ‫وال َهُ ْ‬
‫م ب ِأ ّ‬ ‫م َ‬‫م وَأ ْ‬ ‫سه ُ ْ‬
‫ف َ‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬
‫شت ََرى ِ‬ ‫ا ْ‬
‫وفي هذه الية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها‪ ،‬وأخبر برأفته الموجبة‬
‫لتحصيل ما طلبوا‪ ،‬وبذل ما به رغبوا‪ ،‬فل تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم‬
‫من الكريم‪ ،‬وما ينالهم من الفوز والتكريم )‪. (1‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬من أول الية إلى هنا ساقط من ب‪ ،‬وقد قام النجار بتفسير الية من‬
‫عند نفسه انظر طبعة النجار )‪ (254-1/252‬ولم يبين أن هذا ليس من‬
‫كلم الشيخ ‪-‬رحمه الله‪.-‬‬

‫) ‪(1/94‬‬

‫شي ْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫ه‬
‫ن إ ِن ّ ُ‬ ‫طا ِ‬ ‫ت ال ّ‬
‫وا ِ‬‫خط ُ َ‬ ‫ة وََل ت َت ّب ُِعوا ُ‬
‫كافّ ً‬‫سل ْم ِ َ‬
‫خُلوا ِفي ال ّ‬ ‫مُنوا اد ْ ُ‬‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫َ‬
‫ن‬‫موا أ ّ‬ ‫ت َفاعْل َ ُ‬‫م ال ْب َي َّنا ُ‬
‫جاَءت ْك ُ ُ‬‫ما َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬
‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ن َزل َل ْت ُ ْ‬
‫ن )‪ (208‬فَإ ِ ْ‬ ‫مِبي ٌ‬‫م عَد ُوّ ُ‬ ‫ل َك ُ ْ‬
‫م )‪(209‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬
‫زيٌز َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫الل ّ َ‬
‫سل ْم ِ َ‬ ‫َ‬
‫ة َول ت َت ّب ُِعوا‬ ‫كافّ ً‬ ‫خُلوا ِفي ال ّ‬ ‫مُنوا اد ْ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫} ‪َ } { 209 - 208‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫جاَءت ْك ُ ُ‬
‫م‬ ‫ما َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن َزل َل ْت ُ ْ‬
‫ن * فَإ ِ ْ‬ ‫مِبي ٌ‬‫م عَد ُوّ ُ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬ ‫ن إ ِن ّ ُ‬‫طا ِ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫وا ِ‬ ‫خط ُ َ‬ ‫ُ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيٌز َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ت َفاعْل ُ‬ ‫الب َي َّنا ُ‬
‫ة { أي‪ :‬في‬ ‫كافّ ً‬ ‫سلم ِ َ‬‫ْ‬ ‫هذا أمر من الله تعالى للمؤمنين أن يدخلوا } ِفي ال ّ‬
‫جميع شرائع الدين‪ ،‬ول يتركوا منها شيئا‪ ،‬وأن ل يكونوا ممن اتخذ إلهه‬
‫هواه‪ ،‬إن وافق المر المشروع هواه فعله‪ ،‬وإن خالفه‪ ،‬تركه‪ ،‬بل الواجب‬
‫أن يكون الهوى‪ ،‬تبعا للدين‪ ،‬وأن يفعل كل ما يقدر عليه‪ ،‬من أفعال الخير‪،‬‬
‫وما يعجز عنه‪ ،‬يلتزمه وينويه‪ ،‬فيدركه بنيته‪.‬‬
‫ولما كان الدخول في السلم كافة‪ ،‬ل يمكن ول يتصور إل بمخالفة طرق‬
‫ن { أي‪ :‬في العمل بمعاصي‬ ‫طا ِ‬‫شي ْ َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫وا ِ‬ ‫خط ُ َ‬‫الشيطان قال‪َ } :‬ول ت َت ّب ُِعوا ُ‬
‫ن { والعدو المبين‪ ،‬ل يأمر إل بالسوء والفحشاء‪،‬‬ ‫مِبي ٌ‬ ‫م عَد ُوّ ُ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬ ‫الله } إ ِن ّ ُ‬
‫وما به الضرر عليكم‪.‬‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن َزللت ُ ْ‬ ‫ولما كان العبد ل بد أن يقع منه خلل وزلل‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬فَإ ِ ْ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫زيٌز‬
‫ه عَ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ت { أي‪ :‬على علم ويقين } َفاعْل َ ُ‬ ‫م ال ْب َي َّنا ُ‬‫جاَءت ْك ُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ب َعْدِ َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫وفيه من الوعيد الشديد‪ ،‬والتخويف‪ ،‬ما يوجب ترك الزلل‪ ،‬فإن العزيز‬
‫القاهر )‪ (1‬الحكيم‪ ،‬إذا عصاه العاصي‪ ،‬قهره بقوته‪ ،‬وعذبه بمقتضى حكمته‬
‫فإن من حكمته‪ ،‬تعذيب العصاة والجناة‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬العزيز المقام‪.‬‬

‫) ‪(1/94‬‬

‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬


‫ي اْل ْ‬
‫مُر‬ ‫مَلئ ِك َ ُ‬
‫ة وَقُ ِ‬
‫ض َ‬ ‫مام ِ َوال ْ َ‬
‫ن ال ْغَ َ‬
‫م َ‬ ‫ه ِفي ظ ُل َ ٍ‬
‫ل ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ن ي َأت ِي َهُ ُ‬ ‫ن إ ِّل أ ْ‬‫ل ي َن ْظ ُُرو َ‬
‫هَ ْ‬
‫ُ‬
‫موُر )‪(210‬‬ ‫جعُ اْل ُ‬ ‫وَإ َِلى الل ّهِ ت ُْر َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ملئ ِك َ ُ‬
‫ة‬ ‫مام ِ َوال ْ َ‬
‫ن ال ْغَ َ‬
‫م َ‬ ‫ه ِفي ظ ُل َ ٍ‬
‫ل ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ن ي َأت ِي َهُ ُ‬
‫ن ِإل أ ْ‬ ‫ل ي َن ْظ ُُرو َ‬ ‫} ‪ } { 210‬هَ ْ‬
‫موُر { ‪.‬‬ ‫جعُ ال ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫مُر وَإ ِلى اللهِ ت ُْر َ‬ ‫ي ال ْ‬ ‫وَقُ ِ‬
‫ض َ‬
‫وهذا فيه من الوعيد الشديد والتهديد ما تنخلع له القلوب‪ ،‬يقول تعالى‪ :‬هل‬
‫ينتظر الساعون في الفساد في الرض‪ ،‬المتبعون لخطوات الشيطان‪،‬‬
‫النابذون لمر الله إل يوم الجزاء بالعمال‪ ،‬الذي قد حشي من الهوال‬
‫والشدائد والفظائع‪ ،‬ما يقلقل قلوب الظالمين‪ ،‬ويحق به الجزاء السيئ‬
‫على المفسدين‪.‬‬
‫وذلك أن الله تعالى يطوي السماوات والرض‪ ،‬وتنثر الكواكب‪ ،‬وتكور‬
‫الشمس والقمر‪ ،‬وتنزل الملئكة الكرام‪ ،‬فتحيط بالخلئق‪ ،‬وينزل الباري‬
‫مام ِ { ليفصل بين عباده بالقضاء العدل‪.‬‬ ‫ن ال ْغَ َ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬‫]تبارك[ تعالى‪ِ } :‬في ظ ُل َ ٍ‬
‫فتوضع الموازين‪ ،‬وتنشر الدواوين‪ ،‬وتبيض وجوه أهل السعادة وتسود‬
‫وجوه أهل الشقاوة‪ ،‬ويتميز أهل الخير من أهل الشر‪ ،‬وكل يجازى بعمله‪،‬‬
‫فهنالك يعض الظالم على يديه إذا علم حقيقة ما هو عليه‪.‬‬
‫وهذه الية وما أشبهها دليل لمذهب أهل السنة والجماعة‪ ،‬المثبتين‬
‫للصفات الختيارية‪ ،‬كالستواء‪ ،‬والنزول‪ ،‬والمجيء‪ ،‬ونحو ذلك من الصفات‬
‫التي أخبر بها تعالى‪ ،‬عن نفسه‪ ،‬أو أخبر بها عنه رسوله صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فيثبتونها على وجه يليق بجلل الله وعظمته‪ ،‬من غير تشبيه ول‬
‫تحريف‪ ،‬خلفا للمعطلة على اختلف أنواعهم‪ ،‬من الجهمية‪ ،‬والمعتزلة‪،‬‬
‫والشعرية ونحوهم‪ ،‬ممن ينفي هذه الصفات‪ ،‬ويتأول لجلها اليات بتأويلت‬
‫ما أنزل الله عليها من سلطان‪ ،‬بل حقيقتها القدح في بيان الله وبيان‬
‫رسوله‪ ،‬والزعم بأن كلمهم هو الذي تحصل به الهداية في هذا الباب‪،‬‬
‫فهؤلء ليس معهم دليل نقلي‪ ،‬بل ول دليل عقلي‪ ،‬أما النقلي فقد اعترفوا‬
‫أن النصوص الواردة في الكتاب والسنة‪ ،‬ظاهرها بل صريحها‪ ،‬دال على‬
‫مذهب أهل السنة والجماعة‪ ،‬وأنها تحتاج لدللتها على مذهبهم الباطل‪ ،‬أن‬
‫تخرج عن ظاهرها ويزاد فيها وينقص‪ ،‬وهذا كما ترى ل يرتضيه من في‬
‫قلبه مثقال ذرة من إيمان‪.‬‬
‫وأما العقل فليس في العقل ما يدل على نفي هذه الصفات‪ ،‬بل العقل دل‬
‫على أن الفاعل أكمل من الذي ل يقدر ] ص ‪ [ 95‬على الفعل‪ ،‬وأن فعله‬
‫تعالى المتعلق بنفسه والمتعلق بخلقه هو كمال‪ ،‬فإن زعموا أن إثباتها يدل‬
‫على التشبيه بخلقه‪ ،‬قيل لهم‪ :‬الكلم على الصفات‪ ،‬يتبع الكلم على‬
‫الذات‪ ،‬فكما أن لله ذاتا ل تشبهها الذوات‪ ،‬فلله صفات ل تشبهها الصفات‪،‬‬
‫فصفاته تبع لذاته‪ ،‬وصفات خلقه‪ ،‬تبع لذواتهم‪ ،‬فليس في إثباتها ما يقتضي‬
‫التشبيه بوجه‪.‬‬
‫ويقال أيضا‪ ،‬لمن أثبت بعض الصفات‪ ،‬ونفى بعضا‪ ،‬أو أثبت السماء دون‬
‫الصفات‪ :‬إما أن تثبت الجميع كما أثبته الله لنفسه‪ ،‬وأثبته رسوله‪ ،‬وإما أن‬
‫تنفي الجميع‪ ،‬وتكون منكرا لرب العالمين‪ ،‬وأما إثباتك بعض ذلك‪ ،‬ونفيك‬
‫لبعضه‪ ،‬فهذا تناقض‪ ،‬ففرق بين ما أثبته‪ ،‬وما نفيته‪ ،‬ولن تجد إلى الفرق‬
‫سبيل فإن قلت‪ :‬ما أثبته ل يقتضي تشبيها‪ ،‬قال لك أهل السنة‪ :‬والثبات‬
‫لما نفيته ل يقتضي تشبيها‪ ،‬فإن قلت‪ :‬ل أعقل من الذي نفيته إل التشبيه‪،‬‬
‫قال لك النفاة‪ :‬ونحن ل نعقل من الذي أثبته إل التشبيه‪ ،‬فما أجبت به‬
‫النفاة‪ ،‬أجابك به أهل السنة‪ ،‬لما نفيته‪.‬‬
‫والحاصل أن من نفى شيئا وأثبت شيئا مما دل الكتاب والسنة على إثباته‪،‬‬
‫فهو متناقض‪ ،‬ل يثبت له دليل شرعي ول عقلي‪ ،‬بل قد خالف المعقول‬
‫والمنقول‪.‬‬

‫) ‪(1/94‬‬

‫ة الل ّهِ ِ‬ ‫ن ي ُب َد ّ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل كَ َ‬
‫ما‬
‫ن ب َعْدِ َ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬
‫ل ن ِعْ َ‬ ‫م ْ‬
‫ن آي َةٍ ب َي ّن َةٍ وَ َ‬
‫م ِ ْ‬
‫م آت َي َْناهُ ْ‬‫سَراِئي َ ْ‬
‫ل ب َِني إ ِ ْ‬ ‫س ْ‬‫َ‬
‫ب )‪(211‬‬ ‫قا ِ‬ ‫ْ‬
‫ديد ُ العِ َ‬ ‫ه َ‬
‫ش ِ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ه فَإ ِ ّ‬
‫جاَءت ْ ُ‬ ‫َ‬

‫ة الل ّهِ‬
‫م َ‬ ‫ن ي ُب َد ّ ْ‬
‫ل ن ِعْ َ‬ ‫م ْ‬
‫ن آي َةٍ ب َي ّن َةٍ وَ َ‬
‫م ْ‬‫م ِ‬‫م آت َي َْناهُ ْ‬ ‫ل كَ ْ‬‫سَراِئي َ‬ ‫ل ب َِني إ ِ ْ‬‫س ْ‬ ‫} ‪َ } { 211‬‬
‫ب{‪.‬‬ ‫قا ِ‬ ‫ْ‬
‫ديد ُ العِ َ‬ ‫ه َ‬
‫ش ِ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫َ‬
‫ه فإ ِ ّ‬ ‫جاَءت ْ ُ‬
‫ما َ‬
‫ن ب َعْدِ َ‬
‫م ْ‬
‫ِ‬
‫ن آي َةٍ ب َي ّن َةٍ { تدل على‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬‫م آت َي َْناهُ ْ‬ ‫َ‬
‫لك ْ‬ ‫سَراِئي َ‬‫ل ب َِني إ ِ ْ‬ ‫س ْ‬‫بقول تعالى‪َ } :‬‬
‫الحق‪ ،‬وعلى صدق الرسل‪ ،‬فتيقنوها وعرفوها‪ ،‬فلم يقوموا بشكر هذه‬
‫النعمة‪ ،‬التي تقتضي القيام بها‪.‬‬
‫بل كفروا بها وبدلوا نعمة الله كفرا‪ ،‬فلهذا استحقوا أن ينزل الله عليهم‬
‫عقابه ويحرمهم من ثوابه‪ ،‬وسمى الله تعالى كفر النعمة تبديل لها‪ ،‬لن من‬
‫أنعم الله عليه نعمة دينية أو دنيوية‪ ،‬فلم يشكرها‪ ،‬ولم يقم بواجبها‪،‬‬
‫اضمحلت عنه وذهبت‪ ،‬وتبدلت بالكفر والمعاصي‪ ،‬فصار الكفر بدل النعمة‪،‬‬
‫وأما من شكر الله تعالى‪ ،‬وقام بحقها‪ ،‬فإنها تثبت وتستمر‪ ،‬ويزيده الله‬
‫منها‪.‬‬

‫) ‪(1/95‬‬

‫مُنوا َوال ّ ِ‬ ‫ذي َ‬


‫وا‬
‫ق ْ‬
‫ن ات ّ َ‬
‫ذي َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ن ال ّ ِ َ‬
‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫خُرو َ‬‫س َ‬‫حَياةُ الد ّن َْيا وَي َ ْ‬ ‫فُروا ال ْ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ل ِل ّ ِ‬
‫ُزي ّ َ‬
‫ب )‪(212‬‬ ‫سا ٍ‬
‫ح َ‬ ‫ن يَ َ‬
‫شاُء ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫م ْ‬‫ه ي َْرُزقُ َ‬ ‫مةِ َوالل ّ ُ‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫م ي َوْ َ‬ ‫فَوْقَهُ ْ‬
‫مُنوا‬
‫نآ َ‬‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬
‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫خُرو َ‬‫س َ‬‫حَياةُ الد ّن َْيا وَي َ ْ‬ ‫فُروا ال ْ َ‬ ‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬ ‫ن ل ِل ّ ِ‬
‫} ‪ُ } { 212‬زي ّ َ‬
‫ب{‪.‬‬ ‫سا ٍ‬‫ح َ‬ ‫شاُء ب ِغَي ْرِ ِ‬‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬‫ه ي َْرُزقُ َ‬ ‫ّ‬
‫مةِ َوالل ُ‬ ‫قَيا َ‬ ‫ْ‬
‫م ال ِ‬ ‫م ي َوْ َ‬ ‫وا فَوْقَهُ ْ‬ ‫ق ْ‬‫ن ات ّ َ‬ ‫َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫يخبر تعالى أن الذين كفروا بالله وبآياته ورسله‪ ،‬ولم ينقادوا لشرعه‪ ،‬أنهم‬
‫زينت لهم الحياة الدنيا‪ ،‬فزينت في أعينهم وقلوبهم‪ ،‬فرضوا بها‪ ،‬واطمأنوا‬
‫بها وصارت أهواؤهم وإراداتهم وأعمالهم كلها لها‪ ،‬فأقبلوا عليها‪ ،‬وأكبوا‬
‫على تحصيلها‪ ،‬وعظموها‪ ،‬وعظموا من شاركهم في صنيعهم‪ ،‬واحتقروا‬
‫ن الله عليهم من بيننا؟‬ ‫المؤمنين‪ ،‬واستهزأوا بهم وقالوا‪ :‬أهؤلء م ّ‬
‫وهذا من ضعف عقولهم ونظرهم القاصر‪ ،‬فإن الدنيا دار ابتلء وامتحان‪،‬‬
‫وسيحصل الشقاء فيها لهل اليمان والكفران‪ ،‬بل المؤمن في الدنيا‪ ،‬وإن‬
‫ناله مكروه‪ ،‬فإنه يصبر ويحتسب‪ ،‬فيخفف الله عنه بإيمانه وصبره ما ل‬
‫يكون لغيره‪.‬‬
‫وإنما الشأن كل الشأن‪ ،‬والتفضيل الحقيقي‪ ،‬في الدار الباقية‪ ،‬فلهذا قال‬
‫مةِ { فيكون المتقون في أعلى‬ ‫قَيا َ‬‫م ال ْ ِ‬‫م ي َوْ َ‬‫وا فَوْقَهُ ْ‬ ‫ق ْ‬‫ن ات ّ َ‬‫ذي َ‬ ‫تعالى‪َ } :‬وال ّ ِ‬
‫الدرجات‪ ،‬متمتعين بأنواع النعيم والسرور‪ ،‬والبهجة والحبور‪.‬‬
‫والكفار تحتهم في أسفل الدركات‪ ،‬معذبين بأنواع العذاب والهانة‪،‬‬
‫والشقاء السرمدي‪ ،‬الذي ل منتهى له‪ ،‬ففي هذه الية تسلية للمؤمنين‪،‬‬
‫ونعي على الكافرين‪ .‬ولما كانت الرزاق الدنيوية والخروية‪ ،‬ل تحصل إل‬
‫ن يَ َ‬
‫شاءُ‬ ‫م ْ‬ ‫بتقدير الله‪ ،‬ولن تنال إل بمشيئة الله‪ ،‬قال تعالى‪َ } :‬والل ّ ُ‬
‫ه ي َْرُزقُ َ‬
‫ب { فالرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر‪ ،‬وأما رزق القلوب‬ ‫سا ٍ‬
‫ح َ‬‫ب ِغَي ْرِ ِ‬
‫من العلم واليمان‪ ،‬ومحبة الله وخشيته ورجائه‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فل يعطيها إل‬
‫من يحب‪.‬‬

‫) ‪(1/95‬‬

‫م‬
‫معَهُ ُ‬ ‫ل َ‬ ‫ن وَأ َن َْز َ‬ ‫من ْذِِري َ‬‫ن وَ ُ‬‫ري َ‬ ‫ش ِ‬ ‫مب َ ّ‬‫ن ُ‬ ‫ه الن ّب ِّيي َ‬ ‫ث الل ّ ُ‬ ‫حد َةً فَب َعَ َ‬ ‫ة َوا ِ‬ ‫م ً‬ ‫ُ‬
‫سأ ّ‬ ‫ن الّنا ُ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ف ِفيهِ إ ِل ال ِ‬ ‫َ‬
‫خت َل َ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫فوا ِفيهِ وَ َ‬ ‫َ‬
‫خت َل ُ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫س ِفي َ‬ ‫حك ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫م ب َي ْ َ‬ ‫حقّ ل ِي َ ْ‬ ‫ب ِبال َ‬ ‫الك َِتا َ‬
‫ُ‬
‫َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫ما‬
‫مُنوا ل ِ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫دى الل ّ ُ‬ ‫م فَهَ َ‬ ‫ت ب َغًْيا ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫م ال ْب َي َّنا ُ‬
‫جاَءت ْهُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬‫أوُتوهُ ِ‬
‫قيم ٍ )‬ ‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫شاُء إ َِلى ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫دي َ‬ ‫ه ي َهْ ِ‬ ‫حقّ ب ِإ ِذ ْن ِهِ َوالل ّ ُ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫فوا ِفيهِ ِ‬ ‫خت َل َ ُ‬
‫ا ْ‬
‫‪(213‬‬
‫ُ‬
‫ن‬
‫من ْذِِري َ‬ ‫ن وَ ُ‬ ‫ري َ‬ ‫ش ِ‬‫مب َ ّ‬ ‫ن ُ‬ ‫ه الن ّب ِّيي َ‬ ‫ث الل ّ ُ‬ ‫حد َةً فَب َعَ َ‬ ‫ة َوا ِ‬ ‫م ً‬ ‫سأ ّ‬ ‫ن الّنا ُ‬ ‫كا َ‬ ‫} ‪َ } { 213‬‬
‫خت َل َ َ‬
‫ف‬ ‫ما ا ْ‬ ‫فوا ِفيهِ وَ َ‬ ‫خت َل َ ُ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫س ِفي َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م ب َي ْ َ‬‫حك ُ َ‬‫حقّ ل ِي َ ْ‬ ‫ب ِبال ْ َ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬ ‫معَهُ ُ‬ ‫ل َ‬ ‫وَأ َن َْز َ‬
‫فيه إل ال ّذي ُ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬‫ه ال ّ ِ‬
‫دى الل ّ ُ‬ ‫م فَهَ َ‬ ‫ت ب َغًْيا ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫م ال ْب َي َّنا ُ‬ ‫جاَءت ْهُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن أوُتوهُ ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ط‬
‫صَرا ٍ‬ ‫َ‬
‫شاُء إ ِلى ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬‫دي َ‬ ‫ه ي َهْ ِ‬ ‫ّ‬
‫حقّ ب ِإ ِذ ْن ِهِ َوالل ُ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫فوا ِفيهِ ِ‬ ‫َ‬
‫خت َل ُ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫مُنوا ل ِ َ‬ ‫آ َ‬
‫قيم ٍ { ‪.‬‬ ‫ست َ ِ‬‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫)أي‪ :‬كان الناس( ]أي‪ :‬كانوا مجتمعين على الهدى‪ ،‬وذلك عشرة قرون بعد‬
‫نوح عليه السلم‪ ،‬فلما اختلفوا في الدين فكفر فريق منهم وبقي الفريق‬
‫الخر على الدين‪ ،‬وحصل النزاع وبعث الله الرسل ليفصلوا بين الخلئق‬
‫ويقيموا الحجة عليهم‪ ،‬وقيل بل كانوا[ )‪ (1‬مجتمعين على الكفر والضلل‬
‫والشقاء‪ ،‬ليس لهم نور ول إيمان‪ ،‬فرحمهم الله تعالى بإرسال الرسل‬
‫ن { من أطاع الله بثمرات الطاعات‪ ،‬من الرزق‪ ،‬والقوة‬ ‫ري َ‬ ‫ش ِ‬ ‫مب َ ّ‬‫إليهم } ُ‬
‫في البدن والقلب‪ ،‬والحياة الطيبة‪ ،‬وأعلى ذلك‪ ،‬الفوز برضوان الله والجنة‪.‬‬
‫ن { من عصى الله‪ ،‬بثمرات المعصية‪ ،‬من حرمان الرزق‪،‬‬ ‫من ْذِِري َ‬ ‫} وَ ُ‬
‫والضعف‪ ،‬والهانة‪ ،‬والحياة الضيقة‪ ،‬وأشد ذلك‪ ،‬سخط الله والنار‪.‬‬
‫حقّ { وهو الخبارات الصادقة‪ ،‬والوامر العادلة‪،‬‬ ‫ب ِبال ْ َ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬ ‫معَهُ ُ‬ ‫ل َ‬‫} وََأنز َ‬
‫فكل ما اشتملت عليه الكتب‪ ،‬فهو حق‪ ،‬يفصل بين المختلفين في الصول‬
‫والفروع‪ ،‬وهذا هو الواجب عند الختلف والتنازع‪ ،‬أن يرد الختلف إلى الله‬
‫وإلى رسوله‪ ،‬ولول أن في كتابه‪ ،‬وسنة رسوله‪ ،‬فصل النزاع‪ ،‬لما أمر بالرد‬
‫إليهما‪.‬‬
‫ولما ذكر نعمته العظيمة بإنزال الكتب على أهل الكتاب‪ ،‬وكان هذا ] ص‬
‫‪ [ 96‬يقتضي اتفاقهم عليها واجتماعهم‪ ،‬فأخبر تعالى أنهم بغى بعضهم‬
‫على بعض‪ ،‬وحصل النزاع والخصام وكثرة الختلف‪.‬‬
‫فاختلفوا في الكتاب الذي ينبغي أن يكونوا أولى الناس بالجتماع عليه‪،‬‬
‫وذلك من بعد ما علموه وتيقنوه باليات البينات‪ ،‬والدلة القاطعات‪ ،‬فضلوا‬
‫بذلك ضلل بعيدا‪.‬‬
‫حق ّ {‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫م َ‬‫فوا ِفيهِ ِ‬ ‫َ‬
‫خت َل ُ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫مُنوا { من هذه المة } ل ِ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫دى الل ّ ُ‬ ‫} فَهَ َ‬
‫فكل ما اختلف فيه أهل الكتاب‪ ،‬وأخطأوا فيه الحق والصواب‪ ،‬هدى الله‬
‫للحق فيه هذه المة } ب ِإ ِذ ْن ِهِ { تعالى وتيسيره لهم ورحمته‪.‬‬
‫م الخلق تعالى بالدعوة‬
‫قيم ٍ { فع ّ‬
‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬
‫ط ُ‬ ‫شاُء إ َِلى ِ‬
‫صَرا ٍ‬ ‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬
‫دي َ‬ ‫} َوالل ّ ُ‬
‫ه ي َهْ ِ‬
‫إلى الصراط المستقيم‪ ،‬عدل منه تعالى‪ ،‬وإقامة حجة على الخلق‪ ،‬لئل‬
‫يقولوا‪ } :‬ما جاءنا من بشير ول نذير { وهدى ‪ -‬بفضله ورحمته‪ ،‬وإعانته‬
‫ولطفه ‪ -‬من شاء من عباده‪ ،‬فهذا فضله وإحسانه‪ ،‬وذاك عدله وحكمته‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة في هامش ب‪ ،‬وبالنظر إلى السياق يظهر أن القرب أن هذا‬
‫محلها‪ ،‬ولهذا وليتسق الكلم يكون آخره هكذا )وقيل بل كانوا مجتمعين‬
‫على الكفر( ويكون قوله‪) :‬أي كان الناس( مكررا‪.‬‬

‫) ‪(1/95‬‬

‫ْ‬ ‫أ َم حسبت َ‬
‫م‬
‫ست ْهُ ُ‬
‫م ّ‬ ‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫م ْ‬
‫وا ِ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ن َ‬‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫مث َ ُ‬
‫م َ‬‫ما ي َأت ِك ُ ْ‬‫ة وَل َ ّ‬ ‫خُلوا ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫ن ت َد ْ ُ‬ ‫مأ ْ‬‫ْ َ ِ ُْ ْ‬
‫ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫صُر‬ ‫ن‬ ‫تى‬ ‫م‬
‫َ َ ُ َ َ َ ْ‬ ‫ه‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫نوا‬ ‫م‬ ‫آ‬
‫َ ِ َ َ ُ‬‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫سو‬‫ّ ُ‬ ‫ر‬‫ال‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫قو‬‫ُ‬ ‫ي‬
‫َ ّ َ‬‫تى‬ ‫ح‬ ‫لوا‬ ‫ز‬
‫َُ ِ‬‫ل‬ ‫ز‬‫و‬ ‫ُ‬ ‫ء‬ ‫را‬
‫ساُء َ ّ ّ‬
‫ض‬ ‫وال‬ ‫ال ْب َأ َ‬
‫َ‬
‫ب )‪(214‬‬ ‫ري ٌ‬ ‫صَر الل ّهِ قَ ِ‬ ‫ن نَ ْ‬‫الل ّهِ أَل إ ِ ّ‬
‫ْ‬ ‫} ‪ } { 214‬أ َم حسبت َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫وا ِ‬ ‫خل َ ْ‬‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫ل ال ّ ِ‬ ‫مث َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ما ي َأت ِك ُ ْ‬ ‫ة وَل َ ّ‬ ‫جن ّ َ‬ ‫خُلوا ال ْ َ‬
‫ن ت َد ْ ُ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ْ َ ِ ُْ ْ‬
‫ْ‬
‫مُنوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ل َوال ِ‬ ‫سو ُ‬ ‫ل الّر ُ‬ ‫قو َ‬ ‫حّتى ي َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ضّراُء وَُزلزِلوا َ‬ ‫ساُء َوال ّ‬ ‫م ال ْب َأ َ‬ ‫ست ْهُ ُ‬‫م ّ‬‫م َ‬ ‫قَب ْل ِك ُ ْ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ب{‪.‬‬ ‫ري ٌ‬ ‫صَر اللهِ قَ ِ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫صُر اللهِ أل إ ِ ّ‬ ‫مَتى ن َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫مع َ ُ‬ ‫َ‬
‫يخبر تبارك وتعالى أنه ل بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة‬
‫كما فعل بمن قبلهم‪ ،‬فهي سنته الجارية‪ ،‬التي ل تتغير ول تتبدل‪ ،‬أن من‬
‫قام بدينه وشرعه‪ ،‬ل بد أن يبتليه‪ ،‬فإن صبر على أمر الله‪ ،‬ولم يبال‬
‫بالمكاره الواقفة في سبيله‪ ،‬فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها‪،‬‬
‫ومن السيادة آلتها‪.‬‬
‫ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله‪ ،‬بأن صدته المكاره عما هو بصدده‪،‬‬
‫وثنته المحن عن مقصده‪ ،‬فهو الكاذب في دعوى اليمان‪ ،‬فإنه ليس‬
‫اليمان بالتحلي والتمني‪ ،‬ومجرد الدعاوى‪ ،‬حتى تصدقه العمال أو تكذبه‪.‬‬
‫ْ‬
‫ساُء { أي‪:‬‬ ‫م ال ْب َأ َ‬ ‫ست ْهُ ُ‬ ‫م ّ‬ ‫فقد جرى على المم القدمين ما ذكر الله عنهم } َ‬
‫ضّراُء { أي‪ :‬المراض في أبدانهم } وَُزل ْزِلوا { بأنواع المخاوف‬
‫ُ‬ ‫الفقر } َوال ّ‬
‫من التهديد بالقتل‪ ،‬والنفي‪ ،‬وأخذ الموال‪ ،‬وقتل الحبة‪ ،‬وأنواع المضار‬
‫حتى وصلت بهم الحال‪ ،‬وآل بهم الزلزال‪ ،‬إلى أن استبطأوا نصر الله مع‬
‫يقينهم به‪.‬‬
‫صُر‬‫مَتى ن َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫مع َ ُ‬‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل َوال ّ ِ‬ ‫سو ُ‬ ‫ولكن لشدة المر وضيقه قال } الّر ُ‬
‫الل ّهِ { ‪.‬‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫فلما كان الفرج عند الشدة‪ ،‬وكلما ضاق المر اتسع‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬أل إ ِ ّ‬
‫ب { فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن‪.‬‬ ‫ري ٌ‬ ‫صَر الل ّهِ قَ ِ‬ ‫نَ ْ‬
‫فكلما اشتدت عليه وصعبت‪ ،‬إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت‬
‫المحنة في حقه منحة‪ ،‬والمشقات راحات‪ ،‬وأعقبه ذلك‪ ،‬النتصار على‬
‫م‬ ‫َ‬
‫العداء وشفاء ما في قلبه من الداء‪ ،‬وهذه الية نظير قوله تعالى‪ } :‬أ ْ‬
‫حسبت َ‬
‫ن‬
‫ري َ‬‫صاب ِ ِ‬ ‫م ال ّ‬ ‫م وَي َعْل َ َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫دوا ِ‬ ‫جاهَ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫ما ي َعْل َم ِ الل ّ ُ‬ ‫ة وَل َ ّ‬ ‫خُلوا ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫ن ت َد ْ ُ‬
‫مأ ْ‬ ‫َ ِ ُْ ْ‬
‫{‪.‬‬
‫مل‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مّنا وَهُ ْ‬ ‫قولوا آ َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫ن ي ُت َْركوا أ ْ‬ ‫سأ ْ‬ ‫ب الّنا ُ‬ ‫س َ‬ ‫ح ِ‬ ‫وقوله ]تعالى‪ } [:‬الم أ َ‬
‫ن‬ ‫صد َُقوا وَل َي َعْل َ َ‬
‫م ّ‬ ‫ن َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫م فَل َي َعْل َ َ‬
‫م ّ‬ ‫ن قَب ْل ِهِ ْ‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬ ‫قد ْ فَت َّنا ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ن وَل َ َ‬‫فت َُنو َ‬
‫يُ ْ‬
‫ن { فعند المتحان‪ ،‬يكرم المرء أو يهان‪.‬‬ ‫ال ْكاذِِبي َ‬
‫َ‬

‫) ‪(1/96‬‬

‫ن َوال ْي ََتا َ‬
‫مى‬ ‫َ‬
‫ن َواْلقَْرِبي َ‬ ‫خي ْرٍ فَل ِل ْ َ‬
‫وال ِد َي ْ ِ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬‫م ِ‬‫قت ُ ْ‬ ‫ما أ َن ْ َ‬
‫ف ْ‬ ‫ل َ‬‫ن قُ ْ‬ ‫قو َ‬‫ف ُ‬ ‫ما َ‬
‫ذا ي ُن ْ ِ‬ ‫ك َ‬‫سأ َُلون َ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫م )‪(215‬‬ ‫ه ب ِهِ عَِلي ٌ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫خي ْرٍ فَإ ِ ّ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫فعَلوا ِ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫ل وَ َ‬‫سِبي ِ‬‫ن ال ّ‬ ‫ْ‬
‫ن َواب ْ ِ‬ ‫كي ِ‬
‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫َوال َ‬
‫ن‬ ‫خي ْرٍ فَل ِل ْ َ‬
‫وال ِد َي ْ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫قت ُ ْ‬ ‫ما أ َن ْ َ‬
‫ف ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن قُ ْ‬ ‫قو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ما َ‬
‫ذا ي ُن ْ ِ‬ ‫ك َ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬ ‫} ‪ } { 215‬ي َ ْ‬
‫هّ‬
‫ن الل َ‬ ‫َ‬
‫خي ْرٍ فإ ِ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫فعَلوا ِ‬ ‫ما ت َ ْ‬‫ل وَ َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ْ‬ ‫ن َوال ْي ََتا َ‬‫َوالقَْرِبي َ‬
‫ن َواب ْ ِ‬ ‫كي ِ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬‫مى َوال َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ب ِهِ عَِلي ٌ‬
‫أي‪ :‬يسألونك عن النفقة‪ ،‬وهذا يعم السؤال عن المنفق والمنفق عليه‪،‬‬
‫خي ْرٍ { أي‪ :‬مال قليل أو كثير‪،‬‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬‫قت ُ ْ‬‫ف ْ‬‫ما أ َن ْ َ‬ ‫ل َ‬ ‫فأجابهم عنهما فقال‪ } :‬قُ ْ‬
‫فأولى الناس به وأحقهم بالتقديم‪ ،‬أعظمهم حقا عليك‪ ،‬وهم الوالدان‬
‫الواجب برهما‪ ،‬والمحرم عقوقهما‪ ،‬ومن أعظم برهما‪ ،‬النفقة عليهما‪ ،‬ومن‬
‫أعظم العقوق‪ ،‬ترك النفاق عليهما‪ ،‬ولهذا كانت النفقة عليهما واجبة‪ ،‬على‬
‫الولد الموسر‪ ،‬ومن بعد الوالدين القربون‪ ،‬على اختلف طبقاتهم‪ ،‬القرب‬
‫فالقرب‪ ،‬على حسب القرب والحاجة‪ ،‬فالنفاق عليهم صدقة وصلة‪،‬‬
‫مى { وهم الصغار الذين ل كاسب لهم‪ ،‬فهم في مظنة الحاجة‬ ‫} َوال ْي ََتا َ‬
‫لعدم قيامهم بمصالح أنفسهم‪ ،‬وفقد الكاسب‪ ،‬فوصى الله بهم العباد‪،‬‬
‫ن { وهم أهل الحاجات‪ ،‬وأرباب‬ ‫كي ِ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫رحمة منه بهم ولطفا‪َ } ،‬وال ْ َ‬
‫الضرورات الذين أسكنتهم الحاجة‪ ،‬فينفق عليهم‪ ،‬لدفع حاجاتهم وإغنائهم‪.‬‬
‫ل { أي‪ :‬الغريب المنقطع به في غير بلده‪ ،‬فيعان على سفره‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن ال ّ‬‫} َواب ْ َ‬
‫بالنفقة‪ ،‬التي توصله إلى مقصده‪.‬‬
‫ولما خصص الله تعالى هؤلء الصناف‪ ،‬لشدة الحاجة‪ ،‬عمم تعالى فقال‪} :‬‬
‫خي ْرٍ { من صدقة على هؤلء وغيرهم‪ ،‬بل ومن جميع أنواع‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫فعَُلوا ِ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫م{‬ ‫ه ب ِهِ عَِلي ٌ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫الطاعات والقربات‪ ،‬لنها تدخل في اسم الخير‪ } ،‬فَإ ِ ّ‬
‫فيجازيكم عليه‪ ،‬ويحفظه لكم‪ ،‬كل على حسب نيته وإخلصه‪ ،‬وكثرة نفقته‬
‫وقلتها‪ ،‬وشدة الحاجة إليها‪ ،‬وعظم وقعها ونفعها‪.‬‬

‫) ‪(1/96‬‬

‫َ‬
‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫شي ًْئا وَهُوَ َ‬ ‫هوا َ‬ ‫ن ت َك َْر ُ‬ ‫سى أ ْ‬ ‫م وَعَ َ‬ ‫ل وَهُوَ ك ُْرهٌ ل َك ُ ْ‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫قَتا ُ‬ ‫ب عَل َي ْك ُ ُ‬‫ك ُت ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(216‬‬ ‫م َل ت َعْل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫م وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬
‫م َوالل ّ ُ‬
‫شّر ل َك ُ ْ‬ ‫شي ًْئا وَهُوَ َ‬
‫حّبوا َ‬ ‫ن تُ ِ‬‫سى أ ْ‬ ‫وَعَ َ‬
‫َ‬
‫شي ًْئا وَهُوَ‬ ‫ن ت َك َْر ُ‬
‫هوا َ‬ ‫سى أ ْ‬ ‫م وَعَ َ‬ ‫ل وَهُوَ ك ُْرهٌ ل َك ُ ْ‬
‫قَتا ُ‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫ب عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫} ‪ } { 216‬ك ُت ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مل‬ ‫م وَأن ْت ُ ْ‬‫ه ي َعْل َ ُ‬
‫م َوالل ّ ُ‬ ‫شّر ل َك ُ ْ‬ ‫شي ًْئا وَهُوَ َ‬
‫حّبوا َ‬ ‫ن تُ ِ‬ ‫سى أ ْ‬ ‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬
‫م وَعَ َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫ت َعْل ُ‬
‫هذه الية‪ ،‬فيها فرض القتال في سبيل الله‪ ،‬بعد ما كان المؤمنون‬
‫مأمورين بتركه‪ ،‬لضعفهم‪ ،‬وعدم احتمالهم لذلك‪ ،‬فلما هاجر النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم إلى المدينة‪ ،‬وكثر ] ص ‪ [ 97‬المسلمون‪ ،‬وقووا أمرهم‬
‫الله تعالى بالقتال‪ ،‬وأخبر أنه مكروه للنفوس‪ ،‬لما فيه من التعب‬
‫والمشقة‪ ،‬وحصول أنواع المخاوف والتعرض للمتالف‪ ،‬ومع هذا‪ ،‬فهو خير‬
‫محض‪ ،‬لما فيه من الثواب العظيم‪ ،‬والتحرز من العقاب الليم‪ ،‬والنصر‬
‫على العداء والظفر بالغنائم‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬مما هو مرب‪ ،‬على ما فيه من‬
‫َ‬
‫م { وذلك مثل القعود عن‬ ‫شّر ل َك ُ ْ‬
‫شي ًْئا وَهُوَ َ‬
‫حّبوا َ‬
‫ن تُ ِ‬
‫سى أ ْ‬
‫الكراهة } وَعَ َ‬
‫الجهاد لطلب الراحة‪ ،‬فإنه شر‪ ،‬لنه يعقب الخذلن‪ ،‬وتسلط العداء على‬
‫السلم وأهله‪ ،‬وحصول الذل والهوان‪ ،‬وفوات الجر العظيم وحصول‬
‫العقاب‪.‬‬
‫وهذه اليات عامة مطردة‪ ،‬في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما‬
‫فيها من المشقة أنها خير بل شك‪ ،‬وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما‬
‫تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شر بل شك‪.‬‬
‫وأما أحوال الدنيا‪ ،‬فليس المر مطردا‪ ،‬ولكن الغالب على العبد المؤمن‪،‬‬
‫أنه إذا أحب أمرا من المور‪ ،‬فقيض الله ]له[ من السباب ما يصرفه عنه‬
‫أنه خير له‪ ،‬فالوفق له في ذلك‪ ،‬أن يشكر الله‪ ،‬ويجعل الخير في الواقع‪،‬‬
‫لنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه‪ ،‬وأقدر على مصلحة عبده‬
‫َ‬
‫مل‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬
‫م وَأن ْت ُ ْ‬ ‫منه‪ ،‬وأعلم بمصلحته منه كما قال ]تعالى‪َ } [:‬والل ّ ُ‬
‫ن { فاللئق بكم أن تتمشوا مع أقداره‪ ،‬سواء سرتكم أو ساءتكم‪.‬‬ ‫ت َعْل َ ُ‬
‫مو َ‬
‫ولما كان المر بالقتال‪ ،‬لو لم يقيد‪ ،‬لشمل الشهر الحرم وغيرها‪ ،‬استثنى‬
‫تعالى‪ ،‬القتال في الشهر الحرم فقال‪:‬‬

‫) ‪(1/96‬‬

‫ل‬
‫سِبي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫صد ّ عَ ْ‬ ‫ل ِفيهِ ك َِبيٌر وَ َ‬ ‫ل قَِتا ٌ‬ ‫ل ِفيهِ قُ ْ‬ ‫حَرام ِ قَِتا ٍ‬ ‫شهْرِ ال ْ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ِ‬ ‫ك عَ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬
‫ة أك ْب َُر‬ ‫فت ْن َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ه أك ْب َُر ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫الل ّهِ وَك ُ ْ‬
‫عن ْد َ اللهِ َوال ِ‬ ‫من ْ ُ‬‫ج أهْل ِهِ ِ‬ ‫خَرا ُ‬ ‫حَرام ِ وَإ ِ ْ‬ ‫جدِ ال َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬‫فٌر ب ِهِ َوال َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫عوا وَ َ‬ ‫طا ُ‬ ‫ست َ َ‬
‫نا ْ‬ ‫م إِ ِ‬ ‫ن ِدين ِك ُ ْ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫دوك ُ ْ‬ ‫حّتى ي َُر ّ‬ ‫م َ‬ ‫قات ُِلون َك ُ ْ‬
‫ن يُ َ‬ ‫ل وََل ي ََزاُلو َ‬ ‫قت ْ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫م ِفي الد ّن َْيا‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ما‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ئ‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫أو‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ر‬ ‫ف‬‫كا‬‫َ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ه‬ ‫ن‬‫دي‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ُ‬
‫َ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ٌ‬ ‫ْ ِ ِ ِ َ ُ ْ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫يَ ْ َ ِ ْ ِ ْ ْ‬
‫ك‬ ‫ن‬‫م‬ ‫د‬ ‫د‬ ‫ت‬ ‫ر‬
‫ن )‪(217‬‬ ‫َ‬ ‫خَرةِ وَُأول َئ ِ َ‬ ‫َواْل َ ِ‬
‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫م ِفيَها َ‬ ‫ب الّنارِ هُ ْ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫كأ ْ‬

‫ل ِفيهِ ك َِبيٌر وَ َ‬
‫صد ّ‬ ‫ل قَِتا ٌ‬ ‫ل ِفيهِ قُ ْ‬ ‫حَرام ِ قَِتا ٍ‬ ‫شهْرِ ال ْ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ِ‬ ‫ك عَ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬ ‫} ‪ } { 217‬ي َ ْ‬
‫هّ‬ ‫َ‬
‫ه أك ْب َُر ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ل الل ّهِ وَك ُ ْ‬
‫عن ْد َ الل ِ‬ ‫من ْ ُ‬
‫ج أهْل ِهِ ِ‬ ‫خَرا ُ‬ ‫حَرام ِ وَإ ِ ْ‬ ‫جدِ ال َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫فٌر ب ِهِ َوال َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫عَ ْ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ن ِدين ِك ُ ْ‬
‫م إِ ِ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫دوك ُ ْ‬‫حّتى ي َُر ّ‬ ‫م َ‬ ‫قات ِلون َك ُ ْ‬ ‫ن يُ َ‬‫ل َول ي ََزالو َ‬ ‫ِ‬ ‫قت ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫َ‬ ‫ة أك ْب َُر ِ‬
‫م‬ ‫َوال ْ ِ‬
‫فت ْن َ ُ‬
‫حب ِط َ ْ‬
‫ت‬ ‫ك َ‬ ‫كافٌِر فَُأول َئ ِ َ‬ ‫ت وَهُوَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِدين ِهِ فَي َ ُ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫ن ي َْرت َدِد ْ ِ‬ ‫م ْ‬‫عوا وَ َ‬ ‫طا ُ‬ ‫ست َ َ‬ ‫ا ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫خَرةِ وَأول َئ ِ َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬‫م ِفيَها َ‬ ‫ب الّنارِ هُ ْ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫كأ ْ‬ ‫م ِفي الد ّن َْيا َوال ِ‬ ‫مال ُهُ ْ‬ ‫أع ْ َ‬
‫الجمهور على أن تحريم القتال في الشهر الحرم‪ ،‬منسوخ بالمر بقتال‬
‫المشركين حيثما وجدوا‪ ،‬وقال بعض المفسرين‪ :‬إنه لم ينسخ‪ ،‬لن المطلق‬
‫محمول على المقيد‪ ،‬وهذه الية مقيدة لعموم المر بالقتال مطلقا؛ ولن‬
‫من جملة مزية الشهر الحرم‪ ،‬بل أكبر مزاياها‪ ،‬تحريم القتال فيها‪ ،‬وهذا‬
‫إنما هو في قتال البتداء‪ ،‬وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الشهر الحرم‪،‬‬
‫كما يجوز في البلد الحرام‪.‬‬
‫ولما كانت هذه الية نازلة بسبب ما حصل‪ ،‬لسرية عبد الله بن جحش‪،‬‬
‫وقتلهم عمرو بن الحضرمي‪ ،‬وأخذهم أموالهم‪ ،‬وكان ذلك ‪ -‬على ما قيل ‪-‬‬
‫في شهر رجب‪ ،‬عيرهم المشركون بالقتال بالشهر الحرم‪ ،‬وكانوا في‬
‫تعييرهم ظالمين‪ ،‬إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به‬
‫ل الل ّهِ { أي‪ :‬صد‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫صد ّ عَ ْ‬ ‫المسلمين‪ ،‬قال تعالى في بيان ما فيهم‪ } :‬وَ َ‬
‫المشركين من يريد اليمان بالله وبرسوله‪ ،‬وفتنتهم من آمن به‪ ،‬وسعيهم‬
‫في ردهم عن دينهم‪ ،‬وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام‪ ،‬والبلد الحرام‪،‬‬
‫الذي هو بمجرده‪ ،‬كاف في الشر‪ ،‬فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد‬
‫ج أ َهْل ِهِ { أي‪ :‬أهل المسجد الحرام‪ ،‬وهم النبي صلى الله‬ ‫خَرا ُ‬‫حرام؟! } وَإ ِ ْ‬
‫عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬لنهم أحق به من المشركين‪ ،‬وهم عماره على‬
‫ه { ولم يمكنوهم من الوصول إليه‪ ،‬مع أن هذا‬ ‫من ْ ُ‬
‫الحقيقة‪ ،‬فأخرجوهم } ِ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫م َ‬ ‫البيت سواء العاكف فيه والباد‪ ،‬فهذه المور كل واحد منها } أك ْب َُر ِ‬
‫ل { في الشهر الحرام‪ ،‬فكيف وقد اجتمعت فيهم؟! فعلم أنهم فسقة‬ ‫قت ْ ِ‬‫ال ْ َ‬
‫ظلمة‪ ،‬في تعييرهم المؤمنين‪.‬‬
‫ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين‪ ،‬وليس غرضهم في‬
‫أموالهم وقتلهم‪ ،‬وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم‪ ،‬ويكونوا كفارا بعد‬
‫إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير‪ ،‬فهم باذلون قدرتهم في ذلك‪،‬‬
‫ساعون بما أمكنهم‪ } ،‬ويأبى الله إل أن يتم نوره ولو كره الكافرون { ‪.‬‬
‫وهذا الوصف عام لكل الكفار‪ ،‬ل يزالون يقاتلون غيرهم‪ ،‬حتى يردوهم عن‬
‫دينهم‪ ،‬وخصوصا‪ ،‬أهل الكتاب‪ ،‬من اليهود والنصارى‪ ،‬الذين بذلوا‬
‫الجمعيات‪ ،‬ونشروا الدعاة‪ ،‬وبثوا الطباء‪ ،‬وبنوا المدارس‪ ،‬لجذب المم إلى‬
‫دينهم‪ ،‬وتدخيلهم عليهم‪ ،‬كل ما يمكنهم من الشبه‪ ،‬التي تشككهم في‬
‫دينهم‪.‬‬
‫ن على المؤمنين بالسلم‪ ،‬واختار‬ ‫م ّ‬ ‫ولكن المرجو من الله تعالى‪ ،‬الذي َ‬
‫لهم دينه القيم‪ ،‬وأكمل لهم دينه‪ ،‬أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم القيام‪،‬‬
‫وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره‪ ،‬ويجعل كيدهم في نحورهم‪ ،‬وينصر‬
‫دينه‪ ،‬ويعلي كلمته‪.‬‬
‫وتكون هذه الية صادقة على هؤلء الموجودين من الكفار‪ ،‬كما صدقت‬
‫هّ‬ ‫قو َ‬
‫ل الل ِ‬‫سِبي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫دوا عَ ْ‬ ‫ص ّ‬ ‫وال َهُ ْ‬
‫م ل ِي َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ف ُ َ‬ ‫فُروا ي ُن ْ ِ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫على من قبلهم‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫م‬
‫جهَن ّ َ‬ ‫َ‬
‫فُروا إ ِلى َ‬ ‫َ‬
‫نك َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ن َوال ِ‬ ‫َ‬
‫م ي ُغْلُبو َ‬ ‫سَرةً ث ُ ّ‬‫ح ْ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫ن عَلي ْهِ ْ‬ ‫كو ُ‬‫م تَ ُ‬‫قون ََها ث ُ ّ‬‫ف ُ‬ ‫فَ َ‬
‫سي ُن ْ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫شُرو َ‬ ‫ح َ‬ ‫يُ ْ‬
‫ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن السلم‪ ،‬بأن اختار عليه الكفر واستمر على‬
‫خَرةِ { لعدم‬ ‫م ِفي الد ّن َْيا َوال ِ‬ ‫مال ُهُ ْ‬ ‫ت أعْ َ‬
‫َ‬
‫حب ِط َ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ذلك حتى مات كافرا‪ } ،‬فَُأول َئ ِ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫وجود شرطها وهو السلم‪ } ،‬وُأول َئ ِ َ َ‬
‫دو َ‬‫خال ِ ُ‬ ‫م ِفيَها َ‬ ‫ب الّنارِ هُ ْ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫كأ ْ‬ ‫َ‬
‫] ص ‪[ 98‬‬
‫ودلت الية بمفهومها‪ ،‬أن من ارتد ثم عاد إلى السلم‪ ،‬أنه يرجع إليه عمله‬
‫الذي قبل ردته‪ ،‬وكذلك من تاب من المعاصي‪ ،‬فإنها تعود إليه أعماله‬
‫المتقدمة‪.‬‬

‫) ‪(1/97‬‬

‫ة‬
‫م َ‬
‫ح َ‬
‫ن َر ْ‬
‫جو َ‬ ‫ل الل ّهِ ُأول َئ ِ َ‬
‫ك ي َْر ُ‬ ‫سِبي ِ‬
‫دوا ِفي َ‬
‫جاهَ ُ‬
‫جُروا وَ َ‬
‫ها َ‬
‫ن َ‬ ‫مُنوا َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ذي َ‬
‫نآ َ‬ ‫ن ال ّ ِ َ‬ ‫إِ ّ‬
‫م )‪(218‬‬ ‫حي ٌ‬
‫فوٌر َر ِ‬ ‫الل ّهِ َوالل ّ ُ‬
‫ه غَ ُ‬
‫ك‬‫ل الل ّهِ ُأول َئ ِ َ‬
‫سِبي ِ‬‫دوا ِفي َ‬‫جاهَ ُ‬
‫جُروا وَ َ‬
‫ها َ‬
‫ن َ‬‫ذي َ‬ ‫مُنوا َوال ّ ِ‬‫نآ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫} ‪ } { 218‬إ ِ ّ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ّ‬
‫ة اللهِ َوالل ُ‬‫ّ‬ ‫م َ‬
‫ح َ‬‫ن َر ْ‬
‫جو َ‬
‫ي َْر ُ‬
‫هذه العمال الثلثة‪ ،‬هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية‪ ،‬وبها يعرف‬
‫ما مع النسان‪ ،‬من الربح والخسران‪ ،‬فأما اليمان‪ ،‬فل تسأل عن فضيلته‪،‬‬
‫وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة‪ ،‬وأهل‬
‫الجنة من أهل النار؟ وهو الذي إذا كان مع العبد‪ ،‬قبلت أعمال الخير منه‪،‬‬
‫وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ول عدل‪ ،‬ول فرض‪ ،‬ول نفل‪.‬‬
‫وأما الهجرة‪ :‬فهي مفارقة المحبوب المألوف‪ ،‬لرضا الله تعالى‪ ،‬فيترك‬
‫المهاجر وطنه وأمواله‪ ،‬وأهله‪ ،‬وخلنه‪ ،‬تقربا إلى الله ونصرة لدينه‪.‬‬
‫وأما الجهاد‪ :‬فهو بذل الجهد في مقارعة العداء‪ ،‬والسعي التام في نصرة‬
‫دين الله‪ ،‬وقمع دين الشيطان‪ ،‬وهو ذروة العمال الصالحة‪ ،‬وجزاؤه‪،‬‬
‫أفضل الجزاء‪ ،‬وهو السبب الكبر‪ ،‬لتوسيع دائرة السلم وخذلن عباد‬
‫الصنام‪ ،‬وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولدهم‪.‬‬
‫فمن قام بهذه العمال الثلثة على لوائها ومشقتها كان لغيرها أشد قياما‬
‫به وتكميل‪.‬‬
‫فحقيق بهؤلء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله‪ ،‬لنهم أتوا بالسبب‬
‫الموجب للرحمة‪ ،‬وفي هذا دليل على أن الرجاء ل يكون إل بعد القيام‬
‫بأسباب السعادة‪ ،‬وأما الرجاء المقارن للكسل‪ ،‬وعدم القيام بالسباب‪،‬‬
‫فهذا عجز وتمن وغرور‪ ،‬وهو دال على ضعف همة صاحبه‪ ،‬ونقص عقله‪،‬‬
‫بمنزلة من يرجو وجود ولد بل نكاح‪ ،‬ووجود الغلة بل بذر وسقي‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ة الل ّهِ { إشارة إلى أن العبد ولو أتى من‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫وفي قوله‪ } :‬أول َئ ِ َ‬
‫ح َ‬ ‫ن َر ْ‬
‫جو َ‬ ‫ك ي َْر ُ‬
‫العمال بما أتى به ل ينبغي له أن يعتمد عليها‪ ،‬ويعول عليها‪ ،‬بل يرجو‬
‫رحمة ربه‪ ،‬ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه‪ ،‬وستر عيوبه‪.‬‬
‫م { وسعت‬ ‫حي ٌ‬
‫فوٌر { أي‪ :‬لمن تاب توبة نصوحا } َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬‫ولهذا قال‪َ } :‬والل ّ ُ‬
‫رحمته كل شيء‪ ،‬وعم جوده وإحسانه كل حي‪.‬‬
‫وفي هذا دليل على أن من قام بهذه العمال المذكورة‪ ،‬حصل له مغفرة‬
‫الله‪ ،‬إذ الحسنات يذهبن السيئات وحصلت له رحمة الله‪.‬‬
‫وإذا حصلت له المغفرة‪ ،‬اندفعت عنه عقوبات الدنيا والخرة‪ ،‬التي هي آثار‬
‫الذنوب‪ ،‬التي قد غفرت واضمحلت آثارها‪ ،‬وإذا حصلت له الرحمة‪ ،‬حصل‬
‫على كل خير في الدنيا والخرة؛ بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم‪،‬‬
‫فلول توفيقه إياهم‪ ،‬لم يريدوها‪ ،‬ولول إقدارهم عليها‪ ،‬لم يقدروا عليها‪،‬‬
‫ن‬
‫ولول إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم‪ ،‬فله الفضل أول وآخرا‪ ،‬وهو الذي م ّ‬
‫بالسبب والمسبب‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/98‬‬

‫ما‬
‫مه ُ َ‬‫س وَإ ِث ْ ُ‬ ‫مَنافِعُ ِللّنا ِ‬ ‫م ك َِبيٌر وَ َ‬‫ما إ ِث ْ ٌ‬
‫ل ِفيهِ َ‬ ‫سرِ قُ ْ‬ ‫مرِ َوال ْ َ‬
‫مي ْ ِ‬ ‫خ ْ‬‫ن ال ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ك عَ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬
‫يَ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ه ل َك ُ ُ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫فوَ ك َذ َل ِ َ‬
‫ك ي ُب َي ّ ُ‬ ‫ل ال ْعَ ْ‬‫ن قُ ِ‬ ‫قو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ما َ‬
‫ذا ي ُن ْ ِ‬ ‫ك َ‬‫سأُلون َ َ‬ ‫ما وَي َ ْ‬ ‫فعِهِ َ‬ ‫ن نَ ْ‬‫م ْ‬‫أك ْب َُر ِ‬
‫ن )‪(219‬‬ ‫فك ُّرو َ‬ ‫م ت َت َ َ‬ ‫ت ل َعَل ّك ُ ْ‬‫اْل ََيا ِ‬
‫مَنافِعُ‬ ‫م ك َِبيٌر وَ َ‬‫ما إ ِث ْ ٌ‬ ‫سرِ قُ ْ‬
‫ل ِفيهِ َ‬ ‫مي ْ ِ‬‫مرِ َوال ْ َ‬ ‫خ ْ‬‫ن ال ْ َ‬ ‫ك عَ ِ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬‫} ‪ } { 219‬ي َ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫فعِهِ َ‬ ‫ن نَ ْ‬
‫م ْ‬
‫ما أكب َُر ِ‬ ‫س وَإ ِث ْ ُ‬
‫مه ُ َ‬ ‫ِللّنا ِ‬
‫أي‪ :‬يسألك ‪ -‬يا أيها الرسول ‪ -‬المؤمنون عن أحكام الخمر والميسر‪ ،‬وقد‬
‫كانا مستعملين في الجاهلية وأول السلم‪ ،‬فكأنه وقع فيهما إشكال‪ ،‬فلهذا‬
‫سألوا عن حكمهما‪ ،‬فأمر الله تعالى نبيه‪ ،‬أن يبين لهم منافعهما‬
‫ومضارهما‪ ،‬ليكون ذلك مقدمة لتحريمهما‪ ،‬وتحتيم تركهما‪.‬‬
‫فأخبر أن إثمهما ومضارهما‪ ،‬وما يصدر منهما من ذهاب العقل والمال‪،‬‬
‫والصد عن ذكر الله‪ ،‬وعن الصلة‪ ،‬والعداوة‪ ،‬والبغضاء ‪ -‬أكبر مما يظنونه‬
‫من نفعهما‪ ،‬من كسب المال بالتجارة بالخمر‪ ،‬وتحصيله بالقمار والطرب‬
‫للنفوس‪ ،‬عند تعاطيهما‪ ،‬وكان هذا البيان زاجرا للنفوس عنهما‪ ،‬لن العاقل‬
‫يرجح ما ترجحت مصلحته‪ ،‬ويجتنب ما ترجحت مضرته‪ ،‬ولكن لما كانوا قد‬
‫ألفوهما‪ ،‬وصعب التحتيم بتركهما أول وهلة‪ ،‬قدم هذه الية‪ ،‬مقدمة‬
‫َ‬
‫سُر‬ ‫مُر َوال ْ َ‬
‫مي ْ ِ‬ ‫ما ال ْ َ‬
‫خ ْ‬ ‫مُنوا إ ِن ّ َ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫للتحريم‪ ،‬الذي ذكره في قوله‪َ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ن{‬ ‫من ْت َُهو َ‬ ‫ن { إلى قوله‪ُ } :‬‬ ‫طا ِ‬‫شي ْ َ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫م ِ‬
‫ن عَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ج ٌ‬ ‫م رِ ْ‬ ‫ب َوالْزل ُ‬ ‫صا ُ‬‫َوالن ْ َ‬
‫وهذا من لطفه ورحمته وحكمته‪ ،‬ولهذا لما نزلت‪ ،‬قال عمر رضي الله‬
‫عنه‪ :‬انتهينا انتهينا‪.‬‬
‫فأما الخمر‪ :‬فهو كل مسكر خامر العقل وغطاه‪ ،‬من أي نوع كان‪ ،‬وأما‬
‫الميسر‪ :‬فهو كل المغالبات التي يكون فيها عوض من الطرفين‪ ،‬من النرد‪،‬‬
‫والشطرنج‪ ،‬وكل مغالبة قولية أو فعلية‪ ،‬بعوض )‪ (1‬سوى مسابقة الخيل‪،‬‬
‫والبل‪ ،‬والسهام‪ ،‬فإنها مباحة‪ ،‬لكونها معينة على الجهاد‪ ،‬فلهذا رخص فيها‬
‫الشارع‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادتان في ب بخط مغاير‪.‬‬

‫) ‪(1/98‬‬

‫ه ل َك ُ ُ‬
‫م‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫ك ي ُب َي ّ ُ‬ ‫ل ال ْعَ ْ‬
‫فوَ ك َذ َل ِ َ‬ ‫ن قُ ِ‬ ‫قو َ‬‫ف ُ‬ ‫ما َ‬
‫ذا ي ُن ْ ِ‬ ‫ك َ‬‫سأ َُلون َ َ‬‫} ‪ } { 220 - 219‬وَي َ ْ‬
‫خَرةِ { ‪.‬‬ ‫ن * ِفي الد ّن َْيا َوال ِ‬ ‫فك ُّرو َ‬ ‫م ت َت َ َ‬‫ت ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫الَيا ِ‬
‫وهذا سؤال عن مقدار ما ينفقونه من أموالهم‪ ،‬فيسر الله لهم المر‪،‬‬
‫وأمرهم أن ينفقوا العفو‪ ،‬وهو المتيسر من أموالهم‪ ،‬الذي ل تتعلق به‬
‫حاجتهم وضرورتهم‪ ،‬وهذا يرجع إلى ] ص ‪ [ 99‬كل أحد بحسبه‪ ،‬من غني‬
‫وفقير ومتوسط‪ ،‬كل له قدرة على إنفاق ما عفا من ماله‪ ،‬ولو شق تمرة‪.‬‬
‫ولهذا أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬أن يأخذ العفو من أخلق‬
‫الناس وصدقاتهم‪ ،‬ول يكلفهم ما يشق عليهم‪ .‬ذلك بأن الله تعالى لم‬
‫يأمرنا بما أمرنا به حاجة منه لنا‪ ،‬أو تكليفا لنا ]بما يشق[ )‪ (1‬بل أمرنا بما‬
‫فيه سعادتنا‪ ،‬وما يسهل علينا‪ ،‬وما به النفع لنا ولخواننا فيستحق على ذلك‬
‫أتم الحمد‪.‬‬
‫ولما بّين تعالى هذا البيان الشافي‪ ،‬وأطلع العباد على أسرار شرعه قال‪:‬‬
‫ت { أي‪ :‬الدالت على الحق‪ ،‬المحصلت للعلم‬ ‫م الَيا ِ‬ ‫ه ل َك ُ ُ‬
‫ن الل ّ ُ‬ ‫ك ي ُب َي ّ ُ‬‫} ك َذ َل ِ َ‬
‫خَرةِ { أي‪ :‬لكي‬ ‫ن ِفي الد ّن َْيا َوال ِ‬ ‫فك ُّرو َ‬ ‫النافع والفرقان‪ } ،‬ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م ت َت َ َ‬
‫تستعملوا أفكاركم في أسرار شرعه‪ ،‬وتعرفوا أن أوامره‪ ،‬فيها مصالح‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬وأيضا لكي تتفكروا في الدنيا وسرعة انقضائها‪ ،‬فترفضوها‬
‫وفي الخرة وبقائها‪ ،‬وأنها دار الجزاء فتعمروها‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في أ‪ :‬لمع‪.‬‬

‫) ‪(1/98‬‬

‫ن‬ ‫خي ٌْر وَإ ِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ح ل َهُ ْ‬ ‫صَل ٌ‬ ‫ل إِ ْ‬ ‫مى قُ ْ‬ ‫ن ال ْي ََتا َ‬ ‫ِ‬ ‫ك عَ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬ ‫خَرةِ وَي َ ْ‬ ‫ِفي الد ّن َْيا َواْل َ ِ‬
‫َ‬
‫ه َلعْن َت َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫صل ِِح وَل َوْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫سد َ ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬ ‫وان ُك ُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫م فَإ ِ ْ‬ ‫طوهُ ْ‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫تُ َ‬
‫م )‪(220‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيٌز َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫إِ ّ‬

‫م‬
‫طوهُ ْ‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫ن تُ َ‬‫خي ٌْر وَإ ِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ح ل َهُ ْ‬ ‫صل ٌ‬ ‫ل إِ ْ‬ ‫مى قُ ْ‬ ‫ن ال ْي ََتا َ‬ ‫ك عَ ِ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬ ‫} ‪ } { 220‬وَي َ ْ‬
‫هّ‬
‫ن الل َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ُ‬
‫ه لعْن َت َك ْ‬ ‫ّ‬
‫شاَء الل ُ‬ ‫َ‬
‫صل ِِح وَلوْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫سد َ ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫م ال ُ‬ ‫َ‬
‫ه ي َعْل ُ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬ ‫وان ُك ُ ْ‬ ‫فَإ ِ ْ‬
‫خ َ‬
‫م{‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬‫زيٌز َ‬ ‫عَ ِ‬
‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫وا َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫ما ي َأكلو َ‬ ‫ما إ ِن ّ َ‬‫مى ظل ً‬ ‫ل الي ََتا َ‬ ‫م َ‬‫نأ ْ‬ ‫ن ي َأكلو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫لما نزل قوله تعالى‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫سِعيًرا { شق ذلك على المسلمين‪ ،‬وعزلوا‬ ‫ن َ‬ ‫صل َوْ َ‬ ‫سي َ ْ‬ ‫م َناًرا وَ َ‬ ‫طون ِهِ ْ‬ ‫ِفي ب ُ ُ‬
‫طعامهم عن طعام اليتامى‪ ،‬خوفا على أنفسهم من تناولها‪ ،‬ولو في هذه‬
‫الحالة التي جرت العادة بالمشاركة فيها‪ ،‬وسألوا النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم عن ذلك‪ ،‬فأخبرهم تعالى أن المقصود‪ ،‬إصلح أموال اليتامى‪،‬‬
‫بحفظها وصيانتها‪ ،‬والتجار فيها وأن خلطتهم إياهم في طعام أو غيره جائز‬
‫على وجه ل يضر باليتامى‪ ،‬لنهم إخوانكم‪ ،‬ومن شأن الخ مخالطة أخيه‪،‬‬
‫والمرجع في ذلك إلى النية والعمل‪ ،‬فمن علم الله من نيته أنه مصلح‬
‫لليتيم‪ ،‬وليس له طمع في ماله‪ ،‬فلو دخل عليه شيء من غير قصد لم يكن‬
‫عليه بأس‪ ،‬ومن علم الله من نيته‪ ،‬أن قصده بالمخالطة‪ ،‬التوصل إلى أكلها‬
‫وتناولها‪ ،‬فذلك الذي حرج وأثم‪ ،‬و "الوسائل لها أحكام المقاصد "‬
‫وفي هذه الية‪ ،‬دليل على جواز أنواع المخالطات‪ ،‬في المآكل والمشارب‪،‬‬
‫والعقود وغيرها‪ ،‬وهذه الرخصة‪ ،‬لطف من الله ]تعالى[ وإحسان‪ ،‬وتوسعة‬
‫م { أي‪ :‬شق عليكم بعدم‬ ‫ه لعْن َت َك ُ ْ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫على المؤمنين‪ ،‬وإل فـ } ل َوْ َ‬
‫زيٌز { أي‪ :‬له‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫الرخصة بذلك‪ ،‬فحرجتم‪ .‬وشق عليكم وأثمتم‪ } ،‬إ ِ ّ‬
‫م { ل يفعل إل ما‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫القوة الكاملة‪ ،‬والقهر لكل شيء‪ ،‬ولكنه مع ذلك } َ‬
‫هو مقتضى حكمته الكاملة وعنايته التامة‪ ،‬فعزته ل تنافي حكمته‪ ،‬فل يقال‪:‬‬
‫إنه ما شاء فعل‪ ،‬وافق الحكمة أو خالفها‪ ،‬بل يقال‪ :‬إن أفعاله وكذلك‬
‫أحكامه‪ ،‬تابعة لحكمته‪ ،‬فل يخلق شيئا عبثا‪ ،‬بل ل بد له من حكمة‪،‬‬
‫عرفناها‪ ،‬أم لم نعرفها وكذلك لم يشرع لعباده شيئا مجردا عن الحكمة‪،‬‬
‫فل يأمر إل بما فيه مصلحة خالصة‪ ،‬أو راجحة‪ ،‬ول ينهى إل عما فيه مفسدة‬
‫خالصة أو راجحة‪ ،‬لتمام حكمته ورحمته‪.‬‬

‫) ‪(1/99‬‬

‫َ‬
‫شرِك َةٍ وَل َوْ‬‫م ْ‬‫ن ُ‬‫م ْ‬ ‫خي ٌْر ِ‬
‫ة َ‬ ‫مؤْ ِ‬
‫من َ ٌ‬ ‫ة ُ‬ ‫ن وََل َ‬
‫م ٌ‬ ‫م ّ‬‫حّتى ي ُؤْ ِ‬‫ت َ‬ ‫شرِ َ‬
‫كا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫حوا ال ْ ُ‬‫وََل ت َن ْك ِ ُ‬
‫َ‬
‫ك‬ ‫م ْ‬
‫شرِ ٍ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬‫خي ٌْر ِ‬‫ن َ‬‫م ٌ‬ ‫مُنوا وَل َعَب ْد ٌ ُ‬
‫مؤْ ِ‬ ‫حّتى ي ُؤْ ِ‬‫ن َ‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫حوا ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫م وََل ت ُن ْك ِ ُ‬‫جب َت ْك ُ ْ‬‫أع ْ َ‬
‫فَرةِ ب ِإ ِذ ْن ِهِ‬ ‫جن ّةِ َوال ْ َ‬
‫مغْ ِ‬ ‫عو إ َِلى ال ْ َ‬ ‫ن إ َِلى الّنارِ َوالل ّ ُ‬
‫ه ي َد ْ ُ‬ ‫عو َ‬‫ك ي َد ْ ُ‬‫م ُأول َئ ِ َ‬
‫جب َك ُ ْ‬
‫َ‬
‫وَل َوْ أعْ َ‬
‫وي ُب َي ّ َ‬
‫ن )‪(221‬‬ ‫س ل َعَل ّهُ ْ‬
‫م ي َت َذ َك ُّرو َ‬ ‫ن آَيات ِهِ ِللّنا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫خي ٌْر ِ‬ ‫ة َ‬ ‫من َ ٌ‬‫مؤْ ِ‬ ‫ة ُ‬ ‫م ٌ‬ ‫ن َول َ‬ ‫م ّ‬ ‫حّتى ي ُؤْ ِ‬ ‫ت َ‬ ‫كا ِ‬ ‫شرِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫حوا ال ْ ُ‬ ‫} ‪َ } { 221‬ول ت َن ْك ِ ُ‬
‫َ‬
‫خي ٌْر‬
‫ن َ‬ ‫م ٌ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫مُنوا وَل َعَب ْد ٌ ُ‬ ‫حّتى ي ُؤْ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫حوا ال ْ ُ‬ ‫م َول ت ُن ْك ِ ُ‬ ‫جب َت ْك ُ ْ‬ ‫شرِك َةٍ وَل َوْ أعْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬
‫جن ّةِ‬‫عو إ ِلى ال َ‬ ‫ه ي َد ْ ُ‬
‫ن إ ِلى الّنارِ َوالل ُ‬ ‫عو َ‬ ‫م أولئ ِك ي َد ْ ُ‬ ‫جب َك ْ‬ ‫ك وَلوْ أعْ َ‬ ‫شرِ ٍ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ّ‬
‫م ي َت َذ َكُرو َ‬ ‫ّ‬
‫س لعَلهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫فَرةِ ب ِإ ِذ ْن ِهِ وَي ُب َي ّ ُ‬ ‫ْ‬
‫ن آَيات ِهِ ِللّنا ِ‬ ‫مغ ْ ِ‬ ‫َوال َ‬
‫حّتى‬ ‫ت { ما دمن على شركهن } َ‬ ‫َ‬
‫شرِكا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫حوا { النساء } ال ُ‬ ‫أي‪َ } :‬ول ت َن ْك ِ ُ‬
‫ن { لن المؤمنة ولو بلغت من الدمامة ما بلغت خير من المشركة‪،‬‬ ‫م ّ‬ ‫ي ُؤْ ِ‬
‫ولو بلغت من الحسن ما بلغت‪ ،‬وهذه عامة في جميع النساء المشركات‪،‬‬
‫وخصصتها آية المائدة‪ ،‬في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال تعالى‪:‬‬
‫} وال ْمحصنات من ال ّذي ُ‬
‫ب{‪.‬‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ ُ ْ َ َ ُ ِ َ‬
‫مُنوا { وهذا عام ل تخصيص فيه‪.‬‬ ‫حّتى ي ُؤْ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫حوا ال ْ ُ‬ ‫} َول ت ُن ْك ِ ُ‬
‫ثم ذكر تعالى‪ ،‬الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة‪ ،‬لمن خالفهما‬
‫ن إ َِلى الّنارِ { أي‪ :‬في أقوالهم أو أفعالهم‬ ‫عو َ‬ ‫ك ي َد ْ ُ‬ ‫في الدين فقال‪ُ } :‬أول َئ ِ َ‬
‫وأحوالهم‪ ،‬فمخالطتهم على خطر منهم‪ ،‬والخطر ليس من الخطار‬
‫الدنيوية‪ ،‬إنما هو الشقاء البدي‪.‬‬
‫ويستفاد من تعليل الية‪ ،‬النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع‪ ،‬لنه إذا لم‬
‫يجز التزوج مع )‪ (1‬أن فيه مصالح كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى‪،‬‬
‫وخصوصا‪ ،‬الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم‪،‬‬
‫كالخدمة ونحوها‪.‬‬
‫ن { دليل على اعتبار الولي ]في‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫حوا ال ُ‬ ‫وفي قوله‪َ } :‬ول ت ُن ْك ِ ُ‬
‫النكاح[‪.‬‬
‫فَرةِ { أي‪ :‬يدعو عباده لتحصيل الجنة‬ ‫مغ ْ ِ‬ ‫ْ‬
‫جن ّةِ َوال َ‬ ‫ْ‬
‫عو إ ِلى ال َ‬ ‫َ‬ ‫ه ي َد ْ ُ‬ ‫} َوالل ّ ُ‬
‫والمغفرة‪ ،‬التي من آثارها‪ ،‬دفع العقوبات وذلك بالدعوة إلى أسبابها من‬
‫العمال الصالحة‪ ،‬والتوبة النصوح‪ ،‬والعلم النافع‪ ،‬والعمل الصالح‪.‬‬
‫ن { فيوجب‬ ‫م ي َت َذ َك ُّرو َ‬ ‫س ل َعَل ّهُ ْ‬‫ن آَيات ِهِ { أي‪ :‬أحكامه وحكمها } ِللّنا ِ‬ ‫} وَي ُب َي ّ ُ‬
‫لهم ذلك التذكر لما نسوه‪ ،‬وعلم ما جهلوه‪ ،‬والمتثال لما ضيعوه‪.‬‬
‫] ص ‪[ 100‬‬
‫ثم قال تعالى‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في أ‪ :‬لمع‪.‬‬

‫) ‪(1/99‬‬

‫ض وََل‬ ‫حي ِ‬ ‫م ِ‬‫ساَء ِفي ال ْ َ‬ ‫ذى َفاعْت َزُِلوا الن ّ َ‬ ‫ل هُوَ أ َ ً‬ ‫ض قُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫حي‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك عَ‬‫سأ َُلون َ َ‬ ‫وَي َ ْ‬
‫هّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن فإ ِ َ‬ ‫ْ‬
‫ن الل َ‬‫ه إِ ّ‬‫م الل ُ‬ ‫مَرك ُ‬ ‫ثأ َ‬ ‫حي ْ ُ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫ن فأُتوهُ ّ‬ ‫ذا ت َطهّْر َ‬ ‫حّتى ي َطهُْر َ‬ ‫ن َ‬ ‫قَرُبوهُ ّ‬ ‫تَ ْ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫حْرث َك ْ‬
‫م‬ ‫م فأُتوا َ‬ ‫ث لك ْ‬ ‫حْر ٌ‬ ‫م َ‬ ‫ساؤُك ْ‬ ‫ن )‪ (222‬ن ِ َ‬ ‫ري َ‬ ‫مت َطهّ ِ‬ ‫ب ال ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن وَي ُ ِ‬ ‫واِبي َ‬‫ب الت ّ ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫يُ ِ‬
‫ملُقوهُ وَب َ ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ر‬
‫ش ِ‬ ‫م ُ‬ ‫موا أن ّك ْ‬ ‫ه َواعْل ُ‬ ‫قوا الل َ‬ ‫م َوات ّ ُ‬ ‫سك ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫موا ِلن ْ ُ‬ ‫م وَقَد ّ ُ‬ ‫شئ ْت ُ ْ‬
‫أّنى ِ‬
‫ن )‪(223‬‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ال ْ ُ‬
‫ساَء‬‫ذى َفاعْت َزُِلوا الن ّ َ‬ ‫ل هُوَ أ َ ً‬ ‫ض قُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫حي‬‫م ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ك عَ‬‫سأ َُلون َ َ‬ ‫} ‪ } { 223 - 222‬وَي َ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ث‬‫حي ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن فَأُتوهُ ّ‬ ‫ذا ت َطهّْر َ‬ ‫ن فَإ ِ َ‬ ‫حّتى ي َطهُْر َ‬ ‫ن َ‬ ‫قَرُبوهُ ّ‬ ‫ض َول ت َ ْ‬ ‫حي ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ِفي ال ْ َ‬
‫َ‬
‫م‬‫ث ل َك ُ ْ‬ ‫حْر ٌ‬ ‫م َ‬ ‫ساؤُك ُ ْ‬ ‫ن * نِ َ‬ ‫ري َ‬ ‫ِ‬ ‫مت َط َهّ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن وَي ُ ِ‬ ‫واِبي َ‬ ‫ب الت ّ ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫مَرك ُ ُ‬ ‫أ َ‬
‫َ‬ ‫فَأ ْتوا حرث َك ُ َ‬
‫ملُقوهُ‬ ‫م ُ‬ ‫موا أن ّك ُ ْ‬ ‫ه َواعْل َ ُ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫م َوات ّ ُ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫موا لن ْ ُ‬ ‫م وَقَد ّ ُ‬ ‫شئ ْت ُ ْ‬‫م أّنى ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ْ‬
‫شرِ ال ُ‬ ‫وَب َ ّ‬
‫يخبر تعالى عن سؤالهم عن المحيض‪ ،‬وهل تكون المرأة بحالها بعد‬
‫الحيض‪ ،‬كما كانت قبل ذلك‪ ،‬أم تجتنب مطلقا كما يفعله اليهود؟‪.‬‬
‫فأخبر تعالى أن الحيض أذى‪ ،‬وإذا كان أذى‪ ،‬فمن الحكمة أن يمنع الله‬
‫ساَء ِفي‬ ‫تعالى عباده عن الذى وحده‪ ،‬ولهذا قال‪َ } :‬فاعْت َزُِلوا الن ّ َ‬
‫ض { أي‪ :‬مكان الحيض‪ ،‬وهو الوطء في الفرج خاصة‪ ،‬فهذا هو‬ ‫حي ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫المحرم إجماعا‪ ،‬وتخصيص العتزال في المحيض‪ ،‬يدل على أن مباشرة‬
‫الحائض وملمستها‪ ،‬في غير الوطء في الفرج جائز‪.‬‬
‫ن { يدل على أن المباشرة فيما‬ ‫حّتى ي َط ْهُْر َ‬ ‫ن َ‬ ‫قَرُبوهُ ّ‬ ‫لكن قوله‪َ } :‬ول ت َ ْ‬
‫قرب من الفرج‪ ،‬وذلك فيما بين السرة والركبة‪ ،‬ينبغي تركه كما كان النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأته وهي حائض‪ ،‬أمرها أن تتزر‪،‬‬
‫فيباشرها‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬ينقطع‬ ‫ْ‬
‫حّتى ي َطهُْر َ‬ ‫حّيض } َ‬ ‫وحد هذا العتزال وعدم القربان لل ُ‬
‫دمهن‪ ،‬فإذا انقطع الدم‪ ،‬زال المنع الموجود وقت جريانه‪ ،‬الذي كان لحله‬
‫شرطان‪ ،‬انقطاع الدم‪ ،‬والغتسال منه‪.‬‬
‫ذا‬‫فلما انقطع الدم‪ ،‬زال الشرط الول وبقي الثاني‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬فَإ ِ َ‬
‫تط َهرن { أي‪ :‬اغتسلن } فَأ ْتوهُن من حي ُ َ‬
‫ه { أي‪ :‬في القبل ل‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫مَرك ُ ُ‬ ‫ثأ َ‬ ‫ّ ِ ْ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ّ ْ َ‬
‫في الدبر‪ ،‬لنه محل الحرث‪.‬‬
‫وفيه دليل على وجوب الغتسال للحائض‪ ،‬وأن انقطاع الدم‪ ،‬شرط‬
‫لصحته‪.‬‬
‫ولما كان هذا المنع لطفا منه تعالى بعباده‪ ،‬وصيانة عن الذى قال تعالى‪:‬‬
‫ب‬‫ح ّ‬ ‫ن { أي‪ :‬من ذنوبهم على الدوام } وَي ُ ِ‬ ‫واِبي َ‬ ‫ب الت ّ ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫ن { أي‪ :‬المتنزهين عن الثام وهذا يشمل التطهر الحسي من‬ ‫ري َ‬ ‫مت َطهّ ِ‬ ‫َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫النجاس والحداث‪.‬‬
‫ففيه مشروعية الطهارة مطلقا‪ ،‬لن الله يحب المتصف بها‪ ،‬ولهذا كانت‬
‫الطهارة مطلقا‪ ،‬شرطا لصحة الصلة والطواف‪ ،‬وجواز مس المصحف‪،‬‬
‫ويشمل التطهر المعنوي عن الخلق الرذيلة‪ ،‬والصفات القبيحة‪ ،‬والفعال‬
‫الخسيسة‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م { مقبلة ومدبرة غير أنه ل‬ ‫شئ ْت ُ ْ‬‫م أّنى ِ‬ ‫حْرث َك ُ ْ‬‫م فَأُتوا َ‬ ‫ث لك ُ ْ‬ ‫حْر ٌ‬ ‫م َ‬ ‫ساؤُك ُ ْ‬ ‫} نِ َ‬
‫يكون إل في القبل‪ ،‬لكونه موضع الحرث‪ ،‬وهو الموضع الذي يكون منه‬
‫الولد‪.‬‬
‫وفيه دليل على تحريم الوطء في الدبر‪ ،‬لن الله لم يبح إتيان المرأة إل‬
‫في الموضع الذي منه الحرث‪ ،‬وقد تكاثرت الحاديث عن النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم في تحريم ذلك‪ ،‬ولعن فاعله‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬من التقرب إلى الله بفعل الخيرات‪ ،‬ومن ذلك‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫موا لن ْ ُ‬ ‫} وَقَد ّ ُ‬
‫أن يباشر الرجل امرأته‪ ،‬ويجامعها على وجه القربة والحتساب‪ ،‬وعلى‬
‫رجاء تحصيل الذرية الذين ينفع الله بهم‪.‬‬
‫ه { أي‪ :‬في جميع أحوالكم‪ ،‬كونوا ملزمين لتقوى الله‪،‬‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫} َوات ّ ُ‬
‫َ‬
‫ملُقوه ُ { ومجازيكم على أعمالكم‬ ‫مستعينين بذلك لعلمكم‪ } ،‬أن ّك ُ ْ‬
‫م ُ‬
‫الصالحة وغيرها‪.‬‬
‫ن { لم يذكر المبشر به ليدل على العموم‪ ،‬وأن‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ْ‬
‫شرِ ال ُ‬‫ثم قال‪ } :‬وَب َ ّ‬
‫لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الخرة‪ ،‬وكل خير واندفاع كل ضير‪،‬‬
‫رتب على اليمان فهو داخل في هذه البشارة‪.‬‬
‫وفيها محبة الله للمؤمنين‪ ،‬ومحبة ما يسرهم‪ ،‬واستحباب تنشيطهم‬
‫وتشويقهم بما أعد الله لهم من الجزاء الدنيوي والخروي‪.‬‬

‫) ‪(1/100‬‬

‫ة ِل َيمان ِك ُ َ‬
‫س َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ن الّنا ِ‬
‫حوا ب َي ْ َ‬
‫صل ِ ُ‬
‫قوا وَت ُ ْ‬
‫ن ت َب َّروا وَت َت ّ ُ‬
‫مأ ْ‬‫ْ‬ ‫ض ً ْ َ‬ ‫جعَُلوا الل ّ َ‬
‫ه عُْر َ‬ ‫وََل ت َ ْ‬
‫م )‪(224‬‬ ‫ميعٌ عَِلي ٌ‬ ‫س ِ‬
‫َ‬
‫ة ليمان ِك ُ َ‬
‫ن‬‫حوا ب َي ْ َ‬
‫صل ِ ُ‬
‫قوا وَت ُ ْ‬ ‫ن ت َب َّروا وَت َت ّ ُ‬
‫مأ ْ‬‫ْ‬ ‫ض ً ْ َ‬ ‫جعَُلوا الل ّ َ‬
‫ه عُْر َ‬ ‫} ‪َ } { 224‬ول ت َ ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ميعٌ عَِلي ٌ‬ ‫س ِ‬
‫ه َ‬ ‫س َوالل ّ ُ‬
‫الّنا ِ‬
‫المقصود من اليمين‪ ،‬والقسم تعظيم المقسم به‪ ،‬وتأكيد المقسم عليه‪،‬‬
‫وكان الله تعالى قد أمر بحفظ اليمان‪ ،‬وكان مقتضى ذلك حفظها في كل‬
‫شيء‪ ،‬ولكن الله تعالى استثنى من ذلك إذا كان البر باليمين‪ ،‬يتضمن ترك‬
‫ما هو أحب إليه‪ ،‬فنهى عباده أن يجعلوا أيمانهم عرضة‪ ،‬أي‪ :‬مانعة وحائلة‬
‫عن أن يبروا‪ :‬أن )‪ (1‬يفعلوا خيرا‪ ،‬أو يتقوا شرا‪ ،‬أو يصلحوا بين الناس‪،‬‬
‫فمن حلف على ترك واجب وجب حنثه‪ ،‬وحرم إقامته على يمينه‪ ،‬ومن‬
‫حلف على ترك مستحب‪ ،‬استحب له الحنث‪ ،‬ومن حلف على فعل محرم‪،‬‬
‫وجب الحنث‪ ،‬أو على فعل مكروه استحب الحنث‪ ،‬وأما المباح فينبغي فيه‬
‫حفظ اليمين عن الحنث‪.‬‬
‫ويستدل بهذه الية على القاعدة المشهورة‪ ،‬أنه "إذا تزاحمت المصالح‪،‬‬
‫قدم أهمها "فهنا تتميم اليمين مصلحة‪ ،‬وامتثال أوامر الله في هذه الشياء‪،‬‬
‫مصلحة أكبر من ذلك‪ ،‬فقدمت لذلك‪.‬‬
‫ميعٌ { أي‪ :‬لجميع‬ ‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ثم ختم الية بهذين السمين الكريمين فقال‪َ } :‬والل ُ‬
‫م { بالمقاصد ] ص ‪ [ 101‬والنيات‪ ،‬ومنه سماعه لقوال‬ ‫الصوات } عَِلي ٌ‬
‫الحالفين‪ ،‬وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر‪ ،‬وفي ضمن ذلك التحذير‬
‫من مجازاته‪ ،‬وأن أعمالكم ونياتكم‪ ،‬قد استقر علمها عنده‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬أي‪.‬‬

‫) ‪(1/100‬‬

‫َ‬
‫م َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ت قُُلوب ُك ُ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬
‫سب َ ْ‬ ‫خذ ُك ُ ْ‬
‫م بِ َ‬ ‫م وَل َك ِ ْ‬
‫ن يُ َ‬
‫ؤا ِ‬ ‫ه ِبالل ّغْوِ ِفي أي ْ َ‬
‫مان ِك ُ ْ‬ ‫الل ّ ُ‬ ‫م‬‫خذ ُك ُ ُ‬ ‫َل ي ُ َ‬
‫ؤا ِ‬
‫)‪(225‬‬ ‫م‬
‫حِلي ٌ‬ ‫فوٌر َ‬ ‫غَ ُ‬
‫َ‬
‫م وَل َك ِ ْ‬
‫ن‬ ‫ه ِبالل ّغْوِ ِفي أي ْ َ‬
‫مان ِك ُ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫خذ ُك ُ ُ‬
‫ؤا ِ‬ ‫} ‪.{ 225‬ثم قال تعالى‪ } :‬ل ي ُ َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حِلي ٌ‬ ‫فوٌر َ‬ ‫ه غَ ُ‬‫م َوالل ّ ُ‬‫ت قُُلوب ُك ُ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬
‫سب َ ْ‬ ‫خذ ُك ُ ْ‬
‫م بِ َ‬ ‫يُ َ‬
‫ؤا ِ‬
‫أي‪ :‬ل يؤاخذكم بما يجري على ألسنتكم من اليمان اللغية‪ ،‬التي يتكلم بها‬
‫العبد‪ ،‬من غير قصد منه ول كسب قلب‪ ،‬ولكنها جرت على لسانه كقول‬
‫الرجل في عرض كلمه‪" :‬ل والله "و "بلى والله "وكحلفه على أمر ماض‪،‬‬
‫يظن صدق نفسه‪ ،‬وإنما المؤاخذة على ما قصده القلب‪.‬‬
‫وفي هذا دليل على اعتبار المقاصد في القوال‪ ،‬كما هي معتبرة في‬
‫الفعال‪.‬‬
‫} والله غفور { لمن تاب إليه‪ } ،‬حليم { بمن عصاه‪ ،‬حيث لم يعاجله‬
‫بالعقوبة‪ ،‬بل حلم عنه وستر‪ ،‬وصفح مع قدرته عليه‪ ،‬وكونه بين يديه‪.‬‬

‫) ‪(1/101‬‬

‫م‬
‫حي ٌ‬
‫فوٌر َر ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه غَ ُ‬ ‫ن َفاُءوا فَإ ِ ّ‬ ‫ص أ َْرب َعَةِ أ َ ْ‬
‫شهُرٍ فَإ ِ ْ‬ ‫م ت ََرب ّ ُ‬
‫سائ ِهِ ْ‬
‫ن نِ َ‬‫م ْ‬
‫ن ِ‬‫ن ي ُؤُْلو َ‬ ‫ل ِل ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫م )‪(227‬‬ ‫ميعٌ عَِلي ٌ‬‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫موا الط َّلقَ فَإ ِ ّ‬ ‫ن عََز ُ‬‫)‪ (226‬وَإ ِ ْ‬

‫ن َفاُءوا‬ ‫شهُرٍ فَإ ِ ْ‬ ‫ص أ َْرب َعَةِ أ َ ْ‬


‫م ت ََرب ّ ُ‬ ‫سائ ِهِ ْ‬
‫ن نِ َ‬
‫م ْ‬ ‫ن ي ُؤُْلو َ‬
‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪ } { 227 - 226‬ل ِل ّ ِ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ميعٌ عَِلي ٌ‬ ‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫طلقَ فَإ ِ ّ‬ ‫موا ال ّ‬‫ن عََز ُ‬ ‫م * وَإ ِ ْ‬ ‫حي ٌ‬‫فوٌر َر ِ‬‫ه غَ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫فَإ ِ ّ‬
‫وهذا من اليمان الخاصة بالزوجة‪ ،‬في أمر خاص وهو حلف الزوج على‬
‫ترك وطء زوجته مطلقا‪ ،‬أو مقيدا‪ ،‬بأقل من أربعة أشهر أو أكثر‪.‬‬
‫فمن آلى من زوجته خاصة‪ ،‬فإن كان لدون أربعة أشهر‪ ،‬فهذا مثل سائر‬
‫اليمان‪ ،‬إن حنث كفر‪ ،‬وإن أتم يمينه‪ ،‬فل شيء عليه‪ ،‬وليس لزوجته عليه‬
‫سبيل‪ ،‬لنه ملكه أربعة أشهر‪.‬‬
‫وإن كان أبدا‪ ،‬أو مدة تزيد على أربعة أشهر‪ ،‬ضربت له مدة أربعة أشهر‬
‫من يمينه‪ ،‬إذا طلبت زوجته ذلك‪ ،‬لنه حق لها‪ ،‬فإذا تمت أمر بالفيئة وهو‬
‫الوطء‪ ،‬فإن وطئ‪ ،‬فل شيء عليه إل كفارة اليمين‪ ،‬وإن امتنع‪ ،‬أجبر على‬
‫الطلق‪ ،‬فإن امتنع‪ ،‬طلق عليه الحاكم‪.‬‬
‫ن‬‫ولكن الفيئة والرجوع إلى زوجته‪ ،‬أحب إلى الله تعالى‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬فَإ ِ ْ‬
‫ه‬‫ن الل ّ َ‬
‫َفاُءوا { أي‪ :‬رجعوا إلى ما حلفوا على تركه‪ ،‬وهو الوطء‪ } .‬فَإ ِ ّ‬
‫م{‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر { يغفر لهم ما حصل منهم من الحلف‪ ،‬بسبب رجوعهم‪َ } .‬ر ِ‬ ‫غَ ُ‬
‫حيث جعل ليمانهم كفارة وتحلة‪ ،‬ولم يجعلها لزمة لهم غير قابلة‬
‫للنفكاك‪ ،‬ورحيم بهم أيضا‪ ،‬حيث فاءوا إلى زوجاتهم‪ ،‬وحنوا عليهن‬
‫ورحموهن‪.‬‬
‫طلقَ { أي‪ :‬امتنعوا من الفيئة‪ ،‬فكان ذلك دليل على‬ ‫موا ال ّ‬ ‫ن عََز ُ‬ ‫} وَإ ِ ْ‬
‫رغبتهم عنهن‪ ،‬وعدم إرادتهم لزواجهم‪ ،‬وهذا ل يكون إل عزما على‬
‫الطلق‪ ،‬فإن حصل هذا الحق الواجب منه مباشرة‪ ،‬وإل أجبره الحاكم عليه‬
‫أو قام به‪.‬‬
‫م { فيه وعيد وتهديد‪ ،‬لمن يحلف هذا الحلف‪ ،‬ويقصد‬ ‫ميعٌ عَِلي ٌ‬ ‫س ِ‬
‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} فَإ ِ ّ‬
‫بذلك المضارة والمشاقة‪.‬‬
‫ويستدل بهذه الية على أن اليلء‪ ،‬خاص بالزوجة‪ ،‬لقوله‪ } :‬من نسائهم {‬
‫وعلى وجوب الوطء في كل أربعة أشهر مرة‪ ،‬لنه بعد الربعة‪ ،‬يجبر إما‬
‫على الوطء‪ ،‬أو على الطلق‪ ،‬ول يكون ذلك إل لتركه واجبا‪.‬‬

‫) ‪(1/101‬‬
‫خل َقَ‬
‫ما َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫نأ ْ‬
‫ل ل َه َ‬
‫ح ّ ُ ّ‬ ‫ة قُُروٍء وََل ي َ ِ‬ ‫ن ث ََلث َ َ‬‫سهِ ّ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن ب ِأ َن ْ ُ‬‫ص َ‬‫ت ي َت ََرب ّ ْ‬ ‫قا ُ‬ ‫مط َل ّ َ‬ ‫َوال ْ ُ‬
‫َ‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ اْل َ ِ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫حقّ ب َِرد ّهِ ّ‬ ‫نأ َ‬ ‫خرِ وَب ُُعول َت ُهُ ّ‬ ‫م ّ‬‫ن ي ُؤْ ِ‬‫ن كُ ّ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫مهِ ّ‬ ‫حا ِ‬ ‫ه ِفي أْر َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫َ‬
‫ل‬
‫جا ِ‬ ‫ف وَِللّر َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬
‫ذي عَل َي ْهِ ّ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫مث ْ ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫حا وَل َهُ ّ‬‫صَل ً‬ ‫دوا إ ِ ْ‬ ‫ن أَرا ُ‬ ‫ك إِ ْ‬ ‫ِفي ذ َل ِ َ‬
‫م )‪(228‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬‫زيٌز َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ة َوالل ّ ُ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ن د ََر َ‬ ‫عَل َي ْهِ ّ‬
‫ن‬‫نأ ْ‬
‫ل ل َه َ‬
‫ح ّ ُ ّ‬ ‫ة قُُروٍء َول ي َ ِ‬ ‫ن َثلث َ َ‬ ‫سه ِ ّ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن ب ِأ َن ْ ُ‬ ‫ص َ‬ ‫ت ي َت ََرب ّ ْ‬ ‫قا ُ‬ ‫مط َل ّ َ‬ ‫} ‪َ } { 228‬وال ْ ُ‬
‫َ‬
‫خرِ وَب ُُعول َت ُهُ ّ‬
‫ن‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬ ‫م ّ‬‫ن ي ُؤْ ِ‬‫ن كُ ّ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫مهِ ّ‬ ‫حا ِ‬ ‫ه ِفي أْر َ‬ ‫خل َقَ الل ّ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن َ‬ ‫م َ‬ ‫ي َك ْت ُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬ ‫ذي عَل َي ْهِ ّ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫مث ْ ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫حا وَل َهُ ّ‬ ‫صل ً‬ ‫دوا إ ِ ْ‬ ‫ن أَرا ُ‬ ‫ك إِ ْ‬ ‫ن ِفي ذ َل ِ َ‬ ‫حقّ ب َِرد ّهِ ّ‬ ‫أ َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيٌز َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ة َوالل ّ ُ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ن د ََر َ‬ ‫ل عَل َي ْهِ ّ‬ ‫جا ِ‬‫وَِللّر َ‬
‫ن { أي‪ :‬ينتظرن‬ ‫َ‬
‫سهِ ّ‬ ‫ف ِ‬‫ن ب ِأن ْ ُ‬ ‫ص َ‬ ‫أي‪ :‬النساء اللتي طلقهن أزواجهن } ي َت ََرب ّ ْ‬
‫ة قُُروٍء { أي‪ :‬حيض‪ ،‬أو أطهار على اختلف العلماء في‬ ‫ويعتددن مدة } َثلث َ َ‬
‫م‪،‬‬‫حك ٍ‬‫َ‬ ‫عد ّةُ ِ‬ ‫المراد بذلك‪ ،‬مع أن الصحيح أن القرء‪ ،‬الحيض‪ ،‬ولهذه العدةِ ِ‬
‫منها‪ :‬العلم ببراءة الرحم‪ ،‬إذا تكررت عليها ثلثة القراء‪ ،‬علم أنه ليس في‬
‫رحمها حمل‪ ،‬فل يفضي إلى اختلط النساب‪ ،‬ولهذا أوجب تعالى عليهن‬
‫َ‬
‫ن { وحرم عليهن‪ ،‬كتمان ذلك‪ ،‬من‬ ‫مه ِ ّ‬ ‫حا ِ‬ ‫ه ِفي أْر َ‬ ‫خل َقَ الل ّ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫الخبار عن } َ‬
‫حمل أو حيض‪ ،‬لن كتمان ذلك‪ ،‬يفضي إلى مفاسد كثيرة‪ ،‬فكتمان الحمل‪،‬‬
‫موجب أن تلحقه بغير من هو له‪ ،‬رغبة فيه واستعجال لنقضاء العدة‪ ،‬فإذا‬
‫ألحقته بغير أبيه‪ ،‬حصل من قطع الرحم والرث‪ ،‬واحتجاب محارمه وأقاربه‬
‫عنه‪ ،‬وربما تزوج ذوات محارمه‪ ،‬وحصل في مقابلة ذلك‪ ،‬إلحاقه بغير أبيه‪،‬‬
‫وثبوت توابع ذلك‪ ،‬من الرث منه وله‪ ،‬ومن جعل أقارب الملحق به‪ ،‬أقارب‬
‫له‪ ،‬وفي ذلك من الشر والفساد‪ ،‬ما ل يعلمه إل رب العباد‪ ،‬ولو لم يكن‬
‫في ذلك‪ ،‬إل إقامتها مع من نكاحها باطل في حقه‪ ،‬وفيه الصرار على‬
‫الكبيرة العظيمة‪ ،‬وهي الزنا لكفى بذلك شرا‪.‬‬
‫وأما كتمان الحيض‪ ،‬بأن استعجلت وأخبرت به وهي كاذبة‪ ،‬ففيه من‬
‫انقطاع حق الزوج عنها‪ ،‬وإباحتها لغيره وما يتفرع عن ذلك من الشر‪ ،‬كما‬
‫ذكرنا‪ ،‬وإن كذبت وأخبرت بعدم وجود الحيض‪ ،‬لتطول العدة‪ ،‬فتأخذ منه‬
‫نفقة غير واجبة عليه‪ ،‬بل هي سحت عليها محرمة من جهتين‪:‬‬
‫من كونها ل تستحقه‪ ،‬ومن كونها نسبته إلى حكم الشرع وهي كاذبة‪ ،‬وربما‬
‫راجعها بعد انقضاء العدة‪ ،‬فيكون ذلك سفاحا‪ ،‬لكونها أجنبية عنه‪ ،‬فلهذا‬
‫َ‬ ‫ل ل َه َ‬
‫ن كُ ّ‬
‫ن‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫مه ِ ّ‬ ‫حا ِ‬ ‫ه ِفي أْر َ‬ ‫خل َقَ الل ّ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ح ّ ُ ّ‬ ‫قال تعالى‪َ } :‬ول ي َ ِ‬
‫خر ِ { ‪.‬‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬ ‫م ّ‬ ‫ي ُؤْ ِ‬
‫] ص ‪[ 102‬‬
‫فصدور الكتمان منهن دليل على عدم إيمانهن بالله واليوم الخر‪ ،‬وإل فلو‬
‫ن بالله واليوم الخر‪ ،‬وعرفن أنهن مجزيات عن أعمالهن‪ ،‬لم يصدر‬ ‫آم ّ‬
‫منهن شيء من ذلك‪.‬‬
‫وفي ذلك دليل على قبول خبر المرأة‪ ،‬عما تخبر به عن نفسها‪ ،‬من المر‬
‫الذي ل يطلع عليه غيرها‪ ،‬كالحيض والحمل ونحوه )‪. (1‬‬
‫ك { أي‪ :‬لزواجهن ما دامت‬ ‫ن ِفي ذ َل ِ َ‬ ‫ثم قال تعالى‪ } :‬وبعول َته َ‬
‫حقّ ب َِرد ّهِ ّ‬ ‫نأ َ‬ ‫َُُ ُُ ّ‬
‫حا { أي‪:‬‬ ‫َ‬
‫صل ً‬ ‫دوا إ ِ ْ‬ ‫ن أَرا ُ‬ ‫متربصة في تلك العدة‪ ،‬أن يردوهن إلى نكاحهن } إ ِ ْ‬
‫رغبة وألفة ومودة‪.‬‬
‫ومفهوم الية أنهم إن لم يريدوا الصلح‪ ،‬فليسوا بأحق بردهن‪ ،‬فل يحل‬
‫لهم أن يراجعوهن‪ ،‬لقصد المضارة لها‪ ،‬وتطويل العدة عليها‪ ،‬وهل يملك‬
‫ذلك‪ ،‬مع هذا القصد؟ فيه قولن‪.‬‬
‫الجمهور على أنه يملك ذلك‪ ،‬مع التحريم‪ ،‬والصحيح أنه إذا لم يرد الصلح‪،‬‬
‫ل يملك ذلك‪ ،‬كما هو ظاهر الية الكريمة‪ ،‬وهذه حكمة أخرى في هذا‬
‫التربص‪ ،‬وهي‪ :‬أنه ربما أن زوجها ندم على فراقه لها‪ ،‬فجعلت له هذه‬
‫المدة‪ ،‬ليتروى بها ويقطع نظره‪.‬‬
‫وهذا يدل على محبته تعالى‪ ،‬لللفة بين الزوجين‪ ،‬وكراهته للفراق‪ ،‬كما‬
‫قال النبي صلى الله عليه وسلم‪" :‬أبغض الحلل إلى الله الطلق "وهذا‬
‫خاص في الطلق الرجعي‪ ،‬وأما الطلق البائن‪ ،‬فليس البعل بأحق برجعتها‪،‬‬
‫بل إن تراضيا على التراجع‪ ،‬فل بد من عقد جديد مجتمع الشروط‪.‬‬
‫ف { أي‪ :‬وللنساء على‬ ‫معُْرو ِ‬‫ن ِبال ْ َ‬ ‫ذي عَل َي ْهِ ّ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫مث ْ ُ‬‫ن ِ‬ ‫ثم قال تعالى‪ } :‬وَل َهُ ّ‬
‫بعولتهن من الحقوق واللوازم مثل الذي عليهن لزواجهن من الحقوق‬
‫اللزمة والمستحبة‪.‬‬
‫ومرجع الحقوق بين الزوجين يرجع إلى المعروف‪ ،‬وهو‪ :‬العادة الجارية في‬
‫ذلك البلد وذلك الزمان من مثلها لمثله‪ ،‬ويختلف ذلك باختلف الزمنة‬
‫والمكنة‪ ،‬والحوال‪ ،‬والشخاص والعوائد‪.‬‬
‫وفي هذا دليل على أن النفقة والكسوة‪ ،‬والمعاشرة‪ ،‬والمسكن‪ ،‬وكذلك‬
‫الوطء ‪ -‬الكل يرجع إلى المعروف‪ ،‬فهذا موجب العقد المطلق‪.‬‬
‫وأما مع الشرط‪ ،‬فعلى شرطهما‪ ،‬إل شرطا أحل حراما‪ ،‬أو حرم حلل‪.‬‬
‫ة { أي‪ :‬رفعة ورياسة‪ ،‬وزيادة حق عليها‪ ،‬كما قال‬ ‫ج ٌ‬‫ن د ََر َ‬ ‫ل عَل َي ْهِ ّ‬ ‫جا ِ‬‫} وَِللّر َ‬
‫ض‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ض َ‬‫ما فَ ّ‬ ‫َ‬ ‫ل قَ ّ‬ ‫جا ُ‬
‫م عَلى ب َعْ ٍ‬
‫ضه ُ ْ‬
‫ه ب َعْ َ‬
‫ل الل ُ‬ ‫ساِء ب ِ َ‬ ‫ن عَلى الن ّ َ‬ ‫مو َ‬ ‫وا ُ‬
‫َ‬
‫تعالى‪ } :‬الّر َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫وال ِهِ ْ‬‫م َ‬‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫قوا ِ‬‫ف ُ‬‫ما أ َن ْ َ‬
‫وَب ِ َ‬
‫ومنصب النبوة والقضاء‪ ،‬والمامة الصغرى والكبرى‪ ،‬وسائر الوليات‬
‫مختص بالرجال‪ ،‬وله ضعفا ما لها في كثير من المور‪ ،‬كالميراث ونحوه‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬له العزة القاهرة والسلطان العظيم‪ ،‬الذي‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيٌز َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫} َوالل ّ ُ‬
‫دانت له جميع الشياء‪ ،‬ولكنه مع عزته حكيم في تصرفه‪.‬‬
‫ويخرج من عموم هذه الية‪ ،‬الحوامل‪ ،‬فعدتهن وضع الحمل‪ ،‬واللتي لم‬
‫يدخل بهن‪ ،‬فليس لهن عدة‪ ،‬والماء‪ ،‬فعدتهن حيضتان‪ ،‬كما هو قول‬
‫الصحابة رضي الله عنهم‪ ،‬وسياق اليات )‪ (2‬يدل على أن المراد بها‬
‫الحرة‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ونحوهما‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬الية‪.‬‬

‫) ‪(1/101‬‬

‫ل ل َك ُ َ‬ ‫ن وََل ي َ ِ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫مأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫ح ب ِإ ِ ْ‬ ‫ري ٌ‬‫ِ‬ ‫س‬
‫ف أوْ ت َ ْ‬ ‫معُْرو ٍ‬ ‫ك بِ َ‬ ‫سا ٌ‬ ‫م َ‬‫ن فَإ ِ ْ‬ ‫مّرَتا ِ‬ ‫الط َّلقُ َ‬
‫م أ َّل‬ ‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬ ‫دود َ الل ّهِ فَإ ِ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫ما ُ‬ ‫قي َ‬
‫َ‬
‫خاَفا أّل ي ُ ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫َ‬
‫شي ًْئا إ ِّل أ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫موهُ ّ‬
‫َ‬
‫ما آت َي ْت ُ ُ‬‫م ّ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫ت َأ ْ ُ‬
‫ها‬
‫دو َ‬‫دود ُ الل ّهِ فََل ت َعْت َ ُ‬ ‫ح ُ‬
‫ك ُ‬ ‫ت ب ِهِ ت ِل ْ َ‬ ‫ما افْت َد َ ْ‬ ‫ما ِفي َ‬ ‫ح عَل َي ْهِ َ‬ ‫جَنا َ‬‫دود َ الل ّهِ فََل ُ‬ ‫ح ُ‬‫ما ُ‬ ‫قي َ‬‫يُ ِ‬
‫ن )‪(229‬‬ ‫م ال ّ‬ ‫ُ‬
‫دود َ الل ّهِ فَأول َئ ِ َ‬
‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫ن ي َت َعَد ّ ُ‬‫م ْ‬ ‫وَ َ‬
‫َ‬ ‫سا ٌ‬ ‫} ‪ } { 229‬ال ّ‬
‫ح ّ‬
‫ل‬ ‫ن َول ي َ ِ‬ ‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫ح ب ِإ ِ ْ‬
‫ري ٌ‬
‫س ِ‬
‫ف أو ْ ت َ ْ‬‫معُْرو ٍ‬ ‫ك بِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن فَإ ِ ْ‬‫مّرَتا ِ‬ ‫طلقُ َ‬
‫ن‬‫دود َ الل ّهِ فَإ ِ ْ‬‫ح ُ‬ ‫ما ُ‬‫قي َ‬
‫َ‬
‫خاَفا أل ي ُ ِ‬
‫ن يَ َ‬ ‫َ‬
‫شي ًْئا ِإل أ ْ‬
‫ن َ‬ ‫موهُ ّ‬ ‫ما آت َي ْت ُ ُ‬
‫م ّ‬‫ذوا ِ‬ ‫ن ت َأ ْ ُ‬
‫خ ُ‬ ‫ل َك ُ َ‬
‫مأ ْ‬‫ْ‬
‫دود ُ الل ّهِ َفل‬ ‫ت ب ِهِ ت ِل ْ َ‬ ‫فت َ‬
‫ح ُ‬‫ك ُ‬ ‫ما افْت َد َ ْ‬ ‫ما ِفي َ‬ ‫ح عَل َي ْهِ َ‬ ‫جَنا َ‬ ‫دود َ الل ّهِ َفل ُ‬‫ح ُ‬‫ما ُ‬ ‫قي َ‬ ‫م أل ي ُ ِ‬ ‫خ ْ ُ ْ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫م الظال ِ ُ‬ ‫دود َ اللهِ فَأولئ ِك هُ ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫ن ي َت َعَد ّ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ها وَ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ت َعْت َ ُ‬
‫كان الطلق في الجاهلية‪ ،‬واستمر أول السلم‪ ،‬يطلق الرجل زوجته بل‬
‫نهاية‪ ،‬فكان إذا أراد مضارتها‪ ،‬طلقها‪ ،‬فإذا شارفت انقضاء عدتها‪ ،‬راجعها‪،‬‬
‫ثم طلقها وصنع بها مثل ذلك أبدا‪ ،‬فيحصل عليها من الضرر ما الله به‬
‫ن{‬ ‫مّرَتا ِ‬ ‫طلقَ { أي‪ :‬الذي تحصل به الرجعة } َ‬ ‫عليم‪ ،‬فأخبر تعالى أن } ال ّ‬
‫ليتمكن الزوج إن لم يرد المضارة من ارتجاعها‪ ،‬ويراجع رأيه في هذه‬
‫المدة‪ ،‬وأما ما فوقها‪ ،‬فليس محل لذلك‪ ،‬لن من زاد على الثنتين‪ ،‬فإما‬
‫متجرئ على المحرم‪ ،‬أو ليس له رغبة في إمساكها‪ ،‬بل قصده المضارة‪،‬‬
‫ف { أي‪ :‬عشرة حسنة‪،‬‬ ‫معُْرو ٍ‬ ‫فلهذا أمر تعالى الزوج‪ ،‬أن يمسك زوجته } ب ِ َ‬
‫ويجري مجرى أمثاله مع زوجاتهم‪ ،‬وهذا هو الرجح‪ ،‬وإل يسرحها ويفارقها‬
‫ن { ومن الحسان‪ ،‬أن ل يأخذ على فراقه لها شيئا من مالها‪ ،‬لنه‬ ‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫} ب ِإ ِ ْ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ح ّ‬
‫مأ ْ‬ ‫ل لك ْ‬ ‫ظلم‪ ،‬وأخذ للمال في غير مقابلة بشيء‪ ،‬فلهذا قال‪َ } :‬ول ي َ ِ‬
‫دود َ الل ّهِ { وهي المخالعة‬ ‫ح ُ‬ ‫ما ُ‬ ‫قي َ‬
‫َ‬
‫خاَفا أل ي ُ ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫َ‬
‫شي ًْئا ِإل أ ْ‬‫ن َ‬ ‫موهُ ّ‬ ‫ما آت َي ْت ُ ُ‬ ‫م ّ‬‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫ت َأ ْ ُ‬
‫بالمعروف‪ ،‬بأن كرهت الزوجة زوجها‪ ،‬لخلقه أو خلقه أو نقص دينه‪،‬‬
‫فت َ‬
‫ح‬
‫جَنا َ‬ ‫دود َ الل ّهِ َفل ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫ما ُ‬ ‫قي َ‬ ‫م أل ي ُ ِ‬ ‫خ ْ ُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫وخافت أن ل تطيع الله فيه‪ } ،‬فَإ ِ ْ‬
‫ت ب ِهِ { لنه عوض لتحصيل مقصودها من الفرقة‪ ،‬وفي‬ ‫ما افْت َد َ ْ‬ ‫ما ِفي َ‬ ‫عَل َي ْهِ َ‬
‫هذا مشروعية الخلع‪ ،‬إذا وجدت هذه الحكمة‪.‬‬
‫دود ُ اللهِ { أي‪ :‬أحكامه‬ ‫ّ‬ ‫ح ُ‬‫ك { أي ما تقدم من الحكام الشرعية } ُ‬ ‫} ت ِل ْ َ‬
‫م‬
‫ك هُ ُ‬ ‫دود َ الل ّهِ فَُأول َئ ِ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ن ي َت َعَد ّ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫التي شرعها لكم‪ ،‬وأمر بالوقوف معها‪ } ،‬وَ َ‬
‫ن { وأي ظلم أعظم ممن اقتحم الحلل‪ ،‬وتعدى منه إلى الحرام‪،‬‬ ‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫ال ّ‬
‫فلم يسعه ما أحل الله؟‬
‫والظلم ثلثة أقسام‪:‬‬

‫) ‪(1/102‬‬

‫ح‬
‫جَنا َ‬ ‫قَها فََل ُ‬ ‫ن ط َل ّ َ‬‫جا غَي َْرهُ فَإ ِ ْ‬‫ح َزوْ ً‬ ‫حّتى ت َن ْك ِ َ‬
‫ن ب َعْد ُ َ‬‫م ْ‬ ‫ل لَ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫ح ّ‬‫قَها فََل ت َ ِ‬ ‫ن ط َل ّ َ‬ ‫فَإ ِ ْ‬
‫دود ُ الل ّهِ ي ُب َي ّن َُها ل ِ َ‬ ‫دود َ الل ّهِ وَت ِل ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قوْم ٍ‬ ‫ح ُ‬‫ك ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫ما ُ‬
‫قي َ‬ ‫ن ظ َّنا أ ْ‬
‫ن يُ ِ‬ ‫جَعا إ ِ ْ‬ ‫ن ي َت ََرا َ‬
‫ما أ ْ‬ ‫عَل َي ْهِ َ‬
‫ن )‪(230‬‬ ‫مو َ‬ ‫ي َعْل َ ُ‬
‫ظلم العبد فيما بينه وبين الله‪ ،‬وظلم العبد الكبر الذي هو الشرك‪ ،‬وظلم‬
‫العبد فيما بينه وبين الخلق‪ ،‬فالشرك ل يغفره الله إل بالتوبة‪ ،‬وحقوق‬
‫العباد‪ ،‬ل يترك الله منها شيئا‪ ،‬والظلم الذي بين العبد وربه فيما دون‬
‫الشرك‪ ،‬تحت المشيئة والحكمة‪.‬‬
‫] ص ‪[ 103‬‬
‫جا غَي َْرهُ‬ ‫ح َزوْ ً‬ ‫حّتى ت َن ْك ِ َ‬ ‫ن ب َعْد ُ َ‬
‫م ْ‬ ‫ل لَ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫ح ّ‬‫قَها َفل ت َ ِ‬ ‫ن ط َل ّ َ‬ ‫} ‪ } { 231 - 230‬فَإ ِ ْ‬
‫دود َ الل ّهِ وَت ِل ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ح ُ‬ ‫ما ُ‬ ‫قي َ‬ ‫ن ظ َّنا أ ْ‬
‫ن يُ ِ‬ ‫جَعا إ ِ ْ‬‫ن ي َت ََرا َ‬
‫ما أ ْ‬ ‫ح عَل َي ْهِ َ‬ ‫جَنا َ‬ ‫قَها َفل ُ‬ ‫ن ط َل ّ َ‬ ‫فَإ ِ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫قوْم ٍ ي َعْل َ ُ‬ ‫دود ُ الل ّهِ ي ُب َي ّن َُها ل ِ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ُ‬
‫حّتى‬‫ن ب َعْد ُ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫َ‬
‫لل ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫قَها { أي‪ :‬الطلقة الثالثة } َفل ت َ ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن طل َ‬ ‫يقول تعالى‪ } :‬فَإ ِ ْ‬
‫جا غَي َْرهُ { أي‪ :‬نكاحا صحيحا ويطؤها‪ ،‬لن النكاح الشرعي ل يكون‬ ‫ح َزوْ ً‬ ‫ت َن ْك ِ َ‬
‫إل صحيحا‪ ،‬ويدخل فيه العقد والوطء‪ ،‬وهذا بالتفاق‪.‬‬
‫ويشترط )‪ (1‬أن يكون نكاح الثاني‪ ،‬نكاح رغبة‪ ،‬فإن قصد به تحليلها للول‪،‬‬
‫فليس بنكاح‪ ،‬ول يفيد التحليل‪ ،‬ول يفيد وطء السيد‪ ،‬لنه ليس بزوج‪ ،‬فإذا‬
‫ح عَل َي ْهِ َ‬
‫ما {‬ ‫تزوجها الثاني راغبا ووطئها‪ ،‬ثم فارقها وانقضت عدتها } َفل ُ‬
‫جَنا َ‬
‫جَعا { أي‪ :‬يجددا عقدا جديدا‬ ‫َ‬
‫ن ي َت ََرا َ‬
‫أي‪ :‬على الزوج الول والزوجة } أ ْ‬
‫بينهما‪ ،‬لضافته التراجع إليهما‪ ،‬فدل على اعتبار التراضي‪.‬‬
‫دود َ الل ّهِ { بأن يقوم كل‬ ‫َ‬
‫ح ُ‬ ‫ما ُ‬ ‫قي َ‬
‫ن يُ ِ‬
‫ولكن يشترط في التراجع أن يظنا } أ ْ‬
‫منهما‪ ،‬بحق صاحبه‪ ،‬وذلك إذا ندما على عشرتهما السابقة الموجبة‬
‫للفراق‪ ،‬وعزما أن يبدلها بعشرة حسنة‪ ،‬فهنا ل جناح عليهما في التراجع‪.‬‬
‫ومفهوم الية الكريمة‪ ،‬أنهما إن لم يظنا أن يقيما حدود الله‪ ،‬بأن غلب على‬
‫ظنهما أن الحال السابقة باقية‪ ،‬والعشرة السيئة غير زائلة أن عليهما في‬
‫ذلك جناحا‪ ،‬لن جميع المور‪ ،‬إن لم يقم فيها أمر الله‪ ،‬ويسلك بها طاعته‪،‬‬
‫لم يحل القدام عليها‪.‬‬
‫وفي هذا دللة على أنه ينبغي للنسان‪ ،‬إذا أراد أن يدخل في أمر من‬
‫المور‪ ،‬خصوصا الوليات‪ ،‬الصغار‪ ،‬والكبار‪ ،‬نظر في نفسه )‪ ، (2‬فإن رأى‬
‫من نفسه قوة على ذلك‪ ،‬ووثق بها‪ ،‬أقدم‪ ،‬وإل أحجم‪.‬‬
‫ّ‬
‫دود ُ اللهِ { أي‪:‬‬
‫ح ُ‬ ‫ولما بين تعالى هذه الحكام العظيمة قال‪ } :‬وَت ِل ْ َ‬
‫ك ُ‬
‫شرائعه التي حددها وبينها ووضحها‪.‬‬
‫ن { لنهم هم المنتفعون بها‪ ،‬النافعون لغيرهم‪.‬‬ ‫مو َ‬‫قوْم ٍ ي َعْل َ ُ‬
‫} ي ُب َي ّن َُها ل ِ َ‬
‫وفي هذا من فضيلة أهل العلم‪ ،‬ما ل يخفى‪ ،‬لن الله تعالى جعل تبيينه‬
‫لحدوده‪ ،‬خاصا بهم‪ ،‬وأنهم المقصودون بذلك‪ ،‬وفيه أن الله تعالى يحب من‬
‫عباده‪ ،‬معرفة حدود ما أنزل على رسوله والتفقه بها‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ويتعين‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬أن ينظر‪.‬‬

‫) ‪(1/102‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫قتم النساَء فَبل َغْ َ‬


‫ن‬
‫حوهُ ّ‬ ‫سّر ُ‬ ‫ف أو ْ َ‬ ‫معُْرو ٍ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫كوهُ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ن فَأ ْ‬ ‫جل َهُ ّ‬ ‫نأ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ذا ط َل ّ ْ ُ ُ ّ َ‬ ‫وَإ ِ َ‬
‫ه وََل‬
‫س ُ‬‫ف َ‬ ‫م نَ ْ‬‫قد ْ ظ َل َ َ‬ ‫ك فَ َ‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬ ‫فع َ ْ‬‫ن يَ ْ‬ ‫م ْ‬
‫دوا وَ َ‬ ‫ضَراًرا ل ِت َعْت َ ُ‬ ‫ن ِ‬‫كوهُ ّ‬‫س ُ‬‫م ِ‬ ‫ف وََل ت ُ ْ‬ ‫معُْرو ٍ‬ ‫بِ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ما أن َْزل عَلي ْك ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ة اللهِ عَلي ْك ْ‬ ‫م َ‬ ‫ت اللهِ هُُزًوا َواذ ْكُروا ن ِعْ َ‬ ‫ذوا آَيا ِ‬‫خ ُ‬ ‫ت َت ّ ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫م)‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ُ‬
‫ه ب ِك ّ‬ ‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ه َواعْل ُ‬ ‫قوا الل َ‬ ‫م ب ِهِ َوات ّ ُ‬ ‫ُ‬
‫مةِ ي َعِظك ْ‬ ‫ْ‬
‫حك َ‬ ‫ب َوال ِ‬ ‫ال ْك َِتا ِ‬
‫‪(231‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫قتم النساَء فَبل َغْ َ‬
‫ن‬
‫حوهُ ّ‬ ‫سّر ُ‬ ‫ف أوْ َ‬ ‫معُْرو ٍ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫كوهُ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ن فَأ ْ‬ ‫جل َهُ ّ‬ ‫نأ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ذا ط َل ّ ْ ُ ُ ّ َ‬ ‫} وَإ ِ َ‬
‫ه َول‬‫س ُ‬‫ف َ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫قد ْ ظ َل َ َ‬ ‫ك فَ َ‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬ ‫فع َ ْ‬‫ن يَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫دوا وَ َ‬ ‫ضَراًرا ل ِت َعْت َ ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫كوهُ ّ‬ ‫س ُ‬‫م ِ‬ ‫ف َول ت ُ ْ‬ ‫معُْرو ٍ‬ ‫بِ َ‬
‫َ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ت الل ّهِ هُُزًوا َواذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬ ‫ذوا آَيا ِ‬ ‫خ ُ‬‫ت َت ّ ِ‬
‫َ‬
‫يٍء‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ب ِك ُ ّ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ه َواعْل َ ُ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫م ب ِهِ َوات ّ ُ‬ ‫مةِ ي َعِظ ُك ُ ْ‬ ‫حك ْ َ‬‫ب َوال ْ ِ‬ ‫ال ْك َِتا ِ‬
‫م{‪.‬‬ ‫عَِلي ٌ‬
‫ساَء { أي‪ :‬طلقا رجعيا بواحدة أو ثنتين‪.‬‬ ‫م الن ّ َ‬ ‫قت ُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ذا طل ْ‬ ‫ثم قال تعالى‪ } :‬وَإ ِ َ‬
‫} فَبل َغْ َ‬
‫ن { أي‪ :‬قاربن انقضاء عدتهن‪.‬‬ ‫جل َهُ ّ‬ ‫نأ َ‬ ‫ََ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ف { أي‪ :‬إما أن تراجعوهن‪،‬‬ ‫معُْرو ٍ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫حوهُ ّ‬ ‫سّر ُ‬ ‫ف أوْ َ‬ ‫معُْرو ٍ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫سكوهُ ّ‬ ‫م ِ‬ ‫} فَأ ْ‬
‫ونيتكم القيام بحقوقهن‪ ،‬أو تتركوهن بل رجعة ول إضرار‪ ،‬ولهذا قال‪َ } :‬ول‬
‫دوا { في فعلكم هذا الحلل‪،‬‬ ‫ضَراًرا { أي‪ :‬مضارة بهن } ل ِت َعْت َ ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫كوهُ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫م ِ‬ ‫تُ ْ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫إلى الحرام‪ ،‬فالحلل‪ :‬المساك بمعروف )‪ (1‬والحرام‪ :‬المضارة‪ } ،‬وَ َ‬
‫ه { ولو كان الحق يعود للمخلوق فالضرر عائد‬ ‫س ُ‬‫ف َ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫قد ْ ظ َل َ َ‬ ‫ك فَ َ‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬ ‫فع َ ْ‬‫يَ ْ‬
‫إلى من أراد الضرار‪.‬‬
‫ت اللهِ هُُزًوا { لما بين تعالى حدوده غاية التبيين‪ ،‬وكان‬ ‫ّ‬ ‫ذوا آَيا ِ‬ ‫خ ُ‬‫} َول ت َت ّ ِ‬
‫المقصود‪ ،‬العلم بها والعمل‪ ،‬والوقوف معها‪ ،‬وعدم مجاوزتها‪ ،‬لنه تعالى لم‬
‫ينزلها عبثا‪ ،‬بل أنزلها بالحق والصدق والجد‪ ،‬نهى عن اتخاذها هزوا‪ ،‬أي‪:‬‬
‫لعبا بها‪ ،‬وهو التجرؤ عليها‪ ،‬وعدم المتثال لواجبها‪ ،‬مثل استعمال المضارة‬
‫في المساك‪ ،‬أو الفراق‪ ،‬أو كثرة الطلق‪ ،‬أو جمع الثلث‪ ،‬والله من رحمته‬
‫جعل له واحدة بعد واحدة‪ ،‬رفقا به وسعيا في مصلحته‪.‬‬
‫م { عموما باللسان ثناء وحمدا‪ ،‬وبالقلب اعترافا‬ ‫ة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م َ‬‫} َواذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬
‫َ‬
‫ن ال ْك َِتا ِ‬
‫ب‬ ‫م َ‬‫م ِ‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ما أنز َ‬ ‫وإقرارا‪ ،‬وبالركان بصرفها في طاعة الله‪ } ،‬وَ َ‬
‫مةِ { أي‪ :‬السنة اللذين بّين لكم بهما طرق الخير ورغبكم فيها‪،‬‬ ‫حك ْ َ‬ ‫َوال ْ ِ‬
‫وطرق الشر وحذركم إياها‪ ،‬وعرفكم نفسه ووقائعه في أوليائه وأعدائه‪،‬‬
‫وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬المراد بالحكمة أسرار الشريعة‪ ،‬فالكتاب فيه‪ ،‬الحكم‪ ،‬والحكمة‬
‫فيها‪ ،‬بيان حكمة الله في أوامره ونواهيه‪ ،‬وكل المعنيين صحيح‪ ،‬ولهذا قال‬
‫م ب ِهِ { أي‪ :‬بما أنزل عليكم‪ ،‬وهذا مما يقوي أن المراد بالحكمة‪،‬‬ ‫} ي َعِظ ُك ُ ْ‬
‫أسرار الشريعة‪ ،‬لن الموعظة ببيان الحكم والحكمة‪ ،‬والترغيب‪ ،‬أو‬
‫الترهيب‪ ،‬فالحكم به‪ ،‬يزول الجهل‪ ،‬والحكمة مع الترغيب‪ ،‬يوجب الرغبة‪،‬‬
‫والحكمة مع الترهيب يوجب الرهبة‪.‬‬
‫َ‬
‫م{‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ب ِك ُ ّ‬ ‫ه { في جميع أموركم } َواعْل َ ُ‬
‫موا أ ّ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫} َوات ّ ُ‬
‫فلهذا بّين لكم هذه الحكام بغاية الحكام والتقان التي هي جارية مع‬
‫المصالح في كل زمان ومكان‪] ،‬فله الحمد والمنة[‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬بالمعروف‪.‬‬

‫) ‪(1/103‬‬

‫قتم النساَء فَبل َغْن أ َجل َهن فََل تعضُلوهُن أ َن ينكح َ‬


‫ذا‬‫ن إِ َ‬
‫جهُ ّ‬ ‫ن أْزَوا َ‬‫ّ ْ َْ ِ ْ َ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َ َ َ ُ ّ‬ ‫ذا ط َل ّ ْ ُ ُ ّ َ‬ ‫وَإ ِ َ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫م ي ُؤْ ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ف ذ َل ِك ُيوعَظ ب ِهِ َ‬ ‫ْ‬
‫ن ِباللهِ َوالي َوْم ِ‬ ‫م ُ‬ ‫من ْك ْ‬‫ن ِ‬ ‫ن كا َ‬
‫َ‬
‫م ْ‬
‫َ‬
‫معُْرو ِ‬‫م ِبال َ‬
‫وا ب َي ْن َهُ ْ‬
‫َ‬
‫ض ْ‬
‫ت ََرا َ‬
‫ن )‪(232‬‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ل ت َعْل ُ‬ ‫م وَأن ْت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ه ي َعْل ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫م وَأطهَُر َوالل ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م أْزكى لك ْ‬ ‫ُ‬
‫خرِ ذ َل ِك ْ‬ ‫اْل َ ِ‬
‫قتم النساَء فَبل َغْن أ َجل َهن َفل تعضُلوهُ َ‬
‫ن‬
‫ح َ‬ ‫ن ي َن ْك ِ ْ‬‫نأ ْ‬ ‫ّ‬ ‫َْ ُ‬ ‫َ َ َ ُ ّ‬ ‫ذا ط َل ّ ْ ُ ُ ّ َ‬ ‫} ‪ } { 232‬وَإ ِ َ‬
‫ك ُيوعَ ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫م ي ُؤْ ِ‬
‫م ُ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ن ِ‬‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ظ ب ِهِ َ‬ ‫ف ذ َل ِ َ‬‫معُْرو ِ‬ ‫م ِبال ْ َ‬
‫وا ب َي ْن َهُ ْ‬
‫ض ْ‬ ‫ن إِ َ‬
‫ذا ت ََرا َ‬ ‫جهُ ّ‬ ‫أْزَوا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫م أ َْز َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ل ت َعْل َ ُ‬ ‫م وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬
‫م وَأط ْهَُر َوالل ّ ُ‬ ‫كى ل َك ُ ْ‬ ‫خرِ ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬
‫هذا خطاب لولياء المرأة المطلقة دون الثلث إذا خرجت من العدة‪ ،‬وأراد‬
‫زوجها أن ينكحها‪ ،‬ورضيت بذلك‪ ،‬فل يجوز لوليها‪ ،‬من أب وغيره; أن‬
‫يعضلها; أي‪ :‬يمنعها من التزوج به حنقا عليه; وغضبا; واشمئزازا لما فعل‬
‫من الطلق الول‪.‬‬
‫وذكر أن من كان يؤمن بالله واليوم الخر فإيمانه يمنعه من العضل‪ ،‬فإن‬
‫ذلك أزكى لكم وأطهر وأطيب مما يظن ] ص ‪ [ 104‬الولي أن عدم‬
‫تزويجه هو الرأي‪ :‬واللئق وأنه يقابل بطلقه الول بعدم التزويج له )‪(1‬‬
‫كما هو عادة المترفعين المتكبرين‪.‬‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مو َ‬‫م ل ت َعْل ُ‬
‫م وَأن ْت ُ ْ‬
‫فإن كان يظن أن المصلحة في عدم تزويجه‪ ،‬فالله } ي َعْل ُ‬
‫{ فامتثلوا أمر من هو عالم بمصالحكم‪ ،‬مريد لها‪ ،‬قادر عليها‪ ،‬ميسر لها‬
‫من الوجه الذي تعرفون وغيره‪.‬‬
‫وفي هذه الية‪ ،‬دليل على أنه ل بد من الولي في النكاح‪ ،‬لنه نهى الولياء‬
‫عن العضل‪ ،‬ول ينهاهم إل عن أمر‪ ،‬هو تحت تدبيرهم ولهم فيه حق‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬بعدم تزويجه‪.‬‬

‫) ‪(1/103‬‬

‫ة وَعََلى‬ ‫َ‬ ‫كامل َين ل ِم َ‬ ‫ن َ َ‬ ‫وال ْوال ِدات يرضع َ‬


‫ضاعَ َ‬ ‫م الّر َ‬ ‫ن ي ُت ِ ّ‬ ‫ن أَراد َ أ ْ‬ ‫ن َ ِ ْ ِ َ ْ‬ ‫حوْلي ْ ِ‬ ‫ن أوَْلد َهُ ّ‬ ‫َ َ َ ُ ُْ ِ ْ َ‬
‫ضاّر‬
‫ُ َ‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ها‬ ‫ع‬ ‫س‬ ‫و‬
‫ٌ ِ ُ ْ َ َ‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫إ‬ ‫س‬ ‫ْ‬ ‫ف‬ ‫ن‬
‫ُ َ‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ك‬‫ُ‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ف‬ ‫رو‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ْ‬
‫ه رِْزقُهُ ّ َ ِ ْ َ ُ ُ ّ ِ َ ْ ُ ِ‬
‫ل‬ ‫با‬ ‫ن‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫موُْلودِ ل َ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫صاًل‬ ‫َ‬
‫دا فِ َ‬ ‫ن أَرا َ‬ ‫ك فَإ ِ ْ‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬ ‫مث ْ ُ‬ ‫ث ِ‬ ‫وارِ ِ‬ ‫ه ب ِوَل َدِهِ وَعََلى ال ْ َ‬ ‫موُْلود ٌ ل َ ُ‬ ‫ها وََل َ‬ ‫َوال ِد َةٌ ب ِوَل َدِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ضُعوا أوَْلد َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ست َْر ِ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ن أَرد ْت ُ ْ‬ ‫ما وَإ ِ ْ‬ ‫ح عَل َي ْهِ َ‬‫جَنا َ‬ ‫شاوُرٍ فََل ُ‬ ‫ما وَت َ َ‬ ‫من ْهُ َ‬
‫ض ِ‬ ‫ن ت ََرا ٍ‬ ‫عَ ْ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ه َواعْل ُ‬ ‫قوا الل َ‬ ‫ف َوات ّ ُ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫م ِبال َ‬ ‫ما آت َي ْت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫مت ُ ْ‬‫سل ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫م إِ َ‬ ‫ُ‬
‫ح عَلي ْك ْ‬ ‫جَنا َ‬‫فََل ُ‬
‫صيٌر )‪(233‬‬ ‫ن بَ ِ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫بِ َ‬
‫َ‬ ‫كامل َين ل ِم َ‬ ‫ن َ َ‬ ‫} ‪ } { 233‬وال ْوال ِدات يرضع َ‬
‫م‬
‫ن ي ُت ِ ّ‬ ‫ن أَراد َ أ ْ‬ ‫ن َ ِ ْ ِ َ ْ‬ ‫حوْلي ْ ِ‬ ‫ن أْولد َهُ ّ‬ ‫َ َ َ ُ ُْ ِ ْ َ‬
‫س ِإل‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ف‬ ‫ُ َ‬‫ن‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ك‬‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫رو‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ْ‬
‫ه رِْزقُ ُ ّ َ ِ ْ َ ُ ُ ّ ِ َ ْ ُ ِ‬
‫ل‬‫با‬ ‫ن‬ ‫ه‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫ك‬‫و‬ ‫ن‬ ‫ه‬ ‫موُْلودِ ل َ ُ‬ ‫ة وَعََلى ال ْ َ‬ ‫ضاعَ َ‬ ‫الّر َ‬
‫ك‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬ ‫مث ْ ُ‬ ‫ث ِ‬ ‫وارِ ِ‬ ‫ه ب ِوَل َدِهِ وَعََلى ال ْ َ‬ ‫موُْلود ٌ ل َ ُ‬ ‫ها َول َ‬ ‫ضاّر َوال ِد َةٌ ب ِوَل َدِ َ‬ ‫سعََها ل ت ُ َ‬ ‫وُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫مأ ْ‬ ‫ن أَرد ْت ُ ْ‬ ‫ما وَإ ِ ْ‬ ‫ح عَلي ْهِ َ‬ ‫جَنا َ‬ ‫شاوُرٍ فل ُ‬ ‫ما وَت َ َ‬ ‫من ْهُ َ‬ ‫ض ِ‬ ‫ن ت ََرا ٍ‬ ‫صال عَ ْ‬ ‫دا فِ َ‬ ‫ن أَرا َ‬ ‫فَإ ِ ْ‬
‫َ‬
‫قوا‬ ‫ف َوات ّ ُ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫م ِبال ْ َ‬ ‫ما آت َي ْت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫سل ّ ْ‬
‫مت ُ ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫م إِ َ‬ ‫ح عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫جَنا َ‬ ‫م َفل ُ‬ ‫ضُعوا أْولد َك ُ ْ‬ ‫ست َْر ِ‬ ‫تَ ْ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫صيٌر { ‪.‬‬ ‫ن بَ ِ‬ ‫ملو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ه بِ َ‬‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ه َواعْل ُ‬ ‫الل ّ َ‬
‫هذا خبر بمعنى المر‪ ،‬تنزيل له منزلة المتقرر‪ ،‬الذي ل يحتاج إلى أمر بأن‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ن َ َ‬ ‫} يرضع َ‬
‫حوْلي ْ ِ‬ ‫ن أْولد َهُ ّ‬ ‫ُْ ِ ْ َ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ملي ْ ِ‬ ‫ولما كان الحول‪ ،‬يطلق على الكامل‪ ،‬وعلى معظم الحول قال‪ } :‬كا ِ‬
‫َ‬ ‫ل ِم َ‬
‫ة { فإذا تم للرضيع حولن‪ ،‬فقد تم رضاعه وصار‬ ‫ضاعَ َ‬ ‫م الّر َ‬ ‫ن ي ُت ِ ّ‬ ‫ن أَراد َ أ ْ‬ ‫َ ْ‬
‫اللبن بعد ذلك‪ ،‬بمنزلة سائر الغذية‪ ،‬فلهذا كان الرضاع بعد الحولين‪ ،‬غير‬
‫معتبر‪ ،‬ل يحرم‪.‬‬
‫شهًْرا {‬ ‫ن َ‬ ‫ه َثلُثو َ‬ ‫صال ُ ُ‬ ‫ه وَفِ َ‬ ‫مل ُ ُ‬ ‫ح ْ‬ ‫ويؤخذ من هذا النص‪ ،‬ومن قوله تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫أن أقل مدة الحمل ستة أشهر‪ ،‬وأنه يمكن وجود الولد بها‪.‬‬
‫ف { وهذا‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬ ‫سوَت ُهُ ّ‬ ‫ن وَك ِ ْ‬ ‫ه { أي‪ :‬الب } رِْزقُهُ ّ‬ ‫موُْلودِ ل َ ُ‬ ‫} وَعََلى ال ْ َ‬
‫شامل لما إذا كانت في حباله أو مطلقة‪ ،‬فإن على الب رزقها‪ ،‬أي‪ :‬نفقتها‬
‫وكسوتها‪ ،‬وهي الجرة للرضاع‪.‬‬
‫ودل هذا‪ ،‬على أنها إذا كانت في حباله‪ ،‬ل يجب لها أجرة‪ ،‬غير النفقة‬
‫سعََها { فل‬ ‫س ِإل وُ ْ‬ ‫ف ٌ‬ ‫ف نَ ْ‬ ‫والكسوة‪ ،‬وكل بحسب حاله‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬ل ت ُك َل ّ ُ‬
‫يكلف الفقير أن ينفق نفقة الغني‪ ،‬ول من لم يجد شيئا بالنفقة حتى يجد‪،‬‬
‫ه ب ِوَل َدِهِ { أي‪ :‬ل يحل أن تضار الوالدة‬ ‫موُْلود ٌ ل َ ُ‬ ‫ها َول َ‬ ‫ضاّر َوال ِد َةٌ ب ِوَل َدِ َ‬ ‫} ل تُ َ‬
‫بسبب ولدها‪ ،‬إما أن تمنع من إرضاعه‪ ،‬أو ل تعطى ما يجب لها من النفقة‪،‬‬
‫ه ب ِوَل َدِهِ { بأن تمتنع من إرضاعه على‬ ‫موُْلود ٌ ل َ ُ‬ ‫والكسوة أو الجرة‪َ } ،‬ول َ‬
‫وجه المضارة له‪ ،‬أو تطلب زيادة عن الواجب‪ ،‬ونحو ذلك من أنواع الضرر‪.‬‬
‫ه { أن الولد لبيه‪ ،‬لنه موهوب له‪ ،‬ولنه من كسبه‪،‬‬ ‫موُْلود ٌ ل َ ُ‬ ‫ودل قوله‪َ } :‬‬
‫فلذلك جاز له الخذ من ماله‪ ،‬رضي أو لم يرض‪ ،‬بخلف الم‪.‬‬
‫ك { أي‪ :‬على وارث الطفل إذا عدم الب‪،‬‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬
‫مث ْ ُ‬
‫ث ِ‬ ‫وارِ ِ‬ ‫وقوله‪ } :‬وَعََلى ال ْ َ‬
‫وكان الطفل ليس له مال‪ ،‬مثل ما على الب من النفقة للمرضع‬
‫والكسوة‪ ،‬فدل على وجوب نفقة القارب المعسرين‪ ،‬على القريب الوارث‬
‫صال { أي‪ :‬فطام الصبي قبل‬ ‫الموسر‪ } ،‬فَإ َ‬
‫دا { أي‪ :‬البوان } فِ َ‬ ‫ن أَرا َ‬ ‫ِ ْ‬
‫شاوُرٍ { فيما بينهما‪،‬‬ ‫ما { بأن يكونا راضيين } وَت َ َ‬ ‫ه‬ ‫ن‬‫م‬
‫ٍ ِ ُْ َ‬ ‫ض‬ ‫را‬‫ن ََ‬
‫ت‬ ‫الحولين‪ } ،‬عَ ْ‬
‫ما {‬‫ح عَل َي ْهِ َ‬ ‫هل هو مصلحة للصبي أم ل؟ فإن كان مصلحة ورضيا } َفل ُ‬
‫جَنا َ‬
‫في فطامه قبل الحولين‪ ،‬فدلت الية بمفهومها‪ ،‬على أنه إن رضي أحدهما‬
‫دون الخر‪ ،‬أو لم يكن مصلحة للطفل‪ ،‬أنه ل يجوز فطامه‪.‬‬
‫َ‬ ‫وقوله‪ } :‬وإن أ َردت َ‬
‫م { أي‪ :‬تطلبوا لهم المراضع غير‬ ‫ضُعوا أْولد َك ُ ْ‬ ‫ست َْر ِ‬ ‫ن تَ ْ‬‫مأ ْ‬ ‫َِ ْ َ ُْ ْ‬
‫م‬‫ما آت َي ْت ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫مت ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫سل ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫م إِ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ح عَلي ْك ْ‬ ‫جَنا َ‬ ‫َ‬
‫أمهاتهم على غير وجه المضارة } فل ُ‬
‫صيٌر { فمجازيكم على‬ ‫ن بَ ِ‬ ‫ُ‬
‫ملو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ف { أي‪ :‬للمرضعات‪َ } ،‬والل ّ ُ‬
‫ه بِ َ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫معُْرو ِ‬
‫ذلك بالخير والشر‪.‬‬

‫) ‪(1/104‬‬

‫شًرا‬ ‫ة أَ ْ‬
‫شهُرٍ وَعَ ْ‬ ‫ن أ َْرب َعَ َ‬
‫سه ِ ّ‬‫ف ِ‬ ‫ن ب ِأ َن ْ ُ‬
‫ص َ‬‫جا ي َت ََرب ّ ْ‬
‫وال ّذين يتوفّون منك ُم ويذ َرو َ‬
‫ن أْزَوا ً‬ ‫َ ِ َ َُ َ ْ َ ِ ْ ْ ََ ُ َ‬
‫هّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ذا بل َغْ َ‬
‫ف َوالل ُ‬
‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال َ‬ ‫سه ِ ّ‬
‫ف ِ‬ ‫ن ِفي أن ْ ُ‬ ‫ما فَعَل َ‬ ‫م ِفي َ‬‫ح عَل َي ْك ْ‬
‫ُ‬ ‫ن فََل ُ‬
‫جَنا َ‬ ‫جل َهُ ّ‬
‫نأ َ‬ ‫فَإ ِ َ َ َ‬
‫خِبيٌر )‪(234‬‬ ‫ن َ‬ ‫مُلو َ‬
‫ما ت َعْ َ‬
‫بِ َ‬

‫ن أ َْرب َعَ َ‬
‫ة‬ ‫سهِ ّ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن ب ِأ َن ْ ُ‬‫ص َ‬ ‫جا ي َت ََرب ّ ْ‬‫ن أْزَوا ً‬
‫} ‪ } { 234‬وال ّذين يتوفّون منك ُم ويذ َرو َ‬
‫َ ِ َ َُ َ ْ َ ِ ْ ْ ََ ُ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ذا بل َغْ َ‬ ‫أَ ْ‬
‫ن‬
‫سه ِ ّ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن ِفي أن ْ ُ‬ ‫ما فعَل َ‬‫َ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫ُ‬
‫ح عَلي ْك ْ‬ ‫ن َفل ُ‬
‫جَنا َ‬ ‫جل َهُ ّ‬
‫نأ َ‬ ‫شًرا فَإ ِ َ َ َ‬ ‫شهُرٍ وَعَ ْ‬
‫خِبيٌر { ‪.‬‬‫ن َ‬‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ه بِ َ‬‫ف َوالل ّ ُ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫أي‪ :‬إذا توفي الزوج‪ ،‬مكثت زوجته‪ ،‬متربصة أربعة أشهر وعشرة أيام‬
‫وجوبا‪ ،‬والحكمة في ذلك‪ ،‬ليتبين الحمل في مدة الربعة‪ ،‬ويتحرك في‬
‫ابتدائه في الشهر الخامس‪ ،‬وهذا العام مخصوص بالحوامل‪ ،‬فإن عدتهن‬
‫بوضع الحمل‪ ،‬وكذلك المة‪ ،‬عدتها على النصف من عدة الحرة‪ ،‬شهران‬
‫وخمسة أيام‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫م ِفي َ‬ ‫ح عَلي ْك ُ ْ‬ ‫جَنا َ‬ ‫ن { أي‪ :‬انقضت عدتهن } َفل ُ‬ ‫جلهُ ّ‬ ‫نأ َ‬ ‫ذا ب َلغْ َ‬ ‫وقوله‪ } :‬فَإ ِ َ‬
‫ف{‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن { أي‪ :‬من مراجعتها للزينة والطيب‪ِ } ،‬بال ْ َ‬ ‫سهِ ّ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن ِفي أ َن ْ ُ‬ ‫فَعَل ْ َ‬
‫أي‪ :‬على وجه غير محرم ول مكروه‪.‬‬
‫وفي هذا وجوب الحداد مدة العدة‪ ،‬على المتوفى عنها زوجها‪ ،‬دون غيرها‬
‫من المطلقات والمفارقات‪ ،‬وهو مجمع عليه بين العلماء‪.‬‬
‫خِبيٌر { أي‪ :‬عالم بأعمالكم‪ ،‬ظاهرها وباطنها‪ ،‬جليلها‬ ‫ن َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫} َوالل ّ ُ‬
‫ه بِ َ‬
‫وخفيها‪ ،‬فمجازيكم عليها‪.‬‬
‫ن{‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سهِ ّ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن ِفي أن ْ ُ‬ ‫ما فعَل َ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫ح عَلي ْك ْ‬ ‫جَنا َ‬
‫وفي خطابه للولياء بقوله‪ } :‬فل ُ‬
‫] ص ‪ [ 105‬دليل على أن الولي ينظر على المرأة‪ ،‬ويمنعها مما ل يجوز‬
‫فعله ويجبرها على ما يجب‪ ،‬وأنه مخاطب بذلك‪ ،‬واجب عليه‪.‬‬

‫) ‪(1/104‬‬
‫سك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ف ِ‬ ‫م ِفي أ َن ْ ُ‬ ‫َ َ‬
‫ساِء أوْ أك ْن َن ْت ُ ْ‬ ‫خط ْب َةِ الن ّ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫م ب ِهِ ِ‬ ‫ضت ُ ْ‬‫ما عَّر ْ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫ح عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫جَنا َ‬‫وََل ُ‬
‫قوُلوا قَوًْل‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن تَ ُ‬ ‫سّرا إ ِّل أ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫دوهُ ّ‬ ‫ع ُ‬ ‫وا ِ‬‫ن َل ت ُ َ‬ ‫ن وَل َك ِ ْ‬ ‫ست َذ ْك ُُرون َهُ ّ‬
‫م َ‬ ‫ه أن ّك ُ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬‫عَل ِ َ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ه َواعْل ُ‬ ‫جل ُ‬‫بأ َ‬ ‫حّتى ي َب ْلغَ الك َِتا ُ‬ ‫قد َةَ الن ّكاِح َ‬ ‫موا عُ ْ‬ ‫معُْروًفا وَل ت َعْزِ ُ‬ ‫َ‬
‫ه غَ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م )‪(235‬‬ ‫حِلي ٌ‬ ‫فوٌر َ‬ ‫ن الل َ‬‫موا أ ّ‬ ‫حذ َُروهُ َواعْل ُ‬ ‫م َفا ْ‬ ‫سك ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ما ِفي أن ْ ُ‬ ‫م َ‬‫ي َعْل ُ‬
‫َ َ‬
‫ساِء أوْ أك ْن َن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫خط ْب َةِ الن ّ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ب ِهِ ِ‬ ‫ضت ُ ْ‬ ‫ما عَّر ْ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫ح عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫جَنا َ‬ ‫} ‪َ } { 235‬ول ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِفي أ َن ْ ُ‬
‫ن‬
‫سّرا ِإل أ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫دوهُ ّ‬ ‫ع ُ‬ ‫وا ِ‬‫ن ل تُ َ‬ ‫ن وَل َك ِ ْ‬ ‫ست َذ ْك ُُرون َهُ ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه أن ّك ُ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫م عَل ِ َ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف ِ‬
‫َ‬
‫موا‬‫ه َواعْل َ ُ‬ ‫جل َ ُ‬
‫بأ َ‬ ‫حّتى ي َب ْل ُغَ ال ْك َِتا ُ‬ ‫كاِح َ‬ ‫قد َةَ الن ّ َ‬ ‫موا عُ ْ‬ ‫معُْروًفا َول ت َعْزِ ُ‬ ‫ول َ‬ ‫قوُلوا قَ ْ‬ ‫تَ ُ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حِلي ٌ‬ ‫فوٌر َ‬ ‫هغ ُ‬ ‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫حذ َُروهُ َواعْل ُ‬ ‫م فا ْ‬ ‫سك ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ما ِفي أن ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ي َعْل ُ‬ ‫ن الل َ‬ ‫أ ّ‬
‫هذا حكم المعتدة من وفاة‪ ،‬أو المبانة في الحياة‪ ،‬فيحرم على غير مبينها‬
‫سّرا {‬ ‫ن ِ‬ ‫دوهُ ّ‬ ‫ع ُ‬
‫وا ِ‬ ‫ن ل تُ َ‬ ‫أن يصرح لها في الخطبة‪ ،‬وهو المراد بقوله‪ } :‬وَل َك ِ ْ‬
‫وأما التعريض‪ ،‬فقد أسقط تعالى فيه الجناح‪.‬‬
‫والفرق بينهما‪ :‬أن التصريح‪ ،‬ل يحتمل غير النكاح‪ ،‬فلهذا حرم‪ ،‬خوفا من‬
‫استعجالها‪ ،‬وكذبها في انقضاء عدتها‪ ،‬رغبة في النكاح‪ ،‬ففيه دللة على منع‬
‫وسائل المحرم‪ ،‬وقضاء لحق زوجها الول‪ ،‬بعدم مواعدتها لغيره مدة‬
‫عدتها‪.‬‬
‫وأما التعريض‪ ،‬وهو الذي يحتمل النكاح وغيره‪ ،‬فهو جائز للبائن كأن يقول‬
‫لها‪ :‬إني أريد التزوج‪ ،‬وإني أحب أن تشاوريني عند انقضاء عدتك‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪ ،‬فهذا جائز لنه ليس بمنزلة الصريح‪ ،‬وفي النفوس داع قوي إليه‪.‬‬
‫وكذلك إضمار النسان في نفسه أن يتزوج من هي في عدتها‪ ،‬إذا انقضت‪،‬‬
‫فسك ُم عَل ِم الل ّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫ن { هذا‬ ‫ست َذ ْك ُُرون َهُ ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه أن ّك ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫م ِفي أن ْ ُ ِ ْ‬ ‫ولهذا قال‪ } :‬أوْ أك ْن َن ْت ُ ْ‬
‫التفصيل كله في مقدمات العقد‪.‬‬
‫ه { أي‪ :‬تنقضي العدة‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫جل ُ‬ ‫بأ َ‬ ‫حّتى ي َب ْلغَ الك َِتا ُ‬ ‫وأما عقد النكاح فل يحل } َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م { أي‪ :‬فانووا الخير‪ ،‬ول تنووا‬ ‫ُ‬
‫سك ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ما ِفي أن ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫} َواعْل َ ُ‬
‫الشر‪ ،‬خوفا من عقابه ورجاء لثوابه‪.‬‬
‫َ‬
‫فوٌر { لمن صدرت منه الذنوب‪ ،‬فتاب منها‪ ،‬ورجع إلى‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫} َواعْل َ ُ‬
‫م { حيث لم يعاجل العاصين على معاصيهم‪ ،‬مع قدرته عليهم‪.‬‬ ‫حِلي ٌ‬ ‫ربه } َ‬

‫) ‪(1/105‬‬

‫ة‬
‫ض ً‬
‫ري َ‬‫ن فَ ِ‬‫ضوا ل َهُ ّ‬ ‫فرِ ُ‬ ‫ن أ َوْ ت َ ْ‬
‫سوهُ ّ‬‫م ّ‬ ‫م تَ َ‬‫ما ل َ ْ‬
‫ساَء َ‬
‫م الن ّ َ‬ ‫ن ط َل ّ ْ‬
‫قت ُ ُ‬ ‫ح عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م إِ ْ‬ ‫َل ُ‬
‫جَنا َ‬
‫قا عََلى‬
‫ح ّ‬
‫ف َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫عا ِبال ْ َ‬
‫مَتا ً‬ ‫قت ِرِ قَد َُرهُ َ‬ ‫سِع قَد َُرهُ وَعََلى ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫مو ِ‬ ‫ن عََلى ال ْ ُ‬ ‫مت ُّعوهُ ّ‬‫وَ َ‬
‫ن )‪(236‬‬ ‫سِني َ‬‫ح ِ‬‫م ْ‬‫ال ْ ُ‬
‫ضوا‬ ‫ن أ َوْ ت َ ْ‬
‫فرِ ُ‬ ‫سوهُ ّ‬ ‫م ّ‬‫م تَ َ‬‫ما ل َ ْ‬
‫ساَء َ‬
‫م الن ّ َ‬ ‫ن ط َل ّ ْ‬
‫قت ُ ُ‬ ‫ح عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م إِ ْ‬ ‫جَنا َ‬
‫} ‪ } { 236‬ل ُ‬
‫عا‬
‫مَتا ً‬ ‫قت ِرِ قَد َُرهُ َ‬
‫م ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫سِع قَد َُرهُ وَعَلى ال ُ‬ ‫مو ِ‬ ‫ْ‬
‫ن عَلى ال ُ‬‫َ‬ ‫مت ُّعوهُ ّ‬
‫ة وَ َ‬‫ض ً‬‫ري َ‬ ‫ل َهُ ّ‬
‫ن فَ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫سِني َ‬‫ح ِ‬ ‫م ْ‬‫قا عََلى ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬
‫ف َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫أي‪ :‬ليس عليكم يا معشر الزواج جناح وإثم‪ ،‬بتطليق النساء قبل‬
‫المسيس‪ ،‬وفرض المهر‪ ،‬وإن كان في ذلك كسر لها‪ ،‬فإنه ينجبر بالمتعة‪،‬‬
‫فعليكم أن تمتعوهن بأن تعطوهن شيئا من المال‪ ،‬جبرا لخواطرهن‪.‬‬
‫قت ِرِ { أي‪ :‬المعسر } قَد َُرهُ { ‪.‬‬ ‫سِع قَد َُرهُ وَعََلى ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫مو ِ‬ ‫} عََلى ال ْ ُ‬
‫عا‬
‫مَتا ً‬
‫وهذا يرجع إلى العرف‪ ،‬وأنه يختلف باختلف الحوال ولهذا قال‪َ } :‬‬
‫ن { ليس لهم أن‬ ‫سِني َ‬
‫ح ِ‬ ‫ف { فهذا حق واجب } عََلى ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫معُْرو ِ‬
‫يبخسوهن‪.‬‬
‫فكما تسببوا لتشوفهن واشتياقهن‪ ،‬وتعلق قلوبهن‪ ،‬ثم لم يعطوهن ما‬
‫رغبن فيه‪ ،‬فعليهم في مقابلة ذلك المتعة‪.‬‬
‫فلله ما أحسن هذا الحكم اللهي‪ ،‬وأدله على حكمة شارعه ورحمته" ومن‬
‫أحسن من الله حكما لقوم يوقنون؟" فهذا حكم المطلقات قبل المسيس‬
‫وقبل فرض المهر‪.‬‬
‫ثم ذكر حكم المفروض لهن فقال‪:‬‬

‫) ‪(1/105‬‬

‫قتموهُن من قَب َ‬
‫ما‬
‫ف َ‬
‫ص ُ‬‫ة فَن ِ ْ‬
‫ض ً‬‫ري َ‬ ‫ِ‬ ‫ن فَ‬‫م ل َهُ ّ‬ ‫ن وَقَد ْ فََر ْ‬
‫ضت ُ ْ‬ ‫سوهُ ّ‬‫م ّ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫لأ ْ‬ ‫ّ ِ ْ ْ ِ‬ ‫ن ط َل ّ ْ ُ ُ‬ ‫وَإ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فوا أقَْر ُ‬
‫ب‬ ‫ن ت َعْ ُ‬
‫كاِح وَأ ْ‬ ‫قد َةُ الن ّ َ‬ ‫ذي ب ِي َدِهِ عُ ْ‬ ‫فوَ ال ّ ِ‬ ‫ن أوْ ي َعْ ُ‬ ‫فو َ‬ ‫م إ ِّل أ ْ‬
‫ن ي َعْ ُ‬ ‫ضت ُ ْ‬‫فََر ْ‬
‫صيٌر )‪(237‬‬ ‫ن بَ ِ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه بِ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ل ب َي ْن َك ُ ْ‬
‫ض َ‬ ‫ف ْ‬ ‫وا ال ْ َ‬
‫س ُ‬ ‫وى وََل ت َن ْ َ‬ ‫ق َ‬‫ِللت ّ ْ‬
‫قتموهُن من قَب َ‬
‫ن‬‫م ل َهُ ّ‬‫ضت ُ ْ‬‫ن وَقَد ْ فََر ْ‬ ‫سوهُ ّ‬ ‫م ّ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫لأ ْ‬ ‫ّ ِ ْ ْ ِ‬ ‫ن ط َل ّ ْ ُ ُ‬ ‫} ‪ } { 237‬وَإ ِ ْ‬
‫قد َةُ الن ّ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كاِح‬ ‫ذي ب ِي َدِهِ عُ ْ‬ ‫فوَ ال ِ‬ ‫ن أوْ ي َعْ ُ‬ ‫فو َ‬ ‫ن ي َعْ ُ‬ ‫م ِإل أ ْ‬ ‫ضت ُ ْ‬‫ما فََر ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ص ُ‬‫ة فَن ِ ْ‬‫ض ً‬‫ري َ‬ ‫فَ َ ِ‬
‫َ‬
‫مُلو َ‬
‫ن‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه بِ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ل ب َي ْن َك ُ ْ‬‫ض َ‬ ‫ف ْ‬ ‫وا ال ْ َ‬ ‫س ُ‬ ‫وى َول ت َن ْ َ‬ ‫ق َ‬
‫ب ِللت ّ ْ‬ ‫فوا أقَْر ُ‬ ‫ن ت َعْ ُ‬
‫وَأ ْ‬
‫صيٌر { ‪.‬‬ ‫بَ ِ‬
‫أي‪ :‬إذا طلقتم النساء قبل المسيس‪ ،‬وبعد فرض المهر‪ ،‬فللمطلقات من‬
‫المهر المفروض نصفه‪ ،‬ولكم نصفه‪.‬‬
‫هذا هو الواجب ما لم يدخله عفو ومسامحة‪ ،‬بأن تعفو عن نصفها لزوجها‪،‬‬
‫كاِح { وهو الزوج على‬ ‫قد َةُ الن ّ َ‬ ‫ذي ب ِي َدِهِ عُ ْ‬ ‫فوَ ال ّ ِ‬ ‫إذا كان يصح عفوها‪ } ،‬أ َوْ ي َعْ ُ‬
‫الصحيح )‪ (1‬لنه الذي بيده حل عقدته؛ ولن الولي ل يصح أن يعفو عن ما‬
‫وجب للمرأة‪ ،‬لكونه غير مالك ول وكيل‪.‬‬
‫ثم رغب في العفو‪ ،‬وأن من عفا‪ ،‬كان أقرب لتقواه‪ ،‬لكونه إحسانا موجبا‬
‫لشرح الصدر‪ ،‬ولكون النسان ل ينبغي أن يهمل نفسه من الحسان‬
‫والمعروف‪ ،‬وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة‪ ،‬لن معاملة‬
‫الناس فيما بينهم على درجتين‪ :‬إما عدل وإنصاف واجب‪ ،‬وهو‪ :‬أخذ‬
‫الواجب‪ ،‬وإعطاء الواجب‪ .‬وإما فضل وإحسان‪ ،‬وهو إعطاء ما ليس بواجب‬
‫والتسامح في الحقوق‪ ،‬والغض مما في النفس‪ ،‬فل ينبغي للنسان أن‬
‫ينسى هذه الدرجة‪ ،‬ولو في بعض الوقات‪ ،‬وخصوصا لمن بينك وبينه‬
‫معاملة‪ ،‬أو مخالطة‪ ،‬فإن الله مجاز المحسنين بالفضل ] ص ‪[ 106‬‬
‫صيٌر { ‪ .‬ثم قال تعالى‪:‬‬ ‫ن بَ ِ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫والكرم‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬جاء في هامش أ ما نصه‪) :‬هذا بحسب ما ظهر لي وقت كتابتي لهذا‬
‫الموضع‪ ،‬ثم بعد ذلك تبين لي أن القول بأن الذي بيده عقدة النكاح هو‬
‫الولي القرب‪ ،‬وهو الب‪ ،‬وهو الصح لمساعدة اللفظ له والمعنى كما هو‬
‫ظاهر للمتدبر(‪.‬وفي هامش ب زيادة بخط المؤلف هي‪) :‬وقيل‪ :‬إنه الب‪،‬‬
‫وهو الذي يدل عليه لفظ الية الكريمة(‪.‬‬
‫) ‪(1/105‬‬

‫ن )‪ (238‬فَإ ِ ْ‬
‫ن‬ ‫موا ل ِل ّهِ َقان ِِتي َ‬ ‫طى وَُقو ُ‬ ‫س َ‬ ‫صَلةِ ال ْوُ ْ‬ ‫ت َوال ّ‬ ‫وا ِ‬ ‫صل َ َ‬
‫ظوا عََلى ال ّ‬ ‫حافِ ُ‬ ‫َ‬
‫م تَ ُ‬
‫كوُنوا‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ما‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫م‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ع‬ ‫ما‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫روا‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬
‫فا‬ ‫م‬ ‫ت‬‫ن‬‫م‬ ‫ذا أ َ‬
‫َ‬ ‫إ‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫نا‬ ‫با‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ر‬ ‫و‬‫فتم فَرجاًل أ َ‬ ‫ْ‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ ُْ ْ‬ ‫ْ ُ َ ً ِ‬ ‫ِ ُ ْ ِ َ‬
‫ن )‪(239‬‬ ‫مو َ‬‫ت َعْل َ ُ‬

‫موا ل ِل ّهِ‬ ‫طى وَُقو ُ‬ ‫س َ‬ ‫صلةِ ال ْوُ ْ‬


‫ت َوال ّ‬ ‫صل َ َ‬
‫وا ِ‬ ‫ظوا عََلى ال ّ‬ ‫حافِ ُ‬‫} ‪َ } { 239 - 238‬‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ما‬‫م َ‬ ‫مك ْ‬ ‫ما عَل َ‬ ‫هك َ‬ ‫م َفاذ ْكُروا الل َ‬‫من ْت ُ ْ‬
‫ذا أ ِ‬‫جال أوْ ُركَباًنا فَإ ِ َ‬ ‫م فَرِ َ‬ ‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ن * فَإ ِ ْ‬ ‫َقان ِِتي َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫كوُنوا ت َعْل ُ‬ ‫م تَ ُ‬ ‫لَ ْ‬
‫ما وعلى الصلة الوسطى‪ ،‬وهي العصر‬ ‫يأمر بالمحافظة على الصلوات عمو ً‬
‫صا‪ ،‬والمحافظة عليها أداؤها بوقتها وشروطها وأركانها وخشوعها‬ ‫خصو ً‬
‫وجميع ما لها من واجب ومستحب‪ ،‬وبالمحافظة على الصلوات تحصل‬
‫صا‬
‫المحافظة على سائر العبادات‪ ،‬وتفيد النهي عن الفحشاء والمنكر خصو ً‬
‫ن { أي‪ :‬ذليلين خاشعين‪ ،‬ففيه‬ ‫موا ل ِل ّهِ َقان ِِتي َ‬ ‫إذا أكملها كما أمر بقوله } وَُقو ُ‬
‫المر بالقيام والقنوت والنهي عن الكلم‪ ،‬والمر بالخشوع‪ ،‬هذا مع المن‬
‫والطمأنينة‪.‬‬
‫م { )‪ (1‬لم يذكر ما يخاف منه ليشمل الخوف من كافر وظالم‬ ‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫} فَإ ِ ْ‬
‫وسبع‪ ،‬وغير ذلك من أنواع المخاوف‪ ،‬أي‪ :‬إن خفتم بصلتكم على تلك‬
‫جال { أي‪ :‬ماشين على أقدامكم‪ } ،‬أ َوْ ُرك َْباًنا { على‬ ‫الصفة فصلوها } رِ َ‬
‫الخيل والبل وغيرها‪ ،‬ويلزم على ذلك أن يكونوا مستقبلي القبلة وغير‬
‫مستقبليها‪ ،‬وفي هذا زيادة التأكيد على المحافظة على وقتها حيث أمر‬
‫بذلك ولو مع الخلل بكثير من الركان والشروط‪ ،‬وأنه ل يجوز تأخيرها عن‬
‫وقتها ولو في هذه الحالة الشديدة‪ ،‬فصلتها على تلك الصورة أحسن‬
‫م { أي‪ :‬زال‬ ‫وأفضل بل أوجب من صلتها مطمئنا خارج الوقت } فَإ َ َ‬
‫من ْت ُ ْ‬
‫ذا أ ِ‬ ‫ِ‬
‫ه { وهذا يشمل جميع أنواع الذكر ومنه الصلة‬ ‫الخوف عنكم } َفاذ ْك ُُروا الل ّ َ‬
‫على كمالها وتمامها } كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون { فإنها نعمة‬
‫عظيمة ومنة جسيمة‪ ،‬تقتضي مقابلتها بالذكر والشكر ليبقي نعمته عليكم‬
‫ويزيدكم عليها‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬من هنا بدأ الختلف بين النسختين‪ ،‬وقد أشرت إليه في المقدمة‬
‫بشيء من التفصيل وقد أثبت التفسير المأخوذ من النسخة ب في ملحق‬
‫في آخر التفسير‪.‬‬

‫) ‪(1/106‬‬

‫صي ّ ً َ‬ ‫وال ّذين يتوفّون منك ُم ويذ َرو َ‬


‫ل غَي َْر‬ ‫عا إ َِلى ال ْ َ‬
‫حوْ ِ‬ ‫مَتا ً‬‫م َ‬ ‫جهِ ْ‬
‫ة ِلْزَوا ِ‬ ‫جا وَ ِ‬
‫ن أْزَوا ً‬‫َ ِ َ َُ َ ْ َ ِ ْ ْ ََ ُ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫معُْرو ٍ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫ن ِ‬ ‫سه ِ ّ‬‫ف ِ‬ ‫ن ِفي أن ْ ُ‬ ‫ما فَعَل َ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫ُ‬
‫ح عَلي ْك ْ‬ ‫ن فََل ُ‬
‫جَنا َ‬ ‫ج َ‬ ‫خَر ْ‬ ‫خَراٍج فَإ ِ ْ‬
‫ن َ‬ ‫إِ ْ‬
‫م )‪(240‬‬ ‫كي ٌ‬‫ح ِ‬
‫زيٌز َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ّ‬
‫َوالل ُ‬
‫عا‬
‫مَتا ً‬ ‫} ‪ } { 240‬وال ّذين يتوفّون منك ُم ويذ َرو َ‬
‫م َ‬ ‫جه ِ ْ‬‫ة لْزَوا ِ‬ ‫صي ّ ً‬
‫جا وَ ِ‬ ‫ن أْزَوا ً‬ ‫َ ِ َ َُ َ ْ َ ِ ْ ْ ََ ُ َ‬
‫ن ِفي‬ ‫ْ‬
‫ما فَعَل َ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ح عَلي ْك ْ‬ ‫ن َفل ُ‬
‫جَنا َ‬ ‫ج َ‬
‫خَر ْ‬ ‫ن َ‬ ‫خَراٍج فَإ ِ ْ‬ ‫ل غَي َْر إ ِ ْ‬ ‫حوْ ِ‬ ‫إ َِلى ال ْ َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫كي ٌ‬
‫ح ِ‬
‫زيٌز َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ف َوالل ّ ُ‬‫معُْرو ٍ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫سهِ ّ‬ ‫ف ِ‬‫أ َن ْ ُ‬
‫أي‪ :‬الزواج الذين يموتون ويتركون خلفهم أزواجا فعليهم أن يوصوا‬
‫} وصية لزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج { أي‪ :‬يوصون أن يلزمن‬
‫بيوتهم مدة سنة ل يخرجن منها } فإن خرجن { من أنفسهن } فل جناح‬
‫عليكم { أيها الولياء } فيما فعلن في أنفسهم من معروف والله عزيز‬
‫حكيم { أي‪ :‬من مراجعة الزينة والطيب ونحو ذلك وأكثر المفسرين أن‬
‫م وَي َذ َُرو َ‬
‫ن‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ن ي ُت َوَفّوْ َ‬
‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫هذه الية منسوخة بما قبلها وهي قوله‪َ } :‬وال ّ ِ‬
‫شًرا { وقيل لم تنسخها بل الية‬ ‫شهُرٍ وَعَ ْ‬‫ة أَ ْ‬
‫ن أ َْرب َعَ َ‬‫سه ِ ّ‬
‫ف ِ‬‫ن ب ِأ َن ْ ُ‬
‫ص َ‬‫جا ي َت ََرب ّ ْ‬ ‫أْزَوا ً‬
‫َ‬
‫الولى دلت على أن أربعة أشهر وعشر واجبة‪ ،‬وما زاد على ذلك فهي‬
‫مستحبة ينبغي فعلها تكميل لحق الزوج‪ ،‬ومراعاة للزوجة‪ ،‬والدليل على أن‬
‫ذلك مستحب أنه هنا نفى الجناح عن الولياء إن خرجن قبل تكميل الحول‪،‬‬
‫فلو كان لزوم المسكن واجبا لم ينف الحرج عنهم‪.‬‬

‫) ‪(1/106‬‬

‫ه ل َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫ن )‪ (241‬ك َذ َل ِ َ‬
‫ك ي ُب َي ّ ُ‬ ‫قي َ‬ ‫قا عََلى ال ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫ح ّ‬
‫ف َ‬ ‫مَتاعٌ ِبال ْ َ‬
‫معُْرو ِ‬ ‫ت َ‬ ‫قا ِ‬ ‫مط َل ّ َ‬ ‫وَل ِل ْ ُ‬
‫قُلو َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(242‬‬ ‫م ت َعْ ِ‬‫آَيات ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫ن * ك َذ َل ِ َ‬
‫ك‬ ‫قي َ‬ ‫قا عََلى ال ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫ح ّ‬
‫ف َ‬ ‫مَتاعٌ ِبال ْ َ‬
‫معُْرو ِ‬ ‫ت َ‬ ‫قا ِ‬‫مط َل ّ َ‬‫} ‪ } { 242 - 241‬وَل ِل ْ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قُلو َ‬
‫م ت َعْ ِ‬‫م آَيات ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫ه ل َك ُ ْ‬
‫ن الل ّ ُ‬
‫ي ُب َي ّ ُ‬
‫أي‪ :‬لكل مطلقة متاع بالمعروف حقا على كل متق‪ ،‬جبرا لخاطرها وأداء‬
‫لبعض حقوقها‪ ،‬وهذه المتعة واجبة على من طلقت قبل المسيس‪،‬‬
‫والفرض سنة في حق غيرها كما تقدم‪ ،‬هذا أحسن ما قيل فيها‪ ،‬وقيل إن‬
‫المتعة واجبة على كل مطلقة احتجاجا بعموم هذه الية‪ ،‬ولكن القاعدة أن‬
‫المطلق محمول على المقّيد‪ ،‬وتقدم أن الله فرض المتعة للمطلقة قبل‬
‫الفرض والمسيس خاصة‪.‬‬
‫ولما بّين تعالى هذه الحكام العظيمة المشتملة على الحكمة والرحمة‬
‫امتن بها على عباده فقال‪ } :‬كذلك يبين الله لكم آياته { أي‪ :‬حدوده‪،‬‬
‫وحلله وحرامه والحكام النافعة لكم‪ ،‬لعلكم تعقلونها فتعرفونها وتعرفون‬
‫المقصود منها‪ ،‬فإن من عرف ذلك أوجب له العمل بها‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/106‬‬

‫ه‬‫م الل ّ ُ‬
‫ل ل َهُ ُ‬‫قا َ‬‫ت فَ َ‬ ‫موْ ِ‬‫حذ ََر ال ْ َ‬ ‫ف َ‬‫م أ ُُلو ٌ‬‫م وَهُ ْ‬‫ن دَِيارِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫جوا ِ‬ ‫خَر ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫أل َ ْ‬
‫س َل‬ ‫ذو فَضل عََلى الناس ول َك َ‬ ‫ه لَ ُ‬ ‫موتوا ث ُ َ‬
‫ن أك ْث ََر الّنا ِ‬ ‫ّ ِ َ ِ ّ‬ ‫ْ ٍ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫حَياهُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ُ‬
‫م)‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫ميعٌ عَِلي ٌ‬ ‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ل اللهِ َواعْل ُ‬ ‫سِبي ِ‬
‫ن )‪ (243‬وَقات ِلوا ِفي َ‬ ‫شكُرو َ‬
‫َ‬
‫ضَعاًفا ك َِثيَرةً َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫هأ ْ‬ ‫ه لَ ُ‬‫ف ُ‬
‫ع َ‬‫ضا ِ‬ ‫سًنا فَي ُ َ‬‫ح َ‬‫ضا َ‬ ‫ه قَْر ً‬ ‫ض الل ّ َ‬ ‫قرِ ُ‬ ‫ذي ي ُ ْ‬ ‫ذا ال ّ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫‪َ (244‬‬
‫ن )‪(245‬‬ ‫جُعو َ‬ ‫َ‬
‫سط وَإ ِلي ْهِ ت ُْر َ‬ ‫ُ‬ ‫ض وَي َب ْ ُ‬‫قب ِ ُ‬‫يَ ْ‬
‫حذ ََر‬ ‫ف َ‬ ‫م أ ُُلو ٌ‬ ‫م وَهُ ْ‬ ‫ن دَِيارِهِ ْ‬ ‫م ْ‬
‫جوا ِ‬ ‫خَر ُ‬ ‫ن َ‬‫ذي َ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫} ‪ } { 245 - 243‬أل َ ْ‬
‫ل ل َهم الل ّه موتوا ث ُ َ‬
‫س وَل َك ِ ّ‬
‫ن‬ ‫ل َعَلى الّنا ِ‬
‫ض ٍ َ‬ ‫ذو فَ ْ‬ ‫ه لَ ُ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫حَياهُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ ُ ُ‬ ‫قا َ ُ ُ‬ ‫ت فَ َ‬ ‫موْ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ع‬
‫مي ٌ‬ ‫س ِ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ل الل ّهِ َواعْل َ ُ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن * وََقات ُِلوا ِفي َ‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫س ل يَ ْ‬ ‫ِ‬ ‫أ َك ْث ََر الّنا‬
‫فه ل َ َ‬
‫ضَعاًفا ك َِثيَرةً‬ ‫هأ ْ‬ ‫ع َ ُ ُ‬ ‫ضا ِ‬ ‫سًنا فَي ُ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ضا َ‬ ‫ه قَْر ً‬ ‫ض الل ّ َ‬ ‫قرِ ُ‬ ‫ذي ي ُ ْ‬‫ذا ال ّ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫م* َ‬ ‫عَِلي ٌ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫جُعو َ‬ ‫َ‬
‫سط وَإ ِلي ْهِ ت ُْر َ‬‫ُ‬ ‫ض وَي َب ْ ُ‬
‫قب ِ ُ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫ه يَ ْ‬
‫يقص تعالى علينا قصة الذين خرجوا من ديارهم على كثرتهم واتفاق‬
‫مقاصدهم‪ ،‬بأن الذي أخرجهم منها حذر الموت من وباء أو غيره‪ ،‬يقصدون‬
‫بهذا الخروج السلمة من الموت‪ ،‬ولكن ل يغني حذر عن قدر‪ } ،‬فقال الله‬
‫لهم موتوا { فماتوا } ثم { إن الله تعالى } أحياهم { إما بدعوة نبي أو‬
‫بغير ذلك‪ ،‬رحمة بهم ولطفا وحلما‪ ،‬وبيانا لياته لخلقه بإحياء الموتى‪ ،‬ولهذا‬
‫قال‪ } :‬إن الله لذو فضل { ] ص ‪ [ 107‬أي‪ :‬عظيم } على الناس ولكن‬
‫أكثرهم ل يشكرون { فل تزيدهم النعمة شكرا‪ ،‬بل ربما استعانوا بنعم الله‬
‫على معاصيه‪ ،‬وقليل منهم الشكور الذي يعرف النعمة ويقر بها ويصرفها‬
‫في طاعة المنعم‪.‬‬
‫ثم أمر تعالى بالقتال في سبيله‪ ،‬وهو قتال العداء الكفار لعلء كلمة الله‬
‫ونصر دينه‪ ،‬فقال‪ } :‬وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم {‬
‫أي‪ :‬فأحسنوا نياتكم واقصدوا بذلك وجه الله‪ ،‬واعلموا أنه ل يفيدكم القعود‬
‫عن القتال شيئا‪ ،‬ولو ظننتم أن في القعود حياتكم وبقاءكم‪ ،‬فليس المر‬
‫كذلك‪ ،‬ولهذا ذكر القصة السابقة توطئة لهذا المر‪ ،‬فكما لم ينفع الذين‬
‫خرجوا من ديارهم حذر الموت خروجهم‪ ،‬بل أتاهم ما حذروا من غير أن‬
‫يحتسبوا‪ ،‬فاعلموا أنكم كذلك‪.‬‬
‫ولما كان القتال في سبيل الله ل يتم إل بالنفقة وبذل الموال في ذلك‪،‬‬
‫أمر تعالى بالنفاق في سبيله ورغب فيه‪ ،‬وسماه قرضا فقال‪ } :‬من ذا‬
‫الذي يقرض الله قرضا حسنا { فينفق ما تيسر من أمواله في طرق‬
‫الخيرات‪ ،‬خصوصا في الجهاد‪ ،‬والحسن هو الحلل المقصود به وجه الله‬
‫تعالى‪ } ،‬فيضاعفه له أضعافا كثيرة { الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبع‬
‫مائة ضعف إلى أضعاف كثيرة‪ ،‬بحسب حالة المنفق‪ ،‬ونيته ونفع نفقته‬
‫والحاجة إليها‪ ،‬ولما كان النسان ربما توهم أنه إذا أنفق افتقر دفع تعالى‬
‫هذا الوهم بقوله‪ } :‬والله يقبض ويبسط { أي‪ :‬يوسع الرزق على من يشاء‬
‫ويقبضه عمن يشاء‪ ،‬فالتصرف كله بيديه ومدار المور راجع إليه‪،‬‬
‫فالمساك ل يبسط الرزق‪ ،‬والنفاق ل يقبضه‪ ،‬ومع ذلك فالنفاق غير ضائع‬
‫على أهله‪ ،‬بل لهم يوم يجدون ما قدموه كامل موفرا مضاعفا‪ ،‬فلهذا قال‪:‬‬
‫} وإليه ترجعون { فيجازيكم بأعمالكم‪.‬‬
‫ففي هذه اليات دليل على أن السباب ل تنفع مع القضاء والقدر‪،‬‬
‫وخصوصا السباب التي تترك بها أوامر الله‪ .‬وفيها‪ :‬الية العظيمة بإحياء‬
‫الموتى أعيانا في هذه الدار‪ .‬وفيها‪ :‬المر بالقتال والنفقة في سبيل الله‪،‬‬
‫وذكر السباب الداعية لذلك الحاثة عليه‪ ،‬من تسميته قرضا‪ ،‬ومضاعفته‪،‬‬
‫وأن الله يقبض ويبسط وإليه ترجعون‪.‬‬

‫) ‪(1/106‬‬
‫َ‬
‫ث‬ ‫م اب ْعَ ْ‬ ‫ي ل َهُ ُ‬ ‫سى إ ِذ ْ َقاُلوا ل ِن َب ِ ّ‬ ‫مو َ‬ ‫ن ب َعْدِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ن ب َِني إ ِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫مَل ِ ِ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ْ َ‬ ‫أل َ ْ‬
‫ل أ َّل‬ ‫قَتا ُ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫ب عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫ن ك ُت ِ َ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫سي ْت ُ ْ‬ ‫ل عَ َ‬ ‫ل هَ ْ‬ ‫ل الل ّهِ َقا َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ل ِفي َ‬ ‫قات ِ ْ‬ ‫كا ن ُ َ‬ ‫مل ِ ً‬ ‫ل ََنا َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ل الل ّهِ وَقَد ْ أ ْ‬ ‫َ‬
‫ما ل ََنا أّل ن ُ َ‬
‫ن دَِيارَِنا وَأب َْنائ َِنا‬ ‫م ْ‬ ‫جَنا ِ‬ ‫خرِ ْ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ل ِفي َ‬ ‫قات ِ َ‬ ‫قات ُِلوا َقاُلوا وَ َ‬ ‫تُ َ‬
‫ن )‪(246‬‬ ‫مي َ‬ ‫م ِبالظال ِ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ه عَِلي ٌ‬ ‫ّ‬
‫م َوالل ُ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫وا إ ِل قَِليل ِ‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ل ت َوَل ْ‬‫ّ‬ ‫قَتا ُ‬ ‫م ال ِ‬ ‫ْ‬ ‫ب عَلي ْهِ ُ‬ ‫َ‬ ‫ما كت ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫فَل ّ‬ ‫َ‬
‫هَ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫نل ُ‬ ‫مل ِكا َقالوا أّنى ي َكو ُ‬ ‫ت َ‬ ‫م طالو َ‬ ‫ث لك ْ‬ ‫ه قَد ْ ب َعَ َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫م ن َب ِي ّهُ ْ‬ ‫ل لهُ ْ‬ ‫وََقا َ‬
‫هّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مل ْ ُ‬
‫ن الل َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫ل َقا َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ة ِ‬ ‫سع َ ً‬ ‫ت َ‬ ‫م ي ُؤْ َ‬ ‫ه وَل ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ك ِ‬ ‫مل ِ‬ ‫حقّ ِبال ُ‬ ‫نأ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ك عَلي َْنا وَن َ ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫شاُء‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫مل ْك َ ُ‬ ‫ه ي ُؤِْتي ُ‬ ‫سم ِ َوالل ّ ُ‬ ‫ج ْ‬ ‫ة ِفي ال ْعِل ْم ِ َوال ْ ِ‬ ‫سط َ ً‬ ‫م وََزاد َهُ ب َ ْ‬ ‫فاهُ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫صط َ َ‬ ‫ا ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫م الّتاُبو ُ‬ ‫ن ي َأت ِي َك ُ ُ‬ ‫مل ْك ِهِ أ ْ‬ ‫ة ُ‬ ‫ن آي َ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫م ن َب ِي ّهُ ْ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫م )‪ (247‬وََقا َ‬ ‫سعٌ عَِلي ٌ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫مَلئ ِك َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫مل ُ ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫هاُرو َ‬ ‫ل َ‬ ‫سى وَآ ُ‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬ ‫كآ ُ‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫م ّ‬ ‫ة ِ‬ ‫قي ّ ٌ‬ ‫م وَب َ ِ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫كين َ ٌ‬ ‫س ِ‬ ‫ِفيهِ َ‬
‫ن )‪(248‬‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ة ل َك ُ ْ‬ ‫ك َلي َ ً‬ ‫َ‬ ‫ن ِفي ذ َل ِ َ‬
‫مِني َ‬ ‫م ُ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫إِ ّ‬
‫َ‬
‫سى إ ِذ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫ن ب َعْدِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ن ب َِني إ ِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫مل ِ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ْ َ‬ ‫} ‪ } { 248- 246‬أل َ ْ‬
‫ب‬‫ن ك ُت ِ َ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫سي ْت ُ ْ‬ ‫ل عَ َ‬ ‫ل هَ ْ‬ ‫ل الل ّهِ َقا َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ل ِفي َ‬ ‫قات ِ ْ‬ ‫كا ن ُ َ‬ ‫مل ِ ً‬ ‫ث ل ََنا َ‬ ‫م اب ْعَ ْ‬ ‫ي ل َهُ ُ‬ ‫َقاُلوا ل ِن َب ِ ّ‬
‫جَنا‬ ‫خرِ ْ‬ ‫ل الل ّهِ وَقَد ْ أ ُ ْ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ل ِفي َ‬ ‫قات ِ َ‬ ‫ما ل ََنا َأل ن ُ َ‬ ‫قات ُِلوا َقاُلوا وَ َ‬ ‫ل َأل ت ُ َ‬ ‫قَتا ُ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫عَل َي ْك ُ ُ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫ه عَِلي ٌ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫وا ِإل قَِليل ِ‬ ‫ل ت َوَل ّ ْ‬ ‫قَتا ُ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫ب عَل َي ْهِ ُ‬ ‫ما ك ُت ِ َ‬ ‫ن دَِيارَِنا وَأب َْنائ َِنا فَل َ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫كا َقاُلوا أّنى‬ ‫مل ِ ً‬ ‫ت َ‬ ‫طاُلو َ‬ ‫م َ‬ ‫ث ل َك ُ ْ‬ ‫ه قَد ْ ب َعَ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫م ن َب ِي ّهُ ْ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫ن * وََقا َ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ِبال ّ‬
‫َ‬
‫ل‬ ‫ل َقا َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ة ِ‬ ‫سعَ ً‬ ‫ت َ‬ ‫م ي ُؤْ َ‬ ‫ه وَل َ ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ك ِ‬ ‫مل ْ ِ‬ ‫حقّ ِبال ْ ُ‬ ‫نأ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ك عَل َي َْنا وَن َ ْ‬ ‫مل ْ ُ‬ ‫ه ال ْ ُ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫كو ُ‬ ‫يَ ُ‬
‫مل ْك َ ُ‬
‫ه‬ ‫ه ي ُؤِْتي ُ‬ ‫سم ِ َوالل ّ ُ‬ ‫ج ْ‬ ‫ة ِفي ال ْعِل ْم ِ َوال ْ ِ‬ ‫سط َ ً‬ ‫م وََزاد َهُ ب َ ْ‬ ‫فاهُ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫صط َ َ‬ ‫ها ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫إِ ّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ن ي َأت ِي َك ُ ُ‬ ‫مل ْك ِهِ أ ْ‬ ‫ة ُ‬ ‫ن آي َ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫م ن َب ِي ّهُ ْ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫م * وََقا َ‬ ‫سعٌ عَِلي ٌ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫شاُء َوالل ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫هُ‬
‫مل ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫هاُرو َ‬ ‫سى َوآل َ‬‫ُ‬ ‫مو َ‬ ‫ُ‬
‫ما ت ََرك آل ُ‬ ‫َ‬ ‫م ّ‬ ‫ة ِ‬ ‫قي ّ ٌ‬ ‫م وَب َ ِ‬ ‫ن َرب ّك ْ‬ ‫ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫كين َ ٌ‬ ‫س ِ‬ ‫ت ِفيهِ َ‬ ‫الّتاُبو ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫ة لك ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ن ِفي ذ َل ِك لي َ ً‬ ‫َ‬ ‫ة إِ ّ‬ ‫ملئ ِك َ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫يقص تعالى على نبيه قصة المل من بني إسرائيل وهم الشراف‬
‫والرؤساء‪ ،‬وخص المل بالذكر‪ ،‬لنهم في العادة هم الذين يبحثون عن‬
‫مصالحهم ليتفقوا فيتبعهم غيرهم على ما يرونه‪ ،‬وذلك أنهم أتوا إلى نبي‬
‫لهم بعد موسى عليه السلم فقالوا له } ابعث لنا ملكا { أي‪ :‬عّين لنا ملكا‬
‫} نقاتل في سبيل الله { ليجتمع متفرقنا ويقاوم بنا عدونا‪ ،‬ولعلهم في‬
‫ذلك الوقت ليس لهم رئيس يجمعهم‪ ،‬كما جرت عادة القبائل أصحاب‬
‫البيوت‪ ،‬كل بيت ل يرضى أن يكون من البيت الخر رئيس‪ ،‬فالتمسوا من‬
‫نبيهم تعيين ملك يرضي الطرفين ويكون تعيينه خاصا لعوائدهم‪ ،‬وكانت‬
‫أنبياء بني إسرائيل تسوسهم‪ ،‬كلما مات نبي خلفه نبي آخر‪ ،‬فلما قالوا‬
‫لنبيهم تلك المقالة } قال { لهم نبيهم } هل عسيتم إن كتب عليكم القتال‬
‫أل تقاتلوا { أي‪ :‬لعلكم تطلبون شيئا وهو إذا كتب عليكم ل تقومون به‪،‬‬
‫فعرض عليهم العافية فلم يقبلوها‪ ،‬واعتمدوا على عزمهم ونيتهم‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫} وما لنا أل نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا { أي‪ :‬أي‬
‫شيء يمنعنا من القتال وقد ألجأنا إليه‪ ،‬بأن أخرجنا من أوطاننا وسبيت‬
‫ذرارينا‪ ،‬فهذا موجب لكوننا نقاتل ولو لم يكتب علينا‪ ،‬فكيف مع أنه فرض‬
‫علينا وقد حصل ما حصل‪ ،‬ولهذا لما لم تكن نياتهم حسنة ولم يقوَ توكلهم‬
‫على ربهم } فلما كتب عليهم القتال تولوا { فجبنوا عن قتال العداء‬
‫وضعفوا عن المصادمة‪ ،‬وزال ما كانوا عزموا عليه‪ ،‬واستولى على أكثرهم‬
‫الخور والجبن } إل قليل منهم { فعصمهم الله وثبتهم وقوى قلوبهم‬
‫فالتزموا أمر الله ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه‪ ،‬فحازوا شرف‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬وأما أكثرهم فظلموا أنفسهم وتركوا أمر الله‪ ،‬فلهذا قال‪} :‬‬
‫والله عليم بالظالمين وقال لهم نبيهم { مجيبا لطلبهم } إن الله قد بعث‬
‫لكم طالوت ملكا { فكان هذا تعيينا من الله الواجب عليهم فيه القبول‬
‫والنقياد وترك العتراض‪ ،‬ولكن أبوا إل أن يعترضوا‪ ،‬فقالوا‪ } :‬أنى يكون‬
‫له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال { أي‪:‬‬
‫كيف يكون ملكا وهو دوننا في الشرف والنسب ونحن أحق بالملك منه‪.‬‬
‫ومع هذا فهو ] ص ‪ [ 108‬فقير ليس عنده ما يقوم به الملك من الموال‪،‬‬
‫وهذا بناء منهم على ظن فاسد‪ ،‬وهو أن الملك ونحوه من الوليات‬
‫مستلزم لشرف النسب وكثرة المال‪ ،‬ولم يعلموا أن الصفات الحقيقية‬
‫التي توجب التقديم مقدمة عليها‪ ،‬فلهذا قال لهم نبيهم‪ } :‬إن الله اصطفاه‬
‫عليكم { فلزمكم النقياد لذلك } وزاده بسطة في العلم والجسم { أي‪:‬‬
‫فضله عليكم بالعلم والجسم‪ ،‬أي‪ :‬بقوة الرأي والجسم اللذين بهما تتم‬
‫أمور الملك‪ ،‬لنه إذا تم رأيه وقوي على تنفيذ ما يقتضيه الرأي المصيب‪،‬‬
‫حصل بذلك الكمال‪ ،‬ومتى فاته واحد من المرين اختل عليه المر‪ ،‬فلو‬
‫كان قوي البدن مع ضعف الرأي‪ ،‬حصل في الملك خرق وقهر ومخالفة‬
‫للمشروع‪ ،‬قوة على غير حكمة‪ ،‬ولو كان عالما بالمور وليس له قوة على‬
‫تنفيذها لم يفده الرأي الذي ل ينفذه شيئا } والله واسع { الفضل كثير‬
‫الكرم‪ ،‬ل يخص برحمته وبره العام أحدا عن أحد‪ ،‬ول شريفا عن وضيع‪،‬‬
‫ولكنه مع ذلك } عليم { بمن يستحق الفضل فيضعه فيه‪ ،‬فأزال بهذا‬
‫الكلم ما في قلوبهم من كل ريب وشك وشبهة لتبيينه أن أسباب الملك‬
‫متوفرة فيه‪ ،‬وأن فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده‪ ،‬ليس له راد‪ ،‬ول‬
‫لحسانه صاد‪.‬‬
‫ثم ذكر لهم نبيهم أيضا آية حسية يشاهدونها وهي إتيان التابوت الذي قد‬
‫فقدوه زمانا طويل وفي ذلك التابوت سكينة تسكن بها قلوبهم‪ ،‬وتطمئن‬
‫لها خواطرهم‪ ،‬وفيه بقية مما ترك آل موسى وآل هارون‪ ،‬فأتت به‬
‫الملئكة حاملة له وهم يرونه عيانا‪.‬‬

‫) ‪(1/107‬‬

‫ه‬
‫من ْ ُ‬ ‫ب ِ‬ ‫شرِ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ب ِن َهَرٍ فَ َ‬ ‫مب ْت َِليك ُ ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫جُنودِ َقا َ‬ ‫ت ِبال ْ ُ‬ ‫طاُلو ُ‬ ‫ل َ‬ ‫ص َ‬ ‫ما فَ َ‬ ‫فَل َ ّ‬
‫شرُِبوا‬ ‫ة ب ِي َدِهِ فَ َ‬ ‫ف غُْرفَ ً‬ ‫ن اغْت ََر َ‬ ‫م ِ‬ ‫مّني إ ِّل َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ه فَإ ِن ّ ُ‬ ‫م ُ‬‫م ي َط ْعَ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫مّني وَ َ‬ ‫س ِ‬ ‫فَل َي ْ َ‬
‫ة ل ََنا ال ْي َوْ َ‬ ‫ه َقاُلوا َل َ‬ ‫ذي َ‬
‫م‬ ‫طاقَ َ‬ ‫مع َ ُ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫جاوََزهُ هُوَ َوال ّ ِ َ‬ ‫ما َ‬ ‫م فَل َ ّ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ه إ ِّل قَِليًل ِ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ت‬‫ن فِئ َةٍ قَِليلةٍ غَلب َ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ملُقو اللهِ ك ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ن أن ّهُ ْ‬ ‫ن ي َظّنو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ِ‬ ‫جُنودِهِ َقا َ‬ ‫ت وَ ُ‬ ‫جالو َ‬ ‫بِ َ‬
‫جُنودِهِ‬ ‫ت وَ ُ‬ ‫جالو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ب ََرُزوا ل ِ َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪ (249‬وَل ّ‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬ ‫معَ ال ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ن اللهِ َوالل ُ‬ ‫ّ‬ ‫ة كِثيَرةً ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫فِئ َ ً‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن)‬ ‫ري َ‬ ‫َ‬
‫قوْم ِ الكافِ ِ‬ ‫صْرَنا عَلى ال َ‬ ‫مَنا َوان ْ ُ‬ ‫دا َ‬‫ت أقْ َ‬ ‫صب ًْرا وَث َب ّ ْ‬ ‫َقاُلوا َرب َّنا أفْرِغْ عَلي َْنا َ‬
‫َ‬
‫ك َوال ْ ِ‬ ‫مل ْ َ‬ ‫َ‬
‫ة‬‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ه ال ْ ُ‬ ‫ت وَآَتاهُ الل ّ ُ‬ ‫جاُلو َ‬ ‫داُوود ُ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن الل ّهِ وَقَت َ َ‬ ‫م ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫موهُ ْ‬ ‫‪ (250‬فَهََز ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ض وَلك ِ ّ‬ ‫ت الْر ُ‬ ‫سد َ ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ضل َ‬ ‫م ب ِب َعْ ٍ‬ ‫ضه ُ ْ‬ ‫س ب َعْ َ‬ ‫شاُء وَلوْل د َفْعُ اللهِ الّنا َ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫م ّ‬
‫ه ِ‬ ‫م ُ‬ ‫وَعَل ّ َ‬
‫ك ِبال ْ َ‬ ‫ها عَل َي ْ َ‬ ‫ت الل ّهِ ن َت ُْلو َ‬ ‫مين )‪ (251‬ت ِل ْ َ َ‬
‫حقّ وَإ ِن ّ َ‬
‫ك‬ ‫ك آَيا ُ‬ ‫ل عََلى ال َْعال َ ِ َ‬ ‫ض ٍ‬ ‫ذو فَ ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ن )‪(252‬‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫لَ ِ‬

‫ر‬ ‫مب ْت َِليك ُ ْ‬


‫م ب ِن َهَ ٍ‬ ‫ه ُ‬‫ن الل ّ َ‬
‫ل إِ ّ‬ ‫جُنودِ َقا َ‬ ‫ت ِبال ْ ُ‬‫طاُلو ُ‬ ‫ل َ‬ ‫ص َ‬ ‫ما فَ َ‬‫} ‪ } { 249-252‬فَل َ ّ‬
‫ف غُْرفَ ً‬
‫ة‬ ‫ن اغْت ََر َ‬ ‫م ِ‬
‫مّني ِإل َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ه فَإ ِن ّ ُ‬ ‫م ي َط ْعَ ْ‬
‫م ُ‬ ‫ن لَ ْ‬‫م ْ‬
‫مّني وَ َ‬ ‫س ِ‬‫ه فَل َي ْ َ‬ ‫من ْ ُ‬
‫ب ِ‬
‫شرِ َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫فَ َ‬
‫ُ‬
‫ه َقالوا ل‬ ‫معَ ُ‬‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫جاوََزهُ هُوَ َوال ِ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫م فَل ّ‬‫من ْهُ ْ‬‫ه ِإل قَِليل ِ‬ ‫من ْ ُ‬‫شرُِبوا ِ‬‫ب ِي َدِهِ فَ َ‬
‫ل ال ّذين يظ ُنو َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ملُقو الل ّهِ ك َ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ن أن ّهُ ْ‬ ‫ِ َ َ ّ َ‬ ‫جُنودِهِ َقا َ‬ ‫ت وَ ُ‬ ‫جاُلو َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ة ل ََنا ال ْي َوْ َ‬ ‫طاقَ َ‬ ‫َ‬
‫ما ب ََرُزوا‬ ‫ن * وَل َ ّ‬ ‫ري َ‬ ‫صا َب ِ ِ‬
‫معَ ال ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّهِ َوالل ّ ُ‬ ‫ة ك َِثيَرةً ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫ت فِئ َ ً‬ ‫فِئ َةٍ قَِليل َةٍ غَل َب َ ْ‬
‫صْرَنا عََلى‬ ‫َ‬
‫مَنا َوان ْ ُ‬ ‫دا َ‬‫ت أق ْ َ‬ ‫صب ًْرا وَث َب ّ ْ‬ ‫جُنودِهِ َقاُلوا َرب َّنا أفْرِغْ عَل َي َْنا َ‬ ‫ت وَ ُ‬ ‫جاُلو َ‬ ‫لِ َ‬
‫مل ْكَ‬ ‫ه ال ُْ‬ ‫ت َوآَتاهُ الل ُّ‬ ‫جالو َ‬ ‫ُ‬ ‫داوُد ُ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ّ‬
‫ن اللهِ وَقَت َ َ‬ ‫م ب ِإ ِذ ْ ِ‬‫موهُ ْ‬ ‫ن * فَهََز ُ‬ ‫ري َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫قوْم ِ الكافِ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ت‬‫سد َ ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ض لَ َ‬‫م ب ِب َعْ ٍ‬ ‫ضه ُ ْ‬ ‫س ب َعْ َ‬ ‫ول د َفْعُ الل ّهِ الّنا َ‬ ‫شاُء وَل َ ْ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫م ّ‬ ‫ه ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ة وَعَل ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬‫َوال ْ ِ‬
‫ها عَل َي ْ َ‬
‫ك‬ ‫ت الل ّهِ ن َت ُْلو َ‬ ‫ك آَيا ُ‬ ‫ن * ت ِل ْ َ‬ ‫مي َ‬ ‫ل عََلى ال َْعال َ ِ‬ ‫ذو فَ ْ‬
‫ض ٍ‬ ‫ه ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ض وَل َك ِ ّ‬ ‫الْر ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫سِلي َ‬‫مْر َ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫كل ِ‬‫َ‬ ‫حقّ وَإ ِن ّ َ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫أي‪ :‬لما تمّلك طالوت ببني إسرائيل واستقر له الملك تجهزوا لقتال‬
‫عدوهم‪ ،‬فلما فصل طالوت بجنود بني إسرائيل وكانوا عددا كثيرا وجما‬
‫غفيرا‪ ،‬امتحنهم بأمر الله ليتبين الثابت المطمئن ممن ليس كذلك فقال‪} :‬‬
‫إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني { فهو عاص ول يتبعنا‬
‫لعدم صبره وثباته ولمعصيته } ومن لم يطعمه { أي‪ :‬لم يشرب منه فإنه‬
‫مني } إل من اغترف غرفة بيده { فل جناح عليه في ذلك‪ ،‬ولعل الله أن‬
‫يجعل فيها بركة فتكفيه‪ ،‬وفي هذا البتلء ما يدل على أن الماء قد قل‬
‫عليهم ليتحقق المتحان‪ ،‬فعصى أكثرهم وشربوا من النهر الشرب المنهي‬
‫عنه‪ ،‬ورجعوا على أعقابهم ونكصوا عن قتال عدوهم وكان في عدم‬
‫صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال‬
‫الذي سيتطاول وتحصل فيه المشقة الكبيرة‪ ،‬وكان في رجوعهم عن باقي‬
‫العسكر ما يزداد به الثابتون توكل على الله‪ ،‬وتضرعا واستكانة وتبرؤا من‬
‫حولهم وقوتهم‪ ،‬وزيادة صبر لقلتهم وكثرة عدوهم‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪:‬‬
‫} فلما جاوزه { أي‪ :‬النهر } هو { أي‪ :‬طالوت } والذين آمنوا معه { وهم‬
‫الذين أطاعوا أمر الله ولم يشربوا من النهر الشرب المنهي عنه فرأوا‪...‬‬
‫قلتهم وكثرة أعدائهم‪ ،‬قالوا أي‪ :‬قال كثير منهم } ل طاقة لنا اليوم‬
‫عددهم } قال الذين يظنون أنهم‬ ‫عددهم و ُ‬ ‫بجالوت وجنوده { لكثرتهم و َ‬
‫ملقوا الله { أي‪ :‬يستيقنون ذلك‪ ،‬وهم أهل اليمان الثابت واليقين‬
‫الراسخ‪ ،‬مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم‪ ،‬وآمرين لهم بالصبر } كم‬
‫من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله { أي‪ :‬بإرادته ومشيئته فالمر لله‬
‫تعالى‪ ،‬والعزيز من أعزه الله‪ ،‬والذليل من أذله الله‪ ،‬فل تغني الكثرة مع‬
‫خذلنه‪ ،‬ول تضر القلة مع نصره‪ } ،‬والله مع الصابرين { بالنصر والمعونة‬
‫والتوفيق‪ ،‬فأعظم جالب لمعونة الله صبر العبد لله‪ ،‬فوقعت موعظته في‬
‫قلوبهم وأثرت معهم‪.‬‬
‫ولهذا لما برزوا لجالوت وجنوده } قالوا { جميعهم } ربنا أفرغ علينا‬
‫صبرا { أي‪ :‬قو قلوبنا‪ ،‬وأوزعنا الصبر‪ ،‬وثبت أقدامنا عن التزلزل والفرار‪،‬‬
‫وانصرنا على القوم الكافرين‪.‬‬
‫من هاهنا نعلم أن جالوت وجنوده كانوا كفارا‪ ،‬فاستجاب الله لهم ذلك‬
‫الدعاء لتيانهم بالسباب الموجبة لذلك‪ ،‬ونصرهم عليهم } فهزموهم بإذن‬
‫الله وقتل داود { عليه السلم‪ ،‬وكان مع جنود طالوت‪ } ،‬جالوت { أي‪:‬‬
‫باشر قتل ملك الكفار بيده لشجاعته وقوته وصبره } وآتاه الله { أي‪ :‬آتى‬
‫ن عليه بتملكه على بني إسرائيل مع‬ ‫الله داود } الملك والحكمة { أي‪ :‬م ّ‬
‫الحكمة‪ ،‬وهي النبوة المشتملة على الشرع العظيم والصراط المستقيم‪،‬‬
‫ولهذا قال } وعلمه مما يشاء { من العلوم الشرعية والعلوم السياسية‪،‬‬
‫فجمع الله له الملك والنبوة‪ ،‬وقد كان من قبله من النبياء يكون الملك‬
‫] ص ‪ [ 109‬لغيرهم‪ ،‬فلما نصرهم الله تعالى اطمأنوا في ديارهم وعبدوا‬
‫الله آمنين مطمئنين لخذلن أعدائهم وتمكينهم من الرض‪ ،‬وهذا كله من‬
‫آثار الجهاد في سبيله‪ ،‬فلو لم يكن لم يحصل ذلك فلهذا قال تعالى‪:‬‬
‫} ولول دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الرض { أي‪ :‬لول أنه يدفع‬
‫بمن يقاتل في سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار لفسدت الرض باستيلء‬
‫الكفار عليها وإقامتهم شعائر الكفر ومنعهم من عبادة الله تعالى‪ ،‬وإظهار‬
‫دينه } ولكن الله ذو فضل على العالمين { حيث شرع لهم الجهاد الذي‬
‫فيه سعادتهم والمدافعة عنهم ومكنهم من الرض بأسباب يعلمونها‪،‬‬
‫وأسباب ل يعلمونها‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪ } :‬تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق { أي‪ :‬بالصدق الذي ل‬
‫ريب فيها المتضمن للعتبار والستبصار وبيان حقائق المور } وإنك لمن‬
‫المرسلين { فهذه شهادة من الله لرسوله برسالته التي من جملة أدلتها‬
‫ما قصه الله عليه من أخبار المم السالفين والنبياء وأتباعهم وأعدائهم‬
‫التي لول خبر الله إياه لما كان عنده بذلك علم بل لم يكن في قومه من‬
‫عنده شيء من هذه المور‪ ،‬فدل أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا الذي بعثه‬
‫بالحق ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون‪.‬‬
‫وفي هذه القصة من اليات والعبر ما يتذكر به أولو اللباب‪ ،‬فمنها‪ :‬أن‬
‫اجتماع أهل الكلمة والحل والعقد وبحثهم في الطريق الذي تستقيم به‬
‫أمورهم وفهمه‪ ،‬ثم العمل به‪ ،‬أكبر سبب لرتقائهم وحصول مقصودهم‪،‬‬
‫كما وقع لهؤلء المل حين راجعوا نبيهم في تعيين ملك تجتمع به كلمتهم‬
‫ويلم متفرقهم‪ ،‬وتحصل له الطاعة منهم‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الحق كلما عورض‬
‫وأوردت عليه الشبه ازداد وضوحا وتميز وحصل به اليقين التام كما جرى‬
‫لهؤلء‪ ،‬لما اعترضوا على استحقاق طالوت للملك أجيبوا بأجوبة حصل بها‬
‫القناع وزوال الشبه والريب‪ .‬ومنها‪ :‬أن العلم والرأي‪ :‬مع القوة المنفذة‬
‫بهما كمال الوليات‪ ،‬وبفقدهما أو فقد أحدهما نقصانها وضررها‪ .‬ومنها‪ :‬أن‬
‫التكال على النفس سبب الفشل والخذلن‪ ،‬والستعانة بالله والصبر‬
‫واللتجاء إليه سبب النصر‪ ،‬فالول كما في قولهم لنبيهم } وما لنا أل نقاتل‬
‫في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا { فكأنه نتيجة ذلك أنه لما‬
‫كتب عليهم القتال تولوا‪ ،‬والثاني في قوله‪ } :‬ولما برزوا لجالوت وجنوده‬
‫قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين‬
‫فهزموهم بإذن الله { ومنها‪ :‬أن من حكمة الله تعالى تمييز الخبيث من‬
‫الطيب‪ ،‬والصادق من الكاذب‪ ،‬والصابر من الجبان‪ ،‬وأنه لم يكن ليذر العباد‬
‫على ما هم عليه من الختلط وعدم التمييز‪ .‬ومنها‪ :‬أن من رحمته وسننه‬
‫الجارية أن يدفع ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين‪ ،‬وأنه لول‬
‫ذلك لفسدت الرض باستيلء الكفر وشعائره عليها‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/108‬‬

‫م‬ ‫ه وََرفَعَ ب َعْ َ‬


‫ضه ُ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ن ك َل ّ َ‬
‫م ْ‬
‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ض ِ‬‫م عَلى ب َعْ ٍ‬
‫ضه ُ ْ َ‬ ‫ضل َْنا ب َعْ َ‬
‫ل فَ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ك الّر ُ‬ ‫ت ِل ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫شاَء الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫س وَل َوْ َ‬ ‫قد ُ ِ‬ ‫ت وَأي ّد َْناهُ ب ُِروِح ال ْ ُ‬ ‫م ال ْب َي َّنا ِ‬
‫مْري َ َ‬‫ن َ‬‫سى اب ْ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ت وَآت َي َْنا ِ‬ ‫جا ٍ‬ ‫د ََر َ‬
‫م‬ ‫فوا فَ ِ‬
‫من ْهُ ْ‬ ‫خت َل َ ُ‬
‫نا ْ‬ ‫م ال ْب َي َّنا ُ َ‬
‫ت وَلك ِ ِ‬ ‫جاَءت ْهُ ُ‬‫ما َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬‫ن ب َعْدِهِ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ما اقْت َت َ َ‬ ‫َ‬
‫م َ‬
‫ريد ُ )‬
‫ما ي ُ ِ‬ ‫فع َ ُ‬
‫ل َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه يَ ْ‬ ‫ما اقْت َت َُلوا وَل َك ِ ّ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫فَر وَل َوْ َ‬
‫ن كَ َ‬
‫م ْ‬
‫م َ‬
‫من ْهُ ْ‬
‫ن وَ ِ‬
‫م َ‬
‫نآ َ‬‫َ ْ‬
‫‪(253‬‬

‫ه وََرفَ َ‬
‫ع‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ن ك َل ّ َ‬‫م ْ‬ ‫م َ‬‫من ْهُ ْ‬
‫ض ِ‬ ‫م عَلى ب َعْ َ ٍ‬
‫ضه ُ ْ َ‬ ‫ضل َْنا ب َعْ َ‬
‫ل فَ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ك الّر ُ‬ ‫} ‪ } { 253‬ت ِل ْ َ‬
‫س وَل َ ْ‬
‫و‬ ‫قد ُ ِ‬ ‫ت وَأي ّد َْناهُ ب ُِروِح ال ْ ُ‬ ‫م ال ْب َي َّنا ِ‬‫مْري َ َ‬‫ن َ‬ ‫سى اب ْ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ت َوآت َي َْنا ِ‬ ‫جا ٍ‬ ‫م د ََر َ‬ ‫ضه ُ ْ‬ ‫ب َعْ َ‬
‫ن‬ ‫م ال ْب َي َّنا ُ َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫ما اقْت َت َ َ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫َ‬
‫ت وَلك ِ ِ‬ ‫جاَءت ْهُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ب َعْدِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه َ‬
‫هّ‬
‫ن الل َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ما اقت َت َلوا وَلك ِ ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫شاَء الل ُ‬ ‫َ‬
‫فَر وَلوْ َ‬ ‫َ‬
‫نك َ‬ ‫م ْ‬‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫ن وَ ِ‬‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫َ‬
‫فوا ف ِ‬ ‫َ‬
‫خت َل ُ‬‫ا ْ‬
‫ريد ُ { ‪.‬‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫ل َ‬ ‫فع َ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫يخبر تعالى أنه فضل بعض الرسل على بعض بما خصهم من بين سائر‬
‫الناس بإيحائه وإرسالهم إلى الناس‪ ،‬ودعائهم الخلق إلى الله‪ ،‬ثم فضل‬
‫بعضهم على بعض بما أودع فيهم من الوصاف الحميدة والفعال السديدة‬
‫والنفع العام‪ ،‬فمنهم من كلمه الله كموسى بن عمران خصه بالكلم‪،‬‬
‫ومنهم من رفعه على سائرهم درجات كنبينا صلى الله عليه وسلم الذي‬
‫اجتمع فيه من الفضائل ما تفرق في غيره‪ ،‬وجمع الله له من المناقب ما‬
‫فاق به الولين والخرين } وآتينا عيسى ابن مريم البينات { الدالت على‬
‫نبوته وأنه عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه } وأيدناه‬
‫بروح القدس { أي‪ :‬باليمان واليقين الذي أيده به الله وقواه على ما أمر‬
‫به‪ ،‬وقيل أيده بجبريل عليه السلم يلزمه في أحواله } ولو شاء الله ما‬
‫اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات { الموجبة للجتماع على‬
‫اليمان } ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر { فكان موجب‬
‫هذا الختلف التفرق والمعاداة والمقاتلة‪ ،‬ومع هذا فلو شاء الله بعد هذا‬
‫الختلف ما اقتتلوا‪ ،‬فدل ذلك على أن مشيئة الله نافذة غالبة للسباب‪،‬‬
‫وإنما تنفع السباب مع عدم معارضة المشيئة‪ ،‬فإذا وجدت اضمحل كل‬
‫سبب‪ ،‬وزال كل موجب‪ ،‬فلهذا قال } ولكن الله يفعل ما يريد { فإرادته‬
‫غالبة ومشيئته نافذة‪ ،‬وفي هذا ونحوه دللة على أن الله تعالى لم يزل‬
‫يفعل ما اقتضته مشيئته وحكمته‪ ،‬ومن جملة ما يفعله ما أخبر به عن‬
‫نفسه وأخبر به عنه رسوله صلى الله عليه وسلم من الستواء والنزول‬
‫والقوال‪ ،‬والفعال التي يعبرون عنها بالفعال الختيارية‪.‬‬
‫فائدة‪ :‬كما يجب على المكلف معرفته بربه‪ ،‬فيجب عليه معرفته برسله‪ ،‬ما‬
‫يجب لهم ويمتنع عليهم ويجوز في حقهم‪ ،‬ويؤخذ جميع ذلك مما وصفهم‬
‫الله به في آيات متعددة‪ ،‬منها‪ :‬أنهم رجال ل نساء‪ ،‬من أهل ] ص ‪[ 110‬‬
‫القرى ل من أهل البوادي‪ ،‬وأنهم مصطفون مختارون‪ ،‬جمع الله لهم من‬
‫الصفات الحميدة ما به الصطفاء والختيار‪ ،‬وأنهم سالمون من كل ما‬
‫يقدح في رسالتهم من كذب وخيانة وكتمان وعيوب مزرية‪ ،‬وأنهم ل يقرون‬
‫على خطأ فيما يتعلق بالرسالة والتكليف‪ ،‬وأن الله تعالى خصهم بوحيه‪،‬‬
‫فلهذا وجب اليمان بهم وطاعتهم ومن لم يؤمن بهم فهو كافر‪ ،‬ومن قدح‬
‫في واحد منهم أو سبه فهو كافر يتحتم قتله‪ ،‬ودلئل هذه الجمل كثيرة‪ ،‬من‬
‫تدبر القرآن تبين له الحق‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/109‬‬
‫م َل ب َي ْعٌ ِفيهِ وََل‬ ‫ْ‬ ‫قوا مما رزقْناك ُم من قَب َ‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫ي ي َوْ ٌ‬
‫ن ي َأت ِ َ‬
‫لأ ْ‬‫ِ ّ َ َ َ ْ ِ ْ ْ ِ‬ ‫ف ُ‬
‫مُنوا أن ْ ِ‬‫نآ َ‬‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫ن )‪(254‬‬‫مو َ‬ ‫م ال ّ‬
‫ظال ِ ُ‬ ‫ن هُ ُ‬
‫كافُِرو َ‬‫ة َوال ْ َ‬
‫فاعَ ٌ‬ ‫ة وََل َ‬
‫ش َ‬ ‫خل ّ ٌ‬
‫ُ‬
‫ْ‬ ‫قوا مما رزقْناك ُم من قَب َ‬ ‫مُنوا أ َن ْفِ ُ‬ ‫َ‬
‫مل‬ ‫ي ي َوْ ٌ‬
‫ن ي َأت ِ َ‬
‫لأ ْ‬‫ِ ّ َ َ َ ْ ِ ْ ْ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫} ‪َ } { 254‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ال ّ‬
‫ظال ِ ُ‬ ‫ن هُ ُ‬
‫كافُِرو َ‬ ‫ة َوال ْ َ‬‫فاعَ ٌ‬
‫ش َ‬ ‫ة َول َ‬ ‫خل ّ ٌ‬
‫ب َي ْعٌ ِفيهِ َول ُ‬
‫وهذا من لطف الله بعباده أن أمرهم بتقديم شيء مما رزقهم الله‪ ،‬من‬
‫صدقة واجبة ومستحبة‪ ،‬ليكون لهم ذخرا وأجرا موفرا في يوم يحتاج فيه‬
‫العاملون إلى مثقال ذرة من الخير‪ ،‬فل بيع فيه ولو افتدى النسان نفسه‬
‫بملء الرض ذهبا ليفتدي به من عذاب يوم القيامة ما تقبل منه‪ ،‬ولم ينفعه‬
‫خليل ول صديق ل بوجاهة ول بشفاعة‪ ،‬وهو اليوم الذي فيه يخسر‬
‫المبطلون ويحصل الخزي على الظالمين‪ ،‬وهم الذين وضعوا الشيء في‬
‫غير موضعه‪ ،‬فتركوا الواجب من حق الله وحق عباده وتعدوا الحلل إلى‬
‫الحرام‪ ،‬وأعظم أنواع الظلم الكفر بالله الذي هو وضع العبادة التي يتعين‬
‫أن تكون لله فيصرفها الكافر إلى مخلوق مثله‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪:‬‬
‫} والكافرون هم الظالمون { وهذا من باب الحصر‪ ،‬أي‪ :‬الذين ثبت لهم‬
‫الظلم التام‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬إن الشرك لظلم عظيم { ثم قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/110‬‬

‫ت‬‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ما ِفي ال ّ‬ ‫ه َ‬‫م لَ ُ‬ ‫ة وََل ن َوْ ٌ‬ ‫سن َ ٌ‬‫خذ ُهُ ِ‬ ‫م َل ت َأ ْ ُ‬ ‫ي ال ْ َ‬


‫قّيو ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ ال ْ َ‬ ‫ه َل إ ِل َ َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫م وَ َ‬‫ديهِ ْ‬‫ن أي ْ ِ‬ ‫ما ب َي ْ َ‬
‫م َ‬ ‫عن ْد َهُ إ ِّل ب ِإ ِذ ْن ِهِ ي َعْل َ ُ‬‫فعُ ِ‬ ‫ذي ي َ ْ‬
‫ش َ‬ ‫ذا ال ّ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ض َ‬ ‫ْ‬
‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫وَ َ‬
‫ت‬
‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫سعَ ك ُْر ِ‬
‫سي ّ ُ‬ ‫شاَء وَ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫مهِ إ ِّل ب ِ َ‬ ‫عل ْ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫طو َ‬ ‫حي ُ‬ ‫م وََل ي ُ ِ‬ ‫فه ُ ْ‬ ‫خل ْ َ‬ ‫َ‬
‫م )‪(255‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ظي ُ‬ ‫ي العَ ِ‬ ‫ما وَهُوَ العَل ِ ّ‬ ‫فظهُ َ‬ ‫ح ْ‬‫ض وَل ي َئود ُهُ ِ‬ ‫َوالْر َ‬
‫ما ِفي‬ ‫ه َ‬ ‫م لَ ُ‬‫ة َول ن َوْ ٌ‬ ‫سن َ ٌ‬ ‫خذ ُهُ ِ‬ ‫م ل ت َأ ْ ُ‬ ‫قّيو ُ‬ ‫ي ال ْ َ‬ ‫ح ّ‬‫ه ِإل هُوَ ال ْ َ‬ ‫ه ل إ ِل َ َ‬‫} ‪ } { 255‬الل ّ ُ‬
‫ن‬‫ما ب َي ْ َ‬‫م َ‬‫عن ْد َهُ ِإل ب ِإ ِذ ْن ِهِ ي َعْل َ ُ‬ ‫فعُ ِ‬ ‫ش َ‬‫ذي ي َ ْ‬ ‫ذا ال ّ ِ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫ض َ‬‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬
‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ال ّ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫سي ّ ُ‬‫سعَ ك ُْر ِ‬ ‫شاَء وَ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫مهِ ِإل ب ِ َ‬ ‫عل ْ ِ‬
‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫طو َ‬‫حي ُ‬ ‫م َول ي ُ ِ‬ ‫فه ُ ْ‬‫خل ْ َ‬‫ما َ‬ ‫م وَ َ‬
‫ديهِ ْ‬ ‫أي ْ ِ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ظي ُ‬ ‫ي ال ْعَ ِ‬ ‫ما وَهُوَ ال ْعَل ِ ّ‬ ‫فظ ُهُ َ‬ ‫ض َول ي َُئود ُهُ ِ‬
‫ح ْ‬ ‫ت َوالْر َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ال ّ‬

‫) ‪(1/110‬‬

‫ن‬ ‫ت وَي ُؤْ ِ‬


‫م ْ‬ ‫غو ِ‬ ‫فْر ِبال ّ‬
‫طا ُ‬ ‫ن ي َك ْ ُ‬ ‫ي فَ َ‬
‫م ْ‬ ‫ن ال ْغَ ّ‬‫م َ‬‫شد ُ ِ‬ ‫ن الّر ْ‬ ‫ن قَد ْ ت َب َي ّ َ‬ ‫َل إ ِك َْراهَ ِفي ال ّ‬
‫دي ِ‬
‫م )‪(256‬‬ ‫ميعٌ عَِلي ٌ‬‫س ِ‬
‫ه َ‬ ‫م ل ََها َوالل ّ ُ‬‫صا َ‬
‫ف َ‬ ‫قى َل ان ْ ِ‬ ‫ك ِبال ْعُْروَةِ ال ْوُث ْ َ‬ ‫س َ‬‫م َ‬‫ست َ ْ‬ ‫ِبالل ّهِ فَ َ‬
‫قدِ ا ْ‬

‫هذه الية الكريمة أعظم آيات القرآن وأفضلها وأجلها‪ ،‬وذلك لما اشتملت‬
‫عليه من المور العظيمة والصفات الكريمة‪ ،‬فلهذا كثرت الحاديث في‬
‫الترغيب في قراءتها وجعلها وردا للنسان في أوقاته صباحا ومساء وعند‬
‫نومه وأدبار الصلوات المكتوبات‪ ،‬فأخبر تعالى عن نفسه الكريمة بأن } ل‬
‫إله إل هو { أي‪ :‬ل معبود بحق سواه‪ ،‬فهو الله الحق الذي تتعين أن تكون‬
‫جميع أنواع العبادة والطاعة والتأله له تعالى‪ ،‬لكماله وكمال صفاته وعظيم‬
‫نعمه‪ ،‬ولكون العبد مستحقا أن يكون عبدا لربه‪ ،‬ممتثل أوامره مجتنبا‬
‫نواهيه‪ ،‬وكل ما سوى الله تعالى باطل‪ ،‬فعبادة ما سواه باطلة‪ ،‬لكون ما‬
‫سوى الله مخلوقا ناقصا مدبرا فقيرا من جميع الوجوه‪ ،‬فلم يستحق شيئا‬
‫من أنواع العبادة‪ ،‬وقوله‪ } :‬الحي القيوم { هذان السمان الكريمان يدلن‬
‫على سائر السماء الحسنى دللة مطابقة وتضمنا ولزوما‪ ،‬فالحي من له‬
‫الحياة الكاملة المستلزمة لجميع صفات الذات‪ ،‬كالسمع والبصر والعلم‬
‫والقدرة‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬والقيوم‪ :‬هو الذي قام بنفسه وقام بغيره‪ ،‬وذلك‬
‫مستلزم لجميع الفعال التي اتصف بها رب العالمين من فعله ما يشاء من‬
‫الستواء والنزول والكلم والقول والخلق والرزق والماتة والحياء‪ ،‬وسائر‬
‫أنواع التدبير‪ ،‬كل ذلك داخل في قيومية الباري‪ ،‬ولهذا قال بعض‬
‫المحققين‪ :‬إنهما السم العظم الذي إذا دعي الله به أجاب‪ ،‬وإذا سئل به‬
‫أعطى‪ ،‬ومن تمام حياته وقيوميته أن } ل تأخذه سنة ول نوم { والسنة‬
‫النعاس } له ما في السماوات وما في الرض { أي‪ :‬هو المالك وما سواه‬
‫مملوك وهو الخالق الرازق المدبر وغيره مخلوق مرزوق مدبر ل يملك‬
‫لنفسه ول لغيره مثقال ذرة في السماوات ول في الرض فلهذا قال‪:‬‬
‫} من ذا الذي يشفع عنده إل بإذنه { أي‪ :‬ل أحد يشفع عنده بدون إذنه‪،‬‬
‫فالشفاعة كلها لله تعالى‪ ،‬ولكنه تعالى إذا أراد أن يرحم من يشاء من‬
‫عباده أذن لمن أراد أن يكرمه من عباده أن يشفع فيه‪ ،‬ل يبتدئ الشافع‬
‫قبل الذن‪ ،‬ثم قال } يعلم ما بين أيديهم { أي‪ :‬ما مضى من جميع المور‬
‫} وما خلفهم { أي‪ :‬ما يستقبل منها‪ ،‬فعلمه تعالى محيط بتفاصيل المور‪،‬‬
‫متقدمها ومتأخرها‪ ،‬بالظواهر والبواطن‪ ،‬بالغيب والشهادة‪ ،‬والعباد ليس‬
‫لهم من المر شيء ول من العلم مثقال ذرة إل ما علمهم تعالى‪ ،‬ولهذا‬
‫قال‪ } :‬ول يحيطون بشيء من علمه إل بما شاء وسع كرسيه السماوات‬
‫والرض { وهذا يدل على كمال عظمته وسعة سلطانه‪ ،‬إذا كان هذه حالة‬
‫الكرسي أنه يسع السماوات والرض على عظمتهما وعظمة من فيهما‪،‬‬
‫والكرسي ليس أكبر مخلوقات الله تعالى‪ ،‬بل هنا ما هو أعظم منه وهو‬
‫العرش‪ ،‬وما ل يعلمه إل هو‪ ،‬وفي عظمة هذه المخلوقات تحير الفكار‬
‫وتكل البصار‪ ،‬وتقلقل الجبال وتكع عنها فحول الرجال‪ ،‬فكيف بعظمة‬
‫خالقها ومبدعها‪ ،‬والذي أودع فيها من الحكم والسرار ما أودع‪ ،‬والذي قد‬
‫أمسك السماوات والرض أن تزول من غير تعب ول نصب‪ ،‬فلهذا قال‪:‬‬
‫} ول يؤوده { أي‪ :‬يثقله } حفظهما وهو العلي { بذاته فوق عرشه‪ ،‬العلي‬
‫بقهره لجميع المخلوقات‪ ،‬العلي بقدره لكمال صفاته } العظيم { الذي‬
‫تتضائل عند عظمته جبروت الجبابرة‪ ،‬وتصغر في جانب جلله أنوف‬
‫الملوك القاهرة‪ ،‬فسبحان من له العظمة العظيمة والكبرياء الجسيمة‬
‫والقهر والغلبة لكل شيء‪ ،‬فقد اشتملت هذه الية على توحيد اللهية‬
‫وتوحيد الربوبية وتوحيد السماء والصفات‪ ،‬وعلى إحاطة ملكه وإحاطة‬
‫علمه وسعة سلطانه وجلله ومجده‪ ،‬وعظمته وكبريائه وعلوه على جميع‬
‫مخلوقاته‪ ،‬فهذه الية بمفردها عقيدة في أسماء الله وصفاته‪ ،‬متضمنة‬
‫لجميع السماء الحسنى والصفات العل ثم قال تعالى‪:‬‬
‫] ص ‪[ 111‬‬
‫فْر‬ ‫ْ‬
‫ن ي َك ُ‬ ‫م ْ‬‫يف َ‬‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن الغَ ّ‬ ‫م َ‬ ‫ن الّر ْ‬
‫شد ُ ِ‬ ‫َ‬
‫ن قد ْ ت َب َي ّ َ‬ ‫ْ‬
‫دي ِ‬
‫} ‪ } { 257 - 256‬ل إ ِكَراهَ ِفي ال ّ‬
‫هّ‬
‫م لَها َوالل ُ‬‫َ‬ ‫صا َ‬
‫ف َ‬ ‫قى ل ان ْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫سك ِبالعُْروَةِ الوُث ْ َ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬‫ست َ ْ‬ ‫ن ِبالل ّهِ فَ َ‬
‫قدِ ا ْ‬ ‫ت وَي ُؤْ ِ‬
‫م ْ‬ ‫غو ِ‬ ‫ِبال ّ‬
‫طا ُ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ميعٌ عَِلي ٌ‬
‫س ِ‬
‫َ‬
‫يخبر تعالى أنه ل إكراه في الدين لعدم الحاجة إلى الكراه عليه‪ ،‬لن‬
‫الكراه ل يكون إل على أمر خفية أعلمه‪ ،‬غامضة أثاره‪ ،‬أو أمر في غاية‬
‫الكراهة للنفوس‪ ،‬وأما هذا الدين القويم والصراط المستقيم فقد تبينت‬
‫أعلمه للعقول‪ ،‬وظهرت طرقه‪ ،‬وتبين أمره‪ ،‬وعرف الرشد من الغي‪،‬‬
‫فالموفق إذا نظر أدنى نظر إليه آثره واختاره‪ ،‬وأما من كان سيئ القصد‬
‫فاسد الرادة‪ ،‬خبيث النفس يرى الحق فيختار عليه الباطل‪ ،‬ويبصر الحسن‬
‫فيميل إلى القبيح‪ ،‬فهذا ليس لله حاجة في إكراهه على الدين‪ ،‬لعدم‬
‫النتيجة والفائدة فيه‪ ،‬والمكره ليس إيمانه صحيحا‪ ،‬ول تدل الية الكريمة‬
‫على ترك قتال الكفار المحاربين‪ ،‬وإنما فيها أن حقيقة الدين من حيث هو‬
‫موجب لقبوله لكل منصف قصده اتباع الحق‪ ،‬وأما القتال وعدمه فلم‬
‫تتعرض له‪ ،‬وإنما يؤخذ فرض القتال من نصوص أخر‪ ،‬ولكن يستدل في‬
‫الية الكريمة على قبول الجزية من غير أهل الكتاب‪ ،‬كما هو قول كثير من‬
‫العلماء‪ ،‬فمن يكفر بالطاغوت فيترك عبادة ما سوى الله وطاعة‬
‫الشيطان‪ ،‬ويؤمن بالله إيمانا تاما أوجب له عبادة ربه وطاعته } فقد‬
‫استمسك بالعروة الوثقى { أي‪ :‬بالدين القويم الذي ثبتت قواعده‬
‫ورسخت أركانه‪ ،‬وكان المتمسك به على ثقة من أمره‪ ،‬لكونه استمسك‬
‫بالعروة الوثقى التي } ل انفصام لها { وأما من عكس القضية فكفر بالله‬
‫وآمن بالطاغوت‪ ،‬فقد أطلق هذه العروة الوثقى التي بها العصمة والنجاة‪،‬‬
‫واستمسك بكل باطل مآله إلى الجحيم } والله سميع عليم { فيجازي كل‬
‫منهما بحسب ما علمه منهم من الخير والشر‪ ،‬وهذا هو الغاية لمن‬
‫استمسك بالعروة الوثقى ولمن لم يستمسك بها‪.‬‬

‫) ‪(1/110‬‬

‫ت إ َِلى الّنورِ َوال ّ ِ‬ ‫ذي َ‬


‫فُروا‬‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ن الظ ّل ُ َ‬‫م َ‬‫م ِ‬‫جه ُ ْ‬
‫خرِ ُ‬‫مُنوا ي ُ ْ‬‫نآ َ‬ ‫ي ال ّ ِ َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ه وَل ِ ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ت أول َئ ِ َ‬ ‫َ‬
‫ب الّناِر‬
‫حا ُ‬‫ص َ‬ ‫كأ ْ‬ ‫ما ِ‬‫ن الّنورِ إ َِلى الظ ّل ُ َ‬ ‫م َ‬‫م ِ‬‫جون َهُ ْ‬‫خرِ ُ‬ ‫ت يُ ْ‬‫غو ُ‬ ‫طا ُ‬‫م ال ّ‬ ‫أوْل َِياؤُهُ ُ‬
‫ن )‪(257‬‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬
‫م ِفيَها َ‬ ‫هُ ْ‬
‫ن كَ َ‬
‫فُروا‬ ‫ذي َ‬‫ت إ َِلى الّنورِ َوال ّ ِ‬ ‫ن الظ ّل ُ َ‬
‫ما ِ‬ ‫م َ‬
‫م ِ‬
‫جه ُ ْ‬
‫خرِ ُ‬
‫مُنوا ي ُ ْ‬
‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫ي ال ّ ِ‬ ‫ه وَل ِ ّ‬‫} الل ّ ُ‬
‫خرجونهم من النور إَلى الظ ّل ُمات ُأول َئ ِ َ َ‬ ‫طا ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫َ‬
‫ب الّناِر‬
‫حا ُ‬ ‫ص َ‬
‫كأ ْ‬ ‫َ ِ‬ ‫ت يُ ْ ِ ُ َ ُ ْ ِ َ ّ ِ ِ‬ ‫غو ُ‬ ‫أوْل َِياؤُهُ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬
‫م ِفيَها َ‬ ‫هُ ْ‬
‫ثم ذكر السبب الذي أوصلهم إلى ذلك فقال‪ } :‬الله ولي الذين آمنوا {‬
‫وهذا يشمل وليتهم لربهم‪ ،‬بأن تولوه فل يبغون عنه بدل ول يشركون به‬
‫أحدا‪ ،‬قد اتخذوه حبيبا ووليا‪ ،‬ووالوا أولياءه وعادوا أعداءه‪ ،‬فتولهم بلطفه‬
‫ن عليهم بإحسانه‪ ،‬فأخرجهم من ظلمات الكفر والمعاصي والجهل إلى‬ ‫وم ّ‬
‫نور اليمان والطاعة والعلم‪ ،‬وكان جزاؤهم على هذا أن سلمهم من‬
‫ظلمات القبر والحشر والقيامة إلى النعيم المقيم والراحة والفسحة‬
‫والسرور } والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت { فتولوا الشيطان وحزبه‪،‬‬
‫واتخذوه من دون الله وليا ووالوه وتركوا ولية ربهم وسيدهم‪ ،‬فسلطهم‬
‫عليهم عقوبة لهم فكانوا يؤزونهم إلى المعاصي أزا‪ ،‬ويزعجونهم إلى الشر‬
‫إزعاجا‪ ،‬فيخرجونهم من نور اليمان والعلم والطاعة إلى ظلمة الكفر‬
‫والجهل والمعاصي‪ ،‬فكان جزاؤهم على ذلك أن حرموا الخيرات‪ ،‬وفاتهم‬
‫النعيم والبهجة والمسرات‪ ،‬وكانوا من حزب الشيطان وأولياءه في دار‬
‫الحسرة‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪ } :‬أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون { ‪.‬‬

‫) ‪(1/111‬‬

‫مل ْ َ‬ ‫هيم ِفي رب ّهِ أ َ ْ َ‬ ‫َ‬


‫م‬
‫هي ُ‬ ‫ل إ ِب َْرا ِ‬‫ك إ ِذ ْ َقا َ‬ ‫ه ال ْ ُ‬
‫ن آَتاهُ الل ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ج إ ِب َْرا ِ َ‬‫حا ّ‬
‫ذي َ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬‫أل َ ْ‬
‫ه ي َأ ِْتي‬‫ن الل ّ َ‬
‫م فَإ ِ ّ‬ ‫هي ُ‬‫ل إ ِب َْرا ِ‬ ‫ت َقا َ‬ ‫مي ُ‬
‫ُ‬
‫حِيي وَأ ِ‬
‫ربي ال ّذي يحيي ويميت َقا َ َ ُ‬
‫ل أَنا أ ْ‬ ‫َُ ِ ُ‬ ‫َ ّ َ ِ ُ ْ ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫دي‬
‫ه ل ي َهْ ِ‬ ‫فَر َوالل ُ‬ ‫ذي ك َ‬ ‫ت ال ِ‬ ‫ب فَب ُهِ َ‬‫مغْرِ ِ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ب َِها ِ‬‫ق فَأ ِ‬ ‫شرِ ِ‬‫م ْ‬‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫س ِ‬ ‫م ِ‬‫ش ْ‬ ‫ِبال ّ‬
‫ن )‪(258‬‬ ‫مي َ‬ ‫ّ‬
‫م الظال ِ ِ‬ ‫قوْ َ‬ ‫ال ْ َ‬

‫مل ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫ك إ ِذ ْ‬ ‫ه ال ْ ُ‬ ‫ن آَتاهُ الل ّ ُ‬‫م ِفي َرب ّهِ أ ْ‬ ‫هي َ‬
‫ج إ ِب َْرا ِ‬‫حا ّ‬
‫ذي َ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬‫} ‪ } { 258‬أل َ ْ‬
‫ُ‬ ‫ل إبراهيم ربي ال ّذي يحيي ويميت َقا َ َ ُ‬
‫م فَإ ِ ّ‬
‫ن‬ ‫هي ُ‬ ‫ل إ ِب َْرا ِ‬ ‫ت َقا َ‬ ‫مي ُ‬‫حِيي وَأ ِ‬ ‫ل أَنا أ ْ‬ ‫َُ ِ ُ‬ ‫َقا َ ِ ْ َ ِ ُ َ ّ َ ِ ُ ْ ِ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ه ي َأ ِْتي ِبال ّ‬
‫فَر‬ ‫َ‬
‫ذي ك َ‬ ‫ت ال ِ‬ ‫ب فَب ُهِ َ‬ ‫مغْرِ ِ‬‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ق فَأ ِ‬
‫ت ب َِها ِ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫م َ‬
‫س ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬‫م ال ّ‬‫قوْ َ‬‫دي ال ْ َ‬ ‫ه ل ي َهْ ِ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫يقول تعالى‪ } :‬ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه { أي‪ :‬إلى جرائته‬
‫وتجاهله وعناده ومحاجته فيما ل يقبل التشكيك‪ ،‬وما حمله على ذلك إل‬
‫} أن آتاه الله الملك { فطغى وبغى ورأى نفسه مترئسا على رعيته‪،‬‬
‫فحمله ذلك على أن حاج إبراهيم في ربوبية الله فزعم أنه يفعل كما يفعل‬
‫الله‪ ،‬فقال إبراهيم } ربي الذي يحيي ويميت { أي‪ :‬هو المنفرد بأنواع‬
‫التصرف‪ ،‬وخص منه الحياء والماتة لكونهما أعظم أنواع التدابير‪ ،‬ولن‬
‫الحياء مبدأ الحياة الدنيا والماتة مبدأ ما يكون في الخرة‪ ،‬فقال ذلك‬
‫المحاج‪ } :‬أنا أحيي وأميت { ولم يقل أنا الذي أحيي وأميت‪ ،‬لنه لم يدع‬
‫الستقلل بالتصرف‪ ،‬وإنما زعم أنه يفعل كفعل الله ويصنع صنعه‪ ،‬فزعم‬
‫أنه يقتل شخصا فيكون قد أماته‪ ،‬ويستبقي شخصا فيكون قد أحياه‪ ،‬فلما‬
‫رآه إبراهيم يغالط في مجادلته ويتكلم بشيء ل يصلح أن يكون شبهة فضل‬
‫عن كونه حجة‪ ،‬اطرد معه في الدليل فقال إبراهيم‪ } :‬فإن الله يأتي‬
‫بالشمس من المشرق { أي‪ :‬عيانا يقر به كل أحد حتى ذلك الكافر } فأت‬
‫بها من المغرب { وهذا إلزام له بطرد دليله إن كان صادقا في دعواه‪،‬‬
‫فلما قال له أمرا ل قوة له في شبهة تشوش دليله‪ ،‬ول قادحا يقدح في‬
‫سبيله } بهت الذي كفر { أي‪ :‬تحير فلم يرجع إليه جوابا وانقطعت حجته‬
‫وسقطت شبهته‪ ،‬وهذه حالة المبطل المعاند الذي يريد أن يقاوم الحق‬
‫ويغالبه‪ ،‬فإنه مغلوب مقهور‪ ،‬فلذلك قال تعالى‪ } :‬والله ل يهدي القوم‬
‫الظالمين { بل يبقيهم على كفرهم وضللهم‪ ،‬وهم الذين اختاروا لنفسهم‬
‫ذلك‪ ،‬وإل فلو كان قصدهم الحق والهداية لهداهم إليه ويسر لهم أسباب‬
‫الوصول إليه‪ ،‬ففي هذه الية برهان قاطع على تفرد الرب بالخلق والتدبير‪،‬‬
‫ويلزم من ذلك أن يفرد بالعبادة والنابة والتوكل عليه في جميع الحوال‪،‬‬
‫قال ابن القيم رحمه الله‪ :‬وفي هذه المناظرة نكتة لطيفة جدا‪ ،‬وهي أن‬
‫شرك العالم إنما هو مستند إلى عبادة الكواكب والقبور‪ ،‬ثم صورت‬
‫الصنام على صورها‪ ،‬فتضمن الدليلن اللذان استدل بهما إبراهيم إبطال‬
‫إلهية تلك جملة بأن الله وحده هو الذي يحيي ويميت‪ ،‬ول يصلح الحي الذي‬
‫يموت لللهية ل في حال حياته ول بعد موته‪ ،‬فإن له ربا قادرا قاهرا‬
‫متصرفا فيه إحياء وإماتة‪ ،‬ومن كان كذلك فكيف يكون إلها حتى يتخذ‬
‫الصنم على ] ص ‪ [ 112‬صورته‪ ،‬ويعبد من دونه‪ ،‬وكذلك الكواكب أظهرها‬
‫وأكبرها للحس هذه الشمس وهي مربوبة مدبرة مسخرة‪ ،‬ل تصرف لها‬
‫بنفسها بوجه ما‪ ،‬بل ربها وخالقها سبحانه يأتي بها من مشرقها فتنقاد‬
‫لمره ومشيئته‪ ،‬فهي مربوبة مسخرة مدبرة‪ ،‬ل إله يعبد من دون الله‪.‬‬
‫"من مفتاح دار السعادة "ثم قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/111‬‬

‫ة عََلى عُروشها َقا َ َ‬ ‫أ َوْ َ‬


‫ه‬‫حِيي هَذِهِ الل ّ ُ‬ ‫ل أّنى ي ُ ْ‬ ‫ُ ِ َ‬ ‫خاوِي َ ٌ‬ ‫ي َ‬ ‫مّر َ عََلى قَْري َةٍ وَهِ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫كال ّ ِ‬
‫ما أ َْو‬‫ت ي َوْ ً‬ ‫ل ل َب ِث ْ ُ‬
‫ت َقا َ‬ ‫م ل َب ِث ْ َ‬
‫ل كَ ْ‬ ‫ه َقا َ‬ ‫م ب َعَث َ ُ‬ ‫عام ٍ ث ُ ّ‬ ‫ة َ‬ ‫مئ َ َ‬‫ه ِ‬ ‫ه الل ّ ُ‬ ‫مات َ ُ‬‫موْت َِها فَأ َ‬ ‫ب َعْد َ َ‬
‫ه‬
‫سن ّ ْ‬ ‫م ي َت َ َ‬‫ك لَ ْ‬ ‫شَراب ِ َ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫م َ‬ ‫عام ٍ َفان ْظ ُْر إ َِلى ط ََعا ِ‬ ‫ة َ‬ ‫مئ َ َ‬
‫ت ِ‬ ‫ل ل َب ِث ْ َ‬‫ل بَ ْ‬ ‫ض ي َوْم ٍ َقا َ‬ ‫ب َعْ َ‬
‫ظام ِ ك َي ْ َ‬ ‫ة ِللّناس َوان ْظ ُْر إ َِلى ال ْعِ َ‬ ‫َ‬ ‫جعَل َ َ‬ ‫مارِ َ‬ ‫َوان ْظ ُْر إ َِلى ِ‬
‫ها ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫شُز َ‬ ‫ف ن ُن ْ ِ‬ ‫َِ‬ ‫ك آي َ ً‬ ‫ك وَل ِن َ ْ‬ ‫ح َ‬
‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ديٌر )‪(259‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫ل أعْل َ ُ‬ ‫ه َقا َ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫ما ت َب َي ّ َ‬‫ما فَل َ ّ‬ ‫ح ً‬‫ها ل َ ْ‬
‫سو َ‬ ‫ن َك ْ ُ‬

‫ل أ َّنى‬ ‫شَها َقا َ‬ ‫ة عََلى عُُرو ِ‬ ‫خاوِي َ ٌ‬‫ي َ‬ ‫مّر عَ ََلى قَْري َةٍ وَهِ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪ } { 259‬أ َوْ َ‬
‫كال ّ ِ‬
‫ت َقا َ‬
‫ل‬ ‫م ل َب ِث ْ َ‬
‫ل كَ ْ‬ ‫ه َقا َ‬ ‫م ب َعَث َ ُ‬‫عام ٍ ث ُ ّ‬ ‫ة َ‬ ‫مائ َ َ‬‫ه ِ‬‫ه الل ّ ُ‬ ‫موْت َِها فَأ َ‬
‫مات َ ُ‬ ‫ه ب َعْد َ َ‬‫حِيي هَذِهِ الل ّ ُ‬ ‫يُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫شَراب ِ َ‬
‫ك‬ ‫ك وَ َ‬ ‫م َ‬ ‫عام ٍ َفان ْظْر إ ِلى طَعا ِ‬ ‫ة َ‬ ‫مائ َ َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ل لب ِث ْ َ‬ ‫ل بَ ْ‬ ‫ض ي َوْم ٍ َقا َ‬ ‫ما أوْ ب َعْ َ‬ ‫ت ي َوْ ً‬‫ل َب ِث ْ ُ‬
‫ف‬‫ظام ِ ك َي ْ َ‬ ‫ة ِللّناس َوان ْظ ُْر إ َِلى ال ْعِ َ‬ ‫ك آي َ ً‬ ‫جعَل َ َ‬‫ك وَل ِن َ ْ‬ ‫مارِ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ه َوان ْظ ُْر إ َِلى ِ‬ ‫سن ّ ْ‬
‫م ي َت َ َ‬ ‫لَ ْ‬
‫َِ‬ ‫ها ل َحما فَل َما تبين ل َه َقا َ َ‬
‫يٍء‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫ل أعْل َ ُ‬ ‫ّ ََّ َ ُ‬ ‫ْ ً‬ ‫سو َ‬‫م ن َك ْ ُ‬‫ها ث ُ ّ‬‫شُز َ‬ ‫ن ُن ْ ِ‬
‫ديٌر { ‪.‬‬ ‫قَ ِ‬
‫وهذا أيضا دليل آخر على توحد الله بالخلق والتدبير والماتة والحياء‪،‬‬
‫فقال‪ } :‬أو كالذي مر على قرية وهي خاوية على عروشها { أي‪ :‬قد باد‬
‫أهلها وفني سكانها وسقطت حيطانها على عروشها‪ ،‬فلم يبق بها أنيس بل‬
‫بقيت موحشة من أهلها مقفرة‪ ،‬فوقف عليها ذلك الرجل متعجبا و } قال‬
‫أنى يحيي هذه الله بعد موتها { استبعادا لذلك وجهل بقدرة الله تعالى‪،‬‬
‫فلما أراد الله به خيرا أراه آية في نفسه وفي حماره‪ ،‬وكان معه طعام‬
‫وشراب‪ } ،‬فأماته الله مائة عام ثم بعثه قال كم لبثت قال لبثت يوما أو‬
‫بعض يوم { استقصارا لتلك المدة التي مات فيها لكونه قد زالت معرفته‬
‫وحواسه وكان عهد حاله قبل موته‪ ،‬فقيل له } بل لبثت مائة عام فانظر‬
‫إلى طعامك وشرابك لم يتسنه { أي‪ :‬لم يتغير بل بقي على حاله على‬
‫تطاول السنين واختلف الوقات عليه‪ ،‬ففيه أكبر دليل على قدرته حيث‬
‫أبقاه وحفظه عن التغير والفساد‪ ،‬مع أن الطعام والشراب من أسرع‬
‫الشياء فسادا } وانظر إلى حمارك { وكان قد مات وتمزق لحمه وجلده‬
‫وانتثرت عظامه‪ ،‬وتفرقت أوصاله } ولنجعلك آية للناس { على قدرة الله‬
‫وبعثه الموات من قبورهم‪ ،‬لتكون أنموذجا محسوسا مشاهدا بالبصار‪،‬‬
‫فيعلموا بذلك صحة ما أخبرت به الرسل } وانظر إلى العظام كيف‬
‫ننشزها { أي‪ :‬ندخل بعضها في بعض‪ ،‬ونركب بعضها ببعض } ثم نكسوها‬
‫لحما { فنظر إليها عيانا كما وصفها الله تعالى‪ } ،‬فلما تبين له { ذلك‬
‫وعلم قدرة الله تعالى } قال أعلم أن الله على كل شيء قدير { والظاهر‬
‫من سياق الية أن هذا رجل منكر للبعث أراد الله به خيرا‪ ،‬وأن يجعله آية‬
‫ودليل للناس لثلثة أوجه أحدها قوله } أنى يحيي هذه الله بعد موتها { ولو‬
‫كان نبيا أو عبدا صالحا لم يقل ذلك‪ ،‬والثاني‪ :‬أن الله أراه آية في طعامه‬
‫وشرابه وحماره ونفسه ليراه بعينه فيقر بما أنكره‪ ،‬ولم يذكر في الية أن‬
‫القرية المذكورة عمرت وعادت إلى حالتها‪ ،‬ول في السياق ما يدل على‬
‫ذلك‪ ،‬ول في ذلك كثير فائدة‪ ،‬ما الفائدة الدالة على إحياء الله للموتى في‬
‫قرية خربت ثم رجع إليها أهلها أو غيرهم فعمروها؟! وإنما الدليل الحقيقي‬
‫في إحيائه وإحياء حماره وإبقاء طعامه وشرابه بحاله‪ ،‬والثالث في قوله‪} :‬‬
‫فلما تبين له { أي‪ :‬تبين له أمر كان يجهله ويخفى عليه‪ ،‬فعلم بذلك صحة‬
‫ما ذكرناه‪ ،‬والله أعلم‪ .‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/112‬‬

‫ل ب ََلى‬ ‫ف تحيي ال ْموتى َقا َ َ‬ ‫َ‬


‫ن َقا َ‬ ‫م ْ‬‫م ت ُؤْ ِ‬ ‫ل أوَل َ ْ‬ ‫َ َْ‬ ‫ب أرِِني ك َي ْ َ ُ ْ ِ‬ ‫م َر ّ‬‫هي ُ‬‫ل إ ِب َْرا ِ‬‫وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫ل عََلى‬ ‫ن إ ِل َي ْ َ‬ ‫َ‬
‫جعَ ْ‬ ‫ما ْ‬ ‫ك ثُ ّ‬ ‫صْرهُ ّ‬ ‫ن الط ّي ْرِ فَ ُ‬ ‫م َ‬
‫ة ِ‬ ‫خذ ْ أْرب َعَ ً‬
‫ْ‬
‫ل فَ ُ‬‫ن قَل ِْبي َقا َ‬ ‫ن ل ِي َط ْ َ‬
‫مئ ِ ّ‬ ‫وَل َك ِ ْ‬
‫َ‬
‫م)‬ ‫كي ٌ‬
‫ح ِ‬ ‫زيٌز َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫سعًْيا َواعْل َ ْ‬
‫ك َ‬ ‫ن ي َأِتين َ َ‬‫م اد ْعُهُ ّ‬‫جْزًءا ث ُ ّ‬
‫ن ُ‬‫من ْهُ ّ‬‫ل ِ‬ ‫جب َ ٍ‬
‫ل َ‬ ‫كُ ّ‬
‫‪(260‬‬
‫ف تحي ال ْموتى َقا َ َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫م ت ُؤْ ِ‬ ‫ل أوَل َ ْ‬ ‫َ َْ‬ ‫ب أرِِني َك َي ْ َ ُ ْ ِ‬ ‫م َر ّ‬ ‫هي ُ‬
‫ل إ ِب َْرا ِ‬ ‫} ‪ } { 260‬وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫ك ثُ ّ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫ن إ ِلي ْ َ‬ ‫صْرهُ ّ‬ ‫ّ‬
‫ن الطي ْرِ فَ ُ‬‫م َ‬ ‫ة ِ‬ ‫ل فَ ُ‬
‫خذ ْ أْرب َعَ ً‬ ‫ْ‬
‫ن قَلِبي َقا َ‬ ‫ّ‬ ‫مئ ِ‬‫ن ل ِي َط ْ َ‬‫ْ‬ ‫ل ب ََلى وَل َك ِ‬‫َقا َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن ي َأِتين َ َ‬ ‫ل عَلى ك ُ ّ‬‫َ‬
‫زيٌز‬
‫ه عَ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫سعًْيا َواعْل ْ‬ ‫ك َ‬ ‫م اد ْعُهُ ّ‬ ‫جْزًءا ث ُ ّ‬‫ن ُ‬ ‫من ْهُ ّ‬
‫ل ِ‬ ‫جب َ ٍ‬
‫ل َ‬ ‫جعَ ْ‬ ‫ا ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫كي ٌ‬
‫ح ِ‬‫َ‬

‫) ‪(1/112‬‬

‫َ‬ ‫قو َ‬
‫سَناب ِ َ‬
‫ل ِفي‬ ‫سب ْعَ َ‬
‫ت َ‬ ‫حب ّةٍ أن ْب َت َ ْ‬
‫ل َ‬ ‫ل الل ّهِ ك َ َ‬
‫مث َ ِ‬ ‫سِبي ِ‬‫م ِفي َ‬‫وال َهُ ْ‬‫م َ‬
‫نأ ْ‬‫ف ُ َ‬
‫ن ي ُن ْ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫مث َ ُ‬ ‫َ‬
‫م )‪(261‬‬ ‫لي‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ع‬
‫َ ُ َ ِ ٌ ِ ٌ‬ ‫س‬‫وا‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬‫وال‬ ‫ُ‬ ‫ء‬ ‫َ‬
‫شا‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫ع‬ ‫ضا‬ ‫ي‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫وال‬ ‫ة‬ ‫ب‬‫ح‬ ‫ة‬
‫ُ ُْ ٍ ِ ُ َ ّ ٍ َ ُ ُ َ ِ ُ ِ َ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ئ‬ ‫م‬ ‫ة‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ب‬‫ن‬ ‫س‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬

‫وهذا فيه أيضا أعظم دللة حسية على قدرة الله وإحيائه الموتى للبعث‬
‫والجزاء‪ ،‬فأخبر تعالى عن خليله إبراهيم أنه سأله أن يريه ببصره كيف‬
‫يحيي الموتى‪ ،‬لنه قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى‪ ،‬ولكنه أحب أن يشاهده‬
‫عيانا ليحصل له مرتبة عين اليقين‪ ،‬فلهذا قال الله له‪ } :‬أولم تؤمن قال‬
‫بلى ولكن ليطمئن قلبي { وذلك أنه بتوارد الدلة اليقينية مما يزداد به‬
‫اليمان ويكمل به اليقان ويسعى في نيله أولو العرفان‪ ،‬فقال له ربه‬
‫} فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك { أي‪ :‬ضمهن ليكون ذلك بمرأى‬
‫منك ومشاهدة وعلى يديك‪ } .‬ثم اجعل على كل جبل منهن جزءا { أي‪:‬‬
‫مزقهن‪ ،‬اخلط أجزاءهن بعضها ببعض‪ ،‬واجعل على كل جبل‪ ،‬أي‪ :‬من‬
‫الجبال التي في القرب منه‪ ،‬جزء من تلك الجزاء } ثم ادعهن يأتينك سعيا‬
‫{ أي‪ :‬تحصل لهن حياة كاملة‪ ،‬ويأتينك في هذه القوة وسرعة الطيران‪،‬‬
‫ففعل إبراهيم عليه السلم ذلك وحصل له ما أراد وهذا من ملكوت‬
‫السماوات والرض الذي أراه الله إياه في قوله } وكذلك نري إبراهيم‬
‫ملكوت السماوات والرض وليكون من الموقنين { ثم قال‪ } :‬واعلم أن‬
‫الله عزيز حكيم { أي‪ :‬ذو قوة عظيمة سخر بها المخلوقات‪ ،‬فلم يستعص‬
‫عليه شيء منها‪ ،‬بل هي منقادة لعزته خاضعة لجلله‪ ،‬ومع ذلك فأفعاله‬
‫مث َ ُ‬
‫ل‬ ‫تعالى تابعة لحكمته‪ ،‬ل يفعل شيئا عبثا‪ ،‬ثم قال تعالى‪َ } { 261 } :‬‬
‫َ‬ ‫قو َ‬
‫ل‬ ‫ُ‬
‫ل ِفي ك ّ‬ ‫سَناب ِ َ‬
‫سب ْعَ َ‬
‫ت َ‬ ‫حب ّةٍ أن ْب َت َ ْ‬‫ل َ‬ ‫ل الل ّهِ ك َ َ‬
‫مث َ ِ‬ ‫سِبي ِ‬‫م ِفي َ‬ ‫وال َهُ ْ‬‫م َ‬‫نأ ْ‬ ‫ف ُ َ‬ ‫ن ي ُن ْ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫م{‪.‬‬ ‫سعٌ عَِلي ٌ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫شاُء َوالل ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬‫م ْ‬‫ف لِ َ‬‫ع ُ‬‫ضا ِ‬
‫ه يُ َ‬‫حب ّةٍ َوالل ّ ُ‬ ‫مائ َ ُ‬
‫ة َ‬ ‫سن ْب ُل َةٍ ِ‬‫ُ‬
‫هذا بيان للمضاعفة التي ذكرها الله في ] ص ‪ [ 113‬قوله } من ذا الذي‬
‫يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة { وهنا قال‪ } :‬مثل‬
‫الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله { أي‪ :‬في طاعته ومرضاته‪ ،‬وأولها‬
‫إنفاقها في الجهاد في سبيله } كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة‬
‫مائة حبة { وهذا إحضار لصورة المضاعفة بهذا المثل‪ ،‬الذي كان العبد‬
‫يشاهده ببصره فيشاهد هذه المضاعفة ببصيرته‪ ،‬فيقوى شاهد اليمان مع‬
‫شاهد العيان‪ ،‬فتنقاد النفس مذعنة للنفاق سامحة بها مؤملة لهذه‬
‫المضاعفة الجزيلة والمنة الجليلة‪ } ،‬والله يضاعف { هذه المضاعفة‬
‫} لمن يشاء { أي‪ :‬بحسب حال المنفق وإخلصه وصدقه وبحسب حال‬
‫النفقة وحلها ونفعها ووقوعها موقعها‪ ،‬ويحتمل أن يكون } والله يضاعف {‬
‫أكثر من هذه المضاعفة } لمن يشاء { فيعطيهم أجرهم بغير حساب‬
‫} والله واسع { الفضل‪ ،‬واسع العطاء‪ ،‬ل ينقصه نائل ول يحفيه سائل‪ ،‬فل‬
‫يتوهم المنفق أن تلك المضاعفة فيها نوع مبالغة‪ ،‬لن الله تعالى ل‬
‫يتعاظمه شيء ول ينقصه العطاء على كثرته‪ ،‬ومع هذا فهو } عليم { بمن‬
‫يستحق هذه المضاعفة ومن ل يستحقها‪ ،‬فيضع المضاعفة في موضعها‬
‫لكمال علمه وحكمته‪.‬‬

‫) ‪(1/112‬‬

‫ذى‬ ‫مّنا وََل أ َ ً‬


‫قوا َ‬ ‫ما أ َن ْ َ‬
‫ف ُ‬ ‫ن َ‬‫م َل ي ُت ْب ُِعو َ‬ ‫ل الل ّهِ ث ُ ّ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫وال َهُ ْ‬‫م َ‬
‫قو َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ف ُ َ‬ ‫ن ي ُن ْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ل َه َ‬
‫ف‬
‫معُْرو ٌ‬ ‫ل َ‬‫ن )‪ (262‬قَوْ ٌ‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫م وََل هُ ْ‬
‫م يَ ْ‬ ‫ف عَل َي ْهِ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫م وََل َ‬‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬
‫م ِ‬‫جُرهُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ُ ْ‬
‫م )‪(263‬‬ ‫لي‬ ‫ح‬ ‫ي‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫غ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫وال‬ ‫ذى‬ ‫ً‬ ‫خير من صدقَة يتبعها أ َ‬ ‫ة‬ ‫ر‬
‫ِ‬
‫ّ َ ٌ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ‬ ‫ٌْ ِ ْ َ َ ٍ ََُْ َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫م ِ َ‬
‫ف‬‫ْ‬ ‫غ‬ ‫وَ َ‬
‫قوا‬ ‫ما أ َن ْ َ‬
‫ف ُ‬ ‫ن َ‬
‫م ل ي ُت ْب ُِعو َ‬ ‫ل الل ّهِ ث ُ ّ‬ ‫سِبي ِ‬
‫م ِفي َ‬ ‫وال َهُ ْ‬‫م َ‬
‫قو َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ف ُ َ‬ ‫ن ي ُن ْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪ } { 262‬ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫مّنا َول أ َ ً‬
‫ن * قَوْ ٌ‬
‫ل‬ ‫حَزُنو َ‬
‫م يَ ْ‬ ‫م َول هُ ْ‬ ‫ف عَل َي ْهِ ْ‬‫خوْ ٌ‬ ‫م َول َ‬ ‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬
‫م ِ‬ ‫جُرهُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ذى ل َهُ ْ‬ ‫َ‬
‫م{‬ ‫لي‬ ‫ِ‬ ‫ح‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫غ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫وال‬ ‫ذى‬‫ً‬ ‫خير من صدقَة يتبعها أ َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ة‬ ‫ر‬ ‫ف‬ ‫ْ‬ ‫غ‬‫م‬ ‫و‬ ‫ف‬
‫ٌ‬ ‫رو‬ ‫ع‬ ‫م‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬
‫َ َ َ‬ ‫ْ‬
‫َ ُ‬
‫أي‪ :‬الذين ينفقون أموالهم في طاعة الله وسبيله‪ ،‬ول يتبعونها بما ينقصها‬
‫ويفسدها من المن بها على المنفق عليه بالقلب أو باللسان‪ ،‬بأن يعدد‬
‫عليه إحسانه ويطلب منه مقابلته‪ ،‬ول أذية له قولية أو فعلية‪ ،‬فهؤلء لهم‬
‫أجرهم اللئق بهم ول خوف عليهم ول هم يحزنون‪ ،‬فحصل لهم الخير‬
‫واندفع عنهم الشر لنهم عملوا عمل خالصا لله سالما من المفسدات‪.‬‬
‫} قول معروف { أي‪ :‬تعرفه القلوب ول تنكره‪ ،‬ويدخل في ذلك كل قول‬
‫كريم فيه إدخال السرور على قلب المسلم‪ ،‬ويدخل فيه رد السائل بالقول‬
‫الجميل والدعاء له } ومغفرة { لمن أساء إليك بترك مؤاخذته والعفو‬
‫عنه‪ ،‬ويدخل فيه العفو عما يصدر من السائل مما ل ينبغي‪ ،‬فالقول‬
‫المعروف والمغفرة خير من الصدقة التي يتبعها أذى‪ ،‬لن القول المعروف‬
‫إحسان قولي‪ ،‬والمغفرة إحسان أيضا بترك المؤاخذة‪ ،‬وكلهما إحسان ما‬
‫ن أو‬ ‫فيه مفسد‪ ،‬فهما أفضل من الحسان بالصدقة التي يتبعها أذى بم ّ‬
‫غيره‪ ،‬ومفهوم الية أن الصدقة التي ل يتبعها أذى أفضل من القول‬
‫ن بالصدقة مفسدا لها محرما‪ ،‬لن المّنة‬ ‫المعروف والمغفرة‪ ،‬وإنما كان الم ّ‬
‫ن بنعمة الله وإحسانه‬‫لله تعالى وحده‪ ،‬والحسان كله لله‪ ،‬فالعبد ل يم ّ‬
‫ذل‬‫ن عليه‪ ،‬وال ّ‬
‫ن مستعب ِد ٌ لمن يم ّ‬
‫وفضله وهو ليس منه‪ ،‬وأيضا فإن الما ّ‬
‫والستعباد ل ينبغي إل لله‪ ،‬والله غني بذاته عن جميع مخلوقاته‪ ،‬وكلها‬
‫مفتقرة إليه بالذات في جميع الحالت والوقات‪ ،‬فصدقتكم وإنفاقكم‬
‫وطاعاتكم يعود مصلحتها إليكم ونفعها إليكم‪ } ،‬والله غني { عنها‪ ،‬ومع‬
‫هذا فهو } حليم { على من عصاه ل يعاجله بعقوبة مع قدرته عليه‪ ،‬ولكن‬
‫رحمته وإحسانه وحلمه يمنعه من معاجلته للعاصين‪ ،‬بل يمهلهم ويصّرف‬
‫لهم اليات لعلهم يرجعون إليه وينيبون إليه‪ ،‬فإذا علم تعالى أنه ل خير‬
‫فيهم ول تغني عنهم اليات ول تفيد بهم المثلت أنزل بهم عقابه وحرمهم‬
‫جزيل ثوابه‪.‬‬

‫) ‪(1/113‬‬

‫ن َواْل َ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫ه رَِئاءَ‬‫مال َ ُ‬‫فق ُ َ‬ ‫ذي ي ُن ْ ِ‬ ‫كال ّ ِ‬
‫ذى َ‬ ‫ّ‬ ‫م ِبال ْ َ‬
‫م‬ ‫صد ََقات ِك ُ ْ‬‫َ‬ ‫مُنوا َل ت ُب ْط ُِلوا‬ ‫نآ َ‬ ‫َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫صاب َ ُ‬‫ب فَأ َ‬ ‫ن عَل َي ْهِ ت َُرا ٌ‬ ‫وا ٍ‬
‫ف َ‬
‫ص ْ‬
‫ل َ‬ ‫ه كَ َ‬
‫مث َ ِ‬ ‫مث َل ُ ُ‬
‫خرِ فَ َ‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ اْل َ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫س وََل ي ُؤْ ِ‬ ‫الّنا ِ‬
‫م‬
‫قوْ َ‬ ‫ْ‬
‫دي ال َ‬ ‫ه ل ي َهْ ِ‬‫َ‬ ‫ّ‬
‫سُبوا َوالل ُ‬ ‫َ‬
‫ما ك َ‬ ‫م ّ‬‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن عَلى َ‬ ‫َ‬ ‫قدُِرو َ‬ ‫َ‬
‫دا ل ي َ ْ‬ ‫ْ‬
‫صل ً‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل فت ََرك ُ‬ ‫َواب ِ ٌ‬
‫ن )‪(264‬‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬
‫ذي‬ ‫كال ّ ِ‬
‫ذى َ‬ ‫ن َوال َ‬ ‫م ّ‬ ‫م ِبال ْ َ‬ ‫مُنوا ل ت ُب ْط ُِلوا َ‬
‫صد ََقات ِك ُ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 264‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ن‬
‫وا ٍ‬ ‫ف َ‬‫ص ْ‬‫ل َ‬ ‫ه كَ َ‬
‫مث َ ِ‬ ‫مث َل ُ ُ‬
‫خرِ فَ َ‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬
‫م ُ‬ ‫س َول ي ُؤْ ِ‬ ‫ه رَِئا ََء الّنا ِ‬ ‫مال َ ُ‬
‫فق ُ َ‬ ‫ي ُن ْ ِ‬
‫سُبوا‬ ‫ما ك َ َ‬
‫م ّ‬ ‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن عََلى َ‬ ‫قدُِرو َ‬ ‫دا ل ي َ ْ‬‫صل ْ ً‬
‫ه َ‬ ‫ل فَت ََرك َ ُ‬ ‫ه َواب ِ ٌ‬‫صاب َ ُ‬ ‫ب فَأ َ‬‫عَل َي ْهِ ت َُرا ٌ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬‫م ال ْ َ‬ ‫قوْ َ‬ ‫دي ال ْ َ‬‫ه ل ي َهْ ِ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫ن والذى‬ ‫ينهى عباده تعالى لطفا بهم ورحمة عن إبطال صدقاتهم بالم ّ‬
‫ن والذى يبطل الصدقة‪ ،‬ويستدل بهذا على أن العمال السيئة‬ ‫ففيه أن الم ّ‬
‫تبطل العمال الحسنة‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬ول تجهروا له بالقول كجهر‬
‫بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم ل تشعرون { فكما أن الحسنات‬
‫يذهبن السيئات فالسيئات تبطل ما قابلها من الحسنات‪ ،‬وفي هذه الية مع‬
‫قوله تعالى } ول تبطلوا أعمالكم { حث على تكميل العمال وحفظها من‬
‫كل ما يفسدها لئل يضيع العمل سدى‪ ،‬وقوله‪ } :‬كالذي ينفق ماله رئاء‬
‫الناس ول يؤمن بالله واليوم الخر { أي‪ :‬أنتم وإن قصدتم بذلك وجه الله‬
‫في ابتداء المر‪ ،‬فإن المنة والذى مبطلن لعمالكم‪ ،‬فتصير أعمالكم‬
‫بمنزلة الذي يعمل لمراءاة الناس ول يريد به الله والدار الخرة‪ ،‬فهذا ل‬
‫شك أن عمله من أصله مردود‪ ،‬لن شرط العمل أن يكون لله وحده وهذا‬
‫في الحقيقة عمل للناس ل لله‪ ،‬فأعماله باطلة وسعيه غير مشكور‪ ،‬فمثله‬
‫المطابق لحاله } كمثل صفوان { وهو الحجر الملس الشديد } عليه‬
‫تراب فأصابه وابل { أي‪ :‬مطر غزير } فتركه صلدا { أي‪ :‬ليس عليه‬
‫شيء من التراب‪ ،‬فكذلك حال هذا المرائي‪ ،‬قلبه غليظ قاس بمنزلة‬
‫الصفوان‪ ،‬وصدقته ونحوها من أعماله بمنزلة التراب الذي على الصفوان‪،‬‬
‫إذا رآه الجاهل بحاله ظن أنه أرض زكية قابلة للنبات‪ ،‬فإذا انكشفت حقيقة‬
‫حاله زال ذلك التراب وتبين أن عمله بمنزلة السراب‪ ،‬وأن قلبه غير صالح‬
‫] ص ‪ [ 114‬لنبات الزرع وزكائه عليه‪ ،‬بل الرياء الذي فيه والرادات‬
‫الخبيثة تمنع من انتفاعه بشيء من عمله‪ ،‬فلهذا } ل يقدرون على شيء {‬
‫من أعمالهم التي اكتسبوها‪ ،‬لنهم وضعوها في غير موضعها وجعلوها‬
‫لمخلوق مثلهم‪ ،‬ل يملك لهم ضررا ول نفعا وانصرفوا عن عبادة من تنفعهم‬
‫عبادته‪ ،‬فصرف الله قلوبهم عن الهداية‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬والله ل يهدي القوم‬
‫الكافرين { ‪.‬‬

‫) ‪(1/113‬‬

‫ل‬ ‫م كَ َ‬
‫مث َ ِ‬ ‫سهِ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬ ‫ضاةِ الل ّهِ وَت َث ِْبيًتا ِ‬
‫م ْ‬ ‫مْر َ‬ ‫وال َهُ ُ‬
‫م اب ْت َِغاَء َ‬ ‫م َ‬
‫قو َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ف ُ َ‬ ‫ن ي ُن ْ ِ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫مث َ ُ‬‫وَ َ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل َوالل ُ‬ ‫ل فَط ّ‬ ‫صب َْها َواب ِ ٌ‬
‫م يُ ِ‬ ‫نل ْ‬ ‫ن فَإ ِ ْ‬‫في ْ ِ‬ ‫ت أك ُلَها ِ‬
‫ضع ْ َ‬ ‫ل فَآت َ ْ‬ ‫صاب ََها َواب ِ ٌ‬ ‫جن ّةٍ ب َِرب ْوَةٍ أ َ‬ ‫َ‬
‫صيٌر )‪(265‬‬ ‫َ َ ِ‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫لو‬‫ُ‬ ‫م‬
‫بِ َ َ ْ َ‬
‫ع‬ ‫ت‬ ‫ما‬
‫قو َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ضاةِ الل ّهِ وَت َث ِْبيًتا ِ‬ ‫مْر َ‬
‫م اب ْت َِغاَء َ‬ ‫وال َهُ ُ‬
‫م َ‬‫نأ ْ‬ ‫ف ُ َ‬ ‫ن ي ُن ْ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬‫مث َ ُ‬ ‫} ‪ } { 265‬وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫صب َْها‬
‫م يُ ِ‬‫نل ْ‬ ‫ن فَإ ِ ْ‬
‫في ْ ِ‬
‫ضعْ َ‬‫ت أكلَها ِ‬ ‫ل َفآت َ ْ‬ ‫صاب ََها َواب ِ ٌ‬
‫جن ّةٍ ب َِرب ْوَةٍ أ َ‬ ‫ل َ‬ ‫م كَ َ‬
‫مث َ ِ‬ ‫سهِ ْ‬
‫ف ِ‬
‫صيٌر { ‪.‬‬ ‫ن بَ ِ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬‫ه بِ َ‬ ‫ل َوالل ّ ُ‬ ‫ل فَط َ ّ‬‫َواب ِ ٌ‬
‫هذا مثل المنفقين أموالهم على وجه تزكو عليه نفقاتهم وتقبل به‬
‫صدقاتهم فقال تعالى‪ } :‬ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله {‬
‫أي‪ :‬قصدهم بذلك رضى ربهم والفوز بقربه } وتثبيتا من أنفسهم { أي‪:‬‬
‫صدر النفاق على وجه منشرحة له النفس سخية به‪ ،‬ل على وجه التردد‬
‫وضعف النفس في إخراجها وذلك أن النفقة يعرض لها آفتان إما أن يقصد‬
‫النسان بها محمدة الناس ومدحهم وهو الرياء‪ ،‬أو يخرجها على خور‬
‫وضعف عزيمة وتردد‪ ،‬فهؤلء سلموا من هاتين الفتين فأنفقوا ابتغاء‬
‫مرضات الله ل لغير ذلك من المقاصد‪ ،‬وتثبيتا من أنفسهم‪ ،‬فمثل نفقة‬
‫هؤلء } كمثل جنة { أي‪ :‬كثيرة الشجار غزيرة الظلل‪ ،‬من الجتنان وهو‬
‫الستر‪ ،‬لستر أشجارها ما فيها‪ ،‬وهذه الجنة } بربوة { أي‪ :‬محل مرتفع‬
‫ضاح للشمس في أول النهار ووسطه وآخره‪ ،‬فثماره أكثر الثمار وأحسنها‪،‬‬
‫ليست بمحل نازل عن الرياح والشمس‪ ،‬فـ } أصابها { أي‪ :‬تلك الجنة‬
‫التي بربوة } وابل { وهو المطر الغزير } فآتت أكلها ضعفين { أي‪:‬‬
‫تضاعفت ثمراتها لطيب أرضها ووجود السباب الموجبة لذلك‪ ،‬وحصول‬
‫الماء الكثير الذي ينميها ويكملها } فإن لم يصبها وابل فطل { أي‪ :‬مطر‬
‫قليل يكفيها لطيب منبتها‪ ،‬فهذه حالة المنفقين أهل النفقات الكثيرة‬
‫والقليلة كل على حسب حاله‪ ،‬وكل ينمى له ما أنفق أتم تنمية وأكملها‬
‫والمنمي لها هو الذي أرحم بك من نفسك‪ ،‬الذي يريد مصلحتك حيث ل‬
‫تريدها‪ ،‬فيالله لو قدر وجود بستان في هذه الدار بهذه الصفة لسرعت‬
‫إليه الهمم وتزاحم عليه كل أحد‪ ،‬ولحصل القتتال عنده‪ ،‬مع انقضاء هذه‬
‫الدار وفنائها وكثرة آفاتها وشدة نصبها وعنائها‪ ،‬وهذا الثواب الذي ذكره‬
‫الله كأن المؤمن ينظر إليه بعين بصيرة اليمان‪ ،‬دائم مستمر فيه أنواع‬
‫المسرات والفرحات‪ ،‬ومع هذا تجد النفوس عنه راقدة‪ ،‬والعزائم عن طلبه‬
‫خامدة‪ ،‬أترى ذلك زهدا في الخرة ونعيمها‪ ،‬أم ضعف إيمان بوعد الله‬
‫ورجاء ثوابه؟! وإل فلو تيقن العبد ذلك حق اليقين وباشر اليمان به‬
‫بشاشة قلبه لنبعثت من قلبه مزعجات الشوق إليه‪ ،‬وتوجهت همم عزائمه‬
‫إليه‪ ،‬وطوعت نفسه له بكثرة النفقات رجاء المثوبات‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪} :‬‬
‫والله بما تعملون بصير { فيعلم عمل كل عامل ومصدر ذلك العمل‪،‬‬
‫فيجازيه عليه أتم الجزاء ثم قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/114‬‬

‫ه‬ ‫َ‬
‫حت َِها اْلن َْهاُر ل َ ُ‬
‫ن تَ ْ‬‫م ْ‬‫ري ِ‬ ‫ِ‬ ‫ج‬
‫ب تَ ْ‬ ‫ٍ‬ ‫ل وَأ َعَْنا‬ ‫ٍ‬ ‫خي‬
‫ن نَ ِ‬ ‫ْ‬ ‫م‬
‫ة ِ‬ ‫جن ّ ٌ‬
‫ه َ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫كو َ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫أ َيود أ َحدك ُ َ‬
‫مأ ْ‬ ‫َ َ ّ َ ُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ن كُ ّ‬
‫صاٌر ِفيهِ َناٌر‬ ‫صاب ََها إ ِعْ َ‬‫فاُء فَأ َ‬‫ضعَ َ‬ ‫ة ُ‬ ‫ه ذ ُّري ّ ٌ‬
‫ه الك ِب َُر وَل ُ‬ ‫صاب َ ُ‬ ‫ت وَأ َ‬ ‫مَرا ِ‬ ‫ل الث ّ َ‬ ‫م ْ‬
‫ِفيَها ِ‬
‫ن )‪(266‬‬ ‫فكُرو َ‬‫ّ‬ ‫م ت َت َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ت لعَلك ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م الَيا ِ‬ ‫ُ‬
‫ه لك ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫َ‬
‫ت كذ َل ِ َ‬ ‫حت ََرقَ ْ‬
‫َفا ْ‬
‫ك ي ُب َي ّ ُ‬
‫َ‬ ‫} ‪ } { 266‬أ َيود أ َحدك ُ َ‬
‫ن‬‫م ْ‬
‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬‫ب تَ ْ‬‫ل وَأعَْنا ٍ‬ ‫خي ٍ‬‫ن نَ ِ‬‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫جن ّ ٌ‬‫ه َ‬‫ن لَ ُ‬
‫كو َ‬ ‫ن تَ ُ‬‫مأ ْ‬ ‫َ َ ّ َ ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫فاُء‬ ‫ضعَ َ‬ ‫ة ُ‬ ‫ه ذ ُّري ّ ٌ‬
‫ه الك ِب َُر وَل ُ‬ ‫صاب َ ُ‬ ‫ت وَأ َ‬ ‫مَرا ِ‬ ‫ل الث ّ َ‬ ‫ُ‬
‫نك ّ‬ ‫م ْ‬ ‫حت َِها الن َْهاُر ل َ ُ‬
‫ه ِفيَها ِ‬ ‫تَ ْ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ت لعَلك ْ‬ ‫م الَيا ِ‬ ‫ه لك ُ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫ت كذ َل ِك ي ُب َي ّ ُ‬ ‫حت ََرقَ ْ‬ ‫صاٌر ِفيهِ َناٌر َفا ْ‬ ‫صاب ََها إ ِعْ َ‬ ‫فَأ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫فكُرو َ‬‫ّ‬ ‫ت َت َ َ‬
‫وهذا المثل مضروب لمن عمل عمل لوجه الله تعالى من صدقة أو غيرها‬
‫ثم عمل أعمال تفسده‪ ،‬فمثله كمثل صاحب هذا البستان الذي فيه من كل‬
‫الثمرات‪ ،‬وخص منها النخل والعنب لفضلهما وكثرة منافعهما‪ ،‬لكونهما‬
‫غذاء وقوتا وفاكهة وحلوى‪ ،‬وتلك الجنة فيها )‪ (1‬النهار الجارية التي‬
‫تسقيها من غير مؤنة‪ ،‬وكان صاحبها قد اغتبط بها وسرته‪ ،‬ثم إنه أصابه‬
‫الكبر فضعف عن العمل وزاد حرصه‪ ،‬وكان له ذرية ضعفاء ما فيهم معاونة‬
‫له‪ ،‬بل هم كل عليه‪ ،‬ونفقته ونفقتهم من تلك الجنة‪ ،‬فبينما هو كذلك إذ‬
‫أصاب تلك الجنة إعصار وهو الريح القوية التي تستدير ثم ترتفع في الجو‪،‬‬
‫وفي ذلك العصار نار فاحترقت تلك الجنة‪ ،‬فل تسأل عما لقي ذلك الذي‬
‫أصابه الكبر من الهم والغم والحزن‪ ،‬فلو قدر أن الحزن يقتل صاحبه لقتله‬
‫الحزن‪ ،‬كذلك من عمل عمل لوجه الله فإن أعماله بمنزلة البذر للزروع‬
‫والثمار‪ ،‬ول يزال كذلك حتى يحصل له من عمله جنة موصوفة بغاية‬
‫الحسن والبهاء‪ ،‬وتلك المفسدات التي تفسد العمال بمنزلة العصار الذي‬
‫فيه نار‪ ،‬والعبد أحوج ما يكون لعمله إذا مات وكان بحالة ل يقدر معها على‬
‫العمل‪ ،‬فيجد عمله الذي يؤمل نفعه هباء منثورا‪ ،‬ووجد الله عنده فوفاه‬
‫حسابه‪.‬‬
‫والله سريع الحساب فلو علم النسان وتصور هذه الحال وكان له أدنى‬
‫مسكة من عقل لم يقدم على ما فيه مضرته ونهاية حسرته ولكن ضعف‬
‫اليمان والعقل وقلة البصيرة يصير صاحبه إلى هذه الحالة التي لو صدرت‬
‫من مجنون ل يعقل لكان ذلك عظيما وخطره جسيما‪ ،‬فلهذا أمر تعالى‬
‫ث عليه‪ ،‬فقال‪ } :‬كذلك يبين الله لكم اليات‬ ‫] ص ‪ [ 115‬بالتفكر وح ّ‬
‫لعلكم تتفكرون { ‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في النسختين‪ :‬فيه‪.‬‬

‫) ‪(1/114‬‬
‫ن‬
‫م َ‬‫م ِ‬ ‫جَنا ل َك ُ ْ‬ ‫خَر ْ‬ ‫ما أ َ ْ‬‫م ّ‬ ‫م وَ ِ‬ ‫سب ْت ُ ْ‬‫ما ك َ َ‬ ‫ت َ‬‫ن ط َي َّبا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قوا ِ‬ ‫ف ُ‬ ‫َ‬
‫مُنوا أن ْ ِ‬ ‫ذي َ‬
‫نآ َ‬
‫َ‬
‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫َ‬ ‫م ب ِآ َ ِ‬ ‫اْل َْر‬
‫ه‬
‫ضوا ِفي ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ت ُغْ ِ‬‫ذيهِ إ ِّل أ ْ‬ ‫خ ِ‬ ‫ست ُ ْ‬‫ن وَل َ ْ‬‫قو َ‬‫ف ُ‬‫ه ت ُن ْ ِ‬
‫من ْ ُ‬
‫ث ِ‬ ‫خِبي َ‬ ‫موا ال ْ َ‬ ‫م ُ‬ ‫ض وََل ت َي َ ّ‬
‫ِ‬
‫ْ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫َ‬
‫مُرك ُ ْ‬
‫م‬ ‫قَر وَي َأ ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫ن ي َعِد ُك ُ ُ‬ ‫طا ُ‬ ‫ميد ٌ )‪ (267‬ال ّ‬ ‫ح ِ‬‫ي َ‬ ‫ه غَن ِ ّ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫َواعْل َ ُ‬
‫م )‪(268‬‬ ‫سعٌ عَِلي ٌ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫ضًل َوالل ّ ُ‬ ‫ه وَفَ ْ‬‫من ْ ُ‬‫فَرةً ِ‬ ‫مغ ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ي َعِد ُك ُ ْ‬‫شاِء َوالل ّ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ف ْ‬‫ِبال ْ َ‬

‫ما‬
‫م ّ‬
‫م وَ ِ‬ ‫ما ك َ َ‬
‫سب ْت ُ ْ‬ ‫ت َ‬ ‫ن ط َي َّبا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قوا ِ‬ ‫مُنوا أ َن ْفِ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬
‫َ‬
‫} ‪َ } { 268 - 267‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫أَ ْ‬
‫ن‬
‫ذيهِ ِإل أ ْ‬ ‫خ ِ‬ ‫م ِبآ ِ‬ ‫ن وَل َ ْ‬
‫ست ُ ْ‬ ‫قو َ‬ ‫ف ُ‬
‫ه ت ُن ْ ِ‬ ‫من ْ ُ‬
‫ث ِ‬ ‫خِبي َ‬ ‫موا ال ْ َ‬ ‫م ُ‬
‫ض َول ت َي َ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ن الْر‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫م ِ‬‫جَنا ل َك ُ ْ‬‫خَر ْ‬
‫ْ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫َ‬
‫مُرك ُ ْ‬
‫م‬ ‫قَر وَي َأ ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫ن ي َعِد ُك ُ ُ‬ ‫طا ُ‬ ‫ميد ٌ * ال ّ‬ ‫ح ِ‬‫ي َ‬ ‫ه غَن ِ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ضوا ِفيهِ َواعْل َ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ت ُغْ ِ‬
‫م{‪.‬‬ ‫سعٌ عَِلي ٌ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫ّ‬
‫ضل َوالل ُ‬ ‫ه وَفَ ْ‬ ‫من ْ ُ‬‫فَرةً ِ‬ ‫مغ ْ ِ‬
‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ه ي َعِد ُك ْ‬ ‫ّ‬
‫شاِء َوالل ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫ف ْ‬
‫يأمر تعالى عباده المؤمنين بالنفقة من طيبات ما يسر لهم من المكاسب‪،‬‬
‫ن عليكم بتسهيل تحصيله فأنفقوا منه‬ ‫ومما أخرج لهم من الرض فكما م ّ‬
‫شكرا لله وأداء لبعض حقوق إخوانكم عليكم‪ ،‬وتطهيرا لموالكم‪ ،‬واقصدوا‬
‫في تلك النفقة الطيب الذي تحبونه لنفسكم‪ ،‬ول تيمموا الرديء الذي ل‬
‫ترغبونه ول تأخذونه إل على وجه الغماض والمسامحة } واعلموا أن الله‬
‫غني حميد { فهو غني عنكم ونفع صدقاتكم وأعمالكم عائد إليكم‪ ،‬ومع هذا‬
‫فهو حميد على ما يأمركم به من الوامر الحميدة والخصال السديدة‪،‬‬
‫فعليكم أن تمتثلوا أوامره لنها قوت القلوب وحياة النفوس ونعيم الرواح‪،‬‬
‫وإياكم أن تتبعوا عدوكم الشيطان الذي يأمركم بالمساك‪ ،‬ويخوفكم‬
‫بالفقر والحاجة إذا أنفقتم‪ ،‬وليس هذا نصحا لكم‪ ،‬بل هذا غاية الغش‬
‫} إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير { بل أطيعوا ربكم الذي‬
‫يأمركم بالنفقة على وجه يسهل عليكم ول يضركم‪ ،‬ومع هذا فهو } يعدكم‬
‫مغفرة { لذنوبكم وتطهيرا لعيوبكم } وفضل { وإحسانا إليكم في الدنيا‬
‫والخرة‪ ،‬من الخلف العاجل‪ ،‬وانشراح الصدر ونعيم القلب والروح والقبر‪،‬‬
‫وحصول ثوابها وتوفيتها يوم القيامة‪ ،‬وليس هذا عظيما عليه لنه } واسع {‬
‫الفضل عظيم الحسان } عليم { بما يصدر منكم من النفقات قليلها‬
‫وكثيرها‪ ،‬سرها وعلنها‪ ،‬فيجازيكم عليها من سعته وفضله وإحسانه‪ ،‬فلينظر‬
‫العبد نفسه إلى أي الداعيين يميل‪ ،‬فقد تضمنت هاتان اليتان أمورا‬
‫عظيمة منها‪ :‬الحث على النفاق‪ ،‬ومنها‪ :‬بيان السباب الموجبة لذلك‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬وجوب الزكاة من النقدين وعروض التجارة كلها‪ ،‬لنها داخلة في‬
‫قوله‪ } :‬من طيبات ما كسبتم { ومنها‪ :‬وجوب الزكاة في الخارج من‬
‫الرض من الحبوب والثمار والمعادن‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الزكاة على من له الزرع‬
‫والثمر ل على صاحب الرض‪ ،‬لقوله } أخرجنا لكم { فمن أخرجت له‬
‫وجبت عليه ومنها‪ :‬أن الموال المعدة للقتناء من العقارات والواني‬
‫ونحوها ليس فيها زكاة‪ ،‬وكذلك الديون والغصوب ونحوهما إذا كانت‬
‫مجهولة‪ ،‬أو عند من ل يقدر ربها على استخراجها منه‪ ،‬ليس فيها زكاة‪ ،‬لن‬
‫الله أوجب النفقة من الموال التي يحصل فيها النماء الخارج من الرض‪،‬‬
‫وأموال التجارة مواساة من نمائها‪ ،‬وأما الموال التي غير معدة لذلك ول‬
‫مقدورا عليها فليس فيها هذا المعنى‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الرديء ينهى عن إخراجه‬
‫ول يجزئ في الزكاة ثم قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/115‬‬
‫ما ي َذ ّك ُّر إ ِّل‬ ‫ة فَ َ ُ‬ ‫ت ال ْ ِ‬ ‫ي ُؤِْتي ال ْ ِ‬
‫خي ًْرا ك َِثيًرا وَ َ‬
‫ي َ‬
‫قد ْ أوت ِ َ‬ ‫حك ْ َ‬
‫م َ‬ ‫ن ي ُؤْ َ‬
‫م ْ‬ ‫ن يَ َ‬
‫شاُء وَ َ‬ ‫م ْ‬
‫ة َ‬ ‫حك ْ َ‬
‫م َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ب )‪(269‬‬ ‫أوُلو اْلل َْبا ِ‬
‫ة فَ َ ُ‬ ‫ت ال ْ ِ‬ ‫} ‪ } { 269‬ي ُؤِْتي ال ْ ِ‬
‫خي ًْرا‬
‫ي َ‬
‫قد ْ أوت ِ َ‬ ‫حك ْ َ‬
‫م َ‬ ‫ن ي ُؤْ َ‬
‫م ْ‬ ‫ن يَ َ‬
‫شاُء وَ َ‬ ‫م ْ‬‫ة َ‬ ‫حك ْ َ‬
‫م َ‬
‫ُ‬
‫ب{‪.‬‬ ‫ما ي َذ ّك ُّر ِإل أوُلو الل َْبا ِ‬
‫ك َِثيًرا وَ َ‬
‫لما أمر تعالى بهذه الوامر العظيمة المشتملة على السرار والحكم وكان‬
‫ن عليه وآتاه الله الحكمة‪ ،‬وهي العلم‬ ‫ذلك ل يحصل لكل أحد‪ ،‬بل لمن م ّ‬
‫النافع والعمل الصالح ومعرفة أسرار الشرائع وحكمها‪ ،‬وإن من آتاه الله‬
‫الحكمة فقد آتاه خيرا كثيرا وأي خير أعظم من خير فيه سعادة الدارين‬
‫والنجاة من شقاوتهما! وفيه التخصيص بهذا الفضل وكونه من ورثة النبياء‪،‬‬
‫فكمال العبد متوقف على الحكمة‪ ،‬إذ كماله بتكميل قوتيه العلمية والعملية‬
‫فتكميل قوته العلمية بمعرفة الحق ومعرفة المقصود به‪ ،‬وتكميل قوته‬
‫العملية بالعمل بالخير وترك الشر‪ ،‬وبذلك يتمكن من الصابة بالقول‬
‫والعمل وتنزيل المور منازلها في نفسه وفي غيره‪ ،‬وبدون ذلك ل يمكنه‬
‫ذلك‪ ،‬ولما كان الله تعالى قد فطر عباده على عبادته ومحبة الخير والقصد‬
‫للحق‪ ،‬فبعث الله الرسل مذكرين لهم بما ركز في فطرهم وعقولهم‪،‬‬
‫ومفصلين لهم ما لم يعرفوه‪ ،‬انقسم الناس قسمين قسم أجابوا دعوتهم‬
‫فتذكروا ما ينفعهم ففعلوه‪ ،‬وما يضرهم فتركوه‪ ،‬وهؤلء هم أولو اللباب‬
‫الكاملة‪ ،‬والعقول التامة‪ ،‬وقسم لم يستجيبوا لدعوتهم‪ ،‬بل أجابوا ما عرض‬
‫لفطرهم من الفساد‪ ،‬وتركوا طاعة رب العباد‪ ،‬فهؤلء ليسوا من أولي‬
‫اللباب‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪ } :‬وما يذكر إل أولو اللباب { ‪.‬‬

‫) ‪(1/115‬‬

‫ما ِلل ّ‬ ‫ف َ َ‬ ‫ما أ َن ْ َ‬


‫ن‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬
‫مي َ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬
‫م ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ن ن َذ ْرٍ فَإ ِ ّ‬
‫م ْ‬ ‫قةٍ أوْ ن َذ َْرت ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ن نَ َ‬
‫م ْ‬‫م ِ‬
‫قت ُ ْ‬
‫ف ْ‬ ‫وَ َ‬
‫صارٍ )‪(270‬‬ ‫َ‬
‫أن ْ َ‬
‫ف َ َ‬ ‫ما أ َن ْ َ‬
‫ما‬
‫ه وَ َ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬
‫م ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ن ن َذ ْرٍ فَإ ِ ّ‬
‫م ْ‬ ‫قةٍ أوْ ن َذ َْرت ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ن نَ َ‬
‫م ْ‬
‫م ِ‬‫قت ُ ْ‬
‫ف ْ‬ ‫} ‪ } { 270‬وَ َ‬
‫ظال ِمين م َ‬
‫صارٍ { ‪.‬‬ ‫ن أن ْ َ‬‫ِلل ّ ِ َ ِ ْ‬
‫وهذا فيه المجازاة على النفقات‪ ،‬واجبها ومستحبها‪ ،‬قليلها وكثيرها‪ ،‬التي‬
‫أمر الله بها‪ ،‬والنذور التي ألزمها المكلف نفسه‪ ،‬وإن الله تعالى يعلمها فل‬
‫يخفى عليه منها شيء‪ ،‬ويعلم ما صدرت عنه‪ ،‬هل هو الخلص أو غيره‪،‬‬
‫فإن صدرت عن إخلص وطلب لمرضاة الله جازى عليها بالفضل العظيم‬
‫والثواب الجسيم‪ ،‬وإن لم ينفق العبد ما وجب عليه من النفقات ولم يوف‬
‫ما أوجبه على نفسه من المنذورات‪ ،‬أو قصد بذلك رضى المخلوقات‪ ،‬فإنه‬
‫ظالم قد وضع الشيء في غير موضعه‪ ،‬واستحق ] ص ‪ [ 116‬العقوبة‬
‫البليغة‪ ،‬ولم ينفعه أحد من الخلق ولم ينصره‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬وما للظالمين‬
‫من أنصار { ‪.‬‬

‫) ‪(1/115‬‬
‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫قَراءَ فَهُوَ َ‬ ‫ها ال ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫ها وَت ُؤُْتو َ‬
‫فو َ‬ ‫خ ُ‬‫ن تُ ْ‬‫ي وَإ ِ ْ‬‫ما هِ َ‬ ‫ت فَن ِعِ ّ‬
‫صد ََقا ِ‬
‫دوا ال ّ‬ ‫ن ت ُب ْ ُ‬‫إِ ْ‬
‫خِبيٌر )‪(271‬‬ ‫ن َ‬ ‫ُ‬
‫ملو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬
‫ه بِ َ‬ ‫ّ‬
‫م َوالل ُ‬ ‫ُ‬
‫سي َّئات ِك ْ‬‫ن َ‬‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫فُر عَن ْك ْ‬ ‫َ‬
‫وَي ُك ّ‬

‫قَراءَ فَهُ َ‬
‫و‬ ‫ها ال ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫ها وَت ُؤُْتو َ‬
‫فو َ‬‫خ ُ‬
‫ن تُ ْ‬‫ي وَإ ِ ْ‬‫ما هِ َ‬ ‫ت فَن ِعِ ّ‬ ‫صد ََقا ِ‬
‫دوا ال ّ‬ ‫ن ت ُب ْ ُ‬
‫} ‪ } { 271‬إ ِ ْ‬
‫خِبيٌر { ‪.‬‬ ‫ن َ‬‫مُلو َ‬‫ما ت َعْ َ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬
‫ه بِ َ‬ ‫سي َّئات ِك ُ ْ‬
‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫فُر عَن ْك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬
‫م وَي ُك َ ّ‬ ‫َ‬
‫أي‪ } :‬إن تبدوا الصدقات { فتظهروها وتكون علنية حيث كان القصد بها‬
‫وجه الله } فنعما هي { أي‪ :‬فنعم الشيء } هي { لحصول المقصود بها }‬
‫وإن تخفوها { أي‪ :‬تسروها } وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم { ففي هذا أن‬
‫صدقة السر على الفقير أفضل من صدقة العلنية‪ ،‬وأما إذا لم تؤت‬
‫الصدقات الفقراء فمفهوم الية أن السر ليس خيرا من العلنية‪ ،‬فيرجع‬
‫في ذلك إلى المصلحة‪ ،‬فإن كان في إظهارها إظهار شعائر الدين وحصول‬
‫القتداء ونحوه‪ ،‬فهو أفضل من السرار‪ ،‬ودل قوله‪ } :‬وتؤتوها الفقراء {‬
‫على أنه ينبغي للمتصدق أن يتحرى بصدقته المحتاجين‪ ،‬ول يعطي محتاجا‬
‫وغيره أحوج منه‪ ،‬ولما ذكر تعالى أن الصدقة خير للمتصدق ويتضمن ذلك‬
‫حصول الثواب قال‪ } :‬ويكفر عنكم من سيئاتكم { ففيه دفع العقاب‬
‫} والله بما تعملون خبير { من خير وشر‪ ،‬قليل وكثير والمقصود من ذلك‬
‫المجازاة‪.‬‬

‫) ‪(1/116‬‬

‫سك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ف ِ‬ ‫خي ْرٍ فَِل َن ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫قوا ِ‬ ‫ما ت ُن ْفِ ُ‬‫شاُء وَ َ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫دي َ‬ ‫ه ي َهْ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م وَل َك ِ ّ‬ ‫داهُ ْ‬ ‫ك هُ َ‬ ‫س عَل َي ْ َ‬ ‫ل َي ْ َ‬
‫م َل‬ ‫َ‬
‫م وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ف إ ِل َي ْك ُ ْ‬‫خي ْرٍ ي ُوَ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫قوا ِ‬ ‫ما ت ُن ْفِ ُ‬ ‫جهِ الل ّهِ وَ َ‬ ‫ن إ ِّل اب ْت َِغاَء وَ ْ‬ ‫قو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ما ت ُن ْ ِ‬ ‫وَ َ‬
‫ضْرًبا‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن َ‬ ‫طيُعو َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫ل اللهِ ل ي َ ْ‬ ‫سِبي ِ‬‫صُروا ِفي َ‬ ‫ح ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫قَراِء ال ِ‬ ‫ف َ‬‫ن )‪ (272‬ل ِل ُ‬ ‫مو َ‬ ‫ت ُظل ُ‬
‫ن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫جاهِ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫سألو َ‬ ‫م ل يَ ْ‬ ‫ماهُ ْ‬ ‫سي َ‬ ‫م بِ ِ‬ ‫ف ت َعْرِفهُ ْ‬ ‫ف ِ‬‫ن الت ّعَ ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل أغن َِياَء ِ‬ ‫م ال َ‬ ‫سب ُهُ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ض يَ ْ‬ ‫ِفي الْر ِ‬
‫ن‬
‫قو َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ن ي ُن ْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫م )‪ (273‬ال ِ‬ ‫ه ب ِهِ عَِلي ٌ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫خي ْرٍ فَإ ِ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫قوا ِ‬ ‫ف ُ‬‫ما ت ُن ْ ِ‬ ‫حاًفا وَ َ‬ ‫س إ ِل ْ َ‬ ‫الّنا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ف عَلي ْهِ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫م وَل َ‬ ‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جُرهُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ة فَلهُ ْ‬ ‫سّرا وَعَلن ِي َ ً‬ ‫ل َوالن َّهارِ ِ‬ ‫م ِباللي ْ ِ‬ ‫وال َهُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫أ ْ‬
‫ن )‪(274‬‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫وََل هُ ْ‬
‫ما‬
‫شاُء وَ َ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫دي َ‬ ‫ه ي َهْ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م وَل َك ِ ّ‬ ‫داهُ ْ‬ ‫ك هُ َ‬ ‫س عَل َي ْ َ‬ ‫} ‪ } { 274 - 272‬ل َي ْ َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫قوا ِ‬ ‫ف ُ‬ ‫ما ت ُن ْ ِ‬ ‫جهِ الل ّهِ وَ َ‬ ‫ن ِإل اب ْت َِغاَء وَ ْ‬ ‫قو َ‬ ‫ف ُ‬‫ما ت ُن ْ ِ‬ ‫م وَ َ‬ ‫سك ُ ْ‬‫ف ِ‬ ‫خي ْرٍ َفلن ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫قوا ِ‬ ‫ف ُ‬ ‫ت ُن ْ ِ‬
‫ّ‬
‫ل اللهِ ل‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫سِبي ِ‬ ‫صُروا ِفي َ‬ ‫ح ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫قَراِء ال ِ‬ ‫ف َ‬‫ن * ل ِل ُ‬ ‫مو َ‬ ‫م ل ت ُظل ُ‬ ‫م وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ف إ ِلي ْك ْ‬ ‫خي ْرٍ ي ُوَ ّ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫جاهِ ُ‬ ‫ْ‬
‫ف ت َعْرِفهُ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن الت ّعَ ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل أغن َِياَء ِ‬ ‫م ال َ‬ ‫سب ُهُ ُ‬‫ح َ‬ ‫ض يَ ْ‬ ‫ضْر ًَبا ِفي الْر ِ‬ ‫ن َ‬ ‫طيُعو َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫م*‬ ‫ه ب ِهِ عَِلي ٌ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫خي ْرٍ فَإ ِ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫قوا ِ‬ ‫ف ُ‬‫ما ت ُن ْ ِ‬ ‫حاًفا وَ َ‬ ‫ْ‬
‫س إ ِل َ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫سألو َ‬ ‫ُ‬ ‫م ل يَ ْ‬ ‫ماهُ ْ‬ ‫سي َ‬ ‫بِ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جُرهُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ة فَلهُ ْ‬ ‫علن ِي َ ً‬ ‫سّرا وَ َ‬ ‫ل َوالن َّهارِ ِ‬ ‫م ِباللي ْ ِ‬ ‫والهُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫قو َ‬ ‫ف ُ‬‫ن ي ُن ْ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫م َول هُ ْ‬ ‫ف عَل َي ْهِ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫َول َ‬
‫يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ليس عليك هدي الخلق‪ ،‬وإنما‬
‫عليك البلغ المبين‪ ،‬والهداية بيد الله تعالى‪ ،‬ففيها دللة على أن النفقة كما‬
‫تكون على المسلم تكون على الكافر ولو لم يهتد‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬وما‬
‫تنفقوا من خير { أي‪ :‬قليل أو كثير على أي شخص كان من مسلم وكافر‬
‫} فلنفسكم { أي‪ :‬نفعه راجع إليكم } وما تنفقون إل ابتغاء وجه الله {‬
‫هذا إخبار عن نفقات المؤمنين الصادرة عن إيمانهم أنها ل تكون إل لوجه‬
‫الله تعالى‪ ،‬لن إيمانهم يمنعهم عن المقاصد الردية ويوجب لهم الخلص‬
‫} وما تنفقوا من خير يوف إليكم { يوم القيامة تستوفون أجوركم } وأنتم‬
‫ل تظلمون { أي‪ :‬تنقصون من أعمالكم شيئا ول مثقال ذرة‪ ،‬كما ل يزاد‬
‫في سيئاتكم‪.‬‬
‫ثم ذكر مصرف النفقات الذين هم أولى الناس بها فوصفهم بست صفات‬
‫أحدها الفقر‪ ،‬والثاني قوله‪ } :‬أحصروا في سبيل الله { أي‪ :‬قصروها على‬
‫طاعة الله من جهاد وغيره‪ ،‬فهم مستعدون لذلك محبوسون له‪ ،‬الثالث‬
‫عجزهم عن السفار لطلب الرزق فقال‪ } :‬ل يستطيعون ضربا في الرض‬
‫{ أي‪ :‬سفرا للتكسب‪ ،‬الرابع قوله‪ } :‬يحسبهم الجاهل أغنياء من‬
‫التعفف { وهذا بيان لصدق صبرهم وحسن تعففهم‪ .‬الخامس‪ :‬أنه قال‪:‬‬
‫} تعرفهم بسيماهم { أي‪ :‬بالعلمة التي ذكرها الله في وصفهم‪ ،‬وهذا ل‬
‫ينافي قوله‪ } :‬يحسبهم الجاهل أغنياء { فإن الجاهل بحالهم ليس له فطنة‬
‫يتفرس بها ما هم عليه‪ ،‬وأما الفطن المتفرس فمجرد ما يراهم )‪(1‬‬
‫يعرفهم بعلمتهم‪ ،‬السادس قوله‪ } :‬ل يسألون الناس إلحافا { أي‪ :‬ل‬
‫يسألونهم سؤال إلحاف‪ ،‬أي‪ :‬إلحاح‪ ،‬بل إن صدر منهم سؤال إذا احتاجوا‬
‫لذلك لم يلحوا على من سألوا‪ ،‬فهؤلء أولى الناس وأحقهم بالصدقات لما‬
‫وصفهم به من جميل الصفات‪ ،‬وأما النفقة من حيث هي على أي شخص‬
‫كان‪ ،‬فهي خير وإحسان وبر يثاب عليها صاحبها ويؤجر‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬وما‬
‫تنفقوا من خير فإن الله به عليم { ‪.‬‬
‫ثم ذكر حالة المتصدقين في جميع الوقات على جميع الحوال فقال‪:‬‬
‫} الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله { أي‪ :‬طاعته وطريق مرضاته‪ ،‬ل‬
‫في المحرمات والمكروهات وشهوات أنفسهم } بالليل والنهار سرا‬
‫وعلنية فلهم أجرهم عند ربهم { أي‪ :‬أجر عظيم من خير عند الرب‬
‫الرحيم } ول خوف عليهم { إذا خاف المقصرون } ول هم يحزنون { إذا‬
‫حزن المفرطون‪ ،‬ففازوا بحصول المقصود المطلوب‪ ،‬ونجوا من الشرور‬
‫والمرهوب‪ ،‬ولما كمل تعالى حالة المحسنين إلى عباده بأنواع النفقات ذكر‬
‫حالة الظالمين المسيئين إليهم غاية الساءة فقال‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في النسختين‪ :‬يراه‪.‬‬

‫) ‪(1/116‬‬

‫شي ْ َ‬ ‫ْ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫طا ُ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫خب ّط ُ ُ‬ ‫ذي ي َت َ َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫قو ُ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫ن إ ِّل ك َ َ‬ ‫مو َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ن الّرَبا َل ي َ ُ‬ ‫ن ي َأك ُُلو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫م الّرَبا فَ َ‬
‫م ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫ه ال ْب َي ْعَ وَ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ل الّرَبا وَأ َ‬ ‫مث ْ ُ‬‫ما ال ْب َي ْعُ ِ‬ ‫م َقاُلوا إ ِن ّ َ‬ ‫ك ب ِأن ّهُ ْ‬ ‫س ذ َل ِ َ‬ ‫م ّ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬
‫عاد َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫مُرهُ إ َِلى الل ّهِ وَ َ‬ ‫ف وَأ ْ‬ ‫سل َ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن َرب ّهِ َفان ْت ََهى فَل َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫عظ َ ٌ‬ ‫موْ ِ‬ ‫جاَءهُ َ‬ ‫َ‬
‫ه الّرَبا وَي ُْرِبي‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فَأولئ ِ َ‬ ‫ُ‬
‫حقُ الل ُ‬ ‫م َ‬‫ن )‪ (275‬ي َ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫م ِفيَها َ‬ ‫ب الّنارِ هُ ْ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫كأ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ل كَ ّ‬ ‫ب كُ ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ملوا‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫فارٍ أِثيم ٍ )‪ (276‬إ ِ ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ت َوالل ُ‬ ‫صد ََقا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وا الّز َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬‫خوْ ٌ‬ ‫م وَل َ‬ ‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جُرهُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫كاةَ لهُ ْ‬ ‫صلةَ وَآت َ ُ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫ت وَأَقا ُ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ال ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ي‬
‫ق َ‬ ‫ما ب َ ِ‬ ‫ه وَذ َُروا َ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن )‪َ (277‬يا أي َّها ال ّ ِ‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫م وََل هُ ْ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫ْ‬
‫ن الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫حْر ٍ‬ ‫فعَُلوا فَأذ َُنوا ب ِ َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫ن )‪ (278‬فَإ ِ ْ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ن الّرَبا إ ِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫ن )‪(279‬‬ ‫مو‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ظ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫ن‬ ‫مو‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ظ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫س‬ ‫ءو‬‫ُ‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫م‬
‫ُ َ‬ ‫َ ِ ُ َ َ ُ‬ ‫ُ ْ َ ِ ْ‬ ‫ْ ُ‬ ‫وَ َ ُ ِ ِ َ ِ ْ ُ ْ ُ ْ‬
‫ت‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫سو‬ ‫ر‬
‫َ‬
‫م‬‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬ ‫صد ُّقوا َ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫سَرةٍ وَأ ْ‬ ‫مي ْ َ‬ ‫سَرةٍ فَن َظ َِرةٌ إ َِلى َ‬ ‫ذو عُ ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫وَإ ِ ْ‬
‫ما‬
‫س َ‬
‫ف ٍ‬
‫ل نَ ْ‬ ‫ن ِفيهِ إ َِلى الل ّهِ ث ُ ّ‬
‫م ت ُوَّفى ك ُ ّ‬ ‫جُعو َ‬
‫ما ت ُْر َ‬
‫قوا ي َوْ ً‬‫ن )‪َ (280‬وات ّ ُ‬ ‫مو َ‬ ‫ت َعْل َ ُ‬
‫ن )‪(281‬‬ ‫مو َ‬‫م َل ي ُظ ْل َ ُ‬
‫ت وَهُ ْ‬‫سب َ ْ‬‫كَ َ‬
‫ْ‬
‫ذي‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫قو ُ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫ن ِإل ك َ َ‬ ‫مو َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ن الّرَبا ل ي َ ُ‬ ‫ن ي َأك ُُلو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪ } { 281 - 275‬ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ل الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ح ّ‬ ‫ل الّرَبا وَأ َ‬ ‫مث ْ ُ‬ ‫ما ال ْب َي ْعُ ِ‬ ‫م َقاُلوا إ ِن ّ َ‬ ‫ك ب ِأن ّهُ ْ‬ ‫س ذ َل ِ َ‬ ‫م ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫طا ُ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫خب ّط ُ ُ‬ ‫ي َت َ َ‬
‫َ‬ ‫سل َ َ‬
‫مُرهُ‬ ‫ف وَأ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن َرب ّهِ َفان ْت ََهى فَل َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫عظ َ ٌ‬ ‫موْ ِ‬ ‫جاَءهُ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ُْ‬ ‫م الّرَبا فَ َ‬ ‫حّر َ‬ ‫ال ْب َي ْعَ وَ َ‬
‫َ‬
‫ه الّرَبا‬ ‫حقُ الل ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن * يَ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫م ِفيَها َ‬ ‫ب الّنارِ هُ ْ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫كأ ْ‬ ‫عاد َ فَأول َئ ِ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫إ َِلى الل ّهِ وَ َ‬
‫مُلوا ] ص‬ ‫َ‬
‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫فارٍ أِثيم ٍ * إ ِ ّ‬ ‫ل كَ ّ‬ ‫ب كُ ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ت َوالل ّ ُ‬ ‫صد ََقا ِ‬ ‫وَي ُْرِبي ال ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م َول‬ ‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جُرهُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫وا الّزكاةَ لهُ ْ‬ ‫صلةَ َوآت َ ُ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫ت وَأَقا ُ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫‪ [ 117‬ال ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ي‬
‫ق َ‬ ‫ما ب َ ِ‬ ‫ه وَذ َُروا َ‬ ‫قوا الل َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن * َيا أي َّها ال ِ‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫م َول هُ ْ‬ ‫ف عَل َي ْهِ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫َ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ه‬
‫سول ِ ِ‬ ‫ن اللهِ وََر ُ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫حْر ٍ‬ ‫فعَلوا فَأذ َُنوا ب ِ َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫نل ْ‬ ‫ن * فَإ ِ ْ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫ن الّرَبا إ ِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ذو‬ ‫ن ُ‬ ‫ن كا َ‬ ‫ن * وَإ ِ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫ن َول ت ُظل ُ‬ ‫مو َ‬ ‫م ل ت َظل ِ ُ‬ ‫وال ِك ْ‬ ‫م َ‬ ‫سأ ْ‬ ‫م ُرُءو ُ‬ ‫م فَلك ْ‬ ‫ن ت ُب ْت ُ ْ‬
‫وَإ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قوا‬ ‫ن * َوات ّ ُ‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫خي ٌْر لك ُ ْ‬ ‫صد ُّقوا َ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫سَرةٍ وَأ ْ‬ ‫مي ْ َ‬ ‫سَرةٍ فَن َظ َِرةٌ إ ِلى َ‬ ‫عُ ْ‬
‫ن{‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫م ل ي ُظل ُ‬ ‫ْ‬ ‫ت وَهُ ْ‬ ‫سب َ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫س َ‬ ‫م ت ُوَّفى ك ُ ّ‬ ‫ّ‬
‫ن ِفيهِ إ ِلى اللهِ ث ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ف ٍ‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫جُعو َ‬ ‫ما ت ُْر َ‬ ‫ي َوْ ً‬
‫‪.‬‬
‫يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم‪ ،‬أنهم ل يقومون من‬
‫قبورهم ليوم نشورهم } إل كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس {‬
‫أي‪ :‬يصرعه الشيطان بالجنون‪ ،‬فيقومون من قبورهم حيارى سكارى‬
‫مضطربين‪ ،‬متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال‪ ،‬فكما تقلبت عقولهم و‬
‫} قالوا إنما البيع مثل الربا { وهذا ل يكون إل من جاهل عظيم جهله‪ ،‬أو‬
‫متجاهل عظيم عناده‪ ،‬جازاهم الله من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم‬
‫أحوال المجانين‪ ،‬ويحتمل أن يكون قوله‪ } :‬ل يقومون إل كما يقوم الذي‬
‫يتخبطه الشيطان من المس { أنه لما انسلبت عقولهم في طلب‬
‫المكاسب الربوية خفت أحلمهم وضعفت آراؤهم‪ ،‬وصاروا في هيئتهم‬
‫وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلخ العقل الدبي‬
‫عنهم‪ ،‬قال الله تعالى رادا عليهم ومبينا حكمته العظيمة } وأحل الله‬
‫البيع { أي‪ :‬لما فيه من عموم المصلحة وشدة الحاجة وحصول الضرر‬
‫بتحريمه‪ ،‬وهذا أصل في حل جميع أنواع التصرفات الكسبية حتى يرد ما‬
‫يدل على المنع } وحرم الربا { لما فيه من الظلم وسوء العاقبة‪ ،‬والربا‬
‫نوعان‪ :‬ربا نسيئة كبيع الربا بما يشاركه في العلة نسيئة‪ ،‬ومنه جعل ما في‬
‫الذمة رأس مال‪ ،‬سلم‪ ،‬وربا فضل‪ ،‬وهو بيع ما يجري فيه الربا بجنسه‬
‫متفاضل وكلهما محرم بالكتاب والسنة‪ ،‬والجماع على ربا النسيئة‪ ،‬وشذ‬
‫من أباح ربا الفضل وخالف النصوص المستفيضة‪ ،‬بل الربا من كبائر‬
‫الذنوب وموبقاتها } فمن جاءه موعظة من ربه { أي‪ :‬وعظ وتذكير‬
‫وترهيب عن تعاطي الربا على يد من قيضه الله لموعظته رحمة من الله‬
‫بالموعوظ‪ ،‬وإقامة للحجة عليه } فانتهى { عن فعله وانزجر عن تعاطيه }‬
‫فله ما سلف { أي‪ :‬ما تقدم من المعاملت التي فعلها قبل أن تبلغه‬
‫الموعظة جزاء لقبوله للنصيحة‪ ،‬دل مفهوم الية أن من لم ينته جوزي‬
‫بالول والخر } وأمره إلى الله { في مجازاته وفيما يستقبل من أموره‬
‫} ومن عاد { إلى تعاطي الربا ولم تنفعه الموعظة‪ ،‬بل أصر على ذلك‬
‫} فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون { اختلف العلماء رحمهم الله في‬
‫نصوص الوعيد التي ظاهرها تخليد أهل الكبائر من الذنوب التي دون‬
‫الشرك بالله‪ ،‬والحسن فيها أن يقال هذه المور التي رتب الله عليها‬
‫الخلود في النار موجبات ومقتضيات لذلك‪ ،‬ولكن الموجب إن لم يوجد ما‬
‫يمنعه ترتب عليه مقتضاه‪ ،‬وقد علم بالكتاب والسنة وإجماع سلف المة‬
‫أن التوحيد واليمان مانع من الخلود في النار‪ ،‬فلول ما مع النسان من‬
‫التوحيد لصار عمله صالحا للخلود فيها بقطع النظر عن كفره‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪ } :‬يمحق الله الربا { أي‪ :‬يذهبه ويذهب بركته ذاتا ووصفا‪،‬‬
‫فيكون سببا لوقوع الفات فيه ونزع البركة عنه‪ ،‬وإن أنفق منه لم يؤجر‬
‫عليه بل يكون زادا له إلى النار } ويربي الصدقات { أي‪ :‬ينميها وينزل‬
‫البركة في المال الذي أخرجت منه وينمي أجر صاحبها وهذا لن الجزاء‬
‫من جنس العمل‪ ،‬فإن المرابي قد ظلم الناس وأخذ أموالهم على وجه غير‬
‫شرعي‪ ،‬فجوزي بذهاب ماله‪ ،‬والمحسن إليهم بأنواع الحسان ربه أكرم‬
‫منه‪ ،‬فيحسن عليه كما أحسن على عباده } والله ل يحب كل كفار { لنعم‬
‫الله‪ ،‬ل يؤدي ما أوجب عليه من الصدقات‪ ،‬ول يسلم منه ومن شره عباد‬
‫الله } أثيم { أي‪ :‬قد فعل ما هو سبب لثمه وعقوبته‪.‬‬
‫لما ذكر أكلة الربا وكان من المعلوم أنهم لو كانوا مؤمنين إيمانا ينفعهم لم‬
‫يصدر منهم ما صدر ذكر حالة المؤمنين وأجرهم‪ ،‬وخاطبهم باليمان‪،‬‬
‫ونهاهم عن أكل الربا إن كانوا مؤمنين‪ ،‬وهؤلء هم الذين يقبلون موعظة‬
‫ربهم وينقادون لمره‪ ،‬وأمرهم أن يتقوه‪ ،‬ومن جملة تقواه أن يذروا ما‬
‫بقي من الربا أي‪ :‬المعاملت الحاضرة الموجودة‪ ،‬وأما ما سلف‪ ،‬فمن‬
‫اتعظ عفا الله عنه ما سلف‪ ،‬وأما من لم ينزجر بموعظة الله ولم يقبل‬
‫نصيحته فإنه مشاق لربه محارب له‪ ،‬وهو عاجز ضعيف ليس له يدان في‬
‫محاربة العزيز الحكيم الذي يمهل للظالم ول يهمله حتى إذا أخذه‪ ،‬أخذه‬
‫أخذ عزيز مقتدر } وإن تبتم { عن الربا } فلكم رءوس أموالكم { أي‪:‬‬
‫أنزلوا عليها } ل تظلمون { من عاملتموه بأخذ الزيادة التي هي الربا } ول‬
‫تظلمون { بنقص رءوس أموالكم‪.‬‬
‫} وإن كان { المدين } ذو عسرة { ل يجد وفاء } فنظرة إلى ميسرة {‬
‫وهذا واجب عليه أن ينظره حتى يجد ما يوفي به } وأن تصدقوا خير لكم‬
‫إن كنتم تعلمون { إما بإسقاطها أو بعضها‪.‬‬
‫} واتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله ثم توفى كل نفس ما كسبت وهم ل‬
‫يظلمون { وهذه الية من آخر ما نزل من القرآن‪ ،‬وجعلت خاتمة لهذه‬
‫الحكام والوامر والنواهي‪ ،‬لن فيها الوعد على الخير‪ ،‬والوعيد على فعل ]‬
‫ص ‪ [ 118‬الشر‪ ،‬وأن من علم أنه راجع إلى الله فمجازيه على الصغير‬
‫والكبير والجلي والخفي‪ ،‬وأن الله ل يظلمه مثقال ذرة‪ ،‬أوجب له الرغبة‬
‫والرهبة‪ ،‬وبدون حلول العلم في ذلك في القلب ل سبيل إلى ذلك‪.‬‬

‫) ‪(1/116‬‬

‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫ب ب َي ْن َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫مى َفاك ْت ُُبوهُ وَل ْي َك ْت ُ ْ‬ ‫س ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ُ‬ ‫ج ٍ‬‫ن إ َِلى أ َ‬ ‫م َ ب ِد َي ْ ٍ‬
‫داي َن ْت ُ ْ‬
‫ذا ت َ َ‬‫مُنوا إ ِ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ْ‬
‫ذي‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫مل ِ ِ‬‫ب وَل ْي ُ ْ‬ ‫ه فَل ْي َك ْت ُ ْ‬ ‫ه الل ّ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ما عَل ّ َ‬ ‫ب كَ َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ َ‬ ‫بأ ْ‬ ‫كات ِ ٌ‬ ‫ب َ‬ ‫ل وََل ي َأ َ‬ ‫ب ِبال ْعَد ْ ِ‬ ‫كات ِ ٌ‬ ‫َ‬
‫ق‬
‫ح ّ‬ ‫ذي عَل َي ْهِ ال ْ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫شي ًْئا فَإ ِ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫خ ْ‬ ‫ه وََل ي َب ْ َ‬ ‫ه َرب ّ ُ‬ ‫ق الل ّ َ‬ ‫ْ‬
‫حقّ وَلي َت ّ ِ‬ ‫عَل َي ْهِ ال ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫دوا‬ ‫شه ِ ُ‬ ‫ست َ ْ‬‫ل َوا ْ‬ ‫ه ِبال ْعَد ْ ِ‬ ‫ل وَل ِي ّ ُ‬ ‫مل ِ ْ‬‫ل هُوَ فَل ْي ُ ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫طيعُ أ ْ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫فا أوْ َل ي َ ْ‬ ‫ضِعي ً‬ ‫فيًها أوْ َ‬ ‫س ِ‬‫َ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ضوْ َ‬ ‫ن ت َْر َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬‫ن ِ‬ ‫مَرأَتا ِ‬ ‫جل َوا ْ‬ ‫ن فَر ُ‬ ‫جلي ْ ِ‬ ‫م ي َكوَنا َر ُ‬ ‫نل ْ‬ ‫م فإ ِ ْ‬ ‫جال ِك ْ‬ ‫ن رِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫شِهيد َي ْ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫داُء إ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫شه َ َ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫خَرى وََل ي َأ َ‬ ‫ما اْل ُ ْ‬ ‫داهُ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ما فَت ُذ َك َّر إ ِ ْ‬ ‫داهُ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ل إِ ْ‬ ‫ض ّ‬ ‫ن تَ ِ‬ ‫داِء أ ْ‬ ‫شهَ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عن ْد َ‬‫سط ِ‬ ‫م أق ْ َ‬ ‫جل ِهِ ذ َل ِك ْ‬ ‫صِغيًرا أوْ كِبيًرا إ ِلى أ َ‬ ‫ن ت َكت ُُبوهُ َ‬ ‫موا أ ْ‬ ‫سأ ُ‬ ‫عوا وَل ت َ ْ‬ ‫ما د ُ ُ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ديُرون ََها‬ ‫ضَرةً ت ُ ِ‬ ‫حا ِ‬ ‫جاَرةً َ‬ ‫ن تِ َ‬ ‫ن ت َكو َ‬ ‫شَهاد َةِ وَأد َْنى أل ت َْرَتاُبوا إ ِل أ ْ‬ ‫م ِلل ّ‬ ‫اللهِ وَأقْوَ ُ‬
‫ب وَلَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ضاّر كات ِ ٌ‬ ‫م وَل ي ُ َ‬ ‫ذا ت ََباي َعْت ُ ْ‬ ‫دوا إ ِ َ‬ ‫شهِ ُ‬ ‫ها وَأ ْ‬ ‫ْ‬
‫ح أل ت َكت ُُبو َ‬ ‫جَنا ٌ‬ ‫م ُ‬ ‫ُ‬
‫س عَلي ْك ْ‬ ‫م فَل َي ْ َ‬ ‫ب َي ْن َك ُ ْ‬
‫ه ب ِك ُ ّ‬
‫ل‬ ‫ه َوالل ّ ُ‬ ‫م الل ّ ُ‬‫مك ُ ُ‬ ‫ه وَي ُعَل ّ ُ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫م َوات ّ ُ‬ ‫سوقٌ ب ِك ُ ْ‬ ‫ه فُ ُ‬ ‫فعَُلوا فَإ ِن ّ ُ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫شِهيد ٌ وَإ ِ ْ‬ ‫َ‬
‫م )‪(282‬‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مى َفاك ْت ُُبوهُ‬ ‫س ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ُ‬ ‫ج ٍ‬ ‫ن إ َِلى أ َ‬ ‫م ب َ ِد َي ْ ٍ‬‫داي َن ْت ُ ْ‬‫ذا ت َ َ‬ ‫مُنوا إ ِ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫َ‬ ‫ذي‬ ‫} ‪َ } { 282‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ْ‬
‫ب‬‫ه فَل ْي َك ْت ُ ْ‬ ‫ه الل ّ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ما عَل ّ َ‬ ‫ب كَ َ‬ ‫ن ي َك ْت ُ َ‬ ‫بأ ْ‬ ‫كات ِ ٌ‬ ‫ب َ‬ ‫ل َول ي َأ َ‬ ‫ب ِبال ْعَد ْ ِ‬ ‫كات ِ ٌ‬ ‫م َ‬ ‫ب ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫وَل ْي َك ْت ُ ْ‬
‫ذي‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫شي ًْئا فَإ ِ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫خ ْ‬ ‫ه َول ي َب ْ َ‬ ‫ه َرب ّ ُ‬ ‫ق الل ّ َ‬ ‫ْ‬
‫حقّ وَلي َت ّ َ ِ‬ ‫ذي عَل َي ْهِ ال ْ َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫مل ِ ِ‬ ‫وَل ْي ُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ه ِبال ْعَد ْ ِ‬
‫ل‬ ‫ل وَل ِي ّ ُ‬ ‫مل ِ ْ‬ ‫ل هُوَ فَل ْي ُ ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫طيعُ أ ْ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫فا أوْ ل ي َ ْ‬ ‫ضِعي ً‬ ‫فيًها أوْ َ‬ ‫س ِ‬ ‫حق ّ َ‬ ‫عَل َي ْهِ ال ْ َ‬
‫َ‬ ‫كوَنا َر ُ َ‬
‫ن‬‫مَرأَتا ِ‬ ‫ل َوا ْ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ن فََر ُ‬ ‫جلي ْ ِ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م فَإ ِ ْ‬ ‫جال ِك ُ ْ‬ ‫ن رِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫شِهيد َي ْ ِ‬ ‫دوا َ‬ ‫شه ِ ُ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫َوا ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ب‬‫خَرى َول ي َأ َ‬ ‫ما ال ْ‬ ‫داهُ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ما فَت ُذ َك َّر إ ِ ْ‬ ‫داهُ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ل إِ ْ‬ ‫ض ّ‬ ‫ن تَ ِ‬ ‫داِء أ ْ‬ ‫شهَ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ضوْ َ‬ ‫ن ت َْر َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫جل ِهِ ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫صِغيًرا أوْ ك َِبيًرا إ ِلى أ َ‬ ‫ن ت َك ْت ُُبوهُ َ‬ ‫موا أ ْ‬ ‫سأ ُ‬ ‫عوا َول ت َ ْ‬ ‫ما د ُ ُ‬ ‫ذا َ‬ ‫داُء إ ِ َ‬ ‫شهَ َ‬ ‫ال ّ‬
‫ن تَ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ضَرةً‬ ‫حا ِ‬ ‫جاَرةً َ‬ ‫ن تِ َ‬ ‫كو َ‬ ‫شَهاد َةِ وَأد َْنى أل ت َْرَتاُبوا ِإل أ ْ‬ ‫م ِلل ّ‬ ‫عن ْد َ اللهِ وَأقْوَ ُ‬ ‫سط ِ‬ ‫أق ْ َ‬
‫ضاّر‬ ‫م َول ي ُ َ‬ ‫ذا ت ََباي َعْت ُ ْ‬ ‫دوا إ ِ َ‬ ‫شهِ ُ‬ ‫ها وَأ َ ْ‬ ‫ح َأل ت َك ْت ُُبو َ‬ ‫جَنا ٌ‬ ‫م ُ‬ ‫س عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م فَل َي ْ َ‬ ‫ديُرون ََها ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫تُ ِ‬
‫ه َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫مك ُ ُ‬ ‫ه وَي ُعَل ّ ُ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫م َوات ّ ُ‬ ‫سوقٌ ب ِك ُ ْ‬ ‫ه فُ ُ‬ ‫فعَُلوا فَإ ِن ّ ُ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫شِهيد ٌ وَإ ِ ْ‬ ‫ب َول َ‬ ‫كات ِ ٌ‬ ‫َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ب ِك ُ ّ‬
‫هذه آية الدين‪ ،‬وهي أطول آيات القرآن‪ ،‬وقد اشتملت على أحكام عظيمة‬
‫جليلة المنفعة والمقدار‪ ،‬أحدها‪ :‬أنه تجوز جميع أنواع المداينات من سلم‬
‫وغيره‪ ،‬لن الله أخبر عن المداينة التي عليها المؤمنون إخبار مقرر لها‬
‫ذاكرا أحكامها‪ ،‬وذلك يدل على الجواز‪ ،‬الثاني والثالث أنه ل بد للسلم من‬
‫أجل وأنه ل بد أن يكون معينا معلوما فل يصح حال ول إلى أجل مجهول‪،‬‬
‫الرابع‪ :‬المر بكتابة جميع عقود المداينات إما وجوبا وإما استحبابا لشدة‬
‫الحاجة إلى كتابتها‪ ،‬لنها بدون الكتابة يدخلها من الغلط والنسيان‬
‫والمنازعة والمشاجرة شر عظيم‪ ،‬الخامس‪ :‬أمر الكاتب أن يكتب‪،‬‬
‫السادس‪ :‬أن يكون عدل في نفسه لجل اعتبار كتابته‪ ،‬لن الفاسق ل يعتبر‬
‫قوله ول كتابته‪ ،‬السابع أنه يجب عليه العدل بينهما‪ ،‬فل يميل لحدهما‬
‫لقرابة أو صداقة أو غير ذلك‪ ،‬الثامن‪ :‬أن يكون الكاتب عارفا بكتابة الوثائق‬
‫وما يلزم فيها كل واحد منهما‪ ،‬وما يحصل به التوثق‪ ،‬لنه ل سبيل إلى‬
‫العدل إل بذلك‪ ،‬وهذا مأخوذ من قوله‪ } :‬وليكتب بينكم كاتب بالعدل {‬
‫التاسع‪ :‬أنه إذا وجدت وثيقة بخط المعروف بالعدالة المذكورة يعمل بها‪،‬‬
‫ولو كان هو والشهود قد ماتوا‪ ،‬العاشر‪ :‬قوله‪ } :‬ول يأب كاتب أن يكتب {‬
‫ن الله عليه بتعليمه الكتابة أن يكتب بين المتداينين‪،‬‬ ‫أي‪ :‬ل يمتنع من م ّ‬
‫فكما أحسن الله إليه بتعليمه‪ ،‬فليحسن إلى عباد الله المحتاجين إلى‬
‫كتابته‪ ،‬ول يمتنع من الكتابة لهم‪ ،‬الحادي عشر‪ :‬أمر الكاتب أن ل يكتب إل‬
‫ما أمله من عليه الحق‪ ،‬الثاني عشر‪ :‬أن الذي يملي من المتعاقدين من‬
‫عليه الدين‪ ،‬الثالث عشر‪ :‬أمره أن يبين جميع الحق الذي عليه ول يبخس‬
‫منه شيئا‪ ،‬الرابع عشر‪ :‬أن إقرار النسان على نفسه مقبول‪ ،‬لن الله أمر‬
‫من عليه الحق أن يمل على الكاتب‪ ،‬فإذا كتب إقراره بذلك ثبت موجبه‬
‫ومضمونه‪ ،‬وهو ما أقر به على نفسه‪ ،‬ولو ادعى بعد ذلك غلطا أو سهوا‪،‬‬
‫الخامس عشر‪ :‬أن من عليه حقا من الحقوق التي البينة )‪ (1‬على مقدارها‬
‫وصفتها من كثرة وقلة وتعجيل وتأجيل‪ ،‬أن قوله هو المقبول دون قول من‬
‫له الحق‪ ،‬لنه تعالى لم ينهه عن بخس الحق الذي عليه‪ ،‬إل أن قوله‬
‫مقبول على ما يقوله من مقدار الحق وصفته‪ ،‬السادس عشر‪ :‬أنه يحرم‬
‫على من عليه حق من الحقوق أن يبخس وينقص شيئا من مقداره‪ ،‬أو‬
‫طيبه وحسنه‪ ،‬أو أجله أو غير ذلك من توابعه ولواحقه‪ ،‬السابع عشر‪ :‬أن‬
‫من ل يقدر على إملء الحق لصغره أو سفهه أو خرسه‪ ،‬أو نحو ذلك‪ ،‬فإنه‬
‫ينوب وليه منابه في الملء والقرار‪ ،‬الثامن عشر‪ :‬أنه يلزم الولي من‬
‫العدل ما يلزم من عليه الحق من العدل‪ ،‬وعدم البخس لقوله } بالعدل {‬
‫التاسع عشر‪ :‬أنه يشترط عدالة الولي‪ ،‬لن الملء بالعدل المذكور ل يكون‬
‫من فاسق‪ ،‬العشرون‪ :‬ثبوت الولية في الموال‪ ،‬الحادي والعشرون‪ :‬أن‬
‫الحق يكون على الصغير والسفيه والمجنون والضعيف‪ ،‬ل على وليهم‪،‬‬
‫الثاني والعشرون‪ :‬أن إقرار الصغير والسفيه والمجنون والمعتوه ونحوهم‬
‫وتصرفهم غير صحيح‪ ،‬لن الله جعل الملء لوليهم‪ ،‬ولم يجعل لهم منه‬
‫شيئا لطفا بهم ورحمة‪ ،‬خوفا من تلف أموالهم‪ ،‬الثالث والعشرون‪ :‬صحة‬
‫تصرف الولي في مال من ذكر‪ ،‬الرابع والعشرون‪ :‬فيه مشروعية كون‬
‫النسان يتعلم المور التي يتوثق بها المتداينون كل واحد من صاحبه‪ ،‬لن‬
‫المقصود من ذلك التوثق والعدل‪ ،‬وما ل يتم المشروع إل به فهو مشروع‪،‬‬
‫الخامس والعشرون‪ :‬أن تعلم الكتابة مشروع‪ ،‬بل هو فرض كفاية‪ ،‬لن الله‬
‫أمر بكتابة الديون وغيرها‪ ،‬ول يحصل ذلك إل بالتعلم‪ ،‬السادس والعشرون‪:‬‬
‫أنه مأمور بالشهاد على العقود‪ ،‬وذلك على وجه الندب‪ ،‬لن المقصود من‬
‫ذلك الرشاد إلى ما يحفظ الحقوق‪ ،‬فهو عائد لمصلحة المكلفين‪ ،‬نعم إن‬
‫كان ] ص ‪ [ 119‬المتصرف ولي يتيم أو وقف ونحو ذلك مما يجب حفظه‬
‫تعين أن يكون الشهاد الذي به يحفظ الحق واجبا‪ ،‬السابع والعشرون‪ :‬أن‬
‫نصاب الشهادة في الموال ونحوها رجلن أو رجل وامرأتان‪ ،‬ودلت السنة‬
‫أيضا أنه يقبل الشاهد مع يمين المدعي‪ ،‬الثامن والعشرون‪ :‬أن شهادة‬
‫الصبيان غير مقبولة لمفهوم لفظ الرجل‪ ،‬التاسع والعشرون‪ :‬أن شهادة‬
‫النساء منفردات في الموال ونحوها ل تقبل‪ ،‬لن الله لم يقبلهن إل مع‬
‫الرجل‪ ،‬وقد يقال إن الله أقام المرأتين مقام رجل للحكمة التي ذكرها‬
‫وهي موجودة سواء كن مع رجل أو منفردات والله أعلم‪ .‬الثلثون‪ :‬أن‬
‫شهادة العبد البالغ مقبولة كشهادة الحر لعموم قوله‪ } :‬فاستشهدوا‬
‫شهيدين من رجالكم { والعبد البالغ من رجالنا‪ ،‬الحادي والثلثون‪ :‬أن‬
‫شهادة الكفار ذكورا كانوا أو نساء غير مقبولة‪ ،‬لنهم ليسوا منا‪ ،‬ولن مبنى‬
‫الشهادة على العدالة وهو غير عدل‪ ،‬الثاني والثلثون‪ :‬فيه فضيلة الرجل‬
‫على المرأة‪ ،‬وأن الواحد في مقابلة المرأتين لقوة حفظه ونقص حفظها‪،‬‬
‫الثالث والثلثون‪ :‬أن من نسي شهادته ثم ذكرها فذكر فشهادته مقبولة‬
‫لقوله‪ } :‬فتذكر إحداهما الخرى { الرابع والثلثون‪ :‬يؤخذ من المعنى أن‬
‫الشاهد إذا خاف نسيان شهادته في الحقوق الواجبة وجب عليه كتابتها‪،‬‬
‫لن ما ل يتم الواجب إل به فهو واجب‪ ،‬والخامس والثلثون‪ :‬أنه يجب على‬
‫الشاهد إذا دعي للشهادة وهو غير معذور‪ ،‬ل يجوز له أن يأبى لقوله‪ } :‬ول‬
‫يأب الشهداء إذا ما دعوا { السادس والثلثون‪ :‬أن من لم يتصف بصفة‬
‫الشهداء المقبولة شهادتهم‪ ،‬لم يجب عليه الجابة لعدم الفائدة بها ولنه‬
‫ليس من الشهداء‪ ،‬السابع والثلثون‪ :‬النهي عن السآمة والضجر من كتابة‬
‫الديون كلها من صغير وكبير وصفة الجل وجميع ما احتوى عليه العقد من‬
‫الشروط والقيود‪ ،‬الثامن والثلثون‪ :‬بيان الحكمة في مشروعية الكتابة‬
‫والشهاد في العقود‪ ،‬وأنه } أقسط عند الله وأقوم للشهادة وأدنى أل‬
‫ترتابوا { فإنها متضمنة للعدل الذي به قوام العباد والبلد‪ ،‬والشهادة‬
‫المقترنة بالكتابة تكون أقوم وأكمل وأبعد من الشك والريب والتنازع‬
‫والتشاجر‪ ،‬التاسع والثلثون‪ :‬يؤخذ من ذلك أن من اشتبه وشك في‬
‫شهادته لم يجز له القدام عليها بل ل بد من اليقين‪ ،‬الربعون‪ :‬قوله‪ } :‬إل‬
‫أن تكون تجارة حاضرة تديرونها بينكم فليس عليكم جناح أل تكتبوها { فيه‬
‫الرخصة في ترك الكتابة إذا كانت التجارة حاضرا بحاضر‪ ،‬لعدم شدة‬
‫الحاجة إلى الكتابة‪ ،‬الحادي والربعون‪ :‬أنه وإن رخص في ترك الكتابة في‬
‫التجارة الحاضرة‪ ،‬فإنه يشرع الشهاد لقوله‪ } :‬وأشهدوا إذا تبايعتم {‬
‫الثاني والربعون‪ :‬النهي عن مضارة الكاتب بأن يدعى وقت اشتغال‬
‫وحصول مشقة عليه‪ ،‬الثالث والربعون‪ :‬النهي عن مضارة الشهيد أيضا بأن‬
‫يدعى إلى تحمل الشهادة أو أدائها في مرض أو شغل يشق عليه‪ ،‬أو غير‬
‫ذلك هذا على جعل قوله‪ } :‬ول يضار كاتب ول شهيد { مبنيا للمجهول‪،‬‬
‫وأما على جعلها مبنيا للفاعل ففيه نهي الشاهد والكاتب أن يضارا صاحب‬
‫الحق بالمتناع أو طلب أجرة شاقة ونحو ذلك‪ ،‬وهذان هما الرابع والربعون‬
‫والخامس والربعون والسادس والربعون أن ارتكاب هذه المحرمات من‬
‫خصال الفسق لقوله‪ } :‬وإن تفعلوا فإنه فسوق بكم { السابع والربعون‬
‫أن الوصاف كالفسق واليمان والنفاق والعداوة والولية ونحو ذلك تتجزأ‬
‫في النسان‪ ،‬فتكون فيه مادة فسق وغيرها‪ ،‬وكذلك مادة إيمان وكفر‬
‫ساق‪ .‬الثامن‬‫لقوله‪ } :‬فإنه فسوق بكم { ولم يقل فأنتم فاسقون أو فُ ّ‬
‫والربعون‪ - :‬وحقه أن يتقدم على ما هنا لتقدم موضعه‪ -‬اشتراط العدالة‬
‫في الشاهد لقوله‪ } :‬ممن ترضون من الشهداء { التاسع والربعون‪ :‬أن‬
‫العدالة يشترط فيها العرف في كل مكان وزمان‪ ،‬فكل من كان مرضيا‬
‫معتبرا عند الناس قبلت شهادته‪ ،‬الخمسون‪ :‬يؤخذ منها عدم قبول شهادة‬
‫المجهول حتى يزكى‪ ،‬فهذه الحكام مما يستنبط من هذه الية الكريمة‬
‫على حسب الحال الحاضرة والفهم القاصر‪ ،‬ولله في كلمه حكم وأسرار‬
‫يخص بها من يشاء من عباده‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬الكلمة غير الواضحة في الصل‪ ،‬وأقرب ما يكون أنها على ما أثبت‬
‫والله أعلم‪.‬‬

‫) ‪(1/118‬‬

‫ة فَإ َ‬
‫م‬‫ضك ُ ْ‬‫ن ب َعْ ُ‬‫م َ‬
‫نأ ِ‬ ‫ض ٌ ِ ْ‬ ‫قُبو َ‬ ‫م ْ‬
‫ن َ‬ ‫ها ٌ‬ ‫دوا َ‬
‫كات ًِبا فَرِ َ‬ ‫ج ُ‬‫م تَ ِ‬ ‫فرٍ وَل َ ْ‬ ‫س َ‬ ‫م عََلى َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬‫وَإ ِ ْ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫شَهاد َةَ وَ َ‬‫موا ال ّ‬‫ه وََل ت َك ْت ُ ُ‬‫ه َرب ّ ُ‬‫ق الل ّ َ‬ ‫مان َت َ ُ ْ‬
‫ه وَلي َت ّ ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫م َ‬ ‫ذي اؤْت ُ ِ‬ ‫ضا فَل ْي ُؤَد ّ ال ّ ِ‬ ‫ب َعْ ً‬
‫مُلو َ‬ ‫َ‬
‫م )‪(283‬‬ ‫ن عَِلي ٌ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ه َوالل ّ ُ‬
‫ه بِ َ‬ ‫م قَل ْب ُ ُ‬
‫ه آث ِ ٌ‬ ‫مَها فَإ ِن ّ ُ‬ ‫ي َك ْت ُ ْ‬
‫ة فَإ َ‬
‫ن‬
‫م َ‬
‫نأ ِ‬ ‫ض ٌ ِ ْ‬ ‫قُبو َ‬ ‫م ْ‬
‫ن َ‬
‫ها ٌ‬ ‫دوا َ‬
‫كات ًِبا فَرِ َ‬ ‫ج ُ‬ ‫م تَ ِ‬‫فرٍ وَل َ ْ‬‫س َ‬‫م عََلى َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫} ‪ } { 283‬وَإ ِ ْ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫شَهاد َةَ‬‫موا ال ّ‬ ‫ْ‬
‫ه َول ت َكت ُ ُ‬‫ه َرب ّ ُ‬
‫ق الل َ‬‫ه وَلي َت ّ ِ‬ ‫مان َت َ ُ‬
‫نأ َ‬ ‫م َ‬ ‫ضا فَل ْي ُؤَد ّ ال ِ‬
‫ذي اؤْت ُ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ضك ُ ْ‬
‫م ب َعْ ً‬ ‫ب َعْ ُ‬
‫م{‪.‬‬ ‫مُلو َ‬
‫ن عَِلي ٌ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ه َوالل ّ ُ‬
‫ه بِ َ‬ ‫م قَل ْب ُ ُ‬
‫ه آث ِ ٌ‬ ‫ن ي َك ْت ُ ْ‬
‫مَها فَإ ِن ّ ُ‬ ‫م ْ‬
‫وَ َ‬
‫أي‪ :‬إن كنتم مسافرين } ولم تجدوا كاتبا { يكتب بينكم ويحصل به التوثق‬
‫} فرهان مقبوضة { أي‪ :‬يقبضها صاحب الحق وتكون وثيقة عنده حتى‬
‫يأتيه حقه‪ ،‬ودل هذا على أن الرهن غير المقبوضة ل يحصل منها التوثق‪،‬‬
‫ودل أيضا على أن الراهن والمرتهن لو اختلفا في قدر ما رهنت به‪ ،‬كان‬
‫القول قول المرتهن‪ ،‬ووجه ذلك أن الله جعل الرهن عوضا عن الكتابة في‬
‫توثق صاحب الحق‪ ،‬فلول أن قول المرتهن مقبول في قدر الذي رهنت به‬
‫لم يحصل المعنى المقصود‪ ،‬ولما كان المقصود بالرهن التوثق جاز حضرا‬
‫وسفرا‪ ،‬وإنما نص الله على السفر‪ ،‬لنه في مظنة الحاجة ] ص ‪[ 120‬‬
‫إليه لعدم الكاتب فيه‪ ،‬هذا كله إذا كان صاحب الحق يحب أن يتوثق لحقه‪،‬‬
‫فما كان صاحب الحق آمنا من غريمه وأحب أن يعامله من دون رهن‬
‫فعلى من عليه الحق أن يؤدي إليه كامل غير ظالم له ول باخس حقه‬
‫} وليتق الله ربه { في أداء الحق ويجازي من أحسن به الظن بالحسان‬
‫} ول تكتموا الشهادة { لن الحق مبني عليها ل يثبت بدونها‪ ،‬فكتمها من‬
‫أعظم الذنوب‪ ،‬لنه يترك ما وجب عليه من الخبر الصدق ويخبر بضده وهو‬
‫الكذب‪ ،‬ويترتب على ذلك فوات حق من له الحق‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪:‬‬
‫} ومن يكتمها فإنه آثم قلبه والله بما تعملون عليم { وقد اشتملت هذه‬
‫الحكام الحسنة التي أرشد الله عباده إليها على حكم عظيمة ومصالح‬
‫عميمة دلت على أن الخلق لو اهتدوا بإرشاد الله لصلحت دنياهم مع صلح‬
‫دينهم‪ ،‬لشتمالها على العدل والمصلحة‪ ،‬وحفظ الحقوق وقطع‬
‫المشاجرات والمنازعات‪ ،‬وانتظام أمر المعاش‪ ،‬فلله الحمد كما ينبغي‬
‫لجلل وجهه وعظيم سلطانه ل نحصي ثناء عليه‪.‬‬

‫) ‪(1/119‬‬

‫فوهُ‬ ‫خ ُ‬‫م أ َوْ ت ُ ْ‬


‫سك ُ ْ‬ ‫ما ِفي أ َن ْ ُ‬
‫ف ِ‬ ‫دوا َ‬‫ن ت ُب ْ ُ‬
‫ض وَإ ِ ْ‬ ‫َْ‬
‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫ل ِل ّهِ َ‬
‫يٍء‬
‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫شاُء َوالل ّ ُ‬
‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬ ‫ب َ‬ ‫شاُء وَي ُعَذ ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬
‫فُر ل ِ َ‬ ‫م ب ِهِ الل ّ ُ‬
‫ه فَي َغْ ِ‬ ‫سب ْك ُ ْ‬‫حا ِ‬‫يُ َ‬
‫ديٌر )‪(284‬‬ ‫قَ ِ‬

‫ما ِفي‬‫دوا َ‬‫ن ت ُب ْ ُ‬


‫ض وَإ ِ ْ‬
‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ما ِفي ال ّ‬ ‫} ‪ } { 284‬ل ِل ّهِ َ‬
‫ن يَ َ‬
‫شاُء‬ ‫م ْ‬
‫ب َ‬‫شاُء وَي ُعَذ ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬ ‫ه فَي َغْ ِ‬
‫فُر ل ِ َ‬ ‫م ب ِهِ الل ّ ُ‬‫سب ْك ُ ْ‬‫حا ِ‬
‫فوهُ ي ُ َ‬‫خ ُ‬ ‫م أ َوْ ت ُ ْ‬
‫سك ُ ْ‬‫ف ِ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫ديٌر { ‪.‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫هذا إخبار من الله أنه له ما في السماوات وما في الرض‪ ،‬الجميع خلقهم‬
‫ورزقهم ودبرهم لمصالحهم الدينية والدنيوية‪ ،‬فكانوا ملكا له وعبيدا‪ ،‬ل‬
‫يملكون لنفسهم ضرا ول نفعا ول موتا ول حياة ول نشورا‪ ،‬وهو ربهم‬
‫ومالكهم الذي يتصرف فيهم بحكمته وعدله وإحسانه‪ ،‬وقد أمرهم ونهاهم‬
‫وسيحاسبهم على ما أسروه وأعلنوه‪ } ،‬فيغفر لمن يشاء { وهو لمن أتى‬
‫بأسباب المغفرة‪ ،‬ويعذب من يشاء بذنبه الذي لم يحصل له ما يكفره‬
‫} والله على كل شيء قدير { ل يعجزه شيء‪ ،‬بل كل الخلق طوع قهره‬
‫ومشيئته وتقديره وجزائه‪.‬‬

‫) ‪(1/120‬‬
‫مَلئ ِك َت ِهِ‬‫ن ِبالل ّهِ وَ َ‬
‫م َ‬
‫ن كُ ّ َ‬
‫لآ َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن َرب ّهِ َوال ْ ُ‬
‫مؤْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل إ ِل َي ْهِ ِ‬ ‫سو ُ‬
‫ل بِ َ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫م َ‬
‫َ‬
‫آ َ‬
‫فَران َ َ‬
‫ك َرب َّنا‬ ‫معَْنا وَأ َط َعَْنا غُ ْ‬ ‫سل ِهِ وََقاُلوا َ‬
‫س ِ‬ ‫ن ُر ُ‬ ‫م ْ‬ ‫حدٍ ِ‬
‫فرقُ بي َ‬
‫نأ َ‬‫َْ َ‬ ‫سل ِهِ َل ن ُ َ ّ‬
‫وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُ‬
‫صيُر )‪(285‬‬ ‫م ِ‬‫ك ال ْ َ‬
‫وَإ ِل َي ْ َ‬

‫ن ِبالل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م َ‬ ‫ن كُ ّ‬
‫لآ َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن َرب ّهِ َوال ْ ُ‬
‫مؤْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل إ ِل َي ْهِ ِ‬ ‫ل بِ َ‬ ‫سو ُ‬‫ن الّر ُ‬ ‫م َ‬ ‫} ‪ } { 285‬آ َ‬
‫َ‬
‫معَْنا وَأط َعَْنا‬ ‫َ‬
‫س ِ‬‫سل ِهِ وََقاُلوا َ‬‫ن ُر ُ‬ ‫م ْ‬‫حدٍ ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫فّرقُ ب َي ْ َ‬ ‫سل ِهِ ل ن ُ َ‬‫ملئ ِك َت ِهِ وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُ‬‫وَ َ‬
‫صيُر { ‪.‬‬ ‫م ِ‬‫ك ال ْ َ‬
‫ك َرب َّنا وَإ ِل َي ْ َ‬
‫فَران َ َ‬
‫غُ ْ‬
‫يخبر تعالى عن إيمان الرسول والمؤمنين معه‪ ،‬وانقيادهم وطاعتهم‬
‫وسؤالهم مع ذلك المغفرة‪ ،‬فأخبر أنهم آمنوا بالله وملئكته وكتبه ورسله‪،‬‬
‫وهذا يتضمن اليمان بجميع ما أخبر الله به عن نفسه‪ ،‬وأخبرت به عنه‬
‫رسله من صفات كماله ونعوت جلله على وجه الجمال والتفصيل‪،‬‬
‫وتنزيهه عن التمثيل والتعطيل وعن جميع صفات النقص‪ ،‬ويتضمن اليمان‬
‫بالملئكة الذين نصت عليهم الشرائع جملة وتفصيل وعلى اليمان بجميع‬
‫الرسل والكتب‪ ،‬أي‪ :‬بكل ما أخبرت به الرسل وتضمنته الكتب من الخبار‬
‫والوامر والنواهي‪ ،‬وأنهم ل يفرقون بين أحد من رسله‪ ،‬بل يؤمنون‬
‫بجميعهم‪ ،‬لنهم وسائط بين الله وبين عباده‪ ،‬فالكفر ببعضهم كفر بجميعهم‬
‫بل كفر بالله } وقالوا سمعنا { ما أمرتنا به ونهيتنا } وأطعنا { لك في‬
‫ذلك‪ ،‬ولم يكونوا ممن قالوا سمعنا وعصينا‪ ،‬ولما كان العبد ل بد أن يحصل‬
‫منه تقصير في حقوق الله تعالى وهو محتاج إلى مغفرته على الدوام‪،‬‬
‫قالوا } غفرانك { أي‪ :‬نسألك مغفرة لما صدر منا من التقصير والذنوب‪،‬‬
‫ومحو ما اتصفنا به من العيوب } وإليك المصير { أي‪ :‬المرجع لجميع‬
‫الخلئق فتجزيهم بما عملوا من خير وشر‪.‬‬

‫) ‪(1/120‬‬

‫ت َرب َّنا َل‬ ‫ما اك ْت َ َ‬


‫سب َ ْ‬ ‫ت وَعَل َي َْها َ‬ ‫سب َ ْ‬‫ما ك َ َ‬ ‫سعََها ل ََها َ‬ ‫سا إ ِّل وُ ْ‬ ‫ف ً‬ ‫ف الل ّ ُ‬
‫ه نَ ْ‬ ‫َل ي ُك َل ّ ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ه عََلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫مل ْت َ ُ‬
‫ح َ‬‫ما َ‬ ‫ل عَل َي َْنا إ ِ ْ‬
‫صًرا ك َ َ‬ ‫م ْ‬‫ح ِ‬‫خط َأَنا َرب َّنا وََل ت َ ْ‬ ‫سيَنا أوْ أ ْ‬ ‫ن نَ ِ‬ ‫خذ َْنا إ ِ ْ‬
‫ؤا ِ‬ ‫تُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ت‬
‫مَنا أن ْ َ‬
‫ح ْ‬ ‫فْر لَنا َواْر َ‬ ‫ف عَّنا َواغْ ِ‬ ‫ة لَنا ب ِهِ َواعْ ُ‬ ‫ما ل طاقَ َ‬ ‫ملَنا َ‬ ‫ن قَب ْل َِنا َرب َّنا وَل ت ُ َ‬
‫ح ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ن )‪(286‬‬ ‫ري َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫قوْم ِ الكافِ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫صْرَنا عَلى ال َ‬ ‫موْلَنا َفان ْ ُ‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫ما اك ْت َ َ‬
‫سب َ ْ‬ ‫ت وَعَل َي َْها َ‬‫سب َ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫سعََها ل ََها َ‬ ‫سا ِإل وُ ْ‬ ‫ف ً‬ ‫ه نَ ْ‬‫ف الل ّ ُ‬ ‫} ‪ } { 286‬ل ي ُك َل ّ ُ‬
‫ه عََلى‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مل ْت َ ُ‬
‫ح َ‬ ‫ما َ‬ ‫صًرا ك َ َ‬ ‫ل عَل َي َْنا إ ِ ْ‬‫م ْ‬‫ح ِ‬‫خط َأَنا َرب َّنا َول ت َ ْ‬ ‫سيَنا أوْ أ ْ‬ ‫ن نَ ِ‬ ‫خذ َْنا إ ِ ْ‬ ‫ؤا ِ‬ ‫َرب َّنا ل ت ُ َ‬
‫َ‬
‫فْر لَنا‬ ‫ْ‬
‫ف عَّنا َواغ ِ‬ ‫ة لَنا ب ِهِ َواعْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما ل طاق َ‬ ‫ْ‬
‫ملَنا َ‬ ‫ح ّ‬
‫ن قب ْل َِنا َرب َّنا َول ت ُ َ‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬‫ال ّ ِ‬
‫قوْم ِ ال ْ َ‬‫صْرَنا عََلى ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬‫كافِ ِ‬ ‫ولَنا َفان ْ ُ‬ ‫م ْ‬
‫ت َ‬ ‫مَنا أن ْ َ‬ ‫ح ْ‬‫َواْر َ‬
‫لما نزل قوله تعالى } وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله‬
‫{ شق ذلك على المسلمين لما توهموا أن ما يقع في القلب من المور‬
‫اللزمة والعارضة المستقرة وغيرها مؤاخذون به‪ ،‬فأخبرهم بهذه الية أنه ل‬
‫يكلف نفسا إل وسعها أي‪ :‬أمرا تسعه طاقتها‪ ،‬ول يكلفها ويشق عليها‪ ،‬كما‬
‫قال تعالى } ما جعل عليكم في الدين من حرج { فأصل الوامر والنواهي‬
‫ليست من المور التي تشق على النفوس‪ ،‬بل هي غذاء للرواح ودواء‬
‫للبدان‪ ،‬وحمية عن الضرر‪ ،‬فالله تعالى أمر العباد بما أمرهم به رحمة‬
‫وإحسانا‪ ،‬ومع هذا إذا حصل بعض العذار التي هي مظنة المشقة حصل‬
‫التخفيف والتسهيل‪ ،‬إما بإسقاطه عن المكلف‪ ،‬أو إسقاط بعضه كما في‬
‫التخفيف عن المريض والمسافر وغيرهم‪ ،‬ثم أخبر تعالى أن لكل نفس ما‬
‫كسبت من الخير‪ ،‬وعليها ما اكتسبت من الشر‪ ،‬فل تزر وازرة وزر أخرى‬
‫ول تذهب حسنات العبد لغيره‪ ،‬وفي التيان بـ "كسب "في الخير الدال‬
‫على أن عمل الخير يحصل للنسان بأدنى سعي منه بل بمجرد نية القلب‬
‫وأتى بـ "اكتسب "في عمل الشر للدللة على أن عمل الشر ل يكتب على‬
‫النسان حتى يعمله ويحصل سعيه‪ ،‬ولما أخبر تعالى عن إيمان الرسول‬
‫والمؤمنين معه وأن كل عامل سيجازى بعمله‪ ،‬وكان النسان عرضة‬
‫للتقصير والخطأ والنسيان‪ ،‬وأخبر أنه ل يكلفنا إل ما نطيق وتسعه قوتنا‪،‬‬
‫أخبر عن دعاء المؤمنين بذلك‪ ،‬وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم ] ص‬
‫‪ [ 121‬أن الله قال‪ :‬قد فعلت‪ .‬إجابة لهذا الدعاء‪ ،‬فقال } ربنا ل تؤاخذنا‬
‫إن نسينا أو أخطأنا { والفرق بينهما‪ :‬أن النسيان‪ :‬ذهول القلب عن ما أمر‬
‫به فيتركه نسيانا‪ ،‬والخطأ‪ :‬أن يقصد شيئا يجوز له قصده ثم يقع فعله على‬
‫ما ل يجوز له فعله‪ :‬فهذان قد عفا الله عن هذه المة ما يقع بهما رحمة‬
‫بهم وإحسانا‪ ،‬فعلى هذا من صلى في ثوب مغصوب‪ ،‬أو نجس‪ ،‬أو قد نسي‬
‫نجاسة على بدنه‪ ،‬أو تكلم في الصلة ناسيا‪ ،‬أو فعل مفطرا ناسيا‪ ،‬أو فعل‬
‫محظورا من محظورات الحرام التي ليس فيها إتلف ناسيا‪ ،‬فإنه معفو‬
‫عنه‪ ،‬وكذلك ل يحنث من فعل المحلوف عليه ناسيا‪ ،‬وكذلك لو أخطأ‬
‫فأتلف نفسا أو مال فليس عليه إثم‪ ،‬وإنما الضمان مرتب على مجرد‬
‫التلف‪ ،‬وكذلك المواضع التي تجب فيها التسمية إذا تركها النسان ناسيا‬
‫لم يضر‪ } .‬ربنا ول تحمل علينا إصرا { أي‪ :‬تكاليف مشقة } كما حملته‬
‫على الذين من قبلنا { وقد فعل تعالى فإن الله خفف عن هذه المة في‬
‫الوامر من الطهارات وأحوال العبادات ما لم يخففه على غيرها } ربنا ول‬
‫تحملنا ما ل طاقة لنا به { وقد فعل وله الحمد } واعف عنا واغفر لنا‬
‫وارحمنا { فالعفو والمغفرة يحصل بهما دفع المكاره والشرور‪ ،‬والرحمة‬
‫يحصل بها صلح المور } أنت مولنا { أي‪ :‬ربنا ومليكنا وإلهنا الذي لم تزل‬
‫وليتك إيانا منذ أوجدتنا وأنشأتنا فنعمك دارة علينا متصلة عدد الوقات‪ ،‬ثم‬
‫أنعمت علينا بالنعمة العظيمة والمنحة الجسيمة‪ ،‬وهي نعمة السلم التي‬
‫جميع النعم تبع لها‪ ،‬فنسألك يا ربنا ومولنا تمام نعمتك بأن تنصرنا على‬
‫القوم الكافرين‪ ،‬الذين كفروا بك وبرسلك‪ ،‬وقاوموا أهل دينك ونبذوا‬
‫أمرك‪ ،‬فانصرنا عليهم بالحجة والبيان والسيف والسنان‪ ،‬بأن تمكن لنا في‬
‫الرض وتخذلهم وترزقنا اليمان والعمال التي يحصل بها النصر‪ ،‬والحمد‬
‫لله رب العالمين‪ .‬تم تفسير سورة البقرة بعون الله وتوفيقه وصلى الله‬
‫على محمد وسلم‪.‬‬

‫) ‪(1/120‬‬

‫تفسير سورة آل عمران‬


‫وهي مدنية‬

‫) ‪(1/121‬‬
‫صد ًّقا‬
‫م َ‬ ‫حق ّ ُ‬ ‫ب ِبال ْ َ‬ ‫ك ال ْك َِتا َ‬ ‫ل عَل َي ْ َ‬ ‫م )‪ (2‬ن َّز َ‬ ‫قّيو ُ‬ ‫ي ال ْ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ ال ْ َ‬ ‫ه َل إ ِل َ َ‬ ‫الم )‪ (1‬الل ّ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫س وَأن َْز َ‬
‫ل‬ ‫دى ِللّنا ِ‬ ‫ل هُ ً‬ ‫ن قَب ْ ُ‬‫م ْ‬ ‫ل )‪ِ (3‬‬ ‫جي َ‬ ‫ل الت ّوَْراةَ َواْل ِن ْ ِ‬ ‫ن ي َد َي ْهِ وَأن َْز َ‬ ‫ما ب َي ْ َ‬ ‫لِ َ‬
‫زيٌز ُ‬ ‫ّ‬ ‫ب َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫فْرَقا َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫قام ٍ‬‫ذو ان ْت ِ َ‬ ‫ه عَ ِ‬‫ديد ٌ َوالل ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫ت اللهِ لهُ ْ‬
‫َْ‬
‫فُروا ب ِآَيا ِ‬ ‫نك َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫ن إِ ّ‬
‫ذي‬ ‫ماِء )‪ (5‬هُوَ ال ّ ِ‬ ‫س َ‬‫ض وََل ِفي ال ّ‬ ‫يٌء ِفي الْر ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫فى عَل َي ْهِ َ‬ ‫خ َ‬ ‫ه َل ي َ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫)‪ (4‬إ ِ ّ‬
‫م )‪(6‬‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف يَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬‫زيُز ال َ‬ ‫ه إ ِل هُوَ العَ ِ‬ ‫شاُء ل إ ِل َ‬ ‫حام ِ كي ْ َ‬ ‫م ِفي الْر َ‬ ‫صوُّرك ْ‬ ‫يُ َ‬
‫نزل صدرها إلى بضع وثمانين آية في مخاصمة النصارى وإبطال مذهبهم‬
‫ودعوتهم إلى الدخول في الدين الحق دين السلم كما نزل صدر البقرة‬
‫حيم ِ الم *‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ح َ‬ ‫سم ِ الل ّهِ الّر ْ‬ ‫في محاجة اليهود كما تقدم‪ } { 6 - 1 } .‬ب ِ ْ‬
‫ن‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬
‫ما ب َي ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫حق ّ ُ‬ ‫ْ‬
‫ب ِبال َ‬ ‫ك ال ْك َِتا َ‬ ‫ل عَل َي ْ َ‬ ‫م * ن َّز َ‬ ‫ي ال ْ َ‬
‫قّيو ُ‬ ‫ح ّ‬‫ه ِإل هُوَ ال ْ َ‬ ‫ه ل إ ِل َ َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ل ال ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ن إِ ّ‬‫فْرَقا َ‬ ‫س وَأن َْز َ‬ ‫دى ِللّنا ِ‬ ‫ل هُ ً‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ل* ِ‬ ‫جي َ‬ ‫ل الت ّوَْراةَ َوالن ْ ِ‬ ‫ي َد َي ْهِ وَأن َْز َ‬
‫هل‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫قام ٍ * إ ِ ّ‬ ‫ذو ان ْت ِ َ‬ ‫زيٌز ُ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ّ‬
‫ديد ٌ َوالل ُ‬ ‫ش ِ‬‫ب َ‬ ‫ذا ٌ‬‫م عَ َ‬ ‫َ‬
‫ت اللهِ لهُ ْ‬‫ّ‬ ‫فُروا ِبآَيا ِ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫م ِفي‬ ‫صوُّرك ُ ْ‬ ‫ذي ي ُ َ‬ ‫ماِء * هُوَ ال ّ ِ‬ ‫س َ‬ ‫ض َول ِفي ال ّ‬ ‫يٌء ِفي الْر ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫فى عَل َي ْهِ َ‬ ‫خ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫كي ُ‬
‫ح ِ‬ ‫ْ‬
‫زيُز ال َ‬ ‫ْ‬
‫ه ِإل هُوَ العَ ِ‬ ‫َ‬
‫شاُء ل إ ِل َ‬ ‫ف يَ َ‬ ‫َ‬
‫حام ِ كي ْ َ‬ ‫الْر َ‬
‫افتتحها تبارك وتعالى بالخبار بألوهيته‪ ،‬وأنه الله الذي ل إله إل هو الذي ل‬
‫ينبغي التأله والتعبد إل لوجهه‪ ،‬فكل معبود سواه فهو باطل‪ ،‬والله هو الله‬
‫الحق المتصف بصفات اللوهية التي مرجعها إلى الحياة والقيومية‪ ،‬فالحي‬
‫من له الحياة العظيمة الكاملة المستلزمة لجميع الصفات التي ل تتم ول‬
‫تكمل الحياة إل بها كالسمع والبصر والقدرة والقوة والعظمة والبقاء‬
‫والدوام والعز الذي ل يرام } القيوم { الذي قام بنفسه فاستغنى عن‬
‫جميع مخلوقاته‪ ،‬وقام بغيره فافتقرت إليه جميع مخلوقاته في اليجاد‬
‫والعداد والمداد‪ ،‬فهو الذي قام بتدبير الخلئق وتصريفهم‪ ،‬تدبير للجسام‬
‫وللقلوب والرواح‪.‬‬
‫ومن قيامه تعالى بعباده ورحمته بهم أن نزل على رسوله محمد صلى الله‬
‫عليه وسلم الكتاب‪ ،‬الذي هو أجل الكتب وأعظمها المشتمل على الحق‬
‫في إخباره وأوامره ونواهيه‪ ،‬فما أخبر به صدق‪ ،‬وما حكم به فهو العدل‪،‬‬
‫وأنزله بالحق ليقوم الخلق بعبادة ربهم ويتعلموا كتابه } مصدقا لما بين‬
‫يديه { من الكتب السابقة‪ ،‬فهو المزكي لها‪ ،‬فما شهد له فهو المقبول‪،‬‬
‫وما رده فهو المردود‪ ،‬وهو المطابق لها في جميع المطالب التي اتفق‬
‫عليها المرسلون‪ ،‬وهي شاهدة له بالصدق‪ ،‬فأهل الكتاب ل يمكنهم‬
‫التصديق بكتبهم إن لم يؤمنوا به‪ ،‬فإن كفرهم به ينقض إيمانهم بكتبهم‪ ،‬ثم‬
‫قال تعالى } وأنزل التوراة { أي‪ :‬على موسى } والنجيل { على عيسى‪.‬‬
‫} من قبل { إنزال القرآن } هدى للناس { الظاهر أن هذا راجع لكل ما‬
‫تقدم‪ ،‬أي‪ :‬أنزل الله القرآن والتوراة والنجيل هدى للناس من الضلل‪،‬‬
‫فمن قبل هدى الله فهو المهتدي‪ ،‬ومن لم يقبل ذلك بقي على ضلله‬
‫} وأنزل الفرقان { أي‪ :‬الحجج والبينات والبراهين القاطعات الدالة على‬
‫جميع المقاصد والمطالب‪ ،‬وكذلك فصل وفسر ما يحتاج إليه الخلق حتى‬
‫بقيت الحكام جلية ظاهرة‪ ،‬فلم يبق لحد عذر ول حجة لمن لم يؤمن به‬
‫وبآياته‪ ،‬فلهذا قال } إن الذين كفروا بآيات الله { أي‪ :‬بعد ما بينها ووضحها‬
‫وأزاح العلل } لهم عذاب شديد { ل يقدر قدره ول يدرك وصفه } والله‬
‫عزيز { أي‪ :‬قوي ل يعجزه شيء } ذو انتقام { ممن عصاه‪.‬‬
‫} إن الله ل يخفى عليه شيء في الرض ول في السماء { وهذا فيه تقرير‬
‫إحاطة علمه بالمعلومات كلها‪ ،‬جليها وخفيها‪ ،‬ظاهرها وباطنها‪ ،‬ومن جملة‬
‫ذلك الجنة في البطون التي ل يدركها بصر المخلوقين‪ ،‬ول ينالها علمهم‪،‬‬
‫وهو تعالى يدبرها بألطف تدبير‪ ،‬ويقدرها بكل تقدير‪ ،‬فلهذا قال ] ص‬
‫‪ } [ 122‬هو الذي يصوركم في الرحام كيف يشاء { ‪.‬‬
‫} هو الذي يصوركم في الرحام كيف يشاء { من كامل الخلق وناقصه‪،‬‬
‫وحسن وقبيح‪ ،‬وذكر وأنثى } ل إله إل هو العزيز الحكيم { تضمنت هذه‬
‫اليات تقرير إلهية الله وتعينها‪ ،‬وإبطال إلهية ما سواه‪ ،‬وفي ضمن ذلك رد‬
‫على النصارى الذين يزعمون إلهية عيسى ابن مريم عليه السلم‪،‬‬
‫وتضمنت إثبات حياته الكاملة وقيوميته التامة‪ ،‬المتضمنتين جميع الصفات‬
‫المقدسة كما تقدم‪ ،‬وإثبات الشرائع الكبار‪ ،‬وأنها رحمة وهداية للناس‪،‬‬
‫وتقسيم الناس إلى مهتد وغيره‪ ،‬وعقوبة من لم يهتد بها‪ ،‬وتقرير سعة علم‬
‫الباري ونفوذ مشيئته وحكمته‪.‬‬

‫) ‪(1/121‬‬

‫خُر‬ ‫ب وَأ ُ َ‬ ‫م ال ْك َِتا ِ‬


‫ك ال ْكتاب منه آ َيات محك َمات هُ ُ‬
‫نأ ّ‬ ‫ّ‬ ‫َِ َ ِ ْ ُ َ ٌ ُ ْ َ ٌ‬ ‫ل عَل َي ْ َ‬ ‫ذي أ َن َْز َ‬ ‫هُوَ ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ة‬
‫فت ْن َ ِ‬‫ه اب ْت َِغاَء ال ْ ِ‬ ‫من ْ ُ‬‫ه ِ‬ ‫شاب َ َ‬ ‫ما ت َ َ‬
‫ن َ‬ ‫م َزي ْغٌ فَي َت ّب ُِعو َ‬ ‫ن ِفي قُُلوب ِهِ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما ال ّ ِ‬ ‫ت فَأ ّ‬ ‫شاب َِها ٌ‬‫مت َ َ‬
‫ُ‬
‫ه‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫مّنا ب ِ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫قولو َ‬ ‫ن ِفي العِلم ِ ي َ ُ‬ ‫خو َ‬ ‫س ُ‬‫ه َوالّرا ِ‬ ‫ه إ ِل الل ُ‬ ‫م ت َأِويل ُ‬ ‫ما ي َعْل ُ‬ ‫َواب ْت َِغاَء ت َأِويل ِهِ وَ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ب )‪َ (7‬رب َّنا ل ت ُزِغْ قُلوب ََنا ب َعْد َ إ ِذ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫كُ ّ‬
‫ما ي َذ ّكُر إ ِل أولو اللَبا ِ‬ ‫عن ْدِ َرب َّنا وَ َ‬ ‫ن ِ‬‫م ْ‬ ‫ل ِ‬
‫ت ال ْوَ ّ‬ ‫َ‬ ‫ن ل َد ُن ْ َ‬
‫س‬‫معُ الّنا ِ‬ ‫جا ِ‬ ‫ك َ‬ ‫ب )‪َ (8‬رب َّنا إ ِن ّ َ‬ ‫ها ُ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫ة إ ِن ّ َ‬ ‫م ً‬‫ح َ‬ ‫ك َر ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ل ََنا ِ‬ ‫هَد َي ْت ََنا وَهَ ْ‬
‫ميَعاد َ )‪(9‬‬ ‫ْ‬
‫ف ال ِ‬ ‫خل ِ ُ‬ ‫ه ل يُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ب ِفيهِ إ ِ ّ‬ ‫ل ِي َوْم ٍ َل َري ْ َ‬
‫ك ال ْكتاب منه آيات محك َمات هُ ُ‬ ‫ل عَل َي ْ َ‬ ‫ذي أ َن َْز َ‬
‫م‬‫نأ ّ‬ ‫ّ‬ ‫َِ َ ِ ْ ُ َ ٌ ُ ْ َ ٌ‬ ‫} ‪ } { 9 - 7‬هُوَ ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫من ْ ُ‬ ‫ه ِ‬ ‫شاب َ َ‬ ‫ما ت َ َ‬
‫ن َ‬ ‫م َزي ْغٌ فَي َت ّب ُِعو َ‬ ‫ن ِفي قُُلوب ِهِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ما ال ّ ِ‬
‫ذي‬ ‫ت فَأ ّ‬ ‫شاب َِها ٌ‬ ‫مت َ َ‬
‫خُر ُ‬ ‫ب وَأ ُ َ‬ ‫ال ْك َِتا ِ‬
‫ْ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ِفي العِلم ِ‬ ‫خو َ‬ ‫س ُ‬ ‫ه َوالّرا ِ‬ ‫ه ِإل الل ّ ُ‬ ‫م ت َأِويل َ ُ‬ ‫ما ي َعْل َ ُ‬ ‫فت ْن َةِ َواب ْت َِغاَء ت َأِويل ِهِ وَ َ‬ ‫اب ْت َِغاَء ال ْ ِ‬
‫ُ‬
‫ب * َرب َّنا ل ت ُزِغْ‬ ‫ما ي َذ ّك ُّر ِإل أوُلو الل َْبا ِ‬ ‫عن ْدِ َرب َّنا وَ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫مّنا ب ِهِ ك ُ ّ‬‫نآ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫يَ ُ‬
‫ب * َرب َّنا إ ِن ّكَ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ها ُ‬ ‫ت الوَ ّ‬ ‫ة إ ِن ّك أن ْ َ‬ ‫م ً‬
‫ح َ‬‫ن لد ُن ْك َر ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ب لَنا ِ‬ ‫قُلوب ََنا ب َعْد َ إ ِذ ْ هَد َي ْت ََنا وَهَ ْ‬
‫ميَعاد َ { ‪.‬‬ ‫ْ‬
‫ف ال ِ‬ ‫خل ِ ُ‬
‫ه ل يُ ْ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ب ِفيهِ إ ِ ّ‬ ‫س ل ِي َوْم ٍ ل َري ْ َ‬ ‫معُ الّنا ِ‬ ‫جا ِ‬ ‫َ‬
‫القرآن العظيم كله محكم كما قال تعالى } كتاب أحكمت آياته ثم فصلت‬
‫من لدن حكيم خبير { فهو مشتمل على غاية التقان والحكام والعدل‬
‫والحسان } ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون { وكله متشابه في‬
‫الحسن والبلغة وتصديق بعضه لبعضه ومطابقته لفظا ومعنى‪ ،‬وأما‬
‫الحكام والتشابه المذكور في هذه الية فإن القرآن كما ذكره الله } منه‬
‫آيات محكمات { أي‪ :‬واضحات الدللة‪ ،‬ليس فيها شبهة ول إشكال } هن‬
‫أم الكتاب { أي‪ :‬أصله الذي يرجع إليه كل متشابه‪ ،‬وهي معظمه وأكثره‪،‬‬
‫} و { منه آيات } أخر متشابهات { أي‪ :‬يلتبس معناها على كثير من‬
‫الذهان‪ :‬لكون دللتها مجملة‪ ،‬أو يتبادر إلى بعض الفهام غير المراد منها‪،‬‬
‫فالحاصل أن منها آيات بينة واضحة لكل أحد‪ ،‬وهي الكثر التي يرجع إليها‪،‬‬
‫ومنه آيات تشكل على بعض الناس‪ ،‬فالواجب في هذا أن يرد المتشابه‬
‫إلى المحكم والخفي إلى الجلي‪ ،‬فبهذه الطريق يصدق بعضه بعضا ول‬
‫يحصل فيه مناقضة ول معارضة‪ ،‬ولكن الناس انقسموا إلى فرقتين } فأما‬
‫الذين في قلوبهم زيغ { أي‪ :‬ميل عن الستقامة بأن فسدت مقاصدهم‪،‬‬
‫وصار قصدهم الغي والضلل وانحرفت قلوبهم عن طريق الهدى والرشاد‬
‫} فيتبعون ما تشابه منه { أي‪ :‬يتركون المحكم الواضح ويذهبون إلى‬
‫المتشابه‪ ،‬ويعكسون المر فيحملون المحكم على المتشابه } ابتغاء الفتنة‬
‫{ لمن يدعونهم لقولهم‪ ،‬فإن المتشابه تحصل به الفتنة بسبب الشتباه‬
‫الواقع فيه‪ ،‬وإل فالمحكم الصريح ليس محل للفتنة‪ ،‬لوضوح الحق فيه لمن‬
‫قصده اتباعه‪ ،‬وقوله } وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إل الله { للمفسرين‬
‫في الوقوف على } الله { من قوله } وما يعلم تأويله إل الله { قولن‪،‬‬
‫جمهورهم يقفون عندها‪ ،‬وبعضهم يعطف عليها } والراسخون في العلم {‬
‫وذلك كله محتمل‪ ،‬فإن التأويل إن أريد به علم حقيقة الشيء وكنهه كان‬
‫الصواب الوقوف على } إل الله { لن المتشابه الذي استأثر الله بعلم‬
‫كنهه وحقيقته‪ ،‬نحو حقائق صفات الله وكيفيتها‪ ،‬وحقائق أوصاف ما يكون‬
‫في اليوم الخر ونحو ذلك‪ ،‬فهذه ل يعلمها إل الله‪ ،‬ول يجوز التعرض‬
‫للوقوف عليها‪ ،‬لنه تعرض لما ل يمكن معرفته‪ ،‬كما سئل المام مالك‬
‫رحمه الله عن قوله } الرحمن على العرش ]استوى [ { )‪ (1‬فقال‬
‫السائل‪ :‬كيف استوى؟ فقال مالك‪ :‬الستواء معلوم‪ ،‬والكيف مجهول‪،‬‬
‫واليمان به واجب‪ ،‬والسؤال عنه بدعة‪ ،‬فهكذا يقال في سائر الصفات لمن‬
‫سأل عن كيفيتها أن يقال كما قال المام مالك‪ ،‬تلك الصفة معلومة‪،‬‬
‫وكيفيتها مجهولة‪ ،‬واليمان بها واجب‪ ،‬والسؤال عنها بدعة‪ ،‬وقد أخبرنا الله‬
‫بها ولم يخبرنا بكيفيتها‪ ،‬فيجب علينا الوقوف على ما حد لنا‪ ،‬فأهل الزيغ‬
‫يتبعون هذه المور المشتبهات تعرضا لما ل يعني‪ ،‬وتكلفا لما ل سبيل لهم‬
‫إلى علمه‪ ،‬لنه ل يعلمها إل الله‪ ،‬وأما الراسخون في العلم فيؤمنون بها‬
‫ويكلون المعنى إلى الله فيسلمون ويسلمون‪ ،‬وإن أريد بالتأويل التفسير‬
‫والكشف واليضاح‪ ،‬كان الصواب عطف } الراسخون { على } الله {‬
‫فيكون الله قد أخبر أن تفسير المتشابه ورده إلى المحكم وإزالة ما فيه‬
‫من الشبهة ل يعلمها إل هو تعالى والراسخون في العلم يعلمون أيضا‪،‬‬
‫فيؤمنون بها ويردونها للمحكم ويقولون } كل { من المحكم والمتشابه‬
‫} من عند ربنا { وما كان من عنده فليس فيه تعارض ول تناقض بل هو‬
‫متفق يصدق بعضه بعضا ويشهد بعضه لبعض )‪ (2‬وفيه تنبيه على الصل‬
‫الكبير‪ ،‬وهو أنهم إذا علموا أن جميعه من عند الله‪ ،‬وأشكل عليهم مجمل‬
‫المتشابه‪ ،‬علموا يقينا أنه مردود إلى المحكم‪ ،‬وإن لم يفهموا وجه ذلك‪.‬‬
‫ولما رغب تعالى في التسليم واليمان بأحكامه وزجر عن اتباع المتشابه‬
‫قال } وما يذكر { أي‪ :‬يتعظ بمواعظ الله ويقبل نصحه وتعليمه إل } أولوا‬
‫اللباب { أي‪ :‬أهل العقول الرزينة لب العالم وخلصة بني آدم يصل‬
‫التذكير إلى عقولهم‪ ،‬فيتذكرون ما ينفعهم فيفعلونه‪ ،‬وما يضرهم فيتركونه‪،‬‬
‫وأما من عداهم فهم القشور الذي ل حاصل له ول نتيجة تحته‪ ،‬ل ينفعهم‬
‫الزجر والتذكير لخلوهم من العقول النافعة‪.‬‬
‫] ص ‪[ 123‬‬
‫ثم أخبر تعالى عن الراسخين في العلم أنهم يدعون ويقولون } ربنا ل تزغ‬
‫قلوبنا بعد إذ هديتنا { أي‪ :‬ل تملها عن الحق جهل وعنادا منا‪ ،‬بل اجعلنا‬
‫مستقيمين هادين مهتدين‪ ،‬فثبتنا على هدايتك وعافنا مما )‪ (3‬ابتليت به‬
‫الزائغين } وهب لنا من لدنك رحمة { أي‪ :‬عظيمة توفقنا بها للخيرات‬
‫وتعصمنا بها من المنكرات } إنك أنت الوهاب { أي‪ :‬واسع العطايا‬
‫والهبات‪ ،‬كثير الحسان الذي عم جودك جميع البريات‪.‬‬
‫} ربنا إنك جامع الناس ليوم ل ريب فيه إنك ل تخلف الميعاد { فمجازيهم‬
‫بأعمالهم حسنها وسيئها‪ ،‬وقد أثنى الله تعالى على الراسخين في العلم‬
‫بسبع صفات هي عنوان سعادة العبد‪ :‬إحداها‪ :‬العلم الذي هو الطريق‬
‫الموصل إلى الله‪ ،‬المبين لحكامه وشرائعه‪ ،‬الثانية‪ :‬الرسوخ في العلم‬
‫وهذا قدر زائد على مجرد العلم‪ ،‬فإن الراسخ في العلم يقتضي أن يكون‬
‫عالما محققا‪ ،‬وعارفا مدققا‪ ،‬قد علمه الله ظاهر العلم وباطنه‪ ،‬فرسخ‬
‫قدمه في أسرار الشريعة علما وحال وعمل الثالثة‪ :‬أنه وصفهم باليمان‬
‫بجميع كتابه ورد لمتشابهه إلى محكمه‪ ،‬بقوله } يقولون آمنا به كل من‬
‫عند ربنا { الرابعة‪ :‬أنهم سألوا الله العفو والعافية مما ابتلي به الزائغون‬
‫المنحرفون‪ ،‬الخامسة‪ :‬اعترافهم بمنة الله عليهم بالهداية وذلك قوله‬
‫} ربنا ل تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا { السادسة‪ :‬أنهم مع هذا سألوه رحمته‬
‫المتضمنة حصول كل خير واندفاع كل شر‪ ،‬وتوسلوا إليه باسمه الوهاب‪،‬‬
‫السابعة‪ :‬أنه أخبر عن إيمانهم وإيقانهم بيوم القيامة وخوفهم منه‪ ،‬وهذا هو‬
‫الموجب للعمل الرادع عن الزلل‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬سقطت كلمة استوى من الصل وأضفتها؛ لنها موضع الشاهد‪.‬‬
‫)‪ (2‬في هامش الصل زيادة نصها‪) :‬وفيه تنبيه على الصل الكبير وهو أنهم‬
‫إذا علموا أن جميعه من عند الله‪ ،‬وأشكل عليهم مجمل المتشابه علموا‬
‫يقينا أنه مردود إلى المحكم وإن لم يفهموا وجه ذلك(‪ .‬ولم يتبين لي محلها‬
‫إل أن القرب أنها هنا‪.‬‬
‫)‪ (3‬في الصل‪ :‬ممن‪ ،‬ولعل الصواب ما أثبت‪.‬‬

‫) ‪(1/122‬‬

‫شي ًْئا وَُأول َئ ِ َ‬


‫ك‬ ‫ن الل ّهِ َ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬
‫َ‬
‫م وََل أوَْلد ُهُ ْ‬ ‫وال ُهُ ْ‬ ‫م َ‬
‫فروا ل َن تغْن ِي عَنه َ‬
‫مأ ْ‬ ‫ْ ُ َ ُْ ْ‬ ‫ن كَ َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫إِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م ك َذ ُّبوا ب ِآَيات َِنا‬ ‫ن قَب ْل ِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن َوال ّ ِ‬ ‫ل فِْرعَوْ َ‬ ‫بآ ِ‬ ‫م وَُقود ُ الّنارِ )‪ (10‬ك َد َأ ِ‬ ‫هُ ْ‬
‫ن‬‫ست ُغْل َُبو َ‬ ‫فُروا َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ل ِل ّ ِ‬ ‫ب )‪ (11‬قُ ْ‬ ‫قا ِ‬ ‫ديد ُ ال ْعِ َ‬ ‫ش ِ‬ ‫ه َ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬ ‫ه ب ِذ ُُنوب ِهِ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫خذ َهُ ُ‬ ‫فَأ َ َ‬
‫قَتا‬ ‫ن ال ْت َ َ‬ ‫ة ْ ِفي فِئ َت َي ْ ِ‬ ‫م آ َي َ ٌ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫مَهاد ُ )‪ (12‬قَد ْ َ‬ ‫س ال ْ ِ‬ ‫م وَب ِئ ْ َ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫ن إ َِلى َ‬ ‫شُرو َ‬ ‫ح َ‬ ‫وَت ُ ْ‬
‫هّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫فِئ َ ٌ‬
‫ن َوالل ُ‬ ‫م َرأيَ العَي ْ ِ‬ ‫مث ْلي ْهِ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫خَرى كافَِرةٌ ي ََروْن َهُ ْ‬ ‫ل اللهِ وَأ ْ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ل ِفي َ‬ ‫قات ِ ُ‬ ‫ة تُ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫صارِ )‪(13‬‬ ‫ك ل َعِب َْرةً ِلوِلي اْلب ْ َ‬ ‫ن ِفي ذ َل ِ َ‬ ‫شاُء إ ِ ّ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫صرِهِ َ‬ ‫ي ُؤَي ّد ُ ب ِن َ ْ‬
‫َ‬ ‫فروا ل َن تغْن ِي عَنه َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫م َول أْولد ُهُ ْ‬ ‫وال ُهُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ْ ُ َ ُْ ْ‬ ‫ن كَ َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫} ‪ } { 13 - 10‬إ ِ ّ‬
‫ْ‬ ‫شي ًْئا وَُأول َئ ِ َ‬
‫م ك َذ ُّبوا‬ ‫ن قَب ْل ِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن َوال ّ ِ‬ ‫ل فِْرعَوْ َ‬ ‫بآ ِ‬ ‫م وَُقود ُ الّنارِ * ك َد َأ ِ‬ ‫ك هُ ْ‬ ‫الل ّهِ َ‬
‫َ‬
‫فُروا‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ل ِل ّ ِ‬ ‫ب * قُ ْ‬ ‫قا ِ‬ ‫ديد ُ ال ْعِ َ‬ ‫ه َ‬
‫ش ِ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬ ‫ه ب ِذ ُُنوب ِهِ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫خذ َهُ ُ‬ ‫ِبآَيات َِنا فَأ َ‬
‫ن‬ ‫ة ْ ِفي فِئ َت َي ْ ِ‬ ‫م آي َ ٌ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫مَهاد ُ * قَد ْ َ‬ ‫س ال ْ ِ‬ ‫م وَب ِئ ْ َ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫ن إ َِلى َ‬ ‫شُرو َ‬ ‫ح َ‬ ‫ن وَت ُ ْ‬ ‫ست ُغْل َُبو َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ال ْت َ َ‬
‫م َرأيَ العَي ْ ِ‬ ‫مثلي ْهِ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫خَرى كافَِرةٌ ي ََروْن َهُ ْ‬ ‫ل اللهِ وَأ ْ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫قات ِل ِفي َ‬ ‫ة تُ َ‬ ‫قَتا فِئ ٌ‬
‫صارِ { ‪.‬‬ ‫ك ل َعِب َْرةً لوِلي الب ْ َ‬ ‫ن ِفي ذ َل ِ َ‬ ‫شاُء إ ِ ّ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫صرِهِ َ‬ ‫ه ي ُؤَي ّد ُ ب ِن َ ْ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫يخبر تعالى أن الكفار به وبرسله‪ ،‬الجاحدين بدينه وكتابه‪ ،‬قد استحقوا‬
‫العقاب وشدة العذاب بكفرهم وذنوبهم وأنه ل يغني عنهم مالهم ول‬
‫أولدهم شيئا‪ ،‬وإن كانوا في الدنيا يستدفعون بذلك النكبات التي ترد‬
‫عليهم‪ ،‬ويقولون } نحن أكثر أموال وأولدا وما نحن بمعذبين { فيوم‬
‫القيامة يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون } وبدا لهم سيئات ما‬
‫كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزؤن { وليس للولد والموال قدر عند‬
‫الله‪ ،‬إنما ينفع العبد إيمانه بالله وأعماله الصالحة‪ ،‬كما قال تعالى } وما‬
‫أموالكم ول أولدكم بالتي تقربكم عندنا زلفى إل من آمن وعمل صالحا‬
‫فأولئك لهم جزاء الضعف بما عملوا وهم في الغرفات آمنون { وأخبر هنا‬
‫أن الكفار هم وقود النار‪ ،‬أي‪ :‬حطبها‪ ،‬الملزمون لها دائما أبدا‪ ،‬وهذه الحال‬
‫التي ذكر الله تعالى أنها ل تغني الموال والولد عن الكفار شيئا‪ ،‬سنته‬
‫الجارية في المم السابقة‪.‬‬
‫كما جرى لفرعون ومن قبله ومن بعدهم من الفراعنة العتاة الطغاة أرباب‬
‫الموال والجنود لما كذبوا بآيات الله وجحدوا ما جاءت به الرسل وعاندوا‪،‬‬
‫أخذهم الله بذنوبهم عدل منه ل ظلما والله شديد العقاب على من أتى‬
‫بأسباب العقاب وهو الكفر والذنوب على اختلف أنواعها وتعدد مراتبها‬
‫ثم قال تعالى } قل { يا محمد } للذين كفروا ستغلبون وتحشرون إلى‬
‫جهنم وبئس المهاد { وفي هذا إشارة للمؤمنين بالنصر والغلبة وتحذير‬
‫للكفار‪ ،‬وقد وقع كما أخبر تعالى‪ ،‬فنصر الله المؤمنين على أعدائهم من‬
‫كفار المشركين واليهود والنصارى‪ ،‬وسيفعل هذا تعالى بعباده وجنده‬
‫المؤمنين إلى يوم القيامة‪ ،‬ففي هذا عبرة وآية من آيات القرآن المشاهدة‬
‫بالحس والعيان‪ ،‬وأخبر تعالى أن الكفار مع أنهم مغلوبون في الدار أنهم‬
‫محشورون ومجموعون يوم القيامة لدار البوار‪ ،‬وهذا هو الذي مهدوه‬
‫لنفسهم فبئس المهاد مهادهم‪ ،‬وبئس الجزاء جزاؤهم‪.‬‬

‫) ‪(1/123‬‬

‫ن‬
‫م َ‬ ‫قن ْط ََرةِ ِ‬ ‫م َ‬‫طيرِ ال ْ ُ‬ ‫قَنا ِ‬ ‫ن َوال ْ َ‬ ‫ساِء َوال ْب َِني َ‬ ‫ن الن ّ َ‬‫م َ‬‫ت ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫شه َ َ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ن ِللّنا ِ‬ ‫ُزي ّ َ‬
‫مَتاعُ ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫مةِ َواْلن َْعام ِ َوال ْ َ‬
‫حَياةِ الد ّن َْيا‬ ‫ك َ‬ ‫ث ذ َل ِ َ‬ ‫حْر ِ‬ ‫سوّ َ‬‫م َ‬‫ل ال ْ ُ‬ ‫خي ْ ِ‬‫ضةِ َوال ْ َ‬ ‫ف ّ‬ ‫ب َوال ْ ِ‬ ‫الذ ّهَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫عن ْد َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ق ْ‬‫ن ات ّ َ‬‫ذي َ‬ ‫م ل ِل ّ ِ‬ ‫ن ذ َل ِك ُ ْ‬‫م ْ‬ ‫خي ْرٍ ِ‬‫م بِ َ‬ ‫ل أؤُن َب ّئ ُك ُ ْ‬ ‫ب )‪ (14‬قُ ْ‬ ‫مآ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ح ْ‬ ‫عن ْد َهُ ُ‬ ‫ه ِ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫وا ٌ‬ ‫ض َ‬ ‫مط َهَّرةٌ وَرِ ْ‬ ‫ج ُ‬ ‫ن ِفيَها وَأْزَوا ٌ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫حت َِها اْلن َْهاُر َ‬‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٌ‬ ‫م َ‬ ‫َرب ّهِ ْ‬
‫صيٌر ِبال ْعَِبادِ )‪(15‬‬ ‫ه بَ ِ‬ ‫ن الل ّهِ َوالل ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬

‫} قد كان لكم آية { أي‪ :‬عبرة عظيمة } في فئتين التقتا { وهذا يوم بدر‬
‫} فئة تقاتل في سبيل الله { وهم الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه‬
‫} وأخرى كافرة { أي‪ :‬كفار قريش الذين خرجوا من ديارهم بطرا وفخرا‬
‫ورئاء الناس‪ ،‬ويصدون عن سبيل الله‪ ،‬فجمع الله بين الطائفتين في بدر‪،‬‬
‫وكان المشركون أضعاف المؤمنين‪ ،‬فلهذا قال } يرونهم مثليهم رأي العين‬
‫{ أي‪ :‬يرى المؤمنون الكافرين يزيدون عليها زيادة كثيرة‪ ،‬تبلغ المضاعفة‬
‫وتزيد عليها‪ ،‬وأكد هذا بقوله } رأي العين { فنصر الله المؤمنين وأيدهم‬
‫بنصره فهزموهم‪ ،‬وقتلوا صناديدهم‪ ،‬وأسروا كثيرا منهم‪ ،‬وما ذاك إل لن‬
‫الله ناصر من نصره‪ ،‬وخاذل من كفر به‪ ،‬ففي هذا عبرة لولي البصار‪،‬‬
‫أي‪ :‬أصحاب البصائر النافذة والعقول الكاملة‪ ،‬على أن الطائفة المنصورة‬
‫معها الحق‪ ،‬والخرى مبطلة‪ ،‬وإل فلو نظر الناظر إلى مجرد السباب‬
‫الظاهرة والعدد والُعدد لجزم بأن غلبة هذه الفئة القليلة لتلك الفئة الكثيرة‬
‫من أنواع المحالت‪ ،‬ولكن وراء هذا السبب المشاهد بالبصار سبب أعظم‬
‫منه ل يدركه إل أهل البصائر واليمان بالله والتوكل على الله والثقة‬
‫بكفايته‪ ،‬وهو نصره وإعزازه لعباده المؤمنين على أعدائه الكافرين‪.‬‬
‫] ص ‪[ 124‬‬
‫ر‬
‫طي ِ‬‫قَنا ِ‬ ‫ْ‬
‫ن َوال َ‬ ‫ْ‬
‫ساِء َوالب َِني َ‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫وا ِ‬ ‫شه َ َ‬‫ب ال ّ‬ ‫ح ّ‬‫س ُ‬ ‫ن ِللّنا ِ‬ ‫} ‪ُ } { 17 - 14‬زي ّ َ‬
‫مَتاعُ‬ ‫ك َ‬ ‫ث ذ َل ِ َ‬ ‫حْر ِ‬ ‫ْ‬
‫مةِ َوالن َْعام ِ َوال َ‬ ‫سوّ َ‬‫م َ‬ ‫ْ‬
‫ل ال ُ‬ ‫خي ْ ِ‬ ‫ْ‬
‫ضةِ َوال َ‬ ‫ف ّ‬ ‫ْ‬
‫ب َوال ِ‬ ‫ن الذ ّهَ ِ‬ ‫م َ‬‫قن ْط ََرةِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫عنده حسن ال ْمآب * قُ ْ َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫م ل ِل ّ ِ‬‫ن ذ َل ِك ُ ْ‬‫م ْ‬ ‫خي ْرٍ ِ‬
‫م بِ َ‬‫ل أؤُن َب ّئ ُك ُ ْ‬ ‫َ ِ‬ ‫ه ِ ْ َ ُ ُ ْ ُ‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا َوالل ّ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫مط َهَّرةٌ‬ ‫َ‬
‫ج ُ‬ ‫ن ِفيَها وَأْزَوا ٌ‬ ‫دي َ‬‫خال ِ ِ‬ ‫حت َِها الن َْهاُر َ‬ ‫ن تَ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٌ‬ ‫م َ‬ ‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬
‫وا ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ات ّ َ‬
‫صيٌر ِبال ْعَِبادِ { ‪.‬‬ ‫ه بَ ِ‬ ‫ن الل ّهِ َوالل ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫وا ٌ‬‫ض َ‬
‫وَرِ ْ‬
‫يخبر تعالى أنه زين للناس حب الشهوات الدنيوية‪ ،‬وخص هذه المور‬
‫المذكورة لنها أعظم شهوات الدنيا وغيرها تبع لها‪ ،‬قال تعالى } إنا جعلنا‬
‫ما على الرض زينة لها { فلما زينت لهم هذه المذكورات بما فيها من‬
‫الدواعي المثيرات‪ ،‬تعلقت بها نفوسهم ومالت إليها قلوبهم‪ ،‬وانقسموا‬
‫بحسب الواقع إلى قسمين‪ :‬قسم‪ :‬جعلوها هي المقصود‪ ،‬فصارت أفكارهم‬
‫وخواطرهم وأعمالهم الظاهرة والباطنة لها‪ ،‬فشغلتهم عما خلقوا لجله‪،‬‬
‫وصحبوها صحبة البهائم السائمة‪ ،‬يتمتعون بلذاتها ويتناولون شهواتها‪ ،‬ول‬
‫يبالون على أي‪ :‬وجه حصلوها‪ ،‬ول فيما أنفقوها وصرفوها‪ ،‬فهؤلء كانت‬
‫زادا لهم إلى دار الشقاء والعناء والعذاب‪ ،‬والقسم الثاني‪ :‬عرفوا المقصود‬
‫منها وأن الله جعلها ابتلء وامتحانا لعباده‪ ،‬ليعلم من يقدم طاعته ومرضاته‬
‫على لذاته وشهواته‪ ،‬فجعلوها وسيلة لهم وطريقا يتزودون منها لخرتهم‬
‫ويتمتعون بما يتمتعون به على وجه الستعانة به على مرضاته‪ ،‬قد صحبوها‬
‫بأبدانهم وفارقوها بقلوبهم‪ ،‬وعلموا أنها كما قال الله فيها } ذلك متاع‬
‫الحياة الدنيا { فجعلوها معبرا إلى الدار الخرة ومتجرا يرجون بها الفوائد‬
‫الفاخرة‪ ،‬فهؤلء صارت لهم زادا إلى ربهم‪ .‬وفي هذه الية تسلية للفقراء‬
‫الذين ل قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الغنياء‪ ،‬وتحذير‬
‫للمغترين بها وتزهيد لهل العقول النيرة بها‪ ،‬وتمام ذلك أن الله تعالى‬
‫أخبر بعدها عن دار القرار ومصير المتقين البرار‪ ،‬وأخبر أنها خير من ذلكم‬
‫المذكور‪ ،‬أل وهي الجنات العاليات ذات المنازل النيقة والغرف العالية‪،‬‬
‫والشجار المتنوعة المثمرة بأنواع الثمار‪ ،‬والنهار الجارية على حسب‬
‫مرادهم والزواج المطهرة من كل قذر ودنس وعيب ظاهر وباطن‪ ،‬مع‬
‫الخلود الدائم الذي به تمام النعيم‪ ،‬مع الرضوان من الله الذي هو أكبر‬
‫نعيم‪ ،‬فقس هذه الدار الجليلة بتلك الدار الحقيرة‪ ،‬ثم اختر لنفسك‬
‫أحسنهما واعرض على قلبك المفاضلة بينهما } والله بصير بالعباد { أي‪:‬‬
‫عالم بما فيهم من الوصاف الحسنة والوصاف القبيحة‪ ،‬وما هو اللئق‬
‫بأحوالهم‪ ،‬يوفق من شاء منهم ويخذل من شاء‪ .‬فالجنة التي ذكر الله‬
‫وصفها ونعتها بأكمل نعت وصف أيضا المستحقين لها وهم الذين اتقوه‬
‫بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه‪ ،‬وكان من دعائهم أن قالوا‪:‬‬

‫) ‪(1/123‬‬

‫ن‬ ‫فْر ل ََنا ذ ُُنوب ََنا وَقَِنا عَ َ‬


‫مّنا َفاغْ ِ‬ ‫َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ري َ‬
‫صاب ِ ِ‬
‫ب الّنارِ )‪ (16‬ال ّ‬‫ذا َ‬ ‫ن َرب َّنا إ ِن َّنا آ َ‬ ‫ن يَ ُ‬
‫ذي َ‬
‫َ‬
‫حارِ )‪(17‬‬ ‫س َ‬‫ن ِباْل ْ‬ ‫ري َ‬‫ف ِ‬
‫ست َغْ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬ ‫قي َ‬
‫ف ِ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬
‫من ْ ِ‬ ‫قان ِِتي َ‬ ‫ن َوال ْ َ‬
‫صادِِقي َ‬‫َوال ّ‬
‫ب الّنارِ {‬ ‫فْر ل ََنا ذ ُُنوب ََنا وَقِْنا عَ َ‬
‫ذا َ‬ ‫مّنا َفاغْ ِ‬
‫} ‪َ } { 17 - 16‬رب َّنا إ ِن َّنا آ َ‬
‫توسلوا بمنة الله عليهم بتوفيقهم لليمان أن يغفر لهم ذنوبهم ويقيهم شر‬
‫آثارها وهو عذاب النار‪ ،‬ثم فصل أوصاف التقوى‪.‬‬
‫فقال } الصابرين { أنفسهم على ما يحبه الله من طاعته‪ ،‬وعن معصيته‪،‬‬
‫وعلى أقداره المؤلمة‪ } ،‬والصادقين { في إيمانهم وأقوالهم وأحوالهم‬
‫} والمنفقين { مما رزقهم الله بأنواع النفقات على المحاويج من القارب‬
‫وغيرهم } والمستغفرين بالسحار { لما بين صفاتهم الحميدة ذكر‬
‫احتقارهم لنفسهم وأنهم ل يرون لنفسهم‪ ،‬حال ول مقاما‪ ،‬بل يرون‬
‫أنفسهم مذنبين مقصرين فيستغفرون ربهم‪ ،‬ويتوقعون أوقات الجابة وهي‬
‫السحر‪ ،‬قال الحسن‪ :‬مدوا الصلة إلى السحر‪ ،‬ثم جلسوا يستغفرون‬
‫ربهم‪ .‬فتضمنت هذه اليات حالة الناس في الدنيا وأنها متاع ينقضي‪ ،‬ثم‬
‫وصف الجنة وما فيها من النعيم وفاضل بينهما‪ ،‬وفضل الخرة على الدنيا‬
‫تنبيها على أنه يجب إيثارها والعمل لها‪ ،‬ووصف أهل الجنة وهم المتقون‪،‬‬
‫ثم فصل خصال التقوى‪ ،‬فبهذه الخصال يزن العبد نفسه‪ ،‬هل هو من أهل‬
‫الجنة أم ل؟‬

‫) ‪(1/124‬‬

‫شهد الل ّه أ َنه َل إل َه إّل هُو وال ْمَلئ ِك َ ُ ُ‬


‫ه إ ِّل هُ َ‬
‫و‬ ‫ط َل إ ِل َ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ما ِبال ْ ِ‬ ‫ة وَأوُلو ال ْعِل ْم ِ َقائ ِ ً‬ ‫َ َ َ‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫ُ ّ ُ‬ ‫َ ِ َ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫ن أوُتوا‬ ‫ذي َ‬ ‫ف ال ِ‬ ‫خت َل َ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫سل ُ‬ ‫عن ْد َ اللهِ ال ِ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫دي َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م )‪ (18‬إ ِ ّ‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬‫زيُز ال َ‬ ‫ال ْعَ ِ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫ت الل ّهِ فَإ ِ ّ‬ ‫فْر ب ِآ ََيا ِ‬ ‫ن ي َك ْ ُ‬ ‫م ْ‬‫م وَ َ‬ ‫م ب َغًْيا ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫م ال ْعِل ْ ُ‬ ‫جاَءهُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب إ ِّل ِ‬ ‫ال ْك َِتا َ‬
‫ق ْ َ‬
‫ل‬‫ن وَقُ ْ‬ ‫ن ات ّب َعَ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ي ل ِل ّهِ وَ َ‬ ‫جه ِ َ‬ ‫ت وَ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫سل َ ْ‬ ‫لأ ْ‬ ‫ك فَ ُ‬ ‫جو َ‬ ‫حا ّ‬ ‫ن َ‬ ‫ب )‪ (19‬فَإ ِ ْ‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬‫ريعُ ال ْ ِ‬ ‫س ِ‬ ‫َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫وا‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫َ ْ َِ ْ َ ْ‬‫ت‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫وا‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ه‬ ‫ا‬ ‫ِ‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫موا‬ ‫ل‬‫س‬
‫ْ ْ ْ ِ ْ ْ ُ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫إ‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫م‬ ‫ل‬‫س‬ ‫أ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫يي‬ ‫م‬
‫َ َ ّ ّ َ‬ ‫ل‬ ‫وا‬ ‫ب‬ ‫تا‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫توا‬‫ُ‬ ‫أو‬ ‫ل ِل ّ َ‬
‫ن‬ ‫ذي‬‫ِ‬
‫صيٌر ِبال ْعَِبادِ )‪(20‬‬ ‫ه بَ ِ‬ ‫ك ال ْب ََلغُ َوالل ّ ُ‬ ‫ما عَل َي ْ َ‬ ‫فَإ ِن ّ َ‬
‫شهد الل ّه أ َنه ل إل َه إل هُو وال ْملئ ِك َ ُ ُ‬
‫ما‬‫ة وَأوُلو ال ْعِل ْم ِ َقائ ِ ً‬ ‫َ َ َ‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫ُ ّ ُ‬ ‫} ‪َ ِ َ } { 20 - 18‬‬
‫ما‬‫م وَ َ‬ ‫سل ُ‬ ‫ّ‬
‫عن ْد َ اللهِ ال ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫دي َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م * إِ ّ‬ ‫كي ُ‬‫ح ِ‬ ‫ْ‬
‫زيُز ال َ‬ ‫ْ‬
‫ه ُ ِإل هُوَ العَ ِ‬ ‫ط ل إ ِل َ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ِبال ْ ِ‬
‫فْر‬‫ن ي َك ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫م ب َغًْيا ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫م ال ْعِل ْ ُ‬ ‫جاَءهُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬‫م ْ‬ ‫ب ِإل ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ف ال ّ ِ‬ ‫خت َل َ َ‬‫ا ْ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك فَ ُ‬ ‫جو َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ي ل ِل ِ‬ ‫جهِ َ‬ ‫ت وَ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫سل ْ‬ ‫لأ ْ‬ ‫ق ْ‬ ‫حا ّ‬‫ن َ‬ ‫ب * فَإ ِ ْ‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ريعُ ال ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ت اللهِ فَإ ِ ّ‬ ‫ِبآَيا ِ‬
‫موا فَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫قدِ‬ ‫سل ُ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م فَإ ِ ْ‬ ‫مت ُ ْ‬‫سل ْ‬ ‫ن أأ ْ‬ ‫مّيي َ‬‫ب َوال ّ‬ ‫ن أوُتوا الك َِتا َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ل ِل ِ‬‫ن وَقُ ْ‬ ‫ن ات ّب َعَ ِ‬‫م ِ‬ ‫وَ َ‬
‫صيٌر ِبالعَِبادِ { ‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫ه بَ ِ‬ ‫ّ‬
‫ك الَبلغُ َوالل ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ما عَلي ْ َ‬ ‫وا فَإ ِن ّ َ‬ ‫ّ‬
‫ن ت َوَل ْ‬ ‫اهْت َد َْوا وَإ ِ ْ‬
‫هذا تقرير من الله تعالى للتوحيد بأعظم الطرق الموجبة له‪ ،‬وهي شهادته‬
‫تعالى وشهادة خواص الخلق وهم الملئكة وأهل العلم‪ ،‬أما شهادته تعالى‬
‫فيما أقامه من الحجج والبراهين القاطعة على توحيده‪ ،‬وأنه ل إله إل هو‪،‬‬
‫فنوع الدلة في الفاق والنفس على هذا الصل العظيم‪ ،‬ولو لم يكن في‬
‫ذلك إل أنه ما قام أحد بتوحيده إل ونصره على المشرك الجاحد المنكر‬
‫للتوحيد‪ ،‬وكذلك إنعامه العظيم الذي ما بالعباد من نعمة إل منه‪ ،‬ول يدفع‬
‫النقم إل هو‪ ،‬والخلق كلهم عاجزون عن المنافع والمضار لنفسهم‬
‫ولغيرهم‪ ،‬ففي هذا برهان قاطع على وجوب التوحيد وبطلن الشرك‪ ،‬وأما‬
‫شهادة الملئكة بذلك فنستفيدها بإخبار الله لنا بذلك وإخبار رسله‪ ،‬وأما‬
‫شهادة أهل العلم فلنهم هم ] ص ‪ [ 125‬المرجع في جميع المور الدينية‬
‫خصوصا في أعظم المور وأجلها وأشرفها وهو التوحيد‪ ،‬فكلهم من أولهم‬
‫إلى آخرهم قد اتفقوا على ذلك ودعوا إليه وبينوا للناس الطرق الموصلة‬
‫إليه‪ ،‬فوجب على الخلق التزام هذا المر المشهود عليه والعمل به‪ ،‬وفي‬
‫هذا دليل على أن أشرف المور علم التوحيد لن الله شهد به بنفسه‬
‫وأشهد عليه خواص خلقه‪ ،‬والشهادة ل تكون إل عن علم ويقين‪ ،‬بمنزلة‬
‫المشاهدة للبصر‪ ،‬ففيه دليل على أن من لم يصل في علم التوحيد إلى‬
‫هذه الحالة فليس من أولي العلم‪ .‬وفي هذه الية دليل على شرف العلم‬
‫من وجوه كثيرة‪ ،‬منها‪ :‬أن الله خصهم بالشهادة على أعظم مشهود عليه‬
‫دون الناس‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الله قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملئكته‪ ،‬وكفى‬
‫بذلك فضل ومنها‪ :‬أنه جعلهم أولي العلم‪ ،‬فأضافهم إلى العلم‪ ،‬إذ هم‬
‫القائمون به المتصفون بصفته‪ ،‬ومنها‪ :‬أنه تعالى جعلهم شهداء وحجة على‬
‫الناس‪ ،‬وألزم الناس العمل بالمر المشهود به‪ ،‬فيكونون هم السبب في‬
‫ذلك‪ ،‬فيكون كل من عمل بذلك نالهم من أجره‪ ،‬وذلك فضل الله يؤتيه من‬
‫يشاء‪ ،‬ومنها‪ :‬أن إشهاده تعالى أهل العلم يتضمن ذلك تزكيتهم وتعديلهم‬
‫وأنهم أمناء على ما استرعاهم عليه‪ ،‬ولما قرر توحيده قرر عدله‪ ،‬فقال‪} :‬‬
‫ما بالقسط { أي‪ :‬لم يزل متصفا بالقسط في أفعاله وتدبيره بين‬ ‫قائ ً‬
‫عباده‪ ،‬فهو على صراط مستقيم في ما أمر به ونهى عنه‪ ،‬وفيما خلقه‬
‫وقدره‪ ،‬ثم أعاد تقرير توحيده فقال } ل إله إل هو العزيز الحكيم { واعلم‬
‫أن هذا الصل الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبودية قد دلت عليه الدلة‬
‫النقلية والدلة العقلية‪ ،‬حتى صار لذوي البصائر أجلى من الشمس‪ ،‬فأما‬
‫الدلة النقلية فكل ما في كتاب الله وسنة رسوله‪ ،‬من المر به وتقريره‪،‬‬
‫ومحبة أهله وبغض من لم يقم به وعقوباتهم‪ ،‬وذم الشرك وأهله‪ ،‬فهو من‬
‫الدلة النقلية على ذلك‪ ،‬حتى كاد القرآن أن يكون كله أدلة عليه‪ ،‬وأما‬
‫الدلة العقلية التي تدرك بمجرد فكر العقل وتصوره للمور فقد أرشد‬
‫القرآن إليها ونبه على كثير منها‪ ،‬فمن أعظمها‪ :‬العتراف بربوبية الله‪ ،‬فإن‬
‫من عرف أنه هو الخالق الرازق المدبر لجميع المور أنتج له ذلك أنه هو‬
‫المعبود الذي ل تنبغي العبادة إل له‪ ،‬ولما كان هذا من أوضح الشياء‬
‫وأعظمها أكثر الله تعالى من الستدلل به في كتابه‪ .‬ومن الدلة العقلية‬
‫على أن الله هو الذي يؤله دون غيره انفراده بالنعم ودفع النقم‪ ،‬فإن من‬
‫عرف أن النعم الظاهرة والباطنة القليلة والكثيرة كلها من الله‪ ،‬وأنه ما‬
‫من نقمة ول شدة ول كربة إل وهو الذي ينفرد بدفعها وإن أحدا من الخلق‬
‫ل يملك لنفسه ‪ -‬فضل عن غيره‪ -‬جلب نعمة ول دفع نقمة‪ ،‬تيقن أن عبودية‬
‫ما سوى الله من أبطل الباطل وأن العبودية ل تنبغي إل لمن انفرد بجلب‬
‫المصالح ودفع المضار‪ ،‬فلهذا أكثر الله في كتابه من التنبيه على هذا‬
‫الدليل جدا‪ ،‬ومن الدلة العقلية أيضا على ذلك‪ :‬ما أخبر به تعالى عن‬
‫المعبودات التي عبدت من دونه‪ ،‬بأنها ل تملك نفعا ول ضرا‪ ،‬ول تنصر‬
‫غيرها ول تنصر نفسها‪ ،‬وسلبها السماع والبصار‪ ،‬وأنها على فرض سماعها‬
‫ل تغني شيئا‪ ،‬وغير ذلك من الصفات الدالة على نقصها غاية النقص‪ ،‬وما‬
‫أخبر به عن نفسه العظيمة من الصفات الجليلة والفعال الجميلة‪ ،‬والقدرة‬
‫والقهر‪ ،‬وغير ذلك من الصفات التي تعرف بالدلة السمعية والعقلية‪ ،‬فمن‬
‫عرف ذلك حق المعرفة عرف أن العبادة ل تليق ول تحسن إل بالرب‬
‫العظيم الذي له الكمال كله‪ ،‬والمجد كله‪ ،‬والحمد كله‪ ،‬والقدرة كلها‪،‬‬
‫والكبرياء كلها‪ ،‬ل بالمخلوقات المدبرات الناقصات الصم البكم الذين ل‬
‫يعقلون‪ ،‬ومن الدلة العقلية على ذلك ما شاهده العباد بأبصارهم من قديم‬
‫الزمان وحديثه‪ ،‬من الكرام لهل التوحيد‪ ،‬والهانة والعقوبة لهل الشرك‪،‬‬
‫وما ذاك إل لن التوحيد جعله الله موصل إلى كل خير دافعا لكل شر ديني‬
‫ودنيوي‪ ،‬وجعل الشرك به والكفر سببا للعقوبات الدينية والدنيوية‪ ،‬ولهذا‬
‫إذا ذكر تعالى قصص الرسل مع أمم المطيعين والعاصين‪ ،‬وأخبر عن‬
‫عقوبات العاصين ونجاة الرسل ومن تبعهم‪ ،‬قال عقب كل قصة‪ } :‬إن في‬
‫ذلك لية { أي‪ :‬لعبرة يعتبر بها المعتبرون فيعلمون أن توحيده هو الموجب‬
‫للنجاة‪ ،‬وتركه هو الموجب للهلك‪ ،‬فهذه من الدلة الكبار العقلية النقلية‬
‫الدالة على هذا الصل العظيم‪ ،‬وقد أكثر الله منها في كتابه وصرفها‬
‫ونوعها ليحيى من حي عن بينة‪ ،‬ويهلك من هلك عن بينة فله الحمد‬
‫والشكر والثناء‪.‬‬
‫ولما قرر أنه الله الحق المعبود‪ ،‬بين العبادة والدين الذي يتعين أن يعبد به‬
‫ويدان له‪ ،‬وهو السلم الذي هو الستسلم لله بتوحيده وطاعته التي دعت‬
‫إليها رسله‪ ،‬وحثت عليها كتبه‪ ،‬وهو الذي ل يقبل من أحد دين سواه‪ ،‬وهو‬
‫متضمن للخلص له في الحب والخوف والرجاء والنابة والدعاء ومتابعة‬
‫رسوله في ذلك‪ ،‬وهذا هو دين الرسل كلهم‪ ،‬وكل من تابعهم فهو على‬
‫طريقهم‪ ،‬وإنما اختلف أهل الكتاب بعد ما جاءتهم كتبهم تحثهم على‬
‫الجتماع على دين الله‪ ،‬بغيا بينهم‪ ،‬وظلما وعدوانا من أنفسهم‪ ،‬وإل فقد‬
‫جاءهم السبب الكبر الموجب أن يتبعوا ] ص ‪ [ 126‬الحق ويتركوا‬
‫الختلف‪ ،‬وهذا من كفرهم‪ ،‬فلهذا قال تعالى } وما اختلف الذين أوتوا‬
‫الكتاب إل من بعد ما جاءهم العلم بغًيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله‬
‫سريع الحساب { فيجازي كل عامل بعمله‪ ،‬وخصوصا من ترك الحق بعد‬
‫معرفته‪ ،‬فهذا مستحق للوعيد الشديد والعقاب الليم‪ ،‬ثم أمر تعالى رسوله‬
‫صلى الله عليه وسلم عند محاجة النصارى وغيرهم ممن يفضل غير دين‬
‫السلم‬
‫عليه أن يقول لهم‪ :‬قد } أسلمت وجهي لله ومن اتبعن { أي‪ :‬أنا ومن‬
‫اتبعني قد أقررنا وشهدنا وأسلمنا وجوهنا لربنا‪ ،‬وتركنا ما سوى دين‬
‫السلم‪ ،‬وجزمنا ببطلنه‪ ،‬ففي هذا تأييس لمن طمع فيكم‪ ،‬وتجديد لدينكم‬
‫عند ورود الشبهات‪ ،‬وحجة على من اشتبه عليه المر‪ ،‬لنه قد تقدم أن الله‬
‫استشهد على توحيده بأهل العلم من عباده ليكونوا حجة على غيرهم‪،‬‬
‫وسيد أهل العلم وأفضلهم وأعلمهم هو نبينا محمد صلى الله عليه وسلم‪،‬‬
‫ثم من بعده أتباعه على اختلف مراتبهم وتفاوت درجاتهم‪ ،‬فلهم من العلم‬
‫الصحيح والعقل الرجيح ما ليس لحد من الخلق ما يساويهم أو يقاربهم‪،‬‬
‫فإذا ثبت وتقرر توحيد الله ودينه بأدلته الظاهرة‪ ،‬وقام به أكمل الخلق‬
‫وأعلمهم‪ ،‬حصل بذلك اليقين وانتفى كل شك وريب وقادح‪ ،‬وعرف أن ما‬
‫سواه من الديان باطلة‪ ،‬فلهذا قال } وقل للذين أوتوا الكتاب { من‬
‫النصارى واليهود } والميين { مشركي العرب وغيرهم } أأسلمتم فإن‬
‫أسلموا { أي‪ :‬بمثل ما أمنتم به } فقد اهتدوا { كما اهتديتم وصاروا‬
‫إخوانكم‪ ،‬لهم ما لكم‪ ،‬وعليهم ما عليكم } وإن تولوا { عن السلم ورضوا‬
‫بالديان التي تخالفه } فإنما عليك البلغ { فقد وجب أجرك على ربك‪،‬‬
‫وقامت عليهم الحجة‪ ،‬ولم يبق بعد هذا إل مجازاتهم بالعقاب على جرمهم‪،‬‬
‫فلهذا قال } والله بصير بالعباد { ‪.‬‬
‫) ‪(1/124‬‬

‫ن‬‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬ ‫قت ُُلو َ‬ ‫حقّ وَي َ ْ‬


‫ن ب ِغَي ْرِ َ‬ ‫ن الن ّب ِّيي َ‬‫قت ُُلو َ‬ ‫ت الل ّهِ وَي َ ْ‬ ‫ن ب ِآ ََيا ِ‬‫فُرو َ‬‫ن ي َك ْ ُ‬ ‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬ ‫إِ ّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫حب ِط َ ْ‬
‫ت‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬‫ب أِليم ٍ )‪ (21‬أول َئ ِ َ‬ ‫م ب ِعَ َ‬
‫ذا ٍ‬ ‫شْرهُ ْ‬ ‫س فَب َ ّ‬‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ط ِ‬ ‫س ِ‬‫ق ْ‬ ‫ن ِبال ْ ِ‬‫مُرو َ‬ ‫ي َأ ُ‬
‫م ِفي الد ّن َْيا َواْل َ ِ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(22‬‬ ‫ري َ‬ ‫ص ِ‬‫ن َنا ِ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ما ل َهُ ْ‬ ‫خَرةِ وَ َ‬ ‫مال ُهُ ْ‬‫أع ْ َ‬
‫ق‬
‫ح ّ‬ ‫ن ب ِغَي ْرِ َ‬‫ن الن ّب ِّيي َ‬‫قت ُُلو َ‬
‫ت الل ّهِ وَي َ ْ‬ ‫ن ِبآَيا ِ‬ ‫فُرو َ‬‫ن ي َك ْ ُ‬‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬‫} ‪ } { 22 - 21‬إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ب أِليم ٍ * أولئ ِ َ‬
‫ك‬ ‫ذا ٍ‬ ‫م ب ِعَ َ‬
‫شْرهُ ْ‬ ‫س فَب َ ّ‬‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ط ِ‬
‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن ِبال ِ‬‫مُرو َ‬ ‫ن ي َأ ُ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫قت ُُلو َ‬
‫وَي َ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬‫ص ِ‬ ‫ن َنا ِ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ما لهُ ْ‬ ‫خَرةِ وَ َ‬
‫م ِفي الد ّن َْيا َوال ِ‬ ‫مالهُ ْ‬ ‫ت أع ْ َ‬ ‫حب ِط ْ‬ ‫ن َ‬
‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫هؤلء الذين أخبر الله عنهم في هذه الية‪ ،‬أشد الناس جرما وأي‪ :‬جرم‬
‫أعظم من الكفر بآيات الله التي تدل دللة قاطعة على الحق الذي من‬
‫كفر بها فهو في غاية الكفر والعناد ويقتلون أنبياء الله الذين حقهم أوجب‬
‫الحقوق على العباد بعد حق الله‪ ،‬الذين أوجب الله طاعتهم واليمان بهم‪،‬‬
‫وتعزيرهم‪ ،‬وتوقيرهم‪ ،‬ونصرهم وهؤلء قابلوهم بضد ذلك‪ ،‬ويقتلون أيضا‬
‫الذين يأمرون الناس بالقسط الذي هو العدل‪ ،‬وهو المر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر الذي حقيقته إحسان إلى المأمور ونصح له‪ ،‬فقابلوهم شر‬
‫مقابلة‪ ،‬فاستحقوا بهذه الجنايات المنكرات أشد العقوبات‪ ،‬وهو العذاب‬
‫المؤلم البالغ في الشدة إلى غاية ل يمكن وصفها‪ ،‬ول يقدر قدرها المؤلم‬
‫للبدان والقلوب والرواح‪.‬‬
‫وبطلت أعمالهم بما كسبت أيديهم‪ ،‬وما لهم أحد ينصرهم من عذاب الله‬
‫ول يدفع عنهم من نقمته مثقال ذرة‪ ،‬بل قد أيسوا من كل خير‪ ،‬وحصل‬
‫لهم كل شر وضير‪ ،‬وهذه الحالة صفة اليهود ونحوهم‪ ،‬قبحهم الله ما‬
‫أجرأهم على الله وعلى أنبيائه وعباده الصالحين‪.‬‬

‫) ‪(1/126‬‬

‫أ َل َم تر إَلى ال ّذي ُ‬
‫حك ُ َ‬
‫م‬ ‫ب الل ّهِ ل ِي َ ْ‬ ‫تا ِ‬ ‫ن إ َِلى ك ِ َ‬ ‫ب ي ُد ْعَوْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ن ال ْك َِتا‬‫َ‬ ‫م‬
‫صيًبا ِ‬ ‫ن أوُتوا ن َ ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫ْ ََ ِ‬
‫َ‬
‫سَنا‬‫م ّ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫م َقاُلوا ل َ ْ‬ ‫ك ب ِأن ّهُ ْ‬ ‫ن )‪ (23‬ذ َل ِ َ‬ ‫ضو َ‬ ‫معْرِ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫م وَهُ ْ‬‫من ْهُ ْ‬
‫ريقٌ ِ‬ ‫م َ ي َت َوَّلى فَ ِ‬
‫م ثُ ّ‬
‫ب َي ْن َهُ ْ‬
‫ذا‬‫ف إِ َ‬ ‫ن )‪ (24‬فَك َي ْ َ‬ ‫فت َُرو َ‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫م ِفي ِدين ِهِ ْ‬ ‫ت وَغَّرهُ ْ‬ ‫دا ٍ‬‫دو َ‬ ‫معْ ُ‬
‫ما َ‬‫الّناُر إ ِّل أّيا ً‬
‫ن)‬ ‫مو َ‬ ‫م َل ي ُظ ْل َ ُ‬ ‫ت وَهُ ْ‬ ‫سب َ ْ‬‫ما ك َ َ‬‫س َ‬‫ف ٍ‬ ‫ل نَ ْ‬‫ت كُ ّ‬ ‫ب ِفيهِ وَوُفّي َ ْ‬ ‫م ل ِي َوْم ٍ َل َري ْ َ‬‫معَْناهُ ْ‬
‫ج َ‬ ‫َ‬
‫‪(25‬‬
‫} ‪ } { 25 - 23‬أ َل َم تر إَلى ال ّذي ُ‬
‫ن إ َِلى ك َِتا ِ‬
‫ب‬ ‫ب ي ُد ْعَوْ َ‬
‫َ‬ ‫ن ال ْك َِتا ِ‬ ‫م َ‬‫صيًبا ِ‬ ‫ن أوُتوا ن َ ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫ْ ََ ِ‬
‫ُ‬
‫م َقالوا‬ ‫ك ب ِأن ّهُ ْ‬ ‫ن * ذ َل ِ َ‬ ‫ضو َ‬ ‫معْرِ ُ‬ ‫م ُ‬
‫م وَهُ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫ريقٌ ِ‬ ‫م ي َت َوَّلى فَ ِ‬‫م ثُ ّ‬ ‫حك ُ َ‬
‫م ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫الل ّهِ ل ِي َ ْ‬
‫َ‬
‫ن*‬ ‫فت َُرو َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫م َ‬ ‫م ِفي ِدين ِهِ ْ‬ ‫ت وَغَّرهُ ْ‬ ‫دا ٍ‬‫دو َ‬ ‫معْ ُ‬‫ما َ‬‫سَنا الّناُر ِإل أّيا ً‬ ‫م ّ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫لَ ْ‬
‫مل‬ ‫ت وَهُ ْ‬ ‫سب َ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫س َ‬‫ف ٍ‬ ‫ل نَ ْ‬‫ت كُ ّ‬‫ب ِفيهِ وَوُفّي َ ْ‬ ‫م ل ِي َوْم ٍ ل َري ْ َ‬ ‫معَْناهُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫ذا َ‬ ‫ف إِ َ‬ ‫فَك َي ْ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫ي ُظ ْل َ ُ‬
‫يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب الذين أنعم الله عليهم بكتابه‪ ،‬فكان يجب‬
‫أن يكونوا أقوم الناس به وأسرعهم انقيادا لحكامه‪ ،‬فأخبر الله عنهم أنهم‬
‫إذا دعوا إلى حكم الكتاب تولى فريق منهم وهم يعرضون‪ ،‬تولوا بأبدانهم‪،‬‬
‫وأعرضوا بقلوبهم‪ ،‬وهذا غاية الذم‪ ،‬وفي ضمنها التحذير لنا أن نفعل‬
‫كفعلهم‪ ،‬فيصيبنا من الذم والعقاب ما أصابهم‪ ،‬بل الواجب على كل أحد‬
‫إذا دعي إلى كتاب الله أن يسمع ويطيع وينقاد‪ ،‬كما قال تعالى } إنما كان‬
‫قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا‬
‫وأطعنا { والسبب الذي غر أهل الكتاب بتجرئهم على معاصي الله هو‬
‫قولهم } لن تمسنا النار إل أياما معدودات وغرهم في دينهم ما كانوا‬
‫يفترون { ‪.‬‬
‫افتروا هذا القول فظنوه حقيقة فعملوا على ذلك ولم ينزجروا عن‬
‫المحارم‪ ،‬لن أنفسهم منتهم وغرتهم أن مآلهم إلى الجنة‪ ،‬وكذبوا في ذلك‪،‬‬
‫فإن هذا مجرد كذب وافتراء‪ ،‬وإنما مآلهم شر مآل‪ ،‬وعاقبتهم عاقبة‬
‫وخيمة‪ ،‬فلهذا قال تعالى } فكيف إذا جمعناهم ليوم ل ريب فيه { ‪.‬‬

‫) ‪(1/126‬‬

‫شاُء وَت ُعِّز‬ ‫ن تَ َ‬‫م ْ‬‫م ّ‬ ‫ك ِ‬ ‫مل ْ َ‬


‫شاُء وَت َن ْزِعُ ال ْ ُ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك َ‬ ‫مل ْ َ‬‫ك ت ُؤِْتي ال ْ ُ‬ ‫مل ْ ِ‬‫ك ال ْ ُ‬‫مال ِ َ‬‫م َ‬ ‫ل الل ّهُ ّ‬ ‫قُ ِ‬
‫ج‬‫ديٌر )‪ُ (26‬تول ِ ُ‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ك عََلى ك ُ ّ‬ ‫خي ُْر إ ِن ّ َ‬‫ك ال ْ َ‬ ‫شاُء ب ِي َدِ َ‬
‫ن تَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬‫شاُء وَت ُذِ ّ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ج‬‫خرِ ُ‬
‫ت وَت ُ ْ‬‫مي ّ ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ي ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫ج ال َ‬ ‫خرِ ُ‬‫ل وَت ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫ج الن َّهاَر ِفي اللي ْ ِ‬ ‫اللي ْل ِفي الن َّهارِ وَُتول ِ ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ب )‪(27‬‬ ‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫شاُء ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ي وَت َْرُزقُ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫م َ‬‫ت ِ‬ ‫مي ّ َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫أي‪ :‬كيف يكون حالهم ووخيم ما يقدمون عليه‪ ،‬حالة ل يمكن وصفها ول‬
‫يتصور قبحها لن ذلك اليوم يوم توفية النفوس ما كسبت ومجازاتها بالعدل‬
‫ل بالظلم‪ ،‬وقد علم أن ذلك على قدر العمال‪ ،‬وقد تقدم من أعمالهم ما‬
‫يبين أنهم من أشد الناس عذابا‪.‬‬
‫] ص ‪[ 127‬‬
‫مل ْكَ‬‫شاُء وَت َن ْزِعُ ال ُْ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ملك َ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ك ت ُؤِْتي ال ُ‬ ‫ْ‬
‫مل ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫مال ِك ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ّ‬
‫ل اللهُ ّ‬ ‫ُ‬
‫} ‪ } { 27 - 26‬ق ِ‬
‫يٍء‬
‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫خي ُْر إ ِن ّك عَلى ك ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫شاُء ب ِي َدِك ال َ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫شاُء وَت ُذِ ّ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫شاُء وَت ُعِّز َ‬ ‫ن تَ َ‬‫م ْ‬ ‫م ّ‬‫ِ‬
‫ن‬
‫م َ‬‫ي ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫ج ال َ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫ل وَت ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫ج الن َّهاَر ِفي اللي ْ ِ‬ ‫ل ِفي الن َّهارِ وَُتول ِ ُ‬ ‫ّ‬
‫ج اللي ْ َ‬‫ديٌر * ُتول ِ ُ‬ ‫قَ ِ‬
‫ب{‪.‬‬ ‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬
‫شاُء ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫ن تَ َ‬
‫م ْ‬
‫ي وَت َْرُزقُ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫مي ّ َ‬ ‫ْ‬
‫ج ال َ‬‫خرِ ُ‬ ‫ت وَت ُ ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫مي ّ ِ‬
‫يقول الله لنبيه صلى الله عليه وسلم } قل اللهم مالك الملك { أي‪ :‬أنت‬
‫الملك المالك لجميع الممالك‪ ،‬فصفة الملك المطلق لك‪ ،‬والمملكة كلها‬
‫علويها وسفليها لك والتصريف والتدبير كله لك‪ ،‬ثم فصل بعض التصاريف‬
‫التي انفرد الباري تعالى بها‪ ،‬فقال‪ } :‬تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك‬
‫ممن تشاء { وفيه الشارة إلى أن الله تعالى سينزع الملك من الكاسرة‬
‫والقياصرة ومن تبعهم ويؤتيه أمة محمد‪ ،‬وقد فعل ولله الحمد‪ ،‬فحصول‬
‫الملك ونزعه تبع لمشيئة الله تعالى‪ ،‬ول ينافي ذلك ما أجرى الله به سنته‬
‫من السباب الكونية والدينية التي هي سبب بقاء الملك وحصوله وسبب‬
‫زواله‪ ،‬فإنها كلها بمشيئة الله ل يوجد سبب يستقل بشيء‪ ،‬بل السباب‬
‫كلها تابعة للقضاء والقدر‪ ،‬ومن السباب التي جعلها الله سببا لحصول‬
‫الملك اليمان والعمل الصالح‪ ،‬التي منها اجتماع المسلمين واتفاقهم‪،‬‬
‫وإعدادهم اللت التي يقدروا عليها والصبر وعدم التنازع‪ ،‬قال الله تعالى‪:‬‬
‫} وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الرض‬
‫كما استخلف الذين من قبلهم { الية فأخبر أن اليمان والعمل الصالح‬
‫سبب للستخلف المذكور‪ ،‬وقال تعالى‪ } :‬هو الذي أيدك بنصره‬
‫وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم { الية وقال تعالى‪ } :‬يا أيها الذين آمنوا إذا‬
‫لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله‬
‫ول تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين { فأخبر‬
‫أن ائتلف قلوب المؤمنين وثباتهم وعدم تنازعهم سبب للنصر على‬
‫العداء‪ ،‬وأنت إذا استقرأت الدول السلمية وجدت السبب العظم في‬
‫زوال ملكها ترك الدين والتفرق الذي أطمع فيهم العداء وجعل بأسهم‬
‫بينهم‪ ،‬ثم قال تعالى‪ } :‬وتعز من تشاء { بطاعتك } وتذل من تشاء {‬
‫بمعصيتك } إنك على كل شيء قدير { ل يمتنع عليك أمر من المور بل‬
‫الشياء كلها طوع مشيئتك وقدرتك‬
‫} تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل { أي‪ :‬تدخل هذا على هذا‪،‬‬
‫وهذا على هذا‪ ،‬فينشأ عن ذلك من الفصول والضياء والنور والشمس‬
‫والظل والسكون والنتشار‪ ،‬ما هو من أكبر الدلة على قدرة الله وعظمته‬
‫وحكمته ورحمته } وتخرج الحي من الميت { كالفرخ من البيضة‪،‬‬
‫وكالشجر من النوى‪ ،‬وكالزرع من بذره‪ ،‬وكالمؤمن من الكافر } وتخرج‬
‫الميت من الحي { كالبيضة من الطائر وكالنوى من الشجر‪ ،‬وكالحب من‬
‫الزرع‪ ،‬وكالكافر من المؤمن‪ ،‬وهذا أعظم دليل على قدرة الله‪ ،‬وأن جميع‬
‫الشياء مسخرة مدبرة ل تملك من التدبير شيئا‪ ،‬فخلقه تعالى الضداد‪،‬‬
‫والضد من ضده بيان أنها مقهورة } وترزق من تشاء بغير حساب { أي‪:‬‬
‫ترزق من تشاء رزقا واسعا من حيث ل يحتسب ول يكتسب‪ ،‬ثم قال‬
‫تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/126‬‬

‫كافري َ‬
‫ك فَل َي ْ َ‬
‫س‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬
‫فع َ ْ‬ ‫ن يَ ْ‬‫م ْ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫مِني َ‬‫مؤْ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫دو ِ‬‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن أوْل َِياَء ِ‬ ‫ن ال ْ َ ِ ِ َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫خذِ ال ْ ُ‬
‫مؤْ ِ‬ ‫َل ي َت ّ ِ‬
‫َ‬
‫ه وَإ َِلى الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫س ُ‬ ‫ف َ‬‫ه نَ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫حذ ُّرك ُ ُ‬ ‫قاةً وَي ُ َ‬ ‫م تُ َ‬‫من ْهُ ْ‬‫قوا ِ‬ ‫ن ت َت ّ ُ‬ ‫يٍء إ ِّل أ ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن الل ّهِ ِفي َ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫ما‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ع‬ ‫ي‬ ‫ه‬ ‫دو‬ ‫ب‬‫ت‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ر‬‫دو‬ ‫ص‬ ‫في‬ ‫ما‬ ‫فوا‬ ‫ُ‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫(‬ ‫‪28‬‬ ‫)‬ ‫ر‬ ‫ْ‬
‫ُ ََْ ُ َ‬ ‫ُ ُ ِ ْ ْ ُْ ُ ُ َْ ْ ُ‬ ‫َ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ ْ ُ‬ ‫ا َ ِ ُ‬
‫صي‬ ‫م‬ ‫ل‬
‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ديٌر )‪(29‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ض َوالل ّ ُ‬ ‫ْ‬
‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬‫س َ‬ ‫ِفي ال ّ‬
‫كافري َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ن وَ َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬‫ن أوْل َِياَء ِ‬ ‫ن ال ْ َ ِ ِ َ‬‫مُنو َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫خذِ ال ْ ُ‬‫} ‪ } { 30 - 28‬ل ي َت ّ ِ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫م الل ُ‬ ‫حذ ُّرك ُ ُ‬ ‫قاةً وَي ُ َ‬ ‫م تُ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫قوا ِ‬ ‫ن ت َت ّ ُ‬‫يٍء ِإل أ ْ‬‫ش ْ‬ ‫ن اللهِ ِفي َ‬ ‫م َ‬ ‫س ِ‬‫ك فَل َي ْ َ‬‫ل ذ َل ِ َ‬ ‫فع َ ْ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫م ُ‬
‫دوهُ ي َعْل ْ‬ ‫م أوْ ت ُب ْ ُ‬ ‫دورِك ُ ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ما ِفي ُ‬ ‫فوا َ‬
‫خ ُ‬‫ن تُ ْ‬‫ل إِ ْ‬ ‫صيُر * قُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه وَإ ِلى اللهِ ال َ‬ ‫س ُ‬‫ف َ‬ ‫نَ ْ‬
‫ديٌر { ‪.‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫ض َوالل ّ ُ‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫م َ‬‫ه وَي َعْل َ ُ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫وهذا نهي من الله تعالى للمؤمنين عن موالة الكافرين بالمحبة والنصرة‬
‫والستعانة بهم على أمر من أمور المسلمين‪ ،‬وتوعد على ذلك فقال‪:‬‬
‫} ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء { أي‪ :‬فقد انقطع عن الله‪،‬‬
‫وليس له في دين الله نصيب‪ ،‬لن موالة الكافرين ل تجتمع مع اليمان‪،‬‬
‫لن اليمان يأمر بموالة الله وموالة أوليائه المؤمنين المتعاونين على‬
‫إقامة دين الله وجهاد أعدائه‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬والمؤمنون والمؤمنات بعضهم‬
‫أولياء بعض { فمن والى ‪ -‬الكافرين من دون المؤمنين الذين يريدون أن‬
‫يطفؤا نور الله ويفتنوا أولياءه خرج من حزب المؤمنين‪ ،‬وصار من حزب‬
‫الكافرين‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬ومن يتولهم منكم فإنه منهم { وفي هذه الية‬
‫دليل على البتعاد عن الكفار وعن معاشرتهم وصداقتهم‪ ،‬والميل إليهم‬
‫] ص ‪ [ 128‬والركون إليهم‪ ،‬وأنه ل يجوز أن يولى كافر ولية من وليات‬
‫المسلمين‪ ،‬ول يستعان به على المور التي هي مصالح لعموم المسلمين‪.‬‬
‫قال الله تعالى‪ } :‬إل أن تتقوا منهم تقاة { )‪ (1‬أي‪ :‬تخافوهم على‬
‫أنفسكم فيحل لكم أن تفعلوا ما تعصمون به دماءكم من التقية باللسان‬
‫وإظهار ما به تحصل التقية‪ .‬ثم قال تعالى‪ } :‬ويحذركم الله نفسه { أي‪:‬‬
‫فل تتعرضوا لسخطه بارتكاب معاصيه فيعاقبكم على ذلك } وإلى الله‬
‫المصير { أي‪ :‬مرجع العباد ليوم التناد‪ ،‬فيحصي أعمالهم ويحاسبهم عليها‬
‫ويجازيهم‪ ،‬فإياكم أن تفعلوا من العمال القباح ما تستحقون به العقوبة‪،‬‬
‫واعملوا ما به يحصل الجر والمثوبة‪ ،‬ثم أخبر عن سعة علمه لما في‬
‫النفوس خصوصا‪ ،‬ولما في السماء والرض عموما‪ ،‬وعن كمال قدرته‪،‬‬
‫ففيه إرشاد إلى تطهير القلوب واستحضار علم الله كل وقت فيستحي‬
‫العبد من ربه أن يرى قلبه محل لكل فكر رديء‪ ،‬بل يشغل أفكاره فيما‬
‫يقرب إلى الله من تدبر آية من كتاب‪ ،‬أو سنة من أحاديث رسول الله‪ ،‬أو‬
‫تصور وبحث في علم ينفعه‪ ،‬أو تفكر في مخلوقات الله ونعمه‪ ،‬أو نصح‬
‫لعباد الله‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬جاء في هامش النسخة ما يلي‪) :‬قال شيخ السلم ابن تيمية في‬
‫"المنهاج"‪ :‬وأما قوله‪" :‬إل أن تتقوا منهم تقاة" قال مجاهد‪ :‬ل مصانعة‪،‬‬
‫والتقاة ليست بأن أكذب وأقول بلساني ما ليس في قلبي‪ ،‬فإن هذا نفاق‪،‬‬
‫ولكن أفعل ما أقدر عليه كما في "الصحيح" عن النبي صلى الله عليه‬
‫وسلم‪" :‬من رأى منكم منكرا" إلخ‪ ،‬فالمؤمن إذا كان بين الكفار والفجار‬
‫لم يكن عليه أن يجاهدهم بيده مع عجزه‪ ،‬ولكن إن أمكنه بلسانه وإل‬
‫فبقلبه‪ ،‬مع أنه ل يكذب ويقول بلسانه ما ليس في قلبه‪ ،‬إما أن يظهر دينه‬
‫وإما أن يكتمه‪ ،‬وهو مع هذا ل يوافقهم على دينهم كله بل غايته أن يكون‬
‫كمؤمن آل فرعون وامرأة فرعون‪ ،‬وهو لم يكن موافقا لهم على جميع‬
‫دينهم‪ ،‬ول كان يكذب‪ ،‬ول يقول بلسانه ما ليس في قلبه‪ ،‬بل كان يكتم‬
‫إيمانه‪ ،‬وكتمان الدين شيء وإظهار الدين الباطل شيء آخر‪ ،‬فهذا لم يبحه‬
‫الله إل لمن أكره إلخ‬

‫) ‪(1/127‬‬

‫سوٍء ت َوَد ّ ل َ ْ‬
‫و‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬
‫ت ِ‬ ‫مل َ ْ‬
‫ما عَ ِ‬ ‫ضًرا وَ َ‬‫ح َ‬‫م ْ‬‫خي ْرٍ ُ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫ت ِ‬‫مل َ ْ‬‫ما عَ ِ‬ ‫س َ‬ ‫فَ ٍ‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫جد ُ ك ُ ّ‬ ‫م تَ ِ‬ ‫ي َوْ َ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ف ِبالعَِبادِ )‪(30‬‬ ‫ه َرُءو ٌ‬ ‫ه َوالل ُ‬ ‫س ُ‬
‫ف َ‬‫ه نَ ْ‬
‫م الل ُ‬ ‫حذ ُّرك ُ‬
‫دا وَي ُ َ‬‫دا ب َِعي ً‬
‫م ً‬
‫هأ َ‬ ‫ن ب َي ْن ََها وَب َي ْن َ ُ‬‫أ ّ‬

‫سوءٍ ت َوَد ّ ل َ ْ‬
‫و‬ ‫ن ُ‬‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫مل َ ْ‬
‫ما عَ ِ‬
‫ضًرا وَ َ‬ ‫ح َ‬‫م ْ‬‫خي ْرٍ ُ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫مل َ ْ‬‫ما عَ ِ‬ ‫س َ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫جد ُ ك ُ ّ‬ ‫م تَ ِ‬‫} ي َوْ َ‬
‫ف ِبال ْعَِبادِ { ‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه َرُءو ٌ‬ ‫ه َوالل ّ ُ‬‫س ُ‬‫ف َ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ه نَ ْ‬ ‫حذ ُّرك ُ ُ‬
‫دا وَي ُ َ‬
‫دا ب َِعي ً‬
‫م ً‬ ‫هأ َ‬ ‫ن ب َي ْن ََها وَب َي ْن َ ُ‬
‫أ ّ‬
‫وفي ضمن إخبار الله عن علمه وقدرته الخبار بما هو لزم ذلك من‬
‫المجازاة على العمال‪ ،‬ومحل ذلك يوم القيامة‪ ،‬فهو الذي توفى به‬
‫النفوس بأعمالها فلهذا قال } يوم تجد كل نفس ما عملت من خير‬
‫محضًرا { ‪.‬‬
‫أي‪ :‬كامل موفرا لم ينقص مثقال ذرة‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬فمن يعمل مثقال‬
‫ذرة خيًرا يره { والخير‪ :‬اسم جامع لكل ما يقرب إلى الله من العمال‬
‫الصالحة صغيرها وكبيرها‪ ،‬كما أن السوء اسم جامع لكل ما يسخط الله‬
‫من العمال السيئة صغيرها وكبيرها } وما عملت من سوء تود لو أن بينها‬
‫دا { أي‪ :‬مسافة بعيدة‪ ،‬لعظم أسفها وشدة حزنها‪ ،‬فليحذر‬ ‫دا بعي ً‬
‫وبينه أم ً‬
‫العبد من أعمال السوء التي ل بد أن يحزن عليها أشد الحزن‪ ،‬وليتركها‬
‫وقت المكان قبل أن يقول } يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله { }‬
‫يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الرض { } ويوم‬
‫يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيل يا ويلتا‬
‫ليتني لم أتخذ فلًنا خليل { } حتى إذا جاءنا قال يا ليت بيني وبينك بعد‬
‫المشرقين فبئس القرين { فوالله لترك كل شهوة ولذة وان عسر تركها‬
‫على النفس في هذه الدار أيسر من معاناة تلك الشدائد واحتمال تلك‬
‫الفضائح‪ ،‬ولكن العبد من ظلمه وجهله ل ينظر إل المر الحاضر‪ ،‬فليس له‬
‫عقل كامل يلحظ به عواقب المور فيقدم على ما ينفعه عاجل وآجل‬
‫ويحجم عن ما يضره عاجل وآجل ثم أعاد تعالى تحذيرنا نفسه رأفة بنا‬
‫ورحمة لئل يطول علينا المد فتقسو قلوبنا‪ ،‬وليجمع لنا بين الترغيب‬
‫الموجب للرجاء والعمل الصالح‪ ،‬والترهيب الموجب للخوف وترك الذنوب‪،‬‬
‫ف بالعباد { فنسأله أن يمن علينا‬ ‫فقال } ويحذركم الله نفسه والله رءو ٌ‬
‫بالحذر منه على الدوام‪ ،‬حتى ل نفعل ما يسخطه ويغضبه‪.‬‬

‫) ‪(1/128‬‬

‫م َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫فْر ل َك ُ ْ‬
‫م ذ ُُنوب َك ُ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ه وَي َغْ ِ‬ ‫حب ِب ْك ُ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َفات ّب ُِعوِني ي ُ ْ‬ ‫حّبو َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م تُ ِ‬ ‫قُ ْ‬
‫ل إِ ْ‬
‫م )‪(31‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫غَ ُ‬

‫فْر ل َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ه وَي َغْ ِ‬ ‫حب ِب ْك ُ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َفات ّب ُِعوِني ي ُ ْ‬ ‫حّبو َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م تُ ِ‬ ‫} ‪ } { 31‬قُ ْ‬
‫ل إِ ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حي ٌ‬‫فوٌر َر ِ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬
‫ه غَ ُ‬ ‫ذ ُُنوب َك ُ ْ‬
‫وهذه الية فيها وجوب محبة الله‪ ،‬وعلماتها‪ ،‬ونتيجتها‪ ،‬وثمراتها‪ ،‬فقال‬
‫} قل إن كنتم تحبون الله { أي‪ :‬ادعيتم هذه المرتبة العالية‪ ،‬والرتبة التي‬
‫ليس فوقها رتبة فل يكفي فيها مجرد الدعوى‪ ،‬بل ل بد من الصدق فيها‪،‬‬
‫وعلمة الصدق اتباع رسوله صلى الله عليه وسلم في جميع أحواله‪ ،‬في‬
‫أقواله وأفعاله‪ ،‬في أصول الدين وفروعه‪ ،‬في الظاهر والباطن‪ ،‬فمن اتبع‬
‫الرسول دل على صدق دعواه محبة الله تعالى‪ ،‬وأحبه الله وغفر له ذنبه‪،‬‬
‫ورحمه وسدده في جميع حركاته وسكناته‪ ،‬ومن لم يتبع الرسول فليس‬
‫محبا لله تعالى‪ ،‬لن محبته لله توجب له اتباع رسوله‪ ،‬فما لم يوجد ذلك‬
‫دل على عدمها وأنه كاذب إن ادعاها‪ ،‬مع أنها على تقدير وجودها غير‬
‫نافعة بدون شرطها‪ ،‬وبهذه الية يوزن جميع الخلق‪ ،‬فعلى حسب حظهم‬
‫من اتباع الرسول يكون إيمانهم وحبهم لله‪ ،‬وما نقص من ذلك نقص‪.‬‬

‫) ‪(1/128‬‬

‫ب ال ْ َ‬ ‫ه َل ي ُ ِ‬ ‫قُ ْ َ‬
‫ن )‪(32‬‬
‫ري َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن ت َوَل ّ ْ‬
‫وا فَإ ِ ّ‬ ‫ل فَإ ِ ْ‬
‫سو َ‬ ‫طيُعوا الل ّ َ‬
‫ه َوالّر ُ‬ ‫لأ ِ‬
‫} ‪ } { 32‬قُ ْ َ‬
‫ب‬‫ح ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ل يُ ِ‬ ‫ن ت َوَل ّ ْ‬
‫وا فَإ ِ ّ‬ ‫ل فَإ ِ ْ‬
‫سو َ‬ ‫طيُعوا الل ّ َ‬
‫ه َوالّر ُ‬ ‫لأ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫كافِ ِ‬
‫وهذا أمر من الله تعالى لعباده بأعم الوامر‪ ،‬وهو طاعته وطاعة رسوله‬
‫التي يدخل بها اليمان والتوحيد‪ ،‬وما هو من فروع ذلك من العمال‬
‫والقوال الظاهرة والباطنة‪ ،‬بل يدخل في طاعته وطاعة رسوله اجتناب ما‬
‫نهى عنه‪ ،‬لن اجتنابه امتثال لمر الله هو من طاعته‪ ،‬فمن أطاع الله‬
‫ورسوله‪ ،‬فأولئك هم المفلحون } فإن تولوا { أي‪ :‬أعرضوا عن طاعة الله‬
‫ورسوله فليس ثم أمر يرجعون إليه إل الكفر وطاعة كل شيطان مريد‬
‫} كتب عليه أنه من توله فأنه يضله ويهديه إلى عذاب السعير { فلهذا‬
‫قال‪ } :‬فإن تولوا فإن الله ل يحب الكافرين { بل يبغضهم ويمقتهم‬
‫ويعاقبهم أشد العقوبة‪ ،‬وكأن في هذه الية الكريمة بيانا وتفسيرا لتباع‬
‫رسوله‪ ،‬وأن ذلك بطاعة الله وطاعة رسوله‪ ،‬هذا هو التباع الحقيقي‪ ،‬ثم‬
‫قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/128‬‬

‫ن )‪(33‬‬ ‫مي َ‬ ‫ن عََلى ال َْعال َ ِ‬ ‫مَرا َ‬ ‫ع ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫م وَآ َ َ‬ ‫هي َ‬ ‫ل إ ِب َْرا ِ‬ ‫حا وَآ َ َ‬ ‫م وَُنو ً‬ ‫فى آ َد َ َ‬ ‫صط َ َ‬ ‫ها ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫إِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ب‬ ‫ن َر ّ‬ ‫مَرا َ‬ ‫ع ْ‬ ‫مَرأةُ ِ‬ ‫تا ْ‬ ‫م )‪ (34‬إ ِذ ْ َقال ِ‬ ‫ميعٌ عَِلي ٌ‬ ‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ض َوالل ُ‬ ‫ن ب َعْ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ضَها ِ‬ ‫ة ب َعْ ُ‬ ‫ذ ُّري ّ ً‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫قب ّ ْ‬‫حّرًرا فَت َ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م)‬ ‫ميعُ العَِلي ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫مّني إ ِن ّك أن ْ َ‬ ‫ل ِ‬ ‫م َ‬ ‫ما ِفي ب َطِني ُ‬ ‫ت لك َ‬ ‫إ ِّني ن َذ َْر ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫س‬
‫ت وَلي ْ َ‬ ‫ضع َ ْ‬ ‫ما وَ َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ه أعْل ُ‬ ‫ضعْت َُها أن َْثى َوالل ُ‬ ‫ب إ ِّني وَ َ‬ ‫ت َر ّ‬ ‫ضعَت َْها َقال ْ‬ ‫ما وَ َ‬ ‫‪ (35‬فَل َ ّ‬
‫شي ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫الذ ّك َر َ ُ‬
‫ن‬
‫طا ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ك وَذ ُّري ّت ََها ِ‬ ‫ها ب ِ َ‬ ‫عيذ ُ َ‬ ‫م وَإ ِّني أ ِ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫مي ْت َُها َ‬ ‫س ّ‬ ‫كاْلن َْثى وَإ ِّني َ‬ ‫ُ‬
‫ما‬‫فل ََها َزك َرِّيا ك ُل َّ‬ ‫سًنا وَك َ ّ‬ ‫ح‬ ‫تا‬ ‫با‬ ‫ن‬ ‫ها‬ ‫ت‬ ‫ب‬ ‫ن‬‫قبول حسن وأ َ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ها‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ها‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ب‬‫َ‬ ‫ق‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫(‬‫‪36‬‬ ‫)‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ٍ َ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الّر ِ ِ‬
‫م‬ ‫جي‬
‫ت‬ ‫َ‬
‫ذا َقال ْ‬ ‫ك هَ َ‬ ‫َ‬
‫م أّنى ل ِ‬ ‫مْري َ ُ‬ ‫ل َيا َ‬ ‫ها رِْزًقا َقا َ‬ ‫عن ْد َ َ‬‫جد َ ِ‬ ‫ب وَ َ‬ ‫حَرا َ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ل عَلي َْها َزك َرِّيا ال ِ‬ ‫َ‬ ‫خ َ‬ ‫دَ َ‬
‫ب )‪(37‬‬ ‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫شاُء ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ي َْرُزقُ َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ّ‬
‫عن ْدِ اللهِ إ ِ ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫هُوَ ِ‬

‫ن عََلى‬ ‫مَرا َ‬ ‫ع ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫م َوآ َ‬ ‫هي َ‬ ‫ل إ ِب َْرا ِ‬ ‫حا َوآ َ‬ ‫م وَُنو ً‬ ‫فى آد َ َ‬ ‫صط َ َ‬ ‫ها ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} ‪ } { 37 - 33‬إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن‬
‫مَرا َ‬ ‫ع ْ‬ ‫مَرأةُ ِ‬ ‫تا ْ‬ ‫م * إ ِذ ْ َقال ِ‬ ‫ميعٌ عَِلي ٌ‬ ‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ض َوالل ُ‬ ‫ن ب َعْ ٍ‬ ‫م ْ‬‫ضَها ِ‬ ‫ة ب َعْ ُ‬ ‫ن * ذ ُّري ّ ً‬ ‫مي َ‬ ‫ال َْعال َ ِ‬
‫َ‬
‫ميعُ ال ْعَِلي ُ‬
‫م‬ ‫س ِ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫مّني إ ِن ّ َ‬ ‫ل ِ‬ ‫قب ّ ْ‬ ‫حّرًرا فَت َ َ‬ ‫م َ‬‫ما ِفي ب َط ِْني ُ‬ ‫ك َ‬ ‫ت لَ َ‬ ‫ب إ ِّني ن َذ َْر ُ‬ ‫َر ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫س‬
‫ت وَلي ْ َ‬ ‫ضعَ ْ‬ ‫ما وَ َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ه أعْل ُ‬ ‫ضعْت َُها أن َْثى َوالل ُ‬ ‫ب إ ِّني وَ َ‬ ‫ت َر ّ‬ ‫ضعَت َْها َقال ْ‬ ‫ما وَ َ‬ ‫* فَل ّ‬
‫َ‬ ‫ها ب ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫الذ ّك َُر َ‬
‫ن‬
‫شي ْطا ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ك وَذ ُّري ّت ََها ِ‬ ‫عيذ ُ َ‬ ‫م وَإ ِّني أ ِ‬ ‫مْري َ َ‬‫مي ْت َُها َ‬ ‫س ّ‬ ‫كالن َْثى وَإ ِّني َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فلَها َزك َرِّيا ك ُل َ‬
‫ما‬ ‫سًنا وَك َ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ن وَأن ْب َت ََها ن ََباًتا َ‬ ‫س ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫ل َ‬ ‫قُبو ٍ‬ ‫قب ّلَها َرب َّها ب ِ َ‬ ‫جيم ِ * فَت َ َ‬ ‫الّر ِ‬
‫َ‬
‫ذا َقال َ ْ‬
‫ت‬ ‫ك هَ َ‬ ‫م أّنى ل َ ِ‬ ‫مْري َ ُ‬ ‫ل َيا َ‬ ‫ها رِْزًقا َقا َ‬ ‫عن ْد َ َ‬ ‫جد َ ِ‬ ‫ب وَ َ‬ ‫حَرا َ‬ ‫م ْ‬‫ل عَل َي َْها َزك َرِّيا ال ْ ِ‬ ‫خ َ‬ ‫دَ َ‬
‫ب{‪.‬‬ ‫سا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫شاُء ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ي َْرُزقُ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫عن ْدِ الل ّهِ إ ِ ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫هُوَ ِ‬
‫يخبر تعالى باختيار من اختاره من أوليائه وأصفيائه وأحبابه‪ ،‬فأخبر أنه‬
‫اصطفى آدم‪ ،‬أي‪ :‬اختاره على سائر المخلوقات‪ ،‬فخلقه بيده ونفخ فيه من‬
‫روحه‪ ،‬وأمر الملئكة بالسجود له‪ ،‬وأسكنه جنته‪ ،‬وأعطاه من العلم ] ص‬
‫‪ [ 129‬والحلم والفضل ما فاق به سائر المخلوقات‪ ،‬ولهذا فضل بنيه‪،‬‬
‫فقال تعالى‪ } :‬ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم‬
‫من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيل { ‪.‬‬
‫واصطفى نوحا فجعله أول رسول إلى أهل الرض حين عبدت الوثان‪،‬‬
‫ووفقه من الصبر والحتمال والشكر والدعوة إلى الله في جميع الوقات‬
‫ما أوجب اصطفاءه واجتباءه‪ ،‬وأغرق الله أهل الرض بدعوته‪ ،‬ونجاه ومن‬
‫)‪ (1‬معه في الفلك المشحون‪ ،‬وجعل ذريته هم الباقين‪ ،‬وترك عليه ثناء‬
‫يذكر في جميع الحيان والزمان‪.‬‬
‫واصطفى آل إبراهيم وهو إبراهيم خليل الرحمن الذي اختصه الله بخلته‪،‬‬
‫وبذل نفسه للنيران وولده للقربان وماله للضيفان‪ ،‬ودعا إلى ربه ليل‬
‫ونهارا وسرا وجهارا‪ ،‬وجعله الله أسوة يقتدي به من بعده‪ ،‬وجعل في ذريته‬
‫النبوة والكتاب‪ ،‬ويدخل في آل إبراهيم جميع النبياء الذين بعثوا من بعده‬
‫لنهم من ذريته‪ ،‬وقد خصهم بأنواع الفضائل ما كانوا به صفوة على‬
‫العالمين‪ ،‬ومنهم سيد ولد آدم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله‬
‫تعالى جمع فيه من الكمال ما تفرق في غيره‪ ،‬وفاق صلى الله عليه وسلم‬
‫الولين والخرين‪ ،‬فكان سيد المرسلين المصطفى من ولد إبراهيم‪.‬‬
‫واصطفى الله آل عمران وهو والد مريم بنت عمران‪ ،‬أو والد موسى بن‬
‫عمران عليه السلم‪ ،‬فهذه البيوت التي ذكرها الله هي صفوته من‬
‫العالمين‪ ،‬وتسلسل الصلح والتوفيق بذرياتهم‪ ،‬فلهذا قال تعالى } ذرية‬
‫بعضها من بعض { ‪.‬‬
‫أي‪ :‬حصل التناسب والتشابه بينهم في الخلق والخلق الجميلة‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى لما ذكر جملة من النبياء الداخلين في ضمن هذه البيوت الكبار‬
‫} ومن آبائهم وإخوانهم وذرياتهم واجتبيناهم وهديناهم إلى صراط مستقيم‬
‫{ } والله سميع عليم { يعلم من يستحق الصطفاء فيصطفيه ومن ل‬
‫يستحق ذلك فيخذله ويرديه‪ ،‬ودل هذا على أن هؤلء اختارهم لما علم من‬
‫أحوالهم الموجبة لذلك فضل منه وكرما‪ ،‬ومن الفائدة والحكمة في قصه‬
‫علينا أخبار هؤلء الصفياء أن نحبهم ونقتدي بهم‪ ،‬ونسأل الله أن يوفقنا‬
‫لما وفقهم‪ ،‬وأن ل نزال نزري )‪ (2‬أنفسنا بتأخرنا عنهم وعدم اتصافنا‬
‫بأوصافهم ومزاياهم الجميلة‪ ،‬وهذا أيضا من لطفه بهم‪ ،‬وإظهاره الثناء‬
‫عليهم في الولين والخرين‪ ،‬والتنويه بشرفهم‪ ،‬فلله ما أعظم جوده وكرمه‬
‫وأكثر فوائد معاملته‪ ،‬لو لم يكن لهم من الشرف إل أن أذكارهم مخلدة‬
‫ومناقبهم مؤبدة لكفى بذلك فضل‬
‫ولما ذكر فضائل هذه البيوت الكريمة ذكر ما جرى لمريم والدة عيسى‬
‫وكيف لطف الله بها في تربيتها ونشأتها‪ ،‬فقال‪ } :‬إذ قالت امرأة عمران {‬
‫أي‪ :‬والدة مريم لما حملت } رب إني نذرت لك ما في بطني محرًرا {‬
‫أي‪ :‬جعلت ما في بطني خالصا لوجهك‪ ،‬محررا لخدمتك وخدمة بيتك‬
‫} فتقبل مني { هذا العمل المبارك } إنك أنت السميع العليم { تسمع‬
‫دعائي وتعلم نيتي وقصدي‪ ،‬هذا وهي في البطن قبل وضعها‬
‫} فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى { كأنها تشوفت أن يكون ذكرا‬
‫ليكون أقدر على الخدمة وأعظم موقعا‪ ،‬ففي كلمها ]نوع[ )‪ (3‬عذر من‬
‫ربها‪ ،‬فقال الله‪ } :‬والله أعلم بما وضعت { أي‪ :‬ل يحتاج إلى إعلمها‪ ،‬بل‬
‫علمه متعلق بها قبل أن تعلم أمها ما هي } وليس الذكر كالنثى وإني‬
‫سميتها مريم { فيه دللة على تفضيل الذكر على النثى‪ ،‬وعلى التسمية‬
‫وقت الولدة‪ ،‬وعلى أن للم تسمية الولد إذا لم يكره الب } وإني أعيذها‬
‫بك وذريتها من الشيطان الرجيم { دعت لها ولذريتها أن يعيذهم الله من‬
‫الشيطان الرجيم‪.‬‬
‫} فتقبلها ربها بقبول حسن { أي‪ :‬جعلها نذيرة مقبولة‪ ،‬وأجارها وذريتها‬
‫من الشيطان } وأنبتها نباًتا حسًنا { أي‪ :‬نبتت نباتا حسنا في بدنها وخلقها‬
‫وأخلقها‪ ،‬لن الله تعالى قيض لها زكريا عليه السلم } وكفلها { إياه‪ ،‬وهذا‬
‫من رفقه بها ليربيها على أكمل الحوال‪ ،‬فنشأت في عبادة ربها وفاقت‬
‫النساء‪ ،‬وانقطعت لعبادة ربها‪ ،‬ولزمت محرابها أي‪ :‬مصلها فكان } كلما‬
‫دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزًقا { أي‪ :‬من غير كسب ول تعب‪،‬‬
‫بل رزق ساقه الله إليها‪ ،‬وكرامة أكرمها الله بها‪ ،‬فيقول لها زكريا } أنى‬
‫لك هذا قالت هو من عند الله { فضل وإحسانا } إن الله يرزق من يشاء‬
‫بغير حساب { أي‪ :‬من غير حسبان من العبد ول كسب‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫جا ويرزقه من حيث ل يحتسب { وفي هذه‬ ‫} ومن يتق الله يجعل له مخر ً‬
‫الية دليل على إثبات كرامات الولياء الخارقة للعادة كما قد تواترت‬
‫الخبار بذلك‪ ،‬خلفا لمن نفى ذلك‪ ،‬فلما رأى زكريا عليه السلم ما من الله‬
‫به على مريم‪ ،‬وما أكرمها به من رزقه الهنيء الذي أتاها بغير سعي منها‬
‫ول كسب‪ ،‬طمعت نفسه بالولد‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في الصل‪ :‬وممن‪.‬‬
‫)‪ (2‬في الصل‪ :‬نزدي‪.‬‬
‫)‪ (3‬الكلمة غير واضحة في الصل ويبدو ‪ -‬والله أعلم ‪ -‬أنها كما أثبت‪.‬‬

‫) ‪(1/128‬‬

‫ميعُ‬ ‫س ِ‬ ‫ك َ‬ ‫ة إ ِن ّ َ‬ ‫ة ط َي ّب َ ً‬ ‫ك ذ ُّري ّ ً‬ ‫ن ل َد ُن ْ َ‬‫م ْ‬ ‫ب ِلي ِ‬ ‫ب هَ ْ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫ه َقا َ‬ ‫عا َزك َرِّيا َرب ّ ُ‬ ‫ك دَ َ‬‫هَُنال ِ َ‬
‫َ‬
‫شُر َ‬
‫ك‬ ‫ه ي ُب َ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫بأ ّ‬ ‫حَرا ِ‬ ‫م ْ‬‫صّلي ِفي ال ْ ِ‬ ‫م يُ َ‬ ‫ة وَهُوَ َقائ ِ ٌ‬ ‫مَلئ ِك َ ُ‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫عاِء )‪ (38‬فََناد َت ْ ُ‬ ‫الد ّ َ‬
‫ن )‪َ (39‬قا َ‬
‫ل‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫صوًرا وَن َب ِّيا ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫دا وَ َ‬ ‫سي ّ ً‬ ‫ّ‬
‫ن اللهِ وَ َ‬ ‫م َ‬ ‫مةٍ ِ‬ ‫صد ًّقا ب ِك َل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫حَيى ُ‬ ‫ب ِي َ ْ‬
‫هّ‬ ‫ل ك َذ َل ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ب أّنى ي َ ُ‬‫َ‬
‫ك الل ُ‬ ‫عاقٌِر َقا َ‬ ‫مَرأِتي َ‬ ‫ي الك ِب َُر َوا ْ‬ ‫م وَقَد ْ ب َلغَن ِ َ‬ ‫ن ِلي غُل ٌ‬ ‫كو ُ‬ ‫َر ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫س ث َلث َ َ‬
‫ة‬ ‫م الّنا َ‬ ‫ك أل ت ُك َل َ‬ ‫ل آي َت ُ َ‬ ‫ة َقا َ‬ ‫ل ِلي آي َ ً‬ ‫جع َ ْ‬ ‫با ْ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫شاُء )‪َ (40‬قا َ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫ل َ‬ ‫فع َ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫ي َواْل ِب ْ َ‬ ‫َ‬
‫كارِ )‪(41‬‬ ‫ش ّ‬ ‫ح ِبال ْعَ ِ‬ ‫سب ّ ْ‬ ‫ك ك َِثيًرا وَ َ‬ ‫مًزا َواذ ْك ُْر َرب ّ َ‬ ‫أّيام ٍ إ ِّل َر ْ‬

‫ك ذ ُّري ّ ً‬
‫ة‬ ‫ن ل َد ُن ْ َ‬‫م ْ‬‫ب ِلي ِ‬ ‫ب هَ ْ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫ه َقا َ‬ ‫عا َزك َرِّيا َرب ّ ُ‬ ‫ك دَ َ‬ ‫} ‪ } { 41 - 38‬هَُنال ِ َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫بأ ّ‬ ‫حَرا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫صّلي ِفي ال ْ ِ‬ ‫م يُ َ‬ ‫ة وَهُوَ َقائ ِ ٌ‬ ‫ملئ ِك َ ُ‬ ‫ه ال ْ َ‬‫عاِء * فََناد َت ْ ُ‬ ‫ميعُ الد ّ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ك َ‬ ‫ة إ ِن ّ َ‬‫ط َي ّب َ ً‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫صوًرا وَن َب ِّيا ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫دا وَ َ‬ ‫سي ّ ً‬‫ن الل ّهِ وَ َ‬ ‫م َ‬ ‫مةٍ ِ‬ ‫صد ًّقا ب ِك َل ِ َ‬
‫م َ‬ ‫حَيى ُ‬ ‫ك ب ِي َ ْ‬ ‫شُر َ‬ ‫ه ي ُب َ ّ‬ ‫الل ّ َ‬
‫عاقٌِر‬ ‫مَرأ َِتي َ‬ ‫ي ال ْك ِب َُر َوا ْ‬ ‫م وَقَد ْ ب َل َغَن ِ َ‬ ‫غل ٌ‬ ‫ن ِلي ُ‬ ‫كو ُ‬ ‫ب أ َّنى ي َ ُ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫ن * َقا َ‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫م‬‫ك أل ت ُك َل َ‬ ‫ل آي َت ُ َ‬ ‫ة َقا َ‬ ‫ل ِلي آي َ ً‬ ‫جعَ ْ‬ ‫با ْ‬ ‫ل َر ّ‬ ‫شاُء * َقا َ‬ ‫ما ي َ َ‬‫ل َ‬ ‫فعَ ُ‬‫ه يَ ْ‬‫ك الل ُ‬ ‫ل ك َذ َل ِ َ‬ ‫َقا َ‬
‫َ‬
‫كارِ { ‪.‬‬ ‫ي َوالب ْ َ‬ ‫ش ّ‬ ‫ح ِبال ْعَ ِ‬ ‫سب ّ ْ‬‫ك ك َِثيًرا وَ َ‬ ‫مًزا َواذ ْك ُْر َرب ّ َ‬ ‫ة أّيام ٍ ِإل َر ْ‬ ‫س َثلث َ َ‬ ‫الّنا َ‬
‫أي‪ :‬دعا زكريا عليه السلم ربه أن يرزقه ذرية طيبة‪ ،‬أي‪ :‬طاهرة الخلق‪،‬‬
‫طيبة الداب‪ ،‬لتكمل النعمة الدينية والدنيوية بهم‪ .‬فاستجاب له ] ص‬
‫‪ [ 130‬دعاءه‪.‬‬
‫وبينما هو قائم في محرابه يتعبد لربه ويتضرع نادته الملئكة } أن الله‬
‫يبشرك بيحيى مصدًقا بكلمة من الله { أي‪ :‬بعيسى عليه السلم‪ ،‬لنه كان‬
‫دا { أي‪ :‬يحصل له من الصفات الجميلة ما يكون به‬ ‫بكلمة الله } وسي ً‬
‫سيدا يرجع إليه في المور } وحصوًرا { أي‪ :‬ممنوعا من إتيان النساء‪،‬‬
‫فليس في قلبه لهن شهوة‪ ،‬اشتغال بخدمة ربه وطاعته } ونبًيا من‬
‫الصالحين { فأي‪ :‬بشارة أعظم من هذا الولد الذي حصلت البشارة‬
‫بوجوده‪ ،‬وبكمال صفاته‪ ،‬وبكونه نبيا من الصالحين‪ ،‬فقال زكريا من شدة‬
‫فرحه } رب أنى يكون لي غلم وقد بلغني الكبر وامرأتي عاقر { وكل‬
‫واحد من المرين مانع من وجود الولد‪ ،‬فكيف وقد اجتمعا‪ ،‬فأخبره الله‬
‫تعالى أن هذا خارق للعادة‪ ،‬فقال‪ } :‬كذلك الله يفعل ما يشاء { فكما أنه‬
‫تعالى قدر وجود الولد بالسباب التي منها التناسل‪ ،‬فإذا أراد أن يوجدهم‬
‫من غير ما سبب فعل‪ ،‬لنه ل يستعصي عليه شيء‪ ،‬فقال زكريا عليه‬
‫السلم استعجال لهذا المر‪ ،‬وليحصل له كمال الطمأنينة‪.‬‬
‫} رب اجعل لي آية { أي‪ :‬علمة على وجود الولد قال } آيتك أل تكلم‬
‫الناس ثلثة أيام إل رمًزا { أي‪ :‬ينحبس لسانك عن كلمهم من غير آفة ول‬
‫سوء‪ ،‬فل تقدر إل على الشارة والرمز‪ ،‬وهذا آية عظيمة أن ل تقدر على‬
‫الكلم‪ ،‬وفيه مناسبة عجيبة‪ ،‬وهي أنه كما يمنع نفوذ السباب مع وجودها‪،‬‬
‫فإنه يوجدها بدون أسبابها ليدل ذلك أن السباب كلها مندرجة في قضائه‬
‫وقدره‪ ،‬فامتنع من الكلم ثلثة أيام‪ ،‬وأمره الله أن يشكره ويكثر من ذكره‬
‫بالعشي والبكار‪ ،‬حتى إذا خرج على قومه من المحراب } فأوحى إليهم‬
‫أن سبحوا بكرة وعشّيا { أي‪ :‬أول النهار وآخره‪.‬‬

‫) ‪(1/129‬‬

‫ك عََلى ن ِ َ‬
‫ساِء‬ ‫فا ِ‬‫صط َ َ‬‫ك َوا ْ‬ ‫ك وَط َهَّر ِ‬ ‫فا ِ‬ ‫صط َ َ‬ ‫ها ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫مْري َ ُ‬ ‫ة َيا َ‬ ‫مَلئ ِك َ ُ‬‫ت ال ْ َ‬ ‫وَإ ِذ ْ َقال َ ِ‬
‫ن )‪(43‬‬ ‫معَ الّراك ِِعي َ‬ ‫دي َواْرك َِعي َ‬ ‫ج ِ‬‫س ُ‬ ‫ك َوا ْ‬ ‫م اقْن ُِتي ل َِرب ّ ِ‬ ‫مْري َ ُ‬‫ن )‪َ (42‬يا َ‬ ‫مي َ‬ ‫ال َْعال َ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫م أي ّهُ ْ‬ ‫ن أقَْل َ‬
‫مه ُ ْ‬ ‫قو َ‬‫م إ ِذ ْ ي ُل ْ ُ‬
‫ت ل َد َي ْهِ ْ‬ ‫ما ك ُن ْ َ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫حيهِ إ ِل َي ْ َ‬ ‫ب ُنو ِ‬ ‫ن أن َْباِء ال ْغَي ْ ِ‬ ‫م ْ‬‫ك ِ‬ ‫ذ َل ِ َ‬
‫ن )‪(44‬‬ ‫مو َ‬ ‫ص ُ‬
‫خت َ ِ‬‫م إ ِذ ْ ي َ ْ‬ ‫ت ل َد َي ْهِ ْ‬ ‫ما ك ُن ْ َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ف ُ‬ ‫ي َك ْ ُ‬

‫ك‬‫ك وَط َهَّر ِ‬ ‫فا ِ‬ ‫صط َ َ‬ ‫ها ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫مْري َ ُ‬ ‫ة َيا َ‬ ‫ملئ ِك َ ُ‬ ‫ت ال ْ َ‬ ‫} ‪ } { 44 - 42‬وَإ ِذ ْ َقال َ ِ‬
‫ع‬
‫م َ‬‫دي َواْرك َِعي َ‬ ‫ج ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ك َوا ْ‬ ‫م اقْن ُِتي ل َِرب ّ ِ‬ ‫مْري َ ُ‬ ‫ن * َيا َ‬ ‫مي َ‬ ‫ساِء ال َْعال َ ِ‬ ‫ك عََلى ن ِ َ‬ ‫فا ِ‬ ‫صط َ َ‬ ‫َوا ْ‬
‫ْ‬
‫م إ ِذ ْ ي ُل ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫قو َ‬ ‫ت لد َي ْهِ ْ‬ ‫ما كن ْ َ‬ ‫حيهِ إ ِلي ْك وَ َ‬ ‫ب ُنو ِ‬ ‫ن أن َْباِء الغَي ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن * ذ َل ِك ِ‬ ‫الّراك ِِعي َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫ص ُ‬ ‫خت َ ِ‬‫م إ ِذ ْ ي َ ْ‬‫ت لد َي ْهِ ْ‬ ‫ما كن ْ َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ف ُ‬‫م ي َك ُ‬
‫م أي ّهُ ْ‬ ‫مهُ ْ‬ ‫أْقل َ‬
‫ينوه تعالى بفضيلة مريم وعلو قدرها‪ ،‬وأن الملئكة خاطبتها بذلك فقالت }‬
‫يا مريم إن الله اصطفاك { أي‪ :‬اختارك } وطّهرك { من الفات المنقصة‬
‫} واصطفاك على نساء العالمين { الصطفاء الول يرجع إلى الصفات‬
‫الحميدة والفعال السديدة‪ ،‬والصطفاء الثاني يرجع إلى تفضيلها على‬
‫سائر نساء العالمين‪ ،‬إما على عالمي زمانها‪ ،‬أو مطلقا‪ ،‬وإن شاركها أفراد‬
‫من النساء في ذلك كخديجة وعائشة وفاطمة‪ ،‬لم يناف الصطفاء‬
‫المذكور‪ ،‬فلما أخبرتها الملئكة باصطفاء الله إياها وتطهيرها‪ ،‬كان في هذا‬
‫من النعمة العظيمة والمنحة الجسيمة ما يوجب لها القيام بشكرها‪ ،‬فلهذا‬
‫قالت لها الملئكة‪ } :‬يا مريم اقنتي لربك {‬
‫} اقنتي لربك { القنوت دوام الطاعة في خضوع وخشوع‪ } ،‬واسجدي‬
‫واركعي مع الراكعين { خص السجود والركوع لفضلهما ودللتهما على‬
‫غاية الخضوع لله‪ ،‬ففعلت مريم‪ ،‬ما أمرت به شكرا لله تعالى وطاعة‪ ،‬ولما‬
‫أخبر الله نبيه بما أخبر به عن مريم‪ ،‬وكيف تنقلت بها الحوال التي قيضها‬
‫الله لها‪ ،‬وكان هذا من المور الغيبية التي ل تعلم إل بالوحي‪.‬‬
‫قال } ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك وما كنت لديهم { أي‪ :‬عندهم } إذ‬
‫يلقون أقلمهم أيهم يكفل مريم { لما ذهبت بها أمها إلى من لهم المر‬
‫على بيت المقدس‪ ،‬فتشاحوا وتخاصموا أيهم يكفل مريم‪ ،‬واقترعوا عليها‬
‫بأن ألقوا أقلمهم في النهر‪ ،‬فأيهم لم يجر قلمه مع الماء فله كفالتها‪،‬‬
‫فوقع ذلك لزكريا نبيهم وأفضلهم‪ ،‬فلما أ َ ْ‬
‫خَبرت َُهم يا محمد بهذه الخبار التي‬
‫ل علم لك ول لقومك بها دل على أنك صادق وأنك رسول الله حقا‪ ،‬فوجب‬
‫عليهم النقياد لك وامتثال أوامرك‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬وما كنت بجانب‬
‫الغربي إذ قضينا إلى موسى المر { اليات‪.‬‬

‫) ‪(1/130‬‬

‫سى‬
‫عي َ‬
‫ح ِ‬
‫سي ُ‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫م ِ‬ ‫م ُ‬
‫س ُ‬
‫ها ْ‬
‫من ْ ُ‬
‫مةٍ ِ‬ ‫ك ب ِك َل ِ َ‬ ‫شُر ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ي ُب َ ّ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫مْري َ ُ‬ ‫مَلئ ِك َ ُ‬
‫ة َيا َ‬ ‫ت ال ْ َ‬ ‫إ ِذ ْ َقال َ ِ‬
‫ن )‪(45‬‬ ‫قّرِبي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫م َ‬
‫خَرةِ وَ ِ‬ ‫جيًها ِفي الد ّن َْيا َواْل َ ِ‬ ‫م وَ ِ‬ ‫مْري َ َ‬‫ن َ‬ ‫اب ْ ُ‬
‫ه‬
‫م ُ‬
‫س ُ‬
‫ها ْ‬‫من ْ ُ‬ ‫ك ب ِك َل ِ َ‬
‫مةٍ ِ‬ ‫شُر ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ي ُب َ ّ‬ ‫م إِ ّ‬
‫مْري َ ُ‬ ‫ملئ ِك َ ُ‬
‫ة َيا َ‬ ‫ت ال ْ َ‬‫} ‪ } { 58 - 45‬إ ِذ ْ َقال َ ِ‬
‫ن{‪].‬ص‬ ‫قّرِبي َ‬ ‫م َ‬‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬‫خَرةِ وَ ِ‬ ‫جيًها ِفي الد ّن َْيا َوال ِ‬ ‫م وَ ِ‬ ‫مْري َ َ‬
‫ن َ‬‫سى اب ْ ُ‬ ‫عي َ‬
‫ح ِ‬
‫سي ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫م ِ‬
‫‪[ 131‬‬
‫يخبر تعالى أن الملئكة بشرت مريم عليها السلم بأعظم بشارة‪ ،‬وهو‬
‫كلمة الله عبده ورسوله عيسى ابن مريم‪ ،‬سمي كلمة الله لنه كان‬
‫بالكلمة من الله‪ ،‬لن حالته خارجة عن السباب‪ ،‬وجعله الله من آياته‬
‫وعجائب مخلوقاته‪ ،‬فأرسل الله جبريل عليه السلم إلى مريم‪ ،‬فنفخ في‬
‫جيب درعها فولجت فيها تلك النفخة الذكية من ذلك الملك الزكي‪ ،‬فأنشأ‬
‫الله منها تلك الروح الزكية‪ ،‬فكان روحانيا نشأ من مادة روحانية‪ ،‬فلهذا‬
‫سمى روح الله } وجيها في الدنيا والخرة { أي‪ :‬له الوجاهة العظيمة في‬
‫الدنيا‪ ،‬جعله الله أحد أولي العزم من المرسلين أصحاب الشرائع الكبار‬
‫والتباع‪ ،‬ونشر الله له من الذكر ما مل ما بين المشرق والمغرب‪ ،‬وفي‬
‫الخرة وجيها عند الله يشفع أسوة إخوانه من النبيين والمرسلين‪ ،‬ويظهر‬
‫فضله على أكثر العالمين‪ ،‬فلهذا كان من المقربين إلى الله‪ ،‬أقرب الخلق‬
‫إلى ربهم‪ ،‬بل هو عليه السلم من سادات المقربين‪.‬‬

‫) ‪(1/130‬‬

‫ن‬‫كو ُ‬ ‫ب أ َّنى ي َ ُ‬ ‫ت َر ّ‬ ‫ن )‪َ (46‬قال َ ْ‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫مهْدِ وَك َهًْل وَ ِ‬ ‫س ِفي ال ْ َ‬ ‫م الّنا َ‬ ‫وَي ُك َل ّ ُ‬
‫َ‬
‫مًرا‬ ‫ضى أ ْ‬ ‫ذا قَ َ‬ ‫شاُء إ ِ َ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫خل ُقُ َ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫ك الل ّ ُ‬ ‫ل ك َذ َل ِ ِ‬ ‫شٌر َقا َ‬ ‫سِني ب َ َ‬ ‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫ِلي وَل َد ٌ وَل َ ْ‬
‫جي َ‬
‫ل‬ ‫ة َوالت ّوَْراةَ َواْل ِن ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ب َوال ْ ِ‬ ‫ه ال ْك َِتا َ‬ ‫م ُ‬ ‫ن )‪ (47‬وَي ُعَل ّ ُ‬ ‫كو ُ‬ ‫ن فَي َ ُ‬ ‫ه كُ ْ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫قو ُ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫فَإ ِن ّ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫ق‬
‫خل ُ‬ ‫م أّني أ ْ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ب ِآي َةٍ ِ‬ ‫جئ ْت ُك ُ ْ‬ ‫ل أّني قَد ْ ِ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫سول إ ِلى ب َِني إ ِ ْ‬ ‫)‪ (48‬وََر ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ه‬
‫م َ‬‫ن اللهِ وَأب ْرِئُ الك ْ َ‬ ‫طي ًْرا ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫ن‬‫كو ُ‬ ‫خ ِفيهِ فَي َ ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫ن ك َهَي ْئ َةِ الطي ْرِ فَأن ْ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ن الطي‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫م ِ‬ ‫ل َك ُ ْ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن ِفي‬ ‫خُرو َ‬ ‫ما ت َد ّ ِ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫ما ت َأك ُُلو َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ن الل ّهِ وَأن َب ّئ ُك ُ ْ‬ ‫موَْتى ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫حِيي ال ْ َ‬ ‫ص وَأ ْ‬ ‫َواْلب َْر َ‬
‫ي‬
‫ن ي َد َ ّ‬ ‫ما ب َي ْ َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن )‪ (49‬وَ ُ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫ة ل َك ُ ْ‬ ‫ك َل َي َ ً‬ ‫ن ِفي ذ َل ِ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ب ُُيوت ِك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫م‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ب ِآي َةٍ ِ‬ ‫جئ ْت ُك ُ ْ‬ ‫م وَ ِ‬ ‫م عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫ذي ُ‬ ‫ض ال ّ ِ‬ ‫م ب َعْ َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن الت ّوَْراةِ وَِل ِ‬ ‫م َ‬
‫ِ‬
‫صَراطٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َفات ّ ُ‬
‫دوهُ هَذا ِ‬ ‫م فاعْب ُ ُ‬ ‫ه َرّبي وََرب ّك ْ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ن )‪ (50‬إ ِ ّ‬ ‫طيُعو ِ‬ ‫ه وَأ ِ‬ ‫قوا الل َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫صاِري إ َِلى الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ن أن ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫فَر َقا َ‬ ‫م ال ْك ُ ْ‬ ‫من ْهُ ُ‬ ‫سى ِ‬ ‫عي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ما أ َ‬ ‫م )‪ (51‬فَل َ ّ‬ ‫قي ٌ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫ن )‪(52‬‬ ‫َ‬ ‫مّنا ِباللهِ َوا ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َقا َ‬
‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫شهَد ْ ب ِأّنا ُ‬ ‫صاُر اللهِ آ َ‬ ‫ن أن ْ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫وارِّيو َ‬ ‫ح َ‬ ‫ل ال َ‬
‫ن ِلي‬ ‫كو ُ‬ ‫ب أ َّنى ي َ ُ‬ ‫ت َر ّ‬ ‫ن * َقال َ ْ‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫مهْدِ وَك َْهل وَ ِ‬ ‫س ِفي ال ْ َ‬ ‫م الّنا َ‬ ‫} وَي ُك َل ّ ُ‬
‫َ‬
‫ما‬‫مًرا فَإ ِن ّ َ‬ ‫ضى أ ْ‬ ‫ذا قَ َ‬ ‫شاُء إ ِ َ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫خل ُقُ َ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫ك الل ّ ُ‬ ‫ل ك َذ َل ِ ِ‬ ‫شٌر َقا َ‬ ‫سِني ب َ َ‬ ‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫وَل َد ٌ وَل َ ْ‬
‫سول‬ ‫ل * وََر ُ‬ ‫جي َ‬ ‫ة َوالت ّوَْراةَ َوالن ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ب َوال ْ ِ‬ ‫ه ال ْك َِتا َ‬ ‫م ُ‬ ‫ن * وَي ُعَل ّ ُ‬ ‫كو ُ‬ ‫ن فَي َ ُ‬ ‫ه كُ ْ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫قو ُ‬ ‫يَ ُ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ن الطي ِ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫خلقُ لك ْ‬ ‫م أّني أ ْ‬ ‫ُ‬
‫ن َرب ّك ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِبآي َةٍ ِ‬ ‫ُ‬
‫جئ ْت ُك ْ‬ ‫ل أّني قَد ْ ِ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫إ َِلى ب َِني إ ِ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ص‬
‫ه َوالب َْر َ‬ ‫م َ‬ ‫ن الل ّهِ وَأب ْرِئُ الك ْ َ‬ ‫ن ط َي ًْرا ب ِإ ِ ْذ ْ ِ‬ ‫كو ُ‬ ‫خ ِفيهِ فَي َ ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫ك َهَي ْئ َةِ الط ّي ْرِ فَأن ْ ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ن‬‫م إِ ّ‬ ‫ن ِفي ب ُُيوت ِك ُ ْ‬ ‫خُرو َ‬ ‫ما ت َد ّ ِ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫ما ت َأك ُُلو َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ن الل ّهِ وَأن َب ّئ ُك ُ ْ‬ ‫موَْتى ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫حِيي ال ْ َ‬ ‫وَأ ْ‬
‫ة‬
‫ن الت ّوَْرا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ي َد َيّ ِ‬ ‫ما ب َي ْ َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن * وَ ُ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫ة ل َك ُ ْ‬ ‫ك لي َ ً‬ ‫ِفي ذ َل ِ َ‬
‫قوا الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫م َفات ّ ُ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬‫م ِبآي َةٍ ِ‬ ‫جئ ْت ُك ُ ْ‬ ‫م وَ ِ‬ ‫م عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫ذي ُ‬ ‫ض ال ّ ِ‬ ‫م ب َعْ َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫َول ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫س‬
‫ح ّ‬ ‫ما أ َ‬ ‫م * فَل َ ّ‬ ‫قي ٌ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ط ُ‬ ‫صَرا ٌ‬ ‫ذا ِ‬ ‫دوهُ هَ َ‬ ‫م َفاعْب ُ ُ‬ ‫ه َرّبي وََرب ّك ُ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن * إِ ّ‬ ‫طيُعو ِ‬ ‫وَأ ِ‬
‫ل ال ْحواريون نح َ‬ ‫صاِري إ َِلى الل ّهِ َقا َ‬ ‫لم َ‬ ‫م ال ْك ُ ْ‬
‫صاُر‬ ‫ن أن ْ َ‬ ‫َ َ ِّ َ َ ْ ُ‬ ‫ن أن ْ َ‬ ‫فَر َقا ََ َ ْ‬ ‫من ْهُ ُ‬ ‫سى ِ‬ ‫عي َ‬ ‫ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫مّنا ِباللهِ َواشهَد ْ ب ِأّنا ُ‬ ‫ّ‬ ‫اللهِ آ َ‬ ‫ّ‬
‫} ويكلم الناس في المهد وكهل { وهذا غير التكليم المعتاد‪ ،‬بل المراد‬
‫يكلم الناس بما فيه صلحهم وفلحهم‪ ،‬وهو تكليم المرسلين‪ ،‬ففي هذا‬
‫إرساله ودعوته الخلق إلى ربهم‪ ،‬وفي تكليمهم في المهد آية عظيمة من‬
‫آيات الله ينتفع بها المؤمنون‪ ،‬وتكون حجة على المعاندين‪ ،‬أنه رسول رب‬
‫العالمين‪ ،‬وأنه عبد الله‪ ،‬وليكون نعمة وبراءة لوالدته مما رميت به } ومن‬
‫ن عليهم‪ ،‬ويدخله في جملتهم‪،‬‬ ‫الصالحين { أي‪ :‬يمن عليه بالصلح‪ ،‬من م ّ‬
‫وفي هذا عدة بشارات لمريم مع ما تضمن من التنويه بذكر المسيح عليه‬
‫السلم‪.‬‬
‫} قالت رب أنى يكون لي ولد ولم يمسسني بشر { والولد في العادة ل‬
‫يكون إل من مس البشر‪ ،‬وهذا استغراب منها‪ ،‬ل شك في قدرة الله‬
‫تعالى‪ } :‬قال كذلك الله يخلق ما يشاء إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن‬
‫فيكون { فأخبرها أن هذا أمر خارق للعادة‪ ،‬خلقه من يقول لكل أمر‬
‫أراده‪ :‬كن فيكون‪ ،‬فمن تيقن ذلك زال عنه الستغراب والتعجب‪ ،‬ومن‬
‫حكمة الباري تعالى أن تدرج بأخبار العباد من الغريب إلى ما هو أغرب‬
‫منه‪ ،‬فذكر وجود يحيى بن زكريا بين أبوين أحدهما كبير والخر عاقر‪ ،‬ثم‬
‫ذكر أغرب من ذلك وأعجب‪ ،‬وهو وجود عيسى عليه السلم من أم بل أب‬
‫ليدل عباده أنه الفعال لما يريد وأنه ما شاء كان وما لم يشاء لم يكن‪.‬‬
‫ثم أخبر تعالى عن منته العظيمة على عبده ورسوله عيسى عليه السلم‪،‬‬
‫فقال } ويعلمه الكتاب { يحتمل أن يكون المراد جنس الكتاب‪ ،‬فيكون‬
‫ذكر التوراة والنجيل تخصيصا لهما‪ ،‬لشرفهما وفضلهما واحتوائهما على‬
‫الحكام والشرائع التي يحكم بها أنبياء بني إسرائيل والتعليم‪ ،‬لذلك يدخل‬
‫فيه تعليم ألفاظه ومعانيه‪ ،‬ويحتمل أن يكون المراد بقوله } ويعلمه الكتاب‬
‫{ أي‪ :‬الكتابة‪ ،‬لن الكتابة من أعظم نعم الله على عباده ولهذا امتن تعالى‬
‫على عباده بتعليمهم بالقلم في أول سورة أنزلها فقال } اقرأ باسم ربك‬
‫الذي خلق خلق النسان من علق اقرأ وربك الكرم الذي علم بالقلم { ‪.‬‬
‫والمراد بالحكمة معرفة أسرار الشرع‪ ،‬ووضع الشياء مواضعها‪ ،‬فيكون‬
‫ذلك امتنانا على عيسى عليه السلم بتعليمه الكتابة والعلم والحكمة‪ ،‬وهذا‬
‫هو الكمال للنسان في نفسه‪.‬‬
‫ثم ذكر له كمال آخر وفضل زائدا على ما أعطاه الله من الفضائل‪ ،‬فقال }‬
‫ورسول إلى بني إسرائيل { فأرسله الله إلى هذا الشعب الفاضل الذين‬
‫هم أفضل العالمين في زمانهم يدعوهم إلى الله‪ ،‬وأقام له من اليات ما‬
‫دلهم أنه رسول الله حقا ونبيه صدقا ولهذا قال } أني قد جئتكم بآية من‬
‫ربكم أني أخلق لكم من الطين { طيرا‪ ،‬أي‪ :‬أصوره على شكل الطير‬
‫} فأنفخ فيه فيكون طيرا بإذن الله { أي‪ :‬طيرا له روح تطير بإذن الله‬
‫} وأبرئ الكمه { وهو الذي يولد أعمى } والبرص { بإذن الله } وأحيي‬
‫الموتى بإذن الله وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك‬
‫لية لكم إن كنتم مؤمنين { وأي‪ :‬آية أعظم من جعل الجماد حيوانا‪ ،‬وإبراء‬
‫ذوي العاهات التي ل قدرة للطباء في معالجتها‪ ،‬وإحياء الموتى‪ ،‬والخبار‬
‫بالمور الغيبية‪ ،‬فكل واحدة من هذه المور آية عظيمة بمفردها‪ ،‬فكيف بها‬
‫إذا اجتمعت وصدق بعضها بعضها؟ فإنها موجبة لليقان وداعية لليمان‪.‬‬
‫} ومصدقا لما بين يدي من التوراة { أي‪ :‬أتيت بجنس ما جاءت به التوراة‬
‫وما جاء به موسى عليه السلم‪ ،‬وعلمة الصادق أن يكون خبره من جنس‬
‫خبر الصادقين‪ ،‬يخبر بالصدق‪ ،‬ويأمر بالعدل من غير تخالف ول تناقض‪،‬‬
‫بخلف من ادعى دعوى كاذبة‪ ،‬خصوصا أعظم الدعاوى وهي دعوى النبوة‪،‬‬
‫فالكاذب فيها ل بد أن يظهر لكل أحد كذب صاحبها وتناقضه ومخالفته‬
‫لخبار الصادقين وموافقته لخبار الكاذبين‪ ،‬هذا موجب السنن الماضية‬
‫والحكمة اللهية والرحمة الربانية بعباده‪ ،‬إذ ل يشتبه الصادق بالكاذب في‬
‫دعوى النبوة أبدا‪ ،‬بخلف بعض المور الجزئية‪ ،‬فإنه قد يشتبه فيها الصادق‬
‫بالكاذب‪ ،‬وأما النبوة فإنه ] ص ‪ [ 132‬يترتب عليها هداية الخلق أو ضللهم‬
‫وسعادتهم وشقاؤهم‪ ،‬ومعلوم أن الصادق فيها من أكمل الخلق‪ ،‬والكاذب‬
‫فيها من أخس الخلق وأكذبهم وأظلمهم‪ ،‬فحكمة الله ورحمته بعباده أن‬
‫يكون بينهما من الفروق ما يتبين لكل من له عقل‪ ،‬ثم أخبر عيسى عليه‬
‫السلم أن شريعة النجيل شريعة فيها سهولة ويسرة فقال } ولحل لكم‬
‫بعض الذي حرم عليكم { فدل ذلك على أن أكثر أحكام التوراة لم ينسخها‬
‫النجيل بل كان متمما لها ومقررا } وجئتكم بآية من ربكم { تدل على‬
‫صدقي ووجوب اتباعي‪ ،‬وهي ما تقدم من اليات‪ ،‬والمقصود من ذلك كله‬
‫قوله } فاتقوا الله { بفعل ما أمر به وترك ما نهى عنه وأطيعوني فإن‬
‫طاعة الرسول طاعة لله‪.‬‬
‫} إن الله ربي وربكم فاعبدوه { استدل بتوحيد الربوبية الذي يقر به كل‬
‫أحد على توحيد اللهية الذي ينكره المشركون‪ ،‬فكما أن الله هو الذي‬
‫خلقنا ورزقنا وأنعم علينا نعما ظاهرة وباطنة‪ ،‬فليكن هو معبودنا الذي نألهه‬
‫بالحب والخوف والرجاء والدعاء والستعانة وجميع أنواع العبادة‪ ،‬وفي هذا‬
‫رد على النصارى القائلين بأن عيسى إله أو ابن الله‪ ،‬وهذا إقراره عليه‬
‫السلم بأنه عبد مدبر مخلوق‪ ،‬كما قال } إني عبد الله آتاني الكتاب‬
‫وجعلني نبيا { وقال تعالى‪ } :‬وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت‬
‫للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن‬
‫أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته { إلى قوله } ما قلت لهم‬
‫إل ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم { وقوله } هذا { أي‪ :‬عبادة‬
‫الله وتقواه وطاعة رسوله } صراط مستقيم { موصل إلى الله وإلى‬
‫جنته‪ ،‬وما عدا ذلك فهي طرق موصلة إلى الجحيم‪.‬‬
‫} فلما أحس عيسى منهم الكفر { أي‪ :‬رأى منهم عدم النقياد له‪ ،‬وقالوا‬
‫هذا سحر مبين‪ ،‬وهموا بقتله وسعوا في ذلك } قال من أنصاري إلى‬
‫الله { من يعاونني ويقوم معي بنصرة دين الله } قال الحواريون { وهم‬
‫النصار } نحن أنصار الله { أي‪ :‬انتدبوا معه وقاموا بذلك‪.‬‬

‫) ‪(1/131‬‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫مك َُروا‬ ‫ن )‪ (53‬وَ َ‬ ‫دي َ‬ ‫شاهِ ِ‬ ‫معَ ال ّ‬ ‫ل َفاك ْت ُب َْنا َ‬ ‫سو َ‬ ‫ت َوات ّب َعَْنا الّر ُ‬ ‫ما أن َْزل ْ َ‬ ‫مّنا ب ِ َ‬ ‫َرب َّنا آ َ‬
‫ك‬ ‫مت َوَّفي َ‬ ‫سى إ ِّني ُ‬ ‫عي َ‬ ‫ه َيا ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ن )‪ (54‬إ ِذ ْ َقا َ‬ ‫ري َ‬ ‫ماك ِ ِ‬ ‫خي ُْر ال ْ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ه َوالل ّ ُ‬ ‫مك ََر الل ّ ُ‬ ‫وَ َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ك فَوْقَ ال ِ‬ ‫ن ات ّب َُعو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ل ال ِ‬ ‫ع ُ‬ ‫جا ِ‬ ‫فُروا وَ َ‬ ‫نك َ‬‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬‫ّ‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫مطهُّر َ‬ ‫َ‬ ‫ي وَ ُ‬ ‫َ‬
‫ك إ ِل ّ‬ ‫وََرافِعُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫م ِفي ِ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬‫م ِفي َ‬ ‫م ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫حك ُ ُ‬ ‫م فَأ ْ‬ ‫جعُك ُ ْ‬ ‫مْر ِ‬ ‫ي َ‬ ‫م إ ِل ّ‬ ‫مة ِ ث ُ ّ‬ ‫قَيا َ‬‫فُروا إ ِلى ي َوْم ِ ال ِ‬ ‫كَ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫خَرةِ‬ ‫دا ِفي الد ّن َْيا َوال ِ‬ ‫دي ً‬ ‫ش ِ‬ ‫ذاًبا َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫فُروا فَأعَذ ّب ُهُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما ال ِ‬ ‫ن )‪ (55‬فَأ ّ‬ ‫فو َ‬ ‫خت َل ِ ُ‬ ‫تَ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ت فَي ُوَّفيهِ ْ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما ال ّ ِ‬‫ن )‪ (56‬وَأ ّ‬ ‫ري َ‬ ‫ص ِ‬ ‫ن َنا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما ل َهُ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ت َوالذ ّك ْ ِ‬
‫ر‬ ‫ن اْلَيا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫ك ن َت ُْلوهُ عَل َي ْ َ‬ ‫ن )‪ (57‬ذ َل ِ َ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬‫ب ال ّ‬ ‫ح ّ‬‫ه َل ي ُ ِ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬ ‫جوَرهُ ْ‬ ‫أ ُ‬
‫كيم ِ )‪(58‬‬ ‫ح ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬
‫مك ََر‬ ‫مك َُروا وَ َ‬ ‫ن * وَ َ‬ ‫دي َ‬ ‫شاهِ ِ‬ ‫معَ ال ّ‬ ‫ل َفاك ْت ُب َْنا َ‬ ‫سو َ‬ ‫ت َوات ّب َعَْنا الّر ُ‬ ‫ما أن َْزل ْ َ‬ ‫مّنا ب ِ َ‬ ‫} َرب َّنا آ َ‬
‫ي‬ ‫َ‬
‫ك إ ِل ّ‬ ‫ك وََرافِعُ َ‬ ‫مت َوَّفي َ‬ ‫سى إ ِّني ُ‬ ‫عي َ‬‫ه َيا ِ‬ ‫ّ‬
‫ل الل ُ‬ ‫ن * إ ِذ ْ َقا َ‬ ‫ري َ‬ ‫ماك ِ ِ‬ ‫ْ‬
‫خي ُْر ال َ‬ ‫ه َ‬ ‫ه َوالل ّ ُ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ك فَوْقَ ال ّ ِ‬ ‫ن ات ّب َُعو َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫ع ُ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫مط َهُّر َ‬
‫فُروا َ إ ِلى ي َوْم ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ذي َ‬ ‫جا ِ‬ ‫فُروا وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ذي‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫ك ِ‬ ‫وَ ُ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ما ال ِ‬ ‫ن * فَأ ّ‬ ‫فو َ‬ ‫خت َل ِ ُ‬‫م ِفيهِ ت َ ْ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬‫م ِفي َ‬ ‫م ب َي ْن َك ُ ْ‬‫حك ُ ُ‬ ‫م فَأ ْ‬ ‫جعُك ُ ْ‬ ‫مْر ِ‬ ‫ي َ‬ ‫َ‬
‫م إ ِل ّ‬ ‫مة ِ ث ُ ّ‬ ‫قَيا َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ما‬‫ن * وَأ ّ‬ ‫ري َ‬
‫ص ِ‬‫ن َنا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما ل َهُ ْ‬ ‫خَرةِ وَ َ‬ ‫دا ِفي الد ّن َْيا َوال ِ‬ ‫دي ً‬ ‫ش ِ‬ ‫ذاًبا َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫فُروا فَأعَذ ّب ُهُ ْ‬ ‫كَ َ‬
‫ب ال ّ‬ ‫ُ‬
‫ن*‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬ ‫جوَرهُ ْ‬ ‫مأ ُ‬ ‫ت فَي ُوَّفيهِ ْ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫كيم ِ { ‪.‬‬ ‫ح ِ‬‫ت َوالذ ّك ْرِ ال ْ َ‬ ‫ن الَيا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫علي ْ َ‬ ‫ك ن َت ُْلوهُ َ‬ ‫ذ َل ِ َ‬
‫وقالوا‪ } :‬آمنا بالله { } فاكتبنا مع الشاهدين { أي‪ :‬الشهادة النافعة‪ ،‬وهي‬
‫الشهادة بتوحيد الله وتصديق رسوله مع القيام بذلك‪ ،‬فلما قاموا مع‬
‫عيسى بنصر دين الله وإقامة شرعه آمنت طائفة من بني إسرائيل‬
‫وكفرت طائفة‪ ،‬فاقتتلت الطائفتان فأيد الله الذين آمنوا بنصره على‬
‫عدوهم فأصبحوا ظاهرين‪ ،‬فلهذا قال تعالى هنا } ومكروا { أي‪ :‬الكفار‬
‫بإرادة قتل نبي الله وإطفاء نوره } ومكر الله { بهم جزاء لهم على‬
‫مكرهم } والله خير الماكرين { رد الله كيدهم في نحورهم‪ ،‬فانقلبوا‬
‫خاسرين‪.‬‬
‫} إذ قال الله يا عيسى إني متوفيك ورافعك إلي ومطهرك من الذين‬
‫كفروا { فرفع الله عبده ورسوله عيسى إليه‪ ،‬وألقي شبهه على غيره‪،‬‬
‫فأخذوا من ألقي شبهه عليه فقتلوه وصلبوه‪ ،‬وباءوا بالثم العظيم بنيتهم‬
‫أنه رسول الله‪ ،‬قال الله } وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم { وفي‬
‫هذه الية دليل على علو الله تعالى واستوائه على عرشه حقيقة‪ ،‬كما دلت‬
‫على ذلك النصوص القرآنية والحاديث النبوية التي تلقاها أهل السنة‬
‫بالقبول واليمان والتسليم‪ ،‬وكان الله عزيزا قويا قاهرا‪ ،‬ومن عزته أن كف‬
‫بني إسرائيل بعد عزمهم الجازم وعدم المانع لهم عن قتل عيسى عليه‬
‫السلم‪ ،‬كما قال تعالى } وإذ كففت بني إسرائيل عنك إذ جئتهم بالبينات‬
‫فقال الذين كفروا منهم إن هذا إل سحر مبين { حكيم يضع الشياء‬
‫مواضعها‪ ،‬وله أعظم حكمة في إلقاء الشبه على بني إسرائيل‪ ،‬فوقعوا في‬
‫الشبه كما قال تعالى } وإن الذين اختلفوا فيه لفي شك منه ما لهم به من‬
‫علم إل اتباع الظن وما قتلوه يقينا { ثم قال تعالى‪ } :‬وجاعل الذين‬
‫اتبعوك فوق الذين كفروا إلى يوم القيامة { وتقدم أن الله أيد المؤمنين‬
‫منهم على الكافرين‪ ،‬ثم إن النصارى المنتسبين لعيسى عليه السلم لم‬
‫يزالوا قاهرين لليهود لكون النصارى أقرب إلى اتباع عيسى من اليهود‪،‬‬
‫حتى بعث الله نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم فكان المسلمون هم‬
‫المتبعين لعيسى حقيقة‪ ،‬فأيدهم الله ونصرهم على اليهود والنصارى‬
‫وسائر الكفار‪ ،‬وإنما يحصل في بعض الزمان إدالة الكفار من النصارى‬
‫وغيرهم على المسلمين‪ ،‬حكمة من الله وعقوبة على تركهم لتباع‬
‫الرسول صلى الله عليه وسلم } ثم إلي مرجعكم { أي‪ :‬مصير الخلئق‬
‫كلها } فأحكم بينكم فيما كنتم فيه تختلفون { كل يدعي أن الحق معه‬
‫وأنه المصيب وغيره مخطئ‪ ،‬وهذا مجرد دعاوى تحتاج إلى برهان‪.‬‬
‫ثم أخبر عن حكمه بينهم بالقسط والعدل‪ ،‬فقال } فأما الذين كفروا { أي‪:‬‬
‫بالله وآياته ورسله } فأعذبهم عذابا شديدا في الدنيا والخرة { أما عذاب‬
‫الدنيا‪ ،‬فهو ما أصابهم الله به من القوارع والعقوبات المشاهدة والقتل‬
‫والذل‪ ،‬وغير ذلك مما هو نموذج من عذاب الخرة‪ ،‬وأما عذاب الخرة فهو‬
‫الطامة الكبرى والمصيبة العظمى‪ ،‬أل وهو عذاب النار وغضب الجبار‬
‫وحرمانهم ثواب البرار } وما لهم من ناصرين { ينصرونهم من عذاب‬
‫الله‪ ،‬ل من زعموا أنهم شفعاء لهم عند الله‪ ،‬ول ما اتخذوهم أولياء من‬
‫دونه‪ ،‬ول أصدقائهم وأقربائهم‪ ،‬ول أنفسهم ينصرون‪.‬‬
‫} وأما الذين آمنوا { بالله وملئكته وكتبه ورسله والبعث بعد الموت وغير‬
‫ذلك مما أمر الله باليمان به } وعملوا الصالحات { القلبية والقولية‬
‫والبدنية التي جاءت بشرعها المرسلون‪ ،‬وقصدوا بها رضا رب العالمين‬
‫} فيوفيهم أجورهم { دل ذلك على أنه يحصل لهم في الدنيا ثواب‬
‫لعمالهم من الكرام والعزاز والنصر والحياة الطيبة‪ ،‬وإنما توفية الجور‬
‫يوم القيامة‪ ،‬يجدون ما قدموه من الخيرات محضرا موفرا‪ ،‬فيعطي منهم‬
‫كل عامل أجر عمله ويزيدهم من فضله وكرمه } والله ل يحب‬
‫الظالمين { بل يبغضهم ويحل عليهم سخطه وعذابه‪.‬‬
‫} ذلك نتلوه عليك من اليات والذكر الحكيم { وهذا منة عظيمة على‬
‫رسوله ] ص ‪ [ 133‬محمد صلى الله عليه وسلم وعلى أمته‪ ،‬حيث أنزل‬
‫عليهم هذا الذكر الحكيم‪ ،‬المحكم المتقن‪ ،‬المفصل للحكام والحلل‬
‫والحرام وإخبار النبياء القدمين‪ ،‬وما أجرى الله على أيديهم من اليات‬
‫البينات والمعجزات الباهرات‪ ،‬فهذا القرآن يقص علينا كل ما ينفعنا من‬
‫الخبار والحكام‪ ،‬فيحصل فيها العلم والعبرة وتثبيت الفؤاد ما هو من‬
‫أعظم رحمة رب العباد‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/132‬‬

‫ن)‬ ‫ن فَي َ ُ‬
‫كو ُ‬ ‫ل لَ ُ‬
‫ه كُ ْ‬ ‫م َقا َ‬
‫ب ثُ ّ‬
‫ن ت َُرا ٍ‬
‫م ْ‬
‫ه ِ‬‫ق ُ‬‫خل َ َ‬‫م َ‬ ‫ل آ َد َ َ‬
‫مث َ ِ‬‫عن ْد َ الل ّهِ ك َ َ‬
‫سى ِ‬ ‫عي َ‬ ‫ل ِ‬ ‫مث َ َ‬
‫ن َ‬
‫إِ ّ‬
‫ن )‪(60‬‬ ‫ري َ‬‫مت َ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫ك فََل ت َك ُ ْ‬ ‫ن َرب ّ َ‬
‫م ْ‬‫حق ّ ِ‬‫‪ (59‬ال ْ َ‬

‫م َقا َ‬
‫ل‬ ‫ب ثُ ّ‬
‫ن ت َُرا ٍ‬
‫م ْ‬
‫ه ِ‬ ‫خل َ َ‬
‫ق ُ‬ ‫م َ‬‫ل آد َ َ‬ ‫عن ْد َ الل ّهِ ك َ َ‬
‫مث َ ِ‬ ‫سى ِ‬ ‫عي َ‬
‫ل ِ‬ ‫مث َ َ‬
‫ن َ‬
‫} ‪ } { 60 - 59‬إ ِ ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬‫مت َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن َرب ّك َفل ت َك ْ‬‫م ْ‬‫حق ّ ِ‬ ‫ن * ال ْ َ‬ ‫ن فَي َ ُ‬
‫كو ُ‬ ‫لَ ُ‬
‫ه كُ ْ‬
‫يخبر تعالى محتجا على النصارى الزاعمين بعيسى عليه السلم ما ليس له‬
‫بحق‪ ،‬بغير برهان ول شبهة‪ ،‬بل بزعمهم أنه ليس له والد استحق بذلك أن‬
‫يكون ابن الله أو شريكا لله في الربوبية‪ ،‬وهذا ليس بشبهة فضل أن يكون‬
‫حجة‪ ،‬لن خلقه كذلك من آيات الله الدالة على تفرد الله بالخلق والتدبير‬
‫وأن جميع السباب طوع مشيئته وتبع لرادته‪ ،‬فهو على نقيض قولهم أدل‪،‬‬
‫وعلى أن أحدا ل يستحق المشاركة لله بوجه من الوجوه أولى‪ ،‬ومع هذا‬
‫فآدم عليه السلم خلقه الله من تراب ل من أب ول أم‪ ،‬فإذا كان ذلك ل‬
‫يوجب لدم ما زعمه النصارى في المسيح‪ ،‬فالمسيح المخلوق من أم بل‬
‫أب من باب أولى وأحرى‪ ،‬فإن صح إدعاء البنوة واللهية في المسيح‪،‬‬
‫فادعاؤها في آدم من باب أولى وأحرى‪ ،‬فلهذا قال تعالى } إن مثل عيسى‬
‫عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون الحق من ربك {‬
‫أي‪ :‬هذا الذي أخبرناك به من شأن المسيح عليه السلم هو الحق الذي‬
‫في أعلى رتب الصدق‪ ،‬لكونه من ربك الذي من جملة تربيته الخاصة لك‬
‫ولمتك أن قص عليكم ما قص من أخبار النبياء عليهم السلم‪ } .‬فل تكن‬
‫من الممترين { أي‪ :‬الشاكين في شيء مما أخبرك به ربك‪ ،‬وفي هذه الية‬
‫وما بعدها دليل على قاعدة شريفة وهو أن ما قامت الدلة على أنه حق‬
‫وجزم به العبد من مسائل العقائد وغيرها‪ ،‬فإنه يجب أن يجزم بأن كل ما‬
‫عارضه فهو باطل‪ ،‬وكل شبهة تورد عليه فهي فاسدة‪ ،‬سواء قدر العبد‬
‫على حلها أم ل فل يوجب له عجزه عن حلها القدح فيما علمه‪ ،‬لن ما‬
‫خالف الحق فهو باطل‪ ،‬قال تعالى } فماذا بعد الحق إل الضلل { وبهذه‬
‫القاعدة الشرعية تنحل عن النسان إشكالت كثيرة يوردها المتكلمون‬
‫ويرتبها المنطقيون‪ ،‬إن حلها النسان فهو تبرع منه‪ ،‬وإل فوظيفته أن يبين‬
‫الحق بأدلته ويدعو إليه‪.‬‬

‫) ‪(1/133‬‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫وا ن َد ْعُ أب َْناَءَنا وَأب َْناَءك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ل ت ََعال َ ْ‬ ‫ق ْ‬‫ن ال ْعِل ْم ِ فَ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬‫جاَء َ‬ ‫ما َ‬
‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬
‫ك ِفيهِ ِ‬ ‫ج َ‬ ‫حا ّ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫فَ َ‬
‫ة الل ّهِ عََلى‬ ‫ل ل َعْن َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جع َ ْ‬‫ل فَن َ ْ‬ ‫م ن َب ْت َهِ ْ‬
‫م ثُ ّ‬‫سك ُ ْ‬‫ف َ‬
‫سَنا وَأن ْ ُ‬
‫ف َ‬‫م وَأن ْ ُ‬‫ساَءك ُ ْ‬
‫ساَءَنا وَن ِ َ‬‫وَن ِ َ‬
‫ن )‪(61‬‬ ‫ال ْ َ‬
‫كاذِِبي َ‬

‫ل ت ََعال َ ْ‬
‫وا‬ ‫ق ْ‬‫ن ال ْعِل ْم ِ فَ ُ‬ ‫م َ‬‫ك ِ‬ ‫جاَء َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬‫ك ِفيهِ ِ‬ ‫ج َ‬ ‫حا ّ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫} ‪ } { 63 - 61‬فَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬‫جع َ ْ‬ ‫ل فَن َ ْ‬‫م ن َب ْت َهِ ْ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫م ثُ ّ‬ ‫ف َ‬‫سَنا وَأن ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫ساَءك ُ ْ‬
‫م وَأن ْ ُ‬ ‫ساَءَنا وَن ِ َ‬‫م وَن ِ َ‬‫ن َد ْعُ أب َْناَءَنا وَأب َْناَءك ُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫كاذِِبي َ‬‫ة الل ّهِ عََلى ال ْ َ‬ ‫ل َعْن َ َ‬
‫أي‪ } :‬فمن { جادلك } وحاجك { في عيسى عليه السلم وزعم أنه فوق‬
‫منزلة العبودية‪ ،‬بل رفعه فوق منزلته } من بعد ما جاءك من العلم { بأنه‬
‫عبد الله ورسوله وبينت لمن جادلك ما عندك من الدلة الدالة على أنه‬
‫عبد أنعم الله عليه‪ ،‬دل على عناد من لم يتبعك في هذا العلم اليقيني‪ ،‬فلم‬
‫يبق في مجادلته فائدة تستفيدها ول يستفيدها هو‪ ،‬لن الحق قد تبين‪،‬‬
‫فجداله فيه جدال معاند مشاق لله ورسوله‪ ،‬قصده اتباع هواه‪ ،‬ل اتباع ما‬
‫أنزل الله‪ ،‬فهذا ليس فيه حيلة‪ ،‬فأمر الله نبيه أن ينتقل إلى مباهلته‬
‫وملعنته‪ ،‬فيدعون الله ويبتهلون إليه أن يجعل لعنته وعقوبته على الكاذب‬
‫من الفريقين‪ ،‬هو وأحب الناس إليه من الولد والبناء والنساء‪ ،‬فدعاهم‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فتولوا وأعرضوا ونكلوا‪ ،‬وعلموا أنهم‬
‫إن لعنوه رجعوا إلى أهليهم وأولدهم فلم يجدوا أهل ول مال وعوجلوا‬
‫بالعقوبة‪ ،‬فرضوا بدينهم مع جزمهم ببطلنه‪ ،‬وهذا غاية الفساد والعناد‪،‬‬
‫فلهذا قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/133‬‬

‫م)‬
‫كي ُ‬ ‫زيُز ال ْ َ‬
‫ح ِ‬ ‫ه ل َهُوَ ال ْعَ ِ‬
‫ن الل ّ َ‬ ‫ن إ ِل َهٍ إ ِّل الل ّ ُ‬
‫ه وَإ ِ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬
‫حق ّ و َ َ‬‫ص ال ْ َ‬
‫ص ُ‬ ‫ق َ‬‫ذا ل َهُوَ ال ْ َ‬‫ن هَ َ‬
‫إِ ّ‬
‫ن )‪(63‬‬ ‫دي َ‬ ‫س ِ‬
‫ف ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫م ِبال ُ‬‫ه عَِلي ٌ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫وا فَإ ِ ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ (62‬فَإ ِ ْ‬
‫ن ت َوَل ْ‬

‫ه ل َهُوَ ال ْعَ ِ‬
‫زيُز‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن إ ِل َهٍ ِإل الل ّ ُ‬
‫ه وَإ ِ ّ‬ ‫م ْ‬
‫ما ِ‬ ‫حق ّ و َ َ‬‫ص ال ْ َ‬ ‫ص ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ذا ل َهُوَ ال ْ َ‬
‫ن هَ َ‬‫} إِ ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دي َ‬
‫س ِ‬
‫ف ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫م ِبال ُ‬ ‫ه عَِلي ٌ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫َ‬
‫وا فإ ِ ّ‬ ‫ّ‬
‫ن ت َوَل ْ‬ ‫َ‬
‫م * فإ ِ ْ‬ ‫كي ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ح ِ‬
‫} فإن تولوا فإن الله عليم بالمفسدين { فيعاقبهم على ذلك أشد العقوبة‪.‬‬
‫وأخبر تعالى } إن هذا { الذي قصه الله على عباده هو } القصص الحق {‬
‫وكل قصص يقص عليهم مما يخالفه ويناقضه فهو باطل } وما من إله إل‬
‫الله { فهو المألوه المعبود حقا الذي ل تنبغي العبادة إل له‪ ،‬ول يستحق‬
‫غيره مثقال ذرة من العبادة } وإن الله لهو العزيز { الذي قهر كل شيء‬
‫وخضع له كل شيء } الحكيم { الذي يضع الشياء مواضعها‪ ،‬وله الحكمة‬
‫التامة في ابتلء المؤمنين بالكافرين‪ ،‬يقاتلونهم ويجادلونهم ويجاهدونهم‬
‫بالقول والفعل )‪. (1‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في تفسير هذه اليات تقديم وتأخير يسير فقد أخر تفسير قوله‪" :‬وما‬
‫من إله إل الله" وقد أبقيتها على ما هي عليه‪.‬‬

‫) ‪(1/133‬‬

‫ه وََل‬ ‫ل ال ْكتاب تعال َوا إَلى ك َل ِمة سواٍء بيننا وبينك ُ َ‬ ‫ل َيا أ َهْ َ‬
‫م أّل ن َعْب ُد َ إ ِّل الل ّ َ‬‫َ ٍ َ َ َََْ َََْ ْ‬ ‫ِ‬ ‫َِ ِ ََ ْ‬ ‫قُ ْ‬
‫قوُلوا‬ ‫َ‬
‫وا فَ ُ‬ ‫ن ت َوَل ّ ْ‬
‫ن الل ّهِ فَإ ِ ْ‬
‫دو ِ‬
‫ن ُ‬
‫م ْ‬
‫ضا أْرَباًبا ِ‬
‫ضَنا ب َعْ ً‬ ‫شي ًْئا وََل ي َت ّ ِ‬
‫خذ َ ب َعْ ُ‬ ‫ك ب ِهِ َ‬
‫َ‬
‫شرِ َ‬ ‫نُ ْ‬
‫ن )‪(64‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬
‫م ْ‬ ‫دوا ب ِأّنا ُ‬‫شه َ ُ‬ ‫ا ْ‬

‫م َأل ن َعْب ُد َ ِإل‬ ‫واٍء ب َي ْن ََنا وَب َي ْن َك ُ ْ‬


‫س َ‬
‫مةٍ َ‬ ‫وا إ َِلى ك َل ِ َ‬
‫ب ت ََعال َ ْ‬‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ل َيا أ َهْ َ‬‫} ‪ } { 64‬قُ ْ‬
‫َ‬
‫وا‬‫ن ت َوَل ّ ْ‬‫ن الل ّهِ فَإ ِ ْ‬ ‫دو ِ‬‫ن ُ‬ ‫م ْ‬‫ضا أْرَباًبا ِ‬ ‫خذ َ ب َعْ ُ‬
‫ضَنا ب َعْ ً‬ ‫شي ًْئا َول ي َت ّ ِ‬‫ك ب ِهِ َ‬
‫َ‬
‫شرِ َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه َول ن ُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬
‫م ْ‬ ‫دوا ب ِأّنا ُ‬ ‫شه َ ُ‬‫قوُلوا ا ْ‬ ‫فَ ُ‬
‫أي‪ :‬قل لهل الكتاب من اليهود والنصارى } تعالوا إلى كلمة سواء بيننا‬
‫وبينكم { أي‪ :‬هلموا نجتمع عليها وهي الكلمة التي اتفق عليها النبياء‬
‫والمرسلون‪ ،‬ولم يخالفها إل المعاندون والضالون‪ ،‬ليست مختصة بأحدنا‬
‫دون الخر‪ ،‬بل مشتركة بيننا وبينكم‪ ،‬وهذا من العدل في المقال والنصاف‬
‫في الجدال‪ ،‬ثم فسرها بقوله } أل نعبد إل الله ول نشرك به شيئا { فنفرد‬
‫الله بالعبادة ونخصه بالحب والخوف والرجاء ول نشرك به نبيا ول ملكا ول‬
‫وليا ول صنما ول وثنا ول حيوانا ول جمادا } ول يتخذ بعضنا بعضا أربابا من‬
‫دون الله { بل تكون الطاعة كلها لله ولرسله‪ ،‬فل نطيع المخلوقين في‬
‫معصية الخالق‪ ،‬لن ذلك جعل للمخلوقين في منزلة الربوبية‪ ،‬فإذا دعي‬
‫أهل الكتاب أو غيرهم إلى ذلك‪ ،‬فإن أجابوا كانوا مثلكم‪ ،‬لهم ما لكم‬
‫وعليهم ما عليكم‪ ،‬وإن تولوا فهم معاندون متبعون أهواءهم فأشهدوهم‬
‫] ص ‪ [ 134‬أنكم مسلمون‪ ،‬ولعل الفائدة في ذلك أنكم إذا قلتم لهم ذلك‬
‫وأنتم أهل العلم على الحقيقة‪ ،‬كان ذلك زيادة على إقامة الحجة عليهم‬
‫كما استشهد تعالى بأهل العلم حجة على المعاندين‪ ،‬وأيضا فإنكم إذا‬
‫أسلمتم أنتم وآمنتم فل يعبأ الله بعدم إسلم غيركم لعدم زكائهم ولخبث‬
‫طويتهم‪ ،‬كما قال تعالى } قل آمنوا به أو ل تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم‬
‫من قبله إذا يتلى عليهم يخرون للذقان سجدا { الية وأيضا فإن في ورود‬
‫الشبهات على العقيدة اليمانية مما يوجب للمؤمن أن يجدد إيمانه ويعلن‬
‫بإسلمه‪ ،‬إخبارا بيقينه وشكرا لنعمة ربه‪.‬‬

‫) ‪(1/133‬‬

‫ُ‬ ‫َيا أ َهْ َ‬


‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ل إ ِّل ِ‬ ‫جي ُ‬ ‫ت الت ّوَْراةُ َواْل ِن ْ ِ‬ ‫ما أن ْزِل َ ِ‬ ‫م وَ َ‬ ‫هي َ‬ ‫ن ِفي إ ِب َْرا ِ‬ ‫جو َ‬ ‫حا ّ‬ ‫م تُ َ‬
‫ب لِ َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫بعده أ َفََل تعقُلون )‪َ َ (65‬‬
‫م فَل ِ َ‬
‫م‬ ‫عل ْ ٌ‬ ‫م ب ِهِ ِ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬‫م ِفي َ‬ ‫جت ُ ْ‬‫ج ْ‬ ‫حا َ‬‫م هَؤَُلِء َ‬ ‫ها أن ْت ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ ِ‬ ‫َْ ِ ِ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما كا َ‬ ‫ن )‪َ (66‬‬ ‫مو َ‬‫م ل ت َعْل ُ‬ ‫م وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ه ي َعْل ُ‬ ‫م َوالل ُ‬ ‫عل ٌ‬ ‫م ب ِهِ ِ‬ ‫س لك ْ‬ ‫ما لي ْ َ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫جو َ‬ ‫حا ّ‬‫تُ َ‬
‫ن‬
‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫َ‬
‫ما كا َ‬ ‫ما وَ َ‬ ‫سل ِ ً‬‫م ْ‬ ‫فا ُ‬ ‫حِني ً‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬
‫ن كا َ‬ ‫َ‬
‫صَران ِّيا وَلك ِ ْ‬ ‫َ‬
‫م ي َُهودِّيا وَل ن َ ْ‬ ‫هي ُ‬‫إ ِب َْرا ِ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ن ات ّب َُعوهُ وَهَ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مُنوا َوالل ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ي َوال ِ‬ ‫ذا الن ّب ِ ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫م لل ِ‬ ‫هي َ‬ ‫س ب ِإ ِب َْرا ِ‬ ‫ن أوْلى الّنا ِ‬ ‫)‪ (67‬إ ِ ّ‬
‫ن )‪(68‬‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ي ال ْ ُ‬ ‫وَل ِ ّ‬
‫ُ‬ ‫} ‪َ } { 68 - 65‬يا أ َهْ َ‬
‫ت الت ّوَْراةُ‬ ‫ما أن ْزِل َ ِ‬ ‫م وَ َ‬ ‫هي َ‬ ‫ن ِفي إ ِب َْرا ِ‬ ‫جو َ‬ ‫حا ّ‬‫م تُ َ‬‫ب لِ َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ل إل من بعده أ ََفل تعقُلون * َ َ‬
‫عل ْ ٌ‬
‫م‬ ‫م ب ِهِ ِ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫جت ُ ْ‬‫ج ْ‬ ‫حا َ‬ ‫ؤلِء َ‬ ‫م هَ ُ‬ ‫ها أن ْت ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ ِ‬ ‫جي ُ ِ ِ ْ َ ْ ِ ِ‬ ‫َوالن ْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ما كا َ‬ ‫ن* َ‬ ‫مو َ‬ ‫م ل ت َعْل ُ‬ ‫م وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ه ي َعْل ُ‬ ‫م َوالل ُ‬ ‫عل ٌ‬ ‫م ب ِهِ ِ‬ ‫س لك ْ‬ ‫ما لي ْ َ‬ ‫ن ِفي َ‬‫جو َ‬
‫حا ّ‬ ‫م تُ َ‬ ‫فَل ِ َ‬
‫ن‬
‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫ما وَ َ‬ ‫سل ِ ً‬
‫م ْ‬ ‫فا ُ‬ ‫حِني ً‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫صَران ِّيا وَل َك ِ ْ‬ ‫م ي َُهودِّيا َول ن َ ْ‬ ‫هي ُ‬ ‫إ ِب َْرا ِ‬
‫ي‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ن ات ّب َُعوهُ وَهَ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه وَل ِ ّ‬ ‫مُنوا َوالل ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ي َوال ِ‬ ‫ذا الن ّب ِ ّ‬ ‫ذي َ‬‫م لل ِ‬ ‫هي َ‬‫س ب ِإ ِب َْرا ِ‬
‫ن أوْلى الّنا ِ‬ ‫* إِ ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫لما ادعى اليهود أن إبراهيم كان يهوديا‪ ،‬والنصارى أنه نصراني‪ ،‬وجادلوا‬
‫على ذلك‪ ،‬رد تعالى محاجتهم ومجادلتهم من ثلثة أوجه‪ ،‬أحدها‪ :‬أن‬
‫جدالهم في إبراهيم جدال في أمر ليس لهم به علم‪ ،‬فل يمكن لهم ول‬
‫يسمح لهم أن يحتجوا ويجادلوا في أمر هم أجانب عنه وهم جادلوا في‬
‫أحكام التوراة والنجيل سواء أخطأوا أم أصابوا فليس معهم المحاجة في‬
‫شأن إبراهيم‪ ،‬الوجه الثاني‪ :‬أن اليهود ينتسبون إلى أحكام التوراة‪،‬‬
‫والنصارى ينتسبون إلى أحكام النجيل‪ ،‬والتوراة والنجيل ما أنزل إل من‬
‫بعد إبراهيم‪ ،‬فكيف ينسبون إبراهيم إليهم وهو قبلهم متقدم عليهم‪ ،‬فهل‬
‫هذا يعقل؟! فلهذا قال } أفل تعقلون { أي‪ :‬فلو عقلتم ما تقولون لم‬
‫تقولوا ذلك‪ ،‬الوجه الثالث‪ :‬أن الله تعالى برأ خليله من اليهود والنصارى‬
‫والمشركين‪ ،‬وجعله حنيفا مسلما‪ ،‬وجعل أولى الناس به من آمن به من‬
‫أمته‪ ،‬وهذا النبي وهو محمد صلى الله على وسلم ومن آمن معه‪ ،‬فهم‬
‫الذين اتبعوه وهم أولى به من غيرهم‪ ،‬والله تعالى وليهم وناصرهم‬
‫ومؤيدهم‪ ،‬وأما من نبذ ملته وراء ظهره كاليهود والنصارى والمشركين‪،‬‬
‫فليسوا من إبراهيم وليس منهم‪ ،‬ول ينفعهم مجرد النتساب الخالي من‬
‫الصواب‪ .‬وقد اشتملت هذه اليات على النهي عن المحاجة والمجادلة بغير‬
‫علم‪ ،‬وأن من تكلم بذلك فهو متكلم في أمر ل يمكن منه ول يسمح له‬
‫فيه‪ ،‬وفيها أيضا حث على علم التاريخ‪ ،‬وأنه طريق لرد كثير من القوال‬
‫الباطلة والدعاوى التي تخالف ما علم من التاريخ‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/134‬‬

‫ما‬
‫م وَ َ‬‫سه ُ ْ‬ ‫ن إ ِّل أ َن ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫ضّلو َ‬‫ما ي ُ ِ‬
‫م وَ َ‬‫ضّلون َك ُ ْ‬‫ب ل َوْ ي ُ ِ‬‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ةم َ‬
‫ن أه ْ ِ‬
‫ف ٌ ِ ْ‬ ‫ت َ‬
‫طائ ِ َ‬ ‫وَد ّ ْ‬
‫ن )‪(70‬‬ ‫م تَ ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن )‪َ (69‬يا أهْ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫دو َ‬‫شه َ ُ‬ ‫ت اللهِ وَأن ْت ُ ْ‬‫ن ب ِآَيا ِ‬
‫فُرو َ‬ ‫م ت َك ُ‬‫ب لِ َ‬ ‫ل الك َِتا ِ‬ ‫شعُُرو َ‬
‫ةم َ‬
‫ضّلو َ‬
‫ن ِإل‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫ضّلون َك ُ ْ‬
‫م وَ َ‬ ‫ب ل َوْ ي ُ ِ‬‫ل ال ْك َِتا ِ‬‫ن أه ْ ِ‬ ‫ف ٌ ِ ْ‬ ‫ت َ‬
‫طائ ِ َ‬ ‫} ‪ } { 74 - 69‬وَد ّ ْ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن * َيا أهْ َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫ت اللهِ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ن ِبآَيا ِ‬‫فُرو َ‬ ‫م ت َك ُ‬ ‫ب لِ َ‬‫ل الك َِتا ِ‬ ‫شعُُرو َ‬ ‫م وَ َ‬
‫سهُ ْ‬‫ف َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دو َ‬‫شه َ ُ‬‫تَ ْ‬
‫يحذر تعالى عباده المؤمنين عن مكر هذه الطائفة الخبيثة من أهل الكتاب‪،‬‬
‫وأنهم يودون أن يضلوكم‪ ،‬كما قال تعالى } ود كثير من أهل الكتاب لو‬
‫يردونكم من بعد إيمانكم كفارا { ومن المعلوم أن من ود شيئا سعى‬
‫بجهده على تحصيل مراده‪ ،‬فهذه الطائفة تسعى وتبذل جهدها في رد‬
‫المؤمنين وإدخال الشبه عليهم بكل طريق يقدرون عليه‪ ،‬ولكن من لطف‬
‫الله أنه ل يحيق المكر السيئ إل بأهله فلهذا قال تعالى } وما يضلون إل‬
‫أنفسهم { فسعيهم في إضلل المؤمنين زيادة في ضلل أنفسهم وزيادة‬
‫عذاب لهم‪ ،‬قال تعالى } الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا‬
‫فوق العذاب بما كانوا يفسدون { } وما يشعرون { بذلك أنهم يسعون في‬
‫ضرر أنفسهم وأنهم ل يضرونكم شيئا‪.‬‬

‫) ‪(1/134‬‬

‫َ‬ ‫َيا أ َهْ َ‬


‫ن)‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬‫حقّ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫مو َ‬ ‫حقّ ِبال َْباط ِ ِ‬
‫ل وَت َك ْت ُ ُ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫سو َ‬ ‫م ت َل ْب ِ ُ‬ ‫ب لِ َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ه‬
‫ج َ‬ ‫مُنوا وَ ْ‬ ‫ذي َ‬
‫نآ َ‬ ‫ل عََلى ال ّ ِ َ‬ ‫ذي أ ُن ْزِ َ‬ ‫مُنوا ِبال ّ ِ‬ ‫ب آَ ِ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ةم َ‬
‫ن أه ْ ِ‬ ‫ف ٌ ِ ْ‬ ‫طائ ِ َ‬‫ت َ‬ ‫‪ (71‬وََقال َ ْ‬
‫َ‬
‫م قُ ْ‬
‫ل‬ ‫ن ت َب ِعَ ِدين َك ُ ْ‬ ‫م ْ‬‫مُنوا إ ِّل ل ِ َ‬ ‫ن )‪ (72‬وََل ت ُؤْ ِ‬ ‫جُعو َ‬ ‫م ي َْر ِ‬ ‫خَرهُ ل َعَل ّهُ ْ‬ ‫فُروا آ ِ‬ ‫الن َّهارِ َواك ْ ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م قُ ْ‬
‫ل‬ ‫عن ْد َ َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جوك ُ ْ‬ ‫حا ّ‬ ‫م أوْ ي ُ َ‬ ‫ما أوِتيت ُ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ َ‬‫حد ٌ ِ‬ ‫ن ي ُؤَْتى أ َ‬ ‫دى الل ّهِ أ ْ‬ ‫دى هُ َ‬ ‫ن ال ْهُ َ‬ ‫إِ ّ‬
‫ه‬
‫مت ِ ِ‬
‫ح َ‬ ‫ص ب َِر ْ‬ ‫خت َ ّ‬ ‫م )‪ (73‬ي َ ْ‬ ‫سعٌ عَِلي ٌ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫ّ‬
‫شاُء َوالل ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ّ‬
‫ل ب ِي َدِ اللهِ ي ُؤِْتيهِ َ‬ ‫ض َ‬‫ف ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫إِ ّ‬
‫ظيم ِ )‪(74‬‬ ‫ل العَ ِ‬‫ْ‬ ‫ض ِ‬‫ف ْ‬ ‫ْ‬
‫ذو ال َ‬ ‫ه ُ‬ ‫ّ‬
‫شاُء َوالل ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫} َيا أ َهْ َ‬
‫ن*‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬ ‫حقّ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ل وَت َك ْت ُ ُ‬ ‫حقّ ِبال َْباط ِ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫سو َ‬ ‫م ت َل ْب ِ ُ‬
‫ب لِ َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ه‬‫ج َ‬ ‫مُنوا وَ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫ل عََلى ال ّ ِ‬ ‫ذي أ ُن ْزِ َ‬ ‫مُنوا ِبال ّ ِ‬ ‫بآ ِ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫ةم َ‬
‫ن أهْ ِ‬ ‫ف ٌ ِ ْ‬ ‫طائ ِ َ‬ ‫ت َ‬ ‫وََقال َ ْ‬
‫ن‬‫ل إِ ّ‬‫م قُ ْ‬ ‫ن ت َب ِعَ ِدين َك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫مُنوا ِإل ل ِ َ‬ ‫ن * َول ت ُؤْ ِ‬ ‫جُعو َ‬ ‫م ي َْر ِ‬ ‫خَرهُ ل َعَل ّهُ ْ‬ ‫فُروا آ ِ‬ ‫الن َّهارِ َواك ْ ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ل إِ ّ‬ ‫م قُ ْ‬ ‫عن ْد َ َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جوك ُ ْ‬ ‫حا ّ‬
‫م أوْ ي ُ َ‬ ‫ما أوِتيت ُ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ َ‬
‫حد ٌ ِ‬ ‫ن ي ُؤَْتى أ َ‬ ‫دى الل ّهِ أ ْ‬ ‫دى هُ َ‬ ‫ال ْهُ َ‬
‫شاءُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫مت ِهِ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ص ب َِر ْ‬
‫خت َ ّ‬ ‫م * يَ ْ‬ ‫سعٌ عَِلي ٌ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫شاُء َوالل ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ب ِي َدِ الل ّهِ ي ُؤِْتيهِ َ‬ ‫ض َ‬‫ف ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ظيم ِ { ‪.‬‬ ‫ل ال ْعَ ِ‬ ‫ض ِ‬
‫ف ْ‬ ‫ذو ال ْ َ‬ ‫ه ُ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫} يا أهل الكتاب لم تكفرون بآيات الله وأنتم تشهدون { أي‪ :‬ما الذي‬
‫دعاكم إلى الكفر بآيات الله مع علمكم بأن ما أنتم عليه باطل‪ ،‬وأن ما‬
‫جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي ل تشكون فيه‪ ،‬بل‬
‫تشهدون به ويسر به بعضكم إلى بعض في بعض الوقات‪ ،‬فهذا نهيهم عن‬
‫ضللهم‪.‬‬
‫ثم وبخهم على إضللهم الخلق‪ ،‬فقال } يا أهل الكتاب لم تلبسون الحق‬
‫بالباطل وتكتمون الحق وأنتم تعلمون { فوبخهم على لبس الحق بالباطل‬
‫وعلى كتمان الحق‪ ،‬لنهم بهذين المرين يضلون من انتسب إليهم‪ ،‬فإن‬
‫العلماء إذا لبسوا الحق بالباطل فلم يميزوا بينهما‪ ،‬بل أبقوا المر مبهما‬
‫وكتموا الحق الذي يجب عليهم إظهاره‪ ،‬ترتب على ذلك من خفاء الحق‬
‫وظهور الباطل ما ترتب‪ ،‬ولم يهتد العوام الذين يريدون الحق لمعرفته‬
‫حتى يؤثروه‪ ،‬والمقصود من أهل العلم أن يظهروا للناس الحق ويعلنوا به‪،‬‬
‫ويميزوا الحق من الباطل‪ ،‬ويظهروا الخبيث من الطيب‪ ،‬والحلل والحرام ‪،‬‬
‫والعقائد الصحيحة من العقائد الفاسدة‪ ،‬ليهتدي المهتدون ] ص ‪[ 135‬‬
‫ويرجع الضالون وتقوم الحجة على المعاندين قال تعالى } وإذ أخذ الله‬
‫ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ول تكتمونه فنبذوه وراء‬
‫ظهورهم { ‪.‬‬
‫ثم أخبر تعالى عن ما همت به هذه الطائفة الخبيثة‪ ،‬وإرادة المكر‬
‫بالمؤمنين‪ ،‬فقال } وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على‬
‫الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره { أي‪ :‬ادخلوا في دينهم على وجه‬
‫المكر والكيد أول النهار‪ ،‬فإذا كان آخر النهار فاخرجوا منه } لعلهم‬
‫يرجعون { عن دينهم‪ ،‬فيقولون لو كان صحيحا لما خرج منه أهل العلم‬
‫والكتاب‪ ،‬هذا الذي أرادوه عجبا بأنفهسم وظنا أن الناس سيحسنون ظنهم‬
‫بهم ويتابعونهم على ما يقولونه ويفعلونه‪ ،‬ولكن يأبى الله إل أن يتم نوره‬
‫ولو كره الكافرون‪.‬‬
‫} و { قال بعضهم لبعض } ل تؤمنوا إل لمن تبع دينكم { أي‪ :‬ل تثقوا ول‬
‫تطمئنوا ول تصدقوا إل من تبع دينكم‪ ،‬واكتموا )‪ (1‬أمركم‪ ،‬فإنكم إذا‬
‫أخبرتم غيركم وغير من هو على دينكم حصل لهم من العلم ما حصل لكم‬
‫فصاروا مثلكم‪ ،‬أو حاجوكم عند ربكم وشهدوا عليكم أنها قامت عليكم‬
‫الحجة وتبين لكم الهدى فلم تتبعوه‪ ،‬فالحاصل أنهم جعلوا عدم إخبار‬
‫المؤمنين بما معهم من العلم قاطعا عنهم العلم‪ ،‬لن العلم بزعمهم ل‬
‫يكون إل عندهم وموجبا للحجة عليهم‪ ،‬فرد الله عليهم بأن } الهدى هدى‬
‫الله { فمادة الهدى من الله تعالى لكل من اهتدى‪ ،‬فإن الهدى إما علم‬
‫الحق‪ ،‬أو إيثارة‪ ،‬ول علم إل ما جاءت به رسل الله‪ ،‬ول موفق إل من وفقه‬
‫الله‪ ،‬وأهل الكتاب لم يؤتوا من العلم إل قليل وأما التوفيق فقد انقطع‬
‫حظهم منه لخبث نياتهم وسوء مقاصدهم‪ ،‬وأما هذه المة فقد حصل لهم‬
‫ولله الحمد من هداية الله من العلوم والمعارف مع العمل بذلك ما فاقوا‬
‫به وبرزوا على كل أحد‪ ،‬فكانوا هم الهداة الذين يهدون بأمر الله‪ ،‬وهذا من‬
‫فضل الله عليها وإحسانه العظيم‪ ،‬فلهذا قال تعالى } قل إن الفضل بيد‬
‫الله { أي‪ :‬الله هو الذي يحسن على عباده بأنواع الحسان } يؤتيه من‬
‫يشاء { ممن أتى بأسبابه } والله واسع { الفضل كثير الحسان } عليم {‬
‫بمن يصلح للحسان فيعطيه‪ ،‬ومن ل يستحقه فيحرمه إياه‪.‬‬
‫} يختص برحمته من يشاء { أي‪ :‬برحمته المطلقة التي تكون في الدنيا‬
‫متصلة بالخرة وهي نعمة الدين ومتمماته } والله ذو الفضل العظيم {‬
‫الذي ل يصفه الواصفون ول يخطر بقلب بشر‪ ،‬بل وصل فضله وإحسانه‬
‫إلى ما وصل إليه علمه‪ ،‬ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬المراد ‪ -‬والله أعلم ‪ :-‬واكتموا أمركم عن غير من تبع دينكم‪.‬‬

‫) ‪(1/134‬‬

‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ديَناٍر‬ ‫ه بِ ِ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ن ت َأ َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫م ْ‬‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ك وَ ِ‬ ‫طارٍ ي ُؤَد ّهِ إ ِل َي ْ َ‬ ‫قن ْ َ‬ ‫ه بِ ِ‬ ‫من ْ ُ‬
‫ن ت َأ َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫ْ‬ ‫م‬
‫ب َ‬ ‫ِ‬ ‫ل ال ْك َِتا‬ ‫ِ‬ ‫ن أ َهْ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ما ذ َل ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َل ي ُؤَد ّهِ إ ِلي ْ َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫مّيي َ‬ ‫س عَلي َْنا ِفي ال ّ‬ ‫م َقالوا لي ْ َ‬ ‫ك ب ِأن ّهُ ْ‬ ‫ت عَلي ْهِ َقائ ِ ً‬ ‫م َ‬ ‫ما د ُ ْ‬ ‫ك إ ِل َ‬
‫قوُلون عََلى الل ّه ال ْك َذب وهُم يعل َمون )‪ (75‬بَلى م َ‬
‫ن أوَْفى ب ِعَهْدِ ِ‬
‫ه‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ َ َ ْ َْ ُ َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ل وَي َ ُ‬ ‫سِبي ٌ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ما‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫أ‬‫و‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫د‬ ‫ه‬‫ع‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫رو‬ ‫ت‬ ‫ْ‬
‫ش‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫(‬ ‫‪76‬‬ ‫)‬ ‫ن‬ ‫قي‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ب‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ن‬ ‫إ‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫قى‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫َوا‬
‫َ ْ َ ِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ َِ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ ّ‬ ‫ِ ّ‬ ‫ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫م‬
‫م ي َوْ َ‬ ‫ه وََل ي َن ْظ ُُر إ ِل َي ْهِ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫مه ُ ُ‬ ‫خَرةِ وََل ي ُك َل ّ ُ‬ ‫م ِفي اْل ِ‬ ‫خَلقَ ل َهُ ْ‬ ‫ك َل َ‬ ‫مًنا قَِليًل أول َئ ِ َ‬ ‫ثَ َ‬
‫َ‬
‫م )‪(77‬‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬ ‫م وَل َهُ ْ‬ ‫كيهِ ْ‬‫مةِ وََل ي َُز ّ‬ ‫قَيا َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫ْ‬
‫م‬‫من ْهُ ْ‬ ‫ك وَ ِ‬ ‫طارٍ ي ُؤَد ّهِ إ ِل َي ْ َ‬ ‫قن ْ َ‬ ‫ه بِ ِ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ن ت َأ َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫ْ‬ ‫م‬
‫ب َ‬ ‫ِ‬ ‫ل ال ْك َِتا‬ ‫ِ‬ ‫ن أ َهْ‬
‫م ْ‬ ‫} ‪ } { 77 - 75‬وَ ِ‬
‫ُ‬
‫م َقالوا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ما ذ َل ِك ب ِأن ّهُ ْ‬ ‫ت عَلي ْهِ َقائ ِ ً‬ ‫م َ‬ ‫ما د ُ ْ‬ ‫ديَنارٍ ل ي ُؤَد ّهِ إ ِلي ْك ِإل َ‬ ‫ه بِ ِ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ن ت َأ َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ن * ب َلى‬ ‫مو َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ي‬ ‫م‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ب‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ذ‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫لو‬‫ُ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫ٌ‬
‫ل‬ ‫بي‬ ‫س‬
‫ّ َ َ ِ‬ ‫ن‬ ‫يي‬
‫ّ‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ع‬ ‫لَ َ‬
‫س‬ ‫ْ‬ ‫ي‬
‫ن ب ِعَهْدِ‬ ‫شت َُرو َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ن * إِ ّ‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫قى فَإ ِ ّ‬ ‫ن أ َوَْفى ب ِعَهْدِهِ َوات ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ه َول‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫ول‬ ‫ة‬ ‫ر‬ ‫خ‬
‫ِ‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫خل‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫أو‬‫ُ‬ ‫ليل‬‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫نا‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ث‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ما‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫أ‬‫و‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬
‫ُ‬ ‫َ َ ُ ُ ُ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ً‬ ‫َ ْ َ ِ ْ َ‬ ‫ِ‬
‫ذاب أ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫لي‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫م‬
‫م ِ َ َ ِ َ َُ ِ ْ َ ُ ْ‬
‫ه‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫كي‬‫ّ‬ ‫ز‬ ‫ي‬ ‫ول‬ ‫ة‬ ‫م‬ ‫يا‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م ي َوْ َ‬ ‫ي َن ْظ ُُر إ ِل َي ْهِ ْ‬
‫يخبر تعالى عن حال أهل الكتاب في الوفاء والخيانة في الموال‪ ،‬لما ذكر‬
‫خيانتهم في الدين ومكرهم وكتمهم الحق‪ ،‬فأخبر أن منهم الخائن والمين‪،‬‬
‫وأن منهم } من إن تأمنه بقنطار { وهو المال الكثير } يؤده { وهو على‬
‫أداء ما دونه من باب أولى‪ ،‬ومنهم } من إن تأمنه بدينار ل يؤده إليك {‬
‫وهو على عدم أداء ما فوقه من باب أولى وأحرى‪ ،‬والذي أوجب لهم‬
‫الخيانة وعدم الوفاء إليكم بأنهم زعموا أنه } ليس { عليهم } في الميين‬
‫سبيل { أي‪ :‬ليس عليهم إثم في عدم أداء أموالهم إليهم‪ ،‬لنهم بزعمهم‬
‫الفاسد ورأيهم الكاسد قد احتقروهم غاية الحتقار‪ ،‬ورأوا أنفسهم في غاية‬
‫العظمة‪ ،‬وهم الذلء الحقرون‪ ،‬فلم يجعلوا للميين حرمة‪ ،‬وأجازوا ذلك‪،‬‬
‫فجمعوا بين أكل الحرام واعتقاد حله وكان هذا كذبا على الله‪ ،‬لن العالم‬
‫الذي يحلل الشياء المحرمة قد كان عند الناس معلوم أنه يخبر عن حكم‬
‫الله ليس يخبر عن نفسه‪ ،‬وذلك هو الكذب‪ ،‬فلهذا قال } ويقولون على‬
‫الله الكذب وهم يعلمون { وهذا أعظم إثما من القول على الله بل علم‪،‬‬
‫ثم رد عليهم زعمهم الفاسد‪.‬‬
‫فقال } بلى { أي‪ :‬ليس المر كما تزعمون أنه ليس عليكم في الميين‬
‫حرج‪ ،‬بل عليكم في ذلك أعظم الحرج وأشد الثم‪.‬‬
‫} من أوفى بعهده واتقى { والعهد يشمل العهد الذي بين العبد وبين ربه‪،‬‬
‫وهو جميع ما أوجبه الله على العبد من حقه‪ ،‬ويشمل العهد الذي بينه وبين‬
‫العباد‪ ،‬والتقوى تكون في هذا الموضع‪ ،‬ترجع إلى اتقاء المعاصي التي بين‬
‫العبد وبين ربه‪ ،‬وبينه وبين الخلق‪ ،‬فمن كان كذلك فإنه من المتقين الذين‬
‫يحبهم الله تعالى‪ ،‬سواء كانوا من الميين أو غيرهم‪ ،‬فمن قال ليس علينا‬
‫في الميين سبيل‪ ،‬فلم يوف بعهده ولم يتق الله‪ ،‬فلم يكن ممن يحبه الله‪،‬‬
‫بل ممن يبغضه الله‪ ،‬وإذا كان الميون قد عرفوا بوفاء العهود وبتقوى الله‬
‫وعدم ] ص ‪ [ 136‬التجرئ على الموال المحترمة‪ ،‬كانوا هم المحبوبين‬
‫لله‪ ،‬المتقين الذين أعدت لهم الجنة‪ ،‬وكانوا أفضل خلق الله وأجلهم‪،‬‬
‫بخلف الذين يقولون ليس علينا في الميين سبيل‪ ،‬فإنهم داخلون في‬
‫قوله‪ } :‬إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمنا قليل { ويدخل في ذلك‬
‫كل من أخذ شيئا من الدنيا في مقابلة ما تركه من حق الله أو حق عباده‪،‬‬
‫وكذلك من حلف على يمين يقتطع بها مال معصوم فهو داخل في هذه‬
‫الية‪ ،‬فهؤلء } ل خلق لهم في الخرة { أي‪ :‬ل نصيب لهم من الخير } ول‬
‫يكلمهم الله { يوم القيامة غضبا عليهم وسخطا‪ ،‬لتقديمهم هوى أنفسهم‬
‫على رضا ربهم } ول يزكيهم { أي‪ :‬يطهرهم من ذنوبهم‪ ،‬ول يزيل عيوبهم‬
‫} ولهم عذاب أليم { أي‪ :‬موجع للقلوب والبدان‪ ،‬وهو عذاب السخط‬
‫والحجاب‪ ،‬وعذاب جهنم‪ ،‬نسأل الله العافية‪.‬‬

‫) ‪(1/135‬‬

‫قا يل ْوو َ‬
‫ن‬
‫م َ‬‫ما هُوَ ِ‬ ‫ب وَ َ‬‫ن ال ْك َِتا ِ‬ ‫م َ‬‫سُبوهُ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م ِبال ْك َِتا ِ‬
‫ب ل ِت َ ْ‬ ‫ن أل ْ ِ‬
‫سن َت َهُ ْ‬ ‫ري ً َ ُ َ‬ ‫ف ِ‬ ‫م لَ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ن ِ‬‫وَإ ِ ّ‬
‫هّ‬ ‫َ‬
‫ن عَلى الل ِ‬ ‫ُ‬
‫قولو َ‬ ‫ّ‬
‫عن ْدِ اللهِ وَي َ ُ‬‫ن ِ‬‫م ْ‬ ‫ما هُوَ ِ‬ ‫ّ‬
‫عن ْدِ اللهِ وَ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫ن هُوَ ِ‬‫قولو َ‬ ‫ُ‬ ‫ب وَي َ ُ‬ ‫ال ْك َِتا ِ‬
‫ن )‪(78‬‬ ‫مو َ‬‫م ي َعْل َ ُ‬ ‫ب وَهُ ْ‬ ‫ال ْك َذِ َ‬
‫قا يل ْوو َ‬
‫ب‬‫ن ال ْك َِتا ِ‬‫م َ‬ ‫سُبوهُ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م ِبال ْك َِتا ِ‬
‫ب ل ِت َ ْ‬ ‫ن أل ْ ِ‬
‫سن َت َهُ ْ‬ ‫ري ً َ ُ َ‬ ‫ف ِ‬‫م لَ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫} ‪ } { 78‬وَإ ِ ّ‬
‫قوُلو َ‬
‫ن‬ ‫عن ْدِ الل ّهِ وَي َ ُ‬
‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما هُوَ ِ‬ ‫عن ْدِ الل ّهِ وَ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قوُلو َ‬
‫ن هُوَ ِ‬ ‫ب وَي َ ُ‬ ‫ن ال ْك َِتا ِ‬
‫م َ‬‫ما هُوَ ِ‬
‫وَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬‫م ي َعْل َ ُ‬ ‫ب وَهُ ْ‬ ‫عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ‬
‫يخبر تعالى أن من أهل الكتاب فريقا يلوون ألسنتهم بالكتاب‪ ،‬أي‪ :‬يميلونه‬
‫ويحرفونه عن المقصود به‪ ،‬وهذا يشمل اللي والتحريف للفاظه ومعانيه‪،‬‬
‫وذلك أن المقصود من الكتاب حفظ ألفاظه وعدم تغييرها‪ ،‬وفهم المراد‬
‫منها وإفهامه‪ ،‬وهؤلء عكسوا القضية وأفهموا غير المراد من الكتاب‪ ،‬إما‬
‫تعريضا وإما تصريحا‪ ،‬فالتعريض في قوله } لتحسبوه من الكتاب { أي‪:‬‬
‫يلوون ألسنتهم ويوهمونكم أنه هو المراد من كتاب الله‪ ،‬وليس هو المراد‪،‬‬
‫والتصريح في قولهم‪ } :‬ويقولون هو من عند الله وما هو من عند الله‬
‫ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون { وهذا أعظم جرما ممن يقول‬
‫على الله بل علم‪ ،‬هؤلء يقولون على الله الكذب فيجمعون بين نفي‬
‫المعنى الحق‪ ،‬وإثبات المعنى الباطل‪ ،‬وتنزيل اللفظ الدال على الحق على‬
‫المعنى الفاسد‪ ،‬مع علمهم بذلك‪.‬‬

‫) ‪(1/136‬‬

‫كان ل ِب َ َ‬
‫كوُنوا‬‫س ُ‬ ‫ل ِللّنا ِ‬ ‫قو َ‬
‫م يَ ُ‬‫م َوالن ّب ُوّةَ ث ُ ّ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ب َوال ْ ُ‬‫ه ال ْك َِتا َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬ ‫ن ي ُؤْت ِي َ ُ‬ ‫شرٍ أ ْ‬ ‫ما َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫ب‬ ‫و‬
‫َِ َ َِ َ‬‫ب‬ ‫تا‬‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬ ‫مو‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ع‬
‫ُْ ْ َُ ُ َ‬‫ت‬ ‫م‬ ‫ت‬‫ن‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ما‬
‫ِ َ‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫يي‬ ‫ن‬ ‫با‬ ‫ر‬
‫ُ َ ّ ِّ‬ ‫نوا‬ ‫ُ‬
‫كو‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬
‫ِ َ ِْ ْ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ن‬ ‫دو‬
‫ِ ْ ُ ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫لي‬ ‫دا‬
‫ِ َ ً ِ‬‫با‬ ‫ع‬
‫مُرك ُْ‬ ‫ذوا َ ال ْمَلئك َة والنبيين أ َربابا أ َيأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫َ ِ َ َ ِّّ َ ْ َ ً َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫خ‬ ‫ت‬‫ت‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫م‬
‫َ َ ُ َ ْ ْ َّ ِ‬ ‫ك‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫(‬ ‫‪79‬‬ ‫)‬ ‫ن‬
‫م تَ ْ ُ ُ َ‬
‫سو‬ ‫ر‬ ‫د‬ ‫ك ُن ْت ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ِبال ْك ُ ْ‬
‫ن )‪(80‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬‫م ْ‬ ‫م ُ‬ ‫فرِ ب َعْد َ إ ِذ ْ أن ْت ُ ْ‬
‫كان ل ِب َ َ‬
‫م َوالن ّب ُوّةَ ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ب َوال ْ ُ‬ ‫ه ال ْك َِتا َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬ ‫ن ي ُؤْت ِي َ ُ‬‫شرٍ أ ْ‬ ‫ما َ َ َ‬ ‫} ‪َ } { 80 - 79‬‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫ما كن ْت ُ ْ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫ن كوُنوا َرّبان ِّيي َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن اللهِ ْوَلك ِ ْ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬‫دا ِلي ِ‬ ‫عَبا ً‬ ‫كوُنوا ِ‬ ‫س ُ‬ ‫قو َ‬
‫َ‬ ‫ل ِللّنا ِ‬ ‫يَ ُ‬
‫ةَ‬
‫ملئ ِك َ‬ ‫ْ‬
‫ذوا ال َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ن ت َت ّ ِ‬
‫مأ ْ‬ ‫ُ‬
‫مَرك ْ‬ ‫ن * َول ي َأ ُ‬ ‫سو َ‬ ‫م ت َد ُْر ُ‬ ‫ُ‬
‫ما كن ْت ُ ْ‬ ‫ب وَب ِ َ‬ ‫ْ‬
‫ن الك َِتا َ‬ ‫مو َ‬ ‫ّ‬
‫ت ُعَل ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬
‫م ْ‬ ‫م ُ‬ ‫فرِ ب َعْد َ إ ِذ ْ أن ْت ُ ْ‬‫م ِبالك ْ‬ ‫مُرك ْ‬ ‫ن أْرَباًبا أي َأ ُ‬ ‫َوالن ّب ِّيي َ‬
‫وهذه الية نزلت ردا لمن قال من أهل الكتاب للنبي صلى الله عليه وسلم‬
‫لما أمرهم باليمان به ودعاهم إلى طاعته‪ :‬أتريد يا محمد أن نعبدك مع‬
‫ن الله عليه‬ ‫م ّ‬ ‫الله‪ ،‬فقوله } ما كان لبشر { أي‪ :‬يمتنع ويستحيل على بشر َ‬
‫بإنزال الكتاب وتعليمه ما لم يكن يعلم وإرساله للخلق } أن يقول للناس‬
‫كونوا عبادا لي من دون الله { فهذا من أمحل المحال صدوره من أحد من‬
‫النبياء عليهم أفضل الصلة والسلم‪ ،‬لن هذا أقبح الوامر على الطلق‪،‬‬
‫والنبياء أكمل الخلق على الطلق‪ ،‬فأوامرهم تكون مناسبة لحوالهم‪ ،‬فل‬
‫يأمرون إل بمعالي المور وهم أعظم الناس نهيا عن المور القبيحة‪ ،‬فلهذا‬
‫قال } ولكن كونوا ربانيين بما كنتم تعلمون الكتاب وبما كنتم تدرسون {‬
‫أي‪ :‬ولكن يأمرهم بأن يكونوا ربانيين‪ ،‬أي‪ :‬علماء حكماء حلماء معلمين‬
‫للناس ومربيهم‪ ،‬بصغار العلم قبل كباره‪ ،‬عاملين بذلك‪ ،‬فهم يأمرون بالعلم‬
‫والعمل والتعليم التي هي مدار السعادة‪ ،‬وبفوات شيء منها يحصل النقص‬
‫والخلل‪ ،‬والباء في قوله } بما كنتم تعلمون { إلخ‪ ،‬باء السببية‪ ،‬أي‪ :‬بسبب‬
‫تعليمكم لغيركم المتضمن لعلمكم ودرسكم لكتاب الله وسنة نبيه‪ ،‬التي‬
‫بدرسها يرسخ العلم ويبقى‪ ،‬تكونون ربانيين‪.‬‬
‫} ول يأمركم أن تتخذوا الملئكة والنبيين أربابا { وهذا تعميم بعد تخصيص‪،‬‬
‫أي‪ :‬ل يأمركم بعبادة نفسه ول بعبادة أحد من الخلق من الملئكة والنبيين‬
‫وغيرهم } أيأمركم بالكفر بعد إذ أنتم مسلمون { هذا ما ل يكون ول‬
‫ن الله عليه بالنبوة‪ ،‬فمن قدح في أحد منهم‬ ‫م ّ‬ ‫يتصور أن يصدر من أحد َ‬
‫بشيء من ذلك فقد ارتكب إثما عظيما وكفرا وخيما‪.‬‬

‫) ‪(1/136‬‬

‫ل‬‫سو ٌ‬ ‫م َر ُ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫مة ٍ ث ُ ّ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ب وَ ِ‬ ‫ن ك َِتا ٍ‬‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫َ‬
‫ما آت َي ْت ُك ُ ْ‬ ‫ن لَ َ‬‫ميَثاقَ الن ّب ِّيي َ‬ ‫ه ِ‬ ‫وَإ ِذ ْ أ َ َ‬
‫خذ َ الل ّ ُ‬
‫م‬‫م عََلى ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫خذ ْت ُ ْ‬‫م وَأ َ َ‬ ‫مصدقٌ ل ِما معك ُم ل َتؤْمنن به ول َتنصرنه َقا َ َ َ‬
‫ل أأقَْرْرت ُ ْ‬ ‫َ َ َ ْ ُ ِ ُ ّ ِ ِ َ َْ ُ ُ ّ ُ‬ ‫ُ َ ّ‬
‫ّ‬
‫ن ت َوَلى‬ ‫َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل فا ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ري قالوا أقَرْرَنا قا َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م ْ‬ ‫ن )‪ (81‬ف َ‬ ‫دي َ‬ ‫شاهِ ِ‬ ‫م َ‬‫م ِ‬ ‫معَك ْ‬‫دوا وَأَنا َ‬ ‫شه َ ُ‬
‫ُ‬ ‫ص ِ‬ ‫إِ ْ‬
‫ن )‪(82‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬
‫فا ِ‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب َعْد َ ذ َل ِك فَأولئ ِك هُ ُ‬

‫مة ٍ ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ب وَ ِ‬ ‫ن ك َِتا ٍ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬‫ما آت َي ْت ُك ُ ْ‬ ‫ن لَ َ‬
‫ميَثاقَ الن ّب ِّيي َ‬ ‫ه ِ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬ ‫} ‪ } { 82 - 81‬وَإ ِذ ْ أ َ َ‬
‫خذ ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫م وَأ َ َ‬ ‫ل مصدقٌ ل ِما معك ُم ل َتؤْمنن به ول َتنصرنه َقا َ َ َ‬
‫ل أأقَْرْرت ُ ْ‬ ‫َ َ َ ْ ُ ِ ُ ّ ِ ِ َ َْ ُ ُ ّ ُ‬ ‫سو ٌ ُ َ ّ‬ ‫م َر ُ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن*‬ ‫دي‬ ‫ه‬ ‫شا‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫دوا‬ ‫ه‬ ‫ش‬‫ْ‬ ‫َ‬
‫فا‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫َ‬
‫قا‬ ‫نا‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ْ‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫قا‬‫َ‬ ‫ري‬ ‫ص‬ ‫إ‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫ِ ِ َ‬ ‫َ َ َ َ ْ ِ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ُ‬ ‫ِ ْ ِ ْ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬
‫فا ِ‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ت َوَلى ب َعْد َ ذ َل ِك فأولئ ِك هُ ُ‬ ‫ّ‬ ‫م ْ‬‫فَ َ‬
‫يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق النبيين وعهدهم المؤكد بسبب ما أعطاهم من‬
‫كتاب الله المنزل‪ ،‬والحكمة الفاصلة بين الحق والباطل والهدى والضلل‪،‬‬
‫إنه إن بعث الله رسول مصدقا لما معهم أن يؤمنوا به ويصدقوه ويأخذوا‬
‫ذلك على أممهم‪ ،‬فالنبياء عليهم الصلة والسلم قد أوجب الله عليهم أن‬
‫يؤمن بعضهم ببعض‪ ،‬ويصدق بعضهم بعضا لن جميع ما عندهم هو من عند‬
‫الله‪ ،‬وكل ما من عند الله يجب التصديق به واليمان‪ ،‬فهم كالشيء‬
‫الواحد‪ ،‬فعلى هذا قد علم أن محمدا صلى الله عليه وسلم هو خاتمهم‪،‬‬
‫فكل النبياء عليهم الصلة والسلم لو أدركوه لوجب عليهم اليمان به‬
‫واتباعه ونصرته‪ ،‬وكان هو إمامهم ومقدمهم ومتبوعهم‪ ،‬فهذه الية الكريمة‬
‫من أعظم الدلئل على علو مرتبته وجللة قدره‪ ،‬وأنه أفضل النبياء‬
‫وسيدهم صلى الله عليه وسلم لما قررهم تعالى ] ص ‪ } [ 137‬قالوا‬
‫أقررنا { أي‪ :‬قبلنا ما أمرتنا به على الرأس والعين } قال { الله لهم‪:‬‬
‫} فاشهدوا { على أنفسكم وعلى أممكم بذلك‪ ،‬قال } وأنا معكم من‬
‫الشاهدين فمن تولى بعد ذلك { العهد والميثاق المؤكد بالشهادة من الله‬
‫ومن رسله } فأولئك هم الفاسقون { فعلى هذا كل من ادعى أنه من‬
‫أتباع النبياء كاليهود والنصارى ومن تبعهم‪ ،‬فقد تولوا عن هذا الميثاق‬
‫الغليظ‪ ،‬واستحقوا الفسق الموجب للخلود في النار إن لم يؤمنوا بمحمد‬
‫صلى الله عليه وسلم‪.‬‬

‫) ‪(1/136‬‬

‫ض ط َوْ ً‬ ‫َْ‬ ‫أ َفَغَير دين الل ّه يبُغون ول َ َ‬


‫عا وَك َْر ً‬
‫ها‬ ‫ت َوالْر ِ‬
‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬
‫ن ِفي ال ّ‬
‫م ْ‬ ‫سل َ َ‬
‫م َ‬ ‫هأ ْ‬‫َ َ ُ‬ ‫ِ َْ‬ ‫َْ ِ ِ‬
‫ن )‪(83‬‬ ‫جُعو َ‬‫وَإ ِل َي ْهِ ي ُْر َ‬
‫} ‪ } { 83‬أ َفَغَير دين الل ّه يبُغون ول َ َ‬
‫ض‬
‫ت َوالْر ِ‬
‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬
‫ن ِفي ال ّ‬
‫م ْ‬ ‫سل َ َ‬
‫م َ‬ ‫هأ ْ‬‫َ َ ُ‬ ‫ِ َْ‬ ‫َْ ِ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ها وَإ ِل َي ْهِ ي ُ ْ َ ُ َ‬
‫عو‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫ط َوْ ً‬
‫عا وَك َْر ً‬
‫أي‪ :‬أيطلب الطالبون ويرغب الراغبون في غير دين الله؟ ل يحسن هذا ول‬
‫يليق‪ ،‬لنه ل أحسن دينا من دين الله } وله أسلم من في السماوات‬
‫والرض طوعا وكرها { أي‪ :‬الخلق كلهم منقادون بتسخيره مستسلمون له‬
‫طوعا واختيارا‪ ،‬وهم المؤمنون المسلمون المنقادون لعبادة ربهم‪ ،‬وكرها‬
‫وهم سائر الخلق‪ ،‬حتى الكافرون مستسلمون لقضائه وقدره ل خروج لهم‬
‫عنه‪ ،‬ول امتناع لهم منه‪ ،‬وإليه مرجع الخلئق كلها‪ ،‬فيحكم بينهم ويجازيهم‬
‫بحكمه الدائر بين الفضل والعدل‪.‬‬

‫) ‪(1/137‬‬

‫حاقَ‬
‫س َ‬ ‫ل وَإ ِ ْ‬‫عي َ‬ ‫ما ِ‬‫س َ‬
‫م وَإ ِ ْ‬
‫هي َ‬ ‫ل عََلى إ ِب َْرا ِ‬‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل عَل َي َْنا وَ َ‬‫ما أ ُن ْزِ َ‬ ‫مّنا ِبالل ّهِ وَ َ‬‫لآ َ‬
‫قُ ْ َ‬
‫م َل ن ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫فّرقُ‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫سى َوالن ّب ِّيو َ‬ ‫عي َ‬‫سى وَ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ي ُ‬ ‫ما أوت ِ َ‬ ‫ط وَ َ‬‫سَبا ِ‬ ‫ب َواْل ْ‬ ‫قو َ‬ ‫وَي َعْ ُ‬
‫ن )‪(84‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ه ُ‬‫نل ُ‬ ‫ح ُ‬‫م وَن َ ْ‬
‫من ْهُ ْ‬
‫حدٍ ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫ب َي ْ َ‬
‫عي َ‬
‫ل‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬
‫م وَإ ِ ْ‬‫هي َ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل عََلى إ ِب َْرا ِ‬ ‫ل عَل َي َْنا وَ َ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬ ‫مّنا ِبالل ّهِ وَ َ‬‫لآ َ‬ ‫} ‪ } { 84‬قُ ْ‬
‫مل‬ ‫ُ‬
‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫سى َوالن ّب ِّيو َ‬ ‫عي َ‬‫سى وَ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ي ُ‬ ‫ما أوت ِ َ‬ ‫ط وَ َ‬ ‫سَبا ِ‬ ‫ب َوال ْ‬ ‫قو َ‬‫حاقَ وَي َعْ ُ‬ ‫س َ‬
‫وَإ ِ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬
‫ه ُ‬ ‫نل ُ‬ ‫ح ُ‬‫م وَن َ ْ‬‫من ْهُ ْ‬
‫حدٍ ِ‬‫نأ َ‬ ‫فّرقُ ب َي ْ َ‬ ‫نُ َ‬
‫تقدم نظير هذه الية في سورة البقرة‪ ،‬ثم قال تعالى‪.‬‬

‫) ‪(1/137‬‬
‫ن)‬
‫ري َ‬
‫س ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫خا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه وَهُوَ ِفي اْل َ ِ‬
‫خَرةِ ِ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫قب َ َ‬
‫ل ِ‬ ‫سَلم ِ ِديًنا فَل َ ْ‬
‫ن يُ ْ‬ ‫ن ي َب ْت َِغ غَي َْر اْل ِ ْ‬
‫م ْ‬
‫وَ َ‬
‫‪(85‬‬

‫ن‬‫م َ‬
‫خَرةِ ِ‬
‫ه وَهُوَ ِفي ال ِ‬
‫من ْ ُ‬ ‫قب َ َ‬
‫ل ِ‬ ‫سلم ِ ِديًنا فَل َ ْ‬
‫ن يُ ْ‬ ‫ن ي َب ْت َِغ غَي َْر ال ْ‬
‫م ْ‬
‫} ‪ } { 85‬وَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬
‫س ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫خا ِ‬
‫أي‪ :‬من يدين لله بغير دين السلم الذي ارتضاه الله لعباده‪ ،‬فعمله مردود‬
‫غير مقبول‪ ،‬لن دين السلم هو المتضمن للستسلم لله‪ ،‬إخلصا وانقيادا‬
‫لرسله فما لم يأت به العبد لم يأت بسبب النجاة من عذاب الله والفوز‬
‫بثوابه‪ ،‬وكل دين سواه فباطل‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/137‬‬

‫َ‬
‫م‬
‫جاَءهُ ُ‬ ‫حق ّ و َ َ‬ ‫ل َ‬ ‫سو َ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫دوا أ ّ‬ ‫شه ِ ُ‬ ‫م وَ َ‬ ‫مان ِهِ ْ‬
‫فُروا ب َعْد َ ِإي َ‬ ‫ما ك َ َ‬
‫ه قَوْ ً‬ ‫دي الل ّ ُ‬ ‫ف ي َهْ ِ‬ ‫ك َي ْ َ‬
‫م ل َعْن َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫ن عَل َي ْهِ ْ‬ ‫مأ ّ‬ ‫جَزاؤُهُ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ن )‪ (86‬أول َئ ِ َ‬ ‫مي َ‬ ‫م ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫قوْ َ‬‫دي ال ْ َ‬ ‫ه َل ي َهْ ِ‬ ‫ت َوالل ّ ُ‬ ‫ال ْب َي َّنا ُ‬
‫م ال ْعَ َ‬ ‫ن ِفيَها َل ي ُ َ‬ ‫َ‬ ‫مَلئ ِك َةِ َوالّنا‬
‫ب‬‫ذا ُ‬ ‫ف عَن ْهُ ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫خ ّ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬
‫ن )‪َ (87‬‬ ‫مِعي َ‬ ‫ج َ‬
‫سأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫الل ّهِ َوال ْ َ‬
‫وَل هُم ينظ َرون )‪ (88‬إّل ال ّذين تابوا من بعد ذ َل ِ َ َ‬
‫فوٌر‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫حوا فَإ ِ ّ‬ ‫صل َ ُ‬‫ك وَأ ْ‬ ‫ِ ْ َْ ِ‬ ‫ِ َ َ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ْ ُْ ُ َ‬ ‫َ‬
‫م )‪(89‬‬ ‫ٌ‬ ‫حي‬‫ِ‬ ‫َر‬
‫َ‬
‫ن‬
‫دوا أ ّ‬ ‫شه ِ ُ‬ ‫م وَ َ‬‫مان ِهِ ْ‬
‫فُروا ب َعْد َ ِإي َ‬‫ما ك َ َ‬
‫ه قَوْ ً‬ ‫دي الل ّ ُ‬ ‫ف ي َهْ ِ‬ ‫} ‪ } { 88 - 86‬ك َي ْ َ‬
‫ُ‬
‫ن * أول َئ ِ َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫دي ال ْ َ‬
‫ك‬ ‫مي َ‬‫ظال ِ ِ‬ ‫قوْ َ‬ ‫ه ل ي َهْ ِ‬ ‫ت َوالل ّ ُ‬ ‫م ال ْب َي َّنا ُ‬ ‫جاَءهُ ُ‬ ‫حقّ وَ َ‬ ‫ل َ‬ ‫سو َ‬ ‫الّر ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ِفيَها ل‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬‫ن* َ‬ ‫مِعي َ‬
‫ج َ‬ ‫سأ ْ‬ ‫ملئ ِكةِ َوالّنا ِ‬ ‫ة اللهِ َوال َ‬ ‫م لعْن َ َ‬ ‫ن عَلي ْهِ ْ‬ ‫مأ ّ‬ ‫جَزاؤُهُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫َ‬
‫م ي ُن ْظُرو َ‬ ‫ب َول هُ ْ‬ ‫ذا ُ‬ ‫ْ‬
‫م العَ َ‬ ‫ف عَن ْهُ ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫خ ّ‬
‫يُ َ‬
‫هذا من باب الستبعاد‪ ،‬أي‪ :‬من المر البعيد أن يهدي الله قوما اختاروا‬
‫الكفر والضلل بعدما آمنوا وشهدوا أن الرسول حق بما جاءهم به من‬
‫اليات البينات والبراهين القاطعات } والله ل يهدي القوم الظالمين {‬
‫فهؤلء ظلموا وتركوا الحق بعدما عرفوه‪ ،‬واتبعوا الباطل مع علمهم‬
‫ببطلنه ظلما وبغيا واتباعا لهوائهم‪ ،‬فهؤلء ل يوفقون للهداية‪ ،‬لن الذي‬
‫يرجى أن يهتدي هو الذي لم يعرف الحق وهو حريص على التماسه‪ ،‬فهذا‬
‫بالحري أن ييسر الله له أسباب الهداية ويصونه من أسباب الغواية‪.‬‬
‫ثم أخبر عن عقوبة هؤلء المعاندين الظالمين الدنيوية والخروية‪ ،‬فقال‬
‫} أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملئكة والناس أجمعين خالدين‬
‫فيها ل يخفف عنهم العذاب ول هم ينظرون { أي‪ :‬ل يفتر عنهم العذاب‬
‫ساعة ول لحظة‪ ،‬ل بإزالته أو إزالة بعض شدته‪ } ،‬ول هم ينظرون { أي‪:‬‬
‫يمهلون‪ ،‬لن زمن المهال قد مضى‪ ،‬وقد أعذر الله منهم وعمرهم ما‬
‫يتذكر فيه من تذكر‪ ،‬فلو كان فيهم خير لوجد‪ ،‬ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه‪.‬‬

‫) ‪(1/137‬‬

‫م‬
‫ك هُ ُ‬ ‫م وَُأول َئ ِ َ‬ ‫ل ت َوْب َت ُهُ ْ‬‫قب َ َ‬ ‫ن تُ ْ‬‫فًرا ل َ ْ‬ ‫دوا ك ُ ْ‬‫دا ُ‬‫م اْز َ‬‫م ثُ ّ‬‫مان ِهِ ْ‬
‫فُروا ب َعْد َ ِإي َ‬‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫إِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫م ْ‬
‫لُء‬ ‫م ِ‬ ‫حدِهِ ْ‬ ‫نأ َ‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫قب َ َ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫فاٌر فَل ْ‬ ‫مك ّ‬ ‫ماُتوا وَهُ ْ‬ ‫فُروا وَ َ‬ ‫نك َ‬ ‫ذي َ‬
‫ن ال ِ‬ ‫ن )‪ (90‬إ ِ ّ‬ ‫ضالو َ‬ ‫ال ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫دى ب ِهِ أولئ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬
‫ن )‪(91‬‬ ‫ري َ‬‫ص ِ‬ ‫ن َنا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما لهُ ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬‫ك لهُ ْ‬ ‫ض ذ َهًَبا وَلوِ افْت َ َ‬
‫الْر ِ‬
‫قب َ َ‬
‫ل‬ ‫فًرا ل َ ْ‬
‫ن تُ ْ‬ ‫دوا ك ُ ْ‬ ‫دا ُ‬‫م اْز َ‬ ‫م ثُ ّ‬‫مان ِهِ ْ‬‫فُروا ب َعْد َ ِإي َ‬‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫} ‪ } { 91 - 90‬إ ِ ّ‬
‫ن ي ُقْب َ َ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫فاٌر فَل ْ‬ ‫ُ‬
‫مك ّ‬ ‫ماُتوا وَهُ ْ‬ ‫فُروا وَ َ‬ ‫َ‬
‫نك َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ن ال ِ‬ ‫ن * إِ ّ‬ ‫ّ‬
‫ضالو َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ك هُ ُ‬‫م وَُأول َئ ِ َ‬ ‫ت َوْب َت ُهُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬
‫م‬‫ما لهُ ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬ ‫دى ب ِهِ أولئ ِك لهُ ْ‬ ‫ض ذ َهًَبا وَلوِ افْت َ َ‬ ‫لُء الْر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫حدِهِ ْ‬‫نأ َ‬ ‫ِ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫ص ِ‬‫ن َنا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫يخبر تعالى أن من كفر بعد إيمانه‪ ،‬ثم ازداد كفرا إلى كفره بتماديه في‬
‫الغي والضلل‪ ،‬واستمراره على ترك الرشد والهدى‪ ،‬أنه ل تقبل توبتهم‪،‬‬
‫أي‪ :‬ل يوفقون لتوبة تقبل بل يمدهم الله في طغيانهم يعمهون‪ ،‬قال تعالى‬
‫} ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة { } فلما زاغوا‬
‫أزاغ الله قلوبهم { فالسيئات ينتج بعضها بعضا‪ ،‬وخصوصا لمن أقدم على‬
‫الكفر العظيم وترك الصراط المستقيم‪ ،‬وقد قامت عليه الحجة ووضح الله‬
‫له اليات والبراهين‪ ،‬فهذا هو الذي سعى في قطع أسباب رحمة ربه عنه‪،‬‬
‫وهو الذي سد على نفسه باب التوبة‪ ،‬ولهذا حصر الضلل في هذا الصنف‪،‬‬
‫فقال } وأولئك هم الضالون { وأي‪ :‬ضلل أعظم من ضلل من ترك‬
‫الطريق عن بصيرة‪ ،‬وهؤلء الكفرة إذا استمروا على كفرهم إلى الممات‬
‫تعين هلكهم وشقاؤهم البدي‪ ،‬ولم ينفعهم شيء‪ ،‬فلو أنفق أحدهم ملء‬
‫الرض ذهبا ليفتدي به من عذاب الله ما نفعه ذلك‪ ،‬بل ل يزالون في‬
‫العذاب الليم‪ ،‬ل شافع لهم ول ناصر ول مغيث ول مجير ينقذهم من عذاب‬
‫الله فأيسوا من كل خير‪ ،‬وجزموا على الخلود الدائم في العقاب والسخط‪،‬‬
‫فعياذا بالله من حالهم‪.‬‬

‫) ‪(1/137‬‬

‫ن الل ّ َ‬
‫ه ب ِهِ‬ ‫يءٍ فَإ ِ ّ‬ ‫ن َ‬
‫ش ْ‬ ‫م ْ‬
‫قوا ِ‬
‫ف ُ‬
‫ما ت ُن ْ ِ‬
‫ن وَ َ‬
‫حّبو َ‬
‫ما ت ُ ِ‬
‫م ّ‬
‫قوا ِ‬
‫ف ُ‬ ‫ن ت ََناُلوا ال ْب ِّر َ‬
‫حّتى ت ُن ْ ِ‬ ‫لَ ْ‬
‫م )‪(92‬‬ ‫عَِلي ٌ‬
‫] ص ‪[ 138‬‬
‫يٍء فَإ ِ ّ‬
‫ن‬ ‫ن َ‬
‫ش ْ‬ ‫م ْ‬
‫قوا ِ‬
‫ف ُ‬
‫ما ت ُن ْ ِ‬
‫ن وَ َ‬
‫حّبو َ‬
‫ما ت ُ ِ‬
‫م ّ‬
‫قوا ِ‬
‫ف ُ‬
‫حّتى ت ُن ْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫} ‪ } { 92‬ل َ ْ‬
‫ن ت ََنالوا الب ِّر َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه ب ِهِ عَِلي ٌ‬
‫هذا حث من الله لعباده على النفاق في طرق الخيرات‪ ،‬فقال } لن تنالوا‬
‫{ أي‪ :‬تدركوا وتبلغوا البر الذي هو كل خير من أنواع الطاعات وأنواع‬
‫المثوبات الموصل لصاحبه إلى الجنة‪ } ،‬حتى تنفقوا مما تحبون { أي‪ :‬من‬
‫أموالكم النفيسة التي تحبها نفوسكم‪ ،‬فإنكم إذا قدمتم محبة الله على‬
‫محبة الموال فبذلتموها في مرضاته‪ ،‬دل ذلك على إيمانكم الصادق وبر‬
‫قلوبكم ويقين تقواكم‪ ،‬فيدخل في ذلك إنفاق نفائس الموال‪ ،‬والنفاق في‬
‫حال حاجة المنفق إلى ما أنفقه‪ ،‬والنفاق في حال الصحة‪ ،‬ودلت الية أن‬
‫العبد بحسب إنفاقه للمحبوبات يكون بره‪ ،‬وأنه ينقص من بره بحسب ما‬
‫نقص من ذلك‪ ،‬ولما كان النفاق على أي‪ :‬وجه كان مثابا عليه العبد‪ ،‬سواء‬
‫كان قليل أو كثيرا‪ ،‬محبوبا للنفس أم ل وكان قوله } لن تنالوا البر حتى‬
‫تنفقوا مما تحبون { مما يوهم أن إنفاق غير هذا المقيد غير نافع‪ ،‬احترز‬
‫تعالى عن هذا الوهم بقوله } وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم { فل‬
‫يضيق عليكم‪ ،‬بل يثيبكم عليه على حسب نياتكم ونفعه‪.‬‬
‫) ‪(1/138‬‬

‫ن قَب ْ ِ‬
‫ل‬ ‫م ْ‬‫سه ِ ِ‬ ‫ل عََلى ن َ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫سَراِئي ُ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫ما َ‬ ‫ل إ ِّل َ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫حّل ل ِب َِني إ ِ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ل الط َّعام ِ َ‬ ‫كُ ّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م ِ‬‫ن )‪ (93‬فَ َ‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ها إ ِ ْ‬ ‫ل فَأُتوا ِبالت ّوَْراةِ َفات ُْلو َ‬ ‫ل الت ّوَْراةُ قُ ْ‬ ‫ن ت ُن َّز َ‬ ‫أ ْ‬
‫ق‬
‫صد َ َ‬‫ل َ‬ ‫ن )‪ (94‬قُ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫م ال ّ‬
‫ظال ِ ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ك فَُأول َئ ِ َ‬ ‫ن ب َعْدِ ذ َل ِ َ‬‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫افْت ََرى عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ‬
‫ن )‪(95‬‬ ‫كي َ‬
‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬‫كا َ‬‫ما َ‬ ‫فا وَ َ‬ ‫حِني ً‬‫م َ‬‫هي َ‬ ‫ة إ ِب َْرا ِ‬‫مل ّ َ‬‫ه َفات ّب ُِعوا ِ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ل‬‫سَراِئي ُ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫ما َ‬ ‫ل ِإل َ‬‫سَراِئي َ‬ ‫حل ل ِب َِني إ ِ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ل الط َّعام ِ َ‬ ‫} ‪ } { 95 - 93‬ك ُ ّ‬
‫ْ‬ ‫فسه من قَب َ‬
‫م‬‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬‫ها إ ِ ْ‬‫ل فَأُتوا ِبالت ّوَْراةِ َفات ُْلو َ‬ ‫ل الت ّوَْراةُ قُ ْ‬ ‫ن ت ُن َّز َ‬‫لأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫عََلى ن َ ْ ِ ِ ِ ْ ْ‬
‫ن‬
‫مو َ‬‫ظال ِ ُ‬‫م ال ّ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ك فَُأول َئ ِ َ‬ ‫ن ب َعْدِ ذ َل ِ َ‬ ‫م ْ‬‫ب ِ‬ ‫ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ن * فَ َ‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫كي‬
‫ُ ِ ِ َ‬‫ر‬ ‫ْ‬
‫ش‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫َ ِ َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ما‬ ‫َ َ‬ ‫و‬ ‫فا‬
‫ً‬ ‫ني‬
‫ِ‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫هي‬
‫َِْ ِ َ َ‬ ‫را‬ ‫ب‬ ‫إ‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫م‬‫ِ‬ ‫عوا‬ ‫ب‬
‫ُِّ‬ ‫ت‬ ‫فا‬‫َ‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫د‬‫ص‬
‫َ َ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫*‬
‫وهذا رد على اليهود بزعمهم الباطل أن النسخ غير جائز‪ ،‬فكفروا بعيسى‬
‫ومحمد صلى الله عليهما وسلم‪ ،‬لنهما قد أتيا بما يخالف بعض أحكام‬
‫التوراة بالتحليل والتحريم فمن تمام النصاف في المجادلة إلزامهم بما‬
‫في كتابهم التوراة من أن جميع أنواع الطعمة محللة لبني إسرائيل } إل‬
‫ما حرم إسرائيل { وهو يعقوب عليه السلم } على نفسه { أي‪ :‬من غير‬
‫تحريم من الله تعالى‪ ،‬بل حرمه على نفسه لما أصابه عرق النسا نذر لئن‬
‫شفاه الله تعالى ليحرمن أحب الطعمة عليه‪ ،‬فحرم فيما يذكرون لحوم‬
‫البل وألبانها وتبعه بنوه على ذلك وكان ذلك قبل نزول التوراة‪ ،‬ثم نزل‬
‫في التوراة أشياء من المحرمات غير ما حرم إسرائيل مما كان حلل لهم‬
‫طيبا‪ ،‬كما قال تعالى } فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت‬
‫لهم { وأمر الله رسوله إن أنكروا ذلك أن يأمرهم بإحضار التوراة‪،‬‬
‫فاستمروا بعد هذا على الظلم والعناد‪ ،‬فلهذا قال تعالى } فمن افترى‬
‫على الله الكذب من بعد ذلك فأولئك هم الظالمون { وأي ظلم أعظم من‬
‫ظلم من يدعى إلى تحكيم كتابه فيمتنع من ذلك عنادا وتكبرا وتجبرا‪ ،‬وهذا‬
‫من أعظم الدلة على صحة نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وقيام‬
‫اليات البينات المتنوعات على صدقه وصدق من نبأه وأخبره بما أخبره به‬
‫من المور التي ل يعلمها إل بإخبار ربه له بها‪ ،‬فلهذا قال تعالى } قل صدق‬
‫الله { أي‪ :‬فيما أخبر به وحكم‪ ،‬وهذا أمر من الله لرسوله ولمن يتبعه أن‬
‫يقولوا بألسنتهم‪ :‬صدق الله‪ ،‬معتقدين بذلك في قلوبهم عن أدلة يقينية‪،‬‬
‫مقيمين هذه الشهادة على من أنكرها‪ ،‬ومن هنا تعلم أن أعظم الناس‬
‫تصديقا لله أعظمهم علما ويقينا بالدلة التفصيلية السمعية والعقلية‪ ،‬ثم‬
‫أمرهم باتباع ملة أبيهم إبراهيم عليه السلم بالتوحيد وترك الشرك الذي‬
‫هو مدار السعادة‪ ،‬وبتركه حصول الشقاوة‪ ،‬وفي هذا دليل على أن اليهود‬
‫وغيرهم ممن ليس على ملة إبراهيم مشركون غير موحدين‪ ،‬ولما أمرهم‬
‫باتباع ملة إبراهيم في التوحيد وترك الشرك أمرهم باتباعه بتعظيم بيته‬
‫الحرام بالحج وغيره‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫) ‪(1/138‬‬
‫ت‬ ‫َ‬
‫ن )‪ِ (96‬فيهِ آَيا ٌ‬ ‫مي َ‬‫دى ل ِل َْعال َ ِ‬ ‫كا وَهُ ً‬‫مَباَر ً‬ ‫ة ُ‬ ‫ذي ب ِب َك ّ َ‬ ‫س ل َل ّ ِ‬‫ضعَ ِللّنا ِ‬ ‫ت وُ ِ‬ ‫ل ب َي ْ ٍ‬‫ن أ َوّ َ‬‫إِ ّ‬
‫ن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ِ‬‫ت َ‬‫ج الب َي ْ ِ‬
‫ح ّ‬
‫س ِ‬‫مًنا وَل ِلهِ عَلى الّنا ِ‬ ‫نآ ِ‬ ‫ه كا َ‬ ‫خل ُ‬ ‫ن دَ َ‬ ‫م ْ‬‫م وَ َ‬‫هي َ‬‫م إ ِب َْرا ِ‬‫قا ُ‬ ‫م َ‬‫ت َ‬ ‫ب َي َّنا ٌ‬
‫ن )‪(97‬‬ ‫مي َ‬ ‫َ‬
‫ن الَعال ِ‬‫ْ‬ ‫ه غَن ِ ّ‬ ‫ّ‬ ‫فَر فَإ ِ ّ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ي عَ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫نك َ‬ ‫م ْ‬‫سِبيل وَ َ‬ ‫ست َطاعَ إ ِلي ْهِ َ‬ ‫ا ْ‬

‫دى‬ ‫كا وَهُ ً‬ ‫مَباَر ً‬ ‫ة ُ‬ ‫ذي ب ِب َك ّ َ‬ ‫س ل َل ّ ِ‬‫ضعَ ِللّنا ِ‬ ‫ت وُ ِ‬ ‫ن أ َوّ َ‬


‫ل ب َي ْ ٍ‬ ‫} ‪ } { 97 - 96‬إ ِ ّ‬
‫مًنا وَل ِل ّهِ عََلى‬ ‫نآ ِ‬ ‫كا َ‬‫ه َ‬ ‫خل َ ُ‬‫ن دَ َ‬‫م ْ‬ ‫م وَ َ‬‫هي َ‬
‫م إ ِب َْرا ِ‬‫قا ُ‬
‫م َ‬‫ت َ‬ ‫ت ب َي َّنا ٌ‬‫ن * ِفيهِ آَيا ٌ‬ ‫مي َ‬ ‫ل ِل َْعال َ ِ‬
‫ن‬
‫ي عَ ِ‬ ‫ه غَن ِ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫فَر فَإ ِ ّ‬ ‫ن كَ َ‬‫م ْ‬ ‫طاعَ إ ِل َي ْهِ َ‬
‫سِبيل وَ َ‬ ‫ست َ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ج ال ْب َي ْ ِ‬
‫ح ّ‬‫س ِ‬ ‫الّنا ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ال َْعال َ ِ‬
‫يخبر تعالى عن شرف هذا البيت الحرام‪ ،‬وأنه أول بيت وضعه الله للناس‪،‬‬
‫يتعبدون فيه لربهم فتغفر أوزارهم‪ ،‬وتقال عثارهم‪ ،‬ويحصل لهم به من‬
‫الطاعات والقربات ما ينالون به رضى ربهم والفوز بثوابه والنجاة من‬
‫عقابه‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬مباركا { أي‪ :‬فيه البركة الكثيرة في المنافع الدينية‬
‫والدنيوية كما قال تعالى } ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم الله على ما‬
‫رزقهم من بهيمة النعام { } وهدى للعالمين { والهدى نوعان‪ :‬هدى في‬
‫المعرفة‪ ،‬وهدى في العمل‪ ،‬فالهدى في العمل ظاهر‪ ،‬وهو ما جعل الله‬
‫فيه من أنواع التعبدات المختصة به‪ ،‬وأما هدى العلم فبما يحصل لهم‬
‫بسببه من العلم بالحق بسبب اليات البينات التي ذكر الله تعالى في قوله‬
‫} فيه آيات بينات { أي‪ :‬أدلة واضحات‪ ،‬وبراهين قاطعات على أنواع من‬
‫العلوم اللهية والمطالب العالية‪ ،‬كالدلة على توحيده ورحمته وحكمته‬
‫ن به على أوليائه وأنبيائه‪،‬‬ ‫م ّ‬ ‫وعظمته وجلله وكمال علمه وسعة جوده‪ ،‬وما َ‬
‫فمن اليات ] ص ‪ } [ 139‬مقام إبراهيم { يحتمل أن المراد به المقام‬
‫المعروف وهو الحجر الذي كان يقوم عليه الخليل لبنيان الكعبة لما ارتفع‬
‫البنيان‪ ،‬وكان ملصقا في جدار الكعبة‪ ،‬فلما كان عمر رضي الله عنه وضعه‬
‫في مكانه الموجود فيه الن‪ ،‬والية فيه قيل أثر قدمي إبراهيم‪ ،‬قد أثرت‬
‫في الصخرة وبقي ذلك الثر إلى أوائل هذه المة‪ ،‬وهذا من خوارق‬
‫العادات‪ ،‬وقيل إن الية فيه ما أودعه الله في القلوب من تعظيمه وتكريمه‬
‫وتشريفه واحترامه‪ ،‬ويحتمل أن المراد بمقام إبراهيم أنه مفرد مضاف‬
‫يراد به مقاماته في مواضع المناسك كلها‪ ،‬فيكون على هذا جميع أجزاء‬
‫الحج ومفرداته آيات بينات‪ ،‬كالطواف والسعي ومواضعها‪ ،‬والوقوف بعرفة‬
‫ومزدلفة‪ ،‬والرمي‪ ،‬وسائر الشعائر‪ ،‬والية في ذلك ما جعله الله في‬
‫القلوب من تعظيمها واحترامها وبذل نفائس النفوس والموال في‬
‫الوصول إليها وتحمل كل مشقة لجلها‪ ،‬وما في ضمنها من السرار البديعة‬
‫والمعاني الرفيعة‪ ،‬وما في أفعالها من الحكم والمصالح التي يعجز الخلق‬
‫عن إحصاء بعضها‪ ،‬ومن اليات البينات فيها أن من دخله كان آمنا شرعا‬
‫وقدرا‪ ،‬فالشرع قد أمر الله رسوله إبراهيم ثم رسوله محمد باحترامه‬
‫وتأمين من دخله‪ ،‬وأن ل يهاج‪ ،‬حتى إن التحريم في ذلك شمل صيودها‬
‫وأشجارها ونباتها‪ ،‬وقد استدل بهذه الية من ذهب من العلماء أن من جنى‬
‫جناية خارج الحرم ثم لجأ إليه أنه يأمن ول يقام عليه الحد حتى يخرج منه‪،‬‬
‫وأما تأمينها قدرا فلن الله تعالى بقضائه وقدره وضع في النفوس حتى‬
‫نفوس المشركين به الكافرين بربهم احترامه‪ ،‬حتى إن الواحد منهم مع‬
‫شدة حميتهم ونعرتهم وعدم احتمالهم للضيم يجد أحدهم قاتل أبيه في‬
‫الحرم فل يهيجه‪ ،‬ومن جعله حرما أن كل من أراده بسوء فل بد أن يعاقبه‬
‫عقوبة عاجلة‪ ،‬كما فعل بأصحاب الفيل وغيرهم‪ ،‬وقد رأيت لبن القيم‬
‫هاهنا كلما حسنا أحببت إيراده لشدة الحاجة إليه قال فائدة‪ } :‬ولله على‬
‫الناس حج البيت من استطاع إليه سبيل { "حج البيت"مبتدأ وخبره في‬
‫أحد المجرورين قبله‪ ،‬والذي يقتضيه المعنى أن يكون في قوله‪":‬على‬
‫الناس"لنه وجوب‪ ،‬والوجوب يقتضي"على"ويجوز أن يكون في‬
‫قوله‪":‬ولله"لنه متضمن الوجوب والستحقاق‪ ،‬ويرجح هذا التقدير أن‬
‫الخبر محط الفائدة وموضعها‪ ،‬وتقديمه في هذا الباب في نية التأخير‪،‬‬
‫فكان الحسن أن يكون"ولله على الناس" ‪.‬ويرجح الوجه الول بأن يقال‬
‫قوله‪":‬حج البيت على الناس"أكثر استعمال في باب الوجوب من أن‬
‫يقال‪":‬حج البيت لله"أي‪ :‬حق واجب لله‪ ،‬فتأمله‪ .‬وعلى هذا ففي تقديم‬
‫المجرور الول وليس بخبر فائدتان‪ :‬إحداهما‪ :‬أنه اسم للموجب للحج‪،‬‬
‫فكان أحق بالتقديم من ذكر الوجوب‪ ،‬فتضمنت الية ثلثة أمور مرتبة‬
‫بحسب الوقائع‪ :‬أحدها‪ :‬الموجب لهذا الفرض فبدأ بذكره‪ ،‬والثاني‪ :‬مؤدي‬
‫الواجب وهو المفترض عليه وهم الناس‪ ،‬والثالث‪ :‬النسبة‪ ،‬والحق المتعلق‬
‫به إيجابا وبهم وجوبا وأداء‪ ،‬وهو الحج‪.‬‬
‫والفائدة الثانية‪ :‬أن السم المجرور من حيث كان اسما لله سبحانه‪ ،‬وجب‬
‫الهتمام بتقديمه تعظيما لحرمة هذا الواجب الذي أوجبه‪ ،‬وتخويفا من‬
‫تضييعه‪ ،‬إذ ليس ما أوجبه الله سبحانه بمثابة ما يوجبه غيره‪.‬‬
‫ن"فهي بدل‪ ،‬وقد استهوى طائفة من الناس القول بأنها‬ ‫م ْ‬
‫وأما قوله‪َ ":‬‬
‫فاعل بالمصدر‪ ،‬كأنه قال‪ :‬أن يحج البيت من استطاع إليه سبيل وهذا‬
‫القول يضعف من وجوه‪ ،‬منها‪ :‬أن الحج فرض عين‪ ،‬ولو كان معنى الية ما‬
‫ذكره لفهم فرض الكفاية‪ ،‬لنه إذا حج المستطيعون برئت ذمم غيرهم‪،‬‬
‫لن المعنى يؤل إلى‪ :‬ولله على الناس حج البيت مستطيعهم‪ ،‬فإذا أدى‬
‫المستطيعون الواجب لم يبق واجبا على غير المستطيعين‪ ،‬وليس المر‬
‫كذلك‪ ،‬بل الحج فرض عين على كل أحد‪ ،‬حج المستطيعون أو قعدوا‪،‬‬
‫ولكن الله سبحانه عذر غير المستطيع بعجزه عن أداء الواجب‪ ،‬فل يؤاخذه‬
‫به ول يطالبه بأدائه‪ ،‬فإذا حج سقط الفرض عن نفسه‪ ،‬وليس حج‬
‫المستطيعين بمسقط الفرض عن العاجزين‪ ،‬وإذا أردت زيادة إيضاح‪ ،‬فإذا‬
‫قلت‪ :‬واجب على أهل هذه الناحية أن يجاهد منهم الطائفة المستطيعون‬
‫للجهاد‪ ،‬فإذا جاهدت تلك الطائفة انقطع تعلق الوجوب في غيرهم‪ ،‬وإذا‬
‫قلت واجب على الناس كلهم أن يجاهد منهم المستطيع‪ ،‬كان الوجوب‬
‫متعلقا بالجميع وعذر العاجز بعجزه‪ ،‬ففي نظم الية على هذا الوجه دون‬
‫أن يقال‪ :‬ولله حج البيت على المستطيعين‪ ،‬هذه النكتة البديعة فتأملها‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬أن إضافة المصدر إلى الفاعل إذا وجد أولى من إضافته إلى‬
‫المفعول ول يعدل عن هذا الصل إل بدليل منقول‪ ،‬فلو كان من هو الفاعل‬
‫ن استطاع"وحمله‬ ‫م ْ‬
‫لضيف المصدر إليه فكان يقال‪":‬ولله على الناس حج َ‬
‫على ] ص ‪ [ 140‬باب"يعجبني ضرب زيد عمرا"وفيما يفصل فيه بين‬
‫المصدر وفاعله المضاف إليه بالمفعول والظرف حمل على المكتوب‬
‫المرجوح‪ ،‬وهي قراءة ابن عامر ) قتل أولدهم شركائهم (‪ ،‬فل يصار‬
‫إليه‪.‬وإذا ثبت أن"من"بدل بعض من كل وجب أن يكون في الكلم ضمير‬
‫يعود إلى"الناس"كأنه قيل‪ :‬من استطاع منهم‪ ،‬وحذف هذا الضمير في أكثر‬
‫الكلم ل يحسن‪ ،‬وحسنه هاهنا أمور منها‪ :‬أن"من"واقعة على من ل يعقل‪،‬‬
‫كالسم المبدل منه فارتبطت به‪ ،‬ومنها‪ :‬أنها موصولة بما هو أخص من‬
‫السم الول‪ ،‬ولو كانت الصلة أعم لقبح حذف الضمير العائد‪ ،‬ومثال ذلك‬
‫إذا قلت‪ :‬رأيت إخوتك من ذهب إلى السوق منهم‪ ،‬كان قبيحا‪ ،‬لن الذاهب‬
‫إلى السوق أعم من الخوة‪ ،‬وكذلك لو قلت‪ :‬البس الثياب ما حسن‬
‫وجمل‪ ،‬يريد منها‪ ،‬ولم يذكر الضمير كان أبعد في الجواز‪ ،‬لن لفظ ما‬
‫حسن أعم من الثياب‪.‬‬
‫وباب البعض من الكل أن يكون أخص من المبدل منه‪ ،‬فإذا كان أعم‬
‫وأضفته إلى ضمير أو قيدته بضمير يعود إلى الول ارتفع العموم وبقي‬
‫الخصوص‪ ،‬ومما حسن حذف المضاف في هذه أيضا مع ما تقدم طول‬
‫الكلم بالصلة والموصول‪.‬‬
‫وأما المجرور من قوله"لله"فيحتمل وجهين‪ :‬أحدهما‪ :‬أن يكون في موضع‬
‫من سبيل‪ ،‬كأنه نعت نكرة قدم عليها‪ ،‬لنه لو تأخر لكان في موضع النعت‬
‫لسبيل‪ ،‬والثاني‪ :‬أن يكون متعلقا بسبيل‪ ،‬فإن قلت‪ :‬كيف يتعلق به وليس‬
‫فيه معنى الفعل؟ قيل‪ :‬السبيل لما كان عبارة هاهنا عن الموصل إلى‬
‫البيت من قوت وزاد ونحوهما‪ ،‬كان فيه رائحة الفعل‪ ،‬ولم يقصد به السبيل‬
‫الذي هو الطريق‪ ،‬فصلح تعلق المجرور به‪ ،‬واقتضى حسن النظم وإعجاز‬
‫اللفظ تقديم المجرور وإن كان موضعه التأخير‪ ،‬لنه ضمير يعود على‬
‫البيت‪ ،‬والبيت هو المقصود به العتناء‪ ،‬وهم يقدمون في كلمهم ما هم به‬
‫أهم وببيانه أعني هذا تقرير السهيلي‪ ،‬وهذا بعيد جدا بل الصواب في‬
‫متعلق الجار والمجرور وجه آخر أحسن من هذين‪ ،‬ول يليق بالية سواه‪،‬‬
‫وهو الوجوب المفهوم من قوله"على الناس"أي‪ :‬يجب لله على الناس‬
‫الحج‪ ،‬فهو حق واجب لله‪ ،‬وأما تعليقه بالسبيل وجعله حال منها‪ ،‬ففي غاية‬
‫البعد فتأمله‪ ،‬ول يكاد يخطر بالبال من الية‪ ،‬وهذا كما تقول‪ :‬لله عليك‬
‫الصلة والزكاة والصيام‪.‬‬
‫ومن فوائد الية وأسرارها أنه سبحانه إذا ذكر ما يوجبه ويحرمه يذكره‬
‫بلفظ المر والنهي‪ ،‬وهو الكثر‪ ،‬وبلفظ اليجاب والكتابة والتحريم نحو‬
‫} كتب عليكم الصيام { } حرمت عليكم الميتة { } قل تعالوا أتل ما حرم‬
‫ربكم عليكم { وفي الحج أتى بهذا اللفظ الدال على تأكد الوجوب من‬
‫عشرة أوجه‪ ،‬أحدها أنه قدم اسمه تعالى وأدخل عليه لم الستحقاق‬
‫والختصاص ثم ذكر من أوجبه عليهم بصيغة العموم الداخلة عليها حرف‬
‫على أبدل منه أهل الستطاعة‪ ،‬ثم نكر السبيل في سياق الشرط إيذانا‬
‫بأنه يجب الحج على أي‪ :‬سبيل تيسرت‪ ،‬من قوت أو مال‪ ،‬فعلق الوجوب‬
‫بحصول ما يسمى سبيل ثم أتبع ذلك بأعظم التهديد بالكفر فقال } ومن‬
‫كفر { أي‪ :‬لعدم التزامه هذا الواجب وتركه ثم عظم الشأن وأكد الوعيد‬
‫بإخباره ما يستغنى به عنه‪ ،‬والله تعالى هو الغني الحميد‪ ،‬ول حاجة به إلى‬
‫حج أحد‪ ،‬وإنما في ذكر استغنائه عنه هنا من العلم بمقته له وسخطه‬
‫عليه وإعراضه بوجهه عنه ما هو أعظم التهديد وأبلغه‪ ،‬ثم أكد ذلك بذكر‬
‫اسم"العالمين"عموما‪ ،‬ولم يقل‪ :‬فإن الله غني عنه‪ ،‬لنه إذا كان غنيا عن‬
‫العالمين كلهم فله الغنى الكامل التام من كل وجه بكل اعتبار‪ ،‬فكان أدل‬
‫لعظم مقته لتارك حقه الذي أوجبه عليه‪ ،‬ثم أكد هذا المعنى‬
‫بأداة"إن"الدالة على التأكيد‪ ،‬فهذه عشرة أوجه تقتضي تأكد هذا الفرض‬
‫العظيم‪.‬‬
‫وتأمل سر البدل في الية المقتضي لذكر السناد مرتين‪ ،‬مرة بإسناده إلى‬
‫عموم الناس‪ ،‬ومرة بإسناده إلى خصوص المستطيعين‪ ،‬وهذا من فوائد‬
‫البدل تقوية المعنى وتأكيده بتكرر السناد ولهذا كان في نية تكرار العامل‬
‫وإعادته‪.‬‬
‫ثم تأمل ما في الية من اليضاح بعد البهام والتفصيل بعد الجمال‪ ،‬وكيف‬
‫تضمن ذلك إيراد الكلم في صورتين وخلتين‪ ،‬اعتناء به وتأكيد لشأنه‪ ،‬ثم‬
‫تأمل كيف افتتح هذا اليجاب بذكر محاسن البيت وعظم شأنه بما تدعوا‬
‫النفوس إلى قصده وحجه وان لم يطلب ذلك منها‪ ،‬فقال‪ } :‬إن أول‬
‫بيت { إلخ‪ ،‬فوصفه بخمس صفات‪ :‬أحدها كونه أسبق بيوت العالم وضع‬
‫في الرض‪ ،‬الثاني‪ :‬أنه مبارك‪ ،‬والبركة كثرة الخير ودوامه‪ ،‬وليس في‬
‫بيوت العالم أبرك منه ول أكثر خيرا ول أدوم ول أنفع للخلئق‪ ،‬الثالث‪ :‬أنه‬
‫هدى‪ ،‬ووصفه بالمصدر نفسه مبالغة‪ ،‬حتى كأنه نفس الهدى‪ ،‬الرابع ما‬
‫تضمن من اليات البينات التي تزيد على أربعين آية‪ ،‬الخامس‪ :‬المن‬
‫الحاصل لداخله‪ ،‬وفي وصفه بهذه الصفات دون إيجاب قصده ما يبعث‬
‫النفوس على حجه وإن شطت بالزائرين الديار وتناءت بهم القطار‪ ،‬ثم‬
‫أتبع ذلك بصريح الوجوب المؤكد بتلك التأكيدات‪ ،‬وهذا يدل على العتناء‬
‫منه سبحانه لهذا البيت العظيم‪ ،‬والتنويه بذكره‪ ،‬والتعظيم لشأنه‪ ،‬والرفعة‬
‫من قدره‪ ،‬ولو لم يكن له شرف إل إضافته إياه إلى نفسه بقوله } وطهر‬
‫بيتي { لكفى بهذه الضافة فضل وشرفا‪ ،‬وهذه الضافة هي التي أقبلت‬
‫بقلوب العالمين إليه‪ ،‬وسلبت نفوسهم حباله وشوقا إلى رؤيته‪ ،‬فهذه‬
‫المثابة للمحبين يثوبون إليه ول يقضون منه وطرا أبدا‪ ،‬كلما ازدادوا له‬
‫زيارة ازدادوا له حبا وإليه اشتياقا‪ ،‬فل الوصال يشفيهم ول البعاد يسليهم‪،‬‬
‫كما قيل‪:‬‬
‫] ص ‪ [ 141‬أطوف به والنفس بعد مشوقة ‪ ...‬إليه وهل بعد الطواف‬
‫تداني‬
‫وألثم منه الركن أطلب برد ما ‪ ...‬بقلبي من شوق ومن هيمان‬
‫فوالله ما ازداد إل صبابة ‪ ...‬ول القلب إل كثرة الخفقان‬
‫فيا جنة المأوى ويا غاية المنى ‪ ...‬ويا منيتي من دون كل أمان‬
‫أبت غلبات الشوق إل تقربا ‪ ...‬إليك فما لي بالبعاد يدان‬
‫وما كان صدى عنك صد مللة ‪ ...‬ولي شاهد من مقلتي ولسان‬
‫دعوت اصطباري عنك بعدك والبكا ‪ ...‬فلبى البكا والصبر عنك عصاني‬
‫وقد زعموا أن المحب إذا نأى ‪ ...‬سيبلى هواه بعد طول زمان‬
‫ولو كان هذا الزعم حقا لكان ذا ‪ ...‬دواء الهوى في الناس كل زمان‬
‫بلى إنه يبلى والهوى على ‪ ...‬حاله لم يبله الملوان‬
‫وهذا محب قاده الشوق والهوى ‪ ...‬بغير زمام قائد وعنان‬
‫أتاك على بعد المزار ولو ونت ‪ ...‬مطيته جاءت به القدمان‬
‫انتهى كلمه رحمه الله تعالى‪.‬‬

‫) ‪(1/138‬‬

‫ن )‪(98‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫شِهيد ٌ عََلى َ‬


‫ما ت َعْ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ت الل ّهِ َوالل ّ ُ‬‫ن ب ِآ ََيا ِ‬
‫فُرو َ‬‫م ت َك ْ ُ‬
‫ب لِ َ‬‫ال ْك َِتا ِ‬ ‫ل َيا أ َهْ َ‬
‫ل‬ ‫قُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫جا وَأن ْت ُ ْ‬
‫عوَ ً‬‫ن ت َب ُْغون ََها ِ‬
‫م َ‬
‫نآ َ‬ ‫ل الل ّهِ َ‬
‫م ْ‬ ‫سِبي ِ‬‫ن َ‬‫ن عَ ْ‬ ‫دو َ‬
‫ص ّ‬ ‫م تَ ُ‬ ‫ب لِ َ‬‫ال ْك َِتا ِ‬ ‫ل‬‫ل َيا أهْ َ‬ ‫قُ ْ‬
‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫طيُعوا‬
‫ن تُ ِ‬
‫مُنوا إ ِ ْ‬
‫نآ َ‬ ‫ن )‪َ (99‬يا أي َّها ال ّ ِ َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬
‫ل عَ ّ‬‫ه ب َِغافِ ٍ‬‫ما الل ّ ُ‬‫داُء وَ َ‬
‫شه َ َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ن )‪(100‬‬ ‫ري َ‬ ‫م كافِ ِ‬ ‫مان ِك ْ‬ ‫م ب َعْد َ ِإي َ‬
‫دوك ْ‬ ‫ب ي َُر ّ‬‫ن أوُتوا الك َِتا َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬‫م َ‬‫قا ِ‬ ‫ري ً‬‫فَ ِ‬

‫شِهيد ٌ‬‫ه َ‬ ‫ت الل ّهِ َوالل ّ ُ‬ ‫ن ِبآَيا ِ‬ ‫فُرو َ‬ ‫م ت َك ْ ُ‬


‫ب لِ َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ل َيا أ َهْ َ‬ ‫} ‪ } { 101 - 98‬قُ ْ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل الل ّهِ َ‬ ‫سِبي ِ‬‫ن َ‬ ‫ن عَ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ص ّ‬ ‫م تَ ُ‬ ‫ب لِ َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ل َيا أهْ َ‬ ‫ن * قُ ْ‬ ‫مُلو َ‬ ‫عََلى َ‬
‫ما ت َعْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مُنوا‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫ن * َيا أي َّها ال ّ ِ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬‫ل عَ ّ‬ ‫ه ب َِغافِ ٍ‬ ‫ما الل ّ ُ‬
‫داُء وَ َ‬ ‫شه َ َ‬ ‫م ُ‬ ‫جا وَأن ْت ُ ْ‬ ‫عوَ ً‬ ‫ت َب ُْغون ََها ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ري َ‬‫م كافِ ِ‬ ‫مان ِك ْ‬‫م ب َعْد َ ِإي َ‬‫دوك ْ‬ ‫ب ي َُر ّ‬ ‫ن أوُتوا الك َِتا َ‬ ‫ذي َ‬‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬
‫قا ِ‬ ‫ري ً‬
‫طيُعوا ف ِ‬ ‫ن تُ ِ‬‫إِ ْ‬
‫يوبخ تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى على كفرهم بآيات الله التي‬
‫أنزلها الله على رسله‪ ،‬التي جعلها رحمة لعباده يهتدون بها إليه‪ ،‬ويستدلون‬
‫بها على جميع المطالب المهمة والعلوم النافعة‪ ،‬فهؤلء الكفرة جمعوا بين‬
‫الكفر بها وصد من آمن بالله عنها وتحريفها وتعويجها عما جعلت له‪ ،‬وهم‬
‫شاهدون بذلك عالمون بأن ما فعلوه أعظم الكفر الموجب لعظم العقوبة‬
‫} الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا‬
‫يفسدون { فلهذا توعدهم هنا بقوله‪ } :‬وما الله بغافل عما تعملون { بل‬
‫محيط بأعمالكم )‪ (1‬ونياتكم ومكركم السيء‪ ،‬فمجازيكم عليه أشر الجزاء‬
‫لما توعدهم ووبخهم عطف برحمته وجوده وإحسانه وحذر عباده المؤمنين‬
‫منهم لئل يمكروا بهم من حيث ل يشعرون‪ ،‬فقال‪ } :‬يا أيها الذين آمنوا إن‬
‫تطيعوا فريقا من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين { وذلك‬
‫لحسدهم وبغيهم عليكم‪ ،‬وشدة حرصهم على ردكم عن دينكم‪ ،‬كما قال‬
‫تعالى‪ } :‬ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا‬
‫من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق { ‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في الصل‪ :‬بأعمالهم ولعل الصواب ما أثبت‪.‬‬

‫) ‪(1/141‬‬

‫م ِبالل ّهِ‬ ‫ن وأ َن ْت ُم ت ُت َْلى عَل َي ْك ُ َ‬


‫ص ْ‬
‫ن ي َعْت َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫سول ُ ُ‬
‫ه وَ َ‬ ‫ت الل ّهِ وَِفيك ُ ْ‬
‫م َر ُ‬ ‫م آَيا ُ‬
‫ْ‬ ‫فُرو َ َ ْ‬ ‫ف ت َك ْ ُ‬
‫وَك َي ْ َ‬
‫قيم ٍ )‪(101‬‬ ‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬
‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫قد ْ هُدِيَ إ َِلى ِ‬ ‫فَ َ‬
‫َ‬
‫م‬
‫ص ْ‬
‫ن ي َعْت َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫سول ُ ُ‬
‫ه وَ َ‬ ‫ت الل ّهِ وَِفيك ُ ْ‬
‫م َر ُ‬ ‫م ت ُت َْلى عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م آَيا ُ‬ ‫ن وَأن ْت ُ ْ‬ ‫ف ت َك ْ ُ‬
‫فُرو َ‬ ‫} وَك َي ْ َ‬
‫قيم ٍ { ‪.‬‬ ‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬
‫ط ُ‬
‫صَرا ٍ‬ ‫قد ْ هُدِيَ إ َِلى ِ‬ ‫ِبالل ّهِ فَ َ‬
‫ثم ذكر تعالى السبب العظم والموجب الكبر لثبات المؤمنين على‬
‫إيمانهم‪ ،‬وعدم تزلزلهم عن إيقانهم‪ ،‬وأن ذلك من أبعد الشياء‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫} وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله { أي‪:‬‬
‫الرسول بين أظهركم يتلو عليكم آيات ربكم كل وقت‪ ،‬وهي اليات البينات‬
‫التي توجب القطع بموجبها والجزم بمقتضاها وعدم الشك فيما دلت عليه‬
‫بوجه من الوجوه‪ ،‬خصوصا والمبين لها أفضل الخلق وأعلمهم وأفصحهم‬
‫وأنصحهم وأرأفهم بالمؤمنين‪ ،‬الحريص على هداية الخلق وإرشادهم بكل‬
‫طريق يقدر عليه‪ ،‬فصلوات الله وسلمه عليه‪ ،‬فلقد نصح وبلغ البلغ‬
‫المبين‪ ،‬فلم يبق في نفوس القائلين مقال ولم يترك لجائل في طلب الخير‬
‫مجال ثم أخبر أن من اعتصم به فتوكل عليه وامتنع بقوته ورحمته عن كل‬
‫شر‪ ،‬واستعان به على كل خير } فقد هدي إلى صراط مستقيم { موصل‬
‫له إلى غاية المرغوب‪ ،‬لنه جمع بين اتباع الرسول في أقواله وأفعاله‬
‫وأحواله وبين العتصام بالله‪.‬‬

‫) ‪(1/141‬‬

‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫ن )‪(102‬‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ن إ ِّل وَأن ْت ُ ْ‬ ‫موت ُ ّ‬ ‫قات ِهِ وََل ت َ ُ‬ ‫حقّ ت ُ َ‬ ‫ه َ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫م إ ِذ ْ ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫فّرُقوا َواذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬ ‫ميًعا وََل ت َ َ‬ ‫ج ِ‬‫ل الل ّهِ َ‬ ‫حب ْ ِ‬ ‫موا ب ِ َ‬ ‫ص ُ‬‫َواعْت َ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬
‫فَرةٍ ِ‬ ‫ح ْ‬‫فا ُ‬ ‫ش َ‬ ‫م عَلى َ‬ ‫واًنا وَكن ْت ُ ْ‬ ‫خ َ‬‫مت ِهِ إ ِ ْ‬
‫م ب ِن ِعْ َ‬ ‫حت ُ ْ‬‫صب َ ْ‬‫م فَأ ْ‬ ‫ن قُلوب ِك ْ‬ ‫ف ب َي ْ َ‬ ‫داًء فَأل َ‬
‫َ‬
‫أع ْ َ‬
‫ك ي ُب َي ّن الل ّه ل َك ُ َ‬
‫ن )‪(103‬‬ ‫دو َ‬ ‫م ت َهْت َ ُ‬ ‫م آَيات ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫من َْها ك َذ َل ِ َ‬ ‫م ِ‬ ‫قذ َك ُ ْ‬ ‫الّنارِ فَأن ْ َ‬
‫َ‬
‫ن ِإل‬ ‫موت ُ ّ‬ ‫قات ِهِ َول ت َ ُ‬ ‫حقّ ت ُ َ‬ ‫ه َ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 103 - 102‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ة الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م َ‬ ‫فّرُقوا َواذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬ ‫ميًعا َول ت َ َ‬ ‫ج ِ‬ ‫ل الل ّهِ َ‬ ‫ِ‬ ‫حب ْ‬‫موا ب ِ َ‬ ‫ص ُ‬‫ن * َواعْت َ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬
‫م ْ‬ ‫م ُ‬ ‫وَأن ْت ُ ْ‬
‫م عََلى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫عَل َيك ُم إذ ْ ك ُنت َ‬
‫واًنا وَك ُن ْت ُ ْ‬ ‫خ َ‬
‫مت ِهِ إ ِ ْ‬‫م ب ِن ِعْ َ‬ ‫حت ُ ْ‬ ‫م فَأ ْ‬
‫صب َ ْ‬ ‫ن قُُلوب ِك ُ ْ‬ ‫ف ب َي ْ َ‬‫داًء فَأل ّ َ‬ ‫م أعْ َ‬ ‫ُْ ْ‬ ‫ْ ْ ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن الّنارِ فَأن ْ َ‬
‫م‬‫م آَيات ِهِ لعَلك ْ‬ ‫ه لك ْ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫من َْها كذ َل ِك ي ُب َي ّ ُ‬ ‫م ِ‬ ‫قذ َك ْ‬ ‫م َ‬‫فَرةٍ ِ‬ ‫ح ْ‬ ‫فا ُ‬ ‫ش َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دو َ‬ ‫ت َهْت َ ُ‬
‫هذا أمر من الله لعباده المؤمنين أن يتقوه حق تقواه‪ ،‬وأن يستمروا على‬
‫ذلك ويثبتوا عليه ويستقيموا إلى الممات‪ ،‬فإن من عاش على شيء مات‬
‫عليه‪ ،‬فمن كان في حال صحته ونشاطه وإمكانه مداوما لتقوى ربه‬
‫وطاعته‪ ،‬منيبا إليه على الدوام‪ ،‬ثبته الله عند موته ورزقه حسن الخاتمة‪،‬‬
‫وتقوى الله حق تقواه كما قال ابن مسعود‪ :‬وهو أن ُيطاع فل ُيعصى‪،‬‬
‫وُيذكر فل ينسى‪ ،‬ويشكر فل يكفر‪ ،‬وهذه الية بيان لما يستحقه تعالى من‬
‫التقوى‪ ،‬وأما ما يجب على العبد منها‪ ،‬فكما قال تعالى‪ } :‬فاتقوا الله ما‬
‫استطعتم { وتفاصيل التقوى المتعلقة بالقلب والجوارح كثيرة جدا‪،‬‬
‫يجمعها ] ص ‪ [ 142‬فعل ما أمر الله به وترك كل ما نهى الله عنه‪ ،‬ثم‬
‫أمرهم تعالى بما يعينهم على التقوى وهو الجتماع والعتصام بدين الله‪،‬‬
‫وكون دعوى المؤمنين واحدة مؤتلفين غير مختلفين‪ ،‬فإن في اجتماع‬
‫المسلمين على دينهم‪ ،‬وائتلف قلوبهم يصلح دينهم وتصلح دنياهم‬
‫وبالجتماع يتمكنون من كل أمر من المور‪ ،‬ويحصل لهم من المصالح التي‬
‫تتوقف على الئتلف ما ل يمكن عدها‪ ،‬من التعاون على البر والتقوى‪ ،‬كما‬
‫أن بالفتراق والتعادي يختل نظامهم وتنقطع روابطهم ويصير كل واحد‬
‫يعمل ويسعى في شهوة نفسه‪ ،‬ولو أدى إلى الضرر العام‪ ،‬ثم ذكرهم‬
‫تعالى نعمته وأمرهم بذكرها فقال‪ } :‬واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم‬
‫أعداء { يقتل بعضكم بعضا‪ ،‬ويأخذ بعضكم مال بعض‪ ،‬حتى إن القبيلة‬
‫يعادي بعضهم بعضا‪ ،‬وأهل البلد الواحد يقع بينهم التعادي والقتتال‪ ،‬وكانوا‬
‫في شر عظيم‪ ،‬وهذه حالة العرب قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫فلما بعثه الله وآمنوا به واجتمعوا على السلم وتآلفت قلوبهم على‬
‫اليمان كانوا كالشخص الواحد‪ ،‬من تآلف قلوبهم وموالة بعضهم لبعض‪،‬‬
‫ولهذا قال‪ } :‬فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا‬
‫حفرة من النار { أي‪ :‬قد استحقيتم النار ولم يبق بينكم وبينها إل أن تموتوا‬
‫ن عليكم من اليمان بمحمد صلى الله‬ ‫م ّ‬‫فتدخلوها } فأنقذكم منها { بما َ‬
‫عليه وسلم } كذلك يبين الله لكم آياته { أي‪ :‬يوضحها ويفسرها‪ ،‬ويبين‬
‫لكم الحق من الباطل‪ ،‬والهدى من الضلل } لعلكم تهتدون { بمعرفة‬
‫الحق والعمل به‪ ،‬وفي هذه الية ما يدل أن الله يحب من عباده أن يذكروا‬
‫نعمته بقلوبهم وألسنتهم ليزدادوا شكرا له ومحبة‪ ،‬وليزيدهم من فضله‬
‫وإحسانه‪ ،‬وإن من أعظم ما يذكر من نعمه نعمة الهداية إلى السلم‪،‬‬
‫واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم واجتماع كلمة المسلمين وعدم‬
‫تفرقها‪.‬‬

‫) ‪(1/141‬‬

‫ْ‬ ‫ول ْتك ُن منك ُ ُ‬


‫ن ال ْ ُ‬
‫من ْك َ ِ‬
‫ر‬ ‫ن عَ ِ‬
‫ف وَي َن ْهَوْ َ‬
‫معُْرو ِ‬‫ن ِبال ْ َ‬ ‫مُرو َ‬‫خي ْرِ وَي َأ ُ‬‫ن إ َِلى ال ْ َ‬‫عو َ‬ ‫ة ي َد ْ ُ‬‫م ٌ‬‫مأ ّ‬ ‫َ َ ْ ِ ْ ْ‬
‫ما‬‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫فوا ِ‬ ‫َ‬ ‫فّرُقوا َوا ْ‬
‫خت َل ُ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫كال ِ‬‫كوُنوا َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪ (104‬وَل ت َ ُ‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫م ال ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫وَُأول َئ ِ َ‬
‫م )‪(105‬‬ ‫ظي ٌ‬ ‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬ ‫ت وَُأول َئ ِ َ‬
‫ك ل َهُ ْ‬ ‫م ال ْب َي َّنا ُ‬‫جاَءهُ ُ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫} ‪ } { 105 - 104‬ول ْتك ُن منك ُ ُ‬
‫ف‬
‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬‫مُرو َ‬ ‫ن إ َِلى ال ْ َ‬
‫خي ْرِ وَي َأ ُ‬ ‫عو َ‬ ‫ة ي َد ْ ُ‬ ‫م ٌ‬‫مأ ّ‬ ‫َ َ ْ ِ ْ ْ‬
‫فّرُقوا‬ ‫ن تَ َ‬
‫ذي َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن * َول ت َكوُنوا كال ِ‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫م ال ُ‬ ‫من ْك َرِ وَُأول َئ ِ َ‬
‫ك هُ ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫ن عَ ِ‬
‫وَي َن ْهَوْ َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫م عَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫خت َل َ ُ‬
‫ظي ٌ‬ ‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫ت وَأولئ ِك لهُ ْ‬ ‫م الب َي َّنا ُ‬
‫جاَءهُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬‫فوا ِ‬ ‫َوا ْ‬
‫ن الله عليهم باليمان والعتصام‬ ‫م ّ‬ ‫أي‪ :‬وليكن منكم أيها المؤمنون الذين َ‬
‫بحبله } أمة { أي‪ :‬جماعة } يدعون إلى الخير { وهو اسم جامع لكل ما‬
‫يقرب إلى الله ويبعد من سخطه } ويأمرون بالمعروف { وهو ما عرف‬
‫بالعقل والشرع حسنه } وينهون عن المنكر { وهو ما عرف بالشرع‬
‫والعقل قبحه‪ ،‬وهذا إرشاد من الله للمؤمنين أن يكون منهم جماعة‬
‫متصدية للدعوة إلى سبيله وإرشاد الخلق إلى دينه‪ ،‬ويدخل في ذلك‬
‫العلماء المعلمون للدين‪ ،‬والوعاظ الذين يدعون أهل الديان إلى الدخول‬
‫في دين السلم‪ ،‬ويدعون المنحرفين إلى الستقامة‪ ،‬والمجاهدون في‬
‫سبيل الله‪ ،‬والمتصدون لتفقد أحوال الناس وإلزامهم بالشرع كالصلوات‬
‫الخمس والزكاة والصوم والحج وغير ذلك من شرائع السلم‪ ،‬وكتفقد‬
‫المكاييل والموازين وتفقد أهل السواق ومنعهم من الغش والمعاملت‬
‫الباطلة‪ ،‬وكل هذه المور من فروض الكفايات كما تدل عليه الية الكريمة‬
‫في قوله } ولتكن منكم أمة { إلخ أي‪ :‬لتكن منكم جماعة يحصل المقصود‬
‫بهم في هذه الشياء المذكورة‪ ،‬ومن المعلوم المتقرر أن المر بالشيء‬
‫أمر به وبما ل يتم إل به فكل ما تتوقف هذه الشياء عليه فهو مأمور به‪،‬‬
‫كالستعداد للجهاد بأنواع العدد التي يحصل بها نكاية العداء وعز السلم‪،‬‬
‫وتعلم العلم الذي يحصل به الدعوة إلى الخير وسائلها ومقاصدها‪ ،‬وبناء‬
‫المدارس للرشاد والعلم‪ ،‬ومساعدة النواب ومعاونتهم على تنفيذ الشرع‬
‫في الناس بالقول والفعل والمال‪ ،‬وغير ذلك مما تتوقف هذه المور عليه‪،‬‬
‫وهذه الطائفة المستعدة للدعوة إلى الخير والمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر هم خواص المؤمنين‪ ،‬ولهذا قال تعالى عنهم‪ } :‬وأولئك هم‬
‫المفلحون { الفائزون بالمطلوب‪ ،‬الناجون من المرهوب‪ ،‬ثم نهاهم عن‬
‫التشبه بأهل الكتاب في تفرقهم واختلفهم‪ ،‬فقال‪ } :‬ول تكونوا كالذين‬
‫تفرقوا واختلفوا { ومن العجائب أن اختلفهم } من بعد ما جاءهم‬
‫البينات { الموجبة لعدم التفرق والختلف‪ ،‬فهم أولى من غيرهم‬
‫بالعتصام بالدين‪ ،‬فعكسوا القضية مع علمهم بمخالفتهم أمر الله‪،‬‬
‫فاستحقوا العقاب البليغ‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ } :‬وأولئك لهم عذاب عظيم { ‪.‬‬
‫) ‪(1/142‬‬

‫م أ َك َ َ‬ ‫َ‬
‫م ب َعْد َ‬
‫فْرت ُ ْ‬ ‫جوهُهُ ْ‬ ‫ت وُ ُ‬ ‫سوَد ّ ْ‬
‫نا ْ‬ ‫ما ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫جوهٌ فَأ ّ‬ ‫سوَد ّ وُ ُ‬‫جوهٌ وَت َ ْ‬ ‫ض وُ ُ‬ ‫م ت َب ْي َ ّ‬‫ي َوْ َ‬
‫َ‬
‫ت‬
‫ض ْ‬ ‫ن اب ْي َ ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما ال ّ ِ‬‫ن )‪ (106‬وَأ ّ‬ ‫فُرو َ‬ ‫م ت َك ْ ُ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ب بِ َ‬‫ذا َ‬ ‫ذوُقوا ال ْعَ َ‬ ‫م فَ ُ‬ ‫مان ِك ُ ْ‬‫ِإي َ‬
‫ت الل ّهِ ن َت ُْلو َ‬ ‫َ‬ ‫ن )‪ (107‬ت ِل ْ َ‬
‫ها‬ ‫ك آَيا ُ‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫م ِفيَها َ‬ ‫مةِ الل ّهِ هُ ْ‬ ‫ح َ‬
‫في َر ْ‬ ‫م فَ ِ‬ ‫جوهُهُ ْ‬ ‫وُ ُ‬
‫ن )‪(108‬‬ ‫مي َ‬ ‫ما ل ِل َْعال َ ِ‬ ‫ريد ُ ظ ُل ْ ً‬ ‫ه يُ ِ‬‫ما الل ّ ُ‬ ‫حق ّ و َ َ‬ ‫ك ِبال ْ َ‬ ‫عَل َي ْ َ‬
‫َ‬
‫ت‬‫سوَد ّ ْ‬‫نا ْ‬ ‫ما ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫جوهٌ فَأ ّ‬ ‫سوَد ّ وُ ُ‬ ‫جوهٌ وَت َ ْ‬ ‫ض وُ ُ‬ ‫م ت َب ْي َ ّ‬ ‫} ‪ } { 108 - 106‬ي َوْ َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫م ت َك ْ ُ‬ ‫ْ‬ ‫م أ َك َ َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬
‫ما ال ِ‬ ‫ن * وَأ ّ‬
‫فُرو َ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬‫ب بِ َ‬ ‫ذوُقوا العَ َ‬
‫ذا َ‬ ‫م فَ ُ‬ ‫مان ِك ُ ْ‬‫م ب َعْد َ ِإي َ‬‫فْرت ُ ْ‬ ‫جوهُهُ ْ‬ ‫وُ ُ‬
‫ها‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ت اللهِ ن َت ْلو َ‬‫ك آَيا ُ‬ ‫ْ‬
‫ن * ت ِل َ‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬
‫م ِفيَها َ‬ ‫ّ‬
‫مةِ اللهِ هُ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫في َر ْ‬ ‫م فَ ِ‬‫جوهُهُ ْ‬ ‫ت وُ ُ‬ ‫ض ْ‬‫اب ْي َ ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ما ل ِل َْعال َ ِ‬ ‫ريد ُ ظ ُل ْ ً‬ ‫ما الل ّ ُ‬
‫ه يُ ِ‬ ‫حق ّ و َ َ‬ ‫ك ِبال ْ َ‬‫عَل َي ْ َ‬
‫يخبر تعالى عن حال يوم القيامة وما فيه من آثار الجزاء بالعدل والفضل‪،‬‬
‫ويتضمن ذلك الترغيب والترهيب الموجب للخوف والرجاء فقال‪ } :‬يوم‬
‫تبيض وجوه { وهي وجوه أهل السعادة والخير‪ ،‬أهل الئتلف والعتصام‬
‫بحبل الله } وتسود وجوه { وهي وجوه أهل الشقاوة والشر‪ ،‬أهل الفرقة‬
‫والختلف‪ ،‬هؤلء اسودت وجوههم بما في قلوبهم من الخزي والهوان‬
‫والذلة والفضيحة‪ ،‬وأولئك ابيضت وجوههم‪ ،‬لما في قلوبهم من البهجة‬
‫] ص ‪ [ 143‬والسرور والنعيم والحبور الذي ظهرت آثاره على وجوههم‬
‫كما قال تعالى‪ } :‬ولقاهم نضرة وسرورا { نضرة في وجوههم وسرورا‬
‫في قلوبهم‪ ،‬وقال تعالى‪ } :‬والذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها‬
‫وترهقهم ذلة كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما أولئك أصحاب‬
‫النار هم فيها خالدون { } فأما الذين اسودت وجوههم { فيقال لهم على‬
‫وجه التوبيخ والتقريع‪ } :‬أكفرتم بعد إيمانكم { أي‪ :‬كيف آثرتم الكفر‬
‫والضلل على اليمان والهدى؟ وكيف تركتم سبيل الرشاد وسلكتم طريق‬
‫الغي؟ } فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون { فليس يليق بكم إل النار‪ ،‬ول‬
‫تستحقون إل الخزي والفضيحة والعار‪.‬‬
‫} وأما الذين ابيضت وجوههم { فيهنئون أكمل تهنئة ويبشرون أعظم‬
‫بشارة‪ ،‬وذلك أنهم يبشرون بدخول الجنات ورضى ربهم ورحمته } ففي‬
‫رحمة الله هم فيها خالدون { وإذا كانوا خالدين في الرحمة‪ ،‬فالجنة أثر‬
‫من آثار رحمته تعالى‪ ،‬فهم خالدون فيها بما فيها من النعيم المقيم‬
‫والعيش السليم‪ ،‬في جوار أرحم الراحمين‪ ،‬لما بين الله لرسوله صلى الله‬
‫عليه وسلم الحكام المرية والحكام الجزائية قال‪ } :‬تلك آيات الله‬
‫نتلوها { أي‪ :‬نقصها } عليك بالحق { لن أوامره ونواهيه مشتملة على‬
‫الحكمة والرحمة وثوابها وعقابها‪ ،‬كذلك مشتمل على الحكمة والرحمة‬
‫والعدل الخالي من الظلم‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وما الله يريد ظلما للعالمين {‬
‫نفى إرادته ظلمهم فضل عن كونه يفعل ذلك فل ينقص أحدا شيئا من‬
‫حسناته‪ ،‬ول يزيد في ظلم الظالمين‪ ،‬بل يجازيهم بأعمالهم فقط‪ ،‬ثم قال‬
‫تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/142‬‬
‫ُ‬ ‫َْ‬
‫جعُ اْل ُ‬
‫موُر )‪(109‬‬ ‫ض وَإ َِلى الل ّهِ ت ُْر َ‬
‫ما ِفي الْر ِ‬
‫ت وَ َ‬
‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬ ‫وَل ِل ّهِ َ‬
‫ما ِفي ال ّ‬

‫ع‬ ‫ض وَإ َِلى الل ّهِ ت ُْر َ‬


‫ج ُ‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬
‫ت وَ َ‬
‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬ ‫} ‪ } { 109‬وَل ِل ّهِ َ‬
‫ما ِفي ال ّ‬
‫موُر { ‪.‬‬
‫ال ُ‬
‫أي‪ :‬هو المالك لما في السماوات وما في الرض‪ ،‬الذي خلقهم ورزقهم‬
‫ويتصرف فيهم بقدره وقضائه‪ ،‬وفي شرعه وأمره‪ ،‬وإليه يرجعون يوم‬
‫القيامة فيجازيهم بأعمالهم حسنها وسيئها‪.‬‬

‫) ‪(1/143‬‬

‫ْ‬
‫من ْك َ ِ‬
‫ر‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ن عَ ِ‬ ‫ف وَت َن ْهَوْ َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬ ‫مُرو َ‬ ‫س ت َأ ُ‬ ‫ت ِلل َّنا ِ‬ ‫ج ْ‬ ‫خرِ َ‬ ‫مة ٍ أ ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫خي َْر أ ّ‬ ‫م َ‬ ‫ك ُن ْت ُ ْ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫مُنو َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫من ْهُ ُ‬ ‫م ِ‬ ‫خي ًْرا ل َهُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ب لَ َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ن أه ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِبالل ّهِ وَل َوْ آ َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫وَت ُؤْ ِ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫م ي ُوَلوك ُ‬ ‫قات ِلوك ْ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫ذى وَإ ِ ْ‬ ‫م إ ِل أ ً‬ ‫ضّروك ْ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫ن )‪ (110‬ل ْ‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫فا ِ‬ ‫م ال َ‬ ‫وَأك ْث َُرهُ ُ‬
‫اْل َدبار ث ُم َل ينصرون )‪ (111‬ضربت عَل َيهم الذ ّل ّ ُ َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫حب ْ ٍ‬ ‫فوا إ ِّل ب ِ َ‬ ‫ق ُ‬‫ما ث ُ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ة أي ْ َ‬ ‫ِْ ُ‬ ‫ُ َِ ْ‬ ‫ُْ َ ُ َ‬ ‫َْ َ ّ‬
‫ة ذ َل ِكَ‬ ‫سكن َ ُ‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬ ‫ت عَلي ْهِ ُ‬‫َ‬ ‫ضرِب َ ْ‬ ‫ن اللهِ وَ ُ‬ ‫ّ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫ض ٍ‬ ‫س وََباُءوا ب ِغَ َ‬ ‫ن الّنا‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫حب ْ ٍ‬ ‫الل ّهِ وَ َ‬
‫ِ‬ ‫َ‬
‫وا‬ ‫ص ْ‬ ‫ما عَ َ‬ ‫ك بِ َ‬ ‫حقّ ذ َل ِ َ‬ ‫ن اْل َن ْب َِياَء ب ِغَي ْرِ َ‬ ‫قت ُُلو َ‬ ‫ت الل ّهِ وَي َ ْ‬ ‫ن ب ِآ ََيا ِ‬ ‫فُرو َ‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِأن ّهُ ْ‬
‫ن )‪(112‬‬ ‫دو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْت َ ُ‬ ‫وَ َ‬
‫ْ‬
‫ف‬
‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬ ‫مُرو َ‬ ‫س ت َأ ُ‬ ‫ت ِ َللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬ ‫خرِ َ‬ ‫مة ٍ أ ُ ْ‬ ‫ُ‬
‫خي َْر أ ّ‬ ‫م َ‬ ‫} ‪ } { 112 - 110‬ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬‫خي ًْرا ل َهُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ب لَ َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ن أه ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِبالل ّهِ وَل َوْ آ َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫من ْك َرِ وَت ُؤْ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ن عَ ِ‬ ‫وَت َن ْهَوْ َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م‬
‫قات ِلوك ْ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫ذى وَإ ِ ْ‬ ‫م ِإل أ ً‬ ‫ضّروك ْ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫ن*ل ْ‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫فا ِ‬ ‫م ال َ‬ ‫ن وَأكث َُرهُ ُ‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ال ُ‬ ‫من ْهُ ُ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫حب ْ ٍ‬ ‫فوا ِإل ب ِ َ‬ ‫ق ُ‬‫ما ث ُ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ة أي ْ َ‬ ‫م الذ ّل ُ‬ ‫ت عَلي ْهِ ُ‬ ‫ضرِب َ ْ‬ ‫ن* ُ‬ ‫صُرو َ‬ ‫م ل ي ُن ْ َ‬ ‫م الد َْباَر ث ُ ّ‬ ‫ي ُوَلوك ُ‬
‫ة‬ ‫َ‬
‫سكن َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬ ‫ت عَلي ْهِ ُ‬ ‫َ‬ ‫ضرِب َ ْ‬ ‫ن اللهِ وَ ُ‬ ‫ّ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫ض ٍ‬ ‫س وََباُءوا ب ِغَ َ‬ ‫ن الل ّهِ وَ َ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫حب ْ ٍ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫وا‬
‫ص ْ‬‫ما عَ َ‬ ‫ك بِ َ‬ ‫حقّ ذ َل ِ َ‬ ‫ن الن ْب َِياَء ب ِغَي ْرِ َ‬ ‫قت ُلو َ‬ ‫ُ‬ ‫ت اللهِ وَي َ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ن ِبآَيا ِ‬ ‫فُرو َ‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ك ب ِأن ّهُ ْ‬ ‫ذ َل ِ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْت َ ُ‬ ‫وَ َ‬
‫يمدح تعالى هذه المة ويخبر أنها خير المم التي أخرجها الله للناس‪ ،‬وذلك‬
‫بتكميلهم لنفسهم باليمان المستلزم للقيام بكل ما أمر الله به‪ ،‬وبتكميلهم‬
‫لغيرهم بالمر بالمعروف والنهي عن المنكر المتضمن دعوة الخلق إلى‬
‫الله وجهادهم على ذلك وبذل المستطاع في ردهم عن ضللهم وغيهم‬
‫وعصيانهم‪ ،‬فبهذا كانوا خير أمة أخرجت للناس‪ ،‬لما كانت الية السابقة‬
‫وهي قوله‪ } :‬ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف‬
‫وينهون عن المنكر { أمرا منه تعالى لهذه المة‪ ،‬والمر قد يمتثله المأمور‬
‫ويقوم به‪ ،‬وقد ل يقوم به‪ ،‬أخبر في هذه الية أن المة قد قامت بما أمرها‬
‫الله بالقيام به‪ ،‬وامتثلت أمر ربها واستحقت الفضل على سائر المم } ولو‬
‫آمن أهل الكتاب لكان خيرا لهم { وفي هذا من دعوته بلطف الخطاب ما‬
‫يدعوهم إلى اليمان‪ ،‬ولكن لم يؤمن منهم إل قليل‪ ،‬وأكثرهم الفاسقون‬
‫الخارجون عن طاعة الله المعادون لولياء الله بأنواع العداوة‪ ،‬ولكن من‬
‫لطف الله بعباده المؤمنين أنه رد كيدهم في نحورهم‪ ،‬فليس على‬
‫المؤمنين منهم ضرر في أديانهم ول أبدانهم‪ ،‬وإنما غاية ما يصلون إليه من‬
‫الذى أذية الكلم التي ل سبيل إلى السلمة منها من كل معادي‪ ،‬فلو‬
‫قاتلوا المؤمنين لولوا الدبار فرارا ثم تستمر هزيمتهم ويدوم ذلهم ول هم‬
‫ينصرون في وقت من الوقات‪ ،‬ولهذا أخبر تعالى أنه عاقبهم بالذلة في‬
‫بواطنهم والمسكنة على ظواهرهم‪ ،‬فل يستقرون ول يطمئنون } إل‬
‫بحبل { أي‪ :‬عهد } من الله وحبل من الناس { فل يكون اليهود إل تحت‬
‫أحكام المسلمين وعهدهم‪ ،‬تؤخذ منهم الجزية ويستذلون‪ ،‬أو تحت أحكام‬
‫النصارى وقد } باءوا { مع ذلك } بغضب من الله { وهذا أعظم‬
‫العقوبات‪ ،‬والسبب الذي أوصلهم إلى هذه الحال ذكره الله بقوله‪ } :‬ذلك‬
‫بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله { التي أنزلها الله على رسوله محمد صلى‬
‫الله عليه وسلم الموجبة لليقين واليمان‪ ،‬فكفروا بها بغيا وعنادا‬
‫} ويقتلون النبياء بغير حق { أي‪ :‬يقابلون أنبياء الله الذين يحسنون إليهم‬
‫أعظم إحسان بأشر مقابلة‪ ،‬وهو القتل‪ ،‬فهل بعد هذه الجراءة والجناية‬
‫شيء أعظم منها‪ ،‬وذلك كله بسبب عصيانهم واعتدائهم‪ ،‬فهو الذي جرأهم‬
‫على الكفر بالله وقتل أنبياء الله‪ ،‬ثم قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/143‬‬

‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ن أ َهْ‬


‫م‬
‫ل وَهُ ْ‬ ‫ت الل ّهِ آَناَء الل ّي ْ ِ‬ ‫ن آ ََيا ِ‬ ‫ة ي َت ُْلو َ‬ ‫م ٌ‬ ‫ة َقائ ِ َ‬ ‫م ٌ‬‫بأ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ل ال ْك َِتا‬ ‫ِ‬ ‫م ْ‬‫واًء ِ‬ ‫س َ‬ ‫سوا َ‬ ‫ل َي ْ ُ‬
‫ْ‬
‫ن‬
‫ف وَي َن ْهَوْ َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬ ‫مُرو َ‬‫خرِ وَي َأ ُ‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ اْل َ ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن )‪ (113‬ي ُؤْ ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ج ُ‬‫س ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫ما‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن )‪ (114‬وَ َ‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ت وَأولئ ِك ِ‬ ‫خي َْرا ِ‬ ‫ن ِفي ال َ‬ ‫عو َ‬ ‫سارِ ُ‬ ‫من ْكرِ وَي ُ َ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫عَ ِ‬
‫ن )‪(115‬‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬ ‫ْ‬
‫م ِبال ُ‬ ‫ه عَِلي ٌ‬ ‫ّ‬
‫فُروهُ َوالل ُ‬ ‫ْ‬
‫ن ي ُك َ‬ ‫َ‬
‫خي ْرٍ فَل ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫فعَلوا ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫ُ‬ ‫ن أ َهْ‬
‫ت‬‫ن آَيا ِ‬‫ة ي َت ُْلو َ‬ ‫م ٌ‬‫ة َقائ ِ َ‬‫م ٌ‬
‫بأ ّ‬ ‫ِ‬ ‫ل ال ْك َِتا‬‫ِ‬ ‫م ْ‬ ‫واًء ِ‬‫س َ‬ ‫سوا َ‬ ‫} ‪ } { 115 - 113‬ل َي ْ ُ‬
‫ْ‬
‫ن‬
‫مُرو َ‬ ‫خرِ وَي َأ ُ‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن * ي ُؤْ ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫س ُ‬‫م يَ ْ‬ ‫ل وَهُ ْ‬ ‫الل ّهِ آَناَء الل ّي ْ ِ‬
‫ُ‬
‫ت وَأول َئ ِ َ‬ ‫ن ِفي ال ْ َ‬
‫ن‬‫م َ‬‫ك ِ‬ ‫خي َْرا ِ‬ ‫عو َ‬ ‫سارِ ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫من ْك َرِ وَي ُ َ‬ ‫ن عَ ِ‬ ‫ف وَي َن ْهَوْ َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قي َ‬‫مت ّ ِ‬ ‫م ِبال ْ ُ‬ ‫ه عَِلي ٌ‬ ‫فُروهُ َوالل ّ ُ‬ ‫ن ي ُك ْ َ‬‫خي ْرٍ فَل َ ْ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫فعَُلوا ِ‬ ‫ما ي َ ْ‬
‫ن * وَ َ‬ ‫حي َ‬‫صال ِ ِ‬‫ال ّ‬
‫لما بين تعالى الفرقة الفاسقة من أهل الكتاب وبين أفعالهم وعقوباتهم‪،‬‬
‫] ص ‪[ 144‬‬
‫بين هاهنا المة المستقيمة‪ ،‬وبين أفعالها وثوابها‪ ،‬فأخبر أنهم ل يستوون‬
‫عنده‪ ،‬بل بينهم من الفرق ما ل يمكن وصفه‪ ،‬فأما تلك الطائفة الفاسقة‬
‫فقد مضى وصفهم‪ ،‬وأما هؤلء المؤمنون‪ ،‬فقال تعالى منهم } أمة قائمة {‬
‫أي‪ :‬مستقيمة على دين الله‪ ،‬قائمة بما ألزمها الله به من المأمورات‪ ،‬ومن‬
‫ذلك قيامها بالصلة } يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون { وهذا بيان‬
‫لصلتهم في أوقات الليل وطول تهجدهم وتلوتهم لكتاب ربهم وإيثارهم‬
‫الخضوع والركوع والسجود له‪.‬‬
‫} يؤمنون بالله واليوم الخر { أي‪ :‬كإيمان المؤمنين إيمانا يوجب لهم‬
‫اليمان بكل نبي أرسله‪ ،‬وكل كتاب أنزله الله‪ ،‬وخص اليمان باليوم الخر‬
‫لن اليمان الحقيقي باليوم الخر يحث المؤمن به على ما يقر به إلى الله‪،‬‬
‫ويثاب عليه في ذلك اليوم‪ ،‬وترك كل ما يعاقب عليه في ذلك اليوم‬
‫} ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر { فحصل منهم تكميل أنفسهم‬
‫باليمان ولوازمه‪ ،‬وتكميل غيرهم بأمرهم بكل خير‪ ،‬ونهيهم عن كل شر‪،‬‬
‫ومن ذلك حثهم أهل دينهم وغيرهم على اليمان بمحمد صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ثم وصفهم بالهمم العالية } و { أنهم } يسارعون في الخيرات {‬
‫أي‪ :‬يبادرون إليها فينتهزون الفرصة فيها‪ ،‬ويفعلونها في أول وقت إمكانها‪،‬‬
‫وذلك من شدة رغبتهم في الخير ومعرفتهم بفوائده وحسن عوائده‪،‬‬
‫فهؤلء الذين وصفهم الله بهذه الصفات الجميلة والفعال الجليلة } من‬
‫الصالحين { الذين يدخلهم الله في رحمته ويتغمدهم بغفرانه وينيلهم من‬
‫فضله وإحسانه‪ ،‬وأنهم مهما فعلوا } من خير { قليل كان أو كثيرا } فلن‬
‫يكفروه { أي‪ :‬لن يحرموه ويفوتوا أجره‪ ،‬بل يثيبهم الله على ذلك أكمل‬
‫ثواب‪ ،‬ولكن العمال ثوابها تبع لما يقوم بقلب صاحبها من اليمان‬
‫والتقوى‪ ،‬فلهذا قال } والله عليم بالمتقين { كما قال تعالى‪ } :‬إنما يتقبل‬
‫الله من المتقين { ‪.‬‬

‫) ‪(1/143‬‬

‫شي ًْئا وَُأول َئ ِ َ‬


‫ك‬ ‫ن الل ّهِ َ‬ ‫م َ‬‫م ِ‬
‫َ‬
‫م وََل أوَْلد ُهُ ْ‬ ‫وال ُهُ ْ‬
‫م َ‬
‫فروا ل َن تغْن ِي عَنه َ‬
‫مأ ْ‬ ‫ْ ُ َ ُْ ْ‬ ‫ن كَ َ ُ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫إِ ّ‬
‫أَ‬
‫حَياةِ الد ّن َْيا‬ ‫ن ِفي هَذِهِ ال ْ َ‬ ‫قو َ‬‫ف ُ‬
‫ما ي ُن ْ ِ‬ ‫ل َ‬ ‫مث َ ُ‬‫ن )‪َ (116‬‬ ‫دو َ‬‫خال ِ ُ‬‫م ِفيَها َ‬ ‫ب الّنارِ هُ ْ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫ْ‬
‫َ‬ ‫موا أ َن ْ ُ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫مه ُ ُ‬ ‫ما ظ َل َ َ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫م فَأهْل َك َت ْ ُ‬
‫سهُ ْ‬‫ف َ‬ ‫ث قَوْم ٍ ظ َل َ ُ‬ ‫حْر َ‬‫ت َ‬ ‫صاب َ ْ‬ ‫صّر أ َ‬ ‫ل ِريٍح ِفيَها ِ‬ ‫مث َ ِ‬ ‫كَ َ‬
‫َ‬
‫ن )‪(117‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ي َظ ْل ِ ُ‬
‫سه ُ ْ‬‫ف َ‬ ‫ه وَل َك ِ ْ‬
‫ن أن ْ ُ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫َ‬ ‫فروا ل َن تغْن ِي عَنه َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫م َول أْولد ُهُ ْ‬ ‫وال ُهُ ْ‬‫م َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ْ ُ َ ُْ ْ‬ ‫ن كَ َ ُ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫} ‪ } { 117 - 116‬إ ِ ّ‬
‫ه‬ ‫مث َ ُ‬ ‫ك أَ‬ ‫شي ًْئا وَُأول َئ ِ َ‬ ‫الل ّهِ َ‬
‫ن ِفي هَذِ ِ‬ ‫قو َ‬ ‫ف ُ‬‫ما ي ُن ْ ِ‬‫ل َ‬ ‫ن* َ‬ ‫دو َ‬
‫خال ِ ُ‬‫م ِفيَها َ‬ ‫ب الّنارِ هُ ْ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬‫ْ‬
‫َ‬ ‫موا أ َن ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ه‬‫م فَأهْل َك َت ْ ُ‬ ‫سهُ ْ‬‫ف َ‬ ‫ث قَوْم ٍ ظ َل َ ُ‬
‫حْر َ‬ ‫ت َ‬ ‫صاب َ ْ‬ ‫صّر أ َ‬ ‫ل ِريٍح ِفيَها ِ‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا ك َ َ‬
‫مث َ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ي َظ ْل ِ ُ‬ ‫سهُ ْ‬
‫ف َ‬‫ن أ َن ْ ُ‬‫ه وَل َك ِ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫مه ُ ُ‬‫ما ظ َل َ َ‬ ‫وَ َ‬
‫يخبر تعالى أن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ول أولدهم من الله‬
‫شيئا‪ ،‬أي‪ :‬ل تدفع عنهم شيئا من عذاب الله‪ ،‬ول تجدي عليهم شيئا من‬
‫ثواب الله‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬وما أموالكم ول أولدكم بالتي تقربكم عندنا‬
‫زلفى إل من آمن وعمل صالحا { بل تكون أموالهم وأولدهم زادا لهم إلى‬
‫النار‪ ،‬وحجة عليهم في زيادة نعم الله عليهم‪ ،‬تقتضي منهم شكرها‪،‬‬
‫ويعاقبون على عدم القيام بها وعلى كفرها‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬أولئك أصحاب‬
‫النار هم فيها خالدون { ‪.‬‬
‫ثم ضرب مثل لما ينفقه الكفار من أموالهم التي يصدون بها عن سبيل الله‬
‫ويستعينون بها على إطفاء نور الله‪ ،‬بأنها تبطل وتضمحل‪ ،‬كمن زرع زرعا‬
‫يرجو نتيجته ويؤمل إدراك ريعه‪ ،‬فبينما هو كذلك إذ أصابته ريح فيها صر‪،‬‬
‫أي‪ :‬برد شديد محرق‪ ،‬فأهلكت زرعه‪ ،‬ولم يحصل له إل التعب والعناء‬
‫وزيادة السف‪ ،‬فكذلك هؤلء الكفار الذين قال الله فيهم‪ } :‬إن الذين‬
‫كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم‬
‫حسرة ثم يغلبون { } وما ظلمهم الله { بإبطال أعمالهم } ولكن { كانوا‬
‫} أنفسهم يظلمون { حيث كفروا بآيات الله وكذبوا رسوله وحرصوا على‬
‫إطفاء نور الله‪ ،‬هذه المور هي التي أحبطت أعمالهم وذهبت بأموالهم‪ ،‬ثم‬
‫قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/144‬‬

‫ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫م‬
‫ما عَن ِت ّ ْ‬
‫دوا َ‬ ‫خَباًل وَ ّ‬ ‫م َ‬‫م َل ي َأُلون َك ُ ْ‬
‫دون ِك ُ ْ‬
‫ن ُ‬‫م ْ‬‫ة ِ‬ ‫ذوا ب ِ َ‬
‫طان َ ً‬ ‫خ ُ‬ ‫مُنوا َل ت َت ّ ِ‬
‫نآ َ‬‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫خفي صدورهُ َ‬ ‫قَد بدت ال ْبغْضاُء م َ‬
‫ت‬‫م اْل ََيا ِ‬‫م أك ْب َُر قَد ْ ب َي ّّنا ل َك ُ ُ‬
‫ُ ُ ُ ْ‬ ‫ما ت ُ ْ ِ‬‫م وَ َ‬‫واهِهِ ْ‬‫ن أف ْ َ‬ ‫ِ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ َ َ ِ‬
‫ن‬
‫مُنو َ‬ ‫م وَت ُؤْ ِ‬ ‫م وََل ي ُ ِ‬
‫حّبون َك ُ ْ‬ ‫حّبون َهُ ْ‬ ‫م ُأوَلِء ت ُ ِ‬ ‫إن ك ُنتم تعقُلون )‪َ َ (118‬‬
‫ها أن ْت ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ ْ ُْ ْ َْ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ب ك ُل ّهِ وَإ ِ َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫م َ‬ ‫م الَنا ِ‬ ‫ُ‬
‫ضوا عَلي ْك ُ‬ ‫وا عَ ّ‬ ‫خل ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫مّنا وَإ ِ َ‬ ‫م َقالوا آ َ‬ ‫ُ‬
‫قوك ْ‬ ‫ذا ل ُ‬ ‫ِبال ْك َِتا ِ‬
‫سك ُ ْ‬
‫م‬ ‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن تَ ْ‬‫دورِ )‪ (119‬إ ِ ْ‬ ‫ص ُ‬
‫ت ال ّ‬ ‫ذا ِ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ه عَِلي ٌ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫موُتوا ب ِغَي ْظ ِك ُ ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫ظ قُ ْ‬ ‫ال ْغَي ْ ِ‬
‫ضّرك ُ ْ‬
‫م‬ ‫قوا َل ي َ ُ‬ ‫صب ُِروا وَت َت ّ ُ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫حوا ب َِها وَإ ِ ْ‬ ‫فَر ُ‬ ‫سي ّئ َ ٌ‬
‫ة يَ ْ‬ ‫م َ‬ ‫صب ْك ُ ْ‬ ‫ن تُ ِ‬ ‫م وَإ ِ ْ‬ ‫سؤْهُ ْ‬ ‫ة تَ ُ‬‫سن َ ٌ‬
‫ح َ‬ ‫َ‬
‫حيط )‪(120‬‬ ‫ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ي َعْ َ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫شي ًْئا إ ِ ّ‬ ‫م َ‬ ‫كي ْد ُهُ ْ‬‫َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫م ل ي َأُلون َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫دون ِك ُ ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫طان َ ً‬ ‫ذوا ب ِ َ‬ ‫خ ُ‬ ‫مُنوا ل ت َت ّ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 120 - 118‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫م أ َك ْب َُر‬ ‫دوُرهُ ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫في ُ‬ ‫خ ِ‬‫ما ت ُ ْ‬ ‫م وَ َ‬‫واهِهِ ْ‬ ‫ن أف ْ َ‬
‫خبال ودوا ما عَن ِتم قَد بدت ال ْبغْضاُء م َ‬
‫ِ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫ّ ْ ْ َ َ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫حّبون َك ْ‬ ‫م َول ي ُ ِ‬ ‫حّبون َهُ ْ‬ ‫م أولِء ت ُ ِ‬ ‫ها أن ْت ُ ْ‬ ‫ن* َ‬ ‫قلو َ‬ ‫م ت َعْ ِ‬ ‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫ت إِ ْ‬ ‫م الَيا ِ‬ ‫قَد ْ ب َي ّّنا لك ُ‬
‫ل‬‫م َ‬ ‫م الَنا ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ضوا عَلي ْك ُ‬ ‫وا عَ ّ‬ ‫خل ْ‬‫َ‬ ‫ذا َ‬ ‫مّنا وَإ ِ َ‬ ‫ُ‬
‫م َقالوا آ َ‬ ‫قوك ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ذا ل ُ‬ ‫ّ‬
‫ب كلهِ وَإ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ن ِبالك َِتا ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫وَت ُؤْ ِ‬
‫م‬
‫سك ْ‬ ‫ُ‬ ‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫دورِ * إ ِ ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫ذا ِ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ه عَِلي ٌ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ُ‬
‫موُتوا ب ِغَي ْظ ِك ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫ظ قُ ْ‬ ‫ن الغَي ْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫ضّرك ْ‬ ‫قوا ل ي َ ُ‬ ‫صب ُِروا وَت َت ّ ُ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫حوا ب َِها وَإ ِ ْ‬ ‫فَر ُ‬ ‫ة يَ ْ‬ ‫سي ّئ َ ٌ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫صب ْك ْ‬ ‫ن تُ ِ‬ ‫م وَإ ِ ْ‬ ‫سؤْهُ ْ‬ ‫ة تَ ُ‬ ‫سن َ ٌ‬‫ح َ‬ ‫َ‬
‫حيط { ‪.‬‬ ‫ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ي َعْ َ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫شي ًْئا إ ِ ّ‬ ‫م َ‬ ‫ك َي ْد ُهُ ْ‬
‫ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يتخذوا بطانة من المنافقين من أهل‬
‫الكتاب وغيرهم يظهرونهم على سرائرهم أو يولونهم بعض العمال‬
‫السلمية وذلك أنهم هم العداء الذين امتلت قلوبهم من العداوة‬
‫والبغضاء فظهرت على أفواههم } وما تخفي صدورهم أكبر { مما يسمع‬
‫منهم فلهذا } ل يألونكم خبال { أي‪ :‬ل يقصرون في حصول الضرر عليكم‬
‫والمشقة وعمل السباب التي فيها ضرركم ومساعدة العداء عليكم قال‬
‫الله للمؤمنين } قد بينا لكم اليات { أي‪ :‬التي فيها مصالحكم الدينية‬
‫والدنيوية } لعلكم تعقلون { فتعرفونها وتفرقون بين الصديق والعدو‪،‬‬
‫فليس كل أحد يجعل بطانة‪ ،‬وإنما العاقل من إذا ابتلي بمخالطة العدو أن‬
‫تكون مخالطة في ظاهره ول يطلعه من باطنه على شيء ولو تملق له‬
‫وأقسم أنه من أوليائه‪.‬‬
‫قال الله مهيجا للمؤمنين على الحذر من هؤلء المنافقين من أهل الكتاب‪،‬‬
‫ومبينا شدة عداوتهم } هاأنتم أولء تحبونهم ول يحبونكم وتؤمنون بالكتاب‬
‫كله { ] ص ‪ [ 145‬أي‪ :‬جنس الكتب التي أنزلها الله على أنبيائه وهم ل‬
‫يؤمنون بكتابكم‪ ،‬بل إذا لقوكم أظهروا لكم اليمان } وإذا لقوكم قالوا آمنا‬
‫وإذا خلوا عضوا عليكم النامل { وهي أطراف الصابع من شدة غيظهم‬
‫عليكم } قل موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور { وهذا فيه بشارة‬
‫للمؤمنين أن هؤلء الذين قصدوا ضرركم ل يضرون إل أنفسهم‪ ،‬وإن‬
‫غيظهم ل يقدرون على تنفيذه‪ ،‬بل ل يزالون معذبين به حتى يموتوا‬
‫فيتنقلوا من عذاب الدنيا إلى عذاب الخرة‪.‬‬
‫} إن تمسسكم حسنة { كالنصر على العداء وحصول الفتح والغنائم‬
‫} تسؤهم { أي‪ :‬تغمهم وتحزنهم } وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن‬
‫تصبروا وتتقوا ل يضركم كيدهم شيئا إن الله بما يعملون محيط { فإذا‬
‫أتيتم بالسباب التي وعد الله عليها النصر ‪ -‬وهي الصبر والتقوى‪ -‬لم‬
‫يضركم مكرهم‪ ،‬بل يجعل الله مكرهم في نحورهم لنه محيط بهم علمه‬
‫وقدرته فل منفذ لهم عن ذلك ول يخفى عليهم منهم شيء‪.‬‬

‫) ‪(1/144‬‬
‫م )‪(121‬‬
‫ميعٌ عَِلي ٌ‬
‫س ِ‬ ‫ل َوالل ّ ُ‬
‫ه َ‬ ‫عد َ ل ِل ْ ِ‬
‫قَتا ِ‬ ‫قا ِ‬
‫م َ‬
‫ن َ‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ن أ َهْل ِ َ‬
‫ك ت ُب َوّئُ ال ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫وَإ ِذ ْ غَد َوْ َ‬
‫ت ِ‬

‫ل‬ ‫عد َ ل ِل ْ ِ‬
‫قَتا ِ‬ ‫قا ِ‬
‫م َ‬
‫ن َ‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ن أ َهْل ِ َ‬
‫ك ت ُب َوّئُ ال ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫} ‪ } { 122 - 121‬وَإ ِذ ْ غَد َوْ َ‬
‫ت ِ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ميعٌ عَِلي ٌ‬
‫س ِ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫ه َ‬
‫هذه اليات نزلت في وقعة "أحد" وقصتها مشهورة في السير والتواريخ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ولعل الحكمة في ذكرها في هذا الموضع‪ ،‬وأدخل في أثنائها وقعة "بدر"‬
‫لما أن الله تعالى قد وعد المؤمنين أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم‪ ،‬ورد كيد‬
‫العداء عنهم‪ ،‬وكان هذا حكما عاما ووعدا صادقا ل يتخلف مع التيان‬
‫بشرطه‪ ،‬فذكر نموذجا من هذا في هاتين القصتين‪ ،‬وأن الله نصر المؤمنين‬
‫في "بدر" لما صبروا واتقوا‪ ،‬وأدال عليهم العدو لما صدر من بعضهم من‬
‫الخلل بالتقوى ما صدر‪ ،‬ومن حكمة الجمع بين القصتين أن الله يحب من‬
‫عباده إذا أصابهم ما يكرهون أن يتذكروا ما يحبون‪ ،‬فيخف عنهم البلء‬
‫ويشكروا الله على نعمه العظيمة التي إذا قوبلت بما ينالهم من المكروه‬
‫الذي هو في الحقيقة خير لهم‪ ،‬كان المكروه بالنسبة إلى المحبوب نزرا‬
‫يسيرا‪ ،‬وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة في قوله } أولما أصابتكم مصيبة‬
‫قد أصبتم مثليها { وحاصل قضية "أحد" وإجمالها أن المشركين لما رجع‬
‫فلهم من "بدر" إلى مكة‪ ،‬وذلك في سنة اثنتين من الهجرة‪ ،‬استعدوا بكل‬
‫ما يقدرون عليه من العدد بالموال والرجال والعدد‪ ،‬حتى اجتمع عندهم‬
‫من ذلك ما جزموا بحصول غرضهم وشفاء غيظهم‪ ،‬ثم وجهوا من مكة‬
‫للمدينة في ثلثة آلف مقاتل‪ ،‬حتى نزلوا قرب المدينة‪ ،‬فخرج النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم إليهم هو وأصحابه بعد المراجعة والمشاورة حتى استقر‬
‫رأيهم على الخروج‪ ،‬وخرج في ألف‪ ،‬فلما ساروا قليل رجع عبد الله بن أبي‬
‫المنافق بثلث الجيش ممن هو على مثل طريقته‪ ،‬وهمت طائفتان من‬
‫المؤمنين أن يرجعوا وهم بنو سلمة وبنو حارثة فثبتهم الله‪ ،‬فلما وصلوا‬
‫إلى أحد رتبهم النبي صلى الله عليه وسلم في مواضعهم وأسندوا‬
‫ظهورهم إلى أحد‪ ،‬ورتب النبي صلى الله عليه وسلم خمسين رجل من‬
‫أصحابه في خلة في جبل "أحد" وأمرهم أن يلزموا مكانهم ول يبرحوا منه‬
‫ليأمنوا أن يأتيهم أحد من ظهورهم‪ ،‬فلما التقى المسلمون والمشركون‬
‫انهزم المشركون هزيمة قبيحة وخلفوا معسكرهم خلف ظهورهم‪ ،‬واتبعهم‬
‫المسلمون يقتلون ويأسرون‪ ،‬فلما رآهم الرماة الذين جعلهم النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم في الجبل‪ ،‬قال بعضهم لبعض‪ :‬الغنيمة الغنيمة‪ ،‬ما يقعدنا‬
‫هاهنا والمشركون قد انهزموا‪ ،‬ووعظهم أميرهم عبد الله بن جبير عن‬
‫المعصية فلم يلتفتوا إليه‪ ،‬فلما أخلوا موضعهم فلم يبق فيه إل نفر يسير‪،‬‬
‫منهم أميرهم عبد الله بن جبير‪ ،‬جاءت خيل المشركين من ذلك الموضع‬
‫واستدبرت المسلمين وقاتلت ساقتهم‪ ،‬فجال المسلمون جولة ابتلهم الله‬
‫بها وكفر بها عنهم‪ ،‬وأذاقهم فيها عقوبة المخالفة‪ ،‬فحصل ما حصل من‬
‫قتل من قتل منهم‪ ،‬ثم إنهم انحازوا إلى رأس جبل "أحد" وكف الله عنهم‬
‫أيدي المشركين وانكفأوا إلى بلدهم‪ ،‬ودخل رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم وأصحابه المدينة قال الله تعالى } وإذ غدوت من أهلك { والغدو‬
‫هاهنا مطلق الخروج‪ ،‬ليس المراد به الخروج في أول النهار‪ ،‬لن النبي‬
‫صلى الله عليه وسلم وأصحابه لم يخرجوا إل بعدما صلوا الجمعة } تبوئ‬
‫المؤمنين مقاعد للقتال { أي‪ :‬تنزلهم وترتبهم كل في مقعده اللئق به‪،‬‬
‫وفيها أعظم مدح للنبي صلى الله عليه وسلم حيث هو الذي يباشر‬
‫تدبيرهم وإقامتهم في مقاعد القتال‪ ،‬وما ذاك إل لكمال علمه ورأيه‪،‬‬
‫وسداد نظره وعلو همته‪ ،‬حيث يباشر هذه المور بنفسه وشجاعته الكاملة‬
‫صلوات الله وسلمه عليه } والله سميع { لجميع المسموعات‪ ،‬ومنه أنه‬
‫يسمع ما يقول المؤمنون والمنافقون كل يتكلم بحسب ما في قلبه‬
‫} عليم { بنيات العبيد‪ ،‬فيجازيهم عليها أتم الجزاء‪ ،‬وأيضا فالله سميع عليم‬
‫بكم‪ ،‬يكلؤكم‪ ،‬ويتولى تدبير أموركم‪ ،‬ويؤيدكم بنصره كما قال تعالى‬
‫لموسى وهارون } إنني معكما أسمع وأرى { ‪.‬‬

‫) ‪(1/145‬‬

‫فتان منك ُ َ‬
‫ما وَعََلى الل ّهِ فَل ْي َت َوَك ّ ِ‬
‫ل‬ ‫شَل َوالل ّ ُ‬
‫ه وَل ِي ّهُ َ‬ ‫ف َ‬
‫ن تَ ْ‬
‫مأ ْ‬ ‫ت َ‬
‫طائ ِ َ َ ِ ِ ْ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫إ ِذ ْ هَ ّ‬
‫ن )‪(122‬‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫فتان منك ُ َ‬
‫ل‬‫ما وَعََلى الل ّهِ فَل ْي َت َوَك ّ ِ‬ ‫شل َوالل ّ ُ‬
‫ه وَل ِي ّهُ َ‬ ‫ف َ‬
‫ن تَ ْ‬
‫مأ ْ‬ ‫ت َ‬
‫طائ ِ َ َ ِ ِ ْ ْ‬ ‫م ْ‬‫} إ ِذ ْ هَ ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُنو َ‬‫مؤْ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ومن لطفه بهم وإحسانه إليهم أنه‪ ،‬لما } همت طائفتان { من المؤمنين‬
‫بالفشل وهم بنو سلمة وبنو حارثة كما تقدم ثبتهما الله تعالى نعمة عليهما‬
‫وعلى سائر المؤمنين‪ ،‬فلهذا قال ] ص ‪ } [ 146‬والله وليهما { أي‪ :‬بوليته‬
‫الخاصة‪ ،‬التي هي لطفه بأوليائه‪ ،‬وتوفيقهم لما فيه صلحهم وعصمتهم عما‬
‫فيه مضرتهم‪ ،‬فمن توليه لهما أنهما لما هما بهذه المعصية العظيمة وهي‬
‫الفشل والفرار عن رسول الله عصمهما‪ ،‬لما معهما من اليمان كما قال‬
‫تعالى‪ } :‬الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور { ثم قال‬
‫} وعلى الله فليتوكل المؤمنون { ففيها المر بالتوكل الذي هو اعتماد‬
‫القلب على الله في جلب المنافع ودفع المضار‪ ،‬مع الثقة بالله‪ ،‬وأنه‬
‫بحسب إيمان العبد يكون توكله‪ ،‬وأن المؤمنين أولى بالتوكل على الله من‬
‫غيرهم‪ ،‬وخصوصا في مواطن الشدة والقتال‪ ،‬فإنهم مضطرون إلى التوكل‬
‫والستعانة بربهم والستنصار له‪ ،‬والتبري من حولهم وقوتهم‪ ،‬والعتماد‬
‫على حول الله وقوته‪ ،‬فبذلك ينصرهم ويدفع عنهم البليا والمحن‪ ،‬ثم قال‬
‫تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/145‬‬

‫ن )‪ (123‬إ ِذ ْ‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ه ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫ة َفات ّ ُ‬ ‫م أ َذِل ّ ٌ‬ ‫َ‬


‫ه ب ِب َد ْرٍ وَأن ْت ُ ْ‬‫م الل ّ ُ‬ ‫صَرك ُ ُ‬ ‫قد ْ ن َ َ‬ ‫وَل َ َ‬
‫ل ل ِل ْمؤْمِنين أ َل َن يك ْفيك ُ َ‬
‫مَلئ ِك َ ِ‬
‫ة‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ب ِث ََلث َةِ آ ََل ٍ‬ ‫م َرب ّك ُ ْ‬‫مد ّك ُ ْ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ْ َ ِ َ ْ‬ ‫ُ ِ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫تَ ُ‬
‫ْ‬
‫م‬‫مدِد ْك ُ ْ‬ ‫ذا ي ُ ْ‬‫م هَ َ‬ ‫ن فَوْرِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫قوا وَي َأُتوك ُ ْ‬ ‫صب ُِروا وَت َت ّ ُ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫ن )‪ (124‬ب ََلى إ ِ ْ‬ ‫من َْزِلي َ‬ ‫ُ‬
‫شَرى‬ ‫ه إ ِّل ب ُ ْ‬ ‫ه الل ُّ‬ ‫جعَل َُ‬ ‫ما‬ ‫و‬ ‫(‬‫‪125‬‬ ‫)‬ ‫ن‬ ‫مي‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ئ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ف‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫آ‬ ‫َر ّ ْ ِ ْ َ ِ‬
‫ة‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ب‬
‫َ َ َ‬ ‫َ ِ ِ ُ َ ّ ِ َ‬ ‫ٍ ِ َ‬
‫كيم ِ )‪(126‬‬ ‫ح ِ‬ ‫زيزِ ال ْ َ‬ ‫عن ْدِ الل ّهِ ال ْعَ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫صُر إ ِّل ِ‬ ‫ما الن ّ ْ‬ ‫م ب ِهِ وَ َ‬ ‫ن قُُلوب ُك ُ ْ‬ ‫مئ ِ ّ‬ ‫م وَل ِت َط ْ َ‬‫ل َك ُ ْ‬

‫ه ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م‬ ‫قوا الل ّ َ‬‫ة َفات ّ ُ‬‫م أ َذِل ّ ٌ‬ ‫َ‬
‫م الل ّ ُ‬
‫ه ب ِب َد ْرٍ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫صَرك ُ ُ‬ ‫} ‪ } { 126 - 123‬وَل َ َ‬
‫قد ْ ن َ َ‬
‫ل ل ِل ْمؤْمِنين أ َل َن يك ْفيك ُ َ‬
‫ن‬
‫م َ‬
‫ف ِ‬ ‫م ب َِثلث َةِ آل ٍ‬ ‫م َرب ّك ُ ْ‬ ‫مد ّك ُ ْ‬‫ن يُ ِ‬ ‫مأ ْ‬‫ْ َ ِ َ ْ‬ ‫ُ ِ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫شك ُُرو َ‬
‫ن * إ ِذ ْ ت َ ُ‬ ‫تَ ْ‬
‫ْ‬
‫م‬‫مدِد ْك ُ ْ‬ ‫م هَ َ‬
‫ذا ي ُ ْ‬ ‫ن فَوْرِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫قوا وَي َأُتوك ُ ْ‬ ‫صب ُِروا وَت َت ّ ُ‬
‫ن تَ ْ‬ ‫ن * ب ََلى إ ِ ْ‬ ‫ملئ ِك َةِ ُ‬
‫من َْزِلي َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫م‬ ‫شَرى ل َك ُ ْ‬ ‫ه ِإل ب ُ ْ‬ ‫ه الل ّ ُ‬‫جعَل َ ُ‬‫ما َ‬ ‫ن * وَ َ‬ ‫مي َ‬‫سوّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ملئ ِك َةِ ُ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫م َ‬‫ف ِ‬ ‫سةِ آل ٍ‬ ‫م َ‬ ‫خ ْ‬ ‫م بِ َ‬ ‫َرب ّك ُ ْ‬
‫كيم ِ { ‪.‬‬ ‫ح ِ‬‫زيزِ ال ْ َ‬ ‫عن ْدِ الل ّهِ ال ْعَ ِ‬
‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫صُر ِإل ِ‬ ‫ما الن ّ ْ‬ ‫ن قُُلوب ُك ُ ْ‬
‫م ب ِهِ وَ َ‬ ‫وَل ِت َط ْ َ‬
‫مئ ِ ّ‬
‫وهذا امتنان منه على عباده المؤمنين‪ ،‬وتذكير لهم بما نصرهم به يوم بدر‬
‫عددهم‪ ،‬وكانت‬ ‫عددهم مع كثرة عدد عدوهم و ُ‬ ‫عددهم و ُ‬ ‫وهم أذلة في قلة َ‬
‫وقعة بدر في السنة الثانية من الهجرة‪ ،‬خرج النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫من المدينة بثلث مئة وبضعة عشر من أصحابه‪ ،‬ولم يكن معهم إل سبعون‬
‫بعيرا وفرسان لطلب عير لقريش قدمت من الشام‪ ،‬فسمع به المشركون‬
‫فتجهزوا من مكة لفكاك عيرهم‪ ،‬وخرجوا في زهاء ألف مقاتل مع العدة‬
‫الكاملة والسلح العام والخيل الكثيرة‪ ،‬فالتقوا هم والمسلمون في ماء‬
‫يقال له "بدر" بين مكة والمدينة فاقتتلوا‪ ،‬ونصر الله المسلمين نصرا‬
‫عظيما‪ ،‬فقتلوا من المشركين سبعين قتيل من صناديد المشركين‬
‫وشجعانهم‪ ،‬وأسروا سبعين‪ ،‬واحتووا على معسكرهم ستأتي ‪ -‬إن شاء الله‬
‫‪ -‬القصة في سورة النفال‪ ،‬فإن ذلك موضعها‪ ،‬ولكن الله تعالى هنا أتى بها‬
‫ليتذكر بها المؤمنون ليتقوا ربهم ويشكروه‪ ،‬فلهذا قال } فاتقوا الله لعلكم‬
‫تشكرون { لن من اتقى ربه فقد شكره‪ ،‬ومن ترك التقوى فلم يشكره‪،‬‬
‫إذ تقول يا محمد للمؤمنين يوم بدر مبشرا لهم بالنصر‪.‬‬
‫} ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلثة آلف من الملئكة منزلين بلى إن‬
‫تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا { أي‪ :‬من مقصدهم هذا‪ ،‬وهو وقعة‬
‫بدر } يمددكم ربكم بخمسة آلف من الملئكة مسومين { أي‪ :‬معلمين‬
‫بعلمة الشجعان‪ ،‬فشرط الله لمدادهم ثلثة شروط‪ :‬الصبر‪ ،‬والتقوى‪،‬‬
‫وإتيان المشركين من فورهم هذا‪ ،‬فهذا الوعد بإنزال الملئكة المذكورين‬
‫وإمدادهم بهم‪ ،‬وأما وعد النصر وقمع كيد العداء فشرط الله له الشرطين‬
‫الولين كما تقدم في قوله‪ } :‬وإن تصبروا وتتقوا ل يضركم كيدهم‬
‫شيئا { ‪.‬‬
‫} وما جعله الله { أي‪ :‬إمداده لكم بالملئكة } إل بشرى { تستبشرون بها‬
‫وتفرحون } ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إل من عند الله { فل تعتمدوا‬
‫على ما معكم من السباب‪ ،‬بل السباب فيها طمأنينة لقلوبكم‪ ،‬وأما النصر‬
‫الحقيقي الذي ل معارض له‪ ،‬فهو مشيئة الله لنصر من يشاء من عباده‪،‬‬
‫فإنه إن شاء نصر من معه السباب كما هي سنته في خلقه‪ ،‬وإن شاء نصر‬
‫المستضعفين الذلين ليبين لعباده أن المر كله بيديه‪ ،‬ومرجع المور إليه‪،‬‬
‫ولهذا قال } عند الله العزيز { فل يمتنع عليه مخلوق‪ ،‬بل الخلق كلهم‬
‫أذلء مدبرون تحت تدبيره وقهره } الحكيم { الذي يضع الشياء مواضعها‪،‬‬
‫وله الحكمة في إدالة الكفار في بعض الوقات على المسلمين إدالة غير‬
‫مستقرة‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬ذلك ولو يشاء الله لنتصر منهم ولكن ليبلو‬
‫بعضكم ببعض { ‪.‬‬

‫) ‪(1/146‬‬

‫َ‬
‫ن )‪(127‬‬
‫خائ ِِبي َ‬
‫قل ُِبوا َ‬ ‫فُروا أوْ ي َك ْب ِت َهُ ْ‬
‫م فَي َن ْ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫قط َعَ ط ََرًفا ِ‬
‫م َ‬ ‫ل ِي َ ْ‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬
‫خائ ِِبي َ‬
‫قل ُِبوا َ‬ ‫فُروا أوْ ي َك ْب ِت َهُ ْ‬
‫م فَي َن ْ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫قط َعَ ط ََرًفا ِ‬
‫م َ‬ ‫} ‪ } { 127‬ل ِي َ ْ‬
‫) ‪(1/146‬‬

‫م َ‬ ‫شيٌء أ َو يتوب عَل َيه َ‬ ‫َ‬


‫ن )‪(128‬‬ ‫مو َ‬‫ظال ِ ُ‬ ‫م فَإ ِن ّهُ ْ‬‫م أوْ ي ُعَذ ّب َهُ ْ‬ ‫ِْ ْ‬ ‫ْ َُ َ‬ ‫مرِ َ ْ‬ ‫ن اْل ْ‬ ‫م َ‬
‫ك ِ‬‫س لَ َ‬‫ل َي ْ َ‬
‫َْ‬
‫ن يَ َ‬
‫شاُء‬ ‫م ْ‬‫ب َ‬ ‫شاُء وَي ُعَذ ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬‫م ْ‬ ‫فُر ل ِ َ‬‫ض ي َغْ ِ‬
‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫وَل ِل ّهِ َ‬
‫م )‪(129‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫ه غَ ُ‬
‫فوٌر َر ِ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫يخبر تعالى أن نصره عباده المؤمنين لحد أمرين‪ :‬إما أن يقطع طرفا من‬
‫الذين كفروا‪ ،‬أي‪ :‬جانبا منهم وركنا من أركانهم‪ ،‬إما بقتل‪ ،‬أو أسر‪ ،‬أو‬
‫استيلء على بلد‪ ،‬أو غنيمة مال‪ ،‬فيقوى بذلك المؤمنون ويذل الكافرون‪،‬‬
‫وذلك لن مقاومتهم ومحاربتهم للسلم تتألف من أشخاصهم وسلحهم‬
‫وأموالهم وأرضهم فبهذه المور تحصل منهم المقاومة والمقاتلة فقطع‬
‫شيء من ذلك ذهاب لبعض قوتهم‪ ،‬المر الثاني أن يريد الكفار بقوتهم‬
‫وكثرتهم‪ ،‬طمعا في المسلمين‪ ،‬ويمنوا أنفسهم ذلك‪ ،‬ويحرصوا عليه غاية‬
‫الحرص‪ ،‬ويبذلوا قواهم وأموالهم في ذلك‪ ،‬فينصر الله المؤمنين عليهم‬
‫ويردهم خائبين لم ينالوا مقصودهم‪ ،‬بل يرجعون بخسارة وغم وحسرة‪،‬‬
‫وإذا تأملت الواقع رأيت نصر الله لعباده المؤمنين دائرا بين هذين المرين‪،‬‬
‫غير خارج عنهما إما نصر عليهم أو خذل لهم‪ ] .‬ص ‪[ 147‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م أوْ ي ُعَذ ّب َهُ ْ‬
‫م‬ ‫ب عَل َي ْهِ ْ‬
‫يٌء أوْ ي َُتو َ‬
‫ش ْ‬ ‫مرِ َ‬
‫ن ال ْ‬ ‫م َ‬‫ك ِ‬‫س لَ َ‬‫} ‪ } { 129 - 128‬ل َي ْ َ‬
‫شاُء‬‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫فُر ل ِ َ‬‫ض ي َغْ ِ‬‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬‫ما ِفي ال ّ‬ ‫ن * وَل ِل ّهِ َ‬
‫مو َ‬ ‫م َ‬
‫ظال ِ ُ‬ ‫فَإ ِن ّهُ ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حي ٌ‬‫فوٌر َر ِ‬‫ه غَ ُ‬ ‫ّ‬
‫شاُء َوالل ُ‬ ‫ن يَ َ‬‫م ْ‬ ‫ب َ‬‫وَي ُعَذ ّ ُ‬
‫لما جرى يوم "أحد" ما جرى‪ ،‬وجرى على النبي صلى الله عليه وسلم‬
‫مصائب‪ ،‬رفع الله بها درجته‪ ،‬فشج رأسه وكسرت رباعيته‪ ،‬قال "كيف يفلح‬
‫قوم شجوا نبيهم" وجعل يدعو على رؤساء من المشركين مثل أبي سفيان‬
‫بن حرب‪ ،‬وصفوان بن أمية وسهيل بن عمرو‪ ،‬والحارث بن هشام‪ ،‬أنزل‬
‫الله تعالى على رسوله نهيا له عن الدعاء عليهم باللعنة والطرد عن رحمة‬
‫الله } ليس لك من المر شيء { إنما عليك البلغ وإرشاد الخلق والحرص‬
‫على مصالحهم‪ ،‬وإنما المر لله تعالى هو الذي يدبر المور‪ ،‬ويهدي من‬
‫يشاء ويضل من يشاء‪ ،‬فل تدع عليهم بل أمرهم راجع إلى ربهم‪ ،‬إن‬
‫اقتضت حكمته ورحمته أن يتوب عليهم ويمن عليهم بالسلم فعل‪ ،‬وإن‬
‫اقتضت حكمته إبقاءهم على كفرهم وعدم هدايتهم‪ ،‬فإنهم هم الذين‬
‫ظلموا أنفسهم وضروها وتسببوا بذلك‪ ،‬فعل‪ ،‬وقد تاب الله على هؤلء‬
‫المعينين وغيرهم‪ ،‬فهداهم للسلم رضي الله عنهم‪ ،‬وفي هذه الية مما‬
‫يدل على أن اختيار الله غالب على اختيار العباد‪ ،‬وأن العبد وإن ارتفعت‬
‫درجته وعل قدره قد يختار شيئا وتكون الخيرة والمصلحة في غيره‪ ،‬وأن‬
‫الرسول صلى الله عليه وسلم ليس له من المر شيء فغيره من باب‬
‫أولى ففيها أعظم رد على من تعلق بالنبياء أو غيرهم من الصالحين‬
‫وغيرهم‪ ،‬وأن هذا شرك في العبادة‪ ،‬نقص في العقل‪ ،‬يتركون من المر‬
‫كله له ويدعون من ل يملك من المر مثقال ذرة‪ ،‬إن هذا لهو الضلل‬
‫البعيد‪ ،‬وتأمل كيف لما ذكر تعالى توبته عليهم أسند الفعل إليه‪ ،‬ولم يذكر‬
‫منهم سببا موجبا لذلك‪ ،‬ليدل ذلك على أن النعمة محض فضله على عبده‪،‬‬
‫من غير سبق سبب من العبد ول وسيلة‪ ،‬ولما ذكر العذاب ذكر معه‬
‫ظلمهم‪ ،‬ورتبه على العذاب بالفاء المفيدة للسببية‪ ،‬فقال } أو يعذبهم‬
‫فإنهم ظالمون { ليدل ذلك على كمال عدل الله وحكمته‪ ،‬حيث وضع‬
‫العقوبة موضعها‪ ،‬ولم يظلم عبده بل العبد هو الذي ظلم نفسه‪ ،‬ولما نفى‬
‫عن رسوله أنه ليس له من المر شيء قرر من المر له فقال } ولله ما‬
‫في السماوات وما في الرض { من الملئكة والنس والجن والحيوانات‬
‫والفلك والجمادات كلها‪ ،‬وجميع ما في السماوات والرض‪ ،‬الكل ملك لله‬
‫مخلوقون مدبرون متصرف فيهم تصرف المماليك‪ ،‬فليس لهم مثقال ذرة‬
‫من الملك‪ ،‬وإذا كانوا كذلك فهم دائرون بين مغفرته وتعذيبه فيغفر لمن‬
‫يشاء بأن يهديه للسلم فيغفر شركه ويمن عليه بترك العصيان فيغفر له‬
‫ذنبه‪ } ،‬ويعذب من يشاء { بأن يكله إلى نفسه الجاهلة الظالمة المقتضية‬
‫لعمل الشر فيعمل الشر ويعذبه على ذلك‪ ،‬ثم ختم الية باسمين كريمين‬
‫دالين على سعة رحمته وعموم مغفرته وسعة إحسانه وعميم إحسانه‪،‬‬
‫فقال } والله غفور رحيم { ففيها أعظم بشارة بأن رحمته غلبت غضبه‪،‬‬
‫ومغفرته غلبت مؤاخذته‪ ،‬فالية فيها الخبار عن حالة الخلق وأن منهم من‬
‫يغفر الله له ومنهم من يعذبه‪ ،‬فلم يختمها باسمين أحدهما دال على‬
‫الرحمة‪ ،‬والثاني دال على النقمة‪ ،‬بل ختمها باسمين كليهما يدل على‬
‫الرحمة‪ ،‬فله تعالى رحمة وإحسان سيرحم بها عباده ل تخطر ببال بشر‪،‬‬
‫ول يدرك لها وصف‪ ،‬فنسأله تعالى أن يتغمدنا ويدخلنا برحمته في عباده‬
‫الصالحين‪.‬‬
‫تم السفر الول من هذا التفسير المبارك بيسر من الله وإعانة‪ ،‬فله الحمد‬
‫والشكر والثناء‪ ،‬وأسأله المزيد من فضله وكرمه وإحسانه‪ ،‬ويليه المجلد‬
‫الثاني‪ ،‬أوله قول الباري جل جلله } يا أيها الذين آمنوا ل تأكلوا الربا‬
‫أضعافا مضاعفة { الية وذلك في تسع وعشرين من شهر ربيع الول من‬
‫سنة ‪ 1343‬ثلث وأربعين وثلث مئة وألف من الهجرة النبوية وصلى الله‬
‫على محمد وسلم تسليما كثيرا بقلم جامعه عبد الرحمن بن ناصر بن عبد‬
‫الله السعدي غفر الله له ولوالديه وإخوانه المسلمين‪ ،‬والحمد لله رب‬
‫العالمين‪.‬‬
‫المجلد الثاني من تيسير الكريم المنان في تفسير كلم الرحمن لجامعه‬
‫الفقير إلى الله‪ :‬عبد الرحمن بن ناصر بن عبد الله بن سعدي غفر الله له‬
‫ولوالديه وللمسلمين آمين‪.‬بسم الله الرحمن الرحيم‬
‫الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره‪ ،‬ونعوذ بالله من شرور أنفسنا‬
‫وسيئات أعمالنا‪ ،‬من يهد الله فل مضل له‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له‪ ،‬وأشهد‬
‫أن ل إله إل الله وحده ل شريك له‪ ،‬وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى‬
‫الله عليه وسلم تسليما كثيرا قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/146‬‬

‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫ن‬
‫حو َ‬
‫فل ِ ُ‬ ‫ه ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م تُ ْ‬ ‫قوا الل ّ َ‬
‫ة َوات ّ ُ‬
‫ف ً‬
‫ضاعَ َ‬
‫م َ‬ ‫مُنوا َل ت َأك ُُلوا الّرَبا أ ْ‬
‫ضَعاًفا ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫َ‬ ‫قوا الّناَر ال ِّتي أ ُ ِ‬
‫ل‬‫سو َ‬ ‫ه َوالّر ُ‬ ‫طيُعوا الل ّ َ‬ ‫ن )‪ (131‬وَأ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫ت ل ِل ْ َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫عد ّ ْ‬ ‫)‪َ (130‬وات ّ ُ‬
‫ن )‪(132‬‬ ‫مو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م ت ُْر َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ة‬
‫ف ً‬
‫ضاعَ َ‬ ‫ضَعاًفا ُ‬
‫م َ‬ ‫مُنوا ل ت َأك ُُلوا الّرَبا أ ْ‬ ‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 136 - 130‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫ت ل ِل ْ َ‬ ‫قوا الّناَر ال ِّتي أ ُ ِ‬
‫طيُعوا‬
‫ن * وَأ ِ‬‫ري َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫عد ّ ْ‬ ‫ن * َوات ّ ُ‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫ه ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م تُ ْ‬ ‫قوا الل ّ َ‬
‫َوات ّ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬‫ح ُ‬ ‫ل ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م ت ُْر َ‬ ‫سو َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه َوالّر ُ‬
‫تقدم في مقدمة هذا التفسير أن العبد ينبغي له مراعاة الوامر والنواهي ]‬
‫ص ‪ [ 148‬في نفسه وفي غيره‪ ،‬وأن الله تعالى إذا أمره بأمر وجب عليه‬
‫‪-‬أول‪ -‬أن يعرف حده‪ ،‬وما هو الذي أمر به ليتمكن بذلك من امتثاله‪ ،‬فإذا‬
‫عرف ذلك اجتهد‪ ،‬واستعان بالله على امتثاله في نفسه وفي غيره‪ ،‬بحسب‬
‫قدرته وإمكانه‪ ،‬وكذلك إذا نهي عن أمر عرف حده‪ ،‬وما يدخل فيه وما ل‬
‫يدخل‪ ،‬ثم اجتهد واستعان بربه في تركه‪ ،‬وأن هذا ينبغي مراعاته في جميع‬
‫الوامر اللهية والنواهي‪ ،‬وهذه اليات الكريمات قد اشتملت عن أوامر‬
‫وخصال من خصال الخير‪ ،‬أمر الله ]بها[ وحث على فعلها‪ ،‬وأخبر عن جزاء‬
‫أهلها‪ ،‬وعلى نواهي حث على تركها‪.‬‬
‫ولعل الحكمة ‪-‬والله أعلم‪ -‬في إدخال هذه اليات أثناء قصة "أحد" أنه قد‬
‫تقدم أن الله تعالى وعد عباده المؤمنين‪ ،‬أنهم إذا صبروا واتقوا نصرهم‬
‫على أعدائهم‪ ،‬وخذل العداء عنهم‪ ،‬كما في قوله تعالى‪ } :‬وإن تصبروا‬
‫وتتقوا ل يضركم كيدهم شيئا { ‪.‬‬
‫ثم قال‪ } :‬بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم {‬
‫اليات‪.‬‬
‫فكأن النفوس اشتاقت إلى معرفة خصال التقوى‪ ،‬التي يحصل بها النصر‬
‫والفلح والسعادة‪ ،‬فذكر الله في هذه اليات أهم خصال التقوى التي إذا‬
‫قام العبد بها فقيامه بغيرها من باب أولى وأحرى‪ ،‬ويدل على ما قلنا أن‬
‫الله ذكر لفظ "التقوى" في هذه اليات ثلث مرات‪ :‬مرة مطلقة وهي‬
‫قوله‪ } :‬أعدت للمتقين { ومرتين مقيدتين‪ ،‬فقال‪ } :‬واتقوا الله {‬
‫} واتقوا النار { فقوله تعالى‪ } :‬يا أيها الذين آمنوا { كل ما في القرآن‬
‫من قوله تعالى‪ } :‬يا أيها الذين آمنوا { افعلوا كذا‪ ،‬أو اتركوا كذا‪ ،‬يدل‬
‫على أن اليمان هو السبب الداعي والموجب لمتثال ذلك المر‪ ،‬واجتناب‬
‫ذلك النهي؛ لن اليمان هو التصديق الكامل بما يجب التصديق به‪،‬‬
‫المستلزم لعمال الجوارح‪ ،‬فنهاهم عن أكل الربا أضعافا مضاعفة‪ ،‬وذلك‬
‫هو ما اعتاده أهل الجاهلية‪ ،‬ومن ل يبالي بالوامر الشرعية من أنه إذا حل‬
‫الدين‪ ،‬على المعسر ولم يحصل منه شيء‪ ،‬قالوا له‪ :‬إما أن تقضي ما‬
‫عليك من الدين‪ ،‬وإما أن نزيد في المدة‪ ،‬ويزيد ما في ذمتك‪ ،‬فيضطر‬
‫الفقير ويستدفع غريمه ويلتزم ذلك‪ ،‬اغتناما لراحته الحاضرة‪ ، ،‬فيزداد‬
‫‪-‬بذلك‪ -‬ما في ذمته أضعافا مضاعفة‪ ،‬من غير نفع وانتفاع‪.‬‬
‫ففي قوله‪ } :‬أضعاًفا مضاعفة { تنبيه على شدة شناعته بكثرته‪ ،‬وتنبيه‬
‫لحكمة تحريمه‪ ،‬وأن تحريم الربا حكمته أن الله منع منه لما فيه من‬
‫الظلم‪.‬‬
‫وذلك أن الله أوجب إنظار المعسر‪ ،‬وبقاء ما في ذمته من غير زيادة‪،‬‬
‫فإلزامه بما فوق ذلك ظلم متضاعف‪ ،‬فيتعين على المؤمن المتقي تركه‬
‫وعدم قربانه‪ ،‬لن تركه من موجبات التقوى‪.‬‬
‫والفلح متوقف على التقوى‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬واتقوا الله لعلكم تفلحون‬
‫واتقوا النار التي أعدت للكافرين { بترك ما يوجب دخولها‪ ،‬من الكفر‬
‫والمعاصي‪ ،‬على اختلف درجاتها‪ ،‬فإن المعاصي كلها‪ -‬وخصوصا المعاصي‬
‫الكبار‪ -‬تجر إلى الكفر‪ ،‬بل هي من خصال الكفر الذي أعد الله النار لهله‪،‬‬
‫فترك المعاصي ينجي من النار‪ ،‬ويقي من سخط الجبار‪ ،‬وأفعال الخير‬
‫والطاعة توجب رضا الرحمن‪ ،‬ودخول الجنان‪ ،‬وحصول الرحمة‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫} وأطيعوا الله والرسول { بفعل الوامر امتثال واجتناب النواهي } لعلكم‬
‫ترحمون { ‪.‬‬
‫فطاعة الله وطاعة رسوله‪ ،‬من أسباب حصول الرحمة كما قال تعالى‪:‬‬
‫} ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة {‬
‫اليات‪.‬‬

‫) ‪(1/147‬‬

‫ت‬‫عد ّ ْ‬ ‫ض أُ ِ‬ ‫َ‬
‫ت َواْلْر ُ‬ ‫وا ُ‬ ‫م َ‬‫س َ‬‫ضَها ال ّ‬ ‫جن ّةٍ عَْر ُ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫فَرةٍ ِ‬ ‫مغ ْ ِ‬‫عوا إ َِلى َ‬ ‫سارِ ُ‬ ‫وَ َ‬
‫ن ال ْغَي ْ َ‬
‫ظ‬ ‫مي َ‬ ‫كاظ ِ ِ‬ ‫ضّراِء َوال ْ َ‬ ‫سّراِء َوال ّ‬ ‫ن ِفي ال ّ‬ ‫قو َ‬ ‫ف ُ‬‫ن ي ُن ْ ِ‬ ‫ذي َ‬‫ن )‪ (133‬ال ّ ِ‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬‫ل ِل ْ ُ‬
‫ة‬
‫ش ً‬ ‫ح َ‬‫ذا فَعَُلوا َفا ِ‬ ‫ن إِ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن )‪َ (134‬وال ّ ِ‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫س َوالل ّ ُ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫عَ ِ‬ ‫َوال َْعاِفي َ‬
‫ن‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ب إ ِّل الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫فُر الذ ُّنو َ‬ ‫ن ي َغْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫فُروا ل ِذ ُُنوب ِهِ ْ‬ ‫ست َغْ َ‬ ‫ه َفا ْ‬ ‫م ذ َك َُروا الل ّ َ‬ ‫سه ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫موا أن ْ ُ‬ ‫أوْ ظ َل َ ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫فَرةٌ ِ‬ ‫مغ ْ ِ‬‫م َ‬ ‫جَزاؤُهُ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ن )‪ُ (135‬أول َئ ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫م ي َعْل َ ُ‬‫ما فَعَُلوا وَهُ ْ‬ ‫صّروا عََلى َ‬ ‫م يُ ِ‬ ‫وَل َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(136‬‬ ‫مِلي َ‬ ‫جُر ال َْعا ِ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ن ِفيَها وَن ِعْ َ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫حت َِها اْلن َْهاُر َ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٌ‬ ‫م وَ َ‬ ‫َرب ّهِ ْ‬
‫ت‬
‫عد ّ ْ‬ ‫ض أُ ِ‬ ‫ت َوالْر ُ‬ ‫ماَوا ُ‬ ‫س َ‬‫ضَها ال ّ‬ ‫جن ّةٍ عَْر ُ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫فَرةٍ ِ‬ ‫مغ ْ ِ‬ ‫عوا إ َِلى َ‬ ‫سارِ ُ‬ ‫} وَ َ‬
‫ن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن الغَي ْظ َوالَعاِفي َ‬ ‫ْ‬ ‫مي َ‬ ‫كاظ ِ ِ‬ ‫ْ‬
‫ضّراِء َوال َ‬ ‫سّراِء َوال ّ‬ ‫ن ِفي ال ّ‬ ‫قو َ‬‫ف ُ‬ ‫ن ي ُن ْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ن * ال ِ‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬‫ل ِل ْ ُ‬
‫ش ً َ‬
‫موا‬ ‫ة أوْ ظ َل َ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ذا فَعَُلوا َفا ِ‬ ‫ن إِ َ‬‫ذي َ‬ ‫ن * َوال ّ ِ‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫س َوالل ّ ُ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫َعَ ِ‬
‫م‬‫ه وَل َ ْ‬ ‫ب ِإل الل ّ ُ‬ ‫فُر الذ ُّنو َ‬ ‫ن ي َغْ ِ‬ ‫م ْ‬‫م وَ َ‬ ‫فُروا ل ِذ ُُنوب ِهِ ْ‬ ‫ست َغْ َ‬ ‫ه َفا ْ‬ ‫م ذ َك َُروا الل ّ َ‬ ‫سهُ ْ‬‫ف َ‬ ‫أن ْ ُ‬
‫ُ‬
‫ن * أول َئ ِ َ‬
‫م‬
‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫فَرةٌ ِ‬ ‫مغ ْ ِ‬‫م َ‬ ‫جَزاؤُهُ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫مو َ‬ ‫م ي َعْل َ ُ‬ ‫ما فَعَُلوا وَهُ ْ‬ ‫صّروا عََلى َ‬ ‫يُ ِ‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِلي َ‬ ‫جُر ال َْعا ِ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ن ِفيَها وَن ِعْ َ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫حت َِها الن َْهاُر َ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٌ‬ ‫وَ َ‬
‫ثم أمرهم تعالى بالمسارعة إلى مغفرته وإدراك جنته التي عرضها‬
‫السماوات والرض‪ ،‬فكيف بطولها‪ ،‬التي أعدها الله للمتقين‪ ،‬فهم أهلها‬
‫وأعمال التقوى هي الموصلة إليها‪ ،‬ثم وصف المتقين وأعمالهم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫} الذين ينفقون في السراء والضراء { أي‪ :‬في حال عسرهم ويسرهم‪،‬‬
‫إن أيسروا أكثروا من النفقة‪ ،‬وإن أعسروا لم يحتقروا من المعروف شيئا‬
‫ولو قل‪.‬‬
‫} والكاظمين الغيظ { أي‪ :‬إذا حصل لهم من غيرهم أذية توجب غيظهم‬
‫‪-‬وهو امتلء قلوبهم من الحنق‪ ،‬الموجب للنتقام بالقول والفعل‪ ،-‬هؤلء ل‬
‫يعملون بمقتضى الطباع البشرية‪ ،‬بل يكظمون ما في القلوب من الغيظ‪،‬‬
‫ويصبرون عن مقابلة المسيء إليهم‪.‬‬
‫} والعافين عن الناس { يدخل في العفو عن الناس‪ ،‬العفو عن كل من‬
‫أساء إليك بقول أو فعل‪ ،‬والعفو أبلغ من الكظم‪ ،‬لن العفو ترك المؤاخذة‬
‫مع السماحة عن المسيء‪ ،‬وهذا إنما يكون ممن تحلى بالخلق الجميلة‪،‬‬
‫وتخلى عن الخلق الرذيلة‪ ،‬وممن تاجر مع الله‪ ،‬وعفا عن عباد الله رحمة‬
‫بهم‪ ،‬وإحسانا إليهم‪ ،‬وكراهة لحصول الشر عليهم‪ ،‬وليعفو الله عنه‪ ،‬ويكون‬
‫أجره على ربه الكريم‪ ،‬ل على العبد الفقير‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬فمن عفا‬
‫وأصلح فأجره على الله { ‪.‬‬
‫ثم ذكر حالة أعم من غيرها‪ ،‬وأحسن وأعلى وأجل‪ ،‬وهي الحسان‪ ،‬فقال‬
‫]تعالى[‪ } :‬والله يحب المحسنين { والحسان نوعان‪ :‬الحسان في عبادة‬
‫الخالق‪] .‬والحسان إلى المخلوق‪ ،‬فالحسان في عبادة ] ص ‪[ 149‬‬
‫الخالق[‪. (1) .‬‬
‫فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بقوله‪" :‬أن تعبد الله كأنك تراه‪ ،‬فإن‬
‫لم تكن تراه فإنه يراك"‬
‫وأما الحسان إلى المخلوق‪ ،‬فهو إيصال النفع الديني والدنيوي إليهم‪ ،‬ودفع‬
‫الشر الديني والدنيوي عنهم‪ ،‬فيدخل في ذلك أمرهم بالمعروف‪ ،‬ونهيهم‬
‫عن المنكر‪ ،‬وتعليم جاهلهم‪ ،‬ووعظ غافلهم‪ ،‬والنصيحة لعامتهم وخاصتهم‪،‬‬
‫والسعي في جمع كلمتهم‪ ،‬وإيصال الصدقات والنفقات الواجبة والمستحبة‬
‫إليهم‪ ،‬على اختلف أحوالهم وتباين أوصافهم‪ ،‬فيدخل في ذلك بذل الندى‬
‫وكف الذى‪ ،‬واحتمال الذى‪ ،‬كما وصف الله به المتقين في هذه اليات‪،‬‬
‫فمن قام بهذه المور‪ ،‬فقد قام بحق الله وحق عبيده‪.‬‬
‫ثم ذكر اعتذارهم لربهم من جناياتهم وذنوبهم‪ ،‬فقال‪ } :‬والذين إذا فعلوا‬
‫فاحشة أو ظلموا أنفسهم { أي‪ :‬صدر منهم أعمال ]سيئة[ )‪ (2‬كبيرة‪ ،‬أو‬
‫ما دون ذلك‪ ،‬بادروا إلى التوبة والستغفار‪ ،‬وذكروا ربهم‪ ،‬وما توعد به‬
‫العاصين ووعد به المتقين‪ ،‬فسألوه المغفرة لذنوبهم‪ ،‬والستر لعيوبهم‪ ،‬مع‬
‫إقلعهم عنها وندمهم عليها‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬ولم يصروا على ما فعلوا وهم‬
‫يعلمون { ‪.‬‬
‫} أولئك { الموصوفون بتلك الصفات } جزاؤهم مغفرة من ربهم { تزيل‬
‫عنهم كل محذور } وجنات تجري من تحتها النهار { فيها من النعيم‬
‫المقيم‪ ،‬والبهجة والسرور والبهاء‪ ،‬والخير والسرور‪ ،‬والقصور والمنازل‬
‫النيقة العاليات‪ ،‬والشجار المثمرة البهية‪ ،‬والنهار الجاريات في تلك‬
‫المساكن الطيبات‪ } ،‬خالدين فيها { ل يحولون عنها‪ ،‬ول يبغون بها بدل ول‬
‫يغير ما هم فيه من النعيم‪ } ،‬ونعم أجر العاملين { عملوا لله قليل فأجروا‬
‫كثيرا فـ "عند الصباح يحمد القوم السرى" وعند الجزاء يجد العامل أجره‬
‫كامل موفرا‪.‬‬
‫وهذه اليات الكريمات من أدلة أهل السنة والجماعة‪ ،‬على أن العمال‬
‫تدخل في اليمان‪ ،‬خلفا للمرجئة‪ ،‬ووجه الدللة إنما يتم بذكر الية‪ ،‬التي‬
‫في سورة الحديد‪ ،‬نظير هذه اليات‪ ،‬وهي قوله تعالى‪ } :‬سابقوا إلى‬
‫مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والرض أعدت للذين آمنوا‬
‫بالله ورسله { فلم يذكر فيها إل لفظ اليمان به وبرسله‪ ،‬وهنا قال‪:‬‬
‫} أعدت للمتقين { ثم وصف المتقين بهذه العمال المالية والبدنية‪ ،‬فدل‬
‫على أن هؤلء المتقين الموصوفين بهذه الصفات هم أولئك المؤمنون‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬
‫)‪ (2‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫) ‪(1/148‬‬

‫ض َفان ْظ ُُروا ك َي ْ َ‬ ‫َْ‬


‫ة‬
‫عاقِب َ ُ‬
‫ن َ‬ ‫ف َ‬
‫كا َ‬ ‫سيُروا ِفي الْر ِ‬ ‫ن فَ ِ‬ ‫سن َ ٌ‬‫م ُ‬ ‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬
‫م ْ‬
‫ت ِ‬ ‫خل َ ْ‬‫قَد ْ َ‬
‫ن )‪(138‬‬ ‫قي َ‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫عظ َ ٌ‬
‫موْ ِ‬
‫دى وَ َ‬‫س وَهُ ً‬
‫ن ِللّنا ِ‬ ‫ن )‪ (137‬هَ َ‬
‫ذا ب ََيا ٌ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مك َذ ِّبي َ‬

‫ن فَ ِ‬
‫سيُروا ِفي‬ ‫سن َ ٌ‬
‫م ُ‬ ‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ت ِ‬‫خل َ ْ‬
‫ثم قال تعالى‪ } { 138 - 137 } :‬قَد ْ َ‬
‫دى‬‫س وَهُ ً‬‫ن ِللّنا ِ‬ ‫ذا ب ََيا ٌ‬‫ن * هَ َ‬ ‫ة ال ْ ُ‬
‫مك َذ ِّبي َ‬ ‫عاقِب َ ُ‬
‫ن َ‬ ‫ف َ‬
‫كا َ‬ ‫الْرض َفان ْ ُ‬
‫ظروا ك َي ْ َ‬ ‫ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قي َ‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫عظ َ ٌ‬
‫موْ ِ‬
‫وَ َ‬
‫وهذه اليات الكريمات‪ ،‬وما بعدها في قصة "أحد" يعزي تعالى عباده‬
‫المؤمنين ويسليهم‪ ،‬ويخبرهم أنه مضى قبلهم أجيال وأمم كثيرة‪ ،‬امتحنوا‪،‬‬
‫وابتلي المؤمنون منهم بقتال الكافرين‪ ،‬فلم يزالوا في مداولة ومجاولة‪،‬‬
‫حتى جعل الله العاقبة للمتقين‪ ،‬والنصر لعباده المؤمنين‪ ،‬وآخر المر‬
‫حصلت الدولة على المكذبين‪ ،‬وخذلهم الله بنصر رسله وأتباعهم‪.‬‬
‫} فسيروا في الرض { بأبدانكم وقلوبكم } فانظروا كيف كان عاقبة‬
‫المكذبين { فإنكم ل تجدونهم إل معذبين بأنواع العقوبات الدنيوية‪ ،‬قد‬
‫خوت ديارهم‪ ،‬وتبين لكل أحد خسارهم‪ ،‬وذهب عزهم وملكهم‪ ،‬وزال‬
‫بذخهم وفخرهم‪ ،‬أفليس في هذا أعظم دليل‪ ،‬وأكبر شاهد على صدق ما‬
‫جاءت به الرسل؟"‬
‫وحكمة الله التي يمتحن بها عباده‪ ،‬ليبلوهم ويتبين صادقهم من كاذبهم‪،‬‬
‫ولهذا قال تعالى‪ } :‬هذا بيان للناس { أي‪ :‬دللة ظاهرة‪ ،‬تبين للناس الحق‬
‫من الباطل‪ ،‬وأهل السعادة من أهل الشقاوة‪ ،‬وهو الشارة إلى ما أوقع‬
‫الله بالمكذبين‪.‬‬
‫} وهدى وموعظة للمتقين { لنهم هم المنتفعون باليات فتهديهم إلى‬
‫سبيل الرشاد‪ ،‬وتعظهم وتزجرهم عن طريق الغي‪ ،‬وأما باقي الناس فهي‬
‫بيان لهم‪ ،‬تقوم ]به[ عليهم الحجة من الله‪ ،‬ليهلك من هلك عن بينة‪.‬‬
‫ويحتمل أن الشارة في قوله‪ } :‬هذا بيان للناس { للقرآن العظيم‪ ،‬والذكر‬
‫الحكيم‪ ،‬وأنه بيان للناس عموما‪ ،‬وهدى وموعظة للمتقين خصوصا‪ ،‬وكل‬
‫المعنيين حق‪.‬‬

‫) ‪(1/149‬‬

‫َ‬
‫سك ُ ْ‬
‫م‬ ‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن يَ ْ‬‫ن )‪ (139‬إ ِ ْ‬ ‫مِني َ‬‫مؤْ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ن‬‫ن إِ ْ‬ ‫م اْل َعْل َوْ َ‬ ‫حَزُنوا وَأن ْت ُ ُ‬ ‫وََل ت َهُِنوا وََل ت َ ْ‬
‫َ‬
‫م الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫س وَل ِي َعْل َ َ‬‫ن الّنا ِ‬ ‫داوِل َُها ب َي ْ َ‬‫م نُ َ‬‫اْلّيا ُ‬ ‫ك‬ ‫ه وَت ِل ْ َ‬‫مث ْل ُ ُ‬
‫ح ِ‬‫م قَْر ٌ‬ ‫س ال ْ َ‬
‫قوْ َ‬ ‫م ّ‬ ‫قد ْ َ‬‫ح فَ َ‬‫قَْر ٌ‬
‫ب ال ّ‬ ‫َل ي ُ ِ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(140‬‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫داَء َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫م ُ‬
‫شه َ َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫خذ َ ِ‬ ‫مُنوا وَي َت ّ ِ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن*‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ن إِ ْ‬ ‫م العْل َوْ َ‬ ‫حَزُنوا وَأن ْت ُ ُ‬ ‫} ‪َ } { 143 - 139‬ول ت َهُِنوا َول ت َ ْ‬
‫س‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ه وَت ِل َ‬ ‫ُ‬
‫مث ْل ُ‬ ‫م قَْر ٌ‬ ‫س ال ْ َ‬ ‫ح فَ َ‬
‫م قَْر ٌ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫ن الّنا ِ‬
‫داوِلَها ب َي ْ َ‬ ‫م نُ َ‬‫ك الّيا ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫قوْ َ‬ ‫م ّ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫س ْ‬‫م َ‬ ‫ن يَ ْ‬‫إِ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ّ‬
‫ب الظال ِ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ّ‬
‫داَء َوالل ُ‬ ‫م ُ‬
‫شه َ َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫خذ َ ِ‬ ‫مُنوا وَي َت ّ ِ‬‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ه ال ِ‬ ‫ّ‬
‫م الل ُ‬ ‫َ‬
‫وَل ِي َعْل َ‬
‫يقول تعالى مشجعا ] ص ‪ [ 150‬لعباده المؤمنين‪ ،‬ومقويا لعزائمهم‬
‫ومنهضا لهممهم‪ } :‬ول تهنوا ول تحزنوا { أي‪ :‬ول تهنوا وتضعفوا في‬
‫أبدانكم‪ ،‬ول تحزنوا في قلوبكم‪ ،‬عندما أصابتكم المصيبة‪ ،‬وابتليتم بهذه‬
‫البلوى‪ ،‬فإن الحزن في القلوب‪ ،‬والوهن على البدان‪ ،‬زيادة مصيبة عليكم‪،‬‬
‫وعون لعدوكم عليكم‪ ،‬بل شجعوا قلوبكم وصبروها‪ ،‬وادفعوا عنها الحزن‬
‫وتصلبوا على قتال عدوكم‪ ،‬وذكر تعالى أنه ل ينبغي ول يليق بهم الوهن‬
‫والحزن‪ ،‬وهم العلون في اليمان‪ ،‬ورجاء نصر الله وثوابه‪ ،‬فالمؤمن‬
‫المتيقن ما وعده الله من الثواب الدنيوي والخروي ل ينبغي منه ذلك‪،‬‬
‫ولهذا قال ]تعالى[‪ } :‬وأنتم العلون إن كنتم مؤمنين { ‪.‬‬
‫ثم سلهم بما حصل لهم من الهزيمة‪ ،‬وبّين الحكم العظيمة المترتبة على‬
‫ذلك‪ ،‬فقال‪ } :‬إن يمسسكم قرح فقد مس القوم قرح مثله { فأنتم‬
‫وإياهم قد تساويتم في القرح‪ ،‬ولكنكم ترجون من الله ما ل يرجون كما‬
‫قال تعالى‪ } :‬إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله‬
‫ما ل يرجون { ‪.‬‬
‫ومن الحكم في ذلك أن هذه الدار يعطي الله منها المؤمن والكافر‪ ،‬والبر‬
‫والفاجر‪ ،‬فيداول الله اليام بين الناس‪ ،‬يوم لهذه الطائفة‪ ،‬ويوم للطائفة‬
‫الخرى؛ لن هذه الدار الدنيا منقضية فانية‪ ،‬وهذا بخلف الدار الخرة‪ ،‬فإنها‬
‫خالصة للذين آمنوا‪.‬‬
‫} وليعلم الله الذين آمنوا { هذا أيضا من الحكم أنه يبتلي الله عباده‬
‫بالهزيمة والبتلء‪ ،‬ليتبين المؤمن من المنافق؛ لنه لو استمر النصر‬
‫للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في السلم من ل يريده‪ ،‬فإذا حصل في‬
‫بعض الوقائع بعض أنواع البتلء‪ ،‬تبين المؤمن حقيقة الذي يرغب في‬
‫السلم‪ ،‬في الضراء والسراء‪ ،‬واليسر والعسر‪ ،‬ممن ليس كذلك‪.‬‬
‫} ويتخذ منكم شهداء { وهذا أيضا من بعض الحكم‪ ،‬لن الشهادة عند الله‬
‫من أرفع المنازل‪ ،‬ول سبيل لنيلها إل بما يحصل من وجود أسبابها‪ ،‬فهذا‬
‫من رحمته بعباده المؤمنين‪ ،‬أن قّيض لهم من السباب ما تكرهه النفوس‪،‬‬
‫لينيلهم ما يحبون من المنازل العالية والنعيم المقيم‪ } ،‬والله ل يحب‬
‫الظالمين { الذين ظلموا أنفسهم‪ ،‬وتقاعدوا عن القتال في سبيله‪ ،‬وكأن‬
‫في هذا تعريضا بذم المنافقين‪ ،‬وأنهم مبغضون لله‪ ،‬ولهذا ثبطهم عن‬
‫القتال في سبيله‪.‬‬
‫} ولو أرادوا الخروج لعدوا له عدة ولكن كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل‬
‫اقعدوا مع القاعدين { ‪.‬‬

‫) ‪(1/149‬‬

‫خُلوا‬ ‫كافرين )‪ (141‬أ َم حسبت َ‬ ‫ذي َ‬


‫ن ت َد ْ ُ‬
‫مأ ْ‬‫ْ َ ِ ُْ ْ‬ ‫حقَ ال ْ َ ِ ِ َ‬ ‫م َ‬
‫مُنوا وَي َ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ه ال ّ ِ َ‬ ‫ص الل ّ ُ‬‫ح َ‬ ‫م ّ‬‫وَل ِي ُ َ‬
‫قد ْ ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن )‪ (142‬وَل َ َ‬ ‫ري َ‬‫صاب ِ ِ‬‫م ال ّ‬ ‫م وَي َعْل َ َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫دوا ِ‬ ‫جاهَ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫ما ي َعْل َم ِ الل ّ ُ‬‫ة وَل َ ّ‬ ‫ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(143‬‬ ‫م ت َن ْظ ُُرو َ‬‫موهُ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫قد ْ َرأي ْت ُ ُ‬‫قوْهُ فَ َ‬‫ن ت َل ْ َ‬‫لأ ْ‬ ‫ن قَب ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫موْ َ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫من ّوْ َ‬ ‫تَ َ‬
‫كافرين * أ َم حسبت َ‬
‫ة‬ ‫خُلوا ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫ن ت َد ْ ُ‬‫مأ ْ‬ ‫ْ َ ِ ُْ ْ‬ ‫حق َ ال ْ َ ِ ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫مُنوا وَي َ ْ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫ص الل ّ ُ‬‫ح َ‬ ‫م ّ‬‫} وَل ِي ُ َ‬
‫ن‬
‫من ّوْ َ‬‫م تَ َ‬‫قد ْ ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن * وَل َ‬
‫ري َ‬ ‫صاب ِ ِ‬‫م ال ّ‬ ‫َ‬
‫م وَي َعْل َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫دوا ِ‬ ‫جاهَ ُ‬
‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ه ال ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ما ي َعْلم ِ الل ُ‬ ‫وَل َ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ال ْموت من قَب َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫م ت َن ْظ ُُرو َ‬‫موهُ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫قد ْ َرأي ْت ُ ُ‬ ‫قوْهُ فَ َ‬‫ن ت َل ْ َ‬‫لأ ْ‬ ‫َ ْ َ ِ ْ ْ ِ‬
‫} وليمحص الله الذين آمنوا { وهذا أيضا من الحكم أن الله يمحص بذلك‬
‫المؤمنين من ذنوبهم وعيوبهم‪ ،‬يدل ذلك على أن الشهادة والقتال في‬
‫سبيل الله يكفر الذنوب‪ ،‬ويزيل العيوب‪ ،‬وليمحص الله أيضا المؤمنين من‬
‫غيرهم من المنافقين‪ ،‬فيتخلصون منهم‪ ،‬ويعرفون المؤمن من المنافق‪،‬‬
‫ومن الحكم أيضا أنه يقدر ذلك‪ ،‬ليمحق الكافرين‪ ،‬أي‪ :‬ليكون سببا لمحقهم‬
‫واستئصالهم بالعقوبة‪ ،‬فإنهم إذا انتصروا‪ ،‬بغوا‪ ،‬وازدادوا طغيانا إلى‬
‫طغيانهم‪ ،‬يستحقون به المعاجلة بالعقوبة‪ ،‬رحمة بعباده المؤمنين‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪ } :‬أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا‬
‫منكم ويعلم الصابرين { هذا استفهام إنكاري‪ ،‬أي‪ :‬ل تظنوا‪ ،‬ول يخطر‬
‫ببالكم أن تدخلوا الجنة من دون مشقة واحتمال المكاره في سبيل الله‬
‫وابتغاء مرضاته‪ ،‬فإن الجنة أعلى المطالب‪ ،‬وأفضل ما به يتنافس‬
‫المتنافسون‪ ،‬وكلما عظم المطلوب عظمت وسيلته‪ ،‬والعمل الموصل إليه‪،‬‬
‫فل يوصل إلى الراحة إل بترك الراحة‪ ،‬ول يدرك النعيم إل بترك النعيم‪،‬‬
‫ولكن مكاره الدنيا التي تصيب العبد في سبيل الله عند توطين النفس لها‪،‬‬
‫وتمرينها عليها ومعرفة ما تئول إليه‪ ،‬تنقلب عند أرباب البصائر منحا‬
‫يسرون بها‪ ،‬ول يبالون بها‪ ،‬وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء‪.‬‬
‫ثم وبخهم تعالى على عدم صبرهم بأمر كانوا يتمنونه ويودون حصوله‪،‬‬
‫فقال‪ } :‬ولقد كنتم تمنون الموت من قبل أن تلقوه { وذلك أن كثيرا من‬
‫الصحابة رضي الله عنهم ممن فاته بدر يتمنون أن يحضرهم الله مشهدا‬
‫يبذلون فيه جهدهم‪ ،‬قال الله ]تعالى[ لهم‪ } :‬فقد رأيتموه { أي‪ :‬رأيتم ما‬
‫تمنيتم بأعينكم } وأنتم تنظرون { فما بالكم وترك الصبر؟ هذه حالة ل‬
‫تليق ول تحسن‪ ،‬خصوصا لمن تمنى ذلك‪ ،‬وحصل له ما تمنى‪ ،‬فإن الواجب‬
‫عليه بذل الجهد‪ ،‬واستفراغ الوسع في ذلك‪.‬‬
‫وفي هذه الية دليل على أنه ل يكره تمني الشهادة‪ ،‬ووجه الدللة أن الله‬
‫تعالى أقرهم على أمنيتهم‪ ،‬ولم ينكر عليهم‪ ،‬وإنما أنكر عليهم عدم العمل‬
‫بمقتضاها‪ ،‬والله أعلم‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪:‬‬

‫) ‪(1/150‬‬

‫م‬‫قل َب ْت ُ ْ‬
‫ل ان ْ َ‬ ‫ت أ َوْ قُت ِ َ‬‫ما َ‬ ‫ن َ‬
‫خل َت من قَبل ِه الرس ُ َ‬
‫ل أفَإ ِ ْ‬ ‫ل قَد ْ َ ْ ِ ْ ْ ِ ّ ُ‬ ‫سو ٌ‬ ‫مد ٌ إ ِّل َر ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫م َ‬ ‫ما ُ‬ ‫وَ َ‬
‫هّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫زي الل ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫سي َ ْ‬‫شي ًْئا وَ َ‬ ‫ه َ‬‫ضّر الل َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫قب َي ْهِ فَل ْ‬ ‫ب عَلى عَ ِ‬ ‫قل ِ ْ‬
‫ن ي َن ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫قاب ِك ْ‬‫عَلى أعْ َ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ما َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫جل وَ َ‬ ‫مؤَ ّ‬ ‫ن اللهِ ك َِتاًبا ُ‬ ‫ت إ ِل ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ن تَ ُ‬‫سأ ْ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ن ل ِن َ ْ‬
‫كا َ‬ ‫ن )‪ (144‬وَ َ‬ ‫ري َ‬ ‫شاك ِ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫زي‬ ‫ج ِ‬ ‫سن َ ْ‬‫من َْها وَ َ‬ ‫خَرةِ ن ُؤْت ِهِ ِ‬ ‫ب ال ِ‬ ‫وا َ‬ ‫ن ي ُرِد ْ ث َ َ‬
‫م ْ‬ ‫من َْها وَ َ‬‫ب الد ّن َْيا ن ُؤْت ِهِ ِ‬ ‫وا َ‬ ‫ي ُرِد ْ ث َ َ‬
‫ن )‪(145‬‬ ‫ري َ‬ ‫شاك ِ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫خل َت من قَبل ِه الرس ُ َ‬
‫ل أفَإ ِ ْ‬
‫ن‬ ‫ل قَد ْ َ ْ ِ ْ ْ ِ ّ ُ‬ ‫سو ٌ‬ ‫مد ٌ ِإل َر ُ‬ ‫ح ّ‬
‫م َ‬ ‫ما ُ‬ ‫} ‪ } { 145 - 144‬وَ َ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت أ َوْ قُت ِ َ‬
‫ضّر الل َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫قب َي ْهِ فَل ْ‬
‫ب عَلى عَ ِ‬ ‫قل ِ ْ‬‫ن ي َن ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ُ‬
‫قاب ِك ْ‬‫م عَلى أعْ َ‬ ‫قل َب ْت ُ ْ‬‫ل ان ْ َ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن اللهِ ك َِتاًبا‬ ‫ت ِإل ب ِإ ِذ ْ ِ‬
‫مو َ‬ ‫ن تَ ُ‬‫سأ ْ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ن ل ِن َ ْ‬ ‫ما كا َ‬ ‫ن * وَ َ‬ ‫ري َ‬ ‫شاك ِ ِ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫زي الل ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫سي َ ْ‬‫شي ًْئا وَ َ‬ ‫َ‬
‫خَرةِ ن ُؤْت ِهِ ِ‬
‫من َْها‬ ‫ب ال ِ‬ ‫وا َ‬ ‫ن ي ُرِد ْ ث َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫من َْها وَ َ‬ ‫ب الد ّن َْيا ن ُؤْت ِهِ ِ‬ ‫وا َ‬ ‫ن ي ُرِد ْ ث َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫جل وَ َ‬ ‫مؤَ ّ‬ ‫ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ِ َ‬ ‫ري‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫شا‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫زي‬ ‫ِ‬ ‫ج‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫س‬‫وَ َ‬
‫يقول تعالى‪ } :‬وما محمد إل رسول قد خلت من قبله الرسل { أي‪ :‬ليس‬
‫ببدع من الرسل‪ ،‬بل هو من جنس الرسل الذين قبله‪ ،‬وظيفتهم تبليغ‬
‫رسالت ربهم وتنفيذ أوامره‪ ،‬ليسوا بمخلدين‪ ،‬وليس بقاؤهم شرطا في‬
‫امتثال أوامر الله‪ ،‬بل الواجب على المم عبادة ربهم في كل وقت وبكل‬
‫حال‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم { بترك ما‬
‫جاءكم من إيمان أو جهاد‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬
‫قال ]الله[ تعالى‪ } :‬ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا { إنما‬
‫يضر نفسه‪ ،‬وإل فالله تعالى غني عنه‪ ،‬وسيقيم دينه‪ ،‬ويعز عباده المؤمنين‪،‬‬
‫فلما وبخ تعالى من انقلب على عقبيه‪ ،‬مدح من ثبت مع رسوله‪ ،‬وامتثل‬
‫أمر ربه‪ ،‬فقال‪ } :‬وسيجزي الله الشاكرين { ] ص ‪ [ 151‬والشكر ل يكون‬
‫إل بالقيام بعبودية الله تعالى في كل حال‪.‬‬
‫وفي هذه الية الكريمة إرشاد من الله تعالى لعباده أن يكونوا بحالة ل‬
‫يزعزعهم عن إيمانهم أو عن بعض لوازمه‪ ،‬فقد ُ رئيس ولو عظم‪ ،‬وما ذاك‬
‫إل بالستعداد في كل أمر من أمور الدين بعدة أناس من أهل الكفاءة فيه‪،‬‬
‫إذا فقد أحدهم قام به غيره‪ ،‬وأن يكون عموم المؤمنين قصدهم إقامة دين‬
‫الله‪ ،‬والجهاد عنه‪ ،‬بحسب المكان‪ ،‬ل يكون لهم قصد في رئيس دون‬
‫رئيس‪ ،‬فبهذه الحال يستتب لهم أمرهم‪ ،‬وتستقيم أمورهم‪.‬‬
‫وفي هذه الية أيضا أعظم دليل على فضيلة الصديق الكبر أبي بكر‪،‬‬
‫وأصحابه الذين قاتلوا المرتدين بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم لنهم‬
‫هم سادات الشاكرين‪.‬‬
‫ثم أخبر تعالى أن النفوس جميعها متعلقة بآجالها بإذن الله وقدره وقضائه‪،‬‬
‫فمن حّتم عليه بالقدر أن يموت‪ ،‬مات ولو بغير سبب‪ ،‬ومن أراد بقاءه‪ ،‬فلو‬
‫أتى )‪ (1‬من السباب كل سبب‪ ،‬لم يضره ذلك قبل بلوغ أجله‪ ،‬وذلك أن‬
‫الله قضاه وقدره وكتبه إلى أجل مسمى‪ } :‬إذا جاء أجلهم فل يستأخرون‬
‫ساعة ول يستقدمون { ‪.‬‬
‫ثم أخبر تعالى أنه يعطي الناس من ثواب الدنيا والخرة ما تعلقت به‬
‫إراداتهم‪ ،‬فقال‪ } :‬ومن يرد ثواب الدنيا نؤته منها ومن يرد ثواب الخرة‬
‫نؤته منها { ‪.‬‬
‫قال الله تعالى‪ } :‬كل نمد ّ هؤلء وهؤلء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك‬
‫محظورا انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض وللخرة أكبر درجات وأكبر‬
‫تفضيل { ‪.‬‬
‫} وسنجزي الشاكرين { ولم يذكر جزاءهم ليدل ذلك على كثرته وعظمته‪،‬‬
‫وليعلم أن الجزاء على قدر الشكر‪ ،‬قلة وكثرة وحسنا‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬فلو وقع‪.‬‬

‫) ‪(1/150‬‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫ل الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫سِبي ِ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫صاب َهُ ْ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ما وَهَُنوا ل ِ َ‬ ‫ن ك َِثيٌر فَ َ‬ ‫ه رِب ّّيو َ‬ ‫معَ ُ‬ ‫ل َ‬ ‫ي َقات َ َ‬ ‫ن ن َب ِ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫وَك َأي ّ ْ‬
‫م إ ِّل‬ ‫ن قَوْل َهُ ْ‬ ‫كا َ‬‫ما َ‬ ‫ن )‪ (146‬وَ َ‬ ‫ري َ‬ ‫صاب ِ َ ِ‬‫ب ال ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫كاُنوا َوالل ّ ُ‬ ‫ست َ َ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫فوا وَ َ‬ ‫ضعُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫وَ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫صْرَنا عَلى‬ ‫مَنا َوان ْ ُ‬ ‫دا َ‬ ‫ت أق َ‬ ‫مرَِنا وَثب ّ ْ‬ ‫سَرافَنا ِفي أ ْ‬ ‫فْر لَنا ذ ُُنوب ََنا وَإ ِ ْ‬ ‫ن قالوا َرب َّنا اغ ِ‬ ‫أ ْ‬
‫ب اْل َ ِ‬ ‫َ‬
‫خَرةِ َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫وا ِ‬ ‫ن ثَ َ‬ ‫س َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ب الد ّن َْيا وَ ُ‬ ‫وا َ‬ ‫ه ثَ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ن )‪ (147‬فَآَتاهُ ُ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫قوْم ِ ال ْ َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن )‪(148‬‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫يُ ِ‬
‫َ‬
‫ما‬
‫ما وَهَُنوا ل ِ َ‬ ‫ن ك َِثيٌر فَ َ‬ ‫ه رِب ّّيو َ‬ ‫معَ ُ‬ ‫ل َ‬ ‫ي َقات َ َ‬ ‫ن ن َب ِ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫} ‪ } { 148 - 146‬وَك َأي ّ ْ‬
‫َ‬
‫ما‬‫ن * وَ َ‬ ‫ري َ‬ ‫ِ‬ ‫صاب ِ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫كاُنوا َوالل ّ ُ‬ ‫ست َ َ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫فوا وَ َ‬ ‫ضعُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ل الل ّهِ وَ َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫صاب َهُ ْ‬ ‫أ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مَنا‬
‫دا َ‬ ‫ت أق ْ َ‬ ‫مرَِنا وَث َب ّ ْ‬ ‫سَرافََنا ِفي أ ْ‬ ‫فْر ل ََنا ذ ُُنوب ََنا وَإ ِ ْ‬ ‫ن َقاُلوا َرب َّنا اغْ ِ‬ ‫م ِإل أ ْ‬ ‫ن قَوْل َهُ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫ب‬
‫وا ِ‬ ‫ن ثَ َ‬ ‫س َ‬‫ح ْ‬ ‫ب الد ّن َْيا وَ ُ‬ ‫وا َ‬ ‫ه ثَ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ن * َفآَتاهُ ُ‬ ‫ري َ‬‫كافِ ِ‬ ‫قوْم ِ ال ْ َ‬ ‫صْرَنا عََلى ال ْ َ‬ ‫َوان ْ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ب ال ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ّ‬
‫خَرةِ َوالل ُ‬ ‫ال ِ‬
‫هذا تسلية للمؤمنين‪ ،‬وحث على القتداء بهم‪ ،‬والفعل كفعلهم‪ ،‬وأن هذا‬
‫أمر قد كان متقدما‪ ،‬لم تزل سنة الله جارية بذلك‪ ،‬فقال‪ } :‬وكأين من نبي‬
‫{ أي‪ :‬وكم من نبي } قاتل معه ربيون كثير { أي‪ :‬جماعات كثيرون من‬
‫أتباعهم‪ ،‬الذين قد ربتهم النبياء باليمان والعمال الصالحة‪ ،‬فأصابهم قتل‬
‫وجراح وغير ذلك‪.‬‬
‫} فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا { أي‪ :‬ما‬
‫ضعفت قلوبهم‪ ،‬ول وهنت أبدانهم‪ ،‬ول استكانوا‪ ،‬أي‪ :‬ذلوا لعدوهم‪ ،‬بل‬
‫صبروا وثبتوا‪ ،‬وشجعوا أنفسهم‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬والله يحب الصابرين { ‪.‬‬
‫ثم ذكر قولهم واستنصارهم لربهم‪ ،‬فقال‪ } :‬وما كان قولهم { أي‪ :‬في تلك‬
‫المواطن الصعبة } إل أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا {‬
‫والسراف‪ :‬هو مجاوزة الحد إلى ما حرم‪ ،‬علموا أن الذنوب والسراف من‬
‫أعظم أسباب الخذلن‪ ،‬وأن التخلي منها من أسباب النصر‪ ،‬فسألوا ربهم‬
‫مغفرتها‪.‬‬
‫ثم إنهم لم يتكلوا على ما بذلوا جهدهم به من الصبر‪ ،‬بل اعتمدوا على‬
‫الله‪ ،‬وسألوه أن يثبت أقدامهم عند ملقاة العداء الكافرين‪ ،‬وأن ينصرهم‬
‫عليهم‪ ،‬فجمعوا بين الصبر وترك ضده‪ ،‬والتوبة والستغفار‪ ،‬والستنصار‬
‫بربهم‪ ،‬ل جرم أن الله نصرهم‪ ،‬وجعل لهم العاقبة في الدنيا والخرة‪ ،‬ولهذا‬
‫حسن‬ ‫قال‪ } :‬فآتاهم الله ثواب الدنيا { من النصر والظفر والغنيمة‪ } ،‬و ُ‬
‫ثواب الخرة { وهو الفوز برضا ربهم‪ ،‬والنعيم المقيم الذي قد سلم من‬
‫جميع المنكدات‪ ،‬وما ذاك إل أنهم أحسنوا له العمال‪ ،‬فجازاهم بأحسن‬
‫الجزاء‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬والله يحب المحسنين { في عبادة الخالق ومعاملة‬
‫الخلق‪ ،‬ومن الحسان أن يفعل عند جهاد العداء‪ ،‬كفعل هؤلء الموصوفين‬
‫)‪ (1‬ثم قال تعالى‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪" :‬المؤمنين"‪.‬‬

‫) ‪(1/151‬‬

‫م فَت َن ْ َ‬
‫قل ُِبوا‬ ‫م عََلى أ َعْ َ‬
‫قاب ِك ُ ْ‬ ‫دوك ُ ْ‬ ‫ن كَ َ‬
‫فُروا ي َُر ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫طيُعوا ال ّ ِ‬ ‫ن تُ ِ‬ ‫مُنوا إ ِ ْ‬ ‫ذي َ‬
‫نآ َ‬
‫َ‬
‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫قي ِفي‬ ‫سن ُل ْ ِ‬
‫ن )‪َ (150‬‬ ‫ري َ‬ ‫ص ِ‬‫خي ُْر الّنا ِ‬‫م وَهُوَ َ‬ ‫موَْلك ُ ْ‬‫ه َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ن )‪ (149‬ب َ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫س ِ‬‫خا ِ‬ ‫َ‬
‫سل ْ َ‬ ‫َ‬
‫طاًنا‬ ‫ل ب ِهِ ُ‬ ‫م ي ُن َّز ْ‬‫ما ل َ ْ‬‫كوا ِبالل ّهِ َ‬ ‫شَر ُ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫ب بِ َ‬‫فُروا الّرعْ َ‬ ‫ن كَ َ‬
‫ذي َ‬‫ب ال ّ ِ‬ ‫قُُلو ْ ِ‬
‫ن )‪(151‬‬ ‫مي َ‬‫ظال ِ ِ‬ ‫وى ال ّ‬ ‫مث ْ َ‬‫س َ‬ ‫م الّناُر وَب ِئ ْ َ‬ ‫مأَواهُ ُ‬ ‫وَ َ‬
‫م عََلى‬ ‫َ‬
‫دوك ُ ْ‬ ‫فُروا ي َُر ّ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬‫طيُعوا ال ّ ِ‬ ‫ن تُ ِ‬ ‫مُنوا إ ِ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 151 - 149‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫قي‬ ‫سن ُل ْ ِ‬
‫ن* َ‬ ‫ري َ‬
‫ص ِ‬‫خي ُْر الّنا ِ‬ ‫م وَهُوَ َ‬ ‫ولك ُ ْ‬ ‫م ْ‬
‫ه َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ن * بَ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫ِ‬ ‫س‬
‫خا ِ‬ ‫قل ُِبوا َ‬‫م فَت َن ْ َ‬ ‫أ َعْ َ‬
‫قاب ِك ُ ْ‬
‫طاًنا‬ ‫سل ْ َ‬‫ل ب ِهِ ُ‬ ‫م ي ُن َّز ْ‬‫ما ل َ ْ‬‫كوا ِبالل ّهِ َ‬ ‫شَر ُ‬ ‫ما أ َ ْ‬ ‫ب بِ َ‬ ‫فُروا الّرعْ َ‬ ‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬‫ب ال ّ ِ‬ ‫ِفي ْ قُُلو ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬‫وى ال ّ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫س َ‬‫م الّناُر وَب ِئ ْ َ‬ ‫مأَواهُ ُ‬ ‫وَ َ‬
‫وهذا نهي من الله للمؤمنين أن يطيعوا الكافرين من المنافقين‬
‫والمشركين‪ ،‬فإنهم إن أطاعوهم لم يريدوا لهم إل الشر‪ ،‬وهم ]قصدهم[ )‬
‫‪ (1‬ردهم إلى الكفر الذي عاقبته الخيبة والخسران‪.‬‬
‫ثم أخبر أنه مولهم وناصرهم‪ ،‬ففيه إخبار لهم بذلك‪ ،‬وبشارة بأنه سيتولى‬
‫أمورهم بلطفه‪ ،‬ويعصمهم من أنواع الشرور‪.‬‬
‫وفي ضمن ذلك الحث لهم على اتخاذه وحده وليا وناصرا من دون كل‬
‫أحد‪ ،‬فمن وليته ونصره لهم أنه وعدهم أنه سيلقي في قلوب أعدائهم من‬
‫الكافرين الرعب‪ ،‬وهو الخوف العظيم الذي يمنعهم من كثير من‬
‫مقاصدهم‪ ،‬وقد فعل تعالى‪.‬‬
‫وذلك أن المشركين ‪-‬بعدما انصرفوا من وقعة "أحد" ‪ -‬تشاوروا بينهم‪،‬‬
‫وقالوا‪ :‬كيف ننصرف‪ ،‬بعد أن قتلنا منهم من قتلنا‪ ،‬وهزمناهم ولما‬
‫نستأصلهم؟ فهموا بذلك‪ ،‬فألقى الله الرعب في قلوبهم‪ ،‬فانصرفوا خائبين‪،‬‬
‫ول شك أن هذا من أعظم النصر‪ ،‬لنه قد تقدم أن نصر الله لعباده‬
‫المؤمنين ل يخرج عن أحد أمرين‪ :‬إما أن يقطع ] ص ‪ [ 152‬طرفا من‬
‫الذين كفروا‪ ،‬أو يكبتهم فينقلبوا خائبين‪ ،‬وهذا من الثاني‪.‬‬
‫ثم ذكر السبب الموجب للقاء الرعب في قلوب الكافرين‪ ،‬فقال‪ } :‬بما‬
‫أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا { أي‪ :‬ذلك بسبب ما اتخذوا من دونه‬
‫من النداد والصنام‪ ،‬التي اتخذوها على حسب أهوائهم وإرادتهم الفاسدة‪،‬‬
‫من غير حجة ول برهان‪ ،‬وانقطعوا من ولية الواحد الرحمن‪ ،‬فمن ثم كان‬
‫المشرك مرعوبا من المؤمنين‪ ،‬ل يعتمد على ركن وثيق‪ ،‬وليس له ملجأ‬
‫عند كل شدة وضيق‪ ،‬هذا حاله في الدنيا‪ ،‬وأما في الخرة فأشد وأعظم‪،‬‬
‫ولهذا قال‪ } :‬ومأواهم النار { أي‪ :‬مستقرهم الذي يأوون إليه وليس لهم‬
‫عنها خروج‪ } ،‬وبئس مثوى الظالمين { بسبب ظلمهم وعدوانهم صارت‬
‫النار مثواهم‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫) ‪(1/151‬‬

‫م ِفي‬ ‫م وَت ََناَزعْت ُ ْ‬ ‫شل ْت ُ ْ‬


‫ذا فَ ِ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫م ب ِإ ِذ ْن ِهِ َ‬ ‫سون َهُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه وَعْد َهُ إ ِذ ْ ت َ ُ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫صد َقَك ُ ُ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫وَل َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ريد ُ الد ّن َْيا وَ ِ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫حّبو َ‬ ‫ما ت ُ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ما أَراك ُ ْ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫صي ْت ُ ْ‬
‫مرِ وَعَ َ‬ ‫اْل ْ‬
‫ل عََلى‬‫ض ٍ‬ ‫ذو فَ ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬ ‫فا عَن ْك ُ ْ‬ ‫قد ْ عَ َ‬‫م وَل َ َ‬ ‫م ل ِي َب ْت َل ِي َك ُ ْ‬‫م عَن ْهُ ْ‬ ‫صَرفَك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫خَرةَ ث ُ ّ‬ ‫ريد ُ اْل َ ِ‬ ‫يُ ِ‬
‫ن )‪(152‬‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬

‫شل ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ذا فَ ِ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫م ب ِإ ِذ ْن ِهِ َ‬ ‫سون َهُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه وَعْد َهُ إ ِذ ْ ت َ ُ‬‫م الل ّ ُ‬‫صد َقَك ُ ُ‬
‫قد ْ َ‬ ‫} ‪ } { 152‬وَل َ َ‬
‫َ‬
‫ريد ُ‬ ‫ن يُ ِ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ن ِ‬‫حّبو َ‬ ‫ما ت ُ ِ‬‫م َ‬ ‫ما أَراك ُ ْ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬‫صي ْت ُ ْ‬
‫مرِ وَعَ َ‬ ‫م ِفي ال ْ‬ ‫وَت ََناَزعْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫فا عَن ْك ْ‬ ‫قد ْ عَ َ‬ ‫َ‬
‫م وَل َ‬ ‫ُ‬
‫م ل ِي َب ْت َل ِي َك ْ‬‫م عَن ْهُ ْ‬ ‫ُ‬
‫صَرفَك ْ‬ ‫م َ‬ ‫خَرةَ ث ُ ّ‬ ‫ريد ُ ال ِ‬
‫ن يُ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫من ْك ْ‬‫الد ّن َْيا وَ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِني َ‬‫مؤْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ل عَلى ال ُ‬ ‫ذو فَ ْ‬
‫ض ٍ‬ ‫ه ُ‬‫َوالل ّ ُ‬
‫أي‪ } :‬ولقد صدقكم الله وعده { بالنصر‪ ،‬فنصركم عليهم‪ ،‬حتى ولوكم‬
‫أكتافهم‪ ،‬وطفقتم فيهم قتل حتى صرتم سببا لنفسكم‪ ،‬وعونا لعدائكم‬
‫عليكم‪ ،‬فلما حصل منكم الفشل وهو الضعف والخور } وتنازعتم في المر‬
‫{ الذي فيه ترك أمر الله بالئتلف وعدم الختلف‪ ،‬فاختلفتم‪ ،‬فمن قائل‬
‫نقيم في مركزنا الذي جعلنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ومن قائل‪:‬‬
‫ما مقامنا فيه وقد انهزم العدو‪ ،‬ولم يبق محذور‪ ،‬فعصيتم الرسول‪ ،‬وتركتم‬
‫أمره من بعد ما أراكم الله ما تحبون وهو انخذال أعدائكم؛ لن الواجب‬
‫على من أنعم الله عليه بما أحب‪ ،‬أعظم من غيره‪.‬‬
‫صا‪ ،‬وفي غيرها عموما‪ ،‬امتثال أمر الله‬ ‫فالواجب في هذه الحال خصو ً‬
‫ورسوله‪.‬‬
‫} منكم من يريد الدنيا { وهم الذين أوجب لهم ذلك ما أوجب‪ } ،‬ومنكم‬
‫من يريد الخرة { وهم الذين لزموا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم‬
‫وثبتوا حيث أمروا‪.‬‬
‫} ثم صرفكم عنهم { أي‪ :‬بعدما وجدت هذه المور منكم‪ ،‬صرف الله‬
‫وجوهكم عنهم‪ ،‬فصار الوجه لعدوكم‪ ،‬ابتلء من الله لكم وامتحانا‪ ،‬ليتبين‬
‫المؤمن من الكافر‪ ،‬والطائع من العاصي‪ ،‬وليكفر الله عنكم بهذه المصيبة‬
‫ما صدر منكم‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬ولقد عفا عنكم والله ذو فضل على المؤمنين‬
‫ن عليهم بالسلم‪ ،‬وهداهم لشرائعه‪،‬‬ ‫{ أي‪ :‬ذو فضل عظيم عليهم‪ ،‬حيث م ّ‬
‫وعفا عنهم سيئاتهم‪ ،‬وأثابهم على مصيباتهم‪.‬‬
‫در عليهم خيرا ول مصيبة‪ ،‬إل كان خيرا‬ ‫ومن فضله على المؤمنين أنه ل يق ّ‬
‫لهم‪ .‬إن أصابتهم سراء فشكروا جازاهم جزاء الشاكرين‪ ،‬وإن أصابتهم‬
‫ضراء فصبروا‪ ،‬جازاهم جزاء الصابرين‪.‬‬

‫) ‪(1/152‬‬

‫َ‬
‫ما‬ ‫م فَأَثاب َك ُ ْ‬
‫م غَ ّ‬ ‫خَراك ُ ْ‬ ‫م ِفي أ ُ ْ‬ ‫عوك ُ ْ‬
‫ل ي َد ْ ُ‬‫سو ُ‬ ‫حدٍ َوالّر ُ‬
‫َ‬
‫ن عََلى أ َ‬ ‫وو َ‬‫ن وََل ت َل ْ ُ‬‫دو َ‬ ‫صع ِ ُ‬ ‫إ ِذ ْ ت ُ ْ‬
‫َ‬
‫ن)‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫خِبيٌر ب ِ َ‬‫ه َ‬‫م َوالل ّ ُ‬‫صاب َك ُ ْ‬‫ما أ َ‬‫م وََل َ‬ ‫حَزُنوا عََلى َ‬
‫ما َفات َك ُ ْ‬ ‫م ل ِك َي َْل ت َ ْ‬
‫ب ِغَ ّ‬
‫‪(153‬‬
‫َ‬
‫م ِفي‬ ‫عوك ُ ْ‬‫ل ي َد ْ ُ‬ ‫سو ُ‬‫حدٍ َوالّر ُ‬ ‫ن عََلى أ َ‬ ‫وو َ‬‫ن َول ت َل ْ ُ‬ ‫دو َ‬ ‫صع ِ ُ‬ ‫} ‪ } { 154َ - 153‬إ ِذ ْ ت ُ ْ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أُ ْ‬
‫م َوالل ُ‬ ‫صاب َك ُ ْ‬
‫ما أ َ‬ ‫م َول َ‬ ‫ما َفات َك ُ ْ‬
‫حَزُنوا عَلى َ‬ ‫م ل ِك َْيل ت َ ْ‬
‫ما ب ِغَ ّ‬ ‫م غَ ّ‬‫م فَأَثاب َك ُ ْ‬‫خَراك ُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬
‫خِبيٌر ب ِ َ‬‫َ‬
‫يذكرهم تعالى حالهم في وقت انهزامهم عن القتال‪ ،‬ويعاتبهم على ذلك‪،‬‬
‫فقال‪ } :‬إذ تصعدون { أي‪ :‬تجدون في الهرب } ول تلوون على أحد { أي‪:‬‬
‫ل يلوي أحد منكم على أحد‪ ،‬ول ينظر إليه‪ ،‬بل ليس لكم هم إل الفرار‬
‫والنجاء عن القتال‪.‬‬
‫والحال أنه ليس عليكم خطر كبير‪ ،‬إذ لستم آخر الناس مما يلي العداء‪،‬‬
‫ويباشر الهيجاء‪ ،‬بل } الرسول يدعوكم في أخراكم { أي‪ :‬مما يلي القوم‬
‫ي عباد الله" فلم تلتفتوا إليه‪ ،‬ول عرجتم عليه‪ ،‬فالفرار نفسه‬ ‫يقول‪" :‬إل ّ‬
‫ما‬ ‫َ‬
‫موجب للوم‪ ،‬ودعوة الرسول الموجبة لتقديمه على النفس‪ ،‬أعظم لوْ ً‬
‫بتخلفكم عنها‪ } ،‬فأثابكم { أي‪ :‬جازاكم على فعلكم } غما بغم { أي‪ :‬غما‬
‫يتبع غما‪ ،‬غم بفوات النصر وفوات الغنيمة‪ ،‬وغم بانهزامكم‪ ،‬وغم أنساكم‬
‫كل غم‪ ،‬وهو سماعكم أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل‪.‬‬
‫ولكن الله ‪-‬بلطفه وحسن نظره لعباده‪ -‬جعل اجتماع هذه المور لعباده‬
‫المؤمنين خيرا لهم‪ ،‬فقال‪ } :‬لكيل تحزنوا على ما فاتكم { من النصر‬
‫والظفر‪ } ،‬ول ما أصابكم { من الهزيمة والقتل والجراح‪ ،‬إذا تحققتم أن‬
‫الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقتل هانت عليكم تلك المصيبات‪،‬‬
‫واغتبطتم بوجوده المسلي عن كل مصيبة ومحنة‪ ،‬فلله ما في ضمن البليا‬
‫والمحن من السرار والحكم‪ ،‬وكل هذا صادر عن علمه وكمال خبرته‬
‫بأعمالكم‪ ،‬وظواهركم وبواطنكم‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬والله خبير بما تعملون { ‪.‬‬
‫ويحتمل أن معنى قوله‪ } :‬لكيل ] ص ‪ [ 153‬تحزنوا على ما فاتكم ول ما‬
‫در ذلك الغم والمصيبة عليكم‪ ،‬لكي تتوطن نفوسكم‪،‬‬ ‫أصابكم { يعني‪ :‬أنه ق ّ‬
‫وتمرنوا على الصبر على المصيبات‪ ،‬ويخف عليكم تحمل المشقات‪:‬‬

‫) ‪(1/152‬‬
‫م وَ َ‬ ‫شى َ‬ ‫ل عَل َيك ُم من بعد ال ْغَ َ‬ ‫م أ َن َْز َ‬
‫ة قَد ْ‬ ‫ف ٌ‬ ‫طائ ِ َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ف ً‬‫طائ ِ َ‬ ‫سا ي َغْ َ‬ ‫ة ن َُعا ً‬ ‫من َ ً‬ ‫مأ َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ ْ ِ ْ َْ ِ‬ ‫ثُ ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ل لَنا ِ‬ ‫ن هَ ْ‬ ‫قولو َ‬ ‫جاهِل ِي ّةِ ي َ ُ‬ ‫ن ال َ‬ ‫حق ّ ظ ّ‬ ‫ن ِباللهِ غَي َْر ال َ‬ ‫م ي َظّنو َ‬ ‫سه ُ ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫م أن ْ ُ‬ ‫مت ْهُ ْ‬‫أه َ ّ‬
‫ن لَ َ‬
‫ك‬ ‫دو َ‬ ‫ما َل ي ُب ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫سه ِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن ِفي أ َن ْ ُ‬ ‫فو َ‬ ‫خ ُ‬‫ه ل ِل ّهِ ي ُ ْ‬‫مَر ك ُل ّ ُ‬
‫لإ ّ َ‬
‫ن اْل ْ‬ ‫ِ‬ ‫يٍء قُ ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫مرِ ِ‬ ‫َ‬
‫اْل ْ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫م ِفي ب ُُيوت ِك ُ ْ‬ ‫ل ل َوْ ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫هاهَُنا قُ ْ‬ ‫ما قُت ِل َْنا َ‬ ‫يٌء َ‬ ‫ش ْ‬ ‫مرِ َ‬ ‫ن اْل ْ‬ ‫م َ‬‫ن ل ََنا ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ن ل َوْ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫يَ ُ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫دورِك ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ما ِفي ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ي الل ُ‬ ‫م وَل ِي َب ْت َل ِ َ‬ ‫جعِهِ ْ‬ ‫ضا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ل إ ِلى َ‬ ‫َ‬ ‫قت ْ ُ‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬ ‫َ‬
‫ب عَلي ْهِ ُ‬ ‫ُ‬
‫ن كت ِ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل َب ََرَز ال ِ‬
‫ّ‬
‫دورِ )‪(154‬‬ ‫ص ُ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫ذا ِ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ه عَِلي ٌ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬ ‫ما ِفي قُُلوب ِك ُ ْ‬ ‫ص َ‬ ‫ح َ‬ ‫م ّ‬‫وَل ِي ُ َ‬
‫م وَ َ‬ ‫شى َ‬ ‫ل عَل َيك ُم من بعد ال ْغَ َ‬ ‫م أ َن َْز َ‬
‫ة قَد ْ‬ ‫ف ٌ‬ ‫طائ ِ َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫ة ِ‬ ‫ف ً‬ ‫طائ ِ َ‬ ‫سا ي َغْ َ‬ ‫ة ن َُعا ً‬ ‫من َ ً‬‫مأ َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ ْ ِ ْ َْ ِ‬ ‫} ثُ ّ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ن هَ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م َ‬ ‫ل لَنا ِ‬ ‫قولو َ‬ ‫جاهِل ِي ّةِ ي َ ُ‬ ‫ن ال َ‬ ‫حق ّ ظ ّ‬ ‫ن ِباللهِ غي َْر ال َ‬ ‫م ي َظّنو َ‬ ‫سه ُ ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫م أن ْ ُ‬ ‫مت ْهُ ْ‬ ‫أه َ ّ‬
‫ن لَ َ‬
‫ك‬ ‫دو َ‬ ‫ما ل ي ُب ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫سه ِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن ِفي أ َن ْ ُ‬ ‫فو َ‬ ‫خ ُ‬‫ه ل ِل ّهِ ي ُ ْ‬ ‫مَر ك ُل ّ ُ‬ ‫ن ال ْ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫يٍء قُ ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫مرِ ِ‬ ‫ال ْ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫م ِفي ب ُُيوت ِك ْ‬ ‫ُ‬
‫ل لوْ كن ْت ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫هاهَُنا قُ ْ‬ ‫ْ‬
‫ما قُت ِلَنا َ‬ ‫يٌء َ‬ ‫ش ْ‬ ‫مرِ َ‬ ‫ن ال ْ‬ ‫م َ‬‫ن لَنا ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن لوْ كا َ‬ ‫َ‬ ‫قولو َ‬ ‫ُ‬ ‫يَ ُ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫دورِك ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ما ِفي ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ي الل ُ‬ ‫م وَل ِي َب ْت َل ِ َ‬‫جعِهِ ْ‬ ‫ضا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ل إ ِلى َ‬ ‫َ‬ ‫قت ْ ُ‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬ ‫َ‬
‫ب عَلي ْهِ ُ‬ ‫ُ‬
‫ن كت ِ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل َب ََرَز ال ِ‬
‫ّ‬
‫ت{‪.‬‬ ‫ذا ِ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ه عَِلي ٌ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬ ‫ما ِفي قُُلوب ِك ُ ْ‬ ‫ص َ‬ ‫ح َ‬ ‫م ّ‬ ‫وَل ِي ُ َ‬
‫} ثم أنزل عليكم من بعد الغم { الذي أصابكم } أمنة نعاسا يغشى طائفة‬
‫منكم { ‪.‬‬
‫ول شك أن هذا رحمة بهم‪ ،‬وإحسان وتثبيت لقلوبهم‪ ،‬وزيادة طمأنينة؛ لن‬
‫الخائف ل يأتيه النعاس لما في قلبه من الخوف‪ ،‬فإذا زال الخوف عن‬
‫القلب أمكن أن يأتيه النعاس‪.‬‬
‫وهذه الطائفة التي أنعم الله عليها بالنعاس هم المؤمنون الذين ليس لهم‬
‫هم إل إقامة دين الله‪ ،‬ورضا الله ورسوله‪ ،‬ومصلحة إخوانهم المسلمين‪.‬‬
‫وأما الطائفة الخرى الذين } قد أهمتهم أنفسهم { فليس لهم هم في‬
‫غيرها‪ ،‬لنفاقهم أو ضعف إيمانهم‪ ،‬فلهذا لم يصبهم من النعاس ما أصاب‬
‫غيرهم‪ } ،‬يقولون هل لنا من المر من شيء { وهذا استفهام إنكاري‪ ،‬أي‪:‬‬
‫ما لنا من المر ‪-‬أي‪ :‬النصر والظهور‪ -‬شيء‪ ،‬فأساءوا الظن بربهم وبدينه‬
‫ونبيه‪ ،‬وظنوا أن الله ل يتم أمر رسوله‪ ،‬وأن هذه الهزيمة هي الفيصلة‬
‫والقاضية على دين الله‪ ،‬قال الله في جوابهم‪ } :‬قل إن المر كله لله {‬
‫المر يشمل المر القدري‪ ،‬والمر الشرعي‪ ،‬فجميع الشياء بقضاء الله‬
‫وقدره‪ ،‬وعاقبة )‪ (1‬النصر والظفر لوليائه وأهل طاعته‪ ،‬وإن جرى عليهم‬
‫ما جرى‪.‬‬
‫} يخفون { يعني المنافقين } في أنفسهم ما ل يبدون لك { ثم بين المر‬
‫الذي يخفونه‪ ،‬فقال‪ } :‬يقولون لو كان لنا من المر شيء { أي‪ :‬لو كان لنا‬
‫في هذه الواقعة رأي ومشورة } ما قتلنا هاهنا { وهذا إنكار منهم وتكذيب‬
‫بقدر الله‪ ،‬وتسفيه منهم لرأي رسول الله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ورأي‬
‫أصحابه‪ ،‬وتزكية منهم لنفسهم‪ ،‬فرد الله عليهم بقوله‪ } :‬قل لو كنتم في‬
‫بيوتكم { التي هي أبعد شيء عن مظان القتل } لبرز الذين كتب عليهم‬
‫القتل إلى مضاجعهم { فالسباب ‪-‬وإن عظمت‪ -‬إنما تنفع إذا لم يعارضها‬
‫القدر والقضاء‪ ،‬فإذا عارضها القدر لم تنفع شيئا‪ ،‬بل ل بد أن يمضي الله ما‬
‫كتب في اللوح المحفوظ من الموت والحياة‪ } ،‬وليبتلي الله ما في‬
‫صدوركم { أي‪ :‬يختبر ما فيها من نفاق وإيمان وضعف إيمان‪ } ،‬وليمحص‬
‫ما في قلوبكم { من وساوس الشيطان‪ ،‬وما تأثر عنها من الصفات غير‬
‫الحميدة‪.‬‬
‫} والله عليم بذات الصدور { أي‪ :‬بما فيها وما أكنته‪ ،‬فاقتضى علمه‬
‫وحكمته أن قدر من السباب‪ ،‬ما به تظهر مخبآت الصدور وسرائر المور‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬وعاقبته‪.‬‬

‫) ‪(1/153‬‬

‫ما‬
‫ض َ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ست ََزل ّهُ ُ‬
‫م ال ّ‬ ‫قى ال ْ َ‬‫م ال ْت َ َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ن ت َوَل ّ ْ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ن ب ِب َعْ ِ‬
‫طا ُ‬ ‫ما ا ْ‬
‫ن إ ِن ّ َ‬
‫مَعا ِ‬‫ج ْ‬ ‫م ي َوْ َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫إِ ّ‬
‫م )‪(155‬‬ ‫حِلي ٌ‬‫فوٌر َ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬
‫م إِ ّ‬ ‫ه عَن ْهُ ْ‬ ‫ّ‬
‫فا الل ُ‬ ‫قد ْ عَ َ‬ ‫َ‬
‫سُبوا وَل َ‬ ‫كَ َ‬

‫ست ََزل ّهُ ُ‬


‫م‬ ‫ما ا ْ‬‫ن إ ِن ّ َ‬ ‫مَعا ِ‬
‫ج ْ‬‫قى ال ْ َ‬ ‫م ال ْت َ َ‬‫م ي َوْ َ‬‫من ْك ُ ْ‬
‫وا ِ‬‫ن ت َوَل ّ ْ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫} ‪ } { 155‬إ ِ ّ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حِلي ٌ‬ ‫فوٌر َ‬ ‫َ‬
‫هغ ُ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ه عَن ْهُ ْ‬ ‫ّ‬
‫فا الل ُ‬ ‫قد ْ عَ َ‬ ‫َ‬
‫سُبوا وَل َ‬ ‫َ‬
‫ما ك َ‬ ‫ض َ‬ ‫شي ْ َ‬
‫ال ّ‬
‫ن ب ِب َعْ ِ‬
‫طا ُ‬
‫يخبر تعالى عن حال الذين انهزموا يوم "أحد" وما الذي أوجب لهم الفرار‪،‬‬
‫وأنه من تسويل الشيطان‪ ،‬وأنه تسلط عليهم ببعض ذنوبهم‪ .‬فهم الذين‬
‫أدخلوه على أنفسهم‪ ،‬ومكنوه بما فعلوا من المعاصي‪ ،‬لنها مركبه‬
‫ومدخله‪ ،‬فلو اعتصموا بطاعة ربهم لما كان له عليهم من سلطان‪.‬‬
‫قال تعالى‪ } :‬إن عبادي ليس لك عليهم سلطان { ثم أخبر أنه عفا عنهم‬
‫بعدما فعلوا ما يوجب المؤاخذة‪ ،‬وإل فلو واخذهم لستأصلهم‪.‬‬
‫} إن الله غفور { للمذنبين الخطائين بما يوفقهم له من التوبة والستغفار‪،‬‬
‫والمصائب المكفرة‪ } ،‬حليم { ل يعاجل من عصاه‪ ،‬بل يستأني به‪ ،‬ويدعوه‬
‫إلى النابة إليه‪ ،‬والقبال عليه‪.‬‬
‫ثم إن تاب وأناب قبل منه‪ ،‬وصيره كأنه لم يجر منه ذنب‪ ،‬ولم يصدر منه‬
‫عيب‪ ،‬فلله الحمد على إحسانه‪.‬‬

‫) ‪(1/153‬‬

‫فُروا وََقاُلوا ِل ِ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫ضَرُبوا ِفي‬ ‫ذا َ‬ ‫م إِ َ‬ ‫وان ِهِ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫كال ّ ِ‬‫كوُنوا َ‬ ‫مُنوا َل ت َ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫ه ذ َل ِ َ‬
‫ك‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫جع َ َ‬ ‫ما قُت ُِلوا ل ِي َ ْ‬ ‫ماُتوا وَ َ‬ ‫ما َ‬ ‫عن ْد ََنا َ‬ ‫كاُنوا ِ‬ ‫كاُنوا غُّزى ل َوْ َ‬ ‫اْل َْرض أ َوْ َ‬
‫ِ‬
‫ن‬‫ِ‬
‫َ ْ‬‫ئ‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫(‬‫‪156‬‬ ‫)‬ ‫ر‬
‫ٌ‬ ‫صي‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫لو‬‫ُ‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ما‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫وال‬‫َ‬ ‫ت‬‫ُ‬ ‫مي‬
‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫و‬ ‫يي‬ ‫ِ‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ه‬‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وال‬
‫ِ َ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ه‬‫ِ‬ ‫ب‬ ‫لو‬‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ة‬ ‫سَر‬ ‫ح ْ‬ ‫َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫ن)‬ ‫مُعو َ‬ ‫ج َ‬‫ما ي َ ْ‬‫م ّ‬ ‫خي ٌْر ِ‬ ‫ة َ‬ ‫م ٌ‬ ‫ح َ‬ ‫ن اللهِ وََر ْ‬ ‫م َ‬ ‫فَرةٌ ِ‬ ‫مغ ْ ِ‬ ‫مل َ‬ ‫مت ّ ْ‬ ‫ل اللهِ أوْ ُ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫قُت ِلت ُ ْ‬
‫‪(157‬‬

‫فُروا وََقاُلوا‬ ‫َ‬


‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬‫كال ّ ِ‬‫كوُنوا َ‬ ‫مُنوا ل ت َ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫} ‪َ } { 158 - 156‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ما‬
‫ماُتوا وَ َ‬ ‫ما َ‬ ‫عن ْد ََنا َ‬ ‫كاُنوا ِ‬ ‫كاُنوا غُّزى ل َوْ َ‬ ‫ضَرُبوا ِفي الْرض أ َوْ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫م إِ َ‬ ‫وان ِهِ ْ‬‫خ َ‬ ‫ل ْ‬
‫ِ‬
‫ما‬‫ه بِ َ‬ ‫ّ‬
‫ت َوالل ُ‬ ‫مي ُ‬ ‫حِيي وَي ُ ِ‬ ‫ه يُ ْ‬ ‫ّ‬
‫م َوالل ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سَرةً ِفي قلوب ِهِ ْ‬ ‫ح ْ‬ ‫َ‬
‫ه ذ َل ِك َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫جعَل الل ُ‬ ‫ُ‬
‫قُت ِلوا ل ِي َ ْ‬
‫َ‬
‫ة‬
‫م ٌ‬ ‫ن الل ّهِ وََر ْ‬
‫ح َ‬ ‫م َ‬‫فَرةٌ ِ‬ ‫م لَ َ‬
‫مغ ْ ِ‬ ‫ل الل ّهِ أوْ ُ‬
‫مت ّ ْ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫ن قُت ِل ْت ُ ْ‬ ‫صيٌر * وَل َئ ِ ْ‬ ‫ن بَ ِ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ت َعْ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُعو َ‬ ‫ج َ‬ ‫ما ي َ ْ‬‫م ّ‬ ‫خي ٌْر ِ‬ ‫َ‬
‫ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يشابهوا الكافرين‪ ،‬الذين ل يؤمنون بربهم‪،‬‬
‫ول بقضائه وقدره‪ ،‬من المنافقين وغيرهم‪.‬‬
‫ينهاهم عن مشابهتهم في كل شيء‪ ،‬وفي هذا المر الخاص وهو أنهم‬
‫يقولون لخوانهم في الدين أو في النسب‪ } :‬إذا ضربوا في الرض { أي‪:‬‬
‫سافروا للتجارة } أو كانوا غزى { أي‪ :‬غزاة‪ ،‬ثم جرى عليهم قتل أو موت‪،‬‬
‫يعارضون القدر ويقولون‪ } :‬لو كانوا عندنا ما ماتوا وما قتلوا { وهذا كذب‬
‫منهم‪ ،‬فقد قال تعالى‪ } :‬قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم‬
‫القتل إلى مضاجعهم { ولكن هذا التكذيب لم يفدهم‪ ،‬إل أن الله يجعل هذا‬
‫القول‪ ،‬وهذه العقيدة حسرة في قلوبهم‪ ،‬فتزداد مصيبتهم‪ ،‬وأما المؤمنون‬
‫بالله فإنهم يعلمون أن ذلك بقدر الله‪ ،‬فيؤمنون ويسلمون‪ ] ،‬ص ‪[ 154‬‬
‫فيهدي الله قلوبهم ويثبتها‪ ،‬ويخفف بذلك عنهم المصيبة‪.‬‬
‫قال الله ردا عليهم‪ } :‬والله يحيي ويميت { أي‪ :‬هو المنفرد )‪ (1‬بذلك‪ ،‬فل‬
‫يغني حذر عن قدر‪.‬‬
‫} والله بما تعملون بصير { فيجازيكم بأعمالكم وتكذيبكم‪.‬‬
‫ثم أخبر تعالى أن القتل في سبيله أو الموت فيه‪ ،‬ليس فيه نقص ول‬
‫محذور‪ ،‬وإنما هو مما ينبغي أن يتنافس فيه المتنافسون‪ ،‬لنه سبب مفض‬
‫وموصل إلى مغفرة الله ورحمته‪ ،‬وذلك خير مما يجمع أهل الدنيا من‬
‫دنياهم‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬المتفرد‪.‬‬

‫) ‪(1/153‬‬

‫ول َئ ِن مت َ‬
‫ن )‪(158‬‬ ‫شُرو َ‬‫ح َ‬ ‫م َل َِلى الل ّهِ ت ُ ْ‬ ‫م أوْ قُت ِل ْت ُ ْ‬ ‫َ ْ ُ ّ ْ‬
‫} ول َئ ِن مت َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ح َ‬
‫شُرو َ‬ ‫م لَلى الل ّهِ ت ُ ْ‬ ‫م أوْ قُت ِل ْت ُ ْ‬ ‫َ ْ ُ ّ ْ‬
‫وأن الخلق أيضا إذا ماتوا أو قتلوا بأي حالة كانت‪ ،‬فإنما مرجعهم إلى الله‪،‬‬
‫ومآلهم إليه‪ ،‬فيجازي كل بعمله‪ ،‬فأين الفرار إل إلى الله‪ ،‬وما للخلق عاصم‬
‫إل العتصام بحبل الله؟"‬

‫) ‪(1/154‬‬

‫حوْل ِ َ‬
‫ك‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫ضوا ِ‬‫ف ّ‬ ‫ب َلن ْ َ‬‫قل ْ ِ‬
‫ظ ال ْ َ‬ ‫ظا غَِلي َ‬ ‫ت فَ ّ‬
‫م وَل َوْ ك ُن ْ َ‬‫ت ل َهُ ْ‬‫ن الل ّهِ ل ِن ْ َ‬‫م َ‬ ‫مة ٍ ِ‬ ‫ح َ‬
‫ما َر ْ‬ ‫فَب ِ َ‬
‫َ‬
‫ل عَلى‬ ‫ّ‬
‫ت فَت َوَك ْ‬ ‫مرِ فَإ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫َ‬ ‫َفاعْ ُ‬
‫م َ‬‫ذا عََز ْ‬ ‫م ِفي ال ْ‬ ‫شاوِْرهُ ْ‬ ‫فْر لهُ ْ‬ ‫ست َغْ ِ‬
‫م َوا ْ‬ ‫ف عَن ْهُ ْ‬
‫ن )‪(159‬‬ ‫ّ‬
‫مت َوَكِلي َ‬ ‫ْ‬
‫ب ال ُ‬ ‫ح ّ‬‫ه يُ ِ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫الل ّهِ إ ِ ّ‬

‫ب‬ ‫قل ْ ِ‬
‫ظ ال ْ َ‬
‫ظا غَِلي َ‬
‫ت فَ ّ‬ ‫م وَل َوْ ك ُن ْ َ‬‫ت ل َهُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ ل ِن ْ َ‬ ‫م َ‬‫مة ٍ ِ‬ ‫ح َ‬
‫ما َر ْ‬ ‫} ‪ } { 159‬فَب ِ َ‬
‫مرِ فَإ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫م ِفي ال ْ‬ ‫شاوِْرهُ ْ‬‫م وَ َ‬ ‫فْر ل َهُ ْ‬ ‫ست َغْ ِ‬‫م َوا ْ‬ ‫ف عَن ْهُ ْ‬ ‫ك َفاعْ ُ‬ ‫حوْل ِ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫ضوا ِ‬‫ف ّ‬ ‫لن ْ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ّ‬
‫مت َوَكِلي َ‬ ‫ْ‬
‫ب ال ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ت فت َوَكل عَلى اللهِ إ ِ ّ‬‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬‫عََز ْ‬
‫ن الله عليك أن ألنت )‪ (1‬لهم جانبك‪،‬‬ ‫أي‪ :‬برحمة الله لك ولصحابك‪ ،‬م ّ‬
‫وخفضت لهم جناحك‪ ،‬وترققت عليهم‪ ،‬وحسنت لهم خلقك‪ ،‬فاجتمعوا‬
‫عليك وأحبوك‪ ،‬وامتثلوا أمرك‪.‬‬
‫} ولو كنت فظا { أي‪ :‬سيئ الخلق } غليظ القلب { أي‪ :‬قاسيه‪،‬‬
‫} لنفضوا من حولك { لن هذا ينفرهم ويبغضهم لمن قام به هذا الخلق‬
‫السيئ‪.‬‬
‫فالخلق الحسنة من الرئيس في الدين‪ ،‬تجذب الناس إلى دين الله‪،‬‬
‫وترغبهم فيه‪ ،‬مع ما لصاحبه من المدح والثواب الخاص‪ ،‬والخلق السيئة‬
‫من الرئيس في الدين تنفر الناس عن الدين‪ ،‬وتبغضهم إليه‪ ،‬مع ما‬
‫لصاحبها من الذم والعقاب الخاص‪ ،‬فهذا الرسول المعصوم يقول الله له‬
‫ما يقول‪ ،‬فكيف بغيره؟!‬
‫أليس من أوجب الواجبات‪ ،‬وأهم المهمات‪ ،‬القتداء بأخلقه الكريمة‪،‬‬
‫ومعاملة الناس بما يعاملهم به صلى الله عليه وسلم‪ ،‬من اللين وحسن‬
‫الخلق والتأليف‪ ،‬امتثال لمر الله‪ ،‬وجذبا لعباد الله لدين الله‪.‬‬
‫ثم أمره الله تعالى بأن يعفو عنهم ما صدر منهم من التقصير في حقه‬
‫صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ويستغفر لهم في التقصير في حق الله‪ ،‬فيجمع بين‬
‫العفو والحسان‪.‬‬
‫} وشاورهم في المر { أي‪ :‬المور التي تحتاج إلى استشارة ونظر وفكر‪،‬‬
‫فإن في الستشارة من الفوائد والمصالح الدينية والدنيوية ما ل يمكن‬
‫حصره‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن المشاورة من العبادات المتقرب بها إلى الله‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن فيها تسميحا لخواطرهم‪ ،‬وإزالة لما يصير في القلوب عند‬
‫الحوادث‪ ،‬فإن من له المر على الناس ‪-‬إذا جمع أهل الرأي‪ :‬والفضل‬
‫وشاورهم في حادثة من الحوادث‪ -‬اطمأنت نفوسهم وأحبوه‪ ،‬وعلموا أنه‬
‫ليس بمستبد )‪ (2‬عليهم‪ ،‬وإنما ينظر إلى المصلحة الكلية العامة للجميع‪،‬‬
‫فبذلوا جهدهم ومقدورهم في طاعته‪ ،‬لعلمهم بسعيه في مصالح العموم‪،‬‬
‫بخلف من ليس كذلك‪ ،‬فإنهم ل يكادون يحبونه محبة صادقة‪ ،‬ول يطيعونه‬
‫وإن أطاعوه فطاعة غير تامة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن في الستشارة تنور الفكار‪ ،‬بسبب إعمالها فيما وضعت له‪،‬‬
‫فصار في ذلك زيادة للعقول‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ما تنتجه الستشارة من الرأي‪ :‬المصيب‪ ،‬فإن المشاور ل يكاد‬
‫يخطئ في فعله‪ ،‬وإن أخطأ أو لم يتم له مطلوب‪ ،‬فليس بملوم‪ ،‬فإذا كان‬
‫الله يقول لرسوله ‪-‬صلى الله عليه وسلم‪ -‬وهو أكمل الناس عقل وأغزرهم‬
‫علما‪ ،‬وأفضلهم رأيا‪ } :-‬وشاورهم في المر { فكيف بغيره؟!‬
‫ثم قال تعالى‪ } :‬فإذا عزمت { أي‪ :‬على أمر من المور بعد الستشارة‬
‫فيه‪ ،‬إن كان يحتاج إلى استشارة } فتوكل على الله { أي‪ :‬اعتمد على‬
‫حول الله وقوته‪ ،‬متبرئا من حولك وقوتك‪ } ،‬إن الله يحب المتوكلين {‬
‫عليه‪ ،‬اللجئين إليه‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في الصل‪) :‬لنت(‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬يستبد‪.‬‬

‫) ‪(1/154‬‬

‫ه‬
‫ن ب َعْدِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫صُرك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ذا ال ّ ِ‬
‫ذي ي َن ْ ُ‬ ‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫خذ ُل ْك ُ ْ‬
‫م فَ َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ب ل َك ُ ْ‬
‫م وَإ ِ ْ‬ ‫ه فََل َ‬
‫غال ِ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫صْرك ُ ُ‬
‫ن ي َن ْ ُ‬
‫إِ ْ‬
‫ن )‪(160‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ل ال ْ ُ‬
‫وَعََلى الل ّهِ فَل ْي َت َوَك ّ ِ‬
‫ذا ال ّ ِ‬
‫ذي‬ ‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫خذ ُل ْك ُ ْ‬
‫م فَ َ‬ ‫ن يَ ْ‬
‫م وَإ ِ ْ‬‫ب ل َك ُ ْ‬ ‫ه َفل َ‬
‫غال ِ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫صْرك ُ ُ‬
‫ن ي َن ْ ُ‬
‫} ‪ } { 160‬إ ِ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُنو َ‬‫مؤْ ِ‬ ‫ْ‬
‫ل ال ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن ب َعْدِهِ وَعَلى اللهِ فَلي َت َوَك ِ‬ ‫م ْ‬ ‫صُرك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ي َن ْ ُ‬
‫أي‪ :‬إن يمددكم الله بنصره ومعونته } فل غالب لكم { فلو اجتمع عليكم‬
‫من في أقطارها وما عندهم من العدد والُعدد‪ ،‬لن الله ل مغالب له‪ ،‬وقد‬
‫قهر العباد وأخذ بنواصيهم‪ ،‬فل تتحرك دابة إل بإذنه‪ ،‬ول تسكن إل بإذنه‪.‬‬
‫} وإن يخذلكم { ويكلكم إلى أنفسكم } فمن ذا الذي ينصركم من بعده {‬
‫فل بد أن تنخذلوا ولو أعانكم جميع الخلق‪.‬‬
‫وفي )‪ (1‬ضمن ذلك المر بالستنصار بالله والعتماد عليه‪ ،‬والبراءة من‬
‫الحول والقوة‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وعلى الله فليتوكل المؤمنون { بتقديم‬
‫المعمول يؤذن بالحصر‪ ،‬أي‪ :‬على الله ] ص ‪ [ 155‬توكلوا ل على غيره‪،‬‬
‫لنه قد علم أنه هو الناصر وحده‪ ،‬فالعتماد عليه توحيد محصل للمقصود‪،‬‬
‫والعتماد على غيره شرك غير نافع لصاحبه‪ ،‬بل ضار‪.‬‬
‫وفي هذه الية المر بالتوكل على الله وحده‪ ،‬وأنه بحسب إيمان العبد‬
‫يكون توكله‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬وقد‪.‬‬

‫) ‪(1/154‬‬

‫ل ومن يغْل ُ ْ ْ‬ ‫َ‬


‫م ت ُوَّفى ك ُ ّ‬
‫ل‬ ‫مة ِ ث ُ ّ‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫ما غَ ّ‬
‫ل ي َوْ َ‬ ‫ت بِ َ‬
‫ل ي َأ ِ‬ ‫ن ي َغُ ّ َ َ ْ َ‬
‫يأ ْ‬ ‫ن ل ِن َب ِ ّ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫وَ َ‬
‫ن )‪(161‬‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م ل ي ُظل ُ‬
‫ت وَهُ ْ‬ ‫سب َ ْ‬ ‫َ‬
‫ما ك َ‬ ‫س َ‬‫ف ٍ‬‫نَ ْ‬
‫ل ومن يغْل ُ ْ ْ‬ ‫َ‬
‫مة ِ ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫ما غَ ّ‬
‫ل ي َوْ َ‬ ‫ت بِ َ‬
‫ل ي َأ ِ‬ ‫ن ي َغُ ّ َ َ ْ َ‬‫يأ ْ‬ ‫ن ل ِن َب ِ ّ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫} ‪ } { 161‬وَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م ل ي ُظل ُ‬ ‫ت وَهُ ْ‬‫سب َ ْ‬ ‫َ‬
‫ما ك َ‬ ‫س َ‬ ‫ت ُوَّفى ك ُ ّ‬
‫ف ٍ‬ ‫ل نَ ْ‬
‫الغلول هو‪ :‬الكتمان من الغنيمة‪] ،‬والخيانة في كل مال يتوله النسان[ )‬
‫‪ (1‬وهو محرم إجماعا‪ ،‬بل هو من الكبائر‪ ،‬كما تدل عليه هذه الية الكريمة‬
‫وغيرها من النصوص‪ ،‬فأخبر الله تعالى أنه ما ينبغي ول يليق بنبي أن يغل‪،‬‬
‫لن الغلول ‪-‬كما علمت‪ -‬من أعظم الذنوب وأشر العيوب‪ .‬وقد صان الله‬
‫تعالى أنبياءه عن كل ما يدنسهم ويقدح فيهم‪ ،‬وجعلهم أفضل العالمين‬
‫أخلقا‪ ،‬وأطهرهم نفوسا‪ ،‬وأزكاهم وأطيبهم‪ ،‬ونزههم عن كل عيب‪ ،‬وجعلهم‬
‫محل رسالته‪ ،‬ومعدن حكمته } الله أعلم حيث يجعل رسالته { ‪.‬‬
‫فبمجرد علم العبد بالواحد منهم‪ ،‬يجزم بسلمتهم من كل أمر يقدح فيهم‪،‬‬
‫ول يحتاج إلى دليل على ما قيل فيهم من أعدائهم‪ ،‬لن معرفته بنبوتهم‪،‬‬
‫مستلزم لدفع ذلك‪ ،‬ولذلك أتى بصيغة يمتنع معها وجود الفعل منهم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫} وما كان لنبي أن يغل { أي‪ :‬يمتنع ذلك ويستحيل على من اختارهم الله‬
‫لنبوته‪.‬‬
‫ثم ذكر الوعيد على من غل‪ ،‬فقال‪ } :‬ومن يغلل يأت بما غل يوم‬
‫القيامة { أي‪ :‬يأت به حامله على ظهره‪ ،‬حيوانا كان أو متاعا‪ ،‬أو غير ذلك‪،‬‬
‫ليعذب به يوم القيامة‪ } ،‬ثم توفى كل نفس ما كسبت { الغال وغيره‪ ،‬كل‬
‫يوفى أجره ووزره على مقدار كسبه‪ } ،‬وهم ل يظلمون { أي‪ :‬ل يزاد في‬
‫سيئاتهم‪ ،‬ول يهضمون شيئا من حسناتهم‪ ،‬وتأمل حسن هذا الحتراز في‬
‫هذه الية الكريمة‪.‬‬
‫لما ذكر عقوبة الغال‪ ،‬وأنه يأتي يوم القيامة بما غله‪ ،‬ولما أراد أن يذكر‬
‫توفيته وجزاءه‪ ،‬وكان القتصار على الغال يوهم ‪-‬بالمفهوم‪ -‬أن غيره من‬
‫أنواع العاملين قد ل يوفون ‪-‬أتى بلفظ عام جامع له ولغيره‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫) ‪(1/155‬‬

‫خط من الل ّه و ْ‬ ‫َ‬


‫م وَب ِئ ْ َ‬
‫س‬ ‫جهَن ّ ُ‬
‫مأَواهُ َ‬ ‫ِ َ َ‬ ‫س َ ٍ ِ َ‬ ‫ن َباَء ب ِ َ‬ ‫م ْ‬‫ن الل ّهِ ك َ َ‬‫وا َ‬
‫ض َ‬
‫ن ات ّب َعَ رِ ْ‬ ‫أف َ َ‬
‫م ِ‬
‫ن )‪(163‬‬ ‫مُلو َ‬
‫ما ي َعْ َ‬‫صيٌر ب ِ َ‬ ‫عن ْد َ الل ّهِ َوالل ّ ُ‬
‫ه بَ ِ‬ ‫ت ِ‬ ‫جا ٌ‬ ‫م د ََر َ‬
‫صيُر )‪ (162‬هُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫خط من الل ّه و ْ‬ ‫َ‬
‫مأَواهُ‬
‫ِ َ َ‬ ‫س َ ٍ ِ َ‬ ‫ن َباَء ب ِ َ‬ ‫م ْ‬‫ن الل ّهِ ك َ َ‬‫وا َ‬ ‫ض َ‬
‫ن ات ّب َعَ رِ ْ‬ ‫} ‪ } { 163 - 162‬أفَ َ‬
‫م ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُلو َ‬
‫ما ي َعْ َ‬
‫صيٌر ب ِ َ‬‫ه بَ ِ‬ ‫عن ْد َ الل ّهِ َوالل ّ ُ‬
‫ت ِ‬ ‫جا ٌ‬
‫م د ََر َ‬ ‫صيُر * هُ ْ‬ ‫س ال ْ َ‬
‫م ِ‬ ‫م وَب ِئ ْ َ‬
‫جهَن ّ ُ‬
‫َ‬
‫يخبر تعالى أنه ل يستوي من كان قصده رضوان ربه‪ ،‬والعمل على ما‬
‫يرضيه‪ ،‬كمن ليس كذلك‪ ،‬ممن هو مكب على المعاصي‪ ،‬مسخط لربه‪،‬‬
‫هذان ل يستويان في حكم الله‪ ،‬وحكمة الله‪ ،‬وفي فطر عباد الله‪.‬‬
‫} أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا ل يستوون { ولهذا قال هنا‪ } :‬هم‬
‫درجات عند الله { أي‪ :‬كل هؤلء متفاوتون في درجاتهم ومنازلهم بحسب‬
‫تفاوتهم في أعمالهم‪.‬‬
‫فالمتبعون لرضوان الله يسعون في نيل الدرجات العاليات‪ ،‬والمنازل‬
‫والغرفات‪ ،‬فيعطيهم الله من فضله وجوده على قدر أعمالهم‪ ،‬والمتبعون‬
‫لمساخط الله يسعون في النزول في الدركات إلى أسفل سافلين‪ ،‬كل‬
‫على حسب عمله‪ ،‬والله تعالى بصير بأعمالهم‪ ،‬ل يخفى عليه منها شيء‪،‬‬
‫بل قد علمها‪ ،‬وأثبتها في اللوح المحفوظ‪ ،‬ووكل ملئكته المناء الكرام‪ ،‬أن‬
‫يكتبوها ويحفظوها‪ ،‬ويضبطونها‪.‬‬

‫) ‪(1/155‬‬

‫م ي َت ُْلو عَل َي ْهِ ْ‬


‫م‬ ‫سهِ ْ‬‫ف ِ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬ ‫سوًل ِ‬
‫م ْ‬ ‫م َر ُ‬ ‫ث ِفيهِ ْ‬ ‫ن إ ِذ ْ ب َعَ َ‬
‫مِني َ‬‫مؤْ ِ‬‫ه عََلى ال ْ ُ‬ ‫ن الل ّ ُ‬‫م ّ‬ ‫قد ْ َ‬‫لَ َ‬
‫ن‬
‫مِبي ٍ‬
‫ل ُ‬ ‫ضَل ٍ‬ ‫في َ‬ ‫ل لَ ِ‬
‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن َ‬
‫كاُنوا ِ‬ ‫ة وَإ ِ ْ‬‫م َ‬ ‫ب َوال ْ ِ‬
‫حك ْ َ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬‫مه ُ ُ‬‫م وَي ُعَل ّ ُ‬
‫كيهِ ْ‬ ‫آ ََيات ِهِ وَي َُز ّ‬
‫)‪(164‬‬

‫م‬‫سه ِ ْ‬
‫ف ِ‬‫ن أ َن ْ ُ‬‫م ْ‬‫سول ِ‬ ‫م َر ُ‬ ‫ث ِفيهِ ْ‬ ‫ن إ ِذ ْ ب َعَ َ‬
‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ه عََلى ال ْ ُ‬ ‫ن الل ّ ُ‬‫م ّ‬‫قد ْ َ‬‫} ‪ } { 164‬ل َ َ‬
‫في‬ ‫ل لَ ِ‬
‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬‫كاُنوا ِ‬‫ن َ‬‫ة وَإ ِ ْ‬
‫م َ‬‫حك ْ َ‬‫ب َوال ْ ِ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬ ‫م وَي ُعَل ّ ُ‬
‫مه ُ ُ‬ ‫كيهِ ْ‬ ‫ي َت ُْلو عَل َي ْهِ ْ‬
‫م آَيات ِهِ وَي َُز ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ل ُ‬ ‫ضل ٍ‬ ‫َ‬
‫هذه المنة التي امتن الله بها على عباده‪ ،‬أكبر النعم‪ ،‬بل أصلها‪ ،‬وهي‬
‫المتنان عليهم بهذا الرسول الكريم الذي أنقذهم الله به من الضللة‪،‬‬
‫ن الله على المؤمنين إذ بعث فيهم‬ ‫وعصمهم به من الهلكة‪ ،‬فقال‪ } :‬لقد م ّ‬
‫رسول من أنفسهم { يعرفون نسبه‪ ،‬وحاله‪ ،‬ولسانه‪ ،‬من قومهم وقبيلتهم‪،‬‬
‫ناصحا لهم‪ ،‬مشفقا عليهم‪ ،‬يتلو عليهم آيات الله‪ ،‬يعلمهم ألفاظها ومعانيها‪.‬‬
‫} ويزكيهم { من الشرك‪ ،‬والمعاصي‪ ،‬والرذائل‪ ،‬وسائر مساوئ الخلق‪.‬‬
‫و } يعلمهم الكتاب { إما جنس الكتاب الذي هو القرآن‪ ،‬فيكون قوله‪:‬‬
‫} يتلو عليهم آياته { المراد به اليات الكونية‪ ،‬أو المراد بالكتاب ‪-‬هنا‪-‬‬
‫الكتابة‪ ،‬فيكون قد امتن عليهم‪ ،‬بتعليم الكتاب والكتابة‪ ،‬التي بها تدرك‬
‫العلوم وتحفظ‪ } ،‬والحكمة { هي‪ :‬السنة‪ ،‬التي هي شقيقة القرآن‪ ،‬أو‬
‫وضع الشياء مواضعها‪ ،‬ومعرفة أسرار الشريعة‪.‬‬
‫فجمع لهم بين تعليم الحكام‪ ،‬وما به تنفذ الحكام‪ ،‬وما به تدرك فوائدها‬
‫وثمراتها‪ ،‬ففاقوا بهذه المور العظيمة جميع المخلوقين‪ ،‬وكانوا من العلماء‬
‫الربانيين‪ } ،‬وإن كانوا من قبل { بعثة هذا الرسول } لفي ضلل مبين { ل‬
‫يعرفون الطريق الموصل إلى ربهم‪ ،‬ول ما يزكي النفوس ويطهرها‪ ،‬بل ما‬
‫زين لهم جهلهم فعلوه‪ ،‬ولو ناقض ] ص ‪ [ 156‬ذلك عقول العالمين‪.‬‬

‫) ‪(1/155‬‬

‫عن ْدِ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫ل هُوَ ِ‬ ‫م أ َّنى هَ َ‬
‫ذا قُ ْ‬ ‫مث ْل َي َْها قُل ْت ُ ْ‬
‫م ِ‬‫صب ْت ُ ْ‬
‫َ‬
‫ة قَد ْ أ َ‬‫صيب َ ٌ‬
‫م ِ‬
‫م ُ‬ ‫صاب َت ْك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ما أ َ‬ ‫أوَل َ ّ‬
‫َ‬
‫ديٌر )‪(165‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫أ َن ْ ُ‬

‫م أ َّنى هَ َ‬
‫ذا‬ ‫مث ْل َي َْها قُل ْت ُ ْ‬
‫م ِ‬
‫َ‬
‫ة قَد ْ أ َ‬
‫صب ْت ُ ْ‬ ‫صيب َ ٌ‬
‫م ِ‬
‫م ُ‬ ‫صاب َت ْك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ما أ َ‬
‫َ‬
‫} ‪ } { 168 - 165‬أوَل َ ّ‬
‫ديٌر { ‪.‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫م إِ ّ‬‫سك ُ ْ‬ ‫عن ْدِ أ َن ْ ُ‬
‫ف ِ‬ ‫ن ِ‬
‫م ْ‬ ‫قُ ْ‬
‫ل هُوَ ِ‬
‫هذا تسلية من الله تعالى لعباده المؤمنين‪ ،‬حين أصابهم ما أصابهم يوم‬
‫"أحد" وقتل منهم نحو سبعين‪ ،‬فقال الله‪ :‬إنكم } قد أصبتم { من‬
‫المشركين } مثليها { يوم بدر فقتلتم سبعين من كبارهم وأسرتم سبعين‪،‬‬
‫فليهن المر ولتخف المصيبة عليكم‪ ،‬مع أنكم ل تستوون أنتم وهم‪ ،‬فإن‬
‫قتلكم في الجنة وقتلهم في النار‪.‬‬
‫} قلتم أنى هذا { أي‪ :‬من أين أصابنا ما أصابنا وهزمنا؟ } قل هو من عند‬
‫أنفسكم { حين تنازعتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تحبون‪ ،‬فعودوا على‬
‫أنفسكم باللوم‪ ،‬واحذروا من السباب المردية‪.‬‬
‫} إن الله على كل شيء قدير { فإياكم وسوء الظن بالله‪ ،‬فإنه قادر على‬
‫نصركم‪ ،‬ولكن له أتم الحكمة في ابتلئكم ومصيبتكم‪ } .‬ذلك ولو يشاء الله‬
‫لنتصر منهم ولكن ليبلو بعضكم ببعض { ‪.‬‬

‫) ‪(1/156‬‬

‫َ‬
‫ن )‪ (166‬وَل ِي َعْل َ َ‬
‫م‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫ن الل ّهِ وَل ِي َعْل َ َ‬ ‫ن فَب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫مَعا ِ‬ ‫ج ْ‬ ‫قى ال ْ َ‬ ‫م ال ْت َ َ‬
‫م ي َوْ َ‬ ‫صاب َك ُ ْ‬ ‫ما أ َ‬ ‫وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل اللهِ أوِ اد ْفَُعوا َقالوا لوْ ن َعْل ُ‬
‫م‬ ‫ِ‬ ‫سِبي‬‫وا َقات ِلوا ِفي َ‬ ‫ْ‬ ‫م ت ََعال‬ ‫ل لهُ ْ‬ ‫قوا وَِقي َ‬ ‫ن َنافَ ُ‬ ‫َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫م َ‬ ‫ن ب ِأْفواهِهِ ْ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫ما ِ‬ ‫لي َ‬ ‫م لِ ْ ِ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫ب ِ‬ ‫مئ ِذٍ أقَْر ُ‬ ‫فرِ ي َوْ َ‬ ‫م ل ِل ْك ُ ْ‬ ‫م هُ ْ‬ ‫قَِتاًل َلت ّب َعَْناك ُ ْ‬
‫ن َقاُلوا ِل ِ ْ‬ ‫ل َيس في قُُلوبهم والل ّ َ‬
‫م‬
‫وان ِهِ ْ‬‫خ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن )‪ (167‬ال ّ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ما ي َك ْت ُ ُ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ه أعْل َ ُ‬ ‫ِِ ْ َ ُ‬ ‫ْ َ ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ل َفادرُءوا عَن أ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ت‬‫ن‬ ‫ك‬ ‫ن‬
‫َ ْ َ ِ ْ ُْ ْ‬ ‫إ‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫م‬ ‫ك‬
‫ْ ْ ِ ُ‬ ‫س‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫ق‬ ‫لوا‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ق‬ ‫ما‬
‫َ َ‬ ‫نا‬ ‫عو‬‫ُ‬ ‫طا‬ ‫أ‬ ‫ْ‬ ‫و‬ ‫ل‬ ‫دوا‬ ‫وَقَعَ ُ‬
‫ن )‪(168‬‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ن * وَل ِي َعْل َ َ‬
‫م‬ ‫م ال ْ ُ‬
‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ن الل ّهِ وَل ِي َعْل َ َ‬
‫ن فَب ِإ ِذ ْ ِ‬
‫مَعا ِ‬ ‫قى ال ْ َ‬
‫ج ْ‬ ‫م ال ْت َ َ‬ ‫صاب َك ُ ْ‬
‫م ي َوْ َ‬ ‫ما أ َ‬ ‫} وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل اللهِ أوِ اد ْفَُعوا َقالوا لوْ ن َعْل ُ‬
‫م‬ ‫سِبي ِ‬‫وا َقات ِلوا ِفي َ‬ ‫م ت ََعال ْ‬‫ل لهُ ْ‬ ‫قوا وَِقي َ‬ ‫ن َنافَ ُ‬
‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫م َ‬ ‫ن ب ِأْفواهِهِ ْ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ن يَ ُ‬‫ما ِ‬‫م ِللي َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ب ِ‬ ‫مئ ِذٍ أقَْر ُ‬ ‫م ل ِل ْك ُ ْ‬
‫فرِ ي َوْ َ‬ ‫م هُ ْ‬ ‫قَِتال لت ّب َعَْناك ُ ْ‬
‫َ‬
‫دوا ل َ ْ‬
‫و‬ ‫م وَقَعَ ُ‬‫وان ِهِ ْ‬
‫خ َ‬‫ن َقاُلوا ل ْ‬ ‫ذي َ‬‫ن * ال ّ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ما ي َك ْت ُ ُ‬‫م بِ َ‬‫ه أعْل َ ُ‬‫م َوالل ّ ُ‬ ‫س ِفي قُُلوب ِهِ ْ‬ ‫ل َي ْ َ‬
‫َ‬ ‫أَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬‫ت إِ ْ‬‫موْ َ‬ ‫م ال ْ َ‬‫سك ُ ُ‬ ‫ف ِ‬‫ن أن ْ ُ‬ ‫ل َفاد َْرُءوا عَ ْ‬ ‫ما قُت ُِلوا قُ ْ‬ ‫عوَنا َ‬ ‫طا ُ‬
‫ثم أخبر أن ما أصابهم يوم التقى الجمعان‪ ،‬جمع المسلمين وجمع‬
‫المشركين في "أحد" من القتل والهزيمة‪ ،‬أنه بإذنه وقضائه وقدره‪ ،‬ل مرد‬
‫له ول بد من وقوعه‪ .‬والمر القدري ‪-‬إذا نفذ‪ ،‬لم يبق إل التسليم له‪ ،‬وأنه‬
‫قدره لحكم عظيمة وفوائد جسيمة‪ ،‬وأنه ليتبين بذلك المؤمن من المنافق‪،‬‬
‫الذين لما أمروا بالقتال‪ } ،‬وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله { أي‪ :‬ذبا‬
‫عن دين الله‪ ،‬وحماية له وطلبا لمرضاة الله‪ } ،‬أو ادفعوا { عن محارمكم‬
‫وبلدكم‪ ،‬إن لم يكن لكم نية صالحة‪ ،‬فأبوا ذلك واعتذروا بأن } قالوا لو‬
‫نعلم قتال لتبعناكم { أي‪ :‬لو نعلم أنكم يصير بينكم وبينهم قتال لتبعناكم‪،‬‬
‫وهم كذبة في هذا‪ .‬قد علموا وتيقنوا وعلم كل أحد أن هؤلء المشركين‪،‬‬
‫قد ملئوا من الحنق والغيظ على المؤمنين بما أصابوا منهم‪ ،‬وأنهم قد بذلوا‬
‫أموالهم‪ ،‬وجمعوا ما يقدرون عليه من الرجال والعدد‪ ،‬وأقبلوا في جيش‬
‫عظيم قاصدين المؤمنين في بلدهم‪ ،‬متحرقين على قتالهم‪ ،‬فمن كانت‬
‫هذه حالهم‪ ،‬كيف يتصور أنهم ل يصير بينهم وبين المؤمنين قتال؟ خصوصا‬
‫وقد خرج المسلمون من المدينة وبرزوا لهم‪ ،‬هذا من المستحيل‪ ،‬ولكن‬
‫المنافقين ظنوا أن هذا العذر‪ ،‬يروج على المؤمنين‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬هم‬
‫للكفر يومئذ { أي‪ :‬في تلك الحال التي تركوا فيها الخروج مع المؤمنين‬
‫} أقرب منهم لليمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم { وهذه خاصة‬
‫المنافقين‪ ،‬يظهرون بكلمهم وفعالهم ما يبطنون ضده في قلوبهم‬
‫وسرائرهم‪.‬‬
‫ومنه قولهم‪ } :‬لو نعلم قتال لتبعناكم { فإنهم قد علموا وقوع القتال‪.‬‬
‫ويستدل بهذه الية على قاعدة "ارتكاب أخف المفسدتين لدفع أعلهما‪،‬‬
‫وفعل أدنى المصلحتين‪ ،‬للعجز عن أعلهما" ؛ ]لن المنافقين أمروا أن‬
‫يقاتلوا للدين‪ ،‬فإن لم يفعلوا فللمدافعة عن العيال والوطان[ )‪ } (1‬والله‬
‫أعلم بما يكتمون { فيبديه لعباده المؤمنين‪ ،‬ويعاقبهم عليه‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪ } :‬الذين قالوا لخوانهم وقعدوا لو أطاعونا ما قتلوا { أي‪:‬‬
‫جمعوا بين التخلف عن الجهاد‪ ،‬وبين العتراض والتكذيب بقضاء الله‬
‫دا عليهم‪ } :‬قل فادرءوا { أي‪ :‬ادفعوا } عن أنفسكم‬ ‫وقدره‪ ،‬قال الله ر ّ‬
‫الموت إن كنتم صادقين { إنهم لو أطاعوكم ما قتلوا‪ ،‬ل تقدرون على ذلك‬
‫ول تستطيعونه‪.‬‬
‫وفي هذه اليات دليل على أن العبد قد يكون فيه خصلة كفر وخصلة‬
‫إيمان‪ ،‬وقد يكون إلى أحدهما أقرب منه إلى الخرى‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫) ‪(1/156‬‬

‫وَل تحسبن ال ّذين قُت ُِلوا في سبيل الل ّه أ َمواتا ب ْ َ‬


‫ن)‬ ‫م ي ُْرَزُقو َ‬‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬
‫حَياٌء ِ‬‫لأ ْ‬ ‫ِ ْ َ ً َ‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ َ ْ َ َ ّ‬
‫م‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫‪ (169‬فَرِ ِ‬
‫قوا ب ِهِ ْ‬
‫ح ُ‬
‫م ي َل َ‬
‫نل ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ِبال ِ‬
‫شُرو َ‬ ‫ست َب ْ ِ‬
‫ضل ِهِ وَي َ ْ‬
‫نف ْ‬ ‫م ْ‬
‫ه ِ‬
‫م الل ُ‬
‫ما آَتاهُ ُ‬‫ن بِ َ‬
‫حي َ‬
‫ن‬
‫م َ‬
‫مة ٍ ِ‬
‫ن ب ِن ِعْ َ‬
‫شُرو َ‬
‫ست َب ْ ِ‬
‫ن )‪ (170‬ي َ ْ‬‫حَزُنو َ‬ ‫م يَ ْ‬‫م وََل هُ ْ‬
‫ف عَل َي ْهِ ْ‬‫خوْ ٌ‬‫م أ َّل َ‬ ‫خل ْ ِ‬
‫فه ِ ْ‬ ‫ن َ‬
‫م ْ‬‫ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن )‪(171‬‬
‫مِني َ‬‫مؤْ ِ‬ ‫جَر ال ُ‬‫ضيعُ أ ْ‬
‫ه ل يُ ِ‬ ‫ن الل َ‬‫ل وَأ ّ‬‫ض ٍ‬‫اللهِ وَفَ ْ‬

‫حَياءٌ‬ ‫} ‪ } { 171 - 169‬ول تحسبن ال ّذين قُت ُِلوا في سبيل الل ّه أ َمواتا ب ْ َ‬
‫لأ ْ‬ ‫ِ ْ َ ً َ‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ َ ْ َ َ ّ‬
‫ن‬ ‫ذي‬‫ّ‬ ‫ل‬‫با‬ ‫ن‬ ‫رو‬ ‫ش‬
‫ْ ِ ِ ََ ْ َْ ِ ُ َ ِ ِ َ‬‫ب‬‫ت‬‫س‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ض‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ن‬
‫ُ ِ ْ‬‫م‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫م‬‫ن بِ َ َ ُ ُ‬
‫ه‬ ‫تا‬ ‫آ‬ ‫ما‬ ‫حي َ‬‫ن * فَرِ ِ‬ ‫م ي ُْرَزُقو َ‬‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ن‬‫شُرو َ‬ ‫ست َب ْ ِ‬
‫ن * يَ ْ‬ ‫حَزُنو َ‬‫م يَ ْ‬‫م َول هُ ْ‬ ‫ف عَلي ْهِ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫م أل َ‬ ‫فهِ ْ‬
‫خل ِ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬‫م ِ‬‫قوا ب ِهِ ْ‬‫ح ُ‬ ‫م ي َل َ‬ ‫لَ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫جَر ال ْ ُ‬
‫ضيعُ أ ْ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ل وَأ ّ‬ ‫ن الل ّهِ وَفَ ْ‬
‫ض ٍ‬ ‫م َ‬ ‫مة ٍ ِ‬ ‫ب ِن ِعْ َ‬
‫ن الله‬ ‫هذه اليات الكريمة )‪ (1‬فيها فضيلة )‪ (2‬الشهداء وكرامتهم‪ ،‬وما م ّ‬
‫عليهم به من فضله وإحسانه‪ ،‬وفي ضمنها تسلية الحياء عن قتلهم‬
‫وتعزيتهم‪ ،‬وتنشيطهم للقتال في سبيل الله والتعرض للشهادة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫} ول تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله { أي‪ :‬في جهاد أعداء الدين‪،‬‬
‫قاصدين بذلك إعلء كلمة الله } أمواتا { أي‪ :‬ل يخطر ببالك وحسبانك‬
‫أنهم ماتوا وفقدوا‪ ،‬وذهبت عنهم لذة الحياة الدنيا والتمتع بزهرتها‪ ] ،‬ص‬
‫‪ [ 157‬الذي يحذر من فواته‪ ،‬من جبن عن القتال‪ ،‬وزهد في الشهادة‪.‬‬
‫} بل { قد حصل لهم أعظم مما يتنافس فيه المتنافسون‪ .‬فهم } أحياء‬
‫عند ربهم { في دار كرامته‪.‬‬
‫ولفظ‪ } :‬عند ربهم { يقتضي علو درجتهم‪ ،‬وقربهم من ربهم‪ } ،‬يرزقون {‬
‫من أنواع النعيم الذي ل يعلم وصفه‪ ،‬إل من أنعم به عليهم‪ ،‬ومع هذا‬
‫} فرحين بما آتاهم الله من فضله { أي‪ :‬مغتبطين بذلك‪ ،‬قد قرت به‬
‫عيونهم‪ ،‬وفرحت به نفوسهم‪ ،‬وذلك لحسنه وكثرته‪ ،‬وعظمته‪ ،‬وكمال اللذة‬
‫في الوصول إليه‪ ،‬وعدم المنغص‪ ،‬فجمع الله لهم بين نعيم البدن بالرزق‪،‬‬
‫ونعيم القلب والروح بالفرح بما آتاهم من فضله‪ :‬فتم لهم )‪ (3‬النعيم‬
‫والسرور‪ ،‬وجعلوا } يستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم { أي‪:‬‬
‫يبشر بعضهم بعضا‪ ،‬بوصول إخوانهم الذين لم يلحقوا بهم‪ ،‬وأنهم سينالون‬
‫ما نالوا‪ } ،‬أل خوف عليهم ول هم يحزنون { أي‪ :‬يستبشرون بزوال‬
‫المحذور عنهم وعن إخوانهم المستلزم كمال السرور‬
‫} يستبشرون بنعمة من الله وفضل { أي‪ :‬يهنىء بعضهم بعضا‪ ،‬بأعظم‬
‫مهنأ به‪ ،‬وهو‪ :‬نعمة ربهم‪ ،‬وفضله‪ ،‬وإحسانه‪ } ،‬وأن الله ل يضيع أجر‬
‫المؤمنين { بل ينميه ويشكره‪ ،‬ويزيده من فضله‪ ،‬ما ل يصل إليه سعيهم‪.‬‬
‫وفي هذه اليات إثبات نعيم البرزخ‪ ،‬وأن الشهداء في أعلى مكان عند‬
‫ربهم‪ ،‬وفيه تلقي أرواح أهل الخير‪ ،‬وزيارة بعضهم بعضا‪ ،‬وتبشير بعضهم‬
‫بعضا‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬الكريمات‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬فضل‪.‬‬
‫)‪ (3‬في النسختين‪ :‬فتم له‪.‬‬

‫) ‪(1/156‬‬

‫قرح ل ِل ّذي َ‬ ‫َ‬


‫م‬
‫من ْهُ ْ‬
‫سُنوا ِ‬ ‫ح َ‬‫نأ ْ‬ ‫ِ َ‬ ‫م ال ْ َ ْ ُ‬ ‫صاب َهُ ُ‬
‫ما أ َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬
‫ل ِ‬ ‫سو ِ‬ ‫جاُبوا ل ِل ّهِ َوالّر ُ‬
‫ست َ َ‬
‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫م‬‫مُعوا ل َك ُ ْ‬
‫ج َ‬‫س قَد ْ َ‬
‫ن الّنا َ‬ ‫س إِ ّ‬ ‫م الّنا ُ‬ ‫ل ل َهُ ُ‬‫ن َقا َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م )‪ (172‬ال ّ ِ‬ ‫ظي ٌ‬ ‫جٌر عَ ِ‬ ‫وا أ ْ‬ ‫ق ْ‬
‫َوات ّ َ‬
‫ل )‪(173‬‬ ‫كي ُ‬ ‫ْ‬
‫م الوَ ِ‬ ‫ه وَن ِعْ َ‬ ‫ّ‬
‫سب َُنا الل ُ‬ ‫ح ْ‬ ‫ُ‬
‫ماًنا وََقالوا َ‬ ‫م فََزاد َهُ ْ‬
‫م ِإي َ‬ ‫شوْهُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫َفا ْ‬
‫م ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ح‬
‫قْر ُ‬ ‫صاب َهُ ُ‬‫ما أ َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫سو ِ‬‫جاُبوا ل ِل ّهِ َوالّر ُ‬‫ست َ َ‬
‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪ } { 175 - 172‬ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫ل ِل ّذي َ‬
‫س‬
‫ن الّنا َ‬ ‫س إِ ّ‬ ‫م الّنا ُ‬ ‫ل ل َهُ ُ‬‫ن َقا َ‬‫ذي َ‬‫م * ال ّ ِ‬
‫ظي ٌ‬‫جٌر عَ ِ‬ ‫وا أ ْ‬‫ق ْ‬‫م َوات ّ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫سُنوا ِ‬ ‫ح َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ِ َ‬
‫ل{‪.‬‬ ‫كي ُ‬ ‫ْ‬
‫م الوَ ِ‬ ‫ه وَن ِعْ َ‬ ‫ّ‬
‫سب َُنا الل ُ‬ ‫ح ْ‬ ‫ُ‬
‫ماًنا وََقالوا َ‬ ‫م فََزاد َهُ ْ‬
‫م ِإي َ‬ ‫شوْهُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫م َفا ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫مُعوا لك ْ‬ ‫ج َ‬‫قَد ْ َ‬
‫لما رجع النبي صلى الله عليه وسلم من "أحد" إلى المدينة‪ ،‬وسمع أن أبا‬
‫سفيان ومن معه من المشركين قد هموا بالرجوع إلى المدينة‪ ،‬ندب‬
‫أصحابه إلى الخروج‪ ،‬فخرجوا ‪-‬على ما بهم من الجراح‪ -‬استجابة لله‬
‫ولرسوله‪ ،‬وطاعة لله ولرسوله‪ ،‬فوصلوا إلى "حمراء السد" وجاءهم من‬
‫جاءهم وقال لهم‪ } :‬إن الناس قد جمعوا لكم { وهموا باستئصالكم‪،‬‬
‫تخويفا لهم وترهيبا‪ ،‬فلم يزدهم ذلك إل إيمانا بالله واتكال عليه‪.‬‬
‫} وقالوا حسبنا الله { أي‪ :‬كافينا كل ما أهمنا } ونعم الوكيل { المفوض‬
‫إليه تدبير عباده‪ ،‬والقائم بمصالحهم‪.‬‬

‫) ‪(1/157‬‬

‫ن الل ّهِ َوالل ّ ُ‬


‫ه‬ ‫وا َ‬‫ض َ‬
‫سوٌء َوات ّب َُعوا رِ ْ‬
‫م ُ‬ ‫سه ُ ْ‬‫س ْ‬‫م َ‬‫م يَ ْ‬‫ل لَ ْ‬ ‫ض ٍ‬‫ن الل ّهِ وَفَ ْ‬ ‫م َ‬‫مة ٍ ِ‬ ‫قل َُبوا ب ِن ِعْ َ‬‫َفان ْ َ‬
‫َ‬
‫ف أوْل َِياَءهُ فََل ت َ َ‬ ‫شي ْ َ‬
‫خاُفوهُ ْ‬
‫م‬ ‫خوّ ُ‬‫ن يُ َ‬‫طا ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ما ذ َل ِك ُ ُ‬
‫ظيم ٍ )‪ (174‬إ ِن ّ َ‬ ‫ل عَ ِ‬ ‫ض ٍ‬‫ذو فَ ْ‬ ‫ُ‬
‫ن )‪(175‬‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫م ُ‬ ‫ُ‬
‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫خافو ِ‬‫ُ‬ ‫وَ َ‬

‫ن الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫وا َ‬‫ض َ‬‫سوٌء َوات ّب َُعوا رِ ْ‬‫م ُ‬ ‫سهُ ْ‬‫س ْ‬‫م َ‬ ‫ل لَ ْ‬
‫م يَ ْ‬ ‫ض ٍ‬ ‫ن الل ّهِ وَفَ ْ‬ ‫م َ‬ ‫مة ٍ ِ‬‫قل َُبوا ب ِن ِعْ َ‬
‫} َفان ْ َ‬
‫َ‬ ‫شي ْ َ‬
‫خاُفوهُ ْ‬
‫م‬ ‫ف أوْل َِياَءهُ َفل ت َ َ‬‫خوّ ُ‬ ‫ن يُ َ‬‫طا ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ما ذ َل ِك ُ ُ‬
‫ظيم ٍ * إ ِن ّ َ‬‫ل عَ ِ‬ ‫ض ٍ‬ ‫ذو فَ ْ‬ ‫ه ُ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫م ُ‬‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫خاُفو ِ‬
‫ن إِ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫} فانقلبوا { أي‪ :‬رجعوا } بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء { ‪.‬‬
‫وجاء الخبر المشركين أن الرسول وأصحابه قد خرجوا إليكم‪ ،‬وندم من‬
‫تخلف منهم‪ ،‬فألقى الله الرعب في قلوبهم‪ ،‬واستمروا راجعين إلى مكة‪،‬‬
‫ن عليهم بالتوفيق للخروج‬ ‫م ّ‬
‫ورجع المؤمنون بنعمة من الله وفضل‪ ،‬حيث َ‬
‫بهذه الحالة والتكال على ربهم‪ ،‬ثم إنه قد كتب لهم أجر غزاة تامة‪،‬‬
‫فبسبب إحسانهم بطاعة ربهم‪ ،‬وتقواهم عن معصيته‪ ،‬لهم أجر عظيم‪،‬‬
‫وهذا فضل الله عليهم‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪ } :‬إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه { أي‪ :‬إن ترهيب من‬
‫رهب من المشركين‪ ،‬وقال‪ :‬إنهم جمعوا لكم‪ ،‬داع من دعاة الشيطان‪،‬‬
‫يخوف أولياءه الذين عدم إيمانهم‪ ،‬أو ضعف‪ } .‬فل تخافوهم وخافون إن‬
‫كنتم مؤمنين { أي‪ :‬فل تخافوا المشركين أولياء الشيطان‪ ،‬فإن نواصيهم‬
‫بيد الله‪ ،‬ل يتصرفون إل بقدره‪ ،‬بل خافوا الله الذي ينصر أولياءه الخائفين‬
‫منه )‪ (1‬المستجيبين لدعوته‪.‬‬
‫وفي هذه الية وجوب الخوف من الله وحده‪ ،‬وأنه من لوازم اليمان‪،‬‬
‫فعلى قدر إيمان العبد يكون خوفه من الله‪ ،‬والخوف المحمود‪ :‬ما حجز‬
‫العبد عن محارم الله‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في النسختين‪ :‬الخائفين له‪ ،‬ولعل القرب ما أثبت‪.‬‬

‫) ‪(1/157‬‬
‫ه أ َّل‬
‫ريد ُ الل ّ ُ‬‫شي ًْئا ي ُ ِ‬‫ه َ‬ ‫ضّروا الل ّ َ‬
‫ن يَ ُ‬‫م لَ ْ‬‫فرِ إ ِن ّهُ ْ‬‫ن ِفي ال ْك ُ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫سارِ ُ‬ ‫ن يُ َ‬‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬
‫حُزن ْ َ‬ ‫وََل ي َ ْ‬
‫نا ْ‬
‫شت ََرُوا‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫م )‪ (176‬إ ِ ّ‬ ‫ظي ٌ‬
‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬‫م عَ َ‬ ‫ظا ِفي اْل َ ِ‬
‫خَرةِ وَل َهُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬‫جع َ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ال ْك ْ‬
‫ُ‬
‫م )‪(177‬‬ ‫ب أِلي ٌ‬
‫ذا ٌ‬‫م عَ َ‬ ‫شي ًْئا وَلهُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ضّروا الل َ‬ ‫ن يَ ُ‬‫نل ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫لي َ‬‫فَر ِبا ِ‬
‫ضّروا‬ ‫م لَ ْ‬
‫ن يَ ُ‬ ‫فرِ إ ِن ّهُ ْ‬‫ن ِفي ال ْك ُ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫سارِ ُ‬ ‫ن يُ َ‬‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬‫حُزن ْ َ‬‫} ‪َ } { 177 - 176‬ول ي َ ْ‬
‫شيًئا يريد الل ّ َ‬
‫ن‬
‫م * إِ ّ‬‫ظي ٌ‬
‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬ ‫خَرةِ وَل َهُ ْ‬ ‫ظا ِفي ال ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬‫جع َ َ‬‫ه أل ي َ ْ‬
‫ُ‬ ‫ه َ ْ ُ ِ ُ‬ ‫الل ّ َ‬
‫َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬ ‫شي ًْئا وَل َهُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ضّروا الل ّ َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫فَر ِبالي َ‬ ‫شت ََرُوا ال ْك ُ ْ‬
‫نا ْ‬
‫ذي َ‬‫ال ّ ِ‬
‫كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على الخلق‪ ،‬مجتهدا في هدايتهم‪،‬‬
‫وكان يحزن إذا لم يهتدوا‪ ،‬قال الله تعالى‪ } :‬ول يحزنك الذين يسارعون‬
‫في الكفر { من شدة رغبتهم فيه‪ ،‬وحرصهم عليه } إنهم لن يضروا الله‬
‫شيئا { فالله ناصر دينه‪ ،‬ومؤيد رسوله‪ ،‬ومنفذ أمره من دونهم‪ ،‬فل تبالهم‬
‫ول تحفل بهم‪ ،‬إنما يضرون ويسعون في ضرر أنفسهم‪ ،‬بفوات اليمان في‬
‫الدنيا‪ ،‬وحصول العذاب الليم في الخرى‪ ،‬من هوانهم على الله وسقوطهم‬
‫من عينه‪ ،‬وإرادته أن ل يجعل لهم نصيبا في الخرة من ثوابه‪ .‬خذلهم فلم‬
‫يوفقهم لما وفق له ] ص ‪ [ 158‬أولياءه ومن أراد به خيرا‪ ،‬عدل منه‬
‫وحكمة‪ ،‬لعلمه بأنهم غير زاكين على الهدى‪ ،‬ول قابلين للرشاد‪ ،‬لفساد‬
‫أخلقهم وسوء قصدهم‪.‬‬
‫ثم أخبر أن الذين اختاروا الكفر على اليمان‪ ،‬ورغبوا فيه رغبة من بذل ما‬
‫يحب من المال‪ ،‬في شراء ما يحب من السلع } لن يضروا الله شيئا { بل‬
‫ضرر فعلهم يعود على أنفسهم‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬ولهم عذاب أليم { وكيف‬
‫يضرون الله شيئا‪ ،‬وهم قد زهدوا أشد الزهد في اليمان‪ ،‬ورغبوا كل‬
‫الرغبة بالكفر بالرحمن؟! فالله غني عنهم‪ ،‬وقد قيض لدينه من عباده‬
‫البرار الزكياء سواهم‪ ،‬وأعد له ‪-‬ممن ارتضاه لنصرته‪ -‬أهل البصائر‬
‫والعقول‪ ،‬وذوي اللباب من الرجال الفحول‪ ،‬قال الله تعالى‪ } :‬قل آمنوا‬
‫به أو ل تؤمنوا إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرون‬
‫للذقان سجدا { اليات‪.‬‬

‫) ‪(1/157‬‬

‫خي ٌْر ِل َن ْ ُ‬ ‫َ‬


‫مِلي ل َهُ ْ‬
‫م‬ ‫ما ن ُ ْ‬
‫م إ ِن ّ َ‬
‫سه ِ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫مِلي ل َهُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ما ن ُ ْ‬
‫فُروا أن ّ َ‬‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫سب َ ّ‬ ‫ح َ‬‫وََل ي َ ْ‬
‫ن )‪(178‬‬ ‫مِهي ٌ‬ ‫ب ُ‬ ‫م عَ َ‬
‫ذا ٌ‬ ‫ما وَل َهُ ْ‬ ‫دوا إ ِث ْ ً‬
‫دا ُ‬ ‫ل ِي َْز َ‬
‫َ‬
‫ما‬
‫م إ ِن ّ َ‬
‫سهِ ْ‬
‫ف ِ‬
‫خي ٌْر لن ْ ُ‬ ‫مِلي ل َهُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ما ن ُ ْ‬
‫فُروا أن ّ َ‬‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬
‫سب َ ّ‬‫ح َ‬ ‫} ‪َ } { 178‬ول ي َ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِهي ٌ‬ ‫ب ُ‬‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬ ‫َ‬
‫ما وَلهُ ْ‬ ‫دوا إ ِث ْ ً‬ ‫دا ُ‬ ‫مِلي ل َهُ ْ‬
‫م ل ِي َْز َ‬ ‫نُ ْ‬
‫أي‪ :‬ول يظن الذين كفروا بربهم ونابذوا دينه‪ ،‬وحاربوا رسوله أن تركنا‬
‫إياهم في هذه الدنيا‪ ،‬وعدم استئصالنا لهم‪ ،‬وإملءنا لهم خير لنفسهم‪،‬‬
‫ومحبة منا لهم‪.‬‬
‫كل ليس المر كما زعموا‪ ،‬وإنما ذلك لشر يريده الله بهم‪ ،‬وزيادة عذاب‬
‫وعقوبة إلى عذابهم‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬إنما نملي لهم ليزدادوا إثما ولهم عذاب‬
‫مهين { فالله تعالى يملي للظالم‪ ،‬حتى يزداد طغيانه‪ ،‬ويترادف كفرانه‪،‬‬
‫حتى إذا أخذه أخذه )‪ (1‬أخذ عزيز مقتدر‪ ،‬فليحذر الظالمون من المهال‪،‬‬
‫ول يظنوا أن يفوتوا الكبير المتعال‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ثم أخذه‪.‬‬

‫) ‪(1/158‬‬

‫َ‬
‫ن الط ّي ّ ِ‬
‫ب‬ ‫م َ‬‫ث ِ‬‫خِبي َ‬ ‫ميَز ال ْ َ‬ ‫م عَل َي ْهِ َ‬
‫حّتى ي َ ِ‬ ‫ما أن ْت ُ ْ‬ ‫ن عََلى َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ه ل ِي َذ ََر ال ْ ُ‬ ‫ن الل ّ ُ‬‫كا َ‬‫ما َ‬ ‫َ‬
‫شاُء‬‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬‫سل ِهِ َ‬
‫ن ُر ُ‬ ‫م ْ‬ ‫جت َِبي ِ‬‫ه يَ ْ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫َ‬
‫ب وَلك ِ ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م عَلى الغَي ْ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ه ل ِي ُطل ِعَك ْ‬ ‫ّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫َ‬
‫ما كا َ‬ ‫وَ َ‬
‫َ‬
‫م )‪(179‬‬ ‫ظي ٌ‬ ‫جٌر عَ ِ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫قوا فَلك ْ‬ ‫ن ت ُؤْ ِ‬
‫مُنوا وَت َت ّ ُ‬ ‫سل ِهِ وَإ ِ ْ‬ ‫ّ‬
‫مُنوا ِباللهِ وَُر ُ‬ ‫فَآ َ ِ‬
‫َ‬
‫ميَز‬ ‫حّتى ي َ ِ‬ ‫م عَل َي ْهِ َ‬ ‫ما أن ْت ُ ْ‬ ‫ن عََلى َ‬ ‫مِني َ‬ ‫ه ل ِي َذ ََر ال ْ ُ‬
‫مؤْ ِ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬‫ما َ‬ ‫} ‪َ } { 179‬‬
‫جت َِبي‬
‫ه يَ ْ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫َ‬
‫ب وَلك ِ ّ‬ ‫ْ‬
‫م عَلى الغَي ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ه ل ِي ُطل ِعَك ْ‬ ‫ّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫ما كا َ‬‫َ‬ ‫ب وَ َ‬ ‫ّ‬
‫ن الطي ّ ِ‬ ‫م َ‬
‫ث ِ‬ ‫خِبي َ‬‫ال ْ َ‬
‫َ‬
‫م‬
‫ظي ٌ‬
‫جٌر عَ ِ‬ ‫مأ ْ‬ ‫قوا فَل َك ُ ْ‬ ‫مُنوا وَت َت ّ ُ‬ ‫ن ت ُؤْ ِ‬ ‫مُنوا ِبالل ّهِ وَُر ُ‬
‫سل ِهِ وَإ ِ ْ‬ ‫شاُء َفآ ِ‬ ‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬‫سل ِهِ َ‬
‫ن ُر ُ‬‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫{‪.‬‬
‫أي‪ :‬ما كان في حكمة الله أن يترك المؤمنين على ما أنتم عليه من‬
‫الختلط وعدم التميز )‪ (1‬حتى يميز الخبيث من الطيب‪ ،‬والمؤمن من‬
‫المنافق‪ ،‬والصادق من الكاذب‪.‬‬
‫ولم يكن في حكمته أيضا أن يطلع عباده على الغيب الذي يعلمه من‬
‫عباده‪ ،‬فاقتضت حكمته الباهرة أن يبتلي عباده‪ ،‬ويفتنهم بما به يتميز‬
‫الخبيث من الطيب‪ ،‬من أنواع البتلء والمتحان‪ ،‬فأرسل ]الله[ رسله‪،‬‬
‫وأمر بطاعتهم‪ ،‬والنقياد لهم‪ ،‬واليمان بهم‪ ،‬ووعدهم على اليمان والتقوى‬
‫الجر العظيم‪.‬‬
‫فانقسم الناس بحسب اتباعهم للرسل قسمين‪ :‬مطيعين وعاصين‪،‬‬
‫ومؤمنين ومنافقين‪ ،‬ومسلمين وكافرين‪ ،‬ليرتب على ذلك الثواب والعقاب‪،‬‬
‫وليظهر عدله وفضله‪ ،‬وحكمته لخلقه‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬التمييز‪.‬‬

‫) ‪(1/158‬‬

‫َ‬
‫ل هُوَ َ‬
‫شّر‬ ‫خي ًْرا ل َهُ ْ‬
‫م بَ ْ‬ ‫ن فَ ْ‬
‫ضل ِهِ هُوَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬‫م الل ّ ُ‬ ‫ما آَتاهُ ُ‬ ‫ن بِ َ‬‫خُلو َ‬‫ن ي َب ْ َ‬‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬‫سب َ ّ‬
‫ح َ‬ ‫وََل ي َ ْ‬
‫َْ‬ ‫مةِ وَل ِل ّهِ ِ‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫ض‬
‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ث ال ّ‬ ‫ميَرا ُ‬ ‫قَيا َ‬ ‫خُلوا ب ِهِ ي َوْ َ‬
‫ما ب َ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫سي ُط َوُّقو َ‬ ‫م َ‬ ‫ل َهُ ْ‬
‫خِبيٌر )‪(180‬‬ ‫ن َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬‫ه بِ َ‬‫َوالل ّ ُ‬
‫خي ًْرا‬ ‫ن فَ ْ‬
‫ضل ِهِ هُوَ َ‬ ‫م ْ‬
‫ه ِ‬‫م الل ّ ُ‬
‫ما آَتاهُ ُ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫خُلو َ‬ ‫ن ي َب ْ َ‬
‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫سب َ ّ‬
‫ح َ‬ ‫} ‪َ } { 180‬ول ي َ ْ‬
‫ث‬
‫ميَرا ُ‬ ‫ّ‬
‫مةِ وَل ِلهِ ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫ْ‬
‫م ال ِ‬
‫خلوا ب ِهِ ي َوْ َ‬‫ُ‬ ‫ما ب َ ِ‬‫ن َ‬ ‫ُ‬
‫سي ُطوّقو َ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫شّر ل َهُ ْ‬ ‫ل هُوَ َ‬‫م بَ ْ‬‫ل َهُ ْ‬
‫خِبيٌر { ‪.‬‬ ‫ن َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ض َوالل ّ ُ‬‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬‫س َ‬
‫ال ّ‬
‫أي‪ :‬ول يظن الذين يبخلون‪ ،‬أي‪ :‬يمنعون ما عندهم مما آتاهم الله من‬
‫فضله‪ ،‬من المال والجاه والعلم‪ ،‬وغير ذلك مما منحهم الله‪ ،‬وأحسن إليهم‬
‫به‪ ،‬وأمرهم ببذل ما ل يضرهم منه لعباده‪ ،‬فبخلوا بذلك‪ ،‬وأمسكوه‪ ،‬وضنوا‬
‫به على عباد الله‪ ،‬وظنوا أنه خير لهم‪ ،‬بل هو شر لهم‪ ،‬في دينهم ودنياهم‪،‬‬
‫وعاجلهم وآجلهم } سيطوقون ما بخلوا به يوم القيامة { أي‪ :‬يجعل ما‬
‫بخلوا به طوقا في أعناقهم‪ ،‬يعذبون به كما ورد في الحديث الصحيح‪" ،‬إن‬
‫البخيل يمثل له ماله يوم القيامة شجاعا أقرع‪ ،‬له زبيبتان‪ ،‬يأخذ بلهزمتيه‬
‫يقول‪ :‬أنا مالك‪ ،‬أنا كنزك" وتل رسول الله صلى الله عليه وسلم مصداق‬
‫ذلك‪ ،‬هذه الية‪.‬‬
‫فهؤلء حسبوا أن بخلهم نافعهم‪ ،‬ومجد عليهم‪ ،‬فانقلب عليهم المر‪ ،‬وصار‬
‫من أعظم مضارهم‪ ،‬وسبب عقابهم‪.‬‬
‫} ولله ميراث السماوات والرض { أي‪ :‬هو تعالى مالك الملك‪ ،‬وترد جميع‬
‫الملك إلى مالكها‪ ،‬وينقلب العباد من الدنيا ما معهم درهم ول دينار‪ ،‬ول‬
‫غير ذلك من المال‪.‬‬
‫قال تعالى‪ } :‬إنا نحن نرث الرض ومن عليها وإلينا يرجعون { وتأمل كيف‬
‫ذكر السبب البتدائي والسبب الغائي‪ ،‬الموجب كل واحد منهما أن ل يبخل‬
‫العبد بما أعطاه الله‪.‬‬
‫أخبر أول أن الذي عنده وفي يده فضل من الله ونعمة‪ ،‬ليس ملكا للعبد‪،‬‬
‫بل لول فضل الله عليه وإحسانه‪ ،‬لم يصل إليه منه شيء‪ ،‬فمنعه لذلك منع‬
‫لفضل الله وإحسانه؛ ولن إحسانه موجب للحسان إلى عبيده كما قال‬
‫تعالى‪ } :‬وأحسن كما أحسن الله إليك { ‪.‬‬
‫فمن تحقق أن ما بيده‪ ،‬فضل من الله‪ ،‬لم يمنع الفضل الذي ل يضره‪ ،‬بل‬
‫ينفعه في قلبه وماله‪ ،‬وزيادة إيمانه‪ ،‬وحفظه من الفات‪.‬‬
‫ثم ذكر ثانيا‪ :‬أن هذا الذي بيد ] ص ‪ [ 159‬العباد كلها ترجع إلى الله‪،‬‬
‫ويرثها تعالى‪ ،‬وهو خير الوارثين‪ ،‬فل معنى للبخل بشيء هو زائل عنك‬
‫منتقل إلى غيرك‪.‬‬
‫ثم ذكر ثالثا‪ :‬السبب الجزائي‪ ،‬فقال‪ } :‬والله بما تعملون خبير { فإذا كان‬
‫خبيرا بأعمالكم جميعها ‪-‬ويستلزم ذلك الجزاء الحسن على الخيرات‪،‬‬
‫والعقوبات على الشر‪ -‬لم يتخلف من في قلبه مثقال ذرة من إيمان عن‬
‫النفاق الذي يجزى به الثواب‪ ،‬ول يرضى بالمساك الذي به العقاب‪.‬‬

‫) ‪(1/158‬‬

‫ما َقاُلوا‬ ‫ل ال ّذين َقاُلوا إن الل ّه فَقير ونح َ‬


‫ب َ‬ ‫سن َك ْت ُ ُ‬
‫ن أغْن َِياُء َ‬‫َ ِ ٌ ََ ْ ُ‬ ‫ِ ّ‬ ‫ِ َ‬ ‫ه قَوْ َ‬ ‫معَ الل ّ ُ‬ ‫س ِ‬‫قد ْ َ‬ ‫لَ َ‬
‫ب ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫م اْلن ْب َِياَء ب ِغَي ْرِ َ‬
‫ما‬
‫ك بِ َ‬‫ق )‪ (181‬ذ َل ِ َ‬ ‫ري ِ‬‫ح ِ‬ ‫ذوُقوا عَ َ‬
‫ذا َ‬ ‫ل ُ‬‫قو ُ‬ ‫حقّ وَن َ ُ‬ ‫وَقَت ْل َهُ ُ‬
‫س ب ِظ َّلم ٍ ل ِل ْعَِبيدِ )‪(182‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه ل َي ْ َ‬‫ن الل ّ َ‬‫م وَأ ّ‬ ‫ديك ُ ْ‬ ‫ت أي ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قَد ّ َ‬
‫ن‬
‫ح ُ‬ ‫قيٌر وَن َ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه فَ ِ‬ ‫ن َقاُلوا إ ِ ّ‬ ‫ذي َ‬‫ل ال ّ ِ‬‫ه قَوْ َ‬ ‫معَ الل ّ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫} ‪ } { 182 - 181‬ل َ َ‬
‫َ‬
‫ق‬
‫ري ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬
‫ح ِ‬ ‫ذا َ‬‫ذوُقوا عَ َ‬ ‫ل ُ‬‫قو ُ‬ ‫حقّ وَن َ ُ‬ ‫م الن ْب َِياَء ب ِغَي ْرِ َ‬ ‫ما َقاُلوا وَقَت ْل َهُ ُ‬ ‫ب َ‬ ‫سن َك ْت ُ ُ‬‫أغْن َِياُء َ‬
‫ظلم ٍ ل ِل ْعَِبيدِ { ‪.‬‬‫س بِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه ل َي ْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫م وَأ ّ‬ ‫ديك ُ ْ‬ ‫ت أي ْ ِ‬
‫م ْ‬‫ما قَد ّ َ‬ ‫* ذ َل ِ َ‬
‫ك بِ َ‬
‫يخبر تعالى‪ ،‬عن قول هؤلء المتمردين‪ ،‬الذين قالوا أقبح المقالة وأشنعها‪،‬‬
‫وأسمجها‪ ،‬فأخبر أنه قد سمع ما قالوه وأنه سيكتبه ويحفظه‪ ،‬مع أفعالهم‬
‫الشنيعة‪ ،‬وهو‪ :‬قتلهم النبياء الناصحين‪ ،‬وأنه سيعاقبهم على ذلك أشد‬
‫العقوبة‪ ،‬وأنه يقال لهم ‪-‬بدل قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء‪ } -‬ذوقوا‬
‫عذاب الحريق { المحرق النافذ من البدن إلى الفئدة‪ ،‬وأن عذابهم ليس‬
‫ظلما من الله لهم‪ ،‬فإنه } ليس بظلم للعبيد { فإنه منزه عن ذلك‪ ،‬وإنما‬
‫ذلك بما قدمت أيديهم من المخازي والقبائح‪ ،‬التي أوجبت استحقاقهم‬
‫العذاب‪ ،‬وحرمانهم الثواب‪.‬‬
‫وقد ذكر المفسرون أن هذه الية نزلت في قوم من اليهود‪ ،‬تكلموا بذلك‪،‬‬
‫وذكروا منهم "فنحاص بن عازوراء" من رؤساء علماء اليهود في المدينة‪،‬‬
‫وأنه لما سمع قول الله تعالى‪ } :‬من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا {‬
‫} وأقرضوا الله قرضا حسنا { قال‪- :‬على وجه التكبر والتجرهم‪ -‬هذه‬
‫المقالة قبحه الله‪ ،‬فذكرها الله عنهم‪ ،‬وأخبر أنه ليس ببدع من شنائعهم‪،‬‬
‫بل قد سبق لهم من الشنائع ما هو نظير ذلك‪ ،‬وهو‪ } :‬قتلهم النبياء بغير‬
‫حق { هذا القيد يراد به‪ ،‬أنهم تجرأوا على قتلهم مع علمهم بشناعته‪ ،‬ل‬
‫جهل وضلل بل تمردا وعنادا‪.‬‬

‫) ‪(1/159‬‬

‫ْ‬ ‫حّتى ي َأ ْت ِي ََنا ب ِ ُ‬ ‫َ‬


‫ه الّناُر‬ ‫ن ت َأك ُل ُ ُ‬ ‫قْرَبا ٍ‬ ‫ل َ‬‫سو ٍ‬ ‫ن ل َِر ُ‬ ‫م َ‬‫ه عَهِد َ إ ِل َي َْنا أّل ن ُؤْ ِ‬‫ن الل ّ َ‬‫ن َقاُلوا إ ِ ّ‬‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫م‬‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬‫م إِ ْ‬ ‫موهُ ْ‬ ‫م قَت َل ْت ُ ُ‬‫م فَل ِ َ‬ ‫ذي قُل ْت ُ ْ‬ ‫ت وَِبال ّ ِ‬‫ن قَب ِْلي ِبال ْب َي َّنا ِ‬ ‫م ْ‬
‫ل ِ‬ ‫س ٌ‬ ‫م ُر ُ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬‫ل قَد ْ َ‬‫قُ ْ‬
‫ت‬‫جاُءوا ِبال ْب َي َّنا ِ‬ ‫ك َ‬ ‫ن قَب ْل ِ َ‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬‫س ٌ‬ ‫ب ُر ُ‬ ‫قد ْ ك ُذ ّ َ‬ ‫ك فَ َ‬‫ن ك َذ ُّبو َ‬ ‫ن )‪ (183‬فَإ ِ ْ‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫َ‬
‫مِنيرِ )‪(184‬‬ ‫ْ‬
‫ب ال ُ‬ ‫ْ‬
‫َوالّزب ُرِ َوالك َِتا ِ‬
‫َ‬
‫حّتى‬ ‫ل َ‬ ‫سو ٍ‬ ‫ن ل َِر ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه عَهِد َ إ ِل َي َْنا أل ن ُؤْ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن َقاُلوا إ ِ ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪ } { 184 - 183‬ال ّ ِ‬
‫ْ‬ ‫ي َأ ْت ِي ََنا ب ِ ُ‬
‫م‬‫ذي قُل ْت ُ ْ‬ ‫ت وَِبال ّ ِ‬‫ن قَب ِْلي ِبال ْب َي َّنا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫س ٌ‬‫م ُر ُ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫ل قَد ْ َ‬ ‫ه الّناُر قُ ْ‬ ‫ن ت َأك ُل ُ ُ‬
‫قْرَبا ٍ‬
‫ك‬‫ن قَب ْل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬‫س ٌ‬‫ب ُر ُ‬ ‫قد ْ ك ُذ ّ َ‬
‫ك فَ َ‬ ‫ن ك َذ ُّبو َ‬ ‫ن * فَإ ِ ْ‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬‫م إِ ْ‬ ‫موهُ ْ‬ ‫م قَت َل ْت ُ ُ‬ ‫فَل ِ َ‬
‫مِنيرِ { ‪.‬‬ ‫ب ال ْ ُ‬‫ت َوالّزب ُرِ َوال ْك َِتا ِ‬ ‫جاُءوا ِبال ْب َي َّنا ِ‬ ‫َ‬
‫يخبر تعالى عن حال هؤلء المفترين القائلين‪ } :‬إن الله عهد إلينا { أي‪:‬‬
‫تقدم إلينا وأوصى‪ } ،‬أل نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار {‬
‫فجمعوا بين الكذب على الله‪ ،‬وحصر آية الرسل بما قالوه‪ ،‬من هذا الفك‬
‫المبين‪ ،‬وأنهم إن لم يؤمنوا برسول لم يأتهم بقربان تأكله النار‪ ،‬فهم ‪-‬في‬
‫ذلك‪ -‬مطيعون لربهم‪ ،‬ملتزمون عهده‪ ،‬وقد علم أن كل رسول يرسله الله‪،‬‬
‫يؤيده من اليات والبراهين‪ ،‬ما على مثله آمن البشر‪ ،‬ولم يقصرها على ما‬
‫قالوه‪ ،‬ومع هذا فقد قالوا إفكا لم يلتزموه‪ ،‬وباطل لم يعملوا به‪ ،‬ولهذا أمر‬
‫الله رسوله أن يقول لهم‪ } :‬قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات {‬
‫الدالت على صدقهم } وبالذي قلتم { بأن أتاكم بقربان تأكله النار } فلم‬
‫قتلتموهم إن كنتم صادقين { أي‪ :‬في دعواهم )‪ (1‬اليمان برسول يأتي )‬
‫‪ (2‬بقربان تأكله النار‪ ،‬فقد تبين بهذا كذبهم‪ ،‬وعنادهم وتناقضهم‪.‬‬
‫ثم سّلى رسوله صلى الله عليه وسلم‪ ،‬فقال‪ } :‬فإن كذبوك فقد كذب‬
‫رسل من قبلك { أي‪ :‬هذه عادة الظالمين‪ ،‬ودأبهم الكفر بالله‪ ،‬وتكذيب‬
‫رسل الله وليس تكذيبهم لرسل الله‪ ،‬عن قصور ما أتوا به‪ ،‬أو عدم تبين‬
‫حجة‪ ،‬بل قد } جاءوا بالبينات { أي‪ :‬الحجج العقلية‪ ،‬والبراهين النقلية‪،‬‬
‫} والزبر { أي‪ :‬الكتب المزبورة المنزلة من السماء‪ ،‬التي ل يمكن أن يأتي‬
‫بها غير الرسل‪.‬‬
‫} والكتاب المنير { للحكام الشرعية‪ ،‬وبيان ما اشتملت عليه من‬
‫المحاسن العقلية‪ ،‬ومنير أيضا للخبار الصادقة‪ ،‬فإذا كان هذا عادتهم في‬
‫عدم اليمان بالرسل‪ ،‬الذين هذا وصفهم‪ ،‬فل يحزنك أمرهم‪ ،‬ول يهمنك‬
‫شأنهم‪.‬ثم قال تعالى‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬دعواكم‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬يأتيكم‪.‬‬

‫) ‪(1/159‬‬

‫ة ال ْموت وإنما توفّو ُ‬


‫ن‬
‫ح عَ ِ‬
‫حزِ َ‬
‫ن ُز ْ‬ ‫مة ِ ف َ َ‬
‫م ْ‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫جوَرك ُ ْ‬
‫م ي َوْ َ‬ ‫نأ ُ‬ ‫ق ُ َ ْ ِ َ ِّ َ ُ َ ْ َ‬ ‫ذائ ِ َ‬‫س َ‬‫ف ُ ٍ‬ ‫كُ ّ‬
‫ل نَ ْ‬
‫مَتاعُ ال ْغُُرورِ )‪(185‬‬ ‫حَياةُ الد ّن َْيا إ ِّل َ‬
‫ما ال ْ َ‬
‫قد ْ َفاَز وَ َ‬
‫ة فَ َ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫خ َ‬‫الّنارِ وَأد ْ ِ‬
‫ة ال ْموت وإنما توفّو ُ‬
‫ن‬ ‫مة ِ ف َ َ‬
‫م ْ‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫جوَرك ُ ْ‬
‫م ي َوْ َ‬ ‫نأ ُ‬‫ق ُ َ ْ ِ َ ِّ َ ُ َ ْ َ‬ ‫س َ‬
‫ذائ ِ َ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ل نَ ْ‬‫} ‪ } { 185‬ك ُ ّ‬
‫مَتاعُ ال ْغُُرورِ { ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ما ال ْ َ‬
‫حَياةُ الد ّن َْيا ِإل َ‬ ‫قد ْ َفاَز وَ َ‬
‫ة فَ َ‬
‫جن ّ َ‬‫ل ال ْ َ‬
‫خ َ‬
‫ن الّنارِ وَأد ْ ِ‬‫ح عَ ِ‬
‫حزِ َ‬
‫ُز ْ‬
‫هذه الية الكريمة فيها التزهيد في الدنيا بفنائها وعدم بقائها‪ ،‬وأنها متاع‬
‫الغرور‪ ،‬تفتن بزخرفها‪ ،‬وتخدع بغرورها‪ ،‬وتغر بمحاسنها‪ ،‬ثم هي منتقلة‪،‬‬
‫ومنتقل عنها إلى دار القرار‪ ،‬التي توفى فيها النفوس ما عملت في هذه‬
‫الدار‪ ،‬من خير وشر‪.‬‬
‫} فمن زحزح { أي‪ :‬أخرج‪ } ،‬عن النار وأدخل الجنة فقد فاز { أي‪ :‬حصل‬
‫له الفوز العظيم من العذاب الليم‪ ،‬والوصول إلى جنات النعيم‪ ،‬التي فيها‬
‫ما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪.‬‬
‫ومفهوم الية‪ ،‬أن من لم يزحزح عن ] ص ‪ [ 160‬النار ويدخل الجنة‪ ،‬فإنه‬
‫لم يفز‪ ،‬بل قد شقي الشقاء البدي‪ ،‬وابتلي بالعذاب السرمدي‪.‬‬
‫وفي هذه الية إشارة لطيفة إلى نعيم البرزخ وعذابه‪ ،‬وأن العاملين يجزون‬
‫فيه بعض الجزاء مما عملوه‪ ،‬ويقدم لهم أنموذج مما أسلفوه‪ ،‬يفهم هذا‬
‫من قوله‪ } :‬وإنما توفون أجوركم يوم القيامة { أي‪ :‬توفية العمال التامة‪،‬‬
‫إنما يكون يوم القيامة‪ ،‬وأما ما دون ذلك فيكون في البرزخ‪ ،‬بل قد يكون‬
‫قبل ذلك في الدنيا كقوله تعالى‪ } :‬ولنذيقنهم من العذاب الدنى دون‬
‫العذاب الكبر { ‪.‬‬

‫) ‪(1/159‬‬

‫ول َتسمعن من ال ّذي ُ‬ ‫م وَأ َن ْ ُ‬ ‫َ‬


‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م ْ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬
‫ب ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ َ ْ َ ُ ّ ِ َ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ف ِ‬ ‫وال ِك ُ ْ‬
‫م َ‬
‫ن ِفي أ ْ‬ ‫ل َت ُب ْل َوُ ّ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫موِر‬ ‫ن عَْزم ِ ال ُ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ن ذ َل ِك ِ‬ ‫قوا فَإ ِ ّ‬‫صب ُِروا وَت َت ّ ُ‬
‫ن تَ ْ‬
‫وَإ ِ ْ‬ ‫ذى ك َِثيًرا‬ ‫كوا أ ً‬ ‫شَر ُ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م َ‬ ‫وَ ِ‬
‫)‪(186‬‬

‫ن ُأوُتوا‬ ‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬


‫م َ‬‫ن ِ‬‫معُ ّ‬ ‫م وَل َت َ ْ‬
‫س َ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫م وَأ َن ْ ُ‬
‫ف ِ‬ ‫وال ِك ُ ْ‬
‫م َ‬
‫َ‬
‫ن ِفي أ ْ‬ ‫} ‪ } { 186‬ل َت ُب ْل َوُ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫قوا فَإ ِ ّ‬
‫ن‬ ‫صب ُِروا وَت َت ّ ُ‬‫ن تَ ْ‬‫ذى ك َِثيًرا وَإ ِ ْ‬ ‫كوا أ ً‬ ‫شَر ُ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬‫م َ‬
‫م وَ ِ‬‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬‫م ْ‬
‫ب ِ‬‫ال ْك َِتا َ‬
‫مورِ { ‪.‬‬ ‫ن عَْزم ِ ال ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ذ َل ِ َ‬
‫ك ِ‬
‫يخبر تعالى ويخاطب المؤمنين أنهم سيبتلون في أموالهم من النفقات‬
‫الواجبة والمستحبة‪ ،‬ومن التعريض لتلفها في سبيل الله‪ ،‬وفي أنفسهم‬
‫من التكليف بأعباء التكاليف الثقيلة على كثير من الناس‪ ،‬كالجهاد في‬
‫سبيل الله‪ ،‬والتعرض فيه للتعب والقتل والسر والجراح‪ ،‬وكالمراض التي‬
‫تصيبه في نفسه‪ ،‬أو فيمن يحب‪.‬‬
‫} ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم‪ ،‬ومن الذين أشركوا أذى‬
‫كثيرا { من الطعن فيكم‪ ،‬وفي دينكم وكتابكم ورسولكم‪.‬‬
‫وفي إخباره لعباده المؤمنين بذلك‪ ،‬عدة فوائد‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن حكمته تعالى تقتضي ذلك‪ ،‬ليتميز المؤمن الصادق من غيره‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه تعالى يقدر عليهم هذه المور‪ ،‬لما يريده بهم من الخير ليعلي‬
‫درجاتهم‪ ،‬ويكفر من سيئاتهم‪ ،‬وليزداد بذلك إيمانهم‪ ،‬ويتم به إيقانهم‪ ،‬فإنه‬
‫إذا أخبرهم بذلك ووقع كما أخبر } قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله‪ ،‬وصدق‬
‫الله ورسوله‪ ،‬وما زادهم إل إيمانا وتسليما { ‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه أخبرهم بذلك لتتوطن نفوسهم على وقوع ذلك‪ ،‬والصبر عليه إذا‬
‫وقع؛ لنهم قد استعدوا لوقوعه‪ ،‬فيهون عليهم حمله‪ ،‬وتخف عليهم مؤنته‪،‬‬
‫ويلجأون إلى الصبر والتقوى‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وإن تصبروا وتتقوا { أي‪ :‬إن‬
‫تصبروا على ما نالكم في أموالكم وأنفسكم‪ ،‬من البتلء والمتحان وعلى‬
‫أذية الظالمين‪ ،‬وتتقوا الله في ذلك الصبر بأن تنووا به وجه الله والتقرب‬
‫إليه‪ ،‬ولم تتعدوا في صبركم الحد الشرعي من الصبر في موضع ل يحل‬
‫لكم فيه الحتمال‪ ،‬بل وظيفتكم فيه النتقام من أعداء الله‪.‬‬
‫} فإن ذلك من عزم المور { أي‪ :‬من المور التي يعزم عليها‪ ،‬وينافس‬
‫فيها‪ ،‬ول يوفق لها إل أهل العزائم والهمم العالية كما قال تعالى‪ } :‬وما‬
‫يلقاها إل الذين صبروا‪ ،‬وما يلقاها إل ذو حظ عظيم { ‪.‬‬

‫) ‪(1/160‬‬

‫خذ َ الل ّه ميَثاقَ ال ّذي ُ‬ ‫وَإ ِذ ْ أ َ َ‬


‫ذوهُ‬ ‫ه فَن َب َ ُ‬‫مون َ ُ‬ ‫س وََل ت َك ْت ُ ُ‬‫ه ِللّنا ِ‬ ‫ب ل َت ُب َي ّن ُن ّ ُ‬‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ُ ِ‬
‫ن‬
‫سب َ ّ‬
‫ح َ‬ ‫ن )‪َ (187‬ل ت َ ْ‬ ‫شت َُرو َ‬‫ما ي َ ْ‬‫س َ‬ ‫مًنا قَِليًل فَب ِئ ْ َ‬ ‫شت ََرْوا ب ِهِ ث َ َ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫وََراَء ظ ُُهورِهِ ْ‬
‫حبو َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫سب َن ّهُ ْ‬‫ح َ‬ ‫فعَُلوا فََل ت َ ْ‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫م يَ ْ‬ ‫دوا ب ِ َ‬ ‫م ُ‬ ‫ح َ‬‫ن يُ ْ‬‫نأ ْ‬ ‫وا وَي ُ ِ ّ َ‬ ‫ما أت َ ْ‬ ‫ن بِ َ‬‫حو َ‬ ‫فَر ُ‬
‫ن يَ ْ‬‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫م )‪(188‬‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬‫م عَ َ‬ ‫ب وَل َهُ ْ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ن ال ْعَ َ‬‫م َ‬
‫فاَزةٍ ِ‬ ‫م َ‬ ‫بِ َ‬
‫خذ َ الل ّه ميَثاقَ ال ّذي ُ‬ ‫} ‪ } { 188 - 187‬وَإ ِذ ْ أ َ َ‬
‫س‬
‫ه ِللّنا ِ‬ ‫ب ل َت ُب َي ّن ُن ّ ُ‬
‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ُ ِ‬
‫ن‬
‫شت َُرو َ‬‫ما ي َ ْ‬‫س َ‬ ‫مًنا قَِليل فَب ِئ ْ َ‬ ‫شت ََرْوا ب ِهِ ث َ َ‬‫م َوا ْ‬ ‫ذوهُ وََراَء ظ ُُهورِهِ ْ‬ ‫ه فَن َب َ ُ‬‫مون َ ُ‬‫َول ت َك ْت ُ ُ‬
‫فعَُلوا َفل‬ ‫حبو َ‬ ‫َ‬
‫م يَ ْ‬ ‫ما ل َ ْ‬ ‫دوا ب ِ َ‬‫م ُ‬
‫ح َ‬
‫ن يُ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫وا وَي ُ ِ ّ َ‬ ‫ما أت َ ْ‬‫ن بِ َ‬
‫حو َ‬ ‫فَر ُ‬ ‫ن يَ ْ‬
‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬ ‫سب َ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫* ل تَ ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن العَ َ‬
‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫ب وَلهُ ْ‬ ‫ذا ِ‬ ‫م َ‬‫فاَزةٍ ِ‬ ‫م َ‬
‫م بِ َ‬ ‫سب َن ّهُ ْ‬‫ح َ‬‫تَ ْ‬
‫الميثاق هو العهد الثقيل المؤكد‪ ،‬وهذا الميثاق أخذه الله تعالى على كل‬
‫من أعطاه ]الله[ الكتب وعلمه العلم‪ ،‬أن يبين للناس ما يحتاجون إليه مما‬
‫علمه الله‪ ،‬ول يكتمهم ذلك‪ ،‬ويبخل عليهم به‪ ،‬خصوصا إذا سألوه‪ ،‬أو وقع‬
‫ما يوجب ذلك‪ ،‬فإن كل من عنده علم يجب عليه في تلك الحال أن يبينه‪،‬‬
‫ويوضح الحق من الباطل‪.‬‬
‫فأما الموفقون‪ ،‬فقاموا بهذا أتم القيام‪ ،‬وعلموا الناس مما علمهم الله‪،‬‬
‫ابتغاء مرضاة ربهم‪ ،‬وشفقة على الخلق‪ ،‬وخوفا من إثم الكتمان‪.‬‬
‫وأما الذين أوتوا الكتاب‪ ،‬من اليهود والنصارى ومن شابههم‪ ،‬فنبذوا هذه‬
‫العهود والمواثيق وراء ظهورهم‪ ،‬فلم يعبأوا بها‪ ،‬فكتموا الحق‪ ،‬وأظهروا‬
‫الباطل‪ ،‬تجرؤا على محارم الله‪ ،‬وتهاونا بحقوق الله‪ ،‬وحقوق الخلق‪،‬‬
‫واشتروا بذلك الكتمان ثمنا قليل وهو ما يحصل لهم إن حصل من بعض‬
‫الرياسات‪ ،‬والموال الحقيرة‪ ،‬من سفلتهم المتبعين أهواءهم‪ ،‬المقدمين‬
‫شهواتهم على الحق‪ } ،‬فبئس ما يشترون { لنه أخس العوض‪ ،‬والذي‬
‫رغبوا عنه ‪-‬وهو بيان الحق‪ ،‬الذي فيه السعادة البدية‪ ،‬والمصالح الدينية‬
‫والدنيوية‪ -‬أعظم المطالب وأجلها‪ ،‬فلم يختاروا الدنيء الخسيس ويتركوا‬
‫العالي النفيس‪ ،‬إل لسوء حظهم وهوانهم‪ ،‬وكونهم ل يصلحون لغير ما‬
‫خلقوا له‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪ } :‬ل تحسبن الذين يفرحون بما أتوا { أي‪ :‬من القبائح‬
‫والباطل القولي والفعلي‪.‬‬
‫} ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا { أي‪ :‬بالخير الذي لم يفعلوه‪ ،‬والحق‬
‫الذي لم يقولوه‪ ،‬فجمعوا بين فعل الشر وقوله‪ ،‬والفرح بذلك ومحبة أن‬
‫يحمدوا على فعل الخير الذي ما فعلوه‪.‬‬
‫} فل تحسبنهم بمفازة من العذاب { أي‪ :‬بمحل نجوة منه وسلمة‪ ،‬بل قد‬
‫استحقوه‪ ،‬وسيصيرون إليه‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬ولهم عذاب أليم { ‪.‬‬
‫ويدخل في هذه الية الكريمة أهل الكتاب الذين فرحوا بما عندهم من‬
‫العلم‪ ،‬ولم ينقادوا للرسول‪ ،‬وزعموا أنهم هم المحقون في حالهم‬
‫ومقالهم‪ ،‬وكذلك كل من ابتدع بدعة قولية أو فعلية‪ ،‬وفرح بها‪ ،‬ودعا إليها‪،‬‬
‫وزعم ] ص ‪ [ 161‬أنه محق وغيره مبطل‪ ،‬كما هو الواقع من أهل البدع‪.‬‬
‫ودلت الية بمفهومها على أن من أحب أن يحمد ويثنى عليه بما فعله من‬
‫الخير واتباع الحق‪ ،‬إذا لم يكن قصده بذلك الرياء والسمعة‪ ،‬أنه غير‬
‫مذموم‪ ،‬بل هذا من المور المطلوبة‪ ،‬التي أخبر الله أنه يجزي بها‬
‫المحسنين له العمال والقوال‪ ،‬وأنه جازى بها خواص خلقه‪ ،‬وسألوها منه‪،‬‬
‫كما قال إبراهيم عليه السلم‪ } :‬واجعل لي لسان صدق في الخرين {‬
‫وقال‪ } :‬سلم على نوح في العالمين‪ ،‬إنا كذلك نجزي المحسنين { وقد‬
‫قال عباد الرحمن‪ } :‬واجعلنا للمتقين إماما { وهي من نعم الباري على‬
‫عبده‪ ،‬ومننه التي تحتاج إلى الشكر‪.‬‬

‫) ‪(1/160‬‬

‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫َْ‬
‫يٍء قَ ِ‬
‫ديٌر )‪(189‬‬ ‫ل َ‬
‫ش ْ‬ ‫ض َوالل ّ ُ‬
‫ت َوالْر ِ‬
‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬ ‫مل ْ ُ‬
‫ك ال ّ‬ ‫وَل ِل ّهِ ُ‬

‫يٍء قَ ِ‬
‫ديٌر { ‪.‬‬ ‫ش ْ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬
‫ل َ‬ ‫ض َوالل ّ ُ‬
‫ت َوالْر ِ‬
‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬ ‫مل ْ ُ‬
‫ك ال ّ‬ ‫} ‪ } { 189‬وَل ِل ّهِ ُ‬
‫أي‪ :‬هو المالك للسماوات والرض وما فيهما‪ ،‬من سائر أصناف الخلق‪،‬‬
‫المتصرف فيهم بكمال القدرة‪ ،‬وبديع الصنعة‪ ،‬فل يمتنع عليه منهم أحد‪ ،‬ول‬
‫يعجزه أحد‪.‬‬

‫) ‪(1/161‬‬

‫َ‬ ‫ف الل ّي ْل والن ّهار َل ََيا ٍ ُ‬ ‫َْ‬


‫ب‬ ‫ت ِلوِلي اْلل َْبا ِ‬ ‫ِ َ َ ِ‬ ‫خت َِل ِ‬ ‫ض َوا ْ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ق ال ّ‬ ‫خل ِ‬
‫ن ِفي َ ْ‬ ‫إِ ّ‬
‫ق‬ ‫ن ِفي َ ْ‬ ‫فك ُّرو َ‬ ‫دا وَعََلى ُ‬ ‫ما وَقُُعو ً‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن ي َذ ْك ُُرو َ‬ ‫)‪ (190‬ال ّ ِ‬
‫خل ِ‬ ‫م وَي َت َ َ‬ ‫جُنوب ِهِ ْ‬ ‫ه قَِيا ً‬
‫َ‬
‫ذي َ‬
‫ب الّنارِ )‬ ‫ذا َ‬ ‫قَنا عَ َ‬ ‫ك فَ ِ‬ ‫حان َ َ‬ ‫ذا َباط ًِل ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫ت هَ َ‬ ‫ق َ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ما َ‬ ‫ض َرب َّنا َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬
‫ْ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ال ّ‬
‫صارٍ )‪(192‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن أن ْ َ‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ما ِللظال ِ ِ‬ ‫ه وَ َ‬
‫خَزي ْت َ ُ‬ ‫قد ْ أ ْ‬ ‫ل الّناَر ف َ‬ ‫خ ِ‬
‫ن ت ُد ْ ِ‬‫م ْ‬‫‪َ (191‬رب َّنا إ ِن ّك َ‬
‫َ‬
‫فْر لَنا‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫مّنا َرب َّنا فاغ ِ‬ ‫م فآ َ‬ ‫مُنوا ب َِرب ّك ْ‬‫نآ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫لي َ‬ ‫مَنادًِيا ي َُناِدي ل ِ ِ‬ ‫معَْنا ُ‬ ‫س ِ‬ ‫َرب َّنا إ ِن َّنا َ‬
‫ما وَعَد ْت ََنا عََلى‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫معَ اْلب َْرارِ )‪َ (193‬رب َّنا وَآت َِنا َ‬ ‫سي َّئات َِنا وَت َوَفَّنا َ‬
‫فْر عَّنا َ‬ ‫ذ ُُنوب ََنا وَك َ ّ‬
‫ميَعاد َ )‪(194‬‬ ‫ف ال ْ ِ‬ ‫ك َل ت ُ ْ‬
‫خل ِ ُ‬ ‫مةِ إ ِن ّ َ‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫ك وََل ت ُ ْ‬
‫خزَِنا ي َوْ َ‬ ‫سل ِ َ‬ ‫ُر ُ‬

‫ل َوالن َّهاِر‬ ‫ف الل ّي ْ ِ‬ ‫خِتل ِ‬ ‫ض َوا ْ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ق ال ّ‬ ‫خل ِ‬


‫ن ِفي َ ْ‬ ‫} ‪ } { 194 - 190‬إ ِ ّ‬
‫م‬
‫جُنوب ِهِ ْ‬ ‫دا وَعََلى ُ‬ ‫ما وَقُُعو ً‬ ‫ه قَِيا ً‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن ي َذ ْك ُُرو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب * ال ّ ِ‬ ‫ت لوِلي الل َْبا ِ‬ ‫لَيا ٍ‬
‫حان َ َ‬
‫ك‬ ‫سب ْ َ‬‫طل ُ‬ ‫ذا َبا ِ‬ ‫ت هَ َ‬ ‫ق َ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ض َرب َّنا َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ق ال ّ‬ ‫خل ِ‬
‫ن ِفي َ ْ‬ ‫فك ُّرو َ‬ ‫وَي َت َ َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ما ِللظال ِ ِ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫خَزي ْت َ ُ‬ ‫قد ْ أ ْ‬ ‫ل الّناَر ف َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ن ت ُد ْ ِ‬‫م ْ‬ ‫ب الّنارِ * َرب َّنا إ ِن ّك َ‬ ‫ذا َ‬ ‫قَنا عَ َ‬ ‫فَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مّنا َرب َّنا‬ ‫م َفآ َ‬ ‫مُنوا ب َِرب ّك ُ ْ‬ ‫نآ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫مَنادًِيا ي َُناِدي ِللي َ‬ ‫معَْنا ُ‬ ‫س ِ‬ ‫صارٍ * َرب َّنا إ ِن َّنا َ‬ ‫أن ْ َ‬
‫ما وَعَد ْت ََنا‬ ‫معَ الب َْرارِ * َرب َّنا َوآت َِنا َ‬ ‫سي َّئات َِنا وَت َوَفَّنا َ‬ ‫فْر عَّنا َ‬ ‫فْر ل ََنا ذ ُُنوب ََنا وَك َ ّ‬‫َفاغْ ِ‬
‫ميَعاد َ { ‪.‬‬ ‫ف ال ْ ِ‬ ‫خل ِ ُ‬ ‫ك ل تُ ْ‬ ‫مةِ إ ِن ّ َ‬ ‫قَيا َ‬‫م ال ْ ِ‬ ‫خزَِنا ي َوْ َ‬ ‫ك َول ت ُ ْ‬ ‫سل ِ َ‬ ‫عََلى ُر ُ‬
‫يخبر تعالى‪ } :‬إن في خلق السماوات والرض واختلف الليل والنهار ليات‬
‫لولي اللباب { وفي ضمن ذلك حث العباد على التفكر فيها‪ ،‬والتبصر‬
‫بآياتها‪ ،‬وتدبر خلقها‪ ،‬وأبهم قوله‪ } :‬آيات { ولم يقل‪" :‬على المطلب‬
‫الفلني" إشارة لكثرتها وعمومها‪ ،‬وذلك لن فيها من اليات العجيبة ما يبهر‬
‫الناظرين‪ ،‬ويقنع المتفكرين‪ ،‬ويجذب أفئدة الصادقين‪ ،‬وينبه العقول النيرة‬
‫على جميع المطالب اللهية‪ ،‬فأما تفصيل ما اشتملت عليه‪ ،‬فل يمكن‬
‫لمخلوق أن يحصره‪ ،‬ويحيط ببعضه‪ ،‬وفي الجملة فما فيها من العظمة‬
‫والسعة‪ ،‬وانتظام السير والحركة‪ ،‬يدل على عظمة خالقها‪ ،‬وعظمة‬
‫سلطانه وشمول قدرته‪ .‬وما فيها من الحكام والتقان‪ ،‬وبديع الصنع‪،‬‬
‫ولطائف الفعل‪ ،‬يدل على حكمة الله ووضعه الشياء مواضعها‪ ،‬وسعة‬
‫علمه‪ .‬وما فيها من المنافع للخلق‪ ،‬يدل على سعة رحمة الله‪ ،‬وعموم‬
‫فضله‪ ،‬وشمول بره‪ ،‬ووجوب شكره‪.‬‬
‫وكل ذلك يدل على تعلق القلب بخالقها ومبدعها‪ ،‬وبذل الجهد في‬
‫مرضاته‪ ،‬وأن ل يشرك به سواه‪ ،‬ممن ل يملك لنفسه ول لغيره مثقال ذرة‬
‫في الرض ول في السماء‪.‬‬
‫وخص الله باليات أولي اللباب‪ ،‬وهم أهل العقول؛ لنهم هم المنتفعون‬
‫بها‪ ،‬الناظرون إليها بعقولهم ل بأبصارهم‪.‬‬
‫ثم وصف أولي اللباب بأنهم } يذكرون الله { في جميع أحوالهم‪ } :‬قياما‬
‫وقعودا وعلى جنوبهم { وهذا يشمل جميع أنواع الذكر بالقول والقلب‪،‬‬
‫ويدخل في ذلك الصلة قائما‪ ،‬فإن لم يستطع فقاعدا‪ ،‬فإن لم يستطع‬
‫فعلى جنب‪ ،‬وأنهم } يتفكرون في خلق السماوات والرض { أي‪:‬‬
‫ليستدلوا بها على المقصود منها‪ ،‬ودل هذا على أن التفكر عبادة من‬
‫صفات أولياء الله العارفين‪ ،‬فإذا تفكروا بها‪ ،‬عرفوا أن الله لم يخلقها عبثا‪،‬‬
‫فيقولون‪ } :‬ربنا ما خلقت هذا باطل سبحانك { عن كل ما ل يليق بجللك‪،‬‬
‫بل خلقتها بالحق وللحق‪ ،‬مشتملة على الحق‪.‬‬
‫} فقنا عذاب النار { بأن تعصمنا من السيئات‪ ،‬وتوفقنا للعمال‬
‫الصالحات‪ ،‬لننال بذلك النجاة من النار‪.‬‬
‫ويتضمن ذلك سؤال الجنة‪ ،‬لنهم إذا وقاهم الله عذاب النار حصلت لهم‬
‫الجنة‪ ،‬ولكن لما قام الخوف بقلوبهم‪ ،‬دعوا الله بأهم المور عندهم‪ } ،‬ربنا‬
‫إنك من تدخل النار فقد أخزيته { أي‪ :‬لحصوله على السخط من الله‪ ،‬ومن‬
‫ملئكته‪ ،‬وأوليائه‪ ،‬ووقوع الفضيحة التي ل نجاة منها‪ ،‬ول منقذ منها‪ ،‬ولهذا‬
‫قال‪ } :‬وما للظالمين من أنصار { ينقذونهم من عذابه‪ ،‬وفيه دللة على‬
‫أنهم دخلوها بظلمهم‪.‬‬
‫} ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي لليمان { وهو محمد صلى الله عليه وسلم‪،‬‬
‫أي‪ :‬يدعو الناس إليه‪ ،‬ويرغبهم فيه‪ ،‬في أصوله وفروعه‪.‬‬
‫} فآمنا { أي‪ :‬أجبناه مبادرة‪ ،‬وسارعنا إليه‪ ،‬وفي هذا إخبار منهم بمنة الله‬
‫عليهم‪ ،‬وتبجح بنعمته‪ ،‬وتوسل إليه بذلك‪ ،‬أن يغفر ذنوبهم ويكفر سيئاتهم‪،‬‬
‫لن الحسنات يذهبن السيئات‪ ،‬والذي من عليهم باليمان‪ ،‬سيمن عليهم‬
‫بالمان التام‪.‬‬
‫} وتوفنا مع البرار { يتضمن هذا الدعاء التوفيق لفعل الخير‪ ،‬وترك الشر‪،‬‬
‫الذي به يكون العبد من البرار‪ ،‬والستمرار عليه‪ ،‬والثبات إلى الممات‪.‬‬
‫ولما ذكروا توفيق الله إياهم لليمان‪ ،‬وتوسلهم به إلى تمام النعمة‪ ،‬سألوه‬
‫الثواب على ذلك‪ ،‬وأن ينجز لهم ما وعدهم به على ألسنة رسله من‬
‫النصر‪ ،‬والظهور في الدنيا‪ ،‬ومن الفوز ] ص ‪ [ 162‬برضوان الله وجنته‬
‫في الخرة‪ ،‬فإنه تعالى ل يخلف الميعاد‪ ،‬فأجاب الله دعاءهم‪ ،‬وقبل‬
‫تضرعهم‪ ،‬فلهذا قال‪:‬‬

‫) ‪(1/161‬‬

‫َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َفاستجاب ل َهم ربه َ‬


‫ضك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن ذ َك َرٍ أوْ أن َْثى ب َعْ ُ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫ل ِ‬ ‫م ٍ‬‫عا ِ‬
‫ل َ‬ ‫م َ‬ ‫ضيعُ عَ َ‬ ‫م أّني َل أ ِ‬ ‫ْ َ َ َ ُ ْ َ ُّ ْ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سِبيِلي وََقات َلوا‬ ‫ذوا ِفي َ‬ ‫م وَأو ُ‬ ‫ن دَِيارِهِ ْ‬‫م ْ‬ ‫جوا ِ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫جُروا وَأ ْ‬ ‫ها َ‬ ‫ن َ‬ ‫ض َفال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ن ب َعْ ُ ٍ‬‫م ْ‬‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫حت َِها الن َْهاُر ث َ َ‬
‫واًبا‬ ‫ن تَ ْ‬
‫م ْ‬
‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬‫م َ‬‫خلن ّهُ ْ‬ ‫م وَلد ْ ِ‬ ‫سي َّئات ِهِ ْ‬
‫م َ‬ ‫ن عَن ْهُ ْ‬ ‫فَر ّ‬ ‫وَقُت ِلوا لك ّ‬
‫ب )‪(195‬‬ ‫وا ِ‬ ‫ن الث ّ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ح ْ‬ ‫عن ْد َهُ ُ‬‫ه ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عن ْدِ اللهِ َوالل ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫} ‪َ } { 195‬فاستجاب ل َهم ربه َ‬
‫ن ذ َك َرٍ أوْ‬
‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫ل ِ‬ ‫م ٍ‬‫عا ِ‬‫ل َ‬ ‫م َ‬ ‫ضيعُ عَ َ‬ ‫م أّني ل أ ِ‬ ‫ْ َ َ َ ُ ْ َ ُّ ْ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ذوا ِفي‬ ‫م وَأو ُ‬ ‫ن دَِيارِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫جوا ِ‬ ‫خرِ ُ‬‫جُروا وَأ ْ‬ ‫ها َ‬
‫ن َ‬‫ذي َ‬‫ض َفال ّ ِ‬‫ن ب َعْ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ضك ُ ْ‬
‫أن َْثى ب َعْ ُ‬
‫ن‬‫م ْ‬‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫خل َن ّهُ ْ‬‫م َولد ْ ِ‬ ‫سي َّئات ِهِ ْ‬‫م َ‬ ‫ن عَن ْهُ ْ‬‫فَر ّ‬ ‫سِبيِلي وََقات َُلوا وَقُت ُِلوا لك َ ّ‬ ‫َ‬
‫ب{‪.‬‬ ‫وا ِ‬ ‫ن الث ّ َ‬ ‫س ُ‬‫ح ْ‬ ‫عن ْد َهُ ُ‬ ‫ه ِ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫عن ْدِ اللهِ َوالل ُ‬ ‫ن ِ‬
‫م ْ‬‫واًبا ِ‬ ‫حت َِها الن َْهاُر ث َ َ‬
‫تَ ْ‬
‫أي‪ :‬أجاب الله دعاءهم‪ ،‬دعاء العبادة‪ ،‬ودعاء الطلب‪ ،‬وقال‪ :‬إني ل أضيع‬
‫عمل عامل منكم من ذكر وأنثى‪ ،‬فالجميع سيلقون ثواب أعمالهم كامل‬
‫موفرا‪ } ،‬بعضكم من بعض { أي‪ :‬كلكم على حد سواء في الثواب‬
‫والعقاب‪ } ،‬فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا‬
‫وقتلوا { فجمعوا بين اليمان والهجرة‪ ،‬ومفارقة المحبوبات من الوطان‬
‫والموال‪ ،‬طلبا لمرضاة ربهم‪ ،‬وجاهدوا في سبيل الله‪.‬‬
‫} لكفرن عنهم سيئاتهم ولدخلنهم جنات تجري من تحتها النهار ثوابا من‬
‫عند الله { الذي يعطي عبده الثواب الجزيل على العمل القليل‪.‬‬
‫} والله عنده حسن الثواب { مما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر‬
‫على قلب بشر‪ ،‬فمن أراد ذلك‪ ،‬فليطلبه من الله بطاعته والتقرب إليه‪ ،‬بما‬
‫يقدر عليه العبد‪.‬‬

‫) ‪(1/162‬‬
‫ل ث ُم ْ‬
‫م‬
‫جهَن ّ ُ‬‫م َ‬ ‫مأَواهُ ْ‬ ‫مَتاعٌ قَِلي ٌ ّ َ‬ ‫فُروا ِفي ال ْب َِلدِ )‪َ (196‬‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫قل ّ ُ‬‫ك تَ َ‬ ‫َل ي َغُّرن ّ َ‬
‫حت َِها‬
‫ن تَ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬
‫جّنا ٌ‬
‫م َ‬ ‫م ل َهُ ْ‬
‫وا َرب ّهُ ْ‬‫ق ْ‬
‫ن ات ّ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ِ‬ ‫مَهاد ُ )‪ (197‬ل َك ِ‬ ‫س ال ْ ِ‬ ‫وَب ِئ ْ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫خي ٌْر ل ِلب َْرارِ )‪(198‬‬ ‫ّ‬
‫عن ْد َ اللهِ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬ ‫اْل َن َْهاُر َ‬
‫عن ْدِ اللهِ وَ َ‬
‫ن ِ‬ ‫م ْ‬
‫ن ِفيَها ن ُُزل ِ‬ ‫دي َ‬‫خال ِ ِ‬

‫ل ثُ ّ‬
‫م‬ ‫مَتاعٌ قَِلي ٌ‬‫فُروا ِفي ال ِْبلدِ * َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫قل ّ ُ‬ ‫} ‪ } { 198 - 196‬ل ي َغُّرن ّ َ‬
‫ك تَ َ‬
‫ْ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬‫ت تَ ْ‬‫جّنا ٌ‬
‫م َ‬‫م ل َهُ ْ‬
‫وا َرب ّهُ ْ‬
‫ق ْ‬‫ن ات ّ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫َ‬
‫مَهاد ُ * لك ِ ِ‬ ‫س ال ْ ِ‬
‫م وَب ِئ ْ َ‬‫جهَن ّ ُ‬
‫م َ‬
‫مأَواهُ ْ‬ ‫َ‬
‫خي ٌْر ِللب َْرارِ { ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫عن ْد َ اللهِ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ّ‬
‫عن ْدِ اللهِ وَ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِفيَها ن ُُزل ِ‬ ‫دي َ‬
‫خال ِ ِ‬
‫حت َِها الن َْهاُر َ‬ ‫تَ ْ‬
‫وهذه الية المقصود منها التسلية عما يحصل للذين كفروا من متاع الدنيا‪،‬‬
‫وتنعمهم فيها‪ ،‬وتقلبهم في البلد بأنواع التجارات والمكاسب واللذات‪،‬‬
‫وأنواع العز‪ ،‬والغلبة في بعض الوقات‪ ،‬فإن هذا كله } متاع قليل { ليس‬
‫له ثبوت ول بقاء‪ ،‬بل يتمتعون به قليل ويعذبون عليه طويل هذه أعلى حالة‬
‫تكون للكافر‪ ،‬وقد رأيت ما تؤول إليه‪.‬‬
‫وأما المتقون لربهم‪ ،‬المؤمنون به‪ -‬فمع ما يحصل لهم من عز الدنيا‬
‫ونعيمها } لهم جنات تجري من تحتها النهار خالدين فيها { ‪.‬‬
‫فلو قدر أنهم في دار الدنيا‪ ،‬قد حصل لهم كل بؤس وشدة‪ ،‬وعناء ومشقة‪،‬‬
‫لكان هذا بالنسبة إلى النعيم المقيم‪ ،‬والعيش السليم‪ ،‬والسرور والحبور‪،‬‬
‫والبهجة نزرا يسيرا‪ ،‬ومنحة في صورة محنة‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ } :‬وما عند‬
‫الله خير للبرار { وهم الذين برت قلوبهم‪ ،‬فبرت أقوالهم وأفعالهم‪،‬‬
‫فأثابهم البر الرحيم من بره أجرا عظيما‪ ،‬وعطاء جسيما‪ ،‬وفوزا دائما‪.‬‬

‫) ‪(1/162‬‬

‫ل إ ِل َي ْهِ ْ‬
‫م‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل إ ِل َي ْك ُ ْ‬ ‫ن ِبالل ّهِ وَ َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬
‫م ُ‬ ‫م ْ‬‫ب لَ َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ن أه ْ ِ‬
‫وإ ن م َ‬
‫َِ ّ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫م‬
‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جُرهُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫مًنا قِليل أولئ ِك لهُ ْ‬ ‫ت اللهِ ث َ َ‬ ‫ن ب ِآَيا ِ‬‫شت َُرو َ‬ ‫ن ل ِلهِ ل ي َ ْ‬ ‫شِعي َ‬‫خا ِ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫صاب ُِروا وََراب ِطوا‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫صب ُِروا وَ َ‬ ‫مُنوا ا ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب )‪َ (199‬يا أي َّها ال ِ‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬‫ريعُ ال ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫إِ ّ‬
‫ن )‪(200‬‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬
‫م تُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ه لعَلك ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫قوا الل َ‬ ‫َوات ّ ُ‬

‫ل إ ِل َي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬ ‫ن ِبالل ّهِ وَ َ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬ ‫ب لَ َ‬
‫م ْ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫} ‪ } { 200 - 199‬وإن م َ‬
‫ن أه ْ ِ‬ ‫َِ ّ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫م‬
‫ُ ْ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫ل‬‫أو‬ ‫ليل‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫نا‬
‫ِ َ ً ِ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ث‬ ‫ه‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ت‬ ‫يا‬ ‫بآ‬ ‫ن‬
‫َ َُ َ ِ َ ِ‬ ‫رو‬ ‫ت‬‫ش‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ن ل ِل ّهِ‬‫شِعي َ‬ ‫خا ِ‬‫م َ‬ ‫ل إ ِل َي ْهِ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫صب ُِروا‬ ‫مُنوا ا ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫ب * َيا أي َّها ال ّ ِ‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬‫ريعُ ال ْ ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جُرهُ ْ‬ ‫أ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬
‫م تُ ْ‬‫ه ل َعَل ّك ُ ْ‬‫قوا الل ّ َ‬ ‫طوا َوات ّ ُ‬ ‫صاب ُِروا وََراب ِ ُ‬ ‫وَ َ‬
‫أي‪ :‬وإن من أهل الكتاب طائفة موفقة للخير‪ ،‬يؤمنون بالله‪ ،‬ويؤمنون بما‬
‫أنزل إليكم وما أنزل إليهم‪ ،‬وهذا اليمان النافع ل كمن يؤمن ببعض الرسل‬
‫والكتب‪ ،‬ويكفر ببعض‪.‬‬
‫ولهذا ‪-‬لما كان إيمانهم عاما حقيقيا‪ -‬صار نافعا‪ ،‬فأحدث لهم خشية الله‪،‬‬
‫وخضوعهم لجلله الموجب للنقياد لوامره ونواهيه‪ ،‬والوقوف عند حدوده‪.‬‬
‫وهؤلء أهل الكتاب والعلم على الحقيقة‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬إنما يخشى‬
‫الله من عباده العلماء { ومن تمام خشيتهم لله‪ ،‬أنهم } ل يشترون بآيات‬
‫الله ثمًنا قليل { فل يقدمون الدنيا على الدين كما فعل أهل النحراف‬
‫الذين يكتمون ما أنزل الله ويشترون به ثمنا قليل وأما هؤلء فعرفوا المر‬
‫على الحقيقة‪ ،‬وعلموا أن من أعظم الخسران‪ ،‬الرضا بالدون عن الدين‪،‬‬
‫والوقوف مع بعض حظوظ النفس السفلية‪ ،‬وترك الحق الذي هو‪ :‬أكبر‬
‫حظ وفوز في الدنيا والخرة‪ ،‬فآثروا الحق وبينوه‪ ،‬ودعوا إليه‪ ،‬وحذروا عن‬
‫الباطل‪ ،‬فأثابهم الله على ذلك بأن وعدهم الجر الجزيل‪ ،‬والثواب الجميل‪،‬‬
‫وأخبرهم بقربه‪ ،‬وأنه سريع الحساب‪ ،‬فل يستبطؤون ما وعدهم الله‪ ،‬لن‬
‫ما هو آت محقق حصوله‪ ،‬فهو قريب‪.‬‬
‫ثم حض المؤمنين على ما يوصلهم إلى الفلح ‪ -‬وهو‪ :‬الفوز والسعادة‬
‫والنجاح‪ ،‬وأن الطريق الموصل إلى ذلك لزوم الصبر‪ ،‬الذي هو حبس‬
‫النفس على ما تكرهه‪ ،‬من ترك المعاصي‪ ،‬ومن الصبر على المصائب‪،‬‬
‫وعلى الوامر الثقيلة على النفوس‪ ،‬فأمرهم بالصبر على جميع ذلك‪.‬‬
‫والمصابرة أي )‪ (1‬الملزمة والستمرار على ذلك‪ ،‬على الدوام‪ ،‬ومقاومة‬
‫العداء في جميع الحوال‪.‬‬
‫والمرابطة‪ :‬وهي )‪ (2‬لزوم المحل ] ص ‪ [ 163‬الذي يخاف من وصول‬
‫العدو منه‪ ،‬وأن يراقبوا أعداءهم‪ ،‬ويمنعوهم من الوصول إلى مقاصدهم‪،‬‬
‫لعلهم يفلحون‪ :‬يفوزون بالمحبوب الديني والدنيوي والخروي‪ ،‬وينجون من‬
‫المكروه كذلك‪.‬‬
‫فعلم من هذا أنه ل سبيل إلى الفلح بدون الصبر والمصابرة والمرابطة‬
‫المذكورات‪ ،‬فلم يفلح من أفلح إل بها‪ ،‬ولم يفت أحدا الفلح إل بالخلل بها‬
‫أو ببعضها‪.‬‬
‫والله الموفق ول حول ول قوة إل به‪.‬‬
‫تم تفسير "سورة آل عمران" والحمد لله على نعمته‪ ،‬ونسأله تمام النعمة‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬هي‪.‬‬
‫)‪ (2‬في النسختين وهو‪ ،‬ولعل الصواب ما أثبت‪.‬‬

‫) ‪(1/162‬‬

‫تفسير سورة النساء‬


‫وهي مدنية‬

‫) ‪(1/163‬‬

‫َ‬
‫جَها‬ ‫خل َقَ ِ‬
‫من َْها َزوْ َ‬ ‫حد َةٍ وَ َ‬
‫س َوا ِ‬‫ٍ‬ ‫ن نَ ْ‬
‫ف‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫خل َ َ‬
‫قك ُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫قوا َرب ّك ُ ُ‬
‫س ات ّ ُ‬‫َيا أي َّها الّنا ُ‬
‫ن‬
‫م إِ ّ‬ ‫ن ب ِهِ َواْل َْر َ‬
‫حا َ‬ ‫ساَءُلو َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫ذي ت َ َ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫ساًء َوات ّ ُ‬‫جاًل ك َِثيًرا وَن ِ َ‬ ‫ما رِ َ‬
‫من ْهُ َ‬
‫ث ِ‬‫وَب َ ّ‬
‫م َرِقيًبا )‪(1‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن عَلي ْك ْ‬ ‫َ‬
‫ه كا َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫خل َ َ‬ ‫َ‬
‫قك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬‫قوا َرب ّك ُ ُ‬
‫س ات ّ ُ‬ ‫حيم ِ َيا أي َّها الّنا ُ‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫سم ِ الل ّهِ الّر ْ‬
‫ح َ‬ ‫} ‪ } { 1‬بِ ْ‬
‫قوا‬‫ساًء َوات ّ ُ‬ ‫جال ك َِثيًرا وَن ِ َ‬ ‫ما رِ َ‬ ‫من ْهُ َ‬
‫ث ِ‬ ‫جَها وَب َ ّ‬ ‫خل َقَ ِ‬
‫من َْها َزوْ َ‬ ‫حد َةٍ وَ َ‬ ‫س َوا ِ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ن نَ ْ‬‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫م َرِقيًبا { ‪.‬‬ ‫ن عَل َي ْك ُْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫م‬ ‫حا‬ ‫ر‬ ‫وال‬
‫َ ِ ِ َ ْ َ َ ِ ّ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ء‬‫سا‬ ‫ت‬
‫َ ِ َ َ‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬
‫افتتح تعالى هذه السورة بالمر بتقواه‪ ،‬والحث على عبادته‪ ،‬والمر بصلة‬
‫الرحام‪ ،‬والحث على ذلك‪.‬‬
‫وبّين السبب الداعي الموجب لكل من ذلك‪ ،‬وأن الموجب لتقواه أن‬
‫م { ورزقكم‪ ،‬ورباكم بنعمه العظيمة‪ ،‬التي من جملتها‬ ‫قك ُ ْ‬‫خل َ َ‬‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫} َرب ّك ُ ُ‬
‫جَها { ليناسبها‪ ،‬فيسكن إليها‪،‬‬ ‫خل َقَ ِ‬
‫من َْها َزوْ َ‬ ‫حد َةٍ وَ َ‬
‫س َوا ِ‬
‫ف ٍ‬‫من ن ّ ْ‬
‫خلقكم } ِ‬
‫وتتم بذلك النعمة‪ ،‬ويحصل به السرور‪ ،‬وكذلك من الموجب الداعي لتقواه‬
‫تساؤلكم به وتعظيمكم‪ ،‬حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم‪،‬‬
‫توسلتم بها بالسؤال بالله‪ .‬فيقول من يريد ذلك لغيره‪ :‬أسألك بالله أن‬
‫تفعل المر الفلني؛ لعلمه بما قام في قلبه من تعظيم الله الداعي أن ل‬
‫يرد من سأله بالله‪ ،‬فكما عظمتموه بذلك فلتعظموه بعبادته وتقواه‪.‬‬
‫وكذلك الخبار بأنه رقيب‪ ،‬أي‪ :‬مطلع على العباد في حال حركاتهم‬
‫وسكونهم‪ ،‬وسرهم وعلنهم‪ ،‬وجميع أحوالهم‪ ،‬مراقبا لهم فيها مما يوجب‬
‫مراقبته‪ ،‬وشدة الحياء منه‪ ،‬بلزوم تقواه‪.‬‬
‫وفي الخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة‪ ،‬وأنه بثهم في أقطار الرض‪ ،‬مع‬
‫رجوعهم إلى أصل واحد ‪-‬ليعطف بعضهم على بعض‪ ،‬ويرقق بعضهم على‬
‫بعض‪ .‬وقرن المر بتقواه بالمر ببر الرحام والنهي عن قطيعتها‪ ،‬ليؤكد هذا‬
‫الحق‪ ،‬وأنه كما يلزم القيام بحق الله‪ ،‬كذلك يجب القيام بحقوق الخلق‪،‬‬
‫خصوصا القربين منهم‪ ،‬بل القيام بحقوقهم هو من حق الله الذي أمر به‪.‬‬
‫وتأمل كيف افتتح هذه السورة بالمر بالتقوى‪ ،‬وصلة الرحام والزواج‬
‫عموما‪ ،‬ثم بعد ذلك فصل هذه المور أتم تفصيل‪ ،‬من أول السورة إلى‬
‫آخرها‪ .‬فكأنها مبنية على هذه المور المذكورة‪ ،‬مفصلة لما أجمل منها‪،‬‬
‫موضحة لما أبهم‪.‬‬
‫جَها { تنبيه على مراعاة حق الزواج‬ ‫من َْها َزوْ َ‬
‫وفي قوله‪ } :‬وخلق ِ‬
‫والزوجات والقيام به‪ ،‬لكون الزوجات مخلوقات من الزواج‪ ،‬فبينهم وبينهن‬
‫أقرب نسب وأشد اتصال‪ ،‬وأقرب )‪ (1‬علقة‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬وأوثق‪.‬‬

‫) ‪(1/163‬‬

‫م إ َِلى‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫وال َهُ ْ‬ ‫ب وََل ت َأك ُُلوا أ ْ‬
‫م َ‬ ‫ث ِبالط ّي ّ ِ‬ ‫م وََل ت َت َب َد ُّلوا ال ْ َ‬
‫خِبي َ‬ ‫وال َهُ ْ‬
‫م َ‬‫مى أ ْ‬ ‫وَآُتوا ال ْي ََتا َ‬
‫حوًبا ك َِبيًرا )‪(2‬‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬
‫ن ُ‬ ‫كا َ‬ ‫وال ِك ُ ْ‬
‫م إ ِن ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫أ ْ‬
‫ب َول ت َأ ْك ُُلوا‬ ‫ث ِبالط ّي ّ ِ‬‫خِبي َ‬ ‫م َول ت َت َب َد ُّلوا ال ْ َ‬ ‫وال َهُ ْ‬ ‫م َ‬
‫َ‬
‫مى أ ْ‬ ‫} ‪َ } { 2‬وآُتوا ال ْي ََتا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫حوًبا ك َِبيًرا { ‪.‬‬ ‫ن ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫وال ِك ُ ْ‬
‫م إ ِن ّ ُ‬ ‫م إ َِلى أ ْ‬
‫م َ‬ ‫وال َهُ ْ‬
‫م َ‬
‫أ ْ‬
‫َ‬
‫م ول تتبدلوا الخبيث بالطيب ول تأكلوا‬ ‫وال َهُ ْ‬‫م َ‬‫مى أ ْ‬ ‫وقوله تعالى‪َ } :‬وآُتوا ال ْي ََتا َ‬
‫أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا { هذا أول ما أوصى به من حقوق‬
‫الخلق في هذه السورة‪ .‬وهم اليتامى الذين فقدوا آباءهم الكافلين )‪(1‬‬
‫لهم‪ ،‬وهم صغار ضعاف ل يقومون بمصالحهم‪.‬‬
‫فأمر الرءوف الرحيم عباده أن يحسنوا إليهم‪ ،‬وأن ل يقربوا أموالهم إل‬
‫بالتي هي أحسن‪ ،‬وأن يؤتوهم أموالهم إذا بلغوا ورشدوا‪ ،‬كاملة موفرة‪،‬‬
‫ب{‬ ‫اليتيم بغير حق‪ِ } .‬بالط ّي ّ ِ‬ ‫ْ‬
‫ث { الذي هو أكل مال‬ ‫خِبي َ‬ ‫وأن ل } ت َت َب َد ُّلوا ال ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م{‬‫وال ِك ُ ْ‬ ‫م إ َِلى أ ْ‬
‫م َ‬ ‫وال َهُ ْ‬ ‫وهو الحلل الذي ما فيه حرج ول تبعة‪َ } .‬ول ت َأك ُُلوا أ ْ‬
‫م َ‬
‫أي‪ :‬مع أموالكم‪ ،‬ففيه تنبيه لقبح أكل مالهم بهذه الحالة‪ ،‬التي قد استغنى‬
‫بها النسان بما جعل الله له من الرزق في ماله‪ .‬فمن تجرأ على هذه‬
‫ما‪.‬‬ ‫ما‪ ،‬ووزًرا جسي ً‬ ‫ما عظي ً‬ ‫حوًبا ك َِبيًرا { أي‪ :‬إث ً‬ ‫الحالة‪ ،‬فقد أتى } ُ‬
‫ومن استبدال الخبيث بالطيب أن يأخذ الولي من مال اليتيم النفيس‪،‬‬
‫ن لزم إيتاء‬
‫م ْ‬
‫ويجعل بدله من ماله الخسيس‪ .‬وفيه الولية على اليتيم‪ ،‬لن ِ‬
‫اليتيم ماله‪ ،‬ثبوت ولية المؤتي على ماله‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬الذين فقدت آباؤهم الكافلون‪.‬‬

‫) ‪(1/163‬‬

‫مث َْنى‬
‫ساِء َ‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ب ل َك ُ ْ‬ ‫طا َ‬ ‫ما َ‬ ‫حوا َ‬ ‫مى َفان ْك ِ ُ‬ ‫طوا ِفي ال ْي ََتا َ‬ ‫س ُ‬ ‫ق ِ‬ ‫م أ َّل ت ُ ْ‬
‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬
‫ن ِ‬‫وَإ ِ ْ‬
‫ك أ َد َْنى أ َلّ‬ ‫م ذ َل ِ َ‬‫مان ُك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ت أي ْ َ‬ ‫ملك َ ْ‬‫َ‬ ‫ما َ‬
‫َ‬
‫حد َةً أوْ َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ُ‬
‫م أل ت َعْدِلوا فَ َ‬‫ّ‬ ‫َ‬
‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬‫ن ِ‬ ‫ث وَُرَباعَ فَإ ِ ْ‬ ‫وَث َُل َ‬
‫َ‬
‫سا‬ ‫ف ً‬
‫ه نَ ْ‬ ‫من ْ ُ‬‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫ن ط ِب ْ َ‬‫ة فَإ ِ ْ‬ ‫حل َ ً‬ ‫صد َُقات ِهِ ّ‬
‫ن نِ ْ‬ ‫ساَء َ‬ ‫ت َُعوُلوا )‪ (3‬وَآُتوا الن ّ َ‬
‫ريًئا )‪(4‬‬ ‫م ِ‬ ‫فَك ُُلوهُ هَِنيًئا َ‬
‫وفيه المر بإصلح مال اليتيم‪ ،‬لن تمام إيتائه ماله حفظه والقيام به بما‬
‫يصلحه وينميه وعدم تعريضه للمخاوف والخطار‪ ] .‬ص ‪[ 164‬‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫ب لك ْ‬ ‫َ‬ ‫طا َ‬ ‫ما َ‬ ‫حوا َ‬ ‫مى َفان ْك ِ ُ‬ ‫طوا ِفي ال ْي ََتا َ‬ ‫س ُ‬ ‫ق ِ‬ ‫م َأل ت ُ ْ‬ ‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬‫ن ِ‬ ‫} ‪ } { 4 ، 3‬وَإ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫مان ُك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ت أي ْ َ‬ ‫ملك َ ْ‬ ‫ما َ‬‫حد َةً أوْ َ‬ ‫وا ِ‬ ‫م أل ت َعْدِلوا فَ َ‬ ‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ث وَُرَباعَ فَإ ِ ْ‬ ‫مث َْنى وَُثل َ‬‫ساِء َ‬ ‫الن ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫يءٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫ن لك ُ ْ‬ ‫ن ط ِب ْ َ‬ ‫ة فَإ ِ ْ‬ ‫حل ً‬ ‫ن نِ ْ‬‫صد َُقات ِهِ ّ‬ ‫ساَء َ‬ ‫ك أد َْنى أل ت َُعولوا * َوآُتوا الن ّ َ‬ ‫ذ َل ِ َ‬
‫ريًئا { ‪.‬‬ ‫سا فَك ُُلوهُ هَِنيًئا َ‬
‫م ِ‬ ‫ف ً‬
‫ه نَ ْ‬‫من ْ ُ‬
‫ِ‬
‫أي‪ :‬وإن خفتم أل تعدلوا في يتامى النساء اللتي تحت حجوركم ووليتكم‬
‫وخفتم أن ل تقوموا بحقهن لعدم محبتكم إياهن‪ ،‬فاعدلوا إلى غيرهن‪،‬‬
‫ساء { أي‪ :‬ما وقع عليهن اختياركم من‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫م َ‬
‫كم ّ‬ ‫ب لَ ُ‬ ‫طا َ‬ ‫ما َ‬ ‫وانكحوا } َ‬
‫ذوات الدين‪ ،‬والمال‪ ،‬والجمال‪ ،‬والحسب‪ ،‬والنسب‪ ،‬وغير ذلك من الصفات‬
‫الداعية لنكاحهن‪ ،‬فاختاروا على نظركم‪ ،‬ومن أحسن ما يختار من ذلك‬
‫صفة الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم‪" :‬تنكح المرأة لربع لمالها‬
‫ت يمينك"‬ ‫ولجمالها ولحسبها ولدينها فاظفر بذات الدين ت َرِب َ ْ‬
‫وفي هذه الية ‪ -‬أنه ينبغي للنسان أن يختار قبل النكاح‪ ،‬بل وقد أباح له‬
‫ن يريد تزوجها ليكون على بصيرة من أمره‪ .‬ثم ذكر‬ ‫م ْ‬ ‫الشارع النظر إلى َ‬
‫ن أحب‬ ‫م ْ‬ ‫ث وَُرَباعَ { أي‪َ :‬‬ ‫مث َْنى وَُثل َ‬ ‫العدد الذي أباحه من النساء فقال‪َ } :‬‬
‫أن يأخذ اثنتين فليفعل‪ ،‬أو ثلثا فليفعل‪ ،‬أو أربعا فليفعل‪ ،‬ول يزيد عليها‪،‬‬
‫لن الية سيقت لبيان المتنان‪ ،‬فل يجوز الزيادة على غير ما سمى الله‬
‫تعالى إجماعا‪.‬‬
‫وذلك لن الرجل قد ل تندفع شهوته بالواحدة‪ ،‬فأبيح له واحدة بعد واحدة‪،‬‬
‫حتى يبلغ أربعا‪ ،‬لن في الربع غنية لكل أحد‪ ،‬إل ما ندر‪ ،‬ومع هذا فإنما يباح‬
‫له ذلك إذا أمن على نفسه الجور والظلم‪ ،‬ووثق بالقيام بحقوقهن‪.‬‬
‫فإن خاف شيئا من هذا فليقتصر على واحدة‪ ،‬أو على ملك يمينه‪ .‬فإنه ل‬
‫يجب عليه القسم في ملك اليمين } ذ َِلك { أي‪ :‬القتصار على واحدة أو ما‬
‫ملكت اليمين } أ َد َْنى َأل ت َُعوُلوا { أي‪ :‬تظلموا‪.‬‬
‫وفي هذا أن تعرض العبد للمر الذي يخاف منه الجور والظلم‪ ،‬وعدم‬
‫حا‪ -‬أنه ل ينبغي له أن يتعرض له‪ ،‬بل يلزم‬ ‫القيام بالواجب ‪-‬ولو كان مبا ً‬
‫السعة والعافية‪ ،‬فإن العافية خير ما أعطي العبد‪.‬‬
‫ولما كان كثير من الناس يظلمون النساء ويهضمونهن حقوقهن‪ ،‬خصوصا‬
‫الصداق الذي يكون شيئا كثيًرا‪ ،‬ودفعة واحدة‪ ،‬يشق دفعه للزوجة‪ ،‬أمرهم‬
‫ة { أي‪ :‬عن‬ ‫حل َ ً‬‫ن { أي‪ :‬مهورهن } ن ِ ْ‬ ‫صد َُقات ِهِ ّ‬ ‫وحثهم على إيتاء النساء } َ‬
‫طيب نفس‪ ،‬وحال طمأنينة‪ ،‬فل تمطلوهن أو تبخسوا منه شيئا‪ .‬وفيه‪ :‬أن‬
‫المهر يدفع إلى المرأة إذا كانت مكلفة‪ ،‬وأنها تملكه بالعقد‪ ،‬لنه أضافه‬
‫إليها‪ ،‬والضافة تقتضي التمليك‪.‬‬
‫سا { بأن سمحن‬ ‫ف ً‬ ‫ه { أي‪ :‬من الصداق } ن َ ْ‬ ‫من ْ ُ‬‫يٍء ّ‬‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫كم عَ ْ‬ ‫ن لَ ُ‬
‫ن ط ِب ْ َ‬‫} فَإ ِ ْ‬
‫لكم عن رضا واختيار بإسقاط شيء منه‪ ،‬أو تأخيره أو المعاوضة عنه‪.‬‬
‫ريًئا { أي‪ :‬ل حرج عليكم في ذلك ول تبعة‪.‬‬ ‫م ِ‬‫} فَك ُُلوهُ هَِنيًئا َ‬
‫وفيه دليل على أن للمرأة التصرف في مالها ‪-‬ولو بالتبرع‪ -‬إذا كانت‬
‫رشيدة‪ ،‬فإن لم تكن كذلك فليس لعطيتها حكم‪ ،‬وأنه ليس لوليها من‬
‫الصداق شيء‪ ،‬غير ما طابت به‪.‬‬
‫ساء { دليل على أن نكاح‬ ‫ن الن ّ َ‬‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ب لكم ّ‬ ‫َ‬ ‫طا َ‬ ‫ما َ‬ ‫حوا َ‬ ‫وفي قوله‪َ } :‬فان ْك ِ ُ‬
‫الخبيثة غير مأمور به‪ ،‬بل منهي عنه كالمشركة‪ ،‬وكالفاجرة‪ ،‬كما قال‬
‫حَها‬
‫ة ل َينك ِ ُ‬
‫ن { وقال‪َ } :‬والّزان ِي َ ُ‬ ‫حّتى ي ُؤْ ِ‬
‫م ّ‬ ‫ت َ‬ ‫كا ِ‬ ‫شرِ َ‬‫م ْ‬‫حوا ال ْ ُ‬ ‫تعالى‪َ } :‬ول َتنك ِ ُ‬
‫ك{‪.‬‬ ‫شرِ ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫إل زا َ‬
‫ن أو ْ ُ‬‫ِ َ ٍ‬
‫) ‪(1/163‬‬

‫َ‬
‫ما َواْرُزُقوهُ ْ‬
‫م ِفيَها‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬
‫م قَِيا ً‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫م ال ِّتي َ‬
‫جعَ َ‬ ‫وال َك ُ ُ‬
‫م َ‬‫فَهاَء أ ْ‬ ‫وََل ت ُؤُْتوا ال ّ‬
‫س َ‬
‫معُْروًفا )‪(5‬‬‫م قَوًْل َ‬ ‫م وَُقوُلوا ل َهُ ْ‬
‫سوهُ ْ‬‫َواك ْ ُ‬
‫َ‬
‫ما َواْرُزُقوهُ ْ‬
‫م‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬
‫م قَِيا ً‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫م ال ِّتي َ‬
‫جعَ َ‬ ‫وال َك ُ ُ‬
‫م َ‬
‫فَهاَء أ ْ‬‫س َ‬‫} ‪َ } { 5‬ول ت ُؤُْتوا ال ّ‬
‫معُْروًفا { ‪.‬‬ ‫ول َ‬ ‫م وَُقوُلوا ل َهُ ْ‬
‫م قَ ْ‬ ‫سوهُ ْ‬ ‫ِفيَها َواك ْ ُ‬
‫وقوله تعالى‪ } :‬ول تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما‬
‫وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قول معروفا { السفهاء‪ :‬جمع‬
‫"سفيه" وهو‪ :‬من ل يحسن التصرف في المال‪ ،‬إما لعدم عقله كالمجنون‬
‫والمعتوه‪ ،‬ونحوهما‪ ،‬وإما لعدم رشده كالصغير وغير الرشيد‪ .‬فنهى الله‬
‫الولياء أن يؤتوا هؤلء أموالهم خشية إفسادها وإتلفها‪ ،‬لن الله جعل‬
‫الموال قياما لعباده في مصالح دينهم ودنياهم‪ ،‬وهؤلء ل يحسنون القيام‬
‫عليها وحفظها‪ ،‬فأمر الولي أن ل يؤتيهم إياها‪ ،‬بل يرزقهم منها ويكسوهم‪،‬‬
‫ويبذل منها ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية‪ ،‬وأن يقولوا‬
‫لهم قول معروفا‪ ،‬بأن يعدوهم ‪-‬إذا طلبوها‪ -‬أنهم سيدفعونها لهم بعد‬
‫رشدهم‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬ويلطفوا لهم في القوال جبًرا لخواطرهم‪.‬‬
‫وفي إضافته تعالى الموال إلى الولياء‪ ،‬إشارة إلى أنه يجب عليهم أن‬
‫يعملوا في أموال السفهاء ما يفعلونه في أموالهم‪ ،‬من الحفظ والتصرف‬
‫وعدم التعريض للخطار‪ .‬وفي الية دليل على أن نفقة المجنون والصغير‬
‫م ِفيَها‬‫والسفيه في مالهم‪ ،‬إذا كان لهم مال‪ ،‬لقوله‪َ } :‬واْرُزُقوهُ ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫سوهُ ْ‬ ‫َواك ْ ُ‬
‫وفيه دليل على أن قول الولي مقبول فيما يدعيه من النفقة الممكنة‬
‫والكسوة؛ لن الله جعله مؤتمنا على مالهم فلزم قبول قول المين‪.‬‬

‫) ‪(1/164‬‬
‫ح فَإ ْ َ‬
‫دا َفاد ْفَُعوا إ ِل َي ْهِ ْ‬
‫م‬ ‫ش ً‬ ‫م ُر ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ست ُ ْ‬
‫ن آن َ ْ‬ ‫كا ََ ِ‬ ‫ذا ب َل َُغوا الن ّ َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫مى َ‬ ‫َواب ْت َُلوا ال ْي ََتا َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ف ْ‬ ‫ست َعْ ِ‬‫ن غَن ِّيا فَل ْي َ ْ‬ ‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫ْ‬ ‫ن ي َك ْب َُروا وَ َ‬
‫م‬ ‫داًرا أ ْ‬ ‫سَراًفا وَب ِ َ‬ ‫ها إ ِ ْ‬ ‫م وََل ت َأك ُُلو َ‬ ‫وال َهُ ْ‬‫َ‬ ‫م‬
‫أ ْ‬
‫دوا‬ ‫شه ِ ُ‬‫م فَأ َ ْ‬ ‫وال َهُ ْ‬‫م َ‬
‫ذا دفَعتم إل َيه َ‬
‫مأ ْ‬ ‫ف فَإ ِ َ َ ْ ُ ْ ِ ْ ِ ْ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫قيًرا فَل ْي َأ ْك ُ ْ‬
‫ل ِبال ْ َ‬ ‫ن فَ ِ‬ ‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ َ‬
‫سيًبا )‪(6‬‬ ‫ح ِ‬ ‫ّ‬
‫فى ِباللهِ َ‬ ‫َ‬
‫م وَك َ‬ ‫َ‬
‫عَلي ْهِ ْ‬
‫دا‬
‫ش ً‬ ‫م ُر ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ست ُ ْ‬‫ن آن َ ْ‬‫ح فَإ ِ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫ذا ب َل َُغوا الن ّ َ‬‫حّتى إ ِ َ‬ ‫مى َ‬ ‫} ‪َ } { 6‬واب ْت َُلوا ال ْي ََتا َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َفادفَعوا إل َيه َ‬
‫ن غَن ِّيا‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي َك ْب َُروا وَ َ‬ ‫داًرا أ ْ‬ ‫سَراًفا وَب ِ َ‬ ‫ها إ ِ ْ‬ ‫م َول ت َأك ُُلو َ‬ ‫وال َهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫مأ ْ‬ ‫ْ ُ ِ ِْ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫م‬
‫والهُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫م إ ِلي ْهِ ْ‬ ‫َ‬
‫ذا د َفعْت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ف فإ ِ َ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫قيًرا فلي َأكل ِبال َ‬ ‫َ‬ ‫نف ِ‬‫َ‬ ‫ن كا َ‬‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫ف وَ َ‬ ‫ف ْ‬‫ست َعْ ِ‬‫فَل ْي َ ْ‬
‫سيًبا { ‪.‬‬ ‫ح ِ‬ ‫فى ِبالل ّهِ َ‬ ‫م وَك َ َ‬ ‫دوا عَل َي ْهِ ْ‬ ‫شه ِ ُ‬ ‫فَأ َ ْ‬
‫البتلء‪ :‬هو الختبار والمتحان‪ ،‬وذلك بأن يدفع لليتيم المقارب للرشد‪،‬‬
‫الممكن رشده‪ ،‬شيئا من ماله‪ ،‬ويتصرف فيه التصرف اللئق بحاله‪ ،‬فيتبين‬
‫بذلك رشده من سفهه‪ ،‬فإن ] ص ‪ [ 165‬استمر غير محسن للتصرف لم‬
‫يدفع إليه ماله‪ ،‬بل هو باق على سفهه‪ ،‬ولو بلغ عمرا كثيرا‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م{‬ ‫والهُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫فإن تبين رشده وصلحه في ماله وبلغ النكاح } َفاد ْفَُعوا إ ِل َي ْهِ ْ‬
‫ْ‬
‫سَراًفا { أي‪ :‬مجاوزة للحد الحلل الذي أباحه‬ ‫ها إ ِ ْ‬‫كاملة موفرة‪َ } .‬ول ت َأك ُُلو َ‬
‫الله لكم من أموالكم‪ ،‬إلى الحرام الذي حرمه الله عليكم من أموالهم‪.‬‬
‫ن ي َك ْب َُروا { أي‪ :‬ول تأكلوها في حال صغرهم التي ل يمكنهم فيها‬ ‫َ‬
‫داًرا أ ْ‬ ‫} وَب ِ َ‬
‫أخذها منكم‪ ،‬ول منعكم من أكلها‪ ،‬تبادرون بذلك أن يكبروا‪ ،‬فيأخذوها منكم‬
‫ويمنعوكم منها‪.‬‬
‫وهذا من المور الواقعة من كثير من الولياء‪ ،‬الذين ليس عندهم خوف من‬
‫الله‪ ،‬ول رحمة ومحبة للمولى عليهم‪ ،‬يرون هذه الحال حال فرصة‬
‫فيغتنمونها ويتعجلون ما حرم الله عليهم‪ ،‬فنهى الله تعالى عن هذه الحالة‬
‫بخصوصها‪.‬‬

‫) ‪(1/164‬‬

‫ما ت ََر َ‬
‫ك‬ ‫م ّ‬
‫ب ِ‬
‫صي ٌ‬
‫ساِء ن َ ِ‬ ‫ن َواْل َقَْرُبو َ‬
‫ن وَِللن ّ َ‬ ‫دا ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬
‫وال ِ َ‬ ‫ما ت ََر َ‬‫م ّ‬
‫ب ِ‬‫صي ٌ‬ ‫ل نَ ِ‬‫جا ِ‬ ‫ِللّر َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ضا )‪(7‬‬ ‫فُرو ً‬ ‫م ْ‬
‫صيًبا َ‬ ‫َ‬
‫ه أوْ كث َُر ن َ ِ‬ ‫من ْ ُ‬‫ل ِ‬ ‫ما قَ ّ‬‫م ّ‬
‫ن ِ‬ ‫ن َوالقَْرُبو َ‬ ‫دا ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫وال ِ َ‬

‫ما‬
‫م ّ‬
‫ب ِ‬‫صي ٌ‬
‫ساِء ن َ ِ‬
‫ن وَِللن ّ َ‬‫ن َوالقَْرُبو َ‬ ‫دا ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬
‫وال ِ َ‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫م ّ‬ ‫ب ِ‬ ‫صي ٌ‬
‫ل نَ ِ‬ ‫جا ِ‬
‫} ‪ِ } { 7‬للّر َ‬
‫َ‬
‫ضا { ‪.‬‬ ‫فُرو ً‬ ‫م ْ‬‫صيًبا َ‬‫ه أوْ ك َث َُر ن َ ِ‬ ‫من ْ ُ‬
‫ل ِ‬ ‫ما قَ ّ‬ ‫م ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫ن َوالقَْرُبو َ‬ ‫دا ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬
‫وال ِ َ‬ ‫ت ََر َ‬
‫كان العرب في الجاهلية ‪ -‬من جبروتهم )‪ (1‬وقسوتهم ل يورثون الضعفاء‬
‫كالنساء والصبيان‪ ،‬ويجعلون الميراث للرجال القوياء لنهم ‪-‬بزعمهم‪ -‬أهل‬
‫الحرب والقتال والنهب والسلب‪ ،‬فأراد الرب الرحيم الحكيم أن يشرع‬
‫عا‪ ،‬يستوي فيه رجالهم ونساؤهم‪ ،‬وأقوياؤهم وضعفاؤهم‪ .‬وقدم‬ ‫لعباده شر ً‬
‫ّ‬
‫بين يدي ذلك أمرا مجمل لتتوطن على ذلك النفوس‪.‬‬
‫فيأتي التفصيل بعد الجمال‪ ،‬قد تشوفت له النفوس‪ ،‬وزالت الوحشة التي‬
‫ب { ‪ :‬أي‪ :‬قسط وحصة‬ ‫صي ٌ‬ ‫ل نَ ِ‬ ‫جا ِ‬ ‫منشؤها العادات القبيحة‪ ،‬فقال‪ِ } :‬للّر َ‬
‫ن { عموم‬ ‫دان { أي‪ :‬الب والم } َوالقَْرُبو َ‬ ‫وال ِ َ‬‫ك { أي‪ :‬خلف } ال ْ َ‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫م ّ‬‫} ِ‬
‫ن{‬ ‫ن َوالقَْرُبو َ‬ ‫دا ِ‬
‫وال ِ َ‬ ‫ْ‬
‫ك ال َ‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫م ّ‬ ‫ب ّ‬ ‫صي ٌ‬ ‫ساِء ن َ ِ‬
‫بعد خصوص } وَِللن ّ َ‬
‫فكأنه قيل‪ :‬هل ذلك النصيب راجع إلى العرف والعادة‪ ،‬وأن يرضخوا لهم‬
‫ضا { ‪ :‬أي‪ :‬قد‬ ‫فُرو ً‬‫م ْ‬
‫صيًبا َ‬
‫ما يشاءون؟ أو شيئا مقدرا؟ فقال تعالى‪ } :‬ن َ ِ‬
‫قدره العليم الحكيم‪ .‬وسيأتي ‪-‬إن شاء الله‪ -‬تقدير ذلك‪.‬‬
‫وأيضا فهاهنا توهم آخر‪ ،‬لعل أحدا يتوهم أن النساء والولدان ليس لهم‬
‫ه أ َوْ ك َث َُر {‬
‫من ْ ُ‬
‫ل ِ‬‫ما قَ ّ‬‫م ّ‬
‫نصيب إل من المال الكثير‪ ،‬فأزال ذلك بقوله‪ِ } :‬‬
‫فتبارك الله أحسن الحاكمين‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في النسختين‪ :‬جبريتهم‪.‬‬

‫) ‪(1/165‬‬

‫ه وَُقوُلوا‬
‫من ْ ُ‬ ‫ن َفاْرُزُقوهُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫كي ُ‬
‫سا ِ‬ ‫مى َوال ْ َ‬
‫م َ‬ ‫ة ُأوُلو ال ْ ُ‬
‫قْرَبى َوال ْي ََتا َ‬ ‫م َ‬
‫س َ‬ ‫ضَر ال ْ ِ‬
‫ق ْ‬ ‫ح َ‬‫ذا َ‬‫وَإ ِ َ‬
‫معُْروًفا )‪(8‬‬ ‫م قَوًْل َ‬
‫ل َهُ ْ‬
‫م‬‫ن َفاْرُزُقوهُ ْ‬ ‫كي ُ‬
‫سا ِ‬ ‫مى َوال ْ َ‬
‫م َ‬ ‫قْرَبى َوال ْي ََتا َ‬ ‫ة ُأوُلو ال ْ ُ‬‫م َ‬‫س َ‬ ‫ضَر ال ْ ِ‬
‫ق ْ‬ ‫ح َ‬‫ذا َ‬ ‫} ‪ } { 8‬وَإ ِ َ‬
‫معُْروًفا { ‪.‬‬ ‫ول َ‬ ‫م قَ ْ‬‫ه وَُقوُلوا ل َهُ ْ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ِ‬
‫ضَر‬
‫ح َ‬ ‫ذا َ‬ ‫وهذا من أحكام الله الحسنة الجليلة الجابرة للقلوب فقال‪ } :‬وَإ ِ َ‬
‫قْرَبى { أي‪ :‬القارب غير‬ ‫ة { أي‪ :‬قسمة المواريث } ُأوُلو ال ْ ُ‬ ‫م َ‬‫س َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫ة { لن الوارثين من المقسوم عليهم‪.‬‬ ‫م َ‬
‫س َ‬‫ق ْ‬‫الوارثين بقرينة قوله‪ } :‬ال ْ ِ‬
‫هم‬ ‫كين { أي‪ :‬المستحقون من الفقراء‪َ } .‬فاْرُزُقو ُ‬ ‫سا ِ‬
‫م َ‬‫مى َوال ْ َ‬ ‫} َوال ْي ََتا َ‬
‫ه { أي‪ :‬أعطوهم ما تيسر من هذا المال الذي جاءكم بغير كد ول تعب‪،‬‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ّ‬
‫صب‪ ،‬فإن نفوسهم متشوفة إليه‪ ،‬وقلوبهم متطلعة‪ ،‬فاجبروا‬ ‫َ َ‬ ‫ن‬ ‫ول‬ ‫عناء‬ ‫ول‬
‫خواطرهم بما ل يضركم وهو نافعهم‪.‬‬
‫ويؤخذ من المعنى أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي‬
‫النسان‪ ،‬ينبغي له أن يعطيه منه ما تيسر‪ ،‬كما كان النبي صلى الله عليه‬
‫مه بطعامه فليجلسه معه‪ ،‬فإن لم يجلسه‬ ‫دكم خاد ُ‬ ‫وسلم يقول‪" :‬إذا جاء أح َ‬
‫معه‪ ،‬فليناوله لقمة أو لقمتين" أو كما قال‪.‬‬
‫وكان الصحابة رضي الله عنهم ‪-‬إذا بدأت باكورة أشجارهم‪ -‬أتوا بها رسول‬
‫الله صلى الله عليه وسلم فبّرك عليها‪ ،‬ونظر إلى أصغر وليد عنده فأعطاه‬
‫ذلك‪ ،‬علما منه بشدة تشوفه لذلك‪ ،‬وهذا كله مع إمكان العطاء‪ ،‬فإن لم‬
‫يمكن ذلك ‪-‬لكونه حق سفهاء‪ ،‬أو َثم أهم من ذلك‪ -‬فليقولوا لهم } َقول‬
‫معُْروًفا { يردوهم )‪ (1‬رّدا جميل بقول حسن غير فاحش ول قبيح‪.‬‬ ‫َ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬يردونهم‪.‬‬

‫) ‪(1/165‬‬

‫قوا الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫م فَل ْي َت ّ ُ‬ ‫خاُفوا عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ضَعاًفا َ‬ ‫ة ِ‬ ‫م ذ ُّري ّ ً‬ ‫خل ْ ِ‬
‫فه ِ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫كوا ِ‬‫ن ل َوْ ت ََر ُ‬ ‫ش ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫خ َ‬ ‫وَل ْي َ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ما ي َأك ُُلو َ‬
‫ن‬ ‫ما إ ِن ّ َ‬ ‫مى ظ ُل ْ ً‬ ‫ل ال ْي ََتا َ‬
‫وا َ‬
‫م َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ن ي َأك ُُلو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫دا )‪ (9‬إ ِ ّ‬ ‫دي ً‬
‫س ِ‬ ‫قوُلوا قَوًْل َ‬ ‫وَل ْي َ ُ‬
‫سِعيًرا )‪(10‬‬ ‫ن َ‬ ‫صل َوْ َ‬
‫سي َ ْ‬
‫م َناًرا وَ َ‬‫طون ِهِ ْ‬‫ِفي ب ُ ُ‬
‫خاُفوا عَل َي ْهِ ْ‬
‫م‬ ‫ضَعاًفا َ‬ ‫ة ِ‬ ‫م ذ ُّري ّ ً‬ ‫خل ْ ِ‬
‫فه ِ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫كوا ِ‬ ‫ن ل َوْ ت ََر ُ‬ ‫ذي َ‬‫ش ال ّ ِ‬ ‫خ َ‬ ‫} ‪ } { 10 ، 9‬وَل ْي َ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ما‬ ‫مى ظ ُل ْ ً‬ ‫ل ال ْي ََتا َ‬ ‫وا َ‬ ‫م َ‬‫نأ ْ‬ ‫ن ي َأك ُُلو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫دا * إ ِ ّ‬ ‫دي ً‬
‫س ِ‬ ‫ول َ‬ ‫قوُلوا قَ ْ‬ ‫ه وَل ْي َ ُ‬
‫قوا الل ّ َ‬ ‫فَل ْي َت ّ ُ‬
‫ْ‬
‫سِعيًرا { ‪.‬‬ ‫ن َ‬ ‫صل َوْ َ‬‫سي َ ْ‬ ‫م َناًرا وَ َ‬ ‫ن ِفي ب ُ ُ‬
‫طون ِهِ ْ‬ ‫ما ي َأك ُُلو َ‬ ‫إ ِن ّ َ‬
‫ن حضره الموت وأجنف في وصيته‪ ،‬أن‬ ‫م ْ‬ ‫قيل‪ :‬إن هذا خطاب لمن يحضر َ‬
‫ول‬ ‫قولوا قَ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫يأمره بالعدل في وصيته والمساواة فيها‪ ،‬بدليل قوله‪ } :‬وَلي َ ُ‬
‫دا { أي‪ :‬سدادا‪ ،‬موافقا للقسط والمعروف‪ .‬وأنهم يأمرون من يريد‬ ‫دي ً‬ ‫س ِ‬ ‫َ‬
‫الوصية على أولده بما يحبون معاملة أولدهم بعدهم‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن المراد بذلك أولياء السفهاء من المجانين والصغار والضعاف أن‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫يعاملوهم في مصالحهم الدينية والدنيوية بما يحبون أن يعامل به َ‬
‫ه { في وليتهم لغيرهم‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫بعدهم من ذريتهم الضعاف } فَل ْي َت ّ ُ‬
‫يعاملونهم بما فيه تقوى الله‪ ،‬من عدم إهانتهم والقيام عليهم‪ ،‬وإلزامهم‬
‫لتقوى الله‪.‬‬
‫ولما أمرهم بذلك‪ ،‬زجرهم عن أكل أموال اليتامى‪ ،‬وتوعد على ذلك أشد‬
‫] ص ‪ [ 166‬العذاب فقال‪ } :‬إن ال ّذين يأ ْك ُُلو َ‬
‫ما { أي‪:‬‬ ‫مى ظ ُل ْ ً‬ ‫ل ال ْي ََتا َ‬ ‫وا َ‬
‫م َ‬‫نأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ َ َ‬ ‫ِ ّ‬
‫بغير حق‪ .‬وهذا القيد يخرج به ما تقدم‪ ،‬من جواز الكل للفقير بالمعروف‪،‬‬
‫ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫م َناًرا { أي‪ :‬فإن الذي أكلوه‬ ‫ن ِفي ب ُطون ِهِ ْ‬ ‫ما فـ } إنما ي َأك ُُلو َ‬ ‫ن أكلها ظل ً‬ ‫م ْ‬ ‫ف َ‬
‫ن‬
‫صلوْ َ‬ ‫َ‬ ‫سي َ ْ‬ ‫نار تتأجج في أجوافهم وهم الذين أدخلوها في بطونهم‪ } .‬وَ َ‬
‫سِعيًرا { أي‪ :‬ناًرا محرقة متوقدة‪ .‬وهذا أعظم وعيد ورد في الذنوب‪ ،‬يدل‬ ‫َ‬
‫على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها‪ ،‬وأنها موجبة لدخول النار‪ ،‬فدل‬
‫ذلك أنها من أكبر الكبائر‪ .‬نسأل الله العافية‪.‬‬

‫) ‪(1/165‬‬

‫َ‬
‫ساًء فَوْقَ اث ْن َت َي ْ ِ‬
‫ن‬ ‫ن نِ َ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫ن فَإ ِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ظ اْل ُن ْث َي َي ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ل َ‬ ‫م ِللذ ّك َرِ ِ‬
‫مث ْ ُ‬ ‫ه ِفي أوَْلدِك ُ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫صيك ُ ُ‬ ‫ُيو ِ‬
‫َ‬
‫ما‬ ‫من ْهُ َ‬ ‫حدٍ ِ‬ ‫ل َوا ِ‬ ‫ف وَِلب َوَي ْهِ ل ِك ُ ّ‬ ‫ص ُ‬ ‫حد َةً فَل ََها الن ّ ْ‬ ‫ت َوا ِ‬ ‫كان َ ْ‬‫ن َ‬ ‫ك وَإ ِ ْ‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫ن ث ُل َُثا َ‬ ‫فَل َهُ ّ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫م ِ‬ ‫واهُ فَِل ّ‬ ‫ه أب َ َ‬‫ه وَل َد ٌ وَوَرِث َ ُ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬‫ه وَل َد ٌ فَإ ِ ْ‬‫ن لَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬‫ك إِ ْ‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫م ّ‬‫س ِ‬ ‫سد ُ ُ‬ ‫ال ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬ ‫صي ب َِها أوْ د َي ْ ٍ‬ ‫صي ّةٍ ُيو ِ‬ ‫ن ب َعْدِ وَ ِ‬ ‫م ْ‬‫س ِ‬ ‫سد ُ ُ‬ ‫مهِ ال ّ‬ ‫خوَةٌ فَِل ّ‬ ‫ه إِ ْ‬‫ن لَ ُ‬‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫ث فَإ ِ ْ‬ ‫الث ّل ُ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن الل ّهِ إ ِ ّ‬ ‫م َ‬ ‫ة ِ‬ ‫ض ً‬‫ري َ‬ ‫فًعا فَ ِ‬ ‫ب ل َك ُ ْ‬
‫م نَ ْ‬ ‫م أقَْر ُ‬ ‫ن أي ّهُ ْ‬ ‫م َل ت َد ُْرو َ‬ ‫م وَأب َْناؤُك ُ ْ‬ ‫آَباؤُك ُ ْ‬
‫ما )‪(11‬‬ ‫كي ً‬‫ح ِ‬ ‫ما َ‬ ‫عَِلي ً‬
‫ل َ ّ‬ ‫َ‬
‫ن كُ ّ‬
‫ن‬ ‫ن فَإ ِ ْ‬ ‫حظ الن ْث َي َي ْ ِ‬ ‫م ِللذ ّك َرِ ِ‬
‫مث ْ ُ‬ ‫ه ِفي أْولدِك ُ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫صيك ُ ُ‬ ‫} ‪ُ } { 12 ، 11‬يو ِ‬
‫ه‬
‫ف َولب َوَي ْ ِ‬ ‫ص ُ‬ ‫حد َةً فَل ََها الن ّ ْ‬ ‫ت َوا ِ‬ ‫كان َ ْ‬‫ن َ‬ ‫ك وَإ ِ ْ‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫ن ث ُل َُثا َ‬ ‫ن فَل َهُ ّ‬ ‫ساًء فَوْقَ اث ْن َت َي ْ ِ‬ ‫نِ َ‬
‫ه وَل َد ٌ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬
‫ه وَل َد ٌ فَإ ِ ْ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ك إِ ْ‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫م ّ‬ ‫س ِ‬‫سد ُ ُ‬ ‫ما ال ّ‬ ‫من ْهُ َ‬ ‫حدٍ ِ‬ ‫ل َوا ِ‬ ‫ل ِك ُ ّ‬
‫َ‬
‫ة‬
‫صي ّ ٍ‬ ‫ن ب َعْدِ وَ ِ‬ ‫م ْ‬‫س ِ‬ ‫سد ُ ُ‬ ‫مهِ ال ّ‬ ‫خوَةٌ َفل ّ‬ ‫ه إِ ْ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫ث فَإ ِ ْ‬ ‫مهِ الث ّل ُ ُ‬ ‫واهُ َفل ّ‬ ‫ه أب َ َ‬ ‫وَوَرِث َ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ة‬
‫ض ً‬ ‫ري َ‬ ‫فًعا فَ ِ‬ ‫م نَ ْ‬‫ب ل َك ُ ْ‬‫م أقَْر ُ‬ ‫ن أي ّهُ ْ‬ ‫م ل ت َد ُْرو َ‬ ‫م وَأب َْناؤُك ُ ْ‬ ‫ن آَباؤُك ُ ْ‬ ‫صي ب َِها أوْ د َي ْ ٍ‬ ‫ُيو ِ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫كي ً‬‫ح ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ن عَِلي ً‬ ‫َ‬
‫ه كا َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ّ‬
‫ن اللهِ إ ِ ّ‬ ‫م َ‬‫ِ‬
‫هذه اليات والية التي هي آخر السورة هن آيات المواريث المتضمنة لها‪.‬‬
‫حقوا‬ ‫فإنها مع حديث عبد الله بن عباس الثابت في صحيح البخاري "أل ْ ِ‬
‫الفرائض بأهلها‪ ،‬فما بقي فلولى رجل ذكر" ‪ -‬مشتملت على جل أحكام‬
‫الفرائض‪ ،‬بل على جميعها كما سترى ذلك‪ ،‬إل ميراث الجدات فإنه غير‬
‫مذكور في ذلك‪ .‬لكنه قد ثبت في السنن عن المغيرة بن شعبة ومحمد بن‬
‫مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس‪ ،‬مع إجماع‬
‫العلماء على ذلك‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬أولدكم ‪-‬يا معشر‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ه ِفي أْولدِك ْ‬ ‫م الل ُ‬ ‫صيك ُ‬ ‫فقوله تعالى‪ُ } :‬يو ِ‬
‫دين‪ -‬عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم‪ ،‬لتقوموا بمصالحهم الدينية‬ ‫الوال ِ ِ‬
‫والدنيوية‪ ،‬فتعلمونهم وتؤدبونهم وتكفونهم عن المفاسد‪ ،‬وتأمرونهم بطاعة‬
‫َ‬
‫مُنوا ُقوا‬ ‫نآ َ‬ ‫الله وملزمة التقوى على الدوام كما قال تعالى‪َ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫س َوال ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫َأن ُ‬
‫جاَرةُ { فالولد عند والديهم‬ ‫ح َ‬ ‫ها الّنا ُ‬ ‫م َناًرا وَُقود ُ َ‬ ‫م وَأهِْليك ُ ْ‬ ‫سك ُ ْ‬‫ف َ‬
‫موصى بهم‪ ،‬فإما أن يقوموا بتلك الوصية‪ ،‬وإما أن يضيعوها فيستحقوا‬
‫بذلك الوعيد والعقاب‪.‬‬
‫وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين‪ ،‬حيث أوصى‬
‫الوالدين مع كمال شفقتهم‪ ،‬عليهم‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬الولد للصلب‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ثم ذكر كيفية إرثهم فقال‪ِ } :‬للذ ّك َرِ ِ‬
‫حظ الن ْثي َي ْ ِ‬ ‫مثل َ‬
‫والولد للبن‪ ،‬للذكر مثل حظ النثيين‪ ،‬إن لم يكن معهم صاحب فرض‪ ،‬أو‬
‫ما أبقت الفروض يقتسمونه كذلك‪ ،‬وقد أجمع العلماء على ذلك‪ ،‬وأنه ‪-‬مع‬
‫وجود أولد الصلب‪ -‬فالميراث لهم‪ .‬وليس لولد البن شيء‪ ،‬حيث كان‬
‫أولد الصلب ذكوًرا وإناثا‪ ،‬هذا مع اجتماع الذكور والناث‪ .‬وهنا حالتان‪:‬‬
‫ن‬
‫نك ّ‬‫ُ‬ ‫انفراد الذكور‪ ،‬وسيأتي حكمها‪ .‬وانفراد الناث‪ ،‬وقد ذكره بقوله‪ } :‬فَإ ِ ْ‬
‫ما‬‫ن ث ُل َُثا َ‬ ‫ن { أي‪ :‬بنات صلب أو بنات ابن‪ ،‬ثلثا فأكثر } فَل َهُ ّ‬ ‫ساًء فَوْقَ اث ْن َت َي ْ ِ‬ ‫نِ َ‬
‫ف { وهذا إجماع‪.‬‬ ‫ص ُ‬ ‫َ‬
‫دة { أي‪ :‬بنتا أو بنت ابن } فَلَها الن ّ ْ‬ ‫ح َ‬‫ت َوا ِ‬ ‫كان َ ْ‬ ‫ك وَِإن َ‬ ‫ت ََر َ‬
‫بقي أن يقال‪ :‬من أين يستفاد أن للبنتين الثنتين الثلثين بعد الجماع على‬
‫ذلك؟‬
‫ف { فمفهوم‬ ‫ص ُ‬ ‫حد َةً فَل ََها الن ّ ْ‬ ‫ت َوا ِ‬ ‫كان َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫فالجواب أنه يستفاد من قوله‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫م بعده إل‬ ‫ذلك أنه إن زادت على الواحدة‪ ،‬انتقل الفرض عن النصف‪ ،‬ول ث َ ّ‬
‫ن { إذا خّلف ابًنا وبنًتا‪ ،‬فإن‬ ‫حظ الن ْث َي َي ْ ِ‬
‫ل َ ّ‬ ‫الثلثان‪ .‬وأيضا فقوله‪ِ } :‬للذ ّك َرِ ِ‬
‫مث ْ ُ‬
‫البن له الثلثان‪ ،‬وقد أخبر الله أنه مثل حظ النثيين‪ ،‬فدل ذلك على أن‬
‫للبنتين الثلثين‪.‬‬
‫ضا فإن البنت إذا أخذت الثلث مع أخيها ‪ -‬وهو أزيد ضرًرا عليها من‬ ‫وأي ً‬
‫أختها‪ ،‬فأخذها له مع أختها من باب أولى وأحرى‪.‬‬
‫ُ‬
‫ما الث ّلَثا ِ‬ ‫َ‬
‫ن فَلهُ َ‬ ‫ن َ‬ ‫وأيضا فإن قوله تعالى في الختين‪ } :‬فَإ ِ ْ‬
‫ما‬
‫م ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫كان ََتا اث ْن َت َي ْ ِ‬
‫ك { نص في الختين الثنتين‪.‬‬ ‫ت ََر َ‬
‫فإذا كان الختان الثنتان ‪-‬مع ُبعدهما‪ -‬يأخذان الثلثين فالبنتان ‪-‬مع قربهما‪-‬‬
‫من باب أولى وأحرى‪ .‬وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ابنتي سعد‬
‫الثلثين كما في الصحيح‪.‬‬
‫بقي أن يقال‪ :‬فما الفائدة في قوله‪ } :‬فَوْقَ اث ْن َت َْين { ؟‪ .‬قيل‪ :‬الفائدة في‬
‫ذلك ‪-‬والله أعلم‪ -‬أنه ليعلم أن الفرض الذي هو الثلثان ل يزيد بزيادتهن‬
‫دا‪ .‬ودلت الية الكريمة أنه إذا وجد بنت‬ ‫على الثنتين بل من الثنتين فصاع ً‬
‫صلب واحدة‪ ،‬وبنت ابن أو بنات ابن‪ ،‬فإن لبنت الصلب النصف‪ ،‬ويبقى من‬
‫الثلثين اللذين فرضهما الله للبنات أو بنات البن السدس‪ ،‬فيعطى بنت‬
‫البن‪ ،‬أو بنات البن‪ ،‬ولهذا يسمى هذا السدس تكملة الثلثين‪ ] .‬ص ‪[ 167‬‬
‫ومثل ذلك بنت البن‪ ،‬مع بنات البن اللتي أنزل منها‪.‬‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫وتدل الية أنه متى استغرق البنات أو بنات البن الثلثين‪ ،‬أنه يسقط َ‬
‫ن بنات البن لن الله لم يفرض لهن إل الثلثين‪ ،‬وقد تم‪ .‬فلو لم‬ ‫م ْ‬
‫دونهن ِ‬
‫يسقطن لزم من ذلك أن يفرض لهن أزَيد من الثلثين‪ ،‬وهو خلف النص‪.‬‬
‫وكل هذه الحكام مجمع عليها بين العلماء ولله الحمد‪.‬‬
‫ك { أن الوارثين يرثون كل ما خلف الميت من عقار‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫م ّ‬ ‫ودل قوله‪ِ } :‬‬
‫وأثاث وذهب وفضة وغير ذلك‪ ،‬حتى الدية التي لم تجب إل بعد موته‪،‬‬
‫وحتى الديون التي في الذمم )‪. (1‬‬
‫ما‬
‫من ْهُ َ‬‫حدٍ ّ‬ ‫ل َوا ِ‬ ‫ثم ذكر ميراث البوين فقال‪َ } :‬ولب َوَي ْهِ { أي‪ :‬أبوه وأمه } ل ِك ُ ّ‬
‫ه وَل َد ٌ { أي‪ :‬ولد صلب أو ولد ابن ذكًرا كان أو‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫ك إِ ْ‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫م ّ‬ ‫س ِ‬ ‫سد ُ ُ‬ ‫ال ّ‬
‫دا‪.‬‬ ‫دا أو متعد ً‬ ‫أنثى‪ ،‬واح ً‬
‫فأما الم فل تزيد على السدس مع أحد من الولد‪.‬‬
‫وأما الب فمع الذكور منهم‪ ،‬ل يستحق أزيد من السدس‪ ،‬فإن كان الولد‬
‫أنثى أو إناثا ولم يبق بعد الفرض شيء ‪-‬كأبوين وابنتين‪ -‬لم يبق له‬
‫تعصيب‪ .‬وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء أخذ الب السدس‬
‫ضا‪ ،‬والباقي تعصيًبا‪ ،‬لننا ألحقنا الفروض بأهلها‪ ،‬فما بقي فلولى رجل‬ ‫فر ً‬
‫ذكر‪ ،‬وهو أولى من الخ والعم وغيرهما‪.‬‬
‫ُ‬ ‫كن ل ّه ول َد وورث َ َ‬
‫ث { أي‪ :‬والباقي للب لنه‬ ‫مهِ الث ّل ُ‬ ‫واهُ َفل ّ‬ ‫ه أب َ َ‬ ‫ُ َ ٌ َ َ ِ ُ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫} فَِإن ل ّ ْ‬
‫أضاف المال إلى الب والم إضافة واحدة‪ ،‬ثم قدر نصيب الم‪ ،‬فدل ذلك‬
‫على أن الباقي للب‪.‬‬
‫وعلم من ذلك أن الب مع عدم الولد ل فرض له‪ ،‬بل يرث تعصيبا المال‬
‫كله‪ ،‬أو ما أبقت الفروض‪ ،‬لكن لو وجد مع البوين أحد الزوجين ‪-‬ويعبر‬
‫عنهما بالعمريتين‪ -‬فإن الزوج أو الزوجة يأخذ فرضه‪ ،‬ثم تأخذ الم ثلث‬
‫الباقي والب الباقي‪.‬‬
‫مهِ الث ّل ُ ُ‬ ‫َ‬
‫ث { أي‪ :‬ثلث ما ورثه‬ ‫واهُ َفل ّ‬ ‫ه أب َ َ‬ ‫وقد دل على ذلك قوله‪ } :‬وَوَرِث َ ُ‬
‫البوان‪ .‬وهو في هاتين الصورتين إما سدس في زوج وأم وأب‪ ،‬وإما ربع‬
‫ث المال كامل مع عدم‬ ‫في زوجة وأم وأب‪ .‬فلم تدل الية على إرث الم ثل َ‬
‫الولد حتى يقال‪ :‬إن هاتين الصورتين قد استثنيتا من هذا‪.‬‬
‫ويوضح ذلك أن الذي يأخذه الزوج أو الزوجة بمنزلة ما يأخذه الغرماء‪،‬‬
‫فيكون من رأس المال‪ ،‬والباقي بين البوين‪.‬‬
‫ولنا لو أعطينا الم ثلث المال‪ ،‬لزم زيادتها على الب في مسألة الزوج‪ ،‬أو‬
‫ف السدس‪ ،‬وهذا ل نظير له‪،‬‬ ‫أخذ الب في مسألة الزوجة زيادة عنها نص َ‬
‫ف ما تأخذه الم‪.‬‬ ‫فإن المعهود مساواتها للب‪ ،‬أو أخذه ضع َ‬
‫س { أشقاء‪ ،‬أو لب‪ ،‬أو لم‪ ،‬ذكوًرا كانوا أو‬ ‫سد ُ ُ‬ ‫مهِ ال ّ‬ ‫خوَةٌ َفل ّ‬ ‫ه إِ ْ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫} فَِإن َ‬
‫إناًثا‪ ،‬وارثين أو محجوبين بالب أو الجد ]لكن قد يقال‪ :‬ليس ظاهُر قوله‪} :‬‬
‫خوَةٌ { شامل لغير الوارثين بدليل عدم تناولها للمحجوب‬ ‫ه إِ ْ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫فَإ ِ ْ‬
‫بالنصف‪ ،‬فعلى هذا ل يحجبها عن الثلث من الخوة إل الخوة الوارثون‪.‬‬
‫ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث لجل أن يتوفر لهم شيء من‬
‫المال‪ ،‬وهو معدوم‪ ،‬والله أعلم[ )‪ (2‬ولكن بشرط كونهم اثنين فأكثر‪،‬‬
‫ويشكل على ذلك إتيان لفظ "الخوة" بلفظ الجمع‪ .‬وأجيب عن ذلك بأن‬
‫المقصود مجرد التعدد‪ ،‬ل الجمع‪ ،‬ويصدق ذلك باثنين‪.‬‬
‫وقد يطلق الجمع ويراد به الثنان‪ ،‬كما في قوله تعالى عن داود وسليمان‬
‫ث‬‫ل ُيوَر ُ‬ ‫ج ٌ‬‫ن َر ُ‬ ‫كا َ‬‫ن { وقال في الخوة للم‪ } :‬وَِإن َ‬ ‫دي َ‬ ‫شاهِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫مه ِ ْ‬ ‫حك ْ ِ‬ ‫} وَك ُّنا ل ِ ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫كلل َ ً َ‬
‫كاُنوا أك ْث ََر‬ ‫س فَِإن َ‬ ‫سد ُ ُ‬‫ما ال ّ‬ ‫من ْهُ َ‬ ‫حدٍ ِ‬ ‫ل َوا ِ‬ ‫ت فَل ِك ُ ّ‬ ‫خ ٌ‬ ‫خ أو ْ أ ْ‬ ‫هأ ٌ‬ ‫مَرأةٌ وَل َ ُ‬ ‫ة أوِ ا ْ‬ ‫َ‬
‫ث{‪.‬‬ ‫كاُء ِفي الث ّل ُ ِ‬ ‫شَر َ‬ ‫م ُ‬ ‫ك فَهُ ْ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ما‬
‫فأطلق لفظ الجمع والمراد به اثنان فأكثر بالجماع‪ .‬فعلى هذا لو خلف أ ّ‬
‫وأًبا وإخوة‪ ،‬كان للم السدس‪ ،‬والباقي للب فحجبوها عن الثلث‪ ،‬مع حجب‬
‫الب إياهم ]إل على الحتمال الخر فإن للم الثلث والباقي للب[ )‪. (3‬‬
‫ن { أي‪ :‬هذه الفروض‬ ‫َ‬
‫صي ب َِها أوْ د َي ْ ٍ‬‫صي ّةٍ ُيو ِ‬
‫من ب َعْدِ وَ ِ‬ ‫ثم قال تعالى‪ِ } :‬‬
‫والنصباء والمواريث إنما ترد وتستحق بعد نزع الديون التي على الميت‬
‫لله أو للدميين‪ ،‬وبعد الوصايا التي قد أوصى الميت بها بعد موته‪ ،‬فالباقي‬
‫عن ذلك هو التركة الذي يستحقه الورثة‪.‬‬
‫وقدم الوصية مع أنها مؤخرة عن الدين للهتمام بشأنها‪ ،‬لكون إخراجها‬
‫شاّقا على الورثة‪ ،‬وإل فالديون مقدمة عليها‪ ،‬وتكون من رأس المال‪ ] .‬ص‬
‫‪[ 168‬‬
‫وأما الوصية فإنها تصح من الثلث فأقل للجنبي الذي هو غير وارث‪ .‬وأما‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫م وَأب َْناؤُك ُ ْ‬
‫م ل ت َد ُْرو َ‬ ‫غير ذلك فل ينفذ إل بإجازة الورثة‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬آَباؤُك ُ ْ‬
‫أ َيه َ‬
‫فًعا { ‪.‬‬ ‫م نَ ْ‬‫ب ل َك ُ ْ‬‫م أقَْر ُ‬ ‫ُّ ْ‬
‫فلو رد ّ تقدير الرث إلى عقولكم واختياركم لحصل من الضرر ما الله به‬
‫عليم‪ ،‬لنقص العقول وعدم معرفتها بما هو اللئق الحسن‪ ،‬في كل زمان‬
‫ومكان‪ .‬فل يدرون أ َيّ الولدِ أو الواِلدين أنفع لهم‪ ،‬وأقرب لحصول‬
‫مقاصدهم الدينية والدنيوية‪.‬‬
‫ما { أي‪ :‬فرضها الله الذي قد‬ ‫كي ً‬
‫ح ِ‬‫ما َ‬‫ن عَِلي ً‬ ‫َ‬
‫ه كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ن الل ّهِ إ ِ ّ‬ ‫م َ‬‫ة ِ‬ ‫ض ً‬
‫ري َ‬‫} فَ ِ‬
‫دره على أحسن تقدير‬ ‫در ما ق ّ‬ ‫ما‪ ،‬وأحكم ما شرعه وق ّ‬ ‫أحاط بكل شيء عل ً‬
‫ل تستطيع العقول أن تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة لكل زمان‬
‫ومكان وحال‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬الذمة‪.‬‬
‫)‪ (2‬زيادة من هامش ب وهناك زيادة أخرى في هامش أ وإن لم يتبين‬
‫محلها‪ ،‬لكنها ذات صلة بهذا الموضوع وهي قوله‪] :‬وعند شيخ السلم إذا‬
‫كان الخوة غير وارثين فإنهم ل يحجبون الم[ وبعد كلمة الم كلمة غير‬
‫واضحة في الصل‪.‬‬
‫)‪ (3‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫) ‪(1/166‬‬

‫ف ما تر َ َ‬
‫ن وَل َد ٌ فَل َك ُ ُ‬
‫م‬ ‫ن ل َهُ ّ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن وَل َد ٌ فَإ ِ ْ‬ ‫ن ل َهُ ّ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬‫ن لَ ْ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫جك ُ ْ‬ ‫ك أْزَوا ُ‬ ‫ص ُ َ ََ‬ ‫م نِ ْ‬ ‫وَل َك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م إِ ْ‬ ‫ما ت ََرك ْت ُ ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ن الّرب ُعُ ِ‬ ‫ن وَل َهُ ّ‬ ‫ن ب َِها أوْ د َي ْ ٍ‬ ‫صي َ‬‫صي ّةٍ ُيو ِ‬ ‫ن ب َعْدِ وَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ما ت ََرك ْ َ‬ ‫م ّ‬ ‫الّرب ُعُ ِ‬
‫ة‬
‫صي ّ ٍ‬ ‫ن ب َعْدِ وَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ْ‬
‫ما ت ََركت ُ ْ‬ ‫م ّ‬‫ن ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن الث ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م وَلد ٌ فَلهُ ّ‬ ‫ُ‬
‫ن لك ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن كا َ‬ ‫م وَلد ٌ فَإ ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن لك ْ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬‫لَ ْ‬
‫ت‬‫خ ٌ‬ ‫خ أ َوْ أ ُ ْ‬ ‫ه أَ ٌ‬‫مَرأةٌ وَل َ ُ‬
‫ة أ َو ا َ‬
‫ث ك ََلل َ ً ِ ْ‬ ‫ل ُيوَر ُ‬ ‫ج ٌ‬‫ن َر ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن وَإ ِ ْ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬
‫ن ب َِها أوْ د َي ْ‬ ‫صو َ‬ ‫ُتو ُ‬
‫ُ‬ ‫شَر َ‬ ‫َ‬
‫ث‬ ‫كاُء ِفي الث ّل ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ك فَهُ ْ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫كاُنوا أك ْث ََر ِ‬ ‫ن َ‬ ‫س فَإ ِ ْ‬ ‫سد ُ ُ‬ ‫ما ال ّ‬ ‫من ْهُ َ‬ ‫حدٍ ِ‬ ‫ل َوا ِ‬ ‫فَل ِك ُ ّ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫حِلي ٌ‬ ‫م َ‬ ‫ه عَِلي ٌ‬ ‫ن اللهِ َوالل ُ‬ ‫م َ‬ ‫ة ِ‬ ‫صي ّ ً‬‫ضاّر وَ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن غَي َْر ُ‬ ‫صى ب َِها أوْ د َي ْ ٍ‬ ‫صي ّةٍ ُيو َ‬ ‫ن ب َعْدِ وَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫)‪(12‬‬
‫ف ما تر َ َ‬
‫ن وَل َد ٌ‬ ‫ن ل َهُ ّ‬
‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن وَل َد ٌ فَإ ِ ْ‬ ‫ن ل َهُ ّ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬‫ن لَ ْ‬ ‫جك ُ ْ‬
‫م إِ ْ‬ ‫ك أْزَوا ُ‬ ‫ص ُ َ ََ‬ ‫م نِ ْ‬ ‫} وَل َك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ما‬ ‫م ّ‬‫ن الّرب ُعُ ِ‬ ‫ن وَل َهُ ّ‬ ‫ن ب َِها أوْ د َي ْ ٍ‬ ‫صي َ‬ ‫صي ّةٍ ُيو ِ‬ ‫ن ب َعْدِ وَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬‫ما ت ََرك ْ َ‬‫م ّ‬‫م الّرب ُعُ ِ‬ ‫فَل َك ُ ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ما ت ََرك ْت ُ ْ‬‫م ّ‬‫ن ِ‬ ‫م ُ‬‫ن الث ّ ُ‬ ‫م وَل َد ٌ فَل َهُ ّ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬
‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫م وَل َد ٌ فَإ ِ ْ‬‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬
‫م ي َك ُ ْ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫ت ََرك ْت ُ ْ‬
‫خ أ َْو‬ ‫ه أَ ٌ‬ ‫مَرأةٌ وَل َ ُ‬
‫ة أ َو ا َ‬
‫كلل َ ً ِ ْ‬ ‫ث َ‬ ‫ل ُيوَر ُ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن وَإ ِ ْ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬
‫ن ب َِها أوْ د َي ْ‬ ‫صو َ‬ ‫صي ّةٍ ُتو ُ‬ ‫ب َعْدِ وَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫أُ ْ‬
‫شَركاُء ِفي‬ ‫م ُ‬ ‫ن ذ َل ِك فَهُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن كاُنوا أكث ََر ِ‬ ‫س فَإ ِ ْ‬ ‫سد ُ ُ‬ ‫ما ال ّ‬ ‫من ْهُ َ‬ ‫حدٍ ِ‬ ‫ل َوا ِ‬ ‫ت فَل ِك ّ‬ ‫خ ٌ‬
‫َ‬
‫م‬
‫ه عَِلي ٌ‬ ‫ن الل ّهِ َوالل ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ة ِ‬ ‫صي ّ ً‬
‫ضاّر وَ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن غَي َْر ُ‬ ‫صى ب َِها أوْ د َي ْ ٍ‬ ‫صي ّةٍ ُيو َ‬ ‫ن ب َعْدِ وَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ث ِ‬ ‫الث ّل ُ ِ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حِلي ٌ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫م ي َكن‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م ِإن ل ْ‬ ‫جك ْ‬ ‫ك أْزَوا ُ‬ ‫ف َ‬ ‫ص ُ‬ ‫م { أيها الزواج } ن ِ ْ‬ ‫ثم قال تعالى‪ } :‬وَلك ْ‬
‫ن ب َِها‬‫صي َ‬ ‫صي ّةٍ ُيو ِ‬ ‫من ب َعْدِ وَ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫ما ت ََرك ْ َ‬ ‫م ّ‬ ‫م الّرب ُعُ ِ‬ ‫َ‬
‫ن وَلد ٌ فَلك ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ن ل َهُ ّ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن وَل َد ٌ فَإ ِ ْ‬ ‫ل ّهُ ّ‬
‫َ‬
‫ن‬‫م وَل َد ٌ فَل َهُ ّ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫م وَل َد ٌ فَِإن َ‬ ‫ن ل ّك ُ ْ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬ ‫م ِإن ل ّ ْ‬ ‫ما ت ََرك ْت ُ ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ن الّرب ُعُ ِ‬ ‫ن وَل َهُ ّ‬ ‫ٍ‬ ‫أوْ د َي ْ‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ن ب َِها أوْ د َي ْ ٍ‬ ‫صو َ‬ ‫صي ّةٍ ُتو ُ‬ ‫ن ب َعْدِ وَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ت ََرك ُْتم ّ‬ ‫م ّ‬‫ن ِ‬ ‫م ُ‬ ‫الث ّ ُ‬
‫ويدخل في مسمى الولد المشروط وجوده أو عدمه‪ ،‬ولد الصلب أو ولد‬
‫البن الذكر والنثى‪ ،‬الواحد والمتعدد‪ ،‬الذي من الزوج أو من غيره‪ ،‬ويخرج‬
‫عا‪.‬‬ ‫عنه ولد البنات إجما ً‬
‫ت { أي‪:‬‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫هأ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫خ ٌ‬ ‫خ أوْ أ ْ‬ ‫مَرأةٌ وَل ُ‬ ‫ة أو ِ ا ْ‬ ‫ث كلل ً‬ ‫جل ُيوَر ُ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫ن كا َ‬ ‫ثم قال تعالى‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫من أم‪ ،‬كما هي في بعض القراءات‪ .‬وأجمع العلماء على أن المراد بالخوة‬
‫هنا الخوة للم‪ ،‬فإذا كان يورث كللة أي‪ :‬ليس للميت والد ول ولد أي‪ :‬ل‬
‫أب ول جد ول ابن ول ابن ابن ول بنت ول بنت ابن وإن نزلوا‪ .‬وهذه هي‬
‫الكللة كما فسرها بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه‪ ،‬وقد حصل على‬
‫ذلك التفاق ولله الحمد‪.‬‬
‫َ‬
‫س { ‪ } ،‬فَِإن كاُنوا‬ ‫سد ُ ُ‬ ‫ما { أي‪ :‬من الخ والخت } ال ّ‬ ‫من ْهُ َ‬ ‫حدٍ ّ‬ ‫ل َوا ِ‬ ‫} فَل ِك ُ ّ‬
‫َ‬
‫ث { أي‪ :‬ل يزيدون‬ ‫كاُء ِفي الث ّل ُ ِ‬ ‫شَر َ‬ ‫م ُ‬ ‫ك { أي‪ :‬من واحد } فَهُ ْ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫أك ْث ََر ِ‬
‫ث { أن‬ ‫كاُء ِفي الث ّل ُ ِ‬ ‫شَر َ‬ ‫م ُ‬ ‫على الثلث ولو زادوا عن اثنين‪ .‬ودل قوله‪ } :‬فَهُ ْ‬
‫كرهم وأنثاهم سواء‪ ،‬لن لفظ "التشريك" )‪ (1‬يقتضي التسوية‪.‬‬ ‫ذَ َ‬
‫ل الذكور وإن‬ ‫كلل َةِ { على أن الفروع وإن نزلوا‪ ،‬والصو َ‬ ‫ودل لفظ } ال ْ َ‬
‫علوا‪ُ ،‬يسقطون أولد الم‪ ،‬لن الله لم يورثهم إل في الكللة‪ ،‬فلو لم يكن‬
‫يورث كللة‪ ،‬لم يرثوا منه شيًئا اتفاًقا‪.‬‬
‫قطون في‬ ‫ث { أن الخوة الشقاء َيس ُ‬ ‫كاُء ِفي الث ّل ُ ِ‬ ‫شَر َ‬ ‫م ُ‬ ‫ودل قوله‪ } :‬فَهُ ْ‬
‫المسألة المسماة بالحمارية‪ .‬وهى‪ :‬زوج‪ ،‬وأم‪ ،‬وإخوة لم‪ ،‬وإخوة أشقاء‪.‬‬
‫للزوج النصف‪ ،‬وللم السدس‪ ،‬وللخوة للم الثلث‪ ،‬ويسقط الشقاء‪ ،‬لن‬
‫الله أضاف الثلث للخوة من الم‪ ،‬فلو شاركهم الشقاء لكان جمعا لما‬
‫فّرق الله حكمه‪ .‬وأيضا فإن الخوة للم أصحاب فروض‪ ،‬والشقاء عصبات‪.‬‬
‫وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم‪" - :‬ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي‬
‫در الله أنصباءهم‪ ،‬ففي‬ ‫فلولى رجل ذكر" ‪ -‬وأهل الفروض هم الذين ق ّ‬
‫قط الشقاء‪ ،‬وهذا هو الصواب في‬ ‫س ُ‬ ‫هذه المسألة ل يبقى بعدهم شيء‪ ،‬في َ ْ‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وأما ميراث الخوة والخوات الشقاء أو لب‪ ،‬فمذكور في قوله‪:‬‬
‫كلل َةِ { الية‪.‬‬ ‫م ِفي ال ْ َ‬ ‫فِتيك ُ ْ‬ ‫ه يُ ْ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ك قُ ِ‬ ‫فُتون َ َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫} يَ ْ‬
‫فالخت الواحدة شقيقة أو لب لها النصف‪ ،‬والثنتان لهما الثلثان‪،‬‬
‫والشقيقة الواحدة مع الخت للب أو الخوات تأخذ النصف‪ ،‬والباقي من‬
‫الثلثين للخت أو الخوات لب )‪ (2‬وهو السدس تكملة الثلثين‪ .‬وإذ‬
‫استغرقت الشقيقات الثلثين سقط الخوات للب كما تقدم في البنات‬
‫وبنات البن‪ .‬وإن كان الخوة رجال ونساًء فللذكر مثل حظ النثيين‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬فهل يستفاد حكم ميراث القاتل‪ ،‬والرقيق‪ ،‬والمخالف في الدين‪،‬‬
‫والمبعض‪ ،‬والخنثى‪ ،‬والجد مع الخوة لغير أم‪ ،‬والعول‪ ،‬والرد‪ ،‬وذوي‬
‫الرحام‪ ،‬وبقية العصبة‪ ،‬والخوات لغير أم مع البنات أو بنات البن من‬
‫القرآن أم ل؟‬
‫قيل‪ :‬نعم‪ ،‬فيه تنبيهات وإشارات دقيقة يعسر فهمها على غير المتأمل تدل‬
‫على جميع المذكورات‪ .‬فأما )القاتل والمخالف في الدين( فيعرف أنهما‬
‫غير وارثين من بيان الحكمة اللهية في توزيع المال على الورثة بحسب‬
‫قربهم ونفعهم الديني والدنيوي‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب لك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م أقَْر ُ‬ ‫ن أي ّهُ ْ‬
‫وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة بقوله‪ } :‬ل ت َد ُْرو َ‬
‫علم أن القاتل قد سعى لمورثه )‪ (3‬بأعظم الضرر‪ ،‬فل ينتهض‬ ‫فًعا { وقد ُ‬ ‫نَ ْ‬
‫ما فيه من موجب الرث أن يقاوم ضرر القتل الذي هو ضد النفع الذي‬
‫] ص ‪ [ 169‬رتب عليه الرث‪ .‬فُعلم من ذلك أن القتل أكبر مانع يمنع‬
‫م أ َوَْلى‬‫ضه ُ ْ‬ ‫حام ِ ب َعْ ُ‬
‫ُ‬
‫الميراث‪ ،‬ويقطع الرحم الذي قال الله فيه‪ } :‬وَأوُلو الْر َ‬
‫ب الل ّهِ { مع أنه قد استقرت القاعدة الشرعية أن "من‬ ‫ض ِفي ك َِتا ِ‬ ‫ب ِب َعْ ٍ‬
‫استعجل شيئا قبل أوانه عوقب بحرمانه"‬
‫وبهذا ونحوه يعرف أن المخالف لدين الموروث ل إرث له‪ ،‬وذلك أنه قد‬
‫تعارض الموجب الذي هو اتصال النسب الموجب للرث‪ ،‬والمانعُ الذي هو‬
‫المخالفة في الدين الموجبة للمباينة من كل وجه‪ ،‬فقوي المانع ومنع‬
‫موجب الرث الذي هو النسب‪ ،‬فلم يعمل الموجب لقيام المانع‪ .‬يوضح‬
‫ذلك أن الله تعالى قد جعل حقوق المسلمين أولى من حقوق القارب‬
‫الكفار الدنيوية‪ ،‬فإذا مات المسلم انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به‪.‬‬
‫ب الل ّهِ {‬ ‫ض ِفي ك َِتا ِ‬ ‫ضهُ ْ َ َ‬ ‫ُ‬
‫فيكون قوله تعالى‪ } :‬وَأوُلو الْر َ‬
‫م أوْلى ب ِب َعْ ٍ‬ ‫حام ِ ب َعْ ُ‬
‫إذا اتفقت أديانهم‪ ،‬وأما مع تباينهم فالخوة الدينية مقدمة على الخوة‬
‫النسبية المجردة‪.‬‬
‫قال ابن القيم في "جلء الفهام"‪ :‬وتأمل هذا المعنى في آية المواريث‪،‬‬
‫وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة دون المرأة‪ ،‬كما في قوله‬
‫ف ما تر َ َ‬
‫م { إيذانا بأن هذا التوارث إنما وقع‬ ‫جك ُ ْ‬
‫ك أْزَوا ُ‬ ‫ص ُ َ ََ‬ ‫م نِ ْ‬ ‫تعالى‪ } :‬وَل َك ُ ْ‬
‫بالزوجية المقتضية للتشاكل والتناسب‪ ،‬والمؤمن والكافر ل تشاكل بينهما‬
‫ول تناسب‪ ،‬فل يقع بينهما التوارث‪ .‬وأسرار مفردات القرآن ومركباته فوق‬
‫عقول العالمين )‪] (4‬انتهى[‪.‬‬
‫وأما ) الرقيق ( فإنه ل يرث ول يورث‪ ،‬أما كونه ل يورث فواضح‪ ،‬لنه ليس‬
‫له مال يورث عنه‪ ،‬بل كل ما معه فهو لسيده‪ .‬وأما كونه ل يرث فلنه ل‬
‫يملك‪ ،‬فإنه لو ملك لكان لسيده‪ ،‬وهو أجنبي من الميت فيكون مثل قوله‬
‫ف ما تر َ َ‬
‫م{‬ ‫جك ُ ْ‬ ‫ك أْزَوا ُ‬ ‫ص ُ َ ََ‬ ‫ظ الن ْث َي َْين { } وَل َك ُ ْ‬
‫م نِ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ل َ‬ ‫تعالى‪ِ } :‬للذ ّك َرِ ِ‬
‫مث ْ ُ‬
‫س { ونحوها لمن يتأتى منه التملك‪ ،‬وأما الرقيق‬ ‫سد ُ ُ‬ ‫ما ال ّ‬‫من ْهُ َ‬
‫حدٍ ّ‬ ‫} فَل ِك ُ ّ‬
‫ل َوا ِ‬
‫ن بعضه حر وبعضه رقيق‬ ‫م ْ‬ ‫فل يتأتى منه ذلك‪ ،‬فعلم أنه ل ميراث له‪ .‬وأما َ‬
‫فإنه تتبعض أحكامه‪ .‬فما فيه من الحرية يستحق بها ما رتبه الله في‬
‫المواريث‪ ،‬لكون ما فيه من الحرية قابل للتملك‪ ،‬وما فيه من الرق فليس‬
‫بقابل لذلك‪ ،‬فإذا يكون المبعض‪ ،‬يرث ويورث‪ ،‬ويحجب بقدر ما فيه من‬
‫الحرية‪ .‬وإذا كان العبد يكون محمودا مذموما‪ ،‬مثابا ومعاقبا‪ ،‬بقدر ما فيه‬
‫من موجبات ذلك‪ ،‬فهذا كذلك‪ .‬وأما ) الخنثى ( فل يخلو إما أن يكون‬
‫واضحا ذكوريته أو أنوثيته‪ ،‬أو مشكل‪ .‬فإن كان واضحا فالمر فيه واضح‪.‬‬
‫إن كان ذكرا فله حكم الذكور‪ ،‬ويشمله النص الوارد فيهم‪.‬‬
‫وإن كان أنثى فله حكم الناث‪ ،‬ويشملها النص الوارد فيهن‪.‬‬
‫وإن كان مشكل فإن كان الذكر والنثى ل يختلف إرثهما ‪-‬كالخوة للم‪-‬‬
‫فالمر فيه واضح‪ ،‬وإن كان يختلف إرثه بتقدير ذكوريته وبتقدير أنوثيته‪،‬‬
‫ولم يبق لنا طريق إلى العلم بذلك‪ ،‬لم نعطه أكثر التقديرين‪ ،‬لحتمال ظلم‬
‫من معه من الورثة‪ ،‬ولم نعطه القل‪ ،‬لحتمال ظلمنا له‪ .‬فوجب التوسط‬
‫َ‬
‫ب‬ ‫ك أعدل الطريقين‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬اعْدُِلوا هُوَ أقَْر ُ‬ ‫بين المرين‪ ،‬وسلو ُ‬
‫وى { وليس لنا طريق إلى العدل في مثل هذا أكثر من هذا الطريق‬ ‫ق َ‬ ‫ِللت ّ ْ‬
‫م{‬ ‫َ‬
‫ست َطعْت ُ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫قوا الل َ‬ ‫سعََها { } َفات ّ ُ‬ ‫سا ِإل وُ ْ‬ ‫ف ً‬ ‫ه نَ ْ‬ ‫ّ‬
‫ف الل ُ‬ ‫ّ‬
‫المذكور‪ .‬و } ل ي ُك َل ُ‬
‫وأما ) ميراث الجد ( مع الخوة الشقاء أو لب‪ ،‬وهل يرثون معه أم ل؟‬
‫فقد دل كتاب الله على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه‪ ،‬وأن الجد‬
‫يحجب الخوة أشقاء أو لب أو لم‪ ،‬كما يحجبهم الب‪.‬‬
‫وبيان ذلك‪ :‬أن الجد أب في غير موضع من القرآن كقوله تعالى‪ } :‬إ ِذ ْ‬
‫ك وَإ ِل َ َ‬
‫ه‬ ‫دي َقاُلوا ن َعْب ُد ُ إ ِل َهَ َ‬ ‫ن ب َعْ ِ‬‫م ْ‬
‫ن ِ‬‫دو َ‬ ‫ما ت َعْب ُ ُ‬
‫ل ل ِب َِنيهِ َ‬ ‫ت إ ِذ ْ َقا َ‬ ‫موْ ُ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫قو َ‬‫ضَر ي َعْ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫َ‬
‫حاقَ { الية‪ .‬وقال يوسف عليه السلم‪:‬‬ ‫س َ‬ ‫ل وَإ ِ ْ‬ ‫عي َ‬‫ما ِ‬ ‫س َ‬‫م وَإ ِ ْ‬ ‫هي َ‬ ‫َ‬
‫آَبائ ِك إ ِب َْرا ِ‬
‫ب{‬ ‫قو َ‬‫حاقَ وَي َعْ ُ‬ ‫س َ‬
‫م وَإ ِ ْ‬ ‫هي َ‬ ‫ة آَباِئي إ ِب َْرا ِ‬ ‫ّ‬
‫مل َ‬ ‫ت ِ‬ ‫} َوات ّب َعْ ُ‬
‫فسمى الله الجد وجد الب أبا‪ ،‬فدل ذلك على أن الجد بمنزلة الب‪ ،‬يرث‬
‫ما يرثه الب‪ ،‬ويحجب من يحجبه‪.‬‬
‫وإذا كان العلماء قد أجمعوا على أن الجد حكمه حكم الب عند عدمه في‬
‫ميراثه مع الولد وغيرهم من بني الخوة والعمام وبنيهم‪ ،‬وسائر أحكام )‬
‫مه في حجب الخوة لغير‬ ‫مه حك َ‬ ‫‪ (5‬المواريث‪ ،‬فينبغي أيضا أن يكون حك ُ‬
‫أم‪.‬‬
‫وإذا كان ابن البن بمنزلة ابن الصلب فلم ل يكون الجد بمنزلة الب؟ وإذا‬
‫كان جد الب مع ابن الخ قد اتفق العلماء على أنه يحجبه‪ .‬فلم ل يحجب‬
‫ن يوّرث الخوةَ مع الجد‪ ،‬نص ول إشارة ول‬ ‫م ْ‬ ‫جد الميت أخاه؟ فليس مع َ‬
‫تنبيه ول قياس صحيح‪.‬‬
‫وأما مسائل )العول( فإنه يستفاد حكمها من القرآن‪ ،‬وذلك أن الله تعالى‬
‫قد فرض وقدر لهل المواريث أنصباء‪ ] ،‬ص ‪ [ 170‬وهم بين حالتين‪:‬‬
‫ضا أو ل‪ .‬فإن حجب بعضهم بعضا‪ ،‬فالمحجوب‬ ‫إما أن يحجب بعضهم بع ً‬
‫حم ول يستحق شيئا‪ ،‬وإن لم يحجب بعضهم بعضا فل يخلو‪،‬‬ ‫ساقط ل يزا ِ‬
‫إما أن ل تستغرق الفروض التركة‪ ،‬أو تستغرقها من غير زيادة ول نقص‪ ،‬أو‬
‫تزيد الفروض على التركة‪ ،‬ففي الحالتين الوليين كل يأخذ فرضه كامل‪.‬‬
‫وفي الحالة الخيرة وهي ما إذا زادت الفروض على التركة فل يخلو من‬
‫حالين‪:‬‬
‫ض الورثة عن فرضه الذي فرضه الله له‪ ،‬ونكمل للباقين‬ ‫إما أن ننقص بع َ‬
‫منهم فروضهم‪ ،‬وهذا ترجيح بغير مرجح‪ ،‬وليس نقصان أحدهم بأولى من‬
‫الخر‪ ،‬فتعينت الحال الثانية‪ ،‬وهي‪ :‬أننا نعطي كل واحد منهم نصيبه بقدر‬
‫المكان‪ ،‬ونحاصص بينهم كديون الغرماء الزائدة على مال الغريم‪ ،‬ول‬
‫طريق موصل إلى ذلك إل بالعول‪ ،‬فعلم من هذا أن العول في الفرائض‬
‫قد بينه الله في كتابه‪.‬‬
‫وبعكس هذه الطريقة بعينها يعلم ) الرد ( فإن أهل الفروض إذا لم‬
‫ة وبقي شيء ليس له مستحق من عاصب قريب‬ ‫ضهم الترك َ‬ ‫تستغرق فرو ُ‬
‫ول بعيد‪ ،‬فإن رده على أحدهم ترجيح بغير مرجح‪ ،‬وإعطاؤه غيَرهم ممن‬
‫ُ‬
‫م‬‫ضه ُ ْ‬ ‫حام ِ ب َعْ ُ‬ ‫ليس بقريب للميت جنف وميل‪ ،‬ومعارضة لقوله‪ } :‬وَأوُلو الْر َ‬
‫ب الل ّهِ { فتعين أن ي َُرد ّ على أهل الفروض بقدر‬ ‫ض ِفي ك َِتا ِ‬ ‫َ َ‬
‫أوْلى ب ِب َعْ ٍ‬
‫فروضهم‪.‬‬
‫ولما كان الزوجان ليسا من القرابة‪ ،‬لم يستحقا زيادة على فرضهم المقدر‬
‫]هذا عند من ل يوّرث الزوجين بالرد‪ ،‬وهم جمهور القائلين بالرد‪ ،‬فعلى هذا‬
‫تكون علة الرد كونه صاحب فرض قريبا‪ ،‬وعلى القول الخر‪ ،‬أن الزوجين‬
‫كغيرهما من ذوي الفروض ي َُرد ّ عليهما؛ فكما ينقصان بالعول فإنهما يزادان‬
‫بالرد كغيرهما‪ ،‬فالعلة على هذا كونه وارثا صاحب فرض‪ ،‬فهذا هو الظاهر‬
‫من دللة الكتاب والسنة‪ ،‬والقياس الصحيح‪ ،‬والله أعلم[ )‪. (6‬‬
‫وبهذا يعلم أيضا ) ميراث ذوي الرحام ( فإن الميت إذا لم يخلف صاحب‬
‫فرض ول عاصبا‪ ،‬وبقي المر دائرا بين كون ماله يكون لبيت المال لمنافع‬
‫الجانب‪ ،‬وبين كون ماله يرجع إلى أقاربه المدلين بالورثة المجمع عليهم‪،‬‬
‫ب‬
‫ض ِفي ك َِتا ِ‬ ‫ضه ُ ْ َ َ‬ ‫ُ‬
‫ويدل على ذلك قوله تعالى‪ } :‬وَأوُلو الْر َ‬
‫م أوْلى ب ِب َعْ ٍ‬ ‫حام ِ ب َعْ ُ‬
‫الل ّهِ { فصرفه لغيرهم ترك لمن هو أولى من غيره‪ ،‬فتعين توريث ذوي‬
‫الرحام‪.‬‬
‫وإذا تعين توريثهم‪ ،‬فقد علم أنه ليس لهم نصيب مقدر بأعيانهم في كتاب‬
‫الله‪ .‬وأن بينهم وبين الميت وسائط‪ ،‬صاروا بسببها من القارب‪ .‬فينزلون‬
‫منزلة من أدلوا به من تلك الوسائط‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫وأما ) ميراث بقية العصبة ( كالبنوة والخوة وبنيهم‪ ،‬والعمام وبنيهم إلخ‬
‫فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال‪" :‬ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي‬
‫ن‬‫دا ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬
‫وال ِ َ‬ ‫ما ت ََر َ‬
‫م ّ‬
‫ي ِ‬
‫وال ِ َ‬ ‫جعَل َْنا َ‬
‫م َ‬ ‫فلولي رجل ذكر"وقال تعالى‪ } :‬وَل ِك ُ ّ‬
‫ل َ‬
‫ن { فإذا ألحقنا الفروض بأهلها ولم يبق شيء‪ ،‬لم يستحق‬ ‫َوالقَْرُبو َ‬
‫العاصب شيًئا‪ ،‬وإن بقي شيء أخذه أولي العصبة‪ ،‬وبحسب جهاتهم‬
‫ودرجاتهم‪.‬‬
‫فإن جهات العصوبة خمس‪ :‬البنوة‪ ،‬ثم البوة‪ ،‬ثم الخوة وبنوهم‪ ،‬ثم‬
‫العمومة وبنوهم‪ ،‬ثم الولء‪ ،‬فيقدم منهم القرب جهة‪ .‬فإن كانوا في جهة‬
‫واحدة فالقرب منزلة‪ ،‬فإن كانوا في منزلة واحدة فالقوى‪ ،‬وهو الشقيق‪،‬‬
‫فإن تساووا من كل وجه اشتركوا‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫وأما كون الخوات لغير أم مع البنات أو بنات البن عصبات‪ ،‬يأخذن ما‬
‫فضل عن فروضهن‪ ،‬فلنه ليس في القرآن ما يدل على أن الخوات‬
‫يسقطن بالبنات‪.‬‬
‫فإذا كان المر كذلك‪ ،‬وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن‪ ،‬فإنه يعطى‬
‫للخوات ول يعدل عنهن إلى عصبة أبعد منهن‪ ،‬كابن الخ والعم‪ ،‬ومن هو‬
‫أبعد منهم‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪" :‬الشريك‪.‬‬
‫)‪ (2‬في النسختين الب‪ ،‬والصواب‪ .‬والله أعلم‪ .‬ما أثبته وظاهر أنه سبق‬
‫قلم‪.‬‬
‫)‪ (3‬في الصل‪ :‬لموروثه‪.‬‬
‫)‪ (4‬في ب‪ :‬العاقلين‪.‬‬
‫)‪ (5‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬الحكام‪.‬‬
‫)‪ (6‬ما بين القوسين زيادة من هامش أ‪ ،‬وقد جاء في ب بدل هذه الزيادة‬
‫ما نصه‪] :‬عند القائلين بعدم الرد عليهما‪ .‬وأما على القول الصحيح أن حكم‬
‫الزوجين حكم باقي الورثة في الرد فالدليل المذكور شامل للجميع كما‬
‫شملهم دليل العول[‪.‬‬

‫) ‪(1/168‬‬

‫حت َِها اْل َن َْهاُر‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬


‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬
‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬
‫ه َ‬ ‫خل ْ ُ‬ ‫سول َ ُ‬
‫ه ي ُد ْ ِ‬ ‫ن ي ُط ِِع الل ّ َ‬
‫ه وََر ُ‬ ‫م ْ‬‫دود ُ الل ّهِ وَ َ‬ ‫ح ُ‬‫ك ُ‬ ‫ت ِل ْ َ‬
‫ه وَي َت َعَد ّ‬ ‫سول َ ُ‬‫ه وََر ُ‬‫ص الل ّ َ‬‫ن ي َعْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م )‪ (13‬وَ َ‬ ‫فوُْز ال ْعَ ِ‬
‫ظي ُ‬ ‫ك ال ْ َ‬‫ن ِفيَها وَذ َل ِ َ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬
‫َ‬
‫ن )‪(14‬‬ ‫مِهي ٌ‬ ‫ب ُ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫ه عَ َ‬ ‫َ‬
‫دا ِفيَها وَل ُ‬ ‫خال ِ ً‬ ‫ه َناًرا َ‬ ‫ْ‬
‫خل ُ‬‫دود َهُ ي ُد ْ ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫ُ‬

‫ري‬‫ج ِ‬‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫ه َ‬‫خل ْ ُ‬‫ه ي ُد ْ ِ‬ ‫سول َ ُ‬‫ه وََر ُ‬ ‫ن ي ُط ِِع الل ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫دود ُ الل ّهِ وَ َ‬ ‫ح ُ‬‫ك ُ‬ ‫} ‪ } { 14 ، 13‬ت ِل ْ َ‬
‫ص الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫ن ي َعْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م * وَ َ‬ ‫ظي ُ‬‫فوُْز ال ْعَ ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫ن ِفيَها وَذ َل ِ َ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬‫حت َِها الن َْهاُر َ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِهي ٌ‬ ‫ب ُ‬ ‫ذا ٌ‬‫ه عَ َ‬ ‫َ‬
‫دا ِفيَها وَل ُ‬ ‫خال ِ ً‬ ‫ه َناًرا َ‬ ‫ْ‬
‫خل ُ‬ ‫دود َهُ ي ُد ْ ِ‬ ‫ح ُ‬‫ه وَي َت َعَد ّ ُ‬ ‫َ‬
‫سول ُ‬ ‫وََر ُ‬
‫أي‪ :‬تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث حدود الله التي يجب الوقوف‬
‫معها وعدم مجاوزتها‪ ،‬ول القصور عنها‪ ،‬وفي ذلك دليل على أن الوصية‬
‫للوارث منسوخة بتقديره تعالى أنصباء الوارثين‪.‬‬
‫دود ُ الل ّهِ { )‪ (1‬فالوصية للوارث بزيادة ] ص ‪171‬‬ ‫ح ُ‬ ‫ك ُ‬ ‫ثم قوله تعالى‪ } :‬ت ِل ْ َ‬
‫[ على حقه يدخل في هذا التعدي‪ ،‬مع قوله صلى الله عليه وسلم‪" :‬ل‬
‫وصية لوارث" ثم ذكر طاعة الله ورسوله ومعصيتهما عموما ليدخل في‬
‫ن ي ُط ِِع الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫م ْ‬ ‫العموم لزوم حدوده في الفرائض أو ترك ذلك فقال‪ } :‬وَ َ‬
‫ه { بامتثال أمرهما الذي أعظمه طاعتهما في التوحيد‪ ،‬ثم الوامر‬ ‫سول َ ُ‬ ‫وََر ُ‬
‫مه الشرك بالله‪ ،‬ثم‬ ‫على اختلف درجاتها واجتناب نهيهما الذي أعظ ُ‬
‫حت َِها الن َْهاُر‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬
‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫ه َ‬ ‫خل ْ ُ‬ ‫المعاصي على اختلف طبقاتها } ي ُد ْ ِ‬
‫ن ِفيَها { فمن أدى الوامر واجتنب النواهي فل بد له من دخول الجنة‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬
‫َ‬
‫م { الذي حصل به النجاة من‬ ‫ظي ُ‬ ‫فوُْز العَ ِ‬‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫والنجاة من النار‪ } .‬وَذ َل ِك ال َ‬
‫سخطه وعذابه‪ ،‬والفوز بثوابه ورضوانه بالنعيم المقيم الذي ل يصفه‬
‫الواصفون‪.‬‬
‫ب‬‫ذا ٌ‬ ‫ه عَ َ‬ ‫َ‬
‫دا ِفيَها وَل ُ‬ ‫خال ِ ً‬ ‫ه َناًرا َ‬ ‫خل ُ‬ ‫ْ‬ ‫دود َهُ ي ُد ْ ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫ه وَي َت َعَد ّ ُ‬ ‫سول ُ‬ ‫َ‬ ‫ه وََر ُ‬ ‫ّ‬
‫ص الل َ‬ ‫ن ي َعْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫ن { ويدخل في اسم المعصية الكفر فما دونه من المعاصي‪ ،‬فل يكون‬ ‫مِهي ٌ‬ ‫ّ‬
‫فيها شبهة للخوارج القائلين بكفر أهل المعاصي فإن الله تعالى رتب‬
‫دخول الجنة على طاعته وطاعة رسوله‪ .‬ورتب دخول النار على معصيته‬
‫ومعصية رسوله‪ ،‬فمن أطاعه طاعة تامة دخل الجنة بل عذاب‪.‬‬
‫ومن عصى الله ورسوله معصية تامة يدخل فيها الشرك فما دونه‪ ،‬دخل‬
‫النار وخلد فيها‪ ،‬ومن اجتمع فيه معصية وطاعة‪ ،‬كان فيه من موجب‬
‫الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية‪ .‬وقد دلت النصوص‬
‫المتواترة على أن الموحدين الذين معهم طاعة التوحيد‪ ،‬غير مخلدين في‬
‫النار‪ ،‬فما معهم من التوحيد مانع لهم من الخلود فيها‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬هنا سبق قلم من الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬فالية "تلك حدودالله " وأثبت‬
‫ها" وليس هنا محلها‪ ،‬وعلى مقتضى ما أثبت فسر‪،‬‬ ‫دو َ‬ ‫الشيخ‪ -‬زيادة "فَل َ ت َعْت َ ُ‬
‫فأبقيت الكلم كما هو‪ ،‬وعدلت الية‪.‬‬

‫) ‪(1/170‬‬
‫ْ‬
‫م فَإ ِ ْ‬
‫ن‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫ة ِ‬ ‫ن أ َْرب َعَ ً‬ ‫دوا عَل َي ْهِ ّ‬ ‫شه ِ ُ‬‫ست َ ْ‬‫م َفا ْ‬ ‫سائ ِك ُ ْ‬ ‫ن نِ َ‬‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ش َ‬ ‫ح َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫فا ِ‬ ‫َوالّلِتي ي َأ َِتي َ‬
‫َ‬
‫ه ل َهُ ّ‬
‫ن‬ ‫ل الل ّ ُ‬‫جع َ َ‬
‫َ‬
‫ت أوْ ي َ ْ‬ ‫موْ ُ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫حّتى ي َت َوَّفاهُ ّ‬ ‫ت َ‬ ‫ن ِفي ال ْب ُُيو ِ‬
‫ْ‬ ‫كوهُ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫م ِ‬ ‫دوا فَأ ْ‬ ‫شه ِ ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ً‬
‫ما‬
‫ضوا عَن ْهُ َ‬ ‫حا فَأعْرِ ُ‬ ‫صل َ‬ ‫ن َتاَبا وَأ ْ‬ ‫ما فَإ ِ ْ‬ ‫ذوهُ َ‬ ‫م فَآ ُ‬ ‫من ْك ْ‬ ‫ن ي َأت َِيان َِها ِ‬ ‫ذا ِ‬‫سِبيل )‪َ (15‬والل َ‬ ‫َ‬
‫ما )‪(16‬‬ ‫حي ً‬ ‫واًبا َر ِ‬ ‫ن تَ ّ‬ ‫ه كا َ‬‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫إِ ّ‬
‫ْ‬
‫دوا عَل َي ْهِ ّ‬
‫ن‬ ‫شه ِ ُ‬‫ست َ ْ‬ ‫م َفا ْ‬ ‫سائ ِك ُ ْ‬ ‫ن نِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ش َ‬ ‫ح َ‬ ‫فا ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫} ‪َ } { 16 ، 15‬واللِتي ي َأ َِتي َ‬
‫َ‬ ‫أ َْرب َعَ ً‬
‫ت أوْ‬ ‫موْ ُ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫حّتى ي َت َوَّفاهُ ّ‬ ‫ت َ‬ ‫ن ِفي ال ْب ُُيو ِ‬ ‫كو ْهُ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫م ِ‬ ‫دوا فَأ ْ‬ ‫شه ِ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م فَإ ِ ْ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫ة ِ‬
‫َ‬
‫حا‬‫صل َ َ‬
‫ن َتاَبا وَأ ْ‬ ‫ما فَإ ِ ْ‬ ‫ذوهُ َ‬ ‫م َفآ ُ‬‫من ْك ُ ْ‬ ‫ن ي َأت َِيان َِها ِ‬ ‫ذا ِ‬ ‫سِبيل * َوالل ّ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ه ل َهُ ّ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫جع َ َ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫حي ً‬ ‫واًبا َر ِ‬ ‫ن تَ ّ‬ ‫ه كا َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ما إ ِ ّ‬ ‫ضوا عَن ْهُ َ‬ ‫فَأعْرِ ُ‬
‫ة { أي‪ :‬الزنا‪ ،‬ووصفها بالفاحشة‬ ‫ح َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ْ‬
‫ش َ‬ ‫فا ِ‬ ‫أي‪ :‬النساء } اللتي ي َأِتي َ‬
‫لشناعتها وقبحها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م { أي‪ :‬من رجالكم المؤمنين العدول‪.‬‬ ‫من ْك ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ن أْرب َعَ ً‬ ‫دوا عَ َلي ْهِ ّ‬ ‫شه ِ ُ‬ ‫ست َ ْ‬‫} َفا ْ‬
‫ت { أي‪ :‬احبسوهن عن الخروج‬ ‫ْ‬
‫ن ِفي الب ُُيو ِ‬ ‫سكوهُ ّ‬ ‫ُ‬ ‫م ِ‬ ‫دوا فَأ ْ‬ ‫شه ِ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫} فَإ ِ ْ‬
‫حّتى ي َت َوَّفاهُ ّ‬
‫ن‬ ‫الموجب للريبة‪ .‬وأيضا فإن الحبس من جملة العقوبات } َ‬
‫َ‬
‫سِبيل { أي‪ :‬طريقا‬ ‫ن َ‬ ‫ه ل َهُ ّ‬ ‫ل الل ّ ُ‬
‫جع َ َ‬ ‫ت { أي‪ :‬هذا منتهى الحبس‪ } .‬أوْ ي َ ْ‬ ‫موْ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫غير الحبس في البيوت‪ ،‬وهذه الية ليست منسوخة‪ ،‬وإنما هي مغياة إلى‬
‫ذلك الوقت‪ ،‬فكان المر في أول السلم كذلك حتى جعل الله لهن سبيل‬
‫وهو رجم المحصن وجلد غير المحصن‪.‬‬
‫ْ‬ ‫} و { كذلك } اّلل َ‬
‫م { من الرجال‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ن ي َأت َِيان َِها { أي‪ :‬الفاحشة } ِ‬ ‫ذا ِ‬
‫ما { بالقول والتوبيخ والتعيير والضرب الرادع عن هذه‬ ‫ذوهُ َ‬ ‫والنساء } َفآ ُ‬
‫الفاحشة‪ ،‬فعلى هذا يكون الرجال إذا فعلوا الفاحشة يؤذون‪ ،‬والنساء‬
‫يحبسن ويؤذين‪.‬‬
‫فالحبس غايته إلى الموت‪ ،‬والذية نهايتها إلى التوبة والصلح‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ن َتاَبا { أي‪ :‬رجعا عن الذنب الذي فعله وندما عليه‪ ،‬وعزما على أن‬ ‫} فَإ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما {‬ ‫ضوا عَن ْهُ َ‬ ‫حا { العمل الدال على صدق التوبة } فَأعْرِ ُ‬ ‫صل َ‬ ‫ل يعودا } وَأ ْ‬
‫ما { أي‪ :‬كثير التوبة على المذنبين‬ ‫حي ً‬ ‫واًبا َر ِ‬ ‫ن تَ ّ‬ ‫ه كا َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫أي‪ :‬عن أذاهما } إ ِ ّ‬
‫الخطائين‪ ،‬عظيم الرحمة والحسان‪ ،‬الذي ‪-‬من إحسانه‪ -‬وفقهم للتوبة‬
‫وقبلها منهم‪ ،‬وسامحهم عن ما صدر منهم‪.‬‬
‫ويؤخذ من هاتين اليتين أن بينة الزنا‪ ،‬ل بد أن تكون أربعة رجال مؤمنين‪،‬‬
‫ومن باب أولى وأحرى اشتراط عدالتهم؛ لن الله تعالى شدد في أمر هذه‬
‫الفاحشة‪ ،‬ستًرا لعباده‪ ،‬حتى إنه ل يقبل فيها النساء منفردات‪ ،‬ول مع‬
‫الرجال‪ ،‬ول ما دون أربعة‪.‬‬
‫ول بد من التصريح بالشهادة‪ ،‬كما دلت على ذلك الحاديث الصحيحة‪،‬‬
‫م { لم‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫ة ِ‬ ‫ن أ َْرب َعَ ً‬ ‫دوا عَل َي ْهِ ّ‬ ‫شه ِ ُ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫وتومئ إليه هذه الية لما قال‪َ } :‬فا ْ‬
‫دوا { أي‪ :‬ل بد من شهادة صريحة عن‬ ‫شه ِ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫يكتف بذلك حتى قال‪ } :‬فَإ ِ ْ‬
‫أمر يشاهد عياًنا‪ ،‬من غير تعريض ول كناية‪.‬‬
‫ويؤخذ منهما أن الذية بالقول والفعل والحبس‪ ،‬قد شرعه الله تعزيًرا‬
‫لجنس المعصية الذي يحصل به الزجر‪.‬‬

‫) ‪(1/171‬‬
‫ب‬‫ري ٍ‬ ‫ن قَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ي َُتوُبو َ‬ ‫جَهال َةٍ ث ُ ّ‬ ‫سوَء ب ِ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ة عََلى الل ّهِ ل ِل ّ ِ‬ ‫ما الت ّوْب َ ُ‬‫إ ِن ّ َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬‫ة ل ِل ِ‬‫ت الت ّوْب َ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ما )‪ (17‬وَلي ْ َ‬ ‫كي ً‬ ‫ح ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ه عَِلي ً‬ ‫ن الل ُ‬ ‫م وَكا َ‬ ‫ه عَلي ْهِ ْ‬ ‫ب الل ُ‬ ‫فَأولئ ِك ي َُتو ُ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬‫ن وََل ال ّ ِ‬ ‫ت اْل َ َ‬‫ل إ ِّني ت ُب ْ ُ‬‫ت َقا َ‬ ‫موْ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫حد َهُ ُ‬ ‫ضَر أ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ذا َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫ت َ‬ ‫سي َّئا ِ‬‫ن ال ّ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ي َعْ َ‬
‫ما )‪(18‬‬ ‫َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ذاًبا أِلي ً‬ ‫فاٌر أولئ ِك أعْت َد َْنا لهُ ْ‬ ‫مك ّ‬ ‫ن وَهُ ْ‬ ‫موُتو َ‬ ‫يَ ُ‬

‫جَهال َةٍ ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫سوَء ب ِ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ة عََلى الل ّهِ ل ِل ّ ِ‬ ‫ما الت ّوْب َ ُ‬ ‫} ‪ } { 18 ، 17‬إ ِن ّ َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ما *‬ ‫كي ً‬ ‫ح ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ه عَِلي ً‬ ‫ن الل ُ‬ ‫م وَكا َ‬ ‫ه عَلي ْهِ ْ‬ ‫ب الل ُ‬ ‫ب فَأولئ ِك ي َُتو ُ‬ ‫ري ٍ‬ ‫ن قَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ي َُتوُبو َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ل‬‫ت قا َ‬ ‫َ‬ ‫موْ ُ‬ ‫م ال َ‬ ‫حد َهُ ُ‬ ‫ضَر أ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ذا َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫ت َ‬ ‫سي ّئا ِ‬ ‫َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ملو َ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ة ل ِل ِ‬ ‫ت الت ّوْب َ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫وَل َي ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫ذاًبا أِلي ً‬ ‫م عَ َ‬ ‫ك أعْت َد َْنا ل َهُ ْ‬ ‫فاٌر أول َئ ِ َ‬ ‫م كُ ّ‬ ‫ن وَهُ ْ‬ ‫موُتو َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن َول ال ّ ِ‬ ‫ت ال َ‬ ‫إ ِّني ت ُب ْ ُ‬
‫توبة الله على عباده نوعان‪ :‬توفيق منه للتوبة‪ ،‬وقبول لها بعد وجودها من‬
‫العبد‪ ،‬فأخبر هنا ‪-‬أن التوبة المستحقة على الله حق أحقه على نفسه‪،‬‬
‫جَهال َةٍ { أي‪ :‬جهالة‬ ‫كرما منه وجودا‪ ،‬لمن عمل السوء أي‪ :‬المعاصي } ب ِ َ‬
‫منه بعاقبتها وإيجابها لسخط الله وعقابه‪ ،‬وجهل منه بنظر الله ومراقبته‬
‫له‪ ،‬وجهل منه بما تئول إليه من نقص اليمان أو إعدامه‪ ،‬فكل عاص لله‪،‬‬
‫فهو جاهل بهذا العتبار وإن كان عالما بالتحريم‪ .‬بل العلم بالتحريم شرط‬
‫ب { يحتمل أن يكون‬ ‫ري ٍ‬ ‫ن قَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ي َُتوُبو َ‬ ‫لكونها معصية معاقبا عليها } ث ُ ّ‬
‫المعنى‪ :‬ثم ] ص ‪ [ 172‬يتوبون قبل معاينة الموت‪ ،‬فإن الله يقبل توبة‬
‫العبد إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب قطعا‪ .‬وأما بعد حضور الموت فل‬
‫ُيقبل من العاصين توبة ول من الكفار رجوع‪ ،‬كما قال تعالى عن فرعون‪:‬‬
‫َ‬ ‫} حتى إ َ َ‬
‫ت ب ِهِ ب َُنو‬ ‫من َ ْ‬ ‫ذي آ َ‬ ‫ه ِإل ال ّ ِ‬ ‫ه ل إ ِل َ َ‬ ‫ت أن ّ ُ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫لآ َ‬ ‫ه ال ْغََرقُ َقا َ‬ ‫ذا أد َْرك َ ُ‬ ‫َ ّ ِ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫سَراِئي َ‬
‫حد َهُ‬ ‫مّنا ِباللهِ وَ ْ‬ ‫سَنا قالوا آ َ‬ ‫ما َرأْوا ب َأ َ‬ ‫ل { الية‪ .‬وقال تعالى‪ } :‬فل ّ‬ ‫إِ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ة‬
‫سن ّ َ‬‫سَنا ُ‬ ‫ما َرأْوا ب َأ َ‬ ‫مل ّ‬ ‫مان ُهُ ْ‬ ‫م ِإي َ‬ ‫فعُهُ ْ‬ ‫م ي َك ي َن ْ َ‬ ‫ن * فَل ْ‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما كّنا ب ِهِ ُ‬ ‫فْرَنا ب ِ َ‬ ‫وَك َ‬
‫عَبادِهِ { ‪.‬‬ ‫ت ِفي ِ‬ ‫خل ْ‬ ‫َ‬ ‫الل ّهِ الِتي قَد ْ َ‬ ‫ّ‬
‫وقال هنا‪:‬‬
‫ت { أي‪ :‬المعاصي فيما دون الكفر‪.‬‬ ‫سي َّئا ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ة ل ِل ِ‬ ‫ت الت ّوْب َ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫} وَل َي ْ َ‬
‫َ‬
‫م‬
‫ن وَهُ ْ‬ ‫موُتو َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن َول ال ّ ِ‬ ‫ت ال َ‬ ‫ل إ ِّني ت ُب ْ ُ‬ ‫ت َقا َ‬ ‫موْ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫حد َهُ ُ‬ ‫ضَر أ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ذا َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫} َ‬
‫ما { وذلك أن التوبة في هذه الحال توبة‬ ‫َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫فاٌر أولئ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫كُ ّ‬
‫ذاًبا أِلي ً‬ ‫ك أعْت َد َْنا لهُ ْ‬
‫اضطرار ل تنفع صاحبها‪ ،‬إنما تنفع توبة الختيار‪ .‬ويحتمل )‪ (1‬أن يكون‬
‫ب { أي‪ :‬قريب من فعلهم للذنب الموجب للتوبة‪،‬‬ ‫ري ٍ‬ ‫ن قَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫معنى قوله‪ِ } :‬‬
‫فيكون المعنى‪ :‬أن من بادر إلى القلع من حين صدور الذنب وأناب إلى‬
‫الله وندم عليه فإن الله يتوب عليه‪ ،‬بخلف من استمر على ذنوبه )‪(2‬‬
‫ة فإنه يعسر عليه إيجاد‬ ‫ت راسخ ً‬ ‫وأصر على عيوبه‪ ،‬حتى صارت فيه صفا ٍ‬
‫التوبة التامة‪.‬‬
‫والغالب أنه ل يوفق للتوبة ول ييسر لسبابها‪ ،‬كالذي يعمل السوء على‬
‫علم تام )‪ (3‬ويقين وتهاون )‪ (4‬بنظر الله إليه‪ ،‬فإنه سد )‪ (5‬على نفسه‬
‫باب الرحمة‪.‬‬
‫نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب عن عمد ويقين لتوبة )‪ (6‬تامة‬
‫)‪] (7‬التي[ يمحو بها ما سلف من سيئاته وما تقدم من جناياته‪ ،‬ولكن‬
‫هّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫كا َ‬ ‫الرحمة والتوفيق للول أقرب‪ ،‬ولهذا ختم الية الولى بقوله‪ } :‬وَ َ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫كي ً‬ ‫ح ِ‬ ‫ما َ‬ ‫عَِلي ً‬
‫من علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها فيجازي كل منهما بحسب ما‬ ‫ف ِ‬
‫قه‬‫يستحق بحكمته‪ ،‬ومن حكمته أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته توفي َ‬
‫م توفيقه‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫للتوبة‪ ،‬ويخذل من اقتضت حكمته وعدله عد َ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في هامش أ ]ويؤيد هذا الحتمال أن الله قال‪" :‬إنما التوبة على الله"‬
‫الحاضرة ولم يقل‪ :‬إنما يتوب الله‪ ،‬وبين اللفظين فرق ظاهر[‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬ذنبه‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬قائم‪.‬‬
‫)‪ (4‬في ب‪ :‬متهاون‪.‬‬
‫)‪ (5‬في ب‪ :‬يسد‪.‬‬
‫)‪ (6‬في ب‪ :‬للتوبة‪.‬‬
‫)‪ (7‬في ب‪ :‬النافعة‪.‬‬

‫) ‪(1/171‬‬

‫ل ل َك ُ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫ضُلوهُ ّ‬
‫ن ل ِت َذ ْهَُبوا‬ ‫ها وََل ت َعْ ُ‬
‫ساءَ ك َْر ً‬‫ن ت َرُِثوا الن ّ َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ْ‬
‫ْ‬
‫ح ّ‬ ‫مُنوا َل ي َ ِ‬‫نآ َ‬ ‫َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ف فَإ ِ ْ‬
‫ن‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬‫شُروهُ ّ‬‫عا ِ‬‫مب َي ّن َةٍ وَ َ‬‫شة ٍ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫فا ِ‬‫ن بِ َ‬
‫ن ي َأِتي َ‬ ‫ن إ ِّل أ ْ‬ ‫موهُ ّ‬ ‫ما آت َي ْت ُ ُ‬ ‫ض َ‬‫ب ِب َعْ ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫خي ًْرا كِثيًرا )‪(19‬‬ ‫ه ِفيهِ َ‬ ‫جعَل الل ُ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫شي ْئا وَي َ ْ‬‫هوا َ‬ ‫ن ت َكَر ُ‬ ‫سى أ ْ‬ ‫َ‬
‫ن فع َ َ‬ ‫موهُ ّ‬ ‫ك َرِهْت ُ ُ‬
‫ل ل َك ُ َ‬ ‫َ‬
‫ها َول‬ ‫ساءَ ك َْر ً‬ ‫ن ت َرُِثوا الن ّ َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫مُنوا ل ي َ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫َ‬ ‫} ‪َ } { 21 - 19‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ة‬
‫مب َي ّن َ ٍ‬‫شة ٍ ُ‬‫ح َ‬ ‫فا ِ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫ن ي َأِتي َ‬ ‫ن ِإل أ ْ‬ ‫موهُ ّ‬ ‫ما آت َي ْت ُ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ن ل ِت َذ ْهَُبوا ب ِب َعْ ِ‬ ‫ضُلوهُ ّ‬ ‫ت َعْ ُ‬
‫َ‬
‫ل الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫جع َ َ‬ ‫شي ًْئا وَي َ ْ‬ ‫هوا َ‬ ‫ن ت َك َْر ُ‬ ‫سى أ ْ‬ ‫ن فَعَ َ‬ ‫موهُ ّ‬ ‫ن ك َرِهْت ُ ُ‬ ‫ف فَإ ِ ْ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬ ‫شُروهُ ّ‬ ‫عا ِ‬ ‫وَ َ‬
‫خي ًْرا ك َِثيًرا { ‪.‬‬ ‫ِفيهِ َ‬
‫كانوا في الجاهلية إذا مات أحدهم عن زوجته‪ ،‬رأى قريُبه كأخيه وابن عمه‬
‫ونحوهما أنه أحق بزوجته من كل أحد‪ ،‬وحماها عن غيره‪ ،‬أحبت أو كرهت‪.‬‬
‫فإن أحبها تزوجها على صداق يحبه دونها‪ ،‬وإن لم يرضها عضلها فل يزوجها‬
‫إل من يختاره هو‪ ،‬وربما امتنع من تزويجها حتى تبذل له شيًئا من ميراث‬
‫قريبه أو من صداقها‪ ،‬وكان الرجل أيضا يعضل زوجته التي ]يكون[ يكرهها‬
‫ليذهب ببعض ما آتاها‪ ،‬فنهى الله المؤمنين عن جميع هذه الحوال إل‬
‫حالتين‪ :‬إذا رضيت واختارت نكاح قريب زوجها الول‪ ،‬كما هو مفهوم قوله‪:‬‬
‫ها { وإذا أتين بفاحشة مبينة كالزنا والكلم الفاحش وأذيتها لزوجها‬ ‫} ك َْر ً‬
‫فإنه في هذه الحال يجوز له أن يعضلها‪ ،‬عقوبة لها على فعلها لتفتدي منه‬
‫إذا كان عضل بالعدل‪.‬‬
‫ف { وهذا يشمل المعاشرة القولية‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬ ‫شُروهُ ّ‬ ‫عا ِ‬ ‫ثم قال‪ } :‬وَ َ‬
‫والفعلية‪ ،‬فعلى الزوج أن يعاشر زوجته بالمعروف‪ ،‬من الصحبة الجميلة‪،‬‬
‫وكف الذى وبذل الحسان‪ ،‬وحسن المعاملة‪ ،‬ويدخل في ذلك النفقة‬
‫والكسوة ونحوهما‪ ،‬فيجب على الزوج لزوجته المعروف من مثله لمثلها‬
‫في ذلك الزمان والمكان‪ ،‬وهذا يتفاوت بتفاوت الحوال‪.‬‬
‫َ‬
‫َ‬
‫خي ًْرا كِثيًرا {‬ ‫ه ِفيهِ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫جع َ َ‬ ‫شي ًْئا وَي َ ْ‬‫هوا َ‬ ‫ن ت َك َْر ُ‬ ‫سى أ ْ‬ ‫ن فَعَ َ‬ ‫موهُ ّ‬ ‫ن ك َرِهْت ُ ُ‬‫} فَإ ِ ْ‬
‫أي‪ :‬ينبغي لكم ‪-‬أيها الزواج‪ -‬أن تمسكوا زوجاتكم مع الكراهة لهن‪ ،‬فإن‬
‫ل وصيته التي فيها‬ ‫في ذلك خيًرا كثيًرا‪ .‬من ذلك امتثال أمر الله‪ ،‬وقبو ُ‬
‫سعادة الدنيا والخرة‪.‬‬
‫سه ‪-‬مع عدم محبته لها‪ -‬فيه مجاهدة النفس‪ ،‬والتخلق‬ ‫ومنها أن إجباره نف َ‬
‫بالخلق الجميلة‪ .‬وربما أن الكراهة تزول وتخلفها المحبة‪ ،‬كما هو الواقع‬
‫في ذلك‪ .‬وربما رزق منها ولدا صالحا نفع والديه في الدنيا والخرة‪ .‬وهذا‬
‫كله مع المكان في المساك وعدم المحذور‪.‬‬
‫فإن كان ل بد من الفراق‪ ،‬وليس للمساك محل‪ ،‬فليس المساك بلزم‪.‬‬

‫) ‪(1/172‬‬

‫ه‬
‫من ْ ُ‬‫ذوا ِ‬ ‫طاًرا فََل ت َأ ْ ُ‬
‫خ ُ‬ ‫ن قِن ْ َ‬ ‫داهُ ّ‬‫ح َ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫َ‬
‫ن َزوٍْج وَآت َي ْت ُ ْ‬ ‫م َ‬
‫كا َ‬ ‫ل َزوٍْج َ‬ ‫دا َ‬ ‫ست ِب ْ َ‬ ‫ما ْ‬
‫وإ َ‬
‫ن أَرد ْت ُ ُ‬‫َِ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ضك ْ‬‫ضى ب َعْ ُ‬ ‫ه وَقَد ْ أفْ َ‬ ‫ذون َ ُ‬‫خ ُ‬
‫ف ت َأ ُ‬ ‫مِبيًنا )‪ (20‬وَكي ْ َ‬ ‫ه ب ُهَْتاًنا وَإ ِث ْ ً‬
‫ما ُ‬ ‫خ ُ‬
‫ذون َ ُ‬ ‫شي ًْئا أت َأ ُ‬
‫َ‬
‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ميَثاًقا غَِليظا )‪(21‬‬ ‫م ِ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫خذ ْ َ‬ ‫ض وَأ َ‬ ‫إ ِلى ب َعْ ٍ‬
‫ه‬
‫من ْ ُ‬‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫طاًرا َفل ت َأ ْ ُ‬ ‫ن قِن ْ َ‬‫داهُ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫ن َزوٍْج َوآت َي ْت ُ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫م َ‬ ‫ل َزوٍْج َ‬ ‫دا َ‬ ‫ست ِب ْ َ‬ ‫ما ْ‬ ‫ن أَرد ْت ُ ُ‬
‫} وإ َ‬
‫َِ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م إ ِلى‬ ‫ضك ْ‬ ‫ضى ب َعْ ُ‬ ‫ه وَقَد ْ أفْ َ‬ ‫ذون َ ُ‬ ‫خ ُ‬ ‫ف ت َأ ُ‬ ‫مِبيًنا * وَكي ْ َ‬ ‫ما ُ‬ ‫ه ب ُهَْتاًنا وَإ ِث ْ ً‬ ‫ذون َ ُ‬ ‫خ ُ‬ ‫شي ًْئا أت َأ ُ‬‫َ‬
‫ميَثاًقا غَِليظا { ‪ ] .‬ص ‪[ 173‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م ِ‬ ‫من ْك ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫خذ ْ َ‬ ‫ض وَأ َ‬ ‫ب َعْ ٍ‬
‫ج‬ ‫َ‬ ‫دا َ‬ ‫َ‬
‫ن َزوٍْج { أي‪ :‬تطليقَ زوجة وتزو َ‬ ‫مكا َ‬ ‫ل َزوٍْج َ‬ ‫ست ِب ْ َ‬‫ما ْ‬ ‫بل متى } أَرد ْت ُ ُ‬
‫ن{‬ ‫داهُ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫أخرى‪ .‬أي‪ :‬فل جناح عليكم في ذلك ول حرج‪ .‬ولكن إذا } آت َي ْت ُ ْ‬
‫ْ‬ ‫أي‪ :‬المفارقة أو التي تزوجها } قِن ْ َ‬
‫ه‬
‫من ْ ُ‬
‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫طاًرا { أي‪ :‬مال كثيرا‪َ } .‬فل ت َأ ُ‬
‫شي ًْئا { بل وفروه لهن ول تمطلوا بهن‪.‬‬ ‫َ‬
‫وفي هذه الية دللة على عدم تحريم كثرة المهر‪ ،‬مع أن الفضل واللئق‬
‫القتداُء بالنبي صلى الله عليه وسلم في تخفيف المهر‪ .‬ووجه الدللة أن‬
‫الله أخبر عن أمر يقع منهم‪ ،‬ولم ينكره عليهم‪ ،‬فدل على عدم تحريمه‬
‫]لكن قد ينهي عن كثرة الصداق إذا تضمن مفسدة دينية وعدم مصلحة‬
‫تقاوم[ )‪. (1‬‬
‫ْ‬
‫مِبيًنا { فإن هذا ل يحل ولو تحيلتم عليه‬ ‫ما ُ‬ ‫ْ‬
‫ه ب ُهَْتاًنا وَإ ِث ً‬ ‫ذون َ ُ‬ ‫خ ُ‬ ‫ثم قال‪ } :‬أ َت َأ ُ‬
‫بأنواع الحيل‪ ،‬فإن إثمه واضح‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م إ ِلى‬ ‫ضك ْ‬ ‫ضى ب َعْ ُ‬ ‫ه وَقَد ْ أفْ َ‬ ‫ذون َ ُ‬ ‫خ ُ‬ ‫ف ت َأ ُ‬ ‫وقد بين تعالى حكمة ذلك بقوله‪ } :‬وَكي ْ َ‬
‫ظا { وبيان ذلك‪ :‬أن الزوجة قبل عقد النكاح‬ ‫ميَثاًقا غَِلي ً‬ ‫م ِ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫خذ ْ َ‬ ‫ض وَأ َ َ‬ ‫ب َعْ ٍ‬
‫محرمة على الزوج ولم ترض بحلها له إل بذلك المهر الذي يدفعه لها‪ ،‬فإذا‬
‫دخل بها وأفضى إليها وباشرها المباشرة التي كانت حراما قبل ذلك‪ ،‬والتي‬
‫لم ترض ببذلها إل بذلك العوض‪ ،‬فإنه قد استوفى المعوض فثبت عليه‬
‫العوض‪.‬‬
‫فكيف يستوفي المعوض ثم بعد ذلك يرجع على العوض؟ هذا من أعظم‬
‫الظلم والجور‪ ،‬وكذلك أخذ الله على الزواج ميثاقا غليظا بالعقد‪ ،‬والقيام‬
‫بحقوقها‪ .‬ثم قال تعالى‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫) ‪(1/172‬‬

‫سل َ َ‬ ‫حوا ما ن َك َ َ َ‬
‫قًتا‬
‫م ْ‬
‫ة وَ َ‬
‫ش ً‬ ‫ن َفا ِ‬
‫ح َ‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫ف إ ِن ّ ُ‬ ‫ساِء إ ِّل َ‬
‫ما قَد ْ َ‬ ‫ن الن ّ َ‬
‫م َ‬ ‫ح آَباؤُك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫َ‬ ‫وََل ت َن ْك ِ ُ‬
‫سِبيًل )‪(22‬‬ ‫ساَء َ‬ ‫وَ َ‬
‫ن‬
‫كا َ‬‫ه َ‬ ‫سل َ َ‬
‫ف إ ِن ّ ُ‬ ‫ما قَد ْ َ‬‫ساِء ِإل َ‬
‫ن الن ّ َ‬
‫م َ‬ ‫ح آَباؤُك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ما ن َك َ َ‬
‫حوا َ‬‫} ‪َ } { 22‬ول ت َن ْك ِ ُ‬
‫سِبيل { ‪.‬‬ ‫ساَء َ‬ ‫قًتا وَ َ‬ ‫م ْ‬
‫ة وَ َ‬
‫ش ً‬ ‫ح َ‬‫َفا ِ‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫ه كا َ‬ ‫أي‪ :‬ل تتزوجوا من النساء ما تزوجهن آباؤكم أي‪ :‬الب وإن عل‪ } .‬إ ِن ّ ُ‬
‫قًتا { من الله لكم‬ ‫م ْ‬‫ة { أي‪ :‬أمرا قبيحا يفحش ويعظم قبحه } وَ َ‬ ‫ش ً‬ ‫ح َ‬‫َفا ِ‬
‫ومن الخلق بل يمقت بسبب ذلك البن أباه والب ابنه‪ ،‬مع المر ببره‪.‬‬
‫سِبيل { أي‪ :‬بئس الطريق طريقا لمن سلكه لن هذا من عوائد‬ ‫ساَء َ‬ ‫} وَ َ‬
‫الجاهلية‪ ،‬التي جاء السلم بالتنزه عنها والبراءة منها‪.‬‬

‫) ‪(1/173‬‬

‫ت اْل َِخ‬ ‫م وَب ََنا ُ‬ ‫خاَلت ُك ُ ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫مات ُك ُ ْ‬ ‫م وَعَ ّ‬ ‫وات ُك ُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫م وَأ َ َ‬ ‫م وَب ََنات ُك ُ ْ‬ ‫مَهات ُك ُ ْ‬ ‫مأ ّ‬
‫حرمت عَل َيك ُ ُ‬
‫ْ ْ‬ ‫ُ ّ َ ْ‬
‫ت‬ ‫ها‬ ‫م‬ ‫خواتك ُم من الرضاعَة وأ ُ‬ ‫خت وأ ُمهاتك ُم الّلِتي أ َرضعنك ُم وأ َ‬ ‫ُ‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ت‬
‫ْ َ ْ َ ْ َ َ ُ ْ ِ َ ّ َ ِ َ ّ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ َ ّ َ ُ ُ‬ ‫ْ‬ ‫وَب ََنا ُ‬
‫ن فَإ ِ ْ‬
‫ن‬ ‫م ب ِهِ ّ‬ ‫خل ْت ُ ْ‬ ‫م الّلِتي د َ َ‬ ‫سائ ِك ُ ُ‬ ‫ن نِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جورِك ُ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫م الّلِتي ِفي ُ‬ ‫م وََرَبائ ِب ُك ُ ُ‬ ‫سائ ِك ُ ْ‬ ‫نِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫صَلب ِك ُ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫ل أب َْنائ ِك ُ ُ‬ ‫حَلئ ِ ُ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ح عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫جَنا َ‬ ‫ن فََل ُ‬ ‫م ب ِهِ ّ‬ ‫خل ْت ُ ْ‬ ‫كوُنوا د َ َ‬ ‫م تَ ُ‬ ‫لَ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ما )‪(23‬‬ ‫حي ً‬ ‫فوًرا َر ِ‬ ‫ن غَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ف إِ ّ‬ ‫سل َ َ‬ ‫ما قَد ْ َ‬ ‫ن إ ِّل َ‬ ‫خت َي ْ ِ‬ ‫ن اْل ْ‬ ‫مُعوا ب َي ْ َ‬ ‫ج َ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫وَأ ْ‬

‫مات ُك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م وَعَ ّ‬ ‫وات ُك ُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫م وَأ َ َ‬ ‫م وَب ََنات ُك ُ ْ‬ ‫مَهات ُك ُ ْ‬
‫} ‪ } { 24 ، 23‬حرمت عَل َيك ُ ُ‬
‫مأ ّ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ُ ّ َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬‫م َ‬
‫م ِ‬ ‫وات ُك ُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫م وَأ َ‬ ‫ضعْن َك ُ ْ‬ ‫م اللِتي أْر َ‬ ‫مَهات ُك ُ ُ‬ ‫ت وَأ ّ‬ ‫خ ِ‬ ‫ت ال ْ‬ ‫ت الِخ وَب ََنا ُ‬ ‫م وَب ََنا ُ‬ ‫خالت ُك ُ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫ُ‬
‫م اللِتي‬ ‫سائ ِك ُ ُ‬ ‫ن نِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جورِك ُ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫م اللِتي ِفي ُ‬ ‫م وََرَبائ ِب ُك ُ ُ‬ ‫سائ ِك ُ ْ‬ ‫ت نِ َ‬ ‫مَها ُ‬ ‫ضاعَةِ وَأ ّ‬ ‫الّر َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫ل أب َْنائ ِك ُ ُ‬ ‫حلئ ِ ُ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ح عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫جَنا َ‬ ‫ن َفل ُ‬ ‫م ب ِهِ ّ‬ ‫خل ْت ُ ْ‬ ‫كوُنوا د َ َ‬ ‫م تَ ُ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫ن فَإ ِ ْ‬ ‫م ب ِهِ ّ‬ ‫خل ْت ُ ْ‬ ‫دَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫فوًرا‬ ‫ن غَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ف إِ ّ‬ ‫سل َ َ‬ ‫ما قَد ْ َ‬ ‫ن ِإل َ‬ ‫خت َي ْ ِ‬‫ن ال ْ‬ ‫مُعوا ب َي ْ َ‬ ‫ج َ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م وَأ ْ‬ ‫صلب ِك ُ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫حي ً‬ ‫َر ِ‬
‫هذه اليات الكريمات مشتملت على المحرمات بالنسب‪ ،‬والمحرمات‬
‫بالرضاع‪ ،‬والمحرمات بالصهر‪ ،‬والمحرمات بالجمع‪ ،‬وعلى المحللت من‬
‫النساء‪ .‬فأما المحرمات في النسب فهن السبع اللتي ذكرهن الله‪.‬‬
‫الم يدخل فيها كل من لها عليك ولدة‪ ،‬وإن بعدت‪ ،‬ويدخل في البنت كل‬
‫من لك عليها ولدة‪ ،‬والخوات الشقيقات‪ ،‬أو لب أو لم‪ .‬والعمة‪ :‬كل أخت‬
‫لبيك أو لجدك وإن عل‪.‬‬
‫والخالة‪ :‬كل أخت لمك‪ ،‬أو جدتك وإن علت وارثة أم ل‪ .‬وبنات الخ وبنات‬
‫الخت أي‪ :‬وإن نزلت‪.‬‬
‫فهؤلء هن المحرمات من النسب بإجماع العلماء كما هو نص الية الكريمة‬
‫م { وذلك كبنت‬ ‫ما وََراَء ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫وما عداهن فيدخل في قوله‪ } :‬وَأ ُ ِ‬
‫العمة والعم وبنت الخال والخالة‪.‬‬
‫وأما المحرمات بالرضاع فقد ذكر الله منهن الم والخت‪ .‬وفي ذلك تحريم‬
‫الم مع أن اللبن ليس لها‪ ،‬إنما هو لصاحب اللبن‪ ،‬دل بتنبيهه على أن‬
‫صاحب اللبن يكون أبا للمرتضع فإذا ثبتت البوة والمومة ثبت ما هو فرع‬
‫عنهما كإخوتهما وأصولهم وفروعهم )‪. (1‬‬
‫وقال النبي صلى الله عليه وسلم‪" :‬يحرم من الرضاع ما يحرم من‬
‫النسب" فينتشر التحريم من جهة المرضعة ومن له اللبن كما ينتشر في‬
‫القارب‪ ،‬وفي الطفل المرتضع إلى ذريته فقط‪ .‬لكن بشرط أن يكون‬
‫الرضاع خمس رضعات في الحولين كما بينت السنة‪.‬‬
‫وأما المحرمات بالصهر فهن أربع‪ .‬حلئل الباء وإن علوا‪ ،‬وحلئل البناء‬
‫وإن نزلوا‪ ،‬وارثين أو محجوبين‪ .‬وأمهات الزوجة وإن علون‪ ،‬فهؤلء الثلث‬
‫يحرمن بمجرد العقد‪.‬‬
‫والرابعة‪ :‬الربيبة وهي بنت زوجته وإن نزلت‪ ،‬فهذه ل تحرم حتى يدخل‬
‫سائ ِك ُ ُ‬
‫م اللِتي‬ ‫ن نِ َ‬
‫م ْ‬ ‫جورِك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫بزوجته كما قال هنا } وََرَبائ ِب ُك ُ ُ‬
‫م اللِتي ِفي ُ‬
‫ن { الية‪.‬‬ ‫خل ْت ُ ْ‬
‫م ب ِهِ ّ‬ ‫دَ َ‬
‫م { قيد خرج مخرج ] ص‬ ‫جورِك ُ ْ‬‫ح ُ‬‫وقد قال الجمهور‪ :‬إن قوله‪ } :‬اللِتي ِفي ُ‬
‫‪ [ 174‬الغالب ل مفهوم له‪ ،‬فإن الربيبة تحرم ولو لم تكن في حجره ولكن‬
‫للتقييد بذلك فائدتان‪:‬‬
‫إحداهما‪ :‬فيه التنبيه على الحكمة في تحريم الربيبة وأنها كانت بمنزلة‬
‫البنت فمن المستقبح إباحتها‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬فيه دللة على جواز الخلوة بالربيبة وأنها بمنزلة من هي في‬
‫حجره من بناته ونحوهن‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫وأما المحرمات بالجمع فقد ذكر الله الجمع بين الختين وحرمه وحرم‬
‫النبي صلى الله عليه وسلم الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها‪ ،‬فكل‬
‫امرأتين بينهما رحم محرم لو قدر إحداهما ذكًرا والخرى أنثى حرمت عليه‬
‫فإنه يحرم الجمع بينهما‪ ،‬وذلك لما في ذلك من أسباب التقاطع بين‬
‫الرحام‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬وأصولهما وفروعهما‪.‬‬

‫) ‪(1/173‬‬

‫ل ل َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ح ّ‬ ‫م وَأ ُ ِ‬
‫ب الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬‫م ك َِتا َ‬ ‫مان ُك ُ ْ‬
‫َ‬
‫ت أي ْ َ‬ ‫مل َك َ ْ‬‫ما َ‬ ‫ساِء إ ِّل َ‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫َ‬ ‫م‬‫ت ِ‬ ‫صَنا ُ‬‫َ‬ ‫ح‬
‫م ْ‬ ‫َوال ْ ُ‬
‫َ‬ ‫ما وراَء ذ َل ِك ُ َ‬
‫ه‬
‫م بِ ِ‬ ‫مت َعْت ُ ْ‬
‫ست َ ْ‬‫ما ا ْ‬ ‫ن فَ َ‬ ‫حي َ‬
‫سافِ ِ‬‫م َ‬ ‫ن غَي َْر ُ‬ ‫صِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬‫م ُ‬ ‫وال ِك ُ ْ‬
‫م َ‬
‫ن ت َب ْت َُغوا ب ِأ ْ‬
‫مأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ََ‬
‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ي‬‫ض‬ ‫را‬ ‫ت‬ ‫ما‬ ‫في‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ح‬ ‫نا‬ ‫ج‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫و‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫ض‬ ‫ري‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫جو‬ ‫منهن فَآ َتوهُن أ ُ‬
‫ْ ْ ِ َ ََ َ ُْ ْ ِ ِ ِ ْ َْ ِ‬ ‫ّ ُ َ ّ ِ َ َ ُ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ ُْ ّ‬
‫ما )‪(24‬‬ ‫كي‬ ‫ح‬
‫َ ِ ً َ ِ ً‬ ‫ما‬ ‫لي‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ن‬
‫ري َ ِ ِ ّ‬
‫إ‬ ‫ة‬ ‫ض‬ ‫ف ِ‬ ‫ال ْ َ‬

‫ل ل َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ح ّ‬ ‫م وَأ ُ ِ‬ ‫ب الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م ك َِتا َ‬ ‫مان ُك ُ ْ‬ ‫ت أي ْ َ‬
‫َ‬
‫مل َك َ ْ‬‫ما َ‬ ‫ساِء ِإل َ‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫م َ‬‫ت ِ‬ ‫صَنا ُ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬‫} َوال ْ ُ‬
‫َ‬ ‫ما وراَء ذ َل ِك ُ َ‬
‫ه‬
‫م بِ ِ‬‫مت َعْت ُ ْ‬‫ست َ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ن فَ َ‬ ‫حي َ‬ ‫سافِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن غَي َْر ُ‬ ‫صِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬‫م ُ‬ ‫وال ِك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن ت َب ْت َُغوا ب ِأ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ ََ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫منهن َفآتوهُن أ ُ‬
‫ن ب َعْدِ‬ ‫ْ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ب‬
‫ْ ِ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫ي‬‫ض‬‫َ‬ ‫را‬ ‫َ‬
‫َ َ‬‫ت‬ ‫ما‬ ‫في‬‫ِ‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ج‬
‫ُ‬ ‫ول‬ ‫َ‬ ‫ة‬
‫ً‬ ‫ض‬
‫َ‬ ‫ري‬
‫َ ّ ِ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫جو‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ ُْ ّ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫كي ً‬ ‫ح ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ن عَِلي ً‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ضة ِ إ ِ ّ‬‫ري َ‬ ‫ف ِ‬‫ال ْ َ‬
‫ساِء { أي‪ :‬ذوات‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫صَنا ُ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬ ‫} وَ { من المحرمات في النكاح } ال ْ ُ‬
‫الزواج‪ .‬فإنه يحرم نكاحهن ما دمن في ذمة الزوج حتى تطلق وتنقضي‬
‫َ‬
‫م { أي‪ :‬بالسبي‪ ،‬فإذا سبيت الكافرة ذات‬ ‫مان ُك ُ ْ‬ ‫ت أي ْ َ‬ ‫مل َك َ ْ‬‫ما َ‬ ‫عدتها‪ِ } .‬إل َ‬
‫الزوج حلت للمسلمين بعد أن تستبرأ‪ .‬وأما إذا بيعت المة المزوجة أو‬
‫وهبت فإنه ل ينفسخ نكاحها لن المالك الثاني نزل منزلة الول ولقصة‬
‫بريرة حين خيرها النبي صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬الزموه واهتدوا به فإن فيه الشفاء‬ ‫ب الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫وقوله‪ } :‬ك َِتا َ‬
‫والنور وفيه تفصيل الحلل من الحرام‪.‬‬
‫ل ما لم يذكر في هذه‬ ‫م{ك ّ‬ ‫ُ‬
‫ما وََراَء ذ َل ِك ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ودخل في قوله‪ } :‬وَأ ُ ِ‬
‫الية‪ ،‬فإنه حلل طيب‪ .‬فالحرام محصور والحلل ليس له حد ول حصر‬
‫فا من الله ورحمة وتيسيًرا للعباد‪.‬‬ ‫لط ً‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م { أي‪ :‬تطلبوا من وقع عليه نظركم واختياركم‬ ‫وال ِك ُ ْ‬‫م َ‬‫ن ت َب ْت َُغوا ب ِأ ْ‬ ‫وقوله‪ } :‬أ ْ‬
‫ن { أي‪ :‬مستعفين عن‬ ‫صِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫من اللتي أباحهن الله لكم حالة كونكم } ُ‬
‫الزنا‪ ،‬ومعفين نساءكم‪.‬‬
‫ن { والسفح‪ :‬سفح الماء في الحلل والحرام‪ ،‬فإن الفاعل‬ ‫حي َ‬ ‫سافِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫} غَي َْر ُ‬
‫لذلك ل يحصن زوجته لكونه وضع شهوته في الحرام فتضعف داعيته‬
‫للحلل فل يبقى محصنا لزوجته‪ .‬وفيها دللة على أنه ل يزوج غير العفيف‬
‫ن‬ ‫شرِك َ ً‬ ‫م ْ‬ ‫لقوله تعالى‪ } :‬الزاِني ل ينكح إل زان ِي ً َ‬
‫حَها ِإل َزا ٍ‬ ‫ة ل ي َن ْك ِ ُ‬
‫ة َوالّزان ِي َ ُ‬ ‫ة أو ْ ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َْ ِ ُ‬ ‫ّ‬
‫َ‬ ‫شرِ ٌ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫تو‬
‫ُ‬ ‫فآ‬ ‫}‬ ‫تزوجتموها‬ ‫ممن‬ ‫أي‪:‬‬ ‫{‬ ‫ن‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ت‬‫ع‬
‫ْ َ ْ َْ ُ ْ ِ ِ ِ ُْ ّ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫ا‬ ‫ما‬‫ك { ‪ } .‬فَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫أو ْ ُ‬
‫ن { أي‪ :‬الجور في مقابلة الستمتاع‪ .‬ولهذا إذا دخل الزوج بزوجته‬ ‫ُ‬
‫جوَرهُ ّ‬ ‫أ ُ‬
‫ة { أي‪ :‬إتيانكم إياهن أجورهن فرض فرضه‬ ‫ض ً‬‫ري َ‬ ‫تقرر عليه صداقها } فَ ِ‬
‫الله عليكم‪ ،‬ليس بمنزلة التبرع الذي إن شاء أمضاه وإن شاء رده‪ .‬أو‬
‫معنى قوله فريضة‪ :‬أي‪ :‬مقدرة قد قدرتموها فوجبت عليكم‪ ،‬فل تنقصوا‬
‫منها شيًئا‪.‬‬
‫ضةِ { أي‪ :‬بزيادة من‬ ‫ري َ‬ ‫ف ِ‬‫ن ب َعْدِ ال ْ َ‬‫م ْ‬‫م ب ِهِ ِ‬‫ضي ْت ُ ْ‬‫ما ت ََرا َ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫ح عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫جَنا َ‬ ‫} َول ُ‬
‫الزوج أو إسقاط من الزوجة عن رضا وطيب نفس ]هذا قول كثير من‬
‫المفسرين‪ ،‬وقال كثير منهم‪ :‬إنها نزلت في متعة النساء التي كانت حلل‬
‫في أول السلم ثم حرمها النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يؤمر بتوقيتها‬
‫وأجرها‪ ،‬ثم إذا انقضى المد الذي بينهما فتراضيا بعد الفريضة فل حرج‬
‫عليهما‪ ،‬والله أعلم[‪. (1) .‬‬
‫ما { أي‪ :‬كامل العلم واسعه‪ ،‬كامل الحكمة‪ :‬فمن‬ ‫كي ً‬
‫ح ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ن عَِلي ً‬ ‫كا َ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫علمه وحكمته شرع لكم هذه الشرائع وحد لكم هذه الحدود الفاصلة بين‬
‫الحلل والحرام‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪ ،‬والزيادة غير واضحة‪ ،‬وقد أتممتها من طبعة‬
‫السلفية‪.‬‬

‫) ‪(1/174‬‬

‫َ‬
‫ت‬‫مل َك َ ْ‬‫ما َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت فَ ِ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ت ال ْ ُ‬ ‫صَنا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬ ‫ح ال ْ ُ‬ ‫ن ي َن ْك ِ َ‬‫م ط َوًْل أ ْ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ست َط ِعْ ِ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ض‬
‫ن ب َعْ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ضك ْ‬ ‫م ب َعْ ُ‬ ‫مان ِك ْ‬ ‫م ب ِِإي َ‬ ‫ه أعْل ُ‬ ‫ت َوالل ُ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ال ُ‬ ‫ن فت ََيات ِك ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬‫مان ُك ْ‬ ‫أي ْ َ‬
‫َفانكحوهُن بإذ ْن أ َهْل ِهن وآ َتوهُ ُ‬
‫ت غَي َْر‬ ‫صَنا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬ ‫جوَرهُ ّ‬ ‫نأ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ِ ّ َ ُ‬ ‫ّ ِِ ِ‬ ‫ْ ِ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫ص ُ‬ ‫ن نِ ْ‬ ‫شةٍ فَعَلي ْهِ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫فا ِ‬‫ن بِ َ‬ ‫ن أت َي ْ َ‬ ‫ن فَإ ِ ْ‬ ‫ص ّ‬ ‫ح ِ‬ ‫ذا أ ْ‬ ‫ن فَإ ِ َ‬ ‫دا ٍ‬ ‫خ َ‬ ‫تأ ْ‬ ‫ذا ِ‬ ‫خ َ‬ ‫مت ّ ِ‬ ‫ت وَل ُ‬ ‫حا ٍ‬ ‫سافِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫صب ُِروا‬‫ن تَ ْ‬ ‫م وَأ ْ‬ ‫من ْك ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫ي العَن َ َ‬ ‫ش َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ذ َل ِك ل ِ َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ن العَ َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫صَنا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬ ‫ما عَلى ال ُ‬ ‫َ‬
‫م )‪(25‬‬ ‫ٌ‬ ‫حي‬
‫ِ‬ ‫ر‬
‫ٌ َ‬ ‫ر‬ ‫فو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫غ‬ ‫ه‬
‫ْ َ ُ‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وال‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ر‬
‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫خ‬‫َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ت فَ ِ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ت ال ْ ُ‬ ‫صَنا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬‫ح ال ْ ُ‬ ‫ن ي َن ْك ِ َ‬ ‫ول أ ْ‬ ‫م طَ ْ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ست َط ِعْ ِ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م ْ‬‫} ‪ } { 25‬وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫ضك ْ‬ ‫م ب َعْ ُ‬ ‫ُ‬
‫مان ِك ْ‬ ‫م ب ِِإي َ‬ ‫ه أعْل ُ‬ ‫ت َوالل ُ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ال ُ‬ ‫ُ‬
‫ن فت ََيات ِك ُ‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫مان ُك ْ‬ ‫ت أي ْ َ‬ ‫مل َك َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ت غي َْر‬ ‫صَنا ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال َ‬ ‫جوَرهُ ّ‬ ‫نأ ُ‬ ‫ن َوآُتوهُ ّ‬ ‫ن أهْل ِهِ ّ‬ ‫ن ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫حوهُ ّ‬ ‫ض فان ْك ِ ُ‬ ‫ب َعْ ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫ص ُ‬ ‫ن نِ ْ‬ ‫شةٍ فَعَلي ْهِ ّ‬ ‫ح َ‬‫فا ِ‬‫ن بِ َ‬ ‫ن أت َي ْ َ‬ ‫ن فَإ ِ ْ‬ ‫ص ّ‬ ‫ح ِ‬ ‫ذا أ ْ‬ ‫ن فَإ ِ َ‬ ‫دا ٍ‬ ‫خ َ‬‫تأ ْ‬ ‫ذا ِ‬ ‫خ َ‬ ‫مت ّ ِ‬
‫ت َول ُ‬ ‫حا ٍ‬ ‫سافِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫صب ُِروا‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م وَأ ْ‬ ‫من ْك ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫ي العَن َ َ‬ ‫ش َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ذ َل ِك ل ِ َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ن العَ َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫صَنا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬ ‫ما عَلى ال ُ‬ ‫َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ّ‬
‫م َوالل ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫خي ٌْر لك ْ‬ ‫َ‬
‫ول { الية‪.‬‬ ‫مط ْ‬‫َ‬ ‫ُ‬
‫من ْك ْ‬ ‫ست َط ِعْ ِ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫نل ْ‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫ثم قال تعالى } وَ َ‬
‫أي‪ :‬ومن لم يستطع الطول الذي هو المهر لنكاح المحصنات أي‪ :‬الحرائر‬
‫المؤمنات وخاف على نفسه العََنت أي‪ :‬الزنا والمشقة الكثيرة‪ ،‬فيجوز له‬
‫نكاح الماء المملوكات المؤمنات‪ .‬وهذا بحسب ما يظهر‪ ،‬وإل فالله أعلم‬
‫بالمؤمن الصادق من غيره‪ ،‬فأمور الدنيا مبنية على ظواهر المور‪ ،‬وأحكام‬
‫الخرة مبنية على ما في البواطن‪.‬‬
‫َ‬
‫ن { أي‪ :‬سيدهن واحدا أو‬ ‫ن أهْل ِهِ ّ‬ ‫ن { أي‪ :‬المملوكات } ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫حوهُ ّ‬ ‫} َفان ْك ِ ُ‬
‫متعددا‪.‬‬
‫ُ‬
‫ف { أي‪ :‬ولو كن إماء‪ ،‬فإنه كما يجب المهر‬ ‫معُْرو ِ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬ ‫جوَرهُ ّ‬ ‫نأ ُ‬ ‫} َوآُتوهُ ّ‬
‫للحرة فكذلك يجب للمة‪ .‬ولكن ل يجوز نكاح الماء إل إذا كن‬
‫ت { أي‪ :‬زانيات‬ ‫حا ٍ‬‫سافِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ت { أي‪ :‬عفيفات عن الزنا } غَي َْر ُ‬ ‫صَنا ٍ‬‫ح َ‬ ‫م ْ‬‫} ُ‬
‫ن { أي‪ :‬أخلء في السر‪.‬‬ ‫َ‬ ‫خ َ‬
‫دا ٍ‬‫خ َ‬
‫تأ ْ‬ ‫ذا ِ‬ ‫مت ّ ِ‬ ‫علنية‪َ } .‬ول ُ‬
‫فالحاصل أنه ل يجوز للحر المسلم نكاح أمة إل بأربعة شروط ذكرها الله‪:‬‬
‫اليمان بهن والعفة ظاهرا وباطنا‪ ،‬وعدم استطاعة طول الحرة‪ ،‬وخوف‬
‫العنت‪ ،‬فإذا تمت هذه الشروط جاز له نكاحهن‪.‬‬
‫ومع هذا فالصبر عن نكاحهن أفضل لما فيه من تعريض الولد للرق‪ ،‬ولما‬
‫فيه من الدناءة والعيب‪ .‬وهذا إذا أمكن الصبر‪ ،‬فإن لم يمكن الصبر عن‬
‫هّ‬ ‫َ‬
‫م َوالل ُ‬‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬
‫صب ُِروا َ‬
‫ن تَ ْ‬
‫المحرم إل بنكاحهن وجب ذلك‪ .‬ولهذا قال‪ } :‬وَأ ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حي ٌ‬
‫فوٌر َر ِ‬ ‫غَ ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ف‬
‫ص ُ‬ ‫ن { أي‪ :‬تزوجن أو أسلمن أي‪ :‬الماء } فَعَلي ْهِ ّ‬
‫ن نِ ْ‬ ‫ص ّ‬‫ح ِ‬ ‫ذا أ ْ‬ ‫وقوله‪ } :‬فَإ ِ َ‬
‫ب{‪.‬‬ ‫ذا ِ‬ ‫ْ‬
‫ن العَ َ‬ ‫م َ‬‫ت { أي‪ :‬الحرائر } ِ‬ ‫صَنا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬ ‫ما عََلى ال ْ ُ‬ ‫َ‬
‫جلد فيكون عليهن خمسون‬ ‫َ‬ ‫ال‬ ‫[‬ ‫‪175‬‬ ‫ص‬ ‫]‬ ‫وهو‪:‬‬ ‫تنصيفه‬ ‫يمكن‬ ‫الذي‬ ‫وذلك‬
‫جلدة‪ .‬وأما الرجم فليس على الماء رجم لنه ل يتنصف‪ ،‬فعلى القول‬ ‫َ‬
‫الول إذا لم يتزوجن فليس عليهن حد‪ ،‬إنما عليهن تعزير يردعهن عن فعل‬
‫الفاحشة‪.‬‬
‫وعلى القول الثاني‪ :‬إن الماء غير المسلمات‪ ،‬إذا فعلن فاحشة أيضا‬
‫عزرن‪.‬‬
‫وختم هذه الية بهذين السمين الكريمين "الغفور والرحيم" لكون هذه‬
‫ما وإحساًنا إليهم فلم يضيق عليهم‪ ،‬بل وسع غاية‬ ‫ة بالعباد وكر ً‬ ‫الحكام رحم ً‬
‫السعة‪.‬‬
‫ولعل في ذكر المغفرة بعد ذكر الحد إشارة إلى أن الحدود كفارات‪ ،‬يغفر‬
‫الله بها ذنوب عباده كما ورد بذلك الحديث‪ .‬وحكم العبد الذكر في الحد‬
‫المذكور حكم المة لعدم الفارق بينهما‪.‬‬

‫) ‪(1/174‬‬

‫م َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ب عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬
‫م وَي َُتو َ‬ ‫م ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫سن َ َ‬
‫م ُ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬
‫م وَي َهْدِي َك ُ ْ‬ ‫ه ل ِي ُب َي ّ َ‬‫ريد ُ الل ّ ُ‬
‫يُ ِ‬
‫م )‪(26‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫م َ‬‫عَِلي ٌ‬
‫ب‬ ‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬
‫م وَي َُتو َ‬ ‫م ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫سن َ َ‬‫م ُ‬ ‫م وَي َهْدِي َك ُ ْ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫ريد ُ الل ّ ُ‬
‫ه ل ِي ُب َي ّ َ‬ ‫} ‪ } { 28 - 26‬ي ُ ِ‬
‫م{‪.‬‬ ‫كي ٌ‬
‫ح ِ‬‫م َ‬ ‫م َوالل ّ ُ‬
‫ه عَِلي ٌ‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫يخبر تعالى بمنته العظيمة ومنحته الجسيمة‪ ،‬وحسن تربيته لعباده‬
‫م { أي‪ :‬جميع ما‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫ريد ُ الل ّ ُ‬
‫ه ل ِي ُب َي ّ َ‬ ‫المؤمنين وسهولة دينه فقال‪ } :‬ي ُ ِ‬
‫ن‬
‫سن َ َ‬
‫م ُ‬‫تحتاجون إلى بيانه من الحق والباطل‪ ،‬والحلل والحرام‪ } ،‬وَي َهْدِي َك ُ ْ‬
‫م { أي‪ :‬الذين أنعم الله عليهم من النبيين وأتباعهم‪ ،‬في‬ ‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬
‫م ْ‬‫ن ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫سيرهم الحميدة‪ ،‬وأفعالهم السديدة‪ ،‬وشمائلهم الكاملة‪ ،‬وتوفيقهم التام‪.‬‬
‫فلذلك نفذ ما أراده‪ ،‬ووضح لكم وبين بيانا كما بين لمن قبلكم‪ ،‬وهداكم‬
‫هداية عظيمة في العلم والعمل‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬يلطف لكم في أحوالكم وما شرعه لكم حتى‬ ‫ب عَل َي ْك ُ ْ‬‫} وَي َُتو َ‬
‫تمكنوا )‪ (1‬من الوقوف على ما حده الله‪ ،‬والكتفاء بما أحله فتقل ذنوبكم‬
‫بسبب ما يسر الله عليكم فهذا من توبته على عباده‪.‬‬
‫ومن توبته عليهم أنهم إذا أذنبوا فتح لهم أبواب الرحمة وأوزع قلوبهم‬
‫النابة إليه‪ ،‬والتذلل بين يديه ثم يتوب عليهم بقبول ما وفقهم له‪ .‬فله‬
‫الحمد والشكر على ذلك‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬كامل الحكمة‪ ،‬فمن علمه أن علمكم ما‬ ‫كي ٌ‬
‫ح ِ‬
‫م َ‬
‫ه عَِلي ٌ‬ ‫وقوله‪َ } :‬والل ّ ُ‬
‫لم تكونوا تعلمون‪ ،‬ومنها هذه الشياء والحدود‪ .‬ومن حكمته أنه يتوب على‬
‫من اقتضت حكمته ورحمته التوبة عليه‪ ،‬ويخذل من اقتضت حكمته وعدله‬
‫من ل يصلح للتوبة‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬تتمكنوا‪.‬‬

‫) ‪(1/175‬‬

‫مي ًْل‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫ميُلوا َ‬
‫ن تَ ِ‬‫تأ ْ‬ ‫وا ِ‬
‫شه َ َ‬‫ن ال ّ‬ ‫ي َت ّب ُِعو َ‬ ‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ريد ُ ال ّ ِ‬
‫م وَي ُ ِ‬‫ب عَل َي ْك ُ ْ‬
‫ن ي َُتو َ‬
‫ريد ُ أ ْ‬
‫ِ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫ه يُ‬
‫ْ‬ ‫عَظيما )‪ (27‬يريد الل ّ َ‬
‫فا )‪(28‬‬ ‫ضِعي ً‬
‫ن َ‬‫سا ُ‬ ‫خل ِقَ ال ِن ْ َ‬
‫وَ ُ‬ ‫م‬‫ف عَن ْك ُ ْ‬ ‫ف َ‬‫خ ّ‬ ‫ن يُ َ‬‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ِ ُ‬ ‫ِ ً‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مْيل‬‫ميُلوا َ‬
‫ن تَ ِ‬
‫تأ ْ‬ ‫وا ِ‬
‫شهَ َ‬‫ن ال ّ‬‫ن ي َت ّب ُِعو َ‬ ‫ريد ُ ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م وَي ُ ِ‬ ‫ب عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ن ي َُتو َ‬ ‫ريد ُ أ ْ‬ ‫ه يُ ِ‬‫} َوالل ّ ُ‬
‫َ‬
‫فا { ‪.‬‬
‫ضِعي ً‬
‫ن َ‬ ‫سا ُ‬‫خل ِقَ الن ْ َ‬ ‫م وَ ُ‬ ‫ف عَن ْك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫خ ّ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ريد ُ الل ّ ُ‬ ‫ما * ي ُ ِ‬ ‫ظي ً‬ ‫عَ ِ‬
‫م { أي‪ :‬توبة تلم شعثكم‪ ،‬وتجمع‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ب عَلي ْك ْ‬ ‫ن ي َُتو َ‬ ‫ريد ُ أ ْ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫وقوله‪َ } :‬والل ُ‬
‫متفرقكم‪ ،‬وتقرب بعيدكم‪.‬‬
‫ت { أي‪ :‬يميلون معها حيث مالت ويقدمونها‬ ‫وا ِ‬ ‫شه َ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن ي َت ّب ُِعو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ريد ُ ال ّ ِ‬ ‫} وَي ُ ِ‬
‫على ما فيه رضا محبوبهم‪ ،‬ويعبدون أهواءهم‪ ،‬من أصناف الكفرة‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫والعاصين‪ ،‬المقدمين لهوائهم على طاعة ربهم‪ ،‬فهؤلء يريدون } أ ْ‬
‫ما { أي‪] :‬أن[ تنحرفوا عن الصراط المستقيم إلى صراط‬ ‫ظي ً‬
‫مْيل عَ ِ‬ ‫ميُلوا َ‬ ‫تَ ِ‬
‫المغضوب عليهم والضالين‪.‬‬
‫يريدون أن يصرفوكم عن طاعة الرحمن إلى طاعة الشيطان‪ ،‬وعن التزام‬
‫ن الشقاوةُ كلها في‬ ‫م ْ‬‫حدود من السعادة كلها في امتثال أوامره‪ ،‬إلى َ‬
‫اتباعه‪ .‬فإذا عرفتم أن الله تعالى يأمركم بما فيه صلحكم وفلحكم‬
‫وسعادتكم‪ ،‬وأن هؤلء المتبعين لشهواتهم يأمرونكم بما فيه غاية الخسار‬
‫والشقاء‪ ،‬فاختاروا لنفسكم أْولى الداعيين‪ ،‬وتخّيروا أحسن الطريقتين‪.‬‬
‫} يريد الل ّ َ‬
‫م { أي‪ :‬بسهولة ما أمركم به و ]ما[ نهاكم عنه‪،‬‬ ‫ف عَن ْك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫خ ّ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ِ ُ‬
‫ثم مع حصول المشقة في بعض الشرائع أباح لكم ما تقتضيه حاجتكم‪،‬‬
‫كالميتة والدم ونحوهما للمضطر‪ ،‬وكتزوج المة للحر بتلك الشروط‬
‫السابقة‪ .‬وذلك لرحمته التامة وإحسانه الشامل‪ ،‬وعلمه وحكمته بضعف‬
‫النسان من جميع الوجوه‪ ،‬ضعف البنية‪ ،‬وضعف الرادة‪ ،‬وضعف العزيمة‪،‬‬
‫وضعف اليمان‪ ،‬وضعف الصبر‪ ،‬فناسب ذلك أن يخفف الله عنه‪ ،‬ما يضعف‬
‫عنه وما ل يطيقه إيمانه وصبره وقوته‪.‬‬

‫) ‪(1/175‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫ن‬ ‫جاَرةً عَ ْ‬ ‫ن تِ َ‬ ‫كو َ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫ل إ ِّل أ ْ‬ ‫م ِبال َْباط ِ ِ‬ ‫م ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫وال َك ُ ْ‬ ‫م َ‬‫مُنوا َل ت َأك ُُلوا أ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫فع َ ْ‬
‫ل‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ما )‪ (29‬وَ َ‬ ‫حي ً‬ ‫م َر ِ‬ ‫ن ب ِك ُ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫قت ُُلوا أ َن ْ ُ‬ ‫م وََل ت َ ْ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ض ِ‬ ‫ت ََرا ٍ‬
‫سيًرا )‪(30‬‬ ‫ّ‬
‫ك عَلى اللهِ ي َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫َ‬
‫صِليهِ َناًرا وَكا َ‬ ‫ف نُ ْ‬ ‫سوْ َ‬ ‫ما فَ َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ك عُد َْواًنا وَظل ً‬ ‫ذ َل ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ل ِإل أ ْ‬ ‫م ِبال َْباط ِ ِ‬ ‫م ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫وال َك ُ ْ‬ ‫م َ‬‫مُنوا ل ت َأك ُُلوا أ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 30 ، 29‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ما *‬ ‫حي ً‬ ‫م َر ِ‬ ‫ن ب ِك ُ ْ‬
‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫قت ُُلوا أ َن ْ ُ‬ ‫م َول ت َ ْ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ض ِ‬ ‫ن ت ََرا ٍ‬ ‫جاَرةً عَ ْ‬ ‫ن تِ َ‬ ‫كو َ‬ ‫تَ ُ‬
‫ك عََلى الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫كا َ‬ ‫صِليهِ َناًرا وَ َ‬ ‫ف نُ ْ‬ ‫سوْ َ‬ ‫ما فَ َ‬ ‫ك عُد َْواًنا وَظ ُل ْ ً‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬ ‫فعَ ْ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ َ‬
‫سيًرا { ‪.‬‬ ‫يَ ِ‬
‫ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يأكلوا أموالهم بينهم بالباطل‪ ،‬وهذا يشمل‬
‫أكلها بالغصوب والسرقات‪ ،‬وأخذها بالقمار والمكاسب الرديئة‪ .‬بل لعله‬
‫يدخل في ذلك أكل مال نفسك على وجه البطر والسراف‪ ،‬لن هذا من‬
‫الباطل وليس من الحق‪.‬‬
‫ثم إنه ‪-‬لما حرم أكلها بالباطل‪ -‬أباح لهم أكلها بالتجارات والمكاسب‬
‫الخالية من الموانع‪ ،‬المشتملة على الشروط من التراضي وغيره‪.‬‬
‫ضا‪ ،‬ول يقتل النسان نفسه‪.‬‬ ‫م { أي‪ :‬ل يقتل بعضكم بع ً‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫قت ُُلوا أ َن ْ ُ‬ ‫} َول ت َ ْ‬
‫ل الخطار المفضية إلى‬ ‫ويدخل في ذلك اللقاُء بالنفس إلى التهلكة‪ ،‬وفع ُ‬
‫ما { ومن رحمته أن صان نفوسكم‬ ‫حي ً‬ ‫م َر ِ‬ ‫ن ب ِك ُ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫التلف والهلك } إ ِ ّ‬
‫وأموالكم‪ ،‬ونهاكم عن إضاعتها وإتلفها‪ ،‬ورتب على ذلك ما رتبه من‬
‫الحدود‪.‬‬
‫ُ‬
‫قت ُلوا‬ ‫م { } َول ت َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫والك ْ‬ ‫م َ‬‫وتأمل هذا اليجاز والجمع في قوله‪ } :‬ل ت َأكلوا أ ْ‬
‫م { كيف شمل أموال غيرك ومال نفسك وقتل نفسك وقتل غيرك‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫بعبارة أخصر من قوله‪" :‬ل يأكل بعضكم مال بعض" و"ل يقتل بعضكم‬
‫ضا" مع قصور هذه العبارة على مال الغير ونفس الغير فقط‪.‬‬ ‫بع ً‬
‫مع أن إضافة الموال والنفس إلى ] ص ‪ [ 176‬عموم المؤمنين فيه دللة‬
‫على أن المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم ومصالحهم كالجسد‬
‫الواحد‪ ،‬حيث كان اليمان يجمعهم على مصالحهم الدينية والدنيوية‪.‬‬
‫ولما نهى عن أكل الموال بالباطل التي فيها غاية الضرر عليهم‪ ،‬على‬
‫الكل‪ ،‬ومن أخذ ماله‪ ،‬أباح لهم ما فيه مصلحتهم من أنواع المكاسب‬
‫ن‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫َ‬
‫جاَرةً عَ ْ‬ ‫ن تِ َ‬ ‫كو َ‬ ‫والتجارات‪ ،‬وأنواع الحرف والجارات‪ ،‬فقال‪ِ } :‬إل أ ْ‬
‫م { أي‪ :‬فإنها مباحة لكم‪.‬‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ض ِ‬ ‫ت ََرا ٍ‬
‫وشرط التراضي ‪-‬مع كونها تجارة‪ -‬لدللة أنه يشترط أن يكون العقد غير‬
‫عقد ربا لن الربا ليس من التجارة‪ ،‬بل مخالف لمقصودها‪ ،‬وأنه ل بد أن‬
‫يرضى كل من المتعاقدين ويأتي به اختياًرا‪.‬‬
‫ومن تمام الرضا أن يكون المعقود عليه معلوما‪ ،‬لنه إذا لم يكن كذلك ل‬
‫يتصور الرضا مقدوًرا على تسليمه‪ ،‬لن غير المقدور عليه شبيه ببيع‬
‫القمار‪ ،‬فبيع الغرر بجميع أنواعه خال من الرضا فل ينفذ عقده‪.‬‬
‫وفيها أنه تنعقد العقود بما دل عليها من قول أو فعل‪ ،‬لن الله شرط‬
‫ن‬
‫الرضا فبأي طريق حصل الرضا انعقد به العقد‪ .‬ثم ختم الية بقوله‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ما { ومن رحمته أن عصم دماءكم وأموالكم وصانها‬ ‫حي ً‬
‫م َر ِ‬‫ن ب ِك ُ ْ‬
‫كا َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ه َ‬
‫ونهاكم عن انتهاكها‪.‬‬
‫ل ذ َل ِك { أي‪ :‬أكل الموال بالباطل وقتل‬ ‫َ‬ ‫فعَ ْ‬
‫ن يَ ْ‬
‫م ْ‬ ‫} ‪ { 30‬ثم قال‪ } :‬وَ َ‬
‫صِليهِ َناًرا { أي‪:‬‬
‫ف نُ ْ‬ ‫ما { أي‪ :‬ل جهل ونسيانا } فَ َ‬
‫سوْ َ‬ ‫النفوس } عُد َْواًنا وَظ ُل ً‬
‫ْ‬
‫ك عََلى الل ّهِ ي َ ِ‬
‫سيًرا { ‪.‬‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫عظيمة كما يفيده التنكير } وَ َ‬
‫كا َ‬

‫) ‪(1/175‬‬

‫ما )‬ ‫خًل ك َ ِ‬
‫ري ً‬ ‫مد ْ َ‬ ‫خل ْك ُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫سي َّئات ِك ُ ْ‬
‫م وَن ُد ْ ِ‬ ‫فْر عَن ْك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ه ن ُك َ ّ‬
‫ن عَن ْ ُ‬ ‫جت َن ُِبوا ك ََبائ َِر َ‬
‫ما ت ُن ْهَوْ َ‬ ‫ن تَ ْ‬
‫إِ ْ‬
‫‪(31‬‬

‫خل ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫سي َّئات ِك ُ ْ‬
‫م وَن ُد ْ ِ‬ ‫م َ‬‫فْر عَن ْك ُ ْ‬
‫ه ن ُك َ ّ‬
‫ن عَن ْ ُ‬ ‫جت َن ُِبوا ك ََبائ َِر َ‬
‫ما ت ُن ْهَوْ َ‬ ‫ن تَ ْ‬
‫} ‪ } { 31‬إ ِ ْ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫خل ك َ ِ‬
‫ري ً‬ ‫مد ْ َ‬
‫ُ‬
‫وهذا من فضل الله وإحسانه على عباده المؤمنين وعدهم أنهم إذا اجتنبوا‬
‫كبائر المنهيات غفر لهم جميع الذنوب والسيئات وأدخلهم مدخل كريما كثير‬
‫الخير وهو الجنة المشتملة على ما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر‬
‫على قلب بشر‪.‬‬
‫ويدخل في اجتناب الكبائر فعل الفرائض التي يكون تاركها مرتكبا كبيرة‪،‬‬
‫كالصلوات الخمس‪ ،‬والجمعة‪ ،‬وصوم رمضان‪ ،‬كما قال النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم "الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان‬
‫مكفرات لما بينهما ما اجتنبت الكبائر" ‪.‬‬
‫حدت به الكبائر‪ ،‬أن الكبيرة ما فيه حد في الدنيا‪ ،‬أو وعيد في‬ ‫وأحسن ما ُ‬
‫الخرة‪ ،‬أو نفي إيمان‪ ،‬أو ترتيب لعنة‪ ،‬أو غضب عليه‪.‬‬

‫) ‪(1/176‬‬

‫ما اك ْت َ َ‬
‫سُبوا‬ ‫م ّ‬
‫ب ِ‬‫صي ٌ‬ ‫ل نَ ِ‬ ‫جا ِ‬‫ض ِللّر َ‬ ‫ضك ُ ْ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬‫ض َ‬‫ما فَ ّ‬ ‫وََل ت َت َ َ‬
‫م عَلى ب َعْ ٍ‬ ‫َ‬
‫ه ب ِهِ ب َعْ َ‬ ‫وا َ‬‫من ّ ْ‬
‫يٍء‬
‫ش ْ‬‫ل َ‬ ‫ن ب ِك ُ ّ‬
‫كا َ‬‫ه َ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫ن فَ ْ‬
‫ضل ِهِ إ ِ ّ‬ ‫م ْ‬
‫ه ِ‬‫سأُلوا الل ّ َ‬‫ن َوا ْ‬
‫سب ْ َ‬‫ما اك ْت َ َ‬‫م ّ‬‫ب ِ‬‫صي ٌ‬‫ساِء ن َ ِ‬ ‫وَِللن ّ َ‬
‫ما )‪(32‬‬ ‫عَِلي ً‬
‫ب‬ ‫صي ٌ‬
‫ل‬ ‫نَ ِ‬
‫جا ِ‬ ‫ض ِللّر َ‬ ‫ضك ُ ْ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما فَ ّ‬
‫ض َ‬
‫م َعَلى ب َعْ ٍ‬ ‫ه ب ِهِ ب َعْ َ‬ ‫وا َ‬ ‫من ّ ْ‬
‫} ‪َ } { 32‬ول ت َت َ َ‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫ن فَ ْ‬
‫إِ ّ‬
‫ضل ِهِ‬ ‫م ْ‬ ‫سأُلوا الل ّ َ‬
‫ه ِ‬ ‫ن َوا ْ‬ ‫ما اك ْت َ َ‬
‫سب ْ َ‬ ‫م ّ‬
‫ب ِ‬ ‫صي ٌ‬
‫ساِء ن َ ِ‬ ‫سُبوا وَِللن ّ َ‬ ‫ما اك ْت َ َ‬‫م ّ‬ ‫ِ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫يٍء عَِلي ً‬ ‫ش ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ن ب ِكل َ‬ ‫كا َ‬‫َ‬
‫ينهى تعالى المؤمنين عن أن يتمنى بعضهم ما فضل الله به غيره من‬
‫المور الممكنة وغير الممكنة‪ .‬فل تتمنى النساء خصائص الرجال التي بها‬
‫فضلهم على النساء‪ ،‬ول صاحب الفقر والنقص حالة الغنى والكمال تمنيا‬
‫مجردا لن هذا هو الحسد بعينه‪ ،‬تمني نعمة الله على غيرك أن تكون لك‬
‫ويسلب إياها‪ .‬ولنه يقتضي السخط على قدر الله والخلد إلى الكسل‬
‫والماني الباطلة التي ل يقترن بها عمل ول كسب‪ .‬وإنما المحمود أمران‪:‬‬
‫أن يسعى العبد على حسب قدرته بما ينفعه من مصالحه الدينية والدنيوية‪،‬‬
‫ويسأل الله تعالى من فضله‪ ،‬فل يتكل على نفسه ول على غير ربه‪ .‬ولهذا‬
‫سُبوا { أي‪ :‬من أعمالهم المنتجة‬ ‫ما اك ْت َ َ‬ ‫م ّ‬ ‫ب ِ‬ ‫صي ٌ‬ ‫ل نَ ِ‬ ‫جا ِ‬‫قال تعالى‪ِ } :‬للّر َ‬
‫ن { فكل منهم ل يناله غير ما‬
‫سب ْ َ‬ ‫ْ‬
‫ما اكت َ َ‬ ‫م ّ‬ ‫ب ِ‬ ‫صي ٌ‬ ‫ساِء ن َ ِ‬‫للمطلوب‪ } .‬وَِللن ّ َ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ضل ِهِ { أي‪ :‬من جميع مصالحكم في‬‫ن فَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬‫سألوا الل َ‬ ‫كسبه وتعب فيه‪َ } .‬وا ْ‬
‫الدين والدنيا‪ .‬فهذا كمال العبد وعنوان سعادته ل من يترك العمل‪ ،‬أو يتكل‬
‫على نفسه غير مفتقر لربه‪ ،‬أو يجمع بين المرين فإن هذا مخذول خاسر‪.‬‬
‫ما { فيعطي من يعلمه أهل لذلك‪،‬‬ ‫يٍء عَِلي ً‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ب ِك ُ ّ‬ ‫كا َ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫وقوله‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ويمنع من يعلمه غير مستحق‪.‬‬

‫) ‪(1/176‬‬

‫َ‬
‫مان ُك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ت أي ْ َ‬
‫قد َ ْ‬
‫ن عَ َ‬ ‫ن َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ن َواْل َقَْرُبو َ‬‫دا ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬
‫وال ِ َ‬ ‫ما ت ََر َ‬‫م ّ‬‫ي ِ‬ ‫وال ِ َ‬ ‫جعَل َْنا َ‬
‫م َ‬ ‫ل َ‬ ‫وَل ِك ُ ّ‬
‫ن عََلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫دا )‪(33‬‬ ‫يٍء َ‬
‫شِهي ً‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫م إِ ّ‬ ‫صيب َهُ ْ‬
‫م نَ ِ‬‫فَآُتوهُ ْ‬
‫ت‬‫قد َ ْ‬
‫ن عَ َ‬ ‫ن َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ن َوالقَْرُبو َ‬ ‫دا ِ‬ ‫وال ِ َ‬‫ك ال ْ َ‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫م ّ‬‫ي ِ‬ ‫وال ِ َ‬ ‫م َ‬‫جعَل َْنا َ‬ ‫ل َ‬‫} ‪ } { 33‬وَل ِك ُ ّ‬
‫ن عََلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫دا { ‪.‬‬ ‫شِهي ً‬ ‫يٍء َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬‫صيب َهُ ْ‬‫م نَ ِ‬‫م َفآُتوهُ ْ‬ ‫مان ُك ُ ْ‬
‫أي ْ َ‬
‫ي { أي‪ :‬يتولونه ويتولهم بالتعزز‬ ‫وال ِ َ‬‫م َ‬‫جعَل َْنا َ‬ ‫ل { من الناس } َ‬ ‫أي‪ } :‬وَل ِك ُ ّ‬
‫ن { وهذا‬ ‫ن َوالقَْرُبو َ‬ ‫دا ِ‬ ‫وال ِ َ‬ ‫ْ‬
‫ك ال َ‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫م ّ‬‫والنصرة والمعاونة على المور‪ِ } .‬‬
‫يشمل سائر القارب من الصول والفروع والحواشي‪ ،‬هؤلء الموالي من‬
‫القرابة‪.‬‬
‫َ‬
‫م { أي‪:‬‬ ‫مان ُك ُ ْ‬ ‫ت أي ْ َ‬ ‫قد َ ْ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ثم ذكر نوعا آخر من الموالي فقال‪َ } :‬وال ّ ِ‬
‫حالفتموهم بما عقدتم معهم من عقد المحالفة على النصرة والمساعدة‬
‫والشتراك بالموال وغير ذلك‪ .‬وكل هذا من نعم الله على عباده‪ ،‬حيث‬
‫كان الموالي يتعاونون بما ل يقدر عليه بعضهم مفردا‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬آتوا الموالي نصيبهم الذي يجب القيام‬ ‫صيب َهُ ْ‬‫م نَ ِ‬ ‫قال تعالى‪َ } :‬فآُتوهُ ْ‬
‫به من النصرة والمعاونة والمساعدة على غير معصية الله‪ .‬والميراث‬
‫للقارب الدنين من الموالي‪.‬‬
‫دا { أي‪ :‬مطلعا على كل شيء بعلمه‬ ‫شِهي ً‬ ‫يٍء َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ن عََلى ك ُ ّ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫لجميع المور‪ ،‬وبصره لحركات عباده‪ ،‬وسمعه لجميع أصواتهم‪.‬‬

‫) ‪(1/176‬‬

‫قوا‬ ‫ما أ َن ْ َ‬
‫ف ُ‬ ‫ض وَب ِ َ‬ ‫ضه ُ ْ َ‬
‫م عَلى ب َعْ ٍ‬ ‫ه ب َعْ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ما فَ ّ‬ ‫ساِء ب ِ َ‬ ‫ن عََلى الن ّ َ‬ ‫مو َ‬ ‫وا ُ‬ ‫ل قَ ّ‬ ‫جا ُ‬ ‫الّر َ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه َواللِتي‬ ‫فظ الل ُ‬ ‫ح ِ‬‫ما َ‬‫ب بِ َ‬ ‫ت ل ِلغَي ْ ِ‬ ‫حافِظا ٌ‬ ‫ت َ‬ ‫ت َقان َِتا ٌ‬ ‫حا ُ‬ ‫م َفال ّ‬
‫صال ِ َ‬ ‫وال ِهِ ْ‬‫م َ‬‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ن‬‫ن فَإ ِ ْ‬ ‫ضرُِبوهُ ّ‬ ‫جِع َوا ْ‬
‫ضا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ْ‬
‫ن ِفي ال َ‬ ‫جُروهُ ّ‬ ‫ن َواهْ ُ‬ ‫ُ‬
‫ن فَعِظوهُ ّ‬ ‫شوَزهُ ّ‬ ‫ن نُ ُ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫تَ َ‬
‫َ‬
‫ن عَل ِّيا ك َِبيًرا )‪(34‬‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫سِبيًل إ ِ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م فََل ت َب ُْغوا عَل َي ْهِ ّ‬ ‫أط َعْن َك ُ ْ‬
‫] ص ‪[ 177‬‬
‫ض‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ما فَ ّ‬
‫ض َ‬ ‫َ‬ ‫ل قَ ّ‬ ‫جا ُ‬
‫م عَلى ب َعْ ٍ‬ ‫ضه ُ ْ‬ ‫ه ب َعْ َ‬‫ل الل ُ‬ ‫ساِء ب ِ َ‬‫ن عَلى الن ّ َ‬ ‫مو َ‬ ‫وا ُ‬
‫َ‬
‫} ‪ } { 34‬الّر َ‬
‫هّ‬ ‫َ‬
‫حفِظ الل ُ‬ ‫ما َ‬‫ب بِ َ‬ ‫ْ‬
‫ت ل ِلغَي ْ ِ‬ ‫َ‬
‫حافِظا ٌ‬ ‫ت َ‬‫ت َقان َِتا ٌ‬ ‫حا ُ‬‫صال ِ َ‬ ‫م َفال ّ‬ ‫وال ِهِ ْ‬
‫م َ‬‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬
‫قوا ِ‬‫ف ُ‬‫ما أ َن ْ َ‬
‫وَب ِ َ‬
‫ن‬
‫ضرُِبوهُ ّ‬‫جِع َوا ْ‬ ‫ضا ِ‬‫م َ‬ ‫ْ‬
‫ن ِفي ال َ‬ ‫جُروهُ ّ‬ ‫ن َواهْ ُ‬ ‫ُ‬
‫ن فَعِظوهُ ّ‬ ‫شوَزهُ ّ‬ ‫ن نُ ُ‬ ‫خاُفو َ‬
‫َواللِتي ت َ َ‬
‫فَإ َ‬
‫ن عَل ِّيا ك َِبيًرا { ‪.‬‬ ‫كا َ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫سِبيل إ ِ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م َفل ت َب ُْغوا عَل َي ْهِ ّ‬ ‫ن أط َعْن َك ُ ْ‬ ‫ِ ْ‬
‫ساِء { أي‪ :‬قوامون عليهن‬ ‫َ‬
‫ن عَلى الن ّ َ‬ ‫مو َ‬ ‫وا ُ‬ ‫جال } قَ ّ‬ ‫يخبر تعالى أن الّر َ‬
‫بإلزامهن بحقوق الله تعالى‪ ،‬من المحافظة على فرائضه وكفهن عن‬
‫المفاسد‪ ،‬والرجال عليهم أن يلزموهن بذلك‪ ،‬وقوامون عليهن أيضا‬
‫بالنفاق عليهن‪ ،‬والكسوة والمسكن‪ ،‬ثم ذكر السبب الموجب لقيام الرجال‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫قوا ِ‬ ‫ف ُ‬‫ما َأن َ‬
‫ض وَب ِ َ‬
‫م عَلى ب َعْ ٍ‬
‫ضه ُ ْ َ‬ ‫ه ب َعْ َ‬‫ل الل ّ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ما فَ ّ‬ ‫على النساء فقال‪ } :‬ب ِ َ‬
‫م { أي‪ :‬بسبب فضل الرجال على النساء وإفضالهم عليهن‪،‬‬ ‫َ‬
‫وال ِهِ ْ‬‫م َ‬‫أ ْ‬
‫فتفضيل الرجال على النساء من وجوه متعددة‪ :‬من كون الوليات مختصة‬
‫بالرجال‪ ،‬والنبوة‪ ،‬والرسالة‪ ،‬واختصاصهم بكثير من العبادات كالجهاد‬
‫والعياد والجمع‪ .‬وبما خصهم الله به من العقل والرزانة والصبر والجلد‬
‫الذي ليس للنساء مثله‪ .‬وكذلك خصهم بالنفقات على الزوجات بل وكثير‬
‫من النفقات يختص بها الرجال ويتميزون عن النساء‪.‬‬
‫قوا { وحذف المفعول ليدل على عموم‬ ‫ف ُ‬‫ما أ َن ْ َ‬ ‫ولعل هذا سر قوله‪ } :‬وَب ِ َ‬
‫النفقة‪ .‬فعلم من هذا كله أن الرجل كالوالي والسيد لمرأته‪ ،‬وهي عنده‬
‫عانية أسيرة خادمة‪،‬فوظيفته أن يقوم بما استرعاه الله به‪.‬‬
‫ت‬‫حا ُ‬ ‫صال ِ َ‬‫ووظيفتها‪ :‬القيام بطاعة ربها وطاعة زوجها فلهذا قال‪َ } :‬فال ّ‬
‫ب { أي‪ :‬مطيعات‬ ‫ت ل ِل ْغَي ْ ِ‬‫ظا ٌ‬‫حافِ َ‬ ‫ت { أي‪ :‬مطيعات لله تعالى } َ‬ ‫َقان َِتا ٌ‬
‫لزواجهن حتى في الغيب تحفظ بعلها بنفسها وماله‪ ،‬وذلك بحفظ الله لهن‬
‫وتوفيقه لهن‪ ،‬ل من أنفسهن‪ ،‬فإن النفس أمارة بالسوء‪ ،‬ولكن من توكل‬
‫على الله كفاه ما أهمه من أمر دينه ودنياه‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬ارتفاعهن عن طاعة أزواجهن‬ ‫شوَزهُ ّ‬ ‫ن نُ ُ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫ثم قال‪َ } :‬واللِتي ت َ َ‬
‫ن{‬ ‫ظوهُ ّ‬ ‫بأن تعصيه بالقول أو الفعل فإنه يؤدبها بالسهل فالسهل‪ } ،‬فَعِ ُ‬
‫أي‪ :‬ببيان حكم الله في طاعة الزوج ومعصيته والترغيب في الطاعة‪،‬‬
‫والترهيب من معصيته‪ ،‬فإن انتهت فذلك المطلوب‪ ،‬وإل فيهجرها الزوج‬
‫في المضجع‪ ،‬بأن ل يضاجعها‪ ،‬ول يجامعها بمقدار ما يحصل به المقصود‪،‬‬
‫وإل ضربها ضرًبا غير مبرح‪ ،‬فإن حصل المقصود بواحد من هذه المور‬
‫سِبيل { أي‪ :‬فقد حصل لكم ما تحبون فاتركوا‬ ‫ن َ‬ ‫وأطعنكم } َفل ت َب ُْغوا عَل َي ْهِ ّ‬
‫معاتبتها على المور الماضية‪ ،‬والتنقيب عن العيوب التي يضر ذكرها‬
‫ويحدث بسببه الشر‪.‬‬
‫ن عَل ِّيا كِبيًرا { أي‪ :‬له العلو المطلق بجميع الوجوه‬ ‫َ‬ ‫كا َ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫والعتبارات‪ ،‬علو الذات وعلو القدر وعلو القهر الكبير الذي ل أكبر منه ول‬
‫أجل ول أعظم‪ ،‬كبير الذات والصفات‪.‬‬

‫) ‪(1/177‬‬

‫دا‬ ‫قاقَ بين ِهما َفابعُثوا حك َما من أ َهْل ِه وحك َما م َ‬


‫ري َ‬
‫ن يُ ِ‬
‫ن أهْل َِها إ ِ ْ‬
‫ِ َ َ ً ِ ْ‬ ‫َ ً ِ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َْ ِ َ‬ ‫ش َ‬
‫م ِ‬ ‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫وَإ ِ ْ‬
‫ه َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫خِبيًرا )‪(35‬‬
‫ما َ‬ ‫ن عَِلي ً‬
‫كا َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ما إ ِ ّ‬
‫ه ب َي ْن َهُ َ‬
‫ق الل ُ‬‫حا ي ُوَفّ ِ‬‫صل ً‬ ‫إِ ْ‬
‫ن أ َهْل َِها‬
‫م ْ‬ ‫حك َ ً‬
‫ما ِ‬
‫قاقَ بين ِهما َفابعُثوا حك َما م َ‬
‫ن أهْل ِهِ وَ َ‬‫َ ً ِ ْ‬ ‫َْ‬ ‫َْ ِ َ‬ ‫ش َ‬‫م ِ‬‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬
‫ن ِ‬‫} ‪ } { 35‬وَإ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫خِبيًرا { ‪.‬‬ ‫ما َ‬ ‫ن عَِلي ً‬‫ه كا َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ما إ ِ ّ‬‫ه ب َي ْن َهُ َ‬
‫ق الل ُ‬‫حا ي ُوَفّ ِ‬‫صل ً‬ ‫دا إ ِ ْ‬
‫ري َ‬
‫ن يُ ِ‬
‫إِ ْ‬
‫أي‪ :‬وإن خفتم الشقاق بين الزوجين والمباعدة والمجانبة حتى يكون كل‬
‫ن أ َهْل َِها { أي‪ :‬رجلين‬ ‫م ْ‬‫ما ِ‬ ‫حك َ ً‬
‫منهما في شق } َفابعُثوا حك َما م َ‬
‫ن أهْل ِهِ وَ َ‬ ‫َ ً ِ ْ‬ ‫َْ‬
‫مكلفين مسلمين عدلين عاقلين يعرفان ما بين الزوجين‪ ،‬ويعرفان الجمع‬
‫والتفريق‪ .‬وهذا مستفاد من لفظ "الحكم" لنه ل يصلح حكما إل من اتصف‬
‫بتلك الصفات‪.‬‬
‫فينظران ما ينقم كل منهما على صاحبه‪ ،‬ثم يلزمان كل منهما ما يجب‪،‬‬
‫فإن لم يستطع أحدهما ذلك‪ ،‬قّنعا الزوج الخر بالرضا بما تيسر من الرزق‬
‫والخلق‪ ،‬ومهما أمكنهما الجمع والصلح فل يعدل عنه‪.‬‬
‫فإن وصلت الحال إلى أنه ل يمكن اجتماعهما وإصلحهما إل على وجه‬
‫المعاداة والمقاطعة ومعصية الله‪ ،‬ورأيا أن التفريق بينهما أصلح‪ ،‬فرقا‬
‫بينهما‪ .‬ول يشترط رضا الزوج‪ ،‬كما يدل عليه أن الله سماهما حكمين‪،‬‬
‫دا‬
‫ري َ‬
‫ن يُ ِ‬
‫والحكم يحكم ولو )‪ (1‬لم يرض المحكوم عليه‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬إ ِ ْ‬
‫ما { أي‪ :‬بسبب الرأي الميمون والكلم الذي يجذب‬ ‫ق الل ّ ُ‬
‫ه ب َي ْن َهُ َ‬ ‫حا ي ُوَفّ ِ‬
‫صل ً‬
‫إِ ْ‬
‫القلوب ويؤلف بين القرينين‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬وإن‪.‬‬

‫) ‪(1/177‬‬

‫قْرَبى َوال ْي ََتا َ‬


‫مى‬ ‫ذي ال ْ ُ‬ ‫ساًنا وَب ِ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫وال ِد َي ْ ِ‬‫شي ًْئا وَِبال ْ َ‬ ‫كوا ب ِهِ َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ه وََل ت ُ ْ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫َواعْب ُ ُ‬
‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َوال ْ َ‬
‫ب َواب ْ ِ‬‫جن ْ ِ‬‫ب ِبال َ‬ ‫ح ِ‬ ‫صا ِ‬ ‫ب َوال ّ‬ ‫جن ُ ِ‬ ‫جارِ ال ُ‬ ‫قْرَبى َوال َ‬ ‫جارِ ِذي ال ُ‬
‫َ‬
‫ن َوال َ‬ ‫كي ِ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬
‫خوًرا )‪(36‬‬ ‫خَتاًل فَ ُ‬ ‫م ْ‬‫ن ُ‬ ‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َل ي ُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫مان ُك ُ ْ‬
‫م إِ ّ‬ ‫ت أي ْ َ‬ ‫مل َك َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ال ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ه‬
‫ضل ِ ِ‬‫ن فَ ْ‬ ‫م ْ‬‫ه ِ‬ ‫م الل ُ‬ ‫ما آَتاهُ ُ‬ ‫ن َ‬‫مو َ‬ ‫ْ‬
‫ل وَي َكت ُ ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫س ِبالب ُ ْ‬‫ن الّنا َ‬ ‫مُرو َ‬ ‫ن وَي َأ ُ‬ ‫خلو َ‬ ‫ن ي َب ْ َ‬‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫مِهيًنا )‪(37‬‬ ‫ذاًبا ُ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫وَأ َعْت َد َْنا ل ِل ْ َ‬

‫ما بجميع الظواهر والبواطن‪ ،‬مطلعا‬ ‫خِبيًرا { أي‪ :‬عال ً‬ ‫ما َ‬ ‫ن عَِلي ً‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫} إِ ّ‬
‫على خفايا المور وأسرارها‪ .‬فمن علمه وخبره أن شرع لكم هذه الحكام‬
‫الجليلة والشرائع الجميلة‪ ] .‬ص ‪[ 178‬‬
‫ذي‬ ‫ساًنا وَب ِ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫ْ‬
‫شي ًْئا وَِبال َ‬ ‫شرِكوا ب ِهِ َ‬ ‫ُ‬ ‫ه َول ت ُ ْ‬ ‫دوا الل ّ َ‬
‫وال ِد َي ْ ِ‬ ‫} ‪َ } { 38 - 36‬واعْب ُ ُ‬
‫ب‬‫ح ِ‬ ‫صا ِ‬ ‫ب َوال ّ‬ ‫جن ُ ِ‬ ‫ْ‬
‫جارِ ال ُ‬ ‫ْ‬
‫قْرَبى َوال َ‬ ‫ْ‬
‫جارِ ِذي ال ُ‬ ‫ْ‬
‫ن َوال َ‬ ‫كي‬‫سا ِ‬‫م َ‬ ‫مى َوال ْ َ‬ ‫قْرَبى َوال ْي ََتا َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫خَتال‬ ‫م ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫م إِ ّ‬ ‫مان ُك ُ ْ‬ ‫ت أي ْ َ‬ ‫مل َك َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ب َواب ْ ِ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫جن ْ ِ‬
‫ْ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬‫ما آَتاهُ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ل وَي َك ْت ُ ُ‬ ‫س ِبال ْب ُ ْ‬
‫خ ِ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫مُرو َ‬ ‫ن وَي َأ ُ‬ ‫خُلو َ‬ ‫ن ي َب ْ َ‬
‫ذي َ‬ ‫خوًرا * ال ّ ِ‬ ‫فَ ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ضل ِهِ وَأعْت َد َْنا ل ِل َ‬
‫مِهيًنا { ‪.‬‬ ‫ذاًبا ُ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫فَ ْ‬
‫يأمر تعالى عباده بعبادته وحده ل شريك له‪ ،‬وهو الدخول تحت رق‬
‫عبوديته‪ ،‬والنقياد لوامره ونواهيه‪ ،‬محبة وذل وإخلصا له‪ ،‬في جميع‬
‫العبادات الظاهرة والباطنة‪.‬‬
‫وينهى عن الشرك به شيئا ل شركا أصغر ول أكبر‪ ،‬ل ملكا ول نبيا ول وليا‬
‫ول غيرهم من المخلوقين الذين ل يملكون لنفسهم نفعا ول ضرا ول موتا‬
‫ول حياة ول نشورا‪ ،‬بل الواجب المتعين إخلص العبادة لمن له الكمال‬
‫المطلق من جميع الوجوه‪ ،‬وله التدبير الكامل الذي ل يشركه ول يعينه‬
‫عليه أحد‪ .‬ثم بعد ما أمر بعبادته والقيام بحقه أمر بالقيام بحقوق العباد‬
‫ساًنا { أي‪ :‬أحسنوا إليهم بالقول‬ ‫ح َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫وال ِد َي ْ ِ‬ ‫القرب فالقرب‪ .‬فقال‪ } :‬وَِبال ْ َ‬
‫الكريم والخطاب اللطيف والفعل الجميل بطاعة أمرهما واجتناب نهيهما‬
‫والنفاق عليهما وإكرام من له تعلق بهما وصلة الرحم التي ل رحم لك إل‬
‫م الحسان‪ .‬وكلهما منهي عنه‪.‬‬ ‫بهما‪ .‬وللحسان ضدان‪ ،‬الساءةُ وعد ُ‬
‫قْرَبى { أيضا إحسانا‪ ،‬ويشمل ذلك جميع القارب‪ ،‬قربوا أو‬ ‫ذي ال ْ ُ‬ ‫} وَب ِ ِ‬
‫بعدوا‪ ،‬بأن يحسن إليهم بالقول والفعل‪ ،‬وأن ل يقطع برحمه بقوله أو‬
‫فعله‪.‬‬
‫مى { أي‪ :‬الذين فقدوا آباءهم )‪ (1‬وهم صغار‪ ،‬فلهم حق على‬ ‫} َوال ْي ََتا َ‬
‫المسلمين‪ ،‬سواء كانوا أقارب أو غيرهم بكفالتهم وبرهم وجبر خواطرهم‬
‫وتأديبهم‪ ،‬وتربيتهم أحسن تربية في مصالح دينهم ودنياهم‪.‬‬
‫كين { وهم الذين أسكنتهم الحاجة والفقر‪ ،‬فلم يحصلوا على‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫} َوال ْ َ‬
‫كفايتهم‪ ،‬ول كفاية من يمونون‪ ،‬فأمر الله تعالى بالحسان إليهم‪ ،‬بسد‬
‫خلتهم وبدفع فاقتهم‪ ،‬والحض على ذلك‪ ،‬والقيام بما يمكن منه‪.‬‬
‫قْرَبى { أي‪ :‬الجار القريب الذي له حقان حق الجوار وحق‬ ‫جارِ ِذي ال ْ ُ‬ ‫} َوال ْ َ‬
‫القرابة‪ ،‬فله على جاره حق وإحسان راجع إلى العرف‪ } .‬وَ { كذلك‬
‫ب { أي‪ :‬الذي ليس له قرابة‪ .‬وكلما كان الجار أقرب باًبا كان‬ ‫جن ُ ِ‬ ‫جارِ ال ْ ُ‬ ‫} ال ْ َ‬
‫قا‪ ،‬فينبغي للجار أن يتعاهد جاره بالهدية والصدقة والدعوة واللطافة‬ ‫آكد ح ّ‬
‫بالقوال والفعال وعدم أذيته بقول أو فعل‪.‬‬
‫ب { قيل‪ :‬الرفيق في السفر‪ ،‬وقيل‪ :‬الزوجة‪ ،‬وقيل‬ ‫جن ْ ِ‬‫ب ِبال ْ َ‬ ‫ح ِ‬ ‫صا ِ‬ ‫} َوال ّ‬
‫الصاحب مطلقا‪ ،‬ولعله أولى‪ ،‬فإنه يشمل الصاحب في الحضر والسفر‬
‫ويشمل الزوجة‪ .‬فعلى الصاحب لصاحبه حق زائد على مجرد إسلمه‪ ،‬من‬
‫مساعدته على أمور دينه ودنياه‪ ،‬والنصح له؛ والوفاء معه في اليسر‬
‫والعسر‪ ،‬والمنشط والمكره‪ ،‬وأن يحب له ما يحب لنفسه‪ ،‬ويكره له ما‬
‫يكره لنفسه‪ ،‬وكلما زادت الصحبة تأكد الحق وزاد‪.‬‬
‫ل { وهو‪ :‬الغريب الذي احتاج في بلد الغربة أو لم يحتج‪ ،‬فله‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫} َواب ْ ِ‬
‫حق على المسلمين لشدة حاجته وكونه في غير وطنه بتبليغه إلى‬
‫مقصوده أو بعض مقصوده ]وبإكرامه وتأنيسه[ )‪. (2‬‬
‫َ‬
‫م { ‪ :‬أي‪ :‬من الدميين والبهائم بالقيام بكفايتهم وعدم‬ ‫مان ُك ُ ْ‬ ‫ت أي ْ َ‬ ‫مل َك َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫} وَ َ‬
‫تحميلهم ما يشق عليهم وإعانتهم على ما يتحملون‪ ،‬وتأديبهم لما فيه‬
‫مصلحتهم‪ .‬فمن قام بهذه المأمورات فهو الخاضع لربه‪ ،‬المتواضع لعباد‬
‫الله‪ ،‬المنقاد لمر الله وشرعه‪ ،‬الذي يستحق الثواب الجزيل والثناء‬
‫الجميل‪ ،‬ومن لم يقم بذلك فإنه عبد معرض عن ربه‪ ،‬غير منقاد لوامره‪،‬‬
‫ول متواضع للخلق‪ ،‬بل هو متكبر على عباد الله معجب بنفسه فخور بقوله‪،‬‬
‫خَتال { أي‪ :‬معجبا بنفسه متكبًرا‬ ‫م ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫ب َ‬‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ولهذا قال‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫خوًرا { يثني على نفسه ويمدحها على وجه الفخر والبطر‬ ‫على الخلق } فَ ُ‬
‫على عباد الله‪ ،‬فهؤلء ما بهم من الختيال والفخر يمنعهم من القيام‬
‫ن { أي‪ :‬يمنعون ما عليهم من‬ ‫خُلو َ‬ ‫ن ي َب ْ َ‬‫ذي َ‬ ‫بالحقوق‪ .‬ولهذا ذمهم بقوله‪ } :‬ال ّ ِ‬
‫ْ‬
‫ل { بأقوالهم وأفعالهم‬ ‫خ ِ‬ ‫س ِبال ْب ُ ْ‬‫ن الّنا َ‬ ‫مُرو َ‬ ‫الحقوق الواجبة‪ } .‬وَي َأ ُ‬
‫ضل ِهِ { أي‪ :‬من العلم الذي يهتدي به‬ ‫ن فَ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ما آَتاهُ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫} وَي َك ْت ُ ُ‬
‫الضالون ويسترشد به الجاهلون فيكتمونه عنهم‪ ،‬ويظهرون لهم من‬
‫الباطل ما يحول بينهم وبين الحق‪ .‬فجمعوا بين البخل بالمال والبخل‬
‫بالعلم‪ ،‬وبين السعي في خسارة أنفسهم وخسارة غيرهم‪ ،‬وهذه هي‬
‫مِهيًنا { أي‪:‬‬ ‫ن عَ َ‬
‫ذاًبا ُ‬ ‫ري َ‬ ‫صفات الكافرين‪ ،‬فلهذا قال تعالى‪ } :‬وَأ َعْت َد َْنا ل ِل ْ َ‬
‫كافِ ِ‬
‫كما تكبروا على عباد الله ومنعوا حقوقه وتسببوا في منع غيرهم من البخل‬
‫ذا بك اللهم من‬ ‫وعدم الهتداء‪ ،‬أهانهم بالعذاب الليم والخزي الدائم‪ .‬فعيا ً‬
‫كل سوء‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬الذين فقد آباؤهم‪.‬‬
‫)‪ (2‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫) ‪(1/177‬‬

‫ن ِبالل ّهِ وََل ِبال ْي َوْم ِ اْل َ ِ‬ ‫قو َ‬


‫ن‬
‫م ْ‬
‫خرِ وَ َ‬ ‫س وََل ي ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫وال َهُ ْ‬
‫م رَِئاَء الّنا ِ‬ ‫م َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ف ُ َ‬ ‫ن ي ُن ْ ِ‬ ‫َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ريًنا )‪(38‬‬ ‫ساَء قَ ِ‬
‫ريًنا فَ َ‬ ‫ه قَ ِ‬‫ن لَ ُ‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ُ‬ ‫ن ال ّ‬‫ي َك ُ ِ‬
‫ن ِبالل ّهِ َول ِبال ْي َوْم ِ ال ِ‬ ‫قو َ‬
‫ر‬
‫خ ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫س َول ي ُؤْ ِ‬ ‫م رَِئاَء الّنا ِ‬ ‫وال َهُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ف ُ َ‬‫ن ي ُن ْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫ريًنا { ‪.‬‬ ‫ساَء قَ ِ‬ ‫ريًنا فَ َ‬‫ه قَ ِ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫طا ُ‬‫شي ْ َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫ن ي َك ُ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ َ‬
‫ثم أخبر عن النفقة الصادرة عن رياء وسمعة وعدم إيمان به فقال‪:‬‬
‫قو َ‬
‫س { أي‪ :‬ليروهم ويمدحوهم‬ ‫م رَِئاَء الّنا ِ‬ ‫وال َهُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ف ُ َ‬‫ن ي ُن ْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫خرِ { أي‪ :‬ليس إنفاقهم صادرا‬ ‫ن ِبالل ّهِ َول ِبال ْي َوْم ِ ال ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ويعظموهم } َول ي ُؤْ ِ‬
‫عن إخلص وإيمان بالله ورجاء ثوابه‪ .‬أي‪ :‬فهذا من خطوات الشيطان‬
‫وأعماله التي يدعو حزبه إليها ليكونوا من أصحاب السعير‪ .‬وصدرت منهم‬
‫ريًنا‬‫ه قَ ِ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ُ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن ي َك ُ ِ‬‫م ْ‬‫بسبب مقارنته لهم وأزهم إليها فلهذا قال‪ } :‬وَ َ‬
‫ريًنا { أي‪ :‬بئس المقارن والصاحب الذي يريد إهلك من قارنه‬ ‫ساَء قَ ِ‬ ‫فَ َ‬
‫ويسعى فيه أشد السعي‪.‬‬
‫ن به الله عليه‬ ‫م ّ‬ ‫فكما أن من بخل بما آتاه الله‪ ] ،‬ص ‪ [ 179‬وكتم ما َ‬
‫عاص آثم مخالف لربه‪ ،‬فكذلك من أنفق وتعبد لغير الله فإنه آثم عاص‬
‫لربه مستوجب للعقوبة‪ ،‬لن الله إنما أمر بطاعته وامتثال أمره على وجه‬
‫ُ‬
‫ن{‬ ‫دي َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫ن لَ ُ‬‫صي َ‬‫خل ِ ِ‬
‫م ْ‬‫ه ُ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫مُروا ِإل ل ِي َعْب ُ ُ‬ ‫ما أ ِ‬‫الخلص‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫فهذا العمل المقبول الذي يستحق صاحبه المدح والثواب فلهذا حث تعالى‬
‫عليه بقوله‪:‬‬

‫) ‪(1/178‬‬

‫ن الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫كا َ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ه وَ َ‬ ‫ما َرَزقَهُ ُ‬
‫م ّ‬
‫قوا ِ‬ ‫خرِ وَأ َن ْ َ‬
‫ف ُ‬ ‫مُنوا ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ اْل َ ِ‬ ‫َ‬
‫م ل َوْ آ َ‬
‫ذا عَل َي ْهِ ْ‬
‫ما َ‬‫وَ َ‬
‫ما )‪(39‬‬ ‫م عَِلي ً‬ ‫ب ِهِ ْ‬

‫م الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ما َرَزقَهُ ُ‬
‫م ّ‬
‫قوا ِ‬ ‫خرِ وَأ َن ْ َ‬
‫ف ُ‬ ‫مُنوا ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬
‫م ل َوْ آ َ‬
‫ذا عَل َي ْهِ ْ‬‫ما َ‬
‫} ‪ } { 39‬وَ َ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫م عَِلي ً‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫ه ب ِهِ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫كا َ‬
‫أي‪ :‬أي شيء عليهم وأي حرج ومشقة تلحقهم لو حصل منهم اليمان بالله‬
‫الذي هو الخلص‪ ،‬وأنفقوا من أموالهم التي رزقهم الله وأنعم بها عليهم‬
‫فجمعوا بين الخلص والنفاق‪ ،‬ولما كان الخلص سّرا بين العبد وبين ربه‪،‬‬
‫ن الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ل يطلع عليه إل الله أخبر تعالى بعلمه بجميع الحوال فقال‪ } :‬وَ َ‬
‫كا َ‬
‫ما {‬ ‫م عَِلي ً‬‫ب ِهِ ْ‬
‫) ‪(1/179‬‬
‫فها ويؤْت من ل َدن َ‬
‫جًرا‬‫هأ ْ‬ ‫ع ْ َ َُ ِ ِ ْ ُْ ُ‬ ‫ضا ِ‬
‫ة يُ َ‬
‫سن َ ً‬‫ح َ‬ ‫ك َ‬ ‫ن تَ ُ‬‫ل ذ َّرةٍ وَإ ِ ْ‬ ‫قا َ‬‫مث ْ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ه َل ي َظ ْل ِ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫إِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جئ َْنا ب ِك عَلى هَؤُلِء َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫دا‬
‫شِهي ً‬ ‫مة ٍ ب ِ َ‬
‫شِهيدٍ وَ ِ‬ ‫لأ ّ‬ ‫نك ّ‬ ‫م ْ‬ ‫جئ َْنا ِ‬
‫ذا ِ‬ ‫ف إِ َ‬‫ما )‪ (40‬فَكي ْ َ‬ ‫ظي ً‬
‫عَ ِ‬
‫ض وَلَ‬ ‫ل ل َو ت ُسوى بهم اْلرَ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ْ ُ‬ ‫سو َ ْ َ ّ ِ ِ ُ‬ ‫وا الّر ُ‬ ‫ص ُ‬‫فُروا وَعَ َ‬ ‫نك َ‬ ‫ذي َ‬ ‫مئ ِذٍ ي َوَد ّ ال ِ‬ ‫)‪ (41‬ي َوْ َ‬
‫ديًثا )‪(42‬‬ ‫ح ِ‬‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫مو َ‬ ‫ي َك ْت ُ ُ‬

‫فَها وَي ُؤْ ِ‬


‫ت‬ ‫ع ْ‬‫ضا ِ‬ ‫ة يُ َ‬ ‫سن َ ً‬ ‫ح َ‬ ‫ك َ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫ل ذ َّرةٍ وَإ ِ ْ‬ ‫قا َ‬ ‫مث ْ َ‬‫م ِ‬ ‫ه ل ي َظ ْل ِ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} ‪ } { 42 - 40‬إ ِ ّ‬
‫ك عََلى‬ ‫جئ َْنا ب ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫ما * فَك َي ْ َ‬ ‫من ل َدن َ‬
‫شِهيدٍ وَ ِ‬ ‫مةٍ ب ِ َ‬ ‫لأ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫جئ َْنا ِ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ف إِ َ‬ ‫ظي ً‬ ‫جًرا عَ ِ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ِ ْ ُْ ُ‬
‫م‬‫وى ب ِهِ ُ‬ ‫س ّ‬‫سول لوْ ت ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وا الّر ُ‬ ‫ص ُ‬ ‫فُروا وَعَ َ‬ ‫َ‬
‫نك َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫مئ ِذٍ ي َوَد ّ ال ِ‬ ‫دا * ي َوْ َ‬ ‫شِهي ً‬ ‫ؤلِء َ‬ ‫هَ ُ‬
‫ديًثا { ‪.‬‬ ‫ح ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫مو َ‬ ‫ْ‬
‫ض َول ي َكت ُ ُ‬ ‫الْر ُ‬
‫يخبر تعالى عن كمال عدله وفضله وتنزهه عما يضاد ذلك من الظلم‬
‫ل ذ َّرةٍ { أي‪ :‬ينقصها من‬ ‫قا َ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ل ي َظ ْل ِ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫القليل والكثير فقال‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫قا َ‬
‫ل‬ ‫مث ْ َ‬‫ل ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫حسنات عبده أو يزيدها في سيئاته‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬فَ َ‬
‫شّرا ي ََرهُ {‬ ‫ل ذ َّرةٍ َ‬ ‫قا َ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫ل ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫خي ًْرا ي ََرهُ * وَ َ‬ ‫ذ َّرةٍ َ‬
‫فَها { أي إلى عشرة أمثالها إلى أكثر من ذلك‬ ‫ع ْ‬ ‫ضا ِ‬ ‫ة يُ َ‬ ‫سن َ ً‬‫ح َ‬ ‫ك َ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫} وَإ ِ ْ‬
‫بحسب حالها ونفعها وحال صاحبها إخلصا ومحبة وكمال‬
‫ما { أي زيادة على ثواب العمل بنفسه من‬ ‫} ويؤْت من ل َدن َ‬
‫ظي ً‬ ‫جًرا عَ ِ‬ ‫هأ ْ‬ ‫َُ ِ ِ ْ ُْ ُ‬
‫التوفيق لعمال أخر وإعطاء البر الكثير والخير الغزير‬
‫ك عََلى هَ ُ‬ ‫جئ َْنا ب ِ َ‬ ‫مة ٍ ب ِ َ‬ ‫ذا جئ ْنا من ك ُ ّ ُ‬ ‫ثم قال تعالى } فَك َي ْ َ‬
‫ؤلِء‬ ‫شِهيدٍ وَ ِ‬ ‫لأ ّ‬ ‫ف إِ َ ِ َ ِ ْ‬
‫دا { أي كيف تكون تلك الحوال وكيف يكون ذلك الحكم العظيم الذي‬ ‫شِهي ً‬ ‫َ‬
‫ل العدل كامل الحكمة بشهادة أزكى‬ ‫ل العلم كام ُ‬ ‫جمع أن من حكم به كام ُ‬
‫الخلق وهم الرسل على أممهم مع إقرار المحكوم عليه؟" فهذا ‪-‬والله‪-‬‬
‫الحكم الذي هو أعم الحكام وأعدلها وأعظمها‬
‫وهناك يبقى المحكوم عليهم مقرين له لكمال الفضل والعدل والحمد‬
‫والثناء وهناك يسعد أقوام بالفوز والفلح والعز والنجاح ويشقى أقوام‬
‫بالخزي والفضيحة والعذاب المهين‬
‫ل { أي جمعوا بين‬ ‫سو َ‬ ‫وا الّر ُ‬ ‫ص ُ‬ ‫فُروا وَعَ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫مئ ِذٍ ي َوَد ّ ال ّ ِ‬ ‫ولهذا قال } ي َوْ َ‬
‫ض { أي‬ ‫م الْر ُ‬ ‫وى ب ِهِ ُ‬ ‫س ّ‬ ‫َ‬
‫الكفر بالله وبرسوله ومعصيةِ الرسول } لوْ ت ُ َ‬
‫ت‬ ‫َ‬
‫كافُِر َيا لي ْت َِني ك ُن ْ ُ‬ ‫ْ‬
‫ل ال َ‬ ‫قو ُ‬ ‫تبتلعهم ويكونون ترابا وعدما كما قال تعالى } وَي َ ُ‬
‫ديًثا { أي بل يقرون له بما عملوا وتشهد‬ ‫ح ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ت َُراًبا { } َول ي َك ْت ُ ُ‬
‫عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون يومئذ يوفيهم الله‬
‫جزاءهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين‬
‫فأما ما ورد من أن الكفار يكتمون كفرهم وجحودهم فإن ذلك يكون في‬
‫بعض مواضع القيامة حين يظنون أن جحودهم ينفعهم من عذاب الله فإذا‬
‫عرفوا الحقائق وشهدت عليهم جوارحهم حينئذ ينجلي المر ول يبقى‬
‫للكتمان موضع ول نفع ول فائدة‪.‬‬

‫) ‪(1/179‬‬

‫ن وََل‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫قوُلو َ‬
‫ما ت َ ُ‬ ‫حّتى ت َعْل َ ُ‬
‫موا َ‬ ‫كاَرى َ‬‫س َ‬
‫م ُ‬‫صَلةَ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫مُنوا َل ت َ ْ‬
‫قَرُبوا ال ّ‬ ‫نآ َ‬‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫عابري سبيل حتى تغْتسُلوا وإن ك ُنتم مرضى أ َو عََلى س َ َ‬
‫جاَء‬
‫فرٍ أوْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َِ ْ ُْ ْ َ ْ َ‬ ‫َ ِ ٍ َ ّ َ َ ِ‬ ‫جن ًُبا إ ِّل َ ِ ِ‬
‫ُ‬
‫دا ط َي ًّبا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫صِعي ً‬
‫موا َ‬ ‫ماًء فَت َي َ ّ‬
‫م ُ‬ ‫دوا َ‬‫ج ُ‬
‫م تَ ِ‬‫ساَء فَل َ ْ‬
‫م الن ّ َ‬‫ست ُ ُ‬
‫م ْ‬‫ط أوْ َل َ‬ ‫ن ال َْغائ ِ ِ‬
‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫حد ٌ ِ‬‫أ َ‬
‫َ‬
‫فوًرا )‪(43‬‬ ‫وا غَ ُ‬‫ف ّ‬
‫ن عَ ُ‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ديك ُ ْ‬
‫م إِ ّ‬ ‫م وَأي ْ ِ‬‫جوهِك ُ ْ‬ ‫حوا ب ِوُ ُ‬ ‫س ُ‬ ‫م َ‬‫َفا ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫موا َ‬ ‫حّتى ت َعْل َ ُ‬ ‫كاَرى َ‬ ‫س َ‬ ‫م ُ‬ ‫صلةَ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫قَرُبوا ال ّ‬ ‫مُنوا ل ت َ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 43‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ضى أ َوْ عََلى‬ ‫مْر َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫سُلوا وَإ ِ ْ‬ ‫حّتى ت َغْت َ ِ‬ ‫ل َ‬ ‫سِبي ٍ‬‫ري َ‬ ‫عاب ِ ِ‬ ‫جن ًُبا ِإل َ‬ ‫ن َول ُ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫تَ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ماًء‬ ‫دوا َ‬ ‫ج ُ‬ ‫م تَ ِ‬ ‫ساَء فَل َ ْ‬ ‫م الن ّ َ‬ ‫ست ُ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ط أوْ ل َ‬ ‫ن ال َْغائ ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫حد ٌ ِ‬ ‫جاَء أ َ‬ ‫فرٍ أوْ َ‬ ‫س َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وا‬
‫ف ّ‬ ‫ن عَ ُ‬ ‫ه كا َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ديك ْ‬ ‫م وَأي ْ ِ‬ ‫جوهِك ْ‬ ‫حوا ب ِوُ ُ‬ ‫س ُ‬ ‫م َ‬ ‫دا طي ًّبا فا ْ‬ ‫صِعي ً‬ ‫موا َ‬ ‫م ُ‬‫فَت َي َ ّ‬
‫فوًرا { ‪.‬‬ ‫غَ ُ‬
‫ينهى تعالى عباده المؤمنين أن يقربوا الصلة وهم سكارى‪ ،‬حتى يعلموا ما‬
‫كن‬ ‫يقولون‪ ،‬وهذا شامل لقربان مواضع الصلة‪ ،‬كالمسجد‪ ،‬فإنه ل يم ّ‬
‫السكران من دخوله‪ .‬وشامل لنفس الصلة‪ ،‬فإنه ل يجوز للسكران صلة‬
‫ول عبادة‪ ،‬لختلط عقله وعدم علمه بما يقول‪ ،‬ولهذا حدد تعالى ذلك‬
‫وغياه إلى وجود العلم بما يقول السكران‪ .‬وهذه الية الكريمة منسوخة‬
‫بتحريم الخمر مطلقا‪ ،‬فإن الخمر ‪-‬في أول المر‪ -‬كان غير محرم‪ ،‬ثم إن‬
‫ر‬
‫س ِ‬ ‫مي ْ ِ‬ ‫مرِ َوال ْ َ‬ ‫خ ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫ك عَ ِ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬ ‫الله تعالى عرض لعباده بتحريمه بقوله‪ } :‬ي َ ْ‬
‫َ‬
‫ما {‬ ‫فعِهِ َ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ما أك ْب َُر ِ‬ ‫مه ُ َ‬ ‫س وَإ ِث ْ ُ‬ ‫مَنافِعُ ِللّنا ِ‬ ‫م ك َِبيٌر وَ َ‬ ‫ما إ ِث ْ ٌ‬ ‫ل ِفيهِ َ‬ ‫قُ ْ‬
‫ثم إنه تعالى نهاهم عن الخمر عند حضور الصلة كما في هذه الية‪ ،‬ثم إنه‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫تعالى حرمه على الطلق في جميع الوقات في قوله‪َ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ن‬
‫طا ِ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫م ِ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ج ٌ‬ ‫م رِ ْ‬ ‫ب َوالْزل ُ‬ ‫صا ُ‬ ‫سُر َوالن ْ َ‬ ‫مي ْ ِ‬ ‫مُر َوال ْ َ‬ ‫خ ْ‬ ‫ما ال ْ َ‬ ‫مُنوا إ ِن ّ َ‬ ‫آ َ‬
‫جت َن ُِبوهُ { الية‪.‬‬ ‫َفا ْ‬
‫ومع هذا فإنه يشتد تحريمه وقت حضور الصلة لتضمنه هذه المفسدة‬
‫العظيمة‪ ،‬بعد حصول مقصود الصلة الذي هو روحها ولبها وهو الخشوع‬
‫وحضور القلب‪ ،‬فإن الخمر يسكر القلب‪ ،‬ويصد عن ذكر الله وعن الصلة‪،‬‬
‫ويؤخذ من المعنى منع الدخول في الصلة في حال النعاس المفرط‪ ،‬الذي‬
‫ل يشعر صاحبه بما يقول ويفعل‪ ،‬بل لعل فيه إشارة إلى أنه ينبغي لمن‬
‫أراد الصلة أن يقطع عنه كل شاغل يشغل فكره‪ ،‬كمدافعة الخبثين‬
‫والتوق لطعام ونحوه كما ورد في ذلك الحديث الصحيح‪.‬‬
‫ل { أي‪ :‬ل تقربوا الصلة حالة كون‬ ‫سِبي ٍ‬ ‫ري َ‬ ‫عاب ِ ِ‬ ‫جن ًُبا ِإل َ‬ ‫ثم قال‪َ } :‬ول ُ‬
‫أحدكم جنبا‪ ،‬إل في هذه الحال وهو عابر السبيل أي‪ :‬تمرون في المسجد‬
‫سُلوا { أي‪ :‬فإذا اغتسلتم فهو غاية المنع من‬ ‫حّتى ت َغْت َ ِ‬ ‫ول تمكثون فيه‪َ } ،‬‬
‫قربان الصلة للجنب‪ ،‬فيحل للجنب المرور في المسجد فقط‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫} وإن ك ُنتم مرضى أ َو عََلى س َ َ‬
‫م‬
‫ست ُ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ط أو ْ ل َ‬ ‫ن ال َْغائ ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫حد ٌ ِ‬ ‫جاَء أ َ‬ ‫فرٍ أوْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َِ ْ ُْ ْ َ ْ َ‬
‫موا { ] ص ‪[ 180‬‬ ‫م ُ‬ ‫َ‬
‫ماًء فت َي َ ّ‬ ‫دوا َ‬ ‫ج ُ‬ ‫م تَ ِ‬ ‫ساَء فَل َ ْ‬ ‫الن ّ َ‬
‫قا مع وجود الماء وعدمه‪ ،‬والعلة المرض الذي‬ ‫فأباح التيمم للمريض مطل ً‬
‫يشق معه استعمال الماء‪ ،‬وكذلك السفر فإنه مظنة فقد الماء‪ ،‬فإذا فقده‬
‫المسافر أو وجد ما يتعلق بحاجته من شرب ونحوه‪ ،‬جاز له التيمم‪.‬‬
‫وكذلك إذا أحدث النسان ببول أو غائط أو ملمسة النساء‪ ،‬فإنه يباح له‬
‫التيمم إذا لم يجد الماء‪ ،‬حضًرا وسفًرا كما يدل على ذلك عموم الية‪.‬‬
‫والحاصل‪ :‬أن الله تعالى أباح التيمم في حالتين‪:‬‬
‫حال عدم الماء‪ ،‬وهذا مطلقا في الحضر والسفر‪ ،‬وحال المشقة باستعماله‬
‫بمرض ونحوه‪.‬‬
‫ساَء { هل المراد‬ ‫َ‬
‫م الن ّ َ‬ ‫ست ُ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫واختلف المفسرون في معنى قوله‪ } :‬أوْ ل َ‬
‫بذلك‪ :‬الجماع فتكون الية نصا في جواز التيمم للجنب‪ ،‬كما تكاثرت بذلك‬
‫الحاديث الصحيحة؟ أو المراد بذلك مجرد اللمس باليد‪ ،‬ويقيد ذلك بما إذا‬
‫كان مظنة خروج المذي‪ ،‬وهو المس الذي يكون لشهوة فتكون الية دالة‬
‫على نقض الوضوء بذلك؟‬
‫ماًء { بوجوب طلب الماء عند دخول‬ ‫دوا َ‬ ‫ج ُ‬ ‫م تَ ِ‬ ‫َ‬
‫واستدل الفقهاء بقوله‪ } :‬فَل ْ‬
‫الوقت‪ ،‬قالوا‪ :‬لنه ل يقال‪" :‬لم يجد" لمن لم يطلب‪ ،‬بل ل يكون ذلك إل‬
‫بعد الطلب‪ ،‬واستدل بذلك أيضا على أن الماء المتغير بشيء من‬
‫ماًء {‬‫دوا َ‬‫ج ُ‬ ‫الطاهرات يجوز بل يتعين التطهر به لدخوله في قوله‪ } :‬فَل َ ْ‬
‫م تَ ِ‬
‫وهذا ماء‪ .‬ونوزع في ذلك أنه ماء غير مطلق وفي ذلك نظر‪.‬‬
‫وفي هذه الية الكريمة مشروعية هذا الحكم العظيم الذي امتن به الله‬
‫على هذه المة‪ ،‬وهو مشروعية التيمم‪ ،‬وقد أجمع على ذلك العلماء ولله‬
‫الحمد‪ ،‬وأن التيمم يكون بالصعيد الطيب‪ ،‬وهو كل ما تصاعد على وجه‬
‫الرض سواء كان له غبار أم ل ويحتمل أن يختص ذلك بذي الغبار لن الله‬
‫َ‬
‫ه { وما ل غبار له ل يمسح به‪.‬‬ ‫من ْ ُ‬
‫م ِ‬ ‫ديك ُ ْ‬ ‫م وَأي ْ ِ‬ ‫جوهِك ُ ْ‬ ‫حوا ب ِوُ ُ‬‫س ُ‬‫م َ‬ ‫قال‪َ } :‬فا ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م { هذا محل المسح في التيمم‪:‬‬ ‫ديك ْ‬ ‫م وَأي ْ ِ‬ ‫جوهِك ْ‬ ‫حوا ب ِوُ ُ‬ ‫س ُ‬
‫م َ‬ ‫وقوله‪َ } :‬فا ْ‬
‫الوجه جميعه واليدان إلى الكوعين‪ ،‬كما دلت على ذلك الحاديث‬
‫الصحيحة‪ ،‬ويستحب أن يكون ذلك بضربة واحدة‪ ،‬كما دل على ذلك حديث‬
‫عمار‪ ،‬وفيه أن تيمم الجنب كتيمم غيره‪ ،‬بالوجه واليدين‪.‬‬
‫فائدة ‪:‬‬
‫اعلم أن قواعد الطب تدور على ثلث قواعد‪ :‬حفظ الصحة عن المؤذيات‪،‬‬
‫والستفراغ منها‪ ،‬والحمية عنها‪ .‬وقد نبه تعالى عليها في كتابه العزيز‪.‬‬
‫أما حفظ الصحة والحمية عن المؤذي‪ ،‬فقد أمر بالكل والشرب وعدم‬
‫السراف في ذلك‪ ،‬وأباح للمسافر والمريض الفطر حفظا لصحتهما‪،‬‬
‫باستعمال ما يصلح البدن على وجه العدل‪ ،‬وحماية للمريض عما يضره‪.‬‬
‫رم المتأذي برأسه أن يحلقه‬ ‫ح ِ‬ ‫وأما استفراغ المؤذي فقد أباح تعالى للم ْ‬
‫لزالة البخرة المحتقنة فيه‪ ،‬ففيه تنبيه على استفراغ ما هو أولى منها من‬
‫البول والغائط والقيء والمني والدم‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬نبه على ذلك ابن القيم‬
‫رحمه الله تعالى‪.‬‬
‫وفي الية وجوب تعميم مسح الوجه واليدين‪ ،‬وأنه يجوز التيمم ولو لم‬
‫يضق الوقت‪ ،‬وأنه ل يخاطب بطلب الماء إل بعد وجود سبب الوجوب والله‬
‫أعلم‪.‬‬
‫فوًرا { أي‪ :‬كثير العفو والمغفرة‬ ‫وا غَ ُ‬‫ف ّ‬ ‫ن عَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ثم ختم الية بقوله‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫لعباده المؤمنين‪ ،‬بتيسير ما أمرهم به‪ ،‬وتسهيله غاية التسهيل‪ ،‬بحيث ل‬
‫يشق على العبد امتثاله‪ ،‬فيحرج بذلك‪.‬‬
‫ومن عفوه ومغفرته أن رحم هذه المة بشرع طهارة التراب بدل الماء‪،‬‬
‫عند تعذر استعماله‪ .‬ومن عفوه ومغفرته أن فتح للمذنبين باب التوبة‬
‫والنابة ودعاهم إليه ووعدهم بمغفرة ذنوبهم‪ .‬ومن عفوه ومغفرته أن‬
‫المؤمن لو أتاه بقراب الرض خطايا ثم لقيه ل يشرك به شيئا‪ ،‬لتاه‬
‫بقرابها مغفرة‪.‬‬

‫) ‪(1/179‬‬
‫ة ويريدو َ‬ ‫أ َل َم تر إَلى ال ّذي ُ‬
‫ن‬
‫نأ ْ‬‫ضَلل َ َ َ ُ ِ ُ َ‬
‫ن ال ّ‬
‫شت َُرو َ‬ ‫ن ال ْك َِتا ِ‬
‫ب يَ ْ‬ ‫م َ‬
‫صيًبا ِ‬
‫ن أوُتوا ن َ ِ‬
‫ِ َ‬ ‫ْ ََ ِ‬
‫ل )‪(44‬‬ ‫ضّلوا ال ّ‬
‫سِبي َ‬ ‫تَ ِ‬

‫ضلل َ َ‬ ‫} ‪ } { 46 - 44‬أ َل َم تر إَلى ال ّذي ُ‬


‫ة‬ ‫ن ال ّ‬ ‫شت َُرو َ‬‫ب يَ ْ‬‫ن ال ْك َِتا ِ‬‫م َ‬
‫صيًبا ِ‬
‫ن أوُتوا ن َ ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫ْ ََ ِ‬ ‫ويريدو َ‬
‫ل{‪.‬‬ ‫سِبي َ‬‫ضّلوا ال ّ‬ ‫ن تَ ِ‬
‫نأ ْ‬‫َُ ِ ُ َ‬
‫ب { وفي ضمنه تحذير عباده عن‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ن الك َِتا ِ‬
‫م َ‬
‫صيًبا ِ‬‫هذا ذم لمن } أوُتوا ن َ ِ‬
‫ن‬ ‫الغترار بهم‪ ،‬والوقوع في أشراكهم‪ ،‬فأخبر أنهم في أنفسهم } ي َ ْ‬
‫شت َُرو َ‬
‫ة { أي‪ :‬يحبونها محبة عظيمة ويؤثرونها إيثار من يبذل المال الكثير‬ ‫ضلل َ َ‬
‫ال ّ‬
‫في طلب ما يحبه‪ .‬فيؤثرون الضلل على الهدى‪ ،‬والكفر على اليمان‪،‬‬
‫والشقاء على السعادة‪ ،‬ومع هذا } يريدو َ‬
‫ل{‪.‬‬ ‫سِبي َ‬‫ضّلوا ال ّ‬ ‫ن تَ ِ‬
‫نأ ْ‬ ‫ُ ِ ُ َ‬

‫) ‪(1/180‬‬

‫َ‬ ‫والل ّ َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫صيًرا )‪ِ (45‬‬ ‫فى ِبالل ّهِ ن َ ِ‬ ‫فى ِبالل ّهِ وَل ِّيا وَك َ َ‬ ‫م وَك َ َ‬ ‫دائ ِك ُ ْ‬ ‫م ب ِأعْ َ‬ ‫ه أعْل َ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫معْ غَي َْر‬ ‫َ ْ َ‬ ‫س‬ ‫وا‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ص‬‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ع‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫لو‬ ‫ُ‬ ‫قو‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ِ‬ ‫ع‬‫ض‬‫ِ‬ ‫وا‬
‫ْ َ َ‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫فو‬ ‫ُ‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫دوا‬ ‫ها ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫معَْنا وَأطعَْنا‬ ‫س ِ‬ ‫م َقالوا َ‬ ‫ن وَلوْ أن ّهُ ْ‬ ‫دي ِ‬ ‫م وَطعًْنا ِفي ال ّ‬ ‫سن َت ِهِ ْ‬ ‫عَنا لّيا ب ِأل ِ‬ ‫مٍع وََرا ِ‬ ‫س َ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫مُنو َ‬ ‫م فَل ي ُؤْ ِ‬ ‫ِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫ْ‬ ‫ف‬ ‫ك‬ ‫ب‬
‫ُ ِ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫م‬‫ُ ُ‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫و‬
‫ً ُ ْ َ َ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ق‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫را‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫خ‬‫َ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫كا‬ ‫ل‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ر‬
‫ْ‬ ‫ظ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫وا‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫وا‬
‫إ ِّل قَِليًل )‪(46‬‬
‫َ‬ ‫} والل ّ َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫صيًرا * ِ‬ ‫فى ِبالل ّهِ ن َ ِ‬ ‫فى ِبالل ّهِ وَل ِّيا وَك َ َ‬ ‫م وَك َ َ‬ ‫دائ ِك ُ ْ‬ ‫م ب ِأعْ َ‬ ‫ه أعْل َ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫معْ غَي َْر‬ ‫س َ‬ ‫صي َْنا َوا ْ‬ ‫معَْنا وَعَ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ن َ‬ ‫قولو َ‬ ‫ُ‬ ‫ضعِهِ وَي َ ُ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن َ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫ن الكل ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫حّرُفو َ‬ ‫دوا ي ُ َ‬ ‫ها ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫معَْنا وَأطعَْنا‬ ‫س ِ‬ ‫م َقالوا َ‬ ‫ن وَلوْ أن ّهُ ْ‬ ‫دي ِ‬ ‫م وَطعًْنا ِفي ال ّ‬ ‫سن َت ِهِ ْ‬ ‫عَنا لّيا ب ِأل ِ‬ ‫مٍع وََرا ِ‬ ‫س َ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬‫مُنو َ‬ ‫م َفل ي ُؤْ ِ‬ ‫ِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫ْ‬ ‫ف‬ ‫ك‬ ‫ب‬
‫ُ ِ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ُ ُ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫م‬
‫َ‬
‫ً ُ ْ َ َ َ‬‫و‬ ‫ْ‬ ‫ق‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫را‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫خ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫كا‬ ‫ل‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ر‬ ‫ْ‬ ‫ظ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫وا‬ ‫َ ْ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫وا‬
‫ِإل قَِليل { ‪.‬‬
‫فهم حريصون على إضللكم غاية الحرص‪ ،‬باذلون جهدهم في ذلك ‪.‬ولكن‬
‫لما كان الله ولي عباده المؤمنين وناصرهم‪ ،‬بّين لهم ما اشتملوا عليه من‬
‫فى ِبالل ّهِ وَل ِّيا { أي‪ :‬يتولى أحوال عباده‬ ‫الضلل والضلل‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَك َ َ‬
‫ويلطف بهم في جميع أمورهم‪ ] ،‬ص ‪ [ 181‬وييسر لهم ما به سعادتهم‬
‫صيًرا { ينصرهم على أعدائهم ويبين لهم ما‬ ‫فى ِبالل ّهِ ن َ ِ‬ ‫وفلحهم‪ } .‬وَك َ َ‬
‫يحذرون منهم ويعينهم عليهم‪ .‬فوليته تعالى فيها حصول الخير‪ ،‬ونصره فيه‬
‫زوال الشر‪.‬‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ثم بين كيفية ضللهم وعنادهم وإيثارهم الباطل على الحق فقال‪ِ } :‬‬
‫دوا { أي‪ :‬اليهود وهم علماء الضلل منهم‪.‬‬ ‫ها ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ضعِهِ { إما بتغيير اللفظ أو المعنى‪ ،‬أو هما جميعا‪.‬‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن َ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫ن ال ْك َل ِ َ‬ ‫حّرُفو َ‬ ‫} يُ َ‬
‫فمن تحريفهم تنزيل الصفات التي ذكرت في كتبهم التي ل تنطبق ول‬
‫تصدق إل على محمد صلى الله عليه وسلم على أنه غير مراد بها‪ ،‬ول‬
‫مقصود بها بل أريد بها غيره‪ ،‬وكتمانهم ذلك‪.‬‬
‫فهذا حالهم في العلم أشر حال‪ ،‬قلبوا فيه الحقائق‪ ،‬ونزلوا الحق على‬
‫الباطل‪ ،‬وجحدوا لذلك الحق‪ ،‬وأما حالهم في العمل والنقياد فإنهم‬
‫صي َْنا { أي‪ :‬سمعنا قولك وعصينا أمرك‪ ،‬وهذا غاية‬ ‫معَْنا وَعَ َ‬ ‫س ِ‬ ‫قولون َ‬ ‫} يَ ُ‬
‫الكفر والعناد والشرود عن النقياد‪ ،‬وكذلك يخاطبون الرسول صلى الله‬
‫معْ غَي َْر‬ ‫س َ‬
‫عليه وسلم بأقبح خطاب وأبعده عن الدب فيقولون‪ } :‬ا ْ‬
‫مٍع { قصدهم‪ :‬اسمع منا غير مسمع ما تحب‪ ،‬بل مسمع ما تكره‪،‬‬ ‫س َ‬‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫عَنا { قصدهم بذلك الرعونة‪ ،‬بالعيب القبيح‪ ،‬ويظنون أن اللفظ ‪-‬لما‬ ‫} وََرا ِ‬
‫كان محتمل لغير ما أرادوا من المور‪ -‬أنه يروج على الله وعلى رسوله‪،‬‬
‫ظ الذي يلوون به ألسنتهم إلى الطعن في الدين‬ ‫فتوصلوا بذلك اللف ِ‬
‫م‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سن َت ِهِ ْ‬‫والعيب للرسول‪ ،‬ويصرحون بذلك فيما بينهم‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬لّيا ب ِأل ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫وَط َعًْنا ِفي ال ّ‬
‫دي‬
‫َ‬
‫معَْنا‬ ‫س ِ‬‫م َقاُلوا َ‬ ‫ثم أرشدهم إلى ما هو خير لهم من ذلك فقال‪ } :‬وَل َوْ أن ّهُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م { وذلك لما تضمنه هذا‬ ‫م وَأقْوَ َ‬ ‫خي ًْرا ل َهُ ْ‬‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫معْ َوان ْظ ُْرَنا ل َ َ‬ ‫وَأط َعَْنا َوا ْ‬
‫س َ‬
‫الكلم من حسن الخطاب والدب اللئق في مخاطبة الرسول‪ ،‬والدخول‬
‫تحت طاعة الله والنقياد لمره‪ ،‬وحسن التلطف في طلبهم العلم بسماع‬
‫سؤالهم‪ ،‬والعتناء بأمرهم‪ ،‬فهذا هو الذي ينبغي لهم سلوكه‪ .‬ولكن لما‬
‫كانت طبائعهم غير زكية‪ ،‬أعرضوا عن ذلك‪ ،‬وطردهم الله بكفرهم‬
‫ن ِإل قَِليل { ‪.‬‬ ‫مُنو َ‬‫م َفل ي ُؤْ ِ‬ ‫فرِهِ ْ‬‫ه ب ِك ُ ْ‬‫م الل ّ ُ‬‫ن ل َعَن َهُ ُ‬
‫وعنادهم‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَل َك ِ ْ‬
‫) ‪(1/180‬‬

‫ن‬ ‫يا أ َيها ال ّذين ُأوتوا ال ْكتاب آ َمنوا بما نزل ْنا مصدًقا ل ِما معك ُم من قَب َ‬
‫لأ ْ‬ ‫َ َ َ ْ ِ ْ ْ ِ‬ ‫َِ َ ِ ُ ِ َ َّ َ ُ َ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ت‬
‫سب ْ ِ‬‫ب ال ّ‬
‫حا َ‬
‫ص َ‬
‫ما لعَّنا أ ْ‬ ‫َ‬
‫مك َ‬ ‫ها أوْ ن َلعَن َهُ ْ‬ ‫ها فَن َُرد ّ َ‬
‫ها عَلى أد َْبارِ َ‬ ‫جو ً‬ ‫س وُ ُ‬‫م َ‬ ‫ن َط ْ ِ‬
‫فُعوًل )‪(47‬‬ ‫َ‬
‫مُر الل ّهِ َ‬
‫م ْ‬ ‫نأ ْ‬‫كا َ‬ ‫وَ َ‬
‫} ‪ } { 47‬يا أ َيها ال ّذي ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ما ن َّزل َْنا ُ‬ ‫مُنوا ب ِ َ‬ ‫بآ ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫قَب َ‬
‫ب‬ ‫حا َ‬ ‫ص َ‬ ‫ما لعَّنا أ ْ‬ ‫َ‬
‫مك َ‬ ‫ها أوْ ن َلعَن َهُ ْ‬ ‫ها عَلى أد َْبارِ َ‬ ‫َ‬
‫ها فن َُرد ّ َ‬ ‫جو ً‬ ‫س وُ ُ‬‫م َ‬ ‫ن ن َط ْ ِ‬
‫لأ ْ‬ ‫ْ ِ‬
‫فُعول { ‪.‬‬ ‫م ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مُر اللهِ َ‬ ‫نأ ْ‬‫ت وَكا َ‬ ‫سب ْ ِ‬‫ال ّ‬
‫يأمر تعالى أهل الكتاب من اليهود والنصارى أن يؤمنوا بالرسول محمد‬
‫صلى الله عليه وسلم وما أنزل الله عليه من القرآن العظيم‪ ،‬المهيمن‬
‫على غيره من الكتب السابقة التي قد صدقها‪ ،‬فإنها أخبرت به فلما وقع‬
‫المخبر به كان تصديقا لذلك الخبر‪.‬‬
‫وأيضا فإنهم إن لم يؤمنوا بهذا القرآن فإنهم لم يؤمنوا بما في أيديهم من‬
‫ضا‪ .‬فدعوى‬ ‫الكتب‪ ،‬لن كتب الله يصدق بعضها بعضا‪ ،‬ويوافق بعضها بع ً‬
‫اليمان ببعضها دون بعض دعوى باطلة ل يمكن صدقها‪.‬‬
‫م { حث لهم وأنهم ينبغي أن‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ما نزل َْنا ُ‬ ‫مُنوا ب ِ َ‬‫وفي قوله‪ } :‬آ ِ‬
‫يكونوا قبل غيرهم مبادرين إليه بسبب ما أنعم الله عليهم به من العلم‪،‬‬
‫والكتاب الذي يوجب أن يكون ما عليهم أعظم من غيرهم‪ ،‬ولهذا توعدهم‬
‫ها عََلى‬ ‫على عدم اليمان فقال‪ } :‬من قَب َ‬
‫ها فَن َُرد ّ َ‬ ‫جو ً‬ ‫س وُ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ن َط ْ ِ‬ ‫لأ ْ‬ ‫ِ ْ ْ ِ‬
‫ها { وهذا جزاء من جنس ما عملوا‪ ،‬كما تركوا الحق‪ ،‬وآثروا الباطل‬ ‫أ َد َْبارِ َ‬
‫وقلبوا الحقائق‪ ،‬فجعلوا الباطل حقا والحق باطل جوزوا من جنس ذلك‬
‫بطمس وجوههم كما طمسوا الحق‪ ،‬وردها على أدبارها‪ ،‬بأن تجعل في‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ت { بأن‬ ‫سب ْ ِ‬ ‫ب ال ّ‬ ‫حا َ‬ ‫ص َ‬ ‫ما ل َعَّنا أ ْ‬ ‫م كَ َ‬ ‫أقفائهم وهذا أشنع ما يكون } أوْ ن َل ْعَن َهُ ْ‬
‫يطردهم من رحمته‪ ،‬ويعاقبهم بجعلهم قردة‪ ،‬كما فعل بإخوانهم الذين‬
‫كا َ‬
‫مُر الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫نأ ْ‬ ‫ن { } وَ َ َ‬ ‫سِئي َ‬ ‫خا ِ‬ ‫كوُنوا قَِرد َةً َ‬ ‫م ُ‬ ‫قل َْنا ل َهُ ْ‬ ‫اعتدوا في السبت } فَ ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ن فَي َكو ُ‬ ‫هك ْ‬ ‫لل ُ‬ ‫قو َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫شي ًْئا أ ْ‬ ‫ذا أَراد َ َ‬ ‫مُرهُ إ ِ َ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫فُعول { كقوله‪ } :‬إ ِن ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫) ‪(1/181‬‬

‫َ‬
‫شرِ ْ‬
‫ك‬ ‫ن يُ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ن يَ َ‬
‫شاُء وَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬
‫ك لِ َ‬ ‫دو َ‬
‫ما ُ‬
‫فُر َ‬
‫ك ب ِهِ وَي َغْ ِ‬‫شَر َ‬‫ن يُ ْ‬ ‫ه َل ي َغْ ِ‬
‫فُر أ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫إِ ّ‬
‫ما )‪(48‬‬ ‫ظي ً‬‫ما عَ ِ‬‫قدِ افْت ََرى إ ِث ْ ً‬‫ِبالل ّهِ فَ َ‬
‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫شاُء وَ َ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬‫ك لِ َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬‫دو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫فُر َ‬ ‫ك ب ِهِ وَي َغْ ِ‬‫شَر َ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫فُر أ ْ‬ ‫ه ل ي َغْ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫} ‪ } { 48‬إ ِ ّ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫ظي ً‬ ‫ما عَ ِ‬ ‫قدِ افْت ََرى إ ِث ْ ً‬ ‫ك ِبالل ّهِ فَ َ‬ ‫شرِ ْ‬ ‫يُ ْ‬
‫يخبر تعالى‪ :‬أنه ل يغفر لمن أشرك به أحدا من المخلوقين‪ ،‬ويغفر ما دون‬
‫الشرك )‪ (1‬من الذنوب صغائرها وكبائرها‪ ،‬وذلك عند مشيئته مغفرة ذلك‪،‬‬
‫إذا اقتضت حكمُته مغفرَته‪.‬‬
‫فالذنوب التي دون الشرك قد جعل الله لمغفرتها أسبابا كثيرة‪ ،‬كالحسنات‬
‫الماحية والمصائب المكفرة في الدنيا‪ ،‬والبرزخ ويوم القيامة‪ ،‬وكدعاء‬
‫المؤمنين بعضهم لبعض‪ ،‬وبشفاعة الشافعين‪ .‬ومن فوق ذلك كله رحمته‬
‫التي أحق بها أهل اليمان والتوحيد‪.‬‬
‫وهذا بخلف الشرك فإن المشرك قد سد على نفسه أبواب المغفرة‪،‬‬
‫وأغلق دونه أبواب الرحمة‪ ،‬فل تنفعه الطاعات من دون التوحيد‪ ،‬ول تفيده‬
‫ميم ٍ {‪.‬‬ ‫ح ِ‬‫ق َ‬ ‫دي ٍ‬ ‫ص ِ‬ ‫ن * َول َ‬ ‫شافِِعي َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫المصائب شيئا‪ ،‬وما لهم يوم القيامة } ِ‬
‫] ص ‪[ 182‬‬
‫ما { أي افترى‬ ‫ظي ً‬
‫ما عَ ِ‬ ‫قدِ افْت ََرى إ ِث ْ ً‬ ‫ّ‬
‫شرِك ِباللهِ فَ َ‬ ‫ْ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ولهذا قال تعالى } وَ َ‬
‫جرما كبيرا وأي ظلم أعظم ممن سوى المخلوق ‪-‬من تراب الناقص من‬
‫جميع الوجوه الفقير بذاته من كل وجه الذي ل يملك لنفسه‪ -‬فضل عمن‬
‫عبده ‪-‬نفًعا ول ضّرا ول موًتا ول حياة ول نشوًرا‪ -‬بالخالق لكل شيء الكامل‬
‫من جميع الوجوه الغني بذاته عن جميع مخلوقاته الذي بيده النفع والضر‬
‫والعطاء والمنع الذي ما من نعمة بالمخلوقين إل فمنه تعالى فهل أعظم‬
‫من هذا الظلم شيء؟‬
‫ك‬ ‫شرِ ْ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬‫ه َ‬ ‫ولهذا حتم على صاحبه بالخلود بالعذاب وحرمان الثواب } إ ِن ّ ُ‬
‫مأ َْواهُ الّناُر { وهذه الية الكريمة في حق‬ ‫ة وَ َ‬ ‫ه عَل َي ْهِ ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫حّر َ‬ ‫قد ْ َ‬‫ِبالل ّهِ فَ َ‬
‫غير التائب وأما التائب فإنه يغفر له الشرك فما دونه كما قال تعالى } قُ ْ‬
‫ل‬
‫فُر‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ي َغْ ِ‬ ‫مةِ الل ّهِ إ ِ ّ‬ ‫ح َ‬
‫ن َر ْ‬ ‫م ْ‬ ‫طوا ِ‬ ‫قن َ ُ‬ ‫م ل تَ ْ‬ ‫سه ِ ْ‬‫ف ِ‬ ‫سَرُفوا عََلى أ َن ْ ُ‬ ‫نأ ْ‬
‫عبادي ال ّذي َ‬
‫َيا ِ َ ِ َ ِ َ‬
‫ميًعا { أي لمن تاب إليه وأناب‪.‬‬ ‫ج ِ‬
‫ب َ‬ ‫الذ ُّنو َ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ذلك‪.‬‬

‫) ‪(1/181‬‬

‫ن فَِتيًل‬ ‫شاُء وََل ي ُظ ْل َ ُ‬


‫مو َ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫كي َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬
‫ه ي َُز ّ‬ ‫م بَ ِ‬‫سه ُ ْ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫ن ي َُز ّ‬
‫كو َ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫َ‬
‫أل َ ْ‬
‫مِبيًنا )‪(50‬‬ ‫ما ُ‬ ‫ب وَك َ َ‬
‫فى ب ِهِ إ ِث ْ ً‬ ‫ن عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ‬ ‫فت َُرو َ‬
‫ف يَ ْ‬‫)‪ (49‬ان ْظ ُْر ك َي ْ َ‬

‫ن يَ َ‬
‫شاُء‬ ‫م ْ‬ ‫كي َ‬ ‫ه ي َُز ّ‬‫ل الل ّ ُ‬‫م بَ ِ‬ ‫سهُ ْ‬‫ف َ‬ ‫ن أ َن ْ ُ‬ ‫ن ي َُز ّ‬
‫كو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫} ‪ } { 50 ، 49‬أل َ ْ‬
‫فى ب ِهِ إ ِث ْ ً‬
‫ما‬ ‫ب وَك َ َ‬ ‫ن عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ‬ ‫فت َُرو َ‬
‫ف يَ ْ‬ ‫ن فَِتيل * ان ْظ ُْر ك َي ْ َ‬ ‫َول ي ُظ ْل َ ُ‬
‫مو َ‬
‫مِبيًنا { ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫هذا تعجيب من الله لعباده‪ ،‬وتوبيخ للذين يزكون أنفسهم من اليهود‬
‫والنصارى‪ ،‬ومن نحا نحوهم من كل من زكى نفسه بأمر ليس فيه‪ .‬وذلك‬
‫حّباؤُهُ { ويقولون‪ } :‬ل َ ْ‬
‫ن‬ ‫ن أ َب َْناُء الل ّهِ وَأ َ ِ‬‫ح ُ‬ ‫أن اليهود والنصارى يقولون‪ } :‬ن َ ْ‬
‫هو َ‬
‫صاَرى { وهذا مجرد دعوى ل برهان‬ ‫دا أوْ ن َ َ‬ ‫ن ُ ً‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ة ِإل َ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫خ َ‬ ‫ي َد ْ ُ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سل َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬‫عليها‪ ،‬وإنما البرهان ما أخبر به في القرآن في قوله‪ } :‬ب َلى َ‬
‫وجهه ل ِل ّه وهُو محسن فَل َ َ‬
‫ن{‬
‫حَزُنو َ‬ ‫م يَ ْ‬‫م َول هُ ْ‬ ‫ف عَل َي ْهِ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫عن ْد َ َرب ّهِ َول َ‬ ‫جُرهُ ِ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ َ َ ُ ْ ِ ٌ‬ ‫َ ْ َ ُ‬
‫شاُء {‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬‫كي َ‬ ‫ه ي َُز ّ‬ ‫ّ‬
‫ل الل ُ‬ ‫فهؤلء هم الذين زكاهم الله ولهذا قال هنا‪ } :‬ب َ ِ‬
‫أي‪ :‬باليمان والعمل الصالح بالتخلي عن الخلق الرذيلة‪ ،‬والتحلي‬
‫بالصفات الجميلة‪.‬‬
‫وأما هؤلء فهم ‪-‬وإن زكوا أنفسهم بزعمهم أنهم على شيء‪ ،‬وأن الثواب‬
‫لهم وحدهم‪ -‬فإنهم كذبة في ذلك‪ ،‬ليس لهم من خصال الزاكين نصيب‪،‬‬
‫ن‬
‫مو َ‬ ‫بسبب ظلمهم وكفرهم ل بظلم من الله لهم‪ ،‬ولهذا قال‪َ } :‬ول ي ُظ ْل َ ُ‬
‫فَِتيل { وهذا لتحقيق العموم أي‪ :‬ل يظلمون شيئا ول مقدار الفتيل الذي‬
‫في شق النواة أو الذي يفتل من وسخ اليد وغيرها‪.‬‬
‫ب { أي‪ :‬بتزكيتهم‬ ‫ن عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ‬ ‫فت َُرو َ‬ ‫قال تعالى‪ } :‬ان ْظ ُْر ك َي ْ َ‬
‫ف يَ ْ‬
‫أنفسهم‪ ،‬لن هذا من أعظم الفتراء على الله‪ .‬لن مضمون تزكيتهم‬
‫لنفسهم الخبار بأن الله جعل ما هم عليه حقا وما عليه المؤمنون‬
‫المسلمون باطل‪ .‬وهذا أعظم الكذب وقلب الحقائق بجعل الحق باطل‬
‫مِبيًنا { أي‪ :‬ظاهرا بينا موجبا‬ ‫ما ُ‬ ‫فى ب ِهِ إ ِث ْ ً‬ ‫قا‪ .‬ولهذا قال‪ } :‬وَك َ َ‬ ‫لح ّ‬ ‫والباط ِ‬
‫للعقوبة البليغة والعذاب الليم‪.‬‬

‫) ‪(1/182‬‬

‫ت َوال ّ‬ ‫أ َل َم تر إَلى ال ّذي ُ‬


‫ت‬ ‫طا ُ‬
‫غو ِ‬ ‫ن ِبال ْ ِ‬
‫جب ْ ِ‬ ‫مُنو َ‬‫ب ي ُؤْ ِ‬ ‫ن ال ْك َِتا ِ‬
‫م َ‬ ‫صيًبا ِ‬
‫ن أوُتوا ن َ ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫ْ ََ ِ‬
‫سِبيًل )‪(51‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫م َ‬ ‫دى ِ‬ ‫فُروا هَؤَُلِء أهْ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ن ل ِل ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫قوُلو َ‬
‫وَي َ ُ‬
‫} ‪ } { 57 - 51‬أ َل َم تر إَلى ال ّذي ُ‬
‫ت‬ ‫ن ِبال ْ ِ‬
‫جب ْ ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن ال ْك َِتا ِ‬
‫ب ي ُؤْ ِ‬ ‫م َ‬‫صيًبا ِ‬‫ن أوُتوا ن َ ِ‬‫ِ َ‬ ‫ْ ََ ِ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫سِبيل { ‪.‬‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬‫دى ِ‬ ‫ؤلِء أهْ َ‬ ‫فُروا هَ ُ‬ ‫َ‬
‫نك َ‬‫ذي َ‬‫ن ل ِل ّ ِ‬
‫قوُلو َ‬
‫ت وَي َ ُ‬
‫غو ِ‬ ‫َوال ّ‬
‫طا ُ‬

‫) ‪(1/182‬‬

‫َ‬ ‫ُأول َئ ِ َ‬
‫م ل َهُ ْ‬
‫م‬ ‫صيًرا )‪ (52‬أ ْ‬ ‫ه نَ ِ‬ ‫جد َ ل َ ُ‬ ‫ن تَ ِ‬ ‫ه فَل َ ْ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ن ي َل ْعَ‬ ‫م ْ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ن ل َعَن َهُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬
‫س عََلى‬ ‫َ‬
‫ن الّنا َ‬ ‫دو َ‬ ‫س ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫قيًرا )‪ (53‬أ ْ‬ ‫س نَ ِ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫ذا َل ي ُؤُْتو َ‬ ‫ك فَإ ِ ً‬ ‫مل ْ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫صي ٌ‬ ‫نَ ِ‬
‫ْ‬
‫مل ً‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫م ُ‬ ‫ة وَآت َي َْناهُ ْ‬ ‫حك ْ َ‬
‫م َ‬ ‫ب َوال ِ‬ ‫م الك َِتا َ‬ ‫هي َ‬ ‫ل إ ِب َْرا ِ‬ ‫قد ْ آت َي َْنا آ َ‬ ‫ضل ِهِ فَ َ‬ ‫ن فَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫م الل ُ‬ ‫ما آَتاهُ ُ‬ ‫َ‬
‫سِعيًرا )‬ ‫م‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫ه‬ ‫ج‬ ‫ب‬ ‫فى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ع‬ ‫د‬ ‫ص‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ْ‬ ‫ن‬‫م‬‫ِ‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫آ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫(‬ ‫‪54‬‬ ‫)‬ ‫ما‬ ‫ظي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‬
‫ِ َ َ َ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ُ ْ َ ْ َ َ ِ َ ُ ْ َ ْ َ ّ‬ ‫ً‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫لو‬‫ُ‬ ‫ج‬ ‫ت‬ ‫ج‬ ‫ض‬ ‫ن‬ ‫ما‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫را‬ ‫نا‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫لي‬
‫ِ‬ ‫ص‬ ‫ن‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫نا‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫يا‬‫َ‬ ‫آ‬ ‫ب‬ ‫روا‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫‪ (55‬إ ِ ّ‬
‫َ َ ِ َ ْ ُ ُ ْ‬ ‫ُ ْ ِ ْ َ ً‬ ‫ِ َ َ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ َ‬
‫ما )‪(56‬‬ ‫كي ً‬‫ح ِ‬ ‫زيًزا َ‬ ‫ن عَ ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ب إِ ّ‬ ‫ذا َ‬ ‫ذوُقوا ال ْعَ َ‬ ‫ها ل ِي َ ُ‬ ‫دا غَي َْر َ‬ ‫جُلو ً‬ ‫م ُ‬ ‫ب َد ّل َْناهُ ْ‬
‫َ‬
‫حت َِها اْلن َْهاُر‬ ‫َ‬
‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫خل ُهُ ْ‬ ‫سن ُد ْ ِ‬ ‫ت َ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َوال ّ ِ‬
‫م ظ ِّل ظ َِليًل )‪(57‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫خل ُهُ ْ‬ ‫مط َهَّرةٌ وَن ُد ْ ِ‬ ‫ج ُ‬ ‫م ِفيَها أْزَوا ٌ‬ ‫دا ل َهُ ْ‬ ‫ن ِفيَها أب َ ً‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫} ُأول َئ ِ َ‬
‫م‬‫م ل َهُ ْ‬ ‫صيًرا * أ ْ‬ ‫ه نَ ِ‬ ‫جد َ ل َ ُ‬ ‫ن تَ ِ‬ ‫ه فَل َ ْ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ن ي َل ْعَ‬ ‫م ْ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ن ل َعَن َهُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ما‬ ‫س عََلى َ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫دو َ‬ ‫س ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫قيًرا * أ ْ‬ ‫س نَ ِ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫ذا ل ي ُؤُْتو َ‬ ‫ك فَإ ِ ً‬ ‫مل ْ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫صي ٌ‬ ‫نَ ِ‬
‫مل ْكاً‬ ‫م ُ‬ ‫ة َوآت َي َْناهُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫حك َ‬‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ب َوال ِ‬ ‫م الك َِتا َ‬ ‫ْ‬ ‫هي َ‬ ‫ل إ ِب َْرا ِ‬ ‫قد ْ آت َي َْنا آ َ‬ ‫ضل ِهِ فَ َ‬ ‫ن فَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫م الل ُ‬‫ّ‬ ‫آَتاهُ ُ‬
‫ن‬
‫سِعيًرا * إ ِ ّ‬ ‫م َ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫فى ب ِ َ‬ ‫َ‬
‫ه وَك َ‬ ‫صد ّ عَن ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ن ب ِهِ وَ ِ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ما * فَ ِ‬ ‫ظي ً‬ ‫عَ ِ‬
‫دا‬‫جلو ً‬ ‫ُ‬ ‫م ُ‬ ‫م ب َد ّلَناهُ ْ‬‫ْ‬ ‫جلود ُهُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت ُ‬ ‫ج ْ‬ ‫ض َ‬ ‫ما ن َ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫م َناًرا كل َ‬ ‫صِليهِ ْ‬ ‫ف نُ ْ‬ ‫سوْ َ‬ ‫فُروا ِبآَيات َِنا َ‬ ‫نك َ‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫مُلوا‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما * َوال ّ ِ‬ ‫كي ً‬ ‫ح ِ‬ ‫زيًزا َ‬ ‫ِ‬ ‫ن عَ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ب إِ ّ‬ ‫ذا َ‬ ‫ذوُقوا ال ْعَ َ‬ ‫ها ل ِي َ ُ‬ ‫غَي َْر َ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫دا لهُ ْ‬ ‫ن ِفيَها أب َ ً‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫حت َِها الن َْهاُر َ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫خلهُ ْ‬ ‫سن ُد ْ ِ‬ ‫ت َ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ال ّ‬
‫ظل ظ َِليل { ‪.‬‬ ‫َ‬
‫م ِ‬ ‫خل ُهُ ْ‬ ‫مط َهَّرةٌ وَن ُد ْ ِ‬ ‫ج ُ‬ ‫ِفيَها أْزَوا ٌ‬
‫وهذا من قبائح اليهود وحسدهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين‪ ،‬أن‬
‫أخلقهم الرذيلة وطبعهم الخبيث‪ ،‬حملهم على ترك اليمان بالله ورسوله‪،‬‬
‫والتعوض عنه باليمان بالجبت والطاغوت‪ ،‬وهو اليمان بكل عبادة لغير‬
‫الله‪ ،‬أو حكم بغير شرع الله‪.‬‬
‫فدخل في ذلك السحر والكهانة‪ ،‬وعبادة غير الله‪ ،‬وطاعة الشيطان‪ ،‬كل‬
‫ملهم الكفر والحسد على أن فضلوا‬ ‫ح َ‬ ‫هذا من الجبت والطاغوت‪ ،‬وكذلك َ‬
‫طريقة الكافرين بالله ‪-‬عبدة الصنام‪ -‬على طريق المؤمنين فقال‪:‬‬
‫فُروا { أي‪ :‬لجلهم تملقا لهم ومداهنة‪ ،‬وبغضا لليمان‪:‬‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ل ِل ّ ِ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫} وَي َ ُ‬
‫سِبيل { أي‪ :‬طريقا‪ .‬فما أسمجهم وأشد‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫} هَ ُ‬
‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬ ‫دى ِ‬ ‫ؤلِء أهْ َ‬
‫عنادهم وأقل عقولهم! كيف سلكوا هذا المسلك الوخيم والوادي الذميم؟‪.‬‬
‫ل أحد من‬ ‫هل ظنوا أن هذا يروج على أحد من العقلء‪ ،‬أو يدخل عق َ‬
‫ضل دين قام على عبادة الصنام والوثان‪ ،‬واستقام على‬ ‫ف ّ‬ ‫الجهلء‪ ،‬فهل ي ُ َ‬
‫تحريم الطيبات‪ ،‬وإباحة الخبائث‪ ،‬وإحلل كثير من المحرمات‪ ،‬وإقامة‬
‫الظلم بين الخلق‪ ،‬وتسوية الخالق بالمخلوقين‪ ،‬والكفر بالله ورسله وكتبه‪،‬‬
‫على دين قام على عبادة الرحمن‪ ،‬والخلص لله في السر والعلن‪،‬‬
‫والكفر بما يعبد من دونه من الوثان والنداد والكاذبين‪ ،‬وعلى صلة الرحام‬
‫والحسان إلى جميع الخلق‪ ،‬حتى البهائم‪ ،‬وإقامة العدل والقسط بين‬
‫الناس‪ ،‬وتحريم كل خبيث وظلم‪ ،‬والصدق في جميع القوال والعمال‪،‬‬
‫فهل هذا إل من الهذيان‪ ،‬وصاحب هذا القول إما من أجهل الناس‬
‫وأضعفهم عقل وإما من أعظمهم عنادا وتمردا ومراغمة للحق‪ ] ،‬ص‬
‫ن ل َعَن َهُ ُ‬
‫م‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫‪ [ 183‬وهذا هو الواقع‪ ،‬ولهذا قال تعالى عنهم‪ُ } :‬أول َئ ِ َ‬
‫ن‬‫ه فَل َ ْ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫م ْ ْ‬
‫ن ي َلعَ ِ‬ ‫ه { أي‪ :‬طردهم عن رحمته وأحل عليهم نقمته‪ } .‬وَ َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫صيًرا { أي‪ :‬يتوله ويقوم بمصالحه ويحفظه عن المكاره‪ ،‬وهذا‬ ‫ه نَ ِ‬ ‫جد َ ل َ ُ‬ ‫تَ ِ‬
‫غاية الخذلن‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ضلون من شاءوا على من شاءوا‬ ‫ك { أي‪ :‬فيف ّ‬ ‫مل ِ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫صي ٌ‬ ‫م نَ ِ‬ ‫م ل َهُ ْ‬ ‫}أ ْ‬
‫بمجرد أهوائهم‪ ،‬فيكونون شركاء لله في تدبير المملكة‪ ،‬فلو كانوا كذلك‬
‫ذا { أي‪ :‬لو كان لهم نصيب من‬ ‫لشحوا وبخلوا أشد البخل‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬فَإ ِ ً‬
‫قيًرا { أي‪ :‬شيًئا ول قليل‪ .‬وهذا وصف لهم بشدة‬ ‫س نَ ِ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫الملك } ل ي ُؤُْتو َ‬
‫البخل على تقدير وجود ملكهم المشارك لملك الله‪ .‬وأخرج هذا مخرج‬
‫الستفهام المتقرر إنكاره عند كل أحد‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ضل ِهِ { أي‪ :‬هل الحامل لهم‬ ‫نف ْ‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫م الل ُ‬ ‫ما آَتاهُ ُ‬ ‫س عََلى َ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫دو َ‬ ‫س ُ‬ ‫ح ُ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫}أ ْ‬
‫على قولهم كونهم شركاَء لله فيفضلون من شاءوا؟ أم الحامل لهم على‬
‫ذلك الحسد ُ للرسول وللمؤمنين على ما آتاهم الله من فضله؟ وذلك ليس‬
‫ة‬
‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ب َوال ْ ِ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬ ‫هي َ‬ ‫ل إ ِب َْرا ِ‬ ‫قد ْ آت َي َْنا آ َ‬ ‫ببدع ول غريب على فضل الله‪ } .‬فَ َ‬
‫ما { وذلك ما أنعم الله به على إبراهيم وذريته من‬ ‫ظي ً‬ ‫كا عَ ِ‬ ‫مل ْ ً‬‫م ُ‬ ‫َوآت َي َْناهُ ْ‬
‫النبوة والكتاب والملك الذي أعطاه من أعطاه من أنبيائه كـ "داود" و‬
‫"سليمان" ‪ .‬فإنعامه لم يزل مستمًرا على عباده المؤمنين‪ .‬فكيف ينكرون‬
‫إنعامه بالنبوة والنصر والملك لمحمد صلى الله عليه وسلم أفضل الخلق‬
‫وأجلهم وأعظمهم معرفة بالله وأخشاهم له؟‪.‬‬
‫ن ب ِهِ { أي‪ :‬بمحمد صلى الله عليه وسلم فنال بذلك‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫} فَ ِ‬
‫دا وبغًيا‬ ‫ه { عنا ً‬ ‫صد ّ عَن ْ ُ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫السعادة الدنيوية والفلح الخروي‪ } .‬وَ ِ‬
‫دا فحصل لهم من شقاء الدنيا ومصائبها ما هو بعض آثار معاصيهم‬ ‫وحس ً‬
‫سِعيًرا { تسعر على من كفر بالله‪ ،‬وجحد نبوة أنبيائه من‬ ‫م َ‬ ‫جهَن ّ َ‬‫فى ب ِ َ‬ ‫} وَك َ َ‬
‫اليهود والنصارى وغيرهم من أصناف الكفرة‪.‬‬
‫م َناًرا { أي‪ :‬عظيمة‬ ‫صِليهِ ْ‬ ‫ف نُ ْ‬ ‫سوْ َ‬ ‫فُروا ِبآَيات َِنا َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫ولهذا قال‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫م‬ ‫ْ‬
‫م { أي‪ :‬احترقت } ب َد ّلَناهُ ْ‬ ‫جلود ُهُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت ُ‬ ‫ج ْ‬ ‫ض َ‬‫ما ن َ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫الوقود شديدة الحرارة } كل َ‬
‫ب { أي‪ :‬ليبلغ العذاب منهم كل مبلغ‪ .‬وكما تكرر‬ ‫ذا َ‬ ‫ذوُقوا ال ْعَ َ‬ ‫ها ل ِي َ ُ‬ ‫دا غَي َْر َ‬ ‫جُلو ً‬ ‫ُ‬
‫منهم الكفر والعناد وصار وصفا لهم وسجية؛ كرر عليهم العذاب جزاء‬
‫ما { أي‪ :‬له العزة العظيمة‬ ‫كي ً‬‫ح ِ‬ ‫زيًزا َ‬ ‫ن عَ ِ‬ ‫كا َ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ِوفاقا‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫والحكمة في خلقه وأمره‪ ،‬وثوابه وعقابه‪.‬‬
‫ت{‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ملوا ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫ن به } وَعَ ِ‬ ‫مُنوا { أي‪ :‬بالله وما أوجب اليما َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫حت َِها الن َْهاُر‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬
‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫خل ُهُ ْ‬ ‫سن ُد ْ ِ‬‫من الواجبات والمستحبات } َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مطهَّرة ٌ { أي‪ :‬من الخلق الرذيلة‪ ،‬والخلق‬ ‫ج ُ‬ ‫م ِفيَها أْزَوا ٌ‬ ‫دا ل َهُ ْ‬ ‫ن ِفيَها أب َ ً‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫َ‬
‫ظل‬‫م ِ‬ ‫خلهُ ْ‬‫ُ‬ ‫الذميم‪ ،‬ومما يكون من نساء الدنيا من كل دنس وعيب } وَن ُد ْ ِ‬
‫ظ َِليل { ‪.‬‬

‫) ‪(1/182‬‬

‫َ‬ ‫ت إ َِلى أ َهْل َِها وَإ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫إن الل ّه يأ ْمرك ُ َ‬


‫ن‬‫سأ ْ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م ب َي ْ َ‬ ‫حك َ ْ‬
‫مت ُ ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫ماَنا ِ‬ ‫دوا اْل َ‬ ‫ن ت ُؤَ ّ‬‫مأ ْ‬ ‫َ َ ُ ُ ْ‬ ‫ِ ّ‬
‫صيًرا )‪َ (58‬يا‬ ‫ب‬ ‫عا‬
‫َ َ ِ ً َ ِ‬ ‫مي‬ ‫س‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ه‬ ‫ب‬
‫ْ ِ ِ ِ ّ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ُ‬ ‫ظ‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫ما‬
‫َ ِِ ّ َِ‬ ‫ع‬‫ن‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ل‬
‫ِ َ ْ ِ ِ ّ‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫موا‬ ‫ُ‬
‫ح ُ‬‫ك‬ ‫تَ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م فَإ ِ ْ‬
‫ن‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫مرِ ِ‬ ‫ل وَأوِلي اْل ْ‬ ‫سو َ‬ ‫طيُعوا الّر ُ‬ ‫ه وَأ ِ‬ ‫طيُعوا الل ّ َ‬ ‫مُنوا أ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫أي َّها ال ّ ِ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫م ت ُؤْ ِ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫دوهُ إ َِلى الل ّهِ َوالّر ُ‬ ‫يٍء فَُر ّ‬ ‫م ِفي َ‬
‫ن ِباللهِ َوالي َوْم ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ل إِ ْ‬ ‫سو ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ش ْ‬ ‫ت ََناَزعْت ُ ْ‬
‫ن ت َأِويل )‪(59‬‬‫ً‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫خي ٌْر وَأ ْ‬ ‫َ‬
‫خرِ ذ َل ِك َ‬ ‫اْل َ ِ‬

‫ت إ َِلى أ َهْل َِها وَإ ِ َ‬ ‫} ‪ } { 59 ، 58‬إن الل ّه يأ ْمرك ُ َ‬


‫م‬‫مت ُ ْ‬ ‫حك َ ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫ماَنا ِ‬ ‫دوا ال َ‬ ‫ن ت ُؤَ ّ‬ ‫مأ ْ‬ ‫َ َ ُ ُ ْ‬ ‫ِ ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ميًعا‬ ‫س‬
‫َ َ ِ‬ ‫ن‬ ‫كا‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫إ‬
‫ْ ِ ِ ِ ّ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ظ‬ ‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ي‬
‫ّ َ‬‫ما‬ ‫ِ‬ ‫ع‬‫ِ‬ ‫ن‬ ‫ه‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫ل‬
‫ِ َ ْ ِ ِ ّ‬‫د‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫موا‬‫حك ُ ُ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫سأ ْ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫ب َي ْ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫من ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫مرِ ِ‬ ‫ل وَأوِلي ال ْ‬ ‫سو َ‬ ‫طيُعوا الّر ُ‬ ‫ه وَأ ِ‬ ‫طيُعوا الل ّ َ‬ ‫مُنوا أ ِ‬ ‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫صيًرا * َيا أي َّها ال ّ ِ‬ ‫بَ ِ‬
‫ن ِبالل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫مُنو َ‬ ‫م ت ُؤْ ِ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬‫ل إِ ْ‬ ‫سو ِ‬ ‫دوهُ إ َِلى الل ّهِ َوالّر ُ‬ ‫يٍء فَُر ّ‬ ‫ش ْ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫فَإ ِ ْ‬
‫ن ت ََناَزعْت ُ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن ت َأِويل { ‪.‬‬ ‫س ُ‬‫ح َ‬ ‫خي ٌْر وَأ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫خرِ ذ َل ِ َ‬ ‫َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬
‫المانات كل ما ائتمن عليه النسان وأمر بالقيام به‪ .‬فأمر الله عباده بأدائها‬
‫أي‪ :‬كاملة موفرة‪ ،‬ل منقوصة ول مبخوسة‪ ،‬ول ممطول بها‪ ،‬ويدخل في‬
‫ذلك أمانات الوليات والموال والسرار؛ والمأمورات التي ل يطلع عليها إل‬
‫الله‪ .‬وقد ذكر الفقهاء على أن من اؤتمن أمانة وجب عليه حفظها في حرز‬
‫مثلها‪ .‬قالوا‪ :‬لنه ل يمكن أداؤها إل بحفظها؛ فوجب ذلك‪.‬‬
‫َ‬
‫من‪،‬‬ ‫وفي قوله‪ } :‬إ َِلى أهْل َِها { دللة على أنها ل تدفع وتؤدى لغير المؤت ِ‬
‫ووكيُله بمنزلته؛ فلو دفعها لغير ربها لم يكن مؤديا لها‪.‬‬
‫َ‬
‫ل { وهذا يشمل الحكم بينهم‬ ‫موا ِبال ْعَد ْ ِ‬
‫حك ُ ُ‬‫ن تَ ْ‬
‫سأ ْ‬ ‫ن الّنا ِ‬
‫م ب َي ْ َ‬ ‫حك َ ْ‬
‫مت ُ ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫} وَإ ِ َ‬
‫في الدماء والموال والعراض‪ ،‬القليل من ذلك والكثير‪ ،‬على القريب‬
‫والبعيد‪ ،‬والبر والفاجر‪ ،‬والولي والعدو‪.‬‬
‫والمراد بالعدل الذي أمر الله بالحكم به هو ما شرعه الله على لسان‬
‫رسوله من الحدود والحكام‪ ،‬وهذا يستلزم معرفة العدل ليحكم به‪ .‬ولما‬
‫ن‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫م ب ِهِ إ ِ ّ‬‫ما ي َعِظ ُك ُ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ن ِعِ ّ‬ ‫كانت هذه أوامر حسنة عادلة قال‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫صيًرا { وهذا مدح من الله لوامره ونواهيه‪ ،‬لشتمالها على مصالح‬ ‫ميًعا ب َ ِ‬ ‫س ِ‬
‫َ‬
‫الدارين ودفع مضارهما‪ ،‬لن شارعها السميع البصير الذي ل تخفى عليه‬
‫خافية‪ ،‬ويعلم بمصالح العباد ما ل يعلمون‪.‬‬
‫ثم أمر بطاعته وطاعة رسوله وذلك بامتثال أمرهما‪ ،‬الواجب والمستحب‪،‬‬
‫واجتناب نهيهما‪ .‬وأمر بطاعة أولي المر وهم‪ :‬الولة على الناس‪ ،‬من‬
‫المراء والحكام والمفتين‪ ،‬فإنه ل يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إل‬
‫بطاعتهم والنقياد لهم‪ ،‬طاعة لله ورغبة فيما عنده‪ ،‬ولكن بشرط أل يأمروا‬
‫بمعصية الله‪ ،‬فإن أمروا بذلك فل طاعة لمخلوق في ] ص ‪ [ 184‬معصية‬
‫الخالق‪ .‬ولعل هذا هو السر في حذف الفعل عند المر بطاعتهم وذكره مع‬
‫طاعة الرسول‪ ،‬فإن الرسول ل يأمر إل بطاعة الله‪ ،‬ومن يطعه فقد أطاع‬
‫الله‪ ،‬وأما أولو المر فشرط المر بطاعتهم أن ل يكون معصية‪.‬‬
‫ثم أمر برد كل ما تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه إلى الله وإلى‬
‫رسوله أي‪ :‬إلى كتاب الله وسنة رسوله؛ فإن فيهما الفصل في جميع‬
‫المسائل الخلفية‪ ،‬إما بصريحهما أو عمومهما؛ أو إيماء‪ ،‬أو تنبيه‪ ،‬أو مفهوم‪،‬‬
‫أو عموم معنى يقاس عليه ما أشبهه‪ ،‬لن كتاب الله وسنة رسوله عليهما‬
‫بناء الدين‪ ،‬ول يستقيم اليمان إل بهما‪.‬‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م ت ُؤْ ِ‬
‫ن ِباللهِ َوالي َوْم ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫فالرد إليهما شرط في اليمان فلهذا قال‪ } :‬إ ِ ْ‬
‫خرِ { فدل ذلك على أن من لم يرد إليهما مسائل النزاع فليس بمؤمن‬ ‫ال ِ‬
‫ك { أي‪ :‬الرد‬ ‫حقيقة‪ ،‬بل مؤمن بالطاغوت‪ ،‬كما ذكر في الية بعدها } ذ َل ِ َ‬
‫ن ت َأ ِْويل { فإن حكم الله ورسوله أحسن‬ ‫س ُ‬‫ح َ‬
‫َ‬
‫خي ٌْر وَأ ْ‬
‫إلى الله ورسوله } َ‬
‫الحكام وأعدلها وأصلحها للناس في أمر دينهم ودنياهم وعاقبتهم‪.‬‬

‫) ‪(1/183‬‬

‫ك‬‫ن قَب ْل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬


‫ك وَ َ‬ ‫ل إ ِل َي ْ َ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬ ‫مُنوا ب ِ َ‬
‫ن أ َن ّه َ‬
‫مآ َ‬ ‫مو َ ُ ْ‬ ‫ن ي َْزعُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫أل َ ْ‬
‫ن ي َك ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫موا إ َِلى ال ّ‬ ‫يريدو َ‬
‫ريد ُ‬ ‫ِ‬ ‫فُروا ب ِهِ وَي ُ‬ ‫مُروا أ ْ‬ ‫ت وَقَد ْ أ ِ‬ ‫غو ِ‬ ‫طا ُ‬ ‫حاك َ ُ‬ ‫ن ي َت َ َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ُ ِ ُ َ‬
‫هّ‬ ‫َ‬
‫ما أن َْز َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ذا ِقي َ‬ ‫دا )‪ (60‬وَإ ِ َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ال ّ‬
‫ل الل ُ‬ ‫وا إ ِلى َ‬ ‫م ت ََعال ْ‬ ‫ل لهُ ْ‬ ‫ضلل ب َِعي ً‬ ‫م َ‬ ‫ضلهُ ْ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫طا ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫ف إِ َ‬ ‫َ‬
‫دا )‪ (61‬فَكي ْ َ‬ ‫دو ً‬ ‫ص ُ‬ ‫َ‬
‫ن عَن ْك ُ‬ ‫دو َ‬ ‫ص ّ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫قي َ‬ ‫مَنافِ ِ‬ ‫ت ال ُ‬ ‫ل َرأي ْ َ‬ ‫سو ِ‬ ‫وَإ َِلى الّر ُ‬
‫ن أ ََرد َْنا إ ِّل‬ ‫ن ِبالل ّهِ إ ِ ْ‬ ‫فو َ‬ ‫حل ِ ُ‬ ‫ك يَ ْ‬ ‫جاُءو َ‬ ‫م َ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫ديهِ ْ‬
‫َ‬
‫ت أي ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما قَد ّ َ‬ ‫ة بِ َ‬ ‫صيب َ ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫م ُ‬‫صاب َت ْهُ ْ‬ ‫أ َ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫قا )‪ُ (62‬أول َئ ِ َ‬
‫م‬
‫ض عَن ْهُ ْ‬ ‫م فَأعْرِ ْ‬ ‫ما ِفي قُُلوب ِهِ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ن ي َعْل َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫ساًنا وَت َوِْفي ً‬ ‫ح َ‬ ‫إِ ْ‬
‫م قَوْل ب َِليًغا )‪(63‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م وَقُ ْ‬ ‫ْ‬
‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ِفي أن ْ ُ‬ ‫ل له ُ ْ‬ ‫عظ ه ُ ْ‬ ‫وَ ِ‬

‫ما‬
‫ك وَ َ‬ ‫ل إ ِل َي ْ َ‬‫ما أ ُن ْزِ َ‬ ‫مُنوا ب ِ َ‬‫مآ َ‬
‫} ‪ } { 63 - 60‬أ َل َم تر إَلى ال ّذين يزعُمو َ‬
‫ن أن ّهُ ْ‬ ‫ِ َ َْ ُ َ‬ ‫ْ َ َ َِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫موا إ ِلى الطا ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن قَب ْل ِ َ‬ ‫أ ُن ْزِ َ‬
‫ه‬
‫فُروا ب ِ ِ‬ ‫ن ي َك ُ‬ ‫مُروا أ ْ‬ ‫ت وَقَد ْ أ ِ‬ ‫غو ِ‬ ‫حاك ُ‬ ‫ن ي َت َ َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫دو َ‬‫ري ُ‬‫ِ‬ ‫ك يُ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬
‫ما أ َن َْز َ‬
‫ل‬ ‫وا إ َِلى َ‬ ‫م ت ََعال َ ْ‬‫ل ل َهُ ْ‬‫ذا ِقي َ‬ ‫دا * وَإ ِ َ‬ ‫ضلل ب َِعي ً‬ ‫م َ‬ ‫ضل ّهُ ْ‬
‫ن يُ ِ‬ ‫نأ ْ‬
‫طا َ‬
‫شي ْ َ ُ‬ ‫ريد ُ ال ّ‬ ‫وَي ُ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫ف إِ َ‬ ‫َ‬
‫دا * فَكي ْ َ‬ ‫دو ً‬‫ص ُ‬
‫ك ُ‬ ‫ن عَن ْ َ‬ ‫دو َ‬‫ص ّ‬
‫ن يَ ُ‬ ‫قي َ‬ ‫مَنافِ ِ‬ ‫ت ال ُ‬ ‫ل َرأي ْ َ‬ ‫سو ِ‬ ‫ه وَإ ِلى الّر ُ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ن أ ََرد َْنا ِإل‬ ‫ن ِبالل ّهِ إ ِ ْ‬ ‫فو َ‬ ‫حل ِ ُ‬‫ك يَ ْ‬ ‫جاُءو َ‬ ‫م َ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫ديهِ ْ‬
‫َ‬
‫ت أي ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما قَد ّ َ‬ ‫ة بِ َ‬ ‫صيب َ ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫م ُ‬ ‫صاب َت ْهُ ْ‬ ‫َ‬
‫أَ‬
‫َ‬ ‫قا * ُأول َئ ِ َ‬
‫م‬
‫ض عَن ْهُ ْ‬ ‫م فَأعْرِ ْ‬ ‫ما ِفي قُُلوب ِهِ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ن ي َعْل َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫ساًنا وَت َوِْفي ً‬ ‫ح َ‬ ‫إِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ول ب َِليًغا { ‪.‬‬ ‫م قَ ْ‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ِفي أن ْ ُ‬ ‫ل له ُ ْ‬ ‫م وَقُ ْ‬ ‫عظ ه ُ ْ‬ ‫وَ ِ‬
‫م { مؤمنون‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن أن ّهُ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫ن ي َْزعُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫يعجب تعالى عباده من حالة المنافقين‪ } .‬ال ِ‬
‫َ‬
‫موا إ ِلى‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حاك ُ‬ ‫ن ي َت َ َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ري ُ‬ ‫بما جاء به الرسول وبما قبله‪ ،‬ومع هذا } ي ُ ِ‬
‫ت { وهو كل من حكم بغير شرع الله فهو طاغوت‪.‬‬ ‫غو ِ‬ ‫طا ُ‬ ‫ال ّ‬
‫فُروا ب ِهِ { فكيف يجتمع هذا واليمان؟ فإن‬ ‫ن ي َك ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫مُروا أ ْ‬ ‫والحال أنهم } قد أ ِ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫اليمان يقتضي النقياد لشرع الله وتحكيمه في كل أمر من المور‪ ،‬ف َ‬
‫زعم أنه مؤمن واختار حكم الطاغوت على حكم الله‪ ،‬فهو كاذب في ذلك‪.‬‬
‫طا َ‬
‫ضل ّهُ ْ‬
‫م‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫شي ْ َ ُ‬ ‫ريد ُ ال ّ‬ ‫وهذا من إضلل الشيطان إياهم‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَي ُ ِ‬
‫دا { عن الحق‪.‬‬ ‫ضلل ب َِعي ً‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ف { يكون حال هؤلء الضالين } إ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ْ‬ ‫ما قد ّ َ‬ ‫ة بِ َ‬ ‫صيب َ ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫م ُ‬ ‫صاب َت ْهُ ْ‬ ‫ذا أ َ‬ ‫} فكي ْ َ‬
‫م { من المعاصي ومنها تحكيم الطاغوت؟!‬ ‫َ‬
‫ديهِ ْ‬ ‫أي ْ ِ‬
‫ن أ ََرد َْنا ِإل‬ ‫ك { معتذرين )‪ (1‬لما صدر منهم‪ ،‬ويقولون‪ } :‬إ ِ ْ‬ ‫جاُءو َ‬ ‫م َ‬ ‫} ثُ ّ‬
‫قا { أي‪ :‬ما قصدنا في ذلك إل الحسان إلى المتخاصمين‬ ‫ساًنا وَت َوِْفي ً‬ ‫ح َ‬ ‫إِ ْ‬
‫ذبة في ذلك‪ .‬فإن الحسان كل الحسان تحكيم الله‬ ‫َ‬
‫والتوفيق بينهم‪ ،‬وهم ك َ‬
‫ما لقوْم ٍ يوقنون { ‪.‬‬ ‫سن من الله حك ً‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ورسوله } و َ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ولهذا قال‪ } :‬أولئ ِ َ‬
‫م { أي‪ :‬من النفاق‬ ‫ما ِفي قُلوب ِهِ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ُ‬ ‫ن ي َعْل ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ِ‬
‫َ‬
‫م { أي‪ :‬ل تبال بهم ول تقابلهم على ما‬ ‫ض عَن ْهُ ْ‬ ‫والقصد السيئ‪ } .‬فَأعْرِ ْ‬
‫م { أي‪ :‬بين لهم حكم الله تعالى مع الترغيب‬ ‫عظ ْهُ ْ‬ ‫فعلوه واقترفوه‪ } .‬وَ ِ‬
‫َ‬
‫ول ب َِليًغا {‬ ‫م قَ ْ‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ِفي أن ْ ُ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫في النقياد لله‪ ،‬والترهيب من تركه } وَقُ ْ‬
‫أي‪ :‬انصحهم سرا بينك وبينهم‪ ،‬فإنه أنجح لحصول المقصود‪ ،‬وبالغ في‬
‫ما كانوا عليه‪ ،‬وفي هذا دليل على أن مقترف المعاصي‬ ‫زجرهم وقمعهم ع ّ‬
‫وإن أعرض عنه فإنه ينصح سًرا‪ ،‬ويبالغ في وعظه بما يظن حصول‬
‫المقصود به‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في النسختين‪ :‬متعذرين‪.‬‬

‫) ‪(1/184‬‬

‫م‬
‫سهُ ْ‬‫ف َ‬ ‫موا أ َن ْ ُ‬ ‫م إ ِذ ْ ظ َل َ ُ‬
‫َ‬
‫ن الل ّهِ وَل َوْ أن ّهُ ْ‬ ‫طاعَ ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫ل إ ِّل ل ِي ُ َ‬‫سو ٍ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫م ْ‬ ‫سل َْنا ِ‬
‫َ‬
‫ما أْر َ‬ ‫وَ َ‬
‫ما )‬‫حي ً‬
‫واًبا َر ِ‬ ‫ه تَ ّ‬ ‫ّ‬
‫دوا الل َ‬ ‫ج ُ‬ ‫َ‬
‫ل لوَ َ‬ ‫سو ُ‬ ‫م الّر ُ‬ ‫َ‬
‫فَر لهُ ُ‬ ‫ست َغْ َ‬
‫ه َوا ْ‬ ‫ّ‬
‫فُروا الل َ‬ ‫ست َغْ َ‬ ‫َ‬
‫جاُءوك َفا ْ‬ ‫َ‬
‫دوا ِفي‬ ‫ج ُ‬
‫م ل يَ ِ‬ ‫َ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫جَر ب َي ْن َهُ ْ‬‫ش َ‬ ‫ما َ‬ ‫موك ِفي َ‬‫َ‬ ‫ّ‬
‫حك ُ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫ن َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪ (64‬فَل وََرب ّك ل ي ُؤْ ِ‬ ‫َ‬
‫ما )‪(65‬‬ ‫سِلي ً‬‫موا ت َ ْ‬ ‫ّ‬
‫سل ُ‬ ‫ت وَي ُ َ‬ ‫ضي ْ َ‬‫ما قَ َ‬ ‫م ّ‬
‫جا ِ‬ ‫حَر ً‬‫م َ‬ ‫سهِ ْ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫ف ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م إ ِذ ْ‬ ‫ن الل ّهِ وَل َوْ أن ّهُ ْ‬ ‫طاعَ ب ِإ ِذ ْ ِ‬ ‫ل ِإل ل ِي ُ َ‬ ‫سو ٍ‬ ‫ن َر ُ‬ ‫م ْ‬‫سل َْنا ِ‬ ‫ما أْر َ‬ ‫} ‪ } { 65 ، 64‬وَ َ‬
‫هّ‬
‫دوا الل َ‬ ‫ج ُ‬ ‫سول لوَ َ‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫م الّر ُ‬ ‫َ‬
‫فَر لهُ ُ‬ ‫ست َغْ َ‬‫ه َوا ْ‬ ‫ّ‬
‫فُروا الل َ‬ ‫ست َغْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جاُءوك فا ْ‬ ‫م َ‬‫سه ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫موا أ َن ْ ُ‬‫ظ َل َ ُ‬
‫مل‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫جَر ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫ما َ‬
‫ش َ‬ ‫ك ِفي َ‬ ‫مو َ‬ ‫حك ّ ُ‬ ‫حّتى ي ُ َ‬ ‫ن َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ك ل ي ُؤْ ِ‬ ‫ما * َفل وََرب ّ َ‬ ‫حي ً‬ ‫واًبا َر ِ‬ ‫تَ ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫سِلي ً‬ ‫موا ت َ ْ‬ ‫سل ُ‬ ‫ت وَي ُ َ‬ ‫ما قَ َ‬
‫ضي ْ َ‬ ‫م ّ‬
‫جا ِ‬ ‫حَر ً‬ ‫م َ‬ ‫سهِ ْ‬
‫ف ِ‬ ‫دوا ِفي أن ْ ُ‬ ‫ج ُ‬ ‫يَ ِ‬
‫يخبر تعالى خبرا في ضمنه المر والحث على طاعة الرسول والنقياد له‪.‬‬
‫ل إليهم‬ ‫وأن الغاية من إرسال الرسل أن يكونوا مطاعين ينقاد لهم المرس ُ‬
‫في جميع ما أمروا به ونهوا عنه‪ ،‬وأن يكونوا معظمين تعظيم المطيع )‪(1‬‬
‫للمطاع‪.‬‬
‫وفي هذا إثبات عصمة الرسل فيما يبلغونه عن الله‪ ،‬وفيما يأمرون به‬
‫وينهون عنه؛ لن الله أمر بطاعتهم مطلقا‪ ،‬فلول أنهم معصومون ل‬
‫يشرعون ما هو خطأ‪ ،‬لما أمر بذلك مطلقا‪.‬‬
‫ن الل ّهِ { أي‪ :‬الطاعة من المطيع صادرة بقضاء الله وقدره‪.‬‬ ‫وقوله‪ } :‬ب ِإ ِذ ْ ِ‬
‫ففيه إثبات القضاء والقدر‪ ،‬والحث على الستعانة بالله‪ ،‬وبيان أنه ل يمكن‬
‫النسان ‪-‬إن لم يعنه الله‪ -‬أن يطيع الرسول‪.‬‬
‫ثم أخبر عن كرمه العظيم وجوده‪ ،‬ودعوته لمن اقترفوا السيئات أن‬
‫م‬
‫سه ُ ْ‬
‫ف َ‬ ‫موا أ َن ْ ُ‬
‫م إ ِذ ْ ظ َل َ ُ‬
‫َ‬
‫يعترفوا ويتوبوا ويستغفروا الله فقال‪ } :‬وَل َوْ أن ّهُ ْ‬
‫ك { أي‪ :‬معترفين بذنوبهم باخعين بها‪ ] .‬ص ‪[ 185‬‬ ‫جاُءو َ‬
‫َ‬
‫ما { أي‪:‬‬ ‫حي ً‬ ‫واًبا َر ِ‬ ‫ه تَ ّ‬ ‫ّ‬
‫دوا الل َ‬ ‫ج ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫سول لوَ َ‬ ‫م الّر ُ‬ ‫َ‬
‫فَر لهُ ُ‬
‫ست َغْ َ‬
‫ه َوا ْ‬ ‫ّ‬
‫فُروا الل َ‬ ‫ست َغْ َ‬ ‫َ‬
‫} فا ْ‬
‫مهم‪ ،‬ورحمهم بقبول التوبة والتوفيق لها والثواب‬ ‫ْ‬
‫لتاب عليهم بمغفرته ظل َ‬
‫عليها‪ ،‬وهذا المجيء إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مختص بحياته؛ لن‬
‫السياق يدل على ذلك لكون الستغفار من الرسول ل يكون إل في حياته‪،‬‬
‫وأما بعد موته فإنه ل يطلب منه شيء بل ذلك شرك‪.‬‬
‫ثم أقسم تعالى بنفسه الكريمة أنهم ل يؤمنون حتى يحكموا رسوله فيما‬
‫شجر بينهم‪ ،‬أي‪ :‬في كل شيء يحصل فيه اختلف‪ ،‬بخلف مسائل الجماع‪،‬‬
‫فإنها ل تكون إل مستندة للكتاب والسنة‪ ،‬ثم ل يكفي هذا التحكيم حتى‬
‫ينتفي الحرج من قلوبهم والضيق‪ ،‬وكونهم يحكمونه على وجه الغماض‪ ،‬ثم‬
‫ما بانشراح صدر‪ ،‬وطمأنينة‬ ‫ل يكفي ذلك )‪ (2‬حتى يسلموا لحكمه تسلي ً‬
‫نفس‪ ،‬وانقياد بالظاهر والباطن‪.‬‬
‫فالتحكيم في مقام السلم‪ ،‬وانتفاء الحرج في مقام اليمان‪ ،‬والتسليم في‬
‫من استكمل هذه المراتب وكملها‪ ،‬فقد استكمل مراتب‬ ‫مقام الحسان‪ .‬ف َ‬
‫من‬‫من ترك هذا التحكيم المذكور غير ملتزم له فهو كافر‪ ،‬و َ‬ ‫الدين كلها‪ .‬ف َ‬
‫تركه‪ ،‬مع التزامه فله حكم أمثاله من العاصين‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في النسختين‪ :‬تعظيم المطاع للمطيع‪ ،‬وهو سبق قلم‪ ،‬وقد عدلت في‬
‫ب عن طريق المطبعة السلفية إلى تعظيم المطاع من المطيع‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬هذا التحكيم‪.‬‬

‫) ‪(1/184‬‬

‫ما فَعَُلوهُ إ ِّل‬ ‫م َ‬ ‫ن دَِيارِك ُ ْ‬


‫م ْ‬ ‫جوا ِ‬ ‫خُر ُ‬ ‫م أ َوِ ا ْ‬
‫سك ُ ْ‬
‫ف َ‬ ‫ن اقْت ُُلوا أ َن ْ ُ‬ ‫ول َو أ َنا ك َتبنا عَل َيه َ‬
‫مأ ِ‬ ‫ِْ ْ‬ ‫َ ْ ّ ََْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫شد ّ ت َث ِْبيًتا )‪(66‬‬ ‫م وَأ َ‬ ‫خي ًْرا لهُ ْ‬‫ن َ‬‫ن ب ِهِ لكا َ‬ ‫ما ُيوعَظو َ‬ ‫م فَعَلوا َ‬ ‫م وَلوْ أن ّهُ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫قَِلي ٌ‬
‫ما )‪(68‬‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وَإ ِ ً‬
‫قي ً‬‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫صَراطا ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ما )‪ (67‬وَلهَد َي َْناهُ ْ‬ ‫ظي ً‬ ‫جًرا عَ ِ‬ ‫ن لد ُّنا أ ْ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬‫ذا لت َي َْناهُ ْ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫جوا ِ‬ ‫خُر ُ‬‫م أ َوِ ا ْ‬ ‫سك ُ ْ‬
‫ف َ‬ ‫ن اقْت ُُلوا أ َن ْ ُ‬ ‫مأ ِ‬
‫} ‪ } { 68 - 66‬ول َو أ َنا ك َتبنا عَل َيه َ‬
‫ِْ ْ‬ ‫َ ْ ّ ََْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ما فَعَُلوهُ ِإل قَِلي ٌ‬
‫خي ًْرا‬
‫ن َ‬‫ن ب ِهِ لكا َ‬ ‫ما ُيوعَظو َ‬ ‫م فعَلوا َ‬ ‫َ‬ ‫م وَلوْ أن ّهُ ْ‬‫من ْهُ ْ‬
‫ل ِ‬ ‫م َ‬ ‫دَِيارِك ُ ْ‬
‫صَرا ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫طا‬ ‫م ِ‬ ‫ما * وَل َهَد َي َْناهُ ْ‬ ‫ظي ً‬‫جًرا عَ ِ‬ ‫ن ل َد ُّنا أ ْ‬‫م ْ‬‫م ِ‬‫ذا لت َي َْناهُ ْ‬ ‫شد ّ ت َث ِْبيًتا * وَإ ِ ً‬‫م وَأ َ‬ ‫ل َهُ ْ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫قي ً‬ ‫ست َ ِ‬‫م ْ‬‫ُ‬
‫يخبر تعالى أنه لو كتب على عباده الوامر الشاقة على النفوس من قتل‬
‫النفوس والخروج من الديار لم يفعله إل القليل منهم والنادر‪ ،‬فليحمدوا‬
‫ربهم وليشكروه على تيسير ما أمرهم به من الوامر التي تسهل على كل‬
‫أحد‪ ،‬ول يشق فعلها‪ ،‬وفي هذا إشارة إلى أنه ينبغي أن يلحظ العبد ضد ما‬
‫دا وشكًرا لربه‪.‬‬ ‫هو فيه من المكروهات‪ ،‬لتخف عليه العبادات‪ ،‬ويزداد حم ً‬
‫ظف عليهم في كل وقت‬ ‫ثم أخبر أنهم لو فعلوا ما يوعظون به أي‪ :‬ما وُ ّ‬
‫بحسبه‪ ،‬فبذلوا هممهم‪ ،‬ووفروا نفوسهم للقيام به وتكميله‪ ،‬ولم تطمح‬
‫نفوسهم لما لم يصلوا إليه‪ ،‬ولم يكونوا بصدده‪ ،‬وهذا هو الذي ينبغي للعبد‪،‬‬
‫أن ينظر إلى الحالة التي يلزمه القيام بها فيكملها‪ ،‬ثم يتدرج شيًئا فشيًئا‬
‫حتى يصل إلى ما قدر له من العلم والعمل في أمر الدين والدنيا‪ ،‬وهذا‬
‫بخلف من طمحت نفسه إلى أمر لم يصل إليه ولم يؤمر به بعد‪ ،‬فإنه ل‬
‫يكاد يصل إلى ذلك بسبب تفريق الهمة‪ ،‬وحصول الكسل وعدم النشاط‪.‬‬
‫ثم رتب ما يحصل لهم على فعل ما يوعظون به‪ ،‬وهو أربعة أمور‪:‬‬
‫م { أي‪ :‬لكانوا من الخيار‬ ‫خي ًْرا ل َهُ ْ‬
‫ن َ‬ ‫)أحدها( الخيرية في قوله‪ } :‬ل َ َ‬
‫كا َ‬
‫المتصفين بأوصافهم من أفعال الخير التي أمروا بها‪ ،‬أي‪ :‬وانتفى عنهم‬
‫بذلك صفة الشرار‪ ،‬لن ثبوت الشيء يستلزم نفي ضده‪.‬‬
‫)الثاني( حصول التثبيت والثبات وزيادته‪ ،‬فإن الله يثبت الذين آمنوا بسبب‬
‫ما قاموا به من اليمان‪ ،‬الذي هو القيام بما وعظوا به‪ ،‬فيثبتهم في الحياة‬
‫الدنيا عند ورود الفتن في الوامر والنواهي والمصائب‪ ،‬فيحصل لهم ثبات‬
‫يوفقون لفعل الوامر وترك الزواجر التي تقتضي النفس فعلها‪ ،‬وعند‬
‫حلول المصائب التي يكرهها العبد‪ .‬فيوفق للتثبيت بالتوفيق للصبر أو‬
‫للرضا أو للشكر‪ .‬فينزل عليه معونة من الله للقيام بذلك‪ ،‬ويحصل له‬
‫الثبات على الدين‪ ،‬عند الموت وفي القبر‪.‬‬
‫وأيضا فإن العبد القائم بما أمر به‪ ،‬ل يزال يتمرن على الوامر الشرعية‬
‫حتى يألفها ويشتاق إليها وإلى أمثالها‪ ،‬فيكون ذلك معونة له على الثبات‬
‫على الطاعات‪.‬‬
‫َ‬
‫ما { أي‪ :‬في العاجل‬ ‫ظي ً‬
‫جًرا عَ ِ‬ ‫ن ل َد ُّنا أ ْ‬‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫)الثالث( قوله‪ } :‬وَإ ِ ً‬
‫ذا لت َي َْناهُ ْ‬
‫والجل الذي يكون للروح والقلب والبدن‪ ،‬ومن النعيم المقيم مما ل عين‬
‫رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪.‬‬
‫)الرابع( الهداية إلى صراط مستقيم‪ .‬وهذا عموم بعد خصوص‪ ،‬لشرف‬
‫الهداية إلى الصراط المستقيم‪ ،‬من كونها متضمنة للعلم بالحق‪ ،‬ومحبته‬
‫وإيثاره والعمل به‪ ،‬وتوقف السعادة والفلح على ذلك‪ ،‬فمن هُدِيَ إلى‬
‫صراط مستقيم‪ ،‬فقد وُفّقَ لكل خير واندفع عنه كل شر وضير‪.‬‬

‫) ‪(1/185‬‬

‫ك مع ال ّذي َ‬ ‫ومن يطع الل ّه والرسو َ ُ‬


‫ن‬
‫ن الن ّب ِّيي َ‬
‫م َ‬ ‫ه عَل َي ْهِ ْ‬
‫م ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬‫ن أن ْعَ َ‬‫ل فَأول َئ ِ َ َ َ ِ َ‬ ‫َ َ ّ ُ‬ ‫َ َ ْ ُ ِِ‬
‫ض ُ‬
‫ل‬ ‫ْ‬ ‫قا )‪ (69‬ذ َل ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن أولئ ِ َ‬ ‫ن َوال ّ‬
‫ف ْ‬‫ك ال َ‬ ‫ك َرِفي ً‬ ‫س َ‬
‫ح ُ‬
‫ن وَ َ‬
‫حي َ‬
‫صال ِ ِ‬
‫داِء َوال ّ‬‫شهَ َ‬ ‫قي َ‬ ‫دي ِ‬‫ص ّ‬
‫َوال ّ‬
‫ما )‪(70‬‬ ‫ّ‬
‫فى ِباللهِ عَِلي ً‬ ‫ّ‬
‫ن اللهِ وَك َ َ‬ ‫م َ‬
‫ِ‬
‫ك مع ال ّذي َ‬ ‫} ‪ } { 70 ، 69‬ومن يطع الل ّه والرسو َ ُ‬
‫ه عَل َي ْهِ ْ‬
‫م‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ل فَأول َئ ِ َ َ َ ِ َ‬
‫ن أن ْعَ َ‬ ‫َ َ ّ ُ‬ ‫َ َ ْ ُ ِِ‬
‫قا * ذ َل ِكَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن أولئ ِك َرِفي ً‬ ‫ن َوال ّ‬
‫س َ‬
‫ح ُ‬
‫ن وَ َ‬ ‫حي َ‬
‫صال ِ ِ‬
‫داِء َوال ّ‬
‫شه َ َ‬ ‫قي َ‬
‫دي ِ‬
‫ص ّ‬
‫ن َوال ّ‬ ‫ن الن ّب ِّيي َ‬
‫م َ‬ ‫ِ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فى ِباللهِ عَِلي ً‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن اللهِ وَك َ‬ ‫م َ‬‫ل ِ‬ ‫ض ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫ْ‬
‫ال َ‬
‫ن أطاع الله ورسوله على حسب حاله وقدر الواجب عليه من‬ ‫م ْ‬‫أي‪ :‬كل َ‬
‫ك مع ال ّذي َ‬ ‫ُ‬
‫م { أي‪ :‬النعمة‬ ‫ه عَل َي ْهِ ْ‬
‫م الل ّ ُ‬ ‫ذكر وأنثى وصغير وكبير‪ } ،‬فَأول َئ ِ َ َ َ ِ َ‬
‫ن أن ْعَ َ‬
‫ن { الذين‬ ‫ن الن ّب ِّيي َ‬‫م َ‬ ‫العظيمة التي تقتضي الكمال والفلح والسعادة } ِ‬
‫فضلهم الله بوحيه‪ ،‬واختصهم بتفضيلهم بإرسالهم إلى الخلق‪ ] ،‬ص ‪[ 186‬‬
‫ن { وهم‪ :‬الذين كمل تصديقهم بما‬ ‫قي َ‬
‫دي ِ‬
‫ص ّ‬ ‫ودعوتهم إلى الله تعالى } َوال ّ‬
‫جاءت به الرسل‪ ،‬فعلموا الحق وصدقوه بيقينهم‪ ،‬وبالقيام به قول وعمل‬
‫داِء { الذين قاتلوا في سبيل الله لعلء‬ ‫شه َ َ‬ ‫وحال ودعوة إلى الله‪َ } ،‬وال ّ‬
‫ن { الذين صلح ظاهرهم وباطنهم فصلحت‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬
‫كلمة الله فقتلوا‪َ } ،‬وال ّ‬
‫ن‬
‫س َ‬
‫ح ُ‬‫أعمالهم‪ ،‬فكل من أطاع الله تعالى كان مع هؤلء في صحبتهم } وَ َ‬
‫قا { بالجتماع بهم في جنات النعيم والْنس بقربهم في جوار‬ ‫ك َرِفي ً‬ ‫ُأول َئ ِ َ‬
‫رب العالمين‪.‬‬
‫ن الل ّهِ { فهو الذي وفقهم لذلك‪ ،‬وأعانهم‬ ‫م َ‬ ‫ل { الذي نالوه } ِ‬ ‫ض ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫ك ال ْ َ‬
‫} ذ َل ِ َ‬
‫عليه‪ ،‬وأعطاهم من الثواب ما ل تبلغه أعمالهم‪.‬‬
‫ما { يعلم أحوال عباده ومن يستحق منهم الثواب‬ ‫فى ِبالل ّهِ عَِلي ً‬ ‫} وَك َ َ‬
‫الجزيل‪ ،‬بما قام به من العمال الصالحة التي تواطأ عليها القلب‬
‫والجوارح‪.‬‬

‫) ‪(1/185‬‬

‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫ن‬
‫ميًعا )‪ (71‬وَإ ِ ّ‬ ‫ج ِ‬ ‫فُروا َ‬ ‫ت أ و ِ ان ْ ِ‬ ‫فُروا ث َُبا ٍ‬ ‫م َفان ْ ِ‬ ‫حذ َْرك ُ ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫مُنوا ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫ل قَد أ َنعم الل ّه عَل َي إذ ْ ل َ َ‬ ‫منك ُم ل َمن ل َيبط ّئ َن فَإن أ َ‬
‫ن‬‫م أك ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ ِ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ة َقا َ ْ ْ َ َ‬ ‫صيب َ ٌ‬ ‫م ِ‬ ‫م ُ‬ ‫صاب َت ْك ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ ِ ْ‬ ‫ِ ْ ْ َ ْ َُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ن ب َي ْن َك ْ‬ ‫م ت َك ْ‬ ‫نل ْ‬ ‫ن كأ ْ‬ ‫قول ّ‬ ‫ن اللهِ لي َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ض ٌ‬ ‫م فَ ْ‬ ‫صاب َك ْ‬ ‫نأ َ‬ ‫دا )‪ (72‬وَلئ ِ ْ‬ ‫شِهي ً‬ ‫م َ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫بي‬ ‫س‬ ‫في‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ت‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫(‬‫‪73‬‬ ‫)‬ ‫ما‬ ‫ظي‬ ‫ع‬ ‫زا‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ز‬ ‫فو‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫أ‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ني‬ ‫ت‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫يا‬ ‫ة‬ ‫د‬
‫َ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ُ َ ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ّ‬ ‫وَ ُ َ َ‬
‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ب‬
‫ل أوَ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫قت َ ْ ْ‬ ‫ل اللهِ فَي ُ ْ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ل ِفي َ‬ ‫قات ِ ْ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫م ْ‬
‫خَرةِ وَ َ‬ ‫حَياةَ الد ّن َْيا ِبال ِ‬ ‫ن ال َ‬ ‫شُرو َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫الل ّهِ ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ما )‪(74‬‬ ‫ظي ً‬ ‫جًرا عَ ِ‬ ‫ف ن ُؤِْتيهِ أ ْ‬ ‫سوْ َ‬ ‫ب فَ َ‬ ‫ي َغْل ِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫فُروا‬ ‫ت أوِ ان ْ ِ‬ ‫فُروا ث َُبا ٍ‬ ‫م َفان ْ ِ‬ ‫حذ َْرك ُ ْ‬‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫مُنوا ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 74 - 71‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫جميعا * وإن منك ُم ل َمن ل َيبط ّئ َن فَإن أ َ‬
‫ه عَل َ ّ‬
‫ي‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ل قَد ْ أن ْعَ َ‬
‫َ‬
‫ة َقا َ‬ ‫صيب َ ٌ‬‫م ِ‬ ‫م ُ‬ ‫صاب َت ْك ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ ِ ْ‬ ‫َِ ّ ِ ْ ْ َ ْ َُ‬ ‫َ ِ ً‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ُ‬
‫م ت َك ْ‬ ‫نل ْ‬ ‫ن كأ ْ‬ ‫َ‬ ‫قول ّ‬ ‫ن اللهِ لي َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ض ٌ‬‫م فَ ْ‬ ‫ُ‬
‫صاب َك ْ‬ ‫نأ َ‬ ‫دا * وَلئ ِ ْ‬ ‫شِهي ً‬ ‫م َ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م أك ْ‬‫ُ‬ ‫إ ِذ ْ ل َ ْ‬
‫ما * فَل ْي ُ َ‬ ‫َ‬
‫ل ِفي‬ ‫قات ِ ْ‬ ‫م فَأُفوَز فَوًْزا عَ ِ‬
‫ظي ً‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫ت َ‬ ‫موَد ّةٌ َيا ل َي ْت َِني ك ُن ْ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫م وَب َي ْن َ ُ‬ ‫ب َي ْن َك ُ ْ‬
‫ل الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ل ِفي َ‬ ‫قات ِ ْ‬‫ن يُ َ‬ ‫م ْ‬ ‫خَرةِ وَ َ‬ ‫حَياةَ الد ّن َْيا ِبال ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫شُرو َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل الل ّهِ ال ّ ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫ً‬ ‫ظي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫را‬‫ْ ً‬ ‫ج‬ ‫أ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫تي‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ؤ‬‫ُ‬ ‫ن‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫و‬
‫َ ْ‬ ‫س‬ ‫ف‬ ‫ب‬‫ْ َ ْ‬‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫غ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫أ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫ق‬‫فَ ُ‬
‫ي‬
‫يأمر تعالى عباده المؤمنين بأخذ حذرهم من أعدائهم الكافرين‪ .‬وهذا‬
‫يشمل الخذ بجميع السباب‪ ،‬التي بها يستعان على قتالهم ويستدفع‬
‫مكرهم وقوتهم‪ ،‬من استعمال الحصون والخنادق‪ ،‬وتعلم الرمي والركوب‪،‬‬
‫وتعلم الصناعات التي تعين على ذلك‪ ،‬وما به يعرف مداخلهم‪ ،‬ومخارجهم‪،‬‬
‫ومكرهم‪ ،‬والنفير في سبيل الله‪.‬‬
‫ت { أي‪ :‬متفرقين بأن تنفر سرية أو جيش‪ ،‬ويقيم‬ ‫فُروا ث َُبا ٍ‬ ‫ولهذا قال‪َ } :‬فان ْ ِ‬
‫ميًعا { وكل هذا تبع للمصلحة والنكاية‪ ،‬والراحة‬ ‫َ‬
‫ج ِ‬‫فُروا َ‬ ‫غيرهم } أوِ ان ْ ِ‬
‫ما‬‫م َ‬ ‫دوا ل َهُ ْ‬ ‫للمسلمين في دينهم‪ ،‬وهذه الية نظير قوله تعالى‪ } :‬وَأ َ ِ‬
‫ع ّ‬
‫ن قُوّةٍ { ‪.‬‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ست َط َعْت ُ ْ‬ ‫ا ْ‬
‫م{‬ ‫ُ‬
‫من ْك ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ثم أخبر عن ضعفاء اليمان المتكاسلين عن الجهاد فقال‪ } :‬وَإ ِ ّ‬
‫ن { أي‪ :‬يتثاقل عن الجهاد في سبيل الله‬ ‫ن ل َي ُب َط ّئ َ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫أي‪ :‬أيها المؤمنون } ل َ َ‬
‫ضعفا وخورا وجبنا‪ ،‬هذا الصحيح‪.‬‬
‫وقيل معناه‪ :‬ليبطئن غيَره أي‪ :‬يزهده عن القتال‪ ،‬وهؤلء هم المنافقون‪،‬‬
‫ولكن الول َأولى لوجهين‪:‬‬
‫م { والخطاب للمؤمنين‪.‬‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫أحدهما‪ :‬قوله } ِ‬
‫موَد ّةٌ { فإن الكفار‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه َ‬ ‫م وَب َي ْن َ ُ‬ ‫ن ب َي ْن َك ْ‬ ‫م ت َك ْ‬ ‫نل ْ‬ ‫والثاني‪ :‬قوله في آخر الية‪ } :‬كأ ْ‬
‫من المشركين والمنافقين قد قطع الله بينهم وبين المؤمنين المودة‪.‬‬
‫وأيضا فإن هذا هو الواقع‪ ،‬فإن المؤمنين على قسمين‪:‬‬
‫صادقون في إيمانهم أوجب لهم ذلك كمال التصديق والجهاد‪.‬‬
‫وضعفاء دخلوا في السلم فصار معهم إيمان ضعيف ل يقوى على الجهاد‪.‬‬
‫َ‬
‫مَنا {‬ ‫سل َ ْ‬
‫ن ُقوُلوا أ ْ‬ ‫مُنوا وَل َك ِ ْ‬ ‫م ت ُؤْ ِ‬ ‫ل لَ ْ‬ ‫مّنا قُ ْ‬ ‫بآ َ‬ ‫ت العَْرا ُ‬ ‫كما قال تعالى‪َ } :‬قال َ ِ‬
‫إلى آخر اليات‪ .‬ثم ذكر غايات هؤلء المتثاقلين ونهاية مقاصدهم‪ ،‬وأن‬
‫معظم قصدهم الدنيا وحطامها فقال‪ } :‬فَإ َ‬
‫ة { أي‪ :‬هزيمة‬ ‫صيب َ ٌ‬‫م ِ‬ ‫م ُ‬ ‫صاب َت ْك ُ ْ‬ ‫نأ َ‬ ‫ِ ْ‬
‫وقتل‪ ،‬وظفر العداء عليكم في بعض الحوال لما لله في ذلك من الحكم‪.‬‬
‫ل { ذلك المتخلف } قَد أ َنعم الل ّه عَل َي إذ ْ ل َ َ‬
‫دا { رأى‬ ‫شِهي ً‬ ‫م َ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م أك ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ َْ َ‬ ‫} َقا َ‬
‫من ضعف عقله وإيمانه أن التقاعد عن الجهاد الذي فيه تلك المصيبة‬
‫نعمة‪ .‬ولم يدر أن النعمة الحقيقية هي التوفيق لهذه الطاعة الكبيرة‪ ،‬التي‬
‫بها يقوى اليمان‪ ،‬ويسلم بها العبد من العقوبة والخسران‪ ،‬ويحصل له فيها‬
‫عظيم الثواب ورضا الكريم الوهاب‪.‬‬
‫وأما القعود فإنه وإن استراح قليل فإنه يعقبه تعب طويل وآلم عظيمة‪،‬‬
‫ويفوته ما يحصل للمجاهدين‪.‬‬
‫َ‬ ‫ثم قال‪ } :‬ول َئ ِن أ َ‬
‫ن ك َأ ْ‬
‫ن‬ ‫قول َ ّ‬ ‫ن الل ّهِ { أي‪ :‬نصر وغنيمة } ل َي َ ُ‬ ‫م‬‫ل ِ‬ ‫ض ٌ‬ ‫م فَ ْ‬
‫ل َم تك ُن بينك ُ َم و ْبينه مودة يا ل َيتني ك ُنت معهم فَأ َ‬
‫َ‬ ‫صاب َك ُ ْ‬‫َ‬
‫ما { أي‪:‬‬ ‫ِ ً‬ ‫ظي‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫زا‬ ‫و‬
‫َ ًْ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ز‬ ‫فو‬ ‫ُ‬ ‫ْ ُ َ َ ُ ْ‬ ‫ْ َ ْ ََْ ْ َََْ ُ َ َ ّ ٌ َ َِْ‬
‫يتمنى أنه حاضر لينال من المغانم‪ ،‬ليس له رغبة ول قصد في غير ذلك‪،‬‬
‫كأنه ليس منكم يا معشر المؤمنين ول بينكم وبينه المودة اليمانية التي )‬
‫‪ (1‬من مقتضاها أن المؤمنين مشتركون في جميع مصالحهم ودفع‬
‫مضارهم‪ ،‬يفرحون بحصولها ولو على يد غيرهم من إخوانهم المؤمنين )‪(2‬‬
‫ويألمون بفقدها‪ ،‬ويسعون جميعا في كل أمر يصلحون به دينهم ودنياهم‪،‬‬
‫فهذا الذي يتمنى الدنيا فقط‪ ،‬ليست معه الروح اليمانية المذكورة‪.‬‬
‫ومن لطف الله بعباده أن ل يقطع عنهم رحمته‪ ،‬ول يغلق عنهم أبوابها‪ .‬بل‬
‫من حصل منه غير ما يليق أمره ودعاه إلى جبر نقصه وتكميل نفسه‪،‬‬
‫] ص ‪ [ 187‬فلهذا أمر هؤلء بالخلص والخروج في سبيله فقال‪:‬‬
‫خَرةِ { هذا أحد‬ ‫حَياةَ الد ّن َْيا ِبال ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫شُرو َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل الل ّهِ ال ّ ِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ل ِفي َ‬ ‫قات ِ ْ‬‫} فَل ْي ُ َ‬
‫القوال في هذه الية وهو أصحها‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬إن معناه‪ :‬فليقاتل في سبيل الله المؤمنون الكاملو اليمان‪،‬‬
‫خَرةِ { أي‪ :‬يبيعون‬ ‫حَياةَ الد ّن َْيا ِبال ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫شُرو َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫الصادقون في إيمانهم } ال ّ ِ‬
‫الدنيا رغبة عنها بالخرة رغبة فيها‪.‬‬
‫فإن هؤلء الذين يوجه إليهم الخطاب لنهم الذين قد أعدوا أنفسهم‬
‫طنوها على جهاد العداء‪ ،‬لما معهم من اليمان التام المقتضي لذلك‪.‬‬ ‫وو ّ‬
‫وأما أولئك المتثاقلون‪ ،‬فل يعبأ بهم خرجوا أو قعدوا‪ ،‬فيكون هذا نظير قوله‬
‫ذا ي ُت َْلى‬ ‫ل آمنوا به أ َو ل تؤْمنوا إن ال ّذي ُ‬
‫ن قَب ْل ِهِ إ ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْعِل ْ َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ُ ِ ُ ِ ّ‬ ‫تعالى‪ } :‬قُ ْ ِ ُ ِ ِ ْ‬
‫فْر ب َِها‬ ‫ن ي َك ْ ُ‬ ‫دا { إلى آخر اليات‪ .‬وقوله‪ } :‬فَإ ِ ْ‬ ‫ج ً‬‫س ّ‬
‫ن ُ‬ ‫ن ِللذ َْقا ِ‬ ‫خّرو َ‬ ‫م يَ ِ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫ن { وقيل‪ :‬إن معنى الية‪:‬‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫سوا ب َِها ب ِ َ‬ ‫ما ل َي ْ ُ‬ ‫قد ْ وَك ّل َْنا ب َِها قَوْ ً‬ ‫ؤلِء فَ َ‬ ‫هَ ُ‬
‫فليقاتل المقاتل والمجاهد للكفار الذين يشرون الحياة الدنيا بالخرة‪،‬‬
‫فيكون على هذا الوجه "الذين" في محل نصب على المفعولية‪.‬‬
‫ل الل ّهِ { بأن يكون جهادا قد أمر الله به ورسوله‪،‬‬ ‫سِبي ِ‬
‫ل ِفي َ‬‫قات ِ ْ‬
‫ن يُ َ‬‫م ْ‬‫} وَ َ‬
‫َ‬
‫ف‬ ‫ب فَ َ‬
‫سوْ َ‬ ‫ل أوْ ي َغْل ِ ْ‬ ‫ويكون العبد مخلصا لله فيه قاصدا وجه الله‪ } .‬فَي ُ ْ‬
‫قت َ ْ‬
‫َ‬
‫ما { زيادة في إيمانه ودينه‪ ،‬وغنيمة‪ ،‬وثناء حسنا‪ ،‬وثواب‬ ‫ظي ً‬
‫جًرا عَ ِ‬ ‫ن ُؤِْتيهِ أ ْ‬
‫المجاهدين في سبيل الله الذين أعد الله لهم في الجنة ما ل عين رأت‪ ،‬ول‬
‫أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في النسختين‪ :‬الذي‪.‬‬
‫)‪ (2‬في النسختين‪ :‬على يد غيره من إخوانه‪.‬‬

‫) ‪(1/186‬‬

‫ساِء‬‫ل َوالن ّ َ‬‫جا ِ‬ ‫ن الّر َ‬


‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫في َ‬‫ضع َ ِ‬‫ست َ ْ‬
‫م ْ‬‫ل الل ّهِ َوال ْ ُ‬ ‫سِبي ِ‬‫ن ِفي َ‬ ‫قات ُِلو َ‬
‫م َل ت ُ َ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫ل ل ََنا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جع َ ْ‬‫ظال ِم ِ أهْل َُها َوا ْ‬
‫قْري َةِ ال ّ‬
‫ن هَذِهِ ال ْ َ‬‫م ْ‬ ‫جَنا ِ‬ ‫خرِ ْ‬ ‫ن َرب َّنا أ ْ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ن يَ ُ‬‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬‫دا ِ‬ ‫َوال ْوِل ْ َ‬
‫صيًرا )‪(75‬‬ ‫ك نَ ِ‬ ‫ن ل َد ُن ْ َ‬ ‫م ْ‬‫ل ل ََنا ِ‬
‫جعَ ْ‬‫ك وَل ِّيا َوا ْ‬‫ن ل َد ُن ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬

‫ل‬‫جا ِ‬ ‫ن الّر َ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬


‫في َ‬ ‫ضع َ ِ‬‫ست َ ْ‬‫م ْ‬‫ل الل ّهِ َوال ْ ُ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫قات ُِلو َ‬
‫م ل تُ َ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬ ‫} ‪ } { 75‬وَ َ‬
‫َ‬
‫ظال ِم ِ أهْل َُها‬
‫قْري َةِ ال ّ‬ ‫ن هَذِهِ ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫م ْ‬ ‫جَنا ِ‬ ‫خرِ ْ‬ ‫ن َرب َّنا أ ْ‬ ‫قوُلو َ‬‫ن يَ ُ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫دا ِ‬ ‫ساِء َوال ْوِل ْ َ‬ ‫َوالن ّ َ‬
‫صيًرا { ‪.‬‬ ‫ك نَ ِ‬ ‫ن ل َد ُن ْ َ‬‫م ْ‬ ‫جَعل ل ََنا ِ‬‫ك وَل ِّيا َوا ْ‬ ‫ن ل َد ُن ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫جَعل ل ََنا ِ‬ ‫َوا ْ‬
‫هذا حث من الله لعباده المؤمنين وتهييج لهم على القتال في سبيله‪ ،‬وأن‬
‫ما ل َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ذلك قد تعين عليهم‪ ،‬وتوجه اللوم العظيم عليهم بتركه‪ ،‬فقال‪ } :‬وَ َ‬
‫ل الل ّهِ { والحال أن المستضعفين من الرجال والنساء‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫قات ُِلو َ‬
‫ل تُ َ‬
‫والولدان الذين ل يستطيعون حيلة ول يهتدون سبيل ومع هذا فقد نالهم‬
‫أعظم الظلم من أعدائهم‪ ،‬فهم يدعون الله أن يخرجهم من هذه القرية‬
‫الظالم أهلها لنفسهم بالكفر والشرك‪ ،‬وللمؤمنين بالذى والصد عن سبيل‬
‫الله‪ ،‬ومنعهم من الدعوة لدينهم والهجرة‪.‬‬
‫ويدعون الله أن يجعل لهم ولّيا ونصيًرا يستنقذهم من هذه القرية الظالم‬
‫أهلها‪ ،‬فصار جهادكم على هذا الوجه من باب القتال والذب عن عيلتكم‬
‫وأولدكم ومحارمكم‪ ،‬ل من باب الجهاد الذي هو الطمع في الكفار‪ ،‬فإنه‬
‫وإن كان فيه فضل عظيم ويلم المتخلف عنه أعظم اللوم‪ ،‬فالجهاد الذي‬
‫فيه استنقاذ المستضعفين منكم أعظم أجًرا وأكبر فائدة‪ ،‬بحيث يكون من‬
‫باب دفع العداء‪.‬‬

‫) ‪(1/187‬‬

‫قات ُِلو َ‬ ‫ل الل ّهِ َوال ّ ِ‬ ‫قات ُِلو َ‬ ‫ذي َ‬


‫ل‬
‫سِبي ِ‬
‫ن ِفي َ‬ ‫فُروا ي ُ َ‬‫ن كَ َ‬
‫ذي َ‬ ‫سِبي ِ‬
‫ن ِفي َ‬ ‫مُنوا ي ُ َ‬
‫نآ َ‬‫ال ّ ِ َ‬
‫فا )‪(76‬‬ ‫ضِعي ً‬ ‫ن َ‬ ‫شي ْ َ‬‫ن ك َي ْد َ ال ّ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫َ‬
‫قات ُِلوا أوْل َِياَء ال ّ‬ ‫ت فَ َ‬ ‫ال ّ‬
‫طا ُ‬
‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫طا ِ‬ ‫ن إِ ّ‬ ‫طا ِ‬ ‫غو ِ‬

‫فُروا‬‫ن كَ َ‬ ‫ل الل ّهِ َوال ّ ِ‬


‫ذي َ‬ ‫سِبي ِ‬
‫ن ِفي َ‬ ‫قات ُِلو َ‬ ‫مُنوا ي ُ َ‬‫نآ َ‬‫ذي َ‬‫} ‪. { 76‬ثم قال‪ } :‬ال ّ ِ‬
‫ن‬ ‫ن َ‬
‫كا َ‬ ‫طا ِ‬‫شي ْ َ‬‫ن ك َي ْد َ ال ّ‬
‫ن إِ ّ‬‫طا ِ‬ ‫قات ُِلوا أ َوْل َِياَء ال ّ‬
‫شي ْ َ‬ ‫ت فَ َ‬‫غو ِ‬‫طا ُ‬‫ل ال ّ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫قات ُِلو َ‬
‫ن ِفي َ‬ ‫يُ َ‬
‫فا { ‪.‬‬ ‫ضِعي ً‬‫َ‬
‫ن كفَُروا‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫هذا إخبار من الله بأن المؤمنين يقاتلون في سبيله } َوال ِ‬
‫ت { الذي هو الشيطان‪ .‬في ضمن ذلك عدة‬ ‫غو ِ‬ ‫طا ُ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫قات ُِلو َ‬ ‫يُ َ‬
‫فوائد‪:‬‬
‫منها‪ :‬أنه بحسب إيمان العبد يكون جهاده في سبيل الله‪ ،‬وإخلصه‬
‫ومتابعته‪ .‬فالجهاد في سبيل الله من آثار اليمان ومقتضياته ولوازمه‪ ،‬كما‬
‫أن القتال في سبيل الطاغوت من شعب الكفر ومقتضياته‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الذي يقاتل في سبيل الله ينبغي له ويحسن منه من الصبر‬
‫والجلد ما ل يقوم به غيره‪ ،‬فإذا كان أولياء الشيطان يصبرون ويقاتلون‬
‫وهم على باطل‪ ،‬فأهل الحق أولى بذلك‪ ،‬كما قال تعالى في هذا المعنى‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ما ل‬ ‫ن الل ّهِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫جو َ‬‫ن وَت َْر ُ‬
‫مو َ‬ ‫ما ت َأل َ ُ‬‫ن كَ َ‬ ‫م ي َأل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ن فَإ ِن ّهُ ْ‬
‫مو َ‬ ‫كوُنوا ت َأل َ ُ‬‫ن تَ ُ‬ ‫} إِ ْ‬
‫ن { الية‪.‬‬ ‫جو َ‬ ‫ي َْر ُ‬
‫ومنها‪ :‬أن الذي يقاتل في سبيل الله معتمد على ركن وثيق‪ ،‬وهو الحق‪،‬‬
‫والتوكل على الله‪ .‬فصاحب القوة والركن الوثيق يطلب منه من الصبر‬
‫والثبات والنشاط ما ل يطلب ممن يقاتل عن الباطل‪ ،‬الذي ل حقيقة له ول‬
‫ن ك َي ْد َ‬
‫ن إِ ّ‬‫طا ِ‬ ‫قات ُِلوا أ َوْل َِياَء ال ّ‬
‫شي ْ َ‬ ‫عاقبة حميدة‪ .‬فلهذا قال تعالى‪ } :‬فَ َ‬
‫فا { ‪.‬‬ ‫ضِعي ً‬‫ن َ‬ ‫ن َ‬
‫كا َ‬ ‫طا ِ‬‫شي ْ َ‬ ‫ال ّ‬
‫ْ‬
‫مكُرهُ‬ ‫والكيد‪ :‬سلوك الطرق الخفية في ضرر العدو‪ ،‬فالشيطان وإن بلغ َ‬
‫مهما بلغ فإنه في غاية الضعف‪ ،‬الذي ل يقوم لدنى شيء من الحق ول‬
‫لكيد الله لعباده المؤمنين‪.‬‬

‫) ‪(1/187‬‬

‫صَلةَ وَآ َُتوا الّز َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫كاةَ فَل َ ّ‬
‫ما‬ ‫موا ال ّ‬ ‫م وَأِقي ُ‬ ‫فوا أي ْدِي َك ُ ْ‬ ‫م كُ ّ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫ن ِقي َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬ ‫أل َ ْ‬
‫شي َةِ الل ّهِ أ َوْ أ َ َ‬
‫شد ّ‬ ‫س كَ َ‬
‫خ ْ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫شوْ َ‬ ‫خ َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ريقٌ ِ‬ ‫ذا فَ ِ‬ ‫ل إِ َ‬ ‫قَتا ُ‬ ‫م ال ْ ِ‬‫ب عَل َي ْهِ ُ‬ ‫ك ُت ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مَتاعُ‬
‫ل َ‬ ‫ب قُ ْ‬ ‫ري ٍ‬ ‫ل قَ ِ‬ ‫ج ٍ‬‫خْرت ََنا إ َِلى أ َ‬‫ل ل َوَْل أ ّ‬ ‫قَتا َ‬ ‫ت عَل َي َْنا ال ْ ِ‬ ‫م ك َت َب ْ َ‬ ‫ة وََقاُلوا َرب َّنا ل ِ َ‬ ‫شي َ ً‬‫خ ْ‬ ‫َ‬
‫ن فَِتيًل )‪(77‬‬ ‫مو َ‬ ‫قى وََل ت ُظ ْل َ ُ‬ ‫ن ات ّ َ‬ ‫َ‬
‫ل َواْل ِ‬ ‫الد ّن َْيا قَِلي ٌ‬
‫م ِ‬
‫خي ٌْر ل ِ َ‬ ‫خَرةُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫صلةَ‬ ‫موا ال ّ‬‫م وَأِقي ُ‬ ‫فوا أي ْدِي َك ُ ْ‬ ‫م كُ ّ‬‫ل ل َهُ ْ‬ ‫ن ِقي َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ت ََر إ َِلى ال ّ ِ‬ ‫} ‪ } { 78 ، 77‬أل َ ْ‬
‫ة‬
‫شي َ ِ‬ ‫خ ْ‬ ‫س كَ َ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫شوْ َ‬ ‫خ َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ريقٌ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ذا فَ‬‫ل إِ َ‬ ‫قَتا ُ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫ب عَل َي ْهِ ُ‬ ‫ما ك ُت ِ َ‬ ‫كاةَ فَل َ ّ‬ ‫َوآُتوا الّز َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الل ّهِ أ َوْ أ َ َ‬
‫ل‬
‫ج ٍ‬ ‫خْرت ََنا إ ِلى أ َ‬ ‫ول أ ّ‬ ‫لل ْ‬ ‫قَتا َ‬ ‫ت عَلي َْنا ال ِ‬ ‫م ك َت َب ْ َ‬ ‫ة وََقالوا َرب َّنا ل ِ َ‬ ‫شي َ ً‬‫خ ْ‬ ‫شد ّ َ‬
‫َ‬
‫ما‬‫ن فَِتيل * أي ْن َ َ‬ ‫مو َ‬ ‫قى َول ت ُظ ْل َ ُ‬ ‫ن ات ّ َ‬ ‫م ِ‬ ‫خي ٌْر ل ِ َ‬‫خَرةُ َ‬ ‫ل َوال ِ‬ ‫مَتاعُ الد ّن َْيا قَِلي ٌ‬ ‫ل َ‬ ‫ب قُ ْ‬ ‫ري ٍ‬‫قَ ِ‬
‫شي ّد َةٍ ‪. { ...‬‬ ‫م َ‬‫م ِفي ب ُُروٍج ُ‬ ‫ت وَل َوْ ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫موْ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫كوُنوا ي ُد ْرِك ُك ُ ُ‬ ‫تَ ُ‬
‫كان المسلمون ‪-‬إذ كانوا بمكة‪ -‬مأمورين بالصلة والزكاة أي‪ :‬مواساة‬
‫الفقراء‪ ،‬ل الزكاة المعروفة ذات النصب والشروط‪ ،‬فإنها لم تفرض إل‬
‫بالمدينة‪ ،‬ولم يؤمروا بجهاد العداء لعدة فوائد‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن من حكمة الباري تعالى أن يشرع لعباده الشرائع على وجه ل‬
‫يشق ] ص ‪ [ 188‬عليهم؛ ويبدأ بالهم فالهم‪ ،‬والسهل فالسهل‪.‬‬
‫هم وكثرة أعدائهم‪-‬‬ ‫هم وعُد َدِ ِ‬ ‫ومنها‪ :‬أنه لو فرض عليهم القتال ‪-‬مع قلة عَد َدِ ِ‬
‫لدى ذلك إلى اضمحلل السلم‪ ،‬فروعي جانب المصلحة العظمى على ما‬
‫كم‪.‬‬ ‫ح َ‬ ‫دونها ولغير ذلك من ال ِ‬
‫وكان بعض المؤمنين يودون أن لو فرض عليهم القتال في تلك الحال‪ ،‬غير‬
‫اللئق فيها ذلك‪ ،‬وإنما اللئق فيها القيام بما أمروا به في ذلك الوقت من‬
‫َ‬
‫ما‬‫م فَعَُلوا َ‬ ‫التوحيد والصلة والزكاة ونحو ذلك كما قال تعالى‪ } :‬وَل َوْ أن ّهُ ْ‬
‫شد ّ ت َث ِْبيًتا { فلما هاجروا إلى المدينة وقوي‬ ‫م وَأ َ َ‬ ‫خي ًْرا ل َهُ ْ‬
‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ن ب ِهِ ل َ َ‬ ‫ظو َ‬ ‫ُيوعَ ُ‬
‫كتب عليهم القتال في وقته المناسب لذلك‪ ،‬فقال فريق من‬ ‫السلم‪ُ ،‬‬
‫م‬‫الذين يستعجلون القتال قبل ذلك خوفا من الناس وضعفا وخورا‪َ } :‬رب َّنا ل ِ َ‬
‫ل { ؟ وفي هذا تضجرهم واعتراضهم على الله‪ ،‬وكان‬ ‫قَتا َ‬ ‫ت عَل َي َْنا ال ْ ِ‬ ‫ك َت َب ْ َ‬
‫الذي ينبغي لهم ضد هذه الحال‪ ،‬التسليم لمر الله والصبر على أوامره‪،‬‬
‫َ‬ ‫ول أ َ ّ‬
‫ب { أي‪:‬‬ ‫ري ٍ‬‫ل قَ ِ‬ ‫ج ٍ‬ ‫خْرت ََنا إ َِلى أ َ‬ ‫فعكسوا المر المطلوب منهم فقالوا‪ } :‬ل َ ْ‬
‫هل أخرت فرض القتال مدة متأخرة عن الوقت الحاضر‪ ،‬وهذه الحال كثيًرا‬
‫ما تعرض لمن هو غير رزين واستعجل في المور قبل وقتها‪ ،‬فالغالب عليه‬
‫أنه ل يصبر عليها وقت حلولها ول ينوء بحملها‪ ،‬بل يكون قليل الصبر‪ .‬ثم‬
‫إن الله وعظهم عن هذه الحال التي فيها التخلف عن القتال فقال‪ } :‬قُلْ‬
‫قى { أي‪ :‬التمتع بلذات الدنيا وراحتها‬ ‫ن ات ّ َ‬‫م ِ‬ ‫خي ٌْر ل ِ َ‬‫خَرةُ َ‬ ‫ل َوال ِ‬ ‫مَتاعُ الد ّن َْيا قَِلي ٌ‬ ‫َ‬
‫قليل‪ ،‬فتحمل الثقال في طاعة الله في المدة القصيرة مما يسهل على‬
‫النفوس ويخف عليها؛ لنها إذا علمت أن المشقة التي تنالها ل يطول لبثها‬
‫هان عليها ذلك‪ ،‬فكيف إذا وازنت بين الدنيا والخرة‪ ،‬وأن الخرة خير منها‪،‬‬
‫في ذاتها‪ ،‬ولذاتها وزمانها‪ ،‬فذاتها ‪-‬كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في‬
‫الحديث الثابت عنه‪"-‬أن موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها"‬
‫‪.‬ولذاتها صافية عن المكدرات‪ ،‬بل كل ما خطر بالبال أو دار في الفكر من‬
‫ي‬
‫ف َ‬ ‫ما أ ُ ْ‬
‫خ ِ‬ ‫س َ‬ ‫ف ٌ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫تصور لذة‪ ،‬فلذة الجنة فوق ذلك كما قال تعالى‪َ } :‬فل ت َعْل َ ُ‬
‫َ‬
‫ن { وقال الله على لسان نبيه‪":‬أعددت لعبادي الصالحين‬ ‫ن قُّرةِ أعْي ُ ٍ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ل َهُ ْ‬
‫ما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر" ‪.‬‬
‫وأما لذات الدنيا فإنها مشوبة بأنواع التنغيص الذي لو قوبل بين لذاتها وما‬
‫يقترن بها من أنواع اللم والهموم والغموم‪ ،‬لم يكن لذلك نسبة بوجه من‬
‫الوجوه‪.‬‬
‫وأما زمانها‪ ،‬فإن الدنيا منقضية‪ ،‬وعمر النسان بالنسبة إلى الدنيا شيء‬
‫كر العاقل‬ ‫يسير‪ ،‬وأما الخرة فإنها دائمة النعيم وأهلها خالدون فيها‪ ،‬فإذا ف ّ‬
‫في هاتين الدارين وتصور حقيقتهما حق التصور‪ ،‬عرف ما هو أحق باليثار‪،‬‬
‫قى { أي‪:‬‬ ‫ن ات ّ َ‬ ‫م ِ‬ ‫خي ٌْر ل ِ َ‬
‫خَرةُ َ‬‫والسعي له والجتهاد لطلبه‪ ،‬ولهذا قال‪َ } :‬وال ِ‬
‫ن فَِتيل { أي‪ :‬فسعيكم للدار‬ ‫مو َ‬ ‫اتقى الشرك‪ ،‬وسائر المحرمات‪َ } .‬ول ت ُظ ْل َ ُ‬
‫الخرة ستجدونه كامل موفًرا غير منقوص منه شيًئا‪.‬‬
‫ثم أخبر أنه ل يغني حذر عن قدر‪ ،‬وأن القاعد ل يدفع عنه قعوده شيًئا‪،‬‬
‫وَ‬ ‫َ‬
‫ت { أي‪ :‬في أي زمان وأي مكان‪ } .‬وَل ْ‬ ‫موْ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫كوُنوا ي ُد ْرِك ْك ّ ُ‬ ‫ما ت َ ُ‬ ‫فقال‪ } :‬أي ْن َ َ‬
‫شي ّد َةٍ { أي‪ :‬قصور منيعة ومنازل رفيعة‪ ،‬وكل هذا حث‬ ‫م َ‬ ‫م ِفي ب ُُروٍج ُ‬ ‫ك ُن ْت ُ ْ‬
‫على الجهاد في سبيل الله تارة بالترغيب في فضله وثوابه‪ ،‬وتارة بالترهيب‬
‫دهم‪ ،‬وتارة‬ ‫من عقوبة تركه‪ ،‬وتارة بالخبار أنه ل ينفع القاعدين قعو ُ‬
‫بتسهيل الطريق في ذلك وقصرها‪.‬‬

‫) ‪(1/187‬‬

‫َ‬
‫ة‬
‫سن َ ٌ‬‫ح َ‬
‫م َ‬‫صب ْهُ ْ‬
‫ن تُ ِ‬ ‫م َ‬
‫شي ّد َةٍ وَإ ِ ْ‬ ‫م ِفي ب ُُروٍج ُ‬ ‫ت وَل َوْ ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫موْ ُ‬‫م ال ْ َ‬
‫كوُنوا ي ُد ْرِك ُك ُ ُ‬
‫ما ت َ ُ‬
‫أي ْن َ َ‬
‫ل‬‫ل كُ ّ‬
‫ك قُ ْ‬‫عن ْدِ َ‬
‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قوُلوا هَذِهِ ِ‬‫ة يَ ُ‬‫سي ّئ َ ٌ‬
‫م َ‬ ‫صب ْهُ ْ‬ ‫ن تُ ِ‬ ‫عن ْدِ الل ّهِ وَإ ِ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قوُلوا هَذِهِ ِ‬ ‫يَ ُ‬
‫َ‬ ‫قوْم ِ َل ي َ َ‬
‫ل هَؤَُلِء ال ْ َ‬
‫ك‬‫صاب َ َ‬
‫ما أ َ‬‫ديًثا )‪َ (78‬‬ ‫ح ِ‬
‫ن َ‬ ‫قُهو َ‬‫ف َ‬‫ن يَ ْ‬
‫دو َ‬ ‫كا ُ‬ ‫ما ِ‬‫عن ْدِ الل ّهِ فَ َ‬ ‫ن ِ‬‫م ْ‬‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫س‬
‫سلَناك ِللّنا ِ‬ ‫سك وَأْر َ‬ ‫ف ِ‬
‫ن نَ ْ‬
‫م ْ‬‫سي ّئ َةٍ فَ ِ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫صاب َك ِ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ن اللهِ وَ َ‬ ‫م َ‬‫سن َةٍ فَ ِ‬
‫ح َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫دا )‪(79‬‬ ‫شِهي ً‬ ‫ّ‬
‫فى ِباللهِ َ‬ ‫َ‬
‫سول وَك َ‬‫ً‬ ‫َر ُ‬

‫عن ْدِ الل ّ ِ‬


‫ه‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قوُلوا هَذِهِ ِ‬ ‫ة يَ ُ‬ ‫سن َ ٌ‬‫ح َ‬ ‫م َ‬ ‫صب ْهُ ْ‬ ‫ن تُ ِ‬ ‫} ‪ { 79 ، 78‬ثم قال‪ .... } :‬وَإ ِ ْ‬
‫ؤلءِ‬ ‫ل هَ ُ‬ ‫ما ِ‬ ‫عن ْدِ الل ّهِ فَ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ل كُ ّ‬ ‫ك قُ ْ‬ ‫عن ْدِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫قوُلوا هَذِهِ ِ‬ ‫ة يَ ُ‬ ‫سي ّئ َ ٌ‬ ‫م َ‬ ‫صب ْهُ ْ‬‫ن تُ ِ‬ ‫وَإ ِ ْ‬
‫صاب َكَ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ما أ َ‬ ‫ن اللهِ وَ َ‬ ‫م َ‬‫سن َةٍ ف ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫صاب َك ِ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ديثا * َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن َ‬ ‫قُهو َ‬ ‫ف َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫قوْم ِ ل ي َكا ُ‬
‫فى ِبالل ّهِ َ‬ ‫سول وَك َ َ‬ ‫سل َْنا َ‬ ‫َ‬ ‫س َ‬
‫دا {‪.‬‬ ‫شِهي ً‬ ‫س َر ُ‬ ‫ك ِللّنا ِ‬ ‫ك وَأْر َ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫سي ّئ َةٍ فَ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫يخبر تعالى عن الذين ل يعلمون المعرضين عما جاءت به الرسل‪،‬‬
‫المعارضين لهم أنهم إذا جاءتهم حسنة أي‪ :‬خصب وكثرة أموال‪ ،‬وتوفر‬
‫عن ْدِ الل ّهِ { وأنهم إن أصابتهم سيئة أي‪:‬‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫أولد وصحة‪ ،‬قالوا‪ } :‬هَذِهِ ِ‬
‫ك { أي‪:‬‬ ‫عن ْدِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫جدب وفقر‪ ،‬ومرض وموت أولد وأحباب قالوا‪ } :‬هَذِهِ ِ‬
‫بسبب ما جئتنا به يا محمد‪ ،‬تطيروا برسول الله صلى الله عليه وسلم كما‬
‫تطير أمثالهم برسل الله‪ ،‬كما أخبر الله عن قوم فرعون أنهم قالوا‬
‫ة ي َط ّي ُّروا‬ ‫سي ّئ َ ٌ‬‫م َ‬ ‫صب ْهُ ْ‬ ‫ن تُ ِ‬ ‫ة َقاُلوا ل ََنا هَذِهِ وَإ ِ ْ‬ ‫سن َ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫جاَءت ْهُ ُ‬ ‫ذا َ‬ ‫لموسى } فَإ ِ َ‬
‫ه{‪.‬‬ ‫معَ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫سى وَ َ‬ ‫مو َ‬ ‫بِ ُ‬
‫ك{‪.‬‬ ‫مع َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك وَب ِ َ‬ ‫وقال قوم صالح‪ } :‬قالوا اط ّي ّْرَنا ب ِ َ‬
‫م{‬ ‫من ّك ُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫م ت َن ْت َُهوا ل َن َْر ُ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م ل َئ ِ ْ‬ ‫وقال قوم ياسين لرسلهم‪ } :‬إ ِّنا ت َط َي ّْرَنا ب ِك ُ ْ‬
‫الية‪ .‬فلما تشابهت قلوبهم بالكفر تشابهت أقوالهم وأعمالهم‪ .‬وهكذا كل‬
‫من نسب حصول الشر أو زوال الخير لما جاءت به الرسل أو لبعضه فهو‬
‫داخل في هذا الذم الوخيم‪.‬‬
‫ل { أي‪ :‬من الحسنة والسيئة والخير والشر‪.‬‬ ‫لك ّ‬ ‫ُ‬ ‫قال الله في جوابهم‪ } :‬قُ ْ‬
‫ؤلِء‬ ‫ما لهَ ُ‬ ‫عن ْدِ الل ّهِ { أي‪ :‬بقضائه ] ص ‪ [ 189‬وقدره وخلقه‪ } .‬فَ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫} ِ‬
‫ن‬‫قُهو َ‬ ‫ف َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫َ‬
‫وم { أي‪ :‬الصادر منهم تلك المقالة الباطلة‪ } .‬ل ي َكا ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ديًثا { أي‪ :‬ل يفهمون حديثا بالكلية ول يقربون من فهمه‪ ،‬أو ل يفهمون‬ ‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫فا‪ ،‬وعلى كل فهو ذم لهم وتوبيخ على عدم فهمهم‬ ‫ما ضعي ً‬ ‫منه إل فه ً‬
‫وفقههم عن الله وعن رسوله‪ ،‬وذلك بسبب كفرهم وإعراضهم‪.‬‬
‫دح من يفهم عن الله وعن رسوله‪ ،‬والحث على ذلك‪،‬‬ ‫وفي ضمن ذلك م ْ‬
‫وعلى السباب المعينة على ذلك‪ ،‬من القبال على كلمهما وتدبره‪،‬‬
‫وسلوك الطرق الموصلة إليه‪ .‬فلو فقهوا عن الله لعلموا أن الخير والشر‬
‫والحسنات والسيئات كلها بقضاء الله وقدره‪ ،‬ل يخرج منها شيء عن ذلك‪.‬‬
‫وأن الرسل عليهم الصلة والسلم ل يكونون سببا لشر يحدث‪ ،‬هم ول ما‬
‫جاءوا به لنهم بعثوا بصلح الدنيا والخرة والدين‪.‬‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫صاب َ َ‬ ‫َ‬
‫م َ‬ ‫سن َةٍ { أي‪ :‬في الدين والدنيا } ف ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ثم قال تعالى‪َ } :‬‬
‫َ‬
‫سي ّئ َةٍ {‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫صاب َك ِ‬ ‫َ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ن بها ويسرها بتيسير أسبابها‪ } .‬وَ َ‬ ‫م ّ‬ ‫الل ّهِ { هو الذي َ‬
‫ك { أي‪ :‬بذنوبك وكسبك‪ ،‬وما يعفو الله عنه‬ ‫س َ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫في الدين والدنيا } فَ ِ‬
‫أكثر‪.‬‬
‫فالله تعالى قد فتح لعباده أبواب إحسانه وأمرهم بالدخول لبره وفضله‪،‬‬
‫وأخبرهم أن المعاصي مانعة من فضله‪ ،‬فإذا فعلها العبد فل يلومن إل‬
‫نفسه فإنه المانع لنفسه عن وصول فضل الله وبره‪.‬‬
‫ثم أخبر عن عموم رسالة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم فقال‪:‬‬
‫دا { على أنك رسول الله حقا‬ ‫فى ِبالل ّهِ َ‬ ‫سول وَك َ َ‬ ‫سل َْنا َ‬ ‫َ‬
‫شِهي ً‬ ‫س َر ُ‬ ‫ك ِللّنا ِ‬ ‫} وَأْر َ‬
‫بما أيدك بنصره والمعجزات الباهرة والبراهين الساطعة‪ ،‬فهي أكبر شهادة‬
‫ه َ‬
‫شِهيد ٌ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫يٍء أ َك ْب َُر َ‬
‫شَهاد َةً قُ ِ‬ ‫ل أ َيّ َ‬
‫ش ْ‬ ‫على الطلق‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬قُ ْ‬
‫م { فإذا علم أن الله تعالى كامل العلم‪ ،‬تام القدرة عظيم‬ ‫ب َي ِْني وَب َي ْن َك ُ ْ‬
‫الحكمة‪ ،‬وقد أيد الله رسوله بما أيده‪ ،‬ونصره نصرا عظيما‪ ،‬تيقن بذلك أنه‬
‫رسول الله‪ ،‬وإل فلو تقول عليه بعض القاويل لخذ منه باليمين‪ ،‬ثم لقطع‬
‫منه الوتين‪.‬‬

‫) ‪(1/188‬‬

‫في ً‬ ‫َ‬ ‫قد ْ أ َ َ‬


‫ظا )‬ ‫ح ِ‬ ‫م َ‬ ‫ك عَل َي ْهِ ْ‬ ‫سل َْنا َ‬ ‫ما أْر َ‬ ‫ن ت َوَّلى فَ َ‬ ‫م ْ‬‫ه وَ َ‬ ‫طاعَ الل ّ َ‬ ‫ل فَ َ‬ ‫سو َ‬
‫ن ي ُط ِِع الّر ُ‬‫م ْ‬
‫َ‬
‫قو ُ‬
‫ل‬ ‫ذي ت َ ُ‬ ‫م غَي َْر ال ِّ‬ ‫ه‬
‫ِ ُْ ْ‬ ‫ن‬‫م‬ ‫ة‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫ئ‬ ‫طا‬ ‫َ‬ ‫ت‬
‫َّ َ‬ ‫ي‬‫ب‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫د‬ ‫ن‬ ‫ع‬
‫ِ‬
‫ِ ْ ْ ِ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫زوا‬ ‫ر‬ ‫ب‬
‫ِ ََ ُ‬ ‫ذا‬‫َ‬ ‫إ‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ة‬
‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫َ‬
‫طا‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫لو‬ ‫قو‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫(‬‫‪80‬‬
‫كيًل )‬ ‫و‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬‫بال‬ ‫فى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫لى‬‫َ‬ ‫ع‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫ت‬‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫ع‬‫والل ّه َيك ْتب ما يبيتون فَأ َ‬
‫ِ ِ َ ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ ْ ُْ ْ ََ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ َ ُ ُ َ َُُّ َ‬
‫‪(81‬‬

‫سل َْنا َ‬ ‫َ‬ ‫قد ْ أ َ َ‬


‫ك‬ ‫ما أْر َ‬ ‫ن ت َوَّلى فَ َ‬ ‫م ْ‬‫ه وَ َ‬ ‫طاعَ الل ّ َ‬ ‫ل فَ َ‬ ‫سو َ‬ ‫ن ي ُط ِِع الّر ُ‬ ‫م ْ‬ ‫} ‪َ } { 81 ، 80‬‬
‫م غَي َْر‬‫من ْهُ ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ف ٌ‬ ‫َ‬
‫ت طائ ِ َ‬ ‫ك ب َي ّ َ‬ ‫عن ْدِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ذا ب ََرُزوا ِ‬ ‫ة فَإ ِ َ‬‫ن طاعَ ٌ‬ ‫َ‬ ‫قولو َ‬ ‫ُ‬ ‫ظا * وَي َ ُ‬ ‫في ً‬ ‫ح ِ‬‫م َ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫ل عََلى الل ّهِ وَك َ َ‬ ‫َ‬
‫فى‬ ‫م وَت َوَك ّ ْ‬ ‫ض عَن ْهُ ْ‬ ‫ن فَأعْرِ ْ‬ ‫ما ي ُب َي ُّتو َ‬ ‫ب َ‬ ‫ه ي َك ْت ُ ُ‬ ‫ل َوالل ّ ُ‬ ‫قو ُ‬ ‫ذي ت َ ُ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫كيل { ‪.‬‬ ‫ِبالل ّهِ وَ ِ‬
‫ه { تعالى‬ ‫طاعَ الل ّ َ‬ ‫قد ْ أ َ َ‬ ‫ن أطاع رسول الله في أوامره ونواهيه } فَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫أي‪ :‬كل َ‬
‫لكونه ل يأمر ول ينهى إل بأمر الله وشرعه ووحيه وتنزيله‪ ،‬وفي هذا‬
‫عصمة الرسول صلى الله عليه وسلم لن الله أمر بطاعته مطلقا‪ ،‬فلول‬
‫أنه معصوم في كل ما ي ُب َّلغ عن الله لم يأمر بطاعته مطلقا‪ ،‬ويمدح على‬
‫ذلك‪ .‬وهذا من الحقوق المشتركة فإن الحقوق ثلثة‪:‬‬
‫حق لله تعالى ل يكون لحد من الخلق‪ ،‬وهو عبادة الله والرغبة إليه‪ ،‬وتوابع‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وقسم مختص بالرسول‪ ،‬وهو التعزير والتوقير والنصرة‪.‬‬
‫وقسم مشترك‪ ،‬وهو اليمان بالله ورسوله ومحبتهما وطاعتهما‪ ،‬كما جمع‬
‫سول ِهِ وَت ُعَّزُروهُ وَت ُوَقُّروهُ‬ ‫مُنوا ِبالل ّهِ وََر ُ‬ ‫الله بين هذه الحقوق في قوله‪ } :‬ل ِت ُؤْ ِ‬
‫َ‬
‫ن أطاع الرسول فقد أطاع الله‪ ،‬وله من‬ ‫م ْ‬ ‫صيل { ف َ‬ ‫حوهُ ب ُك َْرةً وَأ ِ‬ ‫سب ّ ُ‬‫وَت ُ َ‬
‫ن ت َوَلى { عن طاعة الله‬ ‫ّ‬ ‫م ْ‬ ‫الثواب والخير ما رتب على طاعة الله } وَ َ‬
‫َ‬ ‫سلَنا َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ك عَلي ْهِ ْ‬ ‫ما أْر َ‬ ‫ورسوله فإنه ل يضر إل نفسه‪ ،‬ول يضر الله شيًئا } فَ َ‬
‫ظا { أي‪ :‬تحفظ أعمالهم وأحوالهم‪ ،‬بل أرسلناك مبلغا ومبينا وناصحا‪،‬‬ ‫في ً‬ ‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫وقد أديت وظيفتك‪ ،‬ووجب أجرك على الله‪ ،‬سواء اهتدوا أم لم يهتدوا‪ .‬كما‬
‫َ‬
‫صي ْط ِرٍ { اليات‬ ‫م َ‬ ‫م بِ ُ‬ ‫ت عَل َي ْهِ ْ‬ ‫س َ‬ ‫مذ َك ٌّر * ل َ ْ‬ ‫ت ُ‬ ‫ما أن ْ َ‬ ‫قال تعالى‪ } :‬فَذ َك ّْر إ ِن ّ َ‬
‫ول بد أن تكون طاعة الله ورسوله ظاهًرا وباطًنا في الحضرة والمغيب‬
‫ن يظهر في الحضرة والطاعة واللتزام فإذا خل بنفسه أو أبناء‬ ‫م ْ‬ ‫فأما َ‬
‫جنسه ترك الطاعة وأقبل على ضدها فإن الطاعة التي أظهرها غير نافعة‬
‫ة { أي يظهرون‬ ‫طاعَ ٌ‬ ‫ن َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ول مفيدة وقد أشبه من قال الله فيهم } وَي َ ُ‬
‫عن ْدِك { أي خرجوا وخلوا في‬ ‫َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ذا ب ََرُزوا ِ‬ ‫الطاعة إذا كانوا عندك } فَإ ِ َ‬
‫ل { أي بيتوا‬ ‫قو ُ‬ ‫ذي ت َ ُ‬ ‫ّ‬
‫م غَي َْر ال ِ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ف ٌ‬ ‫َ‬
‫ت طائ ِ َ‬ ‫حالة ل يطلع فيها عليهم } ب َي ّ َ‬
‫م إل المعصية‬ ‫ودبروا غير طاعتك ول ث َ ّ‬
‫ل { دليل على أن المر الذي‬ ‫قو ُ‬ ‫ذي ت َ ُ‬ ‫ّ‬
‫م غَي َْر ال ِ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ف ٌ‬‫طائ ِ َ‬‫ت َ‬ ‫وفي قوله } ب َي ّ َ‬
‫استقروا عليه غير الطاعة؛ لن التبييت تدبير المر ليل على وجه يستقر‬
‫ن { أي‬‫ما ي ُب َي ُّتو َ‬
‫ب َ‬ ‫عليه الرأي ثم توعدهم على ما فعلوا فقال } َوالل ّ ُ‬
‫ه ي َك ْت ُ ُ‬
‫يحفظه عليهم وسيجازيهم عليه أتم الجزاء ففيه وعيد لهم‬
‫ثم أمر رسوله بمقابلتهم بالعراض وعدم التعنيف فإنهم ل يضرونه شيئا‬
‫إذا توكل على الله واستعان به في نصر دينه وإقامة شرعه ولهذا قال‬
‫َ‬
‫كيل {‪.‬‬ ‫فى ِبالل ّهِ وَ ِ‬
‫ل عََلى الل ّهِ وَك َ َ‬
‫م وَت َوَك ّ ْ‬ ‫} فَأعْرِ ْ‬
‫ض عَن ْهُ ْ‬
‫) ‪(1/189‬‬

‫َ‬
‫خت َِلًفا ك َِثيًرا )‬
‫دوا ِفيهِ ا ْ‬ ‫عن ْدِ غَي ْرِ الل ّهِ ل َوَ َ‬
‫ج ُ‬ ‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬
‫كا َ‬ ‫قْرآ َ َ‬
‫ن وَل َوْ َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫أفََل ي َت َد َب ُّرو َ‬
‫‪(82‬‬
‫َ‬
‫ه‬
‫دوا ِفي ِ‬‫ج ُ‬‫عن ْدِ غَي ْرِ الل ّهِ ل َوَ َ‬ ‫ن ِ‬‫م ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ن وَل َوْ َ‬
‫كا َ‬ ‫قْرآ َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫} ‪ } { 82‬أَفل ي َت َد َب ُّرو َ‬
‫خِتلًفا ك َِثيًرا { ‪.‬‬ ‫ا ْ‬
‫يأمر تعالى بتدبر كتابه‪ ،‬وهو التأمل في معانيه‪ ،‬وتحديق الفكر فيه‪ ،‬وفي‬
‫مبادئه وعواقبه‪ ،‬ولوازم‪ ] ،‬ص ‪ [ 190‬ذلك فإن تدبر كتاب الله مفتاح‬
‫للعلوم والمعارف‪ ،‬وبه يستنتج كل خير وتستخرج منه جميع العلوم‪ ،‬وبه‬
‫يزداد اليمان في القلب وترسخ شجرته‪ .‬فإنه يعّرف بالرب المعبود‪ ،‬وما له‬
‫من صفات الكمال; وما ينزه عنه من سمات النقص‪ ،‬ويعّرف الطريق‬
‫الموصلة إليه وصفة أهلها‪ ،‬وما لهم عند القدوم عليه‪ ،‬ويعّرف العدو الذي‬
‫هو العدو على الحقيقة‪ ،‬والطريق الموصلة إلى العذاب‪ ،‬وصفة أهلها‪ ،‬وما‬
‫لهم عند وجود أسباب العقاب‪.‬‬
‫وكلما ازداد العبد تأمل فيه ازداد علما وعمل وبصيرة‪ ،‬لذلك أمر الله بذلك‬
‫وحث عليه وأخبر أنه ]هو[ المقصود بإنزال القرآن‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ب َأنزل َْناهُ إ ِل َي ْ َ‬
‫ب { وقال‬ ‫ك ل ِي َد ّب ُّروا آَيات ِهِ وَل ِي َت َذ َك َّر أوُلو الل َْبا ِ‬‫مَباَر ٌ‬ ‫ك ُ‬ ‫} ك َِتا ٌ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ب أق ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫فالَها { ‪.‬‬ ‫م عَلى قُلو ٍ‬ ‫نأ ْ‬ ‫قْرآ َ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫تعالى‪ } :‬أَفل ي َت َد َب ُّرو َ‬
‫ومن فوائد التدبر لكتاب الله‪ :‬أنه بذلك يصل العبد إلى درجة اليقين والعلم‬
‫بأنه كلم الله‪ ،‬لنه يراه يصدق بعضه بعضا‪ ،‬ويوافق بعضه بعضا‪ .‬فترى‬
‫الحكم والقصة والخبارات تعاد في القرآن في عدة مواضع‪ ،‬كلها متوافقة‬
‫متصادقة‪ ،‬ل ينقض بعضها بعضا‪ ،‬فبذلك يعلم كمال القرآن وأنه من عند‬
‫عن ْدِ غَي ْ ِ‬
‫ر‬ ‫ن ِ‬
‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬‫من أحاط علمه بجميع المور‪ ،‬فلذلك قال تعالى‪ } :‬وَل َوْ َ‬
‫خِتلًفا ك َِثيًرا { أي‪ :‬فلما كان من عند الله لم يكن فيه‬ ‫دوا ِفيهِ ا ْ‬ ‫ج ُ‬‫الل ّهِ ل َوَ َ‬
‫اختلف أصل‪.‬‬

‫) ‪(1/189‬‬

‫ل وَإ َِلى‬‫سو ِ‬ ‫دوهُ إ َِلى الّر ُ‬ ‫عوا ب ِهِ وَل َوْ َر ّ‬‫ذا ُ‬ ‫ف أَ َ‬‫خوْ ِ‬ ‫ن أ َوِ ال ْ َ‬‫م ِ‬
‫َ‬
‫ن اْل ْ‬ ‫م َ‬ ‫مٌر ِ‬
‫ذا جاَءهُ َ‬
‫مأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫وَإ ِ َ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ل الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م وَل َوَْل فَ ْ‬
‫ض ُ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫ه ِ‬‫طون َ ُ‬ ‫ست َن ْب ِ ُ‬
‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫م ُ‬‫م ل َعَل ِ َ‬‫من ْهُ ْ‬‫مرِ ِ‬ ‫أوِلي اْل ْ‬
‫ن إ ِّل قَِليًل )‪(83‬‬ ‫طا َ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ه َلت ّب َعْت ُ ُ‬ ‫مت ُ ُ‬
‫ح َ‬
‫وََر ْ‬
‫دوهُ إ َِلى‬‫عوا ب ِهِ وَل َوْ َر ّ‬ ‫ذا ُ‬ ‫ف أَ َ‬ ‫خوْ ِ‬ ‫ن أ َوِ ال ْ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ال ْ‬ ‫م َ‬
‫مٌر ِ‬
‫ذا جاَءهُ َ‬
‫مأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫} ‪ } { 83‬وَإ ِ َ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ض ُ‬
‫ل‬ ‫ول فَ ْ‬ ‫م وَل ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫ه ِ‬ ‫ست َن ْب ِطون َ ُ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬‫ه ال ِ‬ ‫م ُ‬ ‫م لعَل ِ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫مرِ ِ‬ ‫ل وَإ َِلى أوِلي ال ْ‬ ‫سو ِ‬ ‫الّر ُ‬
‫ن ِإل قَِليل { ‪.‬‬ ‫شي ْطا َ‬‫َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ه لت ّب َعْت ُ ُ‬ ‫مت ُ ُ‬‫ح َ‬ ‫م وََر ْ‬ ‫الل ّهِ عَلي ْك ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫هذا تأديب من الله لعباده عن فعلهم هذا غير اللئق‪ .‬وأنه ينبغي لهم إذا‬
‫جاءهم أمر من المور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالمن وسرور‬
‫المؤمنين‪ ،‬أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ول يستعجلوا‬
‫ل‬
‫بإشاعة ذلك الخبر‪ ،‬بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي المر منهم‪ ،‬أه ِ‬
‫الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة‪ ،‬الذين يعرفون المور ويعرفون‬
‫المصالح وضدها‪ .‬فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطا للمؤمنين وسرورا‬
‫لهم وتحرزا من أعدائهم فعلوا ذلك‪ .‬وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة )‪ (1‬أو‬
‫فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته‪ ،‬لم يذيعوه‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫م { أي‪ :‬يستخرجونه بفكرهم وآرائهم‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ه ِ‬ ‫طون َ ُ‬ ‫ست َن ْب ِ ُ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬‫ه ال ّ ِ‬
‫م ُ‬ ‫} ل َعَل ِ َ‬
‫السديدة وعلومهم الرشيدة‪.‬‬
‫وفي هذا دليل لقاعدة أدبية وهي أنه إذا حصل بحث في أمر من المور‬
‫ن هو أهل لذلك ويجعل إلى أهله‪ ،‬ول يتقدم بين أيديهم‪،‬‬ ‫م ْ‬ ‫ينبغي أن يوّلى َ‬
‫فإنه أقرب إلى الصواب وأحرى للسلمة من الخطأ‪ .‬وفيه النهي عن‬
‫العجلة والتسرع لنشر المور من حين سماعها‪ ،‬والمر بالتأمل قبل الكلم‬
‫دم عليه النسان؟ أم ل فيحجم عنه؟‬ ‫ق ِ‬ ‫والنظر فيه‪ ،‬هل هو مصلحة‪ ،‬في ُ ْ‬
‫ه { أي‪ :‬في توفيقكم‬ ‫مت ُ ُ‬‫ح َ‬
‫م وََر ْ‬ ‫ل الل ّهِ عَلي ْك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ض ُ‬ ‫ول فَ ْ‬ ‫ثم قال تعالى‪ } :‬وَل َ ْ‬
‫ن ِإل قَِليل {‬ ‫طا َ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫وتأديبكم‪ ،‬وتعليمكم ما لم تكونوا تعلمون‪ } ،‬لت ّب َعْت ُ ُ‬
‫لن النسان بطبعه ظالم جاهل‪ ،‬فل تأمره نفسه إل بالشر‪ .‬فإذا لجأ إلى‬
‫ربه واعتصم به واجتهد في ذلك‪ ،‬لطف به ربه ووفقه لكل خير‪ ،‬وعصمه‬
‫من الشيطان الرجيم‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ما فيه مصلحة‪.‬‬

‫) ‪(1/190‬‬

‫ك وحرض ال ْمؤْمِنين عَسى الل ّ َ‬ ‫ف إ ِّل ن َ ْ‬‫ل الل ّهِ َل ت ُك َل ّ ُ‬


‫ن‬
‫هأ ْ‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ِ َ‬ ‫س َ ََ َ ّ ِ‬ ‫ف َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫سِبي ِ‬‫ل ِفي َ‬
‫ْ‬
‫فَ َ‬
‫قات ِ ْ‬
‫كيًل )‪(84‬‬ ‫سا وَأ َ‬
‫شد ّ ت َن ْ ِ‬ ‫شد ّ ب َأ ً‬ ‫هأ َ‬ ‫فُروا َوالل ّ ُ‬ ‫ن كَ َ‬
‫ذي َ‬ ‫س ال ّ ِ‬
‫ف ب َأ َ‬‫ي َك ُ ّ‬

‫ن‬
‫مِني َ‬‫مؤْ ِ‬ ‫ض ال ْ ُ‬ ‫حّر َ ِ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫س َ‬‫ف َ‬ ‫ف ِإل ن َ ْ‬ ‫ل الل ّهِ ل ت ُك َل ّ ُ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ل ِفي َ‬ ‫} ‪ } { 84‬فَ َ‬
‫قات ِ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫عَسى الل ّ َ‬
‫كيل { ‪.‬‬ ‫شد ّ ت َن ْ ِ‬‫سا وَأ َ‬ ‫شد ّ ب َأ ً‬ ‫هأ َ‬ ‫فُروا َوالل ّ ُ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬‫س ال ّ ِ‬
‫ف ب َأ َ‬ ‫ن ي َك ُ ّ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫هذه الحالة أفضل أحوال العبد‪ ،‬أن يجتهد في نفسه على امتثال أمر الله‬
‫من الجهاد وغيره‪ ،‬ويحرض غيره عليه‪ ،‬وقد يعدم في العبد المران أو‬
‫ك{‬ ‫س َ‬‫ف َ‬ ‫ف ِإل ن َ ْ‬ ‫ل الل ّهِ ل ت ُك َل ّ ُ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ل ِفي َ‬ ‫قات ِ ْ‬‫أحدهما فلهذا قال لرسوله‪ } :‬فَ َ‬
‫أي‪ :‬ليس لك )‪ (1‬قدرة على غير نفسك‪ ،‬فلن تكلف بفعل غيرك‪.‬‬
‫ن { على القتال‪ ،‬وهذا يشمل كل أمر يحصل به نشاط‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ض ال ْ ُ‬‫حّر ِ‬ ‫} وَ َ‬
‫المؤمنين وقوة قلوبهم‪ ،‬من تقويتهم والخبار بضعف العداء وفشلهم‪ ،‬وبما‬
‫ُأعد للمقاتلين من الثواب‪ ،‬وما على المتخلفين من العقاب‪ ،‬فهذا وأمثاله‬
‫كله يدخل في التحريض على القتال‪.‬‬
‫ْ‬ ‫} عَسى الل ّ َ‬
‫فُروا { أي‪ :‬بقتالكم في سبيل الله‪،‬‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫س ال ّ ِ‬ ‫ف ب َأ َ‬ ‫ن ي َك ُ ّ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫سا { أي‪ :‬قوة وعزة } وَأ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ه أَ َ‬
‫شد ّ‬ ‫شد ّ ب َأ ً‬ ‫ضا‪َ } .‬والل ّ ُ‬
‫وتحريض بعضكم بع ً‬
‫كيل { بالمذنب في نفسه‪ ،‬وتنكيل لغيره‪ ،‬فلو شاء تعالى لنتصر من‬ ‫ت َن ْ ِ‬
‫الكفار بقوته ولم يجعل لهم باقية‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في النسختين‪ :‬ليس عليك‪.‬‬

‫) ‪(1/190‬‬

‫ة ي َك ُ ْ‬
‫ن‬ ‫سي ّئ َ ً‬
‫ة َ‬
‫فاعَ ً‬ ‫فع ْ َ‬
‫ش َ‬ ‫ن يَ ْ‬
‫ش َ‬ ‫م ْ‬
‫من َْها وَ َ‬‫ب ِ‬‫صي ٌ‬ ‫ن لَ ُ‬
‫ه نَ ِ‬ ‫ة ي َك ُ ْ‬ ‫سن َ ً‬ ‫ح َ‬ ‫ة َ‬‫فاعَ ً‬ ‫فع ْ َ‬
‫ش َ‬ ‫ش َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫قيًتا )‪(85‬‬ ‫م ِ‬
‫ْ ُ‬‫ٍ‬ ‫ء‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫ّ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫كا‬
‫َ َ َ‬ ‫و‬ ‫ها‬‫ْ‬ ‫ن‬‫م‬‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ف‬‫ِ‬ ‫ك‬ ‫لَ ُ‬
‫ه‬

‫ولكن من حكمته يبلو بعض عباده ببعض ليقوم سوق الجهاد‪ ،‬ويحصل‬
‫اليمان النافع‪ ،‬إيمان الختيار‪ ،‬ل إيمان الضطرار والقهر الذي ل يفيد شيئا‪.‬‬
‫] ص ‪[ 191‬‬
‫ة‬
‫فاعَ ً‬ ‫فع ْ َ‬
‫ش َ‬ ‫ش َ‬‫ن يَ ْ‬
‫م ْ‬ ‫من َْها وَ َ‬
‫ب ِ‬ ‫صي ٌ‬ ‫ه نَ ِ‬ ‫َ‬
‫نل ُ‬ ‫ُ‬
‫ة ي َك ْ‬ ‫سن َ ً‬‫ح َ‬ ‫ة َ‬‫فاعَ ً‬ ‫فع ْ َ‬
‫ش َ‬ ‫ن يَ ْ‬
‫ش َ‬ ‫م ْ‬ ‫} ‪َ } { 85‬‬
‫قيًتا { ‪.‬‬ ‫م ِ‬
‫يٍء ُ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ُ‬
‫ه عَلى ك ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫َ‬
‫من َْها وَكا َ‬
‫ل ِ‬ ‫ف ٌ‬
‫ه كِ ْ‬‫ن لَ ُ‬
‫ة ي َك ُ ْ‬‫سي ّئ َ ً‬
‫َ‬
‫المراد بالشفاعة هنا‪ :‬المعاونة على أمر من المور‪ ،‬فمن شفع غيره وقام‬
‫معه على أمر من أمور الخير ‪-‬ومنه الشفاعة للمظلومين لمن ظلمهم‪-‬‬
‫كان له نصيب من شفاعته بحسب سعيه وعمله ونفعه‪ ،‬ول ينقص من أجر‬
‫ن عاون غيره على أمر من الشر كان عليه‬ ‫م ْ‬ ‫الصيل والمباشر شيء‪ ،‬و َ‬
‫كفل من الثم بحسب ما قام به وعاون عليه‪ .‬ففي هذا الحث العظيم على‬
‫التعاون على البر والتقوى‪ ،‬والزجر العظيم عن التعاون على الثم‬
‫قيًتا { أي‪:‬‬ ‫م ِ‬ ‫يٍء ُ‬
‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫ن الل ّ ُ‬‫كا َ‬ ‫والعدوان‪ ،‬وقرر ذلك بقوله‪ } :‬وَ َ‬
‫كل ما يستحقه‪.‬‬ ‫ظا حسيًبا على هذه العمال‪ ،‬فيجازي ُ‬ ‫دا حفي ً‬ ‫شاه ً‬

‫) ‪(1/190‬‬

‫ن عََلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫يٍء‬ ‫ل َ‬
‫ش ْ‬ ‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫ها إ ِ ّ‬
‫دو َ‬
‫من َْها أوْ ُر ّ‬
‫ن ِ‬
‫س َ‬
‫ح َ‬ ‫حي ّةٍ فَ َ‬
‫حّيوا ب ِأ ْ‬ ‫م ب ِت َ ِ‬
‫حّييت ُ ْ‬ ‫وَإ ِ َ‬
‫ذا ُ‬
‫سيًبا )‪(86‬‬ ‫ح ِ‬ ‫َ‬

‫ن عََلى‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫ها إ ِ ّ‬
‫دو َ‬
‫من َْها أوْ ُر ّ‬
‫ن ِ‬
‫س َ‬
‫ح َ‬ ‫حي ّةٍ فَ َ‬
‫حّيوا ب ِأ ْ‬ ‫م ب ِت َ ِ‬
‫حّييت ُ ْ‬ ‫} ‪ } { 86‬وَإ ِ َ‬
‫ذا ُ‬
‫سيًبا { ‪.‬‬ ‫ح ِ‬ ‫يٍء َ‬ ‫ل َ‬
‫ش ْ‬ ‫كُ ّ‬
‫التحية هي‪ :‬اللفظ الصادر من أحد المتلقيين على وجه الكرام والدعاء‪،‬‬
‫وما يقترن بذلك اللفظ من البشاشة ونحوها‪.‬‬
‫دا‪ .‬فأمر تعالى‬ ‫وأعلى أنواع التحية ما ورد به الشرع‪ ،‬من السلم ابتداء ور ّ‬
‫حّيوا بأي تحية كانت‪ ،‬أن يردوها بأحسن منها لفظا‬ ‫المؤمنين أنهم إذا ُ‬
‫وبشاشة‪ ،‬أو مثلها في ذلك‪ .‬ومفهوم ذلك النهي عن عدم الرد بالكلية أو‬
‫ردها بدونها‪.‬‬
‫ويؤخذ من الية الكريمة الحث على ابتداء السلم والتحية من وجهين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن الله أمر بردها بأحسن منها أو مثلها‪ ،‬وذلك يستلزم أن التحية‬
‫عا‪.‬‬ ‫مطلوبة شر ً‬
‫الثاني‪ :‬ما يستفاد من أفعل التفضيل وهو "أحسن" الدال على مشاركة‬
‫التحية وردها بالحسن‪ ،‬كما هو الصل في ذلك‪.‬‬
‫ويستثنى من عموم الية الكريمة من حّيا بحال غير مأمور بها‪ ،‬كـ "على‬
‫ل ونحو ذلك" فإنه ل يطلب إجابة‬ ‫مشتغل بقراءة‪ ،‬أو استماع خطبة‪ ،‬أو مص ٍ‬
‫تحيته‪ ،‬وكذلك يستثنى من ذلك من أمر الشارع بهجره وعدم تحيته‪ ،‬وهو‬
‫العاصي غير التائب الذي يرتدع بالهجر‪ ،‬فإنه يهجر ول ُيحّيا‪ ،‬ول ُترد تحيته‪،‬‬
‫وذلك لمعارضة المصلحة الكبرى‪.‬‬
‫عا‪،‬‬
‫ويدخل في رد التحية كل تحية اعتادها الناس وهي غير محظورة شر ً‬
‫دها وبأحسن منها‪ ،‬ثم أوعد تعالى وتوعد على فعل الحسنات‬ ‫فإنه مأمور بر ّ‬
‫سيًبا { فيحفظ على‬ ‫ح ِ‬
‫يٍء َ‬ ‫ل َ‬
‫ش ْ‬ ‫ن عََلى ك ُ ّ‬
‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫والسيئات بقوله‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫العباد أعمالهم‪ ،‬حسنها وسيئها‪ ،‬صغيرها وكبيرها‪ ،‬ثم يجازيهم بما اقتضاه‬
‫فضله وعدله وحكمه المحمود‪.‬‬

‫) ‪(1/191‬‬

‫َل إل َه إّل هُو ل َيجمعنك ُم إَلى يوم ال ْقيامة َل ريب فيه وم َ‬


‫ن‬
‫م َ‬
‫صد َقُ ِ‬
‫نأ ْ‬‫َ ْ َ ِ ِ َ َ ْ‬ ‫َ ْ ِ ِ َ َ ِ‬ ‫َ َ ْ َ َ ّ ْ ِ‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ه‬
‫ديًثا )‪(87‬‬ ‫ح ِ‬
‫َ‬ ‫الل ّهِ‬

‫ن‬‫م ْ‬
‫ب ِفيهِ وَ َ‬ ‫مةِ ل َري ْ َ‬ ‫م إ َِلى ي َوْم ِ ال ْ ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫معَن ّك ُ ْ‬‫ج َ‬‫ه ِإل هُوَ ل َي َ ْ‬ ‫ه ل إ ِل َ َ‬ ‫} ‪ } { 87‬الل ّ ُ‬
‫َ‬
‫ديًثا { ‪.‬‬ ‫ح ِ‬ ‫ن الل ّهِ َ‬ ‫م َ‬ ‫صد َقُ ِ‬ ‫أ ْ‬
‫يخبر تعالى عن انفراده بالوحدانية وأنه ل معبود ول مألوه إل هو‪ ،‬لكماله‬
‫في ذاته وأوصافه ولكونه المنفرد بالخلق والتدبير‪ ،‬والنعم الظاهرة‬
‫والباطنة‪.‬‬
‫وذلك يستلزم المر بعبادته والتقرب إليه بجميع أنواع العبودية‪ .‬لكونه‬
‫المستحق لذلك وحده والمجازي للعباد بما قاموا به من عبوديته أو تركوه‬
‫منها‪ ،‬ولذلك أقسم على وقوع محل الجزاء وهو يوم القيامة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫خركم في مقام واحد‪.‬‬ ‫م { أي‪ :‬أولكم وآ ِ‬ ‫معَن ّك ُ ْ‬ ‫ج َ‬‫} ل َي َ ْ‬
‫ب ِفيهِ { أي‪ :‬ل شك ول شبهة بوجه من الوجوه‪،‬‬ ‫مةِ ل َري ْ َ‬ ‫قَيا َ‬ ‫في } ي َوْم ِ ال ْ ِ‬
‫بالدليل العقلي والدليل السمعي‪ ،‬فالدليل العقلي ما نشاهده من إحياء‬
‫الرض بعد موتها‪ ،‬ومن وجود النشأة الولى التي وقوع الثانية أ َْولى منها‬
‫بالمكان‪ ،‬ومن الحكمة التي تجزم بأن الله لم يخلق خلقه عبًثا‪ ،‬يحيون ثم‬
‫يموتون‪ .‬وأما الدليل السمعي فهو إخبار أصدق الصادقين بذلك‪ ،‬بل‬
‫إقسامه عليه ولهذا قال‪ } :‬وم َ‬
‫ديًثا { كذلك أمر رسوله‬ ‫ح ِ‬‫ن الل ّهِ َ‬ ‫م َ‬
‫صد َقُ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫َ َ ْ‬
‫صلى الله عليه وسلم أن يقسم عليه في غير موضع من القرآن‪ ،‬كقوله‬
‫َ‬
‫م ل َت ُن َب ّؤُ ّ‬
‫ن‬ ‫ل ب ََلى وََرّبي ل َت ُب ْعَث ُ ّ‬
‫ن ثُ ّ‬ ‫ن ي ُب ْعَُثوا قُ ْ‬‫ن لَ ْ‬ ‫فُروا أ ْ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫تعالى‪َ } :‬زعَ َ‬
‫سيٌر {‪.‬‬ ‫ك عََلى الل ّهِ ي َ ِ‬ ‫م وَذ َل ِ َ‬ ‫مل ْت ُ ْ‬‫ما عَ ِ‬ ‫بِ َ‬
‫) ‪(1/191‬‬

‫دوا‬ ‫فَما ل َك ُم في ال ْمنافقين فئ َتين والل ّه أ َرك َسهم بما ك َسبوا أ َتريدو َ‬
‫ن ت َهْ ُ‬
‫نأ ْ‬ ‫ُ ِ ُ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ُ َ ِ ِ َ ِ َْ ِ َ ُ ْ َ ُ ْ ِ َ‬ ‫ْ ِ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ض ّ‬ ‫َ‬
‫نك َ‬ ‫فُرو َ‬ ‫دوا لوْ ت َك ُ‬
‫سِبيل )‪ (88‬وَ ّ‬‫ه َ‬ ‫جد َ ل ُ‬
‫ن تَ ِ‬
‫ه فل ْ‬‫ل الل ُ‬
‫ضل ِ ِ‬
‫ن يُ ْ‬
‫م ْ‬
‫ه وَ َ‬
‫ل الل ُ‬ ‫نأ َ‬‫م ْ‬‫َ‬
‫ذوا منه َ‬
‫ل الل ّهِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫جُروا ِفي َ‬ ‫حّتى ي َُها ِ‬ ‫م أوْل َِياَء َ‬ ‫ِ ُْ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫واًء فََل ت َت ّ ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن َ‬ ‫كوُنو َ‬ ‫فُروا فَت َ ُ‬ ‫كَ َ‬
‫م وَل ِّيا وََل‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫م وََل ت َت ّ ِ‬ ‫موهُ ْ‬ ‫جد ْت ُ ُ‬ ‫ث وَ َ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫م َواقْت ُُلوهُ ْ‬ ‫ذوهُ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫وا فَ ُ‬ ‫ن ت َوَل ّ ْ‬ ‫فَإ ِ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫م‬
‫جاُءوك ْ‬ ‫ميَثاقٌ أوْ َ‬ ‫م ِ‬ ‫م وَب َي ْن َهُ ْ‬ ‫ن إ ِلى قَوْم ٍ ب َي ْن َك ْ‬ ‫صلو َ‬ ‫ن يَ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫صيًرا )‪ (89‬إ ِل ال ِ‬ ‫نَ ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫سلطهُ ْ‬ ‫هل َ‬ ‫شاَء الل ُ‬ ‫م وَلوْ َ‬ ‫مه ُ ْ‬ ‫قات ِلوا قَوْ َ‬ ‫م أوْ ي ُ َ‬ ‫قات ِلوك ْ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫دوُرهُ ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ت ُ‬ ‫صَر ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫م فَ َ‬ ‫سل َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫وا إ ِلي ْك ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫م وَأل َ‬ ‫قات ِلوك ْ‬ ‫م يُ َ‬ ‫م فَل ْ‬ ‫ن اعْت ََزلوك ْ‬ ‫م فَإ ِ ِ‬ ‫قات َلوك ْ‬ ‫م فَل َ‬ ‫عَلي ْك ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫م‬‫مُنوك ُ ْ‬ ‫ن ي َأ َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ري ُ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫سِبيل )‪َ (90‬‬ ‫م َ‬ ‫م عَلي ْهِ ْ‬ ‫ه لك ُ ْ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫جعَ َ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫قوا‬
‫م وَي ُل ُ‬ ‫م ي َعْت َزِلوك ُ ْ‬ ‫نل ْ‬ ‫سوا ِفيَها فَإ ِ ْ‬ ‫فت ْن َةِ أْرك ِ ُ‬ ‫دوا إ ِلى ال ِ‬ ‫ما ُر ّ‬ ‫ل َ‬ ‫م كُ ّ‬ ‫مه ُ ْ‬ ‫مُنوا قَوْ َ‬ ‫وَي َأ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫م‬‫م وَأول َئ ِك ُ ْ‬ ‫موهُ ْ‬ ‫فت ُ ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ث ثَ ِ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫م َواقْت ُُلوهُ ْ‬ ‫ذوهُ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫م فَ ُ‬ ‫فوا أي ْدِي َهُ ْ‬ ‫م وَي َك ُ ّ‬ ‫سل َ َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫إ ِل َي ْك ُ ُ‬
‫مِبيًنا )‪(91‬‬ ‫طاًنا ُ‬ ‫سل ْ َ‬ ‫م ُ‬ ‫م عَل َي ْهِ ْ‬ ‫جعَل َْنا ل َك ُ ْ‬ ‫َ‬

‫ن الل ّهِ ِقيل {‬ ‫وفي قوله‪ } :‬ومن أ َصدقُ من الل ّه حديًثا { } وم َ‬


‫م َ‬ ‫صد َقُ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ِ َ ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ َ ْ ْ َ‬
‫إخبار بأن حديثه وأخباره وأقواله في أعلى مراتب الصدق‪ ،‬بل أعلها‪ .‬فكل‬
‫ما قيل في العقائد ]والعلوم[ )‪ (1‬والعمال مما يناقض ما أخبر الله به‪،‬‬
‫قا‪ ] .‬ص‬ ‫فهو باطل لمناقضته للخبر الصادق اليقين‪ ،‬فل يمكن أن يكون ح ّ‬
‫‪[ 192‬‬
‫َ‬
‫سُبوا‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫سه ُ ْ‬ ‫ه أْرك َ َ‬ ‫ن َوالل ّ ُ‬ ‫ن فِئ َت َي ْ ِ‬ ‫قي َ‬ ‫مَنافِ ِ‬ ‫م ِفي ال ْ ُ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬ ‫} ‪ } { 91 - 88‬فَ َ‬
‫َ‬ ‫أ َتريدو َ‬
‫دوا‬‫سِبيل * وَ ّ‬ ‫ه َ‬ ‫جد َ ل َ ُ‬ ‫ن تَ ِ‬ ‫ه فَل َ ْ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ضل ِ ِ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ض ّ‬ ‫نأ َ‬ ‫م ْ‬ ‫دوا َ‬ ‫ن ت َهْ ُ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ُ ِ ُ َ‬
‫جُروا‬ ‫ها‬ ‫ي‬ ‫تى‬ ‫ح‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫يا‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ذوا‬ ‫ُ‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫فل‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ء‬ ‫وا‬ ‫س‬ ‫ن‬ ‫نو‬ ‫كو‬ ‫ُ‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫روا‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫ل َوْ ت َك ْ ُ‬
‫َ ّ َُ ِ‬ ‫ِ ُْ ْ َِْ‬ ‫َّ ِ‬ ‫َ ُ َ َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ف ُ َ َ‬
‫ك‬ ‫ن‬ ‫رو‬
‫ذوا‬ ‫خ ُ‬ ‫م َول ت َت ّ ِ‬ ‫موهُ ْ‬ ‫جد ْت ُ ُ‬ ‫ث وَ َ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫م َواقْت ُُلوهُ ْ‬ ‫ذوهُ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫وا فَ ُ‬ ‫ن ت َوَل ّ ْ‬ ‫ل الل ّهِ فَإ ْ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ِفي َ‬
‫منهم ول ِيا ول نصيِرا * إل ال ّذين يصُلون إَلى قَوم بينك ُم وبينهم ميَثاقٌ أوَ‬
‫ْ‬ ‫ْ ٍ ََْ ْ َََُْ ْ ِ‬ ‫َ ِ‬ ‫ِ َ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ُْ ْ َ ّ َ َ ِ ً‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫شاَء الل ُ‬ ‫م وَلوْ َ‬ ‫مه ُ ْ‬ ‫َ‬
‫قات ِلوا قوْ َ‬ ‫م أوْ ي ُ َ‬ ‫قات ِلوك ْ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫دوُرهُ ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ت ُ‬ ‫صَر ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫م َ‬ ‫جاُءوك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫م‬
‫سل َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ُ‬
‫وا إ ِلي ْك ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫م وَأل َ‬ ‫ُ‬
‫قات ِلوك ْ‬ ‫م يُ َ‬ ‫م فَل ْ‬ ‫ُ‬
‫ن اعْت ََزلوك ْ‬ ‫م فَإ ِ ِ‬ ‫ُ‬
‫قات َلوك ْ‬ ‫م فَل َ‬ ‫ُ‬
‫م عَلي ْك ْ‬ ‫سلطهُ ْ‬ ‫لَ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫مُنوك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن ي َأ َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ري ُ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫سِبيل * َ‬ ‫م َ‬ ‫م عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫جعَ َ‬ ‫ما َ‬ ‫فَ َ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫قوا‬ ‫م وَي ُل ُ‬ ‫م ي َعْت َزِلوك ْ‬ ‫نل ْ‬ ‫سوا ِفيَها فَإ ِ ْ‬ ‫فت ْن َةِ أْرك ِ ُ‬ ‫دوا إ ِلى ال ِ‬ ‫ما ُر ّ‬ ‫م كل َ‬ ‫مه ُ ْ‬ ‫مُنوا قَوْ َ‬ ‫وَي َأ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫م وَأولئ ِك ْ‬ ‫موهُ ْ‬ ‫فت ُ ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ث ثَ ِ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫م َواقْت ُلوهُ ْ‬ ‫ذوهُ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫م فَ ُ‬ ‫فوا أي ْدِي َهُ ْ‬ ‫ُ‬
‫م وَي َك ّ‬ ‫سل َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫إ ِل َي ْك ُ ُ‬
‫مِبيًنا { ‪.‬‬ ‫طاًنا ُ‬ ‫سل ْ َ‬ ‫م ُ‬ ‫م عَل َي ْهِ ْ‬ ‫جعَل َْنا ل َك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫)‪ (2‬المراد بالمنافقين المذكورين في هذه اليات‪ :‬المنافقون المظهرون‬
‫إسلمهم‪ ،‬ولم يهاجروا مع كفرهم‪ ،‬وكان قد وقع بين الصحابة رضوان الله‬
‫عليهم فيهم اشتباه‪ ،‬فبعضهم تحرج عن قتالهم‪ ،‬وقطع موالتهم بسبب ما‬
‫أظهروه من اليمان‪ ،‬وبعضهم علم أحوالهم بقرائن أفعالهم فحكم بكفرهم‪.‬‬
‫فأخبرهم الله تعالى أنه ل ينبغي لكم أن تشتبهوا فيهم ول تشكوا‪ ،‬بل‬
‫أمرهم واضح غير مشكل‪ ،‬إنهم منافقون قد تكرر كفرهم‪ ،‬وودوا مع ذلك‬
‫م‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫كفركم وأن تكونوا مثلهم‪ .‬فإذا تحققتم ذلك منهم } َفل ت َت ّ ِ‬
‫أ َوْل َِياَء { وهذا يستلزم عدم محبتهم لن الولية فرع المحبة‪.‬‬
‫ويستلزم أيضا بغضهم وعداوتهم لن النهي عن الشيء أمر بضده‪ ،‬وهذا‬
‫المر موقت بهجرتهم فإذا هاجروا جرى عليهم ما جرى على المسلمين‪،‬‬
‫ن كان‬ ‫م ْ‬ ‫كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يجري أحكام السلم لكل َ‬
‫معه وهاجر إليه‪ ،‬وسواء كان مؤمنا حقيقة أو ظاهر اليمان‪.‬‬
‫م{‬ ‫موهُ ْ‬ ‫جد ْت ُ ُ‬ ‫ث وَ َ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫م َواقْت ُُلوهُ ْ‬ ‫ذوهُ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫وأنهم إن لم يهاجروا وتولوا عنها } فَ ُ‬
‫أي‪ :‬في أي وقت وأي محل كان‪ ،‬وهذا من جملة الدلة الدالة على نسخ‬
‫القتال في الشهر الحرم‪ ،‬كما هو قول جمهور العلماء‪ ،‬والمنازعون‬
‫يقولون‪ :‬هذه نصوص مطلقة‪ ،‬محمولة على تقييد التحريم في الشهر‬
‫الحرم‪.‬‬
‫ثم إن الله استثنى من قتال هؤلء المنافقين ثلث فَِرق‪:‬‬
‫فرقتين أمر بتركهم وحّتم ]على[ ذلك‪ ،‬إحداهما )‪ : (3‬من يصل إلى قوم‬
‫بينهم وبين المسلمين عهد وميثاق بترك القتال فينضم إليهم‪ ،‬فيكون له‬
‫حكمهم في حقن الدم والمال‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م{‬ ‫مه ُ ْ‬ ‫قات ِلوا قَوْ َ‬ ‫م أوْ ي ُ َ‬ ‫قات ِلوك ُ ْ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫دوُرهُ ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ت ُ‬ ‫صَر ْ‬ ‫ح ِ‬‫والفرقة الثانية‪ :‬قوم } َ‬
‫أي‪ :‬بقوا‪ ،‬ل تسمح أنفسهم بقتالكم‪ ،‬ول بقتال قومهم‪ ،‬وأحبوا ترك قتال‬
‫الفريقين‪ ،‬فهؤلء أيضا أمر بتركهم‪ ،‬وذكر الحكمة في ذلك في قوله‪ } :‬وَل َ ْ‬
‫و‬
‫م { فإن المور الممكنة ثلثة أقسام‪:‬‬ ‫قات َُلوك ُ ْ‬ ‫م فَل َ َ‬ ‫م عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫سل ّط َهُ ْ‬ ‫ه لَ َ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫َ‬
‫إما أن يكونوا معكم ويقاتلوا أعداءكم‪ ،‬وهذا متعذر من هؤلء‪ ،‬فدار المر‬
‫بين قتالكم مع قومهم وبين ترك قتال الفريقين‪ ،‬وهو أهون المرين عليكم‪،‬‬
‫والله قادر على تسليطهم عليكم‪ ،‬فاقبلوا العافية‪ ،‬واحمدوا ربكم الذي كف‬
‫أيديهم عنكم مع التمكن من ذلك‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫جعَ َ‬
‫ل‬ ‫ما َ‬ ‫م فَ َ‬ ‫سل َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ُ‬
‫وا إ ِلي ْك ُ‬ ‫ق ْ‬
‫م وَأل َ‬ ‫ُ‬
‫قات ِلوك ْ‬ ‫م يُ َ‬ ‫م فَل َ ْ‬ ‫} َفـ { هؤلء } إن اعْت ََزُلوك ُ ْ‬
‫سِبيل { ‪.‬‬ ‫م َ‬ ‫م عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫الفرقة الثالثة‪ :‬قوم يريدون مصلحة أنفسهم بقطع النظر عن احترامكم‪،‬‬
‫ن { أي‪ :‬من هؤلء المنافقين‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫ست َ ِ‬‫وهم الذين قال الله فيهم‪َ } :‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫} يريدو َ‬
‫دوا إ ِلى‬ ‫ما ُر ّ‬ ‫م كل َ‬ ‫مه ُ ْ‬ ‫مُنوا قَوْ َ‬ ‫م { أي‪ :‬خوفا منكم } وَي َأ َ‬ ‫مُنوك ُ ْ‬ ‫ن ي َأ َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ُ ِ ُ َ‬
‫ُ‬
‫سوا ِفيَها { أي‪ :‬ل يزالون مقيمين على كفرهم ونفاقهم‪ ،‬وكلما‬ ‫فت ْن َةِ أْرك ِ ُ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫عرض لهم عارض من عوارض الفتن أعماهم ونكسهم على رءوسهم‪،‬‬
‫وازداد كفرهم ونفاقهم‪ ،‬وهؤلء في الصورة كالفرقة الثانية‪ ،‬وفي الحقيقة‬
‫مخالفة لها‪.‬‬
‫ما لهم ل خوفا على أنفسهم‪،‬‬ ‫فإن الفرقة الثانية تركوا قتال المؤمنين احترا ً‬
‫وأما هذه الفرقة فتركوه خوفا ل احتراما‪ ،‬بل لو وجدوا فرصة في قتال‬
‫المؤمنين‪ ،‬فإنهم مستعدون )‪ (4‬لنتهازها‪ ،‬فهؤلء إن لم يتبين منهم ويتضح‬
‫ما اعتزال المؤمنين وترك قتالهم‪ ،‬فإنهم يقاتلون‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬ ‫حا عظي ً‬ ‫اتضا ً‬
‫م { أي‪ :‬المسالمة والموادعة‬ ‫سل َ‬‫َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫قوا إ ِلي ْك ُ‬ ‫ْ‬
‫م وَي ُل ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫م ي َعْت َزِلوك ْ‬ ‫نل ْ‬‫َ‬ ‫} فَإ ِ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫جعَل َْنا ل َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م َ‬ ‫م وَأول َئ ِك ُ ْ‬ ‫موهُ ْ‬ ‫فت ُ ُ‬ ‫ق ْ‬‫ث ثَ ِ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫م َواقْت ُُلوهُ ْ‬ ‫ذوهُ ْ‬ ‫خ ُ‬‫م فَ ُ‬ ‫فوا أي ْدِي َهُ ْ‬ ‫} وَي َك ُ ّ‬
‫مِبيًنا { أي‪ :‬حجة بينة واضحة‪ ،‬لكونهم معتدين ظالمين لكم‬ ‫طاًنا ُ‬ ‫سل ْ َ‬ ‫م ُ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫تاركين للمسالمة‪ ،‬فل يلوموا إل أنفسهم‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬
‫)‪ (2‬في هامش أ‪) :‬وقد ثبت في الصحيحين من حديث زيد بن أرقم أن‬
‫رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد‪ ،‬فرجع ناس خرجوا معه‪،‬‬
‫فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين‪ :‬فرقة‬
‫تقول‪ :‬نقتلهم‪ ،‬وفرقة تقول‪ :‬ل‪ ،‬فأنزل الله‪" :‬فما لكم في المنافقين‬
‫فئتين" فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪" :‬إنها طيبة‪ ،‬وإنها تنفي‬
‫الخبث كما تنفي النار خبث الحديد"‪ .‬وليس هناك علمة تدل على محل‬
‫هذه الزيادة‪.‬‬
‫)‪ (3‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬أحدها‪.‬‬
‫)‪ (4‬في ب‪ :‬سيقدمون‪.‬‬
‫) ‪(1/191‬‬

‫ل مؤْمنا َ ً‬ ‫ل مؤْمنا إّل َ ً‬ ‫كان ل ِمؤْم َ‬


‫ريُر َرقَب َةٍ‬ ‫ح ِ‬ ‫خط َأ فَت َ ْ‬ ‫ن قَت َ َ ُ ِ ً‬ ‫م ْ‬‫خط َأ وَ َ‬ ‫قت ُ َ َ ُ ِ ً َِ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ما َ َ ُ ِ ٍ‬ ‫وَ َ‬
‫م‬‫ن قَوْم ٍ عَد ُوّ ل َك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫صد ُّقوا فَإ ِ ْ‬ ‫ن يَ ّ‬ ‫ة إ َِلى أهْل ِهِ إ ِّل أ ْ‬ ‫م ٌ‬‫سل ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ة ُ‬ ‫من َةٍ وَدِي َ ٌ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫ي‬
‫ٌ َِ ٌ‬‫د‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ق‬ ‫ثا‬‫َ‬ ‫مي‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬‫ي‬‫ب‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬
‫َ ِ ْ ْ ٍ ََْ ْ َََُْ ْ ِ‬ ‫ن‬‫ي‬‫ب‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وَ ُ َ ُ ِ ٌ َ ْ ِ ُ َ َ ٍ ُ ِ َ ٍ َ ِ ْ‬
‫إ‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫ن‬‫م‬ ‫ؤ‬‫م‬ ‫ة‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫ري‬ ‫ح‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ؤ‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ه‬
‫َ‬
‫ن‬
‫مت ََتاب ِعَي ْ ِ‬‫ن ُ‬ ‫شهَْري ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫صَيا ُ‬‫جد ْ فَ ِ‬ ‫م يَ ِ‬ ‫ن لَ ْ‬‫م ْ‬‫من َةٍ فَ َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ريُر َرقَب َةٍ ُ‬
‫ح ِ‬ ‫ة إ َِلى أهْل ِهِ وَت َ ْ‬ ‫م ٌ‬‫سل ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ما )‪(92‬‬ ‫كي ً‬ ‫ح ِ‬‫ما َ‬ ‫ه عَِلي ً‬ ‫ّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫َ‬
‫ن اللهِ وَكا َ‬ ‫ّ‬ ‫م َ‬ ‫ة ِ‬ ‫ت َوْب َ ً‬
‫خط َأ ً‬ ‫ل مؤْمنا إل َ ً‬ ‫كان ل ِمؤْم َ‬
‫مًنا َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ل ُ‬ ‫ن قَت َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫خط َأ وَ َ‬ ‫ِ‬ ‫قت ُ َ ُ ِ ً‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ما َ َ ُ ِ ٍ‬ ‫} ‪ } { 92‬وَ َ‬
‫ن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن قَوْم ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫صد ُّقوا فَإ ِ ْ‬ ‫ن يَ ّ‬‫ة إ ِلى أهْل ِهِ ِإل أ ْ‬ ‫م ٌ‬‫سل َ‬ ‫م َ‬ ‫ة ُ‬ ‫من َةٍ وَدِي َ ٌ‬‫مؤْ ِ‬ ‫ريُر َرقَب َةٍ ُ‬ ‫ح ِ‬‫فَت َ ْ‬
‫م‬
‫م وَب َي ْن َهُ ْ‬ ‫ن قَوْم ٍ ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫من َةٍ وَإ ِ ْ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ريُر َرقَب َةٍ ُ‬ ‫حَِ‬ ‫ن فَت َ ْ‬
‫م ٌ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م وَهُوَ ُ‬ ‫عَد ُوّ ل َك ُ ْ‬
‫م‬‫صَيا ُ‬ ‫جد ْ فَ ِ‬ ‫م يَ ِ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫من َةٍ فَ َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ريُر َرقَب َةٍ ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ة إ َِلى أهْل ِهِ وَت َ ْ‬ ‫م ٌ‬‫سل ّ َ‬‫م َ‬ ‫ة ُ‬ ‫ميَثاقٌ فَدِي َ ٌ‬ ‫ِ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫كي‬ ‫ح‬
‫ُ ِ ً َ ِ ً‬ ‫ما‬ ‫لي‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫ِ َ َ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ة‬ ‫ب‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ع‬
‫ْ َ ْ ِ ُ ََ َِ ْ ِ َ َْ ً ِ َ‬‫ب‬ ‫تا‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ر‬ ‫ه‬ ‫ش‬‫َ‬
‫هذه الصيغة من صيغ المتناع‪ ،‬أي‪ :‬يمتنع ويستحيل أن يصدر من مؤمن‬
‫قتل مؤمن‪ ،‬أي‪ :‬متعمدا‪ ،‬وفي هذا الخباُر بشدة تحريمه وأنه مناف لليمان‬
‫أشد منافاة‪ ،‬وإنما يصدر ذلك إما من كافر‪ ،‬أو من فاسق قد نقص إيمانه‬
‫نقصا عظيما‪ ،‬ويخشى عليه ما هو أكبر من ذلك‪ ،‬فإن اليمان الصحيح يمنع‬
‫المؤمن من قتل أخيه الذي قد عقد الله بينه وبينه الخوة اليمانية التي من‬
‫مقتضاها محبته وموالته‪ ،‬وإزالة ما يعرض لخيه من الذى‪ ،‬وأي أذى أشد‬
‫من القتل؟ وهذا يصدقه قوله صلى الله عليه وسلم‪" :‬ل ترجعوا بعدي‬
‫كفاًرا يضرب بعضكم رقاب بعض" ] ص ‪[ 193‬‬
‫فعلم أن القتل من الكفر العملي وأكبر الكبائر بعد الشرك بالله‪ .‬ولما كان‬
‫كان ل ِمؤْم َ‬
‫مًنا { لفظا عاما لجميع الحوال‪ ،‬وأنه‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ل ُ‬ ‫قت ُ َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ما َ َ ُ ِ ٍ‬ ‫قوله‪ } :‬وَ َ‬
‫ل يصدر منه قتل أخيه بوجه من الوجوه‪ ،‬استثنى تعالى قتل الخطأ فقال‪:‬‬
‫خط َأ ً { فإن المخطئ الذي ل يقصد القتل غير آثم‪ ،‬ول مجترئ على‬ ‫} ِإل َ‬
‫محارم الله‪ ،‬ولكنه لما كان قد فعل فعل شنيًعا وصورته كافية في قبحه‬
‫ً‬
‫خط َأ {‬ ‫ن قَت َ َ‬
‫مًنا َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ل ُ‬ ‫م ْ‬ ‫وإن لم يقصده أمر تعالى بالكفارة والدية فقال‪ } :‬وَ َ‬
‫دا‪ ،‬صغيًرا أو كبيًرا‪ ،‬عاقل أو‬ ‫سواء كان القاتل ذكًرا أو أنثى حّرا أو عب ً‬
‫ن" الدالة على العموم وهذا‬ ‫م ْ‬ ‫ما أو كافًرا‪ ،‬كما يفيده لفظ " َ‬ ‫مجنوًنا‪ ،‬مسل ً‬
‫ن"في هذا الموضع‪ ،‬فإن سياق الكلم يقتضي أن‬ ‫م ْ‬ ‫من أسرار التيان بـ " َ‬
‫ن"‬ ‫م ْ‬ ‫يقول‪ :‬فإن قتله‪ ،‬ولكن هذا لفظ ل يشمل ما تشمله " َ‬
‫وسواء كان المقتول ذكًرا أو أنثى‪ ،‬صغيًرا أو كبيًرا‪ ،‬كما يفيده التنكير في‬
‫سياق الشرط‪ ،‬فإن على القاتل } تحرير رقبة مؤمنة { كفارة لذلك‪ ،‬تكون‬
‫في ماله‪ ،‬ويشمل ذلك الصغير والكبير‪ ،‬والذكر والنثى‪ ،‬والصحيح والمعيب‪،‬‬
‫في قول بعض العلماء‪.‬‬
‫ولكن الحكمة تقتضي أن ل يجزئ عتق المعيب في الكفارة؛ لن المقصود‬
‫بالعتق نفع العتيق‪ ،‬وملكه منافع نفسه‪ ،‬فإذا كان يضيع بعتقه‪ ،‬وبقاؤه في‬
‫الرق أنفع له فإنه ل يجزئ عتقه‪ ،‬مع أن في قوله‪ } :‬تحرير رقبة { ما يدل‬
‫على ذلك؛ فإن التحرير‪ :‬تخليص من استحقت منافعه لغيره أن تكون له‪،‬‬
‫فإذا لم يكن فيه منافع لم يتصور وجود التحرير‪ .‬فتأمل ذلك فإنه واضح‪.‬‬
‫ة‬ ‫سل ّ َ‬
‫م ٌ‬ ‫م َ‬ ‫وأما الدية فإنها تجب على عاقلة القاتل في الخطأ وشبه العمد‪ُ } .‬‬
‫إ َِلى أ َهْل ِهِ { جبًرا لقلوبهم‪ ،‬والمراد بأهله هنا هم ورثته‪ ،‬فإن الورثة يرثون‬
‫ما ترك‪ ،‬الميت‪ ،‬فالدية داخلة فيما ترك وللدية تفاصيل كثيرة مذكورة في‬
‫كتب الفقه‪.‬‬
‫صد ُّقوا { أي‪ :‬يتصدق ورثة القتيل بالعفو عن الدية‪ ،‬فإنها‬ ‫َ‬
‫ن يَ ّ‬ ‫وقوله‪ِ } :‬إل أ ْ‬
‫تسقط‪ ،‬وفي ذلك حث لهم على العفو لن الله سماها صدقة‪ ،‬والصدقة‬
‫م { أي‪:‬‬ ‫ن قَوْم ٍ عَد ُوّ ل َك ُ ْ‬ ‫م ْ‬‫ن { المقتول } ِ‬ ‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫مطلوبة في كل وقت‪ } .‬فَإ ِ ْ‬
‫من َةٍ { أي‪ :‬وليس عليكم‬ ‫مؤْ ِ‬‫ريُر َرقَب َةٍ ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن فَت َ ْ‬‫م ٌ‬ ‫مؤْ ِ‬‫من كفار حربيين } وَهُوَ ُ‬
‫لهله دية‪ ،‬لعدم احترامهم في دمائهم وأموالهم‪.‬‬
‫ة إ َِلى‬‫م ٌ‬ ‫سل ّ َ‬‫م َ‬ ‫ة ُ‬‫ميَثاقٌ فَدِي َ ٌ‬
‫م ِ‬ ‫ن قَوْم ٍ ب َي ْن َك ُ ْ‬
‫م وَب َي ْن َهُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن { المقتول } ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫} وَإ ِ ْ‬
‫َ‬
‫من َةٍ { وذلك لحترام أهله بما لهم من العهد والميثاق‪.‬‬ ‫ريُر َرقَب َةٍ ُ‬
‫مؤْ ِ‬ ‫ح ِ‬ ‫أهْل ِهِ وَت َ ْ‬
‫جد ْ { الرقبة ول ثمنها‪ ،‬بأن كان معسرا بذلك‪ ،‬ليس عنده ما‬ ‫م يَ ِ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫} فَ َ‬
‫ن‬‫شهَْري ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫صَيا ُ‬‫يفضل عن مؤنته وحوائجه الصلية شيء يفي بالرقبة‪ } ،‬فَ ِ‬
‫ن { أي‪ :‬ل يفطر بينهما من غير عذر‪ ،‬فإن أفطر لعذر فإن العذر ل‬ ‫مت ََتاب ِعَي ْ ِ‬
‫ُ‬
‫يقطع التتابع‪ ،‬كالمرض والحيض ونحوهما‪ .‬وإن كان لغير عذر انقطع التتابع‬
‫ووجب عليه استئناف الصوم‪.‬‬
‫ن الل ّهِ { أي‪ :‬هذه الكفارات التي أوجبها الله على القاتل توبة من‬ ‫م َ‬ ‫ة ِ‬ ‫} ت َوْب َ ً‬
‫الله على عباده ورحمة بهم‪ ،‬وتكفير لما عساه أن يحصل منهم من تقصير‬
‫وعدم احتراز‪ ،‬كما هو واقع كثيًرا للقاتل خطأ‪.‬‬
‫ما { أي‪ :‬كامل العلم كامل الحكمة‪ ،‬ل يخفى عليه‬ ‫كي ً‬‫ح ِ‬
‫ما َ‬‫ه عَِلي ً‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫} وَ َ‬
‫مثقال ذرة في الرض ول في السماء‪ ،‬ول أصغر من ذلك ول أكبر‪ ،‬في أي‬
‫وقت كان وأي محل كان‪.‬‬
‫ول يخرج عن حكمته من المخلوقات والشرائع شيء‪ ،‬بل كل ما خلقه‬
‫وشرعه فهو متضمن لغاية الحكمة‪ ،‬ومن علمه وحكمته أن أوجب على‬
‫القاتل كفارة مناسبة لما صدر منه‪ ،‬فإنه تسبب لعدام نفس محترمة‪،‬‬
‫وأخرجها من الوجود إلى العدم‪ ،‬فناسب أن يعتق رقبة ويخرجها من رق‬
‫العبودية للخلق إلى الحرية التامة‪ ،‬فإن لم يجد هذه الرقبة صام شهرين‬
‫متتابعين‪ ،‬فأخرج نفسه من رق الشهوات واللذات الحسية القاطعة للعبد‬
‫عن سعادته البدية إلى التعبد لله تعالى بتركها تقربا إلى الله‪.‬‬
‫ومدها تعالى بهذه المدة الكثيرة الشاقة في عددها ووجوب التتابع فيها‪،‬‬
‫ولم يشرع الطعام في هذا الموضع لعدم المناسبة‪ .‬بخلف الظهار‪ ،‬كما‬
‫سيأتي إن شاء الله تعالى‪.‬‬
‫ومن حكمته أن أوجب في القتل الدية ولو كان خطأ‪ ،‬لتكون رادعة وكافة‬
‫عن كثير من القتل باستعمال السباب العاصمة عن ذلك‪.‬‬
‫ومن حكمته أن وجبت على العاقلة في قتل الخطأ‪ ،‬بإجماع العلماء‪ ،‬لكون‬
‫القاتل لم يذنب فيشق عليه أن يحمل هذه الدية الباهظة‪ ،‬فناسب أن يقوم‬
‫بذلك من بينه وبينهم المعاونة والمناصرة والمساعدة على تحصيل‬
‫المصالح وكف المفاسد ]ولعل ذلك من أسباب منعهم لمن يعقلون عنه‬
‫من القتل حذًرا من تحميلهم[ )‪ (1‬ويخف عنهم )‪ (2‬بسبب توزيعه عليهم‬
‫بقدر أحوالهم وطاقتهم‪ ،‬وخففت أيضا بتأجيلها عليهم ثلث سنين‪.‬‬
‫ومن حكمته وعلمه أن جبر أهل القتيل عن مصيبتهم‪ ،‬بالدية التي أوجبها‬
‫على أولياء القاتل‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬عليهم‪.‬‬

‫) ‪(1/192‬‬

‫ه عَل َي ْهِ وَل َعَن َ ُ‬


‫ه‬ ‫ب الل ّ ُ‬ ‫دا ِفيَها وَغَ ِ‬
‫ض َ‬ ‫خال ِ ً‬
‫م َ‬
‫جهَن ّ ُ‬ ‫دا فَ َ‬
‫جَزاؤُهُ َ‬ ‫م ً‬
‫مت َعَ ّ‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مًنا ُ‬ ‫ل ُ‬ ‫قت ُ ْ‬‫ن يَ ْ‬
‫م ْ‬‫وَ َ‬
‫ما )‪(93‬‬ ‫ه عَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ظي ً‬ ‫ذاًبا عَ ِ‬ ‫وَأعَد ّ ل ُ‬

‫ب الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ض َ‬‫دا ِفيَها وَغَ ِ‬
‫خال ِ ً‬
‫م َ‬‫جهَن ّ ُ‬ ‫دا فَ َ‬
‫جَزاؤُهُ َ‬ ‫م ً‬
‫مت َعَ ّ‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مًنا ُ‬ ‫ل ُ‬ ‫قت ُ ْ‬
‫ن يَ ْ‬
‫م ْ‬‫} ‪ } { 93‬وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫ظي ً‬ ‫ه عَ َ‬
‫ذاًبا عَ ِ‬ ‫ه وَأعَد ّ ل ُ‬‫عَل َي ْهِ وَل َعَن َ ُ‬
‫تقدم أن الله أخبر أنه ل يصدر قتل المؤمن من المؤمن‪ ،‬وأن القتل من‬
‫الكفر العملي‪ ،‬وذكر هنا وعيد القاتل عمدا‪ ،‬وعيدا ترجف له القلوب‬
‫وتنصدع له الفئدة‪ ،‬وتنزعج منه أولو العقول‪.‬‬
‫فلم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد‪ ،‬بل ول مثله‪ ،‬أل وهو ] ص‬
‫‪ [ 194‬الخبار بأن جزاءه جهنم‪ ،‬أي‪ :‬فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده‬
‫أن يجازى صاحبه بجهنم‪ ،‬بما فيها من العذاب العظيم‪ ،‬والخزي المهين‪،‬‬
‫وسخط الجبار‪ ،‬وفوات الفوز والفلح‪ ،‬وحصول الخيبة والخسار‪ .‬فعيا ً‬
‫ذا‬
‫بالله من كل سبب يبعد عن رحمته‪.‬‬
‫وهذا الوعيد له حكم أمثاله من نصوص الوعيد‪ ،‬على بعض الكبائر‬
‫والمعاصي بالخلود في النار‪ ،‬أو حرمان الجنة‪.‬‬
‫وقد اختلف الئمة رحمهم الله في تأويلها مع اتفاقهم على بطلن قول‬
‫الخوارج والمعتزلة الذين يخلدونهم في النار ولو كانوا موحدين‪ .‬والصواب‬
‫في تأويلها ما قاله المام المحقق‪ :‬شمس الدين بن القيم رحمه الله في‬
‫"المدارج" فإنه قال ‪ -‬بعدما ذكر تأويلت الئمة في ذلك وانتقدها فقال‪:‬‬
‫وقالت ِفرَقة‪ :‬هذه النصوص وأمثالها مما ذكر فيه المقتضي للعقوبة‪ ،‬ول‬
‫يلزم من وجود مقتضي الحكم وجوده‪ ،‬فإن الحكم إنما يتم بوجود مقتضيه‬
‫وانتفاء موانعه‪.‬‬
‫وغاية هذه النصوص العلم بأن كذا سبب للعقوبة ومقتض لها‪ ،‬وقد قام‬
‫الدليل على ذكر الموانع فبعضها بالجماع‪ ،‬وبعضها بالنص‪ .‬فالتوبة مانع‬
‫بالجماع‪ ،‬والتوحيد مانع بالنصوص المتواترة التي ل مدفع لها‪ ،‬والحسنات‬
‫العظيمة الماحية مانعة‪ ،‬والمصائب الكبار المكفرة مانعة‪ ،‬وإقامة الحدود‬
‫في الدنيا مانع بالنص‪ ،‬ول سبيل إلى تعطيل هذه النصوص فل بد من‬
‫إعمال النصوص من الجانبين‪.‬‬
‫ومن هنا قامت الموازنة بين الحسنات والسيئات‪ ،‬اعتباًرا بمقتضي العقاب‬
‫ومانعه‪ ،‬وإعمال لرجحها‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬وعلى هذا بناء مصالح الدارين ومفاسدهما‪ .‬وعلى هذا بناء الحكام‬
‫الشرعية والحكام القدرية‪ ،‬وهو مقتضى الحكمة السارية في الوجود‪ ،‬وبه‬
‫ارتباط السباب ومسبباتها خلقا وأمرا‪ ،‬وقد جعل الله سبحانه لكل ضد‬
‫ضدا يدافعه ويقاومه‪ ،‬ويكون الحكم للغلب منهما‪.‬‬
‫فالقوة مقتضية للصحة والعافية‪ ،‬وفساد الخلط وبغيها مانع من عمل‬
‫الطبيعة‪ ،‬وفعل القوة والحكم للغالب منهما‪ ،‬وكذلك قوى الدوية‬
‫والمراض‪ .‬والعبد يكون فيه مقتض للصحة ومقتض للعطب‪ ،‬وأحدهما يمنع‬
‫كمال تأثير الخر ويقاومه‪ ،‬فإذا ترجح عليه وقهره كان التأثير له‪.‬‬
‫ن يدخل الجنة ول يدخل النار‪ ،‬وعكسه‪،‬‬ ‫م ْ‬
‫ن هنا يعلم انقسام الخلق إلى َ‬‫م ْ‬‫و ِ‬
‫ن يدخل النار ثم يخرج منها ويكون مكثه فيها بحسب ما فيه من‬ ‫م ْ‬‫و َ‬
‫مقتضى المكث في سرعة الخروج وبطئه‪ .‬ومن له بصيرة منورة يرى بها‬
‫كل ما أخبر الله به في كتابه من أمر المعاد وتفاصيله‪ ،‬حتى كأنه يشاهده‬
‫رأي عين‪.‬‬
‫ويعلم أن هذا هو مقتضى إلهيته سبحانه‪ ،‬وربوبيته وعزته وحكمته وأنه‬
‫يستحيل عليه خلف ذلك‪ ،‬ونسبة ذلك إليه نسبة ما ل يليق به إليه‪ ،‬فيكون‬
‫نسبة ذلك إلى بصيرته كنسبة الشمس والنجوم إلى بصره‪.‬‬
‫وهذا يقين اليمان‪ ،‬وهو الذي يحرق السيئات‪ ،‬كما تحرق النار الحطب‪،‬‬
‫وصاحب هذا المقام من اليمان يستحيل إصراره على السيئات‪ ،‬وإن‬
‫وقعت منه وكثرت‪ ،‬فإن ما معه من نور اليمان يأمره بتجديد التوبة كل‬
‫وقت بالرجوع إلى الله في عدد أنفاسه‪ ،‬وهذا من أحب الخلق إلى الله‪.‬‬
‫انتهى كلمه قدس الله روحه‪ ،‬وجزاه عن السلم والمسلمين خيرا‪.‬‬

‫) ‪(1/193‬‬

‫قى‬ ‫ن أ َل ْ َ‬
‫م ْ‬ ‫قوُلوا ل ِ َ‬ ‫ل الل ّهِ فَت َب َي ُّنوا وََل ت َ ُ‬ ‫سِبي ِ‬‫م ِفي َ‬ ‫ضَرب ْت ُ ْ‬‫ذا َ‬ ‫مُنوا إ ِ َ‬ ‫ذي َ‬
‫نآ َ‬
‫َ‬
‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫م ك َِثيَرةٌ‬ ‫مَغان ِ ُ‬‫حَياةِ الد ّن َْيا فَعِن ْد َ الل ّهِ َ‬ ‫ض ال ْ َ‬ ‫ن عََر َ‬ ‫مًنا ت َب ْت َُغو َ‬‫مؤْ ِ‬‫ت ُ‬ ‫س َ‬ ‫م لَ ْ‬‫سَل َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫إ ِل َي ْك ُ ُ‬
‫خِبيًرا‬ ‫ن َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬‫ن بِ َ‬‫كا َ‬ ‫ه َ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫م فَت َب َي ُّنوا إ ِ ّ‬‫ه عَل َي ْك ُ ْ‬
‫ن الل ّ ُ‬ ‫م ّ‬‫ل فَ َ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬‫ك ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ك َذ َل ِ َ‬
‫)‪(94‬‬

‫قوُلوا‬ ‫ل الل ّهِ فَت َب َي ُّنوا َول ت َ ُ‬ ‫َ‬


‫سِبي ِ‬‫م ِفي َ‬ ‫ضَرب ْت ُ ْ‬
‫ذا َ‬ ‫مُنوا إ ِ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 94‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫حَياةِ الد ّن َْيا فَعِن ْد َ الل ّهِ‬ ‫ض ال ْ َ‬ ‫ن عََر َ‬ ‫مًنا ت َب ْت َُغو َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ت ُ‬ ‫س َ‬ ‫م لَ ْ‬ ‫سل َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫قى إ ِل َي ْك ُ ُ‬ ‫ن أ َل ْ َ‬ ‫م ْ‬‫لِ َ‬
‫ما‬ ‫ن بِ َ‬ ‫َ‬
‫ه كا َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫م فَت َب َي ُّنوا إ ِ ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ه عَلي ْك ْ‬ ‫ّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ل فَ َ‬‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م كِثيَرةٌ كذ َل ِك كن ْت ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫مَغان ِ ُ‬ ‫َ‬
‫خِبيًرا { ‪.‬‬ ‫ن َ‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ت َعْ َ‬
‫دا في سبيله وابتغاء مرضاته أن‬ ‫يأمر تعالى عباده المؤمنين إذا خرجوا جها ً‬
‫يتبينوا ويتثبتوا في جميع أمورهم المشتبهة‪ .‬فإن المور قسمان‪ :‬واضحة‬
‫وغير واضحة‪ .‬فالواضحة البّينة ل تحتاج إلى تثبت وتبين‪ ،‬لن ذلك تحصيل‬
‫حاصل‪ .‬وأما المور المشكلة غير الواضحة فإن النسان يحتاج إلى التثبت‬
‫فيها والتبين‪ ،‬ليعرف هل يقدم عليها أم ل؟‬
‫فإن التثبت في هذه المور يحصل فيه من الفوائد الكثيرة‪ ،‬والكف لشرور‬
‫عظيمة‪ ،‬ما به يعرف دين العبد وعقله ورزانته‪ ،‬بخلف المستعجل للمور‬
‫في بدايتها )‪ (1‬قبل أن يتبين له حكمها‪ ،‬فإن ذلك يؤدي إلى ما ل ينبغي‪،‬‬
‫ما لم يتثبتوا وقتلوا من سلم‬ ‫كما جرى لهؤلء الذين عاتبهم الله في الية ل ّ‬
‫عليهم‪ ،‬وكان معه غنيمة له أو مال غيره‪ ،‬ظّنا أنه يستكفي بذلك قتَلهم‪،‬‬
‫َ‬
‫ن أل ْ َ‬
‫قى‬ ‫م ْ‬ ‫قوُلوا ل ِ َ‬ ‫وكان هذا خطأ في نفس المر‪ ،‬فلهذا عاتبهم بقوله‪َ } :‬ول ت َ ُ‬
‫م كِثيَرةٌ‬ ‫َ‬ ‫مَغان ِ ُ‬ ‫ّ‬
‫حَياةِ الد ّن َْيا فَعِن ْد َ اللهِ َ‬ ‫ض ال ْ َ‬ ‫ن عََر َ‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مًنا ت َب ْت َُغو َ‬ ‫ت ُ‬ ‫س َ‬ ‫م لَ ْ‬ ‫سل َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫إ ِل َي ْك ُ ُ‬
‫{ أي‪ :‬فل يحملنكم العرض الفاني القليل على ارتكاب ما ل ينبغي فيفوتكم‬
‫ما عند الله من الثواب الجزيل الباقي‪ ،‬فما عند الله خير وأبقى‪.‬‬
‫وفي هذا إشارة إلى أن العبد ينبغي له إذا رأى دواعي نفسه مائلة إلى‬
‫كرها ما أعد الله لمن نهى نفسه‬ ‫حالة له فيها هوى وهي مضرة له‪ ،‬أن ي ُذ َ ّ‬
‫دم مرضاة الله على رضا نفسه‪ ،‬فإن في ذلك ترغيًبا للنفس‬ ‫عن هواها‪ ،‬وق ّ‬
‫في امتثال أمر الله‪ ،‬وإن شق ذلك عليها‪.‬‬
‫ثم قال تعالى مذكًرا لهم بحالهم الولى‪ ،‬قبل هدايتهم إلى السلم‪:‬‬
‫م { أي‪ :‬فكما هداكم بعد ضللكم‬ ‫ه عَل َي ْك ُ ْ‬
‫ن الل ّ ُ‬‫م ّ‬‫ل فَ َ‬‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ك ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫} ك َذ َل ِ َ‬
‫فكذلك يهدي غيركم‪ ] ،‬ص ‪ [ 195‬وكما أن الهداية حصلت لكم شيًئا‬
‫فشيًئا‪ ،‬فكذلك غيركم‪ .‬فنظر الكامل لحاله الولى الناقصة‪ ،‬ومعاملته لمن‬
‫كان ‪ -‬على مثلها بمقتضى ما يعرف من حاله الولى‪ ،‬ودعاؤه له بالحكمة‬
‫والموعظة الحسنة ‪ -‬من أكبر السباب لنفعه وانتفاعه‪ ،‬ولهذا أعاد المر‬
‫بالتبين فقال‪ } :‬فَت َب َي ُّنوا { ‪.‬‬
‫فإذا كان من خرج للجهاد في سبيل الله‪ ،‬ومجاهدة أعداء الله‪ ،‬وقد استعد‬
‫بأنواع الستعداد لليقاع بهم‪ ،‬مأموًرا بالتبين لمن ألقى إليه السلم‪ ،‬وكانت‬
‫القرينة قوية في أنه إنما سلم تعوذا من القتل وخوفا على نفسه ‪ -‬فإن‬
‫ذلك يدل على المر بالتبين والتثبت في كل الحوال التي يقع فيها نوع‬
‫اشتباه‪ ،‬فيتثبت فيها العبد‪ ،‬حتى يتضح له المر ويتبين الرشد والصواب‪.‬‬
‫كل ما عمله ونواه‪ ،‬بحسب ما‬ ‫خِبيًرا { فيجازي ُ‬ ‫ن َ‬ ‫مُلو َ‬‫ما ت َعْ َ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫كا َ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫علمه من أحوال عباده ونياتهم‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في النسختين‪ :‬بداوتها‪.‬‬

‫) ‪(1/194‬‬

‫ُ‬
‫ل‬
‫سِبي ِ‬
‫ن ِفي َ‬ ‫دو َ‬ ‫جاهِ ُ‬ ‫م َ‬‫ضَررِ َوال ْ ُ‬ ‫ن غَي ُْر أوِلي ال ّ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ع ُ‬ ‫قا ِ‬‫وي ال ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫َل ي َ ْ‬
‫ست َ‬
‫م عََلى‬ ‫م وَأ َن ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫م وَأ َن ْ ُ‬ ‫َ‬
‫سه ِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫وال ِهِ ْ‬‫م َ‬‫ن ب ِأ ْ‬‫دي َ‬ ‫جاهِ ِ‬ ‫م َ‬‫ه ال ْ ُ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫م فَ ّ‬ ‫سهِ ْ‬‫ف ِ‬ ‫وال ِهِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫الل ّهِ ب ِأ ْ‬
‫ن عََلى‬ ‫دي َ‬ ‫جاهِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ه ال ْ ُ‬
‫ل الل ّ ُ‬ ‫ض َ‬‫سَنى وَفَ ّ‬ ‫ح ْ‬ ‫ه ال ْ ُ‬‫ة وَك ُّل وَعَد َ الل ّ ُ‬ ‫ج ً‬‫ن د ََر َ‬ ‫دي َ‬ ‫ع ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫قا ِ‬
‫عدي َ‬
‫فوًرا‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫ه غَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ة وَ َ‬ ‫م ً‬ ‫ح َ‬ ‫فَرةً وََر ْ‬ ‫مغْ ِ‬‫ه وَ َ‬‫من ْ ُ‬
‫ت ِ‬ ‫جا ٍ‬ ‫ما )‪ (95‬د ََر َ‬ ‫ظي ً‬‫جًرا عَ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫قا ِ ِ َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ما )‪(96‬‬ ‫حي ً‬ ‫َر ِ‬
‫ُ‬
‫ضَرِر‬ ‫ن غَي ُْر أوِلي ال ّ‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ع ُ‬ ‫قا ِ‬ ‫وي ال ْ َ‬ ‫ست َ ِ‬
‫} ‪ } { 96 ، 95‬ل ي َ ْ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن‬
‫دي َ‬ ‫جاهِ ِ‬ ‫م َ‬
‫ه ال ُ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ض َ‬ ‫م فَ ّ‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫م وَأن ْ ُ‬ ‫وال ِهِ ْ‬‫م َ‬‫ل اللهِ ب ِأ ْ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫دو َ‬ ‫جاهِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫َوال ْ ُ‬
‫م وَأ َن ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ل الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ض َ‬ ‫سَنى وَفَ ّ‬ ‫ح ْ‬ ‫ه ال ْ ُ‬ ‫كل وَعَد َ الل ّ ُ‬ ‫ة وَ ُ‬ ‫ج ً‬‫ن د ََر َ‬ ‫دي َ‬ ‫ع ِ‬ ‫قا ِ‬ ‫م عََلى ال ْ َ‬ ‫سه ِ ْ‬‫ف ِ‬ ‫وال ِهِ ْ‬‫م َ‬ ‫ب ِأ ْ‬
‫عدي َ‬ ‫ن عََلى ال ْ َ‬
‫ن‬
‫كا َ‬ ‫ة وَ َ‬ ‫م ً‬ ‫ح َ‬‫فَرةً وََر ْ‬ ‫مغْ ِ‬ ‫ه وَ َ‬‫من ْ ُ‬‫ت ِ‬ ‫جا ٍ‬ ‫ما * د ََر َ‬ ‫ظي ً‬‫جًرا عَ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫قا ِ ِ َ‬ ‫دي َ‬ ‫جاهِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫حي ً‬ ‫فوًرا َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫أي‪ :‬ل يستوي من جاهد من المؤمنين بنفسه وماله ومن لم يخرج للجهاد‬
‫ولم يقاتل أعداء الله‪ ،‬ففيه الحث على الخروج للجهاد‪ ،‬والترغيب في ذلك‪،‬‬
‫والترهيب من التكاسل والقعود عنه من غير عذر‪.‬‬
‫وأما أهل الضرر كالمريض والعمى والعرج والذي ل يجد ما يتجهز به‪،‬‬
‫فإنهم ليسوا بمنزلة القاعدين من غير عذر‪ ،‬فمن كان من أولي الضرر‬
‫دث‬ ‫ح ّ‬
‫راضًيا بقعوده ل ينوي الخروج في سبيل الله لول ]وجود[ المانع‪ ،‬ول ي ُ َ‬
‫نفسه بذلك‪ ،‬فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر‪.‬‬
‫ما على الخروج في سبيل الله لول وجود المانع يتمنى ذلك‬ ‫ومن كان عاز ً‬
‫دث به نفسه‪ ،‬فإنه بمنزلة من خرج للجهاد‪ ،‬لن النية الجازمة إذا اقترن‬ ‫ح ّ‬ ‫وي ُ َ‬
‫بها مقدورها من القول أو الفعل ينزل صاحبها منزلة الفاعل‪.‬‬
‫ثم صّرح تعالى بتفضيل المجاهدين على القاعدين بالدرجة‪ ،‬أي‪ :‬الرفعة‪،‬‬
‫وهذا تفضيل على وجه الجمال‪ ،‬ثم صرح بذلك على وجه التفصيل‪،‬‬
‫ووعدهم بالمغفرة الصادرة من ربهم‪ ،‬والرحمة التي تشتمل على حصول‬
‫كل خير‪ ،‬واندفاع كل شر‪.‬‬
‫والدرجات التي فصلها النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الثابت عنه‬
‫في "الصحيحين" أن في الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين‬
‫السماء والرض‪ ،‬أعدها الله للمجاهدين في سبيله‪.‬‬
‫وهذا الثواب الذي رتبه الله على الجهاد‪ ،‬نظير الذي في سورة الصف في‬
‫ب أ َِليم ٍ *‬ ‫ذا ٍ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جيك ُ ْ‬ ‫جاَرةٍ ت ُن ْ ِ‬ ‫م عََلى ت ِ َ‬
‫قوله‪ } :‬يا أ َيها ال ّذين آمنوا هَ ْ َ‬
‫ل أد ُل ّك ُ ْ‬ ‫ِ َ َ ُ‬ ‫َ َّ‬
‫م ذ َل ِك ُْ‬
‫م‬ ‫سك ُْ‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ن‬‫تؤْمنون بالل ّه ورسول ِه وتجاهدون في سبيل الل ّه بأ َموال ِك ُم وأ َ‬
‫ْ َ ْ ِ‬ ‫ِ ِ ْ َ‬ ‫َ ِ ِ‬ ‫ُ ِ ُ َ ِ ِ ََ ُ ِ َُ َ ِ ُ َ ِ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫خلك ْ‬ ‫ْ‬ ‫م وَي ُد ْ ِ‬ ‫ُ‬
‫م ذُنوب َك ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫فْر لك ْ‬ ‫ن * ي َغْ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م إِ ْ‬‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫م { إلى آخر‬ ‫ظي ُ‬ ‫فوُْز العَ ِ‬‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن ذ َل ِك ال َ‬ ‫ت عَد ْ ٍ‬ ‫جّنا ِ‬ ‫ة ِفي َ‬ ‫َ‬
‫ن طي ّب َ ً‬ ‫ساك ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫حت َِها الن َْهاُر وَ َ‬ ‫تَ ْ‬
‫السورة‬
‫وتأمل حسن هذا النتقال من حالة إلى أعلى منها فإنه نفى التسوية أول‬
‫بين المجاهد وغيره ثم صّرح بتفضيل المجاهد على القاعد بدرجة ثم انتقل‬
‫إلى تفضيله بالمغفرة والرحمة والدرجات‬
‫وهذا النتقال من حالة إلى أعلى منها عند التفضيل والمدح أو النزول من‬
‫حالة إلى ما دونها عند القدح والذم ‪ -‬أحسن لفظا وأوقع في النفس‬
‫ضل تعالى شيئا على شيء وكل منهما له فضل احترز بذكر‬ ‫وكذلك إذا ف ّ‬
‫الفضل الجامع للمرين لئل يتوهم أحد ذم المفضل عليه كما قال هنا‬
‫سَنى {‪.‬‬ ‫ح ْ‬ ‫ه ال ْ ُ‬ ‫كل وَعَد َ الل ّ ُ‬ ‫} وَ ُ‬
‫ر‬
‫ش ِ‬ ‫وكما قال تعالى في اليات المذكورة في الصف في قوله } وَب َ ّ‬
‫ن قَب ْ ِ‬
‫ل‬ ‫م ْ‬ ‫فق َ ِ‬ ‫ن أ َن ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫وي ِ‬ ‫ست َ ِ‬‫ن { وكما في قوله تعالى } ل ي َ ْ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ال ْ ُ‬
‫ل { أي ممن لم يكن كذلك‬ ‫فت ِْح وََقات َ َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن‬‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫ها ُ‬ ‫مَنا َ‬ ‫فهّ ْ‬ ‫سَنى { وكما قال تعالى } فَ َ‬ ‫ح ْ‬ ‫ه ال ْ ُ‬ ‫كل وَعَد َ الل ّ ُ‬ ‫ثم قال } وَ ُ‬
‫ما { فينبغي لمن بحث في التفضيل بين الشخاص‬ ‫عل ْ ً‬‫ما وَ ِ‬ ‫حك ْ ً‬ ‫كل آت َي َْنا ُ‬ ‫وَ ُ‬
‫والطوائف والعمال أن يتفطن لهذه النكتة‬
‫وكذلك لو تكلم في ذم الشخاص والمقالت ذكر ما تجتمع فيه عند تفضيل‬
‫ضل قد حصل له الكمال كما إذا قيل‬ ‫بعضها على بعض لئل يتوهم أن المف ّ‬
‫النصارى خير من المجوس فليقل مع ذلك وكل منهما كافر‬
‫والقتل أشنع من الزنا وكل منهما معصية كبيرة حرمها الله ورسوله وزجر‬
‫عنها‬
‫ولما وعد المجاهدين بالمغفرة والرحمة الصادَرْين عن اسميه الكريمين‬
‫ما {‪.‬‬ ‫حي ً‬ ‫فوًرا َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫م { ختم هذا الية بهما فقال } وَ َ‬ ‫حي ُ‬ ‫فوُر الّر ِ‬ ‫} ال ْغَ ُ‬

‫) ‪(1/195‬‬

‫م َقاُلوا ك ُّنا‬ ‫م ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م َقاُلوا ِفي َ‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫مي أ َن ْ ُ‬ ‫ة َ‬


‫ظال ِ ِ‬ ‫مَلئ ِك َ ُ‬‫م ال ْ َ‬ ‫ن ت َوَّفاهُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫إِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جُروا ِفيَها‬ ‫ة فَت َُها ِ‬ ‫سعَ ً‬ ‫ض الل ّهِ َوا ِ‬ ‫ن أْر ُ‬ ‫م ت َك ُ ْ‬ ‫ض َقاُلوا أل َ ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫في ْ َ‬ ‫ضع َ ِ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫جا‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫في‬ ‫ع‬ ‫ض‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫إ‬ ‫(‬ ‫‪97‬‬ ‫)‬ ‫را‬ ‫صي‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫سا‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ه‬ ‫ج‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫وا‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ئ‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫أو‬‫فَ ُ‬
‫ُ ْ َ ْ َ ِ َ ِ َُ ّ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ َ ِ ً‬ ‫َ َ ُ ْ َ َ ّ ُ َ َ‬ ‫ِ‬
‫سى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سِبيل )‪ (98‬فأولئ ِك عَ َ‬ ‫ً‬ ‫ن َ‬ ‫دو َ‬ ‫َ‬
‫ة وَل ي َهْت َ ُ‬ ‫حيل ً‬‫َ‬ ‫ن ِ‬ ‫طيُعو َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫ن ل يَ ْ‬‫َ‬ ‫دا ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ساِء َوالوِل َ‬ ‫َوالن ّ َ‬
‫فوًرا )‪(99‬‬ ‫َ‬
‫وا غ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫ف ّ‬‫ه عَ ُ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫م وَكا َ‬ ‫فوَ عَن ْهُ ْ‬ ‫ن ي َعْ ُ‬‫هأ ْ‬ ‫ُ‬
‫م ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫م َقاُلوا ِفي َ‬ ‫سه ِ ْ‬‫ف ِ‬ ‫مي أ َن ْ ُ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ة َ‬ ‫ملئ ِك َ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ن ت َوَّفاهُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫} ‪ } { 99 - 97‬إ ِ ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫جُروا‬ ‫ة فَت َُها ِ‬ ‫سع َ ً‬‫ض اللهِ َوا ِ‬ ‫ن أْر ُ‬ ‫م ت َك ْ‬‫ُ‬ ‫ض َقالوا أل ْ‬ ‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫في َ‬ ‫ضع َ ِ‬‫ست َ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫َقاُلوا ك ُّنا ُ‬
‫ْ‬ ‫ِفيَها فَُأول َئ ِ َ‬
‫ل‬
‫جا ِ‬ ‫ن الّر َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫في ُ َ‬
‫ضع َ ِ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫صيًرا * ِإل ال ْ ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ساَء ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫جهَن ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫مأَواهُ ْ‬ ‫ك َ‬
‫سى الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ك عَ َ‬ ‫سِبيل * فَأول َئ ِ َ‬ ‫ن َ‬ ‫دو َ‬ ‫ة َول ي َهْت َ ُ‬ ‫حيل َ ً‬ ‫ن ِ‬ ‫طيُعو َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫ن ل يَ ْ‬ ‫دا ِ‬ ‫ساِء َوال ْوِل ْ َ‬ ‫َوالن ّ َ‬
‫فوًرا { ‪.‬‬ ‫وا غَ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف ّ‬‫ه عَ ُ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫م وَكا َ‬ ‫فوَ عَن ْهُ ْ‬ ‫ن ي َعْ ُ‬‫أ ْ‬
‫هذا الوعيد الشديد لمن ترك الهجرة مع قدرته عليها حتى مات‪ ،‬فإن‬
‫الملئكة الذين يقبضون روحه يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم‪ ،‬ويقولون لهم‪:‬‬
‫م { أي‪ :‬على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟‬ ‫م ك ُن ْت ُ ْ‬‫} ِفي َ‬
‫بل كثرتم سوادهم‪ ،‬وربما ظاهرتموهم على المؤمنين‪ ،‬وفاتكم الخير‬
‫الكثير‪ ،‬والجهاد مع رسوله‪ ،‬والكون مع المسلمين‪ ،‬ومعاونتهم على‬
‫أعدائهم‪.‬‬
‫ن ِفي الْرض { أي‪ :‬ضعفاء مقهورين مظلومين‪،‬‬ ‫في َ‬ ‫ضع َ ِ‬ ‫ست َ ْ‬‫م ْ‬ ‫} َقاُلوا كّنا ُ‬
‫ُ‬
‫ليس لنا قدرة على الهجرة‪ .‬وهم غير صادقين في ذلك لن الله وبخهم‬
‫] ص ‪ [ 196‬وتوعدهم‪ ،‬ول يكلف الله نفسا إل وسعها‪ ،‬واستثنى‬
‫المستضعفين حقيقة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جُروا ِفيَها {‬ ‫ة فَت َُها ِ‬ ‫سعَ ً‬ ‫ض اللهِ َوا ِ‬ ‫ن أْر ُ‬ ‫م ت َك ْ‬ ‫ولهذا قالت لهم الملئكة‪ } :‬أل ْ‬
‫وهذا استفهام تقرير‪ ،‬أي‪ :‬قد تقرر عند كل أحد أن أرض الله واسعة‪،‬‬
‫فحيثما كان العبد في محل ل يتمكن فيه من إظهار دينه‪ ،‬فإن له متسًعا‬
‫ي‬
‫عَبادِ َ‬ ‫وفسحة من الرض يتمكن فيها من عبادة الله‪ ،‬كما قال تعالى‪َ } :‬يا ِ‬
‫ال ّذين آمنوا إ َ‬
‫ن { قال الله عن هؤلء الذين ل‬ ‫دو ِ‬ ‫ة فَإ ِّيايَ َفاعْب ُ ُ‬ ‫سع َ ٌ‬ ‫ضي َوا ِ‬ ‫ن أْر ِ‬ ‫ِ َ َ ُ ِ ّ‬
‫صيًرا { وهذا كما تقدم‪ ،‬فيه‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫عذر لهم‪ } :‬فَأول َئ ِ َ‬
‫م ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ساَء ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫جهَن ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫مأَواهُ ْ‬ ‫ك َ‬
‫جب‪ ،‬فقد يترتب عليه مقتضاه‪ ،‬مع اجتماع شروطه‬ ‫ذكر بيان السبب المو ِ‬
‫وانتفاء موانعه‪ ،‬وقد يمنع من ذلك مانع‪.‬‬
‫وفي الية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات‪ ،‬وتركها من المحرمات‪،‬‬
‫من توفي فقد استكمل‬ ‫بل من الكبائر‪ ،‬وفي الية دليل على أن كل َ‬
‫واستوفى ما قدر له من الرزق والجل والعمل‪ ،‬وذلك مأخوذ من لفظ‬
‫"التوفي" فإنه يدل على ذلك‪ ،‬لنه لو بقي عليه شيء من ذلك لم يكن‬
‫متوفًيا‪.‬‬
‫وفيه اليمان بالملئكة ومدحهم‪ ،‬لن الله ساق ذلك الخطاب لهم على وجه‬
‫التقرير والستحسان منهم‪ ،‬وموافقته لمحله‪.‬‬
‫ثم استثنى المستضعفين على الحقيقة‪ ،‬الذين ل قدرة لهم على الهجرة‬
‫سِبيل { ‪.‬‬ ‫ن َ‬ ‫دو َ‬ ‫بوجه من الوجوه } َول ي َهْت َ ُ‬
‫وا‬
‫ف ّ‬ ‫ه عَ ُ‬ ‫ّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫كا َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫فوَ عَن ْهُ ْ‬ ‫ن ي َعْ ُ‬ ‫هأ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫سى الل ُ‬ ‫ك عَ َ‬ ‫فهؤلء قال الله فيهم‪ } :‬فَُأولئ ِ َ‬
‫َ‬
‫فوًرا { و "عسى" ونحوها واجب وقوعها من الله تعالى بمقتضى كرمه‬ ‫غَ ُ‬
‫وإحسانه‪ ،‬وفي الترجية بالثواب لمن عمل بعض العمال فائدة‪ ،‬وهو أنه قد‬
‫ل يوفيه حق توفيته‪ ،‬ول يعمله على الوجه اللئق الذي ينبغي‪ ،‬بل يكون‬
‫مقصًرا فل يستحق ذلك الثواب‪ .‬والله أعلم‪.‬‬
‫وفي الية الكريمة دليل على أن من عجز عن المأمور من واجب وغيره‬
‫مى‬ ‫س عََلى العْ َ‬ ‫فإنه معذور‪ ،‬كما قال تعالى في العاجزين عن الجهاد‪ } :‬ل َي ْ َ‬
‫ج { وقال في عموم‬ ‫حَر ٌ‬ ‫ض َ‬ ‫ري ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ج َول عََلى ال ْ َ‬ ‫حَر ٌ‬ ‫ج َول عََلى العَْرِج َ‬ ‫حَر ٌ‬ ‫َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ست َطعْت ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫قوا الل َ‬ ‫الوامر‪َ } :‬فات ّ ُ‬
‫وقال النبي صلى الله عليه وسلم‪" :‬إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما‬
‫استطعتم" ولكن ل يعذر النسان إل إذا بذل جهده وانسدت عليه أبواب‬
‫حيل َ ً‬
‫ة { وفي الية تنبيه على أن الدليل في‬ ‫ن ِ‬
‫طيُعو َ‬
‫ست َ ِ‬
‫الحيل لقوله‪ } :‬ل ي َ ْ‬
‫الحج والعمرة ونحوهما مما يحتاج إلى سفر من شروط الستطاعة‪.‬‬

‫) ‪(1/195‬‬

‫ج‬
‫خُر ْ‬
‫ن يَ ْ‬
‫م ْ‬
‫ة وَ َ‬ ‫ما ك َِثيًرا وَ َ‬
‫سع َ ً‬ ‫مَراغَ ً‬‫ض ُ‬ ‫ِ‬ ‫جد ْ ِفي اْل َْر‬ ‫ل الل ّهِ ي َ ِ‬‫سِبي ِ‬ ‫جْر ِفي َ‬ ‫ن ي َُها ِ‬ ‫م ْ‬‫وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫جُرهُ عَلى‬ ‫قد ْ وَقَعَ أ ْ‬
‫ت فَ َ‬ ‫موْ ُ‬ ‫ه ال َ‬
‫م ي ُد ْرِك ُ‬‫سول ِهِ ث ُ ّ‬
‫جًرا إ ِلى اللهِ وََر ُ‬ ‫مَها ِ‬
‫ن ب َي ْت ِهِ ُ‬‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ما )‪(100‬‬ ‫حي ً‬ ‫فوًرا َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫اللهِ وَ َ‬
‫كا َ‬ ‫ّ‬

‫ة‬
‫سع َ ً‬‫ما ك َِثيًرا وَ َ‬ ‫مَراغَ ً‬ ‫ض ُ‬
‫جد ْ ِفي الْر ِ‬ ‫ل الل ّهِ ي َ ِ‬ ‫سِبي ِ‬
‫جْر ِفي َ‬ ‫ن ي َُها ِ‬‫م ْ‬ ‫} ‪ } { 100‬وَ َ‬
‫قد ْ وَقَ َ‬
‫ع‬ ‫ت فَ َ‬ ‫موْ ُ‬ ‫ْ‬
‫ه ال َ‬ ‫ْ‬ ‫سول ِهِ ث ُ ّ‬
‫م ي ُد ْرِك ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫جًرا إ ِلى اللهِ وََر ُ‬ ‫مَها ِ‬ ‫ن ب َي ْت ِهِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫خُر ْ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ َ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حي ً‬‫فوًرا َر ِ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫جُرهُ عَلى اللهِ وَكا َ‬ ‫أ ْ‬
‫هذا في بيان الحث على الهجرة والترغيب‪ ،‬وبيان ما فيها من المصالح‪،‬‬
‫فوعد الصادق في وعده أن من هاجر في سبيله ابتغاء مرضاته‪ ،‬أنه يجد‬
‫مراغما في الرض وسعة‪ ،‬فالمراغم مشتمل على مصالح الدين‪ ،‬والسعة‬
‫على مصالح الدنيا‪.‬‬
‫وذلك أن كثيًرا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاًتا بعد اللفة‪ ،‬وفقًرا بعد‬
‫الغنى‪ ،‬وذل بعد العز‪ ،‬وشدة بعد الرخاء‪.‬‬
‫والمر ليس كذلك‪ ،‬فإن المؤمن ما دام بين أظهر المشركين فدينه في‬
‫غاية النقص‪ ،‬ل في العبادات القاصرة عليه كالصلة ونحوها‪ ،‬ول في‬
‫العبادات المتعدية كالجهاد بالقول والفعل‪ ،‬وتوابع ذلك‪ ،‬لعدم تمكنه من‬
‫فا‪.‬‬‫ذلك‪ ،‬وهو بصدد أن يفتن عن دينه‪ ،‬خصوصا إن كان مستضع ً‬
‫فإذا هاجر في سبيل الله تمكن من إقامة دين الله وجهاد أعداء الله‬
‫ومراغمتهم‪ ،‬فإن المراغمة اسم جامع لكل ما يحصل به إغاظة لعداء الله‬
‫من قول وفعل‪ ،‬وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه‪ ،‬وقد وقع كما أخبر‬
‫الله تعالى‪.‬‬
‫واعتبر ذلك بالصحابة رضي الله عنهم فإنهم لما هاجروا في سبيل الله‬
‫وتركوا ديارهم وأولدهم وأموالهم لله‪ ،‬كمل بذلك إيمانهم وحصل لهم من‬
‫اليمان التام والجهاد العظيم والنصر لدين الله‪ ،‬ما كانوا به أئمة لمن‬
‫بعدهم‪ ،‬وكذلك حصل لهم مما يترتب على ذلك من الفتوحات والغنائم‪ ،‬ما‬
‫كانوا به أغنى الناس‪ ،‬وهكذا كل من فعل فعلهم‪ ،‬حصل له ما حصل لهم‬
‫إلى يوم القيامة‪.‬‬
‫سول ِهِ { أي‪ :‬قاصدا ربه‬ ‫جًرا إ َِلى الل ّهِ وََر ُ‬ ‫مَها ِ‬‫ن ب َي ْت ِهِ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ج ِ‬‫خُر ْ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ثم قال‪ } :‬وَ َ‬
‫م‬‫ورضاه‪ ،‬ومحبة لرسوله ونصًرا لدين الله‪ ،‬ل لغير ذلك من المقاصد } ث ُ ّ‬
‫جُرهُ عََلى الل ّهِ { أي‪ :‬فقد‬ ‫َ‬
‫قد ْ وَقَعَ أ ْ‬ ‫ت { بقتل أو غيره‪ } ،‬فَ َ‬ ‫موْ ُ‬‫ه ال ْ َ‬‫ي ُد ْرِك ْ ُ‬
‫حصل له أجر المهاجر الذي أدرك مقصوده بضمان الله تعالى‪ ،‬وذلك لنه‬
‫نوى وجزم‪ ،‬وحصل منه ابتداء وشروع في العمل‪ ،‬فمن رحمة الله به‬
‫وبأمثاله أن أعطاهم أجرهم كامل ولو لم يكملوا العمل‪ ،‬وغفر لهم ما‬
‫حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها‪.‬‬
‫فوًرا‬‫ه غَ ُ‬ ‫ّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫َ‬
‫ولهذا ختم هذه الية بهذين السمين الكريمين فقال‪ } :‬وَكا َ‬
‫ما { يغفر للمؤمنين ما اقترفوه من الخطيئات‪ ،‬خصوصا التائبين‬ ‫حي ً‬ ‫َر ِ‬
‫المنيبين إلى ربهم‪ ] .‬ص ‪[ 197‬‬
‫ما { بجميع الخلق رحمة أوجدتهم وعافتهم ورزقتهم من المال‬‫حي ً‬
‫} َر ِ‬
‫ما بالمؤمنين حيث وفقهم لليمان‪ ،‬وعلمهم‬‫والبنين والقوة‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬رحي ً‬
‫من العلم ما يحصل به اليقان‪ ،‬ويسر لهم أسباب السعادة والفلح وما به‬
‫يدركون غاية الرباح‪ ،‬وسيرون من رحمته وكرمه ما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن‬
‫سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب بشر‪ ،‬فنسأل الله أن ل يحرمنا خيره بشر ما‬
‫عندنا‪.‬‬

‫) ‪(1/196‬‬

‫ذا ضربتم في اْل َرض فَل َيس عَل َيك ُم جنا َ‬


‫م‬
‫فت ُ ْ‬
‫خ ْ‬ ‫صَلةِ إ ِ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ن ال ّ‬
‫م َ‬
‫صُروا ِ‬‫ق ُ‬ ‫ن تَ ْ‬‫حأ ْ‬ ‫ْ ْ ُ َ ٌ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ ِ‬ ‫وَإ ِ َ َ َ ْ ُ ْ ِ‬
‫َ‬
‫مِبيًنا )‪(101‬‬
‫م عَد ُّوا ُ‬ ‫كاُنوا ل َك ُ ْ‬
‫ن َ‬
‫ري َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫ن كَ َ‬
‫فُروا إ ِ ّ‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫فت ِن َك ُ ُ‬
‫ن يَ ْ‬
‫أ ْ‬
‫ذا ضربتم في الرض فَل َيس عَل َيك ُم جنا َ‬
‫صُروا‬ ‫ق ُ‬‫ن تَ ْ‬ ‫حأ ْ‬ ‫ْ ْ ُ َ ٌ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ ِ‬ ‫} ‪ } { 102 ، 101‬وَإ ِ َ َ َ ْ ُ ْ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫فت َ‬
‫م عَد ُّوا‬ ‫ُ‬
‫ن كاُنوا لك ْ‬ ‫َ‬ ‫ري َ‬ ‫َ‬
‫ن الكافِ ِ‬ ‫فُروا إ ِ ّ‬ ‫َ‬
‫نك َ‬‫ذي َ‬‫م ال ّ ِ‬‫فت ِن َك ُ ُ‬
‫ن يَ ْ‬
‫مأ ْ‬ ‫خ ْ ُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫صلةِ إ ِ ْ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫مِبيًنا { ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫هاتان اليتان أصل في رخصة القصر‪ ،‬وصلة الخوف‪ ،‬يقول تعالى‪ } :‬وَإ ِ َ‬
‫ذا‬
‫ض { أي‪ :‬في السفر‪ ،‬وظاهر الية ]أنه[ يقتضي الترخص )‬ ‫م ِفي الْر ِ‬ ‫ضَرب ْت ُ ْ‬‫َ‬
‫‪ (1‬في أي سفر كان ولو كان سفر معصية‪ ،‬كما هو مذهب أبي حنيفة‬
‫رحمه الله‪ ،‬وخالف في ذلك الجمهور‪ ،‬وهم الئمة الثلثة وغيرهم‪ ،‬فلم‬
‫يجوزوا الترخص )‪ (2‬في سفر المعصية‪ ،‬تخصيصا للية بالمعنى والمناسبة‪،‬‬
‫فإن الرخصة سهولة من الله لعباده إذا سافروا أن يقصروا ويفطروا‪،‬‬
‫والعاصي بسفره ل يناسب حاله التخفيف‪.‬‬
‫صلةِ { أي‪ :‬ل حرج ول إثم‬ ‫وقوله‪ } :‬فَل َيس عَل َيك ُم جنا َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫صُروا ِ‬ ‫ق ُ‬
‫ن تَ ْ‬ ‫حأ ْ‬ ‫ْ ْ ُ َ ٌ‬ ‫ْ َ‬
‫عليكم في ذلك‪ ،‬ول ينافي ذلك كون القصر هو الفضل‪ ،‬لن نفي الحرج‬
‫إزالة لبعض الوهم الواقع في كثير من النفوس‪ ،‬بل ول ينافي الوجوب كما‬
‫شَعائ ِرِ الل ّهِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫مْروَةَ ِ‬‫فا َوال ْ َ‬‫ص َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫تقدم ذلك في سورة البقرة في قوله‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫{ إلى آخر الية‪.‬‬
‫وإزالة الوهم في هذا الموضع ظاهرة‪ ،‬لن الصلة قد تقرر عند المسلمين‬
‫وجوبها على هذه الصفة التامة‪ ،‬ول يزيل هذا عن نفوس أكثرهم إل بذكر ما‬
‫ينافيه‪.‬‬
‫ويدل على أفضلية القصر على التمام أمران‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬ملزمة النبي صلى الله عليه وسلم على القصر في جميع‬
‫أسفاره‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد‪ ،‬والله تعالى‬
‫يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته‪.‬‬
‫صلةِ { ولم يقل أن تقصروا الصلة فيه‬ ‫َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬‫صُروا ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫ن تَ ْ‬‫وقوله‪ } :‬أ ْ‬
‫فائدتان‪:‬‬
‫إحداهما‪ :‬أنه لو قال أن تقصروا الصلة لكان القصر غير منضبط بحد من‬
‫الحدود‪ ،‬فربما ظن أنه لو قصر معظم الصلة وجعلها ركعة واحدة لجزأ‪،‬‬
‫صلةِ { ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط‪،‬‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫فإتيانه بقوله‪ِ } :‬‬
‫مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن } من { تفيد التبعيض ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات‬
‫المفروضات ل جميعها‪ ،‬فإن الفجر والمغرب ل يقصران وإنما الذي يقصر‬
‫الصلة الرباعية من أربع إلى ركعتين‪.‬‬
‫فإذا تقرر أن القصر في السفر رخصة‪ ،‬فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا‬
‫فت َ‬
‫فُروا { الذي يدل‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬‫فت ِن َك ُ ُ‬
‫ن يَ ْ‬
‫مأ ْ‬ ‫خ ْ ُ ْ‬
‫ن ِ‬‫في هذا القيد‪ ،‬وهو قوله‪ } :‬إ ِ ْ‬
‫ظاهره أن القصر ل يجوز إل بوجود المرين كليهما‪ ،‬السفر مع الخوف‪.‬‬
‫صُروا { قصر‬ ‫َ‬
‫ق ُ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫ويرجع حاصل اختلفهم إلى أنه هل المراد بقوله‪ } :‬أ ْ‬
‫العدد فقط؟ أو قصر العدد والصفة؟ فالشكال إنما يكون على الوجه‬
‫الول‪.‬‬
‫وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه‪ ،‬حتى‬
‫سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال‪ :‬يا رسول الله ما لنا نقصر‬
‫فت َ‬
‫ن كَ َ‬
‫فُروا {‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫فت ِن َك ُ ُ‬
‫ن يَ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫خ ْ ُ ْ‬ ‫ن ِ‬‫مّنا؟ أي‪ :‬والله يقول‪ } :‬إ ِ ْ‬ ‫الصلة وقد أ ِ‬
‫فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم‪" :‬صدقة تصدق الله بها عليكم‬
‫فاقبلوا صدقته" أو كما قال‪.‬‬
‫فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به نظرا لغالب الحال التي كان النبي صلى‬
‫الله عليه وسلم وأصحابه عليها‪ ،‬فإن غالب أسفاره أسفار جهاد‪.‬‬
‫وفيه فائدة أخرى وهي بيان الحكمة والمصلحة في مشروعية رخصة‬
‫القصر‪ ،‬فبّين في هذه الية أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة‪،‬‬
‫وهي اجتماع السفر والخوف‪ ،‬ول يستلزم ذلك أن ل يقصر مع السفر‬
‫وحده‪ ،‬الذي هو مظنة المشقة‪.‬‬
‫وأما على الوجه الثاني‪ ،‬وهو أن المراد بالقصر‪ :‬قصر العدد والصفة فإن‬
‫القيد على بابه‪ ،‬فإذا وجد السفر والخوف‪ ،‬جاز قصر العدد‪ ،‬وقصر الصفة‪،‬‬
‫وإذا وجد السفر وحده جاز ] ص ‪ [ 198‬قصر العدد فقط‪ ،‬أو الخوف وحده‬
‫جاز قصر الصفة ولذلك أتى بصفة صلة الخوف بعدها بقوله‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬الترخيص‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬الترخيص‪.‬‬

‫) ‪(1/197‬‬

‫ك وَل ْي َأ ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫صَلةَ فَل ْت َ ُ‬ ‫َ‬


‫ذوا‬ ‫خ ُ‬ ‫مع َ َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ف ٌ‬ ‫طائ ِ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ّ‬ ‫م ال‬‫ت ل َهُ ُ‬ ‫م َ‬ ‫م فَأقَ ْ‬ ‫ت ِفيهِ ْ‬ ‫ذا ك ُن ْ َ‬ ‫وَإ ِ َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫صلوا‬ ‫م يُ َ‬ ‫خَرى ل ْ‬ ‫ةأ ْ‬ ‫ف ٌ‬‫ت طائ ِ َ‬ ‫م وَلت َأ ِ‬ ‫ن وََرائ ِك ْ‬ ‫م ْ‬ ‫دوا فَلي َكوُنوا ِ‬ ‫ج ُ‬ ‫س َ‬ ‫ذا َ‬ ‫م فَإ ِ َ‬ ‫حت َهُ ْ‬ ‫سل ِ َ‬ ‫أ ْ‬
‫ن‬
‫ن عَ ْ‬ ‫فُلو َ‬ ‫فُروا ل َوْ ت َغْ ُ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م وَد ّ ال ّ ِ‬ ‫حت َهُ ْ‬ ‫سل ِ َ‬
‫َ‬
‫م وَأ ْ‬ ‫حذ َْرهُ ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫ك وَل ْي َأ ْ ُ‬ ‫مع َ َ‬ ‫صّلوا َ‬ ‫فَل ْي ُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫ح عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫جَنا َ‬ ‫حد َةً وََل ُ‬ ‫ة َوا ِ‬ ‫مي ْل َ ً‬‫م َ‬ ‫ن عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ميُلو َ‬ ‫م فَي َ ِ‬ ‫مت ِعَت ِك ُ ْ‬ ‫م وَأ ْ‬ ‫حت ِك ُ ْ‬ ‫سل ِ َ‬ ‫أ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م أَ ً‬
‫ن‬
‫م إِ ّ‬ ‫حذ َْرك ُ ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫م وَ ُ‬ ‫حت َك ُ ْ‬‫سل ِ َ‬ ‫ضُعوا أ ْ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫ضى أ ْ‬ ‫مْر َ‬ ‫م َ‬ ‫مط َرٍ أوْ ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ذى ِ‬ ‫ب ِك ُ ْ‬
‫مِهيًنا )‪(102‬‬ ‫ذاًبا ُ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ه أ َعَد ّ ل ِل ْ َ‬ ‫الل ّ َ‬

‫ك وَل ْي َأ ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫صلةَ فَل ْت َ ُ‬ ‫َ‬


‫ذوا‬ ‫خ ُ‬ ‫معَ َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ف ٌ‬‫طائ ِ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ّ‬ ‫م ال‬ ‫ت ل َهُ ُ‬ ‫م َ‬ ‫م فَأقَ ْ‬ ‫ت ِفيهِ ْ‬ ‫ذا ك ُن ْ َ‬ ‫} وَإ ِ َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫صلوا‬ ‫م يُ َ‬ ‫خَرى ل ْ‬ ‫ةأ ْ‬ ‫ف ٌ‬
‫ت طائ ِ َ‬ ‫م وَلت َأ ِ‬ ‫ن وََرائ ِك ْ‬ ‫م ْ‬ ‫دوا فَلي َكوُنوا ِ‬ ‫ج ُ‬ ‫س َ‬ ‫ذا َ‬ ‫م فَإ ِ َ‬ ‫حت َهُ ْ‬‫سل ِ َ‬ ‫أ ْ‬
‫ن‬
‫ن عَ ْ‬ ‫فُلو َ‬ ‫فُروا ل َوْ ت َغْ ُ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م وَد ّ ال ّ ِ‬ ‫حت َهُ ْ‬ ‫سل ِ َ‬
‫َ‬
‫م وَأ ْ‬ ‫حذ َْرهُ ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫ك وَل ْي َأ ْ ُ‬ ‫مع َ َ‬ ‫صّلوا َ‬ ‫فَل ْي ُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫ح عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫جَنا َ‬ ‫حد َةً َول ُ‬ ‫ة َوا ِ‬ ‫مي ْل َ ً‬
‫م َ‬ ‫ن عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ميُلو َ‬ ‫م فَي َ ِ‬ ‫مت ِعَت ِك ُ ْ‬‫م وَأ ْ‬ ‫حت ِك ُ ْ‬ ‫سل ِ َ‬ ‫أ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م أَ ً‬
‫ن‬
‫م إِ ّ‬ ‫حذ َْرك ُ ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫م وَ ُ‬ ‫حت َك ُ ْ‬ ‫سل ِ َ‬‫ضُعوا أ ْ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫ضى أ ْ‬ ‫مْر َ‬ ‫م َ‬ ‫مط َرٍ أوْ ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ذى ِ‬ ‫ب ِك ُ ْ‬
‫مِهيًنا { ‪.‬‬ ‫ذاًبا ُ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫َ‬ ‫ري‬‫ِ‬ ‫كافِ‬‫ه أ َعَد ّ ل ِل ْ َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫َ‬
‫صلةَ { أي‪ :‬صليت بهم صلة تقيمها وتتم‬ ‫م ال ّ‬ ‫ت ل َهُ ُ‬ ‫م َ‬ ‫م فَأقَ ْ‬ ‫ت ِفيهِ ْ‬ ‫ذا ك ُن ْ َ‬ ‫} وَإ ِ َ‬
‫ما يجب فيها ويلزم‪ ،‬فعلمهم ما ينبغي لك ولهم فعله‪.‬‬
‫ك { أي‪ :‬وطائفة قائمة بإزاء‬ ‫مع َ َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ف ٌ‬ ‫طائ ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ق ْ‬ ‫سر ذلك بقوله‪ } :‬فَل ْت َ ُ‬ ‫ثم ف ّ‬
‫دوا { أي‪ :‬الذين معك أي‪:‬‬ ‫ج ُ‬ ‫س َ‬ ‫ذا َ‬ ‫العدو كما يدل على ذلك ما يأتي‪ } :‬فَإ ِ َ‬
‫أكملوا صلتهم وعبر عن الصلة بالسجود ليدل على فضل السجود‪ ،‬وأنه‬
‫ركن من أركانها‪ ،‬بل هو أعظم أركانها‪.‬‬
‫ْ‬
‫صّلوا { وهم الطائفة الذين‬ ‫م يُ َ‬ ‫خَرى ل َ ْ‬ ‫ة أُ ْ‬ ‫ف ٌ‬ ‫طائ ِ َ‬ ‫ت َ‬ ‫م وَل ْت َأ ِ‬ ‫ن وََرائ ِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫كوُنوا ِ‬ ‫} فَل ْي َ ُ‬
‫ك { ودل ذلك على أن المام يبقى بعد‬ ‫معَ َ‬ ‫صّلوا َ‬ ‫قاموا إزاء العدو } فَل ْي ُ َ‬
‫انصراف الطائفة الولى منتظرا للطائفة الثانية‪ ،‬فإذا حضروا صلى بهم ما‬
‫بقي من صلته ثم جلس ينتظرهم حتى يكملوا صلتهم‪ ،‬ثم يسلم بهم وهذا‬
‫أحد الوجوه في صلة الخوف‪.‬‬
‫فإنها صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة كلها جائزة‪،‬‬
‫وهذه الية تدل على أن صلة الجماعة فرض عين من وجهين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬أن الله تعالى أمر بها في هذه الحالة الشديدة‪ ،‬وقت اشتداد‬
‫الخوف من العداء وحذر مهاجمتهم‪ ،‬فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة‬
‫فإيجابها في حالة الطمأنينة والمن من باب أ َوَْلى وأحرى‪.‬‬
‫والثاني‪ :‬أن المصلين صلة الخوف يتركون فيها كثيرا من الشروط‬
‫واللوازم‪ ،‬ويعفى فيها عن كثير من الفعال المبطلة في غيرها‪ ،‬وما ذاك إل‬
‫لتأكد وجوب الجماعة‪ ،‬لنه ل تعارض بين واجب ومستحب‪ ،‬فلول وجوب‬
‫الجماعة لم تترك هذه المور اللزمة لجلها‪.‬‬
‫وتدل الية الكريمة على أن الولى والفضل أن يصلوا بإمام واحد‪ .‬ولو‬
‫تضمن ذلك الخلل بشيء ل يخل به لو صلوها بعدة أئمة‪ ،‬وذلك لجل‬
‫اجتماع كلمة المسلمين واتفاقهم وعدم تفرق كلمتهم‪ ،‬وليكون ذلك أوقع‬
‫هيبة في قلوب أعدائهم‪ ،‬وأمر تعالى بأخذ السلح والحذر في صلة‬
‫الخوف‪ ،‬وهذا وإن كان فيه حركة واشتغال عن بعض أحوال الصلة فإن‬
‫فيه مصلحة راجحة وهو الجمع بين الصلة والجهاد‪ ،‬والحذر من العداء‬
‫الحريصين غاية الحرص على اليقاع بالمسلمين والميل عليهم وعلى‬
‫فُلون عَ َ‬ ‫فُروا ل َوْ ت َغْ ُ‬
‫حت ِك ُ ْ‬
‫م‬ ‫سل ِ َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫أمتعتهم‪ ،‬ولهذا قال تعالى‪ } :‬وَد ّ ال ّ ِ‬
‫مي ْل َ ً‬ ‫َ‬
‫حد َةً { ‪.‬‬ ‫ة َوا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ميُلو َ‬ ‫م فَي َ ِ‬ ‫مت ِعَت ِك ُ ْ‬ ‫وَأ ْ‬
‫ثم إن الله عذر من له عذر من مرض أو مطر أن يضع سلحه‪ ،‬ولكن مع‬
‫َ‬ ‫م أَ ً‬
‫مط َرٍ أوْ ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ذى ِ‬ ‫ن ب ِك ُ ْ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫ح عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫جَنا َ‬ ‫أخذ الحذر فقال‪َ } :‬ول ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ه أعَد ّ ل ِل َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذاًبا‬ ‫ن عَ َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫م إِ ّ‬‫حذ َْرك ُ ْ‬ ‫ذوا ِ‬ ‫خ ُ‬ ‫م وَ ُ‬ ‫حت َك ُ ْ‬ ‫سل ِ َ‬ ‫ضُعوا أ ْ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫ضى أ ْ‬ ‫مْر َ‬ ‫َ‬
‫مِهيًنا { ‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ومن العذاب المهين ما أمر الله به حزبه المؤمنين وأنصار دينه الموحدين‬
‫من قتلهم وقتالهم حيثما ثقفوهم‪ ،‬ويأخذوهم ويحصروهم‪ ،‬ويقعدوا لهم كل‬
‫مرصد‪ ،‬ويحذروهم في جميع الحوال‪ ،‬ول يغفلوا عنهم‪ ،‬خشية أن ينال‬
‫الكفار بعض مطلوبهم فيهم‪.‬‬
‫دهم بمعونته‬ ‫ن به على المؤمنين‪ ،‬وأي ّ َ‬ ‫م ّ‬ ‫فلله أعظم حمد وثناء على ما َ‬
‫وتعاليمه التي لو سلكوها على وجه الكمال لم تهزم لهم راية‪ ،‬ولم يظهر‬
‫عليهم عدو في وقت من الوقات‪.‬‬
‫م { يدل على أن هذه‬ ‫ُ‬
‫ن وََرائ ِك ْ‬ ‫م ْ‬ ‫كوُنوا ِ‬ ‫دوا فَل ْي َ ُ‬ ‫ج ُ‬ ‫س َ‬ ‫ذا َ‬ ‫وفي قوله‪ } :‬فَإ ِ َ‬
‫الطائفة تكمل جميع صلتها قبل ذهابهم إلى موضع الحارسين‪ .‬وأن‬
‫الرسول صلى الله عليه وسلم يثبت منتظرا للطائفة الخرى قبل السلم‪،‬‬
‫لنه أول ذكر أن الطائفة تقوم معه‪ ،‬فأخبر عن مصاحبتهم له‪ .‬ثم أضاف‬
‫الفعل بعْد ُ إليهم دون الرسول‪ ،‬فدل ذلك على ما ذكرناه‪.‬‬
‫ْ‬
‫صّلوا َ‬
‫معَ َ‬
‫ك { دليل على أن‬ ‫صّلوا فَل ْي ُ َ‬
‫م يُ َ‬ ‫ة أُ ْ‬
‫خَرى ل َ ْ‬ ‫ف ٌ‬ ‫ت َ‬
‫طائ ِ َ‬ ‫وفي قوله‪ } :‬وَل ْت َأ ِ‬
‫الطائفة الولى قد صلوا‪ ،‬وأن جميع صلة الطائفة الثانية تكون مع المام‬
‫حقيقة في ركعتهم الولى‪ ،‬وحكما في ركعتهم الخيرة‪ ،‬فيستلزم ذلك‬
‫انتظار المام إياهم حتى يكملوا صلتهم‪ ،‬ثم يسلم بهم‪ ،‬وهذا ظاهر‬
‫للمتأمل‪.‬‬

‫) ‪(1/198‬‬

‫ذا اط ْ ْ‬
‫م‬
‫مأن َن ْت ُ ْ‬
‫َ‬ ‫جُنوب ِك ُ ْ‬
‫م فَإ ِ َ‬ ‫دا وَعََلى ُ‬ ‫ما وَقُُعو ً‬ ‫صَلةَ َفاذ ْك ُُروا الل ّ َ‬
‫ه قَِيا ً‬ ‫م ال ّ‬ ‫ذا قَ َ‬
‫ضي ْت ُ ُ‬ ‫فَإ ِ َ‬
‫َ‬
‫موُْقوًتا )‪(103‬‬ ‫ن ك َِتاًبا َ‬ ‫ت عََلى ال ْ ُ‬
‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫صَلةَ َ‬
‫كان َ ْ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫صَلةَ إ ِ ّ‬
‫موا ال ّ‬ ‫فَأِقي ُ‬

‫جُنوب ِك ُ ْ‬
‫م‬ ‫دا وَعََلى ُ‬ ‫ما وَقُُعو ً‬ ‫ه قَِيا ً‬ ‫صلةَ َفاذ ْك ُُروا الل ّ َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ضي ْت ُ ُ‬‫ذا قَ َ‬ ‫} ‪ } { 103‬فَإ ِ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫صلةَ َ‬ ‫َ‬ ‫ذا اط ْ ْ‬
‫ن ك َِتاًبا‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ت عَلى ال ُ‬ ‫كان َ ْ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫صلةَ إ ِ ّ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫م فَأِقي ُ‬ ‫مأن َن ْت ُ ْ‬‫َ‬ ‫فَإ ِ َ‬
‫موُْقوًتا { ‪.‬‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬فإذا فرغتم من صلتكم‪ ،‬صلة الخوف وغيرها‪ ،‬فاذكروا الله في جميع‬
‫أحوالكم وهيئاتكم‪ ،‬ولكن خصت صلة الخوف بذلك لفوائد‪ .‬منها‪ :‬أن القلب‬
‫صلحه وفلحه وسعادته بالنابة إلى الله تعالى في المحبة وامتلء القلب‬
‫من ذكره والثناء عليه‪.‬‬
‫وأعظم ما يحصل به هذا المقصود الصلة‪ ،‬التي حقيقتها أنها صلة بين العبد‬
‫وبين ربه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن فيها من حقائق اليمان ومعارف اليقان ما أوجب أن يفرضها‬
‫الله على عباده كل يوم وليلة‪ .‬ومن المعلوم أن صلة الخوف ل تحصل‬
‫فيها هذه المقاصد الحميدة بسبب اشتغال القلب والبدن والخوف فأمر‬
‫بجبرها بالذكر بعدها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الخوف يوجب من قلق القلب وخوفه ما هو مظنة لضعفه‪ ،‬وإذا‬
‫ضعف القلب ضعف البدن عن مقاومة العدو‪ ،‬والذكر لله والكثار منه من‬
‫أعظم مقويات القلب‪ ] .‬ص ‪[ 199‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الذكر لله تعالى مع الصبر والثبات سبب للفلح والظفر بالعداء‪،‬‬
‫َ‬
‫ة َفاث ْب ُُتوا َواذ ْك ُُروا الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫م فِئ َ ً‬
‫قيت ُ ْ‬ ‫ذا ل َ ِ‬
‫مُنوا إ ِ َ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫كما قال تعالى‪َ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ن { فأمر بالكثار منه في هذه الحال إلى غير ذلك من‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫م تُ ْ‬ ‫ك َِثيًرا ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫كم‪.‬‬ ‫ح َ‬ ‫ال ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫صلة { أي‪ :‬إذا أمنتم من الخوف‬ ‫موا ال ّ‬ ‫م فَأِقي ُ‬ ‫مأن َن ْت ُ ْ‬ ‫ذا اط ْ َ‬ ‫وقوله‪ } :‬فَإ ِ َ‬
‫واطمأنت قلوبكم وأبدانكم فأتموا صلتكم على الوجه الكمل ظاهرا‬
‫وباطنا‪ ،‬بأركانها وشروطها وخشوعها وسائر مكملتها‪.‬‬
‫موُْقوًتا { أي‪ :‬مفروضا في وقته‪،‬‬ ‫ن ك َِتاًبا َ‬
‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ت عََلى ال ْ ُ‬ ‫كان َ ْ‬ ‫صلةَ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫} إِ ّ‬
‫فدل ذلك على فرضيتها‪ ،‬وأن لها وقتا ل تصح إل به‪ ،‬وهو هذه الوقات التي‬
‫قد تقررت عند المسلمين صغيرهم وكبيرهم‪ ،‬عالمهم وجاهلهم‪ ،‬وأخذوا‬
‫ذلك عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله‪" :‬صلوا كما رأيتموني‬
‫ن { على أن الصلة ميزان اليمان‬‫مِني َ‬ ‫أصلي" ودل قوله‪ } :‬عََلى ال ْ ُ‬
‫مؤْ ِ‬
‫وعلى حسب إيمان العبد تكون صلته وتتم وتكمل‪ ،‬ويدل ذلك على أن‬
‫الكفار وإن كانوا ملتزمين لحكام المسلمين كأهل الذمة ‪ -‬أنهم ل‬
‫يخاطبون بفروع الدين كالصلة‪ ،‬ول يؤمرون بها‪ ،‬بل ول تصح منهم ما داموا‬
‫على كفرهم‪ ،‬وإن كانوا يعاقبون عليها وعلى سائر الحكام في الخرة‪.‬‬

‫) ‪(1/198‬‬

‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬


‫ن‬ ‫ما ت َأل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫م ي َأل َ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ن فَإ ِن ّهُ ْ‬ ‫مو َ‬‫كوُنوا ت َأل َ ُ‬‫ن تَ ُ‬‫قوْم ِ إ ِ ْ‬‫وََل ت َهُِنوا ِفي اب ْت َِغاِء ال ْ َ‬
‫ما )‪(104‬‬ ‫كي ً‬ ‫ح ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫ه عَِلي ً‬ ‫ن وَ َ‬
‫كا َ‬ ‫جو َ‬ ‫ما َل ي َْر ُ‬ ‫ن الل ّهِ َ‬ ‫م َ‬
‫ن ِ‬
‫جو َ‬ ‫وَت َْر ُ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ن كَ َ‬
‫ما‬ ‫مو َ‬‫م ي َأل َ ُ‬
‫ن فَإ ِن ّهُ ْ‬‫مو َ‬‫كوُنوا ت َأل َ ُ‬ ‫ن تَ ُ‬‫قوْم ِ إ ِ ْ‬‫} ‪َ } { 104‬ول ت َهُِنوا ِفي اب ْت َِغاِء ال ْ َ‬
‫ْ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫كي ً‬ ‫ح ِ‬
‫ما َ‬‫ه عَِلي ً‬ ‫ن الل ّ ُ‬‫كا َ‬‫ن وَ َ‬ ‫جو َ‬ ‫ما ل ي َْر ُ‬ ‫ن الل ّهِ َ‬
‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫جو َ‬‫ن وَت َْر ُ‬ ‫ت َأل َ ُ‬
‫مو َ‬
‫أي‪ :‬ل تضعفوا ول تكسلوا في ابتغاء عدوكم من الكفار‪ ،‬أي‪ :‬في جهادهم‬
‫هن البدن‪ ،‬وذلك يضعف‬ ‫هن القلب مستدع لوَ َ‬ ‫والمرابطة على ذلك‪ ،‬فإن وَ َ‬
‫عن مقاومة العداء‪ .‬بل كونوا أقوياء نشيطين في قتالهم‪.‬‬
‫ثم ذكر ما يقوي قلوب المؤمنين‪ ،‬فذكر شيئين‪:‬‬
‫الول‪ :‬أن ما يصيبكم من اللم والتعب والجراح ونحو ذلك فإنه يصيب‬
‫أعداءكم‪ ،‬فليس من المروءة النسانية والشهامة السلمية أن تكونوا‬
‫أضعف منهم‪ ،‬وأنتم وإياهم قد تساويتم فيما يوجب ذلك‪ ،‬لن العادة الجارية‬
‫ل يضعف إل من توالت عليه اللم وانتصر عليه العداء على الدوام‪ ،‬ل من‬
‫يدال مرة‪ ،‬ويدال عليه أخرى‪.‬‬
‫المر الثاني‪ :‬أنكم ترجون من الله ما ل يرجون‪ ،‬فترجون الفوز بثوابه‬
‫والنجاة من عقابه‪ ،‬بل خواص المؤمنين لهم مقاصد عالية وآمال رفيعة من‬
‫نصر دين الله‪ ،‬وإقامة شرعه‪ ،‬واتساع دائرة السلم‪ ،‬وهداية الضالين‪،‬‬
‫وقمع أعداء الدين‪ ،‬فهذه المور توجب للمؤمن المصدق زيادة القوة‪،‬‬
‫وتضاعف النشاط والشجاعة التامة؛ لن من يقاتل ويصبر على نيل عزه‬
‫الدنيوي إن ناله‪ ،‬ليس كمن يقاتل لنيل السعادة الدنيوية والخروية‪ ،‬والفوز‬
‫برضوان الله وجنته‪ ،‬فسبحان من فاوت بين العباد وفرق بينهم بعلمه‬
‫ما { كامل العلم كامل‬ ‫كي ً‬
‫ح ِ‬‫ما َ‬ ‫ه عَِلي ً‬ ‫ن الل ّ ُ‬‫كا َ‬ ‫وحكمته‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَ َ‬
‫الحكمة‪.‬‬

‫) ‪(1/199‬‬

‫ه وََل ت َك ُ ْ‬
‫ن‬ ‫ما أ ََرا َ‬
‫ك الل ّ ُ‬ ‫س بِ َ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫حك ُ َ‬
‫م ب َي ْ َ‬ ‫ب ِبال ْ َ‬
‫حقّ ل ِت َ ْ‬ ‫ك ال ْك َِتا َ‬‫إ ِّنا أ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ‬
‫ما )‪(105‬‬ ‫صي ً‬‫خ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫خائ ِِني َ‬ ‫ل ِل ْ َ‬

‫ما‬
‫س بِ َ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫حك ُ َ‬
‫م ب َي ْ َ‬ ‫ب ِبال ْ َ‬
‫حقّ ل ِت َ ْ‬ ‫} ‪ } { 113 - 105‬إ ِّنا أ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ‬
‫ك ال ْك َِتا َ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫صي ً‬‫خ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫خائ ِِني َ‬ ‫ن ل ِل ْ َ‬ ‫أ ََرا َ‬
‫ك الل ّ ُ‬
‫ه َول ت َك ُ ْ‬
‫ظا في‬ ‫يخبر تعالى أنه أنزل على عبده ورسوله الكتاب بالحق‪ ،‬أي‪ :‬محفو ً‬
‫إنزاله من الشياطين‪ ،‬أن يتطرق إليه منهم باطل‪ ،‬بل نزل بالحق‪ ،‬ومشتمل‬
‫ك‬‫ة َرب ّ َ‬ ‫م ُ‬‫ت ك َل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫أيضا على الحق‪ ،‬فأخباره صدق‪ ،‬وأوامره ونواهيه عدل } وَت َ ّ‬
‫دل { وأخبر أنه أنزله ليحكم بين الناس‪.‬‬ ‫صد ًْقا وَعَ ْ‬‫ِ‬
‫َ‬ ‫ما نز َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م{‬ ‫ل إ ِلي ْهِ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن ِللّنا ِ‬‫وفي الية الخرى‪ } :‬وَأنزلَنا إ ِلي ْك الذ ّكَر ل ِت ُب َي ّ َ‬
‫‪.‬فيحتمل أن هذه الية في الحكم بين الناس في مسائل النزاع والختلف‪،‬‬
‫وتلك في تبيين جميع الدين وأصوله وفروعه‪ ،‬ويحتمل أن اليتين كلتيهما‬
‫معناهما واحد‪ ،‬فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء‬
‫والعراض والموال وسائر الحقوق وفي العقائد وفي جميع مسائل‬
‫الحكام‪.‬‬
‫ه { أي‪ :‬ل بهواك بل بما عّلمك الله وألهمك‪ ،‬كقوله‬ ‫َ‬
‫ك الل ّ ُ‬
‫ما أَرا َ‬ ‫وقوله‪ } :‬ب ِ َ‬
‫حى { وفي هذا دليل على‬ ‫ي ُيو َ‬‫ح ٌ‬‫ن هُوَ ِإل وَ ْ‬ ‫وى إ ِ ْ‬ ‫ن ال ْهَ َ‬ ‫ما ي َن ْط ِقُ عَ ِ‬
‫تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫عصمته صلى الله عليه وسلم فيما ي ُب َّلغ عن الله من جميع الحكام ] ص‬
‫ما‬‫‪ [ 200‬وغيرها‪ ،‬وأنه يشترط في الحاكم )‪ (1‬العلم والعدل لقوله‪ } :‬ب ِ َ‬
‫ه { ولم يقل‪ :‬بما رأيت‪ .‬ورتب أيضا الحكم بين الناس على معرفة‬ ‫أ ََرا َ‬
‫ك الل ّ ُ‬
‫الكتاب‪ ،‬ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط نهاه‬
‫ما {‬ ‫صي ً‬ ‫خ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫خائ ِِني َ‬ ‫ن ل ِل ْ َ‬
‫عن الجور والظلم الذي هو ضد العدل فقال‪َ } :‬ول ت َك ُ ْ‬
‫من عرفت خيانته‪ ،‬من مدع ما ليس له‪ ،‬أو منكرٍ حقا‬ ‫أي‪ :‬ل تخاصم عن َ‬
‫عليه‪ ،‬سواء علم ذلك أو ظنه‪ .‬ففي هذا دليل على تحريم الخصومة في‬
‫باطل‪ ،‬والنيابة عن المبطل في الخصومات الدينية والحقوق الدنيوية‪.‬‬
‫ويدل مفهوم الية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف‬
‫منه ظلم‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في أ‪ :‬الحكم‪.‬‬

‫) ‪(1/199‬‬

‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫ل عَ ِ‬ ‫جادِ ْ‬ ‫ما )‪ (106‬وََل ت ُ َ‬ ‫حي ً‬ ‫فوًرا َر ِ‬ ‫ن غَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫فرِ الل ّ َ‬ ‫ست َغْ ِ‬ ‫َوا ْ‬
‫َ‬ ‫ه َل ي ُ ِ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫فو َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ما )‪ (107‬ي َ ْ‬ ‫واًنا أِثي ً‬ ‫خ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫سهُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ن أن ْ ُ‬ ‫خَتاُنو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ل‬‫قوْ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ضى ِ‬ ‫ما َل ي َْر َ‬ ‫ن َ‬ ‫م إ ِذ ْ ي ُب َي ُّتو َ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ وَهُوَ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫فو َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫س وََل ي َ ْ‬ ‫الّنا ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫وَ َ‬
‫ة‬
‫حَيا ِ‬ ‫م ِفي ال َ‬ ‫م عَن ْهُ ْ‬ ‫جاد َلت ُ ْ‬ ‫م هَؤُلِء َ‬ ‫ها أن ْت ُ ْ‬ ‫حيطا )‪َ (108‬‬ ‫م ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫ملو َ‬ ‫ما ي َعْ َ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫كا َ‬
‫كيًل )‪(109‬‬ ‫َ‬
‫م وَ ِ‬ ‫ن عَل َي ْهِ ْ‬ ‫كو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫مة ِ أ ْ‬ ‫قَيا َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫م ي َوْ َ‬ ‫ه عَن ْهُ ْ‬ ‫ل الل ّ َ‬ ‫جادِ ُ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫م ْ‬ ‫الد ّن َْيا فَ َ‬
‫َ‬
‫ما )‬ ‫حي ً‬ ‫فوًرا َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫جدِ الل ّ َ‬ ‫ه يَ ِ‬ ‫فرِ الل ّ َ‬ ‫ست َغْ ِ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫ه ثُ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ف َ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫سوًءا أوْ ي َظ ْل ِ ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ َ‬
‫ما )‬ ‫كي ً‬ ‫ح ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ه عَِلي ً‬ ‫ّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫سهِ وَكا َ‬ ‫َ‬ ‫ف ِ‬ ‫ه عَلى ن َ ْ‬ ‫َ‬ ‫سب ُ ُ‬ ‫ْ‬
‫ما ي َك ِ‬ ‫ما فَإ ِن ّ َ‬ ‫ب إ ِث ْ ً‬ ‫س ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ي َك ِ‬ ‫م ْ‬ ‫‪ (110‬وَ َ‬
‫ريًئا فَ َ‬ ‫َ‬ ‫طيئ َ ً‬ ‫ْ‬
‫ما‬‫ل ب ُهَْتاًنا وَإ ِث ْ ً‬ ‫م َ‬ ‫حت َ َ‬ ‫قدِ ا ْ‬ ‫م ي َْرم ِ ب ِهِ ب َ ِ‬ ‫ما ث ُ ّ‬ ‫ة أوْ إ ِث ْ ً‬ ‫خ ِ‬ ‫ب َ‬ ‫س ْ‬ ‫ن ي َك ِ‬ ‫م ْ‬ ‫‪ (111‬وَ َ‬
‫ضّلوكَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن يُ ِ‬ ‫مأ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ف ٌ‬ ‫ت طائ ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه لهَ ّ‬ ‫مت ُ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ل اللهِ عَلي ْك وََر ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫مِبيًنا )‪ (112‬وَلوْل فَ ْ‬ ‫ُ‬
‫ب‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ه عَلي ْ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫وما يضّلون إّل أ َ‬
‫ك الك َِتا َ‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫ز‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫و‬
‫ْ َ‬ ‫ٍ‬ ‫ء‬ ‫ي‬ ‫ش‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫رو‬ ‫ّ‬ ‫ض‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫ما‬ ‫و‬
‫َ ُ ْ َ َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫س‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫ما )‪(113‬‬ ‫ً‬ ‫ظي‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ض‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫و‬
‫ُ َ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ما‬
‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫َ َ َ‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫ة‬‫َ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫َوا‬

‫ن‬
‫خَتاُنو َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫ل عَ ِ‬ ‫جادِ ْ‬ ‫ما * َول ت ُ َ‬ ‫حي ً‬ ‫فوًرا َر ِ‬ ‫ن غَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫فرِ الل ّ َ‬ ‫ست َغْ ِ‬ ‫} َوا ْ‬
‫س َول‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫فو َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ما * ي َ ْ‬ ‫واًنا أِثي ً‬ ‫خ ّ‬‫ن َ‬ ‫ن كا َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب َ‬ ‫ح ّ‬‫ه ل يُ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫سهُ ْ‬ ‫ف َ‬
‫ن الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫كا َ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫قوْ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ضى ِ‬ ‫ما ل ي َْر َ‬ ‫ن َ‬ ‫م إ ِذ ْ ي ُب َي ُّتو َ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ وَهُوَ َ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫فو َ‬ ‫خ ُ‬‫ست َ ْ‬
‫يَ ْ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫حَياةِ الد ّن َْيا فَ َ‬ ‫م ِفي ال َ‬ ‫م عَن ْهُ ْ‬ ‫جاد َلت ُ ْ‬ ‫ؤلِء َ‬ ‫م هَ ُ‬ ‫ها أن ْت ُ ْ‬ ‫حيطا * َ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫ملو َ‬ ‫ما ي َعْ َ‬ ‫بِ َ‬
‫سوًءا‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫جادِ ُ‬
‫ل ُ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫كيل * وَ َ‬ ‫م وَ ِ‬ ‫ن عَلي ْهِ ْ‬ ‫ن ي َكو ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫مة ِ أ ْ‬ ‫قَيا َ‬ ‫م ال ِ‬ ‫م ي َوْ َ‬
‫ه عَن ْهُ ْ‬ ‫ل الل َ‬ ‫يُ َ‬
‫َ‬
‫ما‬ ‫ب إ ِث ْ ً‬ ‫س ْ‬ ‫ن ي َك ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما * وَ َ‬ ‫حي ً‬ ‫فوًرا َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫جدِ الل ّ َ‬ ‫ه يَ ِ‬ ‫فرِ الل ّ َ‬ ‫ست َغْ ِ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫ه ثُ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ف َ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫أوْ ي َظ ْل ِ ْ‬
‫ة أ َْو‬ ‫طيئ َ ً‬ ‫خ ِ‬ ‫ب َ‬ ‫س ْ‬ ‫ن ي َك ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما * وَ َ‬ ‫كي ً‬ ‫ح ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ه عَِلي ً‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫سه ِ و َ َ‬ ‫ف ِ‬ ‫ه عََلى ن َ ْ‬ ‫سب ُ ُ‬ ‫ما ي َك ْ ِ‬ ‫فَإ ِن ّ َ‬
‫ل الل ّهِ عَل َي ْكَ‬ ‫ض ُ‬ ‫ول فَ ْ‬ ‫َ‬
‫مِبيًنا * وَل ْ‬ ‫ما ُ‬ ‫ل ب ُهَْتاًنا وَإ ِث ْ ً‬ ‫م َ‬ ‫حت َ َ‬ ‫قدِ ا ْ‬ ‫ريًئا فَ َ‬ ‫م ي َْرم ِ ب ِهِ ب َ ِ‬ ‫ما ث ُ ّ‬ ‫إ ِث ْ ً‬
‫ضّرون َكَ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما ي َ ُ‬ ‫م وَ َ‬ ‫سه ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ن ِإل أن ْ ُ‬ ‫ضلو َ‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫ضلوك وَ َ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫مأ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ف ٌ‬ ‫ت طائ ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه لهَ ّ‬ ‫مت ُ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫وََر ْ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ه عَلي ْ َ‬ ‫ّ‬ ‫يٍء وَأن َْز َ‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬
‫م وَكا َ‬ ‫ن ت َعْل ُ‬ ‫م ت َك ْ‬ ‫ما ل ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ة وَعَل َ‬ ‫م َ‬ ‫حك َ‬ ‫ب َوال ِ‬ ‫ك الك َِتا َ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ش ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫ظي ً‬ ‫ك عَ ِ‬ ‫َ‬
‫ل اللهِ عَلي ْ َ‬ ‫ّ‬ ‫ض ُ‬ ‫فَ ْ‬
‫ه { مما صدر منك إن صدر‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فرِ الل َ‬ ‫ست َغْ ِ‬ ‫} َوا ْ‬
‫ما { أي‪ :‬يغفر الذنب العظيم لمن استغفره‪،‬‬ ‫حي ً‬ ‫فوًرا َر ِ‬ ‫ن غَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫جب لثوابه وزوال‬ ‫وتاب إليه وأناب ويوفقه للعمل الصالح بعد ذلك المو ِ‬
‫عقابه‪.‬‬
‫َ‬
‫م { "الختيان" و "الخيانة" بمعنى‬ ‫سهُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ن أن ْ ُ‬ ‫خَتاُنو َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫ل عَ ِ‬ ‫جادِ ْ‬ ‫} َول ت ُ َ‬
‫الجناية والظلم والثم‪ ،‬وهذا يشمل النهي عن المجادلة‪ ،‬عن من أذنب‬
‫وتوجه عليه عقوبة من حد أو تعزير‪ ،‬فإنه ل يجادل عنه بدفع ما صدر منه‬
‫هل‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫من الخيانة‪ ،‬أو بدفع ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية‪ } .‬إ ِ ّ‬
‫ما { أي‪ :‬كثير الخيانة والثم‪ ،‬وإذا انتفى الحب ثبت‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬
‫واًنا أِثي ً‬ ‫خ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب َ‬ ‫ح ّ‬ ‫يُ ِ‬
‫ضده وهو الب ُْغض‪ ،‬وهذا كالتعليل‪ ،‬للنهي المتقدم‪.‬‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫فو َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ست َ ْ‬‫س َول ي َ ْ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫فو َ‬ ‫خ ُ‬‫ست َ ْ‬ ‫ثم ذكر عن هؤلء الخائنين أنهم } ي َ ْ‬
‫ل { وهذا من ضعف اليمان‪،‬‬ ‫قوْ ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ضى ِ‬ ‫ما ل ي َْر َ‬ ‫ن َ‬ ‫م إ ِذ ْ ي ُب َي ُّتو َ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫الل ّهِ وَهُوَ َ‬
‫ونقصان اليقين‪ ،‬أن تكون مخافة الخلق عندهم أعظم من مخافة الله‪،‬‬
‫فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة على عدم الفضيحة عند الناس‪ ،‬وهم‬
‫مع ذلك قد بارزوا الله بالعظائم‪ ،‬ولم يبالوا بنظره واطلعه عليهم‪.‬‬
‫صا في حال تبييتهم ما ل يرضيه‬ ‫وهو معهم بالعلم في جميع أحوالهم‪ ،‬خصو ً‬
‫من القول‪ ،‬من تبرئة الجاني‪ ،‬ورمي البريء بالجناية‪ ،‬والسعي في ذلك‬
‫للرسول صلى الله عليه وسلم ليفعل ما بيتوه‪.‬‬
‫فقد جمعوا بين عدة جنايات‪ ،‬ولم يراقبوا رب الرض والسماوات‪ ،‬المطلع‬
‫ما‬ ‫ه بِ َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫على سرائرهم وضمائرهم‪ ،‬ولهذا توعدهم تعالى بقوله‪ } :‬وَ َ‬
‫طا { أي‪ :‬قد أحاط بذلك علما‪ ،‬ومع هذا لم يعاجلهم بالعقوبة‬ ‫حي ً‬ ‫م ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ي َعْ َ‬
‫بل استأنى بهم‪ ،‬وعرض عليهم التوبة وحذرهم من الصرار على ذنبهم‬
‫الموجب للعقوبة البليغة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫} َ َ‬
‫م‬
‫م ي َوْ َ‬ ‫ه عَن ْهُ ْ‬ ‫ل الل َ‬ ‫جادِ ُ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫م ْ‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا فَ َ‬ ‫م ِفي ال َ‬ ‫م عَن ْهُ ْ‬ ‫جاد َل ْت ُ ْ‬ ‫ؤلِء َ‬ ‫م هَ ُ‬ ‫ها أن ْت ُ ْ‬
‫َ‬
‫كيل { أي‪ :‬هبكم جادلتم عنهم في هذه الحياة‬ ‫م وَ ِ‬ ‫ن عَل َي ْهِ ْ‬ ‫كو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫مة ِ أ ْ‬ ‫قَيا َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫الدنيا‪ ،‬ودفع عنهم جداُلكم بعض ما تحذرون )‪ (1‬من العار والفضيحة عند‬
‫خْلق‪ ،‬فماذا يغني عنهم وينفعهم؟ ومن يجادل الله عنهم يوم القيامة حين‬ ‫ال َ‬
‫تتوجه عليهم الحجة‪ ،‬وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا‬
‫يعملون؟ } يومئ ِذ يوّفيهم الل ّه دينهم ال ْحق ويعل َمو َ‬
‫ق‬
‫ح ّ‬ ‫ه هُوَ ال ْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫نأ ّ‬ ‫َ ّ ََْ ُ َ‬ ‫ُ ِ َُ ُ‬ ‫َ ْ َ ٍ ُ َ ِ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِبي ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫فمن يجادل عنهم من يعلم السر وأخفى ومن أقام عليهم من الشهود ما ل‬
‫يمكن معه النكار؟ وفي هذه الية إرشاد )‪ (2‬إلى المقابلة بين ما يتوهم‬
‫من مصالح الدنيا المترتبة على ترك أوامر الله أو فعل مناهيه‪ ،‬وبين ما‬
‫يفوت من ثواب الخرة أو يحصل من عقوباتها‪.‬‬
‫فيقول من أمرته نفسه بترك أمر الله ها أنت تركت أمره كسل وتفريطا‬
‫فما النفع الذي انتفعت به؟ وماذا فاتك من ثواب الخرة؟ وماذا ترتب على‬
‫هذا الترك من الشقاء والحرمان والخيبة والخسران؟‬
‫وكذلك إذا دعته نفسه إلى ما تشتهيه من الشهوات المحرمة قال لها‪ :‬هبك‬
‫فعلت ما اشتهيت فإن لذته تنقضي ويعقبها من الهموم والغموم‬
‫والحسرات‪ ،‬وفوات الثواب وحصول العقاب ‪ -‬ما بعضه يكفي العاقل في‬
‫الحجام عنها‪ .‬وهذا من أعظم ما ينفع العبد َ تدبُره‪ ،‬وهو خاصة العقل‬
‫الحقيقي‪ .‬بخلف الذي )‪ (3‬يدعي العقل‪ ،‬وليس كذلك‪ ،‬فإنه بجهله وظلمه‬
‫يؤثر اللذة الحاضرة والراحة الراهنة‪ ،‬ولو ترتب عليها ما ترتب‪ .‬والله‬
‫المستعان‪.‬‬
‫َ‬
‫جدِ الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫ه يَ ِ‬‫فرِ الل ّ َ‬ ‫ست َغْ ِ‬ ‫ه ثُ ّ‬
‫م يَ ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ف َ‬ ‫سوًءا أوْ ي َظ ْل ِ ْ‬
‫م نَ ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي َعْ َ‬
‫م ْ‬‫ثم قال تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫ما { أي‪ :‬من تجرأ على المعاصي واقتحم على الثم ثم استغفر‬ ‫حي ً‬
‫فوًرا َر ِ‬‫غَ ُ‬
‫الله استغفارا تاما يستلزم القرار بالذنب والندم عليه والقلع والعزم على‬
‫أن ل يعود‪ .‬فهذا قد وعده من ل يخلف الميعاد بالمغفرة والرحمة‪.‬‬
‫فيغفر له ما صدر منه من الذنب‪ ،‬ويزيل عنه ما ترتب عليه من النقص‬
‫والعيب‪ ،‬ويعيد إليه ما تقدم من العمال الصالحة‪ ،‬ويوفقه فيما يستقبله‬
‫من عمره‪ ،‬ول يجعل ذنبه حائل عن توفيقه‪ ،‬لنه قد غفره‪ ،‬وإذا غفره غفر‬
‫ما يترتب عليه‪.‬‬
‫واعلم أن عمل السوء عند الطلق يشمل سائر المعاصي‪ ،‬الصغيرة‬
‫والكبيرة‪ ،‬وسمي "سوًءا" لكونه يسوء عامله بعقوبته‪ ،‬ولكونه في نفسه‬
‫سيًئا غير حسن‪.‬‬
‫وكذلك ظلم النفس عند الطلق يشمل ظلمها بالشرك فما دونه‪ .‬ولكن‬
‫] ص ‪ [ 201‬عند اقتران أحدهما بالخر قد يفسر كل واحد منهما بما‬
‫يناسبه‪ ،‬فيفسر عمل السوء هنا بالظلم الذي يسوء الناس‪ ،‬وهو ظلمهم‬
‫في دمائهم وأموالهم وأعراضهم‪.‬‬
‫ويفسر ظلم النفس بالظلم والمعاصي التي بين الله وبين عبده‪ ،‬وسمي‬
‫ظلم النفس "ظلما" لن نفس العبد ليست ملكا له يتصرف فيها بما يشاء‪،‬‬
‫وإنما هي ملك لله تعالى قد جعلها أمانة عند العبد وأمره أن يقيمها على‬
‫ما وعمل فيسعى في تعليمها‬ ‫طريق العدل‪ ،‬بإلزامها للصراط المستقيم عل ً‬
‫ما أمر به ويسعى في العمل بما يجب‪ ،‬فسعيه في غير هذا الطريق ظلم‬
‫لنفسه وخيانة وعدول بها عن العدل‪ ،‬الذي ضده الجور والظلم‪.‬‬
‫سهِ { وهذا يشمل كل ما‬ ‫ف ِ‬ ‫ه عََلى ن َ ْ‬ ‫ما ي َك ْ ِ‬
‫سب ُ ُ‬ ‫ما فَإ ِن ّ َ‬‫ب إ ِث ْ ً‬
‫س ْ‬‫ن ي َك ْ ِ‬
‫م ْ‬
‫ثم قال‪ } :‬وَ َ‬
‫يؤثم من صغير وكبير‪ ،‬فمن كسب سيئة فإن عقوبتها الدنيوية والخروية‬
‫على نفسه‪ ،‬ل تتعداها إلى غيرها‪ ،‬كما قال تعالى‪َ } :‬ول ت َزُِر َوازَِرةٌ وِْزَر‬
‫خَرى { لكن إذا ظهرت السيئات فلم تنكر عمت عقوبتها وشمل إثمها‪ ،‬فل‬ ‫أُ ْ‬
‫تخرج أيضا عن حكم هذه الية الكريمة‪ ،‬لن من ترك النكار الواجب فقد‬
‫كسب سيئة‪.‬‬
‫وفي هذا بيان عدل الله وحكمته‪ ،‬أنه ل يعاقب أحدا بذنب أحد‪ ،‬ول يعاقب‬
‫ما‬‫ه عَِلي ً‬ ‫ن الل ّ ُ‬‫كا َ‬ ‫أحدا أكثر من العقوبة الناشئة عن ذنبه‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَ َ‬
‫ما { أي‪ :‬له العلم الكامل والحكمة التامة‪.‬‬ ‫كي ً‬
‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫ومن علمه وحكمته أنه يعلم الذنب وما صدر منه‪ ،‬والسبب الداعي لفعله‪،‬‬
‫والعقوبة المترتبة على فعله‪ ،‬ويعلم حالة المذنب‪ ،‬أنه إن صدر منه الذنب‬
‫بغلبة دواعي نفسه المارة بالسوء مع إنابته إلى ربه في كثير من أوقاته‪،‬‬
‫أنه سيغفر له ويوفقه للتوبة‪.‬‬
‫وإن صدر منه بتجرئه على المحارم استخفافا بنظر ربه‪ ،‬وتهاونا بعقابه‪،‬‬
‫فإن هذا بعيد من المغفرة بعيد من التوفيق للتوبة‪.‬‬
‫َ‬
‫ما { ما دون ذلك‪.‬‬ ‫ة { أي‪ :‬ذنبا كبيرا } أوْ إ ِث ْ ً‬ ‫طيئ َ ً‬
‫خ ِ‬ ‫ب َ‬ ‫س ْ‬ ‫ن ي َك ْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ثم قال‪ } :‬وَ َ‬
‫ريًئا { من ذلك الذنب‪ ،‬وإن كان مذنبا‪} .‬‬ ‫م ي َْرم ِ ب ِهِ { أي‪ :‬يتهم بذنبه } ب َ ِ‬ ‫} ثُ ّ‬
‫ما‬‫مِبيًنا { أي‪ :‬فقد حمل فوق ظهره بهتا للبريء وإث ً‬ ‫ما ُ‬ ‫ل ب ُهَْتاًنا وَإ ِث ْ ً‬ ‫م َ‬ ‫حت َ َ‬‫قدِ ا ْ‬ ‫فَ َ‬
‫ظاهًرا بيًنا‪ ،‬وهذا يدل على أن ذلك من كبائر الذنوب وموبقاتها‪ ،‬فإنه قد‬
‫من لم يفعلها بفعلها‪ ،‬ثم‬ ‫مي َ‬ ‫جمع عدة مفاسد‪ :‬كسب الخطيئة والثم‪ ،‬ثم َر ْ‬
‫الكذب الشنيع بتبرئة نفسه واتهام البريء‪ ،‬ثم ما يترتب على ذلك من‬
‫العقوبة الدنيوية‪ ،‬تندفع عمن وجبت عليه‪ ،‬وتقام على من ل يستحقها‪.‬‬
‫ثم ما يترتب على ذلك أيضا من كلم الناس في البريء إلى غير ذلك من‬
‫المفاسد التي نسأل الله العافية منها ومن كل شر‪.‬‬
‫ثم ذكر منته على رسوله بحفظه وعصمته ممن أراد أن يضله فقال‪:‬‬
‫ضّلو َ‬ ‫ة منه َ‬ ‫ت َ‬
‫ك { وذلك أن‬ ‫ن يُ ِ‬‫مأ ْ‬ ‫ف ٌ ِ ُْ ْ‬ ‫طائ ِ َ‬ ‫م ْ‬‫ه ل َهَ ّ‬
‫مت ُ ُ‬‫ح َ‬ ‫ك وََر ْ‬ ‫ل الل ّهِ عَل َي ْ َ‬ ‫ض ُ‬‫ول فَ ْ‬ ‫} وَل َ ْ‬
‫هذه اليات الكريمات قد ذكر المفسرون أن سبب نزولها‪ :‬أن أهل بيت‬
‫سرقوا في المدينة‪ ،‬فلما اطلع على سرقتهم خافوا الفضيحة‪ ،‬وأخذوا‬
‫سرقتهم فرموها ببيت من هو بريء من ذلك‪.‬‬
‫واستعان السارق بقومه أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ويطلبوا‬
‫منه أن يبرئ صاحبهم على رءوس الناس‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنه لم يسرق وإنما الذي‬
‫م رسول الله صلى الله‬ ‫سرق من وجدت السرقة ببيته وهو البريء‪ .‬فهَ ّ‬
‫عليه وسلم أن يبرئ صاحبهم‪ ،‬فأنزل الله هذه اليات تذكيرا وتبيينا لتلك‬
‫الواقعة وتحذيرا للرسول صلى الله عليه وسلم من المخاصمة عن‬
‫الخائنين‪ ،‬فإن المخاصمة عن المبطل من الضلل‪ ،‬فإن الضلل نوعان‪:‬‬
‫ضلل في العلم‪ ،‬وهو الجهل بالحق‪ .‬وضلل في العمل‪ ،‬وهو العمل بغير ما‬
‫يجب‪ .‬فحفظ الله رسوله عن هذا النوع من الضلل ]كما حفظه عن‬
‫الضلل في العمال[ )‪. (4‬‬
‫وأخبر أن كيدهم ومكرهم يعود على أنفسهم‪ ،‬كحالة كل ماكر‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫م { لكون ذلك المكر وذلك التحيل لم يحصل لهم‬ ‫سهُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ن ِإل أ َن ْ ُ‬ ‫ضّلو َ‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫} وَ َ‬
‫فيه مقصودهم‪ ،‬ولم يحصل لهم )‪ (5‬إل الخيبة والحرمان والثم والخسران‪.‬‬
‫وهذه )‪ (6‬نعمة كبيرة على رسوله صلى الله عليه وسلم تتضمن النعمة‬
‫بالعمل‪ ،‬وهو التوفيق لفعل ما يجب‪ ،‬والعصمة له عن كل محرم‪.‬‬
‫ة{‬ ‫م َ‬ ‫ْ‬
‫حك َ‬ ‫ب َوال ْ ِ‬ ‫ك ال ْك َِتا َ‬ ‫ه عَل َي ْ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ثم ذكر نعمته عليه بالعلم فقال‪ } :‬وََأنز َ‬
‫أي‪ :‬أنزل عليك هذا القرآن العظيم والذكر الحكيم الذي فيه تبيان كل‬
‫خرين‪.‬‬ ‫شيء وعلم الولين وال ِ‬
‫سّنة تنزل عليه‬ ‫سّنة التي قد قال فيها بعض السلف‪ :‬إن ال ّ‬ ‫والحكمة‪ :‬إما ال ّ‬
‫كما ينزل القرآن‪.‬‬
‫وإما معرفة أسرار الشريعة الزائدة على معرفة أحكامها‪ ،‬وتنزيل الشياء‬
‫منازلها وترتيب كل شيء بحسبه‪.‬‬
‫م { وهذا يشمل جميع ما علمه الله تعالى‪ .‬فإنه‬ ‫ن ت َعْل َ ُ‬ ‫م ت َك ُ ْ‬ ‫ما ل َ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫م َ‬ ‫} وَعَل ّ َ‬
‫ما‬‫ت ت َد ِْري َ‬ ‫ما ك ُن ْ َ‬ ‫صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله قبل النبوة بقوله‪َ } :‬‬
‫دى { ‪.‬‬ ‫ضال فَهَ َ‬ ‫ك َ‬ ‫جد َ َ‬ ‫ن { } وَوَ َ‬ ‫ما ُ‬ ‫ب َول الي َ‬ ‫ال ْك َِتا ُ‬
‫ثم لم يزل يوحي الله إليه ويعلمه ويكمله حتى ارتقى مقاما من العلم‬
‫يتعذر وصوله على الولين والخرين‪ ] ،‬ص ‪ [ 202‬فكان أعلم الخلق على‬
‫ن‬ ‫الطلق‪ ،‬وأجمعهم لصفات الكمال‪ ،‬وأكملهم فيها‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَ َ‬
‫كا َ‬
‫ما { ففضله على الرسول محمد صلى الله عليه‬ ‫ظي ً‬ ‫ل الل ّهِ عَل َي ْ َ‬
‫ك عَ ِ‬ ‫فَ ْ‬
‫ض ُ‬
‫وسلم أعظم من فضله على كل مخلوق )‪. (7‬‬
‫وأجناس الفضل الذي قد فضله الله به ل يمكن استقصاؤها )‪ (8‬ول يتيسر‬
‫إحصاؤها )‪. (9‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ما يحذرون‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬الرشاد‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬من‪.‬‬
‫)‪ (4‬زيادة من هامش ب‪.‬‬
‫)‪ (5‬في النسختين‪ :‬له وقد غيرتها للتوافق مع ما سبق من الضمائر‪.‬‬
‫)‪ (6‬في النسختين‪ :‬وهذا‪.‬‬
‫)‪ (7‬في ب‪ :‬الخلق‪.‬‬
‫)‪ (8‬في النسختين‪ :‬استقصاؤه‪ ،‬وقد عدلت في ب‪ ،‬ولعل الصواب ما أثبت‪.‬‬
‫)‪ (9‬في النسختين‪ :‬إحصاؤه‪ ،‬وقد عدلت في ب‪ ،‬ولعل الصواب ما أثبت‪.‬‬

‫) ‪(1/200‬‬

‫صَلٍح‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خير في ك َِثير من نجواهُم إّل م َ‬


‫ن‬‫ب َي ْ َ‬ ‫ف أوْ إ ِ ْ‬‫معُْرو ٍ‬ ‫صد َقَةٍ أوْ َ‬
‫مَر ب ِ َ‬
‫نأ َ‬‫ٍ ِ ْ َ ْ َ ْ ِ َ ْ‬ ‫َل َ ْ َ ِ‬
‫َ‬
‫)‪(114‬‬ ‫ما‬
‫ظي ً‬
‫جًرا عَ ِ‬ ‫ف ن ُؤِْتيهِ أ ْ‬
‫سوْ َ‬‫ضاةِ الل ّهِ فَ َ‬‫مْر َ‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬
‫ك اب ْت َِغاَء َ‬ ‫فعَ ْ‬
‫ن يَ ْ‬
‫م ْ‬
‫س وَ َ‬
‫الّنا ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫خير في ك َِثير من نجواهُم إل م َ‬
‫ف أوْ‬ ‫معُْرو ٍ‬ ‫صد َقَةٍ أوْ َ‬ ‫مَر ب ِ َ‬ ‫نأ َ‬ ‫ٍ ِ ْ َ ْ َ ْ ِ َ ْ‬ ‫} ‪ } { 114‬ل َ ْ َ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫جًرا‬ ‫ف ن ُؤِْتيهِ أ ْ‬ ‫سوْ َ‬ ‫ضاةِ اللهِ ف َ‬ ‫فعَل ذ َل ِك اب ْت َِغاَء َ‬
‫مْر َ‬ ‫ن يَ ْ‬
‫م ْ‬‫س وَ َ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫صلٍح ب َي ْ َ‬ ‫إِ ْ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫ظي ً‬ ‫عَ ِ‬
‫أي‪ :‬ل خير في كثير مما يتناجى به الناس ويتخاطبون‪ ،‬وإذا لم يكن فيه‬
‫خير‪ ،‬فإما ل فائدة فيه كفضول الكلم المباح‪ ،‬وإما شر ومضرة محضة‬
‫كالكلم المحرم بجميع أنواعه‪.‬‬
‫صد َقَةٍ { من مال أو علم أو أي نفع‬ ‫َ‬
‫مَر ب ِ َ‬ ‫نأ َ‬ ‫م ْ‬‫ثم استثنى تعالى فقال‪ِ } :‬إل َ‬
‫كان‪ ،‬بل لعله يدخل فيه العبادات القاصرة كالتسبيح والتحميد ونحوه‪ ،‬كما‬
‫قال النبي صلى الله عليه وسلم‪" :‬إن بكل تسبيحة صدقة‪ ،‬وكل تكبيرة‬
‫صدقة‪ ،‬وكل تهليلة صدقة‪ ،‬وأمر بالمعروف صدقة‪ ،‬ونهي عن المنكر‬
‫صدقة‪ ،‬وفي بضع أحدكم صدقة" الحديث‪.‬‬
‫ف { وهو الحسان والطاعة وكل ما عرف في الشرع والعقل‬ ‫َ‬
‫معُْرو ٍ‬ ‫} أوْ َ‬
‫حسنه‪ ،‬وإذا أطلق المر بالمعروف من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر‬
‫دخل فيه النهي عن المنكر‪ ،‬وذلك لن ترك المنهيات من المعروف‪ ،‬وأيضا‬
‫ل يتم فعل الخير إل بترك الشر‪ .‬وأما عند القتران فيفسر المعروف بفعل‬
‫المأمور‪ ،‬والمنكر بترك المنهي‪.‬‬
‫س { والصلح ل يكون إل بين متنازعين متخاصمين‪،‬‬ ‫َ‬
‫ن الّنا ِ‬‫صلٍح ب َي ْ َ‬ ‫} أوْ إ ِ ْ‬
‫والنزاع والخصام والتغاضب يوجب من الشر والفرقة ما ل يمكن حصره‪،‬‬
‫فلذلك حث الشارع على الصلح بين الناس في الدماء والموال‬
‫ميًعا‬ ‫ج ِ‬ ‫ل اللهِ َ‬‫ّ‬ ‫حب ْ ِ‬ ‫موا ب ِ َ‬ ‫ص ُ‬‫والعراض‪ ،‬بل وفي الديان كما قال تعالى‪َ } :‬واعْت َ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫حوا‬ ‫صل ِ ُ‬‫ن اقْت َت َلوا فَأ ْ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬‫ن ِ‬‫فَتا ِ‬ ‫ن َ‬
‫طائ ِ َ‬ ‫فّرُقوا { وقال تعالى‪ } :‬وَإ ِ ْ‬ ‫َول ت َ َ‬
‫فيَء إ َِلى‬ ‫قات ُِلوا ال ِّتي ت َب ِْغي َ‬
‫حّتى ت َ ِ‬ ‫خَرى فَ َ‬ ‫ما عََلى ال ْ‬ ‫داهُ َ‬ ‫ح َ‬
‫ت إِ ْ‬ ‫ما فَإ ِ ْ‬
‫ن ب َغَ ْ‬ ‫ب َي ْن َهُ َ‬
‫مرِ اللهِ { الية‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫أ ْ‬
‫خي ٌْر { والساعي في الصلح بين الناس أفضل من‬ ‫ح َ‬‫صل ْ ُ‬‫وقال تعالى‪َ } :‬وال ّ‬
‫القانت بالصلة والصيام والصدقة‪ ،‬والمصلح ل بد أن يصلح الله سعيه‬
‫وعمله‪.‬‬
‫كما أن الساعي في الفساد ل يصلح الله عمله ول يتم له مقصوده كما‬
‫ن { ‪.‬فهذه الشياء حيثما‬ ‫دي َ‬‫س ِ‬
‫ف ِ‬ ‫م ْ‬‫ل ال ْ ُ‬
‫م َ‬‫ح عَ َ‬
‫صل ِ ُ‬
‫ه ل يُ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫قال تعالى‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫فعلت فهي خير‪ ،‬كما دل على ذلك الستثناء‪.‬‬
‫فع َ ْ‬
‫ل‬ ‫ن يَ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ولكن كمال الجر وتمامه بحسب النية والخلص‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَ َ‬
‫َ‬
‫ما { فلهذا ينبغي للعبد أن‬ ‫ظي ً‬ ‫جًرا عَ ِ‬ ‫ف ن ُؤِْتيهِ أ ْ‬
‫سوْ َ‬ ‫ضاةِ الل ّهِ فَ َ‬ ‫مْر َ‬ ‫ك اب ْت َِغاَء َ‬‫ذ َل ِ َ‬
‫يقصد وجه الله تعالى ويخلص العمل لله في كل وقت وفي كل جزء من‬
‫أجزاء الخير‪ ،‬ليحصل له بذلك الجر العظيم‪ ،‬وليتعود الخلص فيكون من‬
‫المخلصين‪ ،‬وليتم له الجر‪ ،‬سواء تم مقصوده أم ل لن النية حصلت‬
‫واقترن بها ما يمكن من العمل‪.‬‬

‫) ‪(1/202‬‬

‫ن‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ل ال ْ ُ‬‫سِبي ِ‬ ‫دى وَي َت ّب ِعْ غَي َْر َ‬ ‫ه ال ْهُ َ‬
‫ن لَ ُ‬
‫ما ت َب َي ّ َ‬‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬‫سو َ‬ ‫ق الّر ُ‬ ‫شاقِ ِ‬ ‫ن يُ َ‬
‫م ْ‬ ‫وَ َ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫فُر أ ْ‬ ‫ه ل ي َغْ ِ‬ ‫ن الل َ‬‫صيًرا )‪ (115‬إ ِ ّ‬ ‫م ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ساَء ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫جهَن ّ َ‬‫صل ِهِ َ‬ ‫ما ت َوَلى وَن ُ ْ‬ ‫ن ُوَلهِ َ‬
‫ضَللً‬‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫شرِك ِباللهِ فَ َ‬ ‫ن يُ ْ‬
‫م ْ‬ ‫شاُء وَ َ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ن ذ َل ِك ل ِ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫فُر َ‬ ‫ك ب ِهِ وَي َغْ ِ‬‫شَر َ‬ ‫يُ ْ‬
‫دا )‪(116‬‬ ‫ب َِعي ً‬

‫دى وَي َت ّب ِعْ‬ ‫ه ال ْهُ َ‬‫ن لَ ُ‬


‫ما ت َب َي ّ َ‬‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫سو َ‬ ‫ق الّر ُ‬ ‫شاقِ ِ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫م ْ‬ ‫} ‪ } { 116 ، 115‬وَ َ‬
‫هل‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫صيًرا * إ ِ ّ‬ ‫م ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ساَء ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫جهَن ّ َ‬‫صل ِهِ َ‬ ‫ما ت َوَلى وَن ُ ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ن ن ُوَلهِ َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫غَي َْر َ‬
‫ك ِبالل ّهِ فَ َ‬ ‫شرِ ْ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫شَر َ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫َ‬
‫قد ْ‬ ‫م ْ‬ ‫شاُء وَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك لِ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫فُر َ‬ ‫ك ب ِهِ وَي َغْ ِ‬ ‫فُر أ ْ‬ ‫ي َغْ ِ‬
‫دا { ‪.‬‬ ‫ضلل ب َِعي ً‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫أي‪ :‬ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم ويعانده فيما جاء به } ِ‬
‫دى { بالدلئل القرآنية والبراهين النبوية‪.‬‬ ‫ه ال ْهُ َ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫ما ت َب َي ّ َ‬ ‫ب َعْدِ َ‬
‫ن { وسبيلهم هو طريقهم في عقائدهم‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ْ‬
‫ل ال ُ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫} وَي َت ّب ِعْ غَي َْر َ‬
‫ما ت َوَلى { أي‪ :‬نتركه وما اختاره لنفسه‪ ،‬ونخذله فل‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫وأعمالهم } ن ُوَلهِ َ‬
‫نوفقه للخير‪ ،‬لكونه رأى الحق وعلمه وتركه‪ ،‬فجزاؤه من الله عدل أن‬
‫يبقيه في ضلله حائرا ويزداد ضلل إلى ضلله‪.‬‬
‫كما قال تعالى‪ } :‬فَل َما زا ُ َ‬
‫ب‬ ‫قل ّ ُ‬‫م { وقال تعالى‪ } :‬وَن ُ َ‬ ‫ه قُُلوب َهُ ْ‬ ‫غوا أَزاغَ الل ّ ُ‬ ‫ّ َ‬
‫مّرةٍ { ‪.‬‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫و‬ ‫أ َفْئ ِدتهم وأ َبصارهُم ك َما ل َم يؤْمنوا به أ َ‬
‫َ‬ ‫ْ ُ ِ ُ ِ ِ ّ‬ ‫ََُ ْ َ ْ َ َ ْ َ‬
‫ويدل مفهومها على أن من لم يشاقق الرسول‪ ،‬ويتبع سبيل المؤمنين‪ ،‬بأن‬
‫كان قصده وجه الله واتباع رسوله ولزوم جماعة المسلمين‪ ،‬ثم صدر منه‬
‫من الذنوب أو الّهم بها ما هو من مقتضيات النفوس‪ ،‬وغلبات الطباع‪ ،‬فإن‬
‫الله ل يوليه نفسه وشيطانه بل يتداركه بلطفه‪ ،‬ويمن عليه بحفظه‬
‫ويعصمه من السوء‪ ،‬كما قال تعالى عن يوسف عليه السلم‪ } :‬ك َذ َل ِكَ‬
‫ن { أي‪ :‬بسبب‬ ‫صي َ‬ ‫خل َ ِ‬‫م ْ‬‫عَبادَِنا ال ْ ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫شاَء إ ِن ّ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ف ْ‬ ‫سوَء َوال ْ َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫ف عَن ْ ُ‬ ‫صرِ َ‬ ‫ل ِن َ ْ‬
‫إخلصه صرفنا عنه السوء‪ ،‬وكذلك كل ] ص ‪ [ 203‬مخلص‪ ،‬كما يدل عليه‬
‫عموم التعليل‪.‬‬
‫صيًرا {‬ ‫م ِ‬ ‫ت َ‬ ‫ساَء ْ‬ ‫م { أي‪ :‬نعذبه فيها عذابا عظيما‪ } .‬وَ َ‬ ‫جهَن ّ َ‬‫صل ِهِ َ‬‫وقوله‪ } :‬وَن ُ ْ‬
‫أي‪ :‬مرجعا له ومآل‪.‬‬
‫وهذا الوعيد المرتب )‪ (1‬على الشقاق ومخالفة المؤمنين مراتب ل‬
‫يحصيها إل الله بحسب حالة الذنب صغرا وكبرا‪ ،‬فمنه ما يخلد في النار‬
‫ويوجب جميع الخذلن‪ .‬ومنه ما هو دون ذلك‪ ،‬فلعل الية الثانية كالتفصيل‬
‫لهذا المطلق‪.‬‬
‫وهو‪ :‬أن الشرك ل يغفره الله تعالى لتضمنه القدح في رب العالمين وفي‬
‫وحدانيته وتسوية المخلوق الذي ل يملك لنفسه ضرا ول نفعا بمن هو مالك‬
‫النفع والضر‪ ،‬الذي ما من نعمة إل منه‪ ،‬ول يدفع النقم إل هو‪ ،‬الذي له‬
‫الكمال المطلق من جميع الوجوه‪ ،‬والغنى التام بجميع وجوه العتبارات‪.‬‬
‫فمن أعظم الظلم وأبعد الضلل عدم إخلص العبادة لمن هذا شأنه‬
‫وعظمته‪ ،‬وصرف شيء منها للمخلوق الذي ليس له من صفات الكمال‬
‫شيء‪ ،‬ول له من صفات الغنى شيء بل ليس له إل العدم‪ .‬عدم الوجود‬
‫وعدم الكمال وعدم الغنى‪ ،‬والفقر من جميع الوجوه‪.‬‬
‫وأما ما دون الشرك من الذنوب والمعاصي فهو تحت المشيئة‪ ،‬إن شاء‬
‫الله غفره برحمته وحكمته‪ ،‬وإن شاء عذب عليه وعاقب بعدله وحكمته‪،‬‬
‫وقد استدل بهذه الية الكريمة على أن إجماع هذه المة حجة وأنها‬
‫معصومة من الخطأ‪.‬‬
‫ووجه ذلك‪ :‬أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين بالخذلن والنار‪ ،‬و‬
‫} سبيل المؤمنين { مفرد مضاف يشمل سائر ما المؤمنون عليه من‬
‫العقائد والعمال‪ .‬فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه‪ ،‬أو تحريمه أو‬
‫كراهته‪ ،‬أو إباحته ‪ -‬فهذا سبيلهم‪ ،‬فمن خالفهم في شيء من ذلك بعد‬
‫انعقاد إجماعهم عليه‪ ،‬فقد اتبع غير سبيلهم‪ .‬ويدل على ذلك قوله تعالى‪} :‬‬
‫ْ‬
‫من ْك َرِ { ‪.‬‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ن عَ ِ‬‫ف وَت َن ْهَوْ َ‬ ‫ن ِبال ْ َ‬
‫معُْرو ِ‬ ‫مُرو َ‬ ‫س ت َأ ُ‬‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ج ْ‬ ‫مة ٍ أ ُ ْ‬
‫خرِ َ‬
‫ُ‬
‫خي َْر أ ّ‬
‫م َ‬‫ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ووجه الدللة منها‪ :‬أن الله تعالى أخبر أن المؤمنين من هذه المة ل‬
‫يأمرون إل بالمعروف‪ ،‬فإذا اتفقوا على إيجاب شيء أو استحبابه فهو مما‬
‫أمروا به‪ ،‬فيتعين بنص الية أن يكون معروفا ول شيء بعد المعروف غير‬
‫المنكر‪ ،‬وكذلك إذا اتفقوا على النهي عن شيء فهو مما نهوا عنه فل يكون‬
‫طا ل ِت َ ُ‬‫س ً‬ ‫ك جعل ْناك ُ ُ‬
‫كوُنوا‬ ‫ة وَ َ‬‫م ً‬‫مأ ّ‬ ‫إل منكرا‪ ،‬ومثل ذلك قوله تعالى‪ } :‬وَك َذ َل ِ َ َ َ َ ْ‬
‫داَء عََلى الّناس { فأخبر تعالى أن هذه المة جعلها الله وسطا أي‪:‬‬ ‫شه َ َ‬ ‫ُ‬
‫عدل خيارا ليكونوا شهداء على الناس أي‪ :‬في كل شيء‪ ،‬فإذا شهدوا على‬
‫حكم بأن الله أمر به أو نهى عنه أو أباحه‪ ،‬فإن شهادتهم معصومة لكونهم‬
‫عالمين بما شهدوا به عادلين في شهادتهم‪ ،‬فلو كان المر بخلف ذلك لم‬
‫يكونوا عادلين في شهادتهم ول عالمين بها‪.‬‬
‫ل‬
‫سو ِ‬‫دوهُ إ َِلى الل ّهِ َوالّر ُ‬ ‫يٍء فَُر ّ‬ ‫م ِفي َ‬
‫ش ْ‬ ‫ومثل ذلك قوله تعالى‪ } :‬فَإ ِ ْ‬
‫ن ت ََناَزعْت ُ ْ‬
‫{ يفهم منها أن ما لم يتنازعوا فيه بل اتفقوا عليه أنهم غير مأمورين برده‬
‫إلى الكتاب والسنة‪ ،‬وذلك ل يكون إل موافقا للكتاب والسنة فل يكون‬
‫مخالفا‪.‬‬
‫فهذه الدلة ونحوها تفيد القطع أن إجماع هذه المة حجة قاطعة‪ ،‬ولهذا‬
‫بّين الله قبح ضلل المشركين بقوله‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬المترتب‪.‬‬
‫) ‪(1/202‬‬

‫ه الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫دا )‪ (117‬ل َعَن َ ُ‬ ‫ري ً‬ ‫م ِ‬ ‫طاًنا َ‬ ‫شي ْ َ‬‫ن إ ِّل َ‬ ‫عو َ‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬‫دون ِهِ إ ِّل إ َِناًثا وَإ ِ ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬ ‫إِ ْ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫من ّي َن ّهُ ْ‬‫م وََل َ‬ ‫ضل ّن ّهُ ْ‬
‫ضا )‪ (118‬وََل ِ‬ ‫فُرو ً‬ ‫م ْ‬
‫صيًبا َ‬ ‫ك نَ ِ‬ ‫عَبادِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫خذ َ ّ‬ ‫ل َلت ّ ِ‬ ‫وََقا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫خذِ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬‫م ْ‬ ‫خل ْقَ الل ّهِ وَ َ‬ ‫ن َ‬‫م فَل َي ُغَي ُّر ّ‬‫مَرن ّهُ ْ‬‫ن اْلن َْعام ِ وََل ُ‬ ‫ذا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م فَل َي ُب َت ّك ُ ّ‬ ‫مَرن ّهُ ْ‬ ‫وََل َ ُ‬
‫م‬
‫مّنيهِ ْ‬ ‫م وَي ُ َ‬ ‫مِبيًنا )‪ (119‬ي َعِد ُهُ ْ‬ ‫سَراًنا ُ‬ ‫خ ْ‬ ‫سَر ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ن الل ّهِ فَ َ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن وَل ِّيا ِ‬ ‫طا َ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ال ّ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ن عَن َْها‬ ‫دو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫م وََل ي َ ِ‬ ‫جهَن ّ ُ‬
‫م َ‬ ‫مأَواهُ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ن إ ِّل غُُروًرا )‪ (120‬أول َئ ِ َ‬ ‫طا ُ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ما ي َعِد ُهُ ُ‬ ‫وَ َ‬
‫صا )‪(121‬‬ ‫حي ً‬ ‫م ِ‬ ‫َ‬
‫شي ْ َ‬
‫طاًنا‬ ‫ن ِإل َ‬ ‫عو َ‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬ ‫دون ِهِ ِإل إ َِناًثا وَإ ِ ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬ ‫} ‪ } { 121 - 117‬إ ِ ْ‬
‫ضل ّن ّهُ ْ‬
‫م‬ ‫ضا * َول ِ‬ ‫فُرو ً‬ ‫م ْ‬‫صيًبا َ‬ ‫ك نَ ِ‬ ‫عَبادِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫خذ َ ّ‬ ‫ل لت ّ ِ‬ ‫ه وََقا َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬ ‫دا * ل َعَن َ ُ‬ ‫ري ً‬ ‫م ِ‬‫َ‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫و‬
‫ِ َ َ ْ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫خ‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫ر‬
‫ُ ُّ ّ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫غ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ر‬ ‫م‬
‫َْ ِ َ ُ َ ُّ ْ‬‫ول‬ ‫م‬ ‫عا‬ ‫ن‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫آ‬ ‫ن‬ ‫ُ‬
‫َُّ ّ‬‫ك‬ ‫ت‬ ‫ب‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫ول‬
‫َ َ َُّّ ْ َ ُ َ ُّ ْ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ن‬‫م‬ ‫ول‬
‫م‬ ‫ه‬ ‫ني‬ ‫م‬ ‫ي‬ ‫و‬
‫َِ ُ ُ ْ َُ َ ّ ِ ْ‬‫م‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ي‬ ‫*‬ ‫نا‬ ‫بي‬ ‫م‬
‫ْ َ ً ُ ِ ً‬ ‫نا‬ ‫را‬ ‫س‬ ‫خ‬
‫ُ‬ ‫ر‬ ‫س‬
‫ِْ َ‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ن‬‫ن وَل ِ ّ ِ ْ ُ ِ‬
‫دو‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫يا‬ ‫طا َ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫خذِ ال ّ‬ ‫ي َت ّ ِ‬
‫ن عَن َْها‬ ‫ُ‬
‫ن ِإل غُُروًرا * أول َئ ِ َ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫م ال ّ‬
‫دو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫م َول ي َ ِ‬ ‫جهَن ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫مأَواهُ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫طا ُ‬ ‫ما ي َعِد ُهُ ُ‬ ‫وَ َ‬
‫صا { ‪.‬‬ ‫حي ً‬ ‫م ِ‬ ‫َ‬
‫أي‪ :‬ما يدعو هؤلء المشركون من دون الله إل إناثا‪ ،‬أي‪ :‬أوثانا وأصناما‬
‫مسميات بأسماء الناث كـ "العزى" و "مناة" ونحوهما‪ ،‬ومن المعلوم أن‬
‫السم دال على المسمى‪ .‬فإذا كانت أسماؤها أسماء مؤنثة ناقصة‪ ،‬دل‬
‫ذلك على نقص المسميات بتلك السماء‪ ،‬وفقدها لصفات الكمال‪ ،‬كما‬
‫أخبر الله تعالى في غير موضع من كتابه‪ ،‬أنها ل تخلق ول ترزق ول تدفع‬
‫عن عابديها بل ول عن نفسها؛ نفعا ول ضرا ول تنصر أنفسها ممن يريدها‬
‫بسوء‪ ،‬وليس لها أسماع ول أبصار ول أفئدة‪ ،‬فكيف ُيعبد من هذا وصفه‬
‫ويترك الخلص لمن له السماء الحسنى والصفات العليا والحمد والكمال‪،‬‬
‫والمجد والجلل‪ ،‬والعز والجمال‪ ،‬والرحمة والبر والحسان‪ ،‬والنفراد‬
‫بالخلق والتدبير‪ ،‬والحكمة العظيمة في المر والتقدير؟" هل هذا إل من‬
‫أقبح القبيح الدال على نقص صاحبه‪ ،‬وبلوغه من الخسة والدناءة أدنى ما‬
‫يتصوره متصور‪ ،‬أو يصفه واصف؟" ] ص ‪[ 204‬‬
‫ومع ذلك )‪ (1‬فعبادتهم إنما صورتها فقط لهذه الوثان الناقصة‪ .‬وبالحقيقة‬
‫ما عبدوا غير الشيطان الذي هو عدوهم الذي يريد إهلكهم ويسعى في‬
‫ذلك بكل ما يقدر عليه‪ ،‬الذي هو في غاية البعد من الله‪ ،‬لعنه الله وأبعده‬
‫عن رحمته‪ ،‬فكما أبعده الله من رحمته يسعى في إبعاد العباد عن رحمة‬
‫كونوا م َ‬
‫سِعيرِ { ولهذا أخبر الله عن‬ ‫ب ال ّ‬ ‫حا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ِ ْ‬ ‫ه ل ِي َ ُ ُ‬ ‫حْزب َ ُ‬ ‫عو ِ‬ ‫ما ي َد ْ ُ‬ ‫الله‪ } .‬إ ِن ّ َ‬
‫سعيه في إغواء العباد‪ ،‬وتزيين الشر لهم والفساد وأنه قال لربه مقسما‪:‬‬
‫ضا { أي‪ :‬مقدرا‪ .‬علم اللعين أنه ل يقدر‬ ‫فُرو ً‬ ‫م ْ‬‫صيًبا َ‬ ‫ك نَ ِ‬ ‫عَبادِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫خذ َ ّ‬ ‫} لت ّ ِ‬
‫على إغواء جميع عباد الله‪ ،‬وأن عباد الله المخلصين ليس له عليهم‬
‫سلطان‪ ،‬وإنما سلطانه على من توله‪ ،‬وآثر طاعته على طاعة موله‪.‬‬
‫م‬ ‫عَباد َ َ‬ ‫وأقسم في موضع آخر ليغوينهم } لغْوينه َ‬
‫من ْهُ ُ‬ ‫ك ِ‬ ‫ن ِإل ِ‬ ‫مِعي َ‬ ‫ج َ‬‫مأ ْ‬ ‫َُِّ ْ‬
‫ن { فهذا الذي ظنه الخبيث وجزم به‪ ،‬أخبر الله تعالى بوقوعه‬ ‫صي َ‬ ‫خل َ ِ‬ ‫م ْ‬‫ال ْ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫قا ِ‬ ‫ري ً‬ ‫ه َفات ّب َُعوهُ ِإل فَ ِ‬ ‫س ظ َن ّ ُ‬ ‫م إ ِب ِْلي ُ‬ ‫صد ّقَ عَل َي ْهِ ْ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫بقوله‪ } :‬وَل َ َ‬
‫وهذا النصيب المفروض الذي أقسم لله إنه يتخذهم )‪ (2‬ذكر ما يريد بهم‬
‫م { أي‪ :‬عن الصراط المستقيم ضلل‬ ‫ضل ّن ّهُ ْ‬ ‫وما يقصده لهم بقوله‪َ } :‬ول ِ‬
‫في العلم‪ ،‬وضلل في العمل‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬مع الضلل‪ ،‬لمنينهم أن ينالوا ما ناله المهتدون‪ .‬وهذا‬ ‫من ّي َن ّهُ ْ‬ ‫} َول َ‬
‫هو الغرور بعينه‪ ،‬فلم يقتصر على مجرد إضللهم حتى زين لهم ما هم فيه‬
‫من الضلل‪ .‬وهذا زيادة شر إلى شرهم حيث عملوا أعمال أهل النار‬
‫الموجبة للعقوبة وحسبوا أنها موجبة للجنة‪ ،‬واعتبر ذلك باليهود والنصارى‬
‫ن‬‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِإل َ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫خ َ‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬ ‫ونحوهم فإنهم كما حكى الله عنهم‪ } ،‬وََقاُلوا ل َ ْ‬
‫ك زينا ل ِك ُ ّ ُ‬ ‫هودا أ َو نصارى ت ِل ْ َ َ‬
‫ل هَ ْ‬
‫ل‬ ‫م { } قُ ْ‬ ‫مل َهُ ْ‬‫مة ٍ ع َ َ‬ ‫لأ ّ‬ ‫م { } ك َذ َل ِ َ َ ّ ّ‬ ‫مان ِي ّهُ ْ‬ ‫كأ َ‬ ‫ُ ً ْ َ َ َ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫حَياةِ الد ّن َْيا وَهُ ْ‬ ‫م ِفي ال َ‬ ‫سعْي ُهُ ْ‬‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫مال * ال ِ‬ ‫ن أع ْ َ‬ ‫ري َ‬ ‫س ِ‬‫خ َ‬ ‫م ِبال ْ‬ ‫ن ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬
‫صن ًْعا { ‪.‬‬ ‫َ‬
‫ن ُ‬ ‫سُنو َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م يُ ْ‬ ‫ن أن ّهُ ْ‬ ‫سُبو َ‬ ‫ح َ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬
‫م ن َك ُ ْ‬
‫ن‬ ‫وقال تعالى عن المنافقين إنهم يقولون يوم القيامة للمؤمنين‪ } :‬أل َ ْ‬
‫ي‬
‫مان ِ ّ‬‫م ال َ‬ ‫م وَغَّرت ْك ُ ُ‬ ‫م َواْرت َب ْت ُ ْ‬ ‫صت ُ ْ‬
‫م وَت ََرب ّ ْ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫م أ َن ْ ُ‬ ‫م فَت َن ْت ُ ْ‬ ‫م َقاُلوا ب ََلى وَل َك ِن ّك ُ ْ‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ْ‬
‫م ِباللهِ الغَُروُر { ‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫مُر اللهِ وَغّرك ْ‬ ‫جاَء أ ْ‬ ‫حّتى َ‬ ‫َ‬
‫ن الن َْعام ِ { أي‪ :‬بتقطيع آذانها‪ ،‬وذلك‬ ‫ذا َ‬‫نآ َ‬ ‫ُ‬
‫م فلي ُب َت ّك ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫مَرن ّهُ ْ‬ ‫وقوله‪َ } :‬ول ُ‬
‫كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحام فنبه ببعض ذلك على جميعه‪ ،‬وهذا نوع‬
‫من الضلل يقتضي تحريم ما أحل الله أو تحليل ما حرم الله‪ ،‬ويلتحق‬
‫بذلك من العتقادات الفاسدة والحكام الجائرة ما هو من أكبر الضلل‪.‬‬
‫خل ْقَ الل ّهِ { وهذا يتناول تغيير الخلقة الظاهرة‬ ‫ن َ‬ ‫م فَل َي ُغَي ُّر ّ‬ ‫مَرن ّهُ ْ‬ ‫} َول ُ‬
‫بالوشم‪ ،‬والوشر والنمص والتفلج للحسن‪ ،‬ونحو ذلك مما أغواهم به‬
‫الشيطان فغيروا خلقة الرحمن‪.‬‬
‫وذلك يتضمن التسخط من خلقته والقدح في حكمته‪ ،‬واعتقاد أن ما‬
‫يصنعون بأيديهم أحسن من خلقة الرحمن‪ ،‬وعدم الرضا بتقديره وتدبيره‪،‬‬
‫ويتناول أيضا تغيير الخلقة الباطنة‪ ،‬فإن الله تعالى خلق عباده حنفاء‬
‫مفطورين على قبول الحق وإيثاره‪ ،‬فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن هذا‬
‫الخلق الجميل‪ ،‬وزينت لهم الشر والشرك والكفر والفسوق والعصيان‪.‬‬
‫صرانه أو‬ ‫ودانه أو ين ّ‬ ‫فإن كل مولود يولد على الفطرة ولكن أبواه يه ّ‬
‫جسانه‪ ،‬ونحو ذلك مما يغيرون به ما فطر الله عليه العباد من توحيده‬ ‫يم ّ‬
‫وحبه ومعرفته‪ .‬فافترستهم الشياطين في هذا الموضع افتراس السبع‬
‫والذئاب للغنم المنفردة‪ .‬لول لطف الله وكرمه بعباده المخلصين لجرى‬
‫عليهم ما جرى على هؤلء المفتونين‪ ،‬وهذا الذي جرى عليهم من توليهم‬
‫عن ربهم وفاطرهم )‪ (3‬وتوليهم لعدوهم المريد لهم الشر من كل وجه‪،‬‬
‫فخسروا الدنيا والخرة‪ ،‬ورجعوا بالخيبة والصفقة الخاسرة‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫مِبيًنا { وأي‬ ‫سَراًنا ُ‬ ‫خ ْ‬ ‫سَر ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ن الل ّهِ فَ َ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن وَل ِّيا ِ‬ ‫طا َ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫خذِ ال ّ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬‫م ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫خسار أبين وأعظم ممن خسر دينه ودنياه وأوبقته معاصيه وخطاياه؟!!‬
‫فحصل له الشقاء البدي‪ ،‬وفاته النعيم السرمدي‪.‬‬
‫كما أن من تولى موله وآثر رضاه‪ ،‬ربح كل الربح‪ ،‬وأفلح كل الفلح‪ ،‬وفاز‬
‫بسعادة الدارين‪ ،‬وأصبح قرير العين‪ ،‬فل مانع لما أعطيت‪ ،‬ول معطي لما‬
‫منعت‪ ،‬اللهم تولنا فيمن توليت‪ ،‬وعافنا فيمن عافيت‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬يعد الشيطان من يسعى في إضللهم‪،‬‬ ‫مّنيهِ ْ‬ ‫م وَي ُ َ‬ ‫ثم قال‪ } :‬ي َعِد ُهُ ْ‬
‫قَر {‬ ‫ف ْ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ن ي َعِد ُك ُ ُ‬ ‫طا ُ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫والوعد يشمل حتى الوعيد كما قال تعالى‪ } :‬ال ّ‬
‫فإنه يعدهم إذا أنفقوا في سبيل الله افتقروا‪ ،‬ويخوفهم إذا جاهدوا بالقتل‬
‫ف أ َوْل َِياَءهُ { الية‪.‬‬ ‫خوّ ُ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫طا ُ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ما ذ َل ِك ُ ُ‬ ‫وغيره‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫ويخوفهم عند إيثار مرضاة الله بكل ما يمكن وما ل يمكن مما يدخله في‬
‫عقولهم حتى يكسلوا عن فعل الخير‪ ،‬وكذلك يمنيهم الماني الباطلة التي‬
‫م‬
‫ما ي َعِد ُهُ ُ‬
‫هي عند التحقيق كالسراب الذي ل حقيقة له‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَ َ‬
‫ك ْ‬ ‫ُ‬
‫م { أي‪ :‬من انقاد للشيطان‬ ‫جهَن ّ ُ‬
‫م َ‬ ‫ن ِإل غُُروًرا * أول َئ ِ َ َ‬
‫مأَواهُ ْ‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ُ‬ ‫ال ّ‬
‫وأعرض عن ربه‪ ،‬وصار من أتباع إبليس وحزبه‪ ،‬مستقرهم النار‪َ } .‬ول‬
‫صا { أي‪ :‬مخلصا ول ملجأ بل هم خالدون فيها أبد الباد‪.‬‬ ‫حي ً‬‫م ِ‬
‫ن عَن َْها َ‬ ‫دو َ‬‫ج ُ‬‫يَ ِ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ومع هذا‪.‬‬
‫)‪ (2‬في النسختين‪ :‬إنهم يتخذهم‪.‬‬
‫)‪ (3‬كذا في ب وفي أ‪ :‬وفاطركم‪.‬‬

‫) ‪(1/203‬‬

‫حت َِها اْل َن َْهاُر‬


‫ن تَ ْ‬
‫م ْ‬
‫ري ِ‬
‫ج ِ‬
‫ت تَ ْ‬
‫جّنا ٍ‬
‫م َ‬‫خل ُهُ ْ‬
‫سن ُد ْ ِ‬
‫ت َ‬ ‫حا ِ‬ ‫مُلوا ال ّ‬
‫صال ِ َ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫ذي َ‬
‫نآ َ‬‫َوال ّ ِ َ‬
‫ن الل ّهِ ِقيًل )‪(122‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م َ‬
‫صد َقُ ِ‬‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫قا وَ َ‬
‫ح ّ‬‫دا وَعْد َ الل ّهِ َ‬‫ن ِفيَها أب َ ً‬
‫دي َ‬
‫خال ِ ِ‬
‫َ‬

‫} ‪ { 122‬ولما بين مآل الشقياء أولياء الشيطان ذكر مآل السعداء أوليائه‬
‫حت َِها‬
‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫خل ُهُ ْ‬
‫سن ُد ْ ِ‬
‫ت َ‬ ‫حا ِ‬ ‫مُلوا ال ّ‬
‫صال ِ َ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫فقال‪َ } :‬وال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ن الل ّهِ ِقيل { ‪. (1) .‬‬ ‫قا وم َ‬ ‫َ‬
‫م َ‬ ‫صد َقُ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ح ّ َ َ ْ‬ ‫دا وَعْد َ الل ّهِ َ‬‫ن ِفيَها أب َ ً‬‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬‫الن َْهاُر َ‬
‫] ص ‪[ 205‬‬
‫در خيره‬ ‫ق َ‬ ‫مُنوا { بالله وملئكته وكتبه ورسله واليوم الخر‪ ،‬وال َ‬ ‫أي‪ } :‬آ َ‬
‫مُلوا‬‫وشره على الوجه الذي أمروا به علما وتصديقا وإقرارا‪ } .‬وَعَ ِ‬
‫ت { الناشئة عن اليمان؟‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬
‫ال ّ‬
‫وهذا يشمل سائر المأمورات من واجب ومستحب‪ ،‬الذي على القلب‪،‬‬
‫والذي على اللسان‪ ،‬والذي على بقية الجوارح‪ .‬كل له من الثواب المرتب‬
‫على ذلك بحسب حاله ومقامه‪ ،‬وتكميله لليمان والعمل الصالح‪.‬‬
‫ويفوته ما رتب على ذلك بحسب ما أخل به من اليمان والعمل‪ ،‬وذلك‬
‫بحسب ما علم من حكمة الله ورحمته‪ ،‬وكذلك وعده الصادق الذي يعرف‬
‫من تتبع كتاب الله وسنة رسوله‪.‬‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫خلهُ ْ‬ ‫سن ُد ْ ِ‬
‫ولهذا ذكر الثواب المرتب على ذلك بقوله‪َ } :‬‬
‫حت َِها الن َْهاُر { فيها ما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على قلب‬ ‫تَ ْ‬
‫بشر‪ ،‬من أنواع المآكل والمشارب اللذيذة‪ ،‬والمناظر العجيبة‪ ،‬والزواج‬
‫الحسنة‪ ،‬والقصور‪ ،‬والغرف المزخرفة‪ ،‬والشجار المتدلية‪ ،‬والفواكه‬
‫المستغربة‪ ،‬والصوات الشجية‪ ،‬والنعم السابغة‪ ،‬وتزاور الخوان‪ ،‬وتذكرهم‬
‫ل رضوان الله‬ ‫ما كان منهم في رياض الجنان‪ ،‬وأعلى من ذلك كله وأج ّ‬
‫عليهم وتمتع الرواح بقربه‪ ،‬والعيون برؤيته‪ ،‬والسماع بخطابه الذي‬
‫ينسيهم كل نعيم وسرور‪ ،‬ولول الثبات من الله لهم لطاروا وماتوا من‬
‫الفرح والحبور‪ ،‬فلله ما أحلى ذلك النعيم وما أعلى ما أنالهم الرب الكريم‪،‬‬
‫وماذا حصل لهم من كل خير وبهجة ل يصفه الواصفون‪ ،‬وتمام ذلك وكماله‬
‫دا‬ ‫َ‬
‫ن ِفيَها أب َ ً‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫الخلود الدائم في تلك المنازل العاليات‪ ،‬ولهذا قال‪َ } :‬‬
‫ن الل ّهِ ِقيل { ‪.‬‬ ‫قا وم َ‬
‫م َ‬ ‫صد َقُ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ح ّ َ َ ْ‬ ‫وَعْد َ الل ّهِ َ‬
‫فصدق الله العظيم الذي بلغ قوُله وحديُثه في الصدق أعلى ما يكون‪،‬‬
‫ة وتضمًنا‬ ‫ولهذا لما كان كلمه صدقا وخبره حقا‪ ،‬كان ما يدل عليه مطابق ً‬
‫ة كل ذلك مراد من كلمه‪ ،‬وكذلك كلم رسوله صلى الله عليه‬ ‫وملزم ً‬
‫وسلم لكونه ل يخبر إل بأمره ول ينطق إل عن وحيه‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬الية كاملة‪ ،‬بينما في أ‪ ،‬اقتصر على أولها‪.‬‬

‫) ‪(1/204‬‬

‫ل َيس بأ َمان ِيك ُم وَل أ َمان ِ َ‬


‫ن‬
‫م ْ‬
‫ه ِ‬ ‫جد ْ ل َ ُ‬‫جَز ب ِهِ وََل ي َ ِ‬‫سوًءا ي ُ ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫م ْ‬
‫ب َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬‫ي أه ْ ِ‬ ‫َ ّ‬ ‫ْ َ ِ َ ّ ْ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ذ َكرٍ أوْ أن َْثى‬ ‫م ْ‬‫ت ِ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي َعْ َ‬
‫م ْ‬ ‫صيًرا )‪ (123‬وَ َ‬ ‫ن الل ّهِ وَل ِّيا وَل ن َ ِ‬
‫َ‬ ‫دو ِ‬‫ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن فَأولئ ِ َ‬
‫قيًرا )‪(124‬‬ ‫ن نَ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ة وَل ي ُظل ُ‬ ‫جن ّ َ‬
‫ن ال َ‬‫خلو َ‬ ‫ك ي َد ْ ُ‬ ‫م ٌ‬‫مؤْ ِ‬‫وَهُوَ ُ‬
‫} ‪ } { 124 ، 123‬ل َيس بأ َمان ِيك ُم ول أ َمان ِ َ‬
‫سوًءا‬ ‫ل ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ي أهْ ِ‬ ‫َ ّ‬ ‫ْ َ ِ َ ّ ْ َ‬
‫ت‬‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫م ْ‬‫صيًرا * وَ َ‬ ‫ن الل ّهِ وَل ِّيا َول ن َ ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫جد ْ ل َ ُ‬‫جَز ب ِهِ َول ي َ ِ‬ ‫يُ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قيًرا { ‪.‬‬ ‫ن نَ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ة َول ي ُظل ُ‬ ‫جن ّ َ‬‫ن ال َ‬ ‫خلو َ‬ ‫ن فَأولئ ِك ي َد ْ ُ‬ ‫م ٌ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ن ذ َكرٍ أوْ أن َْثى وَهُوَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ب{‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل الك َِتا ِ‬ ‫ي أه ْ ِ‬ ‫مان ِ ّ‬ ‫م َول أ َ‬ ‫مان ِي ّك ْ‬ ‫س { المر والنجاة والتزكية } ب ِأ َ‬ ‫أي‪ } :‬لي ْ َ‬
‫والماني‪ :‬أحاديث النفس المجردة عن العمل‪ ،‬المقترن بها دعوى مجردة‬
‫م في كل أمر‪ ،‬فكيف بأمر‬ ‫لو عورضت بمثلها لكانت من جنسها‪ .‬وهذا عا ّ‬
‫اليمان والسعادة البدية؟!‬
‫ة ِإل‬ ‫جن ّ َ‬ ‫ْ‬
‫ل ال َ‬ ‫خ َ‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬ ‫َ‬
‫فإن أماني أهل الكتاب قد أخبر الله بها أنهم قالوا‪ } :‬ل ْ‬
‫م { وغيرهم ممن ليس ينتسب لكتاب‬ ‫هودا أ َو نصارى ت ِل ْ َ َ‬ ‫ن َ‬
‫مان ِي ّهُ ْ‬‫كأ َ‬ ‫ن ُ ً ْ َ َ َ‬ ‫كا َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ول رسول من باب أولى وأحرى‪.‬‬
‫وكذلك أدخل الله في ذلك من ينتسب إلى السلم لكمال العدل‬
‫والنصاف‪ ،‬فإن مجرد النتساب إلى أي دين كان‪ ،‬ل يفيد شيئا إن لم يأت‬
‫النسان ببرهان على صحة دعواه‪ ،‬فالعمال تصدق الدعوى أو تكذبها ولهذا‬
‫جَز ب ِهِ { وهذا شامل لجميع العاملين‪ ،‬لن‬ ‫سوًءا ي ُ ْ‬ ‫ل ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫قال تعالى‪َ } :‬‬
‫السوء شامل لي ذنب كان )‪ (1‬من صغائر الذنوب وكبائرها‪ ،‬وشامل أيضا‬
‫لكل جزاء قليل أو كثير‪ ،‬دنيوي أو أخروي‪.‬‬
‫والناس في هذا المقام درجات ل يعلمها إل الله‪ ،‬فمستقل ومستكثر‪ ،‬فمن‬
‫كان عمله كله سوءا وذلك ل يكون إل كافرا‪ .‬فإذا مات من دون توبة‬
‫جوزي بالخلود في العذاب الليم‪.‬‬
‫ومن كان عمله صالحا‪ ،‬وهو مستقيم في غالب أحواله‪ ،‬وإنما يصدر منه‬
‫بعض الحيان بعض الذنوب الصغار فما يصيبه من الهم والغم والذى و‬
‫]بعض[ )‪ (2‬اللم في بدنه أو قلبه أو حبيبه أو ماله ونحو ذلك ‪ -‬فإنها‬
‫مكفرات للذنوب‪ ،‬وهي مما يجزى به على عمله‪ ،‬قيضها الله لطفا بعباده‪،‬‬
‫وبين هذين الحالين مراتب كثيرة‪.‬‬
‫وهذا الجزاء على عمل السوء العام مخصوص في غير التائبين‪ ،‬فإن التائب‬
‫من الذنب كمن ل ذنب له‪ ،‬كما دلت على ذلك النصوص‪.‬‬
‫صيًرا { لزالة بعض ما لعله‬ ‫ن الل ّهِ وَل ِّيا َول ن َ ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫جد ْ ل َ ُ‬ ‫وقوله‪َ } :‬ول ي َ ِ‬
‫يتوهم أن من استحق المجازاة على عمله قد يكون له ولي أو ناصر أو‬
‫شافع يدفع عنه ما استحقه‪ ،‬فأخبر تعالى بانتفاء ذلك‪ ،‬فليس له ولي‬
‫يحصل له المطلوب‪ ،‬ول نصير يدفع عنه المرهوب‪ ،‬إل ربه ومليكه‪.‬‬
‫ت { دخل في ذلك سائر العمال القلبية‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ي َعْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫والبدنية‪ ،‬ودخل أيضا كل عامل من إنس أو جن‪ ،‬صغير أو كبير‪ ،‬ذكر أو‬
‫َ ُ‬
‫ن { وهذا شرط لجميع‬ ‫م ٌ‬ ‫ن ذ َك َرٍ أوْ أن َْثى وَهُوَ ُ‬
‫مؤْ ِ‬ ‫م ْ‬
‫أنثى‪ .‬ولهذا قال‪ِ } :‬‬
‫العمال‪ ،‬ل تكون صالحة ول تقبل ول يترتب عليها الثواب ول يندفع بها‬
‫العقاب إل باليمان‪.‬‬
‫فالعمال بدون اليمان كأغصان شجرة قطع أصلها وكبناء بني على موج‬
‫الماء‪ ،‬فاليمان هو الصل والساس والقاعدة التي يبنى عليه كل شيء‪،‬‬
‫وهذا القيد ينبغي التفطن له في كل عمل أطلق‪ ،‬فإنه مقيد به‪.‬‬
‫ن‬ ‫ُ‬
‫خلو َ‬‫ك { أي‪ :‬الذين جمعوا بين اليمان والعمل الصالح } ي َد ْ ُ‬ ‫} فَُأول َئ ِ َ‬
‫ة { ] ص ‪ [ 206‬المشتملة على ما تشتهي النفس وتلذ العين } َول‬ ‫جن ّ َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫قيًرا { أي‪ :‬ل قليل ول كثيرا مما عملوه من الخير‪ ،‬بل يجدونه‬ ‫ن نَ ِ‬‫مو َ‬ ‫ي ُظ ْل َ ُ‬
‫كامل موفرا‪ ،‬مضاعفا أضعافا كثيرة‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬لي سوء كان‪.‬‬
‫)‪ (2‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫) ‪(1/205‬‬

‫مل ّ َ‬ ‫ومن أ َحسن دينا مم َ‬


‫فا‬
‫حِني ً‬
‫م َ‬
‫هي َ‬
‫ة إ ِب َْرا ِ‬ ‫ن َوات ّب َعَ ِ‬
‫س ٌ‬
‫ح ِ‬ ‫ه ل ِل ّهِ وَهُوَ ُ‬
‫م ْ‬ ‫جهَ ُ‬ ‫سل َ َ‬
‫م وَ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫َ َ ْ ْ َ ُ ِ ً ِ ّ ْ‬
‫خِليل )‪(125‬‬ ‫ً‬ ‫م َ‬ ‫هي َ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬
‫ه إ ِب َْرا ِ‬ ‫َوات ّ َ‬

‫مل ّ َ‬ ‫} ‪ } { 125‬ومن أ َحسن دينا مم َ‬


‫ة‬ ‫ن َوات ّب َعَ ِ‬ ‫س ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫ه ل ِل ّهِ وَهُوَ ُ‬
‫م ْ‬ ‫جه َ ُ‬‫م وَ ْ‬‫سل َ َ‬
‫نأ ْ‬‫َ َ ْ ْ َ ُ ِ ً ِ ّ ْ‬
‫خِليل { ‪.‬‬ ‫م َ‬ ‫هي َ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬
‫ه إ ِب َْرا ِ‬ ‫فا َوات ّ َ‬ ‫حِني ً‬ ‫م َ‬ ‫هي َ‬ ‫إ ِب َْرا ِ‬
‫أي‪ :‬ل أحد أحسن من دين من جمع بين الخلص للمعبود‪ ،‬وهو إسلم‬
‫الوجه لله الدال على استسلم القلب وتوجهه وإنابته وإخلصه‪ ،‬وتوجه‬
‫الوجه وسائر العضاء لله‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬متبع لشريعة الله‬ ‫س ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬
‫} وَهُوَ { مع هذا الخلص والستسلم } ُ‬
‫التي أرسل بها رسله‪ ،‬وأنزل كتبه‪ ،‬وجعلها طريقا لخواص خلقه وأتباعهم‪.‬‬
‫فا { أي‪ :‬مائل عن الشرك‬ ‫حِني ً‬‫م { أي‪ :‬دينه وشرعه } َ‬ ‫هي َ‬‫ة إ ِب َْرا ِ‬‫مل ّ َ‬ ‫} َوات ّب َعَ ِ‬
‫هّ‬
‫خذ َ الل ُ‬ ‫إلى التوحيد‪ ،‬وعن التوجه للخلق إلى القبال على الخالق‪َ } ،‬وات ّ َ‬
‫خلة أعلى أنواع المحبة‪ ،‬وهذه المرتبة حصلت للخليلين‬ ‫خِليل { وال ُ‬ ‫م َ‬ ‫هي َ‬ ‫إ ِب َْرا ِ‬
‫محمد وإبراهيم عليهما الصلة والسلم‪ ،‬وأما المحبة من الله فهي لعموم‬
‫المؤمنين‪ ،‬وإنما اتخذ الله إبراهيم خليل لنه وّفى بما ُأمر به وقام بما اب ُْتلي‬
‫به‪ ،‬فجعله الله إماما للناس‪ ،‬واتخذه خليل ونوه بذكره في العالمين‪.‬‬

‫) ‪(1/206‬‬

‫حي ً‬
‫طا )‪(126‬‬ ‫م ِ‬
‫يءٍ ُ‬
‫ش ْ‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫ه ب ِك ُ ّ‬
‫ل َ‬ ‫ما ِفي اْل َْرض وَ َ‬
‫كا َ‬ ‫ت وَ َ‬
‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬ ‫وَل ِل ّهِ َ‬
‫ما ِفي ال ّ‬
‫ِ‬
‫يٍء‬ ‫ل َ‬
‫ش ْ‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫ه ب ِك ُ ّ‬ ‫ما ِفي الْرض وَ َ‬
‫كا َ‬ ‫ِ‬ ‫ت وَ َ‬‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬
‫ما ِفي ال ّ‬‫} ‪ } { 126‬وَل ِل ّهِ َ‬
‫طا { ‪.‬‬‫حي ً‬
‫م ِ‬
‫ُ‬
‫وهذه الية الكريمة فيها بيان إحاطة الله تعالى بجميع الشياء‪ ،‬فأخبر أنه له‬
‫ض { أي‪ :‬الجميع ملكه وعبيده‪ ،‬فهم‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬
‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ما ِفي ال ّ‬
‫} َ‬
‫المملوكون وهو المالك المتفرد بتدبيرهم‪ ،‬وقد أحاط علمه بجميع‬
‫المعلومات‪ ،‬وبصره بجميع المبصرات‪ ،‬وسمعه بجميع المسموعات‪ ،‬ونفذت‬
‫مشيئته وقدرته بجميع الموجودات‪ ،‬ووسعت رحمته أهل الرض‬
‫والسماوات‪ ،‬وقهر بعزه وقهره كل مخلوق‪ ،‬ودانت له جميع الشياء‪.‬‬

‫) ‪(1/206‬‬

‫م ِفي ال ْك َِتا ِ‬
‫ب‬ ‫ما ي ُت َْلى عَل َي ْك ُ ْ‬
‫ن وَ َ‬ ‫م ِفيهِ ّ‬ ‫فِتيك ُ ْ‬ ‫ه يُ ْ‬‫ل الل ّ ُ‬‫ساِء قُ ِ‬ ‫ك ِفي الن ّ َ‬ ‫فُتون َ َ‬ ‫ست َ ْ‬‫وَي َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن‬
‫حوهُ ّ‬ ‫ن ت َن ْك ِ ُ‬‫نأ ْ‬ ‫ن وَت َْرغَُبو َ‬‫ب لهُ ّ‬ ‫ما ك ُت ِ َ‬ ‫ن َ‬‫ساِء اللِتي ل ت ُؤُْتون َهُ ّ‬ ‫مى الن ّ َ‬ ‫ِفي ي ََتا َ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫فعَلوا ِ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫ط وَ َ‬ ‫س ِ‬‫ق ْ‬‫مى ِبال ِ‬ ‫موا ل ِلي ََتا َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫ن وَأ ْ‬ ‫دا ِ‬ ‫ن الوِل َ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫في َ‬ ‫ضع َ ِ‬
‫ست َ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫َوال ْ ُ‬
‫ما )‪(127‬‬ ‫ن ب ِهِ عَِلي ً‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫خي ْرٍ فَإ ِ ّ‬ ‫َ‬

‫ما ي ُت َْلى عَل َي ْك ُ ْ‬


‫م‬ ‫ن وَ َ‬ ‫م ِفيهِ ّ‬ ‫فِتيك ُ ْ‬ ‫ه يُ ْ‬‫ل الل ّ ُ‬ ‫ساِء قُ ِ‬ ‫ك ِفي الن ّ َ‬ ‫فُتون َ َ‬ ‫ست َ ْ‬‫} ‪ } { 127‬وَي َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫نأ ْ‬ ‫ن وَت َْرغَُبو َ‬ ‫ب له ُ ّ‬ ‫ُ‬
‫ما كت ِ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ساِء اللِتي ل ت ُؤُْتون َهُ ّ‬ ‫مى الن ّ َ‬ ‫ب ِفي ي ََتا َ‬ ‫ِفي ال ْك َِتا ِ‬
‫َ‬
‫ما‬
‫ط وَ َ‬
‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫مى ِبال ْ ِ‬ ‫موا ل ِل ْي ََتا َ‬ ‫قو ُ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫ن وَأ ْ‬ ‫دا ِ‬ ‫ن ال ْوِل ْ َ‬
‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫في َ‬ ‫ضع َ ِ‬‫ست َ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬ ‫حوهُ ّ‬ ‫ت َن ْك ِ ُ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫ن ب ِهِ عَِلي ً‬ ‫َ‬
‫ه كا َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫خي ْرٍ فَإ ِ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫فعَُلوا ِ‬ ‫تَ ْ‬
‫الستفتاء‪ :‬طلب السائل من المسئول بيان الحكم الشرعي في ذلك‬
‫المسئول عنه‪ .‬فأخبر عن المؤمنين أنهم يستفتون الرسول صلى الله عليه‬
‫وسلم في حكم النساء المتعلق بهم‪ ،‬فتولى الله هذه الفتوى بنفسه فقال‪:‬‬
‫ن { فاعملوا على ما أفتاكم به في جميع شئون‬ ‫م ِفيهِ ّ‬ ‫فِتيك ُ ْ‬ ‫ه يُ ْ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫} قُ ِ‬
‫النساء‪ ،‬من القيام بحقوقهن وترك ظلمهن عموما وخصوصا‪.‬‬
‫وهذا أمر عام يشمل جميع ما شرع الله أمرا ونهيا في حق النساء‬
‫الزوجات وغيرهن‪ ،‬الصغار والكبار‪ ،‬ثم خص ‪-‬بعد التعميم‪ -‬الوصية بالضعاف‬
‫من اليتامى والولدان اهتماما بهم وزجرا عن التفريط في حقوقهم فقال‪:‬‬
‫ساِء { أي‪ :‬ويفتيكم أيضا بما‬ ‫مى الن ّ َ‬ ‫ب ِفي ي ََتا َ‬ ‫م ِفي ال ْك َِتا ِ‬ ‫ما ي ُت َْلى عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫يتلى عليكم في الكتاب في شأن اليتامى من النساء‪ } .‬اللِتي ل ت ُؤُْتون َهُ ّ‬
‫ن‬
‫ن { وهذا إخبار عن الحالة الموجودة الواقعة في ذلك الوقت‪،‬‬ ‫ب ل َهُ ّ‬ ‫ما ك ُت ِ َ‬ ‫َ‬
‫فإن اليتيمة إذا كانت تحت ولية الرجل بخسها حقها وظلمها‪ ،‬إما بأكل‬
‫مالها الذي لها أو بعضه‪ ،‬أو منعها من التزوج لينتفع بمالها‪ ،‬خوفا من‬
‫ن زّوجها‪ ،‬أو يأخذ من مهرها الذي تتزوج به بشرط أو‬ ‫استخراجه من يده إ ْ‬
‫غيره‪ ،‬هذا إذا كان راغبا عنها‪ ،‬أو يرغب فيها وهي ذات جمال ومال ول‬
‫يقسط في مهرها‪ ،‬بل يعطيها دون ما تستحق‪ ،‬فكل هذا ظلم يدخل تحت‬
‫ن { أي‪ :‬ترغبون عن نكاحهن‬ ‫هذا النص ولهذا قال‪ } :‬وترغَبو َ‬
‫حوهُ ّ‬ ‫ن ت َن ْك ِ ُ‬‫نأ ْ‬ ‫ََْ ُ َ‬
‫أو في نكاحهن كما ذكرنا تمثيله‪.‬‬
‫دان { أي‪ :‬ويفتيكم في المستضعفين من‬ ‫ن ال ْوِل ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫في َ‬ ‫ضع َ ِ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫} َوال ْ ُ‬
‫الولدان الصغار‪ ،‬أن تعطوهم حقهم من الميراث وغيره وأن ل تستولوا‬
‫َ‬
‫مى‬ ‫موا ل ِل ْي ََتا َ‬‫قو ُ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫على أموالهم على وجه الظلم والستبداد‪ } .‬وَأ ْ‬
‫ط { أي‪ :‬بالعدل التام‪ ،‬وهذا يشمل القيام عليهم بإلزامهم أمر الله‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ِبال ْ ِ‬
‫وما أوجبه على عباده‪ ،‬فيكون الولياء مكلفين بذلك‪ ،‬يلزمونهم بما أوجبه‬
‫الله‪.‬‬
‫ويشمل القيام عليهم في مصالحهم الدنيوية بتنمية أموالهم وطلب الحظ‬
‫لهم فيها‪ ،‬وأن ل يقربوها إل بالتي هي أحسن‪ ،‬وكذلك ل يحابون فيهم‬
‫صديقا ول غيره‪ ،‬في تزوج وغيره‪ ،‬على وجه الهضم لحقوقهم‪ .‬وهذا من‬
‫ث غاية الحث على القيام بمصالح من ل يقوم‬ ‫رحمته تعالى بعباده‪ ،‬حيث ح ّ‬
‫بمصلحة نفسه لضعفه وفقد أبيه‪.‬‬
‫خي ْرٍ { لليتامى‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫فعَلوا ِ‬ ‫ما ت َ ْ‬
‫ث على الحسان عموما فقال‪ } :‬وَ َ‬ ‫ثم ح ّ‬
‫ما { أي‪:‬‬
‫ن ب ِهِ عَِلي ً‬ ‫َ‬
‫ه كا َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ولغيرهم سواء كان الخير متعديا أو لزما } فَإ ِ ّ‬
‫قد أحاط علمه بعمل العاملين للخير‪ ،‬قلة وكثرة‪ ،‬حسنا وضده‪ ،‬فيجازي ُ‬
‫كل‬
‫بحسب عمله‪.‬‬

‫) ‪(1/206‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫مَرأ َةٌ َ‬


‫حا‬‫صل ِ َ‬
‫ن يُ ْ‬ ‫ح عَل َي ْهِ َ‬
‫ما أ ْ‬ ‫جَنا َ‬‫ضا فََل ُ‬
‫شوًزا أوْ إ ِعَْرا ً‬ ‫ن ب َعْل َِها ن ُ ُ‬‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫خافَ ْ‬ ‫نا ْ‬ ‫وَإ ِ ِ‬
‫َ‬
‫ت اْلن ْ ُ‬ ‫ُ‬
‫قوا فَإ ِ ّ‬
‫ن‬ ‫سُنوا وَت َت ّ ُ‬‫ح ِ‬ ‫ن تُ ْ‬‫ح وَإ ِ ْ‬ ‫س ال ّ‬
‫ش ّ‬ ‫ف ُ‬ ‫ضَر ِ‬
‫ح ِ‬ ‫خي ٌْر وَأ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫صل ْ ُ‬
‫حا َوال ّ‬ ‫صل ْ ً‬
‫ما ُ‬ ‫ب َي ْن َهُ َ‬
‫خِبيًرا )‪(128‬‬ ‫ن َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬‫ن بِ َ‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫َ‬ ‫مَرأ َةٌ َ‬
‫ح عَل َي ْهِ َ‬
‫ما‬ ‫جَنا َ‬‫ضا َفل ُ‬ ‫شوًزا أوْ إ ِعَْرا ً‬ ‫ن ب َعْل َِها ن ُ ُ‬‫م ْ‬‫ت ِ‬ ‫خافَ ْ‬ ‫نا ْ‬‫} ‪ } { 128‬وَإ ِ ِ‬
‫سُنوا‬ ‫س ال ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ح ِ‬‫ن تُ ْ‬‫ح وَإ ِ ْ‬
‫ش ّ‬ ‫ف ُ‬ ‫ت الن ْ ُ‬ ‫ضَر ِ‬ ‫ح ِ‬ ‫خي ٌْر وَأ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫صل ُ‬ ‫حا َوال ّ‬ ‫صل ً‬ ‫ما ُ‬ ‫حا ب َي ْن َهُ َ‬ ‫صل ِ َ‬
‫ن يُ ْ‬ ‫أ ْ‬
‫خِبيًرا { ‪.‬‬ ‫ن َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫قوا فَإ ِ ّ‬ ‫وَت َت ّ ُ‬
‫أي‪ :‬إذا خافت المرأة نشوز زوجها أي‪ :‬ترفعه عنها وعدم رغبته فيها‬
‫وإعراضه عنها‪ ،‬فالحسن في هذه الحالة أن يصلحا بينهما صلحا بأن تسمح‬
‫المرأة عن بعض حقوقها اللزمة لزوجها على وجه تبقى مع زوجها‪ ،‬إما أن‬
‫ترضى بأقل من الواجب لها من النفقة أو الكسوة أو المسكن‪ ،‬أو القسم‬
‫بأن تسقط حقها منه‪ ،‬أو تهب يومها وليلتها لزوجها أو لضرتها‪.‬‬
‫فإذا اتفقا على هذه الحالة فل جناح ول بأس عليهما فيها‪ ،‬ل عليها ول على‬
‫الزوج‪ ،‬فيجوز حينئذ لزوجها البقاء معها على هذه الحال‪ ،‬وهي خير من‬
‫خي ٌْر { ‪ ] .‬ص ‪[ 207‬‬ ‫ح َ‬ ‫صل ْ ُ‬ ‫الفرقة‪ ،‬ولهذا قال‪َ } :‬وال ّ‬
‫من بينهما حق أو‬ ‫ويؤخذ من عموم هذا اللفظ والمعنى أن الصلح بين َ‬
‫منازعة في جميع الشياء أنه خير من استقصاء كل منهما على كل حقه‪،‬‬
‫لما فيها من الصلح وبقاء اللفة والتصاف بصفة السماح‪.‬‬
‫ل حراما أو حّرم حلل فإنه ل يكون‬ ‫وهو جائز في جميع الشياء إل إذا أح ّ‬
‫صلحا وإنما يكون جورا‪.‬‬
‫واعلم أن كل حكم من الحكام ل يتم ول يكمل إل بوجود مقتضيه وانتفاء‬
‫موانعه‪ ،‬فمن ذلك هذا الحكم الكبير الذي هو الصلح‪ ،‬فذكر تعالى المقتضي‬
‫لذلك ونبه على أنه خير‪ ،‬والخير كل عاقل يطلبه ويرغب فيه‪ ،‬فإن كان ‪-‬مع‬
‫ث عليه ازداد المؤمن طلبا له ورغبة فيه‪.‬‬ ‫ذلك‪ -‬قد أمر الله به وح ّ‬
‫ح { أي‪ :‬جبلت النفوس على‬ ‫س ال ّ‬ ‫ُ‬
‫ش ّ‬ ‫ف ُ‬ ‫ت الن ْ ُ‬ ‫ضَر ِ‬ ‫ح ِ‬ ‫وذكر المانع بقوله‪ } :‬وَأ ْ‬
‫الشح‪ ،‬وهو‪ :‬عدم الرغبة في بذل ما على النسان‪ ،‬والحرص على الحق‬
‫الذي له‪ ،‬فالنفوس مجبولة على ذلك طبعا‪ ،‬أي‪ :‬فينبغي لكم أن تحرصوا‬
‫خُلق الدنيء من نفوسكم‪ ،‬وتستبدلوا به ضده وهو‬ ‫على قلع هذا ال ُ‬
‫السماحة‪ ،‬وهو بذل الحق الذي عليك؛ والقتناع ببعض الحق الذي لك‪.‬‬
‫خُلق الحسن سهل حينئذ عليه الصلح بينه وبين‬ ‫فمتى وفق النسان لهذا ال ُ‬
‫خصمه ومعامله‪ ،‬وتسهلت الطريق للوصول إلى المطلوب‪ .‬بخلف من لم‬
‫يجتهد في إزالة الشح من نفسه‪ ،‬فإنه يعسر عليه الصلح والموافقة‪ ،‬لنه ل‬
‫يرضيه إل جميع ماله‪ ،‬ول يرضى أن يؤدي ما عليه‪ ،‬فإن كان خصمه مثله‬
‫اشتد المر‪.‬‬
‫قوا { أي‪ :‬تحسنوا في عبادة الخالق بأن يعبد‬ ‫سُنوا وَت َت ّ ُ‬
‫ح ِ‬
‫ن تُ ْ‬
‫ثم قال‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫العبد ربه كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإنه يراه‪ ،‬وتحسنوا إلى المخلوقين‬
‫بجميع طرق الحسان‪ ،‬من نفع بمال‪ ،‬أو علم‪ ،‬أو جاه‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬
‫قوا { الله بفعل جميع المأمورات‪ ،‬وترك جميع المحظورات‪ .‬أو‬ ‫} وَت َت ّ ُ‬
‫ن‬ ‫ُ‬
‫ملو َ‬‫ما ت َعْ َ‬
‫ن بِ َ‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫ّ‬ ‫تحسنوا بفعل المأمور‪ ،‬وتتقوا بترك المحظور } فَإ ِ ّ‬
‫ن الل َ‬
‫خِبيًرا { قد أحاط به علما وخبرا‪ ،‬بظاهره وباطنه‪ ،‬فيحفظه لكم‪ ،‬ويجازيكم‬ ‫َ‬
‫عليه أتم الجزاء‪.‬‬

‫) ‪(1/206‬‬

‫َ‬
‫ل‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫مي ْ ِ‬ ‫ميُلوا ك ُ ّ‬
‫م فََل ت َ ِ‬‫صت ُ ْ‬‫حَر ْ‬ ‫ساِء وَل َوْ َ‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫ن ت َعْدُِلوا ب َي ْ َ‬
‫طيُعوا أ ْ‬ ‫ست َ ِ‬
‫ن تَ ْ‬‫وَل َ ْ‬
‫ما )‪(129‬‬ ‫حي ً‬ ‫فوًرا َر ِ‬‫ن غَ ُ‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫قوا فَإ ِ ّ‬‫حوا وَت َت ّ ُ‬‫صل ِ ُ‬ ‫ن تُ ْ‬
‫قةِ وَإ ِ ْ‬ ‫معَل ّ َ‬
‫كال ْ ُ‬
‫ها َ‬ ‫فَت َذ َُرو َ‬

‫ميُلوا‬ ‫َ‬
‫م َفل ت َ ِ‬‫صت ُ ْ‬
‫حَر ْ‬‫ساِء وَل َوْ َ‬ ‫ن الن ّ َ‬ ‫ن ت َعْدُِلوا ب َي ْ َ‬ ‫طيُعوا أ ْ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫} ‪ } { 129‬وَل َ ْ‬
‫ما‬
‫حي ً‬
‫فوًرا َر ِ‬ ‫ن غَ ُ‬‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه َ‬ ‫قوا فَإ ِ ّ‬ ‫حوا وَت َت ّ ُ‬ ‫صل ِ ُ‬
‫ن تُ ْ‬ ‫قةِ وَإ ِ ْ‬ ‫معَل ّ َ‬‫كال ْ ُ‬
‫ها َ‬ ‫ل فَت َذ َُرو َ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫مي ْ ِ‬ ‫كُ ّ‬
‫{‪.‬‬
‫يخبر تعالى‪ :‬أن الزواج ل يستطيعون وليس في قدرتهم العدل التام بين‬
‫النساء‪ ،‬وذلك لن العدل يستلزم وجود المحبة على السواء‪ ،‬والداعي على‬
‫السواء‪ ،‬والميل في القلب إليهن على السواء‪ ،‬ثم العمل بمقتضى ذلك‪.‬‬
‫وهذا متعذر غير ممكن‪ ،‬فلذلك عفا الله عما ل يستطاع‪ ،‬ونهى عما هو‬
‫قةِ { أي‪ :‬ل تميلوا ميل‬ ‫معَل ّ َ‬‫كال ْ ُ‬
‫ها َ‬ ‫ل فَت َذ َُرو َ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫مي ْ ِ‬ ‫ميُلوا ك ُ ّ‬ ‫ممكن بقوله‪َ } :‬فل ت َ ِ‬
‫كثيرا بحيث ل تؤدون حقوقهن الواجبة‪ ،‬بل افعلوا ما هو باستطاعتكم من‬
‫العدل‪.‬‬
‫فالنفقة والكسوة والقسم ونحوها عليكم أن تعدلوا بينهن فيها‪ ،‬بخلف‬
‫الحب والوطء ونحو ذلك‪ ،‬فإن الزوجة إذا ترك زوجها ما يجب لها‪ ،‬صارت‬
‫كالمعلقة التي ل زوج لها فتستريح وتستعد للتزوج‪ ،‬ول ذات زوج يقوم‬
‫بحقوقها‪.‬‬
‫حوا { ما بينكم وبين زوجاتكم‪ ،‬بإجبار أنفسكم على فعل ما ل‬ ‫صل ِ ُ‬‫ن تُ ْ‬ ‫} وَإ ِ ْ‬
‫تهواه النفس‪ ،‬احتسابا وقياما بحق الزوجة‪ ،‬وتصلحوا أيضا فيما بينكم وبين‬
‫الناس‪ ،‬وتصلحوا أيضا بين الناس فيما تنازعوا فيه‪ ،‬وهذا يستلزم الحث‬
‫على كل طريق يوصل إلى الصلح مطلقا كما تقدم‪.‬‬
‫قوا { الله بفعل المأمور وترك المحظور‪ ،‬والصبر على المقدور‪.‬‬ ‫} وَت َت ّ ُ‬
‫ما { يغفر ما صدر منكم من الذنوب والتقصير‬ ‫حي ً‬‫فوًرا َر ِ‬ ‫ن غَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} فَإ ِ ّ‬
‫في الحق الواجب‪ ،‬ويرحمكم كما عطفتم على أزواجكم ورحمتموهن‪.‬‬

‫) ‪(1/207‬‬

‫ما )‪(130‬‬
‫كي ً‬
‫ح ِ‬
‫سًعا َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫ه َوا ِ‬ ‫سعَت ِهِ وَ َ‬
‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ه ك ُّل ِ‬
‫م ْ‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫فّرَقا ي ُغْ ِ‬
‫ن ي َت َ َ‬
‫وَإ ِ ْ‬
‫ما { ‪.‬‬‫كي ً‬
‫ح ِ‬‫سًعا َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫ه َوا ِ‬ ‫سعَت ِهِ وَ َ‬
‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫كل ِ‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫ه ُ‬ ‫فّرَقا ي ُغْ ِ‬ ‫ن ي َت َ َ‬‫} ‪ } { 130‬وَإ ِ ْ‬
‫هذه الحالة الثالثة بين الزوجين‪ ،‬إذا تعذر التفاق فإنه ل بأس بالفراق‪،‬‬
‫هّ‬
‫فّرَقا { أي‪ :‬بطلق أو فسخ أو خلع أو غير ذلك } ي ُغْ ِ‬
‫ن الل ُ‬ ‫ن ي َت َ َ‬
‫فقال‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫سعَت ِهِ { أي‪ :‬من فضله وإحسانه الواسع الشامل‪.‬‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫كل { من الزوجين } ِ‬ ‫ُ‬
‫فيغني الزوج بزوجة خير له منها‪ ،‬ويغنيها من فضله وإن انقطع نصيبها من‬
‫زوجها‪ ،‬فإن رزقها على المتكفل بأرزاق جميع الخلق‪ ،‬القائم بمصالحهم‪،‬‬
‫سًعا { أي‪ :‬كثير الفضل‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫ولعل الله يرزقها زوجا خيرا منه‪ } ،‬وَ َ‬
‫كا َ‬
‫واسع الرحمة‪ ،‬وصلت رحمته وإحسانه إلى حيث وصل إليه علمه‪.‬‬
‫ما { أي‪ :‬يعطي بحكمة‪ ،‬ويمنع لحكمة‪ .‬فإذا اقتضت‬ ‫كي ً‬
‫ح ِ‬ ‫ولكنه مع ذلك } َ‬
‫حكمته منع بعض عباده من إحسانه‪ ،‬بسبب من العبد ل يستحق معه‬
‫الحسان‪ ،‬حرمه عدل وحكمة‪.‬‬

‫) ‪(1/207‬‬

‫قد وصينا ال ّذي ُ‬ ‫َْ‬


‫ن‬
‫م ْ‬‫ب ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ض وَل َ َ ْ َ ّ ْ َ‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫وَل ِل ّهِ َ‬
‫َ‬
‫ما ِفي‬ ‫ت وَ َ‬‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬
‫ما ِفي ال ّ‬ ‫ن ل ِل ّهِ َ‬
‫فُروا فَإ ِ ّ‬ ‫ن ت َك ْ ُ‬
‫ه وَإ ِ ْ‬‫قوا الل ّ َ‬ ‫ن ات ّ ُ‬ ‫مأ ِ‬ ‫م وَإ ِّياك ُ ْ‬ ‫قَب ْل ِك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫اْل َْرض وَ َ‬
‫ض‬
‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬
‫ما ِفي ال ّ‬ ‫دا )‪ (131‬وَل ِل ّهِ َ‬ ‫مي ً‬ ‫ح ِ‬‫ه غَن ِّيا َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ِ‬
‫كيًل )‪(132‬‬ ‫فى ِبالل ّهِ وَ ِ‬ ‫وَك َ َ‬

‫صي َْنا‬
‫قد ْ وَ ّ‬ ‫ض وَل َ َ‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫} ‪ } { 132 ، 131‬وَل ِل ّهِ َ‬
‫َ‬ ‫ال ّذي ُ‬
‫ن ل ِل ّهِ َ‬
‫ما‬ ‫فُروا فَإ ِ ّ‬ ‫ن ت َك ْ ُ‬
‫ه وَإ ِ ْ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫ن ات ّ ُ‬ ‫مأ ِ‬ ‫م وَإ ِّياك ُ ْ‬ ‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬‫م ْ‬‫ب ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬
‫ما ِفي‬ ‫ّ‬
‫دا * وَل ِلهِ َ‬ ‫مي ً‬ ‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫ه غن ِّيا َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫َ‬
‫ض وَكا َ‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ِفي ال ّ‬
‫كيل { ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫فى ِباللهِ وَ ِ‬ ‫َ‬
‫ض وَك َ‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ال ّ‬
‫يخبر تعالى عن عموم ملكه العظيم الواسع المستلزم تدبيره بجميع أنواع‬
‫التدبير‪ ،‬وتصرفه بأنواع التصريف قدرا وشرعا‪ ،‬فتصرفه الشرعي أن وصى‬
‫الولين والخرين أهل الكتب السابقة واللحقة بالتقوى المتضمنة للمر‬
‫والنهي‪ ،‬وتشريع الحكام‪ ،‬والمجازاة لمن قام بهذه الوصية بالثواب‪،‬‬
‫فُروا {‬ ‫ن ت َك ْ ُ‬
‫والمعاقبة لمن أهملها وضيعها بأليم العذاب‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫بأن تتركوا تقوى الله‪ ،‬وتشركوا بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا‪ ،‬فإنكم‬
‫ل تضرون بذلك إل أنفسكم‪ ،‬ول تضرون الله شيئا ول تنقصون ملكه‪ ،‬وله‬
‫عبيد خير منكم وأعظم وأكثر‪ ،‬مطيعون له خاضعون لمره‪ .‬ولهذا رتب‬
‫ض‬
‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫ن ل ِل ّهِ َ‬ ‫فُروا فَإ ِ ّ‬ ‫ن ت َك ْ ُ‬
‫على ذلك قوله‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫دا { له الجود الكامل والحسان ] ص ‪ [ 208‬الشامل‬ ‫مي ً‬ ‫ه غَن ِّيا َ‬
‫ح ِ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫وَ َ‬
‫كا َ‬
‫الصادر من خزائن رحمته التي ل ينقصها النفاق ول يغيضها نفقة‪ ،‬سحاء‬
‫الليل والنهار‪ ،‬لو اجتمع أهل السماوات وأهل الرض أولهم وآخرهم‪ ،‬فسأل‬
‫كل ]واحد[ منهم ما بلغت أمانيه ما نقص من ملكه شيئا‪ ،‬ذلك بأنه جواد‬
‫واجد ماجد‪ ،‬عطاؤه كلم وعذابه كلم‪ ،‬إنما أمره لشيء إذا أراد أن يقول‬
‫له كن فيكون‪.‬‬
‫ومن تمام غناه أنه كامل الوصاف‪ ،‬إذ لو كان فيه نقص بوجه من الوجوه‪،‬‬
‫لكان فيه نوع افتقار إلى ذلك الكمال‪ ،‬بل له كل صفة كمال‪ ،‬ومن تلك‬
‫الصفة كمالها‪ ،‬ومن تمام غناه أنه لم يتخذ صاحبة ول ولدا‪ ،‬ول شريكا في‬
‫ملكه ول ظهيرا‪ ،‬ول معاونا له على شيء من تدابير ملكه‪.‬‬
‫ومن كمال غناه افتقار العالم العلوي والسفلي في جميع أحوالهم‬
‫وشئونهم إليه وسؤالهم إياه جميع حوائجهم الدقيقة والجليلة‪ ،‬فقام تعالى‬
‫ن عليهم بلطفه وهداهم‪.‬‬ ‫م ّ‬
‫بتلك المطالب والسئلة وأغناهم وأقناهم‪ ،‬و َ‬
‫وأما الحميد فهو من أسماء الله تعالى الجليلة الدال على أنه ]هو[‬
‫المستحق لكل حمد ومحبة وثناء وإكرام‪ ،‬وذلك لما اتصف به من صفات‬
‫الحمد‪ ،‬التي هي صفة الجمال والجلل‪ ،‬ولما أنعم به على خلقه من الّنعم‬
‫الجزال‪ ،‬فهو المحمود على كل حال‪.‬‬
‫ميد ُ { !! فإنه غني‬ ‫ي ال ْ َ‬
‫ح ِ‬ ‫وما أحسن اقتران هذين السمين الكريمين } ال ْغَن ِ ّ‬
‫محمود‪ ،‬فله كمال من غناه‪ ،‬وكمال من حمده‪ ،‬وكمال من اقتران أحدهما‬
‫بالخر‪.‬‬
‫ثم كرر إحاطة ملكه لما في السماوات وما في الرض‪ ،‬وأنه على كل‬
‫شيء وكيل‪ ،‬أي‪ :‬عالم قائم بتدبير الشياء على وجه الحكمة‪ ،‬فإن ذلك من‬
‫تمام الوكالة‪ ،‬فإن الوكالة تستلزم العلم بما هو وكيل عليه‪ ،‬والقوة والقدرة‬
‫على تنفيذه وتدبيره‪ ،‬وكون ذلك التدبير على وجه الحكمة والمصلحة‪ ،‬فما‬
‫نقص من ذلك فهو لنقص بالوكيل‪ ،‬والله تعالى منزه عن كل نقص‪.‬‬

‫) ‪(1/207‬‬

‫ْ‬ ‫شأ ْ يذ ْهبك ُ َ‬


‫ديًرا )‪(133‬‬ ‫ك قَ ِ‬‫ه عََلى ذ َل ِ َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫ن وَ َ‬
‫كا َ‬ ‫ري َ‬
‫خ ِ‬ ‫ت ب ِآ َ َ‬
‫س وَي َأ ِ‬
‫م أي َّها الّنا ُ‬ ‫ن يَ َ ُ ِ ْ ْ‬ ‫إِ ْ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ميًعا‬
‫س ِ‬
‫ه َ‬
‫ن الل ُ‬ ‫خَرةِ وَكا َ‬ ‫ب الد ّن َْيا َوال ِ‬‫وا ُ‬ ‫ب الد ّن َْيا فَعِن ْد َ اللهِ ث َ َ‬ ‫ريد ُ ث َ َ‬
‫وا َ‬ ‫ن يُ ِ‬
‫ن كا َ‬
‫م ْ‬ ‫َ‬
‫صيًرا )‪(134‬‬ ‫بَ ِ‬
‫ْ‬ ‫شأ ْ يذ ْهبك ُ َ‬
‫ن الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ن وَ َ‬
‫كا َ‬ ‫ري َ‬
‫خ ِ‬
‫ت ِبآ َ‬ ‫س وَي َأ ِ‬‫م أي َّها الّنا ُ‬ ‫ن يَ َ ُ ِ ْ ْ‬ ‫} ‪ } { 134 ، 133‬إ ِ ْ‬
‫ة‬
‫خَر ِ‬‫ب الد ّن َْيا َوال ِ‬
‫وا ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ب الد ّن َْيا فعِن ْد َ اللهِ ث َ َ‬‫وا َ‬ ‫ريد ُ ث َ َ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫َ‬
‫ن كا َ‬ ‫م ْ‬ ‫ديًرا * َ‬ ‫ك قَ ِ‬‫عََلى ذ َل ِ َ‬
‫صيًرا { ‪.‬‬ ‫ميًعا ب َ ِ‬
‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫وَ َ‬
‫كا َ‬
‫ن‬
‫أي‪ :‬هو الغني الحميد الذي له القدرة الكاملة والمشيئة النافذة فيكم } إ ِ ْ‬
‫ْ‬ ‫شأ ْ يذ ْهبك ُ َ‬
‫ن { غيركم هم أطوع لله منكم وخير‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬‫ت ِبآ َ‬ ‫س وَي َأ ِ‬ ‫م أي َّها الّنا ُ‬ ‫يَ َ ُ ِ ْ ْ‬
‫منكم‪ ،‬وفي هذا تهديد للناس على إقامتهم على كفرهم وإعراضهم عن‬
‫ربهم‪ ،‬فإن الله ل يعبأ بهم شيئا إن لم يطيعوه‪ ،‬ولكنه يمهل ويملي ول‬
‫يهمل‪.‬‬
‫من كانت همته وإرادته دنية غير متجاوزة ثواب الدنيا‪ ،‬وليس له‬ ‫ثم أخبر أن َ‬
‫إرادة في الخرة فإنه قد قصر سعيه ونظره‪ ،‬ومع ذلك فل يحصل له من‬
‫ثواب الدنيا سوى ما كتب الله له منها‪ ،‬فإنه تعالى هو المالك لكل شيء‬
‫الذي عنده ثواب الدنيا والخرة‪ ،‬فليطلبا منه ويستعان به عليهما‪ ،‬فإنه ل‬
‫ينال ما عنده إل بطاعته‪ ،‬ول تدرك المور الدينية والدنيوية إل بالستعانة‬
‫به‪ ،‬والفتقار إليه على الدوام‪.‬‬
‫وله الحكمة تعالى في توفيق من يوفقه‪ ،‬وخذلن من يخذله وفي عطائه‬
‫صيًرا { ‪.‬‬ ‫ميًعا ب َ ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫ومنعه‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَ َ‬
‫كا َ‬

‫) ‪(1/208‬‬
‫م أ َِو‬‫سك ُ ْ‬‫ف ِ‬‫داَء ل ِل ّهِ وَل َوْ عََلى أ َن ْ ُ‬ ‫شه َ َ‬‫ط ُ‬‫س ِ‬ ‫ن ِبال ْ ِ‬
‫ق ْ‬ ‫مي َ‬ ‫كوُنوا قَ ّ‬
‫وا ِ‬ ‫مُنوا ُ‬ ‫ذي َ‬
‫نآ َ‬
‫َ‬
‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫ال ْوال ِدين واْل َقْربين إن يك ُن غَن ِيا أ َو فَقيرا َفالل ّ َ‬
‫وى‬ ‫ما فََل ت َت ّب ُِعوا ال ْهَ َ‬
‫ه أوَْلى ب ِهِ َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ ْ ِ ً‬ ‫َ ِ َ ِ ْ َ ْ‬ ‫َ َْ ِ َ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫خِبيًرا )‪(135‬‬ ‫ن َ‬‫ملو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬‫ن بِ َ‬ ‫َ‬
‫ه كا َ‬‫ن الل َ‬ ‫ضوا فَإ ِ ّ‬‫ووا أوْ ت ُعْرِ ُ‬
‫ن ت َل ُ‬‫ن ت َعْدُِلوا وَإ ِ ْ‬ ‫أ ْ‬
‫َ‬
‫ط‬
‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن ِبال ْ ِ‬‫مي َ‬ ‫وا ِ‬‫كوُنوا قَ ّ‬ ‫مُنوا ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪.{ 135‬ثم قال تعالى‪َ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫فسك ُ َ‬ ‫َ‬
‫ن غَن ِّيا أوْ فَ ِ‬
‫قيًرا‬ ‫ن ي َك ُ ْ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫ن َوالقَْرِبي َ‬ ‫ِ‬ ‫وال ِد َي ْ‬‫م أ و ِ ال ْ َ‬ ‫داَء ل ِل ّهِ وَل َوْ عََلى أن ْ ُ ِ ْ‬ ‫شه َ َ‬‫ُ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ضوا فإ ِ ّ‬ ‫ووا أوْ ت ُعْرِ ُ‬ ‫ن ت َل ُ‬ ‫ن ت َعْدِلوا وَإ ِ ْ‬ ‫وى أ ْ‬ ‫ما فل ت َت ّب ُِعوا الهَ َ‬ ‫ه أوْلى ب ِهِ َ‬ ‫َفالل ُ‬
‫خِبيًرا { ‪.‬‬ ‫ن َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬‫ن بِ َ‬ ‫كا َ‬‫َ‬
‫داَء ل ِل ّهِ {‬ ‫شه َ َ‬‫ط ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن ِبال ْ ِ‬ ‫مي َ‬ ‫يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا } قَ ّ‬
‫وا ِ‬
‫وام صيغة مبالغة‪ ،‬أي‪ :‬كونوا في كل أحوالكم قائمين بالقسط الذي هو‬ ‫والق ّ‬
‫العدل في حقوق الله وحقوق عباده‪ ،‬فالقسط في حقوق الله أن ل‬
‫يستعان بنعمه على معصيته‪ ،‬بل تصرف في طاعته‪.‬‬
‫والقسط في حقوق الدميين أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك )‪ (1‬كما‬
‫تطلب حقوقك‪ .‬فتؤدي النفقات الواجبة‪ ،‬والديون‪ ،‬وتعامل الناس بما تحب‬
‫أن يعاملوك به‪ ،‬من الخلق والمكافأة وغير ذلك‪.‬‬
‫ومن أعظم أنواع القسط القسط في المقالت والقائلين‪ ،‬فل يحكم لحد‬
‫القولين أو أحد المتنازعين لنتسابه أو ميله لحدهما‪ ،‬بل يجعل وجهته‬
‫العدل بينهما‪ ،‬ومن القسط أداء الشهادة التي عندك على أي وجه كان‪،‬‬
‫داَء ل ِل ّهِ وَل َوْ عََلى‬ ‫شه َ َ‬ ‫حتى على الحباب بل على النفس‪ ،‬ولهذا قال‪ُ } :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫فسك ُ َ‬ ‫َ‬
‫ما { أي‪:‬‬ ‫ه أوَْلى ب ِهِ َ‬ ‫قيًرا َفالل ّ ُ‬ ‫ن غَن ِّيا أوْ فَ ِ‬ ‫ن ي َك ُ ْ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫ن َوالقَْرِبي َ‬ ‫وال ِد َي ْ ِ‬‫م أوِ ال ْ َ‬ ‫أن ْ ُ ِ ْ‬
‫فل تراعوا الغني لغناه‪ ،‬ول الفقير بزعمكم رحمة له‪ ،‬بل اشهدوا بالحق‬
‫على من كان‪.‬‬
‫والقيام بالقسط من أعظم المور وأدل على دين القائم به‪ ،‬وورعه‬
‫ومقامه في السلم‪ ،‬فيتعين على من نصح نفسه وأراد نجاتها أن يهتم له‬
‫صب عينيه‪ ] ،‬ص ‪ [ 209‬ومحل إرادته‪ ،‬وأن‬ ‫غاية الهتمام‪ ،‬وأن يجعله ن ُ ْ‬
‫يزيل عن نفسه كل مانع وعائق يعوقه عن إرادة القسط أو العمل به‪.‬‬
‫وأعظم عائق لذلك اتباع الهوى‪ ،‬ولهذا نبه تعالى على إزالة هذا المانع‬
‫ن ت َعْدُِلوا { أي‪ :‬فل تتبعوا شهوات أنفسكم‬ ‫َ‬
‫وى أ ْ‬ ‫بقوله‪َ } :‬فل ت َت ّب ُِعوا ال ْهَ َ‬
‫المعارضة للحق‪ ،‬فإنكم إن اتبعتموها عدلتم عن الصواب‪ ،‬ولم توفقوا‬
‫للعدل‪ ،‬فإن الهوى إما أن يعمي بصيرة صاحبه حتى يرى الحق باطل‬
‫والباطل حقا‪ ،‬وإما أن يعرف الحق ويتركه لجل هواه‪ ،‬فمن سلم من هوى‬
‫نفسه وفق للحق وهدي إلى الصراط المستقيم‪.‬‬
‫ولما بّين أن الواجب القيام بالقسط نهى عن ما يضاد ذلك‪ ،‬وهو لي‬
‫اللسان عن الحق في الشهادات وغيرها‪ ،‬وتحريف النطق عن الصواب‬
‫المقصود من كل وجه‪ ،‬أو من بعض الوجوه‪ ،‬ويدخل في ذلك تحريف‬
‫الشهادة وعدم تكميلها‪ ،‬أو تأويل الشاهد على أمر آخر‪ ،‬فإن هذا من اللي‬
‫ضوا { أي‪ :‬تتركوا القسط المنوط بكم‪،‬‬ ‫َ‬
‫لنه النحراف عن الحق‪ } .‬أوْ ت ُعْرِ ُ‬
‫كترك الشاهد لشهادته‪ ،‬وترك الحاكم لحكمه الذي يجب عليه القيام به‪.‬‬
‫خِبيًرا { أي‪ :‬محيط بما فعلتم‪ ،‬يعلم أعمالكم‬ ‫ن َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬‫ن بِ َ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} فَإ ِ ّ‬
‫خفيها وجليها‪ ،‬وفي هذا تهديد شديد للذي يلوي أو يعرض‪ .‬ومن باب أولى‬
‫وأحرى الذي يحكم بالباطل أو يشهد بالزور‪ ،‬لنه أعظم جرما‪ ،‬لن الولين‬
‫تركا الحق‪ ،‬وهذا ترك الحق وقام بالباطل‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في النسختين‪ :‬الذي عليك‪.‬‬

‫) ‪(1/208‬‬

‫َ‬
‫ل عََلى َر ُ‬
‫سول ِهِ‬ ‫ذي ن َّز َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬‫سول ِهِ َوال ْك َِتا ِ‬ ‫مُنوا ِبالل ّهِ وََر ُ‬ ‫مُنوا آ َ ِ‬ ‫ذي َ‬
‫نآ َ‬‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫ْ‬ ‫مَلئ ِك َت ِهِ وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُ‬
‫سل ِهِ َوالي َوْم ِ‬ ‫فْر ِبالل ّهِ وَ َ‬‫ن ي َك ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ل وَ َ‬‫ن قَب ْ ُ‬‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ذي أ َن َْز َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫َوال ْك َِتا ِ‬
‫دا )‪(136‬‬ ‫ضَلًل ب َِعي ً‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬
‫قد ْ َ‬ ‫خرِ فَ َ‬ ‫اْل َ ِ‬

‫ل عََلى‬ ‫َ‬
‫ذي ن َّز َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬‫سول ِهِ َوال ْك َِتا ِ‬ ‫مُنوا ِبالل ّهِ وََر ُ‬ ‫مُنوا آ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 136‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ه‬
‫سل ِ ِ‬‫ملئ ِك َت ِهِ وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُ‬ ‫فْر ِبالل ّهِ وَ َ‬ ‫ن ي َك ْ ُ‬‫م ْ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ذي أ َن َْز َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫سول ِهِ َوال ْك َِتا ِ‬ ‫َر ُ‬
‫دا { ‪.‬‬ ‫ضلل ب َِعي ً‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫خرِ فَ َ‬ ‫َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬
‫اعلم أن المر إما أن يوجه إلى من لم يدخل في الشيء ولم يتصف‬
‫بشيء منه‪ ،‬فهذا يكون أمرا له في الدخول فيه‪ ،‬وذلك كأمر من ليس‬
‫ْ‬ ‫بمؤمن باليمان‪ ،‬كقوله تعالى‪ } :‬يأ َيها ال ّذي ُ‬
‫ما نزلَنا‬ ‫مُنوا ب ِ َ‬ ‫بآ ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬ ‫َ َّ‬
‫م { الية‪.‬‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫صد ًّقا ل ّ َ‬
‫م َ‬ ‫ُ‬
‫وإما أن يوجه إلى من دخل في الشيء فهذا يكون أمره ليصحح ما وجد‬
‫منه ويحصل ما لم يوجد‪ ،‬ومنه ما ذكره الله في هذه الية من أمر‬
‫المؤمنين باليمان‪ ،‬فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم من الخلص‬
‫والصدق‪ ،‬وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات‪.‬‬
‫ويقتضي أيضا المر بما لم يوجد من المؤمن من علوم اليمان وأعماله‪،‬‬
‫فإنه كلما وصل إليه نص وفهم معناه واعتقده فإن ذلك من اليمان‬
‫المأمور به‪.‬‬
‫وكذلك سائر العمال الظاهرة والباطنة‪ ،‬كلها من اليمان كما دلت على‬
‫ذلك النصوص الكثيرة‪ ،‬وأجمع عليه سلف المة‪.‬‬
‫َ‬
‫ثم الستمرار على ذلك والثبات عليه إلى الممات كما قال تعالى‪ } :‬ي َأي َّها‬
‫َ‬
‫ن { وأمر هنا‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬‫م ْ‬‫ن ِإل وَأنُتم ّ‬ ‫موت ُ ّ‬ ‫قات ِهِ َول ت َ ُ‬ ‫حق ّ ت ُ َ‬ ‫ه َ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫باليمان به وبرسوله‪ ،‬وبالقرآن وبالكتب المتقدمة‪ ،‬فهذا كله من اليمان‬
‫الواجب الذي ل يكون العبد مؤمنا إل به‪ ،‬إجمال فيما لم يصل إليه تفصيله‬
‫وتفصيل فيما علم من ذلك بالتفصيل‪ ،‬فمن آمن هذا اليمان المأمور به‪،‬‬
‫ر‬
‫خ ِ‬ ‫سل ِهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬ ‫ملئ ِك َت ِهِ وَك ُت ُب ِهِ وَُر ُ‬ ‫فْر ِبالل ّهِ وَ َ‬ ‫من ي َك ْ ُ‬ ‫فقد اهتدى وأنجح‪ } .‬وَ َ‬
‫دا { وأي ضلل أبعد من ضلل من ترك طريق الهدى‬ ‫ضلل ب َِعي ً‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬‫قد ْ َ‬ ‫فَ َ‬
‫المستقيم‪ ،‬وسلك الطريق الموصلة له إلى العذاب الليم؟"‬
‫واعلم أن الكفر بشيء من هذه المذكورات كالكفر بجميعها‪ ،‬لتلزمها‬
‫وامتناع وجود اليمان ببعضها دون بعض‪ ،‬ثم قال‪:‬‬

‫) ‪(1/209‬‬

‫فروا ث ُ َ‬ ‫ذي َ‬
‫ن الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫فًرا ل َ ْ‬
‫م ي َك ُ ِ‬ ‫دوا ك ُ ْ‬
‫دا ُ‬
‫م اْز َ‬ ‫م كَ َ‬
‫فُروا ث ُ ّ‬ ‫مُنوا ث ُ ّ‬
‫مآ َ‬‫ّ‬ ‫م كَ َ ُ‬ ‫مُنوا ث ُ ّ‬‫نآ َ‬ ‫ن ال ّ ِ َ‬‫إِ ّ‬
‫سِبيل )‪(137‬‬ ‫ً‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫م وَل ل ِي َهْدِي َهُ ْ‬ ‫َ‬
‫فَر لهُ ْ‬‫ل ِي َغْ ِ‬
‫فًرا‬‫دوا ك ُ ْ‬‫دا ُ‬
‫م اْز َ‬ ‫فُروا ث ُ ّ‬‫م كَ َ‬
‫مُنوا ث ُ ّ‬
‫مآ َ‬ ‫فُروا ث ُ ّ‬ ‫م كَ َ‬‫مُنوا ث ُ ّ‬‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫} ‪ } { 137‬إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫لَ ْ‬
‫سِبيل { ‪.‬‬ ‫م َ‬‫م َول ل ِي َهْدِي َهُ ْ‬
‫فَر لهُ ْ‬ ‫ه ل ِي َغْ ِ‬ ‫م ي َك ُ ِ‬
‫أي‪ :‬من تكرر منه الكفر بعد اليمان فاهتدى ثم ضل‪ ،‬وأبصر ثم عمي‪،‬‬
‫وآمن ثم كفر واستمر على كفره وازداد منه‪ ،‬فإنه بعيد من التوفيق‬
‫والهداية لقوم الطريق‪ ،‬وبعيد من المغفرة لكونه أتى بأعظم مانع يمنعه‬
‫َ‬
‫من حصولها‪ .‬فإن كفره يكون عقوبة وطبًعا ل يزول كما قال تعالى‪ } :‬فَل ّ‬
‫ما‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫زا ُ َ‬
‫ه‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫م ي ُؤْ ِ‬
‫مُنوا ب ِ ِ‬ ‫م كَ َ‬
‫صاَرهُ ْ‬‫م وَأب ْ َ‬‫ب أفْئ ِد َت َهُ ْ‬‫قل ّ ُ‬
‫م { } وَن ُ َ‬ ‫ه قُُلوب َهُ ْ‬ ‫غوا أَزاغَ الل ّ ُ‬ ‫َ‬
‫مّرةٍ { ودلت الية‪ :‬أنهم إن لم يزدادوا كفرا بل رجعوا إلى اليمان‪،‬‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫أ ّ‬
‫و‬
‫وتركوا ما هم عليه من الكفران‪ ،‬فإن الله يغفر لهم‪ ،‬ولو تكررت منهم‬
‫الردة‪.‬‬
‫وإذا كان هذا الحكم في الكفر فغيره من المعاصي التي دونه من باب‬
‫أولى أن العبد لو تكررت منه ثم عاد إلى التوبة‪ ،‬عاد الله له بالمغفرة‪.‬‬

‫) ‪(1/209‬‬

‫ن أ َوْل َِياَء‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫ري َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫خ ُ‬
‫ذو َ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬
‫ذي َ‬‫ما )‪ (138‬ال ّ ِ‬ ‫ذاًبا أِلي ً‬ ‫ن ل َهُ ْ‬
‫م عَ َ‬ ‫ن ب ِأ ّ‬
‫قي َ‬ ‫شرِ ال ْ ُ‬
‫مَنافِ ِ‬ ‫بَ ّ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ميًعا )‪(139‬‬ ‫ج ِ‬
‫ن العِّزةَ ل ِلهِ َ‬ ‫م العِّزةَ فإ ِ ّ‬‫عن ْد َهُ ُ‬
‫ن ِ‬ ‫ن أي َب ْت َُغو َ‬‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ن ال ُ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬‫م ْ‬‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ذو َ‬ ‫خ ُ‬‫ن ي َت ّ ِ‬ ‫ما * ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ذاًبا أِلي ً‬‫م عَ َ‬ ‫ن ل َهُ ْ‬
‫ن ب ِأ ّ‬ ‫قي َ‬‫مَنافِ ِ‬‫شرِ ال ْ ُ‬ ‫} ‪ } { 139 ، 138‬ب َ ّ‬
‫َ‬ ‫كافري َ‬
‫ن ال ْعِّزةَ ل ِل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م ال ْعِّزةَ فَإ ِ ّ‬
‫عن ْد َهُ ُ‬
‫ن ِ‬‫ن أي َب ْت َُغو َ‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ َ ِ ِ َ‬
‫ن أوْل َِياَء ِ‬
‫ميًعا { ‪.‬‬
‫ج ِ‬‫َ‬
‫البشارة تستعمل في الخير‪ ،‬وتستعمل في الشر بقيد كما في هذه الية‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬الذين أظهروا السلم وأبطنوا الكفر‪،‬‬ ‫قي َ‬ ‫مَنافِ ِ‬‫شرِ ال ْ ُ‬ ‫يقول تعالى‪ } :‬ب َ ّ‬
‫بأقبح بشارة وأسوئها‪ ،‬وهو العذاب الليم‪ ،‬وذلك بسبب محبتهم الكفار‬
‫وموالتهم ونصرتهم‪ ،‬وتركهم لموالة المؤمنين‪ ،‬فأي شيء حملهم على‬
‫ذلك؟ أيبتغون عندهم العزة؟‬
‫وهذا هو الواقع من أحوال ] ص ‪ [ 210‬المنافقين‪ ،‬ساء ظنهم بالله وضعف‬
‫يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين‪ ،‬ولحظوا بعض السباب التي عند‬
‫ما وراء ذلك‪ ،‬فاتخذوا الكافرين أولياء يتعززون‬ ‫الكافرين‪ ،‬وقصر نظرهم ع ّ‬
‫بهم ويستنصرون‪.‬‬
‫والحال أن العزة لله جميعا‪ ،‬فإن نواصي العباد بيده‪ ،‬ومشيئته نافذة فيهم‪.‬‬
‫وقد تكفل بنصر دينه وعباده المؤمنين‪ ،‬ولو تخلل ذلك بعض المتحان‬
‫لعباده المؤمنين‪ ،‬وإدالة العدو عليهم إدالة غير مستمرة‪ ،‬فإن العاقبة‬
‫والستقرار للمؤمنين‪ ،‬وفي هذه الية الترهيب العظيم من موالة‬
‫الكافرين؛ وترك موالة المؤمنين‪ ،‬وأن ذلك من صفات المنافقين‪ ،‬وأن‬
‫اليمان يقتضي محبة المؤمنين وموالتهم‪ ،‬وبغض الكافرين وعداوتهم‪.‬‬

‫) ‪(1/209‬‬
‫ست َهَْزأ ُ ب َِها‬ ‫ت الل ّهِ ي ُك ْ َ‬
‫فُر ب َِها وَي ُ ْ‬ ‫م آ ََيا ِ‬
‫معْت ُ ْ‬‫س ِ‬‫ذا َ‬ ‫ن إِ َ‬ ‫َ‬
‫بأ ْ‬ ‫م ِفي ال ْك َِتا ِ‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬‫وَقَد ْ ن َّز َ‬
‫هّ‬
‫ن الل َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ُ‬
‫مث ْلهُ ْ‬
‫ذا ِ‬ ‫م إِ ً‬ ‫ُ‬
‫ث غَي ْرِهِ إ ِن ّك ْ‬‫دي ٍ‬ ‫ح ِ‬‫ضوا ِفي َ‬ ‫خو ُ‬ ‫حّتى ي َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫دوا َ‬ ‫فََل ت َ ْ‬
‫قع ُ ُ‬
‫ميًعا )‪(140‬‬ ‫ج ِ‬‫م َ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫ري َ‬‫كافِ ِ‬ ‫ن َوال ْ َ‬‫قي َ‬ ‫مَنافِ ِ‬ ‫معُ ال ْ ُ‬ ‫جا ِ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫ت الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م آَيا ِ‬ ‫معْت ُ ْ‬‫س ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن إِ َ‬ ‫بأ ْ‬ ‫م ِفي ال ْك َِتا ِ‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫} ‪ } { 141 ، 140‬وَقَد ْ ن َّز َ‬
‫ث غَي ْرِهِ إ ِن ّك ُ ْ‬
‫م‬ ‫دي ٍ‬ ‫ح ِ‬ ‫ضوا ِفي َ‬ ‫خو ُ‬ ‫حّتى ي َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫دوا َ‬ ‫قع ُ ُ‬ ‫ست َهَْزأ ُ ب َِها َفل ت َ ْ‬ ‫فُر ب َِها وَي ُ ْ‬ ‫ي ُك ْ َ‬
‫ميًعا { ‪.‬‬ ‫ج ِ‬ ‫م َ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ن َوال ْ َ‬ ‫قي َ‬ ‫مَنافِ ِ‬ ‫معُ ال ْ ُ‬ ‫جا ِ‬
‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫مث ْل ُهُ ْ‬‫ذا ِ‬ ‫إِ ً‬
‫أي‪ :‬وقد بّين الله لكم فيما أنزل عليكم حكمه الشرعي عند حضور‬
‫فر بها ويستهزأ ُ‬ ‫َ‬
‫ت الل ّهِ ي ُك ْ َ ُ ِ َ َ ُ ْ َ ْ َ‬ ‫م آَيا ِ‬ ‫معْت ُ ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن إِ َ‬ ‫مجالس الكفر والمعاصي } أ ْ‬
‫ب َِها { أي‪ :‬يستهان بها‪ .‬وذلك أن الواجب على كل مكلف في آيات الله‬
‫اليمان بها وتعظيمها وإجللها وتفخيمها‪ ،‬وهذا المقصود بإنزالها‪ ،‬وهو الذي‬
‫خْلق لجله‪ ،‬فضد اليمان الكفر بها‪ ،‬وضد تعظيمها الستهزاء بها‬ ‫خَلق الله ال َ‬ ‫َ‬
‫واحتقارها‪ ،‬ويدخل في ذلك مجادلة الكفار والمنافقين لبطال آيات الله‬
‫ونصر كفرهم‪.‬‬
‫وكذلك المبتدعون على اختلف أنواعهم‪ ،‬فإن احتجاجهم على باطلهم‬
‫يتضمن الستهانة بآيات الله لنها ل تدل إل على حق‪ ،‬ول تستلزم إل صدقا‪،‬‬
‫بل وكذلك يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها‬
‫بأوامر الله ونواهيه‪ ،‬وتقتحم حدوده التي حدها لعباده ومنتهى هذا النهي‬
‫ث غَي ْرِهِ { أي‪ :‬غير الكفر بآيات‬ ‫دي ٍ‬ ‫ح ِ‬ ‫ضوا ِفي َ‬ ‫خو ُ‬ ‫حّتى ي َ ُ‬ ‫عن القعود معهم } َ‬
‫الله والستهزاء بها‪.‬‬
‫م { لنكم‬ ‫ُ‬
‫مث ْلهُ ْ‬ ‫ذا { أي‪ :‬إن قعدتم معهم في الحال المذكورة } ِ‬ ‫م إِ ً‬ ‫} إ ِن ّك ُ ْ‬
‫رضيتم بكفرهم واستهزائهم‪ ،‬والراضي بالمعصية كالفاعل لها‪ ،‬والحاصل أن‬
‫من حضر مجلسا يعصى الله به‪ ،‬فإنه يتعين عليه النكار عليهم مع القدرة‪،‬‬
‫أو القيام مع عدمها‪.‬‬
‫ميًعا { كما اجتمعوا على‬ ‫ج ِ‬ ‫م َ‬ ‫جهَن ّ َ‬‫ن ِفي َ‬ ‫ري َ‬ ‫َ‬
‫ن َوالكافِ ِ‬ ‫ْ‬ ‫قي َ‬ ‫مَنافِ ِ‬‫معُ ال ْ ُ‬ ‫جا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫الكفر والموالة ول ينفع الكافرين )‪ (1‬مجرد كونهم في الظاهر مع‬
‫مُنوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ت ل ِل ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫قا ُ‬ ‫مَنافِ َ‬‫ن َوال ْ ُ‬ ‫قو َ‬ ‫مَنافِ ُ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫قو ُ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫المؤمنين كما قال تعالى‪ } :‬ي َوْ َ‬
‫م { إلى آخر اليات‪.‬‬ ‫من ّنورِك ُ ْ‬ ‫س ِ‬ ‫انظ ُُروَنا ن َ ْ‬
‫قت َب ِ ْ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬المنافقين‪.‬‬

‫) ‪(1/210‬‬

‫َ‬
‫ن‬
‫م وَإ ِ ْ‬‫معَك ُ ْ‬‫ن َ‬ ‫م ن َك ُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ َقاُلوا أل َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م فَت ْ ٌ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م فَإ ِ ْ‬‫ن ب ِك ُ ْ‬‫صو َ‬ ‫ن ي َت ََرب ّ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن َفالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫مِني َ‬‫مؤْ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫من َعْك ُ ْ‬
‫م وَن َ ْ‬‫حوِذ ْ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ست َ ْ‬
‫م نَ ْ‬ ‫ب َقاُلوا أل َ ْ‬ ‫صي ٌ‬ ‫ن نَ ِ‬‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ن ل ِل ْ َ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫سِبيًل )‬ ‫ن َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ن عََلى ال ْ ُ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ه ل ِل ْ َ‬‫ل الل ّ ُ‬ ‫جع َ َ‬‫ن يَ ْ‬ ‫مةِ وَل َ ْ‬‫قَيا َ‬‫م ال ْ ِ‬
‫م ي َوْ َ‬‫م ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫حك ُ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫‪(141‬‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م وَإ ِ ْ‬‫معَك ُ ْ‬
‫ن َ‬ ‫م ن َك ُ ْ‬‫ن الل ّهِ َقاُلوا أل َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م فَت ْ ٌ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫م فَإ ِ ْ‬‫ن ب ِك ُ ْ‬‫صو َ‬ ‫ن ي َت ََرب ّ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن َفالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫مِني َ‬‫مؤْ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫من َعْك ُ ْ‬
‫م وَن َ ْ‬‫حوِذ ْ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ست َ ْ‬‫م نَ ْ‬ ‫ب َقاُلوا أل َ ْ‬ ‫صي ٌ‬ ‫ن نَ ِ‬‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ن ل ِل ْ َ‬ ‫كا َ‬‫َ‬
‫سِبيل { ‪.‬‬ ‫ن َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ن عََلى ال ْ ُ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ه ل ِل ْ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫جع َ َ‬
‫ن يَ ْ‬ ‫مةِ وَل َ ْ‬‫قَيا َ‬‫م ال ْ ِ‬‫م ي َوْ َ‬‫م ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫حك ُ ُ‬‫يَ ْ‬
‫ثم ذكر تحقيق موالة المنافقين للكافرين ومعاداتهم للمؤمنين فقال‪:‬‬
‫م { أي‪ :‬ينتظرون الحالة التي تصيرون عليها‪ ،‬وتنتهون‬ ‫ن ب ِك ُ ْ‬ ‫صو َ‬ ‫ن ي َت ََرب ّ ُ‬‫ذي َ‬ ‫} ال ّ ِ‬
‫ن‬ ‫إليها من خير أو شر‪ ،‬قد أعدوا لكل حالة جوابا بحسب نفاقهم‪ } .‬فَِإن َ‬
‫كا َ‬
‫َ‬
‫م { فيظهرون أنهم مع المؤمنين‬ ‫معَك ُ ْ‬‫كن ّ‬ ‫م نَ ُ‬ ‫ن الل ّهِ َقاُلوا أل َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ح ّ‬ ‫م فَت ْ ٌ‬ ‫ل َك ُ ْ‬
‫ظاهرا وباطنا ليسلموا من القدح والطعن عليهم‪ ،‬وليشركوهم في الغنيمة‬
‫والفيء ولينتصروا بهم‪.‬‬
‫ب { ولم يقل فتح؛ لنه ل يحصل لهم فتح‪ ،‬يكون‬ ‫صي ٌ‬ ‫ن نَ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ن ل ِل ْ َ‬
‫كا َ‬ ‫} وَِإن َ‬
‫مبدأ لنصرتهم المستمرة‪ ،‬بل غاية ما يكون أن يكون لهم نصيب غير‬
‫َ‬
‫م { أي‪:‬‬ ‫حوِذ ْ عَل َي ْك ُ ْ‬
‫ست َ ْ‬ ‫مستقر‪ ،‬حكمة من الله‪ .‬فإذا كان ذلك } َقاُلوا أل َ ْ‬
‫م نَ ْ‬
‫ن { أي‪ :‬يتصنعون عندهم بكف‬ ‫مِني َ‬‫مؤْ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫كم ّ‬ ‫من َعْ ُ‬ ‫نستولي عليكم } وَن َ ْ‬
‫أيديهم عنهم مع القدرة‪ ،‬ومنعهم من المؤمنين بجميع وجوه المنع في‬
‫تفنيدهم وتزهيدهم في القتال‪ ،‬ومظاهرة العداء عليهم‪ ،‬وغير ذلك مما هو‬
‫معروف منهم‪.‬‬
‫مةِ { فيجازي المؤمنين ظاهرا وباطنا بالجنة‪،‬‬ ‫قَيا َ‬ ‫ْ‬
‫م ال ِ‬ ‫م ي َوْ َ‬ ‫ُ‬
‫م ب َي ْن َك ْ‬‫حك ُ ُ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫} َفالل ّ ُ‬
‫ويعذب المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات‪.‬‬

‫) ‪(1/210‬‬

‫صَلةِ َقا ُ‬
‫موا‬ ‫موا إ َِلى ال ّ‬ ‫ذا َقا ُ‬‫م وَإ ِ َ‬ ‫خادِعُهُ ْ‬ ‫ه وَهُوَ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫عو َ‬ ‫خادِ ُ‬
‫ن يُ َ‬
‫قي َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مَنافِ ِ‬ ‫إِ ّ‬
‫ك لَ‬
‫ن ذ َل ِ َ‬‫ن ب َي ْ َ‬ ‫ً‬
‫ه إ ِل قَِليل )‪ُ (142‬‬
‫مذ َب ْذ َِبي َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫س وَل ي َذ ْكُرو َ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫َ‬
‫سالى ي َُراُءو َ‬ ‫كُ َ‬
‫سِبيًل )‪(143‬‬ ‫جد َ ل َ ُ‬
‫ه َ‬ ‫ن تَ ِ‬ ‫ه فَل َ ْ‬ ‫ل الل ّ ُ‬
‫ضل ِ ِ‬
‫ن يُ ْ‬‫م ْ‬‫إ َِلى هَؤَُلِء وََل إ َِلى هَؤَُلِء وَ َ‬
‫سِبيل { أي‪ :‬تسلطا واستيلء‬ ‫ن َ‬ ‫مِني َ‬‫مؤْ ِ‬‫ن عََلى ال ْ ُ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ه ل ِل ْ َ‬
‫ل الل ّ ُ‬ ‫جع َ َ‬ ‫} وََلن ي َ ْ‬
‫عليهم‪ ،‬بل ل تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة‪ ،‬ل يضرهم من‬
‫خذلهم ول من خالفهم‪ ،‬ول يزال الله يحدث من أسباب النصر للمؤمنين‪،‬‬
‫ودفٍع لتسلط الكافرين‪ ،‬ما هو مشهود بالعيان‪ .‬حتى إن ]بعض[ )‪(1‬‬
‫المسلمين الذين تحكمهم الطوائف الكافرة‪ ،‬قد بقوا محترمين ل يتعرضون‬
‫لديانهم ول يكونون مستصغرين عندهم‪ ،‬بل لهم العز التام من الله‪ ،‬فله )‬
‫‪ (2‬الحمد أّول وآخًرا‪ ،‬وظاهًرا وباطًنا‪ ] .‬ص ‪[ 211‬‬
‫موا‬ ‫ذا َقا ُ‬ ‫م وَإ ِ َ‬ ‫خادِعُهُ ْ‬ ‫ه وَهُوَ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫عو َ‬ ‫خادِ ُ‬‫ن يُ َ‬ ‫قي َ‬ ‫مَنافِ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫} ‪ } { 143 ، 142‬إ ِ ّ‬
‫ه ِإل قَِليل *‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫س َول ي َذ ْك ُُرو َ‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫سالى ي َُراُءو َ‬ ‫َ‬ ‫موا ك ُ َ‬ ‫صلةِ َقا ُ‬ ‫إ َِلى ال ّ‬
‫جد َ ل َ ُ‬
‫ه‬ ‫ن تَ ِ‬‫ه فَل َ ْ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ضل ِ ِ‬
‫ن يُ ْ‬‫م ْ‬ ‫ؤلِء وَ َ‬ ‫ؤلِء َول إ َِلى هَ ُ‬ ‫ك ل إ َِلى هَ ُ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫ن ب َي ْ َ‬ ‫مذ َب ْذ َِبي َ‬ ‫ُ‬
‫سِبيل { ‪.‬‬ ‫َ‬
‫يخبر تعالى عن المنافقين بما كانوا عليه‪ ،‬من قبيح الصفات وشنائع‬
‫السمات‪ ،‬وأن طريقتهم مخادعة الله تعالى‪ ،‬أي‪ :‬بما أظهروه من اليمان‬
‫وأبطنوه من الكفران‪ ،‬ظنوا أنه يروج على الله ول يعلمه ول يبديه لعباده‪،‬‬
‫والحال أن الله خادعهم‪ ،‬فمجرد وجود هذه الحال منهم ومشيهم عليها‪،‬‬
‫خداع لنفسهم‪ .‬وأي خداع أعظم ممن يسعى سعًيا يعود عليه بالهوان‬
‫والذل والحرمان؟"‬
‫ويدل بمجرده على نقص عقل صاحبه‪ ،‬حيث جمع بين المعصية‪ ،‬ورآها‬
‫حسنة‪ ،‬وظنها من العقل والمكر‪ ،‬فلله ما يصنع الجهل والخذلن بصاحبه‪.‬‬
‫ل‬‫قو ُ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫ومن خداعه لهم يوم القيامة ما ذكره الله في قوله‪ } :‬ي َوْ َ‬
‫جُعوا‬ ‫ل اْر ِ‬ ‫م ِقي َ‬ ‫ُ‬
‫من ّنورِك ْ‬ ‫س ِ‬‫قت َب ِ ْ‬ ‫مُنوا انظ ُُروَنا ن َ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ت ل ِل ّ ِ‬ ‫قا ُ‬ ‫مَنافِ َ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬ ‫قو َ‬ ‫مَنافِ ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ة‬
‫م ُ‬
‫ح َ‬ ‫ه ِفيهِ الّر ْ‬ ‫ب َباط ِن ُ ُ‬ ‫ه َبا ٌ‬ ‫سورٍ ل َ ُ‬ ‫ب ب َي ْن َُهم ب ِ ُ‬ ‫ضرِ َ‬ ‫سوا ُنوًرا فَ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫م َفال ْت َ ِ‬ ‫وََراَءك ُ ْ‬
‫َ‬
‫م ‪ { ......‬إلى آخر اليات‪.‬‬ ‫معَك ُ ْ‬‫ن َ‬ ‫م ن َك ُ ْ‬ ‫م أل َ ْ‬‫دون َهُ ْ‬ ‫ب ي َُنا ُ‬ ‫ذا ُ‬ ‫من قِب َل ِهِ ال ْعَ َ‬ ‫ظاهُِرهُ ِ‬ ‫وَ َ‬
‫صلةِ { ‪-‬إن قاموا‪ -‬التي هي أكبر‬ ‫موا إ َِلى ال ّ‬ ‫ذا َقا ُ‬ ‫" وَ " من صفاتهم أنهم } إ ِ َ‬
‫سالى { متثاقلين لها متبرمين من فعلها‪،‬‬ ‫َ‬ ‫موا ك ُ َ‬ ‫الطاعات العملية } َقا ُ‬
‫والكسل ل يكون إل من فقد الرغبة من قلوبهم‪ ،‬فلول أن قلوبهم فارغة‬
‫من الرغبة إلى الله وإلى ما عنده‪ ،‬عادمة لليمان‪ ،‬لم يصدر منهم الكسل‪،‬‬
‫س { أي‪ :‬هذا الذي انطوت عليه سرائرهم وهذا مصدر‬ ‫ن الّنا َ‬ ‫} ي َُراُءو َ‬
‫أعمالهم‪ ،‬مراءاة الناس‪ ،‬يقصدون رؤية الناس وتعظيمهم واحترامهم ول‬
‫ه ِإل قَِليل { لمتلء قلوبهم من الرياء‪،‬‬ ‫ن الل ّ َ‬‫يخلصون لله‪ ،‬فلهذا } ل ي َذ ْك ُُرو َ‬
‫فإن ذكر الله تعالى وملزمته ل يكون إل من مؤمن ممتلئ قلبه بمحبة الله‬
‫وعظمته‪.‬‬
‫ؤلِء { أي‪ :‬مترددين بين فريق‬ ‫َ‬
‫ؤلِء َول إ ِلى هَ ُ‬ ‫َ‬
‫ن ذ َل ِك ل إ ِلى هَ ُ‬ ‫َ‬ ‫ن ب َي ْ َ‬ ‫مذ َب ْذ َِبي َ‬
‫} ُ‬
‫المؤمنين وفريق الكافرين‪ .‬فل من المؤمنين ظاهرا وباطنا‪ ،‬ول من‬
‫الكافرين ظاهرا وباطنا‪ .‬أعطوا باطنهم للكافرين وظاهرهم للمؤمنين‪،‬‬
‫سِبيل {‬‫ه َ‬ ‫جد َ ل َ ُ‬
‫ه فََلن ت َ ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬‫ضل ِ ِ‬‫من ي ُ ْ‬ ‫وهذا أعظم ضلل يقدر‪ .‬ولهذا قال‪ } :‬وَ َ‬
‫أي‪ :‬لن تجد طريقا لهدايته ول وسيلة لترك غوايته‪ ،‬لنه انغلق عنه باب‬
‫الرحمة‪ ،‬وصار بدله كل نقمة‪.‬‬
‫فهذه الوصاف المذمومة تدل بتنبيهها على أن المؤمنين متصفون بضدها‪،‬‬
‫من الصدق ظاهرا وباطنا‪ ،‬والخلص‪ ،‬وأنهم ل يجهل ما عندهم‪ ،‬ونشاطهم‬
‫في صلتهم وعباداتهم‪ ،‬وكثرة ذكرهم لله تعالى‪ .‬وأنهم قد هداهم الله‬
‫ووفقهم للصراط المستقيم‪ .‬فليعرض العاقل نفسه على هذين المرين‬
‫وليختر أيهما أولى به‪ ،‬وبالله )‪ (3‬المستعان‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬فلله‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬والله‪.‬‬

‫) ‪(1/210‬‬

‫كافرين أ َول ِياَء من دون ال ْمؤْمِنين أ َتريدو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫ن‬
‫نأ ْ‬‫ُ ِ َ ُ ِ ُ َ‬ ‫ِ ْ ُ ِ‬ ‫ذوا ال ْ َ ِ ِ َ ْ َ‬ ‫خ ُ‬‫مُنوا َل ت َت ّ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫مِبيًنا )‪(144‬‬ ‫سل ْ َ‬
‫طاًنا ُ‬ ‫م ُ‬ ‫جعَُلوا ل ِل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬‫تَ ْ‬
‫كافري َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫دو ِ‬‫ن ُ‬
‫م ْ‬ ‫ن أوْل َِياءَ ِ‬ ‫ذوا ال ْ َ ِ ِ َ‬ ‫خ ُ‬‫مُنوا ل ت َت ّ ِ‬‫نآ َ‬ ‫} ‪َ } { 144‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫سل ْ َ‬ ‫أ َتريدو َ‬
‫مِبيًنا { ‪.‬‬ ‫طاًنا ُ‬ ‫م ُ‬‫جعَُلوا ل ِل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬‫ن تَ ْ‬‫نأ ْ‬‫ُ ِ ُ َ‬
‫لما ذكر أن من صفات المنافقين اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين‪،‬‬
‫نهى عباده المؤمنين أن يتصفوا بهذه الحالة القبيحة‪ ،‬وأن يشابهوا‬
‫مِبيًنا { أي‪:‬‬ ‫سل ْ َ‬
‫طاًنا ّ‬ ‫م ُ‬ ‫جعَُلوا ل ِل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬‫المنافقين‪ ،‬فإن ذلك موجب لن } ت َ ْ‬
‫حجة واضحة على عقوبتكم‪ ،‬فإنه قد أنذرنا وحذرنا منها‪ ،‬وأخبرنا بما فيها‬
‫جب للعقاب‪.‬‬ ‫من المفاسد‪ ،‬فسلوكها بعد هذا مو ِ‬
‫ذب أحدا قبل قيام‬ ‫وفي هذه الية دليل على كمال عدل الله‪ ،‬وأن الله ل ي ُعَ ّ‬
‫الحجة عليه‪ ،‬وفيه التحذير من المعاصي؛ فإن فاعلها يجعل لله عليه‬
‫سلطانا مبينا‪.‬‬
‫) ‪(1/211‬‬

‫صيًرا )‪ (145‬إ ِّل‬ ‫قين ِفي الد ّر ِ َ‬


‫جد َ ل َهُ ْ‬
‫م نَ ِ‬ ‫ن تَ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ن الّنارِ وَل َ‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫ل ِ‬ ‫ِ‬ ‫س َ‬
‫ف‬ ‫ك اْل ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫مَنافِ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫إِ ّ‬
‫ُ‬
‫م ل ِل ّهِ فَأول َئ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ع‬
‫م َ‬‫ك َ‬ ‫صوا ِدين َهُ ْ‬ ‫خل َ ُ‬
‫موا ِبالل ّهِ وَأ ْ‬ ‫ص ُ‬‫حوا َواعْت َ َ‬ ‫صل َ ُ‬‫ن َتاُبوا وَأ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ل الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫فع َ ُ‬
‫ما ي َ ْ‬ ‫ما )‪َ (146‬‬ ‫ظي ً‬‫جًرا عَ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫مِني َ‬‫مؤْ ِ‬‫ه ال ْ ُ‬ ‫ت الل ّ ُ‬ ‫ف ي ُؤْ ِ‬‫سوْ َ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ال ْ ُ‬
‫َ‬
‫ما )‪(147‬‬ ‫شاك ًِرا عَِلي ً‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬‫كا َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫من ْت ُ ْ‬
‫م وَآ َ‬ ‫شك َْرت ُ ْ‬‫ن َ‬ ‫م إِ ْ‬‫ذاب ِك ُ ْ‬
‫ب ِعَ َ‬

‫جد َ‬ ‫ن تَ ِ‬ ‫ن الّنارِ وَل َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫س َ‬ ‫ك ال ْ‬ ‫ن ِفي الد ّْر ِ‬ ‫قي َ‬ ‫مَنافِ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫} ‪ } { 147 - 145‬إ ِ ّ‬
‫م ل ِلهِّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫صوا ِدين َهُ ْ‬ ‫خل ُ‬ ‫موا ِباللهِ وَأ ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫حوا َواعْت َ َ‬ ‫صل ُ‬ ‫ن َتاُبوا وَأ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫صيًرا * ِإل ال ّ ِ‬ ‫م نَ ِ‬ ‫ل َهُ ْ‬
‫فع َ ُ‬
‫ل‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫ما * َ‬ ‫ظي ً‬
‫جًرا عَ ِ‬ ‫نأ ْ‬
‫ف يؤْت الل ّه ال ْمؤْمِني َ‬
‫ُ ُ ِ َ‬ ‫سوْ َ ُ ِ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫معَ ال ْ ُ‬ ‫ك َ‬ ‫فَُأول َئ ِ َ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫شاك ًِرا عَِلي ً‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬‫م وَ َ‬ ‫من ْت ُ ْ‬ ‫م َوآ َ‬ ‫شك َْرت ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫ذاب ِك ُ ْ‬‫ه ب ِعَ َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫يخبر تعالى عن مآل المنافقين أنهم في أسفل الدركات من العذاب‪ ،‬وأشر‬
‫الحالت من العقاب‪ .‬فهم تحت سائر الكفار لنهم شاركوهم بالكفر بالله‬
‫ومعاداة رسله‪ ،‬وزادوا عليهم المكر والخديعة والتمكن من كثير من أنواع‬
‫العداوة للمؤمنين‪ ،‬على وجه ل يشعر به ول يحس‪ .‬ورتبوا على ذلك جريان‬
‫أحكام السلم عليهم‪ ،‬واستحقاق ما ل يستحقونه‪ ،‬فبذلك ونحوه استحقوا‬
‫أشد العذاب‪ ،‬وليس لهم منقذ من عذابه ول ناصر يدفع عنهم بعض عقابه‪،‬‬
‫ن الله عليهم بالتوبة من السيئات‪.‬‬ ‫م ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫وهذا عام لكل منافق إل َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫موا ِباللهِ { والتجأوا إليه في‬ ‫ص ُ‬ ‫حوا { له الظواهر والبواطن } َواعْت َ َ‬ ‫صل َ ُ‬‫} وَأ ْ‬
‫م { الذي هو السلم‬ ‫صوا ِدين َهُ ْ‬ ‫خل َ ُ‬ ‫جلب منافعهم ودفع المضار عنهم‪ } .‬وَأ َ ْ‬
‫واليمان والحسان } ل ِل ّهِ { ‪.‬‬
‫موا من الرياء والنفاق‪،‬‬ ‫فقصدوا وجه الله بأعمالهم الظاهرة والباطنة وسل ِ ُ‬
‫ن { أي‪ :‬في الدنيا‪،‬‬ ‫مِني َ‬‫مؤْ ِ‬ ‫معَ ال ْ ُ‬ ‫ك َ‬ ‫فمن اتصف بهذه الصفات } فَُأول َئ ِ َ‬
‫ما { ل يعلم‬ ‫ف يؤْت الل ّه ال ْمؤْمِني َ‬
‫ظي ً‬
‫جًرا عَ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ُ ُ ِ َ‬ ‫سوْ َ ُ ِ‬ ‫والبرزخ‪ ،‬ويوم القيامة } وَ َ‬
‫كنهه ] ص ‪ [ 212‬إل الله‪ ،‬مما ل عين رأت‪ ،‬ول أذن سمعت‪ ،‬ول خطر على‬
‫قلب بشر‪ .‬وتأمل كيف خص العتصام والخلص بالذكر‪ ،‬مع دخولهما في‬
‫َ‬
‫حوا { لن العتصام والخلص من جملة الصلح‪ ،‬لشدة‬ ‫صل َ ُ‬‫قوله‪ } :‬وَأ ْ‬
‫الحاجة إليهما خصوصا في هذا المقام الحرج الذي يمكن من القلوب‬
‫النفاق‪ ،‬فل يزيله إل شدة العتصام بالله‪ ،‬ودوام اللجأ والفتقار إليه في‬
‫ف‬
‫دفعه‪ ،‬وكون الخلص منافيا كل المنافاة للنفاق‪ ،‬فذكرهما لفضلهما وتوق ِ‬
‫العمال الظاهرة والباطنة عليهما‪ ،‬ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما‪.‬‬
‫وتأمل كيف لما ذكر أن هؤلء مع المؤمنين لم يقل‪ :‬وسوف يؤتيهم أجرا‬
‫جًرا‬ ‫ف يؤْت الل ّه ال ْمؤْمِني َ‬
‫نأ ْ‬ ‫ُ ُ ِ َ‬ ‫سوْ َ ُ ِ‬ ‫عظيما‪ ،‬مع أن السياق فيهم‪ .‬بل قال‪ } :‬وَ َ‬
‫ما { لن هذه القاعدة الشريفة ‪-‬لم يزل الله يبدئ فيها ويعيد‪ ،‬إذا كان‬ ‫ظي ً‬ ‫عَ ِ‬
‫السياق في بعض الجزئيات‪ ،‬وأراد أن يرتب )‪ (1‬عليه ثواًبا أو عقابا وكان‬
‫كا بينه وبين الجنس الداخل فيه‪ ،‬رتب الثواب في مقابلة الحكم‬ ‫ذلك مشتر ً‬
‫العام الذي تندرج تحته تلك القضية وغيرها‪ ،‬ولئل يتوهم اختصاص الحكم‬
‫بالمر الجزئي‪ ،‬فهذا من أسرار القرآن البديعة‪ ،‬فالتائب من المنافقين مع‬
‫المؤمنين وله ثوابهم‪.‬‬
‫ما‬‫ثم أخبر تعالى عن كمال غناه وسعة حلمه ورحمته وإحسانه فقال‪َ } :‬‬
‫م { والحال أن الله شاكر عليم‪ .‬يعطي‬ ‫منت ُ ْ‬ ‫م َوآ َ‬ ‫شك َْرت ُ ْ‬ ‫م ِإن َ‬ ‫ذاب ِك ُ ْ‬‫ه ب ِعَ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫فع َ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫المتحملين لجله الثقال‪ ،‬الدائبين في العمال‪ ،‬جزيل الثواب وواسع‬
‫الحسان‪ .‬ومن ترك شيًئا لله أعطاه الله خيًرا منه‪.‬‬
‫ومع هذا يعلم ظاهركم وباطنكم‪ ،‬وأعمالكم وما تصدر عنه من إخلص‬
‫وصدق‪ ،‬وضد ذلك‪ .‬وهو يريد منكم التوبة والنابة والرجوع إليه‪ ،‬فإذا أنبتم‬
‫إليه‪ ،‬فأي شيء يفعل بعذابكم؟ فإنه ل يتشفى بعذابكم‪ ،‬ول ينتفع بعقابكم‪،‬‬
‫بل العاصي ل يضر إل نفسه‪ ،‬كما أن عمل المطيع لنفسه‪.‬‬
‫والشكر هو خضوع القلب واعترافه بنعمة الله‪ ،‬وثناء اللسان على‬
‫المشكور‪ ،‬وعمل الجوارح بطاعته وأن ل يستعين بنعمه على معاصيه‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬غي ب‪ :‬يترتب‪.‬‬

‫) ‪(1/211‬‬

‫ما )‬‫ميًعا عَِلي ً‬‫س ِ‬


‫ه َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬‫م وَ َ‬‫ن ظ ُل ِ َ‬‫م ْ‬ ‫ل إ ِّل َ‬‫قوْ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م َ‬
‫سوِء ِ‬ ‫جهَْر ِبال ّ‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫ب الل ّ ُ‬ ‫َل ي ُ ِ‬
‫ح ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ديًرا‬‫وا قَ ِ‬
‫ف ّ‬
‫ن عَ ُ‬ ‫ه َ‬
‫كا َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫سوٍء فَإ ِ ّ‬ ‫ن ُ‬ ‫فوا عَ ْ‬ ‫فوهُ أوْ ت َعْ ُ‬ ‫خ ُ‬
‫خي ًْرا أوْ ت ُ ْ‬
‫دوا َ‬ ‫ن ت ُب ْ ُ‬
‫‪ (148‬إ ِ ْ‬
‫)‪(149‬‬

‫ن‬ ‫م وَ َ‬
‫كا َ‬ ‫ن ظ ُل ِ َ‬ ‫م ْ‬
‫ل ِإل َ‬ ‫قوْ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫سوءِ ِ‬ ‫جهَْر ِبال ّ‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫ب الل ّ ُ‬‫ح ّ‬ ‫} ‪ } { 149 ، 148‬ل ي ُ ِ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن الل َ‬ ‫سوٍء فَإ ِ ّ‬ ‫ن ُ‬ ‫فوا عَ ْ‬ ‫فوهُ أوْ ت َعْ ُ‬ ‫خ ُ‬ ‫خي ًْرا أوْ ت ُ ْ‬ ‫دوا َ‬ ‫ن ت ُب ْ ُ‬ ‫ما * إ ِ ْ‬ ‫ميًعا عَِلي ً‬ ‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ديًرا { ‪.‬‬ ‫وا قَ ِ‬
‫ف ّ‬‫ن عَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫يخبر تعالى أنه ل يحب الجهر بالسوء من القول‪ ،‬أي‪ :‬يبغض ذلك ويمقته‬
‫ويعاقب عليه‪ ،‬ويشمل ذلك جميع القوال السيئة التي تسوء وتحزن‪،‬‬
‫كالشتم والقذف والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله من المنهي عنه الذي‬
‫يبغضه الله‪ .‬ويدل مفهومها أنه يحب الحسن من القول كالذكر والكلم‬
‫الطيب اللين‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه‬ ‫ُ‬
‫من ظل ِ َ‬ ‫وقوله‪ِ } :‬إل َ‬
‫ويتشكى )‪ (1‬منه‪ ،‬ويجهر بالسوء لمن جهر له به‪ ،‬من غير أن يكذب عليه‬
‫ول يزيد على مظلمته‪ ،‬ول يتعدى بشتمه غير ظالمه‪ ،‬ومع ذلك فعفوه‬
‫جُرهُ عََلى اللهِ {‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫وعدم مقابلته أولى‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬فَمن عَ َ َ‬
‫ح فَأ ْ‬ ‫صل َ َ‬‫فا وَأ ْ‬ ‫َ ْ‬
‫‪.‬‬
‫ما { ولما كانت الية قد اشتملت على الكلم‬ ‫ميًعا عَِلي ً‬ ‫س ِ‬‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫كا َ‬‫} وَ َ‬
‫السيئ والحسن والمباح‪ ،‬أخبر تعالى أنه } سميع { فيسمع أقوالكم‪،‬‬
‫فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم على ذلك‪ .‬وفيه أيضا‬
‫م { بنياتكم ومصدر أقوالكم‪.‬‬ ‫ترغيب على القول الحسن‪ } .‬عَِلي ٌ‬
‫ي‬
‫فوهُ { وهذا يشمل كل خير قول ّ‬ ‫خ ُ‬‫خي ًْرا أ َوْ ت ُ ْ‬
‫دوا َ‬ ‫ن ت ُب ْ ُ‬ ‫ثم قال تعالى‪ } :‬إ ِ ْ‬
‫ي‪ ،‬ظاهر وباطن‪ ،‬من واجب ومستحب‪.‬‬ ‫وفعل ّ‬
‫سوٍء { أي‪ :‬عمن ساءكم في أبدانكم وأموالكم وأعراضكم‪،‬‬ ‫عن ُ‬ ‫فوا َ‬ ‫} أ َوْ ت َعْ ُ‬
‫فتسمحوا عنه‪ ،‬فإن الجزاء من جنس العمل‪ .‬فمن عفا لله عفا الله عنه‪،‬‬
‫ديًرا { أي‪:‬‬ ‫وا قَ ِ‬ ‫ف ّ‬
‫ن عَ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ومن أحسن أحسن الله إليه‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬فَإ ِ ّ‬
‫يعفو عن زلت عباده وذنوبهم العظيمة فيسدل عليهم ستره‪ ،‬ثم يعاملهم‬
‫بعفوه التام الصادر عن قدرته‪.‬‬
‫وفي هذه الية إرشاد إلى التفقه في معاني أسماء الله وصفاته‪ ،‬وأن‬
‫الخلق والمر صادر عنها‪ ،‬وهي مقتضية له‪ ،‬ولهذا يعلل الحكام بالسماء‬
‫الحسنى‪ ،‬كما في هذه الية‪.‬‬
‫لما ذكر عمل الخير والعفو عن المسيء رتب على ذلك‪ ،‬بأن أحالنا على‬
‫معرفة أسمائه وأن ذلك يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ويشتكي‪.‬‬

‫) ‪(1/212‬‬

‫فرون بالل ّه ورسل ِه ويريدو َ‬


‫ن الل ّهِ وَُر ُ‬
‫سل ِهِ‬ ‫فّرُقوا ب َي ْ َ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ن ي َك ْ ُ ُ َ ِ ِ َ ُ ُ ِ َ ُ ِ ُ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫إِ ّ‬
‫ً‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫خ ُ‬ ‫َ‬ ‫ض وَن َك ْ ُ‬ ‫ُ‬
‫سِبيل )‬ ‫ك َ‬ ‫ذوا ب َي ْ َ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬‫نأ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ري ُ‬ ‫ض وَي ُ ِ‬ ‫فُر ب ِب َعْ َ ٍ‬ ‫ن ب ِب َعْ ٍ‬‫م ُ‬‫ن ن ُؤْ ِ‬ ‫قولو َ‬ ‫وَي َ ُ‬
‫ُ‬
‫ن‬ ‫مِهيًنا )‪َ (151‬وال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ذاًبا ُ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫قا وَأعْت َد َْنا ل ِل ْ َ‬ ‫ح ّ‬
‫ن َ‬ ‫كافُِرو َ‬ ‫م ال ْ َ‬‫ك هُ ُ‬‫‪ (150‬أول َئ ِ َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫م أول َئ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫جوَرهُ ْ‬ ‫مأ ُ‬ ‫ف ي ُؤِْتيهِ ْ‬
‫سوْ َ‬ ‫ك َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫حدٍ ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫فّرُقوا ب َي ْ َ‬ ‫م يُ َ‬‫سل ِهِ وَل َ ْ‬‫مُنوا ِبالل ّهِ وَُر ُ‬ ‫آ َ‬
‫ما )‪(152‬‬ ‫حي ً‬ ‫فوًرا َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫وَ َ‬
‫كا َ‬
‫فرون بالل ّه ورسل ِه ويريدو َ‬
‫فّرُقوا ب َي ْ َ‬
‫ن‬ ‫ن يُ َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ن ي َك ْ ُ ُ َ ِ ِ َ ُ ُ ِ َ ُ ِ ُ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫} ‪ } { 152 - 150‬إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ذوا ب َي ْ َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ن ي َت ّ ِ‬‫نأ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ري ُ‬ ‫ض وَي ُ ِ‬ ‫ر ب ِب َعْ ٍ‬ ‫ف ُ‬ ‫ْ‬
‫ض وَن َك ُ‬ ‫ٍ‬ ‫ن ب ِب َعْ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ن ُؤْ ِ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫سل ِهِ وَي َ ُ‬ ‫الل ّهِ وَُر ُ‬
‫مِهيًنا *‬ ‫ذاًبا ُ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫ري َ‬ ‫ِ‬ ‫كافِ‬‫قا وَأ َعْت َد َْنا ل ِل ْ َ‬ ‫ح ّ‬‫ن َ‬ ‫كافُِرو َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ك هُ ُ‬‫سِبيل * ُأول َئ ِ َ‬ ‫ك َ‬ ‫ذ َل ِ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫م‬‫ف ي ُؤِْتيهِ ْ‬ ‫سوْ َ‬ ‫ك َ‬ ‫م أولئ ِ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫حدٍ ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫فّرُقوا ب َي ْ َ‬ ‫م يُ َ‬ ‫سل ِهِ وَل ْ‬ ‫مُنوا ِباللهِ وَُر ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫َوال ّ ِ‬
‫ُ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫حي ً‬ ‫فوًرا َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬‫ن الل ّ ُ‬ ‫م وَ َ‬
‫كا َ‬ ‫جوَرهُ ْ‬ ‫أ ُ‬
‫ن بالله وبرسله كّلهم وكتبه‪ ،‬وكافٌر‬ ‫هنا قسمان قد وضحا لكل أحد‪ :‬مؤم ٌ‬
‫بذلك كله‪.‬‬
‫وبقي قسم ثالث‪ :‬وهو الذي يزعم أنه يؤمن ببعض الرسل دون بعض‪ ،‬وأن‬
‫ن هذا إل مجرد أماني‪ .‬فإن هؤلء يريدون‬ ‫هذا سبيل ينجيه من عذاب الله‪ ،‬إ ْ‬
‫التفريق بين الله وبين رسله‪.‬‬
‫فإن من تولى الله حقيقة تولى جميع رسله لن ذلك من تمام توليه‪ ،‬ومن‬
‫عادى أحدا من رسله فقد عادى الله وعادى جميع رسله‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ن عَد ُّوا ل ّل ّهِ { اليات‪.‬‬ ‫كا َ‬ ‫من َ‬ ‫} َ‬
‫ن كفر برسول فقد كفر بجميع الرسل‪ ،‬بل بالرسول الذي يزعم‬ ‫م ْ‬ ‫وكذلك َ‬
‫قا { وذلك لئل يتوهم أن‬ ‫ح ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫أنه به مؤمن‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬أولئ ِ َ‬
‫ن َ‬ ‫م الكافُِرو َ‬ ‫ك هُ ُ‬
‫مرتبتهم متوسطة بين اليمان والكفر‪ ] .‬ص ‪[ 213‬‬
‫ووجه كونهم كافرين ‪ -‬حتى بما زعموا اليمان به‪ -‬أن كل دليل دلهم على‬
‫اليمان بمن آمنوا به موجود هو أو مثله أو ما فوقه للنبي الذي كفروا به‪،‬‬
‫وكل شبهة يزعمون أنهم يقدحون بها في النبي الذي كفروا به موجود‬
‫مثلها أو أعظم منها فيمن آمنوا به‪.‬‬
‫فلم يبق بعد ذلك إل التشهي والهوى ومجرد الدعوى التي يمكن كل أحد‬
‫أن يقابلها بمثلها‪ ،‬ولما ذكر أن هؤلء هم الكافرون حقا ذكر عقابا شامل‬
‫مِهيًنا { كما تكبروا عن‬ ‫ذاًبا ّ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫لهم ولكل كافر فقال‪ } :‬وَأ َعْت َد َْنا ل ِل ْ َ‬
‫اليمان بالله‪ ،‬أهانهم بالعذاب الليم المخزي‪.‬‬
‫سل ِهِ { وهذا يتضمن اليمان بكل ما أخبر الله به‬ ‫مُنوا ِبالل ّهِ وَُر ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫فّرُقوا‬ ‫م يُ َ‬ ‫عن نفسه وبكل ما جاءت به الرسل من الخبار والحكام‪ } .‬وَل َ ْ‬
‫حدٍ { من رسله‪ ،‬بل آمنوا بهم كلهم‪ ،‬فهذا هو اليمان الحقيقي‪،‬‬ ‫بي َ‬
‫نأ َ‬ ‫َْ َ‬
‫واليقين المبني على البرهان‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬جزاء إيمانهم وما ترتب عليه من‬ ‫ف يؤِْتيه ُ‬ ‫} ُأول َئ ِ َ‬
‫جوَرهُ ْ‬
‫مأ ُ‬‫سوْ َ ُ ِ ْ‬
‫ك َ‬
‫ل على حسب حاله‪ .‬ولعل هذا‬ ‫عمل صالح‪ ،‬وقول حسن‪ ،‬وخلق جميل‪ ،‬ك ُ ّ‬
‫ما { يغفر‬
‫حي ً‬
‫فوًرا ّر ِ‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫ه غَ ُ‬ ‫هو السر في إضافة الجور إليهم‪ } ،‬وَ َ‬
‫كا َ‬
‫السيئات ويتقبل الحسنات‪.‬‬

‫) ‪(1/212‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك أ َهْ ُ‬ ‫سأ َل ُ َ‬


‫سى‬ ‫مو َ‬ ‫سأُلوا ُ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ماِء فَ َ‬ ‫س َ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫م ك َِتاًبا ِ‬ ‫ل عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ن ت ُن َّز َ‬‫بأ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ل ال ْك َِتا‬ ‫يَ ْ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ذوا‬‫خ ُ‬‫م ات ّ َ‬ ‫م ثُ ّ‬
‫مه ِ ْ‬ ‫ة ب ِظل ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫ع َ‬
‫صا ِ‬‫م ال ّ‬ ‫جهَْرةً فَأ َ‬
‫خذ َت ْهُ ُ‬ ‫ه َ‬‫قالوا أرَِنا الل َ‬ ‫ك فَ َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬‫م ْ‬ ‫أك ْب ََر ِ‬
‫سل ْ َ‬ ‫فوَنا عَن ذ َل ِ َ َ‬
‫طاًنا‬ ‫سى ُ‬ ‫مو َ‬ ‫ك وَآت َي َْنا ُ‬ ‫ْ‬ ‫ت فَعَ َ ْ‬ ‫م ال ْب َي َّنا ُ‬ ‫جاَءت ْهُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫ج َ‬‫ال ْعِ ْ‬
‫دا‬
‫ج ً‬‫س ّ‬‫ب ُ‬ ‫خُلوا ال َْبا َ‬ ‫م اد ْ ُ‬ ‫م وَقُل َْنا ل َهُ ُ‬ ‫ميَثاقِهِ ْ‬ ‫طوَر ب ِ ِ‬ ‫م ال ّ‬ ‫مِبيًنا )‪ (153‬وََرفَعَْنا فَوْقَهُ ُ‬ ‫ُ‬
‫ظا )‪(154‬‬ ‫ميَثاًقا غَِلي ً‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫نا‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫دوا‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫َ ِ ُْ ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ ْ ِ َ‬ ‫ِ‬ ‫َْ ُ‬ ‫وَ َ ُ ْ‬
‫ه‬ ‫ل‬ ‫نا‬ ‫ل‬ ‫ق‬

‫ماءِ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫م ك َِتاًبا ِ‬ ‫ل عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ن ت ُن َّز َ‬ ‫بأ ْ‬


‫َ‬
‫ِ‬ ‫ل ال ْك َِتا‬ ‫ك أ َهْ ُ‬ ‫سأ َل ُ َ‬ ‫} ‪ } { 161 - 153‬ي َ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ة‬
‫ق ُ‬ ‫ع َ‬ ‫صا ِ‬ ‫م ال ّ‬ ‫خذ َت ْهُ ُ‬‫جهَْرةً فَأ َ‬ ‫ه َ‬ ‫قالوا أرَِنا الل َ‬ ‫َ‬
‫ن ذ َل ِك فَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫سى أك ْب ََر ِ‬ ‫مو َ‬ ‫سأُلوا ُ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫فَ َ‬
‫ك َوآت َي َْنا‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫فوَْنا عَ ْ‬ ‫ت فَعَ َ‬ ‫ْ‬
‫م الب َي َّنا ُ‬ ‫جاَءت ْهُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ج َ‬ ‫ْ‬
‫ذوا العِ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫م ات ّ َ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫مه ِ ْ‬ ‫ْ‬
‫ب ِظل ِ‬‫ُ‬
‫خلوا‬ ‫ُ‬ ‫م اد ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م وَقُلَنا لهُ ُ‬ ‫ميَثاقِهِ ْ‬ ‫م الطوَر ب ِ ِ‬ ‫ّ‬ ‫مِبيًنا * وََرفَعَْنا فَوْقَهُ ُ‬ ‫سلطاًنا ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫سى ُ‬ ‫مو َ‬ ‫ُ‬
‫ً‬
‫ميَثاًقا غَِليظا { ‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫م ِ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ه‬‫ْ‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫ذ‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫أ‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫ت‬‫ِ‬ ‫ب‬‫س‬
‫ّ ْ‬ ‫ال‬ ‫في‬‫ِ‬ ‫دوا‬ ‫ْ ُ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫م‬
‫ُ ْ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ق‬ ‫ا َ َ ُ ّ ً َ‬
‫و‬ ‫دا‬ ‫ج‬ ‫س‬ ‫ب‬ ‫با‬ ‫ل‬
‫هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب للرسول محمد صلى الله عليه وسلم‬
‫على وجه العناد والقتراح‪ ،‬وجعلهم هذا السؤال يتوقف عليه تصديقهم أو‬
‫تكذيبهم‪ .‬وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة كما نزلت‬
‫التوراة والنجيل‪ ،‬وهذا غاية الظلم منهم والجهل‪ ،‬فإن الرسول بشر عبد‬
‫مدبر‪ ،‬ليس في يده من المر شيء‪ ،‬بل المر كله لله‪ ،‬وهو الذي يرسل‬
‫وينزل ما يشاء على عباده كما قال تعالى عن الرسول‪ ،‬لما ذكر اليات‬
‫ل‬‫التي فيها اقتراح المشركين على محمد صلى الله عليه وسلم‪ } ،‬قُ ْ‬
‫سول { ‪.‬‬ ‫شًرا ّر ُ‬ ‫ت ِإل ب َ َ‬ ‫كن ُ‬ ‫ل ُ‬ ‫ن َرّبي هَ ْ‬ ‫حا َ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫ُ‬
‫وكذلك جعلهم الفارق بين الحق والباطل مجرد إنزال الكتاب جملة أو‬
‫مفرقا‪ ،‬مجرد دعوى ل دليل عليها ول مناسبة‪ ،‬بل ول شبهة‪ ،‬فمن أين يوجد‬
‫في نبوة أحد من النبياء أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب نزل مفرقا فل‬
‫تؤمنوا به ول تصدقوه؟‬
‫بل نزول هذا القرآن مفرقا بحسب الحوال مما يدل على عظمته واعتناء‬
‫ل عَل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫ول نز َ‬ ‫فُروا ل َ ْ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫الله بمن أنزل عليه‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬وََقا َ‬
‫ْ‬
‫ك وََرت ّل َْناهُ ت َْرِتيل * َول ي َأُتون َ َ‬
‫ل‬‫مث َ ٍ‬ ‫ك بِ َ‬ ‫ؤاد َ َ‬ ‫ت ب ِهِ فُ َ‬ ‫ك ل ِن ُث َب ّ َ‬ ‫حد َةً ك َذ َل ِ َ‬ ‫ة َوا ِ‬ ‫مل َ ً‬ ‫ج ْ‬‫ن ُ‬ ‫قْرآ ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫َ‬
‫سيًرا { ‪.‬‬ ‫ف ِ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ح َ‬ ‫حقّ وَأ ْ‬ ‫ك ِبال ْ َ‬ ‫جئ َْنا َ‬ ‫ِإل ِ‬
‫فلما ذكر اعتراضهم الفاسد أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم‪ ،‬بل سبق لهم‬
‫من المقدمات القبيحة ما هو أعظم مما سلكوه مع الرسول الذي يزعمون‬
‫أنهم آمنوا به‪ .‬من سؤالهم له رؤية الله عيانا‪ ،‬واتخاذهم العجل إلًها‬
‫يعبدونه‪ ،‬من بعد ما رأوا من اليات بأبصارهم ما لم يره غيرهم‪.‬‬
‫ومن امتناعهم من قبول أحكام كتابهم وهو التوراة‪ ،‬حتى رفع الطور من‬
‫فوق رءوسهم وهددوا أنهم إن لم يؤمنوا أسقط عليهم‪ ،‬فقبلوا ذلك على‬
‫وجه الغماض واليمان الشبيه باليمان الضروري‪.‬‬
‫ومن امتناعهم من دخول أبواب القرية التي أمروا بدخولها سجدا‬
‫مستغفرين‪ ،‬فخالفوا القول والفعل‪ .‬ومن اعتداء من اعتدى منهم في‬
‫السبت فعاقبهم الله تلك العقوبة الشنيعة‪.‬‬
‫وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم فنبذوه وراء ظهورهم‪.‬‬

‫) ‪(1/213‬‬

‫حقّ وَقَوْل ِهِ ْ‬


‫م‬ ‫م اْل َن ْب َِياَء ب ِغَي ْرِ َ‬ ‫ت الل ّهِ وَقَت ْل ِهِ ُ‬ ‫م ب ِآ ََيا ِ‬ ‫فرِهِ ْ‬ ‫م وَك ُ ْ‬ ‫ميَثاقَهُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ضه ِ ْ‬ ‫ق ِ‬ ‫ما ن َ ْ‬ ‫فَب ِ َ‬
‫ن إ ِل قَِليل )‪(155‬‬ ‫ً‬ ‫ّ‬ ‫مُنو َ‬ ‫م فَل ي ُؤْ ِ‬‫َ‬ ‫فرِهِ ْ‬ ‫ُ‬
‫ه عَلي َْها ب ِك ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ل طب َعَ الل ُ‬ ‫َ‬ ‫ف بَ ْ‬ ‫قُُلوب َُنا غُل ٌ‬
‫ْ‬
‫ح‬
‫سي َ‬ ‫م ِ‬ ‫م إ ِّنا قَت َل َْنا ال ْ َ‬ ‫ما )‪ (156‬وَقَوْل ِهِ ْ‬ ‫ظي ً‬ ‫م ب ُهَْتاًنا عَ ِ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫م عََلى َ‬ ‫م وَقَوْل ِهِ ْ‬ ‫فرِهِ ْ‬ ‫وَب ِك ُ ْ‬
‫ن‬‫م وَإ ِ ّ‬‫ه لهُ ْ‬‫َ‬ ‫شب ّ َ‬‫ن ُ‬ ‫َ‬
‫صلُبوهُ وَلك ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ما َ‬ ‫ما قَت َلوهُ وَ َ‬ ‫ُ‬ ‫ل اللهِ وَ َ‬ ‫ّ‬ ‫سو َ‬ ‫م َر ُ‬ ‫مْري َ َ‬‫ن َ‬ ‫سى اب ْ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ِ‬
‫ما‬‫ن وَ َ‬ ‫عل ْم ٍ إ ِّل ات َّباعَ الظ ّ ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ب ِهِ ِ‬ ‫ما ل َهُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬
‫ك ِ‬ ‫ش ّ‬ ‫في َ‬ ‫فوا ِفيهِ ل َ ِ‬ ‫خت َل َ ُ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ن‬‫ما )‪ (158‬وَإ ِ ْ‬ ‫كي ً‬ ‫ح ِ‬ ‫زيًزا َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬ ‫ه إ ِل َي ْهِ وَ َ‬ ‫ه الل ّ ُ‬ ‫ل َرفَعَ ُ‬ ‫قيًنا )‪ (157‬ب َ ْ‬ ‫قَت َُلوهُ ي َ ِ‬
‫م َ‬
‫دا )‬‫شِهي ً‬ ‫م َ‬ ‫ن عَل َي ْهِ ْ‬ ‫كو ُ‬ ‫مة ِ ي َ ُ‬ ‫قَيا َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫موْت ِهِ وَي َوْ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ب ِهِ قَب ْ َ‬ ‫من َ ّ‬ ‫ب إ ِّل ل َي ُؤْ ِ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ن أه ْ ِ‬ ‫ِ ْ‬
‫ن‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫ص‬ ‫ب‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ح‬ ‫ُ‬ ‫أ‬ ‫ت‬ ‫با‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ط‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫نا‬ ‫م‬ ‫ر‬ ‫ح‬ ‫دوا‬ ‫ها‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ظ‬ ‫ب‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫(‬ ‫‪159‬‬
‫َّ ٍ ِ ْ ُ ْ َِ َ ّ ِ ْ َ ْ‬ ‫َ ّ ْ َ َ ِْ ْ‬ ‫ِ َ َ ُ‬ ‫ٍ ِ َ‬ ‫ِ‬
‫س‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫وال الّنا ِ‬ ‫م َ‬‫مأ ْ‬ ‫ه وَأكل ِهِ ْ‬ ‫م الّرَبا وَقد ْ ن ُُهوا عَن ْ ُ‬
‫َ‬
‫خذِهِ ُ‬ ‫ل اللهِ كِثيًرا )‪ (160‬وَأ ْ‬
‫َ‬
‫سِبي ِ‬ ‫َ‬
‫ما )‪(161‬‬ ‫ذاًبا أِلي ً‬ ‫م عَ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ري َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ل وَأعْت َد َْنا ل ِلكافِ ِ‬ ‫ِبالَباط ِ ِ‬ ‫ْ‬

‫م‬ ‫حقّ وَقَوْل ِهِ ْ‬ ‫م الن ْب َِياَء ب ِغَي ْرِ َ‬ ‫ت الل ّهِ وَقَت ْل ِهِ ُ‬ ‫م ِبآَيا ِ‬ ‫فرِهِ ْ‬ ‫م وَك ُ ْ‬ ‫ميَثاقَهُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ضه ِ ْ‬ ‫ق ِ‬ ‫ما ن َ ْ‬ ‫} فَب ِ َ‬
‫م‬‫فرِهِ ْ‬ ‫ن ِإل قَِليل * وَب ِك ُ ْ‬ ‫مُنو َ‬ ‫م َفل ي ُؤْ ِ‬ ‫فرِهِ ْ‬ ‫ه عَل َي َْها ب ِك ُ ْ‬ ‫ل ط َب َعَ الل ّ ُ‬ ‫ف بَ ْ‬ ‫قُُلوب َُنا غُل ْ ٌ‬
‫ن‬ ‫سى اب ْ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ح ِ‬ ‫سي َ‬ ‫م ِ‬ ‫م إ ِّنا قَت َل َْنا ال ْ َ‬ ‫ما * وَقَوْل ِهِ ْ‬ ‫ظي ً‬ ‫م ب ُهَْتاًنا عَ ِ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫م عََلى َ‬ ‫وَقَوْل ِهِ ْ‬
‫فوا‬ ‫خت َل َ ُ‬‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م وَإ ِ ّ‬ ‫ه ل َهُ ْ‬ ‫شب ّ َ‬‫ن ُ‬ ‫صل َُبوهُ وَل َك ِ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ما قَت َُلوهُ وَ َ‬ ‫ل الل ّهِ وَ َ‬ ‫سو َ‬ ‫م َر ُ‬ ‫مْري َ َ‬‫َ‬
‫قيًنا * ب َلْ‬ ‫ُ‬
‫ما قت َلوهُ ي َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫ّ‬
‫علم ٍ ِإل ات َّباعَ الظ ّ‬ ‫ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ب ِهِ ِ‬ ‫ما لهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬‫في شك ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِفيهِ ل ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ه‬
‫ن بِ ِ‬ ‫من َ ّ‬ ‫ب ِإل لي ُؤْ ِ‬ ‫ل الك َِتا ِ‬ ‫ن أهْ ِ‬ ‫م ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ما * وَإ ِ ْ‬ ‫كي ً‬ ‫ح ِ‬ ‫زيًزا َ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫ه إ ِلي ْهِ وَكا َ‬ ‫ه الل ُ‬ ‫َرفَعَ ُ‬
‫مَنا‬ ‫حّر ْ‬ ‫دوا َ‬ ‫ها ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫دا * فَب ِظ ُل ْم ٍ ِ‬ ‫شِهي ً‬ ‫م َ‬ ‫ن عَل َي ْهِ ْ‬ ‫كو ُ‬ ‫مة ِ ي َ ُ‬ ‫قَيا َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫موْت ِهِ وَي َوْ َ‬ ‫ل َ‬ ‫قَب ْ َ‬
‫َ‬
‫ل الل ّهِ ك َِثيًرا * وَأ ْ‬ ‫ُ‬
‫م الّرَبا وَقَد ْ‬ ‫خذِهِ ُ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫صد ّهِ ْ‬ ‫م وَب ِ َ‬ ‫ت ل َهُ ْ‬ ‫حل ّ ْ‬ ‫تأ ِ‬ ‫م ط َي َّبا ٍ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ل وَأعْت َد َْنا ل ِل ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما {‬ ‫ذاًبا أِلي ً‬ ‫م عَ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫س ِبال َْباط ِ ِ‬ ‫ل الّنا ِ‬ ‫وا َ‬ ‫م َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ه وَأك ْل ِهِ ْ‬ ‫ن ُُهوا عَن ْ ُ‬
‫‪.‬‬
‫وكفروا بآيات الله وقتلوا رسله بغير حق‪ .‬ومن قولهم‪ :‬إنهم قتلوا المسيح‬
‫شّبه لهم غيره‪،‬‬ ‫عيسى وصلبوه‪ ،‬والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه بل ُ‬
‫فقتلوا غيره وصلبوه‪.‬‬
‫وادعائهم أن قلوبهم غلف ل تفقه ما تقول لهم ول تفهمه‪ ،‬وبصدهم الناس‬
‫عن سبيل الله‪ ،‬فصدوهم عن الحق‪ ،‬ودعوهم إلى ما هم عليه من الضلل‬
‫والغي‪ .‬وبأخذهم السحت والربا مع نهي الله لهم عنه والتشديد فيه‪.‬‬
‫فالذين فعلوا هذه الفاعيل ل يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا أن‬
‫ينزل عليهم كتابا من السماء‪ ،‬وهذه الطريقة من أحسن الطرق لمحاجة‬
‫الخصم المبطل‪ ،‬وهو أنه إذا صدر منه من العتراض الباطل ما جعله شبهة‬
‫له ولغيره في رد الحق أن يبين من حاله الخبيثة وأفعاله الشنيعة ما هو‬
‫من أقبح ما صدر منه‪ ،‬ليعلم كل أحد أن هذا العتراض من ذلك الوادي‬
‫الخسيس‪ ،‬وأن له مقدمات ُيجعل هذا معها‪.‬‬
‫وكذلك كل اعتراض يعترضون به على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم‬
‫يمكن أن يقابل بمثله أو ما هو أقوى منه في نبوة من يدعون إيمانهم به‬
‫ليكتفى بذلك شرهم وينقمع باطلهم‪ ،‬وكل حجة سلكوها في تقريرهم لنبوة‬
‫من آمنوا ] ص ‪ [ 214‬به فإنها ونظيرها وما هو أقوى منها‪ ،‬دالة ومقررة‬
‫لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة لم‬
‫يبسطها في هذا الموضع‪ ،‬بل أشار إليها‪ ،‬وأحال على مواضعها وقد بسطها‬
‫في غير هذا الموضع في المحل اللئق ببسطها‪.‬‬
‫وقوله‪ } :‬وإن م َ‬
‫موْت ِهِ { يحتمل أن الضمير‬ ‫ن ب ِهِ قَب ْ َ‬
‫ل َ‬ ‫ب ِإل ل َي ُؤْ ِ‬
‫من َ ّ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬‫ن أه ْ ِ‬ ‫َِ ّ ْ‬
‫موْت ِهِ { يعود إلى أهل الكتاب‪ ،‬فيكون على هذا كل‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫هنا في قوله‪َ ْ } :‬‬
‫ل‬ ‫ب‬ ‫ق‬
‫كتابي يحضره الموت ويعاين المر حقيقة‪ ،‬فإنه يؤمن بعيسى عليه السلم‬
‫ولكنه إيمان ل ينفع‪ ،‬إيمان اضطرار‪ ،‬فيكون مضمون هذا التهديد لهم‬
‫والوعيد‪ ،‬وأن ل يستمروا على هذه الحال التي سيندمون عليها قبل‬
‫مماتهم‪ ،‬فكيف يكون حالهم يوم حشرهم وقيامهم؟"‬
‫موْت ِهِ { راجع إلى عيسى عليه‬ ‫ل َ‬ ‫ويحتمل أن الضمير في قوله‪ } :‬قَب ْ َ‬
‫السلم‪ ،‬فيكون المعنى‪ :‬وما من أحد من أهل الكتاب إل ليؤمنن بالمسيح‬
‫عليه السلم قبل موت المسيح‪ ،‬وذلك يكون عند اقتراب الساعة وظهور‬
‫علماتها الكبار‪.‬‬
‫فإنه تكاثرت الحاديث الصحيحة في نزوله عليه السلم في آخر هذه المة‪.‬‬
‫يقتل الدجال‪ ،‬ويضع الجزية‪ ،‬ويؤمن به أهل الكتاب مع المؤمنين‪ .‬ويوم‬
‫القيامة يكون عيسى عليهم شهيدا‪ ،‬يشهد عليهم بأعمالهم‪ ،‬وهل هي‬
‫موافقة لشرع الله أم ل؟‬
‫وحينئذ ل يشهد إل ببطلن كل ما هم عليه‪ ،‬مما هو مخالف لشريعة القرآن‬
‫ما دعاهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم‪ ،‬علمنا بذلك‪ ،‬ل ِعِل ْ ِ‬
‫مَنا بكمال‬ ‫وَل ِ َ‬
‫عدالة المسيح عليه السلم وصدقه‪ ،‬وأنه ل يشهد إل بالحق‪ ،‬إل أن ما جاء‬
‫به محمد صلى الله عليه وسلم هو الحق وما عداه فهو ضلل وباطل‪.‬‬
‫ثم أخبر تعالى أنه حرم على أهل الكتاب كثيرا من الطيبات التي كانت‬
‫حلل عليهم‪ ،‬وهذا تحريم عقوبة بسبب ظلمهم واعتدائهم‪ ،‬وصدهم الناس‬
‫عن سبيل الله‪ ،‬ومنعهم إياهم من الهدى‪ ،‬وبأخذهم الربا وقد نهوا عنه‪،‬‬
‫فمنعوا المحتاجين ممن يبايعونه عن العدل‪ ،‬فعاقبهم الله من جنس فعلهم‬
‫فمنعهم من كثير من الطيبات التي كانوا بصدد حلها‪ ،‬لكونها طيبة‪ ،‬وأما‬
‫التحريم الذي على هذه المة فإنه تحريم تنزيه لهم عن الخبائث التي‬
‫تضرهم في دينهم ودنياهم‪.‬‬

‫) ‪(1/213‬‬

‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل‬ ‫ك وَ َ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل إ ِل َي ْ َ‬ ‫ن بِ َ‬‫مُنو َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫م َوال ْ ُ‬ ‫ن ِفي ال ْعِل ْم ِ ِ‬
‫من ْهُ ْ‬ ‫خو َ‬ ‫س ُ‬‫ن الّرا ِ‬ ‫لك ِ ِ‬
‫َ‬
‫ر‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ اْل َ ِ‬
‫خ ِ‬ ‫مُنو َ‬‫مؤْ ِ‬‫كاةَ َوال ْ ُ‬ ‫ن الّز َ‬ ‫مؤُْتو َ‬ ‫صَلةَ َوال ْ ُ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫مي َ‬‫قي ِ‬‫م ِ‬ ‫ك َوال ْ ُ‬‫ن قَب ْل ِ َ‬‫م ْ‬‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُأولئ ِ َ‬
‫َ‬
‫ما )‪(162‬‬ ‫ظي ً‬
‫جًرا عَ ِ‬ ‫مأ ْ‬ ‫سن ُؤِْتيهِ ْ‬‫ك َ‬
‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل‬ ‫ن بِ َ‬‫مُنو َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬‫مؤْ ِ‬‫م َوال ْ ُ‬ ‫ن ِفي ال ْعِل ْم ِ ِ‬
‫من ْهُ ْ‬ ‫خو َ‬ ‫س ُ‬ ‫ن الّرا ِ‬ ‫َ‬
‫} ‪ } ُ { 162‬لك ِ ِ‬
‫ن‬
‫مُنو َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫كاةَ َوال ْ ُ‬ ‫ن الّز َ‬ ‫مؤُْتو َ‬ ‫صلةَ َوال ْ ُ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫مي َ‬‫قي ِ‬
‫م ِ‬‫ك َوال ْ ُ‬ ‫ن قَب ْل ِ َ‬‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫ما أن ْزِ َ‬
‫ك وَ َ‬‫إ ِل َي ْ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫خرِ أول َئ ِ َ‬ ‫ِبالل ّهِ َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫ظي ً‬ ‫جًرا عَ ِ‬ ‫مأ ْ‬ ‫سن ُؤِْتيهِ ْ‬‫ك َ‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫لما ذكر معايب أهل الكتاب‪ ،‬ذكر الممدوحين منهم فقال‪ } :‬لك ِ ِ‬
‫ن ِفي ال ْعِل ْم ِ { أي‪ :‬الذين ثبت العلم في قلوبهم ورسخ اليقان في‬ ‫خو َ‬‫س ُ‬‫الّرا ِ‬
‫من‬ ‫ما ُأنز َ‬
‫ل ِ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫ما ُأنز َ‬
‫ل إ ِل َي ْ َ‬ ‫أفئدتهم فأثمر لهم اليمان التام العام } ب ِ َ‬
‫ك{‪.‬‬ ‫قَب ْل ِ َ‬
‫وأثمر لهم العمال الصالحة من إقامة الصلة وإيتاء الزكاة اللذين هما‬
‫أفضل العمال‪ ،‬وقد اشتملتا على الخلص للمعبود والحسان إلى العبيد‪.‬‬
‫وآمنوا باليوم الخر فخافوا الوعيد ورجوا الوعد‪.‬‬
‫ك سنؤِْتيه َ‬ ‫ُ‬
‫ما { لنهم جمعوا بين العلم واليمان والعمل‬ ‫ظي ً‬
‫جًرا عَ ِ‬
‫مأ ْ‬‫} أول َئ ِ َ َ ُ ِ ْ‬
‫الصالح‪ ،‬واليمان بالكتب والرسل السابقة واللحقة‪.‬‬

‫) ‪(1/214‬‬

‫َ‬ ‫ك كَ َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫هي َ‬ ‫حي َْنا إ َِلى إ ِب َْرا ِ‬ ‫ن ب َعْدِهِ وَأوْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬‫حي َْنا إ َِلى ُنوٍح َوالن ّب ِّيي َ‬ ‫ما أوْ َ‬ ‫حي َْنا إ ِل َي ْ َ َ‬ ‫إ ِّنا أوْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫هاُرو َ‬ ‫س وَ َ‬ ‫ب وَُيون ُ َ‬ ‫سى وَأّيو َ‬ ‫عي َ‬ ‫ط وَ ِ‬ ‫سَبا ِ‬ ‫ب َواْل ْ‬ ‫قو َ‬ ‫حاقَ وَي َعْ ُ‬ ‫س َ‬‫ل وَإ ِ ْ‬ ‫عي َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫وَإ ِ ْ‬
‫م عَل َي ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن قَب ْ ُ‬
‫ل‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫صَناهُ ْ‬‫ص ْ‬ ‫سًل قَد ْ قَ َ‬ ‫داُوود َ َزُبوًرا )‪ (163‬وَُر ُ‬ ‫ن وَآت َي َْنا َ‬ ‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫وَ ُ‬
‫ن‬
‫ري َ‬ ‫ش ِ‬ ‫مب َ ّ‬‫سًل ُ‬ ‫ما )‪ُ (164‬ر ُ‬ ‫سى ت َك ِْلي ً‬ ‫مو َ‬ ‫ه ُ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ك وَك َل ّ َ‬‫م عَل َي ْ َ‬‫صه ُ ْ‬ ‫ص ْ‬ ‫ق ُ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫سًل ل َ ْ‬ ‫وَُر ُ‬
‫زيًزا‬‫ه عَ ِ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬‫ل وَ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ة ب َعْد َ الّر ُ‬ ‫ج ٌ‬‫ح ّ‬ ‫س عََلى الل ّهِ ُ‬ ‫ن ِللّنا ِ‬ ‫كو َ‬ ‫ن ل ِئ َّل ي َ ُ‬‫من ْذِِري َ‬ ‫وَ ُ‬
‫ما )‪(165‬‬ ‫كي ً‬ ‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫ك كَ َ‬ ‫َ‬
‫ن ب َعْدِهِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫حي َْنا إ َِلى ُنوٍح َوالن ّب ِّيي َ‬ ‫ما أوْ َ‬ ‫حي َْنا إ ِل َي ْ َ َ‬ ‫} ‪ } { 165 - 163‬إ ِّنا أوْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ب‬
‫سى وَأّيو َ‬ ‫عي َ‬ ‫ط وَ ِ‬ ‫سَبا ِ‬ ‫ب َوال ْ‬ ‫قو َ‬ ‫حاقَ وَي َعْ ُ‬ ‫س َ‬
‫ل وَإ ِ ْ‬ ‫عي َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫م وَإ ِ ْ‬ ‫هي َ‬‫حي َْنا إ َِلى إ ِب َْرا ِ‬ ‫وَأوْ َ‬
‫م عَل َي ْ َ‬
‫ك‬ ‫صَناهُ ْ‬ ‫ص ْ‬ ‫سل قَد ْ قَ َ‬ ‫داوُد َ َزُبوًرا * وَُر ُ‬ ‫ن َوآت َي َْنا َ‬ ‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬‫ن وَ ُ‬ ‫هاُرو َ‬ ‫س وَ َ‬ ‫وَُيون ُ َ‬
‫سل‬ ‫ما * ُر ُ‬ ‫سى ت َك ِْلي ً‬ ‫مو َ‬ ‫ه ُ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ك وَك َل ّ َ‬ ‫م عَل َي ْ َ‬ ‫صه ُ ْ‬ ‫ص ْ‬ ‫ق ُ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫سل ل َ ْ‬ ‫ل وَُر ُ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫هّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫َ‬
‫ل وَكا َ‬ ‫س ِ‬‫ة ب َعْد َ الّر ُ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ح ّ‬ ‫ّ‬
‫س عَلى اللهِ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن ِللّنا ِ‬ ‫ن ل ِئل ي َكو َ‬ ‫من ْذِِري َ‬ ‫ن وَ ُ‬ ‫ري َ‬ ‫مب َش ِ‬ ‫ُ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫كي ً‬‫ح ِ‬ ‫زيًزا َ‬ ‫عَ ِ‬
‫يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله من الشرع العظيم والخبار‬
‫الصادقة ما أوحى إلى هؤلء النبياء عليهم الصلة والسلم وفي هذا عدة‬
‫فوائد‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس ببدع من الرسل‪ ،‬بل أرسل‬
‫الله قبله من المرسلين العدد الكثير والجم الغفير فاستغراب رسالته ل‬
‫وجه له إل الجهل والعناد‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه أوحى إليه كما أوحى إليهم من الصول والعدل الذي اتفقوا‬
‫عليه‪ ،‬وأن بعضهم يصدق بعضا ويوافق بعضهم بعضا‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه من جنس هؤلء الرسل‪ ،‬فليعتبره المعتبر بإخوانه المرسلين‪،‬‬
‫فدعوته دعوتهم؛ وأخلقهم متفقة؛ ومصدرهم واحد؛ وغايتهم واحدة‪ ،‬فلم‬
‫يقرنه بالمجهولين؛ ول بالكذابين ول بالملوك الظالمين‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن في ذكر هؤلء الرسل وتعدادهم من التنويه بهم‪ ،‬والثناء الصادق‬
‫عليهم‪ ،‬وشرح أحوالهم مما يزداد به المؤمن إيمانا بهم ومحبة لهم‪ ،‬واقتداء‬
‫بهديهم‪ ،‬واستنانا بسنتهم ومعرفة بحقوقهم‪ ،‬ويكون ذلك مصداقا لقوله‪:‬‬
‫م عََلى‬ ‫سل ٌ‬ ‫م{} َ‬ ‫هي َ‬ ‫م عََلى إ ِب َْرا ِ‬ ‫سل ٌ‬ ‫ن{} َ‬ ‫مي َ‬ ‫م عََلى ُنوٍح ِفي ال َْعال َ ِ‬ ‫سل ٌ‬ ‫} َ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫زي ال ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن * إ ِّنا كذ َل ِك ن َ ْ‬ ‫سي َ‬ ‫ل َيا ِ‬ ‫م عَلى إ ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫سل ٌ‬ ‫ن{} َ‬ ‫هاُرو َ‬ ‫سى وَ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ُ‬
‫فكل محسن له من الثناء الحسن بين النام بحسب إحسانه والرسل‬
‫‪-‬خصوصا هؤلء المسمون‪ -‬في المرتبة العليا من الحسان‪.‬‬
‫ولما ذكر اشتراكهم بوحيه ذكر تخصيص بعضهم فذكر أنه آتى داود الزبور‬
‫وهو الكتاب المعروف المزبور ] ص ‪ [ 215‬الذي خص الله به داود عليه‬
‫السلم لفضله وشرفه وأنه كلم موسى تكليما أي مشافهة منه إليه ل‬
‫بواسطة حتى اشتهر بهذا عند العالمين فيقال "موسى كليم الرحمن"‪.‬‬
‫وذكر أن الرسل منهم من قصه الله على رسوله ومنهم من لم يقصصه‬
‫عليه وهذا يدل على كثرتهم وأن الله أرسلهم مبشرين لمن أطاع الله‬
‫واتبعهم بالسعادة الدنيوية والخروية ومنذرين من عصى الله وخالفهم‬
‫ما‬
‫بشقاوة الدارين لئل يكون للناس على الله حجة بعد الرسل فيقولوا } َ‬
‫ذيٌر {‪.‬‬
‫شيٌر وَن َ ِ‬ ‫جاَء ُ‬
‫كم ب َ ِ‬ ‫ذيرٍ فَ َ‬
‫قد ْ َ‬ ‫شيرٍ َول ن َ ِ‬
‫من ب َ ِ‬
‫جاَءَنا ِ‬
‫َ‬
‫خْلق على الله حجة لرساله الرسل تترى يبينون لهم أمر دينهم‬ ‫فلم يبق لل َ‬
‫ومراضي ربهم ومساخطه وطرق الجنة وطرق النار فمن كفر منهم بعد‬
‫ذلك فل يلومن إل نفسه‪.‬‬
‫وهذا من كمال عزته تعالى وحكمته أن أرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم‬
‫الكتب وذلك أيضا من فضله وإحسانه حيث كان الناس مضطرين إلى‬
‫النبياء أعظم ضرورة تقدر فأزال هذا الضطرار فله الحمد وله الشكر‬
‫ونسأله كما ابتدأ علينا نعمته بإرسالهم أن يتمها بالتوفيق لسلوك طريقهم‬
‫إنه جواد كريم‪.‬‬

‫) ‪(1/214‬‬

‫ل إل َي َ َ‬ ‫َ‬
‫فى ِبالل ّهِ‬
‫ن وَك َ َ‬
‫دو َ‬ ‫مَلئ ِك َ ُ‬
‫ة يَ ْ‬
‫شه َ ُ‬ ‫مهِ َوال ْ َ‬
‫ه ب ِعِل ْ ِ‬
‫ك أن َْزل َ ُ‬ ‫ما أن َْز َ ِ ْ‬ ‫ن الل ّ ُ‬
‫ه يَ ْ‬
‫شهَد ُ ب ِ َ‬ ‫لك ِ ِ‬
‫َ‬
‫دا )‪(166‬‬ ‫شِهي ً‬‫َ‬
‫ل إل َي َ َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫دو َ‬ ‫ة يَ ْ‬
‫شهَ ُ‬ ‫مهِ َوال ْ َ‬
‫ملئ ِك َ ُ‬ ‫ه ب ِعِل ْ ِ‬
‫ك أن َْزل َ ُ‬ ‫ما أن َْز َ ِ ْ‬ ‫شهَد ُ ب ِ َ‬‫ه يَ ْ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫َ‬
‫} ‪ } { 166‬لك ِ ِ‬
‫دا { ‪.‬‬ ‫شِهي ً‬ ‫فى ِبالل ّهِ َ‬ ‫وَك َ َ‬
‫لما ذكر أن الله أوحى إلى رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى‬
‫إلى إخوانه من المرسلين‪ ،‬أخبر هنا بشهادته تعالى على رسالته وصحة ما‬
‫َ‬
‫مهِ { يحتمل أن يكون المراد أنزله مشتمل على‬ ‫ه ب ِعِل ْ ِ‬ ‫جاء به‪ ،‬وأنه } أنزل َ ُ‬
‫علمه‪ ،‬أي‪ :‬فيه من العلوم اللهية والحكام الشرعية والخبار الغيبية ما هو‬
‫من علم الله تعالى الذي علم به عباده‪.‬‬
‫ويحتمل أن يكون المراد‪ :‬أنزله صادرا عن علمه‪ ،‬ويكون في ذلك إشارة‬
‫وتنبيه على وجه شهادته‪ ،‬وأن المعنى‪ :‬إذا كان تعالى أنزل هذا القرآن‬
‫المشتمل على الوامر والنواهي‪ ،‬وهو يعلم ذلك ويعلم حالة الذي أنزله‬
‫عليه‪ ،‬وأنه دعا الناس إليه‪ ،‬فمن أجابه وصدقه كان وليه‪ ،‬ومن كذبه وعاداه‬
‫كان عدوه واستباح ماله ودمه‪ ،‬والله تعالى يمكنه ويوالي نصره ويجيب‬
‫دعواته‪ ،‬ويخذل أعداءه وينصر أولياءه‪ ،‬فهل توجد شهادة أعظم من هذه‬
‫الشهادة وأكبر؟" ول يمكن القدح في هذه الشهادة إل بعد القدح بعلم الله‬
‫وقدرته وحكمته وإخباره تعالى بشهادة الملئكة على ما أنزل على رسوله‪،‬‬
‫لكمال إيمانهم ولجللة هذا المشهود عليه‪.‬‬
‫فإن المور العظيمة ل يستشهد عليها إل الخواص‪ ،‬كما قال تعالى في‬
‫ْ‬ ‫ملئ ِك َ ُ ُ ُ ْ‬ ‫ه ِإل هُوَ َوال ْ َ‬ ‫ه ل إ ِل َ َ‬
‫شهد الل ّ َ‬
‫الشهادة على التوحيد‪َ ِ َ } :‬‬
‫ة وَأولو العِلم ِ‬ ‫ه أن ّ ُ‬‫ُ‬
‫م { وكفى بالله شهيدا‪.‬‬ ‫كي ُ‬‫ح ِ‬ ‫ْ‬
‫زيُز ال َ‬‫ه ِإل هُوَ ال ْعَ ِ‬ ‫ط ل إ ِل َ َ‬ ‫س ِ‬‫ق ْ‬ ‫ما ِبال ْ ِ‬
‫َقائ ِ ً‬
‫) ‪(1/215‬‬

‫ن‬
‫دا )‪ (167‬إ ِ ّ‬ ‫ضَلًل ب َِعي ً‬ ‫ضّلوا َ‬ ‫ل الل ّهِ قَد ْ َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫دوا عَ ْ‬ ‫ص ّ‬‫فُروا وَ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫إِ ّ‬
‫قا )‪ (168‬إ ِّل‬ ‫م طَ ِ‬
‫ري ً‬ ‫م وََل ل ِي َهْدِي َهُ ْ‬
‫فَر ل َهُ ْ‬‫ه ل ِي َغْ ِ‬‫ن الل ّ ُ‬ ‫موا ل َ ْ‬
‫م ي َكَ ُ ِ‬ ‫فُروا وَظ َل َ ُ‬ ‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫سيًرا )‪(169‬‬ ‫ك عََلى الل ّهِ ي َ ِ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫كا َ‬ ‫دا وَ َ‬‫ن ِفيَها أب َ ً‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬
‫م َ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫ريقَ َ‬ ‫طَ ِ‬
‫ضلل‬ ‫ضّلوا َ‬ ‫ل الل ّهِ قَد ْ َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫دوا عَ ْ‬ ‫ص ّ‬‫فُروا وَ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫} ‪ } { 169 - 167‬إ ِ ّ‬
‫قا‬
‫ري ً‬ ‫َ‬
‫مط ِ‬ ‫م َول ل ِي َهْدِي َهُ ْ‬ ‫َ‬
‫فَر لهُ ْ‬ ‫ه ل ِي َغْ ِ‬ ‫ّ‬
‫ن الل ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫م ي َك ِ‬ ‫موا ل ْ‬
‫َ‬
‫فُروا وَظل ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫دا * إ ِ ّ‬ ‫ب َِعي ً‬
‫سيًرا { ‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ك عَلى اللهِ ي َ ِ‬ ‫َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫كا َ‬ ‫دا وَ َ‬ ‫ن ِفيَها أب َ ً‬ ‫دي َ‬‫خال ِ ِ‬‫م َ‬ ‫جهَن ّ َ‬‫ريقَ َ‬ ‫َ‬
‫* ِإل ط ِ‬
‫لما أخبر عن رسالة الرسل صلوات الله وسلمه عليهم وأخبر برسالة‬
‫خاتمهم محمد‪ ،‬وشهد بها وشهدت ملئكته ‪-‬لزم من ذلك ثبوت المر‬
‫المقرر والمشهود به‪ ،‬فوجب تصديقهم‪ ،‬واليمان بهم واتباعهم‪.‬‬
‫ل الل ّهِ {‬ ‫سِبي ِ‬ ‫عن َ‬ ‫دوا َ‬ ‫ص ّ‬‫فُروا وَ َ‬ ‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫ثم توعد من كفر بهم فقال‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫دهم الناس عن سبيل الله‪ .‬وهؤلء هم‬ ‫أي‪ :‬جمعوا بين الكفر بأنفسهم وص ّ‬
‫دا { وأي ضلل أعظم من‬ ‫ضلل ب َِعي ً‬ ‫ضّلوا َ‬ ‫أئمة الكفر ودعاة الضلل } قَد ْ َ‬
‫ضلل من ضل بنفسه وأضل غيره‪ ،‬فباء بالثمين ورجع بالخسارتين وفاتته‬
‫موا { وهذا الظلم هو زيادة‬ ‫فُروا وَظ َل َ ُ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫الهدايتان‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫على كفرهم‪ ،‬وإل فالكفر عند إطلق الظلم يدخل فيه‪.‬‬
‫والمراد بالظلم هنا أعمال الكفر والستغراق فيه‪ ،‬فهؤلء بعيدون من‬
‫َ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫المغفرة والهداية للصراط المستقيم‪ .‬ولهذا قال‪ } :‬ل َ ْ‬
‫م‬
‫فَر لهُ ْ‬ ‫ه ل ِي َغْ ِ‬ ‫م ي َك ُ ِ‬
‫م {‪.‬‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫ريقَ َ‬ ‫قا * ِإل ط َ ِ‬ ‫ري ً‬ ‫م طَ ِ‬ ‫َول ل ِي َهْدِي َهُ ْ‬
‫وإنما تعذرت المغفرة لهم والهداية لنهم استمروا في طغيانهم وازدادوا‬
‫في كفرانهم فطبع على قلوبهم وانسدت عليهم طرق الهداية بما كسبوا }‬
‫ظلم ٍ ل ِل ْعَِبيدِ {‪.‬‬ ‫ك بِ َ‬ ‫ما َرب ّ َ‬ ‫وَ َ‬
‫سيًرا { أي ل يبالي الله بهم ول يعبأ لنهم ل‬ ‫ك عََلى الل ّهِ ي َ ِ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫كا َ‬ ‫} وَ َ‬
‫يصلحون للخير ول يليق بهم إل الحالة التي اختاروها لنفسهم‬

‫) ‪(1/215‬‬

‫َ‬
‫ن‬ ‫خي ًْرا ل َك ُ ْ‬
‫م وَإ ِ ْ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫م فَآ َ ِ‬‫ن َرب ّك ُ ْ‬‫م ْ‬ ‫ل ِبال ْ َ‬
‫حق ّ ِ‬ ‫سو ُ‬ ‫جاَءك ُ ُ‬
‫م الّر ُ‬ ‫س قَد ْ َ‬ ‫َيا أي َّها الّنا ُ‬
‫ما )‪(170‬‬ ‫كي ً‬‫ح ِ‬‫ما َ‬ ‫ه عَِلي ً‬‫ن الل ّ ُ‬‫كا َ‬ ‫ت َواْل َْرض وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬
‫ما ِفي ال ّ‬ ‫ن ل ِل ّهِ َ‬ ‫ت َك ْ ُ‬
‫فُروا فَإ ِ ّ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫خي ًْرا‬
‫مُنوا َ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬
‫م َفآ ِ‬ ‫م ْ‬‫حق ّ ِ‬‫ل ِبال ْ َ‬
‫سو ُ‬ ‫جاَءك ُ ُ‬
‫م الّر ُ‬ ‫س قَد ْ َ‬‫} ‪َ } { 170‬يا أي َّها الّنا ُ‬
‫ما‬
‫ه عَِلي ً‬‫ن الل ّ ُ‬ ‫كا َ‬‫ت َوالْرض وَ َ‬
‫ِ‬ ‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬‫ما ِفي ال ّ‬ ‫ن ل ِل ّهِ َ‬ ‫ن ت َك ْ ُ‬
‫فُروا فَإ ِ ّ‬ ‫م وَإ ِ ْ‬‫ل َك ُ ْ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫كي ً‬
‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫يأمر تعالى جميع الناس أن يؤمنوا بعبده ورسوله محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ .‬وذكر السبب الموجب لليمان به‪ ،‬والفائدة في اليمان به‪،‬‬
‫والمضرة من عدم اليمان به‪ ،‬فالسبب الموجب هو إخباره ] ص ‪[ 216‬‬
‫بأنه جاءهم بالحق‪.‬أي‪ :‬فمجيئه نفسه حق‪ ،‬وما جاء به من الشرع حق‪ ،‬فإن‬
‫العاقل يعرف أن بقاء الخلق في جهلهم يعمهون‪ ،‬وفي كفرهم يترددون‪،‬‬
‫والرسالة قد انقطعت عنهم غير لئق بحكمة الله ورحمته‪ ،‬فمن حكمته‬
‫ورحمته العظيمة نفس إرسال الرسول إليهم‪ ،‬ليعرفهم الهدى من الضلل‪،‬‬
‫والغي من الرشد‪ ،‬فمجرد النظر في رسالته دليل قاطع على صحة نبوته‪.‬‬
‫وكذلك النظر إلى ما جاء به من الشرع العظيم والصراط المستقيم‪ .‬فإن‬
‫فيه من الخبار بالغيوب الماضية والمستقبلة‪ ،‬والخبر عن الله وعن اليوم‬
‫الخر ‪-‬ما ل يعرف إل بالوحي والرسالة‪ .‬وما فيه من المر بكل خير‬
‫وصلح‪ ،‬ورشد وعدل وإحسان‪ ،‬وصدق وبر وصلة وحسن خلق‪ ،‬ومن النهي‬
‫عن الشر والفساد والبغي والظلم وسوء الخلق‪ ،‬والكذب والعقوق‪ ،‬مما‬
‫يقطع به أنه من عند الله‪.‬‬
‫وكلما ازداد به العبد بصيرة‪ ،‬ازداد إيمانه ويقينه‪ ،‬فهذا السبب الداعي‬
‫لليمان‪ .‬وأما الفائدة في اليمان فأخبر أنه خير لكم والخير ضد الشر‪.‬‬
‫فاليمان خير للمؤمنين في أبدانهم وقلوبهم وأرواحهم ودنياهم وأخراهم‪.‬‬
‫وذلك لما يترتب عليه من المصالح والفوائد‪ ،‬فكل ثواب عاجل وآجل فمن‬
‫ثمرات اليمان‪ ،‬فالنصر والهدى والعلم والعمل الصالح والسرور والفراح‪،‬‬
‫والجنة وما اشتملت عليه من النعيم كل ذلك مسبب عن اليمان‪.‬‬
‫كما أن الشقاء الدنيوي والخروي من عدم اليمان أو نقصه‪ .‬وأما مضرة‬
‫عدم اليمان به صلى الله عليه وسلم فيعرف بضد ما يترتب على اليمان‬
‫به‪ .‬وأن العبد ل يضر إل نفسه‪ ،‬والله تعالى غني عنه ل تضره معصية‬
‫ض { أي‪ :‬الجميع‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن ل ِل ّهِ َ‬
‫ما ِفي ال ّ‬ ‫العاصين‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬فَإ ِ ّ‬
‫ما { بكل شيء‬ ‫ه عَِلي ً‬ ‫ّ‬
‫ن الل ُ‬
‫كا َ‬‫خلقه وملكه‪ ،‬وتحت تدبيره وتصريفه } وَ َ‬
‫ما { في خلقه وأمره‪ .‬فهو العليم بمن يستحق الهداية والغواية‪،‬‬ ‫كي ً‬
‫ح ِ‬
‫} َ‬
‫الحكيم في وضع الهداية والغواية موضعهما‪.‬‬

‫) ‪(1/215‬‬

‫ح‬
‫سي ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ما ال ْ َ‬ ‫حقّ إ ِن ّ َ‬ ‫قوُلوا عََلى الل ّهِ إ ِّل ال ْ َ‬ ‫م وََل ت َ ُ‬ ‫ب َل ت َغُْلوا ِفي ِدين ِك ُ ْ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫َيا أ َهْ َ‬
‫مُنوا‬ ‫ه فَآ َ ِ‬ ‫من ْ ُ‬
‫ح ِ‬ ‫م وَُرو ٌ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ها إ َِلى َ‬ ‫قا َ‬ ‫ه أ َل ْ َ‬ ‫ل الل ّهِ وَك َل ِ َ‬
‫مت ُ ُ‬ ‫سو ُ‬ ‫م َر ُ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ ُ‬ ‫عي َ‬ ‫ِ‬
‫ن‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫حا‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫د‬ ‫ح‬ ‫وا‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫إ‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ما‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫م‬‫ُ‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫را‬ ‫ي‬ ‫خ‬ ‫هوا‬ ‫ت‬‫ن‬ ‫ا‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ث‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫َ‬ ‫ث‬ ‫لوا‬‫ُ‬ ‫قو‬
‫ُ‬ ‫ت‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫س‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫بال‬
‫ُ ِ ٌ َ ِ ٌ ُ ْ َ َ ُ ْ‬ ‫ْ ِّ َ‬ ‫َ ًْ‬ ‫ٌ َُْ‬ ‫ِ ِ َُ ُ ِ ِ َ َ‬
‫ً‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫كيل )‪(171‬‬ ‫فى ِباللهِ وَ ِ‬ ‫َ‬
‫ض وَك َ‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ه وَل َد ٌ ل َ ُ‬ ‫ن لَ ُ‬‫كو َ‬ ‫يَ ُ‬

‫ق‬
‫ح ّ‬ ‫قوُلوا عََلى الل ّهِ ِإل ال ْ َ‬ ‫م َول ت َ ُ‬ ‫ب ل ت َغُْلوا ِفي ِدين ِك ُ ْ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬‫} ‪َ } { 171‬يا أ َهْ َ‬
‫ح‬
‫م وَُرو ٌ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ها إ َِلى َ‬ ‫قا َ‬ ‫ه أ َل ْ َ‬
‫مت ُ ُ‬‫ل الل ّهِ وَك َل ِ َ‬ ‫سو ُ‬‫م َر ُ‬ ‫مْري َ َ‬‫ن َ‬ ‫سى اب ْ ُ‬ ‫عي َ‬‫ح ِ‬ ‫سي ُ‬
‫م ِ‬ ‫ما ال ْ َ‬ ‫إ ِن ّ َ‬
‫حد ٌ‬ ‫ه إ ِل َ ٌ‬
‫ه َوا ِ‬ ‫ما الل ّ ُ‬
‫م إ ِن ّ َ‬‫خي ًْرا ل َك ُ ْ‬ ‫ة ان ْت َُهوا َ‬ ‫قوُلوا َثلث َ ٌ‬‫سل ِهِ َول ت َ ُ‬ ‫مُنوا ِبالل ّهِ وَُر ُ‬ ‫ه َفآ ِ‬ ‫من ْ ُ‬‫ِ‬
‫فى ِبالل ِّ‬
‫ه‬ ‫ض وَك َ َ‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫ما‬ ‫و‬ ‫ت‬ ‫وا‬ ‫ما‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫ما‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫د‬‫َ‬ ‫ل‬‫و‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫كو‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫حا‬ ‫ب‬ ‫س‬
‫ْ ِ‬ ‫ّ َ َ ِ َ َ ِ‬ ‫َ ُ َ ٌ ُ َ ِ‬ ‫ُ ْ َ َ ُ ْ َ‬
‫كيل { ‪.‬‬ ‫وَ ِ‬
‫ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو في الدين وهو مجاوزة الحد والقدر‬
‫المشروع إلى ما ليس بمشروع‪ .‬وذلك كقول النصارى في غلوهم بعيسى‬
‫عليه السلم‪ ،‬ورفعه عن مقام النبوة والرسالة إلى مقام الربوبية الذي ل‬
‫يليق بغير الله‪ ،‬فكما أن التقصير والتفريط من المنهيات‪ ،‬فالغلو كذلك‪،‬‬
‫حقّ { وهذا الكلم يتضمن ثلثة‬ ‫قوُلوا عََلى الل ّهِ ِإل ال ْ َ‬ ‫ولهذا قال‪َ } :‬ول ت َ ُ‬
‫أشياء‪:‬‬
‫أمرين منهي عنهما‪ ،‬وهما قول الكذب على الله‪ ،‬والقول بل علم في‬
‫أسمائه وصفاته وأفعاله وشرعه ورسله‪ ،‬والثالث‪ :‬مأمور به وهو قول الحق‬
‫في هذه المور‪.‬‬
‫ولما كانت هذه قاعدة عامة كلية‪ ،‬وكان السياق في شأن عيسى عليه‬
‫ص على قول الحق فيه‪ ،‬المخالف لطريقة اليهودية والنصرانية‬ ‫السلم ن ّ‬
‫ل اللهِ { أي‪ :‬غاية المسيح‬ ‫ّ‬ ‫سو ُ‬
‫م َر ُ‬ ‫مْري َ َ‬
‫ن َ‬‫سى اب ْ ُ‬ ‫عي َ‬ ‫ح ِ‬ ‫سي ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ْ‬
‫ما ال َ‬ ‫فقال‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫عليه السلم ومنتهى ما يصل إليه من مراتب الكمال أعلى حالة تكون‬
‫للمخلوقين‪ ،‬وهي درجة الرسالة التي هي أعلى الدرجات وأج ّ‬
‫ل المثوبات‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬كلمة تكلم الله بها فكان بها‬ ‫مْري َ َ‬‫ها إ َِلى َ‬‫قا َ‬‫ه { التي } أ َل ْ َ‬ ‫مت ُ ُ‬ ‫وأنه } ك َل ِ َ‬
‫عيسى‪ ،‬ولم يكن تلك الكلمة‪ ،‬وإنما كان بها‪ ،‬وهذا من باب إضافة‬
‫التشريف والتكريم‪.‬‬
‫ه { أي‪ :‬من الرواح التي خلقها وكملها بالصفات‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫وكذلك قوله‪ } :‬وَُرو ٌ‬
‫الفاضلة والخلق الكاملة‪ ،‬أرسل الله روحه جبريل عليه السلم فنفخ في‬
‫فرج مريم عليها السلم‪ ،‬فحملت بإذن الله بعيسى عليه السلم‪.‬‬
‫فلما بّين حقيقة عيسى عليه السلم‪ ،‬أمر أهل الكتاب باليمان به وبرسله‪،‬‬
‫ونهاهم أن يجعلوا الله ثالث ثلثة أحدهم عيسى‪ ،‬والثاني مريم‪ ،‬فهذه مقالة‬
‫النصارى قبحهم الله‪.‬‬
‫فأمرهم أن ينتهوا‪ ،‬وأخبر أن ذلك خير لهم‪ ،‬لنه الذي يتعين أنه سبيل‬
‫النجاة‪ ،‬وما سواه فهو طريق الهلك‪ ،‬ثم نزه نفسه عن الشريك والولد‬
‫حد ٌ { أي‪ :‬هو المنفرد باللوهية‪ ،‬الذي ل تنبغي‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫ه إ ِل َ ٌ‬
‫ما الل ّ ُ‬ ‫فقال‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫هَ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه { أي‪ :‬تنزه وتقدس } أن ي َ ُ‬
‫ه وَلد ٌ { لن } ل ُ‬
‫نل ُ‬‫كو َ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫العبادة إل له‪ُ } .‬‬
‫ض { فالكل مملوكون له مفتقرون إليه‪،‬‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫َ‬
‫فمحال أن يكون له شريك منهم أو ولد‪.‬‬
‫ولما أخبر أنه المالك للعالم العلوي والسفلي أخبر أنه قائم بمصالحهم‬
‫الدنيوية والخروية وحافظها‪ ،‬ومجازيهم عليها تعالى‪.‬‬

‫) ‪(1/216‬‬

‫ف ال ْمسي َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫قّرُبو َ‬ ‫م َ‬‫ة ال ْ ُ‬‫مَلئ ِك َ ُ‬‫دا ل ِل ّهِ وََل ال ْ َ‬ ‫ن عَب ْ ً‬‫كو َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫حأ ْ‬ ‫َ ِ ُ‬ ‫ست َن ْك ِ َ‬‫ن يَ ْ‬ ‫لَ ْ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫ما ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ميًعا )‪ (172‬فَأ ّ‬ ‫ج ِ‬‫م إ ِل َي ْهِ َ‬ ‫شُرهُ ْ‬‫ح ُ‬ ‫سي َ ْ‬‫ست َك ْب ِْر فَ َ‬ ‫عَباد َت ِهِ وَي َ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ف عَ ْ‬ ‫ست َن ْك ِ ْ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ذي َ‬
‫ما ال ِ‬ ‫ضل ِهِ وَأ ّ‬‫نف ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫زيد ُهُ ْ‬ ‫م وَي َ ِ‬‫جوَرهُ ْ‬ ‫مأ ُ‬ ‫ت في ُوَفيهِ ْ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ملوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫آ َ‬
‫ن الل ّهِ وَل ِّيا‬ ‫َ‬
‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ن ل َهُ ْ‬‫دو َ‬ ‫ما وََل ي َ ِ‬
‫ج ُ‬ ‫ذاًبا أِلي ً‬ ‫م عَ َ‬‫ست َك ْب َُروا فَي ُعَذ ّب ُهُ ْ‬‫فوا َوا ْ‬ ‫ست َن ْك َ ُ‬‫ا ْ‬
‫صيًرا )‪(173‬‬ ‫وََل ن َ ِ‬
‫ف ال ْمسي َ‬
‫ملئ ِك َ ُ‬
‫ة‬ ‫دا ل ِل ّهِ َول ال ْ َ‬ ‫ن عَب ْ ً‬ ‫كو َ‬ ‫ن يَ ُ‬‫حأ ْ‬ ‫َ ِ ُ‬ ‫ست َن ْك ِ َ‬‫ن يَ ْ‬ ‫} ‪ } { 173 ، 172‬ل َ ْ‬
‫ميًعا *‬ ‫ج ِ‬ ‫م إ ِل َي ْهِ َ‬
‫شُرهُ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫سي َ ْ‬‫ست َك ْب ِْر فَ َ‬‫عَباد َت ِهِ وَي َ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ف عَ ْ‬ ‫ست َن ْك ِ ْ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫م ْ‬‫ن وَ َ‬‫قّرُبو َ‬ ‫م َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫ضل ِ ِ‬‫ن فَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫زيد ُهُ ْ‬ ‫م وَي َ ِ‬ ‫جوَرهُ ْ‬ ‫مأ ُ‬ ‫ت فَي ُوَّفيهِ ْ‬ ‫حا ِ‬‫صال ِ َ‬‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫ما ال ّ ِ‬ ‫فَأ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ل َهُ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ج ُ‬‫ما َول ي َ ِ‬ ‫ذاًبا أِلي ً‬ ‫م عَ َ‬ ‫ست َك ْب َُروا فَي ُعَذ ّب ُهُ ْ‬‫فوا َوا ْ‬ ‫ست َن ْك َ ُ‬
‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬‫ما ال ّ ِ‬ ‫وَأ ّ‬
‫صيًرا { ‪.‬‬ ‫ن الل ّهِ وَل ِّيا َول ن َ ِ‬ ‫دو ِ‬ ‫ُ‬
‫لما ذكر تعالى غلو النصارى في عيسى عليه السلم‪ ،‬وذكر أنه عبده‬
‫ورسوله‪ ،‬ذكر هنا أنه ل يستنكف عن عبادة ربه‪ ،‬أي‪ :‬ل يمتنع عنها رغبة‬
‫ن { فنزههم عن الستنكاف وتنزيههم‬ ‫قّرُبو َ‬ ‫ة ال ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫ملئ ِك َ ُ‬ ‫عنها‪ ،‬ل هو } َول ال ْ َ‬
‫عن الستكبار من باب أولى‪ ،‬ونفي الشيء فيه إثبات ضده‪.‬‬
‫أي‪ :‬فعيسى والملئكة المقربون قد رغبوا في عبادة ربهم‪ ،‬وأحبوها وسعوا‬
‫فيها بما يليق بأحوالهم‪ ،‬فأوجب لهم ذلك الشرف العظيم والفوز العظيم‪] ،‬‬
‫ص ‪ [ 217‬فلم يستنكفوا أن يكونوا عبيدا لربوبيته ول للهيته‪ ،‬بل يرون‬
‫افتقارهم لذلك فوق كل افتقار‪.‬‬
‫ول يظن أن رفع عيسى أو غيره من الخلق فوق مرتبته التي أنزله الله‬
‫فيها وترفعه عن العبادة كمال بل هو النقص بعينه‪ ،‬وهو محل الذم‬
‫م‬
‫شُرهُ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫ست َك ْب ِْر فَ َ‬
‫سي َ ْ‬ ‫عَباد َت ِهِ وَي َ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ف عَ ْ‬ ‫سَتنك ِ ْ‬ ‫من ي َ ْ‬ ‫والعقاب‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَ َ‬
‫ميًعا { أي‪ :‬فسيحشر الخلق كلهم إليه‪ ،‬المستنكفين والمستكبرين‬ ‫ج ِ‬‫إ ِل َي ْهِ َ‬
‫وعباده المؤمنين‪ ،‬فيحكم بينهم بحكمه العدل‪ ،‬وجزائه الفصل‪.‬‬
‫َ‬
‫ت { أي‪:‬‬ ‫حا ِ‬ ‫مُلوا ال ّ‬
‫صال ِ َ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ما ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ثم فصل حكمه فيهم فقال‪ } :‬فَأ ّ‬
‫جمعوا بين اليمان المأمور به‪ ،‬وعمل الصالحات من واجبات ومستحبات‪،‬‬
‫من حقوق الله وحقوق عباده‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫م { أي‪ :‬الجور التي رتبها على العمال‪ ،‬كل بحسب‬ ‫} فَيوّفيه ُ‬
‫جوَرهُ ْ‬
‫مأ ُ‬ ‫ُ َ ِ ْ‬
‫إيمانه وعمله‪.‬‬
‫ضل ِهِ { من الثواب الذي لم تنله أعمالهم ولم تصل إليه‬ ‫من فَ ْ‬ ‫هم ِ‬ ‫زيد ُ ُ‬ ‫} وَي َ ِ‬
‫أفعالهم‪ ،‬ولم يخطر على قلوبهم‪ .‬ودخل في ذلك كل ما في الجنة من‬
‫المآكل والمشارب‪ ،‬والمناكح‪ ،‬والمناظر والسرور‪ ،‬ونعيم القلب والروح‪،‬‬
‫ونعيم البدن‪ ،‬بل يدخل في ذلك كل خير ديني ودنيوي رتب على اليمان‬
‫والعمل الصالح‪.‬‬
‫َ‬
‫ست َك ْب َُروا { أي‪ :‬عن عبادة الله تعالى } فَي ُعَذ ّب ُهُ ْ‬
‫م‬ ‫سَتنك َ ُ‬
‫فوا َوا ْ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما ال ّ ِ‬ ‫} وَأ ّ‬
‫ما { وهو سخط الله وغضبه‪ ،‬والنار الموقدة التي تطلع على‬ ‫َ‬ ‫عَ َ‬
‫ذاًبا أِلي ً‬
‫الفئدة‪.‬‬
‫صيًرا { أي‪ :‬ل يجدون أحدا من‬ ‫ن الل ّهِ وَل ِّيا َول ن َ ِ‬‫دو ِ‬‫من ُ‬ ‫ن ل َُهم ّ‬ ‫دو َ‬ ‫ج ُ‬ ‫} َول ي َ ِ‬
‫من ينصرهم فيدفع عنهم‬ ‫الخلق يتولهم فيحصل لهم المطلوب‪ ،‬ول َ‬
‫المرهوب‪ ،‬بل قد تخلى عنهم أرحم الراحمين‪ ،‬وتركهم في عذابهم خالدين‪،‬‬
‫وما حكم به تعالى فل راد ّ لحكمه ول مغّير لقضائه‪.‬‬

‫) ‪(1/216‬‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫مِبيًنا )‪(174‬‬ ‫م ُنوًرا ُ‬ ‫م وَأن َْزل َْنا إ ِل َي ْك ُ ْ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬‫ها ٌ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬
‫م ب ُْر َ‬ ‫س قَد ْ َ‬‫َيا َأي َّها الّنا ُ‬
‫ذي َ‬
‫ل‬ ‫ه وَفَ ْ‬
‫ض ٍ‬ ‫من ْ ُ‬
‫مة ٍ ِ‬
‫ح َ‬‫م ِفي َر ْ‬ ‫خل ُهُ ْ‬ ‫سي ُد ْ ِ‬‫موا ب ِهِ فَ َ‬
‫ص ُ‬ ‫مُنوا ِبالل ّهِ َواعْت َ َ‬
‫نآ َ‬ ‫ما ال ّ ِ َ‬ ‫فَأ ّ‬
‫ما )‪(175‬‬ ‫قي ً‬‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫طا ُ‬‫صَرا ً‬‫م إ ِل َي ْهِ ِ‬
‫ديهِ ْ‬
‫وَي َهْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫م وَأن َْزل َْنا إ ِل َي ْك ُ ْ‬
‫ن َرب ّك ُ ْ‬‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ها ٌ‬‫م ب ُْر َ‬‫جاَءك ُ ْ‬ ‫س قَد ْ َ‬ ‫‪َ } { 175‬يا أي َّها الّنا ُ‬ ‫} ‪، 174‬‬
‫َ‬
‫ه‬
‫من ْ ُ‬‫مة ٍ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م ِفي َر ْ‬ ‫خل ُهُ ْ‬ ‫موا ب ِهِ فَ َ‬
‫سي ُد ْ ِ‬ ‫ص ُ‬‫مُنوا ِبالل ّهِ َواعْت َ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما ال ّ ِ‬‫مِبيًنا * فَأ ّ‬ ‫ُنوًرا ُ‬
‫ما { ‪.‬‬ ‫قي ً‬‫ست َ ِ‬‫م ْ‬ ‫صَرا ً‬
‫طا ُ‬ ‫م إ ِل َي ْهِ ِ‬ ‫ديهِ ْ‬
‫ل وَي َهْ ِ‬
‫ض ٍ‬‫وَفَ ْ‬
‫يمتن تعالى على سائر الناس بما أوصل إليهم من البراهين القاطعة‬
‫َ‬
‫والنوار الساطعة‪ ،‬ويقيم عليهم الحجة‪ ،‬ويوضح لهم المحجة‪ ،‬فقال‪ } :‬ي َأي َّها‬
‫م { أي‪ :‬حجج قاطعة على الحق تبينه‬ ‫من ّرب ّك ُ ْ‬‫ن ِ‬ ‫ها ٌ‬ ‫كم ب ُْر َ‬ ‫جاَء ُ‬ ‫س قَد ْ َ‬ ‫الّنا ُ‬
‫وتوضحه‪ ،‬وتبين ضده‪.‬‬
‫م‬‫ريهِ ْ‬ ‫سن ُ ِ‬‫وهذا يشمل الدلة العقلية والنقلية‪ ،‬اليات الفقية والنفسية } َ‬
‫فسهم حتى يتبين ل َه َ‬ ‫َ‬
‫حق ّ { ‪.‬‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫م أن ّ ُ‬‫ق وَِفي أن ْ ُ ِ ِ ْ َ ّ َ َ َ ّ َ ُ ْ‬ ‫آَيات َِنا ِفي الَفا ِ‬
‫م { ما يدل على شرف هذا البرهان وعظمته‪ ،‬حيث‬ ‫ُ‬
‫من ّرب ّك ْ‬ ‫وفي قوله‪ِ } :‬‬
‫كان من ربكم الذي رباكم التربية الدينية والدنيوية‪ ،‬فمن تربيته لكم التي‬
‫يحمد عليها ويشكر‪ ،‬أن أوصل إليكم البينات‪ ،‬ليهديكم بها إلى الصراط‬
‫المستقيم‪ ،‬والوصول إلى جنات النعيم‪.‬‬
‫َ‬
‫مِبيًنا { وهو هذا القرآن العظيم‪ ،‬الذي قد اشتمل على‬ ‫م ُنوًرا ّ‬ ‫} وَأنزل َْنا إ ِل َي ْك ُ ْ‬
‫علوم الولين والخرين والخبار الصادقة النافعة‪ ،‬والمر بكل عدل وإحسان‬
‫وخير‪ ،‬والنهي عن كل ظلم وشر‪ ،‬فالناس في ظلمة إن لم يستضيئوا‬
‫بأنواره‪ ،‬وفي شقاء عظيم إن لم يقتبسوا من خيره‪.‬‬
‫ولكن انقسم الناس ‪-‬بحسب اليمان بالقرآن والنتفاع به‪ -‬قسمين‪:‬‬
‫مُنوا ِبالل ّهِ { أي‪ :‬اعترفوا بوجوده واتصافه بكل وصف كامل‪،‬‬ ‫َ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ما ال ّ ِ‬ ‫} فَأ ّ‬
‫موا ب ِهِ { أي‪ :‬لجأوا إلى الله‬
‫ص ُ‬‫وتنزيهه من كل نقص وعيب‪َ } .‬واعْت َ َ‬
‫خل ُهُ ْ‬
‫م‬ ‫واعتمدوا عليه وتبرؤوا من حولهم وقوتهم واستعانوا بربهم‪ } .‬فَ َ‬
‫سي ُد ْ ِ‬
‫ل { أي‪ :‬فسيتغمدهم بالرحمة الخاصة‪ ،‬فيوفقهم‬ ‫ه وَفَ ْ‬
‫ض ٍ‬ ‫من ْ ُ‬
‫مةٍ ّ‬ ‫ح َ‬‫ِفي َر ْ‬
‫للخيرات ويجزل لهم المثوبات‪ ،‬ويدفع عنهم البليات والمكروهات‪.‬‬
‫ما { أي‪ :‬يوفقهم للعلم والعمل‪ ،‬معرفة‬ ‫قي ً‬
‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫صَرا ً‬
‫طا ّ‬ ‫م إ ِل َي ْهِ ِ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫} وَي َهْ ِ‬
‫الحق والعمل به‪.‬‬
‫أي‪ :‬ومن لم يؤمن بالله ويعتصم به ويتمسك بكتابه‪ ،‬منعهم من رحمته‪،‬‬
‫وحرمهم من فضله‪ ،‬وخلى بينهم وبين أنفسهم‪ ،‬فلم يهتدوا‪ ،‬بل ضلوا ضلل‬
‫مبينا‪ ،‬عقوبة لهم على تركهم اليمان فحصلت لهم الخيبة والحرمان‪ ،‬نسأله‬
‫تعالى العفو والعافية والمعافاة‪.‬‬

‫) ‪(1/217‬‬

‫ت‬
‫خ ٌ‬ ‫ه أُ ْ‬‫ه وَل َد ٌ وَل َ ُ‬ ‫س لَ ُ‬‫ك ل َي ْ َ‬‫مُرؤٌ هَل َ َ‬‫نا ْ‬ ‫م ِفي ال ْك ََلل َةِ إ ِ ِ‬ ‫فِتيك ُ ْ‬ ‫ه يُ ْ‬ ‫ل الل ّ ُ‬‫ك قُ ِ‬ ‫فُتون َ َ‬ ‫ست َ ْ‬‫يَ ْ‬
‫ما‬ ‫َ‬
‫ن فَلهُ َ‬ ‫ن َ‬
‫كان ََتا اث ْن َت َي ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن لَها وَلد ٌ فَإ ِ ْ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫نل ْ‬ ‫ك وَهُوَ ي َرِث َُها إ ِ ْ‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫ف َ‬ ‫ص ُ‬ ‫فَل ََها ن ِ ْ‬
‫ِ‬
‫ل َ ّ ُْ‬
‫ن‬
‫ن ي ُب َي ّ ُ‬‫حظ الن ْث َي َي ْ ِ‬ ‫مث ْ ُ‬‫ساًء فَِللذ ّك َرِ ِ‬‫جاًل وَن ِ َ‬ ‫خوَةً رِ َ‬ ‫كاُنوا إ ِ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ك وَإ ِ ْ‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫م ّ‬‫ن ِ‬ ‫الث ّل َُثا ِ‬
‫َ‬
‫م )‪(176‬‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه ب ِك ُ ّ‬ ‫ضّلوا َوالل ّ ُ‬ ‫ن تَ ِ‬‫مأ ْ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬ ‫الل ّ ُ‬

‫س لَ ُ‬
‫ه‬ ‫ك ل َي ْ َ‬ ‫مُرؤٌ هَل َ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫كلل َةِ إ ِ ِ‬ ‫م ِفي ال ْ َ‬ ‫فِتيك ُ ْ‬ ‫ه يُ ْ‬‫ل الل ّ ُ‬ ‫ك قُ ِ‬ ‫فُتون َ َ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫} ‪ } { 176‬ي َ ْ‬
‫َ‬
‫ن كان ََتا‬ ‫َ‬
‫ن لَها وَلد ٌ فَإ ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م ي َك ْ‬ ‫َ‬
‫نل ْ‬ ‫ك وَهُوَ ي َرِث َُها إ ِ ْ‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫ف َ‬ ‫ص ُ‬ ‫ت فَلَها ن ِ ْ‬‫َ‬ ‫خ ٌ‬ ‫ه أُ ْ‬ ‫وَل َد ٌ وَل َ ُ‬
‫ح ّ‬ ‫مث ْ ُ‬ ‫ساًء فَِللذ ّك َرِ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫ما الث ّل َُثا ِ‬ ‫ن فَل َهُ َ‬
‫ظ‬ ‫ل َ‬ ‫جال وَن ِ َ‬ ‫خوَةً رِ َ‬ ‫كاُنوا إ ِ ْ‬ ‫ك وَإ ِ ْ‬
‫َ‬
‫م ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫اث ْن َت َي ْ ِ‬
‫ه ب ِك ُ ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ه لك ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫م{‪.‬‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ضلوا َوالل ُ‬ ‫ن تَ ِ‬‫مأ ْ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫ن ي ُب َي ّ ُ‬ ‫الن ْث َي َي ْ ِ‬
‫أخبر تعالى أن الناس استفتوا رسوله صلى الله عليه وسلم أي‪ :‬في‬
‫كلل َةِ { وهي الميت يموت‬ ‫م ِفي ال ْ َ‬ ‫فِتيك ُ ْ‬ ‫ه يُ ْ‬ ‫ل الل ّ ُ‬‫الكللة بدليل قوله‪ } :‬قُ ِ‬
‫مُرؤٌ‬ ‫نا ْ‬ ‫وليس له ولد صلب ول ولد ابن‪ ،‬ول أب‪ ،‬ول جد‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬إ ِ ِ‬
‫ه وَل َد ٌ { أي‪ :‬ل ذكر ول أنثى‪ ،‬ل ولد صلب ول ولد ابن‪.‬‬ ‫س لَ ُ‬ ‫ك ل َي ْ َ‬ ‫هَل َ َ‬
‫وكذلك ليس له والد‪ ،‬بدليل أنه ورث فيه الخوة‪ ،‬والخوات بالجماع ل‬
‫ت { أي‪ :‬شقيقة‬ ‫خ ٌ‬‫ه أُ ْ‬ ‫يرثون مع الوالد‪ ،‬فإذا هلك وليس له ولد ول والد } وَل َ ُ‬
‫ك { أي نصف‬ ‫ما ت ََر َ‬ ‫ف َ‬ ‫ص ُ‬ ‫أو لب‪ ،‬ل لم‪ ،‬فإنه قد تقدم حكمها‪ } .‬فَل ََها ن ِ ْ‬
‫متروكات أخيها‪ ،‬من نقود وعقار وأثاث وغير ذلك‪ ،‬وذلك من بعد الدين‬
‫والوصية كما تقدم‪.‬‬
‫َ‬
‫م ي َكن لَها وَلد ٌ {‬‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫} وَهُوَ { أي‪ :‬أخوها الشقيق أو الذي للب } ي َرِث َُها ِإن ل ْ‬
‫ولم يقدر له إرثا لنه عاصب فيأخذ مالها كله‪ ،‬إن لم يكن صاحب فرض ول‬
‫عاصب يشاركه‪ ،‬أو ما أبقت الفروض‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن { أي‪ :‬فما فوق } فَلهُ َ‬
‫ما الث ّلَثا ِ‬ ‫} فَِإن َ‬
‫ما‬
‫م ّ‬
‫ن ِ‬ ‫كان ََتا { أي‪ :‬الختان } اث ْن َت َي ْ ِ‬
‫ساًء { أي‪ :‬اجتمع الذكور من الخوة لغير أم‬ ‫جال وَن ِ َ‬ ‫خوَةً رِ َ‬ ‫كاُنوا إ ِ ْ‬ ‫ك وَِإن َ‬ ‫ت ََر َ‬
‫ل َ ّ‬ ‫مع الناث } فَِللذ ّك َرِ ِ‬
‫ن { فيسقط فرض الناث ويعصبهن‬ ‫حظ الن ْث َي َي ْ ِ‬ ‫مث ْ ُ‬
‫إخوتهن‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ضلوا { أي‪ ] :‬ص ‪ [ 218‬يبين لكم أحكامه التي‬ ‫م أن ت َ ِ‬ ‫ه لك ُ ْ‬ ‫ن الل ُ‬ ‫} ي ُب َي ّ ُ‬
‫تحتاجونها‪ ،‬ويوضحها ويشرحها لكم فضل منه وإحسانا لكي تهتدوا ببيانه‪،‬‬
‫وتعملوا بأحكامه‪ ،‬ولئل تضلوا عن الصراط المستقيم بسبب جهلكم وعدم‬
‫علمكم‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬عالم بالغيب والشهادة والمور الماضية‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه ب ِك ُ ّ‬‫} َوالل ّ ُ‬
‫والمستقبلة‪ ،‬ويعلم حاجتكم إلى بيانه وتعليمه‪ ،‬فيعلمكم من علمه الذي‬
‫ينفعكم على الدوام في جميع الزمنة والمكنة‪.‬‬
‫آخر تفسير سورة النساء فلله الحمد والشكر‪.‬‬

‫) ‪(1/217‬‬

‫حل ّت ل َك ُم ب َهيم ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫مُنوا أ َوُْفوا ِبال ْعُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫ما ي ُت َْلى عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ة اْلن َْعام ِ إ ِّل َ‬ ‫ْ ِ َ‬ ‫قودِ أ ِ ْ‬ ‫نآ َ‬‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫َ‬
‫ريد ُ )‪(1‬‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫حك ُ ُ‬
‫م َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه يَ ْ‬ ‫م إِ ّ‬‫حُر ٌ‬ ‫م ُ‬
‫صي ْدِ وَأن ْت ُ ْ‬‫حّلي ال ّ‬ ‫غَي َْر ُ‬
‫م ِ‬

‫تفسير سورة المائدة‬


‫وهي مدنية‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حل ّ ْ‬
‫ت‬ ‫قودِ أ ِ‬ ‫مُنوا أوُْفوا ِبال ْعُ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫حيم ِ َيا أي َّها ال ّ ِ‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫سم ِ الل ّهِ الّر ْ‬
‫ح َ‬ ‫} ‪ } { 1‬بِ ْ‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن الل َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫حُر ٌ‬ ‫م ُ‬ ‫صي ْدِ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫حلي ال ّ‬ ‫م ِ‬
‫م غي َْر ُ‬‫َ‬ ‫ُ‬
‫ما ي ُت ْلى عَلي ْك ْ‬ ‫ة الن َْعام ِ ِإل َ‬ ‫م ُ‬‫م ب َِهي َ‬ ‫ل َك ُ ْ‬
‫ريد ُ { ‪.‬‬‫ما ي ُ ِ‬‫م َ‬ ‫حك ُ ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين بما يقتضيه اليمان بالوفاء بالعقود‪،‬‬
‫أي‪ :‬بإكمالها‪ ،‬وإتمامها‪ ،‬وعدم نقضها ونقصها‪ .‬وهذا شامل للعقود التي بين‬
‫العبد وبين ربه‪ ،‬من التزام عبوديته‪ ،‬والقيام بها أتم قيام‪ ،‬وعدم النتقاص‬
‫من حقوقها شيئا‪ ،‬والتي بينه وبين الرسول بطاعته واتباعه‪ ،‬والتي بينه‬
‫وبين الوالدين والقارب‪ ،‬ببرهم وصلتهم‪ ،‬وعدم قطيعتهم‪.‬‬
‫والتي بينه وبين أصحابه من القيام بحقوق الصحبة في الغنى والفقر‪،‬‬
‫واليسر والعسر‪ ،‬والتي بينه وبين الخلق من عقود المعاملت‪ ،‬كالبيع‬
‫والجارة‪ ،‬ونحوهما‪ ،‬وعقود التبرعات كالهبة ونحوها‪ ،‬بل والقيام بحقوق‬
‫خوَةٌ {‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ما ال ْ ُ‬‫المسلمين التي عقدها الله بينهم في قوله‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫بالتناصر على الحق‪ ،‬والتعاون عليه والتآلف بين المسلمين وعدم التقاطع‪.‬‬
‫فهذا المر شامل لصول الدين وفروعه‪ ،‬فكلها داخلة في العقود التي أمر‬
‫الله بالقيام بها )‪. (1‬‬
‫ة‬
‫م ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫م { أي‪ :‬لجلكم‪ ،‬رحمة بكم } ب َِهي َ‬ ‫ت لك ْ‬ ‫حل ْ‬ ‫ثم قال ممتنا على عباده‪ } :‬أ ِ‬
‫الن َْعام ِ { من البل والبقر والغنم‪ ،‬بل ربما دخل في ذلك الوحشي منها‪،‬‬
‫والظباء وحمر الوحش‪ ،‬ونحوها من الصيود‪.‬‬
‫واستدل بعض الصحابة بهذه الية على إباحة الجنين الذي يموت في بطن‬
‫أمه بعدما تذبح‪.‬‬
‫ة‬
‫مي ْت َ ُ‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ت عَلي ْك ُ‬ ‫م ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫م { تحريمه منها في قوله‪ُ } :‬‬ ‫ما ي ُت َْلى عَلي ْك ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫} ِإل َ‬
‫خنزيرِ { إلى آخر الية‪ .‬فإن هذه المذكورات وإن كانت من‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫م وَل َ ْ‬
‫ح ُ‬ ‫َوالد ّ ُ‬
‫بهيمة النعام فإنها محرمة‪.‬‬
‫ولما كانت إباحة بهيمة النعام عامة في جميع الحوال والوقات‪ ،‬استثنى‬
‫َ‬
‫م { أي‪:‬‬ ‫حُر ٌ‬
‫م ُ‬ ‫حّلي ال ّ‬
‫صي ْدِ وَأنت ُ ْ‬ ‫منها الصيد في حال الحرام فقال‪ } :‬غَي َْر ُ‬
‫م ِ‬
‫أحلت لكم بهيمة النعام في كل حال‪ ،‬إل حيث كنتم متصفين بأنكم غير‬
‫محلي الصيد وأنتم حرم‪ ،‬أي‪ :‬متجرئون على قتله في حال الحرام‪ ،‬وفي‬
‫الحرم‪ ،‬فإن ذلك ل يحل لكم إذا كان صيدا‪ ،‬كالظباء ونحوه‪.‬‬
‫والصيد هو الحيوان المأكول المتوحش‪.‬‬
‫ريد ُ { أي‪ :‬فمهما أراده تعالى حكم به حكما موافقا‬ ‫ما ي ُ ِ‬
‫م َ‬‫حك ُ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه يَ ْ‬ ‫} إِ ّ‬
‫لحكمته‪ ،‬كما أمركم بالوفاء بالعقود لحصول مصالحكم ودفع المضار عنكم‪.‬‬
‫وأحل لكم بهيمة النعام رحمة بكم‪ ،‬وحرم عليكم ما استثنى منها من ذوات‬
‫العوارض‪ ،‬من الميتة ونحوها‪ ،‬صونا لكم واحتراما‪ ،‬ومن صيد الحرام‬
‫احتراما للحرام وإعظاما‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في هامش أ ما نصه‪) :‬ويستدل بهذه الية أن الصل في العقود‬
‫والشروط الباحة‪ ،‬وأنها تنعقد بما دل عليها من قول أو فعل لطلقها(‬
‫وليس هناك علمة تدل على موضع الزيادة‪ .‬ويبدو أن موضعها هنا‪-‬والله‬
‫أعلم‪-‬‬

‫) ‪(1/218‬‬

‫م وََل ال ْهَد ْيَ وََل‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫حَرا َ‬ ‫شهَْر ال ْ َ‬ ‫شَعائ َِر الل ّهِ وََل ال ّ‬ ‫حّلوا َ‬ ‫مُنوا َل ت ُ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫َ‬
‫حل َل ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ذا َ‬ ‫واًنا وَإ ِ َ‬ ‫ض َ‬‫م وَرِ ْ‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬‫م ْ‬ ‫ضًل ِ‬
‫ن فَ ْ‬ ‫م ي َب ْت َُغو َ‬‫حَرا َ‬ ‫ت ال ْ َ‬ ‫ن ال ْب َي ْ َ‬‫مي َ‬ ‫قَلئ ِد َ وََل آ ّ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫حَرام ِ أ ْ‬ ‫جدِ ال ْ َ‬ ‫س ِ‬‫م ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م عَ ِ‬ ‫دوك ُ ْ‬
‫ص ّ‬‫ن َ‬ ‫ن قَوْم ٍ أ ْ‬ ‫شن َآ َ ُ‬
‫م َ‬ ‫من ّك ُ ْ‬‫جرِ َ‬ ‫دوا وََل ي َ ْ‬ ‫ص َ‬
‫طا ُ‬ ‫َفا ْ‬
‫قوا‬ ‫ن َوات ّ ُ‬ ‫وى وََل ت ََعاوَُنوا عََلى اْل ِث ْم ِ َوال ْعُد َْوا ِ‬ ‫ق َ‬‫دوا وَت ََعاوَُنوا عََلى ال ْب ِّر َوالت ّ ْ‬ ‫ت َعْت َ ُ‬
‫ب )‪(2‬‬ ‫قا ِ‬ ‫ديد ُ ال ْعِ َ‬ ‫ش ِ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه إِ ّ‬‫الل ّ َ‬
‫َ‬
‫م َول‬ ‫حَرا َ‬ ‫شهَْر ال ْ َ‬ ‫شَعائ َِر الل ّهِ َول ال ّ‬ ‫حّلوا َ‬ ‫مُنوا ل ت ُ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 2‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫واًنا‬ ‫ض َ‬‫م وَرِ ْ‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬‫ضل ِ‬ ‫ن فَ ْ‬ ‫م ي َب ْت َُغو َ‬ ‫حَرا َ‬ ‫ت ال ْ َ‬ ‫ن ال ْب َي ْ َ‬ ‫مي َ‬ ‫قلئ ِد َ َول آ ّ‬ ‫ال ْهَد ْيَ َول ال ْ َ‬
‫َ‬
‫جدِ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م عَ ِ‬ ‫دوك ُ ْ‬ ‫ص ّ‬
‫ن َ‬ ‫ن قَوْم ٍ أ ْ‬ ‫شَنآ ُ‬ ‫م َ‬ ‫من ّك ُ ْ‬ ‫جرِ َ‬ ‫دوا َول ي َ ْ‬ ‫طا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫م َفا ْ‬ ‫حل َل ْت ُ ْ‬
‫ذا َ‬ ‫وَإ ِ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وى َول ت ََعاوَُنوا عَلى الث ْم ِ‬ ‫ق َ‬ ‫دوا وَت ََعاوَُنوا عَلى الب ِّر َوالت ّ ْ‬ ‫ن ت َعْت َ ُ‬ ‫حَرام ِ أ ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ب{‪.‬‬ ‫قا ِ‬ ‫ديد ُ ال ْعِ َ‬ ‫ش ِ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫ن َوات ّ ُ‬ ‫َوال ْعُد َْوا ِ‬
‫شَعائ َِر الل ّهِ { أي‪ :‬محرماته التي‬ ‫حّلوا َ‬ ‫َ‬
‫مُنوا ل ت ُ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫يقول تعالى } ي َأي َّها ال ّ ِ‬
‫أمركم بتعظيمها‪ ،‬وعدم فعلها‪ ،‬والنهي يشمل النهي عن فعلها‪ ،‬والنهي عن‬
‫اعتقاد حلها؛ فهو يشمل النهي‪ ،‬عن فعل القبيح‪ ،‬وعن اعتقاده‪.‬‬
‫ويدخل في ذلك النهي عن محرمات الحرام‪ ،‬ومحرمات الحرم‪ .‬ويدخل‬
‫م { أي‪ :‬ل تنتهكوه بالقتال‬ ‫حَرا َ‬ ‫شهَْر ال ْ َ‬ ‫في ذلك ما نص عليه بقوله‪َ } :‬ول ال ّ‬
‫ّ‬
‫عند َ اللهِ اث َْنا‬ ‫شُهورِ ِ‬ ‫عد ّةَ ال ّ‬ ‫ن ِ‬‫فيه وغيره من أنواع الظلم كما قال تعالى‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫َ‬
‫م‬‫حُر ٌ‬ ‫ة ُ‬ ‫من َْها أْرب َعَ ٌ‬ ‫ض ِ‬ ‫ت َوالْر َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫خل َقَ ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ب الل ّهِ ي َوْ َ‬ ‫شهًْرا ِفي ك َِتا ِ‬ ‫شَر َ‬ ‫عَ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫سك ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ن أن ُ‬ ‫موا ِفيهِ ّ‬ ‫م َفل ت َظل ِ ُ‬ ‫قي ّ ُ‬‫ن ال َ‬ ‫دي ُ‬ ‫ذ َل ِك ال ّ‬
‫والجمهور من العلماء على أن القتال في الشهر الحرم منسوخ بقوله‬
‫م{‬ ‫موهُ ْ‬ ‫جدت ّ ُ‬ ‫ث وَ َ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫كي َ‬‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م َفاقْت ُُلوا ال ْ ُ‬ ‫حُر ُ‬ ‫شهُُر ال ْ ُ‬ ‫خ ال ْ‬ ‫سل َ َ‬ ‫ذا ان َ‬ ‫تعالى‪ } :‬فَإ ِ َ‬
‫وغير ذلك من العمومات التي فيها المر بقتال الكفار مطلقا‪ ،‬والوعيد في‬
‫التخلف عن قتالهم مطلقا‪.‬‬
‫] ص ‪[ 219‬‬
‫وبأن النبي صلى الله عليه وسلم قاتل أهل الطائف في ذي القعدة‪ ،‬وهو‬
‫من الشهر الحرم‪.‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬إن النهي عن القتال في الشهر الحرم غير منسوخ لهذه‬
‫الية وغيرها‪ ،‬مما فيه النهي عن ذلك بخصوصه‪ ،‬وحملوا النصوص المطلقة‬
‫الواردة على ذلك‪ ،‬وقالوا‪ :‬المطلق يحمل على المقيد‪.‬‬
‫وفصل بعضهم فقال‪ :‬ل يجوز ابتداء القتال في الشهر الحرم‪ ،‬وأما‬
‫استدامته وتكميله إذا كان أوله في غيرها‪ ،‬فإنه يجوز‪.‬‬
‫وحملوا قتال النبي صلى الله عليه وسلم لهل الطائف على ذلك‪ ،‬لن أول‬
‫قتالهم في "حنين" في "شوال"‪ .‬وكل هذا في القتال الذي ليس المقصود‬
‫منه الدفع‪.‬‬
‫فأما قتال الدفع إذا ابتدأ الكفار المسلمين بالقتال‪ ،‬فإنه يجوز للمسلمين‬
‫القتال‪ ،‬دفعا عن أنفسهم في الشهر الحرام وغيره بإجماع العلماء‪.‬‬
‫قلئ ِد َ { أي‪ :‬ول تحلوا الهدي الذي يهدى إلى بيت‬ ‫وقوله‪َ } :‬ول ال ْهَد ْيَ َول ال ْ َ‬
‫الله في حج أو عمرة‪ ،‬أو غيرهما‪ ،‬من نعم وغيرها‪ ،‬فل تصدوه عن الوصول‬
‫إلى محله‪ ،‬ول تأخذوه بسرقة أو غيرها‪ ،‬ول تقصروا به‪ ،‬أو تحملوه ما ل‬
‫يطيق‪ ،‬خوفا من تلفه قبل وصوله إلى محله‪ ،‬بل عظموه وعظموا من جاء‬
‫به‪.‬‬
‫قلئ ِد َ { هذا نوع خاص من أنواع الهدي‪ ،‬وهو الهدي الذي يفتل له‬ ‫} َول ال ْ َ‬
‫قلئد أو عرى‪ ،‬فيجعل في أعناقه إظهارا لشعائر الله‪ ،‬وحمل للناس على‬
‫القتداء‪ ،‬وتعليما لهم للسنة‪ ،‬وليعرف أنه هدي فيحترم‪ ،‬ولهذا كان تقليد‬
‫الهدي من السنن والشعائر المسنونة‪.‬‬
‫م‬
‫من ّرب ّهِ ْ‬ ‫ضل ّ‬ ‫ن فَ ْ‬ ‫م { أي‪ :‬قاصدين له } ي َب ْت َُغو َ‬ ‫حَرا َ‬ ‫ت ال ْ َ‬‫ن ال ْب َي ْ َ‬ ‫مي َ‬ ‫} َول آ ّ‬
‫واًنا { أي‪ :‬من قصد هذا البيت الحرام‪ ،‬وقصده فضل الله بالتجارة‬ ‫ض َ‬‫وَرِ ْ‬
‫والمكاسب المباحة‪ ،‬أو قصده رضوان الله بحجه وعمرته والطواف به‪،‬‬
‫والصلة‪ ،‬وغيرها من أنواع العبادات‪ ،‬فل تتعرضوا له بسوء‪ ،‬ول تهينوه‪ ،‬بل‬
‫أكرموه‪ ،‬وعظموا الوافدين الزائرين لبيت ربكم‪.‬‬
‫ودخل في هذا المر المُر بتأمين الطرق الموصلة إلى بيت الله وجعل‬
‫القاصدين له مطمئنين مستريحين‪ ،‬غير خائفين على أنفسهم من القتل‬
‫فما دونه‪ ،‬ول على أموالهم من المكس والنهب ونحو ذلك‪.‬‬
‫َ‬
‫ما‬‫مُنوا إ ِن ّ َ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وهذه الية الكريمة مخصوصة بقوله تعالى‪َ } :‬ياأي َّها ال ّ ِ‬
‫ذا { فالمشرك‬ ‫م هَ َ‬ ‫مه ِ ْ‬ ‫عا ِ‬
‫م ب َعْد َ َ‬ ‫جد َ ال ْ َ‬
‫حَرا َ‬ ‫س ِ‬
‫م ْ‬ ‫قَرُبوا ال ْ َ‬ ‫س َفل ي َ ْ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ن نَ َ‬ ‫كو َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫كن من الدخول إلى الحرم‪.‬‬ ‫م ّ‬ ‫ل يُ َ‬
‫والتخصيص في هذه الية بالنهي عن التعرض لمن قصد البيت ابتغاء فضل‬
‫الله أو رضوانه ‪-‬يدل على أن من قصده ليلحد فيه بالمعاصي‪ ،‬فإن من‬
‫تمام احترام الحرم صد من هذه حاله عن الفساد ببيت الله‪ ،‬كما قال‬
‫ب أ َِليم ٍ { ‪.‬‬ ‫ذا ٍ‬ ‫ن عَ َ‬
‫م ْ‬‫ه ِ‬ ‫حادٍ ب ِظ ُل ْم ٍ ن ُذِقْ ُ‬‫من ي ُرِد ْ ِفيهِ ب ِإ ِل ْ َ‬ ‫تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫دوا {‬‫صطا ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م فا ْ‬ ‫ْ‬
‫حللت ُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ذا َ‬ ‫ولما نهاهم عن الصيد في حال الحرام قال‪ } :‬وَإ ِ َ‬
‫أي‪ :‬إذا حللتم من الحرام بالحج والعمرة‪ ،‬وخرجتم من الحرم حل لكم‬
‫الصطياد‪ ،‬وزال ذلك التحريم‪ .‬والمر بعد التحريم يرد الشياء إلى ما كانت‬
‫عليه من قبل‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫دوا {‬‫حَرام ِ أن ت َعْت َ ُ‬
‫جدِ ال َ‬
‫س ِ‬
‫م ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫م عَ ِ‬
‫دوك ْ‬ ‫ن قَوْم ٍ أن َ‬
‫ص ّ‬ ‫شَنآ ُ‬ ‫م َ‬ ‫من ّك ُ ْ‬ ‫جرِ َ‬
‫} َول ي َ ْ‬
‫أي‪ :‬ل يحملنكم بغض قوم وعداوتهم واعتداؤهم عليكم‪ ،‬حيث صدوكم عن‬
‫المسجد‪ ،‬على العتداء عليهم‪ ،‬طلبا للشتفاء منهم‪ ،‬فإن العبد عليه أن‬
‫جِني عليه أو ظلم واعتدي عليه‪،‬‬ ‫يلتزم أمر الله‪ ،‬ويسلك طريق العدل‪ ،‬ولو ُ‬
‫فل يحل له أن يكذب على من كذب عليه‪ ،‬أو يخون من خانه‪.‬‬
‫وى { أي‪ :‬ليعن بعضكم بعضا على البر‪ .‬وهو‪:‬‬ ‫} وَت ََعاوَُنوا عََلى ال ْب ِّر َوالت ّ ْ‬
‫ق َ‬
‫اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه‪ ،‬من العمال الظاهرة والباطنة‪ ،‬من‬
‫حقوق الله وحقوق الدميين‪.‬‬
‫والتقوى في هذا الموضع‪ :‬اسم جامع لترك كل ما يكرهه الله ورسوله‪ ،‬من‬
‫ل خصلة من خصال الخير المأمور بفعلها‪ ،‬أو‬ ‫العمال الظاهرة والباطنة‪ .‬وك ّ‬
‫خصلة من خصال الشر المأمور بتركها‪ ،‬فإن العبد مأمور بفعلها بنفسه‪،‬‬
‫وبمعاونة غيره من إخوانه المؤمنين عليها‪ ،‬بكل قول يبعث عليها وينشط‬
‫لها‪ ،‬وبكل فعل كذلك‪.‬‬
‫} َول ت ََعاوَُنوا عََلى الث ْم ِ { وهو التجرؤ على المعاصي التي يأثم صاحبها‪،‬‬
‫خْلق في دمائهم وأموالهم‬ ‫ن { وهو التعدي على ال َ‬ ‫ويحرج‪َ } .‬وال ْعُد َْوا ِ‬
‫وأعراضهم‪ ،‬فكل معصية وظلم يجب على العبد كف نفسه عنه‪ ،‬ثم إعانة‬
‫غيره على تركه‪.‬‬
‫ب { على من عصاه وتجرأ على محارمه‪،‬‬ ‫قا ِ‬ ‫ْ‬
‫ديد ُ العِ َ‬ ‫ش ِ‬‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫} َوات ّ ُ‬
‫فاحذروا المحارم لئل يحل بكم عقابه العاجل والجل‪.‬‬

‫) ‪(1/218‬‬

‫ة‬
‫ق ُ‬ ‫خن ِ َ‬‫من ْ َ‬‫ل ل ِغَي ْرِ الل ّهِ ب ِهِ َوال ْ ُ‬ ‫ما أ ُهِ ّ‬ ‫زيرِ وَ َ‬ ‫خن ْ ِ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫ح ُ‬‫م وَل َ ْ‬ ‫ة َوالد ّ ُ‬ ‫مي ْت َ ُ‬‫م ال ْ َ‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫ُ‬
‫ح عََلى‬ ‫ب‬ ‫ُ‬ ‫ذ‬ ‫ما‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ي‬‫ّ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ما‬ ‫ل‬‫ّ‬ ‫إ‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫و‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫ح‬ ‫طي‬ ‫ن‬ ‫وال‬ ‫ة‬
‫ُ‬ ‫ي‬ ‫د‬ ‫ر‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫وا‬ ‫ُ‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫وا‬
‫ُْ ْ َ َ ِ َ‬ ‫ّ ُ ُ ِ َ‬ ‫َ ُ ََ َّ َ ّ ِ َ َ َ‬ ‫َ َ ْ‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫روا‬ ‫َ‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫س‬ ‫ئ‬ ‫ي‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ق‬ ‫س‬ ‫ف‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫م‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ز‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫با‬ ‫موا‬ ‫َ‬
‫ِ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ ْ ِ ِ ْ ِ ْ ٌ َ ْ َ َِ َ‬ ‫ص ِ َ ْ َ ْ َ ِ ُ‬
‫س‬ ‫ْ‬ ‫ق‬ ‫ت‬‫س‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫ب‬ ‫الن ّ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ت عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م ُ‬‫م ْ‬
‫م وَأت ْ َ‬ ‫م ِدين َك ُ ْ‬ ‫ت ل َك ُ ْ‬‫مل ْ ُ‬ ‫م أك ْ َ‬ ‫ن ال ْي َوْ َ‬ ‫شوْ ِ‬ ‫خ َ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫شوْهُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫م فََل ت َ ْ‬ ‫ِدين ِك ُ ْ‬
‫ف ِل ِث ْم ٍ‬ ‫جان ِ ٍ‬ ‫مت َ َ‬ ‫صةٍ غَي َْر ُ‬ ‫م َ‬ ‫خ َ‬ ‫م ْ‬‫ضط ُّر ِفي َ‬ ‫نا ْ‬ ‫م ِ‬ ‫م ِديًنا فَ َ‬ ‫سَل َ‬ ‫م اْل ِ ْ‬ ‫ت ل َك ُ ُ‬ ‫ضي ُ‬ ‫مِتي وََر ِ‬ ‫ن ِعْ َ‬
‫م )‪(3‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫َ‬
‫هغ ُ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫فَإ ِ ّ‬

‫ل ل ِغَي ْرِ الل ّهِ ب ِهِ‬ ‫ما أ ُهِ ّ‬ ‫زيرِ وَ َ‬ ‫خن َْ ِ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫م وَل َ ْ‬
‫ة َوالد ّ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫مي ْت َ ُ‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫}‪ُ }{3‬‬
‫ما‬
‫م وَ َ‬ ‫ما ذ َك ّي ْت ُ ْ‬ ‫سب ُعُ ِإل َ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫ما أك َ َ‬ ‫ة وَ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫طي َ‬‫ة َوالن ّ ِ‬ ‫مت ََرد ّي َ ُ‬ ‫موُْقوذ َةُ َوال ْ ُ‬ ‫ة َوال ْ َ‬‫ق ُ‬‫خن ِ َ‬ ‫َوال ْ ُ‬
‫من ْ َ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫ذي َ‬ ‫س ال ّ ِ‬ ‫م ي َئ ِ َ‬ ‫سقٌ ال ْي َوْ َ‬ ‫م فِ ْ‬ ‫موا ِبالْزلم ِ ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ق ِ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫ب وَأ ْ‬ ‫ص ِ‬ ‫ح عََلى الن ّ ُ‬ ‫ذ ُب ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ت‬‫م ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م وَأت ْ َ‬ ‫م ِدين َك ُ ْ‬ ‫ت ل َك ُ ْ‬ ‫مل ْ ُ‬‫م أك ْ َ‬ ‫ن ال ْي َوْ َ‬ ‫شوْ ِ‬ ‫خ َ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫شوْهُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫م َفل ت َ ْ‬ ‫ن ِدين ِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫فُروا ِ‬ ‫كَ َ‬
‫صةٍ غَي َْر‬ ‫م َ‬ ‫خ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ضط ُّر ِفي َ‬ ‫نا ْ‬ ‫م ِ‬ ‫م ِديًنا فَ َ‬ ‫سل َ‬ ‫م ال ْ‬ ‫ت ل َك ُ ُ‬ ‫ضي ُ‬ ‫مِتي وََر ِ‬ ‫م ن ِعْ َ‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ف لث ْم ٍ فَإ ِ ّ‬ ‫جان ِ ٍ‬ ‫مت َ َ‬ ‫ُ‬
‫م { واعلم أن الله‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ما ي ُت ْلى عَلي ْك ْ‬ ‫َ‬ ‫هذا الذي حولنا الله عليه في قوله‪ِ } :‬إل َ‬
‫تبارك وتعالى ل يحّرم ما يحّرم إل صيانة لعباده‪ ،‬وحماية لهم من الضرر‬
‫الموجود في المحرمات‪ ،‬وقد يبين للعباد ذلك وقد ل يبين‪.‬‬
‫ه‬
‫دت حيات ُ ُ‬ ‫ق َ‬ ‫مي َْتة { والمراد ] ص ‪ [ 220‬بالميتة‪ :‬ما فُ ِ‬ ‫فأخبر أنه حرم } ال ْ َ‬
‫بغير ذكاة شرعية‪ ،‬فإنها تحرم لضررها‪ ،‬وهو احتقان الدم في جوفها‬
‫ولحمها المضر بآكلها‪ .‬وكثيرا ما تموت بعلة تكون سببا لهلكها‪ ،‬فتضر‬
‫بالكل‪.‬‬
‫ويستثنى من ذلك ميتة الجراد والسمك‪ ،‬فإنه حلل‪.‬‬
‫خنزيرِ {‬ ‫ْ‬
‫حم ال ِ‬ ‫َ‬
‫دم { أي‪ :‬المسفوح‪ ،‬كما قيد في الية الخرى‪ } .‬وَل ْ‬ ‫} َوال ّ‬
‫وذلك شامل لجميع أجزائه‪ ،‬وإنما نص الله عليه من بين سائر الخبائث من‬
‫السباع‪ ،‬لن طائفة من أهل الكتاب من النصارى يزعمون أن الله أحله‬
‫لهم‪ .‬أي‪ :‬فل تغتروا بهم‪ ،‬بل هو محرم من جملة الخبائث‪.‬‬
‫ذكر عليه اسم غير الله تعالى‪ ،‬من الصنام‬ ‫ل ل ِغَي ْرِ الل ّهِ ب ِهِ { أي‪ُ :‬‬ ‫ما أ ُهِ ّ‬ ‫} وَ َ‬
‫والولياء والكواكب وغير ذلك من المخلوقين‪ .‬فكما أن ذكر الله تعالى‬
‫يطيب الذبيحة‪ ،‬فذكر اسم غيره عليها‪ ،‬يفيدها خبثا معنويا‪ ،‬لنه شرك بالله‬
‫تعالى‪.‬‬
‫ة { أي‪ :‬الميتة بخنق‪ ،‬بيد أو حبل‪ ،‬أو إدخالها رأسها بشيء‬ ‫ق ُ‬ ‫خن ِ َ‬ ‫من ْ َ‬ ‫} َوال ْ ُ‬
‫ضيق‪ ،‬فتعجز عن إخراجه حتى تموت‪.‬‬
‫موُْقوذ َةُ { أي‪ :‬الميتة بسبب الضرب بعصا أو حصى أو خشبة‪ ،‬أو هدم‬ ‫} َوال ْ َ‬
‫شيء عليها‪ ،‬بقصد أو بغير قصد‪.‬‬
‫ة { أي‪ :‬الساقطة من علو‪ ،‬كجبل أو جدار أو سطح ونحوه‪،‬‬ ‫مت ََرد ّي َ ُ‬ ‫} َوال ْ ُ‬
‫فتموت بذلك‪.‬‬
‫ة { وهي التي تنطحها غيرها فتموت‪.‬‬ ‫ح ُ‬ ‫طي َ‬ ‫} َوالن ّ ِ‬
‫سب ُعُ { من ذئب أو أسد أو نمر‪ ،‬أو من الطيور التي تفترس‬ ‫ل ال ّ‬ ‫ما أ َك َ‬
‫َ‬ ‫} وَ َ‬
‫الصيود‪ ،‬فإنها إذا ماتت بسبب أكل السبع‪ ،‬فإنها ل تحل‪.‬‬
‫م { راجع لهذه المسائل‪ ،‬من منخنقة‪ ،‬وموقوذة‪،‬‬ ‫ما ذ َك ّي ْت ُ ْ‬ ‫وقوله‪ِ } :‬إل َ‬
‫ومتردية‪ ،‬ونطيحة‪ ،‬وأكيلة سبع‪ ،‬إذا ذكيت وفيها حياة مستقرة لتتحقق‬
‫الذكاة فيها‪ ،‬ولهذا قال الفقهاء‪ " :‬لو أبان السبع أو غيره حشوتها‪ ،‬أو قطع‬
‫حلقومها‪ ،‬كان وجود حياتها كعدمه‪ ،‬لعدم فائدة الذكاة فيها " ]وبعضهم لم‬
‫يعتبر فيها إل وجود الحياة فإذا ذكاها وفيها حياة حلت ولو كانت مبانة‬
‫الحشوة وهو ظاهر الية الكريمة[ )‪(1‬‬
‫موا ِبالْزلم ِ { أي‪ :‬وحرم عليكم الستقسام بالزلم‪ .‬ومعنى‬ ‫َ‬
‫س ُ‬ ‫ق ِ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫} وَأن ت َ ْ‬
‫الستقسام‪ :‬طلب ما يقسم لكم ويقدر بها‪ ،‬وهي قداح ثلثة كانت تستعمل‬
‫في الجاهلية‪ ،‬مكتوب على أحدها "افعل" وعلى الثاني "ل تفعل" والثالث‬
‫غفل ل كتابة فيه‪.‬‬
‫م أحدهم بسفر أو عرس أو نحوهما‪ ،‬أجال تلك القداح المتساوية في‬ ‫فإذا هَ ّ‬
‫الجرم‪ ،‬ثم أخرج واحدا منها‪ ،‬فإن خرج المكتوب عليه "افعل" مضى في‬
‫أمره‪ ،‬وإن ظهر المكتوب عليه"ل تفعل" لم يفعل ولم يمض في شأنه‪،‬‬
‫وإن ظهر الخر الذي ل شيء عليه‪ ،‬أعادها حتى يخرج أحد القدحين فيعمل‬
‫به‪ .‬فحرمه )‪ (2‬الله عليهم‪ ،‬الذي في هذه الصورة وما يشبهه‪ ،‬وعوضهم‬
‫عنه بالستخارة لربهم في جميع أمورهم‪.‬‬
‫سقٌ { الشارة لكل ما تقدم من المحرمات‪ ،‬التي حرمها الله‬ ‫م فِ ْ‬ ‫} ذ َل ِك ُ ْ‬
‫صيانة لعباده‪ ،‬وأنها فسق‪ ،‬أي‪ :‬خروج عن طاعته إلى طاعة الشيطان‪.‬‬
‫ثم امتن على عباده بقوله‪:‬‬
‫م‬ ‫ْ‬
‫ن الي َوْ َ‬‫شوْ ِ‬‫خ َ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫شوْهُ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫م فل ت َ ْ‬‫َ‬ ‫ُ‬
‫من ِدين ِك ْ‬ ‫فُروا ِ‬ ‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬ ‫س ال ّ ِ‬ ‫م ي َئ ِ َ‬ ‫} ‪ ....‬ال ْي َوْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ِ‬‫م ِديًنا فَ َ‬ ‫سل َ‬‫م ال ْ‬ ‫ت ل َك ُ ُ‬ ‫ضي ُ‬ ‫مِتي وََر ِ‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م ن ِعْ َ‬ ‫م ُ‬‫م ْ‬‫م وَأت ْ َ‬ ‫م ِدين َك ُ ْ‬ ‫ت ل َك ُ ْ‬ ‫مل ْ ُ‬ ‫أك ْ َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حي ٌ‬‫فوٌر ّر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫ف لث ْم ٍ فَإ ِ ّ‬ ‫جان ِ ٍ‬ ‫مت َ َ‬‫صة غَي َْر ُ‬ ‫م َ‬ ‫خ َ‬ ‫م ْ‬‫ضط ُّر ِفي َ‬ ‫ا ْ‬
‫واليوم المشار إليه يوم عرفة‪ ،‬إذ أتم الله دينه‪ ،‬ونصر عبده ورسوله‪،‬‬
‫وانخذل أهل الشرك انخذال بليغا‪ ،‬بعد ما كانوا حريصين على رد المؤمنين‬
‫عن دينهم‪ ،‬طامعين في ذلك‪.‬‬
‫فلما رأوا عز السلم وانتصاره وظهوره‪ ،‬يئسوا كل اليأس من المؤمنين‪،‬‬
‫أن يرجعوا إلى دينهم‪ ،‬وصاروا يخافون منهم ويخشون‪ ،‬ولهذا في هذه‬
‫السنة التي حج فيها النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر حجة الوداع ‪-‬‬
‫لم يحج فيها مشرك‪ ،‬ولم يطف بالبيت عريان‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬فل تخشوا المشركين‪ ،‬واخشوا‬ ‫شوْ ِ‬ ‫خ َ‬ ‫م َوا ْ‬
‫شوْهُ ْ‬ ‫خ َ‬‫ولهذا قال‪َ } :‬فل ت َ ْ‬
‫الله الذي نصركم عليهم وخذلهم‪ ،‬ورد كيدهم في نحورهم‪.‬‬
‫} ال ْيو َ‬
‫م { بتمام النصر‪ ،‬وتكميل الشرائع الظاهرة‬ ‫م ِدين َك ُ ْ‬ ‫ت ل َك ُ ْ‬ ‫مل ْ ُ‬ ‫م أك ْ َ‬‫َ ْ َ‬
‫والباطنة‪ ،‬الصول والفروع‪ ،‬ولهذا كان الكتاب والسنة كافيين كل الكفاية‪،‬‬
‫في أحكام الدين أصوله وفروعه‪.‬‬
‫فكل متكلف يزعم أنه ل بد للناس في معرفة عقائدهم وأحكامهم إلى‬
‫علوم غير علم الكتاب والسنة‪ ،‬من علم الكلم وغيره‪ ،‬فهو جاهل‪ ،‬مبطل‬
‫في دعواه‪ ،‬قد زعم أن الدين ل يكمل إل بما قاله ودعا إليه‪ ،‬وهذا من‬
‫أعظم الظلم والتجهيل لله ولرسوله‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫سل َ‬‫م ال ْ‬ ‫ُ‬
‫ت لك ُ‬‫ضي ُ‬
‫مِتي { الظاهرة والباطنة } وََر ِ‬ ‫م ن ِعْ َ‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م ُ‬‫م ْ‬‫} وَأت ْ َ‬
‫ِديًنا { أي‪ :‬اخترته واصطفيته لكم دينا‪ ،‬كما ارتضيتكم له‪ ،‬فقوموا به شكرا‬
‫ن عليكم بأفضل الديان وأشرفها وأكملها‪.‬‬ ‫م ّ‬‫لربكم‪ ،‬واحمدوا الذي َ‬
‫ضط ُّر { أي‪ :‬ألجأته الضرورة إلى أكل شيء من المحرمات ] ص‬ ‫نا ْ‬ ‫م ِ‬ ‫} فَ َ‬
‫صةٍ { أي‪:‬‬ ‫م َ‬ ‫خ َ‬
‫م ْ‬
‫ة { } ِفي َ‬ ‫مي ْت َ ُ‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬ ‫َ‬
‫ت عَلي ْك ُ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫‪ [ 221‬السابقة‪ ،‬في قوله‪ُ } :‬‬
‫ف { أي‪ :‬مائل } لث ْم ٍ { بأن ل يأكل حتى يضطر‪ ،‬ول‬ ‫جان ِ ٍ‬ ‫مجاعة } غَي َْر ُ‬
‫مت َ َ‬
‫م { حيث أباح له الكل‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر ّر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫يزيد في الكل على كفايته } فَإ ِ ّ‬
‫في هذه الحال‪ ،‬ورحمه بما يقيم به بنيته من غير نقص يلحقه في دينه‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬كعدمه‬
‫)‪ (2‬كذا في النسختين‪ ،‬ولعل القرب‪ :‬فحرم‪.‬‬

‫) ‪(1/219‬‬

‫وارِِح‬
‫ج َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ما عَل ّ ْ‬
‫مت ُ ْ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫م الط ّي َّبا ُ‬ ‫ل ل َك ُ ُ‬ ‫ل أُ ِ‬
‫ح ّ‬ ‫م قُ ْ‬‫ل ل َهُ ْ‬ ‫ح ّ‬‫ذا أ ُ ِ‬‫ما َ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬
‫ك َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫م َواذ ْكُروا ا ْ‬
‫س َ‬ ‫ن عَلي ْك ْ‬ ‫سك َ‬‫م َ‬ ‫ما أ ْ‬‫م ّ‬‫ه فَكلوا ِ‬ ‫م الل ُ‬ ‫مك ُ‬ ‫ما عَل َ‬‫م ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫مون َهُ ّ‬ ‫ن ت ُعَل ُ‬ ‫مكلِبي َ‬ ‫ُ‬
‫ب )‪(4‬‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ْ‬
‫ريعُ ال ِ‬ ‫س ِ‬‫ه َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫ّ‬
‫قوا الل َ‬ ‫َ‬
‫اللهِ عَلي ْهِ َوات ّ ُ‬ ‫ّ‬

‫ن‬
‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫مت ُ ْ‬ ‫ما عَل ّ ْ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫م الط ّي َّبا ُ‬ ‫ل ل َك ُ ُ‬ ‫ح ّ‬‫ل أُ ِ‬ ‫م قُ ْ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ذا أ ُ ِ‬‫ما َ‬‫ك َ‬ ‫سأ َُلون َ َ‬‫} ‪ } { 4‬يَ ْ‬
‫َ‬
‫م‬‫ن عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫سك ْ َ‬‫م َ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫م ّ‬‫ه فَك ُُلوا ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫مك ُ ُ‬‫ما عَل ّ َ‬ ‫م ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫مون َهُ ّ‬ ‫ن ت ُعَل ّ ُ‬‫مك َل ِّبي َ‬
‫وارِِح ُ‬ ‫ج َ‬‫ال ْ َ‬
‫ب{‪.‬‬ ‫سا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ريعُ ال ْ ِ‬
‫س ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫م الل ّهِ عَل َي ْهِ َوات ّ ُ‬ ‫س َ‬ ‫َواذ ْك ُُروا ا ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫م{‬‫ل ل َهُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ذا أ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ك َ‬ ‫سأُلون َ َ‬ ‫يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم‪ } :‬ي َ ْ‬
‫ت { وهي كل ما فيه نفع أو لذة‪ ،‬من‬ ‫م الط ّي َّبا ُ‬ ‫ل ل َك ُ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ل أُ ِ‬‫من الطعمة؟ } قُ ْ‬
‫غير ضرر بالبدن ول بالعقل‪ ،‬فدخل في ذلك جميع الحبوب والثمار التي في‬
‫القرى والبراري‪ ،‬ودخل في ذلك جميع حيوانات البحر وجميع حيوانات البر‪،‬‬
‫إل ما استثناه الشارع‪ ،‬كالسباع والخبائث منها‪.‬‬
‫ولهذا دلت الية بمفهومها على تحريم الخبائث‪ ،‬كما صرح به في قوله‬
‫ث{‪.‬‬ ‫خَبائ ِ َ‬‫م ال ْ َ‬ ‫م عَل َي ْهِ ُ‬ ‫حّر ُ‬
‫ت وَي ُ َ‬‫م الط ّي َّبا ِ‬ ‫ل ل َهُ ُ‬‫ح ّ‬ ‫تعالى‪ } :‬وَي ُ ِ‬
‫وارِِح { أي‪ :‬أحل لكم ما علمتم من الجوارح إلى آخر‬ ‫ج َ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ما عَل ّ ْ‬
‫مت ُ ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫الية‪ .‬دلت هذه الية على أمور‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬لطف الله بعباده ورحمته لهم‪ ،‬حيث وسع عليهم طرق الحلل‪،‬‬
‫وأباح لهم ما لم يذكوه مما صادته الجوارح‪ ،‬والمراد بالجوارح‪ :‬الكلب‪،‬‬
‫والفهود‪ ،‬والصقر‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬مما يصيد بنابه أو بمخلبه‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬أنه يشترط أن تكون معلمة‪ ،‬بما يعد في العرف تعليما‪ ،‬بأن‬
‫يسترسل إذا أرسل‪ ،‬وينزجر إذا زجر‪ ،‬وإذا أمسك لم يأكل‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫َ‬
‫م { أي‪ :‬أمسكن من‬ ‫ن عَل َي ْك ُ ْ‬‫سك ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫م ّ‬‫ه فَك ُُلوا ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫مك ُ ُ‬ ‫ما عَل ّ َ‬ ‫م ّ‬ ‫ن ِ‬ ‫مون َهُ ّ‬‫} ت ُعَل ّ ُ‬
‫الصيد لجلكم‪.‬‬
‫وما أكل منه الجارح فإنه ل يعلم أنه أمسكه على صاحبه‪ ،‬ولعله أن يكون‬
‫أمسكه على نفسه‪.‬‬
‫ن‬
‫م َ‬‫الثالث‪ :‬اشتراط أن يجرحه الكلب أو الطير ونحوهما‪ ،‬لقوله‪ِ } :‬‬
‫وارِِح { مع ما تقدم من تحريم المنخنقة‪ .‬فلو خنقه الكلب أو غيره‪ ،‬أو‬ ‫ج َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫قتله بثقله لم يبح ]هذا بناء على أن الجوارح اللتي يجرحن الصيد بأنيابها أو‬
‫مخالبها‪ ،‬والمشهور أن الجوارح بمعنى الكواسب أي‪ :‬المحصلت للصيد‬
‫والمدركات لها فل يكون فيها على هذا دللة ‪ -‬والله أعلم‪. (1) [-‬‬
‫الرابع‪ :‬جواز اقتناء كلب الصيد‪ ،‬كما ورد في الحديث الصحيح‪ ،‬مع أن اقتناء‬
‫الكلب محرم‪ ،‬لن من لزم إباحة صيده وتعليمه جواز اقتنائه‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬طهارة ما أصابه فم الكلب من الصيد‪ ،‬لن الله أباحه ولم يذكر‬
‫له غسل فدل على طهارته‪.‬‬
‫السادس‪ :‬فيه فضيلة العلم‪ ،‬وأن الجارح المعلم ‪-‬بسبب العلم‪ -‬يباح صيده‪،‬‬
‫والجاهل بالتعليم ل يباح صيده‪.‬‬
‫السابع‪ :‬أن الشتغال بتعليم الكلب أو الطير أو نحوهما‪ ،‬ليس مذموما‪،‬‬
‫وليس من العبث والباطل‪ .‬بل هو أمر مقصود‪ ،‬لنه وسيلة لحل صيده‬
‫والنتفاع به‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬فيه حجة لمن أباح بيع كلب الصيد‪ ،‬قال‪ :‬لنه قد ل يحصل له إل‬
‫بذلك‪.‬‬
‫التاسع‪ :‬فيه اشتراط التسمية عند إرسال الجارح‪ ،‬وأنه إن لم يسم الله‬
‫متعمدا‪ ،‬لم يبح ما قتل الجارح‪.‬‬
‫العاشر‪ :‬أنه يجوز أكل ما صاده الجارح‪ ،‬سواء قتله الجارح أم ل‪ .‬وأنه إن‬
‫أدركه صاحبه‪ ،‬وفيه حياة مستقرة فإنه ل يباح إل بها‪.‬‬
‫ثم حث تعالى على تقواه‪ ،‬وحذر من إتيان الحساب في يوم القيامة‪ ،‬وأن‬
‫ب{‪.‬‬ ‫سا ِ‬‫ح َ‬ ‫ريعُ ال ْ ِ‬
‫س ِ‬
‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫ه إِ ّ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫ذلك أمر قد دنا واقترب‪ ،‬فقال‪َ } :‬وات ّ ُ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫) ‪(1/221‬‬

‫ل ل َك ُم الط ّيبات وط َعام ال ّذي ُ‬ ‫م أُ ِ‬


‫ح ّ‬
‫ل‬ ‫م ِ‬ ‫م وَط ََعا ُ‬
‫مك ُ ْ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬‫ح ّ‬‫ب ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬‫ِ َ‬ ‫َّ ُ َ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ال ْي َوْ َ‬
‫ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ب ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫صَنا ُ‬
‫ح َ‬ ‫ت َوال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مؤْ ِ‬ ‫م َ‬
‫ت ِ‬
‫صَنا ُ‬
‫ح َ‬
‫م ْ‬‫م َوال ْ ُ‬ ‫ل َهُ ْ‬
‫ن‬
‫دا ٍ‬ ‫ذي أ َ ْ‬
‫خ َ‬ ‫خ ِ‬‫مت ّ ِ‬‫ن وََل ُ‬‫حي َ‬
‫سافِ ِ‬ ‫م َ‬‫ن غَي َْر ُ‬
‫صِني َ‬‫ح ِ‬ ‫م ْ‬
‫ن ُ‬‫جوَرهُ ّ‬
‫ذا آ َتيتموهُ ُ‬
‫نأ ُ‬ ‫ّ‬ ‫م إِ َ َ ْ ُ ُ‬ ‫قَب ْل ِك ُ ْ‬
‫ن )‪(5‬‬ ‫ري َ‬‫س ِ‬‫خا ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫م َ‬
‫خَرةِ ِ‬‫ه وَهُوَ ِفي اْل َ ِ‬ ‫مل ُ ُ‬
‫ط عَ َ‬‫حب ِ َ‬
‫قد ْ َ‬‫ن فَ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫فْر ِبا ْ ِ‬
‫لي َ‬ ‫ن ي َك ْ ُ‬ ‫م ْ‬‫وَ َ‬
‫ل ل َك ُم الط ّيبات وط َعام ال ّذي ُ‬ ‫م أُ ِ‬
‫م‬‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ب ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬ ‫َّ ُ َ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫} ‪ } { 5‬ال ْي َوْ َ‬
‫ُ‬
‫ن أوُتوا‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫صَنا ُ‬ ‫ح َ‬‫م ْ‬ ‫ت َوال ْ ُ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫صَنا ُ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬ ‫م َوال ْ ُ‬ ‫ل ل َهُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫م ِ‬ ‫مك ُ ْ‬ ‫وَط ََعا ُ‬
‫ُ‬
‫ن َول‬ ‫حي َ‬ ‫سافِ ِ‬ ‫م َ‬‫ن غَي َْر ُ‬ ‫صِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫جوَرهُ ّ‬ ‫نأ ُ‬ ‫موهُ ّ‬ ‫ذا آت َي ْت ُ ُ‬ ‫م إِ َ‬ ‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫ال ْك َِتا َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫خَرةِ ِ‬ ‫ه وَهُوَ ِفي ال ِ‬ ‫مل ُ ُ‬‫ط عَ َ‬ ‫حب ِ َ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ن فَ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫فْر ِبالي َ‬ ‫ن ي َك ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫دا ٍ‬ ‫خ َ‬ ‫ذي أ ْ‬ ‫خ ِ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫س ِ‬ ‫خا ِ‬ ‫ْ‬
‫ال َ‬
‫كرر تعالى إحلل الطيبات لبيان المتنان‪ ،‬ودعوة للعباد إلى شكره والكثار‬
‫من ذكره‪ ،‬حيث أباح لهم ما تدعوهم الحاجة إليه‪ ،‬ويحصل لهم النتفاع به‬
‫من الطيبات‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫م { أي‪ :‬ذبائح اليهود والنصارى حلل‬ ‫ُ‬
‫ل لك ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ب ِ‬ ‫ن أوُتوا الك َِتا َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫} وَط ََعا ُ‬
‫لكم ‪-‬يا معشر المسلمين‪ -‬دون باقي الكفار‪ ،‬فإن ذبائحهم ل تحل‬
‫للمسلمين‪ ،‬وذلك لن أهل الكتاب ينتسبون إلى النبياء والكتب‪.‬‬
‫وقد اتفق الرسل كلهم على تحريم الذبح لغير الله‪ ،‬لنه شرك‪ ،‬فاليهود‬
‫والنصارى يتدينون بتحريم الذبح لغير الله‪ ،‬فلذلك أبيحت ذبائحهم دون‬
‫غيرهم‪.‬‬
‫والدليل على أن المراد بطعامهم ذبائحهم‪ ،‬أن الطعام الذي ليس من‬
‫الذبائح كالحبوب والثمار ليس لهل الكتاب فيه خصوصية‪ ،‬بل يباح ذلك ولو‬
‫كان من طعام غيرهم‪ .‬وأيضا فإنه أضاف الطعام إليهم‪.‬‬
‫فدل ذلك‪ ،‬على أنه كان طعاما‪ ،‬بسبب ذبحهم‪ .‬ول يقال‪ :‬إن ذلك للتمليك‪،‬‬
‫وأن المراد‪ :‬الطعام الذي يملكون‪ .‬لن هذا‪ ،‬ل يباح على وجه الغصب‪ ،‬ول‬
‫من المسلمين‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬يحل لكم أن تطعموهم‬ ‫ّ‬
‫ل لهُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫م { أيها المسلمون } ِ‬ ‫مك ُ ْ‬ ‫} وَط ََعا ُ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ت { أي‪ :‬الحرائر العفيفات } ِ‬ ‫صَنا ِ‬ ‫ح َ‬ ‫م ْ‬‫إياه } وَ { أحل لكم } ال ْ ُ‬
‫ال ْمؤْمنات { والحرائر العفيفات } من ال ّذي ُ‬
‫م { أي‪:‬‬ ‫من قَب ْل ِك ُ ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ َ‬ ‫ُ ِ َ ِ‬
‫من اليهود والنصارى‪.‬‬
‫ن{]ص‬ ‫م ّ‬ ‫حّتى ي ُؤْ ِ‬ ‫ت َ‬ ‫كا ِ‬ ‫شرِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫حوا ال ُ‬ ‫وهذا مخصص لقوله تعالى } َول َتنك ِ ُ‬
‫‪ [ 222‬ومفهوم الية‪ ،‬أن الرقاء من المؤمنات ل يباح نكاحهن للحرار‪ ،‬وهو‬
‫كذلك‪.‬‬
‫وأما الكتابيات فعلى كل حال ل يبحن‪ ،‬ول يجوز نكاحهن للحرار مطلقا‪،‬‬
‫ت { وأما المسلمات إذا كن رقيقات‬ ‫مَنا ِ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫من فَت ََيات ِك ُ ُ‬ ‫لقوله تعالى‪ِ } :‬‬
‫فإنه ل يجوز للحرار نكاحهن إل بشرطين‪ ،‬عدم الطول وخوف العنت‪.‬‬
‫وأما الفاجرات غير العفيفات عن الزنا فل يباح نكاحهن‪ ،‬سواء كن‬
‫ة أوَ‬
‫ح إل َزان ِي َ ً ْ‬ ‫مسلمات أو كتابيات‪ ،‬حتى يتبن لقوله تعالى‪ } :‬الّزاِني ل َينك ِ ُ‬
‫ة { الية‪.‬‬ ‫شرِك َ ً‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫ن { أي‪ :‬أبحنا لكم نكاحهن‪ ،‬إذا أعطيتموهن‬ ‫ُ‬ ‫وقوله‪ } :‬إ ِ َ‬
‫جوَرهُ ّ‬ ‫نأ ُ‬ ‫موهُ ّ‬ ‫ذا آت َي ْت ُ ُ‬
‫مهورهن‪ ،‬فمن عزم على أن ل يؤتيها مهرها فإنها ل تحل له‪.‬‬
‫وأمر بإيتائها إذا كانت رشيدة تصلح لليتاء‪ ،‬وإل أعطاه الزوج لوليها‪.‬‬
‫وإضافة الجور إليهن دليل على أن المرأة تملك جميع مهرها‪ ،‬وليس لحد‬
‫ن غَي َْر‬ ‫صِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫منه شيء‪ ،‬إل ما سمحت به لزوجها أو وليها أو غيرهما‪ُ } .‬‬
‫ن { أي‪ :‬حالة كونكم ‪-‬أيها الزواج‪ -‬محصنين لنسائكم‪ ،‬بسبب‬ ‫حي َ‬ ‫سافِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫حفظكم لفروجكم عن غيرهن‪.‬‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دا ٍ‬
‫خ َ‬
‫ذي أ ْ‬ ‫خ ِ‬ ‫مت ّ ِ‬‫ن { أي‪ :‬زانين مع كل أحد } َول ُ‬ ‫حي َ‬‫سافِ ِ‬ ‫م َ‬‫} غَي َْر ُ‬
‫وهو‪ :‬الزنا مع العشيقات‪ ،‬لن الزناة في الجاهلية‪ ،‬منهم من يزني مع من‬
‫كان‪ ،‬فهذا المسافح‪ .‬ومنهم من يزني مع خدنه ومحبه‪ .‬فأخبر الله تعالى أن‬
‫ذلك كله ينافي العفة‪ ،‬وأن شرط التزوج أن يكون الرجل عفيفا عن الزنا‪.‬‬
‫ه { أي‪ :‬ومن كفر بالله‬ ‫مل ُ ُ‬
‫ط عَ َ‬‫حب ِ َ‬
‫قد ْ َ‬‫ن فَ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫من ي َك ْ ُ‬
‫فْر ِبالي َ‬ ‫وقوله تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫تعالى‪ ،‬وما يجب اليمان به من كتبه ورسله أو شيء من الشرائع‪ ،‬فقد‬
‫من ي َْرت َدِد ْ‬ ‫حبط عمله‪ ،‬بشرط أن يموت على كفره‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫م ِفي الد ّن َْيا‬ ‫مال ُهُ ْ‬
‫َ‬
‫ت أعْ َ‬ ‫حب ِط َ ْ‬‫ك َ‬‫كافٌِر فَُأول َئ ِ َ‬ ‫ت وَهُوَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫عن ِدين ِهِ فَي َ ُ‬ ‫م َ‬‫منك ُ ْ‬
‫ِ‬
‫ن { أي‪ :‬الذين خسروا أنفسهم‬ ‫ري‬
‫َ ِ ِ َ‬‫س‬ ‫خا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ة‬
‫ِ َ ِ ِ َ‬‫ر‬‫خ‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫و‬
‫َ ُ َ ِ‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫}‬ ‫{‬ ‫ة‬ ‫ر‬ ‫خ‬
‫َ ِ َ ِ‬ ‫وال‬
‫وأموالهم وأهليهم يوم القيامة‪ ،‬وحصلوا على الشقاوة البدية‪.‬‬

‫) ‪(1/221‬‬

‫م إ َِلى‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫م وَأي ْدِي َك ُ ْ‬ ‫جوهَك ُ ْ‬ ‫سُلوا وُ ُ‬ ‫صَلةِ َفاغْ ِ‬ ‫م إ َِلى ال ّ‬ ‫مت ُ ْ‬ ‫ذا قُ ْ‬
‫مُنوا إ ِ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫جن ًُبا َفاط ّهُّروا‬ ‫َ‬
‫م ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ن وَإ ِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫م إ َِلى ال ْك َعْب َي ْ‬ ‫جل َك ُ ْ‬‫م وَأْر ُ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫حوا ب ُِرُءو ِ‬ ‫س ُ‬ ‫م َ‬ ‫ق َوا ْ‬ ‫مَرافِ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ست ُ ُ‬‫م ْ‬ ‫ط أوْ َل َ‬ ‫ن ال َْغائ ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫حد ٌ ِ‬‫جاَء أ َ‬ ‫فرٍ أوْ َ‬ ‫س َ‬ ‫ضى أوْ عََلى َ‬ ‫مْر َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫وَإ ِ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫من ْ ُ‬
‫م ِ‬
‫ديك ْ‬ ‫م وَأي ْ ِ‬ ‫جوهِك ْ‬ ‫حوا ب ِوُ ُ‬ ‫س ُ‬ ‫م َ‬ ‫دا طي ًّبا َفا ْ‬ ‫صِعي ً‬ ‫موا َ‬ ‫م ُ‬ ‫ماًء فَت َي َ ّ‬‫دوا َ‬ ‫ج ُ‬ ‫م تَ ِ‬ ‫ساَء فَل ْ‬ ‫الن ّ َ‬
‫ه‬
‫مت َ ُ‬‫م ن ِعْ َ‬ ‫م وَل ِي ُت ِ ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ريد ُ ل ِي ُطهَّرك ْ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫َ‬
‫حَرٍج وَلك ِ ْ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ل عَلي ْك ْ‬ ‫جع َ َ‬ ‫ه ل ِي َ ْ‬ ‫ّ‬
‫ريد ُ الل ُ‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(6‬‬ ‫شكُرو َ‬ ‫ُ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ُ‬
‫م لعَلك ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫عَلي ْك ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫جوهَك ُ ْ‬
‫م‬ ‫سُلوا وُ ُ‬ ‫صلةِ َفاغْ ِ‬ ‫م إ َِلى ال ّ‬ ‫مت ُ ْ‬ ‫ذا قُ ْ‬
‫مُنوا إ ِ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 6‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ْ‬ ‫جل َك ُ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن وَإ ِ ْ‬ ‫م إ ِ َلى الك َعْب َي ْ ِ‬ ‫م وَأْر ُ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫حوا ب ُِرُءو ِ‬ ‫س ُ‬ ‫م َ‬ ‫ق َوا ْ‬ ‫ِ‬ ‫مَرافِ‬ ‫م إ َِلى ال ْ َ‬ ‫وَأي ْدِي َك ُ ْ‬
‫جنبا َفاط ّهروا وإن ك ُنتم مرضى أ َو عََلى س َ َ‬
‫ن ال َْغائ ِ ِ‬
‫ط‬ ‫م َ‬‫م ِ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫حد ٌ ِ‬ ‫جاَء أ َ‬ ‫فرٍ أوْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َِ ْ ُْ ْ َ ْ َ‬ ‫ّ ُ‬ ‫ُ ًُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫جوهِك ْ‬ ‫حوا ب ِوُ ُ‬ ‫س ُ‬ ‫م َ‬ ‫دا طي ًّبا َفا ْ‬ ‫صِعي ً‬ ‫موا َ‬ ‫م ُ‬ ‫ماًء فَت َي َ ّ‬‫دوا َ‬ ‫ج ُ‬ ‫م تَ ِ‬ ‫ساَء فَل ْ‬ ‫م الن ّ َ‬ ‫ست ُ ُ‬‫م ْ‬ ‫أو ْ ل َ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫ريد ُ ل ِي ُط َهَّرك ُ ْ‬
‫م وَل ِي ُت ِ ّ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫حَرٍج وَل َك ِ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫جع َ َ‬ ‫ه ل ِي َ ْ‬ ‫ريد ُ الل ّ ُ‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬‫م ِ‬ ‫ديك ُ ْ‬ ‫وَأي ْ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫م ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫ه عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫مت َ ُ‬‫ن ِعْ َ‬
‫هذه آية عظيمة قد اشتملت على أحكام كثيرة‪ ،‬نذكر منها ما يسره الله‬
‫وسهله‪.‬‬
‫أحدها‪ :‬أن هذه المذكورات فيها امتثالها والعمل بها من لوازم اليمان الذي‬
‫َ‬
‫مُنوا { إلى آخرها‪ .‬أي‪ :‬يا أيها‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل يتم إل به‪ ،‬لنه صدرها بقوله } ي َأي َّها ال ّ ِ‬
‫الذين آمنوا‪ ،‬اعملوا بمقتضى إيمانكم بما شرعناه لكم‪.‬‬
‫صلةِ { ‪.‬‬ ‫م إ َِلى ال ّ‬ ‫مت ُ ْ‬ ‫ذا قُ ْ‬ ‫الثاني‪ :‬المر بالقيام بالصلة لقوله‪ } :‬إ ِ َ‬
‫صلةِ { أي‪ :‬بقصدها‬ ‫م إ َِلى ال ّ‬ ‫مت ُ ْ‬ ‫ذا قُ ْ‬ ‫الثالث‪ :‬المر بالنية للصلة‪ ،‬لقوله‪ } :‬إ ِ َ‬
‫ونيتها‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬اشتراط الطهارة لصحة الصلة‪ ،‬لن الله أمر بها عند القيام إليها‪،‬‬
‫والصل في المر الوجوب‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬أن الطهارة ل تجب بدخول الوقت‪ ،‬وإنما تجب عند إرادة الصلة‪.‬‬
‫السادس‪ :‬أن كل ما يطلق عليه اسم الصلة‪ ،‬من الفرض والنفل‪ ،‬وفرض‬
‫الكفاية‪ ،‬وصلة الجنازة‪ ،‬تشترط له الطهارة‪ ،‬حتى السجود المجرد عند‬
‫كثير من العلماء‪ ،‬كسجود التلوة والشكر‪.‬‬
‫السابع‪ :‬المر بغسل الوجه‪ ،‬وهو‪ :‬ما تحصل به المواجهة من منابت شعر‬
‫الرأس المعتاد‪ ،‬إلى ما انحدر من اللحيين والذقن طول‪ .‬ومن الذن إلى‬
‫الذن عرضا‪.‬‬
‫ويدخل فيه المضمضة والستنشاق‪ ،‬بالسنة‪ ،‬ويدخل فيه الشعور التي فيه‪.‬‬
‫لكن إن كانت خفيفة فل بد من إيصال الماء إلى البشرة‪ ،‬وإن كانت كثيفة‬
‫اكتفي بظاهرها‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬المر بغسل اليدين‪ ،‬وأن حدهما إلى المرفقين و"إلى" كما قال‬
‫م إ َِلى‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫وال َهُ ْ‬ ‫جمهور المفسرين بمعنى "مع" كقوله تعالى‪َ } :‬ول ت َأك ُُلوا أ ْ‬
‫م َ‬
‫َ‬
‫م { ولن الواجب ل يتم إل بغسل جميع المرفق‪.‬‬ ‫وال ِك ُ ْ‬
‫م َ‬
‫أ ْ‬
‫التاسع‪ :‬المر بمسح الرأس‪.‬‬
‫العاشر‪ :‬أنه يجب مسح جميعه‪ ،‬لن الباء ليست للتبعيض‪ ،‬وإنما هي‬
‫للملصقة‪ ،‬وأنه يعم المسح بجميع الرأس‪.‬‬
‫الحادي عشر‪ :‬أنه يكفي المسح كيفما كان‪ ،‬بيديه أو إحداهما‪ ،‬أو خرقة أو‬
‫خشبة أو نحوهما‪ ،‬لن الله أطلق المسح ولم يقيده بصفة‪ ،‬فدل ذلك على‬
‫إطلقه‪.‬‬
‫الثاني عشر‪ :‬أن الواجب المسح‪ .‬فلو غسل رأسه ولم يمر يده عليه لم‬
‫يكف‪ ،‬لنه لم يأت بما أمر الله به‪.‬‬
‫الثالث عشر‪ :‬المر بغسل الرجلين إلى الكعبين‪ ،‬ويقال فيهما ما يقال في‬
‫اليدين‪.‬‬
‫الرابع عشر‪ :‬فيها الرد على الرافضة‪ ،‬على قراءة الجمهور بالنصب‪ ،‬وأنه ل‬
‫يجوز مسحهما ما دامتا مكشوفتين‪.‬‬
‫الخامس عشر‪ :‬فيه الشارة إلى مسح ] ص ‪ [ 223‬الخفين‪ ،‬على قراءة‬
‫الجر في } وأرجلكم { ‪.‬‬
‫وتكون كل من القراءتين‪ ،‬محمولة على معنى‪ ،‬فعلى قراءة النصب فيها‪،‬‬
‫غسلهما إن كانتا مكشوفتين‪ ،‬وعلى قراءة الجر فيها‪ ،‬مسحهما إذا كانتا‬
‫مستورتين بالخف‪.‬‬
‫السادس عشر‪ :‬المر بالترتيب في الوضوء‪ ،‬لن الله تعالى ذكرها مرتبة‪.‬‬
‫ولنه أدخل ممسوحا ‪-‬وهو الرأس‪ -‬بين مغسولين‪ ،‬ول يعلم لذلك فائدة غير‬
‫الترتيب‪.‬‬
‫السابع عشر‪ :‬أن الترتيب مخصوص بالعضاء الربعة المسميات في هذه‬
‫الية‪.‬‬
‫وأما الترتيب بين المضمضة والستنشاق والوجه‪ ،‬أو بين اليمنى واليسرى‬
‫من اليدين والرجلين‪ ،‬فإن ذلك غير واجب‪ ،‬بل يستحب تقديم المضمضة‬
‫والستنشاق على غسل الوجه‪ ،‬وتقديم اليمنى على اليسرى من اليدين‬
‫والرجلين‪ ،‬وتقديم مسح الرأس على مسح الذنين‪.‬‬
‫الثامن عشر‪ :‬المر بتجديد الوضوء عند كل صلة‪ ،‬لتوجد صورة المأمور به‪.‬‬
‫التاسع عشر‪ :‬المر بالغسل من الجنابة‪.‬‬
‫العشرون‪ :‬أنه يجب تعميم الغسل للبدن‪ ،‬لن الله أضاف التطهر للبدن‪،‬‬
‫ولم يخصصه بشيء دون شيء‪.‬‬
‫الحادي والعشرون‪ :‬المر بغسل ظاهر الشعر وباطنه في الجنابة‪.‬‬
‫الثاني والعشرون‪ :‬أنه يندرج الحدث الصغر في الحدث الكبر‪ ،‬ويكفي من‬
‫هما عليه أن ينوي‪ ،‬ثم يعمم بدنه‪ ،‬لن الله لم يذكر إل التطهر‪ ،‬ولم يذكر‬
‫أنه يعيد الوضوء‪.‬‬
‫الثالث والعشرون‪ :‬أن الجنب يصدق على من أنزل المني يقظة أو مناما‪،‬‬
‫أو جامع ولو لم ينزل‪.‬‬
‫الرابع والعشرون‪ :‬أن من ذكر أنه احتلم ولم يجد بلل فإنه ل غسل عليه‪،‬‬
‫لنه لم تتحقق منه الجنابة‪.‬‬
‫مّنة الله تعالى على العباد‪ ،‬بمشروعية التيمم‪.‬‬ ‫الخامس والعشرون‪ :‬ذكر ِ‬
‫السادس والعشرون‪ :‬أن من أسباب جواز التيمم وجود المرض الذي يضره‬
‫غسله بالماء‪ ،‬فيجوز له التيمم‪.‬‬
‫السابع والعشرون‪ :‬أن من جملة أسباب جوازه‪ ،‬السفر والتيان من البول‬
‫والغائط إذا عدم الماء‪ ،‬فالمرض يجوز التيمم مع وجود الماء لحصول‬
‫التضرر به‪ ،‬وباقيها يجوزه العدم للماء ولو كان في الحضر‪.‬‬
‫الثامن والعشرون‪ :‬أن الخارج من السبيلين من بول وغائط‪ ،‬ينقض‬
‫الوضوء‪.‬‬
‫التاسع والعشرون‪ :‬استدل بها من قال‪ :‬ل ينقض الوضوء إل هذان المران‪،‬‬
‫فل ينتقض بلمس الفرج ول بغيره‪.‬‬
‫الثلثون‪ :‬استحباب التكنية عما يستقذر التلفظ به )‪ (1‬لقوله تعالى‪ } :‬أوَ‬
‫ْ‬
‫َ‬
‫ط{‪.‬‬ ‫ن ال َْغائ ِ ِ‬
‫م َ‬
‫كم ّ‬‫من ُ‬
‫حد ٌ ِ‬
‫جاَء أ َ‬
‫َ‬
‫الحادي والثلثون‪ :‬أن لمس المرأة بلذة وشهوة ناقض للوضوء‪.‬‬
‫الثاني والثلثون‪ :‬اشتراط عدم الماء لصحة التيمم‪.‬‬
‫الثالث والثلثون‪ :‬أن مع وجود الماء ولو في الصلة‪ ،‬يبطل التيمم لن الله‬
‫إنما أباحه مع عدم الماء‪.‬‬
‫الرابع والثلثون‪ :‬أنه إذا دخل الوقت وليس معه ماء‪ ،‬فإنه يلزمه طلبه في‬
‫رحله وفيما قرب منه‪ ،‬لنه ل يقال "لم يجد" لمن لم يطلب‪.‬‬
‫الخامس والثلثون‪ :‬أن من وجد ماء ل يكفي بعض طهارته‪ ،‬فإنه يلزمه‬
‫استعماله‪ ،‬ثم يتيمم بعد ذلك‪.‬‬
‫السادس والثلثون‪ :‬أن الماء المتغير بالطاهرات‪ ،‬مقدم على التيمم‪ ،‬أي‪:‬‬
‫دوا‬‫ج ُ‬‫م تَ ِ‬‫يكون طهورا‪ ،‬لن الماء المتغير ماء‪ ،‬فيدخل في قوله‪ } :‬فَل َ ْ‬
‫ماًء { ‪.‬‬ ‫َ‬
‫موا { أي‪ :‬اقصدوا‪.‬‬ ‫السابع والثلثون‪ :‬أنه ل بد من نية التيمم لقوله‪ } :‬فَت َي َ ّ‬
‫م ُ‬
‫الثامن والثلثون‪ :‬أنه يكفي التيمم بكل ما تصاعد على وجه الرض من‬
‫دي ُ‬ ‫َ‬
‫ه{‬ ‫من ْ ُ‬
‫كم ّ‬ ‫م وَأي ْ ِ‬ ‫جوهِك ُ ْ‬ ‫حوا ب ِوُ ُ‬
‫س ُ‬ ‫تراب وغيره‪ .‬فيكون على هذا‪ ،‬قوله‪َ } :‬فا ْ‬
‫م َ‬
‫إما من باب التغليب‪ ،‬وأن الغالب أن يكون له غبار يمسح منه ويعلق‬
‫بالوجه واليدين‪ ،‬وإما أن يكون إرشادا للفضل‪ ،‬وأنه إذا أمكن التراب الذي‬
‫فيه غبار فهو أولى‪.‬‬
‫التاسع والثلثون‪ :‬أنه ل يصح التيمم بالتراب النجس‪ ،‬لنه ل يكون طيبا بل‬
‫خبيثا‪.‬‬
‫الربعون‪ :‬أنه يمسح في التيمم الوجه واليدان فقط‪ ،‬دون بقية العضاء‪.‬‬
‫م { شامل لجميع الوجه وأنه يعممه‬ ‫جوهِك ُ ْ‬
‫الحادي والربعون‪ :‬أن قوله‪ } :‬ب ِوُ ُ‬
‫)‪ (2‬بالمسح‪ ،‬إل أنه معفو عن إدخال التراب في الفم والنف‪ ،‬وفيما تحت‬
‫الشعور‪ ،‬ولو خفيفة‪.‬‬
‫الثاني والربعون‪ :‬أن اليدين تمسحان إلى الكوعين فقط‪ ،‬لن اليدين عند‬
‫الطلق كذلك‪.‬‬
‫فلو كان يشترط إيصال المسح إلى الذراعين لقيده الله بذلك‪ ،‬كما قيده‬
‫في الوضوء‪.‬‬
‫] ص ‪[ 224‬‬
‫الثالث والربعون‪ :‬أن الية عامة في جواز التيمم‪ ،‬لجميع الحداث كلها‪،‬‬
‫الحدث الكبر والصغر‪ ،‬بل ولنجاسة البدن‪ ،‬لن الله جعلها بدل عن طهارة‬
‫الماء‪ ،‬وأطلق في الية فلم يقيد ]وقد يقال أن نجاسة البدن ل تدخل في‬
‫حكم التيمم لن السياق في الحداث وهو قول جمهور العلماء[ )‪. (3‬‬
‫الرابع والربعون‪ :‬أن محل التيمم في الحدث الصغر والكبر واحد‪ ،‬وهو‬
‫الوجه واليدان‪.‬‬
‫ن عليه حدثان التيمم عنهما‪ ،‬فإنه يجزئ‬ ‫م ْ‬
‫الخامس والربعون‪ :‬أنه لو نوى َ‬
‫أخذا من عموم الية وإطلقها‪.‬‬
‫السادس والربعون‪ :‬أنه يكفي المسح بأي شيء كان‪ ،‬بيده أو غيرها‪ ،‬لن‬
‫الله قال } فامسحوا { ولم يذكر الممسوح به‪ ،‬فدل على جوازه بكل‬
‫شيء‪.‬‬
‫السابع والربعون‪ :‬اشتراط الترتيب في طهارة التيمم‪ ،‬كما يشترط ذلك‬
‫في الوضوء‪ ،‬ولن الله بدأ بمسح الوجه قبل مسح اليدين‪.‬‬
‫الثامن والربعون‪ :‬أن الله تعالى ‪-‬فيما شرعه لنا من الحكام‪ -‬لم يجعل‬
‫علينا في ذلك من حرج ول مشقة ول عسر‪ ،‬وإنما هو رحمة منه بعباده‬
‫ليطهرهم‪ ،‬وليتم نعمته عليهم‪.‬‬
‫وهذا هو التاسع والربعون‪ :‬أن طهارة الظاهر بالماء والتراب‪ ،‬تكميل‬
‫لطهارة الباطن بالتوحيد‪ ،‬والتوبة النصوح‪.‬‬
‫الخمسون‪ :‬أن طهارة التيمم‪ ،‬وإن لم يكن فيها نظافة وطهارة تدرك‬
‫بالحس والمشاهدة‪ ،‬فإن فيها طهارة معنوية ناشئة عن امتثال أمر الله‬
‫تعالى‪.‬‬
‫كم والسرار في شرائع‬ ‫ح َ‬
‫الحادي والخمسون‪ :‬أنه ينبغي للعبد أن يتدبر ال ِ‬
‫الله‪ ،‬في الطهارة وغيرها ليزداد معرفة وعلما‪ ،‬ويزداد شكرا لله ومحبة له‪،‬‬
‫على ما شرع من الحكام التي توصل العبد إلى المنازل العالية الرفيعة‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬فيه‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬يعمه‪.‬‬
‫)‪ (3‬زيادة من هامش‪ :‬ب‬

‫) ‪(1/222‬‬

‫معَْنا وَأ َط َعَْنا‬


‫س ِ‬ ‫م ب ِهِ إ ِذ ْ قُل ْت ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫قك ُ ْ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫ذي َواث َ َ‬ ‫ميَثاقَ ُ‬
‫م وَ ِ‬‫ة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫َواذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬
‫م َ‬
‫دورِ )‪(7‬‬ ‫ص ُ‬‫ت ال ّ‬ ‫ذا ِ‬‫م بِ َ‬‫ه عَِلي ٌ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫قوا الل ّ َ‬
‫ه إِ ّ‬ ‫َوات ّ ُ‬

‫معَْنا‬
‫س ِ‬ ‫م ب ِهِ إ ِذ ْ قُل ْت ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫قك ُ ْ‬
‫ذي َواث َ َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫ميَثاقَ ُ‬ ‫م وَ ِ‬‫ة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫} ‪َ } { 7‬واذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬
‫م َ‬
‫دورِ { ‪.‬‬ ‫ص ُ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫م بِ َ‬
‫ذا ِ‬ ‫ه عَِلي ٌ‬ ‫ن الل ّ َ‬‫ه إِ ّ‬‫قوا الل ّ َ‬‫وَأ َط َعَْنا َوات ّ ُ‬
‫يأمر تعالى عباده بذكر نعمه الدينية والدنيوية‪ ،‬بقلوبهم وألسنتهم‪ .‬فإن في‬
‫استدامة ذكرها داعيا لشكر الله تعالى ومحبته‪ ،‬وامتلء القلب من إحسانه‪.‬‬
‫وفيه زوال للعجب من النفس بالنعم الدينية‪ ،‬وزيادة لفضل الله وإحسانه‪.‬‬
‫م ب ِهِ { أي‪ :‬عهده الذي‬ ‫قك ُ ْ‬ ‫ذي َواث َ َ‬ ‫ميَثاَقه { أي‪ :‬واذكروا ميثاقه } ال ّ ِ‬ ‫و} ِ‬
‫أخذه عليكم‪.‬‬
‫وليس المراد بذلك أنهم لفظوا ونطقوا بالعهد والميثاق‪ ،‬وإنما المراد بذلك‬
‫أنهم بإيمانهم بالله ورسوله قد التزموا طاعتهما‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬إ ِذ ْ قُل ْت ُ ْ‬
‫م‬
‫معَْنا وَأ َط َعَْنا { أي‪ :‬سمعنا ما دعوتنا به من آياتك القرآنية والكونية‪ ،‬سمع‬ ‫س ِ‬
‫َ‬
‫فهم وإذعان وانقياد‪ .‬وأطعنا ما أمرتنا به بالمتثال‪ ،‬وما نهيتنا عنه‬
‫بالجتناب‪ .‬وهذا شامل لجميع شرائع الدين الظاهرة والباطنة‪.‬‬
‫وأن المؤمنين يذكرون في ذلك عهد الله وميثاقه عليهم‪ ،‬وتكون منهم على‬
‫مُروا به كامل غير ناقص‪.‬‬ ‫ُ‬
‫بال‪ ،‬ويحرصون على أداء ما أ ِ‬
‫دورِ { أي‪ :‬بما‬ ‫ص ُ‬
‫ت ال ّ‬ ‫م بِ َ‬
‫ذا ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه عَِلي ٌ‬ ‫ه { في جميع أحوالكم } إ ِ ّ‬ ‫قوا الل ّ َ‬
‫} َوات ّ ُ‬
‫تنطوي عليه من الفكار والسرار والخواطر‪ .‬فاحذروا أن يطلع من قلوبكم‬
‫على أمر ل يرضاه‪ ،‬أو يصدر منكم ما يكرهه‪ ،‬واعمروا قلوبكم بمعرفته‬
‫ومحبته والنصح لعباده‪ .‬فإنكم ‪-‬إن كنتم كذلك‪ -‬غفر لكم السيئات‪ ،‬وضاعف‬
‫لكم الحسنات‪ ،‬لعلمه بصلح قلوبكم‪.‬‬

‫) ‪(1/224‬‬

‫َ‬
‫ن‬‫شن َآ َ ُ‬
‫م َ‬‫من ّك ُ ْ‬‫جرِ َ‬‫يَ ْ‬ ‫ط وََل‬ ‫س ِ‬‫ق ْ‬ ‫داَء ِبال ْ ِ‬‫شه َ َ‬ ‫ن ل ِل ّهِ ُ‬ ‫مي َ‬
‫وا ِ‬ ‫مُنوا ُ‬
‫كوُنوا قَ ّ‬
‫ذي َ‬
‫نآ َ‬‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫خِبيٌر ب ِ َ‬
‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫إِ ّ‬ ‫قوا الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫وى َوات ّ ُ‬ ‫ق َ‬‫ب ِللت ّ ْ‬‫قَوْم ٍ عََلى أّل ت َعْدُِلوا اعْدُِلوا هُوَ أقَْر ُ‬
‫ن )‪(8‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ت َعْ َ‬
‫َ‬
‫م‬‫من ّك ُ ْ‬
‫جرِ َ‬ ‫ط َول ي َ ْ‬ ‫س ِ‬ ‫داَء ِبال ْ ِ‬
‫ق ْ‬ ‫شه َ َ‬ ‫ن ل ِل ّهِ ُ‬‫مي َ‬
‫وا ِ‬ ‫كوُنوا قَ ّ‬ ‫مُنوا ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 8‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫خِبيٌر‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫قوا الل ّ َ‬
‫ه إِ ّ‬ ‫وى َوات ّ ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ن قَوْم ٍ عََلى أل ت َعْدُِلوا اعْدُِلوا هُوَ أقَْر ُ‬
‫ب ِللت ّ ْ‬ ‫شَنآ ُ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬
‫بِ َ‬
‫مُروا باليمان به‪ ،‬قوموا بلزم إيمانكم‪ ،‬بأن‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫مُنوا { بما أ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫أي } ي َأي َّها ال ِ‬
‫ط { بأن تنشط للقيام بالقسط‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ْ‬
‫داَء ِبال ِ‬ ‫شه َ َ‬ ‫ّ‬
‫ن ل ِلهِ ُ‬ ‫مي َ‬ ‫وا ِ‬ ‫تكونوا } قَ ّ‬
‫حركاتكم الظاهرة والباطنة‪.‬‬
‫وأن يكون ذلك القيام لله وحده‪ ،‬ل لغرض من الغراض الدنيوية‪ ،‬وأن‬
‫تكونوا قاصدين للقسط‪ ،‬الذي هو العدل‪ ،‬ل الفراط ول التفريط‪ ،‬في‬
‫أقوالكم ول أفعالكم‪ ،‬وقوموا بذلك على القريب والبعيد‪ ،‬والصديق والعدو‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬ل يحملنكم بغض } قَوْم ٍ عََلى َأل ت َعْدُِلوا { كما يفعله‬ ‫من ّك ُ ْ‬ ‫جرِ َ‬ ‫} َول ي َ ْ‬
‫من ل عدل عنده ول قسط‪ ،‬بل كما تشهدون لوليكم‪ ،‬فاشهدوا عليه‪ ،‬وكما‬
‫تشهدون على عدوكم فاشهدوا له‪ ،‬ولو كان كافرا أو مبتدعا‪ ،‬فإنه يجب‬
‫العدل فيه‪ ،‬وقبول ما يأتي به من الحق‪ ،‬لنه حق ل لنه قاله‪ ،‬ول يرد الحق‬
‫لجل قوله‪ ،‬فإن هذا ظلم للحق‪.‬‬
‫َ‬
‫وى { أي‪ :‬كلما حرصتم على العدل واجتهدتم في‬ ‫ق َ‬‫ب ِللت ّ ْ‬ ‫} اعْدُِلوا هُوَ أقَْر ُ‬
‫العمل به‪ ،‬كان ذلك أقرب لتقوى قلوبكم‪ ،‬فإن تم العدل كملت التقوى‪.‬‬
‫ن { فمجازيكم بأعمالكم‪ ،‬خيرها وشرها‪ ،‬صغيرها‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ت َعْ َ‬ ‫خِبيٌر ب ِ َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫وكبيرها‪ ،‬جزاء عاجل وآجل‪.‬‬

‫) ‪(1/224‬‬
‫َ‬ ‫ذي َ‬
‫م )‪(9‬‬
‫ظي ٌ‬
‫جٌر عَ ِ‬
‫فَرةٌ وَأ ْ‬
‫مغْ ِ‬ ‫ت ل َهُ ْ‬
‫م َ‬ ‫حا ِ‬ ‫مُلوا ال ّ‬
‫صال ِ َ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬
‫نآ َ‬‫ه ال ّ ِ َ‬
‫وَعَد َ الل ّ ُ‬
‫َ‬
‫جٌر‬
‫فَرةٌ وَأ ْ‬‫مغْ ِ‬‫م َ‬‫ت ل َهُ ْ‬
‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬
‫نآ َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫} ‪ } { 10 ، 9‬وَعَد َ الل ّ ُ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ظي ٌ‬
‫عَ ِ‬
‫ه { الذي ل يخلف الميعاد وهو أصدق القائلين ‪-‬المؤمنين به‬ ‫أي } وَعَد َ الل ّ ُ‬
‫ت { من واجبات‬ ‫حا ِ‬‫صال ِ َ‬‫مُلوا ال ّ‬ ‫وبكتبه ورسله واليوم الخر‪ } ،‬وَعَ ِ‬
‫ومستحبات‪ -‬بالمغفرة لذنوبهم‪ ،‬بالعفو عنها وعن عواقبها‪ ،‬وبالجر العظيم‬
‫الذي ل يعلم عظمه إل الله تعالى‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ما أ ُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ملو َ‬ ‫َ‬
‫ما كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫جَزاًء ب ِ َ‬ ‫ن َ‬ ‫من قُّرةِ أعْي ُ ٍ‬ ‫ي ل َُهم ِ‬ ‫ف َ‬‫خ ِ‬ ‫س َ‬‫ف ٌ‬ ‫} َفل ت َعْل َ ُ‬
‫م نَ ْ‬

‫) ‪(1/224‬‬

‫فروا وك َذ ّبوا بآ َيات ِنا ُأول َئ ِ َ َ‬


‫حيم ِ )‪(10‬‬ ‫ب ال ْ َ‬
‫ج ِ‬ ‫حا ُ‬
‫ص َ‬
‫كأ ْ‬ ‫َ ُ ِ َ َ‬ ‫ن كَ َ ُ‬ ‫َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫فروا وك َذ ّبوا بآيات ِنا ُأول َئ ِ َ َ‬
‫حيم ِ { ‪.‬‬ ‫ب ال ْ َ‬
‫ج ِ‬ ‫حا ُ‬
‫ص َ‬
‫كأ ْ‬ ‫َ ُ ِ َ َ‬ ‫ن كَ َ ُ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫) ‪(1/224‬‬

‫ة الل ّه عَل َيك ُم إذ ْ هَم قَو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫م‬‫طوا إ ِل َي ْك ُ ْ‬
‫س ُ‬ ‫ن ي َب ْ ُ‬‫مأ ْ‬ ‫ّ ْ ٌ‬ ‫ْ ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫م َ‬‫مُنوا اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫أ َيديهم فَك َ ّ َ‬
‫ن )‪(11‬‬ ‫مُنو َ‬‫مؤْ ِ‬‫ل ال ْ ُ‬‫ه وَعََلى الل ّهِ فَل ْي َت َوَك ّ ِ‬
‫قوا الل ّ َ‬
‫م َوات ّ ُ‬ ‫م عَن ْك ُ ْ‬
‫ف أي ْدِي َهُ ْ‬ ‫ْ َُِ ْ‬
‫فُروا وَك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا { الدالة على الحق المبين‪ ،‬فكذبوا بها بعد ما‬ ‫ن كَ َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫أبانت الحقائق‪ُ } .‬أول َئ ِ َ َ‬
‫حيم ِ { الملزمون لها ملزمة الصاحب‬ ‫ج ِ‬‫ب ال ْ َ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬‫كأ ْ‬
‫لصاحبه‪.‬‬
‫] ص ‪[ 225‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫مأ ْ‬ ‫م قَوْ ٌ‬ ‫ة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م إ ِذ ْ هَ ّ‬ ‫م َ‬ ‫مُنوا اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬ ‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 11‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫طوا إل َيك ُ َ‬
‫ه وَعََلى الل ّهِ فَل ْي َت َوَك ّ ِ‬
‫ل‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫م َوات ّ ُ‬ ‫م عَن ْك ُ ْ‬ ‫ف أي ْدِي َهُ ْ‬ ‫م فَك َ ّ‬ ‫م أي ْدِي َهُ ْ‬ ‫س ُ ِ ْ ْ‬ ‫ي َب ْ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُنو َ‬‫مؤْ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫كر تعالى عباده المؤمنين بنعمه العظيمة‪ ،‬ويحثهم على تذكرها بالقلب‬ ‫ي ُذ َ ّ‬
‫واللسان‪ ،‬وأنهم ‪-‬كما أنهم يعدون قتلهم لعدائهم‪ ،‬وأخذ أموالهم وبلدهم‬
‫ة ‪ -‬فليعدوا أيضا إنعامه عليهم بكف أيديهم عنهم‪ ،‬ورد كيدهم‬ ‫وسبيهم نعم ً‬
‫في نحورهم نعمة‪ .‬فإنهم العداء‪ ،‬قد هموا بأمر‪ ،‬وظنوا أنهم قادرون عليه‪.‬‬
‫فإذا لم يدركوا بالمؤمنين مقصودهم‪ ،‬فهو نصر من الله لعباده المؤمنين‬
‫ينبغي لهم أن يشكروا الله على ذلك‪ ،‬ويعبدوه ويذكروه‪ ،‬وهذا يشمل كل‬
‫م بالمؤمنين بشر‪ ،‬من كافر ومنافق وباغ‪ ،‬كف الله شره عن‬ ‫من هَ ّ‬
‫المسلمين‪ ،‬فإنه داخل في هذه الية‪.‬‬
‫ثم أمرهم بما يستعينون به على النتصار على عدوهم‪ ،‬وعلى جميع‬
‫ن { أي‪ :‬يعتمدوا عليه في‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ل ال ْ ُ‬ ‫أمورهم‪ ،‬فقال‪ } :‬وَعََلى الل ّهِ فَل ْي َت َوَك ّ ِ‬
‫جلب مصالحهم الدينية والدنيوية‪ ،‬وتبرؤوا من حولهم وقوتهم‪ ،‬ويثقوا بالله‬
‫تعالى في حصول ما يحبون‪ .‬وعلى حسب إيمان العبد يكون توكله‪ ،‬وهو‬
‫من واجبات القلب المتفق عليها‪.‬‬
‫) ‪(1/224‬‬

‫ل الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫قيًبا وََقا َ‬ ‫شَر ن َ ِ‬ ‫ي عَ َ‬ ‫م اث ْن َ ْ‬ ‫من ْهُ ُ‬ ‫ل وَب َعَث َْنا ِ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ميَثاقَ ب َِني إ ِ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬ ‫قد ْ أ َ َ‬ ‫وَل َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫إني معك ُم ل َئ ِ َ‬
‫م‬
‫موهُ ْ‬ ‫سِلي وَعَّزْرت ُ ُ‬ ‫م ب ُِر ُ‬ ‫من ْت ُ ْ‬ ‫كاةَ وَآ َ‬ ‫م الّز َ‬ ‫صَلةَ وَآت َي ْت ُ ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫مت ُ ُ‬ ‫ن أق َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ِّ‬
‫ري‬ ‫ج‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫نا‬ ‫ج‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫د‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫ئا‬ ‫ي‬ ‫س‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫ر‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫ُ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫نا‬ ‫س‬ ‫ح‬ ‫ضا‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َ ّ ْ ْ َ ّ ِ ْ َ ْ ِ ّ ْ َ ّ ٍ َ ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ً َ َ ً‬ ‫وَ َ ْ ُ ُ‬
‫ت‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫ق‬ ‫أ‬
‫َ‬
‫ل )‪(12‬‬ ‫سِبي ِ‬ ‫واَء ال ّ‬ ‫س َ‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫م فَ َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫فَر ب َعْد َ ذ َل ِ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫حت َِها اْلن َْهاُر فَ َ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ن‬
‫م عَ ْ‬ ‫َ‬
‫ن الكل ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫حّرفو َ‬ ‫ُ‬ ‫ة يُ َ‬ ‫سي َ ً‬ ‫م قا ِ‬ ‫َ‬ ‫جعَلَنا قلوب َهُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫م لعَّناهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ميثاقهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م ِ‬ ‫ضه ِ ْ‬ ‫ق ِ‬ ‫ما ن َ ْ‬ ‫فَب ِ َ‬
‫م إ ِّل قَِليًل‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫خائ ِن َةٍ ِ‬ ‫ل ت َط ّل ِعُ عََلى َ‬ ‫ما ذ ُك ُّروا ب ِهِ وََل ت ََزا ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ظا ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫سوا َ‬ ‫ضعِهِ وَن َ ُ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(13‬‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ّ‬ ‫ح إِ ّ‬ ‫ف ْ‬ ‫ص َ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫ف عَن ْهُ ْ‬ ‫م فاعْ ُ‬ ‫َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ِ‬

‫شَر‬ ‫ي عَ َ‬ ‫م اث ْن َ ْ‬ ‫من ْهُ ُ‬ ‫ل وَب َعَث َْنا ِ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ميَثاقَ ب َِني إ ِ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬ ‫قد ْ أ َ َ‬ ‫} ‪ } { 13 ، 12‬وَل َ َ‬
‫َ‬
‫سِلي‬ ‫م ب ُِر ُ‬ ‫من ْت ُ ْ‬ ‫كاةَ َوآ َ‬ ‫م الّز َ‬ ‫صلةَ َوآت َي ْت ُ ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫مت ُ ُ‬ ‫ن أق َ ْ‬ ‫م ل َئ ِ ْ‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫ه إ ِّني َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫قيًبا وََقا َ‬ ‫نَ ِ‬
‫َ‬
‫خل َن ّك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م َولد ْ ِ‬ ‫سي َّئات ِك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن عَن ْك ُ ْ‬ ‫فَر ّ‬ ‫سًنا لك َ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ضا َ‬ ‫ه قَْر ً‬ ‫م الل ّ َ‬ ‫ضت ُ ُ‬ ‫م وَأقَْر ْ‬ ‫موهُ ْ‬ ‫وَعَّزْرت ُ ُ‬
‫واَء‬ ‫س َ‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫م فَ َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫فَر ب َعْد َ ذ َل ِ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫حت َِها الن َْهاُر فَ َ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫ن الكل ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫حّرفو َ‬ ‫ُ‬ ‫ة يُ َ‬ ‫سي َ ً‬ ‫م قا ِ‬ ‫َ‬ ‫جعَلَنا قلوب َهُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫م لعَّناهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ميثاقهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م ِ‬ ‫ضه ِ ْ‬ ‫ق ِ‬ ‫ما ن َ ْ‬ ‫ل * فب ِ َ‬ ‫َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ال ّ‬
‫م ِإل‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫خائ ِن َةٍ ِ‬ ‫َ‬
‫ما ذ ُكُروا ب ِهِ َول ت ََزال ت َطل ِعُ عَلى َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫م ّ‬ ‫حظا ِ‬ ‫ّ‬ ‫سوا َ‬ ‫ضعِهِ وَن َ ُ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن َ‬ ‫عَ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ّ‬ ‫ح إِ ّ‬ ‫ف ْ‬ ‫ص َ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫ف عَن ْهُ ْ‬ ‫م فاعْ ُ‬ ‫َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫قَِليل ِ‬
‫يخبر تعالى أنه أخذ على بني إسرائيل الميثاق الثقيل المؤكد‪ ،‬وذكر صفة‬
‫الميثاق وأجرهم إن قاموا به‪ ،‬وإثمهم إن لم يقوموا به‪ ،‬ثم ذكر أنهم ما‬
‫ميَثاقَ ب َِني‬ ‫ه ِ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬ ‫قد ْ أ َ َ‬ ‫قاموا به‪ ،‬وذكر ما عاقبهم به‪ ،‬فقال‪ } :‬وَل َ َ‬
‫قيًبا {‬ ‫شَر ن َ ِ‬ ‫ي عَ َ‬ ‫م اث ْن َ ْ‬ ‫من ْهُ ُ‬ ‫ل { أي‪ :‬عهدهم المؤكد الغليظ‪ } ،‬وَب َعَث َْنا ِ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫إِ ْ‬
‫أي‪ :‬رئيسا وعريفا على من تحته‪ ،‬ليكون ناظرا عليهم‪ ،‬حاثا لهم على القيام‬
‫مُروا به‪ ،‬مطالبا يدعوهم‪.‬‬ ‫ُ‬
‫بما أ ِ‬
‫م{‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫ه { للنقباء الذين تحملوا من العباء ما تحملوا‪ } :‬إ ِّني َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫} وََقا َ‬
‫أي‪ :‬بالعون والنصر‪ ،‬فإن المعونة بقدر المؤنة‪.‬‬
‫ثم ذكر ما واثقهم عليه فقال‪ } :‬ل َئ ِ َ‬
‫صلةَ { ظاهرا وباطنا‪،‬‬ ‫م ال ّ‬ ‫مت ُ ُ‬ ‫ن أق َ ْ‬ ‫ْ‬
‫كاةَ {‬ ‫م الّز َ‬ ‫َ َُْ ُ‬‫ت‬ ‫ي‬ ‫ت‬ ‫وآ‬ ‫}‬ ‫ذلك‬ ‫على‬ ‫والمداومة‬ ‫بالتيان بما يلزم وينبغي فيها‪،‬‬
‫سِلي { جميعهم‪ ،‬الذين أفضلهم وأكملهم محمد‬ ‫م ب ُِر ُ‬ ‫من ْت ُ ْ‬ ‫لمستحقيها } َوآ َ‬
‫م { أي‪ :‬عظمتموهم‪ ،‬وأديتم ما يجب‬ ‫موهُ ْ‬ ‫صلى الله عليه وسلم‪ } ،‬وَعَّزْرت ُ ُ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫سًنا { وهو الصدقة‬ ‫ح َ‬ ‫ضا َ‬ ‫ه قْر ً‬ ‫م الل َ‬ ‫ضت ُ ُ‬ ‫لهم من الحترام والطاعة } وَأقَْر ْ‬
‫والحسان‪ ،‬الصادر عن الصدق والخلص وطيب المكسب‪ ،‬فإذا قمتم بذلك‬
‫حت َِها الن َْهاُر { فجمع‬ ‫من ت َ ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫م َ‬ ‫خل َن ّك ُ ْ‬ ‫م َولد ْ ِ‬ ‫سي َّئات ِك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫عنك ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫فَر ّ‬ ‫} لك َ ّ‬
‫لهم بين حصول المحبوب بالجنة وما فيها من النعيم‪ ،‬واندفاع المكروه‬
‫بتكفير السيئات‪ ،‬ودفع ما يترتب عليها من العقوبات‪.‬‬
‫ك { العهد والميثاق المؤكد باليمان واللتزامات‪،‬‬ ‫فَر ب َعْد َ ذ َل ِ َ‬ ‫من ك َ َ‬ ‫} فَ َ‬
‫المقرون بالترغيب بذكر ثوابه‪.‬‬
‫ل { أي‪ :‬عن عمد وعلم‪ ،‬فيستحق ما يستحقه‬ ‫سِبي ِ‬ ‫واَء ال ّ‬ ‫س َ‬ ‫ل َ‬ ‫ض ّ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫} فَ َ‬
‫الضالون من حرمان الثواب‪ ،‬وحصول العقاب‪ .‬فكأنه قيل‪ :‬ليت شعري ماذا‬
‫فعلوا؟ وهل وفوا بما عاهدوا الله عليه أم نكثوا؟‬
‫م{‪.‬‬ ‫ميَثاقَهُ ْ‬ ‫ضِهم ّ‬ ‫ق ِ‬ ‫ما ن َ ْ‬ ‫فبين أنهم نقضوا ذلك فقال‪ } :‬فَب ِ َ‬
‫م { أي‪ :‬طردناهم‬ ‫أي‪ :‬بسببه عاقبناهم بعدة عقوبات‪ :‬الولى‪ :‬أنا } ل َعَّناهُ ْ‬
‫وأبعدناهم من رحمتنا‪ ،‬حيث أغلقوا على أنفسهم أبواب الرحمة‪ ،‬ولم‬
‫يقوموا بالعهد الذي أخذ عليهم‪ ،‬الذي هو سببها العظم‪.‬‬
‫ة { أي‪ :‬غليظة ل تجدي فيها‬ ‫م َقا ِ‬
‫سي َ ً‬ ‫جعَل َْنا قُُلوب َهُ ْ‬ ‫الثانية‪ :‬قوله‪ } :‬وَ َ‬
‫المواعظ‪ ،‬ول تنفعها اليات والنذر‪ ،‬فل يرغبهم تشويق‪ ،‬ول يزعجهم‬
‫تخويف‪ ،‬وهذا من أعظم العقوبات على العبد‪ ،‬أن يكون قلبه بهذه الصفة‬
‫التي ل يفيده الهدى‪ ،‬والخير إل شرا‪.‬‬
‫ضعِهِ { أي‪ :‬ابتلوا بالتغيير والتبديل‪،‬‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬‫عن َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ال ْك َل ِ َ‬‫حّرُفو َ‬ ‫الثالثة‪ :‬أنهم } ي ُ َ‬
‫فيجعلون للكلم الذي أراد الله معنى غير ما أراده الله ول رسوله‪.‬‬
‫ما ذ ُك ُّروا ب ِهِ { فإنهم ذكروا بالتوراة‪ ،‬وبما أنزل‬ ‫م ّ‬ ‫ظا ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫الرابعة‪ :‬أنهم } نسوا َ‬
‫الله على موسى‪ ،‬فنسوا حظا منه‪ ،‬وهذا شامل لنسيان علمه‪ ،‬وأنهم نسوه‬
‫وضاع عنهم‪ ،‬ولم يوجد كثير مما أنساهم الله إياه عقوبة منه لهم‪.‬‬
‫وشامل لنسيان العمل الذي هو الترك‪ ،‬فلم يوفقوا للقيام بما أمروا به‪،‬‬
‫ويستدل بهذا على أهل الكتاب بإنكارهم بعض الذي قد ذكر في كتابهم‪ ،‬أو‬
‫وقع في زمانهم‪ ،‬أنه مما نسوه‪.‬‬
‫م { أي‪:‬‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫خائ ِن َةٍ ّ‬ ‫َ‬
‫ل ت َطل ِعُ عَلى َ‬ ‫ّ‬ ‫الخامسة‪ :‬الخيانة المستمرة التي } ل ت ََزا ُ‬
‫خيانة لله ولعباده المؤمنين‪.‬‬
‫ومن أعظم الخيانة منهم‪ ،‬كتمهم ]عن[ من يعظهم ويحسن فيهم الظن‬
‫الحق‪ ،‬وإبقاؤهم على كفرهم‪ ،‬فهذه خيانة عظيمة‪ .‬وهذه الخصال الذميمة‪،‬‬
‫حاصلة لكل من اتصف بصفاتهم‪.‬‬
‫فكل من لم يقم بما أمر الله به‪ ،‬وأخذ به عليه اللتزام‪ ،‬كان له نصيب من‬
‫اللعنة وقسوة القلب‪ ،‬والبتلء بتحريف الكلم‪ ،‬وأنه ل يوفق للصواب‪،‬‬
‫كر به‪ ،‬وأنه ل بد أن يبتلى بالخيانة‪ ،‬نسأل الله العافية‪.‬‬ ‫ونسيان حظ مما ذ ُ ّ‬
‫وسمى الله تعالى ما ذكروا به حظا‪ ،‬لنه هو أعظم الحظوظ‪ ،‬وما عداه‬
‫ه‬
‫مهِ ِفي ِزين َت ِ ِ‬ ‫ج عََلى قَوْ ِ‬ ‫خَر َ‬ ‫فإنما هي حظوظ دنيوية‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬فَ َ‬
‫ح ّ‬ ‫ه لَ ُ‬ ‫ُ‬
‫ظ‬ ‫ذو َ‬ ‫ي َقاُرو ُ‬
‫ن إ ِن ّ ُ‬ ‫ما أوت ِ َ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ َ‬‫ت ل ََنا ِ‬
‫حَياةَ الد ّن َْيا َيا ل َي ْ َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ري ُ‬ ‫ن يُ ِ‬‫ذي َ‬‫ل ال ّ ِ‬ ‫َقا َ‬
‫صب َُروا‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ها ِإل ال ّ ِ‬ ‫ما ي ُل َ ّ‬
‫قا َ‬ ‫ظيم ٍ { ] ص ‪ [ 226‬وقال في الحظ النافع‪ } :‬وَ َ‬ ‫عَ ِ‬
‫ظيم ٍ {‬ ‫حظ عَ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ذو َ‬ ‫ها ِإل ُ‬ ‫قا َ‬ ‫َ‬
‫ما ي ُل ّ‬ ‫وَ َ‬
‫م { أي‪ :‬فإنهم وفوا بما عاهدوا الله عليه فوفقهم‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫َ‬
‫وقوله‪ِ } :‬إل قِليل ِ‬
‫وهداهم للصراط المستقيم‪.‬‬
‫ح { أي‪ :‬ل تؤاخذهم بما يصدر منهم من الذى‪ ،‬الذي‬ ‫ف ْ‬ ‫ص َ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫ف عَن ْهُ ْ‬ ‫} َفاعْ ُ‬
‫ب‬‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ّ‬
‫يقتضي أن يعفى عنهم‪ ،‬واصفح‪ ،‬فإن ذلك من الحسان } إن الل ُ‬
‫ن { والحسان‪ :‬هو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه‪ ،‬فإنه‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬‫ال ْ ُ‬
‫يراك‪ .‬وفي حق المخلوقين‪ :‬بذل النفع الديني والدنيوي لهم‪.‬‬

‫) ‪(1/225‬‬

‫ما ذ ُك ُّروا ب ِهِ‬ ‫م ّ‬ ‫ح ّ‬


‫ظا ِ‬ ‫سوا َ‬ ‫م فَن َ ُ‬ ‫ميَثاقَهُ ْ‬ ‫صاَرى أ َ َ‬
‫خذ َْنا ِ‬ ‫ن َقاُلوا إ ِّنا ن َ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫م َ‬‫وَ ِ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫ه بِ َ‬ ‫م الل ُ‬‫ف ي ُن َب ّئ ُهُ ُ‬
‫سوْ َ‬
‫مة ِ و َ َ‬‫قَيا َ‬
‫ضاَء إ ِلى ي َوْم ِ ال ِ‬ ‫داوَةَ َوالب َغْ َ‬ ‫م الع َ َ‬‫فَأغَْري َْنا ب َي ْن َهُ ُ‬
‫ن )‪(14‬‬ ‫صن َُعو َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫َ‬

‫ما‬ ‫م ّ‬ ‫ظا ِ‬ ‫ح ّ‬‫سوا َ‬ ‫م فَن َ ُ‬‫ميَثاقَهُ ْ‬‫خذ َْنا ِ‬‫صاَرى أ َ َ‬ ‫ن َقاُلوا إ ِّنا ن َ َ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫} ‪ } { 14‬وَ ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ف ي ُن َب ّئ ُهُ ُ‬
‫م‬ ‫سوْ َ‬
‫مة ِ و َ َ‬
‫قَيا َ‬‫ضاَء إ ِلى ي َوْم ِ ال ِ‬ ‫داوَةَ َوالب َغْ َ‬ ‫ذ ُك ُّروا ب ِهِ فَأغَْري َْنا ب َي ْن َهُ ُ‬
‫م العَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫صن َُعو َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ه بِ َ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫أي‪ :‬وكما أخذنا على اليهود العهد والميثاق‪ ،‬فكذلك أخذنا على } ال ّ ِ‬
‫صاَرى { لعيسى ابن مريم‪ ،‬وزكوا أنفسهم باليمان بالله ورسله‬ ‫َقاُلوا إ ِّنا ن َ َ‬
‫ما ذ ُك ُّروا ب ِهِ { نسيانا علميا‪،‬‬ ‫م ّ‬‫ظا ّ‬ ‫ح ّ‬ ‫سوا َ‬‫وما جاءوا به‪ ،‬فنقضوا العهد‪ } ،‬فَن َ ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫مةِ { أي‪:‬‬ ‫قَيا َ‬
‫ضاَء إ ِلى ي َوْم ِ ال ِ‬ ‫م ال ْعَ َ‬
‫داوَةَ َوالب َغْ َ‬ ‫ونسيانا عمليا‪ } .‬فَأغَْري َْنا ب َي ْن َهُ ُ‬
‫سلطنا بعضهم على بعض‪ ،‬وصار بينهم من الشرور والحن ما يقتضي بغض‬
‫بعضهم بعضا ومعاداة بعضهم بعضا إلى يوم القيامة‪ ،‬وهذا أمر مشاهد‪ ،‬فإن‬
‫ف ي ُن َب ّئ ُهُ ُ‬
‫م‬ ‫سوْ َ‬‫النصارى لم يزالوا ول يزالون في بغض وعداوة وشقاق‪ } .‬وَ َ‬
‫ن { فيعاقبهم عليه‪.‬‬ ‫صن َُعو َ‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ه بِ َ‬
‫) ‪(1/226‬‬

‫ن‬
‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫فو َ‬
‫خ ُ‬
‫م تُ ْ‬‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م ّ‬‫م ك َِثيًرا ِ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫سول َُنا ي ُب َي ّ ُ‬
‫م َر ُ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫ب قَد ْ َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫َيا أ َهْ َ‬
‫ه‬
‫دي ب ِ ِ‬ ‫ن )‪ (15‬ي َهْ ِ‬ ‫مِبي ٌ‬ ‫ب ُ‬ ‫ن الل ّهِ ُنوٌر وَك َِتا ٌ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬‫ن ك َِثيرٍ قَد ْ َ‬ ‫فو عَ ْ‬ ‫ب وَي َعْ ُ‬ ‫ال ْك َِتا ِ‬
‫ت إ َِلى الّنورِ ب ِإ ِذ ْن ِ ِ‬
‫ه‬ ‫ما ِ‬ ‫ن الظ ّل ُ َ‬ ‫م َ‬
‫م ِ‬ ‫جه ُ ْ‬‫خرِ ُ‬ ‫سَلم ِ وَي ُ ْ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫سب ُ َ‬
‫ه ُ‬ ‫وان َ ُ‬
‫ض َ‬‫ن ات ّب َعَ رِ ْ‬‫م ِ‬ ‫ه َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫قيم ٍ )‪(16‬‬ ‫ست َ ِ‬‫م ْ‬ ‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫م إ َِلى ِ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫وَي َهْ ِ‬

‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫م ّ‬‫م ك َِثيًرا ِ‬‫ن ل َك ُ ْ‬
‫سول َُنا ي ُب َي ّ ُ‬ ‫م َر ُ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫ب قَد ْ َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫} ‪َ } { 16 ، 15‬يا أ َهْ َ‬
‫ن*‬ ‫مِبي ٌ‬‫ب ُ‬ ‫ن الل ّهِ ُنوٌر وَك َِتا ٌ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫ن ك َِثيرٍ قَد ْ َ‬ ‫فو عَ ْ‬ ‫ب وَي َعْ ُ‬ ‫ن ال ْك َِتا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫فو َ‬ ‫خ ُ‬‫تُ ْ‬
‫ت إ َِلى‬ ‫ن الظ ّل ُ َ‬
‫ما ِ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫جه ُ ْ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫سلم ِ وَي ُ ْ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫سب ُ َ‬
‫ه ُ‬ ‫وان َ ُ‬‫ض َ‬
‫ن ات ّب َعَ رِ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه َ‬ ‫دي ب ِهِ الل ّ ُ‬ ‫ي َهْ ِ‬
‫قيم ٍ { ‪.‬‬ ‫ست َ ِ‬‫م ْ‬ ‫ط ُ‬
‫صَرا ٍ‬ ‫م إ َِلى ِ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫الّنورِ ب ِإ ِذ ْن ِهِ وَي َهْ ِ‬
‫لما ذكر تعالى ما أخذه الله على أهل الكتاب من اليهود والنصارى‪ ،‬وأنهم‬
‫نقضوا ذلك إل قليل منهم‪ ،‬أمرهم جميعا أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه‬
‫وسلم‪ ،‬واحتج عليهم بآية قاطعة دالة على صحة نبوته‪ ،‬وهي‪ :‬أنه بين لهم‬
‫فون عن الناس‪ ،‬حتى عن العوام من أهل ملتهم‪ ،‬فإذا كانوا‬ ‫خ ُ‬ ‫كثيرا مما ي ُ ْ‬
‫هم المشار إليهم في العلم ول علم عند أحد في ذلك الوقت إل ما عندهم‪،‬‬
‫فالحريص على العلم ل سبيل له إلى إدراكه إل منهم‪ ،‬فإتيان الرسول‬
‫صلى الله عليه وسلم بهذا القرآن العظيم الذي بّين به ما كانوا يتكاتمونه‬
‫ي ل يقرأ ول يكتب ‪ -‬من أدل الدلئل على القطع برسالته‪،‬‬ ‫ُ‬
‫م ّ‬ ‫بينهم‪ ،‬وهو أ ّ‬
‫وذلك مثل صفة محمد في كتبهم‪ ،‬ووجود البشائر به في كتبهم‪ ،‬وبيان آية‬
‫الرجم ونحو ذلك‪.‬‬
‫عن ك َِثيرٍ { أي‪ :‬يترك بيان ما ل تقتضيه الحكمة‪.‬‬ ‫فو َ‬ ‫} وَي َعْ ُ‬
‫ن الل ّهِ ُنوٌر { وهو القرآن‪ ،‬يستضاء به في ظلمات الجهالة‬ ‫م َ‬ ‫كم ّ‬ ‫جاَء ُ‬ ‫} قَد ْ َ‬
‫وعماية الضللة‪.‬‬
‫ن { لكل ما يحتاج الخلق إليه من أمور دينهم ودنياهم‪ .‬من‬ ‫مِبي ٌ‬ ‫ب ّ‬ ‫} وَك َِتا ٌ‬
‫العلم بالله وأسمائه وصفاته وأفعاله‪ ،‬ومن العلم بأحكامه الشرعية‬
‫وأحكامه الجزائية‪.‬‬
‫ن الذي يهتدي بهذا القرآن‪ ،‬وما هو السبب الذي من العبد‬ ‫م ْ‬ ‫ثم ذكر َ‬
‫سلم ِ { أي‪:‬‬ ‫ل ال ّ‬ ‫سب ُ َ‬‫ه ُ‬ ‫وان َ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫ن ات ّب َعَ رِ ْ‬ ‫ّ‬
‫م ِ‬‫ه َ‬ ‫دي ب ِهِ الل ُ‬ ‫لحصول ذلك‪ ،‬فقال‪ } :‬ي َهْ ِ‬
‫يهدي به من اجتهد وحرص على بلوغ مرضاة الله‪ ،‬وصار قصده حسنا‬
‫‪-‬سبل السلم التي تسلم صاحبها من العذاب‪ ،‬وتوصله إلى دار السلم‪،‬‬
‫وهو العلم بالحق والعمل به‪ ،‬إجمال وتفصيل‪.‬‬
‫من { ظلمات الكفر والبدعة والمعصية‪ ،‬والجهل والغفلة‪ ،‬إلى‬ ‫جُهم ّ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫} وَي ُ ْ‬
‫نور اليمان والسنة والطاعة والعلم‪ ،‬والذكر‪ .‬وكل هذه الهداية بإذن الله‪،‬‬
‫قيم ٍ { ‪.‬‬
‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬
‫ط ّ‬ ‫م إ َِلى ِ‬
‫صَرا ٍ‬ ‫ديهِ ْ‬
‫الذي ما شاء كان‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪ } .‬وَي َهْ ِ‬

‫) ‪(1/226‬‬

‫ن الل ّهِ‬ ‫م َ‬
‫ك ِ‬ ‫مل ِ ُ‬‫ن يَ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ل فَ َ‬ ‫م قُ ْ‬‫مْري َ َ‬‫ن َ‬ ‫ح اب ْ ُ‬‫سي ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ه هُوَ ال ْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن َقاُلوا إ ِ ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫فَر ال ّ ِ‬ ‫قد ْ ك َ َ‬ ‫لَ َ‬
‫َْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ميًعا وَل ِل ّهِ‬‫ج ِ‬‫ض َ‬ ‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫م ُ‬‫م وَأ ّ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ح اب ْ َ‬ ‫سي َ‬‫م ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫ن ي ُهْل ِ َ‬
‫ن أَراد َ أ ْ‬ ‫شي ًْئا إ ِ ْ‬ ‫َ‬
‫يٍء‬ ‫ل َ‬ ‫ُ‬
‫ه عَلى ك ّ‬‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫مل ُ‬ ‫ْ‬
‫ش ْ‬ ‫شاُء َوالل ُ‬ ‫خلقُ َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫ما ب َي ْن َهُ َ‬ ‫ض وَ َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ك ال ّ‬ ‫ُ‬
‫ديٌر )‪(17‬‬ ‫قَ ِ‬

‫ل‬‫م قُ ْ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ح اب ْ ُ‬ ‫سي ُ‬‫م ِ‬ ‫ه هُوَ ال ْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن َقاُلوا إ ِ ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫فَر ال ّ ِ‬‫قد ْ ك َ َ‬ ‫} ‪ } { 18 ، 17‬ل َ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ِفي‬ ‫م ْ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫م ُ‬‫م وَأ ّ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ح اب ْ َ‬ ‫سي َ‬ ‫م ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫ن ي ُهْل ِ َ‬ ‫ن أَراد َ أ ْ‬ ‫شي ًْئا إ ِ ْ‬ ‫ن الل ّهِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫مل ِ ُ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫م ْ‬‫فَ َ‬
‫هّ‬
‫شاُء َوالل ُ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫خلقُ َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ي ْ‬ ‫ما ب َي ْن َهُ َ‬ ‫ض وَ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ملك ال ّ‬ ‫ميًعا وَل ِلهِ ُ‬ ‫ج ِ‬‫ض َ‬ ‫الْر ِ‬
‫ديٌر { ‪.‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫عََلى ك ّ‬
‫ُ‬
‫لما ذكر تعالى أخذ الميثاق على أهل الكتابين‪ ،‬وأنهم لم يقوموا به بل‬
‫نقضوه‪ ،‬ذكر أقوالهم الشنيعة‪.‬‬
‫فذكر قول النصارى‪ ،‬القول الذي ما قاله أحد غيرهم‪ ،‬بأن الله هو المسيح‬
‫ابن مريم‪ ،‬ووجه شبهتهم أنه ولد من غير أب‪ ،‬فاعتقدوا فيه هذا العتقاد‬
‫قت بل أم‪ ،‬وآدم أولى منه‪ ،‬خلق بل أب ول‬ ‫خل ِ َ‬‫الباطل مع أن حواء نظيره‪ُ ،‬‬
‫أم‪ ،‬فهل ادعوا فيهما اللهية كما ادعوها في المسيح؟‬
‫فدل على أن قولهم اتباع هوى من غير برهان ول شبهة‪ .‬فرد الله عليهم‬
‫ن أ ََراد َ َأن ي ُهْل ِ َ‬
‫ك‬ ‫شي ًْئا إ ِ ْ‬ ‫ن الل ّهِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫مل ِ ُ‬ ‫من ي َ ْ‬ ‫ل فَ َ‬ ‫بأدلة عقلية واضحة فقال‪ } :‬قُ ْ‬
‫ُ‬
‫ميًعا { ‪.‬‬ ‫ج ِ‬ ‫ض َ‬ ‫من ِفي الْر ِ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫م ُ‬‫م وَأ ّ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ح اب ْ َ‬ ‫سي َ‬‫م ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫فإذا كان المذكورون ل امتناع عندهم يمنعهم لو أراد الله أن يهلكهم‪ ] ،‬ص‬
‫‪ [ 227‬ول قدرة لهم على ذلك ‪ -‬دل على بطلن إلهية من ل يمتنع من‬
‫الهلك‪ ،‬ول في قوته شيء من الفكاك‪.‬‬
‫ض { يتصرف فيهم‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ك ال ّ‬ ‫مل ْ ُ‬ ‫ومن الدلة أن } ل ِل ّهِ { وحده } ُ‬
‫بحكمه الكوني والشرعي والجزائي‪ ،‬وهم مملوكون مدبرون‪ ،‬فهل يليق أن‬
‫يكون المملوك العبد الفقير‪ ،‬إلها معبودا غنيا من كل وجه؟ هذا من أعظم‬
‫المحال‪.‬‬
‫ول وجه لستغرابهم لخلق المسيح عيسى ابن مريم من غير أب‪ ،‬فإن الله‬
‫شاُء { إن شاء من أب وأم‪ ،‬كسائر بني آدم‪ ،‬وإن شاء من أب‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫خل ُقُ َ‬ ‫} يَ ْ‬
‫بل أم‪ ،‬كحواء‪ .‬وإن شاء من أم بل أب‪ ،‬كعيسى‪ .‬وإن شاء من غير أب ول‬
‫أم ]كآدم[ )‪. (1‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫) ‪(1/226‬‬
‫م ب ِذ ُُنوب ِك ُ ْ‬
‫م بَ ْ‬
‫ل‬ ‫م ي ُعَذ ّب ُك ُ ْ‬
‫ل فَل ِ َ‬‫حّباؤُهُ قُ ْ‬‫ن أ َب َْناُء الل ّهِ وَأ َ ِ‬‫ح ُ‬ ‫صاَرى ن َ ْ‬ ‫ت ال ْي َُهود ُ َوالن ّ َ‬ ‫وََقال َ ِ‬
‫مل ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ت‬‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ك ال ّ‬ ‫شاُء وَل ِل ّهِ ُ‬ ‫ن يَ َ‬‫م ْ‬
‫ب َ‬ ‫شاُء وَي ُعَذ ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫فُر ل ِ َ‬ ‫خل َقَ ي َغْ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬
‫شٌر ِ‬ ‫م بَ َ‬‫أن ْت ُ ْ‬
‫َْ‬
‫صيُر )‪(18‬‬ ‫م ِ‬ ‫ما وَإ ِل َي ْهِ ال ْ َ‬ ‫ما ب َي ْن َهُ َ‬‫ض وَ َ‬
‫َوالْر ِ‬
‫م ب ِذ ُُنوب ِك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م ي ُعَذ ّب ُك ُ ْ‬ ‫ل فَل ِ َ‬ ‫حّباؤُهُ قُ ْ‬ ‫ن أ َب َْناُء الل ّهِ وَأ َ ِ‬ ‫ح ُ‬‫صاَرى ن َ ْ‬ ‫ت ال ْي َُهود ُ َوالن ّ َ‬ ‫} وََقال َ ِ‬
‫مل ْ ُ‬ ‫ب ْ َ‬
‫ك‬ ‫شاُء وَل ِل ّهِ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب َ‬ ‫شاُء وَي ُعَذ ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫فُر ل ِ َ‬ ‫خل َقَ ي َغْ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬
‫شٌر ِ‬ ‫م بَ َ‬ ‫ل أن ْت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫صيُر { ‪.‬‬ ‫م ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ما وَإ ِلي ْهِ ال َ‬ ‫ما ب َي ْن َهُ َ‬‫ض وَ َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫فنوع خليقته تعالى بمشيئته النافذة‪ ،‬التي ل يستعصي عليها شيء‪ ،‬ولهذا‬
‫ديٌر { ‪.‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫قال‪َ } :‬والل ّ ُ‬
‫ومن مقالت اليهود والنصارى أن كل منهما ادعى دعوى باطلة‪ ،‬يزكون بها‬
‫حّباؤُهُ { ‪.‬‬ ‫ن أ َب َْناُء الل ّهِ وَأ َ ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫أنفسهم‪ ،‬بأن قال كل منهما‪ } :‬ن َ ْ‬
‫والبن في لغتهم هو الحبيب‪ ،‬ولم يريدوا البنوة الحقيقية‪ ،‬فإن هذا ليس‬
‫من مذهبهم إل مذهب النصارى في المسيح‪.‬‬
‫م{؟‬ ‫م ب ِذ ُُنوب ِك ُ ْ‬ ‫م ي ُعَذ ّب ُك ُ ْ‬‫ل فَل ِ َ‬ ‫قال الله ردا عليهم حيث ادعوا بل برهان‪ } :‬قُ ْ‬
‫فلو كنتم أحبابه ما عذبكم ]لكون الله ل يحب إل من قام بمراضيه[ )‪. (1‬‬
‫فُر‬‫خل َقَ { تجري عليكم أحكام العدل والفضل } ي َغْ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫م ّ‬ ‫شٌر ّ‬ ‫ل َأنُتم ب َ َ‬ ‫} بَ ْ‬
‫شاُء { إذا أتوا بأسباب المغفرة أو أسباب العذاب‪،‬‬ ‫من ي َ َ‬ ‫ب َ‬ ‫شاُء وَي ُعَذ ّ ُ‬ ‫من ي َ َ‬ ‫لِ َ‬
‫صيُر { أي‪ :‬فأي شيء‬ ‫م ِ‬ ‫ما وَإ ِل َي ْهِ ال ْ َ‬ ‫ما ب َي ْن َهُ َ‬‫ض وَ َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ك ال ّ‬ ‫مل ْ ُ‬‫} وَل ِل ّهِ ُ‬
‫خصكم بهذه الفضيلة‪ ،‬وأنتم من جملة المماليك ومن جملة من يرجع إلى‬
‫الله في الدار الخرة‪ ،‬فيجازيكم بأعمالكم‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫) ‪(1/227‬‬

‫قوُلوا‬‫ن تَ ُ‬ ‫ل ال ْكتاب قَد جاَءك ُم رسول ُنا يبين ل َك ُم عََلى فَترة من الرس َ‬ ‫َيا أ َهْ َ‬
‫لأ ْ‬ ‫َْ ٍ ِ َ ّ ُ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ ُ َ َُّ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َِ ِ‬
‫يٍء‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬
‫ذيٌر َوالل ّ ُ‬
‫شيٌر وَن َ ِ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬
‫م بَ ِ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫شيرٍ وََل ن َ ِ‬
‫ذيرٍ فَ َ‬ ‫ن بَ ِ‬
‫م ْ‬‫جاَءَنا ِ‬
‫ما َ‬ ‫َ‬
‫ديٌر )‪(19‬‬ ‫قَ ِ‬

‫ن‬
‫م َ‬ ‫م عََلى فَت َْرةٍ ِ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬
‫سول َُنا ي ُب َي ّ ُ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬
‫م َر ُ‬ ‫ب قَد ْ َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫} ‪َ } { 19‬يا أ َهْ َ‬
‫الرس َ‬
‫ذيٌر َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫شيٌر وَن َ ِ‬
‫م بَ ِ‬‫جاَءك ُ ْ‬ ‫قد ْ َ‬‫ذيرٍ فَ َ‬ ‫شيرٍ َول ن َ ِ‬ ‫ن بَ ِ‬
‫م ْ‬‫جاَءَنا ِ‬‫ما َ‬ ‫قوُلوا َ‬ ‫ن تَ ُ‬
‫لأ ْ‬ ‫ّ ُ ِ‬
‫ديٌر { ‪.‬‬ ‫َ‬
‫يٍء ق ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫عََلى ك ّ‬
‫ُ‬
‫يدعو تبارك وتعالى أهل الكتاب ‪-‬بسبب ما من عليهم من كتابه‪ -‬أن يؤمنوا‬
‫برسوله محمد صلى الله عليه وسلم‪ ،‬ويشكروا الله تعالى الذي أرسله‬
‫ل { وشدة حاجة إليه‪.‬‬ ‫س ِ‬ ‫ن الّر ُ‬‫م َ‬ ‫إليهم على حين } فَت َْرةٍ ّ‬
‫وهذا مما يدعو إلى اليمان به‪ ،‬وأنه يبين لهم جميع المطالب اللهية‬
‫والحكام الشرعية‪.‬‬
‫ذيرٍ فَ َ‬
‫قد ْ‬ ‫شيرٍ َول ن َ ِ‬ ‫من ب َ ِ‬ ‫جاَءَنا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫وقد قطع الله بذلك حجتهم‪ ،‬لئل يقولوا‪َ } :‬‬
‫ذيٌر { يبشر بالثواب العاجل والجل‪ ،‬وبالعمال الموجبة‬ ‫شيٌر وَن َ ِ‬ ‫كم ب َ ِ‬ ‫جاَء ُ‬
‫َ‬
‫لذلك‪ ،‬وصفة العاملين بها‪ .‬وينذر بالعقاب العاجل والجل‪ ،‬وبالعمال‬
‫الموجبة لذلك‪ ،‬وصفة العاملين بها‪.‬‬
‫ديٌر { انقادت الشياء طوعا وإذعانا لقدرته‪ ،‬فل‬ ‫يٍء قَ ِ‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫} َوالل ّ ُ‬
‫يستعصي عليه شيء منها‪ ،‬ومن قدرته أن أرسل الرسل‪ ،‬وأنزل الكتب‪،‬‬
‫وأنه يثيب من أطاعهم ويعاقب من عصاهم‪.‬‬

‫) ‪(1/227‬‬

‫م أ َن ْب َِياَء‬ ‫ل ِفيك ُ ْ‬ ‫جعَ َ‬ ‫م إ ِذ ْ َ‬ ‫ة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫مهِ َيا قَوْم ِ اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬ ‫قوْ ِ‬ ‫سى ل ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬ ‫وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫خلوا‬ ‫ن )‪َ (20‬يا قَوْم ِ اد ْ ُ‬ ‫مي َ‬ ‫ن الَعال ِ‬ ‫م َ‬ ‫دا ِ‬ ‫ح ً‬‫تأ َ‬ ‫م ي ُؤْ ِ‬ ‫ما ل ْ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ملوكا وَآَتاك ْ‬ ‫ً‬ ‫م ُ‬ ‫جعَل َك ُ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫قل ُِبوا‬ ‫م فَت َن ْ َ‬ ‫ُ‬
‫دوا عَلى أد َْبارِك ْ‬ ‫م وَل ت َْرت َ ّ‬ ‫ه لك ْ‬‫ُ‬ ‫ب الل ُ‬ ‫َ‬
‫ة الِتي كت َ َ‬ ‫س َ‬ ‫قد ّ َ‬ ‫م َ‬‫ض ال ُ‬ ‫اْلْر َ‬
‫حّتى‬ ‫خل ََها َ‬ ‫ن ن َد ْ ُ‬ ‫ن وَإ ِّنا ل َ ْ‬ ‫جّباِري َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ِفيَها قَوْ ً‬ ‫سى إ ِ ّ‬ ‫مو َ‬ ‫ن )‪َ (21‬قاُلوا َيا ُ‬ ‫ري َ‬ ‫س ِ‬ ‫خا ِ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫جل ِ‬ ‫َ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫ن )‪َ (22‬قا َ‬ ‫خلو َ‬ ‫ُ‬ ‫دا ِ‬ ‫من َْها فَإ ِّنا َ‬ ‫جوا ِ‬ ‫خُر ُ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫من َْها فَإ ِ ْ‬ ‫جوا ِ‬ ‫خُر ُ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫غال ُِبو َ‬ ‫م َ‬ ‫موهُ فَإ ِن ّك ُ ْ‬ ‫خل ْت ُ ُ‬ ‫ذا د َ َ‬ ‫ب فَإ ِ َ‬ ‫م ال َْبا َ‬ ‫خُلوا عَل َي ْهِ ُ‬ ‫ما اد ْ ُ‬ ‫ه عَل َي ْهِ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ن أن ْعَ َ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫يَ َ‬
‫َ‬
‫خل ََها أب َ ً‬
‫دا‬ ‫ن ن َد ْ ُ‬ ‫سى إ ِّنا ل َ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫ن )‪َ (23‬قاُلوا َيا ُ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫وَعََلى الل ّهِ فَت َوَك ُّلوا إ ِ ْ‬
‫ن )‪َ (24‬قا َ‬ ‫هاهَُنا َقا ِ‬ ‫قات َِل إ ِّنا َ‬ ‫ك فَ َ‬ ‫ت وََرب ّ َ‬ ‫َ‬
‫ب إ ِّني‬ ‫ل َر ّ‬ ‫دو َ‬ ‫ع ُ‬ ‫ب أن ْ َ‬ ‫موا ِفيَها َفاذ ْهَ ْ‬ ‫دا ُ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل فَإ ِن َّها‬ ‫ن )‪َ (25‬قا َ‬ ‫قي‬ ‫س‬
‫ْ ِ ْ ِ ِ َ‬ ‫فا‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫و‬
‫ُ ْ َََْ ََْ َ‬ ‫نا‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ق‬ ‫ر‬ ‫ْ‬ ‫ف‬ ‫فا‬ ‫َ‬ ‫خي‬ ‫َ ِ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫سي‬ ‫َ ْ ِ ِ َ ِ‬
‫ْ‬ ‫ف‬‫ن‬ ‫ل‬ ‫ّ‬ ‫إ‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫ل‬‫م‬ ‫أ‬ ‫ل‬
‫س عََلى ال ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫قوْم ِ‬ ‫ض فََل ت َأ َ‬ ‫ن ِفي الْر ِ‬
‫ْ‬ ‫ة ي َِتيُهو َ‬ ‫سن َ ً‬ ‫ن َ‬ ‫م أْرب َِعي َ‬ ‫ة عَل َي ْهِ ْ‬ ‫م ٌ‬ ‫حّر َ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ن )‪(26‬‬ ‫قي َ‬ ‫س ِ‬ ‫فا ِ‬ ‫ال َ‬ ‫ْ‬

‫م إ ِذ ْ‬‫ة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫مهِ َيا قَوْم ِ اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬ ‫قوْ ِ‬‫سى ل ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ل ُ‬ ‫} ‪ } { 26 - 20‬وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫َ‬ ‫ل فيك ُ َ‬
‫ن * َيا‬ ‫مي َ‬ ‫ن ال َْعال َ ِ‬ ‫م َ‬ ‫دا ِ‬ ‫ح ً‬‫تأ َ‬ ‫م ي ُؤْ ِ‬ ‫ما ل َ ْ‬ ‫كا َوآَتاك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫مُلو ً‬ ‫م ُ‬ ‫جعَل َك ُ ْ‬ ‫جعَ َ ِ ْ‬
‫م أن ْب َِياَء وَ َ‬ ‫َ‬
‫ة{‪.‬‬ ‫س‬
‫ُ ّ َ َ‬‫د‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫م‬‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ض‬‫ْ َ‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫خ‬
‫ُ‬ ‫قَ ْ ِ ْ‬
‫د‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫و‬
‫إلى آخر القصة )‪ . (1‬لما امتن الله على موسى وقومه بنجاتهم من‬
‫فرعون وقومه وأسرهم واستبعادهم‪ ،‬ذهبوا قاصدين لوطانهم ومساكنهم‪،‬‬
‫وهي بيت المقدس وما حواليه‪ ،‬وقاربوا وصول بيت المقدس‪ ،‬وكان الله‬
‫قد فرض عليهم جهاد عدوهم ليخرجوه من ديارهم‪ .‬فوعظهم موسى عليه‬
‫ة الل ّهِ عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م َ‬‫السلم؛ وذكرهم ليقدموا على الجهاد فقال لهم‪ } :‬اذ ْك ُُروا ن ِعْ َ‬
‫{ بقلوبكم وألسنتكم‪ .‬فإن ذكرها داع إلى محبته تعالى ومنشط على‬
‫م َأنب َِياَء { يدعونكم إلى الهدى‪ ،‬ويحذرونكم من‬ ‫ل ِفيك ُ ْ‬ ‫جعَ َ‬
‫العبادة‪ } ،‬إ ِذ ْ َ‬
‫الردى‪ ،‬ويحثونكم على سعادتكم البدية‪ ،‬ويعلمونكم ما لم تكونوا تعلمون }‬
‫كا { تملكون أمركم‪ ،‬بحيث إنه زال عنكم استعباد عدوكم‬ ‫مُلو ً‬ ‫كم ّ‬ ‫جعَل َ ُ‬ ‫وَ َ‬
‫لكم‪ ،‬فكنتم تملكون أمركم‪ ،‬وتتمكنون من إقامة دينكم‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن{‬ ‫مي َ‬ ‫ن الَعال ِ‬ ‫م َ‬ ‫دا ّ‬ ‫ح ً‬‫تأ َ‬ ‫م ي ُؤْ ِ‬‫ما ل َ ْ‬ ‫م { من النعم الدينية والدنيوية } َ‬ ‫} َوآَتاك ُ ْ‬
‫فإنهم في ذلك الزمان خيرة الخلق‪ ،‬وأكرمهم على الله تعالى‪ .‬وقد أنعم‬
‫عليهم بنعم ما كانت لغيرهم‪.‬‬
‫فذكرهم بالنعم الدينية والدنيوية‪ ،‬الداعي ذلك ليمانهم وثباته‪ ،‬وثباتهم على‬
‫ة{‪.‬‬ ‫س َ‬ ‫قد ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ض ال ْ ُ‬ ‫خُلوا الْر َ‬ ‫الجهاد‪ ،‬وإقدامهم عليه‪ ،‬ولهذا قال‪َ } :‬يا قَوْم ِ اد ْ ُ‬
‫م { فأخبرهم خبرا تطمئن به أنفسهم‪،‬‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬‫ب الل ّ ُ‬ ‫أي‪ :‬المطهرة } ال ِّتي ك َت َ َ‬
‫إن كانوا مؤمنين مصدقين بخبر الله‪ ،‬وأنه قد كتب الله لهم دخولها‪،‬‬
‫َ‬
‫دوا { أي‪ :‬ترجعوا } عََلى أد َْبارِك ُ ْ‬
‫م‬ ‫وانتصارهم على عدوهم‪َ } .‬ول ت َْرت َ ّ‬
‫ن { قد ] ص ‪ [ 228‬خسرتم دنياكم بما فاتكم من النصر‬ ‫ري َ‬
‫س ِ‬ ‫خا ِ‬ ‫قل ُِبوا َ‬ ‫فَت َن ْ َ‬
‫على العداء وفتح بلدكم‪ .‬وآخرتكم بما فاتكم من الثواب‪ ،‬وما استحققتم‬
‫‪-‬بمعصيتكم‪ -‬من العقاب‪ ،‬فقالوا قول يدل على ضعف قلوبهم‪ ،‬وخور‬
‫نفوسهم‪ ،‬وعدم اهتمامهم بأمر الله ورسوله‪.‬‬
‫ن { شديدي القوة والشجاعة‪ ،‬أي‪ :‬فهذا‬ ‫جّباِري َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ِفيَها قَوْ ً‬ ‫سى إ ِ ّ‬ ‫مو َ‬ ‫} َيا ُ‬
‫من الموانع لنا من دخولها‪.‬‬
‫ن { وهذا‬ ‫ُ‬
‫خلو َ‬ ‫من َْها فَإ ِّنا َ‬
‫دا ِ‬ ‫جوا ِ‬ ‫خُر ُ‬ ‫من َْها فَِإن ي َ ْ‬ ‫جوا ِ‬ ‫خُر ُ‬ ‫حّتى ي َ ْ‬ ‫خل ََها َ‬
‫} وَإ ِّنا َلن ن ّد ْ ُ‬
‫من الجبن وقلة اليقين‪ ،‬وإل فلو كان معهم رشدهم‪ ،‬لعلموا أنهم كلهم من‬
‫بني آدم‪ ،‬وأن القوي من أعانه الله بقوة من عنده‪ ،‬فإنه ل حول ول قوة إل‬
‫بالله‪ ،‬ولعلموا أنهم سينصرون عليهم‪ ،‬إذ وعدهم الله بذلك‪ ،‬وعدا خاصا‪.‬‬
‫ن { الله تعالى‪ ،‬مشجعين لقومهم‪ ،‬منهضين‬ ‫خاُفو َ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬
‫م َ‬
‫ن ِ‬ ‫جل ِ‬ ‫} َقا َ‬
‫ل َر ُ‬
‫َ‬
‫ما { بالتوفيق‪،‬‬ ‫ه عَل َي ْهِ َ‬‫م الل ّ ُ‬‫لهم على قتال عدوهم واحتلل بلدهم‪ } .‬أن ْعَ َ‬
‫وكلمة الحق في هذا الموطن المحتاج إلى مثل كلمهم‪ ،‬وأنعم عليهم‬
‫بالصبر واليقين‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬ليس بينكم وبين‬ ‫م َ‬
‫غال ُِبو َ‬ ‫خل ْت ُ ُ‬
‫موهُ فَإ ِن ّك ُ ْ‬ ‫ذا د َ َ‬‫ب فَإ ِ َ‬ ‫م ال َْبا َ‬‫خُلوا عَل َي ْهِ ُ‬ ‫} اد ْ ُ‬
‫نصركم عليهم إل أن تجزموا عليهم‪ ،‬وتدخلوا عليهم الباب‪ ،‬فإذا دخلتموه‬
‫مَراهم بعدة هي أقوى العدد‪ ،‬فقال } وَعََلى‬ ‫عليهم فإنهم سينهزمون‪ ،‬ثم أ َ‬
‫ن { فإن في التوكل على الله ‪-‬وخصوصا في‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫الل ّهِ فَت َوَك ُّلوا ِإن ك ُن ُْتم ّ‬
‫هذا الموطن‪ -‬تيسيرا للمر‪ ،‬ونصرا على العداء‪ .‬ودل هذا على وجوب‬
‫التوكل‪ ،‬وعلى أنه بحسب إيمان العبد يكون توكله‪ ،‬فلم ينجع فيهم هذا‬
‫الكلم‪ ،‬ول نفع فيهم الملم‪ ،‬فقالوا قول الذلين‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬كتب اليات إلى قوله‪" :‬فل تأس على القوم الفاسقين"‪.‬‬

‫) ‪(1/227‬‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫قاِتل إ ِّنا‬ ‫ك فَ َ‬ ‫ت وََرب ّ َ‬ ‫ب أن َ‬ ‫موا ِفيَها َفاذ ْهَ ْ‬ ‫دا ُ‬‫ما َ‬ ‫دا ّ‬‫خل ََها أب َ ً‬‫سى إ ِّنا َلن ن َد ْ ُ‬ ‫مو َ‬ ‫} َيا ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دو َ‬ ‫ع ُ‬ ‫هاهَُنا َقا ِ‬ ‫َ‬
‫فما أشنع هذا الكلم منهم‪ ،‬ومواجهتهم لنبيهم في هذا المقام الحرج‬
‫الضيق‪ ،‬الذي قد دعت الحاجة والضرورة إلى نصرة نبيهم‪ ،‬وإعزاز‬
‫أنفسهم‪.‬‬
‫وبهذا وأمثاله يظهر التفاوت بين سائر المم‪ ،‬وأمة محمد صلى الله عليه‬
‫وسلم حيث قال الصحابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ‪-‬حين‬
‫شاورهم في القتال يوم "بدر" مع أنه لم يحتم عليهم‪ :‬يا رسول الله‪ ،‬لو‬
‫خضت بنا هذا البحر لخضناه معك‪ ،‬ولو بلغت بنا برك الغماد ما تخلف عنك‬
‫ك فَ َ‬ ‫ت وََرب ّ َ‬ ‫َ‬
‫قاِتل إ ِّنا‬ ‫ب أن َ‬ ‫أحد‪ .‬ول نقول كما قال قوم موسى لموسى‪ } :‬اذ ْهَ ْ‬
‫ن { ولكن اذهب أنت وربك فقاتل إنا معكما مقاتلون‪ ،‬من بين‬ ‫دو َ‬ ‫ع ُ‬ ‫هاهَُنا َقا ِ‬ ‫َ‬
‫يديك ومن خلفك‪ ،‬وعن يمينك وعن يسارك‪.‬‬
‫ك ِإل‬ ‫مل ِ ُ‬ ‫َ‬ ‫فلما رأى موسى عليه السلم عتوهم عليه } َقا َ‬
‫ب إ ِّني ل أ ْ‬ ‫ل َر ّ‬
‫خي { أي‪ :‬فل يدان لنا بقتالهم‪ ،‬ولست بجبار على هؤلء‪.‬‬ ‫سي وَأ َ ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫نَ ْ‬
‫ن { أي‪ :‬احكم بيننا وبينهم‪ ،‬بأن تنزل‬ ‫قي َ‬‫س ِ‬
‫فا ِ‬ ‫ْ‬
‫قوْم ِ ال َ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫} َفافُْرقْ ب َي ْن ََنا وَب َي ْ َ‬
‫فيهم من العقوبة ما اقتضته حكمتك‪ ،‬ودل ذلك على أن قولهم وفعلهم من‬
‫الكبائر العظيمة الموجبة للفسق‪.‬‬
‫َ‬
‫ة‬
‫سن َ ً‬‫ن َ‬ ‫م أْرب َِعي َ‬ ‫ة عَل َي ْهِ ْ‬ ‫م ٌ‬ ‫حّر َ‬
‫م َ‬‫ل { الله مجيبا لدعوة موسى‪ } :‬فَإ ِن َّها ُ‬ ‫} َقا َ‬
‫ض { أي‪ :‬إن من عقوبتهم أن نحرم عليهم دخول هذه‬ ‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫ي َِتيُهو َ‬
‫القرية التي كتبها الله لهم‪ ،‬مدة أربعين سنة‪ ،‬وتلك المدة أيضا يتيهون في‬
‫الرض‪ ،‬ل يهتدون إلى طريق ول يبقون مطمئنين‪ ،‬وهذه عقوبة دنيوية‪ ،‬لعل‬
‫الله تعالى كفر بها عنهم‪ ،‬ودفع عنهم عقوبة أعظم منها‪ ،‬وفي هذا دليل‬
‫على أن العقوبة على الذنب قد تكون بزوال نعمة موجودة‪ ،‬أو دفع نقمة‬
‫قد انعقد سبب وجودها أو تأخرها إلى وقت آخر‪.‬‬
‫ولعل الحكمة في هذه المدة أن يموت أكثر هؤلء الذين قالوا هذه المقالة‪،‬‬
‫الصادرة عن قلوب ل صبر فيها ول ثبات‪ ،‬بل قد ألفت الستعباد لعدوها‪،‬‬
‫ولم تكن لها همم ترقيها إلى ما فيه ارتقاؤها وعلوها‪ ،‬ولتظهر ناشئة جديدة‬
‫تتربى عقولهم على طلب قهر العداء‪ ،‬وعدم الستعباد‪ ،‬والذل المانع من‬
‫السعادة‪.‬‬
‫ولما علم الله تعالى أن عبده موسى في غاية الرحمة على الخلق‪،‬‬
‫خصوصا قومه‪ ،‬وأنه ربما رق لهم‪ ،‬واحتملته الشفقة على الحزن عليهم‬
‫َ‬
‫في هذه العقوبة‪ ،‬أو الدعاء لهم بزوالها‪ ،‬مع أن الله قد حتمها‪ ،‬قال‪ } :‬فل‬
‫ن { أي‪ :‬ل تأسف عليهم ول تحزن‪ ،‬فإنهم قد‬ ‫قوْم ِ ال ْ َ‬
‫س عََلى ال ْ َ‬ ‫ْ‬
‫قي َ‬
‫س ِ‬
‫فا ِ‬ ‫ت َأ َ‬
‫فسقوا‪ ،‬وفسقهم اقتضى وقوع ما نزل بهم ل ظلما منا‪.‬‬

‫) ‪(1/228‬‬

‫لم َ‬ ‫َ‬
‫قب ّ ْ‬
‫ل‬ ‫م ي ُت َ َ‬ ‫ما وَل َ ْ‬ ‫حدِهِ َ‬ ‫نأ َ‬ ‫قب ّ َ ِ ْ‬ ‫حقّ إ ِذ ْ قَّرَبا قُْرَباًنا فَت ُ ُ‬ ‫م ِبال ْ َ‬ ‫ي آ َد َ َ‬ ‫م ن َب َأ اب ْن َ ْ‬ ‫ل عَل َي ْهِ ْ‬ ‫َوات ْ ُ‬
‫ت‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫قب ّ ُ‬ ‫َ‬
‫ل لقْت ُلن ّك َقا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خرِ َقا َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫سط َ‬ ‫ن بَ َ‬ ‫ن )‪ (27‬لئ ِ ْ‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ما ي َت َ َ‬ ‫ل إ ِن ّ َ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫ب‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ط ي َدِيَ إ ِلي ْك ِلقْت ُلك إ ِّني أ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ه َر ّ‬ ‫ف الل َ‬ ‫خا ُ‬ ‫س ٍ‬ ‫ما أَنا ب َِبا ِ‬ ‫قت ُلِني َ‬ ‫ي ي َد َك ل ِت َ ْ‬ ‫إ ِل ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ب الّناِر‬ ‫حا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ُ‬
‫ك فَت َكو َ‬ ‫م َ‬ ‫مي وَإ ِث ْ ِ‬ ‫ن ت َُبوَء ب ِإ ِث ْ ِ‬ ‫ن )‪ (28‬إ ِّني أِريد ُ أ ْ‬ ‫مي َ‬ ‫ال َْعال ِ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫ن‬‫م َ‬‫ح ِ‬ ‫صب َ َ‬ ‫ه فَأ ْ‬ ‫قت َل َ ُ‬
‫خيهِ فَ َ‬ ‫ل أَ ِ‬ ‫ه قَت ْ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫ه نَ ْ‬ ‫ت لَ ُ‬ ‫ن )‪ (29‬فَط َوّعَ ْ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫جَزاُء ال ّ‬ ‫ك َ‬ ‫وَذ َل ِ َ‬
‫ف يواري سوأةََ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ال ْ َ‬
‫َ ْ‬ ‫ه ك َي ْ َ ُ َ َ َِ‬ ‫ض ل ِي ُرِي َ ُ‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ث ِفي الْر‬ ‫ح ُ‬ ‫ه غَُراًبا ي َب ْ َ‬ ‫ث الل ُ‬ ‫ن )‪ (30‬فَب َعَ َ‬ ‫َ‬ ‫ري‬ ‫ِ‬ ‫س‬
‫خا ِ‬
‫خي‬ ‫سوْأةَ أ ِ‬ ‫ب فَأَوارِيَ َ‬ ‫ذا ال ْغَُرا ِ‬ ‫ل هَ َ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كو َ‬ ‫ن أَ ُ‬ ‫تأ ْ‬
‫َ‬
‫جْز ُ‬
‫َ‬
‫ل َيا وَي ْل ََتا أعَ َ‬ ‫خيهِ َقا َ‬ ‫أَ ِ‬
‫َ‬
‫ن )‪(31‬‬ ‫مي َ‬ ‫ن الّنادِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ح ِ‬ ‫صب َ َ‬ ‫فَأ ْ‬
‫َ‬
‫حق ّ { ‪.‬‬ ‫م ِبال ْ َ‬ ‫ي آد َ َ‬ ‫م ن َب َأ اب ْن َ ْ‬ ‫ل عَل َي ْهِ ْ‬ ‫} ‪َ } { 31 - 27‬وات ْ ُ‬
‫إلى آخر القصة )‪ (1‬أي‪ :‬قص على الناس وأخبرهم بالقضية التي جرت‬
‫على ابني آدم بالحق‪ ،‬تلوة يعتبر بها المعتبرون‪ ،‬صدقا ل كذبا‪ ،‬وجدا ل لعبا‪،‬‬
‫والظاهر أن ابني آدم هما ابناه لصلبه‪ ،‬كما يدل عليه ظاهر الية والسياق‪،‬‬
‫وهو قول جمهور المفسرين‪.‬‬
‫أي‪ :‬اتل عليهم نبأهما في حال تقريبهما للقربان‪ ،‬الذي أداهما إلى الحال‬
‫] ص ‪ [ 229‬المذكورة‪.‬‬
‫} إ ِذ ْ قَّرَبا قُْرَباًنا { أي‪ :‬أخرج كل منهما شيئا من ماله لقصد التقرب إلى‬
‫لم َ‬
‫خرِ { بأن علم ذلك بخبر من‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫قب ّ ْ‬ ‫م ي ُت َ َ‬ ‫ما وَل َ ْ‬ ‫حدِهِ َ‬ ‫نأ َ‬ ‫قب ّ َ ِ ْ‬ ‫الله‪ } ،‬فَت ُ ُ‬
‫السماء‪ ،‬أو بالعادة السابقة في المم‪ ،‬أن علمة تقبل الله لقربان‪ ،‬أن تنزل‬
‫نار من السماء فتحرقه‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ل { البن‪ ،‬الذي لم يتقبل منه للخر حسدا وبغيا } لقت ُلن ّك { فقال له‬ ‫} َقا َ‬
‫ن { فأي ذنب لي‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ه ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫قب ّ ُ‬ ‫ما ي َت َ َ‬ ‫الخر ‪-‬مترفقا له في ذلك‪ } -‬إ ِن ّ َ‬
‫وجناية توجب لك أن تقتلني؟ إل أني اتقيت الله تعالى‪ ،‬الذي تقواه واجبة‬
‫ي وعليك‪ ،‬وعلى كل أحد‪ ،‬وأصح القوال في تفسير المتقين هنا‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫عل ّ‬
‫المتقين لله في ذلك العمل‪ ،‬بأن يكون عملهم خالصا لوجه الله‪ ،‬متبعين‬
‫فيه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫ثم قال له مخبرا أنه ل يريد أن يتعرض لقتله‪ ،‬ل ابتداء ول مدافعة فقال‪:‬‬
‫ك لقْت ُل َ َ‬‫ط ي َدِيَ إ ِل َي ْ َ‬ ‫َ‬
‫ك { وليس‬ ‫س ٍ‬ ‫ما أَنا ب َِبا ِ‬ ‫قت ُل َِني َ‬‫ك ل ِت َ ْ‬ ‫ي ي َد َ َ‬ ‫ت إ ِل َ ّ‬ ‫سط ْ َ‬ ‫} ل َِئن ب َ َ‬
‫َ‬
‫ن{‬ ‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫ه َر ّ‬ ‫ف الل ّ َ‬ ‫خا ُ‬ ‫ذلك جبنا مني ول عجزا‪ .‬وإنما ذلك لني } أ َ‬
‫والخائف لله ل يقدم )‪ (2‬على الذنوب‪ ،‬خصوصا الذنوب الكبار‪ .‬وفي هذا‬
‫تخويف لمن يريد القتل‪ ،‬وأنه ينبغي لك أن تتقي الله وتخافه‪.‬‬
‫م َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ك { أي‪ :‬إنه إذا دار المر بين‬ ‫مي وَإ ِث ْ ِ‬ ‫} إ ِّني أِريد ُ أن ت َُبوَء { أي‪ :‬ترجع } ب ِإ ِث ْ ِ‬
‫ن‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬‫كو َ‬‫أن أكون قاتل أو تقتلني فإني أوثر أن تقتلني‪ ،‬فتبوء بالوزرين } فَت َ ُ‬
‫ن { دل هذا على أن القتل من كبائر‬ ‫جَزاُء ال ّ‬ ‫ب الّنارِ وَذ َل ِ َ‬ ‫َ‬
‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ك َ‬ ‫حا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫أ ْ‬
‫الذنوب‪ ،‬وأنه موجب لدخول النار‪.‬‬
‫فلم يرتدع ذلك الجاني ولم ينزجر‪ ،‬ولم يزل يعزم نفسه ويجزمها‪ ،‬حتى‬
‫طوعت له قتل أخيه الذي يقتضي الشرع والطبع احترامه‪.‬‬
‫َ‬
‫ن { دنياهم وآخرتهم‪ ،‬وأصبح قد سن هذه‬ ‫ري َ‬‫س ِ‬ ‫خا ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ه فَأ ْ‬
‫صب َ َ‬ ‫قت َل َ ُ‬ ‫} فَ َ‬
‫السنة لكل قاتل‪.‬‬
‫"ومن سن سنة سيئة‪ ،‬فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة"‪.‬‬
‫ولهذا ورد في الحديث الصحيح أنه "ما من نفس تقتل إل كان على ابن آدم‬
‫الول شطر من دمها‪ ،‬لنه أول من سن القتل"‪.‬‬
‫فلما قتل أخاه لم يدر كيف يصنع به؛ لنه أول ميت مات من بني آدم‬
‫ض { أي‪ :‬يثيرها ليدفن غرابا آخر ميتا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ث ِفي الْر‬ ‫ح ُ‬ ‫ه غَُراًبا ي َب ْ َ‬ ‫ث الل ّ ُ‬ ‫} فَب َعَ َ‬
‫خيهِ { أي‪ :‬بدنه‪ ،‬لن بدن الميت‬ ‫َ‬
‫سوْأةَ أ ِ‬ ‫َ‬ ‫ه { بذلك } ك َي ْ َ‬
‫واِري َ‬ ‫ف يُ َ‬ ‫} ل ِي ُرِي َ ُ‬
‫َ‬
‫ن { وهكذا عاقبة المعاصي الندامة‬ ‫مي َ‬ ‫ن الّنادِ ِ‬ ‫م َ‬‫ح ِ‬ ‫صب َ َ‬‫يكون عورة } فَأ ْ‬
‫والخسارة‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬كتب اليات إلى قوله تعالى‪" :‬فأصبح من النادمين"‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬ل يقوم‪.‬‬

‫) ‪(1/228‬‬

‫َ‬ ‫ك ك َتبنا عََلى بِني إسراِئي َ َ‬ ‫م َ‬


‫س أوْ فَ َ‬
‫سادٍ‬ ‫ف ٍ‬‫سا ب ِغَي ْرِ ن َ ْ‬
‫ف ً‬ ‫ل نَ ْ‬‫ن قَت َ َ‬‫ْ‬ ‫م‬
‫ه َ‬‫ل أن ّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ل ذ َل ِ َ َ ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ج‬
‫نأ ْ‬ ‫ِ ْ‬
‫ميًعا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما قت َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ج ِ‬
‫س َ‬‫حَيا الّنا َ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫ها فكأن ّ َ‬ ‫حَيا َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ميًعا وَ َ‬‫ج ِ‬‫س َ‬ ‫ل الّنا َ‬ ‫ض فكأن ّ َ‬ ‫ِفي الْر ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫وَل َ َ‬
‫م ب َعْد َ ذ َل ِك ِفي الْر ِ‬
‫ض‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ن كِثيًرا ِ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ت ثُ ّ‬
‫سلَنا ِبالب َي َّنا ِ‬ ‫م ُر ُ‬ ‫جاَءت ْهُ ْ‬‫قد ْ َ‬
‫ن )‪(32‬‬ ‫سرُِفو َ‬ ‫م ْ‬ ‫لَ ُ‬
‫ك ك َتبنا عََلى بِني إسراِئي َ َ‬ ‫} ‪ } { 32‬م َ‬
‫ر‬
‫سا َب ِغَي ْ َِ‬ ‫ف ً‬ ‫ن قَت َ َ‬
‫ل نَ ْ‬ ‫م ْ‬‫ه َ‬
‫ل أن ّ ُ‬ ‫ِ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ل ذ َل ِ َ َ ْ َ‬ ‫ج‬
‫نأ ْ‬ ‫ِ‬
‫حَيا‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫ن‬ ‫أ‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ها‬ ‫يا‬‫ح‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫م‬‫و‬ ‫عا‬ ‫مي‬ ‫ج‬ ‫س‬ ‫نا‬ ‫ال‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ق‬ ‫ما‬ ‫ن‬ ‫فس أ َو فَساد ْ في الرض فَك َأ َ‬
‫ِ‬
‫ّ َ ْ‬ ‫ّ َ َ ِ ً َ َ ْ ْ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ َ‬ ‫ْ ِ‬ ‫َ ٍ ِ‬ ‫نَ ْ ٍ ْ‬
‫ك ِفي‬ ‫م ب َعْد َ ذ َل ِ َ‬‫من ْهُ ْ‬‫ن ك َِثيًرا ِ‬
‫م إِ ّ‬‫ت ثُ ّ‬ ‫سل َُنا ِبال ْب َي َّنا ِ‬ ‫م ُر ُ‬ ‫جاَءت ْهُ ْ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ميًعا وَل َ َ‬ ‫ج ِ‬‫س َ‬ ‫الّنا َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫سرِفو َ‬ ‫ُ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ضل ُ‬
‫َ‬ ‫الْر ِ‬
‫ل ذ َل ِك { الذي ذكرناه في قصة ابني آدم‪ ،‬وقتل‬ ‫َ‬ ‫ج ِ‬‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫يقول تعالى } ِ‬
‫أحدهما أخاه‪ ،‬وسنه القتل لمن بعده‪ ،‬وأن القتل عاقبته وخيمة وخسارة‬
‫َ‬
‫ه‬
‫ل { أهل الكتب السماوية } أن ّ ُ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫في الدنيا والخرة‪ } .‬ك َت َب َْنا عََلى ب َِني إ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ض { أي‪ :‬بغير حق } فَك َأن ّ َ‬
‫ما‬ ‫سادٍ ِفي الْر ِ‬ ‫س أو ْ ف َ َ‬ ‫ف ٍ‬ ‫سا ب ِغَي ْرِ ن َ ْ‬ ‫ف ً‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫ن قَت َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ميًعا { ؛ لنه ليس معه داع يدعوه إلى التبيين‪ ،‬وأنه ل يقدم‬ ‫ج ِ‬‫س َ‬ ‫َ‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ال‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫قَ‬
‫على القتل إل بحق‪ ،‬فلما تجرأ على قتل النفس التي لم تستحق القتل‬
‫علم أنه ل فرق عنده بين هذا المقتول وبين غيره‪ ،‬وإنما ذلك بحسب ما‬
‫تدعوه إليه نفسه المارة بالسوء‪ .‬فتجرؤه على قتله‪ ،‬كأنه قتل الناس‬
‫جميعا‪.‬‬
‫وكذلك من أحيا نفسا أي‪ :‬استبقى أحدا‪ ،‬فلم يقتله مع دعاء نفسه له إلى‬
‫قتله‪ ،‬فمنعه خوف الله تعالى من قتله‪ ،‬فهذا كأنه أحيا الناس جميعا‪ ،‬لن ما‬
‫معه من الخوف يمنعه من قتل من ل يستحق القتل‪.‬‬
‫ودلت الية على أن القتل يجوز بأحد أمرين‪:‬‬
‫إما أن يقتل نفسا بغير حق متعمدا في ذلك‪ ،‬فإنه يحل قتله‪ ،‬إن كان مكلفا‬
‫مكافئا‪ ،‬ليس بوالد للمقتول‪.‬‬
‫وإما أن يكون مفسدا في الرض‪ ،‬بإفساده لديان الناس أو أبدانهم أو‬
‫أموالهم‪ ،‬كالكفار المرتدين والمحاربين‪ ،‬والدعاة إلى البدع الذين ل ينكف‬
‫شرهم إل بالقتل‪.‬‬
‫وكذلك قطاع الطريق ونحوهم‪ ،‬ممن يصول على الناس لقتلهم‪ ،‬أو أخذ‬
‫أموالهم‪.‬‬
‫ن‬ ‫ت { التي ل يبقى معها حجة لحد‪ } .‬ث ُ ّ‬
‫م إِ ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫سلَنا ِبالب َي َّنا ِ‬‫م ُر ُ‬
‫جاَءت ْهُ ْ‬‫قد ْ َ‬ ‫} وَل َ َ‬
‫ك { البيان القاطع للحجة‪ ،‬الموجب‬ ‫م { أي‪ :‬من الناس } ب َعْدِ ذ َل ِ َ‬ ‫ك َِثيًرا ِ‬
‫من ْهُ ْ‬
‫ن { في العمل بالمعاصي‪ ،‬ومخالفة‬ ‫سرُِفو َ‬ ‫م ْ‬‫للستقامة في الرض } ل َ ُ‬
‫الرسل الذين جاءوا بالبينات والحجج‪.‬‬

‫) ‪(1/229‬‬

‫ن‬ ‫إنما جزاُء ال ّذين يحاربون الل ّه ورسول َه ويسعون في اْل َرض فَسا َ‬
‫دا أ ْ‬ ‫َ ً‬ ‫َ ْ ِ‬ ‫َ ََ ُ ُ ََ ْ َ ْ َ ِ‬ ‫ِ َ ُ َ ُِ َ‬ ‫ِّ َ َ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ض‬
‫ن الْر ِ‬ ‫م َ‬ ‫وا ِ‬
‫ف ْ‬
‫ف أوْ ي ُن ْ َ‬ ‫خل ٍ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫جلهُ ْ‬ ‫م وَأْر ُ‬‫ديهِ ْ‬ ‫قطعَ أي ْ ِ‬ ‫صلُبوا أوْ ت ُ َ‬‫قت ُّلوا أوْ ي ُ َ‬ ‫يُ َ‬
‫ن َتاُبوا‬ ‫م )‪ (33‬إ ِّل ال ّ ِ‬ ‫خَرةِ عَ َ‬ ‫َ‬
‫م ِفي اْل ِ‬ ‫خْزيٌ ِفي الد ّن َْيا وَل َهُ ْ‬ ‫ك ل َهُ ْ‬
‫ذ َل ِ َ‬
‫ذي َ‬ ‫ظي ٌ‬‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م )‪(34‬‬ ‫حي ٌ‬‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫م َفاعْل َ ُ‬ ‫قدُِروا عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ن تَ ْ‬
‫لأ ْ‬ ‫ن قَب ْ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ِ‬

‫ن ِفي‬ ‫سعَوْ َ‬ ‫ه وَي َ ْ‬ ‫سول َ ُ‬ ‫ه وََر ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫حارُِبو َ‬ ‫ن يُ َ‬‫ذي َ‬ ‫جَزاُء ال ّ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫} ‪ } { 34 ، 33‬إ ِن ّ َ‬
‫خلف أوَ‬ ‫ن ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫الرض فَسا َ‬
‫ٍ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جلهُ ْ‬ ‫م وَأْر ُ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫قطعَ أي ْ ِ‬ ‫صلُبوا أوْ ت ُ َ‬ ‫قت ّلوا أوْ ي ُ َ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫دا أ ْ‬
‫َ ً‬ ‫ْ ِ‬
‫م*‬‫ٌ‬ ‫ظي‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ِ‬ ‫ة‬‫ر‬‫َ‬ ‫خ‬
‫ِ‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫َ ُ ْ‬‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫و‬ ‫يا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫ّ‬ ‫د‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫ِ‬ ‫ٌ‬ ‫ي‬ ‫ز‬
‫ْ‬ ‫خ‬
‫ِ‬ ‫م‬
‫ُ ْ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫وا‬‫ف ْ‬
‫ي ُن ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ِ‬ ‫َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫َ‬
‫م َفاعْل ُ‬ ‫َ‬
‫قدُِروا عَلي ْهِ ْ‬ ‫ن تَ ْ‬
‫لأ ْ‬ ‫ن قَب ْ ِ‬ ‫م ْ‬‫ن َتاُبوا ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ِإل ال ِ‬
‫المحاربون لله ولرسوله‪ ،‬هم الذين بارزوه بالعداوة‪ ،‬وأفسدوا في الرض ]‬
‫ص ‪ [ 230‬بالكفر والقتل‪ ،‬وأخذ الموال‪ ،‬وإخافة السبل‪.‬‬
‫والمشهور أن هذه الية الكريمة في أحكام قطاع الطريق‪ ،‬الذين يعرضون‬
‫للناس في القرى والبوادي‪ ،‬فيغصبونهم أموالهم‪ ،‬ويقتلونهم‪ ،‬ويخيفونهم‪،‬‬
‫فيمتنع الناس من سلوك الطريق التي هم بها‪ ،‬فتنقطع بذلك‪.‬‬
‫فأخبر الله أن جزاءهم ونكالهم ‪-‬عند إقامة الحد عليهم‪ -‬أن يفعل بهم واحد‬
‫من هذه المور‪.‬‬
‫واختلف المفسرون‪ :‬هل ذلك على التخيير‪ ،‬وأن كل قاطع طريق يفعل به‬
‫المام أو نائبه ما رآه المصلحة من هذه المور المذكورة؟ وهذا ظاهر‬
‫اللفظ‪ ،‬أو أن عقوبتهم تكون بحسب جرائمهم‪ ،‬فكل جريمة لها قسط‬
‫يقابلها‪ ،‬كما تدل عليه الية بحكمتها وموافقتها لحكمة الله تعالى‪ .‬وأنهم إن‬
‫قتلوا وأخذوا مال تحتم قتُلهم وصلبهم‪ ،‬حتى يشتهروا ويختزوا ويرتدع‬
‫غيرهم‪.‬‬
‫وإن قتلوا ولم يأخذوا مال تحتم قتلهم فقط‪ .‬وإن أخذوا مال ولم يقتلوا‬
‫تحتم أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلف‪ ،‬اليد اليمنى والرجل اليسرى‪.‬‬
‫وإن أخافوا الناس ولم يقتلوا‪ ،‬ول أخذوا مال نفوا من الرض‪ ،‬فل يتركون‬
‫يأوون في بلد حتى تظهر توبتهم‪ .‬وهذا قول ابن عباس رضي الله عنه‬
‫وكثير من الئمة‪ ،‬على اختلف في بعض التفاصيل‪.‬‬
‫م ِفي‬‫خْزيٌ ِفي الد ّن َْيا { أي‪ :‬فضيحة وعار } وَل َهُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ك { النكال } ل َهُ ْ‬ ‫} ذ َل ِ َ‬
‫م { فدل هذا أن قطع الطريق من أعظم الذنوب‪،‬‬ ‫ظي ٌ‬‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬‫خَرةِ عَ َ‬ ‫ال ِ‬
‫موجب لفضيحة الدنيا وعذاب الخرة‪ ،‬وأن فاعله محارب لله ولرسوله‪.‬‬
‫وإذا كان هذا شأن عظم هذه الجريمة‪ ،‬علم أن تطهير الرض من‬
‫المفسدين‪ ،‬وتأمين السبل والطرق‪ ،‬عن القتل‪ ،‬وأخذ الموال‪ ،‬وإخافة‬
‫الناس‪ ،‬من أعظم الحسنات وأجل الطاعات‪ ،‬وأنه إصلح في الرض‪ ،‬كما‬
‫أن ضده إفساد في الرض‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬من هؤلء المحاربين‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ل َأن ت َ ْ‬
‫قدُِروا عَلي ْهِ ْ‬ ‫من قَب ْ ِ‬ ‫ن َتاُبوا ِ‬‫ذي َ‬‫} ِإل ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫م { أي‪ :‬فيسقط عنه ما كان لله‪ ،‬من تحتم‬ ‫حي ٌ‬‫فوٌر ّر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬‫ن الل ّ َ‬
‫موا أ ّ‬ ‫} َفاعْل َ ُ‬
‫القتل والصلب والقطع والنفي‪ ،‬ومن حق الدمي أيضا‪ ،‬إن كان المحارب‬
‫كافرا ثم أسلم‪ ،‬فإن كان المحارب مسلما فإن حق الدمي‪ ،‬ل يسقط عنه‬
‫من القتل وأخذ المال‪ .‬ودل مفهوم الية على أن توبة المحارب ‪-‬بعد‬
‫القدرة عليه‪ -‬أنها ل تسقط عنه شيئا‪ ،‬والحكمة في ذلك ظاهرة‪.‬‬
‫وإذا كانت التوبة قبل القدرة عليه‪ ،‬تمنع من إقامة الحد في الحرابة‪،‬‬
‫فغيرها من الحدود ‪-‬إذا تاب من فعلها‪ ،‬قبل القدرة عليه‪ -‬من باب أولى‪.‬‬

‫) ‪(1/229‬‬

‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫سِبيل ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م‬ ‫دوا ِفي َ‬
‫جاهِ ُ‬ ‫سيل َ َ‬
‫ة وَ َ‬ ‫ه َواب ْت َُغوا إ ِل َي ْهِ ال ْوَ ِ‬
‫قوا الل ّ َ‬
‫مُنوا ات ّ ُ‬
‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫ن )‪(35‬‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬
‫تُ ْ‬

‫سيل َ َ‬ ‫َ‬
‫دوا ِفي‬
‫جاهِ ُ‬
‫ة وَ َ‬ ‫ه َواب ْت َُغوا إ ِل َي ْهِ ال ْوَ ِ‬ ‫قوا الل ّ َ‬
‫مُنوا ات ّ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫} ‪َ } { 35‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫سِبيل ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م تُ ْ‬ ‫َ‬
‫هذا أمر من الله لعباده المؤمنين‪ ،‬بما يقتضيه اليمان من تقوى الله‬
‫والحذر من سخطه وغضبه‪ ،‬وذلك بأن يجتهد العبد‪ ،‬ويبذل غاية ما يمكنه‬
‫من المقدور في اجتناب ما َيسخطه الله‪ ،‬من معاصي القلب واللسان‬
‫والجوارح‪ ،‬الظاهرة والباطنة‪ .‬ويستعين بالله على تركها‪ ،‬لينجو بذلك من‬
‫ة { أي‪ :‬القرب منه‪ ،‬والحظوة‬ ‫سيل َ َ‬
‫سخط الله وعذابه‪َ } .‬واب ْت َُغوا إ ِل َي ْهِ ال ْوَ ِ‬
‫لديه‪ ،‬والحب له‪ ،‬وذلك بأداء فرائضه القلبية‪ ،‬كالحب له وفيه‪ ،‬والخوف‬
‫والرجاء‪ ،‬والنابة والتوكل‪ .‬والبدنية‪ :‬كالزكاة والحج‪ .‬والمركبة من ذلك‬
‫كالصلة ونحوها‪ ،‬من أنواع القراءة والذكر‪ ،‬ومن أنواع الحسان إلى الخلق‬
‫بالمال والعلم والجاه‪ ،‬والبدن‪ ،‬والنصح لعباد الله‪ ،‬فكل هذه العمال تقرب‬
‫إلى الله‪ .‬ول يزال العبد يتقرب بها إلى الله حتى يحبه الله‪ ،‬فإذا أحبه كان‬
‫سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله‬
‫التي يمشي ]بها[ ويستجيب الله له الدعاء‪.‬‬
‫ثم خص تبارك وتعالى من العبادات المقربة إليه‪ ،‬الجهاد في سبيله‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫بذل الجهد في قتال الكافرين بالمال‪ ،‬والنفس‪ ،‬والرأي‪ ،‬واللسان‪ ،‬والسعي‬
‫في نصر دين الله بكل ما يقدر عليه العبد‪ ،‬لن هذا النوع من أجل‬
‫الطاعات وأفضل القربات‪.‬‬
‫ن{‬‫حو َ‬
‫فل ِ ُ‬
‫م تُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ولن من قام به‪ ،‬فهو على القيام بغيره أحرى وأولى } لعَلك ْ‬
‫إذا اتقيتم الله بترك المعاصي‪ ،‬وابتغيتم الوسيلة إلى الله‪ ،‬بفعل الطاعات‪،‬‬
‫وجاهدتم في سبيله ابتغاء مرضاته‪.‬‬
‫والفلح هو الفوز والظفر بكل مطلوب مرغوب‪ ،‬والنجاة من كل مرهوب‪،‬‬
‫فحقيقته السعادة البدية والنعيم المقيم‪.‬‬

‫) ‪(1/230‬‬

‫ما ِفي اْل َْر‬ ‫َ‬


‫ن‬
‫م ْ‬
‫دوا ب ِهِ ِ‬
‫فت َ ُ‬
‫ه ل ِي َ ْ‬
‫معَ ُ‬
‫ه َ‬‫مث ْل َ ُ‬
‫ميًعا وَ ِ‬‫ج ِ‬
‫ض َ‬ ‫ِ‬ ‫م َ‬‫ن ل َهُ ْ‬‫فُروا ل َوْ أ ّ‬ ‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫إِ ّ‬
‫َ‬
‫م )‪(36‬‬ ‫ب أِلي ٌ‬
‫ذا ٌ‬ ‫م وَل َهُ ْ‬
‫م عَ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫ل ِ‬‫قب ّ َ‬
‫ما ت ُ ُ‬
‫مة ِ َ‬ ‫ب ي َوْم ِ ال ْ ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫ذا ِ‬‫عَ َ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫معَ ُ‬
‫ه َ‬‫مث ْل َ ُ‬
‫ميًعا وَ ِ‬ ‫ج ِ‬
‫ض َ‬‫ِ‬ ‫ما ِفي الْر‬ ‫م َ‬ ‫ن ل َهُ ْ‬‫فُروا ل َوْ أ ّ‬ ‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫} ‪ } { 37 ، 36‬إ ِ ّ‬
‫م{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫َ‬ ‫قب ّ َ‬ ‫ْ‬ ‫ن عَ َ‬
‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م وَلهُ ْ‬
‫من ْهُ ْ‬
‫ل ِ‬ ‫ما ت ُ ُ‬
‫مة ِ َ‬
‫قَيا َ‬ ‫ب ي َوْم ِ ال ِ‬‫ذا ِ‬ ‫م ْ‬
‫دوا ب ِهِ ِ‬
‫فت َ ُ‬
‫ل ِي َ ْ‬
‫يخبر تعالى عن شناعة حال الكافرين بالله يوم القيامة ومآلهم الفظيع‪،‬‬
‫وأنهم لو افتدوا من عذاب الله بملء الرض ذهبا ومثله معه ما تقبل منهم‪،‬‬
‫ول أفاد‪ ،‬لن محل الفتداء قد فات‪.‬‬

‫) ‪(1/230‬‬

‫يريدو َ‬
‫م )‪(37‬‬ ‫قي ٌ‬‫م ِ‬
‫ب ُ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬ ‫من َْها وَل َهُ ْ‬‫ن ِ‬
‫جي َ‬ ‫خارِ ِ‬‫م بِ َ‬‫ما هُ ْ‬‫ن الّنارِ وَ َ‬
‫م َ‬
‫جوا ِ‬ ‫خُر ُ‬‫ن يَ ْ‬
‫نأ ْ‬ ‫ُ ِ ُ َ‬
‫} يريدو َ‬
‫م{‪.‬‬‫قي ٌ‬
‫م ِ‬‫ب ُ‬ ‫ذا ٌ‬‫م عَ َ‬ ‫من َْها وَل َهُ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫جي َ‬‫خارِ ِ‬‫م بِ َ‬‫ما هُ ْ‬‫ن الّنارِ وَ َ‬‫م َ‬
‫جوا ِ‬‫خُر ُ‬‫ن يَ ْ‬‫نأ ْ‬ ‫ُ ِ ُ َ‬

‫) ‪(1/230‬‬

‫َ‬
‫ن الل ّهِ َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫كاًل ِ‬
‫م َ‬ ‫سَبا ن َ َ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫جَزاًء ب ِ َ‬ ‫ة َفاقْط َُعوا أي ْدِي َهُ َ‬
‫ما َ‬ ‫سارِقَ ُ‬ ‫سارِقُ َوال ّ‬ ‫َوال ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫ب عَلي ْهِ إ ِ ّ‬ ‫ه ي َُتو ُ‬‫ن الل َ‬ ‫ح فَإ ِ ّ‬ ‫صل َ‬‫مهِ وَأ ْ‬ ‫ن ب َعْدِ ظل ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫ن َتا َ‬ ‫م )‪ (38‬فَ َ‬
‫م ْ‬ ‫كي ٌ‬
‫ح ِ‬
‫زيٌز َ‬ ‫عَ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ض ي ُعَذ ّ ُ‬
‫ب‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ك ال ّ‬ ‫مل ُ‬ ‫ه ُ‬ ‫هل ُ‬ ‫ن الل َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫م ت َعْل ْ‬
‫م )‪ (39‬أل ْ‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬‫الل ّ َ‬
‫ديٌر )‪(40‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫شاُء َوالل ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬‫م ْ‬‫فُر ل ِ َ‬ ‫شاُء وَي َغْ ِ‬ ‫ن يَ َ‬‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ولم يبق إل العذاب الليم‪ ،‬الموجع الدائم الذي ل يخرجون منه أبدا‪ ،‬بل هم‬
‫ماكثون فيه سرمدا‪.‬‬
‫] ص ‪[ 231‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سَبا ن َكال‬ ‫ما ك َ‬ ‫جَزاًء ب ِ َ‬ ‫ما َ‬‫ة َفاقْطُعوا أي ْدِي َهُ َ‬ ‫سارِقَ ُ‬ ‫سارِقُ َوال ّ‬ ‫} ‪َ } { 40 - 38‬وال ّ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ب‬
‫ه ي َُتو ُ‬
‫ن الل َ‬ ‫ح فَإ ِ ّ‬ ‫صل َ‬ ‫مهِ وَأ ْ‬ ‫ن ب َعْدِ ظل ِ‬ ‫م ْ‬
‫ب ِ‬ ‫ن َتا َ‬‫م ْ‬ ‫م * فَ َ‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيٌز َ‬ ‫ِ‬ ‫ه عَ‬ ‫ن الل ّهِ َوالل ّ ُ‬ ‫م َ‬‫ِ‬
‫ض‬ ‫مل ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ك ال ّ‬ ‫ه ُ‬ ‫هل ُ‬‫ن الل َ‬ ‫مأ ّ‬ ‫م ت َعْل ْ‬‫م * أل ْ‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫عَلي ْهِ إ ِ ّ‬
‫ديٌر { ‪.‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬
‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه عََلى ك ُ ّ‬ ‫شاُء َوالل ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬‫فُر ل ِ َ‬ ‫شاُء وَي َغْ ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬
‫ب َ‬ ‫ي ُعَذ ّ ُ‬
‫السارق‪ :‬هو من أخذ مال غيره المحترم خفية‪ ،‬بغير رضاه‪ .‬وهو من كبائر‬
‫الذنوب الموجبة لترتب العقوبة الشنيعة‪ ،‬وهو قطع اليد اليمنى‪ ،‬كما هو في‬
‫قراءة بعض الصحابة‪.‬‬
‫وحد اليد عند الطلق من الكوع‪ ،‬فإذا سرق قطعت يده من الكوع‪،‬‬
‫وحسمت في زيت لتنسد العروق فيقف الدم‪ ،‬ولكن السنة قيدت عموم‬
‫هذه الية من عدة أوجه‪:‬‬
‫منها‪ :‬الحرز‪ ،‬فإنه ل بد أن تكون السرقة من حرز‪ ،‬وحرز كل مال‪ :‬ما‬
‫يحفظ به عادة‪ .‬فلو سرق من غير حرز فل قطع عليه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه ل بد أن يكون المسروق نصابا‪ ،‬وهو ربع دينار‪ ،‬أو ثلثة دراهم‪ ،‬أو‬
‫ما يساوي أحدهما‪ ،‬فلو سرق دون ذلك فل قطع عليه‪.‬‬
‫ولعل هذا يؤخذ من لفظ السرقة ومعناها‪ ،‬فإن لفظ"السرقة" أخذ الشيء‬
‫على وجه ل يمكن الحتراز منه‪ ،‬وذلك أن يكون المال محرزا‪ ،‬فلو كان غير‬
‫محرز لم يكن ذلك سرقة شرعية‪.‬‬
‫ومن الحكمة أيضا أن ل تقطع اليد في الشيء النزر التافه‪ ،‬فلما كان ل بد‬
‫من التقدير‪ ،‬كان التقدير الشرعي مخصصا للكتاب‪.‬‬
‫والحكمة في قطع اليد في السرقة‪ ،‬أن ذلك حفظ للموال‪ ،‬واحتياط لها‪،‬‬
‫وليقطع العضو الذي صدرت منه الجناية‪ ،‬فإن عاد السارق قطعت رجله‬
‫اليسرى‪ ،‬فإن عاد‪ ،‬فقيل‪ :‬تقطع يده اليسرى‪ ،‬ثم رجله اليمنى‪ ،‬وقيل‪:‬‬
‫سَبا { أي‪ :‬ذلك القطع جزاء‬ ‫ما ك َ َ‬‫جَزاًء ب ِ َ‬ ‫يحبس حتى يموت‪ .‬وقوله‪َ } :‬‬
‫للسارق بما سرقه من أموال الناس‪.‬‬
‫ن الل ّهِ { أي‪ :‬تنكيل وترهيبا للسارق ولغيره‪ ،‬ليرتدع السراق ‪-‬إذا‬ ‫م َ‬‫كال ّ‬ ‫} نَ َ‬
‫علموا‪ -‬أنهم سيقطعون إذا سرقوا‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬عَّز وحكم فقطع السارق‪.‬‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬
‫زيٌز َ‬‫ه عَ ِ‬‫} َوالل ّ ُ‬
‫َ‬
‫فوٌر‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه غَ ُ‬ ‫ب عَل َي ْهِ إ ِ ّ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ي َُتو ُ‬ ‫ح فَإ ِ ّ‬‫صل َ َ‬ ‫من ب َعْدِ ظ ُل ْ ِ‬
‫مهِ وَأ ْ‬ ‫ب ِ‬‫من َتا َ‬ ‫} فَ َ‬
‫م { فيغفر لمن تاب فترك الذنوب‪ ،‬وأصلح العمال والعيوب‪.‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫َر ِ‬
‫وذلك أن لله )‪ (1‬ملك السماوات والرض‪ ،‬يتصرف فيهما بما شاء من‬
‫التصاريف القدرية والشرعية‪ ،‬والمغفرة والعقوبة‪ ،‬بحسب ما اقتضته‬
‫حكمته ورحمته الواسعة ومغفرته‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬الله له‪.‬‬

‫) ‪(1/230‬‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫مّنا‬‫ن َقاُلوا آ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫فرِ ِ‬ ‫ن ِفي ال ْك ُ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫سارِ ُ‬ ‫ن يُ َ‬ ‫ذي َ‬‫ك ال ّ ِ‬ ‫حُزن ْ َ‬ ‫ل َل ي َ ْ‬ ‫سو ُ‬ ‫َيا أي َّها الّر ُ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫عو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫س ّ‬ ‫ب َ‬ ‫ن ل ِل ْك َذِ ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫س ّ‬ ‫دوا َ‬ ‫ها ُ‬‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م َ‬‫م وَ ِ‬ ‫ن قُُلوب ُهُ ْ‬ ‫مْ ْ‬ ‫م ت ُؤْ ِ‬ ‫م وَل َ ْ‬ ‫واهِهِ ْ‬ ‫ب ِأفْ َ‬
‫قوُلون إ ُ‬ ‫قوْم ٍ آ َ َ‬
‫م‬‫ن أوِتيت ُ ْ‬ ‫َ ِ ْ‬ ‫ضعِهِ ي َ ُ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫ن ال ْك َل ِ َ‬ ‫حّرُفو َ‬ ‫ك يُ َ‬ ‫م ي َأُتو َ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫ري َ‬‫خ ِ‬ ‫لِ َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ه ِ‬ ‫َ‬
‫كل ُ‬ ‫مل ِ َ‬‫ن تَ ْ‬ ‫َ‬
‫ه فَل ْ‬ ‫ه فِت ْن َت َ ُ‬ ‫ّ‬
‫ن ي ُرِدِ الل ُ‬ ‫م ْ‬‫حذ َُروا وَ َ‬ ‫م ت ُؤْت َوْهُ َفا ْ‬ ‫نل ْ‬‫َ‬ ‫ذوهُ وَإ ِ ْ‬ ‫خ ُ‬‫ذا فَ ُ‬ ‫هَ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ي‬
‫خْز ٌ‬ ‫م ِفي الد ّن َْيا ِ‬ ‫م ل َهُ ْ‬ ‫ن ي ُط َهَّر قُُلوب َهُ ْ‬ ‫هأ ْ‬ ‫م ي ُرِدِ الل ّ ُ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫شي ًْئا أول َئ ِ َ‬ ‫الل ّهِ َ‬
‫م )‪(41‬‬ ‫ظي ٌ‬‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫خَرةِ عَ َ‬ ‫َ‬
‫م ِفي اْل ِ‬ ‫وَل َهُ ْ‬
‫ن ِفي ال ْك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬‫فرِ ِ‬ ‫عو َ‬
‫سارِ ُ‬ ‫ن يُ َ‬‫ذي َ‬‫ك ال ّ ِ‬‫حُزن ْ َ‬‫ل ل يَ ْ‬ ‫سو ُ‬ ‫} ‪َ } { 44 - 41‬يا أي َّها الّر ُ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫عو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫س ّ‬ ‫دوا َ‬‫ها ُ‬
‫ن َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م َ‬‫م وَ ِ‬ ‫ن قُُلوب ُهُ ْ‬‫م ْ‬ ‫م وَل َ ْ‬
‫م ت ُؤْ ِ‬ ‫واهِهِ ْ‬ ‫ن َقاُلوا آ َ‬
‫مّنا ب ِأفْ َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ضعِهِ‬ ‫وا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ال ْك َل ِ َ‬ ‫حّرُفو َ‬ ‫ك يُ َ‬ ‫م ي َأ ُْتو َ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬ ‫قوْم ٍ آ َ‬ ‫ن لِ َ‬ ‫عو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫س ّ‬ ‫ب َ‬ ‫ل ِل ْك َذِ ِ‬
‫ُ‬
‫ه‬‫ه فِت ْن َت َ ُ‬ ‫ن ي ُرِدِ الل ّ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫حذ َُروا وَ َ‬ ‫م ت ُؤْت َوْهُ َفا ْ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫ذوهُ وَإ ِ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫ذا فَ ُ‬ ‫م هَ َ‬ ‫ن أوِتيت ُ ْ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫يَ ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫م لهُ ْ‬ ‫ن ي ُطهَّر قُلوب َهُ ْ‬ ‫هأ ْ‬ ‫م ي ُرِدِ الل ُ‬ ‫نل ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫شي ًْئا أولئ ِك ال ِ‬ ‫ن اللهِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ِ‬ ‫مل ِك ل ُ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫فَل ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ظي ٌ‬‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫خَرةِ عَ َ‬ ‫م ِفي ال ِ‬ ‫َ‬
‫خْزيٌ وَلهُ ْ‬ ‫ِفي الد ّن َْيا ِ‬
‫كان الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة حرصه على الخلق يشتد‬
‫حزنه لمن يظهر اليمان‪ ،‬ثم يرجع إلى الكفر‪ ،‬فأرشده الله تعالى‪ ،‬إلى أنه‬
‫ل يأسى ول يحزن على أمثال هؤلء‪ .‬فإن هؤلء ل في العير ول في النفير‪.‬‬
‫إن حضروا لم ينفعوا‪ ،‬وإن غابوا لم يفقدوا‪ ،‬ولهذا قال مبينا للسبب‬
‫َ‬
‫م وَل َ ْ‬
‫م‬ ‫واهِهِ ْ‬ ‫مّنا ب ِأفْ َ‬ ‫ن َقاُلوا آ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫الموجب لعدم الحزن عليهم ‪ -‬فقال‪ِ } :‬‬
‫م { فإن الذين )‪ (1‬يؤسى ويحزن عليهم‪ ،‬من كان معدودا من‬ ‫من قُُلوب ُهُ ْ‬ ‫ت ُؤْ ِ‬
‫المؤمنين‪ ،‬وهم المؤمنون ظاهرا وباطنا‪ ،‬وحاشا لله أن يرجع هؤلء عن‬
‫دينهم ويرتدوا‪ ،‬فإن اليمان ‪-‬إذا خالطت بشاشته القلوب‪ -‬لم يعدل به‬
‫صاحبه غيره‪ ،‬ولم يبغ به بدل‪.‬‬
‫ن‬‫ري َ‬ ‫خ ِ‬ ‫قوْم ٍ آ َ‬ ‫ن لِ َ‬ ‫عو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫س ّ‬ ‫ب َ‬ ‫َ‬
‫ن ل ِلكذِ ِ‬ ‫ْ‬ ‫عو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫س ّ‬ ‫دوا { أي‪ :‬اليهود } َ‬ ‫ها ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫مْ َ‬‫} وَ ِ‬
‫م ي َأُتوك { أي‪ :‬مستجيبون ومقلدون لرؤسائهم‪ ،‬المبني أمرهم على‬ ‫َ‬ ‫لَ ْ‬
‫ْ‬
‫ك { بل‬ ‫م ي َأُتو َ‬ ‫الكذب والضلل والغي‪ .‬وهؤلء الرؤساء المتبعون } ل َ ْ‬
‫أعرضوا عنك‪ ،‬وفرحوا بما عندهم من الباطل وهو تحريف الكلم عن‬
‫مواضعه‪ ،‬أي‪ :‬جلب معان لللفاظ ما أرادها الله ول قصدها‪ ،‬لضلل الخلق‬
‫ولدفع الحق‪ ،‬فهؤلء المنقادون للدعاة إلى الضلل‪ ،‬المتبعين للمحال‪،‬‬
‫الذين يأتون بكل كذب‪ ،‬ل عقول لهم ول ] ص ‪ [ 232‬همم‪ .‬فل تبال أيضا‬
‫إذا لم يتبعوك‪ ،‬لنهم في غاية النقص‪ ،‬والناقص ل يؤبه له ول يبالى به‪.‬‬
‫قوُلون إ ُ‬
‫حذ َُروا { أي‪ :‬هذا قولهم‬ ‫م ت ُؤْت َوْهُ َفا ْ‬ ‫ذوهُ وَِإن ل ّ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫ذا فَ ُ‬ ‫م هَ َ‬ ‫ن أوِتيت ُ ْ‬ ‫َ ِ ْ‬ ‫} يَ ُ‬
‫عند محاكمتهم إليك‪ ،‬ل قصد لهم إل اتباع الهوى‪.‬‬
‫يقول بعضهم لبعض‪ :‬إن حكم لكم محمد بهذا الحكم الذي يوافق أهواءكم‪،‬‬
‫فاقبلوا حكمه‪ ،‬وإن لم يحكم لكم به‪ ،‬فاحذروا أن تتابعوه على ذلك‪ ،‬وهذا‬
‫فتنة واتباع ما تهوى النفس‪.‬‬
‫َ‬
‫شي ْئا { كقوله تعالى‪ } :‬إ ِن ّك ل‬ ‫ً‬ ‫ن اللهِ َ‬‫ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ِ‬ ‫َ‬
‫مل ِك ل ُ‬ ‫َ‬ ‫ه فََلن ت َ ْ‬ ‫ه فِت ْن َت َ ُ‬ ‫من ي ُرِدِ الل ّ ُ‬ ‫} وَ َ‬
‫شاُء { ‪.‬‬ ‫ن يَ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ْ‬ ‫دي َ‬ ‫ه ي َهْ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ت وَلك ِ ّ‬ ‫حب َب ْ َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫دي َ‬ ‫ت َهْ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م { أي‪ :‬فلذلك صدر منهم ما‬ ‫ه أن ي ُطهَّر قُلوب َهُ ْ‬ ‫م ي ُرِدِ الل ُ‬ ‫نل ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫} أولئ ِك ال ِ‬
‫صدر‪ .‬فدل ذلك على أن من كان مقصوده بالتحاكم إلى الحكم الشرعي‬
‫اتباع هواه‪ ،‬وأنه إن حكم له رضي‪ ،‬وإن لم يحكم له سخط‪ ،‬فإن ذلك من‬
‫عدم طهارة قلبه‪ ،‬كما أن من حاكم وتحاكم إلى الشرع ورضي به‪ ،‬وافق‬
‫هواه أو خالفه‪ ،‬فإنه من طهارة القلب‪ ،‬ودل على أن طهارة القلب‪ ،‬سبب‬
‫لكل خير‪ ،‬وهو أكبر داع إلى كل قول رشيد وعمل سديد‪.‬‬
‫م‬
‫ظي ٌ‬ ‫ب عَ ِ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫خَرةِ عَ َ‬ ‫خْزيٌ { أي‪ :‬فضيحة وعار } وَل َُهم ِفي ال ِ‬ ‫} ل َُهم ِفي الد ّن َْيا ِ‬
‫{ هو‪ :‬النار وسخط الجبار‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬الذي‪.‬‬

‫) ‪(1/231‬‬
‫ك َفاحك ُم بينه َ َ‬ ‫ب أَ ّ‬
‫م‬ ‫ض عَن ْهُ ْ‬ ‫م أوْ أعْرِ ْ‬ ‫ْ ْ ََُْ ْ‬ ‫جاُءو َ‬ ‫ن َ‬ ‫ت فَإ ِ ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫س ْ‬ ‫ن ِلل ّ‬ ‫كاُلو َ‬ ‫ن ل ِل ْك َذِ ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫س ّ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ط إِ ّ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ْ‬
‫م ِبال ِ‬ ‫م ب َي ْن َهُ ْ‬‫حك ْ‬ ‫ُ‬ ‫ت َفا ْ‬ ‫م َ‬ ‫حك ْ‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬ ‫شي ًْئا وَإ ِ ْ‬ ‫ضّروك َ‬ ‫َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫َ‬
‫م فَل ْ‬ ‫ض عَن ْهُ ْ‬ ‫ن ت ُعْرِ ْ‬ ‫وَإ ِ ْ‬
‫م اللهِّ‬ ‫حك ُْ‬ ‫م الت ّوَْراةُ ِفيَها ُ‬ ‫عن ْد َهُ ُ‬ ‫مون َك وَ ِ‬ ‫َ‬ ‫حك ُ‬ ‫ّ‬ ‫ف يُ َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪ (42‬وَكي ْ َ‬ ‫طي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ِ‬ ‫م ْ‬
‫ب ال ُ‬ ‫ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬‫الل ّ َ‬
‫َ‬
‫ن )‪ (43‬إ ِّنا أن َْزل َْنا الت ّوَْراةَ ِفيَها‬ ‫ُ‬
‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ك ِبال ْ ُ‬ ‫ما أول َئ ِ َ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫ن ب َعْدِ ذ َل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ي َت َوَل ّوْ َ‬ ‫ثُ ّ‬
‫حَباُر‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ن َوال ْ‬ ‫دوا َوالّرّبان ِّيو َ‬ ‫ها ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫موا ل ِل ِ‬ ‫سل ُ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫م ب َِها الن ّب ِّيو َ‬ ‫حك ُ‬ ‫دى وَُنوٌر ي َ ْ‬ ‫هُ ً‬
‫س‬
‫وا الّنا َ‬ ‫ش ُ‬ ‫خ َ‬ ‫َ‬
‫داَء فَل ت َ ْ‬ ‫شه َ َ‬ ‫َ‬
‫كاُنوا عَلي ْهِ ُ‬ ‫ب اللهِ وَ َ‬ ‫ّ‬ ‫ن ك َِتا ِ‬ ‫م ْ‬‫فظوا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ست ُ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫بِ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك‬‫ه فَأولئ ِ َ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫حك ُ ْ‬
‫م يَ ْ‬ ‫نل ْ‬ ‫م ْ‬ ‫مًنا قَِليل وَ َ‬ ‫شت َُروا ب ِآَياِتي ث َ َ‬ ‫ن وَل ت َ ْ‬ ‫شوْ ِ‬ ‫خ َ‬ ‫َوا ْ‬
‫ن )‪(44‬‬ ‫كافُِرو َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫هُ ُ‬
‫ك َفاحك ُم بينه َ َ‬ ‫ب أَ ّ‬
‫ض‬
‫م أوْ أعْرِ ْ‬ ‫ْ ْ ََُْ ْ‬ ‫جاُءو َ‬ ‫ن َ‬ ‫ت فَإ ِ ْ‬ ‫ح ِ‬ ‫س ْ‬ ‫ن ِلل ّ‬ ‫كاُلو َ‬ ‫ن ل ِل ْك َذِ ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫س ّ‬ ‫} َ‬
‫م‬‫م ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫حك ْ‬‫ُ‬ ‫ت َفا ْ‬ ‫م َ‬ ‫حك ْ‬‫َ‬ ‫ن َ‬ ‫شي ًْئا وَإ ِ ْ‬ ‫ضّروك َ‬ ‫َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫َ‬
‫م فَل ْ‬ ‫ض عَن ْهُ ْ‬ ‫ن ت ُعْرِ ْ‬ ‫م وَإ ِ ْ‬ ‫عَن ْهُ ْ‬
‫م الت ّوَْراةُ ِفيَها‬ ‫عن ْد َهُ ُ‬ ‫ك وَ ِ‬ ‫مون َ َ‬ ‫حك ُ‬ ‫ّ‬ ‫ف يُ َ‬ ‫ن * وَكي ْ َ‬ ‫َ‬ ‫طي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ب ال ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ط إِ ّ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ِبال ْ ِ‬
‫ن * إ ِّنا أ َن َْزل َْنا الت ّوَْراةَ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ك ِبال ْ ُ‬ ‫ما ُأول َئ ِ َ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫ن ب َعْدِ ذ َل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ي َت َوَل ّوْ َ‬ ‫م الل ّهِ ث ُ ّ‬ ‫حك ْ ُ‬ ‫ُ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن‬
‫دوا َوالّرّبان ِّيو َ‬ ‫ها ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫موا ل ِل ِ‬ ‫سل ُ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫م ب َِها الن ّب ِّيو َ‬ ‫حك ُ ُ‬ ‫دى وَُنوٌر ي َ ْ‬ ‫ِفيَها هُ ً‬
‫س‬
‫وا ُ الّنا َ‬ ‫ش ُ‬ ‫خ َ‬ ‫داَء َفل ت َ ْ‬ ‫شه َ َ‬ ‫كاُنوا عَلي ْهِ ُ‬‫َ‬ ‫ب اللهِ وَ َ‬ ‫ّ‬ ‫ن ك َِتا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫فظوا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ست ُ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫حَباُر ب ِ َ‬ ‫َوال ْ‬
‫ه فَأول َئ ِ َ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫مًنا قَِليل وَ َ‬ ‫شت َُروا ِبآَياِتي ث َ َ‬ ‫ن َول ت َ ْ‬ ‫شوْ ِ‬ ‫خ َ‬ ‫َوا ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫كافُِرو َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫هُ ُ‬
‫ب { والسمع هاهنا سمع استجابة‪ ،‬أي‪ :‬من قلة دينهم‬ ‫ن ل ِل ْك َذِ ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ما ُ‬ ‫س ّ‬ ‫} َ‬
‫وعقلهم‪ ،‬أن استجابوا لمن دعاهم إلى القول الكذب‪.‬‬
‫ت { أي‪ :‬المال الحرام‪ ،‬بما يأخذونه على سفلتهم‬ ‫ح ِ‬ ‫س ْ‬ ‫ن ِلل ّ‬ ‫كاُلو َ‬ ‫} أَ ّ‬
‫وعوامهم من المعلومات والرواتب‪ ،‬التي بغير الحق‪ ،‬فجمعوا بين اتباع‬
‫الكذب وأكل الحرام‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م { فأنت مخير في ذلك‪.‬‬ ‫ض عَن ْهُ ْ‬ ‫م أوْ أعْرِ ْ‬ ‫م ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫ك َفا ْ‬ ‫جاُءو َ‬ ‫ن َ‬ ‫} فَإ ِ ْ‬
‫وليست هذه منسوخة‪ ،‬فإنه‪-‬عند تحاكم هذا الصنف إليه‪ -‬يخير بين أن‬
‫يحكم بينهم‪ ،‬أو يعرض عن الحكم بينهم‪ ،‬بسبب أنه ل قصد لهم في الحكم‬
‫الشرعي إل أن يكون موافقا لهوائهم‪ ،‬وعلى هذا فكل مستفت ومتحاكم‬
‫إلى عالم‪ ،‬يعلم من حاله أنه إن حكم عليه لم يرض‪ ،‬لم يجب الحكم ول‬
‫الفتاء لهم‪ ،‬فإن حكم بينهم وجب أن يحكم بالقسط‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَِإن‬
‫ن الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫ط إِ ّ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫كم ب َي ْن َُهم ِبال ْ ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫ت َفا ْ‬ ‫م َ‬ ‫حك َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫شي ًْئا وَإ ِ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ضّرو َ‬ ‫م فََلن ي َ ُ‬ ‫ض عَن ْهُ ْ‬ ‫ت ُعْرِ ْ‬
‫ن { حتى ولو كانوا ظلمة وأعداء‪ ،‬فل يمنعك ذلك من‬ ‫طي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫يُ ِ‬
‫العدل في الحكم بينهم‪.‬‬
‫وفي هذا بيان فضيلة العدل والقسط في الحكم بين الناس‪ ،‬وأن الله‬
‫تعالى يحبه‪.‬‬
‫هّ‬
‫م الل ِ‬ ‫ْ‬
‫حك ُ‬ ‫م الت ّوَْراةُ ِفيَها ُ‬ ‫عند َهُ ُ‬ ‫مون َك وَ ِ‬ ‫َ‬ ‫حك ُ‬‫ّ‬ ‫ف يُ َ‬ ‫َ‬
‫ثم قال متعجبا لهم )‪ } (1‬وَكي ْ َ‬
‫ُ‬
‫ن { فإنهم ‪-‬لو كانوا مؤمنين‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ما أول َئ ِك ِبال ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ك وَ َ‬ ‫من ب َعْدِ ذ َل ِ َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ي َت َوَل ّوْ َ‬ ‫ثُ ّ‬
‫عاملين بما يقتضيه اليمان ويوجبه‪ -‬لم يصدفوا عن حكم الله الذي في‬
‫التوراة التي بين أيديهم‪ ،‬لعلهم أن يجدوا عندك ما يوافق أهواءهم‪.‬‬
‫وحين حكمت بينهم بحكم الله الموافق لما عندهم أيضا‪ ،‬لم يرضوا بذلك‬
‫بل أعرضوا عنه‪ ،‬فلم يرتضوه أيضا‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬ليس هذا‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ْ‬
‫ك { الذين هذا صنيعهم } ِبال ُ‬ ‫ما ُأول َئ ِ َ‬ ‫قال تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫دأب المؤمنين‪ ،‬وليسوا حريين باليمان‪ .‬لنهم جعلوا آلهتهم أهواءهم‪،‬‬
‫وجعلوا أحكام اليمان تابعة لهوائهم‪.‬‬
‫} إ ِّنا َأنزل َْنا الت ّوَْراةَ { على موسى بن عمران عليه الصلة والسلم‪ِ } .‬فيَها‬
‫دى { يهدي إلى اليمان والحق‪ ،‬ويعصم من الضللة } وَُنوٌر { يستضاء به‬ ‫هُ ً‬
‫في ظلم الجهل والحيرة والشكوك‪ ،‬والشبهات والشهوات‪ ،‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫حك ُ ُ‬
‫م‬ ‫ن { } يَ ْ‬ ‫قي َ‬‫مت ّ ِ‬‫ضَياًء وَذِك ًْرا ل ِل ْ ُ‬
‫ن وَ ِ‬‫فْرَقا َ‬‫ن ال ْ ُ‬
‫هاُرو َ‬
‫سى وَ َ‬ ‫مو َ‬ ‫} وَل َ َ‬
‫قد ْ آت َي َْنا ُ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬‫ن ال ّ ِ‬‫ب َِها { بين الذين هادوا‪ ،‬أي‪ :‬اليهود في القضايا والفتاوى } الن ّب ِّيو َ‬
‫َ‬
‫موا { لله وانقادوا لوامره‪ ،‬الذين إسلمهم أعظم من إسلم غيرهم‪،‬‬ ‫سل َ ُ‬ ‫أ ْ‬
‫وهم صفوة الله من العباد‪ .‬فإذا كان هؤلء النبيون الكرام والسادة للنام‬
‫قد اقتدوا بها وائتموا ومشوا خلفها‪ ،‬فما الذي منع هؤلء الراذل من اليهود‬
‫من القتداء بها؟ وما الذي أوجب لهم أن ينبذوا أشرف ما فيها من اليمان‬
‫بمحمد صلى الله عليه وسلم‪ ،‬الذي ل يقبل عمل ظاهر وباطن‪ ،‬إل بتلك‬
‫العقيدة؟ هل لهم إمام في ذلك؟ نعم لهم أئمة دأبهم التحريف‪ ،‬وإقامة‬
‫رياستهم ومناصبهم بين الناس‪ ،‬والتأكل بكتمان الحق‪ ،‬وإظهار الباطل‪،‬‬
‫أولئك أئمة الضلل الذين يدعون إلى النار‪.‬‬
‫حَباُر { أي‪ :‬وكذلك يحكم بالتوراة للذين هادوا أئمة‬ ‫ن َوال ْ‬‫وقوله‪َ } :‬والّرّبان ِّيو َ‬
‫الدين من الربانيين‪ ،‬أي‪ :‬العلماء العاملين المعلمين الذين يربون الناس‬
‫بأحسن تربية‪ ،‬ويسلكون معهم مسلك النبياء المشفقين‪.‬‬
‫والحبار أي‪ :‬العلماء الكبار الذين يقتدى بأقوالهم‪ ،‬وترمق آثارهم‪ ،‬ولهم‬
‫لسان الصدق بين أممهم‪.‬‬
‫] ص ‪[ 233‬‬
‫هّ‬
‫ب الل ِ‬ ‫من ك َِتا ِ‬ ‫فظوا ِ‬‫ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ست ُ ْ‬‫ما ا ْ‬ ‫وذلك الحكم الصادر منهم الموافق للحق } ب ِ َ‬
‫داَء { أي‪ :‬بسبب أن الله استحفظهم على كتابه‪ ،‬وجعلهم‬ ‫شهَ َ‬ ‫كاُنوا عَل َي ْهِ ُ‬ ‫وَ َ‬
‫أمناء عليه‪ ،‬وهو أمانة عندهم‪ ،‬أوجب عليهم حفظه من الزيادة والنقصان‬
‫والكتمان‪ ،‬وتعليمه لمن ل يعلمه‪.‬‬
‫وهم شهداء عليه‪ ،‬بحيث أنهم المرجوع إليهم فيه‪ ،‬وفيما اشتبه على الناس‬
‫منه‪ ،‬فالله تعالى قد حمل أهل العلم‪ ،‬ما لم يحمله الجهال‪ ،‬فيجب عليهم‬
‫القيام بأعباء ما حملوا‪.‬‬
‫وأن ل يقتدوا بالجهال‪ ،‬بالخلد إلى البطالة والكسل‪ ،‬وأن ل يقتصروا على‬
‫مجرد العبادات القاصرة‪ ،‬من أنواع الذكر‪ ،‬والصلة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬والحج‪،‬‬
‫والصوم‪ ،‬ونحو ذلك من المور‪ ،‬التي إذا قام بها غير أهل العلم سلموا‬
‫ونجوا‪.‬‬
‫وأما أهل العلم فكما أنهم مطالبون بالقيام بما عليهم أنفسهم‪ ،‬فإنهم‬
‫مطالبون أن يعلموا الناس وينبهوهم على ما يحتاجون إليه من أمور دينهم‪،‬‬
‫خصوصا المور الصولية والتي يكثر وقوعها وأن ل يخشوا الناس بل‬
‫شت َُروا ِبآَياِتي‬ ‫ن َول ت َ ْ‬ ‫شوْ ِ‬ ‫خ َ‬ ‫س َوا ْ‬ ‫وا الّنا َ‬ ‫خ َ‬
‫ش ُ‬ ‫يخشون ربهم‪ ،‬ولهذا قال‪َ } :‬فل ت َ ْ‬
‫مًنا قَِليل { فتكتمون الحق‪ ،‬وتظهرون الباطل‪ ،‬لجل متاع الدنيا القليل‪،‬‬ ‫ثَ َ‬
‫وهذه الفات إذا سلم منها العالم فهو من توفيقه وسعادته‪ ،‬بأن يكون همه‬
‫الجتهاد في العلم والتعليم‪ ،‬ويعلم أن الله قد استحفظه ما )‪ (2‬أودعه من‬
‫العلم واستشهده عليه‪ ،‬وأن يكون خائفا من ربه‪ ،‬ول يمنعه خوف الناس‬
‫وخشيتهم من القيام بما هو لزم له‪ ،‬وأن ل يؤثر الدنيا على الدين‪.‬‬
‫كما أن علمة شقاوة العالم أن يكون مخلدا للبطالة‪ ،‬غير قائم بما أمر به‪،‬‬
‫ول مبال بما استحفظ عليه‪ ،‬قد أهمله وأضاعه‪ ،‬قد باع الدين بالدنيا‪ ،‬قد‬
‫ارتشى في أحكامه‪ ،‬وأخذ المال على فتاويه‪ ،‬ولم يعلم عباد الله إل بأجرة‬
‫وجعالة‪.‬‬
‫فهذا قد من الله عليه بمنة عظيمة‪ ،‬كفرها ودفع حظا جسيما‪ ،‬محروما منه‬
‫غيره‪ ،‬فنسألك اللهم علما نافعا‪ ،‬وعمل متقبل وأن ترزقنا العفو والعافية‬
‫من كل بلء يا كريم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ه { من الحق المبين‪ ،‬وحكم بالباطل الذي‬ ‫ما أنز َ‬
‫ل الل ُ‬ ‫كم ب ِ َ‬‫ح ُ‬ ‫من ل ّ ْ‬
‫م يَ ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫ن { فالحكم بغير‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫يعلمه‪ ،‬لغرض من أغراضه الفاسدة } فَأولئ ِ َ‬
‫كافُِرو َ‬ ‫ك هُ ُ‬
‫ما أنزل الله من أعمال أهل الكفر‪ ،‬وقد يكون كفرا ينقل عن الملة‪ ،‬وذلك‬
‫إذا اعتقد حله وجوازه‪ .‬وقد يكون كبيرة من كبائر الذنوب‪ ،‬ومن أعمال‬
‫الكفر قد استحق من فعله العذاب الشديد‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬منهم‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬بما‪.‬‬

‫) ‪(1/232‬‬

‫َ‬
‫ف َواْل ُذ ُ َ‬
‫ن‬ ‫ف ِباْل َن ْ ِ‬ ‫ن َواْل َن ْ َ‬ ‫فس َوال ْعَي ْ َ ْ‬
‫ن ِبالعَي ْ ِ‬ ‫س ِبالن ّ ْ ِ‬‫ف َ‬ ‫ن الن ّ ْ‬ ‫م ِفيَها أ ّ‬ ‫وَك َت َب َْنا عَل َي ْهِ ْ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ه وَ َ‬ ‫فاَرةٌ ل َ ُ‬ ‫صد ّقَ ب ِهِ فَهُوَ ك َ ّ‬ ‫ن تَ َ‬ ‫ص فَ َ‬
‫م ْ‬ ‫صا ٌ‬‫ح قِ َ‬‫جُرو َ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬ ‫ّ‬ ‫س‬ ‫ن ِبال ّ‬ ‫ّ‬ ‫س‬‫ن َوال ّ‬ ‫ِ‬ ‫ِباْل ُذ ُ‬
‫ن )‪(45‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ال ّ‬
‫ظال ِ ُ‬ ‫ك هُ ُ‬‫ه فَُأول َئ ِ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬‫م بِ َ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫لَ ْ‬
‫فس َوال ْعَي ْ َ ْ‬ ‫َ‬
‫ف‬‫ن َوالن ْ َ‬ ‫ن ِبالعَي ْ ِ‬ ‫س ِبالن ّ ْ ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ن الن ّ ْ‬‫م ِفيَها أ ّ‬ ‫} ‪ } { 45‬وَك َت َب َْنا عَل َي ْهِ ْ‬
‫صد ّقَ ب ِهِ فَهُ َ‬
‫و‬ ‫ن تَ َ‬ ‫م ْ‬‫ص فَ َ‬‫صا ٌ‬ ‫ح قِ َ‬ ‫جُرو َ‬ ‫ن َوال ْ ُ‬ ‫س ّ‬‫ن ِبال ّ‬ ‫س ّ‬ ‫ن َوال ّ‬ ‫ن ِبالذ ُ ِ‬ ‫ف َوالذ ُ َ‬ ‫ِبالن ْ ِ‬
‫م ال ّ‬ ‫ُ‬
‫ه فَأول َئ ِ َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫حك ُ ْ‬
‫م بِ َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه وَ َ‬ ‫فاَرةٌ ل َ ُ‬ ‫كَ ّ‬
‫هذه الحكام من جملة الحكام التي في التوراة‪ ،‬يحكم بها النبيون الذين‬
‫أسلموا للذين هادوا والربانيون والحبار‪ .‬إن الله أوجب عليهم فيها أن‬
‫النفس ‪-‬إذا قتلت‪ -‬تقتل بالنفس بشرط العمد والمكافأة‪ ،‬والعين تقلع‬
‫بالعين‪ ،‬والذن تؤخذ بالذن‪ ،‬والسن ينزع بالسن‪.‬‬
‫ومثل هذه ما أشبهها من الطراف التي يمكن القتصاص منها بدون حيف‪.‬‬
‫ص { والقتصاص‪ :‬أن يفعل به كما فعل‪ .‬فمن جرح غيره‬ ‫صا ٌ‬ ‫ح قِ َ‬ ‫جُرو َ‬ ‫} َوال ْ ُ‬
‫عمدا اقتص من الجارح جرحا مثل جرحه للمجروح‪ ،‬حدا‪ ،‬وموضعا‪ ،‬وطول‬
‫وعرضا وعمقا‪ ،‬وليعلم أن شرع من قبلنا شرع لنا‪ ،‬ما لم يرد شرعنا‬
‫بخلفه‪.‬‬
‫صد ّقَ ب ِهِ { أي‪ :‬بالقصاص في النفس‪ ،‬وما دونها من الطراف‬ ‫من ت َ َ‬ ‫} فَ َ‬
‫والجروح‪ ،‬بأن عفا عمن جنى‪ ،‬وثبت له الحق قبله‪.‬‬
‫ه { أي‪ :‬كفارة للجاني‪ ،‬لن الدمي عفا عن حقه‪ .‬والله‬ ‫فاَرةٌ ل ّ ُ‬ ‫} فَهُوَ ك َ ّ‬
‫تعالى أحق وأولى بالعفو عن حقه‪ ،‬وكفارة أيضا عن العافي‪ ،‬فإنه كما عفا‬
‫عمن جنى عليه‪ ،‬أو على من يتعلق به‪ ،‬فإن الله يعفو عن زلته وجناياته‪.‬‬
‫ن { قال ابن عباس‪:‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ال ّ‬
‫ظال ِ ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ه فَُأول َئ ِ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما َأنز َ‬ ‫كم ب ِ َ‬ ‫ح ُ‬ ‫م يَ ْ‬‫من ل ّ ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫كفر دون كفر‪ ،‬وظلم دون ظلم‪ ،‬وفسق دون فسق‪ ،‬فهو ظلم أكبر‪ ،‬عند‬
‫استحلله‪ ،‬وعظيمة كبيرة عند فعله غير مستحل له‪.‬‬

‫) ‪(1/233‬‬
‫َ‬
‫ن الت ّوَْراةِ‬
‫م َ‬
‫ن ي َد َي ْهِ ِ‬
‫ما ب َي ْ َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫م ُ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ ِ‬ ‫م ب ِِعي َ‬ ‫في َْنا عََلى آَثارِهِ ْ‬ ‫وَقَ ّ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫دى‬ ‫ن الت ّوَْراةِ وَهُ ً‬ ‫م َ‬‫ن ي َد َي ْهِ ِ‬ ‫ما ب َي ْ َ‬‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫دى وَُنوٌر وَ ُ‬ ‫ل ِفيهِ هُ ً‬ ‫جي َ‬ ‫وَآت َي َْناهُ ال ِن ْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن لَ ْ‬
‫م‬ ‫م ْ‬
‫ه ِفيهِ وَ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬‫ما أن َْز َ‬ ‫ل بِ َ‬ ‫جي ِ‬ ‫ل اْل ِن ْ ِ‬‫م أه ْ ُ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫ن )‪ (46‬وَل ْي َ ْ‬ ‫قي َ‬
‫مت ّ ِ‬ ‫ة ل ِل ْ ُ‬ ‫عظ َ ً‬‫موْ ِ‬ ‫وَ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن )‪(47‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬
‫فا ِ‬ ‫م ال َ‬ ‫ه فَأولئ ِك هُ ُ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫م بِ َ‬‫حك ْ‬ ‫يَ ْ‬

‫ن ي َد َي ْهِ‬ ‫ما ب َي ْ َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫م ُ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ ِ‬ ‫م ب ِِعي َ‬ ‫في َْنا عََلى آَثارِهِ ْ‬ ‫} ‪ } { 47 ، 46‬وَقَ ّ‬
‫ن الت ّوَْراةِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ي َد َي ْهِ ِ‬ ‫ما ب َي ْ َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬‫م َ‬ ‫دى وَُنوٌر وَ ُ‬ ‫ل ِفيهِ هُ ً‬ ‫جي َ‬ ‫ن الت ّوَْراةِ َوآت َي َْناهُ الن ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ما أن َْز َ‬ ‫َ‬
‫م أه ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫نل ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِفيهِ وَ َ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ل بِ َ‬ ‫جي ِ‬ ‫ل الن ْ ِ‬ ‫حك ْ‬ ‫ن * وَلي َ ْ‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬
‫ة ل ِل ُ‬ ‫عظ ً‬ ‫موْ ِ‬ ‫دى وَ َ‬ ‫وَهُ ً‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬‫فا ِ‬ ‫م ال َ‬ ‫ه فَأولئ ِك هُ ُ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫حك ْ‬ ‫يَ ْ‬
‫أي‪ :‬وأتبعنا هؤلء النبياَء والمرسلين‪ ،‬الذين يحكمون بالتوراة‪ ،‬بعبدنا‬
‫ورسولنا عيسى ابن مريم‪ ،‬روِح الله وكلمِته التي ألقاها إلى مريم‪.‬‬
‫بعثه الله مصدقا لما بين يديه من التوراة‪ ،‬فهو شاهد لموسى ولما جاء به‬
‫من التوراة بالحق والصدق‪ ،‬ومؤيد لدعوته‪ ،‬وحاكم بشريعته‪ ،‬وموافق له‬
‫في أكثر المور الشرعية‪.‬‬
‫وقد يكون عيسى عليه السلم أخف في بعض الحكام‪ ،‬كما قال تعالى عنه‬
‫م‬
‫حّر َ‬ ‫ذي ُ‬ ‫ض ال ّ ِ‬ ‫كم ب َعْ َ‬ ‫ل لَ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫] ص ‪ [ 234‬أنه قال لبني إسرائيل‪َ } :‬ول ِ‬
‫م{‪.‬‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫دى وَُنوٌر {‬ ‫ل { الكتاب العظيم المتمم للتوراة‪ِ } .‬فيهِ هُ ً‬ ‫جي َ‬ ‫} َوآت َي َْناهُ الن ْ ِ‬
‫ن‬‫ما ب َي ْ َ‬ ‫صد ًّقا ل ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫يهدي إلى الصراط المستقيم‪ ،‬ويبين الحق من الباطل‪ } .‬وَ ُ‬
‫عظةَ‬ ‫موْ ِ‬ ‫دى وَ َ‬ ‫ن الت ّوَْراةِ { بتثبيتها والشهادة لها والموافقة‪ } .‬وَهُ ً‬ ‫م َ‬ ‫ي َد َي ْهِ ِ‬
‫ن { فإنهم الذين ينتفعون بالهدى‪ ،‬ويتعظون بالمواعظ‪ ،‬ويرتدعون‬ ‫قي َ‬ ‫مت ّ ِ‬ ‫ل ّل ْ ُ‬
‫عما ل يليق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫م أ َهْ ُ‬
‫ه ِفيهِ { أي‪ :‬يلزمهم التقيد بكتابهم‪ ،‬ول‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ما أنز َ‬ ‫ل بِ َ‬ ‫ِ‬ ‫جي‬‫ل الن ِ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫} وَل ْي َ ْ‬
‫ُ‬
‫ه فَأول َئ ِ َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ك هُ ُ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما أنز َ‬ ‫حك ُ ْ‬
‫م بِ َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫من ل ّ ْ‬ ‫يجوز لهم العدول عنه‪ } .‬وَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫فا ِ‬ ‫ال ْ َ‬

‫) ‪(1/233‬‬

‫مًنا عَل َي ْهِ‬ ‫مهَي ْ ِ‬ ‫ب وَ ُ‬ ‫ن ال ْك َِتا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ي َد َي ْهِ ِ‬ ‫ما ب َي ْ َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫حق ّ ُ‬ ‫ب ِبال ْ َ‬ ‫ك ال ْك َِتا َ‬ ‫وَأ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ‬
‫جعَل َْنا‬ ‫َ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬
‫ل َ‬ ‫حقّ ل ِك ُ ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫جاَء َ‬ ‫ما َ‬ ‫م عَ ّ‬ ‫واَءهُ ْ‬ ‫ه وََل ت َت ّب ِعْ أهْ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫م بِ َ‬ ‫م ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫َفا ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م ِفي‬ ‫ن ل ِي َب ْلوَك ُ ْ‬ ‫حد َةً وَلك ِ ْ‬ ‫ة َوا ِ‬ ‫م ً‬ ‫مأ ّ‬ ‫جعَلك ُ ْ‬ ‫هل َ‬ ‫شاَء الل ُ‬ ‫جا وَلوْ َ‬ ‫من َْها ً‬ ‫ة وَ ِ‬ ‫شْرعَ ً‬ ‫م ِ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫م ِفي ِ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ميًعا فَي ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫م َ‬ ‫جعُك ُ ْ‬ ‫مْر ِ‬ ‫ت إ َِلى الل ّهِ َ‬ ‫خي َْرا ِ‬ ‫قوا ال ْ َ‬ ‫ست َب ِ ُ‬ ‫م َفا ْ‬ ‫ما آَتاك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ح‬ ‫وا‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫وا‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ز‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ي‬‫ب‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ح‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫(‬ ‫‪48‬‬ ‫)‬ ‫ن‬ ‫فو‬ ‫ُ‬ ‫تَ َ ِ‬
‫ل‬ ‫ت‬ ‫خ‬
‫ْ‬
‫ُ َ َِّ ْ ْ َ ُ ْ َ ْ ْ ُ ْ ْ‬ ‫َ ِ ْ ْ ََُْ ْ ِ َ َْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫هأ ْ‬ ‫ريد ُ الل ّ ُ‬ ‫ما ي ُ ِ‬ ‫م أن ّ َ‬ ‫وا َفاعْل َ ْ‬ ‫ن ت َوَل ّ ْ‬ ‫ك فَإ ِ ْ‬ ‫ه إ ِل َي ْ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫ض َ‬ ‫ن ب َعْ ِ‬ ‫ك عَ ْ‬ ‫فت ُِنو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫َ‬ ‫س لَ َ‬
‫م‬‫حك ْ َ‬ ‫ن )‪ (49‬أفَ ُ‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫فا ِ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ك َِثيًرا ِ‬ ‫م وَإ ِ ّ‬ ‫ض ذ ُُنوب ِهِ ْ‬ ‫م ب ِب َعْ ِ‬ ‫صيب َهُ ْ‬ ‫يُ ِ‬
‫َ‬
‫ن )‪(50‬‬ ‫قوْم ٍ ُيوقُِنو َ‬ ‫ما ل ِ َ‬ ‫حك ْ ً‬ ‫ن الل ّهِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫جاهِل ِي ّةِ ي َب ُْغو َ‬ ‫ال ْ َ‬

‫ن‬
‫م َ‬ ‫ن ي َد َي ْهِ ِ‬ ‫ما ب َي ْ َ‬ ‫صد ًّقا ل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫حق ّ ُ‬ ‫ب ِبال ْ َ‬ ‫ك ال ْك َِتا َ‬ ‫} ‪ } { 50 - 48‬وَأ َن َْزل َْنا إ ِل َي ْ َ‬
‫َ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬
‫ما‬‫م عَ ّ‬ ‫واَءهُ ْ‬ ‫ه َول ت َت ّب ِعْ أهْ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫م بِ َ‬ ‫م ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫مًنا عَل َي ْهِ َفا ْ‬ ‫مهَي ْ ِ‬ ‫ب وَ ُ‬ ‫ال ْك َِتا ِ‬
‫شاَء الل ّه ل َجعل َك ُ ُ‬ ‫جا وَل َوْ َ‬
‫ة‬
‫م ً‬ ‫مأ ّ‬ ‫ُ َ َ ْ‬ ‫من َْها ً‬ ‫ة وَ ِ‬ ‫شْرعَ ً‬ ‫م ِ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫جعَل َْنا ِ‬ ‫ل َ‬ ‫حقّ ل ِك ُ ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫جاَء َ‬ ‫َ‬
‫جعُك ُْ‬
‫م‬ ‫ر‬
‫ِ َ ْ ِ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫إ‬
‫َْ ِ ِ‬ ‫ت‬ ‫را‬ ‫ي‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫قوا‬ ‫ُ‬ ‫ب‬
‫ْ َِ‬‫ت‬ ‫س‬ ‫فا‬ ‫َ‬ ‫م‬
‫َ َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫تا‬ ‫آ‬ ‫ما‬ ‫في‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫و‬
‫َ ِ َ ً َ ِ ْ َِْ َ ْ ِ‬‫ُ‬ ‫ل‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫د‬ ‫ح‬ ‫وا‬
‫ه َول‬ ‫ل الل ُّ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬ ‫ب‬ ‫م‬
‫َ ِ ْ ْ ََُْ ْ ِ َ‬ ‫ه‬ ‫ن‬‫ي‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ح‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫فون * وأ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ ِ ِ َ ْ َ ِ‬
‫ل‬ ‫ت‬ ‫خ‬ ‫ت‬ ‫ه‬ ‫في‬ ‫م‬ ‫م بِ َ‬ ‫ميًعا فَي ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫َ‬
‫ن ت َوَل ّ ْ‬
‫وا‬ ‫ك فَإ ِ ْ‬ ‫ه إ ِل َي ْ َ‬‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬ ‫ض َ‬ ‫ن ب َعْ ِ‬ ‫ك عَ ْ‬ ‫فت ُِنو َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫مأ ْ‬
‫تتبع أ َهْواَءهُم واحذ َرهُ َ‬
‫ْ َ ْ ْ ْ‬ ‫َ‬ ‫َِّ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫س‬‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن كِثيًرا ِ‬ ‫م وَإ ِ ّ‬ ‫ض ذ ُُنوب ِهِ ْ‬ ‫م ب ِب َعْ ِ‬ ‫صيب َهُ ْ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ريد ُ الل ُ‬ ‫ما ي ُ َ ِ‬‫م أن ّ َ‬ ‫َفاعْل ْ‬
‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫لَ َ‬
‫قوْم ٍ‬ ‫ما ل ِ َ‬
‫حك ً‬ ‫ن اللهِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬‫ن وَ َ‬ ‫جاهِل ِي ّةِ ي َب ُْغو َ‬ ‫م ال َ‬ ‫حك َ‬ ‫ن * أف َ ُ‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫فا ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ُيوقُِنو َ‬
‫ب { الذي هو القرآن العظيم‪ ،‬أفضل‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫يقول تعالى‪ } :‬وَأنزلَنا إ ِلي ْ َ‬ ‫َ‬
‫ك الك َِتا َ‬
‫الكتب وأجلها‪.‬‬
‫حقّ { أي‪ :‬إنزال بالحق‪ ،‬ومشتمل على الحق في أخباره وأوامره‬ ‫} ِبال ْ َ‬
‫ب { لنه شهد لها ووافقها‪،‬‬ ‫ن ال ْك َِتا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ي َد َي ْهِ ِ‬ ‫ما ب َي ْ َ‬ ‫صد ًّقا ل ّ َ‬ ‫م َ‬ ‫ونواهيه‪ُ } .‬‬
‫وطابقت أخباره أخبارها‪ ،‬وشرائعه الكبار شرائعها‪ ،‬وأخبرت به‪ ،‬فصار‬
‫وجوده مصداقا لخبرها‪.‬‬
‫مًنا عَل َي ْهِ { أي‪ :‬مشتمل على ما اشتملت عليه الكتب السابقة‪،‬‬ ‫مهَي ْ ِ‬ ‫} وَ ُ‬
‫وزيادة في المطالب اللهية والخلق النفسية‪ .‬فهو الكتاب الذي تتبع كل‬
‫حق جاءت به الكتب فأمر به‪ ،‬وحث عليه‪ ،‬وأكثر من الطرق الموصلة إليه‪.‬‬
‫وهو الكتاب الذي فيه نبأ السابقين واللحقين‪ ،‬وهو الكتاب الذي فيه الحكم‬
‫والحكمة‪ ،‬والحكام الذي عرضت عليه الكتب السابقة‪ ،‬فما شهد له‬
‫بالصدق فهو المقبول‪ ،‬وما شهد له بالرد فهو مردود‪ ،‬قد دخله التحريف‬
‫والتبديل‪ ،‬وإل فلو كان من عند الله‪ ،‬لم يخالفه‪.‬‬
‫ه { من الحكم الشرعي الذي أنزله الله عليك‪.‬‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما َأنز َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫م ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫} َفا ْ‬
‫حقّ { أي‪ :‬ل تجعل اتباع أهوائهم‬ ‫ْ‬ ‫جاَء َ‬ ‫َ‬
‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫ما َ‬ ‫م عَ ّ‬ ‫واَءهُ ْ‬ ‫} َول ت َت ّب ِعْ أهْ َ‬
‫الفاسدة المعارضة للحق بدل عما جاءك من الحق فتستبدل الذي هو أدنى‬
‫بالذي هو خير‪.‬‬
‫جا { أي‪ :‬سبيل وسنة‪،‬‬ ‫من َْها ً‬
‫ة وَ ِ‬ ‫شْرعَ ً‬ ‫م { أيها المم جعلنا } ِ‬ ‫منك ُ ْ‬ ‫جعَل َْنا ِ‬ ‫ل َ‬ ‫} ل ِك ُ ّ‬
‫وهذه الشرائع التي تختلف باختلف المم‪ ،‬هي التي تتغير بحسب تغير‬
‫الزمنة والحوال‪ ،‬وكلها ترجع إلى العدل في وقت شرعتها‪ ،‬وأما الصول‬
‫الكبار التي هي مصلحة وحكمة في كل زمان‪ ،‬فإنها ل تختلف‪ ،‬فتشرع في‬
‫حد َةً { تبعا لشريعة واحدة‪،‬‬ ‫ة َوا ِ‬ ‫م ً‬ ‫شاَء الل ّه ل َجعل َك ُ ُ‬ ‫جميع الشرائع‪ } .‬وَل َوْ َ‬
‫مأ ّ‬ ‫ُ َ َ ْ‬
‫ل يختلف متأخرها و]ل[ متقدمها‪.‬‬
‫م { فيختبركم وينظر كيف تعملون‪ ،‬ويبتلي كل‬ ‫ما آَتاك ُ ْ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫كن ل ّي َب ْل ُوَك ُ ْ‬ ‫} وَل َ ِ‬
‫أمة بحسب ما تقتضيه حكمته‪ ،‬ويؤتي كل أحد ما يليق به‪ ،‬وليحصل‬
‫التنافس بين المم فكل أمة تحرص على سبق غيرها‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ت { أي‪ :‬بادروا إليها وأكملوها‪ ،‬فإن الخيرات الشاملة‬ ‫خي َْرا ِ‬ ‫قوا ال ْ َ‬ ‫ست َب ِ ُ‬ ‫} َفا ْ‬
‫لكل فرض ومستحب‪ ،‬من حقوق الله وحقوق عباده‪ ،‬ل يصير فاعلها سابقا‬
‫لغيره مستوليا على المر‪ ،‬إل بأمرين‪:‬‬
‫المبادرة إليها‪ ،‬وانتهاز الفرصة حين يجيء وقتها ويعرض عارضها‪ ،‬والجتهاد‬
‫في أدائها كاملة على الوجه المأمور به‪ .‬ويستدل بهذه الية‪ ،‬على المبادرة‬
‫لداء الصلة وغيرها في أول وقتها‪ ،‬وعلى أنه ينبغي أن ل يقتصر العبد على‬
‫مجرد ما يجزئ في الصلة وغيرها من العبادات من المور الواجبة‪ ،‬بل‬
‫ينبغي أن يأتي بالمستحبات‪ ،‬التي يقدر عليها لتتم وتكمل‪ ،‬ويحصل بها‬
‫السبق‪.‬‬
‫ميًعا { المم السابقة واللحقة‪ ،‬كلهم سيجمعهم الله‬ ‫ج ِ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫جعُك ْ‬ ‫مْر ِ‬ ‫} إ َِلى اللهِ َ‬
‫ّ‬
‫ن { من الشرائع‬ ‫فو َ‬ ‫خت َل ِ ُ‬‫م ِفيهِ ت َ ْ‬ ‫ما ُ‬
‫كنت ُ ْ‬ ‫كم ب ِ َ‬ ‫ليوم ل ريب فيه‪ } .‬فَي ُن َب ّئ ُ ُ‬
‫والعمال‪ ،‬فيثيب أهل الحق والعمل الصالح‪ ،‬ويعاقب أهل الباطل والعمل‬
‫السيئ‪.‬‬
‫ه { هذه الية هي التي قيل‪ :‬إنها ناسخة‬ ‫ّ‬ ‫ما أنز َ‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ل الل ُ‬ ‫حكم ب َي ْن َُهم ب ِ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫} وَأ ِ‬
‫كم بينه َ َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ض عَن ْهُ ْ‬ ‫م أوْ أعْرِ ْ‬ ‫ح ُ ََُْ ْ‬ ‫لقوله‪َ } :‬فا ْ‬
‫والصحيح‪ :‬أنها ليست بناسخة‪ ،‬وأن تلك الية تدل على أنه صلى الله عليه‬
‫وسلم مخير بين الحكم بينهم وبين عدمه‪ ،‬وذلك لعدم قصدهم بالتحاكم‬
‫للحق‪ .‬وهذه الية تدل على أنه إذا حكم‪ ،‬فإنه يحكم بينهم بما أنزل الله من‬
‫ت‬
‫م َ‬‫حك َ ْ‬
‫ن َ‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬وهو القسط الذي تقدم أن الله قال‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫ط { ودل هذا على بيان القسط‪ ،‬وأن مادته هو ما‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫كم ب َي ْن َُهم ِبال ْ ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫َفا ْ‬
‫شرعه الله من الحكام‪ ،‬فإنها المشتملة على غاية العدل والقسط‪ ،‬وما‬
‫خالف ذلك فهو جور وظلم‪.‬‬
‫م { كرر النهي عن اتباع أهوائهم لشدة التحذير منها‪.‬‬ ‫َ‬
‫واَءهُ ْ‬ ‫} َول ت َت ّب ِعْ أهْ َ‬
‫ولن ذلك في مقام الحكم والفتوى‪ ،‬وهو أوسع‪ ،‬وهذا في مقام الحكم‬
‫وحده‪ ،‬وكلهما يلزم فيه أن ل يتبع أهواءهم المخالفة للحق‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ك { أي‪ :‬إياك والغترار‬ ‫ه إ ِل َي ْ َ‬‫ل الل ّ ُ‬‫ما َأنز َ‬ ‫ض َ‬ ‫عن ب َعْ ِ‬ ‫ك َ‬ ‫فت ُِنو َ‬ ‫م َأن ي َ ْ‬ ‫حذ َْرهُ ْ‬ ‫} َوا ْ‬
‫بهم‪ ،‬وأن يفتنوك فيصدوك عن بعض ما أنزل ]الله[ إليك‪ ،‬فصار اتباع‬
‫أهوائهم سببا موصل إلى ترك الحق الواجب‪ ،‬والفرض اتباعه‪.‬‬
‫م { أن ذلك عقوبة عليهم‬ ‫وا { عن اتباعك واتباع الحق } َفاعْل َ ْ‬ ‫} فَِإن ت َوَل ّ ْ‬
‫َ‬
‫م { ] ص ‪ [ 235‬فإن للذنوب‬ ‫ض ذ ُُنوب ِهِ ْ‬‫صيب َُهم ب ِب َعْ ِ‬ ‫وأن الله يريد } أن ي ُ ِ‬
‫عقوبات عاجلة وآجلة‪ ،‬ومن أعظم العقوبات أن يبتلى العبد ويزين له ترك‬
‫اتباع الرسول‪ ،‬وذلك لفسقه‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬طبيعتهم الفسق والخروج عن‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬‫فا ِ‬ ‫س لَ َ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ك َِثيًرا ّ‬ ‫} وَإ ِ ّ‬
‫طاعة الله واتباع رسوله‪.‬‬
‫َ‬
‫ن { أي‪ :‬أفيطلبون بتوليهم وإعراضهم عنك حكم‬ ‫جاهِل ِي ّةِ ي َب ُْغو َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫} أف َ ُ‬
‫الجاهلية‪ ،‬وهو كل حكم خالف ما أنزل الله على رسوله‪ .‬فل ثم إل حكم‬
‫الله ورسوله أو حكم الجاهلية‪ .‬فمن أعرض عن الول ابتلي بالثاني المبني‬
‫على الجهل والظلم والغي‪ ،‬ولهذا أضافه الله للجاهلية‪ ،‬وأما حكم الله‬
‫تعالى فمبني على العلم‪ ،‬والعدل والقسط‪ ،‬والنور والهدى‪.‬‬
‫} وم َ‬
‫ن { فالموقن هو الذي يعرف‬ ‫قوْم ٍ ُيوقُِنو َ‬ ‫ما ل ِ َ‬ ‫حك ْ ً‬ ‫ن الل ّهِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫َ َ ْ‬
‫الفرق بين الحكمين ويميز ‪-‬بإيقانه‪ -‬ما في حكم الله من الحسن والبهاء‪،‬‬
‫وأنه يتعين ‪-‬عقل وشرعا‪ -‬اتباعه‪ .‬واليقين‪ ،‬هو العلم التام الموجب للعمل‪.‬‬

‫) ‪(1/234‬‬

‫ذوا ال ْيهود والنصارى أ َول ِياَء بعضه َ‬ ‫مُنوا َل ت َت ّ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫ض‬
‫م أوْل َِياُء ب َعْ ٍ‬ ‫ْ َ َْ ُ ُ ْ‬ ‫َُ َ َ ّ َ َ‬ ‫خ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫ن )‪ (51‬فَت ََرى‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫م ال ّ‬ ‫قوْ َ‬ ‫دي ال ْ َ‬ ‫ه َل ي َهْ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫م فَإ ِن ّ ُ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ي َت َوَل ّهُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫دائ َِرةٌ‬
‫صيب ََنا َ‬ ‫ن تُ ِ‬ ‫شى أ ْ‬ ‫خ َ‬‫ن نَ ْ‬ ‫قولو َ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫ن ِفيهِ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫سارِ ُ‬ ‫ض يُ َ‬ ‫مَر ٌ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِفي قُلوب ِهِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ذي‬ ‫ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬ ‫فَعسى الل ّ َ‬
‫سّروا ِفي‬ ‫ما أ َ‬ ‫حوا عََلى َ‬ ‫عن ْدِهِ فَي ُ ْ‬
‫صب ِ ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫مرٍ ِ‬ ‫فت ِْح أوْ أ ْ‬ ‫ي ِبال ْ َ‬ ‫ن ي َأت ِ َ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫د‬ ‫ه‬ ‫ج‬ ‫ه‬‫ّ‬ ‫ل‬‫بال‬ ‫موا‬ ‫س‬ ‫ْ‬ ‫ق‬ ‫ل ال ّذين آ َمنوا أ َهَؤَُلِء ال ّذين أ َ‬ ‫ُ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫(‬ ‫‪52‬‬ ‫)‬ ‫ن‬ ‫مي‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫ِ ِ َ ْ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ِ َ‬ ‫ِ َ َ ُ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫ف ِ ِ ْ َ ِ ِ‬
‫د‬‫نا‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫س‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(53‬‬ ‫ري َ‬‫س ِ‬ ‫خا ِ‬ ‫حوا َ‬ ‫صب َ ُ‬‫م فَأ ْ‬ ‫مال ُهُ ْ‬‫ت أعْ َ‬ ‫حب ِط َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫م لَ َ‬ ‫م إ ِن ّهُ ْ‬‫مان ِهِ ْ‬ ‫أي ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ضه ُ ْ‬
‫صاَرى أوْل َِياَء ب َعْ ُ‬ ‫ذوا ال ْي َُهود َ َوالن ّ َ‬
‫خ ُ‬‫مُنوا ل ت َت ّ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 53 - 51‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫م ال ّ‬ ‫دي ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن*‬ ‫مي َ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫قوْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫ه ل ي َهْ ِ‬ ‫م إِ ّ‬‫من ْهُ ْ‬ ‫م فَإ ِن ّ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫م ِ‬ ‫ن ي َت َوَل ّهُ ْ‬
‫م ْ‬
‫ض وَ َ‬
‫أوْل َِياُء ب َعْ ٍ‬
‫َ‬
‫صيب ََنا‬ ‫ن تُ ِ‬ ‫شى أ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫ن ِفيهِ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫سارِ ُ‬ ‫ض يُ َ‬ ‫مَر ٌ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِفي قُُلوب ِهِ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫فَت ََرى ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫سّروا‬ ‫ما أ َ‬ ‫حوا عََلى َ‬ ‫صب ِ ُ‬‫عن ْدِهِ فَي ُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫مرٍ ِ‬ ‫فت ِْح أوْ أ ْ‬ ‫ي ِبال ْ َ‬ ‫ن ي َأت ِ َ‬ ‫هأ ْ‬ ‫سى الل ّ ُ‬ ‫دائ َِرةٌ فَعَ َ‬ ‫َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫جهْد َ‬ ‫موا ِباللهِ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ن أقْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ؤلِء ال ِ‬ ‫مُنوا أهَ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ِ‬ ‫قو ُ‬ ‫ن * وَي َ ُ‬ ‫مي َ‬ ‫م َنادِ ِ‬ ‫سه ِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ِفي أن ْ ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫س ِ‬ ‫خا ِ‬ ‫حوا َ‬ ‫صب َ ُ‬ ‫م فَأ ْ‬ ‫مالهُ ْ‬ ‫ت أعْ َ‬ ‫حب ِط ْ‬ ‫م َ‬ ‫معَك ْ‬ ‫مل َ‬ ‫م إ ِن ّهُ ْ‬ ‫مان ِهِ ْ‬ ‫أي ْ َ‬
‫يرشد تعالى عباده المؤمنين حين بّين لهم أحوال اليهود والنصارى‬
‫ض‬ ‫وصفاتهم غير الحسنة‪ ،‬أن ل يتخذوهم أولياء‪ .‬فإن بعضه َ‬
‫م أوْل َِياُء ب َعْ ٍ‬ ‫َْ ُ ْ‬
‫يتناصرون فيما بينهم ويكونون يدا على من سواهم‪ ،‬فأنتم ل تتخذوهم‬
‫أولياء‪ ،‬فإنهم العداء على الحقيقة ول يبالون بضركم‪ ،‬بل ل يدخرون من‬
‫مجهودهم شيئا على إضللكم‪ ،‬فل يتولهم إل من هو مثلهم‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫م { لن التولي التام يوجب النتقال إلى‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫م فَإ ِن ّ ُ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫من ي َت َوَل ُّهم ّ‬ ‫} وَ َ‬
‫دينهم‪ .‬والتولي القليل يدعو إلى الكثير‪ ،‬ثم يتدرج شيئا فشيئا‪ ،‬حتى يكون‬
‫العبد منهم‪.‬‬
‫فهم الظلم‪ ،‬وإليه‬ ‫ص ُ‬ ‫ن { أي‪ :‬الذين و ْ‬ ‫مي َ‬ ‫م الظال ِ ِ‬ ‫ّ‬ ‫قوْ َ‬ ‫ْ‬
‫دي ال َ‬ ‫ه ل ي َهْ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫َيرجعون‪ ،‬وعليه يعولون‪ .‬فلو جئتهم بكل آية ما تبعوك‪ ،‬ول انقادوا لك‪.‬‬
‫ة‬‫ولما نهى الله المؤمنين عن توليهم‪ ،‬أخبر أن ممن يدعي اليمان طائف ً‬
‫ض { أي‪ :‬شك ونفاق‪،‬‬ ‫مَر ٌ‬ ‫ن ِفي قُُلوب ِِهم ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫تواليهم‪ ،‬فقال‪ } :‬فَت ََرى ال ّ ِ‬
‫صيب ََنا‬ ‫َ‬ ‫خ َ‬
‫شى أن ت ُ ِ‬ ‫وضعف إيمان‪ ،‬يقولون‪ :‬إن تولينا إياهم للحاجة‪ ،‬فإننا } ن َ ْ‬
‫دائ َِرةٌ { أي‪ :‬تكون الدائرة لليهود والنصارى‪ ،‬فإذا كانت الدائرة لهم‪ ،‬فإذا‬ ‫َ‬
‫لنا معهم يد يكافؤننا عنها‪ ،‬وهذا سوء ظن منهم بالسلم‪ ،‬قال تعالى ‪-‬رادا‬
‫فت ِْح { الذي يعز الله به السلم‬ ‫ي ِبال ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫لظنهم السيئ‪ } :-‬فَعسى الل ّ َ‬
‫ه أن ي َأت ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫عندِهِ { ييأس به‬ ‫ن ِ‬ ‫م‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫على اليهود والنصارى‪ ،‬ويقهرهم المسلمون } أ َو أ َ‬
‫ْ ْ ٍ ِ ْ‬
‫ما‬
‫َ‬ ‫لى‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫حوا‬ ‫ص ِ ُ‬
‫ب‬ ‫المنافقون من ظفر الكافرين من اليهود وغيرهم } فَي ُ ْ‬
‫ن { على ما كان منهم وضرهم‬ ‫مي َ‬ ‫م َنادِ ِ‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫سّروا { أي‪ :‬أضمروا } ِفي َأن ُ‬ ‫أ َ‬
‫َ‬
‫بل نفع حصل لهم‪ ،‬فحصل الفتح الذي نصر الله به السلم والمسلمين‪،‬‬
‫وأذل به الكفر والكافرين‪ ،‬فندموا وحصل لهم من الغم ما الله به عليم‪.‬‬
‫مُنوا { متعجبين من حال هؤلء الذين في قلوبهم مرض‪:‬‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫قو ُ‬ ‫} وَي َ ُ‬
‫م { أي‪ :‬حلفوا وأكدوا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫} أ َهَ ُ‬
‫معَك ْ‬ ‫مل َ‬ ‫م إ ِن ّهُ ْ‬ ‫مان ِهِ ْ‬ ‫جهْد َ أي ْ َ‬ ‫موا ِباللهِ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ن أق َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ؤلِء ال ِ‬
‫حلفهم‪ ،‬وغلظوه بأنواع التأكيدات‪ :‬إنهم لمعكم في اليمان‪ ،‬وما يلزمه من‬
‫النصرة والمحبة والموالة‪ ،‬ظهر ما أضمروه‪ ،‬وتبين ما أسروه‪ ،‬وصار‬
‫كيدهم الذي كادوه‪ ،‬وظنهم الذي ظنوه بالسلم وأهله ‪-‬باطل فبطل كيدهم‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن { حيث فاتهم‬ ‫ري َ‬ ‫س ِ‬ ‫خا ِ‬ ‫حوا َ‬ ‫صب َ ُ‬ ‫م { في الدنيا } فَأ ْ‬ ‫مال ُهُ ْ‬ ‫وبطلت } أعْ َ‬
‫مقصودهم‪ ،‬وحضرهم الشقاء والعذاب‪.‬‬

‫) ‪(1/235‬‬

‫ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫م‬‫حب ّهُ ْ‬‫قوْم ٍ ي ُ ِ‬ ‫ف ي َأِتي الل ّ ُ‬
‫ه بِ َ‬ ‫سوْ َ‬‫ن ِدين ِهِ فَ َ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫ن ي َْرت َد ّ ِ‬‫م ْ‬ ‫مُنوا َ‬‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫ل الل ّهِ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫دو َ‬ ‫جاهِ ُ‬‫ن يُ َ‬‫ري َ‬ ‫عّزةٍ عََلى ال ْ َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫ن أَ ِ‬‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬
‫حبون َ‬
‫ه أذِل ّةٍ عََلى ال ْ ُ‬ ‫وَي ُ ِ ّ َ ُ‬
‫م)‬ ‫سعٌ عَِلي ٌ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫شاُء َوالل ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬ ‫ل الل ّهِ ي ُؤِْتيهِ َ‬‫ض ُ‬ ‫ك فَ ْ‬ ‫ة َلئ ِم ٍ ذ َل ِ َ‬‫م َ‬‫ن ل َوْ َ‬
‫خاُفو َ‬ ‫وََل ي َ َ‬
‫‪(54‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ف ي َأِتي الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫سوْ َ‬ ‫ن ِدين ِهِ فَ َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫م عَ ْ‬ ‫ن ي َْرت َد ّ ِ‬‫م ْ‬ ‫مُنوا َ‬
‫نآ َ‬ ‫} ‪َ } { 54‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ن ِفي‬‫دو َ‬ ‫جاهِ ُ‬
‫ن يُ َ‬‫ري َ‬ ‫عّزةٍ عََلى ال ْ َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫ن أَ ِ‬ ‫مِني َ‬‫مؤْ ِ‬
‫حبون َ‬
‫ه أذِل ّةٍ عََلى ال ْ ُ‬
‫م وَي ُ ِ ّ َ ُ‬ ‫حب ّهُ ْ‬
‫قوْم ٍ ي ُ ِ‬
‫بِ َ‬
‫ع‬
‫س ٌ‬‫ه َوا ِ‬ ‫شاُء َوالل ّ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل الل ّهِ ي ُؤِْتيهِ َ‬ ‫ض ُ‬‫ك فَ ْ‬ ‫ة لئ ِم ٍ ذ َل ِ َ‬ ‫ن ل َوْ َ‬
‫م َ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫ل الل ّهِ َول ي َ َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫عَِلي ٌ‬
‫يخبر تعالى أنه الغني عن العالمين‪ ،‬وأنه من يرتد عن دينه فلن يضر الله‬
‫شيئا‪ ،‬وإنما يضر نفسه‪ .‬وأن لله عبادا مخلصين‪ ،‬ورجال صادقين‪ ،‬قد تكفل‬
‫الرحمن الرحيم بهدايتهم‪ ،‬ووعد بالتيان بهم‪ ،‬وأنهم أكمل الخلق أوصافا‪،‬‬
‫ه{‬ ‫حّبون َ ُ‬ ‫م وَي ُ ِ‬‫حب ّهُ ْ‬‫ل صفاتهم أن الله } ي ُ ِ‬ ‫وأقواهم نفوسا‪ ،‬وأحسنهم أخلقا‪ ،‬أج ّ‬
‫فإن محبة الله للعبد هي أجل نعمة أنعم بها عليه‪ ،‬وأفضل فضيلة‪ ،‬تفضل‬
‫الله بها عليه‪ ،‬وإذا أحب الله عبدا يسر له السباب‪ ،‬وهون عليه كل عسير‪،‬‬
‫ووفقه لفعل الخيرات وترك المنكرات‪ ،‬وأقبل بقلوب عباده إليه بالمحبة‬
‫والوداد‪.‬‬
‫ومن لوازم محبة العبد لربه‪ ،‬أنه ل بد أن يتصف بمتابعة الرسول صلى الله‬
‫عليه وسلم ظاهرا وباطنا‪ ،‬في أقواله وأعماله وجميع أحواله‪ ،‬كما قال‬
‫ه{‪.‬‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫حب ِب ْك ُ ُ‬
‫ه َفات ّب ُِعوِني ي ُ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫حّبو َ‬ ‫م تُ ِ‬ ‫ل ِإن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫تعالى‪ } :‬قُ ْ‬
‫كما أن من لزم )‪ (1‬محبة الله للعبد‪ ،‬أن يكثر العبد من التقرب إلى الله‬
‫بالفرائض والنوافل‪ ،‬كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث‬
‫ي مما افترضت‬ ‫ي عبدي بشيء أحب إل ّ‬ ‫الصحيح عن الله‪" :‬وما تقرب إل ّ‬
‫ت‬ ‫ُ‬
‫ي بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببُته كن ُ‬ ‫عليه‪ ،‬ول يزال ]عبدي[ يتقرب إل ّ‬
‫سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي يبطش بها‪ ،‬ورجله‬
‫التي يمشي بها‪ ،‬ولئن سألني لعطينه‪ ،‬ولئن استعاذني لعيذنه"‪.‬‬
‫] ص ‪[ 236‬‬
‫ومن لوازم محبة الله معرفته تعالى‪ ،‬والكثار من ذكره‪ ،‬فإن المحبة بدون‬
‫معرفة بالله ناقصة جدا‪ ،‬بل غير موجودة وإن وجدت دعواها‪ ،‬ومن أحب‬
‫الله أكثر من ذكره‪ ،‬وإذا أحب الله عبدا قبل منه اليسير من العمل‪ ،‬وغفر‬
‫له الكثير من الزلل‪.‬‬
‫عّزةٍ عََلى ال ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن { فهم‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫نأ ِ‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ومن صفاتهم أنهم } أذِل ّةٍ عََلى ال ْ ُ‬
‫للمؤمنين أذلة من محبتهم لهم‪ ،‬ونصحهم لهم‪ ،‬ولينهم ورفقهم ورأفتهم‪،‬‬
‫ورحمتهم بهم وسهولة جانبهم‪ ،‬وقرب الشيء الذي يطلب منهم وعلى‬
‫الكافرين بالله‪ ،‬المعاندين لياته‪ ،‬المكذبين لرسله ‪ -‬أعزة‪ ،‬قد اجتمعت‬
‫هممهم وعزائمهم على معاداتهم‪ ،‬وبذلوا جهدهم في كل سبب يحصل به‬
‫ط‬
‫من رَِبا ِ‬ ‫من قُوّةٍ وَ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ست َط َعْت ُ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫دوا ل َُهم َ‬ ‫ع ّ‬ ‫النتصار عليهم‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬وَأ َ ِ‬
‫داُء عََلى ال ْك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫فاِر‬ ‫ش ّ‬ ‫م { وقال تعالى‪ } :‬أ ِ‬ ‫ن ب ِهِ عَد ُوّ الل ّهِ وَعَد ُوّك ُ ْ‬ ‫ل ت ُْرهُِبو َ‬ ‫خي ْ ِ‬‫ال ْ َ‬
‫م { فالغلظة والشدة على أعداء الله مما يقرب العبد إلى الله‪،‬‬ ‫ماُء ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫ح َ‬‫ُر َ‬
‫ويوافق العبد ربه في سخطه عليهم‪ ،‬ول تمنع الغلظة عليهم والشدة‬
‫دعوتهم إلى الدين السلمي بالتي هي أحسن‪ .‬فتجتمع الغلظة عليهم‪،‬‬
‫واللين في دعوتهم‪ ،‬وكل المرين من مصلحتهم ونفعه عائد إليهم‪.‬‬
‫ل الل ّهِ { بأموالهم وأنفسهم‪ ،‬بأقوالهم وأفعالهم‪َ } .‬ول‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫دو َ‬ ‫جاهِ ُ‬ ‫} يُ َ‬
‫ة لئ ِم ٍ { بل يقدمون رضا ربهم والخوف من لومه على لوم‬ ‫م َ‬‫ن ل َوْ َ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫يَ َ‬
‫المخلوقين‪ ،‬وهذا يدل على قوة هممهم وعزائمهم‪ ،‬فإن ضعيف القلب‬
‫ضعيف الهمة‪ ،‬تنتقض عزيمته عند لوم اللئمين‪ ،‬وتفتر قوته عند عذل‬
‫العاذلين‪ .‬وفي قلوبهم تعبد لغير الله‪ ،‬بحسب ما فيها من مراعاة الخلق‬
‫وتقديم رضاهم ولومهم على أمر الله‪ ،‬فل يسلم القلب من التعبد لغير‬
‫الله‪ ،‬حتى ل يخاف في الله لومة لئم‪.‬‬
‫ن الصفات الجليلة والمناقب العالية‪،‬‬ ‫ولما مدحهم تعالى بما من به عليهم م ّ‬
‫المستلزمة لما لم يذكر من أفعال الخير ‪-‬أخبر أن هذا من فضله عليهم‬
‫ن عليهم بذلك ليزيدهم‬ ‫م ّ‬‫وإحسانه لئل يعجبوا بأنفسهم‪ ،‬وليشكروا الذي َ‬
‫من فضله‪ ،‬وليعلم غيُرهم أن فضل الله تعالى ليس عليه حجاب‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫م { أي‪ :‬واسع الفضل‬ ‫سعٌ عَِلي ٌ‬
‫ه َوا ِ‬‫شاُء َوالل ّ ُ‬ ‫ل الل ّهِ ي ُؤِْتيهِ َ‬
‫من ي َ َ‬ ‫ض ُ‬ ‫} ذ َل ِ َ‬
‫ك فَ ْ‬
‫والحسان‪ ،‬جزيل المنن‪ ،‬قد عمت رحمته كل شيء‪ ،‬ويوسع على أوليائه‬
‫من فضله‪ ،‬ما ل يكون لغيرهم‪ ،‬ولكنه عليم بمن يستحق الفضل فيعطيه‪،‬‬
‫فالله أعلم حيث يجعل رسالته أصل وفرعا‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬لوازم‬

‫) ‪(1/235‬‬

‫صَلةَ وَي ُؤُْتو َ‬ ‫مُنوا ال ّ ِ‬ ‫ذي َ‬


‫ن الّز َ‬
‫كاةَ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫مو َ‬‫قي ُ‬ ‫ن يُ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ه َوال ّ ِ َ‬ ‫سول ُ ُ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ه وََر ُ‬ ‫ما وَل ِي ّك ُ ُ‬
‫إ ِن ّ َ‬
‫َ‬
‫ب الل ّهِ هُ ُ‬
‫م‬ ‫حْز َ‬
‫ن ِ‬ ‫مُنوا فَإ ِ ّ‬
‫نآ َ‬ ‫ه َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫سول َ ُ‬ ‫ه وََر ُ‬‫ل الل ّ َ‬
‫ن ي َت َوَ ّ‬
‫م ْ‬ ‫ن )‪ (55‬وَ َ‬ ‫م َراك ُِعو َ‬ ‫وَهُ ْ‬
‫ن )‪(56‬‬ ‫ال َْغال ُِبو َ‬

‫ن‬
‫مو َ‬‫قي ُ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫ذي َ‬‫مُنوا ال ّ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫ه َوال ّ ِ‬ ‫سول ُ ُ‬‫ه وََر ُ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ما وَل ِي ّك ُ ُ‬ ‫} ‪ } { 56 ، 55‬إ ِن ّ َ‬
‫مُنوا‬
‫نآ َ‬ ‫ه َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫سول َ ُ‬ ‫ه وََر ُ‬‫ل الل ّ َ‬ ‫ن ي َت َوَ ّ‬‫م ْ‬ ‫ن * وَ َ‬ ‫م َراك ُِعو َ‬ ‫كاةَ وَهُ ْ‬ ‫ن الّز َ‬ ‫صلةَ وَي ُؤُْتو َ‬ ‫ال ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫م ال َْغال ُِبو َ‬ ‫ب الل ّهِ هُ ُ‬ ‫حْز َ‬ ‫ن ِ‬ ‫فَإ ِ ّ‬
‫لما نهى عن ولية الكفار من اليهود والنصارى وغيرهم‪ ،‬وذكر مآل توليهم‬
‫من يجب ويتعين توليه‪ ،‬وذكر فائدة ذلك‬ ‫أنه الخسران المبين‪ ،‬أخبر تعالى َ‬
‫ه { فولية الله تدرك باليمان‬ ‫ُ‬
‫سول ُ‬ ‫ه وََر ُ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ما وَل ِي ّك ُ ُ‬ ‫ومصلحته فقال‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫والتقوى‪ .‬فكل من كان مؤمنا تقيا كان لله وليا‪ ،‬ومن كان وليا لله فهو ولي‬
‫لرسوله‪ ،‬ومن تولى الله ورسوله كان تمام ذلك تولي من توله‪ ،‬وهم‬
‫المؤمنون الذين قاموا باليمان ظاهرا وباطنا‪ ،‬وأخلصوا للمعبود‪ ،‬بإقامتهم‬
‫الصلة بشروطها وفروضها ومكملتها‪ ،‬وأحسنوا للخلق‪ ،‬وبذلوا الزكاة من‬
‫أموالهم لمستحقيها منهم‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬خاضعون لله ذليلون‪ .‬فأداة الحصر في قوله‬ ‫م َراك ُِعو َ‬ ‫وقوله‪ } :‬وَهُ ْ‬
‫مُنوا { تدل على أنه يجب قصر الولية‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ه َوال ِ‬ ‫ُ‬
‫سول ُ‬ ‫ه وََر ُ‬ ‫ّ‬
‫م الل ُ‬‫ما وَل ِي ّك ُ ُ‬‫} إ ِن ّ َ‬
‫على المذكورين‪ ،‬والتبري من ولية غيرهم‪.‬‬
‫مُنوا‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه َوال ّ ِ‬ ‫سول َ ُ‬ ‫ه وََر ُ‬ ‫ل الل ّ َ‬ ‫من ي َت َوَ ّ‬ ‫ثم ذكر فائدة هذه الولية فقال‪ } :‬وَ َ‬
‫ن { أي‪ :‬فإنه من الحزب المضافين إلى الله‬ ‫م ال َْغال ُِبو َ‬ ‫ب الل ّهِ هُ ُ‬ ‫حْز َ‬ ‫ن ِ‬ ‫فَإ ِ ّ‬
‫إضافة عبودية وولية‪ ،‬وحزبه هم الغالبون الذين لهم العاقبة في الدنيا‬
‫ن{‪.‬‬ ‫م ال َْغال ُِبو َ‬ ‫جن ْد ََنا ل َهُ ُ‬ ‫ن ُ‬ ‫والخرة‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬وَإ ِ ّ‬
‫وهذه بشارة عظيمة‪ ،‬لمن قام بأمر الله وصار من حزبه وجنده‪ ،‬أن له‬
‫الغلبة‪ ،‬وإن أديل عليه في بعض الحيان لحكمة يريدها الله تعالى‪ ،‬فآخر‬
‫أمره الغلبة والنتصار‪ ،‬ومن أصدق من الله قيل‪.‬‬

‫) ‪(1/236‬‬
‫ن ُأوُتوا‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م َ‬‫م هُُزًوا وَل َعًِبا ِ‬ ‫ذوا ِدين َك ُ ْ‬ ‫خ ُ‬
‫ن ات ّ َ‬ ‫ذوا ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫خ ُ‬‫مُنوا َل ت َت ّ ِ‬ ‫نآ َ‬
‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫ن )‪(57‬‬ ‫مِني َ‬‫مؤْ ِ‬ ‫م ُ‬‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬‫ه إِ ْ‬ ‫قوا الل ّ َ‬‫فاَر أ َوْل َِياَء َوات ّ ُ‬
‫م َوال ْك ُ ّ‬‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬
‫م ْ‬
‫ب ِ‬ ‫ال ْك َِتا َ‬

‫م هُُزًوا وَل َعًِبا‬ ‫ذوا ِدين َك ُ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫} ‪َ } { 58 ، 57‬يا أ َي َّها‬


‫ن ات ّ َ‬ ‫ذي َ‬‫ذوا ال ّ ِ‬ ‫خ ُ‬
‫مُنوا ل ت َت ّ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫َ‬‫من ال ّذي ُ‬
‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ه إِ ْ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫ن أوُتوا ال ْك َِتا َ‬
‫فاَر أوْل َِياَء َوات ّ ُ‬
‫ب‬ ‫ِ َ‬‫م َوال ْك ُ ّ‬
‫ِ َ‬ ‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ُ‬
‫ينهى عباده المؤمنين عن اتخاذ أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن‬
‫سائر الكفار أولياء يحبونهم ويتولونهم‪ ،‬ويبدون لهم )‪ (1‬أسرار المؤمنين‪،‬‬
‫ويعاونونهم على بعض أمورهم التي تضر السلم والمسلمين‪ ،‬وأن ما‬
‫معهم من اليمان يوجب عليهم ترك موالتهم‪ ،‬ويحثهم على معاداتهم‪،‬‬
‫وكذلك التزامهم لتقوى الله التي هي امتثال أوامره واجتناب زواجره مما ]‬
‫ص ‪ [ 237‬تدعوهم إلى معاداتهم‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬ويبدون إليهم‪.‬‬

‫) ‪(1/236‬‬

‫ذوها هزوا ول َعبا ذ َل َ َ‬


‫ن )‪(58‬‬ ‫قُلو َ‬ ‫م َل ي َعْ ِ‬‫م قَوْ ٌ‬ ‫ك ب ِأن ّهُ ْ‬‫خ ُ َ ُ ُ ً َ ًِ ِ‬ ‫صَلةِ ات ّ َ‬
‫م إ َِلى ال ّ‬ ‫ذا َناد َي ْت ُ ْ‬ ‫وَإ ِ َ‬
‫ذوها هزوا ول َعبا ذ َل َ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫م ل ي َعْقُِلو َ‬ ‫م قَوْ ٌ‬‫ك ب ِأن ّهُ ْ‬ ‫خ ُ َ ُ ُ ً َ ِ ً ِ‬ ‫صلةِ ات ّ َ‬ ‫م إ َِلى ال ّ‬
‫ذا َناد َي ْت ُ ْ‬ ‫} وَإ ِ َ‬
‫وكذلك ما كان عليه المشركون والكفار المخالفون للمسلمين‪ ،‬من قدحهم‬
‫في دين المسلمين‪ ،‬واتخاذهم إياه هزوا ولعبا‪ ،‬واحتقاره واستصغاره‪،‬‬
‫ل عباداتهم‪ ،‬إنهم إذا‬ ‫خصوصا الصلة التي هي أظهر شعائر المسلمين‪ ،‬وأج ّ‬
‫نادوا إليها اتخذوها هزوا ولعبا‪ ،‬وذلك لعدم عقلهم ولجهلهم العظيم‪ ،‬وإل‬
‫فلو كان لهم عقول لخضعوا لها‪ ،‬ولعلموا أنها أكبر من جميع الفضائل التي‬
‫تتصف بها النفوس‪.‬‬
‫فإذا علمتم ‪-‬أيها المؤمنون‪ -‬حال الكفار وشدة معاداتهم لكم ولدينكم‪ ،‬فمن‬
‫لم يعادهم بعد هذا دل على أن السلم عنده رخيص‪ ،‬وأنه ل يبالي بمن‬
‫قدح فيه أو قدح بالكفر والضلل‪ ،‬وأنه ليس عنده من المروءة والنسانية‬
‫شيء‪.‬‬
‫فكيف تدعي لنفسك دينا قيما‪ ،‬وأنه الدين الحق وما سواه باطل‪ ،‬وترضى‬
‫بموالة من اتخذه هزوا ولعبا‪ ،‬وسخر به وبأهله‪ ،‬من أهل الجهل والحمق؟!‬
‫وهذا فيه من التهييج على عداوتهم ما هو معلوم لكل من له أدنى مفهوم‪.‬‬

‫) ‪(1/237‬‬

‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل‬ ‫ل إ ِل َي َْنا وَ َ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬ ‫مّنا ِبالل ّهِ وَ َ‬
‫مّنا إّل أ َ ْ َ‬
‫نآ َ‬ ‫ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ق ُ‬ ‫ل ت َن ْ ِ‬‫ب هَ ْ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ل َيا أ َهْ َ‬ ‫قُ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مُثوب َ ً‬
‫ة‬ ‫ن ذ َل ِك َ‬ ‫م ْ‬ ‫شّر ِ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ل أن َب ّئ ُك ْ‬‫ل هَ ْ‬ ‫ن )‪ (59‬قُ ْ‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫م َفا ِ‬ ‫ن أكث ََرك ْ‬ ‫ل وَأ ّ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫خَناِزيَر وَعَب َد َ‬ ‫ْ‬
‫قَرد َةَ َوال َ‬ ‫ْ‬
‫م ال ِ‬ ‫من ْهُ ُ‬‫ل ِ‬ ‫جع َ َ‬ ‫َ‬
‫ب عَلي ْهِ وَ َ‬ ‫ض َ‬‫ه وَغَ ِ‬ ‫ّ‬
‫ه الل ُ‬ ‫ن لعَن َ ُ‬‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫ّ‬
‫عن ْد َ اللهِ َ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ل )‪ (60‬وَإ ِ َ‬ ‫ض ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك َ‬ ‫َ‬
‫ت أولئ ِ َ‬‫ُ‬ ‫ّ‬
‫الطا ُ‬
‫جاُءوك ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫واِء ال ّ‬ ‫س َ‬‫ن َ‬ ‫ل عَ ْ‬ ‫مكاًنا وَأ َ‬ ‫شّر َ‬ ‫غو َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫مو َ‬ ‫كاُنوا ي َك ْت ُ ُ‬‫ما َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ه أعْل ُ‬ ‫جوا ب ِهِ َوالل ُ‬ ‫خَر ُ‬ ‫م قَد ْ َ‬ ‫فرِ وَهُ ْ‬ ‫خلوا ِبالك ُ ْ‬ ‫مّنا وَقَد ْ د َ َ‬ ‫َقاُلوا آ َ‬
‫َ‬
‫ت ل َب ِئ ْ َ‬
‫س‬ ‫ح َ‬ ‫س ْ‬‫م ال ّ‬ ‫ن ِفي اْل ِث ْم ِ َوال ْعُد َْوا ِ‬
‫ن وَأك ْل ِهِ ُ‬ ‫عو َ‬‫سارِ ُ‬ ‫م يُ َ‬ ‫)‪ (61‬وَت ََرى ك َِثيًرا ِ‬
‫من ْهُ ْ‬
‫َ‬
‫م اْل ِث ْ َ‬
‫م‬ ‫ن قَوْل ِهِ ُ‬ ‫ن َواْل ْ‬
‫حَباُر عَ ْ‬ ‫م الّرّبان ِّيو َ‬ ‫ن )‪ (62‬ل َوَْل ي َن َْهاهُ ُ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(63‬‬ ‫صن َُعو َ‬
‫ما كاُنوا ي َ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ت لب ِئ ْ َ‬‫ح َ‬ ‫س ْ‬‫م ال ّ‬ ‫وَأكل ِهِ ُ‬
‫َ‬ ‫ل َيا أ َهْ َ‬
‫ما‬ ‫مّنا ِبالل ّهِ وَ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫مّنا ِإل أ ْ‬ ‫ن ِ‬‫مو َ‬ ‫ق ُ‬‫ل ت َن ْ ِ‬ ‫ب هَ ْ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫} ‪ } { 63 - 59‬قُ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬ ‫أ ُن ْزِ َ‬
‫شّر‬ ‫م بِ َ‬ ‫ل أن َب ّئ ُك ُ ْ‬ ‫ل هَ ْ‬ ‫ن * قُ ْ‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬‫م َفا ِ‬ ‫ن أك ْث ََرك ُ ْ‬ ‫ل وَأ ّ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ل إ ِل َي َْنا وَ َ‬
‫قَرد َةَ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫من ْهُ ُ‬ ‫ل ِ‬ ‫جعَ َ‬ ‫ب عَل َي ْهِ وَ َ‬ ‫ض َ‬ ‫ه وَغَ ِ‬ ‫ه الل ّ ُ‬ ‫ن ل َعَن َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫عن ْد َ الل ّهِ َ‬ ‫ة ِ‬ ‫مُثوب َ ً‬ ‫ك َ‬ ‫ن ذ َل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ذا‬‫ل * وَإ ِ َ‬ ‫ض ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ت أولئ ِك َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫سِبي ِ‬ ‫واِء ال ّ‬ ‫س َ‬ ‫ن َ‬ ‫ل عَ ْ‬ ‫مكاًنا وَأ َ‬ ‫شّر َ‬ ‫خَناِزيَر وَعَب َد َ الطاغو َ‬ ‫َوال َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫م قَد ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫مّنا وَقَد ْ د َ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ما كاُنوا‬ ‫م بِ َ‬ ‫ه أعْل ُ‬ ‫جوا ب ِهِ َوالل ُ‬ ‫خَر ُ‬ ‫فرِ وَهُ ْ‬ ‫خلوا ِبالك ْ‬ ‫م َقالوا آ َ‬ ‫جاُءوك ْ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ت‬ ‫ح َ‬ ‫س ْ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ن وَأكل ِهِ ُ‬ ‫ن ِفي الث ْم ِ َوالعُد َْوا ِ‬ ‫عو َ‬ ‫سارِ ُ‬ ‫م يُ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ن * وَت ََرى كِثيًرا ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ي َكت ُ ُ‬
‫م‬ ‫م الث ْ َ‬ ‫ن قَوْل ِهِ ُ‬ ‫حَباُر عَ ْ‬ ‫ن َوال ْ‬ ‫م الّرّبان ِّيو َ‬ ‫ول ي َن َْهاهُ ُ‬ ‫ن*ل ْ‬ ‫َ‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫َ‬ ‫س َ‬ ‫ل َب ِئ ْ َ‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫صن َُعو َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫ت ل َب ِئ ْ َ‬ ‫ح َ‬ ‫س ْ‬ ‫م ال ّ‬ ‫وَأك ْل ِهِ ُ‬
‫ب { ملزما لهم‪ ،‬إن دين السلم‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ل { يا أيها الرسول } َيا أ َهْ َ‬ ‫أي‪ } :‬قُ ْ‬
‫ل‬‫هو الدين الحق‪ ،‬وإن قدحهم فيه قدح بأمر ينبغي المدح عليه‪ } :‬هَ ْ‬
‫ل وأ َ َ‬ ‫ما ُأنز َ‬ ‫ما ُأنز َ‬ ‫َ‬
‫ن أك ْث ََرك ُ ْ‬
‫م‬ ‫من قَب ْ ُ َ ّ‬ ‫ل ِ‬ ‫ل إ ِل َي َْنا وَ َ‬ ‫مّنا ِبالل ّهِ وَ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫مّنا ِإل أ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ق ُ‬ ‫َتن ِ‬
‫ن { أي‪ :‬هل لنا عندكم من العيب إل إيماننا بالله‪ ،‬وبكتبه السابقة‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫َفا ِ‬
‫واللحقة‪ ،‬وبأنبيائه المتقدمين والمتأخرين‪ ،‬وبأننا نجزم أن من لم يؤمن‬
‫كهذا اليمان فإنه كافر فاسق؟‬
‫فهل تنقمون منا بهذا الذي هو أوجب الواجبات على جميع المكلفين؟"‬
‫ومع هذا فأكثركم فاسقون‪ ،‬أي‪ :‬خارجون عن طاعة الله‪ ،‬متجرئون على‬
‫معاصيه‪ ،‬فأولى لكم ‪-‬أيها الفاسقون‪ -‬السكوت‪ ،‬فلو كان عيبكم وأنتم‬
‫سالمون من الفسق‪ ،‬وهيهات ذلك ‪ -‬لكان الشر أخف من قدحكم فينا مع‬
‫فسقكم‪.‬‬
‫ولما كان قدحهم في المؤمنين يقتضي أنهم يعتقدون أنهم على شر‪ ،‬قال‬
‫من‬‫شّر ِ‬ ‫كم ب ِ َ‬ ‫ل أ ُن َب ّئ ُ ُ‬ ‫ل { لهم مخبرا عن شناعة ما كانوا عليه‪ } :‬هَ ْ‬ ‫تعالى‪ } :‬قُ ْ‬
‫ه { أي‪:‬‬ ‫ّ‬
‫ه الل ُ‬ ‫من لعَن َ ُ‬ ‫ّ‬ ‫ك { الذي نقمتم فيه علينا‪ ،‬مع التنزل معكم‪َ } .‬‬ ‫ذ َل ِ َ‬
‫ل‬ ‫جع َ َ‬ ‫ب عَلي ْهِ { وعاقبه في الدنيا والخرة } وَ َ‬ ‫َ‬ ‫ض َ‬ ‫أبعده عن رحمته } وَغَ ِ‬
‫ت { وهو الشيطان‪ ،‬وكل ما عبد من‬ ‫غو َ‬ ‫ّ‬
‫خَناِزيَر وَعَب َد َ الطا ُ‬ ‫قَرد َةَ َوال ْ َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫من ْهُ ُ‬ ‫ِ‬
‫شّر‬‫ك { المذكورون بهذه الخصال القبيحة } َ‬ ‫ُ‬
‫دون الله فهو طاغوت‪ } .‬أول َئ ِ َ‬
‫كاًنا { من المؤمنين الذين رحمة الله قريب منهم‪ ،‬ورضي الله عنهم‬ ‫م َ‬ ‫ّ‬
‫وأثابهم في الدنيا والخرة‪ ،‬لنهم أخلصوا له الدين‪.‬‬
‫وهذا النوع من باب استعمال أفعل التفضيل في غير بابه وكذلك قوله‪:‬‬
‫ل { أي‪ :‬وأبعد عن قصد السبيل‪.‬‬ ‫ض ّ‬ ‫َ‬
‫سِبي ِ‬ ‫واِء ال ّ‬ ‫س َ‬ ‫عن َ‬ ‫ل َ‬ ‫} وَأ َ‬
‫خُلوا { مشتملين‬ ‫مّنا { نفاقا ومكرا } و { هم } قد د ّ َ‬ ‫م َقاُلوا آ َ‬ ‫جاُءوك ُ ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫} وَإ ِ َ‬
‫جوا ب ِهِ { فمدخلهم ومخرجهم بالكفر ‪-‬وهم‬ ‫خَر ُ‬ ‫م قَد ْ َ‬ ‫على الكفر } وَهُ ْ‬
‫يزعمون أنهم مؤمنون‪ ،‬فهل أشر من هؤلء وأقبح حال منهم؟‬
‫} والل ّ َ‬
‫ن { فيجازيهم بأعمالهم خيرها وشرها‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫كاُنوا ي َك ْت ُ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ه أعْل َ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫ثم استمر تعالى يعدد معايبهم‪ ،‬انتصارا لقدحهم في عباده المؤمنين‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ن{‬ ‫ن ِفي الث ْم ِ َوال ْعُد َْوا ِ‬ ‫عو َ‬ ‫سارِ ُ‬ ‫م { أي‪ :‬من اليهود } ي ُ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫} وَت ََرى ك َِثيًرا ّ‬
‫أي‪ :‬يحرصون‪ ،‬ويبادرون المعاصي المتعلقة في حق الخالق والعدوان على‬
‫المخلوقين‪.‬‬
‫َ‬
‫ت { الذي هو الحرام‪ .‬فلم يكتف بمجرد الخبار أنهم‬ ‫ح َ‬ ‫س ْ‬ ‫م ال ّ‬ ‫} وَأك ْل ِهِ ُ‬
‫يفعلون ذلك‪ ،‬حتى أخبر أنهم يسارعون فيه‪ ،‬وهذا يدل على خبثهم‬
‫وشرهم‪ ،‬وأن أنفسهم مجبولة على حب المعاصي والظلم‪ .‬هذا وهم‬
‫ن { وهذا في‬‫مُلو َ‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫يدعون لنفسهم المقامات العالية‪ } .‬ل َب ِئ ْ َ‬
‫س َ‬
‫غاية الذم لهم والقدح فيهم‪.‬‬

‫) ‪(1/237‬‬

‫ما َقاُلوا ب َ ْ‬ ‫َ‬


‫داهُ‬ ‫ل يَ َ‬ ‫م وَل ُعُِنوا ب ِ َ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ت أي ْ ِ‬ ‫ة غُل ّ ْ‬ ‫مغُْلول َ ٌ‬ ‫ت ال ْي َُهود ُ ي َد ُ الل ّهِ َ‬ ‫وََقال َ ِ‬
‫ك‬‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫ل إ ِل َي ْ َ‬‫ما أ ُن ْزِ َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ن ك َِثيًرا ِ‬ ‫زيد َ ّ‬ ‫ِ‬ ‫شاُء وَل َي َ‬ ‫ف يَ َ‬ ‫فقُ ك َي ْ َ‬ ‫سوط ََتا ِ‬
‫ن ي ُن ْ ِ‬ ‫مب ْ ُ‬ ‫َ‬
‫دوا‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫و‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ة‬ ‫م‬ ‫يا‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫ضا‬ ‫ْ‬ ‫غ‬ ‫ب‬‫ْ‬ ‫ل‬‫وا‬ ‫َ‬ ‫ة‬ ‫و‬ ‫دا‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫ي‬‫ب‬ ‫نا‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬ ‫را‬ ‫ْ‬ ‫ف‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫نا‬ ‫يا‬ ‫ْ‬ ‫غ‬ ‫ُ‬ ‫ط‬
‫َ ْ ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ‬ ‫َ ْ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ ً َ ْ َْ ُ ُ َ َ َ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ب‬ ‫ح‬ ‫ي‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫وال‬ ‫دا‬ ‫سا‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ض‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ا‬ ‫في‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ع‬‫س‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ها‬ ‫فأ َ‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ط‬ ‫نارا ل ِل ْحرب أ َ‬
‫ُ ّ‬ ‫ِ‬ ‫َ ً َ ُ‬ ‫ْ ِ‬ ‫ُ ََ ْ َ ْ َ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ ْ ِ‬ ‫َ ً‬
‫ن )‪(64‬‬ ‫ال ْ ُ ِ ِ َ‬
‫دي‬ ‫س‬ ‫ْ‬ ‫ف‬ ‫م‬
‫َ‬
‫ت { أي‪ :‬هل‬ ‫ح َ‬ ‫س ْ‬ ‫م ال ّ‬ ‫م وَأك ْل ِهِ ُ‬ ‫م الث ْ َ‬ ‫عن قَوْل ِهِ ُ‬ ‫حَباُر َ‬ ‫ن َوال ْ‬ ‫م الّرّبان ِّيو َ‬ ‫ول ي َن َْهاهُ ُ‬ ‫} لَ ْ‬
‫ينهاهم العلماء المتصدون لنفع الناس‪ ،‬الذين من الله عليهم بالعلم‬
‫والحكمة ‪-‬عن المعاصي التي تصدر منهم‪ ،‬ليزول ما عندهم من الجهل‪،‬‬
‫وتقوم حجة الله عليهم‪ ،‬فإن العلماء عليهم أمر الناس ونهيهم‪ ،‬وأن يبينوا‬
‫لهم الطريق الشرعي‪ ،‬ويرغبونهم في الخير ويرهبونهم من الشر } ل َب ِئ ْ َ‬
‫س‬
‫ن{‪.‬‬ ‫صن َُعو َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫] ص ‪[ 238‬‬
‫ما َقاُلوا‬ ‫َ‬
‫م وَل ُعُِنوا ب ِ َ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ت أي ْ ِ‬ ‫ة غُل ّ ْ‬ ‫مغُْلول َ ٌ‬ ‫ت ال ْي َُهود ُ ي َد ُ الل ّهِ َ‬ ‫} ‪ } { 66 - 64‬وََقال َ ِ‬
‫ل إ ِل َي ْ َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫ما أن ْزِ َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ن ك َِثيًرا ِ‬ ‫زيد َ ّ‬ ‫شاُء وَل َي َ ِ‬ ‫ف يَ َ‬ ‫فقُ ك َي ْ َ‬ ‫ن ي ُن ْ ِ‬
‫َ‬
‫سوط ََتا ِ‬ ‫مب ْ ُ‬‫داهُ َ‬ ‫ل يَ َ‬ ‫بَ ْ‬
‫مةِ ك ُل ّ َ‬
‫ما‬ ‫قَيا َ‬ ‫ضاَء إ َِلى ي َوْم ِ ال ْ ِ‬ ‫داوَةَ َوال ْب َغْ َ‬ ‫م ال ْعَ َ‬ ‫قي َْنا ب َي ْن َهُ ُ‬ ‫فًرا وَأل ْ َ‬ ‫ك ط ُغَْياًنا وَك ُ ْ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب‬‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫دا َوالل ّ ُ‬ ‫سا ً‬ ‫ض فَ َ‬ ‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫سعَوْ َ‬ ‫ه وَي َ ْ‬ ‫ها الل ّ ُ‬ ‫فأ َ‬ ‫ب أط ْ َ‬ ‫حْر ِ‬ ‫دوا َناًرا ل ِل ْ َ‬ ‫أوْقَ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دي َ‬ ‫س ِ‬‫ف ِ‬ ‫م ْ‬‫ال ْ ُ‬
‫ت‬ ‫يخبر تعالى عن مقالة اليهود الشنيعة‪ ،‬وعقيدتهم الفظيعة‪ ،‬فقال‪ } :‬وََقال َ ِ‬
‫ة { أي‪ :‬عن الخير والحسان والبر‪.‬‬ ‫مغُْلول َ ٌ‬ ‫ال ْي َُهود ُ ي َد ُ الل ّهِ َ‬
‫ما َقاُلوا { وهذا دعاء عليهم بجنس مقالتهم‪ .‬فإن‬ ‫َ‬
‫م وَل ُعُِنوا ب ِ َ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ت أي ْ ِ‬ ‫} غُل ّ ْ‬
‫كلمهم متضمن لوصف الله الكريم‪ ،‬بالبخل وعدم الحسان‪ .‬فجازاهم بأن‬
‫كان هذا الوصف منطبقا عليهم‪.‬‬
‫فكانوا أبخل الناس وأقلهم إحسانا‪ ،‬وأسوأهم ظنا بالله‪ ،‬وأبعدهم الله عن‬
‫رحمته التي وسعت كل شيء‪ ،‬وملت أقطار العالم العلوي والسفلي‪.‬‬
‫شاُء { ل حجر عليه‪ ،‬ول مانع‬ ‫ف يَ َ‬ ‫فقُ ك َي ْ َ‬ ‫ن ي ُن ْ ِ‬ ‫سوط ََتا ِ‬ ‫مب ْ ُ‬ ‫داهُ َ‬ ‫ل يَ َ‬‫ولهذا قال‪ } :‬ب َ ْ‬
‫يمنعه مما أراد‪ ،‬فإنه تعالى قد بسط فضله وإحسانه الديني والدنيوي‪ ،‬وأمر‬
‫العباد أن يتعرضوا لنفحات جوده‪ ،‬وأن ل يسدوا على أنفسهم أبواب‬
‫إحسانه بمعاصيهم‪.‬‬
‫فيداه )‪ (1‬سحاء الليل والنهار‪ ،‬وخيره في جميع الوقات مدرارا‪ ،‬يفرج‬
‫كربا‪ ،‬ويزيل غما‪ ،‬ويغني فقيرا‪ ،‬ويفك أسيرا ويجبر كسيرا‪ ،‬ويجيب سائل‬
‫ويعطي فقيرا عائل ويجيب المضطرين‪ ،‬ويستجيب للسائلين‪ .‬وينعم على‬
‫من لم يسأله‪ ،‬ويعافي من طلب العافية‪ ،‬ول يحرم من خيره عاصيا‪ ،‬بل‬
‫خيره يرتع فيه البر والفاجر‪ ،‬ويجود على أوليائه بالتوفيق لصالح العمال ثم‬
‫يحمدهم عليها‪ ،‬ويضيفها إليهم‪ ،‬وهي من جوده ويثيبهم عليها من الثواب‬
‫العاجل والجل ما ل يدركه الوصف‪ ،‬ول يخطر على بال العبد‪ ،‬ويلطف بهم‬
‫في جميع أمورهم‪ ،‬ويوصل إليهم من الحسان‪ ،‬ويدفع عنهم من النقم ما ل‬
‫يشعرون بكثير منه‪ ،‬فسبحان من كل النعم التي بالعباد فمنه‪ ،‬وإليه‬
‫يجأرون في دفع المكاره‪ ،‬وتبارك من ل يحصي أحد ثناء عليه‪ ،‬بل هو كما‬
‫أثنى على نفسه‪ ،‬وتعالى من ل يخلو العباد من كرمه طرفة عين‪ ،‬بل ل‬
‫وجود لهم ول بقاء إل بجوده‪.‬‬
‫وقّبح الله من استغنى بجهله عن ربه‪ ،‬ونسبه إلى ما ل يليق بجلله‪ ،‬بل لو‬
‫عامل الله اليهود القائلين تلك المقالة‪ ،‬ونحوهم ممن حاله كحالهم ببعض‬
‫قولهم‪ ،‬لهلكوا‪ ،‬وشقوا في دنياهم‪ ،‬ولكنهم يقولون تلك القوال‪ ،‬وهو‬
‫تعالى‪ ،‬يحلم عنهم‪ ،‬ويصفح‪ ،‬ويمهلهم ول يهملهم‪.‬‬
‫فًرا { وهذا‬ ‫ك ط ُغَْياًنا وَك ُ ْ‬ ‫من ّرب ّ َ‬ ‫ك ِ‬‫ل إ ِل َي ْ َ‬ ‫ما ُأنز َ‬ ‫من ُْهم ّ‬ ‫ن ك َِثيًرا ّ‬ ‫وقوله } وَل َي َ ِ‬
‫زيد َ ّ‬
‫أعظم العقوبات على العبد‪ (2) ،‬أن يكون الذكر الذي أنزله الله على‬
‫رسوله‪ ،‬الذي فيه حياة القلب والروح‪ ،‬وسعادة الدنيا والخرة‪ ،‬وفلح‬
‫الدارين‪ ،‬الذي هو أكبر منة امتن الله بها على عباده‪ ،‬توجب عليهم المبادرة‬
‫إلى قبولها‪ ،‬والستسلم لله بها‪ ،‬وشكرا لله عليها‪ ،‬أن تكون لمثل هذا زيادة‬
‫غي إلى غيه‪ ،‬وطغيان إلى طغيانه‪ ،‬وكفر إلى كفره‪ ،‬وذلك بسبب إعراضه‬
‫قي َْنا‬‫عنها‪ ،‬ورده لها‪ ،‬ومعاندته إياها‪ ،‬ومعارضته لها بالشبه الباطلة‪ } .‬وَأ َل ْ َ‬
‫مةِ { فل يتآلفون‪ ،‬ول يتناصرون‪ ،‬ول‬ ‫قَيا َ‬‫ضاَء إ َِلى ي َوْم ِ ال ْ ِ‬
‫داوَةَ َوال ْب َغْ َ‬ ‫م ال ْعَ َ‬
‫ب َي ْن َهُ ُ‬
‫يتفقون على حالة فيها مصلحتهم‪ ،‬بل لم يزالوا متباغضين في قلوبهم‪،‬‬
‫َ‬
‫ب { ليكيدوا بها‬ ‫ِ‬ ‫حْر‬‫دوا َناًرا ل ِل ْ َ‬ ‫ما أوْقَ ُ‬‫متعادين بأفعالهم‪ ،‬إلى يوم القيامة } ك ُل ّ َ‬
‫السلم وأهله‪ ،‬وأبدوا وأعادوا‪ ،‬وأجلبوا بخيلهم ورجلهم } أ َط ْ َ َ‬
‫ه{‬ ‫ها الل ّ ُ‬ ‫فأ َ‬
‫بخذلنهم وتفرق جنودهم‪ ،‬وانتصار المسلمين عليهم‪.‬‬
‫دا { أي‪ :‬يجتهدون ويجدون‪ ،‬ولكن بالفساد في‬ ‫سا ً‬‫ض فَ َ‬‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫سعَوْ َ‬ ‫} وَي َ ْ‬
‫الرض‪ ،‬بعمل المعاصي‪ ،‬والدعوة إلى دينهم الباطل‪ ،‬والتعويق عن الدخول‬
‫ن { بل يبغضهم أشد البغض‪،‬‬ ‫دي َ‬ ‫س ِ‬‫ف ِ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ح ّ‬‫ه ل يُ ِ‬‫في السلم‪َ } .‬والل ّ ُ‬
‫وسيجازيهم على ذلك‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬فيده ‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬وهذا أعظم من العقوبات على العبد‪.‬‬

‫) ‪(1/237‬‬

‫ت‬
‫جّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫خل َْناهُ ْ‬‫م وََل َد ْ َ‬ ‫سي َّئات ِهِ ْ‬‫م َ‬ ‫فْرَنا عَن ْهُ ْ‬ ‫وا ل َك َ ّ‬
‫ق ْ‬ ‫مُنوا َوات ّ َ‬ ‫َ‬
‫بآ َ‬ ‫ن أ َهْ َ‬
‫ل ال ْك َِتا ِ‬
‫َ‬
‫وَل َوْ أ ّ‬
‫م‬
‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل إ ِل َي ْهِ ْ‬ ‫ل وَ َ‬‫جي َ‬ ‫موا الت ّوَْراةَ َواْل ِن ْ ِ‬
‫النِعيم )‪ (65‬ول َو أ َنه َ‬
‫م أَقا ُ‬ ‫َ ْ ُّ ْ‬ ‫َّ ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫ساءَ َ‬‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫َ‬
‫صد َةٌ وَكِثيٌر ِ‬ ‫قت َ ِ‬‫م ْ‬ ‫ة ُ‬‫م ٌ‬‫مأ ّ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫جل ِهِ ْ‬ ‫ت أْر ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن تَ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ن فَوْقِهِ ْ‬
‫م وَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫َلك َُلوا ِ‬
‫ن )‪(66‬‬ ‫مُلو َ‬
‫ي َعْ َ‬
‫ت‬
‫جّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫خل َْناهُ ْ‬‫م َولد ْ َ‬ ‫سي َّئات ِهِ ْ‬ ‫م َ‬ ‫فْرَنا عَن ْهُ ْ‬ ‫وا ل َك َ ّ‬ ‫ق ْ‬
‫مُنوا َوات ّ َ‬ ‫بآ َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬‫ن أ َهْ َ‬ ‫َ‬
‫} وَل َوْ أ ّ‬
‫م لك َُلوا‬ ‫ن َرب ّهِ ْ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل إ ِل َي ْهِ ْ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫جي َ‬ ‫موا الت ّوَْراةَ َوالن ْ ِ‬
‫النِعيم * ول َو أ َنه َ‬
‫م أَقا ُ‬ ‫ّ ِ َ ْ ُّ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫ساَء َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫صد َةٌ وَكِثيٌر ِ‬ ‫قت َ ِ‬
‫م ْ‬
‫ة ُ‬ ‫م ٌ‬
‫مأ ّ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫م ِ‬ ‫جل ِهِ ْ‬‫ت أْر ُ‬ ‫ح ِ‬‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬‫م وَ ِ‬ ‫ن فَوْقِهِ ْ‬ ‫م ْ‬‫ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ملو َ‬ ‫ي َعْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سي َّئات ِهِ ْ‬
‫م‬ ‫م َ‬ ‫فْرَنا عَن ْهُ ْ‬ ‫وا لك ّ‬ ‫ق ْ‬
‫مُنوا َوات ّ َ‬ ‫بآ َ‬ ‫ل الك َِتا ِ‬ ‫ن أه ْ َ‬ ‫]ثم قال تعالى[‪ } :‬وَلوْ أ ّ‬
‫ت الن ِّعيم ِ { وهذا من كرمه وجوده‪ ،‬حيث ذكر قبائح أهل‬ ‫جّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫خل َْناهُ ْ‬ ‫َولد ْ َ‬
‫الكتاب ومعايبهم وأقوالهم الباطلة‪ ،‬دعاهم إلى التوبة‪ ،‬وأنهم لو آمنوا بالله‬
‫وملئكته‪ ،‬وجميع كتبه‪ ،‬وجميع رسله‪ ،‬واتقوا المعاصي‪ ،‬لكفر عنهم سيئاتهم‬
‫ولو كانت ما كانت‪ ،‬ولدخلهم جنات النعيم التي فيها ما تشتهيه النفس‬
‫وتلذ العين‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م { أي‪ :‬قاموا‬ ‫من ّرب ّهِ ْ‬ ‫م ِ‬‫ل إ ِلي ْهِ ْ‬ ‫ما أنز َ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫جي َ‬
‫موا الت ّوَْراةَ َوالن ِ‬ ‫م أَقا ُ‬‫} وَل َوْ أن ّهُ ْ‬
‫بأوامرهما ونواهيهما‪ ،‬كما ندبهم الله وحثهم‪.‬‬
‫ومن إقامتهما اليمان بما دعيا إليه‪ ،‬من اليمان بمحمد صلى الله عليه‬
‫وسلم وبالقرآن‪ ،‬فلو قاموا بهذه النعمة العظيمة التي أنزلها ربهم إليهم‪،‬‬
‫َ‬
‫م { أي‪:‬‬ ‫جل ِهِ ْ‬‫ت أْر ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫من ت َ ْ‬ ‫م وَ ِ‬ ‫من فَوْقِهِ ْ‬ ‫أي‪ :‬لجلهم وللعتناء بهم } لك َُلوا ِ‬
‫لدر الله عليهم ] ص ‪ [ 239‬الرزق‪ ،‬ولمطر عليهم السماء‪ ،‬وأنبت لهم‬
‫حَنا عَل َي ِْهم‬‫فت َ ْ‬‫وا ل َ َ‬ ‫ق ْ‬
‫مُنوا َوات ّ َ‬ ‫قَرى آ َ‬ ‫ل ال ْ ُ‬‫ن أ َهْ َ‬ ‫َ‬
‫الرض كما قال تعالى‪ } :‬وَل َوْ أ ّ‬
‫ض{‪.‬‬ ‫ب ََر َ‬
‫ُ‬ ‫ماِء َوالْر ِ‬ ‫س َ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬
‫ت ّ‬ ‫كا ٍ‬
‫صد َة ٌ { أي‪ :‬عاملة بالتوراة‬ ‫قت َ ِ‬ ‫م ْ‬‫ة ّ‬‫م ٌ‬‫م { أي‪ :‬من أهل الكتاب } أ ّ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫} ِ‬
‫ن { أي‪:‬‬ ‫ُ‬
‫ملو َ‬ ‫ما ي َعْ َ‬ ‫ساَء َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫َ‬
‫والنجيل‪ ،‬عمل غير قوي ول نشيط‪ } ،‬وَكِثيٌر ِ‬
‫والمسيء منهم الكثير‪ .‬وأما السابقون منهم فقليل ما هم‪.‬‬

‫) ‪(1/238‬‬

‫سال َت َ ُ‬
‫ه‬ ‫ما ب َل ّغْ َ‬
‫ت رِ َ‬ ‫ل فَ َ‬
‫فع َ ْ‬
‫م تَ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬‫ك وَإ ِ ْ‬‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫ل إ ِل َي ْ َ‬‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل ب َل ّغْ َ‬‫سو ُ‬ ‫َ‬
‫َيا أي َّها الّر ُ‬
‫ن )‪(67‬‬ ‫ري َ‬
‫كافِ ِ‬‫م ال ْ َ‬‫قوْ َ‬‫دي ال ْ َ‬ ‫ه َل ي َهْ ِ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫س إِ ّ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫م َ‬‫ص ُ‬ ‫َوالل ّ ُ‬
‫ه ي َعْ ِ‬

‫ل فَ َ‬
‫ما‬ ‫فع َ ْ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫ك وَإ ِ ْ‬‫ن َرب ّ َ‬
‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫ل إ ِل َي ْ َ‬‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل ب َل ّغْ َ‬
‫سو ُ‬ ‫َ‬
‫} ‪َ } { 67‬يا أي َّها الّر ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬‫كافِ ِ‬‫م ال ْ َ‬ ‫قوْ َ‬ ‫دي ال ْ َ‬ ‫ه ل ي َهْ ِ‬‫ن الل ّ َ‬
‫س إِ ّ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬
‫ك ِ‬ ‫م َ‬‫ص ُ‬
‫ه ي َعْ ِ‬‫ه َوالل ّ ُ‬ ‫سال َت َ ُ‬‫ت رِ َ‬ ‫ب َل ّغْ َ‬
‫هذا أمر من الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأعظم الوامر‬
‫وأجلها‪ ،‬وهو التبليغ لما أنزل الله إليه‪ ،‬ويدخل في هذا كل أمر تلقته المة‬
‫عنه صلى الله عليه وسلم من العقائد والعمال والقوال‪ ،‬والحكام‬
‫الشرعية والمطالب اللهية‪ .‬فبلغ صلى الله عليه وسلم أكمل تبليغ‪ ،‬ودعا‬
‫وأنذر‪ ،‬وبشر ويسر‪ ،‬وعلم الجهال الميين حتى صاروا من العلماء‬
‫الربانيين‪ ،‬وبلغ بقوله وفعله وكتبه ورسله‪ .‬فلم يبق خير إل دل أمته عليه‪،‬‬
‫ول شر إل حذرها عنه‪ ،‬وشهد له بالتبليغ أفاضل المة من الصحابة‪ ،‬فمن‬
‫بعدهم من أئمة الدين ورجال المسلمين‪.‬‬
‫ت‬ ‫ما ب َل ّغْ َ‬ ‫ل { أي‪ :‬لم تبلغ ما أنزل إليك من ربك } فَ َ‬ ‫فعَ ْ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫} وَِإن ل ّ ْ‬
‫ه { أي‪ :‬فما امتثلت أمره‪.‬‬ ‫سال َت َ ُ‬
‫رِ َ‬
‫س { هذه حماية وعصمة من الله لرسوله من‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫م َ‬ ‫ص ُ‬ ‫ه ي َعْ ِ‬ ‫} َوالل ّ ُ‬
‫الناس‪ ،‬وأنه ينبغي أن يكون حرصك على التعليم والتبليغ‪ ،‬ول يثنيك عنه‬
‫خوف من المخلوقين فإن نواصيهم بيد الله وقد تكفل بعصمتك‪ ،‬فأنت إنما‬
‫عليك البلغ المبين‪ ،‬فمن اهتدى فلنفسه‪ ،‬وأما الكافرون الذين ل قصد لهم‬
‫إل اتباع أهوائهم فإن الله ل يهديهم ول يوفقهم للخير‪ ،‬بسبب كفرهم‪.‬‬

‫) ‪(1/239‬‬
‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ل‬ ‫جي َ‬
‫ل وَ َ‬ ‫موا الت ّوَْراةَ َواْل ِن ْ ِ‬ ‫قي ُ‬‫حّتى ت ُ ِ‬
‫َ‬ ‫يءٍ‬ ‫ش ْ‬ ‫م عََلى َ‬ ‫ست ُ ْ‬ ‫ب لَ ْ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ل َيا أ َهْ َ‬ ‫قُ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫فًرا‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن َرب ّك طغَْياًنا وَك ْ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ل إ ِلي ْك ِ‬ ‫ما أن ْزِ َ‬ ‫َ‬ ‫م‬‫من ْهُ ْ‬ ‫ن كِثيًرا ِ‬ ‫َ‬ ‫زيد َ ّ‬ ‫م وَلي َ ِ‬ ‫ُ‬
‫ن َرب ّك ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫إ ِل َي ْك ْ‬
‫ُ‬
‫قوْم ِ ال ْ َ‬ ‫س عََلى ال ْ َ‬ ‫ْ‬
‫ن )‪(68‬‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫فََل ت َأ َ‬

‫موا الت ّوَْراةَ‬ ‫قي ُ‬ ‫حّتى ت ُ ِ‬ ‫يٍء َ‬ ‫ش ْ‬ ‫م عََلى َ‬ ‫ست ُ ْ‬ ‫ب لَ ْ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ل َيا أ َهْ َ‬ ‫} ‪ } { 68‬قُ ْ‬
‫ل إ ِل َي ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ك ِ‬ ‫ما أن ْزِ َ‬
‫م َ‬ ‫ن ك َِثيًرا ِ‬
‫من ْهُ ْ‬ ‫زيد َ ّ‬ ‫م وَل َي َ ِ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬‫ل إ ِل َي ْك ُ ْ‬
‫ْ‬
‫ما أن ْزِ َ‬ ‫ل وَ َ‬ ‫جي َ‬ ‫َوالن ْ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫قوْم ِ الكافِ ِ‬ ‫ْ‬
‫س عَلى ال َ‬ ‫َ‬ ‫فًرا فل ت َأ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ك طغَْياًنا وَك ْ‬ ‫ُ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫م عََلى‬ ‫ست ُ ْ‬ ‫أي‪ :‬قل لهل الكتاب‪ ،‬مناديا على ضللهم‪ ،‬ومعلنا بباطلهم‪ } :‬ل َ ْ‬
‫يٍء { من المور الدينية‪ ،‬فإنكم ل بالقرآن ومحمد آمنتم‪ ،‬ول بنبيكم‬ ‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫موا‬‫قي ُ‬‫حّتى ت ُ ِ‬ ‫وكتابكم صدقتم‪ ،‬ول بحق تمسكتم‪ ،‬ول على أصل اعتمدتم } َ‬
‫ل { أي‪ :‬تجعلوهما قائمين باليمان بهما واتباعهما‪ ،‬والتمسك‬ ‫جي َ‬ ‫الت ّوَْراةَ َوالن ِ‬
‫بكل ما يدعوان إليه‪.‬‬
‫م { الذي رباكم‪ ،‬وأنعم عليكم‪،‬‬ ‫من َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫َ‬
‫ل إ ِلي ْك ُ ْ‬ ‫} و { تقيموا } ما ُأنز َ‬
‫ل الكتب إليكم‪ .‬فالواجب عليكم‪ ،‬أن تقوموا بشكر‬ ‫ل إنعامه إنزا َ‬ ‫وجعل أج ّ‬
‫الله‪ ،‬وتلتزموا أحكام الله‪ ،‬وتقوموا بما حملتم من أمانة الله وعهده‪.‬‬
‫س عََلى‬ ‫ْ‬ ‫ك ط ُغَْياًنا وَك ُ ْ‬ ‫ل إ ِل َي ْ َ‬ ‫ما ُأنز َ‬
‫فًرا َفل ت َأ َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫م ّ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ن ك َِثيًرا ّ‬ ‫زيد َ ّ‬ ‫} وَل َي َ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫قوْم ِ ال ْ َ‬ ‫ال ْ َ‬

‫) ‪(1/239‬‬

‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫والن ّصارى م َ‬ ‫مُنوا َوال ّ ِ‬ ‫ذي َ‬


‫ن ِباللهِ َوالي َوْم ِ‬
‫م َ‬‫نآ َ‬‫َ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫صاب ُِئو َ‬
‫ن‬ ‫دوا َوال ّ‬ ‫ها ُ‬
‫ن َ‬
‫ذي َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ن ال ّ ِ َ‬ ‫إِ ّ‬
‫ن )‪(69‬‬ ‫حَزُنو َ‬‫م يَ ْ‬
‫هُ ْ‬ ‫م وََل‬
‫ف عَل َي ْهِ ْ‬
‫خوْ ٌ‬‫حا فََل َ‬ ‫صال ِ ً‬
‫ل َ‬‫م َ‬ ‫خرِ وَعَ ِ‬ ‫اْل َ ِ‬

‫ن ِبالل ّهِ‬
‫م َ‬
‫نآ َ‬
‫م ْ‬
‫صاَرى َ‬
‫ن َوالن ّ َ‬‫صاب ُِئو َ‬
‫دوا َوال ّ‬ ‫ها ُ‬‫ن َ‬
‫ذي َ‬‫مُنوا َوال ّ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫} ‪ } { 69‬إ ِ ّ‬
‫ن{‪.‬‬‫حَزُنو َ‬‫م يَ ْ‬‫م َول هُ ْ‬ ‫َ‬
‫ف عَلي ْهِ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬‫حا َفل َ‬ ‫صال ِ ً‬‫ل َ‬‫م َ‬‫خرِ وَعَ ِ‬ ‫َوال ْي َوْم ِ ال ِ‬
‫يخبر تعالى عن أهل الكتب )‪ (1‬من أهل القرآن والتوراة والنجيل‪ ،‬أن‬
‫سعادتهم ونجاتهم في طريق واحد‪ ،‬وأصل واحد‪ ،‬وهو اليمان بالله واليوم‬
‫الخر ]والعمل الصالح[ )‪ (2‬فمن آمن منهم بالله واليوم الخر‪ ،‬فله النجاة‪،‬‬
‫ول خوف عليهم فيما يستقبلونه من المور المخوفة‪ ،‬ول هم يحزنون على‬
‫ما خلفوا منها‪ .‬وهذا الحكم المذكور يشمل سائر الزمنة‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬الكتاب‪.‬‬
‫)‪ (2‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫) ‪(1/239‬‬

‫ما َل‬ ‫خذ ْنا ميَثاقَ بِني إسراِئي َ َ‬ ‫لَ َ َ‬


‫سو ٌ‬
‫ل بِ َ‬ ‫م َر ُ‬
‫جاَءهُ ْ‬ ‫سًل ك ُل ّ َ‬
‫ما َ‬ ‫سل َْنا إ ِل َي ْهِ ْ‬
‫م ُر ُ‬ ‫ل وَأْر َ‬ ‫ِ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫قد ْ أ َ َ ِ‬
‫ن )‪(70‬‬ ‫قت ُُلو َ‬ ‫قا ي َ ْ‬ ‫قا ك َذ ُّبوا وَفَ ِ‬
‫ري ً‬ ‫ري ً‬ ‫م فَ ِ‬
‫سهُ ْ‬ ‫وى أ َن ْ ُ‬
‫ف ُ‬ ‫ت َهْ َ‬
‫خذ ْنا ميَثاقَ بِني إسراِئي َ َ‬ ‫} ‪ } { 71 ، 70‬ل َ َ َ‬
‫سل ك ُل ّ َ‬
‫ما‬ ‫م ُر ُ‬‫سل َْنا إ ِل َي ْهِ ْ‬
‫ل وَأْر َ‬ ‫ِ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫قد ْ أ َ َ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قت ُُلو َ‬ ‫قا ي َ ْ‬‫ري ً‬‫قا ك َذ ُّبوا وَفَ ِ‬ ‫م فَ ِ‬
‫ري ً‬ ‫سه ُ ْ‬ ‫وى أ َن ْ ُ‬
‫ف ُ‬ ‫ما ل ت َهْ َ‬ ‫سو ٌ‬
‫ل بِ َ‬ ‫م َر ُ‬
‫جاَءهُ ْ‬
‫َ‬
‫ل { أي‪ :‬عهدهم الثقيل باليمان‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ميَثاقَ ب َِني إ ِ ْ‬ ‫خذ َْنا ِ‬ ‫قد ْ أ َ َ‬‫يقول تعالى‪ } :‬ل َ َ‬
‫َ‬
‫خذ َ الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫قد ْ أ َ‬ ‫بالله‪ ،‬والقيام بواجباته التي تقدم الكلم عليها في قوله‪ } :‬وَل َ َ‬
‫قيًبا { إلى آخر اليات‪.‬‬ ‫ي عَ َ‬
‫شَر ن َ ِ‬ ‫م اث ْن َ ْ‬ ‫ل وَب َعَث َْنا ِ‬
‫من ْهُ ُ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ميَثاقَ ب َِني إ ِ ْ‬ ‫ِ‬
‫سل { يتوالون عليهم بالدعوة‪ ،‬ويتعاهدونهم بالرشاد‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م ُر ُ‬ ‫سلَنا إ ِلي ْهِ ْ‬ ‫} وَأْر َ‬
‫وى‬ ‫ما ل ت َهْ َ‬ ‫سو ٌ‬
‫ل بِ َ‬ ‫م َر ُ‬
‫جاَءهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ولكن ذلك لم ينجع فيهم‪ ،‬ولم يفد } كل َ‬
‫قا ك َذ ُّبوا‬ ‫م { من الحق كذبوه وعاندوه‪ ،‬وعاملوه أقبح المعاملة } فَ ِ‬
‫ري ً‬ ‫سهُ ْ‬‫ف ُ‬ ‫َأن ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قت ُُلو َ‬ ‫قا ي َ ْ‬‫ري ً‬ ‫وَفَ ِ‬
‫) ‪(1/239‬‬

‫موا‬
‫ص ّ‬
‫موا وَ َ‬
‫م عَ ُ‬ ‫ه عَل َي ْهِ ْ‬
‫م ثُ ّ‬ ‫ب الل ّ ُ‬ ‫موا ث ُ ّ‬
‫م َتا َ‬ ‫ص ّ‬‫موا وَ َ‬ ‫ة فَعَ ُ‬ ‫ن فِت ْن َ ٌ‬‫كو َ‬ ‫سُبوا أ َّل ت َ ُ‬‫ح ِ‬
‫وَ َ‬
‫ن )‪(71‬‬ ‫مُلو َ‬
‫ما ي َعْ َ‬‫صيٌر ب ِ َ‬ ‫ه بَ ِ‬‫م َوالل ّ ُ‬ ‫ك َِثيٌر ِ‬
‫من ْهُ ْ‬
‫موا‬‫ص ّ‬
‫موا وَ َ‬ ‫م عَ ُ‬ ‫ه عَل َي ْهِ ْ‬
‫م ثُ ّ‬ ‫ب الل ّ ُ‬ ‫موا ث ُ ّ‬
‫م َتا َ‬ ‫ص ّ‬‫موا وَ َ‬ ‫ة فَعَ ُ‬ ‫ن فِت ْن َ ٌ‬ ‫كو َ‬ ‫سُبوا َأل ت َ ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫} وَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما ي َعْ َ‬
‫صيٌر ب ِ َ‬ ‫ه بَ ِ‬ ‫ّ‬
‫م َوالل ُ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ك َِثيٌر ِ‬
‫ة { أي‪ :‬ظنوا أن معصيتهم وتكذيبهم ل يجر عليهم‬ ‫ن فِت ْن َ ٌ‬ ‫كو َ‬ ‫سُبوا َأل ت َ ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫} وَ َ‬
‫موا { عن الحق‬ ‫ص ّ‬ ‫موا وَ َ‬ ‫عذابا ول عقوبة‪ ،‬فاستمروا على باطلهم‪ } .‬فَعَ ُ‬
‫م { لم‬ ‫م { حين تابوا إليه وأنابوا } ث ُ ّ‬ ‫م { نعشهم و } تاب الله عَل َي ْهِ ْ‬ ‫} ثُ ّ‬
‫يستمروا على ذلك حتى انقلب أكثرهم إلى الحال القبيحة‪َ .‬فـ } عَ ُ‬
‫موا‬
‫م { بهذا الوصف‪ ،‬والقليل استمروا على توبتهم وإيمانهم‪.‬‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫موا ك َِثيٌر ِ‬ ‫ص ّ‬‫وَ َ‬
‫ن { فيجازي كل عامل بعمله‪ ،‬إن خيرا فخير وإن‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ي َعْ َ‬ ‫صيٌر ب ِ َ‬‫ه بَ ِ‬ ‫} َوالل ّ ُ‬
‫شرا فشر‪.‬‬

‫) ‪(1/239‬‬

‫ح َيا ب َِني‬ ‫سي ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫م وََقا َ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ح اب ْ ُ‬ ‫سي ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ه هُوَ ال ْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن َقاُلوا إ ِ ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫فَر ال ّ ِ‬ ‫قد ْ ك َ َ‬ ‫لَ َ‬
‫ه عَل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫حّر َ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ك ِبالل ّهِ فَ َ‬ ‫شرِ ْ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫م إ ِن ّ ُ‬ ‫ه َرّبي وََرب ّك ُ ْ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫ل اعْب ُ ُ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫إِ ْ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫ن‬‫ن قالوا إ ِ ّ‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫فَر ال ِ‬ ‫َ‬
‫قد ْ ك َ‬ ‫صارٍ )‪ (72‬ل َ‬ ‫ن أن ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ما ِللظال ِ ِ‬ ‫مأَواهُ الّناُر وَ َ‬ ‫ة وَ َ‬ ‫جن ّ َ‬‫ال ْ َ‬
‫ن‬
‫س ّ‬ ‫م ّ‬ ‫ن ل َي َ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫م ي َن ْت َُهوا عَ ّ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫حد ٌ وَإ ِ ْ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫ن إ ِل َهٍ إ ِّل إ ِل َ ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫ث ث ََلث َةٍ وَ َ‬ ‫ه َثال ِ ُ‬ ‫الل ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ه َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫فُرون َ ُ‬ ‫ست َغْ ِ‬ ‫ن إ َِلى الل ّهِ وَي َ ْ‬ ‫م )‪ (73‬أفََل ي َُتوُبو َ‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫فُروا ِ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫س ُ‬
‫ل‬ ‫ن قَب ْل ِهِ الّر ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫ل قَد ْ َ‬ ‫سو ٌ‬ ‫م إ ِّل َر ُ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ح اب ْ ُ‬ ‫سي ُ‬ ‫م ِ‬‫ما ال ْ َ‬ ‫م )‪َ (74‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫غَ ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫م ان ْظْر أّنى‬ ‫ت ثُ ّ‬ ‫م الَيا ِ‬ ‫ن لهُ ُ‬ ‫ف ن ُب َي ّ ُ‬‫م ان ْظْر كي ْ َ‬ ‫ن الطَعا َ‬ ‫ة كاَنا ي َأكل ِ‬ ‫ق ٌ‬ ‫دي َ‬‫ص ّ‬ ‫ه ِ‬ ‫م ُ‬‫وَأ ّ‬
‫ن )‪(75‬‬ ‫كو َ‬ ‫ي ُؤْفَ ُ‬

‫ل‬ ‫م وََقا َ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ح اب ْ ُ‬ ‫سي ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ه هُوَ ال ْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن َقاُلوا إ ِ ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫فَر ال ّ ِ‬ ‫قد ْ ك َ َ‬ ‫} ‪ } { 75 - 72‬ل َ َ‬
‫شرِ ْ‬
‫ك‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫م إ ِن ّ ُ‬ ‫ه َرّبي ] ص ‪ [ 240‬وََرب ّك ُ ْ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫ل اعْب ُ ُ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ح َيا ب َِني إ ِ ْ‬ ‫سي ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫صارٍ * ل َ َ‬ ‫َ‬ ‫ما ِلل ّ‬ ‫ْ‬
‫قد ْ‬ ‫ن أن ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫مأَواهُ الّناُر وَ َ‬ ‫ة وَ َ‬ ‫جن ّ َ‬ ‫ه عَل َي ْهِ ال ْ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫حّر َ‬ ‫قد ْ َ‬‫ِبالل ّهِ فَ َ‬
‫م ي َن ْت َُهوا‬‫ن لَ ْ‬ ‫حد ٌ وَإ ِ ْ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫ن إ ِل َهٍ ِإل إ ِل َ ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫ث َثلث َةٍ وَ َ‬ ‫ه َثال ِ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ن َقاُلوا إ ِ ّ‬ ‫ذي َ‬‫فَر ال ّ ِ‬ ‫كَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن إ َِلى الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫م * أَفل ي َُتوُبو َ‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫فُروا ِ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫س ّ‬ ‫م ّ‬ ‫ن ل َي َ َ‬‫قوُلو َ‬ ‫ما ي َ ُ‬‫عَ ّ‬
‫ت‬ ‫َ‬
‫خل ْ‬ ‫ل قَد ْ َ‬ ‫سو ٌ‬ ‫م ِإل َر ُ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫ح اب ْ ُ‬ ‫سي ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ْ‬
‫ما ال َ‬ ‫م* َ‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ّ‬
‫ه َوالل ُ‬ ‫فُرون َ ُ‬ ‫ست َغْ ِ‬ ‫وَي َ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫م‬‫ن لهُ ُ‬ ‫ف ن ُب َي ّ ُ‬ ‫م ان ْظْر ك َي ْ َ‬ ‫ن الطَعا َ‬ ‫كل ِ‬ ‫كاَنا ي َأ ُ‬ ‫ة َ‬ ‫ق ٌ‬ ‫دي َ‬ ‫ص ّ‬
‫ه ِ‬ ‫م ُ‬‫ل وَأ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ن قَب ْل ِهِ الّر ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫كو َ‬ ‫م ان ْظ ُْر أ َّنى ي ُؤْفَ ُ‬ ‫ت ثُ ّ‬ ‫الَيا ِ‬
‫م{‬ ‫مْري َ َ‬‫ن َ‬ ‫ح اب ْ ُ‬ ‫سي ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ْ‬
‫ه هُوَ ال َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫يخبر تعالى عن كفر النصارى بقولهم‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫بشبهة أنه خرج من أم بل أب‪ ،‬وخالف المعهود من الخلقة اللهية‪ ،‬والحال‬
‫أنه عليه الصلة والسلم قد كذبهم في هذه الدعوى‪ ،‬وقال لهم‪َ } :‬يا ب َِني‬
‫م { فأثبت لنفسه العبودية التامة‪ ،‬ولربه‬ ‫ه َرّبي وََرب ّك ُ ْ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫ل اعْب ُ ُ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫إِ ْ‬
‫الربوبية الشاملة لكل مخلوق‪.‬‬
‫قد ْ‬‫ك ِبالل ّهِ { أحدا من المخلوقين‪ ،‬ل عيسى ول غيره‪ } .‬فَ َ‬ ‫شرِ ْ‬ ‫من ي ُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫} إ ِن ّ ُ‬
‫ْ‬
‫مأَواهُ الّناُر { وذلك لنه سوى الخلق بالخالق‪،‬‬ ‫ة وَ َ‬ ‫جن ّ َ‬ ‫ه عَل َي ْهِ ال ْ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫حّر َ‬ ‫َ‬
‫وصرف ما خلقه الله له ‪ -‬وهو العبادة الخالصة ‪ -‬لغير من هي له‪ ،‬فاستحق‬
‫أن يخلد في النار‪.‬‬
‫صارٍ { ينقذونهم من عذاب الله‪ ،‬أو يدفعون عنهم‬ ‫َ‬ ‫ما ِلل ّ‬
‫ن أن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫} وَ َ‬
‫بعض ما نزل بهم‪.‬‬
‫ث َثلث َةٍ { وهذا من أقوال النصارى‬ ‫ه َثال ِ ُ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ن قالوا إ ِ ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫فَر ال ّ ِ‬ ‫قد ْ ك َ َ‬ ‫} لَ َ‬
‫المنصورة عندهم‪ ،‬زعموا أن الله ثالث ثلثة‪ :‬الله‪ ،‬وعيسى‪ ،‬ومريم‪ ،‬تعالى‬
‫الله عن قولهم علوا كبيرا‪.‬‬
‫وهذا أكبر دليل على قلة عقول النصارى‪ ،‬كيف قبلوا هذه المقالة الشنعاء‪،‬‬
‫والعقيدة القبيحة؟! كيف اشتبه عليهم الخالق بالمخلوقين )‪ (1‬؟! كيف‬
‫خفي عليهم رب العالمين؟! قال تعالى ‪-‬رادا عليهم وعلى أشباههم ‪:-‬‬
‫حد ٌ { متصف بكل صفة كمال‪ ،‬منزه عن كل نقص‪،‬‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫ن إ ِل َهٍ ِإل إ ِل َ ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫} وَ َ‬
‫منفرد بالخلق والتدبير‪ ،‬ما بالخلق من نعمة إل منه‪ .‬فكيف يجعل معه إله‬
‫غيره؟" تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا‪.‬‬
‫م‬‫من ْهُ ْ‬‫فُروا ِ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫س ّ‬ ‫م ّ‬ ‫ن ل َي َ َ‬‫قوُلو َ‬ ‫ما ي َ ُ‬
‫م َينت َُهوا عَ ّ‬ ‫ثم توعدهم بقوله‪ } :‬وَِإن ل ّ ْ‬
‫م{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫عَ َ‬
‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬
‫ثم دعاهم إلى التوبة عما صدر منهم‪ ،‬وبين أنه يقبل التوبة عن عباده‬
‫ن إ َِلى الل ّهِ { أي‪ :‬يرجعون إلى ما يحبه ويرضاه من‬ ‫َ‬
‫فقال‪ } :‬أَفل ي َُتوُبو َ‬
‫القرار لله بالتوحيد‪ ،‬وبأن عيسى عبد الله ورسوله‪ ،‬عما كانوا يقولونه‬
‫م { أي‪ :‬يغفر ذنوب‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر ّر ِ‬ ‫ه { عن ما صدر منهم } َوالل ّ ُ‬
‫ه غَ ُ‬ ‫فُرون َ ُ‬ ‫ست َغْ ِ‬ ‫} وَي َ ْ‬
‫التائبين‪ ،‬ولو بلغت عنان السماء‪ ،‬ويرحمهم بقبول توبتهم‪ ،‬وتبديل سيئاتهم‬
‫حسنات‪.‬‬
‫وصدر دعوتهم إلى التوبة بالعرض الذي هو غاية اللطف واللين في قوله‪:‬‬
‫ن إ َِلى الل ّهِ { ‪.‬‬ ‫َ‬
‫} أَفل ي َُتوُبو َ‬
‫ُ‬
‫ن‬‫ح اب ْ ُ‬‫سي ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ما ال ْ َ‬ ‫مه‪ ،‬الذي هو الحق‪ ،‬فقال‪َ } :‬‬ ‫ثم ذكر حقيقة المسيح وأ ّ‬
‫ل { أي‪ :‬هذا غايته ومنتهى أمره‪،‬‬ ‫س ُ‬‫من قَب ْل ِهِ الّر ُ‬ ‫ت ِ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫ل قَد ْ َ‬ ‫سو ٌ‬ ‫م ِإل َر ُ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫َ‬
‫أنه من عباد الله المرسلين‪ ،‬الذين ليس لهم من المر ول من التشريع‪ ،‬إل‬
‫ما أرسلهم به الله‪ ،‬وهو من جنس الرسل قبله‪ ،‬ل مزية له عليهم تخرجه‬
‫عن البشرية إلى مرتبة الربوبية‪.‬‬
‫ة { أي‪ :‬هذا أيضا غايتها‪ ،‬أن كانت من الصديقين‬ ‫ق ٌ‬ ‫دي َ‬ ‫ُ‬
‫ص ّ‬ ‫ه { مريم } ِ‬ ‫م ُ‬
‫} وَأ ّ‬
‫الذين هم أعلى الخلق رتبة بعد النبياء‪ .‬والصديقية‪ ،‬هي العلم النافع المثمر‬
‫لليقين‪ ،‬والعمل الصالح‪ .‬وهذا دليل على أن مريم لم تكن نبية‪ ،‬بل أعلى‬
‫أحوالها الصديقية‪ ،‬وكفى بذلك فضل وشرفا‪ .‬وكذلك سائر النساء لم يكن‬
‫منهن نبية‪ ،‬لن الله تعالى جعل النبوة في أكمل الصنفين‪ ،‬في الرجال كما‬
‫َ‬
‫م { فإذا كان عيسى‬ ‫حي إ ِل َي ْهِ ْ‬ ‫جال ّنو ِ‬ ‫ك ِإل رِ َ‬‫من قَب ْل ِ َ‬ ‫سل َْنا ِ‬ ‫ما أْر َ‬ ‫قال تعالى‪ } :‬وَ َ‬
‫عليه السلم من جنس النبياء والرسل من قبله‪ ،‬وأمه صديقة‪ ،‬فلي شيء‬
‫اتخذهما النصارى إلهين مع الله؟‬
‫م { دليل ظاهر على أنهما عبدان فقيران‪،‬‬ ‫ن الط َّعا َ‬ ‫كاَنا ي َأ ْ ُ‬
‫كل ِ‬ ‫وقوله‪َ } :‬‬
‫محتاجان كما يحتاج بنو آدم إلى الطعام والشراب‪ ،‬فلو كانا إلهين لستغنيا‬
‫عن الطعام والشراب‪ ،‬ولم يحتاجا إلى شيء‪ ،‬فإن الله هو الغني الحميد‪.‬‬
‫ت { الموضحة‬ ‫ن ل َهُ ُ‬
‫م الَيا ِ‬ ‫ولما بين تعالى البرهان قال‪ } :‬انظ ُْر ك َي ْ َ‬
‫ف ن ُب َي ّ ُ‬
‫للحق‪ ،‬الكاشفة لليقين‪ ،‬ومع هذا ل تفيد فيهم شيئا‪ ،‬بل ل يزالون على‬
‫إفكهم وكذبهم وافترائهم‪ ،‬وذلك ظلم وعناد منهم‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬المخلوق‬

‫) ‪(1/239‬‬

‫قُ ْ َ‬
‫ع‬
‫مي ُ‬
‫س ِ‬ ‫فًعا َوالل ّ ُ‬
‫ه هُوَ ال ّ‬ ‫ضّرا وََل ن َ ْ‬ ‫ك ل َك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ما َل ي َ ْ‬
‫مل ِ ُ‬ ‫ن الل ّهِ َ‬
‫دو ِ‬
‫ن ُ‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬
‫دو َ‬
‫ل أت َعْب ُ ُ‬
‫م )‪(76‬‬ ‫ال ْعَِلي ُ‬
‫} ‪ } { 76‬قُ ْ َ‬
‫و‬ ‫فًعا َوالل ّ ُ‬
‫ه هُ َ‬ ‫ضّرا َول ن َ ْ‬ ‫ك ل َك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫مل ِ ُ‬
‫ما ل ي َ ْ‬ ‫ن الل ّهِ َ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬
‫ن ِ‬
‫دو َ‬
‫ل أت َعْب ُ ُ‬
‫م{‪.‬‬ ‫ميعُ ال ْعَِلي ُ‬‫س ِ‬ ‫ال ّ‬
‫ن الل ّهِ { من المخلوقين‬ ‫َ‬ ‫أي‪ } :‬قُ ْ‬
‫دو ِ‬ ‫من ُ‬ ‫ن ِ‬ ‫دو َ‬‫ل { لهم أيها الرسول‪ } :‬أت َعْب ُ ُ‬
‫فًعا { وتدعون من انفرد‬ ‫ضّرا َول ن َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ك ل َك ُ ْ‬
‫مل ِ ُ‬
‫الفقراء المحتاجين‪ } ،‬ما ل ي َ ْ‬
‫ميعُ { لجميع الصوات‬ ‫س ِ‬‫ه هُوَ ال ّ‬ ‫بالضر والنفع والعطاء والمنع‪َ } ،‬والل ّ ُ‬
‫باختلف اللغات‪ ،‬على تفنن الحاجات‪.‬‬
‫م { بالظواهر والبواطن‪ ،‬والغيب والشهادة‪ ،‬والمور الماضية‬ ‫} ال ْعَِلي ُ‬
‫والمستقبلة‪ ،‬فالكامل تعالى الذي هذه أوصافه هو الذي يستحق أن يفرد‬
‫بجميع أنواع العبادة‪ ،‬ويخلص له الدين‪.‬‬

‫) ‪(1/240‬‬

‫َ‬ ‫ل َيا أ َهْ َ‬


‫واَء قَوْم ٍ قَد ْ‬ ‫حقّ وََل ت َت ّب ُِعوا أهْ َ‬ ‫م غَي َْر ال ْ َ‬ ‫ب َل ت َغُْلوا ِفي ِدين ِك ُ ْ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫قُ ْ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫ّ‬
‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫ل )‪ (77‬لعِ َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫واِء ال ّ‬ ‫س َ‬ ‫ن َ‬ ‫ضلوا عَ ْ‬ ‫ضلوا كِثيًرا وَ َ‬ ‫ل وَأ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ضلوا ِ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫َ‬
‫م ذ َل ِك ب ِ َ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫كَ َ‬
‫سى اب ْ ِ‬ ‫عي َ‬ ‫داُوود َ وَ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫سا ِ‬ ‫ل عَلى ل ِ َ‬ ‫ن ب َِني إ ِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫فُروا ِ‬
‫ما َ‬
‫كاُنوا‬ ‫س َ‬ ‫من ْك َرٍ فَعَُلوهُ ل َب ِئ ْ َ‬ ‫ن ُ‬ ‫ن عَ ْ‬ ‫كاُنوا َل ي َت ََناهَوْ َ‬ ‫ن )‪َ (78‬‬ ‫دو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْت َ ُ‬ ‫وا وَ َ‬ ‫ص ْ‬ ‫عَ َ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫ت لهُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ما قَد ّ َ‬ ‫س َ‬ ‫َ‬
‫فُروا لب ِئ ْ َ‬ ‫نك َ‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ن ال ِ‬ ‫ّ‬
‫م ي َت َوَلوْ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن )‪ (79‬ت ََرى كِثيًرا ِ‬ ‫ُ‬
‫فعَلو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫كاُنوا‬ ‫َ‬
‫ن )‪ (80‬وَلوْ َ‬ ‫ْ‬
‫م وَِفي العَ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ب هُ ْ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ه عَلي ْهِ ْ‬ ‫خط الل ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ن َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫سهُ ْ‬ ‫ف ُ‬
‫ذوهُ َ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫م‬
‫من ْهُ ْ‬ ‫ن ك َِثيًرا ِ‬ ‫م أوْل َِياَء وَل َك ِ ّ‬ ‫ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫ما ات ّ َ‬ ‫ل إ ِل َي ْهِ َ‬ ‫ي وَ َ‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوالن ّب ِ ّ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ي ُؤْ ِ‬
‫ن )‪(81‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫َفا ِ‬

‫حقّ َول ت َت ّب ُِعوا‬ ‫م غَي َْر ال ْ َ‬


‫ب ل ت َغُْلوا ِفي ِدين ِك ُ ْ‬ ‫ل ال ْك َِتا ِ‬ ‫ل َيا أ َهْ َ‬ ‫} ‪ } { 81 - 77‬قُ ْ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ل * لعِ َ‬ ‫سِبي ِ‬‫واِء ال ّ‬ ‫س َ‬‫ن َ‬ ‫ضلوا عَ ْ‬ ‫َ‬
‫ضلوا كِثيًرا وَ َ‬ ‫ل وَأ َ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬‫م ْ‬ ‫ضّلوا ِ‬ ‫واَء قَوْم ٍ قَد ْ َ‬ ‫أه ْ َ‬
‫ما‬‫ك بِ َ‬‫م ذ َل ِ َ‬‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ ِ‬ ‫عي َ‬ ‫داوُد َ وَ ِ‬
‫ن َ‬‫سا ِ‬‫ل عََلى ل ِ َ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ن ب َِني إ ِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫فُروا ِ‬ ‫ن كَ َ‬
‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫كاُنوا‬ ‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫من ْك َرٍ فَعَُلوهُ ل َب ِئ ْ َ‬ ‫ن ُ‬‫ن عَ ْ‬ ‫كاُنوا ل ي َت ََناهَوْ َ‬ ‫ن* َ‬ ‫دو َ‬ ‫وا وَ َ‬
‫كاُنوا ي َعْت َ ُ‬ ‫ص ْ‬
‫عَ َ‬
‫ت ل َهُ ْ‬
‫م‬ ‫م ْ‬ ‫ما قَد ّ َ‬ ‫س َ‬ ‫فُروا ل َب ِئ ْ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫م ي َت َوَل ّوْ َ‬‫من ْهُ ْ‬ ‫ن * ت ََرى ك َِثيًرا ِ‬ ‫فعَُلو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫وَ‬ ‫ْ‬
‫م وَِفي العَ َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫ن * وَل ْ‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ب هُ ْ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ه عَلي ْهِ ْ‬ ‫خط الل ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ن ] ص ‪َ [ 241‬‬ ‫مأ ْ‬ ‫سهُ ْ‬ ‫ف ُ‬
‫ذوهُ َ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ن ك َِثيًرا‬ ‫م أوْل َِياَء وَل َك ِ ّ‬ ‫ْ‬ ‫خ ُ‬‫ما ات ّ َ‬ ‫ل إ ِل َي ْهِ َ‬ ‫ي وَ َ‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوالن ّب ِ ّ‬ ‫مُنو َ‬ ‫كاُنوا ي ُؤْ ِ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬‫م َفا ِ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬
‫ب ل ت َغْلوا ِفي‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ل َيا أهْ َ‬ ‫يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‪ } :‬قُ ْ‬
‫ل الك َِتا ِ‬
‫حقّ { أي‪ :‬ل تتجاوزوا وتتعدوا الحق إلى الباطل‪ ،‬وذلك‬ ‫م غَي َْر ال ْ َ‬ ‫ِدين ِك ُ ْ‬
‫كقولهم في المسيح‪ ،‬ما تقدم حكايته عنهم‪.‬‬
‫َ‬
‫ل{‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ضّلوا ِ‬ ‫واءَ قَوْم ٍ قَد ْ َ‬ ‫وكغلوهم في بعض المشايخ‪ ،‬اتباعا لـ } أهْ َ‬
‫أي‪ :‬تقدم ضللهم‪.‬‬
‫ضّلوا ك َِثيًرا { من الناس بدعوتهم إياهم إلى الدين‪ ،‬الذي هم عليه‪.‬‬ ‫َ‬
‫} وَأ َ‬
‫ل { أي‪ :‬قصد الطريق‪ ،‬فجمعوا بين الضلل‬ ‫سِبي ِ‬‫واِء ال ّ‬ ‫س َ‬ ‫ن َ‬ ‫ضّلوا عَ ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫والضلل‪ ،‬وهؤلء هم أئمة الضلل الذين حذر الله عنهم وعن اتباع أهوائهم‬
‫ن ب َِني‬ ‫م ْ‬‫فُروا ِ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫المردية‪ ،‬وآرائهم المضلة‪ .‬ثم قال تعالى‪ } :‬ل ُعِ َ‬
‫سى‬ ‫عي َ‬ ‫داوُد َ وَ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫سا ِ‬ ‫ل { أي‪ :‬طردوا وأبعدوا عن رحمة الله } عََلى ل ِ َ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫إِ ْ‬
‫م { أي‪ :‬بشهادتهما وإقرارهما‪ ،‬بأن الحجة قد قامت عليهم‪،‬‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫اب ْ ِ‬
‫ن { أي‪:‬‬ ‫دو َ‬ ‫وا وَكاُنوا ي َعْت َ ُ‬‫َ‬ ‫ص ْ‬‫ما عَ َ‬ ‫وعاندوها‪ } .‬ذ َل ِك { الكفر واللعن } ب ِ َ‬ ‫َ‬
‫بعصيانهم لله‪ ،‬وظلمهم لعباد الله‪ ،‬صار سببا لكفرهم وبعدهم عن رحمة‬
‫الله‪ ،‬فإن للذنوب والظلم عقوبات‪.‬‬
‫ومن معاصيهم التي أحلت بهم المثلت‪ ،‬وأوقعت بهم العقوبات أنهم‪:‬‬
‫من ْك َرٍ فَعَُلوهُ { أي‪ :‬كانوا يفعلون المنكر‪ ،‬ول ينهى‬ ‫ن ُ‬ ‫ن عَ ْ‬
‫كاُنوا ل ي َت ََناهَوْ َ‬ ‫} َ‬
‫بعضهم بعضا‪ ،‬فيشترك بذلك المباشر‪ ،‬وغيره الذي سكت عن النهي عن‬
‫المنكر مع قدرته على ذلك‪.‬‬
‫وذلك يدل على تهاونهم بأمر الله‪ ،‬وأن معصيته خفيفة عليهم‪ ،‬فلو كان‬
‫لديهم تعظيم لربهم لغاروا لمحارمه‪ ،‬ولغضبوا لغضبه‪ ،‬وإنما كان السكوت‬
‫عن المنكر ‪-‬مع القدرة‪ -‬موجبا للعقوبة‪ ،‬لما فيه من المفاسد العظيمة‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن مجرد السكوت‪ ،‬فعل معصية‪ ،‬وإن لم يباشرها الساكت‪ .‬فإنه ‪-‬كما‬
‫يجب اجتناب المعصية‪ -‬فإنه يجب النكار على من فعل المعصية‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬ما تقدم أنه يدل على التهاون بالمعاصي‪ ،‬وقلة الكتراث بها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن ذلك يجرئ العصاة والفسقة على الكثار من المعاصي إذا لم‬
‫يردعوا عنها‪ ،‬فيزداد الشر‪ ،‬وتعظم المصيبة الدينية والدنيوية‪ ،‬ويكون لهم‬
‫الشوكة والظهور‪ ،‬ثم بعد ذلك يضعف أهل الخير عن مقاومة أهل الشر‪،‬‬
‫حتى ل يقدرون على ما كانوا يقدرون عليه أّول‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن ‪ -‬في ترك )‪ (1‬النكار للمنكر‪ -‬يندرس العلم‪ ،‬ويكثر الجهل‪ ،‬فإن‬
‫المعصية‪ -‬مع تكررها وصدورها من كثير من الشخاص‪ ،‬وعدم إنكار أهل‬
‫الدين والعلم لها ‪ -‬يظن أنها ليست بمعصية‪ ،‬وربما ظن الجاهل أنها عبادة‬
‫مستحسنة‪ ،‬وأي مفسدة أعظم من اعتقاد ما حّرم الله حلل؟ وانقلب‬
‫الحقائق على النفوس ورؤية الباطل حقا؟"‬
‫ومنها‪ :‬أن السكوت )‪ (2‬على معصية العاصين‪ ،‬ربما تزينت المعصية في‬
‫صدور الناس‪ ،‬واقتدى بعضهم ببعض‪ ،‬فالنسان مولع بالقتداء بأضرابه‬
‫وبني جنسه‪ ،‬ومنها ومنها‪.‬‬
‫فلما كان السكوت عن النكار بهذه المثابة‪ ،‬نص الله تعالى أن بني‬
‫إسرائيل الكفار منهم لعنهم بمعاصيهم واعتدائهم‪ ،‬وخص من ذلك هذا‬
‫المنكر العظيم‪.‬‬
‫َ‬
‫ن كفَُروا {‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ن ال ِ‬ ‫ّ‬
‫م ي َت َوَلوْ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن { } ت ََرى كِثيًرا ِ‬ ‫ُ‬
‫فعَلو َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬‫ما َ‬ ‫س َ‬ ‫} ل َب ِئ ْ َ‬
‫بالمحبة والموالة والنصرة‪.‬‬
‫ة‬
‫ة الكاسدة‪ ،‬والصفق َ‬ ‫م { هذه البضاع َ‬ ‫سه ُ ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫م أ َن ْ ُ‬
‫ت ل َهُ ْ‬ ‫م ْ‬‫ما قَد ّ َ‬ ‫س َ‬ ‫} ل َب ِئ ْ َ‬
‫الخاسرة‪ ،‬وهي سخط الله الذي يسخط لسخطه كل شيء‪ ،‬والخلود الدائم‬
‫في العذاب العظيم‪ ،‬فقد ظلمتهم أنفسهم حيث قدمت لهم هذا النزل غير‬
‫الكريم‪ ،‬وقد ظلموا أنفسهم إذ فوتوها النعيم المقيم‪.‬‬
‫َ‬ ‫ما ُأنز َ‬
‫م أوْل َِياَء { فإن‬ ‫ذوهُ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫ما ات ّ َ‬‫ل إ ِل َي ْهِ َ‬ ‫ي وَ َ‬ ‫ن ِبالل ّهِ َوالن ّب ِ ّ‬ ‫مُنو َ‬ ‫} وَل َوْ َ‬
‫كاُنوا ي ُؤْ ِ‬
‫اليمان بالله وبالنبي وما أنزل إليه‪ ،‬يوجب على العبد موالة ربه‪ ،‬وموالة‬
‫أوليائه‪ ،‬ومعاداة من كفر به وعاداه‪ ،‬وأوضع في معاصيه‪ ،‬فشرط وليةِ الله‬
‫ن به‪ ،‬أن ل يتخذ أعداء الله أولياء‪ ،‬وهؤلء لم يوجد منهم الشرط‪،‬‬ ‫واليما ِ‬
‫ن { أي‪ :‬خارجون‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫م فا ِ‬‫َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن كِثيًرا ِ‬ ‫َ‬
‫فدل على انتفاء المشروط‪ } .‬وَلك ِ ّ‬
‫عن طاعة الله واليمان به وبالنبي‪ .‬ومن فسقهم موالةُ أعداء الله‪.‬‬
‫ثم قال تعالى‪:‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬أن في ترك‪.‬‬
‫)‪ (2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬السكوت‬

‫) ‪(1/240‬‬

‫ن‬ ‫كوا وَل َت َ ِ‬


‫جد َ ّ‬ ‫شَر ُ‬ ‫ن أَ ْ‬
‫َ‬ ‫مُنوا ال ْي َُهود َ َوال ّ ِ‬
‫ذي‬ ‫ذي َ‬
‫نآ َ‬‫َ‬ ‫داوَةً ل ِل ّ ِ‬
‫س عَ َ‬ ‫ِ‬ ‫شد ّ الّنا‬ ‫ن أَ َ‬‫جد َ ّ‬ ‫ل َت َ ِ‬
‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫سي َ‬
‫سي ِ‬ ‫م قِ ّ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫ن ِ‬ ‫ك ب ِأ ّ‬‫صاَرى ذ َل ِ َ‬ ‫ن َقاُلوا إ ِّنا ن َ َ‬ ‫مُنوا ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫نآ َ‬ ‫موَد ّةً ل ِل ّ ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫أقَْرب َهُ ْ‬
‫َ‬
‫ن )‪(82‬‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬‫م َل ي َ ْ‬‫وَُرهَْباًنا وَأن ّهُ ْ‬
‫ن‬
‫َ‬ ‫ذي‬ ‫مُنوا ال ْي َُهود َ َوال ّ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫َ‬ ‫داوَةً ل ِل ّ ِ‬
‫ذي‬ ‫س عَ َ‬ ‫ِ‬ ‫شد ّ الّنا‬ ‫ن أَ َ‬ ‫جد َ ّ‬‫} ‪ } { 86 - 82‬ل َت َ ِ‬
‫َ‬ ‫كوا ول َتجد َ‬ ‫أَ ْ‬
‫ن‬ ‫صاَرى ذ َل ِ َ‬
‫ك ب ِأ ّ‬ ‫ن َقاُلوا إ ِّنا ن َ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫مُنوا ال ّ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫موَد ّةً ل ِل ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن أقَْرب َهُ ْ‬ ‫شَر ُ َ َ ِ َ ّ‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬ ‫م ل يَ ْ‬ ‫ن وَُرهَْباًنا وَأن ّهُ ْ‬ ‫سي َ‬ ‫سي ِ‬ ‫م قِ ّ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫ِ‬
‫يقول تعالى في بيان أقرب الطائفتين إلى المسلمين‪ ،‬وإلى وليتهم‬
‫مُنوا‬ ‫نآ َ‬ ‫داوَةً ل ِل ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫س عَ َ‬ ‫شد ّ الّنا ِ‬ ‫ن أَ َ‬ ‫جد َ ّ‬ ‫ومحبتهم‪ ،‬وأبعدهم من ذلك‪ } :‬ل َت َ ِ‬
‫كوا { فهؤلء الطائفتان على الطلق أعظم الناس‬ ‫شَر ُ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ذي َ‬‫ال ْي َُهود َ َوال ّ ِ‬
‫معاداة للسلم والمسلمين‪ ،‬وأكثرهم سعيا في إيصال الضرر إليهم‪ ،‬وذلك‬
‫لشدة بغضهم لهم‪ ،‬بغيا وحسدا وعنادا وكفرا‪.‬‬
‫} ول َتجد َ‬
‫صاَرى { وذكر تعالى‬ ‫ن َقاُلوا إ ِّنا ن َ َ‬ ‫ذي َ‬‫مُنوا ال ّ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫موَد ّةً ل ِل ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن أقَْرب َهُ ْ‬ ‫َ َ ِ َ ّ‬
‫لذلك عدة أسباب‪:‬‬
‫دا في ] ص‬ ‫ن وَُرهَْباًنا { أي‪ :‬علماء متزهدين‪ ،‬وعُّبا ً‬ ‫سي َ‬ ‫سي ِ‬ ‫م قِ ّ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫منها‪ :‬أن } ِ‬
‫‪ [ 242‬الصوامع متعبدين‪ .‬والعلم مع الزهد وكذلك العبادة مما يلطف‬
‫القلب ويرققه‪ ،‬ويزيل عنه ما فيه من الجفاء والغلظة‪ ،‬فلذلك ل يوجد فيهم‬
‫غلظة اليهود‪ ،‬وشدة المشركين‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬ليس فيهم تكبر ول عتو عن النقياد‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬ ‫ومنها‪ } :‬أنهم ل ي َ ْ‬
‫للحق‪ ،‬وذلك موجب لقربهم من المسلمين ومن محبتهم‪ ،‬فإن المتواضع‬
‫أقرب إلى الخير من المستكبر‪.‬‬
‫) ‪(1/241‬‬

‫َ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬


‫ما عََرُفوا‬ ‫م ّ‬ ‫مِع ِ‬ ‫ن الد ّ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ض ِ‬ ‫في ُ‬ ‫م تَ ِ‬ ‫ل ت ََرى أعْي ُن َهُ ْ‬ ‫سو ِ‬ ‫ل إ َِلى الّر ُ‬ ‫مُعوا َ‬ ‫س ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫وَإ ِ َ‬
‫ن ِبالل ّ ِ‬ ‫ما ل ََنا َل ن ُؤْ ِ‬ ‫َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ه‬ ‫م ُ‬ ‫ن )‪ (83‬وَ َ‬ ‫دي َ‬ ‫شاهِ ِ‬ ‫معَ ال ّ‬ ‫مّنا َفاك ْت ُب َْنا َ‬ ‫ن َرب َّنا آ َ‬ ‫حق ّ ي َ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫ن )‪(84‬‬ ‫حي‬ ‫ل‬ ‫صا‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫نا‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ع‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ط‬ ‫ن‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ح‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫ّ ِ ِ َ‬ ‫َ ّ ََ َ ُ ْ ُ ْ ِ َ َ َّ َ َ َ ْ ِ‬ ‫وَ َ َ َ َ ِ َ‬
‫م‬ ‫نا‬ ‫َ‬ ‫ء‬ ‫جا‬ ‫ما‬
‫جَزاءُ‬ ‫ك َ‬ ‫ن ِفيَها وَذ َل ِ َ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫حت َِها اْلن َْهاُر َ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫ما َقاُلوا َ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫فَأَثاب َهُ ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫حيم ِ )‪(86‬‬ ‫ج ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫كأ ْ‬ ‫فُروا وَك َذ ُّبوا ب ِآَيات َِنا أول َئ ِ َ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن )‪َ (85‬وال ّ ِ‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫َ‬ ‫ما أ ُن ْزِ َ‬
‫ما‬ ‫م ّ‬ ‫مِع ِ‬ ‫ن الد ّ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ض ِ‬ ‫في ُ‬ ‫م تَ ِ‬ ‫ل ت ََرى أعْي ُن َهُ ْ‬ ‫سو ِ‬ ‫ل إ َِلى الّر ُ‬ ‫مُعوا َ‬ ‫س ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫} وَإ ِ َ‬
‫ن‬
‫م ُ‬ ‫ما لَنا ل ن ُؤْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ن * وَ َ‬ ‫دي َ‬ ‫شاهِ ِ‬ ‫معَ ال ّ‬ ‫مّنا َفاك ْت ُب َْنا َ‬ ‫ن َرب َّنا آ َ‬ ‫قولو َ‬ ‫ُ‬ ‫حق ّ ي َ ُ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫م َ‬‫عََرُفوا ِ‬
‫م ع َ ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن*‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫قوْم ِ ال ّ‬ ‫خل ََنا َرب َّنا َ‬ ‫ن ي ُد ْ ِ‬ ‫مع ُ أ ْ‬ ‫حقّ وَن َط ْ َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫جاَءَنا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ِبالل ّهِ وَ َ‬
‫َ‬
‫جَزاءُ‬ ‫ك َ‬ ‫ن ِفيَها وَذ َل ِ َ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫حت َِها الن َْهاُر َ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ِ‬ ‫ج‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫ما َقاُلوا َ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫فَأَثاب َهُ ُ‬
‫فروا وك َذ ّبوا بآيات ِنا ُأول َئ ِ َ َ‬
‫حيم ِ { ‪.‬‬ ‫ج ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫كأ ْ‬ ‫َ ُ ِ َ َ‬ ‫ن كَ َ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن * َوال ّ ِ‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ُ‬
‫ل { محمد صلى الله عليه‬ ‫سو ِ‬ ‫ل إ َِلى الّر ُ‬ ‫ما أنز َ‬ ‫مُعوا َ‬ ‫س ِ‬ ‫ومنها‪ :‬أنهم } إذا َ‬
‫وسلم‪ ،‬أثر ذلك في قلوبهم وخشعوا له‪ ،‬وفاضت أعينهم بسبب ما سمعوا‬
‫معَ‬ ‫مّنا َفاك ْت ُب َْنا َ‬ ‫من الحق الذي تيقنوه‪ ،‬فلذلك آمنوا وأقروا به فقالوا‪َ } :‬رب َّنا آ َ‬
‫ن { وهم أمة محمد صلى الله عليه وسلم‪ ،‬يشهدون لله بالتوحيد‪،‬‬ ‫دي َ‬ ‫شاهِ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫ولرسله بالرسالة وصحة ما جاءوا به‪ ،‬ويشهدون على المم السابقة‬
‫بالتصديق والتكذيب‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫م ً‬ ‫مأ ّ‬ ‫جعَلَناك ْ‬ ‫وهم عدول‪ ،‬شهادتهم مقبولة‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬وَكذ َل ِك َ‬
‫دا { ‪.‬‬ ‫شِهي ً‬ ‫م َ‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫سو ُ‬ ‫ن الّر ُ‬ ‫كو َ‬ ‫س وَي َ ُ‬ ‫داَء عَلى الّنا ِ‬
‫َ‬ ‫شهَ َ‬ ‫كوُنوا ُ‬ ‫طا ل ِت َ ُ‬ ‫س ً‬ ‫وَ َ‬
‫هّ‬
‫ن ِبالل ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ما لَنا ل ن ُؤْ ِ‬ ‫َ‬ ‫فكأنهم ليموا على إيمانهم ومسارعتهم فيه‪ ،‬فقالوا‪ } :‬وَ َ‬
‫معَ ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن { أي‪ :‬وما‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫قوْم ِ ال ّ‬ ‫خل ََنا َرب َّنا َ‬ ‫ن ي ُد ْ ِ‬ ‫معُ أ ْ‬ ‫حقّ وَن َط ْ َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫جاَءَنا ِ‬ ‫ما َ‬ ‫وَ َ‬
‫الذي يمنعنا من اليمان بالله‪ ،‬والحال أنه قد جاءنا الحق من ربنا‪ ،‬الذي ل‬
‫يقبل الشك والريب‪ ،‬ونحن إذا آمنا واتبعنا الحق طمعنا أن يدخلنا الله الجنة‬
‫مع القوم الصالحين‪ ،‬فأي مانع يمنعنا؟ أليس ذلك موجبا للمسارعة‬
‫والنقياد لليمان وعدم التخلف عنه‪.‬‬
‫ما َقاُلوا { أي‪ :‬بما تفوهوا به من اليمان‬ ‫َ‬
‫ه بِ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫قال الله تعالى‪ } :‬فَأَثاب َهُ ُ‬
‫ن ِفيَها‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫حت َِها الن َْهاُر َ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫ونطقوا به من التصديق بالحق } َ‬
‫ن { وهذه اليات نزلت في النصارى الذين آمنوا‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫جَزاُء ال ْ ُ‬ ‫ك َ‬ ‫وَذ َل ِ َ‬
‫بمحمد صلى الله عليه وسلم‪ ،‬كالنجاشي وغيره ممن آمن منهم‪ .‬وكذلك ل‬
‫يزال يوجد فيهم من يختار دين السلم‪ ،‬ويتبين له بطلن ما كانوا عليه‪،‬‬
‫وهم أقرب من اليهود والمشركين إلى دين السلم‪.‬‬
‫فُروا‬ ‫نك َ‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ولما ذكر ثواب المحسنين‪ ،‬ذكر عقاب المسيئين قال‪َ } :‬وال ِ‬
‫وك َذ ّبوا بآيات ِنا ُأول َئ ِ َ َ‬
‫حيم ِ { لنهم )‪ (1‬كفروا بالله‪ ،‬وكذبوا بآياته‬ ‫ج ِ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫كأ ْ‬ ‫َ ُ ِ َ َ‬
‫المبينة للحق‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬لنه‪.‬‬

‫) ‪(1/242‬‬
‫ه َل‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫ن الل ّ َ‬ ‫دوا إ ِ ّ‬‫م وََل ت َعْت َ ُ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬
‫ل الل ّ ُ‬‫ح ّ‬ ‫ما أ َ‬‫ت َ‬ ‫موا ط َي َّبا ِ‬‫حّر ُ‬ ‫مُنوا َل ت ُ َ‬
‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫َ‬
‫م‬
‫ذي أن ْت ُ ْ‬ ‫ه ال ّ ِ‬‫قوا الل ّ َ‬ ‫حَلًل ط َي ًّبا َوات ّ ُ‬ ‫ه َ‬‫م الل ّ ُ‬‫ما َرَزقَك ُ ُ‬ ‫ن )‪ (87‬وَك ُُلوا ِ‬
‫م ّ‬ ‫دي َ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫معْت َ ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫يُ ِ‬
‫ن )‪(88‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ب ِهِ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م َول‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ت َ‬ ‫موا ط َي َّبا ِ‬ ‫حّر ُ‬ ‫مُنوا ل ت ُ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 88 ، 87‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫قوا‬ ‫حلل ط َي ًّبا َوات ّ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ما َرَزقَك ُ ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ن * وَك ُُلوا ِ‬ ‫دي َ‬ ‫معْت َ ِ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫دوا إ ِ ّ‬ ‫ت َعْت َ ُ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ب ِهِ ُ‬‫ذي أن ْت ُ ْ‬ ‫ه ال ِ‬ ‫الل ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م { من‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ما أ َ‬ ‫ت َ‬ ‫موا ط َي َّبا ِ‬ ‫حّر ُ‬ ‫مُنوا ل ت ُ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫يقول تعالى } َيا أي َّها ال ّ ِ‬
‫المطاعم والمشارب‪ ،‬فإنها نعم أنعم الله بها عليكم‪ ،‬فاحمدوه إذ أحلها‬
‫لكم‪ ،‬واشكروه ول تردوا نعمته بكفرها أو عدم قبولها‪ ،‬أو اعتقاد تحريمها‪،‬‬
‫فتجمعون بذلك بين القول على الله الكذب‪ ،‬وكفر النعمة‪ ،‬واعتقاد الحلل‬
‫الطيب حراما خبيثا‪ ،‬فإن هذا من العتداء‪.‬‬
‫ن{‬ ‫دي َ‬ ‫معْت َ ِ‬ ‫ْ‬
‫ب ال ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫دوا إ ِ ّ‬‫والله قد نهى عن العتداء فقال‪َ } :‬ول ت َعْت َ ُ‬
‫بل يبغضهم ويمقتهم ويعاقبهم على ذلك‪.‬‬
‫ثم أمر بضد ما عليه المشركون‪ ،‬الذين يحرمون ما أحل الله فقال‪:‬‬
‫حلل ط َي ًّبا { أي‪ :‬كلوا من رزقه الذي ساقه إليكم‪،‬‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ما َرَزقَك ُ ُ‬ ‫م ّ‬‫} وَك ُُلوا ِ‬
‫بما يسره من السباب‪ ،‬إذا كان حلل ل سرقة ول غصبا ول غير ذلك من‬
‫أنواع الموال التي تؤخذ بغير حق‪ ،‬وكان أيضا طيبا‪ ،‬وهو الذي ل خبث فيه‪،‬‬
‫فخرج بذلك الخبيث من السباع والخبائث‪.‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ه‬
‫م بِ ِ‬ ‫ذي أن ْت ُ ْ‬ ‫ه { في امتثال أوامره‪ ،‬واجتناب نواهيه‪ } .‬ال ِ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫} َوات ّ ُ‬
‫ن { فإن إيمانكم بالله يوجب عليكم تقواه ومراعاة حقه‪ ،‬فإنه ل يتم‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ُ‬
‫إل بذلك‪.‬‬
‫ودلت الية الكريمة على أنه إذا حرم حلل عليه من طعام وشراب‪ ،‬وسرية‬
‫وأمة‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬فإنه ل يكون حراما بتحريمه‪ ،‬لكن لو فعله فعليه كفارة‬
‫ه لَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك { الية‪.‬‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ما أ َ‬ ‫م َ‬ ‫حّر ُ‬ ‫م تُ َ‬ ‫ي لِ َ‬‫يمين‪ ،‬كما قال تعالى‪َ } :‬يا أي َّها الن ّب ِ ّ‬
‫إل أن تحريم الزوجة فيه كفارة ظهار‪ ،‬ويدخل في هذه الية أنه ل ينبغي‬
‫للنسان أن يتجنب الطيبات ويحرمها على نفسه‪ ،‬بل يتناولها مستعينا بها‬
‫على طاعة ربه‪.‬‬

‫) ‪(1/242‬‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ما َ‬‫م اْلي ْ َ‬ ‫قد ْت ُ ُ‬ ‫ما عَ ّ‬‫م بِ َ‬ ‫خذ ُك ُ ْ‬ ‫ؤا ِ‬‫ن يُ َ‬ ‫م وَل َك ِ ْ‬ ‫ه ِبالل ّغْوِ ِفي أي ْ َ‬
‫مان ِك ُ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫خذ ُك ُ ُ‬ ‫ؤا ِ‬‫َل ي ُ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫سوَت ُهُ ْ‬ ‫م أوْ ك ِ ْ‬ ‫ن أهِْليك ُ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫ما ت ُط ْعِ ُ‬ ‫ط َ‬ ‫س ِ‬ ‫ن أو ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫كي َ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬‫شَرةِ َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫ه إ ِط َْعا ُ‬ ‫فاَرت ُ ُ‬ ‫فَك َ ّ‬
‫حل َ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ث ََلث َةِ أّيام ٍ ذ َل ِ َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫فت ُ ْ‬ ‫ذا َ‬‫م إِ َ‬ ‫مان ِك ُ ْ‬
‫فاَرةُ أي ْ َ‬ ‫ك كَ ّ‬ ‫صَيا ُ‬ ‫جد ْ فَ ِ‬ ‫ن لَ ْ‬
‫م يَ ِ‬ ‫ريُر َرقَب َةٍ فَ َ‬
‫م ْ‬ ‫ِ‬ ‫ح‬
‫أو ْ ت َ ْ‬
‫ك ي ُب َي ّن الل ّه ل َك ُ َ‬ ‫ف ُ َ‬
‫ن )‪(89‬‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫م آَيات ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫م ك َذ َل ِ َ‬ ‫مان َك ُ ْ‬‫ظوا أي ْ َ‬ ‫ح َ‬ ‫َوا ْ‬
‫َ‬
‫م { )‪. (1‬‬ ‫ه ِبالل ّغْوِ ِفي أي ْ َ‬
‫مان ِك ُ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬‫خذ ُك ُ ُ‬‫ؤا ِ‬ ‫} ‪ } { 89‬ل ي ُ َ‬
‫أي‪ :‬في أيمانكم التي صدرت على وجه اللغو‪ ،‬وهي اليمان التي حلف بها‬
‫المقسم من غير نية ول قصد‪ ،‬أو عقدها يظن صدق نفسه‪ ،‬فبان بخلف‬
‫ن { أي‪ :‬بما عزمتم عليه‪ ،‬وعقدت‬ ‫ما َ‬ ‫م الي ْ َ‬
‫قد ْت ُ ُ‬
‫ما عَ ّ‬ ‫خذ ُك ُ ْ‬
‫م بِ َ‬ ‫ؤا ِ‬‫ن يُ َ‬ ‫ذلك‪ } .‬وَل َك ِ ْ‬
‫ت‬ ‫ما ك َ َ‬
‫سب َ ْ‬ ‫خذ ُك ُ ْ‬
‫م بِ َ‬ ‫ؤا ِ‬ ‫عليه قلوبكم‪ .‬كما قال في الية الخرى‪ } :‬وَل َك ِ ْ‬
‫ن يُ َ‬
‫ه { أي‪ :‬كفارة اليمين الذي عقدتموها بقصدكم‬ ‫فاَرت ُ ُ‬‫م { } فَك َ ّ‬ ‫قُُلوب ُك ُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫كي َ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫شَرةِ َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫} إ ِط َْعا ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م { أي‪ :‬كسوة‬ ‫سوَت ُهُ ْ‬‫م أو ْ ك ِ ْ‬ ‫ن أهِْليك ُ ْ‬ ‫ما ت ُط ْعِ ُ‬
‫مو َ‬ ‫ط َ‬‫س ِ‬ ‫ن أوْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وذلك الطعام } ِ‬
‫ريُر َرقَب َةٍ {‬ ‫َ‬
‫ح ِ‬‫عشرة مساكين‪ ،‬والكسوة هي التي تجزئ في الصلة‪ } .‬أوْ ت َ ْ‬
‫أي‪ :‬عتق رقبة مؤمنة كما قيدت في غير هذا الموضع‪ ،‬فمتى فعل واحدا‬
‫من هذه الثلثة فقد انحلت يمينه‪.‬‬
‫َ‬
‫ك { المذكور‬ ‫م َثلث َةِ أّيام ٍ ذ َل ِ َ‬ ‫صَيا ُ‬‫جد ْ { واحدا من هذه الثلثة } فَ ِ‬ ‫م يَ ِ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫} فَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م { تكفرها وتمحوها وتمنع من الثم‪.‬‬ ‫فت ُ ْ‬‫حل ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫م إِ َ‬ ‫مان ِك ُ ْ‬ ‫فاَرةُ أي ْ َ‬ ‫} كَ ّ‬
‫َ‬ ‫ف ُ‬
‫م { عن الحلف بالله كاذبا‪ ،‬وعن كثرة اليمان‪،‬‬ ‫مان َك ُ ْ‬ ‫ظوا أي ْ َ‬ ‫ح َ‬‫} َوا ْ‬
‫واحفظوها إذا حلفتم عن الحنث فيها‪ ،‬إل إذا كان الحنث خيرا‪ ،‬فتمام‬
‫الحفظ‪ :‬أن يفعل الخير‪ ،‬ول يكون يمينه عرضة لذلك الخير‪.‬‬
‫م آَيات ِهِ { المبينة للحلل من الحرام‪ ،‬الموضحة‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫ك ي ُب َي ّ ُ‬‫} ك َذ َل ِ َ‬
‫ه حيث علمكم ما لم تكونوا تعلمون‪.‬‬ ‫ن { الل َ‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫للحكام‪ } .‬ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫ن به ] ص ‪ [ 243‬عليهم‪ ،‬من‬ ‫فعلى العباد شكر الله تعالى على ما م ّ‬
‫معرفة الحكام الشرعية وتبيينها‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب كتب الية كاملة‬

‫) ‪(1/242‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫ل‬‫م ِ‬‫ن عَ َ‬ ‫م ْ‬‫س ِ‬‫ج ٌ‬ ‫ب َواْلْزَل ُ‬
‫م رِ ْ‬ ‫صا ُ‬ ‫سُر َواْلن ْ َ‬ ‫مي ْ ِ‬‫مُر َوال ْ َ‬ ‫خ ْ‬‫ما ال ْ َ‬ ‫مُنوا إ ِن ّ َ‬‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫طا َ‬
‫ن ُيوقِعَ ب َي ْن َك ُ ُ‬
‫م‬ ‫نأ ْ‬ ‫شي ْ َ ُ‬ ‫ريد ُ ال ّ‬
‫ما ي ُ ِ‬ ‫ن )‪ (90‬إ ِن ّ َ‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬
‫م تُ ْ‬ ‫جت َن ُِبوهُ ل َعَل ّك ُ ْ‬‫ن َفا ْ‬ ‫طا ِ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ال ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ال ْعَ َ‬
‫ة‬
‫صل ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن ذِك ْرِ اللهِ وَعَ ِ‬
‫م عَ ْ‬ ‫صد ّك ُ ْ‬ ‫سرِ وَي َ ُ‬‫مي ْ ِ‬‫مرِ َوال َ‬ ‫خ ْ‬ ‫ضاَء ِفي ال َ‬ ‫داوَةَ َوالب َغْ َ‬
‫فَه ْ َ‬
‫ن )‪(91‬‬ ‫من ْت َُهو َ‬‫م ُ‬ ‫ل أن ْت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫م‬‫ب َوالْزل ُ‬ ‫صا ُ‬
‫سُر َوالن ْ َ‬ ‫مُر َوال ْ َ‬
‫مي ْ ِ‬ ‫خ ْ‬ ‫ما ال ْ َ‬ ‫مُنوا إ ِن ّ َ‬
‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬‫} ‪َ } { 91 ، 90‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫طا َ‬
‫ن‬
‫نأ ْ‬ ‫شي ْ َ ُ‬ ‫ريد ُ ال ّ‬‫ما ي ُ ِ‬ ‫ن * إ ِن ّ َ‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬‫م تُ ْ‬ ‫جت َن ُِبوهُ ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫ن َفا ْ‬ ‫طا ِ‬‫شي ْ َ‬ ‫ل ال ّ‬ ‫م ِ‬
‫ن عَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫س ِ‬ ‫ج ٌ‬ ‫رِ ْ‬
‫هّ‬ ‫ْ‬
‫ن ذِكرِ الل ِ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫ُ‬
‫صد ّك ْ‬ ‫سرِ وَي َ ُ‬ ‫مي ْ ِ‬ ‫ْ‬
‫مرِ َوال َ‬ ‫خ ْ‬ ‫ْ‬
‫ضاَء ِفي ال َ‬ ‫ْ‬
‫داوَةَ َوالب َغْ َ‬ ‫ْ‬
‫م العَ َ‬ ‫ُ‬
‫ُيوقِعَ ب َي ْن َك ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫صلةِ فَهَ ْ‬
‫من ْت َُهو َ‬
‫م ُ‬ ‫ل أن ْت ُ ْ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫وَعَ ِ‬
‫يذم تعالى هذه الشياء القبيحة‪ ،‬ويخبر أنها من عمل الشيطان‪ ،‬وأنها‬
‫ن { فإن الفلح ل يتم إل‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬‫م تُ ْ‬ ‫جت َن ُِبوهُ { أي‪ :‬اتركوه } ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫رجس‪َ } .‬فا ْ‬
‫بترك ما حرم الله‪ ،‬خصوصا هذه الفواحش المذكورة‪ ،‬وهي الخمر وهي‪:‬‬
‫كل ما خامر العقل أي‪ :‬غطاه بسكره‪ ،‬والميسر‪ ،‬وهو‪ :‬جميع المغالبات‬
‫التي فيها عوض من الجانبين‪ ،‬كالمراهنة ونحوها‪ ،‬والنصاب التي هي‪:‬‬
‫الصنام والنداد ونحوها‪ ،‬مما ُينصب وُيعبد من دون الله‪ ،‬والزلم التي‬
‫يستقسمون بها‪ ،‬فهذه الربعة نهى الله عنها وزجر‪ ،‬وأخبر عن مفاسدها‬
‫الداعية إلى تركها واجتنابها‪ .‬فمنها‪ :‬أنها رجس‪ ،‬أي‪ :‬خبث‪ ،‬نجس معنى‪،‬‬
‫وإن لم تكن نجسة حسا‪.‬‬
‫والمور الخبيثة مما ينبغي اجتنابها وعدم التدنس بأوضارها‪ .‬ومنها‪ :‬أنها من‬
‫عمل الشيطان‪ ،‬الذي هو أعدى العداء للنسان‪.‬‬
‫ومن المعلوم أن العدو يحذر منه‪ ،‬وتحذر مصايده وأعماله‪ ،‬خصوصا‬
‫العمال التي يعملها ليوقع فيها عدوه‪ ،‬فإنها فيها هلكه‪ ،‬فالحزم كل الحزم‬
‫البعد عن عمل العدو المبين‪ ،‬والحذر منها‪ ،‬والخوف من الوقوع فيها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه ل يمكن الفلح للعبد إل باجتنابها‪ ،‬فإن الفلح هو‪ :‬الفوز‬
‫بالمطلوب المحبوب‪ ،‬والنجاة من المرهوب‪ ،‬وهذه المور مانعة من الفلح‬
‫ومعوقة له‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن هذه موجبة للعداوة والبغضاء بين الناس‪ ،‬والشيطان حريص‬
‫على بثها‪ ،‬خصوصا الخمر والميسر‪ ،‬ليوقع بين المؤمنين العداوة والبغضاء‪.‬‬
‫فإن في الخمر من انغلب العقل وذهاب حجاه‪ ،‬ما يدعو إلى البغضاء بينه‬
‫وبين إخوانه المؤمنين‪ ،‬خصوصا إذا اقترن بذلك من السباب ما هو من‬
‫لوازم شارب الخمر‪ ،‬فإنه ربما أوصل إلى القتل‪ .‬وما في الميسر من غلبة‬
‫أحدهما للخر‪ ،‬وأخذ ماله الكثير في غير مقابلة‪ ،‬ما هو من أكبر السباب‬
‫للعداوة والبغضاء‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن هذه الشياء تصد القلب‪ ،‬ويتبعه البدن عن ذكر الله وعن الصلة‪،‬‬
‫اللذين خلق لهما العبد‪ ،‬وبهما سعادته‪ ،‬فالخمر والميسر‪ ،‬يصدانه عن ذلك‬
‫أعظم صد‪ ،‬ويشتغل قلبه‪ ،‬ويذهل لبه في الشتغال بهما‪ ،‬حتى يمضي عليه‬
‫مدة طويلة وهو ل يدري أين هو‪.‬‬
‫فأي معصية أعظم وأقبح من معصية تدنس صاحبها‪ ،‬وتجعله من أهل‬
‫الخبث‪ ،‬وتوقعه في أعمال الشيطان وشباكه‪ ،‬فينقاد له كما تنقاد البهيمة‬
‫الذليلة لراعيها‪ ،‬وتحول بين العبد وبين فلحه‪ ،‬وتوقع العداوة والبغضاء بين‬
‫المؤمنين‪ ،‬وتصد عن ذكر الله وعن الصلة؟" فهل فوق هذه المفاسد‬
‫شيء أكبر منها؟"‬
‫ولهذا عرض تعالى على العقول السليمة النهي عنها‪ ،‬عرضا بقوله‪ } :‬فَهَ ْ‬
‫ل‬
‫ن { لن العاقل ‪-‬إذا نظر إلى بعض تلك المفاسد‪ -‬انزجر عنها‬ ‫َ‬
‫من ْت َُهو َ‬
‫م ُ‬
‫أن ْت ُ ْ‬
‫وكفت نفسه‪ ،‬ولم يحتج إلى وعظ كثير ول زجر بليغ‪.‬‬

‫) ‪(1/243‬‬

‫ما عََلى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫م َفاعْل َ ُ‬
‫موا أن ّ َ‬ ‫ن ت َوَل ّي ْت ُ ْ‬
‫حذ َُروا فَإ ِ ْ‬ ‫سو َ‬
‫ل َوا ْ‬ ‫طيُعوا الّر ُ‬
‫ه وَأ ِ‬ ‫طيُعوا الل ّ َ‬ ‫وَأ ِ‬
‫ن )‪(92‬‬ ‫سول َِنا ال ْب ََلغُ ال ْ ُ‬
‫مِبي ُ‬ ‫َر ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬
‫موا أن ّ َ‬‫م َفاعْل َ ُ‬
‫ن ت َوَل ّي ْت ُ ْ‬
‫حذ َُروا فَإ ِ ْ‬‫ل َوا ْ‬ ‫سو َ‬ ‫طيُعوا الّر ُ‬
‫ه وَأ ِ‬‫طيُعوا الل ّ َ‬ ‫} ‪ } { 92‬وَأ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِبي ُ‬‫سول َِنا ال َْبلغُ ال ْ ُ‬ ‫عََلى َر ُ‬
‫طاعة الله وطاعة رسوله واحدة‪ ،‬فمن أطاع الله‪ ،‬فقد أطاع الرسول‪،‬‬
‫ومن أطاع الرسول فقد أطاع الله‪ .‬وذلك شامل للقيام بما أمر الله به‬
‫ورسوله من العمال‪ ،‬والقوال الظاهرة والباطنة‪ ،‬الواجبة والمستحبة‪،‬‬
‫المتعلقة بحقوق الله وحقوق خلقه والنتهاء عما نهى الله ورسوله عنه‬
‫كذلك‪.‬‬
‫وهذا المر أعم الوامر‪ ،‬فإنه كما ترى يدخل فيه كل أمر ونهي‪ ،‬ظاهر‬
‫حذ َُروا { أي‪ :‬من معصية الله ومعصية رسوله‪ ،‬فإن‬ ‫وباطن‪ ،‬وقوله‪َ } :‬وا ْ‬
‫م { عما أمرتم به ونهيتم‬ ‫ّ‬
‫ن ت َوَلي ْت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫في ذلك الشر والخسران المبين‪ } .‬فإ ِ ْ‬
‫َ‬
‫ن { وقد أدى ذلك‪ .‬فإن‬ ‫مِبي ُ‬ ‫سول َِنا ال َْبلغُ ال ُ‬
‫ْ‬ ‫ما عََلى َر ُ‬ ‫موا أن ّ َ‬ ‫عنه‪َ } .‬فاعْل َ ُ‬
‫اهتديتم فلنفسكم‪ ،‬وإن أسأتم فعليها‪ ،‬والله هو الذي يحاسبكم‪ ،‬والرسول‬
‫قد أدى ما عليه وما حمل به‪.‬‬
‫) ‪(1/243‬‬

‫ذي َ‬
‫وا‬
‫ق ْ‬
‫ما ات ّ َ‬‫ذا َ‬ ‫ما ط َعِ ُ‬
‫موا إ ِ َ‬ ‫ح ِفي َ‬ ‫جَنا ٌ‬‫ت ُ‬ ‫حا ِ‬ ‫مُلوا ال ّ‬
‫صال ِ َ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫س عََلى ال ّ ِ َ‬ ‫ل َي ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب‬
‫ح ّ‬ ‫ه يُ ِ‬‫سُنوا َوالل ّ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫وا وَأ ْ‬‫ق ْ‬‫م ات ّ َ‬‫مُنوا ث ُ ّ‬
‫وا وَآ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ت ثُ ّ‬
‫م ات ّ َ‬ ‫حا ِ‬‫صال ِ َ‬‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬‫وَآ َ‬
‫ن )‪(93‬‬ ‫سِني َ‬
‫ح ِ‬‫م ْ‬‫ال ْ ُ‬
‫موا إ ِ َ‬
‫ذا‬ ‫ما ط َعِ ُ‬‫ح ِفي َ‬‫جَنا ٌ‬ ‫ت ُ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬
‫نآ َ‬ ‫س عََلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫} ‪ } { 93‬ل َي ْ َ‬
‫َ‬
‫سُنوا َوالل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ح َ‬
‫وا وَأ ْ‬ ‫م ات ّقَ ْ‬ ‫مُنوا ث ُ ّ‬‫وا َوآ َ‬ ‫ق ْ‬
‫م ات ّ َ‬‫ت ثُ ّ‬
‫حا ِ‬ ‫مُلوا ال ّ‬
‫صال ِ َ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫وا َوآ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ما ات ّ َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ني‬
‫ِ‬ ‫س‬
‫ِ‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫م‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫ّ‬ ‫ح‬
‫ِ‬ ‫يُ‬
‫لما نزل تحريم الخمر والنهي الكيد والتشديد فيه‪ ،‬تمنى أناس من‬
‫المؤمنين أن يعلموا حال إخوانهم الذين ماتوا على السلم قبل تحريم‬
‫الخمر وهم يشربونها‪.‬‬
‫مُلوا‬‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬‫ذي َ‬ ‫س عََلى ال ّ ِ‬ ‫فأنزل الله هذه الية‪ ،‬وأخبر تعالى أنه } ل َي ْ َ‬
‫موا { من الخمر والميسر‬ ‫ما ط َعِ ُ‬ ‫ح { أي‪ :‬حرج وإثم } ِفي َ‬ ‫جَنا ٌ‬ ‫ت ُ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫ال ّ‬
‫قبل تحريمهما‪.‬‬

‫) ‪(1/243‬‬

‫شيٍء من الصيد تنال ُ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫حك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ما ُ‬
‫م وَرِ َ‬ ‫ديك ُ ْ‬ ‫ه أي ْ ِ‬ ‫ّ ْ ِ ََ ُ‬ ‫ه بِ َ ْ ِ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫مُنوا ل َي َب ْل ُوَن ّك ُ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫َ‬
‫م )‪َ (94‬يا‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬‫ه عَ َ‬ ‫ك فَل َ ُ‬ ‫دى ب َعْد َ ذ َل ِ َ‬ ‫ن اعْت َ َ‬ ‫ب فَ َ‬
‫م ِ‬ ‫ه ِبال ْغَي ْ ِ‬ ‫خافُ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ل ِي َعْل َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جَزاٌء‬ ‫دا فَ َ‬ ‫م ً‬ ‫مت َعَ ّ‬‫م ُ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ن قَت َل َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫حُر ٌ‬‫م ُ‬ ‫صي ْد َ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫قت ُُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا َل ت َ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫أي َّها ال ّ ِ‬
‫فاَرةٌ‬ ‫م هَد ًْيا َبال ِغَ ال ْك َعْب َةِ أ َوْ ك َ ّ‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫ل ِ‬ ‫م ب ِهِ ذ ََوا عَد ْ ٍ‬ ‫حك ُ ُ‬ ‫ن الن ّعَم ِ ي َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ما قَت َ َ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ ُ‬‫ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ذوقَ وََبا َ‬ ‫ما ل ِي َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ن أوْ عَد ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬‫سل َ‬ ‫ما َ‬ ‫ه عَ ّ‬ ‫فا الل ُ‬ ‫مرِهِ عَ َ‬ ‫لأ ْ‬ ‫صَيا ً‬ ‫ل ذ َل ِك ِ‬ ‫كي َ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫م َ‬ ‫طَعا ُ‬
‫قام ٍ )‪(95‬‬ ‫ذو ان ْت ِ َ‬ ‫زيٌز ُ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ّ‬
‫ه َوالل ُ‬ ‫من ْ ُ‬‫ه ِ‬ ‫ّ‬
‫م الل ُ‬ ‫ق ُ‬ ‫عاد َ فَي َن ْت َ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ َ‬
‫ما‬ ‫ذا َ‬ ‫ولما كان نفي الجناح يشمل المذكورات وغيرها‪ ،‬قيد ذلك بقوله‪ } :‬إ ِ َ‬
‫ت { أي‪ :‬بشرط أنهم تاركون للمعاصي‪،‬‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫وا َوآ َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ات ّ َ‬
‫مؤمنون بالله إيمانا صحيحا‪ ،‬موجبا لهم عمل الصالحات‪ ،‬ثم استمروا على‬
‫ذلك‪ .‬وإل فقد يتصف العبد بذلك في وقت دون آخر‪ .‬فل يكفي حتى يكون‬
‫كذلك حتى يأتيه أجله‪ ،‬ويدوم على إحسانه‪ ،‬فإن الله يحب المحسنين في‬
‫عبادة الخالق‪ ،‬المحسنين في نفع العبيد‪ ،‬ويدخل في هذه الية الكريمة‪،‬‬
‫من طعم المحرم‪ ،‬أو فعل غيره بعد التحريم‪ ،‬ثم اعترف بذنبه وتاب إلى‬
‫الله‪ ،‬واتقى وآمن وعمل صالحا‪ ،‬فإن الله يغفر له‪ ،‬ويرتفع عنه الثم في‬
‫ذلك‪.‬‬
‫] ص ‪[ 244‬‬
‫َ‬
‫ه‬‫صي ْدِ ت ََنال ُ ُ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫مُنوا ل َي َب ْل ُوَن ّك ُ ُ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 96 - 94‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ك فَل َ ُ‬
‫ه‬ ‫دى ب َعْد َ ذ َل ِ َ‬ ‫ن اعْت َ َ‬ ‫مَ ِ‬ ‫ب فَ َ‬ ‫ه ِبال ْغَي ْ ِ‬ ‫خافُ ُ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫م ل ِي َعْل َ َ‬ ‫حك ُ ْ‬
‫ما ُ‬ ‫م وَرِ َ‬ ‫ديك ُ ْ‬ ‫أي ْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫من ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ه ِ‬ ‫ن قَت َل َ ُ‬ ‫م ْ‬
‫م وَ َ‬ ‫حُر ٌ‬ ‫م ُ‬ ‫صي ْد َ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫قت ُُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا ل ت َ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م * َيا أي َّها ال ّ ِ‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫عَ َ‬
‫غ‬
‫م هَد ًْيا َبال ِ َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫م ب ِهِ ذ ََوا عَد ْ ٍ‬ ‫حك ُ ُ‬ ‫ن الن ّعَم ِ ي َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ما قَت َ َ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ ُ‬ ‫جَزاٌء ِ‬ ‫دا فَ َ‬ ‫م ً‬‫مت َعَ ّ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ما ل ِي َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫فا‬ ‫مرِهِ عَ َ‬ ‫ذوقَ وََبال أ ْ‬ ‫صَيا ً‬‫ن أوْ عَد ْل ذ َل ِك ِ‬ ‫كي َ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫م َ‬ ‫فاَرةٌ طَعا ُ‬ ‫الكعْب َةِ أوْ ك ّ‬
‫قام ٍ { ‪.‬‬ ‫ذو ان ْت ِ َ‬ ‫زيٌز ُ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ّ‬
‫ه َوالل ُ‬ ‫من ْ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫ّ‬
‫م الل ُ‬ ‫ق ُ‬ ‫َ‬
‫عاد َ في َن ْت َ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ف وَ َ‬ ‫سل َ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ه عَ ّ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫هذا من منن الله على عباده‪ ،‬أن أخبرهم بما سيفعل قضاء وقدرا‪،‬‬
‫ليطيعوه ويقدموا على بصيرة‪ ،‬ويهلك من هلك عن بينة‪ ،‬ويحيا من حي عن‬
‫َ‬
‫مُنوا { ل بد أن يختبر الله إيمانكم‪.‬‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫بينة‪ ،‬فقال تعالى‪َ } :‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫صي ْدِ { أي‪ :‬بشيء غير كثير‪ ،‬فتكون محنة‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ه بِ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫} ل َي َب ْل ُوَن ّك ُ ُ‬
‫يسيرة‪ ،‬تخفيفا منه تعالى ولطفا‪ ،‬وذلك الصيد الذي يبتليكم الله به } ت ََنال ُ ُ‬
‫ه‬
‫َ‬
‫م { أي‪ :‬تتمكنون من صيده‪ ،‬ليتم بذلك البتلء‪ ،‬ل غير‬ ‫حك ُ ْ‬ ‫ما ُ‬ ‫م وَرِ َ‬ ‫ديك ُ ْ‬‫أي ْ ِ‬
‫مقدور عليه بيد ول رمح‪ ،‬فل يبقى للبتلء فائدة‪.‬‬
‫ه { علما ظاهرا للخلق‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ثم ذكر الحكمة في ذلك البتلء‪ ،‬فقال‪ } :‬ل ِي َعْل َ َ‬
‫ب { فيكف عما نهى الله‬ ‫ه ِبال ْغَي ْ ِ‬ ‫خافُ ُ‬ ‫ن يَ َ‬‫م ْ‬ ‫يترتب عليه الثواب والعقاب } َ‬
‫عنه مع قدرته عليه وتمكنه‪ ،‬فيثيبه الثواب الجزيل‪ ،‬ممن ل يخافه بالغيب‪،‬‬
‫دى {‬ ‫ن اعْت َ َ‬ ‫فل يرتدع عن معصية تعرض له فيصطاد ما تمكن منه } فَ َ‬
‫م ِ‬
‫ك { البيان‪ ،‬الذي قطع الحجج‪ ،‬وأوضح السبيل‪ } .‬فَل َ ُ‬
‫ه‬ ‫منكم } ب َعْدِ ذ َل ِ َ‬
‫م { أي‪ :‬مؤلم موجع‪ ،‬ل يقدر على وصفه إل الله‪ ،‬لنه ل عذر‬ ‫َ‬ ‫عَ َ‬
‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬
‫لذلك المعتدي‪ ،‬والعتبار بمن يخافه بالغيب‪ ،‬وعدم حضور الناس عنده‪.‬‬
‫وأما إظهار مخافة الله عند الناس‪ ،‬فقد يكون ذلك لجل مخافة الناس‪ ،‬فل‬
‫يثاب على ذلك‪.‬‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ذي َ‬ ‫ثم صرح بالنهي عن قتل الصيد في حال الحرام‪ ،‬فقال‪َ } :‬يا أي َّها ال ِ‬
‫َ‬
‫م { أي‪ :‬محرمون في الحج والعمرة‪ ،‬والنهي‬ ‫حُر ٌ‬ ‫م ُ‬ ‫صي ْد َ وَأن ْت ُ ْ‬ ‫قت ُُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا ل ت َ ْ‬ ‫آ َ‬
‫عن قتله يشمل النهي عن مقدمات القتل‪ ،‬وعن المشاركة في القتل‪،‬‬
‫والدللة عليه‪ ،‬والعانة على قتله‪ ،‬حتى إن من تمام ذلك أنه ينهى المحرم‬
‫عن أكل ما ُقتل أو صيد لجله‪ ،‬وهذا كله تعظيم لهذا النسك العظيم‪ ،‬أنه‬
‫يحرم على المحرم قتل وصيد ما كان حلل له قبل الحرام‪.‬‬
‫دا { أي‪ :‬قتل صيدا عمدا } فـ { عليه‬ ‫م ً‬ ‫مت َعَ ّ‬ ‫م ُ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ن قَت َل َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫وقوله‪ } :‬وَ َ‬
‫ن الن ّعَم ِ { أي‪ :‬البل‪ ،‬أو البقر‪ ،‬أو الغنم‪ ،‬فينظر ما‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ما قَت َ َ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ ُ‬ ‫} جزاء ِ‬
‫يشبه شيئا من ذلك‪ ،‬فيجب عليه مثله‪ ،‬يذبحه ويتصدق به‪ .‬والعتبار‬
‫م { أي‪ :‬عدلن يعرفان الحكم‪ ،‬ووجه‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫ل ِ‬‫م ب ِهِ ذ ََوا عَد ْ ٍ‬ ‫حك ُ ُ‬ ‫بالمماثلة أن } ي َ ْ‬
‫الشبه‪ ،‬كما فعل الصحابة رضي الله عنهم‪ ،‬حيث قضوا بالحمامة شاة‪،‬‬
‫وفي النعامة بدنة‪ ،‬وفي بقر الوحش ‪-‬على اختلف أنواعه‪ -‬بقرة‪ ،‬وهكذا‬
‫كل ما يشبه شيئا من النعم‪ ،‬ففيه مثله‪ ،‬فإن لم يشبه شيئا ففيه قيمته‪،‬‬
‫غ‬
‫كما هو القاعدة في المتلفات‪ ،‬وذلك الهدي ل بد أن يكون } هَد ًْيا َبال ِ َ‬
‫ال ْك َعْب َةِ { أي‪ :‬يذبح في الحرم‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬كفارة ذلك الجزاء طعام مساكين‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫كي َ‬ ‫سا ِ‬ ‫م َ‬ ‫م َ‬ ‫فاَرةٌ ط ََعا ُ‬ ‫} أ َوْ ك َ ّ‬
‫يجعل مقابلة المثل من النعم‪ ،‬طعام يطعم المساكين‪.‬‬
‫قال كثير من العلماء‪ :‬يقوم الجزاء‪ ،‬فيشترى بقيمته طعام‪ ،‬فيطعم كل‬
‫ك { الطعام‬ ‫ل ذ َل ِ َ‬‫ف صاع من غيره‪ } .‬أ َوْ عَد ْ ُ‬ ‫مد ّ ب ُّر أو نص َ‬ ‫مسكين ُ‬
‫ذوقَ { بإيجاب‬ ‫ما { أي‪ :‬يصوم عن إطعام كل مسكين يوما‪ } .‬ل ِي َ ُ‬ ‫صَيا ً‬ ‫} ِ‬
‫َ‬
‫م الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ق ُ‬ ‫عاد َ { بعد ذلك } فَي َن ْت َ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫مرِهِ { } وَ َ‬ ‫لأ ْ‬ ‫الجزاء المذكور عليه } وََبا َ‬
‫قام ٍ { وإنما نص الله على المتعمد لقتل الصيد‪ ،‬مع‬ ‫ذو ان ْت ِ َ‬ ‫زيٌز ُ‬ ‫ه عَ ِ‬ ‫ه َوالل ّ ُ‬ ‫من ْ ُ‬‫ِ‬
‫أن الجزاء يلزم المتعمد والمخطئ‪ ،‬كما هو القاعدة الشرعية ‪-‬أن المتلف‬
‫للنفوس والموال المحترمة‪ ،‬فإنه يضمنها على أي حال كان‪ ،‬إذا كان إتلفه‬
‫بغير حق‪ ،‬لن الله رتب عليه الجزاء والعقوبة والنتقام‪ ،‬وهذا للمتعمد‪ .‬وأما‬
‫المخطئ فليس عليه عقوبة‪ ،‬إنما عليه الجزاء‪] ،‬هذا جواب الجمهور من‬
‫هذا القيد الذي ذكره الله‪ .‬وطائفة من أهل العلم يرون تخصيص الجزاء‬
‫بالمتعمد وهو ظاهر الية‪ .‬والفرق بين هذا وبين التضمين في الخطأ في‬
‫النفوس والموال في هذا الموضع الحق فيه لله‪ ،‬فكما ل إثم ل جزاء‬
‫لتلفه نفوس الدميين وأموالهم[ )‪. (1‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬ما بين القوسين زيادة من هامش أ‪ ،‬وجاء في هامش ب بدل منها‬
‫بخط المؤلف‪) :‬هذا قول جمهور العلماء‪ ،‬والصحيح ما صرحت به الية أنه‬
‫ل جزاء على غير المتعمد كما ل إثم عليه(‪.‬‬

‫) ‪(1/243‬‬

‫صي ْد ُ ال ْب َّر‬ ‫م عَل َي ْك ُ ْ‬


‫م َ‬ ‫حّر َ‬
‫سّياَرةِ وَ ُ‬ ‫عا ل َك ُ ْ‬
‫م وَِلل ّ‬ ‫مَتا ً‬ ‫ه َ‬
‫م ُ‬ ‫حرِ وَط ََعا ُ‬ ‫صي ْد ُ ال ْب َ ْ‬
‫م َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫أُ ِ‬
‫ح ّ‬
‫ن )‪(96‬‬ ‫شُرو َ‬‫ح َ‬ ‫ذي إ ِل َي ْهِ ت ُ ْ‬ ‫ه ال ّ ِ‬‫قوا الل ّ َ‬
‫ما َوات ّ ُ‬ ‫حُر ً‬‫م ُ‬ ‫مت ُ ْ‬‫ما د ُ ْ‬‫َ‬
‫صي ْد ُ ال ْب َّر‬ ‫م عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫حّر َ‬
‫سّياَرةِ وَ ُ‬ ‫عا ل َك ُ ْ‬
‫م وَِلل ّ‬ ‫مَتا ً‬ ‫ه َ‬ ‫حرِ وَط ََعا ُ‬
‫م ُ‬ ‫صي ْد ُ ال ْب َ ْ‬
‫م َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫} أُ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫شُرو َ‬ ‫ح َ‬ ‫ذي إ ِل َي ْهِ ت ُ ْ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫قوا الل ّ َ‬ ‫ما َوات ّ ُ‬
‫حُر ً‬‫م ُ‬ ‫مت ُ ْ‬
‫ما د ُ ْ‬
‫َ‬
‫) ‪(1/244‬‬

‫قَلئ ِد َ‬‫م َوال ْهَد ْيَ َوال ْ َ‬ ‫حَرا َ‬ ‫شهَْر ال ْ َ‬ ‫س َوال ّ‬ ‫ِ‬ ‫ما ِللّنا‬ ‫م قَِيا ً‬ ‫حَرا َ‬ ‫ت ال ْ َ‬ ‫ة ال ْب َي ْ َ‬
‫ه ال ْك َعْب َ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬‫جعَ َ‬ ‫َ‬
‫ه ب ِك ُ ّ‬
‫ل‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ذ َل ِ َ‬
‫ن الل َ‬ ‫ض وَأ ّ‬‫في الْر ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ي َعْل ُ‬‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ك ل ِت َعْل ُ‬
‫م )‪(98‬‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حي ٌ‬
‫فوٌر َر ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ب وَأ ّ‬ ‫قا ِ‬‫ديد ُ العِ َ‬ ‫ش ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫م )‪ (97‬اعْل ُ‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬
‫ن )‪(99‬‬ ‫مو َ‬ ‫ما ت َك ْت ُ ُ‬ ‫ن وَ َ‬‫دو َ‬‫ما ت ُب ْ ُ‬‫م َ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬ ‫ل إ ِّل ال ْب ََلغُ َوالل ّ ُ‬ ‫سو ِ‬ ‫ما عََلى الّر ُ‬ ‫َ‬
‫ولما كان الصيد يشمل الصيد البري والبحري‪ ،‬استثنى تعالى الصيد البحري‬
‫ه { أي‪ :‬أحل لكم ‪-‬في حال إحرامكم‪-‬‬ ‫م ُ‬ ‫حرِ وَط ََعا ُ‬ ‫صي ْد ُ ال ْب َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ح ّ‬ ‫فقال‪ } :‬أ ُ ِ‬
‫صيد البحر‪ ،‬وهو الحي من حيواناته‪ ،‬وطعامه‪ ،‬وهو الميت منها‪ ،‬فدل ذلك‬
‫سّياَرةِ { أي‪ :‬الفائدة في إباحته ] ص‬ ‫م وَِلل ّ‬ ‫عا ل َك ُ ْ‬ ‫مَتا ً‬ ‫على حل ميتة البحر‪َ } .‬‬
‫‪ [ 245‬لكم أنه لجل انتفاعكم وانتفاع رفقتكم الذين يسيرون معكم‪.‬‬
‫ما { ويؤخذ من لفظ "الصيد" أنه ل‬ ‫حُر ً‬ ‫م ُ‬ ‫مت ُ ْ‬ ‫ما د ُ ْ‬ ‫صي ْد ُ ال ْب َّر َ‬ ‫م َ‬ ‫م عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫} وَ ُ‬
‫بد أن يكون وحشيا‪ ،‬لن النسي ليس بصيد‪ .‬ومأكول فإن غير المأكول ل‬
‫ن { أي‪:‬‬ ‫شُرو َ‬ ‫ح َ‬‫ذي إ ِل َي ْهِ ت ُ ْ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫قوا الل ّ َ‬ ‫يصاد ول يطلق عليه اسم الصيد‪َ } .‬وات ّ ُ‬
‫اتقوه بفعل ما أمر به‪ ،‬وترك ما نهى عنه‪ ،‬واستعينوا على تقواه بعلمكم‬
‫أنكم إليه تحشرون‪ .‬فيجازيكم‪ ،‬هل قمتم بتقواه فيثيبكم الثواب الجزيل‪ ،‬أم‬
‫م‬
‫حَرا َ‬ ‫ت ال ْ َ‬ ‫ة ال ْب َي ْ َ‬ ‫ه ال ْك َعْب َ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫جع َ َ‬ ‫لم تقوموا بها فيعاقبكم؟‪َ } { 99 - 97 } .‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م َوال ْهَد ْيَ َوال ْ َ‬
‫ما‬ ‫م َ‬
‫ه ي َعْل ُ‬ ‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫َ‬
‫قلئ ِد َ ذ َل ِك ل ِت َعْل ُ‬ ‫حَرا َ‬ ‫شهَْر ال ْ َ‬ ‫س َوال ّ‬ ‫ما ِللّنا ِ‬ ‫قَِيا ً‬
‫هّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل َ‬ ‫ُ‬
‫ه ب ِك ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن الل َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫م * اعْل ُ‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ض وَأ ّ‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ِفي ال ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م‬
‫ه ي َعْل ُ‬ ‫ل ِإل الَبلغُ َوالل ُ‬ ‫سو ِ‬ ‫ما عَلى الّر ُ‬ ‫م* َ‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ب وَأ ّ‬ ‫قا ِ‬ ‫ديد ُ العِ َ‬ ‫ش ِ‬‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫ْ‬
‫ما ت َكت ُ ُ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ت ُب ْ ُ‬ ‫َ‬
‫س { يقوم بالقيام‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫لل‬‫ِ‬ ‫ما‬ ‫ً‬ ‫يا‬‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ق‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫را‬
‫َ‬ ‫ح‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ة‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫}‬ ‫جعل‬ ‫أنه‬ ‫تعالى‬ ‫يخبر‬
‫ِ‬
‫بتعظيمه ديُنهم ودنياهم‪ ،‬فبذلك يتم إسلمهم‪ ،‬وبه تحط أوزارهم‪ ،‬وتحصل‬
‫لهم ‪ -‬بقصده ‪ -‬العطايا الجزيلة‪ ،‬والحسان الكثير‪ ،‬وبسببه تنفق الموال‪،‬‬
‫وتتقحم )‪ - (1‬من أجله ‪ -‬الهوال‪.‬‬
‫ويجتمع فيه من كل فج عميق جميع أجناس المسلمين‪ ،‬فيتعارفون‬
‫ويستعين بعضهم ببعض‪ ،‬ويتشاورون على المصالح العامة‪ ،‬وتنعقد بينهم‬
‫الروابط في مصالحهم الدينية والدنيوية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ت‬‫ما ٍ‬ ‫معْلو َ‬ ‫م اللهِ ِفي أّيام ٍ َ‬ ‫م وَي َذ ْك ُُروا ا ْ‬
‫س َ‬ ‫مَنافِعَ ل َهُ ْ‬ ‫دوا َ‬ ‫شهَ ُ‬ ‫قال تعالى‪ } :‬ل ِي َ ْ‬
‫مةِ الن َْعام ِ { ومن أجل كون البيت قياما للناس قال‬ ‫ن ب َِهي َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما َرَزقَهُ ْ‬ ‫عََلى َ‬
‫من قال من العلماء‪ :‬إن حج بيت الله فرض كفاية في كل سنة‪ .‬فلو ترك‬
‫الناس حجه لثم كل قادر‪ ،‬بل لو ترك الناس حجه لزال ما به قوامهم‪،‬‬
‫وقامت القيامة‪.‬‬
‫قلئ ِد َ { أي‪ :‬وكذلك جعل الهدي والقلئد ‪-‬التي هي‬ ‫وقوله‪َ } :‬وال ْهَد ْيَ َوال ْ َ‬
‫ك‬‫أشرف أنواع الهدي‪ -‬قياما للناس‪ ،‬ينتفعون بهما ويثابون عليهما‪ } .‬ذ َل ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫يءٍ‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ه ب ِك ُ ّ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫ض وَأ ّ‬ ‫ما ِفي الْر ِ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ما ِفي ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫ل ِت َعْل َ ُ‬
‫م { فمن علمه أن جعل لكم هذا البيت الحرام‪ ،‬لما يعلمه من‬ ‫عَِلي ٌ‬
‫مصالحكم الدينية والدنيوية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ديد ُ ال ْعِ َ‬ ‫َ‬
‫م { أي‪ :‬ليكن هذان‬ ‫حي ٌ‬‫فوٌر َر ِ‬‫ه غَ ُ‬‫ن الل َ‬ ‫ب وَأ ّ‬ ‫قا ِ‬ ‫ش ِ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫موا أ ّ‬ ‫} اعْل َ ُ‬
‫العلمان موجودين في قلوبكم على وجه الجزم واليقين‪ ،‬تعلمون أنه شديد‬
‫العقاب العاجل والجل على من عصاه‪ ،‬وأنه غفور رحيم لمن تاب إليه‬
‫ف من عقابه‪ ،‬والرجاَء لمغفرته وثوابه‪،‬‬ ‫م الخو َ‬ ‫وأطاعه‪.‬فيثمر لكم هذا العل ُ‬
‫وتعملون على ما يقتضيه الخوف والرجاء‪.‬‬
‫ُ‬
‫مر‪ ،‬وقام‬ ‫ل ِإل ال َْبلغُ { وقد بّلغ كما أ ِ‬ ‫سو ِ‬ ‫ما عََلى الّر ُ‬ ‫ثم قال تعالى‪َ } :‬‬
‫ن‬
‫دو َ‬‫ما ت ُب ْ ُ‬‫م َ‬ ‫ه ي َعْل َ ُ‬ ‫بوظيفته‪ ،‬وما سوى ذلك فليس له من المر شيء‪َ } .‬والل ّ ُ‬
‫ن { فيجازيكم بما يعلمه تعالى منكم‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫ما ت َك ْت ُ ُ‬ ‫وَ َ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬وتقتحم‪.‬‬

‫) ‪(1/244‬‬

‫ه َيا ُأوِلي‬
‫قوا الل ّ َ‬
‫ث َفات ّ ُ‬ ‫ك ك َث َْرةُ ال ْ َ‬
‫خِبي ِ‬ ‫جب َ َ‬ ‫َ‬
‫ب وَل َوْ أعْ َ‬
‫ث َوالط ّي ّ ُ‬ ‫خِبي ُ‬‫وي ال ْ َ‬ ‫ل َل ي َ ْ‬
‫ست َ ِ‬ ‫قُ ْ‬
‫َ‬
‫ن )‪(100‬‬ ‫حو َ‬‫فل ِ ُ‬ ‫ب ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م تُ ْ‬ ‫اْلل َْبا ِ‬
‫ك ك َث َْرةُ ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ث َفات ّ ُ‬
‫قوا‬ ‫خِبي ِ‬ ‫ب وَل َوْ أعْ َ‬
‫جب َ َ‬ ‫ث َوالط ّي ّ ُ‬ ‫خِبي ُ‬ ‫وي ال ْ َ‬ ‫ست َ ِ‬‫ل ل يَ ْ‬ ‫} ‪ } { 100‬قُ ْ‬
‫ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬‫م تُ ْ‬‫ب ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫ه َيا أوِلي الل َْبا ِ‬ ‫الل ّ َ‬
‫وي‬‫ست َ ِ‬‫ل { للناس محذرا عن الشر ومرغبا في الخير‪ } :‬ل ي َ ْ‬ ‫أي‪ } :‬قُ ْ‬
‫ب { من كل شيء‪ ،‬فل يستوي اليمان والكفر‪ ،‬ول الطاعة‬ ‫ث َوالط ّي ّ ُ‬ ‫خِبي ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫والمعصية‪ ،‬ول أهل الجنة وأهل النار‪ ،‬ول العمال الخبيثة والعمال الطيبة‪،‬‬
‫ول المال الحرام بالمال الحلل‪.‬‬
‫ك ك َث َْرةُ ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ث { فإنه ل ينفع صاحبه شيئا‪ ،‬بل يضره في دينه‬ ‫خِبي ِ‬ ‫جب َ َ‬‫} وَل َوْ أعْ َ‬
‫ودنياه‪.‬‬
‫ن { فأمر أولي اللباب‪ ،‬أي‪ :‬أهل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫} َفات ّ ُ‬
‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬
‫م تُ ْ‬
‫ب لعَلك ْ‬ ‫ه َيا أوِلي اللَبا ِ‬ ‫قوا الل َ‬
‫العقول الوافية‪ ،‬والراء الكاملة‪ ،‬فإن الله تعالى يوجه إليهم الخطاب‪ .‬وهم‬
‫الذين يؤبه لهم‪ ،‬ويرجى أن يكون فيهم خير‪.‬‬
‫ثم أخبر أن الفلح متوقف على التقوى التي هي موافقة الله في أمره‬
‫ونهيه‪ ،‬فمن اتقاه أفلح كل الفلح‪ ،‬ومن ترك تقواه حصل له الخسران‬
‫وفاتته الرباح‪.‬‬

‫) ‪(1/245‬‬

‫سأ َُلوا عَن َْها‬


‫ن تَ ْ‬ ‫سؤْك ُ ْ‬
‫م وَإ ِ ْ‬ ‫ن ت ُب ْد َ ل َك ُ ْ‬
‫م تَ ُ‬ ‫شَياَء إ ِ ْ‬‫ن أَ ْ‬ ‫ْ‬ ‫سأ َُلوا عَ‬ ‫مُنوا َل ت َ ْ‬
‫ذي َ‬
‫نآ َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫َيا أي َّها ال ّ ِ‬
‫سأ َل ََها‬
‫م )‪ (101‬قَد ْ َ‬ ‫حِلي ٌ‬
‫فوٌر َ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ه عَن َْها َوالل ّ ُ‬ ‫فا الل ّ ُ‬ ‫ن ت ُب ْد َ ل َك ُ ْ‬
‫م عَ َ‬ ‫قْرآ َ ُ‬ ‫ل ال ْ ُ‬‫ن ي ُن َّز ُ‬
‫حي َ‬ ‫ِ‬
‫حوا ب َِها َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(102‬‬ ‫ري َ‬‫كافِ ِ‬ ‫صب َ ُ‬
‫مأ ْ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫قَوْ ٌ‬

‫ن أَ ْ‬ ‫} ‪ } { 102 ، 101‬يا أ َيها ال ّذين آمنوا ل ت َ‬


‫ن ت ُب ْد َ ل َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫شَياَء إ ِ ْ‬ ‫سأُلوا عَ ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫ِ َ َ ُ‬ ‫َ َّ‬
‫هّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫تسؤْك ُم وإن ت َ‬
‫ه عَن َْها َوالل ُ‬ ‫فا الل ُ‬ ‫م عَ َ‬ ‫ُ‬
‫ن ت ُب ْد َ لك ْ‬ ‫قْرآ ُ‬ ‫ل ال ُ‬ ‫ن ي ُن َّز ُ‬
‫حي َ‬ ‫سأُلوا عَن َْها ِ‬ ‫ْ َِ ْ َ ْ‬ ‫َ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫غَ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫حوا ب َِها كافِ ِ‬ ‫صب َ ُ‬
‫مأ ْ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫ن قَب ْل ِك ْ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫سألَها قَوْ ٌ‬ ‫م * قَد ْ َ‬ ‫حِلي ٌ‬ ‫فوٌر َ‬
‫ينهى عباده المؤمنين عن سؤال الشياء التي إذا بينت لهم ساءتهم‬
‫وأحزنتهم‪ ،‬وذلك كسؤال بعض المسلمين لرسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم عن آبائهم‪ ،‬وعن حالهم في الجنة أو النار‪ ،‬فهذا ربما أنه لو بين‬
‫للسائل لم يكن له فيه خير‪ ،‬وكسؤالهم للمور غير الواقعة‪.‬‬
‫وكالسؤال الذي يترتب عليه تشديدات في الشرع ربما أحرجت المة‪،‬‬
‫وكالسؤال عما ل يعني‪ ،‬فهذه السئلة‪ ،‬وما أشبهها هي المنهي عنها‪ ،‬وأما‬
‫السؤال الذي ل يترتب عليه شيء ] ص ‪ [ 246‬من ذلك فهذا )‪ (1‬مأمور‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ل ت َعْل َ ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ل الذ ّك ْرِ إ ِ ْ‬ ‫سأ َُلوا أ َهْ َ‬‫به‪ ،‬كما قال تعالى‪َ } :‬فا ْ‬
‫} وإن ت َ‬
‫م { أي‪ :‬وإذا وافق سؤالكم‬ ‫ن ت ُب ْد َ ل َك ُ ْ‬ ‫قْرآ ُ‬ ‫ل ال ْ ُ‬‫ن ُينز ُ‬ ‫حي َ‬ ‫سأُلوا عَن َْها ِ‬ ‫َِ ْ َ ْ‬
‫محله فسألتم عنها حين ينزل عليكم القرآن‪ ،‬فتسألون عن آية أشكلت‪ ،‬أو‬
‫حكم خفي وجهه عليكم‪ ،‬في وقت يمكن فيه نزول الوحي من السماء‪ ،‬تبد‬
‫ما سكت الله عنه‪.‬‬ ‫لكم‪ ،‬أي‪ :‬تبين لكم وتظهر‪ ،‬وإل فاسكتوا ع ّ‬
‫ه عَن َْها { أي‪ :‬سكت معافيا لعباده منها‪ ،‬فكل ما سكت الله عنه‬ ‫فا الل ّ ُ‬
‫} عَ َ‬
‫م { أي‪ :‬لم يزل بالمغفرة‬ ‫حِلي ٌ‬ ‫فوٌر َ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ّ‬
‫فهو مما أباحه وعفا عنه‪َ } .‬والل ُ‬
‫موصوفا‪ ،‬وبالحلم والحسان معروفا‪ ،‬فتعرضوا لمغفرته وإحسانه‪ ،‬واطلبوه‬
‫من رحمته ورضوانه‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م { أي‪ :‬جنسها‬ ‫ن قَب ْل ِك ُ ْ‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫سألَها قَوْ ٌ‬ ‫وهذه المسائل التي نهيتم عنها } قَد ْ َ‬
‫حوا ب َِها‬ ‫َ‬
‫صب َ ُ‬
‫وشبهها‪ ،‬سؤال تعنت ل استرشاد‪ .‬فلما بينت لهم وجاءتهم } أ ْ‬
‫ن { كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح‪" :‬ما‬ ‫ري َ‬‫كافِ ِ‬‫َ‬
‫نهيتكم عنه فاجتنبوه‪ ،‬وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم‪ ،‬فإنما أهلك‬
‫من كان قبلكم كثرة مسائلهم‪ ،‬واختلفهم على أنبيائهم"‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬فهو‪.‬‬

‫) ‪(1/245‬‬

‫ن كَ َ‬
‫فُروا‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫حام ٍ وَل َك ِ ّ‬
‫صيل َةٍ وََل َ‬ ‫سائ ِب َةٍ وََل وَ ِ‬
‫حيَرةٍ وََل َ‬ ‫ن بَ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ل الل ّ ُ‬
‫ه ِ‬ ‫جع َ َ‬
‫ما َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(103‬‬ ‫قلو َ‬ ‫ب وَأكث َُرهُ ْ‬
‫م ل ي َعْ ِ‬ ‫ن عَلى اللهِ الكذِ َ‬ ‫فت َُرو َ‬
‫يَ ْ‬
‫حام ٍ‬ ‫صيل َةٍ َول َ‬ ‫سائ ِب َةٍ َول وَ ِ‬ ‫حيَرةٍ َول َ‬ ‫ن بَ ِ‬‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬
‫جعَ َ‬
‫ما َ‬ ‫} ‪َ } { 104 ، 103‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قلو َ‬ ‫م ل ي َعْ ِ‬ ‫ْ‬
‫ب وَأكث َُرهُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن عَلى اللهِ الكذِ َ‬ ‫فت َُرو َ‬
‫فُروا ي َ ْ‬‫ن كَ َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫وَل َك ِ ّ‬
‫هذا ذم للمشركين الذين شرعوا في الدين ما لم يأذن به الله‪ ،‬وحرموا ما‬
‫أحله الله‪ ،‬فجعلوا بآرائهم الفاسدة شيئا من مواشيهم محرما‪ ،‬على حسب‬
‫حيَرةٍ {‬ ‫ن بَ ِ‬‫م ْ‬
‫ه ِ‬‫ل الل ّ ُ‬ ‫جعَ َ‬‫ما َ‬ ‫اصطلحاتهم التي عارضت ما أنزل الله فقال‪َ } :‬‬
‫وهي‪ :‬ناقة يشقون أذنها‪ ،‬ثم يحرمون ركوبها ويرونها محترمة‪.‬‬
‫سائ ِب َةٍ { وهي‪ :‬ناقة‪ ،‬أو بقرة‪ ،‬أو شاة‪ ،‬إذا بلغت شيئا اصطلحوا عليه‪،‬‬ ‫} َول َ‬
‫سيبوها فل تركب ول يحمل عليها ول تؤكل‪ ،‬وبعضهم ينذر شيئا من ماله‬
‫يجعله سائبة‪.‬‬
‫حام ٍ { أي‪ :‬جمل يحمى ظهره عن الركوب والحمل‪ ،‬إذا وصل إلى‬ ‫} َول َ‬
‫حالة معروفة بينهم‪.‬‬
‫فكل هذه مما جعلها المشركون محرمة بغير دليل ول برهان‪ .‬وإنما ذلك‬
‫ن‬‫افتراء على الله‪ ،‬وصادرة من جهلهم وعدم عقلهم‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَل َك ِ ّ‬
‫َ‬
‫ن { فل نقل فيها‬ ‫قُلو َ‬
‫م ل ي َعْ ِ‬ ‫ب وَأك ْث َُرهُ ْ‬ ‫ن عََلى الل ّهِ ال ْك َذِ َ‬ ‫فت َُرو َ‬‫فُروا ي َ ْ‬‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ول عقل‪ ،‬ومع هذا فقد أعجبوا بآرائهم التي بنيت على الجهالة والظلم‪.‬‬

‫) ‪(1/246‬‬

‫جد َْنا‬
‫ما وَ َ‬
‫سب َُنا َ‬ ‫ل َقاُلوا َ‬
‫ح ْ‬ ‫سو ِ‬ ‫ه وَإ َِلى الّر ُ‬
‫ل الل ّ ُ‬‫ما أ َن َْز َ‬‫وا إ َِلى َ‬‫م ت ََعال َ ْ‬‫ل ل َهُ ْ‬
‫ذا ِقي َ‬
‫وَإ ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(104‬‬ ‫دو َ‬‫شي ًْئا وَل ي َهْت َ ُ‬
‫ن َ‬
‫مو َ‬ ‫م ل ي َعْل ُ‬ ‫عَل َي ْهِ آَباَءَنا أوَلوْ كا َ‬
‫ن آَباؤُهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬

‫ما‬
‫سب َُنا َ‬ ‫ل َقاُلوا َ‬
‫ح ْ‬ ‫سو ِ‬‫ه وَإ َِلى الّر ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬
‫ل الل ّ ُ‬ ‫وا إ َِلى َ‬‫م ت ََعال َ ْ‬‫ل ل َهُ ْ‬
‫ذا ِقي َ‬‫} وَإ ِ َ‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫شي ًْئا َول ي َهْت َ ُ‬
‫دو َ‬ ‫ن َ‬
‫مو َ‬ ‫م ل ي َعْل َ ُ‬‫ن آَباؤُهُ ْ‬ ‫جد َْنا عَل َي ْهِ آَباَءَنا أوَل َوْ َ‬
‫كا َ‬ ‫وَ َ‬
‫ل { أعرضوا فلم يقبلوا‪ ،‬و‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ما أنز َ‬ ‫َ‬
‫سو ِ‬ ‫ه وَإ ِلى الّر ُ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫فإذا دعوا } إ ِلى َ‬
‫جد َْنا عَلي ْهِ آَباَءَنا { من الدين‪ ،‬ولو كان غير سديد‪ ،‬ول‬ ‫َ‬ ‫ما وَ َ‬ ‫سب َُنا َ‬‫ح ْ‬‫} َقاُلوا َ‬
‫ديًنا ينجي من عذاب الله‪.‬‬
‫ولو كان في آبائهم كفاية ومعرفة ودراية لهان المر‪ .‬ولكن آباءهم ل‬
‫يعقلون شيئا‪ ،‬أي‪ :‬ليس عندهم من المعقول شيء‪ ،‬ول من العلم والهدى‬
‫شيء‪ .‬فتبا لمن قلد من ل علم عنده صحيح‪ ،‬ول عقل رجيح‪ ،‬وترك اتباع ما‬
‫أنزل الله‪ ،‬واتباع رسله الذي يمل القلوب علما وإيمانا‪ ،‬وهدى‪ ،‬وإيقانا‪.‬‬

‫) ‪(1/246‬‬

‫م إ َِلى الل ّهِ‬ ‫ض ّ‬


‫ل إِ َ‬
‫ذا اهْت َد َي ْت ُ ْ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫ضّرك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫م َل ي َ ُ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫م أ َن ْ ُ‬‫مُنوا عَل َي ْك ُ ْ‬
‫ذي َ‬
‫نآ َ‬
‫َ‬
‫َيا أي َّها ال ّ ِ َ‬
‫ن )‪(105‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫م ت َعْ َ‬‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م بِ َ‬‫ميًعا فَي ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬
‫ج ِ‬
‫م َ‬‫جعُك ُ ْ‬‫مْر ِ‬‫َ‬
‫ذا‬ ‫ض ّ‬
‫ل إِ َ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬
‫م َ‬ ‫ضّرك ُ ْ‬‫م ل يَ ُ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫م أ َن ْ ُ‬
‫مُنوا عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬
‫َ‬
‫} ‪َ } { 105‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م ت َعْ َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫ميًعا فَي ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬‫ج ِ‬
‫م َ‬ ‫جعُك ُ ْ‬‫مْر ِ‬ ‫م إ َِلى الل ّهِ َ‬
‫اهْت َد َي ْت ُ ْ‬
‫م { أي‪ :‬اجتهدوا في‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫سك ْ‬ ‫ف َ‬ ‫م أن ْ ُ‬ ‫مُنوا عَلي ْك ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬
‫يقول تعالى‪َ } :‬يا أي َّها ال ِ‬
‫إصلحها وكمالها وإلزامها سلوك الصراط المستقيم‪ ،‬فإنكم إذا صلحتم ل‬
‫يضركم من ضل عن الصراط المستقيم‪ ،‬ولم يهتد إلى الدين القويم‪ ،‬وإنما‬
‫يضر نفسه‪.‬‬
‫ول يدل هذا على أن المر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ل يضر العبد َ‬
‫كهما وإهماُلهما‪ ،‬فإنه ل يتم هداه‪ ،‬إل بالتيان بما يجب عليه من المر‬ ‫تر ُ‬
‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬إذا كان عاجزا عن إنكار المنكر بيده ولسانه وأنكره بقلبه‪ ،‬فإنه ل‬
‫يضره ضلل غيره‪.‬‬
‫ميًعا { أي‪ :‬مآلكم يوم القيامة‪ ،‬واجتماعكم‬ ‫ج ِ‬‫م َ‬ ‫جعُك ُ ْ‬ ‫وقوله‪ } :‬إ َِلى الل ّهِ َ‬
‫مْر ِ‬
‫ن { من خير وشر‪.‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م ت َعْ َ‬ ‫م بِ َ‬‫بين يدي الله تعالى‪ } .‬فَي ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬
‫) ‪(1/246‬‬

‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬


‫صي ّةِ اث َْنا ِ‬
‫ن‬ ‫ن ال ْوَ ِ‬ ‫َ‬ ‫حي‬‫ت ِ‬ ‫موْ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫حد َك ُ ُ‬ ‫ضَر أ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ذا َ‬ ‫م إِ َ‬ ‫شَهاد َةُ ب َي ْن ِك ُ ْ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫َ‬ ‫َيا أي َّها ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َْ‬ ‫خران من غَيرك ُم إ َ‬ ‫ذ َوا عَدل منك ُ َ‬
‫صاب َت ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ض فَأ َ‬ ‫م ِفي الْر ِ‬ ‫ضَرب ْت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن أن ْت ُ ْ‬ ‫م أو ْ آ َ َ َ ِ ِ ْ ْ ِ ْ ِ ْ‬ ‫ْ ٍ ِ ْ ْ‬ ‫َ‬
‫م َل‬ ‫ت‬‫ب‬ ‫ت‬ ‫ر‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫إ‬
‫ّ ِ ُ ِ َ ِ ِ ِ ِ ِ ْ َُْ ْ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫بال‬ ‫ن‬ ‫ما‬ ‫س‬ ‫ْ‬ ‫ق‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ة‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ص‬ ‫ال‬ ‫م ِ َ ُ َ ْ ِ َ ْ ِ ُ َُ َ ِ ْ َْ ِ‬
‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ما‬ ‫ه‬ ‫ن‬ ‫سو‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫ت‬ ‫ت‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ة‬ ‫ب‬‫صي‬ ‫ُ‬
‫ن)‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫شَهاد َةَ اللهِ إ ِّنا إ ِ ً‬ ‫م َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫نَ ْ‬
‫مي َ‬ ‫ن ا لث ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ذا ل ِ‬ ‫ذا قْرَبى وَل ن َكت ُ ُ‬ ‫مًنا وَلوْ كا َ‬ ‫ري ب ِهِ ث َ‬ ‫شت َ ِ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬ ‫ما ِ‬ ‫مهُ َ‬ ‫قا َ‬ ‫م َ‬ ‫ن َ‬ ‫ما ِ‬ ‫قو َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫خَرا ِ‬ ‫ما فآ َ‬ ‫قا إ ِث ً‬ ‫ح ّ‬‫ست َ َ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ن عُث َِر عَلى أن ّهُ َ‬ ‫‪ (106‬فإ ِ ْ‬
‫ما‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ِباللهِ ل َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ما وَ َ‬ ‫شَهاد َت ِهِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫حق ّ ِ‬ ‫شَهاد َت َُنا أ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ق ِ‬ ‫ن في ُ ْ‬ ‫م الوْلَيا ِ‬ ‫حقّ عَلي ْهِ ُ‬ ‫ست َ َ‬ ‫ا ْ‬
‫َ‬ ‫ن ي َأُتوا ِبال ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫شَهاد َةِ عَلى‬ ‫ن )‪ (107‬ذ َل ِك أد َْنى أ ْ‬ ‫مي َ‬ ‫ن الظال ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ذا ل ِ‬ ‫اعْت َد َي َْنا إ ِّنا إ ِ ً‬
‫ه لَ‬ ‫مُعوا َوالل ُّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫جهَِها أ َوْ ي َ َ‬
‫س َ‬ ‫ه َوا ْ‬ ‫قوا الل َ‬ ‫م َوات ّ ُ‬ ‫مان ِهِ ْ‬ ‫ن ب َعْد َ أي ْ َ‬ ‫ما ٌ‬ ‫ن ت َُرد ّ أي ْ َ‬ ‫خاُفوا أ ْ‬ ‫وَ ْ‬
‫ن )‪(108‬‬ ‫قي َ‬ ‫س ِ‬ ‫فا ِ‬ ‫م ال َ‬‫ْ‬ ‫قوْ َ‬ ‫ْ‬
‫دي ال َ‬ ‫ي َهْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫حد َك ُ ُ‬ ‫ضَر أ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ذا َ‬ ‫م إِ َ‬ ‫شَهاد َةُ ب َي ْن ِك ُ ْ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 108 - 106‬يا أي َّها ال ّ ِ‬
‫خران من غَيرك ُم إ َ‬ ‫حين ال ْوصية اث ْنان ذ َوا عَدل منك ُ َ‬
‫م‬
‫ن أن ْت ُ ْ‬ ‫م أو ْ آ َ َ ِ ِ ْ ْ ِ ْ ِ ْ‬ ‫ْ ٍ ِ ْ ْ‬ ‫ت ِ َ َ ِ ّ ِ َ َ ِ َ‬ ‫موْ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫صلةِ‬ ‫ن ب َعْدِ ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫سون َهُ َ‬ ‫حب ِ ُ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫موْ ِ‬ ‫ة ال ْ َ‬ ‫صيب َ ُ‬ ‫م ِ‬ ‫م ُ‬ ‫صاب َت ْك ُ ْ‬ ‫ض فَأ َ‬ ‫م ِفي الْر ِ‬ ‫ضَرب ْت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ْ‬
‫ذا قُْرَبى َول ن َكت ُ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬
‫مًنا وَلوْ كا َ‬ ‫َ‬ ‫ري ب ِهِ ث َ َ‬ ‫شت َ ِ‬ ‫م ل نَ ْ‬ ‫ن اْرت َب ْت ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫ن ِباللهِ إ ِ ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ق ِ‬ ‫فَي ُ ْ‬
‫ما َفآ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن‬‫خَرا ِ‬ ‫قا إ ِث ْ ً‬ ‫ح ّ‬ ‫ست َ َ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ن عُث َِر عَلى أن ّهُ َ‬ ‫ن * فَإ ِ ْ‬ ‫مي َ‬ ‫ن الث ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ذا ل ِ‬ ‫شَهاد َةَ اللهِ إ ِّنا إ ِ ً‬ ‫َ‬
‫شَهاد َت َُنا‬ ‫َ‬
‫ن ِباللهِ ل َ‬ ‫ّ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ق ِ‬ ‫ن فَي ُ ْ‬ ‫َ‬
‫م الوْلَيا ِ‬ ‫َ‬
‫حقّ عَلي ْهِ ُ‬ ‫ست َ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬ ‫ما ِ‬ ‫مهُ َ‬ ‫قا َ‬ ‫م َ‬ ‫ن َ‬ ‫ما ِ‬ ‫قو َ‬ ‫يَ ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ي َأُتوا‬ ‫ن * ذ َل ِك أد َْنى أ ْ‬ ‫مي َ‬ ‫ن الظال ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ذا ل ِ‬ ‫ما اعْت َد َي َْنا إ ِّنا إ ِ ً‬ ‫ما وَ َ‬ ‫شَهاد َت ِهِ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫حق ّ ِ‬ ‫أ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫جهَِها أ َوْ ي َ َ‬
‫قوا الل ّ َ‬
‫ه‬ ‫م َوات ّ ُ‬ ‫مان ِهِ ْ‬ ‫ن ب َعْد َ أي ْ َ‬ ‫ما ٌ‬ ‫ن ت َُرد ّ أي ْ َ‬ ‫خاُفوا أ ْ‬ ‫شَهاد َةِ عََلى وَ ْ‬ ‫ِبال ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قي َ‬ ‫س ِ‬ ‫فا ِ‬ ‫م ال َ‬‫ْ‬ ‫قوْ َ‬ ‫ْ‬
‫دي ال َ‬ ‫ه ل ي َهْ ِ‬ ‫ّ‬
‫مُعوا َوالل ُ‬ ‫س َ‬ ‫َوا ْ‬
‫يخبر تعالى خبرا متضمنا للمر بإشهاد اثنين على الوصية‪ ،‬إذا حضر النسان‬
‫ت الموت وعلئمه‪ .‬فينبغي له أن ] ص ‪ [ 247‬يكتب وصيته‪ ،‬ويشهد‬ ‫مقدما ُ‬
‫عليها اثنين ذوي عدل ممن تعتبر شهادتهما‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬من غير أهل دينكم‪ ،‬من اليهود أو النصارى‬ ‫ن غَي ْرِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫خَرا ِ‬ ‫} أ َوْ آ َ‬
‫أو غيرهم‪ ،‬وذلك عند الحاجة والضرورة وعدم غيرهما من المسلمين‪.‬‬
‫َ‬ ‫}إ َ‬
‫ة‬
‫صيب َ ُ‬ ‫م ِ‬ ‫م ُ‬ ‫صاب َت ْك ُ ْ‬ ‫ض { أي‪ :‬سافرتم فيها } فَأ َ‬ ‫م ِفي الْر ِ‬ ‫ضَرب ْت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن أن ْت ُ ْ‬ ‫ِ ْ‬
‫ت { أي‪ :‬فأشهدوهما‪ ،‬ولم يأمر بشهادتهما إل لن قولهما في تلك‬ ‫موْ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫صلةِ { التي‬ ‫ن ب َعْدِ ال ّ‬ ‫م ْ‬ ‫الحال مقبول‪ ،‬ويؤكد عليهما‪ ،‬بأن يحبسا } ِ‬
‫يعظمونها‪.‬‬
‫م { في‬ ‫ن اْرت َب ْت ُ ْ‬ ‫ن ِباللهِ { أنهما صدقا‪ ،‬وما غيرا ول بدل هذا } إ ِ ِ‬ ‫ّ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ق ِ‬ ‫} فَي ُ ْ‬
‫شهادتهما‪ ،‬فإن صدقتموهما‪ ،‬فل حاجة إلى القسم بذلك‪.‬‬
‫مًنا { بأن نكذب فيها‪ ،‬لجل‬ ‫ري ب ِهِ { أي‪ :‬بأيماننا } ث َ َ‬ ‫شت َ ِ‬ ‫ويقولن‪ } :‬ل ن َ ْ‬
‫ذا قُْرَبى { فل نراعيه لجل قربه منا } َول‬ ‫ن َ‬ ‫عرض من الدنيا‪ } .‬وَل َوْ َ‬
‫كا َ‬
‫ذا { أي‪ :‬إن كتمناها‬ ‫شَهاد َةَ الل ّهِ { بل نؤديها على ما سمعناها } إ ِّنا إ ِ ً‬ ‫م َ‬ ‫ن َك ْت ُ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ن الث ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫} لَ ِ‬
‫َ‬
‫ما { بأن وجد من‬ ‫قا إ ِث ْ ً‬‫ح ّ‬
‫ست َ َ‬‫ما { أي‪ :‬الشاهدين } ا ْ‬ ‫ن عُث َِر عََلى أن ّهُ َ‬ ‫} فَإ ِ ْ‬
‫القرائن ما يدل على كذبهما وأنهما خانا } فآخران يقومان مقامهما من‬
‫الذين استحق عليهم الوليان { ‪.‬‬
‫أي‪ :‬فليقم رجلن من أولياء الميت‪ ،‬وليكونا من أقرب الولياء إليه‪.‬‬
‫ما { أي‪ :‬أنهما كذبا‪ ،‬وغيرا‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬ ‫ن ِبالل ّهِ ل َ َ‬ ‫} فَي ُ ْ‬
‫شَهاد َت ِهِ َ‬ ‫م ْ‬
‫حق ّ ِ‬ ‫شَهاد َت َُنا أ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ق ِ‬
‫ن { أي‪ :‬إن ظلمنا واعتدينا‪،‬‬ ‫مي َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ذا ل َ ِ‬ ‫ما اعْت َد َي َْنا إ ِّنا إ ِ ً‬ ‫وخانا‪ } .‬وَ َ‬
‫وشهدنا بغير الحق‪.‬‬
‫قال الله تعالى في بيان حكمة تلك الشهادة وتأكيدها‪ ،‬وردها على أولياء‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫الميت حين تظهر من الشاهدين الخيانة‪ } :‬ذ َل ِ َ َ‬
‫ك أد َْنى { أي‪ :‬أقرب } أ ْ‬
‫خاُفوا‬ ‫جهَِها { حين تؤكد عليهما تلك التأكيدات‪ } .‬أ َوْ ي َ َ‬ ‫شَهاد َةِ عََلى وَ ْ‬ ‫ي َأ ُْتوا ِبال ّ‬
‫م { أي‪ :‬أن ل تقبل أيمانهم‪ ،‬ثم ترد على أولياء‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مان ِهِ ْ‬ ‫ن ب َعْد َ أي ْ َ‬ ‫ما ٌ‬ ‫ن ت َُرد ّ أي ْ َ‬ ‫أ ْ‬
‫الميت‪.‬‬
‫فهم الفسق‪ ،‬فل يريدون‬ ‫ص ُ‬
‫ن { أي‪ :‬الذين و ْ‬ ‫قي َ‬ ‫س ِ‬ ‫فا ِ‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬ ‫قوْ َ‬ ‫ْ‬
‫دي ال َ‬ ‫ه ل ي َهْ ِ‬ ‫} َوالل ّ ُ‬
‫الهدى والقصد إلى الصراط المستقيم‪.‬‬
‫وحاصل هذا‪ ،‬أن الميت ‪ -‬إذا حضره الموت في سفر ونحوه‪ ،‬مما هو مظنة‬
‫قلة الشهود المعتبرين‪ -‬أنه ينبغي أن يوصي شاهدين مسلمين عدلين‪.‬‬
‫فإن لم يجد إل شاهدين كافرين‪ ،‬جاز أن يوصي إليهما‪ ،‬ولكن لجل كفرهما‬
‫فإن الولياء إذا ارتابوا بهما فإنهم يحلفونهما )‪ (1‬بعد الصلة‪ ،‬أنهما ما خانا‪،‬‬
‫ول كذبا‪ ،‬ول غيرا‪ ،‬ول بدل فيبرآن بذلك من حق يتوجه إليهما‪.‬‬
‫فإن لم يصدقوهما ووجدوا قرينة تدل على كذب الشاهدين‪ ،‬فإن شاء‬
‫أولياء الميت‪ ،‬فليقم منهم اثنان‪ ،‬فيقسمان بالله‪ :‬لشهادتهما أحق من‬
‫شهادة الشاهدين الولين‪ ،‬وأنهما خانا وكذبا‪ ،‬فيستحقون منهما ما يدعون‪.‬‬
‫وهذه اليات الكريمة نزلت في قصة "تميم الداري" و "عدي بن بداء"‬
‫المشهورة حين أوصى لهما العدوي‪ ،‬والله أعلم‪.‬‬
‫ويستدل باليات الكريمات على عدة أحكام‪:‬‬
‫منها‪ :‬أن الوصية مشروعة‪ ،‬وأنه ينبغي لمن حضره الموت أن يوصي‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنها معتبرة‪ ،‬ولو كان النسان وصل إلى مقدمات الموت وعلماته‪،‬‬
‫ما دام عقله ثابتا‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن شهادة الوصية ل بد فيها من اثنين عدلين‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن شهادة الكافرين في هذه الوصية ونحوها مقبولة لوجود‬
‫الضرورة‪ ،‬وهذا مذهب المام أحمد‪ .‬وزعم كثير من أهل العلم‪ :‬أن هذا‬
‫الحكم منسوخ‪ ،‬وهذه دعوى ل دليل عليها‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه ربما استفيد من تلميح الحكم ومعناه‪ ،‬أن شهادة الكفار ‪-‬عند‬
‫عدم غيرهم‪ ،‬حتى في غير هذه المسألة‪ -‬مقبولة‪ ،‬كما ذهب إلى ذلك شيخ‬
‫السلم ابن تيمية‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬جواز سفر المسلم مع الكافر إذا لم يكن محذور‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬جواز السفر للتجارة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الشاهدين ‪-‬إذا ارتيب منهما‪ ،‬ولم تبد قرينة تدل على خيانتهما‪،‬‬
‫وأراد الولياء‪ -‬أن يؤكدوا عليهم اليمين‪ ،‬ويحبسوهما من بعد الصلة‪،‬‬
‫فيقسمان بصفة ما ذكر الله تعالى‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه إذا لم تحصل تهمة ول ريب لم يكن حاجة إلى حبسهما‪ ،‬وتأكيد‬
‫اليمين عليهما‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬تعظيم أمر الشهادة حيث أضافها تعالى إلى نفسه‪ ،‬وأنه يجب‬
‫العتناء بها والقيام بها بالقسط‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه يجوز امتحان الشاهدين عند الريبة منهما‪ ،‬وتفريقهما لينظر عن‬
‫شهادتهما‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنه إذا وجدت القرائن الدالة على كذب الوصيين في هذه المسألة ‪-‬‬
‫قام اثنان من أولياء الميت فأقسما بالله‪ :‬أن أيماننا أصدق من أيمانهما‪،‬‬
‫ولقد خانا وكذبا‪.‬‬
‫ثم يدفع إليهما ما ادعياه‪ ،‬فتكون ] ص ‪ [ 248‬القرينة ‪-‬مع أيمانهما‪ -‬قائمة‬
‫مقام البينة‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في النسختين‪ :‬يحلفونهم‬

‫) ‪(1/246‬‬

‫عل ْم ل َنا إن َ َ‬ ‫ل ما َ ُ‬
‫ت عَّل ُ‬
‫م‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫م َقاُلوا َل ِ َ َ ِ ّ‬ ‫جب ْت ُ ْ‬ ‫ذا أ ِ‬ ‫قو ُ َ‬ ‫ل فَي َ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ه الّر ُ‬ ‫معُ الل ّ ُ‬ ‫ج َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫ي َوْ َ‬
‫َ‬
‫مِتي عَلي ْك وَعَلى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م اذ ْكْر ن ِعْ َ‬ ‫ُ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ه َيا ِ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ّ‬ ‫ب )‪ (109‬إ ِذ ْ َقا َ‬ ‫ال ْغُُيو ِ‬
‫َ‬
‫ك‬‫مت ُ َ‬ ‫مهْدِ وَك َهًْل وَإ ِذ ْ عَل ّ ْ‬ ‫س ِفي ال ْ َ‬ ‫م الّنا َ‬ ‫س ت ُك َل ّ ُ‬ ‫قد ُ ِ‬ ‫ك ب ُِروِح ال ْ ُ‬ ‫ك إ ِذ ْ أي ّد ْت ُ َ‬ ‫َوال ِد َت ِ َ‬
‫ن ك َهَي ْئ َةِ الط ّي ْرِ ب ِإ ِذ ِْني‬ ‫ن الطي ِ‬
‫ّ‬ ‫م َ‬ ‫خل ُقُ ِ‬ ‫ل وَإ ِذ ْ ت َ ْ‬ ‫جي َ‬ ‫ة َوالت ّوَْراةَ َواْل ِن ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ب َوال ْ ِ‬ ‫ال ْك َِتا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ج‬
‫خرِ ُ‬ ‫ص ب ِإ ِذ ِْني وَإ ِذ ْ ت ُ ْ‬ ‫ه َواْلب َْر َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ط َي ًْرا ب ِإ ِذ ِْني وَت ُب ْرِئُ اْلك ْ َ‬ ‫كو ُ‬ ‫خ ِفيَها فَت َ ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫فَت َن ْ ُ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ل ال ِ‬ ‫ّ‬ ‫قا َ‬ ‫ت فَ َ‬ ‫م ِبالب َي َّنا ِ‬ ‫ْ‬ ‫جئ ْت َهُ ْ‬ ‫ك إ ِذ ْ ِ‬ ‫ل عَن ْ َ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ت ب َِني إ ِ ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫موَْتى ب ِإ ِذ ِْني وَإ ِذ ْ ك َ َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ذا إّل سحر مبين )‪ (110‬وإذ ْ أ َوحيت إَلى ال ْحواريي َ‬ ‫كَ َ‬
‫ن‬
‫نأ ْ‬ ‫َ َ ِّ َ‬ ‫َِ ْ َ ْ ُ ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ ْ ٌ ُ ِ ٌ‬ ‫ن هَ َ ِ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫فُروا ِ‬
‫َ‬ ‫آَ ِ‬
‫ل‬‫ن )‪ (111‬إ ِذ ْ َقا َ‬ ‫مو َ‬ ‫سل ِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫شهَد ْ ب ِأن َّنا ُ‬ ‫مّنا َوا ْ‬ ‫سوِلي َقاُلوا آ َ‬ ‫مُنوا ِبي وَب َِر ُ‬
‫ل يستطيع رب َ َ‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫مائ ِد َةً ِ‬ ‫ل عَل َي َْنا َ‬ ‫ن ي ُن َّز َ‬ ‫كأ ْ‬ ‫م هَ ْ َ ْ َ ِ ُ َ ّ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ن َيا ِ‬ ‫وارِّيو َ‬ ‫ح َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫من َْها‬ ‫ل ِ‬ ‫ن ن َأك ُ َ‬ ‫ريد ُ أ ْ‬ ‫ن )‪َ (112‬قاُلوا ن ُ ِ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ه إِ ْ‬
‫َ‬
‫قوا الل ّ َ‬ ‫ل ات ّ ُ‬ ‫ماِء َقا َ‬ ‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫ن )‪(113‬‬ ‫دي َ‬ ‫شاهِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ن عَل َي َْها ِ‬ ‫كو َ‬ ‫صد َقْت ََنا وَن َ ُ‬ ‫ن قَد ْ َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ن قُُلوب َُنا وَن َعْل َ َ‬ ‫مئ ِ ّ‬ ‫وَت َط ْ َ‬
‫ن ل ََنا‬ ‫َ‬
‫كو ُ‬ ‫ماِء ت َ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫مائ ِد َةً ِ‬ ‫ل عَل َي َْنا َ‬ ‫م َرب َّنا أن ْزِ ْ‬ ‫م الل ّهُ ّ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ ُ‬ ‫عي َ‬ ‫ل ِ‬ ‫َقا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ن )‪َ (114‬قا َ‬ ‫خي ُْر الّرازِِقي َ‬ ‫ت َ‬ ‫ك َواْرُزقَْنا وَأن ْ َ‬ ‫من ْ َ‬ ‫ة ِ‬ ‫خرَِنا وَآي َ ً‬ ‫دا ِلوّل َِنا وَآ ِ‬ ‫عي ً‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫دا ِ‬ ‫ح ً‬ ‫هأ َ‬ ‫ذاًبا ل أعَذ ّب ُ ُ‬ ‫ه عَ َ‬ ‫م فَإ ِّني أعَذ ّب ُ ُ‬ ‫من ْك ْ‬ ‫فْر ب َعْد ُ ِ‬ ‫ن ي َك ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م فَ َ‬ ‫من َّزلَها عَلي ْك ْ‬ ‫إ ِّني ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫س‬‫ت ِلل َّنا َ ِ‬ ‫ت قُل َ‬ ‫م أ أن ْ َ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ه َيا ِ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ن )‪ (115‬وَإ ِذ ْ َقا َ‬ ‫مي َ‬ ‫ال َْعال َ ِ‬
‫ما‬ ‫ن أُقو َ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫حان َ َ‬ ‫ن الل ّهِ َقا َ‬ ‫م َ َ‬ ‫ُ‬ ‫خ ُ‬
‫ل َ‬ ‫ن ِلي أ ْ‬ ‫كو ُ‬ ‫ك َ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫ل ُ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ي إ ِلهَي ْ ِ‬ ‫ذوِني وَأ ّ‬ ‫ات ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ما ِفي‬ ‫م َ‬ ‫سي وَل أعْل ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫ما ِفي ن َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ت َعْل ُ‬ ‫مت َ ُ‬ ‫قد ْ عَل ِ ْ‬ ‫ه فَ َ‬ ‫ت قُلت ُ ُ‬ ‫ن كن ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫حق ّ إ ِ ْ‬ ‫س ِلي ب ِ َ‬ ‫ل َي ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ك إن َ َ‬
‫ن‬ ‫مْرت َِني ب ِهِ أ ِ‬ ‫ما أ َ‬ ‫م إ ِّل َ‬ ‫ت ل َهُ ْ‬ ‫ما قُل ْ ُ‬ ‫ب )‪َ (116‬‬ ‫م ال ْغُُيو ِ‬ ‫ت عَّل ُ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫س َ ِّ‬ ‫ف ِ‬ ‫نَ ْ‬
‫ما ت َوَفّي ْت َِني‬ ‫م فَل ّ‬‫َ‬ ‫ت ِفيهِ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ما د ُ ْ‬ ‫دا َ‬ ‫شِهي ً‬ ‫م َ‬ ‫ت عَلي ْهِ ْ‬ ‫َ‬ ‫م وَك ُن ْ ُ‬ ‫ه َرّبي وََرب ّك ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫دوا الل َ‬ ‫اعْب ُ ُ‬
‫ت عَلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ن ت ُعَذ ّب ْهُ ْ‬ ‫شِهيد ٌ )‪ (117‬إ ِ ْ‬ ‫يٍء َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫م وَأن ْ َ‬ ‫ب عَلي ْهِ ْ‬ ‫ت الّرِقي َ‬ ‫ت أن ْ َ‬ ‫ك ُن ْ َ‬
‫َ‬
‫ذا‬‫ه هَ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫م )‪َ (118‬قا َ‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫زيُز ال ْ َ‬ ‫ت ال ْعَ ِ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫م فَإ ِن ّ َ‬ ‫فْر ل َهُ ْ‬ ‫ن ت َغْ ِ‬ ‫ك وَإ ِ ْ‬ ‫عَباد ُ َ‬ ‫م ِ‬ ‫فَإ ِن ّهُ ْ‬
‫حت َِها اْلن َْهاُر َ‬ ‫َ‬
‫ن ِفيَها‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ت تَ ْ‬ ‫جّنا ٌ‬ ‫م َ‬ ‫م ل َهُ ْ‬ ‫صد ْقُهُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫فعُ ال ّ‬ ‫م ي َن ْ َ‬ ‫ي َوْ ُ‬
‫مل ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫م )‪ (119‬ل ِل ّهِ ُ‬ ‫ظي ُ‬ ‫فوُْز ال ْعَ ِ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫ه ذ َل ِ َ‬ ‫ضوا عَن ْ ُ‬ ‫م وََر ُ‬ ‫ه عَن ْهُ ْ‬ ‫ي الل ّ ُ‬ ‫ض َ‬ ‫دا َر ِ‬ ‫أب َ ً‬
‫ديٌر )‪(120‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ل َ‬ ‫ن وَهُوَ عََلى ك ُ ّ‬ ‫َْ‬
‫ش ْ‬ ‫ما ِفيهِ ّ‬ ‫ض وَ َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫ل ما َ ُ‬
‫م‬‫عل ْ َ‬‫م َقاُلوا ل ِ‬ ‫جب ْت ُ ْ‬
‫ذا أ ِ‬ ‫قو ُ َ‬ ‫ل فَي َ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ه الّر ُ‬ ‫معُ الل ّ ُ‬ ‫ج َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫} ‪ } { 110 ، 109‬ي َوْ َ‬
‫ّ‬ ‫ل َنا إن َ َ‬
‫مِتي‬ ‫ُ‬
‫م اذ ْكْر ن ِعْ َ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ه َيا ِ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ب * إ ِذ ْ َقا َ‬ ‫م ال ْغُُيو ِ‬ ‫عل ُ‬ ‫ت َ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫َ ِّ‬
‫َ‬
‫مهْدِ وَكْهل وَإ ِذ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫على َوال ِد َت ِك إ ِذ ْ أي ّد ْت ُك ب ُِروِح ال ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫عَل َي ْك وَ َ‬ ‫َ‬
‫س ِفي ال َ‬ ‫م الّنا َ‬ ‫س ت ُكل ُ‬ ‫قد ُ ِ‬
‫ن ك َهَي ْئ َ ِ‬
‫ة‬ ‫ّ‬ ‫خل ُقُ ِ‬ ‫ل وَإ ِذ ْ ت َ ْ‬ ‫جي َ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ب َوال ْ ِ‬ ‫ك ال ْك َِتا َ‬ ‫مت ُ َ‬ ‫عَل ّ ْ‬
‫ن الطي ِ‬ ‫م َ‬ ‫ة َوالت ّوَْراةَ َوالن ْ ِ‬ ‫م َ‬
‫ص ب ِإ ِذ ِْني‬ ‫ه َوالب َْر َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ط َي ًْرا ب ِإ ِذ ِْني وَت ُب ْرِئُ الك ْ َ‬ ‫كو ُ‬ ‫خ ِفيَها فَت َ ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫الط ّي ْرِ ب ِإ ِذ ِْني فَت َن ْ ُ‬
‫ت‬‫م ِبال ْب َي َّنا ِ‬ ‫جئ ْت َهُ ْ‬ ‫ك إ ِذ ْ ِ‬ ‫ل عَن ْ َ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ت ب َِني إ ِ ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫موَْتى ب ِإ ِذ ِْني وَإ ِذ ْ ك َ َ‬ ‫ج ال ْ َ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫وَإ ِذ ْ ت ُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِبي ٌ‬ ‫حٌر ُ‬ ‫س ْ‬ ‫ذا ِإل ِ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫فُروا ِ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ِ‬‫ّ‬ ‫قا َ‬ ‫فَ َ‬
‫يخبر تعالى عن يوم القيامة وما فيه من الهوال العظام‪ ،‬وأن الله يجمع به‬
‫م { أي‪ :‬ماذا أجابتكم به أممكم‪.‬‬ ‫جميع الرسل فيسألهم‪ } :‬ما َ ُ‬
‫جب ْت ُ ْ‬ ‫ذا أ ِ‬ ‫َ‬
‫ك أَ‬ ‫م ل ََنا {‬
‫ت‬ ‫ْ َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ن‬
‫ِّ‬ ‫إ‬ ‫}‬ ‫منا‪.‬‬ ‫أعلم‬ ‫فأنت‬ ‫ربنا‪،‬‬ ‫يا‬ ‫لك‬ ‫العلم‬ ‫وإنما‬ ‫عل ْ َ‬ ‫فـ } َقاُلوا ل ِ‬
‫ب { أي‪ :‬تعلم المور الغائبة والحاضرة‪.‬‬ ‫م ال ْغُُيو ِ‬ ‫عل ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫على َوال ِد َت ِك { أي‪:‬‬ ‫َ‬
‫مِتي عَلي ْك وَ َ‬ ‫َ‬ ‫م اذ ْكْر ن ِعْ َ‬ ‫ُ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ه َيا ِ‬ ‫ّ‬
‫} إ ِذ ْ قال الل ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اذكرها بقلبك ولسانك‪ ،‬وقم بواجبها شكرا لربك‪ ،‬حيث أنعم عليك نعما ما‬
‫أنعم بها على غيرك‪.‬‬
‫س { أي‪ :‬إذ قويتك بالروح والوحي‪ ،‬الذي طهرك‬ ‫قد ُ ِ‬ ‫ك ب ُِروِح ال ْ ُ‬ ‫} إ ِذ ْ أ َي ّد ْت ُ َ‬
‫وزكاك‪ ،‬وصار لك قوة على القيام بأمر الله والدعوة إلى سبيله‪ .‬وقيل‪ :‬إن‬
‫المراد "بروح القدس" جبريل عليه السلم‪ ،‬وأن الله أعانه به وبملزمته له‪،‬‬
‫وتثبيته في المواطن المشقة‪.‬‬
‫مهْدِ وَك َْهل { المراد بالتكليم هنا‪ ،‬غير التكليم المعهود‬ ‫س ِفي ال ْ َ‬ ‫م الّنا َ‬ ‫} ت ُك َل ّ ُ‬
‫الذي هو مجرد الكلم‪ ،‬وإنما المراد بذلك التكليم الذي ينتفع به المتكلم‬
‫والمخاطب‪ ،‬وهو الدعوة إلى الله‪.‬‬
‫ولعيسى عليه السلم من ذلك‪ ،‬ما لخوانه من أولي العزم من المرسلين‪،‬‬
‫من التكليم في حال الكهولة‪ ،‬بالرسالة والدعوة إلى الخير‪ ،‬والنهي عن‬
‫ي‬‫الشر‪ ،‬وامتاز عنهم بأنه كلم الناس في المهد‪ ،‬فقال‪ } :‬إ ِّني عَب ْد ُ الل ّهِ آَتان ِ َ‬
‫صلةِ َوالّز َ‬ ‫َ‬ ‫ال ْكتاب وجعل َِني نبيا * وجعل َِني مبار ً َ‬
‫ة‬
‫كا ِ‬ ‫صاِني ِبال ّ‬ ‫ت وَأوْ َ‬ ‫ما ك ُن ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫كا أي ْ َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َِّ‬ ‫َِ َ َ َ َ‬
‫حّيا { اليات‬ ‫ت َ‬ ‫م ُ‬ ‫ما د ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ة { فالكتاب يشمل الكتب السابقة وخصوصا‬ ‫م َ‬‫حك َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ب َوال ِ‬ ‫مت ُك الك َِتا َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫} وَإ ِذ ْ عَل ْ‬
‫التوراة فإنه من أعلم أنبياء بني إسرائيل ‪-‬بعد موسى‪ -‬بها ويشمل النجيل‬
‫الذي أنزله الله عليه‬
‫والحكمة هي معرفة أسرار الشرع وفوائده وحكمه وحسن الدعوة‬
‫والتعليم ومراعاة ما ينبغي على الوجه الذي ينبغي‬
‫ن ك َهَي ْئ َةِ الط ّي ْرِ { أي طيرا مصورا ل روح فيه فتنفخ‬ ‫ّ‬
‫ن الطي ِ‬ ‫م َ‬ ‫خل ُقُ ِ‬ ‫} وَإ ِذ ْ ت َ ْ‬
‫فيه فيكون طيرا بإذن الله وتبرئ الكمه الذي ل بصر له ول عين‬
‫موَْتى ب ِإ ِذ ِْني { فهذه آيات بي َّنات ومعجزات‬ ‫ج ال ْ َ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫ص ب ِإ ِذ ِْني وَإ ِذ ْ ت ُ ْ‬ ‫} َوالب َْر َ‬
‫باهرات يعجز عنها الطباء وغيرهم أيد الله بها عيسى وقوى بها دعوته‬
‫فُروا‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫قا َ‬ ‫ت فَ َ‬ ‫م ِبال ْب َي َّنا ِ‬ ‫جئ ْت َهُ ْ‬ ‫ك إ ِذ ْ ِ‬ ‫ل عَن ْ َ‬ ‫سَراِئي َ‬ ‫ت ب َِني إ ِ ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫ف ْ‬ ‫} وَإ ِذ ْ ك َ َ‬
‫ذا ِإل‬ ‫ن هَ َ‬ ‫م { لما جاءهم الحق مؤيدا بالبينات الموجبة لليمان به } إ ِ ْ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ِ‬
‫ف الله أيديهم‬ ‫ن { وهموا بعيسى أن يقتلوه وسعوا في ذلك فك ّ‬ ‫مِبي ٌ‬ ‫حٌر ُ‬ ‫س ْ‬ ‫ِ‬
‫عنه وحفظه منهم وعصمه‬
‫ن الله بها على عبده ورسوله عيسى ابن مريم ودعاه إلى‬ ‫ن امت َ ّ‬ ‫من َ ٌ‬ ‫فهذه ِ‬
‫شكرها والقيام بها فقام بها عليه السلم أتم القيام وصبر كما صبر إخوانه‬
‫من أولي العزم‬
‫سوِلي َقاُلوا‬ ‫} ‪ } { 120 - 111‬وإذ ْ أ َوحيت إَلى ال ْحواريي َ‬
‫مُنوا ِبي وَب َِر ُ‬ ‫نآ ِ‬ ‫نأ ْ‬ ‫َ َ ِّ َ‬ ‫َِ ْ َ ْ ُ ِ‬
‫مّنا { ‪.‬‬ ‫آ َ‬
‫إلى آخر اليات )‪ (1‬أي‪ :‬واذكر نعمتي عليك إذ يسرت لك أتباعا وأعوانا‪.‬‬
‫فأوحيت إلى الحواريين أي‪ :‬ألهمتهم‪ ،‬وأوزعت قلوبهم اليمان بي‬
‫وبرسولي‪ ،‬أو أوحيت إليهم على لسانك‪ ،‬أي‪ :‬أمرتهم بالوحي الذي جاءك‬
‫من عند الله‪ ،‬فأجابوا لذلك وانقادوا‪ ،‬وقالوا‪ :‬آمنا بالله‪ ،‬واشهد بأننا‬
‫مسلمون‪ ،‬فجمعوا بين السلم الظاهر‪ ،‬والنقياد بالعمال الصالحة‪،‬‬
‫واليمان الباطن المخرج لصاحبه من النفاق ومن ضعف اليمان‪.‬‬
‫والحواريون هم‪ :‬النصار‪ ،‬كما قال تعالى كما قال عيسى ابن مريم )‪(2‬‬
‫صاُر الل ّهِ { ‪.‬‬ ‫ل ال ْحواريون نح َ‬ ‫صاِري إ َِلى الل ّهِ َقا َ‬ ‫للحواريين‪ } :‬م َ‬
‫ن أن ْ َ‬ ‫َ َ ِّ َ َ ْ ُ‬ ‫ن أن ْ َ‬ ‫َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ن ُينزل عَلي َْنا‬ ‫َ‬
‫طيعُ َرب ّك أ ْ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫ْ‬
‫م هَل ي َ ْ‬ ‫مْري َ َ‬‫ن َ‬ ‫سى اب ْ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ن َيا ِ‬ ‫وارِّيو َ‬ ‫ح َ‬‫ل ال ْ َ‬ ‫} إ ِذ ْ َقا َ‬
‫ماِء { أي‪ :‬مائدة فيها طعام‪ ،‬وهذا ليس منهم عن شك في‬ ‫س َ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫مائ ِد َةً ِ‬ ‫َ‬
‫قدرة الله‪ ،‬واستطاعته على ذلك‪ .‬وإنما ذلك من باب العرض والدب منهم‪.‬‬
‫ولما كان سؤال آيات القتراح منافيا للنقياد للحق‪ ،‬وكان هذا الكلم‬
‫الصادر من الحواريين ربما أوهم ذلك‪ ،‬وعظهم عيسى عليه السلم فقال‪:‬‬
‫ن { فإن المؤمن يحمله ما معه‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫م ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫قوا الل ّ َ‬
‫ه إِ ْ‬ ‫] ص ‪ } [ 249‬ات ّ ُ‬
‫من اليمان على ملزمة التقوى‪ ،‬وأن ينقاد لمر الله‪ ،‬ول يطلب من آيات‬
‫القتراح التي ل يدري ما يكون بعدها شيئا‪.‬‬
‫فأخبر الحواريون أنهم ليس مقصودهم هذا المعنى‪ ،‬وإنما لهم مقاصد‬
‫من َْها { وهذا دليل‬ ‫ل ِ‬ ‫ن ن َأ ْك ُ َ‬ ‫َ‬
‫ريد ُ أ ْ‬ ‫صالحة‪ ،‬ولجل الحاجة إلى ذلك فـ } َقاُلوا ن ُ ِ‬
‫ن قُُلوب َُنا { باليمان حين نرى اليات‬ ‫مئ ِ ّ‬ ‫على أنهم محتاجون لها‪ } ،‬وَت َط ْ َ‬
‫العيانية‪ ،‬فيكون )‪ (3‬اليمان عين اليقين‪ ،‬كما كان قبل ذلك علم اليقين‪.‬‬
‫كما سأل الخليل عليه الصلة والسلم ربه أن يريه كيف يحيي الموتى‬
‫ن قَل ِْبي { فالعبد محتاج إلى زيادة‬ ‫} َقا َ َ‬
‫مئ ِ ّ‬‫ن ل ِي َط ْ َ‬ ‫ل ب ََلى وَل َك ِ ْ‬ ‫ن َقا َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ت ُؤْ ِ‬ ‫ل أوَل َ ْ‬
‫صد َقْت ََنا { أي‪:‬‬ ‫العلم واليقين واليمان كل وقت‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬ونعل َ َ‬
‫ن قَد ْ َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ََْ َ‬
‫ن{‬ ‫دي َ‬
‫شاهِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ن عَل َي َْها ِ‬ ‫كو َ‬ ‫نعلم صدق ما جئت به‪ ،‬أنه حق وصدق‪ } ،‬وَن َ ُ‬
‫فتكون مصلحة لمن بعدنا‪ ،‬نشهدها لك‪ ،‬فتقوم الحجة‪ ،‬ويحصل زيادة‬
‫البرهان بذلك‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب أكمل اليات إلى قوله‪) :‬وهو على كل شيء قدير(‪.‬‬
‫ن وهو كما قال الله تعالى حكاية لقول‬ ‫)‪ (2‬هكذا في الصل والمراد ب َي ّ ٌ‬
‫عيسى ابن مريم للحواريين‪.‬‬
‫)‪ (3‬في ب‪ :‬حتى يكون‪.‬‬

‫) ‪(1/248‬‬

‫فلما سمع عيسى عليه الصلة والسلم ذلك‪ ،‬وعلم مقصودهم‪ ،‬أجابهم إلى‬
‫ن ل ََنا‬ ‫ماِء ت َ ُ‬
‫كو ُ‬ ‫س َ‬
‫ن ال ّ‬
‫م َ‬
‫مائ ِد َةً ِ‬ ‫م َرب َّنا َأنز ْ‬
‫ل عَل َي َْنا َ‬ ‫طلبهم في ذلك‪ ،‬فقال‪ } :‬الل ّهُ ّ‬
‫ك { أي‪ :‬يكون وقت نزولها عيدا وموسما‪ ،‬يتذكر‬ ‫من ْ َ‬
‫ة ِ‬
‫خرَِنا َوآي َ ً‬
‫دا لوّل َِنا َوآ ِ‬
‫عي ً‬
‫ِ‬
‫به هذه الية العظيمة‪ ،‬فتحفظ ول تنسى على مرور الوقات وتكرر‬
‫السنين‪.‬‬
‫كما جعل الله تعالى أعياد المسلمين ومناسكهم مذكرا لياته‪ ،‬ومنبها على‬
‫سنن المرسلين وطرقهم القويمة‪ ،‬وفضله وإحسانه عليهم‪َ } .‬واْرُزقَْنا‬
‫ن { أي‪ :‬اجعلها لنا رزقا‪ ،‬فسأل عيسى عليه السلم‬ ‫َ‬
‫خيُر الّرازِِقي َ‬ ‫ت َ‬ ‫وَأن ْ َ‬
‫نزولها وأن تكون لهاتين المصلحتين‪ ،‬مصلحة الدين بأن تكون آية باقية‪،‬‬
‫ومصلحة الدنيا‪ ،‬وهي أن تكون رزقا‪.‬‬
‫ُ‬
‫ذاًبا ل‬ ‫ه عَ َ‬ ‫م فَإ ِّني أعَذ ّب ُ ُ‬ ‫ُ‬
‫من ْك ْ‬ ‫فْر ب َعْد ُ ِ‬ ‫ْ‬
‫ن ي َك ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م فَ َ‬ ‫منزل َُها عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ه إ ِّني ُ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫} َقا َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن { لنه شاهد الية الباهرة وكفر عنادا وظلما‪،‬‬ ‫مي َ‬ ‫ن الَعال ِ‬ ‫م َ‬ ‫دا ِ‬ ‫ح ً‬‫هأ َ‬ ‫أعَذ ّب ُ ُ‬
‫فاستحق العذاب الليم والعقاب الشديد‪ .‬واعلم أن الله تعالى وعد أنه‬
‫سينزلها‪ ،‬وتوعدهم ‪-‬إن كفروا‪ -‬بهذا الوعيد‪ ،‬ولم يذكر أنه أنزلها‪ ،‬فيحتمل‬
‫أنه لم ينزلها بسبب أنهم لم يختاروا ذلك‪ ،‬ويدل على ذلك‪ ،‬أنه لم يذكر في‬
‫النجيل الذي بأيدي النصارى‪ ،‬ول له وجود‪ .‬ويحتمل أنها نزلت كما وعد‬
‫الله‪ ،‬والله ل يخلف الميعاد‪ ،‬ويكون عدم ذكرها في الناجيل التي بأيديهم‬
‫من الحظ الذي ذكروا به فنسوه‪.‬‬
‫أو أنه لم يذكر في النجيل أصل وإنما ذلك كان متوارثا بينهم‪ ،‬ينقله الخلف‬
‫عن السلف‪ ،‬فاكتفى الله بذلك عن ذكره في النجيل‪ ،‬ويدل على هذا‬
‫ن { والله أعلم بحقيقة الحال‪.‬‬ ‫دي َ‬ ‫شاهِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ن عَل َي َْها ِ‬ ‫كو َ‬ ‫المعنى قوله‪ } :‬وَن َ ُ‬
‫م َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ي إ ِلهَي ْ ِ‬ ‫ذوِني وَأ ّ‬ ‫خ ُ‬ ‫س ات ّ ِ‬ ‫ت ِللّنا ِ‬ ‫ت قُل ْ َ‬ ‫م أ أن ْ َ‬ ‫مْري َ َ‬ ‫ن َ‬ ‫سى اب ْ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ه َيا ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫} وَإ ِذ ْ َقا َ‬
‫ن اللهِ { وهذا توبيخ للنصارى الذين قالوا‪ :‬إن الله ثالث ثلثة‪ ،‬فيقول‬ ‫ّ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ك { عن هذا الكلم‬ ‫حان َ َ‬ ‫سب ْ َ‬ ‫الله هذا الكلم لعيسى‪ .‬فيتبرأ عيسى ويقول‪ُ } :‬‬
‫ما ل يليق بك‪.‬‬ ‫القبيح‪ ،‬وع ّ‬
‫حقّ { أي‪ :‬ما ينبغي لي‪ ،‬ول يليق أن‬ ‫َ‬ ‫ن أُقو َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ما ي َ ُ‬
‫س ِلي ب ِ َ‬ ‫ما لي ْ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ِلي أ ْ‬ ‫كو ُ‬ ‫} َ‬
‫أقول شيئا ليس من أوصافي ول من حقوقي‪ ،‬فإنه ليس أحد من‬
‫المخلوقين‪ ،‬ل الملئكة المقربون ول النبياء المرسلون ول غيرهم له حق‬
‫ول استحقاق لمقام اللهية وإنما الجميع عباد‪ ،‬مدبرون‪ ،‬وخلق مسخرون‪،‬‬
‫َ‬
‫ما‬
‫م َ‬ ‫سي َول أعْل َ ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫ما ِفي ن َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ه ت َعْل َ ُ‬ ‫مت َ ُ‬ ‫قد ْ عَل ِ ْ‬ ‫ه فَ َ‬ ‫ت قُل ْت ُ ُ‬ ‫ن ك ُن ْ ُ‬ ‫وفقراء عاجزون } إ ِ ْ‬
‫َ‬
‫ب { وهذا‬ ‫م ال ْغُُيو ِ‬ ‫عل ُ‬ ‫ت َ‬ ‫ك أن ْ َ‬ ‫ك { فأنت أعلم بما صدر مني و } إ ِن ّ َ‬ ‫س َ‬ ‫ف ِ‬ ‫ِفي ن َ ْ‬
‫من كمال أدب المسيح عليه الصلة والسلم في خطابه لربه‪ ،‬فلم يقل‬
‫عليه السلم‪" :‬لم أقل شيئا من ذلك" وإنما أخبر بكلم ينفي عن نفسه أن‬
‫يقول كل مقالة تنافي منصبه الشريف‪ ،‬وأن هذا من المور المحالة‪ ،‬ونزه‬
‫ربه عن ذلك أتم تنزيه‪ ،‬ورد العلم إلى عالم الغيب والشهادة‪.‬‬
‫َ‬
‫مْرت َِني‬ ‫ما أ َ‬ ‫م ِإل َ‬ ‫ت ل َهُ ْ‬ ‫ما قُل ْ ُ‬ ‫ثم صرح بذكر ما أمر به بني إسرائيل‪ ،‬فقال‪َ } :‬‬
‫ه َرّبي‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫دوا الل َ‬ ‫ن اعْب ُ ُ‬ ‫ب ِهِ { فأنا عبد متبع لمرك‪ ،‬ل متجرئ على عظمتك‪ } ،‬أ ِ‬
‫م { أي‪ :‬ما أمرتهم إل بعبادة الله وحده وإخلص الدين له‪ ،‬المتضمن‬ ‫وََرب ّك ُ ْ‬
‫للنهي عن اتخاذي وأمي إلهين من دون الله‪ ،‬وبيان أني عبد مربوب‪ ،‬فكما‬
‫أنه ربكم فهو ربي‪.‬‬
‫م { أشهد على من قام بهذا المر‪،‬‬ ‫ت ِفيهِ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ما د ُ ْ‬ ‫دا َ‬ ‫شِهي ً‬ ‫م َ‬ ‫ت عَل َي ْهِ ْ‬ ‫} وَك ُن ْ ُ‬
‫َ‬
‫م { أي‪ :‬المطلع‬ ‫ب عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ت الّرِقي َ‬ ‫ت أن ْ َ‬ ‫ما ت َوَفّي ْت َِني ك ُن ْ َ‬ ‫ممن لم يقم به‪ } .‬فَل َ ّ‬
‫شِهيد ٌ { علما وسمعا‬ ‫يٍء َ‬ ‫ل َ‬ ‫ت عََلى ك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ش ْ‬ ‫على سرائرهم وضمائرهم‪ } .‬وَأن ْ َ‬
‫وبصرا‪ ،‬فعلمك قد أحاط بالمعلومات‪ ،‬وسمعك بالمسموعات‪ ،‬وبصرك‬
‫بالمبصرات‪ ،‬فأنت الذي تجازي عبادك بما تعلمه فيهم من خير وشر‪.‬‬
‫] ص ‪[ 250‬‬
‫عَباد ُك { وأنت أرحم بهم من أنفسهم وأعلم بأحوالهم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫م ِ‬ ‫م فَإ ِن ّهُ ْ‬ ‫ن ت ُعَذ ّب ْهُ ْ‬ ‫} إِ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫زيُز‬ ‫ت العَ ِ‬ ‫م فَإ ِن ّك أن ْ َ‬ ‫فْر لهُ ْ‬ ‫ن ت َغْ ِ‬ ‫فلول أنهم عباد متمردون لم تعذبهم‪ } .‬وَإ ِ ْ‬
‫م { أي‪ :‬فمغفرتك صادرة عن تمام عزة وقدرة‪ ،‬ل كمن يغفر ويعفو‬ ‫كي ُ‬
‫ح ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫عن عجز وعدم قدرة‪.‬‬
‫الحكيم حيث كان من مقتضى حكمتك أن تغفر لمن أتى بأسباب المغفرة‪.‬‬
‫من الهالك‪،‬‬ ‫من الفائز منهم و َ‬ ‫ه { مبينا لحال عباده يوم القيامة‪ ،‬و َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫} َقا َ‬
‫م{‬ ‫صد ْقُهُ ْ‬‫ن ِ‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫فعُ ال ّ‬‫م ي َن ْ َ‬ ‫من السعيد‪ } ،‬هَ َ‬
‫ذا ي َوْ ُ‬ ‫من الشقي و َ‬ ‫و َ‬
‫والصادقون هم الذين استقامت أعمالهم وأقوالهم ونياتهم على الصراط‬
‫دي القويم‪ ،‬فيوم القيامة يجدون ثمرة ذلك الصدق‪ ،‬إذا‬ ‫المستقيم واله ْ‬
‫ت‬‫جّنا ٌ‬ ‫م َ‬‫أحلهم الله في مقعد صدق عند مليك مقتدر‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬ل َهُ ْ‬
‫َ‬
‫ه ذ َل ِ َ‬
‫ك‬ ‫ضوا عَن ْ ُ‬‫م وََر ُ‬ ‫ه عَن ْهُ ْ‬‫ي الل ّ ُ‬‫ض َ‬
‫دا َر ِ‬ ‫ن ِفيَها أب َ ً‬ ‫دي َ‬
‫خال ِ ِ‬
‫حت َِها الن َْهاُر َ‬‫ن تَ ْ‬‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫تَ ْ‬
‫م { والكاذبون بضدهم‪ ،‬سيجدون ضرر كذبهم وافترائهم‪،‬‬ ‫ظي ُ‬‫فوُْز ال ْعَ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫وثمرة أعمالهم الفاسدة‪.‬‬
‫ض { لنه الخالق لهما والمدبر لذلك بحكمه‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ك ال ّ‬ ‫مل ْ ُ‬ ‫} ل ِل ّهِ ُ‬
‫القدري‪ ،‬وحكمه الشرعي‪ ،‬وحكمه الجزائي‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَهُوَ عََلى ك ُ ّ‬
‫ل‬
‫ديٌر { فل يعجزه شيء‪ ،‬بل جميع الشياء منقادة لمشيئته‪،‬‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫ومسخرة بأمره‪.‬‬
‫تم تفسير سورة المائدة بفضل من الله وإحسان‪ ،‬والحمد لله رب‬
‫العالمين‪.‬‬

‫) ‪(1/249‬‬

‫تفسير سورة النعام‬


‫وهي مكية‬

‫) ‪(1/250‬‬

‫م ال ّ ِ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ت َوالّنوَر ث ُ ّ‬‫ما ِ‬‫ل الظ ّل ُ َ‬‫جعَ َ‬
‫ض وَ َ‬‫ت َواْلْر َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫خل َقَ ال ّ‬
‫س َ‬ ‫ذي َ‬ ‫مد ُ ل ِل ّهِ ال ّ ِ‬‫ح ْ‬‫ال ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ج ٌ‬
‫ل‬ ‫جًل وَأ َ‬ ‫ضى أ َ‬ ‫م قَ َ‬
‫ن ثُ ّ‬ ‫طي ٍ‬
‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫خل َ َ‬
‫قك ُ ْ‬ ‫ن )‪ (1‬هُوَ ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫م ي َعْدُِلو َ‬ ‫فُروا ب َِرب ّهِ ْ‬ ‫كَ َ‬
‫َ‬
‫ن )‪(2‬‬ ‫مت َُرو َ‬
‫م تَ ْ‬
‫م أن ْت ُ ْ‬ ‫عن ْد َهُ ث ُ ّ‬‫مى ِ‬ ‫س ّ‬‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ت‬‫ماَوا ِ‬‫س َ‬‫خل َقَ ال ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫مد ُ ل ِل ّهِ ال ّ ِ‬
‫ح ْ‬ ‫حيم ِ ال ْ َ‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫م ِ‬
‫ح َ‬‫سم ِ الل ّهِ الّر ْ‬ ‫} ‪ } { 2 ، 1‬بِ ْ‬
‫ذي‬ ‫ّ‬
‫ن * هُوَ ال ِ‬ ‫ُ‬
‫م ي َعْدِلو َ‬ ‫فُروا ب َِرب ّهِ ْ‬ ‫َ‬
‫نك َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫م ال ِ‬ ‫ت َوالّنوَر ث ُ ّ‬ ‫ما ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ل الظل َ‬ ‫جع َ َ‬
‫ض وَ َ‬ ‫َوالْر َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫خل َ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مت َُرو َ‬‫م تَ ْ‬ ‫عن ْد َهُ ث ُ ّ‬
‫م أن ْت ُ ْ‬ ‫مى ِ‬ ‫س ّ‬
‫م َ‬ ‫ل ُ‬ ‫ج ٌ‬
‫جل وَأ َ‬ ‫ضى أ َ‬ ‫م قَ َ‬ ‫ن ثُ ّ‬‫طي ٍ‬‫ن ِ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫قك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫هذا إخبار عن حمده والثناء عليه بصفات الكمال‪ ،‬ونعوت العظمة والجلل‬
‫عموما‪ ،‬وعلى هذه المذكورات خصوصا‪ .‬فحمد نفسه على خلقه السماوات‬
‫والرض‪ ،‬الدالة على كمال قدرته‪ ،‬وسعة علمه ورحمته‪ ،‬وعموم‬
‫حكمته‪،‬وانفراده بالخلق والتدبير‪ ،‬وعلى جعله الظلمات والنور‪ ،‬وذلك‬
‫شامل للحسي من ذلك‪ ،‬كالليل والنهار‪ ،‬والشمس والقمر‪ .‬والمعنوي‪،‬‬
‫كظلمات الجهل‪ ،‬والشك‪ ،‬والشرك‪ ،‬والمعصية‪ ،‬والغفلة‪ ،‬ونور العلم‬
‫واليمان‪ ،‬واليقين‪ ،‬والطاعة‪ ،‬وهذا كله‪ ،‬يدل دللة قاطعة أنه تعالى‪ ،‬هو‬
‫المستحق للعبادة‪ ،‬وإخلص الدين له‪ ،‬ومع هذا الدليل ووضوح البرهان‬
‫ن { أي يعدلون به سواه‪ ،‬يسوونهم به في‬ ‫م ي َعْدُِلو َ‬
‫فُروا ب َِرب ّهِ ْ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬‫م ال ّ ِ‬ ‫} ثُ ّ‬
‫العبادة والتعظيم‪ ،‬مع أنهم لم يساووا الله في شيء من الكمال‪ ،‬وهم‬
‫فقراء عاجزون ناقصون من كل وجه‪.‬‬
‫ن { وذلك بخلق مادتكم وأبيكم آدم عليه‬ ‫طي ٍ‬
‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫خل َ َ‬
‫قك ُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫} هُوَ ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫جل { أي‪ :‬ضرب لمدة إقامتكم في هذه الدار أجل‬ ‫ضى أ َ‬ ‫م قَ َ‬ ‫السلم‪ } .‬ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫م أي ّك ْ‬‫تتمتعون به وتمتحنون‪ ،‬وتبتلون بما يرسل إليكم به رسله‪ } .‬ل ِي َب ْلوَك ْ‬
‫عن ْد َهُ {‬ ‫مى ِ‬ ‫ج ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫س ّ‬ ‫م َ‬
‫ل ُ‬ ‫مل { ويعمركم ما يتذكر فيه من تذكر‪ } .‬وَأ َ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬‫أ ْ‬
‫وهي‪ :‬الدار الخرة‪ ،‬التي ينتقل العباد إليها من هذه الدار‪ ،‬فيجازيهم‬
‫بأعمالهم من خير وشر‪.‬‬
‫َ‬
‫ن { أي‪ :‬تشكون في‬ ‫مت َُرو َ‬
‫م تَ ْ‬
‫م { مع هذا البيان التام وقطع الحجة } أن ْت ُ ْ‬ ‫} ثُ ّ‬
‫وعد اللهو ووعيده‪ ،‬ووقوع الجزاء يوم القيامة‪.‬‬

‫) ‪(1/250‬‬

‫َْ‬
‫ما‬ ‫م وَي َعْل َ ُ‬
‫م َ‬ ‫جهَْرك ُ ْ‬ ‫سّرك ُ ْ‬
‫م وَ َ‬ ‫ض ي َعْل َ ُ‬
‫م ِ‬ ‫ت وَِفي الْر ِ‬
‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬ ‫وَهُوَ الل ّ ُ‬
‫ه ِفي ال ّ‬
‫ن )‪(3‬‬‫سُبو َ‬ ‫ت َك ْ ِ‬

‫وذكر الله الظلمات بالجمع‪ ،‬لكثرة موادها وتنوع طرقها‪ .‬ووحد النور لكون‬
‫الصراط الموصلة إلى الله واحدة ل تعدد فيها‪ ،،‬وهي‪ :‬الصراط المتضمنة‬
‫ما‬ ‫ن هَ َ‬ ‫َ‬
‫قي ً‬‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬‫طي ُ‬ ‫صَرا ِ‬ ‫ذا ِ‬ ‫للعلم بالحق والعمل به‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬وَأ ّ‬
‫سِبيل ِهِ { ‪ } { 3 } .‬وَهُوَ الل ّ ُ‬
‫ه ِفي‬ ‫ن َ‬ ‫م عَ ْ‬‫فّرقَ ب ِك ُ ْ‬
‫ل فَت َ َ‬ ‫َفات ّب ُِعوهُ َول ت َت ّب ُِعوا ال ّ‬
‫سب ُ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ما ت َك ْ ِ‬
‫سُبو َ‬ ‫م وَي َعْل َ ُ‬
‫م َ‬ ‫جهَْرك ُ ْ‬
‫م وَ َ‬‫سّرك ُ ْ‬‫م ِ‬ ‫ض ي َعْل َ ُ‬
‫ت وَِفي الْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫أي‪ :‬وهو المألوه المعبود في السماوات وفي الرض‪ ،‬فأهل السماء‬
‫والرض‪ ،‬متعبدون لربهم‪ ،‬خاضعون لعظمته‪ ،‬مستكينون لعزه وجلله‪،‬‬
‫الملئكة المقربون‪ ،‬والنبياء والمرسلون‪ ،‬والصديقون‪ ،‬والشهداء‬
‫والصالحون‪.‬‬

‫) ‪(1/250‬‬

‫ْ‬
‫قد ْ ك َذ ُّبوا‬ ‫ن )‪ (4‬فَ َ‬ ‫ضي َ‬ ‫معْرِ ِ‬ ‫م إ ِّل َ‬
‫كاُنوا عَن َْها ُ‬ ‫ت َرب ّهِ ْ‬ ‫ن آ ََيا ِ‬ ‫ْ‬ ‫ن آ َي َةٍ ِ‬
‫م‬ ‫ْ‬ ‫م‬‫م ِ‬ ‫ما ت َأِتيهِ ْ‬ ‫وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م ي ََرْوا‬ ‫ن )‪ (5‬أل ْ‬ ‫ست َهْزُِئو َ‬ ‫َ‬
‫ما كاُنوا ب ِهِ ي َ ْ‬ ‫م أن َْباُء َ‬ ‫ف ي َأِتيهِ ْ‬ ‫سوْ َ‬ ‫م فَ َ‬ ‫جاَءهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫حق ّ ل ّ‬ ‫ِبال ْ َ‬
‫سل َْنا‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬
‫م وَأْر َ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬
‫مك ّ ْ‬ ‫م نُ َ‬ ‫ما ل َ ْ‬‫ض َ‬ ‫م ِفي الْر ِ‬ ‫مك ّّناهُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ن قَْر ٍ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫ن قَب ْل ِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م أهْل َك َْنا ِ‬ ‫كَ ْ‬
‫َ‬
‫م ب ِذ ُُنوب ِهِ ْ‬
‫م‬ ‫م فَأهْل َك َْناهُ ْ‬ ‫حت ِهِ ْ‬
‫ن تَ ْ‬‫م ْ‬ ‫ري ِ‬‫ج ِ‬‫جعَل َْنا اْل َن َْهاَر ت َ ْ‬ ‫مد َْراًرا وَ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ماَء عَل َي ْهِ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫وَأ َن ْ َ‬
‫ن )‪(6‬‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬‫م قَْرًنا آ َ‬ ‫ن ب َعْدِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫شأَنا ِ‬

‫وهو تعالى يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون‪ ،‬فاحذروا معاصيه‬


‫وارغبوا في العمال التي تقربكم منه‪ ،‬وتدنيكم من رحمته‪ ،‬واحذروا من‬
‫ن‬ ‫ْ‬
‫م ْ‬ ‫ن آي َةٍ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما ت َأِتيهِ ْ‬ ‫كل عمل يبعدكم منه ومن رحمته‪ } { 6 - 4 } .‬وَ َ‬
‫ف‬‫سوْ َ‬ ‫م فَ َ‬ ‫جاَءهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫حق ّ ل ّ‬ ‫قد ْ ك َذ ُّبوا ِبال ْ َ‬ ‫ن * فَ َ‬ ‫ضي َ‬ ‫معْرِ ِ‬ ‫كاُنوا عَن َْها ُ‬ ‫م ِإل َ‬ ‫ت َرب ّهِ ْ‬ ‫آَيا ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن قَْر ٍ‬
‫ن‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن قَب ْل ِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م أهْلكَنا ِ‬ ‫م ي ََرْوا ك ْ‬ ‫ن * أل ْ‬ ‫ست َهْزُِئو َ‬ ‫ما كاُنوا ب ِهِ ي َ ْ‬ ‫م أن َْباُء َ‬ ‫ي َأِتيهِ ْ‬
‫جعَل َْنا‬ ‫َ‬
‫مد َْراًرا وَ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ماَء عَل َي ْهِ ْ‬ ‫س َ‬ ‫سل َْنا ال ّ‬ ‫م وَأْر َ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬
‫مك ّ ْ‬‫م نُ َ‬ ‫ما ل َ ْ‬‫ض َ‬ ‫ِ‬ ‫م ِفي الْر‬ ‫مك ّّناهُ ْ‬ ‫َ‬
‫م قَْرًنا‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫نا‬ ‫ْ‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫النهار تجري من تحت ِهم فَأهْل َك ْناهُم بذ ُنوبهم وأ َ‬
‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِِ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬ ‫آ َ‬
‫هذا إخبار منه تعالى عن إعراض المشركين‪ ،‬وشدة تكذيبهم وعداوتهم‪،‬‬
‫ن‬ ‫ْ‬
‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ما ت َأِتيهِ ْ‬ ‫وأنهم ل تنفع فيهم اليات حتى تحل بهم المثلت‪ ،‬فقال‪ } :‬وَ َ‬
‫ت َرب ِّهم { الدالة على الحق دللة قاطعة‪ ،‬الداعية لهم إلى اتباعه‬ ‫ن آَيا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫آي َةٍ ِ‬
‫ضين { ل يلقون لها بال ول يصغون لها سمعا‪،‬‬ ‫معْرِ ِ‬ ‫َ‬
‫وقبوله } ِإل كاُنوا عَن َْها ُ‬
‫قد انصرفت قلوبهم إلى غيرها‪ ،‬وولوها أدباَرهم‪.‬‬
‫م { والحق حقه أن يتبع‪ ،‬ويشكر الله على‬ ‫جاَءهُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫حق ّ ل َ ّ‬ ‫قد ْ ك َذ ُّبوا ِبال ْ َ‬ ‫} فَ َ‬
‫تيسيره لهم‪ ،‬وإتيانهم به‪ ،‬فقابلوه بضد ما يجب مقابلته به فاستحقوا‬
‫ما َ‬ ‫ف يأ ِْتيه َ‬
‫ن { أي‪:‬‬ ‫ست َهْزُِئو َ‬ ‫كاُنوا ب ِهِ ي َ ْ‬ ‫م أن َْباُء َ‬ ‫سوْ َ َ ِ ْ‬ ‫العقاب الشديد‪ } .‬فَ َ‬
‫فسوف يرون ما استهزؤوا به‪ ،‬أنه الحق والصدق‪ ،‬ويبين الله للمكذبين‬
‫كذبهم وافتراءهم‪ ،‬وكانوا يستهزؤون بالبعث والجنة والنار‪ ،‬فإذا كان يوم‬
‫ن{‪.‬‬ ‫كنُتم ب َِها ت ُك َذ ُّبو َ‬ ‫القيامة قيل للمكذبين‪ } :‬هَذِهِ الّناُر ال ِّتي ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ث الل ّ ُ‬ ‫م ل ي َب ْعَ ُ‬ ‫مان ِهِ ْ‬
‫جهْد َ أي ْ َ‬ ‫موا ِبالل ّهِ َ‬ ‫س ُ‬ ‫] ص ‪ [ 251‬وقال تعالى‪ } :‬وَأقْ َ‬
‫قا ول َك َ‬
‫ذي‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫ن ل َهُ ُ‬ ‫ن * ل ِي ُب َي ّ َ‬ ‫مو َ‬ ‫س ل ي َعْل َ ُ‬ ‫ن أكَ ْث ََر الّنا ِ‬ ‫ح ّ َ ِ ّ‬ ‫دا عَل َي ْهِ َ‬ ‫ت ب ََلى وَعْ ً‬ ‫مو ُ‬ ‫يَ ُ‬
‫ن { ثم أمرهم أن يعتبروا‬ ‫َ‬
‫م كاُنوا كاذِِبي َ‬ ‫َ‬ ‫فُروا أن ّهُ ْ‬ ‫َ‬
‫نك َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫م ال ِ‬ ‫َ‬
‫ن ِفيهِ وَل ِي َعْل َ‬ ‫فو َ‬ ‫خت َل ِ ُ‬
‫يَ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن { أي كم‬ ‫ن قَْر ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن قَب ْل ِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م أهْلكَنا ِ‬ ‫م ي ََرْوا ك ْ‬ ‫بالمم السالفة فقال } أل ْ‬
‫م ِفي‬ ‫مكّناهُ ْ‬ ‫ّ‬ ‫تتابع إهلكنا للمم المكذبين وأمهلناهم قبل ذلك الهلك بأن } َ‬
‫ن { لهؤلء من الموال والبنين والرفاهية‬ ‫مك ّ ْ‬ ‫م نُ َ‬‫ما ل َ ْ‬ ‫ض َ‬ ‫الْر َ ِ‬
‫م { فينبت‬ ‫حت ِهِ ْ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫جعَلَنا الن َْهاَر ت َ ْ‬‫ْ‬ ‫مد َْراًرا وَ َ‬ ‫م ِ‬ ‫َ‬
‫ماَء عَلي ْهِ ْ‬ ‫س َ‬ ‫سلَنا ال ّ‬‫ْ‬ ‫} وَأْر َ‬
‫لهم بذلك ما شاء الله من زروع وثمار يتمتعون بها ويتناولون منها ما‬
‫يشتهونفلم يشكروا الله على نعمه بل أقبلوا على الشهوات وألهتهم أنواع‬
‫اللذات فجاءته مرسلهم بالبينات فلم يصدقوها بل ردوها وكذبوها فأهلكهم‬
‫ن {‪.‬‬ ‫ري َ‬‫خ ِ‬ ‫م قَْرًنا آ َ‬ ‫ن ب َعْدِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫الله بذنوبهم وأنشأ } ِ‬

‫) ‪(1/250‬‬

‫َ‬
‫ن‬
‫فُروا إ ِ ْ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫قا َ‬‫م لَ َ‬‫ديهِ ْ‬ ‫سوهُ ب ِأي ْ ِ‬
‫م ُ‬‫س فَل َ َ‬ ‫َ‬
‫ك ك َِتاًبا ِفي قِْرطا ٍ‬ ‫وَل َوْ ن َّزل َْنا عَل َي ْ َ‬
‫كا ل َ ُ‬‫مل َ ً‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ي‬
‫ض َ‬ ‫ق ِ‬ ‫ك وَل َوْ أن َْزل َْنا َ‬‫مل َ ٌ‬‫ل عَل َي ْهِ َ‬
‫ن )‪ (7‬وََقاُلوا ل َوَْل أن ْزِ َ‬‫مِبي ٌ‬
‫حٌر ُ‬ ‫ذا إ ِّل ِ‬
‫س ْ‬ ‫هَ َ‬
‫م َل ي ُن ْظ َُرو َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(8‬‬ ‫مُر ث ُ ّ‬ ‫اْل ْ‬
‫فهذه سنة الله ودأبه في المم السابقين واللحقين فاعتبروا بمن قص الله‬
‫سوهُ‬ ‫م ُ‬ ‫س فَل َ َ‬ ‫َ‬
‫ك ك َِتاًبا ِفي قِْرطا ٍ‬ ‫عليكم نبأهم‪ } { 9 - 7 }.‬وَل َوْ ن َّزل َْنا عَل َي ْ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ل عَل َي ْ ِ‬
‫ه‬ ‫ول أن ْزِ َ‬ ‫ن * وََقاُلوا ل َ ْ‬ ‫مِبي ٌ‬
‫حٌر ُ‬ ‫س ْ‬ ‫ذا ِإل ِ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫فُروا إ ِ ْ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬‫قا َ‬ ‫م لَ َ‬ ‫ديهِ ْ‬
‫ب ِأي ْ ِ‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫م ل ي ُن ْظ َُرو َ‬ ‫مُر ث ُ ّ‬ ‫ي ال ْ‬ ‫ض َ‬ ‫ق ِ‬‫كا ل َ ُ‬
‫مل َ ً‬‫ك وَل َوْ أن َْزل َْنا َ‬ ‫مل َ ٌ‬ ‫َ‬
‫هذا إخبار من الله لرسوله عن شدة عناد الكافرين‪ ،‬وأنه ليس تكذيبهم‬
‫لقصور فيما جئتهم به‪ ،‬ول لجهل منهم بذلك‪ ،‬وإنما ذلك ظلم وبغي‪ ،‬ل حيلة‬
‫َ‬
‫م{‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫سوهُ ب ِأي ْ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫س فَل َ َ‬ ‫َ‬
‫ك ك َِتاًبا ِفي قِْرطا ٍ‬ ‫لكم فيه‪،‬فقال‪ } :‬وَل َوْ نزل َْنا عَل َي ْ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِبي ٌ‬ ‫حٌر ُ‬ ‫س ْ‬ ‫ذا ِإل ِ‬ ‫ن هَ َ‬
‫فُروا { ظلما وعلوا } إ ِ ْ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬‫قا َ‬ ‫وتيقنوه } ل َ َ‬
‫فأي بينة أعظم من هذه البينة‪ ،‬وهذا قولهم الشنيع فيها‪ ،‬حيث كابروا‬
‫من عقل دفعه؟"‬ ‫من له أدنى مسكة ِ‬ ‫المحسوس الذي ل يمكن َ‬
‫ُ‬
‫ول أنز َ‬
‫ل‬ ‫} وََقاُلوا { أيضا تعنتا مبنيا على الجهل‪ ،‬وعدم العلم بالمعقول‪ } .‬ل ْ‬
‫َ‬
‫ك { أي‪ :‬هل أنزل مع محمد ملك‪ ،‬يعاونه ويساعده على ما هو‬ ‫مل َ ٌ‬‫عَل َي ْهِ َ‬
‫عليه بزعمهم أنه بشر‪ ،‬وأن رسالة الله‪ ،‬ل تكون إل على أيدي الملئكة‪.‬‬
‫قال الله في بيان رحمته ولطفه بعباده‪ ،‬حيث أرسل إليهم بشرا منهم‬
‫مل َ ً‬ ‫َ‬
‫كا {‬ ‫يكون اليمان بما جاء به‪ ،‬عن علم وبصيرة‪ ،‬وغيب‪ } .‬وَل َوْ أنزل َْنا َ‬
‫برسالتنا‪ ،‬لكان اليمان ل يصدر عن معرفة بالحق‪ ،‬ولكان إيمانا بالشهادة‪،‬‬
‫الذي ل ينفع شيئا وحده‪ ،‬هذا إن آمنوا‪ ،‬والغالب أنهم ل يؤمنون بهذه‬
‫الحالة‪ ،‬فإذا لم يؤمنوا قضي المر بتعجيل الهلك عليهم وعدم إنظارهم‪،‬‬
‫لن هذه سنة الله‪ ،‬فيمن طلب اليات المقترحة فلم يؤمن بها‪ ،‬فإرسال‬
‫الرسول البشري إليهم باليات البينات‪ ،‬التي يعلم الله أنها أصلح للعباد‪،‬‬
‫وأرفق بهم‪ ،‬مع إمهال الله للكافرين والمكذبين خير لهم وأنفع‪ ،‬فطلُبهم‬
‫لنزال الملك شر لهم لو كانوا يعلمون‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فالملك لو أنزل عليهم‪،‬‬
‫وأرسل‪ ،‬لم يطيقوا التلقي عنه‪ ،‬ول احتملوا ذلك‪ ،‬ول أطاقته قواهم الفانية‪.‬‬

‫) ‪(1/251‬‬

‫ن )‪(9‬‬ ‫ما ي َل ْب ِ ُ‬
‫سو َ‬ ‫سَنا عَل َي ْهِ ْ‬
‫م َ‬ ‫جًل وَل َل َب َ ْ‬
‫جعَل َْناهُ َر ُ‬
‫كا ل َ َ‬
‫مل َ ً‬
‫جعَل َْناهُ َ‬
‫وَل َوْ َ‬

‫ن{‪.‬‬ ‫ما ي َل ْب ِ ُ‬
‫سو َ‬ ‫سَنا عَل َي ْهِ ْ‬
‫م َ‬ ‫جل وَل َل َب َ ْ‬
‫جعَل َْناهُ َر ُ‬ ‫كا ل َ َ‬‫مل َ ً‬‫جعَل َْناهُ َ‬ ‫} وَل َوْ َ‬
‫جل { لن الحكمة ل تقتضي سوى ذلك‪.‬‬ ‫جعَل َْناهُ َر ُ‬ ‫كا ل َ َ‬‫مل َ ً‬‫جعَل َْناهُ َ‬ ‫} وَل َوْ َ‬
‫ن { أي‪ :‬ولكان المر‪ ،‬مختلطا عليهم‪ ،‬وملبوسا‬ ‫ما ي َل ْب ِ ُ‬
‫سو َ‬ ‫م َ‬ ‫سَنا عَل َي ْهِ ْ‬
‫} وَل َل َب َ ْ‬
‫وذلك بسبب ما لبسوه على أنفسهم‪ ،‬فإنهم بنوا أمرهم على هذه القاعدة‬
‫التي فيها اللبس‪ ،‬وبها عدم بيان الحق‪.‬‬

‫) ‪(1/251‬‬

‫ه‬
‫كاُنوا ب ِ ِ‬ ‫ما َ‬
‫م َ‬‫من ْهُ ْ‬
‫خُروا ِ‬ ‫س ِ‬‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫حاقَ ِبال ّ ِ‬ ‫ن قَب ْل ِ َ‬
‫ك فَ َ‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬
‫س ٍ‬‫ست ُهْزِئَ ب ُِر ُ‬
‫قدِ ا ْ‬ ‫وَل َ َ‬
‫ف َ‬ ‫م ان ْظ ُُروا ك َي ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ن )‪ (10‬قُ ْ‬ ‫ست َهْزُِئو َ‬
‫ة‬
‫عاقِب َ ُ‬
‫ن َ‬‫كا َ‬ ‫ض ثُ ّ‬ ‫سيُروا ِفي الْر ِ‬ ‫ل ِ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن )‪(11‬‬ ‫َ‬
‫مكذ ِّبي َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫فلما جاءهم الحق‪ ،‬بطرقه الصحيحة‪ ،‬وقواعده التي هي قواعده‪ ،‬لم يكن‬
‫ذلك هداية لهم‪ ،‬إذا اهتدى بذلك غيرهم‪ ،‬والذنب ذنبهم‪ ،‬حيث أغلقوا على‬
‫ست ُهْزِئَ‬
‫قدِ ا ْ‬ ‫أنفسهم باب الهدى‪ ،‬وفتحوا أبواب الضلل‪ } { 11 ، 10 } .‬وَل َ َ‬
‫ن * قُ ْ‬
‫ل‬ ‫ست َهْزُِئو َ‬ ‫كاُنوا ب ِهِ ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬‫خُروا ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫حاقَ ِبال ّ ِ‬ ‫ك فَ َ‬‫ن قَب ْل ِ َ‬
‫م ْ‬ ‫ل ِ‬‫س ٍ‬‫ب ُِر ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مك َذ ِّبي َ‬‫ة ال ْ ُ‬‫عاقِب َ ُ‬‫ن َ‬ ‫ف َ‬
‫كا َ‬ ‫م ان ْظ ُُروا ك َي ْ َ‬ ‫ض ثُ ّ‬
‫سيُروا ِفي الْر ِ‬ ‫ِ‬
‫قدِ‬ ‫َ‬
‫يقول تعالى مسليا لرسوله ومصبرا‪ ،‬ومتهددا أعداءه ومتوعدا‪ } .‬وَل َ‬
‫ك { لما جاءوا أممهم بالبينات‪ ،‬كذبوهم واستهزأوا‬ ‫ن قَب ْل ِ َ‬‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫س ٍ‬ ‫ست ُهْزِئَ ب ُِر ُ‬‫ا ْ‬
‫بهم وبما جاءوا به‪ .‬فأهلكهم الله بذلك الكفر والتكذيب‪ ،‬ووفى لهم من‬
‫ه‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ب ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫خُروا ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ن َ‬ ‫حاقَ ِبال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫العذاب أكمل نصيب‪ } .‬فَ َ‬
‫ن { فاحذروا ‪-‬أيها المكذبون‪ -‬أن تستمروا على تكذيبكم‪ ،‬فيصيبكم‬ ‫ست َهْزُِئو َ‬
‫يَ ْ‬
‫ما أصابهم‪.‬‬

‫) ‪(1/251‬‬
‫ة‬‫م َ‬
‫ح َ‬‫سهِ الّر ْ‬
‫ف ِ‬‫ب عََلى ن َ ْ‬ ‫ل ل ِل ّهِ ك َت َ َ‬
‫ض قُ ْ‬‫ِ‬ ‫ت َواْل َْر‬
‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل لِ َ‬ ‫قُ ْ‬
‫م َل‬ ‫َ‬
‫م فَهُ ْ‬
‫سهُ ْ‬‫ف َ‬‫سُروا أن ْ ُ‬
‫خ ِ‬‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫ب ِفيهِ ال ّ ِ‬ ‫مةِ َل َري ْ َ‬ ‫م إ َِلى ي َوْم ِ ال ْ ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫معَن ّك ُ ْ‬‫ج َ‬‫ل َي َ ْ‬
‫ن )‪(12‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫ي ُؤْ ِ‬

‫فإن شككتم في ذلك‪ ،‬أو ارتبتم‪ ،‬فسيروا في الرض‪ ،‬ثم انظروا‪ ،‬كيف كان‬
‫عاقبة المكذبين‪ ،‬فلن تجدوا إل قوما مهلكين‪ ،‬وأمما في المثلت تالفين‪ ،‬قد‬
‫أوحشت منهم المنازل‪ ،‬وعدم من تلك الربوع كل متمتع بالسرور نازل‪،‬‬
‫أبادهم الملك الجبار‪ ،‬وكان بناؤهم عبرة لولي البصار‪ .‬وهذا السير المأمور‬
‫به‪ ،‬سير القلوب والبدان‪ ،‬الذي يتولد منه العتبار‪ .‬وأما مجرد النظر من‬
‫ت‬ ‫ماَوا ِ‬
‫س َ‬‫ما ِفي ال ّ‬ ‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫ل لِ َ‬‫غير اعتبار‪ ،‬فإن ذلك ل يفيد شيئا‪ } { 12 } .‬قُ ْ‬
‫ب‬
‫مةِ ل َري ْ َ‬ ‫قَيا َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫م إ ِلى ي َوْم ِ ال ِ‬ ‫ُ‬
‫معَن ّك ْ‬
‫ج َ‬‫ة ل َي َ ْ‬‫م َ‬
‫ح َ‬
‫سهِ الّر ْ‬ ‫ف ِ‬‫ب عََلى ن َ ْ‬ ‫ل ل ِل ّهِ ك َت َ َ‬‫ض قُ ْ‬
‫َ‬ ‫َوالْر ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫م ل ي ُؤْ ِ‬ ‫م فَهُ ْ‬ ‫سهُ ْ‬
‫ف َ‬
‫سُروا أن ْ ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ِفيهِ ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ل { لهؤلء المشركين بالله‪،‬‬ ‫يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم } قُ ْ‬
‫من‬ ‫ض { أي‪َ :‬‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬
‫ما ِفي ال ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫مقررا لهم وملزما بالتوحيد‪ } :‬ل ِ َ‬
‫الخالق لذلك‪ ،‬المالك له‪ ،‬المتصرف فيه؟‬
‫ل { لهم‪ } :‬ل ِل ّهِ { وهم مقرون بذلك ل ينكرونه‪ ،‬أفل حين اعترفوا‬ ‫} قُ ْ‬
‫بانفراد الله بالملك والتدبير‪ ،‬أن يعترفوا له بالخلص والتوحيد؟"‪.‬‬

‫) ‪(1/251‬‬

‫خذ ُ‬‫ل أ َغَي َْر الل ّهِ أ َت ّ ِ‬ ‫م )‪ (13‬قُ ْ‬ ‫ميعُ ال ْعَِلي ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ل َوالن َّهارِ وَهُوَ ال ّ‬ ‫ن ِفي الل ّي ْ ِ‬ ‫سك َ َ‬‫ما َ‬ ‫ه َ‬ ‫وَل َ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫كو َ‬ ‫نأ ُ‬ ‫تأ ْ‬ ‫مْر ُ‬ ‫ل إ ِّني أ ِ‬ ‫م قُ ْ‬ ‫م وََل ي ُط ْعَ ُ‬ ‫ض وَهُوَ ي ُط ْعِ ُ‬ ‫ْ‬
‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫وَل ِّيا َفاط ِرِ ال ّ‬
‫َ‬ ‫لم َ‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫صي ْ ُ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫ف إِ ْ‬ ‫خا ُ‬ ‫ل إ ِّني أ َ‬ ‫ن )‪ (14‬قُ ْ‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬‫م وََل ت َ ُ‬ ‫سل َ َ‬‫نأ ْ‬ ‫أو ّ َ َ ْ‬
‫فوُْز‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫ه وَذ َل ِ َ‬ ‫م ُ‬ ‫ح َ‬‫قد ْ َر ِ‬ ‫مئ ِذٍ فَ َ‬ ‫ه ي َوْ َ‬‫ف عَن ْ ُ‬ ‫صَر ْ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ظيم ٍ )‪َ (15‬‬ ‫ب ي َوْم ٍ عَ ِ‬ ‫َرّبي عَ َ‬
‫ذا َ‬
‫س َ‬
‫ك‬ ‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ وَإ ِ ْ‬ ‫ف لَ ُ‬ ‫ش َ‬ ‫كا ِ‬ ‫ضّر فََل َ‬ ‫ه بِ ُ‬ ‫ك الل ّ ُ‬ ‫س َ‬ ‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن يَ ْ‬‫ن )‪ (16‬وَإ ِ ْ‬ ‫مِبي ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م‬
‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫عَبادِهِ وَهُوَ ال ْ َ‬ ‫قاهُِر فَوْقَ ِ‬ ‫ديٌر )‪ (17‬وَهُوَ ال ْ َ‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫خي ْرٍ فَهُوَ عََلى ك ُ ّ‬ ‫بِ َ‬
‫خِبيُر )‪(18‬‬ ‫ال ْ َ‬

‫ة { أي‪ :‬العالم العلوي والسفلي تحت‬ ‫م َ‬ ‫ح َ‬‫سهِ الّر ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ب عََلى ن َ ْ‬ ‫وقوله } ك َت َ َ‬


‫ملكه وتدبيره‪ ،‬وهو تعالى قد بسط عليهم رحمته وإحسانه‪ ،‬وتغمدهم‬
‫برحمته وامتنانه‪ ،‬وكتب على نفسه كتابا أن رحمته تغلب غضبه‪ ،‬وأن‬
‫العطاء أحب إليه من المنع‪ ،‬وأن الله قد فتح لجميع العباد أبواب الرحمة‪،‬‬
‫إن لم يغلقوا عليهم أبوابها بذنوبهم‪ ،‬ودعاهم إليها‪ ،‬إن لم تمنعهم من طلبها‬
‫ب ِفيهِ { وهذا‬ ‫مةِ ل َري ْ َ‬ ‫قَيا َ‬ ‫م إ َِلى ي َوْم ِ ال ْ ِ‬ ‫معَن ّك ُ ْ‬‫ج َ‬ ‫معاصيهم وعيوبهم‪ ،‬وقوله } ل َي َ ْ‬
‫قسم منه‪ ] ،‬ص ‪ [ 252‬وهو أصدق المخبرين‪ ،‬وقد أقام على ذلك من‬
‫الحجج والبراهين‪ ،‬ما يجعله حق اليقين‪ ،‬ولكن أبى الظالمون إل جحودا‪،‬‬
‫وأنكروا قدرة الله على بعث الخلئق‪ ،‬فأوضعوا في معاصيه‪ ،‬وتجرءوا على‬
‫م‬
‫سه ُ ْ‬‫ف َ‬ ‫سُروا أ َن ْ ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫الكفر به‪ ،‬فخسروا دنياهم وأخراهم‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬ال ّ ِ‬
‫و‬
‫ل َوالن َّهارِ وَهُ َ‬ ‫ن ِفي الل ّي ْ ِ‬ ‫سك َ َ‬‫ما َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن { ‪ } { 20 - 13 } .‬وَل َ ُ‬ ‫مُنو َ‬ ‫م ل ي ُؤْ ِ‬ ‫فَهُ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ل أغَي َْر اللهِ أت ّ ِ‬ ‫ْ‬
‫و‬
‫ض وَهُ َ‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫خذ ُ وَل ِّيا َفاط ِرِ ال ّ‬ ‫م * قُ ْ‬ ‫ميعُ العَِلي ُ‬ ‫س ِ‬‫ال ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬‫م َول ت َ ُ‬ ‫سل َ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م ْ‬‫ل َ‬ ‫ن أوّ َ‬‫كو َ‬ ‫نأ ُ‬ ‫تأ ْ‬ ‫مْر ُ‬ ‫ل إ ِّني أ ِ‬ ‫م قُ ْ‬
‫م َول ي ُطعَ ُ‬ ‫ي ُط ْعِ ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ظيم ٍ * َ‬ ‫ب ي َوْم ٍ عَ ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫ت َرّبي عَ َ‬ ‫صي ْ ُ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫ف إِ ْ‬ ‫خا ُ‬ ‫ل إ ِّني أ َ َ‬ ‫ن * قُ ْ‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ضّر‬
‫ه بِ ُ‬ ‫ك الل ّ ُ‬ ‫س َ‬‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ن * وَإ ِ ْ‬ ‫مِبي ُ‬ ‫فوُْز ال ْ ُ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫ه وَذ َل ِ َ‬ ‫م ُ‬‫ح َ‬ ‫قد ْ َر ِ‬ ‫مئ ِذٍ فَ َ‬ ‫ه ي َوْ َ‬ ‫ف عَن ْ ُ‬ ‫صَر ْ‬ ‫يُ ْ‬
‫و‬
‫ديٌر * وَهُ َ‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫خي ْرٍ فَهُوَ عَلى ك ّ‬ ‫سك ب ِ َ‬ ‫َ‬ ‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ه ِإل هُوَ وَإ ِ ْ‬ ‫َ‬
‫فل ُ‬ ‫ش َ‬ ‫َ‬
‫َفل كا ِ‬
‫خِبيُر { ‪.‬‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬ ‫كي ُ‬‫ح ِ‬ ‫ْ‬
‫عَبادِهِ وَهُوَ ال َ‬ ‫قاهُِر فَوْقَ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫اعلم أن هذه السورة الكريمة‪ ،‬قد اشتملت على تقرير التوحيد‪ ،‬بكل دليل‬
‫عقلي ونقلي‪ ،‬بل كادت أن تكون كلها في شأن التوحيد ومجادلة‬
‫المشركين بالله المكذبين لرسوله‪.‬‬
‫فهذه اليات‪ ،‬ذكر الله فيها ما يتبين به الهدى‪ ،‬وينقمع به الشرك‪ .‬فذكر أن‬
‫ل َوالن َّهارِ { وذلك هو المخلوقات كلها‪،‬‬ ‫ن ِفي الل ّي ْ ِ‬ ‫سك َ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ه { تعالى } َ‬ ‫} لَ ُ‬
‫جّنها‪ ،‬وملئكتها‪ ،‬وحيواناتها وجماداتها‪ ،‬فالكل خلق مدبرون‪،‬‬ ‫من آدميها‪،‬و ِ‬
‫وعبيد مسخرون لربهم العظيم‪ ،‬القاهر المالك‪ ،‬فهل يصح في عقل ونقل‪،‬‬
‫من هؤلء المماليك‪ ،‬الذي ل نفع عنده ول ضر؟ ويترك الخلص‬ ‫أن يعبد ِ‬
‫للخالق‪ ،‬المدبر المالك‪ ،‬الضار النافع؟! أم العقول السليمة‪ ،‬والفطر‬
‫المستقيمة‪ ،‬تدعو إلى إخلص العبادة‪ ،‬والحب‪ ،‬والخوف‪ ،‬والرجاء لله رب‬
‫العالمين؟!‪.‬‬
‫ميعُ { لجميع الصوات‪ ،‬على اختلف اللغات‪ ،‬بتفنن الحاجات‪.‬‬ ‫س ِ‬‫} ال ّ‬
‫م { بما كان‪ ،‬وما يكون‪ ،‬وما لم يكن لو كان كيف كان يكون‪،‬‬ ‫} ال ْعَِلي ُ‬
‫المطلع على الظواهر والبواطن؟!‪.‬‬
‫خذ ُ وَل ِّيا { من هؤلء‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ل { لهؤلء المشركين بالله‪ } :‬أغَي َْر اللهِ أت ّ ِ‬ ‫} قُ ْ‬
‫المخلوقات العاجزة يتولني‪ ،‬وينصرني؟!‪.‬‬
‫فل أتخذ من دونه تعالى وليا‪ ،‬لنه فاطر السماوات والرض‪ ،‬أي‪ :‬خالقهما‬
‫م { أي‪ :‬وهو الرزاق لجميع الخلق‪ ،‬من‬ ‫م َول ي ُط ْعَ ُ‬ ‫ومدبرهما‪ } .‬وَهُوَ ي ُط ْعِ ُ‬
‫غير حاجة منه تعالى إليهم‪ ،‬فكيف يليق أن أتخذ وليا غير الخالق الرزاق‪،‬‬
‫لم َ‬ ‫كو َ‬ ‫ل إني أ ُمرت أ َ َ‬
‫م { لله بالتوحيد‪،‬‬ ‫سل َ َ‬‫نأ ْ‬ ‫ن أوّ َ َ ْ‬ ‫نأ ُ َ‬ ‫ِ ْ ُ ْ‬ ‫الغني الحميد؟" } قُ ْ ِ ّ‬
‫وانقاد له بالطاعة‪ ،‬لني أولى من غيري بامتثال أوامر ربي‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬ونهيت أيضا‪ ،‬عن أن أكون من‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬ ‫} َول ت َ ُ‬
‫المشركين‪ ،‬ل في اعتقادهم‪ ،‬ول في مجالستهم‪ ،‬ول في الجتماع بهم‪،‬‬
‫ي‪ ،‬وأوجب الواجبات‪.‬‬ ‫فهذا أفرض الفروض عل ّ‬
‫ظيم ٍ { فإن المعصية في‬ ‫ب ي َوْم ٍ عَ ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫ت َرّبي عَ َ‬ ‫صي ْ ُ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫ف إِ ْ‬ ‫خا ُ‬ ‫ل إ ِّني أ َ َ‬ ‫} قُ ْ‬
‫الشرك توجب الخلود في النار‪ ،‬وسخط الجبار‪.‬وذلك اليوم هو اليوم الذي‬ ‫َ‬
‫صرف عنه العذاب يومئذ فهو‬ ‫من ُ‬ ‫ُيخاف عذابه‪ ،‬وُيحذر عقابه؛ لنه َ‬
‫المرحوم‪ ،‬ومن نجا فيه فهو الفائز حقا‪ ،‬كما أن من لم ينجمنه فهو الهالك‬
‫الشقي‪.‬‬
‫ومن أدلة توحيده‪ ،‬أنه تعالى المنفرد بكشف الضراء‪ ،‬وجلب الخير‬
‫ضّر { من فقر‪ ،‬أو مرض‪ ،‬أو‬ ‫ه بِ ُ‬ ‫ك الل ّ ُ‬ ‫س َ‬ ‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن يَ ْ‬‫والسراء‪ .‬ولهذا قال‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫ر‬
‫خي ْ ٍ‬‫ك بِ َ‬ ‫س َ‬‫س ْ‬ ‫م َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ه ِإل هُوَ وَإ ِ ْ‬ ‫ف لَ ُ‬ ‫ش َ‬ ‫كا ِ‬ ‫عسر‪ ،‬أو غم‪ ،‬أوهم أو نحوه‪َ } .‬فل َ‬
‫ديٌر { فإذا كان وحده النافع الضار‪ ،‬فهو الذي يستحق‬ ‫يٍء قَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫فَهُوَ عََلى ك ُ ّ‬
‫أن يفرد بالعبودية واللهية‪.‬‬
‫عَبادِهِ { فل يتصرف منهم متصرف‪ ،‬ول يتحرك متحرك‪،‬‬ ‫قاهُِر فَوْقَ ِ‬ ‫} وَهُوَ ال ْ َ‬
‫ول يسكن ساكن‪ ،‬إل بمشيئته‪ ،‬وليس للملوك وغيرهم الخروج عن ملكه‬
‫وسلطانه‪ ،‬بل هم مدبرون مقهورون‪ ،‬فإذا كان هو القاهر وغيره مقهورا‪،‬‬
‫كان هو المستحق للعبادة‪.‬‬
‫م { فيما أمر به ونهى‪ ،‬وأثاب‪ ،‬وعاقب‪ ،‬وفيما خلق وقدر‪.‬‬
‫كي ُ‬ ‫} وَهُوَ ال ْ َ‬
‫ح ِ‬
‫خِبيُر { المطلع على السرائر والضمائر وخفايا المور‪ ،‬وهذا كله من‬ ‫} ال ْ َ‬
‫أدلة التوحيد‪.‬‬

‫) ‪(1/251‬‬

‫ذا‬‫ي هَ َ‬ ‫ي إ ِل َ ّ‬
‫ح َ‬ ‫م وَُأو ِ‬ ‫شِهيد ٌ ب َي ِْني وَب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫شَهاد َةً قُ ِ‬‫يٍء أ َك ْب َُر َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل أ َيّ َ‬ ‫قُ ْ‬
‫ل لَ‬‫خَرى قُ ْ‬ ‫ةأ ْ‬‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫معَ اللهِ آل ِهَ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م لت َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ن َ‬ ‫نأ ّ‬ ‫دو َ‬ ‫شه َ ُ‬ ‫ن ب َلغَ أئ ِن ّك ْ‬ ‫م ْ‬
‫م ب ِهِ وَ َ‬ ‫ن ِلن ْذَِرك ْ‬ ‫قْرآ ُ‬
‫م‬ ‫ذي َ‬
‫ن )‪ (19‬ال ّ ِ َ‬
‫ن آت َي َْناهُ ُ‬ ‫كو َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ما ت ُ ْ‬‫م ّ‬‫ريٌء ِ‬ ‫ِ‬ ‫حد ٌ وَإ ِن ِّني ب َ‬ ‫ه َوا ِ‬‫ما هُوَ إ ِل َ ٌ‬ ‫ل إ ِن ّ َ‬ ‫شهَد ُ قُ ْ‬ ‫أَ ْ‬
‫ن‬ ‫م َل ي ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫م فَهُ ْ‬ ‫سهُ ْ‬ ‫سُروا أ َن ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫م ال ّ ِ‬‫ن أب َْناَءهُ ُ‬
‫ال ْكتاب يعرُفونه ك َما يعرُفو َ‬
‫َ‬ ‫َِ َ َْ ِ َ ُ َ َْ ِ‬
‫)‪(20‬‬

‫ي هَ َ‬
‫ذا‬ ‫ي إ ِل َ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫م وَُأو ِ‬ ‫شِهيد ٌ ب َي ِْني وَب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫شَهاد َةً قُ ِ‬ ‫يٍء أ َك ْب َُر َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل أ َيّ َ‬ ‫} قُ ْ‬
‫لل‬ ‫خَرى قُ ْ‬ ‫ةأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫معَ اللهِ آل ِهَ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م لت َ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ن َ‬ ‫نأ ّ‬ ‫دو َ‬ ‫شه َ ُ‬ ‫ن ب َلغَ أئ ِن ّك ْ‬ ‫م ْ‬‫م ب ِهِ وَ َ‬ ‫ن لن ْذَِرك ْ‬ ‫قْرآ ُ‬
‫م‬
‫ن آت َي َْناهُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن * ال ّ ِ‬ ‫كو َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ما ت ُ ْ‬ ‫م ّ‬‫ريٌء ِ‬ ‫ِ‬ ‫حد ٌ وَإ ِن ِّني ب َ‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫ما هُوَ إ ِل َ ٌ‬ ‫ل إ ِن ّ َ‬ ‫شهَد ُ قُ ْ‬ ‫أَ ْ‬
‫مل‬ ‫م فَهُ ْ‬ ‫سهُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫سُروا أ َن ْ ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫ن أب َْناَءهُ ُ‬
‫ال ْكتاب يعرُفونه ك َما يعرُفو َ‬
‫َ‬ ‫َِ َ َْ ِ َ ُ َ َْ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫ي ُؤْ ِ‬
‫َ‬
‫يٍء أك ْب َُر‬ ‫َ‬
‫ل { لهم ‪-‬لما بينا لهم الهدى‪ ،‬وأوضحنا لهم المسالك‪ } :-‬أيّ َ‬ ‫} قُ ْ‬
‫ش ْ‬
‫شِهيد ٌ‬ ‫ه { أكبر شهادة‪ ،‬فهو } َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫شَهاد َةً { على هذا الصل العظيم‪ } .‬قُ ِ‬ ‫َ‬
‫م { فل أعظم منه شهادة‪ ،‬ول أكبر‪ ،‬وهو يشهد لي بإقراره‬ ‫ب َي ِْني وَب َي ْن َك ُ ْ‬
‫ل عَل َي َْنا ب َعْ َ‬
‫ض‬ ‫قوّ َ‬ ‫وفعله‪ ،‬فيقرني على ما قلت لكم‪ ،‬كما قال تعالى } وَل َوْ ت َ َ‬
‫ن { فالله حكيم قدير‬ ‫ه ال ْوَِتي َ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫قط َعَْنا ِ‬ ‫م لَ َ‬ ‫ن * ثُ ّ‬ ‫مي ِ‬ ‫ه ِبال ْي َ ِ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫خذ َْنا ِ‬ ‫ل*ل َ‬ ‫الَقاِوي ِ‬
‫فل يليق بحكمته وقدرته أن يقر كاذبا عليه زاعما أن الله أرسله ولم‬
‫يرسله وأن الله أمره بدعوة الخلق ولم يأمره وأن الله أباح له دماء من‬
‫خالفه وأموالهم ونساءهم وهو مع ذلك يصدقه بإقراره وبفعله فيؤيده على‬
‫ما ] ص ‪ [ 253‬قال بالمعجزات الباهرة واليات الظاهرة وينصره ويخذل‬
‫من خالفه وعاداه فأي شهادة أكبر من هذه الشهادة؟"‬
‫ن ب َل َغَ { أي وأوحى الله إل ّ‬
‫ي‬ ‫م ْ‬ ‫م ب ِهِ وَ َ‬ ‫ن لن ْذَِرك ُ ْ‬ ‫قْرآ ُ‬ ‫ذا ال ْ ُ‬ ‫ي هَ َ‬ ‫ي إ ِل َ ّ‬‫ح َ‬ ‫وقوله } وَُأو ِ‬
‫هذا القرآن الكريم لمنفعتكم ومصلحتكم لنذركم به من العقاب الليم‬
‫والنذارة إنما تكون بذكر ما ينذرهم به من الترغيب والترهيب وببيان‬
‫من قام بها فقد قبل النذارة فهذا‬ ‫العمال والقوال الظاهرة والباطنة التي َ‬
‫القرآنفيه النذارة لكم أيها المخاطبون وكل من بلغه القرآن إلى يوم‬
‫القيامة فإن فيه بيان كل ما يحتاج إليه من المطالب اللهية‪.‬‬
‫لما بّين تعالى شهادته التي هي أكبر الشهادات على توحيده قال قل لهؤلء‬
‫معَ الل ّهِ آل ِهَ ً‬ ‫شهدو َ‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫ن َ‬ ‫نأ ّ‬ ‫م ل َت َ ْ َ ُ َ‬ ‫المعارضين لخبر الله والمكذبين لرسله } أئ ِن ّك ُ ْ‬
‫شهَد ُ { أي إن شهدوا فل تشهد معهم‪.‬‬ ‫ل ل أَ ْ‬ ‫خَرى قُ ْ‬ ‫أُ ْ‬
‫ن بين شهادة أصدق القائلين ورب العالمين وشهادة أزكى الخلق‬ ‫فوازِ ْ‬
‫المؤيدة بالبراهين القاطعة والحجج الساطعة على توحيد الله وحده ل‬
‫شريك له وشهادة أهل الشرك الذين مرجت عقولهم وأديانهم وفسدت‬
‫آراؤهم وأخلقهم وأضحكوا على أنفسهم العقلء‪.‬‬
‫بل خالفوا بشهادة فطرهم وتناقضت أقوالهم على إثبات أن مع الله آلهة‬
‫أخرى مع أنه ل يقوم على ما قالوه أدنى شبهة فضل عن الحجج واختر‬
‫لنفسك أي الشهادتين إن كنت تعقل ونحن نختار لنفسنا ما اختاره الله‬
‫حد ٌ { أي منفرد‬ ‫ه َوا ِ‬ ‫ما هُوَ إ ِل َ ٌ‬ ‫لنبيه الذي أمرنا الله بالقتداء به فقال } قُ ْ‬
‫ل إ ِن ّ َ‬
‫ل يستحق العبودية واللهية سواه كما أنه المنفرد بالخلق والتدبير‪.‬‬
‫ن { به من الوثان والنداد وكل ما أشرك به مع‬ ‫كو َ‬‫شرِ ُ‬ ‫ما ت ُ ْ‬‫م ّ‬
‫ريٌء ِ‬ ‫} وَإ ِن ِّني ب َ ِ‬
‫الله فهذا حقيقة التوحيد إثبات اللهية لله ونفيها عما عداه‪.‬‬
‫لما بّين شهادته وشهادة رسوله على التوحيد وشهادةَ المشركين الذين ل‬
‫علم لديهم على ضده ذكر أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى‬
‫م { أي ل شك‬ ‫} يعرُفونه { أي يعرفون صحة التوحيد } ك َما يعرُفو َ‬
‫ن أب َْناَءهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ ِ‬ ‫َْ ِ َ ُ‬
‫عندهم فيه بوجهكما أنهم ل يشتبهون بأولدهم خصوصا البنين الملزمين‬
‫في الغالب لبائهم‪.‬‬
‫ويحتمل أن الضمير عائد إلى الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وأن‬
‫أهل الكتاب ل يشتبهون بصحة رسالته ول يمترون بها لما عندهم من‬
‫البشارات به ونعوته التي تنطبق عليه ول تصلح لغيره والمعنيان متلزمان‪.‬‬
‫م { أي فوتوها ما خلقت له من اليمان‬ ‫سهُ ْ‬‫ف َ‬‫سُروا أ َن ْ ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫ن َ‬‫ذي َ‬‫قوله } ال ّ ِ‬
‫ن { فإذا لم‬ ‫مُنو َ‬ ‫م ل ي ُؤْ ِ‬ ‫والتوحيد وحرموها الفضل من الملك المجيد } فَهُ ْ‬
‫يوجد اليمان منهم فل تسأل عن الخسار والشر الذي يحصل لهم‪.‬‬

‫) ‪(1/252‬‬

‫ح ال ّ‬ ‫ه َل ي ُ ْ‬ ‫ممن افْت َرى عََلى الل ّهِ ك َذًِبا أ َو ك َذ ّ َ َ‬ ‫وم َ‬


‫ن‬
‫مو َ‬
‫ظال ِ ُ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫ب ب ِآَيات ِهِ إ ِن ّ ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ن أظ ْل َ ُ‬
‫م ِ ّ ِ‬ ‫َ َ ْ‬
‫)‪(21‬‬
‫َ‬ ‫} ‪ } { 21‬وم َ‬
‫ح‬
‫فل ِ ُ‬
‫ه ل يُ ْ‬ ‫ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ ك َذًِبا أوْ ك َذ ّ َ‬
‫ب ِبآَيات ِهِ إ ِن ّ ُ‬ ‫م ِ‬
‫م ّ‬ ‫ن أظ ْل َ ُ‬
‫م ِ‬ ‫َ َ ْ‬
‫ن{‪.‬‬‫مو َ‬ ‫ال ّ‬
‫ظال ِ ُ‬
‫أي‪ :‬ل أعظم ظلما وعنادا‪ ،‬ممن كان فيه أحد الوصفين‪ ،‬فكيف لو اجتمعا‪،‬‬
‫افتراء الكذب على الله‪ ،‬أو التكذيب بآياته‪ ،‬التي جاءت بها المرسلون‪ ،‬فإن‬
‫هذا أظلم الناس‪ ،‬والظالم ل يفلح أبدا‪.‬‬

‫) ‪(1/253‬‬

‫شر ُ َ‬ ‫ل ل ِل ّذي َ‬
‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ذي َ‬‫م ال ّ ِ‬ ‫كاؤُك ُ ُ‬‫شَر َ‬ ‫ن ُ‬ ‫كوا أي ْ َ‬ ‫نأ ْ َ‬ ‫ِ َ‬ ‫قو ُ‬ ‫م نَ ُ‬ ‫ميًعا ث ُ ّ‬‫ج ِ‬ ‫م َ‬ ‫ح ُ‬
‫شُرهُ ْ‬ ‫م نَ ْ‬‫وَي َوْ َ‬
‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن)‬‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬‫م ْ‬ ‫ما كّنا ُ‬ ‫ن َقالوا َواللهِ َرب َّنا َ‬ ‫م إ ِل أ ْ‬ ‫ن فِت ْن َت ُهُ ْ‬ ‫م ت َك ْ‬ ‫مل ْ‬ ‫ن )‪ (22‬ث ُ ّ‬ ‫مو َ‬ ‫ت َْزعُ ُ‬
‫ن )‪(24‬‬ ‫َ‬ ‫ض ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف كذ َُبوا عَلى أن ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫فت َُرو َ‬ ‫ما كاُنوا ي َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل عَن ْهُ ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫سهِ ْ‬‫ف ِ‬ ‫‪ (23‬ان ْظْر كي ْ َ‬

‫ويدخل في هذا‪ ،‬كل من كذب على الله‪ ،‬بادعاء )‪ (1‬الشريك له والعوين‪،‬‬


‫أو ]زعم[ أنه ينبغي أن يعبد غيره أو اتخذ له صاحبة أو ولدا‪ ،‬وكل من رد‬
‫م‬
‫ن قام مقامهم‪ } { 24 - 22 } .‬وَي َوْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫الحق الذي جاءت به الرسل أو َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ن أَ ْ‬
‫ن‬
‫مو َ‬‫م ت َْزعُ ُ‬ ‫ُ‬
‫ن كن ْت ُ ْ‬
‫ذي َ‬‫م ال ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫شَركاؤُك ُ‬ ‫ن ُ‬ ‫ُ‬
‫شَركوا أي ْ َ‬ ‫ذي َ‬‫ل ل ِل ّ ِ‬‫قو ُ‬ ‫م نَ ُ‬‫ميًعا ث ُ ّ‬ ‫ج ِ‬ ‫م َ‬‫شُرهُ ْ‬ ‫ح ُ‬‫نَ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫ن * ان ْظْر كي ْ َ‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬
‫ما كّنا ُ‬‫ن َقالوا َواللهِ َرب َّنا َ‬ ‫م ِإل أ ْ‬ ‫ن فِت ْن َت ُهُ ْ‬ ‫م ت َك ْ‬ ‫مل ْ‬‫* ثُ ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ض ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك َذ َُبوا عَلى أن ْ ُ‬
‫فت َُرو َ‬‫ما كاُنوا ي َ ْ‬ ‫م َ‬‫ل عَن ْهُ ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬الدعاء‪.‬‬

‫) ‪(1/253‬‬

‫قُهوهُ وَِفي آ َ َ‬ ‫ك وجعل ْنا عََلى قُُلوبهم أ َكن ً َ‬


‫م‬
‫ذان ِهِ ْ‬ ‫ف َ‬
‫ن يَ ْ‬ ‫ةأ ْ‬ ‫ِِ ْ ِّ‬ ‫معُ إ ِل َي ْ َ َ َ َ َ‬ ‫ست َ ِ‬
‫ن يَ ْ‬‫م ْ‬ ‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫وَ ِ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫قو ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل آي َةٍ ل ي ُؤْ ِ‬ ‫ُ‬
‫ن ي ََرْوا ك ّ‬ ‫وَقًْرا وَإ ِ ْ‬
‫ذي َ‬‫ل ال ِ‬ ‫جادِلون َك ي َ ُ‬ ‫جاُءوك ي ُ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫مُنوا ب َِها َ‬
‫ن )‪(25‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫كَ َ‬
‫طيُر الوِّلي َ‬ ‫سا ِ‬‫ذا إ ِل أ َ‬ ‫فُروا إ ِ ْ‬

‫يخبر تعالى عن مآل أهل الشرك يوم القيامة‪ ،‬وأنهم يسألون ويوبخون‬
‫َ‬
‫ن { أي إن الله ليس له‬ ‫مو َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م ت َْزعُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫كاؤُك ُ ُ‬ ‫شَر َ‬‫ن ُ‬ ‫فيقال لهم } أي ْ َ‬
‫م{‬ ‫م ت َك ُ ْ‬
‫ن فِت ْن َت ُهُ ْ‬ ‫م لَ ْ‬ ‫شريك‪ ،‬وإنما ذلك على وجه الزعم منهم والفتراء‪ } .‬ث ُ ّ‬
‫أي‪ :‬لم يكن جوابهم حين يفتنون ويختبرون بذلك السؤالل إنكارهم‬
‫لشركهم وحلفهم أنهم ما كانوا مشركين‪ } .‬ان ْظ ُْر { متعجبا منهم ومن‬
‫م { أي‪ :‬كذبوا كذبا عاد بالخسار على‬ ‫سه ِ ْ‬‫ف ِ‬ ‫ف ك َذ َُبوا عََلى أ َن ْ ُ‬ ‫أحوالهم } ك َي ْ َ‬
‫ن { من‬ ‫فت َُرو َ‬
‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫م َ‬‫ل عَن ْهُ ْ‬ ‫ض ّ‬
‫أنفسهم وضرهم ‪-‬والله‪ -‬غاية الضرر } وَ َ‬
‫الشركاء الذين زعموهم مع الله‪ ،‬تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا‪{ 25 } .‬‬
‫ك وجعل ْنا عََلى قُُلوبهم أ َكن ً َ‬
‫م‬ ‫قُهوهُ وَِفي آ َ‬
‫ذان ِهِ ْ‬ ‫ف َ‬
‫ن يَ ْ‬ ‫ةأ ْ‬ ‫ِِ ْ ِّ‬ ‫معُ إ ِل َي ْ َ َ َ َ َ‬ ‫ست َ ِ‬‫ن يَ ْ‬ ‫م ْ‬‫م َ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫} وَ ِ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫قو ُ‬‫ك يَ ُ‬ ‫جادُِلون َ َ‬ ‫ك يُ َ‬‫جاُءو َ‬ ‫ذا َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫مُنوا ب َِها َ‬ ‫ل آي َةٍ ل ي ُؤْ ِ‬ ‫ن ي ََرْوا ك ُ ّ‬ ‫وَقًْرا وَإ ِ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫كَ َ‬
‫طيُر الوِّلي َ‬ ‫سا ِ‬ ‫ذا ِإل أ َ‬ ‫فُروا إ ِ ْ‬
‫ض الدواعي إلى‬ ‫ض الوقات‪ ،‬بع ُ‬ ‫أي‪ :‬ومن هؤلء المشركين‪ ،‬قوم يحملهم بع َ‬
‫الستماع لما تقول‪ ،‬ولكنه استماع خال من قصد الحق واتباعه‪ ،‬ولهذا ل‬
‫جعَل َْنا عََلى‬ ‫ينتفعون بذلك الستماع‪ ،‬لعدم ] ص ‪ [ 254‬إرادتهم للخير } وَ َ‬
‫ة { أي‪ :‬أغطية وأغشية‪ ،‬لئل يفقهوا كلم الله‪ ،‬فصان كلمه عن‬ ‫م أ َك ِن ّ ً‬ ‫قُُلوب ِهِ ْ‬
‫م { جعلنا } وَقًْرا { أي‪ :‬صمما‪ ،‬فل يستمعون ما‬ ‫ذان ِهِ ْ‬‫أمثال هؤلء‪ } .‬وَِفي آ َ‬
‫ينفعهم‪.‬‬
‫مُنوا ب َِها { وهذا غاية الظلم والعناد‪ ،‬أن اليات‬ ‫ل آي َةٍ ل ي ُؤْ ِ‬ ‫ُ‬
‫ن ي ََرْوا ك ّ‬ ‫} وَإ ِ ْ‬
‫البينات الدالة على الحق‪ ،‬ل ينقادون لها‪ ،‬ول يصدقون بها‪ ،‬بل يجادلون‬
‫بالباطل الحقّ ليدحضوه‪.‬‬

‫) ‪(1/253‬‬

‫ن )‪(26‬‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫ن إ ِّل أ َن ْ ُ‬ ‫ن ي ُهْل ِ ُ‬ ‫َ‬


‫شعُُرو َ‬ ‫م وَ َ‬
‫سه ُ ْ‬
‫ف َ‬ ‫كو َ‬ ‫ه وَإ ِ ْ‬
‫ن عَن ْ ُ‬
‫ه وَي َن ْأوْ َ‬
‫ن عَن ْ ُ‬
‫م ي َن ْهَوْ َ‬
‫وَهُ ْ‬
‫ذا ِإل‬ ‫ن هَ َ‬‫فُروا إ ِ ْ‬ ‫ن كَ َ‬‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫قو ُ‬‫ك يَ ُ‬ ‫جادُِلون َ َ‬ ‫جاُءو َ‬
‫ك يُ َ‬ ‫ذا َ‬‫حّتى إ ِ َ‬
‫ولهذا قال‪َ } :‬‬
‫ن { أي‪ :‬مأخوذ من صحف الولين المسطورة‪ ،‬التي ليست‬ ‫َ‬
‫طيُر الوِّلي َ‬‫سا ِ‬ ‫أ َ‬
‫عن الله‪ ،‬ولعن رسله‪ .‬وهذا من كفرهم‪ ،‬وإل فكيف يكون هذا الكتاب‬
‫الحاوي لنباء السابقين واللحقين‪ ،‬والحقائق التي جاءت بها النبياء‬
‫والمرسلون‪ ،‬والحق‪،‬والقسط‪ ،‬والعدل التام من كل وجه‪ ،‬أساطيَر‬
‫م‬ ‫ن ِإل أ َن ْ ُ‬ ‫ن ي ُهْل ِ ُ‬ ‫َ‬
‫سه ُ ْ‬
‫ف َ‬ ‫كو َ‬ ‫ه وَإ ِ ْ‬‫ن عَن ْ ُ‬‫ه وَي َن ْأوْ َ‬‫ن عَن ْ ُ‬
‫م ي َن ْهَوْ َ‬
‫الولين؟‪ } { 26 } .‬وَهُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫شعُُرو َ‬‫ما ي َ ْ‬‫وَ َ‬
‫) ‪(1/254‬‬

‫ن‬ ‫ب ب ِآ ََيا ِ‬
‫ت َرب َّنا وَن َ ُ‬
‫كو َ‬ ‫قاُلوا َيا ل َي ْت ََنا ن َُرد ّ وََل ن ُك َذ ّ َ‬
‫فوا عََلى الّنارِ فَ َ‬
‫ت ََرى إ ِذ ْ وُقِ ُ‬ ‫وَل َوْ‬
‫ن )‪(27‬‬ ‫مِني َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫مؤْ ِ‬ ‫ن‬
‫م َ‬ ‫ِ‬

‫وهم‪ :‬أي المشركون بالله‪ ،‬المكذبون لرسوله‪ ،‬يجمعون بين الضلل‬


‫والضلل‪ ،‬ينهون الناس عن اتباع الحق‪ ،‬ويحذرونهم منه‪ ،‬ويبعدون بأنفسهم‬
‫ن‬ ‫ن ي ُهْل ِ ُ‬
‫كو َ‬ ‫عنه‪ ،‬ولن يضروا الله ول عباده المؤمنين‪ ،‬بفعلهم هذا‪ ،‬شيئا‪ } .‬وَإ ِ ْ‬
‫َ‬
‫فوا عَلى‬ ‫ن { بذلك‪ } { 29 - 27 } .‬وَل َوْ ت ََرى إ ِذ ْ وُقِ ُ‬ ‫شعُُرو َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫م وَ َ‬
‫سه ُ ْ‬‫ف َ‬ ‫ِإل أ َن ْ ُ‬
‫ن*{‪.‬‬ ‫مِني َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫مؤْ ِ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬‫كو َ‬ ‫ت َرب َّنا وَن َ ُ‬‫ب ِبآَيا ِ‬ ‫قاُلوا َيا ل َي ْت ََنا ن َُرد ّ َول ن ُك َذ ّ َ‬ ‫الّنارِ فَ َ‬
‫يقول تعالى ‪-‬مخبرا عن حال المشركين يوم القيامة‪ ،‬وإحضارهم الناَر‪:‬‬
‫فوا عََلى الّنارِ { ليوبخوا ويقرعوا‪ ،‬لرأيت أمرا هائل وحال‬ ‫} وَل َوْ ت ََرى إ ِذ ْ وُقِ ُ‬
‫مفظعة‪.‬ولرأيتهم كيف أقروا على أنفسهم بالكفر والفسوق‪ ،‬وتمنوا أن لو‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كو َ‬ ‫ت َرب َّنا وَن َ ُ‬ ‫قاُلوا َيا ل َي ْت ََنا ن َُرد ّ َول ن ُك َذ ّ َ‬
‫ب ِبآَيا ِ‬ ‫يردون إلى الدنيا‪ } .‬فَ َ‬
‫ل { فإنهم كانوا يخفون في‬ ‫ن قَب ْ ُ‬‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫فو َ‬‫خ ُ‬‫كاُنوا ي ُ ْ‬ ‫ما َ‬‫م َ‬ ‫دا ل َهُ ْ‬‫ل بَ َ‬ ‫ن * بَ ْ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫أنفسهم‪ ،‬أنهم كانوا كاذبين‪ ،‬وَيبدو في قلوبهم في كثير من الوقات‪ .‬ولكن‬
‫الغراض الفاسدة‪ ،‬صدتهم عن ذلك‪ ،‬وصرفت قلوبهم عن الخير‪ ،‬وهم كذبة‬
‫في هذه المنية‪ ،‬وإنما قصدهم‪ ،‬أن يدفعوا بها عن أنفسهم العذاب‪.‬‬

‫) ‪(1/254‬‬

‫م‬
‫ه وَإ ِن ّهُ ْ‬
‫ما ن ُُهوا عَن ْ ُ‬ ‫دوا ل ِ َ‬‫دوا ل ََعا ُ‬
‫ل وَل َوْ ُر ّ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬
‫ن ِ‬‫فو َ‬‫خ ُ‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ي ُ ْ‬ ‫دا ل َهُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ل بَ َ‬ ‫بَ ْ‬
‫ن )‪(29‬‬ ‫مب ُْعوِثي َ‬
‫ن بِ َ‬ ‫ح ُ‬
‫ما ن َ ْ‬
‫حَيات َُنا الد ّن َْيا وَ َ‬ ‫ّ‬
‫ي إ ِل َ‬ ‫ن هِ َ‬ ‫ُ‬
‫ن )‪ (28‬وََقالوا إ ِ ْ‬ ‫ل َكاذُِبو َ‬
‫َ‬

‫م‬
‫ه وَإ ِن ّهُ ْ‬
‫ما ن ُُهوا عَن ْ ُ‬
‫دوا ل ِ َ‬‫دوا ل ََعا ُ‬ ‫ل وَل َوْ ُر ّ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫فو َ‬‫خ ُ‬
‫كاُنوا ي ُ ْ‬‫ما َ‬‫م َ‬ ‫دا ل َهُ ْ‬ ‫} بَ ْ‬
‫ل بَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مب ُْعوِثي َ‬‫ن بِ َ‬‫ح ُ‬‫ما ن َ ْ‬‫حَيات َُنا الد ّن َْيا وَ َ‬
‫ي ِإل َ‬ ‫ن هِ َ‬ ‫ن * وََقاُلوا إ ِ ْ‬ ‫لَ َ‬
‫كاذُِبو َ‬

‫) ‪(1/254‬‬

‫حقّ َقاُلوا ب ََلى وََرب َّنا َقا َ‬ ‫فوا عََلى ربهم َقا َ َ‬
‫ل‬ ‫ذا ِبال ْ َ‬ ‫ل أل َي ْ َ‬
‫س هَ َ‬ ‫َ ِّ ْ‬ ‫وَل َوْ ت ََرى إ ِذ ْ وُقِ ُ‬
‫ن )‪(30‬‬ ‫م ت َك ْ ُ‬
‫فُرو َ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ب بِ َ‬‫ذا َ‬‫ذوُقوا ال ْعَ َ‬ ‫فَ ُ‬

‫ن * وََقاُلوا { منكرين للبعث }‬ ‫م لَ َ‬


‫كاذُِبو َ‬ ‫ه وَإ ِن ّهُ ْ‬
‫ما ن ُُهوا عَن ْ ُ‬
‫دوا ل ِ َ‬ ‫دوا ل ََعا ُ‬ ‫} وَل َوْ ُر ّ‬
‫حَيات َُنا الد ّن َْيا { أي ما حقيقة الحال والمر وما المقصود من‬ ‫ي ِإل َ‬ ‫ن هِ َ‬ ‫إِ ْ‬
‫ن {‪ } { 30 }.‬وَل َوْ ت ََرى‬ ‫مب ُْعوِثي َ‬
‫ن بِ َ‬
‫ح ُ‬ ‫ما ن َ ْ‬‫إيجادنا إل الحياة الدنيا وحدها } وَ َ‬
‫حقّ َقاُلوا ب ََلى وََرب َّنا َقا َ‬ ‫فوا عََلى ربهم َقا َ َ‬
‫ذوُقوا‬ ‫ل فَ ُ‬ ‫ذا ِبال ْ َ‬ ‫س هَ َ‬ ‫ل أل َي ْ َ‬ ‫َ ِّ ْ‬ ‫إ ِذ ْ وُقِ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫فُرو َ‬ ‫م ت َك ْ ُ‬
‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ب بِ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫ال ْعَ َ‬

‫) ‪(1/254‬‬
‫ة َقاُلوا َيا‬‫ة ب َغْت َ ً‬
‫ساعَ ُ‬‫م ال ّ‬‫جاَءت ْهُ ُ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬
‫ذا َ‬ ‫قاِء الل ّهِ َ‬‫ن ك َذ ُّبوا ب ِل ِ َ‬ ‫سَر ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫خ ِ‬‫قَد ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ساَء‬
‫م أل َ‬ ‫م عَلى ظُهورِهِ ْ‬ ‫ن أوَْزاَرهُ ْ‬ ‫ملو َ‬ ‫ح ِ‬ ‫ما فَّرطَنا ِفيَها وَهُ ْ‬
‫م يَ ْ‬ ‫سَرت ََنا عَلى َ‬ ‫ح ْ‬‫َ‬
‫ن )‪(31‬‬ ‫ما ي َزُِرو َ‬ ‫َ‬
‫م { لرأيت أمرا عظيما‪،‬‬ ‫فوا عََلى َرب ّهِ ْ‬ ‫أي‪ } :‬وَل َوْ ت ََرى { الكافرين } إ ِذ ْ وُقِ ُ‬
‫َ‬
‫ذا { الذي ترون من‬ ‫س هَ َ‬ ‫ل { لهم موبخا ومقرعا‪ } :‬أل َي ْ َ‬ ‫ول جسيما‪َ } ،‬قا َ‬ ‫وه َ ْ‬
‫حقّ قالوا ب َلى وََرب َّنا { فأقروا‪ ،‬واعترفوا حيث ل ينفعهم ذلك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫العذاب } ِبال َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫سَر ال ِ‬‫خ ِ‬ ‫َ‬
‫ن { ‪ } { 31 } .‬قد ْ َ‬ ‫فُرو َ‬ ‫ْ‬
‫م ت َك ُ‬ ‫ُ‬
‫ما كن ْت ُ ْ‬ ‫ب بِ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫ْ‬
‫ذوُقوا العَ َ‬ ‫ل فَ ُ‬ ‫} َقا َ‬
‫سَرت ََنا عََلى َ‬
‫ما‬ ‫ح ْ‬ ‫ة َقاُلوا َيا َ‬ ‫ة ب َغْت َ ً‬
‫ساعَ ُ‬‫م ال ّ‬ ‫جاَءت ْهُ ُ‬ ‫ذا َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫قاِء الل ّهِ َ‬ ‫ك َذ ُّبوا ب ِل ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ما ي َزُِرو َ‬‫ساَء َ‬ ‫م أل َ‬ ‫م عََلى ظ ُُهورِهِ ْ‬ ‫ن أوَْزاَرهُ ْ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م يَ ْ‬‫فَّرط َْنا ِفيَها وَهُ ْ‬
‫) ‪(1/254‬‬

‫قو َ‬ ‫داُر اْل َ ِ‬


‫قُلو َ‬
‫ن‬ ‫ن أفََل ت َعْ ِ‬
‫ن ي َت ّ ُ َ‬ ‫خي ٌْر ل ِل ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫خَرةُ َ‬ ‫ب وَل َهْوٌ وََلل ّ‬
‫حَياةُ الد ّن َْيا إ ِّل ل َعِ ٌ‬
‫ما ال ْ َ‬
‫وَ َ‬
‫)‪(32‬‬

‫أي‪ :‬قد خاب وخسر‪ ،‬وحرم الخير كله‪ ،‬من كذب بلقاء الله‪ ،‬فأوجب له هذا‬
‫م‬
‫جاَءت ْهُ ُ‬ ‫ذا َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬‫التكذيب‪ ،‬الجتراء على المحرمات‪ ،‬واقتراف الموبقات } َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ة { وهم على أقبح حال وأسوئه‪ ،‬فأظهروا غاية الندم‪ .‬و } قالوا َيا‬ ‫ساعَ ُ‬‫ال ّ‬
‫ن‬
‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ح ِ‬
‫م يَ ْ‬ ‫ما فَّرطَنا ِفيَها { ولكن هذا تحسر ذهب وقته‪ } ،‬وَهُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫سَرت ََنا عَلى َ‬‫ح ْ‬ ‫َ‬
‫ن { فإن وزرهم وزر يثقلهم‪ ،‬ول‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما ي َزُِرو َ‬ ‫ساَء َ‬ ‫م أل َ‬ ‫م عَلى ظُهورِهِ ْ‬ ‫أوَْزاَرهُ ْ‬
‫يقدرون على التخلص منه‪ ،‬ولهذا خلدوا في النار‪ ،‬واستحقوا التأبيد في‬
‫خي ٌْر‬ ‫خَرةُ َ‬ ‫داُر ال ِ‬ ‫ب وَل َهْوٌ وََلل ّ‬
‫حَياةُ الد ّن َْيا ِإل ل َعِ ٌ‬‫ما ال ْ َ‬
‫غضب الجبار‪ } { 32 } .‬وَ َ‬
‫قو َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قُلو َ‬‫ن أَفل ت َعْ ِ‬
‫ن ي َت ّ ُ َ‬
‫ذي َ‬‫ل ِل ّ ِ‬
‫هذه حقيقة الدنيا وحقيقة الخرة‪ ،‬أما حقيقة الدنيا فإنها لعب ولهو‪ ،‬لعب‬
‫في البدان ولهو في القلوب‪ ،‬فالقلوب لها والهة‪ ،‬والنفوس لها عاشقة‪،‬‬
‫والهموم فيها متعلقة‪ ،‬والشتغال بها كلعب الصبيان‪.‬‬

‫) ‪(1/254‬‬

‫ت‬‫ن ب ِآ ََيا ِ‬
‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ك وَل َك ِ ّ‬‫م َل ي ُك َذ ُّبون َ َ‬ ‫ن فَإ ِن ّهُ ْ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ذي ي َ ُ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫حُزن ُ َ‬ ‫ه ل َي َ ْ‬ ‫م إ ِن ّ ُ‬‫قَد ْ ن َعْل َ ُ‬
‫ما ك ُذ ُّبوا‬ ‫صب َُروا عََلى َ‬ ‫ك فَ َ‬ ‫ن قَب ْل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫س ٌ‬ ‫ت ُر ُ‬ ‫قد ْ ك ُذ ّب َ ْ‬ ‫ن )‪ (33‬وَل َ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ج َ‬ ‫الل ّهِ ي َ ْ‬
‫ت الل ّهِ وَل َ َ‬ ‫َ‬ ‫وَُأو ُ‬
‫ن ن َب َإ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫جاَء َ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ل ل ِك َل ِ َ‬ ‫مب َد ّ َ‬‫صُرَنا وََل ُ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫حّتى أَتاهُ ْ‬ ‫ذوا َ‬
‫َ‬
‫قا‬
‫ف ً‬
‫ي نَ َ‬
‫ن ت َب ْت َغِ َ‬ ‫تأ ْ‬ ‫ست َط َعْ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫م فَإ ِ ِ‬‫ضه ُ ْ‬ ‫ك إ ِعَْرا ُ‬ ‫ن ك َب َُر عَل َي ْ َ‬‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫ن )‪ (34‬وَإ ِ ْ‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م عََلى‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫معَهُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫ه لَ َ‬‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫م ب ِآي َةٍ وَل َوْ َ‬ ‫ماِء فَت َأت ِي َهُ ْ‬ ‫س َ‬‫ما ِفي ال ّ‬ ‫سل ّ ً‬‫ض أو ْ ُ‬ ‫ِفي الْر ِ‬
‫ْ‬
‫ن )‪(35‬‬ ‫جاهِِلي َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬ ‫دى فََل ت َ ُ‬ ‫ال ْهُ َ‬

‫ن { في ذاتها وصفاتها‪ ،‬وبقائها‬ ‫قو َ‬


‫ن ي َت ّ ُ‬ ‫خي ٌْر ل ِل ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫وأما الخرة‪ ،‬فإنها } َ‬
‫ودوامها‪ ،‬وفيها ما تشتهيه النفس‪ ،‬وتلذ العين‪ ،‬من نعيم القلوب والرواح‪،‬‬
‫وكثرة السرور والفراح‪ ،‬ولكنها ليست لكل أحد‪ ،‬وإنما هي للمتقين الذين‬
‫َ‬
‫ن { أي‪ :‬أفل‬‫قُلو َ‬
‫يفعلون أوامر الله‪ ،‬ويتركون نواهيه وزواجره } أَفل ت َعْ ِ‬
‫يكون لكم عقول‪،‬بها تدركون‪ ،‬أيّ الدارين أحق باليثار‪ } { 35 - 33 } .‬قَد ْ‬
‫ت الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ن ِبآَيا ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫ك وَل َك ِ ّ‬ ‫م ل ي ُك َذ ُّبون َ َ‬ ‫ن فَإ ِن ّهُ ْ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫ذي ي َ ُ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫حُزن ُ َ‬ ‫ه ل َي َ ْ‬ ‫م إ ِن ّ ُ‬ ‫ن َعْل َ ُ‬
‫ُ‬
‫حّتى‬ ‫ذوا َ‬ ‫ما ك ُذ ُّبوا وَأو ُ‬ ‫صب َُروا عََلى َ‬ ‫ك فَ َ‬ ‫ن قَب ْل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫س ٌ‬ ‫ت ُر ُ‬ ‫قد ْ ك ُذ ّب َ ْ‬ ‫ن * وَل َ َ‬ ‫دو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ج َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫مب َد ّ َ‬ ‫َ‬
‫ن * وَإ ِ ْ‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫ن ن َب َإ ِ ال ُ‬ ‫م ْ‬ ‫جاَءك ِ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ت اللهِ وَل َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ل ل ِكل ِ َ‬ ‫صُرَنا َول ُ‬ ‫م نَ ْ‬ ‫أَتاهُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬‫سل ّ ً‬ ‫ض أو ْ ُ‬ ‫قا ِفي الْر ِ‬ ‫ف ً‬ ‫ي نَ َ‬ ‫ن ت َب ْت َغِ َ‬ ‫تأ ْ‬ ‫ست َط َعْ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫م فَإ ِ ِ‬ ‫ضهُ ْ‬ ‫ك إ ِعَْرا ُ‬ ‫ن ك َب َُر عَل َي ْ َ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫ْ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬ ‫دى َفل ت َ ُ‬ ‫م عََلى ال ْهُ َ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫ه لَ َ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫م ِبآي َةٍ وَل َوْ َ‬ ‫ماِء فَت َأت ِي َهُ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ِفي ال ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫جاهِِلي َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫أي‪ :‬قد نعلم أن الذي يقول المكذبون فيك يحزنك ويسوءك‪ ،‬ولم ] ص‬
‫‪ [ 255‬نأمرك بما أمرناك به من الصبر إل لتحصل لك المنازل العالية‬
‫والحوال الغالية‪ .‬فل تظن أن قولهم صادر عن اشتباه في أمرك‪ ،‬وشك‬
‫ك { لنهم يعرفون صدقك‪ ،‬ومدخلك ومخرجك‪،‬‬ ‫م ل ي ُك َذ ُّبون َ َ‬ ‫فيك‪ } .‬فَإ ِن ّهُ ْ‬
‫وجميع أحوالك‪ ،‬حتى إنهم كانوا يسمونه ‪-‬قبل البعثة‪ -‬المين‪ } .‬وَل َك ِ ّ‬
‫ن‬
‫ن { أي‪ :‬فإن تكذيبهم ليات الله التي جعلها‬ ‫دو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ج َ‬ ‫ت الل ّهِ ي َ ْ‬ ‫ن ِبآَيا ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫الله على يديك )‪. (1‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫} وَل َ َ‬
‫م‬ ‫حّتى أَتاهُ ْ‬ ‫ذوا َ‬ ‫ما كذ ُّبوا وَأو ُ‬ ‫صب َُروا عَلى َ‬ ‫َ‬
‫ن قَب ْل ِك فَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫س ٌ‬ ‫ت ُر ُ‬ ‫قد ْ ك ُذ ّب َ ْ‬
‫ن ن َب َإ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫جاَء َ‬‫قد ْ َ‬ ‫صُرَنا { فاصبر كما صبروا‪ ،‬تظفر كما ظفروا‪ } .‬وَل َ َ‬ ‫نَ ْ‬
‫ن { ما به يثبت فؤادك‪ ،‬ويطمئن به قلبك‪.‬‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م { أي‪ :‬شق عليك‪ ،‬من حرصك عليهم‪،‬‬ ‫ضه ُ ْ‬ ‫ك إ ِعَْرا ُ‬ ‫ن ك َب َُر عَل َي ْ َ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫} وَإ ِ ْ‬
‫ومحبتك ليمانهم‪ ،‬فابذل وسعك في ذلك‪ ،‬فليس في مقدورك‪ ،‬أن تهدي‬
‫من لم يرد الله هدايته‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ماِء فَت َأت ِي َهُ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ما ِفي ال ّ‬ ‫سل ّ ً‬ ‫ض أو ْ ُ‬ ‫قا ِفي الْر ِ‬ ‫ف ً‬ ‫ي نَ َ‬ ‫ن ت َب ْت َغِ َ‬ ‫تأ ْ‬ ‫ست َط َعْ َ‬ ‫نا ْ‬ ‫} فَإ ِ ِ‬
‫ِبآي َةٍ { أي‪ :‬فافعل ذلك‪ ،‬فإنه ل يفيدهم شيئا‪ ،‬وهذا قطع لطمعه في هدايته‬
‫أشباه هؤلء المعاندين‪.‬‬
‫دى { ولكن حكمته تعالى‪ ،‬اقتضت أنهم‬ ‫م عََلى ال ْهُ َ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫ج َ‬ ‫ه لَ َ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫} وَل َوْ َ‬
‫ن { الذين ل يعرفون حقائق‬ ‫جاهِِلي َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬ ‫يبقون على الضلل‪َ } .‬فل ت َ ُ‬
‫المور‪ ،‬ول ينزلونها على منازلها‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬السياق يقتضي أن يأتي بخبر إن ومقصود الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬فإن‬
‫تكذيبهم‪ ...‬جحود منهم لما علموه حقا‪.‬‬

‫) ‪(1/254‬‬

‫ن )‪(36‬‬ ‫جُعو َ‬ ‫م إ ِل َي ْهِ ي ُْر َ‬ ‫م الل ّ ُ‬


‫ه ثُ ّ‬ ‫موَْتى ي َب ْعَث ُهُ ُ‬‫ن َوال ْ َ‬‫مُعو َ‬‫س َ‬‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫جي ُ‬ ‫ست َ ِ‬‫ما ي َ ْ‬‫إ ِن ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫ة وَلك ِ ّ‬
‫ل آي َ ً‬ ‫ه َقادٌِر عَلى أ ْ‬
‫ن ي ُن َّز َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ن َرب ّهِ قُ ْ‬
‫ل إِ ّ‬ ‫م ْ‬
‫ة ِ‬‫ل عَلي ْهِ آي َ ٌ‬ ‫وََقالوا لوْل ن ُّز َ‬
‫َ‬
‫ن )‪(37‬‬ ‫مو َ‬ ‫م َل ي َعْل َ ُ‬ ‫أك ْث ََرهُ ْ‬

‫م إ ِل َي ْهِ‬
‫ه ثُ ّ‬‫م الل ّ ُ‬
‫موَْتى ي َب ْعَث ُهُ ُ‬ ‫ن َوال ْ َ‬ ‫مُعو َ‬ ‫س َ‬
‫ن يَ ْ‬‫ذي َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫جي ُ‬‫ست َ ِ‬
‫ما ي َ ْ‬ ‫} ‪ } { 37 ، 36‬إ ِن ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن ي ُن َّز َ‬
‫ل‬ ‫ه قادٌِر عَلى أ ْ‬ ‫َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫ُ‬
‫ن َرب ّهِ ق ْ‬ ‫م ْ‬‫ة ِ‬‫ل عَلي ْهِ آي َ ٌ‬ ‫ول ن ُّز َ‬ ‫ن * وََقاُلوا ل َ ْ‬ ‫جُعو َ‬‫ي ُْر َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ل ي َعْل ُ‬ ‫ن أكث ََرهُ ْ‬‫ة وَلك ِ ّ‬‫آي َ ً‬
‫ب { لدعوتك‪ ،‬ويلبي‬ ‫جي ُ‬ ‫ست َ ِ‬‫ما ي َ ْ‬ ‫يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫ن { بقلوبهم ما ينفعهم‪ ،‬وهم‬ ‫مُعو َ‬ ‫س َ‬
‫ن يَ ْ‬ ‫رسالتك‪ ،‬وينقاد لمرك ونهيك } ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫أولو اللباب والسماع‪.‬‬
‫والمراد بالسماع هنا‪ :‬سماع القلب والستجابة‪ ،‬وإل فمجرد سماع‬
‫الذن‪،‬يشترك فيه البر والفاجر‪ .‬فكل المكلفين قد قامت عليهم حجة الله‬
‫تعالى‪،‬باستماع آياته‪ ،‬فلم يبق لهم عذر‪ ،‬في عدم القبول‪.‬‬
‫ن { يحتمل أن المعنى‪ ،‬مقابل‬ ‫جُعو َ‬ ‫م إ ِل َي ْهِ ي ُْر َ‬ ‫ه ثُ ّ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫موَْتى ي َب ْعَث ُهُ ُ‬ ‫} َوال ْ َ‬
‫للمعنى المذكور‪ .‬أي‪ :‬إنما يستجيب لك أحياء القلوب‪ ،‬وأما أموات القلوب‪،‬‬
‫الذين ل يشعرون بسعادتهم‪ ،‬ول يحسون بما ينجيهم‪ ،‬فإنهم ل يستجيبون‬
‫لك‪ ،‬ول ينقادون‪ ،‬وموعدهم القيامة‪ ،‬يبعثهم الله ثم إليه يرجعون‪ ،‬ويحتمل‬
‫أن المراد بالية‪ ،‬على ظاهرها‪ ،‬وأن الله تعالى يقرر المعاد‪ ،‬وأنه سيبعث‬
‫الموات يوم القيامة ثم ينبئهم بما كانوا يعملون‪.‬‬
‫ويكون هذا‪ ،‬متضمنا للترغيب في الستجابة لله ورسوله‪ ،‬والترهيب من‬
‫عدم ذلك‪.‬‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ول نزل عَلي ْهِ آي َ ٌ‬ ‫} وََقاُلوا { أي‪ :‬المكذبون بالرسول‪ ،‬تعنتا وعنادا‪ } :‬ل ْ‬
‫َ‬
‫َرب ّهِ { يعنون بذلك آيات القتراح‪ ،‬التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة وآرائهم‬
‫الكاسدة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫عا * أوْ ت َكو َ‬ ‫ض ي َن ُْبو ً‬
‫ن الْر َ ِ‬ ‫م َ‬ ‫جَر لَنا ِ‬ ‫ف ُ‬ ‫حّتى ت َ ْ‬‫ن لك َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ن ُؤْ ِ‬ ‫كقولهم‪ } :‬وََقالوا ل ْ‬
‫ماَء‬ ‫س َ‬ ‫قط ال ّ‬ ‫َ‬ ‫س ِ‬
‫جيًرا * أوْ ت ُ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫َ‬
‫خللَها ت َ ْ‬ ‫جَر الن َْهاَر ِ‬ ‫ف ّ‬ ‫ب فَت ُ َ‬ ‫عن َ ٍ‬ ‫ل وَ ِ‬ ‫خي ٍ‬ ‫ن نَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫جن ّ ٌ‬‫ك َ‬ ‫لَ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ملئ ِك َةِ قَِبيل { اليات‬ ‫ي ِبالل ّهِ َوال ْ َ‬ ‫فا أوْ ت َأت ِ َ‬ ‫س ً‬ ‫ت عَل َي َْنا ك ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫ما َزعَ ْ‬ ‫كَ َ‬
‫َ‬
‫ة { فليس في قدرته‬ ‫ن ُينز َ‬
‫ل آي َ ً‬ ‫ه َقادٌِر عََلى أ ْ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ل { مجيبا لقولهم } إ ِ ّ‬ ‫} قُ ْ‬
‫قصور عن ذلك كيف وجميع الشياء منقادة لعزته مذعنة لسلطانه؟‬
‫ولكن أكثر الناس ل يعلمون فهم لجهلهم وعدم علمهم يطلبون ما هو شر‬
‫لهممن اليات التي لو جاءتهم فلم يؤمنوا بها لعوجلوا بالعقاب كما هي‬
‫سنة الله التي ل تبديل لها ومع هذا فإن كان قصدهم اليات التي تبين لهم‬
‫الحق وتوضح السبيل فقد أتى محمد صلى الله عليه وسلم بكل آية‬
‫قاطعةوحجة ساطعة دالة على ما جاء به من الحق بحيث يتمكن العبد في‬
‫كل مسألة من مسائل الدين أن يجد فيما جاء به عدة أدلة عقلية ونقلية‬
‫بحيث ل تبقي في القلوب أدنى شك وارتياب فتبارك الذي أرسل رسوله‬
‫بالهدى ودين الحق وأيده باليات البينات ليهلك من هلك عن بينة ويحيا من‬
‫حي عن بينةوإن الله لسميع عليم‬

‫) ‪(1/255‬‬

‫ما فَّرط َْنا‬ ‫طائ ِر يطير بجناحيه إّل أ ُم َ‬ ‫َْ‬


‫مَثال ُك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫مأ ْ‬‫َ ٌ‬ ‫ض وََل َ ٍ َ ِ ُ ِ َ َ َ ْ ِ ِ‬ ‫داب ّةٍ ِفي الْر ِ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬
‫وَ َ‬
‫ن )‪(38‬‬ ‫شُرو َ‬‫ح َ‬
‫م يُ ْ‬ ‫َ‬ ‫يٍء ث ُ ّ‬
‫م إ ِلى َرب ّهِ ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫ب ِ‬ ‫ْ‬
‫ِفي الك َِتا ِ‬
‫طائ ِر يطير بجناحيه إل أ ُم َ‬
‫مَثال ُك ُ ْ‬
‫م‬ ‫مأ ْ‬‫َ ٌ‬ ‫ض َول َ ٍ َ ِ ُ ِ َ َ َ ْ ِ ِ‬ ‫داب ّةٍ ِفي الْر ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬
‫} ‪ } { 38‬وَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫شُرو َ‬ ‫ح َ‬ ‫م إ َِلى َرب ّهِ ْ‬
‫م يُ ْ‬ ‫يٍء ث ُ ّ‬
‫ش ْ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬
‫ب ِ‬ ‫ما فَّرط َْنا ِفي ال ْك َِتا ِ‬
‫َ‬
‫أي‪ :‬جميع الحيوانات‪ ،‬الرضية والهوائية‪ ،‬من البهائم والوحوش‬
‫والطيور‪،‬كلها أمم أمثالكم خلقناها‪ .‬كما خلقناكم‪ ،‬ورزقناها كما رزقناكم‪،‬‬
‫ونفذت فيها مشيئتنا وقدرتنا‪ ،‬كما كانت نافذة فيكم‪.‬‬
‫يٍء { أي‪ :‬ما أهملنا ول أغفلنا‪ ،‬في اللوح‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬
‫ب ِ‬ ‫ما فَّرط َْنا ِفي ال ْك َِتا ِ‬
‫} َ‬
‫المحفوظ شيئا من الشياء‪ ،‬بل جميع الشياء‪ ،‬صغيرها وكبيرها‪ ،‬مثبتة في‬
‫اللوح المحفوظ‪ ،‬على ما هي عليه‪ ،‬فتقع جميع الحوادث طبق ما جرى به‬
‫القلم‪.‬‬
‫وفي هذه الية‪ ،‬دليل على أن الكتاب الول‪ ،‬قد حوى جميع الكائنات‪ ،‬وهذا‬
‫أحد مراتب القضاء والقدر‪ ،‬فإنها أربع مراتب‪ ] :‬ص ‪ [ 256‬علم الله‬
‫الشامل لجميع الشياء‪ ،‬وكتابه المحيط بجميع الموجودات‪ ،‬ومشيئته‬
‫وقدرته النافذة العامة لكل شيء‪ ،‬وخلقه لجميع المخلوقات‪ ،‬حتى أفعال‬
‫العباد‪.‬‬
‫ويحتمل أن المراد بالكتاب‪ ،‬هذا القرآن‪ ،‬وأن المعنى كالمعنى في قوله‬
‫يٍء { ‪.‬‬ ‫ل َ‬
‫ش ْ‬ ‫ك ال ْك َِتا َ‬
‫ب ت ِب َْياًنا ل ِك ُ ّ‬ ‫تعالى } َونزل َْنا عَل َي ْ َ‬
‫ن { أي‪ :‬جميع المم تحشر وتجمع إلى الله‬ ‫شُرو َ‬ ‫ح َ‬‫م يُ ْ‬ ‫م إ َِلى َرب ّهِ ْ‬ ‫وقوله } ث ُ ّ‬
‫في موقف القيامة‪ ،‬في ذلك الموقف العظيم الهائل‪ ،‬فيجازيهم بعدله‬
‫وإحسانه‪،‬ويمضي عليهم حكمه الذي يحمده عليه الولون والخرون‪ ،‬أهل‬
‫السماء وأهل الرض‪.‬‬

‫) ‪(1/255‬‬

‫شأ ْ‬ ‫َ‬
‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬ ‫ضل ِل ْ ُ‬
‫ه وَ َ‬ ‫شأ ِ الل ّ ُ‬
‫ه يُ ْ‬ ‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬
‫ت َ‬ ‫م ِفي الظ ّل ُ َ‬
‫ما ِ‬ ‫م وَب ُك ْ ٌ‬ ‫ص ّ‬‫ن ك َذ ُّبوا ب ِآَيات َِنا ُ‬
‫ذي َ‬ ‫َوال ّ ِ‬
‫قيم ٍ )‪(39‬‬ ‫ست َ ِ‬‫م ْ‬‫ط ُ‬
‫صَرا ٍ‬ ‫ه عََلى ِ‬ ‫جعَل ْ ُ‬ ‫يَ ْ‬

‫ضل ِل ْ ُ‬
‫ه‬ ‫ه يُ ْ‬ ‫شأ ِ الل ّ ُ‬‫ن يَ َ‬‫م ْ‬‫ت َ‬‫ما ِ‬ ‫م ِفي الظ ّل ُ َ‬‫م وَب ُك ْ ٌ‬ ‫ص ّ‬ ‫ن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا ُ‬
‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 39‬وال ّ ِ‬
‫ومن ي َ ْ‬
‫قيم ٍ { ‪.‬‬ ‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬‫ط ُ‬‫صَرا ٍ‬ ‫ه عََلى ِ‬ ‫جعَل ْ ُ‬ ‫شأ ي َ ْ‬ ‫َ َ ْ َ‬
‫هذا بيان لحال المكذبين بآيات الله‪ ،‬المكذبين لرسله‪ ،‬أنهم قد سدوا على‬
‫م { عن سماع الحق }‬ ‫ص ّ‬
‫أنفسهم باب الهدى‪ ،‬وفتحوا باب الردى‪ ،‬وأنهم } ُ‬
‫م { عن النطق به‪ ،‬فل ينطقون إل بباطل )‪. (1‬‬ ‫وَب ُك ْ ٌ‬
‫ت { أي‪ :‬منغمسون في ظلمات الجهل‪ ،‬والكفر‪ ،‬والظلم‪،‬‬ ‫ما ِ‬ ‫} ِفي الظ ّل ُ َ‬
‫ضل ِل ْ ُ‬
‫ه‬ ‫ه يُ ْ‬ ‫شأ ِ الل ّ ُ‬
‫ن يَ َ‬
‫م ْ‬‫والعناد‪،‬والمعاصي‪ .‬وهذا من إضلل الله إياهم‪ ،‬فـ } َ‬
‫ومن ي َ ْ‬
‫قيم ٍ { لنه المنفرد بالهداية والضلل‪،‬‬ ‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬‫ط ُ‬‫صَرا ٍ‬ ‫ه عََلى ِ‬ ‫جعَل ْ ُ‬ ‫شأ ي َ ْ‬ ‫َ َ ْ َ‬
‫بحسب ما اقتضاه فضله وحكمته‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬بالباطل‪.‬‬

‫) ‪(1/256‬‬

‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن إِ ْ‬
‫عو َ‬ ‫ة أ َغَي َْر الل ّهِ ت َد ْ ُ‬ ‫ساعَ ُ‬‫م ال ّ‬
‫َ َ‬
‫ب الل ّهِ أوْ أت َت ْك ُ ُ‬‫ذا ُ‬ ‫م عَ َ‬ ‫ل أ َرأ َيتك ُم إ َ‬
‫ن أَتاك ُ ْ‬ ‫قُ ْ َ ْ َ ْ ِ ْ‬
‫ما‬‫ن َ‬ ‫سوْ َ‬‫شاَء وَت َن ْ َ‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬
‫ن إ ِلي ْهِ إ ِ ْ‬
‫عو َ‬ ‫ما ت َد ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫ش ُ‬ ‫ن فَي َك ْ ِ‬
‫عو َ‬ ‫ن )‪ (40‬ب َ ْ‬
‫ل إ ِّياهُ ت َد ْ ُ‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(41‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫كو‬ ‫ْ‬
‫تُ ِ‬
‫ر‬‫ش‬
‫ذاب الل ّه أ َو أ َتتك ُم الساعَ ُ َ‬ ‫ل أ َرأ َيتك ُم إ َ‬
‫ة أغَي َْر الل ّهِ‬ ‫ّ‬ ‫ِ ْ َْ ُ‬ ‫م عَ َ ُ‬ ‫ن أَتاك ُ ْ‬ ‫} ‪ } { 41 ، 40‬قُ ْ َ ْ َ ْ ِ ْ‬
‫شاَء‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬
‫ن إ ِلي ْهِ إ ِ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫ما ت َد ْ ُ‬
‫ف َ‬‫ش ُ‬ ‫ْ‬
‫ن فَي َك ِ‬
‫عو َ‬‫ل إ ِّياهُ ت َد ْ ُ‬‫ن * بَ ْ‬ ‫صادِِقي َ‬
‫م َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬‫ن إِ ْ‬
‫عو َ‬‫ت َد ْ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ُ‬
‫شرِكو َ‬ ‫ما ت ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫سوْ َ‬
‫وَت َن ْ َ‬
‫ل { للمشركين بالله‪ ،‬العادلين به غيره‪:‬‬ ‫يقول تعالى لرسوله‪ } :‬قُ ْ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫} أ َرأ َيتك ُم إ َ‬
‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫ة أغَي َْر اللهِ ت َد ْ ُ‬‫ساعَ ُ‬ ‫ب اللهِ أوْ أت َت ْك ُ ُ‬
‫م ال ّ‬ ‫ذا ُ‬ ‫ن أَتاك ُ ْ‬
‫م عَ َ‬ ‫َ َْ ْ ِ ْ‬
‫ن { أي‪ :‬إذا حصلت هذه المشقات‪ ،‬وهذه الكروب‪ ،‬التي يضطر إلى‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫َ‬
‫دفعها‪ ،‬هل تدعون آلهتكم وأصنامكم‪ ،‬أم تدعون ربكم الملك الحق المبين‪.‬‬
‫ن{‬ ‫شرِ ُ‬
‫كو َ‬ ‫ما ت ُ ْ‬
‫ن َ‬
‫سوْ َ‬
‫شاَء وَت َن ْ َ‬ ‫ن إ ِل َي ْهِ إ ِ ْ‬
‫ن َ‬ ‫عو َ‬
‫ما ت َد ْ ُ‬
‫ف َ‬ ‫ن فَي َك ْ ِ‬
‫ش ُ‬ ‫عو َ‬ ‫} بَ ْ‬
‫ل إ ِّياهُ ت َد ْ ُ‬
‫فإذا كانت هذه حالكم مع أندادكم عند الشدائد‪ ،‬تنسونهم‪ ،‬لعلمكم أنهم ل‬
‫يملكون لكم ضرا ول نفعا‪ ،‬ول موتا‪ ،‬ول حياة‪ ،‬ول نشورا‪.‬‬
‫وتخلصون لله الدعاء‪ ،‬لعلمكم أنه هو النافع الضار‪ ،‬المجيب لدعوة‬
‫المضطر‪،‬فما بالكم في الرخاء تشركون به‪ ،‬وتجعلون له شركاء؟‪ .‬هل‬
‫دلكم على ذلك‪،‬عقل أو نقل‪ ،‬أم عندكم من سلطان بهذا؟ بل )‪ (1‬تفترون‬
‫على الله الكذب؟‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬أم‪.‬‬

‫) ‪(1/256‬‬

‫ْ‬
‫ضّراِء ل َعَل ّهُ ْ‬
‫م‬ ‫ساِء َوال ّ‬ ‫م ِبال ْب َأ َ‬‫خذ َْناهُ ْ‬‫ك فَأ َ َ‬ ‫ن قَب ْل ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫م‬
‫مم ٍ ِ‬
‫ُ‬
‫سل َْنا إ َِلى أ َ‬
‫ول َ َ َ‬
‫قد ْ أْر َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م وََزي ّ َ‬ ‫ت قلوب ُهُ ْ‬ ‫س ْ‬ ‫نق َ‬ ‫عوا وَلك ِ ْ‬ ‫ضّر ُ‬‫سَنا ت َ َ‬ ‫م ب َأ ُ‬ ‫جاَءهُ ْ‬ ‫ن )‪ (42‬فلوْل إ ِذ ْ َ‬ ‫عو َ‬ ‫ضّر ُ‬‫ي َت َ َ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫حَنا عَلي ْهِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ما ذ ُكُروا ب ِهِ فت َ ْ‬ ‫سوا َ‬ ‫ما ن َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪ (43‬فل ّ‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ما كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬
‫شي ْطا ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ل َهُ ُ‬
‫ة فَإ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ب كُ ّ‬ ‫َ‬
‫ن)‬‫سو َ‬ ‫مب ْل ِ ُ‬
‫م ُ‬ ‫ذا هُ ْ‬ ‫خذ َْناهُ ْ‬
‫م ب َغْت َ ً‬ ‫ما أوُتوا أ َ‬ ‫حوا ب ِ َ‬ ‫ذا فَرِ ُ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫يٍء َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫وا َ‬ ‫أب ْ َ‬
‫‪(44‬‬
‫ْ‬
‫ساءِ‬ ‫م ِبال ْب َأ َ‬ ‫خذ َْناهُ ْ‬ ‫ك فَأ َ َ‬ ‫ن قَب ْل ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫م‬
‫مم ٍ ِ‬
‫ُ‬
‫سل َْنا إ َِلى أ َ‬ ‫قد ْ أْر َ‬
‫} ‪ } { 45 - 42‬ول َ َ َ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ت‬
‫س ْ‬ ‫نق َ‬ ‫َ‬ ‫عوا وَلك ِ ْ‬ ‫ضّر ُ‬ ‫سَنا ت َ َ‬ ‫م ب َأ ُ‬ ‫جاَءهُ ْ‬ ‫ول إ ِذ َ‬‫ْ‬ ‫ن * فل ْ‬ ‫َ‬ ‫عو َ‬ ‫ضّر ُ‬ ‫م ي َت َ َ‬ ‫ضّراِء ل َعَل ّهُ ْ‬ ‫َوال ّ‬
‫حَنا‬ ‫َ‬
‫ما ذ ُكُروا ب ِهِ فت َ ْ‬ ‫ّ‬ ‫سوا َ‬ ‫ما ن َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن * فل ّ‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫ما كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬ ‫شي ْطا ُ‬‫َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫َ‬
‫ن لهُ ُ‬ ‫م وََزي ّ َ‬ ‫قُُلوب ُهُ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ذا هُ ْ‬ ‫ة فَإ ِ َ‬ ‫م ب َغْت َ ً‬ ‫خذ َْناهُ ْ‬ ‫ما أوُتوا أ َ‬ ‫حوا ب ِ َ‬ ‫ذا فَرِ ُ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫يٍء َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ب كُ ّ‬ ‫وا َ‬ ‫م أب ْ َ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫سو َ‬ ‫مب ْل ِ ُ‬
‫ُ‬
‫ن قَب ْل ِك { من المم السالفين‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫مم ٍ ِ‬ ‫سلَنا إ ِلى أ َ‬ ‫قد ْ أْر َ‬ ‫يقول تعالى‪ } :‬وَل َ‬
‫ساِء‬ ‫ْ‬
‫م ِبالب َأ َ‬ ‫خذ َْناهُ ْ‬ ‫والقرون المتقدمين‪ ،‬فكذبوا رسلنا‪ ،‬وجحدوا بآياتنا‪ } .‬فَأ َ‬
‫ضّراِء { أي‪ :‬بالفقر والمرض والفات‪ ،‬والمصائب‪ ،‬رحمة منا بهم‪.‬‬ ‫َوال ّ‬
‫ن { إلينا‪ ،‬ويلجأون عند الشدة إلينا‪.‬‬ ‫عو َ‬ ‫ضّر ُ‬ ‫م ي َت َ َ‬ ‫} ل َعَلهُ ْ‬
‫ّ‬
‫ْ‬
‫م { أي‪ :‬استحجرت فل‬ ‫ت قُُلوب ُهُ ْ‬ ‫س ْ‬ ‫ن قَ َ‬ ‫عوا وَل َك ِ ْ‬ ‫ضّر ُ‬ ‫سَنا ت َ َ‬ ‫م ب َأ ُ‬ ‫جاَءهُ ْ‬ ‫ول إ ِذ ْ َ‬ ‫} فَل َ ْ‬
‫ن { فظنوا أن ما هم‬ ‫مُلو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن َ‬ ‫طا ُ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫ن ل َهُ ُ‬ ‫تلين للحق‪ } .‬وََزي ّ َ‬
‫عليه دين الحق‪ ،‬فتمتعوا في باطلهم برهة من الزمان‪ ،‬ولعب بعقولهم‬
‫الشيطان‪.‬‬
‫َ‬
‫يٍء { من الدنيا ولذاتها‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ب كُ ّ‬ ‫وا َ‬ ‫م أب ْ َ‬ ‫حَنا عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ما ذ ُك ُّروا ب ِهِ فَت َ ْ‬ ‫سوا َ‬ ‫ما ن َ ُ‬ ‫} فَل َ ّ‬
‫ة فَإ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن { أي‪:‬‬ ‫سو َ‬ ‫مب ْل ِ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ذا هُ ْ‬ ‫م ب َغْت َ ً‬ ‫خذ َْناهُ ْ‬ ‫ما أوُتوا أ َ‬ ‫حوا ب ِ َ‬ ‫ذا فَرِ ُ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫وغفلتها‪َ } .‬‬
‫آيسون من كل خير‪ ،‬وهذا أشد ما يكون من العذاب‪ ،‬أن يؤخذوا على غرة‪،‬‬
‫وغفلة وطمأنينة‪ ،‬ليكون أشد لعقوبتهم‪ ،‬وأعظم لمصيبتهم‪.‬‬

‫) ‪(1/256‬‬

‫ن )‪(45‬‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫مد ُ ل ِل ّهِ َر ّ‬ ‫موا َوال ْ َ‬
‫ح ْ‬ ‫ن ظ َل َ ُ‬ ‫قوْم ِ ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫داب ُِر ال ْ َ‬ ‫فَ ُ‬
‫قط ِعَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫مد ُ ل ِل ّهِ َر ّ‬ ‫موا َوال ْ َ‬
‫ح ْ‬ ‫ن ظ َل َ ُ‬ ‫ذي َ‬‫قوْم ِ ال ّ ِ‬
‫داب ُِر ال ْ َ‬
‫قط ِعَ َ‬‫} فَ ُ‬
‫موا { أي اصطلموا بالعذاب‪ ،‬وتقطعت بهم‬ ‫َ‬
‫ن ظل ُ‬‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫قوْم ِ ال ِ‬ ‫ْ‬
‫داب ُِر ال َ‬ ‫قط ِعَ َ‬‫} فَ ُ‬
‫ن { على ما قضاه وقدره‪ ،‬من هلك‬ ‫مي َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ب الَعال ِ‬ ‫ّ‬
‫مد ُ ل ِلهِ َر ّ‬‫ح ْ‬ ‫ْ‬
‫السباب‪َ } .‬وال َ‬
‫المكذبين‪ .‬فإن بذلك‪ ،‬تتبين آياته‪ ،‬وإكرامه لوليائه‪ ،‬وإهانته لعدائه‪ ،‬وصدق‬
‫ما جاءت به المرسلون‪.‬‬

‫) ‪(1/256‬‬

‫َ‬ ‫ن أَ َ‬ ‫قُ ْ َ َ‬
‫ه غَي ُْر‬ ‫ن إ ِل َ ٌ‬
‫م ْ‬ ‫م عََلى قُُلوب ِك ُ ْ‬
‫م َ‬ ‫خت َ َ‬
‫م وَ َ‬ ‫صاَرك ُ ْ‬‫م وَأب ْ َ‬‫معَك ُ ْ‬‫س ْ‬
‫ه َ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫ل أَرأي ْت ُ ْ‬
‫ف اْل َيات ث ُم هُم يصدُفون )‪ (46‬قُ ْ َ َ‬ ‫ْ‬
‫ل أَرأي ْت َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ْ َ ْ ِ‬ ‫َ ِ ّ‬ ‫صّر ُ‬ ‫ف نُ َ‬‫م ب ِهِ ان ْظ ُْر ك َي ْ َ‬
‫الل ّهِ ي َأِتيك ُ ْ‬
‫م ال ّ‬ ‫ك إ ِّل ال ْ َ‬‫ل ي ُهْل َ ُ‬ ‫ذاب الل ّه بغْت ً َ‬ ‫إ َ‬
‫ن )‪(47‬‬ ‫مو َ‬‫ظال ِ ُ‬ ‫قوْ ُ‬ ‫جهَْرةً هَ ْ‬ ‫ة أوْ َ‬ ‫ِ َ َ‬ ‫م عَ َ ُ‬ ‫ن أَتاك ُ ْ‬ ‫ِ ْ‬

‫م عََلى‬ ‫َ‬ ‫ن أَ َ‬ ‫} ‪ } { 47 ، 46‬قُ ْ َ َ‬


‫خت َ َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫صاَرك ُ ْ‬ ‫م وَأب ْ َ‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫س ْ‬ ‫ه َ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬ ‫م إِ ْ‬‫ل أَرأي ْت ُ ْ‬
‫ْ‬
‫م‬
‫م هُ ْ‬ ‫ت ثُ ّ‬ ‫ف الَيا ِ‬ ‫صّر ُ‬ ‫ف نُ َ‬ ‫م ب ِهِ ان ْظ ُْر ك َي ْ َ‬ ‫ه غَي ُْر الل ّهِ ي َأِتيك ُ ْ‬ ‫ن إ ِل َ ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫م َ‬‫قُُلوب ِك ُ ْ‬
‫ل ي ُهْل َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ب الل ّهِ ب َغْت َ ً‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ك ِإل‬ ‫جهَْرةً هَ ْ‬ ‫ة أوْ َ‬ ‫ذا ُ‬ ‫م عَ َ‬ ‫ن أَتاك ُ ْ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫ل أَرأي ْت َك ُ ْ‬ ‫ن * قُ ْ‬ ‫صدُِفو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫ّ‬
‫م الظال ِ ُ‬ ‫قوْ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫يخبر تعالى‪ ،‬أنه كما أنه هو المتفرد بخلق الشياء وتدبيرها‪ ،‬فإنه المنفرد‬
‫َ‬ ‫ن أَ َ‬ ‫بالوحدانية واللهية فقال‪ } :‬قُ ْ َ َ‬
‫م‬‫صاَرك ُ ْ‬ ‫م وَأب ْ َ‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫س ْ‬ ‫ه َ‬ ‫خذ َ الل ّ ُ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫ل أَرأي ْت ُ ْ‬
‫ه غَي ُْر الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ن إ ِل َ ٌ‬ ‫م ْ‬ ‫م { فبقيتم بل سمع ول بصر ول عقل } َ‬ ‫م عََلى قُُلوب ِك ُ ْ‬ ‫خت َ َ‬ ‫وَ َ‬
‫ْ‬
‫م ب ِهِ { فإذا لم يكن غير الله يأتي بذلك‪ ،‬فلم عبدتم معه من ل قدرة‬ ‫ي َأِتيك ُ ْ‬
‫له على شيء إل إذا شاءه الله‪ ] .‬ص ‪[ 257‬‬
‫ف‬
‫صّر ُ‬ ‫ف نُ َ‬ ‫وهذا من أدلة التوحيد وبطلن الشرك‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬ان ْظ ُْر ك َي ْ َ‬
‫ت { أي‪ :‬ننوعها‪ ،‬ونأتي بها في كل فن‪ ،‬ولتنير الحق‪ ،‬وتتبين سبيل‬ ‫الَيا ِ‬
‫ن { عن آيات الله‪،‬‬ ‫صدِفو َ‬‫ُ‬ ‫م { مع هذا البيان التام } ي َ ْ‬ ‫م هُ ْ‬ ‫المجرمين‪ } .‬ث ُ ّ‬
‫ويعرضون عنها‪.‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫} قُ ْ َ َ‬
‫جهَْرة ً { أي‪:‬‬ ‫ة أو ْ َ‬ ‫ب اللهِ ب َغْت َ ً‬ ‫ذا ُ‬ ‫م عَ َ‬ ‫ن أَتاك ْ‬ ‫م { أي‪ :‬أخبروني } إ ِ ْ‬ ‫ل أَرأي ْت َك ُ ْ‬
‫ك ِإل‬ ‫ل ي ُهْل َ ُ‬ ‫مفاجأة أو قد تقدم أمامه مقدمات‪ ،‬تعلمون بها وقوعه‪ } .‬هَ ْ‬
‫ن { الذين صاروا سببا لوقوع العذاب بهم‪ ،‬بظلمهم‬ ‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫قوْ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫وعنادهم‪ .‬فاحذروا أن تقيموا على الظلم‪ ،‬فإنه الهلك البدي‪ ،‬والشقاء‬
‫السرمدي‪.‬‬

‫) ‪(1/256‬‬

‫ح فََل َ‬ ‫َ‬ ‫شرين ومن ْذِرين فَم َ‬


‫ف‬
‫خوْ ٌ‬ ‫صل َ َ‬ ‫ن وَأ ْ‬ ‫م َ‬‫نآ َ‬ ‫مب َ ّ ِ َ َ ُ ِ َ َ ْ‬ ‫ن إ ِّل ُ‬
‫سِلي َ‬
‫مْر َ‬ ‫ل ال ْ ُ‬
‫س ُ‬ ‫ما ن ُْر ِ‬ ‫وَ َ‬
‫ما َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫كاُنوا‬ ‫ب بِ َ‬ ‫م العَ َ‬
‫ذا ُ‬ ‫سه ُ ُ‬‫م ّ‬ ‫ن ك َذ ُّبوا ب ِآَيات َِنا ي َ َ‬
‫ذي َ‬
‫ن )‪َ (48‬وال ِ‬ ‫حَزُنو َ‬‫م يَ ْ‬‫م وَل هُ ْ‬ ‫عَلي ْهِ ْ‬
‫ن )‪(49‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬‫ف ُ‬ ‫يَ ْ‬

‫ن‬
‫م َ‬‫نآ َ‬ ‫م ْ‬‫ن فَ َ‬ ‫من ْذِِري َ‬‫ن وَ ُ‬ ‫ري َ‬
‫ش ِ‬‫مب َ ّ‬
‫ن ِإل ُ‬ ‫سِلي َ‬
‫مْر َ‬‫ل ال ْ ُ‬
‫س ُ‬‫ما ن ُْر ِ‬ ‫} ‪ } { 49 ، 48‬وَ َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫سه ُ ُ‬
‫م ّ‬ ‫َ‬
‫ن كذ ُّبوا ِبآَيات َِنا ي َ َ‬ ‫ذي َ‬
‫ن * َوال ِ‬ ‫حَزُنو َ‬‫م يَ ْ‬‫م َول هُ ْ‬ ‫ف عَلي ْهِ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫ح َفل َ‬ ‫صل َ َ‬‫وَأ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬‫ف ُ‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ب بِ َ‬
‫ذا ُ‬ ‫ال ْعَ َ‬
‫يذكر تعالى‪ ،‬زبدة ما أرسل به المرسلين؛ أنه البشارة والنذارة‪ ،‬وذلك‬
‫مستلزم لبيان المبشر والمبشر به‪ ،‬والعمال التي إذا عملها العبد‪ ،‬حصلت‬
‫له البشارة‪ .‬والمنذر والمنذر به‪ ،‬والعمال التي من عملها‪ ،‬حقت عليه‬
‫النذارة‪.‬‬
‫ولكن الناس انقسموا ‪-‬بحسب إجابتهم لدعوتهم وعدمها‪ -‬إلى قسمين‪:‬‬
‫َ‬
‫ح { أي‪ :‬آمن بالله وملئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله واليوم الخر‪،‬‬ ‫صل َ َ‬‫ن وَأ ْ‬ ‫م َ‬‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫} فَ َ‬
‫م‬
‫م { فيما يستقبل } َول هُ ْ‬ ‫َ‬
‫ف عَلي ْهِ ْ‬
‫خوْ ٌ‬‫وأصلح إيمانه وأعماله ونيته } َفل َ‬
‫ن { على ما مضى‪.‬‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ما َ‬
‫كاُنوا‬ ‫ب { أي‪ :‬ينالهم‪ ،‬ويذوقونه } ب ِ َ‬ ‫ذا ُ‬‫م ال ْعَ َ‬
‫سه ُ ُ‬ ‫ن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا ي َ َ‬
‫م ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قو َ‬ ‫س ُ‬ ‫ف ُ‬ ‫يَ ْ‬

‫) ‪(1/257‬‬

‫مل َ ٌ‬
‫ك‬ ‫م إ ِّني َ‬‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫ب وََل أ َُقو ُ‬ ‫م ال ْغَي ْ َ‬
‫َ‬
‫ن الل ّهِ وََل أعْل َ ُ‬
‫خَزائ ِ ُ‬
‫دي َ‬ ‫عن ْ ِ‬
‫م ِ‬ ‫ل َل أ َُقو ُ‬
‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫قُ ْ‬
‫َ‬
‫صيُر أفََل ت َت َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن)‬ ‫فك ُّرو َ‬ ‫مى َوال ْب َ ِ‬ ‫وي اْلعْ َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫ل هَ ْ‬
‫ل يَ ْ‬ ‫حى إ ِل َ ّ‬
‫ي قُ ْ‬ ‫ما ُيو َ‬ ‫ن أت ّب ِعُ إ ِّل َ‬ ‫إِ ْ‬
‫‪(50‬‬

‫ل ل َك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ب َول أ َُقو ُ‬ ‫م ال ْغَي ْ َ‬
‫َ‬
‫ن الل ّهِ َول أعْل َ ُ‬ ‫خَزائ ِ ُ‬‫دي َ‬ ‫عن ْ ِ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ل ل أ َُقو ُ‬ ‫} ‪ } { 50‬قُ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫كإ َ‬
‫صيُر أَفل‬ ‫مى َوالب َ ِ‬ ‫وي العْ َ‬ ‫ست َ ِ‬
‫ل يَ ْ‬ ‫ل هَ ْ‬ ‫ي قُ ْ‬ ‫حى إ ِل ّ‬ ‫ما ُيو َ‬ ‫ن أت ّب ِعُ ِإل َ‬ ‫مل َ ٌ ِ ْ‬ ‫إ ِّني َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫فك ُّرو َ‬‫ت َت َ َ‬
‫يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم؛ المقترحين )‪ (1‬عليه اليات‪ ،‬أو‬
‫ن‬‫خَزائ ِ ُ‬‫دي َ‬ ‫عن ْ ِ‬‫م ِ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫القائلين له‪ :‬إنما تدعونا لنتخذك إلها مع الله‪َ } .‬ول أ َُقو ُ‬
‫َ‬
‫ب { وإنما ذلك كله عند‬ ‫م ال ْغَي ْ َ‬ ‫الل ّهِ { أي‪ :‬مفاتيح رزقه ورحمته‪َ } .‬ول أعْل َ ُ‬
‫الله فهو الذي ما يفتح للناس من رحمة فل ممسك لها وما يمسك فل‬
‫مرسل له من بعده‪ ،‬وهو وحده عالم الغيب والشهادة‪ .‬فل يظهر على غيبه‬
‫أحدا إل من ارتضى من رسول‪.‬‬
‫ك { فأكون نافذ التصرف قويا‪ ،‬فلست أدعي فوق‬ ‫مل َ ٌ‬ ‫م إ ِّني َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬‫} َول أ َُقو ُ‬
‫منزلتي‪ ،‬التي أنزلني الله بها‪ } .‬إ َ‬
‫ي { أي‪ :‬هذا غايتي‬ ‫حى إ ِل َ ّ‬ ‫ما ُيو َ‬ ‫ن أت ّب ِعُ ِإل َ‬ ‫ِ ْ‬
‫ومنتهى أمري وأعله‪ ،‬إن أتبع إل ما يوحى إلي‪ ،‬فأعمل به في نفسي‪،‬‬
‫وأدعو الخلق كلهم إلى ذلك‪.‬‬
‫فإذا عرفت منزلتي‪ ،‬فلي شيء يبحث الباحث معي‪ ،‬أو يطلب مني أمرا‬
‫لست أدعيه‪ ،‬وهل يلزم النسان‪ ،‬بغير ما هو بصدده؟‪.‬‬
‫ولي شيء إذا دعوتكم‪ ،‬بما أوحي إلي أن تلزموني أني أدعي لنفسي غير‬
‫مرتبتي‪ .‬وهل هذا إل ظلم منكم‪ ،‬وعناد‪ ،‬وتمرد؟ قل لهم في بيان الفرق‪،‬‬
‫بين من قبل دعوتي‪ ،‬وانقاد لما أوحي إلي‪ ،‬وبين من لم يكن كذلك } قُ ْ‬
‫ل‬
‫ن { فتنزلون الشياء منازلها‪،‬‬ ‫فك ُّرو َ‬ ‫صيُر أ ََفل ت َت َ َ‬ ‫مى َوال ْب َ ِ‬ ‫وي العْ َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫هَ ْ‬
‫ل يَ ْ‬
‫وتختارون ما هو أولى بالختيار واليثار؟‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زاد هنا في طبعة السلفية قبل كلمة المقترحين‪) :‬أن يخاطب(‬
‫المقترحين‪.‬‬

‫) ‪(1/257‬‬
‫ي وََل‬ ‫خاُفو َ‬ ‫َ‬
‫دون ِهِ وَل ِ ّ‬‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫س ل َهُ ْ‬‫م ل َي ْ َ‬‫شُروا إ َِلى َرب ّهِ ْ‬ ‫ح َ‬‫ن يُ ْ‬‫نأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫وَأن ْذِْر ب ِهِ ال ّ ِ‬
‫ي‬‫ش ّ‬ ‫داةِ َوال ْعَ ِ‬ ‫م ِبال ْغَ َ‬ ‫ن َرب ّهُ ْ‬‫عو َ‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬‫ذي َ‬‫ن )‪ (51‬وََل ت َط ُْردِ ال ّ ِ‬ ‫قو َ‬ ‫م ي َت ّ ُ‬ ‫فيعٌ ل َعَل ّهُ ْ‬ ‫ش ِ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ساب ِك عَلي ْهِ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫يٍء وَ َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ساب ِهِ ْ‬ ‫ح َ‬‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما عَلي ْك ِ‬ ‫ه َ‬ ‫جه َ ُ‬ ‫ن وَ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ري ُ‬ ‫يُ ِ‬
‫ن )‪(52‬‬ ‫مي َ‬ ‫ّ‬
‫ن الظال ِ ِ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫ُ‬
‫م فَت َكو َ‬ ‫ْ‬
‫يٍء فَت َطُرد َهُ ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫خاُفو َ‬ ‫َ‬
‫س ل َهُ ْ‬
‫م‬ ‫م ل َي ْ َ‬ ‫شُروا إ َِلى َرب ّهِ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫َ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪ } { 55 - 51‬وَأن ْذِْر ب ِهِ ال ّ ِ‬
‫ة‬ ‫م ِبال ْغَ َ‬
‫دا ِ‬ ‫ن َرب ّهُ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن * َول ت َط ُْردِ ال ّ ِ‬ ‫قو َ‬ ‫م ي َت ّ ُ‬ ‫فيعٌ ل َعَل ّهُ ْ‬ ‫ش ِ‬‫ي َول َ‬ ‫دون ِهِ وَل ِ ّ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ساب ِكَ‬ ‫ح َ‬ ‫ن ِ‬‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫يٍء وَ َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ساب ِهِ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ما عَلي ْك ِ‬ ‫َ‬ ‫ه َ‬ ‫جهَ ُ‬ ‫ن وَ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ري ُ‬ ‫ي يُ ِ‬ ‫ش ّ‬ ‫َوالعَ ِ‬ ‫ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ّ‬
‫ن الظال ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م فَت َكو َ‬‫ُ‬ ‫ْ‬
‫يٍء فَت َطُرد َهُ ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫نأ ْ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫هذا القرآن نذارة للخلق كلهم‪ ،‬ولكن إنما ينتفع به } ال ّ ِ‬
‫م { فهم متيقنون للنتقال‪ ،‬من هذه الدار‪ ،‬إلى دار القرار‪،‬‬ ‫شُروا إ َِلى َرب ّهِ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫يُ ْ‬
‫دون ِهِ {‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬‫س لهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عون ما يضرهم‪ } .‬لي ْ َ‬ ‫فلذلك يستصحبون ما ينفعهم ويد َ ُ‬
‫صل لهم‬ ‫فيعٌ { أي‪ :‬من يتولى أمرهم فيح ّ‬ ‫ش ِ‬ ‫ي َول َ‬ ‫أي‪ :‬ل من دون الله } وَل ِ ّ‬
‫المطلوب‪ ،‬ويدفع عنهم المحذور‪ ،‬ول من يشفع لهم‪ ،‬لن الخلق كلهم‪،‬‬
‫ن { الله‪ ،‬بامتثال أوامره‪ ،‬واجتناب‬ ‫قو َ‬ ‫م ي َت ّ ُ‬ ‫ليس لهم من المر شيء‪ } .‬ل َعَل ّهُ ْ‬
‫نواهيه‪ ،‬فإن النذار موجب لذلك‪ ،‬وسبب من أسبابه‪.‬‬
‫ه { أي‪ :‬ل‬ ‫جهَ ُ‬ ‫ن وَ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ري ُ‬ ‫ي يُ ِ‬ ‫ش ّ‬ ‫داةِ َوال ْعَ ِ‬ ‫م ِبال ْغَ َ‬ ‫ن َرب ّهُ ْ‬ ‫عو َ‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫} َول ت َط ُْردِ ال ّ ِ‬
‫تطرد عنك‪ ،‬وعن مجالستك‪ ،‬أهل العبادة والخلص‪ ،‬رغبة في مجالسة‬
‫غيرهم‪ ،‬من الملزمين لدعاء ربهم‪ ،‬دعاء العبادة بالذكر والصلة ونحوها‪،‬‬
‫ودعاء المسألة‪ ،‬في أول النهار وآخره‪ ،‬وهم قاصدون بذلك وجه الله‪ ،‬ليس‬
‫لهم من الغراض سوى ذلك الغرض الجليل‪ ،‬فهؤلء ليسوا مستحقين‬
‫للطرد والعراض عنهم‪ ،‬بل مستحقون لموالتهم ومحبتهم‪ ،‬وإدنائهم‪،‬‬
‫وتقريبهم‪ ،‬لنهم الصفوة من الخلق وإن كانوا فقراء‪ ،‬والعزاء في الحقيقة‬
‫وإن كانوا ] ص ‪ [ 258‬عند الناس أذلء‪.‬‬
‫يٍء { أي‪:‬‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫َ‬
‫ساب ِك عَلي ْهِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ح َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫يٍء وَ َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ساب ِهِ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫ما عَل َي ْ َ‬ ‫} َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ُ‬
‫م فَت َكو َ‬ ‫ْ‬
‫ل له حسابه‪ ،‬وله عمله الحسن‪ ،‬وعمله القبيح‪ } .‬فَت َطُرد َهُ ْ‬ ‫ك ّ‬
‫ن { وقد امتثل صلى الله عليه وسلم هذا المر‪ ،‬أشد امتثال‪ ،‬فكان‬ ‫مي َ‬ ‫ّ‬
‫الظال ِ ِ‬
‫سه معهم‪ ،‬وأحسن معاملتهم‪ ،‬وألن‬ ‫إذا جلس الفقراء من المؤمنين صبر نف َ‬
‫قه‪ ،‬وقربهم منه‪ ،‬بل كانوا هم أكثر أهل مجلسه رضي‬ ‫لهم جانبه‪ ،‬وحسن خل َ‬
‫الله عنهم‪.‬‬
‫وكان سبب نزول هذه اليات‪ ،‬أن أناسا ]من قريش‪ ،‬أو[ من أجلف العرب‬
‫قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‪ :‬إن أردت أن نؤمن لك ونتبعك‪ ،‬فاطرد‬
‫فلنا وفلنا‪ ،‬أناسا من فقراء الصحابة‪ ،‬فإنا نستحيي أن ترانا العرب‬
‫جالسين مع هؤلء الفقراء‪ ،‬فحمله حبه لسلمهم‪ ،‬واتباعهم له‪ ،‬فحدثته‬
‫نفسه بذلك‪ .‬فعاتبه الله بهذه الية ونحوها‪.‬‬

‫) ‪(1/257‬‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫س الل ّ ُ‬
‫ه‬ ‫ن ب َي ْن َِنا أل َي ْ َ‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ن الل ّ ُ‬‫م ّ‬‫قوُلوا أهَؤَُلِء َ‬ ‫ض ل ِي َ ُ‬ ‫ٍ‬ ‫م ب ِب َعْ‬ ‫ك فَت َّنا ب َعْ َ‬
‫ضه ُ ْ‬ ‫وَك َذ َل ِ َ‬
‫ن ب ِآ ََيات َِنا فَ ُ‬ ‫َ‬
‫م عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫سَل ٌ‬‫ل َ‬ ‫ق ْ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬‫ذي َ‬‫ك ال ّ ِ‬‫جاَء َ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن )‪ (53‬وَإ ِ َ‬ ‫ري َ‬
‫ِ‬ ‫شاك ِ‬‫م ِبال ّ‬ ‫ب ِأعْل َ َ‬
‫فسه الرحم َ َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫م َتا َ‬ ‫جَهال َةٍ ث ُ ّ‬ ‫سوًءا ب ِ َ‬ ‫م ُ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫ل ِ‬ ‫م َ‬ ‫ن عَ ِ‬‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ة أن ّ ُ‬ ‫م عََلى ن َ ْ ِ ِ ّ ْ َ‬ ‫ب َرب ّك ُ ْ‬ ‫ك َت َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫سِبي ُ‬
‫ل‬ ‫ن َ‬
‫ست َِبي َ‬ ‫ل اْل ََيا ِ‬
‫ت وَل ِت َ ْ‬ ‫ص ُ‬
‫ف ّ‬ ‫م )‪ (54‬وَك َذ َل ِ َ‬
‫ك نُ َ‬ ‫حي ٌ‬ ‫ه غَ ُ‬
‫فوٌر َر ِ‬ ‫صل َ َ‬
‫ح فَأن ّ ُ‬ ‫ب َعْدِهِ وَأ ْ‬
‫ن )‪(55‬‬ ‫مي َ‬ ‫جرِ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫َ‬ ‫قوُلوا أ َهَ ُ‬
‫ن ب َي ْن َِنا أل َي ْ َ‬
‫س‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ؤلِء َ‬ ‫ض ل ِي َ ُ‬ ‫م ب ِب َعْ ٍ‬ ‫ضه ُ ْ‬ ‫ك فَت َّنا ب َعْ َ‬ ‫} وَك َذ َل ِ َ‬
‫الل ّ َ‬
‫م عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫سل ٌ‬ ‫ل َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن ِبآَيات َِنا فَ ُ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫جاَء َ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن * وَإ ِ َ‬ ‫ري َ‬ ‫ِ‬ ‫شاك ِ‬ ‫م ِبال ّ‬ ‫ه ب ِأعْل َ َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫م َتا َ‬ ‫ُ‬
‫جَهالةٍ ث ّ‬ ‫سوًءا ب ِ َ‬ ‫م ُ‬ ‫من ْك ْ‬ ‫مل ِ‬ ‫َ‬ ‫ن عَ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫ة أن ّ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ح َ‬ ‫سهِ الّر ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫م عَلى ن َ ْ‬ ‫ب َرب ّك ْ‬ ‫ك َت َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫سِبي ُ‬
‫ل‬ ‫ن َ‬ ‫ست َِبي َ‬ ‫ت وَل ِت َ ْ‬ ‫ل الَيا ِ‬ ‫ص ُ‬ ‫ف ّ‬ ‫ك نُ َ‬ ‫م * وَك َذ َل ِ َ‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه غَ ُ‬ ‫ح فَأن ّ ُ‬ ‫صل َ َ‬ ‫ب َعْدِهِ وَأ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫جرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫َ‬
‫ن ب َي ْن َِنا { أي‪:‬‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ؤلِء َ‬ ‫قوُلوا أهَ ُ‬ ‫ض ل ِي َ ُ‬ ‫م ب ِب َعْ ٍ‬ ‫ضه ُ ْ‬ ‫ك فَت َّنا ب َعْ َ‬ ‫} وَك َذ َل ِ َ‬
‫هذا من ابتلء الله لعباده‪ ،‬حيث جعل بعضهم غنيا؛ وبعضهم فقيرا‪ ،‬وبعضهم‬
‫ن الله باليمان على الفقير أو الوضيع؛‪ .‬كان‬ ‫م ّ‬ ‫شريفا‪ ،‬وبعضهم وضيعا‪ ،‬فإذا َ‬
‫ذلك محل محنة للغني والشريف فإن كان قصده الحق واتباعه‪ ،‬آمن‬
‫وأسلم‪ ،‬ولم يمنعه من ذلك مشاركه الذي يراه دونه بالغنى أو الشرف‪،‬‬
‫وإن لم يكن صادقا في طلب الحق‪ ،‬كانت هذه عقبة ترده عن اتباع الحق‪.‬‬
‫ن ب َي ْن َِنا {‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ه عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ن الل ّ ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ؤلءِ َ‬ ‫وقالوا محتقرين لمن يرونهم دونهم‪ } :‬أ َهَ ُ‬
‫فمنعهم هذا من اتباع الحق‪ ،‬لعدم زكائهم‪ ،‬قال الله مجيبا لكلمهم‬
‫َ‬
‫المتضمن العتراض على الله في هداية هؤلء‪ ،‬وعدم هدايتهم هم‪ } .‬أل َي ْ َ‬
‫س‬
‫الل ّ َ‬
‫ن { الذين يعرفون النعمة‪ ،‬ويقرون بها‪ ،‬ويقومون بما‬ ‫ري َ‬ ‫شاك ِ ِ‬ ‫م ِبال ّ‬ ‫ه ب ِأعْل َ َ‬ ‫ُ‬
‫تقتضيه من العمل الصالح‪ ،‬فيضع فضله ومنته عليهم‪ ،‬دون من ليس‬
‫بشاكر‪ ،‬فإن الله تعالى حكيم‪ ،‬ل يضع فضله عند من ليس له بأهل‪ ،‬وهؤلء‬
‫ن الله عليهم باليمان‪ ،‬من الفقراء‬ ‫م ّ‬ ‫المعترضون بهذا الوصف‪ ،‬بخلف من َ‬
‫َ‬
‫وغيرهم فإنهم هم الشاكرون‪.‬ولما نهى الله رسوله‪ ،‬عن طرد المؤمنين‬
‫مره بمقابلتهم بالكرام والعظام‪ ،‬والتبجيل والحترام‪ ،‬فقال‪:‬‬ ‫القانتين‪ ،‬أ َ‬
‫م { أي‪ :‬وإذا جاءك‬ ‫ُ‬
‫م عَلي ْك ْ‬ ‫َ‬ ‫سل ٌ‬ ‫ل َ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن ِبآَيات َِنا فَ ُ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫جاَءك ال ِ‬ ‫َ‬ ‫ذا َ‬ ‫} وَإ ِ َ‬
‫قهم منك تحية وسلما‪ ،‬وبشرهم بما‬ ‫َ‬
‫حب بهم ول ّ‬ ‫حّيهم ور ّ‬ ‫المؤمنون‪ ،‬ف َ‬
‫سعة جوده وإحسانه‪ ،‬وحثهم‬ ‫ينشط عزائمهم وهممهم‪ ،‬من رحمة الله‪ ،‬و َ‬
‫على كل سبب وطريق‪ ،‬يوصل لذلك‪.‬‬
‫مْرهم بالتوبة من المعاصي‪ ،‬لينالوا‬ ‫ْ‬
‫وَرهّْبهم من القامة على الذنوب‪ ،‬وأ ُ‬
‫فسه الرحم َ َ‬
‫ن‬‫م ْ‬‫ه َ‬ ‫ة أن ّ ُ‬ ‫م عََلى ن َ ْ ِ ِ ّ ْ َ‬ ‫ب َرب ّك ُ ْ‬ ‫مغفرة ربهم وجوده‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬ك َت َ َ‬
‫َ‬
‫ح { أي‪ :‬فل بد مع ترك‬ ‫صل َ َ‬ ‫ن ب َعْدِهِ وَأ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫م َتا َ‬ ‫جَهال َةٍ ث ُ ّ‬ ‫سوًءا ب ِ َ‬ ‫م ُ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫م َ‬ ‫عَ ِ‬
‫الذنوب والقلع‪ ،‬والندم عليها‪ ،‬من إصلح العمل‪ ،‬وأداء ما أوجب الله‪،‬‬
‫وإصلح ما فسد من العمال الظاهرة والباطنة‪.‬‬
‫ه غَ ُ‬ ‫َ‬
‫م { أي‪ :‬صب عليهم من مغفرته‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫فإذا وجد ذلك كله } فَأن ّ ُ‬
‫ورحمته‪،‬بحسب ما قاموا به‪ ،‬مما أمرهم به‪.‬‬
‫ت { أي‪ :‬نوضحها ونبينها‪ ،‬ونميز بين طريق الهدى من‬ ‫ل الَيا ِ‬ ‫ص ُ‬ ‫ف ّ‬ ‫ك نُ َ‬ ‫} وَك َذ َل ِ َ‬
‫الضلل‪ ،‬والغي والرشاد‪ ،‬ليهتدي بذلك المهتدون‪ ،‬ويتبين الحق الذي ينبغي‬
‫ن { الموصلة إلى سخط الله وعذابه‪،‬‬ ‫مي َ‬ ‫جرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫سِبي ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ست َِبي َ‬ ‫سلوكه‪ } .‬وَل ِت َ ْ‬
‫فإن سبيل المجرمين إذا استبانت واتضحت‪ ،‬أمكن اجتنابها‪ ،‬والبعد منها‪،‬‬
‫بخلفما لو كانت مشتبهة ملتبسة‪ ،‬فإنه ل يحصل هذا المقصود الجليل‪.‬‬

‫) ‪(1/258‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل إني نهيت أ َ َ‬
‫م قَد ْ‬ ‫ل َل أت ّب ِعُ أهْ َ‬
‫واَءك ُ ْ‬ ‫ن الل ّهِ قُ ْ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ن ت َد ْ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن أعْب ُد َ ال ّ ِ‬ ‫قُ ْ ِ ّ ُ ِ ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫م بِ ِ‬ ‫َ‬
‫ن َرّبي وَكذ ّب ْت ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ل إ ِّني عَلى ب َي ّن َةٍ ِ‬ ‫ن )‪ (56‬قُ ْ‬ ‫دي َ‬ ‫مهْت َ ِ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ما أَنا ِ‬ ‫ذا وَ َ‬ ‫ت إِ ً‬ ‫ضل َل ْ ُ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫صِلي َ‬ ‫فا ِ‬ ‫ْ‬
‫خي ُْر ال َ‬
‫حقّ وَهُوَ َ‬ ‫ْ‬
‫ص ال َ‬ ‫ق ّ‬ ‫ّ‬
‫م إ ِل ل ِلهِ ي َ ُ‬ ‫ّ‬ ‫حك ُ‬‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫ن ب ِهِ إ ِ ِ‬ ‫جلو َ‬‫ُ‬ ‫ست َعْ ِ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫دي َ‬ ‫عن ْ ِ‬‫ما ِ‬ ‫َ‬
‫هّ‬ ‫ل‬ ‫وال‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫و‬ ‫ني‬‫ِ‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫م‬‫َ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫ض‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫ُ‬
‫لو‬ ‫ج‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫س‬ ‫ت‬ ‫ما‬ ‫دي‬ ‫ن‬‫ع‬‫ِ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫و‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ق‬ ‫(‬ ‫‪57‬‬ ‫)‬
‫ْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ ِ‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬
‫ن )‪(58‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مي َ‬ ‫م ِبالظال ِ ِ‬ ‫أعْل ُ‬
‫ن الل ّهِ قُ ْ‬ ‫ل إني نهيت أ َ َ‬
‫لل‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ن ت َد ْ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن أعْب ُد َ ال ّ ِ‬ ‫} ‪ } { 58 - 56‬قُ ْ ِ ّ ُ ِ ُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ل إ ِّني عََلى ب َي ّن َةٍ ِ‬ ‫ن * قُ ْ‬ ‫دي َ‬ ‫مهْت َ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ما أَنا ِ‬ ‫ذا وَ َ‬ ‫ت إِ ً‬‫ضل َل ْ ُ‬ ‫م قَد ْ َ‬ ‫واَءك ُ ْ‬ ‫أت ّب ِعُ أهْ َ‬
‫و‬
‫حقّ وَهُ َ‬ ‫ص ال ْ َ‬ ‫ق ّ‬ ‫م ِإل ل ِل ّهِ ي َ ُ‬ ‫حك ْ ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫ن ب ِهِ إ ِ ِ‬ ‫جُلو َ‬ ‫ست َعْ ِ‬‫ما ت َ ْ‬ ‫دي َ‬ ‫عن ْ ِ‬‫ما ِ‬ ‫م ب ِهِ َ‬ ‫َرّبي وَك َذ ّب ْت ُ ْ‬
‫ن ب ِهِ ل َ ُ‬ ‫َ‬
‫م‬‫مُر ب َي ِْني وَب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫ي ال ْ‬ ‫ض َ‬ ‫ق ِ‬ ‫جُلو َ‬ ‫ست َعْ ِ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫دي َ‬ ‫عن ْ ِ‬
‫ن ِ‬ ‫ل ل َوْ أ ّ‬ ‫ن * قُ ْ‬ ‫صِلي َ‬ ‫فا ِ‬ ‫خي ُْر ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫مي َ‬ ‫م ِبالظال ِ ِ‬ ‫ه أعْل ُ‬ ‫َوالل ُ‬
‫ل { لهؤلء المشركين الذين‬ ‫يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‪ } :‬قُ ْ‬
‫ن‬ ‫ّ‬ ‫يدعون مع الله آلهة أخرى‪ } :‬إني نهيت أ َ َ‬
‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ن ت َد ْ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن أعْب ُد َ ال ِ‬ ‫ِّ ُ ِ ُ ْ‬
‫الل ّهِ { من النداد والوثان‪ ،‬التي ل تملك نفعا ول ضرا‪ ،‬ول موتا ول حياة ول‬
‫نشورا‪ ،‬فإن هذا باطل‪ ،‬وليس لكم فيه حجة بل ول شبهة‪ ،‬ول اتباع الهوى‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ت‬‫ضل َل ْ ُ‬‫م قَد ْ َ‬ ‫واَءك ُ ْ‬ ‫ل ل أت ّب ِعُ أهْ َ‬ ‫الذي اتباعه أعظم الضلل‪ ،‬ولهذا قال } قُ ْ‬
‫َ‬
‫ن { بوجه من الوجوه‪.‬‬ ‫دي َ‬ ‫مهْت َ ِ‬‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ما أَنا ِ‬ ‫ذا { أي‪ :‬إن اتبعت أهواءكم } وَ َ‬ ‫إِ ً‬
‫وأما ما أنا عليه‪ ،‬من توحيد الله وإخلص العمل له‪ ،‬فإنه هو الحق الذي‬
‫تقوم عليه البراهين والدلة القاطعة‪.‬‬
‫ن َرّبي { أي‪ :‬على يقين مبين‪ ،‬بصحته‪ ،‬وبطلن ما عداه‪،‬‬ ‫م ْ‬ ‫وأنا } عََلى ب َي ّن َةٍ ِ‬
‫وهذه شهادة من الرسول جازمة‪ ،‬ل تقبل التردد‪ ،‬وهو أعدل الشهود على‬
‫الطلق‪ .‬فصدق بها المؤمنون‪ ،‬وتبين لهم من صحتها وصدقها‪ ،‬بحسب ما‬
‫ن الله به عليهم‪.‬‬ ‫م ّ‬ ‫َ‬
‫} وَ { لكنكم أيها المشركون ‪ } -‬كذبتم به { وهو ل يستحق هذا منكم‪ ،‬ول‬
‫يليق به إل التصديق‪ ،‬وإذا استمررتم )‪ (1‬علىتكذيبكم‪ ،‬فاعلموا أن العذاب‬
‫واقع بكم ل محالة‪ ،‬وهو عند الله‪ ،‬هو الذي ينزله عليكم‪ ،‬إذا شاء‪ ،‬وكيف‬
‫م ِإل ل ِل ّهِ {‬ ‫حك ْ ُ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫شاء‪ ،‬وإن استعجلتم به‪ ،‬فليس بيدي من المر شيء } إ ِ ِ‬
‫فكما أنه هو الذي حكم بالحكم الشرعي‪ ،‬فأمر ونهى‪ ،‬فإنه سيحكم بالحكم‬
‫الجزائي‪ ،‬فيثيب ويعاقب‪ ،‬بحسب ما تقتضيه حكمته‪ .‬فالعتراض على‬
‫حكمه مطلقا مدفوع‪ ،‬وقد أوضح السبيل‪ ،‬وقص على عباده ] ص ‪[ 259‬‬
‫الحق قصا‪ ،‬قطع به معاذيرهم‪ ،‬وانقطعت له حجتهم‪ ،‬ليهلك من هلك عن‬
‫ن { بين عباده‪ ،‬في الدنيا‬ ‫صِلي َ‬ ‫فا ِ‬ ‫خي ُْر ال ْ َ‬ ‫بينة‪ ،‬ويحيا من حي عن بينة } وَهُوَ َ‬
‫والخرة‪ ،‬فيفصل بينهم فصل يحمده عليه‪ ،‬حتى من قضى عليه‪ ،‬ووجه‬
‫الحق نحوه‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬ ‫دي َ‬ ‫عن ْ ِ‬ ‫ن ِ‬ ‫} ُقل { للمستعجلين بالعذاب‪ ،‬جهل وعنادا وظلما‪ } ،‬لوْ أ ّ‬
‫م { فأوقعته بكم ول خير لكم في‬ ‫مُر ب َي ِْني وَب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫ي ال ْ‬ ‫ض َ‬ ‫ق ِ‬ ‫ن ب ِهِ ل َ ُ‬‫جُلو َ‬ ‫ست َعْ ِ‬ ‫تَ ْ‬
‫ذلك‪ ،‬ولكن المر‪ ،‬عند الحليم الصبور‪ ،‬الذي يعصيه العاصون‪ ،‬ويتجرأ عليه‬
‫المتجرئون‪ ،‬وهو يعافيهم‪ ،‬ويرزقهم‪ ،‬ويسدي عليهم نعمه‪ ،‬الظاهرة‬
‫م ِبال ّ‬ ‫والباطنة‪ } .‬والل ّ َ‬
‫ن { ل يخفى عليه من أحوالهم شيء‪،‬‬ ‫مي َ‬‫ظال ِ ِ‬ ‫ه أعْل َ ُ‬ ‫َ ُ‬
‫فيمهلهم ول يهملهم‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬استمريتم‪.‬‬
‫) ‪(1/258‬‬

‫ق ُ‬
‫ط‬ ‫س ُ‬‫ما ت َ ْ‬ ‫ما ِفي ال ْب َّر َوال ْب َ ْ‬
‫حرِ وَ َ‬ ‫م َ‬‫مَها إ ِّل هُوَ وَي َعْل َ ُ‬
‫ب َل ي َعْل َ ُ‬
‫ح ال ْغَي ْ ِ‬ ‫فات ِ ُ‬
‫م َ‬‫عن ْد َهُ َ‬
‫وَ ِ‬
‫س إ ِّل ِفي‬ ‫ت اْلْرض وََل َرط ْ ٍ َ‬ ‫َ‬
‫ب وَل َياب ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫حب ّةٍ ِفي ظ ُل ُ َ‬ ‫مَها وََل َ‬ ‫ن وََرقَةٍ إ ِّل ي َعْل َ ُ‬ ‫م ْ‬‫ِ‬
‫ن )‪(59‬‬ ‫كِ َ ٍ ُ ِ ٍ‬
‫بي‬‫م‬ ‫ب‬ ‫تا‬

‫ر‬
‫ح ِ‬‫ما ِفي ال ْب َّر َوال ْب َ ْ‬ ‫مَها ِإل هُوَ وَي َعْل َ ُ‬
‫م َ‬ ‫ب ل ي َعْل َ ُ‬
‫ح ال ْغَي ْ ِ‬‫فات ِ ُ‬‫م َ‬
‫عن ْد َهُ َ‬‫} ‪ } { 59‬وَ ِ‬
‫ب َول‬ ‫ْ‬
‫ض َول َرط ٍ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن وََرقَةٍ ِإل ي َعْل ُ‬ ‫ق ُ‬
‫ت الْر ِ‬ ‫ما ِ‬ ‫حب ّةٍ ِفي ظل َ‬ ‫مَها َول َ‬ ‫م ْ‬ ‫ط ِ‬ ‫س ُ‬
‫ما ت َ ْ‬‫وَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ب ُ‬ ‫س ِإل ِفي ك َِتا ٍ‬ ‫َياب ِ ٍ‬
‫هذه الية العظيمة‪ ،‬من أعظم اليات تفصيل لعلمه المحيط‪ ،‬وأنه شامل‬
‫للغيوب كلها‪ ،‬التي يطلع منها ما شاء من خلقه‪ .‬وكثير منها طوى علمه عن‬
‫الملئكة المقربين‪ ،‬والنبياء المرسلين‪ ،‬فضل عن غيرهم من العالمين‪ ،‬وأنه‬
‫يعلم ما في البراري والقفار‪ ،‬من الحيوانات‪ ،‬والشجار‪ ،‬والرمال والحصى‪،‬‬
‫والتراب‪ ،‬وما في البحار من حيواناتها‪ ،‬ومعادنها‪ ،‬وصيدها‪ ،‬وغير ذلك مما‬
‫تحتويه أرجاؤها‪ ،‬ويشتمل عليه ماؤها‪.‬‬
‫ن وََرقَةٍ { من أشجار البر والبحر‪ ،‬والبلدان والقفر‪ ،‬والدنيا‬ ‫م ْ‬‫ط ِ‬ ‫ق ُ‬ ‫س ُ‬‫ما ت َ ْ‬‫} وَ َ‬
‫ض { من حبوب الثمار‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ت الْر ِ‬ ‫ما ِ‬‫حب ّةٍ ِفي ظل َ‬ ‫مَها َول َ‬ ‫والخرة } ِإل ي َعْل ُ‬
‫والزروع‪ ،‬وحبوب البذور التي يبذرها الخلق؛ وبذور النوابت البرية التيينشئ‬
‫منها أصناف النباتات‪.‬‬
‫ن{‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ب ُ‬ ‫س { هذا عموم بعد خصوص } ِإل ِفي ك َِتا ٍ‬ ‫ب َول َياب ِ ٍ‬ ‫} َول َرط ْ ٍ‬
‫وهو اللوح المحفوظ‪ ،‬قد حواها‪ ،‬واشتمل عليها‪ ،‬وبعض هذا المذكور‪ ،‬يبهر‬
‫عقول العقلء‪ ،‬ويذهل أفئدة النبلء‪ ،‬فدل هذا على عظمة الرب العظيم‬
‫وسعته‪ ،‬في أوصافه كلها‪.‬‬
‫وأن الخلق ‪-‬من أولهم إلى آخرهم‪ -‬لو اجتمعوا على أن يحيطوا ببعض‬
‫صفاته‪ ،‬لم يكن لهم قدرة ول وسع في ذلك‪ ،‬فتبارك الرب العظيم‪ ،‬الواسع‬
‫العليم‪ ،‬الحميد المجيد‪ ،‬الشهيد‪ ،‬المحيط‪.‬‬
‫ن إله‪ ،‬ل يحصي أحد ثناء عليه‪ ،‬بل كما أثنى على نفسه‪ ،‬وفوق ما‬ ‫م ْ‬ ‫وجل ِ‬
‫يثني عليه عباده‪ ،‬فهذه الية‪ ،‬دلت على علمه المحيط بجميع الشياء‪،‬‬
‫وكتابه المحيط بجميع الحوادث‪.‬‬

‫) ‪(1/259‬‬

‫ضى‬ ‫ق َ‬ ‫م ِفيهِ ل ِي ُ ْ‬ ‫م ي َب ْعَث ُك ُ ْ‬ ‫م ِبالن َّهارِ ث ُ ّ‬ ‫حت ُ ْ‬ ‫جَر ْ‬ ‫ما َ‬ ‫م َ‬ ‫ل وَي َعْل َ ُ‬ ‫م ِبالل ّي ْ ِ‬ ‫ذي ي َت َوَّفاك ُ ْ‬ ‫وَهُوَ ال ّ ِ‬
‫ن )‪ (60‬وَهُوَ ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫قاهُِر‬ ‫مُلو َ‬ ‫م ت َعْ َ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬‫م بِ َ‬ ‫م ي ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬ ‫م ثُ ّ‬ ‫جعُك ُ ْ‬ ‫مْر ِ‬ ‫م إ ِل َي ْهِ َ‬ ‫مى ث ُ ّ‬ ‫س ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ُ‬ ‫ج ٌ‬‫أ َ‬
‫سل َُنا‬ ‫َ‬
‫ه ُر ُ‬ ‫ت ت َوَفّت ْ ُ‬‫موْ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫حد َك ُ ُ‬ ‫جاءَ أ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫ة َ‬ ‫فظ َ ً‬ ‫ح َ‬ ‫م َ‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫س ُ‬ ‫عَبادِهِ وَي ُْر ِ‬ ‫فَوْقَ ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫م َل ي ُ َ‬
‫و‬
‫م وَهُ َ‬ ‫حك ُ‬ ‫ه ال ُ‬ ‫حق ّ أل ل ُ‬ ‫م ال َ‬ ‫موْلهُ ُ‬ ‫دوا إ ِلى اللهِ َ‬ ‫م ُر ّ‬ ‫ن )‪ (61‬ث ُ ّ‬ ‫فّرطو َ‬ ‫وَهُ ْ‬
‫ن )‪(62‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫سِبي َ‬ ‫حا ِ‬‫سَرعُ ال َ‬ ‫أ ْ‬

‫م ِبالن َّهارِ ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫حت ُ ْ‬‫جَر ْ‬ ‫ما َ‬ ‫م َ‬ ‫ل وَي َعْل َ ُ‬ ‫م ِبالل ّي ْ ِ‬ ‫ذي ي َت َوَّفاك ُ ْ‬‫} ‪ } { 62 - 60‬وَهُوَ ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫م بِ َ‬‫م ي ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬
‫م ثُ ّ‬‫جعُك ُ ْ‬ ‫م إ ِل َي ْهِ َ‬
‫مْر ِ‬ ‫مى ث ُ ّ‬ ‫س ّ‬ ‫م َ‬
‫ل ُ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ضى أ َ‬ ‫ق َ‬‫م ِفيهِ ل ِي ُ ْ‬ ‫ي َب ْعَث ُك ُ ْ‬
‫جاَء‬ ‫ذا َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫ة َ‬ ‫فظ َ ً‬ ‫ح َ‬
‫م َ‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫س ُ‬ ‫عَبادِهِ وَي ُْر ِ‬ ‫قاهُِر فَوْقَ ِ‬ ‫ن * وَهُوَ ال ْ َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ت َعْ َ‬
‫َ‬
‫م‬
‫ولهُ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫دوا إ َِلى الل ّهِ َ‬ ‫م ُر ّ‬‫ن * ثُ ّ‬ ‫طو َ‬ ‫فّر ُ‬ ‫م ل يُ َ‬ ‫سل َُنا وَهُ ْ‬ ‫ه ُر ُ‬ ‫ت ت َوَفّت ْ ُ‬ ‫موْ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫حد َك ُ ُ‬ ‫أ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫سِبي َ‬ ‫حا ِ‬ ‫سَرعُ ال ْ َ‬ ‫م وَهُوَ أ ْ‬ ‫حك ْ ُ‬ ‫ه ال ْ ُ‬ ‫حقّ أل ل َ ُ‬ ‫ال ْ َ‬
‫هذا كله‪ ،‬تقرير للوهيته‪ ،‬واحتجاج على المشركين به‪ ،‬وبيان أنه تعالى‬
‫المستحق للحب والتعظيم‪ ،‬والجلل والكرام‪ ،‬فأخبر أنه وحده‪ ،‬المتفرد‬
‫بتدبير عباده‪ ،‬في يقظتهم ومنامهم‪ ،‬وأنه يتوفاهم بالليل‪ ،‬وفاة النوم‪ ،‬فتهدأ‬
‫حركاتهم‪ ،‬وتستريح أبدانهم‪ ،‬ويبعثهم في اليقظة من نومهم‪ ،‬ليتصرفوا في‬
‫مصالحهم الدينية والدنيوية وهو ‪-‬تعالى‪ -‬يعلم ما جرحوا وما كسبوا من تلك‬
‫العمال‪ .‬ثم ل يزال تعالى هكذا‪ ،‬يتصرف فيهم‪ ،‬حتى يستوفوا آجالهم‪.‬‬
‫فيقضى بهذا التدبير‪ ،‬أجل مسمى‪ ،‬وهو‪ :‬أجل الحياة‪ ،‬وأجل آخر فيما بعد‬
‫م { ل إلى غيره‬ ‫جعُك ُ ْ‬ ‫م إ ِل َي ْهِ َ‬
‫مْر ِ‬ ‫ذلك‪ ،‬وهو البعث بعد الموت‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬ث ُ ّ‬
‫ن { من خير وشر‪.‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫م ت َعْ َ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م بِ َ‬ ‫م ي ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬ ‫} ثُ ّ‬
‫عَبادِهِ { ينفذ فيهم إرادته الشاملة‪ ،‬ومشيئته‬ ‫قاهُِر فَوْقَ ِ‬ ‫} وَهُوَ { تعالى } ال ْ َ‬
‫العامة‪ ،‬فليسوا يملكون من المر شيئا‪ ،‬ول يتحركون ول يسكنون إل بإذنه‪،‬‬
‫ة من الملئكة‪ ،‬يحفظون العبد ويحفظون‬ ‫ومع ذلك‪ ،‬فقد وكل بالعباد حفظ ً‬
‫ن*‬ ‫ما كات ِِبي َ‬‫َ‬ ‫ن * ك َِرا ً‬ ‫ظي َ‬‫حافِ ِ‬ ‫َ‬
‫مل َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن عَلي ْك ْ‬ ‫عليه ما عمل‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬وَإ ِ ّ‬
‫ل‬‫ن قَوْ ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫فظ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ما ي َل ِ‬ ‫ل قَِعيد ٌ * َ‬‫ما ِ‬ ‫ش َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ن ال ْي َ ِ‬ ‫فعَُلو َ‬ ‫ي َعْل َ ُ‬
‫ن وَعَ ِ‬ ‫مي ِ‬ ‫ن { } عَ ِ‬ ‫ما ت َ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬
‫ب عَِتيد ٌ { فهذا حفظه لهم في حال الحياة‬ ‫ِإل ل َد َي ْهِ َرِقي ٌ‬
‫سل َُنا { أي الملئكة الموكلون بقبض‬ ‫َ‬
‫ه ُر ُ‬ ‫ت ت َوَفّت ْ ُ‬ ‫موْ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫حد َك ُ ُ‬ ‫جاَء أ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫} َ‬
‫ن { في ذلك فل يزيدون ساعة مما قدره الله‬ ‫فّرطو َ‬ ‫ُ‬ ‫م ل يُ َ‬ ‫الرواح } وَهُ ْ‬
‫وقضاه ول ينقصون ول ينفذون من ذلك إل بحسب المراسيم اللهية‬
‫والتقادير الربانية‬
‫دوا إ َِلى‬ ‫م { بعد الموت والحياة البرزخية وما فيها من الخير والشر } ُر ّ‬ ‫} ثُ ّ‬
‫حقّ { أي الذي تولهم بحكمه القدري فنفذ فيهم ما شاء من‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ولهُ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫الل ّهِ َ‬
‫أنواع التدبير ثم تولهم بأمره ونهيه وأرسل إليهم الرسل وأنزل عليهم‬
‫الكتب ثم ردوا إليه ليتولى الحكم فيهم بالجزاء ويثيبهم على ما عملوا من‬
‫َ‬
‫م{‬ ‫حك ْ ُ‬ ‫ه ال ْ ُ‬ ‫الخيرات ويعاقبهم على الشرور والسيئات َولهذا قال } أل ل َ ُ‬
‫َ‬
‫ن { لكمال علمه وحفظه لعمالهم‬ ‫سِبي َ‬ ‫حا ِ‬ ‫سَرعُ ال ْ َ‬ ‫وحده ل شريك له } وَهُوَ أ ْ‬
‫بما أثبتته في اللوح المحفوظ ثم أثبته ملئكته في الكتاب الذي بأيديهم‬
‫فإذا كان تعالى هو المنفرد بالخلق والتدبير وهو القاهر فوق عباده وقد‬
‫اعتنى بهم كل العتناء في جميع أحوالهم وهو الذي له الحكم القدري‬
‫ل عن من هذا‬ ‫والحكم الشرعي والحكم الجزائي فأين للمشركين العدو ُ‬
‫وصفه ونعته إلى عبادة من ليس له من المر شيء ول عنده مثقال ذرة‬
‫من النفع ول له قدرة وإرادة؟‬
‫أما والله لو علموا حلم الله عليهم وعفوه ورحمته بهم وهم يبارزونه‬
‫بالشرك والكفران ويتجرءون على عظمته بالفك والبهتان وهو يعافيهم‬
‫] ص ‪ [ 260‬ويرزقهم لنجذبت دواعيهم إلى معرفته وذهلت عقولهم في‬
‫حبه ولمقتوا أنفسهم أشد المقت حيث انقادوا لداعي الشيطان الموجب‬
‫للخزي والخسران ولكنهم قوم ل يعقلون‪.‬‬

‫) ‪(1/259‬‬
‫ة ل َئ ِ َ‬
‫جاَنا‬
‫ن أن ْ َ‬‫ْ‬ ‫في َ ً‬
‫خ ْ‬
‫عا وَ ُ‬‫ضّر ً‬ ‫ه تَ َ‬ ‫عون َ ُ‬ ‫حرِ ت َد ْ ُ‬‫ت ال ْب َّر َوال ْب َ ْ‬‫ما ِ‬‫ن ظ ُل ُ َ‬
‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫جيك ُ ْ‬‫ن ي ُن َ ّ‬
‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫قُ ْ‬
‫ب‬ ‫َ‬
‫ل كْر ٍ‬ ‫نك ّ‬‫ُ‬ ‫م ْ‬‫من َْها وَ ِ‬
‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫جيك ْ‬ ‫ه ي ُن َ ّ‬ ‫ّ‬
‫ل الل ُ‬ ‫ن )‪ (63‬قُ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫شاك ِ ِ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن هَذِهِ لن َكون َ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(64‬‬ ‫شرِكو َ‬ ‫م تُ ْ‬ ‫م أن ْت ُ ْ‬ ‫ثُ ّ‬
‫عا‬ ‫ضّر ً‬ ‫ه تَ َ‬ ‫عون َ ُ‬ ‫حرِ ت َد ْ ُ‬‫ت ال ْب َّر َوال ْب َ ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫ن ظ ُل ُ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫جيك ُ ْ‬ ‫ن ي ُن َ ّ‬‫م ْ‬
‫ل َ‬ ‫} ‪ } { 64 - 63‬قُ ْ‬
‫ة ل َئ ِ َ‬
‫من َْها‬ ‫م ِ‬ ‫جيك ُ ْ‬ ‫ل الل ّ ُ‬
‫ه ي ُن َ ّ‬ ‫ن * قُ ِ‬ ‫ري َ‬ ‫شاك ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬ ‫ن هَذِهِ ل َن َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫جاَنا ِ‬ ‫ن أن ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫في َ ً‬‫خ ْ‬ ‫وَ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫م تُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫شرِكو َ‬ ‫م أن ْت ُ ْ‬ ‫بث ّ‬ ‫ن كل كْر ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ ِ‬
‫ل { للمشركين بالله‪ ،‬الداعين معه آلهة أخرى‪ ،‬ملزما لهم بما‬ ‫ُ‬
‫أي } ق ْ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫جيك ْ‬ ‫ن ي ُن َ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫أثبتوه من توحيد الربوبية‪ ،‬على ما أنكروا من توحيد اللهية } َ‬
‫حرِ { أي‪ :‬شدائدهما ومشقاتهما‪ ،‬وحين يتعذر أو‬ ‫ت ال ْب َّر َوال ْب َ ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫ن ظ ُل ُ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫دعون ربكم تضرعا بقلب خاضع‪ ،‬ولسان ل‬ ‫يتعسر عليكم وجه الحيلة‪ ،‬فت ْ‬
‫جاَنا‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن أن ْ َ‬ ‫يزال يلهج بحاجته في الدعاء‪ ،‬وتقولون وأنتم في تلك الحال‪ } :‬لئ ِ ْ‬
‫ن { لله‪ ،‬أي‬ ‫ري َ‬‫شاك ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬ ‫ن هَذِهِ { الشدة التي وقعنا فيها } ل َن َ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫المعترفين بنعمته‪ ،‬الواضعين لها في طاعة ربهم‪ ،‬الذين حفظوها عن أن‬
‫يبذلوها في معصيته‪.‬‬
‫ب { أي‪ :‬من هذه الشدة الخاصة‪ ،‬ومن‬ ‫ل ك َْر ٍ‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫من َْها وَ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫جيك ُ ْ‬ ‫ه ي ُن َ ّ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫} قُ ِ‬
‫شرِ ُ‬ ‫َ‬
‫ن { ل تفون لله بما قلتم‪ ،‬وتنسون‬ ‫كو َ‬ ‫م تُ ْ‬ ‫م أن ْت ُ ْ‬ ‫جميع الكروب العامة‪ } .‬ث ُ ّ‬
‫نعمه عليكم‪ ،‬فأي برهان أوضح من هذا على بطلن الشرك‪ ،‬وصحة‬
‫التوحيد؟"‬

‫) ‪(1/260‬‬

‫َ‬ ‫ذابا من فَوقك ُ َ‬ ‫َ‬


‫جل ِك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ت أْر ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫ن تَ ْ‬‫م ْ‬ ‫م أو ْ ِ‬ ‫م عَ َ ً ِ ْ ْ ِ ْ‬ ‫ث عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫قادُِر عََلى أ ْ‬
‫ن ي َب ْعَ َ‬ ‫ل هُوَ ال ْ َ‬ ‫قُ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ت ل َعَل ّهُ ْ‬
‫م‬ ‫ف اْل ََيا ِ‬ ‫صّر ُ‬ ‫ف نُ َ‬ ‫ض ان ْظ ُْر ك َي ْ َ‬
‫س ب َعْ ٍ‬‫م ب َأ َ‬ ‫ضك ُ ْ‬ ‫ذيقَ ب َعْ َ‬ ‫شي ًَعا وَي ُ ِ‬‫م ِ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫أوْ ي َل ْب ِ َ‬
‫ل )‪(66‬‬ ‫كي ٍ‬‫م ب ِوَ ِ‬‫ت عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫س ُ‬ ‫ل لَ ْ‬ ‫ك وَهُوَ ال ْ َ‬
‫حق ّ ق ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ب ب ِهِ قَوْ ُ‬ ‫ن )‪ (65‬وَك َذ ّ َ‬ ‫قُهو َ‬ ‫ف َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ن )‪(67‬‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫ف ت َعْل ُ‬ ‫سوْ َ‬ ‫قّر وَ َ‬ ‫ست َ َ‬
‫م ْ‬ ‫ل ن َب َإ ٍ ُ‬ ‫ُ‬
‫ل ِك ّ‬

‫م أ َْو‬‫ن فَوْقِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ذاًبا ِ‬ ‫م عَ َ‬ ‫ث عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ن ي َب ْعَ َ‬ ‫َ‬


‫قادُِر عََلى أ ْ‬ ‫ل هُوَ ال ْ َ‬ ‫} ‪ } { 67 - 65‬قُ ْ‬
‫ْ‬ ‫من تحت أ َرجل ِك ُ َ‬
‫ف‬‫ض ان ْظ ُْر ك َي ْ َ‬ ‫س ب َعْ ٍ‬ ‫م ب َأ َ‬ ‫ضك ُ ْ‬ ‫ذيقَ ب َعْ َ‬ ‫شي ًَعا وَي ُ ِ‬
‫م ِ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫م أوْ ي َل ْب ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ ْ َ ْ ِ ْ ُ‬
‫ت‬‫س ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ح ق ّ قل ل ْ‬ ‫ْ‬
‫مك وَهُوَ ال َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ب ب ِهِ قوْ ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن * وَكذ َ‬ ‫قُهو َ‬ ‫ف َ‬
‫م يَ ْ‬ ‫ّ‬
‫ت لعَلهُ ْ‬ ‫َ‬ ‫ف الَيا ِ‬ ‫صّر ُ‬ ‫نُ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫ف ت َعْل ُ‬ ‫سوْ َ‬ ‫قّر وَ َ‬ ‫ست َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ل * ل ِكل ن َب َإ ٍ ُ‬ ‫كي ٍ‬
‫م ب ِوَ ِ‬ ‫عَل َي ْك ْ‬
‫ُ‬
‫ن فَوْقِك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م ْ‬ ‫أي‪ :‬هو تعالى قادر على إرسال العذاب إليكم من كل جهة‪ِ } .‬‬
‫أ َو من تحت أ َرجل ِك ُ َ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫ضك ْ‬ ‫ذيقَ ب َعْ َ‬ ‫شي ًَعا وَي ُ ِ‬
‫م { أي‪ :‬يخلطكم } ِ‬ ‫سك ُ ْ‬ ‫م أوْ ي َل ْب ِ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ ِ ْ َ ْ ِ ْ ُ‬
‫ض { أي‪ :‬في الفتنة‪ ،‬وقتل بعضكم بعضا‪.‬‬ ‫ْ‬
‫س ب َعْ ٍ‬ ‫ب َأ َ‬
‫فهو قادر على ذلك كله‪ ،‬فاحذروا من القامة على معاصيه‪ ،‬فيصيبكم من‬
‫العذاب ما يتلفكم ويمحقكم‪ ،‬ومع هذا فقد أخبر أنه قادر على ذلك‪ .‬ولكن‬
‫من رحمته‪ ،‬أن رفع عن هذه المة العذاب من فوقهم بالرجم والحصب‪،‬‬
‫ونحوه‪ ،‬ومن تحت أرجلهم بالخسف‪.‬‬
‫ولكن عاقب من عاقب منهم‪ ،‬بأن أذاق بعضهم بأس بعض‪ ،‬وسلط بعضهم‬
‫على بعض‪ ،‬عقوبة عاجلة يراها المعتبرون‪ ،‬ويشعر بها العالمون )‪. (1‬‬
‫ت { أي‪ :‬ننوعها‪ ،‬ونأتي بها على أوجه كثيرة وكلها‬ ‫ف الَيا ِ‬ ‫صّر ُ‬ ‫ف نُ َ‬ ‫} ان ْظ ُْر ك َي ْ َ‬
‫ن { أي‪ :‬يفهمون ما خلقوا من أجله‪،‬‬ ‫قُهو َ‬ ‫ف َ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫دالة على الحق‪ } .‬ل َعَل ّهُ ْ‬
‫ويفقهون الحقائق الشرعية‪ ،‬والمطالب اللهية‪.‬‬
‫حقّ { الذي ل مرية فيه‪ ،‬ول‬‫ك وَهُوَ ال ْ َ‬‫م َ‬‫ب ب ِهِ { أي‪ :‬بالقرآن } قَوْ ُ‬ ‫} وَك َذ ّ َ‬
‫ل { أحفظ أعمالكم‪ ،‬وأجازيكم عليها‪،‬‬ ‫كي ٍ‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م ب ِوَ ِ‬ ‫ل لَ ْ‬
‫س ُ‬ ‫شك يعتريه‪ } .‬قُ ْ‬
‫وإنما أنا منذر ومبلغ‪.‬‬
‫قّر { أي‪ :‬وقت يستقر فيه‪ ،‬وزمان ل يتقدم عنه ول يتأخر‪.‬‬ ‫ست َ َ‬‫م ْ‬ ‫} ل ِك ُ ّ‬
‫ل ن َب َإ ٍ ُ‬
‫ن { ما توعدون به من العذاب‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫ف ت َعْل َ ُ‬
‫سوْ َ‬ ‫} وَ َ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪" :‬العاملون"‪.‬‬

‫) ‪(1/260‬‬

‫َ‬ ‫َ‬ ‫وإ َ َ‬


‫ث‬‫دي ٍ‬
‫ح ِ‬
‫ضوا ِفي َ‬ ‫خو ُ‬‫حّتى ي َ ُ‬
‫م َ‬ ‫ن ِفي آَيات َِنا فَأعْرِ ْ‬
‫ض عَن ْهُ ْ‬ ‫ضو َ‬ ‫خو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬ ‫ت‬‫ذا َرأي ْ َ‬ ‫َِ‬
‫ن )‪(68‬‬ ‫مي َ‬ ‫قوْم ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ن فََل ت َ ْ‬
‫قعُد ْ ب َعْد َ الذ ّك َْرى َ‬ ‫شي ْ َ‬‫ك ال ّ‬‫سي َن ّ َ‬ ‫غَي ْ ِ ِ َ ِ ّ‬
‫م ع َ ال َ ِ‬ ‫طا ُ‬ ‫ي ُن ْ ِ‬ ‫ما‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫} ‪ } { 69 ، 68‬وإ َ َ‬
‫حّتى‬‫م َ‬‫ض عَن ْهُ ْ‬ ‫ن ِفي آَيات َِنا فَأعْرِ ْ‬ ‫ضو َ‬ ‫خو ُ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ت ال ّ ِ‬‫ذا َرأي ْ َ‬ ‫َِ‬
‫معَ‬
‫َ‬ ‫رى‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ّ‬ ‫ذ‬‫ال‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫ْ‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫ب‬ ‫ْ‬ ‫د‬‫ُ‬ ‫ع‬ ‫ْ‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫ت‬ ‫َ‬
‫فل‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫َ‬
‫طا‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ّ‬
‫ش‬ ‫ال‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ّ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫ي‬‫س‬‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ما‬ ‫إ‬ ‫و‬
‫ِ َِّ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ر‬‫ْ‬ ‫ي‬‫َ‬ ‫غ‬ ‫ث‬‫دي ٍ‬
‫ح ِ‬‫ضوا ِفي َ‬ ‫خو ُ‬ ‫يَ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ّ‬ ‫ال ْ َ‬
‫قوْم ِ الظال ِ ِ‬
‫المراد بالخوض في آيات الله‪ :‬التكلم بما يخالف الحق‪ ،‬من تحسين‬
‫المقالت الباطلة‪ ،‬والدعوة إليها‪ ،‬ومدح أهلها‪ ،‬والعراض عن الحق‪ ،‬والقدح‬
‫فيه وفي أهله‪ ،‬فأمر الله رسوله أصل وأمته تبعا‪ ،‬إذا رأوا من يخوض بآيات‬
‫الله بشيء مما ذكر‪ ،‬بالعراض عنهم‪ ،‬وعدم حضور مجالس الخائضين‬
‫بالباطل‪ ،‬والستمرار على ذلك‪ ،‬حتى يكون البحث والخوض في كلم غيره‪،‬‬
‫فإذا كان في كلم غيره‪ ،‬زال النهي المذكور‪.‬‬
‫فإن كان مصلحة كان مأمورا به‪ ،‬وإن كان غير ذلك‪ ،‬كان غير مفيد ول‬
‫مأمور به‪ ،‬وفي ذم الخوض بالباطل‪ ،‬حث على البحث‪ ،‬والنظر‪ ،‬والمناظرة‬
‫ن { أي‪ :‬بأن جلست معهم‪ ،‬على‬ ‫طا ُ‬‫شي ْ َ‬ ‫ك ال ّ‬ ‫سي َن ّ َ‬
‫ما ي ُن ْ ِ‬ ‫بالحق‪ .‬ثم قال‪ } :‬وَإ ِ ّ‬
‫ن { يشمل‬ ‫مي َ‬ ‫ّ‬
‫قوْم ِ الظال ِ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫قعُد ْ ب َعْد َ الذ ّكَرى َ‬
‫م ع َ ال َ‬ ‫وجه النسيان والغفلة‪َ } .‬فل ت َ ْ‬
‫الخائضين بالباطل‪ ،‬وكل متكلم بمحرم‪ ،‬أو فاعل لمحرم‪ ،‬فإنه يحرم‬
‫الجلوس والحضور عند حضور المنكر‪ ،‬الذي ل يقدر على إزالته‪.‬‬
‫هذا النهي والتحريم‪ ،‬لمن جلس معهم‪ ،‬ولم يستعمل تقوى الله‪ ،‬بأن كان‬
‫يشاركهم في القول والعمل المحرم‪ ،‬أو يسكت عنهم‪ ،‬وعن النكار‪ ،‬فإن‬
‫استعمل تقوى الله تعالى‪ ،‬بأن كان يأمرهم بالخير‪ ،‬وينهاهم عن الشر‬
‫والكلم الذي يصدر منهم‪ ،‬فيترتب على ذلك زوال الشر أو تخفيفه‪ ،‬فهذا‬
‫ليس عليه حرج ول إثم‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬

‫) ‪(1/260‬‬

‫ن)‬
‫قو َ‬ ‫ن ذِك َْرى ل َعَل ّهُ ْ‬
‫م ي َت ّ ُ‬ ‫يءٍ وَل َك ِ ْ‬ ‫ن َ‬
‫ش ْ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬
‫ساب ِهِ ْ‬
‫ح َ‬
‫ن ِ‬
‫م ْ‬
‫ن ِ‬
‫قو َ‬
‫ن ي َت ّ ُ‬ ‫ما عََلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫وَ َ‬
‫‪(69‬‬
‫ن ذِك َْرى ل َعَل ّهُ ْ‬
‫م‬ ‫يءٍ وَل َك ِ ْ‬
‫ش ْ‬‫ن َ‬‫م ْ‬‫م ِ‬‫ساب ِهِ ْ‬‫ح َ‬‫ن ِ‬‫م ْ‬‫ن ِ‬‫قو َ‬‫ن ي َت ّ ُ‬‫ذي َ‬‫ما عََلى ال ّ ِ‬‫} وَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قو َ‬ ‫ي َت ّ ُ‬
‫م‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن ذِكَرى لعَلهُ ْ‬ ‫َ‬
‫يٍء وَلك ِ ْ‬ ‫ش ْ‬‫ن َ‬‫م ْ‬‫م ِ‬‫ساب ِهِ ْ‬‫ح َ‬‫ن ِ‬‫م ْ‬‫ن ِ‬‫قو َ‬‫ن ي َت ّ ُ‬‫ذي َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ما عَلى ال ِ‬ ‫} وَ َ‬
‫ن { أي‪ :‬ولكن ليذكرهم‪ ،‬ويعظهم‪ ،‬لعلهم يتقون الله تعالى‪.‬‬ ‫قو َ‬ ‫ي َت ّ ُ‬
‫ّ‬
‫] ص ‪ [ 261‬وفي هذا دليل على أنه ينبغي أن يستعمل المذكُر من الكلم‪،‬‬
‫ما يكون أقرب إلى حصول مقصود التقوى‪ .‬وفيه دليل على أنه إذا كان‬
‫التذكير والوعظ‪ ،‬مما يزيد الموعوظ شرا إلى شره‪ ،‬إلى أن تركه هو‬
‫الواجب )‪ (1‬لنه إذا ناقض المقصود‪ ،‬كان تركه مقصودا‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬كان تركه هو الواجب‪.‬‬

‫) ‪(1/260‬‬

‫َ‬
‫ل‬‫س َ‬‫ن ت ُب ْ َ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫حَياةُ الد ّن َْيا وَذ َك ّْر ب ِهِ أ ْ‬ ‫وا وَغَّرت ْهُ ُ‬ ‫م ل َعًِبا وَل َهْ ً‬
‫ذوا ِدين َهُ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫ن ات ّ َ‬‫ذي َ‬ ‫وَذ َرِ ال ّ ِ‬
‫ل‬
‫ل عَد ْ ٍ‬ ‫ل كُ ّ‬ ‫ن ت َعْدِ ْ‬‫فيعٌ وَإ ِ ْ‬ ‫ي وََل َ‬
‫ش ِ‬ ‫ن الل ّهِ وَل ِ ّ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬‫س ل ََها ِ‬ ‫ت ل َي ْ َ‬ ‫سب َ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫س بِ َ‬ ‫ف ٌ‬ ‫نَ ْ‬
‫ميم ٍ وَعَ َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َل ي ُؤْ َ‬
‫ب‬ ‫ذا ٌ‬ ‫ح ِ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ِ‬ ‫شَرا ٌ‬ ‫سُبوا لهُ ْ‬ ‫ما ك َ‬ ‫سلوا ب ِ َ‬ ‫ن أب ْ ِ‬‫ذي َ‬‫من َْها أولئ ِك ال ِ‬ ‫خذ ْ ِ‬
‫ن )‪(70‬‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫فُرو َ‬ ‫م بِ َ‬‫أِلي ٌ‬
‫ه‬ ‫م ال ْ َ‬
‫حَياةُ الد ّن َْيا وَذ َك ّْر ب ِ ِ‬ ‫وا وَغَّرت ْهُ ُ‬ ‫م ل َعًِبا وَل َهْ ً‬ ‫ذوا ِدين َهُ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫ن ات ّ َ‬ ‫ذي َ‬‫} ‪ } { 70‬وَذ َرِ ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ن ت َعْدِ ْ‬
‫ل‬ ‫فيعٌ وَإ ِ ْ‬ ‫ش ِ‬‫ي َول َ‬ ‫ن الل ّهِ وَل ِ ّ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫س ل ََها ِ‬ ‫ت ل َي ْ َ‬ ‫سب َ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫س بِ َ‬‫ف ٌ‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن ت ُب ْ َ‬‫أ ْ‬
‫ك ال ّذي ُ‬ ‫من َْها ُأول َئ ِ َ‬
‫ميم ٍ‬ ‫ح ِ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ب ِ‬ ‫شَرا ٌ‬ ‫م َ‬ ‫سُبوا ل َهُ ْ‬ ‫ما ك َ َ‬ ‫سُلوا ب ِ َ‬ ‫ن أب ْ ِ‬ ‫ِ َ‬ ‫خذ ْ ِ‬ ‫ل ل ي ُؤْ َ‬ ‫ل عَد ْ ٍ‬ ‫كُ ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬ ‫وَعَ َ‬
‫فُرو َ‬ ‫م بِ َ‬‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬
‫المقصود من العباد‪ ،‬أن يخلصوا لله الدين‪ ،‬بأن يعبدوه وحده ل شريك له‪،‬‬
‫ويبذلوا مقدورهم في مرضاته ومحابه‪ .‬وذلك متضمن لقبال القلب على‬
‫دا‪ ،‬ل هزل وإخلصا لوجه الله‪،‬‬ ‫الله وتوجهه إليه‪ ،‬وكون سعي العبد نافعا‪ ،‬وج ّ‬
‫ل رياء وسمعة‪ ،‬هذا هو الدين الحقيقي‪ ،‬الذي يقال له دين‪ ،‬فأما من زعم‬
‫أنه على الحق‪ ،‬وأنه صاحب دين وتقوى‪ ،‬وقد اتخذ ديَنه لعبا ولهوا‪ .‬بأن ل ََها‬
‫قلُبه عن محبة الله ومعرفته‪ ،‬وأقبل على كل ما يضره‪ ،‬ول ََها في باطله‪،‬‬
‫مر‬ ‫َ‬
‫ولعب فيه ببدنه‪ ،‬لن العمل والسعي إذا كان لغير الله‪ ،‬فهو لعب‪ ،‬فهذا أ َ‬
‫الله تعالى أن يترك ويحذر‪ ،‬ول يغتر به‪ ،‬وتنظر حاله‪ ،‬ويحذر من أفعاله‪ ،‬ول‬
‫يغتر بتعويقه عما يقرب إلى الله‪.‬‬
‫} وَذ َك ّْر ب ِهِ { أي‪ :‬ذكر بالقرآن‪ ،‬ما ينفع العباد‪ ،‬أمرا‪ ،‬وتفصيل وتحسينا له‪،‬‬
‫بذكر ما فيه من أوصاف الحسن‪ ،‬وما يضر العباد نهيا عنه‪ ،‬وتفصيل لنواعه‪،‬‬
‫وبيان ما فيه‪ ،‬من الوصاف القبيحة الشنيعة‪ ،‬الداعية لتركه‪ ،‬وكل هذا لئل‬
‫تبسل نفس بما كسبت‪ ،‬أي‪ :‬قبل اقتحام العبد للذنوب وتجرئه على علم‬
‫الغيوب‪ ،‬واستمرارها على ذلك المرهوب‪ ،‬فذكرها‪ ،‬وعظها‪ ،‬لترتدع وتنزجر‪،‬‬
‫وتكف عن فعلها‪.‬‬
‫فيعٌ { أي‪ :‬قبل ]أن[ تحيط بها‬ ‫ش ِ‬ ‫ي َول َ‬ ‫ّ‬
‫ن اللهِ وَل ِ ّ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫س ل ََها ِ‬ ‫وقوله } ل َي ْ َ‬
‫ذنوبها‪ ،‬ثم ل ينفعها أحد من الخلق‪ ،‬ل قريب ول صديق‪ ،‬ول يتولها من دون‬
‫ل { أي‪ :‬تفتدي بكل‬ ‫ل عَد ْ ٍ‬ ‫ل كُ ّ‬ ‫ن ت َعْدِ ْ‬ ‫الله أحد‪ ،‬ول يشفع لها شافع } وَإ ِ ْ‬
‫من َْها { أي‪ :‬ل يقبل ول يفيد‪.‬‬ ‫خذ ْ ِ‬ ‫فداء‪ ،‬ولو بملء الرض ذهبا } ل ي ُؤْ َ‬
‫سلوا { أي‪ :‬أهلكوا وأيسوا من‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫} ُأول َئ ِ َ‬
‫ن أب ْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك { الموصوفون بما ذكر } ال ِ‬
‫ميم ٍ { أي‪ :‬ماء حار قد انتهى‬ ‫ح ِ‬
‫ن َ‬‫م ْ‬
‫ب ِ‬
‫شَرا ٌ‬ ‫سُبوا ل َهُ ْ‬
‫م َ‬ ‫ما ك َ َ‬
‫الخير‪ ،‬وذلك } ب ِ َ‬
‫َ‬
‫ما كاُنوا‬ ‫َ‬ ‫حره‪ ،‬يشوي وجوههم‪ ،‬ويقطع أمعاءهم } وَعَ َ‬
‫م بِ َ‬
‫ب أِلي ٌ‬
‫ذا ٌ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ي َك ْ ُ‬
‫فُرو َ‬

‫) ‪(1/261‬‬

‫قاب َِنا ب َعْد َ إ ِذ ْ هَ َ‬


‫داَنا‬ ‫ضّرَنا وَن َُرد ّ عََلى أ َعْ َ‬ ‫فعَُنا وََل ي َ ُ‬ ‫ما َل ي َن ْ َ‬ ‫ن الل ّهِ َ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬‫عو ِ‬ ‫ل أ َن َد ْ ُ‬ ‫قُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫ه إ ِلى‬ ‫عون َ ُ‬‫ب ي َد ْ ُ‬ ‫حا ٌ‬ ‫ص َ‬ ‫هأ ْ‬ ‫نل ُ‬ ‫حي َْرا َ‬ ‫ض َ‬ ‫ن ِفي الْر ُ ِ‬ ‫طي ُ‬ ‫شَيا ِ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫ست َهْوَت ْ ُ‬ ‫ذي ا ْ‬ ‫ه كال ِ‬ ‫َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ن )‪(71‬‬ ‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫م ل َِر ّ‬ ‫سل ِ َ‬ ‫مْرَنا ل ِن ُ ْ‬ ‫دى وَأ ِ‬ ‫دى الل ّهِ هُوَ ال ْهُ َ‬ ‫ن هُ َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫دى ائ ْت َِنا قُ ْ‬ ‫ال ْهُ َ‬
‫وأ َ َ‬
‫خل َ َ‬
‫ق‬ ‫ذي َ‬ ‫ن )‪ (72‬وَهُوَ ال ّ ِ‬ ‫شُرو َ‬ ‫ح َ‬ ‫ذي إ ِل َي ْهِ ت ُ ْ‬ ‫قوهُ وَهُوَ ال ّ ِ‬ ‫صَلةَ َوات ّ ُ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫ن أِقي ُ‬ ‫َ ْ‬
‫ك‬‫مل ْ ُ‬ ‫ه ال ُْ‬ ‫حقّ وَل َُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ه‬ ‫ُ‬ ‫ل‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ن‬ ‫ُ‬
‫كو‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫قو‬‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ال ّ َ َ ِ َ ْ َ ِ َ ّ َ َ ْ َ َ‬
‫ي‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ح‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫ض‬ ‫ر‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫ْ‬ ‫وا‬ ‫ت‬ ‫وا‬ ‫ما‬ ‫س‬
‫ُ ْ ُ‬ ‫ْ َ‬
‫خِبيُر )‪(73‬‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫كي ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫شَهاد َةِ وَهُوَ ال ْ َ‬ ‫ب َوال ّ‬ ‫م ال ْغَي ْ ِ‬‫عال ِ ُ‬
‫صورِ َ‬ ‫خ ِفي ال ّ‬ ‫ف ُ‬ ‫م ي ُن ْ َ‬ ‫ي َوْ َ‬

‫ضّرَنا وَن َُرد ّ عََلى‬ ‫فعَُنا َول ي َ ُ‬ ‫ما ل ي َن ْ َ‬ ‫ن الل ّهِ َ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫عو ِ‬ ‫ل أ َن َد ْ ُ‬ ‫} ‪ } { 73 - 71‬قُ ْ‬
‫هَ‬
‫نل ُ‬ ‫حي َْرا َ‬ ‫ض َ‬ ‫ن ِفي الْر ُِ‬ ‫طي ُ‬ ‫شَيا ِ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫ست َهْوَت ْ ُ‬ ‫ذي ا ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ه كال ِ‬ ‫ّ‬
‫داَنا الل ُ‬ ‫قاب َِنا ب َعْد َ إ ِذ ْ هَ َ‬ ‫أ َعْ َ‬
‫َ‬
‫م‬‫سل ِ َ‬‫مْرَنا ل ِن ُ ْ‬ ‫دى وَأ ِ‬ ‫دى الل ّهِ هُوَ ال ْهُ َ‬ ‫ن هُ َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫دى ائ ْت َِنا قُ ْ‬ ‫ه إ َِلى ال ْهُ َ‬ ‫عون َ ُ‬ ‫ب ي َد ْ ُ‬ ‫حا ٌ‬ ‫ص َ‬ ‫أ ْ‬
‫ل ِرب ال ْعال َمين * وأ َ َ‬
‫و‬
‫ن * وَهُ َ‬ ‫شُرو َ‬ ‫ح َ‬ ‫ذي إ ِل َي ْهِ ت ُ ْ‬ ‫قوهُ وَهُوَ ال ّ ِ‬ ‫صلةَ َوات ّ ُ‬ ‫موا ال ّ‬ ‫ن أِقي ُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ِ َ‬ ‫َ ّ‬
‫هَ‬
‫حقّ وَل ُ‬ ‫ْ‬
‫ه ال َ‬ ‫ُ‬
‫ن قَوْل ُ‬ ‫كو ُ‬ ‫ن فَي َ ُ‬ ‫ل كُ ْ‬ ‫قو ُ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫حقّ وَي َوْ َ‬ ‫ْ‬
‫ض ِبال َ‬ ‫ت َوالْر َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫خلقَ ال ّ‬ ‫َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫خِبيُر { ‪.‬‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫كي ُ‬‫ح ِ‬ ‫شَهاد َةِ وَهُوَ ال ْ َ‬ ‫ب َوال ّ‬ ‫م ال ْغَي ْ ِ‬ ‫عال ِ ُ‬‫صورِ َ‬ ‫خ ِفي ال ّ‬ ‫ف ُ‬ ‫م ي ُن ْ َ‬ ‫ك ي َوْ َ‬ ‫مل ْ ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ل { يا أيها الرسول للمشركين بالله‪ ،‬الداعين معه غيره‪ ،‬الذين‬ ‫} قُ ْ‬
‫يدعونكم إلى دينهم‪ ،‬مبينا وشارحا لوصف آلهتهم‪ ،‬التي يكتفي العاقل بذكر‬
‫وصفها‪ ،‬عن النهي عنها‪ ،‬فإن كل عاقل إذا تصور مذهب المشركين جزم‬
‫ن الل ّهِ َ‬
‫ما‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫عو ِ‬ ‫ببطلنه‪ ،‬قبل أن تقام البراهين على ذلك‪ ،‬فقال‪ } :‬أ َن َد ْ ُ‬
‫ن دون الله‪،‬‬ ‫م ْ‬ ‫من عُِبد ِ‬ ‫ضّرَنا { وهذا وصف‪ ،‬يدخل فيه كل َ‬ ‫فعَُنا َول ي َ ُ‬ ‫ل ي َن ْ َ‬
‫فإنه ل ينفع ول يضر‪ ،‬وليس له من المر شيء‪ ،‬إن المر إل لله‪.‬‬
‫ه { أي‪ :‬وننقلب بعد هداية الله لنا إلى‬ ‫داَنا الل ّ ُ‬ ‫قاب َِنا ب َعْد َ إ ِذ ْ هَ َ‬ ‫} وَن َُرد ّ عََلى أ َعْ َ‬
‫الضلل‪ ،‬ومن الرشد إلى الغي‪ ،‬ومن الصراط الموصل إلى جنات النعيم‪،‬‬
‫إلى الطرق التي تفضي بسالكها إلى العذاب الليم‪ .‬فهذه حال ل يرتضيها‬
‫ض { أي‪ :‬أضلته‬ ‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫طي ُ‬
‫شَيا ِ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫ست َهْوَت ْ ُ‬ ‫ذي ا ْ‬ ‫كال ّ ِ‬
‫ذو رشد‪ ،‬وصاحبها } َ‬
‫ن لَ ُ‬
‫ه‬ ‫حي َْرا َ‬ ‫وتيهته عن طريقه ومنهجه له الموصل إلى مقصده‪ .‬فبقي } َ‬
‫َ‬
‫دى { والشياطين يدعونه إلى الردى‪ ،‬فبقي بين‬ ‫ه إ َِلى ال ْهُ َ‬ ‫عون َ ُ‬ ‫ب ي َد ْ ُ‬ ‫حا ٌ‬ ‫ص َ‬ ‫أ ْ‬
‫الداعين حائرا وهذه حال الناس كلهم‪ ،‬إل من عصمه الله تعالى‪ ،‬فإنهم‬
‫يجدون فيهم جواذب ودواعي )‪ (1‬متعارضة‪ ،‬دواعي )‪ (2‬الرسالة والعقل‬
‫دى { والصعود إلى أعلى‬ ‫ه إ َِلى ال ْهُ َ‬ ‫عون َ ُ‬ ‫الصحيح‪ ،‬والفطرة المستقيمة } ي َد ْ ُ‬
‫عليين‪.‬‬
‫ودواعي )‪ (3‬الشيطان‪ ،‬ومن سلك مسلكه‪ ،‬والنفس المارة بالسوء‪،‬‬
‫يدعونه إلى الضلل‪ ،‬والنزول إلى أسفل سافلين‪ ،‬فمن الناس من يكون‬
‫مع داعي الهدى‪ ،‬في أموره كلها أو أغلبها‪ ،‬ومنهم من بالعكس من ذلك‪.‬‬
‫ومنهم من يتساوى لديه الداعيان‪ ،‬ويتعارض عنده الجاذبان‪،‬وفي هذا‬
‫الموضع‪ ،‬تعرف أهل السعادة من أهل الشقاوة‪.‬‬
‫دى { أي‪ :‬ليس الهدى إل الطريق ] ص‬ ‫دى الل ّهِ هُوَ ال ْهُ َ‬ ‫ن هُ َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫وقوله‪ } :‬قُ ْ‬
‫‪ [ 262‬التي شرعها الله على لسان رسوله‪ ،‬وما عداه‪ ،‬فهو ضلل وردى‬
‫ُ‬
‫ن { بأن ننقاد لتوحيده‪ ،‬ونستسلم‬ ‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬
‫م ل َِر ّ‬ ‫سل ِ َ‬‫مْرَنا ل ِن ُ ْ‬ ‫وهلك‪ } .‬وَأ ِ‬
‫لوامره ونواهيه‪ ،‬وندخل تحت عبوديته‪ ،‬فإن هذا أفضل نعمة أنعم الله بها‬
‫على العباد‪ ،‬وأكمل تربية أوصلها إليهم‪.‬‬
‫صلةَ { أي‪ :‬وأمرنا أن نقيم الصلة بأركانها وشروطها‬ ‫} وأ َ َ‬
‫موا ال ّ‬ ‫ن أِقي ُ‬ ‫َ ْ‬
‫قوهُ { بفعل ما أمر به‪ ،‬واجتناب ما عنه نهى‪.‬‬ ‫وسننها ومكملتها‪َ } .‬وات ّ ُ‬
‫معون ليوم القيامة‪ ،‬فيجازيكم‬ ‫ج َ‬ ‫ن { أي‪ :‬ت ُ ْ‬ ‫شُرو َ‬ ‫ح َ‬‫ذي إ ِل َي ْهِ ت ُ ْ‬ ‫} وَهُوَ ال ّ ِ‬
‫بأعمالكم‪ ،‬خيرها وشرها‪.‬‬
‫حقّ { ليأمر العباد وينهاهم‪،‬‬ ‫ض ِبال ْ َ‬ ‫ت َوالْر َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫خل َقَ ال ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫} وَهُوَ ال ّ ِ‬
‫حقّ { الذي ل مرية فيه‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫ن قَوْل ُ ُ‬ ‫كو ُ‬ ‫ن فَي َ ُ‬ ‫ل كُ ْ‬ ‫قو ُ‬ ‫م يَ ُ‬
‫ويثيبهم ويعاقبهم‪ } ،‬وَي َوْ َ‬
‫صورِ { أي‪ :‬يوم‬ ‫خ ِفي ال ّ‬ ‫ف ُ‬ ‫م ي ُن ْ َ‬‫ك ي َوْ َ‬ ‫مل ْ ُ‬
‫ه ال ْ ُ‬ ‫ول مثنوية‪ ،‬ول يقول شيئا عبثا } وَل َ ُ‬
‫القيامة‪ ،‬خصه بالذكر ‪-‬مع أنه مالك كل شيء‪ -‬لنه تنقطع فيه الملك‪ ،‬فل‬
‫م‬
‫كي ُ‬ ‫شَهاد َةِ وَهُوَ ال ْ َ‬
‫ح ِ‬ ‫ب َوال ّ‬ ‫م ال ْغَي ْ ِ‬‫عال ِ ُ‬‫يبقى ملك إل الله الواحد القهار‪َ } .‬‬
‫خِبيُر { الذي له الحكمة التامة‪ ،‬والنعمة السابغة‪ ،‬والحسان العظيم‪،‬‬ ‫ال ْ َ‬
‫والعلم المحيط بالسرائر والبواطن والخفايا‪ ،‬ل إله إل هو‪ ،‬ول رب سواه‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬دواع‪.‬‬
‫)‪ (2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬داع‪.‬‬
‫)‪ (3‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬داعي‪.‬‬

‫) ‪(1/261‬‬

‫ضَل ٍ‬
‫ل‬ ‫ك ِفي َ‬ ‫م َ‬ ‫ك وَقَوْ َ‬ ‫ة إ ِّني أ ََرا َ‬ ‫ما آ َل ِهَ ً‬ ‫صَنا ً‬ ‫خذ ُ أ ْ‬
‫ل إبراهيم ِل َبيه آ َزر أ َتت ِ َ‬
‫وَإ ِذ ْ َقا َ ِ ْ َ ِ ُ ِ ِ َ َ َ ّ‬
‫ن‬ ‫ت َوالْرض وَل ِي َ ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫مل ُ‬ ‫َ‬ ‫ن )‪ (74‬وَك َذ َل ِ َ‬
‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كو َ‬ ‫ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫كو َ‬ ‫م َ‬ ‫هي َ‬ ‫ري إ ِب َْرا ِ‬ ‫ك نُ ِ‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ُ‬
‫ل َقا َ‬
‫ل‬ ‫ما أفَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫بي‬ ‫ر‬ ‫ذا‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫با‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ك‬ ‫أى‬ ‫َ‬ ‫ر‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ع‬ ‫ن‬ ‫ج‬ ‫ما‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫(‬ ‫‪75‬‬ ‫)‬ ‫ن‬ ‫ني‬ ‫ق‬ ‫مو‬ ‫ْ‬
‫ّ‬ ‫َ ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ ً‬ ‫ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ َ ّ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ا ُ‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ل ل َئ ِ ْ‬
‫ن‬ ‫ل َقا َ‬ ‫ما أفَ َ‬ ‫ذا َرّبي فَل َ ّ‬ ‫ل هَ َ‬ ‫غا َقا َ‬ ‫مَر َبازِ ً‬ ‫ق َ‬ ‫ما َرأى ال ْ َ‬ ‫ن )‪ (76‬فَل َ ّ‬ ‫ب اْلفِِلي َ‬ ‫ح ّ‬ ‫َل أ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫س َبازِغَ ً‬
‫ة‬ ‫م َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ما َرأى ال ّ‬ ‫ن )‪ (77‬فَل َ ّ‬ ‫ضاّلي َ‬ ‫قوْم ِ ال ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬ ‫م ي َهْدِِني َرّبي َل ُ‬ ‫لَ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن)‬ ‫كو َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ما ت ُ ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ريٌء ِ‬ ‫ل َيا قَوْم ِ إ ِّني ب َ ِ‬ ‫ت َقا َ‬ ‫ما أفَل َ ْ‬ ‫ذا أك ْب َُر فَل َ ّ‬ ‫ذا َرّبي هَ َ‬ ‫ل هَ َ‬ ‫َقا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ما أَنا ِ‬ ‫فا وَ َ‬ ‫حِني ً‬ ‫ض َ‬ ‫ت َواْلْر َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ذي فَط ََر ال ّ‬ ‫ي ل ِل ّ ِ‬ ‫جه ِ َ‬ ‫ت وَ ْ‬ ‫جهْ ُ‬ ‫‪ (78‬إ ِّني وَ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ف‬
‫خا ُ‬ ‫ن وَل أ َ‬ ‫دا ِ‬ ‫َ‬
‫جوّني ِفي اللهِ وَقد ْ هَ َ‬ ‫حا ّ‬ ‫ه قال أت ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫م ُ‬ ‫ه قوْ ُ‬ ‫َ‬ ‫ج ُ‬ ‫حا ّ‬ ‫ن )‪ (79‬وَ َ‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ما أفََل‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عل ْ ً‬ ‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫سعَ َرّبي ك ُ ّ‬ ‫شي ًْئا وَ ِ‬ ‫شاَء َرّبي َ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫ن ب ِهِ إ ِّل أ ْ‬ ‫كو َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ما ت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ما‬‫م ِباللهِ َ‬ ‫شَركت ُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ن أن ّك ْ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫م وَل ت َ َ‬ ‫شَركت ُ ْ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫خا ُ‬ ‫فأ َ‬ ‫ن )‪ (80‬وَكي ْ َ‬ ‫ت َت َذ َكُرو َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن)‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َعْل ُ‬ ‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫حقّ ِبال ْ‬ ‫نأ َ‬ ‫ِ‬ ‫قي ْ‬ ‫ري َ‬ ‫ف ِ‬ ‫سلطاًنا فَأيّ ال َ‬ ‫م ُ‬ ‫ُ‬
‫ل ب ِهِ عَلي ْك ْ‬ ‫م ي ُن َّز ْ‬ ‫لَ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ذي َ‬
‫ن)‬ ‫دو َ‬ ‫مهْت َ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ن وَهُ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫م اْل ْ‬ ‫ك ل َهُ ُ‬ ‫م ب ِظ ُل ْم ٍ أول َئ ِ َ‬ ‫مان َهُ ْ‬ ‫سوا ِإي َ‬ ‫م ي َل ْب ِ ُ‬ ‫مُنوا وَل َ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫‪ (81‬ال ّ ِ َ‬
‫ن َرب ّ َ‬
‫ك‬ ‫شاُء إ ِ ّ‬ ‫ن نَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت َ‬ ‫جا ٍ‬ ‫مهِ ن َْرفَعُ د ََر َ‬ ‫م عََلى قَوْ ِ‬ ‫هي َ‬ ‫ها إ ِب َْرا ِ‬ ‫جت َُنا آ َت َي َْنا َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ك ُ‬ ‫‪ (82‬وَت ِل ْ َ‬
‫م )‪(83‬‬ ‫م عَِلي ٌ‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫َ‬

‫ك‬‫ة إ ِّني أ ََرا َ‬


‫ما آل ِهَ ً‬ ‫ل إبراهيم لبيه آزر أ َتت ِ َ‬
‫خذ ُ أ ْ‬
‫صَنا ً‬ ‫} ‪ } { 83 - 74‬وَإ ِذ ْ َقا َ ِ ْ َ ِ ُ ِ ِ َ َ َ ّ‬
‫ض‬ ‫مل َ ُ‬ ‫ن * وَك َذ َل ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫وَقَوْ َ‬
‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬‫س َ‬
‫ت ال ّ‬ ‫كو َ‬ ‫م َ‬
‫هي َ‬‫ري إ ِب َْرا ِ‬
‫ك نُ ِ‬ ‫مِبي ٍ‬
‫ل ُ‬ ‫ضل ٍ‬‫ك ِفي َ‬
‫ن { ‪.‬إلى آخر القصة‪.‬‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫موقِِني َ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫كو َ‬ ‫وَل ِي َ ُ‬
‫يقول تعالى‪ :‬واذكر قصة إبراهيم‪ ،‬عليه الصلة والسلم‪ ،‬مثنيا عليه ومعظما‬
‫خذ ُ‬ ‫في حال دعوته إلى التوحيد‪ ،‬ونهيه عن الشرك‪ ،‬وإذ قال لبيه } آَزَر أ َت َت ّ ِ‬
‫ة { أي‪ :‬ل تنفع ول تضر وليس لها من المر شيء‪ } ،‬إ ِّني أ ََرا َ‬
‫ك‬ ‫ما آل ِهَ ً‬‫صَنا ً‬ ‫أ ْ‬
‫َ‬
‫ن { حيث عبدتم من ل يستحق من العبادة شيئا‪،‬‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ل ُ‬ ‫ضل ٍ‬ ‫ك ِفي َ‬ ‫م َ‬ ‫وَقَوْ َ‬
‫وتركتم عبادة خالقكم‪ ،‬ورازقكم‪ ،‬ومدبركم‪.‬‬
‫ت‬ ‫ُ‬
‫ملكو َ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫هي َ‬ ‫ري إ ِب َْرا ِ‬ ‫ك { حين وفقناه للتوحيد والدعوة إليه } ن ُ ِ‬ ‫} وَك َذ َل ِ َ‬
‫ض { أي‪ :‬ليرى ببصيرته‪ ،‬ما اشتملت عليه من الدلة‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫ن { فإنه بحسب قيام‬ ‫موقِِني َ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ُ‬
‫القاطعة‪ ،‬والبراهين الساطعة } وَل ِي َكو َ‬
‫الدلة‪ ،‬يحصل له اليقان والعلم التام بجميع المطالب‪.‬‬
‫ل { أي‪ :‬أظلم } َرَأى ك َوْك ًَبا { لعله من الكواكب‬ ‫ن عَل َي ْهِ الل ّي ْ ُ‬ ‫ج ّ‬ ‫ما َ‬ ‫} فَل َ ّ‬
‫المضيئة‪ ،‬لن تخصيصه بالذكر‪ ،‬يدل على زيادته عن غيره‪ ،‬ولهذا ‪-‬والله‬
‫أعلم‪ -‬قال من قال‪ :‬إنه الزهرة‪.‬‬
‫ذا َرّبي { أي‪ :‬على وجه التنزل مع الخصم أي‪ :‬هذا ربي‪ ،‬فهلم‬ ‫ل هَ َ‬ ‫} َقا َ‬
‫ننظر‪ ،‬هل يستحق الربوبية؟ وهل يقوم لنا دليل على ذلك؟ فإنه ل ينبغي‬
‫لعاقل أن يتخذ إلهه هواه‪ ،‬بغير حجة ول برهان‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ما أ َفَ َ‬
‫ن { أي‪ :‬الذي‬ ‫ب الفِِلي َ‬ ‫ح ّ‬ ‫للأ ِ‬ ‫ل { أي‪ :‬غاب ذلك الكوكب } َقا َ‬ ‫} فَل َ ّ‬
‫يغيب ويختفي عمن عبده‪ ،‬فإن المعبود ل بد أن يكون قائما بمصالح من‬
‫عبده‪ ،‬ومدبرا له في جميع شئونه‪ ،‬فأما الذي يمضي وقت كثير وهو غائب‪،‬‬
‫فمن أين يستحق العبادة؟! وهل اتخاذه إلها إل من أسفه السفه‪ ،‬وأبطل‬
‫الباطل؟!‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫غا { أي‪ :‬طالعا‪ ،‬رأى زيادته على نور الكواكب‬ ‫مَر َبازِ ً‬ ‫ق َ‬ ‫ما َرأى ال َ‬ ‫} فَل َ ّ‬
‫م ي َهْدِِني َرّبي‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫ل ل َئ ِ ْ‬ ‫ل َقا َ‬ ‫ما أ َفَ َ‬ ‫ذا َرّبي { تنزل‪ } .‬فَل َ ّ‬ ‫ل هَ َ‬ ‫ومخالفته لها } َقا َ‬
‫ن { فافتقر غاية الفتقار إلى هداية ربه‪ ،‬وعلم أنه‬ ‫ضالي َ‬ ‫ّ‬ ‫قوْم ِ ال ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬ ‫ل ُ‬
‫إن لم يهده الله فل هادي له‪ ،‬وإن لم يعنه على طاعته‪ ،‬فل معين له‪.‬‬
‫ذا أ َك ْب َُر { من الكوكب ومن‬ ‫ذا َرّبي هَ َ‬ ‫ل هَ َ‬ ‫ة َقا َ‬ ‫س َبازِغَ ً‬ ‫م َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ما َرَأى ال ّ‬ ‫} فَل َ ّ‬
‫َ‬
‫ل َيا قَوْم ِ‬ ‫ت { تقرر حينئذ الهدى‪ ،‬واضمحل الردى فـ } َقا َ‬ ‫ما أفَل َ ْ‬ ‫القمر‪ } .‬فَل َ ّ‬
‫ن { حيث قام البرهان الصادق الواضح‪ ،‬على بطلنه‪.‬‬ ‫كو َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ما ت ُ ْ‬ ‫م ّ‬ ‫ريٌء ِ‬ ‫إ ِّني ب َ ِ‬
‫فا { أي‪ :‬لله وحده‪،‬‬ ‫حِني ً‬ ‫ض َ‬ ‫ت َوالْر َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ذي فَط ََر ال ّ‬ ‫ي ل ِل ّ ِ‬ ‫جهِ َ‬ ‫ت وَ ْ‬ ‫جه ْ ُ‬ ‫} إ ِّني وَ ّ‬
‫ن { فتبرأ من‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ما أَنا ِ‬ ‫مقبل عليه‪ ،‬معرضا عن من سواه‪ } .‬وَ َ‬
‫الشرك‪ ،‬وأذعن بالتوحيد‪ ،‬وأقام على ذلك البرهان ]وهذا الذي ذكرنا في‬
‫تفسير هذه اليات‪ ،‬هو الصواب‪ ،‬وهو أن المقام مقام مناظرة‪ ،‬من إبراهيم‬
‫لقومه‪ ،‬وبيان بطلن إلهية هذه الجرام العلوية وغيرها‪ .‬وأما من قال‪ :‬إنه‬
‫مقام نظر في حال طفوليته‪ ،‬فليس عليه دليل[ )‪. (1‬‬
‫} وحاجه قَومه َقا َ َ‬
‫ن { أيّ فائدة لمحاجة من‬ ‫دا ِ‬ ‫جوّني ِفي الل ّهِ وَقَد ْ هَ َ‬ ‫حا ّ‬ ‫ل أت ُ َ‬ ‫َ َ ّ ُ ْ ُ ُ‬
‫)‪ (2‬لم يتبين له الهدى؟ فأما من هداه الله‪ ،‬ووصل إلى أعلى درجات‬
‫اليقين‪ ،‬فإنه ‪-‬هو بنفسه‪ -‬يدعو الناس إلى ما هو عليه‪.‬‬
‫ن ب ِهِ { فإنها لن تضرني‪ ،‬ولن تمنع عني من النفع‬ ‫كو َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫ما ت ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫خا ُ‬ ‫} َول أ َ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‬ ‫ما أَفل ت َت َذ َك ُّرو َ‬ ‫عل ْ ً‬ ‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫سعَ َرّبي ك ُ ّ‬ ‫شي ًْئا وَ ِ‬ ‫شاَء َرّبي َ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫شيئا‪ِ } .‬إل أ ْ‬
‫فتعلمون أنه وحده المعبود المستحق للعبودية‪.‬‬
‫م { وحالها حال العجز‪ ،‬وعدم النفع‪ ] ،‬ص ‪[ 263‬‬ ‫شَرك ْت ُ ْ‬ ‫ما أ َ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫خا ُ‬ ‫ف أَ َ‬ ‫} وَك َي ْ َ‬
‫سل ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫طاًنا { أي‪ :‬إل‬ ‫م ُ‬ ‫ل ب ِهِ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م ُينز ْ‬ ‫ما ل َ ْ‬ ‫م ِبالل ّهِ َ‬‫شَرك ْت ُ ْ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ن أن ّك ُ ْ‬ ‫خاُفو َ‬ ‫} َول ت َ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مو َ‬ ‫م ت َعْل ُ‬ ‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫م ِ‬ ‫حقّ ِبال ْ‬ ‫نأ َ‬ ‫قي ْ ِ‬
‫ري َ‬ ‫ف ِ‬
‫بمجرد اتباع الهوى‪ } .‬فأيّ ال َ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب وهي بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪.-‬‬
‫)‪ (2‬كذا في ب‪ ،‬وفي أ‪ :‬المحاجة لمن‪.‬‬
‫) ‪(1/262‬‬

‫سوا { أي‪:‬‬ ‫م ي َل ْب ِ ُ‬
‫مُنوا وَل َ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫قال الله تعالى فاصل بين الفريقين } ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ن { المن من‬ ‫دو َ‬ ‫مهْت َ ُ‬
‫م ُ‬ ‫ن وَهُ ْ‬‫م ُ‬ ‫م ال ْ‬ ‫م ب ِظ ُل ْم ٍ ُأول َئ ِ َ‬
‫ك ل َهُ ُ‬ ‫مان َهُ ْ‬‫يخلطوا } ِإي َ‬
‫ة إلى الصراط المستقيم‪ ،‬فإن كانوا لم‬ ‫ف والعذاب والشقاء‪ ،‬والهداي ُ‬ ‫المخاو ِ‬
‫يلبسوا إيمانهم بظلم مطلقا‪ ،‬ل بشرك‪ ،‬ول بمعاص‪ ،‬حصل لهم المن التام‪،‬‬
‫والهداية التامة‪ .‬وإن كانوا لم يلبسوا إيمانهم بالشرك وحده‪ ،‬ولكنهم‬
‫يعملون السيئات‪ ،‬حصل لهم أصل الهداية‪ ،‬وأصل المن‪ ،‬وإن لم يحصل‬
‫لهم كمالها‪ .‬ومفهوم الية الكريمة‪ ،‬أن الذين لم يحصل لهم المران‪ ،‬لم‬
‫يحصل لهم هداية‪ ،‬ول أمن‪ ،‬بل حظهم الضلل والشقاء‪.‬‬
‫ولما حكم لبراهيم عليه السلم‪ ،‬بما بين به من البراهين القاطعة قال‪:‬‬
‫مهِ { أي‪ :‬عل بها عليهم‪ ،‬وفلجهم بها‪.‬‬ ‫م عََلى قَوْ ِ‬ ‫هي َ‬‫ها إ ِب َْرا ِ‬‫جت َُنا آت َي َْنا َ‬‫ح ّ‬‫ك ُ‬ ‫} وَت ِل ْ َ‬
‫شاُء { كما رفعنا درجات إبراهيم عليه السلم في‬ ‫ن نَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ت َ‬ ‫جا ٍ‬ ‫} ن َْرفَعُ د ََر َ‬
‫الدنيا والخرة‪ ،‬فإن العلم يرفع الله به صاحبه فوق العباد درجات‪ .‬خصوصا‬
‫العالم العامل المعلم‪ ،‬فإنه يجعله الله إماما للناس‪ ،‬بحسب حاله ترمق‬
‫أفعاله‪ ،‬وتقتفى آثاره‪ ،‬ويستضاء بنوره‪ ،‬ويمشى بعلمه في ظلمة ديجوره‪.‬‬
‫قال تعالى } يرفَع الل ّه ال ّذين آمنوا منك ُم وال ّذي ُ‬
‫ت{‪.‬‬ ‫جا ٍ‬ ‫ن أوُتوا ال ْعِل ْ َ‬
‫م د ََر َ‬ ‫ِ ْ ْ َ ِ َ‬ ‫ُ ِ َ َ ُ‬ ‫َْ ِ‬
‫م { فل يضع العلم والحكمة‪ ،‬إل في المحل اللئق بها‪،‬‬ ‫م ِ ٌ‬
‫لي‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫كي ٌ‬
‫ح ِ‬ ‫ك َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫} إِ ّ‬
‫وهو أعلم بذلك المحل‪ ،‬وبما ينبغي له‪.‬‬

‫) ‪(1/263‬‬

‫داُوود َ‬ ‫ن ذ ُّري ّت ِهِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل وَ ِ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫حا هَد َي َْنا ِ‬ ‫ب ك ُّل هَد َي َْنا وَُنو ً‬ ‫قو َ‬ ‫حاقَ وَي َعْ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ه إِ ْ‬ ‫وَوَهَب َْنا ل َ ُ‬
‫َ‬
‫ن )‪(84‬‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫زي ال ْ ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫ك نَ ْ‬ ‫ن وَك َذ َل ِ َ‬ ‫هاُرو َ‬ ‫سى وَ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ف وَ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ب وَُيو ُ‬ ‫ن وَأّيو َ‬ ‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫وَ ُ‬
‫سعَ‬ ‫ْ‬
‫عيل َوالي َ َ‬ ‫َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫ن )‪ (85‬وَإ ِ ْ‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫س كل ِ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫سى وَإ ِلَيا َ‬ ‫ْ‬ ‫عي َ‬ ‫حَيى وَ ِ‬ ‫وََزكرِّيا وَي َ ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫س وَُلوطا وَكل ف ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ً‬
‫م وَذ ُّرّيات ِهِ ْ‬
‫م‬ ‫ن آَبائ ِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن )‪ (86‬وَ ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ضلَنا عَلى الَعال ِ‬ ‫وَُيون ُ َ‬
‫هّ‬
‫دى الل ِ‬ ‫َ‬
‫قيم ٍ )‪ (87‬ذ َل ِك هُ َ‬ ‫ست َ ِ‬‫م ْ‬ ‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫م إ ِلى ِ‬ ‫َ‬ ‫م وَهَد َي َْناهُ ْ‬ ‫جت َب َي َْناهُ ْ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫وان ِهِ ْ‬ ‫خ َ‬ ‫وَإ ِ ْ‬
‫ن)‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عَبادِهِ وَلوْ أ ْ‬ ‫ن يَ َ‬
‫ملو َ‬ ‫ما كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫م َ‬ ‫حب ِط عَن ْهُ ْ‬ ‫شَركوا ل َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫شاُء ِ‬ ‫م ْ‬ ‫دي ب ِهِ َ‬ ‫ي َهْ ِ‬
‫َ‬
‫فْر ب َِها هَؤُلِء فَ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫قد ْ‬ ‫ن ي َك ُ‬ ‫م َوالن ّب ُوّةَ فَإ ِ ْ‬ ‫حك َ‬ ‫ب َوال ُ‬ ‫م الك َِتا َ‬ ‫ن آت َي َْناهُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫‪ (88‬أولئ ِك ال ِ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫داهُ ُ‬ ‫ه فَب ِهُ َ‬ ‫دى الل ُ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪ (89‬أولئ ِك ال ِ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫َ‬ ‫سوا ب َِها ب ِ‬ ‫ما لي ْ ُ‬ ‫وَك ّل َْنا ب َِها قَوْ ً‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(90‬‬ ‫مي َ‬ ‫ن هُوَ إ ِّل ذِك َْرى ل ِل َْعال َ ِ‬ ‫جًرا إ ِ ْ‬ ‫م عَل َي ْهِ أ ْ‬ ‫سأل ُك ُ ْ‬ ‫ل َل أ ْ‬ ‫اقْت َدِهِ قُ ْ‬

‫ن قَب ْ ُ‬
‫ل‬ ‫م ْ‬ ‫حا هَد َي َْنا ِ‬ ‫كل هَد َي َْنا وَُنو ً‬ ‫ب ُ‬ ‫قو َ‬ ‫حاقَ وَي َعْ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ه إِ ْ‬ ‫} ‪ } { 90 - 84‬وَوَهَب َْنا ل َ ُ‬
‫َ‬
‫زي‬ ‫ج ِ‬ ‫ك نَ ْ‬ ‫ن وَك َذ َل ِ َ‬ ‫هاُرو َ‬ ‫سى وَ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ف وَ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ب وَُيو ُ‬ ‫ن وَأّيو َ‬ ‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬‫داوُد َ وَ ُ‬ ‫ن ذ ُّري ّت ِهِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ ِ‬
‫ن*‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫سك ّ‬ ‫ُ‬ ‫سى وَإ ِلَيا َ‬ ‫ْ‬ ‫عي َ‬ ‫حَيى وَ ِ‬ ‫َ‬
‫ن * وََزكرِّيا وَي َ ْ‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م‬‫ن آَبائ ِهِ ْ‬ ‫م ْ‬‫ن * وَ ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ضل َْنا عََلى ال َْعال َ ِ‬ ‫كل فَ ّ‬ ‫طا وَ ُ‬ ‫س وَُلو ً‬ ‫سعَ وَُيون ُ َ‬ ‫ل َوال ْي َ َ‬ ‫عي َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫وَإ ِ ْ‬
‫دى‬ ‫َ‬
‫قيم ٍ * ذ َل ِك هُ َ‬ ‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫م إ ِلى ِ‬ ‫َ‬ ‫م وَهَد َي َْناهُ ْ‬ ‫جت َب َي َْناهُ ْ‬ ‫م َوا ْ‬ ‫وان ِهِ ْ‬ ‫خ َ‬‫م وَإ ِ ْ‬ ‫وَذ ُّرّيات ِهِ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ملو َ‬ ‫ما كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫َ‬ ‫م َ‬ ‫حب ِط عَن ْهُ ْ‬ ‫شَركوا ل َ‬ ‫ُ‬ ‫عَبادِهِ وَلوْ أ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫شاُء ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬‫دي ب ِهِ َ‬ ‫الل ّهِ ي َهْ ِ‬
‫قد ْ وَك ّل َْنا‬ ‫ؤلِء فَ َ‬ ‫فْر ب َِها هَ ُ‬ ‫ن ي َك ْ ُ‬ ‫م َوالن ّب ُوّةَ فَإ ِ ْ‬ ‫حك ْ َ‬ ‫ب َوال ْ ُ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬ ‫ن آت َي َْناهُ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫* ُأول َئ ِ َ‬
‫لل‬ ‫م اقْت َدِهِ قُ ْ‬ ‫داهُ ُ‬ ‫ه فَب ِهُ َ‬ ‫دى الل ّ ُ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك ال ّ ِ‬ ‫ن * ُأول َئ ِ َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫سوا ب َِها ب ِ َ‬ ‫ما ل َي ْ ُ‬ ‫ب َِها قَوْ ً‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫أَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ن هُوَ ِإل ذِك َْرى ل ِلَعال ِ‬ ‫جًرا إ ِ ْ‬ ‫م عَلي ْهِ أ ْ‬ ‫سأل ُك ُ ْ‬ ‫ْ‬
‫ن الله‬ ‫م ّ‬ ‫لما ذكر الله تعالى عبده وخليله‪ ،‬إبراهيم عليه السلم‪ ،‬وذكر ما َ‬
‫عليه به‪ ،‬من العلم والدعوة‪ ،‬والصبر‪ ،‬ذكر ما أكرمه الله به من الذرية‬
‫الصالحة‪ ،‬والنسل الطيب‪ .‬وأن الله جعل صفوة الخلق من نسله‪ ،‬وأعظم‬
‫هَ‬
‫بهذه المنقبة والكرامة الجسيمة‪ ،‬التي ل يدرك لها نظير فقال‪ } :‬وَوَهَب َْنا ل ُ‬
‫ب { ابنه‪،‬الذي هو إسرائيل‪ ،‬أبو الشعب الذي فضله الله‬ ‫قو َ‬ ‫حاقَ وَي َعْ ُ‬ ‫س َ‬ ‫إِ ْ‬
‫على العالمين‪.‬‬
‫كل { منهما } هَد َي َْنا { الصراط المستقيم‪ ،‬في علمه وعمله‪.‬‬ ‫} ُ‬
‫ل { وهدايته من أنواع )‪ (1‬الهدايات الخاصة التي لم‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫حا هَد َي َْنا ِ‬ ‫} وَُنو ً‬
‫تحصل إل لفراد من العالم؛ وهم أولو العزم من الرسل‪ ،‬الذي هو أحدهم‪.‬‬
‫ن ذ ُّري ّت ِهِ { يحتمل أن الضمير عائد إلى نوح‪ ،‬لنه أقرب مذكور‪ ،‬ولن‬ ‫م ْ‬ ‫} وَ ِ‬
‫الله ذكر مع من ذكر لوطا‪ ،‬وهو من ذرية نوح‪ ،‬ل من ذرية إبراهيم لنه ابن‬
‫أخيه‪.‬‬
‫ويحتمل أن الضمير يعود إلى إبراهيم لن السياق في مدحه والثناء عليه‪،‬‬
‫ولوط ‪-‬وإن لم يكن من ذريته‪ -‬فإنه ممن آمن على يده‪ ،‬فكان منقبة‬
‫الخليل وفضيلته بذلك‪ ،‬أبلغ من كونه مجرد ابن له‪.‬‬
‫َ‬
‫سى‬ ‫مو َ‬ ‫ف { بن يعقوب‪ } .‬وَ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ب وَُيو ُ‬ ‫ن { بن داود } وَأّيو َ‬ ‫ما َ‬ ‫سل َي ْ َ‬ ‫داوُد َ وَ ُ‬ ‫} َ‬
‫ن { ابني عمران‪ } ،‬وَكذ َل ِك { كما أصلحنا ذرية إبراهيم الخليل‪ ،‬لنه‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫هاُرو َ‬ ‫وَ َ‬
‫ن { بأن‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫زي ال ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫أحسن في عبادة ربه‪ ،‬وأحسن في نفع الخلق } ن َ ْ‬
‫نجعل لهم من الثناء الصدق‪ ،‬والذرية الصالحة‪ ،‬بحسب إحسانهم‪.‬‬
‫ل { هؤلء‬ ‫س كُ ّ‬ ‫سى { ابن مريم‪ } .‬وَإ ِل َْيا َ‬ ‫عي َ‬ ‫حَيى { ابنه } وَ ِ‬ ‫} وََزك َرِّيا وَي َ ْ‬
‫ن { في أخلقهم وأعمالهم وعلومهم‪ ،‬بل هم سادة‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫} ِ‬
‫الصالحين وقادتهم وأئمتهم‪.‬‬
‫ل { بن إبراهيم أبو الشعب الذي هو أفضل الشعوب‪ ،‬وهو‬ ‫عي َ‬ ‫ما ِ‬ ‫س َ‬ ‫} وَإ ِ ْ‬
‫الشعب العربي‪ ،‬ووالد سيد ولد آدم‪ ،‬محمد صلى الله عليه وسلم‪.‬‬
‫كل {‬ ‫طا { بن هاران‪ ،‬أخي إبراهيم‪ } .‬وَ ُ‬ ‫س { بن متى } وَُلو ً‬ ‫سعَ وَُيون ُ َ‬ ‫} َوال ْي َ َ‬
‫ن { لن درجات‬ ‫مي َ‬ ‫ضل َْنا عََلى ال َْعال َ ِ‬ ‫من هؤلء النبياء والمرسلين } فَ ّ‬
‫سو َ‬
‫ل‬ ‫ه َوالّر ُ‬ ‫ن ي ُط ِِع الل ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫الفضائل أربع ‪ -‬وهي التي ذكرها الله بقوله‪ } :‬وَ َ‬
‫ك مع ال ّذي َ‬ ‫ُ‬
‫داِء‬ ‫شهَ َ‬ ‫ن َوال ّ‬ ‫قي َ‬ ‫دي ِ‬‫ص ّ‬ ‫ن َوال ّ‬ ‫ن الن ّب ِّيي َ‬‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ه عَل َي ْهِ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ن أن ْعَ َ‬ ‫فَأول َئ ِ َ َ َ ِ َ‬
‫ن { فهؤلء من الدرجة العليا‪ ،‬بل هم أفضل الرسل على‬ ‫حي َ‬ ‫صال ِ ِ‬ ‫َوال ّ‬
‫الطلق‪ ،‬فالرسل الذين قصهم الله ] ص ‪ [ 264‬في كتابه‪ ،‬أفضل ممن لم‬
‫يقص علينا نبأهم بل شك‪.‬‬
‫م { أي‪:‬‬ ‫وان ِهِ ْ‬ ‫خ َ‬‫م وَإ ِ ْ‬‫م { أي‪ :‬آباء هؤلء المذكورين } وَذ ُّرّيات ِهِ ْ‬ ‫ن آَبائ ِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫} وَ ِ‬
‫م { أي‪ :‬اخترناهم‬ ‫جت َب َي َْناهُ ْ‬ ‫وهدينا من آباء هؤلء وذرياتهم وإخوانهم‪َ } .‬وا ْ‬
‫قيم ٍ { ‪.‬‬ ‫ست َ ِ‬‫م ْ‬ ‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫م إ َِلى ِ‬ ‫} وَهَد َي َْناهُ ْ‬
‫ه‬
‫دي ب ِ ِ‬ ‫دى الل ّهِ { الذي ل هدى إل هداه‪ } .‬ي َهْ ِ‬ ‫ك { الهدى المذكور } هُ َ‬ ‫} ذ َل ِ َ‬
‫عَبادِهِ { فاطلبوا منه الهدى فإنه إن لم يهدكم فل هادي لكم‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫شاُء ِ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫كوا { على الفرض‬ ‫شَر ُ‬ ‫َ‬
‫غيره‪ ،‬وممن شاء هدايته هؤلء المذكورون‪ } .‬وَل َوْ أ ْ‬
‫ن { فإن الشرك محبط للعمل‪،‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫ما َ‬ ‫م َ‬ ‫ط عَن ْهُ ْ‬ ‫حب ِ َ‬ ‫والتقدير } ل َ َ‬
‫موجب للخلود في النار‪ .‬فإذا كان هؤلء الصفوة الخيار‪ ،‬لو أشركوا‬
‫‪-‬وحاشاهم‪ -‬لحبطت أعمالهم فغيرهم أولى‪.‬‬
‫م اقْت َدِهِ { أي‪ :‬امش ‪-‬أيها‬ ‫داهُ ُ‬ ‫ه فَب ِهُ َ‬‫دى الل ّ ُ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ك { المذكورون } ال ّ ِ‬ ‫} ُأول َئ ِ َ‬
‫الرسول الكريم‪ -‬خلف هؤلء النبياء الخيار‪ ،‬واتبع ملتهم وقد امتثل صلى‬
‫الله عليه وسلم‪ ،‬فاهتدى بهدي الرسل قبله‪ ،‬وجمع كل كمال فيهم‪.‬‬
‫فاجتمعت لديه فضائل وخصائص‪ ،‬فاق بها جميع العالمين‪ ،‬وكان سيد‬
‫المرسلين‪ ،‬وإمام المتقين‪ ،‬صلوات الله وسلمه عليه وعليهم أجمعين‪،‬‬
‫وبهذا الملحظ‪ ،‬استدل بهذه من استدل من الصحابة‪ ،‬أن رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم‪ ،‬أفضل الرسل كلهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جًرا { أي‪ :‬ل أطلب‬ ‫سألك ُ ْ‬
‫م عَلي ْهِ أ ْ‬ ‫ل { للذين أعرضوا عن دعوتك‪ } :‬ل أ ْ‬ ‫} قُ ْ‬
‫منكم مغرما ومال جزاء عن إبلغي إياكم‪ ،‬ودعوتي لكم فيكون من أسباب‬
‫امتناعكم‪ ،‬إن أجري إل على الله‪.‬‬
‫ن { يتذكرون به ما ينفعهم‪ ،‬فيفعلونه‪ ،‬وما‬ ‫ن هُوَ ِإل ذِك َْرى ل ِل َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫} إِ ْ‬
‫يضرهم‪،‬فيذرونه‪ ،‬ويتذكرون به معرفة ربهم بأسمائه وأوصافه‪ .‬ويتذكرون‬
‫به الخلق الحميدة‪ ،‬والطرق الموصلة إليها‪ ،‬والخلق الرذيلة‪ ،‬والطرق‬
‫المفضية إليها‪،‬فإذا كان ذكرى للعالمين‪ ،‬كان أعظم نعمة أنعم الله بها‬
‫عليهم‪ ،‬فعليهم قبولها والشكر عليها‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬أعلى أنواع‪.‬‬

‫) ‪(1/263‬‬

‫ن‬
‫م ْ‬ ‫يٍء قُ ْ‬
‫ل َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬ ‫شرٍ ِ‬ ‫ه عََلى ب َ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬‫ما أ َن َْز َ‬‫حقّ قَد ْرِهِ إ ِذ ْ َقاُلوا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ما قَد َُروا الل ّ َ‬ ‫وَ َ‬
‫س‬
‫طي َ‬ ‫ه قََرا ِ‬ ‫ُ‬
‫جعَلون َ ُ‬ ‫س تَ ْ‬
‫دى َ ِللّنا ِ‬ ‫سى ُنوًرا وَهُ ً‬ ‫مو َ‬ ‫جاَء ب ِهِ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫ب ال ِ‬ ‫ْ‬
‫ل الك َِتا َ‬ ‫أ َن َْز َ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫ل الل ّ ُ‬
‫ه ثُ ّ‬ ‫م قُ ِ‬ ‫م وََل آَباؤُك ُ ْ‬‫موا أن ْت ُ ْ‬ ‫م ت َعْل َ ُ‬
‫ما ل َ ْ‬
‫م َ‬ ‫مت ُ ْ‬‫ن ك َِثيًرا وَعُل ّ ْ‬‫فو َ‬ ‫خ ُ‬‫دون ََها وَت ُ ْ‬
‫ت ُب ْ ُ‬
‫ن )‪(91‬‬ ‫ْ‬
‫م ي َلعَُبو َ‬
‫ضه ِ ْ‬‫خوْ ِ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫ذ َْرهُ ْ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫شرٍ ِ‬ ‫ه عََلى ب َ َ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما أ َن َْز َ‬
‫حقّ قَد ْرِهِ إ ِذ ْ َقاُلوا َ‬ ‫ه َ‬ ‫ما قَد َُروا الل ّ َ‬ ‫} ‪ } { 91‬وَ َ‬
‫ه‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن أن َْز َ‬ ‫يٍء قُ ْ‬ ‫َ‬
‫جعَلون َ ُ‬ ‫س تَ ْ‬ ‫دى ِللّنا ِ‬ ‫سى ُنوًرا وَهُ ً‬ ‫مو َ‬‫جاَء ب ِهِ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب ال ِ‬ ‫ل الك َِتا َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ش ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م قُ ِ‬
‫ل‬ ‫م َول آَباؤُك ْ‬ ‫موا أن ْت ُ ْ‬‫م ت َعْل ُ‬ ‫ما ل ْ‬
‫م َ‬ ‫مت ُ ْ‬‫ن كِثيًرا وَعُل ْ‬ ‫فو َ‬ ‫خ ُ‬ ‫دون ََها وَت ُ ْ‬ ‫س ت ُب ْ ُ‬ ‫طي َ‬ ‫قََرا ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ْ‬
‫م ي َلعَُبو َ‬ ‫ضهِ ْ‬ ‫خوْ ِ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫م ذ َْرهُ ْ‬ ‫ه ثُ ّ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫هذا تشنيع على من نفى الرسالة‪] ،‬من اليهود والمشركين[ )‪ (1‬وزعم أن‬
‫الله ما أنزل على بشر من شيء‪ ،‬فمن قال هذا‪ ،‬فما قدر الله حق قدره‪،‬‬
‫ول عظمه حق عظمته‪ ،‬إذ هذا قدح في حكمته‪ ،‬وزعم أنه يترك عباده همل‬
‫ل يأمرهم ول ينهاهم‪ ،‬ونفي لعظم منة‪ ،‬امتن الله بها على عباده‪ ،‬وهي‬
‫الرسالة‪ ،‬التي ل طريق للعباد إلى نيل السعادة‪ ،‬والكرامة‪ ،‬والفلح‪ ،‬إل بها‪،‬‬
‫فأي قدح في الله أعظم من هذا؟"‬
‫ل‬‫ن أنز َ‬ ‫َ‬ ‫} قُ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ل { لهم ‪-‬ملزما بفساد قولهم‪ ،‬وقّرْرهم‪ ،‬بما به يقرون‪َ } :-‬‬
‫سى { وهو التوراة العظيمة } ُنوًرا { في ظلمات‬ ‫مو َ‬ ‫جاَء ب ِهِ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫ال ْك َِتا َ‬
‫دى { من الضللة‪ ،‬وهاديا إلى الصراط المستقيم علما وعمل‬ ‫الجهل } وَهُ ً‬
‫وهو الكتاب الذي شاع وذاع‪ ،‬ومل ذكره القلوب والسماع‪ .‬حتى أنهم جعلوا‬
‫يتناسخونه في القراطيس‪ ،‬ويتصرفون فيه بما شاءوا‪ ،‬فما وافق أهواءهم‬
‫منه‪ ،‬أبدوه وأظهروه‪ ،‬وما خالف ذلك‪ ،‬أخفوه وكتموه‪ ،‬وذلك كثير‪.‬‬
‫موا‬ ‫َ‬
‫م ت َعْل ُ‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫م { من العلوم التي بسبب ذلك الكتاب الجليل } َ‬ ‫} وَعُل ّ ْ‬
‫مت ُ ْ‬
‫َ‬
‫م { فإذا سألتهم عمن أنزل هذا الكتاب الموصوف بتلك‬ ‫م َول آَباؤُك ُ ْ‬ ‫أن ْت ُ ْ‬
‫الصفات‪ ،‬فأجب عن هذا السؤال‪ .‬و } قل الله { الذي أنزله‪ ،‬فحينئذ يتضح‬
‫الحق وينجلي مثل الشمس‪ ،‬وتقوم عليهم الحجة‪ ،‬ثم إذا ألزمتهم بهذا‬
‫ن { أي‪ :‬اتركهم يخوضوا في الباطل‪،‬‬ ‫م ي َل ْعَُبو َ‬
‫ضهِ ْ‬
‫خوْ ِ‬ ‫اللزام } ذ َْرهُ ْ‬
‫م ِفي َ‬
‫ويلعبوا بما ل فائدة فيه‪ ،‬حتى يلقوا يومهم الذي يوعدون‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫) ‪(1/264‬‬

‫م ال ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬‫قَرى وَ َ‬ ‫ن ي َد َي ْهِ وَل ِت ُن ْذَِر أ ّ‬
‫ذي ب َي ْ َ‬‫صد ّقُ ال ّ ِ‬ ‫م َ‬‫ك ُ‬ ‫ب أن َْزل َْناهُ ُ‬
‫مَباَر ٌ‬ ‫وَهَ َ‬
‫ذا ك َِتا ٌ‬
‫ن )‪(92‬‬ ‫ُ‬
‫حافِظو َ‬ ‫م يُ َ‬ ‫َ‬
‫صلت ِهِ ْ‬‫م عَلى َ‬ ‫َ‬ ‫ن ب ِهِ وَهُ ْ‬‫مُنو َ‬ ‫خَرةِ ي ُؤْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن ِبال ِ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫حوْل ََها َوال ِ‬
‫ّ‬
‫ذي َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ن ي َد َي ْهِ وَل ِت ُن ْذَِر أ ّ‬‫ذي ب َي ْ َ‬ ‫صد ّقُ ال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫مَباَر ٌ‬
‫ك ُ‬ ‫ب أن َْزل َْناهُ ُ‬ ‫ذا ك َِتا ٌ‬‫} ‪ } { 92‬وَهَ َ‬
‫م‬
‫صلت ِهِ ْ‬ ‫م عَلى َ‬ ‫َ‬ ‫ن ب ِهِ وَهُ ْ‬ ‫مُنو َ‬ ‫خَرةِ ي ُؤْ ِ‬‫ن ِبال ِ‬ ‫ن ي ُؤْ ِ‬
‫مُنو َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫حوْلَها َوال ِ‬‫َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫قَرى وَ َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ظو َ‬‫حافِ ُ‬ ‫يُ َ‬
‫فه البركة‪،‬‬ ‫ص ُ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫أي‪ } :‬وَهَ َ‬
‫مَباَرك { أي‪ :‬وَ ْ‬ ‫ذا { القرآن الذي } أنزلَناهُ { إليك } ُ‬
‫ن ي َد َي ْهِ { أي‪ :‬موافق‬ ‫ذي ب َي ْ َ‬ ‫ّ‬
‫صد ّقُ ال ِ‬ ‫م َ‬‫وذلك لكثرة خيراته‪ ،‬وسعة مبراته‪ُ } .‬‬
‫للكتب السابقة‪ ،‬وشاهد لها بالصدق‪.‬‬
‫حوْل ََها { أي‪ :‬وأنزلناه أيضا لتنذر أم القرى‪ ،‬وهي‪:‬‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫ُ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫قَرى وَ َ‬ ‫} وَل ِت ُن ْذَِر أ ّ‬
‫مكة المكرمة‪ ،‬ومن حولها‪ ،‬من ديار العرب‪ ،‬بل‪ ،‬ومن سائر البلدان‪ .‬فتحذر‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫الناس عقوبة الله‪ ،‬وأخذه المم‪ ،‬وتحذرهم مما يوجب ذلك‪َ } .‬وال ّ ِ‬
‫ن ب ِهِ { لن الخوف إذا كان في القلب عمرت أركانه‪،‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫خَرةِ ي ُؤْ ِ‬ ‫ن ِبال ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ي ُؤْ ِ‬
‫وانقاد لمراضي الله‪.‬‬

‫) ‪(1/264‬‬

‫ح إ ِل َي ْهِ‬ ‫م ُيو َ‬ ‫ي وَل َ ْ‬ ‫ي إ ِل َ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ل ُأو ِ‬ ‫ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ ك َذًِبا أ َوْ َقا َ‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫م ّ‬ ‫م ِ‬ ‫ن أظ ْل َ ُ‬
‫وم َ‬
‫َ َ ْ‬
‫ت‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مَرا ِ‬ ‫ن ِفي غ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ه وَلوْ ت ََرى إ ِذِ الظال ِ ُ‬ ‫ما أن َْزل الل ُ‬ ‫مثل َ‬ ‫سأن ْزِل ِ‬ ‫ن قال َ‬ ‫م ْ‬ ‫يٌء وَ َ‬ ‫ش ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ب‬‫ذا َ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫جَزوْ َ‬ ‫م تُ ْ‬ ‫م الي َوْ َ‬ ‫ُ‬
‫سك ُ‬ ‫ف َ‬ ‫جوا أن ْ ُ‬ ‫خرِ ُ‬‫مأ ْ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫سطو أي ْ ِ‬ ‫ة َبا ِ‬ ‫َ‬
‫ملئ ِك ُ‬ ‫ت َوال َ‬ ‫موْ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫حق وك ُن ْت ُم عَ َ‬
‫ن)‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬ ‫ن آَيات ِهِ ت َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ن عََلى الل ّهِ غَي َْر ال ْ َ ّ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م تَ ُ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫ال ُْهو ِ‬
‫َ‬
‫م وََراَء‬ ‫خوّل َْناك ُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫م َ‬ ‫مّرةٍ وَت ََرك ْت ُ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫م أو ّ َ‬ ‫قَناك ُ ْ‬‫خل َ ْ‬‫ما َ‬ ‫دى ك َ َ‬ ‫موَنا فَُرا َ‬ ‫جئ ْت ُ ُ‬ ‫قد ْ ِ‬ ‫‪ (93‬وَل َ َ‬
‫كاُء ل َ َ‬ ‫َ‬
‫قد ْ‬ ‫شَر َ‬ ‫م ُ‬ ‫م ِفيك ُ ْ‬ ‫م أن ّهُ ْ‬ ‫مت ُ ْ‬
‫ن َزعَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫فَعاَءك ُ ُ‬ ‫ش َ‬ ‫م ُ‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫ما ن ََرى َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ظ ُُهورِك ُ ْ‬
‫ن )‪(94‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َْزعُ ُ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل عَن ْك ُ ْ‬ ‫ض ّ‬ ‫م وَ َ‬ ‫قط ّعَ ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫تَ َ‬

‫ن { أي‪ :‬يداومون عليها‪ ،‬ويحفظون أركانها‬ ‫ظو َ‬ ‫حافِ ُ‬ ‫م يُ َ‬ ‫صلت ِهِ ْ‬ ‫م عََلى َ‬ ‫} وَهُ ْ‬
‫وحدودها وشروطها وآدابها‪ ،‬ومكملتها‪ .‬جعلنا الله منهم‪ ] .‬ص ‪[ 265‬‬
‫ي‬ ‫َ‬
‫ي إ ِل ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ل ُأو ِ‬ ‫ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ ك َذًِبا أ َوْ َقا َ‬ ‫ِ‬ ‫م‬
‫م ّ‬‫م ِ‬ ‫ن أظ ْل َ ُ‬
‫} ‪ } { 94 ، 93‬وم َ‬
‫َ َ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ح إ ِل َي ْهِ َ‬
‫ه وَلوْ ت ََرى إ ِذِ‬ ‫ل الل ُ‬ ‫ما أن َْز َ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ َ‬‫ل ِ‬ ‫سأن ْزِ ُ‬ ‫ل َ‬ ‫ن َقا َ‬ ‫م ْ‬ ‫يٌء وَ َ‬ ‫ش ْ‬ ‫م ُيو َ‬ ‫وَل َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫س ُ‬
‫سك ُ ُ‬
‫م‬ ‫ف َ‬ ‫جوا أن ْ ُ‬ ‫خرِ ُ‬‫مأ ْ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫طو أي ْ ِ‬ ‫ة َبا ِ‬ ‫ملئ ِك َ ُ‬ ‫ت َوال ْ َ‬ ‫موْ ِ‬ ‫ت ال ْ َ‬ ‫مَرا ِ‬ ‫ن ِفي غَ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ال ّ‬
‫ظال ِ ُ‬
‫ن‬
‫م عَ ْ‬ ‫حقّ وَك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ن عََلى الل ّهِ غَي َْر ال ْ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م تَ ُ‬‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ن بِ َ‬ ‫ب ال ُْهو ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫جَزوْ َ‬ ‫م تُ ْ‬ ‫ال ْي َوْ َ‬
‫َ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫ن * وَل َ َ‬
‫ما‬‫م َ‬ ‫مّرةٍ وَت ََرك ْت ُ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫م أوّ َ‬ ‫قَناك ُ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫دى ك َ َ‬ ‫موَنا فَُرا َ‬ ‫جئ ْت ُ ُ‬ ‫قد ْ ِ‬ ‫ست َك ْب ُِرو َ‬ ‫آَيات ِهِ ت َ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫م ِفيك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م أن ّهُ ْ‬ ‫مت ُ ْ‬
‫ن َزعَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ِ‬ ‫فَعاَءك ُ ُ‬ ‫ش َ‬ ‫م ُ‬ ‫معَك ُ ْ‬ ‫ما ن ََرى َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫م وََراَء ظُهورِك ُ ْ‬ ‫خوّل َْناك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ت َْزعُ ُ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ل عَن ْك ُ ْ‬ ‫ض ّ‬ ‫م وَ َ‬ ‫قط ّعَ ب َي ْن َك ُ ْ‬ ‫قد ْ ت َ َ‬ ‫كاُء ل َ َ‬ ‫شَر َ‬ ‫ُ‬
‫يقول تعالى‪ :‬ل أحد أعظم ظلما‪ ،‬ول أكبر جرما‪ ،‬ممن كذب ]على[ الله‪.‬‬
‫بأن نسب إلى الله قول أو حكما وهو تعالى بريء منه‪ ،‬وإنما كان هذا أظلم‬
‫الخلق‪ ،‬لن فيه من الكذب‪ ،‬وتغيير الديان أصولها‪ ،‬وفروعها‪ ،‬ونسبة ذلك‬
‫إلى الله ‪-‬ما هو من أكبر المفاسد‪.‬‬
‫ويدخل في ذلك‪ ،‬ادعاء النبوة‪ ،‬وأن الله يوحي إليه‪ ،‬وهو كاذب في ذلك‪،‬‬
‫فإنه ‪-‬مع كذبه على الله‪ ،‬وجرأته على عظمته وسلطانه‪ -‬يوجب على‬
‫الخلق أن يتبعوه‪ ،‬ويجاهدهم على ذلك‪ ،‬ويستحل دماء من خالفه وأموالهم‪.‬‬
‫ويدخل في هذه الية‪ ،‬كل من ادعى النبوة‪ ،‬كمسيلمة الكذاب والسود‬
‫العنسي والمختار‪ ،‬وغيرهم ممن اتصف بهذا الوصف‪.‬‬
‫ه { أي‪ :‬ومن أظلم ممن زعم‪ .‬أنه‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما َأنز َ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫ل ِ‬ ‫سُأنز ُ‬ ‫ل َ‬ ‫ن َقا َ‬ ‫م ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫يقدر على ما يقدر الله عليه ويجاري الله في أحكامه‪ ،‬ويشرع من الشرائع‪،‬‬
‫كما شرعه الله‪ .‬ويدخل في هذا‪ ،‬كل من يزعم أنه يقدر على معارضة‬
‫القرآن‪ ،‬وأنه في إمكانه أن يأتي بمثله‪.‬وأي‪ :‬ظلم أعظم من دعوى الفقير‬
‫ة القوي الغني‪ ،‬الذي له‬ ‫العاجز بالذات‪ ،‬الناقص من كل وجه‪ ،‬مشارك َ‬
‫الكمال المطلق‪ ،‬من جميع الوجوه‪ ،‬في ذاته وأسمائه وصفاته؟"‬
‫ولما ذم الظالمين‪ ،‬ذكر ما أعد لهم من العقوبة في حال الحتضار‪ ،‬ويوم‬
‫ت { أي‪ :‬شدائده‬ ‫موْ ِ‬‫ت ال ْ َ‬ ‫مَرا ِ‬ ‫ن ِفي غَ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫القيامة فقال‪ } :‬وَل َوْ ت ََرى إ ِذِ ال ّ‬
‫وأهواله الفظيعة‪ ،‬وك َُربه الشنيعة ‪-‬لرأيت أمرا هائل وحالة ل يقدر الواصف‬
‫أن يصفها‪.‬‬
‫َ‬ ‫س ُ‬
‫م { إلى أولئك الظالمين المحتضرين بالضرب‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫طو أي ْ ِ‬ ‫ة َبا ِ‬ ‫ملئ ِك َ ُ‬ ‫} َوال ْ َ‬
‫والعذاب‪ ،‬يقولون لهم عند منازعة أرواحهم وقلقها‪ ،‬وتعصيها للخروج من‬
‫ن { أي‪ :‬العذاب‬ ‫ب ال ُْهو ِ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن عَ َ‬ ‫جَزوْ َ‬ ‫م تُ ْ‬ ‫م ال ْي َوْ َ‬ ‫سك ُ ُ‬ ‫ف َ‬ ‫جوا أ َن ْ ُ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫البدان‪ } :‬أ َ ْ‬
‫الشديد‪ ،‬الذي يهينكم ويذلكم والجزاء من جنس العمل‪ ،‬فإن هذا العذاب }‬
‫حقّ { من كذبكم عليه‪ ،‬وردكم للحق‪،‬‬ ‫ن عََلى الل ّهِ غَي َْر ال ْ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫م تَ ُ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫بِ َ‬
‫ّ‬
‫ن { أي‪ :‬ت ََرفعون عن‬ ‫ْ‬
‫ست َكب ُِرو َ‬ ‫ن آَيات ِهِ ت َ ْ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫ُ‬
‫الذي جاءت به الرسل‪ } .‬وَكن ْت ُ ْ‬
‫النقياد لها‪ ،‬والستسلم لحكامها‪.‬وفي هذا دليل على عذاب البرزخ‬
‫ونعيمه‪ ،‬فإن هذا الخطاب‪ ،‬والعذاب الموجه إليهم‪ ،‬إنما هو عند الحتضار‬
‫وقبيل الموت وبعده‪.‬‬
‫وفيه دليل‪ ،‬على أن الروح جسم‪ ،‬يدخل ويخرج‪ ،‬ويخاطب‪ ،‬ويساكن‬
‫الجسد‪ ،‬ويفارقه‪ ،‬فهذه حالهم في البرزخ‪.‬‬
‫وأما يوم القيامة‪ ،‬فإنهم إذا وردوها‪ ،‬وردوها مفلسين فرادى بل أهل ول‬
‫مال‪ ،‬ول أولد ول جنود‪ ،‬ول أنصار‪ ،‬كما خلقهم الله أول مرة‪ ،‬عارين من‬
‫كل شيء‪.‬‬
‫فإن الشياء‪ ،‬إنما تتمول وتحصل بعد ذلك‪ ،‬بأسبابها‪ ،‬التي هي أسبابها‪ ،‬وفي‬
‫ذلك اليوم تنقطع جميع المور‪ ،‬التي كانت مع العبد في الدنيا‪ ،‬سوى العمل‬
‫الصالح والعمل السيء‪ ،‬الذي هو مادة الدار الخرة‪ ،‬الذي تنشأ عنه‪ ،‬ويكون‬
‫حسنها وقبحها‪ ،‬وسرورها وغمومها‪ ،‬وعذابها ونعيمها‪ ،‬بحسب العمال‪ .‬فهي‬
‫التي تنفع أو تضر‪ ،‬وتسوء أو تسر‪ ،‬وما سواها من الهل والولد‪ ،‬والمال‬
‫والنصار‪ ،‬فعواري خارجية‪ ،‬وأوصاف زائلة‪ ،‬وأحوال حائلة‪ ،‬ولهذا قال‬
‫تعالى‪:‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫} وَل َ َ‬
‫م { أي‪:‬‬‫خوّلَناك ْ‬
‫ما َ‬ ‫م َ‬ ‫مّرةٍ وَت ََركت ُ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫م أوّ َ‬ ‫قَناك ْ‬ ‫خل ْ‬ ‫ما َ‬ ‫دى ك َ‬ ‫موَنا فَُرا َ‬ ‫جئ ْت ُ ُ‬‫قد ْ ِ‬
‫ما‬
‫م { ل يغنون عنكم شيئا } وَ َ‬ ‫أعطيناكم‪ ،‬وأنعمنا به عليكم } وََراَء ظ ُُهورِك ُ ْ‬
‫شَر َ‬ ‫فعاَءك ُم ال ّذين زعَمت َ‬
‫كاُء { ‪.‬‬ ‫م ُ‬ ‫م ِفيك ُ ْ‬ ‫م أن ّهُ ْ‬
‫ِ َ َ ْ ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ش َ َ‬‫م ُ‬‫معَك ُ ْ‬
‫ن ََرى َ‬
‫فإن المشركين يشركون بالله‪ ،‬ويعبدون معه الملئكة‪ ،‬والنبياء‪،‬‬
‫والصالحين‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬وهم كلهم لله‪ ،‬ولكنهم يجعلون لهذه المخلوقات‬
‫نصيبا من أنفسهم‪ ،‬وشركة في عبادتهم‪ ،‬وهذا زعم منهم وظلم‪ ،‬فإن‬
‫الجميع عبيد لله‪ ،‬والله مالكهم‪ ،‬والمستحق لعبادتهم‪ .‬فشركهم في العبادة‪،‬‬
‫وصرفها لبعض العبيد‪ ،‬تنزيل لهم منزلة الخالق المالك‪ ،‬فيوبخون يوم‬
‫القيامة ويقال لهم هذه المقالة‪.‬‬
‫َ‬
‫قط ّ َ‬
‫ع‬ ‫قد ْ ت َ َ‬‫كاُء ل َ َ‬
‫شَر َ‬ ‫م ُ‬ ‫م ِفيك ُ ْ‬ ‫م أن ّهُ ْ‬ ‫مت ُ ْ‬‫ن َزعَ ْ‬ ‫ذي َ‬‫م ال ّ ِ‬
‫فَعاَءك ُ ُ‬ ‫ش َ‬ ‫م ُ‬‫معَك ُ ْ‬‫ما ن ََرى َ‬ ‫} وَ َ‬
‫م { أي‪ :‬تقطعت الوصل والسباب بينكم وبين شركائكم‪ ،‬من الشفاعة‬ ‫ب َي ْن َك ُ ْ‬
‫ن { من‬ ‫مو َ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م ت َْزعُ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ل عَن ْك ُ ْ‬ ‫ض ّ‬ ‫جد شيئا‪ } .‬وَ َ‬ ‫وغيرها فلم تنفع ولم ت ُ ْ‬
‫الربح‪ ،‬والمن والسعادة‪ ،‬والنجاة‪ ،‬التي زينها لكم الشيطان‪ ،‬وحسنها في‬
‫قلوبكم‪ ،‬فنطقت بها ألسنتكم‪ .‬واغتررتم بهذا الزعم الباطل‪ ،‬الذي ل حقيقة‬
‫له‪ ،‬حين تبين لكم نقيض ما كنتم تزعمون‪ ،‬وظهر أنكم الخاسرون لنفسكم‬
‫وأهليكم وأموالكم‪.‬‬

‫) ‪(1/264‬‬

‫ن‬
‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫مي ّ ِ‬ ‫ج ال ْ َ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫م ْ‬‫ت وَ ُ‬ ‫مي ّ ِ‬‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬‫ي ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ج ال ْ َ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫وى ي ُ ْ‬ ‫ب َوالن ّ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َفال ِقُ ال ْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫إِ ّ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫سكًناَ‬ ‫ل َ‬ ‫ل اللي ْ َ‬ ‫جع َ َ‬ ‫صَباِح وَ َ‬ ‫ن )‪َ (95‬فال ِقُ ال ِ ْ‬ ‫ُ‬
‫ه فَأّنى ت ُؤْفَكو َ‬ ‫م الل ُ‬ ‫ُ‬
‫ي ذ َل ِك ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ال ْ َ‬
‫جعَ َ‬
‫ل‬ ‫ذي َ‬ ‫زيزِ ال ْعَِليم ِ )‪ (96‬وَهُوَ ال ّ ِ‬ ‫ديُر ال ْعَ ِ‬ ‫ق ِ‬ ‫ك تَ ْ‬ ‫سَباًنا ذ َل ِ َ‬ ‫ح ْ‬ ‫مَر ُ‬ ‫ق َ‬ ‫س َوال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ش ْ‬ ‫َوال ّ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫حرِ قَد ْ فَ ّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ل َك ُ ُ‬
‫قوْم ٍ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫صلَنا الَيا ِ‬ ‫ت الب َّر َوالب َ ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫دوا ب َِها ِفي ظل َ‬
‫َ‬
‫م ل ِت َهْت َ ُ‬ ‫جو َ‬ ‫م الن ّ ُ‬
‫ست َوْد َعٌ قَد ْ‬ ‫م ْ‬ ‫قّر وَ ُ‬ ‫ست َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫حد َةٍ فَ ُ‬ ‫س َوا ِ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ن نَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫شأك ُ ْ‬ ‫ذي أ َن ْ َ‬ ‫ن )‪ (97‬وَهُوَ ال ّ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ي َعْل َ ُ‬
‫ن )‪(98‬‬ ‫قُهو َ‬ ‫ف َ‬ ‫قوْم ٍ ي َ ْ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫صل َْنا اْل ََيا ِ‬ ‫فَ ّ‬
‫ج‬‫خرِ ُ‬ ‫م ْ‬
‫ت وَ ُ‬ ‫مي ّ ِ‬‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ي ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ج ال ْ َ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫وى ي ُ ْ‬ ‫ب َوالن ّ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َفال ِقُ ال ْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫} ‪ } { 98 - 95‬إ ِ ّ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫صَباِح‬‫ن * َفال ِقُ ال ْ‬ ‫ُ‬
‫ه فَأّنى ] ص ‪ [ 266‬ت ُؤْفَكو َ‬ ‫م الل ُ‬ ‫ُ‬
‫ي ذ َل ِك ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫مي ّ ِ‬‫ال ْ َ‬
‫زيزِ ال ْعَِليم ِ * وَهُ َ‬
‫و‬ ‫ديُر ال ْعَ ِ‬ ‫ق ِ‬ ‫ك تَ ْ‬ ‫سَباًنا ذ َل ِ َ‬ ‫ح ْ‬ ‫مَر ُ‬ ‫ق َ‬ ‫س َوال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ش ْ‬ ‫سك ًَنا َوال ّ‬ ‫ل َ‬ ‫ل الل ّي ْ َ‬ ‫جع َ َ‬ ‫وَ َ‬
‫ت‬‫صلَنا الَيا ِ‬ ‫ْ‬ ‫حرِ قَد ْ فَ ّ‬ ‫ْ‬
‫ت الب َّر َوالب َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫دوا ب َِها ِفي ظل َ‬ ‫م ل ِت َهْت َ ُ‬ ‫جو َ‬ ‫م الن ّ ُ‬ ‫ُ‬
‫ل لك ُ‬ ‫َ‬ ‫جع َ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫ذي أ َن ْ َ‬
‫ست َوْد َعٌ قَد ْ‬‫م ْ‬ ‫قّر وَ ُ‬ ‫ست َ َ‬
‫م ْ‬ ‫حد َةٍ فَ ُ‬ ‫س َوا ِ‬ ‫ف ٍ‬ ‫ن نَ ْ‬‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫شأك ُ ْ‬ ‫ن * وَهُوَ ال ّ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫قوْم ٍ ي َعْل َ ُ‬ ‫لِ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قُهو َ‬ ‫ف َ‬ ‫قوْم ٍ ي َ ْ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫صلَنا الَيا ِ‬ ‫ْ‬ ‫فَ ّ‬
‫يخبر تعالى عن كماله‪ ،‬وعظمة سلطانه‪ ،‬وقوة اقتداره‪ ،‬وسعة رحمته‪،‬‬
‫ب { شامل‬ ‫ح ّ‬ ‫ه َفال ِقُ ال ْ َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫وعموم كرمه‪ ،‬وشدة عنايته بخلقه‪ ،‬فقال‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫لسائر الحبوب‪ ،‬التي يباشر الناس زرعها‪ ،‬والتي ل يباشرونها‪ ،‬كالحبوب‬
‫التي يبثها الله في البراري والقفار‪ ،‬فيفلق الحبوب عن الزروع والنوابت‪،‬‬
‫على اختلف أنواعها‪ ،‬وأشكالها‪ ،‬ومنافعها‪ ،‬ويفلق النوى عن الشجار‪ ،‬من‬
‫النخيل والفواكه‪ ،‬وغير ذلك‪ .‬فينتفع الخلق‪ ،‬من الدميين والنعام‪ ،‬والدواب‪.‬‬
‫ويرتعون فيما فلق الله من الحب والنوى‪ ،‬ويقتاتون‪ ،‬وينتفعون بجميع أنواع‬
‫المنافع التي جعلها الله في ذلك‪ .‬ويريهم الله من بره وإحسانه ما يبهر‬
‫العقول‪ ،‬ويذهل الفحول‪ ،‬ويريهم من بدائع صنعته‪ ،‬وكمال حكمته‪ ،‬ما به‬
‫يعرفونه ويوحدونه‪ ،‬ويعلمون أنه هو الحق‪ ،‬وأن عبادة ما سواه باطلة‪.‬‬
‫ت { كما يخرج من المني حيوانا‪ ،‬ومن البيضة‬ ‫مي ّ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬‫ي ِ‬ ‫ح ّ‬ ‫ج ال ْ َ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫} يُ ْ‬
‫فرخا‪ ،‬ومن الحب والنوى زرعا وشجرا‪.‬‬
‫ي { كما‬ ‫ح ّ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬
‫م َ‬ ‫ت { وهو الذي ل نمو فيه‪ ،‬أو ل روح } ِ‬ ‫ج ال ْ َ‬
‫مي ّ ِ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫} وَ ُ‬
‫يخرج من الشجار والزروع النوى والحب‪ ،‬ويخرج من الطائر بيضا ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ه{‬ ‫ّ‬
‫م { الذي فعل ما فعل‪ ،‬وانفرد بخلق هذه الشياء وتدبيرها } الل ُ‬ ‫ُ‬
‫} ذ َل ِك ْ‬
‫م أي‪ :‬الذي له اللوهية والعبادة على خلقه أجمعين‪ ،‬وهو الذي ربى‬ ‫َرب ّك ُ ْ‬
‫ن { أي‪ :‬فأنى‬ ‫َ‬
‫جميع العالمين بنعمه‪ ،‬وغذاهم بكرمه‪ } .‬فَأّنى ت ُؤْفَ ُ‬
‫كو َ‬
‫تصرفون‪ ،‬وتصدون عن عبادة من هذا شأنه‪ ،‬إلى عبادة من ل يملك لنفسه‬
‫نفعا ول ضرا‪ ،‬ول موتا‪ ،‬ول حياة‪ ،‬ول نشورا؟"‬
‫ولما ذكر تعالى مادة خلق القوات‪ ،‬ذكر منته بتهيئة المساكن‪ ،‬وخلقه كل‬
‫ما يحتاج إليه العباد‪ ،‬من الضياء والظلمة‪ ،‬وما يترتب على ذلك من أنواع‬
‫صَباِح { أي‪ :‬كما أنه فالق الحب‬ ‫المنافع والمصالح فقال‪َ } :‬فال ِقُ ال ْ‬
‫والنوى‪ ،‬كذلك هو فالق ظلمة الليل الداجي‪ ،‬الشامل لما على وجه الرض‪،‬‬
‫بضياء الصبح الذي يفلقه شيئا فشيئا‪ ،‬حتى تذهب ظلمة الليل كلها‪،‬‬
‫ويخلفها الضياء والنور العام‪،‬الذي يتصرف به الخلق في مصالحهم‪،‬‬
‫ومعايشهم‪ ،‬ومنافع دينهم ودنياهم‪.‬‬
‫ولما كان الخلق محتاجين إلى السكون والستقرار والراحة‪ ،‬التي ل تتم‬
‫سك ًَنا { يسكن فيه الدميون‬ ‫ل َ‬ ‫ل { الله } الل ّي ْ َ‬ ‫جعَ َ‬ ‫بوجود النهار والنور } َ‬
‫إلى دورهم ومنامهم‪ ،‬والنعام إلى مأواها‪ ،‬والطيور إلى أوكارها‪ ،‬فتأخذ‬
‫نصيبها من الراحة‪ ،‬ثم يزيل الله ذلك بالضياء‪ ،‬وهكذا أبدا إلى يوم القيامة‬
‫سَباًنا { بهما تعرف الزمنة‬ ‫ح ْ‬ ‫مَر ُ‬ ‫ق َ‬‫} و { جعل تعالى } الشمس َوال ْ َ‬
‫والوقات‪ ،‬فتنضبط بذلك أوقات العبادات‪ ،‬وآجال المعاملت‪ ،‬ويعرف بها‬
‫مدة ما مضى من الوقات التي لول وجود الشمس والقمر‪ ،‬وتناوبهما‬
‫واختلفهما ‪ -‬لما عرف ذلك عامة الناس‪ ،‬واشتركوا في علمه‪ ،‬بل كان ل‬
‫يعرفه إل أفراد من الناس‪ ،‬بعد الجتهاد‪ ،‬وبذلك يفوت من المصالح‬
‫الضرورية ما يفوت‪.‬‬
‫زيزِ العَِليم ِ { الذي من عزته انقادت‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ديُر العَ ِ‬ ‫ق ِ‬ ‫ك { التقدير المذكور } ت َ ْ‬ ‫} ذ َل ِ َ‬
‫له هذه المخلوقات العظيمة‪ ،‬فجرت مذللة مسخرة بأمره‪ ،‬بحيث ل تتعدى‬
‫ما حده الله لها‪ ،‬ول تتقدم عنه ول تتأخر } ال ْعَِليم { الذي أحاط علمه‪،‬‬
‫بالظواهر والبواطن‪،‬والوائل والواخر‪.‬‬
‫ومن الدلة العقلية على إحاطة علمه‪ ،‬تسخير هذه المخلوقات العظيمة‪،‬‬
‫على تقدير‪ ،‬ونظام بديع‪ ،‬تحي ُّر العقول في حسنه وكماله‪ ،‬وموافقته‬
‫للمصالح والحكم‪.‬‬
‫حرِ { حين‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ت الب َّر َوالب َ ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫دوا ب َِها ِفي ظل َ‬ ‫م ل ِت َهْت َ ُ‬ ‫جو َ‬‫م الن ّ ُ‬ ‫َ‬
‫ل لك ُ ُ‬‫جعَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} وَهُوَ ال ّ ِ‬
‫تشتبه عليكم المسالك‪ ،‬ويتحير في سيره السالك‪ ،‬فجعل الله النجوم‬
‫هداية للخلق إلى السبل‪ ،‬التي يحتاجون إلى سلوكها لمصالحهم‪،‬‬
‫وتجاراتهم‪ ،‬وأسفارهم‪.‬‬
‫منها‪ :‬نجوم ل تزال ترى‪ ،‬ول تسير عن محلها‪ ،‬ومنها‪ :‬ما هو مستمر‬
‫السير‪،‬يعرف سيَره أهل المعرفة بذلك‪ ،‬ويعرفون به الجهات والوقات‪.‬‬
‫ودلت هذه الية ونحوها‪ ،‬على مشروعية تعلم سير الكواكب ومحاّلها الذي‬
‫يسمى علم التسيير‪ ،‬فإنه ل تتم الهداية ول تمكن إل بذلك‪.‬‬
‫ت { أي بيناها‪ ،‬ووضحناها‪ ،‬وميزنا كل جنس ونوع منها عن‬ ‫صل َْنا الَيا ِ‬ ‫} قَد ْ فَ ّ‬
‫ن { أي‪ :‬لهل‬ ‫مو َ‬ ‫قوْم ٍ ي َعْل َ ُ‬
‫الخر‪ ،‬بحيث صارت آيات الله بادية ظاهرة } ل ِ َ‬
‫العلم والمعرفة‪ ،‬فإنهم الذين يوجه إليهم الخطاب‪ ،‬ويطلب منهم الجواب‪،‬‬
‫بخلف أهل الجهل والجفاء‪ ،‬المعرضين عن آيات الله‪ ،‬وعن العلم الذي‬
‫جاءت به الرسل‪ ،‬فإن البيان ل يفيدهم شيئا‪ ،‬والتفصيل ل يزيل عنهم‬
‫ملتبسا‪ ،‬واليضاح ل يكشف لهم مشكل‪.‬‬
‫} وهو ال ّذي أ َن َ َ‬
‫حد َةٍ { وهو آدم عليه السلم‪ .‬أنشأ الله‬ ‫س َوا ِ‬
‫ف ٍ‬‫ن نَ ْ‬
‫م ْ‬ ‫شأك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ َ ِ‬
‫منه هذا العنصر الدمي؛ الذي قد مل الرض ولم يزل في زيادة ونمو‪ ،‬الذي‬
‫قد تفاوت في أخلقه وخلقه‪ ،‬وأوصافه تفاوتا ل يمكن ضبطه‪ ،‬ول يدرك‬
‫وصفه‪ ،‬وجعل الله لهم مستقرا‪ ،‬أي منتهى ينتهون إليه‪ ،‬وغاية يساقون‬
‫إليها‪ ،‬وهي دار القرار‪ ،‬التي ل مستقر وراءها‪ ،‬ول نهاية فوقها‪ ،‬فهذه الدار‪،‬‬
‫هي التي خلق الخلق لسكناها‪ ،‬وأوجدوا في الدنيا ليسعوا في أسبابها‪ ،‬التي‬
‫تنشأ عليها وتعمر بها‪ ،‬وأودعهم الله في أصلب آبائهم وأرحام أمهاتهم‪ ،‬ثم‬
‫في دار الدنيا‪ ،‬ثم في البرزخ‪ ،‬كل ذلك‪ ،‬على وجه الوديعة‪ ،‬التي ل تستقر ]‬
‫ص ‪ [ 267‬ول تثبت‪ ،‬بل ينتقل منها حتى يوصل إلى الدار التي هي‬
‫قوْم ٍ‬ ‫صل َْنا الَيا ِ‬
‫ت لِ َ‬ ‫المستقر‪ ،‬وأما هذه الدار‪ ،‬فإنها مستودع وممر } قَد ْ فَ ّ‬
‫ن { عن الله آياته‪ ،‬ويفهمون عنه حججه‪ ،‬وبيناته‪.‬‬ ‫قُهو َ‬
‫ف َ‬
‫يَ ْ‬

‫) ‪(1/265‬‬

‫ه‬
‫من ْ ُ‬‫جَنا ِ‬ ‫خَر ْ‬ ‫يٍء فَأ َ ْ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ت كُ ّ‬ ‫جَنا ب ِهِ ن ََبا َ‬‫خَر ْ‬ ‫ماًء فَأ َ ْ‬ ‫ماِء َ‬ ‫س َ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ذي أ َن َْز َ‬ ‫وَهُوَ ال ّ ِ‬
‫ن‬
‫م ْ‬
‫ت ِ‬ ‫جّنا ٍ‬ ‫ة وَ َ‬ ‫دان ِي َ ٌ‬ ‫ن َ‬
‫وا ٌ‬‫ن ط َل ْعَِها قِن ْ َ‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫خ ِ‬ ‫ن الن ّ ْ‬ ‫م َ‬ ‫مت ََراك ًِبا وَ ِ‬
‫حّبا ُ‬ ‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬‫ج ِ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫ضًرا ن ُ ْ‬ ‫خ ِ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫مَر‬‫ذا أث ْ َ‬
‫مرِهِ إ ِ َ‬ ‫شاب ِهٍ ان ْظُروا إ ِلى ث َ َ‬ ‫شت َب ًِها وَغَي َْر ُ‬
‫مت َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن َوالّر ّ‬ ‫ب َوالّزي ُْتو َ‬ ‫أعَْنا ٍ‬
‫ن )‪(99‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫قوْم ٍ ي ُؤْ ِ‬‫ت لِ َ‬ ‫م َل ََيا ٍ‬ ‫ن ِفي ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫وَي َن ْعِهِ إ ِ ّ‬

‫يءٍ‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ت كُ ّ‬ ‫جَنا ب ِهِ ن ََبا َ‬ ‫خَر ْ‬ ‫ماًء فَأ َ ْ‬ ‫ماِء َ‬ ‫س َ‬‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ل ِ‬ ‫ذي أ َن َْز َ‬ ‫} ‪ } { 99‬وَهُوَ ال ّ ِ‬
‫ن‬
‫وا ٌ‬ ‫ن ط َل ْعَِها قِن ْ َ‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫خ ِ‬‫ن الن ّ ْ‬ ‫م َ‬ ‫مت ََراك ًِبا وَ ِ‬‫حّبا ُ‬ ‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬
‫ج ِ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫ضًرا ن ُ ْ‬ ‫خ ِ‬ ‫ه َ‬‫من ْ ُ‬
‫جَنا ِ‬ ‫خَر ْ‬‫فَأ َ ْ‬
‫شاب ِهٍ ان ْظ ُُروا إ َِلى‬ ‫ة وجنات م َ‬
‫شت َب ًِها وَغَي َْر ُ‬
‫مت َ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ُ‬‫ما َ‬ ‫ن َوالّر ّ‬ ‫ب َوالّزي ُْتو َ‬ ‫ن أعَْنا ٍ‬ ‫دان ِي َ ٌ َ َ ّ ٍ ِ ْ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫قوْم ٍ ي ُؤْ ِ‬‫ت لِ َ‬ ‫م لَيا ٍ‬ ‫ن ِفي ذ َل ِك ْ‬ ‫مَر وَي َن ْعِهِ إ ِ ّ‬‫ذا أث ْ َ‬‫مرِهِ إ ِ َ‬ ‫ثَ َ‬
‫وهذا من أعظم مننه العظيمة‪ ،‬التي يضطر إليها الخلق‪ ،‬من الدميين‬
‫وغيرهم‪ ،‬وهو أنه أنزل من السماء ماء متتابعا وقت حاجة الناس إليه‪،‬‬
‫فأنبت الله به كل شيء‪ ،‬مما يأكل الناس والنعام‪ ،‬فرتع الخلق بفضل الله‪،‬‬
‫وانبسطوا برزقه‪،‬وفرحوا بإحسانه‪ ،‬وزال عنهم الجدب واليأس والقحط‪،‬‬
‫ففرحت القلوب‪ ،‬وأسفرت الوجوه‪ ،‬وحصل للعباد من رحمة الرحمن‬
‫الرحيم‪ ،‬ما به يتمتعون وبه يرتعون‪ ،‬مما يوجب لهم‪ ،‬أن يبذلوا جهدهم في‬
‫شكر من أسدى النعم‪ ،‬وعبادته والنابة إليه‪ ،‬والمحبة له‪.‬‬
‫ولما ذكر عموم ما ينبت بالماء‪ ،‬من أنواع الشجار والنبات‪ ،‬ذكر الزرع‬
‫ه‬
‫من ْ ُ‬‫جَنا ِ‬ ‫خَر ْ‬‫والنخل‪ ،‬لكثرة نفعهما وكونهما قوتا لكثر الناس فقال‪ } :‬فَأ َ ْ‬
‫مت ََراك ًِبا { بعضه‬ ‫حّبا ُ‬ ‫ه { أي‪ :‬من ذلك النبات الخضر‪َ } ،‬‬ ‫من ْ ُ‬
‫ج ِ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫ضًرا ن ُ ْ‬‫خ ِ‬ ‫َ‬
‫فوق بعض‪ ،‬من بر‪ ،‬وشعير‪ ،‬وذرة‪ ،‬وأرز‪ ،‬وغير ذلك‪ ،‬من أصناف الزروع‪،‬‬
‫وفي وصفه بأنه متراكب‪ ،‬إشارة إلى أن حبوبه متعددة‪ ،‬وجميعها تستمد‬
‫من مادة واحدة‪ ،‬وهي ل تختلط‪ ،‬بل هي متفرقة الحبوب‪ ،‬مجتمعة الصول‪،‬‬
‫وإشارة أيضا إلى كثرتها‪ ،‬وشمول ريعها وغلتها‪ ،‬ليبقى أصل البذر‪ ،‬ويبقى‬
‫بقية كثيرة للكل والدخار‪.‬‬
‫ن طلعَِها { وهو الكفرى‪ ،‬والوعاء قبل‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬‫ل { أخرج الله } ِ‬ ‫خ ِ‬‫ن الن ّ ْ‬‫م َ‬
‫} وَ ِ‬
‫ة { أي‪ :‬قريبة سهلة‬ ‫دان ِي َ ٌ‬
‫ن َ‬‫وا ٌ‬
‫ظهور القنو منه‪ ،‬فيخرج من ذلك الوعاء } قِن ْ َ‬
‫التناول‪ ،‬متدلية على من أرادها‪ ،‬بحيث ل يعسر التناول من النخل وإن‬
‫طالت‪ ،‬فإنه يوجد فيها كرب ومراقي‪ ،‬يسهل صعودها‪.‬‬
‫ن { فهذه‬ ‫} و { أخرج تعالى بالماء } جنات م َ‬
‫ما َ‬
‫ن َوالّر ّ‬‫ب َوالّزي ُْتو َ‬ ‫ن أعَْنا ٍ‬
‫ِ ْ‬
‫من الشجار الكثيرة النفع‪ ،‬العظيمة الوقع‪ ،‬فلذلك خصصها الله بالذكر بعد‬
‫أن عم جميع الشجار والنوابت‪.‬‬
‫شاب ِهٍ { يحتمل أن يرجع إلى الرمان والزيتون‪،‬‬ ‫شت َب ًِها وَغَي َْر ُ‬
‫مت َ َ‬ ‫م ْ‬‫وقوله } ُ‬
‫أي‪ :‬مشتبها في شجره وورقه‪ ،‬غير متشابه في ثمره‪.‬‬
‫ويحتمل أن يرجع ذلك‪ ،‬إلى سائر الشجار والفواكه‪ ،‬وأن بعضها‬
‫مشتبه‪،‬يشبه بعضه بعضا‪ ،‬ويتقارب في بعض أوصافه‪ ،‬وبعضها ل مشابهة‬
‫بينه وبين غيره‪ ،‬والكل ينتفع به العباد‪ ،‬ويتفكهون‪ ،‬ويقتاتون‪ ،‬ويعتبرون‪،‬‬
‫ولهذا أمر تعالى بالعتبار به‪ ،‬فقال‪ } :‬ان ْظ ُُروا { نظر فكر واعتبار } إ َِلى‬
‫مرِهِ { أي‪ :‬الشجار كلها‪ ،‬خصوصا‪ :‬النخل } إذا أثمر { ‪.‬‬ ‫ثَ َ‬
‫} وَي َن ْعِهِ { أي‪ :‬انظروا إليه‪ ،‬وقت إطلعه‪ ،‬ووقت نضجه وإيناعه‪ ،‬فإن في‬
‫ذلك عبرا وآيات‪ ،‬يستدل بها على رحمة الله‪ ،‬وسعة إحسانه وجوده‪،‬‬
‫وكمال اقتداره وعنايته بعباده‪.‬‬
‫ولكن ليس كل أحد يعتبر ويتفكر وليس كل من تفكر‪ ،‬أدرك المعنى‬
‫ن ِفي ذ َل ِ َ‬
‫كم‬ ‫المقصود‪ ،‬ولهذا قيد تعالى النتفاع باليات بالمؤمنين فقال‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ن { فإن المؤمنين يحملهم ما معهم من اليمان‪ ،‬على‬ ‫مُنو َ‬‫قوْم ٍ ي ُؤْ ِ‬ ‫ت لِ َ‬‫لَيا ٍ‬
‫العمل بمقتضياته ولوازمه‪ ،‬التي منها التفكر في آيات الله‪ ،‬والستنتاج منها‬
‫ما يراد منها‪ ،‬وما تدل عليه‪ ،‬عقل وفطرة‪ ،‬وشرعا‪.‬‬

‫) ‪(1/267‬‬

‫ه‬
‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫عل ْم ٍ ُ‬
‫ت ب ِغَي ْرِ ِ‬
‫ن وَب ََنا ٍ‬ ‫خَرُقوا ل َ ُ‬
‫ه ب َِني َ‬ ‫م وَ َ‬‫قه ُ ْ‬ ‫خل َ َ‬
‫ن وَ َ‬‫ج ّ‬‫كاَء ال ْ ِ‬
‫شَر َ‬ ‫جعَُلوا ل ِل ّهِ ُ‬‫وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ه وَل َد ٌ وَل َ ْ‬
‫م‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫ت َواْلْرض أّنى ي َ ُ‬
‫كو ُ‬ ‫ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬‫ديعُ ال ّ‬ ‫ن )‪ (100‬ب َ ِ‬ ‫فو َ‬ ‫ص ُ‬
‫ما ي َ ِ‬‫وَت ََعاَلى عَ ّ‬
‫م )‪(101‬‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫يٍء وَهُوَ ب ِك ُ ّ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬‫خل َقَ ك ُ ّ‬ ‫ة وَ َ‬‫حب َ ٌ‬
‫صا ِ‬
‫ه َ‬ ‫ن لَ ُ‬
‫ت َك ُ ْ‬
‫ن‬ ‫خَرُقوا ل َ ُ‬
‫ه ب َِني َ‬ ‫م وَ َ‬ ‫خل َ َ‬
‫قهُ ْ‬ ‫ن وَ َ‬
‫ج ّ‬ ‫كاَء ال ْ ِ‬‫شَر َ‬ ‫جعَُلوا ل ِل ّهِ ُ‬ ‫} ‪ } { 104 - 100‬وَ َ‬
‫َ‬
‫ض أّنى‬‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫ديعُ ال ّ‬ ‫ن * بَ ِ‬ ‫فو َ‬ ‫ص ُ‬ ‫ما ي َ ِ‬‫ه وَت ََعاَلى عَ ّ‬ ‫حان َ ُ‬ ‫عل ْم ٍ ُ‬
‫سب ْ َ‬ ‫ت ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫وَب ََنا ٍ‬
‫م{‪.‬‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫يٍء وَهُوَ ب ِك ُ ّ‬ ‫ش ْ‬‫ل َ‬ ‫خل َقَ ك ُ ّ‬ ‫ة وَ َ‬‫حب َ ٌ‬
‫صا ِ‬‫ه َ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫ه وَل َد ٌ وَل َ ْ‬
‫م ت َك ُ ْ‬ ‫ن لَ ُ‬‫كو ُ‬‫يَ ُ‬
‫يخبر تعالى‪ :‬أنه مع إحسانه لعباده وتعرفه إليهم‪ ،‬بآياته البينات‪ ،‬وحججه‬
‫الواضحات ‪-‬أن المشركين به‪ ،‬من قريش وغيرهم‪ ،‬جعلوا له‬
‫شركاء‪،‬يدعونهم‪ ،‬ويعبدونهم‪ ،‬من الجن والملئكة‪ ،‬الذين هم خلق من خلق‬
‫الله‪ ،‬ليس فيهم من خصائص الربوبية واللوهية شيء‪ ،‬فجعلوها شركاء‬
‫لمن له الخلق والمر‪ ،‬وهو المنعم بسائر أصناف النعم‪ ،‬الدافع لجميع‬
‫النقم‪ ،‬وكذلك "خرق المشركون" أي‪ :‬ائتفكوا‪ ،‬وافتروا من تلقاء أنفسهم‬
‫لله‪ ،‬بنين وبنات بغير علم منهم‪ ،‬ومن أظلم ممن قال على الله بل علم‪،‬‬
‫وافترى عليه أشنع النقص‪ ،‬الذي يجب تنزيه الله عنه؟!!‪.‬‬
‫ما‬ ‫َ‬
‫ه وَت ََعالى عَ ّ‬ ‫حان َ ُ‬
‫سب ْ َ‬‫ولهذا نزه نفسه عما افتراه عليه المشركون فقال‪ُ } :‬‬
‫ن { فإنه تعالى‪ ،‬الموصوف بكل كمال‪ ،‬المنزه عن كل نقص‪ ،‬وآفة‬ ‫فو َ‬ ‫ص ُ‬‫يَ ِ‬
‫وعيب‪.‬‬
‫ض { أي‪ :‬خالقهما‪ ،‬ومتقن صنعتهما‪ ،‬على غير مثال‬ ‫ت َوالْر ِ‬ ‫ماَوا ِ‬‫س َ‬‫ديعُ ال ّ‬ ‫} بَ ِ‬
‫سبق‪ ،‬بأحسن خلق‪ ،‬ونظام وبهاء‪ ،‬ل تقترح عقول أولي اللباب مثله‪،‬‬
‫وليسله في خلقهما مشارك‪.‬‬
‫ة { أي‪ :‬كيف يكون لله الولد‪ ،‬وهو‬ ‫حب َ ٌ‬
‫صا ِ‬ ‫ه َ‬ ‫َ‬
‫نل ُ‬ ‫م ت َك ُ ْ‬‫ه وَل َد ٌ وَل َ ْ‬
‫ن لَ ُ‬
‫كو ُ‬ ‫} أ َّنى ي َ ُ‬
‫الله السيد الصمد‪ ،‬الذي ل صاحبة له أي‪ :‬ل زوجة له‪ ،‬وهو الغني عن‬
‫مخلوقاته‪،‬وكلها فقيرة إليه‪ ،‬مضطرة في جميع أحوالها إليه‪ ،‬والولد ل بد أن‬
‫يكون من جنس والده؛ والله خالق كل شيء وليس شيء من المخلوقات‬
‫مشابها لله بوجه من الوجوه‪.‬‬
‫ولما ذكر عموم خلقه للشياء‪ ،‬ذكر إحاطة علمه بها فقال‪ } :‬وَهُوَ ب ِك ُ ّ‬
‫ل‬
‫م { وفي ذكر العلم بعد الخلق‪ ،‬إشارة إلى الدليل العقلي إلى‬ ‫يٍء عَِلي ٌ‬ ‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫] ص ‪ [ 268‬ثبوت علمه‪ ،‬وهو هذه المخلوقات‪ ،‬وما اشتملت عليه من‬
‫النظام التام‪ ،‬والخلق الباهر‪ ،‬فإن في ذلك دللة على سعة علم الخالق‪،‬‬
‫ف ال ْ َ‬ ‫َ‬
‫خِبيُر {‬ ‫طي ُ‬‫خل َقَ وَهُوَ الل ّ ِ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬ ‫وكمال حكمته‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬أل ي َعْل َ ُ‬
‫م َ‬
‫م { ذلكم الذي خلق ما خلق‪ ،‬وقدر ما‬ ‫خلقُ ال ْعَِلي ُ‬ ‫وكما قال تعالى‪ } :‬وَهُوَ ال ْ َ‬
‫قدر‪.‬‬

‫) ‪(1/267‬‬

‫يٍء‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫دوهُ وَهُوَ عََلى ك ُ ّ‬ ‫يٍء َفاعْب ُ ُ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫خال ِقُ ك ُ ّ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ َ‬ ‫م َل إ ِل َ َ‬ ‫ه َرب ّك ُ ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ذ َل ِك ُ ُ‬
‫ف ال ْ َ‬ ‫صاَر وَهُوَ الل ّ ِ‬ ‫ل )‪َ (102‬ل ت ُد ْرك ُه اْل َب ْصار وهُو ي ُد ْر ُ َ‬
‫خِبيُر )‬ ‫طي ُ‬ ‫ك اْلب ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫َ ُ َ َ‬ ‫ِ ُ‬ ‫كي ٌ‬ ‫وَ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ي فَعَلي َْها وَ َ‬
‫ما‬ ‫م َ‬‫ن عَ ِ‬ ‫م ْ‬‫سه ِ و َ َ‬ ‫ف ِ‬ ‫صَر فَل ِن َ ْ‬ ‫ن أب ْ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م فَ َ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬
‫صائ ُِر ِ‬ ‫م بَ َ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫‪ (103‬قَد ْ َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ه‬
‫ت وَل ِن ُب َي ّن َ ُ‬ ‫س َ‬ ‫قولوا د ََر ْ‬ ‫ت وَل ِي َ ُ‬ ‫ف الَيا ِ‬ ‫صّر ُ‬ ‫ك نُ َ‬ ‫ظ )‪ (104‬وَك َذ َل ِ َ‬ ‫في ٍ‬ ‫ح ِ‬‫م بِ َ‬ ‫أَنا عَل َي ْك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ما ُأو ِ‬
‫ن‬
‫ض عَ ِ‬ ‫ه إ ِّل هُوَ وَأعْرِ ْ‬ ‫ك َل إ ِل َ َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫ي إ ِل َي ْ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ن )‪ (105‬ات ّب ِعْ َ‬ ‫مو َ‬ ‫قوْم ٍ ي َعْل َ ُ‬ ‫لِ َ‬
‫في ً‬ ‫َ‬
‫ما‬‫ظا وَ َ‬ ‫ح ِ‬‫م َ‬ ‫ك عَل َي ْهِ ْ‬ ‫جعَل َْنا َ‬ ‫ما َ‬ ‫كوا وَ َ‬ ‫شَر ُ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫ن )‪ (106‬وَل َوْ َ‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫َ‬
‫ل )‪(107‬‬ ‫كي ٍ‬ ‫م ب ِوَ ِ‬‫ت عَل َي ْهِ ْ‬ ‫أن ْ َ‬
‫دوهُ وَهُوَ عََلى ك ُ ّ‬
‫ل‬ ‫يٍء َفاعْب ُ ُ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫خال ِقُ ك ُ ّ‬ ‫ه ِإل هُوَ َ‬ ‫م ل إ ِل َ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ه َرب ّك ُ ْ‬ ‫} ذ َل ِك ُ ُ‬
‫خِبيُر * قَد ْ‬ ‫ف ال ْ َ‬ ‫طي ُ‬ ‫صاَر وَهُوَ الل ّ ِ‬ ‫ك الب ْ َ‬ ‫صاُر وَهُوَ ي ُد ْرِ ُ‬ ‫ه الب ْ َ‬ ‫ل * ل ت ُد ْرِك ُ ُ‬ ‫كي ٌ‬ ‫يٍء وَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما أَنا عَلي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ي فَعَلي َْها وَ َ‬
‫م َ‬ ‫ن عَ ِ‬ ‫م ْ‬‫سهِ وَ َ‬‫ف ِ‬ ‫صَر فَل ِن َ ْ‬‫ن أب ْ َ‬‫م ْ‬ ‫م فَ َ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫صائ ُِر ِ‬ ‫م بَ َ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ظ{‪.‬‬ ‫بِ َ ِ ٍ‬
‫في‬ ‫ح‬
‫م { أي‪ :‬المألوه المعبود‪ ،‬الذي يستحق نهاية الذل‪ ،‬ونهاية‬ ‫ه َرب ّك ُ ْ‬ ‫} الل ّ ُ‬
‫الحب‪،‬الرب‪ ،‬الذي ربى جميع الخلق بالنعم‪ ،‬وصرف عنهم صنوف النقم‪.‬‬
‫دوه ُ { أي‪ :‬إذا استقر وثبت‪ ،‬أنه الله‬ ‫يٍء َفاعْب ُ ُ‬‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫خال ِقُ ك ُ ّ‬ ‫ه ِإل هُوَ َ‬ ‫} ل إ ِل َ َ‬
‫الذي ل إله إل هو‪،‬فاصرفوا له جميع أنواع العبادة‪ ،‬وأخلصوها لله‪ ،‬واقصدوا‬
‫ت‬ ‫ق ُ‬‫خل َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫بها وجهه‪ .‬فإن هذا هو المقصود من الخلق‪ ،‬الذي خلقوا لجله } وَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دو ِ‬ ‫س ِإل ل ِي َعْب ُ ُ‬ ‫ن َوالن ْ َ‬ ‫ج ّ‬‫ال ْ ِ‬
‫ل { أي‪ :‬جميع الشياء‪ ،‬تحت وكالة الله‬ ‫كي ٌ‬ ‫يٍء وَ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫} وَهُوَ عََلى ك ُ ّ‬
‫وتدبيره‪،‬خلقا‪ ،‬وتدبيرا‪ ،‬وتصريفا‪.‬‬
‫ومن المعلوم‪ ،‬أن المر المتصرف فيه يكون استقامته وتمامه‪ ،‬وكمال‬
‫انتظامه‪ ،‬بحسب حال الوكيل عليه‪ .‬ووكالته تعالى على الشياء‪ ،‬ليست من‬
‫جنس وكالة الخلق‪ ،‬فإن وكالتهم‪ ،‬وكالة نيابة‪ ،‬والوكيل فيها تابع لموكله‪.‬‬
‫وأما الباري‪ ،‬تبارك وتعالى‪ ،‬فوكالته من نفسه لنفسه‪ ،‬متضمنة لكمال‬
‫العلم‪،‬وحسن التدبير والحسان فيه‪ ،‬والعدل‪ ،‬فل يمكن لحد أن يستدرك‬
‫على الله‪،‬ول يرى في خلقه خلل ول فطورا‪ ،‬ول في تدبيره نقصا وعيبا‪.‬‬
‫ومن وكالته‪ :‬أنه تعالى‪ ،‬توكل ببيان دينه‪ ،‬وحفظه عن المزيلت‬
‫والمغيرات‪،‬وأنه تولى حفظ المؤمنين وعصمتهم عما يزيل إيمانهم ودينهم‪.‬‬
‫صاُر { لعظمته‪ ،‬وجلله وكماله‪ ،‬أي‪ :‬ل تحيط به البصار‪ ،‬وإن‬ ‫ه الب ْ َ‬ ‫} ل ت ُد ْرِك ُ ُ‬
‫كانت تراه‪ ،‬وتفرح بالنظر إلى وجهه الكريم‪ ،‬فنفي الدراك ل ينفي الرؤية‪،‬‬
‫بل يثبتها بالمفهوم‪ .‬فإنه إذا نفى الدراك‪ ،‬الذي هو أخص أوصاف الرؤية‪،‬‬
‫دل على أن الرؤية ثابتة‪.‬‬
‫فإنه لو أراد نفي الرؤية‪ ،‬لقال "ل تراه البصار" ونحو ذلك‪ ،‬فعلم أنه ليس‬
‫في الية حجة لمذهب المعطلة‪ ،‬الذين ينفون رؤية ربهم في الخرة‪ ،‬بل‬
‫فيها ما يدل على نقيض قولهم‪.‬‬
‫صاَر { أي‪ :‬هو الذي أحاط علمه‪ ،‬بالظواهر‬ ‫ك الب ْ َ‬ ‫} وَهُوَ ي ُد ْرِ ُ‬
‫والبواطن‪،‬وسمعه بجميع الصوات الظاهرة‪ ،‬والخفية‪ ،‬وبصره بجميع‬
‫خِبيُر { الذي‬ ‫ف ال ْ َ‬‫طي ُ‬ ‫المبصرات‪،‬صغارها‪ ،‬وكبارها‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَهُوَ الل ّ ِ‬
‫لطف علمه وخبرته‪ ،‬ودق حتى أدرك السرائر والخفايا‪ ،‬والخبايا والبواطن‪.‬‬
‫ومن لطفه‪ ،‬أنه يسوق عبده إلى مصالح دينه‪ ،‬ويوصلها إليه بالطرق التي ل‬
‫يشعر بها العبد‪ ،‬ول يسعى فيها‪ ،‬ويوصله إلى السعادة البدية‪ ،‬والفلح‬
‫السرمدي‪ ،‬من حيث ل يحتسب‪ ،‬حتى أنه يقدر عليه المور‪ ،‬التي يكرهها‬
‫العبد‪ ،‬ويتألم منها‪ ،‬ويدعو الله أن يزيلها‪ ،‬لعلمه أن دينه أصلح‪ ،‬وأن كماله‬
‫متوقف عليها‪ ،‬فسبحان اللطيف لما يشاء‪ ،‬الرحيم بالمؤمنين‪.‬‬
‫فسه ومن عَمي فَعل َيها وما أناَ‬ ‫} قَد جاَءك ُم بصائ ِر من ربك ُم فَم َ‬
‫ِ َ َ َْ َ َ َ‬ ‫صَر فَل ِن َ ْ ِ ِ َ َ ْ‬ ‫ن أب ْ َ‬‫ْ َ َ ُ ِ ْ َ ّ ْ َ ْ‬ ‫ْ َ‬
‫ظ { لما بين تعالى من اليات البينات‪ ،‬والدلة الواضحات‪،‬‬ ‫م ِ َ ِ ٍ‬
‫في‬ ‫ح‬ ‫ب‬ ‫عَل َي ْك ُ ْ‬
‫الدالة على الحق في جميع المطالب والمقاصد‪ ،‬نبه العباد عليها‪ ،‬وأخبر أن‬
‫م { أي‪ :‬آيات‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬‫م ْ‬‫صائ ُِر ِ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬
‫م بَ َ‬ ‫هدايتهم وضدها لنفسهم‪ ،‬فقال‪ } :‬قَد ْ َ‬
‫تبين الحق‪،‬وتجعله للقلب بمنزلة الشمس للبصار‪ ،‬لما اشتملت عليه من‬
‫فصاحة اللفظ‪،‬وبيانه‪ ،‬ووضوحه‪ ،‬ومطابقته للمعاني الجليلة‪ ،‬والحقائق‬
‫الجميلة‪ ،‬لنها صادرة من الرب‪ ،‬الذي ربى خلقه‪ ،‬بصنوف نعمه الظاهرة‬
‫والباطنة‪ ،‬التي من أفضلها وأجلها‪ ،‬تبيين اليات‪ ،‬وتوضيح المشكلت‪.‬‬
‫سهِ {‬ ‫صَر { بتلك اليات‪ ،‬مواقع العبرة‪ ،‬وعمل بمقتضاها } فَل ِن َ ْ‬ ‫} فَم َ‬
‫ف ِ‬ ‫ن أب ْ َ‬ ‫َ ْ‬
‫فإن الله هو الغني الحميد‪.‬‬
‫جر فلم ينزجر‪ ،‬وبين له الحق‪ ،‬فما‬ ‫صر فلم يتبصر‪ ،‬وُز ِ‬ ‫ي { بأن ب ُ ّ‬ ‫م َ‬‫ن عَ ِ‬ ‫م ْ‬‫} وَ َ‬
‫انقاد له ول تواضع‪ ،‬فإنما عماه مضرته عليه‪.‬‬
‫َ‬
‫ظ { أحفظ أعمالكم وأرقبها على‬ ‫في ٍ‬ ‫ح ِ‬
‫م بِ َ‬‫ما أَنا { أي‪ :‬الرسول } عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫ي‪ ،‬فهذه‬ ‫ي البلغ المبين وقد أديته‪ ،‬وبلغت ما أنزل الله إل ّ‬ ‫الدوام إنما عل ّ‬
‫وظيفتي‪ ،‬وما عدا ذلك فلست موظفا فيه )‪. (1‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬انتقل الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬بعد تفسير هذه الية إلى قوله تعالى‪) :‬ول‬
‫تسبوا‪ (...‬فلم يفسر اليات من قوله تعالى‪) :‬وكذلك نصرف اليات( إلى‬
‫قوله‪) :‬وما أنت عليهم بوكيل( ذات الرقام )‪ (107-105‬فقام النجار‬
‫بتفسيرها دون الشارة إلى أنها ليست من كلم الشيخ ‪-‬رحمه الله‪ -‬انظر‬
‫طبعة النجار )‪.(452-2/450‬‬

‫) ‪(1/268‬‬

‫ك َزي ّّنا‬‫عل ْم ٍ ك َذ َل ِ َ‬
‫ه عَد ًْوا ب ِغَي ْرِ ِ‬‫سّبوا الل ّ َ‬ ‫ن الل ّهِ فَي َ ُ‬‫دو ِ‬
‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬
‫عو َ‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬‫ذي َ‬ ‫سّبوا ال ّ ِ‬‫وََل ت َ ُ‬
‫ل ِك ُ ّ ُ‬
‫ن )‪(108‬‬ ‫مُلو َ‬
‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫ما َ‬‫م بِ َ‬ ‫م فَي ُن َب ّئ ُهُ ْ‬
‫جعُهُ ْ‬ ‫مْر ِ‬
‫م َ‬‫م إ َِلى َرب ّهِ ْ‬‫م ثُ ّ‬ ‫مل َهُ ْ‬‫مة ٍ ع َ َ‬
‫لأ ّ‬

‫ه عَد ًْوا ب ِغَي ْرِ‬ ‫سّبوا الل ّ َ‬ ‫ن الل ّهِ فَي َ ُ‬


‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬
‫ن ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ن ي َد ْ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫سّبوا ال ّ ِ‬ ‫} ‪َ } { 108‬ول ت َ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫عل ْم ٍ ك َذ َل ِ َ‬
‫ما كاُنوا‬ ‫م بِ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫م في ُن َب ّئهُ ْ‬ ‫جعُهُ ْ‬‫مْر ِ‬‫م َ‬‫م إ ِلى َرب ّهِ ْ‬ ‫ُ‬
‫مث ّ‬ ‫ملهُ ْ‬ ‫مة ٍ ع َ َ‬ ‫ك َزي ّّنا ل ِك ُل أ ّ‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ملو َ‬‫ُ‬ ‫ي َعْ َ‬
‫ينهى الله المؤمنين عن أمر كان جائزا‪ ،‬بل مشروعا في الصل‪ ،‬وهو سب‬
‫آلهة المشركين‪ ،‬التي اتخذت أوثانا وآلهة ] ص ‪ [ 269‬مع الله‪ ،‬التي يتقرب‬
‫إلى الله بإهانتها وسبها‪.‬‬
‫ولكن لما كان هذا السب طريقا إلى سب المشركين لرب العالمين‪ ،‬الذي‬
‫يجب تنزيه جنابه العظيم عن كل عيب‪ ،‬وآفة‪ ،‬وسب‪ ،‬وقدح ‪-‬نهى الله عن‬
‫سب آلهة المشركين‪ ،‬لنهم يحمون لدينهم‪ ،‬ويتعصبون له‪ .‬لن كل أمة‪،‬‬
‫زين الله لهم عملهم‪ ،‬فرأوه حسنا‪ ،‬وذبوا عنه‪ ،‬ودافعوا بكل طريق‪ ،‬حتى‬
‫إنهم‪ ،‬ليسبون الله رب العالمين‪ ،‬الذي رسخت عظمته في قلوب البرار‬
‫والفجار‪ ،‬إذا سب المسلمون آلهتهم‪.‬‬
‫ولكن الخلق كلهم‪ ،‬مرجعهم ومآلهم‪ ،‬إلى الله يوم القيامة‪ ،‬يعرضون‬
‫عليه‪،‬وتعرض أعمالهم‪ ،‬فينبئهم بما كانوا يعملون‪ ،‬من خير وشر‪.‬‬
‫وفي هذه الية الكريمة‪ ،‬دليل للقاعدة الشرعية وهو أن الوسائل تعتبر‬
‫بالمور التي توصل إليها‪ ،‬وأن وسائل المحرم‪ ،‬ولو كانت جائزة تكون‬
‫محرمة‪ ،‬إذا كانت تفضي إلى الشر‪.‬‬

‫) ‪(1/268‬‬

‫م آ َي َ ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عن ْد َ‬
‫ت ِ‬ ‫ما اْل ََيا ُ‬ ‫ل إ ِن ّ َ‬ ‫ن ب َِها قُ ْ‬ ‫من ُ ّ‬‫ة ل َي ُؤْ ِ‬ ‫جاَءت ْهُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ل َئ ِ ْ‬ ‫مان ِهِ ْ‬ ‫جهْد َ أي ْ َ‬ ‫موا ِبالل ّهِ َ‬ ‫س ُ‬ ‫وَأقْ َ‬
‫َ‬ ‫م أ َن َّها إ ِ َ‬
‫ب أفْئ ِد َت َهُ ْ‬
‫م‬ ‫قل ّ ُ‬ ‫ن )‪ (109‬وَن ُ َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ت َل ي ُؤْ ِ‬ ‫جاَء ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫شعُِرك ُ ْ‬ ‫ما ي ُ ْ‬ ‫الل ّهِ وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(110‬‬ ‫مُهو َ‬ ‫م ي َعْ َ‬ ‫م ِفي ط ُغَْيان ِهِ ْ‬ ‫مّرةٍ وَن َذ َُرهُ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫مُنوا ب ِهِ أوّ َ‬ ‫م ي ُؤْ ِ‬‫ما ل َ ْ‬ ‫م كَ َ‬ ‫صاَرهُ ْ‬ ‫وَأب ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ب َِها‬ ‫من ُ ّ‬ ‫ة ل َي ُؤْ ِ‬‫م آي َ ٌ‬ ‫جاَءت ْهُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ل َئ ِ ْ‬‫مان ِهِ ْ‬ ‫جهْد َ أي ْ َ‬ ‫موا ِبالل ّهِ َ‬ ‫س ُ‬ ‫} ‪ } { 111 - 109‬وَأقْ َ‬
‫ب‬‫قل ّ ُ‬ ‫ن * وَن ُ َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ت ل ي ُؤْ ِ‬ ‫جاَء ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫م أ َن َّها إ ِ َ‬ ‫شعُِرك ُ ْ‬ ‫ما ي ُ ْ‬ ‫عن ْد َ الل ّهِ وَ َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ما الَيا ُ‬ ‫قُ ْ‬
‫ل إ ِن ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫مُهو َ‬ ‫م ي َعْ َ‬ ‫م ِفي ط ُغَْيان ِهِ ْ‬ ‫مّرةٍ وَن َذ َُرهُ ْ‬ ‫ل َ‬ ‫مُنوا ب ِهِ أوّ َ‬ ‫م ي ُؤْ ِ‬ ‫ما ل َ ْ‬ ‫م كَ َ‬ ‫صاَرهُ ْ‬ ‫م وَأب ْ َ‬ ‫أفْئ ِد َت َهُ ْ‬
‫{‪.‬‬
‫أي‪ :‬وأقسم المشركون المكذبون للرسول محمد صلى الله عليه وسلم‪} .‬‬
‫َ‬
‫ة{‬ ‫م آي َ ٌ‬ ‫جاَءت ْهُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م { أي‪ :‬قسما اجتهدوا فيه وأكدوه‪ } .‬ل َئ ِ ْ‬ ‫مان ِهِ ْ‬ ‫جهْد َ أي ْ َ‬ ‫ِبالل ّهِ َ‬
‫ن ب َِها { وهذا الكلم‬ ‫من ُ ّ‬‫تدل على صدق محمد صلى الله عليه وسلم } ل َي ُؤْ ِ‬
‫الذي صدر منهم‪ ،‬لم يكن قصدهم فيه الرشاد‪ ،‬وإنما قصدهم دفع‬
‫العتراض عليهم‪ ،‬ورد ما جاء به الرسول قطعا‪ ،‬فإن الله أيد رسوله صلى‬
‫الله عليه وسلم‪ ،‬باليات البينات‪،‬والدلة الواضحات‪ ،‬التي ‪-‬عند اللتفات لها‪-‬‬
‫ل تبقي أدنى شبهة ول إشكال في صحة ما جاء به‪ ،‬فطلبهم ‪-‬بعد ذلك‪-‬‬
‫لليات من باب التعنت‪ ،‬الذي ل يلزم إجابته‪ ،‬بل قد يكون المنع من إجابتهم‬
‫أصلح لهم‪ ،‬فإن الله جرت سنته في عباده‪ ،‬أن المقترحين لليات على‬
‫رسلهم‪ ،‬إذا جاءتهم‪ ،‬فلم يؤمنوا بها ‪-‬أنه يعاجلهم بالعقوبة‪ ،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫عن ْد َ الل ّهِ { أي‪ :‬هو الذي يرسلها إذا شاء‪ ،‬ويمنعها إذا‬ ‫ت ِ‬ ‫ما الَيا ُ‬ ‫ل إ ِن ّ َ‬‫} قُ ْ‬
‫شاء‪ ،‬ليس لي من المر شيء‪ ،‬فطلبكم مني اليات ظلم‪،‬وطلب لما ل‬
‫أملك‪ ،‬وإنما توجهون إلى توضيح ما جئتكم به‪ ،‬وتصديقه‪ ،‬وقد حصل‪ ،‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬فليس معلوما‪ ،‬أنهم إذا جاءتهم اليات يؤمنون ويصدقون‪ ،‬بل الغالب‬
‫تل‬ ‫جاَء ْ‬ ‫م أ َن َّها إ ِ َ‬
‫ذا َ‬ ‫شعُِرك ُ ْ‬
‫ما ي ُ ْ‬
‫ممن هذه حاله‪ ،‬أنه ل يؤمن‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫ي ُؤْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مّرةٍ وَن َذ َُرهُ ْ‬
‫م ِفي‬ ‫ل َ‬‫مُنوا ب ِهِ أوّ َ‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫م ي ُؤْ ِ‬ ‫م كَ َ‬
‫صاَرهُ ْ‬ ‫ب أفْئ ِد َت َهُ ْ‬
‫م وَأب ْ َ‬ ‫قل ّ ُ‬ ‫} وَن ُ َ‬
‫ن { أي‪ :‬ونعاقبهم‪ ،‬إذا لم يؤمنوا أول مرة يأتيهم فيها‬ ‫مُهو َ‬ ‫م ي َعْ َ‬ ‫ط ُغَْيان ِهِ ْ‬
‫الداعي‪ ،‬وتقوم عليهم الحجة‪ ،‬بتقليب القلوب‪ ،‬والحيلولة بينهم وبين‬
‫اليمان‪ ،‬وعدم التوفيق لسلوك الصراط المستقيم‪.‬‬
‫وهذا من عدل الله‪ ،‬وحكمته بعباده‪ ،‬فإنهم الذين جنوا على أنفسهم‪ ،‬وفتح‬
‫لهم الباب فلم يدخلوا‪ ،‬وبين لهم الطريق فلم يسلكوا‪ ،‬فبعد ذلك إذا حرموا‬
‫التوفيق‪ ،‬كان مناسبا لحوالهم‪.‬‬

‫) ‪(1/269‬‬

‫يٍء قُب ًُل‬ ‫َ‬


‫ش ْ‬ ‫شْرَنا عَل َي ْهِ ْ‬
‫م كُ ّ‬
‫ل َ‬ ‫ح َ‬‫موَْتى وَ َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ة وَك َل ّ َ‬
‫مه ُ ُ‬ ‫مَلئ ِك َ َ‬
‫م ال ْ َ‬
‫وَل َوْ أن َّنا ن َّزل َْنا إ ِل َي ْهِ ُ‬
‫شاَء الل ّه ول َك َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(111‬‬ ‫جهَُلو َ‬
‫م يَ ْ‬‫ن أك ْث ََرهُ ْ‬‫ُ َ ِ ّ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫مُنوا إ ِّل أ ْ‬ ‫كاُنوا ل ِي ُؤْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫يٍء‬
‫ش ْ‬‫ل َ‬ ‫شْرَنا عَل َي ْهِ ْ‬
‫م كُ ّ‬ ‫ح َ‬‫موَْتى وَ َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ة وَك َل ّ َ‬
‫مه ُ ُ‬ ‫ملئ ِك َ َ‬ ‫م ال ْ َ‬
‫} وَل َوْ أن َّنا ن َّزل َْنا إ ِل َي ْهِ ُ‬
‫شاَء الل ّه ول َك َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫جهَُلو َ‬ ‫ن أك ْث ََرهُ ْ‬
‫م يَ ْ‬ ‫ُ َ ِ ّ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫مُنوا ِإل أ ْ‬ ‫كاُنوا ل ِي ُؤْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫قُُبل َ‬
‫وكذلك تعليقهم اليمان بإرادتهم‪ ،‬ومشيئتهم وحدهم‪ ،‬وعدم العتماد على‬
‫الله من أكبر الغلط‪ ،‬فإنهم لو جاءتهم اليات العظيمة‪ ،‬من تنزيل الملئكة‬
‫إليهم‪،‬يشهدون للرسول بالرسالة‪ ،‬وتكليم الموتى وبعثهم بعد موتهم‪،‬‬
‫وحشر كل شيء إليهم حتى يكلمهم )‪ } (1‬قُُبل { ومشاهدة‪ ،‬ومباشرة‪،‬‬
‫بصدق ما جاء به الرسول ما حصل منهم اليمان‪ ،‬إذا لم يشأ الله إيمانهم‪،‬‬
‫ولكن أكثرهم يجهلون‪ .‬فلذلك رتبوا إيمانهم‪ ،‬على مجرد إتيان اليات‪ ،‬وإنما‬
‫العقل والعلم‪ ،‬أن يكون العبد مقصوده اتباع الحق‪ ،‬ويطلبه بالطرق التي‬
‫بينها الله‪ ،‬ويعمل بذلك‪ ،‬ويستعين ربه في اتباعه‪ ،‬ول يتكل على نفسه‬
‫وحوله وقوته‪ ،‬ول يطلب من اليات القتراحية ما ل فائدة فيه‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬وحشرنا عليهم كل شيء حتى يكلمهم‪.‬‬

‫) ‪(1/269‬‬
‫ض‬ ‫ضه ُ ْ َ‬ ‫س َوال ْ ِ‬ ‫طي َ ْ‬ ‫ي عَد ُّوا َ‬ ‫جعَل َْنا ل ِك ُ ّ‬ ‫وَك َذ َل ِ َ‬
‫م إ ِلى ب َعْ ٍ‬ ‫حي ب َعْ ُ‬ ‫ن ُيو ِ‬ ‫ج ّ‬ ‫ن ال ِن ْ ِ‬ ‫شَيا ِ‬ ‫ل ن َب ِ ّ‬ ‫ك َ‬
‫ن )‪(112‬‬ ‫فت َُرو َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫ما فَعَُلوهُ فَذ َْرهُ ْ‬
‫م وَ َ‬ ‫ك َ‬ ‫شاَء َرب ّ َ‬ ‫ل غُُروًرا وَل َوْ َ‬ ‫قوْ ِ‬ ‫ف ال ْ َ‬
‫خُر َ‬ ‫ُز ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫قت َرُِفوا َ‬
‫ما هُ ْ‬ ‫ضوْهُ وَل ِي َ ْ‬‫خَرةِ وَل ِي َْر َ‬
‫ن ِبال ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن ل ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫صَغى إ ِلي ْهِ أفْئ ِد َةُ ال ِ‬ ‫وَل ِت َ ْ‬
‫ن )‪(113‬‬ ‫قت َرُِفو َ‬ ‫م ْ‬
‫ُ‬
‫ن‬
‫ج ّ‬ ‫س َوال ْ ِ‬
‫ن الن ْ ِ‬ ‫طي َ‬ ‫شَيا ِ‬ ‫ي عَد ُّوا َ‬ ‫ل ن َب ِ ّ‬‫جعَل َْنا ل ِك ُ ّ‬ ‫ك َ‬ ‫} ‪ } { 113 ، 112‬وَك َذ َل ِ َ‬
‫ما فَعَُلوهُ‬
‫ك َ‬ ‫شاَء َرب ّ َ‬ ‫ل غُُروًرا وَل َوْ َ‬ ‫قوْ ِ‬ ‫ف ال ْ َ‬‫خُر َ‬ ‫ض ُز ْ‬ ‫م إ ِلى ب َعْ ٍ‬
‫ضه ُ ْ َ‬ ‫حي ب َعْ ُ‬ ‫ُيو ِ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ضوْهُ‬
‫خَرةِ وَل ِي َْر َ‬ ‫ن ِبال ِ‬‫مُنو َ‬ ‫ن ل ي ُؤْ ِ‬‫ذي َ‬ ‫صَغى إ ِلي ْهِ أفئ ِد َةُ ال ِ‬ ‫ن * وَل ِت َ ْ‬ ‫فت َُرو َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫م وَ َ‬‫فَذ َْرهُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قت َرُِفو َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ُ‬
‫ما هُ ْ‬ ‫قت َرُِفوا َ‬ ‫وَل ِي َ ْ‬
‫يقول تعالى ‪-‬مسليا لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم‪ -‬وكما جعلنا لك‬
‫أعداء يردون دعوتك‪ ،‬ويحاربونك‪ ،‬ويحسدونك‪ ،‬فهذه سنتنا‪ ،‬أن نجعل لكل‬
‫نبي نرسله إلى الخلق أعداء‪ ،‬من شياطين النس والجن‪ ،‬يقومون بضد ما‬
‫جاءت به الرسل‪.‬‬
‫ل غُُروًرا { أي‪ :‬يزين بعضهم لبعض‬ ‫قوْ ِ‬ ‫ف ال َ‬‫ْ‬ ‫خُر َ‬ ‫ض ُز ْ‬ ‫َ‬
‫م إ ِلى ب َعْ ٍ‬ ‫ضه ُ ْ‬‫حي ب َعْ ُ‬ ‫} ُيو ِ‬
‫المر الذي يدعون إليه من الباطل‪ ،‬ويزخرفون له العبارات حتى يجعلوه‬
‫في أحسن صورة‪ ،‬ليغتر به السفهاء‪ ،‬وينقاد له الغبياء‪ ،‬الذين ل يفهمون‬
‫الحقائق‪،‬ول يفقهون المعاني‪ ،‬بل تعجبهم اللفاظ المزخرفة‪ ،‬والعبارات‬
‫المموهة‪،‬فيعتقدون الحق ] ص ‪ [ 270‬باطل والباطل حقا‪ ،‬ولهذا قال‬
‫صَغى إ ِل َي ْهِ { أي‪ :‬ولتميل إلى ذلك الكلم المزخرف } أ َفْئ ِد َةُ‬ ‫تعالى‪ } :‬وَل ِت َ ْ‬
‫خَرةِ { لن عدم إيمانهم باليوم الخر وعدم عقولهم‬ ‫ن ِبال ِ‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن ل ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ضوْهُ { بعد أن يصغوا إليه‪ ،‬فيصغون إليه‬ ‫النافعة‪ ،‬يحملهم على ذلك‪ } ،‬وَل ِي َْر َ‬
‫أول فإذا مالوا إليه ورأوا تلك العبارات المستحسنة‪ ،‬رضوه‪ ،‬وزين في‬
‫قلوبهم‪ ،‬وصار عقيدة راسخة‪،‬وصفة لزمة‪ ،‬ثم ينتج من ذلك‪ ،‬أن يقترفوا‬
‫من العمال والقوال ما هم مقترفون‪ ،‬أي‪ :‬يأتون من الكذب بالقول‬
‫والفعل‪ ،‬ما هو من لوازم تلك العقائد القبيحة‪ ،‬فهذه حال المغترين‬
‫بشياطين النس والجن‪ ،‬المستجيبين لدعوتهم‪،‬وأما أهل اليمان بالخرة‪،‬‬
‫وأولو العقول الوافية واللباب الرزينة‪ ،‬فإنهم ل يغترون بتلك العبارات‪ ،‬ول‬
‫تخلبهم تلك التمويهات‪ ،‬بل همتهم مصروفة إلى معرفة الحقائق‪ ،‬فينظرون‬
‫إلى المعاني التي يدعو إليها الدعاة‪ ،‬فإن كانت حقا قبلوها‪ ،‬وانقادوا لها‪،‬‬
‫ولو كسيت عبارات ردية‪ ،‬وألفاظا غير وافية‪ ،‬وإن كانت باطل ردوها على‬
‫من قالها‪ ،‬كائنا من كان‪ ،‬ولو ألبست من العبارات المستحسنة‪ ،‬ما هو أرق‬
‫من الحرير‪.‬‬
‫ومن حكمة الله تعالى‪ ،‬في جعله للنبياء أعداء‪ ،‬وللباطل أنصارا قائمين‬
‫بالدعوة إليه‪ ،‬أن يحصل لعباده البتلء والمتحان‪ ،‬ليتميز الصادق من‬
‫الكاذب‪ ،‬والعاقل من الجاهل‪ ،‬والبصير من العمى‪.‬‬
‫ومن حكمته أن في ذلك بيانا للحق‪ ،‬وتوضيحا له‪ ،‬فإن الحق يستنير ويتضح‬
‫إذا قام الباطل يصارعه ويقاومه‪ .‬فإنه ‪-‬حينئذ‪ -‬يتبين من أدلة الحق‪،‬‬
‫وشواهده الدالة على صدقه وحقيقته‪ ،‬ومن فساد الباطل وبطلنه‪ ،‬ما هو‬
‫من أكبر المطالب‪ ،‬التي يتنافس فيها المتنافسون‪.‬‬

‫) ‪(1/269‬‬
‫م‬ ‫ذي َ‬
‫صًل َوال ّ ِ َ‬
‫ن آت َي َْناهُ ُ‬ ‫ف ّ‬ ‫م َ‬‫ب ُ‬‫م ال ْك َِتا َ‬ ‫ذي أ َن َْز َ‬
‫ل إ ِل َي ْك ُ ُ‬ ‫ما وَهُوَ ال ّ ِ‬ ‫حك َ ً‬
‫َ‬
‫أفَغَي َْر الل ّهِ أب ْت َِغي َ‬
‫َ‬
‫ال ْكتاب يعل َمو َ‬
‫ن )‪(114‬‬ ‫ري َ‬
‫مت َ ِ‬ ‫ن ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫حقّ فََل ت َ ُ‬
‫كون َ ّ‬ ‫ك ِبال ْ َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ْ‬‫ل ِ‬ ‫من َّز ٌ‬‫ه ُ‬‫ن أن ّ ُ‬‫َِ َ َْ ُ َ‬
‫م )‪(115‬‬ ‫ْ‬
‫ميعُ العَِلي ُ‬ ‫س ِ‬ ‫مات ِهِ وَهُوَ ال ّ‬ ‫َ‬
‫ل ل ِكل ِ َ‬ ‫مب َد ّ َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫صد ًْقا وَعَد ْل ل ُ‬ ‫َ‬
‫ة َرب ّك ِ‬ ‫ت ك َل ِ َ‬
‫م ُ‬ ‫م ْ‬
‫وَت َ ّ‬

‫م ال ْك َِتا َ‬
‫ب‬ ‫ل إ ِل َي ْك ُ ُ‬ ‫ذي أ َن َْز َ‬ ‫ما وَهُوَ ال ّ ِ‬ ‫حك َ ً‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫} ‪ } { 115 ، 114‬أفَغَي َْر الل ّهِ أب ْت َِغي َ‬
‫فصل وال ّذين آتيناهُم ال ْكتاب يعل َمو َ‬
‫ن‬‫كون َ ّ‬ ‫حقّ َفل ت َ ُ‬ ‫ك ِبال ْ َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫من َّز ٌ‬ ‫ه ُ‬ ‫ن أن ّ ُ‬ ‫َِ َ َْ ُ َ‬ ‫م َ ّ َ ِ َ ََْ ُ‬ ‫ُ‬
‫ع‬
‫مي ُ‬ ‫س ِ‬ ‫مات ِهِ وَهُوَ ال ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مب َد ّل ل ِكل ِ َ‬ ‫دل ل ُ‬ ‫صد ْقا وَعَ ْ‬‫ً‬ ‫َ‬
‫ة َرب ّك ِ‬ ‫م ُ‬ ‫َ‬
‫ت كل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن * وَت َ ّ‬ ‫ري َ‬ ‫مت َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫م{‪.‬‬ ‫العَِلي ُ‬ ‫ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ما { أحاكم إليه‪ ،‬وأتقيد‬ ‫حك ً‬ ‫أي‪ :‬قل يا أيها الرسول } أفَغَي َْر اللهِ أب ْت َِغي َ‬
‫بأوامره ونواهيه‪ .‬فإن غير الله محكوم عليه ل حاكم‪ .‬وكل تدبير وحكم‬
‫للمخلوق فإنه مشتمل على النقص‪ ،‬والعيب‪ ،‬والجور‪ ،‬وإنما الذي يجب أن‬
‫يتخذ حاكما‪ ،‬فهو الله وحده ل شريك له‪ ،‬الذي له الخلق والمر‪.‬‬
‫ضحا فيه الحلل والحرام‪،‬‬ ‫صل { أي‪ :‬مو ّ‬ ‫ف ّ‬ ‫م َ‬‫ب ُ‬ ‫م ال ْك َِتا َ‬ ‫ل إ ِل َي ْك ُ ُ‬‫ذي َأنز َ‬ ‫} ال ّ ِ‬
‫والحكام الشرعية‪ ،‬وأصول الدين وفروعه‪ ،‬الذي ل بيان فوق بيانه‪ ،‬ول‬
‫برهان أجلى من برهانه‪ ،‬ول أحسن منه حكما ول أقوم قيل لن أحكامه‬
‫مشتملة على الحكمة والرحمة‪.‬‬
‫َ‬
‫ه‬
‫ن أن ّ ُ‬ ‫مو َ‬ ‫وأهل الكتب السابقة‪ ،‬من اليهود والنصارى‪ ،‬يعترفون بذلك } وي َعْل َ ُ‬
‫ن في ذلك‬ ‫شك ّ ّ‬ ‫حقّ { ولهذا‪ ،‬تواطأت الخبارات } َفل { ت ُ‬ ‫ك ِبال ْ َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫منز ٌ‬ ‫ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫مت َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫ُ‬
‫ول } ت َكون َ ّ‬
‫دل { أي‪ :‬صدقا في‬ ‫صد ْقا وَعَ ْ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫ة َرب ّك ِ‬ ‫م ُ‬ ‫َ‬
‫ت كل ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ثم وصف تفصيلها فقال‪ } :‬وَت َ ّ‬
‫الخبار‪ ،‬وعدل في المر والنهي‪ .‬فل أصدق من أخبار الله التي أودعها هذا‬
‫مات ِهِ { ]حيث‬ ‫ل ل ِك َل ِ َ‬ ‫مب َد ّ َ‬
‫الكتاب العزيز‪ ،‬ول أعدل من أوامره ونواهيه } ل ُ‬
‫حفظها وأحكمها بأعلى أنواع الصدق‪ ،‬وبغاية الحق‪ ،‬فل يمكن تغييرها‪ ،‬ول‬
‫اقتراح أحسن منها[ )‪. (1‬‬
‫ميعُ { لسائر الصوات‪ ،‬باختلف اللغات على تفنن الحاجات‪.‬‬ ‫س ِ‬ ‫} وَهُوَ ال ّ‬
‫م { الذي أحاط علمه بالظواهر والبواطن‪ ،‬والماضي والمستقبل‪.‬‬ ‫} ال ْعَِلي ُ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب بخط الشيخ ‪-‬رحمه الله‪.-‬‬

‫) ‪(1/270‬‬

‫ن ِفي اْل َْر‬ ‫َ‬


‫الظ ّ ّ‬
‫ن‬ ‫ن إ ِّل‬ ‫ل الل ّهِ إ ِ ْ‬
‫ن ي َت ّب ُِعو َ‬ ‫سِبي ِ‬
‫ن َ‬ ‫ضّلو َ‬
‫ك عَ ْ‬ ‫ض يُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫م ْ‬‫ن ت ُط ِعْ أك ْث ََر َ‬ ‫وَإ ِ ْ‬
‫َ‬
‫و‬
‫وَهُ َ‬ ‫سِبيل ِهِ‬
‫ن َ‬ ‫ل عَ ْ‬ ‫ض ّ‬ ‫ن يَ ِ‬ ‫م ْ‬
‫م َ‬ ‫ك هُوَ أعْل َ ُ‬‫ن َرب ّ َ‬‫ن )‪ (116‬إ ِ ّ‬ ‫صو َ‬‫خُر ُ‬‫م إ ِّل ي َ ْ‬ ‫ن هُ ْ‬ ‫وَإ ِ ْ‬
‫َ‬
‫ن )‪(117‬‬ ‫دي َ‬‫مهْت َ ِ‬‫م ِبال ْ ُ‬
‫أعْل َ ُ‬
‫َ‬
‫ل الل ّهِ‬
‫سِبي ِ‬‫ن َ‬ ‫ك عَ ْ‬ ‫ضّلو َ‬
‫ض يُ ِ‬
‫ِ‬ ‫ن ِفي الْر‬ ‫م ْ‬‫ن ت ُط ِعْ أك ْث ََر َ‬‫} ‪ } { 117 ، 116‬وَإ ِ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ل عَ ْ‬ ‫ض ّ‬‫ن يَ ِ‬‫م ْ‬
‫م َ‬‫ك هُوَ أعْل ُ‬‫ن َرب ّ َ‬‫ن * إِ ّ‬ ‫صو َ‬‫خُر ُ‬
‫م ِإل ي َ ْ‬ ‫ن هُ ْ‬ ‫ن وَإ ِ ْ‬ ‫ن ِإل الظ ّ ّ‬ ‫ن ي َت ّب ُِعو َ‬
‫إِ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫دي َ‬
‫مهْت َ ِ‬ ‫م ِبال ُ‬ ‫سِبيل ِهِ وَهُوَ أعْل ُ‬ ‫َ‬
‫يقول تعالى‪ ،‬لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم‪ ،‬محذرا عن طاعة أكثر‬
‫ل الل ّهِ { فإن‬ ‫ضّلو َ‬ ‫َ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن َ‬‫ك عَ ْ‬ ‫ض يُ ِ‬‫ن ِفي الْر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ت ُط ِعْ أك ْث ََر َ‬ ‫الناس‪ } :‬وَإ ِ ْ‬
‫أكثرهم قد انحرفوا في أديانهم وأعمالهم‪ ،‬وعلومهم‪ .‬فأديانهم فاسدة‪،‬‬
‫وأعمالهم تبع لهوائهم‪ ،‬وعلومهم ليس فيها تحقيق‪ ،‬ول إيصال لسواء‬
‫الطريق‪.‬‬
‫بل غايتهم أنهم يتبعون الظن‪ ،‬الذي ل يغني من الحق شيئا‪ ،‬ويتخرصون في‬
‫ذر الله‬ ‫القول على الله ما ل يعلمون‪ ،‬ومن كان بهذه المثابة‪ ،‬فحرى أن يح ّ‬
‫منه عباَده‪ ،‬ويصف لهم أحوالهم؛ لن هذا ‪-‬وإن كان خطابا للنبي صلى الله‬
‫عليه وسلم‪ -‬فإن أمته أسوة له في سائر الحكام‪ ،‬التي ليست من‬
‫خصائصه‪.‬‬
‫سِبيل ِهِ {‬ ‫ض ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن َ‬‫ل عَ ْ‬ ‫ن يَ ِ‬
‫م ْ‬
‫م َ‬‫والله تعالى أصدق قيل وأصدق حديثا‪ ،‬و } هُوَ أعْل ُ‬
‫وأعلم بمن يهتدي‪ .‬ويهدي‪.‬فيجب عليكم ‪-‬أيها المؤمنون‪ -‬أن تتبعوا نصائحه‬
‫وأوامره ونواهيه لنه أعلم بمصالحكم‪ ،‬وأرحم بكم من أنفسكم‪.‬‬
‫ودلت هذه الية‪ ،‬على أنه ل يستدل على الحق‪ ،‬بكثرة أهله‪ ،‬ول يدل قلة‬
‫السالكين لمر من المور أن يكون غير حق‪ ،‬بل الواقع بخلف ذلك‪ ،‬فإن‬
‫أهل الحق هم القلون عددا‪ ،‬العظمون ‪-‬عند الله‪ -‬قدرا وأجرا‪ ،‬بل الواجب‬
‫أن يستدل على الحق والباطل‪ ،‬بالطرق الموصلة إليه‪.‬‬

‫) ‪(1/270‬‬

‫َ‬ ‫م الل ّهِ عَل َي ْهِ إ ِ ْ‬ ‫فَك ُُلوا ِ‬


‫ن )‪(118‬‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م ب ِآَيات ِهِ ُ‬ ‫ما ذ ُك َِر ا ْ‬
‫س ُ‬ ‫م ّ‬
‫ن{‬ ‫مؤْ ِ‬
‫مِني َ‬ ‫م ِبآَيات ِهِ ُ‬ ‫م الل ّهِ عَل َي ْهِ إ ِ ْ‬
‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ما ذ ُك َِر ا ْ‬
‫س ُ‬ ‫} ‪ } { 119 ، 118‬فَك ُُلوا ِ‬
‫م ّ‬
‫‪.‬‬
‫يأمر تعالى عباده المؤمنين‪ ،‬بمقتضى اليمان‪ ،‬وأنهم إن كانوا‬
‫مؤمنين‪،‬فليأكلوا مما ذكر اسم الله عليه من بهيمة النعام‪ ،‬وغيرها من‬
‫الحيوانات المحللة‪ ،‬ويعتقدوا حلها‪ ] ،‬ص ‪ [ 271‬ول يفعلوا كما يفعل أهل‬
‫الجاهلية من تحريم كثير من الحلل‪ ،‬ابتداعا من عند أنفسهم‪ ،‬وإضلل من‬
‫شياطينهم‪،‬فذكر الله أن علمة المؤمن مخالفة أهل الجاهلية‪ ،‬في هذه‬
‫العادة الذميمة‪،‬المتضمنة لتغيير شرع الله‪.‬‬

‫) ‪(1/270‬‬

‫م إ ِّل‬ ‫وما ل َك ُ َ ْ‬
‫م عَل َي ْك ُ ْ‬
‫حّر َ‬‫ما َ‬
‫م َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬ ‫م الل ّهِ عَ َل َي ْهِ وَقَد ْ فَ ّ‬
‫ص َ‬ ‫س ُ‬‫ما ذ ُك َِر ا ْ‬‫م ّ‬‫م أّل ت َأك ُُلوا ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن َرب ّك هُوَ أعْل ُ‬ ‫علم ٍ إ ِ ّ‬ ‫م ب ِغَي ْرِ ِ‬
‫وائ ِهِ ْ‬
‫ن ب ِأهْ َ‬
‫ضلو َ‬ ‫ن كِثيًرا لي ُ ِ‬ ‫م إ ِلي ْهِ وَإ ِ ّ‬
‫ضطرِْرت ُ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(119‬‬ ‫َ‬ ‫دي‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫ع‬‫م‬ ‫ْ‬
‫ِ ُ‬ ‫ل‬ ‫با‬
‫} وما ل َك ُ َ ْ‬
‫م عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫حّر َ‬
‫ما َ‬‫م َ‬ ‫ل ل َك ُ ْ‬
‫ص َ‬‫م الل ّهِ عَ َل َي ْهِ وَقَد ْ فَ ّ‬‫س ُ‬ ‫ما ذ ُك َِر ا ْ‬
‫م ّ‬ ‫م أل ت َأك ُُلوا ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ‬
‫و‬ ‫َ‬
‫ن َرب ّك هُ َ‬ ‫ْ‬
‫علم ٍ إ ِ ّ‬ ‫م ب ِغَي ْرِ ِ‬
‫وائ ِهِ ْ‬
‫ن ب ِأهْ َ‬
‫ضلو َ‬‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن كِثيًرا لي ُ ِ‬ ‫َ‬
‫م إ ِلي ْهِ وَإ ِ ّ‬‫ضطرِْرت ُ ْ‬‫ُ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ِإل َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دي َ‬ ‫معْت َ ِ‬‫م ِبال ُ‬‫أعْل َ ُ‬
‫وأنه‪ ،‬أي شيء يمنعهم من أكل ما ذكر اسم الله عليه‪ ،‬وقد فصل الله‬
‫لعباده ما حرم عليهم‪ ،‬وبينه‪ ،‬ووضحه؟ فلم يبق فيه إشكال ول شبهة‪،‬‬
‫توجب أن يمتنع من أكل بعض الحلل‪ ،‬خوفا من الوقوع في الحرام‪ ،‬ودلت‬
‫الية الكريمة‪ ،‬على أن الصل في الشياء والطعمة الباحة‪،‬وأنه إذا لم يرد‬
‫الشرع بتحريم شيء منها‪ ،‬فإنه باق على الباحة‪ ،‬فما سكت الله عنه فهو‬
‫حلل‪ ،‬لن الحرام قد فصله الله‪ ،‬فما لم يفصله الله فليس بحرام‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فالحرام الذي قد فصله الله وأوضحه‪ ،‬قد أباحه عند الضرورة‬
‫خنزيرِ {‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫م وَل َ ْ‬‫ة َوالد ّ ُ‬ ‫مي ْت َ ُ‬‫م ال ْ َ‬
‫ت عَل َي ْك ُ ُ‬‫م ْ‬‫حّر َ‬‫والمخمصة‪ ،‬كما قال تعالى‪ُ } :‬‬
‫فوٌر‬‫ه غَ ُ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫ف لث ْم ٍ فَإ ِ ّ‬ ‫جان ِ ٍ‬ ‫صةٍ غَي َْر ُ‬
‫مت َ َ‬ ‫م َ‬‫خ َ‬ ‫ضط ُّر ِفي َ‬
‫م ْ‬ ‫نا ْ‬ ‫إلى أن قال‪ } :‬فَ َ‬
‫م ِ‬
‫م{‪.‬‬‫حي ٌ‬
‫َر ِ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م { أي‪:‬‬ ‫وائ ِهِ ْ‬‫ن ب ِأهْ َ‬ ‫ضلو َ‬ ‫ن ك َِثيًرا لي ُ ِ‬ ‫ثم حذر عن كثير من الناس‪ ،‬فقال‪ } :‬وَإ ِ ّ‬
‫عل ْم ٍ { ول حجة‪ .‬فليحذر العبد من أمثال‬ ‫بمجرد ما تهوى أنفسهم } ب ِغَي ْرِ ِ‬
‫هؤلء‪،‬وعلمُتهم ‪-‬كما وصفهم الله لعباده‪ -‬أن دعوتهم غير مبنية على‬
‫برهان‪ ،‬ول لهم حجة شرعية‪ ،‬وإنما يوجد لهم شبه بحسب أهوائهم‬
‫الفاسدة‪ ،‬وآرائهم القاصرة‪ ،‬فهؤلء معتدون على شرع الله وعلى عباد‬
‫الله‪ ،‬والله ل يحب المعتدين‪ ،‬بخلف الهادين المهتدين‪ ،‬فإنهم يدعون إلى‬
‫الحق والهدى‪ ،‬ويؤيدون دعوتهم بالحجج العقلية والنقلية‪ ،‬ول يتبعون في‬
‫دعوتهم إل رضا ربهم والقرب منه‪.‬‬

‫) ‪(1/271‬‬

‫ما َ‬
‫كاُنوا‬ ‫ن بِ َ‬
‫جَزوْ َ‬
‫سي ُ ْ‬ ‫ن اْل ِث ْ َ‬
‫م َ‬ ‫ن ي َك ْ ِ‬
‫سُبو َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ظاهَِر اْل ِث ْم ِ وََباط ِن َ ُ‬
‫ه إِ ّ‬ ‫وَذ َُروا َ‬
‫ن )‪(120‬‬ ‫قت َرُِفو َ‬
‫يَ ْ‬

‫ن‬
‫جَزوْ َ‬‫سي ُ ْ‬ ‫ن الث ْ َ‬
‫م َ‬ ‫ن ي َك ْ ِ‬
‫سُبو َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫} ‪ } { 120‬وَذ َُروا َ‬
‫ظاهَِر الث ْم ِ وََباط ِن َ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قت َرُِفو َ‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫بِ َ‬
‫المراد بالثم‪ :‬جميع المعاصي‪ ،‬التي تؤثم العبد‪ ،‬أي‪ :‬توقعه في الثم‪،‬‬
‫والحرج‪،‬من الشياء المتعلقة بحقوق الله‪ ،‬وحقوق عباده‪ .‬فنهى الله عباده‪،‬‬
‫عن اقتراف الثم الظاهر والباطن‪ ،‬أي‪ :‬السر والعلنية‪ ،‬المتعلقة بالبدن‬
‫والجوارح‪،‬والمتعلقة بالقلب‪ ،‬ول يتم للعبد‪ ،‬ترك المعاصي الظاهرة‬
‫والباطنة‪ ،‬إل بعد معرفتها‪ ،‬والبحث عنها‪ ،‬فيكون البحث عنها ومعرفة‬
‫م بذلك واجبا متعينا على المكلف‪.‬‬ ‫معاصي القلب والبدن‪،‬والعل ُ‬
‫وكثير من الناس‪ ،‬تخفى عليه كثير من المعاصي‪ ،‬خصوصا معاصي‬
‫القلب‪،‬كالكبر والعجب والرياء‪ ،‬ونحو ذلك‪ ،‬حتى إنه يكون به كثير منها‪ ،‬وهو‬
‫ل يحس به ول يشعر‪ ،‬وهذا من العراض عن العلم‪ ،‬وعدم البصيرة‪.‬‬
‫ثم أخبر تعالى‪ ،‬أن الذين يكسبون الثم الظاهر والباطن‪ ،‬سيجزون على‬
‫حسب كسبهم‪ ،‬وعلى قدر ذنوبهم‪ ،‬قّلت أو كثرت‪ ،‬وهذا الجزاء يكون في‬
‫الخرة‪،‬وقد يكون في الدنيا‪ ،‬يعاقب العبد‪ ،‬فيخفف عنه بذلك من سيئاته‪.‬‬

‫) ‪(1/271‬‬

‫ْ‬
‫ن‬ ‫ن ل َُيو ُ‬
‫حو َ‬ ‫طي َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫شَيا ِ‬ ‫سقٌ وَإ ِ ّ‬ ‫ف ْ‬‫ه لَ ِ‬ ‫م الل ّهِ عَل َي ْهِ وَإ ِن ّ ُ‬ ‫س ُ‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫م ي ُذ ْك َرِ ا ْ‬ ‫وََل ت َأك ُُلوا ِ‬
‫م ّ‬
‫إَلى أ َول ِيائ ِهم ل ِيجادُلوك ُم وإ َ‬
‫ن )‪(121‬‬ ‫كو َ‬‫شرِ ُ‬ ‫م لَ ُ‬
‫م ْ‬ ‫م إ ِن ّك ُ ْ‬ ‫موهُ ْ‬ ‫ن أط َعْت ُ ُ‬
‫ْ َِ ْ‬ ‫ْ َ ِ ْ ُ َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬
‫ن‬
‫سقٌ وَإ ِ ّ‬ ‫ف ْ‬ ‫ه لَ ِ‬
‫م الل ّهِ عَل َي ْهِ وَإ ِن ّ ُ‬
‫س ُ‬ ‫ما ل َ ْ‬
‫م ي ُذ ْك َرِ ا ْ‬ ‫} ‪َ } { 121‬ول ت َأك ُُلوا ِ‬
‫م ّ‬
‫شياطين ل َيوحون إَلى أ َول ِيائ ِهم ل ِيجادُلوك ُم وإ َ‬
‫ن‬ ‫شرِ ُ‬
‫كو َ‬ ‫م ْ‬‫م لَ ُ‬‫م إ ِن ّك ُ ْ‬
‫موهُ ْ‬ ‫ن أط َعْت ُ ُ‬ ‫ْ َِ ْ‬ ‫ْ َ ِ ْ ُ َ ِ‬ ‫ال ّ َ ِ َ ُ ُ َ ِ‬
‫{‪.‬‬
‫ويدخل تحت هذا المنهي عنه‪ ،‬ما ذكر عليه اسم غير الله كالذي يذبح‬
‫للصنام‪،‬وآلهتهم‪ ،‬فإن هذا مما أهل لغير الله به‪ ،‬المحرم بالنص عليه‬
‫خصوصا‪.‬‬
‫ويدخل في ذلك‪ ،‬متروك التسمية‪ ،‬مما ذبح لله‪ ،‬كالضحايا‪ ،‬والهدايا‪ ،‬أو للحم‬
‫والكل‪ ،‬إذا كان الذابح متعمدا ترك التسمية‪ ،‬عند كثير من العلماء‪.‬‬
‫ويخرج من هذا العموم‪ ،‬الناسي بالنصوص الخر‪ ،‬الدالة على رفع الحرج‬
‫عنه‪ ،‬ويدخل في هذه الية‪ ،‬ما مات بغير ذكاة من الميتات‪ ،‬فإنها مما لم‬
‫يذكر اسم الله عليه‪.‬‬
‫ة { ولعلها‬ ‫م ال ْ َ‬
‫مي ْت َ ُ‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫م ْ‬‫حّر َ‬ ‫ونص الله عليها بخصوصها‪ ،‬في قوله‪ُ } :‬‬
‫َ‬
‫ن إ َِلى أوْل َِيائ ِهِ ْ‬
‫م‬ ‫حو َ‬ ‫ن ل َُيو ُ‬
‫طي َ‬ ‫ن ال ّ‬
‫شَيا ِ‬ ‫سبب نزول الية‪ ،‬لقوله } وَإ ِ ّ‬
‫م { بغير علم‪.‬‬ ‫جادُِلوك ُ ْ‬ ‫ل ِي ُ َ‬
‫ة‪ ،‬وتحليله‬ ‫فإن المشركين ‪-‬حين سمعوا تحريم الله ورسوله الميت َ‬
‫للمذكاة‪،‬وكانوا يستحلون أكل الميتة‪ -‬قالوا ‪-‬معاندة لله ورسوله‪ ،‬ومجادلة‬
‫بغير حجة ول برهان‪ -‬أتأكلون ما قتلتم‪ ،‬ول تأكلون ما قتل الله؟ يعنون‬
‫بذلك‪ :‬الميتة‪.‬‬
‫وهذا رأي فاسد‪ ،‬ل يستند على حجة ول دليل بل يستند إلى آرائهم‬
‫الفاسدة التي لو كان الحق تبعا لها لفسدت السماوات والرض‪ ،‬ومن‬
‫فيهن‪.‬‬
‫فتبا لمن قدم هذه العقول على شرع الله وأحكامه‪ ،‬الموافقة للمصالح‬
‫العامة والمنافع الخاصة‪ .‬ول يستغرب هذا منهم‪ ،‬فإن هذه الراء وأشباهها‪،‬‬
‫صادرة عن وحي أوليائهم من الشياطين‪ ،‬الذين يريدون أن يضلوا الخلق‬
‫عن دينهم‪،‬ويدعوهم ليكونوا من أصحاب السعير‪.‬‬
‫} وإ َ‬
‫م { في شركهم وتحليلهم الحرام‪ ،‬وتحريمهم الحلل‬ ‫موهُ ْ‬‫ن أط َعْت ُ ُ‬ ‫َِ ْ‬
‫ن { لنكم اتخذتموهم أولياء من دون الله‪ ،‬ووافقتموهم‬ ‫ُ‬
‫شرِكو َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫مل ُ‬ ‫} إ ِن ّك ُ ْ‬
‫على ما به فارقوا المسلمين‪ ،‬فلذلك كان طريقكم‪ ،‬طريقهم‪.‬‬
‫ودلت هذه الية الكريمة على أن ما يقع في القلوب من اللهامات‬
‫والكشوف‪،‬التي يكثر وقوعها عند الصوفية ونحوهم‪ ،‬ل تدل ‪-‬بمجردها على‬
‫أنها حق‪،‬ول تصدق حتى تعرض على كتاب الله وسنة رسوله‪.‬‬

‫) ‪(1/271‬‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫ه ِفي‬‫مث َل ُ ُ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫س كَ َ‬ ‫شي ب ِهِ ِفي الّنا ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ه ُنوًرا ي َ ْ‬ ‫جعَل َْنا ل َ ُ‬ ‫مي ًْتا فَأ ْ‬
‫حي َي َْناهُ وَ َ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫أو َ َ‬
‫ن )‪(122‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ن ل ِل ْ َ‬ ‫ك ُزي ّ َ‬ ‫من َْها ك َذ َل ِ َ‬ ‫خارٍِج ِ‬ ‫س بِ َ‬ ‫ت ل َي ْ َ‬ ‫ما ِ‬ ‫الظ ّل ُ َ‬
‫ن إ ِّل‬ ‫مك ُُرو َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫مك ُُروا ِفيَها وَ َ‬ ‫ميَها ل ِي َ ْ‬ ‫جرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫كاب َِر ُ‬ ‫ل قَْري َةٍ أ َ َ‬‫جعَل َْنا ِفي ك ُ ّ‬ ‫ك َ‬ ‫وَك َذ َل ِ َ‬
‫حّتى ن ُؤَْتى‬ ‫ن َ‬ ‫م َ‬ ‫ة َقاُلوا ل َ ْ‬
‫ن ن ُؤْ ِ‬ ‫م آ َي َ ٌ‬ ‫جاَءت ْهُ ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن )‪ (123‬وَإ ِ َ‬ ‫شعُُرو َ‬ ‫ما ي َ ْ‬‫م وَ َ‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ب ِأ َن ْ ُ‬
‫ل الل ّه الل ّ َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫صي ُ‬ ‫سي ُ ِ‬‫ه َ‬ ‫سال َت َ ُ‬‫ل رِ َ‬ ‫جعَ ُ‬ ‫ث يَ ْ‬ ‫حي ْ ُ‬‫م َ‬ ‫ه أعْل َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ي ُر ُ‬ ‫ما أوت ِ َ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫ِ‬
‫عن ْد َ الل ّهِ وَعَ َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(124‬‬ ‫مك ُُرو َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ديد ٌ ب ِ َ‬ ‫ش ِ‬ ‫ب َ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫صَغاٌر ِ‬ ‫موا َ‬ ‫جَر ُ‬ ‫أ ْ‬

‫فإن شهدا لها بالقبول قبلت‪ ،‬وإن ناقضتهما ردت‪ ،‬وإن لم يعلم شيء من‬
‫ذلك‪،‬توقف فيها ولم تصدق ولم تكذب‪ ،‬لن الوحي واللهام‪ ،‬يكون الرحمن‬
‫ويكون من الشيطان‪،‬فل بد من التمييز بينهما والفرقان‪ ،‬وبعدم التفريق‬
‫بين المرين‪ ،‬حصل من الغلط والضلل‪ ،‬ما ل يحصيه إل الله‪.‬‬
‫] ص ‪[ 272‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫شي ب ِهِ ِفي‬ ‫م ِ‬ ‫ه ُنوًرا ي َ ْ‬ ‫جعَلَنا ل ُ‬ ‫حي َي َْناهُ وَ َ‬ ‫مي ًْتا فَأ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫ن كا َ‬ ‫م ْ‬ ‫} ‪ } { 124 - 122‬أوَ َ‬
‫ما‬
‫ن َ‬ ‫ري َ‬ ‫َ‬
‫ن ل ِلكافِ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫من َْها كذ َل ِك ُزي ّ َ‬‫َ‬ ‫خارٍِج ِ‬ ‫س بِ َ‬ ‫ت لي ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ما ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ه ِفي الظل َ‬ ‫مث َل ُ ُ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫س كَ َ‬
‫َ‬ ‫الّنا ِ‬
‫ما‬‫مكُروا ِفيَها وَ َ‬ ‫ُ‬ ‫ميَها ل ِي َ ْ‬ ‫جرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ل قَْري َةٍ أكاب َِر ُ‬ ‫ُ‬
‫جعَلَنا ِفي ك ّ‬ ‫ْ‬ ‫ك َ‬ ‫َ‬
‫ن * وَكذ َل ِ َ‬ ‫ملو َ‬ ‫ُ‬ ‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫حّتى‬ ‫ن َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ن ُؤْ ِ‬ ‫ة َقاُلوا ل َ ْ‬ ‫م آي َ ٌ‬ ‫جاَءت ْهُ ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫ن * وَإ ِ َ‬ ‫شعُُرو َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫سه ِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن ِإل ب ِأن ْ ُ‬ ‫مك ُُرو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫جع َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ُ‬ ‫مث ْ َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬ ‫ب ال ِ‬ ‫صي ُ‬ ‫سي ُ ِ‬ ‫ه َ‬ ‫سالت َ ُ‬ ‫ل رِ َ‬ ‫ث يَ ْ‬ ‫حي ْ ُ‬‫م َ‬ ‫ه أعْل ُ‬ ‫ل اللهِ الل ُ‬ ‫ي ُر ُ‬ ‫ما أوت ِ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ن ُؤَْتى ِ‬
‫عن ْد َ الل ّهِ وَعَ َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مك ُُرو َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ديد ٌ ب ِ َ‬ ‫ش ِ‬ ‫ب َ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫صَغاٌر ِ‬ ‫موا َ‬ ‫جَر ُ‬‫أ ْ‬
‫مي ًْتا { في ظلمات‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬
‫ن { من قبل هداية الله له } َ‬ ‫كا َ‬ ‫ْ‬ ‫م‬
‫يقول تعالى‪ } :‬أوَ َ‬
‫َ‬
‫حي َي َْناهُ { بنور العلم واليمان والطاعة‪،‬‬ ‫الكفر‪،‬والجهل‪ ،‬والمعاصي‪ } ،‬فَأ ْ‬
‫فصار يمشي بين الناس في النور‪ ،‬متبصرا في أموره‪ ،‬مهتديا لسبيله‪،‬‬
‫عارفا للخير مؤثرا له‪ ،‬مجتهدا في تنفيذه في نفسه وغيره‪ ،‬عارفا بالشر‬
‫مبغضا له‪ ،‬مجتهدا فيتركه وإزالته عن نفسه وعن غيره‪ .‬أفيستوي هذا بمن‬
‫هو في الظلمات‪،‬ظلمات الجهل والغي‪ ،‬والكفر والمعاصي‪.‬‬
‫من َْها { قد التبست عليه الطرق‪ ،‬وأظلمت عليه المسالك‪،‬‬ ‫خارٍِج ِ‬ ‫س بِ َ‬ ‫} ل َي ْ َ‬
‫فحضرها لهم والغم والحزن والشقاء‪ .‬فنبه تعالى العقول بما تدركه‬
‫وتعرفه‪ ،‬أنه ل يستوي هذا ول هذا كما ل يستوي الليل والنهار‪ ،‬والضياء‬
‫والظلمة‪ ،‬والحياء والموات‪.‬‬
‫فكأنه قيل‪ :‬فكيف يؤثر من له أدنى مسكة من عقل‪ ،‬أن يكون بهذه‬
‫ما‬ ‫ن َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ن ل ِل ْ َ‬ ‫الحالة‪،‬وأن يبقى في الظلمات متحيرا‪ :‬فأجاب بأنه } ُزي ّ َ‬
‫ن { فلم يزل الشيطان يحسن لهم أعمالهم‪ ،‬ويزينها في‬ ‫مُلو َ‬ ‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫َ‬
‫قلوبهم‪ ،‬حتى استحسنوها ورأوها حقا‪ .‬وصار ذلك عقيدة في قلوبهم‪،‬‬
‫وصفة راسخة ملزمة لهم‪ ،‬فلذلك رضوا بما هم عليه من الشر والقبائح‪.‬‬
‫وهؤلء الذين في الظلمات يعمهون‪،‬وفي باطلهم يترددون‪ ،‬غير متساوين‪.‬‬
‫فمنهم‪ :‬القادة‪ ،‬والرؤساء‪ ،‬والمتبوعون‪،‬ومنهم‪ :‬التابعون المرءوسون‪،‬‬
‫والولون‪ ،‬منهم الذين فازوا بأشقى الحوال‪،‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ميَها { أي‪ :‬الرؤساء الذين قد كبر‬ ‫جرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫كاب َِر ُ‬ ‫ل قَْري َةٍ أ َ َ‬ ‫جعَل َْنا ِفي ك ُ ّ‬ ‫ك َ‬ ‫} وَك َذ َل ِ َ‬
‫مك ُُروا ِفيَها { بالخديعة والدعوة إلى سبيل‬ ‫جرمهم‪ ،‬واشتد طغيانهم } ل ِي َ ْ‬
‫الشيطان‪،‬ومحاربة الرسل وأتباعهم‪ ،‬بالقول والفعل‪ ،‬وإنما مكرهم وكيدهم‬
‫يعود على أنفسهم‪ ،‬لنهم يمكرون‪ ،‬ويمكر الله والله خير الماكرين‪.‬‬
‫وكذلك يجعل الله كبار أئمة الهدى وأفاضلهم‪ ،‬يناضلون هؤلء المجرمين‪،‬‬
‫ويردون عليهم أقوالهم ويجاهدونهم في سبيل الله‪ ،‬ويسلكون بذلك السبل‬
‫الموصلة إلى ذلك‪ ،‬ويعينهم الله ويسدد رأيهم‪ ،‬ويثبت أقدامهم‪ ،‬ويداول‬
‫اليام بينهم وبين أعدائهم‪ ،‬حتى يدول المر في عاقبته بنصرهم وظهورهم‪،‬‬
‫والعاقبة للمتقين‪.‬‬
‫وإنما ثبت أكابر المجرمين على باطلهم‪ ،‬وقاموا برد الحق الذي جاءت به‬
‫ُ‬
‫ي‬
‫ما أوت ِ َ‬ ‫ل َ‬ ‫مث ْ َ‬ ‫حّتى ن ُؤَْتى ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ن ُؤْ ِ‬ ‫الرسل‪ ،‬حسدا منهم وبغيا‪ ،‬فقالوا‪ } :‬ل َ ْ‬
‫ل الل ّهِ { من النبوة والرسالة‪ .‬وفي هذا اعتراض منهم على الله‪،‬‬ ‫س ُ‬ ‫ُر ُ‬
‫وعجب بأنفسهم‪،‬وتكبر على الحق الذي أنزله على أيدي رسله‪ ،‬وتحجر‬
‫على فضل الله وإحسانه‪.‬‬
‫فرد الله عليهم اعتراضهم الفاسد‪ ،‬وأخبر أنهم ل يصلحون للخير‪ ،‬ول فيهم‬
‫ما يوجب أن يكونوا من عباد الله الصالحين‪ ،‬فضل أن يكونوا من النبيين‬
‫والمرسلين‪ ،‬فقال‪ } :‬الل ّ َ‬
‫ه { فيمن علمه يصلح‬ ‫سال َت َ ُ‬
‫ل رِ َ‬‫جع َ ُ‬
‫ث يَ ْ‬‫حي ْ ُ‬ ‫ه أعْل َ ُ‬
‫م َ‬ ‫ُ‬
‫لها‪ ،‬ويقوم بأعبائها‪ ،‬وهو متصف بكل خلق جميل‪ ،‬ومتبرئ من كل خلق‬
‫دنيء‪ ،‬أعطاه الله ما تقتضيه حكمته أصل وتبعا‪ ،‬ومن لم يكن كذلك‪ ،‬لم‬
‫يضع أفضل مواهبه‪،‬عند من ل يستأهله‪ ،‬ول يزكو عنده‪.‬‬
‫وفي هذه الية‪ ،‬دليل على كمال حكمة الله تعالى‪ ،‬لنه‪ ،‬وإن كان تعالى‬
‫رحيما واسع الجود‪ ،‬كثير الحسان‪ ،‬فإنه حكيم ل يضع جوده إل عند أهله‪،‬‬
‫عن ْد َ الل ّهِ { أي‪:‬‬‫صَغاٌر ِ‬ ‫ثم توعد المجرمين فقال‪ } :‬سيصيب ال ّذي َ‬
‫موا َ‬ ‫جَر ُ‬‫نأ ْ‬‫ِ َ‬ ‫َ ُ ِ ُ‬
‫ما َ‬
‫كاُنوا‬ ‫ديد ٌ ب ِ َ‬
‫ش ِ‬‫ب َ‬ ‫إهانة وذل‪ ،‬كما تكبروا على الحق‪ ،‬أذلهم الله‪ } .‬وَعَ َ‬
‫ذا ٌ‬
‫ن { أي‪ :‬بسبب مكرهم‪ ،‬ل ظلما منه تعالى‪.‬‬ ‫مك ُُرو َ‬
‫يَ ْ‬
‫) ‪(1/271‬‬

‫َ‬ ‫فَمن يرد الل ّ َ‬


‫جع َ ْ‬
‫ل‬ ‫ضل ّ ُ‬
‫ه يَ ْ‬ ‫ن يُ ِ‬ ‫ن ي ُرِد ْ أ ْ‬
‫م ْ‬ ‫سَلم ِ وَ َ‬ ‫صد َْرهُ ل ِْل ِ ْ‬
‫ح َ‬ ‫ه يَ ْ‬
‫شَر ْ‬ ‫ن َيهدِي َ ُ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ ُ ِ ِ‬
‫س عََلى‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ع‬ ‫ج‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫ِ‬ ‫ء‬ ‫ما‬ ‫س‬ ‫ال‬ ‫في‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ص‬ ‫ي‬ ‫ما‬ ‫ن‬‫قا حرجا ك َأ َ‬ ‫ً‬
‫ُ ّ ْ َ‬ ‫ِ َ ْ َ‬ ‫ّ َ‬ ‫ّ َ َ ّ ّ ُ ِ‬ ‫َ َ ً‬ ‫صد َْرهُ َ ّ‬
‫ي‬‫ض‬ ‫َ‬
‫ن )‪(125‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫َ‬
‫ن ل ي ُؤْ ِ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫ه يَ ْ‬ ‫} ‪ } { 125‬فَمن يرد الل ّ َ‬
‫ن ي ُرِد ْ أ ْ‬‫م ْ‬‫سلم ِ وَ َ‬ ‫صد َْرهُ ِلل ْ‬
‫ح َ‬‫شَر ْ‬ ‫ن َيهدِي َ ُ‬ ‫هأ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ ُ ِ ِ‬
‫هّ‬ ‫َ‬
‫ل الل ُ‬ ‫جع َ ُ‬‫ك يَ ْ‬‫ماِء ك َذ َل ِ َ‬
‫س َ‬‫صعّد ُ ِفي ال ّ‬‫ما ي َ ّ‬‫جا ك َأن ّ َ‬ ‫حَر ً‬
‫قا َ‬ ‫ضي ّ ً‬
‫صد َْرهُ َ‬ ‫ل َ‬‫جعَ ْ‬ ‫ضل ّ ُ‬
‫ه يَ ْ‬ ‫يُ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن ل ي ُؤْ ِ‬ ‫س عََلى ال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ج َ‬ ‫الّر ْ‬
‫يقول تعالى ‪-‬مبينا لعباده علمة سعادة العبد وهدايته‪ ،‬وعلمة شقاوته‬
‫وضلله‪ :-‬إن من انشرح صدره للسلم‪ ،‬أي‪ :‬اتسع وانفسح‪ ،‬فاستنار بنور‬
‫اليمان‪ ،‬وحيي بضوء اليقين‪ ،‬فاطمأنت بذلك نفسه‪ ،‬وأحب الخير‪ ،‬وطوعت‬
‫له نفسه فعله‪ ،‬متلذذا به غير مستثقل‪ ،‬فإن هذا علمة على أن الله قد‬
‫ن عليه بالتوفيق‪ ،‬وسلوك أقوم الطريق‪.‬‬ ‫م ّ‬‫هداه‪ ،‬و َ‬
‫وأن علمة من يرد الله أن يضله‪ ،‬أن يجعل صدره ضيقا حرجا‪ .‬أي‪ :‬في‬
‫غاية الضيق عن اليمان والعلم واليقين‪ ،‬قد انغمس قلبه في الشبهات‬
‫والشهوات‪ ،‬فل يصل إليه خير‪ ،‬ل ينشرح قلبه لفعل الخير كأنه من ضيقه‬
‫وشدته يكاد يصعد في السماء‪ ،‬أي‪ :‬كأنه يكلف الصعود إلى السماء‪ ،‬الذي‬
‫ل حيلة له فيه‪.‬‬
‫وهذا سببه‪ ،‬عدم إيمانهم‪ ،‬هو الذي أوجب أن يجعل الله الرجس عليهم‪،‬‬
‫لنهم سدوا على أنفسهم باب الرحمة والحسان‪ ،‬وهذا ميزان ل يعول‪،‬‬
‫وطريق ل يتغير‪ ،‬فإن من أعطى واتقى‪ ،‬وصدق بالحسنى‪ ،‬يسره الله‬
‫لليسرى‪ ،‬ومن بخل واستغنى وكذب بالحسنى‪ ] ،‬ص ‪ [ 273‬فسييسره‬
‫للعسرى‪.‬‬

‫) ‪(1/272‬‬

‫داُر‬ ‫ن )‪ (126‬ل َهُ ْ‬


‫م َ‬ ‫قوْم ٍ ي َذ ّك ُّرو َ‬ ‫صل َْنا اْل ََيا ِ‬
‫ت لِ َ‬ ‫ما قَد ْ فَ ّ‬ ‫قي ً‬ ‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬
‫ك ُ‬‫ط َرب ّ َ‬‫صَرا ُ‬ ‫ذا ِ‬ ‫وَهَ َ‬
‫ن )‪(127‬‬ ‫مُلو َ‬
‫كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫ما َ‬ ‫م بِ َ‬‫م وَهُوَ وَل ِي ّهُ ْ‬ ‫سَلم ِ ِ‬
‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬ ‫ال ّ‬
‫قوْم ٍ‬‫ت لِ َ‬‫صل َْنا الَيا ِ‬ ‫ما قَد ْ فَ ّ‬ ‫قي ً‬ ‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬‫ك ُ‬ ‫ط َرب ّ َ‬ ‫صَرا ُ‬ ‫ذا ِ‬‫} ‪ } { 127 ، 126‬وَهَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ملو َ‬ ‫َ‬
‫ما كاُنوا ي َعْ َ‬ ‫م بِ َ‬
‫م وَهُوَ وَل ِي ّهُ ْ‬‫عن ْد َ َرب ّهِ ْ‬‫سلم ِ ِ‬ ‫داُر ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ن * ل َهُ ْ‬ ‫ي َذ ّك ُّرو َ‬
‫أي‪ :‬معتدل موصل إلى الله‪ ،‬وإلى دار كرامته‪ ،‬قد بينت أحكامه‪ ،‬وفصلت‬
‫شرائعه‪ ،‬وميز الخير من الشر‪ .‬ولكن هذا التفصيل والبيان‪ ،‬ليس لكل‬
‫ن { فإنهم الذين علموا‪ ،‬فانتفعوا بعلمهم‪ ،‬وأعد‬ ‫قوْم ٍ ي َذ ّك ُّرو َ‬
‫أحد‪،‬إنما هو } ل ِ َ‬
‫عن ْد َ‬
‫سلم ِ ِ‬ ‫داُر ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫الله لهم الجزاء الجزيل‪ ،‬والجر الجميل‪ ،‬فلهذا قال‪ } :‬لهُ ْ‬
‫م { وسميت الجنة دار السلم‪ ،‬لسلمتها من كل عيب وآفة وكدر‪ ،‬وهم‬ ‫َرب ّهِ ْ‬
‫وغم‪ ،‬وغير ذلك من المنغصات‪ ،‬ويلزم من ذلك‪ ،‬أن يكون نعيمها في غاية‬
‫الكمال‪ ،‬ونهاية التمام‪ ،‬بحيث ل يقدر على وصفه الواصفون‪،‬ول يتمنى‬
‫فوقه المتمنون‪ ،‬من نعيم الروح والقلب والبدن‪ ،‬ولهم فيها‪ ،‬ما تشتهيه‬
‫النفس‪ ،‬وتلذ العين‪ ،‬وهم فيها خالدون‪.‬‬
‫م { الذي يتولى تدبيرهم وتربيتهم‪ ،‬ولطف بهم في جميع‬ ‫} وَهُوَ وَل ِي ّهُ ْ‬
‫أمورهم‪،‬وأعانهم على طاعته‪ ،‬ويسر لهم كل سبب موصل إلى محبته‪،‬‬
‫وإنما تولهم‪،‬بسبب أعمالهم الصالحة‪ ،‬ومقدماتهم التي قصدوا بها رضا‬
‫مولهم‪ ،‬بخلف من أعرض عن موله‪ ،‬واتبع هواه‪ ،‬فإنه سلط عليه‬
‫الشيطان فتوله‪ ،‬فأفسد عليه دينه ودنياه‪.‬‬

‫) ‪(1/273‬‬

‫س وََقا َ‬
‫ل‬ ‫م َ ْ‬ ‫ست َك ْث َْرت ُ ْ‬ ‫ن قَدِ ا ْ‬ ‫شَر ال ْ ِ‬ ‫معْ َ‬ ‫ح ُ‬
‫َ‬ ‫ن ال ِن ْ ِ‬ ‫َ‬
‫م ِ‬ ‫ج ّ‬ ‫ميًعا َيا َ‬ ‫ج ِ‬ ‫م َ‬ ‫شُرهُ ْ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫وَي َوْ َ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫ت لَنا‬ ‫جل َ‬‫ْ‬ ‫ذي أ ّ‬ ‫ّ‬
‫جلَنا ال ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ض وَب َلغَْنا أ َ‬ ‫ْ‬ ‫أوْل َِياؤُهُ ْ‬
‫ضَنا ب ِب َعْ ٍ‬ ‫مت َعَ ب َعْ ُ‬ ‫ست َ ْ‬‫س َرب َّنا ا ْ‬ ‫ن ال ِن ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬
‫م )‪(128‬‬ ‫م عَِلي ٌ‬ ‫كي ٌ‬
‫ح ِ‬ ‫ك َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ِفيَها إ ِّل َ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬‫م َ‬ ‫واك ُ ْ‬ ‫مث ْ َ‬‫ل الّناُر َ‬ ‫َقا َ‬
‫ن‬
‫ج ّ‬ ‫ْ‬
‫شَر ال ِ‬ ‫معْ َ‬ ‫ن )‪َ (129‬يا َ‬ ‫سُبو َ‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ضا ب ِ َ‬ ‫ن ب َعْ ً‬ ‫مي َ‬ ‫ّ‬
‫ض الظال ِ ِ‬ ‫ك ن ُوَلي ْب َعْ َ‬ ‫ّ‬ ‫وَك َذ َل ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مك ُ ْ‬
‫م‬ ‫قاَء ي َوْ ِ‬ ‫م آَياِتي وَي ُن ْذُِرون َك ُ ْ‬
‫م لِ َ‬ ‫ن عَلي ْك ُ ْ‬ ‫صو َ‬ ‫ق ّ‬‫م يَ ُ‬‫من ْك ُ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫س ٌ‬ ‫م ُر ُ‬ ‫م ي َأت ِك ُ ْ‬ ‫س أل ْ‬ ‫ِ‬ ‫َواْل ِن ْ‬
‫م‬ ‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫دوا عََلى أ َن ْ ُ‬ ‫شهِ ُ‬ ‫حَياةُ الد ّن َْيا وَ َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫سَنا وَغَّرت ْهُ ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫شهِد َْنا عََلى أ َن ْ ُ‬ ‫ذا َقاُلوا َ‬ ‫هَ َ‬
‫َ‬
‫قَرى ب ِظ ُل ْم ٍ وَأهْل َُها‬ ‫ك ال ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مهْل ِ َ‬ ‫ك ُ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫كأ ْ‬ ‫ن )‪ (130‬ذ َل ِ َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫كاُنوا َ‬ ‫م َ‬ ‫أن ّهُ ْ‬
‫ن )‪(131‬‬ ‫غافُِلو َ‬ ‫َ‬

‫ن‬
‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ست َك ْث َْرت ُ ْ‬ ‫ن قَدِ ا ْ‬ ‫ج ّ‬ ‫شَر ال ْ ِ‬ ‫معْ َ‬ ‫ميًعا َيا َ‬ ‫ج ِ‬ ‫م َ‬ ‫شُرهُ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫} ‪ } { 135 - 128‬وَي َوْ َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫النس وَقا َ َ‬
‫ذي‬ ‫جلَنا ال ِ‬ ‫ض وَب َلغَْنا أ َ‬ ‫ضَنا ب ِب َعْ ٍ‬ ‫مت َعَ ب َعْ ُ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫س َرب َّنا ا ْ‬ ‫ن الن ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ل أوْل َِياؤُهُ ْ‬ ‫ْ ِ َ‬
‫ّ‬ ‫ت ل ََنا َقا َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫م عَِلي ٌ‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫ك َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫ه إِ ّ‬ ‫شاَء الل ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ِفيَها ِإل َ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫واك ُ ْ‬ ‫مث ْ َ‬‫ل الّناُر َ‬ ‫جل ْ َ‬‫أ ّ‬
‫ن‬‫ج ّ‬ ‫شَر ال ْ ِ‬ ‫مع ْ َ‬ ‫ن * َيا َ‬ ‫سُبو َ‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ضا ب ِ َ‬ ‫ن ب َعْ ً‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ض ال ّ‬ ‫لي ب َعْ َ‬ ‫ك ن ُوَ ّ‬ ‫* وَك َذ َل ِ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫مك ُ ْ‬
‫م‬ ‫قاَء ي َوْ ِ‬ ‫م لِ َ‬ ‫م آَياِتي وَي ُن ْذُِرون َك ُ ْ‬ ‫ن عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫صو َ‬ ‫ق ّ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫س ٌ‬ ‫م ُر ُ‬ ‫م ي َأت ِك ُ ْ‬ ‫س أل َ ْ‬ ‫َوالن ْ ِ‬
‫َ‬
‫دوا عََلى أن ْ ُ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫سهِ ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫شهِ ُ‬ ‫حَياةُ الد ّن َْيا وَ َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫سَنا وَغَّرت ْهُ ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫شهِد َْنا عََلى أن ْ ُ‬ ‫ذا َقاُلوا َ‬ ‫هَ َ‬
‫َ‬
‫قَرى ب ِظ ُل ْم ٍ وَأهْل َُها‬ ‫ك ال ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مهْل ِ َ‬‫ك ُ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫كأ ْ‬ ‫ن * ذ َل ِ َ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫كاُنوا َ‬ ‫م َ‬ ‫أن ّهُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫غافُِلو َ‬ ‫َ‬
‫ميًعا { أي‪ :‬جميع الثقلين‪ ،‬من النس‬ ‫ج ِ‬ ‫م َ‬ ‫شُرهُ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫م يَ ْ‬ ‫يقول تعالى } وَي َوْ َ‬
‫والجن‪ ،‬من ضل منهم‪ ،‬ومن أضل غيره‪ ،‬فيقول موبخا للجن الذين أضلوا‬
‫ن قَدِ‬ ‫ج ّ‬ ‫شَر ال ْ ِ‬ ‫مع ْ َ‬ ‫النس‪ ،‬وزينوا لهم الشر‪ ،‬وأّزوهم إلى المعاصي‪َ } :‬يا َ‬
‫س { أي‪ :‬من إضللهم‪ ،‬وصدهم عن سبيل الله‪ ،‬فكيف‬ ‫ن الن ْ ِ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ست َك ْث َْرت ُ ْ‬‫ا ْ‬
‫أقدمتم على محارمي‪ ،‬وتجرأتم على معاندة رسلي؟ وقمتم محاربين لله‪،‬‬
‫ساعين في صد عباد الله عن سبيله إلى سبيل الجحيم؟‬
‫فاليوم حقت عليكم لعنتي‪ ،‬ووجبت لكم نقمتي وسنزيدكم من العذاب‬
‫بحسب كفركم‪ ،‬وإضللكم لغيركم‪ .‬وليس لكم عذر به تعتذرون‪ ،‬ول ملجأ‬
‫إليه تلجأون‪ ،‬ول شافع يشفع ول دعاء يسمع‪ ،‬فل تسأل حينئذ عما يحل بهم‬
‫من النكال‪ ،‬والخزي والوبال‪ ،‬ولهذا لم يذكر الله لهم اعتذارا‪ ،‬وأما أولياؤهم‬
‫ض{‬ ‫ضَنا ب ِب َعْ ٍ‬
‫مت َعَ ب َعْ ُ‬ ‫ست َ ْ‬‫من النس‪ ،‬فأبدوا عذرا غير مقبول فقالوا‪َ } :‬رب َّنا ا ْ‬
‫جّني والنسي بصاحبه‪ ،‬وانتفع به‪.‬‬ ‫أي‪ :‬تمتع كل من ال ِ‬
‫فالجّني يستمتع بطاعة النسي له وعبادته‪ ،‬وتعظيمه‪ ،‬واستعاذته به‪.‬‬
‫جّني له بعض‬ ‫والنسي يستمتع بنيل أغراضه‪ ،‬وبلوغه بسبب خدمة ال ِ‬
‫جّني‪ ،‬ويحصل له منه بعض‬ ‫جّني‪ ،‬فيخدمه ال ِ‬ ‫شهواته‪ ،‬فإن النسي يعبد ال ِ‬
‫الحوائج الدنيوية‪،‬أي‪ :‬حصل منا من الذنوب ما حصل‪ ،‬ول يمكن رد ذلك‪،‬‬
‫ت ل ََنا { أي‪ :‬وقد وصلنا المحل الذي نجازي فيه‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫جل ْ َ‬ ‫ذي أ ّ‬ ‫جل ََنا ال ّ ِ‬ ‫} وَب َل َغَْنا أ َ‬
‫بالعمال‪ ،‬فافعل بنا الن ما تشاء‪ ،‬واحكم فينا بما تريد‪ ،‬فقد انقطعت‬
‫حجتنا ولم يبق لنا عذر‪ ،‬والمر أمرك‪ ،‬والحكم حكمك‪ .‬وكأن في هذا الكلم‬
‫منهم نوع تضرع وترقق‪ ،‬ولكن في غير أوانه‪ .‬ولهذا حكم فيهم بحكمه‬
‫ن ِفيَها { ‪.‬‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫واك ُ ْ‬ ‫مث ْ َ‬
‫العادل‪ ،‬الذي ل جور فيه‪ ،‬فقال‪ } :‬الّناُر َ‬
‫ن‬‫ولما كان هذا الحكم من مقتضى حكمته وعلمه‪ ،‬ختم الية بقوله‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫مها‪ ،‬فحكمته الغائية‬ ‫م { فكما أن علمه وسع الشياء كلها وع ّ‬ ‫م عَِلي ٌ‬ ‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫ك َ‬ ‫َرب ّ َ‬
‫شملت الشياء وعمتها ووسعتها‪.‬‬
‫ّ‬
‫ن { أي‪ :‬وكما ولي َْنا‬ ‫سُبو َ‬ ‫كاُنوا ي َك ْ ِ‬ ‫ما َ‬ ‫ضا ب ِ َ‬
‫ن ب َعْ ً‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ض ال ّ‬ ‫ك ن ُوَّلي ب َعْ َ‬ ‫} وَك َذ َل ِ َ‬
‫الجن المردة وسلطناهم على إضلل أوليائهم من النس وعقدنا بينهم عقد‬
‫الموالة والموافقة‪ ،‬بسبب كسبهم وسعيهم بذلك‪.‬‬
‫كذلك من سنتنا أن نولي كل ظالم ظالما مثله‪ ،‬يؤزه إلى الشر ويحثه‬
‫عليه‪ ،‬ويزهده في الخير وينفره عنه‪ ،‬وذلك من عقوبات الله العظيمة‬
‫الشنيع أثرها‪ ،‬البليغ خطرها‪.‬‬
‫والذنب ذنب الظالم‪ ،‬فهو الذي أدخل الضرر على نفسه‪ ،‬وعلى نفسه جنى‬
‫ظلم ٍ ل ِل ْعَِبيدِ { ومن ذلك‪ ،‬أن العباد إذا كثر ظلمهم‬ ‫ك بِ َ‬ ‫ما َرب ّ َ‬ ‫} وَ َ‬
‫وفسادهم‪،‬ومْنعهم الحقوق الواجبة‪ ،‬ولى عليهم ظلمة‪ ،‬يسومونهم سوء‬ ‫ّ‬
‫] ص ‪ [ 274‬العذاب‪ ،‬ويأخذون منهم بالظلم والجور أضعاف ما منعوا من‬
‫حقوق الله‪ ،‬وحقوق عباده‪ ،‬على وجه غير مأجورين فيه ول محتسبين‪.‬‬
‫كما أن العباد إذا صلحوا واستقاموا‪ ،‬أصلح الله رعاتهم‪ ،‬وجعلهم أئمة عدل‬
‫وإنصاف‪ ،‬ل ولة ظلم واعتساف‪ .‬ثم وبخ الله جميع من أعرض عن الحق‬
‫ورده‪ ،‬من الجن والنس‪ ،‬وبين خطأهم‪ ،‬فاعترفوا بذلك‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫م آَياِتي {‬ ‫ن عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫صو َ‬ ‫ق ّ‬ ‫م يَ ُ‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫ل ِ‬ ‫س ٌ‬ ‫م ُر ُ‬ ‫م ي َأت ِك ُ ْ‬‫س أل َ ْ‬ ‫ن َوالن ْ ِ‬ ‫ج ّ‬ ‫شَر ال ْ ِ‬ ‫مع ْ َ‬ ‫} َيا َ‬
‫الواضحات البينات‪ ،‬التي فيها تفاصيل المر والنهي‪ ،‬والخير والشر‪ ،‬والوعد‬
‫والوعيد‪.‬‬
‫ذا { ويعلمونكم أن النجاة فيه‪ ،‬والفوز إنما هو‬ ‫م هَ َ‬ ‫مك ُ ْ‬‫قاَء ي َوْ ِ‬ ‫م لِ َ‬ ‫} وَي ُن ْذُِرون َك ُ ْ‬
‫بامتثال أوامر الله واجتناب نواهيه‪ ،‬وأن الشقاء والخسران في تضييع ذلك‪،‬‬
‫سَنا وَغَّرت ْهُ ُ‬
‫م‬ ‫ف ِ‬ ‫شهِد َْنا عََلى أ َن ْ ُ‬ ‫فأقروا بذلك واعترفوا‪ ،‬فـ } قالوا { بلى } َ‬
‫حَياةُ الد ّن َْيا { بزينتها وزخرفها‪ ،‬ونعيمها فاطمأنوا بها ورضوا‪ ،‬وألهتهم عن‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن { فقامت عليهم حجة‬ ‫كاُنوا َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫دوا عََلى أن ْ ُ‬ ‫الخرة‪ } ،‬وَ َ‬
‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫م أن ّهُ ْ‬ ‫سه ِ ْ‬‫ف ِ‬ ‫شه ِ ُ‬
‫الله‪ ،‬وعلم حينئذ كل أحد‪ ،‬حتى هم بأنفسهم عدل الله فيهم‪ ،‬فقال لهم‪:‬‬
‫ُ‬
‫ن‬ ‫م ْ‬ ‫ت ِ‬‫خل َ ْ‬
‫مم ٍ قَد ْ َ‬ ‫خُلوا ِفي { جملة } أ َ‬ ‫حاكما عليهم بالعذاب الليم‪ } :‬اد ْ ُ‬
‫س { صنعوا كصنيعكم‪ ،‬واستمتعوا بخلقهم كما‬ ‫ن َوالن ْ ِ‬ ‫ن ال ْ ِ‬
‫ج ّ‬ ‫م َ‬ ‫قَب ْل ِك ُ ْ‬
‫م ِ‬
‫استمعتم‪ ،‬وخاضوا بالباطل كما خضتم‪،‬إنهم كانوا خاسرين‪ ،‬أي‪ :‬الولون من‬
‫هؤلء والخرون‪ ،‬وأي خسران أعظم من خسران جنات النعيم‪ ،‬وحرمان‬
‫جوار أكرم الكرمين؟! ولكنهم وإن اشتركوا في الخسران‪ ،‬فإنهم يتفاوتون‬
‫في مقداره تفاوتا عظيما‪.‬‬

‫) ‪(1/273‬‬

‫ك َ ال ْغَن ِ ّ‬
‫ي‬ ‫ن )‪ (132‬وََرب ّ َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ي َعْ َ‬
‫ل عَ ّ‬ ‫ك ب َِغافِ ٍ‬‫ما َرب ّ َ‬ ‫مُلوا وَ َ‬ ‫ما عَ ِ‬
‫ْ‬
‫م ّ‬‫ت ِ‬ ‫جا ٌ‬ ‫ل د ََر َ‬ ‫وَل ِك ُ ّ‬
‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫شأك ُ ْ‬ ‫ما أن ْ َ‬ ‫شاُء ك َ َ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ب َعْدِك ُ ْ‬‫م ْ‬‫ف ِ‬ ‫خل ِ ْ‬‫ست َ ْ‬
‫م وَي َ ْ‬ ‫شأ ي ُذ ْهِب ْك ُ ْ‬‫ن يَ َ‬ ‫مة ِ إ ِ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫ذو الّر ْ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل‬‫ن )‪ (134‬قُ ْ‬ ‫زي َ‬‫ج ِ‬‫معْ ِ‬
‫م بِ ُ‬ ‫ما أن ْت ُ ْ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫ن َل ٍ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ُتوعَ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ن )‪ (133‬إ ِ ّ‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ذ ُّري ّةِ قَوْم ٍ آ َ‬
‫ة‬
‫عاقِب َ ُ‬‫ه َ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫كو ُ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫م ْ‬‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ف ت َعْل َ ُ‬ ‫سوْ َ‬ ‫ل فَ َ‬ ‫م ٌ‬‫عا ِ‬‫م إ ِّني َ‬ ‫كان َت ِك ُ ْ‬‫م َ‬ ‫مُلوا عََلى َ‬ ‫َيا قَوْم ِ اعْ َ‬
‫ن )‪(135‬‬ ‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬‫ح ال ّ‬ ‫فل ِ ُ‬‫ه َل ي ُ ْ‬ ‫دارِ إ ِن ّ ُ‬
‫ال ّ‬

‫ذو‬‫ي ُ‬ ‫ك َ ال ْغَن ِ ّ‬ ‫ن * وََرب ّ َ‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ي َعْ َ‬ ‫ل عَ ّ‬ ‫ك ب َِغافِ ٍ‬ ‫ما َرب ّ َ‬ ‫مُلوا وَ َ‬ ‫ما عَ ِ‬ ‫م ّ‬ ‫ت ِ‬
‫ْ‬
‫جا ٌ‬ ‫ل د ََر َ‬ ‫} وَل ِك ُ ّ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫شأك ُ ْ‬ ‫ما أ َن ْ َ‬ ‫شاُء ك َ َ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ب َعْدِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫خل ِ ْ‬ ‫ست َ ْ‬ ‫م وَي َ ْ‬ ‫شأ ي ُذ ْهِب ْك ُ ْ‬ ‫ن يَ َ‬ ‫مة ِ إ ِ ْ‬ ‫ح َ‬‫الّر ْ‬
‫َ‬
‫ل َيا قَوْم ِ‬ ‫ن * قُ ْ‬ ‫زي َ‬ ‫ج ِ‬‫معْ ِ‬ ‫م بِ ُ‬ ‫ما أن ْت ُ ْ‬ ‫ت وَ َ‬ ‫نل ٍ‬ ‫دو َ‬ ‫ما ُتوعَ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ن * إِ ّ‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ذ ُّري ّةِ قَوْم ٍ آ َ‬
‫داِر‬ ‫ة ال ّ‬ ‫عاقِب َ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫نل ُ‬‫َ‬ ‫كو ُ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫ف ت َعْل ُ‬ ‫سوْ َ‬ ‫ل فَ َ‬ ‫م ٌ‬ ‫عا ِ‬‫م إ ِّني َ‬ ‫كان َت ِك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫مُلوا عََلى َ‬ ‫اع ْ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬ ‫ح ال ّ‬ ‫فل ِ ُ‬
‫ه ل يُ ْ‬ ‫إ ِن ّ ُ‬
‫مُلوا { بحسب أعمالهم‪ ،‬ل يجعل قليل‬ ‫ما عَ ِ‬ ‫م ّ‬‫ت ِ‬ ‫جا ٌ‬ ‫ل { منهم } د ََر َ‬ ‫} وَل ِك ُ ّ‬
‫الشر منهم ككثيره‪ ،‬ول التابع كالمتبوع‪ ،‬ول المرءوس كالرئيس‪ ،‬كما أن‬
‫أهل الثواب والجنة وإن اشتركوا في الربح والفلح ودخول الجنة‪ ،‬فإن‬
‫بينهم من الفرق ما ل يعلمه إل الله‪ ،‬مع أنهم كلهم‪ ،‬قد رضوا بما آتاهم‬
‫مولهم‪ ،‬وقنعوا بما حباهم‪.‬‬
‫فنسأله تعالى أن يجعلنا من أهل الفردوس العلى‪ ،‬التي أعدها الله‬
‫للمقربين من عباده‪ ،‬والمصطفين من خلقه‪ ،‬وأهل الصفوة من أهل وداده‪.‬‬
‫ن { فيجازي كل بحسب علمه‪ ،‬وبما يعلمه من‬ ‫مُلو َ‬ ‫ما ي َعْ َ‬ ‫ل عَ ّ‬ ‫ك ب َِغافِ ٍ‬ ‫ما َرب ّ َ‬ ‫} وَ َ‬
‫مقصده‪ ،‬وإنما أمر الله العباد بالعمال الصالحة‪ ،‬ونهاهم عن العمال‬
‫السيئة‪ ،‬رحمة بهم‪ ،‬وقصدا لمصالحهم‪ .‬وإل فهو الغني بذاته‪ ،‬عن جميع‬
‫مخلوقاته‪ ،‬فل تنفعه طاعة الطائعين‪ ،‬كما ل تضره معصية العاصين‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫} إن ي َ ْ‬
‫شأك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ما أن ْ َ‬ ‫شاُء ك َ َ‬ ‫ما ي َ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ب َعْدِك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫خل ِ ْ‬‫ست َ ْ‬‫م { بالهلك } وَي َ ْ‬ ‫شأ ي ُذ ْهِب ْك ُ ْ‬ ‫ِ ْ َ‬
‫ن { فإذا عرفتم بأنكم ل بد أن تنتقلوا من هذه الدار‪،‬‬ ‫ِ َ‬‫ري‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫آ‬ ‫م‬ ‫و‬‫َ‬
‫ن ذ ُّر ّ ِ ْ ٍ‬
‫ق‬ ‫ة‬ ‫ي‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫كما انتقل غيركم‪ ،‬وترحلون منها وتخلونها لمن بعدكم‪ ،‬كما رحل عنها من‬
‫قبلكم وخلوها لكم‪ ،‬فلم اتخذتموها قرارا؟ وتوطنتم بها ونسيتم‪ ،‬أنها دار‬
‫ممر ل دار مقر‪ .‬وأن أمامكم داًرا‪ ،‬هي الدار التي جمعت كل نعيم وسلمت‬
‫من كل آفة ونقص؟‬
‫وهي الدار التي يسعى إليها الولون والخرون‪ ،‬ويرتحل نحوها السابقون‬
‫م الخلود الدائم‪ ،‬والقامة اللزمة‪ ،‬والغاية‬ ‫واللحقون‪ ،‬التي إذا وصلوها‪ ،‬فث َ ّ‬
‫التي ل غاية وراءها‪ ،‬والمطلوب الذي ينتهي إليه كل مطلوب‪ ،‬والمرغوب‬
‫الذي يضمحل دونه كل مرغوب‪ ،‬هنالك والله‪ ،‬ما تشتهيه النفس‪ ،‬وتلذ‬
‫العين‪ ،‬ويتنافس فيه المتنافسون‪ ،‬من لذة الرواح‪ ،‬وكثرة الفراح‪ ،‬ونعيم‬
‫البدان والقلوب‪ ،‬والقرب من علم الغيوب‪ ،‬فلله همة تعلقت بتلك‬
‫الكرامات‪ ،‬وإرادة سمت إلى أعلى الدرجات" وما أبخس حظ من رضي‬
‫بالدون‪ ،‬وأدنى همة من اختار صفقة المغبون" ول يستبعد المعرض الغافل‪،‬‬
‫م‬ ‫َ‬
‫ما أن ْت ُ ْ‬
‫ت وَ َ‬
‫نل ٍ‬
‫دو َ‬
‫ما ُتوعَ ُ‬
‫ن َ‬
‫سرعة الوصول إلى هذه الدار‪.‬فـ } إ ِ ّ‬
‫ن { لله‪ ،‬فارين من عقابه‪ ،‬فإن نواصيكم تحت قبضته‪ ،‬وأنتم تحت‬ ‫زي َ‬
‫ج ِ‬
‫مع ْ ِ‬
‫بِ ُ‬
‫تدبيره وتصرفه‪.‬‬

‫) ‪(1/274‬‬

‫َ‬
‫م وَهَ َ‬
‫ذا‬ ‫مه ِ ْ‬‫ذا ل ِل ّهِ ب َِزعْ ِ‬‫قاُلوا هَ َ‬ ‫صيًبا فَ َ‬ ‫ث َواْل َن َْعام ِ ن َ ِ‬ ‫حْر ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫م َ‬ ‫ما ذ ََرأ ِ‬ ‫م ّ‬‫جعَُلوا ل ِل ّهِ ِ‬ ‫وَ َ‬
‫َ‬
‫ل إ ِلى‬ ‫ص ُ‬‫ن ل ِلهِ فَهُوَ ي َ ِ‬‫ّ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫ّ‬
‫ل إ ِلى اللهِ وَ َ‬ ‫َ‬ ‫ص ُ‬ ‫م فَل ي َ ِ‬‫َ‬ ‫شَر َ‬
‫كائ ِهِ ْ‬ ‫ن لِ ُ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫شَر َ‬
‫كائ َِنا فَ َ‬ ‫لِ ُ‬
‫ن قَت ْ َ‬
‫ل‬ ‫كي َ‬‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬‫ن ال ْ ُ‬‫م َ‬ ‫ن ل ِك َِثيرٍ ِ‬‫ك َزي ّ َ‬‫ن )‪ (136‬وَك َذ َل ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫حك ُ ُ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫ساَء َ‬ ‫م َ‬ ‫كائ ِهِ ْ‬‫شَر َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫ما فَعَُلوهُ‬ ‫ه َ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫م وَل َوْ َ‬ ‫م ِدين َهُ ْ‬ ‫سوا عَل َي ْهِ ْ‬ ‫م وَل ِي َل ْب ِ ُ‬‫دوهُ ْ‬ ‫م ل ِي ُْر ُ‬ ‫كاؤُهُ ْ‬‫شَر َ‬ ‫م ُ‬ ‫أوَْلدِهِ ْ‬
‫ن )‪(137‬‬ ‫فت َُرو َ‬‫ما ي َ ْ‬‫م وَ َ‬ ‫فَذ َْرهُ ْ‬
‫ل { يا أيها الرسول لقومك إذا دعوتهم إلى الله‪ ،‬وبينت لهم ما لهم وما‬ ‫} قُ ْ‬
‫عليهم من حقوقه‪ ،‬فامتنعوا من النقياد لمره‪ ،‬واتبعوا أهواءهم‪ ،‬واستمروا‬
‫م { أي‪ :‬على حالتكم التي أنتم‬ ‫كان َت ِك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫مُلوا عََلى َ‬ ‫على شركهم‪َ } :‬يا قَوْم ِ اعْ َ‬
‫ل { على أمر الله‪ ،‬ومتبع لمراضي‬ ‫م ٌ‬ ‫عا ِ‬ ‫عليها‪ ،‬ورضيتموها لنفسكم‪ } .‬إ ِّني َ‬
‫دارِ { أنا أو أنتم‪ ،‬وهذا من‬ ‫ة ال ّ‬ ‫عاقِب َ ُ‬ ‫ه َ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫كو ُ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن َ‬ ‫مو َ‬ ‫ف ت َعْل َ ُ‬ ‫سوْ َ‬ ‫الله‪ } .‬فَ َ‬
‫النصاف بموضع عظيم‪ ،‬حيث بّين العمال وعامليها‪ ،‬وجعل الجزاء مقرونا‬
‫بنظر البصير‪ ،‬ضاربا فيه صفحا عن التصريح الذي يغني عنه التلويح‪ .‬وقد‬
‫علم أن العاقبة الحسنة في الدنيا والخرة للمتقين‪ ،‬وأن المؤمنين لهم‬
‫عقبى الدار‪ ،‬وأن كل معرض عما جاءت به الرسل‪ ،‬عاقبته سوء وشر‪،‬‬
‫ن { فكل ظالم‪ ،‬وإن تمتع في الدنيا بما‬ ‫مو َ‬ ‫ظال ِ ُ‬‫ح ال ّ‬ ‫فل ِ ُ‬‫ه ل يُ ْ‬ ‫ولهذا قال‪ } :‬إ ِن ّ ُ‬
‫تمتع به‪،‬فنهايته ]فيه[ الضمحلل والتلف "إن الله ليملي للظالم‪ ،‬حتى إذا‬
‫أخذه لم يفلته" ] ص ‪[ 275‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫قالوا‬ ‫صيًبا فَ َ‬ ‫ث َوالن َْعام ِ ن َ ِ‬ ‫حْر ِ‬ ‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ما ذ ََرأ ِ‬ ‫م ّ‬ ‫جعَُلوا ل ِلهِ ِ‬
‫ّ‬ ‫} ‪ } { 140 - 136‬وَ َ‬
‫ما‬ ‫ّ‬
‫ل إ ِلى اللهِ وَ َ‬ ‫َ‬ ‫ص ُ‬ ‫م َفل ي َ ِ‬ ‫َ‬
‫شَركائ ِهِ ْ‬ ‫ن لِ ُ‬ ‫ما كا َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫شَركائ َِنا فَ َ‬ ‫ذا ل ِ ُ‬ ‫م وَهَ َ‬ ‫مه ِ ْ‬‫ذا ل ِل ّهِ ب َِزعْ ِ‬ ‫هَ َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ن ل ِكِثيرٍ ِ‬‫َ‬ ‫ك َزي ّ َ‬ ‫َ‬
‫ن * وَكذ َل ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ُ‬
‫حك ُ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫ساَء َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫شَركائ ِهِ ْ‬ ‫ل إ ِلى ُ‬ ‫َ‬ ‫ص ُ‬ ‫ّ‬
‫ن ل ِلهِ فَهُوَ ي َ ِ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫م وَل َوْ َ‬ ‫شركين قَت َ َ‬
‫شاَء‬ ‫م ِدين َهُ ْ‬ ‫سوا عَل َي ْهِ ْ‬ ‫م وَل ِي َل ْب ِ ُ‬ ‫دوهُ ْ‬ ‫م ل ِي ُْر ُ‬ ‫كاؤُهُ ْ‬ ‫شَر َ‬ ‫م ُ‬ ‫ل أْولدِهِ ْ‬ ‫م ْ ِ ِ َ ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫فت َُرو َ‬ ‫ما ي َ ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ما فَعَُلوهُ فَذ َْرهُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ما عليه المشركون المكذبون للنبي صلى الله عليه وسلم‪،‬‬ ‫يخبر تعالى‪ ،‬ع ّ‬
‫دد تبارك وتعالى شيئا‬ ‫من سفاهة العقل‪ ،‬وخفة الحلم‪ ،‬والجهل البليغ‪ ،‬وع ّ‬
‫من خرافاتهم‪ ،‬لينبه بذلك على ضللهم والحذر منهم‪ ،‬وأن معارضة أمثال‬
‫هؤلءالسفهاء للحق الذي جاء به الرسول‪ ،‬ل تقدح فيه أصل فإنهم ل أهلية‬
‫َ‬
‫ث‬‫حْر ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ما ذ ََرأ ِ‬ ‫م ّ‬‫لهم في مقابلة الحق‪ ،‬فذكر من ذلك أنهم } جعلوا ل ِل ّهِ ِ‬
‫صيًبا { ولشركائهم من ذلك نصيبا‪ ،‬والحال أن الله تعالى هو الذي‬ ‫َوالن َْعام ِ ن َ ِ‬
‫ذرأه للعباد‪ ،‬وأوجده رزقا‪ ،‬فجمعوا بين محذورين محظورين‪ ،‬بل ثلثة‬
‫محاذير‪ ،‬مّنتهم على الله‪ ،‬في جعلهم له نصيبا‪ ،‬مع اعتقادهم أن ذلك منهم‬
‫تبرع‪ ،‬وإشراك الشركاء الذين لم يرزقوهم‪ ،‬ولم يوجدوا لهم شيئا في ذلك‪،‬‬
‫وحكمهم الجائر في أن ما كان لله لم يبالوا به‪ ،‬ولم يهتموا‪ ،‬ولو كان واصل‬
‫إلى الشركاء‪ ،‬وما كان لشركائهم اعتنوا به واحتفظوا به ولم يصل إلى الله‬
‫منه شيء‪ ،‬وذلك أنهم إذا حصل لهم ‪-‬من زروعهم وثمارهم وأنعامهم‪ ،‬التي‬
‫أوجدها الله لهم‪ -‬شيء‪ ،‬جعلوه قسمين‪:‬‬
‫ما قالوا‪ :‬هذا لله بقولهم وزعمهم‪ ،‬وإل فالله ل يقبل إل ما كان خالصا‬ ‫قس ً‬
‫من أشرك به‪.‬‬ ‫لوجهه‪ ،‬ول يقبل عمل َ‬
‫ما جعلوه حصة شركائهم من الوثان والنداد‪.‬‬ ‫وقس ً‬
‫فإن وصل شيء مما جعلوه لله‪ ،‬واختلط بما جعلوه لغيره‪ ،‬لم يبالوا بذلك‪،‬‬
‫وقالوا‪ :‬الله غني عنه‪ ،‬فل يردونه‪ ،‬وإن وصل شيء مما جعلوه للهتهم إلى‬
‫ما جعلوه لله‪ ،‬ردوه إلى محله‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنها فقيرة‪ ،‬ل بد من رد نصيبها‪.‬‬
‫فهل أسوأ من هذا الحكم‪ .‬وأظلم؟" حيث جعلوا ما للمخلوق‪ ،‬يجتهد فيه‬
‫وينصح ويحفظ‪ ،‬أكثر مما يفعل بحق الله‪.‬‬
‫ويحتمل أن تأويل الية الكريمة‪ ،‬ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله‬
‫عليه وسلم أنه قال عن الله تعالى أنه قال‪" :‬أنا أغنى الشركاء عن‬
‫الشرك‪ ،‬من أشرك معي شيئا تركته وشركه"‪.‬‬
‫وأن معنى الية أن ما جعلوه وتقربوا به لوثانهم‪ ،‬فهو تقرب خالص لغير‬
‫الله‪ ،‬ليس لله منه شيء‪ ،‬وما جعلوه لله ‪-‬على زعمهم‪ -‬فإنه ل يصل إليه‬
‫كا‪ ،‬بل يكون حظ الشركاء والنداد‪ ،‬لن الله غني عنه‪ ،‬ل يقبل‬ ‫لكونه شر ً‬
‫رك به معه أحد من الخلق‪.‬‬ ‫ُ‬
‫العمل الذي أش ِ‬
‫ومن سفه المشركين وضللهم‪ ،‬أنه زّين لكثير من المشركين شركاؤهم‬
‫‪-‬أي‪ :‬رؤساؤهم وشياطينهم‪ -‬قتل أولدهم‪ ،‬وهو‪ :‬الوأد‪ ،‬الذين يدفنون‬
‫أولدهم الذكور خشية الفتقار‪ ،‬والناث خشية العار‪.‬‬
‫دوهم بالهلك‪ ،‬ويلبسوا‬ ‫وكل هذا من خدع الشياطين‪ ،‬الذين يريدون أن ي ُْر ُ‬
‫عليهم دينهم‪ ،‬فيفعلون الفعال التي في غاية القبح‪ ،‬ول يزال شركاؤهم‬
‫يزينونها لهم‪ ،‬حتى تكون عندهم من المور الحسنة والخصال المستحسنة‪،‬‬
‫ولو شاء الله أن يمنعهم ويحول بينهم وبين هذه الفعال‪ ،‬ويمنع أولدهم‬
‫عن قتل البوين لهم‪ ،‬ما فعلوه‪ ،‬ولكن اقتضت حكمته التخلية بينهم وبين‬
‫أفعالهم‪،‬استدراجا منه لهم‪ ،‬وإمهال لهم‪ ،‬وعدم مبالة بما هم عليه‪ ،‬ولهذا‬
‫ن { أي‪ :‬دعهم مع كذبهم وافترائهم‪ ،‬ول تحزن‬ ‫فت َُرو َ‬
‫ما ي َ ْ‬ ‫قال‪ } :‬فَذ َْرهُ ْ‬
‫م وَ َ‬
‫عليهم‪ ،‬فإنهم لنيضروا الله شيئا‪.‬‬

‫) ‪(1/274‬‬

‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫م وَأن َْعا ٌ‬ ‫مهِ ْ‬‫شاُء ب َِزعْ ِ‬ ‫ن نَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫مَها إ ِّل َ‬ ‫جٌر َل ي َط ْعَ ُ‬ ‫ح ْ‬‫ث ِ‬ ‫حْر ٌ‬ ‫م وَ َ‬ ‫وََقاُلوا هَذِهِ أن َْعا ٌ‬
‫حرمت ظ ُهور َ َ‬
‫ما‬
‫م بِ َ‬ ‫زيهِ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫سي َ ْ‬ ‫م الل ّهِ عَل َي َْها افْت َِراًء عَل َي ْهِ َ‬ ‫س َ‬ ‫نا ْ‬ ‫م َل ي َذ ْك ُُرو َ‬ ‫ها وَأن َْعا ٌ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ ّ َ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ة ل ِذ ُكورَِنا‬ ‫ص ٌ‬
‫خال ِ َ‬‫ن هَذِهِ الن َْعام ِ َ‬ ‫ما ِفي ب ُطو ِ‬ ‫ن )‪ (138‬وََقالوا َ‬ ‫فت َُرو َ‬
‫كاُنوا ي َ ْ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫م إ ِن ّ ُ‬‫فهُ ْ‬ ‫ص َ‬‫م وَ ْ‬ ‫زيهِ ْ‬ ‫ج ِ‬‫سي َ ْ‬‫كاُء َ‬ ‫شَر َ‬ ‫م ِفيهِ ُ‬ ‫ة فَهُ ْ‬ ‫مي ْت َ ً‬
‫ن َ‬ ‫ن ي َك ُ ْ‬ ‫جَنا وَإ ِ ْ‬ ‫م عََلى أْزَوا ِ‬ ‫حّر ٌ‬ ‫م َ‬‫وَ ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫موا‬ ‫حّر ُ‬ ‫علم ٍ وَ َ‬ ‫فًها ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫س َ‬‫م َ‬ ‫ن قَت َلوا أوْلد َهُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫سَر ال ِ‬ ‫خ ِ‬ ‫م )‪ (139‬قَد ْ َ‬ ‫م عَِلي ٌ‬ ‫كي ٌ‬‫ح ِ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(140‬‬ ‫دي َ‬ ‫مهْت َ ِ‬‫كاُنوا ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ضلوا وَ َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ه افْت َِراًء عَلى اللهِ قَد ْ َ‬ ‫ّ‬
‫م الل ُ‬ ‫ما َرَزقَهُ ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫م وَأن َْعا ٌ‬ ‫مه ِ ْ‬‫شاُء ب َِزعْ ِ‬ ‫ن نَ َ‬‫م ْ‬‫مَها ِإل َ‬ ‫جٌر ل ي َط ْعَ ُ‬ ‫ح ْ‬‫ث ِ‬ ‫حْر ٌ‬ ‫م وَ َ‬ ‫} وََقاُلوا هَذِهِ أن َْعا ٌ‬
‫حرمت ظ ُهور َ َ‬
‫ما‬
‫م بِ َ‬‫زيهِ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫سي َ ْ‬ ‫م الل ّهِ عَل َي َْها افْت َِراًء عَل َي ْهِ َ‬‫س َ‬ ‫نا ْ‬ ‫م ل ي َذ ْك ُُرو َ‬ ‫ها وَأن َْعا ٌ‬ ‫ُ ُ‬ ‫ُ ّ َ ْ‬
‫م‬
‫حّر ٌ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫ة ل ِذ ُكورَِنا وَ ُ‬ ‫ص ٌ‬
‫خال ِ َ‬‫ن هَذِهِ الن َْعام ِ َ‬ ‫ُ‬
‫ما ِفي ب ُطو ِ‬ ‫ُ‬
‫ن * وََقالوا َ‬ ‫فت َُرو َ‬ ‫َ‬
‫كاُنوا ي َ ْ‬
‫َ‬
‫م‬
‫كي ٌ‬ ‫ح ِ‬ ‫ه َ‬ ‫م إ ِن ّ ُ‬‫فه ُ ْ‬ ‫ص َ‬
‫م وَ ْ‬ ‫زيهِ ْ‬
‫ج ِ‬‫سي َ ْ‬
‫كاُء َ‬ ‫شَر َ‬ ‫م ِفيهِ ُ‬ ‫ة فَهُ ْ‬‫مي ْت َ ً‬
‫ن َ‬ ‫ن ي َك ُ ْ‬
‫جَنا وَإ ِ ْ‬‫عََلى أْزَوا ِ‬
‫َ‬
‫ما َرَزقَهُ ُ‬
‫م‬ ‫موا َ‬ ‫حّر ُ‬ ‫عل ْم ٍ وَ َ‬
‫فًها ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫س َ‬
‫م َ‬‫ن قَت َُلوا أْولد َهُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫سَر ال ّ ِ‬ ‫خ ِ‬ ‫م * قَد ْ َ‬ ‫عَِلي ٌ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دي َ‬ ‫مهْت َ ِ‬ ‫َ‬
‫ما كاُنوا ُ‬ ‫ضلوا وَ َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ه افْت َِراًء عَلى اللهِ قَد ْ َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ومن أنواع سفاهتهم أن النعام التي أحلها الله لهم عموما‪ ،‬وجعلها رزقا‬
‫عا وأقوال من تلقاء‬ ‫ورحمة‪ ،‬يتمتعون بها وينتفعون‪ ،‬قد اخترعوا فيها ِبد ً‬
‫أنفسهم‪ ،‬فعندهم اصطلح في بعض النعام ]والحرث[ أنهم يقولون فيها‪} :‬‬
‫َ‬
‫شاُء { أي‪ :‬ل‬ ‫ن نَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫مَها ِإل َ‬ ‫جٌر { أي‪ :‬محرم } ل ي َط ْعَ ُ‬ ‫ح ْ‬ ‫ث ِ‬ ‫حْر ٌ‬ ‫م وَ َ‬ ‫هَذِهِ أن َْعا ٌ‬
‫يجوز أن يطعمه أحد‪ ،‬إل من أردنا أن يطعمه‪ ،‬أو وصفناه بوصف ‪-‬من‬
‫عندهم‪.-‬‬
‫وكل هذا بزعمهم ل مستند لهم ول حجة إل أهويتهم‪ ،‬وآراؤهم الفاسدة‪.‬‬
‫وأنعام ليست محرمة من كل وجه‪ ،‬بل يحرمون ظهورها‪ ،‬أي‪ :‬بالركوب‬
‫والحمل عليها‪ ،‬ويحمون ظهرها‪ ،‬ويسمونها الحام‪ ،‬وأنعام ل يذكرون اسم‬
‫الله عليها‪ ،‬بل يذكرون اسم أصنامهم وما كانوا يعبدون من دون الله عليها‪،‬‬
‫جار في ذلك‪.‬‬ ‫وينسبون تلك الفعال إلى الله‪ ،‬وهم كذبة فُ ّ‬
‫ن { على الله‪ ،‬من إحلل الشرك‪ ،‬وتحريم‬ ‫فت َُرو َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫زيهِ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫سي َ ْ‬ ‫} َ‬
‫الحلل من الكل‪ ،‬والمنافع‪ ] .‬ص ‪[ 276‬‬
‫ومن آرائهم السخيفة أنهم يجعلون بعض النعام‪ ،‬ويعينونها ‪-‬محرما ما في‬
‫ما ِفي ب ُ ُ‬
‫ن هَذِهِ الن َْعام ِ‬ ‫طو ِ‬ ‫بطنها على الناث دون الذكور‪ ،‬فيقولون‪َ } :‬‬
‫َ‬
‫م عَلى‬ ‫حّر ٌ‬ ‫م َ‬
‫كورَِنا { أي‪ :‬حلل لهم‪ ،‬ل يشاركهم فيها النساء‪ } ،‬وَ ُ‬ ‫ة ل ِذ ُ ُ‬ ‫ص ٌ‬ ‫خال ِ َ‬ ‫َ‬
‫جَنا { أي‪ :‬نسائنا‪ ،‬هذا إذا ولد حيا‪ ،‬وإن يكن ما ]في[ بطنها يولد ميتا‪،‬‬ ‫َ‬
‫أْزَوا ِ‬
‫فهم فيه شركاء‪ ،‬أي‪ :‬فهو حلل للذكور والناث‪.‬‬
‫م { حين وصفوا ما أحله الله بأنه حرام‪،‬‬ ‫فه ُ ْ‬‫ص َ‬
‫م { الله } وَ ْ‬ ‫زيهِ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫سي َ ْ‬ ‫} َ‬
‫ووصفوا الحرام بالحلل‪ ،‬فناقضوا شرع الله وخالفوه‪ ،‬ونسبوا ذلك إلى‬
‫م { حيث أمهل لهم‪ ،‬ومكنهم مما هم فيه من الضلل‪.‬‬ ‫كي ٌ‬‫ح ِ‬ ‫ه َ‬ ‫الله‪ } .‬إ ِن ّ ُ‬
‫م { بهم‪ ،‬ل تخفى عليه خافية‪ ،‬وهو تعالى يعلم بهم وبما قالوه عليه‬ ‫} عَِلي ٌ‬
‫وافتروه‪ ،‬وهو يعافيهم ويرزقهم جل جلله‪.‬‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن قت َلوا أْولد َهُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫سَر ال ِ‬ ‫خ ِ‬ ‫ثم بين خسرانهم وسفاهة عقولهم فقال‪ } :‬قد ْ َ‬
‫فهم‬ ‫ص ُ‬ ‫عل ْم ٍ { أي‪ :‬خسروا دينهم وأولدهم وعقولهم‪ ،‬وصار و ْ‬ ‫فًها ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫س َ‬ ‫َ‬
‫‪-‬بعد العقول الرزينة‪ -‬السفه المردي‪ ،‬والضلل‪.‬‬
‫ه { أي‪ :‬ما جعله رحمة لهم‪ ،‬وساقه رزقا لهم‪.‬‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ما َرَزقَهُ ُ‬ ‫موا َ‬ ‫حّر ُ‬ ‫} وَ َ‬
‫فردوا كرامة ربهم‪ ،‬ولم يكتفوا بذلك‪ ،‬بل وصفوها بأنها حرام‪ ،‬وهي من‬
‫ل الحلل‪.‬‬ ‫ح ّ‬ ‫َ‬
‫أ َ‬
‫فار‪ } .‬قَد ْ‬ ‫وكل هذا } افْت َِراًء عََلى الل ّهِ { أي‪ :‬كذبا يكذب به كل معاند ك َ ّ‬
‫ن { أي‪ :‬قد ضلوا ضلل بعيدا‪ ،‬ولم يكونوا مهتدين في‬ ‫دي َ‬ ‫مهْت َ ِ‬ ‫كاُنوا ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ضّلوا وَ َ‬ ‫َ‬
‫شيء من أمورهم‪.‬‬

‫) ‪(1/275‬‬

‫وهو ال ّذي أ َن َ َ‬
‫فا‬‫خت َل ِ ً‬
‫م ْ‬
‫ل َوالّزْرعَ ُ‬ ‫خ َ‬ ‫ت َوالن ّ ْ‬ ‫شا ٍ‬ ‫معُْرو َ‬ ‫ت وَغَي َْر َ‬ ‫شا ٍ‬ ‫معُْرو َ‬ ‫ت َ‬ ‫جّنا ٍ‬
‫شأ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ َ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫مَر وَآُتوا‬ ‫ذا أث ْ َ‬
‫مرِهِ إ ِ َ‬‫ن ثَ َ‬ ‫شاب ِهٍ ك ُُلوا ِ‬
‫م ْ‬ ‫مت َ َ‬‫شاب ًِها وَغَي َْر ُ‬ ‫مت َ َ‬
‫ن ُ‬ ‫ما َ‬‫ن َوالّر ّ‬ ‫ه َوالّزي ُْتو َ‬ ‫أك ُل ُ ُ‬
‫ن )‪(141‬‬ ‫سرِِفي َ‬
‫م ْ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬‫ه َل ي ُ ِ‬‫سرُِفوا إ ِن ّ ُ‬ ‫صادِهِ وََل ت ُ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ي َوْ َ‬
‫ق ُ‬ ‫ح ّ‬‫َ‬
‫} ‪ } { 141‬وهو ال ّذي أ َن َ َ‬
‫خ َ‬
‫ل‬ ‫ت َوالن ّ ْ‬ ‫شا ٍ‬ ‫معُْرو َ‬ ‫ت وَغَي َْر َ‬ ‫شا ٍ‬ ‫معُْرو َ‬ ‫ت َ‬ ‫جّنا ٍ‬
‫شأ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ َ ِ‬
‫ُ‬ ‫ختل ِ ً ُ‬
‫ه‬ ‫ن ثَ َ‬
‫مرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫شاب ِهٍ كلوا ِ‬ ‫مت َ َ‬ ‫شاب ًِها وَغَي َْر ُ‬ ‫مت َ َ‬
‫ن ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن َوالّر ّ‬ ‫ه َوالّزي ُْتو َ‬ ‫فا أك ُل ُ ُ‬ ‫م ْ َ‬‫َوالّزْرعَ ُ‬
‫ْ‬ ‫إ َ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫سرِِفي َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫سرُِفوا إ ِن ّ ُ‬ ‫صادِهِ َول ت ُ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫م َ‬
‫ه ي َوْ َ‬ ‫ق ُ‬ ‫ح ّ‬‫مَر َوآُتوا َ‬ ‫ذا أث ْ َ‬‫ِ‬
‫لما ذكر تعالى تصرف المشركين في كثير مما أحله الله لهم من الحروث‬
‫والنعام‪ ،‬ذكر تبارك وتعالى نعمته عليهم بذلك‪ ،‬ووظيفتهم اللزمة عليهم‬
‫ت { أي‪ :‬بساتين‪ ،‬فيها‬ ‫في الحروث والنعام فقال‪ } :‬وهو ال ّذي أ َن َ َ‬
‫جّنا ٍ‬ ‫شأ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ُ َ ِ‬
‫أنواع الشجار المتنوعة‪ ،‬والنباتات المختلفة‪.‬‬
‫ت { أي‪ :‬بعض تلك الجنات‪ ،‬مجعول لها عرش‪،‬‬ ‫شا ٍ‬ ‫معُْرو َ‬ ‫ت وَغَي َْر َ‬ ‫شا ٍ‬ ‫معُْرو َ‬ ‫} َ‬
‫تنتشر عليه الشجار‪ ،‬ويعاونها في النهوض عن الرض‪.‬وبعضها خال من‬
‫العروش‪ ،‬تنبت على ساق‪ ،‬أو تنفرش في الرض‪ ،‬وفي هذاتنبيه على كثرة‬
‫منافعها‪ ،‬وخيراتها‪ ،‬وأنه تعالى‪ ،‬علم العباد كيف يعرشونها‪ ،‬وينمونها‪.‬‬
‫ختل ِ ً ُ‬
‫ه { أي‪ :‬كله في محل واحد‪،‬‬ ‫فا أك ُل ُ ُ‬ ‫م ْ َ‬‫} وَ { أنشأ تعالى } النخل َوالّزْرعَ ُ‬
‫ويشرب من ماء واحد‪ ،‬ويفضل الله بعضه على بعض في الكل‪.‬‬
‫وخص تعالى النخل والزرع على اختلف أنواعه لكثرة منافعها‪ ،‬ولكونها هي‬
‫شاب ًِها {‬ ‫مت َ َ‬‫ن ُ‬ ‫ما َ‬ ‫القوت لكثر الخلق‪ } .‬وَ { أنشأ تعالى } الزيتون َوالّر ّ‬
‫شاب ِهٍ { في ثمره وطعمه‪ .‬كأنه قيل‪ :‬لي شيء أنشأ‬ ‫مت َ َ‬‫فيشجره } وَغَي َْر ُ‬
‫الله هذه الجنات‪ ،‬وما عطف عليها؟ فأخبر أنه أنشأها لمنافع العباد فقال‪:‬‬
‫} ك ُُلوا منث َمره { أي‪ :‬النخل والزرع } إ َ َ‬
‫صادِهِ {‬ ‫ح َ‬ ‫م َ‬ ‫ه ي َوْ َ‬ ‫ق ُ‬ ‫ح ّ‬‫مَر َوآُتوا َ‬ ‫ذا أث ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ْ َ ِ ِ‬
‫أي‪ :‬أعطوا حقالزرع‪ ،‬وهو الزكاة ذات النصباء المقدرة في الشرع‪ ،‬أمرهم‬
‫أن يعطوها يوم حصادها‪ ،‬وذلك لن حصاد الزرع بمنزلة حولن الحول‪ ،‬لنه‬
‫الوقت الذي تتشوف إليه نفوس الفقراء‪ ،‬ويسهل حينئذ إخراجه على أهل‬
‫الزرع‪ ،‬ويكون المر فيها ظاهرا لمن أخرجها‪ ،‬حتى يتميز المخرج ممن ل‬
‫يخرج‪.‬‬
‫سرُِفوا { يعم النهي عن السراف في الكل‪ ،‬وهو مجاوزة‬ ‫وقوله‪َ } :‬ول ت ُ ْ‬
‫الحد والعادة‪ ،‬وأن يأكل صاحب الزرع أكل يضر بالزكاة‪ ،‬والسراف في‬
‫إخراج حق الزرع بحيث يخرج فوق الواجب عليه‪ ،‬ويضر نفسه أو عائلته‬
‫أوغرماءه‪ ،‬فكل هذا من السراف الذي نهى الله عنه‪ ،‬الذي ل يحبه الله بل‬
‫يبغضه ويمقت عليه‪.‬‬
‫وفي هذه الية دليل على وجوب الزكاة في الثمار‪ ،‬وأنه ل حول لها‪ ،‬بل‬
‫حولها حصادها في الزروع‪ ،‬وجذاذ النخيل‪ ،‬وأنه ل تتكرر فيها الزكاة‪ ،‬لو‬
‫مكثت عند العبد أحوال كثيرة‪ ،‬إذا كانت لغير التجارة‪ ،‬لن الله لم يأمر‬
‫بالخراج منه إل وقت حصاده‪.‬‬
‫وأنه لو أصابها آفة قبل ذلك بغير تفريط من صاحب الزرع والثمر‪ ،‬أنه ل‬
‫يضمنها‪ ،‬وأنه يجوز الكل من النخل والزرع قبل إخراج الزكاة منه‪ ،‬وأنه ل‬
‫يحسب ذلك من الزكاة‪ ،‬بل يزكي المال الذي يبقى بعده‪.‬‬

‫) ‪(1/276‬‬

‫ت‬ ‫خط ُ َ‬
‫وا ِ‬ ‫ه وََل ت َت ّب ُِعوا ُ‬
‫م الل ّ ُ‬
‫ما َرَزقَك ُ ُ‬ ‫شا ك ُُلوا ِ‬
‫م ّ‬ ‫ة وَفَْر ً‬ ‫مول َ ً‬ ‫ح ُ‬‫ن اْل َن َْعام ِ َ‬‫م َ‬‫وَ ِ‬
‫ن )‪(142‬‬ ‫مِبي ٌ‬‫م عَد ُوّ ُ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬
‫ن إ ِن ّ ُ‬ ‫شي ْ َ‬
‫طا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم‪ ،‬يبعث خارصا‪ ،‬يخرص للناس ثمارهم‪،‬‬
‫ويأمره أن يدع لهلها الثلث‪ ،‬أو الربع‪ ،‬بحسب ما يعتريها من الكل وغيره‪،‬‬
‫من أهلها‪ ،‬وغيرهم‪.‬‬
‫] ص ‪[ 277‬‬
‫ه َول‬ ‫ّ‬
‫م الل ُ‬ ‫ُ‬
‫ما َرَزقَك ُ‬ ‫م ّ‬ ‫شا كلوا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ة وَفَْر ً‬ ‫َ‬
‫مول ً‬ ‫ح ُ‬‫ن الن َْعام ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫} ‪ } { 144 - 142‬وَ ِ‬
‫ن { ‪ .‬أي‪ } :‬و { خلق وأنشأ‬ ‫مِبي ٌ‬
‫م عَد ُوّ ُ‬ ‫َ‬
‫ه لك ُ ْ‬ ‫ن إ ِن ّ ُ‬‫طا ِ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ت ال ّ‬ ‫وا ِ‬‫خط ُ َ‬‫ت َت ّب ُِعوا ُ‬
‫شا { أي‪ :‬بعضها تحملون عليه وتركبونه‪ ،‬وبعضها‬ ‫ة وَفَْر ً‬ ‫َ‬
‫مول ً‬ ‫ح ُ‬
‫} من الن َْعام ِ َ‬
‫ل تصلح للحمل والركوب عليها لصغرها كالفصلن ونحوها‪ ،‬وهي الفرش‪،‬‬
‫فهي من جهة الحمل والركوب‪ ،‬تنقسم إلى هذين القسمين‪.‬‬
‫وأما من جهة الكل وأنواع النتفاع‪ ،‬فإنها كلها تؤكل وينتفع بها‪ .‬ولهذا قال‪:‬‬
‫ن { أي‪ :‬طرقه وأعماله‬ ‫طا ِ‬ ‫شي ْ َ‬
‫ت ال ّ‬ ‫وا ِ‬ ‫خط ُ َ‬ ‫ه َول ت َت ّب ُِعوا ُ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ما َرَزقَك ُ ُ‬ ‫} ك ُُلوا ِ‬
‫م ّ‬
‫ن { فل‬ ‫مِبي ٌ‬ ‫ه ل َك ُ ْ‬
‫م عَد ُوّ ُ‬ ‫التيمن جملتها أن تحرموا بعض ما رزقكم الله‪ } .‬إ ِن ّ ُ‬
‫يأمركم إل بما فيه مضرتكم وشقاؤكم البدي‪.‬‬

‫) ‪(1/276‬‬

‫ل َآلذ ّك َرين حر َ‬ ‫ث َمانية أ َزواج من ال ْ‬


‫م أم ِ‬ ‫َ ْ ِ َ ّ َ‬ ‫ن قُ ْ‬ ‫معْزِ اث ْن َي ْ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن وَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ن اث ْن َي ْ‬ ‫ضأ ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ َِ َ ْ َ ٍ ِ َ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫اْل ُنث َيي َ‬
‫ن)‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫ن ن َب ُّئوِني ب ِعِلم ٍ إ ِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫م الن ْث َي َي ْ‬ ‫حا ُ‬ ‫ت عَلي ْهِ أْر َ‬ ‫مل ْ‬ ‫شت َ َ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫نأ ّ‬ ‫ْ َْ ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن قُ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ما‬ ‫نأ ّ‬
‫َ‬ ‫م أم ِ الن ْث َي َي ْ ِ‬ ‫حّر َ‬ ‫ن َ‬ ‫ل آلذ ّكَري ْ ِ‬ ‫قرِ اث ْن َي ْ ِ‬ ‫ن الب َ َ‬
‫َ‬
‫م َ‬ ‫ن وَ ِ‬
‫ُ‬ ‫ل اث ْن َي ْ ِ‬ ‫ن ال ِب ِ ِ‬
‫َ‬
‫م َ‬ ‫‪ (143‬وَ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ذا فَ َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫مل َ ْ‬
‫م‬
‫ن أظل ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ب ِهَ َ‬ ‫م الل ُ‬ ‫صاك ُ‬ ‫داَء إ ِذ ْ وَ ّ‬ ‫شه َ َ‬ ‫م ُ‬ ‫م كن ْت ُ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م الن ْث َي َي ْ ِ‬ ‫حا ُ‬ ‫ت عَلي ْهِ أْر َ‬ ‫شت َ َ‬ ‫ا ْ‬
‫م‬
‫قوْ َ‬ ‫ْ‬
‫دي ال َ‬ ‫ه ل ي َهْ ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ن الل َ‬ ‫علم ٍ إ ِ ّ‬ ‫ْ‬ ‫س ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫ل الّنا َ‬ ‫ض ّ‬ ‫َ‬
‫ن افْت ََرى عَلى اللهِ كذًِبا ل ِي ُ ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م ِ‬ ‫م ّ‬ ‫ِ‬
‫ن )‪(144‬‬ ‫مي َ‬ ‫ّ‬
‫الظال ِ ِ‬
‫ل آلذ ّك َرين حر َ‬ ‫} ث َمانية أ َزواج من ال ْ‬
‫م أم ِ‬ ‫َ ْ ِ َ ّ َ‬ ‫ن قُ ْ‬ ‫معْزِ اث ْن َي ْ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن وَ ِ‬ ‫ن َاث ْن َي ْ ِ‬ ‫ضأ ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ َِ َ ْ َ ٍ ِ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫النث َيي َ‬
‫ن*‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن كن ْت ُ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ن ن َب ُّئوِني ب ِعِلم ٍ إ ِ ْ‬ ‫ِ‬ ‫م الن ْث َي َي ْ‬ ‫حا ُ‬ ‫ت عَلي ْهِ أْر َ‬ ‫مل َ ْ‬ ‫شت َ َ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫نأ ّ‬ ‫ْ َْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن قُ ْ‬ ‫ْ‬
‫ت‬‫مل ْ‬ ‫شت َ َ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫نأ ّ‬
‫َ‬ ‫م أم ِ الن ْث َي َي ْ ِ‬ ‫حّر َ‬ ‫ن َ‬ ‫ل آلذ ّكَري ْ ِ‬ ‫قرِ اث ْن َي ْ ِ‬ ‫ن الب َ َ‬ ‫م َ‬
‫َ‬
‫ن وَ ِ‬ ‫ل اث ْن َي ْ ِ‬ ‫ن الب ِ ِ‬
‫َ‬
‫م َ‬ ‫وَ ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ذا فَ َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫م ِ‬ ‫م ّ‬ ‫م ِ‬ ‫ن أظل ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ب ِهَ َ‬ ‫م الل ُ‬ ‫صاك ُ‬ ‫داَء إ ِذ ْ وَ ّ‬ ‫شه َ َ‬ ‫م ُ‬ ‫م كن ْت ُ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫م الن ْث َي َي ْ ِ‬ ‫حا ُ‬ ‫عَلي ْهِ أْر َ‬
‫م‬‫قوْ َ‬ ‫ْ‬
‫دي ال َ‬ ‫ه ل ي َهْ ِ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ّ‬ ‫علم ٍ إ ِ ّ‬ ‫ْ‬ ‫س ب ِغَي ْرِ ِ‬ ‫ل الّنا َ‬ ‫ض ّ‬ ‫افْت ََرى عَلى اللهِ كذًِبا ل ِي ُ ِ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫وهذه النعام التي امتن الله بها على عباده‪ ،‬وجعلها كلها حلل طيبا‪ ،‬فصلها‬
‫بأنها‪ } :‬ث َمانية أ َزواج من ال ْ‬
‫ن{‬ ‫معْزِ اث ْن َي ْ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ن { ذكر وأنثى } وَ ِ‬ ‫ن اث ْن َي ْ ِ‬ ‫ضأ ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ َِ َ ْ َ ٍ ِ َ‬
‫كذلك‪،‬فهذه أربعة‪ ،‬كلها داخلة فيما أحل الله‪ ،‬ل فرق بين شيء منها‪ ،‬فقل‬
‫لهؤلء المتكلفين‪ ،‬الذين يحرمون منها شيئا دون شيء‪ ،‬أو يحرمون بعضها‬
‫على الناث دون الذكور‪ ،‬ملزما لهم بعدم وجود الفرق بين ما أباحوا منها‬
‫م { الله‪ ،‬فلستم تقولون‬ ‫حّر َ‬ ‫ن { من الضأن والمعز } َ‬
‫َ‬ ‫وحرموا‪ } :‬آلذ ّك ََري ْ ِ‬
‫ن { حرم الله من الضأن والمعز‪ ،‬فليس هذا‬ ‫بذلك وتطردونه‪ } ،‬أم ِ الن ْث َي َي ْ ِ‬
‫قولكم‪ ،‬ل تحريم الذكور الخلص‪ ،‬ول الناث الخلص من الصنفين‪.‬‬
‫م{‬ ‫َ‬
‫بقي إذا كان الرحم مشتمل على ذكر وأنثى‪ ،‬أو على مجهول فقال‪ } :‬أ ْ‬
‫َ‬
‫ن { أي‪ :‬أنثى الضأن وأنثى المعز‪،‬‬ ‫م الن ْث َي َي ْ ِ‬ ‫حا ُ‬ ‫ت عَل َي ْهِ أْر َ‬ ‫مل َ ْ‬ ‫شت َ َ‬ ‫تحرمون } ما ا ْ‬
‫من غير فرق بين ذكر وأنثى‪ ،‬فلستم تقولون أيضا بهذا القول‪.‬‬
‫فإذا كنتم ل تقولون بأحد هذه القوال الثلثة‪ ،‬التي حصرت القسام‬
‫الممكنة في ذلك‪ ،‬فإلى أي شيء تذهبون؟‪.‬‬
‫ن { في قولكم ودعواكم‪ ،‬ومن المعلوم أنهم‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫م َ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫} ن َب ُّئوِني ب ِعِل ْم ٍ إ ِ ْ‬
‫ل يمكنهم أن يقولوا قول سائغا في العقل‪ ،‬إل واحدا من هذه المور الثلثة‪.‬‬
‫وهم ل يقولون بشيء منها‪ .‬إنما يقولون‪ :‬إن بعض النعام التي يصطلحون‬
‫عليها اصطلحات من عند أنفسهم‪ ،‬حرام على الناث دون الذكور‪ ،‬أو‬
‫محرمة في وقت من الوقات‪ ،‬أو نحو ذلك من القوال‪ ،‬التي يعلم علما ل‬
‫شك فيه أن مصدرها من الجهل المركب‪ ،‬والعقول المختلة المنحرفة‪،‬‬
‫والراء الفاسدة‪ ،‬وأن الله‪ ،‬ما أنزل ‪-‬بما قالوه‪ -‬من سلطان‪ ،‬ول لهم عليه‬
‫حجة ول برهان‪.‬‬
‫ثم ذكر في البل والبقر مثل ذلك‪ .‬فلما بين بطلن قولهم وفساده‪ ،‬قال‬
‫م‬ ‫َ‬
‫لهم قول ل حيلة لهم في الخروج من تبعته‪ ،‬إل في اتباع شرع الله‪ } .‬أ ْ‬
‫ه { أي‪ :‬لم يبق عليكم إل دعوى‪ ،‬ل سبيل لكم‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫صاك ُ ُ‬ ‫داَء إ ِذ ْ وَ ّ‬ ‫م ُ‬
‫شه َ َ‬ ‫ك ُن ْت ُ ْ‬
‫صانا بذلك‪ ،‬وأوحى إلينا كما‬ ‫إلى صدقها وصحتها‪ .‬وهي أن تقولوا‪ :‬إن الله و ّ‬
‫أوحى إلى رسله‪ ،‬بل أوحى إلينا وحيا مخالفا لما دعت إليه الرسل ونزلت‬
‫به الكتب‪ ،‬وهذا افتراء ل يجهله أحد‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬فَم َ‬
‫ن افْت ََرى‬‫م ِ‬
‫م ّ‬ ‫ن أظ ْل َ ُ‬
‫م ِ‬ ‫َ ْ‬
‫عل ْم ٍ { أي‪ :‬مع كذبه وافترائه على الله‪،‬‬ ‫س ب ِغَي ْرِ ِ‬
‫ل الّنا َ‬ ‫ض ّ‬ ‫عََلى الل ّهِ ك َذًِبا ل ِي ُ ِ‬
‫قصده بذلك إضلل عباد الله عن سبيل الله‪ ،‬بغير بينة منه ول برهان‪ ،‬ول‬
‫ن { الذين ل إرادة لهم في‬ ‫مي َ‬ ‫م ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫دي ال ْ َ‬
‫قوْ َ‬ ‫ه ل ي َهْ ِ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫عقل ول نقل‪ } .‬إ ِ ّ‬
‫غير الظلم والجور‪ ،‬والفتراء على الله‪.‬‬

‫) ‪(1/277‬‬

‫ة أ َْو‬
‫مي ْت َ ً‬ ‫ن َ‬ ‫كو َ‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫َ‬
‫ه إ ِّل أ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫عم ٍ ي َط ْعَ ُ‬ ‫طا ِ‬‫ما عََلى َ‬ ‫حّر ً‬ ‫م َ‬ ‫ي ُ‬ ‫ي إ ِل َ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ما ُأو ِ‬ ‫جد ُ ِفي َ‬
‫َ‬
‫ل َل أ ِ‬ ‫قُ ْ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ِ‬ ‫ل ل ِغَي ْرِ اللهِ ب ِهِ فَ َ‬ ‫قا أهِ ّ‬ ‫س ً‬
‫س أو ْ ف ِ ْ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ه رِ ْ‬ ‫زيرٍ فَإ ِن ّ ُ‬ ‫خن ْ ِ‬‫م ِ‬ ‫ح َ‬
‫حا أوْ ل ْ‬ ‫فو ً‬ ‫س ُ‬‫م ْ‬ ‫ما َ‬ ‫دَ ً‬
‫دوا‬ ‫ها ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م )‪ (145‬وَعَلى ال ِ‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ك غَ ُ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫عادٍ فَإ ِ ّ‬ ‫َ‬
‫ضطّر غَي َْر َباٍغ وَل َ‬ ‫ُ‬ ‫ا ْ‬
‫ت‬‫مل َ ْ‬‫ح َ‬ ‫ما َ‬ ‫ما إ ِّل َ‬ ‫مه ُ َ‬
‫حو َ‬ ‫ش ُ‬ ‫م ُ‬ ‫مَنا عَل َي ْهِ ْ‬ ‫حّر ْ‬ ‫قرِ َوال ْغَن َم ِ َ‬ ‫ن ال ْب َ َ‬ ‫م َ‬ ‫فرٍ وَ ِ‬ ‫ل ِذي ظ ُ ُ‬ ‫مَنا ك ُ ّ‬ ‫حّر ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫د‬‫صا‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫نا‬ ‫إ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ه‬‫ي‬‫ْ‬ ‫غ‬ ‫ب‬‫ب‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫نا‬ ‫ي‬ ‫ز‬ ‫ج‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ظ‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫َ‬
‫ط‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ت‬ ‫خ‬
‫ْ‬ ‫ا‬ ‫ما‬ ‫و‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫يا‬ ‫وا‬ ‫ح‬‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫و‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫ما‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫هو‬ ‫ُ‬ ‫ظ‬
‫َ‬ ‫َ ِ‬ ‫َ َ َْ ُ ْ َِ ِ ِ ْ َ ِّ‬ ‫ٍ ِ‬ ‫َِ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ ُ َ ِ َ َ َ ْ َ‬
‫)‪(146‬‬

‫ه‬
‫م ُ‬‫عم ٍ ي َط ْعَ ُ‬ ‫ما عََلى َ‬
‫طا ِ‬ ‫حّر ً‬ ‫م َ‬ ‫ي ُ‬ ‫ي إ ِل َ ّ‬ ‫ح َ‬ ‫ما ُأو ِ‬ ‫جد ُ ِفي َ‬
‫َ‬
‫للأ ِ‬ ‫} ‪ } { 146 ، 145‬قُ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫كون ميت ً َ‬ ‫َ‬
‫ل‬‫قا أهِ ّ‬ ‫س ً‬
‫س أو ْ ف ِ ْ‬ ‫ج ٌ‬ ‫ه رِ ْ‬ ‫زيرٍ فَإ ِن ّ ُ‬ ‫خن ْ ِ‬‫م ِ‬ ‫ح َ‬ ‫حا أوْ ل ْ‬ ‫فو ً‬ ‫س ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ة أوْ د َ ً‬ ‫ن يَ ُ َ َ ْ َ‬ ‫ِإل أ ْ‬
‫م * وَعََلى‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ك غَ ُ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫عادٍ فَإ ِ ّ‬ ‫ضط ُّر غَي َْر َباٍغ َول َ‬ ‫نا ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ل ِغَي ْرِ الل ّهِ ب ِهِ فَ َ‬
‫ما‬‫مه ُ َ‬
‫حو َ‬ ‫ش ُ‬ ‫م ُ‬ ‫مَنا عَل َي ْهِ ْ‬ ‫حّر ْ‬ ‫قرِ َوال ْغَن َم ِ َ‬ ‫ن ال ْب َ َ‬ ‫م َ‬ ‫فرٍ وَ ِ‬ ‫ل ِذي ظ ُ ُ‬ ‫مَنا ك ُ ّ‬ ‫حّر ْ‬ ‫دوا َ‬ ‫ها ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ط ب ِعَظ ْم ٍ ذ َل ِ َ‬ ‫خت َل َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫م ب ِب َغْي ِهِ ْ‬ ‫جَزي َْناهُ ْ‬ ‫ك َ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫واَيا أوْ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ما أوِ ال ْ َ‬ ‫ت ظ ُُهوُرهُ َ‬ ‫مل َ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫ما َ‬ ‫ِإل َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫صادُِقو َ‬ ‫وَإ ِّنا ل َ َ‬
‫لما ذكر تعالى ذم المشركين على ما حرموا من الحلل ونسبوه إلى‬
‫الله‪،‬وأبطل قولهم‪ .‬أمر تعالى رسوله أن يبين للناس ما حرمه الله عليهم‪،‬‬
‫ن نسب تحريمه إلى الله فهو كاذب مبطل‪،‬‬ ‫م ْ‬ ‫ليعلموا أن ما عدا ذلك حلل‪َ ،‬‬
‫لن التحريم ل يكون إل من عند الله على لسان رسوله‪ ،‬وقد قال لرسوله‪:‬‬
‫عم ٍ { أي‪ :‬محرما أكله‪ ،‬بقطع‬ ‫طا ِ‬ ‫ما عََلى َ‬ ‫حّر ً‬ ‫م َ‬‫ي ُ‬ ‫ي إ ِل َ ّ‬‫ح َ‬ ‫ما ُأو ِ‬ ‫جد ُ ِفي َ‬
‫َ‬
‫للأ ِ‬ ‫} قُ ْ‬
‫النظر عن تحريم النتفاع بغير الكل وعدمه‪.‬‬
‫ة { والميتة‪ :‬ما مات بغير ذكاة شرعية‪ ،‬فإن ذلك ل يحل‪.‬‬ ‫مي ْت َ ً‬ ‫ن يَ ُ‬ ‫َ‬
‫ن َ‬ ‫كو َ‬ ‫} ِإل أ ْ‬
‫خنزيرِ { ‪.‬‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫ح ُ‬ ‫م وَل َ ْ‬ ‫ة َوالد ّ ُ‬ ‫مي ْت َ ُ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫ت عَل َي ْك ُ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫كما قال تعالى‪ُ } :‬‬
‫حا { وهو الدم الذي يخرج من الذبيحة عند ذكاتها‪ ،‬فإنه‬ ‫َ‬
‫فو ً‬ ‫س ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ما َ‬ ‫} أوْ د َ ً‬
‫الدم الذي يضر احتباسه في البدن‪ ،‬فإذا خرج من البدن زال الضرر بأكل‬
‫اللحم‪ ،‬ومفهوم هذا اللفظ‪ ،‬أن الدم الذي يبقى في اللحم والعروق بعد‬
‫الذبح‪ ،‬أنه حلل طاهر‪.‬‬
‫َ‬
‫س { أي‪ :‬فإن هذه الشياء الثلثة‪ ،‬رجس‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫ج ٌ‬ ‫ه رِ ْ‬ ‫خنزيرٍ فَإ ِن ّ ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ح َ‬ ‫} أوْ ل َ ْ‬
‫خبث نجس مضر‪ ،‬حرمه الله لطفا بكم‪ ،‬ونزاهة لكم عن مقاربة الخبائث‪.‬‬
‫} أ َوْ { إل أن يكون } فسقا أهل لغير الله به { أي‪ :‬إل أن تكون الذبيحة‬
‫مذبوحة لغير الله‪ ،‬من الوثان واللهة التي يعبدها المشركون‪ ،‬فإن هذا من‬
‫الفسق الذي هو الخروج عن طاعة الله إلى معصيته‪ ،‬أي‪ :‬ومع هذا‪ ،‬فهذه‬
‫الشياء المحرمات‪ ،‬من اضطر إليها‪ ،‬أي‪ :‬حملته الحاجة والضرورة إلى أكل‬
‫] ص ‪ [ 278‬شيء منها‪ ،‬بأن لم يكن عنده شيء وخاف على نفسه التلف‪.‬‬
‫} غَي َْر َباٍغ ول عاد { أي‪ } :‬غَي َْر َباٍغ { أي‪ :‬مريدٍ لكلها من غير اضطرار َول‬
‫متعد‪ ،‬أي‪ :‬متجاوز للحد‪ ،‬بأن يأكل زيادة عن حاجته‪ } .‬فمن اضطر غير باغ‬
‫م { أي‪ :‬فالله قد سامح من كان بهذه الحال‪.‬‬ ‫حي ٌ‬‫فوٌر َر ِ‬ ‫ك غَ ُ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫ول عاد فَإ ِ ّ‬
‫واختلف العلماء رحمهم الله في هذا الحصر المذكور في هذه الية‪ ،‬مع أن‬
‫م محرمات لم تذكر فيها‪ ،‬كالسباع وكل ذي مخلب من الطير ونحو ذلك‪،‬‬ ‫ثَ ّ‬
‫فقال بعضهم‪ :‬إن هذه الية نازلة قبل تحريم ما زاد على ما ذكر فيها‪ ،‬فل‬
‫ينافي هذا الحصر المذكور فيها التحريم المتأخر بعد ذلك؛ لنه لم يجده‬
‫فيما أوحي إليه في ذلك الوقت‪ ،‬وقال بعضهم‪ :‬إن هذه الية مشتملة على‬
‫سائر المحرمات‪ ،‬بعضها صريحا‪ ،‬وبعضها يؤخذ من المعنى وعموم العلة‪.‬‬
‫فإن قوله تعالى في تعليل الميتة والدم ولحم الخنزير‪ ،‬أو الخير منها فقط‪:‬‬
‫س { وصف شامل لكل محرم‪ ،‬فإن المحرمات كلها رجس‬ ‫ج ٌ‬ ‫ه رِ ْ‬ ‫} فَإ ِن ّ ُ‬
‫وخبث‪ ،‬وهي من الخبائث المستقذرة التي حرمها الله على عباده‪ ،‬صيانة‬
‫لهم‪ ،‬وتكرمة عن مباشرة الخبيث الرجس‪.‬‬
‫سّنة‪ ،‬فإنها تفسر القرآن‪ ،‬وتبين‬ ‫ويؤخذ تفاصيل الرجس المحرم من ال ّ‬
‫المقصود منه‪ ،‬فإذا كان الله تعالى لم يحرم من المطاعم إل ما ذكر‪،‬‬
‫والتحريم ل يكون مصدره‪ ،‬إل شرع الله ‪-‬دل ذلك على أن المشركين‪،‬‬
‫الذين حرموا ما رزقهم الله مفترون على الله‪ ،‬متقولون عليه ما لم يقل‪.‬‬
‫وفي الية احتمال قوي‪ ،‬لول أن الله ذكر فيها الخنزير‪ ،‬وهو‪ :‬أن السياق في‬
‫نقض أقوال المشركين المتقدمة‪ ،‬في تحريمهم لما أحله الله وخوضهم‬
‫بذلك‪ ،‬بحسب ما سولت لهم أنفسهم‪ ،‬وذلك في بهيمة النعام خاصة‪،‬‬
‫وليس منها محرم إل ما ذكر في الية‪ :‬الميتة منها‪ ،‬وما أهل لغير الله به‪،‬‬
‫وما سوى ذلك فحلل‪.‬‬
‫ولعل مناسبة ذكر الخنزير هنا على هذا الحتمال‪ ،‬أن بعض الجهال قد‬
‫يدخله في بهيمة النعام‪ ،‬وأنه نوع من أنواع الغنم‪ ،‬كما قد يتوهمه جهلة‬
‫النصارى وأشباههم‪ ،‬فينمونها كما ينمون المواشي‪ ،‬ويستحلونها‪ ،‬ول‬
‫يفرقون بينها وبين النعام‪ ،‬فهذا المحرم على هذه المة كله )‪ (1‬من باب‬
‫التنزيه لهم والصيانة‪.‬‬
‫وأما ما حرم على أهل الكتاب‪ ،‬فبعضه طيب ولكنه حرم عليهم عقوبة لهم‪،‬‬
‫فرٍ { وذلك كالبل‪ ،‬وما‬ ‫ل ِذي ظ ُ ُ‬ ‫مَنا ك ُ ّ‬ ‫حّر ْ‬‫دوا َ‬ ‫ها ُ‬‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫ولهذا قال‪ } :‬وَعََلى ال ّ ِ‬
‫قرِ َوال ْغَن َم ِ { بعض أجزائها‪ ،‬وهو‪:‬‬ ‫ن ال ْب َ َ‬‫م َ‬‫أشبهها } وَ { حرمنا عليهم } وَ ِ‬
‫ما { وليس المحرم جميع الشحوم منها‪ ،‬بل شحم اللية والثرب‪،‬‬ ‫مه ُ َ‬ ‫حو َ‬ ‫ش ُ‬ ‫} ُ‬
‫ما أ َِو‬
‫ت ظ ُُهوُرهُ َ‬
‫مل َ ْ‬
‫ح َ‬
‫ما َ‬‫ولهذا استثنى الشحم الحلل من ذلك فقال‪ِ } :‬إل َ‬
‫خت َل َط ب ِعَظم ٍ { ‪.‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما ا ْ‬‫واَيا { أي‪ :‬الشحم المخالط للمعاء } أوْ َ‬ ‫ح َ‬‫ال ْ َ‬
‫م { أي‪ :‬ظلمهم وتعديهم‬ ‫م ب ِب َغْي ِهِ ْ‬
‫جَزي َْناهُ ْ‬
‫ك { التحريم على اليهود } َ‬ ‫} ذ َل ِ َ‬
‫في حقوق الله وحقوق عباده‪ ،‬فحرم الله عليهم هذه الشياء عقوبة لهم‬
‫ن { في كل ما نقول ونفعل ونحكم به‪ ،‬ومن أصدق‬ ‫ونكال‪ } .‬وَإ ِّنا ل َ َ‬
‫صادُِقو َ‬
‫من الله حديثا‪ ،‬ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬كلها‪.‬‬

‫) ‪(1/277‬‬

‫ْ‬
‫ن‬
‫مي َ‬
‫جرِ ِ‬ ‫قوْم ِ ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫ه عَ ِ‬ ‫سعَةٍ وََل ي َُرد ّ ب َأ ُ‬
‫س ُ‬ ‫مةٍ َوا ِ‬
‫ح َ‬
‫ذو َر ْ‬ ‫ل َرب ّك ُ ْ‬
‫م ُ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن ك َذ ُّبو َ‬
‫ك فَ ُ‬ ‫فَإ ِ ْ‬
‫)‪(147‬‬
‫ْ‬
‫ن‬‫ه عَ ِ‬
‫س ُ‬
‫سعَةٍ َول ي َُرد ّ ب َأ ُ‬
‫مةٍ َوا ِ‬
‫ح َ‬
‫ذو َر ْ‬‫م ُ‬ ‫ل َرب ّك ُ ْ‬ ‫ق ْ‬‫ك فَ ُ‬ ‫ن ك َذ ُّبو َ‬‫} ‪ } { 147‬فَإ ِ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫جرِ ِ‬ ‫قوْم ِ ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫أي‪ :‬فإن كذبك هؤلء المشركون‪ ،‬فاستمر على دعوتهم‪ ،‬بالترغيب‬
‫سعَةٍ { أي‪ :‬عامة شاملة‬ ‫مةٍ َوا ِ‬
‫ح َ‬‫ذو َر ْ‬ ‫والترهيب‪،‬وأخبرهم بأن الله } ُ‬
‫]لجميع[ المخلوقات كلها‪ ،‬فسارعوا إلى رحمته بأسبابها‪ ،‬التي رأسها وأسها‬
‫ومادتها‪ ،‬تصديق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاء به‪.‬‬
‫ْ‬
‫ن { أي‪ :‬الذين كثر إجرامهم‬ ‫مي َ‬ ‫جرِ ِ‬ ‫قوْم ِ ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ن ال ْ َ‬‫ه عَ ِ‬ ‫س ُ‬‫} َول ي َُرد ّ ب َأ ُ‬
‫وذنوبهم‪.‬فاحذروا الجرائم الموصلة لبأس الله‪ ،‬التي أعظمها ورأسها‬
‫تكذيب محمد صلى الله عليه وسلم‪.‬‬

‫) ‪(1/278‬‬

‫يٍء‬
‫ش ْ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫مَنا ِ‬
‫حّر ْ‬‫شَرك َْنا وََل آ ََباؤَُنا وََل َ‬ ‫ما أ َ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫كوا ل َوْ َ‬ ‫شَر ُ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫قو ُ‬ ‫سي َ ُ‬‫َ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫علم ٍ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬‫عن ْد َك ْ‬
‫ل ِ‬‫ل هَ ْ‬ ‫ُ‬
‫سَنا ق ْ‬ ‫ذاقوا ب َأ َ‬ ‫ُ‬ ‫حّتى َ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫ن قب ْل ِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب ال ِ‬ ‫ك َذ َل ِك كذ ّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ل فَل ِل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ن )‪ (148‬قُ ْ‬ ‫صو َ‬‫خُر ُ‬ ‫م إ ِّل ت َ ْ‬ ‫ن أن ْت ُ ْ‬ ‫ن وَإ ِ ْ‬ ‫ن إ ِّل الظ ّ ّ‬ ‫ن ت َت ّب ُِعو َ‬ ‫جوهُ ل ََنا إ ِ ْ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫فَت ُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن )‪(149‬‬ ‫مِعي َ‬ ‫ج َ‬‫مأ ْ‬ ‫ُ‬
‫داك ْ‬ ‫شاَء لهَ َ‬ ‫ة فَلوْ َ‬ ‫ة الَبال ِغَ ُ‬ ‫ج ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ال ْ ُ‬

‫شَرك َْنا َول آَباؤَُنا‬ ‫ما أ َ ْ‬‫ه َ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫كوا ل َوْ َ‬ ‫شَر ُ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫قو ُ‬ ‫سي َ ُ‬‫} ‪َ } { 149 ، 148‬‬
‫ْ‬
‫ل‬‫ل هَ ْ‬ ‫سَنا قُ ْ‬‫ذاُقوا ب َأ َ‬ ‫حّتى َ‬ ‫م َ‬ ‫ن قَب ْل ِهِ ْ‬‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب ال ّ ِ‬ ‫ك ك َذ ّ َ‬ ‫يٍء ك َذ َل ِ َ‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫حّر ْ‬ ‫َول َ‬
‫َ‬
‫ن*‬ ‫صو َ‬ ‫خُر ُ‬‫م ِإل ت َ ْ‬ ‫ن أن ْت ُ ْ‬ ‫ن ِإل الظ ّ ّ‬
‫ن وَإ ِ ْ‬ ‫ن ت َت ّب ُِعو َ‬ ‫جوهُ ل ََنا إ ِ ْ‬ ‫خرِ ُ‬ ‫عل ْم ٍ فَت ُ ْ‬‫ن ِ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫عن ْد َك ُ ْ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِعي َ‬ ‫ج َ‬
‫مأ ْ‬ ‫داك ْ‬ ‫شاَء لهَ َ‬ ‫ة فلوْ َ‬ ‫ة الَبال ِغَ ُ‬ ‫ج ُ‬‫ح ّ‬ ‫قُل فل ِلهِ ال ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫هذا إخبار من الله أن المشركين سيحتجون على شركهم وتحريمهم ما‬
‫أحل الله‪ ،‬بالقضاء والقدر‪ ،‬ويجعلون مشيئة الله الشاملة لكل شيء من‬
‫الخير والشر حجة لهم في دفع اللوم عنهم‪.‬‬
‫ل‬‫وقد قالوا ما أخبر الله أنهم سيقولونه‪ ،‬كما قال في الية الخرى‪ } :‬وََقا َ‬
‫يٍء‪ { ...‬الية‪.‬‬ ‫ش ْ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫دون ِهِ ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ما عَب َد َْنا ِ‬ ‫ه َ‬‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫كوا ل َوْ َ‬ ‫شَر ُ‬ ‫ن أَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫فأخبر تعالى أن هذه الحجة‪ ،‬لم تزل المم المكذبة تدفع بها عنهم دعوة‬
‫الرسل‪ ،‬ويحتجون بها‪ ،‬فلم تجد فيهم شيئا ولم تنفعهم‪ ،‬فلم يزل هذا دأبهم‬
‫حتى أهكلهم الله‪ ،‬وأذاقهم بأسه‪.‬‬
‫فلو كانت حجة صحيحة‪ ،‬لدفعت عنهم العقاب‪ ،‬ولما أحل الله بهم العذاب‪،‬‬
‫لنه ل يحل بأسه إل بمن استحقه‪ ،‬فعلم أنها حجة فاسدة‪ ،‬وشبهة كاسدة‪،‬‬
‫من عدة أوجه‪:‬‬
‫منها‪ :‬ما ذكر الله من أنها لو كانت صحيحة‪ ،‬لم تحل بهم العقوبة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الحجة‪ ،‬ل بد أن تكون حجة مستندة إلى العلم والبرهان‪ ،‬فأما إذا‬
‫كانت مستندة إلى مجرد الظن والخرص‪ ،‬الذي ل يغني من الحق شيئا‪،‬‬
‫جوهُ ل ََنا { فلو كان‬ ‫عل ْم ٍ فَت ُ ْ‬
‫خرِ ُ‬ ‫ن ِ‬‫م ْ‬ ‫عن ْد َك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫ل ِ‬‫ل هَ ْ‬‫فإنها باطلة‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬قُ ْ‬
‫لهم علم ‪-‬وهم خصوم ألداء‪ -‬لخرجوه‪ ،‬فلما لم يخرجوه علم أنه ل علم‬
‫ن بنى حججه‬ ‫عندهم‪ } .‬إن تتبعون إل الظ ّن وإ َ‬
‫م ْ‬
‫ن{و َ‬ ‫صو َ‬ ‫خُر ُ‬‫م ِإل ت َ ْ‬‫ن أن ْت ُ ْ‬‫ّ َِ ْ‬ ‫ِ ْ َُِّ َ ِ‬
‫على الخرص والظن‪ ،‬فهو مبطل ] ص ‪ [ 279‬خاسر‪ ،‬فكيف إذا بناها على‬
‫البغي والعناد والشر والفساد؟‬
‫ومنها‪ :‬أن الحجة لله البالغة‪ ،‬التي لم تبق لحد عذرا‪ ،‬التي اتفقت عليها‬
‫النبياء والمرسلون‪ ،‬والكتب اللهية‪ ،‬والثار النبوية‪ ،‬والعقول الصحيحة‪،‬‬
‫والفطر المستقيمة‪ ،‬والخلق القويمة‪ ،‬فعلم بذلك أن كل ما خالف هذه‬
‫الدلة )‪ (1‬القاطعة باطل‪ ،‬لن نقيض الحق‪ ،‬ل يكون إل باطل‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الله تعالى أعطى كل مخلوق قدرة‪ ،‬وإرادة‪ ،‬يتمكن بها من فعل‬
‫ما كلف به‪ ،‬فل أوجب الله على أحد ما ل يقدر على فعله‪ ،‬ول حرم على‬
‫أحد ما ل يتمكن من تركه‪ ،‬فالحتجاج بعد هذا بالقضاء والقدر‪ ،‬ظلم محض‬
‫وعناد صرف‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الله تعالى لم يجبر العباد على أفعالهم‪ ،‬بل جعل أفعالهم تبعا‬
‫لختيارهم‪ ،‬فإن شاءوا فعلوا‪ ،‬وإن شاءوا كفوا‪ .‬وهذا أمر مشاهد ل ينكره‬
‫إل من كابر‪ ،‬وأنكر المحسوسات‪ ،‬فإن كل أحد يفرق بين الحركة الختيارية‬
‫والحركة القسرية‪ ،‬وإن كان الجميع داخل في مشيئة الله‪ ،‬ومندرجا تحت‬
‫إرادته‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن المحتجين على المعاصي بالقضاء والقدر يتناقضون في ذلك‪.‬‬
‫فإنهم ل يمكنهم أن يطردوا ذلك‪ ،‬بل لو أساء إليهم مسيء بضرب أو أخذ‬
‫مال أو نحو ذلك‪ ،‬واحتج بالقضاء والقدر لما قبلوا منه هذا الحتجاج‪،‬‬
‫ولغضبوا من ذلك أشد الغضب‪.‬‬
‫فيا عجبا كيف يحتجون به على معاصي الله ومساخطه‪ .‬ول يرضون من‬
‫أحد أن يحتج به في مقابلة مساخطهم؟"‬
‫ومنها‪ :‬أن احتجاجهم بالقضاء والقدر ليس مقصودا‪ ،‬ويعلمون أنه ليس‬
‫بحجة‪،‬وإنما المقصود منه دفع الحق‪ ،‬ويرون أن الحق بمنزلة الصائل‪ ،‬فهم‬
‫يدفعونه بكل ما يخطر ببالهم من الكلم وإن كانوا يعتقدونه خطأ )‪. (2‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬الية‪.‬‬
‫)‪ (2‬في ب‪ :‬من الكلم المصيب عندهم والمخطئ‪.‬‬

‫) ‪(1/278‬‬
‫دوا فََل ت َ ْ‬ ‫شهدو َ‬
‫شهَد ْ‬ ‫شه ِ ُ‬ ‫ذا فَإ ِ ْ‬
‫ن َ‬ ‫م هَ َ‬ ‫حّر َ‬‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬
‫نأ ّ‬ ‫ن يَ ْ َ ُ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬
‫داَءك ُ ُ‬‫شهَ َ‬ ‫م ُ‬ ‫ل هَل ُ ّ‬ ‫قُ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫م ب َِرب ّهِ ْ‬
‫خَرةِ وَهُ ْ‬‫ن ِبال ِ‬ ‫مُنو َ‬‫ن ل ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬‫ن كذ ُّبوا ب ِآَيات َِنا َوال ِ‬
‫ذي َ‬‫واَء ال ِ‬ ‫م وَل ت َت ّب ِعْ أهْ َ‬ ‫معَهُ ْ‬
‫َ‬
‫ن )‪(150‬‬ ‫ُ‬
‫ي َعْدِلو َ‬
‫شهدو َ‬
‫ذا فَإ ِ ْ‬
‫ن‬ ‫م هَ َ‬ ‫حّر َ‬ ‫ه َ‬‫ن الل ّ َ‬ ‫نأ ّ‬ ‫ن يَ ْ َ ُ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫داَءك ُ ُ‬‫شه َ َ‬ ‫م ُ‬ ‫ل هَل ُ ّ‬ ‫} ‪ } { 150‬قُ ْ‬
‫َ‬
‫ن‬‫مُنو َ‬‫ن ل ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬‫ن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا َوال ّ ِ‬‫ذي َ‬‫واَء ال ّ ِ‬‫م َول ت َت ّب ِعْ أهْ َ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫شهَد ْ َ‬ ‫دوا َفل ت َ ْ‬ ‫شه ِ ُ‬‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ُ‬
‫م ي َعْدِلو َ‬ ‫م ب َِرب ّهِ ْ‬ ‫خَرةِ وَهُ ْ‬ ‫ِبال ِ‬
‫ضروا شهداءكم‬ ‫ح ِ‬ ‫أي‪ :‬قل لمن حّرم ما أحل الله‪ ،‬ونسب ذلك إلى الله‪ :‬أ ْ‬
‫الذين يشهدون أن الله حرم هذا‪ ،‬فإذا قيل لهم هذا الكلم‪ ،‬فهم بين‬
‫أمرين‪:‬‬
‫ذا باطلة‪ ،‬خلية من‬ ‫إما‪ :‬أن ل يحضروا أحدا يشهد بهذا‪ ،‬فتكون دعواهم إ ً‬
‫الشهود والبرهان‪.‬‬
‫وإما‪ :‬أن يحضروا أحدا يشهد لهم بذلك‪ ،‬ول يمكن أن يشهد بهذا إل كل‬
‫أفاك أثيم غير مقبول الشهادة‪ ،‬وليس هذا من المور التي يصح أن يشهد‬
‫بها العدول؛ ولهذا قال تعالى ‪-‬ناهيا نبيه‪ ،‬وأتباعه عن هذه الشهادة‪ } :-‬فَإ ِ ْ‬
‫ن‬
‫َ‬
‫ن‬ ‫مُنو َ‬‫ن ل ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬‫ن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا َوال ّ ِ‬‫ذي َ‬‫واَء ال ّ ِ‬‫م َول ت َت ّب ِعْ أهْ َ‬ ‫معَهُ ْ‬ ‫شهَد ْ َ‬ ‫دوا َفل ت َ ْ‬ ‫شه ِ ُ‬ ‫َ‬
‫ن { أي‪ :‬يسوون به غيره من النداد والوثان‪.‬‬ ‫م ي َعْدُِلو َ‬ ‫م ب َِرب ّهِ ْ‬ ‫خَرةِ وَهُ ْ‬ ‫ِبال ِ‬
‫فإذا كانوا كافرين باليوم الخر غير موحدين لله‪ ،‬كانت أهويتهم مناسبة‬
‫لعقيدتهم‪ ،‬وكانت دائرة بين الشرك والتكذيب بالحق‪ ،‬فحري بهوى هذا‬
‫شأنه‪،‬أن ينهى الله خيار خلقه عن اتباعه‪ ،‬وعن الشهادة مع أربابه‪ ،‬وعلم‬
‫حينئذ أن تحريمهم لما أحل الله صادر عن تلك الهواء المضلة‪.‬‬

‫) ‪(1/279‬‬

‫ساًنا‬‫ح َ‬‫ن إِ ْ‬ ‫شي ًْئا وَِبال ْ َ‬


‫وال ِد َي ْ ِ‬ ‫كوا ب ِهِ َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫م أ َّل ت ُ ْ‬
‫م عَل َي ْك ُ ْ‬‫م َرب ّك ُ ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫ما َ‬ ‫وا أ َت ْ ُ‬
‫ل َ‬ ‫ل ت ََعال َ ْ‬ ‫قُ ْ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫وََل ت َ ْ‬
‫ما‬‫ش َ‬ ‫ح َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ف َ‬ ‫قَرُبوا ال َ‬ ‫م وَل ت َ ْ‬ ‫ن ن َْرُزقُك ْ‬
‫م وَإ ِّياهُ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫ق نَ ْ‬‫مل ٍ‬ ‫ن إِ ْ‬‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫قت ُلوا أوْلد َك ْ‬
‫صاك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م وَ ّ‬‫حقّ ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫ه إ ِّل ِبال ْ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫حّر َ‬ ‫س ال ِّتي َ‬ ‫ف َ‬ ‫قت ُُلوا الن ّ ْ‬ ‫ن وََل ت َ ْ‬ ‫ما ب َط َ َ‬ ‫من َْها وَ َ‬ ‫ظ َهََر ِ‬
‫ن )‪(151‬‬ ‫قُلو َ‬ ‫م ت َعْ ِ‬‫ب ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫شي ًْئا‬‫كوا ب ِهِ َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫م َأل ت ُ ْ‬‫م عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م َرب ّك ُ ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫ما َ‬ ‫ل َ‬ ‫وا أ َت ْ ُ‬ ‫ل ت ََعال َ ْ‬ ‫} ‪ } { 153 - 151‬قُ ْ‬
‫َ‬
‫م َول‬ ‫م وَإ ِّياهُ ْ‬‫ن ن َْرُزقُك ُ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫ق نَ ْ‬ ‫مل ٍ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫قت ُُلوا أْولد َك ُ ْ‬ ‫ساًنا َول ت َ ْ‬ ‫ح َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫وَِبال ْ َ‬
‫وال ِد َي ْ ِ‬
‫ه ِإل‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫حّر َ‬ ‫س ال ِّتي َ‬ ‫ف َ‬ ‫قت ُُلوا الن ّ ْ‬ ‫ن َول ت َ ْ‬ ‫ما ب َط َ َ‬ ‫من َْها وَ َ‬ ‫ما ظ َهََر ِ‬ ‫ش َ‬ ‫ح َ‬ ‫وا ِ‬
‫ف َ‬ ‫قَرُبوا ال ْ َ‬ ‫تَ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫قلو َ‬ ‫ُ‬ ‫م ت َعْ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م ب ِهِ لعَلك ْ‬ ‫ُ‬
‫صاك ْ‬ ‫م وَ ّ‬ ‫ُ‬
‫حقّ ذ َل ِك ْ‬ ‫ْ‬
‫ِبال َ‬
‫ل { لهؤلء الذين حرموا ما‬ ‫يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم‪ } :‬قُ ْ‬
‫م { تحريما عاما شامل لكل‬ ‫م عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫م َرب ّك ُ ْ‬ ‫حّر َ‬ ‫ما َ‬ ‫ل َ‬ ‫وا أ َت ْ ُ‬ ‫أحل الله‪ } .‬ت ََعال َ ْ‬
‫أحد‪ ،‬محتويا على سائر المحرمات‪ ،‬من المآكل والمشارب والقوال‬
‫شي ًْئا { أي‪ :‬ل قليل ول كثيرا‪.‬‬ ‫كوا ب ِهِ َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫والفعال‪َ } .‬أل ت ُ ْ‬
‫وحقيقة الشرك بالله‪ :‬أن يعبد المخلوق كما يعبد الله‪ ،‬أو يعظم كما يعظم‬
‫الله‪ ،‬أويصرف له نوع من خصائص الربوبية واللهية‪ ،‬وإذا ترك العبد‬
‫الشرك كله صار موحدا‪ ،‬مخلصا لله في جميع أحواله‪ ،‬فهذا حق الله على‬
‫عباده‪ ،‬أن يعبدوه ول يشركوا به شيئا‪.‬‬
‫ساًنا { من القوال‬ ‫ح َ‬ ‫ن إِ ْ‬ ‫وال ِد َي ْ ِ‬‫ثم بدأ بآكد الحقوق بعد حقه فقال‪ } :‬وَِبال ْ َ‬
‫الكريمة الحسنة‪ ،‬والفعال الجميلة المستحسنة‪ ،‬فكل قول وفعل يحصل به‬
‫منفعة للوالدين أو سرور لهما‪ ،‬فإن ذلك من الحسان‪ ،‬وإذا وجد الحسان‬
‫انتفى العقوق‪.‬‬
‫َ‬
‫ق { أي‪ :‬بسبب الفقر‬ ‫مل ٍ‬
‫ن إِ ْ‬
‫م ْ‬ ‫م { من ذكور وإناث } ِ‬ ‫قت ُُلوا أْولد َك ْ‬
‫ُ‬ ‫} َول ت َ ْ‬
‫وضيقكم من رزقهم‪ ،‬كما كان ذلك موجودا في الجاهلية القاسية الظالمة‪،‬‬
‫وإذا كانوا منهيين عن قتلهم في هذه الحال‪ ،‬وهم أولدهم‪ ،‬فنهيهم عن‬
‫قتلهم لغير موجب‪ ،‬أو قتل أولد غيرهم‪ ،‬من باب أولى وأحرى‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬قد تكفلنا برزق الجميع‪ ،‬فلستم الذين‬ ‫م وَإ ِّياهُ ْ‬‫ن ن َْرُزقُك ُ ْ‬ ‫ح ُ‬‫} نَ ْ‬
‫قَرُبوا‬
‫ترزقون أولدكم‪ ،‬بل ول أنفسكم‪ ،‬فليس عليكم منهم ضيق‪َ } .‬ول ت َ ْ‬
‫ما‬ ‫ما ظ َهََر ِ‬
‫من َْها وَ َ‬ ‫ش { وهي‪:‬الذنوب العظام المستفحشة‪َ } ،‬‬ ‫ح َ‬ ‫وا ِ‬‫ف َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن { ] ص ‪ [ 280‬أي‪ :‬ل تقربوا الظاهر منها والخفي‪ ،‬أو المتعلق منها‬ ‫ب َط َ َ‬
‫بالظاهر‪ ،‬والمتعلق بالقلب والباطن‪.‬‬
‫والنهي عن قربان الفواحش أبلغ من النهي عن مجرد فعلها‪ ،‬فإنه يتناول‬
‫النهي عن مقدماتها ووسائلها الموصلة إليها‪.‬‬
‫ه { وهي‪ :‬النفس المسلمة‪ ،‬من ذكر‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫حّر َ‬ ‫س ال ِّتي َ‬‫ف َ‬ ‫قت ُُلوا الن ّ ْ‬‫} َول ت َ ْ‬
‫وأنثى‪ ،‬صغير وكبير‪ ،‬بر وفاجر‪ ،‬والكافرة التي قد عصمت بالعهد والميثاق‪.‬‬
‫حقّ { كالزاني المحصن‪ ،‬والنفس بالنفس‪ ،‬والتارك لدينه المفارق‬ ‫} ِإل ِبال ْ َ‬
‫للجماعة‪.‬‬
‫ن { عن الله وصيته‪ ،‬ثم‬ ‫ُ‬
‫قلو َ‬ ‫م ت َعْ ِ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م ب ِهِ لعَلك ُ ْ‬‫صاك ُ ْ‬‫م { المذكور } وَ ّ‬ ‫} ذ َل ِك ُ ْ‬
‫تحفظونها‪ ،‬ثم تراعونها وتقومون بها‪ .‬ودلت الية على أنه بحسب عقل‬
‫العبد يكون قيامه بما أمر الله به‪.‬‬

‫) ‪(1/279‬‬

‫شد ّهُ وَأ َوُْفوا ال ْك َي ْ َ‬


‫ل‬ ‫حّتى ي َب ْل ُغَ أ َ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬
‫َ‬
‫يأ ْ‬ ‫ل ال ْي َِتيم ِ إ ِّل ِبال ِّتي هِ َ‬ ‫ما َ‬ ‫قَرُبوا َ‬ ‫وََل ت َ ْ‬
‫ن َ‬
‫ذا‬ ‫كا َ‬ ‫م َفاعْدُِلوا وَل َوْ َ‬ ‫ذا قُل ْت ُ ْ‬ ‫سعََها وَإ ِ َ‬ ‫سا إ ِّل وُ ْ‬ ‫ف ً‬‫ف نَ ْ‬ ‫ط َل ن ُك َل ّ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن ِبال ْ ِ‬‫ميَزا َ‬ ‫َوال ْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ذا‬‫ن هَ َ‬ ‫ن )‪ (152‬وَأ ّ‬ ‫م ت َذ َك ُّرو َ‬ ‫م ب ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬‫صاك ُ ْ‬‫م وَ ّ‬ ‫قُْرَبى وَب ِعَهْدِ الل ّهِ أوُْفوا ذ َل ِك ُ ْ‬
‫سِبيل ِهِ ذ َل ِك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ن َ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫فّرقَ ب ِك ُ ْ‬ ‫ل فَت َ َ‬ ‫سب ُ َ‬ ‫ما َفات ّب ُِعوهُ وََل ت َت ّب ُِعوا ال ّ‬ ‫قي ً‬ ‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫طي ُ‬ ‫صَرا ِ‬ ‫ِ‬
‫ن )‪(153‬‬ ‫قو َ‬ ‫م ت َت ّ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫م ب ِهِ لعَلك ْ‬ ‫ُ‬
‫صاك ْ‬ ‫وَ ّ‬
‫شد ّهُ وَأ َوُْفوا ال ْك َي ْ َ‬
‫ل‬ ‫حّتى ي َب ْل ُغَ أ َ ُ‬‫ن َ‬ ‫س ُ‬ ‫ح َ‬
‫َ‬
‫يأ ْ‬ ‫ل ال ْي َِتيم ِ ِإل ِبال ِّتي هِ َ‬ ‫ما َ‬ ‫قَرُبوا َ‬ ‫} َول ت َ ْ‬
‫ذا‬‫ن َ‬ ‫كا َ‬‫م َفاعْدُِلوا وَل َوْ َ‬ ‫ذا قُل ْت ُ ْ‬
‫سعََها وَإ ِ َ‬ ‫سا ِإل وُ ْ‬ ‫ف ً‬ ‫ف نَ ْ‬ ‫ط ل ن ُك َل ّ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن ِبال ْ ِ‬ ‫ميَزا َ‬ ‫َوال ْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫طي‬ ‫صَرا ِ‬ ‫ذا ِ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫ن * وَأ ّ‬ ‫م ت َذ َك ُّرو َ‬ ‫م ب ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫صاك ُ ْ‬‫م وَ ّ‬ ‫قُْرَبى وَب ِعَهْدِ الل ّهِ أوُْفوا ذ َل ِك ُ ْ‬
‫ه‬
‫م بِ ِ‬ ‫صاك ُ ْ‬ ‫م وَ ّ‬ ‫سِبيل ِهِ ذ َل ِك ُ ْ‬
‫ن َ‬ ‫م عَ ْ‬ ‫فّرقَ ب ِك ُ ْ‬ ‫ل فَت َ َ‬ ‫سب ُ َ‬‫ما َفات ّب ُِعوهُ َول ت َت ّب ُِعوا ال ّ‬ ‫قي ً‬‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫قو‬ ‫ُ‬ ‫لَ َ ْ َ ّ‬
‫ت‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ع‬
‫ل ال ْي َِتيم ِ { بأكل‪ ،‬أو معاوضة على وجه المحاباة لنفسكم‪،‬‬ ‫ما َ‬ ‫قَرُبوا َ‬ ‫} َول ت َ ْ‬
‫ن { أي‪ :‬إل بالحال التي تصلح‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫س ُ‬ ‫ح َ‬ ‫يأ ْ‬ ‫أو أخذ من غير سبب‪ِ } .‬إل ِبالِتي هِ َ‬
‫بها أموالهم‪ ،‬وينتفعون بها‪ .‬فدل هذا على أنه ل يجوز قربانها‪ ،‬والتصرف بها‬
‫حّتى ي َب ْل ُ َ‬
‫غ‬ ‫على وجه يضر اليتامى‪ ،‬أو على وجه ل مضرة فيه ول مصلحة‪َ } ،‬‬
‫ده { أي‪ :‬حتى يبلغ ويرشد‪ ،‬ويعرف التصرف‪ ،‬فإذا بلغ أشده‪،‬‬ ‫ش ّ‬ ‫{ اليتيم } أ َ ُ‬
‫ُأعطي حينئذ ماُله‪ ،‬وتصرف فيه على نظره‪.‬‬
‫شد‪ -‬محجور عليه‪ ،‬وأن وليه‬ ‫وفي هذا دللة على أن اليتيم ‪-‬قبل بلوغ ال ُ‬
‫شد‪.‬‬ ‫يتصرف في ماله بالحظ‪ ،‬وأن هذا الحجر ينتهي ببلوغ ال ُ‬
‫ط { أي‪ :‬بالعدل والوفاء التام‪ ،‬فإذا‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫ن ِبال ْ ِ‬ ‫ميَزا َ‬ ‫ل َوال ْ ِ‬ ‫} وَأ َوُْفوا ال ْك َي ْ َ‬
‫سعََها { أي‪ :‬بقدر ما تسعه‪ ،‬ول‬ ‫سا ِإل وُ ْ‬ ‫ف ً‬‫ف نَ ْ‬ ‫اجتهدتم في ذلك‪ ،‬فـ } ل ن ُك َل ّ ُ‬
‫من حَرص على اليفاء في الكيل والوزن‪ ،‬ثم حصل منه‬ ‫تضيق عنه‪ .‬ف َ‬
‫تقصير لم يفرط فيه‪ ،‬ولم يعلمه‪ ،‬فإن الله عفو غفور )‪. (1‬‬
‫وبهذه الية ونحوها استدل الصوليون‪ ،‬بأن الله ل يكلف أحدا ما ل يطيق‪،‬‬
‫وعلى أن من اتقى الله فيما أمر‪ ،‬وفعل ما يمكنه من ذلك‪ ،‬فل حرج عليه‬
‫فيما سوى ذلك‪.‬‬
‫م { قول تحكمون به بين الناس‪ ،‬وتفصلون بينهم الخطاب‪،‬‬ ‫ذا قُل ْت ُ ْ‬ ‫} وَإ ِ َ‬
‫وتتكلمون به على المقالت والحوال } َفاعْدُِلوا { في قولكم‪ ،‬بمراعاة‬
‫الصدق في من تحبون ومن تكرهون‪ ،‬والنصاف‪ ،‬وعدم كتمان ما يلزم‬
‫بيانه‪ ،‬فإن الميل على من تكره بالكلم فيه أو في مقالته من الظلم‬
‫المحرم‪.‬‬
‫بل إذا تكلم العالم على مقالت أهل البدع‪ ،‬فالواجب عليه أن يعطي كل‬
‫ذي حق حقه‪ ،‬وأن يبين ما فيها من الحق والباطل‪ ،‬ويعتبر قربها من الحق‬
‫وُبعدها منه‪.‬‬
‫وذكر الفقهاء أن القاضي يجب عليه العدل بين الخصمين‪ ،‬في لحظه‬
‫ولفظه‪ } .‬وَب ِعَهْدِ الل ّهِ أ َوُْفوا { وهذا يشمل العهد الذي عاهده عليه العباد‬
‫من القيام بحقوقه والوفاء بها‪ ،‬ومن العهد الذي يقع التعاقد به بين الخلق‪.‬‬
‫فالجميع يجب الوفاء به‪ ،‬ويحرم نقضه والخلل به‪.‬‬
‫ن { ما بينه لكم من‬ ‫م ت َذ َك ُّرو َ‬ ‫م ب ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫صاك ُ ْ‬
‫م { الحكام المذكورة } وَ ّ‬ ‫} ذ َل ِك ُ ْ‬
‫الحكام‪،‬وتقومون بوصية الله لكم حق القيام‪ ،‬وتعرفون ما فيها‪ ،‬من الحكم‬
‫والحكام‪.‬‬
‫ولما بين كثيرا من الوامر الكبار‪ ،‬والشرائع المهمة‪ ،‬أشار إليها وإلى ما هو‬
‫ما { أي‪ :‬هذه الحكام وما‬ ‫ن هَ َ‬ ‫َ‬
‫قي ً‬ ‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬‫طي ُ‬ ‫صَرا ِ‬ ‫ذا ِ‬ ‫أعم منها فقال‪ } :‬وَأ ّ‬
‫أشبهها‪ ،‬مما بينه الله في كتابه‪ ،‬ووضحه لعباده‪ ،‬صراط الله الموصل إليه‪،‬‬
‫وإلى دار كرامته‪ ،‬المعتدل السهل المختصر‪.‬‬
‫} َفات ّب ُِعوهُ { لتنالوا الفوز والفلح‪ ،‬وتدركوا المال والفراح‪َ } .‬ول ت َت ّب ُِعوا‬
‫سِبيل ِهِ {‬ ‫ن َ‬ ‫م عَ ْ‬‫فّرقَ ب ِك ُ ْ‬ ‫ل { أي‪ :‬الطرق المخالفة لهذا الطريق } فَت َ َ‬ ‫سب ُ َ‬ ‫ال ّ‬
‫أي‪ :‬تضلكم عنه وتفرقكم يمينا وشمال فإذا ضللتم عن الصراط المستقيم‪،‬‬
‫فليس ثم إل طرق توصل إلى الجحيم‪.‬‬
‫ن { فإنكم إذا قمتم بما بينه الله لكم علما‬ ‫قو َ‬ ‫م ت َت ّ ُ‬ ‫م ب ِهِ ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫صاك ُ ْ‬ ‫م وَ ّ‬ ‫} ذ َل ِك ُ ْ‬
‫وعمل صرتم من المتقين‪ ،‬وعباد الله المفلحين‪ ،‬ووحد الصراط وأضافه‬
‫إليه لنه سبيل واحد موصل إليه‪ ،‬والله هو المعين للسالكين على سلوكه‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬غفور رحيم‪.‬‬

‫) ‪(1/280‬‬

‫صيًل ل ِك ُ ّ‬ ‫َ‬ ‫ثُ َ‬


‫دى‬ ‫يٍء وَهُ ً‬ ‫ل َ‬
‫ش ْ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن وَت َ ْ‬
‫س َ‬ ‫ح َ‬ ‫ذي أ ْ‬ ‫ما عََلى ال ّ ِ‬ ‫ما ً‬
‫ب تَ َ‬ ‫سى ال ْك َِتا َ‬ ‫مو َ‬ ‫م آت َي َْنا ُ‬ ‫ّ‬
‫َ‬ ‫ٌ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫مَباَرك فات ّب ُِعوهُ‬ ‫ب أن َْزلَناهُ ُ‬ ‫ن )‪ (154‬وَهَذا ك َِتا ٌ‬ ‫مُنو َ‬
‫م ي ُؤ ِ‬ ‫قاِء َرب ّهِ ْ‬ ‫م ب ِل ِ َ‬
‫ة لعَلهُ ْ‬ ‫م ً‬
‫ح َ‬ ‫وََر ْ‬
‫ن‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫فت َي ْ ِ‬
‫ب عَلى طائ ِ َ‬ ‫ما أن ْزِل الك َِتا ُ‬ ‫قولوا إ ِن ّ َ‬ ‫ن تَ ُ‬
‫ن )‪ (155‬أ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫ح ُ‬‫م ت ُْر َ‬ ‫قوا لعَلك ْ‬ ‫َوات ّ ُ‬
‫ل عَل َي َْنا‬ ‫قوُلوا ل َوْ أ َّنا أ ُن ْزِ َ‬ ‫ن )‪ (156‬أ َوْ ت َ ُ‬ ‫م ل ََغافِِلي َ‬ ‫ست ِهِ ْ‬
‫ن دَِرا َ‬ ‫ن ك ُّنا عَ ْ‬ ‫ن قَب ْل َِنا وَإ ِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن‬
‫م ْ‬‫ة فَ َ‬ ‫م ٌ‬‫ح َ‬ ‫دى وََر ْ‬ ‫م وَهُ ً‬ ‫ن َرب ّك ْ‬ ‫م ْ‬‫ة ِ‬
‫م ب َي ّن َ ٌ‬‫جاَءك ْ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫م فَ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫دى ِ‬ ‫ب لكّنا أهْ َ‬ ‫الك َِتا ُ‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن آَيات َِنا‬ ‫ن عَ ْ‬ ‫صدُِفو َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬‫زي ال ِ‬ ‫ج ِ‬
‫سن َ ْ‬‫ف عَن َْها َ‬ ‫صد َ َ‬‫ت اللهِ وَ َ‬ ‫ب ب ِآَيا ِ‬ ‫َ‬
‫ن كذ ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬‫م ِ‬ ‫أظ ْل َ ُ‬
‫ن )‪(157‬‬ ‫صدُِفو َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬‫ب بِ َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫سوَء ال ْعَ َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫صيل‬ ‫ف ِ‬ ‫ن وَت َ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ح َ‬ ‫ذي أ ْ‬ ‫ما عََلى ال ّ ِ‬ ‫ما ً‬ ‫ب تَ َ‬ ‫سى ال ْك َِتا َ‬ ‫مو َ‬ ‫م آت َي َْنا ُ‬ ‫} ‪ } { 157 - 154‬ث ُ ّ‬
‫َ‬
‫ب أن َْزل َْناهُ‬ ‫ذا ك َِتا ٌ‬ ‫ن * وَهَ َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫م ي ُؤْ ِ‬ ‫قاِء َرب ّهِ ْ‬ ‫م ب ِل ِ َ‬ ‫ة ل َعَل ّهُ ْ‬ ‫م ً‬ ‫ح َ‬ ‫دى وََر ْ‬ ‫يٍء وَهُ ً‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ل ِك ُ ّ‬
‫ب عََلى‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ل ال ْك َِتا ُ‬ ‫ما أن ْزِ َ‬ ‫قوُلوا إ ِن ّ َ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫ن*أ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫م ت ُْر َ‬ ‫قوا ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫ك َفات ّب ُِعوهُ َوات ّ ُ‬ ‫مَباَر ٌ‬ ‫ُ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫قولوا لوْ أّنا أن ْزِ َ‬
‫ل‬ ‫ن * أوْ ت َ ُ‬ ‫م لَغافِِلي َ‬ ‫ست ِهِ ْ‬‫ن دَِرا َ‬ ‫ن كّنا عَ ْ‬ ‫ن قَب ْل َِنا وَإ ِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫فت َي ْ ِ‬ ‫طائ ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ة فَ َ‬ ‫م ٌ‬ ‫ح َ‬ ‫دى وََر ْ‬ ‫م وَهُ ً‬ ‫ُ‬
‫ن َرب ّك ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫م ب َي ّن َ ٌ‬ ‫ُ‬
‫جاَءك ْ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫م فَ َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫دى ِ‬ ‫ب لكّنا أهْ َ‬‫ُ‬ ‫عَل َي َْنا الك َِتا ُ‬
‫ْ‬
‫َ‬
‫ن آَيات َِنا‬ ‫ن عَ ْ‬ ‫صدُِفو َ‬ ‫ن يَ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫زي ال ّ ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫سن َ ْ‬ ‫ف عَن َْها َ‬ ‫صد َ َ‬ ‫ت الل ّهِ وَ َ‬ ‫ب ِبآَيا ِ‬ ‫ن ك َذ ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬ ‫م ِ‬ ‫أظ ْل َ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫صدُِفو َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ب بِ َ‬ ‫ذا ِ‬ ‫سوَء ال ْعَ َ‬ ‫ُ‬
‫م { في هذا الموضع‪ ،‬ليس المراد منها الترتيب الزماني‪ ،‬فإن زمن‬ ‫} ث ُّ‬
‫موسى عليه السلم‪ ،‬متقدم على تلوة الرسول محمد صلى الله عليه‬
‫سى‬ ‫مو َ‬ ‫وسلم هذا الكتاب‪ ،‬وإنما المراد الترتيب الخباري‪ .‬فأخبر أنه آتى } ُ‬
‫ذي‬ ‫ما { لنعمته‪ ،‬وكمال لحسانه‪ } .‬عََلى ال ّ ِ‬ ‫ما ً‬ ‫ب { وهو التوراة } ت َ َ‬ ‫ال ْك َِتا َ‬
‫ن { ] ص ‪ [ 281‬من أمة موسى‪ ،‬فإن الله أنعم على المحسنين‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫س َ‬ ‫ح َ‬ ‫أ ْ‬
‫منهم بن َِعم ل تحصى‪ .‬من جملتها وتمامها إنزال التوراة عليهم‪ .‬فتمت‬
‫عليهم نعمة الله‪ ،‬ووجب عليهم القيام بشكرها‪.‬‬
‫يٍء { يحتاجون إلى تفصيله‪ ،‬من الحلل والحرام‪ ،‬والمر‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫صيل ل ِك ُ ّ‬ ‫ف ِ‬ ‫} وَت َ ْ‬
‫ة { أي‪ :‬يهديهم إلى الخير‪،‬‬ ‫م ً‬ ‫ح َ‬ ‫دى وََر ْ‬ ‫والنهي‪ ،‬والعقائد ونحوها‪ } .‬وَهُ ً‬
‫مة { يحصل به لهم السعادة‬ ‫ح َ‬ ‫ويعرفهم بالشر‪ ،‬في الصول والفروع‪ } .‬وََر ْ‬
‫م { بسبب إنزالنا الكتاب والبينات عليهم‬ ‫والرحمة والخير الكثير‪ } .‬ل َعَل ّهُ ْ‬
‫ن { فإنه اشتمل من الدلة القاطعة على البعث‬ ‫مُنو َ‬ ‫م ي ُؤْ ِ‬ ‫قاِء َرب ّهِ ْ‬ ‫} ب ِل ِ َ‬
‫والجزاء بالعمال‪ ،‬ما يوجب لهم اليمان بلقاء ربهم والستعداد له‪.‬‬
‫َ‬
‫ك { أي‪:‬‬ ‫مَباَر ٌ‬ ‫ب أنزل َْناهُ ُ‬ ‫ذا { القرآن العظيم‪ ،‬والذكر الحكيم‪ } .‬ك َِتا ٌ‬ ‫} وَهَ َ‬
‫فيه الخير الكثير والعلم الغزير‪ ،‬وهو الذي تستمد منه سائر العلوم‪،‬‬
‫وتستخرج منه البركات‪ ،‬فما من خير إل وقد دعا إليه ورغب فيه‪ ،‬وذكر‬
‫الحكم والمصالح التي تحث عليه‪ ،‬وما من شر إل وقد نهى عنه وحذر منه‪،‬‬
‫وذكر السباب المنفرة عن فعله وعواقبها الوخيمة } َفات ّب ُِعوهُ { فيما يأمر‬
‫قوا { الله تعالى أن‬ ‫به وينهى‪ ،‬وابنوا أصول دينكم وفروعه عليه } َوات ّ ُ‬
‫ن { فأكبر سبب لنيل‬ ‫مو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫م { إن اتبعتموه } ت ُْر َ‬ ‫تخالفوا له أمرا } ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫رحمة الله اتباع هذا الكتاب‪ ،‬علما وعمل‪.‬‬
‫م‬
‫ست ِهِ ْ‬ ‫ن دَِرا َ‬ ‫ن كّنا عَ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ن قب ْل َِنا وَإ ِ ْ‬ ‫َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫فت َي ْ ِ‬ ‫طائ ِ َ‬‫ب عََلى َ‬ ‫ل ال ْك َِتا ُ‬ ‫ما ُأنز َ‬ ‫قوُلوا إ ِن ّ َ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫}أ ْ‬
‫َ‬
‫ن { أي‪ :‬أنزلنا إليكم هذا الكتاب المبارك قطعا لحجتكم‪ ،‬وخشية أن‬ ‫ل ََغافِِلي َ‬
‫تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا‪ ،‬أي‪ :‬اليهود والنصارى‪.‬‬
‫م تنزل علينا كتابا‪ ،‬والكتب‬ ‫ن { أي‪ :‬تقولون ل َ ْ‬ ‫م ل ََغافِِلي َ‬ ‫ست ِهِ ْ‬ ‫ن دَِرا َ‬ ‫ن ك ُّنا عَ ْ‬ ‫} وَإ ِ ْ‬
‫التي أنزلتها على الطائفتين ليس لنا بها علم ول معرفة‪ ،‬فأنزلنا إليكم كتابا‪،‬‬
‫لم ينزل من السماء كتاب أجمع ول أوضح ول أبين منه‪.‬‬
‫َ‬ ‫قوُلوا ل َوْ أ َّنا ُأنز َ‬ ‫} أ َوْ ت َ ُ‬
‫م { أي‪ :‬إما أن تعتذروا‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫دى ِ‬ ‫ب ل َك ُّنا أهْ َ‬ ‫ل عَل َي َْنا ال ْك َِتا ُ‬
‫بعدم وصول أصل الهداية إليكم‪ ،‬وإما أن تعتذروا‪ ،‬بـ]عدم[ كمالها وتمامها‪،‬‬
‫ة‬
‫م ب َي ّن َ ٌ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫فحصل لكم بكتابكم أصل الهداية وكمالها‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬فَ َ‬
‫دى { من‬ ‫م { وهذا اسم جنس‪ ،‬يدخل فيه كل ما يبين الحق } وَهُ ً‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬
‫م ْ‬
‫ِ‬
‫ة { أي‪:‬سعادة لكم في دينكم ودنياكم‪ ،‬فهذا يوجب لكم‬ ‫م ٌ‬‫ح َ‬
‫الضللة } وََر ْ‬
‫النقياد لحكامه واليمان بأخباره‪ ،‬وأن من لم يرفع به رأسا وكذب به‪ ،‬فإنه‬
‫أظلم الظالمين‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬فَم َ‬
‫ف‬ ‫ت الل ّهِ وَ َ‬
‫صد َ َ‬ ‫ب ِبآَيا ِ‬‫ن ك َذ ّ َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ّ‬
‫م ِ‬ ‫ن أظ ْل َ ُ‬‫َ ْ‬
‫عَن َْها { أي‪ :‬أعرض ونأى بجانبه‪.‬‬
‫ب { أي‪ :‬العذاب الذي‬ ‫ذا ِ‬ ‫ْ‬
‫سوَء العَ َ‬ ‫ن آَيات َِنا ُ‬ ‫ن عَ ْ‬ ‫صدُِفو َ‬
‫ن يَ ْ‬‫ذي َ‬‫زي ال ّ ِ‬ ‫ج ِ‬‫سن َ ْ‬
‫} َ‬
‫ن { لنفسهم ولغيرهم‪ ،‬جزاء‬ ‫صدُِفو َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫يسوء صاحبه ويشق عليه‪ } .‬ب ِ َ‬
‫ظلم ٍ ل ِل ْعَِبيدِ { ‪.‬‬ ‫ك بِ َ‬
‫ما َرب ّ َ‬ ‫لهم على عملهم السيء } وَ َ‬
‫وفي هذه اليات دليل على أن علم القرآن أجل العلوم وأبركها وأوسعها‪،‬‬
‫وأنه به تحصل الهداية إلى الصراط المستقيم‪ ،‬هداية تامة ل يحتاج معها‬
‫إلى تخرص المتكلمين‪ ،‬ول إلى أفكار المتفلسفين‪ ،‬ول لغير ذلك من علوم‬
‫الولين والخرين‪.‬‬
‫وأن المعروف أنه لم ينزل جنس الكتاب إل على الطائفتين‪] ،‬من[ اليهود‬
‫والنصارى‪ ،‬فهم أهل الكتاب عند الطلق‪ ،‬ل يدخل فيهم سائر الطوائف‪ ،‬ل‬
‫المجوس ول غيرهم‪.‬‬
‫وفيه‪ :‬ما كان عليه الجاهلية قبل نزول القرآن‪ ،‬من الجهل العظيم وعدم‬
‫العلم بما عند أهل الكتاب‪ ،‬الذين عندهم مادة العلم‪ ،‬وغفلتهم عن دراسة‬
‫كتبهم‪.‬‬

‫) ‪(1/280‬‬

‫ل ينظ ُرون إّل أ َن تأ ْتيهم ال ْمَلئك َة أ َو يأ ْتي رب َ َ ْ‬


‫م‬
‫ك ي َوْ َ‬‫ت َرب ّ َ‬ ‫ض آ ََيا ِ‬
‫ي ب َعْ ُ‬
‫ك أوْ ي َأت ِ َ‬ ‫َ ِ ُ ْ َ ِ َ َ ّ‬ ‫ْ َ َُِ ُ‬ ‫هَ ْ ْ َ ْ ُ َ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ت‬
‫سب َ ْ‬‫ل أوْ ك َ َ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫ت ِ‬ ‫من َ ْ‬‫نآ َ‬ ‫م ت َك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫مان َُها ل ْ‬
‫سا ِإي َ‬‫ف ً‬‫فع ُ ن َ ْ‬ ‫َ‬
‫ك ل ي َن ْ َ‬ ‫ض آ ََيا ِ‬
‫ت َرب ّ َ‬ ‫ي َأِتي ب َعْ ُ‬
‫ن )‪(158‬‬ ‫من ْت َظ ُِرو َ‬
‫ل ان ْت َظ ُِروا إ ِّنا ُ‬‫خي ًْرا قُ ِ‬
‫مان َِها َ‬
‫ِفي ِإي َ‬
‫ل ينظ ُرون إل أ َن تأ ْتيهم ال ْملئك َة أ َو يأ ْتي رب َ َ ْ‬
‫ض‬
‫ي ب َعْ ُ‬ ‫ك أوْ ي َأت ِ َ‬ ‫َ ِ ُ ْ َ ِ َ َ ّ‬ ‫ْ َ َُِ ُ‬ ‫} ‪ } { 158‬هَ ْ ْ َ ْ ُ َ ِ‬
‫ن‬
‫م ْ‬
‫ت ِ‬ ‫من َ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ُ‬
‫م ت َك ْ‬ ‫َ‬
‫مان َُها ل ْ‬ ‫سا ِإي َ‬ ‫ف ً‬ ‫فع ُ ن َ ْ‬ ‫َ‬
‫ت َرب ّك ل ي َن ْ َ‬ ‫ض آَيا ِ‬ ‫م ي َأِتي ب َعْ ُ‬ ‫ك ي َوْ َ‬ ‫ت َرب ّ َ‬ ‫آَيا ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫من ْت َظ ُِرو َ‬ ‫ل ان ْت َظ ُِروا إ ِّنا ُ‬ ‫خي ًْرا قُ ِ‬
‫مان َِها َ‬ ‫ت ِفي ِإي َ‬ ‫سب َ ْ‬‫ل أوْ ك َ‬ ‫قَب ْ ُ‬
‫ن‬ ‫َ‬
‫يقول تعالى‪ :‬هل ينظر هؤلء الذين استمر ظلمهم وعنادهم‪ِ } ،‬إل أ ْ‬
‫ْ‬
‫كة { لقبض‬ ‫ملئ ِ َ‬ ‫م { مقدمات العذاب‪ ،‬ومقدمات الخرة بأن تأتيهم } ال ْ َ‬ ‫ت َأت ِي َهُ ُ‬
‫أرواحهم‪ ،‬فإنهم إذا وصلوا إلى تلك الحال‪ ،‬لم ينفعهم اليمان ول صالح‬
‫ك { لفصل القضاء بين العباد‪ ،‬ومجازاة المحسنين‬ ‫ي َرب ّ َ‬ ‫َ ْ‬
‫العمال‪ } .‬أوْ ي َأت ِ َْ‬
‫ك { الدالة على قرب الساعة‪.‬‬ ‫ت َرب ّ َ‬ ‫َ‬
‫ض آَيا ِ‬ ‫والمسيئين‪ } .‬أوْ ي َأِتي ب َعْ ُ‬
‫ك { الخارقة للعادة‪ ،‬التي يعلم بها أن الساعة قد‬ ‫ت َرب ّ َ‬ ‫ْ‬
‫ض آَيا ِ‬ ‫م ي َأِتي ب َعْ ُ‬ ‫} ي َوْ َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫من َ ْ‬‫نآ َ‬ ‫م ت َك ُ ْ‬‫مان َُها ل َ ْ‬
‫سا ِإي َ‬ ‫ف ً‬ ‫فع ُ ن َ ْ‬ ‫دنت‪ ،‬وأن القيامة قد اقتربت‪ } .‬ل ي َن ْ َ‬
‫قَب ُ َ‬
‫خي ًْرا { أي‪ :‬إذا وجد بعض آيات الله لم ينفع‬ ‫مان َِها َ‬ ‫ت ِفي ِإي َ‬ ‫سب َ ْ‬‫ل أوْ ك َ َ‬ ‫ْ‬
‫ن المقصر أن يزداد خيُره بعد ذلك‪ ،‬بل‬ ‫الكافر إيمانه أن آمن‪ ،‬ول المؤم َ‬
‫ينفعه ما كان معه من اليمان قبل ذلك‪ ،‬وما كان له من الخير المرجوّ قبل‬
‫أن يأتي بعض اليات‪.‬‬
‫والحكمة في هذا ظاهرة‪ ،‬فإنه إنما كان اليمان ينفع إذا كان إيمانا بالغيب‪،‬‬
‫وكان اختيارا من العبد‪ ،‬فأما إذا وجدت اليات صار المر شهادة‪ ،‬ولم يبق‬
‫لليمان فائدة‪ ،‬لنه يشبه اليمان الضروري‪ ،‬كإيمان الغريق والحريق‬
‫ونحوهما‪ ،‬ممن إذا رأى الموت‪ ،‬أقلع عما هو فيه كما قال تعالى‪ } :‬فَل َ ّ‬
‫ما‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ن * فَل َ ْ‬
‫م يَ ُ‬ ‫كي َ‬ ‫م ْ‬
‫شرِ ِ‬ ‫ما ك ُّنا ب ِهِ ُ‬ ‫حد َهُ وَك َ َ‬
‫فْرَنا ب ِ َ‬ ‫مّنا ِبالل ّهِ وَ ْ‬‫سَنا َقاُلوا آ َ‬ ‫َرأْوا ب َأ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫عَبادِهِ { ] ص‬ ‫ت ِفي ِ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ة الل ّهِ ال ِّتي قَد ْ َ‬ ‫سن ّ َ‬
‫سَنا ُ‬ ‫ما َرأْوا ب َأ َ‬ ‫م لَ ّ‬‫مان ُهُ ْ‬
‫م ِإي َ‬‫فعُهُ ْ‬‫ي َن ْ َ‬
‫‪. [ 282‬‬
‫وقد تكاثرت الحاديث الصحيحة عن النبي صلى الله عليه وسلم أن المراد‬
‫ببعض آيات الله طلوع الشمس من مغربها وأن الناس إذا رأوها آمنوا فلم‬
‫ب التوبة‪.‬‬ ‫ينفعهم إيمانهم وُيغلق حينئذ با ُ‬
‫ولما كان هذا وعيدا للمكذبين بالرسول صلى الله عليه وسلم منتظرا وهم‬
‫ينتظرون بالنبي صلى الله عليه وسلم وأتباعه قوارع الدهر ومصائب‬
‫ن { فستعلمون أينا أحق بالمن‪.‬‬ ‫من ْت َظ ُِرو َ‬
‫ل ان ْت َظ ُِروا إ ِّنا ُ‬ ‫المورقال } قُ ِ‬
‫وفي هذه الية دليل لمذهب أهل السنة والجماعة في إثبات الفعال‬
‫الختيارية لله تعالى كالستواء والنزول والتيان لله تبارك وتعالى من غير‬
‫تشبيه له بصفات المخلوقين‪.‬‬
‫وفي الكتاب والسنة من هذا شيء كثير وفيه أن من جملة أشراط الساعة‬
‫طلوع الشمس من مغربها وأن الله تعالى حكيم قد جرت عادته وسنته أن‬
‫اليمان إنما ينفع إذا كان اختياريا ل اضطراريا كما تقدم‪.‬‬
‫وأن النسان يكتسب الخير بإيمانه فالطاعة والبر والتقوى إنما تنفع وتنمو‬
‫إذا كان مع العبد اليمان فإذا خل القلب من اليمان لم ينفعه شيء من‬
‫ذلك‪.‬‬

‫) ‪(1/281‬‬

‫م إ َِلى‬ ‫َ‬
‫مُرهُ ْ‬‫ما أ ْ‬
‫يٍء إ ِن ّ َ‬
‫ش ْ‬‫م ِفي َ‬ ‫من ْهُ ْ‬
‫ت ِ‬ ‫س َ‬‫شي ًَعا ل َ ْ‬
‫كاُنوا ِ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ن فَّرُقوا ِدين َهُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫إِ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ّ‬
‫مَثال َِها‬
‫شُر أ ْ‬ ‫ه عَ ْ‬ ‫سن َةِ فَل ُ‬‫ح َ‬‫جاَء ِبال َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ن )‪َ (159‬‬ ‫فعَلو َ‬‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫م ي ُن َب ّئ ُهُ ْ‬
‫م بِ َ‬ ‫اللهِ ث ُ ّ‬
‫ن )‪(160‬‬ ‫مو َ‬ ‫م َل ي ُظ ْل َ ُ‬ ‫مث ْل ََها وَهُ ْ‬
‫جَزى إ ِّل ِ‬ ‫سي ّئ َةِ فََل ي ُ ْ‬‫جاَء ِبال ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫وَ َ‬
‫م ِفي‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫س َ‬ ‫شي ًَعا ل َ ْ‬ ‫كاُنوا ِ‬ ‫م وَ َ‬ ‫ن فَّرُقوا ِدين َهُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫} ‪ } { 160 ، 159‬إ ِ ّ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ة‬
‫سن َ ِ‬
‫ح َ‬ ‫جاَء ِبال َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن* َ‬ ‫فعَلو َ‬ ‫ما كاُنوا ي َ ْ‬ ‫َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫م إ َِلى اللهِ ث ُ ّ‬
‫م ي ُن َب ّئ ُهُ ْ‬ ‫ّ‬ ‫مُرهُ ْ‬ ‫ما أ ْ‬‫يٍء إ ِن ّ َ‬
‫ش ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫م ل ي ُظل ُ‬ ‫مث ْلَها وَهُ ْ‬ ‫جَزى ِإل ِ‬ ‫سي ّئ َةِ َفل ي ُ ْ‬ ‫جاَء ِبال ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫مَثال َِها وَ َ‬‫شُر أ ْ‬ ‫ه عَ ْ‬ ‫فَل ُ‬
‫ل أخذ لنفسه‬ ‫يتوعد تعالى الذين فرقوا دينهم‪ ،‬أي‪ :‬شتتوه وتفرقوا فيه‪ ،‬وك ّ‬
‫نصيبا من السماء التي ل تفيد النسان في دينه شيئا‪ ،‬كاليهودية والنصرانية‬
‫والمجوسية‪ .‬أو ل يكمل بها إيمانه‪ ،‬بأن يأخذ من الشريعة شيئا ويجعله‬
‫دينه‪ ،‬ويدع مثله‪ ،‬أو ما هو أولى منه‪ ،‬كما هو حال أهل الفرقة من أهل‬
‫البدع والضلل والمفرقين للمة‪.‬‬
‫ودلت الية الكريمة أن الدين يأمر بالجتماع والئتلف‪ ،‬وينهى عن التفرق‬
‫والختلف في أهل الدين‪ ،‬وفي سائر مسائله الصولية والفروعية‪.‬‬
‫يٍء { أي‬ ‫ش ْ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫س َ‬ ‫وأمره أن يتبرأ ممن فرقوا دينهم فقال‪ } :‬ل َ ْ‬
‫م إ َِلى‬ ‫َ‬
‫مُرهُ ْ‬ ‫ما أ ْ‬ ‫لست منهم وليسوا منك‪ ،‬لنهم خالفوك وعاندوك‪ } .‬إ ِن ّ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫فعَلو َ‬ ‫ُ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫الل ّهِ { يردون إليه فيجازيهم بأعمالهم } ث ُ ّ‬
‫م ي ُن َب ّئ ُهُ ْ‬
‫سن َةِ { القولية والفعلية‪،‬‬ ‫ح َ‬ ‫جاَء ِبال ْ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ثم ذكر صفة الجزاء فقال‪َ } :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫مَثال َِها {‬ ‫شُر أ ْ‬ ‫ه عَ ْ‬ ‫الظاهرة والباطنة‪ ،‬المتعلقة بحق الله أو حق خلقه } فَل ُ‬
‫هذا أقل ما يكون من التضعيف‪.‬‬
‫مث ْل ََها { وهذا من تمام عدله تعالى‬ ‫سي ّئ َةِ َفل ي ُ ْ‬
‫جَزى ِإل ِ‬ ‫جاَء ِبال ّ‬
‫ن َ‬
‫م ْ‬
‫} وَ َ‬
‫ن{‪.‬‬‫مو َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫م ل ي ُظل ُ‬
‫وإحسانه‪ ،‬وأنه ل يظلم مثقال ذرة‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَهُ ْ‬
‫) ‪(1/282‬‬

‫ما‬‫فا وَ َ‬ ‫حِني ً‬ ‫م َ‬ ‫هي َ‬ ‫ة إ ِب َْرا ِ‬ ‫مل ّ َ‬


‫ما ِ‬ ‫قيم ٍ ِديًنا قِي َ ً‬ ‫ست َ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫داِني َرّبي إ َِلى ِ‬ ‫ل إ ِن ِّني هَ َ‬ ‫قُ ْ‬
‫ب‬ ‫ّ‬
‫ماِتي ل ِلهِ َر ّ‬ ‫م َ‬ ‫حَيايَ وَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫كي وَ َ‬ ‫س ِ‬ ‫صلِتي وَن ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ن َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫ن )‪ (161‬قُ ْ‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫َ‬
‫ل‬‫ن )‪ (163‬قُ ْ‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬‫م ْ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫ت وَأ ََنا أ َوّ ُ‬ ‫مْر ُ‬
‫ك ل َه وبذ َل ِ َ ُ‬
‫كأ ِ‬ ‫ري َ ُ َ ِ‬ ‫ش ِ‬‫ن )‪َ (162‬ل َ‬ ‫مي َ‬ ‫ال َْعال َ ِ‬
‫س إ ِّل عَل َي َْها وََل ت َزُِر‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف ٍ‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫ب كُ ّ‬ ‫س ُ‬ ‫يٍء وََل ت َك ْ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ب كُ ّ‬ ‫أغَي َْر الل ّهِ أب ِْغي َرّبا وَهُوَ َر ّ‬
‫ن)‬ ‫فو َ‬ ‫خت َل ِ ُ‬
‫م ِفيهِ ت َ ْ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م بِ َ‬ ‫م فَي ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬‫جعُك ُ ْ‬ ‫مْر ِ‬ ‫م َ‬ ‫م إ َِلى َرب ّك ُ ْ‬ ‫خَرى ث ُ ّ‬ ‫َوازَِرةٌ وِْزَر أ ُ ْ‬
‫خَلئ ِ َ ْ َ‬
‫ت‬‫جا ٍ‬‫ض د ََر َ‬ ‫م فَوْقَ ب َعْ ٍ‬ ‫ضك ُ ْ‬ ‫ض وََرفَعَ ب َعْ َ‬ ‫ف الْر ِ‬ ‫م َ‬‫جعَل َك ُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫‪ (164‬وَهُوَ ال ّ ِ‬
‫ه ل َغَ ُ‬ ‫ريعُ ال ْعِ َ‬ ‫َ‬
‫م )‪(165‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ب وَإ ِن ّ ُ‬ ‫قا ِ‬ ‫س ِ‬ ‫ك َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬
‫م إِ ّ‬ ‫ما آَتاك ُ ْ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫ل ِي َب ْل ُوَك ُ ْ‬

‫مل ّ َ‬
‫ة‬ ‫ما ِ‬ ‫قيم ٍ ِديًنا قِي َ ً‬ ‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ط ُ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫داِني َرّبي إ َِلى ِ‬ ‫ل إ ِن ِّني هَ َ‬ ‫} ‪ } { 165 - 161‬قُ ْ‬
‫ي‬
‫حَيا َ‬ ‫م ْ‬‫كي وَ َ‬ ‫س ِ‬ ‫صلِتي وَن ُ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫ن * قُ ْ‬ ‫كي َ‬ ‫شرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫فا وَ َ‬ ‫حِني ً‬ ‫م َ‬ ‫هي َ‬ ‫إ ِب َْرا ِ‬
‫ن*‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ت وَأَنا أوّ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ه وَب ِذ َل ِ َ‬ ‫َ‬ ‫ري َ‬ ‫ن*ل َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬
‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ال ُ‬ ‫مْر ُ‬ ‫كأ ِ‬ ‫كل ُ‬ ‫ش ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ب الَعال ِ‬ ‫ماِتي ل ِلهِ َر ّ‬ ‫م َ‬‫وَ َ‬
‫َ‬ ‫ب كُ ّ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫س ِإل عَلي َْها َول‬ ‫ف ٍ‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫س ُ‬ ‫يٍء َول ت َك ْ ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ب كُ ّ‬ ‫ل أغَي َْر اللهِ أب ِْغي َرّبا وَهُوَ َر ّ‬ ‫قُ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن‬
‫فو َ‬ ‫خت َل ِ ُ‬ ‫م ِفيهِ ت َ ْ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م بِ َ‬ ‫م فَي ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬ ‫جعُك ُ ْ‬ ‫مْر ِ‬ ‫م َ‬ ‫م إ ِلى َرب ّك ُ ْ‬ ‫خَرى ث ُ ّ‬ ‫ت َزُِر َوازَِرةٌ وِْزَر أ ْ‬
‫ت ل ِي َب ْل ُوَك ُ ْ‬
‫م‬ ‫جا ٍ‬ ‫ض د ََر َ‬ ‫م فَوْقَ ب َعْ ٍ‬ ‫ضك ُ ْ‬ ‫ض وََرفَعَ ب َعْ َ‬ ‫ف الْر ِ‬ ‫خلئ ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫جعَل َك ُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫* وَهُوَ ال ّ ِ‬
‫م{‪.‬‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫ه ل َغَ ُ‬‫ب وَإ ِن ّ ُ‬ ‫قا ِ‬ ‫ريعُ ال ْعِ َ‬ ‫س ِ‬ ‫ك َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫ما آَتاك ُ ْ‬ ‫ِفي َ‬
‫يأمر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم‪ ،‬أن يقول ويعلن بما هو عليه من‬
‫الهداية إلى الصراط المستقيم‪ :‬الدين المعتدل المتضمن للعقائد النافعة‪،‬‬
‫والعمال الصالحة‪ ،‬والمر بكل حسن‪ ،‬والنهي عن كل قبيح‪ ،‬الذي عليه‬
‫النبياء والمرسلون‪ ،‬خصوصا إمام الحنفاء‪ ،‬ووالد من بعث من بعد موته‬
‫من النبياء‪ ،‬خليل الرحمن إبراهيم عليه الصلة والسلم‪ ،‬وهو الدين الحنيف‬
‫المائل عن كل دين غير مستقيم‪ ،‬من أديان أهل النحراف‪ ،‬كاليهود‬
‫والنصارى والمشركين‪.‬‬
‫صلِتي‬ ‫ن َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫وهذا عموم‪ ،‬ثم خصص من ذلك أشرف العبادات فقال‪ } :‬قُ ْ‬
‫كي { أي‪ :‬ذبحي‪ ،‬وذلك لشرف هاتين العبادتين وفضلهما‪ ،‬ودللتهما‬ ‫س ِ‬ ‫وَن ُ ُ‬
‫على محبة الله تعالى‪ ،‬وإخلص الدين له‪ ،‬والتقرب إليه بالقلب واللسان‬
‫والجوارح‪ ،‬وبالذبح الذي هو بذل ما تحبه النفس من المال‪ ،‬لما هو أحب‬
‫إليها وهو الله تعالى‪.‬‬
‫ومن أخلص في صلته ونسكه‪ ،‬استلزم ذلك إخلصه لله في سائر أعماله‪.‬‬
‫ي‪،‬‬ ‫ماِتي { أي‪ :‬ما آتيه في حياتي‪ ،‬وما يجريه الله عل ّ‬ ‫م َ‬ ‫حَيايَ وَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫وقوله‪ } :‬وَ َ‬
‫ه{‬ ‫ك لَ ُ‬ ‫ري َ‬ ‫ش ِ‬ ‫ن{}ل َ‬ ‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫ي في مماتي‪ ،‬الجميع } ل ِل ّهِ َر ّ‬ ‫وما يقدر عل ّ‬
‫في العبادة‪ ،‬كما أنه ليس له شريك في الملك والتدبير‪ ،‬وليس هذا‬
‫ت{‬ ‫ُ‬ ‫الخلص لله ابتداعا مني‪ ،‬وبدعا أتيته من تلقاء نفسي‪ ،‬بل } ب ِذ َل ِ َ‬
‫مْر ُ‬ ‫كأ ِ‬
‫ن { من هذه‬ ‫مي َ‬ ‫سل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ال ْ ُ‬ ‫أمرا حتما‪ ،‬ل أخرج من التبعة إل بامتثاله } وَأ ََنا أ َوّ ُ‬
‫المة‪.‬‬
‫ل أغَي َْر اللهِ { من المخلوقين } أب ِْغي َرّبا { أي‪ :‬يحسن ذلك ويليق بي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫} قُ ْ‬
‫أن أتخذ غيره‪ ،‬مربيا ومدبرا والله رب كل شيء‪ ،‬فالخلق كلهم داخلون‬
‫تحت ربوبيته‪ ،‬منقادون لمره؟"‪.‬‬
‫فتعين علي وعلى غيري‪ ،‬أن يتخذ الله ربا‪ ،‬ويرضى به‪ ،‬وأل يتعلق بأحد من‬
‫المربوبين الفقراء العاجزين‪.‬‬
‫س { من خير‬ ‫ف ٍ‬ ‫ل نَ ْ‬ ‫ُ‬
‫بك ّ‬ ‫س ُ‬ ‫ْ‬
‫ثم رغب ورهب بذكر )‪ (1‬الجزاء فقال‪َ } :‬ول ت َك ِ‬
‫َ‬
‫ساَء‬ ‫نأ َ‬ ‫م ْ‬ ‫سهِ وَ َ‬ ‫ف ِ‬ ‫حا فَل ِن َ ْ‬ ‫صال ِ ً‬‫ل َ‬ ‫م َ‬‫ن عَ ِ‬‫م ْ‬ ‫وشر } ِإل عَل َي َْها { كما قال تعالى‪َ } :‬‬
‫فَعَل َي َْها { ‪.‬‬
‫خَرى { بل كل عليه وزر نفسه‪ ،‬وإن كان أحد قد‬ ‫} َول ت َزُِر َوازَِرةٌ وِْزَر أ ُ ْ‬
‫تسبب في ضلل غيره ووزره‪ ،‬فإن عليه وزر التسبب من غير أن ينقص‬
‫من وزر المباشر شيء‪.‬‬
‫م‬‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م بِ َ‬‫م { يوم ] ص ‪ [ 283‬القيامة } فَي ُن َب ّئ ُك ُ ْ‬ ‫جعُك ُ ْ‬ ‫مْر ِ‬ ‫م َ‬ ‫م إ َِلى َرب ّك ُ ْ‬ ‫} ثُ ّ‬
‫ن { من خير وشر‪ ،‬ويجازيكم على ذلك أوفى الجزاء‪.‬‬ ‫فو َ‬ ‫خت َل ِ ُ‬‫ِفيهِ ت َ ْ‬
‫ض { أي‪ :‬يخلف بعضكم بعضا‪ ،‬واستخلفكم‬ ‫ف الْر ِ‬ ‫خلئ ِ َ‬ ‫م َ‬ ‫جعَل َك ُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫} وَهُوَ ال ّ ِ‬
‫خر لكم جميع ما فيها‪ ،‬وابتلكم‪ ،‬لينظر كيف تعملون‪.‬‬ ‫الله في الرض‪ ،‬وس ّ‬
‫ْ‬ ‫ضك ُ ْ‬
‫خلق‬ ‫ت { في القوة والعافية‪ ،‬والرزق وال َ‬ ‫جا ٍ‬ ‫م فَوْقَ ب َعْ ٍ‬
‫ض د ََر َ‬ ‫} وََرفَعَ ب َعْ َ‬
‫ع‬
‫ري ُ‬‫س ِ‬ ‫ك َ‬ ‫ن َرب ّ َ‬ ‫م { فتفاوتت أعمالكم‪ } .‬إ ِ ّ‬ ‫ما آَتاك ُ ْ‬ ‫م ِفي َ‬ ‫خُلق‪ } .‬ل ِي َب ْل ُوَك ُ ْ‬ ‫وال ُ‬
‫م { لمن آمن به‬ ‫حي ٌ‬ ‫فوٌر َر ِ‬ ‫َ‬
‫ه لغَ ُ‬
‫ذب بآياته } وَإ ِن ّ ُ‬ ‫ب { لمن عصاه وك ّ‬ ‫قا ِ‬ ‫ال ْعِ َ‬
‫وعمل صالحا‪ ،‬وتاب من الموبقات‪.‬‬
‫آخر تفسير سورة النعام‪ ،‬فلله الحمد والثناء وصلى الله وسلم على نبينا‬
‫محمد‪.‬‬
‫]وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين[ )‪. (2‬‬
‫المجلد الثالث من تيسير الرحمن في تفسير القرآن لجامعه الفقير إلى‬
‫الله‪ :‬عبد الرحمن بن ناصر السعدي‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬بذلك‪.‬‬
‫)‪ (2‬زيادة من ب‪ ،‬وقد جاء بعدها قول الناسخ‪) :‬وكان الفراغ من كتابته في‬
‫يوم الجمعة الموافق خمس وعشرين من جمادى الخرة سنة ‪ 1345‬هـ‪،‬‬
‫بقلم الفقير إلى ربه المنان‪ :‬علي الحسن العلي الحسن البريكان‪ ،‬وقد‬
‫نسخته على نسخة المؤلف غفر الله له وأثابه على ذلك الثواب الجزيل‪،‬‬
‫وجزاه الله عنا وعن جميع المسلمين أفضل الجزاء في دار الجزاء‪ ،‬وأدخله‬
‫الله برحمته فسيح الجنان‪ ،‬ووقانا وإياه عذاب النيران بفضله وكرمه‪ ،‬إنه‬
‫قريب مجيب‪ ،‬وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين آمين‬
‫ثم آمين يا رب العالمين (‪.‬‬

‫) ‪(1/282‬‬

‫بسم الله الرحمن الرحيم‬


‫تفسير سورةالعراف‬
‫مكية‬

‫) ‪(1/283‬‬
‫ه ل ِت ُن ْذَِر ب ِهِ وَذِك َْرى‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫حَر ٌ‬ ‫ك َ‬ ‫صد ْرِ َ‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫ك فََل ي َك ُ ْ‬ ‫ل إ ِل َي ْ َ‬ ‫ب أ ُن ْزِ َ‬ ‫المص )‪ (1‬ك َِتا ٌ‬
‫دون ِهِ أ َوْل َِياَء قَِليلً‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م وَل ت َت ّب ُِعوا ِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن َرب ّك ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ل إ ِلي ْك ْ‬ ‫ما أن ْزِ َ‬ ‫ُ‬
‫ن )‪ (2‬ات ّب ُِعوا َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬‫ل ِل ْ ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(4‬‬ ‫م َقائ ُِلو َ‬ ‫سَنا ب ََياًتا أوْ هُ ْ‬ ‫ها ب َأ ُ‬ ‫جاَء َ‬ ‫ها فَ َ‬ ‫ن قَْري َةٍ أهْل َك َْنا َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن )‪ (3‬وَك َ ْ‬ ‫ما ت َذ َك ُّرو َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ْ ّ‬ ‫ل‬ ‫أ‬ ‫س‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ف‬ ‫(‬‫‪5‬‬ ‫)‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫مي‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ظا‬ ‫نا‬
‫ّ‬ ‫ك‬ ‫نا‬‫ّ‬ ‫ِ‬ ‫إ‬ ‫لوا‬ ‫قا‬ ‫ن‬‫ْ‬ ‫أ‬ ‫ل‬ ‫إ‬
‫ُ ِ‬ ‫نا‬
‫َ‬ ‫س‬ ‫أ‬‫َ‬ ‫ب‬ ‫م‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ء‬‫جا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ذ‬ ‫إ‬ ‫م‬
‫َ ْ ِ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬ ‫وا‬ ‫ْ‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫د‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫كا‬ ‫ما‬ ‫فَ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ما كّناُ‬ ‫م ب ِعِلم ٍ وَ َ‬ ‫ن عَلي ْهِ ْ‬ ‫ص ّ‬ ‫ق ّ‬ ‫ن )‪ (6‬فَلن َ ُ‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫سأل ّ‬ ‫م وَلن َ ْ‬ ‫س َ‬
‫ل إ ِلي ْهِ ْ‬ ‫ن أْر ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ن )‪(7‬‬ ‫غائ ِِبي َ‬ ‫َ‬

‫ن‬ ‫ك َفل ي َك ُ ْ‬ ‫ل إ ِل َي ْ َ‬ ‫ب أ ُن ْزِ َ‬ ‫حيم ِ المص * ك َِتا ٌ‬ ‫ن الّر ِ‬ ‫م ِ‬ ‫ح َ‬ ‫سم ِ الل ّهِ الّر ْ‬ ‫} ‪ } { 7 - 1‬بِ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ما أن ْزِ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫صد ْرِ َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ل إ ِلي ْك ْ‬ ‫ن * ات ّب ُِعوا َ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ه ل ِت ُن ْذَِر ب ِهِ وَذِكَرى ل ِل ُ‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫حَر ٌ‬ ‫ك َ‬ ‫ِفي َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ها‬ ‫ن قَْري َةٍ أهْلكَنا َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ن * وَك ْ‬ ‫ما ت َذ َكُرو َ‬ ‫دون ِهِ أوْل َِياَء قَِليل َ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م َول ت َت ّب ُِعوا ِ‬ ‫َرب ّك ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن‬‫سَنا ِإل أ ْ‬ ‫م ب َأ ُ‬ ‫جاَءهُ ْ‬ ‫م إ ِذ ْ َ‬ ‫واهُ ْ‬ ‫ن د َعْ َ‬ ‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن * فَ َ‬ ‫م َقائ ُِلو َ‬ ‫سَنا ب ََياًتا أوْ هُ ْ‬ ‫ها ب َأ ُ‬ ‫جاَء َ‬ ‫فَ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ن*‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫سأل ّ‬ ‫م وَلن َ ْ‬ ‫ل إ ِلي ْهِ ْ‬ ‫س َ‬ ‫ن أْر ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫سأل ّ‬ ‫ن * فَلن َ ْ‬ ‫مي َ‬ ‫َقالوا إ ِّنا كّنا ظال ِ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫غائ ِِبي َ‬ ‫ما ك ُّنا َ‬ ‫ْ‬
‫م ب ِعِلم ٍ وَ َ‬ ‫ن عَل َي ْهِ ْ‬ ‫ص ّ‬ ‫ق ّ‬ ‫فَل َن َ ُ‬
‫يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مبينا له عظمة القرآن‪:‬‬
‫ك { أي‪ :‬كتاب جليل حوى كل ما يحتاج إليه العباد‪ ،‬وجميع‬ ‫ل إ ِل َي ْ َ‬ ‫ب ُأنز َ‬ ‫} ك َِتا ٌ‬
‫صد ْرِ َ‬
‫ك‬ ‫ن ِفي َ‬ ‫المطالب اللهية‪ ،‬والمقاصد الشرعية‪ ،‬محكما مفصل } َفل ي َك ُ ْ‬
‫ه { أي‪ :‬ضيق وشك واشتباه‪ ،‬بل لتعلم أنه تنزيل من حكيم حميد }‬ ‫من ْ ُ‬ ‫ج ِ‬ ‫حَر ٌ‬ ‫َ‬
‫ميدٍ { وأنه‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫كي‬ ‫ح‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ل‬‫ٌ‬ ‫تنزي‬ ‫ه‬ ‫ف‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ول‬ ‫ه‬ ‫ي‬ ‫د‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫ي‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ِ ْ َ ِ ٍ َ ِ‬ ‫ِ ْ َْ ِ َ َْ ِ َ ِ ْ َ ِ ِ َ‬ ‫ل َ ِ ِ َ ِ‬
‫ط‬ ‫با‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ه‬ ‫تي‬ ‫أ‬ ‫ي‬
‫أصدق الكلم فلينشرح له صدرك‪ ،‬ولتطمئن به نفسك‪ ،‬ولتصدع بأوامره‬
‫ونواهيه‪ ،‬ول تخش لئما ومعارضا‪.‬‬
‫} ل ِت ُن ْذَِر ب ِهِ { الخلق‪ ،‬فتعظهم وتذكرهم‪ ،‬فتقوم الحجة على المعاندين‪.‬‬
‫ن الذ ّك َْرى‬ ‫ن { كما قال تعالى‪ } :‬وَذ َك ّْر فَإ ِ ّ‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫} و { ليكون } ذِك َْرى ل ِل ْ ُ‬
‫ن { يتذكرون به الصراط المستقيم‪ ،‬وأعماله الظاهرة‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ف ع ُ ال ْ ُ‬ ‫ت َن ْ َ‬
‫والباطنة‪ ،‬وما يحول بين العبد‪ ،‬وبين سلوكه‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫ل إ ِلي ْك ْ‬ ‫ما أنز َ‬ ‫ثم خاطب الّله العباد‪ ،‬وألفتهم إلى الكتاب فقال‪ } :‬ات ّب ُِعوا َ‬
‫م { الذي‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م { أي‪ :‬الكتاب الذي أريد إنزاله لجلكم‪ ،‬وهو‪ِ } :‬‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫يريد أن يتم تربيته لكم‪ ،‬فأنزل عليكم هذا الكتاب الذي‪ ،‬إن اتبعتموه‪،‬‬
‫كملت تربيتكم‪ ،‬وتمت عليكم النعمة‪ ،‬وهديتم لحسن العمال والخلق‬
‫دون ِهِ أ َوْل َِياَء { أي‪ :‬تتولونهم‪ ،‬وتتبعون أهواءهم‪،‬‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ومعاليها } َول ت َت ّب ُِعوا ِ‬
‫وتتركون لجلها الحق‪.‬‬
‫ن { فلو تذكرتم وعرفتم المصلحة‪ ،‬لما آثرتم الضار على‬ ‫ما ت َذ َك ُّرو َ‬ ‫} قَِليل َ‬
‫ي‪.‬‬ ‫النافع‪ ،‬والعدو على الول ّ‬
‫ثم حذرهم عقوباته للمم الذين كذبوا ما جاءتهم به رسلهم‪ ،‬لئل يشابهوهم‬
‫ْ‬
‫سَنا { أي‪ :‬عذابنا الشديد‬ ‫ها ب َأ ُ‬ ‫جاَء َ‬ ‫ها فَ َ‬ ‫ن قَْري َةٍ أ َهْل َك َْنا َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫)‪ (1‬فقال‪ } :‬وَك َ ْ‬
‫َ‬
‫ن { أي‪ :‬في حين غفلتهم‪ ،‬وعلى غرتهم غافلون‪ ،‬لم‬ ‫م َقائ ُِلو َ‬ ‫} ب ََياًتا أوْ هُ ْ‬
‫يخطر الهلك على قلوبهم‪ .‬فحين جاءهم العذاب لم يدفعوه عن أنفسهم‪،‬‬
‫ول أغنت عنهم آلهتهم التي كانوا يرجونهم‪ ،‬ول أنكروا ما كانوا يفعلونه من‬
‫الظلم والمعاصي‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ما َ‬
‫ن { كما قال‬ ‫مي َ‬ ‫ن َقالوا إ ِّنا كّنا ظال ِ ِ‬ ‫سَنا ِإل أ ْ‬ ‫م ب َأ ُ‬ ‫جاَءهُ ْ‬ ‫م إ ِذ ْ َ‬ ‫واهُ ْ‬ ‫ن د َعْ َ‬ ‫كا َ‬ ‫} فَ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن قَْري َةٍ َ‬
‫ن*‬ ‫ري َ‬ ‫خ ِ‬ ‫ما آ َ‬ ‫ها قَوْ ً‬ ‫شأَنا ب َعْد َ َ‬ ‫ة وَأن ْ َ‬ ‫م ً‬ ‫ت ظال ِ َ‬ ‫كان َ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫مَنا ِ‬ ‫ص ْ‬ ‫م ْ قَ َ‬ ‫تعالى‪ } :‬وَك َ ْ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما أت ْرِفْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫جُعوا إ ِلى َ‬ ‫ضوا َواْر ِ‬ ‫ن * ل ت َْرك ُ ُ‬ ‫ضو َ‬ ‫من َْها ي َْرك ُ ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ذا هُ ْ‬ ‫سَنا إ ِ َ‬ ‫سوا ب َأ َ‬ ‫ح ّ‬ ‫ما أ َ‬ ‫فَل َ ّ‬
‫فيه ومساكنك ُم ل َعل ّك ُم ت َ‬
‫ت‬‫ما َزال َ ْ‬ ‫ن * فَ َ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ن * َقاُلوا َيا وَي ْل ََنا إ ِّنا ك ُّنا َ‬ ‫سأُلو َ‬ ‫ِ ِ َ َ َ ِِ ْ َ ْ ُ ْ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫دي َ‬ ‫م ِ‬
‫خا ِ‬‫دا َ‬ ‫صي ً‬ ‫ح ِ‬‫م َ‬ ‫جعَل َْناهُ ْ‬ ‫حّتى َ‬ ‫م َ‬ ‫واهُ ْ‬ ‫ك د َعْ َ‬ ‫ت ِل ْ َ‬
‫م { أي لنسألن المم الذين أرسل الّله‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ل إ ِل َي ْهِ ْ‬‫س َ‬‫ن أْر ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫سأل َ ّ‬ ‫وقوله } فَل َن َ ْ‬
‫م‬ ‫َ‬ ‫ما َ‬ ‫م فَي َ ُ‬
‫قو ُ‬
‫جب ْت ُ ُ‬
‫ذا أ َ‬ ‫ل َ‬ ‫م ي َُناِديهِ ْ‬‫إليهم المرسلين عما أجابوا به رسلهم } وَي َوْ َ‬
‫ن { اليات‬ ‫سِلي َ َ‬ ‫مْر َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ن { عن تبليغهم لرسالت ربهم وعما أجابتهم به‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫سأل َ ّ‬ ‫} وَل َن َ ْ‬
‫أممهم‬
‫ْ‬
‫م { أي على الخلق كلهم ما عملوا } ب ِعِلم ٍ { منه تعالى‬ ‫َ‬
‫ن عَلي ْهِ ْ‬ ‫ص ّ‬‫ق ّ‬ ‫} فَل َن َ ُ‬
‫ن { في وقت من الوقات كما قال تعالى‬ ‫غائ ِِبي َ‬ ‫ما ك ُّنا َ‬ ‫لعمالهم } وَ َ‬
‫َ‬
‫سب ْعَ ط ََرائ ِقَ وَ َ‬
‫ما‬ ‫م َ‬ ‫قَنا فَوْقَك ُ ْ‬‫خل َ ْ‬
‫قد ْ َ‬ ‫سوه ُ { وقال تعالى } وَل َ َ‬ ‫ه وَن َ ُ‬ ‫صاهُ الل ّ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫}أ ْ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫غافِِلي َ‬ ‫ق َ‬ ‫ك ُّنا عَن ال ْ َ ْ‬
‫خل ِ‬ ‫ِ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬فل يشابهونهم‪.‬‬

‫) ‪(1/283‬‬

‫ن‬‫م ْ‬
‫ن )‪ (8‬وَ َ‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫م ال ْ ُ‬
‫م ْ‬ ‫ك هُ ُ‬‫ه فَُأول َئ ِ َ‬
‫واِزين ُ ُ‬
‫م َ‬
‫ت َ‬‫قل َ ْ‬
‫ن ثَ ُ‬‫م ْ‬ ‫حق ّ ف َ َ‬ ‫مئ ِذٍ ال ْ َ‬
‫ن ي َوْ َ‬‫َوال ْوَْز ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ن )‪(9‬‬ ‫مو َ‬‫كاُنوا ب ِآَيات َِنا ي َظ ْل ِ ُ‬ ‫ما َ‬‫م بِ َ‬ ‫سهُ ْ‬‫ف َ‬‫سُروا أن ْ ُ‬
‫خ ِ‬‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫ك ال ّ ِ‬ ‫ه فَأول َئ ِ َ‬ ‫واِزين ُ ُ‬‫م َ‬‫ت َ‬ ‫ف ْ‬ ‫خ ّ‬‫َ‬

‫ن‬‫حو َ‬‫فل ِ ُ‬
‫م ْ‬ ‫م ال ْ ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫ه فَُأول َئ ِ َ‬ ‫واِزين ُ ُ‬ ‫م َ‬‫ت َ‬ ‫قل َ ْ‬
‫ن ثَ ُ‬‫م ْ‬ ‫حق ّ ف َ َ‬ ‫مئ ِذٍ ال ْ َ‬ ‫ن ي َوْ َ‬ ‫} ‪َ } { 9 ، 8‬وال ْوَْز ُ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫كاُنوا ِبآَيات َِنا‬ ‫ما َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫سهُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫سُروا أن ْ ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫ك ال ّ ِ‬ ‫ه فَأول َئ ِ َ‬ ‫واِزين ُ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ت َ‬ ‫ف ْ‬ ‫خ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫* وَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫ي َظ ْل ِ ُ‬
‫ت‬‫قل َ ْ‬ ‫ن ثَ ُ‬‫م ْ‬‫حق ّ ف َ َ‬ ‫مئ ِذٍ ال ْ َ‬ ‫ن ي َوْ َ‬ ‫ثم ذكر الجزاء على العمال‪ ،‬فقال‪َ } :‬وال ْوَْز ُ‬
‫ُ‬ ‫ه فَُأول َئ ِ َ‬
‫سُروا‬ ‫خ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬‫ك ال ّ ِ‬ ‫ه فَأول َئ ِ َ‬ ‫واِزين ُ ُ‬ ‫م َ‬‫ت َ‬ ‫ف ْ‬‫خ ّ‬‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن وَ َ‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫م ْ‬‫م ال ْ ُ‬ ‫ك هُ ُ‬ ‫واِزين ُ ُ‬ ‫م َ‬‫َ‬
‫ن { أي‪ :‬والوزن يوم القيامة يكون بالعدل‬ ‫مو َ‬ ‫ْ‬
‫ما كاُنوا ِبآيات َِنا ي َظل ِ ُ‬ ‫َ‬ ‫م بِ َ‬ ‫سهُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫أ َن ْ ُ‬
‫والقسط‪ ،‬الذي ل جور ] ص ‪ [ 284‬فيه ول ظلم بوجه‪.‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫م‬ ‫َ‬
‫ه { بأن رجحت كفة حسناته على سيئاته } فَأولئ ِك هُ ُ‬ ‫واِزين ُ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ت َ‬ ‫قل َ ْ‬ ‫ن ثَ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫} فَ َ‬
‫ن { أي‪ :‬الناجون من المكروه‪ ،‬المدركون للمحبوب‪ ،‬الذين حصل‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫م ْ‬
‫لهم الربح العظيم‪ ،‬والسعادة الدائمة‪.‬‬
‫ك‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ه { بأن رجحت سيئاته‪ ،‬وصار الحكم لها‪ } ،‬فَأولئ ِ َ‬ ‫واِزين ُ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ت َ‬ ‫ف ْ‬ ‫خ ّ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫} وَ َ‬
‫َ‬
‫م { إذ فاتهم النعيم المقيم‪ ،‬وحصل لهم العذاب الليم‬ ‫سهُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫سُروا أن ْ ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫ن { فلم ينقادوا لها كما يجب عليهم ذلك‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫كاُنوا ِبآَيات َِنا ي َظ ْل ِ ُ‬ ‫ما َ‬ ‫} بِ َ‬
‫) ‪(1/283‬‬

‫َْ‬
‫شك ُُرو َ‬
‫ن )‪(10‬‬ ‫ش قَِليًل َ‬
‫ما ت َ ْ‬ ‫مَعاي ِ َ‬ ‫جعَل َْنا ل َك ُ ْ‬
‫م ِفيَها َ‬ ‫ض وَ َ‬ ‫مك ّّناك ُ ْ‬
‫م ِفي الْر ِ‬ ‫وَل َ َ‬
‫قد ْ َ‬
‫ما‬‫ش قَِليل َ‬ ‫مَعاي ِ َ‬ ‫جعَل َْنا ل َك ُ ْ‬
‫م ِفيَها َ‬ ‫ض وَ َ‬
‫م ِفي الْر ِ‬ ‫مك ّّناك ُ ْ‬ ‫} ‪ } { 10‬وَل َ َ‬
‫قد ْ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫شك ُُرو َ‬
‫تَ ْ‬
‫م‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫مكّناك ْ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫َ‬
‫يقول تعالى ممتنا على عباده بذكر المسكن والمعيشة‪ } :‬وَل َ‬
‫ض { أي‪ :‬هيأناها لكم‪ ،‬بحيث تتمكنون من البناء عليها وحرثها‪،‬‬ ‫ِفي الْر ِ‬
‫ش { مما يخرج من الشجار‬ ‫مَعاي ِ َ‬ ‫م ِفيَها َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫جعَلَنا لك ُ ْ‬
‫ووجوه النتفاع بها } وَ َ‬
‫والنبات‪ ،‬ومعادن الرض‪ ،‬وأنواع الصنائع والتجارات‪ ،‬فإنه هو الذي هيأها‪،‬‬
‫وسخر أسبابها‪.‬‬
‫ّ‬
‫ن { الله‪ ،‬الذي أنعم عليكم بأصناف النعم‪ ،‬وصرف عنكم‬ ‫ُ‬
‫شكُرو َ‬ ‫} قَِليل َ‬
‫ما ت َ ْ‬
‫النقم‪.‬‬

‫) ‪(1/284‬‬

‫دوا إ ِّل‬
‫ج ُ‬ ‫دوا ِل َد َ َ‬
‫م فَ َ‬
‫س َ‬ ‫ج ُ‬ ‫مَلئ ِك َةِ ا ْ‬
‫س ُ‬ ‫م قُل َْنا ل ِل ْ َ‬
‫م ثُ ّ‬‫صوّْرَناك ُ ْ‬
‫م َ‬‫م ثُ ّ‬‫قَناك ُ ْ‬‫خل َ ْ‬ ‫وَل َ َ‬
‫قد ْ َ‬
‫ن )‪(11‬‬ ‫دي َ‬‫ج ِ‬ ‫سا ِ‬‫ن ال ّ‬‫م َ‬‫ن ِ‬‫م ي َك ُ ْ‬‫س لَ ْ‬ ‫إ ِب ِْلي َ‬
‫م‬
‫دوا لد َ َ‬
‫ج ُ‬ ‫ملئ ِك َةِ ا ْ‬
‫س ُ‬ ‫م قُل َْنا ل ِل ْ َ‬
‫م ثُ ّ‬ ‫صوّْرَناك ُ ْ‬‫م َ‬ ‫م ثُ ّ‬‫قَناك ُ ْ‬ ‫خل َ ْ‬
‫قد ْ َ‬‫} ‪ } { 15 - 11‬وَل َ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دي َ‬ ‫ج ِ‬
‫سا ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫م ي َك ُ ْ‬‫س لَ ْ‬ ‫دوا ِإل إ ِب ِْلي َ‬
‫ج ُ‬ ‫فَ َ‬
‫س َ‬
‫م { بخلق أصلكم ومادتكم‬ ‫ُ‬
‫قَناك ْ‬ ‫َ‬
‫خل ْ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫َ‬
‫يقول تعالى مخاطبا لبني آدم‪ } :‬وَل َ‬
‫م { في أحسن‬ ‫ُ‬
‫صوّْرَناك ْ‬ ‫م َ‬ ‫التي منها خرجتم‪ :‬أبيكم آدم عليه السلم } ث ُ ّ‬
‫صورة‪ ،‬وأحسن تقويم‪ ،‬وعلمه الله تعالى ما به تكمل صورته الباطنة‪،‬‬
‫أسماء كل شيء‪.‬‬
‫ثم أمر الملئكة الكرام أن يسجدوا لدم‪ ،‬إكراما واحتراما‪ ،‬وإظهارا لفضله‪،‬‬
‫س { أبى أن‬ ‫دوا { كلهم أجمعون } ِإل إ ِب ِْلي َ‬ ‫ج ُ‬‫س َ‬ ‫فامتثلوا أمر ربهم‪ } ،‬فَ َ‬
‫يسجد له‪ ،‬تكبرا عليه وإعجابا بنفسه‪.‬‬

‫) ‪(1/284‬‬

‫ه‬ ‫خل َ ْ‬
‫قت َ ُ‬ ‫ن َنارٍ وَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫خل َ ْ‬
‫قت َِني ِ‬ ‫ه َ‬ ‫من ْ ُ‬‫خي ٌْر ِ‬‫ل أ ََنا َ‬‫ك َقا َ‬ ‫مْرت ُ َ‬ ‫َ‬
‫جد َ إ ِذ ْ أ َ‬ ‫س ُ‬
‫ل ما منع َ َ‬
‫ك أّل ت َ ْ‬ ‫َقا َ َ َ َ َ‬
‫ج إ ِن ّ َ‬ ‫ن ت َت َك َب َّر ِفيَها َفا ْ‬ ‫َ‬ ‫ن لَ َ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫ل َفاهْب ِ ْ‬
‫ك‬ ‫خُر ْ‬ ‫كأ ْ‬ ‫كو ُ‬ ‫من َْها فَ َ‬
‫ط ِ‬ ‫ن )‪َ (12‬قا َ‬ ‫طي ٍ‬‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫قا‬ ‫(‬ ‫‪14‬‬ ‫)‬ ‫ن‬ ‫ُ‬
‫ثو‬ ‫ع‬‫ب‬‫ي‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ي‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫ني‬ ‫ر‬ ‫ظ‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫َ‬
‫قا‬ ‫(‬ ‫‪13‬‬ ‫)‬ ‫ن‬ ‫ري‬ ‫غ‬ ‫صا‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ َ‬ ‫ِّ‬ ‫َ ْ ِ َُْ َ‬ ‫ْ ِْ ِ ِ‬ ‫ّ ِ ِ َ‬ ‫ِ َ‬
‫ن )‪(15‬‬ ‫ري َ‬ ‫َ‬
‫من ْظ ِ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ه‬ ‫خل َ ْ‬
‫قت َ ُ‬ ‫ن َنارٍ وَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫قت َِني ِ‬ ‫خل َ ْ‬
‫ه َ‬‫من ْ ُ‬‫خي ٌْر ِ‬‫ل أ ََنا َ‬ ‫ك َقا َ‬ ‫مْرت ُ َ‬ ‫َ‬
‫جد َ إ ِذ ْ أ َ‬‫س ُ‬
‫ل ما منع َ َ‬
‫ك أل ت َ ْ‬ ‫} َقا َ َ َ َ َ‬
‫ج إ ِن ّ َ‬ ‫ن ت َت َك َب َّر ِفيَها َفا ْ‬ ‫َ‬ ‫نل َ‬ ‫َ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫ْ‬
‫ن‬
‫م َ‬‫ك ِ‬ ‫خُر ْ‬ ‫كأ ْ‬ ‫كو ُ‬ ‫من َْها فَ َ‬ ‫ل َفاهْب ِط ِ‬ ‫ن * َقا َ‬ ‫طي ٍ‬‫ن ِ‬ ‫م ْ‬
‫ِ‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫من ْظ َ ِ‬
‫ن ال ْ ُ‬
‫م َ‬ ‫ك ِ‬‫ل إ ِن ّ َ‬
‫ن * َقا َ‬ ‫ل أن ْظ ِْرِني إ َِلى ي َوْم ِ ي ُب ْعَُثو َ‬
‫َ‬
‫ن * َقا َ‬ ‫ري َ‬‫صاِغ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫ي‪ ،‬أي‪:‬‬ ‫جد َ { لما خلقت بيد ّ‬ ‫س ُ‬
‫ك أل ت َ ْ‬ ‫من َعَ َ‬ ‫ما َ‬ ‫فوبخه الّله على ذلك وقال‪َ } :‬‬
‫شرفته وفضلته بهذه الفضيلة‪ ،‬التي لم تكن لغيره‪ ،‬فعصيت أمري وتهاونت‬
‫بي؟‬
‫ه { ثم برهن على هذه الدعوى‬ ‫َ‬ ‫} َقا َ‬
‫من ْ ُ‬
‫خي ٌْر ِ‬ ‫ل { إبليس معارضا لربه‪ } :‬أَنا َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫طي ٍ‬‫ن ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫خل َ ْ‬
‫قت َ ُ‬ ‫ن َنارٍ وَ َ‬ ‫م ْ‬ ‫قت َِني ِ‬ ‫خل َ ْ‬
‫الباطلة بقوله‪َ } :‬‬
‫وموجب هذا أن المخلوق من نار أفضل من المخلوق من طين لعلو النار‬
‫على الطين وصعودها‪ ،‬وهذا القياس من أفسد القيسة‪ ،‬فإنه باطل من‬
‫عدة أوجه‪:‬‬
‫منها‪ :‬أنه في مقابلة أمر الله له بالسجود‪ ،‬والقياس إذا عارض النص‪ ،‬فإنه‬ ‫ّ‬
‫قياس باطل‪ ،‬لن المقصود بالقياس‪ ،‬أن يكون الحكم الذي لم يأت فيه‬
‫نص‪ ،‬يقارب المور المنصوص عليها‪ ،‬ويكون تابعا لها‪.‬‬
‫فأما قياس يعارضها‪ ،‬ويلزم من اعتباره إلغاُء النصوص‪ ،‬فهذا القياس من‬
‫أشنع القيسة‪.‬‬
‫ه { بمجردها كافية لنقص إبليس الخبيث‪.‬‬ ‫َ‬
‫من ْ ُ‬‫خي ٌْر ِ‬
‫ومنها‪ :‬أن قوله‪ } :‬أَنا َ‬
‫ّ‬
‫فإنه برهن على نقصه بإعجابه بنفسه وتكبره‪ ،‬والقول على الله بل علم‪.‬‬
‫وأي نقص أعظم من هذا؟"‬
‫ومنها‪ :‬أنه كذب في تفضيل مادة النار على مادة الطين والتراب‪ ،‬فإن مادة‬
‫الطين فيها الخشوع والسكون والرزانة‪ ،‬ومنها تظهر بركات الرض من‬
‫الشجار وأنواع النبات‪ ،‬على اختلف أجناسه وأنواعه‪ ،‬وأما النار ففيها‬
‫الخفة والطيش والحراق‪.‬‬
‫ولهذا لما جرى من إبليس ما جرى‪ ،‬انحط من مرتبته العالية إلى أسفل‬
‫السافلين‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫ن ت َت َكب َّر‬ ‫ن لك أ ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ما ي َكو ُ‬ ‫َ‬
‫من َْها { أي‪ :‬من الجنة } ف َ‬ ‫فقال الّله له‪ } :‬فاهْب ِط ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫ِفيَها { لنها دار الطيبين الطاهرين‪ ،‬فل تليق بأخبث خلق الّله وأشرهم‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬المهانين الذلين‪ ،‬جزاء على كبره‬ ‫ري َ‬‫صاِغ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬
‫ك ِ‬‫ج إ ِن ّ َ‬
‫خُر ْ‬ ‫} َفا ْ‬
‫وعجبه بالهانة والذل‪.‬‬
‫ه الن ّظ َِرةَ‬ ‫فلما أعلن عدو الّله بعداوة الله‪ ،‬وعداوة آدم وذريته‪ ،‬سأل الل َ‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫والمهال إلى يوم البعث‪ ،‬ليتمكن من إغواء ما يقدر عليه من بني آدم‪.‬‬
‫ولما كانت حكمة الّله مقتضية لبتلء العباد واختبارهم‪ ،‬ليتبين الصادق من‬
‫ن‬‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫الكاذب‪ ،‬ومن يطيعه ممن يطيع عدوه‪ ،‬أجابه لما سأل‪ ،‬فقال‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬‫من ْظ َ ِ‬‫ال ْ ُ‬
‫) ‪(1/284‬‬

‫َ‬
‫ن‬
‫ن ب َي ْ ِ‬
‫م ْ‬ ‫م ِ‬‫م َل َت ِي َن ّهُ ْ‬
‫م )‪ (16‬ث ُ ّ‬ ‫قي َ‬
‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ك ال ْ ُ‬
‫صَراط َ َ‬‫م ِ‬ ‫ن ل َهُ ْ‬‫ما أغْوَي ْت َِني َل َقْعُد َ ّ‬ ‫ل فَب ِ َ‬‫َقا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن)‬ ‫ري َ‬ ‫م َ‬
‫شاك ِ ِ‬ ‫جد ُ أك ْث ََرهُ ْ‬ ‫م وََل ت َ ِ‬
‫مائ ِل ِهِ ْ‬‫ش َ‬ ‫ن َ‬ ‫م وَعَ ْ‬‫مان ِهِ ْ‬
‫ن أي ْ َ‬ ‫م وَعَ ْ‬ ‫خل ْ ِ‬
‫فه ِ ْ‬ ‫ن َ‬‫م ْ‬‫م وَ ِ‬ ‫ديهِ ْ‬‫أي ْ ِ‬
‫‪(17‬‬
‫َ‬
‫م * ثُ ّ‬
‫م‬ ‫قي َ‬ ‫ست َ ِ‬‫م ْ‬ ‫ك ال ْ ُ‬ ‫صَراط َ َ‬ ‫م ِ‬ ‫ن ل َهُ ْ‬ ‫ما أغْوَي ْت َِني لقْعُد َ ّ‬ ‫ل فَب ِ َ‬ ‫} ‪َ } { 17 ، 16‬قا َ‬
‫ن َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫لت ِينهم من بي َ‬
‫جد ُ‬ ‫م َول ت َ ِ‬ ‫مائ ِل ِهِ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫م وَعَ ْ‬ ‫مان ِهِ ْ‬ ‫ن أي ْ َ‬‫م وَعَ ْ‬ ‫فه ِ ْ‬ ‫خل ِ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫م وَ ِ‬ ‫ديهِ ْ‬
‫ن أي ْ ِ‬‫َ َُّ ْ ِ ْ َْ ِ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫م َ‬
‫شاك ِ ِ‬ ‫أك ْث ََرهُ ْ‬
‫َ‬ ‫ّ‬
‫ما أغْوَي ْت َِني لقْعُد َ ّ‬
‫ن‬ ‫أي‪ :‬قال إبليس ‪ -‬لما أبلس وأيس من رحمة الله ‪ } -‬فَب ِ َ‬
‫م { أي‪ :‬للزمن الصراط ولسعى‬ ‫قي َ‬‫ست َ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ك ال ْ ُ‬ ‫صَراط َ َ‬ ‫م { أي‪ :‬للخلق } ِ‬ ‫ل َهُ ْ‬
‫غاية جهدي على صد الناس عنه وعدم سلوكهم إياه‪.‬‬
‫م{‬ ‫ن َ‬ ‫خل ْفهم وعَ َ‬ ‫} ث ُم لت ِينهم من بي َ‬
‫مائ ِل ِهِ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫م وَعَ ْ‬ ‫مان ِهِ ْ‬ ‫ن أي ْ َ‬ ‫ن َ ِ ِ ْ َ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م وَ ِ‬ ‫ديهِ ْ‬ ‫ن أي ْ ِ‬ ‫َُّ ْ ِ ْ َْ ِ‬ ‫ّ‬
‫أي‪ :‬من جميع الجهات والجوانب‪ ،‬ومن كل طريق يتمكن فيه من إدراك‬
‫بعض مقصوده فيهم‪.‬‬
‫] ص ‪[ 285‬‬
‫ولما علم الخبيث أنهم ضعفاء قد تغلب الغفلة على كثير منهم‪ ،‬وكان جازما‬
‫َ‬
‫جد ُ أك ْث ََرهُ ْ‬
‫م‬ ‫دق ظنه فقال‪َ } :‬ول ت َ ِ‬ ‫ببذل مجهوده على إغوائهم‪ ،‬ظن وص ّ‬
‫ن { فإن القيام بالشكر من سلوك الصراط المستقيم‪ ،‬وهو يريد‬ ‫ري َ‬‫شاك ِ ِ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫ه ل ِي َكوُنوا ِ‬ ‫حْزب َ ُ‬ ‫عو ِ‬ ‫ما ي َد ْ ُ‬ ‫صدهم عنه‪ ،‬وعدم قيامهم به‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬إ ِن ّ َ‬
‫سِعيرِ { ‪.‬‬ ‫َ‬
‫ب ال ّ‬‫حا ِ‬ ‫ص َ‬‫أ ْ‬
‫وإنما نبهنا الّله على ما قال وعزم على فعله‪ ،‬لنأخذ منه حذرنا ونستعد‬
‫لعدونا‪ ،‬ونحترز منه بعلمنا‪ ،‬بالطريق التي يأتي منها‪ ،‬ومداخله التي ينفذ‬
‫منها‪ ،‬فله تعالى علينا بذلك‪ ،‬أكمل نعمة‪.‬‬

‫) ‪(1/284‬‬

‫ك منهم َل َمَل َن جهنم منك ُ َ‬


‫ن‬
‫مِعي َ‬
‫ج َ‬
‫مأ ْ‬‫ن ت َب ِعَ َ ِ ْ ُ ْ ْ ّ َ َ ّ َ ِ ْ ْ‬ ‫حوًرا ل َ َ‬
‫م ْ‬ ‫مد ْ ُ‬ ‫مذ ُْءو ً‬
‫ما َ‬ ‫من َْها َ‬
‫ج ِ‬
‫خُر ْ‬ ‫َقا َ‬
‫لا ْ‬
‫)‪(18‬‬

‫م‬‫جهَن ّ َ‬
‫ن َ‬
‫مل ّ‬
‫مل ْ‬
‫من ْهُ ْ‬ ‫ن ت َب ِعَ َ‬
‫ك ِ‬ ‫م ْ‬ ‫حوًرا ل َ َ‬
‫مد ْ ُ‬ ‫مذ ُْءو ً‬
‫ما َ‬ ‫من َْها َ‬
‫ج ِ‬‫خُر ْ‬ ‫} ‪َ } { 18‬قا َ‬
‫لا ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫منك ُ َ‬
‫مِعي َ‬ ‫ج َ‬‫مأ ْ‬ ‫ِ ْ ْ‬
‫من َْها { خروج صغار واحتقار‪،‬‬ ‫ج ِ‬ ‫خُر ْ‬ ‫أي‪ :‬قال الله لبليس لما قال ما قال‪ } :‬ا ْ‬ ‫ّ‬
‫حوًرا { مبعدا عن اللهّ‬ ‫مد ْ ُ‬ ‫ما { أي‪ :‬مذموما } َ‬ ‫مذ ُْءو ً‬
‫ل خروج إكرام بل } َ‬
‫وعن رحمته وعن كل خير‪.‬‬
‫ن { وهذا قسم منه‬ ‫َ‬
‫مِعي َ‬ ‫ج َ‬‫م { منك وممن تبعك منهم } أ ْ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫ن َ‬ ‫مل ّ‬ ‫}ل ْ‬
‫تعالى‪ ،‬أن النار دار العصاة‪ ،‬ل بد أن يملها من إبليس وأتباعه من الجن‬
‫والنس‪.‬‬

‫) ‪(1/285‬‬

‫ما وََل ت َ ْ‬ ‫ويا آ َدم اسك ُ َ‬


‫قَرَبا هَذِهِ‬ ‫شئ ْت ُ َ‬ ‫ث ِ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ة فَك َُل ِ‬ ‫جن ّ َ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫ج َ‬ ‫ت وََزوْ ُ‬ ‫ن أن ْ َ‬ ‫ََ َ ُ ْ ْ‬
‫ما‬ ‫ما‬
‫ُ ُْ َ ُ َ َ‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫د‬ ‫ب‬ ‫ي‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫طا‬ ‫ْ‬ ‫ي‬ ‫ش‬‫ّ‬ ‫ال‬ ‫ما‬ ‫ه‬ ‫َ‬ ‫ل‬
‫َ ْ َ َ ُ َ‬ ‫س‬ ‫و‬ ‫س‬ ‫و‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫(‬ ‫‪19‬‬ ‫)‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫مي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ّ‬
‫ظا‬ ‫ال‬ ‫ن‬
‫َ‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫نا‬‫َ‬ ‫كو‬ ‫جَرةَ فَت َ ُ‬ ‫ش َ‬ ‫ال ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫جَرةِ إ ِّل أ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫ن هَذِهِ ال ّ‬ ‫ما عَ ْ‬ ‫ما َرب ّك ُ َ‬ ‫ما ن ََهاك ُ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ما وََقا َ‬ ‫سوْآت ِهِ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫ُوورِيَ عَن ْهُ َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ما ل َ ِ‬ ‫ما إ ِّني ل َك ُ َ‬ ‫مهُ َ‬ ‫س َ‬ ‫ن )‪ (20‬وََقا َ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫كوَنا ِ‬ ‫ن أو ْ ت َ ُ‬ ‫ملك َي ْ ِ‬
‫كوَنا َ َ‬ ‫تَ ُ‬
‫َ‬
‫ما‬ ‫سوْآت ُهُ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ت ل َهُ َ‬ ‫جَرةَ ب َد َ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫ذاَقا ال ّ‬ ‫ما َ‬ ‫ما ب ِغُُرورٍ فَل َ ّ‬ ‫ن )‪ (21‬فَد َّلهُ َ‬ ‫حي َ‬ ‫ص ِ‬ ‫الّنا ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ما‬‫ن ت ِل ْك ُ َ‬ ‫ما عَ ْ‬ ‫م أن ْهَك ُ َ‬ ‫ما أل َ ْ‬ ‫ما َرب ّهُ َ‬ ‫داهُ َ‬ ‫جن ّةِ وََنا َ‬ ‫ق ال ْ َ‬ ‫ن وََر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫ن عَل َي ْهِ َ‬ ‫فا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫خ ِ‬ ‫قا ي َ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫وَط َ ِ‬
‫َ‬
‫ن )‪(22‬‬ ‫مِبي ٌ‬ ‫ما عَد ُوّ ُ‬ ‫ن ل َك ُ َ‬ ‫طا َ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ما إ ِ ّ‬ ‫ل ل َك ُ َ‬ ‫جَرةِ وَأقُ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫ال ّ‬

‫ت‬ ‫ثم حذر آدم شره وفتنته فقال‪ } { 23 - 19 } :‬ويا آدم اسك ُ َ‬
‫ن أن ْ َ‬ ‫ََ َ ُ ْ ْ‬
‫ن‬‫جَرةَ فَت َ ُ َ ِ َ‬
‫م‬ ‫نا‬ ‫كو‬ ‫ش َ‬ ‫قَرَبا هَذِهِ ال ّ‬ ‫ما َول ت َ ْ‬ ‫شئ ْت ُ َ‬ ‫ث ِ‬ ‫حي ْ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫كل ِ‬ ‫ة فَ ُ‬ ‫جن ّ َ‬ ‫ك ال ْ َ‬ ‫ج َ‬ ‫وََزوْ ُ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫ما ُوورِيَ عَن ْهُ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ل ِي ُب ْدِيَ ل َهُ َ‬ ‫طا ُ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫ما ال ّ‬ ‫س ل َهُ َ‬ ‫سوَ َ‬ ‫ن * فَوَ ْ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫كونا مل َك َين أوَ‬ ‫َ‬
‫ن تَ ُ َ َ ْ ِ ْ‬ ‫جَرةِ ِإل أ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫ن هَذِهِ ال ّ‬ ‫ما عَ ْ‬ ‫ما َرب ّك ُ َ‬ ‫ما ن ََهاك ُ َ‬ ‫ل َ‬ ‫ما وََقا َ‬ ‫وآت ِهِ َ‬ ‫س ْ‬ ‫َ‬
‫ما ب ِغُُروٍر‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ه‬ ‫دل‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫*‬ ‫ن‬ ‫حي‬
‫ِ َ ّ ِ ِ َ‬ ‫ص‬ ‫نا‬ ‫ال‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ما‬‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ك‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ني‬ ‫إ‬ ‫ما‬
‫َ َ ُ َ ِّ‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫س‬ ‫قا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫و‬ ‫*‬ ‫ن‬‫َ ِ ِ َ‬ ‫دي‬ ‫ل‬ ‫خا‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫تَ َ ِ َ‬
‫م‬ ‫نا‬ ‫كو‬ ‫ُ‬
‫ق‬
‫ن وََر ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ما ِ‬ ‫ن عَل َي ْهِ َ‬ ‫فا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫خ ِ‬ ‫قا ي َ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ما وَط َ ِ‬ ‫وآت ُهُ َ‬ ‫س ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ت ل َهُ َ‬ ‫جَرةَ ب َد َ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫ذاَقا ال ّ‬ ‫ما َ‬ ‫فَل َ ّ‬
‫شي ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫طا َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ما إ ِ ّ‬ ‫ل ل َك ُ َ‬ ‫جَرةِ وَأقُ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫ما ال ّ‬ ‫ن ت ِل ْك ُ َ‬ ‫ما عَ ْ‬ ‫م أن ْهَك ُ َ‬ ‫ما أل َ ْ‬ ‫ما َرب ّهُ َ‬ ‫داهُ َ‬ ‫جن ّةِ وََنا َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مِبي ٌ‬ ‫ما عَد ُوّ ُ‬ ‫ل َك ُ َ‬
‫أي‪ :‬أمر الّله تعالى آدم وزوجته حواء‪ ،‬التي أنعم الّله بها عليه ليسكن إليها‪،‬‬
‫أن يأكل من الجنة حيث شاءا ويتمتعا فيها بما أرادا‪ ،‬إل أنه عين لهما‬
‫شجرة‪ ،‬ونهاهما عن أكلها‪ ،‬والّله أعلم ما هي‪ ،‬وليس في تعيينها فائدة لنا‪.‬‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫كوَنا ِ‬ ‫وحرم عليهما أكلها‪ ،‬بدليل قوله‪ } :‬فَت َ ُ‬
‫فلم يزال ممتثل َْين لمر الّله‪ ،‬حتى تغلغل إليهما عدوهما إبليس بمكره‪،‬‬
‫ما َرب ّك ُ َ‬
‫ما‬ ‫ما ن ََهاك ُ َ‬
‫فوسوس لهما وسوسة خدعهما بها‪ ،‬وموه عليهما وقال‪َ } :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫ن { أي‪ :‬من جنس الملئكة } أوْ ت َكوَنا‬ ‫ِ‬ ‫مل َك َي ْ‬
‫كوَنا َ‬ ‫ن تَ ُ‬‫جَرةِ ِإل أ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫ن هَذِهِ ال ّ‬ ‫عَ ْ‬
‫خلدِْ‬ ‫ْ‬
‫جَرةِ ال ُ‬ ‫َ‬
‫ل أد ُلك عَلى َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ن { كما قال في الية الخرى‪ } :‬هَ ْ‬ ‫ْ‬
‫ش َ‬ ‫دي َ‬ ‫خال ِ ِ‬
‫ن ال َ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ك ل ي َب ْلى { ‪.‬‬ ‫مل ٍ‬ ‫ْ‬ ‫وَ ُ‬
‫ن { أي‪ :‬من جملة‬ ‫حي َ‬ ‫ص ِ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫م َ‬ ‫َ‬
‫ما ل ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫ومع قوله هذا أقسم لهما بالله } إ ِّني لك َ‬
‫الناصحين حيث قلت لكما ما قلت‪ ،‬فاغترا بذلك‪ ،‬وغلبت الشهوة في تلك‬
‫الحال على العقل‪.‬‬
‫ما { أي‪ :‬نزلهما عن رتبتهما العالية‪ ،‬التي هي البعد عن الذنوب‬ ‫دلهُ َ‬ ‫} فَ َ‬
‫والمعاصي إلى التلوث بأوضارها‪ ،‬فأقدما على أكلها‪.‬‬
‫ما { أي‪ :‬ظهرت عورة كل منهما بعد‬ ‫وآت ُهُ َ‬ ‫س ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ت ل َهُ َ‬ ‫جَرةَ ب َد َ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫ذاَقا ال ّ‬ ‫ما َ‬‫} فَل َ ّ‬
‫ما كانت مستورة‪ ،‬فصار للعري الباطن من التقوى في هذه الحال أثر في‬
‫جل‬ ‫خ ِ‬ ‫اللباس الظاهر‪ ،‬حتى انخلع فظهرت عوراتهما‪ ،‬ولما ظهرت عوراتهما َ‬
‫جَعل يخصفان على عوراتهما من أوراق شجر الجنة‪ ،‬ليستترا بذلك‪.‬‬ ‫و َ‬
‫ن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ما عَ ْ‬ ‫م أن ْهَك َ‬
‫ما { وهما بتلك الحال موبخا ومعاتبا‪ } :‬أل ْ‬ ‫ما َرب ّهُ َ‬ ‫داهُ َ‬‫} وََنا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن { فلم اقترفتما‬ ‫مِبي ٌ‬ ‫ما عَد ُوّ ُ‬ ‫ُ‬
‫ن لك َ‬ ‫شي ْطا َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫ما إ ِ ّ‬ ‫ُ‬
‫ل لك َ‬ ‫جَرةِ وَأقُ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫ما ال ّ‬ ‫ت ِل ْك ُ َ‬
‫كما؟‬ ‫المنهي‪ ،‬وأطعتما عدوّ ُ‬

‫) ‪(1/285‬‬

‫ن)‬ ‫ري َ‬‫س ِ‬


‫خا ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬‫ن ِ‬ ‫مَنا ل َن َ ُ‬
‫كون َ ّ‬ ‫فْر ل ََنا وَت َْر َ‬
‫ح ْ‬ ‫ن لَ ْ‬
‫م ت َغْ ِ‬ ‫سَنا وَإ ِ ْ‬
‫ف َ‬ ‫مَنا أ َن ْ ُ‬
‫َقاَل َرب َّنا ظ َل َ ْ‬
‫مَتاعٌ إ َِلى‬ ‫َْ‬
‫قّر وَ َ‬ ‫ست َ َ‬
‫م ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫م ِفي الْر ِ‬ ‫ض عَد ُوّ وَل َك ُ ْ‬ ‫م ل ِب َعْ ٍ‬ ‫ضك ُ ْ‬
‫طوا ب َعْ ُ‬ ‫ل اهْب ِ ُ‬ ‫‪َ (23‬قا َ‬
‫ن )‪(24‬‬ ‫حي ٍ‬
‫ِ‬

‫ن‬
‫م َ‬ ‫ن ِ‬ ‫كون َ ّ‬‫مَنا ل َن َ ُ‬ ‫فْر ل ََنا وَت َْر َ‬
‫ح ْ‬ ‫م ت َغْ ِ‬‫ن لَ ْ‬ ‫سَنا وَإ ِ ْ‬ ‫ف َ‬‫مَنا أ َن ْ ُ‬
‫} َقال َرب َّنا ظ َل َ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫س ِ‬‫خا ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ن الّله عليهما بالتوبة وقبولها‪ ،‬فاعترفا بالذنب‪ ،‬وسأل من الّله‬ ‫م ّ‬ ‫فحينئذ َ‬
‫ن‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م َ‬ ‫ن ِ‬
‫مَنا لن َكون َ ّ‬ ‫ح ْ‬‫فْر لَنا وَت َْر َ‬ ‫م ت َغْ ِ‬‫نل ْ‬ ‫سَنا وَإ ِ ْ‬‫ف َ‬ ‫مَنا أن ْ ُ‬‫مغفرته فقال } َرب َّنا ظل ْ‬
‫ن { أي‪ :‬قد فعلنا الذنب‪ ،‬الذي نهيتنا عنه‪ ،‬وأضررنا أنفسنا‬ ‫ري َ‬ ‫س ِ‬‫خا ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫باقتراف الذنب‪ ،‬وقد فعلنا سبب الخسار إن لم تغفر لنا‪ ،‬بمحو أثر الذنب‬
‫وعقوبته‪ ،‬وترحمنا بقبول التوبة والمعافاة من أمثال هذه الخطايا‪.‬‬
‫ه‬ ‫َ‬
‫ب عَلي ْ ِ‬ ‫ه فََتا َ‬‫جت ََباهُ َرب ّ ُ‬‫ما ْ‬ ‫وى * ث ُ ّ‬ ‫ه فَغَ َ‬ ‫م َرب ّ ُ‬‫صى آد َ ُ‬ ‫فغفر الّله لهما ذلك } وَعَ َ‬
‫دى {‪.‬‬ ‫وَهَ َ‬
‫هذا وإبليس مستمر على طغيانه غير مقلع عن عصيانه فمن أشبه آدم‬
‫بالعتراف وسؤال المغفرة والندم والقلع ‪ -‬إذا صدرت منه الذنوب ‪-‬‬
‫اجتباه ربه وهداه‪.‬‬
‫ومن أشبه إبليس ‪ -‬إذا صدر منه الذنب ل يزال يزداد من المعاصي ‪ -‬فإنه‬
‫دا‪.‬‬ ‫ل يزداد من الّله إل ب ُعْ ً‬

‫) ‪(1/285‬‬
‫م قَد ْ أ َن َْزل َْنا‬
‫ن )‪َ (25‬يا ب َِني آ َد َ َ‬ ‫جو َ‬ ‫خَر ُ‬
‫من َْها ت ُ ْ‬‫ن وَ ِ‬
‫موُتو َ‬‫ن وَِفيَها ت َ ُ‬
‫حي َوْ َ‬ ‫ل ِفيَها ت َ ْ‬ ‫َقا َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ت‬
‫ن آَيا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫خي ٌْر ذ َل ِك ِ‬ ‫َ‬
‫وى ذ َل ِك َ‬ ‫ق َ‬
‫س الت ّ ْ‬
‫شا وَل َِبا ُ‬ ‫م وَِري ً‬ ‫ُ‬
‫سوْآت ِك ْ‬ ‫واِري َ‬ ‫سا ي ُ َ‬ ‫م ل َِبا ً‬ ‫عَل َي ْك ْ‬
‫ُ‬
‫ن )‪(26‬‬ ‫م ي َذ ّك ُّرو َ‬ ‫الل ّهِ ل َعَل ّهُ ْ‬
‫م‬
‫ن * َيا ب َِني آد َ َ‬ ‫جو َ‬ ‫خَر ُ‬ ‫من َْها ت ُ ْ‬
‫ن وَ ِ‬
‫موُتو َ‬ ‫ن وَِفيَها ت َ ُ‬ ‫حي َوْ َ‬
‫ل ِفيَها ت َ ْ‬ ‫} ‪َ } { 26 ، 25‬قا َ‬
‫َ‬
‫خي ٌْر ذ َل ِ َ‬
‫ك‬ ‫ك َ‬ ‫وى ذ َل ِ َ‬ ‫ق َ‬ ‫س الت ّ ْ‬
‫شا وَل َِبا ُ‬ ‫م وَِري ً‬ ‫وآت ِك ُ ْ‬
‫س ْ‬‫واِري َ‬ ‫سا ي ُ َ‬‫م ل َِبا ً‬ ‫قَد ْ أن َْزل َْنا عَل َي ْك ُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫م ي َذ ّك ُّرو َ‬ ‫ت الل ّهِ ل َعَل ّهُ ْ‬ ‫ن آَيا ِ‬ ‫م ْ‬‫ِ‬
‫أي‪ :‬لما أهبط الله آدم وزوجته وذريتهما إلى الرض‪ ،‬أخبرهما بحال إقامتهم‬ ‫ّ‬
‫فيها‪ ،‬وأنه جعل لهم فيها حياة يتلوها الموت‪ ،‬مشحونة بالمتحان والبتلء‪،‬‬
‫وأنهم ل يزالون فيها‪ ،‬يرسل إليهم رسله‪ ،‬وينزل عليهم كتبه‪ ،‬حتى يأتيهم‬
‫الموت‪ ،‬فيدفنون فيها‪ ،‬ثم إذا استكملوا بعثهم الّله وأخرجهم منها إلى الدار‬
‫التي هي الدار حقيقة‪ ،‬التي هي دار المقامة‪.‬‬
‫ثم امتن عليهم بما يسر لهم من اللباس الضروري‪ ،‬واللباس الذي ] ص‬
‫‪ [ 286‬المقصود منه الجمال‪ ،‬وهكذا سائر الشياء‪ ،‬كالطعام والشراب‬
‫والمراكب‪ ،‬والمناكح ونحوها‪ ،‬قد يسر الّله للعباد ضروريها‪ ،‬ومكمل ذلك‪،‬‬
‫و]بين لهم[ )‪ (1‬أن هذا ليس مقصودا بالذات‪ ،‬وإنما أنزله الّله ليكون‬
‫خي ٌْر {‬ ‫ك َ‬ ‫وى ذ َل ِ َ‬ ‫ق َ‬‫س الت ّ ْ‬ ‫معونة لهم على عبادته وطاعته‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَل َِبا ُ‬
‫من اللباس الحسي‪ ،‬فإن لباس التقوى يستمر مع العبد‪ ،‬ول يبلى ول يبيد‪،‬‬
‫وهو جمال القلب والروح‪.‬‬
‫وأما اللباس الظاهري‪ ،‬فغايته أن يستر العورة الظاهرة‪ ،‬في وقت من‬
‫الوقات‪ ،‬أو يكون جمال للنسان‪ ،‬وليس وراء ذلك منه نفع‪.‬‬
‫وأيضا‪ ،‬فبتقدير عدم هذا اللباس‪ ،‬تنكشف عورته الظاهرة‪ ،‬التي ل يضره‬
‫كشفها‪ ،‬مع الضرورة‪ ،‬وأما بتقدير عدم لباس التقوى‪ ،‬فإنها تنكشف عورته‬
‫الباطنة‪ ،‬وينال الخزي والفضيحة‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬ذلك المذكور لكم من‬ ‫ّ‬
‫م ي َذ ّكُرو َ‬ ‫ت الل ّهِ ل َعَل ّهُ ْ‬ ‫ن آَيا ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ك ِ‬ ‫وقوله‪ } :‬ذ َل ِ َ‬
‫اللباس‪ ،‬مما تذكرون به ما ينفعكم ويضركم وتشبهون )‪ (2‬باللباس الظاهر‬
‫على الباطن‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬
‫)‪ (2‬هكذا في أ‪ ،‬وفي ب‪ :‬وتستعينون‪.‬‬

‫) ‪(1/285‬‬

‫خر َ‬ ‫طان ك َ َ‬
‫ما‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫جن ّةِ ي َن ْزِعُ عَن ْهُ َ‬ ‫م َ‬‫م ِ‬ ‫ج أب َوَي ْك ُ ْ‬ ‫ما أ ْ َ َ‬‫شي ْ َ ُ َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫م َل ي َ ْ‬
‫فت ِن َن ّك ُ ُ‬ ‫َيا ب َِني آ َد َ َ‬
‫جعَل َْنا‬ ‫َ‬
‫م إ ِّنا َ‬ ‫ث َل ت ََروْن َهُ ْ‬ ‫حي ْ ُ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫م هُوَ وَقَِبيل ُ ُ‬
‫ه ي ََراك ُ ْ‬‫ما إ ِن ّ ُ‬
‫سوْآت ِهِ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ما ل ِي ُرِي َهُ َ‬ ‫سه ُ َ‬
‫ل َِبا َ‬
‫َ‬
‫ن )‪(27‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن َل ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن أوْل َِياَء ل ِل ّ ِ‬ ‫طي َ‬ ‫شَيا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫خر َ‬ ‫طان ك َ َ‬
‫جن ّةِ ي َن ْزِعُ‬‫ن ال ْ َ‬
‫م َ‬
‫م ِ‬‫ج أب َوَي ْك ُ ْ‬‫ما أ ْ َ َ‬ ‫شي ْ َ ُ َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫فت ِن َن ّك ُ ُ‬‫م ل يَ ْ‬ ‫} ‪َ } { 27‬يا ب َِني آد َ َ‬
‫م إ ِّنا‬‫ث ل ت ََروْن َهُ ْ‬‫حي ْ ُ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ِ‬ ‫ُ‬ ‫ه ي ََراك ُ ْ‬
‫م هُوَ وَقَِبيل ُ‬ ‫ما إ ِن ّ ُ‬‫وآت ِهِ َ‬ ‫س ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ما ل ِي ُرِي َهُ َ‬ ‫سه ُ َ‬‫ما ل َِبا َ‬
‫عَن ْهُ َ‬
‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُنو َ‬ ‫ن ل ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن أوْل َِياَء ل ِل ّ ِ‬ ‫طي َ‬ ‫شَيا ِ‬ ‫جعَل َْنا ال ّ‬ ‫َ‬
‫يقول تعالى‪ ،‬محذرا لبني آدم أن يفعل بهم الشيطان كما فعل بأبيهم‪َ } :‬يا‬
‫ن { بأن يزين لكم العصيان‪ ،‬ويدعوكم إليه‪،‬‬ ‫طا ُ‬ ‫شي ْ َ‬ ‫م ال ّ‬ ‫فت ِن َن ّك ُ ُ‬‫م ل يَ ْ‬ ‫ب َِني آد َ َ‬
‫خر َ‬ ‫ويرغبكم فيه‪ ،‬فتنقادون له } ك َ َ‬
‫جن ّةِ { وأنزلهما من‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫ج أب َوَي ْك ُ ْ‬‫ما أ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫المحل العالي إلى أنزل منه‪ ،‬فأنتم يريد أن يفعل بكم كذلك‪ ،‬ول يألو جهده‬
‫عنكم‪ ،‬حتى يفتنكم‪ ،‬إن استطاع‪ ،‬فعليكم أن تجعلوا الحذر منه في بالكم‪،‬‬
‫فلوا عن المواضع التي يدخل‬ ‫ة الحرب بينكم وبْينه‪ ،‬وأن ل تغ ُ‬ ‫م َ‬‫وأن تلبسوا ل َ‬
‫منها إليكم‪.‬‬
‫ه { من شياطين الجن‬ ‫ُ‬
‫م هُوَ وَقَِبيل ُ‬ ‫ه { يراقبكم على الدوام‪ ،‬و } ي ََراك ُ ْ‬ ‫فـ } إ ِن ّ ُ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن { فعدم‬ ‫مُنو َ‬‫ن ل ي ُؤْ ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن أوْل َِياَء ل ِل ِ‬ ‫طي َ‬‫شَيا ِ‬ ‫جعَلَنا ال ّ‬ ‫م إ ِّنا َ‬ ‫ث ل ت ََروْن َهُ ْ‬ ‫حي ْ ُ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫} ِ‬
‫اليمان هو الموجب لعقد الولية بين النسان والشيطان‪.‬‬
‫ما‬
‫ن * إ ِن ّ َ‬‫م ي َت َوَك ُّلو َ‬ ‫مُنوا وَعََلى َرب ّهِ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن عََلى ال ّ ِ‬ ‫طا ٌ‬ ‫سل ْ َ‬ ‫ه ُ‬ ‫س لَ ُ‬‫ه ل َي ْ َ‬ ‫} إ ِن ّ ُ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫كو َ‬ ‫شرِ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫م ب ِهِ ُ‬ ‫ن هُ ْ‬‫ذي َ‬ ‫ه َوال ّ ِ‬‫ن ي َت َوَل ّوْن َ ُ‬‫ذي َ‬ ‫ه عََلى ال ّ ِ‬ ‫طان ُ ُ‬‫سل ْ َ‬ ‫ُ‬

‫) ‪(1/286‬‬

‫ه َل‬ ‫ة َقاُلوا وجدنا عَل َيها آ َباَءنا والل ّ َ‬


‫ن الل ّ َ‬
‫ل إِ ّ‬ ‫مَرَنا ب َِها قُ ْ‬ ‫هأ َ‬ ‫َْ َ َ َ ُ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫ش ً‬ ‫ح َ‬‫ذا فَعَُلوا َفا ِ‬ ‫وَإ ِ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ط‬
‫س ِ‬‫ق ْ‬ ‫مَر َرّبي ِبال ْ ِ‬ ‫لأ َ‬ ‫ن )‪ (28‬قُ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫ما َل ت َعْل َ ُ‬ ‫ن عََلى الل ّهِ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫شاِء أت َ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫مُر ِبال ْ َ‬
‫ف ْ‬ ‫ي َأ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬ ‫ما ب َد َأك ُ ْ‬‫ن كَ َ‬ ‫دي َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫ن لَ ُ‬ ‫صي َ‬‫خل ِ ِ‬
‫م ْ‬ ‫عوهُ ُ‬ ‫جدٍ َواد ْ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫عن ْد َ ك ُ ّ‬‫م ِ‬ ‫جوهَك ُ ْ‬ ‫موا وُ ُ‬ ‫وَأِقي ُ‬
‫ن‬
‫طي َ‬
‫شَيا ِ‬ ‫ذوا ال ّ‬ ‫خ ُ‬
‫م ات ّ َ‬ ‫ة إ ِن ّهُ ُ‬‫ضَلل َ ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫حقّ عَل َي ْهِ ُ‬ ‫قا َ‬ ‫ري ً‬ ‫دى وَفَ ِ‬ ‫قا هَ َ‬ ‫ري ً‬ ‫ن )‪ (29‬فَ ِ‬ ‫دو َ‬ ‫ت َُعو ُ‬
‫ن )‪(30‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫دو َ‬ ‫مهْت َ ُ‬‫م ُ‬ ‫ن أن ّهُ ْ‬ ‫سُبو َ‬ ‫ح َ‬ ‫ن اللهِ وَي َ ْ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬‫أوْل َِياَء ِ‬

‫مَرَنا ب َِها‬ ‫ة َقاُلوا وجدنا عَل َيها آباَءنا والل ّ َ‬ ‫ح َ‬ ‫ذا فَعَُلوا َفا ِ‬ ‫} ‪ } { 30 - 28‬وَإ ِ َ‬
‫هأ َ‬ ‫َْ َ َ َ ُ‬ ‫َ َ َْ‬ ‫ش ً‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫مَر‬
‫لأ َ‬ ‫ن * قُ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫ما ل ت َعْل َ ُ‬ ‫ن عََلى الل ّهِ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫شاِء أت َ ُ‬ ‫ح َ‬ ‫ف ْ‬ ‫مُر ِبال ْ َ‬ ‫ه ل ي َأ ُ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫ل إِ ّ‬ ‫قُ ْ‬
‫َ‬
‫ن‬‫دي َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫ن لَ ُ‬‫صي َ‬ ‫خل ِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عوهُ ُ‬ ‫جدٍ َواد ْ ُ‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫عن ْد َ ك ُ ّ‬ ‫م ِ‬ ‫جوهَك ُ ْ‬ ‫موا وُ ُ‬ ‫ط وَأِقي ُ‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫َرّبي ِبال ْ ِ‬
‫ضلل َ ُ‬ ‫َ‬
‫ذوا‬‫خ ُ‬ ‫م ات ّ َ‬ ‫ة إ ِن ّهُ ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫حقّ عَل َي ْهِ ُ‬ ‫قا َ‬ ‫ري ً‬ ‫ِ‬ ‫دى وَفَ‬ ‫قا هَ َ‬ ‫ري ً‬ ‫ِ‬ ‫ن * فَ‬ ‫دو َ‬ ‫م ت َُعو ُ‬ ‫ما ب َد َأك ُ ْ‬ ‫كَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دو َ‬ ‫مهْت َ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ن أن ّهُ ْ‬ ‫سُبو َ‬ ‫ح َ‬ ‫ن الل ّهِ وَي َ ْ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن أوْل َِياَء ِ‬ ‫طي َ‬ ‫شَيا ِ‬ ‫ال ّ‬
‫يقول تعالى مبينا لقبح حال المشركين الذين يفعلون الذنوب‪ ،‬وينسبون أن‬
‫ة { وهي‪ :‬كل ما يستفحش ويستقبح‪،‬‬ ‫ش ً‬ ‫ح َ‬ ‫ذا فَعَُلوا َفا ِ‬ ‫الله أمرهم بها‪ } .‬وَإ ِ َ‬
‫جد َْنا عَلي َْها آَباَءَنا { وصدقوا في‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ومن ذلك طوافهم بالبيت عراة } َقالوا وَ َ‬
‫ّ‬
‫مَرَنا ب َِها { وكذبوا في هذا‪ ،‬ولهذا رد الله عليهم هذه النسبة‬ ‫هذا‪ } .‬والل ّ َ‬
‫هأ َ‬ ‫َ ُ‬
‫مُر ِبال ْ َ‬ ‫ل إن الل ّه ل يأ ْ‬
‫شاِء { أي‪ :‬ل يليق بكماله وحكمته أن‬ ‫ح َ‬ ‫ف ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫فقال‪ } :‬قُ ْ ِ‬
‫يأمر عباده بتعاطي الفواحش ل هذا الذي يفعله المشركون ول غيره‬
‫ن { وأي افتراء أعظم من هذا؟‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫ما ل ت َعْل َ ُ‬ ‫ن عََلى الل ّهِ َ‬ ‫قوُلو َ‬ ‫} أ َت َ ُ‬
‫ثم ذكر ما يأمر به‪ ،‬فقال‪ } :‬قُ ْ َ‬
‫ط { أي‪ :‬بالعدل في‬ ‫س ِ‬ ‫ق ْ‬ ‫مَر َرّبي ِبال ْ ِ‬ ‫لأ َ‬
‫عن ْد َ ك ُ ّ‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫م ِ‬ ‫جوهَك ُ ْ‬ ‫موا وُ ُ‬ ‫العبادات والمعاملت‪ ،‬ل بالظلم والجور‪ } .‬وَأِقي ُ‬
‫جدٍ { أي‪ :‬توجهوا لّله‪ ،‬واجتهدوا في تكميل العبادات‪ ،‬خصوصا "الصلة"‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫صي‬ ‫ل‬ ‫خ‬
‫َ ْ ُ ُ ُ ْ ِ ِ َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫عو‬ ‫د‬ ‫وا‬ ‫}‬ ‫ومفسد‪.‬‬ ‫نقص‬ ‫كل‬ ‫من‬ ‫ونقوها‬ ‫وباطنا‪،‬‬ ‫ظاهرا‬ ‫أقيموها‪،‬‬
‫ن { أي‪ :‬قاصدين بذلك وجهه وحده ل شريك له‪ .‬والدعاء يشمل‬ ‫دي َ‬ ‫ه ال ّ‬ ‫لَ ُ‬
‫دعاء المسألة‪ ،‬ودعاء العبادة‪ ،‬أي‪ :‬ل تراءوا ول تقصدوا من الغراض في‬
‫دعائكم سوى عبودية الّله ورضاه‪.‬‬
‫َ‬
‫ن { للبعث‪ ،‬فالقادر على بدء خلقكم‪،‬‬ ‫دو َ‬ ‫م { أول مرة } ت َُعو ُ‬ ‫ما ب َد َأك ُ ْ‬ ‫} كَ َ‬
‫قادر على إعادته‪ ،‬بل العادة‪ ،‬أهون من البداءة‪.‬‬
‫دى { الّله‪ ،‬أي‪ :‬وفقهم للهداية‪ ،‬ويسر لهم أسبابها‪،‬‬ ‫قا { منكم } هَ َ‬ ‫ري ً‬ ‫} فَ ِ‬
‫ة { أي‪ :‬وجبت عليهم‬ ‫َ‬
‫ضلل ُ‬ ‫م ال ّ‬ ‫َ‬
‫حقّ عَلي ْهِ ُ‬ ‫قا َ‬ ‫ري ً‬ ‫وصرف عنهم موانعها‪ } .‬وَفَ ِ‬
‫الضللة بما تسببوا لنفسهم وعملوا بأسباب الغواية‪.‬‬
‫َ‬ ‫شياطي َ‬
‫ن‬
‫شي ْطا َ‬ ‫خذِ ال ّ‬
‫ن ي َت ّ ِ‬ ‫ن الل ّهِ { } وَ َ‬
‫م ْ‬ ‫دو ِ‬‫ن ُ‬‫م ْ‬ ‫ذوا ال ّ َ ِ َ‬
‫ن أوْل َِياَء ِ‬ ‫خ ُ‬
‫م ات ّ َ‬‫فـ } إ ِن ّهُ ُ‬
‫مِبينا { فحين انسلخوا من ولية‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫سَرانا ُ‬ ‫خ ْ‬ ‫سَر ُ‬
‫خ ِ‬
‫قد ْ َ‬ ‫ّ‬
‫ن اللهِ فَ َ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫وَل ِي ّا ً ِ‬
‫الرحمن‪ ،‬واستحبوا ولية الشيطان‪ ،‬حصل لهم النصيب الوافر من الخذلن‪،‬‬
‫م‬ ‫ووكلوا إلى أنفسهم فخسروا أشد الخسران‪ } .‬و { هم } يحسبو َ‬
‫ن أن ّهُ ْ‬
‫َ ْ َ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ن { لنهم انقلبت عليهم الحقائق‪ ،‬فظنوا الباطل حقا والحق باطل‬ ‫دو َ‬ ‫مهْت َ ُ‬ ‫ُ‬
‫وفي هذه اليات دليل على أن الوامر والنواهي تابعة للحكمة والمصلحة‪،‬‬
‫حيث ذكر تعالى أنه ل يتصور أن يأمر بما تستفحشه وتنكره العقول‪ ،‬وأنه‬
‫ل يأمر إل ] ص ‪ [ 287‬بالعدل والخلص‪ ،‬وفيه دليل على أن الهداية بفضل‬
‫ن‪،‬‬
‫مّنه‪ ،‬وأن الضللة بخذلنه للعبد‪ ،‬إذا تولى ‪ -‬بجهله وظلمه ‪ -‬الشيطا َ‬ ‫الّله و َ‬
‫ل‪ ،‬أنه ل عذر له‪،‬‬ ‫وتسبب لنفسه بالضلل‪ ،‬وأن من حسب أنه مهتدٍ وهو ضا ّ‬
‫لنه متمكن من الهدى‪ ،‬وإنما أتاه حسبانه من ظلمه بترك الطريق‬
‫الموصل إلى الهدى‪.‬‬

‫) ‪(1/286‬‬

‫ه َل‬ ‫شَرُبوا وََل ت ُ ْ‬


‫سرُِفوا إ ِن ّ ُ‬ ‫جدٍ وَك ُُلوا َوا ْ‬
‫س ِ‬
‫م ْ‬ ‫عن ْد َ ك ُ ّ‬
‫ل َ‬ ‫ذوا ِزين َت َك ُ ْ‬
‫م ِ‬ ‫خ ُ‬‫م ُ‬‫َيا ب َِني آ َد َ َ‬
‫ن )‪(31‬‬ ‫سرِِفي َ‬
‫م ْ‬ ‫ب ال ْ ُ‬
‫ح ّ‬ ‫يُ ِ‬

‫جدٍ وَك ُُلوا َوا ْ‬


‫شَرُبوا َول‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫عن ْد َ ك ُ ّ‬
‫ل َ‬ ‫م ِ‬ ‫ذوا ِزين َت َك ُ ْ‬ ‫خ ُ‬‫م ُ‬ ‫} ‪َ } { 31‬يا ب َِني آد َ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫سرِِفي َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫سرُِفوا إ ِن ّ ُ‬ ‫تُ ْ‬
‫يقول تعالى ‪ -‬بعد ما أنزل على بني آدم لباسا يواري سوءاتهم وريشا‪َ } :‬يا‬
‫جدٍ { أي‪ :‬استروا عوراتكم عند الصلة‬ ‫س ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫عن ْد َ ك ُ ّ‬
‫م ِ‬ ‫ذوا ِزين َت َك ُ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫م ُ‬ ‫ب َِني آد َ َ‬
‫كلها‪ ،‬فرضها ونفلها‪ ،‬فإن سترها زينة للبدن‪ ،‬كما أن كشفها يدع البدن‬
‫قبيحا مشوها‪.‬‬
‫ويحتمل أن المراد بالزينة هنا ما فوق ذلك من اللباس النظيف الحسن‪،‬‬
‫ففي هذا المر بستر العورة في الصلة‪ ،‬وباستعمال التجميل فيها ونظافة‬
‫السترة من الدناس والنجاس‪.‬‬
‫ّ‬
‫شَرُبوا { أي‪ :‬مما رزقكم الله من الطيبات } َول‬ ‫ثم قال‪ } :‬وَك ُُلوا َوا ْ‬
‫سرُِفوا { في ذلك‪ ،‬والسراف إما أن يكون بالزيادة على القدر الكافي‬ ‫تُ ْ‬
‫والشره في المأكولت الذي يضر بالجسم‪ ،‬وإما أن يكون بزيادة الترفه‬
‫والتنوق في المآكل والمشارب واللباس‪ ،‬وإما بتجاوز الحلل إلى الحرام‪.‬‬
‫ن { فإن السرف يبغضه الّله‪ ،‬ويضر بدن النسان‬ ‫سرِِفي َ‬ ‫م ْ‬ ‫ب ال ْ ُ‬‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫} إ ِن ّ ُ‬
‫ومعيشته‪ ،‬حتى إنه ربما أدت به الحال إلى أن يعجز عما يجب عليه من‬
‫النفقات‪ ،‬ففي هذه الية الكريمة المر بتناول الكل والشرب‪ ،‬والنهي عن‬
‫تركهما‪ ،‬وعن السراف فيهما‪.‬‬

‫) ‪(1/287‬‬

‫ي‬ ‫ق قُ ْ‬
‫ل هِ َ‬ ‫ن الّرْز ِ‬ ‫م َ‬‫ت ِ‬ ‫ج ل ِعَِبادِهِ َوالط ّي َّبا ِ‬ ‫خَر َ‬‫ة الل ّهِ ال ِّتي أ َ ْ‬ ‫م ِزين َ َ‬
‫حّر َ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬‫ل َ‬‫قُ ْ‬
‫ل اْل ََيا ِ‬‫ص ُ‬ ‫مةِ ك َذ َل ِ َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫مُنوا ِفي ال ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ل ِل ّ ِ‬
‫قوْم ٍ‬
‫ت لِ َ‬ ‫ف ّ‬‫ك نُ َ‬ ‫قَيا َ‬ ‫ة ي َوْ َ‬
‫ص ً‬
‫خال ِ َ‬
‫حَياةِ الد ّن َْيا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬
‫ن َواْل ِث ْ َ‬
‫م‬ ‫ما ب َط َ َ‬ ‫ما ظ َهََر ِ‬
‫من َْها وَ َ‬ ‫ش َ‬ ‫ح َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ي ال ْ َ‬
‫ف َ‬ ‫م َرب ّ َ‬‫حّر َ‬
‫ما َ‬ ‫ل إ ِن ّ َ‬ ‫ن )‪ (32‬قُ ْ‬ ‫مو َ‬ ‫ي َعْل َ ُ‬
‫قوُلوا‬ ‫َ‬ ‫سل ْ َ‬ ‫َ‬
‫ن تَ ُ‬‫طاًنا وَأ ْ‬ ‫ل ب ِهِ ُ‬‫م ي ُن َّز ْ‬‫ما ل َ ْ‬‫كوا ِبالل ّهِ َ‬ ‫شرِ ُ‬‫ن تُ ْ‬‫حقّ وَأ ْ‬ ‫ي ب ِغَي ْرِ ال ْ َ‬
‫َوال ْب َغْ َ‬
‫ن )‪(33‬‬ ‫مو َ‬ ‫ما َل ت َعْل َ ُ‬ ‫عََلى الل ّهِ َ‬
‫ن‬
‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ج ل ِعَِبادِهِ َوالط ّي َّبا ِ‬ ‫خَر َ‬ ‫ة الل ّهِ ال ِّتي أ َ ْ‬ ‫م ِزين َ َ‬ ‫حّر َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل َ‬ ‫} ‪ } { 33 ، 32‬قُ ْ‬
‫مةِ ك َذ َل ِ َ‬
‫ك‬ ‫قَيا َ‬‫م ال ْ ِ‬ ‫ة ي َوْ َ‬ ‫ص ً‬ ‫خال ِ َ‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا َ‬ ‫مُنوا ِفي ال ْ َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ي ل ِل ّ ِ‬ ‫ل هِ َ‬ ‫ق قُ ْ‬ ‫الّرْز ِ‬
‫من َْها‬ ‫ما ظهََر ِ‬‫َ‬ ‫ش َ‬ ‫ح َ‬ ‫وا ِ‬
‫ف َ‬ ‫ْ‬
‫ي ال َ‬ ‫م َرب ّ َ‬ ‫حّر َ‬ ‫ما َ‬ ‫ن * قل إ ِن ّ َ‬‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫قوْم ٍ ي َعْل ُ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫صل الَيا ِ‬ ‫ُ‬ ‫ف ّ‬ ‫نُ َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫م ي ُن َّز ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫سلطاًنا‬ ‫ل ب ِهِ ُ‬ ‫ما ل ْ‬ ‫شرِكوا ِباللهِ َ‬ ‫ن تُ ْ‬ ‫حقّ وَأ ْ‬ ‫ي ب ِغَي ْرِ ال َ‬ ‫م َوالب َغْ َ‬ ‫ن َوالث ْ َ‬ ‫ما ب َط َ‬ ‫وَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫مو َ‬ ‫ما ل ت َعْل ُ‬ ‫قولوا عَلى اللهِ َ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫وَأ ْ‬
‫يقول تعالى منكرا على من تعنت‪ ،‬وحرم ما أحل الّله من الطيبات } قُ ْ‬
‫ل‬
‫ج ل ِعَِبادِهِ { من أنواع اللباس على اختلف‬ ‫خَر َ‬ ‫ة الل ّهِ ال ِّتي أ َ ْ‬ ‫م ِزين َ َ‬ ‫حّر َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫َ‬
‫من‬ ‫َ‬ ‫أي‪:‬‬ ‫أنواعه‪،‬‬ ‫بجميع‬ ‫ومشرب‬ ‫مأكل‬ ‫من‬ ‫الرزق‪،‬‬ ‫من‬ ‫والطيبات‬ ‫أصنافه‪،‬‬
‫هذا الذي يقدم على تحريم ما أنعم الّله بها على العباد‪ ،‬ومن ذا الذي‬
‫سعه الّله؟"‪.‬‬ ‫يضيق عليهم ما و ّ‬
‫وهذا التوسيع من الله لعباده بالطيبات‪ ،‬جعله لهم ليستعينوا به على‬ ‫ّ‬
‫مُنوا‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ي ل ِل ّ ِ‬‫ل هِ َ‬ ‫عبادته‪ ،‬فلم يبحه إل لعباده المؤمنين‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬قُ ْ‬
‫مةِ { أي‪ :‬ل تبعة عليهم فيها‪.‬‬ ‫قَيا َ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫ة ي َوْ َ‬ ‫ص ً‬ ‫خال ِ َ‬ ‫حَياةِ الد ّن َْيا َ‬ ‫ِفي ال ْ َ‬
‫ومفهوم الية أن من لم يؤمن بالّله‪ ،‬بل استعان بها على معاصيه‪ ،‬فإنها‬
‫غير خالصة له ول مباحة‪ ،‬بل يعاقب عليها وعلى التنعم بها‪ ،‬وُيسأل عن‬
‫النعيم يوم القيامة‪.‬‬
‫ن { لنهم الذين‬ ‫مو َ‬ ‫َ‬
‫قوْم ٍ ي َعْل ُ‬ ‫ت { أي‪ :‬نوضحها ونبينها } ل ِ َ‬ ‫ل الَيا ِ‬ ‫ص ُ‬ ‫ف ّ‬ ‫ك نُ َ‬ ‫} ك َذ َل ِ َ‬
‫ينتفعون بما فصله الّله من اليات‪ ،‬ويعلمون أنها من عند الّله‪ ،‬فيعقلونها‬
‫ويفهمونها‪.‬‬
‫ثم ذكر المحرمات التي حرمها الله في كل شريعة من الشرائع فقال‪:‬‬ ‫ّ‬
‫ش { أي‪ :‬الذنوب الكبار التي تستفحش‬ ‫ح َ‬ ‫وا ِ‬ ‫ف َ‬ ‫ي ال ْ َ‬ ‫م َرب ّ َ‬ ‫حّر َ‬ ‫ما َ‬ ‫ل إ ِن ّ َ‬ ‫} قُ ْ‬
‫وتستقبح لشناعتها وقبحها‪ ،‬وذلك كالزنا واللواط ونحوهما‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬الفواحش التي تتعلق بحركات‬ ‫ما ب َط َ َ‬ ‫من َْها وَ َ‬ ‫ما ظ َهََر ِ‬ ‫وقوله‪َ } :‬‬
‫البدن‪ ،‬والتي تتعلق بحركات القلوب‪ ،‬كالكبر والعجب والرياء والنفاق‪،‬‬
‫حقّ { أي‪ :‬الذنوب التي تؤثم وتوجب‬ ‫ي ب ِغَي ْرِ ال ْ َ‬ ‫م َوال ْب َغْ َ‬ ‫ونحو ذلك‪َ } ،‬والث ْ َ‬
‫العقوبة في حقوق الّله‪ ،‬والبغي على الناس في دمائهم وأموالهم‬
‫ة بحق‬ ‫ة بحق الّله‪ ،‬والمتعلق ُ‬ ‫ب المتعلق ُ‬ ‫وأعراضهم‪ ،‬فدخل في هذا الذنو ُ‬
‫العباد‪.‬‬
‫سلطاًنا { أي‪ :‬حجة‪ ،‬بل أنزل الحجة‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ن تُ ْ‬ ‫َ‬
‫م ُينزل ب ِهِ ُ‬ ‫ما ل ْ‬ ‫شرِكوا ِباللهِ َ‬ ‫} وَأ ْ‬
‫ك هو أن يشرك مع الّله في عبادته أحد من‬ ‫والبرهان على التوحيد‪ .‬والشر ُ‬
‫الخلق‪ ،‬وربما دخل في هذا الشرك الصغر كالرياء والحلف بغير الّله‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫ن { في أسمائه وصفاته وأفعاله‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫مو َ‬ ‫ما ل ت َعْل ُ‬ ‫قولوا عَلى اللهِ َ‬ ‫ن تَ ُ‬ ‫} وَأ ْ‬
‫وشرعه‪ ،‬فكل هذه قد حرمها الّله‪ ،‬ونهى العباد عن تعاطيها‪ ،‬لما فيها من‬
‫المفاسد الخاصة والعامة‪ ،‬ولما فيها من الظلم والتجري على الّله‪،‬‬
‫والستطالة على عباد الّله‪ ،‬وتغيير دين الّله وشرعه‪.‬‬

‫) ‪(1/287‬‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ول ِك ُ ّ ُ‬
‫ن )‪(34‬‬‫مو َ‬ ‫قدِ ُ‬‫ست َ ْ‬‫ة وََل ي َ ْ‬‫ساعَ ً‬‫ن َ‬ ‫خُرو َ‬ ‫ست َأ ِ‬ ‫م َل ي َ ْ‬
‫جل ُهُ ْ‬‫جاَء أ َ‬ ‫ذا َ‬ ‫ل فَإ ِ َ‬
‫ج ٌ‬‫مة ٍ أ َ‬‫لأ ّ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫} ‪ } { 34‬ول ِك ُ ّ ُ‬
‫ة َول‬ ‫ساعَ ً‬ ‫ن َ‬ ‫خُرو َ‬‫ست َأ ِ‬
‫م ل يَ ْ‬‫جل ُهُ ْ‬ ‫جاَء أ َ‬ ‫ذا َ‬‫ل فَإ ِ َ‬‫ج ٌ‬‫مةٍ أ َ‬‫لأ ّ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مو َ‬‫قدِ ُ‬
‫ست َ ْ‬
‫يَ ْ‬
‫أي‪ :‬وقد أخرج الّله بني آدم إلى الرض‪ ،‬وأسكنهم فيها‪ ،‬وجعل لهم أجل‬
‫مسمى ل تتقدم أمة من المم على وقتها المسمى‪ ،‬ول تتأخر‪ ،‬ل المم‬
‫المجتمعة ول أفرادها‪.‬‬

‫) ‪(1/287‬‬

‫َ‬ ‫ن عَل َي ْك ُ َ‬ ‫ْ‬


‫صل َ َ‬
‫ح‬ ‫قى وَأ ْ‬ ‫ن ات ّ َ‬
‫م ِ‬‫م آَياِتي فَ َ‬ ‫ْ‬ ‫صو َ‬ ‫ق ّ‬ ‫من ْك ُ ْ‬
‫م يَ ُ‬ ‫س ٌ‬
‫ل ِ‬ ‫م ُر ُ‬ ‫ما ي َأت ِي َن ّك ُ ْ‬ ‫م إِ ّ‬ ‫َيا ب َِني آ َد َ َ‬
‫َ‬ ‫ن )‪َ (35‬وال ّ ِ‬
‫ست َك ْب َُروا عَن َْها‬‫ن ك َذ ُّبوا ب ِآَيات َِنا َوا ْ‬
‫ذي َ‬ ‫حَزُنو َ‬‫م يَ ْ‬‫م وََل هُ ْ‬ ‫ف عَل َي ْهِ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫فََل َ‬
‫ن )‪(36‬‬ ‫َ‬ ‫ُأول َئ ِ َ‬
‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬‫م ِفيَها َ‬ ‫ب الّنارِ هُ ْ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫كأ ْ‬
‫ْ‬
‫آَياِتي‬ ‫ن عَل َي ْك ُ ْ‬
‫م‬ ‫صو َ‬ ‫ق ّ‬ ‫م يَ ُ‬‫من ْك ُ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫س ٌ‬‫م ُر ُ‬ ‫ما ي َأت ِي َن ّك ُ ْ‬‫م إِ ّ‬ ‫} ‪َ } { 36 ، 35‬يا ب َِني آد َ َ‬
‫َ‬
‫ن ك َذ ُّبوا‬
‫ِبآَيات َِنا‬ ‫ذي َ‬ ‫ن * َوال ّ ِ‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫م يَ ْ‬
‫م َول هُ ْ‬ ‫ف عَل َي ْهِ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫ح َفل َ‬ ‫صل َ َ‬
‫قى وَأ ْ‬ ‫ن ات ّ َ‬ ‫م ِ‬ ‫فَ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ست َك ْب َُروا عَن َْها أول َئ ِ َ‬
‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬‫م ِفيَها َ‬ ‫ب الّنارِ هُ ْ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫كأ ْ‬ ‫َوا ْ‬
‫لما أخرج الله بني آدم من الجنة‪ ،‬ابتلهم بإرسال الرسل وإنزال الكتب‬ ‫ّ‬
‫عليهم يقصون عليهم آيات الّله ويبينون لهم ] ص ‪ [ 288‬أحكامه‪ ،‬ثم ذكر‬
‫قى {‬ ‫ن ات ّ َ‬‫م ِ‬‫فضل من استجاب لهم‪ ،‬وخسار من لم يستجب لهم فقال‪ } :‬فَ َ‬
‫َ‬
‫ح { أعماله الظاهرة‬ ‫صل َ َ‬
‫ما حرم الّله‪ ،‬من الشرك والكبائر والصغائر‪ } ،‬وَأ ْ‬
‫م‬
‫م { من الشر الذي قد يخافه غيرهم } َول هُ ْ‬ ‫ف عَل َي ْهِ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫والباطنة } َفل َ‬
‫ن { على ما مضى‪ ،‬وإذا انتفى الخوف والحزن حصل المن التام‪،‬‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫يَ ْ‬
‫والسعادة‪ ،‬والفلح البدي‪.‬‬
‫ست َك ْب َُروا عَن َْها { أي‪ :‬ل آمنت بها قلوبهم‪ ،‬ول‬ ‫ن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا َوا ْ‬
‫ذي َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫ن { كما‬ ‫انقادت لها جوارحهم‪ُ } ،‬أول َئ ِ َ َ‬
‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬‫م ِفيَها َ‬ ‫ب الّنارِ هُ ْ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫كأ ْ‬
‫استهانوا بآياته‪ ،‬ولزموا التكذيب بها‪ ،‬أهينوا بالعذاب الدائم الملزم‪.‬‬

‫) ‪(1/287‬‬

‫م‬
‫صيب ُهُ ْ‬ ‫م نَ ِ‬ ‫ك ي ََنال ُهُ ْ‬ ‫ب ب ِآ ََيات ِهِ ُأول َئ ِ َ‬ ‫َ‬
‫ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ ك َذًِبا أوْ ك َذ ّ َ‬ ‫ِ‬ ‫م‬ ‫م ّ‬‫م ِ‬ ‫ن أظ ْل َ ُ‬
‫فَم َ‬
‫َ ْ‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫عو‬ ‫د‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ما‬ ‫ن‬ ‫ي‬‫ذا جاَءتهم رسل ُنا يتوفّونهم َقاُلوا أ َ‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫تى‬ ‫ح‬ ‫ب‬ ‫تا‬ ‫ك‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫َ ِ ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُْ ْ َ ْ‬ ‫ْ َ َ‬ ‫َ ُْ ْ ُ ُ َ ََ َ َُْ ْ‬ ‫َِ ِ َ ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫ن )‪(37‬‬ ‫ري‬‫ف‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫نوا‬ ‫َ‬
‫كا‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫س‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ن‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫دوا‬ ‫ه‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫و‬ ‫نا‬‫ع‬ ‫لوا‬ ‫ّ‬ ‫ض‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫قا‬‫َ‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ن‬ ‫دو‬
‫ِ ِ َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ِ ِ ْ ُّ ْ‬ ‫َّ َ ِ ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ ِ‬
‫ما‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َقا َ‬
‫س ِفي الّنارِ كل َ‬ ‫ن َوال ِن ْ ِ‬ ‫ج ّ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬‫م ِ‬ ‫ن قب ْل ِك ْ‬ ‫م ْ‬‫ت ِ‬ ‫خل ْ‬ ‫مم ٍ قد ْ َ‬ ‫خلوا ِفي أ َ‬ ‫ل اد ْ ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫م ِلوَلهُ ْ‬
‫م‬ ‫خَراهُ ْ‬ ‫تأ ْ‬ ‫ميًعا َقال َ ْ‬ ‫ج ِ‬ ‫كوا ِفيَها َ‬ ‫داَر ُ‬ ‫ذا ا ّ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫خت ََها َ‬ ‫تأ ْ‬ ‫ة ل َعَن َ ْ‬ ‫م ٌ‬ ‫تأ ّ‬ ‫خل َ ْ‬ ‫دَ َ‬
‫ن لَ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ل ل ِك ّ‬ ‫َ‬
‫ن الّنارِ قا َ‬ ‫م عَ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ف وَلك ِ ْ‬ ‫ضعْ ٌ‬ ‫ل ِ‬ ‫م َ‬ ‫فا ِ‬ ‫ضع ْ ً‬ ‫ذاًبا ِ‬ ‫ضلوَنا فآت ِهِ ْ‬ ‫َرب َّنا هَؤُلِء أ َ‬
‫ن )‪(38‬‬ ‫مو َ‬ ‫ت َعْل َ ُ‬
‫ب ِبآَيات ِهِ ُأول َئ ِ َ‬
‫ك‬ ‫َ‬
‫ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ ك َذًِبا أوْ ك َذ ّ َ‬
‫ِ‬ ‫م‬
‫م ّ‬‫م ِ‬‫ن أظ ْل َ ُ‬
‫} ‪ } { 37‬فَم َ‬
‫َ ْ‬
‫ذا جاَءتهم رسل ُنا يتوفّونهم َقاُلوا أ َ‬ ‫ْ‬
‫ما‬ ‫ن‬
‫ْ َ َ‬ ‫ي‬ ‫َ ُْ ْ ُ ُ َ ََ َ َُْ ْ‬ ‫َ‬ ‫إ‬ ‫تى‬‫ح‬ ‫ب‬
‫َِ ِ َ ّ ِ‬ ‫تا‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ن‬
‫م ِ َ‬
‫م‬ ‫صيب ُهُ ْ‬
‫م نَ ِ‬ ‫ي ََنال ُهُ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫دوا عََلى أن ْ ُ‬ ‫ضّلوا عَّنا وَ َ‬
‫م َ‬
‫كاُنوا‬ ‫م أن ّهُ ْ‬ ‫سه ِ ْ‬‫ف ِ‬ ‫شه ِ ُ‬ ‫ن الل ّهِ َقاُلوا َ‬‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬‫ن ِ‬ ‫عو َ‬ ‫ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م ت َد ْ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬‫َ‬
‫ن افْت ََرى عََلى الل ّهِ ك َذًِبا { بنسبة الشريك له‪ ،‬أو‬ ‫م ِ‬ ‫م ّ‬
‫أي‪ :‬ل أحد أظلم } ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ب ِبآَيات ِهِ { الواضحة المبينة‬ ‫النقص له‪ ،‬أو التقول عليه ما لم يقل‪ } ،‬أوْ كذ ّ َ‬
‫للحق المبين‪ ،‬الهادية إلى الصراط المستقيم‪ ،‬فهؤلء وإن تمتعوا بالدنيا‪،‬‬
‫ونالهم نصيبهم مما كان مكتوبا لهم في اللوح المحفوظ‪ ،‬فليس ذلك بمغن‬
‫سل َُنا‬
‫م ُر ُ‬‫جاَءت ْهُ ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬ ‫عنهم شيئا‪ ،‬يتمتعون قليل ثم يعذبون طويل } َ‬
‫م { أي‪ :‬الملئكة الموكلون بقبض أرواحهم واستيفاء آجالهم‪.‬‬ ‫ي َت َوَفّوْن َهُ ْ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫دو ِ‬‫ن ُ‬‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫عو َ‬‫م ت َد ْ ُ‬‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫} َقاُلوا { لهم في تلك الحالة توبيخا وعتابا } أي ْ َ‬
‫ن َ‬
‫الل ّهِ { من الصنام والوثان‪ ،‬فقد جاء وقت الحاجة إن كان فيها منفعة لكم‬
‫ضّلوا عَّنا { أي‪ :‬اضمحلوا وبطلوا‪ ،‬وليسوا مغنين‬ ‫أو دفع مضرة‪َ } .‬قاُلوا َ‬
‫عنا من عذاب الّله من شيء‪.‬‬
‫فسه َ‬ ‫َ‬
‫ن { مستحقين للعذاب المهين‬ ‫ري َ‬ ‫كاُنوا َ‬
‫كافِ ِ‬ ‫م َ‬‫م أن ّهُ ْ‬‫دوا عََلى أن ْ ُ ِ ِ ْ‬‫شه ِ ُ‬‫} وَ َ‬
‫الدائم‪.‬‬

‫) ‪(1/288‬‬

‫ُ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ت ِ‬ ‫خل َ ْ‬
‫مم ٍ { أي‪ :‬في جملة أمم } قَد ْ َ‬ ‫خُلوا ِفي أ َ‬
‫فقالت لهم الملئكة } اد ْ ُ‬
‫س { أي‪ :‬مضوا على ما مضيتم عليه من الكفر‬ ‫ن َوالن ْ ِ‬ ‫ج ّ‬‫ن ال ْ ِ‬‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫قَب ْل ِك ُ ْ‬
‫والستكبار‪ ،‬فاستحق الجميع الخزي والبوار‪ ،‬كلما دخلت أمة من المم‬
‫م‬ ‫ُ‬
‫ضك ْ‬ ‫فُر ب َعْ ُ‬ ‫مةِ ي َك ْ ُ‬‫قَيا َ‬‫م ال ْ ِ‬‫خت ََها { كما قال تعالى‪ } :‬وي َوْ َ‬ ‫ت أُ ْ‬ ‫العاتية النار } ل َعَن َ ْ‬
‫ميًعا { أي‪ :‬اجتمع‬ ‫ج ِ‬ ‫كوا ِفيَها َ‬ ‫داَر ُ‬ ‫حّتى إ ِ َ‬
‫ذا ا ّ‬ ‫ضا { } َ‬ ‫ضك ُ ْ‬
‫م ب َعْ ً‬ ‫ن ب َعْ ُ‬ ‫ض وَي َل ْعَ ُ‬ ‫ب ِب َعْ ٍ‬
‫في النار جميع أهلها‪ ،‬من الولين والخرين‪ ،‬والقادة والرؤساء والمقلدين‬
‫التباع‪.‬‬
‫ُ‬
‫م { أي‪:‬‬ ‫م { أي‪ :‬متأخروهم‪ ،‬المتبعون للرؤساء } لولهُ ْ‬ ‫خَراهُ ْ‬ ‫تأ ْ‬ ‫} َقال َ ْ‬
‫َ‬
‫م عَ َ‬
‫ذاًبا‬ ‫ضّلوَنا َفآت ِهِ ْ‬ ‫ؤلِء أ َ‬ ‫لرؤسائهم‪ ،‬شاكين إلى الّله إضللهم إياهم‪َ } :‬رب َّنا هَ ُ‬
‫ن الّنارِ { أي‪ :‬عذبهم عذابا مضاعفا لنهم أضلونا‪ ،‬وزينوا لنا‬ ‫م َ‬‫فا ِ‬ ‫ضع ْ ً‬ ‫ِ‬
‫العمال الخبيثة‪.‬‬
‫ف { ونصيب من العذاب‪.‬‬ ‫ضع ْ ٌ‬‫ل { منكم } ِ‬ ‫ل { الّله } ل ِك ُ ّ‬ ‫} َقا َ‬

‫) ‪(1/288‬‬

‫ذوُقوا ال ْعَ َ‬ ‫م ِل ُ ْ‬ ‫ُ‬


‫ما‬
‫ب بِ َ‬
‫ذا َ‬ ‫ل فَ ُ‬ ‫ن فَ ْ‬
‫ض ٍ‬ ‫م عَل َي َْنا ِ‬
‫م ْ‬ ‫ن ل َك ُ ْ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫م فَ َ‬
‫خَراهُ ْ‬ ‫ت أوَلهُ ْ‬ ‫وََقال َ ْ‬
‫ن )‪(39‬‬ ‫م ت َك ْ ِ‬
‫سُبو َ‬ ‫ك ُن ْت ُ ْ‬
‫ُ‬
‫م { ‪ .‬أي‪ :‬الرؤساء‪ ،‬قالوا لتباعهم‪ } :‬فَ َ‬
‫ما‬ ‫خَراهُ ْ‬ ‫مل ْ‬ ‫ت أولهُ ْ‬ ‫} ‪ } { 39‬وََقال َ ْ‬
‫ل { أي‪ :‬قد اشتركنا جميعا في الغي والضلل‪ ،‬وفي‬ ‫ض ٍ‬‫ن فَ ْ‬ ‫م ْ‬‫م عَل َي َْنا ِ‬‫ن ل َك ُ ْ‬‫كا َ‬‫َ‬
‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ب بِ َ‬‫ذا َ‬ ‫ذوُقوا ال ْعَ َ‬
‫فعل أسباب العذاب‪ ،‬فأي‪ :‬فضل لكم علينا؟ } فَ ُ‬
‫ن { ولكنه من المعلوم أن عذاب الرؤساء وأئمة الضلل أبلغ وأشنع‬ ‫سُبو َ‬ ‫ت َك ْ ِ‬
‫من عذاب التباع‪ ،‬كما أن نعيم أئمة الهدى ورؤسائه أعظم من ثواب‬
‫ذاًبا‬ ‫م عَ َ‬‫ل الل ّهِ زِد َْناهُ ْ‬
‫سِبي ِ‬
‫ن َ‬‫دوا عَ ْ‬
‫ص ّ‬
‫فُروا وَ َ‬‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬‫التباع‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬ال ّ ِ‬
‫ن { فهذه اليات ونحوها‪ ،‬دلت على أن سائر‬ ‫دو َ‬ ‫س ُ‬‫ف ِ‬ ‫ما َ‬
‫كاُنوا ي ُ ْ‬ ‫ب بِ َ‬‫ذا ِ‬ ‫فَوْقَ ال ْعَ َ‬
‫أنواع المكذبين بآيات الّله‪ ،‬مخلدون في العذاب‪ ،‬مشتركون فيه وفي‬
‫أصله‪ ،‬وإن كانوا متفاوتين في مقداره‪ ،‬بحسب أعمالهم وعنادهم وظلمهم‬
‫وافترائهم‪ ،‬وأن مودتهم التي كانت بينهم في الدنيا تنقلب يوم القيامة‬
‫عداوة وملعنة‪.‬‬

‫) ‪(1/288‬‬

‫ماِء وََل‬ ‫فتح ل َه َ‬ ‫َ‬


‫س َ‬
‫ب ال ّ‬ ‫وا ُ‬ ‫م أب ْ َ‬ ‫ست َك ْب َُروا عَن َْها َل ت ُ َ ّ ُ ُ ْ‬
‫ن ك َذ ُّبوا ب ِآَيات َِنا َوا ْ‬‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬‫إِ ّ‬
‫ن)‬
‫مي َ‬
‫جرِ ِ‬‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫زي ال ُ‬ ‫ج ِ‬
‫ك نَ ْ‬‫ط وَك َذ َل ِ َ‬ ‫خَيا ِ‬ ‫ْ‬
‫م ال ِ‬ ‫س ّ‬
‫ل ِفي َ‬ ‫م ُ‬ ‫ج َ‬ ‫ْ‬
‫ج ال َ‬ ‫حّتى ي َل ِ َ‬ ‫ة َ‬‫جن ّ َ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫خلو َ‬ ‫ُ‬ ‫ي َد ْ ُ‬
‫ن )‪(41‬‬ ‫مي َ‬ ‫ّ‬
‫زي الظال ِ ِ‬ ‫ج ِ‬‫ك نَ ْ‬ ‫ش وَك َذ َل ِ َ‬ ‫م غَ َ‬‫ن فَوْقِهِ ْ‬ ‫َ‬
‫وا ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫مَهاد ٌ وَ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫جهَن ّ َ‬
‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫‪ (40‬لهُ ْ‬
‫فتح ل َه َ‬
‫ب‬‫وا ُ‬‫م أب ْ َ‬‫ست َك ْب َُروا عَن َْها ل ت ُ َ ّ ُ ُ ْ‬ ‫ن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا َوا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫} ‪ } { 41 ، 40‬إ ِ ّ‬
‫زي‬‫ج ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ط وَكذ َل ِك ن َ ْ‬ ‫خَيا ِ‬ ‫ْ‬
‫م ال ِ‬ ‫س ّ‬ ‫ل ِفي َ‬ ‫م ُ‬ ‫ج َ‬ ‫ْ‬
‫ج ال َ‬ ‫حّتى ي َل ِ َ‬ ‫ة َ‬ ‫جن ّ َ‬ ‫ْ‬
‫ن ال َ‬ ‫خُلو َ‬ ‫ماِء َول ي َد ْ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ال ّ‬
‫زي‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ش وَكذ َل ِك ن َ ْ‬
‫ج ِ‬ ‫م غَ َ‬ ‫ن فَوْقِهِ ْ‬ ‫َ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫وا ٍ‬ ‫م ْ‬ ‫مَهاد ٌ وَ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬‫ن * لهُ ْ‬ ‫مي َ‬ ‫جرِ ِ‬ ‫م ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫يخبر تعالى عن عقاب من كذب بآياته فلم يؤمن بها‪ ،‬مع أنها آيات بينات‪،‬‬
‫قد لحكامها‪ ،‬بل كذب وتولى‪ ،‬أنهم آيسون من كل‬ ‫واستكبر عنها فلم ي َن ْ َ‬
‫خير‪ ،‬فل تفتح أبواب السماء لرواحهم إذا ماتوا وصعدت تريد العروج إلى‬
‫الّله‪ ،‬فتستأذن فل يؤذن لها‪ ،‬كما لم تصعد في الدنيا إلى اليمان بالّله‬
‫ومعرفته ومحبته كذلك ل تصعد بعد الموت‪ ،‬فإن الجزاء من جنس العمل‪.‬‬
‫ومفهوم الية أن أرواح المؤمنين المنقادين لمر الّله المصدقين بآياته‪،‬‬
‫تفتح لها أبواب السماء حتى تعرج إلى الّله‪ ،‬وتصل إلى حيث أراد الّله من‬
‫العالم العلوي‪ ،‬وتبتهج بالقرب من ربها والحظوة برضوانه‪.‬‬
‫ل { وهو البعير‬ ‫م ُ‬ ‫ج َ‬‫ج ال ْ َ‬ ‫حّتى ي َل ِ َ‬ ‫ة َ‬ ‫جن ّ َ‬‫ن ال ْ َ‬ ‫خُلو َ‬ ‫وقوله عن أهل النار } َول ي َد ْ ُ‬
‫ط { أي‪ :‬حتى يدخل البعير الذي هو من أكبر‬ ‫خَيا ِ‬ ‫م ال ْ ِ‬ ‫س ّ‬ ‫المعروف } ِفي َ‬
‫الحيوانات جسما‪ ،‬في خرق البرة‪ ،‬الذي هو من أضيق الشياء‪ ،‬وهذا من‬
‫باب تعليق الشيء بالمحال‪ ،‬أي‪ :‬فكما أنه محال دخول الجمل في سم‬
‫الخياط‪ ،‬فكذلك المكذبون بآيات الّله محال دخولهم الجنة‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬
‫مأ َْواهُ الّناُر { ] ص‬ ‫ة وَ َ‬ ‫ه عَل َي ْهِ ال ْ َ‬
‫جن ّ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫حّر َ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫ك ِبالل ّهِ فَ َ‬ ‫شرِ ْ‬ ‫ن يُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ه َ‬ ‫} إ ِن ّ ُ‬
‫ن { أي‪ :‬الذين كثر إجرامهم‬ ‫مي َ‬ ‫جرِ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫زي ال ُ‬ ‫ج ِ‬‫ك نَ ْ‬ ‫‪ [ 289‬وقال هنا } وَك َذ َل ِ َ‬
‫واشتد طغيانهم‪.‬‬
‫ش{‬ ‫وا ٍ‬ ‫م غَ َ‬ ‫ن فَوْقِهِ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫مَهاد ٌ { أي‪ :‬فراش من تحتهم } وَ ِ‬ ‫م ِ‬ ‫جهَن ّ َ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫} ل َهُ ْ‬
‫أي‪ :‬ظلل من العذاب‪ ،‬تغشاهم‪.‬‬
‫ن { لنفسهم‪ ،‬جزاء وفاقا‪ ،‬وما ربك بظلم للعبيد‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫زي ال ّ‬ ‫ج ِ‬ ‫ك نَ ْ‬ ‫} وَك َذ َل ِ َ‬

‫) ‪(1/288‬‬

‫فسا إّل وسعها ُأول َئ ِ َ َ‬ ‫ت َل ن ُك َل ّ ُ‬ ‫ذي َ‬


‫ب‬
‫حا ُ‬ ‫ص َ‬
‫كأ ْ‬ ‫ف نَ ْ ً ِ ُ ْ َ َ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬
‫نآ َ‬ ‫َوال ّ ِ َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫ن ِغ ّ‬
‫ل تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫دورِهِ ْ‬‫ص ُ‬‫ما ِفي ُ‬ ‫ن )‪ (42‬وَن ََزعَْنا َ‬ ‫دو َ‬‫خال ِ ُ‬‫م ِفيَها َ‬ ‫جن ّةِ هُ ْ‬‫ال ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫داَنا‬
‫ن هَ َ‬‫ما ك ُّنا ل ِن َهْت َدِيَ ل َوَْل أ ْ‬ ‫داَنا ل ِهَ َ‬
‫ذا وَ َ‬ ‫ذي هَ َ‬ ‫مد ُ ل ِل ّهِ ال ّ ِ‬‫ح ْ‬‫م اْلن َْهاُر وََقاُلوا ال ْ َ‬ ‫حت ِهِ ُ‬‫تَ ْ‬
‫ل ربنا بال ْحق ونودوا أ َن ت ِل ْك ُم ال ْجن ُ ُ‬ ‫ه لَ َ‬
‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬
‫م‬ ‫ها ب ِ َ‬ ‫ة أورِث ْت ُ ُ‬
‫مو َ‬ ‫َ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫س ُ َ َّ ِ َ ّ َُ ُ‬ ‫ت ُر ُ‬
‫جاَء ْ‬
‫قد ْ َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ن )‪(43‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫ت َعْ َ‬
‫سعََها‬ ‫سا ِإل وُ ْ‬ ‫ف ً‬ ‫ف نَ ْ‬ ‫ت ل ن ُك َل ّ ُ‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} ‪َ } { 43 ، 42‬وال ّ ِ‬
‫ُأول َئ ِ َ َ‬
‫ن ِغ ّ‬
‫ل‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫دورِهِ ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ما ِفي ُ‬ ‫ن * وَن ََزعَْنا َ‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫م ِفيَها َ‬ ‫جن ّةِ هُ ْ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫كأ ْ‬
‫ما ك ُّنا ل ِن َهْت َدِ َ‬
‫ي‬ ‫ذا وَ َ‬ ‫داَنا ل ِهَ َ‬ ‫ذي هَ َ‬ ‫مد ُ ل ِل ّهِ ال ّ ِ‬ ‫ح ْ‬ ‫م الن َْهاُر وََقاُلوا ال ْ َ‬ ‫حت ِهِ ُ‬‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫تَ ْ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ة‬‫جن ّ ُ‬ ‫م ال َ‬ ‫ُ‬
‫ن ت ِلك ُ‬ ‫دوا أ ْ‬ ‫حقّ وَُنو ُ‬ ‫سل َرب َّنا ِبال َ‬ ‫ُ‬ ‫ت ُر ُ‬ ‫جاَء ْ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫هل َ‬ ‫داَنا الل ُ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫ول أ ْ‬ ‫لَ ْ‬
‫ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مُلو َ‬ ‫م ت َعْ َ‬ ‫ما ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫ها ب ِ َ‬ ‫مو َ‬ ‫أورِث ْت ُ ُ‬
‫لما ذكر الله تعالى عقاب العاصين الظالمين‪ ،‬ذكر ثواب المطيعين فقال‪:‬‬
‫ت { بجوارحهم‪ ،‬فجمعوا بين‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫مُنوا { بقلوبهم } وَعَ ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫اليمان والعمل‪ ،‬بين العمال الظاهرة والعمال الباطنة‪ ،‬بين فعل‬
‫ت { لفظا‬ ‫حا ِ‬ ‫صال ِ َ‬ ‫مُلوا ال ّ‬ ‫الواجبات وترك المحرمات‪ ،‬ولما كان قوله‪ } :‬وَعَ ِ‬
‫عاما يشمل جميع الصالحات الواجبة والمستحبة‪ ،‬وقد يكون بعضها غير‬
‫سعََها { أي‪ :‬بمقدار ما‬ ‫سا ِإل وُ ْ‬ ‫ف ً‬ ‫ف نَ ْ‬ ‫مقدور للعبد‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬ل ن ُك َل ّ ُ‬
‫تسعه طاقتها‪ ،‬ول يعسر على قدرتها‪ ،‬فعليها في هذه الحال أن تتقي الّله‬
‫بحسب استطاعتها‪ ،‬وإذا عجزت عن بعض الواجبات التي يقدر عليها غيرها‬
‫سعََها { } ل ي ُك َل ّ ُ‬
‫ف‬ ‫سا ِإل وُ ْ‬ ‫ف ً‬ ‫ه نَ ْ‬ ‫ف الل ّ ُ‬ ‫سقطت عنها كما قال تعالى‪ } :‬ل ي ُك َل ّ ُ‬
‫قوا‬ ‫حَرٍج { } َفات ّ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬‫دي ِ‬ ‫م ِفي ال ّ‬ ‫ل عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫جعَ َ‬ ‫ما َ‬ ‫ها { } َ‬ ‫ما آَتا َ‬ ‫سا ِإل َ‬ ‫ف ً‬ ‫ه نَ ْ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫م { فل واجب مع العجز‪ ،‬ول محرم مع الضرورة‪.‬‬ ‫ست َط َعْت ُ ْ‬ ‫ما ا ْ‬ ‫ه َ‬ ‫الل ّ َ‬
‫َ‬ ‫} ُأول َئ ِ َ‬
‫م‬
‫جن ّةِ هُ ْ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫ك { أي‪ :‬المتصفون باليمان والعمل الصالح } أ ْ‬
‫ن { أي‪ :‬ل يحولون عنها ول يبغون بها بدل لنهم يرون فيها من‬ ‫دو َ‬ ‫خال ِ ُ‬ ‫ِفيَها َ‬
‫أنواع اللذات وأصناف المشتهيات ما تقف عنده الغايات‪ ،‬ول يطلب أعلى‬
‫منه‪.‬‬
‫ل { وهذا من كرمه وإحسانه على أهل‬ ‫ن ِغ ّ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬ ‫دورِهِ ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ما ِفي ُ‬ ‫} َونزعَْنا َ‬
‫الجنة‪ ،‬أن الغل الذي كان موجودا في قلوبهم‪ ،‬والتنافس الذي بينهم‪ ،‬أن‬
‫الّله يقلعه ويزيله حتى يكونوا إخوانا متحابين‪ ،‬وأخلء متصافين‪.‬‬
‫ن{‬ ‫قاب ِِلي َ‬ ‫مت َ َ‬ ‫سُررٍ ُ‬ ‫واًنا عََلى ُ‬ ‫خ َ‬ ‫ل إِ ْ‬ ‫ن ِغ ّ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫دورِهِ ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ما ِفي ُ‬ ‫قال تعالى‪َ } :‬ونزعَْنا َ‬
‫ويخلق الّله لهم من الكرامة ما به يحصل لكل واحد منهم الغبطة‬
‫والسرور‪ ،‬ويرى أنه ل فوق ما هو فيه من النعيم نعيم‪ .‬فبهذا يأمنون من‬
‫التحاسد والتباغض‪ ،‬لنه قد فقدت أسبابه‪.‬‬
‫م الن َْهاُر { أي‪ :‬يفجرونها تفجيرا‪ ،‬حيث شاءوا‪،‬‬ ‫حت ِهِ ُ‬ ‫ن تَ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ري ِ‬ ‫ج ِ‬ ‫وقوله‪ } :‬ت َ ْ‬
‫وأين أرادوا‪ ،‬إن شاءوا في خلل القصور‪ ،‬أو في تلك الغرف العاليات‪ ،‬أو‬
‫في رياض الجنات‪ ،‬من تحت تلك الحدائق الزاهرات‪.‬‬
‫أنهار تجري في غير أخدود‪ ،‬وخيرات ليس لها حد محدود } وَ { لهذا لما‬
‫ذا {‬ ‫داَنا ل ِهَ َ‬ ‫ذي هَ َ‬ ‫مد ُ ل ِل ّهِ ال ّ ِ‬ ‫ح ْ‬ ‫رأوا ما أنعم الّله عليهم وأكرمهم به } َقاُلوا ال ْ َ‬
‫بأن من علينا وأوحى إلى قلوبنا‪ ،‬فآمنت به‪ ،‬وانقادت للعمال الموصلة إلى‬
‫هذه الدار‪ ،‬وحفظ الّله علينا إيماننا وأعمالنا‪ ،‬حتى أوصلنا بها إلى هذه‬
‫الدار‪ ،‬فنعم الرب الكريم‪ ،‬الذي ابتدأنا بالنعم‪ ،‬وأسدى من النعم الظاهرة‬
‫ول‬ ‫ما ك ُّنا ل ِن َهْت َدِيَ ل َ ْ‬ ‫والباطنة ما ل يحصيه المحصون‪ ،‬ول يعده العادون‪ } ،‬وَ َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫ه { أي‪ :‬ليس في نفوسنا قابلية للهدى‪ ،‬لول أنه تعالى م ّ‬ ‫داَنا الل ّ ُ‬ ‫ن هَ َ‬ ‫أ ْ‬
‫بهدايته واتباع رسله‪.‬‬
‫حقّ { أي‪ :‬حين كانوا يتمتعون بالنعيم الذي‬ ‫ل َرب َّنا ِبال ْ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ت ُر ُ‬ ‫جاَء ْ‬ ‫قد ْ َ‬ ‫} لَ َ‬
‫أخبرت به الرسل‪ ،‬وصار حق يقين لهم بعد أن كان علم يقين ]لهم[‪ ،‬قالوا‬
‫لقد تحققنا‪ ،‬ورأينا ما وعدتنا به الرسل‪ ،‬وأن جميع ما جاءوا به حق اليقين‪،‬‬
‫دوا { تهنئة لهم‪ ،‬وإكراما‪ ،‬وتحية واحتراما‪،‬‬ ‫ل مرية فيه ول إشكال‪ } ،‬وَُنو ُ‬
‫} أ َن ت ِل ْك ُم ال ْجن ُ ُ‬
‫ها { أي‪ :‬كنتم الوارثين لها‪ ،‬وصارت إقطاعا لكم‪،‬‬ ‫ة أورِث ْت ُ ُ‬
‫مو َ‬ ‫َ ّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫ُ‬
‫ملو َ‬ ‫م ت َعْ َ‬ ‫ُ‬
‫ما كن ْت ُ ْ‬
‫إذ كان إقطاع الكفار النار‪ ،‬أورثتموها } ب ِ َ‬
‫ّ‬
‫قال بعض السلف‪ :‬أهل الجنة نجوا من النار بعفو الله‪ ،‬وأدخلوا الجنة‬
‫برحمة الّله‪ ،‬واقتسموا المنازل وورثوها بالعمال الصالحة وهي من رحمته‪،‬‬
‫بل من أعلى أنواع رحمته‪.‬‬

‫) ‪(1/289‬‬

‫قا فَهَ ْ‬ ‫َ‬ ‫ونادى أ َصحاب ال ْجنة أ َ‬


‫ل‬ ‫ح ّ‬
‫ما وَعَد ََنا َرب َّنا َ‬ ‫جد َْنا َ‬ ‫ن قَد ْ وَ َ‬ ‫ب الّنارِ أ ْ‬‫حا َ‬‫ص َ‬‫ْ‬ ‫َ ّ ِ‬ ‫ْ َ ُ‬ ‫ََ َ‬
‫ة الل ّهِ عََلى‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬‫ي‬ ‫ب‬ ‫ن‬ ‫ّ‬ ‫ذ‬ ‫َ‬ ‫ؤ‬‫م‬ ‫ن‬ ‫ّ‬ ‫ذ‬‫قا َقاُلوا نعم فَأ َ‬ ‫ّ‬ ‫ح‬ ‫ُ‬
‫ٌ ََُْ ْ ْ ْ َ ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫ََ ْ‬ ‫ج ُْ ْ َ َ َ َ ّ ْ َ‬
‫م‬ ‫ك‬ ‫ب‬‫ر‬ ‫د‬ ‫َ‬ ‫ع‬‫و‬ ‫ما‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫د‬ ‫وَ َ‬
‫ة‬
‫خَر ِ‬ ‫َ‬
‫م ِباْل ِ‬
‫جا وَهُ ْ‬ ‫عوَ ً‬ ‫ل الل ّهِ وَي َب ُْغون ََها ِ‬ ‫ن )‪ (44‬ال ّ ِ‬ ‫ال ّ‬
‫سِبي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ن عَ ْ‬
‫دو َ‬‫ص ّ‬‫ن يَ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫مي َ‬‫ظال ِ ِ‬
‫ن )‪(45‬‬ ‫كافُِرو َ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫} ‪ } { 45 ، 44‬ونادى أ َصحاب ال ْجنة أ َ‬
‫ما وَعَد ََنا‬ ‫جد َْنا َ‬ ‫ن قَد ْ وَ َ‬ ‫ب الّنارِ أ ْ‬ ‫حا َ‬ ‫ص َ‬ ‫ْ‬ ‫َ ّ ِ‬ ‫ْ َ ُ‬ ‫ََ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ة‬
‫ن لعْن َ ُ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ن ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫مؤَذ ّ ٌ‬‫ن ُ‬ ‫م فَأذ ّ َ‬ ‫قا َقالوا ن َعَ ْ‬ ‫ح ّ‬‫م َ‬ ‫ما وَعَد َ َرب ّك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫جد ْت ُ ْ‬
‫ل وَ َ‬ ‫قا فَهَ ْ‬ ‫ح ّ‬
‫َرب َّنا َ‬
‫م‬
‫جا وَهُ ْ‬ ‫عوَ ً‬ ‫ل الل ّهِ وَي َب ُْغون ََها ِ‬ ‫سِبي ِ‬‫ن َ‬ ‫ن عَ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ص ّ‬‫ن يَ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن * ال ّ ِ‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫الل ّهِ عََلى ال ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫كافُِرو َ‬ ‫خَرةِ َ‬ ‫ِبال ِ‬
‫يقول تعالى لما ذكر استقرار كل من الفريقين في الدارين‪ ،‬ووجدوا ما‬
‫أخبرت به الرسل ونطقت به الكتب من الثواب والعقاب‪ :‬أن أهل الجنة‬
‫َ‬
‫قا { حين‬ ‫ح ّ‬‫ما وَعَد ََنا َرب َّنا َ‬ ‫جد َْنا َ‬ ‫ن قَد ْ وَ َ‬ ‫نادوا أصحاب النار بأن قالوا‪ } :‬أ ْ‬
‫وعدنا على اليمان والعمل الصالح الجنة فأدخلناها وأرانا ما وصفه لنا‬
‫قا قالوا نعم {‬ ‫ح ّ‬ ‫م { على الكفر والمعاصي } َ‬ ‫ما وَعَد َ َرب ّك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫جد ْت ُ ْ‬
‫ل وَ َ‬ ‫} فَهَ ْ‬
‫ّ‬
‫قد وجدناه حقا‪ ،‬فبين للخلق كلهم‪ ،‬بيانا ل شك فيه‪ ،‬صدق وعد الله‪ ،‬ومن‬
‫أصدق من الّله قيل وذهبت عنهم الشكوك والشبه‪ ،‬وصار المر حق اليقين‪،‬‬
‫وفرح المؤمنون بوعد الّله واغتبطوا‪ ،‬وأيس الكفار من الخير‪ ،‬وأقروا على‬
‫] ص ‪ [ 290‬أنفسهم بأنهم مستحقون للعذاب‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ة‬
‫ن لعْن َ ُ‬ ‫م { أي‪ :‬بين أهل النار وأهل الجنة‪ ،‬بأن قال‪ } :‬أ ْ‬ ‫ن ب َي ْن َهُ ْ‬ ‫مؤَذ ّ ٌ‬ ‫ن ُ‬‫} فَأذ ّ َ‬
‫ن { إذ فتح الّله لهم‬ ‫مي َ‬ ‫ده وإقصاؤه عن كل خير } عََلى ال ّ‬
‫ظال ِ ِ‬ ‫الل ّهِ { أي‪ :‬ب ُعْ ُ‬
‫أبواب رحمته‪ ،‬فصدفوا أنفسهم عنها ظلما‪ ،‬وصدوا عن سبيل الّله‬
‫بأنفسهم‪ ،‬وصدوا غيرهم‪ ،‬فضلوا وأضلوا‪.‬‬
‫والّله تعالى يريد أن تكون مستقيمة‪ ،‬ويعتدل سير السالكين إليه‪ } ،‬و {‬
‫ة‬
‫خَر ِ‬ ‫م ِبال ِ‬ ‫جا { منحرفة صادة عن سواء السبيل‪ } ،‬وَهُ ْ‬ ‫عوَ ً‬ ‫هؤلء يريدونها } ِ‬
‫ن { وهذا الذي أوجب لهم النحراف عن الصراط‪ ،‬والقبال على‬ ‫كافُِرو َ‬ ‫َ‬
‫شهوات النفوس المحرمة‪ ،‬عدم إيمانهم بالبعث‪ ،‬وعدم خوفهم من العقاب‬
‫ورجائهم للثواب‪ ،‬ومفهوم هذا النداء أن رحمة الّله على المؤمنين‪ ،‬وبّره‬
‫شامل لهم‪ ،‬وإحساَنه متواتر عليهم‪.‬‬

‫) ‪(1/289‬‬
‫َ‬
‫ب‬
‫حا َ‬
‫ص َ‬ ‫م وََناد َْوا أ ْ‬ ‫ماهُ ْ‬ ‫سي َ‬ ‫ن ك ُّل ب ِ ِ‬ ‫ل ي َعْرُِفو َ‬ ‫جا ٌ‬ ‫ف رِ َ‬ ‫ب وَعََلى اْل َعَْرا ِ‬ ‫جا ٌ‬ ‫ح َ‬ ‫ما ِ‬ ‫وَب َي ْن َهُ َ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ت‬‫صرِفَ ْ‬ ‫ذا ُ‬ ‫ن )‪ (46‬وَإ ِ َ‬ ‫مُعو َ‬ ‫م ي َط َ‬ ‫ها وَهُ ْ‬ ‫خلو َ‬ ‫م ي َد ْ ُ‬
‫مل ْ‬ ‫ُ‬
‫م عَلي ْك ْ‬ ‫سل ٌ‬ ‫ن َ‬ ‫جن ّةِ أ ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫قوْم ال ّ‬ ‫م ع َ ال ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(47‬‬ ‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫جعَل َْنا َ‬ ‫ب الّنارِ َقاُلوا َرب َّنا َل ت َ ْ‬ ‫حا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫قاَء أ ْ‬ ‫م ت ِل ْ َ‬ ‫صاُرهُ ْ‬ ‫أب ْ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫ما أغَْنى عَن ْك ُ ْ‬ ‫م َقاُلوا َ‬ ‫ماهُ ْ‬ ‫سي َ‬ ‫م بِ ِ‬ ‫جاًل ي َعْرُِفون َهُ ْ‬ ‫ف رِ َ‬ ‫ب اْل َعَْرا ِ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫دى أ ْ‬ ‫وََنا َ‬
‫هّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫م الل ُ‬ ‫م ل ي ََنالهُ ُ‬ ‫مت ُ ْ‬‫س ْ‬ ‫ن أق ْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن )‪ (48‬أهَؤُلِء ال ِ‬ ‫ست َكب ُِرو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ما كن ْت ُ ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫معُك ْ‬ ‫ج ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ن )‪(49‬‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫م وَل أن ْت ُ ْ‬ ‫ف عَلي ْك ُ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫ةل َ‬ ‫جن ّ َ‬ ‫خلوا ال َ‬ ‫مةٍ اد ْ ُ‬ ‫ح َ‬‫ب َِر ْ‬

‫م‬
‫ماهُ ْ‬ ‫سي َ‬ ‫كل ب ِ ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫ل ي َعْرُِفو َ‬ ‫جا ٌ‬ ‫ف رِ َ‬ ‫ب وَعََلى العَْرا ِ‬ ‫جا ٌ‬ ‫ح َ‬ ‫ما ِ‬ ‫} ‪ } { 49 - 46‬وَب َي ْن َهُ َ‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ذا‬ ‫ن * وَإ ِ َ‬ ‫مُعو َ‬ ‫م ي َط َ‬ ‫ها وَهُ ْ‬ ‫خلو َ‬ ‫م ي َد ْ ُ‬ ‫مل ْ‬ ‫ُ‬
‫م عَلي ْك ْ‬ ‫سل ٌ‬ ‫ن َ‬ ‫جن ّةِ أ ْ‬ ‫ب ال ْ َ‬ ‫حا َ‬ ‫ص َ‬ ‫وََناد َْوا أ ْ‬
‫قوْم ال ّ‬ ‫ْ‬ ‫صرفَت أ َبصارهُم ت ِل ْ َ َ‬
‫ن‬‫مي َ‬ ‫ظال ِ ِ‬ ‫م ع َ ال َ َ ِ‬ ‫جعَل َْنا َ‬ ‫ب الّنارِ َقاُلوا َرب َّنا ل ت َ ْ‬ ‫حا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫قاَء أ ْ‬ ‫ُ ِ ْ ْ َ ُ ْ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ما أغَْنى عَن ْك ْ‬
‫م‬ ‫م َقالوا َ‬ ‫ماهُ ْ‬ ‫سي َ‬ ‫م بِ ِ‬ ‫جال ي َعْرُِفون َهُ ْ‬ ‫ف رِ َ‬ ‫ب العَْرا ِ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫دى أ ْ‬ ‫* وََنا َ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ة‬
‫م ٍ‬ ‫ح َ‬ ‫ه ب َِر ْ‬ ‫م الل ُ‬ ‫م ل ي ََنالهُ ُ‬ ‫مت ُ ْ‬ ‫س ْ‬ ‫ن أق ْ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ؤلِء ال ِ‬ ‫ن * أه َ ُ‬ ‫ست َكب ُِرو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫ما كن ْت ُ ْ‬ ‫م وَ َ‬ ‫معُك ُ ْ‬ ‫ج ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫حَزُنو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫م َول أن ْت ُ ْ‬ ‫ف عَلي ْك ُ ْ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫ةل َ‬ ‫جن ّ َ‬ ‫خلوا ال َ‬ ‫اد ْ ُ‬
‫أي‪ :‬وبين أصحاب الجنة وأصحاب النار حجاب يقال له‪ } :‬العَْراف { ل من‬
‫ل الفريقين‪،‬‬ ‫ن عليه حا ُ‬ ‫م ْ‬ ‫الجنة ول من النار‪ ،‬يشرف على الدارين‪ ،‬وينظر ِ‬
‫وعلى هذا الحجاب رجال يعرفون كل من أهل الجنة والنار بسيماهم‪ ،‬أي‪:‬‬
‫علماتهم‪ ،‬التي بها يعرفون ويميزون‪ ،‬فإذا نظروا إلى أهل الجنة َناد َْوهم‬
‫َ‬
‫م { أي‪ :‬يحيونهم ويسلمون عليهم‪ ،‬وهم ‪ -‬إلى الن ‪ -‬لم‬ ‫م عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫سل ٌ‬ ‫ن َ‬ ‫}أ ْ‬
‫يدخلوا الجنة‪ ،‬ولكنهم يطمعون في دخولها‪ ،‬ولم يجعل الّله الطمع في‬
‫قلوبهم إل لما يريد بهم من كرامته‪.‬‬
‫ذا صرفَت أ َبصارهُم ت ِل ْ َ َ‬
‫ول‬ ‫ب الّنارِ { ورأوا منظرا شنيعا‪ ،‬وهَ ْ‬ ‫حا ِ‬ ‫ص َ‬ ‫قاَء أ ْ‬ ‫} وَإ ِ َ ُ ِ ْ ْ َ ُ ْ‬
‫ن { فأهل الجنة ]إذا رآهم‬ ‫مي َ‬ ‫ّ‬
‫قوْم ِ الظال ِ ِ‬ ‫ْ‬
‫م ع َ ال َ‬ ‫جعَلَنا َ‬ ‫ْ‬ ‫فظيعا } َقاُلوا َرب َّنا ل ت َ ْ‬
‫أهل العراف[ )‪ (1‬يطمعون أن يكونوا معهم في الجنة‪ ،‬ويحيونهم‬
‫ويسلمون عليهم‪ ،‬وعند انصراف أبصارهم بغير اختيارهم لهل النار‪،‬‬
‫يستجيرون بالله من حالهم هذا على وجه العموم‪.‬‬
‫جال‬ ‫َ‬
‫ف رِ َ‬ ‫ب العَْرا ِ‬ ‫حا ُ‬ ‫ص َ‬ ‫دى أ ْ‬ ‫ثم ذكر الخصوص بعد العموم فقال‪ } :‬وََنا َ‬
‫م { وهم من أهل النار‪ ،‬وقد كانوا في الدنيا لهم أبهة‬ ‫ماهُ ْ‬ ‫سي َ‬ ‫م بِ ِ‬ ‫ي َعْرُِفون َهُ ْ‬
‫وشرف‪ ،‬وأموال وأولد‪ ،‬فقال لهم أصحاب العراف‪ ،‬حين رأوهم منفردين‬
‫َ‬
‫م { في الدنيا‪،‬‬ ‫معُك ُ ْ‬ ‫ج ْ‬ ‫م َ‬ ‫ما أغَْنى عَن ْك ُ ْ‬ ‫في العذاب‪ ،‬بل ناصر ول مغيث‪َ } :‬‬
‫الذي تستدفعون به المكاره‪ ،‬وتتوسلون به إلى مطالبكم في الدنيا‪ ،‬فاليوم‬
‫اضمحل‪ ،‬ول أغني عنكم شيئا‪ ،‬وكذلك‪ ،‬أي شيء نفعكم استكباركم على‬
‫الحق وعلى من جاء به وعلى من اتبعه‪.‬‬
‫ثم أشاروا لهم إلى أناس من أهل الجنة كانوا في الدنيا فقراء ضعفاء‬
‫ؤلِء { الذين أدخلهم اللهّ‬ ‫يستهزئ بهم أهل النار‪ ،‬فقالوا لهل النار‪ } :‬أ َهَ ُ‬
‫الجنة } ال ّذي َ‬
‫مةٍ { احتقارا لهم وازدراء وإعجابا‬ ‫ح َ‬ ‫ه ب َِر ْ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫م ل ي ََنال ُهُ ُ‬ ‫مت ُ ْ‬ ‫س ْ‬ ‫ن أق ْ َ‬ ‫ِ َ‬
‫بأنفسكم‪ ،‬قد حنثتم في أيمانكم‪ ،‬وبدا لكم من الله ما لم يكن لكم في‬ ‫ّ‬
‫ة { بما كنتم تعملون‪ ،‬أي‪ :‬قيل لهؤلء الضعفاء‬ ‫جن ّ َ‬ ‫خُلوا ال ْ َ‬ ‫حساب‪ } ،‬اد ْ ُ‬
‫م { فيما‬ ‫ُ‬
‫ف عَلي ْك ْ‬ ‫َ‬ ‫خوْ ٌ‬ ‫إكراما واحتراما‪ :‬ادخلوا الجنة بأعمالكم الصالحة } ل َ‬
‫ن { على ما مضى‪ ،‬بل آمنون‬ ‫َ‬
‫حَزُنو َ‬ ‫م تَ ْ‬ ‫يستقبل من المكاره } َول أن ْت ُ ْ‬
‫مطمئنون فرحون بكل خير‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن*‬ ‫كو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ض َ‬ ‫مُنوا ي َ ْ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ِ‬ ‫م َ‬ ‫كاُنوا ِ‬ ‫موا َ‬ ‫جَر ُ‬ ‫نأ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن ال ّ ِ‬ ‫وهذا كقوله تعالى‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫فاِر‬ ‫ن ال ْك ُ ّ‬ ‫م َ‬ ‫مُنوا ِ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ال ّ ِ‬ ‫ن { إلى أن قال } َفال ْي َوْ َ‬ ‫مُزو َ‬ ‫م ي َت ََغا َ‬ ‫مّروا ب ِهِ ْ‬ ‫ذا َ‬ ‫وَإ ِ َ‬
‫ن { واختلف أهل العلم والمفسرون من‬ ‫ك ي َن ْظ ُُرو َ‬
‫ن * عََلى الَرائ ِ ِ‬ ‫ح ُ‬
‫كو َ‬ ‫ض َ‬
‫يَ ْ‬
‫هم أصحاب العراف وما أعمالهم؟‬
‫والصحيح من ذلك أنهم قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم فل رجحت‬
‫سيئاتهم فدخلوا النار ول رجحت حسناتهم فدخلوا الجنة فصاروا في‬
‫العراف ما شاء الّله ثم إن الّله تعالى يدخلهم برحمته الجنة فإن رحمته‬
‫تسبق وتغلب غضبه ورحمته وسعت كل شيء‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫) ‪(1/290‬‬

‫َ‬ ‫ونادى أ َصحاب النار أ َصحاب ال ْجنة أ َ َ‬


‫ما َرَزقَك ُ ُ‬
‫م‬ ‫م ّ‬
‫ماِء أوْ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ضوا عَل َي َْنا ِ‬‫ن أِفي ُ‬ ‫َ ّ ِ ْ‬ ‫ّ ِ ْ َ َ‬ ‫ْ َ ُ‬ ‫ََ َ‬
‫وا‬ ‫ه‬‫َ‬ ‫ل‬
‫ِ َُ ْ ْ ً‬‫م‬ ‫ه‬ ‫ن‬‫دي‬ ‫ذوا‬‫ُ‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ت‬‫ا‬
‫ِ َ ّ‬ ‫ن‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫(‬‫‪50‬‬ ‫)‬ ‫ن‬ ‫ري‬
‫ِ ِ َ‬ ‫ف‬‫كا‬‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫لى‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ع‬ ‫ما‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫ر‬
‫َ َ ّ َ ُ َ‬ ‫ح‬ ‫ه‬ ‫ّ‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫ن‬
‫ِ ّ‬ ‫إ‬ ‫لوا‬ ‫ُ‬ ‫قا‬‫َ‬ ‫الل ّ ُ‬
‫ه‬
‫ما‬
‫ذا وَ َ‬ ‫م هَ َ‬‫مه ِ ْ‬
‫قاَء ي َوْ ِ‬ ‫سوا ل ِ َ‬ ‫م كَ َ‬
‫ما ن َ ُ‬ ‫ساهُ ْ‬
‫م ن َن ْ َ‬ ‫حَياةُ الد ّن َْيا َفال ْي َوْ َ‬‫م ال ْ َ‬ ‫وَل َعًِبا وَغَّرت ْهُ ُ‬
‫ن )‪(51‬‬ ‫دو َ‬‫ح ُ‬ ‫ج َ‬‫كاُنوا ب ِآ ََيات َِنا ي َ ْ‬ ‫َ‬
‫} ‪ } { 53 - 50‬ونادى أ َصحاب النار أ َصحاب ال ْجنة أ َ َ‬
‫ن‬
‫م َ‬‫ضوا عَل َي َْنا ِ‬ ‫ن أِفي ُ‬ ‫َ ّ ِ ْ‬ ‫ّ ِ ْ َ َ‬ ‫ْ َ ُ‬ ‫ََ َ‬
‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫ذي َ‬‫ن * ال ِ‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬‫ما عَلى ال َ‬ ‫مه ُ َ‬ ‫حّر َ‬
‫ه َ‬ ‫ن الل َ‬ ‫ه َقالوا إ ِ ّ‬ ‫م الل ُ‬ ‫ما َرَزقَك ُ ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ماِء أوْ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫قاَء‬
‫سوا ل ِ َ‬ ‫ما ن َ ُ‬ ‫م كَ َ‬ ‫ساهُ ْ‬ ‫حَياةُ الد ّن َْيا َفال ْي َوْ َ‬
‫م ن َن ْ َ‬ ‫م ال ْ َ‬ ‫وا وَل َعًِبا وَغَّرت ْهُ ُ‬ ‫م ل َهْ ً‬ ‫ذوا ِدين َهُ ْ‬ ‫خ ُ‬ ‫ات ّ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫دو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ج َ‬ ‫كاُنوا ِبآَيات َِنا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ذا وَ َ‬ ‫م هَ َ‬ ‫مه ِ ْ‬ ‫ي َوْ ِ‬
‫أي‪ :‬ينادي أصحاب النار أصحاب الجنة‪ ،‬حين يبلغ منهم العذاب كل مبلغ‪،‬‬
‫وحين يمسهم الجوع المفرط والظمأ الموجع‪ ،‬يستغيثون بهم‪ ،‬فيقولون‪:‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ه { من الطعام‪ ،‬فأجابهم أهل‬ ‫م الل ّ ُ‬
‫ما َرَزقَك ُ ُ‬ ‫م ّ‬ ‫ماِء أوْ ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫ضوا عَل َي َْنا ِ‬ ‫} أِفي ُ‬
‫ما { أي‪ :‬ماء الجنة وطعامها } عََلى‬ ‫مه ُ َ‬ ‫حّر َ‬ ‫ه َ‬ ‫ن الل ّ َ‬ ‫الجنة بقولهم‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ّ‬
‫ن { وذلك جزاء لهم على كفرهم بآيات الله‪ ،‬واتخاذهم دينهم الذي‬ ‫ري َ‬ ‫كافِ ِ‬ ‫ال ْ َ‬
‫أمروا أن يستقيموا عليه‪ ،‬ووعدوا بالجزاء الجزيل عليه‪.‬‬
‫وا وَل َعًِبا { أي‪ :‬لهت قلوبهم وأعرضت عنه‪ ،‬ولعبوا واتخذوه سخريا‪ ،‬أو‬ ‫} ل َهْ ً‬
‫أنهم جعلوا بدل دينهم اللهو واللعب‪ ،‬واستعاضوا بذلك عن ] ص ‪[ 291‬‬
‫الدين القيم‪.‬‬
‫حَياةُ الد ّن َْيا { بزينتها وزخرفها وكثرة دعاتها‪ ،‬فاطمأنوا إليها‬ ‫ْ‬
‫م ال َ‬ ‫} وَغَّرت ْهُ ُ‬
‫ورضوا بها وفرحوا‪ ،‬وأعرضوا عن الخرة ونسوها‪.‬‬
‫ذا {‬ ‫م هَ َ‬ ‫مه ِ ْ‬ ‫قاَء ي َوْ ِ‬ ‫سوا ل ِ َ‬ ‫ما ن َ ُ‬ ‫م { أي‪ :‬نتركهم في العذاب } ك َ َ‬ ‫ساهُ ْ‬ ‫م ن َن ْ َ‬ ‫} َفال ْي َوْ َ‬
‫فكأنهم لم يخلقوا إل للدنيا‪ ،‬وليس أمامهم عرض ول جزاء‪.‬‬
‫ن { والحال أن جحودهم هذا‪ ،‬ل عن قصور في‬ ‫دو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫ج َ‬‫كاُنوا ِبآَيات َِنا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫} وَ َ‬
‫آيات الّله وبيناته‪.‬‬

‫) ‪(1/290‬‬

‫ن )‪ (52‬هَ ْ‬
‫ل‬ ‫مُنو َ‬‫قوْم ٍ ي ُؤْ ِ‬
‫ة لِ َ‬
‫م ً‬‫ح َ‬
‫دى وََر ْ‬ ‫عل ْم ٍ هُ ً‬
‫صل َْناهُ عََلى ِ‬ ‫ب فَ ّ‬ ‫م ْب ِك َِتا ٍ‬‫جئ َْناهُ ْ‬ ‫وَل َ َ‬
‫قد ْ ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ت‬ ‫ل قَد ْ َ‬
‫جاَء ْ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬
‫سوهُ ِ‬ ‫ن نَ ُ‬‫ذي َ‬‫ل ال ّ ِ‬‫قو ُ‬ ‫م ي َأِتي ت َأِويل ُ ُ‬
‫ه يَ ُ‬ ‫ن إ ِّل ت َأِويل َ ُ‬
‫ه ي َوْ َ‬ ‫ي َن ْظ ُُرو َ‬
‫َ‬
‫ل غَي َْر ال ّ ِ‬
‫ذي‬ ‫فُعوا ل ََنا أوْ ن َُرد ّ فَن َعْ َ‬
‫م َ‬ ‫فَعاَء فَي َ ْ‬
‫ش َ‬ ‫ن ُ‬
‫ش َ‬ ‫ل ل ََنا ِ‬
‫م ْ‬ ‫حقّ فَهَ ْ‬‫ل َرب َّنا ِبال ْ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ُر ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(53‬‬ ‫فت َُرو َ‬ ‫ما كاُنوا ي َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ض ّ‬
‫ل عَن ْهُ ْ‬ ‫م وَ َ‬
‫سهُ ْ‬
‫ف َ‬‫سُروا أن ْ ُ‬ ‫ل قَد ْ َ‬
‫خ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ك ُّنا ن َعْ َ‬
‫ن * هَ ْ‬
‫ل‬ ‫مُنو َ‬ ‫قوْم ٍ ي ُؤْ ِ‬ ‫ة لِ َ‬‫م ً‬‫ح َ‬ ‫دى وََر ْ‬ ‫عل ْم ٍ هُ ً‬ ‫صل َْناهُ عََلى ِ‬ ‫ب فَ ْ ّ‬ ‫م ب ِك َِتا ٍ‬ ‫جئ َْناهُ ْ‬ ‫قد ْ ِ‬ ‫} وَل َ َ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ت‬
‫جاَء ْ‬ ‫ل قَد ْ َ‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫سوهُ ِ‬ ‫ن نَ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫قو ُ‬ ‫ه يَ ُ‬ ‫م ي َأِتي ت َأِويل ُ ُ‬ ‫ه ي َوْ َ‬ ‫ن ِإل ت َأِويل َ ُ‬ ‫ي َن ْظ ُُرو َ‬
‫َ‬
‫ذي‬‫ل غَي َْر ال ّ ِ‬ ‫م َ‬ ‫فُعوا ل ََنا أوْ ن َُرد ّ فَن َعْ َ‬ ‫ش َ‬ ‫فَعاَء فَي َ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ل ََنا ِ‬ ‫حقّ فَهَ ْ‬ ‫ل َرب َّنا ِبال ْ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ُر ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫فت َُرو َ‬ ‫ما كاُنوا ي َ ْ‬ ‫م َ‬ ‫ضل عَن ْهُ ْ‬ ‫ّ‬ ‫م وَ َ‬ ‫سهُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫سُروا أن ْ ُ‬ ‫خ ِ‬ ‫مل قد ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ك ُّنا ن َعْ َ‬
‫صل َْناهُ { أي‪ :‬بينا فيه جميع المطالب التي يحتاج‬ ‫ب فَ ّ‬ ‫م ب ِك َِتا ٍ‬ ‫جئ َْناهُ ْ‬ ‫بل قد } ِ‬
‫علم ٍ { من الله بأحوال العباد في كل زمان ومكان‪ ،‬وما‬ ‫ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫إليها الخلق } عَلى ِ‬
‫يصلح لهم وما ل يصلح‪ ،‬ليس تفصيله تفصيل غير عالم بالمور‪ ،‬فتجهله‬
‫بعض الحوال‪ ،‬فيحكم حكما غير مناسب‪ ،‬بل تفصيل من أحاط علمه بكل‬
‫شيء‪ ،‬ووسعت رحمته كل شيء‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬تحصل للمؤمنين بهذا الكتاب الهداية‬ ‫مُنو َ‬ ‫قوْم ٍ ي ُؤْ ِ‬ ‫ة لِ َ‬ ‫م ً‬ ‫ح َ‬‫دى وََر ْ‬ ‫} هُ ً‬
‫ي والرشد‪ ،‬ويحصل أيضا لهم به‬ ‫من الضلل‪ ،‬وبيان الحق والباطل‪ ،‬والغ ّ‬
‫الرحمة‪ ،‬وهي‪ :‬الخير والسعادة في الدنيا والخرة‪ ،‬فينتفى عنهم بذلك‬
‫الضلل والشقاء‪.‬‬
‫وهؤلء الذين حق عليهم العذاب‪ ،‬لم يؤمنوا بهذا الكتاب العظيم‪ ،‬ول انقادوا‬
‫لوامره ونواهيه‪ ،‬فلم يبق فيهم حيلة إل استحقاقهم أن يحل بهم ما أخبر‬
‫به القرآن‪.‬‬
‫ه { أي‪ :‬وقوع ما أخبر به كما قال‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ن ِإل ت َأِويل ُ‬ ‫ولهذا قال‪ } :‬هَل ي َن ْظُرو َ‬
‫َ‬
‫ن قب ْ ُ‬ ‫ْ‬
‫ذا ت َأِوي ُ‬
‫ل{‪.‬‬ ‫م ْ‬ ‫ل ُرؤَْيايَ ِ‬ ‫يوسف عليه السلم حين وقعت رؤياه‪ } :‬هَ َ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ل { متندمين متأسفين على ما‬ ‫ن قَب ْ ُ‬ ‫م ْ‬ ‫سوهُ ِ‬ ‫ن نَ ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫قو ُ‬ ‫ه يَ ُ‬ ‫م ي َأِتي ت َأِويل ُ ُ‬ ‫} ي َوْ َ‬
‫مضى منهم‪ ،‬متشفعين في مغفرة ذنوبهم‪ .‬مقرين بما أخبرت به الرسل‪:‬‬
‫فُعوا ل ََنا أ َوْ ن َُرد ّ { إلى‬ ‫ش َ‬‫فَعاَء فَي َ ْ‬ ‫ش َ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ل ََنا ِ‬ ‫حقّ فَهَ ْ‬ ‫ل َرب َّنا ِبال ْ َ‬ ‫س ُ‬ ‫ت ُر ُ‬ ‫جاَء ْ‬ ‫} قَد ْ َ‬
‫ل { وقد فات الوقت عن الرجوع إلى‬ ‫م ُ‬ ‫ذي كّنا ن َعْ َ‬‫ُ‬ ‫ّ‬
‫ل غَي َْر ال ِ‬ ‫م َ‬ ‫الدنيا } فَن َعْ َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫شافِِعي َ‬ ‫ة ال ّ‬ ‫فاعَ ُ‬ ‫ش َ‬ ‫م َ‬ ‫فعُهُ ْ‬ ‫ما ت َن ْ َ‬ ‫الدنيا‪ } .‬فَ َ‬
‫وسؤالهم الرجوع إلى الدنيا‪ ،‬ليعملوا غير عملهم كذب منهم‪ ،‬مقصودهم به‪،‬‬
‫م‬‫ه وَإ ِن ّهُ ْ‬ ‫ما ن ُُهوا عَن ْ ُ‬ ‫دوا ل ِ َ‬ ‫دوا ل ََعا ُ‬ ‫دفع ما حل بهم‪ ،‬قال تعالى‪ } :‬وَل َوْ ُر ّ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫كاذُِبو َ‬ ‫لَ َ‬
‫م { حين فوتوها الرباح‪ ،‬وسلكوا بها سبيل الهلك‪،‬‬ ‫َ‬ ‫} قَد ْ َ‬
‫سه ُ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫سُروا أن ْ ُ‬ ‫خ ِ‬
‫وليس ذلك كخسران الموال والثاث أو الولد‪ ،‬إنما هذا خسران ل جبران‬
‫ن { في الدنيا مما تمنيهم أنفسهم‬ ‫فت َُرو َ‬ ‫كاُنوا ي َ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫م َ‬ ‫ل عَن ْهُ ْ‬ ‫ض ّ‬ ‫لمصابه‪ } ،‬وَ َ‬
‫به‪ ،‬ويعدهم به الشيطان‪ ،‬قدموا على ما لم يكن لهم في حساب‪ ،‬وتبين‬
‫لهم باطلهم وضللهم‪ ،‬وصدق ما جاءتهم به الرسل‪.‬‬

‫) ‪(1/291‬‬

‫وى عََلى‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫ست َ َ‬
‫ما ْ‬ ‫ست ّةِ أّيام ٍ ث ُ ّ‬ ‫ض ِفي ِ‬ ‫ت َواْلْر َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫خل َقَ ال ّ‬
‫س َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬
‫م الل ّ ُ‬ ‫ن َرب ّك ُ ُ‬ ‫إِ ّ‬
‫م‬
‫جو َ‬ ‫مَر َوالن ّ ُ‬ ‫ق َ‬ ‫ْ‬
‫س َوال َ‬ ‫م َ‬ ‫ش ْ‬‫حِثيًثا َوال ّ‬‫ه َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ل الن َّهاَر ي َطلب ُ ُ‬ ‫ّ‬
‫شي اللي ْ َ‬ ‫ش ي ُغْ ِ‬ ‫ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫العَْر ِ‬
‫ن )‪(54‬‬ ‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫ك الل ّ ُ‬
‫ه َر ّ‬ ‫مُر ت ََباَر َ‬‫خل ْقُ َواْل ْ‬ ‫ه ال ْ َ‬
‫مرِهِ أَل ل َ ُ‬ ‫ت ب ِأ ْ‬‫خَرا ٍ‬ ‫س ّ‬ ‫م َ‬ ‫ُ‬
‫َ‬
‫ست ّةِ أّيام ٍ ث ُ ّ‬
‫م‬ ‫ض ِفي ِ‬ ‫ت َوالْر َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫خل َقَ ال ّ‬
‫س َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ه ال ّ ِ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫ن َرب ّك ُ ُ‬ ‫} ‪ } { 54‬إ ِ ّ‬
‫مَر‬‫ق َ‬ ‫ْ‬
‫س َوال َ‬ ‫م َ‬ ‫ش ْ‬ ‫حِثيًثا َوال ّ‬ ‫ه َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ل الن َّهاَر ي َطلب ُ ُ‬ ‫ّ‬
‫شي اللي ْ َ‬ ‫ش ي ُغْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫وى عَلى العَْر ِ‬ ‫ست َ َ‬ ‫ا ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫َ‬
‫ب الَعال ِ‬ ‫ْ‬ ‫ه َر ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫مُر ت ََباَرك الل ُ‬ ‫خلقُ َوال ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ه ال َ‬ ‫َ‬
‫مرِهِ أل ل ُ‬ ‫ت ب ِأ ْ‬ ‫خَرا ٍ‬ ‫س ّ‬ ‫م َ‬ ‫م ُ‬ ‫جو َ‬ ‫َوالن ّ ُ‬
‫هّ‬
‫م الل ُ‬ ‫ُ‬
‫ن َرب ّك ُ‬ ‫يقول تعالى مبينا أنه الرب المعبود وحده ل شريك له‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫ض { وما فيهما على عظمهما وسعتهما‪،‬‬ ‫ت َوالْر َ‬ ‫ماَوا ِ‬ ‫س َ‬ ‫خل َقَ ال ّ‬ ‫ذي َ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫وإحكامهما‪ ،‬وإتقانهما‪ ،‬وبديع خلقهما‪.‬‬
‫ست ّةِ أ َّيام ٍ { أولها يوم الحد‪ ،‬وآخرها يوم الجمعة‪ ،‬فلما قضاهما‬ ‫} ِفي ِ‬
‫ش{‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وى { تبارك وتعالى } عَلى العَْر ِ‬ ‫ست َ َ‬
‫وأودع فيهما من أمره ما أودع } ا ْ‬
‫العظيم الذي يسع السماوات والرض وما فيهما وما بينهما‪ ،‬استوى استواء‬
‫يليق بجلله وعظمته وسلطانه‪ ،‬فاستوى على العرش‪ ،‬واحتوى على‬
‫الملك‪ ،‬ودبر الممالك‪ ،‬وأجرى عليهم أحكامه الكونية‪ ،‬وأحكامه الدينية‪،‬‬
‫ل { المظلم } الن َّهاَر { المضيء‪ ،‬فيظلم ما على‬ ‫شي الل ّي ْ َ‬ ‫ولهذا قال‪ } :‬ي ُغْ ِ‬
‫وجه الرض‪ ،‬ويسكن الدميون‪ ،‬وتأوى المخلوقات إلى مساكنها‪،‬‬
‫ويستريحون من التعب‪ ،‬والذهاب والياب الذي حصل لهم في النهار‪.‬‬
‫حِثيًثا { كلما جاء الليل ذهب النهار‪ ،‬وكلما جاء النهار ذهب الليل‪،‬‬ ‫ه َ‬ ‫} ي َط ْل ُب ُ ُ‬
‫وهكذا أبدا على الدوام‪ ،‬حتى يطوي الّله هذا العالم‪ ،‬وينتقل العباد إلى دار‬
‫غير هذه الدار‪.‬‬
‫مرِهِ { أي‪ :‬بتسخيره وتدبيره‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫} َوال ّ‬
‫ت ب ِأ ْ‬ ‫خَرا ٍ‬ ‫س ّ‬ ‫م َ‬ ‫م ُ‬ ‫جو َ‬ ‫مَر َوالن ّ ُ‬ ‫ق َ‬ ‫س َوال َ‬ ‫م َ‬ ‫ش ْ‬
‫ل على كمال‬ ‫مها دا ّ‬ ‫َ‬
‫قها وعظ ُ‬ ‫ْ‬
‫الدال على ما له من أوصاف الكمال‪ ،‬فخل ُ‬
‫قدرته‪ ،‬وما فيها من الحكام والنتظام والتقان دال على كمال حكمته‪ ،‬وما‬
‫فيها من المنافع والمصالح الضرورية وما دونها دال على سعة رحمته وذلك‬
‫دال على سعة علمه‪ ،‬وأنه الله الحق الذي ل تنبغي العبادة إل له‪.‬‬
‫َ‬
‫مُر { أي‪ :‬له الخلق الذي صدرت عنه جميع المخلوقات‬ ‫خل ْقُ َوال ْ‬ ‫ه ال ْ َ‬ ‫} أل ل َ ُ‬
‫علويها وسفليها‪ ،‬أعيانها وأوصافها وأفعالها والمر المتضمن للشرائع‬
‫والنبوات‪ ،‬فالخلق‪ :‬يتضمن أحكامه الكونية القدرية‪ ،‬والمر‪ :‬يتضمن أحكامه‬
‫ك‬‫الدينية الشرعية‪ ،‬وثم أحكام الجزاء‪ ،‬وذلك يكون في دار البقاء‪ } ،‬ت ََباَر َ‬
‫ه { أي‪ :‬عظم وتعالى وكثر خيره وإحسانه‪ ،‬فتبارك في نفسه لعظمة‬ ‫الل ّ ُ‬
‫أوصافه وكمالها‪ ،‬وبارك في غيره بإحلل الخير الجزيل والبر الكثير‪ ،‬فكل‬
‫ب‬ ‫ه َر ّ‬ ‫ك الل ّ ُ‬ ‫بركة في الكون‪ ،‬فمن آثار رحمته‪ ،‬ولهذا قال‪ :‬فـ } ت ََباَر َ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫مي َ‬ ‫ال َْعال َ ِ‬
‫ولما ذكر من عظمته وجلله ما يدل ذوي اللباب على أنه وحده‪ ،‬المعبود‬
‫م‬‫عوا َرب ّك ُ ْ‬ ‫المقصود في الحوائج كلها أمر بما يترتب على ذلك‪ ،‬فقال‪ } :‬اد ْ ُ‬
‫حَها‬ ‫صل ِ‬ ‫ض ب َعْد َ إ ِ ْ‬ ‫دوا ِفي الْر ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫ن * َول ت ُ ْ‬ ‫دي َ‬ ‫معْت َ ِ‬ ‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ة إ ِن ّ ُ‬ ‫في َ ً‬‫خ ْ‬ ‫عا وَ ُ‬ ‫ضّر ً‬ ‫تَ َ‬
‫ن {‪.‬‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫ري ٌ‬ ‫ّ‬
‫ت اللهِ قَ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ح َ‬ ‫ن َر ْ‬ ‫معا إ ِ ّ‬‫ً‬ ‫َ‬
‫وفا وَط َ‬ ‫ً‬ ‫خ ْ‬ ‫عوهُ َ‬ ‫َواد ْ ُ‬

‫) ‪(1/291‬‬

‫دوا ِفي‬‫س ُ‬
‫ف ِ‬‫ن )‪ (55‬وََل ت ُ ْ‬ ‫دي َ‬‫معْت َ ِ‬‫ب ال ْ ُ‬ ‫ه َل ي ُ ِ‬
‫ح ّ‬ ‫ة إ ِن ّ ُ‬
‫في َ ً‬
‫خ ْ‬
‫عا وَ ُ‬
‫ضّر ً‬
‫م تَ َ‬‫عوا َرب ّك ُ ْ‬ ‫اد ْ ُ‬
‫َْ‬
‫ن‬
‫م َ‬
‫ب ِ‬ ‫ري ٌ‬‫ة الل ّهِ قَ ِ‬
‫م َ‬
‫ح َ‬
‫ن َر ْ‬ ‫مًعا إ ِ ّ‬ ‫خوًْفا وَط َ َ‬ ‫عوهُ َ‬ ‫صَل ِ‬
‫حَها َواد ْ ُ‬ ‫ض ب َعْد َ إ ِ ْ‬‫الْر ِ‬
‫ن )‪(56‬‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬‫م ْ‬‫ال ْ ُ‬
‫ن * َول‬ ‫دي َ‬‫معْت َ ِ‬‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫ة إ ِن ّ ُ‬
‫في َ ً‬
‫خ ْ‬‫عا وَ ُ‬ ‫ضّر ً‬ ‫م تَ َ‬ ‫عوا َرب ّك ُ ْ‬ ‫} ‪ } { 56 ، 55‬اد ْ ُ‬
‫ب‬
‫ري ٌ‬ ‫ّ‬
‫ت اللهِ قَ ِ‬ ‫م َ‬
‫ح َ‬ ‫ن َر ْ‬ ‫مًعا إ ِ ّ‬ ‫َ‬
‫خوًْفا وَط َ‬ ‫عوهُ َ‬ ‫حَها َواد ْ ُ‬ ‫صل ِ‬ ‫ض ب َعْد َ إ ِ ْ‬ ‫دوا ِفي الْر ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫تُ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫سِني َ‬ ‫ح ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫ِ‬
‫عا {‬ ‫ضّر ً‬‫الدعاء يدخل فيه دعاء المسألة‪ ،‬ودعاء العبادة‪ ،‬فأمر بدعائه } ت َ َ‬
‫ة { أي‪ :‬ل جهرا‬ ‫في َ ً‬‫خ ْ‬‫أي‪ :‬إلحاحا في المسألة‪ ،‬ود ُُءوبا في العبادة‪ } ،‬وَ ُ‬
‫وعلنية‪ ،‬يخاف منه الرياء‪ ،‬بل خفية وإخلصا لّله تعالى‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬المتجاوزين للحد في كل المور‪ ،‬ومن‬ ‫دي َ‬ ‫معْت َ ِ‬‫ب ال ْ ُ‬ ‫ح ّ‬ ‫ه ل يُ ِ‬ ‫} إ ِن ّ ُ‬
‫العتداء كون العبد يسأل الّله مسائل ] ص ‪ [ 292‬ل تصلح له‪ ،‬أو يتنطع‬
‫في السؤال‪ ،‬أو يبالغ في رفع صوته بالدعاء‪ ،‬فكل هذا داخل في العتداء‬
‫المنهي عنه‪.‬‬
‫حَها { بالطاعات‪،‬‬ ‫صل ِ‬ ‫ض { بعمل المعاصي } ب َعْد َ إ ِ ْ‬ ‫دوا ِفي الْر ِ‬ ‫س ُ‬ ‫ف ِ‬ ‫} َول ت ُ ْ‬
‫َ‬
‫فإن المعاصي تفسد الخلق والعمال والرزاق‪ ،‬كما قال تعالى‪ } :‬ظهََر‬
‫َ‬
‫س { كما أن الطاعات تصلح‬ ‫دي الّنا ِ‬ ‫ت أي ْ ِ‬ ‫ما ك َ َ‬
‫سب َ ْ‬ ‫حرِ ب ِ َ‬ ‫ساد ُ ِفي ال ْب َّر َوال ْب َ ْ‬ ‫ف َ‬ ‫ال ْ َ‬
‫بها الخلق‪ ،‬والعمال‪ ،‬والرزاق‪ ،‬وأحوال الدنيا والخرة‪.‬‬
‫مًعا { أي‪ :‬خوفا من عقابه‪ ،‬وطمعا في ثوابه‪ ،‬طمعا في‬ ‫خوًْفا وَط َ َ‬ ‫عوهُ َ‬ ‫} َواد ْ ُ‬
‫قبولها‪ ،‬وخوفا من ردها‪ ،‬ل دعاء عبد مدل على ربه قد أعجبته نفسه‪ ،‬ونزل‬
‫ه‪.‬‬ ‫نفسه فوق منزلته‪ ،‬أو دعاء من هو غافل ل ٍ‬
‫وحاصل ما ذكر الّله من آداب الدعاء‪ :‬الخلص فيه لله وحده‪ ،‬لن ذلك‬
‫ّ‬
‫يتضمنه الخفية‪ ،‬وإخفاؤه وإسراره‪ ،‬وأن يكون القلب خائفا طامعا ل غافل‬
‫ول آمنا ول غير مبال بالجابة‪ ،‬وهذا من إحسان الدعاء‪ ،‬فإن الحسان في‬
‫كل عبادة بذل الجهد فيها‪ ،‬وأداؤها كاملة ل نقص فيها بوجه من الوجوه‪،‬‬
‫ن { في عبادة الّله‪،‬‬ ‫سِني َ‬‫ح ِ‬ ‫م ْ‬‫ن ال ْ ُ‬‫م َ‬ ‫ب ِ‬ ‫ري ٌ‬‫ت الل ّهِ قَ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ح َ‬ ‫ن َر ْ‬ ‫ولهذا قال‪ } :‬إ ِ ّ‬
‫المحسنين إلى عباد الّله‪ ،‬فكلما كان العبد أكثر إحسانا‪ ،‬كان أقرب إلى‬
‫رحمة ربه‪ ،‬وكان ربه قريبا منه برحمته‪ ،‬وفي هذا من الحث على الحسان‬
‫ما ل يخفى‪.‬‬

‫) ‪(1/291‬‬

‫قاًل‬ ‫شرا بين يدي رحمت ِه حتى إ َ َ‬


‫حاًبا ث ِ َ‬‫س َ‬ ‫ت َ‬‫ذا أقَل ّ ْ‬ ‫ح ب ُ ْ ً َ ْ َ ََ َ ْ َ ْ َ ِ َ ّ ِ‬ ‫ل الّرَيا َ‬ ‫س ُ‬‫ذي ي ُْر ِ‬ ‫وَهُوَ ال ّ ِ‬
‫َ‬
‫ج‬
‫خرِ ُ‬
‫ك نُ ْ‬ ‫ت ك َذ َل ِ َ‬
‫مَرا ِ‬ ‫ن كُ ّ‬
‫ل الث ّ َ‬ ‫م ْ‬
‫جَنا ب ِهِ ِ‬
‫خَر ْ‬ ‫ت فَأن َْزل َْنا ب ِهِ ال ْ َ‬
‫ماَء فَأ ْ‬ ‫قَناهُ ل ِب َل َدٍ َ‬
‫مي ّ ٍ‬ ‫س ْ‬‫ُ‬
‫ن )‪(57‬‬ ‫ّ‬
‫م ت َذ َكُرو َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫موَْتى لعَلك ْ‬ ‫ال ْ َ‬
‫ذا‬‫حّتى إ ِ َ‬
‫مت ِهِ َ‬
‫ح َ‬
‫ن ي َد َيْ َر ْ‬
‫شًرا ب َي ْ َ‬ ‫ح بُ ْ‬ ‫ل الّرَيا َ‬ ‫س ُ‬ ‫ذي ي ُْر ِ‬ ‫} ‪ } { 58 ، 57‬وَهُوَ ال ّ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن كُ ّ‬
‫ل‬ ‫م ْ‬‫جَنا ب ِهِ ِ‬ ‫ماَء فَأ ْ‬
‫خَر ْ‬ ‫ت فَأن َْزل َْنا ب ِهِ ال ْ َ‬ ‫مي ّ ٍ‬‫قَناهُ ل ِب َل َدٍ َ‬ ‫س ْ‬‫قال ُ‬ ‫حاًبا ث ِ َ‬ ‫س َ‬ ‫ت َ‬ ‫أقَل ّ ْ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫م ت َذ َك ُّرو َ‬ ‫موَْتى ل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫ج ال ْ َ‬‫خرِ ُ‬‫ك نُ ْ‬‫ت ك َذ َل ِ َ‬ ‫مَرا ِ‬‫الث ّ َ‬
‫و‬
‫يبين تعالى أثرا من آثار قدرته‪ ،‬ونفحة من نفحات رحمته فقال‪ } :‬وَهُ َ‬
‫مت ِهِ { أي‪ :‬الرياح المبشرات بالغيث‪،‬‬ ‫ح َ‬ ‫ن ي َد َيْ َر ْ‬ ‫شًرا ب َي ْ َ‬ ‫ح بُ ْ‬‫ل الّرَيا َ‬ ‫س ُ‬ ‫ذي ي ُْر ِ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫التي تثيره بإذن الّله من الرض‪ ،‬فيستبشر الخلق برحمة الّله‪ ،‬وترتاح لها‬
‫قلوبهم قبل نزوله‪.‬‬
‫} حتى إ َ َ‬
‫قال { قد أثاره بعضها‪ ،‬وألفه ريح‬ ‫حاًبا ث ِ َ‬ ‫س َ‬ ‫ت { الرياح } َ‬ ‫ذا أقَل ّ ْ‬ ‫َ ّ ِ‬
‫ت { قد كادت تهلك حيواناته‪،‬‬ ‫مي ّ ٍ‬ ‫َ‬
‫قَناهُ ل ِب َلدٍ َ‬ ‫س ْ‬ ‫أخرى‪ ،‬وألحقه ريح أخرى } ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫وكاد أهله أن ييأسوا من رحمة الله‪ } ،‬فَأنزلَنا ب ِهِ { أي‪ :‬بذلك البلد الميت‬ ‫ّ‬
‫ماء { الغزير من ذلك السحاب وسخر الّله له ريحا تدره وتفرقه بإذن‬ ‫} ال ْ َ‬
‫الّله‪.‬‬
‫ت { فأصبحوا مستبشرين برحمة الّله‪ ،‬راتعين‬ ‫ن كُ ّ‬ ‫َ‬
‫مَرا ِ‬ ‫ل الث ّ َ‬ ‫م ْ‬
‫جَنا ب ِهِ ِ‬ ‫} فَأ ْ‬
‫خَر ْ‬
‫ن { أي‪ :‬كما أحيينا‬ ‫ّ‬
‫م ت َذ َكُرو َ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫موَْتى لعَلك ْ‬ ‫ْ‬
‫ج ال َ‬
‫خرِ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫بخير الله‪ ،‬وقوله‪ } :‬كذ َل ِك ن ُ ْ‬ ‫ّ‬
‫الرض بعد موتها بالنبات‪ ،‬كذلك نخرج الموتى من قبورهم‪ ،‬بعد ما كانوا‬
‫رفاتا متمزقين‪ ،‬وهذا استدلل واضح‪ ،‬فإنه ل فرق بين المرين‪ ،‬فمنكر‬
‫البعث استبعادا له ‪ -‬مع أنه يرى ما هو نظيره ‪ -‬من باب العناد‪ ،‬وإنكار‬
‫المحسوسات‪.‬‬
‫وفي هذا الحث على التذكر والتفكر في آلء الّله والنظر إليها بعين العتبار‬
‫والستدلل‪ ،‬ل بعين الغفلة والهمال‪.‬‬

‫) ‪(1/292‬‬

‫ك‬ ‫ج إ ِّل ن َك ِ ً‬
‫دا ك َذ َل ِ َ‬ ‫ث َل ي َ ْ‬
‫خُر ُ‬ ‫خب ُ َ‬ ‫ن َرب ّهِ َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ه ب ِإ ِذ ْ ِ‬
‫ج ن ََبات ُ ُ‬
‫خُر ُ‬‫ب يَ ْ‬‫َوال ْب َل َد ُ الط ّي ّ ُ‬
‫ن )‪(58‬‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫قوْم ٍ ي َ ْ‬‫ت لِ َ‬‫ف اْل ََيا ِ‬
‫صّر ُ‬ ‫نُ َ‬
‫دا ك َذ َل ِ َ‬
‫ك‬ ‫ج ِإل ن َك ِ ً‬ ‫خُر ُ‬ ‫ث ل يَ ْ‬ ‫خب ُ َ‬‫ذي َ‬ ‫ن َرب ّهِ َوال ّ ِ‬ ‫ه ب ِإ ِذ ْ ِ‬
‫ج ن ََبات ُ ُ‬ ‫خُر ُ‬ ‫ب يَ ْ‬ ‫} َوال ْب َل َد ُ الط ّي ّ ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫شك ُُرو َ‬ ‫قوْم ٍ ي َ ْ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫ف الَيا ِ‬ ‫صّر ُ‬ ‫نُ َ‬
‫ب{‬ ‫ثم ذكر تفاوت الراضي‪ ،‬التي ينزل عليها المطر‪ ،‬فقال‪َ } :‬وال ْب َل َد ُ الط ّي ّ ُ‬
‫ه { الذي هو‬ ‫ج ن ََبات ُ ُ‬ ‫خُر ُ‬‫أي‪ :‬طيب التربة والمادة‪ ،‬إذا نزل عليه مطر } ي َ ْ‬
‫ن َرب ّهِ { أي‪ :‬بإرادة الّله ومشيئته‪ ،‬فليست السباب‬ ‫مستعد له } ب ِإ ِذ ْ ِ‬
‫مستقلة بوجود الشياء‪ ،‬حتى يأذن الّله بذلك‪.‬‬
‫دا { أي‪ :‬إل نباتا خاسا ل نفع‬ ‫ج ِإل ن َك ِ ً‬ ‫خُر ُ‬ ‫ث { من الراضي } ل ي َ ْ‬ ‫خب ُ َ‬‫ذي َ‬ ‫} َوال ّ ِ‬
‫فيه ول بركة‪.‬‬
‫ن { أي‪ :‬ننوعها ونبينها ونضرب فيها‬ ‫شكُرو َ‬ ‫ُ‬ ‫قوْم ٍ ي َ ْ‬ ‫ت لِ َ‬ ‫ف الَيا ِ‬ ‫صّر ُ‬ ‫ك نُ َ‬‫} ك َذ َل ِ َ‬
‫المثال ونسوقها لقوم يشكرون الّله بالعتراف بنعمه‪ ،‬والقرار بها‪،‬‬
‫وصرفها في مرضاة الّله‪ ،‬فهم الذين ينتفعون بما فصل الّله في كتابه من‬
‫الحكام والمطالب اللهية‪ ،‬لنهم يرونها من أكبر النعم الواصلة إليهم من‬
‫ربهم‪ ،‬فيتلقونها مفتقرين إليها فرحين بها‪ ،‬فيتدبرونها ويتأملونها‪ ،‬فيبين لهم‬
‫من معانيها بحسب استعدادهم‪ ،‬وهذا مثال للقلوب حين ينزل عليها الوحي‬
‫الذي هو مادة الحياة‪ ،‬كما أن الغيث مادة الحياة‪ ،‬فإن القلوب الطيبة حين‬
‫يجيئها الوحي‪ ،‬تقبله وتعلمه وتنبت بحسب طيب أصلها‪ ،‬وحسن عنصرها‪.‬‬
‫وأما القلوب الخبيثة التي ل خير فيها‪ ،‬فإذا جاءها الوحي لم يجد محل قابل‬
‫بل يجدها غافلة معرضة‪ ،‬أو معارضة‪ ،‬فيكون كالمطر الذي يمر على‬
‫َ‬
‫السباخ والرمال والصخور‪ ،‬فل يؤثر فيها شيئا‪ ،‬وهذا كقوله تعالى‪ } :‬أنز َ‬
‫ل‬
‫دا َراب ًِيا‪ { ...‬اليات‪.‬‬ ‫ل َزب َ ً‬ ‫سي ْ ُ‬
‫ل ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ها َفا ْ‬
‫حت َ َ‬ ‫قد َرِ َ‬‫ة بِ َ‬‫ت أ َوْدِي َ ٌ‬ ‫سال َ ْ‬ ‫ماًء فَ َ‬ ‫ماِء َ‬ ‫س َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬‫ِ‬

‫) ‪(1/292‬‬

‫لَ َ َ‬
‫ن إ ِل َهٍ غَي ُْرهُ‬‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬‫ه َ‬‫دوا الل ّ َ‬ ‫ل َيا قَوْم ِ اعْب ُ ُ‬ ‫مهِ فَ َ‬
‫قا َ‬ ‫حا إ َِلى قَوْ ِ‬ ‫سل َْنا ُنو ً‬
‫قد ْ أْر َ‬
‫ك ِفي‬ ‫مهِ إ ِّنا ل َن ََرا َ‬
‫ن قَوْ ِ‬ ‫مَل ُ ِ‬
‫م ْ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫ظيم ٍ )‪َ (59‬قا َ‬ ‫ب ي َوْم ٍ عَ ِ‬ ‫م عَ َ‬
‫ذا َ‬ ‫ف عَل َي ْك ُ ْ‬
‫خا ُ‬‫إ ِّني أ َ َ‬
‫ب‬ ‫ن َر ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬‫سو ٌ‬ ‫ة وَل َك ِّني َر ُ‬ ‫ضَلل َ ٌ‬ ‫س ِبي َ‬ ‫ل َيا قَوْم ِ ل َي ْ َ‬ ‫ن )‪َ (60‬قا َ‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ل ُ‬ ‫ضَل ٍ‬ ‫َ‬
‫ما لَ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬
‫ن اللهِ َ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫م وَأعْل ُ‬ ‫ُ‬
‫ح لك ْ‬ ‫ص ُ‬ ‫ت َرّبي وَأن ْ َ‬ ‫سال ِ‬ ‫م رِ َ‬ ‫ُ‬
‫ن )‪ (61‬أب َلغُك ْ‬ ‫مي َ‬‫ال َْعال ِ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م ل ِي ُن ْذَِرك ُ ْ‬
‫م‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫ل ِ‬ ‫ج ٍ‬‫م عََلى َر ُ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م َْ‬ ‫م ذِك ٌْر ِ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫جب ْت ُ ْ‬‫ن )‪ (62‬أوَعَ ِ‬ ‫مو َ‬ ‫ت َعْل َ ُ‬
‫ك‬‫فل ْ ِ‬ ‫ه ِفي ال ْ ُ‬ ‫مع َ ُ‬‫ن َ‬ ‫ذي َ‬ ‫جي َْناهُ َوال ّ ِ‬ ‫ن )‪ (63‬فَك َذ ُّبوهُ فَأن ْ َ‬ ‫مو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫م ت ُْر َ‬ ‫قوا وَل َعَل ّك ُ ْ‬ ‫وَل ِت َت ّ ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(64‬‬ ‫مي َ‬ ‫ما عَ ِ‬ ‫م كاُنوا قَوْ ً‬ ‫ن كذ ُّبوا ب ِآَيات َِنا إ ِن ّهُ ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫وَأغَْرقَْنا ال ِ‬
‫} ‪ } { 64 - 59‬ل َ َ َ‬
‫مهِ { ‪ .‬إلى آخر القصة )‪. (1‬‬ ‫حا إ َِلى قَوْ ِ‬ ‫سل َْنا ُنو ً‬‫قد ْ أْر َ‬
‫لما ذكر تعالى من أدلة توحيده جملة صالحة‪ ،‬أيد ذلك بذكر ما جرى للنبياء‬
‫الداعين إلى توحيده مع أممهم المنكرين لذلك‪ ،‬وكيف أيد الّله أهل‬
‫قد ْ لهم‪ ،‬وكيف اتفقت دعوة المرسلين‬ ‫التوحيد‪ ،‬وأهلك من عاندهم ولم ي َن ْ َ‬
‫على دين واحد ] ص ‪ [ 293‬ومعتقد واحد‪ ،‬فقال عن نوح ‪ -‬أول المرسلين‬
‫مهِ { يدعوهم إلى عبادة الّله وحده‪ ،‬حين كانوا‬ ‫‪ } :-‬ل َ َ َ‬
‫حا إ َِلى قَوْ ِ‬ ‫سل َْنا ُنو ً‬ ‫قد ْ أْر َ‬
‫م‬‫ما ل َك ُ ْ‬‫ه { أي‪ :‬وحده } َ‬ ‫دوا الل ّ َ‬‫ل { لهم‪َ } :‬يا قَوْم ِ اعْب ُ ُ‬ ‫قا َ‬ ‫يعبدون الوثان } فَ َ‬
‫ن إ ِل َهٍ غَي ُْرهُ { لنه الخالق الرازق المدّبر لجميع المور‪ ،‬وما سواه مخلوق‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ّ‬
‫مدّبر‪ ،‬ليس له من المر شيء‪ ،‬ثم خوفهم إن لم يطيعوه عذاب الله‪،‬‬
‫ظيم ٍ { وهذا من نصحه عليه‬ ‫ب ي َوْم ٍ عَ ِ‬ ‫ذا َ‬‫م عَ َ‬ ‫ف عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫خا ُ‬ ‫فقال‪ } :‬إ ِّني أ َ َ‬
‫الصلة والسلم وشفقته عليهم‪ ،‬حيث خاف عليهم العذاب البدي‪ ،‬والشقاء‬
‫السرمدي‪ ،‬كإخوانه من المرسلين الذين يشفقون على الخلق أعظم من‬
‫شفقة آبائهم وأمهاتهم‪ ،‬فلما قال لهم هذه المقالة‪ ،‬ردوا عليه أقبح رد‪.‬‬
‫مهِ { أي‪ :‬الرؤساء الغنياء المتبوعون الذين قد جرت‬ ‫ن قَوْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫مل ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫} َقا َ‬
‫ك ِفي‬ ‫العادة باستكبارهم على الحق‪ ،‬وعدم انقيادهم للرسل‪ } ،‬إ ِّنا ل َن ََرا َ‬
‫ن { فلم يكفهم ‪ -‬قبحهم الّله ‪ -‬أنهم لم ينقادوا له‪ ،‬بل استكبروا‬ ‫مِبي ٍ‬ ‫ل ُ‬ ‫ضل ٍ‬ ‫َ‬
‫عن النقياد له‪ ،‬وقدحوا فيه أعظم قدح‪ ،‬ونسبوه إلى الضلل‪ ،‬ولم يكتفوا‬
‫بمجرد الضلل حتى جعلوه ضلل مبينا واضحا لكل أحد‪.‬‬
‫وهذا من أعظم أنواع المكابرة‪ ،‬التي ل تروج على أضعف الناس عقل وإنما‬
‫هذا الوصف منطبق على قوم نوح‪ ،‬الذين جاءوا إلى أصنام قد صوروها‬
‫ونحتوها بأيديهم‪ ،‬من الجمادات التي ل تسمع ول تبصر‪ ،‬ول تغني عنهم‬
‫شيئا‪ ،‬فنزلوها منزلة فاطر السماوات‪ ،‬وصرفوا لها ما أمكنهم من أنواع‬
‫القربات‪ ،‬فلول أن لهم أذهانا تقوم بها حجة الّله عليهم لحكم عليهم بأن‬
‫المجانين أهدى منهم‪ ،‬بل هم أهدى منهم وأعقل‪ ،‬فرد نوح عليهم ردا‬
‫ة{‬ ‫ضلل َ ٌ‬ ‫س ِبي َ‬ ‫لطيفا‪ ،‬وترقق لهم لعلهم ينقادون له فقال‪َ } :‬يا قَوْم ِ ل َي ْ َ‬
‫أي‪ :‬لست ضال في مسألة من المسائل بوجه من الوجوه‪ ،‬وإنما أنا هاد‬
‫مهتد‪ ،‬بل هدايته عليه الصلة والسلم من جنس هداية إخوانه‪ ،‬أولي العزم‬
‫من المرسلين‪ ،‬أعلى أنواع الهدايات وأكملها وأتمها‪ ،‬وهي هداية الرسالة‬
‫ن { أي‪ :‬ربي‬ ‫مي َ‬ ‫ب ال َْعال َ ِ‬ ‫ن َر ّ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫سو ٌ‬ ‫التامة الكاملة‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬وَل َك ِّني َر ُ‬
‫وربكم ورب جميع الخلق‪ ،‬الذي ربى جميع الخلق بأنواع التربية‪ ،‬الذي من‬
‫أعظم تربيته أن أرسل إلى عباده رسل تأمرهم بالعمال الصالحة والخلق‬
‫ُ‬
‫الفاضلة والعقائد الحسنة وتنهاهم عن أضدادها‪ ،‬ولهذا قال‪ } :‬أب َل ّغُك ُ ْ‬
‫م‬
‫َ‬
‫م { أي‪ :‬وظيفتي تبليغكم‪ ،‬ببيان توحيده وأوامره‬ ‫ح ل َك ُ ْ‬ ‫ص ُ‬‫ت َرّبي وَأن ْ َ‬ ‫سال ِ‬ ‫رِ َ‬
‫ما ل‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن اللهِ َ‬ ‫م َ‬‫م ِ‬ ‫ونواهيه‪ ،‬على وجه النصيحة لكم والشفقة عليكم‪ } ،‬وَأعْل ُ‬
‫ن { فالذي يتعين أن تطيعوني وتنقادوا لمري إن كنتم تعلمون‪.‬‬ ‫مو َ‬ ‫ت َعْل َ ُ‬
‫} أ َو عَجبت َ‬
‫م { أي‪ :‬كيف تعجبون‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫ل ِ‬‫ج ٍ‬ ‫م عََلى َر ُ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ذِك ٌْر ِ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ِ ُْ ْ‬ ‫َ‬
‫من حالة ل ينبغي العجب منها‪ ،‬وهو أن جاءكم التذكير والموعظة‬
‫والنصيحة‪ ،‬على يد رجل منكم‪ ،‬تعرفون حقيقته وصدقه وحاله؟" فهذه‬
‫الحال من عناية الّله بكم وبره وإحسانه الذي يتلقى بالقبول والشكر‪،‬‬
‫ن { أي‪ :‬لينذركم العذاب الليم‪،‬‬ ‫مو َ‬ ‫ح ُ‬ ‫قوا وَل َعَل ّك ُ ْ‬
‫م ت ُْر َ‬ ‫وقوله‪ } :‬ل ِي ُن ْذَِرك ُ ْ‬
‫م وَل ِت َت ّ ُ‬
‫وتفعلوا السباب المنجية من استعمال تقوى الّله ظاهرا وباطنا‪ ،‬وبذلك‬
‫تحصل عليهم وتنزل رحمة الّله الواسعة‪.‬‬
‫َ‬
‫ك { أي‪:‬‬‫فل ْ ِ‬
‫ه ِفي ال ْ ُ‬
‫معَ ُ‬
‫ن َ‬‫ذي َ‬‫جي َْناهُ َوال ّ ِ‬
‫فلم يفد فيهم‪ ،‬ول نجح } فَك َذ ُّبوهُ فَأن ْ َ‬
‫السفينة التي أمر الّله نوحا عليه الصلة والسلم بصنعتها‪ ،‬وأوحى إليه أن‬
‫يحمل من كل صنف من الحيوانات‪ ،‬زوجين اثنين وأهله ومن آمن معه‪،‬‬
‫فحملهم فيها ونجاهم الّله بها‪.‬‬
‫َ‬
‫ن { عن الهدى‪ ،‬أبصروا‬ ‫مي َ‬‫ما عَ ِ‬ ‫كاُنوا قَوْ ً‬ ‫م َ‬‫ن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا إ ِن ّهُ ْ‬ ‫ذي َ‬‫} وَأغَْرقَْنا ال ّ ِ‬
‫الحق‪ ،‬وأراهم الّله ‪ -‬على يد نوح ‪ -‬من اليات البينات‪ ،‬ما بهم يؤمن أولوا‬
‫اللباب‪ ،‬فسخروا منه‪ ،‬واستهزءوا به وكفروا‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬ذكر اليات كاملة‪.‬‬

‫) ‪(1/292‬‬

‫ن إ ِل َهٍ غَي ُْرهُ أ َفََل‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫ل َيا قَوْم ِ اعْب ُ ُ‬ ‫دا َقا َ‬ ‫هو ً‬ ‫م ُ‬ ‫خاهُ ْ‬ ‫عادٍ أ َ َ‬ ‫وَإ َِلى َ‬
‫فاهَةٍ وَإ ِّنا‬ ‫س َ‬ ‫ك ِفي َ‬ ‫مهِ إ ِّنا ل َن ََرا َ‬ ‫ن قَوْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫فُروا ِ‬ ‫ن كَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫مَل ُ ال ّ ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫ن )‪َ (65‬قا َ‬ ‫قو َ‬ ‫ت َت ّ ُ‬
‫ن‬‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫سو ٌ‬ ‫ة وَلك ِّني َر ُ‬ ‫َ‬ ‫فاهَ ٌ‬ ‫س َ‬ ‫س ِبي َ‬ ‫َ‬
‫ل َيا قَوْم ِ لي ْ َ‬ ‫ن )‪َ (66‬قا َ‬ ‫َ‬
‫ن الكاذِِبي َ‬ ‫ْ‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫ل َن َظن ّ َ‬
‫ُ‬
‫ن )‪(68‬‬ ‫رب ال ْعال َمين )‪ (67‬أ ُبل ّغُك ُم رساَلت ربي وأ َنا ل َك ُم ناص َ‬
‫مي ٌ‬ ‫حأ ِ‬ ‫ْ َ ِ ٌ‬ ‫َ َ‬ ‫ِ َ ّ‬ ‫ْ ِ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ِ َ‬ ‫َ ّ‬
‫م َواذ ْك ُُروا إ ِذ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م ل ِي ُن ْذَِرك ُ ْ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫ج ٍ‬ ‫م عَلى َر ُ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ذِك ٌْر ِ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫جب ْت ُ ْ‬‫أوَعَ ِ‬
‫ة َفاذ ْك ُُروا آ ََلَء الل ّهِ‬ ‫سط َ ً‬ ‫ق بَ ْ‬ ‫خل ِ‬
‫م ِفي ال ْ َ ْ‬ ‫ن ب َعْدِ قَوْم ِ ُنوٍح وََزاد َك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫فاَء ِ‬ ‫خل َ َ‬ ‫م ُ‬ ‫جعَل َك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن ي َعْب ُد ُ آ ََباؤَُنا‬ ‫ّ‬ ‫فل ِحون )‪َ (69‬قاُلوا أ َ‬
‫َ‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫ما‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ن‬
‫َ َ ْ َ ُ ََ َ َ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫د‬ ‫ح‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ل‬‫ال‬ ‫د‬ ‫ب‬ ‫ع‬
‫ِ ََ َْ ُ َ‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫نا‬ ‫ت‬ ‫ْ‬ ‫ئ‬‫ج‬ ‫لَ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫ْ‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ّ‬ ‫ل‬ ‫ع‬
‫ْ‬
‫ن َرب ّك ُ ْ‬
‫م‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ل قَد ْ وَقَعَ عَل َي ْك ُ ْ‬ ‫ن )‪َ (70‬قا َ‬ ‫صادِِقي َ‬ ‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ن ك ُن ْ َ‬ ‫ما ت َعِد َُنا إ ِ ْ‬ ‫فَأت َِنا ب ِ َ‬
‫َ‬ ‫رجس وغَضب أ َتجادُلونِني في أ َسماٍء سميتمو َ َ‬
‫ه‬‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما ن َّز َ‬ ‫م َ‬ ‫م وَآَباؤُك ُ ْ‬ ‫ها أن ْت ُ ْ‬ ‫َ ّ ُْ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ْ ٌ َ َ ٌ ُ َ ِ َ‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫سل ْ َ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫جي َْناهُ َوال ِ‬ ‫ن )‪ (71‬فأن ْ َ‬ ‫ري َ‬ ‫من ْت َظ ِ ِ‬ ‫ن ال ُ‬ ‫م َ‬ ‫م ِ‬ ‫معَك ْ‬ ‫ن َفان ْت َظ ُِروا إ ِّني َ‬ ‫طا ٍ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ب َِها ِ‬
‫مؤْ ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(72‬‬ ‫مِني َ‬ ‫ما كاُنوا ُ‬ ‫ن كذ ُّبوا ب ِآَيات َِنا وَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫داب َِر ال ِ‬ ‫مّنا وَقطعَْنا َ‬ ‫مة ٍ ِ‬ ‫ح َ‬ ‫ه ب َِر ْ‬ ‫مع َ ُ‬ ‫َ‬
‫دا { ‪.‬إلى آخر القصة )‪. (1‬‬ ‫هو ً‬ ‫م ُ‬‫خاهُ ْ‬ ‫عادٍ أ َ َ‬
‫} ‪ } { 72 - 65‬وَإ َِلى َ‬
‫عادٍ { الولى‪ ،‬الذين كانوا في أرض اليمن‬ ‫أي‪ } :‬و { أرسلنا } إ َِلى َ‬
‫دا { عليه السلم‪ ،‬يدعوهم إلى التوحيد‬ ‫هو ً‬ ‫م { في النسب } ُ‬ ‫خاهُ ْ‬ ‫} أَ َ‬
‫وينهاهم عن الشرك والطغيان في الرض‪.‬‬
‫َ‬
‫ن إ ِل َهٍ غَي ُْرهُ أَفل ت َت ّ ُ‬
‫ن{‬ ‫قو َ‬ ‫م ْ‬
‫م ِ‬‫ما ل َك ُ ْ‬‫ه َ‬‫دوا الل ّ َ‬ ‫ل { لهم‪َ } :‬يا قَوْم ِ اعْب ُ ُ‬ ‫فـ } َقا َ‬
‫سخطه وعذابه‪ ،‬إن أقمتم على ما أنتم عليه‪ ،‬فلم يستجيبوا ول انقادوا‪.‬‬
‫مهِ { رادين لدعوته‪ ،‬قادحين في رأيه‪:‬‬ ‫ن قَوْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫فُروا ِ‬ ‫ن كَ َ‬
‫ذي َ‬‫مل ال ّ ِ‬
‫ل ال ْ َ‬‫فـ } َقا َ‬
‫ن { أي‪ :‬ما نراك إل سفيها‬ ‫ن ال ْ َ‬
‫كاذِِبي َ‬ ‫م َ‬ ‫ك ِ‬ ‫فاهَةٍ وَإ ِّنا ل َن َظ ُن ّ َ‬‫س َ‬
‫ك ِفي َ‬ ‫} إ ِّنا ل َن ََرا َ‬
‫غير رشيد‪ ،‬ويغلب على ظننا أنك من جملة الكاذبين‪ ،‬وقد انقلبت عليهم‬
‫الحقيقة‪ ،‬واستحكم عماهم حيث رموا نبيهم عليه السلم بما هم متصفون‬
‫به‪ ،‬وهو أبعد الناس عنه‪ ،‬فإنهم السفهاء حقا الكاذبون‪.‬‬
‫وأي سفه أعظم ممن قابل أحق الحق بالرد والنكار‪ ،‬وتكبر عن النقياد‬
‫للمرشدين والنصحاء‪ ،‬وانقاد قلبه وقالبه لكل شيطان مريد‪ ،‬ووضع العبادة‬
‫في غير موضعها‪ ،‬فعبد من ] ص ‪ [ 294‬ل يغني عنه شيئا من الشجار‬
‫والحجار؟"‬
‫ّ‬
‫وأي كذب أبلغ من كذب من نسب هذه المور إلى الله تعالى؟"‬
‫ة { بوجه من الوجوه‪ ،‬بل هو الرسول‬ ‫فاهَ ٌ‬‫س َ‬
‫س ِبي َ‬ ‫ل َيا قَوْم ِ ل َي ْ َ‬
‫} َقا َ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ت َرّبي‬‫سال ِ‬ ‫ن * أب َلغُك ُ ْ‬
‫م رِ َ‬ ‫مي َ‬
‫ب الَعال ِ‬
‫ن َر ّ‬
‫م ْ‬ ‫سو ٌ‬
‫ل ِ‬ ‫المرشد الرشيد‪ } ،‬وَلك ِّني َر ُ‬
‫ن{‪.‬‬ ‫وأ َنا ل َك ُم ناص َ‬
‫مي ٌ‬
‫حأ ِ‬ ‫ْ َ ِ ٌ‬ ‫َ َ‬
‫فالواجب عليكم أن تتلقوا ذلك بالقبول والنقياد وطاعة رب العباد‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬كتب اليات كاملة‪.‬‬

‫) ‪(1/293‬‬

‫} أ َو عَجبت َ‬
‫م { أي‪ :‬كيف‬ ‫م ل ِي ُن ْذَِرك ُ ْ‬ ‫من ْك ُ ْ‬‫ل ِ‬ ‫ج ٍ‬ ‫م عََلى َر ُ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ذِك ٌْر ِ‬ ‫جاَءك ُ ْ‬ ‫ن َ‬ ‫مأ ْ‬ ‫ِ ُْ ْ‬ ‫َ‬
‫ّ‬
‫تعجبون من أمر ل يتعجب منه‪ ،‬وهو أن الله أرسل إليكم رجل منكم‬
‫تعرفون أمره‪ ،‬يذكركم بما فيه مصالحكم‪ ،‬ويحثكم على ما فيه النفع لكم‪،‬‬
‫فتعجبتم من ذلك تعجب المنكرين‪.‬‬
‫ن ب َعْدِ قَوْم ِ ُنوٍح { أي‪ :‬واحمدوا ربكم‬ ‫م ْ‬ ‫فاَء ِ‬ ‫خل َ َ‬
‫م ُ‬ ‫جعَل َك ُ ْ‬ ‫} َواذ ْك ُُروا إ ِذ ْ َ‬
‫واشكروه‪ ،‬إذ مكن لكم في الرض‪ ،‬وجعلكم تخلفون المم الهالكة الذين‬
‫كذبوا الرسل‪ ،‬فأهلكهم الّله وأبقاكم‪ ،‬لينظر كيف تعملون‪ ،‬واحذروا أن‬
‫تقيموا على التكذيب كما أقاموا‪ ،‬فيصيبكم ما أصابهم‪ } ،‬و { اذكروا نعمة‬
‫ة { في‬ ‫سط َ ً‬ ‫ق بَ ْ‬ ‫خل ِ‬
‫م ِفي ال ْ َ ْ‬ ‫الّله عليكم التي خصكم بها‪ ،‬وهي أن } َزاد َك ُ ْ‬
‫القوة وكبر الجسام‪ ،‬وشدة البطش‪َ } ،‬فاذ ْك ُُروا آلَء الل ّهِ { أي‪ :‬نعمه‬
‫م { إذا ذكرتموها بشكرها وأداء حقها‬ ‫الواسعة‪ ،‬وأياديه المتكررة } ل َعَل ّك ُ ْ‬
‫ن { أي‪ :‬تفوزون بالمطلوب‪ ،‬وتنجون من المرهوب‪ ،‬فوعظهم‬ ‫حو َ‬ ‫فل ِ ُ‬
‫} تُ ْ‬
‫وذكرهم‪ ،‬وأمرهم بالتوحيد‪ ،‬وذكر لهم وصف نفسه‪ ،‬وأنه ناصح أمين‪،‬‬
‫وحذرهم أن يأخذهم الّله كما أخذ من قبلهم‪ ،‬وذكرهم نعم الّله عليهم‬
‫وإدرار الرزاق إليهم‪ ،‬فلم ينقادوا ول استجابوا‪.‬‬
‫فـ } َقاُلوا { متعجبين من دعوته‪ ،‬ومخبرين له أنهم من المحال أن‬
‫ن ي َعْب ُد ُ آَباؤَُنا { قبحهم الّله‪،‬‬ ‫َ‬
‫كا َ‬ ‫ما َ‬ ‫حد َهُ وَن َذ ََر َ‬ ‫ه وَ ْ‬‫جئ ْت ََنا ل ِن َعْب ُد َ الل ّ َ‬‫يطيعوه‪ } :‬أ ِ‬
‫جعلوا المر الذي هو أوجب الواجبات وأكمل المور‪ ،‬من المور التي ل‬
‫يعارضون بها ما وجدوا عليه آباءهم‪ ،‬فقدموا ما عليه الباء الضالون من‬
‫الشرك وعبادة الصنام‪ ،‬على ما دعت إليه الرسل من توحيد الّله وحده ل‬
‫ْ‬
‫ن{‬ ‫صادِِقي َ‬
‫ن ال ّ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ن ك ُن ْ َ‬ ‫ما ت َعِد َُنا إ ِ ْ‬ ‫شريك له‪ ،‬وكذبوا نبيهم‪ ،‬وقالوا‪ } :‬فَأت َِنا ب ِ َ‬
‫وهذا استفتاح منهم على أنفسهم‪.‬‬
‫ب{‬ ‫ض ٌ‬‫س وَغَ َ‬ ‫ج ٌ‬ ‫م رِ ْ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬‫م ِ‬ ‫َ‬
‫ل لهم هود عليه السلم‪ } :‬قَد ْ وَقَعَ عَلي ْك ُ ْ‬ ‫قا َ‬ ‫ف َ‬
‫أي‪ :‬ل بد من وقوعه‪ ،‬فإنه قد انعقدت أسبابه‪ ،‬وحان وقت الهلك‪.‬‬
‫} أ َتجادُلونِني في أ َسماٍء سميتمو َ َ‬
‫م { أي‪ :‬كيف تجادلون على‬ ‫م َوآَباؤُك ُ ْ‬ ‫ها أن ْت ُ ْ‬ ‫َ ّ ُْ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ َ ِ َ‬
‫أمور‪ ،‬ل حقائق لها‪ ،‬وعلى أصنام سميتموها آلهة‪ ،‬وهي ل شيء من اللهة‬
‫ن { فإنها لو كانت‬ ‫طا ٍ‬‫سل ْ َ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ه ب َِها ِ‬ ‫ل الل ّ ُ‬ ‫ما َأنز َ‬ ‫فيها‪ ،‬ول مثقال ذرة و } َ‬
‫صحيحة لنزل الّله بها سلطانا‪ ،‬فعدم إنزاله له دليل على بطلنها‪ ،‬فإنه ما‬
‫من مطلوب ومقصود ‪ -‬وخصوصا المور الكبار ‪ -‬إل وقد بين الّله فيها من‬
‫الحجج‪ ،‬ما يدل عليها‪ ،‬ومن السلطان‪ ،‬ما ل تخفى معه‪.‬‬
‫ن‬
‫م َ‬‫م ِ‬ ‫ُ‬
‫معَك ْ‬ ‫} َفان ْت َظ ُِروا { ما يقع بكم من العقاب‪ ،‬الذي وعدتكم به } إ ِّني َ‬
‫ن { وفرق بين النتظارين‪ ،‬انتظار من يخشى وقوع العقاب‪ ،‬ومن‬ ‫ري َ‬‫من ْت َظ ِ ِ‬‫ال ْ ُ‬
‫يرجو من الّله النصر والثواب‪ ،‬ولهذا فتح الّله بين الفريقين فقال‪:‬‬
‫َ‬
‫مّنا { فإنه الذي‬ ‫مة ٍ ِ‬ ‫ح َ‬‫ه ب َِر ْ‬‫معَ ُ‬‫ن { آمنوا } َ‬ ‫ذي َ‬ ‫جي َْناهُ { أي‪ :‬هودا } َوال ّ ِ‬ ‫} فَأن ْ َ‬
‫هداهم لليمان‪ ،‬وجعل إيمانهم سببا ينالون به رحمته فأنجاهم برحمته‪،‬‬
‫ن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا { أي‪ :‬استأصلناهم بالعذاب الشديد الذي‬ ‫ذي َ‬‫داب َِر ال ّ ِ‬
‫} وَقَط َعَْنا َ‬
‫لم يبق منهم أحدا‪ ،‬وسلط الّله عليهم الريح العقيم‪ ،‬ما تذر من شيء أتت‬
‫عليه إل جعلته كالرميم‪ ،‬فأهلكوا فأصبحوا ل يرى إل مساكنهم‪ ،‬فانظر كيف‬
‫كان عاقبة المنذرين الذين أقيمت عليهم الحجج‪ ،‬فلم ينقادوا لها‪ ،‬وأمروا‬
‫باليمان فلم يؤمنوا فكان عاقبتهم الهلك‪ ،‬والخزي والفضيحة‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫} وَأ ُت ْب ُِعوا ِفي هَذِهِ الد ّن َْيا ل َعْن َ ً‬
‫دا‬
‫م أل ب ُعْ ً‬ ‫فُروا َرب ّهُ ْ‬ ‫دا ك َ َ‬
‫عا ً‬‫ن َ‬ ‫مةِ أل إ ِ ّ‬ ‫م ال ْ ِ‬
‫قَيا َ‬ ‫ة وَي َوْ َ‬
‫هودٍ { ‪.‬‬ ‫ل َِعادٍ قَوْم ِ ُ‬
‫ن { بوجه من‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬
‫كاُنوا ُ‬ ‫ما َ‬ ‫ن ك َذ ُّبوا ِبآَيات َِنا وَ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫داب َِر ال ّ ِ‬ ‫وقال هنا } وَقَط َعَْنا َ‬
‫الوجوه‪ ،‬بل وصفهم التكذيب والعناد‪ ،‬ونعتهم الكبر والفساد‪.‬‬

‫) ‪(1/294‬‬

‫ن إ ِل َهٍ غَي ُْرهُ قَد ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫ل َيا قَوْم ِ اعْب ُ ُ‬ ‫حا َقا َ‬ ‫صال ِ ً‬ ‫َ‬ ‫م‬‫خاهُ ْ‬ ‫مود َ أ َ َ‬ ‫وَإ َِلى ث َ ُ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ض الل ّ ِ‬
‫ه‬ ‫ل ِفي أْر ِ‬ ‫ها ت َأك ُ ْ‬ ‫ة فَذ َُرو َ‬ ‫م آ َي َ ً‬ ‫ة الل ّهِ ل َك ُ ْ‬ ‫م هَذِهِ َناقَ ُ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫م ب َي ّن َ ٌ‬ ‫جاَءت ْك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫فاَء ِ‬ ‫خل َ‬ ‫م ُ‬ ‫جعَلك ْ‬ ‫م )‪َ (73‬واذ ْكُروا إ ِذ ْ َ‬ ‫ب أِلي ٌ‬ ‫ذا ٌ‬ ‫م عَ َ‬ ‫خذ َك ْ‬ ‫سوٍء فَي َأ ُ‬ ‫ها ب ِ ُ‬ ‫سو َ‬ ‫م ّ‬ ‫وَل ت َ َ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫جَبا َ‬
‫ل‬ ‫ن ال ِ‬ ‫حُتو َ‬ ‫صوًرا وَت َن ْ ِ‬ ‫سُهول َِها قُ ُ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذو َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ض ت َت ّ ِ‬ ‫م ِفي الْر ِ‬ ‫عادٍ وَب َوّأك ُ ْ‬ ‫ب َعْدِ َ‬
‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬‫ذي َ‬ ‫م ل ال ِ‬ ‫ل ال َ‬ ‫ن )‪َ (74‬قا َ‬ ‫دي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ض ُ‬ ‫وا ِفي الْر ِ‬ ‫ب ُُيوًتا َفاذ ْك ُُروا آلَء اللهِ وَل ت َعْث َ ْ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حا‬ ‫صال ِ ً‬ ‫ن َ‬ ‫نأ ّ‬ ‫مو َ‬ ‫م أت َعْل ُ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫فوا ل ِ َ‬ ‫ضع ِ ُ‬ ‫ست ُ ْ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫مهِ ل ِل ّ ِ‬ ‫ن قَوْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ست َك ْب َُروا ِ‬ ‫ا ْ‬
‫ُ‬
‫ست َك ْب َُروا‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫ن )‪َ (75‬قا َ‬ ‫مُنو َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ل ب ِهِ ُ‬ ‫س َ‬ ‫ما أْر ِ‬ ‫ن َرب ّهِ َقاُلوا إ ِّنا ب ِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫س ٌ‬ ‫مْر َ‬ ‫ُ‬
‫م وََقاُلوا‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ر‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫أ‬ ‫ن‬ ‫ع‬ ‫وا‬ ‫ت‬ ‫ع‬ ‫و‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫نا‬ ‫ال‬ ‫روا‬ ‫َ‬ ‫ق‬ ‫ع‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫(‬ ‫‪76‬‬ ‫)‬ ‫ن‬ ‫رو‬ ‫ف‬ ‫كا‬ ‫َ‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ن‬ ‫م‬ ‫َ‬ ‫آ‬ ‫ذي‬ ‫ّ‬
‫ْ ْ ِ َ ِّ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ّ َ َ َ ْ‬ ‫َ ُ‬ ‫ِ ُ َ‬ ‫َ ُْ ْ ِ ِ‬ ‫إِ ّ ِ ِ‬ ‫ل‬ ‫با‬ ‫نا‬
‫َ‬
‫ة‬
‫ف ُ‬ ‫ج َ‬ ‫م الّر ْ‬ ‫خذ َت ْهُ ُ‬ ‫ن )‪ (77‬فَأ َ‬ ‫سِلي َ‬ ‫مْر َ‬ ‫ن ال ْ ُ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ن ك ُن ْ َ‬ ‫ما ت َعِد َُنا إ ِ ْ‬ ‫ح ائ ْت َِنا ب ِ َ‬ ‫صال ِ ُ‬ ‫َيا َ َ‬
‫َ‬
‫م‬ ‫قد ْ أب ْل َغْت ُك ُ ْ‬ ‫ل َيا قَوْم ِ ل َ َ‬ ‫م وََقا َ‬ ‫ن )‪ (78‬فَت َوَّلى عَن ْهُ ْ‬ ‫مي َ‬ ‫جاث ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫دارِهِ ْ‬ ‫حوا ِفي َ‬ ‫صب َ ُ‬ ‫فَأ ْ‬
‫ن )‪(79‬‬ ‫حي َ‬ ‫ص ِ‬ ‫ن الّنا ِ‬ ‫حّبو َ‬ ‫ن َل ت ُ ِ‬ ‫م وَل َك ِ ْ‬ ‫ت ل َك ُ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫ص ْ‬ ‫ة َرّبي وَن َ َ‬ ‫سال َ َ‬ ‫رِ َ‬

‫حا { ‪.‬إلى آخر قصتهم )‪. (1‬‬ ‫صال ِ ً‬


‫م َ‬ ‫خاهُ ْ‬‫مود َ أ َ َ‬ ‫} ‪ } { 79 - 73‬وَإ َِلى ث َ ُ‬
‫مود َ { القبيلة المعروفة الذين كانوا يسكنون‬ ‫أي } و { أرسلنا } إ َِلى ث َ ُ‬
‫الحجر وما حوله‪ ،‬من أرض الحجاز وجزيرة العرب‪ ،‬أرسل الّله إليهم‬
‫حا { نبيا يدعوهم إلى اليمان والتوحيد‪ ،‬وينهاهم عن الشرك‬ ‫صال ِ ً‬
‫م َ‬ ‫} أَ َ‬
‫خاهُ ْ‬
‫ن إ ِل َهٍ غَي ُْرهُ { دعوته عليه‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬‫ه َ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫ل َيا قَوْم ِ اعْب ُ ُ‬ ‫والتنديد‪ ،‬فـ } َقا َ‬
‫الصلة والسلم من جنس دعوة إخوانه من المرسلين‪ ،‬المر بعبادة الّله‪،‬‬
‫م { أي‪:‬‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬
‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫م ب َي ّن َ ٌ‬‫جاَءت ْك ُ ْ‬ ‫وبيان أنه ليس للعباد إله غير الّله‪ } ،‬قَد ْ َ‬
‫خارق من خوارق العادات‪ ،‬التي ل تكون إل آية سماوية ل يقدر الناس‬
‫ة { أي‪ :‬هذه ناقة شريفة‬ ‫م آي َ ً‬‫ة الل ّهِ ل َك ُ ْ‬ ‫عليها‪ ،‬ثم فسرها بقوله‪ } :‬هَذِهِ َناقَ ُ‬
‫فاضلة لضافتها ] ص ‪ [ 295‬إلى الله تعالى إضافة تشريف‪ ،‬لكم فيها آية‬ ‫ّ‬
‫ب ي َوْم ٍ‬
‫شْر ُ‬ ‫م ِ‬ ‫ب وَل َك ُ ْ‬ ‫شْر ٌ‬ ‫عظيمة‪ .‬وقد ذكر وجه الية في قوله‪ } :‬ل ََها ِ‬
‫معُْلوم ٍ { ‪.‬‬
‫َ‬
‫وكان عندهم بئر كبيرة‪ ،‬وهي المعروفة ببئر الناقة‪ ،‬يتناوبونها هم والناقة‪،‬‬
‫للناقة يوم تشربها ويشربون اللبن من ضرعها‪ ،‬ولهم يوم يردونها‪ ،‬وتصدر‬
‫الناقة عنهم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫ض اللهِ { فل‬
‫ل ِفي أْر ِ‬ ‫وقال لهم نبيهم صالح عليه السلم } فَذ َُرو َ‬
‫ها ت َأك ْ‬
‫سوءٍ { أي‪ :‬بعقر أو غيره‪،‬‬ ‫ها ب ِ ُ‬
‫سو َ‬
‫م ّ‬
‫عليكم من مئونتها شيء‪َ } ،‬ول ت َ َ‬
‫م{‪.‬‬ ‫َ‬
‫ب أِلي ٌ‬ ‫م عَ َ‬
‫ذا ٌ‬ ‫} فَي َأ ْ ُ‬
‫خذ َك ُ ْ‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬كتب اليات كاملة‪.‬‬

‫) ‪(1/294‬‬

‫فاَء { في الرض تتمتعون بها وتدركون مطالبكم }‬ ‫خل َ َ‬‫م ُ‬ ‫جعَل َك ُ ْ‬ ‫} َواذ ْك ُُروا إ ِذ ْ َ‬
‫َ‬
‫م ِفي‬ ‫عادٍ { الذين أهلكهم الّله‪ ،‬وجعلكم خلفاء من بعدهم‪ } ،‬وَب َوّأك ُ ْ‬ ‫ن ب َعْدِ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ِ‬
‫ض { أي‪ :‬مكن لكم فيها‪ ،‬وسهل لكم السباب الموصلة إلى ما تريدون‬ ‫ْ ِ‬ ‫ر‬ ‫ال‬
‫صوًرا { أي‪ :‬من الراضي السهلة التي‬ ‫ُ‬
‫سُهول َِها ق ُ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫ذو َ‬ ‫خ ُ‬ ‫وتبتغون } ت َت ّ ِ‬
‫ن‬‫حُتو َ‬ ‫ليست بجبال‪ ،‬تتخذون فيها القصور العالية والبنية الحصينة‪ } ،‬وَت َن ْ ِ‬
‫ل ب ُُيوًتا { كما هو مشاهد إلى الن من أعمالهم التي في الجبال‪ ،‬من‬ ‫جَبا َ‬ ‫ال ْ ِ‬
‫المساكن والحجر ونحوها‪ ،‬وهي باقية ما بقيت الجبال‪َ } ،‬فاذ ْك ُُروا آلَء‬
‫وا ِفي‬ ‫الل ّهِ { أي‪ :‬نعمه‪ ،‬وما خولكم من الفضل والرزق والقوة‪َ } ،‬ول ت َعْث َ ْ‬
‫ن { أي‪ :‬ل تخربوا الرض بالفساد والمعاصي‪ ،‬فإن المعاصي‬ ‫دي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ْ‬‫ض ُ‬ ‫الْر ِ‬
‫تدع الديار العامرة بلقع‪ ،‬وقد أخلت ديارهم منهم‪ ،‬وأبقت مساكنهم‬
‫موحشة بعدهم‪.‬‬
‫مهِ { أي‪ :‬الرؤساء والشراف الذين‬ ‫ن قَوْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ست َك ْب َُروا ِ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫مل ال ّ ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬ ‫} َقا َ‬
‫فوا { ولما كان المستضعفون ليسوا‬ ‫ضع ِ ُ‬ ‫ست ُ ْ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ّ‬
‫تكبروا عن الحق‪ } ،‬ل ِل ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن َرب ّهِ {‬ ‫م ْ‬ ‫ل ِ‬ ‫س ٌ‬‫مْر َ‬ ‫حا ُ‬ ‫صال ِ ً‬ ‫ن َ‬ ‫نأ ّ‬ ‫مو َ‬ ‫م أت َعْل َ ُ‬ ‫من ْهُ ْ‬ ‫ن ِ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫كلهم مؤمنين‪ ،‬قالوا } ل ِ َ‬
‫أي‪ :‬أهو صادق أم كاذب؟‪.‬‬
‫ن { من توحيد الّله والخبر‬ ‫س َ‬ ‫ُ‬
‫مُنو َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫ل ب ِهِ ُ‬ ‫ما أْر ِ‬ ‫فقال المستضعفون‪ } :‬إ ِّنا ب ِ َ‬
‫عنه وأمره ونهيه‪.‬‬
‫ن { حملهم الكبر أن ل‬ ‫م ب ِهِ كافُِرو َ‬ ‫َ‬ ‫من ْت ُ ْ‬‫ذي آ َ‬ ‫ّ‬
‫ست َكب َُروا إ ِّنا ِبال ِ‬ ‫ْ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬ ‫ل ال ّ ِ‬ ‫} َقا َ‬
‫ينقادوا للحق الذي انقاد له الضعفاء‪.‬‬
‫ة { التي توعدهم إن مسوها بسوء أن يصيبهم عذاب أليم‪،‬‬ ‫قُروا الّناقَ َ‬ ‫} فَعَ َ‬
‫م { أي‪ :‬قسوا عنه‪ ،‬واستكبروا عن أمره الذي من عتا‬ ‫َ‬
‫مرِ َرب ّهِ ْ‬ ‫نأ ْ‬ ‫وا عَ ْ‬ ‫} وَعَت َ ْ‬
‫عنه أذاقه العذاب الشديد‪ .‬ل جرم أحل الله بهم من النكال ما لم يحل‬ ‫ّ‬
‫بغيرهم } وََقاُلوا { مع هذه الفعال متجرئين على الّله‪ ،‬معجزين له‪ ،‬غير‬
‫ما ت َعِد َُنا { إن كنت من‬ ‫ح ائ ْت َِنا ب ِ َ‬ ‫صال ِ ُ‬ ‫مبالين بما فعلوا‪ ،‬بل مفتخرين بها‪َ } :‬يا َ‬
‫َ‬
‫ك وَعْد ٌ غَي ُْر‬ ‫ة أّيام ٍ ذ َل ِ َ‬ ‫م َثلث َ َ‬ ‫دارِك ُ ْ‬ ‫مت ُّعوا ِفي َ‬ ‫الصادقين من العذاب فقال‪ } :‬ت َ َ‬
‫ب{‪.‬‬ ‫ذو ٍ‬ ‫مك ْ ُ‬ ‫َ‬
‫ن { على ركبهم‪ ،‬قد أبادهم‬ ‫مي‬ ‫ث‬ ‫جا‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ر‬ ‫دا‬ ‫في‬ ‫حوا‬ ‫ب‬‫ص‬ ‫َ‬ ‫أ‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ف‬ ‫ج‬ ‫ر‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ت‬‫َ‬ ‫ذ‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫أ‬‫َ‬ ‫ف‬ ‫}‬
‫ِ‬
‫َ ِ ِ ْ َ ِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُْ ُ ّ ْ‬ ‫َ‬
‫الّله‪ ،‬وقطع دابرهم‪.‬‬
‫ل{‬ ‫م { صالح عليه السلم حين أحل الّله بهم العذاب‪ } ،‬وََقا َ‬ ‫} فَت َوَّلى عَن ْهُ ْ‬
‫سال َ َ‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫م رِ َ‬ ‫قد ْ أب ْل َغْت ُك ُ ْ‬
‫مخاطبا لهم توبيخا وعتابا بعدما أهلكهم الّله‪َ } :‬يا قَوْم ِ ل َ َ‬
‫م { أي‪ :‬جميع ما أرسلني الّله به إليكم‪ ،‬قد أبلغتكم به‬ ‫ت ل َك ُ ْ‬ ‫ح ُ‬ ‫ص ْ‬ ‫َرّبي وَن َ َ‬
‫وحرصت على هدايتكم‪ ،‬واجتهدت في سلوككم الصراط المستقيم والدين‬
‫ن { بل رددتم قول النصحاء‪ ،‬وأطعتم كل‬ ‫حي َ‬
‫ص ِ‬
‫ن الّنا ِ‬ ‫حّبو َ‬ ‫ن ل تُ ِ‬ ‫القويم‪ } .‬وَل َك ِ ْ‬
‫شيطان رجيم‪.‬‬
‫واعلم أن كثيرا من المفسرين يذكرون في هذه القصة أن الناقة قد‬
‫خرجت من صخرة صماء ملساء اقترحوها على صالح وأنها تمخضت‬
‫تمخض الحامل فخرجت الناقة وهم ينظرون وأن لها فصيل حين عقروها‬
‫رغى ثلث رغيات وانفلق له الجبل ودخل فيه وأن صالحا عليه السلم قال‬
‫لهم‪ :‬آية نزول العذاب بكم‪ ،‬أن تصبحوا في اليوم الول من اليام الثلثة‬
‫ووجوهكم مصفرة‪ ،‬واليوم الثاني‪ :‬محمرة‪ ،‬والثالث‪ :‬مسودة‪ ،‬فكان كما‬
‫قال‪.‬‬
‫وكل هذا من السرائيليات التي ل ينبغي نقلها في تفسير كتاب الّله‪ ،‬وليس‬
‫في القرآن ما يدل على شيء منها بوجه من الوجوه‪ ،‬بل لو كانت صحيحة‬
‫لذكرها الّله تعالى‪ ،‬لن فيها من العجائب والعبر واليات ما ل يهمله تعالى‬
‫ويدع ذكره‪ ،‬حتى يأتي من طريق من ل يوثق بنقله‪ ،‬بل القرآن يكذب بعض‬
‫ة أ َّيام ٍ { أي‪:‬‬ ‫دارِك ُ ْ‬
‫م َثلث َ َ‬ ‫مت ُّعوا ِفي َ‬
‫هذه المذكورات‪ ،‬فإن صالحا قال لهم‪ } :‬ت َ َ‬
‫تنعموا وتلذذوا بهذا الوقت القصير جدا‪ ،‬فإنه ليس لكم من المتاع واللذة‬
‫سوى هذا‪ ،‬وأي لذة وتمتع لمن وعدهم نبيهم وقوع العذاب‪ ،‬وذكر لهم‬
‫وقوع مقدماته‪ ،‬فوقعت يوما فيوما‪ ،‬على وجه يعمهم ويشملهم ]احمرار‬
‫وجوههم‪ ،‬واصفرارها واسودادها من العذاب[ )‪. (1‬‬
‫هل هذا إل مناقض للقرآن‪ ،‬ومضاد له؟"‪ .‬فالقرآن فيه الكفاية والهداية عن‬
‫ما سواه‪.‬‬
‫نعم لو صح شيء عن رسول الّله صلى الّله عليه وسلم مما ل يناقض‬
‫كتاب الّله‪ ،‬فعلى الرأس والعين‪ ،‬وهو مما أمر القرآن باتباعه } وَ َ‬
‫ما آَتاك ُ ُ‬
‫م‬
‫ه َفان ْت َُهوا { ] ص ‪ [ 296‬وقد تقدم أنه ل‬ ‫ما ن ََهاك ُ ْ‬
‫م عَن ْ ُ‬ ‫ذوهُ وَ َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ل فَ ُ‬
‫سو ُ‬
‫الّر ُ‬
‫يجوز تفسير كتاب الّله بالخبار السرائيلية‪ ،‬ولو على تجويز الرواية عنهم‬
‫بالمور التي ل يجزم بكذبها‪ ،‬فإن معاني كتاب الّله يقينية‪ ،‬وتلك أمور ل‬
‫تصدق ول تكذب‪ ،‬فل يمكن اتفاقهما‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬زيادة من هامش ب‪.‬‬

‫) ‪(1/295‬‬

‫قك ُم بها م َ‬ ‫َ ْ‬
‫ن)‬ ‫مي َ‬ ‫ن ال َْعال َ ِ‬‫م َ‬‫حدٍ ِ‬ ‫نأ َ‬ ‫سب َ َ ْ ِ َ ِ ْ‬ ‫ما َ‬ ‫ة َ‬ ‫ش َ‬ ‫ح َ‬ ‫فا ِ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫مهِ أت َأُتو َ‬ ‫قوْ ِ‬ ‫طا إ ِذ ْ َقا َ‬
‫ل لِ َ‬ ‫وَُلو ً‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫ن)‬ ‫سرُِفو َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ُ‬‫م قَوْ ٌ‬ ‫ل أن ْت ُ ْ‬ ‫ساِء ب َ ْ‬‫ن الن ّ َ‬ ‫دو ِ‬ ‫ن ُ‬ ‫م ْ‬ ‫شهْوَةً ِ‬ ‫ل َ‬ ‫جا َ‬ ‫ن الّر َ‬ ‫م ل َت َأُتو َ‬‫‪ (80‬إ ِن ّك ُ ْ‬
‫خرجوهُم من قَريت ِك ُم إنه ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫س‬
‫م أَنا ٌ‬ ‫ْ ِ ْ ْ َ ْ ِّ ُ ْ‬ ‫ن َقاُلوا أ ْ ِ ُ‬ ‫مهِ إ ِّل أ ْ‬ ‫ب قَوْ ِ‬ ‫وا َ‬ ‫ج َ‬ ‫ن َ‬ ‫ما َ‬
‫كا َ‬ ‫‪ (81‬وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫مطْرَنا‬ ‫ن )‪ (83‬وَأ ْ‬ ‫ري َ‬ ‫ن الَغاب ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫ت ِ‬ ‫ه َ‬
‫كان َ ْ‬ ‫مَرأت َ ُ‬ ‫ه إ ِل ا ْ‬ ‫جي َْناهُ وَأهْل ُ‬ ‫ن )‪ (82‬فَأن ْ َ‬ ‫ي َت َط َهُّرو َ‬
‫ن )‪(84‬‬ ‫مي َ‬‫جرِ ِ‬‫م ْ‬ ‫ة ال ْ ُ‬‫عاقِب َ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫ف َ‬
‫كا َ‬ ‫مط ًَرا َفان ْظ ُْر ك َي ْ َ‬ ‫م َ‬ ‫عَل َي ْهِ ْ‬
‫ن ال ْ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫} ‪ } { 84 - 80‬وَُلو ً‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫قك ُ ْ‬
‫م ب َِها ِ‬ ‫سب َ َ‬
‫ما َ‬
‫ة َ‬ ‫ح َ‬
‫ش َ‬ ‫فا ِ‬ ‫مهِ أت َأُتو َ‬
‫قوْ ِ‬ ‫طا إ ِذ ْ َقا َ‬
‫ل لِ َ‬
‫َ‬
‫ن { ‪.‬إلى آخر القصة )‪. (1‬‬ ‫ن ال َْعال َ ِ‬
‫مي َ‬ ‫م َ‬
‫حدٍ ِ‬
‫أ َ‬
‫طا { عليه الصلة والسلم‪ ،‬إذ أرسلناه إلى‬ ‫أي‪ } :‬و { اذكر عبدنا } ُلو ً‬
‫قومه يأمرهم بعبادة الّله وحده‪ ،‬وينهاهم عن الفاحشة التي ما سبقهم بها‬
‫ة { أي‪ :‬الخصلة التي بلغت ‪-‬‬ ‫ح َ‬ ‫ن ال ْ َ‬ ‫َ ْ‬
‫ش َ‬ ‫فا ِ‬ ‫أحد من العالمين‪ ،‬فقال‪ } :‬أت َأُتو َ‬
‫قك ُ ْ‬
‫م ب َِها‬ ‫سب َ َ‬
‫ما َ‬
‫في العظم والشناعة ‪ -‬إلى أن استغرقت أنواع الفحش‪َ } ،‬‬
‫م َ‬
‫ن { فكونها فاحشة من أشنع الشياء‪ ،‬وكونهم ابتدعوها‬ ‫مي َ‬ ‫ن ال َْعال َ ِ‬
‫م َ‬
‫حدٍ ِ‬
‫نأ َ‬‫ِ ْ‬
‫وابتكروها‪ ،‬وسنوها لمن بعدهم‪ ،‬من أشنع ما يكون أيضا‪.‬‬
‫ْ‬
‫ساِء { أي‪ :‬كيف‬ ‫ن الن ّ َ‬
‫دو ِ‬
‫ن ُ‬
‫م ْ‬‫شهْوَةً ِ‬ ‫ل َ‬ ‫جا َ‬ ‫ن الّر َ‬ ‫م ل َت َأُتو َ‬
‫ثم بينها بقوله‪ } :‬إ ِن ّك ُ ْ‬
‫تذرون النساء اللتي خلقهن الّله لكم‪ ،‬وفيهن المستمتع الموافق للشهوة‬
‫والفطرة‪ ،‬وتقبلون على أدبار الرجال‪ ،‬التي هي غاية ما يكون في الشناعة‬
‫والخبث‪ ،‬ومحل تخرج منه النتان والخباث‪ ،‬التي يستحيي من ذكرها فضل‬
‫عن ملمستها وقربها‪ } ،‬ب ْ َ‬
‫ن { أي‪ :‬متجاوزون لما حده‬ ‫سرُِفو َ‬ ‫م ْ‬ ‫م ُ‬ ‫م قَوْ ٌ‬‫ل أن ْت ُ ْ‬ ‫َ‬
‫الّله متجرئون على محارمه‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬أورد اليات كاملة‪.‬‬

‫) ‪(1/296‬‬

‫خرجوهُم من قَريت ِك ُم إنه ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬


‫س‬
‫م أَنا ٌ‬‫ْ ِ ْ ْ َ ْ ِّ ُ ْ‬ ‫ن َقاُلوا أ ْ ِ ُ‬ ‫مهِ ِإل أ ْ‬ ‫ب قَوْ ِ‬ ‫وا َ‬ ‫ج َ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬‫ما َ‬ ‫} وَ َ‬
‫َ‬
‫ن‬
‫م ِإل أ ْ‬
‫من ْهُ ْ‬
‫موا ِ‬
‫ق ُ‬‫ما ن َ َ‬‫ن { أي‪ :‬يتنزهون عن فعل الفاحشة‪ } .‬وَ َ‬ ‫ي َت َط َهُّرو َ‬
‫ميدِ { ‪.‬‬ ‫ح ِ‬‫زيزِ ال ْ َ‬ ‫نوا ِبالل ّهِ ا َل ْعَ ِ‬ ‫ي ُؤْ ِ‬
‫م ُ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن { أي‪ :‬الباقين المعذبين‪،‬‬ ‫ري َ‬ ‫ن الَغاب ِ ِ‬ ‫م َ‬‫ت ِ‬ ‫ه كان َ ْ‬ ‫مَرأت َ ُ‬‫ه ِإل ا ْ‬ ‫جي َْناهُ وَأهْل ُ‬ ‫} فَأن ْ َ‬
‫أمره الله أن يسري بأهله ليل فإن العذاب مصبح قومه فسرى بهم‪ ،‬إل‬ ‫ّ‬
‫امرأته أصابها ما أصابهم‪.‬‬
‫مط ًَرا { أي‪ :‬حجارة حارة شديدة‪ ،‬من سجيل‪ ،‬وجعل‬ ‫َ‬
‫م َ‬‫مط َْرَنا عَل َي ْهِ ْ‬ ‫} وَأ ْ‬
‫ن { الهلك والخزي‬ ‫مي َ‬ ‫جرِ ِ‬‫م ْ‬‫ة ال ْ ُ‬‫عاقِب َ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ف َ‬ ‫الّله عاليها سافلها‪َ } ،‬فان ْظ ُْر ك َي ْ َ‬
‫الدائم‪.‬‬

‫) ‪(1/296‬‬

‫ن إ ِل َهٍ غَي ُْرهُ قَد ْ‬ ‫م ْ‬ ‫م ِ‬ ‫ما ل َك ُ ْ‬ ‫ه َ‬ ‫دوا الل ّ َ‬ ‫ل َيا قَوْم ِ اعْب ُ ُ‬ ‫شعَي ًْبا َقا َ‬ ‫م ُ‬ ‫خاهُ ْ‬ ‫ن أَ َ‬ ‫مد ْي َ َ‬ ‫وَإ َِلى َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬‫شَياَءهُ ْ‬ ‫سأ ْ‬ ‫سوا الّنا َ‬ ‫خ ُ‬ ‫ن وََل ت َب ْ َ‬ ‫ميَزا َ‬ ‫ل َوال ْ ِ‬ ‫م فَأوُْفوا ال ْك َي ْ َ‬ ‫ن َرب ّك ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫م ب َي ّن َ ٌ‬ ‫جاَءت ْك ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(85‬‬ ‫ني‬ ‫م‬ ‫ْ‬ ‫ؤ‬ ‫م‬ ‫م‬ ‫ت‬ ‫ن‬‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ن‬ ‫إ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫ر‬ ‫ي‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ُ‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ذ‬ ‫ها‬ ‫ح‬ ‫ل‬ ‫َ‬ ‫ص‬ ‫إ‬ ‫د‬ ‫ع‬ ‫ب‬ ‫ض‬ ‫ر‬‫َ‬ ‫ل‬ ‫ْ‬ ‫ا‬ ‫في‬ ‫دوا‬ ‫وَ ُ ِ ُ‬
‫س‬ ‫ْ‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫ل‬‫َ‬
‫ْ ِ ْ ُْ ْ ُ ِ ِ َ‬ ‫ْ ِ َْ َ ِ ْ ِ َ ِ ْ ٌْ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫ه‬
‫ن بِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫نآ َ‬ ‫م ْ‬ ‫ل الل ّهِ َ‬ ‫سِبي ِ‬ ‫ن َ‬ ‫ن عَ ْ‬ ‫دو َ‬ ‫ص ّ‬ ‫ن وَت َ ُ‬ ‫دو َ‬ ‫ع ُ‬ ‫ط ُتو ِ‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫ل ِ‬ ‫دوا ب ِك ُ ّ‬ ‫قع ُ ُ‬ ‫وََل ت َ ْ‬
‫ة‬
‫عاقِب َ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬ ‫ف َ‬ ‫م َوان ْظ ُُروا ك َي ْ َ‬ ‫م قَِليًل فَك َث َّرك ُ ْ‬ ‫جا َواذ ْك ُُروا إ ِذ ْ ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫عوَ ً‬ ‫وَت َب ُْغون ََها ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م‬
‫ةل ْ‬ ‫ف ٌ‬ ‫ت ب ِهِ وَطائ ِ َ‬ ‫سل ُ‬ ‫ذي أْر ِ‬ ‫مُنوا ِبال ِ‬ ‫مآ َ‬ ‫ُ‬
‫من ْك ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ف ٌ‬ ‫ن طائ ِ َ‬ ‫ن كا َ‬ ‫َ‬ ‫ن )‪ (86‬وَإ ِ ْ‬ ‫دي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ال ْ ُ‬
‫ل ال ْمَل ُ‬ ‫خي ُْر ال ْ َ‬
‫َ‬ ‫ن )‪َ (87‬قا َ‬ ‫مي َ‬ ‫حاك ِ ِ‬ ‫ه ب َي ْن ََنا وَهُوَ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫حك ُ َ‬ ‫حّتى ي َ ْ‬ ‫صب ُِروا َ‬ ‫مُنوا َفا ْ‬ ‫ي ُؤْ ِ‬
‫ن قَْري َت َِنا‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫جن ّك َيا ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ن قَوْ ِ‬ ‫ْ‬ ‫ال ّ ِ‬
‫م ْ‬ ‫معَك ِ‬ ‫مُنوا َ‬ ‫نآ َ‬ ‫ذي َ‬ ‫ب َوال ِ‬ ‫شعَي ْ ُ‬ ‫خرِ َ‬ ‫مهِ لن ُ ْ‬ ‫م ْ‬ ‫ست َكب َُروا ِ‬ ‫نا ْ‬ ‫ذي َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪ (88‬قَدِ افْت ََري َْنا عََلى الل ّهِ ك َذًِبا إ ِ ْ‬
‫ن‬ ‫هي َ‬ ‫كارِ ِ‬ ‫ل أوَل َوْ ك ُّنا َ‬ ‫مل ّت َِنا َقا َ‬ ‫ن ِفي ِ‬ ‫أوْ ل َت َُعود ُ ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ن ن َُعود َ ِفيَها إ ِّل أ ْ‬
‫ن‬ ‫ن ل ََنا أ ْ‬ ‫كو ُ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫من َْها وَ َ‬ ‫ه ِ‬ ‫جاَنا الل ّ ُ‬ ‫م ب َعْد َ إ ِذ ْ ن َ ّ‬ ‫مل ّت ِك ُ ْ‬ ‫عُد َْنا ِفي ِ‬
‫ن‬‫ح ب َي ْن ََنا وَب َي ْ َ‬ ‫ما عَلى اللهِ ت َوَكلَنا َرب َّنا افْت َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫عل ً‬ ‫ْ‬ ‫يٍء ِ‬ ‫ش ْ‬ ‫ل َ‬ ‫ُ‬
‫سعَ َرب َّنا ك ّ‬ ‫ه َرب َّنا وَ ِ‬ ‫شاَء الل ّ ُ‬ ‫يَ َ‬
‫ن كَ َ‬ ‫ّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ه‬
‫م ِ‬ ‫ن قَوْ ِ‬ ‫م ْ‬ ‫فُروا ِ‬ ‫ذي َ‬ ‫م ل ال ِ‬ ‫ل ال َ‬ ‫ن )‪ (89‬وََقا َ‬ ‫حي َ‬ ‫فات ِ ِ‬ ‫خي ُْر ال َ‬ ‫ت َ‬ ‫حقّ وَأن ْ َ‬ ‫مَنا ِبال َ‬ ‫قَوْ ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫حوا ِفي‬ ‫صب َ ُ‬ ‫ة فَأ ْ‬ ‫ف ُ‬ ‫ج َ‬ ‫م الّر ْ‬ ‫خذ َت ْهُ ُ‬ ‫ن )‪ (90‬فَأ َ‬ ‫سُرو َ‬ ‫خا ِ‬ ‫ذا ل َ‬ ‫م إِ ً‬ ‫شعَي ًْبا إ ِن ّك ُ ْ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ات ّب َعْت ُ ْ‬ ‫ِ‬ ‫ل َئ ِ‬
‫َ‬
‫ن ك َذ ُّبوا‬ ‫ذي َ‬ ‫وا ِفيَها ال ّ ِ‬ ‫م ي َغْن َ ْ‬ ‫ن لَ ْ‬ ‫شعَي ًْبا ك َأ ْ‬ ‫ن ك َذ ُّبوا ُ‬ ‫ذي َ‬ ‫ن )‪ (91‬ال ّ ِ‬ ‫مي َ‬ ‫جاث ِ ِ‬ ‫م َ‬ ‫دارِهِ ْ‬ ‫َ‬
‫ل يا قَوم ل َ َ َ‬
‫قد ْ أب ْل َغْت ُك ُ ْ‬
‫م‬ ‫ْ ِ‬ ‫م وََقا َ َ‬‫ن )‪ (92‬فَت َوَّلى عَن ْهُ ْ‬ ‫ري َ‬ ‫س ِ‬
‫خا ِ‬‫م ال ْ َ‬ ‫شعَي ًْبا َ‬
‫كاُنوا هُ ُ‬ ‫ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن )‪(93‬‬ ‫سى عَلى قَوْم ٍ كافِ ِ‬
‫ري َ‬ ‫فآ َ‬ ‫م فَكي ْ َ‬
‫ت لك ْ‬ ‫ح ُ‬
‫ص ْ‬‫ت َرّبي وَن َ َ‬ ‫سال ِ‬ ‫رِ َ‬

‫شعَي ًْبا { ‪ .‬إلى آخر القصة )‪. (1‬‬ ‫م ُ‬ ‫خاهُ ْ‬ ‫ن أَ َ‬ ‫مد ْي َ َ‬ ‫} ‪ } { 93 - 85‬وَإ َِلى َ‬
‫م { في النسب‬ ‫َ‬
‫خاهُ ْ‬ ‫أي‪ } :‬و { أرسلنا إلى القبيلة المعروفة بمدين } أ َ‬
‫شعَي ًْبا { يدعوهم إلى عبادة الّله وحده ل شريك له‪ ،‬ويأمرهم بإيفاء‬ ‫} ُ‬
‫المكيال والميزان‪ ،‬وأن ل يبخسوا الناس أشياءهم‪ ،‬وأن ل يعثوا في الرض‬
‫ض‬
‫دوا ِفي الْر ِ‬ ‫س ُ‬
‫ف ِ‬ ‫مفسدين‪ ،‬بالكثار من عمل المعاصي‪ ،‬ولهذا قال‪َ } :‬ول ت ُ ْ‬
‫ن { فإن ترك المعاصي امتثال‬ ‫مِني َ‬ ‫مؤْ ِ‬ ‫م ُ‬ ‫ن ك ُن ْت ُ ْ‬ ‫م إِ ْ‬ ‫خي ٌْر ل َك ُ ْ‬ ‫م َ‬ ‫حَها ذ َل ِك ُ ْ‬ ‫صل ِ‬ ‫ب َعْد َ إ ِ ْ‬
‫لمر الله وتقربا إليه خير‪ ،‬وأنفع للعبد من ارتكابها الموجب لسخط الجبار‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وعذاب النار‪.‬‬
‫ط { أي‪ :‬طريق من الطرق التي يكثر‬ ‫صَرا ٍ‬ ‫ل ِ‬ ‫ُ‬
‫دوا { للناس } ب ِك ّ‬ ‫قعُ ُ‬
‫} َول ت َ ْ‬
‫ن‬
‫ن عَ ْ‬‫دو َ‬‫ص ّ‬‫ن { من سلكها } وَت َ ُ‬ ‫دو َ‬ ‫ع ُ‬ ‫سلوكها‪ ،‬تحذرون الناس منها و } ُتو ِ‬
‫جا { أي‪ :‬تبغون سبيل اللهّ‬ ‫عوَ ً‬‫ل الل ّهِ { من أراد الهتداء به } وَت َب ُْغون ََها ِ‬ ‫سِبي ِ‬‫َ‬
‫تكون معوجة‪ ،‬وتميلونها اتباعا لهوائكم‪ ،‬وقد كان الواجب عليكم وعلى‬
‫غيركم الحترام والتعظيم للسبيل التي نصبها الّله لعباده ليسلكوها إلى‬
‫مرضاته ودار كرامته‪ ،‬ورحمهم بها أعظم رحمة‪ ،‬وتصدون لنصرتها والدعوة‬
‫إليها والذب عنها‪ ،‬ل أن تكونوا أنتم قطاع طريقها‪ ،‬الصادين الناس عنها‪،‬‬
‫فإن هذا كفر لنعمة الّله ومحادة لّله‪ ،‬وجعل أقوم الطرق وأعدلها مائلة‪،‬‬
‫وتشنعون على من سلكها‪.‬‬
‫م { أي‪ :‬نماكم بما‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫م قِليل فكث َّرك ْ‬ ‫َ‬ ‫} َواذ ْك ُُروا { نعمة الّله عليكم } إ ِذ ْ كن ْت ُ ْ‬
‫ُ‬
‫أنعم عليكم من الزوجات والنسل‪ ،‬والصحة‪ ،‬وأنه ما ابتلكم بوباء أو‬
‫أمراض من المراض المقللة لكم‪ ،‬ول سلط عليكم عدوا يجتاحكم ول‬
‫فرقكم في الرض‪ ،‬بل أنعم عليكم باجتماعكم‪ ،‬وإدرار الرزاق وكثرة‬
‫النسل‪.‬‬
‫ن { فإنكم ل تجدون في جموعهم إل‬ ‫دي َ‬ ‫س ِ‬ ‫ف ِ‬ ‫م ْ‬ ‫ْ‬
‫ة ال ُ‬ ‫عاقِب َ ُ‬ ‫ن َ‬ ‫َ‬
‫ف كا َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫} َوان ْظُروا كي ْ َ‬
‫الشتات‪ ،‬ول في ربوعهم إل الوحشة والنبتات ولم يورثوا ذكرا حسنا‪ ،‬بل‬
‫أتبعوا في هذه الدنيا لعنة‪ ،‬ويوم القيامة أشد خزيا وفضيحة‪.‬‬
‫ُ‬
‫مُنوا { وهم‬ ‫م ي ُؤْ ِ‬ ‫ة لَ ْ‬‫ف ٌ‬‫طائ ِ َ‬ ‫ت ب ِهِ وَ َ‬ ‫سل ْ ُ‬‫ذي أْر ِ‬ ‫مُنوا ِبال ّ ِ‬ ‫مآ َ‬ ‫من ْك ُ ْ‬ ‫ة ِ‬ ‫ف ٌ‬‫طائ ِ َ‬ ‫ن َ‬ ‫كا َ‬‫ن َ‬ ‫} وَإ ِ ْ‬
‫ن{‬ ‫مي َ‬‫حاك ِ ِ‬ ‫خي ُْر ال ْ َ‬‫ه ب َي ْن ََنا وَهُوَ َ‬ ‫م الل ّ ُ‬ ‫حك ُ َ‬ ‫حّتى ي َ ْ‬ ‫صب ُِروا َ‬ ‫الجمهور منهم‪َ } .‬فا ْ‬
‫فينصر المحق‪ ،‬ويوقع العقوبة على المبطل‪.‬‬
‫__________‬
‫)‪ (1‬في ب‪ :‬أورد اليات كاملة‪.‬‬

‫) ‪(1/296‬‬

‫مهِ { وهم الشراف والكبراء منهم‬ ‫ن قَوْ ِ‬ ‫م ْ‬‫ست َك ْب َُروا ِ‬


‫نا ْ‬
‫ذي َ‬‫مل ال ّ ِ‬ ‫ل ال ْ َ‬
‫} َقا َ‬
‫الذين اتبعوا أهواءهم ولهوا بلذاتهم‪ ،‬فلما أتاهم الحق ورأوه غير موافق‬
‫لهوائهم الرديئة‪ ،‬ردوه واستكبروا عنه‪ ،‬فقالوا لنبيهم شعيب ومن معه من‬
‫ن‬
‫م ْ‬ ‫معَ َ‬
‫ك ِ‬ ‫مُنوا َ‬
‫نآ َ‬ ‫ب َوال ّ ِ‬
‫ذي َ‬ ‫ك َيا ُ‬
‫شعَي ْ ُ‬ ‫جن ّ َ‬
‫خرِ َ‬‫المؤمنين المستضعفين‪ } :‬ل َن ُ ْ‬
‫مل ّت َِنا { استعملوا قوتهم السبعية‪ ،‬في مقابلة الحق‪،‬‬ ‫َ‬
‫ن ِفي ِ‬ ‫قَْري َت َِنا أوْ ل َت َُعود ُ ّ‬
‫ولم يراعوا دينا ول ذمة ول حقا‪ ،‬وإنما راعوا واتبعوا أهواءهم وعقولهم‬
‫السفيهة التي دلتهم على هذا القول الفاسد‪ ،‬فقالوا‪ :‬إما أن ترجع أنت ومن‬
‫معك إلى ديننا أو لنخرجنكم من قريتنا‪.‬‬
‫فـ } شعيب { عليه الصلة والسلم كان يدعوهم طامعا في إيمانهم‪ ،‬والن‬
‫لم يسلم من شرهم‪ ،‬حتى توعدوه إن لم يتابعهم ‪ -‬بالجلء عن وطنه‪ ،‬الذي‬
‫هو ومن معه أحق به منهم‪.‬‬
‫وَ‬ ‫َ‬ ‫فـ } َقا َ‬
‫ل { لهم شعيب عليه الصلة والسلم متعجبا من قولهم‪ } :‬أوَ ل ْ‬
‫ن { أي‪ :‬أنتابعكم على دينكم وملتكم الباطلة‪ ،‬ولو كنا كارهين لها‬ ‫هي َ‬ ‫ك ُّنا َ‬
‫كارِ ِ‬
‫لعلمنا ببطلنها‪ ،‬فإنما يدعى إليها من له نوع رغبة فيها‪ ،‬أما من يعلن بالنهي‬
‫عنها‪ ،‬والتشنيع على من اتبعها فكيف ] ص ‪ [ 297‬يدعى إليها؟"‬
‫من َْها { أي‪:‬‬ ‫ه ِ‬‫جاَنا الل ّ ُ‬ ‫م ب َعْد َ إ ِذ ْ ن َ ّ‬ ‫مل ّت ِك ُ ْ‬
‫ن عُد َْنا ِفي ِ‬ ‫} قَدِ افْت ََري َْنا عََلى الل ّهِ ك َذًِبا إ ِ ْ‬
‫اشهدوا علينا أننا إن عدنا إليها بعد ما نجانا الّله منها وأنقذنا من شرها‪ ،‬أننا‬
‫كاذبون مفترون على الّله الكذب‪ ،‬فإننا نعلم أنه ل أعظم افتراء ممن جعل‬
‫لّله شريكا‪ ،‬وهو الواحد الحد الفرد الصمد‪ ،‬الذي لم يتخذ ولدا ول صاحبة‪،‬‬
‫ول شريكا في الملك‪.‬‬
‫َ‬
‫ن ن َُعود َ ِفيَها { أي‪ :‬يمتنع على مثلنا أن نعود فيها‪ ،‬فإن هذا‬ ‫ن ل ََنا أ ْ‬ ‫كو ُ‬ ‫ما ي َ ُ‬‫} وَ َ‬
‫من المحال‪ ،‬فآيسهم عليه الصلة والسلم من كونه يوافقهم من وجوه‬
‫متعددة‪ ،‬من جهة أنهم كارهون لها مبغضون لما هم عليه من الشرك‪ .‬ومن‬
‫جهة أنه جعل ما هم عليه كذبا‪ ،‬وأشهدهم أنه إن اتبعهم ومن معه فإنهم‬
‫كاذبون‪.‬‬
‫ّ‬
‫ومنها‪ :‬اعترافهم بمنة الله عليهم إذ أنقذهم الله منها‪.‬‬ ‫ّ‬
‫ومنها‪ :‬أن عودهم فيها ‪ -‬بعد ما هداهم الّله ‪ -‬من المحالت‪ ،‬بالنظر إلى‬
‫حالتهم الراهنة‪ ،‬وما في قلوبهم من تعظيم الّله تعالى والعتراف له‬
‫بالعبودية‪ ،‬وأنه الله وحده الذي ل تنبغي العبادة إل له وحده ل شريك له‪،‬‬
‫وأن آلهة المشركين أبطل الباطل‪ ،‬وأمحل المحال‪.‬‬
‫ن عليهم بعقول يعرفون بها الحق والباطل‪ ،‬والهدى‬ ‫وحيث إن الّله م ّ‬
‫والضلل‪.‬‬
‫وأما من حيث النظر إلى مشيئة الله وإرادته النافذة في خلقه‪ ،‬التي ل‬ ‫ّ‬
‫خروج لحد عنها‪ ،‬ولو تواترت السباب وتوافقت القوى‪ ،‬فإنهم ل يحكمون‬
‫ن‬‫كو ُ‬ ‫ما ي َ ُ‬ ‫على أنفسهم أنهم سيفعلون شيئا أو يتركونه‪ ،‬ولهذا استثنى } وَ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ه َرب َّنا { أي‪ :‬فل يمكننا ول غيرنا‪ ،‬الخروج‬ ‫شاَء الل ّ

You might also like