Professional Documents
Culture Documents
يتبدد الضباب المكفهر في عيني ..يتالشى ..إال أنه يبقى معلقا كالخفافيش في أهدابي ..تلسعني
غوغاء عبيد المدينة البلهاء ..يعربد صداها بأظالف النافذة الكئيبة البال.
ظالل خاملة ترقد بكلكلها األخطبوطي حولي ..عصافير من نور تالعب جدائل حفيدتي الصغيرة..
كم هي رائعة ..وقتها كله حديث مع لعبها االلكترونية ..ذكية كجدك ..رقيقة كجدتك ..تشخصين ببصرك إلي
طفلتي العزيزة ..لوال المرض لكنت اآلن أجول بك البراري ..أمتع براءتك بالنقاء و الهواء الرخيم ..ترمقينني..
ألمح تنينا ينفث الحيرة من عينيك السماويتين ..تتساءلين ما السر الذي يثبت هذا الهيكل البشري الهرم في ذلك
الكرسي المتحرك؟ لماذا ال ينطق أبدا؟ هل حقيقة أن الشلل هو السبب في ذلك؟
عقلك الصغير ال يدان له على فك األلغاز ..فتعودين إلى لعبك ..إلى مناجاتك البريئة ..كم أنت جميلة
حفيدتي الصغيرة ..هل يعقل أن كل ذلك البهاء يولد من هذا التابوت الخشبي؟
الذكريات تكهرب زجاج النافذة أمامي ..تصطدم بإطارها لتصفعني ..تريني أطيافي الغائرة في
التاريخ ..أراك أماه ..أبصر ذراعيك تعانقني بحنانها الوارف الظالل ..أماه لم أنس قسوتي عليك أيام أقعدني هذا
المرض اللعين أول مرة ..الصدمة كانت عنيفة..
كنت زمانها طائرا غريرا ما يزال ريشي غض طري ..أجهل زقاق الغابة الملعونة ..مفتون ببرك
الضوء المتوهجة فوق األوراق و بين األغصان ..في نشوة عابرة حمقاء رفرفت فرحا أنشد رخاخ
الحياة..أسلمت جناحاي للتيارات الوليدة ..حسبتها تقودني إلى أراضي الحب و الينابيع الصافية ..لكنها بزقتني
في أفواه تماسيح ضارية ..أحس سحقاتها و هي تلوكني ..حتى اآلن بعد عقدين من الشفاء ..الصدمة أماه كانت
مدمية ..أحالمي انهارت في لمح البصر ..أسياخ القفر سلختها من آفاقي اآلتية ..حرمت من متابعة الدراسة..
خلع عني المئزر األبيض و السماعة ..روائح األدوية المتدفقة من المخابر هجرتني ..سمروني على الحائط
رهينة لنسور القنوط و الضياع ،أرقب آخر راية لقوافلي تغوص في الرمال..
الصدمة كانت مدمية ..حتى غزالتي الحالمة العينين اختطفت مني في ليلة ليالء ..حرمت حتى من
آخر ترتيل وداعها ..الصدمة أماه نتفت ريشي و زعقته في السفوح الموحلة ..ليتك تسمعين يا قلبي الحنون
تأوهاتي ..فمن يدري لعل روحك تتفقدني ..ترفرف اآلن في غبش غرفتي ..تنسل في عروقها الرطبة ..تلملم
أردية الضيق عن صدري..
أماه ،مشاهد وجهك المضج بأناة تستيقظ و تثور كلما عوت نظراتي من خلف أقبية الصمت النائية
مازالت تتوارد محمومة ،تعيد رسم قسماته خلف الزجاج يرتقب قدوم الفرج في عربته اللؤلئية بوعولها
الذهبية ..كم كنت أستلذ راحتاك و هي تمسد عضالتي ..هدهدتك المغردة و هي تداعب أوتاري..
أماه ،اشتقت إليك ..أنا اآلن وحيد ..المرض عاودني ..أحالني إلى تابوت خشبي في مقبرة األحراش
اليابسة ..حتى الدموع المسافرة اللحظة في تجاعيدي أضحت باردة..
أماه القزم البدائي يتسلق حلقي بمعاوله الصدئة ..يتعلق بأوتاري فيخرسها..
***
لم أكن أعلم أني غبت عن الوجود المقرف كل هذا الوقت ..ساعتان ..عقارب الزمن تعدو بهستيريا..
خيال يغطس في برك الضوء المتبقية على البالط ..شخص بدين يدلف الغرفة ..يقترب مني..
قسماته الشائخة تثير غبار ذاكرتي ..نظراتي تتعلق بالشيب المستوي على جوانب صلعته ..صوته المبحوح
يذكرني به ..إنه هو ..تذكرته..صاحبي األديب ..يقبل الزهرة البرية ..يهبها قطعا من الشوكوالتا ..دقات حذائيه
تهز أغواري الورسة كلما تقدم نحوي ..يلقي السالم يمد يده لمصافحتي ،لكني ال أقوى على الحراك..أجيبه
بتحريك عيناي..البد أنه يفهمني..أعلم ذلك جيدا..يقتعد األريكة المسترخية بجانبي األيمن..يكلمني..يخبرني عن
مستجدات سيرته الذاتية..عن صراعه من أجل البقاء و الخلود..يؤكد لي أن روايته األخيرة ستوقف العالم و لن
تقعده..يتململ في توتر..ينتصب بانفعال..يتجه صوب النافذة ..يلتصق جبينه بزجاجها..يوخز بنظرة استخفاف
متحجرة نتئة الوضع البشري المتآكل على أرصفة الشارع الهمجي..يتلفت يمينا و شماال و بحركة سريعة
مباغتة يستدير مقطبا حاجبيه..البراكين كلها تفزع من غفواتها..تزمجر بازقة حمما فوارة و رمادا خانقا..
األقحوانة البرية تفرك عينيها..يستهويها منظرك و أنت تنفث الدخان و تمعن النظر في خيوطه
المتراصة بعبث..تخلد على الصمت و التأمل..أتخشى أن يتهمونك بالجنون؟ فمن يكلم القبور غير المجانين..تلوذ
ببصرك صوب األرض..النجار اللعين يحاصرك بأزميله و عم قريب سيحيلك إلى تابوت خشبي
مثلي..تقف..تصافح شيبي..تغادر بعد أن أحلتني إلى خرقة دامية تلعق مواطئ قدميك..لم تعد معي..وحيد أنا
دائما..منفي داخل غشائي الكتيم..أحارب الغربان بيد عزالء..
قطع من رقائق النور تستلقي بجانبي..نزيهة امرأتي الغالية تدلف زنزانتي..تمسح الدموع الطافرة
من مآقيها..كانت تبكي..أعلم السبب..عبيد الوهم أفواههم ال ترحم..علقم هي و حراب مسنونة..
الهاتف يرن و يرن..النمرة الشرسة تنقض عليه..ترفع السماعة..تخوض في حديث ال يصلني إال
حفيفه..تبتسم..تحول نظرها نحوي..تقهقه..عناكب الفضول المحروق تركض في دهاليزي..طبول القبائل البدائية
تعوي مسعورة في ظالم أعماقي السحيقة..حديثك أيتها النمرة مازال متواصال..قهقهاتك تمرغ السكون في
البالط..مع من تتحدثين؟
-من بالهاتف؟
يسره الخبر..يستلم السماعة من أناملك و يغمغم..و أنا التابوت الخشبي..األب المشوه..الثعبان يتخبط
بداخلي..لماذا يحبها هي و ينفث النار في وجهي..أنا والده؟
تقترب مني طفلي المدلل..تقبلني و زفير الحديد المصهور يكوي لحمي..تردد ساخرا:
-لماذا ال تستسلم؟ أال ترحم ابنك الوحيد؟ ألم تشبع من الدنيا بعد؟ دعني أتمتع بها بدوري..إلى متى
تبقى حاجزا بيني و بين حياة الفخفخة؟
الحسرة تكدس ضرباتها القاسية في أضالعي..ال أطيق رؤية الوهم في أحداقك مثبت بدعائم من
فالذ..
تقصد ركن طفلتي الصغيرة..طفلتك..تداعبها بابتسامة جافة..تحملها بين ذراعيك..كيف لمثل تلك
األيادي النثنة أن تحمل الوردة البرية..ستلطخها بقذارة المزابل..آه ،لو يبعث هللا اآلن في أوصالي الحركة..لو
يشحذ فاصلي المفلول لقطعت مخالب الجرذان الجائعة قبل أن تمسك..لهربتك إلى عالمك حيث الطهر
و الجمال..ماذا سيبقى منك يا طفلتي الغالية بعد أن تلوثك النفاية..ال شيء آخر غير دمية الكترونية محروقة
الخدين ..
لم أعد أتحمل رؤية هذه الجريمة..اختفيا من نظري..ال أطيق سماع كركراتكما الوقحة..أتركوني
وحدي مع الحقيقة األزلية..ال شيء غير الحقيقة..الحقيقة التي تجرح و تنير..سئمت الزيف و أبخرة السراب
الخامد..الشمس بددت عن أفقي السواد..الوجود أضحى بال أقنعة و ال مساحيق..أريد أن أبقى وحدي..دائما كنت
وحدي ،و سأبقى و ألقى هللا بمفردي..
آه ،كم هذا مؤلم و محزن..لكن ما باليد حيلة..كياني عاجز عن مجابهة هذه المأساة..أنا التابوت
الخشبي..
صخب القطعان البشرية يغرز مخالبه في سمعي..رباه أريد أن أرتاح..أريد أن أنام..أتوق إلى
االرتماء في العالم اآلخر،أين نعانق حقيقة الحقائق..
جحيم أنت يا غرفتي و سجن يغط أنفاسي..جدرانك تندفع نحوي..تسمرني بحرابها المسنونة..أصيح
..أنتحب..لكن ال أحد يسمعني..كتائب الصمت العارية الصدور ،متعفنة األقدام تحاصرني بصلبانها
الملتهبة..مجاديفي لم تعد تقوى على مصارعة لججك أيتها العزلة الغجرية..جزرك األسطورية المجللة بالغبار و
دبيب الجرذان تسفك دمي..أنقذني يا هللا من زئير الوحشة..
أريد ماء..أريد هواء..أنثروا عطور تربة قبري حولي..لفوني بحريره األزلي..أنا التابوت
الخشبي..الضباع نهشت قشرته الرخامية منذ زمن بعيد..آه..يا الهي خلصني..يا الهي ارحمني..
***
الساعة الخامسة و الربع..
لم يطرأ عليه أي تغيير يا جارتي..قالت نزيهة بصوت متحشرج اعترته رعشة و هي تحكم إغالق
النافذة حفاظا على دفء الغرفة ،فصقيع الشتاء المتبرج خارجا قبل أوانه يصول و يجول بهستيريا في شوارع
المدينة الجامدة..
لحظة مشحونة بالحزن انتصبت بينها و بين جارتها العجوز النحيلة القابعة في األريكة على يمين
الكرسي المتحرك..
كوبا القهوة المتثائبان ال يزاالن كما هما لم تنقص منهما حسوة واحدة..
-آمين ..هتفت نزيهة و في دخيلتها مساحات من الزجاج تتفجر غائرة شظاياها في فؤادها
المفجوع..فهي تعلم جيدا أن ال أحد يستطيع أن يحدد متى ستنزاح عنه هذه الغمة..وحده هللا يعلم بذلك و كل ما
تستطيع أن تفعله أن تتضرع بالدعاء.
و على الرغم من ابتسامتها الخارجة من كهوف جليدية معتمة لم تتمكن من خداع جارتها بل تؤكد
لها أنها في وحدتها ال أنيس لها غير الدموع .و ماذا تفعل وهي ترى زوجها مثبت في كرسي متحرك ال ينبس
بكلمة من فمه المعوج..رؤياه تنحسر طوال الوقت في زجاج النافذة ال تبرحه،و كأن أمرا سحريا يجذبه
إليه..أمر ال أحد يعلمه و يراه غيره،هو الحاضر الغائب..