You are on page 1of 7

‫الساعة الخامسة إال ربع‪..

‬‬

‫يتبدد الضباب المكفهر في عيني‪ ..‬يتالشى‪ ..‬إال أنه يبقى معلقا كالخفافيش في أهدابي‪ ..‬تلسعني‬
‫غوغاء عبيد المدينة البلهاء‪ ..‬يعربد صداها بأظالف النافذة الكئيبة البال‪.‬‬

‫ظالل خاملة ترقد بكلكلها األخطبوطي حولي‪ ..‬عصافير من نور تالعب جدائل حفيدتي الصغيرة‪..‬‬
‫كم هي رائعة ‪ ..‬وقتها كله حديث مع لعبها االلكترونية‪ ..‬ذكية كجدك‪ ..‬رقيقة كجدتك‪ ..‬تشخصين ببصرك إلي‬
‫طفلتي العزيزة‪ ..‬لوال المرض لكنت اآلن أجول بك البراري‪ ..‬أمتع براءتك بالنقاء و الهواء الرخيم‪ ..‬ترمقينني‪..‬‬
‫ألمح تنينا ينفث الحيرة من عينيك السماويتين‪ ..‬تتساءلين ما السر الذي يثبت هذا الهيكل البشري الهرم في ذلك‬
‫الكرسي المتحرك؟ لماذا ال ينطق أبدا؟ هل حقيقة أن الشلل هو السبب في ذلك؟‬

‫عقلك الصغير ال يدان له على فك األلغاز‪ ..‬فتعودين إلى لعبك‪ ..‬إلى مناجاتك البريئة‪ ..‬كم أنت جميلة‬
‫حفيدتي الصغيرة‪ ..‬هل يعقل أن كل ذلك البهاء يولد من هذا التابوت الخشبي؟‬

‫الذكريات تكهرب زجاج النافذة أمامي‪ ..‬تصطدم بإطارها لتصفعني‪ ..‬تريني أطيافي الغائرة في‬
‫التاريخ‪ ..‬أراك أماه‪ ..‬أبصر ذراعيك تعانقني بحنانها الوارف الظالل‪ ..‬أماه لم أنس قسوتي عليك أيام أقعدني هذا‬
‫المرض اللعين أول مرة‪ ..‬الصدمة كانت عنيفة‪..‬‬

‫كنت زمانها طائرا غريرا ما يزال ريشي غض طري‪ ..‬أجهل زقاق الغابة الملعونة‪ ..‬مفتون ببرك‬
‫الضوء المتوهجة فوق األوراق و بين األغصان‪ ..‬في نشوة عابرة حمقاء رفرفت فرحا أنشد رخاخ‬
‫الحياة‪..‬أسلمت جناحاي للتيارات الوليدة‪ ..‬حسبتها تقودني إلى أراضي الحب و الينابيع الصافية‪ ..‬لكنها بزقتني‬
‫في أفواه تماسيح ضارية‪ ..‬أحس سحقاتها و هي تلوكني‪ ..‬حتى اآلن بعد عقدين من الشفاء‪ ..‬الصدمة أماه كانت‬
‫مدمية‪ ..‬أحالمي انهارت في لمح البصر‪ ..‬أسياخ القفر سلختها من آفاقي اآلتية‪ ..‬حرمت من متابعة الدراسة‪..‬‬
‫خلع عني المئزر األبيض و السماعة‪ ..‬روائح األدوية المتدفقة من المخابر هجرتني‪ ..‬سمروني على الحائط‬
‫رهينة لنسور القنوط و الضياع‪ ،‬أرقب آخر راية لقوافلي تغوص في الرمال‪..‬‬

‫الصدمة كانت مدمية‪ ..‬حتى غزالتي الحالمة العينين اختطفت مني في ليلة ليالء‪ ..‬حرمت حتى من‬
‫آخر ترتيل وداعها‪ ..‬الصدمة أماه نتفت ريشي و زعقته في السفوح الموحلة‪ ..‬ليتك تسمعين يا قلبي الحنون‬
‫تأوهاتي‪ ..‬فمن يدري لعل روحك تتفقدني‪ ..‬ترفرف اآلن في غبش غرفتي‪ ..‬تنسل في عروقها الرطبة‪ ..‬تلملم‬
‫أردية الضيق عن صدري‪..‬‬

‫أماه‪ ،‬مشاهد وجهك المضج بأناة تستيقظ و تثور كلما عوت نظراتي من خلف أقبية الصمت النائية‬
‫مازالت تتوارد محمومة ‪ ،‬تعيد رسم قسماته خلف الزجاج يرتقب قدوم الفرج في عربته اللؤلئية بوعولها‬
‫الذهبية‪ ..‬كم كنت أستلذ راحتاك و هي تمسد عضالتي‪ ..‬هدهدتك المغردة و هي تداعب أوتاري‪..‬‬

‫أماه‪ ،‬اشتقت إليك‪ ..‬أنا اآلن وحيد‪ ..‬المرض عاودني ‪ ..‬أحالني إلى تابوت خشبي في مقبرة األحراش‬
‫اليابسة‪ ..‬حتى الدموع المسافرة اللحظة في تجاعيدي أضحت باردة‪..‬‬

‫أماه القزم البدائي يتسلق حلقي بمعاوله الصدئة‪ ..‬يتعلق بأوتاري فيخرسها‪..‬‬

‫***‬

‫الساعة تنتحب الخامسة مساءا‪..‬‬

‫لم أكن أعلم أني غبت عن الوجود المقرف كل هذا الوقت‪ ..‬ساعتان‪ ..‬عقارب الزمن تعدو بهستيريا‪..‬‬

‫خيال يغطس في برك الضوء المتبقية على البالط‪ ..‬شخص بدين يدلف الغرفة‪ ..‬يقترب مني‪..‬‬
‫قسماته الشائخة تثير غبار ذاكرتي‪ ..‬نظراتي تتعلق بالشيب المستوي على جوانب صلعته‪ ..‬صوته المبحوح‬
‫يذكرني به‪ ..‬إنه هو‪ ..‬تذكرته‪..‬صاحبي األديب‪ ..‬يقبل الزهرة البرية‪ ..‬يهبها قطعا من الشوكوالتا ‪ ..‬دقات حذائيه‬
‫تهز أغواري الورسة كلما تقدم نحوي‪ ..‬يلقي السالم يمد يده لمصافحتي ‪،‬لكني ال أقوى على الحراك‪..‬أجيبه‬
‫بتحريك عيناي‪..‬البد أنه يفهمني‪..‬أعلم ذلك جيدا‪..‬يقتعد األريكة المسترخية بجانبي األيمن‪..‬يكلمني‪..‬يخبرني عن‬
‫مستجدات سيرته الذاتية‪..‬عن صراعه من أجل البقاء و الخلود‪..‬يؤكد لي أن روايته األخيرة ستوقف العالم و لن‬
‫تقعده‪..‬يتململ في توتر‪..‬ينتصب بانفعال‪..‬يتجه صوب النافذة‪ ..‬يلتصق جبينه بزجاجها‪..‬يوخز بنظرة استخفاف‬
‫متحجرة نتئة الوضع البشري المتآكل على أرصفة الشارع الهمجي‪..‬يتلفت يمينا و شماال و بحركة سريعة‬
‫مباغتة يستدير مقطبا حاجبيه‪..‬البراكين كلها تفزع من غفواتها‪..‬تزمجر بازقة حمما فوارة و رمادا خانقا‪..‬‬

‫‪ -‬يعتقدون أني انتهيت‪..‬هراء‪..‬هراء‪..‬أنت تعرفني‪..‬قلمي لن يجف حبره إال بموتي‪..‬سأضل أبدع‬


‫و أبدع حتى آخر قطرة في دمي‪..‬ال لم أنته و لن أنته‪..‬رواياتي‪،‬قصصي‪،‬أشعاري ستخلدني‪..‬أليس كذلك يا‬
‫صاحبي‪..‬جوادي الذي لوحته شمس األدب الكاوية سيبقى إلى األبد يثب إلى القمم الشاهقة يرسل صهيله‬
‫األسطوري يهز به قلب طروادة و يعدها بالفتوحات الجديدة‪..‬‬

‫تصوت يا صاحبي‪..‬صوت‪..‬فأنا أسمعك‪..‬تعلم ذلك جيدا‪..‬حفيدتي تفغر فيها مشدوهة بانفعالك‬


‫الفياض‪..‬صوت يا صاحبي‪..‬فأنا أفهمك‪..‬أكتوي بحرقتك‪..‬تنساب إلى مسامي عذاباتك‪..‬صوت‪..‬العالم يسمعك أما‬
‫أنا فال أحد يسمع لزعيق عواصفي‪ ،‬ألبخرة هذياني‪..‬صوت يا صاحبي و بلغ العالم الغباري أن تصدع اإلسفلت‬
‫الرمادي الكئيب لم يحله بعد إلى ردم خرب‪..‬صوت‪ ،‬و اكشف الجريمة و طالب بالعقاب‪..‬صوت‪..‬ال تدع الخيانة‬
‫تجهز على ما تبقى من إخالص‪..‬ال تدع طعناتها تصل إلى براعم الحب النامية في الخفاء‪..‬ازعق و انكث‬
‫التراب من تحت أقدامهم‪..‬اشحذ قلمك أكثر و ارجم به القلوب االصطناعية‪..‬ال تتوقف‪..‬صوت أبهر بإخالصك‬
‫عيناي صغيرتي‪..‬ال تدع االكتئاب يلملم شباكه‪..‬ال تدعه يشرنقك‪..‬قوامه‪..‬‬
‫تقتعد األريكة‪..‬تغوص فيها‪..‬تشعل سيجارك‪..‬شفتاك المنتفختان تغازله بريشاتها المهترئة‪..‬‬

‫األقحوانة البرية تفرك عينيها‪..‬يستهويها منظرك و أنت تنفث الدخان و تمعن النظر في خيوطه‬
‫المتراصة بعبث‪..‬تخلد على الصمت و التأمل‪..‬أتخشى أن يتهمونك بالجنون؟ فمن يكلم القبور غير المجانين‪..‬تلوذ‬
‫ببصرك صوب األرض‪..‬النجار اللعين يحاصرك بأزميله و عم قريب سيحيلك إلى تابوت خشبي‬
‫مثلي‪..‬تقف‪..‬تصافح شيبي‪..‬تغادر بعد أن أحلتني إلى خرقة دامية تلعق مواطئ قدميك‪..‬لم تعد معي‪..‬وحيد أنا‬
‫دائما‪..‬منفي داخل غشائي الكتيم‪..‬أحارب الغربان بيد عزالء‪..‬‬

‫قطع من رقائق النور تستلقي بجانبي‪..‬نزيهة امرأتي الغالية تدلف زنزانتي‪..‬تمسح الدموع الطافرة‬
‫من مآقيها‪..‬كانت تبكي‪..‬أعلم السبب‪..‬عبيد الوهم أفواههم ال ترحم‪..‬علقم هي و حراب مسنونة‪..‬‬

‫أرجوك واري دموعك‪..‬يكفيني انتحاب شفتيك الشاردتين‪..‬تأوه هيكلك النحيل‪..‬أعيدي لعينيك‬


‫العسليتين اشراقتهما الربيعية‪..‬اكشفي مراياهما المصقولة‪..‬وحدها بالبلهما تجدد في حقولي االخضرار و تحث‬
‫ابلي على المسير‪..‬وحدها قادرة على اختراق كتائب الصمت العارية الصدور‪..‬‬

‫ابتسمي‪..‬أجل هكذا أحبك‪..‬هكذا أعشقك‪..‬أبدية الضحكة‪..‬ولهذا لن يخمد لهيبك في دمي يا‬


‫نزيهة‪..‬العجوز في نظرهم‪،‬الحسناء أبدا في نظري‪..‬تقتربين مني‪..‬اقتربي أكثر‪..‬تمشطين شعري‪..‬تسقيه بحنان‬
‫لمساتك العذبة‪..‬تضميني‪..‬أنا التابوت الخشبي‪..‬‬

‫الهاتف يرن و يرن‪..‬النمرة الشرسة تنقض عليه‪..‬ترفع السماعة‪..‬تخوض في حديث ال يصلني إال‬
‫حفيفه‪..‬تبتسم‪..‬تحول نظرها نحوي‪..‬تقهقه‪..‬عناكب الفضول المحروق تركض في دهاليزي‪..‬طبول القبائل البدائية‬
‫تعوي مسعورة في ظالم أعماقي السحيقة‪..‬حديثك أيتها النمرة مازال متواصال‪..‬قهقهاتك تمرغ السكون في‬
‫البالط‪..‬مع من تتحدثين؟‬

‫أصابعك تستلذ اللعب بخصالت شعرك العشبي‪..‬‬

‫هل يزف إليك نعي اآلن؟‬

‫اللهب يتطاير من أحداقي‪..‬تحملقين في تجاعيدي البالية‪..‬تجذبك لروائح الفناء المتصاعدة من‬


‫جمجمتي‪..‬عيناي تنبشان جليدك بحثا عن لهب ما يزال شريانه يخفق‪..‬كلك جليد‪..‬‬

‫األبيض‬ ‫عنقك‬ ‫شفتاه‬ ‫إليك‪..‬تدغدغ‬ ‫أخرى‪..‬ينضم‬ ‫جليد‬ ‫المدلل‪..‬قطعة‬ ‫زوجك‪..‬ابني‬


‫الممتلئ‪..‬تبتسمين‪..‬يبتسم لك في بله‪..‬يسألك‪:‬‬

‫‪ -‬من بالهاتف؟‬

‫‪ -‬والدتي‪..‬تردين عليه في دلع‪..‬‬

‫يسره الخبر‪..‬يستلم السماعة من أناملك و يغمغم‪..‬و أنا التابوت الخشبي‪..‬األب المشوه‪..‬الثعبان يتخبط‬
‫بداخلي‪..‬لماذا يحبها هي و ينفث النار في وجهي‪..‬أنا والده؟‬

‫تقترب مني طفلي المدلل‪..‬تقبلني و زفير الحديد المصهور يكوي لحمي‪..‬تردد ساخرا‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا ال تستسلم؟ أال ترحم ابنك الوحيد؟ ألم تشبع من الدنيا بعد؟ دعني أتمتع بها بدوري‪..‬إلى متى‬
‫تبقى حاجزا بيني و بين حياة الفخفخة؟‬

‫الحسرة تكدس ضرباتها القاسية في أضالعي‪..‬ال أطيق رؤية الوهم في أحداقك مثبت بدعائم من‬
‫فالذ‪..‬‬

‫تقصد ركن طفلتي الصغيرة‪..‬طفلتك‪..‬تداعبها بابتسامة جافة‪..‬تحملها بين ذراعيك‪..‬كيف لمثل تلك‬
‫األيادي النثنة أن تحمل الوردة البرية‪..‬ستلطخها بقذارة المزابل‪..‬آه‪ ،‬لو يبعث هللا اآلن في أوصالي الحركة‪..‬لو‬
‫يشحذ فاصلي المفلول لقطعت مخالب الجرذان الجائعة قبل أن تمسك‪..‬لهربتك إلى عالمك حيث الطهر‬
‫و الجمال‪..‬ماذا سيبقى منك يا طفلتي الغالية بعد أن تلوثك النفاية‪..‬ال شيء آخر غير دمية الكترونية محروقة‬
‫الخدين ‪..‬‬

‫لم أعد أتحمل رؤية هذه الجريمة‪..‬اختفيا من نظري‪..‬ال أطيق سماع كركراتكما الوقحة‪..‬أتركوني‬
‫وحدي مع الحقيقة األزلية‪..‬ال شيء غير الحقيقة‪..‬الحقيقة التي تجرح و تنير‪..‬سئمت الزيف و أبخرة السراب‬
‫الخامد‪..‬الشمس بددت عن أفقي السواد‪..‬الوجود أضحى بال أقنعة و ال مساحيق‪..‬أريد أن أبقى وحدي‪..‬دائما كنت‬
‫وحدي‪ ،‬و سأبقى و ألقى هللا بمفردي‪..‬‬

‫المشهد بشع‪..‬ال أتحمله‪..‬األفعى الرقطاء تغشي بصيرتهما‪..‬تغرقهما في مستنقعات الوهم‬


‫الحامزية‪..‬تالعبهما ببريق عينها الغواية و رقة ضحكاتها‪..‬تغريهما‪..‬الوهم يغرز أنيابه اإلبرية في‬
‫شرايينهما‪..‬يمتص ما تبقى لهما من رشد‪..‬و عم قريب سيتجرعان من قبالتها كل أحالمهما بعد أن تلملم‬
‫شتاتها‪..‬ستبني لهما قصورا للسعادة من سراب و ستلفهما‪..‬سيدمنان سمها و ستعتصرهما فال يعودا يبصران‬
‫غير وهجها‪..‬كل شيء في أعماقهما سينصهر و هي تسحقهما و قد خفقا فعال في االنصهار‪..‬سيختنقان‪..‬معدن و‬
‫جليد صارت مشاعرهما‪..‬‬

‫آه‪ ،‬كم هذا مؤلم و محزن‪..‬لكن ما باليد حيلة‪..‬كياني عاجز عن مجابهة هذه المأساة‪..‬أنا التابوت‬
‫الخشبي‪..‬‬

‫صخب القطعان البشرية يغرز مخالبه في سمعي‪..‬رباه أريد أن أرتاح‪..‬أريد أن أنام‪..‬أتوق إلى‬
‫االرتماء في العالم اآلخر‪،‬أين نعانق حقيقة الحقائق‪..‬‬

‫متى تنخلع جذوري من الوحل لتنغرس في الطيب؟‬

‫جحيم أنت يا غرفتي و سجن يغط أنفاسي‪..‬جدرانك تندفع نحوي‪..‬تسمرني بحرابها المسنونة‪..‬أصيح‬
‫‪..‬أنتحب‪..‬لكن ال أحد يسمعني‪..‬كتائب الصمت العارية الصدور ‪،‬متعفنة األقدام تحاصرني بصلبانها‬
‫الملتهبة‪..‬مجاديفي لم تعد تقوى على مصارعة لججك أيتها العزلة الغجرية‪..‬جزرك األسطورية المجللة بالغبار و‬
‫دبيب الجرذان تسفك دمي‪..‬أنقذني يا هللا من زئير الوحشة‪..‬‬

‫أريد ماء‪..‬أريد هواء‪..‬أنثروا عطور تربة قبري حولي‪..‬لفوني بحريره األزلي‪..‬أنا التابوت‬
‫الخشبي‪..‬الضباع نهشت قشرته الرخامية منذ زمن بعيد‪..‬آه‪..‬يا الهي خلصني‪..‬يا الهي ارحمني‪..‬‬

‫***‬
‫الساعة الخامسة و الربع‪..‬‬

‫لم يطرأ عليه أي تغيير يا جارتي‪..‬قالت نزيهة بصوت متحشرج اعترته رعشة و هي تحكم إغالق‬
‫النافذة حفاظا على دفء الغرفة‪ ،‬فصقيع الشتاء المتبرج خارجا قبل أوانه يصول و يجول بهستيريا في شوارع‬
‫المدينة الجامدة‪..‬‬

‫لحظة مشحونة بالحزن انتصبت بينها و بين جارتها العجوز النحيلة القابعة في األريكة على يمين‬
‫الكرسي المتحرك‪..‬‬

‫كوبا القهوة المتثائبان ال يزاالن كما هما لم تنقص منهما حسوة واحدة‪..‬‬

‫‪ -‬مسكين يا ولدي الصدمة كانت عنيفة‪..‬‬

‫‪ -‬صبرا جارتي فرحمة هللا واسعة و سيشفى‪..‬ألم يقول األطباء بذالك‪..‬‬

‫‪ -‬آمين ‪..‬هتفت نزيهة و في دخيلتها مساحات من الزجاج تتفجر غائرة شظاياها في فؤادها‬
‫المفجوع‪..‬فهي تعلم جيدا أن ال أحد يستطيع أن يحدد متى ستنزاح عنه هذه الغمة‪..‬وحده هللا يعلم بذلك و كل ما‬
‫تستطيع أن تفعله أن تتضرع بالدعاء‪.‬‬

‫و على الرغم من ابتسامتها الخارجة من كهوف جليدية معتمة لم تتمكن من خداع جارتها بل تؤكد‬
‫لها أنها في وحدتها ال أنيس لها غير الدموع ‪ .‬و ماذا تفعل وهي ترى زوجها مثبت في كرسي متحرك ال ينبس‬
‫بكلمة من فمه المعوج‪..‬رؤياه تنحسر طوال الوقت في زجاج النافذة ال تبرحه‪،‬و كأن أمرا سحريا يجذبه‬
‫إليه‪..‬أمر ال أحد يعلمه و يراه غيره‪،‬هو الحاضر الغائب‪..‬‬

You might also like