You are on page 1of 17

‫بحث في‬

‫مهارة الحوار في االسالم‬

‫تحت اشراف‪:‬‬
‫استاذ‪/‬كتور‪:‬رشاد احمد عبداللطيف‬

‫عمل الطالب‪:‬عبدالمعبود مصطفى عبدالمعبود‬

‫‪Sec:14‬‬
‫الحوار ‪ :‬من ال ُمحاورة ؛ وهي ال ُمراجعة في الكالم‬
‫الجدال ‪ :‬من َجدَ َل الحبل إذا فَتَلَه ؛ وهو مستعمل في األصل لمن خاصم بما يشغل عن‬
‫‪ .‬ظهور الحق ووضوح الصواب ‪ ،‬ثم استعمل في ُمقابَلَة األدلة لظهور أرجحها‬
‫س ِم َع ه‬
‫َّللاُ‬ ‫والحوار والجدال ذو داللة واحدة ‪ ،‬وقد اجتمع اللفظان في قوله تعالى ‪ { :‬قَ ْد َ‬
‫س ِمي ٌع‬ ‫او َر ُك َما ِإ هن ه‬
‫َّللاَ َ‬ ‫َّللاُ يَ ْس َم ُع ت َ َح ُ‬ ‫قَ ْو َل الهتِي ت ُ َجا ِدلُ َك فِي زَ ْو ِج َها َوت َ ْشت َ ِكي ِإلَى ه‬
‫َّللاِ َو ه‬
‫ير } (المجادلة‪ )1:‬ويراد بالحوار والجدال في مصطلح الناس ‪ :‬مناقشة بين‬ ‫ص ٌ‬ ‫بَ ِ‬
‫ق ‪ ،‬ودفع‬ ‫كالم ‪ ،‬وإظهار ح هج ٍة ‪ ،‬وإثبات ح ٍ‬ ‫طرفين أو أطراف ‪ ،‬يُقصد بها تصحيح ٍ‬
‫‪ .‬شبه ٍة ‪ ،‬وردُّ الفاسد من القول والرأي‬
‫وقد يكون من الوسائل في ذلك ‪ :‬الطرق المنطقية والقياسات الجدليهة من المقدّمات‬
‫وال ُمسلهمات ‪ ،‬مما هو مبسوط في كتب المنطق وعلم الكالم وآداب البحث والمناظرة‬
‫‪ .‬وأصول الفقة‬
‫________________________________________‬
‫غاية الحوار‬
‫الغاية من الحوار إقامةُ الحجة ‪ ،‬ودف ُع الشبهة والفاسد من القول والرأي ‪ .‬فهو تعاون‬
‫صل إليها ‪ ،‬ليكشف كل طرف ما خفي على‬ ‫من ال ُمتناظرين على معرفة الحقيقة والتهو ُّ‬
‫صاحبه منها ‪ ،‬والسير بطرق االستدالل الصحيح للوصول إلى الحق ‪ .‬يقول الحافظ‬
‫العلم لمن دونه ‪،‬‬ ‫َ‬ ‫ق ‪ ،‬وإفاد ِة العا ِلم األذكى‬ ‫الذهبي ‪ ( :‬إنما وضعت المناظرة لكشف الح ّ ِ‬
‫األضعف‬
‫َ‬ ‫‪ ) .‬وتنبي ِه األغف َل‬
‫هذه هي الغاية األصلية ‪ ،‬وهي جليهة ب ِيّنة ‪ ،‬وث َ همت غايات وأهداف فرعية أو ُمم ِ ّهدة‬
‫‪ :‬لهذا الغاية منها‬
‫‪ .‬إيجاد ح ٍّل وسط يُرضي األطراف ‪-‬‬
‫التعرف على وجهات نظر الطرف أو األطراف األخرى ‪ ،‬وهو هدف تمهيدي هام ‪-‬‬ ‫ُّ‬
‫‪.‬‬
‫الرؤى والتصورات ‪-‬‬ ‫البحث والتنقيب ‪ ،‬من أجل االستقصاء واالستقراء في تنويع ُّ‬
‫وأم َكنَ ‪ ،‬ولو في حوارات تالية‬ ‫‪ .‬المتاحة ‪ ،‬من أجل الوصول إلى نتائج أفضل ْ‬
‫________________________________________‬
‫وقوع الخالف بين الناس‬
‫الخالف واقع بين الناس في مختلف األعصار واألمصار ‪ ،‬وهو سنهة هللا في خلقه ‪،‬‬
‫فهم مختلفون في ألوانهم وألسنتهم وطباعهم و ُمدركاتهم ومعارفهم وعقولهم ‪ ،‬وكل‬
‫ذلك آية من آيات هللا ‪ ،‬نبهه عليه القرآن الكريم في قوله تعالى ‪َ { :‬و ِم ْن آيَاتِ ِه خ َْل ُق‬
‫ت ِل ْلعَا ِل ِمينَ }‬ ‫الف أ َ ْل ِسنَتِ ُك ْم َوأ َ ْل َوانِ ُك ْم إِ هن فِي ذَ ِل َك ََليا ٍ‬ ‫ض َو ْ‬
‫اختِ ُ‬ ‫ت َو ْاأل َ ْر ِ‬
‫س َم َاوا ِ‬
‫ال ه‬
‫)(الروم‪22:‬‬
‫ي دا ُّل على االختالف في اَلراء واالتجاهات واألعراض ‪.‬‬ ‫وهذا االختالف الظاهر ّ‬
‫وكتاب هللا العزيز يقرر هذا في غير ما آية ؛ مثل قوله سبحانه ‪َ { :‬ولَ ْو شَا َء َرب َُّك‬
‫احدَة ً َوال َيزَ الُونَ ُم ْخت َ ِل ِفينَ (‪ِ )118‬إ هال َم ْن َر ِح َم َرب َُّك َو ِلذَ ِل َك َخلَقَ ُه ْم‬ ‫اس أ ُ همةً َو ِ‬
‫لَ َج َع َل النه َ‬
‫‪( }) .‬هود‪119:‬‬
‫‪ ) .‬يقول الفخر الرازي ‪ ( :‬والمراد اختالف الناس في األديان واألخالق واألفعال‬
‫ومن معنى اَلية ‪ :‬لو شاء هللا جعل الناس على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة ‪..‬‬
‫ال رأي لهم فيه وال اختيار ‪ ..‬و ِإذَ ْن لما كانوا هذا النوع من الخلق ال ُمس ّمى البشر ؛ بل‬
‫الروح كالمالئكة ؛‬ ‫كانوا في حيلتهم االجتماعية كالنحل أو كالنمل ‪ ،‬ولكانوا في ّ‬
‫ق والطاعة ؛ ال يعصون هللا ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون‬ ‫مفطورين على اعتقاد الح ّ ِ‬
‫ولكن هللا خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم ال‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،‬ال يقع بينهم اختالف وال تنازع ‪.‬‬
‫ُم ْل َهمين ‪ .‬عاملين باالختيار ‪ ،‬وترجيح بعض ال ُم ْمكنات المتعارضات على بعض ؛ ال‬
‫مجبورين وال مضطرين ‪ .‬وجعلهم متفاوتين في االستعداد وكسب العلم واختالف‬
‫‪ .‬االختيار‬
‫‪) .‬أما قوله تعالى ‪َ { :‬و ِلذَ ِل َك َخلَقَ ُه ْم } (هود‪119:‬‬
‫فلتعلموا أن الالم ليست للغاية ؛ فليس ال ُمراد أنه سبحانه خلقهم ليختلفوا ‪ ،‬إذ من‬
‫صيْرورة ؛ أي لثمرة‬ ‫المعلوم أنه خلقهم لعبادته وطاعته ‪ .‬وإنما الالم للعاقبة وال ه‬
‫‪ .‬االختالف خلقهم ‪ ،‬وثمرته أن يكونوا فريقين ‪ :‬فريقا ً في الجنة ‪ ،‬وفريقا ً في السعير‬
‫لشأن وعمل ‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وقدّ ت ُ ْحم ُل على التعليل من وجه آخر ‪ ،‬أي خلقهم ليستعده ك ٌل منهم‬
‫ويختار بطبعه أمرا ً وصنعة ‪ ،‬مما يَ ْستَتِبُّ به نظام العالم ويستقيم به أمر المعاش ‪،‬‬
‫‪ .‬فالناس محامل ألمر هللا ‪ ،‬ويتخذ بعضهم يعضا ً سخريا ً‬
‫خلقوا مستعدين لالختالف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم ومشاعرهم ‪ ،‬وما‬
‫يتبع ذلك من إراداتهم واختيارهم في أعمالهم ‪ ،‬ومن ذلك اإليمان ‪ ،‬والطاعة‬
‫‪ .‬والمعصية‬
‫________________________________________‬
‫وضوح الحق وجالؤه‬
‫وعلى الرغم من حقيقة وجود هذا التهبايُن بين الناس ؛ في عقولهم و ُمدركاتهم وقابليتهم‬
‫منائر‬
‫َ‬ ‫معالم ‪ ،‬وجعل على الصراط المستقيم‬ ‫َ‬ ‫لالختالف ‪ ،‬إال أن هللا وضع على الح ّ ِ‬
‫ق‬
‫‪ ..) .‬وعليه ُح ِم َل االستثناء في اَلية في قوله ‪ِ { :‬إ هال َم ْن َر ِح َم َرب َُّك } (هود‪119:‬‬
‫اختَلَفُوا‬‫َّللاُ الهذِينَ آ َمنُوا ِل َما ْ‬ ‫وهو المنصوص عليه في اَلية األخرى في قوله ‪ { :‬فَ َهدَى ه‬
‫ق بِإ ِ ْذنِ ِه } (البقرة‪213:‬‬ ‫‪) .‬فِي ِه ِمنَ ْال َح ّ ِ‬
‫ق فإنها َم ْهديهةٌ إليه ؛‬ ‫تجردت من أهوائها ‪ ،‬وجدهت في تَلَ ُّمس الح ّ ِ‬ ‫وذلك أن النفوس إذا ه‬
‫إن في فطرتها ما يهديها ‪ ،‬وتأ همل ذلك في قوله تعالى ‪ { :‬فَأَقِ ْم َو ْج َه َك ِلل ِد ِ‬
‫ّين َحنِيفا ً‬ ‫بل ّ‬
‫اس‬ ‫ّين ْالقَيِّ ُم َولَ ِك هن أ َ ْكث َ َر النه ِ‬
‫َّللاِ ذَ ِل َك ال ِد ُ‬
‫ق ه‬ ‫اس َعلَ ْي َها ال ت َ ْبدِي َل ِلخ َْل ِ‬ ‫َّللاِ الهتِي فَ َ‬
‫ط َر النه َ‬ ‫ت ه‬
‫ط َر َ‬‫فِ ْ‬
‫‪) .‬ال يَ ْعلَ ُمونَ } (الروم‪30:‬‬
‫هودانه ‪،‬‬ ‫طرة ‪ ،‬فأبواه يُ ّ‬ ‫ومنه الحديث النبوي ‪ (( :‬ما من مولود إال يُولدُ على ال ِف ْ‬
‫سون فيها من َج ْدعاء‬ ‫مجسانه ‪ ،‬كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ‪ ،‬هل ت ُ ِح ّ‬ ‫َصرانه ‪ ،‬ويُ ِ ّ‬ ‫ويُن ِ ّ‬
‫‪ )) .‬حتى أنتم تجدعونها ؟‬
‫ويُوضح ذلك ‪ ،‬أن أصول الدين ‪ ،‬وأ همهات الفضائل ‪ ،‬وأ همهات الرذائل ‪ ،‬مما يتفق‬
‫العالم الرشيد العاقل على ُح ْسن محموده وحمده ‪ ،‬واالعتراف بعظيم نفعه ‪ ،‬وتقبيح‬
‫ونصوص بينِّة ال تقبل صرفا ً وال‬ ‫ِ‬ ‫وذمه ‪ .‬كل ذلك في عبارات جليهة واضحة ‪،‬‬ ‫س ِيّئه ِ ّ‬
‫تأويالً وال جدالً وال مراءا ً ‪ .‬وجعلها أ ّم الكتاب التي يدور عليها وحولها كل ما جاء فيه‬
‫من أحكام ‪ ،‬ولم يُعذَ ْر أحد في الخروج عليها ‪ ،‬و َحذهر من التالعب بها ‪ ،‬وتطويعها‬
‫لألهواء والشهوات والشبهات بتعسف التأويالت وال ُمس ّ ِوغات ‪ ،‬مما سنذكره كأصل‬
‫من أصول الحوار ‪ ،‬ورفع الحرج عنهم ‪ ،‬بل جعل للمخطيء أجرا ً وللمصيب أجرين‬
‫الحق واستجالء المصالح الراجحة لألفراد‬ ‫ّ‬ ‫تشجيعا ً للنظر والتأمل ‪ ،‬وتَلَ ُّمس‬
‫‪ .‬والجماعات ‪ .‬ولربك في ذلك الحكمة البالغة والمشيئة النافذة‬
‫________________________________________‬
‫مواطن االتفاق‬
‫ش ّ ِو روح التفاهم ‪.‬‬ ‫إن ِب ْد َء الحديث والحوار بمواطن االتفاق طريق إلى كسب الثقة وفُ ُ‬ ‫ّ‬
‫‪ .‬ويصير به الحوار هادئا ً وهادفا ً‬
‫الحديث عن نقاط االتفاق وتقريرها يفتح آفاقا ً من التالقي والقبول واإلقبال ‪ ،‬مما يقلّل‬
‫الجفوة ويردم ال ُه هوة ويجعل فرص الوفاق والنجاح أفضل وأقرب ‪ ،‬كما يجعل‬
‫‪ .‬احتماالت التنازع أقل وأبعد‬

‫والحال ينعكس لو استفتح ال ُمتحاورون بنقاط الخالف وموارد النزاع ‪ ،‬فلذلك يجعل‬
‫ميدان الحوار ضيقا ً وأمده قصيرا ً ‪ ،‬ومن ثم يقود إلى تغير القلوب وتشويش الخواطر‬
‫‪ ،‬ويحمل كل طرف على التحفُّز في الرد على صاحبه ُمتتبِّعا ً لثغراته وزَ الته ‪ ،‬ومن‬
‫ثم ينبري إلبرازها وتضخيمها ‪ ،‬ومن ثم يتنافسون في الغلبة أكثر مما يتنافسون في‬
‫‪ .‬تحقيق الهدف‬
‫تمرسين في هذا الشأن‬ ‫‪ :‬ومما قاله بعض ال ُم ّ‬
‫وح ْل ما استطعت بينه وبين‬ ‫دَ ْع صاحبك في الطرف اَلخر يوافق ويجيب بـ ( نعم ) ‪ِ ،‬‬
‫( ال ) ؛ ألن كلمة ( ال ) عقبة كؤود يصعب اقتحامها وتجاوزها ‪ ،‬فمتى قال صاحبك ‪:‬‬
‫ت عليه كبرياؤه أن يظ ّل مناصرا ً لنفسه‬ ‫‪ ( .‬ال ) ؛ أو َج َب ْ‬
‫تفوها مجردا ً بهذين الحرفين ‪ ،‬ولكنه تَحفُّز لكيان اإلنسان‬ ‫إن التلفظ بـ ( ال ) ليس ُّ‬
‫بأعصابه وعضالته وغدده ‪ ،‬إنه اندفاع بقوة نحو الرفض ‪ ،‬أما حروف ( نعم ) فكلمة‬
‫‪ ) .‬سهلة رقيقة رفيقة ال تكلف أي نشاط جسماني ( ‪5‬‬
‫ويُعين على هذا المسلك ويقود إليه ؛ إشعارك ُمحدثهك بمشاركتك له في بعض قناعاته‬
‫؛ والتصريح باإلعجاب بأفكاره الصحيحة وأدلته الجيدة ومعلوماته المفيدة ‪ ،‬وإعالن‬
‫الرضا والتسليم بها ‪ .‬وهذا كما سبق يفتح القلوب ويُقارب اَلراء ‪ ،‬وتسود معه روح‬
‫‪ .‬الموضوعية والتجرد‬
‫وقد قال علماؤنا ‪ :‬إن أكثر الجهل إنما يقع في النفي ؛ الذي هو الجحود والتكذيب ؛ ال‬
‫في اإلثبات ‪ ،‬ألن إحاطة اإلنسان بما يُثْبتُه أيسر من إحاطته بما ينفيه ؛ لذا فإن أكثر‬
‫الخالف الذي يُورث الهوى نابع ؛ من أن كل واحد من المختلفين مصيب فيما يُثْبته أو‬
‫‪ .‬في بعضه ‪ ،‬مخطيء في نفي ما عليه اَلخر‬
‫________________________________________‬
‫أصول الحوار‬
‫‪ :‬األصل األول‬
‫‪ :‬سلوك الطرق العلمية والتزامها ‪ ،‬ومن هذه الطرق‬
‫المرجحة للدعوى ‪1-‬‬ ‫ِّ‬ ‫‪ .‬تقديم األدلة ال ُمث ِبتة أو‬
‫‪ .‬صحة تقديم النقل في األمور المنقولة ‪2-‬‬
‫وفي هذين الطريقين جاءت القاعدة الحوارية المشهورة ‪ ( :‬إن كنت ناقالً فالصحة ‪،‬‬
‫‪ ) .‬وإن كنت مدهعيّا ً فالدليل‬
‫صا ِدقِينَ } وفي أكثر من‬ ‫وفي التنزيل جاء قوله سبحانه ‪ { :‬قُ ْل هَاتُوا بُ ْرهَانَ ُك ْم ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم َ‬
‫سورة ‪:‬البقرة ‪ ، 111:‬والنمل ‪ { . 64‬قُ ْل هَاتُوا بُ ْرهَانَ ُك ْم َهذَا ِذ ْك ُر َم ْن َم ِع َ‬
‫ي َو ِذ ْك ُر‬
‫صا ِدقِينَ } (آل‬ ‫َم ْن قَ ْب ِلي } (االنبياء‪ { . )24:‬قُ ْل فَأْتُوا ِبالت ه ْو َراةِ فَاتْلُوهَا ِإ ْن ُك ْنت ُ ْم َ‬
‫‪) .‬عمران‪93:‬‬
‫‪ :‬األصل الثاني‬
‫كالم المناظر ودليله من التناقض ؛ فالمتناقض ساقط بداهة‬ ‫‪ .‬سالمة ِ‬
‫‪ :‬ومن أمثلة ذلك ما ذكره بعض أهل التفسير من‬
‫ون } ‪1-‬‬ ‫اح ٌر أ َ ْو َم ْجنُ ٌ‬
‫س ِ‬‫وصف فرعون لموسى عليه السالم بقوله ‪َ { :‬‬
‫‪() .‬الذريات‪39:‬‬
‫وهو وصف قاله الكفار – لكثير من األنبياء بما فيهم كفار الجاهلية – لنبينا محمد‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ .‬وهذان الوصفان السحر والجنون ال يجتمعان ‪ ،‬ألن الشأن في‬
‫الساحر العقل والفطنة والذكاء ‪ ،‬أما المجنون فال عقل معه البته ‪ ،‬وهذا منهم تهافت‬
‫‪ .‬وتناقض بيّن‬
‫نعت كفار قريش َليات محمد صلى هللا عليه وسلم بأنها سحر مستمر ‪ ،‬كما في ‪2-‬‬
‫‪) .‬قوله تعالى ‪َ { :‬و ِإ ْن يَ َر ْوا آيَةً يُ ْع ِر ُ‬
‫ضوا َويَقُولُوا ِس ْح ٌر ُم ْست َ ِم ٌّر } (القمر‪2:‬‬
‫‪ .‬وهو تناقض ؛ فالسحر ال يكون مستمرا ً ‪ ،‬والمستمر ال يكون سحرا ً‬

‫‪ :‬األصل الثالث‬
‫أال يكون الدليل هو عين الدعوى ‪ ،‬ألنه إذا كان كذلك لم يكن دليالً ‪ ،‬ولكنه اعادة‬
‫للدعوى بألفاظ وصيغ أخرى ‪ .‬وعند بعض ال ُمحاورين من البراعة في تزويق األلفاظ‬
‫وزخرفتها ما يوهم بأنه يُورد دليالً ‪ .‬وواقع الحال أنه إعادة للدعوى بلفظ ُمغاير ‪،‬‬
‫‪ .‬وهذا تحايل في أصول إلطالة النقاش من غير فائدة‬

‫‪ :‬األصل الرابع‬
‫سلهمات والثوابت قد يكون‬ ‫سلهمة ‪ .‬وهذه ال ُم َ‬
‫االتفاق على منطلقات ثابتة وقضايا ُم َ‬
‫مرجعها ؛ أنها عقلية بحتة ال تقبل النقاش عند العقالء المتجردين ؛ ك ُح ْس ِن الصدق ‪،‬‬
‫شكر ال ُمحسن ‪ ،‬ومعاقبة ال ُمذنب‬ ‫‪ .‬وقُبحِ الكذب ‪ ،‬و ُ‬
‫سلهمات دينية ال يختلف عليها المعتنقون لهذه الديانة أو تلك‬ ‫‪ .‬أو تكون ُم َ‬
‫سلهمات ‪ ،‬واالنطالق منها يتحدد ُمريد الحق ممن ال يريد‬ ‫وبالوقوف عند الثوابت وال ُم َ‬
‫‪ .‬إال المراء والجدل والسفسطة‬
‫ففي اإلسالم اإليمان بربوبية هللا وعبوديهته ‪ ،‬واتهصافه بصفات الكمال ‪ ،‬وتنزيهه عن‬
‫صفات النقص ‪ ،‬ونبوة محمد صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬والقرآن الكريم كالم هللا ‪ ،‬والحكم‬
‫بما أنزل هللا ‪ ،‬وحجاب المرأة ‪ ،‬وتعدد الزوجات ‪ ،‬وحرمة الربا ‪ ،‬والخمر ‪ ،‬والزنا ؛‬
‫‪ .‬كل هذه قضايا مقطوع بها لدى المسلمين ‪ ،‬وإثباتها شرعا ً أمر مفروغ منه‬
‫إذا كان األمر كذلك ؛ فال يجوز أن تكون هذه محل حوار أو نقاش مع مؤمن باإلسالم‬
‫‪ .‬ألنها محسومة‬
‫فقضية الحكم بما أنزل هللا منصوص عليها بمثل ‪ { :‬فَال َو َر ِب َّك ال يُؤْ ِمنُونَ َحتهى‬
‫َّللاُ فَأُولَئِ َك‬
‫ش َج َر بَ ْينَ ُه ْم ‪( } ...‬النساء‪َ { . )65:‬و َم ْن لَ ْم يَ ْح ُك ْم بِ َما أ َ ْنزَ َل ه‬ ‫يُ َح ِ ّك ُم َ‬
‫وك فِي َما َ‬
‫الظا ِل ُمونَ } (المائدة‪45:‬‬‫‪ُ ) .‬ه ُم ه‬

‫‪ :‬وحجاب المرأة محسوم بجملة نصوص‬


‫اء ْال ُمؤْ ِمنِينَ يُ ْدنِينَ َعلَ ْي ِه هن ِم ْن َجالبِيبِ ِه هن } {‬
‫س ِ‬ ‫يَا أَيُّ َها النهبِ ُّ‬
‫ي قُ ْل ِأل َ ْز َو ِ‬
‫اج َك َوبَنَاتِ َك َونِ َ‬
‫‪() .‬األحزاب‪59:‬‬
‫وقد يسوغ النقاش في فرعيات من الحجاب ؛ كمسألة كشف الوجه ‪ ،‬فهي محل اجتهاد‬
‫‪ .‬؛ أما أصل الحجاب فليس كذلك‬
‫‪ .‬الربا محسوم ؛ وقد يجري النقاش والحوار في بعض صوره وتفريعاته‬
‫ومن هنا فال يمكن لمسلم أن يقف على مائدة حوار مع شيوعي أو ملحد في مثل هذه‬
‫سلهمة ‪،‬‬‫القضايا ؛ ألن النقاش معه ال يبتدئ من هنا ‪ ،‬ألن هذه القضايا ليست عنده ُم َ‬
‫ونبوة محمد‬ ‫ولكن يكون النقاش معه في أصل الديانة ؛ في ربوبيهة هللا ‪ ،‬وعبوديهة ّ‬
‫وص ْدق القرآن الكريم وإعجازه‬ ‫‪ .‬صلى هللا عليه وسلم ‪ِ ،‬‬
‫ولهذا فإننا نقول إن من الخطأ – غير المقصود – عند بعض المثقفين والكاتبين إثارة‬
‫هذه القضايا ‪ ،‬أعني ‪ :‬تطبيق الشريعة – الحجاب – تعدد الزوجات – وأمثالها في‬
‫وسائل اإلعالم ‪ ،‬من صحافة وإذاعة على شكل مقاالت أو ندوات بقصد إثباتها أو‬
‫صالحيتها ‪ .‬أما إذا كان المقصود ‪ :‬النظر في ِح َك ِمها وأسرارها وليس في صالحيتها‬
‫سولُهُ‬ ‫ضى ه‬
‫َّللاُ َو َر ُ‬ ‫ومالءمتها فهذا ال حرج فيه ‪ ،‬إ ْذ ‪َ {:‬و َما َكانَ ِل ُمؤْ ِم ٍن َوال ُمؤْ ِمنَ ٍة ِإذَا قَ َ‬
‫)أ َ ْمرا ً أ َ ْن يَ ُكونَ لَ ُه ُم ْال ِخيَ َرة ُ ِم ْن أ َ ْم ِر ِه ْم }(األحزاب‪36:‬‬
‫وأخيرا ً فينبني على هذا األصل ؛ أن اإلصرار على إنكار ال ُمسلهمات والثوابت مكابرة‬
‫قبيحة ‪ ،‬ومجاراة منحرفة عن أصول الحوار والمناظرة ‪ ،‬وليس ذلك شأن طالبي‬
‫‪ .‬الحق‬

‫‪ :‬األصل الخامس‬
‫التجرد ‪ ،‬وقصد الحق ‪ ،‬والبعد عن التعصب ‪ ،‬وااللتزام بآداب الحوار‬
‫ُّ‬ ‫‪:‬‬
‫إن إتباع الحق ‪ ،‬والسعي للوصول إليه ‪ ،‬والحرص على االلتزام ؛ وهو الذي يقود‬
‫الحوار إلى طريق مستقيم ال عوج فيه وال التواء ‪ ،‬أو هوى الجمهور ‪ ،‬أو األتْباع ‪..‬‬
‫ٌ‬
‫باحث عن الحقيقة ‪ ،‬ينشد‬ ‫ق‪،‬‬‫طالب ح ّ ٍ‬
‫ٌ‬ ‫والعاقل – فضالً عن المسلم – الصادق‬
‫‪ .‬الصواب ويتجنب الخطأ‬
‫ي أبو حامد ‪ ( :‬التعاون على طلب الحق من الدّين ‪ ،‬ولكن له شروط‬ ‫يقول الغزال ّ‬
‫وعالمات ؛ منها أن يكون في طلب الحق كناشد ضالّة ‪ ،‬ال يفرق بين أن تظهر‬
‫الضالّة على يده أو على يد معاونه ‪ .‬ويرى رفيقه معينا ً ال خصما ً ‪ .‬ويشكره إذا ه‬
‫عرفه‬
‫‪ .‬الخطأ وأظهره له ) ‪ ..‬اإلحياء ج‪1‬‬
‫قط إال أحببت أن يُوفّق‬‫ومن مقوالت اإلمام الشافعي المحفوظة ‪ ( :‬ما كلمت أحدا ً ّ‬
‫‪ .‬ويُسدّد ويُعان ‪ ،‬وتكون عليه رعاية هللا وحفظه‬
‫ت الح ّجةُ على لسانه أو لساني‬ ‫‪ ) .‬وما ناظرني فبالَ ْيتُ ! أ َ َ‬
‫ظ َه َر ِ‬
‫‪ :‬وفي ذ ّم التعصب ولو كان للحق ‪ ،‬يقول الغزالي‬
‫للحق ‪ ،‬وينظرون (‬ ‫ّ‬ ‫صب‬ ‫صب من آفات علماء السوء ‪ ،‬فإنهم يُبالغون في التع ّ‬ ‫إن التع ّ‬
‫إلى المخالفين بعين االزدراء واالستحقار ‪ ،‬فتنبعث منهم الدعوى بالمكافأة والمقابلة‬
‫والمعاملة ‪ ،‬وتتوفر بواعثهم على طلب نُصرة الباطل ‪ ،‬ويقوى غرضهم في التمسك‬
‫بما نُسبوا إليه ‪ .‬ولو جاؤوا من جانب اللطف والرحمة والنصح في الخلوة ‪ ،‬ال في‬
‫معرض التعصب والتحقير ألنجحوا فيه ‪ ،‬ولكن ل ّما كان الجاه ال يقوم إال باالستتباع ‪،‬‬
‫صب واللعن والتّهم للخصوم ‪ ،‬اتخذوا التعصب عادتهم‬ ‫وال يستميل األتْباع مث ُل التع ّ‬
‫‪ ) .‬وآلتهم‬
‫صب خالصا ً لطلب الحق ‪،‬‬ ‫والمقصود من كل ذلك أن يكون الحوار بريئا ً من التع ّ‬
‫خاليا ً من العنف واالنفعال ‪ ،‬بعيدا ً عن المشاحنات األنانية والمغالطات البيانيّة ‪ ،‬مما‬
‫يفسد القلوب ‪ ،‬ويهيج النفوس ‪ ،‬ويُولد النهفرة ‪ ،‬ويُوغر الصدور ‪ ،‬وينتهي إلى القطيعة‬
‫‪.‬‬
‫‪ .‬وهذا الموضوع سوف يزداد بسطا ً حين الحديث عن آداب الحوار إن شاء هللا‬

‫‪ :‬األصل السادس‬
‫‪ :‬أهلية المحاور‬
‫إذا كان من الحق أال يمنع صاحب الحق عن حقه ‪ ،‬فمن الحق أال يعطى هذا الحق لمن‬
‫ال يستحقه ‪ ،‬كما أن من الحكمة والعقل واألدب في الرجل أال يعترض على ما ليس له‬
‫‪ .‬أهالً ‪ ،‬وال يدخل فيما ليس هو فيه كفؤا ً‬

‫‪ .‬من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من كان على الباطل‬


‫‪ .‬من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من ال يعرف الحق‬
‫‪ .‬من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من ال يجيد الدفاع عن الحق‬
‫‪ .‬من الخطأ أن يتصدى للدفاع عن الحق من ال يدرك مسالك الباطل‬
‫إذن ‪ ،‬فليس كل أحد مؤهالً للدخول في حوار صحي صحيح يؤتي ثمارا ً يانعة ونتائج‬
‫‪ .‬طيبة‬
‫والذي يجمع لك كل ذلك ‪ ( :‬العلم ) ؛ فال بد من التأهيل العلمي لل ُمحاور ‪ ،‬ويقصد‬
‫‪ .‬بذلك التأهيل العلمي المختص‬
‫إن الجاهل بالشيء ليس كفؤا ً للعالم به ‪ ،‬ومن ال يعلم ال يجوز أن يجادل من يعلم ‪،‬‬
‫ت إِنِّي قَ ْد‬‫وقد قرر هذه الحقيقة إبراهيم عليه السالم في محا هجته ألبيه حين قال ‪ {:‬يَا أَبَ ِ‬
‫س ِويّاً}(مريم‪43:‬‬ ‫ص َراطا ً َ‬ ‫ِك ِ‬ ‫‪َ ).‬جا َءنِي ِمنَ ْال ِع ْل ِم َما لَ ْم َيأْتِ َك فَات ه ِب ْعنِي أ َ ْهد َ‬
‫َطئه ويُغَ ِلّطه‬ ‫‪ .‬وإن من البالء ؛ أن يقوم غير مختص ليعترض على مختص ؛ فيُخ ِ ّ‬
‫وإن حق من ال يعلم أن يسأل ويتفهم ‪ ،‬ال أن يعترض ويجادل بغير علم ‪ ،‬وقد قال‬
‫‪ :‬موسى عليه السالم للعبد الصالح‬
‫ت ُر ْشدا ً } (الكهف‪{ 66:‬‬ ‫ع ِلّ ْم َ‬
‫سى ه َْل أَتهبِعُ َك َعلَى أ َ ْن تُعَ ِلّ َم ِن ِم هما ُ‬ ‫‪) .‬قَا َل لَهُ ُمو َ‬
‫فالمستحسن من غير المختص ؛ أن يسأل ويستفسر ‪ ،‬ويفكر ويتعلم ويتتلمذ ويقف‬
‫‪ .‬موقف موسى مع العبد الصالح‬
‫وكثير من الحوارات غير المنتجة مردُّها إلى عدم التكافؤ بين المتحاورين ‪ ،‬ولقد قال‬
‫الشافعي رحمه هللا ‪ ( :‬ما جادلت عالما ً إال وغلبته ‪ ،‬وما جادلني جاهل إال غلبني ! ) ‪.‬‬
‫وهذا التهكم من الشافعي رحمه هللا يشير إلى الجدال العقيم ؛ الذي يجري بين غير‬
‫‪ .‬المتكافئين‬

‫‪ :‬األصل السابع‬
‫‪ :‬قطعية النتائج ونسبيهتها‬
‫ي الداللة على الصواب أو‬‫من المهم في هذا األصل إدراك أن الرأي الفكري نسب ُّ‬
‫الخطأ ‪ ،‬والذي ال يجوز عليهم الخطأ هم األنبياء عليهم السالم فيما يبلغون عن ربهم‬
‫سبحانه وتعالى ‪ .‬وما عدا ذلك فيندرج تحت المقولة المشهورة ( رأيي صواب يحتمل‬
‫‪ ) .‬الخطأ ‪ ،‬ورأي اَلخر خطأ يحتمل الصواب‬
‫وبناء عليه ؛ فليس من شروط الحوار الناجح أن ينتهي أحد الطرفين إلى قول الطرف‬
‫اَلخر ‪ .‬فإن تحقق هذا واتفقنا على رأي واحد فنعم المقصود ‪ ،‬وهو منتهى الغاية ‪.‬‬
‫وإن لم يكن فالحوار ناجح ‪ .‬إذا توصل المتحاوران بقناعة إلى قبول ك ٍل من منهجيهما‬
‫؛ يسوغ لكل واحد منهما التمسك به ما دام أنه في دائرة الخالف السائغ ‪ .‬وما تقدم من‬
‫‪ .‬حديث عن غاية الحوار يزيد هذا األصل إيضاحا ً‬
‫وفي تقرير ذلك يقول ابن تيمية رحمه هللا ‪ ( :‬وكان بعضهم يعذر كل من خالفه في‬
‫‪ .‬مسائل االجتهادية ‪ ،‬وال يكلفه أن يوافقه فهمه ) ا هـ ‪ .‬من المغني‬
‫ولكن يكون الحوار فاشالً إذا انتهى إلى نزاع وقطيعة ‪ ،‬وتدابر ومكايدة وتجهيل‬
‫‪ .‬وتخطئة‬

‫‪ :‬األصل الثامن‬
‫الرضا والقبول بالنتائج التي يتوصل إليها المتحاورون ‪ ،‬وااللتزام الجادّ بها ‪ ،‬وبما‬
‫‪ .‬يترتب عليها‬
‫‪ .‬وإذا لم يتحقق هذا األصل كانت المناظرة ضربا ً من العبث الذي يتنزه عنه العقالء‬
‫يقول ابن عقيل ‪ ( :‬وليقبل كل واحد منهما من صاحبه الحجة ؛ فإنه أنبل لقدره ‪،‬‬
‫‪ .‬وأعون على إدراك الحق وسلوك سبيل الصدق‬
‫قال الشافعي رضي هللا عنه ‪ :‬ما ناظرت أحدا ً فقبل مني الح هجة إال عظم في عيني ‪،‬‬
‫‪ ) .‬وال ردهها إال سقط في عيني‬
‫________________________________________‬

‫آداب الحوار‬
‫‪ :‬التزام القول الحسن ‪ ،‬وتجنب منهج التحدي واإلفحام ‪1-‬‬
‫إن من أهم ما يتوجه إليه ال ُمحاور في حوار ‪ ،‬التزام ال ُحسنى في القول والمجادلة ‪،‬‬
‫سن }(االسراء ‪{ . )53:‬‬ ‫ي أ َ ْح َ‬ ‫ففي محكم التنزيل ‪َ { :‬وقُ ْل ِل ِع َبادِي َيقُولُوا الهتِي ِه َ‬
‫سن } (النحل‪125 :‬‬ ‫)و َجاد ِْل ُه ْم بِالهتِي ِه َ‬
‫ي أ َ ْح َ‬ ‫‪َ .‬‬
‫اس ُح ْسنا ً }(البقرة ‪{ 83:‬‬ ‫)وقُولُوا ِللنه ِ‬ ‫‪َ .‬‬
‫فحق العاقل اللبيب طالب الحق ‪ ،‬أن ينأى بنفسه عن أسلوب الطعن والتجريح والهزء‬
‫‪ .‬والسخرية ‪ ،‬وألوان االحتقار واإلثارة واالستفزاز‬
‫ومن لطائف التوجيهات اإللهية لنبينا محمد صلى هللا عليه وسلم في هذا الباب ‪،‬‬
‫االنصراف عن التعنيف في الردّ على أهل الباطل ‪ ،‬حيث قال هللا لنبيه ‪َ { :‬و ِإ ْن‬
‫َّللاُ يَ ْح ُك ُم بَ ْينَ ُك ْم يَ ْو َم ْال ِقيَا َم ِة فِي َما ُك ْنت ُ ْم فِي ِه‬
‫َّللاُ أ َ ْعلَ ُم بِ َما ت َ ْع َملُونَ ) (‪ )68‬ه‬
‫وك فَقُ ِل ه‬ ‫َجادَلُ َ‬
‫‪ ) .‬ت َ ْخت َ ِلفُونَ } (الحج ‪69-68 :‬‬
‫ين }(سـبأ‪ . )24:‬مع أن بطالنهم‬ ‫ضال ٍل ُمبِ ٍ‬ ‫ى أ َ ْو فِي َ‬ ‫وقوله ‪َ { :‬وإِنها أ َ ْو إِيها ُك ْم لَعَلَى هُد ً‬
‫‪ .‬ظاهر ‪ ،‬وحجتهم داحضة‬
‫ويلحق بهذا األصل ‪ :‬تجنب أسلوب التحدي والتعسف في الحديث ‪ ،‬ويعتمد إيقاع‬
‫الخصم في اإلحراج ‪ ،‬ولو كانت الحجة بينه والدليل دامغا ً ‪ ..‬فإن كسب القلوب مقدم‬
‫على كسب المواقف ‪ .‬وقد ت ُ ْف ِحم الخصم ولكنك ال تقنعه ‪ ،‬وقد ت ُ ْس ِكته بحجة ولكنك ال‬
‫تكسب تسليمه وإذعانه ‪ ،‬وأسلوب التحدي يمنع التسليم ‪ ،‬ولو ُو ِجدَت القناعة العقلية ‪.‬‬
‫والحرص على القلوب واستالل السخائم أهم وأولى عند المنصف العاقل من استكثار‬
‫األعداء واستكفاء اإلناء ‪ .‬وإنك لتعلم أن إغالظ القول ‪ ،‬ورفع الصوت ‪ ،‬وانتفاخ‬
‫األوداج ‪ ،‬ال يو ِلّد إال غيظا ً وحقدا ً و َحنَقا ً ‪ .‬ومن أجل هذا فليحرص المحاور ؛ أال يرفع‬
‫يقوي‬
‫صوته أكثر من الحاجة فهذا رعونة وإيذاء للنفس وللغير ‪ ،‬ورفع الصوت ال ّ‬
‫حجة وال يجلب دليالً وال يقيم برهانا ً ؛ بل إن صاحب الصوت العالي لم َي ْع ُل صوته –‬
‫في الغالب – إال لضعف حجته وقلة بضاعته ‪ ،‬فيستر عجزه بالصراخ ويواري‬
‫ضعفه بالعويل ‪ .‬وهدوء الصوت عنوان العقل واالتزان ‪ ،‬والفكر المنظم والنقد‬
‫‪ .‬الموضوعي ‪ ،‬والثقة الواثقة‬
‫على أن اإلنسان قد يحتاج إلى التغيير من نبرات صوته حسب استدعاء المقام ونوع‬
‫األسلوب ‪ ،‬لينسجم الصوت مع المقام واألسلوب ‪ ،‬استفهاميا ً كان ‪ ،‬أو تقريريا ً أو‬
‫إنكاريا ً أو تعجبيا ً ‪ ،‬أو غير ذلك ‪ .‬مما يدفع الملل والسآمة ‪ ،‬ويُعين على إيصال الفكرة‬
‫‪ ، .‬ويجدد التنبيه لدى المشاركين والمتابعين‬
‫على أن هناك بعض الحاالت االستثنائية التي يسوغ فيها اللجوء إلى اإلفحام وإسكات‬
‫الطرف اَلخر ؛ وذلك فيما إذا استطال وتجاوز الحد ‪ ،‬وطغى وظلم وعادى الحق ‪،‬‬
‫‪ :‬وكابر مكابرة ب ِيّنة ‪ ،‬وفي مثل هذا جاءت اَلية الكريمة‬
‫س ُن إِ هال الهذِينَ َ‬
‫ظلَ ُموا ِم ْن ُه ْم } (العنكبوت‪{ :‬‬ ‫َوال ت ُ َجا ِدلُوا أ َ ْه َل ْال ِكتَا ِ‬
‫ب إِ هال بِالهتِي ِه َ‬
‫ي أ َ ْح َ‬
‫‪46) .‬‬
‫ظ ِلم } (النساء‪ :‬من اَلية‪{ 148‬‬ ‫وء ِمنَ ْالقَ ْو ِل إِ هال َم ْن ُ‬
‫س ِ‬ ‫َّللاُ ْال َج ْه َر بِال ُّ‬
‫)ال يُ ِحبُّ ه‬

‫ففي حاالت الظلم والبغي والتجاوز ‪ ،‬قد يُسمح بالهجوم الحادّ المركز على الخصم‬
‫س ٌن أن يرى الناس الباطل مهزوما ً‬‫وإحراجه ‪ ،‬وتسفيه رأيه ؛ ألنه يمثل الباطل ‪ ،‬و َح َ‬
‫‪ .‬مدحورا ً‬
‫وقبل مغادرة هذه الفقرة من األدب ‪ ،‬ال بد من االشارة إلى ما ينبغي من العبد من‬
‫استخدام ضمير المتكلم أفرادا ً أو جمعا ً ؛ فال يقول ‪ :‬فعلتُ وقلتُ ‪ ،‬وفي رأيي ‪،‬‬
‫ودَ َر ْسنا ‪ ،‬وفي تجربتنا ؛ فهذا ثقيل في نفوس المتابعين ‪ ،‬وهو عنوان على اإلعجاب‬
‫بالنفس ‪ ،‬وقد يؤثر على اإلخالص وحسن القصد ‪ ،‬والناس تشمئز من المتعالم‬
‫المتعالي ‪ ،‬ومن الالئق أن يبدلها بضمير الغيبة فيقول ‪ :‬يبدوا للدارس ‪ ،‬وتدل تجارب‬
‫‪ .‬العاملين ‪ ،‬ويقول المختصون ‪ ،‬وفي رأي أهل الشأن ‪ ،‬ونحو ذلك‬
‫ض في صاحبه‬ ‫وأخيرا فمن غاية األدب واللباقة في القول وإدارة الحوار أال َي ْفت َ ِر َ‬
‫الذكاء المفرط ‪ ،‬فيكلمه بعبارات مختزلة ‪ ،‬وإشارات بعيدة ‪ ،‬ومن ثم فال يفهم ‪ .‬كما ال‬
‫يفترض فيه الغباء والسذاجة ‪ ،‬أو الجهل المطبق ؛ فيبالغ في شرح ماال يحتاج إلى‬
‫‪ .‬شرح وتبسيط ماال يحتاج إلى بسط‬
‫وال شك أن الناس بين ذلك درجات في عقولهم وفهومهم ‪ ،‬فهذا عقله متسع بنفس‬
‫ط ْن ‪ ،‬وآخر يميل إلى األحوط في جانب التضييق ‪ ،‬وآخر يميل‬ ‫َر ْحبة ‪ ،‬وهذا ضيق العَ َ‬
‫إلى التوسيع ‪ ،‬وهذه العقليات والمدارك تؤثر في فهم ما يقال ‪ .‬فذو العقل الل ّماح‬
‫يستوعب ويفهم حرفية النص وفحواه ومراد المتكلم وما بين السطور ‪ ،‬وآخر دون‬
‫‪ .‬ذلك بمسافات‬
‫‪ .‬وهلل الحكمة البالغة في اختالف الناس في مخاطباتهم وفهومهم‬

‫‪2-‬االلتزام بوقت محدد في الكالم ‪:‬‬


‫ينبغي أن يستقر في ذهن ال ُمحاور أال يستأثر بالكالم ‪ ،‬ويستطيل في الحديث ‪،‬‬
‫ويسترسل بما يخرج به عن حدود اللباقة واألدب والذوق الرفيع‪.‬‬
‫يقول ابن عقيل في كتابه فن الجدل ‪ ( :‬وليتناوبا الكالم مناوبة ال مناهبة ‪ ،‬بحيث‬
‫ينصت المعترض لل ُمست َ ِد ّل حتى يفرغ من تقريره للدليل ‪ ،‬ثم ال ُمست ِد ُّل للمعترض حتى‬
‫يُقرر اعتراضه ‪ ،‬وال يقطع أحد منها على اَلخر كالمه وإن فهم مقصوده من بعضه‬
‫‪).‬‬
‫وقال ‪ ( :‬وبعض الناس يفعل هذا تنبيها ً للحاضرين على فطنته وذكائه وليس في ذلك‬
‫فضيلة إذ المعاني بعضها مرتبط ببعض وبعضها دليل على بعض ‪ ،‬وليس ذلك علم‬
‫غيب ‪ ،‬أو زجرا ً صادقا ً ‪ ،‬أو استخراج ضمير حتى يفتخر به ) ( ‪) .9‬‬
‫والطول واالعتدال في الحديث يختلف من ظرف إلى ظرف ومن حال إلى حال ‪،‬‬
‫فالندوات والمؤتمرات تُحدهد فيها فرص الكالم من قبل رئيس الجلسة ومدير الندوة ‪،‬‬
‫فينبغي اإللتزام بذلك‪.‬‬
‫والندوات واللقاءات في المعسكرات والمنتزهات قد تقبل اإلطالة أكثر من غيرها ‪،‬‬
‫لتهيؤ المستمعين ‪ .‬وقد يختلف ظرف المسجد عن الجامعة أو دور التعليم األخرى ‪.‬‬

‫ومن المفيد أن تعلم ؛ أن أغلب أسباب اإلطالة في الكالم ومقاطعة أحاديث الرجال‬
‫يرجع إلى ما يلي ‪:‬‬
‫‪1-‬إعجاب المرء بنفسه ‪.‬‬
‫‪2-‬حبّ الشهرة والثناء‪.‬‬
‫ظن المتحدث أن ما يأتي به جديد على الناس‪.‬‬ ‫‪ّ 3-‬‬
‫‪4-‬قِلهة المباالة بالناس في علمهم ووقتهم وظرفهم‪.‬‬
‫والذي يبدوا أن واحدا ً منها إذا استقر في نفوس السامعين كافٍ في صرفهم‬
‫‪،‬وصدودهم ‪ ،‬مللهم ‪ ،‬واستثقالهم لمح ِدّثهم‪.‬‬
‫وأنت خبير بأن للسامع حدّا ً من القدرة على التركيز والمتابعة إذا تجاوزها أصابه‬
‫شرود الذّهني ‪ .‬ويذكر بعضهم أن هذا الحد ال يتجاوز خمس عشرة‬ ‫الملل ‪ ،‬وانتابه ال ُّ‬
‫دقيقة‪.‬‬
‫ومن الخير للمتحدث أن يُنهي حديثه والناس متشوفة للمتابعة ‪ ،‬مستمتعة بالفائدة ‪ .‬هذا‬
‫خير له من أن تنتظر الناس انتهاءه وقفل حديثه ‪ ،‬فاهلل المستعان ‪.‬‬

‫‪3-‬حسن االستماع وأدب اإلنصات وتجنب المقاطعة‪:‬‬


‫كما يطلب االلتزام بوقت محدد في الكالم ‪ ،‬وتجنب االطالة قدر اإلمكان ‪ ،‬فيطلب‬
‫ُحسن االستماع ‪ ،‬واللباقة في اإلصغاء ‪ ،‬وعدم قطع حديث ال ُمحاور ‪ّ .‬‬
‫وإن من الخطأ‬
‫أن تحصر ه همك في التفكير فيما ستقوله ‪ ،‬وال تُلقي باالً ل ُمحدثك و ُمحاورك ‪ ،‬وقد قال‬
‫الحسن بن علي البنه ‪ ،‬رضي هللا عنهم أجمعين ‪:‬‬
‫ي إذا جالست العلماء ؛ فكن على أن تسمع أحرص منك على أن تقول ‪ ،‬وتعلًم‬ ‫(يا بن ّ‬
‫ُحسْنَ االستماع كما تتعلم حسن الكالم ‪ ،‬وال تقطع على أحد حديثا ً – وإن طال – حتى‬
‫يُمسك‪) .‬‬
‫ويقول ابن المقفع ‪:‬‬
‫(تَعله ْم ُحسن االستماع كما تتعلم حسن الكالم ؛ ومن حسن االستماع ‪ :‬إمهال المتكلم‬
‫حتى ينقضي حديثه ‪ .‬وقلة التلفت إلى الجواب ‪ .‬واإلقبال بالوجه ‪ .‬والنظر إلى المتكلم‬
‫‪ .‬والوعي لما يقول‪) .‬‬
‫ط ْرشان‬‫ال بدّ في الحوار الج ِيّد من سماع ج ِيّد ؛ والحوار بال ُح ْسن استماع هو ( حوار ُ‬
‫) كما تقول العامة ‪ ،‬كل من طرفيه منعزل عن اَلخر‪.‬‬
‫إن السماع الج ِيّد يتيح القاعدة األساسية اللتقاء اَلراء ‪ ،‬وتحديد نقاط الخالف وأسبابه ‪.‬‬
‫حسن االستماع يقود إلى فتح القلوب ‪ ،‬واحترام الرجال وراحة النفوس ‪ ،‬تسلم فيه‬
‫األعصاب من التوتر والتشنج ‪ ،‬كما يُ ْش ِع ُر بجدّية ال ُمحاور ‪ ،‬وتقدير ال ُمخالف ‪ ،‬وأهمية‬
‫الحوار ‪ .‬ومن ثم يتوجه الجميع إلى تحصيل الفائدة والوصول إلى النتيجة‬

‫‪4-‬تقدير الخصم واحترامه‪:‬‬


‫ينبغي في مجلس الحوار التأكد على االحترام المتبادل من األطراف ‪ ،‬وإعطاء كل‬
‫ذي حق حقه ‪ ،‬واالعتراف بمنزلته ومقامه ‪ ،‬فيخاطب بالعبارات الالئقة ‪ ،‬واأللقاب‬
‫المستحقة ‪ ،‬واألساليب المهذبة‪.‬‬
‫إن تبادل االحترام يقود إلى قبول الحق ‪ ،‬والبعد عن الهوى ‪ ،‬واالنتصار للنفس ‪ .‬أما‬
‫حرم‪.‬‬ ‫انتقاص الرجال وتجهيلها فأمر َمعيب ُم ّ‬
‫وما قيل من ضرورة التقدير واالحترام ‪ ،‬ال ينافي النصح ‪ ،‬وتصحيح األخطاء‬
‫ق الرخيص ‪ ،‬والنفاق‬ ‫بأساليبه الرفيعة وطرقه الوقورة ‪ .‬فالتقدير واالحترام غير ال َملَ ِ‬
‫المرذول ‪ ،‬والمدح الكاذب ‪ ،‬واإلقرار على الباطل‪.‬‬
‫ومما يتعلق بهذه الخصلة األدبية أن يتوجه النظر وينصرف الفكر إلى القضية‬
‫المطروحة ليتم تناولها بالبحث والتحليل والنقد واإلثبات والنهقص بعيدا ً عن صاحبها‬
‫أو قائلها ‪ ،‬كل ذلك حتى ال يتحول الحوار إلى مبارزة كالمية ؛ طابعها الطعن‬
‫والتجريح والعدول عن مناقشة القضايا واألفكار إلى مناقشات التصرفات ‪،‬‬
‫واألشخاص ‪ ،‬والشهادات ‪ ،‬والمؤهالت والسير الذاتية ‪.‬‬

‫‪5-‬حصر المناظرات في مكان محدود ‪:‬‬


‫يذكر أهل العلم أن ال ُمحاورات والجدل ينبغي أن يكون في خلوات محدودة الحضور ؛‬
‫قالوا ‪ :‬وذلك أجمع للفكر والفهم ‪ ،‬وأقرب لصفاء الذهن ‪ ،‬وأسلم لحسن القصد ‪ ،‬وإن‬
‫في حضور الجمع الغفير ما يحرك دواعي الرياء ‪ ،‬والحرص على الغلبة بالحق أو‬
‫بالباطل ‪.‬‬
‫احدَةٍ أ َ ْن تَقُو ُموا ِ هَلِلِ َمثْنَى‬ ‫ومما استدل به على ذلك قوله تعالى ‪ { :‬قُ ْل إِنه َما أ َ ِع ُ‬
‫ظ ُك ْم بِ َو ِ‬
‫َوفُ َرادَى ث ُ هم تَتَفَ هك ُروا } (سبأ‪) .46:‬‬
‫قالوا ‪ :‬ألن األجواء الجماهيرية والمجتمعات المتكاثرة تُغطي الحق ‪ ،‬وتُش ّ ِوش الفكر ‪،‬‬
‫والجماهير في الغالب فئات غير مختصة ؛ فهي أقرب إلى الغوغائية والتقليد األعمى‬
‫بس الحق‪.‬‬ ‫‪ ،‬فَ َي ْلت َ ُ‬
‫أما حينما يكون الحديث مثنى وفرادى وأعدادا ً متقاربة يكون أدعى إلى استجماع‬
‫الفكر والرأي ‪ ،‬كما أنه أقرب إلى أن يرجع المخطيء إلى الحق ‪ ،‬ويتنازل عما هو‬
‫فيه من الباطل أو المشتبه‪.‬‬
‫يعز عليه التسليم واالعتراف بالخطأ أما ُمؤ ِيّديه أو‬ ‫بخالف الحال أمام الناس ؛ فقد ّ‬
‫ُمخالفيه‪.‬‬
‫ولهذا ُو ِ ّجه نبينا محمد صلى هللا عليه وسلم في هذه اَلية أن يخاطب قومه بهذا ؛ ألن‬
‫اتهامهم له كانت اتهامات غوغائية ‪ ،‬كما هي حال المأل المستكبرين مع األنبياء‬
‫السابقين ‪.‬‬
‫ومما يوضح ذلك ما ذكرته كتب السير أن أبا سفيان بن حرب وأبا جهل بن هشام ‪،‬‬
‫واألخنس بن شريق بن عمرو بن وهب الثقفي ‪ ،‬خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وهو يصلي بالليل في بيته ‪ ،‬فأخذ كل واحد منهم مجلسا ً يستمع‬
‫فيه ‪ ،‬وك ٌل ال يعلم بمكان صاحبه ‪ ،‬فباتوا يستمعون له ‪ ،‬حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ‪،‬‬
‫حتى إذا جمعتهم الطريق تالوموا ؛وقال بعضهم لبعض ال تعودوا ‪ ،‬فلو رآكم بعض‬
‫سفهائكم ألوقعتم في نفسه شيئا ً ‪،‬ثم انصرفوا ‪.‬‬

‫حتى إذا كانت الليلة الثانية ‪ ،‬عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ‪ ،‬فباتوا يستمعون له ‪،‬‬
‫حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ‪ ،‬فجمعتهم الطريق ‪ ،‬فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول‬
‫مرة ‪ ،‬ثم انصرفوا ‪ .‬حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسه ‪ ،‬فباتوا‬
‫يستمعون له ‪ ،‬حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ‪ ،‬فجمعتهم الطريق ‪ ،‬فقال بعضهم لبعض ‪:‬‬
‫ال نبرح حتى نتعاهد ال نعود ‪ .‬فتعاهدوا على ذلك ‪ .‬ثم تفرقوا ‪ .‬فلما أصبح األخنس بن‬
‫شريق أخذ عصاه ثم خرج ‪ ،‬حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته فقال ‪ :‬أخبرني يا‬
‫أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال ‪ :‬يا أبا ثعلبه ‪ ،‬وهللا لقد سمعت أشياء‬
‫أعرفها وأعرف ما يُراد بها ‪ ،‬وسمعت أشياء ما عرفت معناها وال ما يُراد بها ‪ .‬قال‬
‫ت به ! ‪ .‬قال ‪ :‬ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل ‪ ،‬فدخل‬ ‫ألخنس ‪ :‬وأنا والذي َحلَ ْف َ‬
‫عليه بيته فقال ‪ :‬يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد ؟ قال ‪ :‬ماذا سمعت !‬
‫تنازعنا نحن وبنو عبدمناف الشرف ؛ أطعموا فأطعمنا ‪ ،‬وحملوا فحملنا ‪ ،‬وأعطوا‬
‫ي رهان ‪ ،‬قالوا منّا نبي يأتيه الوحي‬‫الر َكب وكنّا كفرس ّ‬
‫فأعطينا ‪ ،‬حتى إذا تجاثينا على ُّ‬
‫من السماء ! فمتى نُدرك هذا ؟! وهللا ال نؤمن به وال نصدقه ‪ .‬قال ‪ :‬فقام عنه األخنس‬
‫وتركه ‪.‬‬
‫– ‪6‬اإلخالص ‪:‬‬
‫متممة لما ذكر من أصل التجرد في طلب الحق ‪ ،‬فعلى‬ ‫هذه الخصلة من األدب ِ ّ‬
‫يوطن نفسه ‪ ،‬ويُر ّ ِوضها على اإلخالص هلل في كل ما يأتي وما يذر في‬ ‫ال ُمحاور ان ِ ّ‬
‫ميدان الحوار وحلبته ‪.‬‬

‫ومن أجلى المظاهر في ذلك ‪ :‬أن يدفع عن نفسه حب الظهور والتميُّز على األقران ‪،‬‬
‫وإظهار البراعة وعمق الثقافة ‪ ،‬والتعالي على النظراء واألنداد ‪ .‬إن قَ ْ‬
‫صدَ انتزاع‬
‫اإلعجاب والثناء واستجالب المديح ‪ُ ،‬مفسد لألمر صارف عن الغاية‪.‬‬
‫وسوف يكون فحص النفس دقيقا ً وناجحا ً لو أن ال ُمحاور توجه لنفسه بهذه األسئلة ‪:‬‬
‫‪-‬هل ث همت مصلحة ظاهرة تُرجى من هذا النقاش وهذه المشاركة ‪ .‬؟‬
‫‪-‬هل يقصد تحقيق الشهوة أو اشباع الشهوة في الحديث والمشاركة ‪ .‬؟‬
‫‪-‬وهل يتو هخى أن يتمخض هذا الحوار والجدل عن نزاع وفتنة ‪ ،‬وفتح أبواب من هذه‬
‫األلوان حق هها أن تسدّ ‪.‬؟‬
‫ومن التحسس الدقيق والنصح الصادق للنفس أن يحذر بعض التلبيسات النفسية‬
‫والشيطانية فقد تتوهم بعض النفوس أنها تقصد إحقاق الحق ‪ ،‬وواقع دخيلتها أنها تقف‬
‫ت وهوى ‪ .‬ويدخل في باب االخالص والتجرد توطين النفس على‬ ‫إنتصار ذا ٍ‬
‫ِ‬ ‫مواقف‬
‫الرضا واالرتياح إذا ظهر الحق على لسان اَلخر ورأيه ‪ ،‬ويعينه على ذلك أن‬
‫يستيقن أن اَلراء واألفكار ومسالك الحق ليست ملكا ً لواحد أو طائفة ‪ ،‬والصواب ليس‬
‫حكرا ً على واحد بعينه ‪ .‬فه ُّم المخلص ومهمته أن ينتشر الحق في كل مكان ‪ ،‬ومن أ ّ‬
‫ي‬
‫ي فم‪.‬‬
‫ي وعاء ‪ ،‬وعلى أ ّ‬‫مكان ‪ ،‬ومن أ ّ‬
‫إن من الخطأ البيِّن في هذا الباب أن تظن ّ‬
‫أن الحق ال يغار عليه إال أنت ‪ ،‬وال يحبه إال‬
‫أنت ‪ ،‬وال يدافع عنه إال أنت ‪ ،‬وال يتبناه إال أنت ‪ ،‬وال يخلص له إال أنت‪.‬‬

‫الخاتمه‬

‫ومن الجميل ‪ ،‬وغاية النبل ‪ ،‬والصدق الصادق مع النفس ‪ ،‬وقوة اإلرادة ‪ ،‬وعمق‬
‫ْ‬
‫ودخلت في مسارب‬ ‫اإلخالص ؛ أن تُو ِق َ‬
‫ف الحوار إذا وج ْدت نفسك قد تغير مسارها‬
‫اللجج والخصام ‪ ،‬ومدخوالت النوايا‬

You might also like