Professional Documents
Culture Documents
تجديد الخطاب الديني -أميرة محمد-2
تجديد الخطاب الديني -أميرة محمد-2
المقدمة-:
طغت علي السطح الفكري مشكلة عدم مواكبة الخطاب الديني في المجتمعات العربية لحالة
التغيير الحتمي التي تمر بها تلك المنطقة من العالم ,وعلي الرغم من أن ذلك المصطلح لم
يكن متداول في تاريخنا اإلسالمي القديم أو حتي الحديث ,إال أنه أصبح يشكل نقطة إرتكاز
لبحث العالقة بين تأثير الدين علي المجتمع إيجابا ً وسلبا ً في فكرنا المعاصر ...لذلك أردت
تناول تلك النقطة البحثية في موضوع "تجديد الخطاب الديني" من عد أوجه -:
أولها :حقيقة ذلك الخطاب وأنواعه المؤثرة علي المجتمع ومدي إحتياجنا لتطويره
بنيويا ً ومنهجيا ً وليس خطابيا ً ووعظيا ً كما ينادي البعض ...
2
ثانيا ً :التعامل مع إشكالية المسئول عن ذلك التجديد إن وجد وما هي األفكار التي من
الممكن طرحها في ذلك الصدد..
وبين مؤمنين بحيوية الخطاب الديني ومواكبته للعصر وبين معلقين للفشل علي بنيان
الدعوة وتطرف الخطاب الديني تقع مؤسسات ومجتمعات في شكوك حقيقية حول جدوي
تقديم حلول لتجديد الخطاب الديني وكيفية فعل ذلك بصورة صحيحة تغوص في أعماق
المشكلة وتبحث عن جذور فلسفة الدين نفسه ومشاكل تاريخية الخطاب وإشكالية الجمود
الفكري الذي حل بالدعوة وبالفكر اإلسالمي بشكل أعم.
-الجزء األول – مدخل في تعريف الخطاب الديني ونقد التجديد الدني بين مؤيد ومعارض
أو محافظ علي تفسير علوم الدين والجمود عند تقديس النص وسأتناول ذلك تحت عنوان
:
-الجزء الثاني -الخطاب الديني بين األصولية والتأثير اإلجتماعي وعالقة التوجهات
الدينية في الفكر السياسي بجمود الخطاب الديني وسلبياته ,وذلك الجانب سيكون موضح
تحت عنوان :
"التجديد اإلسالمي ومشكالت المجتمع"
-الجزء الثالث -سينطلق البحث في آليات الفصل بين قداسة الدين كأمر إيماني فردي
متعالي ,وبين تأثير الخطاب الديني علي فلسفة المشروع الحضاري ,باعتبار المنادي
بتجديد الخطاب الديني البد أن ينطلق من نقطة إحتاج مجتمعنا المعاصر لنوعية خطاب
مختلفة تختص بعلوم الدين من ناحية ,وببعث الفكر اإلسالمي والثقافة اإلسالمية كمؤثر
حضاري للمجتمع من ناحية أخري ...
-الجزء الرابع -سيتناول مشكلة الوعظ الديني وعالقتها بتدهور المجتمع مع سرد ألهم
نقاط البحث التي تقدم رؤية صحيحة لتطوير وتجديد تأثير الخطاب الديني مع عرض
المستفاد لتلك الدراسة الموجزة ...
وسيكون الجزء الرابع تحت عنوان -:
"مشكلة الوعظ الديني في المجتمع ورؤية لتطوير الخطاب"
-ولقد تعاملت في ذلك البحث من منطلق فكري محايد لتقديم رؤية معاصرة حول قضية
إجتماعية تخص الفكر اإلسالمي دون الخوض في القداسة الدينية لتناول األمر ,إعتمادا ً
علي إشتباك قضايا الدين بقضايا الفكر والمجتمع والسياسة المؤثرة علي إحتاجات الناس
وتغييرهم لألفضل وقد إعتمدت في البحث علي عدة مراجع وقراءة نقدية للفكر اإلسالمي
المعاصر ,علي أمل أن أقدم فكرة جديدة تكون نواة ألطروحة أشمل حول تجديد الخطاب
الديني ونظرتنا لدوره سلبا ً وإيجاباً...
- 1عبد الهادي بن ظافر الشهري -استراتيجيات الخطاب مقارنة لغوية دار الكتاب الجديد-الطبعة األولي –لبنان 2004ص37
4
-ونظرا ً إلي اإلتساع الداللي الذي يتصف به مصطلح الخطاب ,فإن أنواعا ً شتي من
التشكالت اللفظية المضمونية يمكن أن تدخل في دائرته .
ويخصص النعت "الديني" للخطاب فيضحي أقل عمومية لكونه يصبح ذا صلة وثيقة
بمجال محدد هو مجال (الدين).
-والدين يتسع مفهومه ولكن سنمثل للمقصود به ,بكونه إعتقاد بوجود قوة غيبية مقدسة
تسير هذا الكون ...ففي أحد المعاجم ما يلي :
"يعود تعريف ماهية الدين ,في بادئ األمر إلي إعتبار الحركة اإلجتماعية التي تقوم علي
وجود متواكب ومتفاعل ل "معتقدات" بالقوي فوق الطبيعية أو القوي الخارقة أو
األلوهية الواحدة أو مجموعة من اآللهة و"األفعال" ذات الطبيعة الشعائرية التي تهدف
إلي عقد العالقات الخاصة بين الناس والكائنات والقوي الخارقة وترتكز هذه األفعال علي
()2
المعتقدات ,وتشكل معها نظاما ً يقوم علي معرفة عادة مشتركة بشكل واسع"
-وهنا في ذلك التعريف للدين تطرق المرجع للحديث العام عن أديان عدة ,وخطابات دينية
عدة .
وعندما نربط موضوعنا بالمجال الحضاري الذي يهمنا ,ونقصد الخطاب الديني في
المجال العربي اإلسالمي ,فإن هذا الكالم النظري نجد تفسيره علي أرض الواقع ,حيث
تكثر الخطابات الدينية وتتنوع ,فاللدعاة الدينيين اإلعالميين خطاباتهم ,وللحركات
المتطرفة اإلرهابية خطاباتها..
ولبعض الكُتاب ذوي الثقافة العامة خطاباتهم أيضا ً .
والشأن نفسه حاصل بالنسبة إلي أصحاب التدين الشعبي ,أو أصحاب التدين المؤسساتي
الرسمي..
ومن هنا نقترب من حل تعريف الخطاب الديني ,بأنه الخطاب الراهن المؤمن بوجود قوة
سماوية مفارقة ومقدسة تسير الكون ,وتتدخل في شؤون األرض ,ويُطلب اإللتزام
بالتعاليم الصادرة عنها .
-بيد أن هذا التعريف الكلي يجيب عن ماهية الخطاب الديني فإنه لم يتطرق لسؤالنا
المطروح ,وهو أي خطاب ديني يجب أن نجري عليه عملية التجريد ؟
-نقدم فرضية بأن الخطاب الديني الذي يلزم إعتماده لتجديده هو الخطاب التراثي
الحضاري العالم الذي يستمر إلي اآلن ,إستقرارا ً فكريا في الكتب ,واستقرارا ً سلوكيا ً في
الممارسات اإلجتماعية العامة والعادية داخل المجتمعات العربية اإلسالمية ,ويبتعد عن
كل التخوم القصية ,سواء كانت إيغاالً في الشعبوية غير العالمة ,أو إمعانا ً في التشدد
المبدئي الدوغمائي ..
( )3
أو اإلنخراط في اإلرهاب ,أو كذلك إستغالالً سيئا ً من قبل السلطة الرسمية.
-وفي ضوء ما سبق يمكن أن نعرف الخطاب :بأنه إيصال األفكار إلي اآلخرين بواسطة
الكالم المفهوم واللغة في ذلك هي أداة الخطاب ,يعني وعاء األفكار .
-لكن يظل التعريف اإلصطالحي غير معبر عن تنوع الخطاب الديني ومستوي تناوله من
عدة أوجه ,حيث تكمن إشكالية الخطاب الديني المعاصر في مجتمعنا ,في أمور جوهرية
اشتبكت سياسيا ً واجتماعيا ً مع المسلمين وأدت بتدهورها أوغموضها أو جمودها عند
إجتهاد القرون اإلسالمية األولي البعيدة عن حياتنا المعاصرة ,وأدت إلي إنهيار الوعي
الجمعي للمسلمين وتصدع أثر التدين اإليجابي ليحل محله التطرف والتعصب وصوالً
للعنف المبني علي أسس دينية ...
وفي المقابل ظهرت نزعات اإلنحالل األخالقي المتسبب في تدمير منظومة القيم المستمدة
من الحرام والحالل في اإلسالم مما أدي بمجتمعنا لحالة من التفسخ اإلجتماعي التي جعلت
البعض يتطرف في اإلتجاه المقابل ليعلق كل مشكالت المجتمع علي الدين وأصوله ,ليظهر
لنا تيار مضاد في اإلتجاه للعنف والتطرف العقدي ومنتمي لإللحاد وكراهية الدين ككل.
-من كل ما سبق نؤكد أهمية موضوع تجديد الخطاب الديني كنقد للسلبيات وتأكيد علي
إيجابيات تطوير الطرح الديني في محله ,وفي أصوله الفكرية .
-وسأتناول النقاط األولي والثانية في الفصل الثاني من ذلك البحث ,علي أمل أن نقدم في
ذلك إتساع للرؤية حول تجديد الخطاب الديني وإسهامه في تقدم وتنوير الفكر اإلسالمي
وقضاياه المعاصرة ...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أوال :جمود الفقه اإلسالمي وترديد التراث بإخراجه من سياقه التاريخي ...
-ال يسع الباحث في الفكر المصري المعاصر أن يتناول مادة موضوعه ,دون العودة إلي
أطوار الحياة الثقافية والفكرية في هذه المؤسسة العريقة في القرن الماضي..
وقد كان األزهر –وال يزال -هو الموطن األساسي الذي يتلقي فيه المصريون الثقافة
اإلسالمية العالية بجوانبها المتعددة ,وكانت روحه تعم الحياة المصرية بكافة جوانبها ..
مما أدي إلي طبع اإلتجاهات الفكرية السائدة في مصر بطابعه الخاص الذي إتسم بنزعة
فكرية "محافظة" إلي حد كبير ,ولم يكن األزهر في يوم من األيام مجرد مؤسسة تعليمية
أو هيئة منفصلة عن واقع المجتمع المصري ,وقضاياه فقد إحتل العلماء فيه مكانة
إجتماعية عالية بسبب الوظيفة اإلجتماعية والسياسية التي نهض بها العلماء والشيوخ
في رفع الظلم عن الرعية "قديما" ومواجهة إستبداد الحكام في عهد المماليك والعثمانيين
...
وعلي الجملة فقد كان األزهر في مصر باإلضافة إلي الكتاتيب والمساجد الكبري في المدن
,المصدر األساسي للتعليم والثقافة في مصر ,وكان لطابعه المحافظ في درس علوم
اإلسالم وحضارته أثر كبير في حفظ هوية األمة المصرية واإلسالمية لفترة طويلة من
الزمان ...لكن األزهر في العصر العثماني أصابه ما أصاب نواحي النشاط في مصر من
الركود والجمود إذ أن الدولة العثمانية لم تنظر إلي قضية نشر التعليم بين أفراد األمة علي
4
أنه أمر من واجبات الدولة وإنما تركت ذلك لجهود األفراد أو المؤسسات الخيرية..
-ولعل هذا بعينه ما يحدث لألزهر اآلن وبالتالي أدي لجموده ,ومشكالته في تجديد
الخطاب الديني تقع أوالً علي عاتق عدم إستقالله الفكري والمادي عن سلطة الدولة
وتوجهات الحكام الضيقة التي تؤثر بالسلب علي تأثيره في عموم الناس ..
-ومما سبق كان أول ما يمكن اإلعتماد عليه في تجديد الخطاب الديني هو "األزهر
الشريف" كمؤسسة علمية راسخة ,لكن أصابها الوهن والجمود نظرا ً لعدة عوامل ,منها
تحكم الدولة في توجهاته ,وبعض الفساد والمحسوبيات بداخل جامعاته ,ومن ثم ضعف
- 4من كتاب فلسفة المشروع الحضاري-بين اإلحياء اإلسالمي والتحديث الغربي .أ.د أحمد محمد جاد عبدالرازق-الطبعة األولي 1416هــ 1995/م ص 96
9
المناهج في إستيعاب قضايا العصر وعدم السطرة العلمية علي اإلنتماء السياسي المؤدلج
"لبعض طالبه" ,فإذا ما عالجنا تلك األسباب المؤدية للمشكالت واإلفشال ,كان حري
باألزهر أن عود لمكانته ليصبح حائط الصد األول أمام انهيار الفكر الديني وجمود الفقه
وتجمدي قضايانا عند حيز اإلستنباط العقيم من التراث واألهم زيادة التأثير العلمي المعتدل
الوسطي السمح في جموع المسلمين ,وعودة األزهر كقيادة فكرية ,ومساهم في بث
الروح اإلسالمية في جسد الشعب المصري الذي يمر بهزات عنيفة تحوله للتغيير المتواتر
من النقيض للنقيض ...
*ونعود لنقطة تجديد اإلجتهاد الفقهي كعامل حاسم في تجديد الخطاب الديني
وتطوير الفكر اإلسالمي..
-هنا يشير اإلمام لمستوي التواكل ولي ذراع الفقه التراثي للمساهمة في بقاء اإلستبداد
السياسي والفساد الديني في إخضاع الناس ,وبالتالي توقف الفكر الديني عن التجديد
كلياً.
-ثم يكمل اإلمام "محمد عبده" فكرته عن تجميد النص الديني والفقه التراثي فيقول ..
(وقد وجدوا "أي الفقهاء المقلدين" في ظواهر النصوص واأللفاظ لبعض األحاديث ما
يعينهم علي ذلك في الموضوعات والضعاف ,ما شد أزرهم في بث هذه األوهام .
10
-وقد أدي ذلك إلي إدخال بعض البدع في الدين وهي ليست منه في شئ ,ف ُجل ما يسميه
العامة إسالما ً ليس بإسالم ,وقد أدت هذه البدع بالتدريج إلي الجمود الذي عده البعض
ً ( )5
دينا )
-ثم يواصل اإلمام نقده لحالة الجمود التي عمت العالم اإلسالمي إلي حد كبير :
فيؤكد أنها كانت "ومازالت" بسبب سياسة الحكام الظلمة ,وإنه بسبب جمود الفقراء أو
بتعبيره هو "سياسة الظلمة وأهل األثره" .
-وذلك الجمود الذي أدي إلي تلك الهوة الواسعة بين الدين ومشكالت الحياة اإلسالمية
المعاصرة ,كما أدي إلي خمول عمل العقل والعلم ,بعد أن أصبح المقصد األساسي
للفقهاء المتأخرين ,هو إعادة إنتاج ما قدمه شيوخهم من قبل في واقعهم التاريخي ,
وظروفهم الثقافية واإلجتماعية ونقله إلي عصر آخر ,دون محاولة لمراجعة ونظر فيما
( )6
يتواكب مع المجتمع المعاصر.
-ويستطرد في شرح فكرته ليؤكد بأن ( أدي الجمود ,وتعطيل العقل والعلم في النصوص
الدينية وشيوع التقليد للسابقين دون مراعاة للظروف التي أنتجت ذلك التراث الفقهي ,
إلي عدة آثار سلبية ,منها ما يتعلق باللغة العربية ( أول جناية علي هذا الجمود كانت
علي اللغة وتراكيبها وآساليبها وآدابها ,فإن القوم كانوا يعنون بها لحاجة دينهم إليها ,
في فهم كتابهم وما تشير إليه هيئة تراكيبها فلما لم يبق للمتأخرين إال األخذ بما قال
المتقدم ,قصر المحصلون تحصيلهم علي فهم كالم من قبلهم ,واكتفوا بأخذ حكم هللا منهم
!
..بدون أن يرجعوا إلي دليله ,ولو نظروا في الدليل ,فرأوه غير دال له بل داالً لخصمه ,
قالوا نعوذ باهلل أن تذهب عقولنا لغير ما ذهب إليه متقدمنا ,وأرغموا عقلهم علي الوقفة
()7
...فيصيبه الشلل من تلك الناحية ,فأي حاجة بعد ذلك للغة العربية نفسها ؟!
أو بعد ذلك نتسائل عن أسباب جمودنا الفقهي وعدم مواكبة الخطاب الديني
لفكرنا المعاصر ,وتوقف اإلجتهاد عند ترديد التراث يحاوطنا من كل اتجاه
كسلطة مكبلة لكل عقل مسلم يفكر وكل مجتمع إنساني يبدع..
-يقول اإلمام المجدد "محمد عبده" الذي تركنا من أكثر من قرن لكننا الزلنا في مكاننا
الجامد المتحجر وأكثر تخلفا ً فكريا ً وحضاريا ً عما سبق ..يقول عن الفكر العقالني
وضرورته في اإلسالم للوصول للتجديد الحقيقي في الفكر الديني ..
}أن التفكير واجب علي الموجود العاقل ال مخلص له منه ,ففي هذا الموجود العاقل أن
ينهض بجهوده الخاصة للبحث عن الحقيقة في العالم ,والفحص عن الموجودات
واألشياء علي قدر ما تتيحه له رسائله الخاصة ,وسواء أكان مؤيدا أو معارضا ً ,فواجبه
أن يدعم موقفه ببراهين يقينية ,ولكن إذا كان عليه أال يهمل واجب التفكير فعليه أيضا ً أن
يحطاط من الشطط في اإلستدالل{8
وقد وصل اإلمام محمد عبده لذروة تحكيم الفكر العقالني كسلطة حاكمة علي الخطاب
الديني حين قرر بأن }العقل حكم في صحة النبوات ,وكذلك للعقل مطلق السلطان في فهم
الكتاب المنزل ,باإلضافة إلي تقديم العقل علي النقل عند التعارض {9
-النقطة الثانية في ذلك الفصل حول رؤية تجديد الخطاب الديني تصطدم بإشكالية توقف
اإلجتهاد في التشريع اإلسالمي بما يتناسب مع الدولة الحديثة والفكر اإلنساني والقانوني
المعاصر..
ثانيا :توقف اإلجتهاد في التشريع اإلسالمي –مشكلة أخري تعوق تجديد الخطاب
الديني ..
-وسأستدل في ذلك علي فكرة تصدير ترهيب الناس بالحدود عند الحديث عن الشريعة ,
وكأن اإلسالم أُختصرت شريعته في جملة قوانين تاريخية ,منزوعة السياق ومحرمة
التأويل!
ومن هنا سأطرق الباب لإلستدالل ببحث حول التجديد القانوني تحت عنوان }تجديد
الخطاب اإلسالمي }الثابت والمتغير :نظام العقوبات نموذجا ً{
-أهمية هذا البحث أنه يتناول الخطاب اإلسالمي المعاصر بشأن الثوابت اإلسالمية التي ال
يمكن للحضارة اإلسالمية بطبيعة تكوينها العقدي ,أن تنهض وتنمو ,مالم تتمثلها ..
-يقول الباحث= يوظف هذا البحث منهج إسالمية المعرفة برؤية اإلسالم الكونية
اإلستخالقية الحضارية بتكامل منهجي شمولي األداء المنضبط لذلك )(Systematic
إلعادة النظر في أحد أهم ثوابت الشريعة ,وقانون "نظام العقوبات" اإلسالمي ...وذلك
ليكون نموذجا ً لمحاولة إعادة بناء الخطاب اإلسالمي المعاصر علي ضوء نصوص
الشريعة...
إن الغاية من هذا البحث هي إدراك أهمية اإلصالح الفكري لألمة ,ودعوة المفكرين
والعلماء إلعادة النظر في خطابات األمة بشأن ثوابتها بالمنهج واألسلوب العلمي
10
اإلسالمي..
-يقرر الباحث أن األهمية الخاصة لقانون العقوبات اإلسالمي هو أن الدارس المسلم إذا
واجه في هذا العصر قضية الفهم السلبي ألمر مهم وخطير كقضية قانون العقوبات
اإلسالمية وموقف جمهور األمة منه ,فإن الحل والرؤية اإلسالمية البد أن تنبثق من
منهج فكر شمولي متكامل منضبط للمعرفة اإلسالمية ,ألن هذا الفكر وحده الذي يمكن أن
()11
ينظر بواسطته في قضايا الفكر اإلسالمي المعاصر.
-يأخذ الباحث لإلستدالل علي قابلية التشريعات القانونية للتجديد نموذج }قضية الزنا {
- 10المرجع|تجديد الخطاب اإلسالمي المعاصر }الثابت والمتغير-نظام العقوبات نموذجا{ -د/عبدالحميد أحمد محمد أبو سليمان – ص ,4ص8
, - 11ص-9المرجع السابق.
13
فيقول -كحد واضح في العقوبات اإلسالمية بنص القرآن يدل علي استحالة تطبيق هذا الحد
,إال في حاالت إستثنائية تتعلق بإشاعة الفاحشة في مجتمع كامل ,وليس في دوافع
غريزي أوقعت شخص في خطيئة ذاتية ,تُعد من الكبائر الدينية " ...بينه وبين ربه
سبحانه" ,بل القصد من العقوبة ,كان خلق مجتمع ال يعلي قيمة الفاحشة بين جموعه
في المقام األول ..
لذلك كان المعيار إلقامة الحد هو شهادة أربعة شهود علي وقوع الزنا بشكل واضح
وصريح ال لبس فيه ,وهو أمر غير وارد أصالً في عالقات البشر في مثل تلك الحالة
الخاصة جدا ً ,مما يجعل العقوبة إجتماعية أكثر منها فردية ..وعن اإلنتشار واإلعالن لذلك
الفعل أكثر من كونه تتبع لكل فرد وخطاياه الشخصية ..
لذلك يوضح الكاتب الداللة اإلجتماعية لشهادة األربعة في "عقوبة الزنا" –فقد وضحت
هذه الدراسة أمامي أن العدد "أربعة" له داللة نفسية واجتماعية خاصة ومهمة وهي أن
األربعة يمثلون الحد األدني للتفاعل اإلجتماعي اإلنساني المتكامل ,مع كل ما ينشأ عنه
من توازن إجتماعي ,وإشباع للحاجات اإلنسانية ,أي أن األربعة يمثلون الحد األدني
للمجتمع المتكامل وتفاعالته اإليجابية ...
ولذلك كان الحد األدني إلثبات جريمة "الزنا" أربعة يشهدون شهادة صريحة قاطعة ,ألن
12
شهادة األربعة تعني اإلشهار في أربعة ,ومن أشهر في أربعة فقد أشهر في مجتمع..
-هذا دليل واضح علي محدودية العقوبات في الشريعة والقدرة المرنة علي تجاوز الحدود
بتأويل قانوني يليق بقانون حديث متواكب مع حقوق اإلنسان وبه حيز لإلجتهاد الفكري
المعاصر..
-لكن لم يشير الباحث في كتابه الذي ذهب فيه لتحليل إقامة الحدود كما هي دون تأويل إذا
ما تم المستحيل في إثباتها ..
-عموما ً يبقي التشريع اإلسالمي باب واسع لإلجتهاد المعاصر خصوصا ً من ناحية الفكر
القانوني والفقه الشرعي وال يمكن أن يظل مغلقاً.
- 12تجديد الخطاب اإلسالمي المعاصر (الثابت والمتغير-نظام العقوبات نموذجا -د/عبدالحميد أحمد محمد أبوسليمان ص , 13ص14
14
-سيتناول ذلك الفصل من البحث حول رؤية تجديدية للخطاب الديني المعاصر ..ثالث نقاط
قدمتهم في بداية البحث وهم -:النقطة الثالثة والخامسة والسادسة ,وسأترك الرابعة
والسابعة للفصل التالي ..
إن من أكبر إشكاليات الفكر اإلسالمي المعاصر وضع سلطات تكبل العقل وتستعبد الفكر
المطور إليجاد حلول ,وذلك عن طريق وضع وسائط بين إشتباك المسلمين مع نصهم
المقدس دون البرهنة علي كل اجتهاد ويذهبوا إليه من أقوال السلف الصالح أو انتاج
فقهاء العصور الوسطي ,الذين تم اعتمادهم كمراجع ال تقبل النقد في ممارستنا الفقهية
مما أدي إلي تخلف حضاري للخطاب الديني المعاصر ,الذي ينزع مشكالت فقهية لعصور
سابقة ويضعها في عصرنا الحالي !
15
-من هنا يجب أن نلقي نظرة سريعة علي تجربة التجديد المعاصرة التي تستحق اإللتفات
لبدايتها لعلنا نستلهم ذلك في وضعنا الحالي..
-إن الفكر اإلسالمي في مصر بالعصر الحديث ,يُعد بوجه ما رد فعل للسيطرة الغربية علي
العالم اإلسالمي سواء أكان ذلك بالدعوة إلي اإلتجاه نحو الغرب أن بالدعوة إلي المبادئ
الجوهرية في اإلسالم ,وإعادة فهمها بما يتناسب مع مشكالت الواقع المعيشي ,والدعوة
إلي فتح باب اإلجتهاد ونبذ التقليد ,ولقد ارتكزت الدعوة إلي التجديد الديني لدي " جمال
الدين األفغاني -ومحمد عبده -ورشيد رضا"
علي أمرين أساسيين ,هما -:
-1ضرورة العودة إلي األصول اإلسالمية األولي المبرأة من أدران التقليد والبدع ,تلك
البدع التي قعدت باإلسالم وأهله عن مالحقة ركب التقدم ..
-2الدعوة إلي األخذ بأسباب تقدم الحضارة الغربية ,وفي مقدمة تلك األسباب األخذ
بالعلوم التجريبية الغربية ,التي أسهمت إسهاما ً فعاالً في تطور الحضارة "الغربية"
()13
وسيادتها ..
-إن سبيل الدين لمريد اإلصالح في المسلمين سبيل ال مندوحة عنها ,فإن إتيانهم (أي
مخاطبة الناس) من طرق األدب والحكمة العارية عن صبغة الدين ,يحتاج إلي إنشاء بناء
جديد ليس عندنا من موارده شئ ,وال يسهل عليه أن يجد من عماله أحدا ً !
وإذا كان الدين كافالً بتهذيب األخالق وصالح األعمال وحمل النفوس علي طلب السعادة
من أبوابها ,وألهله الثقة فيه ماليس لهم في غيره ,وهو حاضر لديهم ,والعناء في
()14
إرجاعهم إليه أخف من إحداث ماال إلمام لهم به ,فلم العدول عنه إلي غيره ؟!
-ولقد أخذت جراثم الضعف تعمل في العالم اإلسالمي من العهد األموي ,وإن كان المجتمع
مسلما ً في مجموعه يتخذ من اإلسالم وتعاليمه أداة أساسية لتوجهاته الفكرية والحضارية
فعلي فترات زمنية متعددة ,انتشر التقليد ,وأغلق باب اإلجتهاد ,فتعطلت األداة األساسية
لتحقيق التوافق واإلنسجام بين النص القرآني والواقع التاريخي لألمة اإلسالمية ,وساد
الجمود ,والفهم السيئ للقضاء والقدر.
-ولقد كان من أهم أسباب تخلف الحضارة اإلسالمية البعد عن المبادئ الجوهرية التي
كانت أساس اإلنطالقة األولي لإلسالم ,فوجدت الخالفات العصبية بين العناصر العربية
وغير العربية طريقها ,وبعد أن أزال اإلسالم كل سلطة إال سلطة هللا ..استبدت القوي
الحاكمة ,فاهتزت قيم الشوري واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
ـ مما سبق وجب علينا أن نتخذ خطوات حقيقية في التجديد تنبع من جذور الجمود الديني
واإلجتماعي الناجم عن تقليدنا الفقهي للتراث وتوقف اإلجتهاد الحقيقي في التشريع
واستبعاد التأويل للنص واستبداله بسلطة الترديد للموروث في الفهم ,واألهم إبعاد حيز
اإلستبداد السياسي عن تجديد الفكر اإلسالمي بشكل أعم ...
ـ ولعل من أكبر اإلشكاليات التي تواجهنا في تجديد للخطاب هو تخلف فكرنا الثقافي بشكل
أشمل ,وغياب التعليم والوعي ..ومن ذلك ما يقرر "اإلمام محمد عبده" حين يقول } ..
أما أمر الحكومة والمحكوم لقد تركته للقدر يقدره ,وليد هللا بعد ذلك تدبره ,ألنني عرفت
أنه ثمرة تجنيها األمم من غراس تغرسه ,وتقوم علي تنميته السنين الطوال ,فهذا
()15
الغراس هو الذي ينبغي أن يعني به "التعليم" اآلن.
ـ أما وسائل اإلصالح الديني في نظر اإلمام "محمد عبده" فتمثل في األمور
اآلتية -:
-1تطهير اإلسالم من العادات والتأثيرات الفاسدة.
-2إعادة النظر في طريقة عرض المذاهب والمعارف اإلسالمية ,في ضوء الفكر الحديث.
-3إصالح التعليم العالي واإلسالمي.
- 15فلسفة المشروع الحضاري بين اإلحياء اإلسالمي والتحديث الغربي ,د.أحمد محمد جاد الحق –الطبعة األولي1416 -هـ 1995 -م ص316
17
-أما بالنسبة لمحيط الخطاب الديني الثقافي فهو في حالة يرثي لها ويرجع إلي كثرة الشرح
للقديم جون إبداع تجديد !
-كما يقول د.إبراهيم مدكور :ـ
}ثقافة العالم العربي رتيبة غير متنوعة ,جامدة غير متحركة ,مقلدة غير مبتكرة ,لفظية
غير موضوعية ,تكاد تدور حول نفسها ,تلخص األفكار العلمية في متون ,ثم توضحها
في شروح ,وقد تفسر الشروح في حواشي وتقارير وكل ذلك أخذ من السابقين ..
ويكمل د.إبراهيم مدكور..وهي أيضا ً ثقافة محصورة "ألنه ما ترك القديم للجديد شيئاً"
وقصرت علي طائفة معينة ووقفت نفسها عليها ,وكأنما كانت تعيش في الماضي دون
أن يكون لها بالحاضر صلة..تجهل التطور والتقدم وال تشعر بحاجتها إلي اإلجتهاد أو
الحرية !
-ويرجع ذلك إلي أنه في تلك الفترة لم توجد شروط التفكير الفلسفي نفسه ,وفي مقدمتها
الحرية ,باإلضافة إلي بيئة مواتية ترعاه وتتعهده ..ألن التفكير الفلسفي بحث إنساني
ً ()17
قبل أن يكون وطنيا ً أو قومياً ,أو "دينياً" خالصا .
ــ وتلك األسباب وهذا المناخ الثقافي والفلسفي والسياسي العقيم هو جزء رئيسي
مما نعاني منه اليوم ,وفي ظله مطالبين برؤية جديدة للدين تخدم المجتمع
وإصالح جذري حول الخطاب الديني ـ فكيف يحدث ذلك ؟
-ويقدم لنا في اإلجابة علي جزء آخر من ذلك السؤال المعقد والمتشعب الجذور ..
يقدم لنا المصلح الثائر "جمال الدين األفغاني" رؤيته للتجديد وفق عصره
فيقول :ـ
ـ التجديد الديني من وجهة نظر "األفغاني" البد أن يتسم بالتالي :ـ
-اإلتجاه إلي تصحيح المفاهيم اإلسالمية..
-تنقية إعتقاد المسلمين من الخرافات والبدع التي علقت في أذهانهم.
-تحرير العقل من أغالل التقليد .
-ضرورة فتح باب اإلجتهاد الذي يعد مبدأ الحركة في اإلسالم إذ من خالله يستطيع
الدين اإلسالمي أن يعمل أثره في الواقع التاريخي)18(.
ُ
-وهناك قضيتان أساسيتان اهتم بهما "األفغاني" وسار أتباعه من بعده علي هدي
منهما -:
-
-إحداهما :أن الدين يشكل البنية الثقافية والحضارية لألمة.
-والثانية :أن الصراع بين العلم والدين والفلسفة أمر موجود في الطبيعة اإلنسانية ..لكن ليس
هناك دليل علي اضطهاد اإلسالم للعلم ,أو ما يتعارض بين الحقيقة العلمية واإلسالم)19( .
إن عالقة السلطة السياسية بتجديد الخطاب الديني هي باب من أبواب إغالق التجديد
الحقيقي للفكر الديني واألهم أنها تمنع التأثير الوجداني الصادق في جموع الناس
,بالتالي لن تتمكن مؤسسة أو فرد من تقديم خطاب ديني متطور معاصر يتماشي
مع متطلبات الفكر اإلنساني وأصالة الفكر اإلسالمي بإجتهاد خالص إذا ما تورط
في تمثيل السلطة ,أو توجيهها له ,حتي وإن كانت أعظم سلطة في العالم
سيتوجس من دعمها لرموز الدعوة ومؤسسات الدين جموع المسلمين ,ولن
يطرق مسامعهم أي توجيه أو خطاب أو فكر نابع من هؤالء الممثلين لخطاب ديني
سلطوي ..من هنا كان استبعاد التدخل الحكومي في توجيه الخطاب الديني أمر
حتمي ..
- 18فلسفة المشروع الحضاري بين اإلحياء اإلسالمي والتحديث الغربي ص293
Musjiin Mahdi : Islamic Philosophy “In” - 19
Colandmanp P.106 Taraq Ismeali
19
ولعله يبرهن علي ذلك التوجه ما قاله اإلمام "محمد عبده"}إن الدين أشبه بالبواعث
الفطرية اإللهامية ,منه بالدواعي اإلختيارية الدين قوة من أعظم قوي البشر ,
()20
وإنما قد يعرض عليها من العلل ما يعرض لغيرها من القوي { .
-ويؤكد اإلمام علي أنه كارثة اإلستبداد السياسي تحد من تأثير الخطاب الديني المستنير
وتقلل من فرص إنتشار الفكر الصحيح عندما يتناول ذلك بقوله } ..أما الحكام وقد كانوا
أقدر الناس علي إنتشال األمة مما سقطت فيه ,فأصابهم من الجهل بما فرض عليهم في
أداء وظائفهم ما أصاب الجمهور األعظم من العام ,ولم يفهموا من معني الحكم إال
ستخير األبدان ألهوائهم ,وإذالل النفوس لخشونة سلطانهم ,وابتزاز األموال إلنفاقها و
وإرضاء شهواتهم ,وال يدعون في ذلك عدالً ,وال يستشيرون كتابا ً ,وال يتبعون ُ
سنة ,
حتي أفسدوا الكافة ,بما حملوها علي النفاق والكذب ,والغش ,واإلقتداء بهم في
()21
المظالم ,وما يتبع ذلك من الخصال التي ما فشت في أمة إال حل بها العذاب {.
ـ ومما سبق يتضح أن ال سبيل إلصالح ديني طالما إستمرت مقاصل اإلستبداد
السياسي والجمود الفكري..
-بينما تعاني السلطة الدينية من تأثيرات السلطة السياسية تعاني الدعوة بشكل عام
والخطاب الديني بشكل خاص من تأثيرات الفكر السياسي واإليديولجيات اإلسالمية
في العمل السياسي ,مما أدي لضعف الهوية الدينية عند المنتمين لتيارات سياسية
تخلط بين العمل العام وأصول الدين ..
وبين هؤالء وآخرون نضع تجربة فكرية لتحاول التوفيق بين تيار الفكر المتجدد ,
والفكر األصولي ..لتقدم لنا رؤية علمية دينية تصلح لإلنطالق منها لتجديد الفكر الديني
كما يعتقد الدكتور "محمد عمارة".
أوالً -:تيار الجمود والتقليد لتراثنا الفكري ,وعلي األخص من تراث عصر التراجع
الحضاري ألمتنا وحضارتنا ..ذلك التيار ينظر فقط إلي الخلف ,ويقف علي ظواهر
النصوص مغفالً المقاصد التي يقصدها الشارع ,من وراء هذه النصوص ,بل ويتخير
من النصوص الوسيطة بدالً من النصوص األولي ,المقدسة والمعصومة ,غافلين عن
معني النص في علم أصول الفقه ,وهو الذي ال ينطبق علي كل "عبارة" ,وإنما يقتصر
علي ما هو قطعي الثبوت ,وقطعي الداللة ,الذي ال مجال فيه ألي تأويل .
-ولذلك فإن هذا التيار –تيار الجمود والتقليد -يخاصم النظر العقلي في حكم ,وعلل
األحكام التي جاءت بها النصوص مع إهمال فقه الواقع المتغير ,والذي يتطلب –في
الفروق -أحكاما ً جديدة ,تواكب المتغيرات ,وتستجيب للمصالح الشرعية المعتبرة التي
()22
تفرزها هذه المتغيرات ..
-ثانيا ً :تيار التغريب والحداثة الغربية ,ذلك الذي انطلق وينطلق من المرجعية
الفلسفية
للحضارة الغربية ,معتمدا ً علي مناهج النظر "الوضعية –العلمانية" وأحيانا ً المادية
التي تعاملت بها تلك الحضارة مع الدين وحقائقه ,وعوالمه وعلومه ,ومعارفه ,
فنظرت إلي الدين ومواريثه باعتبارها "فكراً" غير علمي ,عبر عن مرحلة من مراحل
تطور العقل اإلنساني هي مرحلة "طفولة" هذا العقل ..التي تلتها ونسختها "مرحلة
الميتافيزيقا" ,والتي تلتها هي األخري ونسختها الوضعية التي جعلت الكون المادي
والواقع الدنيوي فقط وليس الغيب – هو مصدر المعرفة الحقة والعلم الحقيقي ,كما
جعلت العقل "والتجربة" .هو مصدر المعرفة الحقة والعلم الحقيقي ,دون النقل
والوجدان ..
فكانت "القطيعة المعرفية " مع الموروث الديني ,تلك التي تميزت بها ثقافة الحداثة
الغربية ,عندما عزلت علمانيتها السماء عن األرض بدعوي أن العالم مكثف بذاته
وأن تدبير هذه الحياة الدنيا إنما يتم باألسباب المادية والملكات اإلنسانية المودعة في
ظواهرها وعوالمها دونما الحاجة إلي مدبر مفارق ومتعال من وراء الطبيعة...
-ذلك هو تيار التغريب ,والحداثة الغربية ,الذي نظر أهله فقط إلي الغرب ,فقلدوه ,
وجمدوا علي مقوالت ثقافته ,وفلسفاته ,كما نظر أهل الجمود التراثي ,فقط إلي
الماضي ,فقلد مقوالت سلف عصر تراجعنا الحضاري وجمدوا عند ظواهر نصوصها.
23
}وهذا الذي بشر به ونادي له عمارة إعتقادا ً منه أنه ثالثاً :تيار اإلحياء والتجديد
األصلح للتجديد الديني{...
22
- 23مستقبلنا بين التجديد اإلسالمي والحداثة الغربية – د.محمد عمارة ص 5الطبعة األولي1423-هـ 2003م ص5
21
-ويقول "عمارة" إن تيار اإلحياء و التجديد ,إلحياء أصول اإلسالم وثوابته بالعودة إلي
المنابع الجوهرية والنقية لهذا الدين الحنيف ,والنظر فيها بعقل معاصر ,يفقه أحكامها
كما يفقه الواقع الذي يعيش فيه ,عاقدا ً القران بين "فقه الواقع وفقه األحكام" ليصل
التجديد في الفروع-أي الفقه -مبدعا ً لألحكام الفقهية الجديدة التي تستجيب للمصالح
الشرعية المعتبرة ,التي طرحتها ,وتطرحها مستجدات الواقع الجديد والمعيشي ..
-ففي هذا التيار-اإلحيائي والتجديدي -تتوازن "الثوابت" – الدائمة الثبات ,والضامنة
لدوام إسالمية النسق الفكري علي إمتداد الزمان والمكان مع "التجديد" في الفروع التي
()24
تطرحها متغيرات الواقع ومستحداثته ..األمر الذي ينفي القطيعة مع الثوابت الدينية!
-ثم يؤكد الدكتور عمارة علي فكرة تيار اإلحياء والتجديد اإلسالمي كنموذج
أفضل للفكر المعاصر فيقول:ـ
}فإذا كانت الحداثة الغربية –انطالقا ً من الفلسفة الوضعية التي حررت الدنيا من الدين-
قد أقامت قطيعة معرفية مع الموروث الديني..
وإذا كان الجمود والتقليد في (فكرنا اإلسالمي) ينكر التجديد بدعوي أن اإلسالم قد
اكتمل!
-فإن تجديد المفاهيم وتحرير مضامين المصطلحات هو الكفيل بتمييز "التجديد" عن
"الحداثة" وينفي التناقض الموهوم بين "التجديد" عن "الحداثة" وبين إكتمال الدين {
-ثم يؤكد توجهه في التجديد مع الحفاظ علي القديم فيؤكد رؤيته بأن }السبيل إلي دوام
سنة التجديد
بقاء هذا الدين واستمرار عطائه وصالحه لكل زمان ومكان ,هو إعمال ُ
للدين والفكر الديني ..
سنة ال تبديل لها وال تحويل ,أي أنها قانون من القوانين الفاعلة والعاملة دائما ً في
وهي ُ
النسق الفكري اإلسالمي وليست مجرد "مباح" أو مجرد حق من حقوق العقل
اإلسالمي!
-ووفقا ً لوجهة نظره ،أنه هكذا جمعت الوسطية اإلسالمية وتجمع بين "إكتمال الدين
وبين تجديده" وربطت بين السلفية بمعني العودة في الدين إلي أصوله ومنابعه
()25
الجوهرية ,وبين التجديد في الفروع وفي المتغيرات.
-وفي رأيي هذه محاولة تلفيقية للفكر ال يُبني عليها تجديد حقيقي للخطاب الديني بقدر
ما يُبني عليها ترقيع للثوب القديم بأقمشة منطقها العلقالنية كشعارات ال تتجاوز نطق
قائليها ,فلو أردنا تجديدا ً حقيقيا ً لما انطلقنا أصالً من التوفيق والتلفيق بين اجتهاد
القدماء واجتهاد المحدثين والمعاصرين ,بل علينا أن نبني فكريا ً بنسق علمي نقدي
جديد وقطعا ً لن يتعارض ذلك مع أصول القرآن ..
-وختاما ً لذلك الفصل ,أردت أن أؤكد علي أنه ال يوجد ديني موحد نستطيع توجيه دفته
حيث شئنا بل السلطة داعمة لنوع من الخطاب الديني في كل عصر وكذلك التيارات
اإلسالمية المسيسة داعمة لتوجهات فكرية تدعم طرحهم السياسي للدين وتستخدمه,
وكذلك المفكرين والمؤسسة الدينية تدعم توجهها الخاص نحو الخطاب الديني ,والجميع
ينتج أفكاره الدينية من داخل مجتمع كامل يستمد نفس السلبيات واإلطروحات الفاشلة
التي وصلت به لحالة الجمود والتخلف الحضاري ,والتعصب الفكري الجاهل..
من هنا سنطرح سؤالنا لنختم به ذلك الفصل حول..
ـ بالرغم من وقوع مؤسسة األزهر في أزمات خطابية عديدة منذ الحراك الثوري في
مطلع عام , 2011فإن دعمه للسلطة السياسية لم يتوقف سواء بشكل مباشر أو غير
مباشر ,ذلك أن السلطة السياسية لم تنازع األزهر يوما ً في سلطة التمثيل الديني ,أما
حين آلت السلطة إلي جهة تسعي ,وفق قابلية جماهيرية معينة ,إلي أن تكون سلطة
تمثيل ديني بديلة "ممثلة في جماعة اإلخوان المسلمين" هنا أصبحت مؤسسة األزهر
العريقة أمام معركة وجود وهو ما انعكس علي خطابها الذي خاصت فيه صراعا ً خطابيا ً
عبر آليات التسمية وإطالق النعوت والحذف.
-وقد وصف األزهر جماعات التأييد الدينية بالفرق المنحرفة وبالقلة الطارئة علي ساحة
العلوم الشرعية والفتوي مستخدما ً التقليل منهم رغم أنهم رجال دين ودعاة ينتمون إلي
جماعات وأحزاب وتيارات معروفة " ,ولهم تأثير ومساحة إعالمية علي كثير من
26
الناس"
-وهنا اتسم "األزهر" بتمثيله الرسمي للسلطة الدينية في مقابل تمثيل شعبي لدي
تيارات دينية سلفية متطرفة ودعاة مشاهير وقيادات سياسية إسالمية سابقة مما جعل
من الصعب أن نقدم رؤية موحدة تؤثر بحق في تجديد الخطاب الديني من جهة واحدة !
الفصل الرابع
"مشكلة الوعظ الديني في المجتمع"
-1أوالً مشكلة "الوعظ" الديني في تفاقم أزمة جمود الخطاب الديني :ـ
إن مشكلة الوعظ وكثرة الوعاظ في المجتمع تكمن في نشر النفاق وقلة العلم بين الناس ,
وجعل وصاية دينية للتوجيه فوق عقول المسلمين ,مما أتاح لجهالء أو متربحين أن
يسترزقوا من العمل الدعوي ,ويبثوا آرائهم الفكرية المشوهة في عقول الناس باعتبارها
دينا ً ,فكثرت الفتاوي وتعددت المنابر وقل العلم الحقيقي ,وتداعي الدين في النفوس
واألخالق ليحل محله التظاهر بأنماط التدين السطحي والطقوس ,وتؤخر مقاصد اإلسالم
الكبري وقيمه األخالقية العظيمة أما مظاهر سلوكية يروجها "وعاظ العصر"
باعتبارها ممثلة لإلسالم ,وبالطبع لكل تيار ديني وعاظه ولكل توجه رسمي أتباعه وكالً
يأخذ من أصول الدين ما يعضد به توجهاته الفكرية في تناول خطاب ديني يخدم مصالحه ,
سواء أكانت نظم سياسية ,أو جماعات إرهابية أو مؤسسة دينية أو حتي دعاة فضائيات
تلفزيونية !
-ويكمل "علي الوردي" نقده لفكرة الوعظ وعمل "الوعاظ" فيقول -:
(ويخيل لي أن الطغاة وجدوا في الواعظين خير معاون لهم علي إلهاء رعاياهم
وتحذيرهم ,فقد انشغل الناس بوعظ بعضهم بعضا ً ,فنسوا بذلك ما حل بهم علي
أيد الطغاة من ظلم ,فالواعظ حين يعظ الناس باتباع ال ُمثل العُليا وبتطهير نفوسهم
من أدوات الحسد واألنانية ,إنما يطلب المستحيل ,إذ ال يستطيع أن يفعل ذلك إال
النادرون من الناس ,أما بقية الناس ,وهم الذين يؤلفون السواد األعظم منهم ,
28
فيبقون في حيرة من أمرهم وقد انتابهم الوساس)
-وهنا يشير المؤرخ والكاتب اإلجتماعي "علي الوردي" إلي مالحظة هامة للغاية
في فكرة الوعظ الديني ,حيث أن الوعظ ال يغير نفوس بشر ولن يجدي أصالً في
تحويل الناس لطائعين صالحين نفوسهم راقية ,وإنما هو فقط محاولة لتأكيد ُمثل
غير موجودة سوي في الخطابات الشفهية مدفوعة األجر والتي هي أصالً ال توجد
إلي عموم المسلمين لتحملهم فساد حالهم وعبئ كوارثهم في قلة تقواهم وورعهم
..
وليست في فشل وفساد حكامهم وادارتهم وهذا هو عين النفاق الوعظي الذي
يتمثله أغلب الوعاظ ومجمل الخطاب الديني المعاصر ,علما ً بأنه لن يتحول
المسلمين يوما ً بخطاب ديني مثالي لشعوب من المالئكة !
-ويؤكد "الوردي" فكرته السابقة فيقول :إني أكاد أجزم بأن منطق "الواعظ"
األفالطوني هو منطق المترفين ,فهم يشغلون الناس بهذا المنطق قائلين لهم :لقد
29
ظلمتم أنفسكم ,وبحثتم عن حتفكم ..وبهذا يستريح المظلوم ويطلب الغفران!
إن أهم نقد يمكن أن نحدده في الخطاب الديني المعاصر هو الجمود عند ترديد
التراث ,وقلة العمل علي إبداع حلول فكرية تناسب العصر الحالي ولعل ذلك عينه
ما حدده اإلمام "محمد عبده" قبل أكثر من قرن زمني عندما قال -:
"فقد علم القرآن أهله أن يطالبوا الناس بالحجة ألنه أقامهم علي سواء المحجة ,
وجديد بصاحب اليقين أن يطالب خصمه به ,ويدعوه إليه ,وعلي هذا درج سلف
األمة الصالح ,قالوا بالدليل ,وطالبوا بالدليل ..
ثم جاء الخلف ,فحكم بالتقليد ,وأمر بالتقليد ونهي عن االستدالل علي غير صحة
التقليد ..
حتي كان اإلسالم خرج ن حده ,أو انقلب إلي ضده وصار الذين يعلمون أن
اإلسالم امتاز عن سائر األديان بإبطال التقليد ,وبالمطالبة بالبرهان والدليل ,
وعلم الناس استقالل الفكر مع المشاورة في األمر ..
يطالبون المسلمين بالرجوع إلي الدليل ,ويعيبون عليهم األخذ "بقيل" و "قال"
وياليته كان األخذ بقال "هللا" و"قيل فيما يروي عن رسول هللا ,ولكنه األخذ بقال
30
"فالن" وقيل عن "عالن" !
-أما ثاني المشكالت في نقدنا للخطاب الديني المعاصر فهو خلق سلطة
"كهنوتية" علي العقل المسلم المفكر بحيث اختصار اإلجتهاد الديني في فئة
تعلمت في "األزهر" مثالً ,أو تناولت العلم الشرعي الموروث تلقينا ً بمناهج دينية
صماء ال تفكر في أوسع من محيطها العلمي الشرعي مما شكل حاجز بين تطوير
الفكر الديني وبين مفكرين وعلماء أوسع مجاالً في اإلجتماع والسياسة والفلسفة
والعلم ...
من هنا كانت إطروحة للدكتور "زكي نجيب محمود" حول رؤية إسالمية للثقافة
والفكر ,عندما قال:ـ
-عند مقابلة بين نص شرعي من ناحية ,ومشكلة اجتماعية أو فردية من ناحية
أخري ,بحيث ال تجد تلك المشكلة حلها العقلي –أي حلها العلمي -متفقا ً مع ما يدل
عليه ظاهر النص الشرعي فما نحن صانعون ؟!
-هنا تجئ فتوي "اإلمام الغزالي" :ـ بوجوب التوفيق بين الطرفين غير أنه من
حق سائل أن يقول كيف يكون هذا التوفيق بين الطرفين إذا كانا ضدين أو نقيضين
؟!
هنا يجيب الشيخ " محمد عبده" فَهاكَ نص ما كتبه جوابا ً عن سؤال هكذا -:
" أنه إذا تعارض العقل والنقل ,أي تعارض حكم "العلم" مع نص "شرعي" أ ُخذ
بما د ّل عليه العقل ..
وبقي في النقل طريقان :ـ
-طريق التعليم بصحة المنقول مع اإلعتراف بالعجز عن فهمه ,وتفويض األمر
إلي هللا وعلمه ..
والطريق الثاني :ـ تأويل النقل مع المحافظة علي قوانين اللغة ,حتي يتفق معناه
31
مع ما أثبته العقل.
=وهذا اإلجابة تُعد باب مفصلي إلنطالق تجديد الخطاب الديني والفكر اإلسالمي
فالرجوع لتحكيم العقل حتي علي تأويل وفهم النص القرآني لهو مستوي يحدث
نقلة نوعية في فكرنا المعاصر ,خصوصا ً إذا ما تحررنا من الوسائط التراثية
الناقلة إلجتهاد علماء القرون الوسطي الحاكمة فوق عقولنا ,والواقفة بيننا وبين
فهم النص بشكل مباشر ,وأكثر تحررا عقليا ً ,وأكثر مواكبة لعصرنا .
من ناحية أخري ,عند تقديم رؤية للتجديد في الخطاب الديني البد أن ال نخلط بين
مشكالت الخطاب الديني ,وكارثة االرهاب والتطرف ..ألننا كما يقول الدكتور
"زكي نجيب محمود"
"أننا نتساهل ..حين نجعل التطرف في أي مجال ,وجهة نظر ألن من كانت له
وجهة للنظر ثبت عليها ,ورأي كل شئ من خاللها ,لكن التطرف في حقيقته ,
حالة من حاالت التكوين النفسي ,تجعل صاحبها ُمعدا ً ألن يتطرف وكفي !
فليس هو المهم هو الموضوع الذي يتطرف فيه بل المهم تكوينه هو أن يتطرف
للتطرف في حد ذاته ...
ومن هنا رأينا أمثلة كثيرة لمتطرفين يقفزون بين يوم وليلة من تطرف في فكرة
إلي تطرف في الفكرة التي تناقضها.
-إن المريض بالتطرف ال يعرف ,وهو بالتالي ال يعترف بأنه مريض ,شأنه في
ذلك شأن المرضي بسائر األمراض النفسية ,وإذا كاشفت المتطرف الديني مثالً
()32
تحقيق حالته أجابك بأنه يسير علي الخط الديني!
-وإنه ال يتطرف بالمعني الذي حددناه للتطرف إال من حمل علي كتفيه رأسا ً خاويا ً
ً ()33
وفارغا.
ومما سبق ال يتم تجديد خطاب ديني تحت إرهاب المتطرفين أو تحت إشراف
مقاصل الطغاة المستبدين ..فإن الخطاب الديني شأن فكري إجتماعي يحتاج لمناخ
تقدمي وتطور إقتصادي ووعي علمي يغذي عقول مجددة تنتج فكر ديني معاصر
يليق بتلك األمة ويحقق لها تقدم حقيقي يكون حائط صد أما أي تطرف وفي وجه
أي نوع من الجهل والخرافات والتقليد والجمود والنفاق الوعظي الذي لن يقدم أي
جديد ولن يسمع أحد ,لذلك فسبيل تجديد الخطاب الديني يبدأ من ثورة فكرية ال
شكلية ,بل ثورة حقيقية .
* *الفهرست
- 32ص , 233ص – 234كتاب "رؤية إسالمية" – د.زكي نجيب محمود –الطبعة األولي1407 -هـ 1987م
- 33المرجع السابق ص233
28
ـ المقدمة
ـ الفصل األول ـ مدخل حول تجديد الخطاب الديني.
-1تعريف الخطاب الديني0
-2ما هي المشكلة التي تواجه تجديد الخطاب الديني.
-3نقاط البحث.
*المراجع*
**********