You are on page 1of 9

‫نزول القرآن وتنزالت القرآن (أنواعه) وحكمه‬

‫أ‪ .‬معنى نزول القرآن‬


‫جاء التعبير بمادة نزول القرآن وما تصرف منها في الكتاب والسنة ومن‬
‫ق نَزَ َل} وقوله‬‫ق أ َ ْنزَ ْلنَاهُ َو ِب ْال َح ِ‬‫{و ِب ْال َح ِ‬
‫أمثلته قوله سبحانه في سورة اإلسراء‪َ :‬‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪" :‬إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف" ‪ .‬وهو حديث‬
‫مشهور بل قيل فيه بالتواتر كما سيأتي‪.‬لكن النزول في استعمال اللغة يطلق‬
‫ويراد به الحلول في مكان واألوي به‪ .‬ومنه قولهم نزل األمير المدينة‬
‫والمتعدي منه وهو اإلنزال يكون معناه إحالل الغير في مكان وإيواءه به‪ .‬ومنه‬
‫ت َخي ُْر ْال ُم ْن ِز ِلينَ } ويطلق‬ ‫اركا ً َوأ َ ْن َ‬ ‫ب أ َ ْن ِز ْلنِي ُم ْنزَ الً ُم َب َ‬
‫{ر ِ‬ ‫قوله جل ذكره‪َ :‬‬
‫النزول إطالقا آخر في اللغة على انحدار الشيء من علو إلى سفل نحو نزل‬
‫فالن من الجبل‪ .‬والمتعدي منه يكون معناه تحريك الشيء من علو إلى سفل‬
‫اء َما ًء}‪.‬‬ ‫س َم ِ‬‫ومنه قوله سبحانه‪{ :‬أ َ ْنزَ َل ِمنَ ال َّ‬
‫وال ريب أن كال هذين المعنيين ال يليق إرادته هنا في إنزال هللا للقرآن‬
‫وال في نزول القرآن من هللا لما يلزم هذين المعنيين من المكانية والجسمية‪.‬‬
‫والقرآن ليس جسما حتى يحل في مكان أو ينحدر من علو إلى سفل سواء أردنا‬
‫به الصفة القديمة المتعلقة بالكلمات الغيبية األزلية أم أردنا به نفس تلك الكلمات‬
‫أم أردنا به اللفظ المعجز لما علمت من تنزه الصفة القديمة ومتعلقها وهو‬
‫الكلمات الغيبية عن الحوادث وأعراض الحوادث ولما تعرفه من أن األلفاظ‬
‫أعراض سيالة تنقضي بمجرد النطق بها كما يقولون‪ .‬إذن فنحن بحاجة إلى‬
‫التجوز والمجاز بابه واسع وميدانه فسيح‪ .‬وليكن المعنى المجازي إلنزال‬
‫القرآن هو اإلعالم في جميع إطالقاته‪ .‬أما على أن المراد بالقرآن الصفة‬
‫القديمة أو متعلقها فإنزاله‪ :‬اإلعالم به بواسطة ما يدل عليه من النقوش بالنسبة‬
‫إلنزاله في اللوح المحفوظ وفي بيت العزة من السماء الدنيا وبواسطة ما يدل‬
‫عليه من األلفاظ الحقيقية بالنسبة إلنزاله على قلب النبي صلى هللا عليه وسلم‬
‫والعالقة بين المعنى الحقيقي والمعنى المجازي هي اللزوم ألن إنزال شيء إلى‬
‫شيء يستلزم إعالم من أنزل إليه ذلك الشيء به إن كان عاقال ويستلزم إعالم‬
‫من يطلع عليه من الخلق به مطلقا وإذن فالمجاز مرسل‪.‬‬
‫وأما على أن المراد بالقرآن اللفظ المعجز فمعنى إنزاله اإلعالم به أيضا‬
‫ولكن بوساطة إثباته هو أو إثبات داله فإثباته هو بالنسبة إلنزاله على قلب النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم وإثبات داله بالنسبة إلى اللوح المحفوظ وبيت العزة‬
‫والعالقة اللزوم كذلك والمجاز مرسل كسابقه‪.‬‬
‫ويمكن أن يكون هذا التجوز من قبيل االستعارة التصريحية األصلية بأن‬
‫يشبه إعالم السيد لعبده بإنزال الشيء من علو إلى سفل بجامع أن في كل من‬
‫طرفي التشبيه صدورا من جانب أعلى إلى جانب أسفل وإن كان العلو والسفل‬
‫في وجه الشبه حسيا بالنسبة إلى المشبه به ومعنويا بالنسبة إلى المشبه‪.‬‬
‫وأنت خبير بأن النزول مطاوع اإلنزال فما يجري من التجوز في‬
‫أحدهما يجري نظيره في اآلخر‪ .‬وقل مثل ذلك في التنزيل والتنزل‪ .‬وكأن وجه‬
‫اختيار التعبير بمادة اإلنزال وما تصرف منها أو التقى معها هو التنويه بشرف‬
‫ذلك الكتاب نظرا إلى ما تشير إليه هذه المادة من علو صاحب هذا الكتاب‬
‫المنزل علوا كبيرا كما قال تعالى في فاتحة سورة الزخرف‪{ :‬حم َو ْال ِكتَا ِ‬
‫ب‬
‫ي‬ ‫ين‪ِ ،‬إنَّا َج َع ْلنَاهُ قُ ْرآنا ً َع َر ِبيا ً لَ َعلَّ ُك ْم ت َ ْع ِقلُونَ ‪َ ،‬وإِنَّهُ ِفي أ ُ ِم ْال ِكتَا ِ‬
‫ب لَدَ ْينَا لَ َع ِل ٌّ‬ ‫ْال ُم ِب ِ‬
‫َح ِكي ٌم}‪.‬‬
‫ثم إن تأويل اإلنزال باإلعالم على ما رأيت هو األقرب واألوفق بالمقام‬
‫وذلك من وجوه ثالثة‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن تعلق الكالم تعلق داللة وإفهام وال ريب أن القرآن كالم فتأويل‬
‫إنزاله باإلعالم رجوع إلى ما هو معلوم من تعلقه ومفهوم من تحققه‪.‬‬
‫ثانيها ‪ :‬أن المقصود من ثبوت القرآن في اللوح وفي سماء الدنيا وفي قلب النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم هو إعالم الخلق في العالمين العلوي والسفلي بما شاء هللا‬
‫داللة البشر عليه من هذا الحق‪.‬‬
‫ثالثها ‪ :‬أن تفسير اإلنزال باإلعالم ينسجم مع القرآن بأي إطالق من إطالقاته‬
‫وعلى أي تنزل من تنزالته‪.‬‬
‫تنزالت القرآن (انواعه)‬ ‫ب‪.‬‬
‫شرف هللا هذا القرآن بأن جعل له ثالثة تنزالت‪:‬‬
‫أ‪ -‬التنزل األول إلى اللوح المحفوظ‪ .‬ودليله قول سبحانه‪{ :‬بَ ْل هُ َو‬
‫قُ ْر ٌ‬
‫آن َم ِجيدٌ فِي لَ ْوحٍ َم ْحفُوظٍ } ‪ .‬وكان هذا الوجود في اللوح بطريقة وفي‬
‫وقت ال يعلمهما إال هللا تعالى ومن أطلعه على غيبه‪ .‬وكان جملة ال‬
‫مفرقا ألنه الظاهر من اللفظ عند اإلطالق وال صارف عنه‪ .‬وألن أسرار‬
‫تنجيم القرآن على النبي صلى هللا عليه وسلم ال يعقل تحققها في هذا‬
‫التنزل‪.‬‬
‫وحكمة هذا النزول ترجع إلى الحكمة العامة من وجود اللوح‬
‫نفسه وإقامته سجال جامعا لكل ما قضى هللا وقدر وكل ما كان وما يكون‬
‫من عوالم اإليجاد والتكوين‪ .‬فهو شاهد ناطق ومظهر من أروع المظاهر‬
‫الدالة على عظمة هللا وعلمه وإرادته وحكمته وواسع سلطانه وقدرته‪.‬‬
‫وال ريب أن اإليمان به يقوي إيمان العبد بربه من هذه النواحي ويبعث‬
‫الطمأنينة إلى نفسه والثقة بكل ما يظهره هللا لخلقه من ألوان هدايته‬
‫وشرائعه وكتبه وسائر أقضيته وشؤونه في عباده كما يحمل الناس على‬
‫السكون والرضا تحت سلطان القدر والقضاء ومن هنا تهون عليهم‬
‫صيبَ ٍة فِي‬ ‫اب ِم ْن ُم ِ‬ ‫ص َ‬ ‫الحياة بضرائها وسرائها كما قال جل شأنه‪َ { :‬ما أ َ َ‬
‫ب ِم ْن قَ ْب ِل أ َ ْن نَب َْرأ َهَا إِ َّن ذَ ِل َك َعلَى َّ‬
‫َّللاِ‬ ‫ض َوال فِي أ َ ْنفُ ِس ُك ْم إِ َّال فِي ِكتَا ٍ‬ ‫ْاأل َ ْر ِ‬
‫س ْوا َعلَى َما فَات َ ُك ْم َوال ت َ ْف َر ُحوا بِ َما آتَا ُك ْم َو َّ‬
‫َّللاُ ال يُ ِحبُّ ُك َّل‬ ‫ِير‪ِ .‬ل َكيْال تَأ ْ َ‬
‫يَس ٌ‬
‫ور} ا‪ .‬هـ من سورة الحديد‬ ‫ُم ْختَا ٍل فَ ُخ ٍ‬
‫ولإليمان باللوح وبالكتابة فيه أثر صالح في استقامة المؤمن على‬
‫الجادة وتفانيه في طاعة هللا ومراضيه وبعده عن مساخطه ومعاصيه‬
‫العتقاده أنها مسطورة عند هللا في لوحه‪ .‬مسجلة لديه في كتابه‪ .‬كما قال‬
‫ير ُم ْست َ َ‬
‫ط ٌر} ا‪ .‬هـ من سورة القمر‪.‬‬ ‫ير َو َكبِ ٍ‬ ‫{و ُك ُّل َ‬
‫ص ِغ ٍ‬ ‫جل ذكره‪َ :‬‬
‫ب ‪ -‬التنزل الثاني للقرآن كان هذا التنزل الثاني إلى بيت العزة‬
‫في السماء الدنيا‪ .‬والدليل عليه قوله سبحانه في سورة الدخان‪ِ { :‬إنَّا‬
‫ار َكةٍ} ‪ .‬وفي سورة القدر { ِإنَّا أ َ ْنزَ ْلنَاهُ فِي لَ ْيلَ ِة ْالقَ ْد ِر} ‪.‬‬ ‫أ َ ْنزَ ْلنَاهُ فِي لَ ْيلَ ٍة ُمبَ َ‬
‫آن}‪.‬‬ ‫ضانَ الَّذِي أ ُ ْن ِز َل فِي ِه ْالقُ ْر ُ‬
‫ش ْه ُر َر َم َ‬
‫وفي سورة البقرة { َ‬
‫دلت هذه اآليات الثالث على أن القرآن أنزل في ليلة واحدة‬
‫توصف بأنها مباركة أخذا من آية الدخان وتسمى ليلة القدر أخذا من آية‬
‫سورة القدر وهي من ليالي شهر رمضان أخذا من آية البقرة‪ .‬وإنما قلنا‬
‫ذلك جمعا بين هذه النصوص في العمل بها ودفعا للتعارض فيما بينها‪.‬‬
‫ومعلوم باألدلة القاطعة كما يأتي أن القرآن أنزل على النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم مفرقا ال في ليلة واحدة بل في مدى سنين عددا فتعين أن‬
‫يكون هذا النزول الذي نوهت به هذه اآليات الثالث نزوال آخر غير‬
‫النزول على النبي صلى هللا عليه وسلم‪ .‬وقد جاءت األخبار الصحيحة‬
‫مبينة لمكان هذا النزول وأنه في بيت العزة من السماء الدنيا كما تدل‬
‫الروايات اآلتية‪:‬‬
‫‪ -1‬أخرج الحاكم بسنده عن سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال‪ :‬فصل القرآن‬
‫من الذكر فوضع في بيت العزة من السماء الدنيا فجعل جبريل ينزل به على‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ -2‬وأخرج النسائي والحاكم والبيهقي من طريق داود بن أبي هند عن عكرمة‬
‫عن ابن عباس أنه قال‪ :‬أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا ليلة القدر ثم‬
‫ق‬ ‫{وال يَأْتُون ََك بِ َمث َ ٍل إِ َّال ِجئْن َ‬
‫َاك بِ ْال َح ِ‬ ‫أنزل بعد ذلك في عشرين سنة ثم قرأ‪َ :‬‬
‫ث َون ََّز ْلنَاهُ ت َ ْن ِزيالً}‪.‬‬
‫اس َعلَى ُم ْك ٍ‬ ‫{وقُ ْرآنا ً فَ َر ْقنَاهُ ِلت َ ْق َرأَهُ َعلَى النَّ ِ‬ ‫َوأ َ ْح َ‬
‫سنَ ت َ ْفسِيراً}‪َ .‬‬
‫‪ -3‬وأخرج الحاكم والبيهقي وغيرهما من طريق منصور عن سعيد بن جبير‬
‫عن ابن عباس قال‪ :‬أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا وكان بمواقع‬
‫النجوم وكان هللا ينزله على رسوله صلى هللا عليه وسلم بعضه في إثر بعض‪.‬‬
‫‪ -4‬وأخرج ابن مردويه والبيهقي عن ابن عباس أنه سأله عطية بن األسود فقال‬
‫آن} وقوله‪:‬‬‫ضانَ الَّذِي أ ُ ْن ِز َل فِي ِه ْالقُ ْر ُ‬
‫ش ْه ُر َر َم َ‬
‫أوقع في قلبي الشك قوله تعالى‪َ { :‬‬
‫{ ِإنَّا أ َ ْنزَ ْلنَاهُ فِي لَ ْيلَ ِة ْالقَ ْد ِر} ‪ .‬وهذا أنزل في شوال وفي ذي القعدة وفي ذي‬
‫الحجة وفي المحرم وصفر وشهر ربيع‪ .‬فقال ابن عباس إنه أنزل في رمضان‬
‫في ليلة القدر جملة واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم رسال في الشهور واأليام‪.‬‬
‫قال أبو شامة‪ :‬رسال أي رفقا‪ .‬وعلى مواقع النجوم أي على مثل مساقطها‪ .‬يريد‬
‫أنه أنزل في رمضان في ليلة القدر جملة واحدة ثم أنزل على مواقع النجوم‬
‫مفرقا يتلو بعضه بعضا على تؤدة ورفق‪.‬‬
‫هذه أحاديث أربعة من جملة أحاديث ذكرت في هذا الباب وكلها‬
‫صحيحة كما قال السيوطي وهي أحاديث موقوفة على ابن عباس غير‬
‫أن لها حكم المرفوع إلى النبي صلى هللا عليه وسلم لما هو مقرر من أن‬
‫قول الصحابي ما ال مجال للرأي فيه ولم يعرف باألخذ عن اإلسرائيليات‬
‫حكمه حكم المرفوع‪ .‬وال ريب أن نزول القرآن إلى بيت العزة من أنباء‬
‫الغيب التي ال تعرف إال من المعصوم وابن عباس لم يعرف باألخذ عن‬
‫اإلسرائيليات فثبت االحتجاج بها‪.‬‬
‫وكان هذا النزول جملة واحدة في ليلة واحدة هي ليلة القدر كما‬
‫علمت ألنه المتبادر من نصوص اآليات الثالث السابقة وللتنصيص على‬
‫ذلك في األحاديث التي عرضناها عليك‪ .‬بل ذكر السيوطي أن القرطبي‬
‫نقل حكاية اإلجماع على نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى بيت‬
‫العزة في السماء الدنيا‪.‬‬
‫وهناك قول ثان بنزول القرآن إلى السماء الدنيا في عشرين ليلة‬
‫قدر أو ثالث وعشرين أو خمس وعشرين ينزل في كل ليلة قدر منها ما‬
‫يقدر هللا إنزاله في كل السنة ثم ينزل بعد ذلك منجما في جميع السنة‬
‫على النبي صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫وثمة قول ثالث‪ :‬أنه ابتدئ إنزاله في ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك‬
‫منجما في أوقات مختلفة من سائر األزمان على النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ .‬وكأن صاحب هذا القول ينفي النزول جملة إلى بيت العزة في ليلة‬
‫القدر‬
‫وذكروا قوال رابعا أيضا هو أنه نزل من اللوح المحفوظ جملة‬
‫واحدة وأن الحفظة نجمته على جبريل في عشرين ليلة وأن جبريل نجمه‬
‫على النبي صلى هللا عليه وسلم في عشرين سنة‪ .‬ولكن هذه األقوال‬
‫الثالثة األخيرة بمعزل عن التحقيق وهي محجوجة باألدلة التي سقناها‬
‫بين يديك تأييدا للقول األول‪.‬‬
‫والحكمة في هذا النزول على ما ذكره السيوطي نقال عن أبي‬
‫شامة هي تفخيم أمره أي القرآن وأمر من نزل عليه بإعالم سكان‬
‫السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل ألشرف‬
‫األمم وبإنزاله مرتين مرة جملة ومرة مفرقا‪ .‬بخالف الكتب السابقة فقد‬
‫كانت تنزل جملة مرة واحدة‪.‬‬
‫وذكر بعضهم أن النزول إلى السماء الدنيا إلهابا لشوق النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم إليه على حد قول القائل‪ :‬وأعظم ما يكون الشوق‬
‫يوما ‪ ...‬إذا دنت الخيام من الخيام أقول‪ :‬وفي تعدد النزول وأماكنه مرة‬
‫في اللوح وأخرى في بيت العزة وثالثة على قلب النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ :‬في ذلك التعدد مبالغة في نفي الشك عن القرآن وزيادة لإليمان‬
‫وباعث على الثقة فيه ألن الكالم إذا سجل في سجالت متعددة وصحت‬
‫له وجودات كثيرة كان ذلك أنفى للريب عنه وأدعى إلى تسليم ثبوته‬
‫وأدنى إلى وفرة اإليقان به مما لو سجل في سجل واحد أو كان له وجود‬
‫واحد‪.‬‬
‫ج ‪ -‬التنزل الثالث للقرآن هذا هو واسطة عقد التنزالت‪ .‬ألنه المرحلة‬
‫األخيرة التي منها شع النور على العالم ووصلت هداية هللا إلى الخلق وكان هذا‬
‫النزول بوساطة أمين الوحي جبريل يهبط به على قلب النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ .‬ودليله قول هللا تعالى في سورة الشعراء مخاطبا لرسوله عليه الصالة‬
‫ان َع َر ِبي ٍ‬
‫س ٍ‬‫ين‪َ .‬علَى قَ ْل ِب َك ِلت َ ُكونَ ِمنَ ْال ُم ْنذ ِِرينَ ‪ِ .‬ب ِل َ‬
‫الرو ُح ْاأل َ ِم ُ‬
‫والسالم‪{ :‬نَزَ َل ِب ِه ُّ‬
‫ين}‪.‬‬
‫ُم ِب ٍ‬
‫حكمة نزول القرآن ُمنَ َّج ًما‪:‬‬ ‫ج‪.‬‬
‫نستطيع أن نستخلص حكمة نزول القرآن الكريم ُمنَ َّج ًما من النصوص‬
‫الواردة في ذلك‪ .‬ونجملها فيما يأتي‪:‬‬
‫الحكمة األولى‪ :‬تثبيت فؤاد رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫‪ -1‬الحكمة األولى‪ :‬تثبيت فؤاد رسول هللا‪ ,‬صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫نفورا‬
‫ً‬ ‫لقد وجه رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬دعوته إلى الناس‪ ،‬فوجد منهم‬
‫وقسوة‪ ،‬وتصدى له قوم غالظ األكباد فُ ِطروا على الجفوة‪ ،‬و ُج ِبلوا على‬
‫العناد‪(,‬نقص ص‪)104-102‬‬
‫‪ -2‬الحكمة الثانية‪ :‬التحدي واإلعجاز‪.‬‬
‫توهم‪ ،‬وكانوا يسألون أسئلة تعجيز‬ ‫ع ِ‬
‫فالمشركون تمادوا في غيهم‪ ،‬وبالغوا في ُ‬
‫وتحد يمتحنون بها رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬في نبوته‪ ،‬ويسوقون له‬
‫سا َع ِة} ‪،1‬‬‫من ذلك كل عجيب من باطلهم‪ ،‬كعلم الساعة‪{ :‬يَ ْسأَلون ََك َع ِن ال َّ‬
‫ب} ‪ ,2‬فيتنزل القرآن بما يبين وجه‬ ‫{ويَ ْست َ ْع ِجلُون ََك ِب ْال َعذَا ِ‬
‫واستعجال العذاب َ‬
‫{وال‬
‫الحق لهم‪ ،‬وبما هو أوضح معنى في مؤدى أسئلتهم‪ ،‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫ِيرا} ‪ ,3‬أي وال يأتونك بسؤال عجيب‬ ‫سنَ ت َ ْفس ً‬ ‫ق َوأ َ ْح َ‬ ‫َيأْتُون ََك ِب َمث َ ٍل إِ َّال ِجئْن َ‬
‫َاك ِب ْال َح ِ‬
‫من أسئلتهم الباطلة إال أتيناك نحن بالجواب الحق‪ ،‬وبما هو أحسن معنًى من‬
‫تلك األسئلة التي هي َمثل في البطالن‪.‬‬
‫وحيث عجبوا من نزول القرآن ُمنَ َّج ًما بيَّن هللا لهم الحق في ذلك‪ ،‬فإن تحديهم به‬
‫مفرقًا مع عجزهم عن اإلتيان بمثله أدخل في اإلعجاز‪ ،‬وأبلغ في الحجة من أن‬
‫ينزل جملة ويقال لهم‪ :‬جيئوا بمثله‪ ،‬ولهذا جاءت اآلية عقب اعتراضهم‪{ :‬لَ ْوال‬
‫احدَةً} أي ال يأتونك بصفة عجيبة يطلبونها كنزول‬ ‫آن ُج ْملَةً َو ِ‬ ‫نُ ِز َل َعلَ ْي ِه ْالقُ ْر ُ‬
‫القرآن جملة إال أعطيناك من األحوال ما يحق لك في حكمتنا وبما هو أبين‬
‫معنًى في إعجازهم‪ ،‬وذلك بنزوله مفرقًا‪ ،‬ويشير إلى هذه الحكمة ما جاء ببعض‬
‫الروايات في حديث ابن عباس عن نزول القرآن‪" :‬فكان المشركون إذا أحدثوا‬
‫شيئًا أحدث هللا لهم جوابًا"‪.4‬‬
‫‪ -3‬الحكمة الثالثة‪ :‬تيسير حفظه وفهمه‬
‫لقد نزل القرآن الكريم على أمة أمية ال تعرف القراءة والكتابة‪ ،‬سجلها ذاكرة‬
‫وتدون‪ ،‬ثم تحفظ وتفهم‪:‬‬ ‫ِ‬ ‫حافظة‪ ،‬ليس لها دراية بالكتابة والتدوين حتى تكتب‬
‫وال ِم ْن ُه ْم يَتْلُو َعلَ ْي ِه ْم آ َيا ِت ِه َويُزَ ِكي ِه ْم َويُ َع ِل ُم ُه ُم‬
‫س ً‬‫ث ِفي ْاأل ُ ِم ِيينَ َر ُ‬ ‫{ ُه َو الَّذِي َب َع َ‬
‫ين} ‪{ ،1‬الَّذِينَ يَت َّ ِبعُونَ‬ ‫ضال ٍل ُم ِب ٍ‬ ‫اب َو ْال ِح ْك َمةَ َو ِإ ْن َكانُوا ِم ْن قَ ْب ُل لَ ِفي َ‬ ‫ْال ِكت َ َ‬
‫ي} ‪ ,2‬فما كان لألمة األمية أن تحفظ القرآن كله بيسر لو‬ ‫ي ْاأل ُ ِم َّ‬ ‫سو َل النَّ ِب َّ‬‫الر ُ‬
‫َّ‬
‫نزل جملة واحدة‪ ،‬وأن تفهم معانيه وتتدبر آياته‪ ،‬فكان نزوله مفرقًا خير عون‬
‫لها على حفظه في صدورها وفهم آياته‪ ،‬كلما نزلت اآلية أو اآليات حفظها‬
‫الصحابة وتدبروا معانيها‪ ،‬ووقفوا عند أحكامها‪ ،‬واستمر هذا منه ًجا للتعليم في‬
‫حياة التابعين‪ ,‬عن أبي نضرة قال‪" :‬كان أبو سعيد الخدري يعلمنا القرآن خمس‬
‫آيات بالغداة‪ ،‬وخمس آيات بال َعشي‪ ،‬ويخبر أن جبريل نزل بالقرآن خمس آيات‬
‫خمس آيات"‪ ،3‬وعن خالد بن دينار قال‪" :‬قال لنا أبو العالية‪ :‬تعلموا القرآن‬
‫خمس آيات خمس آيات‪ ،‬فإن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬كان يأخذه من‬
‫سا"‪.4‬‬ ‫سا خم ً‬ ‫جبريل خم ً‬
‫وعن عمر قال‪" :‬تعلموا القرآن خمس آيات خمس آيات‪ ،‬فإن جبريل كان ينزل‬
‫سا"‪.5‬‬
‫سا خم ً‬
‫بالقرآن على النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬خم ً‬
‫‪ -4‬الحكمة الرابعة‪ :‬مسايرة الحوادث والتدرج في التشريع‪.‬‬
‫فما كان الناس ليسلس قيادهم طفرة للدين الجديد لوال أن القرآن عالجهم بحكمه‪،‬‬
‫وأعطاهم من دوائه الناجع جرعات يستطبون بها من الفساد والرذيلة‪ ،‬وكلما‬
‫جلي لهم صبحها ويرشدهم إلى الهدى‪،‬‬ ‫حدثت حادثة بينهم نزل الحكم فيها يُ ِ‬
‫ً‬
‫أصال بعد آخر فكان هذا طبًّا‬ ‫ويضع لهم أصول التشريع حسب المقتضيات‬
‫لقلوبهم‪.‬‬
‫لقد كان القرآن الكريم بادئ ذي بدء يتناول أصول اإليمان باهلل تعالى ومالئكته‬
‫وكتبه ورسله واليوم اآلخر وما فيه من بعث وحساب وجزاء وجنة ونار‪ ،‬ويقيم‬
‫على ذلك الحجج والبراهين حتى يستأصل من نفوس المشركين العقائد الوثنية‬
‫ويغرس فيها عقيدة اإلسالم‪.‬‬
‫وكان يأمر بمحاسن األخالق التي تزكو بها النفس ويستقيم عوجها‪ ،‬وينهى عن‬
‫ويبين قواعد الحالل والحرام التي‬
‫الفحشاء والمنكر ليقتلع جذور الفساد والشر‪ِ .‬‬
‫يقوم عليها صرح الدين‪ ،‬وترسو دعائمه في المطاعم والمشارب واألموال‬
‫واألعراض والدماء‪ .‬ثم تدرج التشريع باألمة في عالج ما تأصل في النفوس‬
‫من أمراض اجتماعية‪.‬‬
‫‪ -5‬الحكمة الخامسة‪ :‬الداللة القاطعة على أن القرآن الكريم تنزيل من حكيم‬
‫حميد‪.‬‬
‫إن هذا القرآن الذي نزل ُمنَ َّج ًما على رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬في أكثر‬
‫من عشرين عا ًما تنزل اآلية أو اآليات على فترات من الزمن يقرؤه اإلنسان‬
‫ويتلو سوره فيجده محكم النسج‪ ،‬دقيق السبك‪ ،‬مترابط المعاني‪ ،‬رصين‬
‫األسلوب‪ ،‬متناسق اآليات والسور‪ ،‬كأنه عقد فريد نظمت حباته بما لم يُعهد له‬
‫ير} ‪.1‬‬ ‫ت ِم ْن لَد ُْن َح ِك ٍيم َخ ِب ٍ‬ ‫صلَ ْ‬ ‫ت آيَاتُهُ ث ُ َّم فُ ِ‬ ‫اب أ ُ ْح ِك َم ْ‬
‫مثيل في كالم البشر‪ِ { :‬كت َ ٌ‬
‫ولو كان هذا القرآن من كالم البَشر قيل في مناسبات متعددة‪ ،‬ووقائع متتالية‪،‬‬
‫وأحداث متعاقبة‪ ،‬لوقع فيه التفكك واالنفصام‪ ،‬واستعصى أن يكون بينه التوافق‬
‫يرا} ‪.1‬‬ ‫َّللاِ لَ َو َجد ُوا ِفي ِه ْ‬
‫اخ ِتالفًا َك ِث ً‬ ‫{ولَ ْو َكانَ ِم ْن ِع ْن ِد َغي ِْر َّ‬ ‫واالنسجام‪َ :‬‬
‫فأحاديث رسول هللا‪ ,‬صلى هللا عليه وسلم ‪-‬وهي في ذروة الفصاحة والبالغة‬
‫بعد القرآن الكريم‪ -‬ال تنتظم حباتها في كتاب واحد سلس العبارة يأخذ بعضه‬
‫برقاب بعض في وحدة وترابط بمثل ما عليه القرآن الكريم أو ما يدانيه اتساقًا‬
‫س َو ْال ِج ُّن‬ ‫ت ِْ‬
‫اإل ْن ُ‬ ‫اجت َ َم َع ِ‬‫وانسجا ًما‪ .‬فكيف بكالم سائر البشر وأحاديثهم‪{ :‬قُ ْل لَئِ ِن ْ‬
‫يرا}‬ ‫ظ ِه ً‬ ‫ض َ‬ ‫ض ُه ْم ِل َب ْع ٍ‬‫آن ال َيأْتُونَ ِب ِمثْ ِل ِه َولَ ْو َكانَ َب ْع ُ‬ ‫َعلَى أ َ ْن َيأْتُوا ِب ِمثْ ِل َهذَا ْالقُ ْر ِ‬

You might also like