You are on page 1of 16

‫‪1‬‬

‫الطريق إلى ”تل الزعتر“‪:‬‬


‫أربعون عاما على المجزرة‪...‬أربعون عاما على أول (وآخر)‬
‫”انشقاق ثوري“ في الجيش السوري(*)‬

‫ـ ”ليسامحني هللا‪ ،‬إني أحب هذا الرجل(حافظ األسد) مهما سالت على يديه الدماء“ (هنري كيسنجر) (**)‬

‫ـ ”إن حافظ األسد‪،‬وبخالف العام ‪،8591‬هو اآلن األسطول السادس األميركي في لبنان“(دين براون) )**(‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫نـــزار نيـــوف ـ ( لندن ـ أوائل آب ‪)6182‬‬

‫مقطع عشوائي من سيرة ذاتية قد ال تُكتب أبدا‪” :‬درس قشرة الموز “‬

‫ويطوقني ونحن في طريقنا إلى السوق في‬ ‫ّ‬ ‫حصل ذلك أوائل صيف العام ‪ ،8591‬حين كان يضع يده على كتفي‬
‫"مصياف" ليشتري لي بعض الكتب والمجالت من "مكتبة الجاحظ"‪ ،‬وبعض الهدايا التي كان وعدني بها في آخر‬
‫إجازة له قبل ذلك التاريخ بحوالي عام كامل‪ ،‬لم يتمكن من إحضارها معه‪ ،‬فقد جاء الرجل الذي لم يتم عقدَه الثالث من‬
‫وحدته العسكرية في سفوح "جبل الشيخ" مباشرة ‪.‬‬

‫كنت في الثانية عشرة من عمري‪ ،‬وكانت إجازت َه األولى بعد انتهاء حرب تشرين و"حرب االستنزاف" وانتهاء هنري‬
‫كينسجر من جوالته المكوكية التي اختُتِمت بإبرام اتفاقية "فصل القوات"‪ ،‬واتفاقيات أخرى بقيت " ِس ِ ّريةَ" الور ِ‬
‫ق‬
‫والحبر‪ ،‬ولو أن مضمونها سيبدأ بالظهور بعد ذلك بأقل من عامين‪ ،‬إنما على أرض لبنان ‪.‬‬

‫قبالة مركز البريد‪ ،‬عند مدخل "كراج وادي العيون"‪ ،‬وعلى صندوق خشبي بدا أنه صندوق خضار تالف‪ ،‬جلست امرأة‬
‫في العقد الخامس من عمرها ترتدي زيا فالحيا تنتظر "بوسطة" القرية لتعود بها‪ ،‬بينما جلس إلى جانبها طفل قدّرتُ أن‬
‫عمره في حوالي الخامسة‪ .‬على حين غفلة منها‪ ،‬وبينما كنا نعبر الشارع أمام مركز البريد‪ ،‬قفز الطفل إلى برميل قمامة‬ ‫َ‬
‫ُفرغ منذ أيام‪،‬‬
‫قشور موز ٍة كانت مما فاض على األرض من البرميل الذي بدا أنه لم ي ّ‬
‫َ‬ ‫على مدخل "الكراج" والتقط منه‬
‫فقد كان الذباب يطير من حوله أسرابا‪ .‬وقبل أن يعود إلى حضن المرأة التي قدّرت أنها أ ُّمه‪ ،‬أخذ يكشط بأسنانه بقايا‬
‫بطانتها الداخلية من األلياف المتعفنة‪.‬غير أن متعته لم تكتمل‪ ،‬فقد انتبهت أمه إليه وانتزعتها من يده ورمتها بعيدا إلى‬
‫مكانها السابق وهي تنهره بعصبية وتتمتم بعبارات لم أفهم منها شيئا بسبب ضجيج محركات السيارات وصراخ الناس و‬
‫أزيز جهاز اللحام الكهربائي الذي يخطف األبصار في "ورشة بازو" المجاورة ‪.‬‬

‫ضغطتُ بيدي اليسرى على يد الرجل التي كانت تطوقني‪ ،‬محاوال أن ألفتَ انتبا َهه إلى ما فعله الطفل‪ ،‬وموجها له أول‬
‫"سؤال طبقي" أطرحه في حياتي‪ :‬لماذا يريد أن يأكل بطانة قشور الموزة رغم أنها من الزبالة؟ ولماذا ال تشتري له أمه‬
‫موزا ً من الدكان القريب!؟‬

‫"قصة طويلة ‪ ،‬حبيبي‪ ،‬بس نرجع للبيت بشرحلك اياها"‪ .‬قال الرجل وهو يسرع المشي إلى الدكان المقابل لـ"الكراج"‪،‬‬
‫موز صغيرا ويعودَ مسرعا إلى‬ ‫وكان يملكه ـ كما أذكر ـ جارنا في الحي "خليل عثمان أبو ابراهيم"‪ ،‬ليشتري منه عنقودَ ٍ‬
‫‪2‬‬

‫المرأة والطفل‪ .‬وقبل أن يعطي الكيس للمرأة‪ ،‬فتحه وانتزع منه موزة وأعطاها للطفل المندهش مما يحصل‪ ،‬بينما كان‬
‫يقبّله على رأسه ويتمتم له بعبارات لم أسمع منها شيئا ‪.‬‬

‫حين عدنا إلى البيت شرح لي "درس قشرة الموز"‪ ،‬الذي كان سببا في أول "انشقاق" لي على الدنيا والعالم والنظام‬
‫المحلي والكوني‪ .‬قال ‪":‬أمه لم تستطع أن تشتري له موزا‪ ،‬ألنها ال تملك نقودا‪ .‬وهي ال تملك النقود‪ ،‬ألنها فقيرة‪ .‬وهي‬
‫فقيرة ألن هنا أغنيا ًء وحكومةً يسرقون كل شيء وال يبقون لها ما تشتري به الموز البنها"‪ .‬واستفاض الرجل في‬
‫شرحه ‪ ،‬وتحدث عن أشياء لم أفهم منها إال النذر اليسير جدا‪ .‬فقد كانت أشبه بطالسم بالنسبة لصبي في عمري‪ .‬لكنني‬
‫سأكتشف بعد عشرة أعوام على ذلك‪ ،‬أو يزيد قليال‪ ،‬أن ما قاله هو روح قانون "القيمة الزائدة"‪ ،‬أو باألحرى "قانون‬
‫السرقة الشرعية"‪ ،‬الذي صرف عليه كارل ماركس زهاء ثالثين عاما من عمره الكتشافه وشرحه والبرهان عليه‬
‫بمعادالت رياضية تكشف بعبقرية إعجازية المنطقَ الداخلي شبه الطلسمي لعمل هذا القانون ودوره في إعادة توزيع‬
‫أكثرها يزداد فقرا ً بتناسب عكسي مع ازياد ثراء أقلية منها‪.‬‬
‫الدخل على فئات المجتمع والمنتجين فيجع َل َ‬
‫***‬

‫ثَعلبان في حظيرة دجاج ‪:‬‬

‫عندما حصل االنقالب "البونابرتي" لألسد على الجناح "اليعقوبي ‪ " Jacobinic‬في حزبه بقيادة "روبسبير البعث"‬
‫صالح جديد‪ ،‬تنفيذا للتفاهمات التي أبرمها خالل زيارته األخيرة لبريطانيا نهاية العام ‪ 8529‬ولقائه هنا مع مدير‬
‫المباحث السعودية (المخابرات الحقا) "كمال أدهم"‪ ،‬بعد أشهر على زيارته األولى مطلع شهر أيار من العام المذكور‪،‬‬
‫كان البرنامج السياسي الخارجي لألسد يقوم على ثالث نقاط أساسية ‪:‬‬

‫أوال ‪ -‬تطب يع العالقات مع الواليات المتحدة والغرب عموما‪ ،‬و مع معسكرها العربي خصوصا‪ ،‬ال سيما السعودية‪،‬‬
‫تحت الشعار الذي اجترحه وأطلق عليه اسم "التضامن العربي" ؛‬

‫مغطى سياسيا ً من قبل‬


‫ً‬ ‫ثانيا ـ وضع حد نهائي للعمل الفدائي الفلسطيني انطالقا من الجوالن‪ ،‬وهو العمل الذي كان‬
‫"صالح جديد" الذي كان يرعاه شخصيا‪ .‬وكان هذا أحد جوانب الخالف األساسية بين تيار جديد "اليعقوبي" وتيار‬
‫األسد "البونابرتي" منذ العام ‪8521‬؛‬

‫وثالثا ـ السيطرة على منظمة التحرير‬


‫الفلسطينية وإبرام اتفاقية سالم مع إسرائيل‬
‫"بشروطه وليس بشروطها"‪.‬‬

‫ولهذا كان أول قرار اتخذه األسد بعد االنقالب‬


‫هو االعتراف بإسرائيل من خالل االعتراف‬
‫بقرار مجلس األمن ‪ ،616‬وإعادة العالقات‬
‫الديبلوماسية مع الواليات المتحدة (التي كان‬
‫النظام السابق قط َعها على خلفية حرب حزيران‬
‫ورفض االعتراف بالقرار المذكور‬ ‫َ‬ ‫‪8529‬‬
‫كونه يتضمن اعترافا بإسرائيل)‪ ،‬وتطبيع‬
‫العالقات مع السعودية ودول الخليج وفتح‬
‫أبواب البالد على مصاريعها أمام طيور الظالم‬
‫‪3‬‬

‫ضها التي ستفقس بعد ذلك بأربعة عقود عن جحافل من الثعابين السود ال‬
‫الوهابية لتبني بها أعشاشَها وتض َع فيها بيو َ‬
‫بداية لها وال نهاية‪.‬‬

‫وكانت زيارة الرئيس األميركي نيكسون إلى دمشق صيف العام ‪ ،8591‬رغم المطاردة اإلعالمية التي كان يتعرض لها‬
‫على خلفية "فضيحة ووترغيت"‪ ،‬والحفاوة البالغة التي استٌق ِبل بها والتي بدت أشبه بـ"عراضة شامية" رسمية‪ ،‬تعبيرا ً‬
‫مكثفا ليس عن ذلك فقط‪ ،‬بل وعن مضمون التفاهمات التي أبرمها مع كيسنجر خالل "جوالته المكوكية" التي انتهت بما‬
‫يسمى "فصل القوات" أو"فض االشتبا "‪ .‬وهي تفاهمات ال يزال يكتنفها الكثير من األسرار رغم كل ما فضحه منها‬
‫كيسنجر في مذكراته ‪ ،‬ورغم كل ما نُشِر عنها من وثائق في كتب وتقارير صحفية صدرت في أوربا والواليات المتحدة‬
‫خالل األربعين سنة الماضية‪ ،‬السيما منها ما نشره "إدوارد شيهان"‪ ،Edward Sheehan‬الديبلوماسي والصحفي‬
‫الذي رافق كيسنجر في جوالته وعاش بالقرب منه سنوات طويلة لم تنته إال بوفاته في العام ‪ ( .6111‬راجع على وجه‬
‫الخصوص كتابه الرائد في هذا السياق‪" :‬العرب واإلسرائيليون وكيسنجر ـ تاريخ سري للديبلوماسية األميركية في‬
‫الشرق األوسط‪" :‬‬

‫‪The Arabs, Israelis and Kissinger: A Secret History of American Diplomacy in the‬‬
‫( ‪Middle East, Reader’s Digest Press,1976‬‬

‫حصل قبل ذلك عدد من التطورات والوقائع التي تلقي الضوء على "البرنامج السياسي الخارجي" لألسد األب‪ .‬ففي‬
‫نيسان من العام ‪ ،8591‬وحين كانت "حرب االستنزاف" على وشك االنتهاء بفضل جوالت كيسنجر‪ ،‬قال األسد لياسر‬
‫تنس شيئا مهما ً‪ :‬ليس هنا شعب فلسطيني وال‬ ‫عرفات خالل لقاء جمعهما في دمشق"أنتم ال تمثلون فلسطين (‪ .)...‬ال َ‬
‫كيان فلسطيني‪ ،‬هنا سوريا فقط‪ .‬أنتم جزء ال يتجزأ من الشعب السوري(‪ .)...‬نحن (المسؤولين السوريين)الممثلون‬
‫الحقيقيون للشعب الفلسطيني"(‪ .)8‬وبعد أسبوعين على إبرام "اتفاقية فصل القوات" في ‪ 18‬أيار‪ ،‬وتحديدا في ‪89‬‬
‫حزيران‪ ،‬كانت زيارة نيكسون "التاريخية" لدمشق‪ ،‬وهي أول زيارة لرئيس أميركي إلى سوريا منذ االستقالل‪ .‬وقد‬
‫وزير‬
‫َ‬ ‫تمخض عن الزيارة ـ في سياق االتفاق على تطوير العالقات االستراتيجية بين دمشق و واشنطن ـ إيفادُ األسد‬
‫خارجيته آنذا عبد الحليم خدام إلى الواليات المتحدة في شهر آب‪ ،‬فضال عن استئناف تقديم المساعدات السنوية للنظام‪،‬‬
‫والتي كانت توقفت منذ العام ‪ ،8529‬كما كشفت "نيويور تايمز" في األول من شباط ‪ .)6( 8599‬وعن هذه الزيارة‬
‫يقول كيسنجر في مذكراته‪ ":‬شكلت زيارة خدام إلى الواليات المتحدة‪ ،‬من نواح مختلفة‪ ،‬محطةً قوية في العالقات‬
‫األميركية ـ السورية‪ .‬ولم يتردد خدام خاللها في ممازحتي بالقول إنه سيرسل لي دعوة للمشاركة في مؤتمر القمة‬
‫العربية المقبل ألن زمالءه (وزراء الخارجية العرب) يفشون لي‪ ،‬في جميع األحوال‪ ،‬بكل ما يدور في كواليسها(‪.)...‬‬
‫ومن أجل معاكسة المصريين الذين يمقتهم‪ ،‬لم يعترض خدام على محادثات مع األردن بشأن قسم من الضفة الغربية‪،‬‬
‫مهما كانت المساحة(‪ .)...‬فاألسد لم يحمل أي ود في قلبه لمنظمة لتحرير الفلسطينية‪ ،‬ألن الدولة الفلسطينية تتعارض مع‬
‫إيمانه بسوريا الكبرى‪ .‬وهذه استراتيجيته على المدى البعيد‪.‬ولهذا كان يسعى دوما إلنشاء قيادة فلسطينية جديدة تحت‬
‫الوصاية السورية‪ .)1("....‬وفي ‪ 69‬شباط ‪ ،8599‬أجرى حافظ األسد مقابلة مع أسبوعية "نيوزويك" أعرب خاللها‬
‫عن "أمله في إبرام اتفاقية سالم مع الدولة العبرية"‪ ،‬معتبرا أن "اتفاقية فصل القوات تشكل خطوة على هذا‬
‫الطريق"(‪ .)1‬وقد مارس اإلعالم السوري الرقابة على المقابلة ومنع نشرها في وسائل اإلعالم السورية‪ ،‬كما يحصل‬
‫دوما منذ العام ‪ 8591‬حين يريد النظام منع مواطنيه السوريين من االطالع على تصريحات من هذا النوع تكشف‬
‫نواياه الحقيقية !‬

‫مع نهاية العام ‪ ،8599‬كان ما يُعرف بـ"الحركة الوطنية اللبنانية"‪،‬المتحالفة مع قوات"منظمة التحرير الفلسطينية"‪ ،‬قد‬
‫سيطرت ـ بدعم سوفييتي ـ على ‪ 11‬بالمئة من مساحة لبنان‪ ،‬وانحسر نفوذ خصومها المدعومين من إسرائيل (أي‬
‫‪4‬‬

‫"الجبهة اللبنانية" بمكوناتها األربعة المختلفة) إلى "بيروت الشرقية" وبعض الجيوب األخرى في لبنان‪ .‬وكان هذا آخر‬
‫مشهد يتمنى أن يراه كيسنجر أو األسد‪ ،‬فقرر هذا األخير التدخل في لبنان للقضاء على "الحركة الوطنية" و"منظمة‬
‫التحرير" بطلب من "الجبهة اللبنانية" وبالتفاهم مع األميركيين الذين كانوا ـ طبقا لما سيُنشر الحقا من وثائق في الغرب‬
‫ـ هم من أشعلوا فتيل الحرب األهلية التي بدأت رسميا مع حادثة "بوسطة عين الرمانة" في ‪ 81‬نيسان ‪ ،8599‬وعلى‬
‫نحو غير رسمي قبل ذلك بسنوات‪ ،‬من خالل االعتداءات اإلجرامية المتكررة التي كان يقوم بها الجيش‬
‫اللبناني(المتأمر آنذا ) وجهاز مخابراته‪،‬على الحركة الوطنية والمخيمات الفلسطينية‪ ،‬والتي كان من أبرزها اغتيال‬
‫القائد الناصري المحبوب "معروف سعد" وهو على رأس تظاهرة للصيادين في صيدا في ‪ 62‬شباط من العام نفسه‬
‫(استشهد متأثرا بجراحه في ‪ 2‬آذار)‪ .‬وكان سبب إشعال الحرب‪ ،‬كما سيُجمع الكثير من المؤرخين والسياسيين‬
‫الغربيين‪ ،‬فضال عن وثائق عديدة‪ ،‬هو تأمين الغطاء لـ"اتفاقية سيناء" على الجبهة المصرية‪،‬التي وقعت في‬
‫أيلول‪ ،8599‬والتي كانت بدأت المفاوضات بشأنها قبل ذلك بأشهر‪ ،‬قبل أن تنتهي بإعالن السادات عن استعداده لزيارة‬
‫إسرائيل‪ .‬وهو اإلعالن الذي جاء نتيجة اتصاالت سرية بين الطرفين توالها ديكتاتور رومانيا "تشاوشيسكو"‪ ،‬الذي‬
‫كانت بالدُه الدولة َ الوحيدة في أوربا الشرقية التي حافظت على عالقاتها الرسمية مع إسرائيل بعد عدوان حزيران‬
‫‪ .8529‬وفي وثيقة نادرة‪ ،‬يعترف "روبرت موريس"‪ ،‬العضو السابق في " مجلس األمن القومي األميركي" والرجل‬
‫الذي عمل سنوات عديدة تحت قيادة كيسنجر‪ ،‬بأن "المكتب اإلسرائيلي" في وكالة المخابرات المركزية األميركية هو‬
‫مستشار الرئيس األميركي لشؤون األمن‬
‫َ‬ ‫الجهة التي كانت تدير المعار في لبنان بالتنسيق مع هنري كيسنجر الذي كان‬
‫القومي‪ ،‬والذي كان على اتصال وتنسيق في هذا األمر مع "األصدقاء السوريين"(‪.)9‬‬

‫تدخل سوري ‪ ...‬بإذن إسرائيلي خطي ‪:‬‬

‫يشير التاريخ المتداول لبدء تدخل الجيش السوري في لبنان إلى ‪ 2‬حزيران ‪ .8592‬لكن التدخل الفعلي كان حصل قبل‬
‫ذلك بخمسة أشهر‪ ،‬أي مطلع العام المذكور‪ ،‬حين قام األسد األب بإرسال أكثر من ثمانية آالف مقاتل من عناصر "جيش‬
‫التحرير الفلسطيني" (لواء اليرمو ) و"قوات الصاعقة"‪ ،‬تسلال إلى البقاع اللبناني و"عكار" في الشمال‪ ،‬بتاريخ ‪/ 85‬‬
‫‪ ، 8‬قبل أن يتبعها فوج من "القوات الخاصة " السورية بعد حوالي شهرين‪ ،‬كما سيعترف األسد نفسه في خطابه على‬
‫مدرج جامعة دمشق بتاريخ ‪ 61‬تموز من العام المذكور‪ ،‬حين قال ما حرفيته ‪ ...":‬ومن أجل هذا قدمنا السالح‬
‫والذخائر‪ ،‬وقررنا ان ندخل تحت عنوان جيش التحرير الفلسطيني‪ ،‬وبدأ هذا الجيش بالدخول الى لبنان وال أحد يعرف‬
‫هذا ابدا‪ ،‬لم نأخذ رأي االحزاب الوطنية وال غيرها ولم نأخذ أذنا من أحد ‪ !"...‬لكنه ـ في واقع الحال ـ كذب تماما في‬
‫الشق الثاني من اعترافه‪ .‬فقد حصل على إذن ليس الواليات المتحدة فقط‪ ،‬بل إسرائيل أيضا‪ ،‬كما تكشف وثائق عديدة‬
‫نشرت الحقا ‪.‬‬

‫ففي مقابلة مع صحيفة"ها آرتس" نشرت بتاريخ ‪ 9‬نيسان ‪ ،8559‬كشف السفير اإلسرائيلي في لندن "جدعون‬
‫رافائيل" ‪ ،‬أن رئيس وزراء حكومته‪ ،‬إسحاق رابين‪ ،‬أعطى موافقته الخطية على التدخل السوري في لبنان في العام‬
‫‪ .8592‬وقال ما حرفيته ‪ ":‬إن حافظ األسد أرسل لرابين تفاصيل خطته للتدخل في لبنان عن طريق الملك األردني‬
‫حسين"‪ ،‬مشيرا إلى أن الملك األردني‪ ،‬وخالل وجوده في زيارة لبريطانيا‪ ،‬طلب االجتماع به بتاريخ ‪ 88‬نيسان ‪،8592‬‬
‫وأبلغه بأنه يحمل رسالة لرابين مفادها أن الجيش السوري" لن ينتشر في لبنان إلى أبعد من مدينة صيدا‪ ،‬ولن يقترب من‬
‫الحدود اإلسرائيلية‪ ،‬وسيعمل على ضبط المجموعات الفلسطينية المسلحة التي تفكر بشن عمليات على شمال إسرائيل"‪.‬‬
‫وزاد رافائيل في القول‪":‬إن الرئيس حافظ األسد تعهد لرئيس الوزراء (إسحاق رابين) بأن العملية السورية تهدف فقط‬
‫إلى ضبط منظمة التحرير الفلسطينية‪،‬وأنه سينسحب (من لبنان) فور عودة الهدوء"‪ .‬وختم رافائيل بالقول ‪":‬إن رابين‬
‫وافق على دخول القوات السورية (إلى لبنان) من خالل رسالة وجهها إلى األسد عبر العاهل األردني بتاريخ ‪ 61‬نيسان‬
‫‪5‬‬

‫‪ 8592‬ال تزال محفوظة في إرشيف رئاسة الحكومة اإلسرائيلية‪ ،‬واإلرشيف الرسمي األردني كما أخ ّمن"(‪ .)2‬ومنذ‪68‬‬
‫عاما ‪ ،‬تاريخ هذا التصريح‪ ،‬لم يخرج أي تعليق يكذبه من دمشق!‬

‫في الواقع لم يكن تصريح"رفائيل جدعون" هو الوحيدَ الذي تحدث عما سيُعرف الحقا باسم "تفاهم الخط األحمر" بين‬
‫النظام وإسرائيل‪ ،‬والذي اشتُق اسمه من حقيقة أن اإلذن اإلسرائيلي للنظام السوري بالتدخل في لبنان كان يتضمن إشارة‬
‫إلى أن أقصى نقطة يسمح للجيش السوري ببلوغها هي ‪ 81‬كم جنوب طريق دمشق ـ بيروت‪ ،‬و جنوب ذلك هو "خط‬
‫أحمر" ممنوع عليه تجاوزه‪ .‬فباتريك سيل نفسه‪ ،‬وهو المعجب بشخصية حافظ األسد‪ ،‬والذي قبض من نظامه ‪ 51‬ألف‬
‫دوالر كمكافأة على كتابة سيرة حافظ األسد‪ ،‬كما اعترف لي شخصيا في العام ‪ 6116‬في باريس(‪ ،)9‬يشير في هذه‬
‫السيرة (ص ‪ 191‬إلى نهاية الفصل السابع عشر المعنون بـ"الفخ اللبناني") إلى "اتفاق الخطر األحمر" بين النظام‬
‫وإسرائيل‪ ،‬وإلى أن هنري كيسنجر هو الذي طلب من حافظ األسد التدخل في لبنان لردع النفوذ السوفييتي و الحيلولة‬
‫دون تحويل لبنان إلى كوبا الشرق األوسط! كما ويشير إلى أن "اتفاق الخط األحمر"‪ ،‬تضمن شروطا وضعتها إسرائيل‬
‫على التدخل السوري في لبنان وردت في رسالة وزير الخارجية اإلسرائيلي "إيغال آلون" التي نقلها هنري كيسنجر إلى‬
‫النظام السوري‪ ،‬وأهمها عدم نشر بطاريات دفاع جوي جنوب خط دمشق ـ بيروت‪ .‬هذا ولو أن باتريك سيل يعتبر ما‬
‫جرى بمثابة "فخ نصبه هنري كيسنجر وأوقع فيه األسد حين دفعه للتدخل في لبنان"! وكذلك فعل شمعون بيريز في‬
‫مذكراته الصادرة في العام ‪ 8559‬تحت عنوان "الكفاح من أجل السالم)‪ ،" (Battling For Peace‬والصحفي‬
‫اإلسرائيلي الشهير"زئيف شيف" و وزير الحرب "آرييل شارون" الذي أشار في مذكراته إلى أن "دمشق انتهكت اإلذن‬
‫الذي أعطيناه لها في العام ‪ 8592‬للدخول إلى لبنان حين أدخلت بطاريات دفاع جوي‪ ."...‬أما هنري كيسنجر نفسه‪،‬‬
‫فأشار في مذكراته إلى أن إسحاق رابين‪ ،‬وزير الدفاع اإلسرائيلي آنذا ‪ ،‬رد في ‪ 61‬آذار ‪ 8592‬على أسئلة كان أرسلها‬
‫له بشأن المدى الذي تسمح به إسرائيل لسوريا‬
‫بالتدخل في لبنان‪ ،‬قائال ‪":‬إن إسرائيل لن تقبل أي‬
‫تحر للقوات السورية ضمن نطاق يتجاوز ‪81‬‬
‫كم جنوبي طريق دمشق ـ بيروت"(‪.)1‬‬

‫على أي حال‪ ،‬صباح ‪ 62‬حزيران من العام نفسه‪،‬‬


‫وبعد خمسة أيام من بدء عملية حصار "تل‬
‫الزعتر" من قبل قوات "الجبهة اللبنانية"‪،‬انضمت‬
‫"القوات الخاصة" السورية (الفوج ‪ 96‬بقيادة‬
‫العميد يونس ميالد‪ ،‬وهو من بلدة "فيروزة"‬
‫بحمص ‪ ،‬إن لم تخني ذاكرتي) إلى عملية حصار‬
‫المخيم الذي كان الجيب الفلسطيني الوحيد المتبقي‬
‫في ما عرف بـ"بيروت الشرقية" وضواحيها‬
‫خارج عمليات التطهير الدموية التي قامت بها‬
‫الكتائبيون وحلفاؤهم‪ ،‬إذا ما استثنينا "مخيم الضبية" الصغير جدا واألكثر بؤسا شمال شرق بيروت‪ .‬ويبدو أن "مخيم‬
‫س ِلم (نسبيا) من التطهير‪ ،‬رغم المجازر التي طالته أيضا‪ ،‬بمن في ذلك المئات‬
‫الضبية"‪ ،‬الذي أنشىء في العام ‪َ ،8592‬‬
‫طردوا أو فروا من قراهم وبلداتهم في الجليل الفلسطيني على أثر‬ ‫من سكانه الفلسطينيين "المسيحيين" الذين كانوا ُ‬
‫المجازر التي طالتهم في العامين‪ 8519‬ـ ‪ . 8511‬وكان حصار "تل الزعتر" وقصفه من قبل قوى "الجبهة اللبنانية"‬
‫بقيادة كميل شمعون‪ ،‬فضال عن وحدات من الجيش اللبناني‪ ،‬قد بدأ عمليا في حوالي ‪ 85‬أو ‪ 61‬حزيران ‪ ،‬تنفيذا لخطة‬
‫بزهو الفت في مقابلة موجودة على‬
‫ّ‬ ‫الحصار واالقتحام التي وضعها العقيد(آنذا ) ميشيل عون‪ ،‬كما يعترف هو شخصيا‬
‫‪6‬‬

‫موقع "يوتيوب"(‪ .)5‬أما "غرفة العمليات" المركزية المسؤولة عن إدارة المذبحة فكان مقرها في "دير مار شعيا"(دير‬
‫القلعة) قرب بلدة "بيت مري" اللبنانية في جبل لبنان‪ ،‬التي تطل على المخيم من جهة الشرق‪ .‬وكان يناوب في "الغرفة"‬
‫كل من "العميد علي المدني" و"اللواء ناجي جميل" من سوريا‪ ،‬ومعهم أحيانا "دمحم الخولي"‪ ،‬و"العقيد جول بستاني"‬
‫مدير المخابرات في الجيش اللبناني(المكتب الثاني)‪ ،‬وصالح خلف (أبو إياد) من فلسطين‪ ،‬الذي "كان يتولى تقديم‬
‫المعلومات واإلحداثيات الخاصة بمستودعات السالح في المخيم لضباط الجيش السوري وشركائهم الكتائبيين من أجل‬
‫استهدافها بالصواريخ والمدفعية"‪،‬كما أبلغني الرجل صاحب"درس قشر الموز" حرفيا في أول زيارة لي إلى عالمه‬
‫الجديد في "الكلية العسكرية" التابعة لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" في "مخيم برج البراجنة" ببيروت‪ .‬فقد كانت‬
‫قيادة "فتح" منخرطة تماما في التآمر على المخيم لمجرد أن راية الدفاع عنه كانت معقودة للجبهة الشعبية لتحرير‬
‫فلسطين بقيادة الشهيد "أبو أمل" ـ عبد الكريم الخطيب (‪ .)81‬ولعل ما قاله "روبرت فيسك" يصب في سياق هذه‬
‫الشهادة‪،‬إذ ذكر في كتابه " ‪ "Pity the Nation : Lebanon at War‬أن عرفات لم يقدم أي دعم للمخيم وتركه‬
‫يالقي مصيره بالنظر لحساباته السياسية الخاصة‪ ،‬األمر الذي دفع النسوة الفلسطينيات إلى رميه بالحجارة حين زار‬
‫الناجين من المذبحة"(‪.)88‬أما بعض قادة حزب "الكتائب"‪ ،‬مثل اإلرهابي "ميشيل سماحة" و رجل المخابرات الجوية‬
‫السورية المزمن "كريم بقرادوني"‪ ،‬فكانوا يجتمعون مع ضباط المخابرات السورية أمثال ضابط المخابرات الجوية‬
‫"ابراهيم حويجة" (وليس علي دوبا كما هو شائع) في الطابق العلوي من منزل الموسيقار"عاصي الرحباني" في بلدة‬
‫"الرابية" المطلة على المخيم من الجهة الشمالية الشرقية‪ ،‬وكان بعضهم "يرقص على الطاوالت فرحا حين تأتي‬
‫األخبار المطمئنة عن قرب سقوط المخيم‪ ،‬الذي كانت المجموعات الفاشية التابعة لهم تتسابق لرفع العلم على بعض‬
‫األماكن فيه" ‪ ،‬وهو ما جعل الموسيقار زياد الرحباني يفر من منزل أبيه إلى غير رجعة احتجاجا على ذلك‪ ،‬ويلتحق‬
‫بالحزب الشيوعي اللبناني‪ ،‬بعد أن كان سجل ما دار في هذه االجتماعات بشكل سري من خالل القطات صوتية وضعها‬
‫سرا في المنزل(‪ .)88‬وربما ـ أقول ربما ألن األمر بحاجة لتوثيق من أصحاب العالقة ـ كانت هذه االجتماعات في‬
‫صلب أساس الخالف الذي نشب بين السيدة فيروز والموسيقار عاصي الرحباني أواسط السبعينيات؟‬

‫كانت القوات المهاجمة للمخيم تتألف‪ ،‬فضال عن "الفوج ‪ "96‬في القوات الخاصة السورية وقوات الجيش اللبناني التابعة‬
‫لميشيل عون‪ ،‬من خمس مجموعات هي ‪ :‬حزب الكتائب (بزعامة بيير الجميل)‪ ،‬وميليشيا "النمور" التابعة لـ"حزب‬
‫الوطنيين األحرار" (بزعامة كميل شمعون)‪ ،‬وميليشيا "جيش تحرير زغرتا" (بزعامة طوني سليمان فرنجيه)‪،‬‬
‫وميليشيا"حراس األرز"(بزعامة العميل اإلسرائيلي الشهير إتيان صقر"أبو أرز"‪ ،‬ومرشده األيديولوجي‪ ،‬العميل‬
‫اإلسرائيلي الشاعر سعيد عقل)‪،‬و"ميليشيا التنظيم"( بزعامة فؤاد الشمالي وجورج عدوان)‪.‬‬

‫‪ 600‬طن من السالح اإلسرائيلي واألردني لعمالء إسرائيل في لبنان عبر ‪ ....‬األراضي السورية ‪:‬‬

‫لم يقتصر الدور األردني المشار إليه آنفا على لعب دور "البوسطجي" فيما بين إسرائيل والنظام السوري لترتيب عملية‬
‫تدخل هذا األخير في لبنان منذ آذار من العام ‪ ،8592‬حين زار الملك األردني واشنطن "إلقناع اإلدارة األميركية‬
‫بضرورة وجود الجيش السوري في لبنان"‪ ،‬كما أكد السفير "رفائيل جدعون" في المقابلة المشار إليها (هامش رقم‪،)2‬‬
‫بل وصل حد إقناع حافظ األسد بأهمية السماح بنقل السالح اإلسرائيلي واألردني عبر األراضي السورية إلى عمالء‬
‫إسرائيل في "الجبهة اللبنانية" الفاشية بهدف "منع منظمة التحرير الفلسطينية من الهيمنة على لبنان"‪ .‬ويعترف الرئيس‬
‫اللبناني األسبق أمين الجميل‪ ،‬الذي كان أحد قادة ميليشيا "الكتائب" أواسط السبعينيات‪ ،‬أن األردن "كانت له مصلحة‬
‫بأال تصله العدوى الفلسطينية مرة أخرى (‪ )...‬من هنا حصل لقاء مصالح بين األردن وسوريا وإسرائيل والواليات‬
‫المتحدة من أجل تطويق الهجوم الفلسطيني في لبنان"‪ .‬ويضيف في مقابلة أجرتها معه "الحياة" السعودية الصادرة في‬
‫لندن‪ ،‬بتاريخ ‪ 5‬نيسان ‪ ،8559‬قائالً"إن الملك حسين شجع على حصول لقاءات بين الرئيس السوري ومسؤولين من‬
‫الجبهة اللبنانية‪ .‬وقد حضرتُ زيارة للرئيس (كميل) شمعون والشيخ بيار الجميل و(شقيقي) بشير إلى دمشق حيث التقوا‬
‫‪7‬‬

‫األسد في نفس اإلطار"‪ .‬ومن أجل طمأنة "الجبهة اللبنانية" إلى أهداف الوجود السوري في لبنان‪ ،‬يتابع الجميّل روايته‪،‬‬
‫فقد" فسح تفاهم بين األردن وسوريا المجال لألردن لتسليم ما مجموعه أربع وعشرون شاحنة كل واحدة منها تحمل ما‬
‫يوازي ‪ 62‬طنا من السالح الثقيل‪ .‬وقد أشرف العقيد دمحم الخولي [رئيس فرع المخابرات الجوية السورية آنذا ] و‬
‫[النائب الكتائبي] كميل مكرزل من جانب الجبهة اللبنانية على تسليم الشاحنات‪ .‬وألول مرة كانت مخازن القوات‬
‫اللبنانية تمتلىء بالسالح العربي جنبا إلى جنب مع السالح اإلسرائيلي"! وكانت شحنة السالح هذه مما غنمه‬
‫اإلسرائيليون من الجيشين المصري والسوري خالل حربي ‪ 8529‬و ‪ ،8591‬قبل أن يعيدوا تأهيله وتوريده إلى لبنان‪.‬‬

‫ولكن لماذا جرى نقل السالح اإلسرائيلي عبر األراضي األردنية‪ ،‬وليس عن طريق البحر؟‬

‫أغلب الظن‪ ،‬وال تفسير له سوى ذلك‪ ،‬هو أن اإلسرائيليين لم يكونوا يحبذون ظهورهم في صدارة المشهد اللبناني لئال‬
‫يجري إفساد الطبخة الثالثية‪ ،‬السورية ـ األميركية ـ اإلسرائيلية‪ .‬فقد كان مجرد الحديث عن وجود سالح إسرائيلي في‬
‫أيدي لبنانيين يقاتلون في خندق واحد مع النظام السوري ضد الفلسطينيين كفيال بتفجير فضيحة هي آخر ما كان يرغب‬
‫حافظ األسد بسماعه أو رؤيته حتى في كوابيسه‪ ،‬خصوصا وأن المظاهرات كانت بدأت بالظهور في العديد من شوارع‬
‫العالم وأمام العديد من السفارات السورية في أمكنة مختلفة احتجاجا على التدخل السوري في لبنان‪ ،‬وتنديدا بقتال النظام‬
‫إلى جانب القوى الفاشية ضد فصائل منظمة التحرير الفلسطينية‪ .‬وما زاد في تعقيد المشهد بالنسبة لألسد‪ ،‬هو أن من‬
‫كان يدافع عن مخيم "تل الزعتر" ليس "فتح عرفات"‪ ،‬التي تركت المخيم لمصيره وشار صالح خلف (أبو إياد) نفسه‬
‫في التآمر عليه‪ ،‬بل "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"‪ ،‬الفصيل األنقى واألطهر في تاريخ الثورة الفلسطينية‪ ،‬التي كان‬
‫عضو مكتبها السياسي "أبو أمل"(عبد الكريم الخطيب) هو قائد عملية الدفاع عن المخيم إلى حين استشهاده وسحله في‬
‫أزقته وزواريبه! يضاف إلى ذلك أن االتحاد السوفييتي كان اتخذ موقفا رسميا واضحا وحادا ضد التدخل السوري عبّر‬
‫عنه في بيان صدر في ‪ 1‬حزيران ‪" 8592‬شجب فيه التدخل"‪ ،‬أتبعه برسالة حادة أرسلها برجينيف إلى األسد بتاريخ‬
‫‪ 88‬تموز طالبه فيها حرفيا بـ"وقف هجماته ضد المقاومة الفلسطينية في تل الزعتر وغيره من المناطق اللبنانية"(‪.)86‬‬
‫وبالتزامن مع ذلك‪ ،‬أقدم على نشر تسعين قطعة بحرية خالل أسبوع واحد‪ ،‬بينها عشرون سفينة هجومية‪ ،‬شرقي البحر‬
‫المتوسط وبمحاذاة الشواطىء اللبنانية‪ .‬وهو على ما يبدو ما كان السبب األساسي لتفضيل اإلسرائيليين إرسال السالح‬
‫لعمالئهم في لبنان عن طريق األردن وسوريا‪ ،‬لئال تكون خاضعة للرقابة السوفييتية‪ ،‬فضال عن أن عملية إرسال‬
‫السالح عبر األردن كانت ستبدو ـ في حال انكشاف أمرها ـ كما لو أنها سالح أردني‪ .‬بتعبير آخر‪ :‬كان اإلسرائيليون‬
‫يقومون بعملية "غسيل سالح" وتنظيفه بالممسحة األردنية على غرار "غسيل األموال"! والواقع إن أول شحنة سالح‬
‫إسرائيلية وصلت إلى "الجبهة اللبنانية" عن طريق البحر‪ ،‬وتحديدا "ميناء جونية"‪ ،‬كانت أواخر العام ‪ 8592‬كما أصبح‬
‫معروفا وموثقا حتى من قبل أصحاب العالقة في "الكتائب"‪ ،‬وكما أخبرني مسؤول األمن السابق في "القوات اللبنانية"‪،‬‬
‫روبير حاتم(كوبرا)‪ ،‬في المقابلة المطولة التي أجريتها معه ونشرتها في أربعة جزاء العام ‪( 6111‬متوفرة على‬
‫اإلنترنت على موقع"جبهة المقاومة اللبنانية" ‪ /‬جمول) ‪.‬‬

‫حقيقة المشاركة السورية في تدمير "مخيم تل الزعتر" وإشكالية توثيقها ‪:‬‬

‫ظلت قضية مشاركة النظام السوري في مذبحة "تل الزعتر" موضع تشكيك من قبل معظم القوى الوطنية والديمقراطية‬
‫في عموم المنطقة العربية‪ ،‬انطالقا من غاية غير معلنة وهي تبرئة النظام السوري من واحدة من أشنع المجازر التي‬
‫ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني منذ أن بدأت نكبته نهاية القرن التاسع عشر‪ ،‬بل ومنذ أن دخل اإلرهابي والسفاح الكبير‬
‫صالح الدين األيوبي مدينة القدس في القرن الثاني عشر وقام بنقل يهود اليمن وتوطينهم فيها بالتزامن مع إبرامه صفقة‬
‫مع الفرنجة قضت بتسليمهم الساحل الفلسطيني كله تقريبا‪ ،‬ثم قيام شقيقه بإهدائهم القدس مرة أخرى بعد أربعين عاما‬
‫على تحريرها المزعوم! وإذا ما أجرينا جردة شاملة لمجمل ما كتب عن "تل الزعتر"‪ ،‬لن نعثر على توثيق واضح‬
‫‪8‬‬

‫وقاطع وجازم لمشاركة النظام السوري في مذبحته يرقى إلى درجة التوثيق العلمي الدقيق بالمعايير المتعارف عليها في‬
‫"العلوم الجنائية" و معايير التحقيقات الصحفية الرصينة‪ .‬بل إن أفضل كتاب كتب عن محنة لبنان في اعتقادي‪ ،‬وهو‬
‫كتاب "الصراع على لبنان" للباحثة األميركية اليسارية "تابيثا بيتران"‪ ،‬المشاركة في تأسيس مجلة "مونثلي ريفيو"‬
‫العريقة إلى جانب المفكرين والمناضلين العباقرة "بول سويزي" و"بول باران" و"هاري ماجدوف" و "ليو هابرمان"‪،‬‬
‫لم تجد مؤلفته ما تقوله في كتابها عن مشاركة النظام السوري في مجزرة "تل الزعتر" إال ما ورد في الصحف اللبنانية‬
‫آنذا من أخبار‪ ،‬مع األخذ بعين االعتبار محتوياتها المتضاربة والمتناقضة الخاضعة لالصطفافات والخنادق السياسية‬
‫والحزبية التي تعبر عنها‪ .‬وأهم ما جاء في تلك األخبار التي نقلتها "بيتران" هو أن النظام السوري شار "الجبهة‬
‫اللبنانية" في معركة "تل الزعتر" من خالل "القصف المدفعي"‪ .‬وهذا زبدة ما قالته (‪.)81‬‬

‫المناضل الفلسطيني الراحل‪ ،‬الكاتب والباحث والسياسي ناجي علوش‪ ،‬الذي كان نائبا لمسؤول حركة "فتح" في بيروت‬
‫خالل تلك األ يام‪ ،‬حاول من جهته أيضا تبرئة النظام السوري من المشاركة في المجزرة‪ ،‬فأكد في مقابلة (موجودة على‬
‫اإلنترنت) أجراها معه ابنه "الدكتور ابراهيم علوش" قبل وفاته بفترة قصيرة في ‪ 65‬تموز من العام ‪ ،6186‬أن‬
‫مشاركة النظام السوري في الجريمة أمر"غير صحيح وقد تحققت منه بنفسي" كما يقول‪ ،‬مشيرا ـ بشيء من السذاجة أو‬
‫البساطة الالفتة ـ إلى أنه لو تأكد من مشاركة النظام‪ ،‬لكان ذهب إلى دمشق لمناقشة المسؤولين هنا باألمر!! وجوابا‬
‫على سؤال‪ ،‬يتهم "أبو إياد"(صالح خلف) بالوقوف وراء نشر هذه "اإلشاعة" عن مشاركة النظام السوري في‬
‫المذبحة(‪.)81‬‬

‫لألسف ال يمكن األخذ بشهادة "أبو ابراهيم"‪ ،‬بغض النظر عن تاريخه النضالي النبيل‪ ،‬فهي غير صحيحة بالمرة‪ ،‬ليس‬
‫ألن ذاكرته خانته بفعل مرضه وشلله الدماغي الذي عانى منه طوال الـ‪ 81‬عاما األخيرة من حياته‪ ،‬وال بفعل مرض‬
‫السرطان‪ ،‬ولكن ألن الشهادة جاءت على خلفية انفجار األزمة في سوريا‪ ،‬والحملة اإلعالمية الشعواء على النظام الذي‬
‫بدأ الجميع ـ فجأة ـ يفتحون ملفاته القديمة‪ ،‬سواء الحقيقية منها أم المزيفة! ويبدو أن ابنه ـ بفعل قربه من النظام السوري‬
‫وعالقته بمؤسساته اإلعالمية ـ حاول استغالل الوضع الخاص لوالده من أجل انتزاع الشهادة منه‪ ،‬السيما وأن "أبو‬
‫ابراهيم" كان يقف إلى جانب النظام و ضد المعارضة السورية بقوة‪ ،‬إلى حد أنه لم يتردد في طرد ابن أخته "سالمة‬
‫كيلة" والبصاق بوجهه حين جاء لتحيته والسالم عليه في منزله بع ّمان بعد أن أبعده النظام السوري في أيار من العام‬
‫نفسه‪ .‬وكان تصرف "أبو ابراهيم"‪ ،‬القاسي بالمعايير العائلية والمحق بالمعايير السياسية‪ ،‬على خلفية عالقة ابن أخته‬
‫بـ"المجلس الوطني السوري"‪ ،‬وبالمخابرات األردنية ‪ ،‬كما اتضح الحقا (حين تواصل معها فور وصوله إلى عمان‬
‫وطرح عليها مشروعا يتعلق بالالجئين الفلسطينيين الذين كانوا لجأوا إلى سورية في العام ‪ 8591‬بعد مجازر أيلول‬
‫األسود)‪ .‬ومن الواضح أن تبرئة النظام السوري من المشاركة في مذبحة "تل الزعتر" كانت الغاية الوحيدة من هذه‬
‫المقابلة مع رجل كان يقترب بسرعة من حافة القبر‪ ،‬وال أدل على ذلك من أن المقابلة اقتصرت تقريبا على هذا‬
‫الموضوع‪ ،‬فضال عن اللهجة غير الواثقة التي تحدث فيها عن القضية !كانت إشكالية توثيق مشاركة النظام في المذبحة‬
‫نابعة دوما من حقيقة أن الجيش السوري لم يشار في المجزرة "من داخل المخيم"‪ ،‬وإنما "من الخارج"‪ ،‬أي من خالل‬
‫القصف المدفعي والصاروخي‪ .‬وحين يتعرض هدف ما للقصف من أربع أو خمس جهات‪ ،‬وتشار في القصف خمس‬
‫أو ست مجموعات‪ ،‬يصبح من المتعذر وشبه المستحيل تحديد حقيقة وطبيعة مسؤولية كل طرف من األطراف‬
‫المشاركة‪ .‬يضاف إلى ذلك حقيقة أن مواقع الجيش السوري التي شاركت في قصف المخيم كانت تتوضع في التالل‬
‫المحيطة بالمنطقة‪ ،‬وتبعد عنه ما بين ‪ 6‬ـ ‪ 1‬كم‪ ،‬بخالف قوى "الجبهة اللبنانية" وحلفائها التي كانت على بعد مئات‬
‫األمتار وحسب‪ .‬وحين سقط المخيم نهار ‪ 86‬آب ‪ ،8592‬وبدأت عصابات "الجبهة اللبنانية" عملية القتل والذبح‬
‫العشوائي لمن بقي في المخيم من الرجل والنساء واألطفال‪ ،‬فضال عن تقطيع أطراف العديد منهم بالبلطات‪ ،‬وب ْقر بطون‬
‫األحياء من الحوامل بحراب البنادق‪ ،‬وسحل الجثث في الشوارع بواسطة السيارات‪ ،‬على مدى يومين متواصلين‪ ،‬قبل‬
‫‪9‬‬

‫أن يجري جرف مقبرة المخيم وما بقي من بيوته المسقوفة بالصفيح بواسطة البلدوزرات والجرافات‪ ،‬تجنب الجيش‬
‫السوري دخول المخيم واكتفى بالمراقبة "والفرجة" من بعيد‪ ،‬سواء من مواقعه أو من "غرفة العمليات" في "دير‬
‫القلعة" أو منزل "عاصي الرحباني"!(‪ .)89‬وصيف العام ‪ ،8515‬حين كنتُ أتابع "مسألة إدارية" مع "الدائرة‬
‫العسكرية" في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" تخص الراتب المخصص لجدي وجدتي بعد استشهاد ابنهما‪ ،‬التقيتُ‬
‫في مقر ”الدائرة العسكرية“‬
‫في ”الجبهة الشعبية“ ‪،‬‬
‫الكائن في"حي المزرعة"‬
‫بدمشق ‪ ،‬الراحل "أبو ماهر‬
‫اليماني" و اللواء"أبو أحمد‬
‫فؤاد"‪ ،‬نائب األمين العام‬
‫للجبهة حاليا ومسؤول‬
‫"الدائرة العسكرية" آنذا ‪.‬‬
‫وقد كشفا و ‪ /‬أو صححا لي‬
‫الكثير من المعلومات العامة‬
‫والخاصة عن تلك الفترة‪،‬‬
‫بما في ذلك "مجزرة تل‬
‫الزعتر"‪ ،‬وتأكيدهما على‬
‫مشاركة الجيش السوري‬
‫في حصار المخيم‪ .‬وقد‬
‫من‬ ‫كثيرا‬ ‫استفدتُ‬
‫شهادتيهما في هذا التحقيق‪.‬‬
‫لكن‪ ،‬وبالنظر لحساسية‬
‫وضع الجبهة في دمشق‪،‬‬
‫خصوصا لجهة "أبو‬
‫أحمد"‪ ،‬سأمتنع ـ حتى‬
‫إشعار آخر ـ عن تنصيص‬
‫ما ذكراه لي إال في الحدود‬
‫الضرورية جدا !لكن‬
‫الوثيقة األكثر أهمية في هذا‬
‫السياق‪ ،‬كونها صادرة عن‬
‫جهة رسمية أمنية سورية‬
‫عليا‪ ،‬هي التي حصلتُ‬
‫عليها في العام ‪6111‬‬
‫كواحدة من مجموعة وثائق‬
‫شعبة المخابرات العسكرية التي وفرها لي المقدم المغدور"علي فاضل" قبل تصفيته حين كان يحاول "الفرار" من‬
‫سوريا وااللتحاق بي في المنفى‪ .‬وتتعلق هذه الوثيقة بالترتيبات والشروط األمنية واإلدارية التي فرضتها شعبة‬
‫‪10‬‬

‫المخابرات العسكرية على تشييع الرجل "صاحب درس قشرة الموز" في نيسان من العام ‪ 8511‬بعد عملية اغتياله في‬
‫‪ 82‬من الشهر نفسه‪ ،‬والتي سيأتي شرح مالبساتها في الفقرة القادمة ‪.‬‬

‫تشير هذه الوثيقة (المنشورة جانبا) بشكل مباشر‪ ،‬دون مواربة‪ ،‬إلى أن الرجل "فر من الجيش السوري بعد رفضه‬
‫المشاركة في معركة تل الزعتر"‪ .‬وهذه ـ على حد علمي ـ الوثيقة الرسمية السورية األولى والوحيدة التي تُنشر حول‬
‫المجزرة‪ ،‬والتي تعترف بمشاركة الجيش السوري في حصار المخيم والمشاركة في معركة تدميره وإسقاطه ‪.‬‬

‫أول وآخر "انشقاق ثوري" في الجيش السوري ‪:‬‬

‫كرسه‬
‫في ‪ 62‬حزيران ‪ ،8592‬وهوـ يا للمصادفة! ـ اليوم الذي سيُصبح "يوم الشهيد الشيوعي في سوريا" بعد أن ّ‬
‫"حزب العمل الشيوعي" في أدبياته باعتباره يوم تصفية القائد الشيوعي الشهيد "فرج هللا الحلو"‪ ،‬أ ُ ِ‬
‫عط ْ‬
‫يت األوامر‬
‫لسرية المدفعية في "الفوج‪ "96‬في القوات الخاصة السورية‪ ،‬التي كان سالحها األساسي راجمات صواريخ ‪( BM-14‬‬
‫‪ 82‬فوهة) وصواريخ "غراد"‪ ،‬بقصف المخيم انطالقا من مواقع تمركزها في التالل المشرفة على المخيم ‪.‬‬

‫كان في "الفوج" ‪ ،‬السيما السرية المذكورة‪ ،‬عدد من الضباط الصغار والجنود الذين لم يستسيغوا األمر‪ ،‬واعتبروه‬
‫"خيانة" للمبادىء التي تلقوها في كلية المدفعية والمدارس العسكرية األخرى في الجيش السوري لجهة "عقائدية‬
‫وعقيدة"الجيش وموقع القضية الفلسطينية منهما‪ .‬وكان على رأس هؤالء الرجل الذي علمني"درس قشرة الموز"‪،‬‬
‫والذي كان يرتبط بعالقة خيطية مع "الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي" (جماعة رياض التر )‪ ،‬يوم كان لم‬
‫يزل حزبا وطنيا شيوعيا‪ ،‬قبل أن يصبح "ديمقراطيا" على طريقة "البعث العراقي" ومتموال من المخابرات العراقية في‬
‫العام ‪ 8511‬ثم األميركية اعتبارا من العام ‪ .6119‬وكان الحزب‪،‬الذي انسحب من "الجبهة الوطنية التقدمية" المتحالفة‬
‫مع النظام مطلع العام المذكور‪ ،‬وبخالف حزبه األم (حزب خالد بكداش)‪ ،‬يسمح بنسج عالقات مع األوساط العسكرية ‪.‬‬

‫ْ‬
‫وردت برقية العمليات التي تضمنت أوامر لـ"الفوج" بتقديم إسناد مدفعي وصاروخي لـ"الجبهة اللبنانية" نهار ‪62‬‬ ‫حين‬
‫حزيران‪ ،‬المصادف يوم السبت‪ ،‬وقام قائد الفوج العميد "يونس ميالد" بتوزيعها على قادة كتائبه وسراياه المعنية‬
‫باألمر‪ ،‬عقد عدد من الضباط وصف الضباط والجنود لقاءات جانبية "سرية" في خيمهم وناقشوا خلفية وخطورة أمر‬
‫العمليات وأبعاده السياسية‪ .‬فقد كانوا أشبه بـ"خلية سياسية سرية" في وحدتهم العسكرية‪ ،‬بالنظر لما يجمعهم من أفكار‬
‫ماركسية ويسارية وناصرية‪ .‬وكانوا ينحدرون من أربع محافظات سورية هي الالذقية وحلب وحماة ودرعا‪ .‬وبعد‬
‫اجتماع طال أكثر من أربع ساعات من مساء ذلك اليوم‪ ،‬قرروا رفض تنفيذ األمر العسكري‪ .‬وألن رفض األوامر‬
‫العسكرية خالل الحرب يقود صاحبه إلى االعتقال الفوري والمثول أمام "محكمة ميدانية"‪ ،‬اتفق ثالثة منهم من أصل‬
‫سبعة حضروا االجتماع على "االنشقاق" وااللتحاق بـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" في مخيم "تل الزعتر" بعد‬
‫منتصف تلك الليلة‪ ،‬بالنظر ألن القصف المدفعي والصاروخي كان مقررا أن يبدأ صباح اليوم التالي‪ 69 ،‬حزيران‪.‬‬
‫وكانت الظلمة وغياب ضوء القمر مناسبين تلك الليلة ويسمحان لهم بالتسلل عبر البرية الممتدة من مكان مرابض‬
‫وحدتهم في محيط منطقة "المونتيفردي"‪،‬المطلة على المخيم من جهة الشرق‪ ،‬إلى المخيم الذي يبعد عنهم حوالي ‪1‬‬
‫كم‪.‬أما اآلخرون‪ ،‬ورغم رفضهم "االنشقاق"‪ ،‬فقد تعهدوا بكتمان األمر إلى حين نجاح رفاقهم بالوصول إلى المخيم ‪.‬‬

‫عند حوالي منتصف الليل‪ ،‬نزع الثالثة ما تيسر لهم من قطع قماشية بيضاء متوفرة وربطوها في مقدمة مواسير‬
‫بنادق هم‪ ،‬وأخذوا ما توفر من مؤونة غذائية ومن الماء قبل أن يكتبوا رسائلهم إلى أهلهم ويودعوا رفاقهم في لقائهم‬
‫األخير ويتجهوا نحو المخيم عبر المنحدرات والبساتين وأحراج أشجار الصنوبر‪ ،‬متجنبين ما أمكنهم ذلك مواقع وحدتهم‬
‫والوحدات العسكرية السورية األخرى التي كانوا يعرفون تموضعها بوصفها "قوات صديقة"‪ .‬وعند حوالي الثانية بعد‬
‫‪11‬‬

‫منتصف الليل‪ ،‬وبعد الوقوع في كمين لقوات "الجبهة اللبنانية" قرب "دير مار روكز" الذي ال يبعد عن المخيم سوى‬
‫بضع مئات من األمتار تخلصوا منه باالحتيال والزعم أنهم ذاهبون في "مهمة استطالعية"‪ ،‬وصلوا إلى تخوم المخيم‬
‫ورفعوا الرايات البيضاء التي كانوا ربطوها على مواسير بنادقهم‪ ،‬و"سلموا أنفسهم"‪ ،‬ثم شرحوا للمقاتلين حكايتهم قبل‬
‫أن يقودهم رفاقهم الجدد إلى مكتب "الجبهة الشعبية" في المخيم‪ ،‬حيث كان القائد الشهيد "أبو أمل"(عبد الكريم‬
‫الخطيب) بانتظار الضيوف الذين كانوا مفاجأة لم ينتظرها ولم يتوقعها(‪.)82‬‬

‫يتذكر "أبو ماهر اليماني" في العام ‪ 8511‬تلك الليلة حين اتصلوا به إلطالعه على التحاق"عسكريين من القوات‬
‫الخاصة السورية بهم ورفضهم القتال إلى جانب القوى االنعزالية" فيقول ‪":‬عرفت بأمر هؤالء الرفاق القادمين من‬
‫الجيش السوري من خالل اتصال تلقيته من رفاقنا الستشارتنا في كيفية التصرف‪ .‬وكان أمرا طبيعيا في تلك الظروف‬
‫أن نحيط أمرهم بالشك والريبة‪ .‬وقد طلبت من الرفاق إبداء‬
‫الحيطة والحذر‪ ،‬دون إبداء أي تصرف يوحي لهم بأنهم‬
‫ُمراقبون‪ .‬لكن تصرفهم سرعان ما بدد شكوكنا‪ ،‬فقد انخرطوا‬
‫اعتبارا ً من نهار اليوم التالي في القتال إلى جانب رفاقنا‪ ،‬وفي‬
‫تزويدهم بخبرات في الرمايات وبعض األمور العسكرية‬
‫األخرى الخاصة التي كنا نفتقر إليها‪ .‬لكن الموقف الذي أتذكره‬
‫أكثر من غيره ‪ ،‬وال يمكن أن أنساه‪ ،‬والذي كان من أسباب‬
‫ارتيابنا بهم في البداية قبل أن يصبح سببا آخر الحترامنا‬
‫وتقديرنا لهم‪ ،‬هو أنهم رفضوا القتال أو إطالق النار على‬
‫الجبهة الشرقية للمخيم‪ ،‬التي كان يتواجد في مواجهتها رفاقهم‬
‫في الجيش السوري‪ ،‬خشية أن يتسببوا بمقتل أو إصابة أحدهم‪.‬‬
‫وكان شرطهم الوحيد هو أن يقاتلوا قوات الجبهة اللبنانية‬
‫وحلفائها اإلنعزاليين فقط‪ .‬وقد تحقق لهم ما أرادوا"!‬

‫تكشف هذه الواقعة عن نضج سياسي الفت‪ ،‬أخذا بعين‬


‫االعتبار محدودية التجربة السياسية والعمرية لهؤالء‬
‫"المنشقين" والظروف السياسية "الملتبسة" التي أحاطت‬
‫بالتدخل العسكري في لبنان‪ .‬فرغم رفضهم األوامر العسكرية في قصف مخيم فلسطيني و مواقع مقاتلين فلسطينيين‪،‬‬
‫األمر الذي يتنافى والعقيدة السياسية والعسكرية للجيش السوري‪ ،‬أصروا على عدم القتال في مواجهة رفاقهم في‬
‫السالح‪ .‬وتبرز أهمية هذه الواقعة على نحو أعمق إذا ما قورنت بوقائع "االنشقاقات" التي حصلت في الجيش السوري‬
‫اعتبارا من صيف العام ‪ ، 6188‬والتي افتتحها المقدم حسين هرموش‪،‬الذي كان أول عمل قام به بعد"انشقاقه" هو تدبير‬
‫كمين لرفاقه في الجيش (مجزرة جسر الشغور التي راح ضحيتها ‪ 861‬ضابطا وجنديا) لصالح المخابرات التركية التي‬
‫باعته الحقا بالتواطؤ مع "غزوان المصري"‪ ،‬وهو أحد رجال األعمال المنخرطين في عالقات سياسية ومالية مع‬
‫"األخوان المسلمين" الذين رفض "حسين هرموش" العمل معهم رغم خلفيته الدينية‪ .‬ويمكن الجزم بأنه ما من عملية‬
‫"انشقاق" حصلت الحقا بعد "هرموش" إال وكانت لسبب طائفي و ‪ /‬أو مالي‪ ،‬وليس ألي سبب يتعلق بمواقف "وطنية"‬
‫أو "ثورية"‪ .‬وهذا ما تؤكده تصريحاتهم وأنشطتهم الالحقة كلها‪ ،‬التي انطوت على وضاعة وانحطاط سياسي وأخالقي‬
‫و وطني غير مسبوقين‪ ،‬ليس ثمة ما هو أكثر تعبيرا عنها من ارتماء معظمهم بأحضان إسرائيل ‪ ،‬تمويال ً وتسليحا ً‬
‫وتواطؤاً‪ ،‬واإلعالن عنها في كثير من المناسبات بوصفها "حليفة ثورة الشعب السوري السني في مواجهة الشيعة‬
‫ثر من قادة مجموعات "جيشهم الحر" على‬ ‫والعلويين الذين يبيدون أهل السنة"‪ ،‬كما عبّر ـ بهذه الصيغة ومشتقاتها ـ ُك ٌ‬
‫‪12‬‬

‫الشاشات اإلسرائيلية وفي العديد من صحفها! األمر الذي يبرر وصف السلطة لوضعهم بكونهم "فارين" من الجيش‪.‬‬
‫وآخر انشقاق ثوري حقيقي في الجيش‬ ‫َ‬ ‫وبهذا يمكن اعتبار "االنشقاق" الذي حصل خالل معركة "تل الزعتر"أو َل‬
‫السوري طوال تاريخه كله منذ تأسيسه األول في العام ‪ !8561‬وهنا ال بد من توضيح واقعة تاريخية أخرى تعود إلى‬
‫تلك الفترة‪ ،‬تتعلق بالعميد "مفتخر الشرع" (خال الدكتور هيثم مناع)‪ .‬فحين كنت أتحدث مع هذا األخير في قضية‬
‫الشباب الثالثة "المنشقين" في العام ‪ ،6118‬أخبرني بأن "مفتخر الشرع" هو أيضا "رفض التدخل في لبنان وطلب من‬
‫حافظ األسد تسريحه من الجيش بسبب ذلك‪ ،‬وقد لبى األسد طلبه‪ ،‬لكن دون أن يتعرض الحقا ألية مضايقات"‪ .‬وقد كرر‬
‫األمر كتابة في مناسبة أخرى على ما أذكر‪ .‬لكن وحين كنت أبحث مطلع هذا الشهر في الملفات والوثائق والمعلومات‬
‫العسكرية واألمنية المتعلقة بالتدخل السوري في لبنان‪ ،‬ومنها مذكرات ضباط في الجيش اللبناني (العميد محمود مطر‪،‬‬
‫مثالً) وسياسيين لبنانيين عاصروا تلك الفترة‪ ،‬اكتشفتُ أن ما قاله "هيثم" ليس صحيحا لألسف‪ .‬فقد كان العميد مفتخر‬
‫الشرع موضع ثقة من قبل النظام ومن أجهزته األمنية والعسكرية ‪ ،‬ومن حافظ األسد شخصيا‪ ،‬بحيث أن هذا األخير‬
‫عينه مطلع العام ‪ 8592‬رئيسا لـ"لجنة االرتباط" في لبنان‪ ،‬التي كان مقرها "ثكنة أبلح" التابعة للجيش اللبناني‪ ،‬حين‬
‫كان التدخل السوري لم يزل "سريا" وقبل أن يُعلَن عنه رسميا مطلع حزيران من العام نفسه‪ .‬وكانت "اللجنة" بمثابة‬
‫"فرع المخابرات العسكرية" في لبنان قبل تشكيل هذا األخير رسميا في وقت الحق برئاسة العقيد دمحم غانم ثم غازي‬
‫كنعان‪ .‬وكان في عضوية "لجنة االرتباط" أيضا كل من العميد في المخابرات الجوية "رزق الياس" و"العميد "فاروق‬
‫نصير"‪ .‬كما أن األسد أوكل للعميد "مفتخر الشرع" واحدة من أدق وأخطر العمليات العسكرية واألمنية السورية في‬
‫لبنان آنذا ‪ ،‬وهي فك الحصار عن "قاعدة رياق الجوية" ثم اإلشراف على حمايتها بعد أن َوض َع بتصرفه لواء كامال‬
‫من "جيش التحرير الفلسطيني"‪ ،‬إ ْذ كانت على وشك السقوط في أيدي "القوات المشتركة"(تحالف الحركة الوطنية‬
‫اللبنانية والفصائل الفلسطينية)‪ .‬األمر الذي يعني أنه هو أيضا شار في قتال"الحركة الوطنية اللبنانية"‪.‬هذا باإلضافة‬
‫إلى تكليفه مهمة تأمين قوافل التموين للقاعدة المذكورة و وحدات الجيش اللبناني األخرى المحاصرة من قبل "القوات‬
‫المشتركة"‪ ،‬وتأمين رواتب ضباط وعناصر الجيش اللبناني فيها من "مصرف سورية المركزي" كـ"دَيْن على الحكومة‬
‫اللبنانية" جرت تسويته وسداده الحقا بعد عودة "الشرعية" إلى لبنان ‪.‬‬

‫***‬

‫ليلة "الفرار" من الخندق الخلفي إلى ‪...‬الخندق األمامي ‪:‬‬

‫في ‪ 88‬آب ‪( 8592‬كان يوم أربعاء)‪ ،‬وبعد أن أيقن الجميع أن‬


‫المخيم أصبح قاب ساعات أو أدنى من السقوط‪ ،‬تمكن الرجل‬
‫صاحب "درس قشرة الموز" مع مجموعة مع رفاقه‪ ،‬وكانوا جميعا‬
‫مصابين بجراح متفاوتة‪ ،‬من التسلل عبر األحراج المجاورة‬
‫والوصول إلى مخيم "برج البراجنة" في ما يعرف اآلن بـ"الضاحية‬
‫الجنوبية" بعد يومين من المسير الليلي والكمون النهاري‪ ،‬رغم أن‬
‫المسافة ال تتجاوز أربعة كيلومترات !‬

‫لم تصل الرسالة التي كتبها إلى أهله في تلك الليلة‪ ،‬فقد قُدر لحاملها‬
‫"الرقيب سليم القدور"‪ ،‬وهو من بلدة "سراقب" في ريف إدلب‪،‬‬
‫وكان ذا ميول ناصرية‪ ،‬أن يقضي مع آخرين حين انقلبت سيارتهم‬
‫العسكرية في منطقة "شتورا"‪ .‬ولذلك ظل الرجل صاحب "درس‬
‫قشرة الموز" بحكم "المفقود" بالنسبة إلى أهله حتى صيف العام ‪ 8595‬حين وصلتنا معلومات عن طريق التسلسل تفيد‬
‫‪13‬‬

‫بأنه في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين"‪ ،‬فتوجهت إلى بيروت وأنا لم أتجاوز السابعة عشرة من عمري‪ ،‬بصحبة‬
‫شقيق زميله "المنشق" معه‪ ،‬وهو من "آل طالب" في مصياف‪ ،‬وكان في عمري أيضا‪ ،‬دون أن نخبر أهلنا‪ .‬وكانت‬
‫مغامرة مجنونة لم نكن لنقدر عواقبها في حينه‪ .‬وقد توجهنا فور وصولنا إلى مقر "الجبهة الشعبية" في "مخيم شاتيال"‪.‬‬
‫وبعد تحقيقات موسعة معنا‪ ،‬وانتظار دام يومين بفعل مراجعة السجالت الذاتية في "الجبهة"‪ ،‬ألنه ما من أحد كان‬
‫يُعرف باسمه الحقيقي آنذا باستثناء جهات مركزية في التنظيم‪ ،‬حضر الرجل "صاحب درس قشرة الموز"‪ .‬لكنه كان‬
‫اللقاء األول واألخير بيني وبينه‪ .‬فبعد أقل من سنة على ذلك‪ ،‬وبعد أن كنت اتفقت وإياه ألعود إليه بعد النجاح في‬
‫الثانوية العامة في العام الدراسي ‪ 8595‬ـ‬
‫‪ ،8511‬وفي ‪ 82‬نيسان من العام ‪،8511‬‬
‫تمكن أحد عناصر المخابرات السورية‪،‬‬
‫المنتدبين إلى قوات"الصاعقة"‪ ،‬التي كانت‬
‫يومها غطاء لمئات وربما اآلالف من‬
‫الضباط والعناصر الذين جرى انتدابهم‬
‫إليها من المخابرات السورية و"سرايا‬
‫الدفاع"‪ ،‬من اغتيال الرجل صاحب‬
‫"درس قشرة الموز" بعد قليل على‬
‫خروجه من مقره في معسكر "الجبهة‬
‫الشعبية لتحرير فلسطين" في جبال‬
‫"الدامور" جنوبي العاصمة! وفي اليوم‬
‫التالي جرى تشييعه من "مشفى حيفا" في‬
‫"مخيم برج البراجنة" ببيروت إلى مقبرة‬
‫الشهداء في "مخيم شاتيال"‪ .‬إال أن قصته‬
‫لم تنت ِه هنا‪ ،‬فقد أصر ذووه‪ ،‬خصوصا‬
‫والدته‪،‬ألن والده كان فقد ذاكرته تقريبا‬
‫بفعل ما تركه "اختفاء" ابنه قبل أربع‬
‫سنوات من مأثر بالغ في نفسه ‪،‬على دفن‬
‫جثمانه في قريته "بسنديانة" في ريف‬
‫منطقة "جبلة" بسوريا؛ لكن النظام‬
‫السوري رفض إدخال جثمانه "باعتباره‬
‫فارا ً من الجيش ومتمردا على وحدته‬
‫العسكرية خالل الحرب"‪ ،‬كما نقل العميد‬
‫توفيق جلول‪ ،‬قائد "اللواء‪ "18‬في الفرقة الثالثة‪ ،‬عن مسؤولي النظام األمنيين حين طلب ذووه منه التدخل في القضية‬
‫بوصفه قريبا لهم ‪.‬‬

‫بعد بض عة أيام‪ ،‬وعن طريق الملحق العسكري في سفارة اليمن الديمقراطية في دمشق‪ ،‬المقدم "عبد المحسن هادي"‪،‬‬
‫وصلت رسالة مكتوبة بلسان والدته إلى جورج حبش في بيروت تقول‪" :‬أريد أن يدفن ابني بقربي لكي أزور قبره كل‬
‫يوم‪ ،‬فمن حقي أن أتقاسمه أنا وإياكم قسمة عادلة‪ .‬أعطاكم وأعطى فلسطين روحه‪ ،‬أما أنا فال أريد إال جسده !"قرأ "أبو‬
‫ماهر اليماني" و"اللواء أبو أحمد فؤاد" الرسالة بعد أن أحيلت لهما بوصفهما المسؤولَين العسكريين في الجبهة‪ ،‬فأجاب‬
‫"أبو ماهر" األم الثكلى عبر المراسل ‪":‬اطمئني يا خالة‪ ،‬لو اقتضى األمر أن أنقل جثمانه على كتفي وأهربه إلى‬
‫‪14‬‬

‫سوريا‪ ،‬لن أتأخر"! ولم يتأخر في اإليفاء بوعده لألم المفجوعة بابنها "شبه الوحيد"‪ .‬فخالل بضعة أيام كان القائد الشهيد‬
‫عبد الفتاح اسماعيل‪ ،‬األمين العام للحزب االشتراكي اليمني‪ ،‬قد أخذ األمر على عاتقه رغم أنه كان استقال قبل بضعة‬
‫أيام وحسب من منصبه‪ ،‬وكان يحزم أمتعته للتوجه إلى موسكو ألسباب صحية؛ فاتصل بالملحق العسكري في سفارتهم‬
‫بدمشق‪ ،‬المقدم عبد المحسن هادي‪،‬الذي كان من تياره ومشايعيه و"المحسوبين" عليه في مواجهة تيار "علي ناصر‬
‫دمحم" الذي خلفه في المنصب‪ ،‬و مكلفا أيضا بالتواصل مع عدد من الفصائل الفلسطينية‪ ،‬وطلب منه التدخل في األمر‬
‫لدى النظام بالتعاون مع السفير إذا أمكن‪ ،‬ألن هذا األخير لم يكن واضح الموقف فيما إذا كان يقف في صف علي ناصر‬
‫دمحم أم في صف خصومه الشهداء "علي عنتر" و"علي شايع هادي" و"صالح مصلح"‪ ،‬أعضاء المكتب السياسي‬
‫للحزب‪ ،‬الذين سيصفيهم المجرم "علي ناصر دمحم" بعد ذلك بأقل من ست سنوات فيما سيُعرف بـ"مجزرة اللجنة‬
‫المركزية"( ‪ 81‬يناير ‪. )8512‬بعد قرابة ثالثة أسابيع على دفنه في مقبرة الشهداء في "مخيم شاتيال"‪ ،‬وبعد تدخل‬
‫القائد الشهيد عبد الفتاح اسماعيل ورفاقه في سفارتهم بدمشق‪ ،‬وبفضل الجهود المضنية التي بذلها خالدا الذكر "جورج‬
‫حبش" و"أبو ماهر اليماني"‪ ،‬سمحت سلطات النظام السوري بإدخال جثمانه بعد أن اشترط رئيس شعبة المخابرات‬
‫العسكرية‪ ،‬علي دوبا‪ ،‬كما يتضح من الوثيقة المنشورة جانبا‪ ،‬أن ال ترافقه سوى سيارة واحدة من "الجبهة الشعبية" يقلها‬
‫أربعة عناصر على األكثر‪ ،‬وأن "تمنع التجمعات والتجمهرات منعا باتا خالل تشيعه في كافة المناطق التي سيسلكها‬
‫موكب الجنازة‪ ،‬باستثناء قريته"‪ ،‬وأن يجري التعامل معه في السجالت العسكرية الرسمية بوصفه "فارا ً من الجيش ‪،‬‬
‫رفض األوامر العسكرية وتمرد على وحدته العسكرية خالل معركة تل الزعتر في لبنان ضد المجموعات العرفاتية‪،‬‬
‫والتحق بفصيل شيوعي مناوىء(فصيل جورج حبش)"‪ ،‬كما جاء في مذكرته بتاريخ ‪ ،8511 / 1 / 11‬التي لم ينتبه‬
‫فيها إلى أنه لم يكن هنا "مجموعات عرفاتية" في "تل الزعتر"‪ ،‬بل رفاق وأبناء جورج حبش‪ ،‬وعلى رأسهم القائد‬
‫الشهيد "أبو أمل !"‬

‫كانت مصادفة أن يجري نبش قبره في مقبرة الشهداء بمخيم شاتيال‪ ،‬ويشيع في سوريا بتاريخ ‪ 2‬أيار‪ ،‬بل ربما تعمدها‬
‫القائمون على األمر في "الجبهة الشعبية"‪ ،‬كونها تصادف يوم الشهداء الوطني في سوريا!؟ أما "أبو أحمد فؤاد"‪،‬‬
‫وتعليقا على موقف النظام السوري وتوصيفه للرجل "صاحب درس قشرة الموز" بأنه "فار من الجيش"‪ ،‬فقال لمجلة‬
‫"الهدف" الناطقة باسم "الجبهة" في سياق التقرير الذي نشرته عن تشييعه في سوريا‪" :‬لم يفعل الرفيق الشهيد سوى أنه‬
‫فر من خندق خلفي إلى خندق متقدم في مواجهة األعداء القوميين والطبقيين الفاشيين"!‬

‫لم يكن الرجل صاحب "درس قشرة الموز" سوى خالي شقيق أمي "شبه الوحيد"‪ ،‬نصر نيوف‪ ،‬الذي كان أول من‬
‫علمني ”االنشقاق“ على الدنيا والعالم والنظام المحلي والكوني قبل أربعين عاما!‬

‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫)*( ـ نشر هذا النص ‪ /‬التحقيق في األساس على صفحتي الخاصة في "فيسبوك" في الذكرى األربعين لسقوط "تل الزعتر"(‪/ 8 / 41‬‬
‫‪ .)4141‬وقد كتبته بعد مراجعة أكثر من سبعة آالف صفحة من المذكرات الشخصية التي كتبها أشخاص شاركوا في صناعة هذه األحداث‬
‫أو كانوا شهودا عليها‪ ،‬بما في ذلك الكتب الوثائقية والتقارير الصحفية القديمة ذات الصلة‪ ،‬باإلنكليزية والفرنسية والعبرية‪،‬السيما‬
‫لمؤلفين كانوا على تماس مباشر مع أولئك األشخاص أو تلك األحداث‪ ،‬فضالً عن المقابالت الشخصية التي أجريتها مع بعض المعنيين‬
‫في سنوات تعود إلى فترة الثمانينيات‪ .‬وهو‪ ،‬على أي حال‪ ،‬لم يهدف إلى الدخول في تفاصيل المجزرة التي أصبحت معروفة وأصبحت‬
‫المعلومات عنها في متناول الجميع‪ ،‬وإنما البحث في الظروف و"األسرار" السياسية التي سبقت المجزرة وقادت النظام السوري إلى‬
‫التورط فيها‪ ،‬فضال عن توثيق هذا التورط‪ ،‬األمر لذي لم يحصل من قبل على نحو جازم وقطعي‪ ،‬على حد علمي وفي حدود ما اطلعت‬
‫عليه من شهادات و وثائق ‪.‬‬

‫)**(ـ كيسنجر مخاطبا الصحفيين في ‪ 3‬تموز ‪ 4181‬وهو يقف على درج قصر اإلليزيه في باريس‪ ،‬ردا على استفسار بشأن موقفه من‬
‫قصف الجيش السوري مناطق بيروت الواقعة تحت سيطرة الحكومة العسكرية اللبنانية برئاسة ميشيل عون (نقال عن الصحف الفرنسية‬
‫‪15‬‬

‫‪ 1 ،‬تموز ‪ .)4181‬أما تصريح "دين براون" ‪ ،‬السفير األميركي األسبق في األردن والوسيط بين الملك حسين واإلدارة األميركية خالل‬
‫فورد في سياق رده على اآلباتي "شربل قسيس" الذي سأله في آذار ‪4191‬‬ ‫"أيلول األسود‪ "4191‬ومبعوث كيسنجر الخاص إلى لبنان‪َ ،‬‬
‫عن سبب امتناع الواليات المتحدة عن مؤازرة المسيحيين في مواجهة الفلسطينيين والماركسيين (كذا) كما فعلتْ لدعم كميل شمعون في‬
‫العام ‪.4198‬‬

‫)‪(1‬ـ رواها عرفات لكمال جنبالط الذي أوردها في كتابه "من أجل لبنان"‪:‬‬

‫‪Kamal Joumblat, Pour le Liban, Editions Stock, Paris 1978, P.177‬‬

‫)‪(2‬ـ أرشيف "نيويورك تايمز" ‪ 4‬شباط ‪:4199‬‬

‫‪http://www.nytimes.com/1975/02/01/archives/us-plans-to-give-syria-25million-state-department-‬‬
‫‪says-aim-is-to.html?_r=0‬‬

‫‪(3) - Kissinger, Les Années de Renouveau (1974-1976), Tome V, Paris, Fayard,2000, P.327.‬‬

‫‪(4)- Newsweek, An interview with Hafez Al-Assad by Arnaud de Borchgrave , 25Feb1975.‬‬

‫‪(5)- Robert Morris, Henry Kissinger and American foreign policy, Harper & Row, 1977‬‬

‫)‪ (6‬ـ الطبعة العبرية من "هآرتس"‪ :‬גדעון רפאל‪ ,‬הארץ‪ 7 ,‬באפריל ‪5991‬‬

‫ومحامي الفرنسي "وليم بوردون" مع "باتريك سيل" من أجل أن يكون شاهدا في مواجهتي‬
‫ّ‬ ‫)‪(7‬ـ في العام ‪ ،4114‬وحين تواصلت أنا‬
‫القضائية مع رفعت األسد أمام محكمة المطبوعات الفرنسية (الغرفة ‪ )49‬على خلفية كشفي عن قصة مذبحة سجن تدمر والمقابر‬
‫الجماعية ‪ ،‬اعتذر عن األمر‪ ،‬مشيرا إلى أنه " ليس الئقا أن أدلي بشهادة ستطال شظاياها النظام السوري وحافظ األسد اللذين حصلت‬
‫منهما على ‪ 11‬ألف دوالر كلفة أتعابي على إنجاز سيرته"! وكذلك فعل الصحفي" روبرت فيسك"‪ ،‬مع أن هذا األخير كان كتب مقاال في‬
‫"اإلندبندنت" منذ إطالق سراحي وحين كنت لم أزل في سوريا أكد أن "كل ما قاله نزار نيوف عن المذبحة والمقابر الجماعية صحيح"(‬
‫اإلندبندنت ‪ 1‬تموز ‪:)4114‬‬

‫‪Robert Fisk: Victims of Palmyra slaughter return to haunt Syria's new leader.‬‬

‫‪(8)- Ze'ev Schiff: Dealing with Syria, Foreign Policy 55 (1984), pp. 92-112; And: Ariel Sharon‬‬
‫‪(editor: David Chanoff): Warrior, Touchstone, New York, 1989; and Kissinger: Ibid, Vol.3, pp.924-‬‬
‫‪925‬‬

‫كذلك الكتاب المشترك الذي أصدره "زئيف شيف" و "إيهود إيعاري" في العام ‪ 4181‬عن الغزو اإلسرائيلي للبنان في العام ‪4184‬‬
‫تحت عنوان "حرب الخديعة"‪ ،‬منشورات "شوكن" العبرية في نيويورك‪:‬‬

‫ـ זאב שיף & אהוד יערי ‪ :‬מלחמת שולל ‪ ،‬ניו יורק ‪ ،‬בשנת ‪5991‬‬

‫)‪(9‬ـ ميشيل عون ‪ ،‬شريط على يوتيوب ‪: https://www.youtube.com/watch?v=gfUdU94976I‬‬

‫)‪(10‬ـ مقابلة خاصة مع "نصر نيوف"(جيفارا كوبا) ‪ ،‬الكلية العسكرية التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين‪ ،‬برج البراجنة ‪،‬بيروت‪،‬‬
‫صيف العام ‪. 4191‬‬

‫)‪(11‬ـ شهادة لزياد الرحباني‪ ،‬مقابلة مع قناة "الميادين"‪. 4144 / 1 / 48 ،‬‬

‫)‪(12‬ـ كشفت عن هذه الرسالة صحيفة "لوموند" الفرنسية‪ 41 ،‬تموز ‪.4191‬‬


‫‪16‬‬

‫‪ Tabitha Petran, the Struggle Over Lebanon, Monthly Review Press, New Yourk,1987.‬ـ )‪(13‬‬

‫)‪(14‬ـ شهادة ناجي علوش‪:‬‬

‫‪https://www.youtube.com/watch?v=ekOHUNENGkI‬‬

‫)‪(15‬ـ كافة المعلومات الواردة هنا‪ ،‬ما لم تتم اإلشارة بغير ذلك‪ ،‬مأخوذة من شهادة خالي "نصر نيوف"‪ ،‬الهامش رقم‪41‬‬

‫)‪(16‬ـ راجع الهامش السابق‪ ،‬مع التنويه إلى أن ما أورده هنا هو ما بقي في ذاكرتي من المقابلة المشار إليها‪ ،‬ومع زميله "فهد‬
‫طالب"‪ ،‬بعد ‪ 39‬عاما ً‪ .‬ومن أسف أنه لم يكن باإلمكان تدوينها أو تسجيلها‪ .‬ولهذا ربما تتضمن بعض األخطاء في بعض األسماء أو بعض‬
‫التفاصيل‪ ،‬إال أنني مسؤول عن الخطوط العامة واألساسية لهذه السردية‪.‬‬

You might also like