Professional Documents
Culture Documents
الطريق إلى تل الزعتر
الطريق إلى تل الزعتر
ـ ”ليسامحني هللا ،إني أحب هذا الرجل(حافظ األسد) مهما سالت على يديه الدماء“ (هنري كيسنجر) (**)
ـ ”إن حافظ األسد،وبخالف العام ،8591هو اآلن األسطول السادس األميركي في لبنان“(دين براون) )**(
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويطوقني ونحن في طريقنا إلى السوق في ّ حصل ذلك أوائل صيف العام ،8591حين كان يضع يده على كتفي
"مصياف" ليشتري لي بعض الكتب والمجالت من "مكتبة الجاحظ" ،وبعض الهدايا التي كان وعدني بها في آخر
إجازة له قبل ذلك التاريخ بحوالي عام كامل ،لم يتمكن من إحضارها معه ،فقد جاء الرجل الذي لم يتم عقدَه الثالث من
وحدته العسكرية في سفوح "جبل الشيخ" مباشرة .
كنت في الثانية عشرة من عمري ،وكانت إجازت َه األولى بعد انتهاء حرب تشرين و"حرب االستنزاف" وانتهاء هنري
كينسجر من جوالته المكوكية التي اختُتِمت بإبرام اتفاقية "فصل القوات" ،واتفاقيات أخرى بقيت " ِس ِ ّريةَ" الور ِ
ق
والحبر ،ولو أن مضمونها سيبدأ بالظهور بعد ذلك بأقل من عامين ،إنما على أرض لبنان .
قبالة مركز البريد ،عند مدخل "كراج وادي العيون" ،وعلى صندوق خشبي بدا أنه صندوق خضار تالف ،جلست امرأة
في العقد الخامس من عمرها ترتدي زيا فالحيا تنتظر "بوسطة" القرية لتعود بها ،بينما جلس إلى جانبها طفل قدّرتُ أن
عمره في حوالي الخامسة .على حين غفلة منها ،وبينما كنا نعبر الشارع أمام مركز البريد ،قفز الطفل إلى برميل قمامة َ
ُفرغ منذ أيام،
قشور موز ٍة كانت مما فاض على األرض من البرميل الذي بدا أنه لم ي ّ
َ على مدخل "الكراج" والتقط منه
فقد كان الذباب يطير من حوله أسرابا .وقبل أن يعود إلى حضن المرأة التي قدّرت أنها أ ُّمه ،أخذ يكشط بأسنانه بقايا
بطانتها الداخلية من األلياف المتعفنة.غير أن متعته لم تكتمل ،فقد انتبهت أمه إليه وانتزعتها من يده ورمتها بعيدا إلى
مكانها السابق وهي تنهره بعصبية وتتمتم بعبارات لم أفهم منها شيئا بسبب ضجيج محركات السيارات وصراخ الناس و
أزيز جهاز اللحام الكهربائي الذي يخطف األبصار في "ورشة بازو" المجاورة .
ضغطتُ بيدي اليسرى على يد الرجل التي كانت تطوقني ،محاوال أن ألفتَ انتبا َهه إلى ما فعله الطفل ،وموجها له أول
"سؤال طبقي" أطرحه في حياتي :لماذا يريد أن يأكل بطانة قشور الموزة رغم أنها من الزبالة؟ ولماذا ال تشتري له أمه
موزا ً من الدكان القريب!؟
"قصة طويلة ،حبيبي ،بس نرجع للبيت بشرحلك اياها" .قال الرجل وهو يسرع المشي إلى الدكان المقابل لـ"الكراج"،
موز صغيرا ويعودَ مسرعا إلى وكان يملكه ـ كما أذكر ـ جارنا في الحي "خليل عثمان أبو ابراهيم" ،ليشتري منه عنقودَ ٍ
2
المرأة والطفل .وقبل أن يعطي الكيس للمرأة ،فتحه وانتزع منه موزة وأعطاها للطفل المندهش مما يحصل ،بينما كان
يقبّله على رأسه ويتمتم له بعبارات لم أسمع منها شيئا .
حين عدنا إلى البيت شرح لي "درس قشرة الموز" ،الذي كان سببا في أول "انشقاق" لي على الدنيا والعالم والنظام
المحلي والكوني .قال ":أمه لم تستطع أن تشتري له موزا ،ألنها ال تملك نقودا .وهي ال تملك النقود ،ألنها فقيرة .وهي
فقيرة ألن هنا أغنيا ًء وحكومةً يسرقون كل شيء وال يبقون لها ما تشتري به الموز البنها" .واستفاض الرجل في
شرحه ،وتحدث عن أشياء لم أفهم منها إال النذر اليسير جدا .فقد كانت أشبه بطالسم بالنسبة لصبي في عمري .لكنني
سأكتشف بعد عشرة أعوام على ذلك ،أو يزيد قليال ،أن ما قاله هو روح قانون "القيمة الزائدة" ،أو باألحرى "قانون
السرقة الشرعية" ،الذي صرف عليه كارل ماركس زهاء ثالثين عاما من عمره الكتشافه وشرحه والبرهان عليه
بمعادالت رياضية تكشف بعبقرية إعجازية المنطقَ الداخلي شبه الطلسمي لعمل هذا القانون ودوره في إعادة توزيع
أكثرها يزداد فقرا ً بتناسب عكسي مع ازياد ثراء أقلية منها.
الدخل على فئات المجتمع والمنتجين فيجع َل َ
***
عندما حصل االنقالب "البونابرتي" لألسد على الجناح "اليعقوبي " Jacobinicفي حزبه بقيادة "روبسبير البعث"
صالح جديد ،تنفيذا للتفاهمات التي أبرمها خالل زيارته األخيرة لبريطانيا نهاية العام 8529ولقائه هنا مع مدير
المباحث السعودية (المخابرات الحقا) "كمال أدهم" ،بعد أشهر على زيارته األولى مطلع شهر أيار من العام المذكور،
كان البرنامج السياسي الخارجي لألسد يقوم على ثالث نقاط أساسية :
أوال -تطب يع العالقات مع الواليات المتحدة والغرب عموما ،و مع معسكرها العربي خصوصا ،ال سيما السعودية،
تحت الشعار الذي اجترحه وأطلق عليه اسم "التضامن العربي" ؛
ضها التي ستفقس بعد ذلك بأربعة عقود عن جحافل من الثعابين السود ال
الوهابية لتبني بها أعشاشَها وتض َع فيها بيو َ
بداية لها وال نهاية.
وكانت زيارة الرئيس األميركي نيكسون إلى دمشق صيف العام ،8591رغم المطاردة اإلعالمية التي كان يتعرض لها
على خلفية "فضيحة ووترغيت" ،والحفاوة البالغة التي استٌق ِبل بها والتي بدت أشبه بـ"عراضة شامية" رسمية ،تعبيرا ً
مكثفا ليس عن ذلك فقط ،بل وعن مضمون التفاهمات التي أبرمها مع كيسنجر خالل "جوالته المكوكية" التي انتهت بما
يسمى "فصل القوات" أو"فض االشتبا " .وهي تفاهمات ال يزال يكتنفها الكثير من األسرار رغم كل ما فضحه منها
كيسنجر في مذكراته ،ورغم كل ما نُشِر عنها من وثائق في كتب وتقارير صحفية صدرت في أوربا والواليات المتحدة
خالل األربعين سنة الماضية ،السيما منها ما نشره "إدوارد شيهان" ،Edward Sheehanالديبلوماسي والصحفي
الذي رافق كيسنجر في جوالته وعاش بالقرب منه سنوات طويلة لم تنته إال بوفاته في العام ( .6111راجع على وجه
الخصوص كتابه الرائد في هذا السياق" :العرب واإلسرائيليون وكيسنجر ـ تاريخ سري للديبلوماسية األميركية في
الشرق األوسط" :
The Arabs, Israelis and Kissinger: A Secret History of American Diplomacy in the
( Middle East, Reader’s Digest Press,1976
حصل قبل ذلك عدد من التطورات والوقائع التي تلقي الضوء على "البرنامج السياسي الخارجي" لألسد األب .ففي
نيسان من العام ،8591وحين كانت "حرب االستنزاف" على وشك االنتهاء بفضل جوالت كيسنجر ،قال األسد لياسر
تنس شيئا مهما ً :ليس هنا شعب فلسطيني وال عرفات خالل لقاء جمعهما في دمشق"أنتم ال تمثلون فلسطين ( .)...ال َ
كيان فلسطيني ،هنا سوريا فقط .أنتم جزء ال يتجزأ من الشعب السوري( .)...نحن (المسؤولين السوريين)الممثلون
الحقيقيون للشعب الفلسطيني"( .)8وبعد أسبوعين على إبرام "اتفاقية فصل القوات" في 18أيار ،وتحديدا في 89
حزيران ،كانت زيارة نيكسون "التاريخية" لدمشق ،وهي أول زيارة لرئيس أميركي إلى سوريا منذ االستقالل .وقد
وزير
َ تمخض عن الزيارة ـ في سياق االتفاق على تطوير العالقات االستراتيجية بين دمشق و واشنطن ـ إيفادُ األسد
خارجيته آنذا عبد الحليم خدام إلى الواليات المتحدة في شهر آب ،فضال عن استئناف تقديم المساعدات السنوية للنظام،
والتي كانت توقفت منذ العام ،8529كما كشفت "نيويور تايمز" في األول من شباط .)6( 8599وعن هذه الزيارة
يقول كيسنجر في مذكراته ":شكلت زيارة خدام إلى الواليات المتحدة ،من نواح مختلفة ،محطةً قوية في العالقات
األميركية ـ السورية .ولم يتردد خدام خاللها في ممازحتي بالقول إنه سيرسل لي دعوة للمشاركة في مؤتمر القمة
العربية المقبل ألن زمالءه (وزراء الخارجية العرب) يفشون لي ،في جميع األحوال ،بكل ما يدور في كواليسها(.)...
ومن أجل معاكسة المصريين الذين يمقتهم ،لم يعترض خدام على محادثات مع األردن بشأن قسم من الضفة الغربية،
مهما كانت المساحة( .)...فاألسد لم يحمل أي ود في قلبه لمنظمة لتحرير الفلسطينية ،ألن الدولة الفلسطينية تتعارض مع
إيمانه بسوريا الكبرى .وهذه استراتيجيته على المدى البعيد.ولهذا كان يسعى دوما إلنشاء قيادة فلسطينية جديدة تحت
الوصاية السورية .)1("....وفي 69شباط ،8599أجرى حافظ األسد مقابلة مع أسبوعية "نيوزويك" أعرب خاللها
عن "أمله في إبرام اتفاقية سالم مع الدولة العبرية" ،معتبرا أن "اتفاقية فصل القوات تشكل خطوة على هذا
الطريق"( .)1وقد مارس اإلعالم السوري الرقابة على المقابلة ومنع نشرها في وسائل اإلعالم السورية ،كما يحصل
دوما منذ العام 8591حين يريد النظام منع مواطنيه السوريين من االطالع على تصريحات من هذا النوع تكشف
نواياه الحقيقية !
مع نهاية العام ،8599كان ما يُعرف بـ"الحركة الوطنية اللبنانية"،المتحالفة مع قوات"منظمة التحرير الفلسطينية" ،قد
سيطرت ـ بدعم سوفييتي ـ على 11بالمئة من مساحة لبنان ،وانحسر نفوذ خصومها المدعومين من إسرائيل (أي
4
"الجبهة اللبنانية" بمكوناتها األربعة المختلفة) إلى "بيروت الشرقية" وبعض الجيوب األخرى في لبنان .وكان هذا آخر
مشهد يتمنى أن يراه كيسنجر أو األسد ،فقرر هذا األخير التدخل في لبنان للقضاء على "الحركة الوطنية" و"منظمة
التحرير" بطلب من "الجبهة اللبنانية" وبالتفاهم مع األميركيين الذين كانوا ـ طبقا لما سيُنشر الحقا من وثائق في الغرب
ـ هم من أشعلوا فتيل الحرب األهلية التي بدأت رسميا مع حادثة "بوسطة عين الرمانة" في 81نيسان ،8599وعلى
نحو غير رسمي قبل ذلك بسنوات ،من خالل االعتداءات اإلجرامية المتكررة التي كان يقوم بها الجيش
اللبناني(المتأمر آنذا ) وجهاز مخابراته،على الحركة الوطنية والمخيمات الفلسطينية ،والتي كان من أبرزها اغتيال
القائد الناصري المحبوب "معروف سعد" وهو على رأس تظاهرة للصيادين في صيدا في 62شباط من العام نفسه
(استشهد متأثرا بجراحه في 2آذار) .وكان سبب إشعال الحرب ،كما سيُجمع الكثير من المؤرخين والسياسيين
الغربيين ،فضال عن وثائق عديدة ،هو تأمين الغطاء لـ"اتفاقية سيناء" على الجبهة المصرية،التي وقعت في
أيلول ،8599والتي كانت بدأت المفاوضات بشأنها قبل ذلك بأشهر ،قبل أن تنتهي بإعالن السادات عن استعداده لزيارة
إسرائيل .وهو اإلعالن الذي جاء نتيجة اتصاالت سرية بين الطرفين توالها ديكتاتور رومانيا "تشاوشيسكو" ،الذي
كانت بالدُه الدولة َ الوحيدة في أوربا الشرقية التي حافظت على عالقاتها الرسمية مع إسرائيل بعد عدوان حزيران
.8529وفي وثيقة نادرة ،يعترف "روبرت موريس" ،العضو السابق في " مجلس األمن القومي األميركي" والرجل
الذي عمل سنوات عديدة تحت قيادة كيسنجر ،بأن "المكتب اإلسرائيلي" في وكالة المخابرات المركزية األميركية هو
مستشار الرئيس األميركي لشؤون األمن
َ الجهة التي كانت تدير المعار في لبنان بالتنسيق مع هنري كيسنجر الذي كان
القومي ،والذي كان على اتصال وتنسيق في هذا األمر مع "األصدقاء السوريين"(.)9
يشير التاريخ المتداول لبدء تدخل الجيش السوري في لبنان إلى 2حزيران .8592لكن التدخل الفعلي كان حصل قبل
ذلك بخمسة أشهر ،أي مطلع العام المذكور ،حين قام األسد األب بإرسال أكثر من ثمانية آالف مقاتل من عناصر "جيش
التحرير الفلسطيني" (لواء اليرمو ) و"قوات الصاعقة" ،تسلال إلى البقاع اللبناني و"عكار" في الشمال ،بتاريخ / 85
، 8قبل أن يتبعها فوج من "القوات الخاصة " السورية بعد حوالي شهرين ،كما سيعترف األسد نفسه في خطابه على
مدرج جامعة دمشق بتاريخ 61تموز من العام المذكور ،حين قال ما حرفيته ...":ومن أجل هذا قدمنا السالح
والذخائر ،وقررنا ان ندخل تحت عنوان جيش التحرير الفلسطيني ،وبدأ هذا الجيش بالدخول الى لبنان وال أحد يعرف
هذا ابدا ،لم نأخذ رأي االحزاب الوطنية وال غيرها ولم نأخذ أذنا من أحد !"...لكنه ـ في واقع الحال ـ كذب تماما في
الشق الثاني من اعترافه .فقد حصل على إذن ليس الواليات المتحدة فقط ،بل إسرائيل أيضا ،كما تكشف وثائق عديدة
نشرت الحقا .
ففي مقابلة مع صحيفة"ها آرتس" نشرت بتاريخ 9نيسان ،8559كشف السفير اإلسرائيلي في لندن "جدعون
رافائيل" ،أن رئيس وزراء حكومته ،إسحاق رابين ،أعطى موافقته الخطية على التدخل السوري في لبنان في العام
.8592وقال ما حرفيته ":إن حافظ األسد أرسل لرابين تفاصيل خطته للتدخل في لبنان عن طريق الملك األردني
حسين" ،مشيرا إلى أن الملك األردني ،وخالل وجوده في زيارة لبريطانيا ،طلب االجتماع به بتاريخ 88نيسان ،8592
وأبلغه بأنه يحمل رسالة لرابين مفادها أن الجيش السوري" لن ينتشر في لبنان إلى أبعد من مدينة صيدا ،ولن يقترب من
الحدود اإلسرائيلية ،وسيعمل على ضبط المجموعات الفلسطينية المسلحة التي تفكر بشن عمليات على شمال إسرائيل".
وزاد رافائيل في القول":إن الرئيس حافظ األسد تعهد لرئيس الوزراء (إسحاق رابين) بأن العملية السورية تهدف فقط
إلى ضبط منظمة التحرير الفلسطينية،وأنه سينسحب (من لبنان) فور عودة الهدوء" .وختم رافائيل بالقول ":إن رابين
وافق على دخول القوات السورية (إلى لبنان) من خالل رسالة وجهها إلى األسد عبر العاهل األردني بتاريخ 61نيسان
5
8592ال تزال محفوظة في إرشيف رئاسة الحكومة اإلسرائيلية ،واإلرشيف الرسمي األردني كما أخ ّمن"( .)2ومنذ68
عاما ،تاريخ هذا التصريح ،لم يخرج أي تعليق يكذبه من دمشق!
في الواقع لم يكن تصريح"رفائيل جدعون" هو الوحيدَ الذي تحدث عما سيُعرف الحقا باسم "تفاهم الخط األحمر" بين
النظام وإسرائيل ،والذي اشتُق اسمه من حقيقة أن اإلذن اإلسرائيلي للنظام السوري بالتدخل في لبنان كان يتضمن إشارة
إلى أن أقصى نقطة يسمح للجيش السوري ببلوغها هي 81كم جنوب طريق دمشق ـ بيروت ،و جنوب ذلك هو "خط
أحمر" ممنوع عليه تجاوزه .فباتريك سيل نفسه ،وهو المعجب بشخصية حافظ األسد ،والذي قبض من نظامه 51ألف
دوالر كمكافأة على كتابة سيرة حافظ األسد ،كما اعترف لي شخصيا في العام 6116في باريس( ،)9يشير في هذه
السيرة (ص 191إلى نهاية الفصل السابع عشر المعنون بـ"الفخ اللبناني") إلى "اتفاق الخطر األحمر" بين النظام
وإسرائيل ،وإلى أن هنري كيسنجر هو الذي طلب من حافظ األسد التدخل في لبنان لردع النفوذ السوفييتي و الحيلولة
دون تحويل لبنان إلى كوبا الشرق األوسط! كما ويشير إلى أن "اتفاق الخط األحمر" ،تضمن شروطا وضعتها إسرائيل
على التدخل السوري في لبنان وردت في رسالة وزير الخارجية اإلسرائيلي "إيغال آلون" التي نقلها هنري كيسنجر إلى
النظام السوري ،وأهمها عدم نشر بطاريات دفاع جوي جنوب خط دمشق ـ بيروت .هذا ولو أن باتريك سيل يعتبر ما
جرى بمثابة "فخ نصبه هنري كيسنجر وأوقع فيه األسد حين دفعه للتدخل في لبنان"! وكذلك فعل شمعون بيريز في
مذكراته الصادرة في العام 8559تحت عنوان "الكفاح من أجل السالم) ،" (Battling For Peaceوالصحفي
اإلسرائيلي الشهير"زئيف شيف" و وزير الحرب "آرييل شارون" الذي أشار في مذكراته إلى أن "دمشق انتهكت اإلذن
الذي أعطيناه لها في العام 8592للدخول إلى لبنان حين أدخلت بطاريات دفاع جوي ."...أما هنري كيسنجر نفسه،
فأشار في مذكراته إلى أن إسحاق رابين ،وزير الدفاع اإلسرائيلي آنذا ،رد في 61آذار 8592على أسئلة كان أرسلها
له بشأن المدى الذي تسمح به إسرائيل لسوريا
بالتدخل في لبنان ،قائال ":إن إسرائيل لن تقبل أي
تحر للقوات السورية ضمن نطاق يتجاوز 81
كم جنوبي طريق دمشق ـ بيروت"(.)1
موقع "يوتيوب"( .)5أما "غرفة العمليات" المركزية المسؤولة عن إدارة المذبحة فكان مقرها في "دير مار شعيا"(دير
القلعة) قرب بلدة "بيت مري" اللبنانية في جبل لبنان ،التي تطل على المخيم من جهة الشرق .وكان يناوب في "الغرفة"
كل من "العميد علي المدني" و"اللواء ناجي جميل" من سوريا ،ومعهم أحيانا "دمحم الخولي" ،و"العقيد جول بستاني"
مدير المخابرات في الجيش اللبناني(المكتب الثاني) ،وصالح خلف (أبو إياد) من فلسطين ،الذي "كان يتولى تقديم
المعلومات واإلحداثيات الخاصة بمستودعات السالح في المخيم لضباط الجيش السوري وشركائهم الكتائبيين من أجل
استهدافها بالصواريخ والمدفعية"،كما أبلغني الرجل صاحب"درس قشر الموز" حرفيا في أول زيارة لي إلى عالمه
الجديد في "الكلية العسكرية" التابعة لـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" في "مخيم برج البراجنة" ببيروت .فقد كانت
قيادة "فتح" منخرطة تماما في التآمر على المخيم لمجرد أن راية الدفاع عنه كانت معقودة للجبهة الشعبية لتحرير
فلسطين بقيادة الشهيد "أبو أمل" ـ عبد الكريم الخطيب ( .)81ولعل ما قاله "روبرت فيسك" يصب في سياق هذه
الشهادة،إذ ذكر في كتابه " "Pity the Nation : Lebanon at Warأن عرفات لم يقدم أي دعم للمخيم وتركه
يالقي مصيره بالنظر لحساباته السياسية الخاصة ،األمر الذي دفع النسوة الفلسطينيات إلى رميه بالحجارة حين زار
الناجين من المذبحة"(.)88أما بعض قادة حزب "الكتائب" ،مثل اإلرهابي "ميشيل سماحة" و رجل المخابرات الجوية
السورية المزمن "كريم بقرادوني" ،فكانوا يجتمعون مع ضباط المخابرات السورية أمثال ضابط المخابرات الجوية
"ابراهيم حويجة" (وليس علي دوبا كما هو شائع) في الطابق العلوي من منزل الموسيقار"عاصي الرحباني" في بلدة
"الرابية" المطلة على المخيم من الجهة الشمالية الشرقية ،وكان بعضهم "يرقص على الطاوالت فرحا حين تأتي
األخبار المطمئنة عن قرب سقوط المخيم ،الذي كانت المجموعات الفاشية التابعة لهم تتسابق لرفع العلم على بعض
األماكن فيه" ،وهو ما جعل الموسيقار زياد الرحباني يفر من منزل أبيه إلى غير رجعة احتجاجا على ذلك ،ويلتحق
بالحزب الشيوعي اللبناني ،بعد أن كان سجل ما دار في هذه االجتماعات بشكل سري من خالل القطات صوتية وضعها
سرا في المنزل( .)88وربما ـ أقول ربما ألن األمر بحاجة لتوثيق من أصحاب العالقة ـ كانت هذه االجتماعات في
صلب أساس الخالف الذي نشب بين السيدة فيروز والموسيقار عاصي الرحباني أواسط السبعينيات؟
كانت القوات المهاجمة للمخيم تتألف ،فضال عن "الفوج "96في القوات الخاصة السورية وقوات الجيش اللبناني التابعة
لميشيل عون ،من خمس مجموعات هي :حزب الكتائب (بزعامة بيير الجميل) ،وميليشيا "النمور" التابعة لـ"حزب
الوطنيين األحرار" (بزعامة كميل شمعون) ،وميليشيا "جيش تحرير زغرتا" (بزعامة طوني سليمان فرنجيه)،
وميليشيا"حراس األرز"(بزعامة العميل اإلسرائيلي الشهير إتيان صقر"أبو أرز" ،ومرشده األيديولوجي ،العميل
اإلسرائيلي الشاعر سعيد عقل)،و"ميليشيا التنظيم"( بزعامة فؤاد الشمالي وجورج عدوان).
600طن من السالح اإلسرائيلي واألردني لعمالء إسرائيل في لبنان عبر ....األراضي السورية :
لم يقتصر الدور األردني المشار إليه آنفا على لعب دور "البوسطجي" فيما بين إسرائيل والنظام السوري لترتيب عملية
تدخل هذا األخير في لبنان منذ آذار من العام ،8592حين زار الملك األردني واشنطن "إلقناع اإلدارة األميركية
بضرورة وجود الجيش السوري في لبنان" ،كما أكد السفير "رفائيل جدعون" في المقابلة المشار إليها (هامش رقم،)2
بل وصل حد إقناع حافظ األسد بأهمية السماح بنقل السالح اإلسرائيلي واألردني عبر األراضي السورية إلى عمالء
إسرائيل في "الجبهة اللبنانية" الفاشية بهدف "منع منظمة التحرير الفلسطينية من الهيمنة على لبنان" .ويعترف الرئيس
اللبناني األسبق أمين الجميل ،الذي كان أحد قادة ميليشيا "الكتائب" أواسط السبعينيات ،أن األردن "كانت له مصلحة
بأال تصله العدوى الفلسطينية مرة أخرى ( )...من هنا حصل لقاء مصالح بين األردن وسوريا وإسرائيل والواليات
المتحدة من أجل تطويق الهجوم الفلسطيني في لبنان" .ويضيف في مقابلة أجرتها معه "الحياة" السعودية الصادرة في
لندن ،بتاريخ 5نيسان ،8559قائالً"إن الملك حسين شجع على حصول لقاءات بين الرئيس السوري ومسؤولين من
الجبهة اللبنانية .وقد حضرتُ زيارة للرئيس (كميل) شمعون والشيخ بيار الجميل و(شقيقي) بشير إلى دمشق حيث التقوا
7
األسد في نفس اإلطار" .ومن أجل طمأنة "الجبهة اللبنانية" إلى أهداف الوجود السوري في لبنان ،يتابع الجميّل روايته،
فقد" فسح تفاهم بين األردن وسوريا المجال لألردن لتسليم ما مجموعه أربع وعشرون شاحنة كل واحدة منها تحمل ما
يوازي 62طنا من السالح الثقيل .وقد أشرف العقيد دمحم الخولي [رئيس فرع المخابرات الجوية السورية آنذا ] و
[النائب الكتائبي] كميل مكرزل من جانب الجبهة اللبنانية على تسليم الشاحنات .وألول مرة كانت مخازن القوات
اللبنانية تمتلىء بالسالح العربي جنبا إلى جنب مع السالح اإلسرائيلي"! وكانت شحنة السالح هذه مما غنمه
اإلسرائيليون من الجيشين المصري والسوري خالل حربي 8529و ،8591قبل أن يعيدوا تأهيله وتوريده إلى لبنان.
ولكن لماذا جرى نقل السالح اإلسرائيلي عبر األراضي األردنية ،وليس عن طريق البحر؟
أغلب الظن ،وال تفسير له سوى ذلك ،هو أن اإلسرائيليين لم يكونوا يحبذون ظهورهم في صدارة المشهد اللبناني لئال
يجري إفساد الطبخة الثالثية ،السورية ـ األميركية ـ اإلسرائيلية .فقد كان مجرد الحديث عن وجود سالح إسرائيلي في
أيدي لبنانيين يقاتلون في خندق واحد مع النظام السوري ضد الفلسطينيين كفيال بتفجير فضيحة هي آخر ما كان يرغب
حافظ األسد بسماعه أو رؤيته حتى في كوابيسه ،خصوصا وأن المظاهرات كانت بدأت بالظهور في العديد من شوارع
العالم وأمام العديد من السفارات السورية في أمكنة مختلفة احتجاجا على التدخل السوري في لبنان ،وتنديدا بقتال النظام
إلى جانب القوى الفاشية ضد فصائل منظمة التحرير الفلسطينية .وما زاد في تعقيد المشهد بالنسبة لألسد ،هو أن من
كان يدافع عن مخيم "تل الزعتر" ليس "فتح عرفات" ،التي تركت المخيم لمصيره وشار صالح خلف (أبو إياد) نفسه
في التآمر عليه ،بل "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ،الفصيل األنقى واألطهر في تاريخ الثورة الفلسطينية ،التي كان
عضو مكتبها السياسي "أبو أمل"(عبد الكريم الخطيب) هو قائد عملية الدفاع عن المخيم إلى حين استشهاده وسحله في
أزقته وزواريبه! يضاف إلى ذلك أن االتحاد السوفييتي كان اتخذ موقفا رسميا واضحا وحادا ضد التدخل السوري عبّر
عنه في بيان صدر في 1حزيران " 8592شجب فيه التدخل" ،أتبعه برسالة حادة أرسلها برجينيف إلى األسد بتاريخ
88تموز طالبه فيها حرفيا بـ"وقف هجماته ضد المقاومة الفلسطينية في تل الزعتر وغيره من المناطق اللبنانية"(.)86
وبالتزامن مع ذلك ،أقدم على نشر تسعين قطعة بحرية خالل أسبوع واحد ،بينها عشرون سفينة هجومية ،شرقي البحر
المتوسط وبمحاذاة الشواطىء اللبنانية .وهو على ما يبدو ما كان السبب األساسي لتفضيل اإلسرائيليين إرسال السالح
لعمالئهم في لبنان عن طريق األردن وسوريا ،لئال تكون خاضعة للرقابة السوفييتية ،فضال عن أن عملية إرسال
السالح عبر األردن كانت ستبدو ـ في حال انكشاف أمرها ـ كما لو أنها سالح أردني .بتعبير آخر :كان اإلسرائيليون
يقومون بعملية "غسيل سالح" وتنظيفه بالممسحة األردنية على غرار "غسيل األموال"! والواقع إن أول شحنة سالح
إسرائيلية وصلت إلى "الجبهة اللبنانية" عن طريق البحر ،وتحديدا "ميناء جونية" ،كانت أواخر العام 8592كما أصبح
معروفا وموثقا حتى من قبل أصحاب العالقة في "الكتائب" ،وكما أخبرني مسؤول األمن السابق في "القوات اللبنانية"،
روبير حاتم(كوبرا) ،في المقابلة المطولة التي أجريتها معه ونشرتها في أربعة جزاء العام ( 6111متوفرة على
اإلنترنت على موقع"جبهة المقاومة اللبنانية" /جمول) .
ظلت قضية مشاركة النظام السوري في مذبحة "تل الزعتر" موضع تشكيك من قبل معظم القوى الوطنية والديمقراطية
في عموم المنطقة العربية ،انطالقا من غاية غير معلنة وهي تبرئة النظام السوري من واحدة من أشنع المجازر التي
ارتكبت بحق الشعب الفلسطيني منذ أن بدأت نكبته نهاية القرن التاسع عشر ،بل ومنذ أن دخل اإلرهابي والسفاح الكبير
صالح الدين األيوبي مدينة القدس في القرن الثاني عشر وقام بنقل يهود اليمن وتوطينهم فيها بالتزامن مع إبرامه صفقة
مع الفرنجة قضت بتسليمهم الساحل الفلسطيني كله تقريبا ،ثم قيام شقيقه بإهدائهم القدس مرة أخرى بعد أربعين عاما
على تحريرها المزعوم! وإذا ما أجرينا جردة شاملة لمجمل ما كتب عن "تل الزعتر" ،لن نعثر على توثيق واضح
8
وقاطع وجازم لمشاركة النظام السوري في مذبحته يرقى إلى درجة التوثيق العلمي الدقيق بالمعايير المتعارف عليها في
"العلوم الجنائية" و معايير التحقيقات الصحفية الرصينة .بل إن أفضل كتاب كتب عن محنة لبنان في اعتقادي ،وهو
كتاب "الصراع على لبنان" للباحثة األميركية اليسارية "تابيثا بيتران" ،المشاركة في تأسيس مجلة "مونثلي ريفيو"
العريقة إلى جانب المفكرين والمناضلين العباقرة "بول سويزي" و"بول باران" و"هاري ماجدوف" و "ليو هابرمان"،
لم تجد مؤلفته ما تقوله في كتابها عن مشاركة النظام السوري في مجزرة "تل الزعتر" إال ما ورد في الصحف اللبنانية
آنذا من أخبار ،مع األخذ بعين االعتبار محتوياتها المتضاربة والمتناقضة الخاضعة لالصطفافات والخنادق السياسية
والحزبية التي تعبر عنها .وأهم ما جاء في تلك األخبار التي نقلتها "بيتران" هو أن النظام السوري شار "الجبهة
اللبنانية" في معركة "تل الزعتر" من خالل "القصف المدفعي" .وهذا زبدة ما قالته (.)81
المناضل الفلسطيني الراحل ،الكاتب والباحث والسياسي ناجي علوش ،الذي كان نائبا لمسؤول حركة "فتح" في بيروت
خالل تلك األ يام ،حاول من جهته أيضا تبرئة النظام السوري من المشاركة في المجزرة ،فأكد في مقابلة (موجودة على
اإلنترنت) أجراها معه ابنه "الدكتور ابراهيم علوش" قبل وفاته بفترة قصيرة في 65تموز من العام ،6186أن
مشاركة النظام السوري في الجريمة أمر"غير صحيح وقد تحققت منه بنفسي" كما يقول ،مشيرا ـ بشيء من السذاجة أو
البساطة الالفتة ـ إلى أنه لو تأكد من مشاركة النظام ،لكان ذهب إلى دمشق لمناقشة المسؤولين هنا باألمر!! وجوابا
على سؤال ،يتهم "أبو إياد"(صالح خلف) بالوقوف وراء نشر هذه "اإلشاعة" عن مشاركة النظام السوري في
المذبحة(.)81
لألسف ال يمكن األخذ بشهادة "أبو ابراهيم" ،بغض النظر عن تاريخه النضالي النبيل ،فهي غير صحيحة بالمرة ،ليس
ألن ذاكرته خانته بفعل مرضه وشلله الدماغي الذي عانى منه طوال الـ 81عاما األخيرة من حياته ،وال بفعل مرض
السرطان ،ولكن ألن الشهادة جاءت على خلفية انفجار األزمة في سوريا ،والحملة اإلعالمية الشعواء على النظام الذي
بدأ الجميع ـ فجأة ـ يفتحون ملفاته القديمة ،سواء الحقيقية منها أم المزيفة! ويبدو أن ابنه ـ بفعل قربه من النظام السوري
وعالقته بمؤسساته اإلعالمية ـ حاول استغالل الوضع الخاص لوالده من أجل انتزاع الشهادة منه ،السيما وأن "أبو
ابراهيم" كان يقف إلى جانب النظام و ضد المعارضة السورية بقوة ،إلى حد أنه لم يتردد في طرد ابن أخته "سالمة
كيلة" والبصاق بوجهه حين جاء لتحيته والسالم عليه في منزله بع ّمان بعد أن أبعده النظام السوري في أيار من العام
نفسه .وكان تصرف "أبو ابراهيم" ،القاسي بالمعايير العائلية والمحق بالمعايير السياسية ،على خلفية عالقة ابن أخته
بـ"المجلس الوطني السوري" ،وبالمخابرات األردنية ،كما اتضح الحقا (حين تواصل معها فور وصوله إلى عمان
وطرح عليها مشروعا يتعلق بالالجئين الفلسطينيين الذين كانوا لجأوا إلى سورية في العام 8591بعد مجازر أيلول
األسود) .ومن الواضح أن تبرئة النظام السوري من المشاركة في مذبحة "تل الزعتر" كانت الغاية الوحيدة من هذه
المقابلة مع رجل كان يقترب بسرعة من حافة القبر ،وال أدل على ذلك من أن المقابلة اقتصرت تقريبا على هذا
الموضوع ،فضال عن اللهجة غير الواثقة التي تحدث فيها عن القضية !كانت إشكالية توثيق مشاركة النظام في المذبحة
نابعة دوما من حقيقة أن الجيش السوري لم يشار في المجزرة "من داخل المخيم" ،وإنما "من الخارج" ،أي من خالل
القصف المدفعي والصاروخي .وحين يتعرض هدف ما للقصف من أربع أو خمس جهات ،وتشار في القصف خمس
أو ست مجموعات ،يصبح من المتعذر وشبه المستحيل تحديد حقيقة وطبيعة مسؤولية كل طرف من األطراف
المشاركة .يضاف إلى ذلك حقيقة أن مواقع الجيش السوري التي شاركت في قصف المخيم كانت تتوضع في التالل
المحيطة بالمنطقة ،وتبعد عنه ما بين 6ـ 1كم ،بخالف قوى "الجبهة اللبنانية" وحلفائها التي كانت على بعد مئات
األمتار وحسب .وحين سقط المخيم نهار 86آب ،8592وبدأت عصابات "الجبهة اللبنانية" عملية القتل والذبح
العشوائي لمن بقي في المخيم من الرجل والنساء واألطفال ،فضال عن تقطيع أطراف العديد منهم بالبلطات ،وب ْقر بطون
األحياء من الحوامل بحراب البنادق ،وسحل الجثث في الشوارع بواسطة السيارات ،على مدى يومين متواصلين ،قبل
9
أن يجري جرف مقبرة المخيم وما بقي من بيوته المسقوفة بالصفيح بواسطة البلدوزرات والجرافات ،تجنب الجيش
السوري دخول المخيم واكتفى بالمراقبة "والفرجة" من بعيد ،سواء من مواقعه أو من "غرفة العمليات" في "دير
القلعة" أو منزل "عاصي الرحباني"!( .)89وصيف العام ،8515حين كنتُ أتابع "مسألة إدارية" مع "الدائرة
العسكرية" في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" تخص الراتب المخصص لجدي وجدتي بعد استشهاد ابنهما ،التقيتُ
في مقر ”الدائرة العسكرية“
في ”الجبهة الشعبية“ ،
الكائن في"حي المزرعة"
بدمشق ،الراحل "أبو ماهر
اليماني" و اللواء"أبو أحمد
فؤاد" ،نائب األمين العام
للجبهة حاليا ومسؤول
"الدائرة العسكرية" آنذا .
وقد كشفا و /أو صححا لي
الكثير من المعلومات العامة
والخاصة عن تلك الفترة،
بما في ذلك "مجزرة تل
الزعتر" ،وتأكيدهما على
مشاركة الجيش السوري
في حصار المخيم .وقد
من كثيرا استفدتُ
شهادتيهما في هذا التحقيق.
لكن ،وبالنظر لحساسية
وضع الجبهة في دمشق،
خصوصا لجهة "أبو
أحمد" ،سأمتنع ـ حتى
إشعار آخر ـ عن تنصيص
ما ذكراه لي إال في الحدود
الضرورية جدا !لكن
الوثيقة األكثر أهمية في هذا
السياق ،كونها صادرة عن
جهة رسمية أمنية سورية
عليا ،هي التي حصلتُ
عليها في العام 6111
كواحدة من مجموعة وثائق
شعبة المخابرات العسكرية التي وفرها لي المقدم المغدور"علي فاضل" قبل تصفيته حين كان يحاول "الفرار" من
سوريا وااللتحاق بي في المنفى .وتتعلق هذه الوثيقة بالترتيبات والشروط األمنية واإلدارية التي فرضتها شعبة
10
المخابرات العسكرية على تشييع الرجل "صاحب درس قشرة الموز" في نيسان من العام 8511بعد عملية اغتياله في
82من الشهر نفسه ،والتي سيأتي شرح مالبساتها في الفقرة القادمة .
تشير هذه الوثيقة (المنشورة جانبا) بشكل مباشر ،دون مواربة ،إلى أن الرجل "فر من الجيش السوري بعد رفضه
المشاركة في معركة تل الزعتر" .وهذه ـ على حد علمي ـ الوثيقة الرسمية السورية األولى والوحيدة التي تُنشر حول
المجزرة ،والتي تعترف بمشاركة الجيش السوري في حصار المخيم والمشاركة في معركة تدميره وإسقاطه .
كرسه
في 62حزيران ،8592وهوـ يا للمصادفة! ـ اليوم الذي سيُصبح "يوم الشهيد الشيوعي في سوريا" بعد أن ّ
"حزب العمل الشيوعي" في أدبياته باعتباره يوم تصفية القائد الشيوعي الشهيد "فرج هللا الحلو" ،أ ُ ِ
عط ْ
يت األوامر
لسرية المدفعية في "الفوج "96في القوات الخاصة السورية ،التي كان سالحها األساسي راجمات صواريخ ( BM-14
82فوهة) وصواريخ "غراد" ،بقصف المخيم انطالقا من مواقع تمركزها في التالل المشرفة على المخيم .
كان في "الفوج" ،السيما السرية المذكورة ،عدد من الضباط الصغار والجنود الذين لم يستسيغوا األمر ،واعتبروه
"خيانة" للمبادىء التي تلقوها في كلية المدفعية والمدارس العسكرية األخرى في الجيش السوري لجهة "عقائدية
وعقيدة"الجيش وموقع القضية الفلسطينية منهما .وكان على رأس هؤالء الرجل الذي علمني"درس قشرة الموز"،
والذي كان يرتبط بعالقة خيطية مع "الحزب الشيوعي السوري ـ المكتب السياسي" (جماعة رياض التر ) ،يوم كان لم
يزل حزبا وطنيا شيوعيا ،قبل أن يصبح "ديمقراطيا" على طريقة "البعث العراقي" ومتموال من المخابرات العراقية في
العام 8511ثم األميركية اعتبارا من العام .6119وكان الحزب،الذي انسحب من "الجبهة الوطنية التقدمية" المتحالفة
مع النظام مطلع العام المذكور ،وبخالف حزبه األم (حزب خالد بكداش) ،يسمح بنسج عالقات مع األوساط العسكرية .
ْ
وردت برقية العمليات التي تضمنت أوامر لـ"الفوج" بتقديم إسناد مدفعي وصاروخي لـ"الجبهة اللبنانية" نهار 62 حين
حزيران ،المصادف يوم السبت ،وقام قائد الفوج العميد "يونس ميالد" بتوزيعها على قادة كتائبه وسراياه المعنية
باألمر ،عقد عدد من الضباط وصف الضباط والجنود لقاءات جانبية "سرية" في خيمهم وناقشوا خلفية وخطورة أمر
العمليات وأبعاده السياسية .فقد كانوا أشبه بـ"خلية سياسية سرية" في وحدتهم العسكرية ،بالنظر لما يجمعهم من أفكار
ماركسية ويسارية وناصرية .وكانوا ينحدرون من أربع محافظات سورية هي الالذقية وحلب وحماة ودرعا .وبعد
اجتماع طال أكثر من أربع ساعات من مساء ذلك اليوم ،قرروا رفض تنفيذ األمر العسكري .وألن رفض األوامر
العسكرية خالل الحرب يقود صاحبه إلى االعتقال الفوري والمثول أمام "محكمة ميدانية" ،اتفق ثالثة منهم من أصل
سبعة حضروا االجتماع على "االنشقاق" وااللتحاق بـ"الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" في مخيم "تل الزعتر" بعد
منتصف تلك الليلة ،بالنظر ألن القصف المدفعي والصاروخي كان مقررا أن يبدأ صباح اليوم التالي 69 ،حزيران.
وكانت الظلمة وغياب ضوء القمر مناسبين تلك الليلة ويسمحان لهم بالتسلل عبر البرية الممتدة من مكان مرابض
وحدتهم في محيط منطقة "المونتيفردي"،المطلة على المخيم من جهة الشرق ،إلى المخيم الذي يبعد عنهم حوالي 1
كم.أما اآلخرون ،ورغم رفضهم "االنشقاق" ،فقد تعهدوا بكتمان األمر إلى حين نجاح رفاقهم بالوصول إلى المخيم .
عند حوالي منتصف الليل ،نزع الثالثة ما تيسر لهم من قطع قماشية بيضاء متوفرة وربطوها في مقدمة مواسير
بنادق هم ،وأخذوا ما توفر من مؤونة غذائية ومن الماء قبل أن يكتبوا رسائلهم إلى أهلهم ويودعوا رفاقهم في لقائهم
األخير ويتجهوا نحو المخيم عبر المنحدرات والبساتين وأحراج أشجار الصنوبر ،متجنبين ما أمكنهم ذلك مواقع وحدتهم
والوحدات العسكرية السورية األخرى التي كانوا يعرفون تموضعها بوصفها "قوات صديقة" .وعند حوالي الثانية بعد
11
منتصف الليل ،وبعد الوقوع في كمين لقوات "الجبهة اللبنانية" قرب "دير مار روكز" الذي ال يبعد عن المخيم سوى
بضع مئات من األمتار تخلصوا منه باالحتيال والزعم أنهم ذاهبون في "مهمة استطالعية" ،وصلوا إلى تخوم المخيم
ورفعوا الرايات البيضاء التي كانوا ربطوها على مواسير بنادقهم ،و"سلموا أنفسهم" ،ثم شرحوا للمقاتلين حكايتهم قبل
أن يقودهم رفاقهم الجدد إلى مكتب "الجبهة الشعبية" في المخيم ،حيث كان القائد الشهيد "أبو أمل"(عبد الكريم
الخطيب) بانتظار الضيوف الذين كانوا مفاجأة لم ينتظرها ولم يتوقعها(.)82
يتذكر "أبو ماهر اليماني" في العام 8511تلك الليلة حين اتصلوا به إلطالعه على التحاق"عسكريين من القوات
الخاصة السورية بهم ورفضهم القتال إلى جانب القوى االنعزالية" فيقول ":عرفت بأمر هؤالء الرفاق القادمين من
الجيش السوري من خالل اتصال تلقيته من رفاقنا الستشارتنا في كيفية التصرف .وكان أمرا طبيعيا في تلك الظروف
أن نحيط أمرهم بالشك والريبة .وقد طلبت من الرفاق إبداء
الحيطة والحذر ،دون إبداء أي تصرف يوحي لهم بأنهم
ُمراقبون .لكن تصرفهم سرعان ما بدد شكوكنا ،فقد انخرطوا
اعتبارا ً من نهار اليوم التالي في القتال إلى جانب رفاقنا ،وفي
تزويدهم بخبرات في الرمايات وبعض األمور العسكرية
األخرى الخاصة التي كنا نفتقر إليها .لكن الموقف الذي أتذكره
أكثر من غيره ،وال يمكن أن أنساه ،والذي كان من أسباب
ارتيابنا بهم في البداية قبل أن يصبح سببا آخر الحترامنا
وتقديرنا لهم ،هو أنهم رفضوا القتال أو إطالق النار على
الجبهة الشرقية للمخيم ،التي كان يتواجد في مواجهتها رفاقهم
في الجيش السوري ،خشية أن يتسببوا بمقتل أو إصابة أحدهم.
وكان شرطهم الوحيد هو أن يقاتلوا قوات الجبهة اللبنانية
وحلفائها اإلنعزاليين فقط .وقد تحقق لهم ما أرادوا"!
الشاشات اإلسرائيلية وفي العديد من صحفها! األمر الذي يبرر وصف السلطة لوضعهم بكونهم "فارين" من الجيش.
وآخر انشقاق ثوري حقيقي في الجيش َ وبهذا يمكن اعتبار "االنشقاق" الذي حصل خالل معركة "تل الزعتر"أو َل
السوري طوال تاريخه كله منذ تأسيسه األول في العام !8561وهنا ال بد من توضيح واقعة تاريخية أخرى تعود إلى
تلك الفترة ،تتعلق بالعميد "مفتخر الشرع" (خال الدكتور هيثم مناع) .فحين كنت أتحدث مع هذا األخير في قضية
الشباب الثالثة "المنشقين" في العام ،6118أخبرني بأن "مفتخر الشرع" هو أيضا "رفض التدخل في لبنان وطلب من
حافظ األسد تسريحه من الجيش بسبب ذلك ،وقد لبى األسد طلبه ،لكن دون أن يتعرض الحقا ألية مضايقات" .وقد كرر
األمر كتابة في مناسبة أخرى على ما أذكر .لكن وحين كنت أبحث مطلع هذا الشهر في الملفات والوثائق والمعلومات
العسكرية واألمنية المتعلقة بالتدخل السوري في لبنان ،ومنها مذكرات ضباط في الجيش اللبناني (العميد محمود مطر،
مثالً) وسياسيين لبنانيين عاصروا تلك الفترة ،اكتشفتُ أن ما قاله "هيثم" ليس صحيحا لألسف .فقد كان العميد مفتخر
الشرع موضع ثقة من قبل النظام ومن أجهزته األمنية والعسكرية ،ومن حافظ األسد شخصيا ،بحيث أن هذا األخير
عينه مطلع العام 8592رئيسا لـ"لجنة االرتباط" في لبنان ،التي كان مقرها "ثكنة أبلح" التابعة للجيش اللبناني ،حين
كان التدخل السوري لم يزل "سريا" وقبل أن يُعلَن عنه رسميا مطلع حزيران من العام نفسه .وكانت "اللجنة" بمثابة
"فرع المخابرات العسكرية" في لبنان قبل تشكيل هذا األخير رسميا في وقت الحق برئاسة العقيد دمحم غانم ثم غازي
كنعان .وكان في عضوية "لجنة االرتباط" أيضا كل من العميد في المخابرات الجوية "رزق الياس" و"العميد "فاروق
نصير" .كما أن األسد أوكل للعميد "مفتخر الشرع" واحدة من أدق وأخطر العمليات العسكرية واألمنية السورية في
لبنان آنذا ،وهي فك الحصار عن "قاعدة رياق الجوية" ثم اإلشراف على حمايتها بعد أن َوض َع بتصرفه لواء كامال
من "جيش التحرير الفلسطيني" ،إ ْذ كانت على وشك السقوط في أيدي "القوات المشتركة"(تحالف الحركة الوطنية
اللبنانية والفصائل الفلسطينية) .األمر الذي يعني أنه هو أيضا شار في قتال"الحركة الوطنية اللبنانية".هذا باإلضافة
إلى تكليفه مهمة تأمين قوافل التموين للقاعدة المذكورة و وحدات الجيش اللبناني األخرى المحاصرة من قبل "القوات
المشتركة" ،وتأمين رواتب ضباط وعناصر الجيش اللبناني فيها من "مصرف سورية المركزي" كـ"دَيْن على الحكومة
اللبنانية" جرت تسويته وسداده الحقا بعد عودة "الشرعية" إلى لبنان .
***
لم تصل الرسالة التي كتبها إلى أهله في تلك الليلة ،فقد قُدر لحاملها
"الرقيب سليم القدور" ،وهو من بلدة "سراقب" في ريف إدلب،
وكان ذا ميول ناصرية ،أن يقضي مع آخرين حين انقلبت سيارتهم
العسكرية في منطقة "شتورا" .ولذلك ظل الرجل صاحب "درس
قشرة الموز" بحكم "المفقود" بالنسبة إلى أهله حتى صيف العام 8595حين وصلتنا معلومات عن طريق التسلسل تفيد
13
بأنه في "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين" ،فتوجهت إلى بيروت وأنا لم أتجاوز السابعة عشرة من عمري ،بصحبة
شقيق زميله "المنشق" معه ،وهو من "آل طالب" في مصياف ،وكان في عمري أيضا ،دون أن نخبر أهلنا .وكانت
مغامرة مجنونة لم نكن لنقدر عواقبها في حينه .وقد توجهنا فور وصولنا إلى مقر "الجبهة الشعبية" في "مخيم شاتيال".
وبعد تحقيقات موسعة معنا ،وانتظار دام يومين بفعل مراجعة السجالت الذاتية في "الجبهة" ،ألنه ما من أحد كان
يُعرف باسمه الحقيقي آنذا باستثناء جهات مركزية في التنظيم ،حضر الرجل "صاحب درس قشرة الموز" .لكنه كان
اللقاء األول واألخير بيني وبينه .فبعد أقل من سنة على ذلك ،وبعد أن كنت اتفقت وإياه ألعود إليه بعد النجاح في
الثانوية العامة في العام الدراسي 8595ـ
،8511وفي 82نيسان من العام ،8511
تمكن أحد عناصر المخابرات السورية،
المنتدبين إلى قوات"الصاعقة" ،التي كانت
يومها غطاء لمئات وربما اآلالف من
الضباط والعناصر الذين جرى انتدابهم
إليها من المخابرات السورية و"سرايا
الدفاع" ،من اغتيال الرجل صاحب
"درس قشرة الموز" بعد قليل على
خروجه من مقره في معسكر "الجبهة
الشعبية لتحرير فلسطين" في جبال
"الدامور" جنوبي العاصمة! وفي اليوم
التالي جرى تشييعه من "مشفى حيفا" في
"مخيم برج البراجنة" ببيروت إلى مقبرة
الشهداء في "مخيم شاتيال" .إال أن قصته
لم تنت ِه هنا ،فقد أصر ذووه ،خصوصا
والدته،ألن والده كان فقد ذاكرته تقريبا
بفعل ما تركه "اختفاء" ابنه قبل أربع
سنوات من مأثر بالغ في نفسه ،على دفن
جثمانه في قريته "بسنديانة" في ريف
منطقة "جبلة" بسوريا؛ لكن النظام
السوري رفض إدخال جثمانه "باعتباره
فارا ً من الجيش ومتمردا على وحدته
العسكرية خالل الحرب" ،كما نقل العميد
توفيق جلول ،قائد "اللواء "18في الفرقة الثالثة ،عن مسؤولي النظام األمنيين حين طلب ذووه منه التدخل في القضية
بوصفه قريبا لهم .
بعد بض عة أيام ،وعن طريق الملحق العسكري في سفارة اليمن الديمقراطية في دمشق ،المقدم "عبد المحسن هادي"،
وصلت رسالة مكتوبة بلسان والدته إلى جورج حبش في بيروت تقول" :أريد أن يدفن ابني بقربي لكي أزور قبره كل
يوم ،فمن حقي أن أتقاسمه أنا وإياكم قسمة عادلة .أعطاكم وأعطى فلسطين روحه ،أما أنا فال أريد إال جسده !"قرأ "أبو
ماهر اليماني" و"اللواء أبو أحمد فؤاد" الرسالة بعد أن أحيلت لهما بوصفهما المسؤولَين العسكريين في الجبهة ،فأجاب
"أبو ماهر" األم الثكلى عبر المراسل ":اطمئني يا خالة ،لو اقتضى األمر أن أنقل جثمانه على كتفي وأهربه إلى
14
سوريا ،لن أتأخر"! ولم يتأخر في اإليفاء بوعده لألم المفجوعة بابنها "شبه الوحيد" .فخالل بضعة أيام كان القائد الشهيد
عبد الفتاح اسماعيل ،األمين العام للحزب االشتراكي اليمني ،قد أخذ األمر على عاتقه رغم أنه كان استقال قبل بضعة
أيام وحسب من منصبه ،وكان يحزم أمتعته للتوجه إلى موسكو ألسباب صحية؛ فاتصل بالملحق العسكري في سفارتهم
بدمشق ،المقدم عبد المحسن هادي،الذي كان من تياره ومشايعيه و"المحسوبين" عليه في مواجهة تيار "علي ناصر
دمحم" الذي خلفه في المنصب ،و مكلفا أيضا بالتواصل مع عدد من الفصائل الفلسطينية ،وطلب منه التدخل في األمر
لدى النظام بالتعاون مع السفير إذا أمكن ،ألن هذا األخير لم يكن واضح الموقف فيما إذا كان يقف في صف علي ناصر
دمحم أم في صف خصومه الشهداء "علي عنتر" و"علي شايع هادي" و"صالح مصلح" ،أعضاء المكتب السياسي
للحزب ،الذين سيصفيهم المجرم "علي ناصر دمحم" بعد ذلك بأقل من ست سنوات فيما سيُعرف بـ"مجزرة اللجنة
المركزية"( 81يناير . )8512بعد قرابة ثالثة أسابيع على دفنه في مقبرة الشهداء في "مخيم شاتيال" ،وبعد تدخل
القائد الشهيد عبد الفتاح اسماعيل ورفاقه في سفارتهم بدمشق ،وبفضل الجهود المضنية التي بذلها خالدا الذكر "جورج
حبش" و"أبو ماهر اليماني" ،سمحت سلطات النظام السوري بإدخال جثمانه بعد أن اشترط رئيس شعبة المخابرات
العسكرية ،علي دوبا ،كما يتضح من الوثيقة المنشورة جانبا ،أن ال ترافقه سوى سيارة واحدة من "الجبهة الشعبية" يقلها
أربعة عناصر على األكثر ،وأن "تمنع التجمعات والتجمهرات منعا باتا خالل تشيعه في كافة المناطق التي سيسلكها
موكب الجنازة ،باستثناء قريته" ،وأن يجري التعامل معه في السجالت العسكرية الرسمية بوصفه "فارا ً من الجيش ،
رفض األوامر العسكرية وتمرد على وحدته العسكرية خالل معركة تل الزعتر في لبنان ضد المجموعات العرفاتية،
والتحق بفصيل شيوعي مناوىء(فصيل جورج حبش)" ،كما جاء في مذكرته بتاريخ ،8511 / 1 / 11التي لم ينتبه
فيها إلى أنه لم يكن هنا "مجموعات عرفاتية" في "تل الزعتر" ،بل رفاق وأبناء جورج حبش ،وعلى رأسهم القائد
الشهيد "أبو أمل !"
كانت مصادفة أن يجري نبش قبره في مقبرة الشهداء بمخيم شاتيال ،ويشيع في سوريا بتاريخ 2أيار ،بل ربما تعمدها
القائمون على األمر في "الجبهة الشعبية" ،كونها تصادف يوم الشهداء الوطني في سوريا!؟ أما "أبو أحمد فؤاد"،
وتعليقا على موقف النظام السوري وتوصيفه للرجل "صاحب درس قشرة الموز" بأنه "فار من الجيش" ،فقال لمجلة
"الهدف" الناطقة باسم "الجبهة" في سياق التقرير الذي نشرته عن تشييعه في سوريا" :لم يفعل الرفيق الشهيد سوى أنه
فر من خندق خلفي إلى خندق متقدم في مواجهة األعداء القوميين والطبقيين الفاشيين"!
لم يكن الرجل صاحب "درس قشرة الموز" سوى خالي شقيق أمي "شبه الوحيد" ،نصر نيوف ،الذي كان أول من
علمني ”االنشقاق“ على الدنيا والعالم والنظام المحلي والكوني قبل أربعين عاما!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
)*( ـ نشر هذا النص /التحقيق في األساس على صفحتي الخاصة في "فيسبوك" في الذكرى األربعين لسقوط "تل الزعتر"(/ 8 / 41
.)4141وقد كتبته بعد مراجعة أكثر من سبعة آالف صفحة من المذكرات الشخصية التي كتبها أشخاص شاركوا في صناعة هذه األحداث
أو كانوا شهودا عليها ،بما في ذلك الكتب الوثائقية والتقارير الصحفية القديمة ذات الصلة ،باإلنكليزية والفرنسية والعبرية،السيما
لمؤلفين كانوا على تماس مباشر مع أولئك األشخاص أو تلك األحداث ،فضالً عن المقابالت الشخصية التي أجريتها مع بعض المعنيين
في سنوات تعود إلى فترة الثمانينيات .وهو ،على أي حال ،لم يهدف إلى الدخول في تفاصيل المجزرة التي أصبحت معروفة وأصبحت
المعلومات عنها في متناول الجميع ،وإنما البحث في الظروف و"األسرار" السياسية التي سبقت المجزرة وقادت النظام السوري إلى
التورط فيها ،فضال عن توثيق هذا التورط ،األمر لذي لم يحصل من قبل على نحو جازم وقطعي ،على حد علمي وفي حدود ما اطلعت
عليه من شهادات و وثائق .
)**(ـ كيسنجر مخاطبا الصحفيين في 3تموز 4181وهو يقف على درج قصر اإلليزيه في باريس ،ردا على استفسار بشأن موقفه من
قصف الجيش السوري مناطق بيروت الواقعة تحت سيطرة الحكومة العسكرية اللبنانية برئاسة ميشيل عون (نقال عن الصحف الفرنسية
15
1 ،تموز .)4181أما تصريح "دين براون" ،السفير األميركي األسبق في األردن والوسيط بين الملك حسين واإلدارة األميركية خالل
فورد في سياق رده على اآلباتي "شربل قسيس" الذي سأله في آذار 4191 "أيلول األسود "4191ومبعوث كيسنجر الخاص إلى لبنانَ ،
عن سبب امتناع الواليات المتحدة عن مؤازرة المسيحيين في مواجهة الفلسطينيين والماركسيين (كذا) كما فعلتْ لدعم كميل شمعون في
العام .4198
)(1ـ رواها عرفات لكمال جنبالط الذي أوردها في كتابه "من أجل لبنان":
http://www.nytimes.com/1975/02/01/archives/us-plans-to-give-syria-25million-state-department-
says-aim-is-to.html?_r=0
(3) - Kissinger, Les Années de Renouveau (1974-1976), Tome V, Paris, Fayard,2000, P.327.
(5)- Robert Morris, Henry Kissinger and American foreign policy, Harper & Row, 1977
) (6ـ الطبعة العبرية من "هآرتس" :גדעון רפאל ,הארץ 7 ,באפריל 5991
ومحامي الفرنسي "وليم بوردون" مع "باتريك سيل" من أجل أن يكون شاهدا في مواجهتي
ّ )(7ـ في العام ،4114وحين تواصلت أنا
القضائية مع رفعت األسد أمام محكمة المطبوعات الفرنسية (الغرفة )49على خلفية كشفي عن قصة مذبحة سجن تدمر والمقابر
الجماعية ،اعتذر عن األمر ،مشيرا إلى أنه " ليس الئقا أن أدلي بشهادة ستطال شظاياها النظام السوري وحافظ األسد اللذين حصلت
منهما على 11ألف دوالر كلفة أتعابي على إنجاز سيرته"! وكذلك فعل الصحفي" روبرت فيسك" ،مع أن هذا األخير كان كتب مقاال في
"اإلندبندنت" منذ إطالق سراحي وحين كنت لم أزل في سوريا أكد أن "كل ما قاله نزار نيوف عن المذبحة والمقابر الجماعية صحيح"(
اإلندبندنت 1تموز :)4114
Robert Fisk: Victims of Palmyra slaughter return to haunt Syria's new leader.
(8)- Ze'ev Schiff: Dealing with Syria, Foreign Policy 55 (1984), pp. 92-112; And: Ariel Sharon
(editor: David Chanoff): Warrior, Touchstone, New York, 1989; and Kissinger: Ibid, Vol.3, pp.924-
925
كذلك الكتاب المشترك الذي أصدره "زئيف شيف" و "إيهود إيعاري" في العام 4181عن الغزو اإلسرائيلي للبنان في العام 4184
تحت عنوان "حرب الخديعة" ،منشورات "شوكن" العبرية في نيويورك:
ـ זאב שיף & אהוד יערי :מלחמת שולל ،ניו יורק ،בשנת 5991
)(10ـ مقابلة خاصة مع "نصر نيوف"(جيفارا كوبا) ،الكلية العسكرية التابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ،برج البراجنة ،بيروت،
صيف العام . 4191
Tabitha Petran, the Struggle Over Lebanon, Monthly Review Press, New Yourk,1987.ـ )(13
https://www.youtube.com/watch?v=ekOHUNENGkI
)(15ـ كافة المعلومات الواردة هنا ،ما لم تتم اإلشارة بغير ذلك ،مأخوذة من شهادة خالي "نصر نيوف" ،الهامش رقم41
)(16ـ راجع الهامش السابق ،مع التنويه إلى أن ما أورده هنا هو ما بقي في ذاكرتي من المقابلة المشار إليها ،ومع زميله "فهد
طالب" ،بعد 39عاما ً .ومن أسف أنه لم يكن باإلمكان تدوينها أو تسجيلها .ولهذا ربما تتضمن بعض األخطاء في بعض األسماء أو بعض
التفاصيل ،إال أنني مسؤول عن الخطوط العامة واألساسية لهذه السردية.