You are on page 1of 85

‫نظرات‬

‫يف الفقه والتاريخ‬

‫عبد السالم ياسني‬



‫‪‬‬
‫نظرات يف الفقه و التاريخ‬ ‫ ‪:‬‬ ‫الكتا ‬
‫ب‬
‫عبد السالم ياسني‬ ‫‪ :‬‬ ‫الكاتب ‬
‫األوىل‪ :‬يونيو ‪ 1989‬مجيع احلقوق حمفوظة ‬ ‫‪ :‬‬ ‫الطبعة ‬
‫دار اخلطايب للطباعة و النشر‬ ‫‪ :‬‬ ‫الناشر ‬
‫تقديم‬
‫إخواين األعزاء‪ ،‬أخوايت العزيزات‪ ،‬أيها املؤمنون أيها املؤمنات‪ .‬يقول اهلل جل‬
‫شاء‬‫ان َوإِيتَاء ِذي الْ ُق ْربَى َويـَنـَْهى َع ِن الْ َف ْح َ‬
‫وعال‪ ﴿ :‬إِ َّن اللّهَ يأْمر بِالْع ْد ِل وا ِإلحس ِ‬
‫َ ُُ َ َ ْ َ‬
‫َوال ُْمن َك ِر َوالْبـَغْ ِي يَ ِعظُ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَ َذ َّك ُرو َن ﴾ ‪.‬‬
‫(((‬

‫أريد أن أحدثكم إن شاء اهلل يف رساليت هاته عن أفق عملنا املوفق بفضل اهلل‬
‫ومنته واضعا املنهاج النبوي يف مكان الضوء الكاشف ملا نتطلع إليه من مستقبل‬
‫اخلالفة على منهاج النبوة‪ ،‬ذلك الوعد الصادق من اهلل ورسوله الذي حيدو جهادنا‪.‬‬
‫على هذا الضوء نرى األحداث التارخيية املعاصرة‪ ،‬نرى التطور املذهل يف العلوم‬
‫والتكنولوجيا استأثر هبما من دوننا أعداء اإلسالم‪ ،‬نرى االتفاق بني شطري اجلاهلية‬
‫على التصدي العدواين لنهضة اإلسالم‪ ،‬نرى فرقة املسلمني ومتزقهم‪ ،‬نرى هيمنة املادية‬
‫اجلاهلية وثقافتها يف العامل‪ ،‬نرى احتالل العدو ألرض املسلمني واقتصادهم وعقلهم‪.‬‬
‫نرى األنظمة احلاكمة يف بالد املسلمني اجملزأة أقطارا ودويالت متثل احلكم اجلربي‬
‫الذي يتحدث عنه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف احلديث الصحيح الذي يبشرنا‬
‫بإشراق مشس اخلالفة بعد ظالم العض واجلرب‪ .‬أذكر باحلديث الذي اختذناه حمورا‬
‫لتفكرينا ومرشدا خلطواتنا‪ ،‬روى اإلمام أمحد بإسناد صحيح عن حذيفة أن رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬تكون النبوة فيكم ما شاء اهلل أن تكون‪ ،‬مث يرفعها اهلل‬
‫إذا شاء أن يرفعها‪ .‬مث تكون خالفة على منهاج النبوة فتكون ما شاء اهلل أن تكون‪،‬‬
‫مث يرفعها إذا شاء أن يرفعها‪ .‬مث تكون ملكا عاضا فتكون ما شاء اهلل أن تكون‪ ،‬مث‬
‫يرفعها إذا شاء أن يرفعها‪ .‬مث تكون ملكا جربيا فتكون ما شاء اهلل أن تكون‪ ،‬مث يرفعها‬
‫إذا شاء أن يرفعها‪ .‬مث تكون خالفة على منهاج النبوة‪ .‬مث سكت»‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة النحل‪.90 ،‬‬


‫‪7‬‬

8
‫مـقـد مــات‬

‫‪9‬‬
‫االنحراف الخطير‬
‫إننا إذ ننظر إىل األحداث املائجة يف عصرنا ونعيش مع األمة أملها يف أن يظهر‬
‫اهلل دينه على الدين كله كما وعد ووعده احلق لن نعدو حمطات اآلمال اجملنحة اخلائبة‪،‬‬
‫جتنيحها وحتليقها فوق الواقع‪ ،‬حتليقا يعطي النشوة املخدرة لكنه ال يعطي التبصر‪ ،‬إن‬
‫مل نتخذ هذا احلديث اجلليل وأمثاله دليال ملعرفة االحنراف التارخيي الذي حول جمرى‬
‫حياتنا ففقدنا بالتدريج مقوماتنا‪ .‬ذهبت الشورى مع ذهاب اخلالفة الراشدة‪ ،‬ذهب‬
‫العدل‪ ،‬ذهب اإلحسان‪ ،،‬جاء االستبداد مع بين أمية‪ ،‬ومع القرون استفحل‪ ،‬واحتل‬
‫األرض‪ ،‬واحتل العقول‪ ،‬واعتاد الناس أن يسمعوا عن اخلالفة األموية والعباسية وهلم‬
‫جرا‪ .‬وعاشوا على سراب األمساء دون فحص ناقد للمسميات‪ .‬مساها رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ملكا عاضا وملكا جربيا ومساها «املؤرخون» الرمسيون خالفة‪ ،‬فانطلت‬
‫الكذبة على األجيال‪ ،‬وتسلينا وال نزال بأجماد هذه «اخلالفة»‪ .‬وقد كانت بالفعل‬
‫شوكة اإلسالم وحاميه من العدوان اخلارجي‪ .‬لكن يف ظلها زحف العدوان الداخلي‬
‫ملا أسكتت األصوات الناهية عن املنكر‪ ،‬واغتيل الرأي احلر‪ ،‬وسد باب االجتهاد‪.‬‬
‫يف ظلها ويف خفاء الصراعات تكونت املذاهب الدساسة‪ ،‬ومتزقت األمة سنة وشيعة‪،‬‬
‫وتشتت العلم مزعا متخصصة عاجز فيها أصحاب التخصص عن النظرة الشاملة‪ .‬ال‬
‫جيسر أحد على بسط منهاج السنة والقرآن خمافة السلطان‪ .‬كان القتال يف ظلها قد‬
‫انتهى إىل تركني القرآن وأهله يف زوايا اإلمهال أو الفتك هبم يف «قومات» مثل قومة‬
‫احلسني بن علي رضي اهلل عنهما الدموية‪ .‬ويف ظلها تسلط السيف تسلطا عاتيا‪.‬‬
‫وتقدم أصحاب العصبيات العرقية‪ ،‬فحكم بنو بويه والسالجقة‪ ،‬والعبيديون‪ ،‬وهلم‬
‫جرا‪ .‬حكم كل أولئك حتت ظلها‪ ،‬يفيت حتت ظلها املفتون بشرعية حكم املستويل‬
‫بالسيف‪ .‬وسالم على الشورى وعلى العدل واإلحسان‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫ضرورة التفكير المنهاجي‬

‫إن لدى دعاة الباطل‪ ،‬لرباليني واشرتاكيني‪ ،‬وقوميني‪ ،‬و«يسار إسالميني»‪ ،‬وكل مزيج‬
‫مريج من هذه األصناف‪ ،‬نسقا واضحا لتحليل الواقع‪ ،‬ونقده‪ ،‬وحتليل التاريخ‪ ،‬ورسم مسار‬
‫ممكن للمستقبل‪ .‬وحنن نبقى يف عموميات مطالبنا الراقية‪ ،‬نعرب عنها بعواطفنا اجلياشة الصادقة‬
‫املشتاقة لغد اإلسالم األغر‪.‬‬
‫هذه العاطفية تلف يف غاللة حانية متساحمة عذبة تارخينا يف نظر أنفسنا‪ .‬فال يزال منا من‬
‫ينشد ضالته عند النموذج التليد على عهد هارون الرشيد‪ .‬ال ينتبه حلظة أن هذا امللك‪ ،‬العظيم‬
‫حقا يف ميزان الدنيا‪ ،‬ليس يف ميزان اإلسالم وعلى لسان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إال‬
‫ملكا عاضا جيرحه عضه ويسقطه عن مرتبة االعتبار الشرعي‪ .‬بعاطفة احلزين على حاضر‬
‫املسلمني اهلزيل‪ ،‬نندفع الستدعاء أجماد «شوكة اإلسالم»‪ ،‬وهو تعبري لإلمام الغزايل برر به‬
‫رمحه اهلل دفاعه عن املستظهر العباسي‪ .‬نستدعي صورة ذلك العهد القوي سلطانا‪ ،‬حنسب‬
‫أننا بذلك ننتقم لتفاهتنا الغثائية احلاضرة‪ .‬ما درينا أننا بإعزازنا للملك العاض املاضي نعز‬
‫امللك اجلربي احلاضر‪ ،‬ونعمل على تعمية آثار اهلدي النبوي والوصية النبوية الكفيلني وحدمها‪،‬‬
‫تعليما ينري معامل الطريق‪ ،‬وأوامر للتنفيذ‪ ،‬ومنوذجا لالحتذاء‪ ،‬بإهناء غثائيتنا حني منشي على‬
‫املنهاج‪ ،‬ونصحب‪ ،‬بالنظر الناقد املاسك على القول الشريف‪ ،‬تطور األمر حني بدأ الصراع‬
‫بني القرآن والسلطان‪ ،‬وحني غلب السيف‪ ،‬وحني غابت الشورى وغاب العدل واختفى‬
‫اإلحسان‪ ،‬حني تفتت الفقه‪ ،‬وحني سيقت األمة إىل التمزق فاالحتالل االستعماري فربوز‬
‫املغربني وجند الشياطني يعيثون يف األمة فسادا‪.‬‬
‫ال بد لنا إذن من إرساء قواعدنا على مكني الكتاب والسنة ألن العاطفة اجملنحة‬
‫خبال‪ ،‬وألن فقه سلفنا الصاحل الذين عاشوا رهائن مقهورة يف قبضة العض واجلرب مل‬
‫خيلفوا لنا إال نثارا من العلم ال جيمعه مشروع متكامل ألن احلديث عن احلكم وسلطانه‬
‫‪11‬‬
‫ما كان ليقبل والسيف مصلت‪ ،‬وما كان بالتايل ليعقل أو ينشر‪ ،‬إال إذا احتمى يف‬
‫جزئيات «األحكام السلطانية» اليت تقنن للنظام القائم ال تتحدث عنه إال باحرتام تام‪،‬‬
‫أو دخل يف جنينات آداب البالط املزينة بفضائل األمراء ِ‬
‫وح َك ِم اإلحسان األبوي إىل‬
‫الرعية‪.‬‬
‫املنهاج النبوي ضروري لتفسري التاريخ والواقع‪ ،‬ضروري لفتح النظرة املستقبلية‪ ،‬ضروري‬
‫لرسم اخلطة اإلسالمية دعوة ودولة‪ ،‬تربية وتنظيما وزحفا‪ ،‬ضروري ملعرفة الروابط الشرعية بني‬
‫أمل األمة وجهادها‪ ،‬ضروري ملعرفة مقومات األمة وهي تبحث عن وحدهتا‪ ،‬ضروري إلحياء‬
‫عوامل التوحيد والتجديد‪ ،‬ضروري ملعاجلة مشاكل األمة احلالية قصد إعادة البناء‪.‬‬
‫إن الصراع السياسي الداخلي واخلارجي قبل القومة وأثناءها وبعدها إما أن يستحضر‬
‫التوجيه النبوي الذي حذرنا بكامل الوضوح من العض واجلرب فيمكننا عندئذ أن نتخطى‬
‫أنظمة الفتنة ونؤسس خالفة الشورى والعدل واإلحسان‪ ،‬وإما ان هنيم على وجه اآلمال احلاملة‬
‫بأجماد العباسيني وشوكة آل عثمان‪ ،‬رحم اهلل اجلميع‪ ،‬فنقبع يف سجن األمية التارخيية وسجن‬
‫اإلعراض عن الوصية اخلالدة الواعدة مبرحلة اخلالفة الثانية املتميزة يف نظامها‪.‬‬
‫إننا ال نقصد التنقيص من شوكة ملوك املسلمني ال سيما من أبلوا منهم البالء احلسن يف‬
‫الدفاع عن احلمى‪ .‬ال وليس قصدنا هنا التعرض لنقد األشخاص وقدكان منهم الصاحلون‬
‫ومنهم دون ذلك‪ ،‬لكن نقصد نظام احلكم‪ ،‬إعادة تارخيه على معايري اإلسالم‪ ،‬غري متأثرين‬
‫مبقتضيات املفاخرة واملساجلة اليت يتخذها القوميون العرب طبوال تطن على األمساع‪.‬‬
‫أستعملكلمة «قومة» بدل «ثورة» تأصيال للنهضة واليقظة والتعبئة واإلعداد والزحف‬
‫﴿وأَنَّهُ لَ َّما قَ َام َع ْب ُد اللَّ ِه يَ ْدعُوهُ﴾(((‪ .‬فتكون قومتنا على منهاج النبوة‪،‬‬
‫على مثال قوله تعاىل ‪َ :‬‬
‫وتطلعنا بعد العض واجلرب إىل اخلالفة على منهاج النبوة‪ ،‬ومعاجلتنا لكل صغرية وكبرية بتفكري‬
‫منهاجي وأسلوب منهاجي وخطوات تتأسى خبطوات الرسل عليهم السالم‪ ،‬تتوج حكمة‬
‫خطواهتم املوفقة بالنموذج احملمدي‪ ،‬صلى اهلل على حممد وآله وصحبه وسلم تسليما‪.‬‬
‫‪  1‬سورة اجلن‪.19 ،‬‬
‫‪12‬‬
‫نظرات في الفقه والتاريخ‬

‫ ‬
‫ ‬

‫‪13‬‬
14
‫طوق التقليد‬

‫كيف ميكن أن نقوم ونتحرك وننال املطالب العالية الغالية وطوق التقليد يف‬
‫أعناقنا؟ كيف ميكن‪ ،‬وهذا الطوق الثقيل بثقل تارخينا وتراثنا ينقض ظهرنا‪ ،‬أن جنادل‬
‫عن اخلالفة املنهاجية ومستقبل اإلسالم حتت دولة الشورى والعدل واإلحسان ؟‬
‫كيف نتصور هذا املستقبل‪ ،‬مستقبل الوحدة والقوة ومحل الرسالة اخلالدة إىل العاملني ؟‬
‫كيف نعرب عن حاجات اإلنسانية وشكواها وطموحاهتا ؟ كيف ننصر دين اهلل الذي‬
‫جاء لنصرة احلق واالنتصاف للمستضعفني ؟ كيف كيف وحنن نرجو اإلفادة والعلم‬
‫ممن هم دون القرآن والسنة ؟‬
‫إن أعىت سالح يف يد اجلبارين ليس قوة سالحهم ومجوع جالديهم‪ ،‬لكنه القوة‬
‫السالبة‪ ،‬قوة اخلمول الفكري ووهن النفوس املتقلصة إىل جحر التبعية وعافية اجلبناء‪.‬‬
‫نصب غرينا موائد الدميوقراطية أو غري هذا االسم مما تلبسه أنظمة اجلرب‬
‫ونطارد حنن من حوايل تلك املوائد‬
‫َ‬ ‫املعاصرة من ثياب النفاق وجالبيب التمويه‪،‬‬
‫كما تُطارد الكائنات الطفيلية‪ .‬األدهى يف القضية أن عقوال سخيفة نسج عليها‬
‫عنكبوت التقليد والذلة بني يدي السلطان‪ ،‬فهي تلتقط من الفتات احلرام‪ ،‬أو‬
‫تنقر كاحلمام الداجن من يد السفاكني‪ ،‬ال حتدث نفسها بغري السالمة كما يفهم‬
‫السالمةَ الطاعم الكاسي‪.‬‬
‫هذه الذهنية املريضة ال تزال تسقط على عامة األمة ظال قامتا ال ميلك معه الدعاة‬
‫أن يكشفوا عن املؤامرة القرونية بني احلكام املستبدين وسدنة املعابد الطاغوتية من‬
‫«فقهاء» القصور‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫لست أعين بالتحرر من التقليد طرح االجتهادات يف فروع الفقه مما خلفه لنا‬
‫رجال اإلسالم العلماء العاملون‪ ،‬لكن أقصد أول شيء نبذ هذه الذهنية الكريهة‬
‫اليت تنظر يف القرآن ويف السرية العطرة مبنظار الطاعم الكاسي يف البالط ال ينظر إىل‬
‫البالط وواقع املسلمني مبنظار القرآن وعوينات السنة الشاهدة لينتقد ويأمر باملعروف‬
‫وينهى عن املنكر ويغضب على الباطل وأهله مرة يف عمره‪.‬‬
‫ما املنهاج للتحرر من ذهنية القطيع ومن ثورة التشنج املستعجل معا؟ ما املنهاج‬
‫لنخرج من حتت نري الرضوخ‪ ،‬وحنل وثاق التسويف‪ ،‬ونسرتجع القدرة على املبادرة‪،‬‬
‫وننصب حنن مائدة اإلسالم‪ ،‬مائدة الشورى والعدل واإلحسان‪ ،‬ندعو العاملني إىل‬
‫رمحتها وبرها ؟‬
‫من خالل نقائص املقلدين واخلانعني واخلائفني والطامعني واملزورين حيكمنا‬
‫طواغيت اجلرب كما حكمنا من قبل حكام العض من نفس تلك النقائص‪ .‬ال حميد‬
‫لنا عن خطة اخلسف ومسرية االستقالة أمام السلطان إال إن فككنا االرتباط مع‬
‫السنة السيئة ومتسكنا بالسنة النبوية واملنهاج‪ ،‬لنتنسم عبري اإلحسان يف ذلك الفضاء‬
‫اإلمياين‪ ،‬ولتحكم األمة نفسها بفضائل الشورى وفضائل العدل جمملة‪ ،‬بفضائل‬
‫الصحبة واجلماعة‪ ،‬والذكر‪ ،‬والصدق‪ ،‬والبذل‪ ،‬والعلم‪ ،‬والسمت احلسن‪ ،‬والتؤدة‪،‬‬
‫واالقتصاد‪ ،‬واجلهاد‪ .‬اقتحاما للعقبة وطلبا لوجه اهلل جل وعال‪ ،‬ال تدحرجا على‬
‫مهاوي السهولة والرخاوة وكراهية املساكني والغفلة عن اهلل والكذب والشح واجلهل‬
‫والكسل والتبعية احلضارية واهليجان واتباع خطوت الشيطان وتضييع الواجب األقدس‬
‫واجب اجلهاد‪.‬‬
‫ ‬

‫‪16‬‬
‫مكاسب ثمينة‬
‫إن ما ورثناه عن سلفنا الصاحل من علوم وقواعد مؤصلة ثروة بالغة األمهية‪ .‬ما قننوه‬
‫رضي اهلل عنهم من أسس يف علم التعديل والتجريح وأصول الفقه وفروعه وأصول الدين‬
‫وعلم السلوك باق رهن إشارتنا‪ ،‬باق يف جتزئته وبعثرته‪ ،‬كنوزا مدفوقة يف الدفاتر‪ ،‬على‬
‫أقفاهلا رموز حيلها فيستفيذ منها من معه مفتاح الفقه اجلامع‪ ،‬الفقه الذي ينظر إىل العلم‬
‫املؤثل من حيث موقعه من احلكم والظرف التارخيي والصراعات املذهبية وموقف أهل‬
‫العلم رضي اهلل عنهم احملافظ املشفق على بيضة األمة أن ترام‪ ،‬وعلى محاها أن يضام‪.‬‬
‫تراث مبعثر مكسر‪ ،‬شذراته اللماعة ال تزال صاحلة لالنتفاع يف سياق جتدد يف النيات‬
‫واحلركة واجلهاد‪.‬‬
‫الفقه اجلامع هو الفقه الذي يعم يف نظرة واحدة الدعوة والدولة يف عالقاهتما األوىل‬
‫على عهد تأليف اجلماعة من املهاجرين واألنصار رضي اهلل عنهم‪ ،‬مث تطور هذه العالقات‬
‫تطورا توسيعيا على عهد اخلالفة الرشيدة‪ ،‬مث يف تطورها إىل الفساد والكساد على عهود‬
‫امللك العاض فاجلربي‪ ،‬مث يف الوضع احلايل وقد أصبح للعلمانية والذهنية العلمانية والنوايا‬
‫العدوانية على الدين الصدارة يف تفكري احلكام ومما رستهم‪ ،‬حىت غطت الدولة على‬
‫الدعوة متاما‪ ،‬وأجلأهتا إىل منابر الوعظ املراقب امللجم املدحن أحيانا كثرية‪ ،‬وإىل ركن‬
‫«االحوال الشخصية» بعيدا عن اجملاالت احليوية املدنية واجلنائية واالقتصادية واإلدارية‪.‬‬
‫مث يعم الفقه اجلامع يف نظرة واحدة الدعوة والدولة وعالقاهتما املطلوبة يف مراحل البناء‪،‬‬
‫كيف يستعيد رجال الدعوة مراكز القرار حىت يعود السلطان خاضعا للقرآن ال العكس‪.‬‬
‫ثروتنا الفقهية العلمية املوروثة صلة غالبية احندرت إلينا من تلك األجيال‪ ،‬تصلنا‬
‫هبم‪ ،‬وحتمل معها‪ ،‬يف صياغتها وجتزئتها وصراعاهتا املذهبية‪ ،‬آثار تاريخ حافل بالضغوط‬
‫‪17‬‬
‫املتابدلة‪ ،‬كان لعمائنا العاملني أحسن اهلل إلينا وإليهم فضل الصمود أثناءها‪ ،‬صمودا حد‬
‫من غلواء السلطان أطوارا‪.‬‬
‫جتزئة ذلك الفقه‪ ،‬مثل التجزئة السياسية املعاصرة يف أقطار الفتنة‪ ،‬متثل حتديا لنا أن‬
‫نقوم جنمع باالجتهاد شتات العلم‪ ،‬وباجلهاد شتات األرض واجملتمع اإلسالمي‪ ،‬متخطني‬
‫كل التجزئات وكل األفكار واالجتهادات واملواقف النسبية املظروفة بظروفها التارخيية‪.‬‬
‫نعيد كل اجتهاد سابق إىل نصابه‪ ،‬نعرضه يف حدود نسبيته على النموذج النبوي الكامل‬
‫الذي طبق كلمة اهلل اليت ال يأتيها الباطل من بني يديها وال من خلفها‪.‬‬
‫بعض الناظرين يف كتب السلف الصاحل يتخذون إماما أو فقيها أو فارسا خاض‬
‫معارك حامية يف نصرة الدين معيارا مطلقا‪ ،‬يضيفون عليه من خياهلم القاصركل صفات‬
‫الكمال‪ ،‬ويساورون علومه بتلمذة جادة خملصة كما يساور املسافر قمم اجلبال الشماء‪،‬‬
‫مث يتخذون من فهمهم لفهم ذلك الفاهم سالحا إرهابيا يقمعون به كل من رفع رأسه‬
‫ليتلقى عن اهلل ورسوله األمر األول الذي جاء بلسان عريب مبني‪.‬‬
‫نكون منهاجيني إن حنن جعلنا حتت أيدينا الفقه املوروث اجملزأ خناطبه وحناوره ونسائله‬
‫وننتقده ونستفيد منه حسب ما جند عنده أو ال جند‪ ،‬من خرب أو دراية أو رواية عن رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم املؤيد املوفق املعصوم‪ ،‬كيف بلغ‪ ،‬وحني ألف اجلماعة بتأليف‬
‫اهلل‪ ،‬وحني سلح‪ ،‬وحني آخى وشجع على التضامن يف األرزاق‪ ،‬وحني غزا وواجه العدو‪،‬‬
‫وحني علمكل علم نافع‪ ،‬ال حيقر من التعليم أبسط املبادئ‪ ،‬وحني جاهد حىت ترك لنا أمة‬
‫واحدة أمرها بينها شورى‪ ،‬حني أوصى ونصح مبا سيؤول إليه األمر من ترد إىل اغتصاب‬
‫احلكم وإىل العض واجلرب‪ ،‬وحني بشر باخلالفة الثانية على منهاج النبوة‪ .‬جند مثال رواية‬
‫حتدثنا عن امللك العاض أو العضوض فيفهمها أسالفنا من مواقع زماهنم وسياسته ونظام‬
‫حكمه واجلو العام فيه‪ ،‬ومن مواقع اهتمامهم ومههم ومهتهم وإشفاقهم على أنفسهم وعلى‬
‫األمة‪ .‬يؤولون تلك الرواية على أن ذكر امللك العضوض تشريع له وإيصاء به‪ .‬ال نكاد جند‬
‫من فهم احلديث الشريف على أنه إخبار بكارثة ستقع‪ ،‬إلخبار يتضمن حتذيرا‪.‬‬
‫جنعل حتت أيدينا كنوز الفقه املوروث‪ ،‬نرجع إليها عند احلاجة‪ ،‬لكن نأمتُّ مباشرة‬
‫بالتعليمات الشريفة املشرفة اليت أوصتنا أن نتبع السنة األوىل ونقتدي هبديها‪ .‬يف تلك‬
‫‪18‬‬
‫السنة مل تنخر نواخر اخلالف والفرقة‪ ،‬ومل حيرف الصراع على السلطة الرأي‪ ،‬وأمخدت‬
‫النعرات القومية والعصبيات اجلاهلية‪ ،‬وقبحت أثرة املرتفني‪ ،‬ومحل لواء اجلهاد أكابر الرجال‬
‫من املستضعفني‪ .‬جزى اهلل عنا أهل احلديث خريا فلهم يف أعناقنا دين أي دين إذ‬
‫صححوا وانتقدوا وبلغوا‪.‬‬
‫علم احلديث أمثن مادة وأرفعها مكانة يف السرادق الفخم‪ ،‬سرادق علوم اإلسالم‪.‬‬
‫علماء أصول الفقه نضع خطانا على آثارهم املباركة وهم يسريون على ضوء األمر القرآين‬
‫والنهي‪ ،‬وعلى نور السنة املطهرة‪ ،‬ونقتفي ذلك األثر يف احرتام اإلمجاع‪ ،‬ألن إمجاع األمة‬
‫معصوم لقوله صلى اهلل عليه وسلم «ال جتتمع أميت على ضالل»‪ ،‬ونرحب بالقياس‬
‫واملصاحل املرسلة ملا ليس فيه نص‪ .‬كل تلك القواعد مهاد كفونا رمحهم اهلل تسويته‪ .‬وما‬
‫فرعوا من األحكام مثرة مذكورة مشكورة إن مل يتعارض شيء منها مع منهاج السنة الكلي‪:‬‬
‫الشورى والعدل واإلحسان‪.‬‬
‫نضع مثال يف موضعها من اإلعراب مجلة الفقه السلطاين و«األحكام السطانية» يف‬
‫خانة التوقري‪ ،‬ونقارن بني البحار الزاخرة من فقه الفروع اليتكانت ضرورية ومسموحا هبا‪،‬‬
‫وبني املقالة يف حقوق اهلل وحقوق األمة يف الشورى والعدل‪ ،‬فنجد هذه نزرا يسريا خجولة‬
‫ساكتة عنكثري من احلق‪ ،‬ناطقة ببعض الباطلكالفتوى بإمامة املستويل بالسيف‪.‬‬
‫ننظر يف علم السلوك لنأخذ أحسن ما خلفه الصاحلون من معاين التعلق باملوىل‬
‫جل وعال‪ ،‬ومن معاين ترقيق القلوب‪ ،‬ومن معاين هتذيب النفس واألخالق‪ ،‬ومن معاين‬
‫الصدق يف طلب وجه اهلل عز وجل‪ ،‬ومن معاين العزوف عن دار الغرور‪ ،‬ومن معاين‬
‫اإلنابة إىل الرب الكرمي وإىل الدار اآلخرة‪ .‬نأخذ املعاين والروح ال األساليب الزهادية اليت‬
‫كانت مظهرا من مظاهر االنزواء تركت الباغني يف األرض يف عربدة ال مراقب عليها‪،‬‬
‫واألمر هلل‪ .‬نعم صحبة رجال حتابوا يف اهلل‪ ،‬وذكروا اهلل‪ ،‬وصدقوا يف طلب اهلل‪ ،‬وعرفوا اهلل‪.‬‬
‫ونضر اهلل تلك الوجوه‪.‬‬
‫ننظر إىل الواعظ خطيب اجلمعة‪ ،‬وإىل املدرس احملتسب اجلالس يف مساجد املسلمني‬
‫للفتوى والتعليم‪ ،‬وإىل معلم الصبيان‪ ،‬وإىل احملدث العامل خيرج أجيال الفضالء‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫أولئك كانوا الرمز احلقيقي الذي التفت حوله األمة واعتصمت به الدعوة يوم كان‬
‫السلطان رمز السطوة العمياء‪ ،‬ويوم كان املؤهل الوحيد للرمز الرمسي «اخلليفة» ال يعدو‬
‫أحيانا كثرية نسبه وحيازته لربدة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وسيفه وبعض آثاره‬
‫الشريفة‪.‬‬
‫بقلب مطمئن نقبل تارخينا‪ ،‬لكن بعني فاحصة‪.‬‬

‫ ‬

‫‪20‬‬
‫القرآن حاكم‬

‫َه ٌّم ُمقعِد مقيم أن يكون أتى على بعض املنتسبني للعلم حني من الدهر زعموا فيه أن‬
‫السالمة يف الدين ال سبيل إليها إال بتوقري القرآن توقري هجران‪ .‬قالوا‪ ،‬وبئس ما جيري التقليد‬
‫على األلسنة‪« :‬القرآن صوابه خطأ‪ ،‬وخطأهكفر»‪ .‬استعجم عليهمكالم اهلل تبارك امسه ملا‬
‫انطمست القلوب وغشى العقول ما غشاها‪ .‬يفكلمتهم ما يشبه اليأس‪ ،‬أو ما هو اليأس‬
‫بعينه‪ ،‬من أن يفهموا عن اهلل أمرا أوهنيا‪ .‬فبتقديرهم يكون ما يفهمونه من القرآن مباشرة خطأ‬
‫ولوكان ذلك الفهم صوابا يف واقع األمر‪ ،‬مادام فهمهم مل يكن تقليدا لعمدة حجة يقلدونه‬
‫يف دينهم‪.‬‬
‫نرى اليوم موقفا معاكسا لذلك املوقف السادر يف جهله وجتاهله‪ ،‬أال وهو جرأة كل‬
‫ناعق علىكتاب اهلل يؤوله باهلوى‪ ،‬ويتناوله باملنهاجيات املادية واجلدلية واإلحصائية والبنيوية‪،‬‬
‫يف استهتار واستخفاف‪ .‬إنكان عند غالة الصنف األول هجران للقرآن منشأه فرط احلذر‬
‫من الوقوع يف اخلطأ تعظيما لكالم اهلل جلت عظمته‪ ،‬فعند زنادقة العصرانية يتم جتريد النص‬
‫القرآين من قدسيته ليصنفوه مع النصوص التارخية‪ ،‬حيتل بينمها مكانته على سلم التطور‬
‫اإليديولوجي يف الفكر العريب‪.‬‬
‫فإذا قلنا إميانا ومذهبا بتحكيم القرآن‪ ،‬والرجوع إليه‪ ،‬والرضوخ التام ألمره وهنيه‪ ،‬فال بد‬
‫أن حندد محى القرآن وحرمته‪ ،‬والتورع الواجب يف االستشهاد به واالستنباط منه‪ ،‬لكيال نقع‬
‫يف مهاوي الذين اختذوا آيات اهلل هزؤا‪ ،‬ولكي ال حنشر‪ ،‬إن حنن استخففنا باحلرمة ووقعنا يف‬
‫احلمى‪ ،‬مع الذين اشرتوا بآيات اهلل مثنا قليال فصدوا عن سبيله إهنم ساء ماكانوا يعملون‪.‬‬
‫كان الصحابة رضي اهلل عنهم عربا فصحاء يعرفون البالغة العربية سليقة‪،‬‬
‫ويذوقون اجملاز واإلشارة‪ ،‬فيتنزل القرآن وهو غض حديث الربوز إىل عامل الشهادة‬
‫‪21‬‬
‫على أمساعهم‪ ،‬يسبقه التعظيم واخلشوع ملا علموا من أنه كالم من رب العاملني‪ ،‬ويتنزل‬
‫على قلوهبم ومعه احلالوة والطمأنينة واالستعداد الصادق لطاعة اهلل يف أمره وهنيه‪،‬‬
‫كانت آياته يف أمساعهم وعقوهلم توجيهات مباشرة تعاجل قضايا الساعة التشريعية‬
‫واجلهادية‪ ،‬وتذكر بسنن األمم اخلالية‪ ،‬وتعطي األسوة بسري الرسل واألنبياء عليهم‬
‫السالم‪ ،‬مل يكن شيء من كليات القرآن خافيا عنهم‪ ،‬ومل يكونوا يتقعرون يف اجلزئيات‬
‫إذا كان علمها ال يبني حكما وال يفصل يف مسائل العقيدة واحلالل واحلرام‪ ،‬ورد‬
‫األب يف قوله‬
‫السؤال عند عمر‪ ،‬ويف رواية عند أيب بكر‪ ،‬رضي اهلل عنهما يف معىن ّ‬
‫﴿وفَاكِ َهةً َوأَبّاً﴾ فأعرض عن ذلك وقال‪ :‬ما هبذا أمرنا‪.‬‬
‫تعاىل‪َ :‬‬
‫كانوا رضي اهلل عنهم يعلمون أسباب التنزيل‪ ،‬واملقاصد الكلية للشريعة‪ ،‬وعادات العرب‬
‫يف أقواهلا وأفعاهلا وأحواهلا‪ ،‬ودخائل العدو الذيكانوا جياهدونه‪ ،‬ومراتب التكليف من واجب‬
‫الفعل أو الرتك فما دونه‪ ،‬مث ال يكتفون بفهمهم حىت يسألوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫البيان‪ ،‬والبيان وظيفة من وظائفه السامية‪ ،‬به أرسله اهلل جل وعال‪.‬‬
‫كانوا يتأمثون ويتورعون أشد التورع عن تفسريكالم اهلل سبحانه وتعاىل بالرأي‪ ،‬روي عن‬
‫األب)‬
‫الصديق رضي اهلل عنه‪ ،‬وقد سئل يف شيء من القرآن (يف خرب أن املسألةكانت عن ّ‬
‫فقالكلمته املشهورة اليت ترسم لنا حدود احلمى القرآين وحرمته يف قلب املؤمن‪« ،‬أي مساء‬
‫تظلين‪ ،‬وأي أرض تُقلين إن أنا قلت يفكالم اهلل ما ال أعلم؟»‪.‬‬
‫هنجر مسافة احتلها اجلاهلون واملتجرئون‪ ،‬واألوىل‬
‫بني أن نعظم وحنتاط وبني أن نعطل و ُ‬
‫جبند اهلل أن يلتصقوا بالكلمة القرآنية وحيملوا على عاتقهم شرف الشعار القرآين يفكليات‬
‫الشريعة وهي مل يطرأ عليها نسخ وال حدث تغيري ملراد اهلل من آياته فيها‪ ،‬ولنرتك ألهل‬
‫االختصاص واالجتهاد النظر فيما اختلف فيه‪ ،‬ريثما يأذن اهلل عز وجل بنصب احلاكم على‬
‫منهاج النبوة ليجتمع حتت إشارته االجتهاد‪ ،‬فإن حديث املصطفى صلى اهلل عليه وسلم‬
‫الذي أفسح جمال االجتهاد والثواب إمنا ذكر احلاكم من قاض وعامل‪ ،‬مل يذكر فقيه الفروع‬
‫الواقف دون عتبة اإلمارة العظمى الشرعية‪ ،‬حيث قال‪« :‬إذا حكم احلاكم فاجتهد مث أصاب‬
‫فله أجران‪ ،‬وإذا حكم فاجتهد مث أخطأ فله أجر»‪ ،‬رواه الشيخان وغريمها‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫املنهاج واالجتهاد واحلكم مبا أنزل اهلل من شورى وعدل وإحسان هذه مطالب قرآنية ال‬
‫حنتاج إلثباهتا وإجياهبا على أنفسنا مبا أوجبها اهلل لسلوك طرائق املتقدمني يف االستدالل‪ ،‬ولن‬
‫يثنينا عنها إن شاء اهلل التواء من حياول أن يسرت الشمس بكفه‪ ،‬مباشرة نستمع إىل القرآن‬
‫َنزَل اللّهُ َوالَ تـَتَّبِ ْع‬ ‫ِ‬
‫(((ما أ َ‬
‫َفاح ُكِم بـَيـْنـَُهم ب َ‬
‫الكرمي خياطب الرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلم‪ْ ﴿ :‬‬
‫ْح ِّق لِ ُك ٍّل َج َعلْنَا ِمن ُك ْم ِش ْر َعةً َومنـَْهاجاً﴾ ‪.‬‬ ‫أ َْهواءهم ع َّما ج َ ِ‬
‫اءك م َن ال َ‬ ‫َ ُْ َ َ‬
‫قال ابن عباس رضي اهلل عنهما‪« :‬املنهاج ما جاءت به السنة»‪ ،‬والذي جاءت به السنة‪،‬‬
‫تطبيقا للقرآن وحتكيما له‪ :‬احلكم بالشورى والعدل واإلحسان‪ ،‬هبا أمر رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ومن معه‪ ،‬وهبا أمرنا معهم‪ ،‬وخصصت أجيالنا الصاحلة إن شاء اهلل ببشرى اخلالفة‬
‫الثانية على منهاج النبوة‪..‬‬
‫ال يستطيع التجرد حلاكمية القرآن املباشرة وحتكميه املقلدة الذين رقدوا عند قدمي فحل‬
‫من فحول العلماء املاضني إىل عفو اهلل إن شاء اهلل‪ ،‬جاهلني نسبية ذلك الفحل أو ذلك‬
‫املذهب وحمدوديته يف إطار تارخيه‪ ،‬وتاريخ احلكم يف عهده‪ ،‬ومالبسات اجتهاده السياسية‬
‫واالجتماعية والشخصية والصراعية املذهبية اليت خاضها‪ ،‬ال يستطيع هؤالء أن يتخطوا الثراث‬
‫الفاخر ليجلسوا عند درجة املنرب النبوي يسمعون الوحي غضا واألمر العازم الذي يريد التنفيذ‬
‫ال اجلدل‪.‬‬
‫بعض هؤالء املقلدة يطرحون جانبا‪ ،‬عن سذاجة أو حسن نية أو جهل‪ ،‬مناهج العلماء‬
‫الذين خلوا من قبلنا‪ ،‬وحيتفظون فقط‪ ،‬حبسن النية تلك أو بقصد الرئاسة وغلبة اخلصم يف‬
‫اجلدال‪ ،‬حبرفية ذلك اجملتهد وإنتاجه وفتاويه‪.‬‬
‫الذين اجتهدوا قبلناكانوا يدافعون عن قضايا رمبا تكون اآلن اندثرت‪ ،‬كانوا يتفاعلون‬
‫مع واقعهم بنيات معينة‪ ،‬يف مواجهات معينة‪ ،‬بوسائلهم املمكنة‪ ،‬ألهداف ممكنة‪ .‬كانوا‬
‫جيتهدون يف نسبية تضع اجتهادهم مواضعه يف الزمان واملكان واألمهية‪ ،‬ويضعه املقلدة يف‬
‫مكانة املطلق‪ ،‬يف املكانة اليت ال تنبغي إال للقرآن وللسنة املبينة‪ ،‬فيا عجبا ملن حيجبه عنكالم‬
‫اهلل قول القائلني‪ ،‬إال أن يكون أميا جاهال ال يهتدي حىت ملن هم أهل الذكر الذين أُمر َم ْن‬
‫غاد رائح يف سكة التحجر والتعصب‬ ‫ال يعلم أن يتوجه إليهم بالسؤال‪ ،‬تلك طريق سال ُكها ٍ‬
‫ُ‬
‫وضيق األفق‪ ،‬عافانا اهلل مبنه‪.‬‬

‫‪ 1‬سورة املائدة‪.48 ،‬‬


‫‪23‬‬
‫وسكة أخرى مفتوحة على التيه والضالل‪ ،‬مؤدية إىل بالد التسيب والتفلت واإلباحية‪،‬‬
‫هي سكة املستخفني بأئمتنا وما أسسوه من متني القواعد يف علم التفسري وعلم أصول‬
‫احلديث وعلم أصول الفقه وعلم أصول الدين‪ ،‬يدعون إىل قرآن ال يستطيعون أن يتقدموا‬
‫إىل األمة إال باحرتامه‪ ،‬وإىل سنة يعرضوهنا على العصر وما جد فيه ال يعرضون العصر عليها‬
‫لتدمغ باطله حبقها‪ ،‬وإىل إمجاع يكون أشبه باالستفتاء الشعيب بدل إمجاع علماء األمة‬
‫املعتربين شرعا‪ ،‬وإىل قياس من عندهم هو الرأي السابح بال قيود يف تيارات اهلوى‪.‬‬
‫ال يستحق منا الطواغيت الذين ينكرون السنة باملرة زاعمني أن القرآن وحده احلق‪،‬‬
‫وال بيادق الكفر واإلحلاد من مستغريب ما يسمى «باليسار اإلسالمي»‪ ،‬إال اإلشارة العابرة‬
‫ليعرفهمكل مسلم يشهد أن ال إله إال اهلل وأن حممدا رسول اهلل يف زمرة املبطلني املفسدين‬
‫يف األرض‪.‬‬
‫وآخرون من أضراهبم قوم «خيدمون» القرآن يف زعمهم املنكر يفسرونه تفسريا عصريا‪،‬‬
‫ويضعون املنهجيات لفحصه وترتيبه على مداخل ترهات ما يسمونه بالعلوم اإلنسانية‪.‬‬
‫إمنا حيتكم إىل القرآن‪ ،‬ويرقي فهمه إىل التلقي عن القرآن‪ ،‬وحيفظ حرمة القرآن‪ ،‬منكان‬
‫القرآن ربيع قلبه‪ ،‬والنظر فيه قرة عينه‪ ،‬واالمتثال له راحة روحه‪ ،‬ال يضريه مع هذا أن يستفيد‬
‫من علوم األئمة‪ ،‬وما من علم تناولوه إال وهو يف خدمة القرآن‪ ،‬مستنبط من القرآن‪ ،‬راجع‬
‫إىل القرآن‪ ،‬صادر عن القرآن‪ ،‬والسنة مبينة منرية‪.‬‬
‫ال جتد هذه الفراشات اهلامجة على النار‪ ،‬اجلريئة على القول بغري علم‪ ،‬إال من صنف‬
‫الذين غرست يف نفوسهم حمبة الفلسفة والعلمانية وثقافات الكفار‪ ،‬أشربوا الغرب اجلاهلي‬
‫والشرق اجلاهلي يف قلوهبم‪ ،‬فعن ذاك املشرب يـُتـَْرِجون‪ ،‬ال ينتهي إعجاهبم باحلضارة املعاصرة‪،‬‬
‫وال ميلكون من التمييز ما به يدركون عُو َارهاكما يدركه العقالء من أهلها أنفسهم‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫لذا تسمعهم يتحدثون عن القرآن بصفته «كتاب حضارة» و«كتاب تاريخ» و«كتاب‬
‫صل اإلميان باهلل وباليوم اآلخر فعاد عندهم‬‫ثورة» انقطع يف أذهاهنم الكليلة أخزاهم اهلل َو ْ‬
‫القرآن من أساطري األولني‪ ،‬ال منكالم رب العاملني‪.‬‬
‫هذا ما مينع هؤالء أن يتخذوا القرآن حاكما‪ ،‬مينعهم الكفر‪ ،‬ومينع التقليد األعمى القاطع‬
‫أيضا عن القرآن‪ ،‬ال يشفع يف ذلك أن يكون القاطع فارسا من فرسان علمائنا‪ .‬ال يقدر‬
‫املقلدة‪ ،‬وهم يف سجن تقليدهم لألقدمني‪ ،‬أن يبصروا واقعهم على ضوء تقريرات القرآن‪،‬‬
‫وإخباره عن سنة اهلل‪ ،‬وعن دفاع اهلل الناس بعضهم ببعض‪ ،‬وعن اجلهاد الواجب‪ ،‬وعن الوالية‬
‫والتكتل لواجبني على املؤمنني‪ ،‬وعن األمر باملعروف والنهي عن املنكر وعن الشورى حكما‪،‬‬
‫والعدل الشامل تصرفا‪ ،‬واإلحسان غاية‪ .‬تغشى تلك األبصار تقريرات العلماء وجتريداهتم‬
‫وخالفاهتم‪ ،‬فتذهب بالناظر يف تلك الطروس أوهامه بعيدا عن مقاصد املؤلفني واملفتني‬
‫جيرت حروفا طار‬
‫واجملتهدين قبلنا‪ ،‬وهي كانت ذات داللة وحتكم يف واقع عصرها‪ .‬فإذا به ّ‬
‫عنها املعىنكما طار هو يف أجواء اجلدل حائما دائرا مثال أن ظفر بفقرة منكتاب حارب هبا‬
‫ذلك الفارس منكر زمانه ليحارب هبا هو خمالفيه وناصحيه‪.‬‬
‫منظار التقليد يفرض على الذهنية الكليلة‪ ،‬ذهنية منشطرة منكدرة‪ ،‬صورا من املاضي‬
‫الغابر ووقائعه وأحداثه يسقطه على واقع العصر ليصف حلاضر املسلمني عالجات هي‬
‫اهلوس بعينه‪ ،‬وليصدر فتاوي هي الفتنة بعينها‪ ،‬وهي التناقض والفهاهة‪.‬‬
‫كل ذهنية حيجب عنها حاجب الكفر أو النفاق أو التقليد األعمى حاكمية القرآن‬
‫وهيمنته ومنوذجية السنة الكاملة‪ ،‬سنة اجلهاد والشورى والعدل واإلحسان‪ ،‬دعوة ودولة‪،‬‬
‫دنيا وأخرى‪ ،‬إمنا هي ذهنية عاجزة عن فهم اإلسالم وهو إسالم الوجه هلل جل وعال‪ .‬بيننا‬
‫وبينه‪ ،‬تعاىل جد ربنا‪ ،‬كلمته اجمليدة محلها إلينا رسوله الكرمي صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬فمىت مل‬
‫نُقم وجهنا إىلكتاب اهلل تعاىل صمودا إليه‪ ،‬واستماعا وطاعة‪ ،‬وتلقيا دائما‪ ،‬وتالوة‪ ،‬وتدبرا‪،‬‬
‫وذكرا‪ ،‬فلن نكون املسلمني‪ ،‬ال ألتفت عن القرآن إن أنا استفتيت سنة ثابتة أو سألت عن‬
‫فهم من سبقين بأثارة من علم‪ ،‬شريطة أن ال يشغلين املفسر عن التفسري‪ ،‬وال رأي املفيت عن‬
‫جل وعال‪.‬‬‫احلكم وال احلكم عن احلاكم ّ‬
‫‪25‬‬
‫حري بإثراء جتربتنا‪،‬‬
‫يف جتارب سلفنا الصاحل من العلماء ويف حماوالهتم واجتهاداهتم ما هو ّ‬
‫وتقومي حماوالتنا‪ ،‬وتوجيه اجتهادنا إن حنن وضعناها مجيعا أمام القرآن والقرآن حيكم‪ ،‬نفحصها‬
‫على ضوئه‪ ،‬يف نشوئها وتسلسلها‪ ،‬وتعاقب أشكاهلا ومناهجها‪ ،‬وتأثرها حبركة احلياة العامة‬
‫وتأثريها فيها‪ ،‬وإقدامها وإحجامها‪ ،‬ونتائج صواهبا وخطإها‪.‬‬
‫أمام القرآن وهو حيكم نسائل تلك التجارب وذلك االجتهاد عما فعل العدل الذي أمر‬
‫اهلل عز وجل به يف القرآن؟ وأىن سارت الشورى وصارت؟ وأيّةً سلك اإلحسان؟ ماذا فعل‬
‫كل أولئك يف فقه هذا املذهب وسلوك تلك الطائفة واستبداد ذلك السلطان؟‬
‫ ‬

‫‪26‬‬
‫لتنقضن عرى اإلسالم‬

‫إن فهم االنكسار التارخيي الذي حدث بعد الفتنة الكربى ومقتل ثالث اخللفاء الراشدين‬
‫ذي النورين عثمان رضي اهلل عنه ضروري ملن حيمل مشروع العمل إلعادة البناء على األساس‬
‫األول‪ .‬فهم طبيعة هذا االنكسار‪ .‬ومغزاه بالنسبة لتسلسل األحداث وتدهورها بنا إىل الدرك‬
‫الذي جند اآلن فيه أنفسنا‪ ،‬فهم الذهنية التقليدية اليت تدين بالوالء غري املشروط للسلطان‪،‬‬
‫كيف نشأت‪ ،‬وكيف توارثها اخللف عن السلف‪ ،‬وكيف صنعت أجياال يسوقها احلاكم‬
‫املستبد سوق األغنام‪ .‬فهم الذهنية األخرى اليت رفضت االستسالم وتشيعت آلل البيت‪.‬‬
‫فهمكيف تغلغلت الثورة الشيعية على احلكم حىت انفجرت يف عصرنا‪ .‬فهمكيف حتجرت‬
‫الذهنية الشيعية على عقيدة إفراد عليكرم اهلل وجهه وبنيه باإلمامة‪ ،‬وراثة تقابل توارث امللوك‬
‫العاضني شؤون األمة‪ .‬فهم كيف صنع تكتم الشيعة من احلكام على مر العصور ذهنية‬
‫غامضة تتناقل األخبار الغريبة الساذجة من فم ألذن يف جو تآمري حاقد‪ .‬فهمكيف نشأت‬
‫الصراعات املذهبية بني طوائف الشيعة والرافضني للحكم القائم وبني أهل السنة واجلماعة‬
‫امللتفني حوله‪ ،‬ملاذا التف هؤالء وملاذا رفض أولئك‪ .‬فهمكيف شجرت اخلالفات واشتجرت‬
‫بني فرق النظار والفقهاء‪ ،‬وكيف برزت العقائد املتطرفة من قدرية وجربية وخوارج ومرجئة‪.‬‬
‫ليس يف هذه الرسالة متسع لتفصيل الكالم يف هذه الشؤون اخلطرية‪ ،‬وال ليس يف نيتنا‬
‫أن نتعرض للفتنة النائمة عصمنا اهلل بكرمه وعفوه من القواصم‪ ،‬لكن أحل عليكم إخويت‬
‫أن تعرفوا أن االنكسار التارخيي حدث حموري يف تاريخ اإلسالم‪ ،‬وسيبقى فهمنا حلاضر‬
‫األمة ومستقبلها مضببا بل مشوشا غاية التشويش إن مل ندرك أبعاد تلك األحداث‬
‫وآثارها على مسار تارخينا وجتلجلها يف الضمائر عن وعي يف تلك العهود وحبكم تكوين‬
‫رجة عظيمة مزقت كيان األمة املعنوي فبقي‬ ‫املخزون اجلماعي الذي توارثته األجيال‪َّ .‬‬
‫‪27‬‬
‫املسلمون يعانون من النزيف يف الفكر والعواطف منذئذ‪ ،‬ويؤدون إتاوات باهظة ملا ضعُف‬
‫من وحدهتم ومتزق من مشلهم وجتزأ من علومهم وأقطارهم‪.‬‬
‫غرينا يغضي حياء من فتح تلك الصفحات‪ ،‬وآخرون من حزب الشيطان يثريون تلك‬
‫األخبار لزعزعة ثقة املسلمني بإسالمهم وتشكيكهم يف قيمة احلق الذي أنزل على حممد‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬يستشهدون بتاريخ املسلمني على تارخيية اإلسالم ليقولوا إنه إيديولوجية‬
‫عابرة متماوجة متغرية متعددة التعبري صحبت صراعات بني بطون قريش وبني عصبيات‬
‫أخرى‪ ،‬الصق كل ذلك باألرض‪ ،‬شبيه باجلدليات الصراعية على مر التاريخ‪ .‬حنن نقصد‬
‫كشف جانب من ذلك السرت مبقدار ما نتبنيكيف جتري قوانني اهلل ونواميسه يف الكون على‬
‫الرب والفاجر‪ ،‬على املسلمني وغري املسلمني‪ ،‬آخذين يف اعتبارنا ما جاء به الوحي وما أخربنا‬
‫به املصطفى صلى اهلل عليه وسلم من أخبار الغيب‪ ،‬وما أوصى وما علم‪ ،‬لتستقيم لنا الرؤية‬
‫من زاوية نظر يوجهها القرآن وحيدوها اإلخبار املعصوم‪ .‬ال تزيغ العني اليت تقرأ ناموس اهلل يف‬
‫التاريخ بالعني اليت تقرأ مواقع القدر اإلهلي‪ ،‬وال تكون النظرة إال عوراء إن انغلقت العني املراقبة‬
‫للكون وأسبابه وانتصبت العني االميانية الغيبية ترتجم وتفسر‪ ،‬ال َخبـََر عندها بالعلة واملعلول‬
‫كما شاء اهلل تعاىل أن تكون عالقتهما مفهومة عقال مرتابطة متساوقة‪.‬‬
‫نرى هذه األيام احلرب الضروس القذرة بني إيران والعراق‪ ،‬يالضياع أشالء األمة!‬
‫يتجند بعض علمائنا احلسين النية القاصري النظرة لتفسريها والتحزب فيها انطالقا من‬
‫أهنا عدوان شيعي على أهل السنة‪ .‬من هلؤالء األفاضل يتبع معهم بإشارة األصبع كيف‬
‫احندرت من أجيال أهل السنة تقاليد اخلضوع للحكام أيا كان منذ االنكسار التارخيي‪،‬‬
‫وكيف احندرت يف أجيال الشيعة تقاليد رفض الرضوخ للحاكم‪ .‬ففي حلبة الصراع‬
‫اآلن ثو ٌار ينادون بثارات احلسني من يزيد العراق يعيشون بأمل كما عاش آباؤهم تلك‬
‫املأساة احملزنة‪ ،‬بل تلك اجلرمية النكراء بكل املعايري‪ .‬والضحية شعب عريب مسلم يف‬
‫العراق خاضع لقيادة قومية ال صلة هلا باإلسالم‪ ،‬يسوقها بيادق النصراين املرتد عن دينه‬
‫ميشيل عفلق‪ .‬ملاذا تأتى للزعماء القوميني أن يركبوا منت األمة ويلهبوا أظهرها لتنقاد إىل‬
‫سفك دمائها دفاعا عن نظام بعثي طاملا إستخف باإلسالم قبل الثورة االيرانية وأصبح‬
‫زعماؤه اليوم يتسابقون إىل عدسات التصوير ليظهروا للجمهور تالني راكعني ساجدين؟‬
‫‪28‬‬
‫أين مناط املنكر يف الداهية الدهياء اليت تبدد مقومات األمة بشطريها الشيعي والسين؟‬
‫أهو قتل األبرياء وانتهاك احلرم وإضعاف األمة‪ ،‬والعدو مرتبص شامت والقدس حمتلة؟‬
‫أم هو كارثة األمية التارخية السياسية اليت جتعلنا جنرد األحداث عن منطقها والصراع‬
‫القائم عن منبعه ومغزاه ومصرييته وذهنياته القائدة وما ترسب فيها منذ االنكسار‬
‫التارخي وما تصور هلا تلك الرتسبات من ضرورة االندفاع واالستماتة؟ إنه خماض مؤمل‬
‫فريد من نوعه يف تارخنا‪ .‬خماض نرجو منه ميالد اخلالفة املوعودة جترب وتأسو‪ .‬إن شاء‬
‫اهلل امللك الوهاب‪.‬‬
‫من املسلمني من يرفض‪ ،‬بعينني مغمضتني عن التاريخ وحقائقه وعن الوحي وتعليمه معا‪،‬‬
‫أن يكون قد حدث انكسار أو أن يكون احلكم قد فسد والسنة خضعوا والشيعة ثاروا‪ .‬هلم‬
‫بنا نربع على أنفسنا فما اجلدل نريد‪ .‬بل نريد أن نستسيغ غصص القدس وأفغانستان وحرب‬
‫اخلليج جبرعات من البسلم النبوي‪ .‬جترعوها األحباب‪ ،‬أجيال املسلمني‪ ،‬مرة وال يزالون‪ .‬وإن‬
‫قضاء اهلل عز وجل النازل مبا كسبت أيدي الناس‪ ،‬العائد بالرمحة فضال من الويل احلميد‬
‫سبحانه‪ ،‬نزل رجات يتلو بعضها بعضا إىل زماننا‪ .‬ونأمل من كرمه أن حيط أقدامنا على‬
‫مواقع القدر الذي نطق الرتمجان اإلهلي ببشرى تنزيله باخلالفة على منهاج النبوة بعدكل هذا‬
‫العض املؤمل واجلرب‪ .‬فاالنتظار الواثق لتحقيق تلك البشرى هو بلسمنا‪ .‬والعمل على التعرض‬
‫هلا إعدادا وتربية وتنظيما وزحفا شغلنا بفضل من له املنة‪ .‬ال إله إال هو‪.‬‬
‫ليس الشيعة أعداء السنة وما ينبغي أن ينفخ النافخون يف النار املستعرة ليزيدوها ضراما‪.‬‬
‫إن رجعنا‪ ،‬بالطمأنينة اإلميانية‪ ،‬إىل مبعث اخلالف وميالد الفتنة بقصد العلم املؤسس لعمل‬
‫يوحد وال يفرق‪ ،‬يفتح اجلرح ليضع فيه دواء ال لينكيه‪ ،‬فعسى نعلم ونعمل‪ .‬ولعل يف اجلواب‬
‫عن السؤال البسيط‪« :‬هل فسد احلكم يف عهد مبكر أم مل يفسد» مبا يرتاح له ضمري املؤمن‬
‫وعقل الناظر ومنطق احمللل ما هوكفيل أن يتوجه بنا إىل العلم النافع والعمل البناء‪.‬‬
‫روى اإلمام أمحد بسنده احلسن عن أيب أمامة الباهلي رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم قال «لينقضن عرى اإلسالم عروة عروة‪ ،‬فكلما انتقضت عروة تشبث الناس‬
‫باليت تليها‪ .‬وأوهلن نقضا احلكم‪ ،‬وآخرهن الصالة»‪.‬‬
‫‪29‬‬
‫لنزداد يقينا بأن احلكم قد فسد يف عهد مبكر جدا‪ ،‬ولنزداد معرفة بتفصيل املراحل اليت‬
‫حتدث عنها حديث منهاج النبوة ننظر عند البخاري حديثا رواه بسنده عن سعيد بن عمرو‬
‫بن سعيد بن العاص قال ‪« :‬كنت مع مروان وأيب هريرة يف مسجد رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فسمعت أبا هريرة يقول ‪ :‬مسعت الصادق املصدوق يقول ‪« :‬هالك أميت على يدي‬
‫أغيلمة من قريش»‪ .‬فقال مروان ‪ :‬غلمة ؟ قال أبو هريرة ‪ :‬إن شئت أن أمسيهم ‪ :‬بين فالن‬
‫وبين فالن»‪.‬‬
‫ولنزداد تدقيقا نسمع شهادة صحايب هو سفينة موىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف‬
‫حديث إسناده حسن رواه أبو داود والرتمذي وصححه ابن حبان‪ .‬يف رواية الرتمذي‪ :‬عن‬
‫سعيد عن سفينة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬اخلالفة يف أميت‬
‫ثالثون سنة‪ ،‬مث ملك بعد ذلك» قال سعيد بن جهمان مث قال‪( :‬أي سفينة ) أمسك‪( :‬أي‬
‫احسب يف أصابعك)‪ :‬خالفة أيب بكر‪ ،‬خالفة عمر‪ ،‬وخالفة عثمان مث قال أمسك خالفة‬
‫علي‪ .‬فوجدناها ثالثني سنة‪ .‬قال سعيد فقلت له إن بين أمية يزعمون أن اخلالفة فيهم! قال‬
‫كذبوا بنو الزرقاء بل هم ملوك‪ ،‬شر امللوك‪.‬‬
‫إن طموح العاملني يف الدعوة اإلسالمية‪ ،‬يكابدون يف جهادهم عنت اإلعراض من‬
‫العامة واملكر السيء من اجلبارين يف األرض‪ ،‬يعانون أيضا من الذهنية املتحجرة الواقفة على‬
‫تقديس التاريخ اإلسالمي ال تقبل بوجه أن تنظر فيه للعربة‪ .‬هذه الذهنية لوقوفها وتبلدها‬
‫ورفضها لفهم املاضي أعجز عن تصور مستقبل إسالمي إال على صورة اإلسالم املنشطر‬
‫املشتت‪ ،‬إسالم امللك العاض‪ ،‬إسالم عاش فيه القرآن وأهل القرآن حتت ظل السيف‪.‬‬
‫كأين بواحد منهم يطعن يف حديث سفينة ويطعن يف كل الروايات التارخيية ليبقى له‬
‫تصوره اجلامد املزين بألوان اهلناء والفناء‪ .‬كأين به يقول ‪« :‬ما عهدنا من يقول مثل ما نسب‬
‫اىل سفينة إال الروافض‪».‬‬
‫ملوك شر امللوك ! وظل السيف طاف فوق الرقاب‪ .‬ذهب عبد امللك بن مروان اىل املدينة‬
‫سنة ‪ .75‬فارتقى منرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأعلنها مدوية‪ ،‬لوكان يسمع اجلامدون‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫قال ‪« :‬إين لن أداوي أمراض هذه األمة بغري السيف‪ ...‬واهلل ال يأمرين أحد بعد مقامي هذا‬
‫بتقوى اهلل إال ضربت عنقه !» أنقل هذه الكلمة الكبرية اليت خرجت من يف رجل من ملوك‬
‫العض عنكتاب املودودي رمحه اهلل «اخلالفة وامللك» كما نقلها عن ابن األثري واجلصاص‬
‫وعن مؤلفكتاب فوات الوفيات‪.‬‬
‫كتاب املودوديكان أثار زوبعة يف أوساط الناس‪ .‬وهو أهم ماكتبه هذا املفكر اجملاهد‬
‫رمحه اهلل‪ .‬لعل اجلامدين وجدوا يف الكتاب ثغرة دخلوا منها فضخموا جانبا ليطمسوا منه‬
‫جوانب ناصعة‪ .‬جاءنا عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم األمر أن نكف عن األصحاب(((‪.‬‬
‫فلم يسعكاتبنا وهو يف سياق حتليله أن يتعفف عن ذكر اإلمام سيدنا عثمان رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫غفر اهلل لنا وله وللجميع‪.‬‬
‫نعم انتقضت‪ ،‬بل نقضت عروة احلكم بعد ثالثني سنة من وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وجاء من يقول من على منربه‪ ،‬من مسجده‪ ،‬للناس يومئذ ولكل من يسمع فيعي من‬
‫العقالء أن ما وعد اهلل ورسوله حق‪ ،‬وأن اخلالفة األوىل أقربها السيف‪ ،‬وأن احلاكم العاض‬
‫حيكم هبواه‪ ،‬وعصبيته‪ ،‬وجربوته‪ ،‬ال بالقرآن‪ ،‬وال بشورى أهل القرآن‪ ،‬وال بعدل القرآن‪ ،‬وال‬
‫بإحسان أمر به القرآن‪ ،‬وال برعاية لتقوى اهلل‪ .‬ضرب األعناق ! ودواء األمة السيف !‬
‫و سالت الدماء بانتقاض العروة العليا‪ ،‬وتشبث الناس بالعرى األخرى يف حدود ما مسح‬
‫به حامل السيف‪.‬‬
‫إن كان بقي لألمة كيان قوي‪ ،‬واستمرار تارخيي‪ ،‬وشوكة قوية‪ ،‬وفتوح واسعة‪ ،‬وعلوم‬
‫وجمد‪ ،‬وحضارة وابتكار‪ ،‬وصالح وتقوى‪ ،‬فالفضل هلل عز وجل بأن حفظ على األمة‬
‫وجودها ومتتسكها هبذا التشبث الذي أخرب به الصادق املصدوق صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫(فكلما انتقضت عروة متسك الناس باليت تليها)‪.‬‬
‫إن من معجزات رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إخباره بالغيب‪ ،‬ومن كرامة اهلل جل‬
‫وعال هلذه األمة أن بقيت صامدة مواجهة تارة مصانعة أخرى‪.‬‬

‫‪«  1‬إذا ذكر أصحايب أمسكوا»‪ .‬احلديث أخرجه الطرباين عن أيب مسرة بإسناد حسن‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫واجه اإلمام احلسني رضي اهلل عنه وقاتل‪ ،‬واجه زيد بن على وقاتل‪ ،‬واجه حممد النفس‬
‫الزكية وإدريس أخوه وإبراهيم وحيىي من بعده وقاتلوا‪ .‬كان هؤالء مجيعا من آل البيت‪ ،‬وكان‬
‫ألئمة املسلمني ايب حنيفة ومالك والشافعي رضي اهلل عنهم ميل‪ ،‬بل مساندة فعلية هلؤالء‬
‫القائمني‪.‬‬
‫عذب ابن هبرية اإلمام أبا حنيفة ملا رفض أن يتقلد القضاء أليب جعفر املنصور العباسي‬
‫ألنه يرى يف بيعته شيئا‪ ،‬كان يراها غري شرعية‪ ،‬وعذب وايل املدينة مالكا ملا أفىت مالك الناس‬
‫بأن طالق املكره ال جيوز‪ ،‬وكان املنصور يُكره الناس على البيعة وحيلفهم بطالق أزواجهم إن‬
‫هم مل يفوا بالبيعة‪ .‬وما ذلك إال ألن مالكا رمحه اهللكان يرى أن تلك البيعة فاسدة‪.‬‬
‫إن مشروع اإلسالميني يف عصرنا سيكون حمدود األفق إن مل نتفقه يف تارخينا‪ ،‬يغتاله‬
‫الشعور باملضض واألمل ملا وقع يف ذلك العهد العنيف‪ ،‬عهد االنتقال من مرحلة اخلالفة اىل‬
‫مرحلة العض‪ .‬ال ينقصنا العنف يف مرحلتنا هذه‪ ،‬تسلطا علينا او هاجسا ملحا على بعضنا‪.‬‬
‫فلكي نوسع األفق‪ ،‬ولكي نزيل األسى على املاضي‪ ،‬نتخفف لنمضي باطمئنان املؤمنني اىل‬
‫حتقيق موعود اهلل جهادا فاعال وتوكال يتحرى مواقع القدر احلكيم‪ .‬نقف عند حمطة فكرية‬
‫عاطفية إميانية عينية عملية سياسية دينية لنتسائل‪ :‬ترى مل قبل املسلمون حكم السيف واهلوى‬
‫وضرب األعناق؟ مل انساقوا حتت إمرة فاسدة يف كثري من األحيان وهم كانوا يف العامل قوة‬
‫فاحتة هادية يداوون الناس كافة برفق اإلسالم وقرآن اإلسالم‪ ،‬بينما احلاكم يف بيتهم هوى‬
‫السلطان‪ ،‬والدواء السيف‪ ،‬وحل اخلالف ضرب األعناق؟‬
‫ملاذا استبدل سواد األمة األعظم االستبداد بالشورى‪ ،‬والظلم بالعدل‪ ،‬وقبلوا هتتك‬
‫األغيلمة من قريش وطيشهم ؟ ملاذا مسعوا وأطاعوا الصبية الالعبني وهو كانوا أسد الشرى‬
‫وعلماء الدنيا ؟ ملاذا حكم املرتفون جهابذة الفقه وسادة القوم وأئمة األمة؟ ملاذامل ميض الذين‬
‫ساندوا القائمني من آل البيت اىل آخر شوط يف العصيان ألمراء السوء‪ ،‬وكأن يف مساندهتم‬
‫حتفظا شل احلركة‪ ،‬وفت يف العضد‪ ،‬وأوهن العزائم؟‬

‫‪32‬‬
‫عامل االيمان بالغيب‬
‫أدوات التحليل اليت ابتليت باستعماهلا هذه الطبقة من املثقفني املعاصرين تالمذة‬
‫اجلاهلية ليس فيها شيء يسمى الغيب‪ ،‬ألن دائرة تلك الثقافة ال تعرف اهلل‪ .‬فإذا‬
‫أخذوا حيللون األحداث التارخيية عرضوا الدوافع النفسية والسياسية واالقتصادية أيهاكان‬
‫العامل احلاسم يف الواقعة‪ .‬يرتبون هذه الدوافع حسب ما تعطيه مذاهبهم الفكرية من‬
‫األمهية واألسبقية للعوامل املوجهة حلركة اجملتمعات‪ .‬فالشيوعي يبدأ بالبحث عن العامل‬
‫االقتصادي وامللكية ووسائل اإلنتاج وعالقات اإلنتاج ليحدد جمرى الصراع الطبقي‬
‫وتطوره‪ .‬واملثايل يبحث عن الفكرة والفلسفة والتيار العاطفي أو الديين الذي أعطى‬
‫السياسة قاعدهتا اإليديولوجية ومبادئها‪ .‬وهكذا‪ .‬أما املؤمن باهلل وقضائه وقدره فينظر يف‬
‫األسباب الظاهرة‪ ،‬تكون نظرته عوراء إن مل يفعل‪ ،‬لكنه ينظر ايضا اىل قدرة اهلل تعاىل‬
‫وقضائه وتصرفه املطلق يف ملكه‪ ،‬من خالل العلل واألسباب أو بدوهنا‪ .‬كل فساد ظهر‬
‫يف الرب والبحر فبما كسبت أيدي الناس‪ ،‬واحلكمة املعلنة يف القرآن الكرمي أن رب العباد‬
‫ض الَّ ِذي َع ِملُوا لَ َعلَّ ُه ْم يـَْرِجعُو َن﴾(((‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫سبحانه يريد ﴿ليُذي َق ُهم بـَْع َ‬
‫يف التحليل اإلمياين لتاريخ الفتنة وانتقاض عروة احلكم يف اإلسالم نعزو ما وقع لألمة‬
‫من ختاذل أمام السلطان إىل اإلخالل البشري‪ ،‬ال تغيب عنا أسباب استيقاظ عصبية‬
‫كانت يف طريقها اىل الذوبان يف عهد النبوة واخلالفة الراشدة‪ .‬وال يغيب عنا الصراع بني‬
‫طوائف جديدة من الشعوب واألجناس اليت دخلت يف اإلسالم ومل ترتب عليه تربيةكاملة‪،‬‬
‫وال يغيب عنا كيف كانت هذه العناصر القلقة وسطا مناسبا فشت فيه محى املطالبة‬
‫واالعرتاض والتآمر‪ .‬ال يغيب عنا أخطاء‪ ،‬بل أوزار‪ ،‬فئة من االنتهازيني اندسوا يف ثنايا‬
‫الدولة على عهد اخلليفة الثالث رضي اهلل عنه فكان منطقهم أن «دواء األمة السيف»‬
‫قبل أن ينطق بالكلمة عبد امللك بن مروان من على منرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫‪  1‬سورة الروم‪.41 ،‬‬
‫‪33‬‬
‫ال يغيب عنا ما دخل اجملتمع اإلسالمي من أموال انصبت إثر الفتوح الواسعة لتحدث‬
‫حتوالت يف منط املعيشة‪ .‬وهلم جرا إىل ما شئت من خترص وتقدير‪.‬‬
‫اآلن نرجع اىل أمة كانت معجزة تارخيية قبل ظهور كل هذه العوامل ملا برزت على‬
‫ساحة العامل مجوعا جائعة فقرية من املقومات املادية‪ ،‬غنية عزيزة باملعىن العظيم الذي‬
‫مجعها وألف بينها ورفعها ‪ :‬معىن اإلميان باهلل والشعور بأهنا حاملة رسالة إىل العامل‪.‬‬
‫هذه األمةكانت تتعامل مع اهلل عز وجل ثقة به وبوعده يف الدنيا واآلخرة‪ ،‬كانت تأخذ‬
‫كلمة القرآن ووصية النيب صلى اهلل عليه وسلم مأخذ املطلق الذي ال يأتيه الباطل من بني‬
‫يديه وال من خلفه‪ .‬كان هذا املطلق هو العامل احلاسم يف حياهتا‪ ،‬يف رفعتها ويف كبوهتا‪.‬‬
‫كانت طاعة اهلل ورسوله الباعث على الفعل والرتك‪ ،‬على السلم واحلرب‪ ،‬على املوت واحلياة‪.‬‬
‫كان الصحابة رضي اهلل عنهم مسعوا من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حديث‬
‫«اخلالفة ثالثون سنة مث تكون ملكا عاضا»‪ .‬مسعوا وصدقوا أن عرى اإلسالم ستنقض‪،‬‬
‫وأن أول ما ينقض منها عروة احلكم ورباطه‪ .‬مسعوا أن هالك األمة سيكون على يد‬
‫«أغيلمة من قريش»‪ .‬فهل كانت كل هذه اإلخبارات متر على اآلذان كما متر أساطري‬
‫األولني كال بل كانوا موقنني أنه الوحي‪ .‬وتدل كثرة ما روي من هذه األحاديث‬
‫املستقبلية كانت أن العلم هبا كان مستفيضا‪ .‬وقد مجع احملدثون حتت عنوان «كتاب‬
‫الفنت» أو ما شابه كثريا مما ذكره الصادق املصدوق صلى اهلل عليه وسلم عن وقائع تأتى‬
‫على أمته وعلى العامل من بعده إىل ظهور الدجال لعنه اهلل وظهور سائر أشراط الساعة‪.‬‬
‫يف حديث نقض عرى اإلسالم ذكر املصطفى الكرمي على اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫أن أول العرى نقضا عروة اللحكم‪ ،‬وأن آخرها الصالة‪ ،‬وأن الناس كلما انتقضت عروة‬
‫تشبثوا باليت تليها‪ .‬العرى الفتحات اليت تدخل فيها األزرار ليشد هبا الثوب‪ .‬فكأن‬
‫سربال اإلسالم يتمزق عن جسم األمة من أعلى‪ ،‬من حيث الرأس‪ ،‬أي الدولة‪ ،‬والناس‬
‫يتمسكون به خمافة أن ينكشف‪ .‬ترى هل أوصى نيب اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمته‬
‫بشيء تتشبث به يكون أرجى أن ال هتلك األمة من جراء االنفصامات املتتالية؟ ترى‬
‫هل فهم الصحابة والتابعون والقرون الثالثة الفاضلة من الوصية النبوية أهنا تشريع للفتنة‬
‫ورضى هبا وتشجيع على بسطها؟‬

‫‪34‬‬
‫أمامي صحيح اإلمام مسلم أقرأ منه يف باب الفضائل عن زيد بن أرقم رضي اهلل‬
‫عنه أنه قال ‪« :‬قام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوما فينا خطيبا مباء يدعى مخا بني‬
‫مكة واملدينة‪ .‬فحمد اهلل وأثىن عليه‪ ،‬ووعظ وذكر‪ .‬مث قال ‪« :‬أما بعد أال أيها الناس !‬
‫فإمنا أنا بشر يوشك أن يأيت رسول ريب فأجيب‪ ،‬وأنا تارك فيكم ثقلني (قال العلماء مسيا‬
‫ثقلني لعظمهما وكبري شأهنما)‪ :‬أوهلما كتاب اهلل‪ ،‬فيه اهلدى والنور‪ ،‬فخذوا بكتاب اهلل‪،‬‬
‫واستمسكوا به»‪ .‬فحث على كتاب اهلل ورغب فيه‪ .‬مث قال‪« :‬وأهل بييت‪ ،‬أذكركم اهلل‬
‫يف أهل بييت ! أذكركم اهلل يف أهل بييت !» احلديث‪.‬‬
‫األخبار عن غدير خم‪ ،‬وعن وصية النيب صلى اهلل عليه وسلم بآل بيته األطهار‬
‫تشكل عند إخوتنا الشيعة النصوص احليوية اليت يبنون عليها والءهم املطلق آلل البيت‪.‬‬
‫آل البيت رضي اهلل عنهم هو العروة اليت تشبثوا هبا بعد فساد احلكم ونقض عروته‪.‬‬
‫اشتدت عليهم قبضة حكام العض على مر القرون فاستماتت قبضتهم يف التمسك بآل‬
‫البيت‪ ،‬اعتقدوا الوصية لعلي كرم اهلل وجهه‪ ،‬وغال غالهتم فرفضوا اخللفاء قبله وسبوهم‪،‬‬
‫قاتل اهلل الغالة وأبعدهم‪ ،‬واعتقدوا اإلمامة لبين علي وأضفوا عليهم العصمة‪.‬‬
‫تشبث آل إىل تصلب توارثته األجيال‪ ،‬وعاش يف ظل االضطهاد واالستخفاء‬
‫والتقية‪ ،‬لكنه تشبث له أصل ثابت عندنا وعندهم من إخبار احلبيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ووصيته‪.‬‬
‫أمسكوا هذه إخويت وأخوايت‪ ،‬قفوا عند هذا التشبث من جانب الشيعة ريثما نذكر‬
‫أهل السنة واجلماعة‪ ،‬لنرى كيف تفرعا معا من نفس األصل النبوي‪ ،‬وكيف توسع‬
‫اخلالف بني الفرعني‪ ،‬وكيف حفرت العداوات والصدامات وتضارب الوالء اهلوة حىت‬
‫أصبح الشيطان واجلهل يصوران لنا أهنا هوة ال قرار هلا‪ ،‬وأهنا الفرقة إىل األبد‪ .‬هذا التصور‬
‫الشيطاين يغلق على األمة آفاق املستقبل يف الدنيا وأمل لقاء اهلل عز وجل وهو يضحك‬
‫الينا إن جئناه نعادي أهل القبلة أهل ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل‪ ،‬املتمسكني بالقرآن‬
‫كما نتمسك وهو الثقل األول‪ .‬فما بالنا نكفر إخوتنا وننفخ نفخ الشيطان أن كان‬
‫فهمنا للثقل الثاين كيف نواليه حمط خالف؟‬

‫‪35‬‬
‫أقرأ من كتاب «جامع األصول» أحاديث كثرية‪ ،‬ال أورد منها إال الصحيح‪ ،‬كلها‬
‫توصي األمة بالسمع والطاعة مهما كان األمري‪ .‬أحاديث انتشرت يف السواد األعظم‬
‫من األمة‪ ،‬وهم أهل السنة واجلماعة‪ ،‬وأصبحت مبدأ ونظام حياة‪ .‬يسيء الظن‪ ،‬بل‬
‫يستخف باألمة‪ ،‬من يزعم أن هذه األحاديث كانت من وضع الرواة بإيعاز من احلكام‬
‫احملتاجني اىل مشروعية‪ ،‬يتخذون هذه األحاديث أداة تشريعية للقمع‪ .‬كان هنالك‬
‫وضع‪ ،‬ووضع كثري‪ ،‬لكن إمجاع أهل العلم باحلديث على سلسالت من الرواة الثقات‬
‫جيعلنا يف مأمن تام من أن يتسرب اىل ديننا مثل هذا التزوير‪ .‬ذلك لثقتنا الكاملة هبذا‬
‫العلم الفريد الشريف الوحيد يف تاريخ الدنيا‪ ،‬أال وهو علم أصول احلديث وعلم اجلرح‬
‫والتعديل‪.‬‬
‫عنون ابن األثري اجلزري رمحه اهلل‪« :‬الفصل اخلامس يف وجوب طاعة األمري»‪ .‬أورد‬
‫يف الفصل سبعة عشر حديثا‪ ،‬ثالثة عشر منها يف الصحيحني أو يف أحدمها‪ .‬والصيغة‬
‫األمرية ترتواح بني الرتغيب واألمر املؤكدين بالطاعة وبني التحذير والوعيد الشديدين‬
‫من املخالفة والعصيان‪« .‬امسع وأطع ولو حلبشي كأن رأسه زبيبة» (البخاري)‪« .‬إن‬
‫أمر عليكم عبد جمدع (‪ )...‬يقودكم بكتاب اهلل فامسعوا له وأطيعوا» (مسلم والرتمذي‬
‫والنسائي)‪« ...‬من أطاعين فقد أطاع اهلل‪ ،‬ومن عصاين فقد عصى اهلل‪ .‬ومن يطع األمري‬
‫فقد أطاعين‪ ،‬ومن يعص األمري فقد عصاين» (الشيخان والنسائي) «سأل سلمة بن‬
‫يزيد اجلعفي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬يانيب اهلل‪ ،‬أرأيت إن قامت علينا‬
‫أمراء يسألون حقهم ومينعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه‪ .‬مث سأله يف الثانية أو يف‬
‫الثالثة فجذبه األشعت بن قيس فقال ‪« :‬امسعوا وأطيعوا فإمنا عليهم ما محلوا وعليكم ما‬
‫محلتم» (مسلم والرتمذي)‪« .‬أال من ويل عليه وال فرآه يأيت شيئا من معصية اهلل فليكره‬
‫ما يأيت من معصية اهلل وال ينزعن يدا من طاعة» (من حديث ملسلم)‪.‬‬
‫هناك صيغ أخرى مشددة مثل قوله صلى اهلل عليه وسلم ‪« :‬من كره من أمري شيئا‬
‫فليصرب‪ ،‬فإنه من خرج من السلطان شربا مات ميتة جاهلية» ( الشيخان)‪ .‬هذا احلديث‬
‫وأمثاله أجلم األفواه‪ ،‬وألزم علماء األمة الصرب على كره شديد ملا فعله العاضون‪ .‬فإن‬
‫نطقت األفواه باالحتجاج فما كانت‪ ،‬إال يف حاالت قليلة‪ ،‬تثري اخلروج على السلطان‬
‫من جانب العلماء األتقياء خمافة الوعيد املفزع وعيد امليتة اجلاهلية‪ ،‬وقانا اهلل‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫صرح اإلمام أمحد رضي اهلل عنه مبلء قوته ملا ابتدع املأمون العباسي وفسق عن أمر‬
‫ربه وحارب اهلل ورسوله بتبين رأي املعتزلة القائلني خبلق القرآن‪ .‬وأوذي اإلمام فصرب‪ .‬جلد‬
‫فغفر‪ .‬كان وعيد امليتة اجلاهلية رادعا قويا ألمثاله الضنينني بدينهم‪.‬‬
‫وكان امللوك العاضون وسالطني السيف يستغلون هذه النصوص‪ ،‬ويربطون الناس‬
‫ببيعة إكراهية تغل منهم الرقاب وتقيد األرجل وتشل احلركة‪ .‬ماذا تريد من مؤمن أن يفعل‬
‫وهو يسمع حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم القائل ‪« :‬ثالثة ال يكلمهم اهلل يوم‬
‫القيامة وال يزكيهم وهلم عذاب أليم ‪ :‬رجل بايع إماما‪ ،‬فإن أعطاه وىف له‪ ،‬وإن مل يعطه‬
‫مل يوف له» (الشيخان والرتمذي) توفية واجبة إذن وإن اختل العدل يف احلكم‪ ،‬وفشا‬
‫الظلم االجتماعي‪ ،‬واستأثر احلكام باألرزاق ال يعطون إال على نشوة املبذر املسرف يف‬
‫أموال املسلمني‪.‬‬
‫وطغى يف األرض الفسقة الفجرة‪ ،‬تطيعهم األمة على كره شديد وحتتفظ هبم‪ ،‬وتغزو‬
‫بغزوهم‪ ،‬وتأمتر بأمرهم‪ ،‬تسمع وتطيع‪.‬‬
‫كان خوف اخلروج من الطاعة ومفارقة اجلماعة يلم شعت األمة‪ ،‬ويصوهنا أن‬
‫تذهب مع العصبيات اليت استيقظت‪ ،‬وأن خترج مع الرايات املفرقة للوحدة‪ ،‬الساعية‬
‫للفرقة‪« .‬من خرج من الطاعة وفارق اجلماعة فمات ميتة جاهلية‪ ،‬ومن قاتل حتت راية‬
‫عمية‪ ،‬يغضب لعصبة‪ ،‬أو يدعو اىل عصبة‪ ،‬فقتل فقتلة جاهلية‪ .‬ومن خرج على أميت‬
‫يضرب برها وفاجرها‪ ،‬ال يتحاشى من مؤمنها‪ ،‬وال يفي بعهد ذي عهدها‪ ،‬فليس مين‬
‫ولست منه» (مسلم والنسائي)‪.‬‬
‫لنقف اآلن ومعنا من أدوات التحليل شيء زائد على املنطق اجلديل واالعتبارات‬
‫األرضية‪ .‬لنقف نتساءل‪ :‬أليس يف هذه الوصايا املؤكدة الشديدة ما حيري؟ أليس رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم جاء بالشورى وبالعدل وباإلحسان ؟ فلم أوصى بالسمع‬
‫والطاعة مهما استبد احلاكم‪ .‬ومهما ظلم ومهما فسق ؟‬
‫إن اهلل عز وجل أخربنا أن حممد صلى اهلل عليه وسلم حريص على املؤمنني‪ ،‬رؤوف هبم‬
‫رحيم‪ .‬وإن اهلل عز وجل أطلع نبيه صلى اهلل عليه وسلم على مسائلكثرية من الغيب‪ ،‬مما يقع‬
‫ألمته حىت قيام الساعة‪ ،‬نقل إلينا الصحابة رضي اهلل عنهم بعضها وأنسوا الكثري‪ .‬وإن الرسول‬

‫‪37‬‬
‫الكرمي حرص على وحدة أمته ملا علم من قضاء اهلل الذي ال يرد‪ ،‬قضاء اهلل العلي القدير‬
‫احلكيم الذي اقتضى أن تكون فنت‪ ،‬وأن يبتلى املسلمون حبكام العض واجلرب‪ ،‬ال يظلم‬
‫ربك أحدا‪ ،‬وال يظهر الفساد يف بر أو حبر إال جزاء ملا كسبت أيدي الناس لعلهم‬
‫يرجعون‪ .‬ولعلهم يؤجرون يف الدار اآلخرة إن كانوا مسلمني وصربوا واحتسبوا وقالوا‬
‫باللسان والعمل ‪ :‬إنا هلل وإنا إليه راجعون‪.‬‬
‫أطلع اهلل جل وعال نبيه الكرمي مبا هوكائن ال حميد عنه‪ ،‬وماكان لرسول أن يأيت بآية‬
‫إال بإذن اهلل‪ .‬وبإذن اهلل نطق الرؤوف الرحيم صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬نطق بوصية السمع‬
‫والطاعة ملا علم من أن نوازع االستعالء واالستكبار ستظهر‪ ،‬وسيظهر التسابق إىل‬
‫السلطان‪ ،‬والصراع على السلطان‪ .‬فال يكن ذلك على حساب وحدة األمة ومتاسكها‬
‫الداخلي‪ .‬مثن هذا التماسك الصرب‪ ،‬مثنه االستبداد وما جيره من خسف للحقوق‪ ،‬مثنه‬
‫الظلم وتوابعه‪ ،‬صليت بناره األمة‪ ،‬وصليت بنار احلروب األهلية‪ .‬كانت تلك احلروب‬
‫كفيلة بالقضاء على اإلسالم لوال وصايا السمع والطاعة اليت اعتربها علماء املسلمني‬
‫دينا ومعهم السواد األعظم‪.‬‬
‫هذا اإليضاح النبوي كان العروة املتينة اليت تشبث هبا أهل السنة واجلماعة بعد أن‬
‫نقضت عروة احلكم‪.‬‬
‫ولعل كثريا مما وقع يف تارخينا من اضطراب يف السياسة واحلكم‪ ،‬يف املذاهب‬
‫واالختالف‪ ،‬يف الفقه والعقيدة‪ ،‬يف هروب الصوفية الطييب األنفاس من امليدان وسكوت‬
‫علمائنا عن «تلبيس إبليس» يف احلكم‪ ،‬راجع بعد قضاء اهلل وقدره إىل احلرية بني التشبثني‬
‫الواجبني‪ ،‬بني التشبث بالقرآن‪ ،‬وهو العروة الوثقى‪ ،‬فيه الشورى والعدل واإلحسان‪ ،‬وبني‬
‫التشبث بالسنة وفيها األمر بالسمع والطاعة والتخويف من امليتة اجلاهلية يف حق من‬
‫فارق اجلماعة‪ .‬السمع والطاعة مللوك استحقوا الصفة الشائنة اليت جاءت هبا أيضا السنة‬
‫وهي صفة العض‪ ،‬وظهر بعد أهنم أخلوا بالشورى وبالعدل وباإلحسان مجيعا‪.‬‬
‫من حديث مسلم والرتمذي والنسائي أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬إن أمر‬
‫عليكم عبد جمدع (‪ )...‬يقودكم بكتاب اهلل فامسعوا له وأطيعوا»‪ .‬لذا ال جند حاكما عاضا فيما‬
‫‪38‬‬
‫مضى‪ ،‬وال جند من حكام اجلرب احلاليني إال من يتمسح بكتاب اهلل سبحانه ظاهرا‪،‬‬
‫ويعلن والءه له وخدمته وإخالصه‪ .‬فمن كان منهم من الصاحلني ‪-‬وقد كان‪ -‬فإننا ال‬
‫ندين األشخاص بل ندين النظام‪ .‬سدد وقارب ليطبق حكم اهلل جل شأنه على واقع‬
‫متفلت‪ .‬ومن كان دون ذلك فإمنا كان يلعنه القرآن وال جترؤ األمة ‪-‬يف سوادها األعظم‬
‫ويف غالب األحيان‪ -‬أن خترج عن طاعته خمافة الوعيد املهول‪.‬‬
‫فمن خرج من أهل السنة واجلماعة خرج لتأوله وفهمه من الوصية النبوية مامل يفهمه‬
‫غريه‪ .‬كان احلسني بن علي رضي اهلل عنهما والقائمون بعده زيد بن علي وحممد وإدريس‬
‫وإبراهيم وحيىي وكل القائمني يف القرون الفاضلة من أهل البيت من أهل السنة واجلماعة‪،‬‬
‫إذ مل يكن التشيع يومئذ حتول من كونه مشايعة وانتصارا آلل البيت األطهار ليصبح‬
‫مذهبا وعقيدة‪.‬‬
‫كان هؤالء القائمون الغاضبون هلل املنتصرون للحق يعرفون األحاديث املشددة على‬
‫السمع والطاعة ولزوم اجلماعة الشك يف ذلك‪ .‬لكنهم أيضا كانوا يعرفون أحاديث‬
‫الطاعةُ فيها مشروطة بأن يقود احلاكم األمة بكتاب اهلل تعاىل مثل حديث مسلم الذي‬
‫قرأناه آنفا‪ .‬ويعرفون األحاديث اليت شرطت الطاعة للحاكم الذي يقيم الصالة ال ملن‬
‫يضيعها مثل حديث مسلم عن عوف بن مالك قال‪ :‬مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يقول ‪« :‬خيار أئمتكم الذين حتبوهنم وحيبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم‪.‬‬
‫وشرار أئمتكم الذين تبغضوهنم ويبغضونكم وتلعنوهنم ويلعنونكم‪ ».‬قال ‪« :‬قلنا يا‬
‫رسول اهلل‪ ،‬أفال ننابذهم عند ذلك ؟» قال‪« :‬ال‪ ،‬ما أقاموا فيكم الصالة ! ال‪ ،‬ما أقاموا‬
‫فيكم الصالة‪ .‬أال من ويل عليه وال فرآه يأيت شيئا من معصية اهلل فليكره ما يأيت من‬
‫معصية اهلل‪ ،‬وال ينزعن يدا من طاعة»‪.‬‬
‫حديثان ملسلم يشرطان الطاعة بشرطني‪ :‬أن يقود احلاكم األمة بكتاب اهلل تعاىل‪،‬‬
‫وأن يقيم الصالة يف الناس‪ .‬فتبقى للمؤمنني مسؤولية التقدير لتمييز احلاكم الذي يقود‬
‫بالقرآن أوال يقود‪ ،‬ولتقدير إقامة الصالة ما معناها وما مدلوهلا العملي‪ .‬إن كان الرسول‬
‫الكرمي على اهلل املؤيد بالوحي يشري اىل مواطن القدر اليت أطلعه ربه عليها مقدما‬
‫النصائح‪ ،‬فما كان له أن يستبق القدر بتفصيل ما ينبغي أن يبقى مطويا‪ ،‬وال بتعيني ما‬
‫‪39‬‬
‫جيب أن يبقى إىل زمان ظهوره مسدلة عليه أحجبة السرت‪ ،‬وال بتعريف حدود الشرطني‬
‫احلاكمني‪ .‬كتم صلى اهلل عليه وسلم ذلك وسكت عنه ليتحمل كل مسؤوليته‪ ،‬ولئال‬
‫يكون للناس على اهلل حجة بعد الرسل‪ .‬فقدر اهلل تعاىل احلكيم لقضائه األزىل ال يتناىف‬
‫مع ما أثبته الشرع وما تعطيه املالحظة من كسب العباد وحريتهم يف االختيار‪ .‬كان من‬
‫معجزات النيب صلى اهلل عليه وسلم أن أخرب بالفنت الطارئة على أمته من بعده‪ ،‬ال يعصم‬
‫األمة عاصم من أن جتري عليها األقدار فتتميز عن سائر اخللق‪ ،‬وما بلغت نصائحه‬
‫الشريفة صلى اهلل عليه وسلم أكثر من أن ترسم دائرة واسعة‪ ،‬يف حدودها حيتفظ بوحدة‬
‫اجملموع دون أن تقيد مسؤولية أحد ليهلك من هلك عن بينة وحيىي من حيي عن بينة‪،‬‬
‫وإن اهلل لسميع عليم‪.‬‬
‫النشك حلظة أن احلسني بن علي رضي اهلل عنهما حني غضب غضبته وقام قومته‬
‫إمنا فعل العتقاده أن يزيد فسق عن أمر اهلل وقاد بغري القرآن وأضاع الصالة‪ ،‬إنكان غريه‬
‫قدر غري ذلك ورجح الطاعة فال يعدو أن يكون جمتهدا‪ .‬وإن سرتت أجيال من علماء‬
‫السنة كارثة قتل احلسني‪ ،‬أو أدانتها على استحياء‪ ،‬فما يهون من فداحة إخالهلم ذاك‬
‫يف أعيننا إال وجود تلك النصوص الثابتة الكثرية الداعية للحفاظ على الوحدة‪ ،‬تأولوا يف‬
‫ظلها سلوك يزيد وأمثاله‪ ،‬وسكتوا عن الذل واإلذالل وهم يسمعون بين مروان ويروهنم‬
‫يصفون السيف دواء ألمراض األمة‪ ،‬وضرب الرقاب شفاء‪ ،‬ويطبقون‪.‬‬
‫ال يعذر إخواننا الشيعة أحدا وال يهون عليهم شيء من سكوت أهل السنة‬
‫والطاعة‪ .‬ومعهم من النصوص ما إليه يطمئنون جيدون فيها الوصية النبوية بلزوم الثقلني‬
‫كتاب اهلل وعرتة النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬والقرآن وأهل البيت يف اعتقادهم واعتقادنا‬
‫مرتابطان‪ .‬جند اإلشارة إىل هذا التالزم يف حديث للرتمذي قال إنه حسن غريب‪ ،‬عن‬
‫يزيد بن أرقم رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪« :‬إين تارك فيكم‬
‫ما إن متسكتم به لن تضلوا بعدي‪ ،‬أحدمها أعظم من اآلخر‪ ،‬وهوكتاب اهلل حبل ممدود‬
‫من السماء إىل األرض‪ ،‬وعرتيت أهل بييت‪ ،‬لن يفرتقا حىت يردا علي احلوض‪ .‬فانظروا‬
‫كيف ختلفوين فيهما‪».‬‬
‫وبعد فإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أخرب كما رأينا يف احلديث الصحيح عند‬
‫البخاري أن هالك أمته يكون على يد أغيلمة من قريش‪ .‬نفهم كلمة اهلالك يف النطق‬
‫الشريف ال على أنه هناية األمة‪ ،‬فإن استمرارها منذئذ اىل يومنا أربعة عشر قرنا إال أربعني‬

‫‪40‬‬
‫عاما أو مخسني ال يقبل ذلك الفهم‪ .‬لكن األغيلمة ما وصلوا إىل احلكم إال ملكان‬
‫النظام الوراثي العاض الفاسد املفسد‪ .‬ما كان ألمثاهلم أن يرتبعوا على السدة لو كان‬
‫أمر األمة شورى بينها ولو مل تلد العصبية املستيقظة من أسباب األثرة والتسلط ما حال‬
‫دون العدل‪ ،‬وحرف مقاصد القرآن‪ ،‬ودفع إىل املناصب العالية حاملي السيف ال أهل‬
‫التقوى واإلحسان‪.‬‬
‫وصول األغيلمة للحكم واستمرار استبداد أهل العض واجلربكان النقض األخطر إذ‬
‫كان نقضا للعروة العليا‪ .‬كان فساد السلطان توهينا للقرآن‪ .‬من شأن السلطان يف دولة‬
‫اإلسالم أن خيدم القرآن ويكون عنه وازعا مدافعا‪ .‬فإذا أمسى السلطان مزورا عن القرآن‪،‬‬
‫خمالسا له خماتالكما نرى يف عصرنا‪ ،‬فهالك األمة مستمر‪ .‬وعلى اهلل القوي العزيز التوكل‬
‫يف أن يقف االحندار‪ ،‬مث تبدأ مسرية اقتحام العقبة‪ ،‬جبهد أهل القرآن بالعمل الدائب‪،‬‬
‫بالعلم النافع‪ ،‬حىت يستقر السلطان يف أيدي األمناء األقوياء‪ ،‬حىت تكون الدولة آلة‬
‫طيعة يف يد الدعوة تشرف هبا على عملية انتشال األمة من أودية اهلالك‪ ،‬والصعود هبا‬
‫إىل الذرى‪ .‬ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫من أعالي التاريخ‬
‫املشروع اإلسالمي والطموح الذي يناجي ضمري األمة وتتحدث عنه بفصاحة‬
‫مدوية أحيانا‪ ،‬عاجزة مقهورة أحايني‪ ،‬هذا الذي مسوه بالصحوة اإلسالمية‪ ،‬أفقه‬
‫حمدود مسدود لوجود اخلالف املذهيب والستمرار الذهنية املقلدة اجملزئة اليت ال تستطيع‬
‫أن تصعد إىل قمة العلم واهلمة حيث يريدنا القرآن أن نكون‪.‬‬
‫اخلالف املذهيب بني سنة وشيعة واخلالفات اليت ال هناية هلا بني املقلدة اجملزئة تضع‬
‫إرادتنا وفاعليتنا خارج التاريخ وتبقى جسومنا وعقولنا ومصائرنا ومقوماتنا مجيعا هنبا‬
‫للجاهلية تأكلنا أفكارها وشقاقاهتا وكفرها باهلل واليوم اآلخر من داخلنا‪ ،‬ويأكلنا من‬
‫خارج القهر املسلح واهليمنة اهلامجة واالقتصاد املستكرب‪.‬‬
‫اليزال حىت بني من أخذوا يفطنون للدين من يعيشون غربة مفجعة عن العامل‬
‫وحقائقه واألحداث اجلادة وجرياهنا‪ .‬هذا «فقيه» أمي يف العربية‪ ،‬أمي يف احلديث‪،‬‬
‫معه آيات يتلوها بصدق تام وجهل مبعانيها ومقاصدها العالية كامل‪ ،‬تتحلق حوله‬
‫مجوع من العامة الراغبني يف العلم السائلني عن سبل اإلميان‪ ،‬يستمعون إىل فتوى‬
‫العصر يف أمر خطري‪ .‬ستعلم خطورة الفتوى حبول اهلل بعد قليل‪ ،‬بعد وقفة اسرتاحة‬
‫وأية اسرتاحة !‬
‫بلد عريب يسكنه املسلمون وحيكمه ملوك اجلرب دخله السنوي مائة مليار دوالر‬
‫يف السنة‪ .‬ألف مليار دوالر يف عشر سنوات هي دخل هذه الدولة يف عشر سنوات‪.‬‬
‫وهذا املقدار هو حجم مديونية عامل املستضعفني أمجع‪ .‬مقدار من املال حيرر أربعة‬
‫ماليري من سكان املعمور من ربقة الدين اليت طوقت هبا العامل الفقري مصارف‬
‫املستكربين وأبناك اليهود‪.‬‬
‫حسب احلاسبون أن هذه األموال لو أحسن استغالهلا لدرت من األرباح رزقا‬
‫ثابتا مستمرا قدره ستمائة دوالر يف السنة لكل عريب‪ .‬احلاسب مل خيطر بباله األخوة‬
‫‪42‬‬
‫اإلسالمية والتضامن اإلسالمي الواجبان شرعا‪ .‬فإن أدخلنا هذا االعتبار يف حسابنا‬
‫فإن كل مسلم ومسلمة على وجه األرض كان يستغين عن اجلوع والعري واجلهل‬
‫واحلقارة والوسخ والذل واهلزمية واملرض بستمائة دوالر سنويا‪.‬‬
‫ت بأخالق األمة وذمتها ورجولتها هذه األموال اليت بذرت يف الكازنوهات‬ ‫ماذا فعلَ ْ‬
‫ويف مساعدة حلفاء أمريكا ويف اخلدمة املخلصة القتصاد األمم اجلادة اليت تبين على‬
‫الرمال الذهبية قصور إَِرَم ذات العماد‪ ،‬وتبيع املصانع االستعراضية‪ ،‬وأدوات الرتف‪،‬‬
‫وسفائن النزهة‪ .‬ذهبت أموال املسلمني يف املنكر والسوء‪ ،‬يف حشد البغايا واقتناء‬
‫ت أمة حممد صلى اهلل عليه وسلم ليحىي الفسقة الفجرة!‬ ‫أشرطة الفيديو اخلليعة‪ ،‬ولْتَ ُم ْ‬
‫غافل أهلُها عن اهلل لغفلتهم عن شرعه الواسع العايل‪ ،‬شرع‬ ‫حلقة ٍ‬ ‫وهناك يف ٍ‬
‫العدل واإلحسان واجلهاد‪ ،‬يقبع فقيهنا يصدر فتوى العصر اخلطرية‪ ،‬يبني حكم‬
‫اهلل يف ذبح احللزون !‬
‫ماذا فعلت باألمة قرون من احلكم العاض‪ ،‬قرون من انتقاض‪ ،‬بل نقض‪ ،‬عروة‬
‫احلكم‪ ،‬عروة الشورى والعدل واإلحسان؟ ماذا فعل بنا اخلالف املذهيب الذي جاء‬
‫نتيجة املواقف املتباينة أمام السلطان؟ ماذا كان أثر نقض احلكم على سائر عرى‬
‫اإلسالم حىت تتاىل التفتت يف عقلنا وأخالقنا ومروءتنا وآدميتنا من جراء إصابة‬
‫املقتل من ديننا؟‬
‫هذا إن شاء اهلل أوان الطلوع من الوهدة‪ ،‬أوان إعادة العرى إىل َشدها بإعادة‬
‫احلكم إىل نصابه الشرعي‪ .‬وما تـَبـَِّن القضايا التافهة‪ ،‬واالشتغال باخلالفيات املضحكة‬
‫املبكية كاخلالف يف ذكاة احللزون الذي مل يرد فيه نص‪ ،‬أنقيسه على اجلراد والسمك‬
‫أو على األنعام؟‪ ،‬إال بقايا االلتفات عن الدين إىل الدنيا وإىل الرئاسة على «أضعف‬
‫اجملانني» تتخذه الذهنيات املقلدة من الدرجة الثالثة ُسلّما إىل الظهور والشهرة ملا مل‬
‫يُتح هلا أن تصطف مع املقلدة من الدرجة األوىل عند عتبات البالط‪.‬‬
‫يهبنا الوهاب بفضله مهة عالية لننظر إىل الواقع من أعايل التاريخ ال من أسافله‪ ،‬لنفهم‬
‫من مكاننا العايل‪ ،‬بني يدي الرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلم يتلو علينا القرآن ويشفعه‬
‫‪43‬‬
‫بالبيان‪ ،‬مل احنلت عرى اإلسالم تباعا باحنالل العروة السلطانية؟ مل سكت من سكت‬
‫وقام من قام واختلف من اختلف؟ مل مرضت األمة املرض املهلك ملا جاءت عهود‬
‫األغيلمة يسقون األمة احلِمام بالسيف‪ ،‬يقتلون فيها الشهامة واملروءة؟ مل طردت إرادة‬
‫األمة من التاريخ؟ مل اغتيلت الشورى وتاهت على الكون إرادة املستبد ؟ مل غاب‬
‫العدل وطغى املرتفون ونشأت واستمرت واستفحلت يف عصرنا تقاليد «ألف ليلة‬
‫وليلة»؟ مل تفتت الدين حىت بلغنا إىل درك اإلسالم الفردي‪ ،‬إسالم «املتدين» ال يرى‬
‫الدين شيئا آخر غري ركيعات ينقرهن إن كان أو رحلة يتمتع بعدها بلقب «حاج»؟‬
‫إن تتلمذنا للرسول املعلم الناصح صلى اهلل عليه وسلم مباشرة بعقلنا يتلقى‬
‫التعليم‪ ،‬وبقلبنا يتعرض لفيض الرأفة والرمحة‪ ،‬وبسلوكنا جيدد تاريخ اجلهاد‪ ،‬وإن أخذنا‬
‫عنه صلى اهلل عليه وسلم القرآن كتابا من عند اهلل هو الضياء واهلدى واحلياة‪ ،‬كنا‬
‫على املستوى الرفيع الذي ميكننا من مراقبة األمور من أعاليها ال من أسافلها‪.‬‬
‫من هناك‪ ،‬تغمرنا مشس القرآن بضيائها‪ ،‬ويبسط علينا بدر السنة سناءه‪ ،‬يغطى‬
‫ظلنا الواقع ال يغطى ظل الواقع كياننا‪ .‬حيكم عقلنا املستنري بنور العلم القرآين النبوي‬
‫معاقد الفهم‪ ،‬ال يتعقد علينا الفهم‪ .‬تسكن قلوبنا املقتبسة من نور اهلل إرادة ال هتزم‪،‬‬
‫ال هتزمنا صيحات العدو علينا‪ ،‬نتبىن قضية الدين كاملة قوامها الشورى والعدل‬
‫واإلحسان ال تنزل بنا تفاهة األحالم وخنوع األزالم وخفاشية الظالم مع سافل الركام‪.‬‬
‫بعض الناس من املسلمني‪ ،‬ومن الكتاب احملسوبني على الدعوة‪ ،‬تعرتض نية‬
‫اجلهاد الصاحلة عندهم ذهنية التقليد الراسخة فيهم‪ .‬فإذا هبم يفكرون ويوصون‬
‫وجيتهدون يف حدود منط احلكم األموي‪ ،‬واجملد العباسي‪ ،‬والشوكة العثمانية‪ ،‬والفقه‬
‫الفروعي‪ ،‬والعقيدة اجلدلية عند علماء الكالم‪ ،‬والدفاع بال متييز عن تاريخ املسلمني‬
‫حيسبونه تاريخ اإلسالم‪.‬‬
‫من كانت ترسبات تارخينا احلافل تشغل منه العقل واخليال‪ ،‬وكانت أنقاض ما‬
‫نقض من عرى اإلسالم تتمثل لديه معامل هادية‪ ،‬وكان ثقل األحداث املاضية حيمله‬
‫على رأسه‪ ،‬وكانت حتديات احلاضر واملستقبل ُتاكم يف تقديره إىل الرتاث الفقهي‬
‫‪44‬‬
‫الثري العظيم ال غري‪ ،‬فذاك ينظر اىل األمور من أسافلها‪ ،‬يظن أن صناعة التاريخ ال‬
‫تتأتى إال بوضع نفوسنا حتت كلكله‪.‬‬
‫هذه الذهنية اليت ال متيز تاريخ الفنت‪ ،‬وهو تاريخ املسلمني‪ ،‬عن تاريخ اإلسالم‬
‫الذي كان منوذجا رائعا يف اجتاهه وإجنازاته على عهد النبوة واخلالفة الراشدة تكيل‬
‫يف صواع أعداء الدين من بين جلدتنا دون أن تشعر‪ .‬تكيل يف صواع القوميني‬
‫العلمانيني الذين يعتربون تارخينا كتلة واحدة‪ ،‬نسبية كلها‪ ،‬جدلية كلها‪ ،‬حتمل بداياهتا‬
‫جراثيم تطورها واجنرافها‪ ،‬تفسر هناياهتا يف زمن التخلف واهلزمية هذا حمدودية الدعوة‬
‫احملمدية وإقليميتها ومكاهنا يف سلم التطور االجتماعي الساري يف اجملتمعات البشرية‬
‫املؤمتر حبتمية مادية جدلية‪ .‬ما كان الدين واإلميان واهلل واآلخرة والوحي إال مقوالت‬
‫إيديولوجية خدمت لزمان فات ومات مشروعا كان ثوريا يف زمانه‪.‬‬
‫هؤالء األحباب حسنو النية من املقلدة ميدون أعداء الدين باحلجة والدليل على‬
‫أن الفكر اإلسالمي فكر ماضوي ال حيسن سوى الدفاع والتربير‪ ،‬ال حيسن إدراك ما‬
‫هو رهان احلاضر واملستقبل يف زمن تتسابق فيه األحداث‪.‬‬
‫عن مطلق القرآن لن حنيد بتوفيق اهلل جل شأنه‪ ،‬وما كسبه السلف الصاحل من‬
‫علم وفقه روافد تغين جتربتنا‪ .‬ال يضريين أن أختذ عاملا وفقيها ومذهبا دليال يف سفري‬
‫العقلي مادامت الداللة والتفقه والتأصيل عمليات تتم حتت ضوء القرآن ونور السنة‪.‬‬
‫يضريين أن أقبل تقدير غريي‪ ،‬من زمانه ومكانه ونيته وظروفه‪ ،‬لقضايا خطرية مثل‬
‫قضايا الشورى والعدل واإلحسان‪ ،‬والزمان زماين واملكان والظروف والعزم‪.‬‬
‫لكيال تسبقنا األحداث‪ ،‬لكيال ينحينا اىل اهلامش محاس ثائر‪ ،‬أو كراهية لتارخينا‪ ،‬أو‬
‫قبول ملأثورات الفتنة غري مشروط‪ ،‬ينبغي أن نوطن األقدام على مواقف راسخة برسوخ إمياننا‬
‫باهلل ورسوله وموعوده املنهاجي‪ ،‬وأن نرفع اهلمة على هامة الزمان ننتعل الثريا لنستحق أن‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ب قـَيِّ َمةٌ‬
‫ص ُحفاً ُّمطَ َّه َرةً ف َيها ُكتُ ٌ‬ ‫ول ِّم َن اللَّه يـَتـْلُو ُ‬ ‫﴿ر ُس ٌ‬
‫نكون تالمذة راشدين بني يدي َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب إَِّل من بـَْع ِد َما َجاءتـْ ُه ُم الْبـَيـِّنَةُ َوَما أُم ُروا إَِّل ليـَْعبُ ُدوا اللَّهَ‬ ‫ِ‬
‫ين أُوتُوا الْكتَ َ‬
‫َّ ِ‬
‫َوَما تـََف َّر َق الذ َ‬

‫‪45‬‬
‫ين الْ َقيِّ َم ِة﴾(((‪.‬‬ ‫الزَكاةَ و َذلِ َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫كد ُ‬ ‫الص َلةَ َويـُْؤتُوا َّ َ‬
‫يموا َّ‬
‫ِّين ُحنـََفاء َويُق ُ‬
‫ين لَهُ الد َ‬
‫ُم ْخلص َ‬
‫عرى اإلسالم هل انتفضت؟ معرفة ذلك ومعرفة من أين بدأ النقض وكيف تواىل‬
‫وتسلسل فقه ضروري لنعرف من أين نبدأ الفتل من جديد‪ .‬ال استعماال لألنقاض‬
‫واستنادا اىل سلطاهنا املعنوي ملا اكتسبته من شرف االنتماء اىل تاريخ املسلمني‪ ،‬لكن‬
‫مبادة جديدة خالدة ال تبلى هي مادة القرآن وعلى مثال سام ال ترقى إليه املهانة هو‬
‫مثال السرية النبوية العطرة‪.‬‬
‫من تلك املرتفعات فقط ميكننا أن نبصر بوضوح ومشولية واجنماع يف فكرنا وقلبنا وإمياننا‬
‫وإرادتنا وحركتنا مواقع األقدام على أرض واقع مفتون‪ ،‬وميكننا أن نسري على احملجة البيضاء‬
‫نكتشفها من جديد‪ .‬قضاء اهلل عز وجل نزل يف املاضي مبا نزل‪ ،‬وحتملت مسؤوليتها أمة‬
‫قد خلت منا ال نتنكر هلا وال نكون‪ ،‬نعوذ باهلل‪ ،‬من الذين يلعن بعضهم بعضا‪ .‬وبني أيدينا‬
‫دليل إىل املستقبل الزاهر مستقبل اخلالفة الراشدة الثانية ال خيطئ الطريق‪ ،‬هو بشارة سيد‬
‫ولد آدم صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬بني أيدينا جهاده املظفر وسنته حني رىب وحني مجع املؤمنني‬
‫وحني آخى بينهم وحني رسم األهداف وحني قاد وحني انتصر‪.‬‬
‫بشارة نبوية وسرية مصطفوية تعطياننا معادلة املستقبل املنشود الذي لن نسلك إليه إن‬
‫التوينا وال إن ذهبنا مذهب الذين ينبشون يف أرض األجداد فيثريون عجاجا يصعد يف اجلو‬
‫حىت يكون ظلة حتجب الضوء وتعتم على النور‪ .‬إن اختذنا عجاج اخلالفيات الثائر من‬
‫أرض األجداد لواء‪ ،‬واختذنا أنقاض إرادة األجداد ومواقفهم وجريان األقدار اإلهلية عليهم‬
‫وتعاملهم مع البالء النازل عمادا فلن تقوم لنا قائمة عزم ولن يتأسس لنا بناء‪.‬‬
‫موروثات جنرتها هترأ من اجرتارها جوف األمة‪ ،‬هي موروثات اخلالف يتبناها‬
‫كل فريق ليخوض حلسابه وحساب الشيطان معارك مضت‪ .‬يريد كائدون من حكام‬

‫‪ 1‬سورة البينة‪2-5 ،‬‬


‫‪46‬‬
‫اجلرب أن يتصل دوران عجلة اخلالف وأن تتسارع بنا دوامته إىل أن نفقد كل توازن‬
‫فنشعلها حروبا تعيد تاريخ الفنت‪ ،‬حيمل هؤالء الفتة اخلوارج‪ ،‬وميثل أولئك فرسان‬
‫السنة يشدخون رأس الروافض‪ ،‬ويسكن الكل ويستكني حتت سياط حكام اجلرب‪.‬‬
‫قاعدون خاملون جاهلون يستشهدون بالصحايب فالن والتابعي فالن والعامل عالن‬
‫الذين صلوا خلف الفساق‪ ،‬وكتبوا بيعتهم للظلمة‪ ،‬وسكتوا سكوتا مجيال‪.‬‬
‫من أخطر أنواع قمع احلركة اإلسالمية يف عصرنا استعمال جهات من صميم‬
‫الدول اجلاهلية أو من أتباعها وخدمها الدعاية اىل اخلالف‪ ،‬تلقى تلك الدعاية‬
‫إصغاء من آذان صمت عن القرآن فال تسمعه السمع املنجي‪ ،‬وتلقى تفتحا من أعني‬
‫عميت عن السرية اجلهادية‪ ،‬سرية حممد وصحبه عليه الصالة والسالم وعليهم من اهلل‬
‫الرضوان‪ ،‬رمز وحدة األمة ومنبع كل خري‪.‬‬
‫تلقى أذهانا كلت عن فهم ناموس اهلل يف الكون والتاريخ وفهم قضائه وقدره كيف‬
‫يظهر أحدمها باآلخر وكيف يكون أوهلما ستارا للثاين‪ ،‬تلقى هذه الدعاية امليدان‬
‫خاليا مفتوحا ملا عييت ألسن وخرست عن احلق وعن فضح املؤامرة املزمنة اليت يرتدي‬
‫فيها منتسبون إىل العلم خانوا أمانتهم أردية السلف الصاحل األتقياء ليربروا قعودهم‬
‫املخزي‪ .‬حيتج هؤالء باجتهاد من عاشوا الفتنة بصرب واحتالوا جهدهم للحفاظ على‬
‫وحدة األمة يسمعون ويطيعون على مضض‪ ،‬مل يتخذوا آيات اهلل هزؤا وال استخرجوا‬
‫من أحاديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهو يصف اخلالفة وحدودها الزمانية‬
‫وامللك العاض واجلربي بعدها‪ ،‬فتوى خالدة تؤبد شرعية الظلم واالستبداد‪ ،‬وتقضي‬
‫باخلضوع التام ولو أصبحت كلمة «شورى» كلمة فارغة تقال على املسارح اهلزلية‬
‫وتوصف باملشاركة فيها جمالس مصنوعة‪ ،‬معتوهة‪ ،‬عن الرشد ممنوعة‪.‬‬
‫إن معاجلة مآسي األمة وجراحاهتا من أسافل التقليد واخلنوع البليد إمنا تكون‬
‫زيادة يف خنر الكيان‪ .‬من إزاء القرآن والسنة فقط‪ ،‬وبفقه أتقياء أبرياء من لوثات‬
‫اخليانة واجلزئية والتصاحلية‪ ،‬ميكن أن نعلو منت التاريخ‪ ،‬وخنوض بقايا الفتنة ورواسبها‪،‬‬
‫ونقتحم العقبة‪ ،‬ونصرب على جهاد الكنس والتأسيس والبناء‪ ،‬وننتصر حبول اهلل وقوته‪.‬‬
‫ ‬
‫‪47‬‬
‫وحدة دار اإلسالم‬
‫إن وحدة دار اإلسالم بيت اإلسالم ضرورة ملحة وواجب شرعي وأمل عزيز‬
‫على األمة‪ .‬فيا من يقرأ قول اهلل جل وعال‪﴿ :‬إِ َّن ه ِذ ِه أ َُّمت ُكم أ َُّمةً و ِ‬
‫اح َدةً َوأَنَا‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ‬
‫ِ (((‬
‫اح َد ًة َوأَنَا َربُّ ُك ْم فَاتـَُّقون﴾ ‪،‬‬ ‫ون﴾(((‪ ﴿ ،‬وإِ َّن ه ِذ ِه أ َُّمت ُكم أ َُّمةً و ِ‬
‫ربُّ ُكم فَا ْعب ُد ِ‬
‫َ‬ ‫ُ ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ْ ُ‬
‫خطابا وجه لألنبياء عليهم السالم‪ ،‬ويقرأ قوله عز من قائل خيصص باخلطاب‬
‫َّاس تَأْمرو َن بِالْمعر ِ‬ ‫هذه األمة املرحومة‪ُ ﴿ :‬كنتم َخيـر أ َُّم ٍة أُ ْخ ِرج ْ ِ‬
‫وف‬ ‫َ ُْ‬ ‫ت للن ِ ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ْ َْ‬
‫َوتـَنـَْه ْو َن َع ِن ال ُْمن َك ِر َوتـُْؤِمنُو َن بِاللّ ِه﴾(((‪ .‬يا من يقرأ القرآن بعقل يعقل عن اهلل‬
‫ال بذهنية تقلد‪ ،‬بقلب خيشى اهلل وال خيشى الناس‪ ،‬كيف تفرق بني شطري األمة‬
‫سنة وشيعة طائفة ممن ال يعقلون وأنت ساكت؟ كيف ترى نباشي اخلالفيات‬
‫سفلة القراء يعيثون فسادا وتلزم احلياد؟‬
‫ماذا تريد يا أخي من دنياك آلخرتك؟ وهل تريد من هذه لتلك شيئا حقا‬
‫وحتقيقا أم أهلاك اجلدل ومفاخر الظهور واإلبانة يف اخلصام عن آخرتك؟ كيف‬
‫تلقى اهلل العزيز اجلبار وقلبك هنا يف الدنيا مل ينفطر أملا على أمة القرآن ما فعل‬
‫هبا الطغيان والكفران والفرقة واهلجران؟ كيف تنتسب إىل أمة حممد صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وأنت ما خلفت حممدا صلى اهلل عليه وسلم يف أمته إال بإشعال النريان؟‬
‫إن تبذير جهود األمة عملية جتند هلا الطغاة من قدمي‪ ،‬وهم اليوم هلذه العملية‬
‫الشيطانية أكثر جتندا‪ .‬إن نقض عرى اإلسالم استمر منذ قرون طويلة حىت وصلنا اىل‬
‫عصر أضاع أهله الصالة واتبعوا الشهوات‪ .‬وإن تقدير أي مؤمن خيلص هلل ويعبد اهلل‬
‫ويتقيه ال يتسع إلسبال رداء الصون واملعذرة على أفعال طغاة مل يكتفوا بقيادة األمة‬

‫‪ 1‬سورة األنبياء‪.92 ،‬‬


‫‪ 2‬سورة املؤمنون‪.52 ،‬‬
‫‪ 3‬سورة آل عمران‪.110 ،‬‬
‫‪48‬‬
‫بغري القرآن‪ ،‬وال هتيبوا من اللعب بالصالة على شاشات التلفزيون‪ ،‬بل تولوا الذين‬
‫﴿ووَمن يـَتـََولَّ ُهم ِّمن ُك ْم فَِإنَّهُ ِمنـْ ُه ْم إِ َّن اللّهَ الَ يـَْه ِدي‬
‫وجل يقول‪َ :‬‬ ‫كفروا‪ .‬واهلل عز‬
‫ِِ‬
‫الْ َق ْوَم الظَّالم َ‬
‫ين﴾‪.‬‬
‫(((‬

‫فكل وقت يضيع ال نشتغل فيه جبمع جند اهلل يف كل قطر ويف كل بلد مضيعة‬
‫جلى لألمة‪ .‬وكل دعاية للتفرقة املذهبية واخلالفات على ذكاة احللزون تنافس انتحاري‪.‬‬
‫وكل جهد ميكن أن خيدم الدعوة نبذرة وال نستصلحه مأساة‪.‬‬
‫لن تكون أقطارنا املوزعة قددا إال رمادا تذروه الرياح إن أضفنا اىل جهود اهليمنة‬
‫االسرتاتيجية العاملية اليت تضيق علينا اخلناق جهودنا حنن لننسف كياننا من أسفل‪.‬‬
‫نكون أقدر على املقاومة كي ال تتلفنا األحداث وتعدمنا إن لذنا بالعروة الوثقى‬
‫اخلالدة الباقية كتاب اهلل تعاىل‪ .‬حول القرآن جيب أن نلتف‪ .‬وبالصرب والزمن تأيت‬
‫الوحدة إن شاء اهلل‪ ،‬ال تأيت بأمر يصدر إليها‪ .‬يصدر إليها من أين؟ من يريدها ؟ مل‬
‫يريدها؟ من خيافها ؟ ومل؟ من يكرهها ويكيد هلا؟ ومل؟‬
‫من يقود دويالت التجزئة؟ من ميوهلم ويسلحهم؟ ما بال األهوال اجلسام تقرب‬
‫شعوب األرض لتتعاون‪ ،‬وتباعد بني املسلمني احلاصلني يف قبضة احلكم املستبد‬
‫األناين‪ ،‬وقبضة الدعاة املفرقة املخربة‪ ،‬وقبضة األمية السياسية‪ ،‬واألمية التارخيية‪،‬‬
‫واألمية األمية؟‬
‫فقه هذه األسئلة‪ ،‬فقه وضعها وحبثها والتنقيب عن أصوهلا واإلجابة عنها‪ ،‬كفيل‬
‫أن يرفعنا من حيث جيثو اجلاثون عند أقدام اهليمنة اجلاهلية واألموال اليهودية إىل‬
‫حيث العزة باهلل وبرسوله وبدينه‪ ،‬يتيه هبا يف غد اإلسالم شكرا هلل ال استكبارا يف‬
‫األرض ألف مليون مسلم ومسلمة هم اليوم حمض غثاء‪.‬‬
‫محولتنا الثقيلة من اخلالفات والرتسبات العاطفية والفكرية‪ ،‬ومن العادات‬
‫واحلسابات الفردية األنانية اليت مردها أول شيء اىل هواجس اخلوف من ظل السيف‬
‫وقهر السلطان تشل إرادتنا وتردع نوازع اإلميان فينا‪ .‬فريكبنا كابوس الشك واحلذر‬
‫واالنطواء على إسالم فردي وفقه جزئي ووالء هلل ورسوله ودينه‪ .‬ال نتوجه به اىل‬

‫‪  1‬سورة املائدة‪.51 ،‬‬


‫‪49‬‬
‫املوىل عز وجل مباشرة مكتملي العبودية له‪ ،‬بل نوسط فيه آراء األئمة وأقوال العلماء‬
‫وجدال املتكلمني‪.‬‬
‫إحنطاطنا من األفق العلي‪ ،‬أفق القرآن واخلالفة على منهاج النبوة‪ ،‬مل يسقط‬
‫من أيدينا الشورى والعدل فقط‪ ،‬بل أذهب من قلوبنا معىن اإلحسان الذي به يعبد‬
‫احملسن ربه كأنه يراه‪ .‬احتل اخلوف من الناس‪ ،‬وهو جنب سافل‪ ،‬مكان املزية العظيمة‪،‬‬
‫مزية اخلوف من اهلل العلي العظيم‪ .‬لوال تدين الشعور عرب األجيال من مساء اإلشفاق‬
‫على وحدة األمة إىل أرض حب الدعة والعافية اخلرساء ملا تدنت مواقفنا احملافظة‬
‫على بيضة اإلسالم املعتنية ببقاء شوكته اىل أن تصبح االستقالة غري املشروطة بني‬
‫يدي السلطان دينا‪ .‬ويف طريقنا صعودا اىل ذلك األفق لن نستعيد الوحدة الضائعة‪،‬‬
‫وال الشوكة املخضودة املكسورة‪ ،‬وال الشورى وال العدل إن مل نعد تربية أنفسنا على‬
‫اإلميان واإلحسان‪.‬‬
‫األمر يتوقف على إحياء اإلرادة اجلهادية فينا‪ .‬ال يكفي أن نعرف ما ينخر يف‬
‫ذاتنا وقوانا الداخلية وإن كانت املعرفة باملرض مقدمة ضرورية للعالج‪ .‬وال يكفي أن‬
‫نعرف احلمولة التارخيية ومراحل تطارحها علينا وإن كانت هذه املعرفة شرطا أساسيا‪.‬‬
‫إمنا نربأ من املرض املتوغل ونتحرر من احلمل القاصم للظهور باليقظة اإلميانية واهلبة‬
‫اإلحسانية والتعبئة اجلهادية‪ .‬ومع يقظتنا وهبتنا إىل اجلهاد حنتاج إىل االستفادة من‬
‫جتارب تارخينا وإىل عرض ما نتج عن أوزار املاضي وسلبياته نستخرج منه دروسا‬
‫إجيابية لتاريخ مستأنف‪.‬‬
‫وعندئذ خنتار عن وعي كامل‪ ،‬وعن استعداد ملا تتطلبه منا املهام العالية‪ .‬هل‬
‫خنتار الدخول بفرقتنا وجتزئة فكرنا وموروث خالفاتنا يف ميزان القوى العاملي تطحننا‬
‫رحاهم‪ ،‬أو خنتار التقارب‪ ،‬فالتفاهم‪ ،‬فالتعاون‪ ،‬فتوحيد النية وجتريد العزم على توحيد‬
‫األمة واستعادة ما ضاع من متانة تركيبها األول‪.‬‬
‫هل نريد؟ هل نريد؟ هل نريد؟‬
‫ذكرت إمكانية االختيار وإمكانية اإلحياء بإرادة متجددة‪ .‬إن الرحى اجلاهلية‬
‫تطحن بالفعل جسمنا ومعنانا‪ ،‬وإن استمرار الطحن والدك والتهديد بالقضاء املربم‬
‫علينا يدفع التحدي إىل مداه‪ .‬ما نراه من ردود الفعل الشديدة املراس يف أفغانستان‬
‫‪50‬‬
‫اجملاهدين ويف لبنان الفدائيني ويف إيران وعدائها للشياطني ليس هو االختيار الواعي‬
‫لكنه بشائره‪ .‬ليس هو اإلدارة الساعية اىل التوحيد بل هو مقدماهتا‪.‬‬
‫إن األحداث ال تنتظر‪ ،‬وإن حقائق التاريخ ودفاع اهلل الناس بعضهم ببعض من‬
‫شأهنا أن تتداخل فيها احلركات‪ ،‬وتتضارب اإلرادات‪ ،‬وتصطك العجالت‪ ،‬وترتاكب‬
‫العمليات‪ .‬فإذا قلنا بضرورة اليقظة اإلميانية واهلبة اإلحسانية والتعبئة اجلهادية فإننا ال‬
‫نتصور مراحل يتهيأ فيها جلند اهلل هدوء اخللوة وصفاء العشرة وحالوة األخوة بعيدا‬
‫عن ضوضاء األحداث‪ ،‬خارج التاريخ الصاخب‪ ،‬ريثما تتم تعبئتهم للدخول يف ساعة‬
‫الصفر للميدان‪ .‬وال نتصور مصحة نعاجل فيها يف اجلو املعقم أمراض النفس ورواسب‬
‫الفتنة‪ ،‬ال حنتك بأحد خمافة العدوى‪ ،‬حىت يتم الربء وتكتسب املناعة‪ .‬وال نتصور‬
‫حمطات لالسرتاحة والرتميم والتعديل عندها حنط األمحال ونتخفف مما ينوء بنا من‬
‫نازل اآلفات‪.‬‬
‫عندما أحتدث عن األفق العايل وعن ركوب منت التاريخ من أعاليه ال من أسافله‪،‬‬
‫فأنا أعىن دخول املعمعة‪ ،‬واقتحام العقبة‪ ،‬وخمالطة اجملتمع‪ ،‬وخوض غمار اجلهاد‬
‫واجملتمع مفتون سادر يف مخوله أو هيجانه‪ ،‬واألفكار يف تفاعل‪ ،‬واالجتاهات السياسية‬
‫يف تصارع‪ ،‬والتخلف الصناعي والعلمي واالقتصادي ضارب أطنابه‪ ،‬وحكام اجلور يف‬
‫كيد يكيدون‪ ،‬ومن خارج رحى اجلاهلية تطحن‪.‬‬
‫إمكانية االختيار وإمكانية اإلحياء باإلرادة اإلميانية اإلحسانية ومضة يلمحها‬
‫جند اهلل من بني وهج األحداث‪ ،‬وفرصة يغنموهنا وطبول احلرب العامة املتداعية من‬
‫كل حدب وصوب علينا تدق‪ .‬وال عاصم من أمر اهلل إال من رحم‪ .‬به وحده العزة‬
‫وبرسوله‪.‬‬
‫هذا وجه أخيك الشيعي‪ .‬هذا وجه أخيك املنضم اىل مجاعة غري مجاعتك‪ .‬هذا وجه‬
‫مسلم ومسلمة ال يفصله عنك اال مرحلة سبقته هبا‪ .‬هو ماد يده إليك على استحياء‬
‫وحذر‪ .‬هل نظرت إىل هذه الوجوه من أعايل األمور ودواعي الوحدة واألخوة؟ أن نظرت‬
‫إليها من خاللكتب مليئة بآثار الصراع املاضي حنيكان يكال بالصاع صاعان؟ هل شوه‬
‫تاريخ مضى‪ ،‬وحرب قائمة وخالفات يف الوسائل واملنطلقات واألساليب وجوه إخوتك‬
‫يف عينك؟ هل يروقك أن تدمر قوى الشر اهلجينة البشعة ديارك‪ ،‬وتيتم أوالدك‪ ،‬وتقتل‬
‫‪51‬‬
‫إنسانيتك مث ال تفزع إىل املالذ األوحد‪ ،‬كتاب اهلل العروة الوثقى املوحدة املنجية؟‬
‫امسح عن عينك غشاوة التقليد‪ ،‬وعن قلبك امسح ران الغفلة عن اهلل رب العاملني‪،‬‬
‫ومن عقلك انزع ذهنية التبلد على عادة الكسل‪ ،‬تبصر وجه أخيك يف مرآة احملبة وقد‬
‫مسح عنه تشويهات صنعها ومهك حبه هلل ورسوله‪ ،‬وإميانه باهلل وباليوم اآلخر‪ ،‬وتشبثه‬
‫بالقرآن‪ ،‬ودفاعه عن احلوزة‪ ،‬وسخاؤه بالدماء واجلهد لنصرة دين اهلل‪.‬‬
‫إن أعداءنا يأكلون دنيانا حلوة هنيئة‪ ،‬وحنن نأكلها مرة مرارة مضاعفة بضعف‬
‫الفقر والذل‪ ،‬مث نغص مبعاشنا هذا الكئيب غصتني‪ ،‬غصة الدنيا مبا قعدنا وعجزنا عن‬
‫اجلهاد‪ ،‬وغصة اآلخرة مبا ضيعنا من وحدة أمة حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكانت‬
‫تلك الوحدة وال تزال شرط حياتنا‪.‬‬
‫ ‬

‫‪52‬‬
‫مطالب الشريعة‬
‫نقضت وحدة األمة بانتقاض احلكم‪ .‬وضعف اإلسالم التارخيي بنية منذ انفكت‬
‫تلك العروة‪ .‬وكل ما نشأ من حروب داخلية بني املسلمني‪ ،‬ومن فنت مذهبية‪ ،‬ومن‬
‫مروق وزندقة‪ ،‬ومن احنراف يف العقيدة وثورة وعنف فإمنا مرده بعد تعميق النظر إىل‬
‫ذلك االنفصام األول‪.‬‬
‫أكتب هذا واحلرب الضروس اجملنونة بني إيران الثائرة باسم اإلسالم والعراق الفائزة‬
‫باسم القومية توشك أن تنهي عامها السابع‪ .‬مظهر آخر من مظاهر «االنفصام‬
‫النكد» التارخيي‬
‫وشرارة من ناره‪ .‬وإن ما نعيشه ونشاهده يف هذه النكبة املؤملة مضافا إىل ما‬
‫عشناه من نكبات احتالل القدس وخذالن حكام اجلرب لألمة مبا منعوها من توحيد‬
‫جهودها لتجاهد عدوها‪ ،‬ومبا بددوا من أرزاق‪ ،‬ومبا والوا الكفار وضحوا باملقدسات‬
‫ليحتفظوا بالسلطان مهما متزقت األمة وافرتقت وأهينت‪ ،‬كل ذلك يلح على ضمرينا‬
‫لنعيد النظر فيما رتبه علماؤنا من قبلنا يف حديثهم عن مقاصد الشريعة‪.‬‬
‫كان املقصد األمسى من بعثة اخلالق العظيم سبحانه رسله إىل خلقه جليا جمتمعا‬
‫كامال متكامال يف فهم الصحابة على عهد النبوة واخلالفة على منهاج النبوة اليت‬
‫مل تدم أكثر من ثالثني سنة بعد انتقال املصطفى صلى اهلل عليه وسلم إىل الرفيق‬
‫األعلى‪ .‬كان ذلك املقصد اجلليل جليا يف العقول والقلوب والنيات والعمل اجلهادي‬
‫جبالء القرآن ونصاعة بيانه وحيويته الدافقة‪ .‬هذا املقصد هو أن يكون الدين كله هلل‪،‬‬
‫وأن ال تكون فتنة يف األرض‪ ،‬وأن يدخل اخللق مجيعا يف طاعة اهلل ليحققوا الغاية اليت‬
‫ون﴾((( أمة واحدة‬ ‫النس إَِّل لِيـ ْعب ُد ِ‬
‫ِ‬ ‫من أجلها وجد العامل‪﴿ .‬وما َخلَ ْق ُ ِ‬
‫َُ‬ ‫ت الْج َّن َو ْ َ‬ ‫ََ‬
‫حتمل رسالة للعاملني تبلغها وجتاهد عليها وتتوحد عليها وحتكم مبقتضاها‪.‬‬

‫‪  1‬سورة الذاريات‪.56 ،‬‬


‫‪53‬‬
‫وحدة املقصد األول وحدت من قبائل العرب جندا حمض والءه هلل رب العاملني‬
‫ونبذ كل الوالآت‪ .‬وحدت منهم الصف والوجهة واجلهد‪ .‬وحدت منهم احلس واملعىن‬
‫وكان رمز هذا التوحيد وضامن هذه الوحدة االعتصام بالعروة الوثقى كتاب اهلل الذي‬
‫جيمع ال يفرق‪ ،‬والبيعة االختيارية غري اإلكراهية املوثقة للعهود عقدت مع النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم مث مع خلفائه الراشدين‪.‬‬
‫على مستوى الفهم عن اهلل‪ ،‬ومن موقع اإلقرار بإرادته الكونية ال مرد لقضائه وهو‬
‫الرب القهار نقول ‪ :‬أعلمنا النيب صلى اهلل عليه وسلم قبل رحيله أن تلك اخلالفة‬
‫لن تدوم أكثر من ثالثة عقود‪ ،‬وأن عروة احلكم من عرى اإلسالم ستكون أول ما‬
‫ينقض من عراه‪ ،‬وأن هالك األمة سيكون على يد أغيلمة هم شر امللوك‪ .‬سبق ما‬
‫سبق يف علم اهلل‪.‬‬
‫وعلى مستوى املسؤولية والتكليف الشرعي نقول ‪ :‬ضيع املسلمون وحدة الشورى‬
‫والعدل واإلحسان‪ ،‬ومتسكوا بعدها بوحدة قسرية حتت ظل السيف‪ ،‬رضخوا حلامل‬
‫السيف تطبيقا للوصايا النبوية املشفقة أو قاموا ضد احلاكم‪ ،‬كل حسب تقديره‬
‫ألحقية احلاكم أن يطاع‪.‬‬
‫وعلى مستوى النظر املرتامي إىل اإلرادة اآلهلية الكونية وإرادته اآلمرة اليت ورد هبا‬
‫الشرع الشريف نقول‪ :‬إن أمة حممد صلى اهلل عليه وسلم بقيادة علمائها وصاحليها‬
‫وأهل اخلري يف كل زمان جاهدت وقاومت وحافظت على وجودها بتوفيق من اهلل عز‬
‫وجل رغم البالء املتعاقب‪ .‬رغم البالء بفساد احلكام وخروج اخلوارج وزندقة الفالسفة‬
‫وغزو القرامطة والتتار واالستعمار‪ .‬فهذه األمة اجملاهدة املرحومة املبتالة ال يزال هلا‬
‫وجود وإن كان مشتتا‪ ،‬وهي موعودة بالنصر إبان اخلالفة الثانية‪ ،‬عليها أن هتب وتقوم‬
‫وجتاهد لتلتقي بالوعد الصادق‪ ،‬وأن تنهض بالعزمية الكبرية ليسلك قصدها ومشروعها‬
‫املستقبلي مسالك الشرع املعربة عن األمر الديين راجية من املوىل الكرمي أن يتطابق‬
‫القصد ومقاصد الشرع مع مقصد احلق سبحانه يف إرادته املطلقة‪.‬‬
‫ملا انفرمت وحدة املسلمني األوىل حتت امللك العاض واجلربي مل يتحدث فقهاء‬
‫ذلك الزمان عن ضرورة إعادة احلكم الشوري ألن وحدة الشوكة والسلطان بقيت‬
‫‪54‬‬
‫قائمة على رقعة دار اإلسالم‪ ،‬حقيقية يف القرون األوىل‪ ،‬رمزية بعد استقالل كثري من‬
‫األمصار‪ ،‬آخر عهدنا بوحدة الشوكة عهد آل عثمان رمحهم اهلل‪.‬‬
‫مل يذكر علماؤنا السابقون أثناء حديثهم عن مقاصد الشريعة هذا املقصد اجلامع‪.‬‬
‫أما يف زماننا‪ ،‬وقد نشبت فينا خمالب اجلاهلية واألنياب‪ ،‬فنشعر بضرورة استعادة‬
‫الوحدة شعورا عميقا‪ .‬إهنا مسألة حياة أو موت‪ .‬إهنا أم املقاصد وشرط حتقيقها‪.‬‬
‫كان عند سلفنا رمحهم اهلل شيء يذكر على رقعة العامل‪ ،‬له حرمته وهيبته‪ :‬كان‬
‫هلم استقالل ودولة‪ ،‬فكانوا حيرصون على هذا الشيء‪ ،‬ال يعيبونه يف ظاهر سلوكهم‬
‫وإن كان يف قرارة النفس ما فيها‪ .‬كانوا يريدون احلفاظ على ذلك الشيء ألنه كان‬
‫حياهتم وسقفهم وبيتهم وسالحهم‪ .‬ويف ظله كانوا حيضنون ما تبقى متماسكا من‬
‫عرى اإلسالم‪ .‬لذلك نقرأ عندهم يف معرض احلديث عن املقاصد الشرعية صيغة‬
‫حمافظة‪ .‬نقرأ أن مقاصد الشريعة حفظ كذا‪ ،‬وحفظ كذا‪ ،‬وحفظ كذا‪.‬‬
‫أما حنن فدويالت اجلرب اليت تبيعنا مجلة وتفصيال للجاهلية ال تعتربها األمة بيتها‬
‫وال سقفها وال سالحها وال تستمر يف العيش املهني حتت وطأهتا إال مكرهة كارهة‬
‫مستعيذة باهلل من الشيطان الرجيم‪.‬‬
‫لذلك فجدير بنا أن نعرب عن مقاصد الشريعة يف صيغ مطلبية ال حفاظية‪،‬‬
‫فنقول‪ :‬مطالب الشريعة هي كذا وكذا‪ .‬وجدير بنا وحنن خنطط إلنزال أحكام‬
‫الشرع منازل الشرف والعزة وننظر إىل األمر اإلهلي من زاوية الطلب ال من زاوية‬
‫احلفظ‪ ،‬أن نذكر الوسائل الرتبوية والعلمية واملادية اجلهادية القادرة على حتقيق‬
‫مطالب الشرع‪ .‬وأن نبحث عن الكيان اجلماعي املكلف بالنهوض إىل هذه‬
‫املطالب‪ ،‬وعن طريقه وأولويات ما يطلب‪ ،‬وعن العراقل يف وجهه‪ ،‬وعن العامليات‬
‫اجلاهلية اليت تتحدى عاملية اإلسالم وتنازعه يف بقائه‪ ،‬وعن مراحل الطلب وثقل‬
‫احلمولة وسرعة الزمان‪.‬‬
‫كان علماؤنا األفاضل رمحهم اهلل وأجزل مثوبتهم يتدارسون مقاصد الشريعة يف‬
‫شتاهتا وفرديتها‪ .‬جتد من أبواب كتب احلديث وكتب الفقه بابا لإلمارة واجلهاد مصطفا‬
‫مع األبواب األخرى‪ ،‬ال حيتل املكانة الالئقة بالعروة املاسكة لكل العرى‪ .‬كأن علماءنا‬
‫‪55‬‬
‫يف كفاحهم الدائم ضد إرادة احلاكم بأمره انتهوا إىل تطليق هذه القضية العويصة‬
‫قضية احلكم ليتفرغوا معرضني عنها إىل مهمتهم احلفاظية‪.‬‬
‫انقبضوا عن قضية احلكم فانقبضت عنهم الرؤية إىل كليات الدين من الزاوية‬
‫العليا‪ .‬وحنن نأمل أن يبسط اهلل لنا جماال واسعا بأن يرفعنا إىل املنطلق األول إزاء القرآن‬
‫احلاكم ننظر من أعلى لنتبني أمهية الوحدة اليت ال متكن اال باحلكم الشوري الضامن‬
‫وحد أن يسود العدل واإلحسان‪.‬‬
‫مل يكن لعلمائنا قبل اإلمام الغزايل عناية بإحصاء مقاصد الشريعة وتصنيفها‬
‫تصنيفا شكليا لسالمة الفطرة وألن الكل كانوا أهل قرآن‪ .‬وإمنا جند التصنيف‬
‫والرصف يف هذا العلم ومن علوم األصول عند اإلمام الشاطيب يف القرن الثامن وقد‬
‫أخذ شكله النهائي الذي جيرته املقلدة اليوم دون أن يطرحوا على التصنيف وال على‬
‫الصيغة سؤاال واحدا‪.‬‬
‫نريد هنا إن شاء اهلل تعاىل أن نقول كلمة أو كلمتني‪ ،‬نتهيب هذا العامل اجلليل‬
‫من أصحاب االختصاص العايل والتقوى وطول الباع‪ .‬لكن أملنا وما حنمل من هم ال‬
‫يرتك جماال للحشمة‪ .‬ولعل عدم ختصصنا حيررنا من التبعية السكونية املستكينة رضى‬
‫مبا فعله األجداد‪.‬‬
‫جند عند عاملنا األصويل ما ينبئ عن حتفظ وسكوت ال يعلم إال اهلل ما وراءمها‬
‫من معاناة رجل عاش حتت ملوك الطوائف‪ .‬عاش يف عهد ويف قطر بلغ فيه التمزق‬
‫وهتتك احلكام ما مل يتجاوزه إال حكام عهدنا وأقطارنا هذه البئيسة‪ .‬يكتب رمحه اهلل‬
‫يف هناية كتابه «املوافقات» ما يلي‪« :‬على أنه بقيت أشياء مل يسع إيرادها‪ ،‬إذ مل‬
‫يسهل على كثري من السالكني مرادها‪ ،‬وقل على كثرة التعطش ورادها‪ .‬فخشيت أن‬
‫ال يردوا مواردها‪ ،‬وأن ال ينظموا يف سلك التحقيق شواردها‪ .‬فثنيت من مجاح بياهنا‬
‫العنان‪ ،‬وأرحت من رمسها القلم والبنان‪ .‬على أن يف أثناء الكتاب رموزا مشرية‪ ،‬وأشعة‬
‫توضح من مشسها املنرية»‪.‬‬
‫مسائل ثىن عن بياهنا عنان قلمه رغم مجوح هذا القلم وميله الشديد لكتابتها‪.‬‬
‫ترى‪ ،‬أهي من جزئيات العلم ونوادره‪ ،‬أم هي من كليات الدين وأصوله رأى متفقهة‬
‫‪56‬‬
‫عصره معرضني عنها منحسرين عن ميداهنا؟ ترى‪ ،‬أية غصة كانت يف حلق هذا‬
‫اجملتهد الفذ الذي يعد مفخرة من مفاخر القرون األخرية‪ ،‬بل واحدا من أكرب علمائنا‬
‫اجلامعني بني املنقول واملعقول‪ ،‬املتضلعني ريا ونورا من معني السنة‪ ،‬العالني مطمحا‪.‬‬
‫أي شيء هي املسائل اليت سكت عنها وحتفظ من ذكرها ألنه ال «يسهل على‬
‫كثري من السالكني مرادها»؟‬
‫إنه اعتذار يقدمه رمحه اهلل يف آخر كتابه ملن هم على شاكلته من قرائه حيملون‬
‫من اهلم مثلما حيمل‪ ،‬ويشكون من سقوط اهلمم و«قلة الوراد» على ما باألمة من‬
‫تعطش إىل احلق‪ .‬حال دون األمة واحلق املنشود املطرود مجود املقلدة ومعارضة‬
‫املتفقهة املشتتني يف الفروع العاجزين عن قبول فقه أصويل يرتفع إىل األدلة من الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬ويعلل األحكام‪ ،‬وجيمع النظائر‪ ،‬ويستخرج القواعد ليربهن على أن للدين‬
‫مقاصد كلية‪ ،‬ومنطقا متساوقا‪.‬‬
‫مثل هذا الفكر ال تستسيغه األدمغة الراكدة‪ ،‬وال يستقبله السكون املخيم املسامل‬
‫لألمر الواقع‪ .‬ال ينازع ذلك الفكر وال يسأل وال يعلل وال حيب شيئا من املنازعة‬
‫والسؤال عن األسباب واملسببات‪.‬‬
‫يقول عاملنا يف مقدمة كتابه‪ ،‬يشكو يكاد يفصح بلواعج بلواه ‪« :‬أما بعد أيها‬
‫الباحث عن حقائق أعلى العلوم‪ ،‬الطالب ألسىن نتائج احللوم‪ ،‬املتعطش إىل أحلى‬
‫موارد الفهوم‪ ،‬احلائم حول محى الظاهر املرسوم‪ ،‬طمعا يف إدراك باطنه املرقوم معاين‬
‫مرتوقة يف فتق تلك الرسوم‪ .‬فإنه قد آن لك أن تصغي إىل من وافق هواك هواه‪ ،‬وأن‬
‫تطارح الشَّجي (الشجى ما يعرتض يف احللق من عظمة وشوكة عبارة عن اهلم) من‬
‫ملكه مثلك شجاه‪ ،‬وتعود إذ شاركته يف جواه (أي شوقه) حمل جنواه‪ ،‬حىت يبث إليك‬
‫شكواه‪ ،‬لتجري معه يف هذا الطريق من حيث جرى‪ ،‬وتسري يف غبشه املمتزج ضوؤه‬
‫بالظلمة كما سرى»‪.‬‬
‫هذا رجل أراد أن ينظر من أعلى‪ ،‬فهو يطلب «حقائق أعلى العلوم»‪ ،‬فوجد أن‬
‫من يفهمه وجياريه قليل‪ ،‬ووجد أن مهه الذي يكابده وشوقه الذي حيمله ال يشاركه فيه‬
‫اجلامدون من أهل عصره‪ .‬فهو يف مثل الغبش يسرى وحده‪ .‬على طريق مثل الصحراء‬
‫القاحلة‪ .‬إهنا صحراء التقليد وجفاف العقول وموت اإلرادات‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫قال رمحه اهلل يتحدث عن نفسه بصيغة الغائب‪« :‬فلقد قطع يف طلب هذا‬
‫املقصود مهامه (أي صحاري) فيحا (أي واسعة )‪ ،‬وكابد من طوارق طريقه حسنا‬
‫وقبيحا‪ ،‬والقى من وجوهه املعرتضة جهما (وجه متجهم‪ :‬غاضب مكفهر) وصبيحا‪،‬‬
‫وعاىن من راكبته املختلفة مانعا ومبيحا‪ ،‬فإن شئت ألفيته لتعب السري طليحا‪ ،‬أو ملا‬
‫حالف من العناء طرحيا‪ ،‬أو حملاربة العوارض الصادة جرحيا‪ .‬ومجلة األمر يف التحقيق‪،‬‬
‫أن أدهى ما يلقاه السالك للطريق‪ ،‬فقد الدليل‪ ،‬مع ذهن لفقد نور الفرقان كليل‪،‬‬
‫وقلب بصدمات األضغاث (يقصد جمموعات املصائب)‪ .‬عليل‪ ،‬فيمشي على غري‬
‫سبيل‪ ،‬وينتمي إىل غري قبيل»‪.‬‬
‫إذا كان يشق على العامل اجملتهد ما جيده من معارضة اجلامدين‪ ،‬فإن جراح‬
‫املعارضة واملصارعة يف ميادين اجلدال ال تبلغ بالرجل الصاحل العاقل أن يتمىن املوت‬
‫يرحيه من عنائه إذ مل يصف له العيش اهلينء‪ .‬مثل عاملنا ال تستفزه املخالفات‬
‫واجملادالت الفقهية إىل هذا احلد‪ .‬لكنه يتأمل لضياع العلم جبمود املتفقهة‪ ،‬ولضياع‬
‫مقاصد الشريعة لطغيان اجلمود‪ ،‬ولطغيان احلكام الناتج عن انصراف املنتسبني للعلم‬
‫القابعني يف جزئيات مسائلهم إىل التوافه يعاجلون خالفياهتا من حتت‪.‬‬
‫جاء عاملنا يوقظ النائمني فلم جيد مستجيبا‪ ،‬ومضى يسري يف مهامه عزلته‬
‫الفيحاء‪ ،‬ينطق تارة ويسكت ويتحفظ ويرمز ويشتكي‪ ،‬فماذا جند يف زماننا من‬
‫عماد نعتمده يف علم هذا الرجل وأمثاله‪ .‬أنردد تلك العبارات ونشرح تلك اإلشارات‬
‫عاكفني عليها وهي تنتمي إىل عصر ومصر استسلم فيه املسلمون مللوك العض ال من‬
‫حيرك من سواكنهم؟ إذن لكنا أشد غباء وأبلد بالدة من معاصري الشيخ اإلمام الذين‬
‫قعدوا يتفرجون على األندلس تتسرب من أيدي األمة ال حيسون جوى وال يشتكون‬
‫شجى‪ .‬نكون إن رددنا اجتهادات من سبقونا باإلميان غفر اهلل لنا وهلم بدون أن حندد‬
‫ً‬
‫ألنفسنا مطالب أو نرسم ألنفسنا خططا أحط من االحنطاط‪.‬‬
‫يف ذلك العصر واملصر‪ ،‬على ما كان ينزل من أضغاث املصائب‪ ،‬مل يكن حاكم‬
‫ليجرأ على منهاضة الدين يف توجهاته الكلية‪ .‬كان لإلسالم معىن وحرمة ووزن يف‬
‫صفوف األمة حىت عند أهل اجلمود‪ .‬أما يف عصرنا وأمصارنا فالدين يقتلع من جذوره‪،‬‬
‫والغزو الشامل سياسيا واقتصاديا وثقافيا وإعالميا يهدد الدين بالعدم‪ ،‬فما فائدة جلوسنا‬
‫‪58‬‬
‫إىل شيخ حي باإلميان والعلم والغرية على الدين‪ ،‬سام بتطلعه إىل األعايل وبتحمله مها‬
‫سئم احلياة عندما افتقد من يشاطره مهه‪ ،‬إن مل نستفذ من جمالستنا إياه قبسة من نور‬
‫املعرفة باهلل وبدينه ومقاصد شريعته‪ ،‬ال نكتفى باجلذوة اليت انقدحت لديه حنفظها‬
‫وخنزهنا ونزمر حوهلا‪ ،‬بل ننفخ يف جذوهتا من نفس غريتنا وحرقتنا وعنائنا لتتأجج على‬
‫أعداء الدين نار املقاطعة‪ ،‬ولتسرج يف جواحننا أنوار املواصلة بكتاب اهلل وسنة رسوله‪،‬‬
‫نرتفع إليهما بنياتنا ومطالبنا واجتهادنا كما ارتفع إليها هو بنيته واجتهاده رمحه اهلل؟‬

‫ ‬

‫‪59‬‬
‫مقاصد الشريعة‬
‫يقول الشاطيب اإلمام يف أول «كتاب املقاصد» وهو جوهر كتابه «املوافقات»‬
‫وفصه ‪« :‬واملقاصد اليت ينظر فيها قسمان‪ :‬أحدمها يرجع إىل قصد الشارع‪ ،‬واآلخر‬
‫يرجع إىل قصد املكلف»‪ .‬ويف مقدمة تفصيله هلذه اجلملة ذكر املؤلف رمحه اهلل‬
‫مبسلمة جعلها مقدمة لكل مناقشاته يف الكتاب وهي ‪« :‬أن وضع الشرائع إمنا هو‬
‫ملصاحل العباد يف العاجل واآلجل معا»‪ .‬العاجل الدنيا واآلجل اآلخرة‪ .‬يف عصرنا‬
‫هذا‪ ،‬واملسلمون منهزمون فكريا كما هم منهزمون عسكريا (وحىي اهلل أسد اجلهاد يف‬
‫أفغانستان‪ ،‬لوالهم لنسينا أن فينا رجاال البتة)‪ ،‬يكثر الكتاب من احلديث عن مقاصد‬
‫الشريعة ومن ضمنها «حفظ الدين» ليقدم الكاتب املدافع عن «األصالة اإلسالمية»‬
‫نصوصه وحجته على ان اإلسالم دين مصلحة وحضارة‪ .‬مث ميضي يف مقارنته التفصيلية‬
‫بني شرائع اإلسالم والشرائع الوضعية‪ ،‬كل ذلك على مستوى احلياة الدنيا‪ ،‬ناسيا ذكر‬
‫اآلخرة والبعث واحلشر واملوقف وامليزان واجلنة والنار‪ ،‬طاويا عنها الكشح‪ ،‬خجوال عن‬
‫سرد «الغيبيات» يف معرض تقاس فيه مصاحل العباد باألرقام واإلحصاء والكم واللذة‬
‫و«السعادة» ومستوى املعيشة وأمناط التنمية ومردودية االستثمار ومصادر التمويل‬
‫واسرتاتيجيات التصنيع‪ .‬يغطي هذا الفيلق من «األشياء» على بصر من يرى من حتت‬
‫التحت إىل إسالمه‪ ،‬ويغطي على بصريته‪ ،‬فإذا إسالمه مذهب اقتصادي سياسي أو‬
‫ما شئت من تصنيفات العصر‪ .‬وإذا اآلخرة سراب‪ ،‬ال حساب وال عقاب‪ ،‬واألمر‬
‫أُنُف كما كان يقول اجلاهليون األولون‪ .‬وقد يكون لعارض اإلسالم الكاتب املفكر‬
‫الباحث املنبهر «بأشياء» العصر إميان باهلل واليوم اآلخر ينطوي على بصيص منه‪،‬‬
‫ال يكاد يبني عنه‪ ،‬فهو أشبه أن حيسب من باطنية الزمان لشدة ختفيه وتكتمه كأن‬
‫ما يضمره بدعة وضاللة‪.‬‬
‫جفت الكتب «اإلسالمية» من ذكر اآلخرة نعوذ باهلل‪ ،‬وتسطحت على سوق‬
‫املفاضلة يف املصاحل وضماناهتا بني قوانني جاءت من شرق يؤمن بالوحي والرساالت‬
‫‪60‬‬
‫وغرب وضعي مصلحي طلق ذلك اإلميان‪ .‬احذف كل إشارة إىل الوحي وغيبياته‬
‫لتحظى مبصداقية عند قرائك‪ .‬وسالم على الدعوة ! وسالم على الدين !‬
‫إن كان يف خطاب عامل القرن الثامن ترسبات وحتفظات وسكوت‪ ،‬فما بلغ تأثري‬
‫الفتنة أن يغيب ذكر اهلل وذكر اآلخرة واجلزاء‪ ،‬وال أن يسكت عنه‪ ،‬وال أن يستغين‬
‫عن التذكري به‪ ،‬مسلمة ثابتة معرفة املسلمني باملسلمة‪ .‬كانوا رجال دعوة وإميان‪ ،‬وإن‬
‫غلب طابع الفقهية القانونية على أسلوب العرض‪.‬‬
‫فهذه مزية يفضلوننا هبا ألهنم كانوا يرمقون من أعلى اإلميان باهلل والثقة به ثقة‬
‫مستعلية على الكفر رغم ما كانوا يعيشون من عيش غري هينء يف كنف احلكم‬
‫الفاسد والعقل املتجمد‪.‬‬
‫مقاصد الشرع يف رأي الشاطيب ترجع عند النظر إىل قصد الشارع وقصد املكلف‪.‬‬
‫نرتكه لتفريعاته الوافية الضافية وىف اهلل له ونقف حنن وقفات نطل فيها من إزاء القرآن‬
‫والسنة على تلك الساحة‪.‬‬
‫وقفة أوىل لنميز بني قصد اهلل الكوين وقصده الشرعي‪ .‬قضاء اهلل جل شأنه‬
‫قصد سابق يف أزله‪ ،‬واقع ال حمالة بقدر‪ .‬إرادة مدبر حكيم شاء أن تكون الدنيا دار‬
‫﴿ما‬
‫امتحان‪ ،‬أسئلة هذا االمتحان عويصة‪ ،‬األجوبة عنها من كسبك أنت املخلوق َّ‬
‫ك﴾((( هلك القدرية‬ ‫ك ِمن َسيِّئَ ٍة فَ ِمن نـَّْف ِس َ‬
‫َصابَ َ‬ ‫ك ِمن ح ٍ ِ ِ‬
‫سنَة فَم َن اللّه َوَما أ َ‬
‫َصابَ َ ْ َ َ‬
‫أَ‬
‫ملا عطلوا القضاء اإلهلي‪ ،‬وهلك اجلربية ملا أنكروا اختيار العبد‪ ،‬وهلك املرجئة ملا مل‬
‫يرتبوا على الكسب ما رتبه القرآن من جزاء‪.‬‬
‫أما قصد اهلل تعاىل الشرعي فهو أمره وهنيه كما جاء يف القرآن والسنة‪ .‬أمر وهني‬
‫تعرتيهما أحكام الوجوب واالستحباب‪ ،‬أو احلرمة والكراهية‪ ،‬أو يوسع سبحانه على‬
‫عباده باإلباحة والعفو‪.‬‬
‫قصدان يلتقيان حبكمة يف ملك اهلل وملكوته‪ ،‬ال دخل للعباد يف امللكوت وإنكانت‬
‫ألفعاهلم الصاحلة أو الطاحلة نتائج هناك يف صحف الكرام الكاتبني ويف زيادة اهلل هدى‬

‫‪  1‬سورة النساء‪.79 ،‬‬


‫‪61‬‬
‫للذين اهتدوا وضاللة ملن ارتكسوا يف الفتنة‪ .‬ونقف وقفة لتأمل قصد املكلف‪ ،‬قصده‬
‫بالنية والتوجه الصادقني أو الفاسدين إىل مواله خالقه ورازقه حيدد مكانته األصلية‬
‫عند اهلل‪ :‬إما مسلم مؤمن‪ ،‬أو مشرك كافر‪ ،‬أو منافق يرتدى أسفل سافلني‪ .‬والقصد‬
‫الثاين يكون باألعمال الفرعية صاحلة أو سيئة‪ .‬لكل منها جزاؤه‪ ،‬منها ما يوجب‬
‫سخط اهلل وال خيلد مسلم يف النار‪ ،‬ومنها ما يقرب إىل اهلل العلي القدير يف درجات‬
‫اجلنة إىل حيث الوجوه الناضرة إىل رهبا ناظرة‪.‬‬
‫قصد املكلف بالقلب والتصديق‪ ،‬أو اإلعراض عنه وتكذيب رسله هذه عقيدة‬
‫وهي األصل‪ .‬وهي معقد السعادة أو الشقاء يف الدار اآلخرة مهما كانت مشقات‬
‫الطريق يف الدنيا أمام املسلم‪« ،‬ومكتسبات» املتاع يف الدنيا يف يد الكافر‪.‬‬
‫نقف هنا وقفة أخرى لنشري إىل احنراف ذات اليمني أو ذات الشمال عن اجلادة‬
‫السالكة باملؤمن يف الدنيا وكل أمره عجب‪ .‬املؤمن الضعيف يستطيع أن يفوز يف‬
‫الدار اآلخرة ولو هرب إىل قنة جبل يعبد اهلل ويذر الناس من شره‪ .‬أما املؤمن القوي‬
‫فيحرص على امتالك «مكتسبات» يف الدنبا يطلب الكفاية وتعطي أمته القوة‪ .‬وأما‬
‫اهلالك الزائغ ذات الشمال عن جادة اإلميان فهو الذي الدنيا باآلخرة‪ ،‬أو تلهيه‬
‫«املكتسبات» الدنيوية عن نفسه وعن اهلل حىت يضيع منه القصد االعتقادي والقصد‬
‫العملي فإذا هو جيري ندا لند يف حلبة السياسة واالقتصاد والتنمية‪ ،‬ال يذكر على هذه‬
‫املطالب الضرورية لألمة اسم اهلل ليصبح جريه جهادا حيبه اهلل‪.‬‬
‫ونقف بعد هذا لنسأل أين يلتقي قصد الشارع بقصد املكلف‪ ،‬بل أين ينبغي أن‬
‫يلتقيا ليحصل العبد على مصاحله موفورة يف الدنيا مدخرة له يف دار الكرامة؟ قضاء‬
‫اهلل تعاىل ماض إىل قدره أطاع املكلفون أم عصوا‪ ،‬آمنوا أو كفروا‪ ،‬شاؤوا أم أبوا‪ ،‬إن‬
‫أعرضت مقاصدهم عن أمر اهلل الشرعي فأمره الكوين يرغم أعماهلم على مراد اهلل‬
‫فيهم‪« .‬اعملوا فكل ميسر ملا خلق له»((( هكذا نطق الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫‪  1‬من حديث متفق عليه من رواية اإلمام علي كرم اهلل وجهه‪.‬‬
‫‪62‬‬
‫لقاء السعادة والتوفيق هو أن يطابق قصد املكلف بالنية وبتوجهه بالعمل أمر اهلل‬
‫ورسوله الشرعي‪ ،‬مهما كانت النتائج القدرية فالعبد راض‪ ،‬ما دام مل يقصر يف واجب‬
‫فرضه اهلل عليه‪ ،‬ما دام مستغفرا لذنبه وخطئه يف االجتهاد‪.‬‬
‫عنما كنا نناقش منذ حني األسباب اليت جعلت سلفنا الصاحل رضي اهلل عنهم‬
‫يسمعون ويطيعون مللوك العض‪ ،‬وكان الفاسدون املفسدون الذين ظهر هالك األمة‬
‫على أيديهم‪ ،‬ذكرنا أن مواقع القدر يف تاريخ املسلمني أطلع عليها رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم وأخرب هبا وأوصى معها بالسمع والطاعة ليكون لقاء أعمال املسلمني بإرادة‬
‫امللك القهار عز وجل لقاء رمحه وحفظ‪ .‬وهم كانوا مأجورين زادهم اهلل من فضله‪،‬‬
‫مأجور من سكت‪ ،‬مأجور من خالفه يف التقدير فتكلم‪ ،‬مأجور من اجتهد بصدق‬
‫يف أسلوب تغيري املنكر فقام فحمل السالح‪ ،‬أو هرب إىل اجلبل واخللوة‪ ،‬إن شاء اهلل‪.‬‬
‫لقاء كان على قدر‪ ،‬والنيات كانت تفيض إخالصا هلل تعاىل‪ ،‬واألعمال جادة‪،‬‬
‫والتفاعل مع األحداث حيا‪ .‬مل يكن االستسالم غري املشروط والتسرت وراء القدر‬
‫املهيمن إال من حظ جربية العقيدة أو جربية اخلوف‪ .‬واجلربيتان كثريا ما تتساندان‬
‫وتربر إحدامها األخرى‪ .‬وألمر ما جند «التقدميني» االشرتاكيني منهم والقوميني‬
‫يف زماننا يلهجون بذكر املعتزلة القدرية‪ ،‬ميتدحون عقالنيتهم وثوريتهم‪ .‬هذا زيغ‬
‫معاصر عن اجلادة‪ ،‬زيغ ذات الشمال دفعت إليه يف زمحة االضطراب الذي وقعت‬
‫فيه األمة بعد اندثار الشورى والعدل واإلحسان دوافع البحث بأي مثن عن وسيلة‬
‫إلنكار الدين وحربه‪ .‬فأي حفظ للدين حنتاج؟ بل أي طلب يلزمنا والدين غريب‬
‫حماصر؟‬
‫من جربية هذا الزمان‪ ،‬وهم جبرية قعود ومخول وجنب ال غري‪ ،‬من تسأله‪« :‬أما حتب أن‬
‫يكون لإلسالم دولة وأن يكون الدينكله هلل؟» فيجيب‪« :‬بلى وألفكرامة!»‪ .‬فإذا سألته مل‬
‫ال تضع يدك يف يدنا لنتعاون على إقامة دين اهلل؟ أجاب بأن اهلل قادر لو شاء على إظهار ما‬
‫تتعبون أنفسكم فيه‪ .‬الكفرة لعنهم اهلل قالواكما حكى القرآن الكرمي ﴿لَ ْو َشاء اللّهُ َما َعبَ ْدنَا‬
‫ِمن ُدونِِه ِمن َش ْي ٍء نَّ ْح ُن َوال آبَا ُؤنَا َوالَ َح َّرْمنَا ِمن ُدونِِه ِمن َش ْي ٍء﴾(((‪.‬‬
‫‪  1‬سورة النحل‪.35 ،‬‬
‫‪63‬‬
‫وكأن لسان حال الكافرين بنعمة اهلل من قاعدي اجلنب يردد ما قاله من قبل من قص‬
‫ين‬ ‫َنف ُقوا ِم َّما رَزقَ ُكم اللَّهُ قَ َ َّ ِ‬
‫اهلل تعاىل علينا إمساكهم حيث قال‪﴿ :‬وإِ َذا قِيل لَهم أ ِ‬
‫ال الذ(((َ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ُْ‬ ‫َ‬
‫ض َل ٍل ُّمبِي ٍن﴾ ‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫آمنُوا أَنُط ِْع ُم َمن لَّ ْو يَ َ‬ ‫ِِ‬
‫َ‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ل‬‫َّ‬ ‫ِ‬
‫إ‬ ‫م‬ ‫ن‬ ‫ِ‬
‫ش ُ ُ ََُ ْ ُْ‬
‫َنت‬
‫أ‬ ‫إ‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫ْع‬
‫ط‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫ه‬ ‫ل‬ ‫ال‬ ‫اء‬ ‫َك َف ُروا للَّذ َ‬
‫ين َ‬
‫كانت نياهتم رمحهم اهلل تفيض إخالصا هلل تعاىل‪ .‬هذا هو الظن بالقرون الفاضلة‬
‫الثالثة األوىل وبكل سلفنا الصاحل من بعدهم‪ .‬ما كانت الزندقة وال العقائد البدعية‬
‫وال حواشي احلكام املغردين بأناشيد النفاق إال هوامش على أطراف جمتمع فاضل يف‬
‫جمموعه ملتف حول أهل اخلري من العلماء العاملني‪.‬‬
‫التفافه ذاك وصمود أهل اخلري يف وجه احلاكمني باهلوى حفظ اهلل عز وجل هبما مقاصد‬
‫الشريعة من التلف‪ .‬وحفظها بتقوى املتقني وإميان الكافة باليوم اآلخر وبرب العاملني‪.‬‬
‫إننا إذ نتكلم عن االنكسار التارخيي‪ ،‬وعن نقض عروة احلكم يف وقت مبكر‪،‬‬
‫وعن احنسار األمر باملعروف والنهي عن املنكر بعيدا عن ساحة احلكم الوراثي‬
‫العاض‪ ،‬وعن التجزئة يف عقل املسلمني وأرضهم وفهمهم للدين جتزئة ناجتة عن‬
‫االنفصام األعلى‪ ،‬ال نضع موضع الشك سالمة األمة املرحومة املرعية بعناية اهلل جل‬
‫وعال‪ .‬بل يؤكد استمرارها يف الوجود وما كتب هلا من انتصارات ومسامهات يف حترير‬
‫بين اإلنسان من عبادة األوثان وقهر احلدثان هذه السالمة اجلوهرية اليت مل يلوثها‬
‫فساد احلكم‪ ،‬ومل حيطم سفينتها االنكسار التارخيي‪ ،‬ومل خيل احنسار‬ ‫املخزي ُ‬
‫َ‬ ‫التلويث‬
‫َ‬
‫األمر باملعروف والنهي عن املنكر عن ساحة احلكم بالوظائف احليوية لنفي اخلبث‬
‫عن اجملتمع‪ ،‬ومل مينع غياب الشورى يف القمة عن وجود اجتهاد يف القاعدة‪ ،‬ومل يقض‬
‫الظلم االجتماعي املرتتب عن الظلم السياسي على املسلمني بإسالمهم دين العدل‬
‫واإلحسان‪.‬‬
‫هذه القوة املاسكة احلافظة هي عناية اهلل تعاىل هبذه األمة عناية متثلت يف اإلميان‬
‫باهلل وباليوم اآلخر‪ .‬كان اإلميان بالبعث والنشور وازعا قويا مشرتكا عاصما من‬
‫االنفالت إىل مثل ما نرى يف عصرنا‪ .‬كان اجلو العام جو إميان‪ ،‬وكان الرأي العام رأي‬
‫إميان‪ ،‬وكان لآلخرة وحقائقها وجود يف حياة الناس اليومية‪ ،‬يف عباداهتم ومعامالهتم‪.‬‬

‫‪  1‬سورة يس‪.47 ،‬‬


‫‪64‬‬
‫مقاصد الشريعة كانت تفهم فهما ضمنيا أو يفصح عنها الفقيه األصويل مثل‬
‫أستاذنا الشاطيب فيستقر فهمها ويدور اإلفصاح عنها حول مصاحل الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫جمتمعة ال تتفرق‪ ،‬يفضى بعضها إىل بعض‪ ،‬ويوجه بعضها بعضا ويقومه‪.‬‬
‫يتحدث الشاطيب فيحسن أحسن اهلل إليه عن املقاصد الشرعية الضرورية فيقول‪:‬‬
‫«فأما الضرورية فمعناها أهنا البد منها يف قيام مصاحل الدين والدنيا‪ ،‬حبيث إذا فقدت‬
‫مل جتر مصاحل الدنيا على استقامة‪ ،‬بل على فساد وهتارج (أي فوضى وسفك للدماء)‬
‫وفوت حياة‪ ،‬ويف اآلخرى فوت النجاة والنعيم‪ ،‬والرجوع باخلسران املبني»‪.‬‬
‫الدنيا عندهم مبنية على اآلخرة‪ ،‬واآلخرة حممولة على الدنيا‪ ،‬تضمن الشريعة‬
‫وتطبيقها مصاحل العباد يف مشولية ال تعرف االنقسام‪.‬‬
‫التحليل التارخيي الذي ال ينظر إال بعني واحدة‪ ،‬نظرة عوراء دنيوية غابت عنها‬
‫اآلخرة‪ ،‬حياكم تاريخ املسلمني إىل مشولية سياسية اجتماعية اقتصادية‪ ،‬يقيس مبعيار‬
‫املادة يف عامل األسباب واملسببات‪ ،‬وهو عامل جترى أحكامه على اخللق أمجعني‪ .‬هذا‬
‫التحليل املادي الناقد يرسم يف مقابل املاضي املنقود لوحة ملستقبل إسالمي أفرغ منه‬
‫ذكر اآلخرة وارتباط مصاحلها مبصاحل الدنيا‪ .‬فإذا بالنموذج املقرتح ملستقبل املسلمني‬
‫نسخة بليدة من حاضر احلضارة اجلاهلية‪ ،‬فيه التنمية والتصنيع‪ ،‬واإلنتاج والتوزيع‪،‬‬
‫وفيه «شورى» من نوع ما تشبه الدميوقراطية‪ ،‬وعدالة ما تشبه االشرتاكية‪ .‬وتغطي‬
‫األلفاظ املسلمة أفكارا مطموسة ملا عميت عن اآلخرة قلوب الكتاب احلضاريني‬
‫فطويت الغاية اليت من أجلها خلق اهلل اجلن واإلنس وهي غاية عبادته‪ ،‬قال ابن عباس‬
‫ت ال ِ‬
‫ْج َّن‬ ‫﴿وَما َخلَ ْق ُ‬
‫رضي اهلل عنهما ‪ :‬املقصود بالعبادة معرفة اهلل يف قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫ون﴾‪.‬‬‫النس إَِّل لِيـ ْعب ُد ِ‬
‫ِ‬
‫َُ‬ ‫َو ْ َ‬
‫يكثر فيما يكتبه اإلسالميون يف زماننا احلديث عن مقاصد الشريعة وتفوقها‬
‫وتقدمها على أحدث القوانني البشرية بأربعة عشر قرنا‪ ،‬ويسرها‪ ،‬ومرونتها‪ ،‬ومشوليتها‪.‬‬
‫ويتمدد اخلطاب التمجيدي ناسيا أن مقارنة شرع اهلل عز وجل بشرائع البشر نزول‬
‫بالشرع من مساويته وعلويته إىل أرضية اخرتاعات اخللق وسوقيتها‪.‬‬
‫احلديث عن األهداف الدنيوية اليت حيققها الشرع مع إغفال الغاية األخروية‬
‫تشتت وضياع‪ ،‬بل حتريف للكلم عن مواضعه‪.‬‬
‫‪65‬‬
‫يف هذا الباب جند أسالفنا أهل مجع‪ ،‬حيق لنا أن نغبطهم على مجعهم ذاك‬
‫واحنياشهم إىل اهلل جل وعال‪ ،‬وهلجهم بذكره‪ ،‬وانصياعهم للمصري األخروي‪،‬‬
‫واستحضارهم له‪ .‬يف كل فقرة من كتاب مثل كتاب الشاطيب ذكر هلل سبحانه‪ ،‬يف‬
‫كل فصل من فصوله ربط ألشغال الدنيا بأشغال اآلخرة‪ ،‬يف كل باب اجتهاد كلي‬
‫ال يفصل أمر الدنيا عن أمر اآلخرة‪.‬‬
‫همكانوا أعلى مرصدا‪ ،‬كانت مشوليتهم شاملة حقا‪ ،‬جامعة حقا‪ ،‬ألهنا مل تضيع الغاية‬
‫األبدية جريا وراء األهداف العابرة الغائبة ومل تسكت عن اآلخرة تضخيما لشؤون الدنيا‪.‬‬
‫ضئيلة هي نظرة املقلدة الذين يقرأون علوم السلف‪ ،‬مثل علم أستاذنا‪ ،‬ليستدلوا‬
‫منها على وجاهة «احلل اإلسالمي» و«البديل اإلسالمي» إن كان ال يتعدى مرمى‬
‫بصرهم دار الفناء‪ .‬تافهة هي حقرية‪ .‬وكأن اإلسالم وشرعه مفتاح للدنيا‪ ،‬دال على‬
‫الدنيا‪ ،‬خادم للدنيا‪ ،‬داع إىل مصاحل العباد يف الدنيا‪ .‬وهم عن اآلخرة غافلون‪.‬‬
‫كان األحباب سلفنا الصاحل يعضون بالنواجذ على ما تبقى بني أيديهم من عرى‬
‫اإلسالم بعد انفصام العروة احلكمية ونقضها‪ .‬فكانوا بسكوهتم املكره‪ ،‬أو اجملتهد على‬
‫درجة ما من التقدير‪ ،‬أنزل رتبة من «اجليل القرآين» جيل الصحابة املؤسسني وجيل‬
‫التابعني الراشدين مع اخللفاء املهديني رضي اهلل عنهم أمجعني‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫بإزاء القرآن‬

‫إن ارتفعنا بإزاء القرآن وقارنا بأهل القرآن يبدو لنا املسلمون الذين عانوا من‬
‫بعدهم ما عانوا وامجني حتت ظلة أظلمها ذهاب الشورى‪ ،‬وكدرها انعدام العدل‪،‬‬
‫وسودها استتار أهل اإلحسان وهروهبم من امليدان‪.‬‬
‫لكن مقلدة العصر الذين ال ترقى هبم اهلمم إىل االقتباس املباشر من كتاب اهلل‬
‫وسنة رسوله‪ ،‬والذين جيعلون بينهم وبني منبع اهلدى ومبعث النور رجاال كان هلم‬
‫يف زماهنم غناء رغم البالء‪ ،‬ختتلط عليهم اجملاالت‪ ،‬وتتفرع هبم السبل‪ ،‬فال يكادون‬
‫يهتدون سبيال‪ ،‬تائهني بني مفاهيم العصر املادية‪ ،‬ملفقني منها ومن اجتهادات‬
‫مضت‪ .‬يلبسون أفكار الغرب سرابيل إسالمية وجيردون أقوال السلف من معناها‬
‫ومشوليتها‪ ،‬فهم من حتت التحت‪ ،‬أىن يصرفون !‬
‫عرب اإلمام الشاطيب رمحه اهلل عن ذات صدر تلك األجيال الصاحلة بصالح‬
‫مجعها هلم الدنيا مع هم اآلخرة حينما صاغ فهمه ملقاصد الشريعة مستعمال كلمة‬
‫«حفظ»‪ .‬كان معهم رمحهم اهلل شيء يستحق يف نظرهم أن حيفظ‪.‬‬
‫حنن يف زماننا نقدر أن ما ضاع منا كثري وأن ما بقي آئل إىل ضياع إن مل ننهض‬
‫للطلب‪ ،‬طلب اإلسالم كله‪ ،‬طلب اإلميان بشعبه‪ ،‬طلب اخلالفة على منهاج النبوة‪،‬‬
‫طلب الشورى والعدل واإلحسان‪.‬‬
‫لنرتك مساءلتهم أحسن اهلل إلينا وإليهم عن عرى اإلسالم اليت مل يقوموا‬
‫إلعادة بنائها بعدما نقضت‪ ،‬فإن يف معلناهتم اليت عرب عنها الشاطيب يف مقدمة‬
‫كتابه وخامتته لكالما بليغا يفسر حتفظهم وسكوهتم عن أشياء وزفراهتم املكتومة‬
‫تكاد تلفح من وراء القرطاس‪ .‬ولنتتبع تقسيمهم ملقاصد الشريعة لنكتشف يف كل‬
‫‪67‬‬
‫موقع دعوا إىل حفظه مضيعة جيب علينا طلبها ولينفتح لنا باب الفهم ملطالب‬
‫أخرى مل ختطر هلم على بال ألهنا يف نظرهم كانت حاصلة‪ .‬منها توحيد األمة‬
‫مثال‪ .‬فهم كانوا يعيشون وحدة شعوب مجعها اإلسالم ال تكاد تشعر بالتفرقة اليت‬
‫فرقتها اإلمارات السيفية‪ ،‬واللغة والسحنة والقطر‪ .‬مل يكن يقدح يف وحدهتم تلك‬
‫وجود خالفات مذهبية يعيشون صراعاهتا الكالمية أو العنيفة داخل إطار الوحدة‬
‫ال خارجه‪ .‬ما كانوا ليتصورا ما فعلته بنا الدولة القومية القطرية ومتزقات وجتزئات‬
‫فرضها االستعمار بعد ذهاب شوكة اإلسالم العثمانية‪.‬‬
‫قال الشاطيب رمحه اهلل‪« :‬واحلفظ هلا (يعين حفظ مقاصد الشريعة) يكون بأمرين‪،‬‬
‫أحدمها ما يقيم أركاهنا وتثبت قواعده وحيفظ وجوده باحملافظة على أصول «العبادات»‬
‫كاإلميان والنطق بالشهادتني والصالة والزكاة والصيام واحلج وما أشبه ذلك»‪ .‬وعنده‬
‫جانب ثان من مقاصد الشريعة مساه «العادات»‪ ،‬وترجع إىل «حفظ النفس والعقل‬
‫من جانب الوجود أيضا كتناول املأكوالت واملشروبات وامللبوسات واملسكونات وما‬
‫أشبه ذلك‪ ».‬وعنده جانب «املعامالت»‪ ،‬وهي «راجعة إىل حفظ النسل واملال من‬
‫جانب الوجود‪ ،‬وإىل حفظ النفس والعقل أيضا‪ ،‬لكن بواسطة العادات»‪.‬‬
‫ألفنا يف زمننا تقسيمات العصر إىل جماالت منها الديين والثقايف والسياسي‬
‫واالقتصادي واالجتماعي‪ .‬وليس تقسيم علمائنا رمحهم اهلل أقل مشولية وال أقل جدارة‬
‫باالعتبار‪ ،‬ومن اإلنصاف احملض أن حنكم بأن تقسيماهتم كانت أوىف وأدق وأحكم‬
‫ألهنا تدخل يف معادالهتا اإلنسان فتجعله مركز الدائرة‪ ،‬إىل مصلحته يف الدنيا واآلخرة‬
‫يرجع كل شيء من أشياء احلياة وأنظمتها وصناعتها‪ .‬ال جرم يكون ذلك كذلك ويف‬
‫مقدمة اهتمام الفقيه األصويل «حفظ الدين»‪ .‬ومن واجب حفظ الدين‪ ،‬ويف خدمة‬
‫حفظ الدين‪ ،‬تتفرع واجبات حفظ النفس والعقل‪ ،‬وحفظ النسل واملال‪.‬‬
‫خارطتان متثل إحدامها خمطط اجلاهلية وبرناجمها‪ ،‬يف خاناهتا الثقافة والدين كما‬
‫يفهم الدين اجلاهليون‪ ،‬والسياسة واالقتصاد‪ ،‬واالجتماع‪ .‬ومتثل األخرى مقاصد‬
‫‪68‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬ومطالبه يف إقامة الدين‪ ،‬وتثبيت أقدام اإلنسان يف األرض‪ ،‬آمنا على نفسه‬
‫وماله ونسله‪ ،‬متزنا يف عقله‪ ،‬مستعدا للرحيل خبطى مطمئنة من الدنيا وامتحاهنا إىل‬
‫اآلخرة ونعيمها‪ .‬ضع اخلارطة األوىل على وجه الثانية‪ ،‬فرمبا يغطي االقتصاد و«علم‬
‫النفس» وعلم الطب وسياسة اإلسكان وسياسة احلكم والضمان االجتماعي يف‬
‫اخلارطة األوىل بعضا أو كثريا من أقسام «العادات» و«املعامالت» يف اخلارطة الثانية‪.‬‬
‫وتبقى مساحة شاسعة ال متتد خارطة اجلاهلية لتغطيتها هي مساحة معىن وجود‬
‫االنسان‪ ،‬مساحة اآلخرة واملصري إليها وعالقة هذا املصري بسلوك اإلنسان واستقامته‪،‬‬
‫ورفقه ال عنفه‪ ،‬وبذله ال أنانيته‪ ،‬وعطائه ال تبذيره‪ ،‬وأخالقية الرمحة باخللق وإطعام‬
‫املساكني ال وحشية االستهالك الباذخ واملستضعفون يف األرض ميوتون جوعا‪.‬‬
‫أين تقع الدميوقراطية وهي عصارة التجربة اإلنسانية من الشورى وهي تنزيل‬
‫العزيز احلكيم خللقه لوال أن الدميوقراطية واقع يتمتع بإنسانيته غرينا وميثله مسرحا‬
‫هزليا حكامنا‪ ،‬ولوال أن الشورى نظام غائب ومطلب عزيز دون حتقيقه أشواط من‬
‫اجلهاد؟‬
‫تقع «الدميوقراطية‪-‬الواقع» من «الشورى‪-‬املطلب» يف رياض القرطاس ويف‬
‫تأمالت الكاتب موقع التحدي الفكري‪ .‬لكنها يف حياة األمة حتد حيوي‪ ،‬يضيع‬
‫الدين وتضيع األمة إن استمر االستبداد العاض‪ .‬ويطلق الناس الدين العتناق دين‬
‫الدميوقراطية ألن من معاين «احلريات العامة» ضمان كرامة الفرد وحتلله من كل قيد‬
‫يكبح شهواته‪ .‬حتد قاتل‪ ،‬فإما دميوقراطية إنسانية دوابية إباحية وإما شورى يكون هبا‬
‫أمرنا على جادة الدين‪.‬‬
‫كان علماؤنا حىت يف القرن الثامن يف أندلس الطوائف يتكلمون من موقع‬
‫استعالء حضاري‪ .‬مل يكن أمامهم أي حتد معنوي يصول عليهم بتفوق منوذجه‪.‬‬
‫لذلك كان حفظ ما عندهم غاية سؤهلم‪.‬‬
‫نتساءل حنن أين تقع «االشرتاكية‪-‬الواقع» وهي عصارة التجربة اإلنسانية من‬
‫العدل الذي أمر به اهلل جل شأنه عبادة وأحل يف األمر؟ أين تقع االشرتاكية الواقع‪،‬‬
‫‪69‬‬
‫االشرتاكية النموذج املعروض الذي تغري الدولة العظمى السوفياتية التائبة من جتربتها‬
‫االشرتاكية باقتنائه‪ ،‬االشرتاكية املفتاح السحري ملشاكل العامل املختلف‪ ،‬من العدل‬
‫اإلسالمي املطلب؟‬
‫أ َِمن الدميوقراطية نبدأ‪ ،‬وإذن ال نصل إىل االشرتاكية‪ .‬أم نفرضها اشرتاكية‪ ،‬وإذن‬
‫فهو استبداد حزب باسم طبقة‪ ،‬فال حرية‪ .‬أو جنعلها اشرتاكية دميوقراطية نقلد يف‬
‫تلفيقها جمتمعات ثرية مصنعة تعيش يف حببوحة وحنن مهل فقراء‪ ،‬أيديهم وعقوهلم‬
‫صناع‪ ،‬وحنن عقولنا وأيدينا اخلرق بعينه؟‬
‫بأي مثن من ديننا وكياننا نشرتي دميوقراطية جاهزة أو نُدخل خلسة اشرتاكية‬
‫مستوردة نفرضها بعد باحلديد والنار؟‬
‫أين تقع اإلنسية اجلاهلية و«حقوق اإلنسان» واألخالق والفلسفة والفنون‪ ،‬وهي‬
‫واقع هناك‪ ،‬من اإلحسان وهو مطلب كامن يف قلوب املؤمنني باهلل وباليوم اآلخر‬
‫غائب عن واقع املسلمني؟‬
‫كيف الطلب لكل ذلك؟ من يطلب؟ وممن يطلب ومع من يطلب؟ وضد من‬
‫يطلب؟‬
‫أسئلة ما طرحها‪ ،‬وأىن له‪ ،‬من يردد عبارات األجداد الداعية إىل حفظ املقاصد‬
‫اخلمس الضرورية ‪ :‬حفظ الدين‪ ،‬حفظ النفس‪ ،‬حفظ العقل‪ ،‬حفظ النسل‪ ،‬حفظ‬
‫املال‪ .‬يردد ويفرع‪ ،‬بعناد وتبلد‪ ،‬وكأن الدين حاكم سلطانه يف بالد املسلمني‪،‬‬
‫و«العادات» مستقرة حيث تركها األولون آمنة من عاديات الزمن‪ ،‬و«املعامالت»‬
‫منتظمة على ما قرروه‪ .‬حتفظ على ماذا إذن يا فقيه وحتافظ؟‬
‫ ‬

‫‪70‬‬
‫االجتهاد وتحقيق المناط‬
‫ذكر دليلنا احلكيم يف مسالك األصول اإلمام الشاطيب أعلى اهلل درجته أن أركان‬
‫مصاحل الدنيا والدين تقوم‪ ،‬وأن قواعد املقاصد الشرعية تثبت‪ ،‬مبراعاهتا «من جانب‬
‫الوجود»‪ ،‬وذلك باحملافظة على «العبادات» مثل النطق بالشهادتني والصالة وسائر‬
‫الفرائض‪ ،‬وباحملافظة على النفس والعقل مبا حيقق هلما الضروريات من «عادات» مثل‬
‫املأكوالت واملشروبات وامللبوسات واملسكونات‪ ،‬وباحملافظة على النسل واملال من‬
‫خالل احملافظة على «املعامالت» اليت تلتقي يف شروطها وأهدافها مع «العادات»‪.‬‬
‫احلفظ من «جانب الوجود» عبارة عن األعمال اإلجيابية املكلف هبا العباد‬
‫واملضطر إليها كل أفراد اجملتمع يف حياهتم اليومية واالقتصادية والتجارية واملالية‬
‫واألسرية االجتماعية‪ .‬داخل كل ذلك حتت جناح «العبادات» اليت هبا حيفظ الدين‪.‬‬
‫احلفظ «من جانب الوجود» بالعادات واملعامالت عبارة عن اختاذ كل الوسائل‬
‫املشروعة املبلغة إىل األهادف الدنيوية مبا فيها األمن من العوز واخلوف‪ ،‬والعافية يف‬
‫النفس والعقل‪ ،‬واالطمئنان يف املأوى واحلياة الزوجية االجتماعية‪ .‬وسائل دنيوية يقننها‬
‫الشرع تضمن الوصول إىل األهداف الدنيوية‪ ،‬أهداف األمن واالستقرار والسالمة‬
‫من اهلموم املادية‪ .‬وتأيت «العبادات»‪ ،‬وهي أعمال ال دخل للعباد يف وضعها وال يف‬
‫مناقشتها‪ ،‬فتكسو السعي يف األرض وتدبري املعاش معىن وتعطيه روحا‪ .‬تعطيه معىن‬
‫بتوجيهيه إىل الغاية األخروية‪ ،‬وتعطيه روحا بإيقاظ قلب املؤمن إىل حقيقة ما خلق‬
‫من أجله‪ ،‬أال وهو العبودية هلل تعاىل وابتغاء فضله وجنته ورضاه ووجهه الكرمي‪.‬‬
‫إن تصفيف املقاصد الشرعية تصفيفا أفقيا هكذا الواحد تلو األخر‪( ،‬حفظ الدين‬
‫حفظ النفس‪ ،‬حفظ العقل اخل) يغيب عن الرتتيب النوعي بني الوسائل واألهداف‬
‫‪71‬‬
‫الدنيوية وبني الغاية األخروية‪ .‬وذلك تفويت خمل بكل مقاصد الشرع‪ ،‬ولئن كان‬
‫اجملتهدون يف أزمنة سبقتنا يستغنون عن اإلحلاح يف هذا الباب باإلشارة حلضورهم‬
‫وحضور جمتمعهم املتشبع بالدين مع اهلل عز وجل ومع اآلخرة‪ ،‬فإن اجملتهدين يف‬
‫أزمنتنا جديرون أن يصنفوا املقاصد بصفتها مطالب هلا أولوياهتا وبينها االتباطات‪،‬‬
‫جيب أن تتظافر كلها لتوفري الضرورات البدنية والنفسية واالجتماعية للعبد حىت يتفرغ‬
‫العبد للجهاد إىل ربه يف سبيل ربه‪.‬‬
‫ ويذكر شيخنا الشاطيب رمحه اهلل أصال رابعا من أصول املقاصد هو أصل‬
‫«اجلنايات»‪ .‬إىل جانب «العبادات» و«العادات» و«املعامالت» اليت حتفظ املقاصد‬
‫«من جانب الوجود» تأيت «اجلنايات» اليت حتفظها «من جانب العدم»‪ ،‬قال بأن‬
‫مراعاة املقاصد من جانب العدم يعين حفظها من «االختالل الواقع أو املتوقع فيها»‪.‬‬
‫وجيمع حتت اصطالح «اجلنايات» األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪.‬‬
‫ نلمس يف عبارة املؤلف رمحه اهلل اجململة املقتضية أن حصر «اجلنايات» يف‬
‫دائرة األمر باملعروف والنهي عن املنكر التفات عن تعيني مصدر اجلناية الكربى‬
‫على مقاصد الشرع أال وهو احلكم إذا كان احلكم فاسدا غري شوري وال عادل وال‬
‫إحساين‪ .‬جناية األفراد على الدين ومقومات الدين يعاجلها القضاء واحلسبة واليقظة‬
‫العامة‪ .‬وهذه الثالثة من مظاهر األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ .‬لكن جناية الدولة‬
‫على الدعوة ومروق النظام احلاكم من الدين أو من مقتضياته األساسية كالشورى‬
‫والعدل واإلحسان إخالل فاحش يتعاظم أن يتعرض له القضاء أو حتاسبه احلسبة أو‬
‫ينكره اآلمرون باملعروف إن مل يكن هؤالء اآلمرون قوة مجاعية سياسية يرفضون احلكم‬
‫العاض واجلربي ويتظاهرون على إقامة دين اهلل بإقامة اخلالفة على منهاج النبوة‪.‬‬
‫التفات من فقيه فردي نوازيل مغمى عليه؟ كال فصاحبنا رضي اهلل عنه واسع‬
‫األفق عميق النظر‪ .‬لكن ما احليلة والواقع ثقيل واحلفاظ على ما هو كائن ارتكاب‬
‫ألخف الضررين؟‬
‫عند األصوليني عبارة جارية هي «حتقيق املناط»‪ .‬وحتقيق املناط هو‪« :‬أن يثبت‬
‫احلكم مبدركه الشرعي»‪ .‬ويف تعريف األصوليني عامة هو ‪« :‬أن يقع االتفاق على‬
‫‪72‬‬
‫ِعلِّية وصف بنص أو بإمجاع»‪ ،‬ال حنب أن نزاحم أهل االختصاص أيدهم اهلل يف‬
‫توجيه العبارات الفنية الدقيقة‪ .‬فنقول بلغة عامة بسيطة بأن حتقيق املناط هو فهم‬
‫الواقع ملعرفة مواقع األمر والنهي الشرعيني وتنزيلهما فيه‪ .‬هو تطبيق الشرع على الواقع‪،‬‬
‫تغيري الواقع ليطابق الشرع‪ ،‬معاجلة الواقع ليحكمه الشرع ال اهلوى‪ .‬بدون هذا الفهم‬
‫وهذا التنزيل وهذا التطبيق تبقى الشريعة نظرية عائمة يف الفضاء‪« ،‬ولو فرض ارتفاع‬
‫هذا االجتهاد (االجتهاد يف حتقيق املناط) مل تتنزل االحكام الشرعية على أفعال‬
‫املكلفني إال يف الذهن»‪.‬‬
‫كان االجتهاد فيما مضى قضية فردية‪ ،‬كان إسالم املكلفني فرديا حتت مظلة‬
‫شوكة اإلسالم‪ ،‬فتطابق اجتهاد املفيت والقاضي مع اهتمام املسلمني كل يف خويصة‬
‫نفسه أو مشاكله يف دوائر حمصورة‪ .‬كان اجملتهد مدفوعا عن دائرة األمر العام‪ ،‬دائرة‬
‫احلكم‪ ،‬معزوال عن شؤون الدولة وجباية املال وتسيري اجليوش وتدبري السياسة‪ .‬فإن‬
‫أبدى اجملتهد رأيه يف «السياسة الشرعية» فإمنا هو آمر باملعروف ناه عن املنكر من‬
‫خارج ويف حدود ال ينبغي أن يتعداها‪ .‬وإن كان قاضيا عاما مثل أيب يوسف صاحب‬
‫أيب حنيفة أو أقضى القضاة مثل املاوردي اتسعت معرفته بالواقع حبكم مشاركته من‬
‫أعلى دون أن تتسع سلطته مبا ميكنه من تغيري هذا الواقع‪.‬‬
‫يف دولة اخلالفة على منهاج النبوة جيب أن يكون االجتهاد قضية مجاعية‪،‬‬
‫شورية‪ .‬استفحل الواقع‪ ،‬وتفاقمت مشاكله‪ ،‬وأمعن يف الشرود عن الدين‪ ،‬وجتاوز كل‬
‫ما ورثناه من فقه حىت أصبح مناط األحكام فيه ال يكاد يبني‪ .‬من أين منسك الواقع‬
‫لندخله يف حوزة الشرع‪ ،‬كيف نراوده‪ ،‬كيف نرغمه‪ ،‬كيف نتدرج إىل تطويعه؟ ال‬
‫يستطيع اجملتهد الفرد أن ينهض لذلك وحده مهما كان متكنه من علوم الشريعة‪ .‬البد‬
‫من إشراك ذوي االختصاصات املتنوعة‪ ،‬البد من معاهد ترعاها الدولة اإلسالمية يوم‬
‫ال تكون الدولة جانية على الدين‪ ،‬يوم تكون دولة الشورى والعدل واإلحسان‪.‬‬
‫ ‬

‫‪73‬‬
‫االستنباط في خدمة القصد‬
‫قال اإلمام الشاطيب رمحه اهلل ‪« :‬إمنا حتصل درجة االجتهاد ملن اتصف بوصفني‪:‬‬
‫أحدمها فهم مقاصد الشريعة على كماهلا‪ ،‬والثاين التمكن من االستنباط بناء على‬
‫فهمه فيها (‪ .)...‬وأما الثاين (أي التمكن من االستنباط) فهو كاخلادم لألول»‪.‬‬
‫كانت عدالة العلماء وتقواهم وإمياهنم باهلل رب العاملني واعتصامهم بشريعته أمرا‬
‫مسلما‪ .‬لذلك مل يتحدث الشيخ إال عن فهم املقاصد وعن التمكن من االستنباط‪،‬‬
‫ومها كفاءتان عقليتان‪ .‬يف زماننا كثر املنافقون عليمو اللسان‪ ،‬لذلك نسبق شرط أن‬
‫يكون اجملتهدون الشوريون املتشاورون من أهل اإلميان واإلحسان‪ .‬ال نأخذ إمياهنم‬
‫أمرا مسلما حىت نعرف ذلك عنهم بربهان الصدق نقتضيه منهم على حمك األيام‬
‫واألحداث والصرب على اجلهاد‪.‬‬
‫لكيال ننزلق إىل متاهات «اإلسالم السياسي» يلزم أن حنقق مناط التكليف‬
‫بتنفيذ مقاصد الشريعة‪ ،‬ذمة الفرد املسلم كانت مناطا لتكليف زمان التفتت واإلسالم‬
‫الفردي كما نظر لذلك علماء ذلك العصر‪ .‬قال أستاذنا ‪« :‬واملقاصد اليت ينظر فيها‬
‫قسمان‪ :‬أحدمها يرجع إىل قصد الشارع‪ ،‬واآلخر يرجع إىل قصد املكلف»‪.‬‬
‫نعم مسؤولية الفرد يف آخر املطاف هي املعتربة ألنه يأيت ربه يوم القيامة فردا‪،‬‬
‫وحياسب على أعماله هل طابقت مقاصد الشرع نية وتنفيذا‪ ،‬التزر وازرة وزر أخرى‪.‬‬
‫لكن أين مجاعة املسلمني املخاطبة يف القرآن بيا أيها الذين آمنوا‪ ،‬املكلفة حبمل رسالة‬
‫القرآن؟ هل تساءل علماؤنا عن البناء األول للجماعة اليت شيدها رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم على الوالية اجلهادية بني املهاجرين واألنصار؟ أين ذهبت بنايتها مع‬
‫األجيال وكيف تفتتت‪ ،‬ومن وقتها حىت انسحب الفقه من الساحة العامة واحنصر يف‬
‫الفتوى الفردية و«اجلنايات» الفردية استجابة حلاجات إسالم فردي؟‬
‫‪74‬‬
‫إن مسؤولية االجتهاد واستنباط أحكام شرعية هلذا الزمان‪ ،‬وملصاحل األمة يف هذا‬
‫الزمان وهذه الظروف‪ ،‬ال ميكن أن يتحملها إال مجاعة املسلمني‪ .‬التزال هذه اجلماعة‬
‫مشروعا يف ضمري األمة يسعى لتحقيقه رجال الدعوة وفقهم اهلل‪ .‬املكلف الفرد مهدد‬
‫إن عاش يف جمتمع مفتون يف دينه ونفسه وعقله ونسله وماله‪ .‬ال يستطيع حفظ شيء‬
‫من ذلك ال من «جانب الوجود» وال من «جانب العدم»‪.‬‬
‫فيكون بناء مجاعة املسلمني لبنة لبنة حىت وحدة املسلمني كافة عرب حدود‬
‫األقطار املوروثة عن فتنة القرون وعن االستعمار هو املطلب األساسي يف تصنيفنا‬
‫للمطالب الشرعية‪« .‬قصد الشارع وقصد املكلف» تعبري جتريدي فرداين‪ .‬اجلماعة‬
‫الداعية إىل اهلل الساعية لبناء جمتمع إسالمي موحد وحكم شوري وعدل وإحسان هبا‬
‫يناط اجلهاد لتحقيق املقاصد الشرعية‪ ،‬تومن هبا اجلماعة وحتملها وتقاتل من أجلها‬
‫وتطلب باملال والنفس حتقيقها‪ .‬ويأيت االجتهاد حيا مواكبا حلركة حية‪ ،‬ممهدا يف اجملال‬
‫الفقهي لتقدم الركب اإلمياين الذي رباه اإلحسان‪ ،‬وحركه الغضب هلل‪ ،‬وربط على قلبه‬
‫حب اهلل ورسوله‪ ،‬وأطربه حنو األهداف والغاية موعود اهلل الذي ال يتخلف باخلالفة‬
‫على منهاج النبوة وبالسعادة يف دار البقاء‪.‬‬
‫العضوية يف مجاعة من مجاعات الدعوة‪ ،‬مث مجاعة املسلمني املوحدة العاملية‪ ،‬جاد‬
‫اهلل لناهبا بكرمه‪ ،‬شرط يف اجملتهدين أهل الشورى والعدل واإلحسان‪.‬‬
‫إن من سبقونا بإميان‪ ،‬غفر اهلل لنا وهلم وأحلقنا هبم على سرر متقابلني‪ ،‬رتبوا‬
‫املقاصد العليا وحصروها يف مخسة مقاصد اتفقوا على وجوب احلفاظ عليها ‪ :‬حفظ‬
‫الدين‪ ،‬حفظ النفس‪ ،‬حفظ العقل حفظ النسل حفظ املال‪ .‬زاد بعض املتأخرين‬
‫حفظ العرض‪ .‬ال نفتات على اتفاقهم رمحهم اهلل وال ننازع‪ .‬لكن نرجع إىل تأصيالهتم‬
‫ناظرين إليها من إزاء القرآن والسنة‪ ،‬ناظرين إليها أيضا من زاوية واقعنا وظروفنا وما‬
‫يتاح لنا من طلب كانت أبوابه موصدة يف عصور االبتالء القدرى بالعض واجلرب‬
‫والنصيحة النبوية بلزوم السمع والطاعة حفاظا على بيضة اإلسالم أن تشدخ فيموت‬
‫الرأس‪ ،‬وعلى شوكة اإلسالم أو ختضد فريعى احلمى‪.‬‬
‫‪75‬‬
‫من إزاء القرآن العظيم ومن زاوية ظروفنا وضروراتنا نرى إنشاء مجاعة منظمة تكون‬
‫دعوة وتؤسس دولة اخلالفة هو أبو املقاصد والشرط األول لتنفيذها‪ .‬احبث عن منفذ‬
‫قوي أمني قبل أن تدخل يف نقاش عملية التنفيذ‪.‬‬
‫الرتبية والتنظيم وذكر اهلل والصدق والتزود بالعلم النافع‪ ،‬علم احلق املنزل املوحى‬
‫به وعلم الواقع وعلم الكون‪ ،‬مقومات ضرورية منها تستمد اجلماعة اإلميان والقوة‬
‫واألمانة على شرع اهلل ومقاصده‪.‬‬
‫اإلحسان واإلميان‪ ،‬يتحلى هبما الفرد اجملاهد الطالب ربه‪ ،‬هو الغاية‪ .‬يف أعلى‬
‫سلم املطالب (مقاصد الشريعة) اإلحسان وهو أن تعبد اهلل كأنك تراه‪.‬‬
‫يف الدرج املؤدي إىل الغاية جند مرتبة ألهداف هي من الدنيا‪ ،‬لكن تكسب‬
‫االعتبار الشرعي من كوهنا وسائل للغاية الدينية األخروية‪ .‬تكسب االعتبار من كون‬
‫الدنيا مطية املؤمن وزاده لآلخرة‪ .‬روى الرتمذي وابن ماجه والبخاري يف األدب عن‬
‫عبيد اهلل بن حمصن أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال ‪« :‬من أصبح منكم آمنا‬
‫يف سربه‪ ،‬معاىف يف جسده‪ ،‬عنده قوت يومه‪ ،‬فكأمنا حيزت له الدنيا حبذافريها‪».‬‬
‫إسناده حسن كما أشار السيوطي رمحه اهلل يف اجلامع الصغري‪.‬‬
‫أرأيت كيف انزرعت احلياة اليومية يف املقاصد الشرعية ملا مسعنا عنها من لسان‬
‫الوحي؟ خوطب املكلف بعافيته‪ ،‬خوطب بأمنه‪ ،‬بقوته‪ ،‬بدنياه ومهومها ليتفرغ آلخرته‬
‫وإىل اجلهاد من أجلها يف سبيل اهلل‪.‬‬
‫ما قننه علماؤنا األبرار يف صيغة التجريد يف باب «العادات» و«املعامالت»‪ ،‬أي‬
‫يف مقاصد حفظ النفس والعقل والنسل واملال‪ ،‬جنده يف احلديث النبوي مشخصا يف‬
‫الزمان (من أصبح‪ ...‬قوت يومه) واملكان واجلماعة (يف سربه) والبدن‪.‬‬
‫هذه املطالب واألهداف الدنيوية‪ ،‬املؤدية إذا حيزت إىل الغاية‪ ،‬ال تتحقق إال يف جمتمع‬
‫يأخذ فيه الكم واإلحصاء واالنتاج والتوزيع والعدل يف كل ذلك املكان الشرعي‪ .‬ينقلب‬
‫سلم القيم يف يد بعضهم فإذا عنده نظرية تقول بأن اإلسالم أقصر طريق إىل التنمية‬
‫واالزدهار االقتصادي‪ .‬وإذا الدين وسيلة واالقتصاد غاية‪ .‬وإذا الدنيا تنسى اآلخرة‪.‬‬
‫‪76‬‬
‫ رحم اهلل علماءنا‪ ،‬إن تأسينا هبم يف االعتصام باإلميان واإلحسان فلن‬
‫يبعدونا عن القرآن الذي ال يفهمه بعضهم إال مدونة حضارية ومرجعا فكريا‪ .‬يسيل‬
‫من هذا الفكر اخلائب على بعض األدمغة املتحدثة باسم اإلسالم سائل الغفلة عن‬
‫اهلل وعن الدار اآلخرة الحول وال قوة إال باهلل‪.‬‬
‫ البد للتنمية واالقتصاد واإلنتاج والتوزيع والكم واإلحصاء أن تأخذ مكاهنا‬
‫الشرعي‪ ،‬يف مقدمة املطالب‪ ،‬يف مرتبة األهداف الدنيوية املسهلة لرحلة املؤمن‬
‫واملؤمنة إىل رهبما‪.‬‬
‫ والعدل كلمة جامعة ومطلب أساسي يف عصر أصبحت فيه قسمة األرزاق‬
‫وإنتاجها ومتويل عملية التنمية وتنظيم ذلك حتديا قاتال يف وجه األمة‪ .‬إن كان‬
‫اإلحسان رائدا فال خمافة من الزيغ‪ ،‬لكن يلح السؤال على اجملتهدين األصوليني‬
‫وعلى املفكرين ملعرفة النظام األقرب إىل اإلسالم‪ :‬الرأمسالية أو االشرتاكية‪ .‬إسالم‬
‫رأمسايل؟ اشرتاكي؟ نسكت عن العدل يف القسمة كما سكت األولون فتيار‬
‫الرأمسالية جيرفك‪ .‬تتحدث عن العدل والظلم الطبقي فتوصم بأنك شيوعي خيتىبء‬
‫يف عباءة اإلسالم‪.‬‬
‫ ‬

‫‪77‬‬
‫الجنايات‬
‫ومن أخبث الذراري الشيوعيني القوميني أولئك الذين ال يقطعون يف خطاهبم‬
‫وشعاراهتم مع اإلسالم‪ ،‬بل يتلبسون باإلسالم فيلبسون على الناس وال كتلبيس إبليس‪.‬‬
‫حتدثنا يف الفقرة السابقة عن املطلب الشرطي مطلب إنشاء مجاعة املسلمني املنوط‬
‫هبا محل الرسالة‪ ،‬وحتدثنا عن مطلب وحدة املسلمني‪ ،‬وعن ضرورة إنشاء اجلماعة‬
‫وتوحيد األمة ليتأتى «حفظ الدين»‪ .‬وحتدثنا عن مطلب األمن يف السرب والعافية يف‬
‫البدن والكفاية يف القوت‪ ،‬هذه املطالب اليت تغطي جانب «العادات» و«املعامالت»‪.‬‬
‫وحتدثنا عن كون الوسائل االقتصادية يف اإلنتاج والتوزيع والتنمية والتصنيع ضرورياً‬
‫اختادها ليتأتى العدل‪ ،‬إذ بالعدل املويف باملطالب الدنيوية يستطيع العبد أن يتطلع إىل‬
‫الغاية وهي اإلحسان‪.‬‬
‫يف هذه الفقرة نقف وقفة قبل أن نتعرض ملا به تكون «مراعاة املقاصد الشرعية من‬
‫جانب العدم»‪ ،‬أي مبا يكون حفظها والدفاع عنها‪ ،‬وما «يدرأ عنها االختالل الواقع‬
‫أو املتوقع فيها» يف الفقرة املقبلة إن شاء اهلل نتحدث عن الشورى والدولة ومهامها يف‬
‫صيانة املطالب الشرعية‪.‬‬
‫اخللل الواقع يف الدين ومقاصده من جراء ختاذل الدويالت العاضة‪ ،‬ومن جراء‬
‫اهنيار اإلسالم الفردي املوروث أمام االستعمار والغزو الفكري خلل فاحش‪.‬‬
‫ليست إشادتنا بعلمائنا املاضني‪ ،‬والتأكيد على صحة عقيدهتم وإمياهنم‪ ،‬اعتصاما بأذيال‬
‫األجداد هروبا من واقعنا‪ .‬متسكنا بذكرهم ومبا أثلوه من اجتهاد نافع ومن قواعد علمية‬
‫راسخة رصينة ال يكون حجابا بيننا وبني الينبوع الصايف ‪ :‬رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يقرأ القرآن ويقرئه ويبني للناس ما أنزل إليهم‪ .‬متسكنا بذكرهم حفاظ هلم من أيدي زنادقة‬
‫‪78‬‬
‫العصر املتلبسني باإلسالم‪ ،‬منهم واحد ال يهمنا شخصه وفكره يف املقام األول لكن يهمنا‬
‫ما تفشيه كتاباته من النيات املبيتة ضد الدين‪ ،‬نيات خيفيها فال تعرف املنافقني‪ ،‬أو‬
‫يعرضها آخرون سافرة عارية جاهرة بعداء اإلسالم فيكون انكشافها إيذانا هلا باملوت‬
‫ألن األمة ترفض أعداء الدين‪.‬‬
‫لكن الزنادقة امللبسني‪ ،‬مثل صاحبنا الذي سأذكر امسه واسم كتابه آخر الفقرة إن‬
‫شاء اهلل‪ ،‬يتشبثون لفظا بالرتاث وخملفات اجلدود‪ ،‬ويدعون دعوى عريضة باالجتهاد‬
‫وبتأسيس علم أصول جمدد‪ .‬تيار زنديقي يسمى نفسه «اليسار اإلسالمي»‪ ،‬صاحبنا‬
‫أحد أساطينه‪ ،‬فامسع‪.‬‬
‫قال يف صفحة ‪ ...« : 7‬حماولة إلعادة بناء علم أصول الدين التقليديكإيديولوجية‬
‫ثورية للشعوب اإلسالمية متدها بأسسها النظرية العامة‪ ،‬وتعطيها موجات السلوك»‪.‬‬
‫ويف صفحة ‪ 11‬يعلن عن أرضية مشروعه متحدثا عن الرتاث بوصفه ‪« :‬ذخرية‬
‫قومية ميكن اكتشافها واستغالهلا واستثمارها من أجل إعادة بناء اإلنسان وعالقته‬
‫باألرض‪».‬‬
‫يف صفحة ‪ 16‬يبني لقومه من طائفة امللبسني كيف يلتصقون بشعارات الرتاث‬
‫احلي يف ضمري األمة بعد أن ماتت اإليديولوجيات وفشلت وتعطلت‪ ،‬وكيف‬
‫يغالبون أهل اإلسالم على إمامة اجلماهري ‪« :‬الرتاث إذن مازال قيمة حية يف‬
‫وجدان العصر‪ ،‬ميكن أن يؤثر فيه (‪ .) ...‬جتديد الرتاث هو حل لطالسم القدمي‬
‫وللعقد املوروثة‪ ،‬وقضاء على معوقات التطور والتنمية‪ ،‬والتمهيد لكل تغيري جذري‬
‫للواقع‪ .‬فهو عمل البد للثوري من أن يقوم به وإال ظل القدمي شبحا ماثال أمام‬
‫األعني ميثل أرواح األسالف اليت تبعث من جديد (يقصد احلركة اإلسالمية) ترتبص‬
‫باألبناء شرا (أي األرواح املتجددة يف الصحوة اإلسالمية) إذا هم خرجوا من‬
‫جبتهم‪ ،‬ورفضوا سلطاهنم‪ ،‬ومل يدينوا هلم بالطاعة والوالء‪ ،‬أو يقوم أنصار احملافظة‬
‫واإلبقاء على األوضاع القائمة باستغالل هذا املخزون لصاحلهم‪ ،‬وأخذ اجلماهري‬
‫من جانبهم‪ ،‬وقطع خط الرجعة على أنصار التغيري والتقدم‪ ،‬وسحب البساط من‬
‫حتت أرجلهم‪ ».‬حديثه عن استعمال األنظمة القائمة اجلربية واستغالهلا للدين‬

‫‪79‬‬
‫وختديرها حلس اجلماهري كلمة حق وردت يف معرض باطل‪ .‬إذ مقصوده قبل كل‬
‫شيء احلركة اإلسالمية احلية الفاعلة الناهضة‪.‬‬
‫يقول يف صفحة ‪ 20‬بأن الرتاث قضية وطنية وأن الدين ليس إال جزءا من الرتاث‪.‬‬
‫يف صفحة ‪ 34‬يؤكد على ضرورة صياغة إيديولوجية «إسالمية» (هو وضع الكلمة‬
‫بني هاللني) معتمدة على فكر املعتزلة «اإلحيائي» (أنا وضعت اهلاللني)‪ ،‬وعلى‬
‫«استقالل العقل واإلرادة» (أي عن الدين)‪.‬‬
‫يف صفحة ‪ 53‬يصرح تصرحيا شجاعا تقدميا ثوريا بأن ‪« :‬اإلحلاد هبذا املعىن (أي‬
‫مبعىن التفرغ للعمل الثوري بدل اإلميان واالعرتاف بالوحدانية واأللوهية لرب العاملني)‬
‫هو حتول لالختيار القدمي (االختيار القدمي هو الرضى باهلل ربا وباإلسالم دينا ومبحمد‬
‫صلى اهلل عليه وسلم نبيا ورسوال) من القول إىل العمل‪ ،‬ومن النظر إىل السلوك‪ ،‬ومن‬
‫الفكر إىل الواقع‪ ،‬واختيار الطريق الصعب‪ ،‬طريق الشهادة (املاركسيون واملالحدة‬
‫يسمون هلكاهم شهداء) (‪ .)...‬يكون اإلحلاد هو انتقال من الصورة إىل املضمون‪،‬‬
‫ومن الشكل إىل اجلوهر»‪ .‬املضمون واجلوهر عند أمثاله هو التنمية واالقتصاد واإلنتاج‬
‫والتوزيع وحماربة الطبقية‪ .‬فيا إخواين هل يف إسالمنا‪ ،‬إسالم «الصورة» و«الشكل»‪،‬‬
‫إسالم اإلميان بكامل شعبه‪ ،‬إسالم اإلحسان بعايل رتبه‪ ،‬مكان ملضمون العدل‬
‫وضرورياته املادية‪ .‬أم حنن من صنف اجملتهدين يف ذكاة احللزون حىت جيرفنا اإلحلاد!‪.‬‬
‫ يف صفحة ‪ 54‬يبني امللحد الثوري أن اإلنسان مستقل بعقله وإرادته‪،‬‬
‫حر يف تصرفه‪ ،‬مسؤول عن حتقيق العدل االجتماعي‪ .‬وميضي يف صفحة ‪55‬‬
‫ليبني أن العلمانية مكتسب أساسي ألهنا جتعل اإلنسان وحده حمور كل شيء ‪:‬‬
‫«العلمانية إذن رجوع إىل املضمون دون الشكل وإىل اجلوهر دون العرض (الشكل‬
‫دائما هو الدين جيب أن يرمي به واملضمون واجلوهر هو املطالب الثورية التقدمية‬
‫املادية األرضية) وإىل الصدق دون النفاق وإىل وحدة اإلنسان دون ازدواجيته وإىل‬
‫اإلنسان دون غريه (غريه هو اهلل تعاىل)‪ .‬العلمانية إذن هي أساس الوحي‪ .‬فالوحي‬
‫علماين يف جوهره والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ‪ ،‬هكذا يعتقد فراخ إبليس‬
‫تالمذة ماركس‪ .‬وترتفع محى اإلحلاد‪ ،‬ويستعر شعار الكفر فيصطف الكاتب‬
‫‪80‬‬
‫الفيلسوف مع طابور الباحثني الشاكني النافني لوجود اهلل تعاىل ‪« :‬ومازالت اإلنسانية‬
‫كلها حتاول البحث عن معىن للفظ اهلل‪ .‬وكلما أمعنت يف البحث ازدادت اآلراء تشعبا‬
‫وتضاربا‪ .‬فكل عصر يضع من روحه يف اللفظ (معناه‪ :‬اهلل من صنع التاريخ جل اهلل‬
‫وتعاىل) ويعطي من بنائه للمعىن‪ .‬وتتغري املعاين واألبنية بتغري العصور واجملتمعات‪ .‬فاهلل‬
‫عند اجلائع هو الرغيف‪ ،‬وعند املستعبد هو احلرية‪ ،‬وعند املظلوم هو العدل‪ ،‬وعند‬
‫احملروم عاطفيا هو احلب‪ ...‬اهلل هو اإلشباع‪ ...‬هو «صرخة املضطهدين»‪ ...‬هو‬
‫العلم‪ ...‬هو التقدم‪ ...‬هو األرض‪ ...‬هو التحرر‪ ،‬والتنمية والعدل‪ ...‬هو اخلبز والرزق‪،‬‬
‫والقوت‪ ،‬واإلرادة واحلرية» أستغفر اهلل من حكاية الكفر‪.‬‬
‫يف سياق تال يسرد الكاتب األلفاظ الدالة على املعاين املتخلفة اليت جيب القضاء‬
‫عليها‪ .‬يف صفحة ‪« : 98‬واللغة القدمية لغة دينية تسودها ألفاظ تشري إىل موضوعات‬
‫دينية مثل ‪ :‬دين‪ ،‬ورسول‪ ،‬ومعجزة ونبوة‪ .‬وهي لغة عاجزة عن إيصال مضموهنا للعصر‬
‫احلاضر»‪.‬‬
‫يف صفحة ‪ 99‬يقرتح الفيلسوف اجملدد إلغاء حىت كلمة إسالم‪« :‬فلفظ «التحرر»‬
‫هو اللفظ اجلديد الذي يعرب عن مضمون «اإلسالم» أكثر من اللفظ القدمي»‪.‬‬
‫يف صفحة ‪ 103‬يقرتح الدكتور حسن حنفي يف كتابه «الرتاث والتجديد» (الطبعة‬
‫األوىل ‪ 1981‬دار التنوير) التعامل مع «لغة العقل» أي دين اإلحلاد بدل التعامل‬
‫واإلميان بلغة الدين ومعاين الدين ‪« :‬اللغة العقلية هي اليت يفهمها كل الناس بال شرح‬
‫أو تعليق أو سؤال أو استفسار (‪ )...‬فالعمل‪ ،‬واحلرية‪ ،‬والشورى والطبيعة‪ ،‬والعقل كلها‬
‫ألفاظ عقلية يف علم التوحيد (‪ )...‬أما ألفاظ اهلل‪ ،‬واجلنة‪ ،‬والنار‪ ،‬واآلخرة‪ ،‬واحلساب‪،‬‬
‫والعقاب‪ ،‬والصراط وامليزان‪ ،‬واحلوض فهي ألفاظ قطعية صرفة ال ميكن للعقل أن‬
‫يتعامل معها دون فهم أو تفسري أو تأويل‪».‬‬
‫أال ساء ما يزرون !‬

‫‪81‬‬
‫ ‬

‫الدعوة والدولة‬
‫أقصد بالدعوة رجال الطلب احلاملني هم األمة الساعني إلقامة دين اهلل يف األرض تلبية‬
‫للنداء القرآين ‪﴿ :‬يا أيها الذين آمنوا﴾ املنوط هبم حتقيق مطالب الشريعة‪ .‬وسواء كانت‬
‫الدعوة منظمة تنظيما موحدا يف األقطار التجزيئية املوروثة أوكانوا مجاعات تتعاون ريثما يزداد‬
‫التقارب والتالحم إىل وحدة ما‪ ،‬فإن واجب الدعوة إقامة الدولة اخلالفية املوحدة ابتداء من‬
‫دول إسالمية قطرية‪ ،‬ينظر يف نوع النظام األصلح لربطها تدرجييا‪.‬‬
‫من مطالب الدعوةكشف املتلبسني باإلسالم امللبسني أمثال الدكتور الفيلسوف امللحد‬
‫والرد عليهم‪ .‬هذا هني عن املنكر واجب يفكل املراحل‪ ،‬لكن الدولة اإلسالمية بعد بنائها‬
‫هي األداة الكفيلة بقطع لسان األفاكني‪ .‬ال أقصد قطع العضو الناطق‪ ،‬فليس قطع األلسنة‬
‫من احلدود الشرعية‪ ،‬بل أقصد إسكات األصوات النكراء‪ .‬وللردة أحكامها الشرعية البد أن‬
‫تأخذ جمراها يف دولة اإلسالم‪.‬‬
‫إن مهمة الدعوة أن تنشئ احلياة اإلسالمية وتشيد أركان الدين يف اجملتمع‪ .‬أي أن‬
‫ترعى املقاصد الشرعية يف «العبادات» كما يعرب علماء األصول‪ .‬ومهمة الدعوة بعد أن‬
‫تصبح الدولة بيدها‪ ،‬طوع إرادهتا‪ ،‬أن تستصلح الوسائل املادية واملالية والتقنية واإلدارية خلدمة‬
‫املطالب الدنيوية‪ .‬أي أن ترعى مقاصد الشرع «من جانب الوجود» يف ميادين «العادات»‬
‫و«املعامالت»‪.‬‬
‫ومن أهم وظائف الدولة اإلسالمية‪ ،‬عندما تكون أداة توجهها الدعوة‪ ،‬صيانة املطالب‬
‫اإلسالمية وحياطتها بأن‪« :‬تدرأ عنها االختالل الواقع واملتوقع فيها»‪.‬‬
‫إن إعادة العالقات بني الدعوة والدولة إىل نصاهبا اإلسالمي بعد هذه القرون‬
‫اليت استبد فيها السلطان العاض واجلربي على القرآن مهمة حتتاج إىل جهاد القومة‬
‫‪82‬‬
‫وحتتاج إىل اجتهاد‪ .‬يف ظل احلكم العاضكان علماؤنا جيتهدون وهم يف حيز ضيق‪ ،‬لذلك‬
‫مسوا «جنايات» ذلك اجلانب املهم من واجبات الدولة‪ ،‬جانب الدفاع عن حوزة الدين‪.‬‬
‫وكلوا حفظ املقاصد الشرعيةكلها «من جانب العدم» إىل التكليف الشرعي باألمر باملعروف‬
‫والنهي عن املنكر‪ .‬تصوروا األمر باملعروف والنهي عن املنكر واجبا فرديا منوطا بذمة الفرد‬
‫ومل يتصوره واجبا مجاعيا وقد تفتت مجاعة املسلمني يف زماهنم حتت وطأة العض الوراثي‬
‫واالستيالئي‪.‬‬
‫ رأينا أن االجتهاد ملستقبل اإلسالم‪ ،‬مواكبا إلنشاء األركان وإقامة الدولة‪ ،‬ينبغي أن‬
‫يكون مجاعيا شوريا يبتغي اإلمجاع ما أمكن‪ .‬بالتقليد من حتت لفكر من قبلنا وآرائهم ال‬
‫ميكن أن نبين إال بناء تقليديا جيمد على النمط املوروث‪ .‬وبإطالق العنان لكل ناعق كما‬
‫تطلق األعنة أنظمة الفساد املتمسحة بالدميوقراطية و«احلريات العامة» يربز الدكاترة الزنادقة‬
‫باجلديد اإلحلادي‪ .‬وباالنسالخ من قواعد علم األصول‪ ،‬هذا العلم الراسخ الرصني «عماد‬
‫فسطاط العلم» كما قال الشوكاين‪ ،‬يربز عاميون يف العلم عاميون يف العقيدة عاميون يف‬
‫حب الرئاسة ويتصدرون للفتوى والرئاسة‪ ،‬يزعم الواحد منهم وهو ال يقيم لسانه يف قراءة‬
‫حديث واحد أن حيازة الكتب الستة احلديثية شرطكاف لالجتهاد‪ .‬بالنظر من املوقع‬
‫الضيق‪ ،‬موقع القاضي واملفيت يف النوازل واملدرس التجريدي ال ميكن االجتهاد الشمويل‬
‫األصويل معا القادر على تغطية الفضاء الواسع للمقاصد الشرعية‪ ،‬من حيثكوهنا مطالب‬
‫إلنشاء أمر تالشى والدفاع عن حوزة استبيحت‪ ،‬ومن حيث مناط التكليف اجلماعي يف‬
‫الدعوة‪ ،‬ومن حيث سيادة الدعوة على الدولة‪ ،‬أي سيادة القرآن على السلطان ال العكس‪.‬‬
‫ شروط علمائنا يف اجملتهد القادر على تفسري األحكام اليت وردت فيها نصوص‬
‫قطعية الثبوت والداللة‪ ،‬القادر على استنباط أحكام ظنية يف غري ذلك بأدوات تقدير‬
‫املصلحة القياسية العلية أو املصلحة املرسلة شروط صاحلة‪ ،‬التزال‪ ،‬إنكملناها بشروط متليها‬
‫االعتبارات السابق ذكرها فتدرجها حتت جنس عال من املطالب‪.‬‬
‫ امجعوا رمحهم اهلل واتفقوا على الشروط التالية‪ ،‬وإمجاعهم على الرأس والعني‪ .‬اتفقوا‬
‫على أن اجملتهد البد أن يكون عاملا بنصوص الكتاب والسنة‪ ،‬وأن يكون عارفا مبسائل‬
‫‪83‬‬
‫اإلمجاع‪ ،‬وأن يكون عاملا بلسان العرب‪ ،‬وأن يكون عاملا بعلم أصول الفقه «عماد فسطاط‬
‫االجتهاد وأساسه»‪ ،‬وأن يكون عارفا بالناسخ واملنسوخ‪ .‬مث اختلفوا يف شروط أخرى‪ ،‬منها‬
‫اشرتاط العلم بالدليل العقلي‪ ،‬والعلم بعلم أصول الدين‪ ،‬والعلم بعلم الفروع ألن العلم هبا‬
‫وممارستها يعطي «الدربة» الالزمة‪ ،‬والعلم بعلم اجلرح والتعديل ليشارك علماء احلديث ذوي‬
‫املنة على أجيال املسلمني إىل يوم الدين جزاهم اهلل خري اجلزاء‪ ،‬ومعرفة القياس بشروطه وأركانه‬
‫ألن القياس مناط االجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه‪.‬‬
‫ لو اجتمعت كل هذه الشروط يف رجل ملا استطاع يف عصرنا أن حييط بالوسائل‬
‫الضرورية لتحقيق املقاصد الشرعية‪ .‬يلزمه فقه دقيق هبذه املقاصد وهي قد التبست يف العقول‬
‫وفرتت يف النيات وغابت يف الواقع‪ .‬كيف يصوغها مطالب‪ ،‬كيف يوقظ األمة النائمة‪،‬‬
‫كيف يكون حزب اهلل‪ ،‬كيف يربيه‪ ،‬كيف يزحف به إىل بناء الدين مث حفظه «من جانب‬
‫الوجود وجانب العدم» دعوة ودولة‪.‬‬
‫ ال يكفي الواحد للمهام االجتهادية وال يقف واجب اجملتهدين عند استنباط احلكم‬
‫وتقنينه‪ .‬البد أن يكون أهل االجتهاد من أهل الدعوة‪ ،‬من صميمها‪ ،‬ممن حييون هبا‪،‬‬
‫ويتنفسون روحها‪ ،‬وحيملون مهها‪ ،‬ويغضبون على «االختالل الواقع واملتوقع فيها»‪ .‬إنكانوا‬
‫أصحاب أوراق وكراريس ونصوص وجتريد وتقليد‪ ،‬إن كانوا عقوال تدور على ألسنة عليمة‬
‫والقلب فارغ فلن يكونوا إال طامة أخرى تأيت على الدين «من جانب العدم»‪.‬‬
‫ يلزم اجملتهدين يف غد اإلسالم‪ ،‬بعد الشروط املعرفية والشروط اإلميانية‪ ،‬أن ينظروا من‬
‫أعلى إىل األمور‪ ،‬من جانب القرآن‪ ،‬والسلطان واقف بني يديه للخدمة‪ ،‬وأن ينظروا بعيدا إىل‬
‫أفق وحدة األمة وإقامة العدل والشورى‪ ،‬ومحل رسالة رب العاملني للعاملني‪ .‬ومىت يكونون أهال‬
‫لذلك إن مل يكونوا من أهل اإلحسان‪ ،‬باملعىن العايل الواسع لإلحسانكما نبسط اإلحسان‬
‫يفكتاب «اإلحسان» إن شاء اهلل‪.‬‬
‫مل يكن فقهاؤنا مجيعا ذوي رأي جتزيئي مسجونني يف الدوائر الضيقة‪ .‬فمن أفذاذهم‬
‫اإلمام الشاطيب رمحه اهلل الذيكان واسع األفق بعيد مرمى النظر‪ .‬جنده يندد باحلرفية الضيقة‪،‬‬
‫ويصغر شأن الذين يدخلون أنفسهم يف االجتهاد «غلطا أو مغالطة» دون أن يشهد هلم أهل‬

‫‪84‬‬
‫«الرتبة» باالستحقاق‪ .‬وقال ‪« :‬وذليل ذلك (أي دليل أن الشرع اعترب املقاصد وجاء هبا)‬
‫استقراء الشريعة والنظر يف أدلتها الكلية واجلزئية‪ ،‬وما انطوت عليه من هذه األمور العامة على‬
‫حد االستقراء املعنوي الذي ال يثبت بدليل خاص‪ ،‬بل بأدلة منضاف بعضها إىل بعض‪،‬‬
‫خمتلفة األغراض‪ ،‬حبيث ينتظم من جمموعها أمر واحد جتتمع عليه تلك األدلة»‪.‬‬
‫ما أمجل هذا الكالم وأدقة وأعاله ! أدلة منضاف بعضها إىل بعض خمتلفة األغراض‬
‫تنتظم على أمر واحد‪ .‬هذا هو اجلمع الذي نطلبه لشتات األذهان اليت تستدل جهدها‬
‫على تفرقة األمة وتبديع الناس وذكاة احللزون‪ ،‬بينما أهل اإلحلاد يرفضون اهلل والنبوة واآلخرة‬
‫ليجمعوا حوهلم غثاء احملرومني حول األمر الثوري اجلامع‪ :‬اخلبز والكرامة اإلنسانية واإلنتاج‬
‫والتوزيع‪.‬‬
‫***‬
‫هذه كلميت إليكم إخواين وأخوايت سائال منكم ومن كل من يقرأها أن ال تنسوين من‬
‫دعائكم‪ ،‬أحسن اهلل الكرمي إلينا وإليكم والسالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته وصلى اهلل على‬
‫سيدنا حممد وآله وصحبه وسلم تسليماكثريا‪ .‬وآخر دعوانا أن احلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫الفهرس‬
‫تقدمي‪7 ...........................................................................................‬‬
‫مقدمات ‪:‬‬
‫‪10‬‬ ‫االحنراف اخلطري‪ ............................................................................‬‬
‫‪11‬‬ ‫ضرورة التفكري املنهاجي‪ ................................................................‬‬
‫نظرات في الفقه والتاريخ ‪:‬‬
‫‪15‬‬ ‫طوق التقليد‪ .................................................................................‬‬
‫‪17‬‬ ‫مكاسب مثينة‪ ...............................................................................‬‬
‫‪21‬‬ ‫القرآن احلاكم‪ ...............................................................................‬‬
‫‪27‬‬ ‫لتنقضن عرى اإلسالم‪ ...................................................................‬‬
‫‪43‬‬ ‫عامل اإلميان بالغيب‪ .....................................................................‬‬
‫‪42‬‬ ‫من أعايل التاريخ‪ ...........................................................................‬‬
‫‪48‬‬ ‫وحدة دار اإلسالم‪ ........................................................................‬‬
‫‪53‬‬ ‫مطالب الشريعة‪ ............................................................................‬‬
‫‪ 60‬‬ ‫مقاصد الشريعة‪ ............................................................................‬‬
‫‪67‬‬ ‫بإزاء القرآن‪ ..................................................................................‬‬
‫‪61‬‬ ‫االجتهاد وحتقيق املناط‪ .................................................................‬‬
‫‪74‬‬ ‫االستنباط يف خدمة القصد‪ ...........................................................‬‬
‫‪78‬‬ ‫اجلنايات‪ .......................................................................................‬‬
‫‪82‬‬ ‫الدعوة والدولة‪ ..............................................................................‬‬

‫‪86‬‬

You might also like