Professional Documents
Culture Documents
نظرات في الفقه والتاريخ
نظرات في الفقه والتاريخ
أريد أن أحدثكم إن شاء اهلل يف رساليت هاته عن أفق عملنا املوفق بفضل اهلل
ومنته واضعا املنهاج النبوي يف مكان الضوء الكاشف ملا نتطلع إليه من مستقبل
اخلالفة على منهاج النبوة ،ذلك الوعد الصادق من اهلل ورسوله الذي حيدو جهادنا.
على هذا الضوء نرى األحداث التارخيية املعاصرة ،نرى التطور املذهل يف العلوم
والتكنولوجيا استأثر هبما من دوننا أعداء اإلسالم ،نرى االتفاق بني شطري اجلاهلية
على التصدي العدواين لنهضة اإلسالم ،نرى فرقة املسلمني ومتزقهم ،نرى هيمنة املادية
اجلاهلية وثقافتها يف العامل ،نرى احتالل العدو ألرض املسلمني واقتصادهم وعقلهم.
نرى األنظمة احلاكمة يف بالد املسلمني اجملزأة أقطارا ودويالت متثل احلكم اجلربي
الذي يتحدث عنه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف احلديث الصحيح الذي يبشرنا
بإشراق مشس اخلالفة بعد ظالم العض واجلرب .أذكر باحلديث الذي اختذناه حمورا
لتفكرينا ومرشدا خلطواتنا ،روى اإلمام أمحد بإسناد صحيح عن حذيفة أن رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم قال« :تكون النبوة فيكم ما شاء اهلل أن تكون ،مث يرفعها اهلل
إذا شاء أن يرفعها .مث تكون خالفة على منهاج النبوة فتكون ما شاء اهلل أن تكون،
مث يرفعها إذا شاء أن يرفعها .مث تكون ملكا عاضا فتكون ما شاء اهلل أن تكون ،مث
يرفعها إذا شاء أن يرفعها .مث تكون ملكا جربيا فتكون ما شاء اهلل أن تكون ،مث يرفعها
إذا شاء أن يرفعها .مث تكون خالفة على منهاج النبوة .مث سكت».
8
مـقـد مــات
9
االنحراف الخطير
إننا إذ ننظر إىل األحداث املائجة يف عصرنا ونعيش مع األمة أملها يف أن يظهر
اهلل دينه على الدين كله كما وعد ووعده احلق لن نعدو حمطات اآلمال اجملنحة اخلائبة،
جتنيحها وحتليقها فوق الواقع ،حتليقا يعطي النشوة املخدرة لكنه ال يعطي التبصر ،إن
مل نتخذ هذا احلديث اجلليل وأمثاله دليال ملعرفة االحنراف التارخيي الذي حول جمرى
حياتنا ففقدنا بالتدريج مقوماتنا .ذهبت الشورى مع ذهاب اخلالفة الراشدة ،ذهب
العدل ،ذهب اإلحسان ،،جاء االستبداد مع بين أمية ،ومع القرون استفحل ،واحتل
األرض ،واحتل العقول ،واعتاد الناس أن يسمعوا عن اخلالفة األموية والعباسية وهلم
جرا .وعاشوا على سراب األمساء دون فحص ناقد للمسميات .مساها رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم ملكا عاضا وملكا جربيا ومساها «املؤرخون» الرمسيون خالفة ،فانطلت
الكذبة على األجيال ،وتسلينا وال نزال بأجماد هذه «اخلالفة» .وقد كانت بالفعل
شوكة اإلسالم وحاميه من العدوان اخلارجي .لكن يف ظلها زحف العدوان الداخلي
ملا أسكتت األصوات الناهية عن املنكر ،واغتيل الرأي احلر ،وسد باب االجتهاد.
يف ظلها ويف خفاء الصراعات تكونت املذاهب الدساسة ،ومتزقت األمة سنة وشيعة،
وتشتت العلم مزعا متخصصة عاجز فيها أصحاب التخصص عن النظرة الشاملة .ال
جيسر أحد على بسط منهاج السنة والقرآن خمافة السلطان .كان القتال يف ظلها قد
انتهى إىل تركني القرآن وأهله يف زوايا اإلمهال أو الفتك هبم يف «قومات» مثل قومة
احلسني بن علي رضي اهلل عنهما الدموية .ويف ظلها تسلط السيف تسلطا عاتيا.
وتقدم أصحاب العصبيات العرقية ،فحكم بنو بويه والسالجقة ،والعبيديون ،وهلم
جرا .حكم كل أولئك حتت ظلها ،يفيت حتت ظلها املفتون بشرعية حكم املستويل
بالسيف .وسالم على الشورى وعلى العدل واإلحسان.
10
ضرورة التفكير المنهاجي
إن لدى دعاة الباطل ،لرباليني واشرتاكيني ،وقوميني ،و«يسار إسالميني» ،وكل مزيج
مريج من هذه األصناف ،نسقا واضحا لتحليل الواقع ،ونقده ،وحتليل التاريخ ،ورسم مسار
ممكن للمستقبل .وحنن نبقى يف عموميات مطالبنا الراقية ،نعرب عنها بعواطفنا اجلياشة الصادقة
املشتاقة لغد اإلسالم األغر.
هذه العاطفية تلف يف غاللة حانية متساحمة عذبة تارخينا يف نظر أنفسنا .فال يزال منا من
ينشد ضالته عند النموذج التليد على عهد هارون الرشيد .ال ينتبه حلظة أن هذا امللك ،العظيم
حقا يف ميزان الدنيا ،ليس يف ميزان اإلسالم وعلى لسان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إال
ملكا عاضا جيرحه عضه ويسقطه عن مرتبة االعتبار الشرعي .بعاطفة احلزين على حاضر
املسلمني اهلزيل ،نندفع الستدعاء أجماد «شوكة اإلسالم» ،وهو تعبري لإلمام الغزايل برر به
رمحه اهلل دفاعه عن املستظهر العباسي .نستدعي صورة ذلك العهد القوي سلطانا ،حنسب
أننا بذلك ننتقم لتفاهتنا الغثائية احلاضرة .ما درينا أننا بإعزازنا للملك العاض املاضي نعز
امللك اجلربي احلاضر ،ونعمل على تعمية آثار اهلدي النبوي والوصية النبوية الكفيلني وحدمها،
تعليما ينري معامل الطريق ،وأوامر للتنفيذ ،ومنوذجا لالحتذاء ،بإهناء غثائيتنا حني منشي على
املنهاج ،ونصحب ،بالنظر الناقد املاسك على القول الشريف ،تطور األمر حني بدأ الصراع
بني القرآن والسلطان ،وحني غلب السيف ،وحني غابت الشورى وغاب العدل واختفى
اإلحسان ،حني تفتت الفقه ،وحني سيقت األمة إىل التمزق فاالحتالل االستعماري فربوز
املغربني وجند الشياطني يعيثون يف األمة فسادا.
ال بد لنا إذن من إرساء قواعدنا على مكني الكتاب والسنة ألن العاطفة اجملنحة
خبال ،وألن فقه سلفنا الصاحل الذين عاشوا رهائن مقهورة يف قبضة العض واجلرب مل
خيلفوا لنا إال نثارا من العلم ال جيمعه مشروع متكامل ألن احلديث عن احلكم وسلطانه
11
ما كان ليقبل والسيف مصلت ،وما كان بالتايل ليعقل أو ينشر ،إال إذا احتمى يف
جزئيات «األحكام السلطانية» اليت تقنن للنظام القائم ال تتحدث عنه إال باحرتام تام،
أو دخل يف جنينات آداب البالط املزينة بفضائل األمراء ِ
وح َك ِم اإلحسان األبوي إىل
الرعية.
املنهاج النبوي ضروري لتفسري التاريخ والواقع ،ضروري لفتح النظرة املستقبلية ،ضروري
لرسم اخلطة اإلسالمية دعوة ودولة ،تربية وتنظيما وزحفا ،ضروري ملعرفة الروابط الشرعية بني
أمل األمة وجهادها ،ضروري ملعرفة مقومات األمة وهي تبحث عن وحدهتا ،ضروري إلحياء
عوامل التوحيد والتجديد ،ضروري ملعاجلة مشاكل األمة احلالية قصد إعادة البناء.
إن الصراع السياسي الداخلي واخلارجي قبل القومة وأثناءها وبعدها إما أن يستحضر
التوجيه النبوي الذي حذرنا بكامل الوضوح من العض واجلرب فيمكننا عندئذ أن نتخطى
أنظمة الفتنة ونؤسس خالفة الشورى والعدل واإلحسان ،وإما ان هنيم على وجه اآلمال احلاملة
بأجماد العباسيني وشوكة آل عثمان ،رحم اهلل اجلميع ،فنقبع يف سجن األمية التارخيية وسجن
اإلعراض عن الوصية اخلالدة الواعدة مبرحلة اخلالفة الثانية املتميزة يف نظامها.
إننا ال نقصد التنقيص من شوكة ملوك املسلمني ال سيما من أبلوا منهم البالء احلسن يف
الدفاع عن احلمى .ال وليس قصدنا هنا التعرض لنقد األشخاص وقدكان منهم الصاحلون
ومنهم دون ذلك ،لكن نقصد نظام احلكم ،إعادة تارخيه على معايري اإلسالم ،غري متأثرين
مبقتضيات املفاخرة واملساجلة اليت يتخذها القوميون العرب طبوال تطن على األمساع.
أستعملكلمة «قومة» بدل «ثورة» تأصيال للنهضة واليقظة والتعبئة واإلعداد والزحف
﴿وأَنَّهُ لَ َّما قَ َام َع ْب ُد اللَّ ِه يَ ْدعُوهُ﴾((( .فتكون قومتنا على منهاج النبوة،
على مثال قوله تعاىل َ :
وتطلعنا بعد العض واجلرب إىل اخلالفة على منهاج النبوة ،ومعاجلتنا لكل صغرية وكبرية بتفكري
منهاجي وأسلوب منهاجي وخطوات تتأسى خبطوات الرسل عليهم السالم ،تتوج حكمة
خطواهتم املوفقة بالنموذج احملمدي ،صلى اهلل على حممد وآله وصحبه وسلم تسليما.
1سورة اجلن.19 ،
12
نظرات في الفقه والتاريخ
13
14
طوق التقليد
كيف ميكن أن نقوم ونتحرك وننال املطالب العالية الغالية وطوق التقليد يف
أعناقنا؟ كيف ميكن ،وهذا الطوق الثقيل بثقل تارخينا وتراثنا ينقض ظهرنا ،أن جنادل
عن اخلالفة املنهاجية ومستقبل اإلسالم حتت دولة الشورى والعدل واإلحسان ؟
كيف نتصور هذا املستقبل ،مستقبل الوحدة والقوة ومحل الرسالة اخلالدة إىل العاملني ؟
كيف نعرب عن حاجات اإلنسانية وشكواها وطموحاهتا ؟ كيف ننصر دين اهلل الذي
جاء لنصرة احلق واالنتصاف للمستضعفني ؟ كيف كيف وحنن نرجو اإلفادة والعلم
ممن هم دون القرآن والسنة ؟
إن أعىت سالح يف يد اجلبارين ليس قوة سالحهم ومجوع جالديهم ،لكنه القوة
السالبة ،قوة اخلمول الفكري ووهن النفوس املتقلصة إىل جحر التبعية وعافية اجلبناء.
نصب غرينا موائد الدميوقراطية أو غري هذا االسم مما تلبسه أنظمة اجلرب
ونطارد حنن من حوايل تلك املوائد
َ املعاصرة من ثياب النفاق وجالبيب التمويه،
كما تُطارد الكائنات الطفيلية .األدهى يف القضية أن عقوال سخيفة نسج عليها
عنكبوت التقليد والذلة بني يدي السلطان ،فهي تلتقط من الفتات احلرام ،أو
تنقر كاحلمام الداجن من يد السفاكني ،ال حتدث نفسها بغري السالمة كما يفهم
السالمةَ الطاعم الكاسي.
هذه الذهنية املريضة ال تزال تسقط على عامة األمة ظال قامتا ال ميلك معه الدعاة
أن يكشفوا عن املؤامرة القرونية بني احلكام املستبدين وسدنة املعابد الطاغوتية من
«فقهاء» القصور.
15
لست أعين بالتحرر من التقليد طرح االجتهادات يف فروع الفقه مما خلفه لنا
رجال اإلسالم العلماء العاملون ،لكن أقصد أول شيء نبذ هذه الذهنية الكريهة
اليت تنظر يف القرآن ويف السرية العطرة مبنظار الطاعم الكاسي يف البالط ال ينظر إىل
البالط وواقع املسلمني مبنظار القرآن وعوينات السنة الشاهدة لينتقد ويأمر باملعروف
وينهى عن املنكر ويغضب على الباطل وأهله مرة يف عمره.
ما املنهاج للتحرر من ذهنية القطيع ومن ثورة التشنج املستعجل معا؟ ما املنهاج
لنخرج من حتت نري الرضوخ ،وحنل وثاق التسويف ،ونسرتجع القدرة على املبادرة،
وننصب حنن مائدة اإلسالم ،مائدة الشورى والعدل واإلحسان ،ندعو العاملني إىل
رمحتها وبرها ؟
من خالل نقائص املقلدين واخلانعني واخلائفني والطامعني واملزورين حيكمنا
طواغيت اجلرب كما حكمنا من قبل حكام العض من نفس تلك النقائص .ال حميد
لنا عن خطة اخلسف ومسرية االستقالة أمام السلطان إال إن فككنا االرتباط مع
السنة السيئة ومتسكنا بالسنة النبوية واملنهاج ،لنتنسم عبري اإلحسان يف ذلك الفضاء
اإلمياين ،ولتحكم األمة نفسها بفضائل الشورى وفضائل العدل جمملة ،بفضائل
الصحبة واجلماعة ،والذكر ،والصدق ،والبذل ،والعلم ،والسمت احلسن ،والتؤدة،
واالقتصاد ،واجلهاد .اقتحاما للعقبة وطلبا لوجه اهلل جل وعال ،ال تدحرجا على
مهاوي السهولة والرخاوة وكراهية املساكني والغفلة عن اهلل والكذب والشح واجلهل
والكسل والتبعية احلضارية واهليجان واتباع خطوت الشيطان وتضييع الواجب األقدس
واجب اجلهاد.
16
مكاسب ثمينة
إن ما ورثناه عن سلفنا الصاحل من علوم وقواعد مؤصلة ثروة بالغة األمهية .ما قننوه
رضي اهلل عنهم من أسس يف علم التعديل والتجريح وأصول الفقه وفروعه وأصول الدين
وعلم السلوك باق رهن إشارتنا ،باق يف جتزئته وبعثرته ،كنوزا مدفوقة يف الدفاتر ،على
أقفاهلا رموز حيلها فيستفيذ منها من معه مفتاح الفقه اجلامع ،الفقه الذي ينظر إىل العلم
املؤثل من حيث موقعه من احلكم والظرف التارخيي والصراعات املذهبية وموقف أهل
العلم رضي اهلل عنهم احملافظ املشفق على بيضة األمة أن ترام ،وعلى محاها أن يضام.
تراث مبعثر مكسر ،شذراته اللماعة ال تزال صاحلة لالنتفاع يف سياق جتدد يف النيات
واحلركة واجلهاد.
الفقه اجلامع هو الفقه الذي يعم يف نظرة واحدة الدعوة والدولة يف عالقاهتما األوىل
على عهد تأليف اجلماعة من املهاجرين واألنصار رضي اهلل عنهم ،مث تطور هذه العالقات
تطورا توسيعيا على عهد اخلالفة الرشيدة ،مث يف تطورها إىل الفساد والكساد على عهود
امللك العاض فاجلربي ،مث يف الوضع احلايل وقد أصبح للعلمانية والذهنية العلمانية والنوايا
العدوانية على الدين الصدارة يف تفكري احلكام ومما رستهم ،حىت غطت الدولة على
الدعوة متاما ،وأجلأهتا إىل منابر الوعظ املراقب امللجم املدحن أحيانا كثرية ،وإىل ركن
«االحوال الشخصية» بعيدا عن اجملاالت احليوية املدنية واجلنائية واالقتصادية واإلدارية.
مث يعم الفقه اجلامع يف نظرة واحدة الدعوة والدولة وعالقاهتما املطلوبة يف مراحل البناء،
كيف يستعيد رجال الدعوة مراكز القرار حىت يعود السلطان خاضعا للقرآن ال العكس.
ثروتنا الفقهية العلمية املوروثة صلة غالبية احندرت إلينا من تلك األجيال ،تصلنا
هبم ،وحتمل معها ،يف صياغتها وجتزئتها وصراعاهتا املذهبية ،آثار تاريخ حافل بالضغوط
17
املتابدلة ،كان لعمائنا العاملني أحسن اهلل إلينا وإليهم فضل الصمود أثناءها ،صمودا حد
من غلواء السلطان أطوارا.
جتزئة ذلك الفقه ،مثل التجزئة السياسية املعاصرة يف أقطار الفتنة ،متثل حتديا لنا أن
نقوم جنمع باالجتهاد شتات العلم ،وباجلهاد شتات األرض واجملتمع اإلسالمي ،متخطني
كل التجزئات وكل األفكار واالجتهادات واملواقف النسبية املظروفة بظروفها التارخيية.
نعيد كل اجتهاد سابق إىل نصابه ،نعرضه يف حدود نسبيته على النموذج النبوي الكامل
الذي طبق كلمة اهلل اليت ال يأتيها الباطل من بني يديها وال من خلفها.
بعض الناظرين يف كتب السلف الصاحل يتخذون إماما أو فقيها أو فارسا خاض
معارك حامية يف نصرة الدين معيارا مطلقا ،يضيفون عليه من خياهلم القاصركل صفات
الكمال ،ويساورون علومه بتلمذة جادة خملصة كما يساور املسافر قمم اجلبال الشماء،
مث يتخذون من فهمهم لفهم ذلك الفاهم سالحا إرهابيا يقمعون به كل من رفع رأسه
ليتلقى عن اهلل ورسوله األمر األول الذي جاء بلسان عريب مبني.
نكون منهاجيني إن حنن جعلنا حتت أيدينا الفقه املوروث اجملزأ خناطبه وحناوره ونسائله
وننتقده ونستفيد منه حسب ما جند عنده أو ال جند ،من خرب أو دراية أو رواية عن رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم املؤيد املوفق املعصوم ،كيف بلغ ،وحني ألف اجلماعة بتأليف
اهلل ،وحني سلح ،وحني آخى وشجع على التضامن يف األرزاق ،وحني غزا وواجه العدو،
وحني علمكل علم نافع ،ال حيقر من التعليم أبسط املبادئ ،وحني جاهد حىت ترك لنا أمة
واحدة أمرها بينها شورى ،حني أوصى ونصح مبا سيؤول إليه األمر من ترد إىل اغتصاب
احلكم وإىل العض واجلرب ،وحني بشر باخلالفة الثانية على منهاج النبوة .جند مثال رواية
حتدثنا عن امللك العاض أو العضوض فيفهمها أسالفنا من مواقع زماهنم وسياسته ونظام
حكمه واجلو العام فيه ،ومن مواقع اهتمامهم ومههم ومهتهم وإشفاقهم على أنفسهم وعلى
األمة .يؤولون تلك الرواية على أن ذكر امللك العضوض تشريع له وإيصاء به .ال نكاد جند
من فهم احلديث الشريف على أنه إخبار بكارثة ستقع ،إلخبار يتضمن حتذيرا.
جنعل حتت أيدينا كنوز الفقه املوروث ،نرجع إليها عند احلاجة ،لكن نأمتُّ مباشرة
بالتعليمات الشريفة املشرفة اليت أوصتنا أن نتبع السنة األوىل ونقتدي هبديها .يف تلك
18
السنة مل تنخر نواخر اخلالف والفرقة ،ومل حيرف الصراع على السلطة الرأي ،وأمخدت
النعرات القومية والعصبيات اجلاهلية ،وقبحت أثرة املرتفني ،ومحل لواء اجلهاد أكابر الرجال
من املستضعفني .جزى اهلل عنا أهل احلديث خريا فلهم يف أعناقنا دين أي دين إذ
صححوا وانتقدوا وبلغوا.
علم احلديث أمثن مادة وأرفعها مكانة يف السرادق الفخم ،سرادق علوم اإلسالم.
علماء أصول الفقه نضع خطانا على آثارهم املباركة وهم يسريون على ضوء األمر القرآين
والنهي ،وعلى نور السنة املطهرة ،ونقتفي ذلك األثر يف احرتام اإلمجاع ،ألن إمجاع األمة
معصوم لقوله صلى اهلل عليه وسلم «ال جتتمع أميت على ضالل» ،ونرحب بالقياس
واملصاحل املرسلة ملا ليس فيه نص .كل تلك القواعد مهاد كفونا رمحهم اهلل تسويته .وما
فرعوا من األحكام مثرة مذكورة مشكورة إن مل يتعارض شيء منها مع منهاج السنة الكلي:
الشورى والعدل واإلحسان.
نضع مثال يف موضعها من اإلعراب مجلة الفقه السلطاين و«األحكام السطانية» يف
خانة التوقري ،ونقارن بني البحار الزاخرة من فقه الفروع اليتكانت ضرورية ومسموحا هبا،
وبني املقالة يف حقوق اهلل وحقوق األمة يف الشورى والعدل ،فنجد هذه نزرا يسريا خجولة
ساكتة عنكثري من احلق ،ناطقة ببعض الباطلكالفتوى بإمامة املستويل بالسيف.
ننظر يف علم السلوك لنأخذ أحسن ما خلفه الصاحلون من معاين التعلق باملوىل
جل وعال ،ومن معاين ترقيق القلوب ،ومن معاين هتذيب النفس واألخالق ،ومن معاين
الصدق يف طلب وجه اهلل عز وجل ،ومن معاين العزوف عن دار الغرور ،ومن معاين
اإلنابة إىل الرب الكرمي وإىل الدار اآلخرة .نأخذ املعاين والروح ال األساليب الزهادية اليت
كانت مظهرا من مظاهر االنزواء تركت الباغني يف األرض يف عربدة ال مراقب عليها،
واألمر هلل .نعم صحبة رجال حتابوا يف اهلل ،وذكروا اهلل ،وصدقوا يف طلب اهلل ،وعرفوا اهلل.
ونضر اهلل تلك الوجوه.
ننظر إىل الواعظ خطيب اجلمعة ،وإىل املدرس احملتسب اجلالس يف مساجد املسلمني
للفتوى والتعليم ،وإىل معلم الصبيان ،وإىل احملدث العامل خيرج أجيال الفضالء.
19
أولئك كانوا الرمز احلقيقي الذي التفت حوله األمة واعتصمت به الدعوة يوم كان
السلطان رمز السطوة العمياء ،ويوم كان املؤهل الوحيد للرمز الرمسي «اخلليفة» ال يعدو
أحيانا كثرية نسبه وحيازته لربدة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وسيفه وبعض آثاره
الشريفة.
بقلب مطمئن نقبل تارخينا ،لكن بعني فاحصة.
20
القرآن حاكم
َه ٌّم ُمقعِد مقيم أن يكون أتى على بعض املنتسبني للعلم حني من الدهر زعموا فيه أن
السالمة يف الدين ال سبيل إليها إال بتوقري القرآن توقري هجران .قالوا ،وبئس ما جيري التقليد
على األلسنة« :القرآن صوابه خطأ ،وخطأهكفر» .استعجم عليهمكالم اهلل تبارك امسه ملا
انطمست القلوب وغشى العقول ما غشاها .يفكلمتهم ما يشبه اليأس ،أو ما هو اليأس
بعينه ،من أن يفهموا عن اهلل أمرا أوهنيا .فبتقديرهم يكون ما يفهمونه من القرآن مباشرة خطأ
ولوكان ذلك الفهم صوابا يف واقع األمر ،مادام فهمهم مل يكن تقليدا لعمدة حجة يقلدونه
يف دينهم.
نرى اليوم موقفا معاكسا لذلك املوقف السادر يف جهله وجتاهله ،أال وهو جرأة كل
ناعق علىكتاب اهلل يؤوله باهلوى ،ويتناوله باملنهاجيات املادية واجلدلية واإلحصائية والبنيوية،
يف استهتار واستخفاف .إنكان عند غالة الصنف األول هجران للقرآن منشأه فرط احلذر
من الوقوع يف اخلطأ تعظيما لكالم اهلل جلت عظمته ،فعند زنادقة العصرانية يتم جتريد النص
القرآين من قدسيته ليصنفوه مع النصوص التارخية ،حيتل بينمها مكانته على سلم التطور
اإليديولوجي يف الفكر العريب.
فإذا قلنا إميانا ومذهبا بتحكيم القرآن ،والرجوع إليه ،والرضوخ التام ألمره وهنيه ،فال بد
أن حندد محى القرآن وحرمته ،والتورع الواجب يف االستشهاد به واالستنباط منه ،لكيال نقع
يف مهاوي الذين اختذوا آيات اهلل هزؤا ،ولكي ال حنشر ،إن حنن استخففنا باحلرمة ووقعنا يف
احلمى ،مع الذين اشرتوا بآيات اهلل مثنا قليال فصدوا عن سبيله إهنم ساء ماكانوا يعملون.
كان الصحابة رضي اهلل عنهم عربا فصحاء يعرفون البالغة العربية سليقة،
ويذوقون اجملاز واإلشارة ،فيتنزل القرآن وهو غض حديث الربوز إىل عامل الشهادة
21
على أمساعهم ،يسبقه التعظيم واخلشوع ملا علموا من أنه كالم من رب العاملني ،ويتنزل
على قلوهبم ومعه احلالوة والطمأنينة واالستعداد الصادق لطاعة اهلل يف أمره وهنيه،
كانت آياته يف أمساعهم وعقوهلم توجيهات مباشرة تعاجل قضايا الساعة التشريعية
واجلهادية ،وتذكر بسنن األمم اخلالية ،وتعطي األسوة بسري الرسل واألنبياء عليهم
السالم ،مل يكن شيء من كليات القرآن خافيا عنهم ،ومل يكونوا يتقعرون يف اجلزئيات
إذا كان علمها ال يبني حكما وال يفصل يف مسائل العقيدة واحلالل واحلرام ،ورد
األب يف قوله
السؤال عند عمر ،ويف رواية عند أيب بكر ،رضي اهلل عنهما يف معىن ّ
﴿وفَاكِ َهةً َوأَبّاً﴾ فأعرض عن ذلك وقال :ما هبذا أمرنا.
تعاىلَ :
كانوا رضي اهلل عنهم يعلمون أسباب التنزيل ،واملقاصد الكلية للشريعة ،وعادات العرب
يف أقواهلا وأفعاهلا وأحواهلا ،ودخائل العدو الذيكانوا جياهدونه ،ومراتب التكليف من واجب
الفعل أو الرتك فما دونه ،مث ال يكتفون بفهمهم حىت يسألوا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
البيان ،والبيان وظيفة من وظائفه السامية ،به أرسله اهلل جل وعال.
كانوا يتأمثون ويتورعون أشد التورع عن تفسريكالم اهلل سبحانه وتعاىل بالرأي ،روي عن
األب)
الصديق رضي اهلل عنه ،وقد سئل يف شيء من القرآن (يف خرب أن املسألةكانت عن ّ
فقالكلمته املشهورة اليت ترسم لنا حدود احلمى القرآين وحرمته يف قلب املؤمن« ،أي مساء
تظلين ،وأي أرض تُقلين إن أنا قلت يفكالم اهلل ما ال أعلم؟».
هنجر مسافة احتلها اجلاهلون واملتجرئون ،واألوىل
بني أن نعظم وحنتاط وبني أن نعطل و ُ
جبند اهلل أن يلتصقوا بالكلمة القرآنية وحيملوا على عاتقهم شرف الشعار القرآين يفكليات
الشريعة وهي مل يطرأ عليها نسخ وال حدث تغيري ملراد اهلل من آياته فيها ،ولنرتك ألهل
االختصاص واالجتهاد النظر فيما اختلف فيه ،ريثما يأذن اهلل عز وجل بنصب احلاكم على
منهاج النبوة ليجتمع حتت إشارته االجتهاد ،فإن حديث املصطفى صلى اهلل عليه وسلم
الذي أفسح جمال االجتهاد والثواب إمنا ذكر احلاكم من قاض وعامل ،مل يذكر فقيه الفروع
الواقف دون عتبة اإلمارة العظمى الشرعية ،حيث قال« :إذا حكم احلاكم فاجتهد مث أصاب
فله أجران ،وإذا حكم فاجتهد مث أخطأ فله أجر» ،رواه الشيخان وغريمها.
22
املنهاج واالجتهاد واحلكم مبا أنزل اهلل من شورى وعدل وإحسان هذه مطالب قرآنية ال
حنتاج إلثباهتا وإجياهبا على أنفسنا مبا أوجبها اهلل لسلوك طرائق املتقدمني يف االستدالل ،ولن
يثنينا عنها إن شاء اهلل التواء من حياول أن يسرت الشمس بكفه ،مباشرة نستمع إىل القرآن
َنزَل اللّهُ َوالَ تـَتَّبِ ْع ِ
(((ما أ َ
َفاح ُكِم بـَيـْنـَُهم ب َ
الكرمي خياطب الرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلمْ ﴿ :
ْح ِّق لِ ُك ٍّل َج َعلْنَا ِمن ُك ْم ِش ْر َعةً َومنـَْهاجاً﴾ . أ َْهواءهم ع َّما ج َ ِ
اءك م َن ال َ َ ُْ َ َ
قال ابن عباس رضي اهلل عنهما« :املنهاج ما جاءت به السنة» ،والذي جاءت به السنة،
تطبيقا للقرآن وحتكيما له :احلكم بالشورى والعدل واإلحسان ،هبا أمر رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ومن معه ،وهبا أمرنا معهم ،وخصصت أجيالنا الصاحلة إن شاء اهلل ببشرى اخلالفة
الثانية على منهاج النبوة..
ال يستطيع التجرد حلاكمية القرآن املباشرة وحتكميه املقلدة الذين رقدوا عند قدمي فحل
من فحول العلماء املاضني إىل عفو اهلل إن شاء اهلل ،جاهلني نسبية ذلك الفحل أو ذلك
املذهب وحمدوديته يف إطار تارخيه ،وتاريخ احلكم يف عهده ،ومالبسات اجتهاده السياسية
واالجتماعية والشخصية والصراعية املذهبية اليت خاضها ،ال يستطيع هؤالء أن يتخطوا الثراث
الفاخر ليجلسوا عند درجة املنرب النبوي يسمعون الوحي غضا واألمر العازم الذي يريد التنفيذ
ال اجلدل.
بعض هؤالء املقلدة يطرحون جانبا ،عن سذاجة أو حسن نية أو جهل ،مناهج العلماء
الذين خلوا من قبلنا ،وحيتفظون فقط ،حبسن النية تلك أو بقصد الرئاسة وغلبة اخلصم يف
اجلدال ،حبرفية ذلك اجملتهد وإنتاجه وفتاويه.
الذين اجتهدوا قبلناكانوا يدافعون عن قضايا رمبا تكون اآلن اندثرت ،كانوا يتفاعلون
مع واقعهم بنيات معينة ،يف مواجهات معينة ،بوسائلهم املمكنة ،ألهداف ممكنة .كانوا
جيتهدون يف نسبية تضع اجتهادهم مواضعه يف الزمان واملكان واألمهية ،ويضعه املقلدة يف
مكانة املطلق ،يف املكانة اليت ال تنبغي إال للقرآن وللسنة املبينة ،فيا عجبا ملن حيجبه عنكالم
اهلل قول القائلني ،إال أن يكون أميا جاهال ال يهتدي حىت ملن هم أهل الذكر الذين أُمر َم ْن
غاد رائح يف سكة التحجر والتعصب ال يعلم أن يتوجه إليهم بالسؤال ،تلك طريق سال ُكها ٍ
ُ
وضيق األفق ،عافانا اهلل مبنه.
24
لذا تسمعهم يتحدثون عن القرآن بصفته «كتاب حضارة» و«كتاب تاريخ» و«كتاب
صل اإلميان باهلل وباليوم اآلخر فعاد عندهمثورة» انقطع يف أذهاهنم الكليلة أخزاهم اهلل َو ْ
القرآن من أساطري األولني ،ال منكالم رب العاملني.
هذا ما مينع هؤالء أن يتخذوا القرآن حاكما ،مينعهم الكفر ،ومينع التقليد األعمى القاطع
أيضا عن القرآن ،ال يشفع يف ذلك أن يكون القاطع فارسا من فرسان علمائنا .ال يقدر
املقلدة ،وهم يف سجن تقليدهم لألقدمني ،أن يبصروا واقعهم على ضوء تقريرات القرآن،
وإخباره عن سنة اهلل ،وعن دفاع اهلل الناس بعضهم ببعض ،وعن اجلهاد الواجب ،وعن الوالية
والتكتل لواجبني على املؤمنني ،وعن األمر باملعروف والنهي عن املنكر وعن الشورى حكما،
والعدل الشامل تصرفا ،واإلحسان غاية .تغشى تلك األبصار تقريرات العلماء وجتريداهتم
وخالفاهتم ،فتذهب بالناظر يف تلك الطروس أوهامه بعيدا عن مقاصد املؤلفني واملفتني
جيرت حروفا طار
واجملتهدين قبلنا ،وهي كانت ذات داللة وحتكم يف واقع عصرها .فإذا به ّ
عنها املعىنكما طار هو يف أجواء اجلدل حائما دائرا مثال أن ظفر بفقرة منكتاب حارب هبا
ذلك الفارس منكر زمانه ليحارب هبا هو خمالفيه وناصحيه.
منظار التقليد يفرض على الذهنية الكليلة ،ذهنية منشطرة منكدرة ،صورا من املاضي
الغابر ووقائعه وأحداثه يسقطه على واقع العصر ليصف حلاضر املسلمني عالجات هي
اهلوس بعينه ،وليصدر فتاوي هي الفتنة بعينها ،وهي التناقض والفهاهة.
كل ذهنية حيجب عنها حاجب الكفر أو النفاق أو التقليد األعمى حاكمية القرآن
وهيمنته ومنوذجية السنة الكاملة ،سنة اجلهاد والشورى والعدل واإلحسان ،دعوة ودولة،
دنيا وأخرى ،إمنا هي ذهنية عاجزة عن فهم اإلسالم وهو إسالم الوجه هلل جل وعال .بيننا
وبينه ،تعاىل جد ربنا ،كلمته اجمليدة محلها إلينا رسوله الكرمي صلى اهلل عليه وسلم .فمىت مل
نُقم وجهنا إىلكتاب اهلل تعاىل صمودا إليه ،واستماعا وطاعة ،وتلقيا دائما ،وتالوة ،وتدبرا،
وذكرا ،فلن نكون املسلمني ،ال ألتفت عن القرآن إن أنا استفتيت سنة ثابتة أو سألت عن
فهم من سبقين بأثارة من علم ،شريطة أن ال يشغلين املفسر عن التفسري ،وال رأي املفيت عن
جل وعال.احلكم وال احلكم عن احلاكم ّ
25
حري بإثراء جتربتنا،
يف جتارب سلفنا الصاحل من العلماء ويف حماوالهتم واجتهاداهتم ما هو ّ
وتقومي حماوالتنا ،وتوجيه اجتهادنا إن حنن وضعناها مجيعا أمام القرآن والقرآن حيكم ،نفحصها
على ضوئه ،يف نشوئها وتسلسلها ،وتعاقب أشكاهلا ومناهجها ،وتأثرها حبركة احلياة العامة
وتأثريها فيها ،وإقدامها وإحجامها ،ونتائج صواهبا وخطإها.
أمام القرآن وهو حيكم نسائل تلك التجارب وذلك االجتهاد عما فعل العدل الذي أمر
اهلل عز وجل به يف القرآن؟ وأىن سارت الشورى وصارت؟ وأيّةً سلك اإلحسان؟ ماذا فعل
كل أولئك يف فقه هذا املذهب وسلوك تلك الطائفة واستبداد ذلك السلطان؟
26
لتنقضن عرى اإلسالم
إن فهم االنكسار التارخيي الذي حدث بعد الفتنة الكربى ومقتل ثالث اخللفاء الراشدين
ذي النورين عثمان رضي اهلل عنه ضروري ملن حيمل مشروع العمل إلعادة البناء على األساس
األول .فهم طبيعة هذا االنكسار .ومغزاه بالنسبة لتسلسل األحداث وتدهورها بنا إىل الدرك
الذي جند اآلن فيه أنفسنا ،فهم الذهنية التقليدية اليت تدين بالوالء غري املشروط للسلطان،
كيف نشأت ،وكيف توارثها اخللف عن السلف ،وكيف صنعت أجياال يسوقها احلاكم
املستبد سوق األغنام .فهم الذهنية األخرى اليت رفضت االستسالم وتشيعت آلل البيت.
فهمكيف تغلغلت الثورة الشيعية على احلكم حىت انفجرت يف عصرنا .فهمكيف حتجرت
الذهنية الشيعية على عقيدة إفراد عليكرم اهلل وجهه وبنيه باإلمامة ،وراثة تقابل توارث امللوك
العاضني شؤون األمة .فهم كيف صنع تكتم الشيعة من احلكام على مر العصور ذهنية
غامضة تتناقل األخبار الغريبة الساذجة من فم ألذن يف جو تآمري حاقد .فهمكيف نشأت
الصراعات املذهبية بني طوائف الشيعة والرافضني للحكم القائم وبني أهل السنة واجلماعة
امللتفني حوله ،ملاذا التف هؤالء وملاذا رفض أولئك .فهمكيف شجرت اخلالفات واشتجرت
بني فرق النظار والفقهاء ،وكيف برزت العقائد املتطرفة من قدرية وجربية وخوارج ومرجئة.
ليس يف هذه الرسالة متسع لتفصيل الكالم يف هذه الشؤون اخلطرية ،وال ليس يف نيتنا
أن نتعرض للفتنة النائمة عصمنا اهلل بكرمه وعفوه من القواصم ،لكن أحل عليكم إخويت
أن تعرفوا أن االنكسار التارخيي حدث حموري يف تاريخ اإلسالم ،وسيبقى فهمنا حلاضر
األمة ومستقبلها مضببا بل مشوشا غاية التشويش إن مل ندرك أبعاد تلك األحداث
وآثارها على مسار تارخينا وجتلجلها يف الضمائر عن وعي يف تلك العهود وحبكم تكوين
رجة عظيمة مزقت كيان األمة املعنوي فبقي املخزون اجلماعي الذي توارثته األجيالَّ .
27
املسلمون يعانون من النزيف يف الفكر والعواطف منذئذ ،ويؤدون إتاوات باهظة ملا ضعُف
من وحدهتم ومتزق من مشلهم وجتزأ من علومهم وأقطارهم.
غرينا يغضي حياء من فتح تلك الصفحات ،وآخرون من حزب الشيطان يثريون تلك
األخبار لزعزعة ثقة املسلمني بإسالمهم وتشكيكهم يف قيمة احلق الذي أنزل على حممد
صلى اهلل عليه وسلم ،يستشهدون بتاريخ املسلمني على تارخيية اإلسالم ليقولوا إنه إيديولوجية
عابرة متماوجة متغرية متعددة التعبري صحبت صراعات بني بطون قريش وبني عصبيات
أخرى ،الصق كل ذلك باألرض ،شبيه باجلدليات الصراعية على مر التاريخ .حنن نقصد
كشف جانب من ذلك السرت مبقدار ما نتبنيكيف جتري قوانني اهلل ونواميسه يف الكون على
الرب والفاجر ،على املسلمني وغري املسلمني ،آخذين يف اعتبارنا ما جاء به الوحي وما أخربنا
به املصطفى صلى اهلل عليه وسلم من أخبار الغيب ،وما أوصى وما علم ،لتستقيم لنا الرؤية
من زاوية نظر يوجهها القرآن وحيدوها اإلخبار املعصوم .ال تزيغ العني اليت تقرأ ناموس اهلل يف
التاريخ بالعني اليت تقرأ مواقع القدر اإلهلي ،وال تكون النظرة إال عوراء إن انغلقت العني املراقبة
للكون وأسبابه وانتصبت العني االميانية الغيبية ترتجم وتفسر ،ال َخبـََر عندها بالعلة واملعلول
كما شاء اهلل تعاىل أن تكون عالقتهما مفهومة عقال مرتابطة متساوقة.
نرى هذه األيام احلرب الضروس القذرة بني إيران والعراق ،يالضياع أشالء األمة!
يتجند بعض علمائنا احلسين النية القاصري النظرة لتفسريها والتحزب فيها انطالقا من
أهنا عدوان شيعي على أهل السنة .من هلؤالء األفاضل يتبع معهم بإشارة األصبع كيف
احندرت من أجيال أهل السنة تقاليد اخلضوع للحكام أيا كان منذ االنكسار التارخيي،
وكيف احندرت يف أجيال الشيعة تقاليد رفض الرضوخ للحاكم .ففي حلبة الصراع
اآلن ثو ٌار ينادون بثارات احلسني من يزيد العراق يعيشون بأمل كما عاش آباؤهم تلك
املأساة احملزنة ،بل تلك اجلرمية النكراء بكل املعايري .والضحية شعب عريب مسلم يف
العراق خاضع لقيادة قومية ال صلة هلا باإلسالم ،يسوقها بيادق النصراين املرتد عن دينه
ميشيل عفلق .ملاذا تأتى للزعماء القوميني أن يركبوا منت األمة ويلهبوا أظهرها لتنقاد إىل
سفك دمائها دفاعا عن نظام بعثي طاملا إستخف باإلسالم قبل الثورة االيرانية وأصبح
زعماؤه اليوم يتسابقون إىل عدسات التصوير ليظهروا للجمهور تالني راكعني ساجدين؟
28
أين مناط املنكر يف الداهية الدهياء اليت تبدد مقومات األمة بشطريها الشيعي والسين؟
أهو قتل األبرياء وانتهاك احلرم وإضعاف األمة ،والعدو مرتبص شامت والقدس حمتلة؟
أم هو كارثة األمية التارخية السياسية اليت جتعلنا جنرد األحداث عن منطقها والصراع
القائم عن منبعه ومغزاه ومصرييته وذهنياته القائدة وما ترسب فيها منذ االنكسار
التارخي وما تصور هلا تلك الرتسبات من ضرورة االندفاع واالستماتة؟ إنه خماض مؤمل
فريد من نوعه يف تارخنا .خماض نرجو منه ميالد اخلالفة املوعودة جترب وتأسو .إن شاء
اهلل امللك الوهاب.
من املسلمني من يرفض ،بعينني مغمضتني عن التاريخ وحقائقه وعن الوحي وتعليمه معا،
أن يكون قد حدث انكسار أو أن يكون احلكم قد فسد والسنة خضعوا والشيعة ثاروا .هلم
بنا نربع على أنفسنا فما اجلدل نريد .بل نريد أن نستسيغ غصص القدس وأفغانستان وحرب
اخلليج جبرعات من البسلم النبوي .جترعوها األحباب ،أجيال املسلمني ،مرة وال يزالون .وإن
قضاء اهلل عز وجل النازل مبا كسبت أيدي الناس ،العائد بالرمحة فضال من الويل احلميد
سبحانه ،نزل رجات يتلو بعضها بعضا إىل زماننا .ونأمل من كرمه أن حيط أقدامنا على
مواقع القدر الذي نطق الرتمجان اإلهلي ببشرى تنزيله باخلالفة على منهاج النبوة بعدكل هذا
العض املؤمل واجلرب .فاالنتظار الواثق لتحقيق تلك البشرى هو بلسمنا .والعمل على التعرض
هلا إعدادا وتربية وتنظيما وزحفا شغلنا بفضل من له املنة .ال إله إال هو.
ليس الشيعة أعداء السنة وما ينبغي أن ينفخ النافخون يف النار املستعرة ليزيدوها ضراما.
إن رجعنا ،بالطمأنينة اإلميانية ،إىل مبعث اخلالف وميالد الفتنة بقصد العلم املؤسس لعمل
يوحد وال يفرق ،يفتح اجلرح ليضع فيه دواء ال لينكيه ،فعسى نعلم ونعمل .ولعل يف اجلواب
عن السؤال البسيط« :هل فسد احلكم يف عهد مبكر أم مل يفسد» مبا يرتاح له ضمري املؤمن
وعقل الناظر ومنطق احمللل ما هوكفيل أن يتوجه بنا إىل العلم النافع والعمل البناء.
روى اإلمام أمحد بسنده احلسن عن أيب أمامة الباهلي رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم قال «لينقضن عرى اإلسالم عروة عروة ،فكلما انتقضت عروة تشبث الناس
باليت تليها .وأوهلن نقضا احلكم ،وآخرهن الصالة».
29
لنزداد يقينا بأن احلكم قد فسد يف عهد مبكر جدا ،ولنزداد معرفة بتفصيل املراحل اليت
حتدث عنها حديث منهاج النبوة ننظر عند البخاري حديثا رواه بسنده عن سعيد بن عمرو
بن سعيد بن العاص قال « :كنت مع مروان وأيب هريرة يف مسجد رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،فسمعت أبا هريرة يقول :مسعت الصادق املصدوق يقول « :هالك أميت على يدي
أغيلمة من قريش» .فقال مروان :غلمة ؟ قال أبو هريرة :إن شئت أن أمسيهم :بين فالن
وبين فالن».
ولنزداد تدقيقا نسمع شهادة صحايب هو سفينة موىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف
حديث إسناده حسن رواه أبو داود والرتمذي وصححه ابن حبان .يف رواية الرتمذي :عن
سعيد عن سفينة رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :اخلالفة يف أميت
ثالثون سنة ،مث ملك بعد ذلك» قال سعيد بن جهمان مث قال( :أي سفينة ) أمسك( :أي
احسب يف أصابعك) :خالفة أيب بكر ،خالفة عمر ،وخالفة عثمان مث قال أمسك خالفة
علي .فوجدناها ثالثني سنة .قال سعيد فقلت له إن بين أمية يزعمون أن اخلالفة فيهم! قال
كذبوا بنو الزرقاء بل هم ملوك ،شر امللوك.
إن طموح العاملني يف الدعوة اإلسالمية ،يكابدون يف جهادهم عنت اإلعراض من
العامة واملكر السيء من اجلبارين يف األرض ،يعانون أيضا من الذهنية املتحجرة الواقفة على
تقديس التاريخ اإلسالمي ال تقبل بوجه أن تنظر فيه للعربة .هذه الذهنية لوقوفها وتبلدها
ورفضها لفهم املاضي أعجز عن تصور مستقبل إسالمي إال على صورة اإلسالم املنشطر
املشتت ،إسالم امللك العاض ،إسالم عاش فيه القرآن وأهل القرآن حتت ظل السيف.
كأين بواحد منهم يطعن يف حديث سفينة ويطعن يف كل الروايات التارخيية ليبقى له
تصوره اجلامد املزين بألوان اهلناء والفناء .كأين به يقول « :ما عهدنا من يقول مثل ما نسب
اىل سفينة إال الروافض».
ملوك شر امللوك ! وظل السيف طاف فوق الرقاب .ذهب عبد امللك بن مروان اىل املدينة
سنة .75فارتقى منرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأعلنها مدوية ،لوكان يسمع اجلامدون.
30
قال « :إين لن أداوي أمراض هذه األمة بغري السيف ...واهلل ال يأمرين أحد بعد مقامي هذا
بتقوى اهلل إال ضربت عنقه !» أنقل هذه الكلمة الكبرية اليت خرجت من يف رجل من ملوك
العض عنكتاب املودودي رمحه اهلل «اخلالفة وامللك» كما نقلها عن ابن األثري واجلصاص
وعن مؤلفكتاب فوات الوفيات.
كتاب املودوديكان أثار زوبعة يف أوساط الناس .وهو أهم ماكتبه هذا املفكر اجملاهد
رمحه اهلل .لعل اجلامدين وجدوا يف الكتاب ثغرة دخلوا منها فضخموا جانبا ليطمسوا منه
جوانب ناصعة .جاءنا عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم األمر أن نكف عن األصحاب(((.
فلم يسعكاتبنا وهو يف سياق حتليله أن يتعفف عن ذكر اإلمام سيدنا عثمان رضي اهلل عنه،
غفر اهلل لنا وله وللجميع.
نعم انتقضت ،بل نقضت عروة احلكم بعد ثالثني سنة من وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم وجاء من يقول من على منربه ،من مسجده ،للناس يومئذ ولكل من يسمع فيعي من
العقالء أن ما وعد اهلل ورسوله حق ،وأن اخلالفة األوىل أقربها السيف ،وأن احلاكم العاض
حيكم هبواه ،وعصبيته ،وجربوته ،ال بالقرآن ،وال بشورى أهل القرآن ،وال بعدل القرآن ،وال
بإحسان أمر به القرآن ،وال برعاية لتقوى اهلل .ضرب األعناق ! ودواء األمة السيف !
و سالت الدماء بانتقاض العروة العليا ،وتشبث الناس بالعرى األخرى يف حدود ما مسح
به حامل السيف.
إن كان بقي لألمة كيان قوي ،واستمرار تارخيي ،وشوكة قوية ،وفتوح واسعة ،وعلوم
وجمد ،وحضارة وابتكار ،وصالح وتقوى ،فالفضل هلل عز وجل بأن حفظ على األمة
وجودها ومتتسكها هبذا التشبث الذي أخرب به الصادق املصدوق صلى اهلل عليه وسلم :
(فكلما انتقضت عروة متسك الناس باليت تليها).
إن من معجزات رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إخباره بالغيب ،ومن كرامة اهلل جل
وعال هلذه األمة أن بقيت صامدة مواجهة تارة مصانعة أخرى.
« 1إذا ذكر أصحايب أمسكوا» .احلديث أخرجه الطرباين عن أيب مسرة بإسناد حسن.
31
واجه اإلمام احلسني رضي اهلل عنه وقاتل ،واجه زيد بن على وقاتل ،واجه حممد النفس
الزكية وإدريس أخوه وإبراهيم وحيىي من بعده وقاتلوا .كان هؤالء مجيعا من آل البيت ،وكان
ألئمة املسلمني ايب حنيفة ومالك والشافعي رضي اهلل عنهم ميل ،بل مساندة فعلية هلؤالء
القائمني.
عذب ابن هبرية اإلمام أبا حنيفة ملا رفض أن يتقلد القضاء أليب جعفر املنصور العباسي
ألنه يرى يف بيعته شيئا ،كان يراها غري شرعية ،وعذب وايل املدينة مالكا ملا أفىت مالك الناس
بأن طالق املكره ال جيوز ،وكان املنصور يُكره الناس على البيعة وحيلفهم بطالق أزواجهم إن
هم مل يفوا بالبيعة .وما ذلك إال ألن مالكا رمحه اهللكان يرى أن تلك البيعة فاسدة.
إن مشروع اإلسالميني يف عصرنا سيكون حمدود األفق إن مل نتفقه يف تارخينا ،يغتاله
الشعور باملضض واألمل ملا وقع يف ذلك العهد العنيف ،عهد االنتقال من مرحلة اخلالفة اىل
مرحلة العض .ال ينقصنا العنف يف مرحلتنا هذه ،تسلطا علينا او هاجسا ملحا على بعضنا.
فلكي نوسع األفق ،ولكي نزيل األسى على املاضي ،نتخفف لنمضي باطمئنان املؤمنني اىل
حتقيق موعود اهلل جهادا فاعال وتوكال يتحرى مواقع القدر احلكيم .نقف عند حمطة فكرية
عاطفية إميانية عينية عملية سياسية دينية لنتسائل :ترى مل قبل املسلمون حكم السيف واهلوى
وضرب األعناق؟ مل انساقوا حتت إمرة فاسدة يف كثري من األحيان وهم كانوا يف العامل قوة
فاحتة هادية يداوون الناس كافة برفق اإلسالم وقرآن اإلسالم ،بينما احلاكم يف بيتهم هوى
السلطان ،والدواء السيف ،وحل اخلالف ضرب األعناق؟
ملاذا استبدل سواد األمة األعظم االستبداد بالشورى ،والظلم بالعدل ،وقبلوا هتتك
األغيلمة من قريش وطيشهم ؟ ملاذا مسعوا وأطاعوا الصبية الالعبني وهو كانوا أسد الشرى
وعلماء الدنيا ؟ ملاذا حكم املرتفون جهابذة الفقه وسادة القوم وأئمة األمة؟ ملاذامل ميض الذين
ساندوا القائمني من آل البيت اىل آخر شوط يف العصيان ألمراء السوء ،وكأن يف مساندهتم
حتفظا شل احلركة ،وفت يف العضد ،وأوهن العزائم؟
32
عامل االيمان بالغيب
أدوات التحليل اليت ابتليت باستعماهلا هذه الطبقة من املثقفني املعاصرين تالمذة
اجلاهلية ليس فيها شيء يسمى الغيب ،ألن دائرة تلك الثقافة ال تعرف اهلل .فإذا
أخذوا حيللون األحداث التارخيية عرضوا الدوافع النفسية والسياسية واالقتصادية أيهاكان
العامل احلاسم يف الواقعة .يرتبون هذه الدوافع حسب ما تعطيه مذاهبهم الفكرية من
األمهية واألسبقية للعوامل املوجهة حلركة اجملتمعات .فالشيوعي يبدأ بالبحث عن العامل
االقتصادي وامللكية ووسائل اإلنتاج وعالقات اإلنتاج ليحدد جمرى الصراع الطبقي
وتطوره .واملثايل يبحث عن الفكرة والفلسفة والتيار العاطفي أو الديين الذي أعطى
السياسة قاعدهتا اإليديولوجية ومبادئها .وهكذا .أما املؤمن باهلل وقضائه وقدره فينظر يف
األسباب الظاهرة ،تكون نظرته عوراء إن مل يفعل ،لكنه ينظر ايضا اىل قدرة اهلل تعاىل
وقضائه وتصرفه املطلق يف ملكه ،من خالل العلل واألسباب أو بدوهنا .كل فساد ظهر
يف الرب والبحر فبما كسبت أيدي الناس ،واحلكمة املعلنة يف القرآن الكرمي أن رب العباد
ض الَّ ِذي َع ِملُوا لَ َعلَّ ُه ْم يـَْرِجعُو َن﴾(((. ِِ
سبحانه يريد ﴿ليُذي َق ُهم بـَْع َ
يف التحليل اإلمياين لتاريخ الفتنة وانتقاض عروة احلكم يف اإلسالم نعزو ما وقع لألمة
من ختاذل أمام السلطان إىل اإلخالل البشري ،ال تغيب عنا أسباب استيقاظ عصبية
كانت يف طريقها اىل الذوبان يف عهد النبوة واخلالفة الراشدة .وال يغيب عنا الصراع بني
طوائف جديدة من الشعوب واألجناس اليت دخلت يف اإلسالم ومل ترتب عليه تربيةكاملة،
وال يغيب عنا كيف كانت هذه العناصر القلقة وسطا مناسبا فشت فيه محى املطالبة
واالعرتاض والتآمر .ال يغيب عنا أخطاء ،بل أوزار ،فئة من االنتهازيني اندسوا يف ثنايا
الدولة على عهد اخلليفة الثالث رضي اهلل عنه فكان منطقهم أن «دواء األمة السيف»
قبل أن ينطق بالكلمة عبد امللك بن مروان من على منرب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
1سورة الروم.41 ،
33
ال يغيب عنا ما دخل اجملتمع اإلسالمي من أموال انصبت إثر الفتوح الواسعة لتحدث
حتوالت يف منط املعيشة .وهلم جرا إىل ما شئت من خترص وتقدير.
اآلن نرجع اىل أمة كانت معجزة تارخيية قبل ظهور كل هذه العوامل ملا برزت على
ساحة العامل مجوعا جائعة فقرية من املقومات املادية ،غنية عزيزة باملعىن العظيم الذي
مجعها وألف بينها ورفعها :معىن اإلميان باهلل والشعور بأهنا حاملة رسالة إىل العامل.
هذه األمةكانت تتعامل مع اهلل عز وجل ثقة به وبوعده يف الدنيا واآلخرة ،كانت تأخذ
كلمة القرآن ووصية النيب صلى اهلل عليه وسلم مأخذ املطلق الذي ال يأتيه الباطل من بني
يديه وال من خلفه .كان هذا املطلق هو العامل احلاسم يف حياهتا ،يف رفعتها ويف كبوهتا.
كانت طاعة اهلل ورسوله الباعث على الفعل والرتك ،على السلم واحلرب ،على املوت واحلياة.
كان الصحابة رضي اهلل عنهم مسعوا من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حديث
«اخلالفة ثالثون سنة مث تكون ملكا عاضا» .مسعوا وصدقوا أن عرى اإلسالم ستنقض،
وأن أول ما ينقض منها عروة احلكم ورباطه .مسعوا أن هالك األمة سيكون على يد
«أغيلمة من قريش» .فهل كانت كل هذه اإلخبارات متر على اآلذان كما متر أساطري
األولني كال بل كانوا موقنني أنه الوحي .وتدل كثرة ما روي من هذه األحاديث
املستقبلية كانت أن العلم هبا كان مستفيضا .وقد مجع احملدثون حتت عنوان «كتاب
الفنت» أو ما شابه كثريا مما ذكره الصادق املصدوق صلى اهلل عليه وسلم عن وقائع تأتى
على أمته وعلى العامل من بعده إىل ظهور الدجال لعنه اهلل وظهور سائر أشراط الساعة.
يف حديث نقض عرى اإلسالم ذكر املصطفى الكرمي على اهلل صلى اهلل عليه وسلم
أن أول العرى نقضا عروة اللحكم ،وأن آخرها الصالة ،وأن الناس كلما انتقضت عروة
تشبثوا باليت تليها .العرى الفتحات اليت تدخل فيها األزرار ليشد هبا الثوب .فكأن
سربال اإلسالم يتمزق عن جسم األمة من أعلى ،من حيث الرأس ،أي الدولة ،والناس
يتمسكون به خمافة أن ينكشف .ترى هل أوصى نيب اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمته
بشيء تتشبث به يكون أرجى أن ال هتلك األمة من جراء االنفصامات املتتالية؟ ترى
هل فهم الصحابة والتابعون والقرون الثالثة الفاضلة من الوصية النبوية أهنا تشريع للفتنة
ورضى هبا وتشجيع على بسطها؟
34
أمامي صحيح اإلمام مسلم أقرأ منه يف باب الفضائل عن زيد بن أرقم رضي اهلل
عنه أنه قال « :قام رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوما فينا خطيبا مباء يدعى مخا بني
مكة واملدينة .فحمد اهلل وأثىن عليه ،ووعظ وذكر .مث قال « :أما بعد أال أيها الناس !
فإمنا أنا بشر يوشك أن يأيت رسول ريب فأجيب ،وأنا تارك فيكم ثقلني (قال العلماء مسيا
ثقلني لعظمهما وكبري شأهنما) :أوهلما كتاب اهلل ،فيه اهلدى والنور ،فخذوا بكتاب اهلل،
واستمسكوا به» .فحث على كتاب اهلل ورغب فيه .مث قال« :وأهل بييت ،أذكركم اهلل
يف أهل بييت ! أذكركم اهلل يف أهل بييت !» احلديث.
األخبار عن غدير خم ،وعن وصية النيب صلى اهلل عليه وسلم بآل بيته األطهار
تشكل عند إخوتنا الشيعة النصوص احليوية اليت يبنون عليها والءهم املطلق آلل البيت.
آل البيت رضي اهلل عنهم هو العروة اليت تشبثوا هبا بعد فساد احلكم ونقض عروته.
اشتدت عليهم قبضة حكام العض على مر القرون فاستماتت قبضتهم يف التمسك بآل
البيت ،اعتقدوا الوصية لعلي كرم اهلل وجهه ،وغال غالهتم فرفضوا اخللفاء قبله وسبوهم،
قاتل اهلل الغالة وأبعدهم ،واعتقدوا اإلمامة لبين علي وأضفوا عليهم العصمة.
تشبث آل إىل تصلب توارثته األجيال ،وعاش يف ظل االضطهاد واالستخفاء
والتقية ،لكنه تشبث له أصل ثابت عندنا وعندهم من إخبار احلبيب صلى اهلل عليه
وسلم ووصيته.
أمسكوا هذه إخويت وأخوايت ،قفوا عند هذا التشبث من جانب الشيعة ريثما نذكر
أهل السنة واجلماعة ،لنرى كيف تفرعا معا من نفس األصل النبوي ،وكيف توسع
اخلالف بني الفرعني ،وكيف حفرت العداوات والصدامات وتضارب الوالء اهلوة حىت
أصبح الشيطان واجلهل يصوران لنا أهنا هوة ال قرار هلا ،وأهنا الفرقة إىل األبد .هذا التصور
الشيطاين يغلق على األمة آفاق املستقبل يف الدنيا وأمل لقاء اهلل عز وجل وهو يضحك
الينا إن جئناه نعادي أهل القبلة أهل ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل ،املتمسكني بالقرآن
كما نتمسك وهو الثقل األول .فما بالنا نكفر إخوتنا وننفخ نفخ الشيطان أن كان
فهمنا للثقل الثاين كيف نواليه حمط خالف؟
35
أقرأ من كتاب «جامع األصول» أحاديث كثرية ،ال أورد منها إال الصحيح ،كلها
توصي األمة بالسمع والطاعة مهما كان األمري .أحاديث انتشرت يف السواد األعظم
من األمة ،وهم أهل السنة واجلماعة ،وأصبحت مبدأ ونظام حياة .يسيء الظن ،بل
يستخف باألمة ،من يزعم أن هذه األحاديث كانت من وضع الرواة بإيعاز من احلكام
احملتاجني اىل مشروعية ،يتخذون هذه األحاديث أداة تشريعية للقمع .كان هنالك
وضع ،ووضع كثري ،لكن إمجاع أهل العلم باحلديث على سلسالت من الرواة الثقات
جيعلنا يف مأمن تام من أن يتسرب اىل ديننا مثل هذا التزوير .ذلك لثقتنا الكاملة هبذا
العلم الفريد الشريف الوحيد يف تاريخ الدنيا ،أال وهو علم أصول احلديث وعلم اجلرح
والتعديل.
عنون ابن األثري اجلزري رمحه اهلل« :الفصل اخلامس يف وجوب طاعة األمري» .أورد
يف الفصل سبعة عشر حديثا ،ثالثة عشر منها يف الصحيحني أو يف أحدمها .والصيغة
األمرية ترتواح بني الرتغيب واألمر املؤكدين بالطاعة وبني التحذير والوعيد الشديدين
من املخالفة والعصيان« .امسع وأطع ولو حلبشي كأن رأسه زبيبة» (البخاري)« .إن
أمر عليكم عبد جمدع ( )...يقودكم بكتاب اهلل فامسعوا له وأطيعوا» (مسلم والرتمذي
والنسائي)« ...من أطاعين فقد أطاع اهلل ،ومن عصاين فقد عصى اهلل .ومن يطع األمري
فقد أطاعين ،ومن يعص األمري فقد عصاين» (الشيخان والنسائي) «سأل سلمة بن
يزيد اجلعفي رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :يانيب اهلل ،أرأيت إن قامت علينا
أمراء يسألون حقهم ومينعونا حقنا فما تأمرنا؟ فأعرض عنه .مث سأله يف الثانية أو يف
الثالثة فجذبه األشعت بن قيس فقال « :امسعوا وأطيعوا فإمنا عليهم ما محلوا وعليكم ما
محلتم» (مسلم والرتمذي)« .أال من ويل عليه وال فرآه يأيت شيئا من معصية اهلل فليكره
ما يأيت من معصية اهلل وال ينزعن يدا من طاعة» (من حديث ملسلم).
هناك صيغ أخرى مشددة مثل قوله صلى اهلل عليه وسلم « :من كره من أمري شيئا
فليصرب ،فإنه من خرج من السلطان شربا مات ميتة جاهلية» ( الشيخان) .هذا احلديث
وأمثاله أجلم األفواه ،وألزم علماء األمة الصرب على كره شديد ملا فعله العاضون .فإن
نطقت األفواه باالحتجاج فما كانت ،إال يف حاالت قليلة ،تثري اخلروج على السلطان
من جانب العلماء األتقياء خمافة الوعيد املفزع وعيد امليتة اجلاهلية ،وقانا اهلل.
36
صرح اإلمام أمحد رضي اهلل عنه مبلء قوته ملا ابتدع املأمون العباسي وفسق عن أمر
ربه وحارب اهلل ورسوله بتبين رأي املعتزلة القائلني خبلق القرآن .وأوذي اإلمام فصرب .جلد
فغفر .كان وعيد امليتة اجلاهلية رادعا قويا ألمثاله الضنينني بدينهم.
وكان امللوك العاضون وسالطني السيف يستغلون هذه النصوص ،ويربطون الناس
ببيعة إكراهية تغل منهم الرقاب وتقيد األرجل وتشل احلركة .ماذا تريد من مؤمن أن يفعل
وهو يسمع حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم القائل « :ثالثة ال يكلمهم اهلل يوم
القيامة وال يزكيهم وهلم عذاب أليم :رجل بايع إماما ،فإن أعطاه وىف له ،وإن مل يعطه
مل يوف له» (الشيخان والرتمذي) توفية واجبة إذن وإن اختل العدل يف احلكم ،وفشا
الظلم االجتماعي ،واستأثر احلكام باألرزاق ال يعطون إال على نشوة املبذر املسرف يف
أموال املسلمني.
وطغى يف األرض الفسقة الفجرة ،تطيعهم األمة على كره شديد وحتتفظ هبم ،وتغزو
بغزوهم ،وتأمتر بأمرهم ،تسمع وتطيع.
كان خوف اخلروج من الطاعة ومفارقة اجلماعة يلم شعت األمة ،ويصوهنا أن
تذهب مع العصبيات اليت استيقظت ،وأن خترج مع الرايات املفرقة للوحدة ،الساعية
للفرقة« .من خرج من الطاعة وفارق اجلماعة فمات ميتة جاهلية ،ومن قاتل حتت راية
عمية ،يغضب لعصبة ،أو يدعو اىل عصبة ،فقتل فقتلة جاهلية .ومن خرج على أميت
يضرب برها وفاجرها ،ال يتحاشى من مؤمنها ،وال يفي بعهد ذي عهدها ،فليس مين
ولست منه» (مسلم والنسائي).
لنقف اآلن ومعنا من أدوات التحليل شيء زائد على املنطق اجلديل واالعتبارات
األرضية .لنقف نتساءل :أليس يف هذه الوصايا املؤكدة الشديدة ما حيري؟ أليس رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم جاء بالشورى وبالعدل وباإلحسان ؟ فلم أوصى بالسمع
والطاعة مهما استبد احلاكم .ومهما ظلم ومهما فسق ؟
إن اهلل عز وجل أخربنا أن حممد صلى اهلل عليه وسلم حريص على املؤمنني ،رؤوف هبم
رحيم .وإن اهلل عز وجل أطلع نبيه صلى اهلل عليه وسلم على مسائلكثرية من الغيب ،مما يقع
ألمته حىت قيام الساعة ،نقل إلينا الصحابة رضي اهلل عنهم بعضها وأنسوا الكثري .وإن الرسول
37
الكرمي حرص على وحدة أمته ملا علم من قضاء اهلل الذي ال يرد ،قضاء اهلل العلي القدير
احلكيم الذي اقتضى أن تكون فنت ،وأن يبتلى املسلمون حبكام العض واجلرب ،ال يظلم
ربك أحدا ،وال يظهر الفساد يف بر أو حبر إال جزاء ملا كسبت أيدي الناس لعلهم
يرجعون .ولعلهم يؤجرون يف الدار اآلخرة إن كانوا مسلمني وصربوا واحتسبوا وقالوا
باللسان والعمل :إنا هلل وإنا إليه راجعون.
أطلع اهلل جل وعال نبيه الكرمي مبا هوكائن ال حميد عنه ،وماكان لرسول أن يأيت بآية
إال بإذن اهلل .وبإذن اهلل نطق الرؤوف الرحيم صلى اهلل عليه وسلم .نطق بوصية السمع
والطاعة ملا علم من أن نوازع االستعالء واالستكبار ستظهر ،وسيظهر التسابق إىل
السلطان ،والصراع على السلطان .فال يكن ذلك على حساب وحدة األمة ومتاسكها
الداخلي .مثن هذا التماسك الصرب ،مثنه االستبداد وما جيره من خسف للحقوق ،مثنه
الظلم وتوابعه ،صليت بناره األمة ،وصليت بنار احلروب األهلية .كانت تلك احلروب
كفيلة بالقضاء على اإلسالم لوال وصايا السمع والطاعة اليت اعتربها علماء املسلمني
دينا ومعهم السواد األعظم.
هذا اإليضاح النبوي كان العروة املتينة اليت تشبث هبا أهل السنة واجلماعة بعد أن
نقضت عروة احلكم.
ولعل كثريا مما وقع يف تارخينا من اضطراب يف السياسة واحلكم ،يف املذاهب
واالختالف ،يف الفقه والعقيدة ،يف هروب الصوفية الطييب األنفاس من امليدان وسكوت
علمائنا عن «تلبيس إبليس» يف احلكم ،راجع بعد قضاء اهلل وقدره إىل احلرية بني التشبثني
الواجبني ،بني التشبث بالقرآن ،وهو العروة الوثقى ،فيه الشورى والعدل واإلحسان ،وبني
التشبث بالسنة وفيها األمر بالسمع والطاعة والتخويف من امليتة اجلاهلية يف حق من
فارق اجلماعة .السمع والطاعة مللوك استحقوا الصفة الشائنة اليت جاءت هبا أيضا السنة
وهي صفة العض ،وظهر بعد أهنم أخلوا بالشورى وبالعدل وباإلحسان مجيعا.
من حديث مسلم والرتمذي والنسائي أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :إن أمر
عليكم عبد جمدع ( )...يقودكم بكتاب اهلل فامسعوا له وأطيعوا» .لذا ال جند حاكما عاضا فيما
38
مضى ،وال جند من حكام اجلرب احلاليني إال من يتمسح بكتاب اهلل سبحانه ظاهرا،
ويعلن والءه له وخدمته وإخالصه .فمن كان منهم من الصاحلني -وقد كان -فإننا ال
ندين األشخاص بل ندين النظام .سدد وقارب ليطبق حكم اهلل جل شأنه على واقع
متفلت .ومن كان دون ذلك فإمنا كان يلعنه القرآن وال جترؤ األمة -يف سوادها األعظم
ويف غالب األحيان -أن خترج عن طاعته خمافة الوعيد املهول.
فمن خرج من أهل السنة واجلماعة خرج لتأوله وفهمه من الوصية النبوية مامل يفهمه
غريه .كان احلسني بن علي رضي اهلل عنهما والقائمون بعده زيد بن علي وحممد وإدريس
وإبراهيم وحيىي وكل القائمني يف القرون الفاضلة من أهل البيت من أهل السنة واجلماعة،
إذ مل يكن التشيع يومئذ حتول من كونه مشايعة وانتصارا آلل البيت األطهار ليصبح
مذهبا وعقيدة.
كان هؤالء القائمون الغاضبون هلل املنتصرون للحق يعرفون األحاديث املشددة على
السمع والطاعة ولزوم اجلماعة الشك يف ذلك .لكنهم أيضا كانوا يعرفون أحاديث
الطاعةُ فيها مشروطة بأن يقود احلاكم األمة بكتاب اهلل تعاىل مثل حديث مسلم الذي
قرأناه آنفا .ويعرفون األحاديث اليت شرطت الطاعة للحاكم الذي يقيم الصالة ال ملن
يضيعها مثل حديث مسلم عن عوف بن مالك قال :مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم يقول « :خيار أئمتكم الذين حتبوهنم وحيبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم.
وشرار أئمتكم الذين تبغضوهنم ويبغضونكم وتلعنوهنم ويلعنونكم ».قال « :قلنا يا
رسول اهلل ،أفال ننابذهم عند ذلك ؟» قال« :ال ،ما أقاموا فيكم الصالة ! ال ،ما أقاموا
فيكم الصالة .أال من ويل عليه وال فرآه يأيت شيئا من معصية اهلل فليكره ما يأيت من
معصية اهلل ،وال ينزعن يدا من طاعة».
حديثان ملسلم يشرطان الطاعة بشرطني :أن يقود احلاكم األمة بكتاب اهلل تعاىل،
وأن يقيم الصالة يف الناس .فتبقى للمؤمنني مسؤولية التقدير لتمييز احلاكم الذي يقود
بالقرآن أوال يقود ،ولتقدير إقامة الصالة ما معناها وما مدلوهلا العملي .إن كان الرسول
الكرمي على اهلل املؤيد بالوحي يشري اىل مواطن القدر اليت أطلعه ربه عليها مقدما
النصائح ،فما كان له أن يستبق القدر بتفصيل ما ينبغي أن يبقى مطويا ،وال بتعيني ما
39
جيب أن يبقى إىل زمان ظهوره مسدلة عليه أحجبة السرت ،وال بتعريف حدود الشرطني
احلاكمني .كتم صلى اهلل عليه وسلم ذلك وسكت عنه ليتحمل كل مسؤوليته ،ولئال
يكون للناس على اهلل حجة بعد الرسل .فقدر اهلل تعاىل احلكيم لقضائه األزىل ال يتناىف
مع ما أثبته الشرع وما تعطيه املالحظة من كسب العباد وحريتهم يف االختيار .كان من
معجزات النيب صلى اهلل عليه وسلم أن أخرب بالفنت الطارئة على أمته من بعده ،ال يعصم
األمة عاصم من أن جتري عليها األقدار فتتميز عن سائر اخللق ،وما بلغت نصائحه
الشريفة صلى اهلل عليه وسلم أكثر من أن ترسم دائرة واسعة ،يف حدودها حيتفظ بوحدة
اجملموع دون أن تقيد مسؤولية أحد ليهلك من هلك عن بينة وحيىي من حيي عن بينة،
وإن اهلل لسميع عليم.
النشك حلظة أن احلسني بن علي رضي اهلل عنهما حني غضب غضبته وقام قومته
إمنا فعل العتقاده أن يزيد فسق عن أمر اهلل وقاد بغري القرآن وأضاع الصالة ،إنكان غريه
قدر غري ذلك ورجح الطاعة فال يعدو أن يكون جمتهدا .وإن سرتت أجيال من علماء
السنة كارثة قتل احلسني ،أو أدانتها على استحياء ،فما يهون من فداحة إخالهلم ذاك
يف أعيننا إال وجود تلك النصوص الثابتة الكثرية الداعية للحفاظ على الوحدة ،تأولوا يف
ظلها سلوك يزيد وأمثاله ،وسكتوا عن الذل واإلذالل وهم يسمعون بين مروان ويروهنم
يصفون السيف دواء ألمراض األمة ،وضرب الرقاب شفاء ،ويطبقون.
ال يعذر إخواننا الشيعة أحدا وال يهون عليهم شيء من سكوت أهل السنة
والطاعة .ومعهم من النصوص ما إليه يطمئنون جيدون فيها الوصية النبوية بلزوم الثقلني
كتاب اهلل وعرتة النيب صلى اهلل عليه وسلم .والقرآن وأهل البيت يف اعتقادهم واعتقادنا
مرتابطان .جند اإلشارة إىل هذا التالزم يف حديث للرتمذي قال إنه حسن غريب ،عن
يزيد بن أرقم رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم « :إين تارك فيكم
ما إن متسكتم به لن تضلوا بعدي ،أحدمها أعظم من اآلخر ،وهوكتاب اهلل حبل ممدود
من السماء إىل األرض ،وعرتيت أهل بييت ،لن يفرتقا حىت يردا علي احلوض .فانظروا
كيف ختلفوين فيهما».
وبعد فإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أخرب كما رأينا يف احلديث الصحيح عند
البخاري أن هالك أمته يكون على يد أغيلمة من قريش .نفهم كلمة اهلالك يف النطق
الشريف ال على أنه هناية األمة ،فإن استمرارها منذئذ اىل يومنا أربعة عشر قرنا إال أربعني
40
عاما أو مخسني ال يقبل ذلك الفهم .لكن األغيلمة ما وصلوا إىل احلكم إال ملكان
النظام الوراثي العاض الفاسد املفسد .ما كان ألمثاهلم أن يرتبعوا على السدة لو كان
أمر األمة شورى بينها ولو مل تلد العصبية املستيقظة من أسباب األثرة والتسلط ما حال
دون العدل ،وحرف مقاصد القرآن ،ودفع إىل املناصب العالية حاملي السيف ال أهل
التقوى واإلحسان.
وصول األغيلمة للحكم واستمرار استبداد أهل العض واجلربكان النقض األخطر إذ
كان نقضا للعروة العليا .كان فساد السلطان توهينا للقرآن .من شأن السلطان يف دولة
اإلسالم أن خيدم القرآن ويكون عنه وازعا مدافعا .فإذا أمسى السلطان مزورا عن القرآن،
خمالسا له خماتالكما نرى يف عصرنا ،فهالك األمة مستمر .وعلى اهلل القوي العزيز التوكل
يف أن يقف االحندار ،مث تبدأ مسرية اقتحام العقبة ،جبهد أهل القرآن بالعمل الدائب،
بالعلم النافع ،حىت يستقر السلطان يف أيدي األمناء األقوياء ،حىت تكون الدولة آلة
طيعة يف يد الدعوة تشرف هبا على عملية انتشال األمة من أودية اهلالك ،والصعود هبا
إىل الذرى .ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل.
41
من أعالي التاريخ
املشروع اإلسالمي والطموح الذي يناجي ضمري األمة وتتحدث عنه بفصاحة
مدوية أحيانا ،عاجزة مقهورة أحايني ،هذا الذي مسوه بالصحوة اإلسالمية ،أفقه
حمدود مسدود لوجود اخلالف املذهيب والستمرار الذهنية املقلدة اجملزئة اليت ال تستطيع
أن تصعد إىل قمة العلم واهلمة حيث يريدنا القرآن أن نكون.
اخلالف املذهيب بني سنة وشيعة واخلالفات اليت ال هناية هلا بني املقلدة اجملزئة تضع
إرادتنا وفاعليتنا خارج التاريخ وتبقى جسومنا وعقولنا ومصائرنا ومقوماتنا مجيعا هنبا
للجاهلية تأكلنا أفكارها وشقاقاهتا وكفرها باهلل واليوم اآلخر من داخلنا ،ويأكلنا من
خارج القهر املسلح واهليمنة اهلامجة واالقتصاد املستكرب.
اليزال حىت بني من أخذوا يفطنون للدين من يعيشون غربة مفجعة عن العامل
وحقائقه واألحداث اجلادة وجرياهنا .هذا «فقيه» أمي يف العربية ،أمي يف احلديث،
معه آيات يتلوها بصدق تام وجهل مبعانيها ومقاصدها العالية كامل ،تتحلق حوله
مجوع من العامة الراغبني يف العلم السائلني عن سبل اإلميان ،يستمعون إىل فتوى
العصر يف أمر خطري .ستعلم خطورة الفتوى حبول اهلل بعد قليل ،بعد وقفة اسرتاحة
وأية اسرتاحة !
بلد عريب يسكنه املسلمون وحيكمه ملوك اجلرب دخله السنوي مائة مليار دوالر
يف السنة .ألف مليار دوالر يف عشر سنوات هي دخل هذه الدولة يف عشر سنوات.
وهذا املقدار هو حجم مديونية عامل املستضعفني أمجع .مقدار من املال حيرر أربعة
ماليري من سكان املعمور من ربقة الدين اليت طوقت هبا العامل الفقري مصارف
املستكربين وأبناك اليهود.
حسب احلاسبون أن هذه األموال لو أحسن استغالهلا لدرت من األرباح رزقا
ثابتا مستمرا قدره ستمائة دوالر يف السنة لكل عريب .احلاسب مل خيطر بباله األخوة
42
اإلسالمية والتضامن اإلسالمي الواجبان شرعا .فإن أدخلنا هذا االعتبار يف حسابنا
فإن كل مسلم ومسلمة على وجه األرض كان يستغين عن اجلوع والعري واجلهل
واحلقارة والوسخ والذل واهلزمية واملرض بستمائة دوالر سنويا.
ت بأخالق األمة وذمتها ورجولتها هذه األموال اليت بذرت يف الكازنوهات ماذا فعلَ ْ
ويف مساعدة حلفاء أمريكا ويف اخلدمة املخلصة القتصاد األمم اجلادة اليت تبين على
الرمال الذهبية قصور إَِرَم ذات العماد ،وتبيع املصانع االستعراضية ،وأدوات الرتف،
وسفائن النزهة .ذهبت أموال املسلمني يف املنكر والسوء ،يف حشد البغايا واقتناء
ت أمة حممد صلى اهلل عليه وسلم ليحىي الفسقة الفجرة! أشرطة الفيديو اخلليعة ،ولْتَ ُم ْ
غافل أهلُها عن اهلل لغفلتهم عن شرعه الواسع العايل ،شرع حلقة ٍ وهناك يف ٍ
العدل واإلحسان واجلهاد ،يقبع فقيهنا يصدر فتوى العصر اخلطرية ،يبني حكم
اهلل يف ذبح احللزون !
ماذا فعلت باألمة قرون من احلكم العاض ،قرون من انتقاض ،بل نقض ،عروة
احلكم ،عروة الشورى والعدل واإلحسان؟ ماذا فعل بنا اخلالف املذهيب الذي جاء
نتيجة املواقف املتباينة أمام السلطان؟ ماذا كان أثر نقض احلكم على سائر عرى
اإلسالم حىت تتاىل التفتت يف عقلنا وأخالقنا ومروءتنا وآدميتنا من جراء إصابة
املقتل من ديننا؟
هذا إن شاء اهلل أوان الطلوع من الوهدة ،أوان إعادة العرى إىل َشدها بإعادة
احلكم إىل نصابه الشرعي .وما تـَبـَِّن القضايا التافهة ،واالشتغال باخلالفيات املضحكة
املبكية كاخلالف يف ذكاة احللزون الذي مل يرد فيه نص ،أنقيسه على اجلراد والسمك
أو على األنعام؟ ،إال بقايا االلتفات عن الدين إىل الدنيا وإىل الرئاسة على «أضعف
اجملانني» تتخذه الذهنيات املقلدة من الدرجة الثالثة ُسلّما إىل الظهور والشهرة ملا مل
يُتح هلا أن تصطف مع املقلدة من الدرجة األوىل عند عتبات البالط.
يهبنا الوهاب بفضله مهة عالية لننظر إىل الواقع من أعايل التاريخ ال من أسافله ،لنفهم
من مكاننا العايل ،بني يدي الرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلم يتلو علينا القرآن ويشفعه
43
بالبيان ،مل احنلت عرى اإلسالم تباعا باحنالل العروة السلطانية؟ مل سكت من سكت
وقام من قام واختلف من اختلف؟ مل مرضت األمة املرض املهلك ملا جاءت عهود
األغيلمة يسقون األمة احلِمام بالسيف ،يقتلون فيها الشهامة واملروءة؟ مل طردت إرادة
األمة من التاريخ؟ مل اغتيلت الشورى وتاهت على الكون إرادة املستبد ؟ مل غاب
العدل وطغى املرتفون ونشأت واستمرت واستفحلت يف عصرنا تقاليد «ألف ليلة
وليلة»؟ مل تفتت الدين حىت بلغنا إىل درك اإلسالم الفردي ،إسالم «املتدين» ال يرى
الدين شيئا آخر غري ركيعات ينقرهن إن كان أو رحلة يتمتع بعدها بلقب «حاج»؟
إن تتلمذنا للرسول املعلم الناصح صلى اهلل عليه وسلم مباشرة بعقلنا يتلقى
التعليم ،وبقلبنا يتعرض لفيض الرأفة والرمحة ،وبسلوكنا جيدد تاريخ اجلهاد ،وإن أخذنا
عنه صلى اهلل عليه وسلم القرآن كتابا من عند اهلل هو الضياء واهلدى واحلياة ،كنا
على املستوى الرفيع الذي ميكننا من مراقبة األمور من أعاليها ال من أسافلها.
من هناك ،تغمرنا مشس القرآن بضيائها ،ويبسط علينا بدر السنة سناءه ،يغطى
ظلنا الواقع ال يغطى ظل الواقع كياننا .حيكم عقلنا املستنري بنور العلم القرآين النبوي
معاقد الفهم ،ال يتعقد علينا الفهم .تسكن قلوبنا املقتبسة من نور اهلل إرادة ال هتزم،
ال هتزمنا صيحات العدو علينا ،نتبىن قضية الدين كاملة قوامها الشورى والعدل
واإلحسان ال تنزل بنا تفاهة األحالم وخنوع األزالم وخفاشية الظالم مع سافل الركام.
بعض الناس من املسلمني ،ومن الكتاب احملسوبني على الدعوة ،تعرتض نية
اجلهاد الصاحلة عندهم ذهنية التقليد الراسخة فيهم .فإذا هبم يفكرون ويوصون
وجيتهدون يف حدود منط احلكم األموي ،واجملد العباسي ،والشوكة العثمانية ،والفقه
الفروعي ،والعقيدة اجلدلية عند علماء الكالم ،والدفاع بال متييز عن تاريخ املسلمني
حيسبونه تاريخ اإلسالم.
من كانت ترسبات تارخينا احلافل تشغل منه العقل واخليال ،وكانت أنقاض ما
نقض من عرى اإلسالم تتمثل لديه معامل هادية ،وكان ثقل األحداث املاضية حيمله
على رأسه ،وكانت حتديات احلاضر واملستقبل ُتاكم يف تقديره إىل الرتاث الفقهي
44
الثري العظيم ال غري ،فذاك ينظر اىل األمور من أسافلها ،يظن أن صناعة التاريخ ال
تتأتى إال بوضع نفوسنا حتت كلكله.
هذه الذهنية اليت ال متيز تاريخ الفنت ،وهو تاريخ املسلمني ،عن تاريخ اإلسالم
الذي كان منوذجا رائعا يف اجتاهه وإجنازاته على عهد النبوة واخلالفة الراشدة تكيل
يف صواع أعداء الدين من بين جلدتنا دون أن تشعر .تكيل يف صواع القوميني
العلمانيني الذين يعتربون تارخينا كتلة واحدة ،نسبية كلها ،جدلية كلها ،حتمل بداياهتا
جراثيم تطورها واجنرافها ،تفسر هناياهتا يف زمن التخلف واهلزمية هذا حمدودية الدعوة
احملمدية وإقليميتها ومكاهنا يف سلم التطور االجتماعي الساري يف اجملتمعات البشرية
املؤمتر حبتمية مادية جدلية .ما كان الدين واإلميان واهلل واآلخرة والوحي إال مقوالت
إيديولوجية خدمت لزمان فات ومات مشروعا كان ثوريا يف زمانه.
هؤالء األحباب حسنو النية من املقلدة ميدون أعداء الدين باحلجة والدليل على
أن الفكر اإلسالمي فكر ماضوي ال حيسن سوى الدفاع والتربير ،ال حيسن إدراك ما
هو رهان احلاضر واملستقبل يف زمن تتسابق فيه األحداث.
عن مطلق القرآن لن حنيد بتوفيق اهلل جل شأنه ،وما كسبه السلف الصاحل من
علم وفقه روافد تغين جتربتنا .ال يضريين أن أختذ عاملا وفقيها ومذهبا دليال يف سفري
العقلي مادامت الداللة والتفقه والتأصيل عمليات تتم حتت ضوء القرآن ونور السنة.
يضريين أن أقبل تقدير غريي ،من زمانه ومكانه ونيته وظروفه ،لقضايا خطرية مثل
قضايا الشورى والعدل واإلحسان ،والزمان زماين واملكان والظروف والعزم.
لكيال تسبقنا األحداث ،لكيال ينحينا اىل اهلامش محاس ثائر ،أو كراهية لتارخينا ،أو
قبول ملأثورات الفتنة غري مشروط ،ينبغي أن نوطن األقدام على مواقف راسخة برسوخ إمياننا
باهلل ورسوله وموعوده املنهاجي ،وأن نرفع اهلمة على هامة الزمان ننتعل الثريا لنستحق أن
ِ ِ
ب قـَيِّ َمةٌ
ص ُحفاً ُّمطَ َّه َرةً ف َيها ُكتُ ٌ ول ِّم َن اللَّه يـَتـْلُو ُ ﴿ر ُس ٌ
نكون تالمذة راشدين بني يدي َ
ِ ِ ِ
اب إَِّل من بـَْع ِد َما َجاءتـْ ُه ُم الْبـَيـِّنَةُ َوَما أُم ُروا إَِّل ليـَْعبُ ُدوا اللَّهَ ِ
ين أُوتُوا الْكتَ َ
َّ ِ
َوَما تـََف َّر َق الذ َ
45
ين الْ َقيِّ َم ِة﴾(((. الزَكاةَ و َذلِ َ ِ ِ ِِ
كد ُ الص َلةَ َويـُْؤتُوا َّ َ
يموا َّ
ِّين ُحنـََفاء َويُق ُ
ين لَهُ الد َ
ُم ْخلص َ
عرى اإلسالم هل انتفضت؟ معرفة ذلك ومعرفة من أين بدأ النقض وكيف تواىل
وتسلسل فقه ضروري لنعرف من أين نبدأ الفتل من جديد .ال استعماال لألنقاض
واستنادا اىل سلطاهنا املعنوي ملا اكتسبته من شرف االنتماء اىل تاريخ املسلمني ،لكن
مبادة جديدة خالدة ال تبلى هي مادة القرآن وعلى مثال سام ال ترقى إليه املهانة هو
مثال السرية النبوية العطرة.
من تلك املرتفعات فقط ميكننا أن نبصر بوضوح ومشولية واجنماع يف فكرنا وقلبنا وإمياننا
وإرادتنا وحركتنا مواقع األقدام على أرض واقع مفتون ،وميكننا أن نسري على احملجة البيضاء
نكتشفها من جديد .قضاء اهلل عز وجل نزل يف املاضي مبا نزل ،وحتملت مسؤوليتها أمة
قد خلت منا ال نتنكر هلا وال نكون ،نعوذ باهلل ،من الذين يلعن بعضهم بعضا .وبني أيدينا
دليل إىل املستقبل الزاهر مستقبل اخلالفة الراشدة الثانية ال خيطئ الطريق ،هو بشارة سيد
ولد آدم صلى اهلل عليه وسلم .بني أيدينا جهاده املظفر وسنته حني رىب وحني مجع املؤمنني
وحني آخى بينهم وحني رسم األهداف وحني قاد وحني انتصر.
بشارة نبوية وسرية مصطفوية تعطياننا معادلة املستقبل املنشود الذي لن نسلك إليه إن
التوينا وال إن ذهبنا مذهب الذين ينبشون يف أرض األجداد فيثريون عجاجا يصعد يف اجلو
حىت يكون ظلة حتجب الضوء وتعتم على النور .إن اختذنا عجاج اخلالفيات الثائر من
أرض األجداد لواء ،واختذنا أنقاض إرادة األجداد ومواقفهم وجريان األقدار اإلهلية عليهم
وتعاملهم مع البالء النازل عمادا فلن تقوم لنا قائمة عزم ولن يتأسس لنا بناء.
موروثات جنرتها هترأ من اجرتارها جوف األمة ،هي موروثات اخلالف يتبناها
كل فريق ليخوض حلسابه وحساب الشيطان معارك مضت .يريد كائدون من حكام
فكل وقت يضيع ال نشتغل فيه جبمع جند اهلل يف كل قطر ويف كل بلد مضيعة
جلى لألمة .وكل دعاية للتفرقة املذهبية واخلالفات على ذكاة احللزون تنافس انتحاري.
وكل جهد ميكن أن خيدم الدعوة نبذرة وال نستصلحه مأساة.
لن تكون أقطارنا املوزعة قددا إال رمادا تذروه الرياح إن أضفنا اىل جهود اهليمنة
االسرتاتيجية العاملية اليت تضيق علينا اخلناق جهودنا حنن لننسف كياننا من أسفل.
نكون أقدر على املقاومة كي ال تتلفنا األحداث وتعدمنا إن لذنا بالعروة الوثقى
اخلالدة الباقية كتاب اهلل تعاىل .حول القرآن جيب أن نلتف .وبالصرب والزمن تأيت
الوحدة إن شاء اهلل ،ال تأيت بأمر يصدر إليها .يصدر إليها من أين؟ من يريدها ؟ مل
يريدها؟ من خيافها ؟ ومل؟ من يكرهها ويكيد هلا؟ ومل؟
من يقود دويالت التجزئة؟ من ميوهلم ويسلحهم؟ ما بال األهوال اجلسام تقرب
شعوب األرض لتتعاون ،وتباعد بني املسلمني احلاصلني يف قبضة احلكم املستبد
األناين ،وقبضة الدعاة املفرقة املخربة ،وقبضة األمية السياسية ،واألمية التارخيية،
واألمية األمية؟
فقه هذه األسئلة ،فقه وضعها وحبثها والتنقيب عن أصوهلا واإلجابة عنها ،كفيل
أن يرفعنا من حيث جيثو اجلاثون عند أقدام اهليمنة اجلاهلية واألموال اليهودية إىل
حيث العزة باهلل وبرسوله وبدينه ،يتيه هبا يف غد اإلسالم شكرا هلل ال استكبارا يف
األرض ألف مليون مسلم ومسلمة هم اليوم حمض غثاء.
محولتنا الثقيلة من اخلالفات والرتسبات العاطفية والفكرية ،ومن العادات
واحلسابات الفردية األنانية اليت مردها أول شيء اىل هواجس اخلوف من ظل السيف
وقهر السلطان تشل إرادتنا وتردع نوازع اإلميان فينا .فريكبنا كابوس الشك واحلذر
واالنطواء على إسالم فردي وفقه جزئي ووالء هلل ورسوله ودينه .ال نتوجه به اىل
52
مطالب الشريعة
نقضت وحدة األمة بانتقاض احلكم .وضعف اإلسالم التارخيي بنية منذ انفكت
تلك العروة .وكل ما نشأ من حروب داخلية بني املسلمني ،ومن فنت مذهبية ،ومن
مروق وزندقة ،ومن احنراف يف العقيدة وثورة وعنف فإمنا مرده بعد تعميق النظر إىل
ذلك االنفصام األول.
أكتب هذا واحلرب الضروس اجملنونة بني إيران الثائرة باسم اإلسالم والعراق الفائزة
باسم القومية توشك أن تنهي عامها السابع .مظهر آخر من مظاهر «االنفصام
النكد» التارخيي
وشرارة من ناره .وإن ما نعيشه ونشاهده يف هذه النكبة املؤملة مضافا إىل ما
عشناه من نكبات احتالل القدس وخذالن حكام اجلرب لألمة مبا منعوها من توحيد
جهودها لتجاهد عدوها ،ومبا بددوا من أرزاق ،ومبا والوا الكفار وضحوا باملقدسات
ليحتفظوا بالسلطان مهما متزقت األمة وافرتقت وأهينت ،كل ذلك يلح على ضمرينا
لنعيد النظر فيما رتبه علماؤنا من قبلنا يف حديثهم عن مقاصد الشريعة.
كان املقصد األمسى من بعثة اخلالق العظيم سبحانه رسله إىل خلقه جليا جمتمعا
كامال متكامال يف فهم الصحابة على عهد النبوة واخلالفة على منهاج النبوة اليت
مل تدم أكثر من ثالثني سنة بعد انتقال املصطفى صلى اهلل عليه وسلم إىل الرفيق
األعلى .كان ذلك املقصد اجلليل جليا يف العقول والقلوب والنيات والعمل اجلهادي
جبالء القرآن ونصاعة بيانه وحيويته الدافقة .هذا املقصد هو أن يكون الدين كله هلل،
وأن ال تكون فتنة يف األرض ،وأن يدخل اخللق مجيعا يف طاعة اهلل ليحققوا الغاية اليت
ون﴾((( أمة واحدة النس إَِّل لِيـ ْعب ُد ِ
ِ من أجلها وجد العامل﴿ .وما َخلَ ْق ُ ِ
َُ ت الْج َّن َو ْ َ ََ
حتمل رسالة للعاملني تبلغها وجتاهد عليها وتتوحد عليها وحتكم مبقتضاها.
59
مقاصد الشريعة
يقول الشاطيب اإلمام يف أول «كتاب املقاصد» وهو جوهر كتابه «املوافقات»
وفصه « :واملقاصد اليت ينظر فيها قسمان :أحدمها يرجع إىل قصد الشارع ،واآلخر
يرجع إىل قصد املكلف» .ويف مقدمة تفصيله هلذه اجلملة ذكر املؤلف رمحه اهلل
مبسلمة جعلها مقدمة لكل مناقشاته يف الكتاب وهي « :أن وضع الشرائع إمنا هو
ملصاحل العباد يف العاجل واآلجل معا» .العاجل الدنيا واآلجل اآلخرة .يف عصرنا
هذا ،واملسلمون منهزمون فكريا كما هم منهزمون عسكريا (وحىي اهلل أسد اجلهاد يف
أفغانستان ،لوالهم لنسينا أن فينا رجاال البتة) ،يكثر الكتاب من احلديث عن مقاصد
الشريعة ومن ضمنها «حفظ الدين» ليقدم الكاتب املدافع عن «األصالة اإلسالمية»
نصوصه وحجته على ان اإلسالم دين مصلحة وحضارة .مث ميضي يف مقارنته التفصيلية
بني شرائع اإلسالم والشرائع الوضعية ،كل ذلك على مستوى احلياة الدنيا ،ناسيا ذكر
اآلخرة والبعث واحلشر واملوقف وامليزان واجلنة والنار ،طاويا عنها الكشح ،خجوال عن
سرد «الغيبيات» يف معرض تقاس فيه مصاحل العباد باألرقام واإلحصاء والكم واللذة
و«السعادة» ومستوى املعيشة وأمناط التنمية ومردودية االستثمار ومصادر التمويل
واسرتاتيجيات التصنيع .يغطي هذا الفيلق من «األشياء» على بصر من يرى من حتت
التحت إىل إسالمه ،ويغطي على بصريته ،فإذا إسالمه مذهب اقتصادي سياسي أو
ما شئت من تصنيفات العصر .وإذا اآلخرة سراب ،ال حساب وال عقاب ،واألمر
أُنُف كما كان يقول اجلاهليون األولون .وقد يكون لعارض اإلسالم الكاتب املفكر
الباحث املنبهر «بأشياء» العصر إميان باهلل واليوم اآلخر ينطوي على بصيص منه،
ال يكاد يبني عنه ،فهو أشبه أن حيسب من باطنية الزمان لشدة ختفيه وتكتمه كأن
ما يضمره بدعة وضاللة.
جفت الكتب «اإلسالمية» من ذكر اآلخرة نعوذ باهلل ،وتسطحت على سوق
املفاضلة يف املصاحل وضماناهتا بني قوانني جاءت من شرق يؤمن بالوحي والرساالت
60
وغرب وضعي مصلحي طلق ذلك اإلميان .احذف كل إشارة إىل الوحي وغيبياته
لتحظى مبصداقية عند قرائك .وسالم على الدعوة ! وسالم على الدين !
إن كان يف خطاب عامل القرن الثامن ترسبات وحتفظات وسكوت ،فما بلغ تأثري
الفتنة أن يغيب ذكر اهلل وذكر اآلخرة واجلزاء ،وال أن يسكت عنه ،وال أن يستغين
عن التذكري به ،مسلمة ثابتة معرفة املسلمني باملسلمة .كانوا رجال دعوة وإميان ،وإن
غلب طابع الفقهية القانونية على أسلوب العرض.
فهذه مزية يفضلوننا هبا ألهنم كانوا يرمقون من أعلى اإلميان باهلل والثقة به ثقة
مستعلية على الكفر رغم ما كانوا يعيشون من عيش غري هينء يف كنف احلكم
الفاسد والعقل املتجمد.
مقاصد الشرع يف رأي الشاطيب ترجع عند النظر إىل قصد الشارع وقصد املكلف.
نرتكه لتفريعاته الوافية الضافية وىف اهلل له ونقف حنن وقفات نطل فيها من إزاء القرآن
والسنة على تلك الساحة.
وقفة أوىل لنميز بني قصد اهلل الكوين وقصده الشرعي .قضاء اهلل جل شأنه
قصد سابق يف أزله ،واقع ال حمالة بقدر .إرادة مدبر حكيم شاء أن تكون الدنيا دار
﴿ما
امتحان ،أسئلة هذا االمتحان عويصة ،األجوبة عنها من كسبك أنت املخلوق َّ
ك﴾((( هلك القدرية ك ِمن َسيِّئَ ٍة فَ ِمن نـَّْف ِس َ
َصابَ َ ك ِمن ح ٍ ِ ِ
سنَة فَم َن اللّه َوَما أ َ
َصابَ َ ْ َ َ
أَ
ملا عطلوا القضاء اإلهلي ،وهلك اجلربية ملا أنكروا اختيار العبد ،وهلك املرجئة ملا مل
يرتبوا على الكسب ما رتبه القرآن من جزاء.
أما قصد اهلل تعاىل الشرعي فهو أمره وهنيه كما جاء يف القرآن والسنة .أمر وهني
تعرتيهما أحكام الوجوب واالستحباب ،أو احلرمة والكراهية ،أو يوسع سبحانه على
عباده باإلباحة والعفو.
قصدان يلتقيان حبكمة يف ملك اهلل وملكوته ،ال دخل للعباد يف امللكوت وإنكانت
ألفعاهلم الصاحلة أو الطاحلة نتائج هناك يف صحف الكرام الكاتبني ويف زيادة اهلل هدى
1من حديث متفق عليه من رواية اإلمام علي كرم اهلل وجهه.
62
لقاء السعادة والتوفيق هو أن يطابق قصد املكلف بالنية وبتوجهه بالعمل أمر اهلل
ورسوله الشرعي ،مهما كانت النتائج القدرية فالعبد راض ،ما دام مل يقصر يف واجب
فرضه اهلل عليه ،ما دام مستغفرا لذنبه وخطئه يف االجتهاد.
عنما كنا نناقش منذ حني األسباب اليت جعلت سلفنا الصاحل رضي اهلل عنهم
يسمعون ويطيعون مللوك العض ،وكان الفاسدون املفسدون الذين ظهر هالك األمة
على أيديهم ،ذكرنا أن مواقع القدر يف تاريخ املسلمني أطلع عليها رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم وأخرب هبا وأوصى معها بالسمع والطاعة ليكون لقاء أعمال املسلمني بإرادة
امللك القهار عز وجل لقاء رمحه وحفظ .وهم كانوا مأجورين زادهم اهلل من فضله،
مأجور من سكت ،مأجور من خالفه يف التقدير فتكلم ،مأجور من اجتهد بصدق
يف أسلوب تغيري املنكر فقام فحمل السالح ،أو هرب إىل اجلبل واخللوة ،إن شاء اهلل.
لقاء كان على قدر ،والنيات كانت تفيض إخالصا هلل تعاىل ،واألعمال جادة،
والتفاعل مع األحداث حيا .مل يكن االستسالم غري املشروط والتسرت وراء القدر
املهيمن إال من حظ جربية العقيدة أو جربية اخلوف .واجلربيتان كثريا ما تتساندان
وتربر إحدامها األخرى .وألمر ما جند «التقدميني» االشرتاكيني منهم والقوميني
يف زماننا يلهجون بذكر املعتزلة القدرية ،ميتدحون عقالنيتهم وثوريتهم .هذا زيغ
معاصر عن اجلادة ،زيغ ذات الشمال دفعت إليه يف زمحة االضطراب الذي وقعت
فيه األمة بعد اندثار الشورى والعدل واإلحسان دوافع البحث بأي مثن عن وسيلة
إلنكار الدين وحربه .فأي حفظ للدين حنتاج؟ بل أي طلب يلزمنا والدين غريب
حماصر؟
من جربية هذا الزمان ،وهم جبرية قعود ومخول وجنب ال غري ،من تسأله« :أما حتب أن
يكون لإلسالم دولة وأن يكون الدينكله هلل؟» فيجيب« :بلى وألفكرامة!» .فإذا سألته مل
ال تضع يدك يف يدنا لنتعاون على إقامة دين اهلل؟ أجاب بأن اهلل قادر لو شاء على إظهار ما
تتعبون أنفسكم فيه .الكفرة لعنهم اهلل قالواكما حكى القرآن الكرمي ﴿لَ ْو َشاء اللّهُ َما َعبَ ْدنَا
ِمن ُدونِِه ِمن َش ْي ٍء نَّ ْح ُن َوال آبَا ُؤنَا َوالَ َح َّرْمنَا ِمن ُدونِِه ِمن َش ْي ٍء﴾(((.
1سورة النحل.35 ،
63
وكأن لسان حال الكافرين بنعمة اهلل من قاعدي اجلنب يردد ما قاله من قبل من قص
ين َنف ُقوا ِم َّما رَزقَ ُكم اللَّهُ قَ َ َّ ِ
اهلل تعاىل علينا إمساكهم حيث قال﴿ :وإِ َذا قِيل لَهم أ ِ
ال الذ(((َ َ ْ َ ُْ َ
ض َل ٍل ُّمبِي ٍن﴾ . ِ َّ آمنُوا أَنُط ِْع ُم َمن لَّ ْو يَ َ ِِ
َ ي ف لَّ ِ
إ م ن ِ
ش ُ ُ ََُ ْ ُْ
َنت
أ إ ه م ْع
ط َ
أ ه ل ال اء َك َف ُروا للَّذ َ
ين َ
كانت نياهتم رمحهم اهلل تفيض إخالصا هلل تعاىل .هذا هو الظن بالقرون الفاضلة
الثالثة األوىل وبكل سلفنا الصاحل من بعدهم .ما كانت الزندقة وال العقائد البدعية
وال حواشي احلكام املغردين بأناشيد النفاق إال هوامش على أطراف جمتمع فاضل يف
جمموعه ملتف حول أهل اخلري من العلماء العاملني.
التفافه ذاك وصمود أهل اخلري يف وجه احلاكمني باهلوى حفظ اهلل عز وجل هبما مقاصد
الشريعة من التلف .وحفظها بتقوى املتقني وإميان الكافة باليوم اآلخر وبرب العاملني.
إننا إذ نتكلم عن االنكسار التارخيي ،وعن نقض عروة احلكم يف وقت مبكر،
وعن احنسار األمر باملعروف والنهي عن املنكر بعيدا عن ساحة احلكم الوراثي
العاض ،وعن التجزئة يف عقل املسلمني وأرضهم وفهمهم للدين جتزئة ناجتة عن
االنفصام األعلى ،ال نضع موضع الشك سالمة األمة املرحومة املرعية بعناية اهلل جل
وعال .بل يؤكد استمرارها يف الوجود وما كتب هلا من انتصارات ومسامهات يف حترير
بين اإلنسان من عبادة األوثان وقهر احلدثان هذه السالمة اجلوهرية اليت مل يلوثها
فساد احلكم ،ومل حيطم سفينتها االنكسار التارخيي ،ومل خيل احنسار املخزي ُ
َ التلويث
َ
األمر باملعروف والنهي عن املنكر عن ساحة احلكم بالوظائف احليوية لنفي اخلبث
عن اجملتمع ،ومل مينع غياب الشورى يف القمة عن وجود اجتهاد يف القاعدة ،ومل يقض
الظلم االجتماعي املرتتب عن الظلم السياسي على املسلمني بإسالمهم دين العدل
واإلحسان.
هذه القوة املاسكة احلافظة هي عناية اهلل تعاىل هبذه األمة عناية متثلت يف اإلميان
باهلل وباليوم اآلخر .كان اإلميان بالبعث والنشور وازعا قويا مشرتكا عاصما من
االنفالت إىل مثل ما نرى يف عصرنا .كان اجلو العام جو إميان ،وكان الرأي العام رأي
إميان ،وكان لآلخرة وحقائقها وجود يف حياة الناس اليومية ،يف عباداهتم ومعامالهتم.
66
بإزاء القرآن
إن ارتفعنا بإزاء القرآن وقارنا بأهل القرآن يبدو لنا املسلمون الذين عانوا من
بعدهم ما عانوا وامجني حتت ظلة أظلمها ذهاب الشورى ،وكدرها انعدام العدل،
وسودها استتار أهل اإلحسان وهروهبم من امليدان.
لكن مقلدة العصر الذين ال ترقى هبم اهلمم إىل االقتباس املباشر من كتاب اهلل
وسنة رسوله ،والذين جيعلون بينهم وبني منبع اهلدى ومبعث النور رجاال كان هلم
يف زماهنم غناء رغم البالء ،ختتلط عليهم اجملاالت ،وتتفرع هبم السبل ،فال يكادون
يهتدون سبيال ،تائهني بني مفاهيم العصر املادية ،ملفقني منها ومن اجتهادات
مضت .يلبسون أفكار الغرب سرابيل إسالمية وجيردون أقوال السلف من معناها
ومشوليتها ،فهم من حتت التحت ،أىن يصرفون !
عرب اإلمام الشاطيب رمحه اهلل عن ذات صدر تلك األجيال الصاحلة بصالح
مجعها هلم الدنيا مع هم اآلخرة حينما صاغ فهمه ملقاصد الشريعة مستعمال كلمة
«حفظ» .كان معهم رمحهم اهلل شيء يستحق يف نظرهم أن حيفظ.
حنن يف زماننا نقدر أن ما ضاع منا كثري وأن ما بقي آئل إىل ضياع إن مل ننهض
للطلب ،طلب اإلسالم كله ،طلب اإلميان بشعبه ،طلب اخلالفة على منهاج النبوة،
طلب الشورى والعدل واإلحسان.
لنرتك مساءلتهم أحسن اهلل إلينا وإليهم عن عرى اإلسالم اليت مل يقوموا
إلعادة بنائها بعدما نقضت ،فإن يف معلناهتم اليت عرب عنها الشاطيب يف مقدمة
كتابه وخامتته لكالما بليغا يفسر حتفظهم وسكوهتم عن أشياء وزفراهتم املكتومة
تكاد تلفح من وراء القرطاس .ولنتتبع تقسيمهم ملقاصد الشريعة لنكتشف يف كل
67
موقع دعوا إىل حفظه مضيعة جيب علينا طلبها ولينفتح لنا باب الفهم ملطالب
أخرى مل ختطر هلم على بال ألهنا يف نظرهم كانت حاصلة .منها توحيد األمة
مثال .فهم كانوا يعيشون وحدة شعوب مجعها اإلسالم ال تكاد تشعر بالتفرقة اليت
فرقتها اإلمارات السيفية ،واللغة والسحنة والقطر .مل يكن يقدح يف وحدهتم تلك
وجود خالفات مذهبية يعيشون صراعاهتا الكالمية أو العنيفة داخل إطار الوحدة
ال خارجه .ما كانوا ليتصورا ما فعلته بنا الدولة القومية القطرية ومتزقات وجتزئات
فرضها االستعمار بعد ذهاب شوكة اإلسالم العثمانية.
قال الشاطيب رمحه اهلل« :واحلفظ هلا (يعين حفظ مقاصد الشريعة) يكون بأمرين،
أحدمها ما يقيم أركاهنا وتثبت قواعده وحيفظ وجوده باحملافظة على أصول «العبادات»
كاإلميان والنطق بالشهادتني والصالة والزكاة والصيام واحلج وما أشبه ذلك» .وعنده
جانب ثان من مقاصد الشريعة مساه «العادات» ،وترجع إىل «حفظ النفس والعقل
من جانب الوجود أيضا كتناول املأكوالت واملشروبات وامللبوسات واملسكونات وما
أشبه ذلك ».وعنده جانب «املعامالت» ،وهي «راجعة إىل حفظ النسل واملال من
جانب الوجود ،وإىل حفظ النفس والعقل أيضا ،لكن بواسطة العادات».
ألفنا يف زمننا تقسيمات العصر إىل جماالت منها الديين والثقايف والسياسي
واالقتصادي واالجتماعي .وليس تقسيم علمائنا رمحهم اهلل أقل مشولية وال أقل جدارة
باالعتبار ،ومن اإلنصاف احملض أن حنكم بأن تقسيماهتم كانت أوىف وأدق وأحكم
ألهنا تدخل يف معادالهتا اإلنسان فتجعله مركز الدائرة ،إىل مصلحته يف الدنيا واآلخرة
يرجع كل شيء من أشياء احلياة وأنظمتها وصناعتها .ال جرم يكون ذلك كذلك ويف
مقدمة اهتمام الفقيه األصويل «حفظ الدين» .ومن واجب حفظ الدين ،ويف خدمة
حفظ الدين ،تتفرع واجبات حفظ النفس والعقل ،وحفظ النسل واملال.
خارطتان متثل إحدامها خمطط اجلاهلية وبرناجمها ،يف خاناهتا الثقافة والدين كما
يفهم الدين اجلاهليون ،والسياسة واالقتصاد ،واالجتماع .ومتثل األخرى مقاصد
68
اإلسالم ،ومطالبه يف إقامة الدين ،وتثبيت أقدام اإلنسان يف األرض ،آمنا على نفسه
وماله ونسله ،متزنا يف عقله ،مستعدا للرحيل خبطى مطمئنة من الدنيا وامتحاهنا إىل
اآلخرة ونعيمها .ضع اخلارطة األوىل على وجه الثانية ،فرمبا يغطي االقتصاد و«علم
النفس» وعلم الطب وسياسة اإلسكان وسياسة احلكم والضمان االجتماعي يف
اخلارطة األوىل بعضا أو كثريا من أقسام «العادات» و«املعامالت» يف اخلارطة الثانية.
وتبقى مساحة شاسعة ال متتد خارطة اجلاهلية لتغطيتها هي مساحة معىن وجود
االنسان ،مساحة اآلخرة واملصري إليها وعالقة هذا املصري بسلوك اإلنسان واستقامته،
ورفقه ال عنفه ،وبذله ال أنانيته ،وعطائه ال تبذيره ،وأخالقية الرمحة باخللق وإطعام
املساكني ال وحشية االستهالك الباذخ واملستضعفون يف األرض ميوتون جوعا.
أين تقع الدميوقراطية وهي عصارة التجربة اإلنسانية من الشورى وهي تنزيل
العزيز احلكيم خللقه لوال أن الدميوقراطية واقع يتمتع بإنسانيته غرينا وميثله مسرحا
هزليا حكامنا ،ولوال أن الشورى نظام غائب ومطلب عزيز دون حتقيقه أشواط من
اجلهاد؟
تقع «الدميوقراطية-الواقع» من «الشورى-املطلب» يف رياض القرطاس ويف
تأمالت الكاتب موقع التحدي الفكري .لكنها يف حياة األمة حتد حيوي ،يضيع
الدين وتضيع األمة إن استمر االستبداد العاض .ويطلق الناس الدين العتناق دين
الدميوقراطية ألن من معاين «احلريات العامة» ضمان كرامة الفرد وحتلله من كل قيد
يكبح شهواته .حتد قاتل ،فإما دميوقراطية إنسانية دوابية إباحية وإما شورى يكون هبا
أمرنا على جادة الدين.
كان علماؤنا حىت يف القرن الثامن يف أندلس الطوائف يتكلمون من موقع
استعالء حضاري .مل يكن أمامهم أي حتد معنوي يصول عليهم بتفوق منوذجه.
لذلك كان حفظ ما عندهم غاية سؤهلم.
نتساءل حنن أين تقع «االشرتاكية-الواقع» وهي عصارة التجربة اإلنسانية من
العدل الذي أمر به اهلل جل شأنه عبادة وأحل يف األمر؟ أين تقع االشرتاكية الواقع،
69
االشرتاكية النموذج املعروض الذي تغري الدولة العظمى السوفياتية التائبة من جتربتها
االشرتاكية باقتنائه ،االشرتاكية املفتاح السحري ملشاكل العامل املختلف ،من العدل
اإلسالمي املطلب؟
أ َِمن الدميوقراطية نبدأ ،وإذن ال نصل إىل االشرتاكية .أم نفرضها اشرتاكية ،وإذن
فهو استبداد حزب باسم طبقة ،فال حرية .أو جنعلها اشرتاكية دميوقراطية نقلد يف
تلفيقها جمتمعات ثرية مصنعة تعيش يف حببوحة وحنن مهل فقراء ،أيديهم وعقوهلم
صناع ،وحنن عقولنا وأيدينا اخلرق بعينه؟
بأي مثن من ديننا وكياننا نشرتي دميوقراطية جاهزة أو نُدخل خلسة اشرتاكية
مستوردة نفرضها بعد باحلديد والنار؟
أين تقع اإلنسية اجلاهلية و«حقوق اإلنسان» واألخالق والفلسفة والفنون ،وهي
واقع هناك ،من اإلحسان وهو مطلب كامن يف قلوب املؤمنني باهلل وباليوم اآلخر
غائب عن واقع املسلمني؟
كيف الطلب لكل ذلك؟ من يطلب؟ وممن يطلب ومع من يطلب؟ وضد من
يطلب؟
أسئلة ما طرحها ،وأىن له ،من يردد عبارات األجداد الداعية إىل حفظ املقاصد
اخلمس الضرورية :حفظ الدين ،حفظ النفس ،حفظ العقل ،حفظ النسل ،حفظ
املال .يردد ويفرع ،بعناد وتبلد ،وكأن الدين حاكم سلطانه يف بالد املسلمني،
و«العادات» مستقرة حيث تركها األولون آمنة من عاديات الزمن ،و«املعامالت»
منتظمة على ما قرروه .حتفظ على ماذا إذن يا فقيه وحتافظ؟
70
االجتهاد وتحقيق المناط
ذكر دليلنا احلكيم يف مسالك األصول اإلمام الشاطيب أعلى اهلل درجته أن أركان
مصاحل الدنيا والدين تقوم ،وأن قواعد املقاصد الشرعية تثبت ،مبراعاهتا «من جانب
الوجود» ،وذلك باحملافظة على «العبادات» مثل النطق بالشهادتني والصالة وسائر
الفرائض ،وباحملافظة على النفس والعقل مبا حيقق هلما الضروريات من «عادات» مثل
املأكوالت واملشروبات وامللبوسات واملسكونات ،وباحملافظة على النسل واملال من
خالل احملافظة على «املعامالت» اليت تلتقي يف شروطها وأهدافها مع «العادات».
احلفظ من «جانب الوجود» عبارة عن األعمال اإلجيابية املكلف هبا العباد
واملضطر إليها كل أفراد اجملتمع يف حياهتم اليومية واالقتصادية والتجارية واملالية
واألسرية االجتماعية .داخل كل ذلك حتت جناح «العبادات» اليت هبا حيفظ الدين.
احلفظ «من جانب الوجود» بالعادات واملعامالت عبارة عن اختاذ كل الوسائل
املشروعة املبلغة إىل األهادف الدنيوية مبا فيها األمن من العوز واخلوف ،والعافية يف
النفس والعقل ،واالطمئنان يف املأوى واحلياة الزوجية االجتماعية .وسائل دنيوية يقننها
الشرع تضمن الوصول إىل األهداف الدنيوية ،أهداف األمن واالستقرار والسالمة
من اهلموم املادية .وتأيت «العبادات» ،وهي أعمال ال دخل للعباد يف وضعها وال يف
مناقشتها ،فتكسو السعي يف األرض وتدبري املعاش معىن وتعطيه روحا .تعطيه معىن
بتوجيهيه إىل الغاية األخروية ،وتعطيه روحا بإيقاظ قلب املؤمن إىل حقيقة ما خلق
من أجله ،أال وهو العبودية هلل تعاىل وابتغاء فضله وجنته ورضاه ووجهه الكرمي.
إن تصفيف املقاصد الشرعية تصفيفا أفقيا هكذا الواحد تلو األخر( ،حفظ الدين
حفظ النفس ،حفظ العقل اخل) يغيب عن الرتتيب النوعي بني الوسائل واألهداف
71
الدنيوية وبني الغاية األخروية .وذلك تفويت خمل بكل مقاصد الشرع ،ولئن كان
اجملتهدون يف أزمنة سبقتنا يستغنون عن اإلحلاح يف هذا الباب باإلشارة حلضورهم
وحضور جمتمعهم املتشبع بالدين مع اهلل عز وجل ومع اآلخرة ،فإن اجملتهدين يف
أزمنتنا جديرون أن يصنفوا املقاصد بصفتها مطالب هلا أولوياهتا وبينها االتباطات،
جيب أن تتظافر كلها لتوفري الضرورات البدنية والنفسية واالجتماعية للعبد حىت يتفرغ
العبد للجهاد إىل ربه يف سبيل ربه.
ويذكر شيخنا الشاطيب رمحه اهلل أصال رابعا من أصول املقاصد هو أصل
«اجلنايات» .إىل جانب «العبادات» و«العادات» و«املعامالت» اليت حتفظ املقاصد
«من جانب الوجود» تأيت «اجلنايات» اليت حتفظها «من جانب العدم» ،قال بأن
مراعاة املقاصد من جانب العدم يعين حفظها من «االختالل الواقع أو املتوقع فيها».
وجيمع حتت اصطالح «اجلنايات» األمر باملعروف والنهي عن املنكر.
نلمس يف عبارة املؤلف رمحه اهلل اجململة املقتضية أن حصر «اجلنايات» يف
دائرة األمر باملعروف والنهي عن املنكر التفات عن تعيني مصدر اجلناية الكربى
على مقاصد الشرع أال وهو احلكم إذا كان احلكم فاسدا غري شوري وال عادل وال
إحساين .جناية األفراد على الدين ومقومات الدين يعاجلها القضاء واحلسبة واليقظة
العامة .وهذه الثالثة من مظاهر األمر باملعروف والنهي عن املنكر .لكن جناية الدولة
على الدعوة ومروق النظام احلاكم من الدين أو من مقتضياته األساسية كالشورى
والعدل واإلحسان إخالل فاحش يتعاظم أن يتعرض له القضاء أو حتاسبه احلسبة أو
ينكره اآلمرون باملعروف إن مل يكن هؤالء اآلمرون قوة مجاعية سياسية يرفضون احلكم
العاض واجلربي ويتظاهرون على إقامة دين اهلل بإقامة اخلالفة على منهاج النبوة.
التفات من فقيه فردي نوازيل مغمى عليه؟ كال فصاحبنا رضي اهلل عنه واسع
األفق عميق النظر .لكن ما احليلة والواقع ثقيل واحلفاظ على ما هو كائن ارتكاب
ألخف الضررين؟
عند األصوليني عبارة جارية هي «حتقيق املناط» .وحتقيق املناط هو« :أن يثبت
احلكم مبدركه الشرعي» .ويف تعريف األصوليني عامة هو « :أن يقع االتفاق على
72
ِعلِّية وصف بنص أو بإمجاع» ،ال حنب أن نزاحم أهل االختصاص أيدهم اهلل يف
توجيه العبارات الفنية الدقيقة .فنقول بلغة عامة بسيطة بأن حتقيق املناط هو فهم
الواقع ملعرفة مواقع األمر والنهي الشرعيني وتنزيلهما فيه .هو تطبيق الشرع على الواقع،
تغيري الواقع ليطابق الشرع ،معاجلة الواقع ليحكمه الشرع ال اهلوى .بدون هذا الفهم
وهذا التنزيل وهذا التطبيق تبقى الشريعة نظرية عائمة يف الفضاء« ،ولو فرض ارتفاع
هذا االجتهاد (االجتهاد يف حتقيق املناط) مل تتنزل االحكام الشرعية على أفعال
املكلفني إال يف الذهن».
كان االجتهاد فيما مضى قضية فردية ،كان إسالم املكلفني فرديا حتت مظلة
شوكة اإلسالم ،فتطابق اجتهاد املفيت والقاضي مع اهتمام املسلمني كل يف خويصة
نفسه أو مشاكله يف دوائر حمصورة .كان اجملتهد مدفوعا عن دائرة األمر العام ،دائرة
احلكم ،معزوال عن شؤون الدولة وجباية املال وتسيري اجليوش وتدبري السياسة .فإن
أبدى اجملتهد رأيه يف «السياسة الشرعية» فإمنا هو آمر باملعروف ناه عن املنكر من
خارج ويف حدود ال ينبغي أن يتعداها .وإن كان قاضيا عاما مثل أيب يوسف صاحب
أيب حنيفة أو أقضى القضاة مثل املاوردي اتسعت معرفته بالواقع حبكم مشاركته من
أعلى دون أن تتسع سلطته مبا ميكنه من تغيري هذا الواقع.
يف دولة اخلالفة على منهاج النبوة جيب أن يكون االجتهاد قضية مجاعية،
شورية .استفحل الواقع ،وتفاقمت مشاكله ،وأمعن يف الشرود عن الدين ،وجتاوز كل
ما ورثناه من فقه حىت أصبح مناط األحكام فيه ال يكاد يبني .من أين منسك الواقع
لندخله يف حوزة الشرع ،كيف نراوده ،كيف نرغمه ،كيف نتدرج إىل تطويعه؟ ال
يستطيع اجملتهد الفرد أن ينهض لذلك وحده مهما كان متكنه من علوم الشريعة .البد
من إشراك ذوي االختصاصات املتنوعة ،البد من معاهد ترعاها الدولة اإلسالمية يوم
ال تكون الدولة جانية على الدين ،يوم تكون دولة الشورى والعدل واإلحسان.
73
االستنباط في خدمة القصد
قال اإلمام الشاطيب رمحه اهلل « :إمنا حتصل درجة االجتهاد ملن اتصف بوصفني:
أحدمها فهم مقاصد الشريعة على كماهلا ،والثاين التمكن من االستنباط بناء على
فهمه فيها ( .)...وأما الثاين (أي التمكن من االستنباط) فهو كاخلادم لألول».
كانت عدالة العلماء وتقواهم وإمياهنم باهلل رب العاملني واعتصامهم بشريعته أمرا
مسلما .لذلك مل يتحدث الشيخ إال عن فهم املقاصد وعن التمكن من االستنباط،
ومها كفاءتان عقليتان .يف زماننا كثر املنافقون عليمو اللسان ،لذلك نسبق شرط أن
يكون اجملتهدون الشوريون املتشاورون من أهل اإلميان واإلحسان .ال نأخذ إمياهنم
أمرا مسلما حىت نعرف ذلك عنهم بربهان الصدق نقتضيه منهم على حمك األيام
واألحداث والصرب على اجلهاد.
لكيال ننزلق إىل متاهات «اإلسالم السياسي» يلزم أن حنقق مناط التكليف
بتنفيذ مقاصد الشريعة ،ذمة الفرد املسلم كانت مناطا لتكليف زمان التفتت واإلسالم
الفردي كما نظر لذلك علماء ذلك العصر .قال أستاذنا « :واملقاصد اليت ينظر فيها
قسمان :أحدمها يرجع إىل قصد الشارع ،واآلخر يرجع إىل قصد املكلف».
نعم مسؤولية الفرد يف آخر املطاف هي املعتربة ألنه يأيت ربه يوم القيامة فردا،
وحياسب على أعماله هل طابقت مقاصد الشرع نية وتنفيذا ،التزر وازرة وزر أخرى.
لكن أين مجاعة املسلمني املخاطبة يف القرآن بيا أيها الذين آمنوا ،املكلفة حبمل رسالة
القرآن؟ هل تساءل علماؤنا عن البناء األول للجماعة اليت شيدها رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم على الوالية اجلهادية بني املهاجرين واألنصار؟ أين ذهبت بنايتها مع
األجيال وكيف تفتتت ،ومن وقتها حىت انسحب الفقه من الساحة العامة واحنصر يف
الفتوى الفردية و«اجلنايات» الفردية استجابة حلاجات إسالم فردي؟
74
إن مسؤولية االجتهاد واستنباط أحكام شرعية هلذا الزمان ،وملصاحل األمة يف هذا
الزمان وهذه الظروف ،ال ميكن أن يتحملها إال مجاعة املسلمني .التزال هذه اجلماعة
مشروعا يف ضمري األمة يسعى لتحقيقه رجال الدعوة وفقهم اهلل .املكلف الفرد مهدد
إن عاش يف جمتمع مفتون يف دينه ونفسه وعقله ونسله وماله .ال يستطيع حفظ شيء
من ذلك ال من «جانب الوجود» وال من «جانب العدم».
فيكون بناء مجاعة املسلمني لبنة لبنة حىت وحدة املسلمني كافة عرب حدود
األقطار املوروثة عن فتنة القرون وعن االستعمار هو املطلب األساسي يف تصنيفنا
للمطالب الشرعية« .قصد الشارع وقصد املكلف» تعبري جتريدي فرداين .اجلماعة
الداعية إىل اهلل الساعية لبناء جمتمع إسالمي موحد وحكم شوري وعدل وإحسان هبا
يناط اجلهاد لتحقيق املقاصد الشرعية ،تومن هبا اجلماعة وحتملها وتقاتل من أجلها
وتطلب باملال والنفس حتقيقها .ويأيت االجتهاد حيا مواكبا حلركة حية ،ممهدا يف اجملال
الفقهي لتقدم الركب اإلمياين الذي رباه اإلحسان ،وحركه الغضب هلل ،وربط على قلبه
حب اهلل ورسوله ،وأطربه حنو األهداف والغاية موعود اهلل الذي ال يتخلف باخلالفة
على منهاج النبوة وبالسعادة يف دار البقاء.
العضوية يف مجاعة من مجاعات الدعوة ،مث مجاعة املسلمني املوحدة العاملية ،جاد
اهلل لناهبا بكرمه ،شرط يف اجملتهدين أهل الشورى والعدل واإلحسان.
إن من سبقونا بإميان ،غفر اهلل لنا وهلم وأحلقنا هبم على سرر متقابلني ،رتبوا
املقاصد العليا وحصروها يف مخسة مقاصد اتفقوا على وجوب احلفاظ عليها :حفظ
الدين ،حفظ النفس ،حفظ العقل حفظ النسل حفظ املال .زاد بعض املتأخرين
حفظ العرض .ال نفتات على اتفاقهم رمحهم اهلل وال ننازع .لكن نرجع إىل تأصيالهتم
ناظرين إليها من إزاء القرآن والسنة ،ناظرين إليها أيضا من زاوية واقعنا وظروفنا وما
يتاح لنا من طلب كانت أبوابه موصدة يف عصور االبتالء القدرى بالعض واجلرب
والنصيحة النبوية بلزوم السمع والطاعة حفاظا على بيضة اإلسالم أن تشدخ فيموت
الرأس ،وعلى شوكة اإلسالم أو ختضد فريعى احلمى.
75
من إزاء القرآن العظيم ومن زاوية ظروفنا وضروراتنا نرى إنشاء مجاعة منظمة تكون
دعوة وتؤسس دولة اخلالفة هو أبو املقاصد والشرط األول لتنفيذها .احبث عن منفذ
قوي أمني قبل أن تدخل يف نقاش عملية التنفيذ.
الرتبية والتنظيم وذكر اهلل والصدق والتزود بالعلم النافع ،علم احلق املنزل املوحى
به وعلم الواقع وعلم الكون ،مقومات ضرورية منها تستمد اجلماعة اإلميان والقوة
واألمانة على شرع اهلل ومقاصده.
اإلحسان واإلميان ،يتحلى هبما الفرد اجملاهد الطالب ربه ،هو الغاية .يف أعلى
سلم املطالب (مقاصد الشريعة) اإلحسان وهو أن تعبد اهلل كأنك تراه.
يف الدرج املؤدي إىل الغاية جند مرتبة ألهداف هي من الدنيا ،لكن تكسب
االعتبار الشرعي من كوهنا وسائل للغاية الدينية األخروية .تكسب االعتبار من كون
الدنيا مطية املؤمن وزاده لآلخرة .روى الرتمذي وابن ماجه والبخاري يف األدب عن
عبيد اهلل بن حمصن أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال « :من أصبح منكم آمنا
يف سربه ،معاىف يف جسده ،عنده قوت يومه ،فكأمنا حيزت له الدنيا حبذافريها».
إسناده حسن كما أشار السيوطي رمحه اهلل يف اجلامع الصغري.
أرأيت كيف انزرعت احلياة اليومية يف املقاصد الشرعية ملا مسعنا عنها من لسان
الوحي؟ خوطب املكلف بعافيته ،خوطب بأمنه ،بقوته ،بدنياه ومهومها ليتفرغ آلخرته
وإىل اجلهاد من أجلها يف سبيل اهلل.
ما قننه علماؤنا األبرار يف صيغة التجريد يف باب «العادات» و«املعامالت» ،أي
يف مقاصد حفظ النفس والعقل والنسل واملال ،جنده يف احلديث النبوي مشخصا يف
الزمان (من أصبح ...قوت يومه) واملكان واجلماعة (يف سربه) والبدن.
هذه املطالب واألهداف الدنيوية ،املؤدية إذا حيزت إىل الغاية ،ال تتحقق إال يف جمتمع
يأخذ فيه الكم واإلحصاء واالنتاج والتوزيع والعدل يف كل ذلك املكان الشرعي .ينقلب
سلم القيم يف يد بعضهم فإذا عنده نظرية تقول بأن اإلسالم أقصر طريق إىل التنمية
واالزدهار االقتصادي .وإذا الدين وسيلة واالقتصاد غاية .وإذا الدنيا تنسى اآلخرة.
76
رحم اهلل علماءنا ،إن تأسينا هبم يف االعتصام باإلميان واإلحسان فلن
يبعدونا عن القرآن الذي ال يفهمه بعضهم إال مدونة حضارية ومرجعا فكريا .يسيل
من هذا الفكر اخلائب على بعض األدمغة املتحدثة باسم اإلسالم سائل الغفلة عن
اهلل وعن الدار اآلخرة الحول وال قوة إال باهلل.
البد للتنمية واالقتصاد واإلنتاج والتوزيع والكم واإلحصاء أن تأخذ مكاهنا
الشرعي ،يف مقدمة املطالب ،يف مرتبة األهداف الدنيوية املسهلة لرحلة املؤمن
واملؤمنة إىل رهبما.
والعدل كلمة جامعة ومطلب أساسي يف عصر أصبحت فيه قسمة األرزاق
وإنتاجها ومتويل عملية التنمية وتنظيم ذلك حتديا قاتال يف وجه األمة .إن كان
اإلحسان رائدا فال خمافة من الزيغ ،لكن يلح السؤال على اجملتهدين األصوليني
وعلى املفكرين ملعرفة النظام األقرب إىل اإلسالم :الرأمسالية أو االشرتاكية .إسالم
رأمسايل؟ اشرتاكي؟ نسكت عن العدل يف القسمة كما سكت األولون فتيار
الرأمسالية جيرفك .تتحدث عن العدل والظلم الطبقي فتوصم بأنك شيوعي خيتىبء
يف عباءة اإلسالم.
77
الجنايات
ومن أخبث الذراري الشيوعيني القوميني أولئك الذين ال يقطعون يف خطاهبم
وشعاراهتم مع اإلسالم ،بل يتلبسون باإلسالم فيلبسون على الناس وال كتلبيس إبليس.
حتدثنا يف الفقرة السابقة عن املطلب الشرطي مطلب إنشاء مجاعة املسلمني املنوط
هبا محل الرسالة ،وحتدثنا عن مطلب وحدة املسلمني ،وعن ضرورة إنشاء اجلماعة
وتوحيد األمة ليتأتى «حفظ الدين» .وحتدثنا عن مطلب األمن يف السرب والعافية يف
البدن والكفاية يف القوت ،هذه املطالب اليت تغطي جانب «العادات» و«املعامالت».
وحتدثنا عن كون الوسائل االقتصادية يف اإلنتاج والتوزيع والتنمية والتصنيع ضرورياً
اختادها ليتأتى العدل ،إذ بالعدل املويف باملطالب الدنيوية يستطيع العبد أن يتطلع إىل
الغاية وهي اإلحسان.
يف هذه الفقرة نقف وقفة قبل أن نتعرض ملا به تكون «مراعاة املقاصد الشرعية من
جانب العدم» ،أي مبا يكون حفظها والدفاع عنها ،وما «يدرأ عنها االختالل الواقع
أو املتوقع فيها» يف الفقرة املقبلة إن شاء اهلل نتحدث عن الشورى والدولة ومهامها يف
صيانة املطالب الشرعية.
اخللل الواقع يف الدين ومقاصده من جراء ختاذل الدويالت العاضة ،ومن جراء
اهنيار اإلسالم الفردي املوروث أمام االستعمار والغزو الفكري خلل فاحش.
ليست إشادتنا بعلمائنا املاضني ،والتأكيد على صحة عقيدهتم وإمياهنم ،اعتصاما بأذيال
األجداد هروبا من واقعنا .متسكنا بذكرهم ومبا أثلوه من اجتهاد نافع ومن قواعد علمية
راسخة رصينة ال يكون حجابا بيننا وبني الينبوع الصايف :رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
يقرأ القرآن ويقرئه ويبني للناس ما أنزل إليهم .متسكنا بذكرهم حفاظ هلم من أيدي زنادقة
78
العصر املتلبسني باإلسالم ،منهم واحد ال يهمنا شخصه وفكره يف املقام األول لكن يهمنا
ما تفشيه كتاباته من النيات املبيتة ضد الدين ،نيات خيفيها فال تعرف املنافقني ،أو
يعرضها آخرون سافرة عارية جاهرة بعداء اإلسالم فيكون انكشافها إيذانا هلا باملوت
ألن األمة ترفض أعداء الدين.
لكن الزنادقة امللبسني ،مثل صاحبنا الذي سأذكر امسه واسم كتابه آخر الفقرة إن
شاء اهلل ،يتشبثون لفظا بالرتاث وخملفات اجلدود ،ويدعون دعوى عريضة باالجتهاد
وبتأسيس علم أصول جمدد .تيار زنديقي يسمى نفسه «اليسار اإلسالمي» ،صاحبنا
أحد أساطينه ،فامسع.
قال يف صفحة ...« : 7حماولة إلعادة بناء علم أصول الدين التقليديكإيديولوجية
ثورية للشعوب اإلسالمية متدها بأسسها النظرية العامة ،وتعطيها موجات السلوك».
ويف صفحة 11يعلن عن أرضية مشروعه متحدثا عن الرتاث بوصفه « :ذخرية
قومية ميكن اكتشافها واستغالهلا واستثمارها من أجل إعادة بناء اإلنسان وعالقته
باألرض».
يف صفحة 16يبني لقومه من طائفة امللبسني كيف يلتصقون بشعارات الرتاث
احلي يف ضمري األمة بعد أن ماتت اإليديولوجيات وفشلت وتعطلت ،وكيف
يغالبون أهل اإلسالم على إمامة اجلماهري « :الرتاث إذن مازال قيمة حية يف
وجدان العصر ،ميكن أن يؤثر فيه ( .) ...جتديد الرتاث هو حل لطالسم القدمي
وللعقد املوروثة ،وقضاء على معوقات التطور والتنمية ،والتمهيد لكل تغيري جذري
للواقع .فهو عمل البد للثوري من أن يقوم به وإال ظل القدمي شبحا ماثال أمام
األعني ميثل أرواح األسالف اليت تبعث من جديد (يقصد احلركة اإلسالمية) ترتبص
باألبناء شرا (أي األرواح املتجددة يف الصحوة اإلسالمية) إذا هم خرجوا من
جبتهم ،ورفضوا سلطاهنم ،ومل يدينوا هلم بالطاعة والوالء ،أو يقوم أنصار احملافظة
واإلبقاء على األوضاع القائمة باستغالل هذا املخزون لصاحلهم ،وأخذ اجلماهري
من جانبهم ،وقطع خط الرجعة على أنصار التغيري والتقدم ،وسحب البساط من
حتت أرجلهم ».حديثه عن استعمال األنظمة القائمة اجلربية واستغالهلا للدين
79
وختديرها حلس اجلماهري كلمة حق وردت يف معرض باطل .إذ مقصوده قبل كل
شيء احلركة اإلسالمية احلية الفاعلة الناهضة.
يقول يف صفحة 20بأن الرتاث قضية وطنية وأن الدين ليس إال جزءا من الرتاث.
يف صفحة 34يؤكد على ضرورة صياغة إيديولوجية «إسالمية» (هو وضع الكلمة
بني هاللني) معتمدة على فكر املعتزلة «اإلحيائي» (أنا وضعت اهلاللني) ،وعلى
«استقالل العقل واإلرادة» (أي عن الدين).
يف صفحة 53يصرح تصرحيا شجاعا تقدميا ثوريا بأن « :اإلحلاد هبذا املعىن (أي
مبعىن التفرغ للعمل الثوري بدل اإلميان واالعرتاف بالوحدانية واأللوهية لرب العاملني)
هو حتول لالختيار القدمي (االختيار القدمي هو الرضى باهلل ربا وباإلسالم دينا ومبحمد
صلى اهلل عليه وسلم نبيا ورسوال) من القول إىل العمل ،ومن النظر إىل السلوك ،ومن
الفكر إىل الواقع ،واختيار الطريق الصعب ،طريق الشهادة (املاركسيون واملالحدة
يسمون هلكاهم شهداء) ( .)...يكون اإلحلاد هو انتقال من الصورة إىل املضمون،
ومن الشكل إىل اجلوهر» .املضمون واجلوهر عند أمثاله هو التنمية واالقتصاد واإلنتاج
والتوزيع وحماربة الطبقية .فيا إخواين هل يف إسالمنا ،إسالم «الصورة» و«الشكل»،
إسالم اإلميان بكامل شعبه ،إسالم اإلحسان بعايل رتبه ،مكان ملضمون العدل
وضرورياته املادية .أم حنن من صنف اجملتهدين يف ذكاة احللزون حىت جيرفنا اإلحلاد!.
يف صفحة 54يبني امللحد الثوري أن اإلنسان مستقل بعقله وإرادته،
حر يف تصرفه ،مسؤول عن حتقيق العدل االجتماعي .وميضي يف صفحة 55
ليبني أن العلمانية مكتسب أساسي ألهنا جتعل اإلنسان وحده حمور كل شيء :
«العلمانية إذن رجوع إىل املضمون دون الشكل وإىل اجلوهر دون العرض (الشكل
دائما هو الدين جيب أن يرمي به واملضمون واجلوهر هو املطالب الثورية التقدمية
املادية األرضية) وإىل الصدق دون النفاق وإىل وحدة اإلنسان دون ازدواجيته وإىل
اإلنسان دون غريه (غريه هو اهلل تعاىل) .العلمانية إذن هي أساس الوحي .فالوحي
علماين يف جوهره والدينية طارئة عليه من صنع التاريخ ،هكذا يعتقد فراخ إبليس
تالمذة ماركس .وترتفع محى اإلحلاد ،ويستعر شعار الكفر فيصطف الكاتب
80
الفيلسوف مع طابور الباحثني الشاكني النافني لوجود اهلل تعاىل « :ومازالت اإلنسانية
كلها حتاول البحث عن معىن للفظ اهلل .وكلما أمعنت يف البحث ازدادت اآلراء تشعبا
وتضاربا .فكل عصر يضع من روحه يف اللفظ (معناه :اهلل من صنع التاريخ جل اهلل
وتعاىل) ويعطي من بنائه للمعىن .وتتغري املعاين واألبنية بتغري العصور واجملتمعات .فاهلل
عند اجلائع هو الرغيف ،وعند املستعبد هو احلرية ،وعند املظلوم هو العدل ،وعند
احملروم عاطفيا هو احلب ...اهلل هو اإلشباع ...هو «صرخة املضطهدين» ...هو
العلم ...هو التقدم ...هو األرض ...هو التحرر ،والتنمية والعدل ...هو اخلبز والرزق،
والقوت ،واإلرادة واحلرية» أستغفر اهلل من حكاية الكفر.
يف سياق تال يسرد الكاتب األلفاظ الدالة على املعاين املتخلفة اليت جيب القضاء
عليها .يف صفحة « : 98واللغة القدمية لغة دينية تسودها ألفاظ تشري إىل موضوعات
دينية مثل :دين ،ورسول ،ومعجزة ونبوة .وهي لغة عاجزة عن إيصال مضموهنا للعصر
احلاضر».
يف صفحة 99يقرتح الفيلسوف اجملدد إلغاء حىت كلمة إسالم« :فلفظ «التحرر»
هو اللفظ اجلديد الذي يعرب عن مضمون «اإلسالم» أكثر من اللفظ القدمي».
يف صفحة 103يقرتح الدكتور حسن حنفي يف كتابه «الرتاث والتجديد» (الطبعة
األوىل 1981دار التنوير) التعامل مع «لغة العقل» أي دين اإلحلاد بدل التعامل
واإلميان بلغة الدين ومعاين الدين « :اللغة العقلية هي اليت يفهمها كل الناس بال شرح
أو تعليق أو سؤال أو استفسار ( )...فالعمل ،واحلرية ،والشورى والطبيعة ،والعقل كلها
ألفاظ عقلية يف علم التوحيد ( )...أما ألفاظ اهلل ،واجلنة ،والنار ،واآلخرة ،واحلساب،
والعقاب ،والصراط وامليزان ،واحلوض فهي ألفاظ قطعية صرفة ال ميكن للعقل أن
يتعامل معها دون فهم أو تفسري أو تأويل».
أال ساء ما يزرون !
81
الدعوة والدولة
أقصد بالدعوة رجال الطلب احلاملني هم األمة الساعني إلقامة دين اهلل يف األرض تلبية
للنداء القرآين ﴿ :يا أيها الذين آمنوا﴾ املنوط هبم حتقيق مطالب الشريعة .وسواء كانت
الدعوة منظمة تنظيما موحدا يف األقطار التجزيئية املوروثة أوكانوا مجاعات تتعاون ريثما يزداد
التقارب والتالحم إىل وحدة ما ،فإن واجب الدعوة إقامة الدولة اخلالفية املوحدة ابتداء من
دول إسالمية قطرية ،ينظر يف نوع النظام األصلح لربطها تدرجييا.
من مطالب الدعوةكشف املتلبسني باإلسالم امللبسني أمثال الدكتور الفيلسوف امللحد
والرد عليهم .هذا هني عن املنكر واجب يفكل املراحل ،لكن الدولة اإلسالمية بعد بنائها
هي األداة الكفيلة بقطع لسان األفاكني .ال أقصد قطع العضو الناطق ،فليس قطع األلسنة
من احلدود الشرعية ،بل أقصد إسكات األصوات النكراء .وللردة أحكامها الشرعية البد أن
تأخذ جمراها يف دولة اإلسالم.
إن مهمة الدعوة أن تنشئ احلياة اإلسالمية وتشيد أركان الدين يف اجملتمع .أي أن
ترعى املقاصد الشرعية يف «العبادات» كما يعرب علماء األصول .ومهمة الدعوة بعد أن
تصبح الدولة بيدها ،طوع إرادهتا ،أن تستصلح الوسائل املادية واملالية والتقنية واإلدارية خلدمة
املطالب الدنيوية .أي أن ترعى مقاصد الشرع «من جانب الوجود» يف ميادين «العادات»
و«املعامالت».
ومن أهم وظائف الدولة اإلسالمية ،عندما تكون أداة توجهها الدعوة ،صيانة املطالب
اإلسالمية وحياطتها بأن« :تدرأ عنها االختالل الواقع واملتوقع فيها».
إن إعادة العالقات بني الدعوة والدولة إىل نصاهبا اإلسالمي بعد هذه القرون
اليت استبد فيها السلطان العاض واجلربي على القرآن مهمة حتتاج إىل جهاد القومة
82
وحتتاج إىل اجتهاد .يف ظل احلكم العاضكان علماؤنا جيتهدون وهم يف حيز ضيق ،لذلك
مسوا «جنايات» ذلك اجلانب املهم من واجبات الدولة ،جانب الدفاع عن حوزة الدين.
وكلوا حفظ املقاصد الشرعيةكلها «من جانب العدم» إىل التكليف الشرعي باألمر باملعروف
والنهي عن املنكر .تصوروا األمر باملعروف والنهي عن املنكر واجبا فرديا منوطا بذمة الفرد
ومل يتصوره واجبا مجاعيا وقد تفتت مجاعة املسلمني يف زماهنم حتت وطأة العض الوراثي
واالستيالئي.
رأينا أن االجتهاد ملستقبل اإلسالم ،مواكبا إلنشاء األركان وإقامة الدولة ،ينبغي أن
يكون مجاعيا شوريا يبتغي اإلمجاع ما أمكن .بالتقليد من حتت لفكر من قبلنا وآرائهم ال
ميكن أن نبين إال بناء تقليديا جيمد على النمط املوروث .وبإطالق العنان لكل ناعق كما
تطلق األعنة أنظمة الفساد املتمسحة بالدميوقراطية و«احلريات العامة» يربز الدكاترة الزنادقة
باجلديد اإلحلادي .وباالنسالخ من قواعد علم األصول ،هذا العلم الراسخ الرصني «عماد
فسطاط العلم» كما قال الشوكاين ،يربز عاميون يف العلم عاميون يف العقيدة عاميون يف
حب الرئاسة ويتصدرون للفتوى والرئاسة ،يزعم الواحد منهم وهو ال يقيم لسانه يف قراءة
حديث واحد أن حيازة الكتب الستة احلديثية شرطكاف لالجتهاد .بالنظر من املوقع
الضيق ،موقع القاضي واملفيت يف النوازل واملدرس التجريدي ال ميكن االجتهاد الشمويل
األصويل معا القادر على تغطية الفضاء الواسع للمقاصد الشرعية ،من حيثكوهنا مطالب
إلنشاء أمر تالشى والدفاع عن حوزة استبيحت ،ومن حيث مناط التكليف اجلماعي يف
الدعوة ،ومن حيث سيادة الدعوة على الدولة ،أي سيادة القرآن على السلطان ال العكس.
شروط علمائنا يف اجملتهد القادر على تفسري األحكام اليت وردت فيها نصوص
قطعية الثبوت والداللة ،القادر على استنباط أحكام ظنية يف غري ذلك بأدوات تقدير
املصلحة القياسية العلية أو املصلحة املرسلة شروط صاحلة ،التزال ،إنكملناها بشروط متليها
االعتبارات السابق ذكرها فتدرجها حتت جنس عال من املطالب.
امجعوا رمحهم اهلل واتفقوا على الشروط التالية ،وإمجاعهم على الرأس والعني .اتفقوا
على أن اجملتهد البد أن يكون عاملا بنصوص الكتاب والسنة ،وأن يكون عارفا مبسائل
83
اإلمجاع ،وأن يكون عاملا بلسان العرب ،وأن يكون عاملا بعلم أصول الفقه «عماد فسطاط
االجتهاد وأساسه» ،وأن يكون عارفا بالناسخ واملنسوخ .مث اختلفوا يف شروط أخرى ،منها
اشرتاط العلم بالدليل العقلي ،والعلم بعلم أصول الدين ،والعلم بعلم الفروع ألن العلم هبا
وممارستها يعطي «الدربة» الالزمة ،والعلم بعلم اجلرح والتعديل ليشارك علماء احلديث ذوي
املنة على أجيال املسلمني إىل يوم الدين جزاهم اهلل خري اجلزاء ،ومعرفة القياس بشروطه وأركانه
ألن القياس مناط االجتهاد وأصل الرأي ومنه يتشعب الفقه.
لو اجتمعت كل هذه الشروط يف رجل ملا استطاع يف عصرنا أن حييط بالوسائل
الضرورية لتحقيق املقاصد الشرعية .يلزمه فقه دقيق هبذه املقاصد وهي قد التبست يف العقول
وفرتت يف النيات وغابت يف الواقع .كيف يصوغها مطالب ،كيف يوقظ األمة النائمة،
كيف يكون حزب اهلل ،كيف يربيه ،كيف يزحف به إىل بناء الدين مث حفظه «من جانب
الوجود وجانب العدم» دعوة ودولة.
ال يكفي الواحد للمهام االجتهادية وال يقف واجب اجملتهدين عند استنباط احلكم
وتقنينه .البد أن يكون أهل االجتهاد من أهل الدعوة ،من صميمها ،ممن حييون هبا،
ويتنفسون روحها ،وحيملون مهها ،ويغضبون على «االختالل الواقع واملتوقع فيها» .إنكانوا
أصحاب أوراق وكراريس ونصوص وجتريد وتقليد ،إن كانوا عقوال تدور على ألسنة عليمة
والقلب فارغ فلن يكونوا إال طامة أخرى تأيت على الدين «من جانب العدم».
يلزم اجملتهدين يف غد اإلسالم ،بعد الشروط املعرفية والشروط اإلميانية ،أن ينظروا من
أعلى إىل األمور ،من جانب القرآن ،والسلطان واقف بني يديه للخدمة ،وأن ينظروا بعيدا إىل
أفق وحدة األمة وإقامة العدل والشورى ،ومحل رسالة رب العاملني للعاملني .ومىت يكونون أهال
لذلك إن مل يكونوا من أهل اإلحسان ،باملعىن العايل الواسع لإلحسانكما نبسط اإلحسان
يفكتاب «اإلحسان» إن شاء اهلل.
مل يكن فقهاؤنا مجيعا ذوي رأي جتزيئي مسجونني يف الدوائر الضيقة .فمن أفذاذهم
اإلمام الشاطيب رمحه اهلل الذيكان واسع األفق بعيد مرمى النظر .جنده يندد باحلرفية الضيقة،
ويصغر شأن الذين يدخلون أنفسهم يف االجتهاد «غلطا أو مغالطة» دون أن يشهد هلم أهل
84
«الرتبة» باالستحقاق .وقال « :وذليل ذلك (أي دليل أن الشرع اعترب املقاصد وجاء هبا)
استقراء الشريعة والنظر يف أدلتها الكلية واجلزئية ،وما انطوت عليه من هذه األمور العامة على
حد االستقراء املعنوي الذي ال يثبت بدليل خاص ،بل بأدلة منضاف بعضها إىل بعض،
خمتلفة األغراض ،حبيث ينتظم من جمموعها أمر واحد جتتمع عليه تلك األدلة».
ما أمجل هذا الكالم وأدقة وأعاله ! أدلة منضاف بعضها إىل بعض خمتلفة األغراض
تنتظم على أمر واحد .هذا هو اجلمع الذي نطلبه لشتات األذهان اليت تستدل جهدها
على تفرقة األمة وتبديع الناس وذكاة احللزون ،بينما أهل اإلحلاد يرفضون اهلل والنبوة واآلخرة
ليجمعوا حوهلم غثاء احملرومني حول األمر الثوري اجلامع :اخلبز والكرامة اإلنسانية واإلنتاج
والتوزيع.
***
هذه كلميت إليكم إخواين وأخوايت سائال منكم ومن كل من يقرأها أن ال تنسوين من
دعائكم ،أحسن اهلل الكرمي إلينا وإليكم والسالم عليكم ورمحة اهلل وبركاته وصلى اهلل على
سيدنا حممد وآله وصحبه وسلم تسليماكثريا .وآخر دعوانا أن احلمد هلل رب العاملني.
85
الفهرس
تقدمي7 ...........................................................................................
مقدمات :
10 االحنراف اخلطري ............................................................................
11 ضرورة التفكري املنهاجي ................................................................
نظرات في الفقه والتاريخ :
15 طوق التقليد .................................................................................
17 مكاسب مثينة ...............................................................................
21 القرآن احلاكم ...............................................................................
27 لتنقضن عرى اإلسالم ...................................................................
43 عامل اإلميان بالغيب .....................................................................
42 من أعايل التاريخ ...........................................................................
48 وحدة دار اإلسالم ........................................................................
53 مطالب الشريعة ............................................................................
60 مقاصد الشريعة ............................................................................
67 بإزاء القرآن ..................................................................................
61 االجتهاد وحتقيق املناط .................................................................
74 االستنباط يف خدمة القصد ...........................................................
78 اجلنايات .......................................................................................
82 الدعوة والدولة ..............................................................................
86