You are on page 1of 127

‫© منشورات الصفاء لالنتاج‬

‫رقم اإليداع القانوني ‪2001 /547‬‬


‫بسم اهلل الرمحن الرحيم وصلى اهلل وسلم وبارك على سيدنا حممد‬
‫وآله وصحبه وإخوانه وحزبه‬

‫بين يدي الكتاب‬


‫وجه األمة وحتملت الكلمات من‬ ‫وحال ْ‬
‫طال األمد على األمة َ‬
‫الفنت يف ديار املسلمني ما أمخد َوَهج الكلمات‪.‬‬‫ثِقل تاريخ ِ‬
‫معىن الرجولة ومن هم الرجال؟‬
‫ما القومة هذه الكلمة األصيلة الفاضلة؟‬
‫ما اإلصالح ومن يُصلح؟‬
‫وما يُصلح؟‬
‫تلك بعض األسئلة اليت يطرحها هذا الكتاب‪.‬‬
‫حياتا يف‬
‫وتلك معان نرجو من العلي القدير سبحانه أن جيدد َ‬
‫قلوب رجال مؤمنني ونساء مؤمنات يرجون لقاء اهلل ويوقنون باليوم‬
‫اآلخر‪ ،‬يعملون يف دنياهم ما يُصلح حال أمتهم يف الدنيا وحالتهم‬
‫يف دار اخللود‪.‬‬
‫جعلنا اهلل وإياكم معشر القراء الصاحلني ممن حيمل إىل آخرته زاد‬
‫التقوى إميانا باهلل وعمال صاحلا بنية صاحلة ومهة عالية فاعلة‪.‬‬

‫سال‪ ،‬ظهر الثالثاء ‪ 17‬ذي احلجة ‪.1421‬‬


‫عبد السالم ياسني‬
‫الفصل األول‬
‫القومة ومشروعيتها‬

‫القومة والثور ة‬
‫«وأويل األمر منكم»‬
‫اح‬
‫الكفر البَو ُ‬
‫اخلارج من أهل البغي‬
‫بل القاعد شريك يف اجلرمية‬
‫املنكر األنكر !‬
‫‪7‬‬ ‫القومة ومشروعيتها‬

‫القومة والثورة‬

‫ام َع ْب ُد اللَّ ِه يَ ْدعُوهُ َك ُ‬


‫ادوا يَ ُكونُو َن‬ ‫{وأَنَّهُ لَ َّما قَ َ‬
‫قال اهلل تعاىل‪َ :‬‬
‫ومواْ لِلْيَتَ َامى بِال ِْق ْس ِط}‪،2‬‬ ‫َعلَْيه لبَداً} ‪ .‬ويف القرآن‪َ :‬‬
‫{وأَن تـَُق ُ‬
‫‪1‬‬ ‫ِِ‬

‫ين للّه ُش َه َداء بالْق ْسط} ‪ُ { ،‬كونُواْ قـََّوام َ‬


‫ين‬ ‫ِ‬ ‫‪3‬‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫{ ُكونُواْ قـ َّو ِام ِ ِ‬
‫َ َ‬
‫بِال ِْق ْس ِط ُش َه َداء لِلّ ِه}‪ .4‬املادة يف القرآن كثرية تقرتن بالدعوة‪،‬‬
‫والقسط وهو العدل‪ ،‬وتدل على القوة واإلتقان‪ ،‬مثل {أَق ُ‬
‫يمواْ‬ ‫ِ‬
‫الصالةَ}‪ ،‬وعلى االستقامة‪ ،‬وهي هبذا اللفظ ومشتقاته كثري‪.‬‬ ‫َّ‬
‫كان املسلمون يف العهد األول مييزون بني كلمة «القائم» وبني‬
‫كلمة «الثائر»‪ .‬فيطلقون األول على من قام باحلق ضد حكام‬
‫اجلور‪ ،‬ويطلقون كلمة «ثائر» عل كل مسلح حيارب السلطان‪ .‬ويف‬
‫احلديث النبوي كثرياً ما تقرتن مادة «ثار» بالسالح واالضطراب‬
‫واحلركة العنيفة‪ .‬والثورة تغيري بالعنف للبيئة االجتماعية‪ ،‬والقومة تغيري‬
‫دوافع اإلنسان وشخصيته وأفكاره‪ ،‬تغيري نفسه وعقله وسلوكه‪ ،‬تغيري‬
‫يسبق ويصاحب التغيري السياسي االجتماعي‪.‬‬

‫‪ 1‬اجلن‪.19 ،‬‬
‫‪ 2‬النساء‪.127 ،‬‬
‫‪ 3‬املائدة‪.8 ،‬‬
‫‪ 4‬النساء‪.135 ،‬‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪8‬‬

‫نفضل أن نتميز يف التعبري‪ ،‬ونعيد لكلمة «قومة» مدلوهلا‬


‫اإلسالمي‪ .‬ذلك أن «ثورة» حتتل اليوم على لسان كل متكلم‪،‬‬
‫ويف خيال كل تواق لصرع الظاملني‪ ،‬مكانة حمرتمة‪ .‬وحتمل يف طيها‬
‫معاين وأساليب وأهدافا ليست منا ومل تنبت يف أرضنا‪ .‬فنريد‬
‫أن نـَُع ِّب بقومة ألهنا تعيد ألذهاننا تلك القداسة اليت كان يتمتع‬
‫هبا «القائمون» من آل البيت‪ ،‬الذين حاربوا الظلم واالستبداد‪،‬‬
‫ط الرسول احلسني عليه السالم‪.‬‬ ‫إمامهم يف ذلك ِسْب ُ‬
‫ولسنا نتنقل بني الكلمات جملرد التميز يف اللفظ‪ .‬فللكلمة‬
‫والتعبري وأسلوب التخاطب انعكاس مباشر على العمل‪ .‬ولئن مل‬
‫نستغن عن العبارات اليت نشأت يف تاريخ غري تارخينا‪ ،‬وأرض غري‬
‫أرضنا‪ ،‬وصدرت عن ذهنية خمالفة لفكرنا‪ ،‬ووظفت يف وظائف ال‬
‫عالقة هلا بأهدافنا‪ ،‬نوشك أن ْجيرفنا التعبري املنحرف عن قصدنا‪،‬‬
‫إىل احنراف يف جهادنا‪.‬‬
‫«وأويل األمر منكم»‬
‫َطيعواْ اللّه وأ ِ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َطيعُواْ‬ ‫َ َ‬ ‫آمنُواْ أ ُ‬ ‫قال اهلل تعاىل‪{ :‬يَا أَيـَُّها الذ َ‬
‫ين َ‬
‫ول َوأ ُْولِي األ َْم ِر ِمن ُك ْم}‪ 1‬فشرط الطاعة بكون أويل األمر‬‫الر ُس َ‬
‫َّ‬
‫منا‪ .‬فإذا احنرفوا عن الدين وعن الصراط املستقيم‪ ،‬فما موقف‬

‫‪ 1‬النساء‪.59 ،‬‬
‫‪9‬‬ ‫القومة ومشروعيتها‬

‫األمة جتاههم؟ وكيف يكون ِعصياهنم يف طاعة اهلل؟ أال يكون‬


‫ساهةً يف ختريب دولة اإلسالم وشوكته‬ ‫يض األمة بعصياهنم ُم َ‬‫تعر ُ‬
‫وس َط عامل مناهض لإلسالم من خارج‬ ‫قاؤه َ‬
‫اليت يتوقف عليها بَ ُ‬
‫أجناس وعساكَِر تتنازع السلطة يف الداخل؟‬ ‫أرضه‪ ،‬وبني أقو ٍام و ٍ‬
‫هكذا طرحت املسألة على علمائنا يف تلك العصور‪ ،‬وهكذا تطرح‬
‫علينا اليوم‪.‬‬
‫أي التباس يف كون الظَّلَ َم ِة ليسوا منا‪.‬‬
‫مل يكن يف إدراك علمائنا ُّ‬
‫ارجع إىل كالم ابن تيمية رمحه اهلل‪ ،‬جتده يتحدث عن قضاهتم‬
‫وعلمائهم وعبادهم‪ .‬ينسب فساد أصناف الناس للحكم املستبد‪.‬‬
‫الفاسق ضرورةٌ جيب‬
‫أن احلاكم الظال َـم و َ‬ ‫وقد ّأداهم اجتهادهم إىل َّ‬
‫الصرب عليها‪ .‬وما دار من َج َد ٍل كالمي حول معىن اإلميان هل‬
‫ب الكبائر هل يكفر أو ال‪ ،‬إمنا حيوم‬ ‫هو قول وعمل‪ ،‬وحول مر ِ‬
‫تك ِ‬ ‫ُ‬
‫حول احلكام الفاسقني ملعرفة احلد الفاصل بني الفسق الذي ال‬
‫ُيرج صاحبه عن دائرة اإلميان‪ ،‬وبني الفجور املفضي إىل الكفر‪.‬‬
‫كان اجلدل حول تلك املسائل تعبريا عن الرفض‪ ،‬ونقدا غري مباشر‬
‫للملوكية‪.‬‬
‫يف فصول هذا الكتاب نستعرض إن شاء اهلل آراء الفقهاء‬
‫ومواقف رجال قاموا ضد احلكم‪ .‬ال نرمي من وراء االستعراض آلراء‬
‫ٍ‬
‫سابقة تربر ما‬ ‫من سبقونا بإميان ومواقفهم أن نعثـَُر على نص أو‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪10‬‬

‫ندعو إليه من منابذة حكام اجلرب يف عصرنا‪ .‬فنحن نقلد اهلل ورسوله‬
‫وال نتقيد بأقوال الرجال وآرائهم‪ .‬سيما وحكامهم الفاسقون كانوا‬
‫يزعمون احرتام الشرع‪ ،‬بينما ال جتد من بني طواغيتنا إال كل عُتُ ٍّل‬
‫َزنيم‪ ،‬إذا تتلى عليه آيات ربه قال أساطري األولني‪ .‬سيما وحكام‬
‫تلك العهود ما صادقوا ووالَ ْوا املشركني‪ ،‬بل حاربوهم‪ ،‬بينما حكام‬
‫وخد َمةً ملصاحله‪.‬‬
‫اجلرب بني ظَ ْهرانـَْينا أصبحوا مطية لالستعمار َ‬
‫الكفر البواح‬
‫أخرج اإلمام أمحد والشيخان عن عُبادة بن الصامت أنه حدَّث‬
‫يف مرضه قال‪« :‬دعانا النيب صلى اهلل عليه وسلم فبايعناه‪ .‬فقال‬
‫وم ْكَرِهنَا‪،‬‬ ‫فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة يف م َ ِ‬
‫نشطنَا َ‬ ‫َ‬
‫وعُسرنا ويُسرنا‪ ،‬وأثـََرٍة علينا‪ ،‬وأن ال ننازع األمر أهله (عند أمحد‬
‫زيادة‪ :‬نقول باحلق حيثما كنا ال خناف يف اهلل لومة الئم)‪« :‬إال أن‬
‫تروا كفراً بَواحا عندكم من اهلل فيه برهان»‪.‬‬
‫قال احلافظ ابن َحجر‪« :‬قال اخلطايب‪ :‬معىن قوله بَواحا يريد‬
‫ظاهرا باديا‪ ،‬من قوهلم باح بالشيء يبوح به بوحا وبواحا إذا أذاعه‬
‫صراحا»‪ .‬ورواية ابن‬
‫وأظهره»‪ .‬وذكر رواية الطرباين وفيها «كفرا ُ‬
‫حبان وفيها‪« :‬إال أن يكون معصية هلل بَواحا»‪ .‬ورواية أمحد من‬
‫‪11‬‬ ‫القومة ومشروعيتها‬
‫طريق ُجنادة‪« :‬ما مل يأمروك ٍْ‬
‫بإث بو ٍاح»‪ .‬رواية إمساعيل ابن عبيد‬
‫عند أمحد والطرباين واحلاكم عن إمساعيل بن عبيد عن أبيه عن‬
‫رجال يـَُعِّرفونكم ما تُنكرون‬
‫أموركم من بعدي ٌ‬ ‫ِ‬
‫«سيَلي َ‬ ‫عُبادة‪َ :‬‬
‫ويُنكرون ما تـَْع ِرفون‪ .‬فال طاعةَ لِ َم ْن عصى اهلل»‪ .‬ورواية أيب بكر‬
‫وابن شيبة من طريق أزهر بن عبد اهلل عن عبادة‪« :‬سيكون عليكم‬
‫أمراء يأمرونكم مبا ال تعرفون‪ ،‬ويفعلون ما تُنكرون‪ ،‬فليس ألولئك‬
‫عليكم طاعة»‪.‬‬
‫مث قال احلافظ‪« :‬قوله عندكم من اهلل فيه بُرهان‪ ،‬أي نص آية‬
‫أو خرب صحيح ال حيتمل التأويل‪ .‬ومقتضاه أنه ال جيوز اخلروج‬
‫عليهم ما دام فعلُهم حيتمل التأويل‪ .‬قال النووي‪ :‬املراد بالكفر‬
‫هنا املعصية‪ .‬ومعىن احلديث‪ :‬ال تُنازعوا ُوالة األمور يف واليتهم‪،‬‬
‫وال تعرتضوا عليهم إال أن تروا منهم ُمنكرا حمققا تعلمونه من‬
‫قواعد اإلسالم‪ .‬فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم‪ ،‬وقولوا باحلق‬
‫أينما كنتم‪ .‬انتهى‪ .‬وقال غريه‪ :‬املراد باإلمث هنا املعصية والكفر‪،‬‬
‫فال يـُْعتـََرض على السلطان إال إذا وقع يف الكفر الظاهر‪ .‬والذي‬
‫يظهر َحْ ُل رواية الكفر على ما إذا كانت املنازعة فيما عدا‬
‫الوالية‪ .‬فال ينازعه مبا يقدح يف الوالية إال إذا ارتكب الكفر‪.‬‬
‫وحْ ُل رواية املعصية على ما إذا كانت املنازعة فيما عدا الوالية‪ .‬فإذا‬
‫َ‬
‫مل يقدح يف الوالية نازعه يف املعصية بأن ينكر عليه برفق‪ ،‬ويتوصل‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪12‬‬

‫إىل تثبيت احلق له بغري عنف‪ .‬وحمل ذلك إذا كان قاد را‪.‬‬
‫واهلل أعلم» ‪.1‬‬
‫تلخص لنا أن‪:‬‬
‫‪ - 1‬حديث الشيخني جيعل الطاعة واجبة ما مل يكن كفر‬
‫بواح‪ ،‬أي ظاهر باد‪.‬‬
‫‪ - 2‬زيادة اإلمام أمحد جتعل معارضة احلاكم واجبة إن‬
‫كفر وال معصيةٌ‪.‬‬
‫خالف احلق‪ .‬ومل يُ ْذ َك ْر هنا ٌ‬
‫‪ - 3‬رواية ابن حبان تسقط الطاعة يف حالة املعصية‬
‫البواح يرتكبها احلاكم‪.‬‬
‫‪ - 4‬رواية أمحد عن جنادة تسقطها إن أمر احلاكم الناس‬
‫بإمث بواح‪.‬‬
‫‪ - 5‬رواية أيب بكر وابن شيبة تنفي الطاعة للحاكم الذي‬
‫يأمر باملنكر وينهى عن املعروف من الدين‪.‬‬
‫‪ - 6‬النووي يفسر الكفر البواح يف حديث الشيخني بأنه‬
‫املعصية‪ .‬وهكذا تلتقي معاين هذه الروايات‪.‬‬
‫‪ - 7‬رأي ابن حجر أن الكفر البواح ُي ُيز منازعة احلاكم‬

‫‪ 1‬فتح الباري ج‪ 13‬ص‪.8‬‬


‫‪13‬‬ ‫القومة ومشروعيتها‬

‫خللعه‪ .‬فإن كانت معصيةً دون الكفر وجب الرد عليه برفق‪.‬‬
‫كل ذلك ملن قدر‪.‬‬
‫ونقل ابن حجر عن الداودي أنه قال‪« :‬الذي عليه‬
‫العلماء يف أمراء اجلَ ْور أنه إن قدر على خلعه بغري فتنة وال‬
‫ظلم وجب‪ .‬وإال فالواجب الصرب» ‪ .1‬هذا اخلوف من الفتنة‬
‫أجلم العلماء‪ ،‬وشل‬‫واستبدال ظامل بأظلم منه هو الذي َ‬
‫فاعليتهم يف تارخينا‪ .‬وكيف ميكن خلع حكم عاض قائم‬
‫الصرب‬
‫َ‬ ‫علماؤنا‬
‫ُ‬ ‫ورجح‬
‫على السيف دون مقارعة يف امليدان؟ َّ‬
‫على الداء العُضال الذي َنََر يف جنب األمة‪ ،‬يُفضلونه على‬
‫االنتفاضة اليت ال ميكن التنبؤ بنتائجها‪ .‬وكانت القومات‬
‫املسلحة استثناء من هذه القاعدة‪ .‬بينما تكاثرت ثورات‬
‫الضالَّل وخاطيب َّ‬
‫الزعامات‪.‬‬ ‫الفتانني من ُّ‬
‫اخلارج من أهل البغي‬
‫جند التمسك بالنظام القائم أجلى ما يكون عند رجل عُ ِر َ‬
‫ف‬
‫مبواقفه الصارمة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ .‬يقول‬
‫«مجهور العلماء‬
‫ُ‬ ‫شيخ اإلسالم تقي الدين بن تيمية رمحه اهلل‪:‬‬
‫ميني امل ْكَرِه بغري حق ال ينعقد (‪ ،)...‬وهذا مذهب‬ ‫يقولون‪ُ :‬‬
‫الناس على ما جيب‬
‫ويل األمر َ‬ ‫مالك والشافعي وأمحد‪ .‬مث إذا أَ ْكَرَه ُّ‬

‫‪ 1‬نفس املصدر‪ ،‬نفس الصفحة‪.‬‬


‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪14‬‬

‫عليهم من طاعته (الحظ أهنا طاعة ُمغتصبة) ومناصحته‪ ،‬وحلَّفهم‬


‫على ذلك‪ ،‬مل جيز ألحد أن يأذ َن هلم يف ترك ما أمر اهلل به ورسوله‬
‫األيان»‪ .1‬فإذن ال يقول‬ ‫ث يف هذه ْ‬ ‫من ذلك‪ ،‬ويـر ِّخص هلم يف احلِْن ِ‬
‫َُ َ‬
‫الشيخ مبذهب األئمة واجلمهور إن تعلق األمر باحلاكم‪ .‬مث يقول رمحه‬
‫صو َن ألحد فيما هنى‬ ‫اهلل‪« :‬وأما أهل العلم والدين والفضل فال يـَُر ِّخ ُ‬
‫وغشِّهم‪ ،‬واخلروج عليهم‪ٍ ،‬‬
‫بوجه من‬ ‫اهلل عنه من معصية والة األمور‪ِ ،‬‬
‫ُ‬
‫الوجوه»‪ .2‬ال فرق هنا بني والة األمر الشرعيني وهم الذين اختارهتم‬
‫األمة وبني غريهم‪ .‬وال رخصة للخروج «بوجه من الوجوه»‪ ،‬رغم‬
‫التفصيل الوارد يف األحاديث كما ذكرنا‪.‬‬
‫العُلماء اخلائفون على بيضة اإلسالم أن تـَْنثَلِ َم‪ ،‬وعلى شوكته‬
‫فسروا الكفر البواح بغري ما فسرتْهُ به األحاديث اليت‬ ‫أن تُ َك َّسر‪َّ ،‬‬
‫أتت بلفظ «معصية» أو «إمث»‪ .‬فهم يتفقون على سقوط إمامة‬
‫املرتَدِّ‪ ،‬لكنهم يقبلون َج ْوَر الفاسق مهما بلغ‪ .‬يقول القاضي أبو‬
‫يعلى يف كتابه «املعتمد من أصول الدين»‪« :‬وإ ْن َل يكفر لكن‬
‫وتناوِل النفوس‬ ‫كأخ ِذ األموال‪ِ َ ،‬‬
‫وض ْرب األبشار‪ُ ،‬‬ ‫فس َق يف أعماله ْ‬ ‫َ‬
‫احملرمة (أي قتل األبرياء)‪ ،‬وتضييع احلقوق‪ ،‬وتعطيل احلدود‪،‬‬ ‫َّ‬

‫‪ 1‬الفتاوي ج‪ 35‬ص‪.11‬‬
‫‪ 2‬نفس املصدر ص‪.12‬‬
‫‪15‬‬ ‫القومة ومشروعيتها‬
‫وشر ِ‬
‫ب اخلمور‪ ،‬وحن ِو ذلك‪ ،‬فهل يوجب َخ ْل َعهُ أم ال؟ ذكر شيخنا‬ ‫ُْ‬
‫أبو عبد اهلل يف كتابه عن أصحابنا أنه ال ُيْلَ ُع بذلك وال جيب اخلروج‬
‫وترك طاعته يف شيء مما يدعو‬ ‫عليه‪ .‬بل جيب وعظُه‪ ،‬وختوي ُفه‪ُ ،‬‬
‫إليه من معاصي اهلل تعاىل‪ ،‬خالفا للمعتزلة واألشعرية يف قوهلم ُيْلَع‬
‫بذلك»‪.1‬‬
‫موقف العلماء ‪-‬خاصة «أصحاب» القاضي أيب يعلى احلنبلي‬
‫املذهبيني‪ -‬هذا املخالف لصريح السنة هو الذي هاض جناح األمة‪.‬‬
‫موفور الكرامة‪ ،‬إال ما يُ ْس َدى إليه من َوعظ‪،‬‬
‫اجب الطاعة‪ُ ،‬‬ ‫فاحلاكم و ُ‬
‫ترك طاعته يف «بعض» ما يدعو إليه من معصية اهلل‪ .‬ال جتب‬ ‫وإال ُ‬
‫مناب َذتُه ولو قتل األبرياء‪ ،‬وابتز األموال‪ ،‬وهتك احلَُرم!‬

‫بل القاعد شريك يف اجلرمية‬


‫يف هذه القضية العظمى جند موقفا ف ّذاً جملتهد فذ هو ابن حزم‬
‫أعدل‬
‫رمحه اهلل‪ .‬قال يف وجوب القتال مع األعدل‪« :‬فإن قام عليه ُ‬
‫منه وجب أن يقاتل مع القائم ألنه تغيري منكر»‪ .2‬ونقل الدكتور‬
‫حممد عبد اهلل العريب صفحة عن ابن حزم ومل يذكر مصدره‪ :‬قال‬
‫ابن حزم‪« :‬ذهبت طائفة من أهل السنة‪ ،‬ومجيع املعتزلة واخلوارج‬

‫‪ 1‬نصوص الفكر السياسي اإلسالمي ص‪.216‬‬


‫‪ 2‬احمللى ج‪ 9‬ص‪.362‬‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪16‬‬

‫والزيدية‪ ،‬إىل أن سل السيوف يف األمر باملعروف والنهي عن‬


‫املنكر واجب إذا مل يكن دفع املنكر إال بذلك‪ .‬مث قال هؤالء‪:‬‬
‫صابة ُيكنهم الدفع وال ييأسون من‬ ‫فإذا كان أهل احلق يف ِع ٍ‬
‫الظ َفر‪ ،‬ف َفرض عليهم ذلك‪ .‬وإن كانوا يف ٍ‬
‫عدد ال يـَْرجون لقلتهم‬ ‫ْ ٌ‬
‫وض ْع ِفهم الظََّفَر كانوا يف َس َع ٍة من ترك التغيري باليَد‪ .‬وهذا هو‬
‫ُ‬
‫كل من كان معه من الصحابة‪ .‬كذلك‬ ‫قول علي بن أيب طالب و ِّ‬
‫هو قول مجيع الذين خرجوا على اخللفاء األمويني والعباسيني‬
‫ومجيع من آزرهم يف خروجهم بالسيف (‪ .)...‬وهو الذي تدل‬
‫عليه أقوال الفقهاء كأيب حنيفة‪ ،‬وشريك‪ ،‬ومالك‪ ،‬وأصحاهبم‪.‬‬
‫فإن كل من ذكرنا من قدمي وحديث إما ناطق بذلك يف فتواه‪،‬‬
‫وإما فاعل لذلك بسل سيفه يف إنكار ما رأوه من املنكر» ‪.1‬‬
‫مث يورد ابن حزم األحاديث اليت تدعو إىل الصرب على َجور‬
‫احلاكم‪ ،‬واألحاديث اليت تدعو إىل اخلروج على الفاسق الظامل‪،‬‬
‫معارض لآلخر‪ .‬فصح أن‬ ‫ٌ‬ ‫ظاهر هذه األخبار‬ ‫َّ‬
‫«فكأن َ‬ ‫ويقول‪:‬‬
‫إحدى هاتني اجلملتني ناسخة لألخرى‪ ،‬ال ميكن غريُ ذلك‪.‬‬
‫فوجب النظر يف أيهما الناسخ‪ .‬فوجدنا تلك األحاديث اليت‬
‫النهي عن القتال مواف َقةً ملعهود األصل‪ ،‬وملا كانت عليه‬ ‫ُ‬ ‫فيها‬
‫ُخ ُر‬
‫احلال يف أول اإلسالم بال شك‪ .‬وكانت هذه األحاديث األ َ‬

‫‪ 1‬نظام احلكم يف اإلسالم ص‪.103‬‬


‫‪17‬‬ ‫القومة ومشروعيتها‬

‫وارد ًة بشريعة زائدة‪ ،‬وهي القتال‪ .‬هذا ما ال شك فيه !فقد صح‬


‫ورفع حكمها حني نُطْ ِق ِه عليه السالم‬
‫معىن تلك األحاديث‪ُ ،‬‬
‫األخ ِر بال شك‪ .‬فمن احملال احملرم أن يؤخذ باملْنسوخ‪،‬‬ ‫هبذه َ‬
‫ويرت َك اليقني‪ .‬ومن ادعى أن‬
‫الناسخ‪ ،‬وأن يؤخذ بالشك َ‬ ‫ُ‬ ‫ويـُتـَْرَك‬
‫هذه األخبار بعد أن كانت هي الناسخة كانت هي املنسوخة‬
‫فقد ادعى الباطل‪ ،‬وقفا ما ال علم له به‪ ،‬فقال على اهلل ما ال‬
‫يعلم‪ .‬وهذا ال َِي ُّل» ‪.1‬‬
‫كان األئمة األولون قريـيب العهد باخلالفة كما كانوا أفقه‬
‫وسنَرى وشيكا إن شاء‬ ‫لسنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪َ .‬‬
‫اهلل مواقف أيب حنيفة ومالك والشافعي وتأييدهم للقائمني ضد‬
‫اجلَ ْور‪ .‬أما املتأخرون فقد قرأنا خوفهم الدال على استفحال‬
‫الظلم‪ ،‬وانتشار الفساد‪ ،‬حىت انغلقت على األمة آفاق األمل‪.‬‬
‫اقع إىل هذا احلد فإن النصوص تُنبئ عن‬ ‫ِ‬
‫وعندما يد َل ُّم الو ُ‬
‫اهلواجس الوقتية أكثر َ مما ختضع ملعيار احلق الثابت‪ .‬وميثل ابن‬
‫حزم رمحه اهلل امتداد َ ذلك اجليل األول الذي كانت مقاومة‬
‫النصوص الشرعيَّةُ الصحيحةُ عنده صرحية‬
‫ُ‬ ‫الظلم دينَهُ‪ ،‬وكانت‬
‫ال غموض فيها وال تناقض‪ .‬مذهب ابن حزم يف أن أحاديث‬
‫املقاومة إما تنسخ أحاديث الصرب واخلضوع‪ ،‬وإما ختتص األوىل‬

‫‪ 1‬نفس املصدر ص‪.104‬‬


‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪18‬‬

‫بعهد فساد احلكم وتنطبق األخـرية على ما إذا كانت اخلالفة‬


‫رشيدة‪ .‬ويف تفصيل ابن حجر الذي يفرق بني املنازعة القادحة‬
‫يف أصل الوالية واملعـارضة اجلزئية توفيـق آخر بني األحاديث املتعارضة‪.‬‬
‫ميكن القول بصفة عامة أن أهل احلديث من علمائنا كانوا أميل إىل‬
‫ب لوجود نصوص‬
‫احملافظة على امللك مهماكان عاضا‪ .‬ويف هذا ما يُستـَ ْغَر ُ‬
‫أصحاب‬
‫ُ‬ ‫صحيحة صرحية يف وجوب عصيان من ال يطيع اهلل‪ .‬أما الفقهاء‬
‫املذاهب واملعتزلةُ فكان موقفهم يف هذه املسألة واحداً‪ .‬واحلافظ ابن حزم‬
‫ميثل احملدث والفقيه الذي ال تنفصل يف عقله النصوص الشرعية عن‬
‫املقاصد الكربى للدين‪ .‬لِنـَُق ْل إنهكان ذا وعي سيـاسي حاد‪ .‬وهذا ما تنطق‬
‫به القولة املليئة باألسى‪ ،‬املعربة عن التضامن مع القائمني باحلق‪« :‬خروم‬
‫اإلسالم أربعة‪ :‬قتل عثمان‪ ،‬وقتل احلسني‪ ،‬ويوم احلََّرة‪ ،‬وقتل ابن الزبري»‪.1‬‬

‫املنكراألنكر!‬
‫علماؤنا املتأخرون تغَ َّذ ْوا بأخبار الفتنة ال ُكربى‪ ،‬واالنكسار‬
‫ُ‬
‫التارخيي‪ ،‬وسقوط بغداد‪ ،‬والغزو الترتي‪ ،‬واالستبداد العسكري‪،‬‬

‫‪« 1‬شذرات الذهب» البن العماد احلنبلي‪ ،‬ج‪ 1‬ص‪.68‬‬


‫‪19‬‬ ‫القومة ومشروعيتها‬

‫مهددة يف روحها‪ ،‬جمزأة إىل إمارات‬ ‫وعاشوا أزمانا كانت وحدةُ األمة َ‬
‫ومذاهب متناحرة‪ .‬فانعكسكل هذا على فكرهم حىت أصبحوا‬ ‫َ‬ ‫متصارعة‪،‬‬
‫أس َوأ منها‪.‬‬
‫ال يتصورون أن هناك مَْرجا ممكنا من تلك احلال إال إىل ْ‬
‫لذلك حاولوا احلِفا َظ على ما ميكن احلفا ُظ عليه من أسباب‬
‫ايل‬
‫الوحدة‪ ،‬بل من أسباب وجود األمة واستمرارها‪ .‬وما حديث الغز ِّ‬
‫عن وجوب مساندة صاحب الشوكة الظامل إال مقدمة ملا أصبح‬
‫بعد ذلك أصال معتمدا عند الفقهاء‪ .‬يقول اإلمام ابن القيم رمحه‬
‫إجياب إنكار املنكر‬‫اهلل‪« :‬إن النيب صلى اهلل عليه وسلم شرع ألمته َ‬
‫ليحصل بإنكاره من املعروف ما حيبه اهلل ورسوله‪ ،‬فإذا كان إنكار‬
‫أبغض إىل اهلل ورسوله‪ ،‬فإنه ال يسوغ‬‫أنكر منه و ُ‬‫املنكر يستلزم ما هو ُ‬
‫إنكاره‪ ،‬وإن كان اهلل يبغضه وميقت أهله‪ .‬وهذا كاإلنكار على امللوك‬
‫الوالة باخلروج عليهم‪ .‬فإنه أساس كل شر‪ ،‬وفتنةٌ إىل آخر الدهر»‪.1‬‬ ‫وُ‬
‫ولعل تلك األزمنة املضطربة امتازت بالعنف والبأس الشديد بني‬
‫طالب اإلمارة حىت غاب مفهوم ال َق ْوَم ِة عن عقول الفقهاء‪ ،‬وفقد‬
‫القائمون باحلق‪ ،‬فلم تر الساحة إال ثوارا باملعىن اإلسالمي للثورة وهي‬
‫اخلروج غري الشرعي‪.‬‬

‫‪ 1‬أعالم املوقعني‪ ،‬ج‪ 3‬ص‪.4‬‬


‫الفصل الثاني‬
‫قطع حبال الفتنة‬
‫من مل يهتم‪...‬‬
‫دين اجلهاد‬
‫دولة القرآن‬
‫القومة اإلسالمية‬
‫‪23‬‬ ‫قطع حبال الفتنة‬

‫من مل يهتم‪...‬‬
‫ال أخطر على األمة من مخول أبنائها‪ ،‬ورضاهم الصامت بدين‬
‫االشتغال عن األمر العام بسفاسف‬ ‫ُ‬ ‫االنقياد‪ ،‬حىت يصبح من أصوهلم‬
‫احلياة اليومية‪ .‬وال تزال تسمع اليوم من يوصيك أن ال تشتغل مبا‬
‫النازل‬
‫الضْي ُم ُ‬
‫ال يعنيك‪ ،‬وما ال يعنيك هو سياسة أمتك‪ .‬ال يعنيك َ‬
‫ائمها‪ ،‬ال تعنيك املؤامرة اليهودية الصليبية عليها‪.‬‬ ‫عليها‪ ،‬ال يعنيك هز ُ‬
‫ال يعنيك احلكام اخلونة وعبَ ُثهم مبصريها‪.‬‬
‫إن عامة أمتنا ال تزال نائمة من أثَِر ُسبات القرون‪ ،‬استقالت‬
‫أمام احلكم الفردي عن حقها وواجبها يف تصريف شؤوهنا‪ .‬فاحلكام‬
‫اليوم سادة من فوق رؤوس األمة‪ ،‬ال ينازعهم إال أحزاب سياسية‬ ‫َ‬
‫تنتظم فيها األجيال اليت انقطعت صلتُها بالدين‪ .‬وتسعى الطبقة‬
‫السياسية املتمكنة يف أجهزة الدولة واإلدارة أن تـُْب ِق َي احلركة اإلسالمية‬
‫وتفص َل بينها وبني عامة‬ ‫وتفسد مسعتها‪ِ ،‬‬ ‫َ‬ ‫على هامش ما جيري‪،‬‬
‫كل وسائل احملاصرة‪ .‬مستعينة يف‬ ‫األمة بالبهتان املفرتى‪ ،‬والتهديد‪ ،‬و ِّ‬
‫ذلك ومتعاونة مع قوى اجلاهلية املتألبة على اإلسالم‪ .‬تلك القوى‬
‫ومعنوي من‬
‫ٍّ‬ ‫اليت تقودها اليهودية العاملية بتفاهم كامل‪ ،‬وسنَ ٍد ٍّ‬
‫مادي‬
‫جانب الدول الكربى‪.‬‬
‫إهنا حرب على اإلسالم وأهل اإلسالم‪ .‬وكل مواجهة ال بد هلا‬
‫من تعبئة‪ .‬وقد آن لألمة أن هتتم مبصريها وراء قيادهتا الطبيعية‪ ،‬وأن‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪24‬‬

‫وفشلُهم الذريع على كل اجلبهات‪،‬‬ ‫توقظها فضائح الزعماء املغََّربني‪َ ،‬‬


‫إىل حقائق ما جيري خلف ظهرها من مساومات هي فيها البضاعة‬
‫البخسة‪.‬‬
‫ِج‪ ،‬والعا َلُ َحلَبَةُ صراع ال يـُْر َح ُم فيها‬
‫اليوم َحر ٌ‬
‫موقف األمة َ‬
‫الضعيف‪ .‬فعلى جند اهلل أن يقتحموا العقبات احلائلة بينهم وبني‬
‫حيازة ثقة األمة ليبثّوا فيها وعيا إسالميا فعاال‪ ،‬ولريفعوا فيها العزائم‬
‫َ‬
‫واإلرادات‪ ،‬حىت يكون التغيري املنشود باسم اهلل‪ ،‬وعلى يد جند اهلل‪،‬‬
‫وانطالقا من كتاب اهلل‪ ،‬وتأسيا برسول اهلل‪ .‬أال وإن دين اهلل غري‬
‫دين االنقياد‪ ،‬وغري ملة اخلمول واالستقالة‪ .‬قال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم فيما رواه احلاكم عن ابن مسعود‪« :‬من أصبح ومهه غري‬
‫اهلل فليس من اهلل‪ .‬ومن أصبح ال يهتم باملسلمني فليس منهم»‪ .‬يف‬
‫اجلامع الصغري إشارة لصحته‪.‬‬
‫إن كان حكام اجلرب يُعلنون اليوم انتماءهم لإلسالم الحتواء‬
‫الصحوة اإلسالمية ومتلق األمة الغَيورة على دينها‪ ،‬فلطاملا برهنوا‬
‫مبواقفهم املخزية أهنم قلبا وقالبا مع أعداء اإلسالم‪ ،‬ومع املتنكرين‬
‫اح‪ ،‬يُقصياهنم‬ ‫الصر ُ‬
‫لعقيدة اإلسالم‪ .‬فكفرهم البَواح‪ ،‬ومعصيتُهم هلل ُّ‬
‫عن دائرة اإلسالم‪ .‬ويُقصي اإلسالم أيضا من مل يهتم باملسلمني‬
‫ومصري األمة كما قرأنا يف احلديث‪.‬‬
‫أمامنا واجب مقدس ُت َاه األمة‪ ،‬وهو أن نعلمها أن الدين ما هو‬
‫‪25‬‬ ‫قطع حبال الفتنة‬
‫صالة ناعسة وصيام وتنسك وحوقلة عاجزة يف املساجد‪ ،‬لكنه جهاد‬
‫شامل‪ ،‬إقامة الصالة والصيام والزكاة واحلج أركانه املنبثقة عن شهادة‬
‫أن ال إله إال اهلل وأن حممدا رسول اهلل‪ .‬وهي شهادة حترر من عبودية‬
‫البشر‪ ،‬وظلم البشر‪ ،‬ووصاية احلاكم اجلائر على األمة‪.‬‬
‫على رجال اإلسالم أن حيركوا اهلمم النائمة لين ُفضوا غبار اخلمول‪،‬‬
‫الوْهن وغثائية‬
‫ويددوا إميانا يُذهب عنا َ‬ ‫الذلَّة‪ُ ،‬‬
‫ض ِّ‬‫وييوا شهامةً ترفُ ُ‬
‫ُْ‬
‫تُفتتنا أشالءً‪ .‬روى الطرباين عن أيب ذر أن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال‪« :‬من أصبح ومهُّه الدنيا فليس من اهلل يف شيء‪ .‬ومن مل‬
‫يهتم بأمر املسلمني فليس منهم‪ .‬ومن أعطى الدنية من نفسه طائعا‬
‫غري مكره فليس منا»‪.‬‬
‫إعطاء الدنِيَّة هو الرضى بالذل‪ ،‬هو اخلضوع للظاملني‪ .‬وبيننا‬
‫وبني أن تصبح القومة اإلسالمية حقيقة تارخيية أن تتغلغل العزة‬
‫باهلل يف نفوس األمة‪ ،‬حىت يصبح املوت أحب إلينا من حياة اهلَوان‪،‬‬
‫وحىت تكون الشهادة يف سبيل اهلل أغلى األماين‪ ،‬وحىت تكون الذلة‬
‫أبغض إلينا من كل بغيض‪ .‬من كالم أيب بكر الصديق‬
‫املضروبة علينا َ‬
‫رضي اهلل عنه‪« :‬ما ترك قوم اجلهاد إال ضرهبم اهلل بالذل»‪ .‬وال‬
‫ذل أشنع من احتالل اليهود مسجد اهلل املقدس يسوموننا فيه‬
‫سوء العذاب‪ .‬وحكام اجلرب يعقدون اهلدنة‪ ،‬يصنعون «السالم»‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪26‬‬

‫الذليل‪ ،‬ال َه َّم هلم إال البقاءُ على الكراسي‪.‬‬


‫الشباب ضحية التهريج‬
‫ُ‬ ‫األمة ضحيةُ الدعايات ضد اإلسالم‪ ،‬و‬
‫والتهييج باسم الثورة والتقدمية والقومية‪ ،‬وتارخيُنا اليوم سلسلة‬
‫كل‬
‫اضطرابات وانقالبات ال قر َار هلا‪ .‬غُثاء يَذهب به السيل َّ‬
‫مذهب‪ .‬والقومة تعين هنضة‪ ،‬وال ينهض اجلسم العليل امل َف َّكك‪.‬‬
‫املشلول‪ .‬القومة تعين تغيريا‬
‫ُ‬ ‫القومة تعين حركة إرادية‪ ،‬وال يتحرك‬
‫املنكر يف أسبابه‪ ،‬ودخائله‪،‬‬
‫املنكر من ال يعرف َ‬
‫غي َ‬ ‫للمنكر‪ ،‬وال يُ ِّ‬
‫وحاته‪ .‬القومة تعين جهاداً منظما‪ ،‬وال جهاد‬
‫وماضيه‪ ،‬وحاضره‪ُ ،‬‬
‫بدون تربية األمة وتعبئتها للجهاد املرير الطويل‪.‬‬
‫دين اجلهاد‬
‫كانت القضية اليت دار حوهلا صراع الفتنة يف تارخينا‪ ،‬واختلفت‬
‫ِ‬
‫وعدالة احلاكم‪.‬‬ ‫حوهلا آراء العلماء والفقهاء‪ ،‬هي قضية السلطان‬
‫فالصراع على السلطان ال يزال اليوم الظاهرَة األوىل يف جمتمعاتنا‪.‬‬
‫احلكم العادل ال يزال َمطْلَبا مفقودا‪ .‬بيد أن هذا املطلب الذي يـُتـَْرجم‬
‫عنه جند اهلل‪ ،‬وخيططون لبلوغه‪ ،‬وينظمون الصف للزحف حنوه‪ ،‬مل‬
‫يعد يكفي أن نقدمه ألنفسنا ولألمة يف ِ‬
‫رداء مثاليَّ ٍة عاطفية‪ .‬ال يكفي‬
‫ص َل ما نعين بدولة‬
‫أن نطالب بدولة القرآن‪ ،‬وحكم القرآن‪ ،‬دون أن نـَُف ِّ‬
‫اقتصاد املسلمني‪ ،‬ونظام حكم‬ ‫القرآن‪ .‬ما هو تصورنا لوحدة املسلمني‪ ،‬و ِ‬
‫ُ‬
‫‪27‬‬ ‫قطع حبال الفتنة‬
‫خصوم املسلمني‬
‫ُ‬ ‫املسلمني‪ ،‬وخصائص ُمتمع املسلمني‪ .‬من هم‬
‫وحلفاؤهم‪ .‬مث كيف ينتقل‬ ‫أعداؤهم‪ .‬من هم أصدقاء املسلمني ُ‬ ‫و ُ‬
‫التصور إىل ميدان العمل‪ .‬وقبل كل شيء هل اإلسالم صاحل‬ ‫ُ‬ ‫هذا‬
‫ليقود ثورة؟ هل هو دين إصالح؟ هل تكون دولة القرآن امتداداً‬
‫للخالفات اإلسالمية ونسخة منقحة منها؟ أم مجهورية عصرية‬
‫تأخذ من هنا وهناك؟ أم هي عودة حلضارة اجلمل؟‬
‫استعملت هنا كلمة «ثورة» ألن السائل ال يَ ِط ُّن يف أذنه إال‬
‫كالم الوقت‪ ،‬ويكتنف ذهنَه غموض صنعه اجلهل باإلسالم‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وصنعته الدعاية ضد اإلسالم‪ ،‬وأعانت على صنعه ذهنية االنقياد‬
‫املزمنة‪ ،‬وآثار االنقياد املزمن‪.‬‬
‫املتسائل من دنيا غموضه خناطب‪ ،‬وإليه يتوجه هذا‬ ‫َ‬ ‫فذلك‬
‫الكتاب يوم يعود إىل اهلل عز وجل فريضى به ربا‪ ،‬وإىل رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم فريضى به نبيا وقدوة‪ ،‬وإىل حضن هذه األمة‬
‫املباركة فيشارَكها يف جهادها‪.‬‬
‫نور القلوب‪،‬‬ ‫كالمه العزيز َ‬‫يعين الرضى باهلل ربا أن يكون ُ‬
‫وتكرَه ما يكرهه اهلل‪ ،‬وهدايةَ‬‫فتحب ما حيبه اهلل‪َ ،‬‬‫َّ‬ ‫به تستضيء‬
‫العقول تتلقى أوامر اهلل فتنفذ باحلكمة ما أثارته يف القلوب‬
‫الرمحة‪ .‬ويعين الرضى برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم نبيا وقائدا‬
‫السري على خطاه الشريفة‪ .‬ويتساءل اجلاهل واملغَيَّ ُم الفكر‪ :‬هل‬ ‫َ‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪28‬‬

‫يستوعب القرآن وتستوعب السنة كل مشاكل احلاضر واملستقبل‬


‫نص ثابت منذ قرون‪ ،‬والسرية تاريخ‬‫يف عامل متحرك؟ كيف والقرآن ٌّ‬
‫مضى‪ ،‬واألرض اليوم غريُ األرض‪ ،‬والناس غري الناس؟‬
‫حاشا هلل أن يكون القرآن نظرية ثورية أو مذهبا سياسيا أو حال‬
‫مقارنتُه مبذاهب األرض ! وما فقد القرآن حيويته‬
‫فيمكن َ‬
‫َ‬ ‫اقتصاديا‬
‫األوىل اليت دفعت ووجهت أمة القرآن جلالئل األعمال‪ .‬إمنا مخدت‬
‫إرادة اجلهاد يف نفوس أجيال مل ترب على اإلميان فأخلد هبا دين‬
‫االنقياد إىل أرض اخلمول‪ .‬والقرآن ال يزال هو كلمة اهلل األخرية‬
‫الكاملة للجان واإلنسان‪ .‬تتضمن خري اإلنسان واجلان دنيا وأخرى‪.‬‬
‫ال حتتاج لزيادة وال تعديل‪ .‬وقومة اإلسالم ال ميكن أن تنطبق عليها‬
‫هذه الصفة إن استعارت من خارج القرآن ورسول القرآن مبادئ‬
‫وأهدافاً‪.‬‬
‫وكما أن القرآن نزل حيا على أمة حية جتاهد‪ ،‬وتنتصر‪ ،‬وتبين‪،‬‬
‫وتعاين‪ ،‬وتصرب‪ ،‬ففي ثناياه بذور حياة مستجدة‪ ،‬وجهاد مستجد‪،‬‬
‫وجه الرتبية‪ ،‬وتعبئة األمة‪ ،‬وتأليف‬
‫ونصر مستجد‪ .‬كما أن القرآن َّ‬
‫صفها‪ ،‬واختاذ أسباب جهادها‪ ،‬ففيه‪ ،‬وهو كالم اهلل اخلالد‪ ،‬أسرار‬
‫الرتبية‪ ،‬والتعبئة‪ ،‬والتأليف‪ ،‬وحيلة األسباب‪ ،‬وحادي اجلهاد‪ ،‬الضرورية‬
‫لقومة التجديد‪.‬‬
‫ٍ‬
‫متشعبة شؤونُه يف األمن‪ ،‬واخلوف‪،‬‬ ‫إن القرآن شرع جملتمع حي‬
‫‪29‬‬ ‫قطع حبال الفتنة‬
‫والعطاء‪ ،‬واملنع‪ ،‬والقضاء‪ ،‬واحلكم‪ .‬فالشريعة خالدة‪ ،‬وأصول‬
‫االجتهاد معروفة‪ ،‬إلعادة شرع القرآن إىل الصدارة‪ ،‬واهليمنة على‬
‫شؤون األمة‪ ،‬حتت دولة القرآن‪.‬‬
‫ال بد من قطع حبال اجلاهلية على كل املستويات‪ .‬وأول ما جيب‬
‫استئصاله من نفوس األمة التبعية للحاكم املستبد‪ ،‬ومن عقول ذرارينا‬
‫التبعيةُ الفكرية اليت تومههم أن ال خالص من ظلم اجلبارين إال عن‬
‫طريق نظرية ثورية تأيت من خارج اإلسالم‪.‬‬
‫ال بد من قطع رباط اإلعجاب واالنبهار بنماذج الثورات العاملية‬
‫اجلاهلية‪ ،‬لنعيد الوصلة بالسرية النبوية اجمليدة‪ ،‬منها نستمد اخلِبـَْرة‬
‫واألسوة‪ ،‬منها نستقي الرمحة واحلكمة‪ .‬قد تكون سطحيةُ املتمرس‬
‫الفكر‪،‬‬ ‫وغشاوةُ القلب‪ ،‬وعماية ِ‬
‫بفكر اجلاهلية‪ ،‬املندمج يف حضارهتا‪ِ ،‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ومسوها‪ .‬وقد يكون‬ ‫ِ‬
‫املان َعةَ من إدراك عمق التجربة التارخيية احملمدية ّ‬
‫ما يف العصر من اكتظاظ مبصنوعات اإلنسان‪ ،‬وبضائعه‪ ،‬وأسلحته‪،‬‬
‫املعجبني باجلاهلية وبني فهم التفوق‬
‫احلجاب الذي يقف َسدا بني َ‬
‫َ‬
‫اإلنساين واحلضاري للمجتمع النبوي يف بساطة بيئته‪.‬‬
‫الوجداينُّ‪ ،‬والعِداء‬
‫ُّمور ْ‬‫الفكري‪ ،‬والض ُ‬
‫ُّ‬ ‫قد يكون الفقر‬
‫صاد ًة لذوي النيات املشبوهة عن االعرتاف بِغِ َن القرآن‬
‫لإلسالم‪َّ ،‬‬
‫وغ َن السرية النبوية باألمثلة احلية لرجال دعوا النفس البشرية‬ ‫ِ‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪30‬‬

‫ودنَسهـا‪ ،‬لكنَّهم جاهدوا لتأمني ضرورات‬ ‫للتسامي عن خسة األرض َ‬


‫أخ َّوة‪ .‬قاتلوا يف سبيل‬
‫األرض من عدل‪ ،‬وإنصاف‪ ،‬وطعام‪ ،‬وأمن‪ ،‬و ُ‬
‫ذلك وقُتلوا‪ .‬قادوا املعـارك‪ ،‬ونظموا اجملتمـع‪ ،‬وربـَّْوا الرجال‪ ،‬وسهروا‬
‫على عدالة القسمـة‪ ،‬وأوصوا بالعمل املنتج النافع‪.‬‬
‫هبر ُجه ملا ظهر من‬
‫لعل االنبهار بالثورات اجلاهلية أخذ َيبو َ‬
‫تفوق الثورة اإلسالمية اإليرانية‪ ،‬ذلك التفوق الذي شهد به‬
‫ماليني من الرجال والنساء واألطفال واجهوا اجليش‬ ‫ُ‬ ‫األعداء‪.‬‬
‫أيد عزالء‪ .‬وانتصروا‪ .‬إهنا جتربة‬‫عرضة و ٍ‬ ‫اخلامس يف العامل بصدور ُم َّ‬
‫إسالمية يف هذا العصر‪ .‬رصيد حصل يف ذاكرة اإلسالم مهما‬
‫أنصع يف قلوب املؤمنني جهاد‬ ‫كانت أخطاء الرجال بعد ذلك‪ .‬و ُ‬
‫ود ْح ُر أعظم ُد َوِل اجلاهلية‪ .‬آية عُظْمى لظهور‬ ‫اجمليد َ‬
‫أفغانستان ُ‬
‫‪1‬‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫دولة القرآن‬
‫طرد احلاكم املستبد وفئتِه‬
‫كان َه َّم رجال القومة يف اإلسالم ُ‬
‫الباغية ليقوم غريُه مقامه‪ .‬كان القائمون رجاال صلحاء هنضوا‬
‫لطرد قوم مفسدين‪ .‬مل يكن أحدهم حباجة لطرح برنامج أو‬

‫‪ُ 1‬كتب هذا واجلهاد األفغاين يف عنفوانه وانتصاره‪ .‬مث استيقظت القبلية واخلالفات‪ ،‬وتقاتل‬
‫املسلمون‪ .‬وإنه ال حول وال قوة إال باهلل‪.‬‬
‫‪31‬‬ ‫قطع حبال الفتنة‬
‫إعالن بيان‪ .‬يكفيه أن ينتقد املفسدين ويبني احنرافهم عن القرآن‬
‫والسنة‪ .‬وكان النهي عن املنكر الذي أنكره القائمون بالسيف‬
‫هو الربنامج واخلطة‪ .‬فمىت اهنزم املفسدون‪ ،‬وطهرت األرض من‬
‫رجسهم‪ ،‬عاد شرع اهلل إىل ما تعرفه األمة‪ .‬واليوم اختلط املنكر‬
‫ِ‬
‫القاعد عنه أهله‪ .‬فال يكفي‬ ‫املفروض بالقهر باملعروف املْنسي‬
‫أن يُطَْرَد اجملرمون‪ .‬ومن حيتل الكراسي‪ ،‬ويُصدر بيانات القومة‪،‬‬
‫لن يوثق بإسالمه إن مل يأت معه مبنهاج ينكر املنكر‪ ،‬ويعرف‬
‫املعروف‪ ،‬ومبشروع جمتمعي يوضح كيف يغري املنكر باملعروف‪ .‬مث‬
‫ال يكفي ذلك حىت يربهن رجال السلطان اجلديد بأهنم جادون‬
‫فيما هم مقدمون عليه‪ ،‬قادرون على إجناز املهمات وقيادة األمة‪.‬‬
‫كل عنف‪ ،‬وكل انقضاض على السلطة‪،‬‬ ‫سمى اليوم ثورةً ُّ‬‫يُ َّ‬
‫وكل استبدال لوجوه بوجوه‪ ،‬ولشرطة بشرطة‪ ،‬ولعصبية بعصبية‪.‬‬
‫وال تلبث الوجوه اجلديدة بعد مرحلة تصفية اخلصوم أن تدخل‬
‫يف مرحلة التصفيات بينها‪ .‬ويعود البالء أسوأ مما كان‪ .‬والقومة‬
‫اإلسالمية لن تكون قومة وال إسالمية إال بقدرة رجاهلا على‬
‫التماسك فيما بينهم ليواجهوا االحنالل وإغراءه‪ .‬لن تكون‬
‫كذلك إال بقدرهتم على إبطال الباطل وإحقاق احلق‪ .‬وسريثون‬
‫اخلراب والفراغ واهلياكل النخرة‪ .‬فما أشق املهمة !‬
‫ند هذه‬‫ال مكان للكساىل وعشاق اجلاه والسلطان بني ج ٍ‬
‫ُ‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪32‬‬

‫قضيتهم وهذه معارُكهم‪ .‬كيف يصمد ال ُكساىل وطالب الرئاسة‬


‫أمام إغراء الرتف‪ ،‬وسهولة التفرغ لالستمتاع «بالنصر»‪ ،‬واستعمال‬
‫اهلياكل النخرة من أشخاص ومؤسسات لتسيري العجلة االقتصادية‬
‫واإلدارية؟ كيف يقاومون عدوى التقليد للثورات اجلاهلية‪ ،‬وكيف‬
‫خيرجون من ِربقة االختيار املزدوج بني احلفاظ على الرأمسالية أو «بناء‬
‫االشرتاكية»؟‬
‫القومة اإلسالمية‬
‫إن القومة اإلسالمية تطلب سلطانا قويا‪ ،‬ال شك يف ذلك‪.‬‬
‫والسلطان القوي غريُ السلطان العنيف وغريُ حكم القمع‪ .‬لكن‬
‫أسبق شيء حتتاجه القومة‪ ،‬وأهم شيء‪ ،‬وأجدى شيء‪ ،‬هم رجال‬ ‫َ‬
‫قرآنيون نبويون‪ .‬من األمة وإليها ومعها‪ .‬ال ليفعلوا هبا‪ ،‬بل ليوقظوها‪،‬‬
‫ويربوها حىت تصبح فاعلة‪.‬‬
‫دولة القرآن إذن‪ ،‬وقومة القرآن‪ ،‬ليست عملية انقالبية خنبوية‪،‬‬
‫مبقتضاها ينتصب مجاعةٌ ُوكالءَ على األمة‪ ،‬أوصياءَ أبَ َد الدهر على‬
‫مصريها‪ .‬قد تكون اخلطوةُ األوىل يف القومة من عمل مجاعة حمدودة‪.‬‬
‫عامة األمة من‬
‫اج ّ‬ ‫األول إخر َ‬
‫لكن إن مل جتعل هذه اجلماعة هدفَها َ‬
‫دين االنقياد‪ ،‬ومخول االستسالم‪ ،‬ومل حتارب ذهنية الرعوية القطيعية‪،‬‬
‫مغامَرًة فاشلةً‪.‬‬
‫فستكون حركتُها َ‬
‫‪33‬‬ ‫قطع حبال الفتنة‬
‫روى أبو هالل العسكري يف كتاب «األوائل» أن أمري املؤمنني‬
‫عمر بن اخلطاب ملا عزل سعداً بن أيب وقاص‪ ،‬بطلب من الرعية‪،‬‬
‫خطب فيهم فقال‪« :‬إين عزلت عنكم سعدا‪ ،‬فأخربوين‪ :‬إذا كا َن‬
‫اإلمام عليكم مينعكم حقوقَكم‪ ،‬ويُسيء صحبتَكم ماذا تصنعون؟»‬
‫شراً صربنا»‪ .‬فقال عمر‪:‬‬‫قالوا‪« :‬إن رأينا خريا محدنا اهلل‪ ،‬وإن رأينا ّ‬
‫«ال واهلل ال تكونون شهـداء يف األرض حىت تأخذوهم يف احلق‬
‫كأخذهم إياكم فيه‪ ،‬وتضربوهم على احلق كضرهبم إياكم عليه‪.‬‬
‫وإال فال !»‪.‬‬
‫«تضربوهم على احلق كضرهبم إياكم عليه»‪ .‬عالقة بني احلاكم‬
‫واحملكوم توجب احلق‪ ،‬احرتام احلق‪ ،‬على الكل‪ .‬وقد رأينا يف‬
‫احلديث الصحيح كيف بايع عُبادة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫ضةُ احلاكم‬‫معار َ‬
‫على أن يقول احلق ال خياف يف اهلل لومة الئم‪َ .‬‬
‫اجب شرعي إن حاد عن احلق‪ .‬وضربه عليه واجب‪ .‬ال يقبلها‬ ‫و ٌ‬
‫اإلسالم فوضى‪ ،‬فال بد من وضع إطار «للضرب» والقول يف احلق‬
‫بال خوف‪.‬‬
‫لعنةٌ حلت على الناس منذ أمسكوا عن النهي عن املنكر وعن‬
‫األمر باملعروف‪ ،‬وتركوا احلاكم حراً يهتك األعراض‪ ،‬ويضرب‬
‫ويايب يف الوالية‪ ،‬ويعطِّل احلدود‪ ،‬كما‬
‫األبشار‪ ،‬وحيتجن األموال‪ُ ،‬‬
‫قرأنا عند أيب يعلى‪.‬‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪34‬‬

‫قال اهلل جلت عظمته‪{ :‬لُع َن الذ َ‬


‫يل‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ين َك َف ُرواْ من بَني إ ْس َرائ َ‬
‫يسى ابْ ِن َم ْريَ َم َذلِ َ‬ ‫ان داو ِ‬ ‫ِ‬
‫صوا َّوَكانُواْ‬‫ك بِ َما َع َ‬ ‫ود َوع َ‬ ‫سِ َُ َ‬ ‫َعلَى ل َ‬
‫ِ‬
‫س َما َكانُواْ‬ ‫اه ْو َن َعن ُّمن َك ٍر فـََعلُوهُ لَب ْئ َ‬
‫يـَْعتَ ُدو َن َكانُواْ الَ يـَتـَنَ َ‬
‫غري النسائي‬ ‫يـَْف َعلُو َن} ‪ .‬أخرج اإلمام أمحد وأصحاب السنن َ‬
‫‪1‬‬

‫عن عبد اهلل بن مسعود قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫علماؤهم فلم ينتهوا‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫«لَ ّما وقعت بنو إسرائيل يف املعاصي هنتهم‬
‫فجالسوهم يف جمالسهم‪-‬قال يزيد‪ :‬أحسبـه قال‪ :‬وأسواقهم‪-‬‬
‫قلوب بعضهم ببعض‪ ،‬ولعنهم‬ ‫وشاربوهم‪ .‬فضرب اهلل َ‬ ‫ووا َكلوهم َ‬
‫على لسـان داود وعيسى بن مرمي‪ .‬ذلك مبا عصوا وكانوا يعتدون»‪.‬‬
‫وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم متكئا فجلس فقال‪« :‬ال‬
‫روهم على احلق أطرا»!‪ .‬احلديث رواه‬ ‫ِ‬
‫والذي نفسي بيده !حىت تأط ُ‬
‫الرتمذي وحسنه‪.‬‬
‫تأطُروهم على احلق‪ .‬أمة حية مشاركة‬ ‫تضربوهم على احلق‪ِ ،‬‬
‫جماهدة‪.‬‬
‫وجاء عند عبد بن محيد حديث رواه عن معاذ بن جبل‪،‬‬
‫فيه عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن رحى اإلسالم‬
‫ستدور‪ ،‬فحيثما دار القرآن فدوروا معه‪ .‬يوشك السلطـان والقرآن‬
‫أن يقتتال ويتفرقا ! فإنه سيكون عليكم ُملوك حيكمون لكم‬

‫‪ 1‬املائدة‪ ،‬اآليتان‪.79-78:‬‬
‫‪35‬‬ ‫قطع حبال الفتنة‬
‫حبكم وهلم بغريه‪ .‬فإن أطعتموهم أضلوكم‪ ،‬وإن عصيتموهم قتلوكم‪.‬‬
‫قالوا‪ :‬يا رسول اهلل ! فكيف بنا إن ْأد َركنا ذلك؟ قال ‪ :‬تكونون‬
‫موت‬
‫ورفعوا على اخلُ ُشب ! ٌ‬ ‫كأصحاب عيسى‪ :‬نُشروا باملناشري ُ‬
‫ص يف بين‬ ‫ٍ‬
‫يف طاعة خري من حياة يف معصية ! إن أول ما كان نـََق َ‬
‫إسرائيل أهنم كانوا يأمرون باملعروف وينهون عن املنكر ِشْبهَ التعزير‪.‬‬
‫فكان أحدهم إذا لقي صاحبه الذي كان يعيب عليه آ َكلَهُ َو َش َاربَهُ‪،‬‬
‫كأنه مل يعب عليه شيئا‪ .‬فلعنهم اهلل على لسان داود‪ ،‬وذلك مبا‬
‫لتامُر َّن باملعروف َ‬
‫ولتنه ُون‬ ‫عصوا وكانوا يعتدون‪ .‬والذي نفسي بيده ُ‬
‫ِ‬
‫خياركم فال‬ ‫عن املنكر أو ليسلطَن اهلل عليكم شراركم‪ ،‬مث ليَدعُ َو َّن ُ‬
‫ولتنه ُو َّن عن‬
‫لتام ُر َّن باملعروف َ‬
‫يستجاب هلم‪ .‬والذي نفسي بيده ُ‬
‫أطُرنَّه عليه أطرا أو ليضربن اهلل‬ ‫املنكر ولتأخ ُذ َّن على يد الظامل فلَتَ ِ‬
‫ُ‬
‫بعضكم ببعض»‪.‬‬
‫مقاومةُ الظلم حىت املوت ولو نشراً باملناشري واجب الطليعة‬
‫وجناحها يف بناء األمة ِ‬
‫ومحل‬ ‫َ‬ ‫اجملاهدة‪ .‬لكن إقامة دولة القرآن‬
‫روح املقاومة يف عامة األمة حىت يصبح‬ ‫بسَريان ِ‬
‫رهن َ‬ ‫الرسالة ٌ‬
‫املعروف سيدا‪ ،‬واملنكر مرذوال مطرودا على كل املستويات‪ ،‬ويف كل‬
‫امليادين‪ .‬استعملت كلمة «طليعة» وهي مقدمة اجلند اجملاهد‪ .‬ويف‬
‫البخاري‪« :‬باب فضل الطليعة»‪ .‬فاستعمالنا هلا حيمل هذه املعاين‬
‫اجلهـادية‪ ،‬ال شركة له مع تعابريهم العصرية النضالية إال يف اللفظ‪.‬‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪36‬‬

‫مث مقاطعة الظاملني‪ :‬ال نواكلهم وال نشارهبم وال جنالسهم‪.‬‬


‫وهذه هي الصيغة املثـْلَى للقومة‪ .‬فلو قدرنا أن نتجنب استعمال‬
‫السالح ضد األنظمة الفاسدة‪ ،‬ونقاطعها حىت تشل حركتها‪،‬‬
‫وترذُ َل كلمتُها كما فعل إخواننا يف إيران‪ ،‬لكان‬ ‫ويسق َط سلطا ُنا‪ْ ،‬‬
‫ذلك أشبهَ شيء بروح اإلسالم الذي يوصي أال تسفك دماء‬
‫املسلمني بينهم‪ .‬وهذا يقتضي صربا واستشهادا وصمودا‪ .‬ذلك َّ‬
‫أن‬
‫وسدنـَتَهُ لن يتع ّففوا عن استعمال سالحهم وبطشهم‬ ‫ُرَو َاد الباطل َ‬
‫الشديد‪ .‬وكذلك كان يف إيران‪ .‬على أ ّن املقاطعة واملقاومة الصابرة‪،‬‬
‫ي‪ ،‬قد ال تتأتى ظروفهما يف كل قطر من أقطار اإلسالم‪ .‬وقد‬ ‫متعانَِق ْ ِ‬
‫ال يناسب هذا األسلوب حاالت يكون فيها احلاكم الباطش متمثال‬
‫يف شرذمة ثعلبية مستأسدة كما هو احلال اليوم يف سوريا‪ .‬على‬
‫كل حال فإشراك األمة يف تقويض الباطل ركن من أركان القومة‪.‬‬
‫وإشراكها يف بناء احلق ركن ثان‪.‬‬
‫جاءنا تفصيل الفروض العينية يف جمال األمر باملعروف والنهي‬
‫أحاديث االهتمام بأمر املسلمني‪.‬‬‫ُ‬ ‫عن املنكر‪ ،‬تؤكد ما أمجلَْته‬
‫جاءت مقاومة السلطان اجلائر‪ ،‬ومقاطعة أهل البدع والكبائر‪،‬‬
‫وخاص ِة‬
‫َّ‬ ‫والتفطن للجور وسدنته‪ ،‬والنصيحة هلل ولرسوله وكتابه‬
‫وعامتِهم‪.‬‬
‫املؤمنني َّ‬
‫وو ِصفت لنا القنوات‬‫ت لنا الطريق‪ُ ،‬‬ ‫وخطَّ ْ‬
‫املنهاج‪ُ ،‬‬
‫ُ‬ ‫هكذا ُرِس َم لنا‬
‫‪37‬‬ ‫قطع حبال الفتنة‬
‫اليت من شأهنا أن جتمع غضب األمة على املنكر حىت يصبح الغضب‬
‫هلل سيال جيرف الباطل‪ ،‬مث ترجع الطاقات املؤمنة إىل جماريها لتسقي‬
‫وج‬
‫الثوري اهلُ ُ‬
‫ِّ‬ ‫ت رياح الغضب‬ ‫الغِراس ِ‬
‫القرآنَّ وتبين القوة‪ .‬فإن َدفـََع ْ‬ ‫َ‬
‫إىل عنف بال قيود فإمنا هي ثورة ‪-‬باملعىن اإلسالمي‪ -‬ستخمد‪.‬‬
‫ويومئذ تكون أُختاً لالنقالب من أعلى‪ ،‬وصاية على األمة‪ ،‬وأطْراً‬
‫هلا على شهوة احلاكم‪.‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫من القومة املسلحة إىل االحتجاج الصامت‬
‫دعاة إىل اهلل‬
‫األمة مع املصلحني‬
‫ترف‬
‫‪41‬‬ ‫من القومة املسلحة إىل االحتجاج الصامت‬

‫دعاة إىل اهلل‬


‫نذكر إن شاء اهلل يف بَقية هذا الكتاب مواقف لرجال تراوح‬
‫صدامهم مع امللك العاض واجلربي بني القومة املسلحة واملقاطعة‬
‫الصامتة وحماولة اإلصالح‪ .‬نذكر الصحـابة فهم السابقون‪ ،‬مث نذكر‬
‫القائمني من آل البيت فهم أحق بالصدارة‪ .‬مث نرتب الرجال حسب‬
‫ترتيبهم التـارخيي‪ .‬ال نستقصـي‪ ،‬وال ميكن ذلك‪ ،‬ألن رجال القومة‬
‫واإلصالح يف تارخينا أكثر من أن حيدهم حساب‪ .‬فاألمة ِخصبة‬
‫لود واحلمد هلل‪.‬‬
‫َو ٌ‬
‫ن اإلسالم منذ أدبرت اخلالفة وجاء امللك بعد ثالثني سنة‬ ‫ِ‬
‫ُم َ‬
‫من وفاة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بفنت ُم ْد َلِ َّم ٍة‪ ،‬بدأت مبقتل‬
‫اإلمام عثمان‪ ،‬مث تال ذلك االنكسار التارخيي يف حروب اجلمل‬
‫تال اخلوارج‪ ،‬وقتل اإلمام علي‪ .‬مث ظهر يزيد بن معاوية‬ ‫ِّني‪ ،‬وقِ ِ‬
‫وصف َ‬
‫ِ‬
‫ذلك الغالم القرشي اللعوب الظامل‪ .‬مث كانت الثورات الداخلية‪،‬‬
‫اهلجمات اخلارجية على اإلسالم واملسلمني‪ ،‬متسلسلةً أوهنت قدرة‬ ‫ُ‬ ‫و‬
‫األمة على املقاومة‪ ،‬فلم تبق إال شوكة اإلسالم املمثلة يف نظام اخلالفة‬
‫االمسية واإلمارات املستبدة‪.‬‬
‫الداء‪ ،‬وهو فساد احلكم‪،‬‬ ‫فمن رجال القومة من أدرك أصل ِ‬
‫فبادر لعالجه‪ .‬ومن رجال اإلصالح من تـَنَ َاز َعهُ عامال اخلوف‬
‫اجب النهي عن املنكر وأطْ ِر‬ ‫على شوكة اإلسالم أن تنكسر‪ ،‬وو ِ‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪42‬‬

‫السلطان على احلق‪ ،‬فاكتفى بالوعظ‪ ،‬واملقاطعة‪ ،‬والتوجه إىل األمة‬


‫لتعليمها‪ ،‬وتربيتها‪ ،‬وتغذيتها بروح املقاومة‪.‬‬
‫مل تنقطع يف تارخينا الطويل سلسلةُ الرجال القائمني بالقسط‪.‬‬
‫كتب الشيخ أبو احلسن الندوي يف هذا املوضوع ما يلي‪« :‬من‬
‫احلقائق التارخيية أن تاريخ اإلصالح والتجديد متصل يف اإلسالم‪.‬‬
‫واملتقصي هلذا التاريخ ال يرى ثـَ ْغرة وال ثـَْل َمةً يف جهود اإلصالح‬
‫والتجديد‪ ،‬وال فرتة مل يظهر فيها من يعارض التيار املنحرف‪ ،‬ويكافح‬
‫الفساد الشامل‪ ،‬ويرفع صوت احلق‪ ،‬ويتحدى القوى الظاملة أو‬
‫عناصر الفساد‪ ،‬ويفتح نوافذ جديدة يف التفكري»‪.1‬‬
‫وكيف تنقطع السلسلة ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وعد‬
‫بظهور جمددين‪ .‬روى اإلمام أمحد والطرباين واحلاكم بسند صحيح‬
‫عن أيب هريرة أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬إن اهلل يبعث‬
‫هلذه األمة على رأس كل مائة سنة من جيدد هلا دينها»‪ .‬وقد اختلف‬
‫العلماء يف تعيني جمدد كل قرن‪ ،‬وإن كانوا مجيعا يتفقون على شخص‬
‫عمر بن عبد العزيز جمددا للقرن األول‪ .‬وسنخصص إن شاء اهلل‬
‫فصال هلذا الرجل العظيم يف غري هذا الكتاب‪.‬‬
‫إن األمة املوعودة بالظهور واخلالفة يف األرض كانت وال تزال‬
‫حباجة لرجال يُ ْذ ُكو َن فيها ِج ْذ َوَة اإلميـان‪ ،‬ويُربون‪ ،‬ويُعلمون‪،‬‬

‫‪« 1‬رجال الفكر والدعوة يف اإلسالم»‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬دار القلم الكويتية ص‪.26‬‬
‫‪43‬‬ ‫من القومة املسلحة إىل االحتجاج الصامت‬

‫فسد من أخالق‪ ،‬وما تبـَلَّد من‬


‫لي من عقيدة‪ ،‬وما َ‬ ‫ويددون ما بَ َ‬
‫ُ‬
‫عقول‪ ،‬وما فـََت من مهم‪ .‬أكابرهم ظهروا ويظهرون يف فرتات طويلة‬
‫قرن رجال جمددون تابعون‪،‬‬ ‫عيـَّنَها الوحي مبائة سنة‪ .‬وخالل كل ٍ‬
‫حيافظون على ذكرى ٍ‬
‫جهاد مضى‪ ،‬أو يهيئون جهادا مقبال‪ .‬وهكذا‬
‫إىل اإلمام املهدي عليه السالم‪.‬‬
‫اسم اخلالفة عن مهمة الدعوة‪ .‬بل‬‫املرتَ ُدو َن زوراً َ‬ ‫ختَلَّى ُ‬
‫امللوك ْ‬
‫الدعوة ختلت عنهم ألهنم ليسوا أهلها‪ .‬وعاد لعلماء األمة وصلحائها‬
‫واجب جتديد البيعة وامليثـاق الواصل بني العباد ورهبم‪.‬‬
‫كتب الشيخ أبو احلسن الندوي رمحه اهلل قال‪« :‬كان املسلمون يف‬
‫حاجة إىل دعاة وشخصيات قوية جـامعة‪ ،‬جتمع بني تالوة اآليات‪،‬‬
‫ف الرسول صلى‬ ‫وتعليم الكتاب واحلكمة‪ ،‬وتزكية النفوس‪ .‬وهكذا َتْلُ ُ‬
‫اهلل عليه وسلم يف أمته بعد انقطاع النبوة‪ ،‬وجتدد صلتها باهلل‪ ،‬وجتدد‬
‫امليثاق الذي دخلت فيه األمة واملسلمون مجيعا عن طريق اإلميان والنطق‬
‫بالشهادتني‪ ،‬وما عاهدت عليه وبايعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫مع بُعد الزمان واملكان‪ ،‬من السمع والطاعة‪ ،‬وخمالفة النفس واهلوى‬
‫والشيطان‪ ،‬والتحاكم إىل اهلل ورسوله‪ ،‬والكفر بالطاغوت‪ ،‬واجملاهدة يف‬
‫سبيل اهلل‪ .‬فقد تغافل اخللفاء واقتصروا على اجلباية والفتـوح‪ ،‬وأخذوا البيعة‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪44‬‬

‫ألنفسهم وأوالدهم»‪ . 1‬وأضع كلمة «اخللفاء» بني مزدوجتني حلصر‬


‫التزييف يف حدوده‪.‬‬
‫موصول بني السماء واألرض‬ ‫ٌ‬ ‫إن اإلسالم دين اهلل اخلالد‪ ،‬حبلُه‬
‫بوصلة النبوة والرسالة‪ ،‬موصول بني األجيال اإلسالمية بواسطة‬
‫ور ِثة النبوة‪َ ،‬حَلَ ِة الرسالة‪ ،‬علماء األمة العاملني‪ .‬فلكيال تتكدس‬ ‫َ‬
‫خملفات التاريخ وإنتاجـات الرتاث الفقهي والعلمي فتحجب‬ ‫ُ‬ ‫أمامنا‬
‫س النبوي وهو‬ ‫عنا ذلك النور النبوي‪ ،‬جيب أن نتبع ذلك ال َقبَ َ‬
‫ينتقل من جيل جليل‪ ،‬صفاءً يف العقيدة‪ ،‬واستقامةً يف الدين‪،‬‬
‫وصالبةً يف احلق‪ ،‬وجهاداً مع األمة‪.‬‬
‫ال نستهني مبا تعطينا دراسة التاريخ من دروس‪ ،‬وال ننكر فضل‬
‫الفقهاء الذين أثَّلوا لنا تراثا زاخرا بالعلم واالستنباط‪ ،‬وال فضل‬
‫علماء األمة الذين خدموا القرآن والسنة‪ ،‬ودونوا وعلموا‪ .‬لكن‬
‫اجملددين وحدهم خليقون بإكبارنا وحمبتنا اخلالصني‪ .‬أولئك الذين‬
‫وها عن رسول اهلل صلى اهلل‬ ‫آلت إليهم وظيفة الدعوة إىل اهلل‪ ،‬وِرثُ َ‬
‫عليه وسلم‪ ،‬ومحلوا أعباءها بعد أن انفرد امللك باجلباية وتصريف‬
‫أمور الدنيا‪ ،‬وبقيت الوظيفة األساسية للخلفاء الراشدين‪ ،‬وهي‬
‫الدعوة إىل اهلل‪ ،‬شاغرة معطلة‪ ،‬بل حماربة من جانب حكام العض‬
‫واجلرب‪.‬‬

‫‪ 1‬املصدر السابق ص‪.280‬‬


‫‪45‬‬ ‫من القومة املسلحة إىل االحتجاج الصامت‬

‫اختلف السلطان والقرآن كما جاء يف حديث عبد بن محيد‬


‫السابق‪ ،‬وقاتل السلطان القرآن‪ .‬حدث هذا منذ فجر تارخينا‪،‬‬
‫وسدنَِة‬ ‫السلطان القرآ َن على ُ ِ‬
‫ِ‬
‫أشدِّه بني أنصار احلق َ‬ ‫وال يزال قتال‬
‫الباطل‪ .‬لذا فدولة القرآن املنشودةُ جيب أن تكون امتدادا للدعوة‬
‫أهل اهلل‬
‫النبوية‪ ،‬ال بديالً سلطانيا لألنظمة القائمة‪ .‬وأهل القرآن ُ‬
‫من رجال القومة واإلصالح هم سل ُفنا الذي حاربوا الظلم مثلما‬
‫الورثَِة‬
‫حنارب‪ ،‬وانتصروا للحق مثلما نرجو اهلل أن ننتصر‪ .‬منهم ُك َّم ُل َ‬
‫احملمـديني‪ ،‬من مجع اهلل هلم بني العلم الواسع‪ ،‬والفقه واجلهاد أمثال‬
‫سيد الشهداء احلسني بن علي وسائر أئمة آل البيت الطاهرين‪.‬‬
‫ومنهم من كان قِمة يف العلم واإلصالح أمثال أئمة الفقه األربعة‪.‬‬
‫ف لنا رمحهم اهلل‬ ‫جهاده أكثر من ِعلمه‪ .‬والكل سلَ ٌ‬
‫ومنهم من كان ُ‬
‫وأحلقنا هبم مسلمني‪.‬‬
‫األمة مع املصلحني‬
‫اجلور أن تلتف األمة حول رجال‬
‫ف ما خيافه حكام ْ‬ ‫أخ َو َ‬
‫كان ْ‬
‫امللوك يضطهدون املصلحني‪ِ ،‬‬
‫ويبطشون‬ ‫القومة واإلصالح‪ .‬فكان ُ‬
‫باألمة بطش اجلبارين‪ ،‬ليصرفوا وجوه الناس عن الرجال‪ .‬ذكر‬
‫الطربي يف أحداث سنة ‪ 121‬كيف حارب هشام بن عبد امللك‬
‫أنصار اإلمام زيد بن علي‪ ،‬ونقل كتابه إىل عامله على الكوفة‬
‫يأمره بقمع القومة بني أفراد األمة‪ .‬قال له‪« :‬فادع إليك أشراف‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪46‬‬

‫أهل املصر‪ ،‬و ْأو ِع ْدهم العقوبةَ يف األبْشا ِر‪ ،‬واستصفاءَ األموال‪.‬‬
‫ـف معه إال‬ ‫فإن من له َعق ٌد أو َعهد منهم سيبطئ عن زيد‪ ،‬وال َِي ُّ‬ ‫َّ‬
‫فبادرهم بالوعيد‪،‬‬ ‫الرعاع وأهل السواد ومن تـْن ِهضه احلاجة (‪ِ )...‬‬
‫ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ َ‬
‫اف‬
‫أخـف األشر َ‬ ‫ضهم بِسوطك‪ ،‬وجرد فيهم سيفك‪ ،‬و ِ‬
‫ض ُْ َْ‬ ‫و ْاع ُ‬
‫الس ْفلَ ِة»‪.1‬‬
‫واألوساط قبل ِّ‬
‫األشراف األغنياء خيافون مبجرد التهديد‪ .‬أما سو ُاد األمة‬
‫ويََّرُد فيهم‬
‫«الرعاع» فهم املستضعفون الذين َيعضُّهم السوط‪ُ ،‬‬
‫الس ْفلَة» دليل على أن‬ ‫اف قـَْبل ِّ‬
‫«أخف األشر َ‬‫السيف‪ .‬ويف قوله‪ِ :‬‬
‫ودليل‬
‫ٌ‬ ‫صفوف األمة‪،‬‬ ‫َ‬ ‫دعوَة اإلمام زيد مجعت على كلمة واحدة‬
‫امللوك مفسدون يف األرض‪ ،‬إذ يفرقون األمة طبقات‬ ‫على أن َ‬
‫ليستندوا إىل فئة املستكربين‪.‬‬
‫كان امللوك قد بلغوا من الرتف واالستعالء على األمة ما‬
‫جعلهم ينظرون إىل األمة نظرهتم إىل «الرعاع»‪ ،‬وحياة «الرعاع»‪،‬‬
‫وحقوق «الرعاع»‪ .‬كانوا مرتفني مات فيهم الشعور الديين وحس‬
‫اإلنسانية‪ .‬فال أ ْكَرَه عندهم ممن ينـزل لألمة يواسيها يف آالمها‬
‫ويقودها لكرامتها‪.‬‬
‫ترف‬
‫منذ أن ولّت اخلالفة الراشدة واستقرت عاصمة امللك يف‬

‫‪« 1‬تاريخ الطربي» ج‪ 8‬ص‪.226‬‬


‫‪47‬‬ ‫من القومة املسلحة إىل االحتجاج الصامت‬

‫دمشق تسربت عادات امللك البَِزنطي وأمنا ُط حضارته وترفه إىل‬


‫الدع ِويَّة اليت ما كان على‬ ‫ِ‬
‫امللوك على املسلمني‪ .‬نُسيَت الوظيفةُ َ‬
‫أمثال يزيد والوليد والزمرة‪ .‬كانت دمشق‬ ‫كل حال مؤهال هلا ُ‬
‫ك وحاشيته‬ ‫ِ‬
‫مدينة حضارة وبَ ْذخ‪ ،‬فكثرت النفقات‪ ،‬وتوسع املل ُ‬
‫يف األموال‪ ،‬واختصوا بالعقارات‪ ،‬وثـَقَّلوا اجلبايات‪ ،‬واستعملوا‬
‫«الرعاع» خلدمة األرض‪.‬‬
‫وكانت اجلِبايةُ َْتمع يف َح ْوَزة «األشراف»من بين أمية وصنائعهم‬
‫ات بالد املسلمني الواسعة ومنتوجاهتا‪ .‬كما كانت التجارة مع‬ ‫خري ِ‬
‫شعوب األرض تُ ْدفِ ُق على العاصمة األقمشة الثمينة‪ ،‬والصنائع‬
‫احلضرية‪ ،‬واخلمور‪.‬‬
‫الرق يف اإلسالم‪ .‬وهو‬ ‫وكانت جتارة الرقيق حتريفا فظيعا لنظام ِّ‬
‫تقرُبم‬
‫وجل إطارا ملعاملة أسرى القتال معاملة ِّ‬‫نظام وضعه اهلل عز ّ‬
‫منا‪ ،‬وحتبب إليهم الدين‪ ،‬وتربيـهم عليه‪ ،‬مث حتـررهم لينطلقوا دعاة‬
‫لإلسالم يف بالدهم‪ .‬وما بقي منهم يف بالد املسلمني فهم أصهار‬
‫اندماج أسري‬
‫َ‬ ‫ومو ٍال‪ .‬ويَعين والءُ املوىل لقبيلة إسالمية وأسرة مسلمة‬
‫وعودة كرامته إليه بني قوم فتحوا‬
‫أمس الغريب يف اجملتمع املسلم‪َ ،‬‬
‫له بيوهتم أخا ُم َكَّرما‪.‬‬
‫َح َّول الرتف امللوكي «األشرايف» هذا النظام الرحيم احلكيم إىل‬
‫وسيلة إلرضاء الشهوات وعمران قصور الدعارة‪.‬‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪48‬‬

‫فلما انتقلت العاصمة لبغداد مع الدولة العباسية ازداد الرتف‬


‫امللوكي ِرقَّة وبَ ْذخا بتأثري احلضارة الفارسية الكسروية‪ .‬وازدادت‬
‫اجلباية‪ ،‬وتكدست األموال يف أيدي «األشراف»‪ ،‬فتكونت طبقة‬
‫توايل احلكم وتتملقه‪ ،‬وتعيش طفيلية على موائد امللوك‪ ،‬ال أعين‬
‫باملوائد والتطفل ما يرد يف حكايات «ألف ليلة وليلة» من دخول‬
‫بائس جائع مع الناس إىل مأدبة‪ .‬أعين باملائدة خريات األمة املنهوبة‪.‬‬
‫النظام املستبد طيلة تارخينا‪ ،‬ويف ركاهبما‬
‫الرتف واجلبايةُ َ‬
‫وصحب ُ‬
‫التعسف واحلرما ُن‪ ،‬وهي نصيب «الرعاع» املستضعفني‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الظل ُـم و‬
‫يف جمتمع مثل هذا أفسد فيه االستبداد أخالق الناس‪ ،‬وهنب‬
‫أمواهلم‪ ،‬وبدد صفوفهم‪ ،‬يقوم املصلحون فيجدون آذانا صاغية‪.‬‬
‫األسود‬
‫ُ‬ ‫البؤس‬
‫مضرب األمثال‪ .‬فلوال ُ‬
‫َ‬ ‫وكان ترف بين مروان والعباسيني‬
‫الذي كان يسود احملرومني املستعبدين ملا انتشرت الثورات املخربة‪،‬‬
‫ثورات املشعوذين واألفاكني‪ ،‬إىل جانب القومات على احلق‪.‬‬
‫كان الناس حتت بين أمية ثالثة أصناف‪« :‬أشراف» أمويون‪،‬‬
‫وعرب‪ ،‬وموال‪ .‬وكلمة موىل يف قاموس العصبية املروانية مليئة‬
‫باالحتقار‪.‬‬
‫‪49‬‬ ‫من القومة املسلحة إىل االحتجاج الصامت‬

‫وحتت العباسيني تكونت طبقة «األشراف» من رجال السيف من‬


‫فارس ورجال القلم حينا من الدهر من العرب‪ .‬حىت دالت العصبية‬
‫من العرب وبقي اسم «اخلليفة» رمزا للمجد الغابر‪.‬‬
‫مث سادت «إمارات االستيالء» على يد أجناس العجم والديلم‬
‫اإلسالمي حضارةُ الشعوب‬
‫َّ‬ ‫اجملتمع‬
‫َ‬ ‫والرببر‪ .‬وتعجمت الناس‪ ،‬بل ختلَّ َل‬
‫املغلوبة املتفوق ِـة يف الفنون والصنـاعات‪ .‬استعجمت القلوب والعقول‬
‫وإن تعربت األلسن‪.‬‬
‫لكل مقام مقال‪ .‬ويف مقام غري هذا كنا نتبىن إجنازات املسلمني‬
‫ونفخر بقدرهتم عل صهر مسامهات الشعـوب اليت أسلمت يف‬
‫حضارة بارعة مشرقة‪ .‬لكننا هنا حنلل مساوئ االستبـداد وما يواكب‬
‫االستبداد من فساد‪ .‬ونقصد بالعروبة اإلسالم‪ ،‬وبالعُ ْج َم ِة ِرقَّةَ الدين‪.‬‬
‫كتب حكيمنا ابن خلدون قال‪« :‬أهل الدول أبدا يقلدون يف‬
‫طور احلضـارة وأحواهلا الدولة السابقة قبلهم‪ .‬فأحوا َلم يشاهدون‪،‬‬
‫ومثل هذا وقع للعرب لَ ّما كان الفتح‬
‫ومنهم يف الغالب يأخذون‪ُ .‬‬
‫وملكوا فارس والروم‪ ،‬واستخدموا بناهتم وأبناءهم‪ .‬ومل يكونوا‬
‫ِّم هلم‬ ‫ِ‬
‫لذلك العهد يف شيء من احلضارة‪ .‬فقد ُحك َي أنه قُد َ‬
‫املرقَّ ُق (خبز رقيق) فكانوا حيسبونه ِرقاعاً (جلودا رقيقة يكتب‬
‫َ‬
‫وعثروا عل الكافور (طيب) يف خزائن كِسرى فاستعملوه‬
‫عليها)‪َ .‬‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪50‬‬

‫يف عجينهم ملحا‪ .‬وأمثال ذلك»‪.‬‬


‫أقول‪ :‬يا مرحى بالفاحتني الذين عرفوا اهلل ورسوله ! ما يضريهم‬
‫اجلهل مبظاهر الرتف ووسائله !‬
‫ُّوِل قبلَهم‪ ،‬واستعملوهم يف ِم َهنِهم‬ ‫أهل الد َ‬
‫قال‪« :‬فلما استعبَدوا َ‬
‫املهَرة يف أمثال ذلك‪ ،‬وال َق َومة‬ ‫وحاجات منازهلم‪ ،‬واختاروا منهم َ‬
‫ُّن فيه‪ .‬مع‬ ‫القيام على عمله‪ ،‬والتفن َ‬
‫عالج ذلك و َ‬ ‫عليهم‪ ،‬أفادوهم َ‬
‫ما حصل هلم من اتساع العيش والتفنن يف أحواله‪ .‬فبلغوا الغاية يف‬
‫استجادة ِ‬
‫املطاعم‬ ‫ِ‬ ‫ذلك‪ ،‬وتطـوروا بطور احلضارة والرتف يف األحوال‪ ،‬و‬
‫واملشارب واملالبس واملباين واألسلحة وال ُفُر ِش واآلنِية وسائر املاعون‬
‫واخلَْرثِ ِّي‪ . 1‬كذلك أحوا ُلم يف أيام املباهاة والوالئم وليايل األعراس‪.‬‬
‫الطربي وغريمها‬
‫املسعودي و ُّ‬
‫ُّ‬ ‫فأتوا من ذلك وراءَ الغاية‪ .‬وانظر ما نقله‬
‫يف إعراس املأمون ببوران بنت احلسن ب ِن سهل‪ ،‬وما بذل أبوها حلاشية‬
‫املأمون حني وافاه يف ِخطبتها إىل داره بفم الصلح‪ ،‬وركب إليها يف‬
‫السفني‪ ،‬وما أنفق يف إمالكها‪ ،‬وما َنَلَها املأمون وأنفق يف عُرسها‪،‬‬
‫احلسن بْ َن سهل نثَر يوم‬ ‫ف من ذلك على العجب‪ .‬فمنه َّ‬
‫أن‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫تق ْ‬
‫الصنيع (احلفل) الذي حضره حاشيةُ املأمون‪ .‬فنثر على‬ ‫اإلمالك يف َّ‬
‫بالضياع‬
‫الرقَاع ِّ‬ ‫نادق املسك (كرات)‪ ،‬ملتُوتَةً على ِّ‬‫الطبقة األوىل منهم بَ َ‬

‫‪ 1‬اخلَْرثِ ِّي‪ :‬أثاث البيت بأنواعه‪.‬‬


‫‪51‬‬ ‫من القومة املسلحة إىل االحتجاج الصامت‬

‫العقا ِر‪ُ ،‬م َس َّو َغةً ملن حصلت يف يده‪ .‬يقع يف يد كل واحد منهم ما‬ ‫وَ‬
‫ت‪ .‬وفرق على الطبقة الثانية بِ َدر الدنانري‪ ،‬ويف‬ ‫َّأداه إليه االتفاق والبَ ْخ ُ‬
‫كل بِ ْد َرٍة عشرة آالف‪ .‬وفرق على الطبقة الثالثة بِ َد َر الدراهم كذلك‪.‬‬
‫أضعاف ذلك‪ .‬ومنه أن املأمون‬ ‫َ‬ ‫قام ِـة املأمون بداره‬
‫بعد أن أنفـق يف ُم َ‬
‫ف حصاة من الياقوت‪ ،‬وأوقد مشوع‬ ‫أعطاها يف َمهرها ليلة زفافها ألْ َ‬
‫العنرب‪ ،‬يف كل واحدة مائةُ َم ٍّن‪ ،‬وهو رطل وثلثان‪ .‬وبسط هلا فراشا‬
‫ُّر والياقوت‪)...( .‬‬ ‫كان احلصريُ منها منسوجا بالذهب‪ُ ،‬م َكلَّالً بالد ِّ‬
‫وأع َّد بدار الطبخ من احلطب لليلة الوليمة نـ ْقل ٍ‬
‫مائة وأربعني بغال مدةَ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ن احلطب لليلتني (‪ ،)...‬وأوعز‬ ‫ِ‬
‫عام كامل ثالث مرات كل يوم‪ .‬وفَ َ‬
‫اص من الناس»‪. 1‬‬ ‫الس ُف ِن إلجازة اخلََو ِّ‬ ‫إىل النُّواتيَ ِة بإحضار ُّ‬
‫طبقات مرتفة وقصور وخواص من الناس‪ .‬وجبانب هذا البؤس‬
‫األسود‪.‬‬
‫ضد هذه البيئة الفاسدة حترك القائمون واملصلحون غضبا هلل‬
‫عز وجل على من أضاعوا الدين‪ ،‬ونُصرًة للمظلومني املستعبَدين‪.‬‬
‫ي هامشي) الكوفةَ يسأل عن‬ ‫«جاء حممد بن إبراهيم (رجل علَ ِو ٌّ‬
‫ويتج َّس ُس َها ويتأهب ألمره‪( .‬سيأيت ذكر قومة أبيه‬ ‫أخبار الناس َ‬
‫إبراهيم إن شاء اهلل) ويدعو من يثق به إىل ما يريد‪ .‬حىت اجتمع‬

‫‪« 1‬املقدمة» ص‪.306-305‬‬


‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪52‬‬

‫له بشر كثري‪ .‬وبينما هو يوما ميشي يف بعض طرق الكوفة إذ نظر إىل‬
‫ب فتلتقـط ما يسقـط منها فتجمعه يف‬ ‫الرطَ ِ‬
‫ـال ُّ‬
‫امرأة َعجوز تـَْتبَع أمح َ‬
‫رجل يل‬ ‫ٍ‬
‫ث‪ .‬فسأهلا عما تصنع‪ .‬فقالت‪ :‬إين امرأة ال َ‬ ‫كساء عليها َر ٍّ‬
‫ت‬
‫يقوم مبَؤونَيت‪ .‬ويل بنات صغريات‪ .‬فأنا أتبع هذا من الطريق وأتـََق َّو ُ‬
‫أنت واهلل وأشباهك خترجونين‬ ‫به أنا وبنايت‪ .‬فبكى بكاء شديدا وقال‪ِ :‬‬
‫ك دمي !» ‪.1‬‬ ‫غدا (يعين يف القومة) حىت يُ ْس َف َ‬
‫نسجل هنا أن «الرتف» مذموم يف القرآن‪ .‬واملرتفون هم‬
‫املستكربون‪ .‬فباعتبار مجعهم للمال واحتكارهم لألرزاق هم مرتفون‪.‬‬
‫وباعتبار استعـالئهم على الناس واستئثارهم باجلاه والسلطان هم‬
‫مستكربون‪ .‬وقد قرأنا يف نص ابن خلدون احلديث عن الطبقات‬
‫وعن خاصة الناس يف ذلك اجملتمع امللَ ِك ِّي‪ .‬هذه مفاهيم يُفيدنا أن‬
‫منيز مدلوالهتا اإلسالمية لنستعملها االستعمال الذي خيدم بَال َغنَا‪.‬‬
‫قبل‪ ،‬أن يف الناس‬ ‫ذكر ابن خلدون‪ ،‬كما ذكر مؤرخو َن من ُ‬
‫طبقات‪ .‬مل يعتربوا يف إطالق هذه التسمية إال املكانة االجتماعية‬ ‫ٍ‬
‫االقتصادية السياسية‪ .‬أما يف القرآن فاملرتفون املستكربون قوم‬
‫حتالف‬
‫َ‬ ‫ليستولُوا على االقتصاد‪ ،‬أو العكس‪ ،‬أو‬ ‫استغلوا السلطان ْ‬
‫أصحاب املال مع أصحاب السيف‪ .‬هذه طبقية ككل الطبقيات‬ ‫ُ‬

‫‪« 1‬من جتارب السائرين» ص‪.7‬‬


‫‪53‬‬ ‫من القومة املسلحة إىل االحتجاج الصامت‬
‫البشري‪ .‬لكن ِ‬
‫للرتف واالستكبار يف القرآن‬ ‫ِّ‬ ‫يف األمم ويف التحليل‬
‫مدلوال آخر ال تتعرض له التحليالت البشرية‪ ،‬هو كون املرتفني‬
‫دين اهلل‪ ،‬ويقاتلون‬
‫يصدون عن سبيل اهلل‪ ،‬وحياربون َ‬ ‫املستكربين ُ‬
‫األنبياء‪ .‬ألن سبيل اهلل ودينَه وأنبياءه تعين حتـرير اإلنسـان من‬
‫عبودية البشر‪ .‬واملستضعفون يف اللفظ القرآين ليسوا طبقة حمرومة‬
‫اقتصاديا‪ ،‬مقهورة سياسيا‪ ،‬حمتقرة اجتماعيا فقط‪ ،‬بل هم طبقة‬
‫ممنوعون أيضا من التكتل ومقاومة الظلم حتت لواء اإلميان بأن ال‬
‫إله إال اهلل‪.‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫الصحابة يقاومون الفتنة‬


‫أمري املؤمنني عثمان‬
‫اإلمام علي‬
‫‪57‬‬ ‫الصحابة يقاومون الفتنة‬

‫أمري املؤمنني عثمان‬


‫الطربي «أهل األحداث»‪ ،‬أي الذين أحدثوا يف اإلسالم‬ ‫ُّ‬ ‫وصف‬
‫ُمنكرا‪ ،‬وهم الثائرون على أمري املؤمنني عثمان رضي اهلل عنه‪ .‬قال‬
‫حاكيا كالم ابن ال َك َّواء‪« :‬أما أهل األحداث من أهل املدينة فإهنم‬
‫أهل األحداث من‬ ‫أعجزهم عنه‪ .‬وأما ُ‬ ‫أحرص األمة على الشر‪ ،‬و ُ‬
‫أهل الكوفة فإهنم أنظَ ُـر الناس يف صغـري (يتورعون يف األمور الدينية‬
‫الصغرية)‪ ،‬و ْأركبهم لكبري (جيرتئـون على البغي وسفك الدماء)‪ .‬أما‬
‫أهل األحداث من أهل البصرة فإهنم يَِردون مجيعا‪ُ ،‬‬
‫ويصد ُرون َش َّت‬ ‫ُ‬
‫أهل األحداث‬ ‫(يتفقون على عمل مث خيتلفون عند لزوم الوفاء)‪ .‬وأما ُ‬
‫من أهل مصر فهم أوىف الناس بِ َشٍّر‪ ،‬وأسرعُهم نَدامة»‪.‬‬
‫وكتب معاوية إىل عثمان رضي اهلل عنه يقول‪« :‬إنه ِ‬
‫قد َم علَ َّي‬
‫اإلسالم (ثـَُق َل عليهم)‬
‫ُ‬ ‫أقوام ليست هلم عقول وال أديان‪ .‬أث َقلَ ُهم‬
‫وأضجرهم العدل‪ .‬ال يريدون اهلل بشيء‪ .‬وال يتكلمون حبجـة‪ .‬إمنا‬
‫فاضحـهم‬
‫ُ‬ ‫َهُّهم الفتنةُ وأمو ُال أهل الذمة‪ .‬واهللُ مبتليهم وخمتربهم‪ ،‬مث‬
‫وخمـزيهم‪ .‬وليسوا بالذين يُنكون أحدا (يغلبون وينتصرون) إال مع‬
‫غريهم»‪.1‬‬

‫‪ 1‬نقل النصني عن الطربي حمب الدين اخلطيب يف حاشية «العواصم من القواصم» ص‪.121‬‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪58‬‬

‫مع أمثال هؤالء تعامل اإلمام الشهيد عثمان رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫دسهم‬ ‫ِ‬
‫اجتمعوا عليه يف املدينة وشكوا إليه ظلم غ ْلمة قريش الذين ّ‬
‫املنفي‬
‫«أن َّ‬ ‫يف األمصار مروا ُن بن احلكم‪ .‬وأعطاهم ميثاقا مكتوبا َّ‬
‫عد ُل يف ال َق ْس ِم‪ ،‬ويُستعمل‬ ‫احملروم يُعطَى‪ ،‬ويـَُوفـَُّر الفيءُ‪ ،‬ويُ َ‬
‫يعود‪ ،‬و َ‬ ‫ُ‬
‫ذوو األمانة والقوة»‪ . 1‬فرجعوا راضني‪ .‬فتعرض هلم يف الطريق غالم‬
‫يلحق هبم مث يفتـرق معهم مث يلحق‪ .‬مناورةٌ هدفها أن يسرتيبوا منه‪.‬‬
‫فلما َش ُّكوا يف حركته وسألوه‪ ،‬زعم أنه رسول أمري املؤمنني إىل عامل‬
‫عامل مصر أن‬ ‫خبات عثمان يأمر ِ‬ ‫مصر‪ .‬فوجدوا معه كتابا خمتوما َ‬
‫ويقطع أيْديَهم وأرجلهم‪ .‬دسيسةُ حاشية ال تريد اإلصالح‬ ‫َ‬ ‫يصلبهم‬
‫ب يف امليثاق‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الذي ُكت َ‬
‫اإلمام الشهيد جاءه رجل منهم‬ ‫َ‬ ‫فلما رجعوا للمدينة وحاصروا‬
‫ت دمك !» قال‪« :‬خذ ُجبَّيت !»‪ .‬فشرط فيها َش ْرطَةً‬ ‫فقال‪« :‬ن َذ ْر ُ‬
‫بالسيف أراق منه دمه‪ .‬وبـََّر بقسمه فارحتل‪.‬‬
‫صَرتَهُ‪.‬‬‫ودخل على عثمان يف الدار رجال من املهاجرين واألنصار يريدون نُ ْ‬
‫يده وسالحه‪.‬‬ ‫كل من رأى أن عليه مسعا وطاعة إالكف َ‬ ‫«أع ِزُم على ِّ‬ ‫فقال‪ْ :‬‬
‫احلسن بن علي‬ ‫عبد اهلل بن عمر ِ‬
‫ط الرسول اإلمام ُ‬ ‫وسْب ُ‬ ‫وكان ممن جاء ينصره ُ ُ‬
‫صرهُ بالسالح فقالوا‪« :‬إن شئت‬ ‫رضي اهلل عنهما‪ .‬وجاءه األنصار يقرتحون نَ َ‬

‫‪ 1‬نفس املصدر ص‪.125‬‬


‫‪59‬‬ ‫الصحابة يقاومون الفتنة‬

‫كنَّا أنصا ار هلل مرتني!» قال‪« :‬ال حاجة يل بذلك! ُك ُّفوا!»‪.‬‬


‫ـاع عن خليفتهم واجبا‪.‬‬
‫أنصار دين اهلل األولون كانوا يـرون الدف َ‬
‫ُ‬
‫لكنه رضي اهلل عنه أمرهم باالنصراف خمافةَ أن تشتعل الفتنة‪ .‬قال‬
‫«عزمت عليك‬
‫ُ‬ ‫الضرب معك !» قال‪:‬‬
‫ُ‬ ‫«اليوم طاب‬
‫َ‬ ‫له أبو هريرة‪:‬‬
‫لتخر َج َّن !»‪ .‬وجاءه احلسن واحلسني عليهما السالم وابن عمر وابن‬
‫ُ‬
‫الزبري‪ .‬فعزم عليهم يف وضع سالحهم وخروجهم ولزوم بيوهتم‪.‬‬
‫لكن الغوغاء ممن‬
‫الشهيد يده وأيدي املؤمنني‪َّ .‬‬
‫ُ‬ ‫هكذا كف اإلمام‬
‫ال عقل هلم وال دين وجدوا فرصة الرسالة املزورة لينفذوا مؤامرة كانت‬
‫مبيتة‪ .‬وبعد اإلمام الشهيد ُس َّل السيف يف اإلسالم بني املسلمني فما‬
‫زاد الفنت إال اضطراما‪.‬‬
‫اإلمام علي‬
‫بعد استشهاد عثما َن رضي اهلل عنه بايع الناس عليا رضي‬
‫أهل الشام عن مبايعته حني رفض شرطهم أن‬ ‫اهلل عنه‪ .‬وكف ُ‬
‫ميكنهم من قـَتـَلَ ِة عثمان‪ .‬كانوا يرون أهنم أحق باملطالبة بدم اإلمام‬
‫للعصبية األموية‪ .‬قال هلم اإلمام علي عليه السالم‪« :‬ادخلوا يف‬
‫ِ‬
‫تستحق بـَْيعةً وقـَتـَلَة‬ ‫البيعة واطلبوا احلق تصلوا إليه‪ .‬فقالوا‪ :‬ال‬
‫أس َّد رأيا‬‫علي يف ذلك َ‬ ‫عثمان معك نراهم صباحا ومساء‪ .‬فكان ٌّ‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪60‬‬

‫قبائل‬
‫أصوب قوال‪ .‬ألن عليا لو تعاطى ال َق َوَد منهم لتعصبت هلم ُ‬ ‫و َ‬
‫وصارت حرباً ثالثة‪ .‬فانتظر هبم أن يستوثق األمر وتنعقد البيعة العامة‬
‫ويقع الطلب من األولياء (أولياء الدم) يف جملس احلكم فيجري‬
‫القضاء باحلق‪ .‬وال خالف بني األمـة أنه جيوز تأخري القصاص إذا‬
‫أدى ذلك إىل إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة»‪. 1‬‬
‫صار «قميص عثمان» راية اختـذوها ِستارا وأدا َة حتريض‪ .‬ويصف‬
‫علي الفتنة لطلحةَ والزبري لَ َّما جاءاه يعرضان عليه البيعة إن‬ ‫اإلمام ٌّ‬
‫أجهل‬ ‫لست‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫استقاد من قـَتـَلَة عثمان‪ ،‬فيقول‪« :‬يا إخوتاه ! إين ُ‬
‫أصنَع بقوم ميلكونا وال منلكهم‪ .‬ها هم‬ ‫ما تعلمون‪ ،‬ولكن كيف ْ‬
‫وهم ِخاللَكم‬ ‫ت إليهم أعرابُكم‪ُ ،‬‬ ‫قد ثارت معهم عُْبدانُكم‪ ،‬وثابَ ْ‬
‫يسومونكم ما شاءوا‪ .‬فهل ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون؟‬
‫علي‪ :‬فال واهلل ال أرى إال رأياً تـََرْونَهُ !‬
‫قالوا مجيعا‪ :‬ال ! قال سيدنا ُّ‬
‫إن الناس من هذا األمر إ ْن ُحِّرَك على أمور‪ :‬فرقةٌ ترى ما ترون‪ ،‬وفرقةٌ‬ ‫َّ‬
‫ترى ما ال ترون‪ ،‬وفرقة ال ترى هذا وال هذا حىت يهدأ الناس‪ ،‬وتق َـع‬
‫القلوب مواقعها‪ ،‬وتـُْؤخ َذ احلقوق»‪. 2‬‬
‫وجاءت بعد كارثة قتل اإلمام عثما َن كارثتان عظيمتان مها‬

‫‪ 1‬ابن العريب يف «أحكام القرآن» ج‪ 4‬ص ‪.1706‬‬


‫‪ 2‬نقله املودودي عن املؤرخني يف كتاب «اخلالفة وامللك» ص‪.79‬‬
‫‪61‬‬ ‫الصحابة يقاومون الفتنة‬

‫حربا اجلمل وصفني‪ .‬مات فيهما وجرح عشرات اآلالف‪ .‬وكان قلب‬
‫اإلمام علي يبكي على تلك املآسي اليت ال خمرج منها‪ .‬هو هو أبو‬
‫صاحب الرأي املوفَّق الذي كان عمر يقول فيه‪« :‬لوال ٌّ‬
‫علي‬ ‫ُ‬ ‫احلسن‬
‫ك عمر»‪.‬‬
‫هلَلَ َ‬
‫ف اإلمام املسـؤول عن كل‬ ‫صُّر َ‬
‫فتصرف فيها تَ َ‬
‫جاءت الدواهي َّ‬
‫املسلمني ولو حاربوه‪ .‬أوصى جيشه قبل اجلَ َمـل قال‪« :‬إذا هزمتموهم‬
‫فال تقتلوا ُمدبِرا‪ ،‬وال ُْت ِهزوا على جريح‪ ،‬وال تَ ْك ِشفوا َع ْوَرًة»‪ .‬وصلى‬
‫وترحم عليهم‪ .‬ومل‬‫بعد النصر على املسلمني من اجلانبني‪ ،‬ودفنهم َّ‬
‫يأخذ من أموال املهـزومني شيئا بل نادى عليها يف مسجد البصرة‪،‬‬
‫وردها إىل أصحاهبا‪.‬‬

‫وذكر املؤرخون أنه عليه السالم ملا دخل البصرة أغلظت النساءُ‬
‫تدخلُ َّن‬ ‫ِ ِ‬ ‫بِ َسبِّ ِه من ِّ‬
‫كل دار‪ ،‬فنادى يف جيشه‪« :‬ال تـَْهت ُك َّن سرتا‪ ،‬وال ُ‬
‫َّهن أمراءكم‬ ‫ِ‬
‫أعراضكم‪ ،‬وسف ْ‬ ‫بأذى‪ ،‬وإن َشتَ ْم َن ْ‬
‫يج َّن امرأة ً‬ ‫دارا‪ ،‬وال َت ُ‬
‫كات» ‪.‬‬
‫وه َّن مشر ٌ‬‫بالكف عنهن ُ‬ ‫ِّ‬ ‫وصلحاءكم‪ .‬ولقد كنا نـُْؤَمُر‬
‫كان مترد أهل الشام وهيجا ُنم سبب كوارث احلرب بني‬
‫علي عليه السالم رسوال منه بعد أن متت له البيعة‬
‫املسلمني‪ .‬بعث ٌّ‬
‫باملدينة إىل املتمردين يدعوهم لطاعته‪ .‬فردوا إليه رسوله‪ .‬فسأله‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪62‬‬

‫يرض ْون إال ال َق َوَد‪.‬‬


‫اإلمام ما وراءك؟ فقال‪« :‬ورائي أين تركت قوما ال َ‬
‫شيخ يبكون حتت قميص عثمان وهو منصوب‬
‫ف ٍ‬ ‫وتركت ستني ألْ َ‬
‫منرب دمشق»‪ .‬فسأله سيدنا علي‪« :‬ممن؟» (يعين ممن‬
‫هلم قد ألْبَ ُسوهُ َ‬
‫يريدون القصاص) قال‪« :‬من خيط نفسك !» ‪.1‬‬

‫املعىن الصريح هلذا أن املتمردين إمنا جعلوا قميص عثمان ستارا‬


‫علي عليه السالم‬
‫حياربون من خلفه خليفة املسلمني‪ .‬وكان اإلمام ٌّ‬
‫زمام أمرها إىل ملوك مفسدين‪ .‬قال يف‬
‫َيْ َشى على األمة أن يتحول ُ‬
‫لعملوا فيكم بأعمال كِسرى وهرقل‬
‫إحدى خطبه‪« :‬واهلل لو ولُوُكم ِ‬
‫َ ْ‬
‫!»‪ . 2‬وطعن اخلارجي املارق إمام األمة فطويت صفحة اخلالفة‪ .‬قال‬
‫الصحايب اجلليل عبد اهلل بن عمر يف آخر عمره بعد أن رأى فساد‬
‫آسى على شيء ِم ْن أمر الدنيا إال أين مل أقاتل‬
‫أجدين َ‬
‫ال ُـملك‪« :‬ما ُ‬
‫الفئة الباغية»‪.‬‬

‫‪ 1‬نفس املصدر ص‪.83‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص‪.91‬‬
‫الفصل اخلامس‬

‫القائمون من آل البيت عليهم السالم‬


‫اإلمام احلسن السبط‬
‫اإلمام احلسني السبط‬
‫اإلمام علي زين العابدين‬
‫اإلمام حممد بن علي الباقر‬
‫اإلمام جعفر الصادق‬
‫اإلمام زيد بن علي‬
‫اإلمام حممد النفس الزكية‬
‫‪65‬‬ ‫القائمون من آل البيت عليهم السالم‬

‫اإلمام احلسن السبط‬


‫رحيانيت رسول اهلل صلى‬
‫ْ‬ ‫كان السبطان الكرميان احلسن واحلسني‬
‫اهلل عليه وسلم‪ .‬روى الطرباين عن جابر قال‪« :‬كنا مع رسول اهلل‬
‫فدعينا إىل طعام‪ .‬فإذا احلسني رضي اهلل عنه‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ُ‬
‫يلعب يف الطريق مع صبيان‪ .‬فأسرع النيب صلى اهلل عليه وسلم أمام‬
‫القوم‪ ،‬مث بَسط يده‪ .‬فجعل حسني يفر ههنا وههنا‪ ،‬فيضاحكه‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حىت أخذه‪ ،‬فجعل إحدى يديه يف‬
‫ذقنه واألخرى بني رأسه وأذنيه‪ .‬مث اعتنقه وقبله‪ .‬مث قال‪« :‬حسني‬
‫مين وأنا منه‪ .‬أحب اهلل من أحبه‪ .‬احلسن واحلسني سبطان من‬
‫األسباط»‪.‬‬
‫أخرج البخاري يف كتاب «فضائل الصحابة» عن أيب بكرة قال‪:‬‬
‫احلسن إىل جنبه ينظر‬
‫«مسعت النيب صلى اهلل عليه وسلم على املنرب و ُ‬
‫إىل الناس مرة وإليه مرة ويقول‪ :‬ابين هذا سيد‪ .‬ولعل اهلل أن يصلح‬
‫به بني فئتني من املسلمني»‪.‬‬
‫وروى البخاري يف كتاب «الفنت» عن احلسن البصري قال‪:‬‬
‫«ملا سار احلسن بن علي رضي اهلل عنهما إىل معاوية بالكتائب‬
‫علي عليه السالم)‪ ،‬قال عمرو‬ ‫(وذلك بعد استشهاد اإلمام ٍّ‬
‫ُخراها (أي‬ ‫بن العاص ملعاوية‪ :‬أرى كتيبة ال تـَُوِّل حىت تُ ْدبَِر أ ْ‬
‫حىت تقتل أقراهنا ومقابليها من اجليش اآلخر)‪ .‬قال معاوية‪َ :‬م ْن‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪66‬‬

‫لِذراري املسلمني ! فقال‪ :‬أنا ! فقال عبد اهلل بن عامر وعبد الرمحن‬
‫الصلح ! قال احلسن‪ :‬ولقد مسعت أبَا بكرة‬
‫ُ‬ ‫بن َسَُرة‪ :‬نلقاه فنقول له‪:‬‬
‫قال‪ :‬بينما النيب صلى اهلل عليه وسلم خيطب جاء احلسن‪ ،‬فقال النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬ابين هذا سيد‪ .‬ولعل اهلل أ ْن يصلح به بني‬
‫فئتني من املسلمني»‪.‬‬
‫الص ْل َح فأجاب اإلمام وشرط أن يُقام كتاب اهلل‬ ‫طلب معاوية إذن ُّ‬
‫وسنةُ رسوله‪ .‬وكانت خطبتُه يوم الصلح برهانا على سيادته اليت شهد‬
‫هبا جده صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬أخرج سعيد بن منصور والبيهقي يف‬
‫ابن علي معاويةَ‪،‬‬
‫الدالئل بسندمها إىل الشعيب قال‪« :‬ملا صاحل احلسن ُ‬
‫قم فتكلم ! فقام فحمد اهلل وأثىن عليه مث قال‪ :‬أما‬ ‫قال له معاويةُ‪ْ :‬‬
‫أع َجَز العجز ال ُف ُج َور‪ .‬أال َّ‬
‫وإن‬ ‫س التـَُّقى‪َّ ،‬‬
‫وإن ْ‬ ‫فإن أ ْكيَس ال َكْي ِ‬
‫بعد َّ‬
‫َ‬
‫اختلفت فيه أنا ومعاويةُ حق المرئ (املعىن يستقيم‬ ‫ُ‬ ‫األمَر الذي‬
‫هذا ْ‬
‫حق يل تركتُه إلرادة إصالح‬ ‫أحق به مين‪ ،‬أو ٌّ‬ ‫هكذا‪ :‬ما امرؤ) كان َّ‬
‫املسلمني وحقن دمائهم‪ .‬وإ ْن ْأدري لعلَّه فِتنةٌ لكم ومتاع إىل حني‪.‬‬
‫مث استغفر ونزل» ‪.1‬‬
‫تنازل عليه السالم من موقف قوة‪ .‬فقد كانت كتائبُه كما‬
‫وص َفها عمرو بن العاص واثقةً من ْأمرها‪ ،‬مصممـةً على نصر‬
‫املشروعيَّة‪ .‬وكانت نيةُ اإلمام احملبـوب ساميةً حني ترك حقَّه‬

‫‪« 1‬فتح الباري» ج‪ 13‬ص‪.63‬‬


‫‪67‬‬ ‫القائمون من آل البيت عليهم السالم‬

‫إلصالح املسلمني‪ .‬لكنهم عاجلوه بعد ذلك‪ ،‬فسموه فمات شهيدا‪.‬‬


‫اإلمام احلسني السبط‬
‫كان عليه السالم رحيانةَ جده‪ِ ،‬‬
‫وساع َد أبيه‪ .‬شاركه يف حروبه‬
‫احلسن اإلمامةَ بعد أبيه دخل‬ ‫ول‬‫ِ‬
‫ُ‬ ‫إىل جانب أخيه احلسن‪ .‬فلما َ‬
‫يف طاعته‪ ،‬وآزره‪ ،‬وحضر الشرط املشروط على معاوية عند‬
‫الصلح‪ .‬وبعد أ ْن َسُّوا اإلمام احلسن بدأ اضطهـاد آل البيت‪.‬‬
‫ي الصحايب‪ .‬وقُ ِطعت أرز ُ‬
‫اق‬ ‫أمثال ُح ْج ِر ب ِن َع ِد ٍّ‬
‫أنصارهم ُ‬
‫ُ‬ ‫ف ُقتل‬
‫ني‪ .‬وطُوِرُدوا حني الت ّفوا حول اإلمام احلسني بعد مقتل‬ ‫العلَويِّ َ‬
‫َ‬
‫أخيه‪ .‬فلما توىل يزيد بن معاوية األمر عن بيعة كان فيها اإلكراه‪،‬‬
‫اب كان يُغلقها ِسياسةُ مشاخيهم من‬ ‫ِِ‬
‫وانفتحت لغ ْلمة قريش أبو ٌ‬
‫قبل‪ .‬كان يزيد شابا لعوبا طائشا متهـورا‪ .‬فلم يكن بُ ّد من أن‬
‫ط الزكي الطاهر ملقاومة الفاسق العِر ِ‬
‫بيد‪.‬‬ ‫ينهض السب ُ ُّ‬
‫أىب اإلمام السبط أن يبايع يزيدا‪ ،‬فهاجر من املدينة إىل مكة‪.‬‬
‫وإىل هناك كاتـَبَهُ شيعة الكوفة‪ ،‬وواعدوه بالنُّصرة إن هو جاء‬
‫إليهم‪ .‬وكتب إىل األتباع وعامة الناس هذا البيان الذي حيدد فيه‬
‫أشراً وال بَطَراً وال ُمفسدا‬
‫موقفه وبرناجمه‪« :‬أما بعد فإين مل أخرج َ‬
‫وال ظاملا‪ .‬وإمنا خرجت لطلب اإلصالح يف أمة جدي صلى اهلل‬
‫أسري‬
‫عليه وسلم‪ .‬أريد أن آمر باملعروف‪ ،‬وأهنى عن املنكر‪ ،‬و َ‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪68‬‬

‫بسرية جدي وأيب علِ ٍّي بن أيب طالب‪ .‬فمن قبِلين ب َقبول احلق‬
‫أصِ ْب حىت يقضي اهلل بيين‬ ‫فاهلل أوىل باحلق‪ .‬ومن رد علي هذا ْ‬
‫وبني القوم باحلق‪ .‬وهو خري احلاكمني»‪.‬‬
‫وهنض اإلمام إىل العراق بعد أن بعث ابن عمه مسلم بن‬
‫عقيل ليمهد له األمر‪ .‬لكن العشائر اليت كانت متحمسة له‬
‫خذلته لَ ّما رأت جيوش يزيد اجملَيَّشة وبأْ َسها‪ .‬ووقعت كارثةُ‬
‫كربالءَ‪ ،‬وهي اخلَْرم العظيم يف تارخينا‪ ،‬بأيب وأمي سبط رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم!‬
‫استشهاد اإلمام احلسني جرح يف جنب األمة‪ .‬فأما الشيعة‬
‫فجعلوا دمه لعنة على امللك العاض الظامل السفاك‪ .‬لعنة بقيت‬
‫تلتهب يف الصدور‪ .‬فمثال احلسني عليه السالم اليوم رمز‬
‫إلخوتنا الشيعة‪ ،‬بل واقع متجدد عميق يف ِوجداهنم و ِ‬
‫أعيادهم‬
‫وخطبهم‪.‬‬
‫وما نراه اليوم ‪ 1‬من استبساهلم يف حرب الزمرة البعثية بالعراق‬
‫امتداد لغضب القرون املكبوت ضد الظلم ينفجر أمامنا طاقة‬
‫تقاوم‪ .‬وعند علمائنا معشر أهل السنة واجلماعة لعنة على‬ ‫ال َ‬
‫الظلم مثلُها تنتظر أن خترج من طي النسيان إىل نشر اجلهاد‪.‬‬
‫َّس ِفيَّة‪« :‬اتفقوا على‬
‫قال اإلمام التفتازاين يف شرح العقيدة الن َ‬
‫رضي‬
‫جواز اللعن على من قتل احلسني‪ ،‬أو أمر به‪ ،‬أو أجازه‪ ،‬أو َ‬

‫‪ُ 1‬كتب هذا واحلرب بني الثورة اإلسالمية والعراق مشتعلة‪.‬‬


‫‪69‬‬ ‫القائمون من آل البيت عليهم السالم‬

‫به»‪ .‬قال‪« :‬واحلق أن رضى يزيد بقتل احلسني‪ ،‬واستبشاره بذلك‪،‬‬


‫وإهانتَه ْأه َل بيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬مما تواتر معناه‪،‬‬
‫وإن كان تفصيله آحادا»‪ .‬قال‪« :‬فنحن ال نتوقف يف شأنه‪ ،‬بل يف‬
‫كفره وإميانه لعنة اهلل عليه وعلى أنصاره وأعوانه»‪.‬‬
‫يب عن يزيـد‪« :‬كان ناصبيا فظـا غليظا‪ ،‬يتناول املسكر‪،‬‬ ‫الذه ُّ‬
‫وقال َ‬
‫ويفعل املنكر‪ .‬افتتح دولته بقتل احلسني»‪ .‬وقال رجل يف حضرة‬
‫عمر‬
‫أمري املؤمنني عمر بن عبد العزيز‪« :‬أمري املؤمنني يزيد»‪ .‬فضربه ُ‬
‫عشرين سوطا‪ .‬واستـُْفيت يف شأنه إلْكيا اهلراسي‪ ،‬وهو شيخ املهدي‬
‫بن تومرت‪ ،‬فذكر فصال واسعا من خمـازيه حىت نفدت الورقة‪ ،‬مث‬
‫ت العِنَا َن يف خمازي هذا الرجل»‪.1‬‬ ‫ِ‬
‫ت ببياض ل َـم َد ْد ُ‬
‫قال‪« :‬لو ُمد ْد ُ‬
‫ك‬‫ترتجم قومة اإلمام احلسني عن ضمري األمة الذي رفض ُم ْل َ‬
‫األروم ِة النبوية الطيبة‬
‫َ‬ ‫يزيد‪ .‬وليس كو ُن اإلمام احلسني من تلك‬
‫لكن أفعال‬‫هز مشاعر علمائنا فلعنوا يزيدا‪َّ .‬‬ ‫وحده الذي َّ‬‫هو َ‬
‫خيال‬
‫سو َدت يف أعينهم َ‬ ‫يزيد‪ ،‬وسوء تدبريه‪ ،‬وبطشه باملسلمني‪َّ ،‬‬
‫امللك العاض‪ .‬نب َذ علماء املدينة من املهاجرين واألنصار وأبنائهم‬
‫بيعته‪ ،‬فسلط عليهم ُمسلِ َم بن عقبة‪ ،‬فاستباحها‪ ،‬وقتل منهم‬
‫ف جنني من فُجور‬ ‫ومحلت نساء املدينة ألْ َ‬
‫ْ‬ ‫أكثر من ثالمثائة رجل‪،‬‬

‫‪ 1‬هذه النقول عن العماد احلنبلي يف كتاب «شذرات الذهب» ج‪ 1‬ص‪.68‬‬


‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪70‬‬

‫غزوهُ‬
‫عسكر يزيد‪ .‬وثالثة جرائمه بعد قتل اإلمام واستباحة املدينة ُ‬
‫الكعبة باملنجنيق ملا قام عليه عبد اهلل بن الزبري‪.‬‬
‫اإلمام علي زين العابدين‬
‫حضر شابا يافعا معركة كربالء مع أبيه اإلمام احلسني السبط‪.‬‬
‫وكان أعلم أهل زمانه‪ ،‬وأبرهم‪ ،‬وأتقاهم‪ ،‬وأكثرهم َح َدبا على األمة‪.‬‬
‫يقول فيه سعيد بن املسيب‪« :‬هو سيد العابدين»‪ .‬ويقول عنه ابن‬
‫وزهداً وعبادة»‪.‬‬ ‫ِ‬
‫حجر‪« :‬زين العابدين هو الذي خلَف أباه علما ُ‬
‫بالسجاد‪ .‬قال عنه اإلمام جعفر الصادق‪« :‬كان قيام‬ ‫كان يلَ ّقب ّ‬
‫قيام العبد الذليل بني يدي‬
‫علي بن احلسني عليهما السالم يف صالته َ‬
‫أعضاؤه ترتعد من خشية اهلل عز وجل‪ .‬وكان‬‫ُ‬ ‫امللك اجلليل‪ .‬كانت‬
‫مود ٍع يرى أنه ال يصلي بعدها أبدا»‪.‬‬
‫يصلي صالة ِّ‬
‫الشيعة‪.‬‬
‫جنَّاه اهلل من جمزرة كربالء‪ .‬فبقي يـَْعسوباً اجتمعت عليه َ‬
‫فحاول ل َّـم شتاهتا‪ ،‬واستنهاض ِهمها‪ .‬وتعلم من درس كربالء‬
‫عشائر منحلة ال تستطيع أن تكون القوةَ‬‫ُ‬ ‫أن الذين خذلوا أباه‬
‫لقومة أخرى‪ ،‬فاختذ أسلوباً يف العمل يرتكز على التعليم‬‫الالزمة ٍ‬
‫َ‬
‫والرتبية‪ .‬خترج على يديه جم غفري من العلماء‪ .‬رأى هذا اإلمـام‬
‫اجلليل جمزرة كربالء‪ ،‬وبعدها جمزرة احلرة‪ ،‬مث غزو الكعبة‪ ،‬مث قومة‬
‫التوابني من أهل الكوفة ممن كانوا خذلوا احلسـني فاستأصلتهم‬
‫‪71‬‬ ‫القائمون من آل البيت عليهم السالم‬

‫جيوش بين أمية‪ ،‬مث ثورَة املختار الثقفي اليت آلت إىل ما تستحقه من‬
‫فشل‪ ،‬فقد كان أفّاكا كذابا‪.‬‬
‫وخفة أحالمهم‪،‬‬ ‫رأى ذلك فعلم أن الناس يف تفرق أهوائهم‪ِ ،‬‬
‫أمثال احلسني السبط‪ ،‬ويقاتلون مع أمثال املختار الثقفي‪،‬‬ ‫خيذلُون َ‬
‫فال يُرجى منهم نصر احلق على الباطل ما داموا عاجزين أ ْن مييزوا بني‬
‫احلق والباطل‪ .‬فانكب على تربية الرجال‪ ،‬وحافظ على ذكرى أبيه‬
‫اإلمام‪ ،‬انتظارا لزمان أفضل‪.‬‬
‫يف إحدى خطبه وبخ أهل الكوفة قال‪« :‬أيها الناس !من عرفين‬
‫فقد عرفين‪ ،‬ومن مل يعرفين فأنا علي بن احلسـني‪ .‬أنا ابن من انتُهكت‬
‫وسيب ِعيالُه‪ .‬أنا ابن املذبوح‬ ‫ِ‬ ‫حرمتُه‪ ،‬وسلِب ِ‬
‫ب مالُه‪ُ ،‬‬ ‫ت ن ْعمته‪ ،‬وانتُه َ‬
‫َُ ْ‬
‫ات (ثأر وانتقام)‪ .‬أنا ابن من قُتِل‬ ‫ط الفرات‪ِ ،‬من غري َذح ٍل وال تِر ٍ‬
‫بش ِّ‬
‫َ‬
‫ْ‬
‫ناشدتكم اهلل هل تعلمون‬ ‫ص ْباً‪ ،‬وكفى بذلك فخرا‪ .‬أيها الناس ! َ‬ ‫َ‬
‫أنكم كتبتم إىل أيب وخدعتموه‪ ،‬وأعطيتموه من أنفسكم العهود‬
‫وس ْوأًَة‬ ‫ِ‬
‫َّمتُم ألنفسكم‪َ ،‬‬‫وامليثاق والبيعة وقاتلتموه ! فتبّاً لكم ل َما قد ْ‬
‫لرأيكم ! بأي عني تنظرون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذ يقول‬
‫لكم‪ :‬قتلتم ِع ْتيت‪ ،‬وانتهكتم ُحرميت‪ ،‬فلستم من أُميت !»‪.‬‬
‫اإلمام حممد بن علي الباقر‬
‫هو ابن اإلمام زين العابدين‪ .‬حضر صبيا من ثالث سنوات‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪72‬‬

‫بيب بيت‬ ‫ِ‬


‫بيب التقوى والعلم‪ ،‬ر َ‬ ‫مأساة كربالء‪ .‬ونشأ يف كنَف أبيه ر َ‬
‫أهل زمانه‪ .‬فـَلَقَّبُوهُ باقرا‪ ،‬ألنه يـَْب ِق ُر‬
‫النبوءة‪ .‬فنبغ يف العلم نبوغا ّبز َ‬
‫ويشقه ويستنبطه‪ .‬قال عنه عبد اهلل بن عطاء‬ ‫العل َـم أي يغوص عليه ُ‬
‫أصغر علما منهم‬ ‫املكي‪« :‬ما رأيت العلماء عند أحد من العلماء َ‬
‫عند حممد بن علي الباقر»‪.‬‬
‫وقال عنه احلافظ ابن كثري‪« :‬أبو جعفر الباقر‪ ،‬تابعي جليل كبري‬
‫وسي‬‫األمة ِع ْلما وعمـال‪ ،‬وسيـادة وشرفا‪ُ .‬‬
‫أحد أعالم هذه ِ‬ ‫القدر‪ُ ،‬‬
‫الباقر لبـَْقره العلوم واستنباطه األحكام‪ .‬كان ذاكرا خاشعا صابرا‪.‬‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫رفيع النسب‪َ ،‬عل َّي احلسب‪ .‬وكان عارفا‬‫وكان من ُساللة النبوة‪َ ،‬‬
‫باخلطرات‪ ،‬كثري البكاء والعربات‪ ،‬معـرضا عن اجلدال واخلصومات»‪.‬‬
‫دخل اإلمام الباقر على عمر بن عبد العزيز وهو خليفة فوعظه‬
‫سوق من األسـواق‪ ،‬منها خرج قوم مبا‬ ‫قائال‪« :‬يا عمر‪ ،‬إمنا الدنيا ٌ‬
‫ينفعهم‪ ،‬ومنها خرجوا مبا يضرهم (‪ .)...‬فاتق اهلل‪ ،‬واجعل يف قلبك‬
‫ِ‬
‫ِّمهُ‬
‫ت على ربك فقد ْ‬‫اثنتني‪ :‬تَنظُُر الذي حتب أن يكون معك إذا قَد ْم َ‬
‫قدمت على ربك‪،‬‬ ‫بني يديك‪ ،‬وتَنظر الذي تكره أن يكون معك إذا ِ‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫تذهنب إىل س ْلعـة قد بارت على من كان قبلك‬
‫َّ‬ ‫فابتغ فيه البَ َد َل‪ .‬وال‬
‫ترجو أن جتوز عنك‪ .‬واتق اهلل عز وجل يا عمر ! وافتح األبواب‪،‬‬
‫كن‬
‫ثالث من ّ‬‫ورد املظامل‪ .‬مث قال‪ٌ :‬‬ ‫وسهل احلجاب‪ ،‬وانصر املظلوم‪ُ ،‬‬
‫َ فيه استكمل اإلميان باهلل‪.‬‬
‫‪73‬‬ ‫القائمون من آل البيت عليهم السالم‬

‫أهل النبوة ! فقال اإلمـام‪:‬‬


‫فجثا عمر على ركبتيه مث قال‪ :‬إيه يا َ‬
‫نـََعم يا عمر ! من إذا رضي مل يُ ْد ِخـ ْله رضاه يف الباطـل‪ ،‬وإذا غضب‬
‫مل خيرجه غضبه من احلق‪ ،‬ومن إذا قدر مل يتنـاول ما ليس له»‪.‬‬

‫اإلمام جعفر الصادق‬


‫خترج يف مدرسة أبيه اإلمام الباقر‪ .‬فكان قِمةً يف علوم الشريعة‪،‬‬
‫مرجع الشيعة‪ .‬وكان قمةً يف‬ ‫س مذهبا فقهيا ال يزال َ‬ ‫أس َ‬
‫جمتهدا َّ‬
‫تستفزه حتركات ثـَُّوا ٍر مثل أيب َسلَ َمة‬
‫ّ‬ ‫األخالق والكرم والشهامة‪ .‬مل‬
‫اخلالل الذي عرض على اإلمام البيعة فأىب‪ .‬وال شارك يف قوميت حممد‬
‫النفس الزكية وزيد بن علي لِ َما كا َن يعلم من حاجة األمة إىل تربية‬
‫ترفع مستـوى إدراكها ملسؤولية البيعة واجلهاد‪.‬‬
‫انصرف عن املقاومة املسلحة‪ ،‬وأقبل يريب العلماء والدعاة‪،‬‬
‫ويعلمهم مقاطعة الظَّلَ َمة‪.‬‬
‫يقول عليه السالم‪« :‬من ع َذ َر ظاملا بظلمه سلط اهلل عليه من‬
‫العامل‬ ‫يظلمه‪ .‬فإن دعا مل يستجب له‪ ،‬ومل يأْجره اهلل على ظُ ِ‬
‫المته‪ .‬و ُ‬‫َ‬ ‫ُْ‬
‫بالظلم واملعني له والراضي به شركاءُ ثالثتهم»‪.‬‬
‫وملا سقطت الدولة األموية وقام العباسيون شددوا اخلناق على‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪74‬‬

‫أبناء عمومتهم العلويني خمافة أن ينافسوهم‪ .‬وبقي اإلمام الصادق‬


‫بعيدا عن الظهور‪ ،‬جمافيا ألهل اجلَ ْـور‪ .‬كتب إليه أبو جعفر املنصور‬
‫الصادق‪:‬‬ ‫الناس؟» فكتب إليه‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫العباسي‪« :‬لَ ال تغشانا كما يَغشانا ُ‬
‫«ليس لنا ما خنافك من أجله‪ ،‬وال عندك من أمر اآلخرة ما نرجوك‬
‫ك»‪ .‬فكتب إليه‪:‬‬
‫له‪ .‬وال أنت يف نعمة فنهنئك‪ .‬وال تراها نقمة فنـَُعِّزيَ َ‬
‫ينصحك‪ ،‬ومن‬
‫ُ‬ ‫لتنصحنا»‪ .‬فأجاب‪« :‬من أراد الدنيا ال‬
‫َ‬ ‫«تصحبُنا‬
‫أر َاد اآلخرة ال يصحبك»‪.‬‬
‫اإلمام زيد بن علي‬
‫أبوه اإلمام زين العابدين‪ .‬فهو عم اإلمام الصادق‪ .‬يف أيامه‬
‫ت يف األخالق‬ ‫وس ُفلَ ْ‬
‫وصلت دولة اجلباية والقهر ذروةً من العتو‪َ ،‬‬
‫آخر َد َرَك ٍة‪ .‬فغضب زيد عليه السالم‪ ،‬وقام ضد هشام بن عبد‬ ‫َ‬
‫امللك سنة ‪ ،121‬إذ مل ير غري السيف لغةً للخطاب‪ ،‬وال سواه‬
‫ألف مقاتل‬
‫أسلوبا للتعامل مع الظاملني‪ .‬اجتمع عليه مخسةَ عشر َ‬
‫أهل البصرة وأمصار خراسان‪ .‬وناصره اإلمام أبو‬ ‫من الكوفة‪ ،‬سوى ِ‬
‫حنيفة وقد كان تتلمذ له‪.‬‬
‫كتب اإلمام زيد إىل تلميذه أيب حنيفة يطلب إليه أن يفد عليه‬
‫ليقاتل إىل جنبه‪ .‬فأجاب أبو حنيفة‪« :‬لو علمت أن الناس ال‬
‫أجاهد معه من‬
‫خيذلونه‪ ،‬ويقومون معه قيام صدق‪ ،‬لكنت أتبعُه‪ ،‬و ُ‬
‫خالفه‪ ،‬ألنه إمام حق‪ .‬ولكين أخاف أن خيذلوه كما خذلوا أباه‬
‫‪75‬‬ ‫القائمون من آل البيت عليهم السالم‬

‫فيتقوى به على‬
‫(يعين جده احلسني عليه السالم)‪ .‬لكين أعينه مبايل َّ‬
‫من خالفه»‪.1‬‬
‫قال املسعودي‪« :‬وقد كان زيد بن علي شاور أخاه أبا جعفر بن‬
‫علي بن احلسني فأشار عليه بأن ال يركن إىل أهل الكوفة إذ كانوا‬
‫أهل غدر ومكر‪ .‬وقال له‪ :‬هبا قُتِل جدك علي‪ ،‬وهبا طُعن عمك‬ ‫َ‬
‫أهل‬ ‫حنن‬ ‫نا‬ ‫م‬ ‫احلسن‪ ،‬وهبا قتل أبوك احلسني‪ ،‬وفيها ويف أعماهلا ُشتِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫البيت»‪ .‬وصدق اإلمام أبو جعفر (وهو حممد الباقر)‪ ،‬فقد خذلت‬
‫العشائر اإلمام زيدا‪ ،‬فقتل ودفنَه أصحابه سرا‪ .‬مث نـَبَش عنه هشام بن‬
‫عبد امللك فصلب جثته عريانا‪.‬‬
‫اإلمام حممد النفس الزكية‬
‫هو من ذرية احلسن بن علي رضي اهلل عنهم‪ .‬بايعه الزيدية‬
‫والعباسيون قبل انتصار دعوهتم‪ .‬فلما استوىل بنو العباس على‬
‫السلطان نكثوا دعوته‪ .‬فاختفى هو وأخوه إبراهيم‪ .‬مث احناز إىل‬
‫احلجاز‪ ،‬ومجع حوله مائة ألف سيف‪ ،‬مث زحف على أطراف البالد‪.‬‬
‫العباسي وترك بغداد وذهب إىل الكوفة‪ .‬فكان يقول‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫ففزع املنصور‬
‫«واهلل ال أدري ما أنا فاعل !»‪.‬‬
‫وجاءته أخبار سقوط البصرة وفارس واألهواز وواسط‬

‫‪ 1‬نقله املودودي يف كتاب «اخلالفة وامللك» ص‪.180‬‬


‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪76‬‬

‫ومدائن وغريها‪ .‬فلبث املنصور شهرين ال يغيـُِّر لباسه‪ ،‬وال يأوي إىل‬
‫فراشه‪ .‬وجيهز عُ َّدتَه للفرار حتسبا النتصار القائم من آل البيت‪ .‬وقد‬
‫كان النفـس الزكيـة آية من آيات اهلل يف مسو النفس‪ ،‬ومجال الصورة‪،‬‬
‫وحسن األخالق‪ ،‬وغزارة العلم‪ ،‬ومتانة الدين‪.‬‬

‫ث الناس على اخلروج مع إبراهيم أخي النفس‬


‫كان أبو حنيفة حيُ ُّ‬
‫الزكية‪ .‬وأفىت بأن اخلروج معه أفضل من احلج النّفل مخسني أو سبعني‬
‫مرة‪ .‬وهنى أبو حنيفة تلميذه أبا قحطبة ‪-‬وكان قائدا من قواد جيش‬
‫بين العباس‪ -‬عن حماربة النفس الزكية‪ .‬فكان مذهب أيب حنيفة يف‬
‫ضى وتوفرت له أسباب‬ ‫ِ‬
‫القومة أهنا واجبة إذا كان القائم عدال ر ً‬
‫النصر‪.‬‬

‫قال الناس لإلمام مالك ملا قام اإلمام حممد بن عبد اهلل النفس‬
‫الزكية‪« :‬إن بيعة املنصور يف رقابنا‪ ،‬فكيف خنلعها ونبايع غريه»‪ .‬فأفىت‬
‫ببطالن بيعة العباسيني‪ .‬وأعلن َّ‬
‫أن بيعة املكره ال جتوز‪ .‬فجلده وايل‬
‫َّت يده حىت اخنلعت كتفه‪.‬‬
‫وهد ْ‬
‫املدينة جعفر بن سليمان ُ‬
‫«خرج مع إبراهيم كثري من العلماء‪ ،‬منهم هشيم‪ ،‬وأبو خالد‬
‫األمحر‪ ،‬وعيسى بن يونس‪ ،‬وعبَّاد بن العوام‪ ،‬ويزيد بن هرون‪،‬‬
‫وأبو حنيفة‪ .‬وكان جياهر يف أمره وحيث الناس على اخلروج معه‪،‬‬
‫‪77‬‬ ‫القائمون من آل البيت عليهم السالم‬

‫مالك حيث الناس على اخلروج مع أخيه حممد‪ .‬وقال أبو‬ ‫كما كان ٌ‬
‫ت أخي على‬ ‫َّقيت اهلل حيث حثَثْ َ‬
‫إسحاق ال َفزاري أليب حنيفة‪ :‬ما ات َ‬
‫اخلروج مع إبراهيم ف ُقتِل؟ فقال‪ :‬إنه كما لو قتل يوم بدر ! وقال‬
‫بدر الصغرى»‪.1‬‬‫ُشعبة‪ :‬واهلل َل َي عندي ٌ‬
‫قال الشهرستاين‪ :‬وكان أبو حنيفة رمحه اهلل على بيعته (يعين‬
‫األمر إىل املنصور‪ ،‬فحبسه‬
‫النفس الزكية)‪ ،‬ومن مجلة شيعته‪ ،‬حىت ُرفع ُ‬
‫حبس األبَد حىت مات يف احلبس‪ .‬وقيل إنه إمنا بايع حممد ابن عبد‬ ‫َ‬
‫اهلل اإلمام (النفس الزكية) يف أيام املنصور‪ .‬وملا قتل حممد باملدينة بقي‬
‫اإلمام أبو حنيفة على تلك البيعة يعتقد مواالة أهل البيت‪ُ .‬فرفِع حالُه‬
‫للمنصور فتم عليه ما مت»‪.2‬‬
‫اهيم‬ ‫ِ‬
‫كي رمحه اهلل‪ ،‬واستـُْؤصلت مقاومةُ أخيه إبر َ‬ ‫قتل اإلمام الز ُّ‬
‫أئمتنا الفقهاء بقوا على وفائهم للقائمني باحلق‪.‬‬ ‫من بعده‪ .‬لكن َّ‬
‫الشافعي من احلجاز إىل هرون الرشيد‬ ‫اإلمام‬ ‫ح َل‬‫ففي سنة ‪ُِ 189‬‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫مع قوم من العلوية بتهمة الطعن على اخلليفة‪ .‬فما جنا الشافعي من‬
‫أعناق أصحابه إال بتدخل قاضي القصر‪،‬‬ ‫ض ِربَت ُ‬ ‫املوت بعد أ ْن ُ‬
‫للشافعي‪ .‬وملا خرج حيىي بن عبد اهلل بن احلسن‬ ‫ِّ‬ ‫وكان صديقاً‬
‫املثىن‪ ،‬وهو قائم آخر من آل البيت‪ ،‬سنة ‪« 193‬بث دعاتَه‬

‫‪« 1‬شذرات الذهب» البن العماد الحنبلي ج‪ 1‬ص‪.215‬‬


‫‪« 2‬الملل والنحل» ج‪ 1‬ص‪.158‬‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪78‬‬

‫يف األرض وبايعه كثريون من أهل احلرمني واليمن ومصر والعراقني‪.‬‬


‫وبايعه من العلماء حممد بن إدريس (اإلمام) الشافعي‪ ،‬وعبد ربه بن‬
‫علقمة‪ ،‬وسليمان بن جرير‪ ،‬وبشر بن املعتمر‪ ،‬واحلسن بن صاحل‪،‬‬
‫وغريهم»‪. 1‬‬

‫‪« 1‬شذرات الذهب» ج‪ 1‬ص‪.338‬‬


‫الفصل السادس‬
‫علماء يف بساط امللوك‬
‫احلسن البصري‬
‫الفضيل بن عياض‬
‫اإلمام أمحد بن حنبل‬
‫‪81‬‬ ‫علماء يف بساط امللوك‬

‫ال نزال نبحث يف ماضينا عن نبضات القومة واملقاومة لندعم‬


‫باألسوة احلسنة حتفَُّزنا النبعاث األمة املقاتلة على احلق‪ ،‬أمة املستقبل‪.‬‬
‫ص َمدوا ضد التيار اجلارف‪ ،‬تيا ِر الفتنة‪ ،‬استعداداً‬
‫وإمنا نتأسى برجال َ‬
‫ملا يطلبه منا بناء اإلسالم من مغالبة قُوى الشر‪ ،‬ومقاومة انبِساطنا‬
‫يف الدنيا وركوننا لل ّد َعة‪ .‬كان العلماء العاملون ُمْنبَثِّني على طول‬
‫تارخينا يف حواضر اإلسالم وبواديه‪ ،‬يف مساجد األمة ومدارسها‪،‬‬
‫يف ثغور اجلهاد وأسواق العامة‪ .‬ومل جيتنبوا ميدانا هو أحرج وأحوج‬
‫للشجاعة‪ ،‬وهو بِساط امللوك‪ ،‬يقولون عندهم كلمة احلق‪ .‬ال يسعُنا‬
‫حفظَت الذاكرة التارخيية كل أمسائهم‪.‬‬ ‫املكان لذكرهم مجيعا‪ ،‬وال ِ‬
‫فنكتفي بذكر بعض أعياهنم رمحهم اهلل وسار بنا على درهبم‪.‬‬
‫احلسن البصري‬
‫التابعي اجلليل‪ .‬ترىب يف حجر أُم َسلَمة ِّأم املؤمنني‪ ،‬فكانت‬
‫تُلهيه وهو رضيع بثديها‪ .‬فلمسته نفحة نبوية‪ .‬ورباه الصحابة‬
‫الكرام حىت غدا حبراً دافقا من العلم‪ ،‬ومثاال للتقوى والتواضع‪،‬‬
‫وأسدا يف احلق ال خياف يف اهلل لومة الئم‪ .‬كانت برزت يف بعض‬
‫اليوم فينا ُمستـَْف ِحلَةٌ‪ ،‬وهي التشاغُل‬
‫العلماء على عهده لَ ْوثَةٌ هي َ‬
‫بتوافه املسائل عن مصري األمة‪ .‬فحارب احلسن علماءَ اخلمول‬
‫وعلماءَ اخلالف والتفاهات قبل حربه الظلمة‪ .‬سأله وكيع بن أيب‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪82‬‬

‫يصيب الثوب‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫األسود‪« :‬يا أبا سعيد! ما تقول يف َدِم الرباغيث‬
‫صلَّى فيه؟» فيُجيبه‪« :‬يا عجبا ممن يَلِ ُغ يف دماء املسلمني كأنه‬ ‫أيُ َ‬
‫سن ِو َزر‬ ‫كلب‪ ،‬مث يسأل عن دم الرباغيث !» ‪ .‬محَّ َل اإلمام احلَ ُ‬
‫‪1‬‬

‫الدماء الزكية اليت سفحها ِغ ْلمةُ قريش املفسدون العلماءَ الساكتني‬ ‫ِ‬
‫عن مقتل احلسني‪ ،‬مث يسأل بعضهم عن دم الربغوث!‬
‫استدعاه عمر بن هبرية‪ ،‬عامل يزيد بن عبد امللك على العراق‪،‬‬
‫«إن يزيد بن عبد امللك عبد‬ ‫واستدعى معه الشعيب‪ .‬فقال عمر‪َّ :‬‬
‫ّ‬
‫أخذ اهلل ميثاقَه‪ ،‬وانتجبه خلالفته‪ .‬وقد أخذ بِنواصينا‪ ،‬وأعطيناه‬ ‫َ‬
‫عهودنا ومواثيقنا وص ْف َقةَ أيدينا‪ .‬فوجب علينا السمع والطاعة‪.‬‬ ‫َ‬
‫وإنه بعثين إىل عراقكم غري سائل إيَّاه‪ .‬إال أنه ال يزال يبعث إلينا‬
‫هندمها‪ .‬فـَنـَُولِّيه‬
‫ضها‪ ،‬أو يف الدُّور ُ‬ ‫ياع ن ْقبِ ُ‬
‫الض ِ‬
‫يف القوم نقتُلهم‪ ،‬ويف ِّ‬
‫من ذلك ما واله اهلل ! فما تريان؟»‪.‬‬
‫لبيعة هي ِربقة مفروضة ال تصح شرعا‬ ‫و ٍال يتنازعه عامل الوفاء ٍ‬
‫َ‬
‫وعامل الغضب على ما يستعمله فيه يزيد من سفك الدماء وهتك‬
‫احلَُرِم‪ .‬فرييد أن يتنصل من املأزق بدفع املسؤولية عنه وحتميلها َمن‬
‫والّه‪.‬‬
‫احلسن قال‪« :‬يا عمر ! إين أهناك عن اهلل‬
‫ُ‬ ‫أجابه اإلمام‬
‫أن تتعرض له‪ .‬فإن اهلل مانعُك من يزيد‪ ،‬وال مينعك يزي ٌد من‬

‫‪ 1‬كتاب «احليوان» للجاحظ ج‪ 1‬ص‪.225‬‬


‫‪83‬‬ ‫علماء يف بساط امللوك‬

‫اهلل (‪ )...‬إن هذا السلطان إمنا ُجعل ناصراً لدين اهلل‪ ،‬فال ترَكبوا‬
‫دين اهلل وعباد اهلل بسلطان اهلل تذلوهنم به‪ .‬فإنه ال طاعةَ ملخلوق‬
‫َ‬
‫يف معصية اخلالق جل وعز»‪.‬‬
‫قاطع ِغ ْل َمةَ قريش‪ ،‬ولذعهم بلسانه‪ ،‬وأفشى يف العامة كراهيتهم‪.‬‬
‫ول اخلليفة العادل عمر بن عبد العزيز صحبه‪ .‬فمن مواعظه‬ ‫ِ‬
‫فلما َ‬
‫له قال‪« :‬يا أمري املؤمنني‪ ،‬كن ِ‬
‫للمثْ ِل من املسلمني أخا‪ ،‬وللكبري‬
‫ابنا‪ ،‬وللصغري أباً‪ .‬وعاقب كل واحـد منهم بذنبه على قدر ُج ْرِم ِه‪،‬‬
‫فتدخل النار»‪.1‬‬
‫َ‬ ‫وال تضربَ َّن لِغضبك سوطا واحدا‬
‫ثل احلَ َس ِن من ينصح الصاحلني َ‬
‫أمثال ابن عبد العزيز‪ .‬قال‬ ‫ِ‬
‫وم ُ‬
‫ـري رمحه اهلل أشبه الناس كالما‬
‫عنه الغزايل‪« :‬ولقد كا َن احلسن البص ُّ‬
‫أقربم َهديا من الصحابة‬‫بكالم األنبياء عليهم الصالة والسالم‪ ،‬و َ‬
‫رضي اهلل عنهم‪ .‬اتفقت الكلمة يف حقه على ذلك»‪.2‬‬
‫الفضيل بن عياض‬
‫ِ‬
‫حجه على‬ ‫ذكر ابن اجلوزي َّ‬
‫أن هارون الرشيد طاف يف‬
‫العلماء والصاحلني يلتمس منهم أ ْن يعظوه‪ .‬حىت انتهى هو‬

‫‪« 1‬املصباح املضيء» البن اجلوزي ج‪ 2‬ص‪.66‬‬


‫‪« 2‬اإلحياء» ج‪ 1‬ص‪.68‬‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪84‬‬

‫والفضل بن الربيع وز ُيره فقرعا الباب على الفضيل رمحه اهلل‪ .‬فإذا‬
‫هو قائم يصلي بآية يرددها‪ .‬مث أجاب الوز َير سائال‪« :‬من هذا؟»‬
‫أجب أمري املؤمنني ! فقال‪ :‬ما يل وألمري‬
‫قال ابن الربيع‪« :‬فقلت‪ْ :‬‬
‫املؤمنني؟ فقلت‪ :‬سبحـان اهلل ! أما عليك طاعة؟ (‪ .)...‬فنـزل ففتح‬
‫الباب‪ ،‬مث ارتقى الغرفة فأطفأ املصباح‪ .‬مث التجأ إىل زاوية من زوايا‬
‫البيت‪.‬‬
‫كف هارون قبلي‬ ‫«فدخلنا‪ .‬فجعلنا جنول عليه بأيدينا‪ .‬فسبقت ُّ‬
‫إليه‪ .‬فقال‪ :‬يا هلا من كف ما ألينها إن جنت غدا من عذاب اهلل‬
‫عز وجل ! (‪ )...‬فقال‪« :‬إن عمر بن عبد العزيز ملا ِول اخلالفةَ‬
‫دعا سامل بن عبد اهلل‪ ،‬وحممد بن كعب ال ُقَر ِظ َّي‪ ،‬ورجاءَ بن َحيـَْوة‪،‬‬
‫ليت هبذا البالء فأشريوا علي‪ .‬فعد اخلالفة بالء‬ ‫فقال هلم‪ :‬إين قد ابتُ ُ‬
‫أردت‬
‫أنت وأصحابك نعمة‪ .‬فقال له سامل بن عبد اهلل‪ :‬إن َ‬ ‫وعددهتا َ‬
‫النجاة غدا من عذاب اهلل فليكن كبريُ املسلمني عندك أبا‪ ،‬وأوسطُهم‬
‫أصغرهم عندك ولدا‪.‬‬
‫عندك أخا‪ ،‬و ُ‬
‫«وقال له رجاء بن حيوة‪ :‬إن أردت النجاة غدا من عذاب اهلل‬
‫عز وجل فأحب للمسلمني ما حتب لنفسك‪ ،‬واكره هلم ما تكره‬
‫لنفسك‪ ،‬مث مت إذا شئت !‬
‫«وإين أقول لك‪ :‬إين أخاف عليك أشد اخلوف يوما تزل فيه‬
‫األقدام ! فهل معك رمحك اهلل من يشري عليك مبثل هذا؟ فبكى‬
‫‪85‬‬ ‫علماء يف بساط امللوك‬

‫هارون بكاء شديدا حىت غُ ِش َي عليه‪ .‬فقلت له‪ :‬ارفق بأمري املؤمنني؟‬
‫فقال‪ :‬يا ابن الربيع ! تقتله أنت وأصحابُك وأرفُ ُـق به أنا !»‪.1‬‬
‫من علمائنا وصاحلينا من انقبضوا عن السلطان انقباض الفضيل‬
‫إ ْذ أطفأ مصباحه وترك الزائرين عند الباب يُشعُِرمها هبواهنما عليه‪.‬‬
‫ومن امللوك من خلط عمال صاحلا وآخر سيئا‪ ،‬فيبكي إذا ُوعظ‪ ،‬مث‬
‫فلت من‬
‫الرجال‪ ،‬فأىن يُ ُ‬
‫َ‬ ‫النظام‬
‫ُ‬ ‫فسد‬
‫ينصرف إىل الدنيا وبسطتها‪ .‬يُ ُ‬
‫ِربقته إالَّ أمثال عمر بن عبد العزيز ! وتبقى األمة بعد مرور زيد وعمر‬
‫من الناس يف الربقة‪ ،‬ما منها من خالص‪.‬‬
‫اإلمام أمحد بن حنبل‬
‫إمام أهل احلديث رمحه اهلل قومة النفس الزكية وقومة‬
‫مل يدرك ُ‬
‫حيىي‪ ،‬فلم يشارك يف اخلروج على الطغاة مثلما شارك أبو حنيفة‬
‫ومالك والشافعي‪ .‬لكن قولته املشهورة يف اخلروج ومشروعيته حتمل‬
‫روح القومة لو وجد إليها سبيال‪.‬‬
‫نذكر هبذه القولة البليغة اليت رواها عنه القاضي أبو يعلى‬
‫أمري‬
‫وسِّ َي َ‬
‫احلنبلي‪« :‬ومن غلب عليهم بالسيف حىت صار خليفة ُ‬
‫املؤمنني‪ ،‬فال حيل ألحد يؤمن باهلل واليوم اآلخر أن يبيت وال يراه‬

‫‪« 1‬صفة الصفوة» ج‪ 2‬ص‪.137‬‬


‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪86‬‬

‫إماما‪ ،‬بـَّراً كان أو فاجرا»‪.1‬‬


‫وال شك أن شدة كراهته ملنكر املأمون واملعتصم دفعه أن يأمل‬
‫اخلري يف قائم «عليهم» بالسيف «بَرا كان أو فاجرا»‪ .‬وكأنه رمحه‬
‫اهلل لشدة فجور املتسلطني يرى يف جمرد االستبدال خريا‪ .‬هذا تفسري‬
‫آخر هلذه الكلمة‪ ،‬خيالف تفسري بعض الفقهاء الذين يستندون إىل‬
‫مثل هذا النص ليُفتوا جبواز «والية االستيالء»‪.‬‬
‫ب اهلل‬ ‫كانت له رمحه اهلل مكانة عظيمة يف نفوس األمة‪ ،‬أ ْشَر َ‬
‫قلوب الناس حبَّه ومهابته بعد أن أغدق عليه نِعمة العلم ِ‬
‫ومنة‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫أحد معاصريه‪« :‬دخلت على إسحق بن إبراهيم‬ ‫التقوى‪ .‬قال ُ‬
‫(نائب بغداد) وفالن وفالن من السالطني‪ .‬فما رأيت أهيب من‬
‫الر ْع َدةُ‬
‫ت َعلَ َّي ِّ‬ ‫ِ‬
‫فوقع ْ‬
‫رت إليه أكلمه يف شيء‪َ ،‬‬ ‫أمحد بن حنبل‪ .‬ص ُ‬
‫حني رأيته من هيبته»‪.2‬‬
‫ال حيب امللوك والسالطني من يزامحهم على الرئاسة‪ ،‬وال من‬
‫مثل ابن حنبل ال تلني‬ ‫ِ ُّ‬
‫ُتلهم األمة وتسمع نداءهم‪ ،‬سيما إن كانوا َ‬
‫هلم قناة يف احلق‪ .‬هلذا امتحنوه وعذبوه‪.‬‬
‫العباسي أمره‪ ،‬بعد أن اعتنق بدعة القول خبلق‬
‫ُّ‬ ‫أصدر املأمون‬
‫ْ‬
‫القرآن‪ ،‬أن ُْي َمع العلماء والقضاة وُيتحنوا يف القول مبذهبه‪.‬‬

‫‪« 1‬نصوص الفكر السياسي اإلسالمي» ص‪.241‬‬


‫‪« 2‬رجال الفكر والدعوة يف اإلسالم» ص‪.134‬‬
‫‪87‬‬ ‫علماء يف بساط امللوك‬

‫شهادتم‪ .‬مث شدد االمتحان فتخلى‬ ‫َ‬ ‫فعزل من خالفه‪ ،‬وأسقط‬ ‫َ‬
‫الكل عن املقاومة إال أربعة منهم اإلمام أمحد‪ .‬فسيق أمحد بن‬
‫وسجن يف سجن العامة ثالثني شهرا‪.‬‬ ‫حنبل إىل بغداد مقيدا‪ُ ،‬‬
‫واستدعاه املعتصم‪ ،‬بعد وفاة املأمون‪ ،‬إىل بَالطه‪ ،‬ومجع له العلماء‬
‫املد َّجنني لِيُناظروه‪.‬‬
‫َ‬
‫قال ابن ُد َؤ َاد يف ذلك اجمللس‪« :‬يا أمري املؤمنني! لئن أجابك‬
‫إيل من مائة ألف دينار‪ ،‬فيـَعُ َّد من ذلك ما شاء اهلل‬ ‫أحب َّ‬‫َلَُو ُّ‬
‫أ ْن يعد»‪ .‬فقال املعتصم‪« :‬واهلل لئن أجابين ألطلِ َق َّن عنه (يعين‬
‫ب إليه ِبُندي‪ ،‬وألطأن َع ِقبَه (يعين يسري خلفه‬ ‫وألرَك َ َّ‬
‫القيد) بيدي‪ْ ،‬‬
‫باحرتام وتعظيم) !»‪ .‬وطال اإلغراء وطالت املساومة‪ .‬وما ظنُّك‬
‫برجل ال يثمن عقيدته مبآت آالف الدنانري‪ ،‬مبتاع قليل كما يثمن‬
‫وزراء اجلور‪.‬‬
‫قال اإلمام أمحد‪« :‬وجلس املعتصم على كرسي مث قال‪ :‬العقَّابني‬
‫يداي‪ .‬فقال‬‫فمدَّت َ‬ ‫والسياط! فجيء بالعقابني (وهم اجلالدون) ُ‬
‫ي اخلشبتني بيديك‪ ،‬وشد عليهما!‬ ‫بعض َمن حضر خلفي‪ُ :‬خ ْذ نَأْ َ‬
‫يداي»‪.‬‬
‫ت َ‬ ‫فتخلَّ َع ْ‬
‫فلم أفـَْه ْم ما قال‪َ ،‬‬
‫قوم يتعاطفون مع اإلمام‪ ،‬فيُ ِسّرون‬
‫إذن فقد كان حىت يف البالط ٌ‬
‫ف عنه العذاب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫إليه النصيحة ليخ ّ‬
‫قال اإلمام‪« :‬وملا جيء بالسياط نظر إليها املعتصم وقال‪:‬‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪88‬‬

‫ائتوين بغريها!» خليفةٌ جالد! «مث قال للجالدين تقدموا! فجعل‬


‫الرجل منهم فيضربين سوطني‪ ،‬فيقول له‪ُ :‬شدَّ! قطع اهلل‬ ‫ُ‬ ‫إيل‬
‫يتقدم َّ‬
‫(أي املعتصم) وقال‪:‬‬ ‫إيل ْ‬
‫ت تسعة عشر سوطا قام َّ‬ ‫ض ِربْ ُ‬
‫يدك! فلما ُ‬
‫اهلل عليك لشفيق! قال‪ :‬فجعل‬ ‫يا أمحد! عالم تَقتُل نفسك! إين و ِ‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ف (جالد) يـَْن َخ ُس ِن بقائمة سيفه‪.‬‬ ‫عُ َجْي ٌ‬
‫«وقال‪ :‬أتريد أن تغلب هؤالء كلَّهم! (يعين علماءَ القصر ال ُكثـَْر‬
‫ويلك! اخلليفةُ على‬ ‫املتألِّبِني على اإلمام)‪ .‬وجعل بعضهم يقول‪َ :‬‬
‫دمه يف عنقي! اقتُله!‬ ‫رأسك قائم! وقال بعضهم‪ :‬يا أمري املؤمنني! ُ‬
‫أمري املؤمنني! أنت صائم! وأنت يف الشمس قائم!‬ ‫وجعلوا يقولون‪ :‬يا َ‬
‫فقال يل‪ :‬وحيك يا أمحد! ما تقول؟ فأقول‪ :‬أعطوين شيئا من كتاب‬
‫أقول به‪ .‬فرجع وجلس‬ ‫اهلل أو سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ُ‬
‫وقال للجالد‪ :‬تقدم وارجع‪ ،‬قطع اهلل يدك ! مث قام الثانية‪ ،‬فجعل‬
‫علي ويقولون‪ :‬يا‬ ‫يقول‪ :‬وحيك يا أمحد ! أجبين ! فجعلوا يـُْقبِلُون َّ‬
‫إمامك على رأسك قائم»‪.1‬‬ ‫أمحد ! ُ‬
‫وأُغمي على اإلمام‪ ،‬فطرحوه على وجهه وداسوه بنعاهلم‪ .‬وكان‬
‫صائما فما أفطر‪ .‬قال بعض معاصريه‪« :‬أ ُْد ِخ َل الكري فخرج ذهبا‬
‫وه َن يف سبيل اهلل‪ .‬رمحه اهلل ورضي عنه‪.‬‬ ‫أمحر»‪ .‬ما َ‬
‫هكذا نرى كيف كان بِساط امللك َم ْرتعا لعلماء القصور َعبَ َد ِة‬

‫‪ 1‬نقله الندوي يف كتاب «رجال الفكر والدعوة يف اإلسالم» ص‪.141‬‬


‫‪89‬‬ ‫علماء يف بساط امللوك‬

‫الطاغوت وأعوانِه‪ ،‬و كيف كان بساط امللوك نُطْعاً ُجلدت‬


‫وسفكت فيه دماء األحرار‪ .‬وإهنا ملأساة يف‬ ‫عليه األبشار‪ُ ،‬‬
‫تارخينا أن َِي َد الظلَ َمةُ والطغاة من املنتسبني إىل العلم خداما‬
‫خانِعني‪ .‬واملأساة يف عصرنا ُّ‬
‫أشد ما كانت عليه‪ .‬رحم اهلل سيد‬
‫قطب واإلمام البنا واإلمام باقر الصدر وسائر العلماء العاملني‪.‬‬
‫حشرنا اهلل يف زمرهتم‪.‬‬
‫الفصل السابع‬
‫العلماء املربون‬
‫العارفون باهلل‬
‫شيخ اإلسالم يُدافع عن الطريق‬
‫ايل‬
‫اإلمام الغز ّ‬
‫الشيخ عبد القادر اجليلي‬
‫رجال صدقوا‬
‫اإلمام حسن البنا‬
‫‪93‬‬ ‫العلماء املربون‬

‫العارفون باهلل‬
‫احناز طائفة من العلماء واألئمة املربني إىل صفوف األمة يرومون‬
‫إصالح الناس على هامش احلياة العامة لَ َّما يئسوا من وجود أنصار‬
‫على احلق قادرين على إجناح القومة‪ .‬هكذا فعل أئمة آل البيت بعد‬
‫ِخذالن الناس لألئمة احلسني‪ ،‬وزيد‪ ،‬والنفس الزكية‪ ،‬وحيىي‪.‬‬
‫من هؤالء املربني من عُرفوا باسم طارئ على القرون األوىل‪ُ .‬سُّوا‬
‫بس ُم ِّو املطْلَب‪ ،‬وعلُِّو ال َكعب يف العبادة‪ ،‬والزهد‪،‬‬
‫صوفية‪ ،‬وعرفوا ُ‬
‫أقرب العلماء صلة بالعامة‪ ،‬وأشدَّهم تأثريا يف أخالق‬ ‫والورع‪ .‬كانوا َ‬
‫األمة‪ ،‬وأكثَرهم ِحفاظا على روح السنة‪.‬‬
‫كان الفقيه يفيت يف النوازل‪ ،‬وكان احملدث منكبا على العلم خيدم‬
‫سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وكال الوظيفتني حيوي حلياة‬
‫األمة‪.‬‬
‫لكن املشايخ العارفني باهلل اختصوا بتنوير القلوب‪ ،‬وتقريب‬ ‫َّ‬
‫العباد إىل خالقهم‪ ،‬حبملهم على االستقامة‪ ،‬وتسليكهم مبجاهدة‬
‫صروا يف اجلملة‬‫النفس‪ ،‬ودوام الذكر‪ ،‬ومراقبة احلق عز وجل‪ .‬ومل يـَُق ِّ‬
‫يف نشر العلم وبث الفضيلة يف األمة‪ ،‬إذ تتعدى تربيتهم اخلاصة‬
‫من تالمذهتم إىل العامة‪ .‬وكانوا إىل جانب هذا يـُْؤُوو َن البائسني‪،‬‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪94‬‬

‫صلُون اخلصومات‪ ،‬ويشفعون عند احلكام للمظلومني‪.‬‬ ‫ويـ ْف ِ‬


‫َ‬
‫وعلى مر القرون تطور ما يسمى بالتصوف فدخل حتت‬
‫املرقعة اليت كانت شعارا للزهد مرتزقةٌ باسم الطريق‪ .‬وتبدأ الزاوية‬
‫أو اخلانقاه مدرسة علم وتربية يف حياة الرجال املؤسسني‪ ،‬فال‬
‫تلبث أحيانا أن يدخلها بعدهم االحنراف‪.‬‬
‫ووقعت فتنة اخلالف املزمن بني أهل احلديث الذين حافظوا‬
‫على الشريعة من بدع الضالني وبني املنتسبني إىل اخلرقة‪ ،‬أعين‬
‫الصوفية‪ .‬احملامون عن الشريعة من خارج القوم حيكمون بظاهر‬
‫ما ينطق به ويفعله البسو املرقعات‪ ،‬وحاملو املسابح‪ ،‬ورواد‬
‫ويس ُّوو َن‬ ‫ِ‬
‫حلقات السماع‪ ،‬وفيه اهلُ ْجُر والبدعة‪ .‬فيعممون احلكم َ‬
‫الغيب‪.‬‬
‫الدخيل َّ‬
‫َ‬ ‫كي‪ ،‬و‬‫األصيل الز َّ‬
‫َ‬ ‫يف اللعنة‬
‫لكن العلماء الراسخني يعلمون أن الطريق‪ ،‬والسلوك‪،‬‬ ‫َّ‬
‫والوصول‪ ،‬ومعرفة اهلل‪ ،‬ومقام اإلحسان‪ ،‬والفتح‪ ،‬واملشاهدة‪،‬‬
‫كلَّها حق‪ .‬هؤالء تتلمذوا للمشايخ املربني‪ ،‬ما منعهم ذلك من‬
‫حماربة البِدع يف صفوف األدعياء‪.‬‬
‫عدد العلماء الذين درسوا احلديث واألصول‬ ‫صى ُ‬ ‫يكاد ُْي َ‬
‫ال ُ‬
‫والفقه حىت تبحروا‪ ،‬مث مست مهتهم ملعرفة اهلل عز وجل فبحثوا‬
‫عن الطريق‪ ،‬فما وجدوا إال هؤالء املشايخ أولياءَ اهلل َمن يدهلم‬
‫على املنهاج النبوي يف التزكية والتوحيد‪ .‬خنص بالذكر منهم‬
‫‪95‬‬ ‫العلماء املربون‬

‫بعض أهل احلديث ممن بدأوا مبحاربة كل من مسته األوضاع‬


‫صوفيا‪ ،‬مث ميزوا آخر األمر بني ثياب التقوى وأثواب الزور‪.‬‬
‫منهم احلافظ ابن كثري ‪-‬وهو حمدث آخر غري صاحب التفسري‬
‫املشهور مبذهبه التيمي‪ .‬يف آخر عمره أخذ ابن كثري عن جنم الدين‬
‫اإلصفهاين الشاذيل كما ذكر ذلك الصفدي يف كتاب «نكث‬
‫حامل لواء السنة‬
‫ُ‬ ‫اهلميان»‪ .‬ومنهم من املتأخرين اإلمام الشوكاين‬
‫حر‪ .‬يف آخر حياته تتلمذ هو نفسه لشيخ نقشبندي كما‬ ‫اجملتهد البَ ُ‬
‫ذكر ذلك يف كتابه «البدر الطالع»‪.‬‬
‫إن حديثنا عن مقام اإلحسان وعن الصوفية وما هنالك من‬
‫ب اإلميان كما عاشه رسول‬ ‫لكن لُ َّ‬
‫خالف ال يتسع له هذا الكتاب‪َّ .‬‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم هو هذه «احلقيقة الصوفية» كما كان‬
‫يسميها مريب هذه األجيال الشيخ حسن البنا رمحه اهلل‪.‬‬
‫من الناس من ال تتسع حويصلته ليفهم َّ‬
‫أن السنة النبوية هي‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأفعاله وتقريراته وأحواله‪،‬‬
‫أقوال ّ‬
‫ينقصنا من السنة بقدر ما ينقصنا من العلم وهو جمال األقوال‬
‫النبوية‪ ،‬ومن العبادة واملعاملة واجلهاد وهي أفعاله‪ ،‬ومن إثبات‬
‫أعراف اجملتمع واجتهاد املسلمني الذي ال يصدم الشريعة وهو‬
‫جمال التقريرات‪ .‬وأهم من كل هذا‪ ،‬إذ هو مثرة العلم والعمل‪،‬‬
‫األحوال الشريفة‪ .‬وجمال األحوال األخالق الظاهرة‪ ،‬واملشاعر‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪96‬‬

‫القلبية الباطنة‪ ،‬ومثرة كل ذلك هو الكمال الروحي‪.‬‬


‫يتصور بعض الناس أن دولة اإلسالم ميكن أن تقوم وتكون‬
‫إسالمية حقا مبجرد انتشار الفكر اإلسالمي‪ ،‬و«االلتزام» بالصالة‪،‬‬
‫واألمر والنهي‪ ،‬مث اجلهاد‪ .‬ما نتحدث عن الرمحة والسكينة ومعاين‬
‫القلب وعن الكمال الروحي كما عاشها رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وأصحابه إال لنؤكد أن تلك األحو َال الشريفةَ هي اللب وهي‬
‫العماد‪.‬‬
‫فبدون تربية تغرس شجرة اإلميان‪ ،‬وتسقيها حىت يزدهر عليها‬
‫رحيان اإلحسان‪ ،‬مث يثمر‪ ،‬ال تكون اجلماعة اإلسالمية مؤهلة جلهاد‬
‫وال لبناء‪.‬‬
‫ال حاجة باملسلمني إىل القتال حول املصطلحات‪ ،‬وال لتبديد‬
‫اجلهود يف نبش املاضي للدفاع عن زيد وعمرو من ٍ‬
‫أمة خلت‪ ،‬هلا‬
‫ما كسبت‪ ،‬وعليها ما اكتسبت‪ ،‬وال يسألنا اهلل عن عملها‪ .‬لكن‬
‫مفتاح الرتبية اإلحسانية‪ ،‬وجف من القلوب‬
‫إن ضاع من املسلمني ُ‬
‫الشوق إىل اهلل عز وجل‪ ،‬فيا حسرة على العباد !‬
‫ُ‬
‫أال وإن اهلل عزت قدرته‪ ،‬وجلت منته‪ ،‬قيض هلذه األمة رجاالً‬
‫ُك َّمال‪ ،‬يا من يتنسم معىن للكمال ! كانوا وال يزالون وسيبقون إن‬
‫شاء اهلل ورثة األنبياء وخلفاءَ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف أمته‪.‬‬
‫جامعني بني األقوال واألفعال واألحوال‪.‬‬
‫‪97‬‬ ‫العلماء املربون‬

‫وال حتسنب أحو َال القلب النورانيةَ من قبيل اجملا ِز واملبالغة واخليال‪.‬‬
‫كشف اهلل عنا حجاب الغفلة حىت نعرف احلق‪ .‬آمني‪ .‬واحلمد هلل‬
‫رب العاملني‪.‬‬
‫شيخ اإلسالم يدافع عن الطريق‬
‫اشتهر بني أنصـار السنة من أهل احلديث شيخ اإلسـالم ابن‬
‫تيمية‪ .‬عاش رمحه اهلل أواخر القرن السـابع وأوائل الثـامن (‪-661‬‬
‫‪ )728‬عصرا مضطربا‪ .‬قال الشوكاين‪« :‬وقد وقع له من أهل عصره‬
‫وحبس َحْبسا بعد حبس»‪.‬‬ ‫الزل ‪ ،‬وامتُحن مرة بعد أخرى ُ‬ ‫قالقل وز ُ‬
‫ُ‬
‫كان مثاال للزهد وعلو اهلمة‪ .‬قال تلميذه البزار‪« :‬ما رأيناه يذكر شيئا‬
‫من مالذِّ الدنيا ونعيمها‪ .‬وال كان خيوض يف شيء من حديثها‪ ،‬وال‬
‫يسأل عن شيء من معيشتها‪ .‬بل ُج ُّل ِهته وحديثِه يف طلب اآلخرة‬
‫قرب إىل اهلل تعاىل»‪.‬‬
‫وما يُ ِّ‬
‫حارب رمحه اهلل الطوائف الضالة ومن مجلتهم فسادا وإفسادا‬
‫القائلون باحللول والوحدة املطلقة وما إىل ذلك من الكفريات‬
‫نعوذ باهلل‪ .‬ال هتمنا تلك املعارك وال نقلد يف ديننا رجال كائنا‬
‫من كان دون سيدنا حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬فإن أوردنا من‬
‫كالم شيخ اإلسالم ما يثبت احرتامه وتعظيمه وتسليمه للعارفني‬
‫باهلل‪ ،‬فإمنا نفعل لعل بعض املقلدة من كساىل الفكر‪ ،‬ومتحجري‬
‫العقل‪ ،‬ممن يلف يف جراب بؤسه املعنوي أقو َال العلماء‪ ،‬ليحارب‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪98‬‬

‫هبا األمة‪ ،‬يرجع ليبحث عن احلق كما حبث الرجال‪.‬‬


‫كانت أيام شيخ اإلسالم جهادا متواصال‪ ،‬قال كلمة احلق عند‬
‫سالطني اجلور‪ ،‬وإن مل يـُْفت جبواز اخلروج عليهم‪ .‬وحارب التتار‪،‬‬
‫ت سيفه على املارقني والضالني‪،‬‬ ‫أصلَ َ‬
‫وحث الناس على جهادهم‪ ،‬و ْ‬
‫فأصابت ضرباتُه بعض أهل اهلل‪ .‬هي معركة يغفر اهلل فيها إن شاء‬
‫اهلل‪.‬‬
‫سأله احلافظ عُ َمُر البزار تلمي ُذه عن سبب اقتصاره يف التأليف‬
‫يب‪ .‬فإذا‬ ‫ِِ‬
‫على ُماربة الفَرق الضالة فأجابه قائال‪« :‬الفروعُ أمرها قر ٌ‬
‫قلد املسلم فيها أحد العلماء اجملتهدين جاز له العمل بقوله ما‬
‫مل يتيقن خطأه‪ .‬وأما األصول فإين رأيت أهل البدع والضالالت‬
‫واألهواء كاملتفلسفة‪ ،‬والباطنية‪ ،‬واملالحدة‪ ،‬والقائلني بوحدة الوجود‪،‬‬
‫والدهرية‪ ،‬والقدرية‪ ،‬والنصريية‪ ،‬واجلهمية‪ ،‬واحللولية‪ ،‬واملعطلة‪،‬‬
‫واجملسمة‪ ،‬واملشبهة‪ ،‬والراوندية‪ ،‬والكالبية‪ ،‬والسلمية‪ ،‬وغريهم من‬
‫أهل البدع‪ ،‬قد جتاذبوا فيها أزمة الضالل‪ .‬وبان يل أن كثريا منهم إمنا‬
‫قصد إبطال الشريعة املقدسة احملمدية»‪.1‬‬
‫جيش عرمرم من الطوائف‪ .‬ورجل من علماء األمة يدافع عن‬
‫«الشريعة املقدسة احملمدية» فهل طريق الرتبية الصوفية خمالفة للشريعة؟‬

‫‪ 1‬هذه النقول عن «الفتاوي» ج‪ 1‬ص ج و د‪.‬‬


‫‪99‬‬ ‫العلماء املربون‬

‫كتب شيخ اإلسالم ألحد مشايخ الطريق‪ ،‬وهو الشيخ نصر‬


‫املنبجي‪ ،‬يقول‪« :‬إىل الشيخ العارف القدوة السالك الناسك أيب‬
‫الفتح نصر‪ ،‬فتح اهلل على ظاهره وباطنه ما فتح به على قلوب‬
‫أوليائه(‪ ،)...‬وكشف به احلقيقة الدينية املميزة بني خلقه وطاعته‪،‬‬
‫وإرادته وحمبته(‪ .)...‬أما بعد فإن اهلل تعاىل قد أنعم على الشيخ‬
‫وأنعم به نعمة باطنة وظـاهرة يف الدين والدنيا‪ .‬وجعـل له عند خاصة‬
‫املسلمني الذين ال يريدون علوا يف األرض وال فسادا (قلت‪ :‬يعين‬
‫الصوفية الذين كان املنبجي أحد كبارهم) منـزلة علية‪ ،‬ومودة إهلية‪،‬‬
‫ملا منحه اهلل تعاىل به من حسن املعرفة والقصد‪َّ .‬‬
‫فإن العلم واإلرادة‬
‫أصل لطريق اهلدى والعبادة»‪.1‬‬
‫إىل أن يقول‪« :‬واهلل تعاىل يعلم‪ ،‬وكفى به عليما‪ ،‬لوال أين أرى‬
‫دفع ضرر هؤالء (يعين األدعياء يف الطريق الصويف) عن أهل طريق‬
‫اهلل تعاىل السالكني إليه من أعظم الواجبات‪ ،‬وهو شبيه بدفع التتار‬
‫ف‬
‫عن املؤمنني‪ ،‬مل يكن للمؤمنني باهلل ورسوله حاجة إىل أن تُ ْك َش َ‬
‫أسر ُار الطريق وهتتك أستَ ُارها»‪.2‬‬
‫يقصد رمحه اهلل بأسرار الطريق وأستارها هذه األذواق القلبية‬
‫واألحوال الشريفة واملقامات العلية اليت يكون احلديث عنها فتنة ملن‬

‫‪« 1‬الفتاوي» ج‪ 2‬ص‪.452‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ج‪ 2‬ص‪.464‬‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪100‬‬

‫ليس له استعداد أن ينفض يده من كل هم غري َه ِّم اهلل‪ ،‬ومن كل‬


‫خطرة غري ذكر اهلل‪ ،‬ومن كل حركة غري عبادة اهلل واجلهاد يف سبيل‬
‫اهلل‪ .‬ال إله إال اهلل حممد رسول اهلل‪.‬‬
‫عن هذه األذواق واإلهلامات القلبية يقول شيخ اإلسالم‪« :‬ال‬
‫جيوز لويل اهلل أن يعتمد على ما يلقى إليه يف قلبه إال أن يكون‬
‫موافقا (يعين للشريعة)‪ ،‬وعلى ما يقع له مما يراه إهلاما وحمادثة‬
‫وخطابا من احلق (‪ .)...‬وقد ثبت يف الصحيحني عن النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم أنه قال‪« :‬قد كان يف األمم قبلكم ُمَدَّثو َن‪ .‬فإن‬
‫فعمر منهم»‪.1‬‬
‫يكن يف أميت ُ‬
‫فالرجل ال ينكر عجائب القلب‪ ،‬وال اإلهلام‪ ،‬وال الكرامات‪ ،‬وال‬
‫اختصاص اهلل بعض عباده بالوالية اخلاصة‪ ،‬وهي غري والية املؤمنني‬
‫املتقني العامة‪.‬‬
‫والرجل يعظم املشايخ ويستشهد هبم‪ ،‬مشايخ الطريق أهل‬
‫الوالية‪ .‬يتحدث عن بعض من خاصمهم يف الطريق فيقول‪:‬‬
‫«فهم من صوفية املالحدة الفالسفة‪ ،‬ليسوا من صوفية أهل العلم‬
‫فضال عن أن يكونوا من مشايخ أهل الكتاب والسنة كالفضيل‬
‫بن عياض‪ ،‬وإبراهيم بن أدهم‪ ،‬وأيب سليمان الداراين‪ ،‬ومعروف‬
‫الكرخي‪ ،‬واجلنيد بن حممد‪ ،‬وسهل بن عبد اهلل التسرتي وأمثاهلم‬

‫‪ 1‬كتاب «الفرقان» ص‪.52-53‬‬


‫‪101‬‬ ‫العلماء املربون‬

‫رضوان اهلل عليهم أمجعني»‪.1‬‬


‫الدفاع‬
‫َ‬ ‫هؤالء الذين ذكرهم هم صفوة األمة‪ ،‬مسَّوهم صوفية‪ .‬تبـََّن‬
‫يكيل هلم الثناء‪،‬‬
‫عنهم‪ ،‬ومساهم مشايخ أهل الكتاب والسنة‪ .‬وال ميَ ُّل ُ‬
‫ويُظْ ِهُر تبجيله هلم‪ ،‬خاصة اإلمام عبد القادر اجليلي رمحه اهلل‪.‬‬
‫قوم من املقلِدة رفعوا ِع ْل َم هذا اإلمام رايةً ليُ َكفروا املسلمني‪ .‬ليتهم‬
‫على األقل فهموه‪ ،‬وليتهم يفهمون !‬
‫أش َّد ما كانت‪ .‬راجع‬
‫إن معركة أهل السطوح مع أهل اهلل قائمةٌ َ‬
‫كتاب الشيخ سعيد حوى «تربيتنا الروحية» وراجع كتاب «مدارج‬
‫السالكني» البن القيم رمحه اهلل وهو تلميذ ابن تيمية النجيب‪.‬‬
‫ُّك هنا كلمة‪ :‬إن فاتك البحث عن الطريق إىل اهلل فابك على‬ ‫وأبـُث َ‬
‫نفسك‪ ،‬والسالم ! فاز واهلل من سلك طريق رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم البيضاء الناهجة !‬
‫اإلمام الغزايلّ‬
‫ُولِ َد ابن تيمية بعد قرن ونصف من موت الغزايل‪ .‬وقرأ كتبه‬
‫وخاصمه خصاما فرعيا‪ ،‬مل يـُبَ ّد ْعه ومل يضلله‪ .‬يا أيها املقلد‬
‫املسكني! تبحث يف األوراق عن تاريخ الرجال‪ .‬احبث عن رجل‬

‫‪ 1‬نفس المصدر ص‪.80‬‬


‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪102‬‬

‫من أهل زمانك يأخذ بيدك إىل اهلل كما حبث أمثال الغزايل !‬
‫ايل علم زمانه حىت أصبح مدرسا يف املدرسة النظامية أكرب‬ ‫قرأ الغز ُّ‬
‫معاهد عصره‪ .‬مث أقبل يبحث يف علوم القوم حىت اطمأن إليها‪.‬‬
‫فيقول‪« :‬فعلمت يقينا أهنم (الصوفية) أرباب األحوال ال أصحاب‬
‫صلته‪ ،‬ومل يبق إال‬ ‫األقوال‪ .‬و َّ‬
‫أن ما ميكن حتصيلُه بطريق العلم فقد َح َّ‬
‫ما ال سبيل إليه بالسماع والتعلم‪ ،‬بل بالذوق والسلوك»‪.1‬‬
‫مث تفكر يف حاله‪ ،‬وهي حال مدرس ناجح حتيط به أُبـََّهة العلم‪،‬‬
‫وتعظيم العامة‪ ،‬واحلَظْوة عند احلاكم‪ ،‬فأنكر ما هو عليه‪ ،‬واشتاق‬
‫ُ‬
‫إىل اهلل عز وجل وإىل من يدله عليه‪.‬‬
‫ب قائل يقول‪:‬ما معىن أن يبحث عامل مثلُه عن رجل يدله‬ ‫ُر َّ‬
‫على اهلل؟ وما معىن الدَّاللة على اهلل؟‬
‫يظن الناس أن الداللة على اهلل قول وموعظة وتعليم نصوص‪.‬‬
‫تلك داللة على شرع اهلل نعم ! أما الداللة على اهلل‪ ،‬فلو كانت‬
‫وجدها‪ .‬فاحبث كما حبث‬
‫تَ َسعُها الكلمات والكتب لكان الغزايل َ‬
‫يؤرقُك اليأس من نفسك‪ ،‬واالفتقار ُإىل اهلل‪ ،‬والشوق‬‫إن كان ِّ‬
‫أولياؤه‪ .‬فإن كنت مغتبطا حبالك فكالمنا مع‬‫ملعرفته كما عرفه ُ‬
‫غريك‪.‬‬

‫‪« 1‬املنقذ من الضالل» ص‪.123‬‬


‫‪103‬‬ ‫العلماء املربون‬

‫اخلش َن‪ ،‬وخرج للجبال‬ ‫ختلَّى الغزايل عن اجلاه واملال‪ ،‬ولبس ِ‬


‫يبحث‪ ،‬حىت وجد شيخا امسه الفارمدي أخذ بيده‪ ،‬ورباه وهو‬
‫عامل املسلمني يف عصره‪ .‬دامت الرتبية اثنيت عشرَة سنة رجع بعدها‬
‫الغزايل إىل الناس بلسان جديد ينبئ عن قلب استنار بأنوار املعرفة‪.‬‬
‫وقرِع باب الكرم اإلهلي‪:‬‬ ‫يقول خمربا عن نتائج خلوته لذكر اهلل ْ‬
‫مقدار عشر سنني‪ .‬وانكشفت يل يف أثناء هذه‬ ‫«ودمت على ذلك َ‬
‫استقصاؤها‪ .‬والق ْد ُر الذي أذكره‬
‫ُ‬ ‫أمور ال ميكن إحصاؤها و‬
‫اخللَوات ٌ‬
‫أن الصوفية هم السالكون لطريق اهلل‬ ‫يُنتـََف ُع به‪ :‬إين علمت يقينا َّ‬
‫أصوب الطرق‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الس َي‪ ،‬وطري َقهم‬
‫أحسن ِّ‬
‫ُ‬ ‫سريتم‬
‫أن َ‬‫تعاىل خاصة‪ .‬و َّ‬
‫عقل العقالء‪ ،‬وحكمةُ‬ ‫وأخالقَهم أزكى األخالق‪ .‬بل لو ُجع ُ‬
‫احلكماء‪ ،‬وعل ُـم الواقفني على أسرار الشرع من العلماء‪ ،‬ليـُغَيـُِّروا‬
‫شيئا من ِس َيهم وأخالقهم‪ ،‬ويبدلوه مبا هو خري منه‪ ،‬مل جيدوا إليه‬
‫فإن مجيع حركاهتم وسكناهتم يف ظاهرهم وباطنهم مقتبسة‬ ‫سبيال‪َّ .‬‬
‫من نور مشكاة النبوة‪ .‬وليس وراءَ نور النبوة على وجه األرض نور‬
‫يستضاء به»‪.1‬‬
‫الرجال‪،‬‬
‫َ‬ ‫مث رجع إىل بغداد‪ ،‬فأصبح نورا يُستضاء به‪ ،‬يُريب‬
‫فحول العلماء‪ ،‬جيلسون بني يديه جلوس األطفال‪ .‬هل‬
‫ويقصده ُ‬

‫‪ 1‬نفس املصدر ص‪.131‬‬


‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪104‬‬

‫نقول كدسها ِطيلَةَ غيبته؟ الَ واهلل ! بل لنور‬


‫كان ذلك لتحصيل ٍ‬
‫يودعه اهلل يف قلب من جلأ إليه جلوءا كامال‪ ،‬وأقبل عليه‪ ،‬وأحبَّه واتبع‬
‫آثار رسوله صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫فحل من فحول علماء هذه‬ ‫جاءه القاضي أبو بكر بن عريب‪ٌ ،‬‬
‫األمة‪ ،‬مؤلف «أحكام القرآن»‪ ،‬ذلك الكتاب النفيس الذي بني‬
‫أيدينا يشهد بعلو كعبه يف علوم احلديث والفقه واللغة‪ .‬مؤلف كتب‬
‫كثرية مل تصلنا‪ ،‬منها «أنوار الفجر» يف تفسري القرآن يف مثانني‬
‫جملدا‪ ،‬مائة وستني ألف صفحة‪.‬‬
‫نقل املقري يف كتاب «نفح الطيب» ما يلي من كالم القاضي‬
‫أيب بكر يصف لقاءه اإلمام الغزايل‪« :‬ورد علينا دانشمند (يعين‬
‫الغزايل‪ ،‬ولعله كلمة تعظيم بالفارسية) فنـزل برباط ابن سعد بإزاء‬
‫املدرسة النظامية ُم ْع ِرضا عن الدنيا‪ُ ،‬مقبال على اهلل تعاىل‪َ .‬‬
‫فمشْينا‬
‫ِ‬
‫أنت ضالَّتـُنَا اليت ننشد‪ُ ،‬‬
‫وإمامنا‬ ‫إليه‪ ،‬وعرضنا أ ُْمنيَتـَنَا عليه‪ ،‬وقلت له‪َ :‬‬
‫وشاه ْدنا منه ما كان فوق‬
‫الذي به نسرتشد ! فلقيَنا لقاء املعرفة‪َ ،‬‬
‫الصفة»‪.1‬‬
‫العباسي‬
‫َّ‬ ‫معارك مع الباطنية‪ ،‬وساند املستظهر‬
‫َ‬ ‫ايل‬
‫خاض الغز ُّ‬
‫لتغليبه مصلحةَ بقاء سلطان األمة ُم َو َّحداً على الفتنة بفراغ‬

‫‪« 1‬العواصم من القواصم» مقدمة حمب الدين اخلطيب ص‪.21‬‬


‫‪105‬‬ ‫العلماء املربون‬

‫السلطان‪ ،‬وصدع باحلق ضد الظلَمة‪ ،‬وخلَّف كتابا جليال هو‬


‫«إحياء علوم الدين»‪.‬‬
‫مؤثّال يف علم‬
‫الناظر يف هذا الكتاب املوسوعي جيد علما لنا َ‬
‫النفس البشرية وأمراضها وعالجها‪ ،‬ويف علم الشريعة وأسرارها‪ ،‬ويف‬
‫علم السلوك وآدابه‪ .‬لكن هذا الكتاب ال يغنيك أخي يف السلوك‬
‫على يد رجل سلك الطريق قبلك‪ .‬بل إن من دخل يف اجملاهدة‬
‫اقتداء مبثل هذه الكتب معرض للعطب إن مل يكن ذلك عن إشارة‬
‫طبيب للقلوب‪.‬‬
‫نعم ! إن إقامة دولة القرآن يف األرض ال سبيل إليها إن مل تقم‬
‫سوق املعرفة باهلل‪ ،‬واخلوف من اهلل‪،‬‬
‫يف قلب أئمة الدعوة والدولة ُ‬
‫واحلنني إىل اهلل‪ ،‬والطمأنينة بذكر اهلل‪ ،‬والسكينة إىل اهلل‪ ،‬والشوق‬
‫إىل لقاء اهلل‪ ،‬والعض بالنواجذ على سنة رسول اهلل‪.‬‬
‫القلوب بالطب القرآين النبوي‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وال سبيل إىل هذا إن مل تعاجل‬
‫ث الشرك‪ ،‬ووباء الغفلة‪،‬‬ ‫ومل تـَُزَّك‪ ،‬ومل تُ ْ‬
‫ص َق ْل‪ ،‬ومل يُطَْرْد منها َخبَ ُ‬
‫ب نفسه‬ ‫وج ْدب ال َقسوة‪ ،‬ونزغات الشهوة‪ .‬ال يستطيع املرء أن ِ‬
‫يط َّ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬
‫ِ‬
‫بنفسه‪ .‬فيكون البحث عن ورثة أحوال النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يف األمهية سابقا ومسامتاً للبحث عن ورثة أقواله وأفعاله‪.‬‬
‫يورث‬
‫وهذا ال يعين أن شيئا من األحوال القلبية الشريفة َ‬
‫بالزيغ عن سنة املصطفى صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬إمنا يعين أن عليم‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪106‬‬

‫أن العابد والفقيه قد يكونان مبعزل تام‪،‬‬ ‫اللسان قد يكو ُن فاسقا‪ ،‬و َّ‬
‫ارث‬
‫ويف جهل مطبق‪ ،‬باملعاين القلبية‪ ،‬واحلياة اإلميانية اإلحسانية‪ .‬والو ُ‬
‫الكامل من جتلت فيه أحوال الوالية والدراية‪ .‬أولئك هلم األمن وهم‬
‫مهتدون‪.‬‬
‫الشيخ عبد القادر اجليلي‬
‫رجل أمجعت األمة على صالحه وواليته‪.‬‬ ‫من هؤالء ال ُك َّمل ٌ‬
‫كان قمةً يف علوم عصره‪ ،‬قمة يف التقوى والزهد‪ ،‬قمة يف اجلهر‬
‫باحلق‪ ،‬قمة يف الرتبية واحلنـُِّو على األمة‪ .‬كانت االستقامة‬
‫احلث عليها َد يْ َد نَهُ‪.‬‬
‫على السنة النبوية مذهبَه‪ ،‬وكان ُّ‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬اتبع الشرع يف كل ما ينـزل بك إن كنت‬
‫يف التقوى اليت هي القدم األول (يعين يف الطريق إىل اهلل)‪.‬‬
‫واتبع األمر (أي أمر الشرع) يف حالة الوالية ووجود اهلوى‬
‫(مادام يغلبك هوى نفسك) وال تتجاوزه وهي القدم الثانية‪.‬‬
‫وارض بالفعل (فعل اهلل)‪ ،‬ووافق‪َ ،‬وا فْ َن ‪ ،‬يف حالة البَ َد لِيَّ ِة‬
‫والعينية والصديقية (وهي مقامات أهل اهلل) وهي املنتهى‪.‬‬
‫ِ‬
‫اك »‪.‬‬ ‫خل عن سبيله‪ُ .‬رَّد نفسك وهو َ‬ ‫تـَنَ َّح عن الطريق ال َقذ ِر ‪ِّ ،‬‬
‫قال ابن تيمية بعد أن أورد هذا الكالم‪« :‬فقد بني الشيخ‬
‫عبد القادر رضي اهلل عنه أن لزوم األمر والنهي ال بد منه يف‬
‫‪107‬‬ ‫العلماء املربون‬

‫كل مقام‪ )...( .‬وقد بني أن صاحب احلقيقة (العارف باهلل)‬


‫عليه أن يلزم األمر دائما؛ األمر الشرعي الظاهر إن عرفه‪،‬‬
‫الباطن إمنا يكون فيما ليس‬‫َ‬ ‫وبي أن األمر‬
‫أو األمر الباطن‪َّ .‬‬
‫بواجب يف الشرع وال حمرم‪ .‬وأن مثل هذا يـُْنتَظَُر فيه األمر‬
‫اخلاص حىت يفعله حبكم األمر» ‪.1‬‬
‫ُّ‬
‫إذن هنالك أذ واق قلبية هي من قبيل اإلهلام والتحديث‬
‫الذي ورد يف احلديث الصحيح‪ .‬وابن تيمية إذ يشرح كالم‬
‫الشيخ يتحدث حديث اخلبري‪ .‬ويورد كالم اإلمام اجليلي لريد‬
‫على الطوائف الزائغة الكافرة القائلة بأن السالك يصل إىل‬
‫مقام يرتفع فيه عنه تكليف الشرع‪ .‬نعوذ باهلل من اخلذالن !‬
‫احملد ثون الكمل أمثال الشيخ عبد القادر هم‬ ‫هؤالء َّ‬
‫وأهل‬
‫ُ‬ ‫مستودعُ أسرار اهلل بني خلقه‪ ،‬هم َحَلَة القرآن حقا‪،‬‬
‫يقار ُن بتأثري الواعظ‬‫االصطفاء صدقا‪ .‬تأثريُهم يف األمة ال َ‬
‫الفصيح الذي ُيهُّز َك هزا مث تنفصل عنه بقلب ما الَ َن ‪ ،‬وال‬
‫بتأثري الفقيه يفتيك يف النا زلة بالدليل والربهان ويرتكك‬
‫وشأنك‪.‬‬
‫املريب‬
‫قال السيد اجلليل أبو احلسن الندوي رمحه اهلل يصف َ‬
‫النموذجي الشيخ عبد القادر‪« :‬وانتهى األمر إىل القرن السادس‪،‬‬
‫َّ‬
‫وقد تباعد الزمان عن النبوة وآثا ِرها وبركاهتا‪ .‬واتسعت الدنيا‪،‬‬

‫‪« 1‬الفتاوي» ج‪ 10‬ص‪.525-523‬‬


‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪108‬‬

‫األم ُد‬
‫أسباب الغفلة واللهو‪ ،‬وطال على املسلمني َ‬ ‫ُ‬ ‫وكثرت‬
‫ِ‬
‫وقلب‬ ‫قلوبم‪ .‬هنالك هنض يف بغداد‪ ،‬دار السالم‬ ‫فقست ُ‬
‫قوي العلم‪،‬‬
‫قوي اإلميان‪ُّ ،‬‬
‫رجل قوي الشخصية‪ُّ ،‬‬ ‫عا َل اإلسالم‪ٌ ،‬‬
‫قوي التأثري‪ .‬فجدد دعوة اإلميان واإلسالم احلقيقي‪،‬‬ ‫قوي الدعوة‪ُّ ،‬‬
‫ُّ‬
‫أخالق املؤمنني املخلصني‪ .‬وحارب النفاق الذي‬‫والعبودية اخلالصة‪ ،‬و ِ‬
‫اجتمع يف اجملتمع اإلسالمي بقوة منقطعة النظري يف تاريخ اإلصالح‬
‫والتجديد‪ .‬وفتح باب البيعة والتوبة (بيعة التوبة ال بيعة اإلمارة)‬
‫على مصراعيه‪ ،‬يدخل فيه املسلمون من كل ناحية من نواحي العامل‬
‫اإلسالمي‪ ،‬جيددون العهد وامليثاق مع اهلل (‪.)...‬‬
‫قال رمحه اهلل‪« :‬وظل الشيخ يربيهم وحياسبهم ويشرف‬
‫عليهم وعلى تقدُّمهم‪ .‬وأصبح هؤالء التالميذ الروحيون يشعرون‬
‫باملسؤولية بعد البيعة والتوبة وجتديد اإلميان على يد عبد خملص‬
‫وعامل رباين شعورا جديدا‪ .‬وظل بينهم وبني الشيخ ربا ٌط وثيق‬
‫عميق أقوى من رباط التالميذ باألساتذة والشيوخ‪ ،‬ومن رباط‬
‫اجلند بالقائد‪ ،‬ومن رباط الرعية بالراعي (‪.)...‬‬
‫«وقد كان خللفائه وتالميذه وملن سار سريهتم يف الدعوة‬
‫وهتذيب النفوس‪ ،‬من أعالم الدعوة وأئمة الرتبية يف القرون اليت‬
‫وشعلة اإلميان‪،‬‬
‫فضل كبريٌ يف احملافظة على روح اإلسالم‪ُ ،‬‬
‫تلته‪ٌ ،‬‬
‫ومحاسة الدعوة واجلهاد‪ ،‬وقوة التمرد على الشهوات والسلطات‪.‬‬
‫‪109‬‬ ‫العلماء املربون‬

‫ولوالهم البتلعت املادة اليت كانت تسري يف ركاب احلكومات‬


‫واملدنيات هذه األمة» ‪.1‬‬
‫رجال صدقوا‬
‫يف كل عصور اإلسالم َو َف هلل رجال صدقوا ما عاهدوا اهلل عليه‪.‬‬
‫ومل تنقطع سلسلة اإلرشاد والرتبية ومقاومة السلطان اجلائر‪ ،‬وإن‬
‫تعددت املدارس‪ ،‬واختلفت األساليب‪ .‬من اإلمام احلسني إىل اإلمام‬
‫اخلميين عرفت الشيعة أئمة وعلماء حافظوا على جذوة اإلميان ورفض‬
‫الظلم حية يف ضمري األمة‪ .‬ومن احلسن البصري إىل حسن البنا عرف‬
‫أهل السنة مربني ومقاومني جماهدين جددوا اإلميان وحاربوا الطغيان‪.‬‬
‫جى‬
‫منهم سلطان العلماء عز الدين بن عبد السالم‪ .‬كان َش ً‬
‫املس َّمى الصاحلَ بن‬
‫يف حلق احلكام‪ ،‬غضب على سلطان دمشق َ‬
‫ِ‬
‫سلطان‬ ‫ك جنم الدين أيوب‬ ‫إمساعيل حني استنجد باإلفرنج على امللِ ِ‬
‫مصر‪ ،‬فأسقط امسه من اخلطبة وخرج مهاجرا‪ .‬فتبعته احلاشية وقالوا‪:‬‬
‫«ما بينك وبني أن تعود إىل ما كنت عليه من احلظوة إال أن تعود‪،‬‬
‫فتنخشع للملك‪ ،‬وتـَُقبِّ َل يده»‪ .‬فقال‪« :‬يا مساكني! أنا ال أرضى أن‬
‫يقبل السلطان يدي!»‪.‬‬

‫‪« 1‬رجال الفكر والدعوة يف اإلسالم» ص‪.283 -281‬‬


‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪110‬‬

‫ذهب العز إىل مصر فاحتفى به جن ُـم الدين‪ ،‬وكان شديد البأس‬
‫جيسُر أحد أن خياطبَه ابتداء‪ .‬ففي حم َفله ناداه عز الدين‪ :‬يا‬ ‫ال ُ‬
‫ن‪،‬‬‫أيوب! وهناه عن منكر‪ .‬فسألوه بعد ذلك عن ُجـرأته فقال‪« :‬يا بـََُّ‬
‫كالقط‪ )...( ،‬فال‬ ‫استحضرت هيبة اهلل تعاىل فكان السلطان أمامي ِ‬
‫عظمة وال سلطان‪ ،‬وال بقاء وال دنيا‪ .‬بل هو (أي امللك) ال شيء‬
‫يف صورة شيء»‪.‬‬
‫الشيخ‬
‫ُ‬ ‫أتم على األمة فأفىت‬ ‫وطغى األمراء املماليك واشتدت َوطْ َ‬
‫أنه ال يصح هلم بيع وال شراء‪ ،‬وال زواج وال طالق وال معاملة‪ ،‬وأنه‬
‫ال يصح هلم شيء من هذا حىت يُباعوا ويرد مثنُهم إىل بيت مال‬
‫املسلمني‪ .‬فغضب عليه امللك‪ ،‬فخرج مهاجرا وتبعه الناس مل يتخلف‬
‫عنه رجل وال امرأة وال صيب وال عامل وال حمرتف‪ .‬ففزع امللك وخرج‬
‫يسرتضيه‪.1‬‬
‫عالٌ مرب عاش يف املغرب‬ ‫ومنهم عبد اهلل بن ياسني‪ِ .‬‬
‫اس َط القرن اخلامس‪ .‬وكان عصرا انتشرت فيه ردة قوم يُ َس َّم ْون‬ ‫أو ِ‬
‫ني‪ .‬فاحناز جبماعة من الشباب يف جزيرة يربيهم حىت‬ ‫ِ‬
‫البـُْر ْغ َواطيِّ َ‬
‫ث األمة‪ ،‬ومحل‬ ‫اكتملت له العُ َّدةُ‪ .‬فزحف على الكفر‪ ،‬ومل َش َع َ‬
‫امللك الصاحل‬ ‫السيف والدعوة حىت أسس دولة ترأسها من بعده ُ‬
‫يوسف بن تاشفني‪ .‬تُ َس َّمى هذه الدولةُ دولة املرابطني باسم رباط‬ ‫ُ‬

‫‪« 1‬وحي القلم» للرافعي ج‪ 3‬ص‪ 61‬وما بعدها‪.‬‬


‫‪111‬‬ ‫العلماء املربون‬

‫الرتبية واجلهاد الذي خرج منه تالمذة عبد اهلل بن ياسني‪.‬‬


‫قائد جند اهلل يف معركة الزالّقة الشهرية‬
‫وكان يوسف بن تاشفني َ‬
‫فم ّدوا‬
‫اليت انتصر فيها املسلمون على جحافل اإلسبان يف األندلس‪َ .‬‬
‫بذلك عُ ْمَر اإلسالم بتلك البالد أربعة قرون‪ .‬يوسف بن تاشفني‬
‫امللك الصاحل الذي مل يـُْغوه السلطا ُن فبقي على بَ َساطَِة البدوي‬
‫جزٍء مهم‬‫ويده مبسوطةٌ على ْ‬ ‫طعامهُ‪ُ ،‬‬
‫ب له ناقةٌ منها ُ‬ ‫الصحراوي ُْتلَ ُ‬
‫ايل هاجر إليه ملا مسع‬
‫من مشال إفريقيا واألندلس‪ .‬يـُْرَوى أن اإلمام الغز َّ‬
‫من عدله‪ ،‬فلم تتم اهلجرة ملوت امللك الصاحل‪.‬‬
‫التقي‪ ،‬نعُدُّهُ من البناة‪.‬‬
‫امللك الصاحلُ ُّ‬
‫نور الدين بن زنكي ُ‬ ‫ومنهم ُ‬
‫س القوة اليت‬
‫أس َ‬ ‫اعد الوحدة و َّ‬
‫وهو الذي هيأ لصالح الدين األيويب قو َ‬
‫اعتمد عليها لتجنيد األمة يف جهادها ضد الصليبية‪ .‬كانا أمريين‬
‫وس َط ال َك َد ِر‪ ،‬وإجنازمها‬ ‫ِ‬
‫من َحَلَة السيف‪ ،‬لكن جهادمها وصفاءمها َ‬
‫التارخيي‪ ،‬ترفعهما يف ذاكرة األمة وعند اهلل إن شاء اهلل إىل املراتب‬
‫َّ‬
‫العليا‪ .‬وال نزكي على اهلل أحدا‪ .‬رمحهم اهلل‪.‬‬
‫اليوسي‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫احلسن‬
‫ُ‬ ‫ومنهم يف القرن احلادي عشر يف املغرب الشيخ‬
‫قاوم الظلم ونشر العلم‪ ،‬وعاش مشردا طول حياته‪ .‬ورسائله إلمساعيل‬
‫حق النهي عن املنكر واألمر‬ ‫ِِ‬
‫َملك املغرب تشهد أنه ممن َوفـَْوا هلل ّ‬
‫باملعروف‪.‬‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪112‬‬

‫الشهيد يف اهلند‪ .‬رىب الرجال‪،‬‬


‫ُ‬ ‫ومنهم الشيخ اإلمام أمحد بن عرفان‬
‫وجند املؤمنني لقتال الكافرين منذ قرن ونصف‪.‬‬
‫املهدي السوداينُّ من أهل الطريق أهل املصحف‬
‫ُّ‬ ‫بعده‬
‫ومنهم َ‬
‫والسيف‪ .‬حارب اإلجنليز يف وقت كان فيه العامل اإلسالمي منبهرا‬
‫أمام قوة االستعمار اهلاجم‪ .‬كان سالحه أمام بنادق العدو ومدافعه‬
‫رماح بسيطة وإميان غالب‪.‬‬
‫ومنهم قبله يف اجلزائر اإلمام عبد القادر شيخ الطريق وأمري اجلهاد‬
‫وأستاذ املنرب‪ .‬قاوم االحتالل الفرنسي ست عشرة سنة‪ .‬فكان مفخرة‬
‫من مفاخر اإلسالم‪.‬‬
‫ومنهم املشايخ السنوسية يف ليبيا‪ .‬أسسوا املدارس ونشروا اإلسالم‬
‫يف إفريقيا‪ .‬وال يزال اسم اإلمام أمحد السنوسي واسم عمر املختار‬
‫وهو مثرة تربية اجلماعة السنوسية جيلجالن يف أمساع التاريخ جلهادمها‬
‫االحتالل اإليطايل الوحشي اهلمجي‪.‬‬
‫مجع‬
‫ومنهم حممد بن عبد الكرمي اخلطايب باملغرب‪ .‬عامل جماهد‪َ ،‬‬
‫القبائل‪ ،‬وواجه جيوش إسبانيا وفرنسا جمتمعني‪ .‬فنصره اهلل نصرا مؤزرا‪.‬‬
‫وكان ماوتسي تونغ الزعيم الصيين معجبا به‪ .‬وال يزال اليساريون‬
‫وملة يتحدثون عن جهاده ويعُدُّونه خمرتع‬ ‫والثوريون من كل جنس ِ‬
‫حرب العصابات احلديثة‪.‬‬
‫القسام أب املقاومة ضد اليهود يف فلسطني‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ومنهم ِعز الدين‬
‫‪113‬‬ ‫العلماء املربون‬
‫ِ‬
‫عالٌ ِمنَّا جاهد باسم اإلسالم ال باسم القومية‪.‬‬
‫ومنهم علماء مسلمون شاركوا يف حروب التحرير من االستعمار‪،‬‬
‫لكنهم رأوا جهادهم متتصه احلزبية والوطنية ملا حتالفوا مع غري جنسهم‬
‫من هذه األجيال اليت قاومت االستعمار استنادا إىل الدم واألرض‬
‫والتاريخ ال إىل الدين‪.‬‬
‫اإلمام حسن البنا‬
‫طوينا احلديث طيا‪ ،‬وأوجزنا إجيازاً ُمال‪ .‬ومن حق رجالنا حتت راية‬
‫دولة القرآن أن حيتلوا الصدارة إىل جانب الصحابة والتابعني يف ميادين‬
‫اإلعالم‪ ،‬وضرب األمثال‪ ،‬والتذكري باألبطال‪ .‬حتت راية القرآن جيب‬
‫أن نزيل االحتالل الثقايف الذي ميأل أفقنا بتمجيد مفكري اجلاهلية‬
‫وقادهتا‪ ،‬ونعيد ذكرى علمائنا ومصلحينا وأئمتنا‪ .‬فهم االمتداد احلي‬
‫ِ‬
‫الكمال حممد صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬ ‫ومعِ ِ‬
‫ني‬ ‫لصاحب الرسالة َ‬
‫نُربز هنا وجها ُمشرقا من وجوه الدعوة يف عصرنا بل يف كل‬
‫فطاحل‬
‫ُ‬ ‫العصور‪ ،‬هو الشيخ اإلمام حسن البنا رمحه اهلل‪ .‬عاصره‬
‫أمثال الشيخ حممد إلياس الكاندهلوي مؤسس حركة رجال‬ ‫الدعاة ُ‬
‫الدعوة والتبليغ‪ ،‬والشيخ بديع الزمان سعيد النورسي أب احلركة‬
‫اإلسالمية يف تركيا‪ ،‬وكالمها من أهل الرتبية والذكر‪.‬‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪114‬‬

‫للسيد اجلليل حممد إلياس الفضل يف انتشار اإلسالم يف اهلند‬


‫وسائر بقاع املعمور على يد رجاله الذين يذكروننا بالصحابة رضي‬
‫اهلل عنهم يف الصرب على مشاق الدعوة‪ ،‬ويف محل كلمة اهلداية يف‬
‫ص ُر عن التعبئة اجلهادية‬
‫أسلوبم يـَْق ُ‬
‫حواضر املعمور وبواديه‪ .‬ولئن كان ُ‬
‫فمرُّد ذلك إىل ظهورهم يف‬ ‫وما تقتضيه من إعداد قوة العلم والتنظيم َ‬
‫ٍ‬
‫بلد املسلمون فيه أقلية مضطهدة‪.‬‬
‫وللشيخ بديع الزمان النورسي فضل إحياء الدعوة حتت قهر‬
‫الطاغوت أتاتورك وحزبه‪ .‬نشر العلم ورىب الرجال يف ظروف عصيبة‪،‬‬
‫خمتفيا تارة مرحتال أخرى ال َيَ ّل وال يَِن‪.‬‬
‫وعاصر البنا مفكراً ثاقب النظر من علمائنا‪ ،‬هو أبو األعلى‬
‫املودودي‪ .‬استفادت مجاعة «اإلخوان املسلمني» من مؤلفاته القيمة‪.‬‬
‫وترك املودودي رمحه اهلل تنظيما واسعا يف باكستان واهلند يرجى أن‬
‫جيمع اهلل على يديه كلمة أهل احلق‪.‬‬
‫وغري هؤالء دعاة ومربون يف أقطار اإلسالم املباركة‪ .‬ويبقى‬
‫اإلمام البنا غَُّرًة يف جبني الدعوة مبا مجع اهلل فيه من خصال اخلري‪.‬‬
‫س من املشكاة‬ ‫فإن نظرت إىل خشوعه وتبتله وروحانيته فهو قبَ ٌ‬
‫سين ومعلم‬ ‫ِ ِِ‬
‫وس َعة أفُقه فهو إمام ٌّ‬
‫النبوية‪ .‬وإن نظرت إىل علمه َ‬
‫عبقري‪ .‬وإن نظرت إىل شجاعته يف احلق وهيبته يف صدور من‬ ‫ٌّ‬
‫ناهيك عن فصاحته وحكمته‬ ‫َ‬ ‫ُس ِد اهلل‪.‬‬
‫عاشروه فهو أسد من أ ْ‬
‫‪115‬‬ ‫العلماء املربون‬

‫وأدبه وصربه‪ .‬رمحه اهلل رمحة واسعة‪.‬‬


‫كان املصحف والسيف‪ ،‬السلطان والدعوة‪ ،‬مفرتقني يف فكر‬
‫املسلمني منذ أن ختاصم السلطان والقرآن وتقاتال يف عهود امللك‬
‫العاض‪ ،‬مفرتقني يف احلياة العملية للمسلمني‪ .‬والبنا رمحه اهلل من‬
‫القالئل الذين اجتمع يف تصورهم القرآن والسلطان‪ .‬مل جيد يف زمانه‬
‫القليل ممن أدركوا َم ْد َرَكهُ‪ ،‬فعمد إىل‬
‫من الرجال املكتملي النضج إال َ‬
‫تربية نشء جديد ال يـ ْف ِ‬
‫صل بني الرتبية اإلميانية القلبية وبني الدراية‬ ‫َ‬
‫الفكرية‪ ،‬وال بني املسجد وساحة القتال‪ ،‬وال بني العبادة والسياسة‪،‬‬
‫وال بني التبتل وترويض األجسام ومحل السالح‪.‬‬
‫ونصر قضيته‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وجد اإلمام اخلميين جهازا قائما حلمل دعوته‪ْ ،‬‬
‫ممثال يف عشرات األلوف من علماء املسلمني خرجيي احلوزات الدينية‬
‫املستقلة إداريا‪ ،‬الغنية ماليا بأموال اخلُ ُمس‪ .‬ومل يكن من بني هؤالء‬
‫وخيدمونه‪.‬‬
‫العلماء إال قلة مييلون للسلطان ُ‬
‫أما يف جانبنا‪ ،‬فزيادةً على التدهور الفظيع الذي أصاب األزهر‬
‫وسائر معاهد العلم‪ ،‬فإن ذهنيَّةَ ُم َسالَ َم ِة احلاكم كانت القاعدةَ‪.‬‬
‫َ‬
‫اإلمام البنا إال أن يبدأ من جديد صياغة جند حيمل‬ ‫َ‬ ‫وسع‬
‫فما َ‬
‫الرسالة وينصر الدعوة‪ .‬ولئن اغتالته األيدي األثيمة قبل أن يُ َك ِّمل‬
‫آثاره العلمية وخاصة رجالَه الذين‬ ‫ِ‬
‫جهاده ويرى ث َار ما غرس‪ ،‬فإن َ‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪116‬‬

‫ووجه بـَثّوا روحا جديدة يف األمة‪ ،‬تبارك اهلل ما أوسع‬


‫رب وتعهد َّ‬
‫َّ‬
‫نضر اهلل وجهه كما نضر وجه املسلمني‪ .‬ونضر وجوه دعاة‬ ‫وأمسى‪ّ .‬‬
‫اخلري من السابقني والالحقني‪ .‬آمني‪.‬‬
‫قال أبو احلسن الندوي أحد رجال الدعوة البارزين من أهل‬
‫القرآن واإلحسان عن احلسن البنا‪« :‬وقد جتلت عبقـرية الداعي مع‬
‫كثرة جوانب هذه العبقرية وجماالهتا يف ناحيتني خاصتني ال يشاركه‬
‫فيهما إال القليل النادر من الدعاة واملربني والزعماء واملصلحني (قال‬
‫يف اهلامش‪ :‬وكان من هذا القليل النادر الشيخ حممد إلياس الدهلوي‬
‫الشيخ حممد‬
‫ُ‬ ‫منشئ دعوة التبليغ وحركتـها يف اهلند وجنلُه وخليفته‬
‫يوسف املتـوىف قريبا رضي اهلل عنهما وأرضامها فقد كانا مثـالني فذين‬
‫يف هـاتني الناحيتـني كلتيهما)‪.‬‬
‫أُوالمها َشغَ ُفهُ بدعوته‪ ،‬وإميانه واقتناعه هبا‪ ،‬وتفانيه فيها‪ ،‬وانقطاعُه‬
‫إليها جبميع مواهبه وطاقاته ووسائله‪ .‬وذلك هو الشرط األساسي‪،‬‬
‫اخلري‬
‫الس َمةُ الرئيسية للدعاة والقادة الذين ُيري اهلل على أيديهم َ‬ ‫و ِّ‬
‫الكثري‪.‬‬
‫والناحيةُ الثانية تأثريه العميق يف نفوس أصحابه وتالميذه‪،‬‬
‫ومرب‬
‫وجناحه املدهش يف الرتبية واإلنتاج‪ .‬فقد كان منشئ جيل‪َِّ ،‬‬
‫ُ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫شعب‪ ،‬وصاحب مدرسة علمية فكرية ُخلُقيَّة‪ .‬وقد أثَّر يفَ‬
‫‪117‬‬ ‫العلماء املربون‬

‫ميول من اتصل به من املتعلمني والعاملني‪ ،‬ويف أذواقهم‪ ،‬ويف مناهج‬


‫تفكريهم‪ ،‬وأساليب بياهنم‪ ،‬ولغتهم‪ ،‬وخطابتهم‪ ،‬تأثريا بقي على مر‬
‫السنني واألحداث‪ .‬وال يزال ِشعارا ِ‬
‫وسَةً يعرفون هبا على اختالف‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫املكان والزمان»‪.1‬‬
‫وكتب عنه مفيت القدس حممد أمني احلسيين رمحه اهلل‪« :‬بينما كان‬
‫املالحدة ودعاة اإلباحية ومروجو الفكرة الشعوبية (القومية العلمانية)‬
‫يهامجون اإلسالم‪ ،‬وينشرون مسومهم وضالالهتم يف خمتلف األوساط‬
‫يف األقطار املصرية والعربية‪ِ ،‬وباصة بني طلبة اجلامعات واملعاهد‬
‫العليا‪ ،‬برز املرحوم (إن شاء اهلل) الشيخ حسن البنا يف وسط الشعب‬
‫املصري املؤمن كما تربز الشمس من بني السحب الداكنة‪ ،‬داعيا أمته‬
‫وبالده واملسلمني مجيعا إىل العمل بالقرآن الكرمي‪ ،‬وتطبيق أحكامه‬
‫السامية‪ ،‬وآدابه الرفيعة‪ ،‬واالستمساك بسنة النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يف كل شأن»‪.2‬‬
‫وكتب سيد قطب رمحه اهلل‪« :‬وعبقرية البنا (تتجلى) يف‬
‫جتميع األمناط من النفوس ومن العقليات ومن األعمار ومن‬
‫البيئات‪ .‬جتميعُها كلها يف بناء واحد (‪ )...‬وطبعُها كلِّها بطابع‬
‫واحد يُعرفون به مجيعا‪ ،‬ودفعُها كلّها يف اجتاه واحد‪ ،‬على‬

‫‪ 1‬مقدمة كتاب «مذكرات الدعوة والداعية» للشيخ حسن البنا‪.‬‬


‫‪« 2‬الشهيد حسن البنا» كلمات تأبينية ص‪.19‬‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪118‬‬

‫تبايُ ِن املشاعر‪ ،‬واإلدراكات‪ ،‬واألعمار‪ ،‬واألوساط‪ ،‬يف ُربْ ِع قرن من‬


‫الزمان»‪.1‬‬
‫وكتب األستاذ حممد الغزايل متحدثا عن اإلمام البنا‪« :‬لقد‬
‫عاد القرآن غضا طريا على لسانه‪ ،‬وبدت وراثة النبوة ظاهرة‬
‫سرت يف‬
‫يف مشائله‪ .‬ووقف هذا الرجل الفذ صخرًة عاتيَةً ْان ْ‬
‫اج املادية الطاغية‪ .‬وإىل جانبه طالئع اجليل اجلديد‬
‫سفحها أمو ُ‬
‫الذي أفعم قلبَه ُحبّا لإلسالم واستمساكاً به (‪ .)...‬لقد عاش‬
‫ت يف فراشه الوثري منها‬‫على هذه األرض أربعني عاما‪ ،‬مل يَبِ ْ‬
‫ٍ‬
‫حلظات حمدودة‪،‬‬ ‫ليايل معدودة‪ .‬ومل تره أسرتُه فيها إال‬
‫إال َ‬
‫والعمر كله بعد ذلك سياحةٌ إلرساء دعائم الربانية‪ ،‬وتوطيد‬
‫أركان اإلسالم‪ ،‬يف عصر غفل فيه املسلمون‪ ،‬واستيقظ فيه‬
‫االستعمار» ‪.2‬‬
‫أمساع العامل بنداء‬ ‫َ‬ ‫الرجل الفذ الذي أفعم‬‫ُ‬ ‫أين تـََرَّب هذا‬
‫اإلسالم‪ ،‬ومجع اهلل حوله القلوب‪ ،‬وغري به األفكار و«عاد القرآن‬
‫العال احملدِّث‪ ،‬وتعلَّم‬‫غضا طريا على لسانه»؟ تعلم على أبيه ِ‬
‫يف املدارس ككل الناس‪ .‬لكن الرتبية القلبية اليت تـَُر ِّس ُخ اإلميان‪،‬‬
‫وتسمو بالروح ملعارج اإلحسان‪ ،‬تلقاها على يد أهل الطريق‪ ،‬كما‬
‫ايل وما ال ُيصى من علمائنا العاملني‪ .‬وقد أدى رمحه‬ ‫تلقاها الغز ُّ‬

‫‪ 1‬نفس املصدر ص‪.157‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص‪.60‬‬
‫‪119‬‬ ‫العلماء املربون‬

‫اهلل أمانة الشهادة ألهل الذكر بأهنم معد ُن الفضل‪ ،‬ووصف‬


‫دعوتَه بأهنا «حقيقة صوفية» وجعل من املنجيات حمبة اإلخوان‬
‫وذكر الوظيفة‪.‬‬
‫«سألت عن ُمق ّدم اإلخوان (الصوفية‬
‫ُ‬ ‫كتب رمحه اهلل يف مذكراته‪:‬‬
‫احلصافيني) فعرفت أنه الرجل الصاحل التقي الشيخ بسيوين العبد‬
‫العه ِد عليه ففعل (‪ )...‬وجزى اهلل‬
‫التاجر‪ .‬فرجوته أن يأْ َذ َن يل بأخذ ْ‬
‫ُ‬
‫عنا السيد عبد الوهاب فقد أفادتين صحبتُه أعظَ َم الفائدة» ‪ .‬يقول‬
‫‪1‬‬

‫هذا رجل ال يعرف التزيد يف الكالم‪.‬‬


‫وانتقد رمحه اهلل ما علِ َق بالتصوف من أدعياء وما ظهر فيهم من‬
‫بِ َدع وخرافات‪ .‬لكنه نصح األمة كما نصح الغز ُّ‬
‫ايل إذ قال‪« :‬وهذا‬
‫القسم من علوم التصوف‪ ،‬وأمسيه «علوم الرتبية والسلوك»‪ ،‬ال شك‬
‫ب اإلسالم وصميمه‪ .‬وال شك أن الصوفية قد بلغوا به مرتبة‬ ‫أنه ِم ْن لُ ِّ‬
‫قي هبا‪ ،‬مل يبلغ إليها‬‫الر ِّ‬
‫الطب هلا‪ ،‬و ُّ‬
‫من عالج النفوس ودوائها‪ ،‬و ِّ‬
‫غريُهم من املربني»‪.2‬‬
‫واقرأ نقده الصريح‪ ،‬نقد خبري‪ ،‬للفلسفة الدخيلة‪ ،‬وخلط‬
‫الدين مبا ليس منه‪ ،‬وفتح الثغرات بذلك للزندقة واإلحلاد وفساد‬
‫العقيدة‪ .‬واقرأ نصيحته بوجوب التدقيق يف هذا األمر الختالط‬

‫‪ 1‬املذكرات‪ ،‬الطبعة الثانية ص‪.14-13‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر ص‪.15‬‬
‫رجال القومة واإلصالح‬ ‫‪120‬‬

‫الصادقني باملموهني واحملرتفني واألدعياء طالب الدنيا مبظاهر‬


‫الصالح يف «مذكرات الدعوة والداعية»‪.‬‬
‫اللهم صل على سيدنا حممد النيبء األمي وأزواجه أمهات املؤمنني‬
‫وذريته وأهل بيته كما صليت على آل سيدنا إبراهيم إنك محيد جميد‪.‬‬
‫الفهرس‬
‫بني يدي الكتاب ‪3 . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫الفصل األول‬
‫القومة ومشروعيتها‬
‫القومة والثورة ‪7 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫«وأويل األمر منكم» ‪8 . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫اح‪10. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫الكفر البَو ُ‬
‫‪13‬‬ ‫اخلارج من أهل البغي ‪ . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫بل القاعد شريك يف اجلرمية ‪15 . . . . . . . . . . . .‬‬
‫املنكر األنكر! ‪18 . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫قطع حبال الفتنة‬
‫من مل يهتم ‪23 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫دين اجلهاد ‪26 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫دولة القرآن ‪30 . . . . . . . . . . . . . . . . . . .. .‬‬
‫القومة اإلسالمية ‪32 . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫من القومة املسلحة إىل االحتجاج الصامت‬
‫دعاة إىل اهلل ‪41 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫األمة مع املصلحني ‪45 . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫ترف ‪46 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫الصحابة يقاومون الفتنة‬
‫أمري املؤمنني عثمان ‪57 . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫اإلمام علي ‪59 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫الفصل اخلامس‬
‫القائمون من آل البيت عليهم السالم‬
‫اإلمام احلسن السبط ‪65 . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫اإلمام احلسني السبط‪67 . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫اإلمام علي زين العابدين ‪70 . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫اإلمام حممد بن علي الباقر ‪71 . . . . . . . . . . . .‬‬
‫اإلمام جعفر الصادق ‪73 . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫اإلمام زيد بن علي‪74 . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫‪75‬‬ ‫اإلمام حممد النفس الزكية‪ . . . . . . . . . . . .‬‬
‫الفصل السادس‬
‫علماء يف بساط امللوك‬
‫احلسن البصري ‪81 . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫الفضيل بن عياض‪83 . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫اإلمام أمحد بن حنبل‪85 . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫الفصل السابع‬
‫العلماء املربون‬
‫العارفون باهلل ‪93 . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫شيخ اإلسالم يُدافع عن الطريق‪97 . . . . . . . . . .‬‬
‫ايل ‪101 . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬ ‫اإلمام الغز ّ‬
‫الشيخ عبد القادر اجليلي ‪106 . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫رجال صدقوا ‪109 . . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬
‫اإلمام حسن البنا ‪113 . . . . . . . . . . . . . . . . . .‬‬

You might also like