Professional Documents
Culture Documents
رجال القومة والإصلاح
رجال القومة والإصلاح
القومة والثور ة
«وأويل األمر منكم»
اح
الكفر البَو ُ
اخلارج من أهل البغي
بل القاعد شريك يف اجلرمية
املنكر األنكر !
7 القومة ومشروعيتها
القومة والثورة
1اجلن.19 ،
2النساء.127 ،
3املائدة.8 ،
4النساء.135 ،
رجال القومة واإلصالح 8
1النساء.59 ،
9 القومة ومشروعيتها
ندعو إليه من منابذة حكام اجلرب يف عصرنا .فنحن نقلد اهلل ورسوله
وال نتقيد بأقوال الرجال وآرائهم .سيما وحكامهم الفاسقون كانوا
يزعمون احرتام الشرع ،بينما ال جتد من بني طواغيتنا إال كل عُتُ ٍّل
َزنيم ،إذا تتلى عليه آيات ربه قال أساطري األولني .سيما وحكام
تلك العهود ما صادقوا ووالَ ْوا املشركني ،بل حاربوهم ،بينما حكام
وخد َمةً ملصاحله.
اجلرب بني ظَ ْهرانـَْينا أصبحوا مطية لالستعمار َ
الكفر البواح
أخرج اإلمام أمحد والشيخان عن عُبادة بن الصامت أنه حدَّث
يف مرضه قال« :دعانا النيب صلى اهلل عليه وسلم فبايعناه .فقال
وم ْكَرِهنَا، فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة يف م َ ِ
نشطنَا َ َ
وعُسرنا ويُسرنا ،وأثـََرٍة علينا ،وأن ال ننازع األمر أهله (عند أمحد
زيادة :نقول باحلق حيثما كنا ال خناف يف اهلل لومة الئم)« :إال أن
تروا كفراً بَواحا عندكم من اهلل فيه برهان».
قال احلافظ ابن َحجر« :قال اخلطايب :معىن قوله بَواحا يريد
ظاهرا باديا ،من قوهلم باح بالشيء يبوح به بوحا وبواحا إذا أذاعه
صراحا» .ورواية ابن
وأظهره» .وذكر رواية الطرباين وفيها «كفرا ُ
حبان وفيها« :إال أن يكون معصية هلل بَواحا» .ورواية أمحد من
11 القومة ومشروعيتها
طريق ُجنادة« :ما مل يأمروك ٍْ
بإث بو ٍاح» .رواية إمساعيل ابن عبيد
عند أمحد والطرباين واحلاكم عن إمساعيل بن عبيد عن أبيه عن
رجال يـَُعِّرفونكم ما تُنكرون
أموركم من بعدي ٌ ِ
«سيَلي َ عُبادةَ :
ويُنكرون ما تـَْع ِرفون .فال طاعةَ لِ َم ْن عصى اهلل» .ورواية أيب بكر
وابن شيبة من طريق أزهر بن عبد اهلل عن عبادة« :سيكون عليكم
أمراء يأمرونكم مبا ال تعرفون ،ويفعلون ما تُنكرون ،فليس ألولئك
عليكم طاعة».
مث قال احلافظ« :قوله عندكم من اهلل فيه بُرهان ،أي نص آية
أو خرب صحيح ال حيتمل التأويل .ومقتضاه أنه ال جيوز اخلروج
عليهم ما دام فعلُهم حيتمل التأويل .قال النووي :املراد بالكفر
هنا املعصية .ومعىن احلديث :ال تُنازعوا ُوالة األمور يف واليتهم،
وال تعرتضوا عليهم إال أن تروا منهم ُمنكرا حمققا تعلمونه من
قواعد اإلسالم .فإذا رأيتم ذلك فأنكروا عليهم ،وقولوا باحلق
أينما كنتم .انتهى .وقال غريه :املراد باإلمث هنا املعصية والكفر،
فال يـُْعتـََرض على السلطان إال إذا وقع يف الكفر الظاهر .والذي
يظهر َحْ ُل رواية الكفر على ما إذا كانت املنازعة فيما عدا
الوالية .فال ينازعه مبا يقدح يف الوالية إال إذا ارتكب الكفر.
وحْ ُل رواية املعصية على ما إذا كانت املنازعة فيما عدا الوالية .فإذا
َ
مل يقدح يف الوالية نازعه يف املعصية بأن ينكر عليه برفق ،ويتوصل
رجال القومة واإلصالح 12
إىل تثبيت احلق له بغري عنف .وحمل ذلك إذا كان قاد را.
واهلل أعلم» .1
تلخص لنا أن:
- 1حديث الشيخني جيعل الطاعة واجبة ما مل يكن كفر
بواح ،أي ظاهر باد.
- 2زيادة اإلمام أمحد جتعل معارضة احلاكم واجبة إن
كفر وال معصيةٌ.
خالف احلق .ومل يُ ْذ َك ْر هنا ٌ
- 3رواية ابن حبان تسقط الطاعة يف حالة املعصية
البواح يرتكبها احلاكم.
- 4رواية أمحد عن جنادة تسقطها إن أمر احلاكم الناس
بإمث بواح.
- 5رواية أيب بكر وابن شيبة تنفي الطاعة للحاكم الذي
يأمر باملنكر وينهى عن املعروف من الدين.
- 6النووي يفسر الكفر البواح يف حديث الشيخني بأنه
املعصية .وهكذا تلتقي معاين هذه الروايات.
- 7رأي ابن حجر أن الكفر البواح ُي ُيز منازعة احلاكم
خللعه .فإن كانت معصيةً دون الكفر وجب الرد عليه برفق.
كل ذلك ملن قدر.
ونقل ابن حجر عن الداودي أنه قال« :الذي عليه
العلماء يف أمراء اجلَ ْور أنه إن قدر على خلعه بغري فتنة وال
ظلم وجب .وإال فالواجب الصرب» .1هذا اخلوف من الفتنة
أجلم العلماء ،وشلواستبدال ظامل بأظلم منه هو الذي َ
فاعليتهم يف تارخينا .وكيف ميكن خلع حكم عاض قائم
الصرب
َ علماؤنا
ُ ورجح
على السيف دون مقارعة يف امليدان؟ َّ
على الداء العُضال الذي َنََر يف جنب األمة ،يُفضلونه على
االنتفاضة اليت ال ميكن التنبؤ بنتائجها .وكانت القومات
املسلحة استثناء من هذه القاعدة .بينما تكاثرت ثورات
الضالَّل وخاطيب َّ
الزعامات. الفتانني من ُّ
اخلارج من أهل البغي
جند التمسك بالنظام القائم أجلى ما يكون عند رجل عُ ِر َ
ف
مبواقفه الصارمة يف األمر باملعروف والنهي عن املنكر .يقول
«مجهور العلماء
ُ شيخ اإلسالم تقي الدين بن تيمية رمحه اهلل:
ميني امل ْكَرِه بغري حق ال ينعقد ( ،)...وهذا مذهب يقولونُ :
الناس على ما جيب
ويل األمر َ مالك والشافعي وأمحد .مث إذا أَ ْكَرَه ُّ
1الفتاوي ج 35ص.11
2نفس املصدر ص.12
15 القومة ومشروعيتها
وشر ِ
ب اخلمور ،وحن ِو ذلك ،فهل يوجب َخ ْل َعهُ أم ال؟ ذكر شيخنا ُْ
أبو عبد اهلل يف كتابه عن أصحابنا أنه ال ُيْلَ ُع بذلك وال جيب اخلروج
وترك طاعته يف شيء مما يدعو عليه .بل جيب وعظُه ،وختوي ُفهُ ،
إليه من معاصي اهلل تعاىل ،خالفا للمعتزلة واألشعرية يف قوهلم ُيْلَع
بذلك».1
موقف العلماء -خاصة «أصحاب» القاضي أيب يعلى احلنبلي
املذهبيني -هذا املخالف لصريح السنة هو الذي هاض جناح األمة.
موفور الكرامة ،إال ما يُ ْس َدى إليه من َوعظ،
اجب الطاعةُ ، فاحلاكم و ُ
ترك طاعته يف «بعض» ما يدعو إليه من معصية اهلل .ال جتب وإال ُ
مناب َذتُه ولو قتل األبرياء ،وابتز األموال ،وهتك احلَُرم!
املنكراألنكر!
علماؤنا املتأخرون تغَ َّذ ْوا بأخبار الفتنة ال ُكربى ،واالنكسار
ُ
التارخيي ،وسقوط بغداد ،والغزو الترتي ،واالستبداد العسكري،
مهددة يف روحها ،جمزأة إىل إمارات وعاشوا أزمانا كانت وحدةُ األمة َ
ومذاهب متناحرة .فانعكسكل هذا على فكرهم حىت أصبحوا َ متصارعة،
أس َوأ منها.
ال يتصورون أن هناك مَْرجا ممكنا من تلك احلال إال إىل ْ
لذلك حاولوا احلِفا َظ على ما ميكن احلفا ُظ عليه من أسباب
ايل
الوحدة ،بل من أسباب وجود األمة واستمرارها .وما حديث الغز ِّ
عن وجوب مساندة صاحب الشوكة الظامل إال مقدمة ملا أصبح
بعد ذلك أصال معتمدا عند الفقهاء .يقول اإلمام ابن القيم رمحه
إجياب إنكار املنكراهلل« :إن النيب صلى اهلل عليه وسلم شرع ألمته َ
ليحصل بإنكاره من املعروف ما حيبه اهلل ورسوله ،فإذا كان إنكار
أبغض إىل اهلل ورسوله ،فإنه ال يسوغأنكر منه و ُاملنكر يستلزم ما هو ُ
إنكاره ،وإن كان اهلل يبغضه وميقت أهله .وهذا كاإلنكار على امللوك
الوالة باخلروج عليهم .فإنه أساس كل شر ،وفتنةٌ إىل آخر الدهر».1 وُ
ولعل تلك األزمنة املضطربة امتازت بالعنف والبأس الشديد بني
طالب اإلمارة حىت غاب مفهوم ال َق ْوَم ِة عن عقول الفقهاء ،وفقد
القائمون باحلق ،فلم تر الساحة إال ثوارا باملعىن اإلسالمي للثورة وهي
اخلروج غري الشرعي.
من مل يهتم...
ال أخطر على األمة من مخول أبنائها ،ورضاهم الصامت بدين
االشتغال عن األمر العام بسفاسف ُ االنقياد ،حىت يصبح من أصوهلم
احلياة اليومية .وال تزال تسمع اليوم من يوصيك أن ال تشتغل مبا
النازل
الضْي ُم ُ
ال يعنيك ،وما ال يعنيك هو سياسة أمتك .ال يعنيك َ
ائمها ،ال تعنيك املؤامرة اليهودية الصليبية عليها. عليها ،ال يعنيك هز ُ
ال يعنيك احلكام اخلونة وعبَ ُثهم مبصريها.
إن عامة أمتنا ال تزال نائمة من أثَِر ُسبات القرون ،استقالت
أمام احلكم الفردي عن حقها وواجبها يف تصريف شؤوهنا .فاحلكام
اليوم سادة من فوق رؤوس األمة ،ال ينازعهم إال أحزاب سياسية َ
تنتظم فيها األجيال اليت انقطعت صلتُها بالدين .وتسعى الطبقة
السياسية املتمكنة يف أجهزة الدولة واإلدارة أن تـُْب ِق َي احلركة اإلسالمية
وتفص َل بينها وبني عامة وتفسد مسعتهاِ ، َ على هامش ما جيري،
كل وسائل احملاصرة .مستعينة يف األمة بالبهتان املفرتى ،والتهديد ،و ِّ
ذلك ومتعاونة مع قوى اجلاهلية املتألبة على اإلسالم .تلك القوى
ومعنوي من
ٍّ اليت تقودها اليهودية العاملية بتفاهم كامل ،وسنَ ٍد ٍّ
مادي
جانب الدول الكربى.
إهنا حرب على اإلسالم وأهل اإلسالم .وكل مواجهة ال بد هلا
من تعبئة .وقد آن لألمة أن هتتم مبصريها وراء قيادهتا الطبيعية ،وأن
رجال القومة واإلصالح 24
ُ 1كتب هذا واجلهاد األفغاين يف عنفوانه وانتصاره .مث استيقظت القبلية واخلالفات ،وتقاتل
املسلمون .وإنه ال حول وال قوة إال باهلل.
31 قطع حبال الفتنة
إعالن بيان .يكفيه أن ينتقد املفسدين ويبني احنرافهم عن القرآن
والسنة .وكان النهي عن املنكر الذي أنكره القائمون بالسيف
هو الربنامج واخلطة .فمىت اهنزم املفسدون ،وطهرت األرض من
رجسهم ،عاد شرع اهلل إىل ما تعرفه األمة .واليوم اختلط املنكر
ِ
القاعد عنه أهله .فال يكفي املفروض بالقهر باملعروف املْنسي
أن يُطَْرَد اجملرمون .ومن حيتل الكراسي ،ويُصدر بيانات القومة،
لن يوثق بإسالمه إن مل يأت معه مبنهاج ينكر املنكر ،ويعرف
املعروف ،ومبشروع جمتمعي يوضح كيف يغري املنكر باملعروف .مث
ال يكفي ذلك حىت يربهن رجال السلطان اجلديد بأهنم جادون
فيما هم مقدمون عليه ،قادرون على إجناز املهمات وقيادة األمة.
كل عنف ،وكل انقضاض على السلطة، سمى اليوم ثورةً ُّيُ َّ
وكل استبدال لوجوه بوجوه ،ولشرطة بشرطة ،ولعصبية بعصبية.
وال تلبث الوجوه اجلديدة بعد مرحلة تصفية اخلصوم أن تدخل
يف مرحلة التصفيات بينها .ويعود البالء أسوأ مما كان .والقومة
اإلسالمية لن تكون قومة وال إسالمية إال بقدرة رجاهلا على
التماسك فيما بينهم ليواجهوا االحنالل وإغراءه .لن تكون
كذلك إال بقدرهتم على إبطال الباطل وإحقاق احلق .وسريثون
اخلراب والفراغ واهلياكل النخرة .فما أشق املهمة !
ند هذهال مكان للكساىل وعشاق اجلاه والسلطان بني ج ٍ
ُ
رجال القومة واإلصالح 32
عن عبد اهلل بن مسعود قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
علماؤهم فلم ينتهوا. ُ «لَ ّما وقعت بنو إسرائيل يف املعاصي هنتهم
فجالسوهم يف جمالسهم-قال يزيد :أحسبـه قال :وأسواقهم-
قلوب بعضهم ببعض ،ولعنهم وشاربوهم .فضرب اهلل َ ووا َكلوهم َ
على لسـان داود وعيسى بن مرمي .ذلك مبا عصوا وكانوا يعتدون».
وكان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم متكئا فجلس فقال« :ال
روهم على احلق أطرا»! .احلديث رواه ِ
والذي نفسي بيده !حىت تأط ُ
الرتمذي وحسنه.
تأطُروهم على احلق .أمة حية مشاركة تضربوهم على احلقِ ،
جماهدة.
وجاء عند عبد بن محيد حديث رواه عن معاذ بن جبل،
فيه عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إن رحى اإلسالم
ستدور ،فحيثما دار القرآن فدوروا معه .يوشك السلطـان والقرآن
أن يقتتال ويتفرقا ! فإنه سيكون عليكم ُملوك حيكمون لكم
1املائدة ،اآليتان.79-78:
35 قطع حبال الفتنة
حبكم وهلم بغريه .فإن أطعتموهم أضلوكم ،وإن عصيتموهم قتلوكم.
قالوا :يا رسول اهلل ! فكيف بنا إن ْأد َركنا ذلك؟ قال :تكونون
موت
ورفعوا على اخلُ ُشب ! ٌ كأصحاب عيسى :نُشروا باملناشري ُ
ص يف بين ٍ
يف طاعة خري من حياة يف معصية ! إن أول ما كان نـََق َ
إسرائيل أهنم كانوا يأمرون باملعروف وينهون عن املنكر ِشْبهَ التعزير.
فكان أحدهم إذا لقي صاحبه الذي كان يعيب عليه آ َكلَهُ َو َش َاربَهُ،
كأنه مل يعب عليه شيئا .فلعنهم اهلل على لسان داود ،وذلك مبا
لتامُر َّن باملعروف َ
ولتنه ُون عصوا وكانوا يعتدون .والذي نفسي بيده ُ
ِ
خياركم فال عن املنكر أو ليسلطَن اهلل عليكم شراركم ،مث ليَدعُ َو َّن ُ
ولتنه ُو َّن عن
لتام ُر َّن باملعروف َ
يستجاب هلم .والذي نفسي بيده ُ
أطُرنَّه عليه أطرا أو ليضربن اهلل املنكر ولتأخ ُذ َّن على يد الظامل فلَتَ ِ
ُ
بعضكم ببعض».
مقاومةُ الظلم حىت املوت ولو نشراً باملناشري واجب الطليعة
وجناحها يف بناء األمة ِ
ومحل َ اجملاهدة .لكن إقامة دولة القرآن
روح املقاومة يف عامة األمة حىت يصبح بسَريان ِ
رهن َ الرسالة ٌ
املعروف سيدا ،واملنكر مرذوال مطرودا على كل املستويات ،ويف كل
امليادين .استعملت كلمة «طليعة» وهي مقدمة اجلند اجملاهد .ويف
البخاري« :باب فضل الطليعة» .فاستعمالنا هلا حيمل هذه املعاين
اجلهـادية ،ال شركة له مع تعابريهم العصرية النضالية إال يف اللفظ.
رجال القومة واإلصالح 36
« 1رجال الفكر والدعوة يف اإلسالم» ،الطبعة الثالثة ،دار القلم الكويتية ص.26
43 من القومة املسلحة إىل االحتجاج الصامت
أهل املصر ،و ْأو ِع ْدهم العقوبةَ يف األبْشا ِر ،واستصفاءَ األموال.
ـف معه إال فإن من له َعق ٌد أو َعهد منهم سيبطئ عن زيد ،وال َِي ُّ َّ
فبادرهم بالوعيد، الرعاع وأهل السواد ومن تـْن ِهضه احلاجة (ِ )...
ُ ُ ُ َّ َ
اف
أخـف األشر َ ضهم بِسوطك ،وجرد فيهم سيفك ،و ِ
ض ُْ َْ و ْاع ُ
الس ْفلَ ِة».1
واألوساط قبل ِّ
األشراف األغنياء خيافون مبجرد التهديد .أما سو ُاد األمة
ويََّرُد فيهم
«الرعاع» فهم املستضعفون الذين َيعضُّهم السوطُ ،
الس ْفلَة» دليل على أن اف قـَْبل ِّ
«أخف األشر َالسيف .ويف قولهِ :
ودليل
ٌ صفوف األمة، َ دعوَة اإلمام زيد مجعت على كلمة واحدة
امللوك مفسدون يف األرض ،إذ يفرقون األمة طبقات على أن َ
ليستندوا إىل فئة املستكربين.
كان امللوك قد بلغوا من الرتف واالستعالء على األمة ما
جعلهم ينظرون إىل األمة نظرهتم إىل «الرعاع» ،وحياة «الرعاع»،
وحقوق «الرعاع» .كانوا مرتفني مات فيهم الشعور الديين وحس
اإلنسانية .فال أ ْكَرَه عندهم ممن ينـزل لألمة يواسيها يف آالمها
ويقودها لكرامتها.
ترف
منذ أن ولّت اخلالفة الراشدة واستقرت عاصمة امللك يف
العقا ِرُ ،م َس َّو َغةً ملن حصلت يف يده .يقع يف يد كل واحد منهم ما وَ
ت .وفرق على الطبقة الثانية بِ َدر الدنانري ،ويف َّأداه إليه االتفاق والبَ ْخ ُ
كل بِ ْد َرٍة عشرة آالف .وفرق على الطبقة الثالثة بِ َد َر الدراهم كذلك.
أضعاف ذلك .ومنه أن املأمون َ قام ِـة املأمون بداره
بعد أن أنفـق يف ُم َ
ف حصاة من الياقوت ،وأوقد مشوع أعطاها يف َمهرها ليلة زفافها ألْ َ
العنرب ،يف كل واحدة مائةُ َم ٍّن ،وهو رطل وثلثان .وبسط هلا فراشا
ُّر والياقوت)...( . كان احلصريُ منها منسوجا بالذهبُ ،م َكلَّالً بالد ِّ
وأع َّد بدار الطبخ من احلطب لليلة الوليمة نـ ْقل ٍ
مائة وأربعني بغال مدةَ َ َ َ
ن احلطب لليلتني ( ،)...وأوعز ِ
عام كامل ثالث مرات كل يوم .وفَ َ
اص من الناس». 1 الس ُف ِن إلجازة اخلََو ِّ إىل النُّواتيَ ِة بإحضار ُّ
طبقات مرتفة وقصور وخواص من الناس .وجبانب هذا البؤس
األسود.
ضد هذه البيئة الفاسدة حترك القائمون واملصلحون غضبا هلل
عز وجل على من أضاعوا الدين ،ونُصرًة للمظلومني املستعبَدين.
ي هامشي) الكوفةَ يسأل عن «جاء حممد بن إبراهيم (رجل علَ ِو ٌّ
ويتج َّس ُس َها ويتأهب ألمره( .سيأيت ذكر قومة أبيه أخبار الناس َ
إبراهيم إن شاء اهلل) ويدعو من يثق به إىل ما يريد .حىت اجتمع
له بشر كثري .وبينما هو يوما ميشي يف بعض طرق الكوفة إذ نظر إىل
ب فتلتقـط ما يسقـط منها فتجمعه يف الرطَ ِ
ـال ُّ
امرأة َعجوز تـَْتبَع أمح َ
رجل يل ٍ
ث .فسأهلا عما تصنع .فقالت :إين امرأة ال َ كساء عليها َر ٍّ
ت
يقوم مبَؤونَيت .ويل بنات صغريات .فأنا أتبع هذا من الطريق وأتـََق َّو ُ
أنت واهلل وأشباهك خترجونين به أنا وبنايت .فبكى بكاء شديدا وقالِ :
ك دمي !» .1 غدا (يعين يف القومة) حىت يُ ْس َف َ
نسجل هنا أن «الرتف» مذموم يف القرآن .واملرتفون هم
املستكربون .فباعتبار مجعهم للمال واحتكارهم لألرزاق هم مرتفون.
وباعتبار استعـالئهم على الناس واستئثارهم باجلاه والسلطان هم
مستكربون .وقد قرأنا يف نص ابن خلدون احلديث عن الطبقات
وعن خاصة الناس يف ذلك اجملتمع امللَ ِك ِّي .هذه مفاهيم يُفيدنا أن
منيز مدلوالهتا اإلسالمية لنستعملها االستعمال الذي خيدم بَال َغنَا.
قبل ،أن يف الناس ذكر ابن خلدون ،كما ذكر مؤرخو َن من ُ
طبقات .مل يعتربوا يف إطالق هذه التسمية إال املكانة االجتماعية ٍ
االقتصادية السياسية .أما يف القرآن فاملرتفون املستكربون قوم
حتالف
َ ليستولُوا على االقتصاد ،أو العكس ،أو استغلوا السلطان ْ
أصحاب املال مع أصحاب السيف .هذه طبقية ككل الطبقيات ُ
1نقل النصني عن الطربي حمب الدين اخلطيب يف حاشية «العواصم من القواصم» ص.121
رجال القومة واإلصالح 58
مع أمثال هؤالء تعامل اإلمام الشهيد عثمان رضي اهلل عنه.
دسهم ِ
اجتمعوا عليه يف املدينة وشكوا إليه ظلم غ ْلمة قريش الذين ّ
املنفي
«أن َّ يف األمصار مروا ُن بن احلكم .وأعطاهم ميثاقا مكتوبا َّ
عد ُل يف ال َق ْس ِم ،ويُستعمل احملروم يُعطَى ،ويـَُوفـَُّر الفيءُ ،ويُ َ
يعود ،و َ ُ
ذوو األمانة والقوة» . 1فرجعوا راضني .فتعرض هلم يف الطريق غالم
يلحق هبم مث يفتـرق معهم مث يلحق .مناورةٌ هدفها أن يسرتيبوا منه.
فلما َش ُّكوا يف حركته وسألوه ،زعم أنه رسول أمري املؤمنني إىل عامل
عامل مصر أن خبات عثمان يأمر ِ مصر .فوجدوا معه كتابا خمتوما َ
ويقطع أيْديَهم وأرجلهم .دسيسةُ حاشية ال تريد اإلصالح َ يصلبهم
ب يف امليثاق. ِ
الذي ُكت َ
اإلمام الشهيد جاءه رجل منهم َ فلما رجعوا للمدينة وحاصروا
ت دمك !» قال« :خذ ُجبَّيت !» .فشرط فيها َش ْرطَةً فقال« :ن َذ ْر ُ
بالسيف أراق منه دمه .وبـََّر بقسمه فارحتل.
صَرتَهُ.ودخل على عثمان يف الدار رجال من املهاجرين واألنصار يريدون نُ ْ
يده وسالحه. كل من رأى أن عليه مسعا وطاعة إالكف َ «أع ِزُم على ِّ فقالْ :
احلسن بن علي عبد اهلل بن عمر ِ
ط الرسول اإلمام ُ وسْب ُ وكان ممن جاء ينصره ُ ُ
صرهُ بالسالح فقالوا« :إن شئت رضي اهلل عنهما .وجاءه األنصار يقرتحون نَ َ
قبائل
أصوب قوال .ألن عليا لو تعاطى ال َق َوَد منهم لتعصبت هلم ُ و َ
وصارت حرباً ثالثة .فانتظر هبم أن يستوثق األمر وتنعقد البيعة العامة
ويقع الطلب من األولياء (أولياء الدم) يف جملس احلكم فيجري
القضاء باحلق .وال خالف بني األمـة أنه جيوز تأخري القصاص إذا
أدى ذلك إىل إثارة الفتنة أو تشتيت الكلمة». 1
صار «قميص عثمان» راية اختـذوها ِستارا وأدا َة حتريض .ويصف
علي الفتنة لطلحةَ والزبري لَ َّما جاءاه يعرضان عليه البيعة إن اإلمام ٌّ
أجهل لست ِ
ُ استقاد من قـَتـَلَة عثمان ،فيقول« :يا إخوتاه ! إين ُ
أصنَع بقوم ميلكونا وال منلكهم .ها هم ما تعلمون ،ولكن كيف ْ
وهم ِخاللَكم ت إليهم أعرابُكمُ ، قد ثارت معهم عُْبدانُكم ،وثابَ ْ
يسومونكم ما شاءوا .فهل ترون موضعا لقدرة على شيء مما تريدون؟
علي :فال واهلل ال أرى إال رأياً تـََرْونَهُ !
قالوا مجيعا :ال ! قال سيدنا ُّ
إن الناس من هذا األمر إ ْن ُحِّرَك على أمور :فرقةٌ ترى ما ترون ،وفرقةٌ َّ
ترى ما ال ترون ،وفرقة ال ترى هذا وال هذا حىت يهدأ الناس ،وتق َـع
القلوب مواقعها ،وتـُْؤخ َذ احلقوق». 2
وجاءت بعد كارثة قتل اإلمام عثما َن كارثتان عظيمتان مها
حربا اجلمل وصفني .مات فيهما وجرح عشرات اآلالف .وكان قلب
اإلمام علي يبكي على تلك املآسي اليت ال خمرج منها .هو هو أبو
صاحب الرأي املوفَّق الذي كان عمر يقول فيه« :لوال ٌّ
علي ُ احلسن
ك عمر».
هلَلَ َ
ف اإلمام املسـؤول عن كل صُّر َ
فتصرف فيها تَ َ
جاءت الدواهي َّ
املسلمني ولو حاربوه .أوصى جيشه قبل اجلَ َمـل قال« :إذا هزمتموهم
فال تقتلوا ُمدبِرا ،وال ُْت ِهزوا على جريح ،وال تَ ْك ِشفوا َع ْوَرًة» .وصلى
وترحم عليهم .وملبعد النصر على املسلمني من اجلانبني ،ودفنهم َّ
يأخذ من أموال املهـزومني شيئا بل نادى عليها يف مسجد البصرة،
وردها إىل أصحاهبا.
وذكر املؤرخون أنه عليه السالم ملا دخل البصرة أغلظت النساءُ
تدخلُ َّن ِ ِ بِ َسبِّ ِه من ِّ
كل دار ،فنادى يف جيشه« :ال تـَْهت ُك َّن سرتا ،وال ُ
َّهن أمراءكم ِ
أعراضكم ،وسف ْ بأذى ،وإن َشتَ ْم َن ْ
يج َّن امرأة ً دارا ،وال َت ُ
كات» .
وه َّن مشر ٌبالكف عنهن ُ ِّ وصلحاءكم .ولقد كنا نـُْؤَمُر
كان مترد أهل الشام وهيجا ُنم سبب كوارث احلرب بني
علي عليه السالم رسوال منه بعد أن متت له البيعة
املسلمني .بعث ٌّ
باملدينة إىل املتمردين يدعوهم لطاعته .فردوا إليه رسوله .فسأله
رجال القومة واإلصالح 62
لِذراري املسلمني ! فقال :أنا ! فقال عبد اهلل بن عامر وعبد الرمحن
الصلح ! قال احلسن :ولقد مسعت أبَا بكرة
ُ بن َسَُرة :نلقاه فنقول له:
قال :بينما النيب صلى اهلل عليه وسلم خيطب جاء احلسن ،فقال النيب
صلى اهلل عليه وسلم :ابين هذا سيد .ولعل اهلل أ ْن يصلح به بني
فئتني من املسلمني».
الص ْل َح فأجاب اإلمام وشرط أن يُقام كتاب اهلل طلب معاوية إذن ُّ
وسنةُ رسوله .وكانت خطبتُه يوم الصلح برهانا على سيادته اليت شهد
هبا جده صلى اهلل عليه وسلم .أخرج سعيد بن منصور والبيهقي يف
ابن علي معاويةَ،
الدالئل بسندمها إىل الشعيب قال« :ملا صاحل احلسن ُ
قم فتكلم ! فقام فحمد اهلل وأثىن عليه مث قال :أما قال له معاويةُْ :
أع َجَز العجز ال ُف ُج َور .أال َّ
وإن س التـَُّقىَّ ،
وإن ْ فإن أ ْكيَس ال َكْي ِ
بعد َّ
َ
اختلفت فيه أنا ومعاويةُ حق المرئ (املعىن يستقيم ُ األمَر الذي
هذا ْ
حق يل تركتُه إلرادة إصالح أحق به مين ،أو ٌّ هكذا :ما امرؤ) كان َّ
املسلمني وحقن دمائهم .وإ ْن ْأدري لعلَّه فِتنةٌ لكم ومتاع إىل حني.
مث استغفر ونزل» .1
تنازل عليه السالم من موقف قوة .فقد كانت كتائبُه كما
وص َفها عمرو بن العاص واثقةً من ْأمرها ،مصممـةً على نصر
املشروعيَّة .وكانت نيةُ اإلمام احملبـوب ساميةً حني ترك حقَّه
بسرية جدي وأيب علِ ٍّي بن أيب طالب .فمن قبِلين ب َقبول احلق
أصِ ْب حىت يقضي اهلل بيين فاهلل أوىل باحلق .ومن رد علي هذا ْ
وبني القوم باحلق .وهو خري احلاكمني».
وهنض اإلمام إىل العراق بعد أن بعث ابن عمه مسلم بن
عقيل ليمهد له األمر .لكن العشائر اليت كانت متحمسة له
خذلته لَ ّما رأت جيوش يزيد اجملَيَّشة وبأْ َسها .ووقعت كارثةُ
كربالءَ ،وهي اخلَْرم العظيم يف تارخينا ،بأيب وأمي سبط رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم!
استشهاد اإلمام احلسني جرح يف جنب األمة .فأما الشيعة
فجعلوا دمه لعنة على امللك العاض الظامل السفاك .لعنة بقيت
تلتهب يف الصدور .فمثال احلسني عليه السالم اليوم رمز
إلخوتنا الشيعة ،بل واقع متجدد عميق يف ِوجداهنم و ِ
أعيادهم
وخطبهم.
وما نراه اليوم 1من استبساهلم يف حرب الزمرة البعثية بالعراق
امتداد لغضب القرون املكبوت ضد الظلم ينفجر أمامنا طاقة
تقاوم .وعند علمائنا معشر أهل السنة واجلماعة لعنة على ال َ
الظلم مثلُها تنتظر أن خترج من طي النسيان إىل نشر اجلهاد.
َّس ِفيَّة« :اتفقوا على
قال اإلمام التفتازاين يف شرح العقيدة الن َ
رضي
جواز اللعن على من قتل احلسني ،أو أمر به ،أو أجازه ،أو َ
غزوهُ
عسكر يزيد .وثالثة جرائمه بعد قتل اإلمام واستباحة املدينة ُ
الكعبة باملنجنيق ملا قام عليه عبد اهلل بن الزبري.
اإلمام علي زين العابدين
حضر شابا يافعا معركة كربالء مع أبيه اإلمام احلسني السبط.
وكان أعلم أهل زمانه ،وأبرهم ،وأتقاهم ،وأكثرهم َح َدبا على األمة.
يقول فيه سعيد بن املسيب« :هو سيد العابدين» .ويقول عنه ابن
وزهداً وعبادة». ِ
حجر« :زين العابدين هو الذي خلَف أباه علما ُ
بالسجاد .قال عنه اإلمام جعفر الصادق« :كان قيام كان يلَ ّقب ّ
قيام العبد الذليل بني يدي
علي بن احلسني عليهما السالم يف صالته َ
أعضاؤه ترتعد من خشية اهلل عز وجل .وكانُ امللك اجلليل .كانت
مود ٍع يرى أنه ال يصلي بعدها أبدا».
يصلي صالة ِّ
الشيعة.
جنَّاه اهلل من جمزرة كربالء .فبقي يـَْعسوباً اجتمعت عليه َ
فحاول ل َّـم شتاهتا ،واستنهاض ِهمها .وتعلم من درس كربالء
عشائر منحلة ال تستطيع أن تكون القوةَُ أن الذين خذلوا أباه
لقومة أخرى ،فاختذ أسلوباً يف العمل يرتكز على التعليمالالزمة ٍ
َ
والرتبية .خترج على يديه جم غفري من العلماء .رأى هذا اإلمـام
اجلليل جمزرة كربالء ،وبعدها جمزرة احلرة ،مث غزو الكعبة ،مث قومة
التوابني من أهل الكوفة ممن كانوا خذلوا احلسـني فاستأصلتهم
71 القائمون من آل البيت عليهم السالم
جيوش بين أمية ،مث ثورَة املختار الثقفي اليت آلت إىل ما تستحقه من
فشل ،فقد كان أفّاكا كذابا.
وخفة أحالمهم، رأى ذلك فعلم أن الناس يف تفرق أهوائهمِ ،
أمثال احلسني السبط ،ويقاتلون مع أمثال املختار الثقفي، خيذلُون َ
فال يُرجى منهم نصر احلق على الباطل ما داموا عاجزين أ ْن مييزوا بني
احلق والباطل .فانكب على تربية الرجال ،وحافظ على ذكرى أبيه
اإلمام ،انتظارا لزمان أفضل.
يف إحدى خطبه وبخ أهل الكوفة قال« :أيها الناس !من عرفين
فقد عرفين ،ومن مل يعرفين فأنا علي بن احلسـني .أنا ابن من انتُهكت
وسيب ِعيالُه .أنا ابن املذبوح ِ حرمتُه ،وسلِب ِ
ب مالُهُ ، ت ن ْعمته ،وانتُه َ
َُ ْ
ات (ثأر وانتقام) .أنا ابن من قُتِل ط الفراتِ ،من غري َذح ٍل وال تِر ٍ
بش ِّ
َ
ْ
ناشدتكم اهلل هل تعلمون ص ْباً ،وكفى بذلك فخرا .أيها الناس ! َ َ
أنكم كتبتم إىل أيب وخدعتموه ،وأعطيتموه من أنفسكم العهود
وس ْوأًَة ِ
َّمتُم ألنفسكمَ ،وامليثاق والبيعة وقاتلتموه ! فتبّاً لكم ل َما قد ْ
لرأيكم ! بأي عني تنظرون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذ يقول
لكم :قتلتم ِع ْتيت ،وانتهكتم ُحرميت ،فلستم من أُميت !».
اإلمام حممد بن علي الباقر
هو ابن اإلمام زين العابدين .حضر صبيا من ثالث سنوات
رجال القومة واإلصالح 72
فيتقوى به على
(يعين جده احلسني عليه السالم) .لكين أعينه مبايل َّ
من خالفه».1
قال املسعودي« :وقد كان زيد بن علي شاور أخاه أبا جعفر بن
علي بن احلسني فأشار عليه بأن ال يركن إىل أهل الكوفة إذ كانوا
أهل غدر ومكر .وقال له :هبا قُتِل جدك علي ،وهبا طُعن عمك َ
أهل حنن نا م احلسن ،وهبا قتل أبوك احلسني ،وفيها ويف أعماهلا ُشتِ
َ ْ
البيت» .وصدق اإلمام أبو جعفر (وهو حممد الباقر) ،فقد خذلت
العشائر اإلمام زيدا ،فقتل ودفنَه أصحابه سرا .مث نـَبَش عنه هشام بن
عبد امللك فصلب جثته عريانا.
اإلمام حممد النفس الزكية
هو من ذرية احلسن بن علي رضي اهلل عنهم .بايعه الزيدية
والعباسيون قبل انتصار دعوهتم .فلما استوىل بنو العباس على
السلطان نكثوا دعوته .فاختفى هو وأخوه إبراهيم .مث احناز إىل
احلجاز ،ومجع حوله مائة ألف سيف ،مث زحف على أطراف البالد.
العباسي وترك بغداد وذهب إىل الكوفة .فكان يقول:
ُّ ففزع املنصور
«واهلل ال أدري ما أنا فاعل !».
وجاءته أخبار سقوط البصرة وفارس واألهواز وواسط
ومدائن وغريها .فلبث املنصور شهرين ال يغيـُِّر لباسه ،وال يأوي إىل
فراشه .وجيهز عُ َّدتَه للفرار حتسبا النتصار القائم من آل البيت .وقد
كان النفـس الزكيـة آية من آيات اهلل يف مسو النفس ،ومجال الصورة،
وحسن األخالق ،وغزارة العلم ،ومتانة الدين.
قال الناس لإلمام مالك ملا قام اإلمام حممد بن عبد اهلل النفس
الزكية« :إن بيعة املنصور يف رقابنا ،فكيف خنلعها ونبايع غريه» .فأفىت
ببطالن بيعة العباسيني .وأعلن َّ
أن بيعة املكره ال جتوز .فجلده وايل
َّت يده حىت اخنلعت كتفه.
وهد ْ
املدينة جعفر بن سليمان ُ
«خرج مع إبراهيم كثري من العلماء ،منهم هشيم ،وأبو خالد
األمحر ،وعيسى بن يونس ،وعبَّاد بن العوام ،ويزيد بن هرون،
وأبو حنيفة .وكان جياهر يف أمره وحيث الناس على اخلروج معه،
77 القائمون من آل البيت عليهم السالم
مالك حيث الناس على اخلروج مع أخيه حممد .وقال أبو كما كان ٌ
ت أخي على َّقيت اهلل حيث حثَثْ َ
إسحاق ال َفزاري أليب حنيفة :ما ات َ
اخلروج مع إبراهيم ف ُقتِل؟ فقال :إنه كما لو قتل يوم بدر ! وقال
بدر الصغرى».1ُشعبة :واهلل َل َي عندي ٌ
قال الشهرستاين :وكان أبو حنيفة رمحه اهلل على بيعته (يعين
األمر إىل املنصور ،فحبسه
النفس الزكية) ،ومن مجلة شيعته ،حىت ُرفع ُ
حبس األبَد حىت مات يف احلبس .وقيل إنه إمنا بايع حممد ابن عبد َ
اهلل اإلمام (النفس الزكية) يف أيام املنصور .وملا قتل حممد باملدينة بقي
اإلمام أبو حنيفة على تلك البيعة يعتقد مواالة أهل البيتُ .فرفِع حالُه
للمنصور فتم عليه ما مت».2
اهيم ِ
كي رمحه اهلل ،واستـُْؤصلت مقاومةُ أخيه إبر َ قتل اإلمام الز ُّ
أئمتنا الفقهاء بقوا على وفائهم للقائمني باحلق. من بعده .لكن َّ
الشافعي من احلجاز إىل هرون الرشيد اإلمام ح َلففي سنة ُِ 189
ُّ ُ
مع قوم من العلوية بتهمة الطعن على اخلليفة .فما جنا الشافعي من
أعناق أصحابه إال بتدخل قاضي القصر، ض ِربَت ُ املوت بعد أ ْن ُ
للشافعي .وملا خرج حيىي بن عبد اهلل بن احلسن ِّ وكان صديقاً
املثىن ،وهو قائم آخر من آل البيت ،سنة « 193بث دعاتَه
يصيب الثوب، ُ األسود« :يا أبا سعيد! ما تقول يف َدِم الرباغيث
صلَّى فيه؟» فيُجيبه« :يا عجبا ممن يَلِ ُغ يف دماء املسلمني كأنه أيُ َ
سن ِو َزر كلب ،مث يسأل عن دم الرباغيث !» .محَّ َل اإلمام احلَ ُ
1
الدماء الزكية اليت سفحها ِغ ْلمةُ قريش املفسدون العلماءَ الساكتني ِ
عن مقتل احلسني ،مث يسأل بعضهم عن دم الربغوث!
استدعاه عمر بن هبرية ،عامل يزيد بن عبد امللك على العراق،
«إن يزيد بن عبد امللك عبد واستدعى معه الشعيب .فقال عمرَّ :
ّ
أخذ اهلل ميثاقَه ،وانتجبه خلالفته .وقد أخذ بِنواصينا ،وأعطيناه َ
عهودنا ومواثيقنا وص ْف َقةَ أيدينا .فوجب علينا السمع والطاعة. َ
وإنه بعثين إىل عراقكم غري سائل إيَّاه .إال أنه ال يزال يبعث إلينا
هندمها .فـَنـَُولِّيه
ضها ،أو يف الدُّور ُ ياع ن ْقبِ ُ
الض ِ
يف القوم نقتُلهم ،ويف ِّ
من ذلك ما واله اهلل ! فما تريان؟».
لبيعة هي ِربقة مفروضة ال تصح شرعا و ٍال يتنازعه عامل الوفاء ٍ
َ
وعامل الغضب على ما يستعمله فيه يزيد من سفك الدماء وهتك
احلَُرِم .فرييد أن يتنصل من املأزق بدفع املسؤولية عنه وحتميلها َمن
والّه.
احلسن قال« :يا عمر ! إين أهناك عن اهلل
ُ أجابه اإلمام
أن تتعرض له .فإن اهلل مانعُك من يزيد ،وال مينعك يزي ٌد من
اهلل ( )...إن هذا السلطان إمنا ُجعل ناصراً لدين اهلل ،فال ترَكبوا
دين اهلل وعباد اهلل بسلطان اهلل تذلوهنم به .فإنه ال طاعةَ ملخلوق
َ
يف معصية اخلالق جل وعز».
قاطع ِغ ْل َمةَ قريش ،ولذعهم بلسانه ،وأفشى يف العامة كراهيتهم.
ول اخلليفة العادل عمر بن عبد العزيز صحبه .فمن مواعظه ِ
فلما َ
له قال« :يا أمري املؤمنني ،كن ِ
للمثْ ِل من املسلمني أخا ،وللكبري
ابنا ،وللصغري أباً .وعاقب كل واحـد منهم بذنبه على قدر ُج ْرِم ِه،
فتدخل النار».1
َ وال تضربَ َّن لِغضبك سوطا واحدا
ثل احلَ َس ِن من ينصح الصاحلني َ
أمثال ابن عبد العزيز .قال ِ
وم ُ
ـري رمحه اهلل أشبه الناس كالما
عنه الغزايل« :ولقد كا َن احلسن البص ُّ
أقربم َهديا من الصحابةبكالم األنبياء عليهم الصالة والسالم ،و َ
رضي اهلل عنهم .اتفقت الكلمة يف حقه على ذلك».2
الفضيل بن عياض
ِ
حجه على ذكر ابن اجلوزي َّ
أن هارون الرشيد طاف يف
العلماء والصاحلني يلتمس منهم أ ْن يعظوه .حىت انتهى هو
والفضل بن الربيع وز ُيره فقرعا الباب على الفضيل رمحه اهلل .فإذا
هو قائم يصلي بآية يرددها .مث أجاب الوز َير سائال« :من هذا؟»
أجب أمري املؤمنني ! فقال :ما يل وألمري
قال ابن الربيع« :فقلتْ :
املؤمنني؟ فقلت :سبحـان اهلل ! أما عليك طاعة؟ ( .)...فنـزل ففتح
الباب ،مث ارتقى الغرفة فأطفأ املصباح .مث التجأ إىل زاوية من زوايا
البيت.
كف هارون قبلي «فدخلنا .فجعلنا جنول عليه بأيدينا .فسبقت ُّ
إليه .فقال :يا هلا من كف ما ألينها إن جنت غدا من عذاب اهلل
عز وجل ! ( )...فقال« :إن عمر بن عبد العزيز ملا ِول اخلالفةَ
دعا سامل بن عبد اهلل ،وحممد بن كعب ال ُقَر ِظ َّي ،ورجاءَ بن َحيـَْوة،
ليت هبذا البالء فأشريوا علي .فعد اخلالفة بالء فقال هلم :إين قد ابتُ ُ
أردت
أنت وأصحابك نعمة .فقال له سامل بن عبد اهلل :إن َ وعددهتا َ
النجاة غدا من عذاب اهلل فليكن كبريُ املسلمني عندك أبا ،وأوسطُهم
أصغرهم عندك ولدا.
عندك أخا ،و ُ
«وقال له رجاء بن حيوة :إن أردت النجاة غدا من عذاب اهلل
عز وجل فأحب للمسلمني ما حتب لنفسك ،واكره هلم ما تكره
لنفسك ،مث مت إذا شئت !
«وإين أقول لك :إين أخاف عليك أشد اخلوف يوما تزل فيه
األقدام ! فهل معك رمحك اهلل من يشري عليك مبثل هذا؟ فبكى
85 علماء يف بساط امللوك
هارون بكاء شديدا حىت غُ ِش َي عليه .فقلت له :ارفق بأمري املؤمنني؟
فقال :يا ابن الربيع ! تقتله أنت وأصحابُك وأرفُ ُـق به أنا !».1
من علمائنا وصاحلينا من انقبضوا عن السلطان انقباض الفضيل
إ ْذ أطفأ مصباحه وترك الزائرين عند الباب يُشعُِرمها هبواهنما عليه.
ومن امللوك من خلط عمال صاحلا وآخر سيئا ،فيبكي إذا ُوعظ ،مث
فلت من
الرجال ،فأىن يُ ُ
َ النظام
ُ فسد
ينصرف إىل الدنيا وبسطتها .يُ ُ
ِربقته إالَّ أمثال عمر بن عبد العزيز ! وتبقى األمة بعد مرور زيد وعمر
من الناس يف الربقة ،ما منها من خالص.
اإلمام أمحد بن حنبل
إمام أهل احلديث رمحه اهلل قومة النفس الزكية وقومة
مل يدرك ُ
حيىي ،فلم يشارك يف اخلروج على الطغاة مثلما شارك أبو حنيفة
ومالك والشافعي .لكن قولته املشهورة يف اخلروج ومشروعيته حتمل
روح القومة لو وجد إليها سبيال.
نذكر هبذه القولة البليغة اليت رواها عنه القاضي أبو يعلى
أمري
وسِّ َي َ
احلنبلي« :ومن غلب عليهم بالسيف حىت صار خليفة ُ
املؤمنني ،فال حيل ألحد يؤمن باهلل واليوم اآلخر أن يبيت وال يراه
شهادتم .مث شدد االمتحان فتخلى َ فعزل من خالفه ،وأسقط َ
الكل عن املقاومة إال أربعة منهم اإلمام أمحد .فسيق أمحد بن
وسجن يف سجن العامة ثالثني شهرا. حنبل إىل بغداد مقيداُ ،
واستدعاه املعتصم ،بعد وفاة املأمون ،إىل بَالطه ،ومجع له العلماء
املد َّجنني لِيُناظروه.
َ
قال ابن ُد َؤ َاد يف ذلك اجمللس« :يا أمري املؤمنني! لئن أجابك
إيل من مائة ألف دينار ،فيـَعُ َّد من ذلك ما شاء اهلل أحب ََّلَُو ُّ
أ ْن يعد» .فقال املعتصم« :واهلل لئن أجابين ألطلِ َق َّن عنه (يعين
ب إليه ِبُندي ،وألطأن َع ِقبَه (يعين يسري خلفه وألرَك َ َّ
القيد) بيديْ ،
باحرتام وتعظيم) !» .وطال اإلغراء وطالت املساومة .وما ظنُّك
برجل ال يثمن عقيدته مبآت آالف الدنانري ،مبتاع قليل كما يثمن
وزراء اجلور.
قال اإلمام أمحد« :وجلس املعتصم على كرسي مث قال :العقَّابني
يداي .فقالفمدَّت َ والسياط! فجيء بالعقابني (وهم اجلالدون) ُ
ي اخلشبتني بيديك ،وشد عليهما! بعض َمن حضر خلفيُ :خ ْذ نَأْ َ
يداي».
ت َ فتخلَّ َع ْ
فلم أفـَْه ْم ما قالَ ،
قوم يتعاطفون مع اإلمام ،فيُ ِسّرون
إذن فقد كان حىت يف البالط ٌ
ف عنه العذاب. ِ
إليه النصيحة ليخ ّ
قال اإلمام« :وملا جيء بالسياط نظر إليها املعتصم وقال:
رجال القومة واإلصالح 88
العارفون باهلل
احناز طائفة من العلماء واألئمة املربني إىل صفوف األمة يرومون
إصالح الناس على هامش احلياة العامة لَ َّما يئسوا من وجود أنصار
على احلق قادرين على إجناح القومة .هكذا فعل أئمة آل البيت بعد
ِخذالن الناس لألئمة احلسني ،وزيد ،والنفس الزكية ،وحيىي.
من هؤالء املربني من عُرفوا باسم طارئ على القرون األوىلُ .سُّوا
بس ُم ِّو املطْلَب ،وعلُِّو ال َكعب يف العبادة ،والزهد،
صوفية ،وعرفوا ُ
أقرب العلماء صلة بالعامة ،وأشدَّهم تأثريا يف أخالق والورع .كانوا َ
األمة ،وأكثَرهم ِحفاظا على روح السنة.
كان الفقيه يفيت يف النوازل ،وكان احملدث منكبا على العلم خيدم
سنة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .وكال الوظيفتني حيوي حلياة
األمة.
لكن املشايخ العارفني باهلل اختصوا بتنوير القلوب ،وتقريب َّ
العباد إىل خالقهم ،حبملهم على االستقامة ،وتسليكهم مبجاهدة
صروا يف اجلملةالنفس ،ودوام الذكر ،ومراقبة احلق عز وجل .ومل يـَُق ِّ
يف نشر العلم وبث الفضيلة يف األمة ،إذ تتعدى تربيتهم اخلاصة
من تالمذهتم إىل العامة .وكانوا إىل جانب هذا يـُْؤُوو َن البائسني،
رجال القومة واإلصالح 94
وال حتسنب أحو َال القلب النورانيةَ من قبيل اجملا ِز واملبالغة واخليال.
كشف اهلل عنا حجاب الغفلة حىت نعرف احلق .آمني .واحلمد هلل
رب العاملني.
شيخ اإلسالم يدافع عن الطريق
اشتهر بني أنصـار السنة من أهل احلديث شيخ اإلسـالم ابن
تيمية .عاش رمحه اهلل أواخر القرن السـابع وأوائل الثـامن (-661
)728عصرا مضطربا .قال الشوكاين« :وقد وقع له من أهل عصره
وحبس َحْبسا بعد حبس». الزل ،وامتُحن مرة بعد أخرى ُ قالقل وز ُ
ُ
كان مثاال للزهد وعلو اهلمة .قال تلميذه البزار« :ما رأيناه يذكر شيئا
من مالذِّ الدنيا ونعيمها .وال كان خيوض يف شيء من حديثها ،وال
يسأل عن شيء من معيشتها .بل ُج ُّل ِهته وحديثِه يف طلب اآلخرة
قرب إىل اهلل تعاىل».
وما يُ ِّ
حارب رمحه اهلل الطوائف الضالة ومن مجلتهم فسادا وإفسادا
القائلون باحللول والوحدة املطلقة وما إىل ذلك من الكفريات
نعوذ باهلل .ال هتمنا تلك املعارك وال نقلد يف ديننا رجال كائنا
من كان دون سيدنا حممد صلى اهلل عليه وسلم .فإن أوردنا من
كالم شيخ اإلسالم ما يثبت احرتامه وتعظيمه وتسليمه للعارفني
باهلل ،فإمنا نفعل لعل بعض املقلدة من كساىل الفكر ،ومتحجري
العقل ،ممن يلف يف جراب بؤسه املعنوي أقو َال العلماء ،ليحارب
رجال القومة واإلصالح 98
من أهل زمانك يأخذ بيدك إىل اهلل كما حبث أمثال الغزايل !
ايل علم زمانه حىت أصبح مدرسا يف املدرسة النظامية أكرب قرأ الغز ُّ
معاهد عصره .مث أقبل يبحث يف علوم القوم حىت اطمأن إليها.
فيقول« :فعلمت يقينا أهنم (الصوفية) أرباب األحوال ال أصحاب
صلته ،ومل يبق إال األقوال .و َّ
أن ما ميكن حتصيلُه بطريق العلم فقد َح َّ
ما ال سبيل إليه بالسماع والتعلم ،بل بالذوق والسلوك».1
مث تفكر يف حاله ،وهي حال مدرس ناجح حتيط به أُبـََّهة العلم،
وتعظيم العامة ،واحلَظْوة عند احلاكم ،فأنكر ما هو عليه ،واشتاق
ُ
إىل اهلل عز وجل وإىل من يدله عليه.
ب قائل يقول:ما معىن أن يبحث عامل مثلُه عن رجل يدله ُر َّ
على اهلل؟ وما معىن الدَّاللة على اهلل؟
يظن الناس أن الداللة على اهلل قول وموعظة وتعليم نصوص.
تلك داللة على شرع اهلل نعم ! أما الداللة على اهلل ،فلو كانت
وجدها .فاحبث كما حبث
تَ َسعُها الكلمات والكتب لكان الغزايل َ
يؤرقُك اليأس من نفسك ،واالفتقار ُإىل اهلل ،والشوقإن كان ِّ
أولياؤه .فإن كنت مغتبطا حبالك فكالمنا معملعرفته كما عرفه ُ
غريك.
أن العابد والفقيه قد يكونان مبعزل تام، اللسان قد يكو ُن فاسقا ،و َّ
ارث
ويف جهل مطبق ،باملعاين القلبية ،واحلياة اإلميانية اإلحسانية .والو ُ
الكامل من جتلت فيه أحوال الوالية والدراية .أولئك هلم األمن وهم
مهتدون.
الشيخ عبد القادر اجليلي
رجل أمجعت األمة على صالحه وواليته. من هؤالء ال ُك َّمل ٌ
كان قمةً يف علوم عصره ،قمة يف التقوى والزهد ،قمة يف اجلهر
باحلق ،قمة يف الرتبية واحلنـُِّو على األمة .كانت االستقامة
احلث عليها َد يْ َد نَهُ.
على السنة النبوية مذهبَه ،وكان ُّ
قال رمحه اهلل« :اتبع الشرع يف كل ما ينـزل بك إن كنت
يف التقوى اليت هي القدم األول (يعين يف الطريق إىل اهلل).
واتبع األمر (أي أمر الشرع) يف حالة الوالية ووجود اهلوى
(مادام يغلبك هوى نفسك) وال تتجاوزه وهي القدم الثانية.
وارض بالفعل (فعل اهلل) ،ووافقَ ،وا فْ َن ،يف حالة البَ َد لِيَّ ِة
والعينية والصديقية (وهي مقامات أهل اهلل) وهي املنتهى.
ِ
اك ». خل عن سبيلهُ .رَّد نفسك وهو َ تـَنَ َّح عن الطريق ال َقذ ِر ِّ ،
قال ابن تيمية بعد أن أورد هذا الكالم« :فقد بني الشيخ
عبد القادر رضي اهلل عنه أن لزوم األمر والنهي ال بد منه يف
107 العلماء املربون
األم ُد
أسباب الغفلة واللهو ،وطال على املسلمني َ ُ وكثرت
ِ
وقلب قلوبم .هنالك هنض يف بغداد ،دار السالم فقست ُ
قوي العلم،
قوي اإلميانُّ ،
رجل قوي الشخصيةُّ ، عا َل اإلسالمٌ ،
قوي التأثري .فجدد دعوة اإلميان واإلسالم احلقيقي، قوي الدعوةُّ ،
ُّ
أخالق املؤمنني املخلصني .وحارب النفاق الذيوالعبودية اخلالصة ،و ِ
اجتمع يف اجملتمع اإلسالمي بقوة منقطعة النظري يف تاريخ اإلصالح
والتجديد .وفتح باب البيعة والتوبة (بيعة التوبة ال بيعة اإلمارة)
على مصراعيه ،يدخل فيه املسلمون من كل ناحية من نواحي العامل
اإلسالمي ،جيددون العهد وامليثاق مع اهلل (.)...
قال رمحه اهلل« :وظل الشيخ يربيهم وحياسبهم ويشرف
عليهم وعلى تقدُّمهم .وأصبح هؤالء التالميذ الروحيون يشعرون
باملسؤولية بعد البيعة والتوبة وجتديد اإلميان على يد عبد خملص
وعامل رباين شعورا جديدا .وظل بينهم وبني الشيخ ربا ٌط وثيق
عميق أقوى من رباط التالميذ باألساتذة والشيوخ ،ومن رباط
اجلند بالقائد ،ومن رباط الرعية بالراعي (.)...
«وقد كان خللفائه وتالميذه وملن سار سريهتم يف الدعوة
وهتذيب النفوس ،من أعالم الدعوة وأئمة الرتبية يف القرون اليت
وشعلة اإلميان،
فضل كبريٌ يف احملافظة على روح اإلسالمُ ،
تلتهٌ ،
ومحاسة الدعوة واجلهاد ،وقوة التمرد على الشهوات والسلطات.
109 العلماء املربون
ذهب العز إىل مصر فاحتفى به جن ُـم الدين ،وكان شديد البأس
جيسُر أحد أن خياطبَه ابتداء .ففي حم َفله ناداه عز الدين :يا ال ُ
ن،أيوب! وهناه عن منكر .فسألوه بعد ذلك عن ُجـرأته فقال« :يا بـََُّ
كالقط )...( ،فال استحضرت هيبة اهلل تعاىل فكان السلطان أمامي ِ
عظمة وال سلطان ،وال بقاء وال دنيا .بل هو (أي امللك) ال شيء
يف صورة شيء».
الشيخ
ُ أتم على األمة فأفىت وطغى األمراء املماليك واشتدت َوطْ َ
أنه ال يصح هلم بيع وال شراء ،وال زواج وال طالق وال معاملة ،وأنه
ال يصح هلم شيء من هذا حىت يُباعوا ويرد مثنُهم إىل بيت مال
املسلمني .فغضب عليه امللك ،فخرج مهاجرا وتبعه الناس مل يتخلف
عنه رجل وال امرأة وال صيب وال عامل وال حمرتف .ففزع امللك وخرج
يسرتضيه.1
عالٌ مرب عاش يف املغرب ومنهم عبد اهلل بن ياسنيِ .
اس َط القرن اخلامس .وكان عصرا انتشرت فيه ردة قوم يُ َس َّم ْون أو ِ
ني .فاحناز جبماعة من الشباب يف جزيرة يربيهم حىت ِ
البـُْر ْغ َواطيِّ َ
ث األمة ،ومحل اكتملت له العُ َّدةُ .فزحف على الكفر ،ومل َش َع َ
امللك الصاحل السيف والدعوة حىت أسس دولة ترأسها من بعده ُ
يوسف بن تاشفني .تُ َس َّمى هذه الدولةُ دولة املرابطني باسم رباط ُ