‫‪:‬مقال حيادي للدكتور الصالبي‬

‫‪ ..‬اردوغان‬
‫هو ليس حاويا ً كي يجمع كل الحيات في جرابه‪ ،‬أو ساحرا ً هنديا ً كي ينفخ في‬
‫‪.‬مزماره فتتراقص بين يديه كل األفاعي بدالً من أن تنفث سمومها في جسده‬

‫ربما ال سمح هللا يطيح به انقالب قادم ينجح فيما فشل فيه سابقه‪ ،‬ولربما‬
‫تسقطه انتخابات رئاسية‪ ،‬أو يأتيه اليقين الذي كتبه هللا على كل نفس‪،‬غيلة أو‬
‫على فراشه ‪ .‬لكنه اليوم قد أتم آخر فصول ثورته ووضع آخر لبنة في هيكل‬
‫‪.‬الدولة التركية الجديدة‬

‫ما فعله أردوغان في تركيا هو ثورة من حيث نتائجها ال من حيث آلياتها‪،‬‬

‫فالثورات تبدأ بعاصفة جماهيرية وخروج إلى الشوارع‪،‬‬
‫وربما مواجهات مسلحة إلسقاط النظام القائم واستبداله بنظام جديد يختلف‬
‫عنه سياسيا ً واجتماعيا ً واقتصادياً‪ ،‬عبر مخاض عسير ينهك قوى البالد‬
‫ويضعف قدراتها‬
‫‪.‬وربما أدى إلى انقسامها أو تراجعها كثيرا ً عما كانت عليه إلى أجل مسمى‬

‫ولكن أردوغان استطاع أن يحدث هذه الثورة دون المرور بهذا المخاض‪،‬‬
‫ودون إجراء هذه الجراحة الخطرة‪ ،‬التى من الممكن لو فشلت أن تجهز على‬
‫‪.‬الجسد المريض بدالً من أن تشفيه‬

‫لقد انتقلت تركيا من دولة مدينة منهارة اقتصاديا تقف على حافة اإلفالس إلى‬
‫دولة دائنة تقف بين الدول األكثر تقدماً‪،‬‬
‫هذه النقلة لم تتم باكتشافات حقول غاز أو بترول أو باستخراج مواد أولية من‬
‫‪.‬باطن األرض‪ ،‬ولكن بنهضة علمية واقتصادية وتكنولوجية حقيقية‬

‫ومن الناحية السياسية استطاع اردوغان أن يقضي على سيطرة الجيش على‬
‫الحكم‪ ،‬فبعد أن كان رئيس أركان الجيش التركى هو الحاكم الفعلي للبالد‪،‬‬
‫استطاع أردوغان أن يعزل الجيش التركى تماما عن ممارسة أي دور‬
‫سياسي وذلك عبر مراحل متدرجة كان فيها أردوغان يسير وسط حقل ألغام‪،‬‬
‫ليحول الجيش في النهاية من الحكم إلى الحماية‪ ،‬ومن الوصاية على النظام‬
‫السياسي إلى الخضوع له تحت قيادة الرئيس المنتخب‪،‬‬
‫وتحول مقعد رئيس األركان من جوار الرئيس إلى الصف األمامي كغيره من‬
‫الوزراء والمتنفذين‪ ،‬بعد أن كان يأنف أن يلقي التحية العسكرية على‬
‫الرئيس‪،‬‬
‫‪ .‬وهو تغيير ثوري بالنظر لما يملكه الجيش التركي من قوة ونفوذ طاغ‬

‫لقد أسقط أردوغان الجمهورية األتاتوركية تماماً‪ ،‬من غير أن يحطم تماثيل‬
‫أتاتورك‪ ،‬أو يعلن صراحة الخروج على مبادئ جمهوريته‪ ،‬لكنه منع عنها‬
‫الهواء والماء حتى ماتت بعد أن جردها شيئا فشيئا من كل مضامينها‪،‬‬
‫فتحولت من نهج مستبد أحادي الرؤية حاكم للواقع ومتحكم فيه إلى مجرد‬
‫‪.‬حقبة تاريخية وماض يتغنى به األتراك‬

‫وعلى المستوى االجتماعي استبدل أردوغان نظريته في العلمانية المحايدة‬

‫بالعلمانية األتاتوركية المعادية للدين ‪ ،‬لتقف قوانين الدولة على مسافة واحدة‬
‫من األديان‪ ،‬فأردوغان لم يتبن منهج األصولية اإلسالمية في الحكم‪ ،‬ولكنه‬
‫أوقف الكثير من أشكال االضطهاد واإلقصاء التي عانى منها اإلسالم تحت‬
‫وطأة العلمانية األتاتوركية المناهضة للدين بكل تجلياته بدءا من العقيدة‬
‫وانتها ًء بالظاهر السلوكية مرورا ً بالشعائر التعبدية‪ .‬أدرك أردوغان أن‬
‫اإلسالم ال يحتاج إلى حكومة تتبناه وقوانين تفرضه بقدر ما يحتاج إلى نظام‬
‫عادل ال يمارس التمييز أو اإلقصاء ضده‪ ،‬فألغى تباعا ً وبحذر بالغ القوانين‬
‫‪.‬التي تفرض القيود على اإلسالم‬
‫لم يغلق بيوت الدعارة ولكنه سمح بإنشاء المدارس اإلسالمية‪،‬‬
‫لم يجرم اإللحاد ولكن سمح بتحفيظ القرآن‪،‬‬
‫‪.‬لم يفرض الحجاب ولكن سمح للمحجبات بدخول المدارس والجامعات‬
‫لقد أطلق سراح الدين ولم يعتقل العلمانية تاركا ً القيم والمبادئ والمعتقدات‬
‫واألفكار تتفاعل مع المجتمع حتى عادت روح اإلسالم وقيمه ومبادئه لتسري‬
‫‪.‬في الجسد التركي وهذا هو جوهر التغيير الثوري‬
‫‪ .‬د‪ ...‬علي الصالبي‬