You are on page 1of 42

‫الشــعب (ال) يريــد تغيــر النظام‪ :‬يف األصول‬

‫النفســية للمحافظــة السياســية‬


‫طارق عثامن‬
‫‪www.nama-center.com‬‬
‫اآلراء الواردة يف الورقة ال تعرب بالرضورة عن رأي املركز‬

‫الشــعب (ال) يريــد تغيــر النظام‪ :‬يف‬


‫األصــول النفســية للمحافظــة السياســية‬
‫طــا رق عثــا ن‬

‫‪2‬‬
‫الشعب (ال) يريد تغيري النظام‪ :‬يف األصول النفسية‬
‫للمحافظة السياسية‬
‫طارق عثامن‬

‫ملخص‬
‫كيـــف ميكـــن أن يوجـــد نظـــام اجتامعـــي أو ســـيايس أو اقتصـــادي يكـــون مـــن‬
‫ش ــأنه أن يلح ــق الضي ــم بالن ــاس‪ ،‬ولكنه ــم م ــع ذل ــك يحتملون ــه ببال ــغ الص ــر‪ ،‬ب ــل يف‬
‫بعـــض األحيـــان ال يحتملونـــه وفقـــط وإمنـــا يدعمونـــه عـــاوة عـــى ذلـــك؟‬
‫ملـــاذا ال يســـعى النـــاس إىل تغيـــر األوضـــاع االجتامعيـــة التـــي يعانـــون تحـــت‬
‫وطأتهـــا؟‬
‫ملــاذا تغلب عىل الناس املحافظة السياســية؟‬
‫تح ــاول ه ــذه الدراس ــة أن تلق ــي الض ــوء ع ــى ه ــذه األس ــئلة م ــن وجه ــة نظ ــر‬
‫ســـيكولوجية‪ ،‬مـــن خـــال ســـراألصول النفســـية للمحافظـــة السياســـية‪ ،‬وذلـــك بتقديـــم‬
‫مراجعـــة لنظريـــة تربيـــر النظـــام مقدماتهـــا‪ ،‬وأطروحتهـــا‪ ،‬وأصولهـــا التطوريّـــة‪.‬‬

‫كلـــات مفتاحيـــة‪ :‬املحافظـــة السياســـية‪ ،‬تربيـــر النظـــام‪ ،‬الصـــور النمطيـــة‪،‬‬


‫العقلنـــة‪ ،‬الوضـــع القائـــم‪ ،‬االنتقـــاء عـــى مســـتوى الجامعـــة‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫عم وجدنــا عليه آباءنا‪!..‬‬
‫قالــوا أجئتنــا لتلفتنا ّ‬
‫(القــرآن الكريم‪ ،‬يونس‪)78 :‬‬
‫األشــياء التي نقوم بها هي ]يف أعيننا[ دامئًا أشــياء حســنة‪.‬‬
‫(ليون فيســتنجر‪ ،‬اإلرث البرشي)‬
‫والســكني فوق عنقها‪ ،‬الترغب الشــاة يف يشء قدر رغبتها يف الذبح‪.‬‬
‫(فرانــك أندروود‪ ،‬بيــت العنكبوت ‪)house of cards‬‬

‫– مقدمة‪:‬‬
‫ال ينفـــك ســـافوي جيجـــك يكـــرر عـــى مســـامعنا مقولـــة فريدريـــك جيمســـون‬
‫‪1‬‬
‫«م ــن األي ــر علين ــا الي ــوم أن نتخي ــل نهاي ــة الع ــامل ع ــن أن نتخي ــل نهاي ــة الرأس ــالية‪»،‬‬
‫ليش ــر إىل الكيفي ــة الت ــي تعم ــل به ــا األيديولوجي ــا فين ــا عمله ــا يف الزم ــن الراه ــن‪ ،‬لق ــد‬
‫‪ 1‬ت ُعــزى هــذه املقولــة أحيانًــا‪ ،‬بالخطــأ إىل جيجــك‪ ،‬ولكــن جيجــك نفســه قــد عزاهــا مـرا ًرا إىل جيمســون‪ ،‬عــى ســبيل املثــال يف كتابــه‬
‫العيــش يف أزمنــة النهايــة‪ ،‬إذ يقــول‪« :‬مقولــة جيمســون التهكميــة القدميــة ذات وجاهــة اليــوم أكــر مــن أي وقــت مــى‪ :‬إنــه ملــن األيــر‬
‫أن نتخيــل وقــوع كارثــة معممــة تضــع حـدًا للحيــاة عــى األرض عــن أن نتخيــل حــدوث تغــر حقيقــي يف العالقــات الرأســالية» (‪,Zizek‬‬
‫‪ .)334 :2010‬ولقــد قالهــا جيمســون ألول مــرة يف كتابــه بــذور الزمــن‪« :‬يبــدو أنــه مــن األيــر علينــا اليــوم أن نتخيــل الدمــار الــكيل‬
‫لــأرض وللطبيعــة عــن أن نتخيــل انهيــار الرأســالية املتأخــرة» (‪ .)xii :1994 ,Jameson‬ولكــن جيمســون نفســه‪ ،‬وعــى نحــو مربــك‪ ،‬قــد‬
‫استشــهد بهــا فيــا بعــد يف نــص لــه نُــر يف الـــنيو ليفــت ريفيــو بعنــوان مدينــة املســتقبل وعزاهــا إىل مجهــول‪« :‬شــخص مــا قــد قــال‬
‫ذات مــرة أنــه مــن األيــر أن نتخيــل نهايــة العــامل عــن أن نتخيــل نهايــة الرأســالية» (‪ .)76 :2003 ,Jameson‬وبحســب ماثيــو بيومنــت‬
‫فــإن الشــخص املجهــول الــذي يتحــدث عنــه جيمســون هــو إتــش بــروس فرانكلــن الــذي نجــد عنــده أول جمــع بــن نهايــة الرأســالية‪،‬‬
‫ونهايــة العــامل يف جملــة واحــدة‪ ،‬ولكــن يف ســياق مختلــف متا ًمــا‪ ،‬إذ يقــول يف تعليــق لــه عــى روايــة أبوكاليبــس لجــى جــي بيــارد « إن‬
‫بيــارد يخلــط بــن نهايــة الرأســالية ونهايــة العــامل» (‪ .)88 :2014 ,Beaumont‬ومهــا يكــن مــن أمــر فــإن هــذه املقولــة قــد اشــتهرت‬
‫عــى يــد جيجــك الــذي كررهــا يف مــا ال يحــى مــن مناســبات‪ :‬يف خطابــه يف إحــدى تظاه ـرات حركــة احتلــو وول ســريت‪ ،‬ويف فيلمــه‬
‫دليــل املنحــرف إىل األيديولوجيــا‪ ،‬ويف الكتــاب املستشــهد بــه‪ ،‬حتــى ال نذكــر إال القليــل‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫أقنعتن ــا ب ــأن تغي ــر النظ ــام الرأس ــايل أم ــر مس ــتبعد الح ــدوث متا ًم ــا‪ ،‬لدرج ــة أن ــه مل‬
‫يع ــد بوس ــعنا أن نتخي ــل حت ــى ح ــدوث ذل ــك‪ .‬يطل ــق م ــارك في ــر ع ــى ه ــذا الوض ــع‬
‫اســـم «الواقعيـــة الرأســـالية» (‪« :)capitalist realism‬ذلـــك اإلحســـاس الشـــائع ليـــس‬
‫فق ــط ب ــأن الرأس ــالية ه ــي النظ ــام الس ــيايس واالقتص ــادي الوحي ــد القاب ــل للتطبي ــق‪،‬‬
‫أيضـــا بأنـــه مـــن املســـتحيل اآلن حتـــى تخيـــل بديـــل متامســـك لهـــا» (‪,Fisher‬‬ ‫وإمنـــا ً‬
‫‪2 :2009‬؛ التشـــديد يف األصـــل)‪ .‬يســـتدل كل مـــن جيجـــك وفيـــر عـــى هـــذا الفقـــر‬
‫األيديولوجـــي للخيـــال بأفـــام الديســـتوبيا الراهنـــة؛ فاملفـــرض أن الفكـــرة األساســـية‬
‫الثانوي ــة خل ــف أف ــام الديس ــتوبيا (أو اليوتوبي ــا) ه ــي تصوي ــر أمن ــاط عي ــش جدي ــدة‪،‬‬
‫إال أن ذل ــك لي ــس ه ــو الحاص ــل بالفع ــل يف أف ــام الي ــوم‪ .‬فالكارث ــة تح ــل ع ــى الع ــامل‬
‫نع ــم‪ ،‬ولكنه ــا ال ت ــأيت بنظ ــام جدي ــد كلي ــة‪ .‬فق ــط نف ــس النظ ــام القدي ــم ولك ــن مس ــاوئه‬
‫قــد بلغــت الحــدود القصــوى‪ .‬ففــي ‪ )2006( children of men‬أللفونســو كيــوران‪ ،‬عــى‬
‫س ــبيل املث ــال‪ ،‬ينبهن ــا في ــر إىل أن سالس ــل املقاه ــي ]الت ــي ع ــى ش ــاكلة س ــتاربكس[‬
‫ال ت ــزال موج ــوده بش ــكل طبيع ــي جن ًب ــا إىل جن ــب م ــع معس ــكرات االعتق ــال الهمجي ــة‬
‫(‪ 2 .)2 :2009 ,Fisher‬فـــا الـــذي يجعـــل نظـــام اقتصـــادي وســـيايس كالرأســـالية فيـــه‬
‫م ــن الج ــور م ــا في ــه يتمت ــع به ــذا الق ــدر م ــن االس ــتقرار بحي ــث يعج ــز الن ــاس ع ــن‬
‫مج ــرد تخ ّي ــل زوال ــه؟‬
‫يتحـــدث جيجـــك (وفيـــر وجيمســـون) هنـــا عـــن الرأســـالية التـــي ال يتحمـــل‬
‫الن ــاس وجوده ــا ويتقبلون ــه وفق ــط‪ ،‬وإمن ــا يعاملونه ــا كبداه ــة منقطع ــة النظ ــر‪ ،‬بحي ــث‬
‫أنهـــم ال يســـتطيعون حتـــى ولـــو مـــن بـــاب االســـتيهام الســـينياميئ (‪ ،)fantasy‬تخ ّيـــل‬
‫وجـــود نظـــام آخـــر غريهـــا‪ .‬لكـــن هـــذه الوضعيـــة ليســـت حكـــ ًرا عـــى الرأســـالية يف‬
‫‪ 2‬يشــر جيجــك إىل أن هــذا هــو الحــال أيضً ــا يف ألعــاب الفيديــو التــي تجــري أحداثهــا يف عــامل مــا بعــد الكارثــة‪ .‬وللمزيــد عــن هــذه‬
‫الفكــرة عامــة مــع تحليــل مفصــل لفيلــم ‪ )2011( contagion‬لســتيفني ســودربريج‪ ،‬كنمــوذج عــى تصــور نهايــة العــامل دومنــا نهايــة‬
‫الرأســالية‪ ،‬انظــر ‪.)2014( Beaumont‬‬

‫‪5‬‬
‫واق ــع األم ــر‪ ،‬إنه ــا متعلق ــة ب ــكل نظ ــام قائ ــم ومس ــتقر‪ ،‬ك ــا س ــتحاجج ه ــذه الدراس ــة‪.‬‬
‫فل ــو عدن ــا مث ـ ًـا‪ ،‬خمس ــة ق ــرون إىل ال ــوراء (إىل ‪ 1548‬تحديــ ًدا) س ــنجد أن إيتي ــان دو‬
‫ال بويـــي هـــو تقري ًبـــا أول مـــن استشـــكل هـــذه الوضعيـــة‪ ،‬وإن كان يف ســـياق آخـــر‪،‬‬
‫وأطلـــق عليهـــا اســـم العبوديـــة الطوعيـــة‪ ،‬إذ يقـــول‪:‬‬

‫م ــا أود أن أعرف ــه ه ــو كي ــف أمك ــن للعدي ــد م ــن الن ــاس‪ ،‬وم ــن الق ــرى‪ ،‬وم ــن‬
‫امل ــدن‪ ،‬وم ــن األم ــم أن تع ــاين األمري ــن أحيانً ــا‪ ،‬ع ــى ي ــد طاغي ــة متوح ــد ال ميل ــك م ــن‬
‫ق ــوة س ــوى تل ــك الت ــي مينحون ــه إياه ــا‪ ،‬وال يق ــدر ع ــى إلح ــاق ال ــر به ــم إال بق ــدر‬
‫مـــا يريـــدون هـــم أن يقاســـوا ‪ ...‬إنـــه ألمـــر مذهـــل بـــا ريـــب‪ ،‬ولكنـــه شـــائع جـــ ًدا‬
‫بالرغ ــم م ــن ذل ــك‪ .‬ف ــأن ي ــرى امل ــرء مالي ــن م ــن الن ــاس رازح ــن يف الش ــقاء وأعناقه ــم‬
‫تح ــت الن ــر م ــن دون أن يكون ــوا مرغم ــن ع ــى ذل ــك م ــن ِقب ــل ق ــوة قاه ــرة‪ ،‬له ــو‬
‫‪3‬‬
‫أم ــر مث ــر ل ــأمل أك ــر من ــه مث ــر للدهش ــة» (‪.)41-40 :2008 ,de la Boetie‬‬

‫يستشـــكل دو ال بويـــي هنـــا ظاهـــرة العبوديـــة الطوعيـــة‪ :‬أن يخضـــع النـــاس‬


‫مبل ــئ إرادته ــم لطاغي ــة يس ــومهم س ــوء الع ــذاب‪ .‬لك ــن س ــواء تعل ــق األم ــر بالطغي ــان‬
‫الفـــج أو بالرأســـالية يف نســـختها النيوليرباليـــة كشـــكل أكـــر مكـــ ًرا ورهافـــة مـــن‬
‫الطغيـــان ‪ 4‬فالفكـــرة واحـــدة‪ :‬كيـــف ميكـــن أن يوجـــد نظـــام اجتامعـــي أو ســـيايس أو‬
‫اقتص ــادي يك ــون م ــن ش ــأنه أن يلح ــق الضي ــم بالن ــاس‪ ،‬ولكنه ــم‪ ،‬م ــع ذل ــك يحتملون ــه‬
‫ببال ــغ الص ــر‪ ،‬ب ــل يف بع ــض األحي ــان ال يحتملون ــه وفق ــط‪ ،‬وإمن ــا يربرون ــه ويدعمون ــه‬
‫‪ 3‬اعتمدت عىل النص اإلنجليزي‪ ،‬وعدت للرتجمة العربية أيضً ا‪ ،‬دو ال بوييس (‪.)2008‬‬
‫‪ 4‬فالعبوديــة الطوعيــة للنظــام الرأســايل تكــون يف أشــد صورهــا تحدي ـدًا يف اللحظــة التــي يعتقــد املــرء فيهــا أنــه حــر متا ًمــا‪ .‬فالـــ‬
‫‪ homo economicus‬يكــدح ويراكــم املــال وينفــق كيــف يشــاء دومنــا أن يســاوره شــك يف حريتــه‪ ،‬يف حــن أنــه بذلــك ليــس ســوى «عبــد‬
‫طوعــي» للنظــام الرأســايل‪ .‬هــذه املفارقــة هــي الحيلــة األهــم لأليديولوجيــا الرأســالية‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫ع ــاوة ع ــى ذل ــك؟ أو لنق ــل ذل ــك بعب ــارة أخ ــرى‪ :‬مل ــاذا ال يس ــعى الن ــاس إىل تغي ــر‬
‫األوضـــاع االجتامعيـــة التـــي يعانـــون تحـــت وطئتهـــا؟ ملـــاذا مل تحـــدث الثـــورات عـــى‬
‫مـــدار التاريـــخ البـــري إال نـــاد ًرا بالرغـــم مـــن أنـــه تاريـــخ مـــرع بالظلـــم والقهـــر‬
‫والالمس ــاواة؟ أو مل ــاذا‪ ،‬حت ــى نتكل ــم بلغ ــة أيديولوجي ــة‪ ،‬تغل ــب ع ــى الن ــاس املحافظ ــة‬
‫السياس ــية (‪)political conservatism‬؟ بعيــ ًدا ع ــن التفس ــرات السياس ــية (االقتصادي ــة‪،‬‬
‫التاريخي ــة‪ ،‬أو السوس ــيولوجية) س ــتحاول ه ــذه الدراس ــة أن تلق ــي بع ــض م ــن الض ــوء‬
‫عـــى هـــذه األســـئلة مـــن وجهـــة نظـــر ســـيكولوجية‪ ،‬وذلـــك بســـر األصـــول النفســـية‬
‫للمحافظ ــة السياس ــية‪ ،‬م ــن خ ــال تقدي ــم مراجع ــة لنظري ــة تربي ــر النظ ــام ( ‪system‬‬
‫‪ )justification theory‬الت ــي طوره ــا ج ــون جوس ــت (وزم ــاؤه)‪ ،‬مبناقش ــة مقدماته ــا‬
‫وأطروحتهـــا واألصـــول التطوريـــة التـــي ميكـــن أن تكـــون مبنيـــة عليهـــا‪.‬‬

‫‪ -‬وظيفة الصور النمطية‪ :‬ثالث فرضيات‬


‫نبتـــت نظريـــة تربيـــر النظـــام يف حقـــل الســـيكولوجيا االجتامعيـــة‪ ،‬وتحديـــ ًدا‬
‫يف مبحـــث التنميـــط أو بنـــاء الصـــور النمطيـــة (‪ .)stereotyping‬والصـــورة النمطيـــة‬
‫(‪ )stereotype‬هـــو مصطلـــح صكـــه والـــر ليبـــان‪ ،‬وإليـــه يرجـــع الفضـــل يف إدخالـــه‬
‫إىل حق ــل الس ــيكولوجيا االجتامعي ــة (‪ .)1922 ,Lippmann‬ف ــا ه ــي الص ــور النمطي ــة؟‬
‫وم ــا ه ــي وظيفته ــا؟ الص ــور النمطي ــة ه ــي «مجموع ــة م ــن املعتق ــدات ع ــن ممي ــزات‬
‫وســـات وســـلوكيات أفـــراد جامعـــات ‪ 5‬بعينهـــا‪ .‬وأكـــر مـــن كونهـــا مجـــرد معتقـــدات‬
‫‪ 5‬باملعنــى العــام لكلمــة جامعــة ‪ social group‬والتــي ميكــن تعريفهــا عــى نحــو إجـرايئ‪ ،‬وبســيط ‪ ،‬بأنهــا «فــردان أو أكــر مرتبطــان‬
‫بعالقــات اجتامعيــة» (‪ .)3 :2010 ,Forthys‬وغالبًــا مــا يكــون الفــرد منتميًــا لجامعــات شــتى يف نفــس الوقــت‪ ،‬جامعــات مبنيــة عــى‬
‫أســاس اإلثنيــة والقوميــة والجنــس والديــن واأليديولوجيــا السياســية واملهنــة والعائلــة والطبقــة االجتامعيــة والعــادات والرياضــة والفــن‬
‫وإلــخ‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫أيضـــا مبثابـــة نظريـــات عـــن كيفيـــة و ِعلـــة اجتـــاع ســـات‬ ‫حـــول الجامعـــات‪ ،‬هـــي ً‬
‫معينـــة مـــع بعضهـــا البعـــض» (‪ .)240 :1996 ,Hilton‬أمـــا وظيفـــة الصـــور النمطيـــة‬
‫فه ــي وظيف ــة س ــياقية مبعن ــى أنه ــا تظه ــر يف س ــياقات معين ــة لتق ــوم بوظائ ــف معين ــة‬
‫تفرضه ــا ه ــذه الس ــياقات‪ ،‬وعام ــة «تظه ــر الص ــور النمطي ــة كطريق ــة لتبس ــيط الجه ــد‬
‫الذهن ــي املطال ــب م ــن املتلق ــي بذل ــه‪ ،‬وذل ــك بتيس ــرها لعملي ــة معالج ــة املعلوم ــات‬
‫االجتامعي ــة ع ــن األف ــراد أو الجامع ــات‪ ،‬إذ تس ــمح ل ــه باإلعت ــاد ع ــى املعرف ــة املخزن ــه‬
‫عوضـــا عـــن االعتـــاد عـــى املعلومـــات الجديـــدة» (‪:1996 ,Hilton‬‬ ‫ســـابقًا يف عقلـــه ً‬
‫‪ ،)238‬يف رضب مـــن االقتصـــاد الذهنـــي إذا جـــاز القـــول‪ .‬أو لنقـــل ذلـــك بعبـــارة‬
‫تطوريـــة‪ :‬الصـــور النمطيـــة هـــي تكيـــف ذهنـــي اجتامعـــي‪ ،‬إنهـــا «ال تعيننـــا عـــى أن‬
‫نبح ــر يف بيئتن ــا االجتامعي ــة املعق ــدة وفق ــط‪ ،‬وإمن ــا ه ــي تفع ــل ذل ــك بكف ــاءة عالي ــة‬
‫أيض ــا؛ فف ــي الواق ــع‪ ،‬الص ــور النمطي ــة مبثاب ــة أجه ــزة موف ــرة للطاق ــة» (& ‪Hutchison‬‬ ‫ً‬
‫(‪)6‬‬
‫‪.)292 :2015 ,Martin‬‬
‫باإلضافـــة إىل هـــذه الوظيفـــة الذهنيـــة (‪ )cognitive‬العامـــة للصـــور النمطيـــة‬
‫مث ــة وظيف ــة أخ ــرى له ــا‪ ،‬ولكنه ــا وظيف ــة دافعي ــة (‪ )motivational‬ه ــذه امل ــرة‪ :‬إنه ــا‬
‫التربي ــر (‪ .)justification‬ويقص ــد بالتربي ــر هن ــا عام ــة «اس ــتخدام فك ــرة م ــا لرشعن ــة‬
‫أو دعـــم فكـــرة أخـــرى أو ســـلوكيات معينـــة» (‪ .)1 :1994 ,Jost & Banaji‬يســـتخدم‬
‫النـــاس‪ ،‬إذن الصـــور النمطيـــة بغـــرض التربيـــر‪ ،‬ولكـــن تربيـــر مـــاذا بالضبـــط؟ يف أول‬
‫األمـــر حـــر والـــر ليبـــان (‪ )1922‬وظيفـــة الصـــور النمطيـــة التربيريـــة يف تربير‪-‬األنـــا‬
‫(‪ :)ego-justification‬يســـتخدم النـــاس الصـــور النمطيـــة لتربيـــر وحاميـــة وضعهـــم‬

‫‪ 6‬كــا هــو الحــال مــع الكثــر مــن الصــور النمطيــة الذائعــة بيننــا‪ ،‬عــى ســبيل املثــال‪« :‬الصعايــدة أغبيــاء»‪« ،‬املنايفــة بخــاء»‪« ،‬بنــات‬
‫كليــة هندســة يفتقــرون للجــال» وهكــذا‪..‬‬

‫‪8‬‬
‫االجتامعـــي ولتربيـــر ســـلوكياتهم‪.‬‬
‫‪7‬‬

‫ه ــدف الص ــور النمطي ــة‪ ،‬إذن ه ــو حامي ــة تص ــور امل ــرء ع ــن ذات ــه وتقدي ــره له ــا‬
‫(‪ ،)self-esteem‬بتربي ــر مواقف ــه وأحاسيس ــه وس ــلوكياته ووضع ــه االجتامع ــي‪.‬‬
‫ولك ــن فرضي ــة تربير‪-‬األن ــا يعتوره ــا بع ــض النق ــص‪ ،‬إذ ال تصل ــح لتفس ــر الح ــاالت‬
‫اآلتي ــة‪:‬‬
‫(أ) الص ــور النمطي ــة الس ــلبية ع ــن ال ــذات‪ ،‬كأن يتبن ــى أف ــراد الجامع ــات األدىن‬
‫حظ ــوة يف املجتم ــع ص ــورة منطي ــة س ــلبية ع ــن أنفس ــهم وع ــن الجامع ــة الت ــي ينتم ــون‬
‫إليه ــا‪.‬‬
‫(ب) اس ــتخدام األف ــراد الص ــور النمطي ــة يف ح ــاالت ال يحتاج ــون فيه ــا إىل تربي ــر‬
‫أوضاعه ــم أو س ــلوكياتهم‪ ،‬كأن يتبن ــى امل ــرء ص ــورة منطي ــة س ــلبية ع ــن جامع ــة مل يتفاع ــل‬
‫معه ــا أص ـ ًـا‪ ،‬وم ــن ث ـ ّم ه ــو لي ــس بحاج ــة إىل تربي ــر ترصفات ــه حي ــال أفراده ــا‪ ،‬أو تربي ــر‬
‫وضع ــه االجتامع ــي مقارن ــة بوضعه ــم‪ .‬أو كأن يتبن ــى أف ــراد الجامع ــات املحروم ــة ص ــور‬
‫منطي ــة س ــلبية ع ــن بعضه ــم البع ــض بالرغ ــم م ــن أن وال واح ــدة منه ــا أع ــى رتب ــة م ــن‬
‫األخ ــرى بحي ــث تك ــون بحاج ــة إىل تربي ــر وضعه ــا االجتامع ــي؛‪.‬‬
‫(ج) تشـــارك قطاعـــات عريضـــة مـــن املجتمـــع لنفـــس الصـــور النمطيـــة‪ .‬أي أن‬
‫نفـــس الصـــور النمطيـــة يتـــم اســـتخدامها مـــن ِقبـــل أفـــراد مختلفـــن‪ ،‬أفـــراد يفـــرض‬
‫أن له ــم س ــلوكيات وأوض ــاع مختلف ــة تحت ــاج إىل تربي ــرات مختلف ــة‪ ،‬وم ــن ثــ ّم ص ــور‬
‫منطيـــة مختلفـــة (‪.)5-4 :1994 ,Jost & Banaji‬‬
‫بع ــد ليب ــان اق ــرح ه ــري تاجف ــل (وزم ــاؤه م ــن منظ ــري الهوي ــة االجتامعي ــة‬
‫والتوحـــد االجتامعـــي) ‪ 8‬أن يتـــم توســـيع نطـــاق الوظيفـــة التربيريـــة للصـــور النمطيـــة‬
‫‪ 7‬األغنيــاء مثـ ًـا‪ ،‬يســتخدمون الصــور النمطيــة عــن الفق ـراء بوصفهــم كســاىل غــر مجتهديــن‪ ،‬ومــن ث ـ ّم يســتحقون فقرهــم لتربيــر‬
‫وضعهــم االجتامعــي كأغنيــاء‪ .‬الجنــود املعتــدون يســتخدمون الصــور النمطيــة عــن املعتــدى عليهــم بوصفهــم همــج وغــر متحرضيــن‬
‫لتربيــر عدوانهــم (‪ ،)1994 ,Jost & Banaji‬وهكــذا‪.‬‬
‫‪ 8‬ملراجعة لنظرية الهوية االجتامعية (‪ )social identity‬والتوحد االجتامعي (‪ ،)social identification‬انظر‪.)2016( Hogg ،‬‬

‫‪9‬‬
‫لتمتـــد مـــن الفـــرد إىل الجامعـــة‪ ،‬وهـــو مـــا يُعـــرف بفرضيـــة تربير‪-‬الجامعـــة (‪group-‬‬
‫‪ :)justification‬غـــرض الصـــور النمطيـــة هـــو حاميـــة وضـــع وســـلوك الجامعـــة التـــي‬
‫ينتمـــي إليهـــا الفـــرد‪ .‬ومـــن ثـــ ّم تُســـتخدم الصـــور النمطيـــة لتربيـــر وعقلنـــة أفعـــال‬
‫الجامع ــة الت ــي ينتم ــي إليه ــا الف ــرد (الـــ ‪ )in-group‬املرتكب ــة‪ ،‬أو املن ــوي ارتكابه ــا يف‬
‫ح ــق الجامع ــات األخ ــرى (الـــ ‪ .)out-group‬وكذل ــك يتبن ــى أف ــراد جامع ــة معين ــة ص ــور‬
‫منطي ــة س ــلبية ع ــن الجامع ــات األخ ــرى بغ ــرض متيي ــز جامعته ــم واإلع ــاء م ــن ش ــأنها‬
‫عـــى حســـاب الجامعـــات األخـــرى (انظـــر عـــى ســـبيل املثـــال‪ .)1981 ,Tajfel :‬وفقـــا‬
‫له ــذه الوظيف ــة األوس ــع للص ــور النمطي ــة ميك ــن للم ــرء‪ ،‬إذن أن يتبن ــى ص ــو ًرا منطي ــة‬
‫معينـــة ال لتربيـــر ســـلوكياته أو وضعـــه االجتامعـــي‪ ،‬وإمنـــا لتربيـــر ورشعنـــة ســـلوكيات‬
‫وأوضـــاع األفـــراد اآلخريـــن الذيـــن يشـــاركهم نفـــس الهويـــة االجتامعيـــة‪.‬‬
‫وبذلـــك تكـــون فرضيـــة تربير‪-‬الجامعـــة قـــد ســـدت بعـــض فجـــوات الفرضيـــة‬
‫األوىل‪ ،‬فهـــي تفـــر اآليت‪ ،‬عـــى ســـبيل املثـــال‪:‬‬
‫(أ) تبن ــى الف ــرد ص ــور منطي ــة س ــلبية ع ــن جامع ــة مل يحت ــك به ــا ع ــى اإلط ــاق‪،‬‬
‫ولك ــن احت ــك به ــا أف ــراد آخ ــرون ينتم ــون لجامعت ــه‪.‬‬
‫(ب) تبنـــى الجامعـــات املحرومـــة صـــو ًرا منطيـــة ســـلبية عـــن بعضهـــم البعـــض‬
‫بالرغ ــم م ــن تس ــاويهم يف الب ــؤس‪ ،‬وذل ــك مب ــا أن األص ــل يف العالق ــات ب ــن الجامع ــات‬
‫هـــو‪ ،‬وفقًـــا لنظريـــة الهويـــة االجتامعيـــة التنافـــس‪( .‬ج) تفـــر شـــيوع نفـــس الصـــور‬
‫النمطي ــة ب ــن أف ــراد مختلف ــن‪ ،‬وذل ــك مب ــا أنه ــم يش ــركون يف نف ــس الهوي ــة االجتامعي ــة‪،‬‬
‫ولكـــن فرضيـــة تربير‪-‬الجامعـــة ال يـــزال يعتورهـــا بالرغـــم مـــن ذلـــك بعـــض النقـــص‪،‬‬
‫فه ــي ال تف ــر الح ــاالت اآلتي ــة ع ــى س ــبيل املث ــال‪:‬‬
‫(أ) تش ــارك جامعت ــان مختلفت ــان لنف ــس الص ــور النمطي ــة‪ ،‬فالرج ــال والنس ــاء‪ ،‬مث ـ ًـا‪،‬‬
‫يتبنـــون نفـــس الصـــور النمطيـــة الجندريـــة‪ ،‬كذلـــك كل مـــن البيـــض والســـود يتبنـــون‬
‫نف ــس الص ــور النمطي ــة العرقي ــة‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫(ب) تبن ــى ص ــور منطي ــة س ــلبية ع ــن ال ــذات والجامع ــة‪ ،‬فالنس ــاء مث ـ ًـا يتبن ــون‬
‫نف ــس الص ــور النمطي ــة الذكوري ــة الس ــلبية عنه ــم‪ ،‬مث ــل‪ :‬امل ــرأة عاطفي ــة مبعن ــى أنه ــا‬
‫غ ــر عقالني ــة‪ ،‬وامل ــرأة س ــلبية‪.‬‬
‫(ج) ظاه ــرة تفضي ــل الجامع ــة الخارجي ــة (‪ )out-group favoritism‬كأن يفض ــل‬
‫الفق ــراء مث ـ ًـا أف ــراد الطبق ــات الغني ــة ع ــن أف ــراد الطبق ــات الفق ــرة (‪,Jost & Banaji‬‬
‫‪ ،)9-6 :1994‬ولس ــد ه ــذه الفج ــوات الت ــى تع ــاين منه ــا الفرضيت ــن الس ــابقتني‪ ،‬اق ــرح‬
‫جوســـت وباناجـــي (‪ )1994‬فرضيـــة ثالثـــة‪ :‬تســـتخدم الصـــور النمطيـــة‪ ،‬باإلضافـــة اىل‬
‫اســتخدامها يف تربير‪-‬األنــا وتربير‪-‬الجامعــة‪ ،‬يف تربير‪-‬النظــام‪ .‬واملقصــود بالنظــام (‪)system‬‬
‫هنـــا‪ ،‬ومبصطلحـــات تالكـــوت بارســـونز‪« ،‬شـــبكة ُمبنيَنـــة مـــن العالقـــات االجتامعيـــة»‪،‬‬
‫أي «نظـــام مـــن ســـرورات التفاعـــل بـــن الفاعلـــن االجتامعيـــن» (‪:2005 ,Parsons‬‬
‫‪ ،)15‬وق ــد يك ــون النظ ــام ماديًّ ــا كاألرسة‪ ،‬املنظ ــات‪ ،‬املؤسس ــات‪ ،‬أو املجتم ــع ككل‪ .‬أو‬
‫غـــر مـــادي كاملعايـــر والقواعـــد غـــر املكتوبـــة للمعامـــات والســـلوكيات (‪,.Jost et al‬‬
‫‪ .)4 :2009‬أو لنقـــل ذلـــك ببســـاطة‪ :‬املقصـــود بالنظـــام هنـــا هـــو مختلـــف الرتتيبـــات‬
‫االجتامعيـــة القامئـــة‪ .‬أمـــا مفهـــوم تربير‪-‬النظـــام فيشـــر إىل «العمليـــة النفســـية التـــي‬
‫يتـــم بواســـطتها تقبـــل وتفســـر وتربيـــر األوضـــاع الســـائدة ســـواء كانـــت اجتامعيـــة‪،‬‬
‫سياســـية‪ ،‬اقتصاديـــة‪ ،‬جنســـية‪ ،‬أو قانونيـــة ببســـاطة ألنهـــا أوضـــاع قامئـــة» (& ‪Jost‬‬
‫‪11 :1994 ,Banaji‬؛ التشـــديد منـــي)‪.‬‬
‫يحاجـــج جوســـت وباناجـــي هنـــا إذن‪ ،‬بـــأن مثـــة ظواهـــر ال ميكـــن تفســـرها‬
‫باإلحال ــة ع ــى وظيفت ــي الص ــور النمطي ــة املتمثلت ــن يف حامي ــة األن ــا وحامي ــة الجامع ــة‪،‬‬
‫وإمنـــا باإلحالـــة عـــى وظيفـــة ثالثـــة هـــي حاميـــة النظـــام القائـــم‪ .‬وهـــذه الوظيفـــة‬
‫الثالثـــة مـــن شـــأنها‪ ،‬يف أغلـــب األوقـــات‪ ،‬أن تتعـــارض مـــع الوظيفتـــن األوىل والثانيـــة‪:‬‬
‫«فبخـــاف فرضيـــة تربير‪-‬األنـــا أو تربير‪-‬الجامعـــة التـــي تفـــرض وجـــود ميكانيـــزم‬

‫‪11‬‬
‫تكيفـــي نفـــي وراء الصـــور النمطيـــة (حاميـــة األنـــا أو األنـــا الجمعـــي األوســـع)‪ ،‬ال‬
‫يلع ــب تربير‪-‬النظ ــام دو ًرا مش ــاب ًها يف حامي ــة مصال ــح ال ــذات والجامع ــة‪ .‬فف ــي الواق ــع‬
‫يشـــر تربيـــر النظـــام إىل العمليـــة النفســـية التـــي يتـــم بواســـتطها حاميـــة الرتتيبـــات‬
‫االجتامعي ــة القامئ ــة بغ ــض النظ ــر ع ــن األرضار النفس ــية‪ ،‬واملادي ــة الت ــي تخلفه ــا ع ــى‬
‫األفـــراد والجامعـــات املحرومـــة» (‪ ،)10 :1994 ,Jost & Banaji‬وبعبـــارة أخـــرى يشـــر‬
‫تربير‪-‬النظ ــام إىل «العملي ــة النفس ــية الت ــي يت ــم بواس ــطتها رشعن ــة النظ ــام االجتامع ــي‬
‫القائ ــم حت ــى ل ــو كان ذل ــك ع ــى حس ــاب مصلح ــة الف ــرد ومصلح ــة الجامع ــة» (‪Jost‬‬
‫‪ .)2 :1994 ,& Banaji‬طُ ــورت الص ــور النمطي ــة إذن‪ ،‬ل ــي ت ُس ــتخدم يف تفس ــر وتربي ــر‬
‫بعـــض األوضـــاع القامئـــة كالنظـــام الســـيايس واالقتصـــادي‪ ،‬وهرميـــة الســـلطة واملكانـــة‬
‫االجتامعي ــة طريق ــة توزي ــع امل ــوارد‪ ،‬وطريق ــة تقس ــيم األدوار االجتامعي ــة‪ ،‬وهل ــم ج ــرا‪.‬‬
‫وبالت ــايل‪ ،‬يف ــرض أن تك ــون الص ــور النمطي ــة (كمعتق ــدات ش ــائعة ح ــول الجامع ــات)‬
‫مصاحبـــة ألي نظـــام مـــن شـــأنه أن يقســـم النـــاس إىل طبقـــات مختلفـــة ذات أدوار‬
‫اجتامعيـــة مختلفـــة ومكانـــة اجتامعيـــة مختلفـــة‪ ،‬وذلـــك مبـــا أن النـــاس مييلـــون إىل‬
‫النظـــر إىل هـــذه الرتتيبـــات عـــى أنهـــا مـــررة‪ ،‬ومـــن ثـــ ّم يحتاجـــون إىل صـــور منطيـــة‬
‫لرشعنـــة وعقلنـــة هـــذه الرتتيبـــات (‪.)3 :1994 ,Jost & Banaji‬‬
‫بجانـــب الوظيفـــة التكيفيـــة للصـــور النمطيـــة‪ :‬حاميـــة األنـــا أو الجامعـــة مثـــة‬
‫وظيفـــة أخـــرى إذن‪ ،‬ولكنهـــا وظيفـــة أيديولوجيـــة هـــذه املـــرة‪« :‬تضطلـــع الصـــور‬
‫النمطيـــة بوظائـــف أيديولوجيـــة‪ ،‬وبالتحديـــد‪ ،‬إنهـــا تقـــوم بتربيـــر اســـتغالل جامعـــات‬
‫بعينهـــا لجامعـــات أخـــرى‪ ،‬وتفســـر فقـــر وعجـــز بعـــض الجامعـــات وغنـــى ونجـــاح‬
‫الجامعـــات األخـــرى بطـــرق مـــن شـــأنها أن تجعـــل هـــذه الفـــروق تبـــدو رشعيـــة بـــل‬
‫حتـــى طبيعيـــة» (‪ .)10 :1994 ,Jost & Banaji‬تقـــرب الصـــور النمطيـــة يف وظيفتهـــا‬
‫هـــذه مـــن مفهـــوم «الوعـــي الزائـــف» (‪ )false consciousness‬يف التقليـــد املاركـــي‪،‬‬

‫‪12‬‬
‫مبعن ــى املعتق ــدات الخاطئ ــة الت ــي يعتنقه ــا امل ــرء والت ــي م ــن ش ــأنها أن تبق ــي علي ــه‬
‫مضطهــ ًدا ومقمو ًع ــا؛ «أي أن يتمس ــك الف ــرد مبعتق ــدات مض ــادة ملصلحت ــه أو ملصلح ــة‬
‫جامعت ــه‪ ،‬وبالت ــايل تحاف ــظ ع ــى األوض ــاع الظامل ــة الت ــي يعيش ــها الف ــرد أو الجامع ــة‪».‬‬
‫ع ــى س ــبيل املث ــال‪ :‬االعتق ــاد ب ــأن معان ــاة الف ــرد ال من ــاص منه ــا أو أنه ــا مس ــتحقة؛ أو‬
‫أن املكان ــة االجتامعي ــة الت ــي يتس ــنمها األف ــراد تعك ــس‪ ،‬مه ــا كان ــت قيمته ــم الفعلي ــة‬
‫وم ــا يس ــتحقونه (‪3 :1994 ,Jost & Banaji‬؛ ولتحلي ــل مفص ــل ملفه ــوم الوع ــي الزائ ــف‪،‬‬
‫ولبي ــان األدل ــة الس ــيكولوجية الت ــي تربه ــن علي ــه‪ ،‬انظ ــر ‪1995 ,Jost‬؛ ولدف ــاع فلس ــفي‬
‫عنـــه‪ ،‬انظـــر ‪.)2011 ,Lukes‬‬
‫لنجمــل القــول إذن‪ :‬للصور النمطية ثالثــة أنواع من الوظائف‪:‬‬
‫ذهنية‪ .‬و(ب) دافعيــة تكيفية‪.‬‬
‫و(ج) دافعي ــة أيديولوجي ــة‪ .‬تتمث ــل الوظيف ــة الذهني ــة يف توف ــر الجه ــد الذهن ــي‬
‫وتيســـر اإلبحـــار يف العـــامل االجتامعـــي املعقـــد‪ .‬وتتمثـــل الوظيفـــة الدافعيـــة التكيفيـــة‬
‫يف حامي ــة األن ــا وحامي ــة الجامع ــة بتربي ــر س ــلوكياتهام وأوضاعه ــا االجتامعي ــة‪ .‬بين ــا‬
‫تتمثـــل الوظيفـــة الدافعيـــة األيديولوجيـــة يف حاميـــة النظـــام القائـــم بتربيـــره وعقلنتـــه‬
‫ورشعنتـــه‪ .‬وانطالقًـــا مـــن طبيعـــة الصـــور النمطيـــة وطبيعـــة وظائفهـــا هـــذه‪ ،‬تحاجـــج‬
‫‪9‬‬
‫نظريـــة تربيـــر النظـــام عـــن أن الدوافـــع البرشيـــة عامـــة ال تقتـــر يف هـــذا الســـياق‪،‬‬
‫عـــى الدوافـــع املتعلقـــة بحاميـــة الـــذات وبحاميـــة الجامعـــة وهـــا نوعـــان جليـــان‬
‫ومفهوم ــان م ــن أن ــواع الدواف ــع البرشي ــة‪ ،‬وإمن ــا مث ــة ن ــوع ثال ــث م ــن الدواف ــع وه ــو‬
‫املتعل ــق بحامي ــة النظ ــام االجتامع ــي القائ ــم‪ .‬أو بعب ــارة أخ ــرى مث ــة ث ــاث أن ــواع م ــن‬
‫الدواف ــع البرشي ــة‪( :‬أ) تربير‪-‬األن ــا؛ و(ب) تربير‪-‬الجامع ــة؛ و(ج) تربير‪-‬النظ ــام‪ .‬وتحاج ــج‬
‫النظري ــة ب ــأن‬
‫‪ 9‬نتحــدث هنــا عــن رضب بعينــة مــن رضوب الدوافــع البرشيــة الواســعة‪ ،‬وهــو املتعلــق بالتربيــر والعقلنــة‪ .‬وملراجعــة شــاملة لنظريــة‬
‫الدوافــع البرشيــة بعامــة انظــر‪.)2013( Petri & Govern ،‬‬

‫‪13‬‬
‫(‪ )1‬هــذه الدوافــع تتم عىل مســتوى الالوعي يف املقام األول‪.‬‬
‫(‪ )2‬ميكـــن أن يكـــون مثـــة تضـــارب بـــن هـــذه الدوافـــع الثـــاث وهـــو مـــا قـــد‬
‫يول ــد الــراع بينه ــا‪ ،‬خاص ــة ب ــن تربي ــر األن ــا وتربي ــر الجامع ــة يف جه ــة وتربي ــر النظ ــام‬
‫يف الجه ــة املقابل ــة‪ .‬فف ــي بع ــض األحي ــان‪ ،‬وك ــا س ــنبني الح ًق ــا‪ ،‬تنس ــجم الدواف ــع الثالث ــة‬
‫مـــع بعضهـــا البعـــض‪ ،‬ولكـــن يف أحيـــان أخـــرى تتنـــازع فيـــا بينهـــا‪ ،‬فتكـــون الغلبـــة‬
‫أحيانًـــا لدوافـــع تربيـــر األنـــا وتربيـــر الجامعـــة عـــى حســـب تربيـــر النظـــام‪ ،‬ولكـــن يف‬
‫أحي ــان أخ ــرى‪ ،‬وه ــي الت ــي تعنين ــا هن ــا تحديــ ًدا‪ ،‬تك ــون الغلب ــة لتربي ــر النظ ــام‪ :‬فـــ»يف‬
‫ظ ــروف معين ــة س ــيقوم الن ــاس بتربي ــر الوض ــع القائ ــم مه ــا كان الثم ــن‪ ،‬ع ــى نح ــو‬
‫يتج ــاوز رغبته ــم يف تربي ــر مصالحه ــم الخاص ــة أو مصال ــح جامعاته ــم» (‪,Jost & Banaji‬‬
‫‪10 :1994‬؛ التشـــديد منـــي)‪.‬‬
‫عندمـــا نريـــد أن نعـــرف األســـباب التـــي تجعـــل نظـــام مـــا ينعـــم باإلســـتقرار‬
‫الشـــديد عـــى الرغـــم مـــن كونـــه يلحـــق الضيـــم بالنـــاس فإننـــا نفتـــش‪ ،‬غالبًـــا‪ ،‬عنهـــا‬
‫يف ناحيـــة النظـــام نفســـه‪ :‬تاريخـــه‪ ،‬وســـاته‪ ،‬وآليـــات عملـــه‪ ،‬ولكـــن نظريـــة تربيـــر‬
‫النظـــام تدعونـــا ألن نيمـــم وجهنـــا شـــطر ناحيـــة أخـــرى‪ :‬النـــاس الذيـــن يعيشـــون يف‬
‫ظ ــل ه ــذا النظ ــام أنفس ــهم؛ ال ينع ــم نظ ــام مجح ــف باالس ــتقرار بفض ــل خصائص ــه أو‬
‫أيض ــا وه ــو األه ــم هن ــا بفض ــل الن ــاس أنفس ــهم الذي ــن‬ ‫آلي ــات عمل ــه وفق ــط‪ ،‬وإمن ــا ً‬
‫يعان ــون من ــه؛ وذل ــك ألن الن ــاس لديه ــم مي ــل اس ــتعداد داف ــع أصي ــل لتربي ــر النظ ــام‪،‬‬
‫أي نظ ــام قائ ــم حت ــى ل ــو كان ذل ــك النظ ــام يع ــود بال ــرر ع ــى مصالحه ــم الش ــخصية‪،‬‬
‫أو مصالـــح جامعاتهـــم‪ ،‬وهـــذه هـــي األطروحـــة األساســـية لنظريـــة تربيـــر النظـــام‪.‬‬
‫ولك ــن يجبهن ــا هن ــا س ــؤاالن‪ :‬كي ــف يق ــوم الن ــاس بتربي ــر النظ ــام؟ ومل ــاذا يقوم ــون‬
‫بذل ــك أص ـ ًـا‪ ،‬خاص ــة إذا م ــا كان ه ــذا النظ ــام يلح ــق به ــم أرضار معت ــرة؟ س ــنحاول أن‬
‫نجي ــب ع ــى هذي ــن الس ــؤالني تبا ًع ــا‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫‪ -‬العقلنة‪ :‬آلية تربير الوضع القائم‪:‬‬
‫الثعلـــب والعنـــب‪ ،‬هـــي إحـــدى حكايـــات إيســـوب الشـــهرية‪ ،‬ومتـــي الحكايـــة‬
‫كالت ــايل‪ :‬كان الثعل ــب يتض ــور جو ًع ــا ف ــرأي عناقي ــد العن ــب الناضج ــة تت ــدىل م ــن أيك ــة‬
‫عاليـــة‪ ،‬فلجـــأ إىل كل الحيـــل لـــي يصـــل إليهـــا‪ ،‬ولكنـــه أضنـــى نفســـه بـــا جـــدوى‪،‬‬
‫فتـــوىل عنهـــا يف نهايـــة املطـــاف‪ ،‬ومداريًـــا لخيبـــة أملـــه قـــال لنفســـه‪« :‬إنـــه حـــرم‬
‫عـــى أيـــة حـــال وليـــس ناض ُجـــا كـــا ظننـــت» (إيســـوب‪25 :2003 ،‬؛ مـــع تـــرف‬
‫يســـر يف الرتجمـــة(‪ .‬تـــرح هـــذه الحكايـــة‪ ،‬عـــى نحـــو بليـــغ‪ ،‬إحـــدى امليكانيزمـــات‬
‫الدفاعي ــة األساس ــية الفرويدي ــة‪ ،10 ،‬وه ــي العقلن ــة (‪ .)rationalization‬والعقلن ــة ه ــي‬
‫«ميكانيـــزم دفاعـــي إنـــكاري‪ ،‬يســـمح للفـــرد بـــأن يتعامـــل مـــع الرصاعـــات العاطفيـــة‬
‫أو مـــع الضغـــوط النفســـية الداخليـــة أو الخارجيـــة‪ ،‬عـــن طريـــق اختـــاق تفســـرات‬
‫مطمئن ــة وخادم ــة لل ــذات ولكنه ــا خاطئ ــة ألف ــكاره‪ ،‬أو أفعال ــه‪ ،‬أو مش ــاعره أو ألف ــكار‪،‬‬
‫أو أفعـــال‪ ،‬أو مشـــاعر اآلخريـــن التـــي تغطـــي عـــى دوافـــع أخـــرى» (‪,.Knoll et al‬‬
‫‪2016‬؛ التش ــديد من ــي)‪ .‬م ــا فعل ــه الثعل ــب هن ــا ه ــو «عقلن ــة» خيبت ــه يف الوص ــول إىل‬
‫العن ــب ع ــن طري ــق الق ــول لنفس ــه ب ــأن العن ــب ال ــذي عج ــز ع ــن نوال ــه ال يس ــتحق‬
‫التح ــر ع ــى فوات ــه‪ ،‬فه ــو مج ــرد ح ــرم ال ي ــزال‪ ،‬وببس ــاطة ميك ــن النظ ــر إىل العقلن ــة‬
‫هنـــا‪ ،‬أي بوصفهـــا ميكانيـــزم دفاعـــي عـــى أنهـــا رضب مـــن خـــداع النفـــس والكـــذب‬
‫عليهـــا بغـــرض حاميتهـــا مـــن الضغـــوط النفســـية (لألصـــول التطوريـــة لخـــداع النفـــس‬
‫انظـــر‪.)2011 ,Trivers ،‬‬

‫‪ 10‬امليكانيزمــات الدفاعيــة (‪ )defense mechanisms‬هــي ســرورات نفســية أومتاتيكيــة تحمــي الفــرد مــن الرصاعــات العاطفيــة أو‬
‫الضغــوط العصبيــة‪ ،‬كاإلنــكار‪ ،‬الكبــت‪ ،‬اإلســقاط‪ ،‬الفكرنــة‪ ،‬اإلســاء‪ ،‬النقــل‪ ،‬وإلــخ‪ ،‬وانظــر للتفصيــل‪.)2006( Cramer ،‬‬

‫‪15‬‬
‫تج ــادل نظري ــة تربي ــر النظ ــام بأنن ــا نفع ــل م ــع الوض ــع القائ ــم (‪ )status quo‬م ــا‬
‫فعل ــه ثعل ــب إيس ــوب م ــع العن ــب‪ :‬العقلن ــة‪ .‬فم ــن أه ــم األس ــباب الت ــي تجع ــل نظ ــام‬
‫مـــا ينعـــم باإلســـتقرار هـــو أن النـــاس أنفســـهم هـــم الذيـــن يرشعنـــون هـــذا النظـــام‬
‫ويكرســـون اســـتقراره‪ ،‬مبـــا لديهـــا مـــن قـــدرة عـــى العقلنـــة والتربيـــر‪« :‬ميتلـــك النـــاس‬
‫«جه ــاز مناع ــة نف ــي» ميكنه ــم م ــن التأقل ــم م ــع النتائ ــج غ ــر املرج ــوة املنج ــرة ع ــن‬
‫النظ ــام واالنس ــجام معه ــا ع ــن طري ــق اإلع ــاء م ــن قيم ــة الوض ــع القائ ــم وتبخي ــس‬
‫قيم ــة بدائل ــه» (‪ .)1300 :2002 ,.Kay et al‬وبالت ــايل‪ ،‬عندم ــا يع ــاين الن ــاس تح ــت وط ــأة‬
‫نظـــام قائـــم فإنهـــم‪ ،‬ولـــي يتأقلمـــوا مـــع معاناتهـــم يف ظـــل هـــذا النظـــام‪ ،‬يقومـــون‬
‫عوضـــا عـــن يســـعون إىل تغيـــر النظـــام لـــي ينســـجم مـــع رغباتهـــم‪،‬‬ ‫بعقلنتهـــا‪ .‬أي ً‬
‫يقومـــون بتغيـــر رغباتهـــم لتنســـجم مـــع النظـــام‪ .‬أو كـــا يقـــول بروســـت يف البحـــث‬
‫ع ــن الزم ــن املفق ــود (الج ــزء الس ــادس ألربت ــن يف الش ــتات أو الش ــاردة) «نح ــن ال ننج ــح‬
‫يف تغيـــر األشـــياء لتتوافـــق مـــع رغباتنـــا‪ ،‬وإمنـــا رغباتنـــا هـــي التـــي تتغـــر بالتدريـــج‬
‫لتتوافـــق مـــع األشـــياء» ( مستشـــهد بـــه يف‪.)1301 :2002 ,.Kay et al ،‬‬
‫هـــذا وتتخـــذ عقلنـــة الوضـــع القائـــم منطـــن‪ ،‬يســـميهام وليـــام ماجويـــر وكلـــر‬
‫ماجوي ــر (‪ ،)1991‬وع ــى نح ــو اس ــتعاري‪ ،‬بـــ (‪« )1‬العن ــب الحام ــض» و (‪« )2‬الليم ــون‬
‫الحل ــو»‪ .‬والفرضي ــة األساس ــية الثاوي ــة وراء ه ــذا التصني ــف ه ــي التالي ــة‪ :‬مث ــة عالق ــة‬
‫طرديـــة بـــن درجـــة مرغوبيـــة الحـــدث واحتامليـــة وقوعـــه‪ .‬مبعنـــى‪ ،‬كلـــا كانـــت‬
‫احتامليـــة وقـــوع حـــدث مـــا كبـــرة‪ ،‬كلـــا تـــم اعتبـــاره حدث ًـــا مرغوبًـــا مـــن طـــرف‬
‫النـــاس‪ ،‬وكلـــا كانـــت احتامليـــة وقـــوع الحـــدث ضعيفـــة‪ ،‬كلـــا تـــم اعتبـــاره حدث ًـــا‬
‫غ ــر مرغ ــوب في ــه م ــن ط ــرف الن ــاس‪ .‬وبن ــا ًء علي ــه‪ ،‬يتخ ــذ النم ــط األول م ــن عقلن ــة‬
‫الوض ــع القائ ــم الص ــورة التالي ــة‪ :‬إذا كان م ــن غ ــر املرج ــح لح ــدث م ــا أن يق ــع ف ــإن‬
‫النـــاس مييلـــون إىل اعتبـــاره حـــدث غـــر مرغـــوب فيـــه‪ ،‬ومـــن ثـــ ّم مييلـــون إىل الحـــط‬

‫‪16‬‬
‫م ــن أهمي ــة اآلث ــار اإليجابي ــة الت ــي م ــن املف ــرض أن يخلفه ــا حدوث ــه‪ ،‬وم ــن خط ــورة‬
‫اآلث ــار الس ــلبية الت ــي م ــن املف ــرض أن مينعه ــا حدوث ــه‪ ،‬الح ــدث هن ــا «عن ــب» ولك ــن‬
‫ملـــا كان وقوعـــه غـــر مرجـــح تـــم النظـــر إليـــه عـــى أنـــه «حامـــض»‪ .‬ويتخـــذ النمـــط‬
‫الث ــاين الص ــورة التالي ــة‪ :‬إذا كان م ــن املرج ــح لح ــدث م ــا أن يق ــع‪ ،‬ف ــإن الن ــاس مييل ــون‬
‫إىل اعتبـــاره حدث ًـــا مرغوبًـــا‪ ،‬ومـــن ثـــ ّم مييلـــون إىل املبالغـــة يف تقديـــر أهميـــة اآلثـــار‬
‫اإليجابي ــة الت ــي م ــن املف ــرض أن يخلفه ــا حدوث ــه‪ ،‬ويف تقدي ــر خط ــورة اآلث ــار الس ــلبية‬
‫الت ــي م ــن املف ــرض أن مينعه ــا حدوث ــه‪ .‬الح ــدث هن ــا «ليم ــون» ولك ــن مل ــا كان وقوع ــه‬
‫مرج ًح ــا ت ــم النظ ــر إلي ــه ع ــى أن ــه «حل ــو» (‪Kay et ;1991 ,McGuire & McGuire‬‬
‫‪.)2002 ,.al‬‬
‫عندمـــا يكـــون النظـــام الســـيايس (أو االقتصـــادي أو االجتامعـــي) القائـــم إذن‪،‬‬
‫ينعـــم باالســـتقرار مبعنـــى أن النـــاس ال يـــرون أن إمكانيـــة تغيـــره كبـــرة أو محتملـــة‪،‬‬
‫فإنهـــم ميارســـون رضيب العقلنـــة هاتـــن يف حقـــه حتـــى يتســـنى لهـــم التأقلـــم نفســـ ًيا‬
‫مـــع معاناتهـــم تحـــت وطأتـــه‪ :‬املبالغـــة يف تقديـــر أهميـــة التبعـــات اإليجابيـــة التـــي‬
‫تخلفهـــا قـــرارات هـــذا النظـــام وسياســـاته‪ ،‬ويف تقديـــر خطـــورة التبعـــات الســـلبية‬
‫الت ــي متنعه ــا قرارات ــه وسياس ــاته‪ ،‬والح ــط م ــن أهمي ــة التبع ــات اإليجابي ــة الت ــي م ــن‬
‫املفـــرض أن يخلفهـــا تغيـــره‪ ،‬ومـــن خطـــورة التبعـــات الســـلبية التـــي مـــن املفـــرض‬
‫أن يزيلهـــا تغيـــره‪ .‬النظـــام القائـــم‪ ،‬إذن‪« ،‬ليمـــون» لكـــن مل كان تغيـــره غـــر مرجـــح‬
‫ت ــم النظ ــر إلي ــه ع ــى أن ــه «حل ــو»‪ ،‬وبدائ ــل النظ ــام القائ ــم «عن ــب» ولك ــن مل ــا كان‬
‫تحققه ــا غ ــر مرج ــح ت ــم النظ ــر إليه ــا ع ــى أنه ــا «حامض ــة»‪ .‬ونالح ــظ ه ــذا امليكاني ــزم‬
‫الدفاع ــي بج ــاء‪ ،‬ع ــى س ــبيل املث ــال‪ ،‬يف الطريق ــة الت ــي يتعام ــل به ــا مواطن ــن دول ــة‬
‫مـــا‪ ،‬عـــى ســـبيل املثـــال‪ ،‬مـــع القـــرارات االقتصاديـــة القاســـية التـــي يتخذهـــا النظـــام‬
‫الحاك ــم ال ــذي يتمت ــع باالس ــتقرار؛ فبالرغ ــم م ــن أرضاراه ــا الرصيح ــة الت ــي ال تخطأه ــا‬

‫‪17‬‬
‫الع ــن ع ــى املواطن ــن إال أنه ــم‪ ،‬وخاص ــة الطبق ــات املحروم ــة منه ــم (انظ ــر م ــا ي ــي)‪،‬‬
‫مييلـــون إىل عقلنـــة وتربيـــر هـــذه القـــرارات‪ ،‬ويزيـــد هـــذا امليـــل كلـــا كان النظـــام يف‬
‫ع ــن الن ــاس غ ــر قاب ــل للتغي ــر‪.‬‬
‫العقلن ــة ه ــي إذن‪ ،‬اآللي ــة الت ــي بواس ــطتها يق ــوم الن ــاس بتربي ــر النظ ــام يكف ــي‬
‫إذن‪ ،‬لنظ ــام م ــا (س ــيايس‪ ،‬اقتص ــادي‪ ،‬أو اجتامع ــي) أن يك ــون قامئً ــا بح ــق‪ ،‬أي أن يك ــون‬
‫مســـتق ًرا لدرجـــة كبـــرة‪ ،‬بحيـــث ال يكـــون تغيـــره إمكانيـــة محتملـــة تلـــوح يف األفـــق‪،‬‬
‫حت ــى ت ــزداد مرغوبيت ــه يف أع ــن الن ــاس‪ ،‬وحت ــى يقوم ــون بعقلن ــة وتربي ــر كل ترصفات ــه‬
‫مه ــا كان ــت فظيع ــة‪ ،‬ومه ــا كان ــت تع ــود عليه ــم بال ــرر‪ .‬ولك ــن مل ــاذا يفع ــل الن ــاس‬
‫ذل ــك يف املق ــام األول؟ م ــا ه ــي دوافعه ــم؟ أو مل ــاذا يق ــوم الن ــاس بتربي ــر النظ ــام؟‬

‫‪ -‬الوظائف النفسية لتربير النظام‬


‫تنبن ــي نظري ــة تربي ــر النظ ــام ك ــا أس ــلفنا‪ ،‬ع ــى املقدم ــة التالي ــة‪ :‬ل ــدى الن ــاس‬
‫دافـــع أصيـــل لتربيـــر النظـــام القائـــم‪ ،‬حتـــى ولـــو كان ذلـــك عـــى حســـاب مصالحهـــم‬
‫الفرديـــة‪ ،‬أو مصالـــح الجامعـــة التـــي ينتمـــون إليهـــا‪ .‬ولكـــن هـــذا امليـــل ال ميكـــن أن‬
‫يكـــون مجان ًّيـــا‪ ،‬خاصـــة إذا كان النظـــام الـــذي يتـــم تربيـــره مـــن شـــأنه أن يـــر مـــن‬
‫أصـــا‪ ،‬فـــا الـــذي يجنيـــه النـــاس إذن‪ ،‬مـــن تربيرهـــم للنظـــام القائـــم؟‬
‫ً‬ ‫يربرونـــه‬
‫يقــول الشــاعر اإلنجليــزي دبليــو إتــش أودن‪« :‬مثــة يف العقــل البــري ميكانيزمــات‬
‫رحيم ــة م ــن ش ــأنها أن متن ــع امل ــرء م ــن أن يع ــرف ك ــم ه ــو تعي ــس‪ .‬امل ــرء يكتش ــف‬
‫ذل ــك فق ــط بعدم ــا تن ــزاح الغم ــة عن ــه وتنكش ــف‪ ،‬وحينه ــا يتس ــائل متعج ًب ــا أن كي ــف‬
‫ميك ــن ألي أح ــد ع ــى وج ــه األرض أن يتحم ــل ذل ــك! إذا م ــا قي ــض لع ــال املصن ــع أن‬
‫يخرج ــوا م ــرة م ــن حي ــاة املصن ــع‪ ،‬ول ــو مل ــدة س ــتة أش ــهر فق ــط‪ ،‬س ــتكون هن ــاك ث ــورة‬

‫‪18‬‬
‫مل يش ــهد الع ــامل مثله ــا ق ــط» (مستش ــهد ب ــه يف ‪2 :2009 ,.Jost et al‬؛ التش ــديد من ــي)‪.‬‬
‫ولكـــن مـــا هـــي بالظبـــط هـــذه امليكانيزمـــات النفســـية الرحيمـــة التـــي تجعـــل املـــرء‬
‫يتحمـــل تعاســـته؟ إنهـــا تربيرالنظـــام يحاجـــج جوســـت وزمـــاؤه‪ ،‬فتربيـــر النظـــام هـــو‬
‫ال ــذي يع ــن الن ــاس ع ــى التعام ــل م ــع واقعه ــم الق ــايس وع ــى تأقلمه ــم مع ــه‪ ،‬ع ــن‬
‫طريـــق عقلنـــة هـــذا الواقـــع والنظـــر إليـــه كواقـــع عـــادل ومنصـــف ورشعـــي‪ .‬يقـــول‬
‫لرينـــر‪ « :‬يـــود النـــاس أن يعتقـــدوا؛ بـــل هـــم مضطريـــن ألن يعتقـــدوا أنهـــم يعيشـــون‬
‫يف عـــامل عـــادل‪ ،‬ومـــن ثـــم ميكنهـــم أن ميضـــوا يف حيواتهـــم اليوميـــة وهـــم يشـــعرون‬
‫بالثقـــة واألمـــل يف مســـتقبلهم» (‪ .)14 :1980 ,Lerner‬ميكـــن القـــول إذن‪ ،‬بـــأن النـــاس‬
‫لديه ــم داف ــع غ ــر واع ــي يف املق ــام األول‪ ،‬لتربي ــر النظ ــام القائ ــم‪ ،‬ألن ذل ــك م ــن ش ــأنه‬
‫أن ميكنهـــم مـــن التأقلـــم مـــع الواقـــع القـــايس الـــذي يفرضـــه هـــذا النظـــام‪« :‬ينخـــرط‬
‫الن ــاس يف تربي ــر النظ ــام بغ ــرض التعام ــل والتكي ــف م ــع الوقائ ــع غ ــر العادل ــة‪ ،‬وغ ــر‬
‫الس ــارة الت ــي تب ــدو له ــم محتوم ــة» (‪146 :2003 ,Jost & Hunyady‬؛ التش ــديد من ــي)‪.‬‬
‫عندم ــا يك ــون الوض ــع القائ ــم ق ــايس وظ ــامل لكن ــه غ ــر قاب ــل للتغي ــر‪ ،‬أو ع ــى األق ــل‬
‫يتص ــور الن ــاس أن ــه غ ــر قاب ــل للتغي ــر‪ ،‬ف ــإن الطريق ــة الوحي ــدة للتأقل ــم م ــع ه ــذه‬
‫القس ــوة وه ــذا الظل ــم‪ ،‬ه ــي رف ــع صف ــة القس ــوة والظل ــم ع ــن ه ــذا الوض ــع‪ ،‬وذل ــك‬
‫بعقلنت ــه ورشعنت ــه‪ :‬النظ ــام القائ ــم ع ــادل ومنص ــف ورشع ــي وينبغ ــي الحف ــاظ علي ــه‪.‬‬
‫وه ــو األم ــر ال ــذي يزي ــد م ــن ثباتي ــة النظ ــام ويكرس ــه مزي ـ ًدا‪ ،‬وم ــن ث ـ ّم تق ــل احتاملي ــة‬
‫تغي ــره‪.‬‬
‫باإلضاف ــة إىل وظيف ــة التأقل ــم تل ــك تج ــادل النظري ــة‪ ،‬ب ــأن تربي ــر النظ ــام يلب ــي‪،‬‬
‫أيض ــا ث ــاث أن ــواع م ــن الحاج ــات ل ــدى الب ــر‪:‬‬ ‫ً‬
‫حاجات ابســتيمولوجية‬
‫و(ب) حاجـــات عالئقيـــة و(ج) حاجـــات وجوديـــة (‪;2003 ,Jost & Hunyady‬‬

‫‪19‬‬
‫‪ .)2017 ,Jost‬أمـــا الحاجـــات اإلبســـتيمولوجية فتتمثـــل يف تقليـــل اإلحســـاس بالاليقـــن‪.‬‬
‫فإحس ــاس امل ــرء بالاليق ــن في ــا يتعل ــق بذات ــه وس ــلوكياته‪ ،‬أو باآلخري ــن وبس ــلوكياتهم‪،‬‬
‫أو بواقعـــه عامـــة إحســـاس مـــؤمل‪ ،‬ومـــن ثـــم فـــإن األفـــراد مدفوعـــن لتقليـــل هـــذا‬
‫الاليقـــن (ملراجعـــة انظـــر‪ .)2007 ,Hogg ،‬أحـــد أهـــم األســـباب التـــي تجعـــل النـــاس‬
‫رشعنون ــه ه ــو أنه ــم يش ــعرون بق ــدر أق ــل م ــن الاليق ــن‬‫يعقلن ــون الوض ــع القائ ــم وي ّ‬
‫يف ظل ــه‪ ،‬بين ــا تغي ــره‪ ،‬أو حت ــى احتاملي ــة تغي ــره تضاع ــف م ــن ش ــعورهم بالاليق ــن‪.‬‬
‫وملـــا كان الشـــعور بالاليقـــن شـــعور مـــؤمل فـــإن النـــاس لديهـــم ميـــل للحفـــاظ عـــى‬
‫الوض ــع القائ ــم ل ــي يتجنب ــوا أمل الاليق ــن ال ــذي س ــينجر ع ــن تغي ــره‪ .‬يتحم ــل الن ــاس‬
‫إذن‪ ،‬قس ــوة الوض ــع القائ ــم ب ــكل عيوب ــه يف نظ ــر ق ــدر اليق ــن (الحقيق ــي أو املتوه ــم)‬
‫الـــذي يشـــعرون بـــه يف ظلـــه‪ ،‬بينـــا يضحـــون بـــأي منافـــع قـــد يعـــود بهـــا عليهـــم‬
‫تغي ــره‪ ،‬تجن ًب ــا ألمل الاليق ــن ال ــذي س ــيلحقه ه ــذا التغي ــر به ــم‪ .‬أو لنق ــل ذل ــك بكل ــات‬
‫دو ال بويـــي‪ :‬إن املـــرء ليؤثـــر «أمـــان عيـــش التعســـاء» عـــى «األمـــل املشـــكوك فيـــه‬
‫يف عيـــش الســـعداء» (‪ .)44 :2008 ,de la Boetie‬أو قـــل إنـــه ليؤثـــر يقـــن األمل عـــى‬
‫أمل الاليقـــن‪ .‬وبعبـــارة أخـــرى‪ ،‬قـــد يكـــون النظـــام القائـــم شـــيطان‪ ،‬ولكنـــه شـــيطان‬
‫نعرف ــه‪ ،‬وبالت ــايل ه ــو خ ــر م ــن ش ــيطان ال نعرف ــه‪ .‬أم ــا الحاج ــات العالئقي ــة فتتمث ــل‬
‫يف ك ــون تربي ــر النظ ــام يس ــمح للف ــرد ب ــأن يك ــون منتميً ــا إىل املجتم ــع ال ــذي يعي ــش‬
‫في ــه‪ ،‬بين ــا التم ــرد ع ــى النظ ــام (ول ــو حت ــى ع ــى س ــبيل ال ــكالم) يع ــرض الف ــرد إىل‬
‫خط ــر النب ــذ واالس ــتبعاد االجتامع ــي (‪ .)ostracism‬ومعل ــوم أن الب ــر لديه ــم حاج ــة‬
‫أصيلـــة لالنتـــاء (‪ ،)the need to belong‬أي أنهـــم مدفوعـــون‪ ،‬عـــى نحـــو أســـايس‪،‬‬
‫البتغ ــاء االندم ــاج االجتامع ــي والعالق ــات اآلمن ــة وعالق ــات الح ــب والدع ــم االجتامع ــي‬
‫(لنـــص تأســـييس انظـــر‪ .)1995 ,Baumeister & Leary ،‬ومـــن ثـــ ّم تجنـــب املواقـــف‬
‫واملامرس ــات الت ــي م ــن ش ــأنها أن تعرضه ــم للنب ــذ االجتامع ــي (ملراجع ــة ش ــاملة ملس ــألة‬

‫‪20‬‬
‫النبـــذ االجتامعـــي انظـــر‪ .)2007 ,Williams ،‬ومـــن هنـــا كان النبـــذ االجتامعـــي مـــؤمل‬
‫نفســ ًيا‪ ،‬ويع ــرف ه ــذا األمل بـــ»األمل االجتامع ــي»‪ ،‬وه ــو رضب م ــن األمل ال يق ــل كربً ــا‬
‫عـــن األمل الجســـدي‪ ،‬ومثـــة أدلـــة عـــى أن أسســـهام العصبيـــة تتقاطـــع عـــى نحـــو‬
‫كبـــر‪ ،‬مبعنـــى أن الدمـــاغ يتعامـــل مـــع األمل االجتامعـــي متا ًمـــا كـــا يتعامـــل مـــع األمل‬
‫الجس ــدي (‪ .)2016 ,Sturgeon & Zautra ;2012 ,Eisenberger‬ب ــل مث ــة ع ــاوة ع ــى‬
‫ذل ــك‪ ،‬أدل ــة ع ــى أن أث ــر األمل االجتامع ــي ي ــدوم لف ــرة أط ــول م ــن أث ــر األمل الجس ــدي‬
‫(‪ .)2015 ,.Meyer et al‬الن ــاس مدفوع ــون إذن‪ ،‬لتربي ــر الوض ــع القائ ــم حت ــى يش ــعروا‬
‫باالنت ــاء وحت ــى يتجنب ــوا أمل النب ــذ االجتامع ــي‪ .‬أم ــا الحاج ــات الوجودي ــة فتتمث ــل يف‬
‫ك ــون تربي ــر النظ ــام يُش ــعر األف ــراد باألم ــن ويقل ــل م ــن إحساس ــهم بالخط ــر ويش ــعرهم‬
‫ب ــأن الواق ــع القائ ــم ل ــه معن ــى‪.‬‬
‫وبنـــا ًء عـــى مـــا ســـبق‪ ،‬تُ فهـــم الســـيكولوجيا االجتامعيـــة األيديولوجيـــا بطريقـــة‬
‫مغايـــرة ملفهمـــة العلـــوم السياســـية لهـــا‪ ،‬فبينـــا تســـلك األخـــرة مســـا ًرا «مـــن أعـــى‬
‫إىل أســـفل» لفهـــم األيديولوج ّيـــا‪ :‬يعتنـــق النـــاس أيديولوجيـــا مـــا بســـبب تعرضهـــم‬
‫لخطابـــات املنظريـــن األيديولوجـــن وللدعايـــة األيديولوجيـــة‪ ،‬تســـلك األوىل مســـا ًرا‬
‫مقلوبًـــا «مـــن أســـفل إىل أعـــى»‪ :‬يعتنـــق النـــاس أيديولوجيـــا مـــا ألنهـــا تلبـــي لديهـــم‬
‫حاجـــات نفســـية (ابســـتيمولوجية‪ ،‬ووجوديـــة وعالئقيـــة) معينـــة مرهونـــة بســـاتهم‬
‫الشـــخصية وبظروفهـــم االجتامعيـــة (‪2012 ,Jost & Amodio‬؛ وملراجعـــة‪ ،‬انظـــر‪Jost ،‬‬
‫‪ .)2009 ,.et al‬واملحافظ ــة السياس ــية تنتم ــي إىل عائل ــة م ــن األيديولوجي ــات السياس ــية‬
‫ميك ــن تس ــميتها بأيديولوجي ــات تربي ــر النظ ــام‪ ،11 ،‬وبالرغ ــم م ــن أن مناح ــي املحافظ ــة‬
‫‪ 11‬مــن أفــراد هــذه العائلــة‪ ،‬باإلضافــة إىل املحافظــة السياســية‪ ،‬األيديولوجيــات التاليــة‪ ،‬عــى ســبيل املثــال‪ :‬الســلطوية اليمينيــة‪:‬‬
‫يتعــن عــى النــاس أن يتبعــوا التقاليــد املألوفــة‪ ،‬والســلطات الراســخة‪ ،‬وأن يتخلــوا عــن أفــكار التمــرد والعصيــان‪ ،‬اإلميــان بعدالــة العــامل‪:‬‬
‫ينــال النــاس مــا يســتحقوه ويســتحقوا مــا ينالــوه؛ فــا يحــدث هــو مــا ينبغــي أن يحــدث‪ ،‬معارضــة املســاواة‪ :‬املســاواة االجتامعيــة‬
‫واالقتصاديــة غــر محبــذة وغــر ممكنــة وميكــن أن تدمــر املجتمــع‪ ،‬أيديولوجيــا الســوق العادلــة‪ :‬آليــة عمــل الســوق الحــرة ليســت فقــط‬
‫فعالــة وإمنــا ايضً ــا مرشوعــة ومنصفــة وعادلــة‪ ،‬و الهيمنــة االجتامعيــة‪ :‬بعــض الجامعــات أعــى مــن البعــض اآلخــر‪ ،‬وهــذه الرتاتبيــة هــي‬
‫أمــر حســن (‪.)2005 ,Jost & Hunyady‬‬

‫‪21‬‬
‫السياســـية تختلـــف تب ًعـــا الختـــاف الســـياقات التاريخيـــة والثقافيـــة‪ ،‬إال أن نواتهـــا‬
‫املركزي ــة تظ ــل ثابت ــة‪ :‬رف ــض التغي ــر االجتامع ــي‪ ،‬وتقب ــل الالمس ــاواة االجتامعي ــة (‪Jost‬‬
‫‪ .)2003 ,.et al‬وبوصفه ــا أيديولوجي ــا تربي ــر نظ ــام ت ــؤدي املحافظ ــة السياس ــية الخدم ــات‬
‫النفس ــية الت ــي يؤديه ــا تربي ــر النظ ــام لألف ــراد؛ إنه ــا ذات وظيف ــة «مس ـكّنة»‪« ،‬ملطف ــة»‪،‬‬
‫إنه ــا «تقن ــع الن ــاس ب ــأن الع ــامل م ــكان ميك ــن التحك ــم في ــه‪ ،‬م ــكان منص ــف وع ــادل‬
‫ورشع ــي‪ ،‬وتس ــمح له ــم ب ــأن يش ــعروا بالرض ــا حي ــال أوضاعه ــم وحي ــال الوض ــع القائ ــم‬
‫ككل» (‪ .)145 :2003 ,Jost & Hunyady‬يتبنـــى النـــاس أيديولوجيـــا محافظـــة سياســـية‬
‫إذن‪ ،‬ألنهـــا متكنهـــم مـــن التأقلـــم مـــع أوضاعهـــم غـــر الســـارة‪ ،‬وألنهـــا تســـ ّد لديهـــم‬
‫احتياج ــات ابس ــتيمولوجية (تقلي ــل الاليق ــن) وعالئقي ــة (االندم ــاج االجتامع ــي وتجن ــب‬
‫النبـــذ) ووجوديـــة (تقليـــل اإلحســـاس بالخطـــر وبغيـــاب املعنـــى)‪.‬‬

‫‪ -‬الربوليتاريا املجهضة‪ :‬تبعات تربير النظام‬


‫يعـــود تربيـــر النظـــام إذن‪ ،‬عـــى األفـــراد (والجامعـــات) مبنافـــع نفســـية معتـــرة‪.‬‬
‫‪12‬‬
‫معتـــرة للدرجـــة التـــي تجعـــل املحافظـــن سياســـ ًيا يقولـــون يف اســـتطالعات الـــرأي‪،‬‬
‫أنهـــم يشـــعرون بالســـعادة والرضـــا عـــن أحوالهـــم أكـــر مـــا يفعـــل ذلـــك غـــر‬
‫املحافظ ــن‪ ، 13 .‬وبالرغ ــم م ــن أن نتائ ــج ه ــذه االس ــتطالعات ميك ــن تفس ــرها باإلحال ــة‬
‫ع ــى الوضعي ــة االجتامعي ــة‪ ،‬االقتصادي ــة‪ ،‬التعليمي ــة‪ ،‬والجغرافي ــة ل ــكل م ــن املحافظ ــن‬
‫وغـــر املحافظـــن‪ 14 ،‬وباإلحالـــة عـــى درجـــة تديـــن كل منهـــا‪ 15 ،‬كالتـــايل‪ :‬املحافظـــون‬

‫استطالعات رأي أجراها مركز بيو بني األمريكيني تحديدًا (‪ ،)2008 ,Napier & Jost‬ولكن من املستساغ تعميم هذه النتائج‪.‬‬ ‫‪12‬‬
‫السعادة مفهوم مشكل جدًا‪ ،‬وملقاربة شاملة عابرة للتخصصات‪ ،‬انظر‪.)2013(.David et al ،‬‬ ‫‪13‬‬
‫عن عالقة مستوى الدخل بالسعادة‪ ،‬انظر‪.)2010( .Boyce et al ،‬‬ ‫‪14‬‬
‫عن عالقة التدين بالسعادة‪ ،‬انظر‪.)2011( .Diener et al ،‬‬ ‫‪15‬‬

‫‪22‬‬
‫أك ــر س ــعادة لعل ــو رتبته ــم االجتامعي ــة ولرثائه ــم‪ ،‬ولتدينه ــم مقارن ــة بغ ــر املحافظ ــن‪،‬‬
‫إال أن ــه ميك ــن املحاجج ــة‪ ،‬م ــع ناب ــر وجوس ــت (‪ ،)2008‬ب ــأن س ــعادة املحافظ ــن ه ــذه‬
‫تع ــود يف املق ــام األول إىل اعتناقه ــم لواح ــدة أو أخ ــرى م ــن أيديولوجي ــات تربي ــر النظ ــام‪،‬‬
‫وم ــن ثــ ّم ينعم ــون ب ــكل املناف ــع النفس ــية الت ــي م ــن ش ــأن القي ــام بتربي ــر النظ ــام أن‬
‫مينحه ــم إياه ــا‪ ،‬إنه ــا امليكاني ــزم الرحي ــم (بتعب ــر أودن) الت ــي متكنه ــم م ــن الرض ــا ع ــن‬
‫العـــامل وعـــن أوضاعهـــم فيـــه (للتفصيـــل‪ ،‬وإلثبـــات امربيقـــي‪ ،‬انظـــر‪,Napier & Jost ،‬‬
‫‪.)2008‬‬
‫لكـــن هـــذه املنافـــع النفســـية آنفـــة الذكـــر ليســـت مجانيـــة‪ ،‬وإمنـــا لهـــا مثـــن‬
‫باه ــظ يف واق ــع األم ــر وه ــو تكري ــس النظ ــام القائ ــم‪ ،‬وترس ــيخه‪ ،‬وتبدي ــد ف ــرص تغي ــره‪.‬‬
‫وه ــو األم ــر ال ــذي يف ــر‪ ،‬إج ــالً ‪ ،‬ن ــدرة الث ــورات ع ــى م ــدار التاري ــخ الب ــري ع ــى‬
‫الرغ ــم م ــن كون ــه م ــرع بالقه ــر والظل ــم والالمس ــاواة‪ .‬فف ــي نظ ــر املناف ــع النفس ــية‬
‫الت ــي يحصله ــا الن ــاس م ــن تربيره ــم للنظ ــام القائ ــم‪ ،‬يقوم ــون بتكري ــس ه ــذا النظ ــام‬
‫وترس ــيخه‪ ،‬أو بعب ــارة أخ ــرى يق ــوض تربي ــر النظ ــام إرادة االحتج ــاج أو العصي ــان ل ــدى‬
‫الجامعـــات األقـــل حظـــا يف املجتمـــع‪ .‬وذلـــك ببســـاطة؛ ألن تربيـــر النظـــام مـــن شـــأنه‬
‫أن يقـــوض املقومـــات التـــي يســـتلزمها االحتجـــاج والعصيـــان‪ .‬عـــى ســـبيل املثـــال‪،‬‬
‫ووف ًق ــا لنظريت ــي الحرم ــان النس ــبي‪ ،‬واالحباط‪-‬العن ــف (‪ 16 ،)1970 ,Gurr‬م ــن املف ــرض‬
‫أن تحتـــج الجامعـــات األقـــل حظًـــا ضـــد أوضاعهـــا‪ ،‬تحـــت وطـــأة شـــعورها بالغضـــب‬
‫واالحبـــاط‪ ،‬ولكـــن التاريـــخ ال يشـــهد عـــى ذلـــك أبـــ ًدا‪ ،‬ففـــي حـــاالت قليلـــة فقـــط‬
‫تقـــوم الجامعـــات املظلومـــة باالحتجـــاج عـــى أوضاعهـــا‪ ،‬بينـــا يف أغلـــب الحـــاالت‬
‫تحتم ــل ه ــذه الجامع ــات وتص ــر ع ــى أوضاعه ــا‪ .‬وعل ــة ذل ــك أن املي ــل غ ــر الواع ــي‬
‫‪ 16‬احساس الفرد (أو الجامعة) باإلحباط مصدر أسايس لالحتجاج والعصيان واالنخراط يف مامرسات عنيفة‪ .‬وإحساس الفرد (أو الجامعة)‬
‫بالحرمان النسبي أي مقارنة بالجامعات األخرى هو املصدر األسايس لإلحباط‪ ،‬أو قل يولد الحرمان النسبي االحباط ويولد االحباط العنف‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫ل ــدى أف ــراد ه ــذه الجامع ــات إىل تربي ــر الوض ــع القائ ــم وعقلنت ــه (ل ــي يحصل ــوا ع ــى‬
‫املناف ــع س ــالفة الذك ــر)‪ ،‬يقل ــل م ــن ش ــعورهم بالغض ــب واإلحب ــاط‪ ،‬ويقل ــل م ــن درج ــة‬
‫توحدهـــم مـــع جامعتهـــم‪ ،‬ومـــن ثـــ ّم يقـــوض فرصـــة العمـــل الجامعـــي االحتجاجـــي‬
‫(للمزي ــد‪ ،‬ولرباه ــن إمربيقي ــة ع ــى تقوي ــض تربي ــر النظ ــام للعم ــل االحتجاج ــي‪ ،‬انظ ــر‪،‬‬
‫‪.)2012 ,.Jost et al‬‬
‫يأخذنـــا ذلـــك رأســـاً إىل ظاهـــرة ذات طابـــع مفـــارق‪ ،‬وهـــي محافظـــة الطبقـــة‬
‫العامل ــة‪ :‬مل ــاذا يدع ــم أف ــراد الطبق ــة العامل ــة األح ــزاب املحافظ ــة واليميني ــة واملرش ــحني‬
‫الرئاس ــيني املحافظ ــن واليمين ــن‪ ،‬ع ــى الرغ ــم م ــن أن سياس ــات تل ــك األح ــزاب وه ــؤالء‬
‫املرشــحني ال تعــزز مــن مصالحهــم ومصالــح طبقتهــم وفقــط‪ ،‬وإمنــا تكــون مضــادة لهــا يف‬
‫أغل ــب األحي ــان؟ متث ــل محافظ ــة الطبق ــة العامل ــة لغــ ًزا بالنس ــبة للعل ــاء االجتامعي ــن‪،‬‬
‫ويعـــود ذلـــك‪ ،‬يف املقـــام األول‪ ،‬وكـــا يحاجـــج جوســـت (‪ ،)2017‬إىل هـــذا االفـــراض‬
‫املس ــبق ال ــذي ينطلق ــون من ــه‪ :‬يتخ ــذ األف ــراد املواق ــف السياس ــية الت ــي تتواف ــق م ــع‬
‫مصالحه ــم الش ــخصية‪ ،‬ولك ــن نظري ــة تربي ــر النظ ــام ال تس ــلم به ــذا االف ــراض‪ ،‬وتنطل ــق‬
‫يف املقابـــل مـــن االفـــراض القائـــل بـــأن األفـــراد لديهـــم دافـــع أصيـــل لتربيـــر النظـــام‬
‫بق ــدر م ــا لديه ــم داف ــع لتربي ــر ذواته ــم وجامعاته ــم‪ .‬ولك ــن يف حال ــة الطبق ــات ذات‬
‫الحظـــوة يف املجتمـــع تنســـجم هـــذه الدوافـــع الثالثـــة مـــع بعضهـــا‪ :‬تربيـــر الوضـــع‬
‫القائ ــم يخ ــدم مصال ــح األف ــراد ومصال ــح جامعته ــم‪ ،‬بين ــا يف حال ــة الجامع ــات الدني ــا‬
‫ال تنس ــجم ه ــذه الدواف ــع م ــع بعضه ــا وإمن ــا تتض ــاد بدرج ــة أو بأخ ــرى‪ :‬تربي ــر النظ ــام‬
‫يع ــود بال ــرر ع ــى مصال ــح األف ــراد ومصال ــح جامعته ــم‪ .‬وتحاج ــج النظري ــة ع ــن أن ــه‬
‫بالرغ ــم م ــن ك ــون تربي ــر النظ ــام يع ــود بال ــرر ع ــى أف ــراد الطبق ــات الدني ــا (تكري ــس‬
‫أيضـــا عليهـــم مبنافـــع نفســـية كبـــرة‪ ،‬يجـــدون‬ ‫الظلـــم والالمســـاواة)؛ إال أنـــه يعـــود ً‬
‫لديه ــم االس ــتعداد لتحم ــل ه ــذا ال ــرر يف نظ ــر الحص ــول عليه ــا‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫امليـــل إىل تربيـــر النظـــام ميـــل معمـــم إذن‪ ،‬مبعنـــى أنـــه موجـــود لـــدى أفـــراد‬
‫الطبقـــات العليـــا والدنيـــا عـــى حـــد الســـواء‪ .‬بـــل تحاجـــج النظريـــة أن امليـــل لتربيـــر‬
‫الوض ــع القائ ــم ق ــد يك ــون أك ــر ل ــدى أف ــراد الطبق ــات الدني ــا تحدي ــدا‪ ،‬وذل ــك ل ــآيت‪:‬‬
‫أفـــراد الطبقـــة العاملـــة غالبًـــا مـــا يواجهـــون معـــدالت عاليـــة ومنفـــرة مـــن‬
‫الاليقـــن‪ ،‬وعـــدم األمـــان واالســـتبعاد االجتامعـــي‪ ،‬ومـــن ثـــم لديهـــم رغبـــة قويـــة يف‬
‫الحص ــول ع ــى االس ــتقرار واألم ــان واالندم ــاج االجتامع ــي‪ ،‬وه ــذه ه ــي تحديــ ًدا األش ــياء‬
‫التـــي يوفرهـــا لهـــم تربيـــر النظـــام‪.‬‬
‫(‪ )2‬دعـــم أفـــراد الطبقـــة العاملـــة للوضـــع القائـــم يقلـــل التنافـــر الذهنـــي‬
‫(‪ 17 )cognitive dissonance‬لديهـــم‪ ،‬كالتـــايل‪ :‬مثـــة تنافـــر بـــن مـــا يعرفـــه أفـــراد‬
‫الطبق ــات الدني ــا ع ــن وضعه ــم االجتامع ــي‪ ،‬وب ــن س ــلوكهم تج ــاه ه ــذا الوض ــع‪ :‬ه ــم‬
‫يعرفـــون أنهـــم مظلومـــون ومقهـــورون‪ ،‬ولكنهـــم يف الوقـــت عينـــه ال يحتجـــون وال‬
‫يس ــعون لتغي ــر ه ــذا الوض ــع‪ .‬ومب ــا أن التناف ــر غ ــر مري ــح نفســيًّا‪ ،‬فإنه ــم مدفوع ــون‬
‫‪ 17‬نظريــة التنافــر الذهنــي‪ ،‬كــا طورهــا ليــون فيســتنجر (‪ ،)1957‬هــي واحــدة مــن النظريــات األساســية (باإلضافــة إىل نظريــات‬
‫الهويــة االجتامعيــة‪ ،‬الهيمنــة االجتامعيــة‪ ،‬واالعتقــاد يف عدالــة العــامل؛ ‪ ،)2003 ,Jost & Hunyady‬التــي تعــد ســلفًا لنظريــة تربيــر النظــام‪.‬‬
‫واألطروحــة األساســية للنظريــة هــي التــايل‪ :‬التنافــر‪ ،‬أي وجــود عالقــات غــر منســجمة فيــا بــن معــارف املــرء أو أرائــه أو معتقداتــه عــن‬
‫بيئتــه أو ذاتــه أو ســلوكياته هــو بحــد ذاتــه عامــل محفــز (متامــا كالجــوع واالحبــاط)‪ .‬والفرضيتــان األساســيتان للنظريــة هــا‪ )1( :‬وجــود‬
‫التنافــر غــر مريــح نفس ـيًّا ومــن ث ـ ّم املــرء مدفــوع إىل إزالتــه؛ (‪ )2‬عندمــا يكــون التنافــر موجــودًا‪ ،‬ســيقوم املــرء‪ ،‬باإلضافــة إىل محاولــة‬
‫تقليلــة‪ ،‬بتجنــب املواقــف واملعلومــات التــي مــن املرجــح أن تزيــد منــه (‪ .)3 :1957 ,Festinger‬ولنــرب مثـ ًـا عــى ذلــك بالتدخــن؛‬
‫املدخــن يعلــم أن التدخــن يــره‪ ،‬ولكنــه مــع ذلــك يســتمر يف التدخــن مثــة إذن‪ ،‬تنافــر فيــا بــن معــارف هــذا الشــخص وســلوكه (هــو‬
‫يعــرف ان التدخــن ضــار ولكنــه يدخــن)‪ ،‬وجــود هــذا التنافــر غــر مريــح نفسـيًّا‪ ،‬ومــن ثـ ّم املدخــن مدفــوع إلزالتــه‪ ،‬ولكــن مــا الســبيل‬
‫إىل ذلــك؟ كيــف ميكــن تحقيــق االنســجام بــن املعرفــة والســلوك املتعلقــن بالتدخــن؟ الســبيل األول أن يتوقــف عــن التدخــن ببســاطة‪،‬‬
‫ولكــن ذلــك صعــب للغايــة‪ ،‬وبالتــايل يقصــد الســبيل اآلخــر وهــو أن يعقلــن تدخينــه كاآليت‪( :‬أ) التدخــن ممتــع وبالتــايل هــو يســتحق‬
‫مثنــه‪( .‬ب) األمـراض التــي ميكــن أن تصيبنــي مــن جـراء التدخــن ليســت بالخطــورة التــي يتحدثــون عنهــا؛ (ج) ليــس بوســعي أن أتفــادى‬
‫كل املخاطــر املمكنــة يف هــذا العــامل ومــع ذلــك مــا زلــت حيــا‪( .‬د) عندمــا أتوقــف عــن التدخــن ســيزيد وزين وهــو أمــر أكــر خطــورة‬
‫عــى صحتــي مــن التدخــن نفســه رمبــا‪ .‬وبذلــك يكــون املدخــن قــد حــل التنافــر بــن معارفــه عــن التدخــن وســلوكه كمدخــن‪ ،‬وبالتــايل‬
‫يســتمر يف التدخــن ببســاطة (‪ .)2 :1957 ,Festinger‬وملراجعــة للتطــور التاريخــي لنظريــة التنافــر الذهنــي‪ ،‬انظــر‪.)2007( Cooper ،‬‬

‫‪25‬‬
‫إىل إزالتـــه أو تقليلـــه‪ ،‬ولكـــن كيـــف يتـــأيت لهـــم ذلـــك؟ الســـبيل األول هـــو أن يثـــوروا‬
‫ببس ــاطة‪ ،‬ولك ــن ذل ــك صع ــب وخط ــر للغاي ــة‪ ،‬وبالت ــايل يعم ــدون إىل الس ــبيل الث ــاين‪:‬‬
‫عقلن ــة وضعه ــم االجتامع ــي وتربي ــره‪ ،‬ب ــأن يقول ــوا ألنفس ــهم أن الوض ــع القائ ــم رشع ــي‬
‫وع ــادل وينبغ ــي الحف ــاظ علي ــه‪ ،‬وبالت ــايل ي ــزول التناف ــر‪ ،‬ويس ــتمرون يف العي ــش تح ــت‬
‫وط ــأة الظل ــم ببس ــاطة (ق ــارن مبث ــال التدخ ــن املذك ــور يف الهام ــش أدن ــاه)‪ .‬أو بتعب ــر‬
‫روب ــرت الن‪« :‬أن يفك ــروا يف أنفس ــهم ع ــى أن مكانه ــم يف املجتم ــع ه ــو م ــكان ع ــادل‬
‫بالرغـــم مـــن معاناتهـــم‪ ،‬هـــو أخـــف وطـــأة عليهـــم مـــن التفكـــر يف أنفســـهم عـــى‬
‫أنهـــم مســـتغلني وضحايـــا يف مجتمـــع غـــر عـــادل» (مستشـــهد بـــه يف‪:2017 ,Jost ،‬‬
‫‪ .)74‬وع ــاوة ع ــى ذل ــك تحاج ــج نظري ــة تربي ــر النظ ــام ع ــن أن ــه كل ــا زادت معان ــاة‬
‫األف ــراد تح ــت وط ــأة النظ ــام القائ ــم كل ــا ازداد تربيره ــم ل ــه‪ ،‬أو بعب ــارة أخ ــرى أك ــر‬
‫الن ــاس معان ــاة م ــن الوض ــع القائ ــم ه ــم أك ــر الن ــاس تربي ـ ًرا ل ــه‪ ،‬وذل ــك ألنه ــم يعان ــون‬
‫أك ــر م ــن أمل التناف ــر‪ ،‬وبالت ــايل مدفوع ــن أك ــر إلزالت ــه‪ ،‬والس ــبيل الوحي ــد املت ــاح لذل ــك‬
‫ه ــو االنخ ــراط مزيــ ًدا يف تربي ــر الوض ــع القائ ــم‪« :‬فك ــا أن املعان ــاة تزي ــد‪ ،‬وع ــى نح ــو‬
‫مفـــارق مـــن متســـك املـــرء مبصـــدر معاناتـــه‪ ،‬وذلـــك مـــن خـــال ميكانيزمـــات تقليـــل‬
‫التنافـــر‪ ،‬ميكـــن ألفـــراد الجامعـــات الدنيـــا أن يظهـــروا مســـتويات أعـــى مـــن تربيـــر‬
‫النظـــام مقارنـــة بأفـــراد الجامعـــات العليـــا‪ ،‬خاصـــة عندمـــا تســـوء األوضـــاع (& ‪Jost‬‬
‫‪122 :2003 ,Hunyady‬؛ ولنقـــد‪ ،‬انظـــر‪2013 ,Brandt ،‬؛ ولـــر ٍد عليـــه‪ ،‬انظـــر‪,Jost ،‬‬
‫‪ .)2017‬ميكـــن إذن‪ ،‬لنظريـــة تربيـــر النظـــام أن تســـاهم يف تفســـر اإلجهـــاض األبـــدي‬
‫للحل ــم املارك ــي املتعل ــق بث ــورة الربوليتاري ــا‪ ،‬الت ــي يؤم ــل منه ــا أن تض ــع حــ ًدا للظل ــم‬
‫الرأس ــايل ال ــذي يش ــتيك جيمس ــون (وجيجي ــك وفي ــر) م ــن أن ــه أه ــون ع ــى الن ــاس‬
‫الي ــوم تخي ــل نهاي ــة الع ــامل نفس ــه ع ــن تخي ــل نهايت ــه!‬

‫‪26‬‬
‫‪ -‬تربير النظام‪ :‬األصول التطورية‬
‫كيــف ميكــن لنــا أن نفهــم تربيــر النظــام مــن الناحيــة التطوريــة (‪)evolutionary‬؟‬
‫معل ــوم أن مث ــة مس ــتويني للتحلي ــل أو التفس ــر البيلوج ــي‪ ،‬يبح ــث املس ــتوى األول ع ــا‬
‫يســـمى باألســـباب القريبـــة (‪ ،)proximate causes‬بينـــا يبحـــث الثـــاين عـــا يســـمى‬
‫باألســباب البعيــدة أو النهائيــة إن شــئتم (‪ .)distal or ultimate causes‬يتعلــق املســتوى‬
‫األول باألس ــباب الت ــي تجي ــب ع ــى س ــؤال كي ــف؟ بين ــا يتعل ــق الث ــاين باألس ــباب الت ــي‬
‫تجي ــب ع ــن س ــؤال مل ــاذا؟ يتعل ــق املس ــتوى األول بامليكانيزم ــات بين ــا يتعل ــق الث ــاين‬
‫بالغاي ــات (للتفصي ــل‪ ،‬انظ ــر‪ .)2011 ,MacDougall-Shackleton ،‬ومعل ــوم أن التحلي ــل‬
‫أساس ــا‪ ،‬إن ــه يبح ــث ع ــن العل ــل النهائي ــة للس ــات‬
‫التط ــوري يتعل ــق باملس ــتوى الث ــاين ً‬
‫البرشي ــة (الس ــيكولوجية يف ه ــذا املق ــام)‪ ،‬أي نوعي ــة وم ــدى أثره ــا ع ــى ق ــدرة اإلنس ــان‬
‫عـــى البقـــاء ح ًّيـــا‪ ،‬وعـــى (وهـــو األهـــم) فرصـــه التكاثريّـــة‪ 18 .‬أن نحـــاول فهـــم تربيـــر‬
‫النظ ــام م ــن منظ ــور تط ــوري يعن ــي إذن‪ ،‬أن نس ــأل ه ــذا الس ــؤال‪ :‬ه ــل قــ ّدم تربي ــر‬
‫النظ ــام ع ــى م ــدار التاري ــخ التط ــوري لإلنس ــان مناف ــع م ــن ش ــأنها أن تحس ــن فرص ــه‬
‫يف البق ــاء وم ــن ث ــم يف التكاث ــر؟ أو بعب ــارة أخ ــرى ه ــل تربي ــر النظ ــام «م ــرر» تطوريًّ ــا؟‬
‫الح ــال‪ ،‬أن ك ــون املي ــل إىل عقلن ــة الوض ــع القائ ــم وتربي ــرة لي ــس مج ــرد مي ــل موج ــود‬
‫ل ــدى الب ــر وفق ــط‪ ،‬وإمن ــا ه ــو مي ــل أصي ــل ومعم ــم‪ ،‬ليعن ــي ب ــادئ ال ــرأي‪ ،‬أن ــه مي ــل‬
‫ق ــد ت ــم انتق ــاؤه بواس ــطة االنتق ــاء الطبيع ــي (‪ ،)natural selection‬وه ــو م ــا يعن ــي‬
‫بـــدوره أن هـــذا امليـــل قـــد أدى وظيفـــة تكيفيـــة (‪ )adaptive‬عـــى مـــدار التاريـــخ‬
‫التطـــوري‪ ،‬ولكـــن كيـــف يكـــون ذلـــك صحي ًحـــا إذا مـــا كان تربيـــر النظـــام يـــؤدي إىل‬
‫تكري ــس الظل ــم والقه ــر‪ ،‬وبالت ــايل إلح ــاق ال ــرر باملصال ــح الذاتي ــة ألف ــراد الجامع ــات‬
‫‪ 18‬ضـدًا عــى الفهــم الشــائع للصلوحيــة الداروينيــة التكاثــر‪ ،‬وليــس مجــرد الحيــاة هــو األســاس‪ ،‬فبقــاء الكائــن عــى قيــد الحيــاة مهــم‬
‫فقــط بقــدر مســاهمته يف متكينــه مــن التكاثــر‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫الدني ــا؟ كي ــف يع ــود ذل ــك ع ــى صلوحي ــة ه ــؤالء األف ــراد بالنف ــع؟ أو ق ــل مل ــاذا ت ــم‬
‫انتق ــاء االس ــتعداد الب ــري لتربي ــر النظ ــام؟‬
‫وفقًـــا لنظريـــة االنتقـــاء متعـــدد املســـتويات (‪ )multilevel selection‬مثـــة‬
‫مســـتويني أساســـيني يعمـــل فيهـــا االنتقـــاء الطبيعـــي‪:‬‬
‫‪ -1‬االنتقاء عىل مســتوى الفرد (‪.)individual selection‬‬
‫‪ -2‬واالنتقـــاء عـــى مســـتوى الجامعـــة (‪ .)group selection‬أمـــا االنتقـــاء عـــى‬
‫مس ــتوى الف ــرد فيعن ــي أن الصف ــات الت ــي يت ــم انتقائه ــا ه ــي تل ــك الت ــي تع ــود ع ــى‬
‫صلوحي ــة الف ــرد مب ــا ه ــو كذل ــك بالنف ــع‪ .‬أم ــا االنتق ــاء ع ــى مس ــتوى الجامع ــة فيعن ــي‬
‫أن الصفـــات قـــد يتـــم انتقائهـــا ال ألنهـــا تعـــود عـــى صلوحيـــة الفـــرد بالنفـــع وفقـــط‪،‬‬
‫وإمن ــا ميك ــن انتقائه ــا ألنه ــا تع ــود ع ــى الجامع ــة ككل بالنف ــع‪ ،‬حت ــى ول ــو كان الثم ــن‬
‫ه ــو اإلرضار بصلوحي ــة بع ــض أف ــراد الجامع ــة (للتفاصي ــل‪ ،‬ولتاري ــخ وحيثي ــات الج ــدل‬
‫املريـــر حـــول االنتقـــاء عـــى مســـتوى الجامعـــة بـــن التطوريـــن‪ ،‬انظـــر‪ ،‬عـــى ســـبيل‬
‫املثـــال‪.)2007 ,Wilson & Wilson ;1997 ,Wilson ;1994 ,Wilson & Sober ،‬‬
‫والح ــال أن ــه م ــن املمك ــن اإلجاب ــة ع ــى تل ــك األس ــئلة ضم ــن هذي ــن املس ــتويني‪ ،‬ك ــا‬
‫ي ــي‪:‬‬
‫يف املس ــتوى األول ميك ــن تفس ــر انتق ــاء االس ــتعداد الب ــري لتربي ــر النظ ــام القائ ــم‬
‫كاآليت‪ :‬بالرغ ــم م ــن أن تربي ــر النظ ــام يك ــرس معان ــاة الجامع ــات املظلوم ــة؛ إال أن املناف ــع‬
‫النفســـية التـــي يقدمهـــا لهـــم تربيـــر النظـــام مـــن شـــأنها أن تزيـــد مـــن صلوحيتهـــم‪،‬‬
‫وتحديــ ًدا املنفع ــة املتعلق ــة بتقلي ــل إحساس ــهم بالاليق ــن‪ ،‬وبفق ــدان الس ــيطرة‪ ،‬كاآليت‪:‬‬
‫يف املجتمعـــات املنظمـــة عـــى نحـــو تراتبـــي كاملجتمعـــات اإلنســـانية‪ ،‬حيـــث ينقســـم‬
‫النـــاس إىل جامعـــات مهيمنـــة وجامعـــات مهيمـــن عليهـــا‪ ،‬وبحيـــث ينتمـــي الفـــرد إىل‬

‫‪28‬‬
‫أكـــر مـــن تراتبيـــة اجتامعيـــة يف نفـــس الوقت‪19 ،‬يكـــون األفـــراد ذوي الرتبـــة األدىن يف‬
‫تراتبيـــة مـــا أكـــر عرضـــة مـــن أولئـــك الذيـــن يتســـنمون رتـــب عليـــا فيهـــا للضغـــوط‬
‫النفس ــية‪ ،‬والضغ ــوط النفس ــية ت ــؤدي لكث ــر م ــن األم ــراض الجس ــدية (أم ــراض القل ــب‬
‫والرشايـــن والخصوبـــة يف املقـــام األول)‪ ،‬والنفســـية (كاإلكتئـــاب عـــى ســـبيل املثـــال)‪.‬‬
‫ولكـــن روبـــرت سابولســـي (‪ )2004‬يحاجـــج بأنـــه مثـــة عوامـــل تتوســـط أثـــر الضغـــط‬
‫النف ــي ه ــذا ع ــى الصح ــة‪ ،‬منه ــا احس ــاس امل ــرء بالاليق ــن وبفق ــدان الس ــيطرة‪ ،‬فكل ــا‬
‫ازدادا كل ــا كان أث ــر الضغ ــط النف ــي ع ــى الصح ــة أش ــد رض ًرا‪ .‬ومب ــا أن تربي ــر النظ ــام‬
‫يقلـــل‪ ،‬أو حتـــى يزيـــل‪ ،‬أثـــر هذيـــن العاملـــن كـــا رأينـــا‪ ،‬فســـيكون مـــن شـــأنه إذن‪،‬‬
‫أن يخف ــف م ــن أرضار الضغ ــوط النفس ــية الت ــي يتع ــرض له ــا أف ــراد الجامع ــات الدني ــا‬
‫تح ــت وط ــأة الوض ــع القائ ــم (‪ .)2018 ,.Jost et al ;2004 ,Sapolsky‬يع ــود املي ــل إىل‬
‫تربي ــر النظ ــام ع ــى صلوحي ــة أف ــراد الجامع ــات الدني ــا إذن‪ ،‬بالنف ــع‪ ،‬ألن ــه يقل ــل م ــن‬
‫األرضار التـــي يلحقهـــا الضغـــط النفـــي (املتولـــد عـــن انخفـــاض رتبتهـــم االجتامعيـــة)‬
‫بصحتهـــم الجســـدية والنفســـية‪.‬‬
‫أيضـــا ميكـــن تفســـر تربيـــر النظـــام تطوريًّـــا (وعـــى نحـــو أكـــر اقنا ًعـــا رمبـــا)‬
‫ً‬
‫بواســـطة االنتقـــاء عـــى مســـتوى الجامعـــة‪ ،‬كاآليت‪ :‬مل يتـــم انتقـــاء االســـتعداد البـــري‬
‫لتربيـــر النظـــام القائـــم لكونـــه يعـــود بالنفـــع عـــى صلوحيـــة األفـــراد‪ ،‬بـــل سنســـلم‬
‫وع ــى العك ــس م ــن ذل ــك‪ ،‬ب ــأن تربي ــر النظ ــام القائ ــم يلح ــق ال ــرر بصلوحي ــة بع ــض‬
‫األفـــراد‪ ،‬تحديـــ ًدا أفـــراد الجامعـــات الدنيـــا املظلومـــة‪ ،‬ومبخوســـة الحـــق عـــن طريـــق‬
‫تكريســـه للظلـــم الواقـــع عليهـــم‪ ،‬والـــذي مـــن شـــأنه أن يحرمهـــم مـــن املـــوارد التـــي‬
‫تزيـــد مـــن فرصهـــم يف الحيـــاة يف التكاثـــر‪ .‬ويف املقابـــل ســـنقول بـــأن امليـــل البـــري‬
‫لتربي ــر النظ ــام القائ ــم ق ــد ت ــم انتق ــاؤه ألن ــه يع ــود بالنف ــع ع ــى الجامع ــة ككل وإن‬
‫‪ 19‬للمزيد عن األصول التطورية للرتاتبية االجتامعية والهيمنة االجتامعية‪ ،‬انظر‪.)2001( Sidanius & Pratto ;)2005( Cummins ،‬‬

‫‪29‬‬
‫كان مثـــن ذلـــك هـــو إلحـــاق الـــرر ببعـــض أفـــراد هـــذه الجامعـــة‪ ،‬وذلـــك كالتـــايل‪:‬‬
‫لنفـــرض أن مثـــة جامعتـــن (أ) و(ب)‪ .‬تتســـم الجامعـــة (أ) باســـتقرار تراتبيتهـــا مبعنـــى‬
‫أن األفـــراد األقـــل رتبـــة يخضعـــون طواعيـــة للنظـــام القائـــم الـــذي يضبـــط الفـــروق‬
‫بـــن األفـــراد فيـــا يتعلـــق باملكانـــة االجتامعيـــة واألدوار االجتامعيـــة وتوزيـــع املـــوارد‪.‬‬
‫بين ــا تفتق ــر الجامع ــة (ب) إىل ه ــذا النح ــو م ــن االس ــتقرار‪ ،‬مبعن ــى أن األف ــراد األق ــل‬
‫اعرتاض ــا ع ــى وضعه ــم االجتامع ــي‪ ،‬وبالت ــايل يك ــر العصي ــان‬
‫ً‬ ‫رتب ــة يتم ــردون باس ــتمرار‬
‫والتم ــرد والن ــزاع داخ ــل ه ــذه الجامع ــة‪ .‬ول ــو افرتضن ــا (وه ــو الحاص ــل دو ًم ــا) أن مث ــة‬
‫تنافـــس ثقـــايف بـــن (أ) و(ب) ســـواء كان ماديًّـــا أو رمزيًّـــا‪ ،‬فـــا هـــي الجامعـــة التـــي‬
‫يرجـــح أن يكـــون النـــر حليفهـــا؟ إنهـــا (أ)‪ ،‬وذلـــك ببســـاطة بفضـــل قـــدر االســـتقرار‬
‫ال ــذي تنع ــم ب ــه يف مقاب ــل (ب)‪ .‬ت ــم انتق ــاء االس ــتعداد الب ــري لتربي ــر الوض ــع القائ ــم‬
‫إذن‪ ،‬ألنـــه يزيـــد مـــن فرصـــة الجامعـــة يف التفـــوق االجتامعـــي‪ ،‬حتـــى وإن كان مثـــن‬
‫ذلـــك هـــو اإلرضار ببعـــض أفـــراد الجامعـــة (‪.)2018 ,.Jost et al‬‬

‫‪30‬‬
‫خامتة‬
‫حاول ــت ه ــذه الدراس ــة أن تس ــر األص ــول النفس ــية للمحافظ ــة السياس ــية‪ ،‬م ــن‬
‫خ ــال تقدي ــم مراجع ــة لنظري ــة تربي ــر النظ ــام‪ .‬وميك ــن أن نجم ــل أه ــم خالصاته ــا يف‬
‫النق ــاط التالي ــة‪:‬‬
‫كـــا أن النـــاس لديهـــم ميـــل أصيـــل لتربيـــر ذواتهـــم وجامعاتهـــم‪ ،‬لديهـــم ميـــل‬
‫ال يق ــل أصال ــة ولكن ــه غ ــر واع ــي يف املق ــام األول لتربي ــر النظ ــام االجتامع ــي القائ ــم‪،‬‬
‫بـــكل أبعـــاده السياســـية واالقتصاديـــة والثقافيـــة‪.‬‬
‫يعـــود تربيـــر النظـــام عـــى األفـــراد مبنافـــع نفســـية معتـــرة‪ ،‬فهـــو يســـ ّد لديهـــم‬
‫حاج ــات ابس ــتيمولوجية (تقلي ــل الاليق ــن) وعالئقي ــة (تحقي ــق االنت ــاء وتجن ــب النب ــذ‬
‫االجتامعـــي) ووجوديـــة (تقليـــل اإلحســـاس بالخطـــر وبغيـــاب املعنـــى)‪ .‬كـــا يعينهـــم‬
‫ع ــى التأقل ــم م ــع الظ ــروف القاس ــية الت ــي يعيش ــون تح ــت وطأته ــا‪.‬‬
‫يف مقابـــل هـــذه املنافـــع النفســـية‪ ،‬يـــؤدي تربيـــر النظـــام إىل تكريـــس الوضـــع‬
‫القائـــم‪ ،‬وتبديـــد فـــرص تغيـــره‪ ،‬وبالتـــايل تكريـــس معانـــاة الجامعـــات األقـــل حظـــا‪،‬‬
‫ومـــن ثـــ ّم قلـــة حـــدوث الثـــورات عـــر التاريـــخ‪.‬‬
‫يف حال ــة أف ــراد الجامع ــات ذات الحظ ــوة يف املجتم ــع تنس ــجم الحاج ــات التربيري ــة‬
‫الث ــاث م ــع بعضه ــا البع ــض‪ ،‬تربي ــر األن ــا وتربي ــر الجامع ــة‪ ،‬وتربي ــر النظ ــام‪ .‬بين ــا يف‬
‫حال ــة أف ــراد الجامع ــات الدني ــا تتص ــادم ه ــذه الحاج ــات‪ ،‬ويف س ــياقات معين ــة تتغل ــب‬
‫الحاج ــة إىل تربي ــر النظ ــام ع ــى الحاج ــة لتربي ــر األن ــا أو تربي ــر الجامع ــة‪.‬‬
‫اآللي ــة الت ــي يت ــم به ــا تربي ــر الوض ــع القائ ــم ورشعنت ــه ه ــي العقلن ــة‪ ،‬وتتخ ــذ‬
‫صورت ــن‪ :‬تزي ــد مرغوبي ــة الح ــدث يف أع ــن الن ــاس كل ــا كان حصول ــه مرج ًح ــا‪ ،‬حت ــى‬

‫‪31‬‬
‫ل ــو كان تقييمه ــم األويل ل ــه س ــلبيًا (الليم ــون الحل ــو)‪ ،‬وتق ــل مرغوبي ــة الح ــدث يف أع ــن‬
‫النـــاس كلـــا كان حصولـــه غـــر مرجـــح‪ ،‬حتـــى لـــو كان تقييمهـــم األويل لـــه إيجاب ًيـــا‬
‫(العن ــب الحام ــض)‪.‬‬
‫حقيق ــة أن الن ــاس مدفوع ــن لتربي ــر النظ ــام االجتامع ــي ال تعن ــى أنه ــم س ــيفعلون‬
‫ذل ــك ع ــى نح ــو دائ ــم‪ ،‬فبع ــض األنظم ــة تتضم ــن أنظم ــة حك ــم سياس ــية فاس ــدة ع ــى‬
‫نح ــو ج ــي‪ ،‬بق ــدر ال ميك ــن مع ــه للمواطن ــن االس ــتمرار يف اإلمي ــان برشعيته ــا‪ .‬وه ــو م ــا‬
‫ق ــد ي ــؤدي به ــم إىل البح ــث يف أماك ــن أخ ــرى (كاألنظم ــة الديني ــة أو العائلي ــة) لتلبي ــة‬
‫حاجته ــم إىل تربي ــر النظ ــام (‪.)2017 ,Jost‬‬
‫يتوق ــف الن ــاس ع ــن تربي ــر النظ ــام القائ ــم عندم ــا يتيقن ــون أن ــه زائ ــل ال محال ــة‪،‬‬
‫وأن مثـــة نظـــام آخـــر قـــادم‪ ،‬وعندهـــا تتحـــول طاقتهـــم التربيريـــة إىل تربيـــر النظـــام‬
‫الجديـــد (‪.)2002 ,.Kay et al‬‬
‫يتفـــوات النـــاس يف ميلهـــم إىل تربيـــر النظـــام‪ ،‬حيـــث يزيـــد هـــذا امليـــل كلـــا‬
‫زادت درج ــة ع ــدم تحم ــل امل ــرء لإلحس ــاس بالاليق ــن وبالخط ــر‪ ،‬و كل ــا زادت قدرت ــه‬
‫عـــى خـــداع النفـــس‪ ،‬ويقـــل كلـــا زاد اســـتعداده لالنفتـــاح عـــى التجربـــة (& ‪Jost‬‬
‫‪.)2005 ,Hunyady‬‬
‫يزيـــد ميـــل النـــاس إىل تربيـــر النظـــام القائـــم يف األوقـــات التـــي يكـــون فيهـــا‬
‫معرضـــا للخطـــر‪.‬‬
‫ً‬ ‫النظـــام‬
‫األف ــراد األك ــر معان ــاة تح ــت وط ــأة نظ ــام م ــا قائ ــم ه ــم األك ــر مي ـ ًـا إىل تربي ــره‪،‬‬
‫وه ــو م ــا يس ــاهم يف تفس ــر التوجه ــات املحافظ ــة ل ــدى الطبق ــات العامل ــة‪.‬‬
‫ميك ــن تفس ــر املي ــل الب ــري لتربي ــر النظ ــام‪ ،‬تطوريًّ ــا‪ ،‬بواس ــطة مفه ــوم االنتق ــاء‬
‫عـــى مســـتوى الجامعـــة؛ يزيـــد تربيـــر النظـــام مـــن فرصـــة الجامعـــة يف التفـــوق عـــى‬
‫الجامع ــات األخ ــرى‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫يحتمـــل النـــاس إذن‪ ،‬الطغيـــان‪ ،‬ســـواء كان طغيـــان الرأســـالية يف نســـختها‬
‫النيوليربالي ــة الت ــي يتح ــدث عنه ــا جيمس ــون وجيج ــك‪ ،‬أو الطغي ــان الديكتات ــوري ال ــذي‬
‫تحـــدث عنـــه دو ال بويـــي‪ ،‬ألن لديهـــم ميـــل أصيـــل‪ ،‬وإن كان غـــر واعـــي لرشعنـــة‬
‫وعقلنـــة أي نظـــام قائـــم‪ ،‬ال لـــيء إال لكونـــه قائـــم‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫املراجع‬
Baumeister, R. and Leary, M. (1995). The need to belong: desire
for interpersonal attachments as a fundamental human motivation.
Psychological bulletin, vol. 117, no. 529-497 ,3.

Beaumont, M. (2014). Imagining the end times: ideology, the


contemporary disaster movie, contagion. In Matthew Flisfeder and Louis-
paul Willis (eds.) Zizek and media studies: a reader. New York: Palgrave
Macmillan, p 89 -79.

Boyce, C., Brown, G. and Moore, S. (2010). Money and Happiness:


Rank of Income, Not
Income, Affects Life Satisfaction. Psychological Science –471 )4(21
457.

Brandt, M. (2013). Do the Disadvantaged Legitimize the Social


System? A Large-Scale Test of the Status–Legitimacy Hypothesis. Journal
of Personality and Social Psychology, Vol. 104, No. 785–765 ,5.

Cooper, J. (2007). Cognitive Dissonance Fifty Years of a Classic


Theory. London: Sage publication.

34
Cramer, P. (2006). Protecting the self: defence mechanisms in action.
London: The Guilford press.

Cummins, D. D. (2005). Dominance, Status, and Social Hierarchies.


In David M. Buss (ed). The handbook of evolutionary psychology. New
Jersey: Wiley & sons. 698-676.

David, S., Boniwell, I. and Ayers, A. eds. (2013). The oxford handbook
of happiness. Uk: oxford university press.

de la Boetie, E. (2008). The politics of obedience: Discourse of


voluntary servitude. Auburn, AL: Ludwig von Mises Institute.

Diener, Ed, Tay, L. and Myers, D. (2011). The Religion Paradox: If


Religion Makes People Happy, Why Are So Many Dropping Out? Journal
of Personality and Social Psychology Vol. 101. No. 1290-1278 .6.

Eisenberger, N. (2012). The Neural Bases of Social Pain: Evidence for


Shared Representations With Physical Pain. Psychosomatic medicine, 74
135-126 :)2(.

35
Festinger, L. (1957). A theory of cognitive dissonance. California:
Stanford univrisity press.

Fisher, M. (1999). Capitalist realism: is there no alternative. zero


books.

Forsyth, D. (2010). Group dynamics. Belmont, USA: Wadsworth


cengage learning.

Gurr, T. (1970). Why men rebel. Princeton New Jersey: Princeton


university press.

Hogg, M. (2007). Uncertainty-identity theory. Advanced in


experimental social psychology, vol. 126-69 ,39.

Hogg, M. (2016). Social identity theory, in MacKeown & Ferguson


(eds.) Understanding peace and conflict through social identity theory.
Switzerland: Springer.

Hutchison, J. and Martin, D. (2015). The evolution of stereotypes. In


V. Zeigler-Hill et al (eds.) evolutionary perspective on social psychology.
Switzerland: Springer. 301-291.

36
Jameson, F. (1994). The seeds of time. New York: Columbia university
press.

Jameson, F. (2003). Future city, new left review, 79-65 :21.

Jost, J. T. and Banaji, Mahzarin R. (1994). The Role of Stereotyping


in System-Justification and the Production of False Consciousness. British
journal of psychology, 27-1 :33.

Jost, J. (1995). Negative illusions: conceptual clarification and


psychological evidence concerning false consciousness. Political psychology,
vol. 16, No 424-397 ,2.

Jost, J. and Hunyady, Orsolya (2003). The psychology of system


justification and the palliative function of ideology. European review of
social psychology. 153-11 :13.

Jost, J. and Hunyady, O. (2005). Antecedents and consequences of


system justifying ideologies. Current direction in psychological sciences.
265-260 ,14:5.

Jost, John T. et al. (2003). Political conservatism as motivated social


cognition. Psychological bulletin, vol. 129, No. 375-339 ,3.

37
Jost, J. et al., (2009). system justification: how do we know it
is motivated. In A. C. Kay et al. (Eds.), The psychology of justice and
legitimacy: The Ontario symposium (Vol. 11). Hillsdale, NJ: Erlbaum.

Jost, J., Federico, C. and Napier, J. (2009). Political Ideology: Its


Structure, Functions, and Elective Affinities. Annu. Rev. psychol. -307 :60
337.

Jost, J. and Amodio, D. (2012). Political ideology as motivated social


cognition: Behavioral and neuroscientific evidence. Motiv emot, 64-55 :36.

Jost. J. et al., (2012). Why Men (and Women) Do and Don’t Rebel:
Effects of System Justification on Willingness to Protest. Personality and
Social Psychology Bulletin 208 –197 )2( 38.

Jost, J. (2017). Working class conservatism: a system justification


perspective. Current Opinion in Psychology, 78–18:73.

Jost, J., Sapolsky, R., Nam, H. (2018). Speculations on the evolutionary


origins of system justification. Evolutionary psychology, April-June: 21-1.

38
Kay, Aaron C., Jimenez, Maria C. and Jost, John T. (2002). sour grapes
and sweet lemons: the rationalization of anticipated status quo. Personality
and Social Psychology Bulletin 1312-1300 ,9 :28.

Knoll, M. et al (2016). Rationalization, in Zeigler-Hill, V. & Shackelford,


T.K. (Eds.) encyclopedia of personality and individual differences.
Switzerland: Springer.

Lerner, M. (1980). The belief in a just world: a fundamental delusion.


New york: springer.

Lippmann, W. (1922). Public opinion. New York: Macmillan.

Lukes, S. (2001). In defence of “false consciousness.” University


of Chicago Legal Forum: Vol. 2011, Article 3. Available at: http://
chicagounbound.uchicago.edu/uclf/vol2011/iss3/1

MacDougall-Shackleton, Scott A. (2011). The levels of analysis


revisited. Philos Trans R Soc Lond B Biol Sci. 2085–2076 :)1574(366.

McGuire, W. J., & McGuire, C. V. (1991). The content, structure,


and operation of thought systems. In R. S. Wyer, Jr. & T. K. Srull (Eds.),

39
Advances in social cognition, Vol. 4. The content, structure, and operation
of thought systems. Hillsdale, NJ, US: Lawrence Erlbaum Associates, Inc.
pp. 78-1.

Meyer, M., Williams, K. and Eisenberger, M. (2015). Why Social Pain


Can Live on: Different Neural Mechanisms Are Associated with Reliving
Social and Physical Pain. PloS one, 6( 10).

Napier, J. and Jost, J. (2008). Why Are Conservatives Happier Than


Liberals? Psychological science 572-565 ,6 :19.

Parsons, T. (1951[ 2005]). The social system. London: Routledge.

Petri, H. & Govern, J. (2013). Motivation: theory, research and


application. Belmont: Wadsworth.

Sapolsky, R. (2004). SOCIAL STATUS AND HEALTH IN HUMANS


AND OTHER ANIMALS. Annu. Rev. Anthropol. 418–393 :33.

Sidanius, J and Pratto, F. (2001). Social Dominance An Intergroup


Theory of Social Hierarchy and Oppression. Cambridge: Cambridge
university press.

40
Sturgeon, J and Zautra, A. (2016). Social pain and physical pain:
shared paths to resilience. Pain Management. 74–63:)1(6.

Tajfel, H. (1981). Social stereotypes and social groups. In J. C.Turner


& H.Giles (Eds.), Intergroup behavior. Oxford: Basil Blackwell.

Trivers, R. (2011). The folly of the fools: the logic of deceit and self-
deception in human life. New York: Basic Books.

Williams, K. (2007). Ostracism. Annual review of psychology. Vol. :58


452-425.

Wilson, D. S. and Sober, E. (1994). Reintroducing group selection to


the human behavioral sciences. BEHAVIORAL AND BRAIN SCIENCES,
654-585 ,17.

Wilson, D. S. (1997). Altruism and Organism: Disentangling the


Themes of Multilevel Selection Theory. The American Naturalist, Vol. 150,
No. S1. pp. S-122S134.

Wilson, D. S. and Wilson, E. O. (2007). Rethinking the theoretical


foundation of sociobiology. The Quarterly Review of Biology, Vol. 82, No.
348-327 .4.

41
‫‪Zizek, S. (2010). Living in the end times. London: verso.‬‬

‫إيســـوب (‪ .)2003‬حكايـــات إيســـوب‪ ،‬ترجمـــة ودراســـة وتعليـــق‪ :‬إمـــام عبـــد‬


‫الفتـــاح إمـــام‪ .‬بغـــداد‪ :‬دار املـــدى للثقافـــة والنـــر‪ ،‬ص‪.25‬‬

‫دو ال بويـــي‪ ،‬إتيـــان (‪ .)2008‬مقالـــة العبوديـــة الطوعيـــة‪ ،‬ترجمـــة‪ :‬عبـــود‬


‫كاســـوحة‪ ،‬بـــروت‪ :‬املنظمـــة العربيـــة للرتجمـــة‪ ،‬ص ‪ 146‬ومـــا بعدهـــا‪.‬‬

‫‪42‬‬

You might also like