Professional Documents
Culture Documents
منهج الأشاعرة فى العقيدة بين الحقائق والأوهام
منهج الأشاعرة فى العقيدة بين الحقائق والأوهام
يف العقيدة
بني احلقائق واألوهام
تأليف
1
2
كلمة شكر
أقدم الشكر اجلزيل لكل من شارك يف خدمة هذا الكتاب وحتضريه:
ويف مقدمتهم رفيقنا العامل اجلليل البحاثة املغرم بتحصيل العلم ،الدائب يف طلبه
األستاذ املال عبد احلليم (حممد حليم شن) بن إبراهيم املارديني الكرميتي.
ثم أقدم الشكر ألصحابنا وتالميذنا الذين قدموا خدمة كبرية للكتاب يف صفه،
وقراءة جتاربه ،وتصحيحه ،وإخراجه .وهم األستاذ عبد الكريم العربكندي،
واألستاذ حتسني گدر الدياربكري ،وولدي حممد ضياء الدين ،وعبد الرمحن شن
سوي املويش ،وعىل بورا ،وأخص منهم صاحبنا حممد دنز الچناري ملا قدمه من
جهد كبري مضن يف كتابة الكتاب وتصحيحه ،وأخانا يف اهلل النشيط يف خدمة العلم
عبد اهلل فوزي قوجه أر عىل ما بذله من جهد يف تصميم صفحات الكتاب.
وفقهم اهلل تعاىل إىل ما فيه خري الدنيا واآلخرة ،وبارك عليهم.
3
-1مقدمة املؤلف:
بسم اهلل الرمحن الرحيم
احلمد هلل ،والصالة والسالم عىل رسوله ،وعىل آله وصحبه ومن اهتدى هبداه،
سح نظري يف مكتبة أحد أصحايب يف مدينة استانبول إذ
أما بعد :فبينام كنت أ َ ر
بعنوان مكتوب عىل غالف ك َت ريب صغري جلب انتباهي ،وهو:
"منهج األشاعرة يف العقيدة" للدكتور سفر احلوايل ،فطلبت الكتاب من هذا
األخ «عيل رىض آق گون» فأهداه إياي ،وبعد عوديت إىل منزيل يف مدينة قونيه بفرتة
ب ،فإذا بصاحبه قد حاول أن يثبت به أن مذهب األشاعرة يف
أخذت أتصفح الك َت ري َ
العقيدة من ألفه حتى يائه مذهب مبتدع خارج عن مذهب أهل السنة واجلامعة.
فأخذت أقرأه قراءة تدبر ومتعن وتدقيق ،فوجدته قد احتوى عىل أخطاء كثرية
عظيمة ،وقد يكون من املبالغة إذا قلت :إن مؤلفه مل خيط خطوة إال وأخطأ خطئا ،وقد
َت َكث َفت هذه األخطاء يف صدر الكتاب ووسطه ،وأما القسم األخري منه فمعظمه
تكرار ،وقسم منه هتويشات ،وكيل للتهم الباطلة لألشاعرة ،وحماولة مضنية إلخراج
األشاعرة عن مذهب أهل السنة واجلامعة.
ورأيت أن السبب يف تورط الدكتور سفر يف هذه األخطاء العلمية الكثرية
اجلسيمة التي تعد باملئات يف هذا الكتيب الصغري املكون من مخسني صفحة بالتحديد
ما ييل:
- 1أن مذهب األشاعرة يف العقيدة مذهب عميق دقيق املدارك.
4
- 2أن علم الكالم عامة أدق العلوم اإلسالمية وأعمقها وأصعبها
- 3أن كتب األشاعرة الكالمية املطولة من أدق الكتب اإلسالمية وأعمقها
ال يتيرس فهمها عىل وجهها أو نادرا ما يتيرس -إال ملن درس هذا العلم عىل مشاخيه
املتضلعني منه ومترس فيه ،والدكتور سفر مل يدرسه عىل أحد من مشاخيه ،وإنام نظر يف
هذه الكتب بنفسه متسورا عليها ،فخالفه التوفيق يف فهمها.
- 4أن الدكتور سفر بمقتىض نشأته العلمية وبيئته العلمية -قد متكن يف قلبه
أن مذهب األشاعرة مذهب مبتدع خارج عن مذهب أهل السنة ،ف َأدى به اعتقاده
هذا إىل كراهة املذهب األشعري وكراهة األشاعرة ،وتقررت عنده أحكام مس َب َقة
خاطئة عن مذهب األشاعرة مل يشك هو يف صحة هذه األحكام.
فرأى أن من واجبه وهو يرى نفسه متخصصا يف العقيدة -أن ينقض هذا
يت عىل
املذهب املبتدع الذي طبق العامل اإلسالمي رشقا وغربا وجنوبا وشامال ،ويأ َ
بنيانه من القواعد.
فحينام حاول القيام بواجبه هذا بكتابة هذا الكتيب راجع جمموعة كبرية من كتب
األشاعرة ونظر فيها نظارات ،ولكنه مل يراجعها ألجل فهم املذهب عىل وجهه من
هذه الكتب ،ألنه عىل حسب زعمه -قد فهم املذهب من اخلارج وال حاجة له إىل
فهمه ثانيا من هذه الكتب ،وإنام راجعها ليتصيد منها الدالئل عىل ما تقرر عنده من
األحكام املسبقة ،فكان هذا سببا ثانيا لعدم فهمها وعدم فهم املذهب عىل وجهه
منها.
5
- 5أن الدكتور ال يعلم بعض االصطالحات العلمية الواردة يف كتب
األشاعرة كام ستقف عليه يف ثنايا الكتاب.
- 6وهناك مشكلة أخرى عند الدكتور سفر ،وهي أن من عادته أن ينسب كل
ما يراه حقا إىل السلف ،وإىل مذهب أهل السنة واجلامعة ،بدون أن يتثبت يف ذلك،
ولعله يرى أن فهمه ألمر ما أنه حق كاف ألن يكون هذا األمر عقيدة للسلف وألهل
السنة واجلامعة ،وينطبق عىل الدكتور ما قاله ابن تيمية يف "التسعينية" 245منتقدا أحد
العلامء :قال( :فإنه دائام يقول :قال أهل احلق ،وإنام يعني أصحابه ،وهذه دعوى يمكن
كل أحد أن يقول ألصحابه مثلها ،فإن أهل احلق الذين ال ريب فيهم هم املؤمنون
الذين ال جيتمعون عىل ضاللة ،فأما أن يفرد اإلنسان طائفة منتسبة إىل متبوع من األمة
ويشعر بأن كل من خالفها يف يشء فهو من أهل الباطل ،فهذا
َ ويسميها أهل احلق،
حال أهل األهواء والبدع ...فليس احلق الزما لشخص بعينه دائرا معه حيث دار ال
يفارقه قط إال رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم)
- 7ومن مشاكل الدكتور أنه يرى مذهب أهل السنة واجلامعة حمصورا فيام ذهب
إليه اإلمام أمحد بن حنبل وشيخ اإلسالم ابن تيمية ،ويرى أهنام دائام عىل احلق يف كل ما
ذهبا إليه ،وأن كل من خالفهام يف العقيدة فهو خمطئ خارج عن أهل السنة ،وجيعل
كالمهام حجة عىل اآلخرين .ونحن -عىل تقديرنا هلذين اإلمامني العظيمني -ال َنعدمها
إال إمامني من أئمة املسلمني يصيبان وخيطئان كغريمها من أئمة املسلمني ،ويف املسائل
التى خالفا فيها غريمها من أئمة أهل السنة قد يكونان مصيبني فيها ،وقد يكونان خمطئني.
6
وليس أحد الطرفني حجة عىل الطرف اآلخر ،ومل جيعل اهلل العصمة ألحد من الناس
غري أنبيائه ،كام قال اإلمام مالك :كل أحد مأخوذ من قوله ومرتوك إال صاحب هذا
القرب ،وأشار إىل قرب رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم.
ومن التقليل من شأن اإلسالم أن ُي ََص فهمه الصحيح يف رجلني من علامئه.أو
يف جمموعة صغرية من علامئه.
ثم إن كثريا مما أنكره الدكتور عىل األشاعرة هو مذهب اإلمام أمحد ،وكثريا منه
وافق األشاعرة فيه ابن تيمية كام ستقف عليه يف ثنايا الكتاب ،ولكن الدكتور مل يعلم
ذلك ،ولو كان يعلمه ملا أنكر هذه األمور عىل األشاعرة.
فهذه األمور هي التى ورطت الدكتور فيام تورط فيه من األخطاء يف هذا
الكتيب .وجعلته يفتعل من األشاعرة خصام جيادله ،وعدوا جياهده.
وهذه األخطاء منقسمة إىل ثالثة أقسام:
القسم األول :خطأ يف النسبة ،فقد نسب إىل األشاعرة مجلة أمور هم ليسوا
بقائلني هبا ،وبعضها هم قائلون بضدها!
القسم الثاين :خطأ يف الفهم ،فقد نسب إىل األشاعرة مجلة أمور هم قائلون هبا
ولكن الدكتور مل يقف عىل مرادهم منها ،فحمل هذه األمور عىل معان مل يقصدوها
منها ،وخ ّطأهم بناء عىل ذلك!
القسم الثالث :خطأ يف احلكم ،حيث خطأهم يف أمور هم قائلون هبا ،ولكنه هو
املخطئ يف حكمه عليهم باخلطأ فيها!
7
فالدكتور سفر يف معظم األحوال قد حكم عىل مذهب األشاعرة بدون أن
يتصوره ،ومن املقرر أن احلكم عىل اليشء فرع عن تصوره ،فتورط فيام تورط فيه من
األخطاء ،وصار بتأليفه هلذا الكتيب كام قال الشاعر:
كناطح صخرة يوما ليوهنها ::فلم يرضها وأوهى قرنه الوعل
بل كام قال اآلخر:
يا ناطح اجلبل العايل ليكلمه ::أشفق عىل الرأس ال تشفق عىل اجلبل
ونود أن نقرر هنا أمورا:
-1أن األشاعرة أكرب فرقة إسالمية نافحت عن اإلسالم ودافعت عن مبادئه
وعقائده ضد غري املسلمني من اليهود والنصارى والثنوية والفالسفة وغريهم،
وضد أهل البدع من املعتزلة واملرجئة واجلهمية واخلوارج والرافضة وغريهم.
كام أهنم أكرب فرقة خدمت اإلسالم وخدمت العلوم اإلسالمية بنرشها ،وبتأليف
املؤلفات الكثرية العظيمة يف شتى أقسامها وأنواعها .فهم بمنزلة العمود الفقري من
املسلمني ومن أهل السنة .كام أهنم بحق -فحول األمة.
وهذا من املقررات التي ال ينبغي أن يتشكك فيها منصف.
-2أن أصول مذهب األشاعرة يف العقيدة موافقة للسنة ،وال يوجد يف أصول
مذهبهم ما خيالف السنة ،وما كان عليه سلف األمة.
وأما غري األصول من املسائل املتعلقة باالعتقاد مما هي جمال لالجتهاد التي ال
يكفر فيها املخالف وال ي َبدع ،فهم يف هذه املسائل جمتهدون ،وأعتقد أهنم يف عامة
8
األحوال مصيبون فيها ،وال أعتقد أهنم مصيبون فيها يف مجيع األحوال ،أي مصيبون
فيها مائة يف املائة ،فقد يكونون أخطئوا يف قسم منها.
وقد خالفتهم يف جمموعة من هذه املسائل:
منها مسألة تعليل أفعال اهلل تعاىل وأحكامه حيث ذهبوا إىل أن أفعال اهلل تعاىل
وأحكامه غري معللة بالعلل واألغراض لكنها غري خالية عن احلكم واملصالح ،فقد
اخرتت أن أفعال اهلل تعاىل وأحكامه كام أهنا غري خالية عن احلكم واملصالح ،معللة
بالعلل واألغراض أيضا.
ومنها مسألة احلسن والقبح حيث نفوا أصل وصف احلسن والقبح من األفعال
قبل ورود الرشع .وأما املاتريدية فقد ذهبوا إىل وجود وصف احلسن والقبح يف
األفعال قبل ورود الرشع ،وأما احلكم الرشعي نفسه فغري موجود قبل ورود الرشع،
بل هو موقوف عىل ورود الرشع به ،فاخرتت مذهب املاتريدية يف املسألة.
ومنها مسألة الكالم ،فإن املختار لدي ما ذهب إليه فريق من املحققني من متأخري
األشاعرة من أن كالم اهلل تعاىل قديم بلفظه ومعناه ،وأن القديم ليس هو املعنى فقط كام
قاله مجهور األشاعرة.
ومنها مسألة أن صفات اهلل تعاىل ليست عينه وال غريه .وهذا كالم قد قرره
السلف ،وقد ظهر يل أن اجلمهور األعظم من متأخري األشاعرة قد أخطئوا يف فهم
هذا الكالم ،فخالفتهم يف فهم هذا الكالم ،وذهبت إىل ما ذهب إليه شيخ اإلسالم
9
ابن تيمية والقايض عضد الدين اإلجيي من أن معناه أن صفات اهلل تعاىل ليست عينه
بحسب املفهوم ،وال غريه بحسب اهلوية أي بحسب الوجود والتحقق.
وقد أعددت يف كل من هذه املسائل رسالة.
-3أن كتاب الدكتور سفر "منهج األشاعرة يف العقيدة" قد انترش يف العامل
اإلسالمي ،ورشق فيه وغرب .و َأع َلم أن هناك مؤسسات تعتني بنرشه هبدف نرش
عقيدة أهل السنة واجلامعة ،والتعريف بام خالفها من املذاهب املبتدعة ،والتنفري عنها.
ومن هذه املؤسسات مؤسسة "الغرباء" يف إستانبول التي يديرها صديقنا الفاضل
«عبد اهلل بن عبد احلميد األثري».
واملسائل التي تعرض هلا الكتاب عند نقده ملذهب األشاعرة وكله نقد له -من
املسائل اخلفية عىل اجلمهور األعظم من القراء ،بل معظم هذه املسائل غري معلومة
بوجه دقيق للجمهور األعظم من العلامء فضال عن غريهم من القراء ،ألن هذه
املسائل من أدق مسائل العلوم وأعوصها ،وإنام يعلمها بوجه دقيق قلة من العلامء،
وهم املتخصصون يف علم الكالم .وال أقصد بالتخصص التخصص الرسمي اللقبى
،وإنام أقصد به التخصص العلمي الواقعي.
فاجلمهور األعظم من القراء هلذا الكتاب وال سيام إذا قرأوه عن ثقة بمؤلفه
واقتناع بام فيه -كام ُيصل عندهم جمموعة كبرية من األخطاء اجلسيمة عن مذهب أكرب
فرقة إسالمية قدمت لإلسالم أعظم خدمة ،كذلك يتمكن يف قلبهم البغض والكراهية
هلذه الفرقة وملذهبها ،وتتقرر عندهم األحكام املسبقة اخلاطئة عن هذه الفرقة ،وهذا مما
11
يؤدى إىل التفرق والتدابر والتقاطع بني املسلمني عامة وبني علامئهم خاصة يف وقت
أحوج ما تكون فيه األمة إىل وحدة الصف وتوحيد الكلمة .وهذا مما جيب احليلولة دونه
بقدر املستطاع
فمن أجل ما ذكرناه رأيت من واجبي أن أقوم ببيان ما حواه هذا الكتاب من
أخطاء بطريقة علمية رصينة بعيدة عن املهاترة وكيل التهم.
و َأ ِعدُّ ما أقوم به من هذا العمل قربة أتقرب هبا إىل ريب ،ثم خدمة أقدمها لألمة،
وال سيام من تأثر بقراءة مثل هذا الكتاب منهم.
ثم أقدم عميل حتفة أهدهيا ألخينا الفاضل الدكتور سفر ،وآمل أن يتقبلها بقبول
حسن ،ملا أعلمه منه من الفضل وطيب النفس .وقد جاء عن النبي صىل اهلل تعاىل
عليه وآله وسلم أنه قال( :إذا أراد اهلل بعبد خريا بَصه بعيوب نفسه) وروي عن عمر
بن اخلطاب ريض اهلل تعاىل عنه أنه قال( :رحم اهلل عبدا أهدى إلينا عيوبنا) وقد قالوا:
( َص ِديقك من َصدَ َقك ال من صدقك)
وأنا َح َسن الظن بالدكتور سفر ،وأعلم أنه رجل فاضل طيب ،وأقدره عىل ما أعلمه
منه من الغرية الشديدة عىل اإلسالم ،ومن تضحيته يف سبيله بالنفس والنفيس ،وعىل ما
يقوم به من الريادة يف النشاطات واألعامل اإلسالمية اجلليلة ،شكر اهلل سعيه ،وجزاه خري
ما جيازي به عباده الصاحلني.
وسدد اهلل خطانا وخطاه ،ووفقنا وإياه إىل طيب النية ،وصالح العمل ،وحسن
اخلتام ،ورزقنا احلسنى وزيادة .آمـــني ،واحلمد هلل رب العاملني.
11
حممد صالح بن أمحد الغريس
مجادى األوىل 1427/16هـ املوافق 2006/6/12مـ
قونيه
12
-2مقدمة الدكتور سفر:
قال الدكتور{ :احلمد هلل ،والصالة والسالم عىل من ال نبي بعده وبعد فقد
اطلعت عىل ما نرشته جملة «املجتمع» يف األعداد رقم 732-726 :واملقاالت
السابقة هلا ،وكذلك املقالتان املتضادتان يف العدد 747 :مما كتبه الشيخان
الفوزان والصابوين عن مذهب األشاعرة ،وإذا كان من حق أي قارئ مسلم
أن هيتم باملوضوع وأن يديل برأيه إن كان لديه جديد ،فكيف بمن هو
متخصص يف هذا املوضوع مثيل؟...
أما الصابوين فال يؤسفنى أن أقول :إن ما كتبه عن عقيدة السلف
واألشاعرة يفتقر إىل أساسيات بدائية لكل باحث يف العقيدة ،كام أن أسلوبه
بعيد كثريا عن املنهج العلمي املوثق وعن األسلوب املتعقل الرصني}
أقول :سيظهر للقارئ من خالل قراءة تعليقاتنا عىل الكتاب مدى
ختصص الدكتور سفر يف املوضوع ،والقارئ لتعليقاتنا يتحقق من أن ما قاله
الدكتور سفر يف حق ما كتبه الصابوين ينطبق عىل كتابه هذا متام االنطباق.
13
قال الدكتور{ :فاألشاعرة ...هي أكرب فرق املرجئة الغالة ،ولن أستعجل
نتائج بحثي ،ولكن حسبي أن أدعي دعوى وأطرحها للمناقشة ،وأقبل بكل
رسور من يديل بوجهة نظره فيها}
أقول :قد اشتمل كالم الدكتور هذا عىل اخلطأ والتناقض.
أما اخلطأ :فقوله( :فاألشاعرة ...وهي أكرب فرق املرجئة الغالة)وهذه
الدعوى من الدكتور هي اخلطأ األصل الذي تشعب عنه وتفرع عليه عرشات
األخطاء بل مئات األخطاء التى تورط فيها يف هذه الرسالة الصغرية ،ونظرته إىل
األشاعرة التى تفيدها هذه اجلملة هي التى ورطته يف هذه األخطاء .وحمل اخلطأ
يف كالمه هذا تقييده املرجئة بقيد الغالة ،وعده األشاعرة أكرب فرق املرجئة الغالة.
وذلك أن اإلرجاء نوعان :إرجاء السنة وإرجاء البدعة ،واألشاعرة من مرجئة
السنة .وهم الذين يرجئون أمر العصاة إىل رهبم إن شاء عفا عنهم ،وإن شاء
عاقبهم كام هو مذهب أهل السنة ،ولعل هذا هو مذهب الدكتور سفر أيضا ،وأما
مرجئة البدعة فهم الذين يقولون :ال يرض مع اإليامن ذنب كام ال ينفع مع الكفر
طاعة ،وهؤالء هم املرجئة الغالة ،وقد عدهم األشاعرة من أهل البدعة ،وردوا
عليهم مذهبهم هذا ،وبينوا زيغه يف كتبهم .ويف مقابل مرجئة البدعة اخلوارج
الذين يكفرون العصاة ،واملعتزلة الذين يثبتون املنزلة بني املنزلتني ،أي يرون أن
مرتكب الكبرية ليس مؤمنا وال كافرا ،وُيكمون بخلوده يف النار .وسيأتى
14
تفصيل مسألة اإلرجاء يف آخر هذه التعليقات .فاألشاعرة هم أكرب فرق مرجئة
السنة ،وليسوا أكرب فرق املرجئة الغالة.
واماالتناقض :فإن هذا احلكم من الدكتور عىل األشاعرة كام أنه حكم
بدون بينة -هو استعجال منه ألهم نتائج بحثه ،ومن أجل أن املخطأ البد أن
يناقض نفسه شاء أو أبى -كام قالوا .-فقد ناقض الدكتور نفسه بقوله :ولن
أستعجل نتائج بحثى.
وأما قوله{ :ولكن حسبي أن أدعي دعوى ،وأطرحها للمناقشة ،وأقبل
بكل رسور -من يديل بوجهة نظره فيها}
كالمه هذا إذا أخذناه مقطوعا عن سياقه ،كالم جيد يصور ما ينبغى أن
يكون عليه العامل املحايد غري املتحيز من عدم التعصب لطرف ،وعدم الترسع
يف احلكم باخلطأ فضال عن احلكم بالبدعة لطرف آخر.
لكن إيراد الدكتور هلذا الكالم يف صدر رسالته هذه غري صحيح ألمرين:
األول :أن الدعاوى البد أن تكون مدعومة بالبينات ،كام قال النبي صىل اهلل
تعاىل عليه وآله وسلم( :لو أعطي الناس بدعواهم الدعى ناس دماء أقوام
وأمواهلم ،ولكن البينة عىل املدعي واليمني عىل من أنكر) ومعظم دعاوى
الدكتور التى ادعاها عىل األشاعرة يف هذا الكتيب ومنها دعواه هذه أن
األشاعرة أكرب فرق املرجئة الغالة غري صحيحة مل يقم عليها ال بينات وال
شبهات ،ولن يستطيع أن يقيم عليها شيئا من ذلك.
15
الثاين :أن كالمه هذا يصور دعواه التى ادعاها عىل األشاعرة بأهنا دعوى
قابلة للمناقشة ،وأن املسائل التي خالف فيها األشاعرة مما جيوز فيها اخلطأ
والصواب عىل كل من األطراف املتنازعة ،وليست من املسائل التى خيطأ فيها
عىل سبيل القطع طرف معني ،فضال أن يبدع من أجلها ،ومن أجل ذلك يقبل
بكل سور من يديل بوجهة نظره يف هذه الدعوى ،لكنه حينام يأيت بدعاويه
التى ينسبها إىل من يسميهم بأهل السنة يف ثنايا رسالته يوردها عىل أهنا حقائق
مسلمة غري قابلة للنقاش ،ويورد ما ينسبه إىل األشاعرة ومنها هذه الدعوى
عىل أنه اخلطأ الذي ال ُيتمل الصواب ،وأنه البدعة املخالفة للسنة .فكالم
الدكتور هذا مشتمل عىل اخلطأ والتناقض .وهو كام أنه مناقض ملا سيأتى يف
ثنايا الكتاب مناقض لسابقه والحقه ،وهو قوله( :وليكن معلوما أن هذا الرد
املوعود)...
16
احلديث وكتب اللغة والبالغة واألصول فض ً
ال عن كتب العقائد والفكر ،كام
أن له جامعاته الكربى ومعاهده املنترشة يف أكثر بالد اإلسالم من الفلبني إىل
السنغال}
أقول :هذا الكالم اعرتاف من الدكتور سفر بأن مذهب األشاعرة
واملاتريدية هو مذهب مجهور علامء املسلمنيَ ،فج ُّل كتب التفسري واحلديث
والعقائد واألصول ،والبالغة واللغة كتبها األشاعرة واملاتريدية ،واجلامعات
العريقة تتبع هذا املذهب .أنطرح كل هذه الكتب ونرتك هؤالء العلام َء ونتبع
الدكتور سفر؟ وهل من املعقول أن تكون األمة املرحومة عىل ضالل طوال
قرون حتى يأيت يف القرن اخلامس عرش من يصحح هلا عقائدها ،وقد قال النبي
صىل اهلل عليه وعىل آله وسلم " :عليكم بالسواد األعظم" ؟
ونحن ال نعتقد العصمة لألشعرية وال لغريهم ،ولكننا نرى مذهبهم
ومذهب املاتريدية أقوم املذاهب وأقرهبا إىل احلق.
قال اإلمام احلجة املحدث الفقيه األصويل املتكلم النظار تقي الدين
السبكي يف مقدمة كتابه (السيف الصقيل):
املتكلمون طلبوه -أي العلم اإلهلي -بالعقل والنقل معا وافرتقوا ثالث
فرق:
إحداها غلب عليها جانب العقل وهم املعتزلة.
والثانية غلب عليها جانب النقل وهم احلشوية.
17
والثالثة ما غلب عليها أحدمها؛ بل بقي األمران مرعيني عندهم عىل حد
سواء وهم األشعرية .ومجيع الفرق الثالث يف كالمها خماطرة :إما خطأ يف
بعضه وإما سقوط هيبة ،والسامل من ذلك كله ما كان عليه الصحابة والتابعون
وعموم الناس الباقون عىل الفطرة السليمة ،وهلذا كان الشافعي ريض اهلل عنه
ينهى عن االشتغال بعلم الكالم ويأمر باالشتغال بالفقه فهو طريق السالمة،
ولو بقي الناس عىل ما كانوا عليه يف زمن الصحابة كان األوىل للعلامء جتنب
النظر يف علم الكالم مجلة؛ لكن حدثت بد ٌع أوجبت للعلامء النظر فيه ملقاومة
املبتدعني ودفع شبههم حذرا من أن تزيغ هبا قلوب املهتدين.
والفرقة األشعرية هم املتوسطون يف ذلك ،وهم الغالبون من الشافعية
واملالكية واحلنفية وفضالء احلنابلة وسائر الناس.
وأما املعتزلة فكانت هلم دولة يف أوائل املائة الثالثة ساعدهم بعض اخللفاء
ثم انخذلوا وكفى اهلل رشهم.
وهاتان الطائفتان األشعرية واملعتزلة مها املتقاومتان ،فاألشعرية أعدهلا
ألهنا بنت أصوهلا عىل الكتاب والسنة والعقل الصحيح...
وأما احلشوية فهي طائفة ...ينتسبون إىل أمحدَ وأمحد مربأ منهم ،وسبب
نسبتهم إليه أنه قام يف دفع املعتزلة وثبت يف املحنة ريض اهلل عنه ،نقلت عنه
كليامت ما فهمها هؤالء اجلهال ،فاعتقدوا هذا االعتقاد السيئ ،وصار املتأخر
منهم يتبع املتقدم إال من عصمه اهلل ...ثم جاء يف أواخر املائة السابعة رجل له
18
جسور متجر ٌد
ٌ واطالع ومل جيد شيخا هيديه ،وهو عىل مذهبهم وهو
ٌ فضل ذكاء
لتقرير مذهبه ،وجيد أمورا بعيدة فبجسارته يلتزمها ،فقال بقيام احلوادث بذات
الرب سبحانه وتعاىل ،وأن اهلل سبحانه ما زال فاعال ،وأن التسلسل ليس
بمحال فيام مىض كام هو فيام سيأيت ،وشق العصا ،وشوش عقائد املسلمني،
وأغرى بينهم ...ثم حدث من أصحابه من يشيع عقائده ...حتى وقفت يف هذا
الزمان عىل قصيدة نحو ستة آالف بيت يذكر ناظمها فيها عقائده وعقائد غريه،
ويزعم بجهله أن عقائده عقائد أهل احلديث ،فوجدت هذه القصيدة تصنيفا يف
تقرير
علم الكالم الذي هنى العلامء عن النظر فيه لو كان حقا ،فكيف وهو ٌ
العوام عىل تكفري كل من
ر وبوح هبا ،وزياد ٌة عىل ذلك ،وهي محل
للعقائد الباطلة ٌ
سواه وسوى طائفته ،فهذه ثالثة أمور هي جمامع ما تضمنته هذه القصيدة ...إىل
آخر كالمه.
يقصد السبكي القصيدة النونية البن القيم ،وقد جرى الدكتور سفر يف
كتابه هذا عىل منواهلا...
19
ومل يبتدع مقالة اخرتعها وال مذهبا انفرد به ...ليس له يف مذهب السلف أكثر
من بسطه ورشحه ،وتواليفه يف نَصه ...ثم ذكر املايرقي رسالة الشيخ أيب
احلسن القابيس املالكي التى يقول فيها :واعلموا أن أبا احلسن األشعري مل
يأت من علم الكالم إال ما أراد به إيضاح السنن والتثبت عليها ،إىل أن يقول
القابيس :وما أبو احلسن إال واحد من مجلة القائمني يف نَصة احلق ،ما سمعنا
من أهل اإلنصاف من يؤخره عن رتبة ذلك ،وال من يؤثر عليه يف عَصه
غريه ،و َمن بعده من أهل احلق سلكوا سبيله ،إىل أن قال :لقد مات األشعري
يوم مات وأهل السنة باكون عليه وأهل البدع مسرتُيون منه.
و َذكَر قول الشيخ أيب حممد عبد اهلل بن أيب زيد يف جوابه ملن المه يف حب
األشعري :ما األشعري إال رجل مشهور بالرد عىل أهل البدع ،وعىل القدرية
واجلهمية ،متمسك بالسنن وأطال املايرقي وغريه من املالكية يف تقريظ الشيخ
1
أيب احلسن.
وقال اإلمام احلافظ البيهقي يف مجلة ما كتبه إىل عميد امللك :إىل أن بلغت
النوبة إىل شيخنا أيب احلسن األشعري رمحه اهلل -فلم ُيدث يف دين اهلل حدثا ،
ومل يأت فيه ببدعة ،بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعني ومن بعدهم من األئمة
يف أصول الدين ،فنَصها بزيادة رشح وتبيني ،وأن ما قالوا يف األصول وجاء به
1
367 3
21
صحيح يف العقول ،خالف ما زعم أهل األهواء من أن بعضه ال يستقيم
ٌ الرشع
يف اآلراء ،فكان يف بيانه ...نَصة أقاويل من مىض من األئمة كأيب حنيف َة
واألوزاعي وغريه من أهل الشام ومن نحا
ر وسفيان الثوري من أهل الكوفة
نحومها من أهل احلجاز وغريها من سائر البالد ،ومالك والشافعي من أهل
ِ
والليث بن سعد وغريه ِ
وغريه من أهل احلديث، احلرمني ،وكأمحدَ بن حنبل
وأيب عبد اهلل بن إسامعيل البخاري وأيب احلسني مسلم بن احلجاج النيسابوري
إمامي أهل األثر وحفاظ السنن التى عليها مدار الرشع ريض اهلل تعاىل عنهم
أمجعني هذا قطع ٌة من رسالة البيهقي نقلها احلافظ ابن عساكر يف (تبيني كذب
املفرتي).2
2
113
21
أقول :مذهب األشاعرة مل يقع فيه تصدع وتشقق حتى ُيتاج إىل الرتميم
والتحديث وليت شعري من الذي حاول ترميمه وحتديثه فهال ذكرهم
الدكتور!!؟
وأما الربط بني نرش كتب األشاعرة واإلسترشاق فمن هتويشات الدكتور،
فإن املسترشقني يعتنون بفروع املعرفة كافة ،وقد أسهموا يف نرش كثري من كتب
الرتاث اإلسالمي ومنها بعض كتب األشاعرة ككتاب "هناية اإلقدام يف علم
الكالم" لعبد الكريم الشهرستاين ،وال أعلم له ثانيا .نعم قد نرش املسترشق
كلود سالمة كتاب "تبَصة األدلة" يف أصول الدين أليب املعني النسفي ،وهو
عىل مذهب املاتريدية ،كام طبعوا كتاب "الرد عىل اجلهمية" للدارمي ،وهو من
كتب العقيدة عىل مذهب الدكتور.
وأما دعوى تركيز املسترشقني عىل نرش كتب األشاعرة فغري صحيحة،
ولو فرض تركيزهم عىل نرشها فهذا ال ينقص من قدرها وال يكون سبة
عليها.
-6مل يكفر األشاعرة إال من أنكر أمرا جممعا عليه معلوما من الدين
بالرضورة:
قال الدكتور{ :فاألشاعرة هم الذين كفروا وما يزالون يكفرون أتباع
السلف بل كفروا َّ
كل من قال إن اهلل تعاىل موصوفٌ بالعلو -كام سيأيت هنا-
22
وحسبك تكفريهم واضطهادهم لشيخ اإلسالم وهو ما مل يفعله أهل السنة
بعامل أشعري قط}
أقول :مل يك رفر أحدٌ من األشاعرة أهل احلديث الذين عناهم املؤلف بأتباع
السلف بل عدُّ وهم من مجلة أهل السنة.
وأما تكفري كل من قال :إن اهلل تعاىل موصوف بالعلو .فلم يقل به أحد
منهم ،كيف وهم ال يذكرون اهلل إال ويعقبونه بقوهلم( :تعاىل) ،وقد وصف اهلل
تعاىل نفسه يف كتابه بأنه العيل!؟ نعم يك رفر األشاعرة املجسمة إذا قالوا :جسم
كاألجسام وقد كفر بعضهم اجلهوية أيضا ،وأين وصف العلو من اجلهة
والتجسيم!.
وأما التكفري من بعض املسلمني لبعضهم اآلخر فقد صدر من بعض
املنسوبني لبعض املذاهب لبعض خمالفيهم عن طريق االجتهاد املشوب بيشء
من التعصب واهلوى مع خمالفة ذلك ألصول مذاهبهم من عدم تكفري أهل
القبلة ،فاملشكلة مشكلة بعض األفراد ،وليست مشكلة املذاهب :فال جيوز
نسبة هذه املشكلة إىل املذاهب والفرق اإلسالمية عامة .ومن هذا القبيل تكفري
تقي الدين احلصني وعالء الدين البخاري البن تيمية .وأما معظم األشاعرة
فمع خمالفتهم له يف كثري من املسائل معرتفون بفضله وجاللة قدره يف العلم
والعمل .ولعل هذا ال خيفى عىل الدكتور سفر.
23
واملقرر عند األشعرية أنه ال يكفر إال من أنكر أمرا جممعا عليه معلوما
كونه من الدين بالرضورة.
وأما االضطهاد البن تيمية فإن أراد الدكتور به الرضب واجللد فغري
صحيح فإن أحدا من علامء األشاعرة مل يفعل به هذا .وإن أراد به احلكم
بحبسه فصحيح ،فقد حكم عليه املناظرون له يف املسائل التى خالف فيها
مجهور األئمة بالزجر وطول السجن واملنع من الفتوى.
وأما حكم الدكتور بأن من سامهم أهل السنة مل يفعلوا بعامل أشعري مثل
هذا فغري صحيح ،فقد سجل التاريخ ما فعلوه باإلمام ابن جرير الطربي،
حبسوه يف منزله ومنعوا الناس من الدخول عليه حتى تويف فيه .قال الذهبي:
قال حسني بن عىل النيسابوري :أول ما سألني ابن خزيمة قال :كتبت عن
حممد بن جرير؟ قلت :ال ،قال :ومل؟ قلت :ألنه كان ال يظهر ،وكانت احلنابلة
متنع من الدخول عليه ،فقال :بئس ما َف َع َلَت ،ليتك مل تكتب عن كل من
كتبت عنهم ،وسمعت منه ،ومثله يف "تاريخ بغداد".3وابن جرير الطربي وان
مل يكن أشعريا بمعنى املتابعة لألشعري ألنه معارص له تويف قبله سنة 310
وتويف األشعري سنة ،324لكنه أشعري بمعنى املوافقة لألشعري يف
العقيدة.
3
162 2 311
24
وقد كانوا يؤذون األشاعرة ويوقعون هبم كلام صارت هلم شوكة .ومنه ما
حكاه ابن أيب يعىل يف طبقات احلنابلة يف ترمجة أيب جعفر عبد اخلالق بن عيسى
قال :فوصل إىل مدينة السالم باجلانب الرشقي ولد القشريي ،وأظهر عىل
الكريس مقالة األشعري ،ومل تكن ظهرت قبل ذلك عىل رؤوس األشهاد ملا
كان يلحقهم من أيدي أصحابنا وقمعهم ...فاشتد أزر أهل السنة وقويت
شوكتهم ،وأوقعوا بأهل هذه البدعة دفعات ،وكانت الغلبة لطائفتنا طائفة
4
احلق .انتهى.
يقصد ابن أيب يعىل بأهل السنة من سامهم الدكتور بأهل السنة ،ويقصد
بأهل البدعة األشاعرة.
وقد كانوا يشاغبون األشاعرة ومن عىل مذهبهم ويفتعلون الفتن
واالضطرابات .ومنه ما حكاه ابن كثري يف البداية والنهاية يف حوادث سنة 317
قال :وفيها وقعت فتنة ببغداد بني أصحاب أيب بكر املروزي احلنبيل وبني طائفة
من العامة اختلفوا يف تفسري قوله تعاىل( :عيس أن يبعثك ربك مقاما حممودا)
فقالت احلنابلة :جيلسه معه عىل العرش .وقال اآلخرون :املراد بذلك الشفاعة
العظمى .فاقتتلوا بسبب ذلك ووقع بينهم قتىل فإنا هلل وإنا إليه راجعون .وقد
ثبت يف صحيح البخاري أن املراد بذلك مقام الشفاعة العظمى ،وهي الشفاعة
4
239 2
25
يف فصل القضاء بني العباد .انتهى 5.واملتتبع للتاريخ جيد الكثري من مشاغباهتم.
والدكتور يعلم هذا جيدا حيث أشار إليه يف ما بعد بقوله :ومل يزل احلنابلة معهم
( أي مع األشاعرة) يف معركة طويلة ...إلخ.
قال الدكتور{ :إن مصطلح أهل السنة يطلق ويراد به معنيان :املعنى األعم
وهو ما يقابل الشيعة فيقال :املنتسبون لإلسالم قسامن؛ أهل السنة والشيعة،
مثلام عنون شيخ اإلسالم كتابه يف الرد عىل الرافيض "منهاج السنة" وفيه بني
هذين املعنيني( ،ورصح أن ما ذهبت إليه الطوائف املبتدعة من أهل السنة
باملعنى األخص) وهذا املعنى يدخل فيه كل من سوى الشيعة
كاألشاعرة..الخ كالمه}
ما بني اهلاللني غري مفهوم.
5
162 11
26
يف يشء من علم الكالم ال يعترب من أهل السنة وإن أصاب بكالمه السنة حتى
يدع اجلدل ويسلم للنصوص}...
أقول :قد خاض يف يشء من الكالم كثري من أئمة السلف منهم اإلمام
الشافعي ،فقد كان ضليعا فيه ،وقد ناظر حفصا الفرد وقطعه ،وانظر( تبيني
ُّ
مناظرات مع املبتدعة.
ٌ كذب املفرتي) ومنهم اإلمام أبو حنيفة فقد جرت له
وأما هني السلف -ومنهم الشافعي -عن الكالم فمرادهم االعتامد عليه
يف إثبات العقائد اإلسالمية ،واإلكثار منه ،والدخول فيه لغري املتأهل الذي
خياف عليه الضالل ،وهناك أسباب أخرى للنهي ذكرها العلامء .وقد كتبنا فيها
رسالة.
وهذا النقل الذي نقله الدكتور عن اإلمام أمحد إن صح عنه ،ليس حجة عىل
غريه ممن خاض يف الكالم من أئمة السنة يف عَصه كاحلارث املحاسبي
والقالنيس وابن كالّب واحلسني بن عيل الكرابييس ملا رءوا من احلاجة إىل ذلك.
والكالم الذي هنى عنه اإلمام أمحد قد خاض فيه كل من ابن تيمية وابن القيم،
فعىل الدكتور أن خيرجهام من أهل السنة باملعنى األخص كام أخرج منهم
األشاعرة.
قال الدكتور{ :األشاعرة كام سرتى -تلقوا واستمدوا من غري السنة ومل
يوافقوها يف النتائج فكيف يكونون من أهلها}
27
أقول :ليس يف أصول مذهبهم ما خيالف السنة ،ومن ادعى املخالفة فعليه
باإلثبات .وقد أثبتنا يف تعليقاتنا هذه موافقة مذهبهم للسنة .وأهنم مل يستمدوا
من غريها ،ومل خيالفوها .وسيأيت تفصيل هذا فيام بعد يف الكالم عىل املوضوع
الذي عنونه بمصدر التلقي.
28
األشعري أمجع عليها الشافعية واملالكية واحلنفية وفضالء احلنابلة ووافقه عىل
ذلك من أهل عَصه شيخ املالكية يف زمانه أبو عمرو ابن احلاجب وشيخ
التقي السبكي فيام نقله عنه
ُّ احلنيفة مجال الدين احلصريي ،وأقره عىل ذلك
6
ولده التاج.
قال الدكتور{ :عند املالكية :روى حافظ املغرب وع َل ُمها الفذ ابن عبد الرب
بسنده عن فقيه املالكية باملرشق ابن خويزمنداد أنه قال يف كتاب الشهادات
رشح ًا لقول مالك :ال جتوز شهادة أهل البدع واألهواء ،قال " :أهل األهواء
عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكالم فكل متكلم فهو من أهل األهواء
والبدع أشعري ًا كان أو غري أشعري ،وال تقبل له شهادة يف اإلسالم أبدا ،وهيجر
فإن متادى عليها استتيب منها"}.
ويؤدب عىل بدعتهْ ،
أقول :ابن خويزمنداد ساقط عند علامء اجلرح والتعديل وعند علامء
الرب وانظر لسان
الباجي وابن عبد َ ر
ُّ املالكية أيضا ،فقد طعن فيه اإلمامان
امليزان.7
امللقب
ُ ثم قال الدكتور{ :عند الشافعية :قال اإلمام أبو العباس بن رسيجٍ
بالشافعي الثاين وقد كان معارص ًا لألشعري" :ال نقول بتأويل املعتزلة
6
365 3 72
291 5 7
29
واألشعرية واجلهمية وامللحدة ،واملجسمة واملشبهة والكرامية واملكيفة ،بل
نقبلها بال تأويل ،ونؤمن هبا بال متثيل"}
أقول :الظاهر أن كلمة األشعرية مدرجة يف كالم ابن سيج ،أو الكالم
ٌ
منحول عليه ،فإن سياق هذا الكالم يقتيض أنه كان عىل عهد ابن سيج كله
مذهب يسمى مذهب األشعري ،وفرقة تسمى أشعرية ،وقد قالوا إن حتول
ٌ
األشعري عن االعتزال كان سنة 300هـ وكانت وفاة ابن سيج سنة
306هـ .فكيف حتولت آراء األشعري يف هذه املدة الوجيزة وهي مخس سنني
تقريبا إىل مذهب معروف يتناقلها العلامء يف مؤلفاهتم؟ وقد نقل املصنف هذا
الكالم عن كتاب( اجتامع اجليوش اإلسالمية) والكالم منقول فيه بسند فيه
انقطاع بني الزنجاين وابن سيج .فإن ابن سيج تويف سنة ( )306والزنجاين
ولد سنة ( )380فبينهام مسافة شاسعة .فالرواية عن ابن سيج مل تصح ال متنا
وال سندا.
قال الدكتور{ :قال اإلمام أبو احلسن الكُرجي من علامء القرن اخلامس
الشافعية ما نصه ":مل يزل األئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ُينْسبوا إىل
وينه ْو َن أصحاهبم وأحباهبم
األشعري ،ويتربؤون مما بنى األشعري مذه َب ُه عليهَ ،
احلو ِم حواليه عىل ما سمعت من ٍ
عدة من املشايخ واألئمة .ورضب مث ً
ال عن َ ْ
بشيخ الشافعية يف عرصه اإلمام أيب حامد اإلسفرايئني امللقب «الشافعي الثالث»
31
قائال :ومعلو ٌم شدة الشيخ عىل أصحاب الكالم ،حتى ميز أصول فقه الشافعي
من أصول األشعري ...وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق الشريازي}
أقول :قال تاج الدين السبكي يف طبقات الشافعية الكربى يف ترمجة
الكرجي :قال ابن السمعاين :وله -أي للكرجي -قصيدة بائية يف السن ِة رشح
فيها اعتقاده واعتقاد السلف تزيد عىل مائتي بيت قرأهتا عليه يف داره يف
الكرج ،ثم قال السبكي :قلت :ثبت لنا هبذا الكالم -إن ثبت أن ابن السمعاين
قاله -أن هلذا الرجل قصيدة يف االعتقاد وعىل مذهب السلف موافقة للسنة،
وابن السمعاين كان أشعري العقيدة ،فال يعرتف بأن القصيدة عىل السنة
ومذهب السلف إال إذا وافقت ما يعتقد انه كذلك وهو رأي األشعري.
إذا عرفت ذلك فاعلم أنا وقفنا عىل قصيدة تعزى إىل هذا الشيخ نال فيها
من أهل السنة وباح بالتجسيم ...إين ارتبت يف أمر هذه القصيدة وصحة
نسبتها إىل هذا الرجل ،وغلب عىل ظني أهنا مكذوب ٌة عليه ك ُّلها أو بعضها ،ثم
أورد السبكي الدالئل عىل أهنا مكذوب ٌة فراجع كالمه ،8فكالم السبكي هذا
يدل عىل أن ما نقله الدكتور عن الكرجي ال يصح نسبته إليه ..وإن صح نسبة
عدو لألشاعرة ال تقبل شهادته عليهم.
القصيدة إليه فالرجل ٌّ
8
141 6
31
وأما اإلمام أبو حامد اإلسفرايني فقد قرأت ترمجته يف قريب من ثالثني
مصدرا ومرجعا فلم َأر أحدا أشار إىل عدائه لعلم الكالم وللمتكلمني .ولو
س رلم عدائه للكالم فله رأيه وللمشتغلني بالكالم من قبله ومن بعده ملا رأوا من
احلاجة إىل ذلك رأهيم ،وليس هو حجة عىل غريه كام أن غريه ليسوا حجة
عليه ،فلكل رأيه واجتهاده.
وأما أبو إسحاق الشريازي فأشهر من نار عىل علم أنه من كبار أئمة
األشاعرة .وانظر ترمجته يف {تبيني كذب املفرتى} البن عساكر ،واقرأ معتقده
ني معتقده عىل وفق مذهب األشعري ،ثم
يف مقدمة "رشح اللمع" له حيث َب َ
عقبه بقوله :فمن اعتقد غري ما أرشنا إليه من اعتقاد أهل احلق املنتسبني إىل
اإلمام أيب احلسن األشعري فهو كافر.9
قال الدكتور{ :وبنحو قوله أي قول الكرجي -أو أشد منه قال شيخ
اإلسالم اهلروي األنصاري}
عدو لألشاعرة فال تقبل شهادته عليهم ،هو غري
أقول :اهلروي مع أنه ٌ
مريض عند احلنابلة.
ٍّ
قال تاج الدين السبكي :كان ...ابن تيمية مع ميله إليه يضع من هذا
الكتاب -أعني منازل السائرين -قال شيخنا الذهبي :وكان يعني ابن
9
111 1
32
تيمية -يرمي أبا إسامعيل بالعظائم بسبب هذا الكتاب ويقول :انه مشتمل عىل
االحتاد.
قال تاج الدين السبكي :قلت :واألشاعرة يرمونه بالتشبيه ،ويقولون :إنه
كان يلعن شيخ السنة أبا احلسن األشعري ،وأنا ال أعتقد أنه يعتقد اإلحتاد،
وإنام أعتقد أنه يعتقد التشبيه ،وأنه ينال من األشاعرة ،وأن ذلك جلهله بعلم
الكالم ،وبعقيدة األشعرية ،فقد رأيت أقواما أتوى من ذلك .أهـ 10.أقول:
ومن هؤالء األقوام الدكتور سفر ومن هو عىل شاكلته حيث ينسبون إىل
األشعرية ما هم بريئون عنه لعدم معرفتهم بمذهب األشعرية .وانظر إىل
إنصاف التاج السبكي حيث نفى عن اهلروي هتمة اإلحتاد التي نسبها إليه ابن
تيمية.
قال الدكتور{ :احلنفية ...الخ هذه الفقرة من كالمه}
أقول :قد احتوت هذه الفقرة من كالم الدكتور عىل مغالطات واشتملت
عىل احلق والباطل والصواب واخلطأ .نبينها فيام ييل.
أن واضع الطحاوية وشارحها كالمها حنفيان}
قال الدكتور{ :معلو ٌم َّ
ٌ
مقبول ،وأما الشارح فغري مقبول، حنفي
ٌّ أقول :نعم ،واضع الطحاوية
منتَ َقدٌ من أهل مذهبه ومن غريهم .قال فيه عيل القاري :واحلاصل أن الشارح
10
272 4
33
بعلو املكان مع نفي التشبيه ،وتبع فيه طائفة من أهل البدعة ...ومن
يقول ر
الغريب أنه استدل عىل مذهبه الباطل برفع األيدي يف الدعاء إىل السامء.
ومن مستشنعاته قدحه يف عصمة النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم وقوله
بتفضيل املالئكة عىل األنبياء ،وقد أنكر عليه أهل مذهبه وغريهم ..وممن أنكر
عليه زين الدين بن رجب ،وتقي الدين ابن مفلح وأخوه".11
11
97 96 2 172
34
معتمدَ ٌة عند أهل السنة واجلامعة من
َ ذلك غري صحيح ،فإن هذه العقيد َة
األشاعرة واملاتريدية احلنفية إال ثالث مسائل خالف فيها األشاعرة ووافق فيها
احلنيفة .ومن املقرر أن مسائل اخلالف بني األشعرية واملاتريدية مسائل فرعية يف
العقيدة ،ال تقتىض التبديع ،ومن أجل ذلك مل يبدع أحدمها اآلخر.
قال الزبيدي :قال التاج السبكي :سمعت الشيخ اإلمام الوالد يقول :ما
تضمنته عقيدة الطحاوي هو ما يعتقده األشعري ،ال خيالف إال يف ثالث
مسائل ...وقد تأملت عقيدة أيب جعفر الطحاوي فوجدت األمر عىل ما قاله
الشيخ اإلمام الوالد.
وعقيدة الطحاوي زعم أهنا الذي عليها أبو حنيفة وأبو يوسف وحممد .ثم
تصفحت كتب احلنيفة فوجدت مجيع املسائل التي بيننا وبينهم خالف فيها
ثالث عرشة مسألة ،منها معنوي ست مسائل ،والباقي لفظي ،وتلك الستة
املعنوية ال تقتيض خمالفتهم لنا وال خمالفتنا هلم تكفريا وال تبديعا ،رصح بذلك
غني عن التعريف
أبو منصور البغدادي وغريه من أئمتنا وأئمتهم ،وهو ٌّ
لوضوحه ...ثم هذه املسائل الثالثة عرش مل يثبت مجيعها عن الشيخ وال عن
أيب حنيفة -ريض اهلل عنهام -ولكن الكالم بتقدير الصحة .انتهى كالم
السبكي.12
12
377 3 78 2
35
ثم أن عقيدة الطحاوي خمالفة لعقيدة الدكتور يف أهم مسائل العقيدة ،ومن
ذلك قوله يف نفي احلدود واجلهات" :تعاىل عن احلدود والغايات واألركان
واألعضاء واألدوات ال حتويه اجلهات الست كسائر املبتدعات" وقوله:
حميط ر
بكل يشء، "والعرش والكريس حق ،وهو مستغن عن العرش وما دونهٌ ،
وبام فوقه" هكذا بلفظ "بام فوقه" وما فوق العرش هو اللوح املحفوظ كام يف
حديث الصحيحني " :إن اهلل كتب كتابا قبل أن خيلق اخللق ،إن رمحتي سبقت
مكتوب عنده فوق العرش" وقال الطحاوي أيضا" :له معنى الربوبية
ٌ غضبي ،فهو
وال مربوب ،ومعنى اخلالق وال خملوق" وهذا خمالف لقول من يقول بالقدم
النوعي للعامل ،وبتسلسل احلوادث يف جانب املايض.
وقول الدكتور" :وهي مشاهبة ملا يف الفقه األكرب عنه" هذا الكالم مثل
صحيح ،ولكن اخلطأ يف السياق واإلهيام ،والفقه األكرب أيضا
ٌ الكالم السابق
مشتمل عىل ما خيالف عقيدة الدكتور منها قوله " :ومعنى اليشء إثباته أي
إثبات اهلل -بال جسم وال جوهر وال َع َرض وال حد له ،وال ضد له ،وال ند له ،
وال َ
مثل له " ففيه نفي احلد عن اهلل تعاىل الذي هو الزم لالستقرار عىل العرش.
ومنها قوله " :ويتكلم ال ككالمنا ،ونحن نتكلم باآلالت واحلروف،
واهلل تعاىل يتكلم بال آلة وال حروف ،واحلروف خملوق ٌة ،وكالم اهلل تعاىل غري
خملوق .وهذا خمالف ملذهب من قال :إن اهلل تعاىل يتكلم بحروف وأصوات.
36
وقول الدكتور " :وقد نقلوا عن اإلمام انه رصح بكفر من قال ان اهلل ليس
عىل العرش أو توقف فيه" .أقول :الذي روى ذلك عن أيب حنيفة اثنان:
روى عنه يش ٌء.
األول :أبو مطيع البلخي ،قال اإلمام أمحد :ال ينبغي أن ي َ
وعن ُييى بن معني :ليس بيشء .وقال أبو حاتم الرازي :كان مر ِجئا كذابا.
راجع( :لسان امليزان) و(ميزان االعتدال)
والثاين :هو نوح اجلامع :قال العلامء فيه :كان جامعا ر
لكل يشء إال الصدق
وهو وضاع مشهور ،راجع "هتذيب التهذيب".
وقول الدكتور" :ومعلوم أن األشاعرة ينفون العلو وينكرون كونه تعاىل
عىل العرش"
أقول :األشاعرة ال ينفون العلو كام ال ينكرون االستواء عىل العرش ،نعم
ينفون استقراره تعاىل عىل العرش وجلوسه عليه ،ألنه مل يرد به كتاب وال سنة،
وقد رده العقل والرشع .قال احلافظ العسقالين( :وال يلزم من كون جهتي
العلو والسفل حماال عىل اهلل أن ال يوصف بالعلو ألن وصفه بالعلو من جهة
املعنى ،واملستحيل كون ذلك من جهة احلس) 13وقال اإلمام اخلطايب ما نصه:
وليس معنى قول املسلمني إن اهلل عىل العرش هو أنه تعاىل مماس له أو متمكن
فيه أو متحيز يف جهة من جهاته ،لكنه بائن من مجيع خلقه ،وإنام هو خرب جاء
13
136 6
37
به التوقيف فقلنا به ونفينا عنه التكييف إذ (ليس كمثله يشء وهو السميع
البصري).14
وقول الدكتور( :ومعلوم أيضا أن أصوهلم مستمدة من برش املرييس)
أقول :أوال:
الدعاوى إذا مل يقم عليها ::بينات أصحاهبا أدعياء.
وأقول ثانيا كام قال الزبيدي يف رشح اإلحياء :إن كال من اإلمامني أيب
احلسن وأيب منصور ريض اهلل تعاىل عنهام وجزامها اهلل عن اإلسالم خريا مل
يبدعا من عندمها رأيا ومل يشتقا مذهبا ،وإنام مها مقرران ملذهب السلف
مناضالن عام كان عليه أصحاب رسول اهلل صىل اهلل تعىل عليه وآله وسلم،
فأحدمها قام بنَصة نصوص مذهب الشافعي وما دلت عليه ،والثاين قام
بنَصة نصوص مذهب أيب حنيفة وما دلت عليه ،وناظر كل منهام ذوي البدع
والضالالت حتى انقطعوا وولوا منهزمني ،وهذا يف احلقيقة أصل اجلهاد
احلقيقي ...فاالنتساب إليهام إنام هو باعتبار أن كال منهام عقد عىل طريق
السلف نطاقا ومتسك وأقام احلجج والرباهني عليه ،فصار املقتدى به يف تلك
املسائل يسمى أشعريا وماتريديا.
14
137 3
38
وذكر العز بن عبد السالم أن عقيدة األشعري أمجع عليها الشافعية
واملالكية واحلنفية وفضالء احلنابلة ،ووافقه عىل ذلك من أهل عَصه شيخ
املالكية يف زمانه أبو عمرو بن احلاجب وشيخ احلنيفة مجال الدين احلصريي
وأقره عىل ذلك التقي السبكي فيام نقله عنه ولده التاج ..انتهى ...وأصل هذا
الكالم لتاج الدين السبكي.15
وقال التاج السبكي :وهذه املذاهب األربعة -وهلل احلمد -يف العقائد
واحدة إال من حلق منها بأهل االعتزال والتجسيم ،وإال فجمهورهم عىل
احلق .يقرون عقيدة أيب جعفر الطحاوي التي تلقاها العلامء سلفا وخلفا
بالقبول ،ويدينون اهلل برأي شيخ السنة أيب احلسن األشعري الذي مل يعارضه
إال مبتدع .16وقال :ولقد قلت مرة للشيخ اإلمام رمحه اهلل :أنا أعجب من
احلافظ ابن عساكر يف َعدر ه طوائف من أتباع الشيخ ،ومل يذكر إال نزرا يسريا
وعددا قليال ،ولو َوَّف االستيعاب حقه الستوعب غالب علامء املذاهب
األربعة ،فإهنم برأي أيب احلسن يدينون اهلل تعاىل ،فقال إنام ذكر من اشتهر
باملناضلة عن أيب احلسن ،وإال فاألمر كام ذكرت من أن غالب علامء املذاهب
17
معه.
15
365 3
16
35
17
365 3
39
-11بيان حال اإلمام أيب حممد عبد اهلل بن ُكالَّب:
قال الدكتور{ :احلنابلة :موقف احلنابلة من األشاعرة أشهر من أن يذكر،
فمنذ بدع اإلمام أمحد ابن كالب وأمر هبجره وهو املؤسس احلقيقي للمذهب
األشعري -مل يزل احلنابلة منهم يف معركة طويلة}...
أقول :ابن كالّب :هو عبد اهلل بن سعيد أبو حممد بن كالّب القطان :هو
أحد األئمة املتكلمني من أهل السنة قال السبكي :وابن كالّب عىل كل حال من
أهل السنة ،ثم نقل عن اإلمام ضياء الدين اخلطيب والد اإلمام فخر الدين
الرازي أنه قال :ومن متكلمي أهل السنة يف أيام املأمون عبد اهلل بن سعيد
التميمي الذي دمر املعتزلة يف جملس املأمون وفضحهم 18.وقال الذهبي:
والرجل أقرب املتكلمني إىل السنة ،بل هو يف مناظرهيم .انتهى 19.وقال احلافظ:
وقول ابن نديم إنه من احلشوية ،يريد من يكون عىل طريقة السلف يف ترك
التأويل لآليات واألحاديث املتعلقة بالصفات ،ويقال هلم :املفوضة ،وعىل
20
طريقته مشى األشعري يف كتابه اإلبانة.
21
ثم إن ابن كالّب كان عمدة البخاري يف نقل املذاهب الكالمية.
18
311 2
19
175 11
20
291 3
21
243 1
41
وأما اإلمام أمحد فقد كان هيجر كل من خيوض يف الكالم أو يف بعض
مسائله :فقد هجر احلارث املحاسبي لذلك ،وهجر احلسني الكرابييس وكان
من كبار املحدثني لقوله :لفظي بالقرآن خملوق ،وكان عىل رأي الكرابييس هذا
البخاري ومسلم وغريمها ،قال الذهبي :ال ريب أن ما ابتدعه الكرابييس
22
وحرره يف مسألة اللفظ وأنه خملوق هو حق .انتهى.
وقد خاض يف الكالم كثري من أئمة السلف ملا رأوا احلاجة إىل ذلك لقمع
املتبدعة .منهم اإلمام أبو حنيفة واإلمام الشافعي ،وليس كالم اإلمام أمحد
وموقفه حجة عىل غريه من أئمة السلف ،فلكل اجتهاده وأجره.
وأصل املشكلة عند الدكتور ومن هم عىل شاكلته أهنم جيعلون اإلمام
أمحد وابن تيمية من األئمة املعصومني ،وجيعلون كالمهم حجة عىل كل علامء
األمة وأئمتها ،وُيكمون عىل كل من خالفهم باخلطأ الذي ال ُيتمل
الصواب ،بل يبدعوهنم من أجل ذلك.
قال الدكتور عن ابن كالّب{ :وهو املؤسس احلقيقي للمذهب
األشعري}
أقول :قال الدكتور آنفا :إن أصول األشاعرة مستمدة من برش املرييس،
وهو من أكرب رؤوس املتبدعة ،كفره اإلمام الشافعي ..ثم قال هنا :إن املؤسس
22
83 12
41
احلقيقي ملذهب األشاعرة هو ابن كالب وهو أحد رؤوس أهل السنة
ومتكلميهم ،فأي الكالمني حق!؟ ال شك أن كالمها باطالن .نعم قد استفاد
األشعري من ابن كالب وأخذ ببعض آرائه كام هو الدارج يف استفادة املتأخر
من املتقدم ،ولقي بعض أصحابه ،وهذا ال يعني أنه املؤسس للمذهب
األشعري ،واألشعري مقرر ملذهب السلف ومناضل عنه باالستدالل له
ودفع الشبه عنه.ومل يأت بيشء جديد يف أصل العقيدة كام أن ابن كالب أيضا
مل يأت بيشء جديد يف أصل العقيدة
42
بعض األشاعرة ،لكن كالم الدكتور يفيد أن األشاعرة مجلة جمروحون عند
رجال اجلرح والتعديل ،وهذا حكم يعلم الدكتور بطالنه ،ثم إنه ما من
مذهب إال وفيه من جرح ،فقد جرح الذهبي يف "امليزان" وابن حجر يف
"لسان امليزان" جمموعة من فقهاء احلنابلة .منهم صدقة بن احلسني البغدادي،
وعبد العزيز بن احلارث التميمي ،وعبيد اهلل بن عيل البغدادي ،وعبيد اهلل بن
حممد ابن بطة العكربي ،وانظر خمازيه وفظائعه يف "لسان امليزان" .فهل يقدم
املنصف عىل الطعن يف احلنابلة ويف املذهب احلنبيل بمثل هؤالء املطعونني
منهم؟؟!!
ثم أقول :ليس من مذهب األشاعرة رد خرب اآلحاد ،بل مذهبهم أن خرب
الواحد ليس بحجة قطعية بحيث يكفر من ال يعتقد مقتضاه ،وهو حجة
عندهم يف االعتقاد بمعنى انه يؤثم ويبدع خمالفه ،ولكن ال يكفر ،وهذا الرأي
ماال جيوز املحيد عنه .وانظر كتبهم الكالمية كيف يستدلون فيها دائام عىل
إثبات العقائد بأخبار اآلحاد ،وال سيام يف قسم السمعيات منها وسيأيت حتقيق
املسألة.
وأما الصحيحان فأشهر من نار عىل علم أن علامء األشاعرة يرون وقوع
اإلمجاع عىل صحة ما فيهام من األحاديث غري ما انتقد منها ،وغري ما وقع فيها
التخالف.
43
ومل يقل أحد من األشاعرة :إن يف الصحيحني أحاديث موضوعة أدخلها
الزنادقة.
44
ُيمله عىل الفعل باعث ...وال يقال أين هو ،وال كيف هو ...وال يقال :مل فعل
ما فعل؟ إذ ال علة ألفعاله ...يرى ال عن مقابلة)...؛ ثم لرياجع عقيدة كل
واحد من أئمة السلوك يف كتبهم ورسائلهم كي يتحقق مما قلناه من بطالن ما
قاله الدكتور.
45
الكتاب والسنة .ولو كان قد رجعوا عن عقائد معينة لكانوا بينوها وحذروا
منها ،فإن ذلك من آكد الواجبات ،ومل يثبت عن أحد منهم يشء من ذلك.
نعم قد رجع بعض العلامء عن التأويل يف الصفات اخلربية إىل التفويض،
ومذهب التفويض وإن كان أوىل وأسلم إال أن التأويل برشوطه صحيح ،ثم
انه ال مناص من التأويل يف بعض النصوص.
وهذا ما اضطر اإلمام أمحد وبعض السلف إىل التأويل يف بعضها .كام
سيأيت
قال الدكتور{ :وكتب األشاعرة نفسها عند تعريف مذهبي السلف واخللف
تقول إن مذهب السلف هو مذهب القرون الثالثة ،وبعضها يقول إنه مذهب
القرون اخلمسة}...
أقول :قد فرقت كتب األشاعرة بني مذهب السلف واخللف يف مسألة
النصوص الواردة يف الصفات فقط ،وليس لألشاعرة يف هذه املسألة مذهب
موحد مقرر ،فمنهم من رجح التفويض ،ومنهم من رجح التأويل ،ومنهم من
توسط كالعز بن عبد السالم وابن دقيق العيد.
نعم مما ال ينبغي أن خيتلف فيه اثنان أن الكثري من املتأخرين من األشاعرة
قد غلوا يف باب التأويل ووافقوا يف بعض تأويالهتم املعتزلة .وهذا ما يؤخذ
عليهم.
46
-15علامء األشاعرة هم السواد األعظم من علامء األمة:
قال الدكتور{ :ولوال ضيق الكالم لرسدت قائمة متوازية أذكر فيها كبار
األشاعرة ومن عارصهم من كبار أهل السنة واجلامعة الذين يفوقون أولئك عددا
وعلام وفضال ،وحسبك ما مجعه ابن القيم يف "اجتامع اجليوش اإلسالمية"،
والذهبي يف "العلو" وقبلهام الاللكائي}
أقول :قد أورد اإلمام تاج الدين السبكي يف كتابه "طبقات الشافعية
الكربى" فصال عنونه بقوله( :ذكر بيان أن طريق الشيخ أيب احلسن األشعري
هي التي عليها املعتربون من علامء اإلسالم واملتميزون من املذاهب األربعة يف
معرفة احلالل واحلرام ،والقائمون بنَصة دين سيدنا حممد عليه أفضل الصالة
والسالم) 23هذا هو عنوان الفصل ثم قال :قد قدمنا يف تضاعيف الكالم ما يدل
عىل ذلك ،وحكينا لك مقالة الشيخ ابن عبد السالم ومن سبقه إىل مثلها وتاله
عىل قوهلا حيث ذكروا :أن الشافعية واملالكية واحلنفية وفضالء احلنابلة أشعريون.
هذه عبارة ابن عبد السالم شيخ الشافعية وابن احلاجب شيخ املالكية،
واحلصريي شيح احلنفية ،ثم قال السبكي:
ومن كالم ابن عساكر حافظ هذه األمة الثقة الثبت :هل من الفقهاء احلنفية
واملالكية والشافعية إال موافق لألشعري ومنتسب إليه وراض بحميد سعيه يف
23
373 3
47
دين اهلل ،ومثن بكثرة العلم عليه ،غري رشذمة قليلة تضمر التشبيه وتعادي كل
موحد يعتقد التنزيه ،أو تضاهي قول املعتزلة يف ذمه .ثم قال السبكي :ونحن
نحكي لك هنا مقاالت أخر جلامعة من معتربي القول من الفقهاء .ثم أورد
السبكي جمموعة من فتاوى علامء املذاهب األربعة يف تأييد املذهب االشعري،
ثم قال السبكي :سمعت الشيخ اإلمام (الوالد) رمحه اهلل يقول :ما تضمنه عقيدة
الطحاوي هو ما يعتقده األشعري ال خيالفه إال يف ثالث مسائل ثم قال :قلت:
أنا اعلم أن املالكية كلهم أشاعرة ال أستثني أحدا ،والشافعية غالبهم أشاعرة ال
أستثني إال من حلق منهم بتجسيم أو اعتزال ممن ال يعبأ اهلل به ،واحلنفية أكثرهم
أشاعرة ،أعني يعتقدون عقد األشعري ،ال خيرج منهم إال من حلق منهم
باملعتزلة ،واحلنابلة أكثر فضالء متقدميهم أشاعرة ،مل خيرج منهم عن عقيدة
األشعري إال من حلق بأهل التجسيم ،وهم يف هذه الفرقة من احلنابلة أكثر من
24
غريهم ،وقد تأملت عقيدة الطحاوي ...إىل آخر ما نقلناه عنه آنفا.
أقول :وقد ذكر اإلمام احلافظ ابن عساكر يف كتابه (تبيني كذب املفرتي
فيام نسب إىل اإلمام أيب احلسن األشعري) مجلة من علامء املذاهب ممن اشتهر
باملناضلة عن اإلمام أيب احلسن ،وقد أورد أسامءهم تاج الدين السبكي يف
طبقات الشافعية الكربى ،ثم قال السبكي :فهذه مجلة من ذكرهم احلافظ يف
24
377 3
48
التبيني ،وقال (احلافظ) لوال خويف من اإلمالل واإلسهاب لتتبعت ذكر مجيع
األصحاب ،وكام ال يمكنني إحصاء نجوم السامء كذلك ال أمتكن من
استقصاء مجيع العلامء مع انتشارهم يف األقطار واآلفاق من املغرب والشام
وخراسان والعراق ،ثم قال السبكي :ولقد أمهل عىل سعة حفظه من األعيان
كثريا وترك ذكر أقوام كان ينبغي حيث ذكر هؤالء أن يشمر عن ساعد
االجتهاد يف ذكرهم تشمريا ...ثم أضاف السبكي مجلة من أعيان علامء األمة
25
ممن فات ابن عساكر ذكره ،وممن تأخر عنه.
ونقل الذهبي عن اإلمام احلافظ أيب ذر اهلروي أنه قال يف حق إمام
األشاعرة يف عَصه القايض أيب بكر الباقالين" :كل بلد دخلته من بالد
خراسان وغريها ال يشار فيها إىل أحد من أهل السنة إال من كان عىل مذهبه
وطريقته" 26.هذه اجلملة من كالم أيب ذر وحدها فضال عام تقدمها -كافية يف
إثبات دعوى أن أكثر أئمة املسلمني عىل مذهب األشاعرة.
أقول :إحرتز اإلمام ابن عبد السالم ومن وافقه بقوهلم" :إن فضالء
احلنابلة أشعريون" عن أناس من احلنابلة ذهبوا إىل التشبيه وشانوا مذهب
اإلمام أمحد .قال ابن اجلوزي" :ورأيت من أصحابنا من تكلم يف األصول بام
ال يصلح ،وانتدب للتصنيف ثالثة :أبو عبد اهلل بن حامد وصاحبه القايض
25
371 3
26
558 17
49
وابن الزاغوين ،فصنفوا كتبا شانوا هبا املذهب ،ورأيتهم قد نزلوا إىل مرتبة
العوام ،فحملوا الصفات عىل مقتىض احلس ...وأخذوا بالظاهر يف األسامء
والصفات ...ومل يقنعوا أن يقولوا :صفة فعل ،حتى قالوا :صفة ذات ...وقد
تبعهم خلق من العوام ...وقد كان أبو حممد التميمي يقول يف بعض أئمتكم:
لقد شان املذهب شينا قبيحا ال يغسل إىل يوم القيامة" 27واخلطاب يف أئمتكم
للحنابلة.
ثم أقول :إن العالمة املميزة ملذهب أهل السنة هي املوافقة للكتاب والسنة
وملا كان عليه سلف األمة ،وليس التسنن بالدعاوي وال بكيل التهم للمخالفني
(ولو أعطي الناس بدعواهم الدعى ناس دماء أقوام وأمواهلم) وأنا أترك احلكم
بأن مذهب األشاعرة هل هو مذهب أهل السنة واجلامعة ملوافقته للكتاب والسنة
وملا كان عليه سلف األمة ،أو بأنه خارج عن مذهب أهل السنة ملخالفته ملا ذكر.
أنا أترك احلكم بذلك لقارئ تعليقاتنا هذه بتدبر وتأمل وجترد وحياد ،فليقرأها
القارئ وليحكم بإنصاف.
وال أدعي أن األشاعرة معصومون وال أهنم مصيبون يف مجيع ما ذهبوا إليه
من املسائل التي خالفهم فيها غريهم ،ولكن أدعى أهنم مصيبون فيام هم عليه
من أصول العقائد ،وأهنم هم الطائفة العظمى من طوائف أهل السنة
27
112 97
51
واجلامعة ،وأهنم فحول أهل السنة ،وأهنم يمثلون العمود الفقري من مذهب
أهل السنة واجلامعة ،وأما املسائل التي وقع اخلالف فيها بينهم وبني غريهم
فهم يف عامة أحواهلم عىل حق .وقد يكون احلق مع خمالفيهم ،وإذا أخطؤوا
فخطؤهم خطأ اجتهادي هم مأجورون عليه ،ألنه ليس خطأ يف أصول
العقيدة ،بل هو خطأ يف املسائل التي هي من جمال االجتهاد من مسائل
العقيدة.
51
ثم إن املكلف بمجرد إسالمه يصبح مسلام ،وال يصبح ال أشعريا وال
ماتريديا وال سلفيا إال بالتعليم وبالتلقني وذلك ألن لكل واحدة من هذه
الفرق آراء ا خاصة هبا ،هبا تتاميز يف ما بينها ،عوام املسلمني بعيدون عن
معرفتها بمراحل.
قال الدكتور{ :وإن شئت املثال عىل عقيدة العوام فاسأل املاليني من املسلمني
رشقا وغربا هل فيهم من يعتقد أن اهلل ال داخل العامل وال خارجه وال فوقه وال
حتته كام تقول األشاعرة ،أم أهنم كلهم مفطورون عىل انه تعاىل فوق املخلوقات.
وهذه الفطرة تظل ثابتة يف قلوهبم حتى وإن وجدوا من يلقنهم يف أذهاهنم تلك
املقولة املوروثة عن فالسفة اليونان}
أقول :وهل هم مفطورون عىل أن العامل قديم بالنوع ،وعىل جواز تسلسل
حوادث ال أول هلا يف جانب املايض؟ وأن هلل حدا؟ وأنه يتحرك؟ وأن له ثقال
عىل عرشه؟
احلقيقة أن ابن تيمية الذي اختذه املؤلف إماما وحَص معرفة العلم
واإلسالم عىل الوجه الصحيح من بني املتأخرين فيه ،أنه يف مقدمة من تأثر
بالفلسفة اليونانية واعتنى بنقل أقوال الفالسفة يف كتبه ،وقد انتقده عىل هذا
صاحبه اإلمام الذهبي يف رسالته "زغل العلم".
52
قال :وقد رأيت ما آل أمره من احلط عليه واهلجر والتضليل والتكفري
والتكذيب بحق وبباطل ،فقد كان قبل أن يدخل يف هذه الصناعة -الفلسفة-
28
منورا مضيئا عىل حمياه سيام السلف ،ثم صار مظلام مكسوفا.
وكذلك أنكر عليه هذا األمر أشد اإلنكار معارصه سيد املتأخرين اإلمام
ابن دقيق العيد .قال احلافظ العسقالين :وقد حكي عياض وغريه اإلمجاع عىل
تكفري من يقول بقدم العامل.
وقال ابن دقيق العيد :وقع هنا من يدعي احلذق يف املعقوالت ويميل إىل
الفلسفة فظن أن املخالف يف حدوث العامل ال يكفر ألنه من قبيل خمالفة
اإلمجاع ،ومتسك بقولنا ،إن منكر اإلمجاع ال يكفر عىل اإلطالق حتى يثبت
النقل بذلك متواترا عن صاحب الرشع.
قال :وهو متسك ساقط إما عن عمى يف البصرية أو تعام؛ ألن حدوث
29
العامل من قبيل ما اجتمع فيه اإلمجاع ،والتواتر بالنقل.
وأما أن اهلل تعاىل ال داخل العامل وال خارجه وال فوقه وال حتته ،فسيأيت
الكالم عليه يف أواخر الكتاب.
28
43 42
29
212 12
53
-16حتريف الدكتور لكالم الرازي:
قال الدكتور يف التعليق{ :فالرازي مثال مع إنكاره الشديد للعلو يف (
التأسيس والتفسري) قال يف التفسري :إن اهلل "خسف بقارون فجعل األرض
فوقه ورفع حممدا صىل اهلل عليه وسلم فجعله قاب قوسني حتته" 248 /1ط.
بريوت}
أقول :عبارة اإلمام الرازي هكذا ( :فجعل قاب قوسني حتته) فأضاف
املؤلف اهلاء إىل "جعل" ليتم له ما أراده من رجوع ضمري حتته إىل اهلل تعاىل،
حتى يفيد كالم الرازي إثبات الفوقية هلل تعاىل باملعنى الذي يعتقده الدكتور
سفر ،مع أن هذا الضمري عائد إىل حممد صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم.
قال الدكتور{ :وقس عىل هذا نظرية الكسب والكالم النفيس ونفي التأثري
وأشباهها مما سرتى يف عقائد األشاعرة}
أقول :مذهب اإلمام األشعري يف الكسب هو املوافق لقوله تعاىل( :واهلل
خلقكم وما تعملون) وغريها من اآليات ،وقول النبي صىل اهلل عليه وآله
وسلم ( :ما شاء اهلل كان وما مل يشأ مل يكن) وقوله( :ال حول وال قوة إال باهلل)
وأما الكالم النفيس الذي قال به األشعري فهو أمر ال خيلوا عنه متكلم سواء
54
كان هو اهلل أو غريه من املخلوقني ،وأما نفي التأثري فهو التوحيد اخلالص كام
أن مسألة الكسب كذلك .وسيأيت الكالم عىل هذه كلها مفصال.
30
88 8
55
أورد نقوال كثرية موثقة عن ضالهلامو وشنائعهام التي ال يقرها أي مسلم فضال
عمن هو يف علم احلافظ وفضله}
أقول أوال :ال عالقة للمواقف من األشخاص بتحديد االنتامء ،فكم من
سني جرح سنيا وعدل شيعيا!
ثم أقول :احلافظ ابن حجر العسقالين قد أنصف الرجلني ،ونقل ما قيل
فيهام من املامدح واملذام ،ولكنه جرى عىل طريق املؤرخني يف سده ملا نقله
بدون توثيق ،ومل جير عىل طريقة املحدثني يف التوثيق ،فقول املؤلف " :وقد
أورد نقوال كثرية موثقة "....غري صحيح ال سيام وقد نقل أمورا املعروف عن
اإلمام الرازي خالفها ،وقد اقتَص الدكتور عىل ذكر املذام ،وأنا انقل ما أورده
احلافظ عنهام من املامدح.
قال عن الرازي :الفخر بن اخلطيب صاحب التصانيف ،رأس يف الذكاء
والعقليات ،ثم نقل نقد التاج السبكي للذهبي وأقره ثم قال :ومتهر يف عدة
علوم ،وعقد جملس الوعظ ،وكان إذا وعظ ُيصل له وجد زائدة ...قال
للسلطان يوما :نحن يف ظل سيفك ،فقال له السلطان :ونحن يف شمس
علمك ،وكانت له أوراد من صالة وصيام ال خيل هبا ،وكان مع تبحره يف
األصول يقول :من التزم دين العجائز فهو الفائز.
وقال احلافظ عن اآلمدي :قال أبو املظفر ابن اجلوزي :مل يكن يف زمانه من
جياريه يف األصلني وعلم الكالم ،وكان يظهر منه رقة قلب وسعة دمعة،
56
ويقال أنه حفظ الوسيط واملستصفى ،وحفظ قبل ذلك اهلداية أليب اخلطاب إذ
كان حنبليا ،ويذكر عن ابن عبد السالم قال :ما علمت قواعد البحث إال من
السيف ،وما سمعت أحدا يلقي الدرس أحسن منه ،وكان إذا غري لفظة من
الوسيط كان اللفظ الذي يأيت به أقرب إىل املعنى ،قال ولو ورد عىل اإلسالم من
يشكك فيه من املتزندقة لتعني اآلمدي ملناظرته ،ثم أورد احلافظ نقد السبكي
للذهبي الذي نقلناه آنفا وأقره 31.وقال احلافظ ابن كثري يف ترمجة اآلمدي:
"وكان كثري البكاء رقيق القلب ،وقد تكلموا فيه بأشياء أهلل أعلم بصحتها،
32
والذي يغلب عىل الظن أنه ليس لغالبها صحة".
31
135 134 3
32
141 13
57
أقول :أما اجلملة التي نقلها الدكتور عن احلافظ ابن حجر من أنه "أوىص
بوصية تدل عىل حسن اعتقاده" فهي موجودة يف الطبعة اهلندية من "لسان
امليزان" ،وهي طبعة سقيمة ،وقد حقق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة الكتاب
وقابله بعدة نسخ خطية ليس فيها هذه اجلملة ،وإنام هي مكتوبة يف هامش
إحدى النسخ .فبطلت نسبة تلك اجلملة املومهة إىل احلافظ ابن حجر ،وبطل
ما بناه الدكتور عليها.
ثم أقول :القارئ لوصية اإلمام الرازي بتدبر ومتعن يتحقق أن اإلمام قد
ركز فيها عىل أمرين:
األول :تفضيل طريقة القرآن الكريم وترجيح أسلوبه يف تقرير العقائد
اإلسالمية واالستدالل عليها عىل الطرق الكالمية واملناهج الفلسفية يف ذلك،
وهذا األمر حمل إمجاع من علامء املسلمني ،وأما اشتغال املتكلمني من أهل السنة
بالطرق الكالمية واألساليب الفلسفية يف االستدالل عىل العقائد اإلسالمية
فكان ألجل رضورة طارئة وهي رضورة الرد عىل املعتزلة والفالسفة وقمعهم
وإبطال أصوهلم الباطلة ليتم اإللزام هلم من باب "من فمك أدينك" وهذا
التفضيل قد أشار إليه اإلمام بقوله :ولقد اختربت الطرق الكالمية واملناهج
الفلسفية ..إىل قوله :فلهذا أقول...
والثاين :أن احلاجة إىل الدفاع عن عقيدة أهل السنة والرد عىل املخالفني هلا
من املعتزلة واحلشوية وقمعهم كانت قد اضطرته إىل الدخول يف مضايق علم
58
الكالم الذي هو أدق العلوم ،وإىل تشقيق مسائله وإبداء الوجوه واالحتامالت
العقلية فيها ،وإىل تقرير مذاهب املخالفني وشبههم عىل أتم وجه ،ثم الكر
عليها بالرد والنقض .ومن أجل أن علم الكالم من أدق العلوم أو أدقها كانت
غوامض مسائله من املزالق واملداحض ،وكان اخلائض فيه بالطريق املذكورة
عرضة للخطأ ،وهذا ما كان يعلمه اإلمام الرازي جيدا ويالحظه.
فاإلمام الرازي عىل طريقة األئمة املتقني الذين يرجون هلل وقارا -مع
وثوقه بحسن قصده فيام قام به من هذا العمل الذي ال يقوم به إال أفذاذ
العصور ونوابغ الدهور -كان مت ِهام لنفسه ،وجموزا عليها اخلطأ يف بعض ما
تدخل فيه من مضايق املعقول ومداحضه ،ومعرتفا بالعجز عن املزيد عىل
ذلك ،وتائبا إىل اهلل عام وقع فيه من اخلطأ والزلل إن كان قد وقع .وهذا ما
ذكره اإلمام بقوله :فكل ما مده قلمي ...إلخ
فهذا هو الذي تاب عنه اإلمام الرازي ،وأما أنه تاب من عقيدته أو من
خطأ معني فليس له يف هذه الوصية عني وال أثر.
وإليكم نص الوصية منقولة من طبقات الشافعية الكربى لتاج الدين
السبكي.
فاعلموا أين كنت رجال حمبا للعلم ،فكنت أكتب من كل يشء شيئا ألقف
عىل كميته وكيفيته ،سواء كان حقا أو باطال ،إال أن الذي نطِ َق به يف الكتب
املعتربة أن العامل املخصوص حتت تدبري مدبره املنزه عن مماثلة املتحيزات
59
موصوف بكامل القدرة والعلم والرمحة ،ولقد اختربت الطرق الكالمية
واملناهج الفلسفية ،فام رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدهتا يف القرآن،
ألنه يسعى يف تسليم العظمة واجلالل هلل ،ويمنع عن التعمق يف إيراد
املعارضات واملناقضات ،وما ذاك إال للعلم بان العقول البرشية تتالشى يف
تلك املضايق العميقة ،واملناهج اخلفية ،فلهذا أقول :كل ما ثبت بالدالئل
الظاهرة ،من وجوب وجوده ،ووحدته ،وبراءته عن الرشكاء ،كام يف القدم
واألزلية ،والتدبري ،والفعالية ،فذلك هو الذي أقول به ،وألقى اهلل به ،وأما ما
ال ينتهى ،األمر فيه إىل الدقة والغموض ،وكل ما ورد يف القرآن والصحاح،
املتعني للمعنى الواحد ،فهو كام قال ،والذي مل يكن كذلك أقول :يا ̃إله
العاملني ،إين أرى اخللق مطبقني عىل أنك أكرم األكرمني ،وأرحم الرامحني،
فكل ما مده قلمي ،أو خطر ببايل ،فأستشهد وأقول ،إن علمت مني أين أردت
به حتقيق باطل ،أو إبطال حق ،فافعل يب ما أنا أهله ،وإن علمت مني إين ما
سعيت إال يف تقديس اعتقدت أنه احلق ،وتصورت أنه الصدق ،فلتكن
رمحتك مع قصدي المع حاصيل ،فذاك جهد املقل ،وأنت أكرم من أن تضايق
الضعيف الواقع يف زلة ،فأغثني ،وارمحني ،واسرت زلتي ،وامح حوبتي ،يا من
ال يزيد ملكه عرفان العارفني ،وال َينقص ملكه بخطأ املجرمني.
وأقول :ديني متابعة الرسول حممد صىل اهلل عليه وسلم ،وكتايب القرآن
العظيم ،وتعوييل يف طلب الدين عليهام ،اللهم يا سامع األصوات ويا جميب
61
الدعوات ،ويا مقيل العثرات ،أنا كنت حسن الظن بك ،عظيم الرجاء يف
رمحتك ،وأنت قلت " :أنا عند ظن عبدي يب" وأنت قلت( :أمن جييب
املضطر إذا دعاه) ،33فهب أين ما جئت بيشء ،فأنت الغني الكريم ،فال ختيب
رجائي ،وال ترد دعائي ،واجعلني آمنا من عذابك ،قبل املوت ،وبعد املوت،
وعند املوت ،وسهل َع َيل سكرات املوت ،فإنك أرحم الرامحني.
وأما الكتب التي صنفتها ،واستكثرت فيها من إيراد السؤاالت ،فليذكرين
من نظر فيها بصالح دعائه ،عىل سبيل التفضل واإلنعام ،وإال فليحذف القول
اليسء ،فإين ما أردت إال تكثري البحث ،وشحذ اخلاطر ،واالعتامد يف الكل
عىل اهلل.
فهذا نص وصية اإلمام الرازي ،فانظر أهيا املنصف هل فيها غري ما
34
ذكرناه ،وهل فيها الرجوع عن عقيدة كان عليها الرازي قبل؟؟!!
33
62
34
92 91 91 8
61
وإن كان تقريره ملذهب السلف فيه حيتاج لتحرير ،ونقدهم يف مسألة املعرفة
وأول واجب عىل املكلف يف أول كتابه وآخره.
وكتب يف التعليق "أنظر فتح الباري،371 -356/3 ،47/1 :
}"351-346/13
أقول :أنا أدعو القراء لقراءة هذه الصفحات من فتح الباري بتمعن كي
يتحققوا من مدى صحة دعاوى الدكتور سفر هذه!!.
ثم إنه أشهر من نار عىل علم أن احلافظ ابن حجر أشعري العقيدة ،ومن
كثري ممن هم عىل مذهب الدكتور سفر تارة بأنه ليس عىل
أجل ذلك يَصح ٌ
نحلتهم ،وتارة بأنه ليس من أهل السنة وتارة بأنه أشعري ،وتارة بأنه متمشعر،
متأثر باألشاعرة عن جهل وسذاجة ،وقال
وتارة بأنه مذبذب ،وتارة بأنه ٌ
قائلهم يف معرض ذكر فتح الباري رشح صحيح البخاري( :يرس اهلل من أهل
السنة من يرشحه) وألف آخر كتابا سامه" :األخطاء األساسية يف العقيدة
وتوحيد األلوهية من كتاب فتح الباري برشح صحيح البخاري" تأليف أمحد
بن حجر العسقالين .هكذا :األخطاء األساسية يف العقيدة.
واحلقيقة التي ال ينبغي أن خيتلف فيها اثنان أن احلافظ ابن حجر يف عامة
أحواله أشعري ،ولكنه إمام جمتهد قد خيالف األشاعرة يف بعض املسائل عىل
عادة علامء املذاهب الذين قد خيالفون أئمتها يف بعض املسائل ،ومع ذلك ال
يعتربون خارجني عن املذهب.
62
قال الدكتور{ :كام أنه نقد شيخهم يف التأويل " ابن فورك" يف تأويالته
التي نقلها عنه يف رشح كتاب التوحيد من الفتح ،وذم التأويل واملنطق مرجحا
منهج القرون الثالثة األوىل ،كام أنه خيالفهم يف االحتجاج بحديث اآلحاد يف
العقيدة وغريها من األمور التي ال جمال لتفصيلها هنا}
-21نامذج من التأويل:
أقول :أما نقده البن فورك يف تأويالته ،فال شبهة أن الكثري من متأخري
األشاعرة ،قد غلوا يف التأويل ،ووافقوا املعتزلة يف كثري من التأويالت ،التي
انتقدها عليهم السلف وعدوها من بدعهم.
وأما ذم التأويل مطلقا فال ينبغي أن يصدر من فاضل ،ومل يستطع
التخلص منه حتى السلف فاضطروا إىل تأويل مجلة من النصوص ،وإليك
نامذج منها:
أول ابن عباس ريض اهلل عنه الساق يف قوله تعاىل( :يوم يكشف عن
ساق) بالشدة ،نقله احلافظ يف فتح الباري ( )428 /13وقال الطربي يف
التفسري( )38 /22قال مجاعة من الصحابة والتابعني من أهل التأويل :يبدو
عن أمر شديد.
وأول ابن عباس أيضا األيدي يف قوله تعاىل ":والسامء بنيناها بأيد"
بالقوة ،ذكره الطربي ( )27/7واأليدي مجع يد.
63
وأول اإلمام أمحد قوله تعاىل( :وجاء ربك) بمجيء ثوابه ،نقله ابن كثري يف
البداية والنهاية عن اإلمام البيهقي يف مناقب اإلمام أمحد ،وأورد سند البيهقي
له ،ثم قال :قال البيهقي :وهذا إسناد ال غبار عليه.
وأول اإلمام أمحد قوله تعاىل" :ما يأتيهم من ذكر من رهبم حمدث" فقال:
ُيتمل أن يكون تنزيله إلينا هو املحدث نقله ابن كثري يف البداية والنهاية.35
وأول البخاري الضحك الوارد يف بعض األحاديث بالرمحة ،ونقل عنه
البيهقي يف األسامء والصفات.36
وإذا منعنا التأويل مطلقا فامذا نقول يف قوله تعاىل " بيده امللك" وامللك
بالضم هو السلطنة والسلطنة أمر معنوي ال يمسك باليد وال يلتصق هبا،
وليس الكالم مسوقا إلثبات اليد هلل تعاىل ،بل الكالم مسوق إلثبات امللوكية
والسلطنة هلل ،فالكالم بجملته كناية عنها.
وماذا نقول يف قول النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم ":قلب ابن آدم بني
أصبعني من أصابع الرمحن" فهل هلل تعاىل إصبعان يف داخل كل إنسان
مكتنفان قلبه؟ وإنام الكالم كناية عن كون قلب اإلنسان طوع إرادته ،تعاىل
وقدرته يقلبه كيف يشاء.
327 11 35
471 36
64
وماذا نقول يف قوله تعاىل" إنا نسيناكم كام نسيتم لقاء يومكم هذا :وقوله
صىل اهلل عليه وسلم " :كنت يده التي يبطش هبا ،ورجله التي يميش هبا".
ونكتفي هبذه النامذج فإن املقصود التمثيل ال االستقصاء .وسنبسط
الكالم عىل التأويل فيام سيأيت.
وأما االحتجاج بحديث اآلحاد يف العقيدة فسيأيت حتقيقه قريبا
65
يصح اعتبارهم أشاعرة وإنام يقال :وافقوا األشاعرة يف أشياء .مع رضورة بيان
هذه األشياء واستدراكها عليهم حتى يمكن االستفادة من كتبهم بال توجس
يف موضوعات العقيدة}
أقول :احلقيقة التي ال تقبل املراء أن اإلمام النووي واإلمام احلافظ ابن حجر يف
عامة أحواهلام أشعريان ،ولكنهام إمامان جمتهدان قد خيالفان األشاعرة يف بعض
املسائل االجتهادية املتعلقة بالعقيدة ،ال يف أصل العقيدة ،وال خيرجان بذلك عن أن
يكونا أشعريني ،وقد قدمنا الكالم عىل ابن حجر.
وأما النووي فكتبه املباركة التي وضع اهلل هلا القبول شاهدة عىل ذلك ،وأظن
أن الذين يريدون أن خيرجوه من األشعرية ال يصدقون ذلك يف قرار نفوسهم،
ومثله يف ذلك احلافظ العسقالين ،فالنووي يقرر دائام أن يف الصفات اخلربية
مذهبني ،وقد أكثر من هذا التقرير يف رشح مسلم ،وهذا ما دعا بعض املعارضني
الجتاه النووي األشعري أن كتب هذا الرشح وحذف منه ما تكلم به النووي عىل
37
أحاديث الصفات .قاله تاج الدين السبكي يف الطبقات الكربى:
والنووي رمحه اهلل يقول يف كتبه :قال أصحابنا املتكلمون كذا ،ويكرر هذا
التعبري فيها .ويقصد هبم األشاعرة .فالنووي يعد نفسه من األشاعرة ،وأما
الدكتور سفر فيحاول إخراجه منهم!!!
19 2 37
66
-23أبو احلسن األشعري وأبو حممد الربهباري أهيام إمام أهل السنة؟:
قال الدكتور{ :وليكن معلوما أن ابتداء أمر األشاعرة أهنم توسلوا إىل أهل
السنة أن يكفوا عن هجرهم وتبديعهم وتضليلهم ،وقالوا :نحن معكم ندافع
عن الدين وننازل امللحدين ،فاغرت هبذا بعض علامء أهل السنة وسكتوا عنهم،
فتمكن األشاعرة يف األمة ،ثم يف النهاية استطالوا عىل أولئك واستأثروا هبذا
االسم دون أهله ،وأصبحوا هم يضللون أهل السنة ،ويضطهدوهنم،
ويلقبوهنم بأشنع األلقاب}
أقول :ذكر الدكتور كالمه هذا ثم استدل يف التعليق عىل إثبات دعواه هذه
بقوله" :انظر سري أعالم النبالء 20 /15مقابلة األشعري إلمام السنة يف
عَصه الربهباري" هذا هو كالم الدكتور سفر!
فانظر يا رعاك اهلل فإن الدكتور عد الربهباري إمام أهل السنة يف عَصه،
املضل ِلني من قبل أهل السنة
وعد اإلمام األشعري من املهجورين املبدعني َ
وعىل رأسهم الربهباري ،وجعل مقابلة األشعري للربهباري دليال عىل ذلك،
وعىل أن األشعري توسل هبذه املقابلة إىل الكف عن هجره وتبديعه وتضليله،
هذه أربع دعاوي كلها منظور فيها ،فنذكر املقابلة أوال ،ثم نبني مذهب
الربهباري يف العقيدة ،ثم نورد عقيدة اإلمام أمحد ،ثم نعود إىل هذه الدعاوي
األربع ونبني ما هو حظها من الصحة.
67
أما املقابلة فقد أوردها الذهبي يف السري ،فقال :فقيل :إن األشعري ملا قدم
بغداد جاء إىل أيب حممد الربهباري ،فجعل يقول :رددت عىل اجلبائي ،رددت
عىل املجوس وعىل النصارى ،فقال أبو حممد ،ال أدري ما تقول وال نعرف إال
ما قاله اإلمام أمحد ،فخرج وصنف "اإلبانة" ،فلم يقبل منه ،هكذا أورد
الذهبي املقابلة بصيغة التضعيف والتمريض حيث قال( :فقيل :إن
األشعري )...ولتضعيف الذهبي وزنه وقيمته ،وأورد املقابلة الذهبي يف
38
تاريخ اإلسالم وابن أيب يعىل يف طبقات احلنابلة.
وأما عقيدة الربهباري فقد كان من اجلهوية املجسمة عىل ما نقل عنه وأكرر
فأقول :عىل ما نقل عنه.
قال ابن أيب يعىل" :وسمعت أخي أبا القاسم -نرض اهلل وجهه -يقول :مل
يكن الربهباري جيلس جملسا إال ويذكر فيه أن اهلل عز وجل يقعد حممدا صىل
اهلل عليه وسلم معه عىل العرش 39"،والقعود واملامسة وصف األجسام.
وقال ابن األثري يف الكامل حتت عنوان( :فتنة احلنابلة ببغداد) وفيها عظم
أمر احلنابلة وقويت شوكتهم ،وصاروا يكبسون من دور القواد والعامة...
واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون املساجد ،وكانوا إذا مر هبم شافعي
املذهب أغروا به العميان فيرضبون بعضهم حتى يكاد يموت ،فخرج توقيع
38
18 3 358 24
39
43 2
68
الرايض (اخلليفة العبايس) بام يقرأ عىل احلنابلة ينكر عليهم فعلهم ويوبخهم
باعتقاد التشبيه وغريه.
فمنه (أي من التوقيع) تارة إنكم تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة
السمجة عىل مثال رب العاملني ،وهيئتكم الرذيلة عىل هيئته ،وتذكرون الكف
واألصابع والرجلني ،والنعلني املذهبني ،والشعر القطط ،والصعود إىل
السامء ،والنزول إىل الدنيا ،تعاىل اهلل عام يقول الظاملون واجلاحدون علوا
40
كبريا ...إىل آخر ما ورد يف املرسوم من الزيغ والضالل واملخازي والفضائح،
وقد كان هذا املرسوم والتوقيع من اخلليفة العبايس ضد أصحاب أيب حممد
الربهباري.
ونورد عقيدة اإلمام أمحد املتعلقة باملوضوع منقولة من الرسالة املطبوعة يف آخر
اجلزء الثاين من طبقات احلنابلة البن أيب يعىل يف بيان عقيدة اإلمام أمحد وقد جاء يف
41
هذه الرسالة ما ييل.
ومذهب أيب عبد اهلل أمحد بن حنبل ريض اهلل تعاىل عنه -أن هلل عز وجل
وجها ال كالصور املصورة واألعيان املخططة ،بل وج ٌه وصفه بقوله ( :كل
غري معناه فقد أحلد عنه ،وذلك عنده وج ٌه يف
يشء هالك إال وجهه) ،ومن َ
احلقيقة دون املجاز ،ووجه اهلل باق ال يبىل ،وصف ٌة له ال تفنى ،ومن ادعى أن
40
323 248 6
41
294
69
غري معناه فقد كفر ،وليس معنى وجهه معنى
وجهه نفسه فقد أحلد ،ومن َ
جسد عنده ،وال صورة ،وال ختطيط ومن قال ذلك فقد ابتدع.
وكان يقول :إن هلل تعاىل يدين ،ومها صفة هلل يف ذاته ،ليستا بجارحتني،
وليستا بمركبتني ،وال جسم ،وال من جنس األجسام ،وال من جنس املحدود
والرتكيب ،وال األبعاض وال اجلوارح ،وال يقاس عىل ذلك ،وال له مرفق وال
عضد....
ويف هذه الرسالة 42:وكان يقول إن اهلل عز وجل مستو عىل العرش املجيد.
وحكى مجاعة عنه أن االستواء من صفات الفعل ،وحكى مجاعة عنه أن
كان يقول :إن االستواء من صفات الذات.
وكان يقول يف معنى االستواء هو العلو واإلرتفاع ،ومل يزل اهلل عاليا رفيعا
قبل أن خيلق عرشه ،فهو فوق كل يشء والعاىل عىل كل يشء ،وإنام خص اهلل
العرش ملعنى فيه خمالف لسائر االشياء ،والعرش أفضل األشياء وأرفعها ،
فامتدح اهلل نفسه بأنه عىل العرش استوى ،أى عليه عال.
وال جيوز أن يقال استوى بمامسة وال بمالقاة .تعاىل اهلل عن ذلك علوا
كبريا.
42
296
71
واهلل تعاىل مل يلحقه تغيري وال تبديل وال يلحقه احلدود قبل خلق العرش وال
بعد خلق العرش.
هذه عقيدة اإلمام أمحد كام نقلوها عنه ،فقارن بينهام وبني ما نقلوه من
عقيدة الربهباري
هل ترى بني عقيدتيهام إال اخلالف والتضاد! ثم قارن بني عقيدة اإلمام
أمحد وعقيدة اإلمام األشعري التي ذكرها يف كتابه "اإلبانة" هل ترى بينهام إال
الوفاق والوئام! فأهيام أحق بأن يعد إمام أهل السنة يف عَصه هل الربهباري
املخالف يف العقيدة لإلمام أمحد ،أم األشعري املوافق له فيها؟ وأهيام أحق
بالتبديع والتضليل!!؟؟
ثم إن املقابلة مل تشمل عىل يشء من التبديع والتضليل من الربهباري
لألشعري ،كل ما فيها أن الربهباري كان عىل طريقة اإلمام أمحد يف كراهة
الدخول يف يشء من علم الكالم وحكاية أقوال املخالفني والرد عليهم؛ األمر
الذي كان يقوم به األشعري ويراه من آكد الواجبات عليه .وليس موقف اإلمام
أمحد هذا حجة عىل غريه من األئمة ،فلكل منهم موقفه واجتهاده وأجره.
ثم إن هذه املقابلة تدل عىل أن كتاب اإلبانة من أوائل ما كتبه األشعري
من كتبه ،وأنه كتبها استدراجا للربهباري ملذهب اإلمام أمحد الذي كان يدعى
الربهباري أنه عليه ،وليست اإلبانة آخر كتاب لإلمام األشعري ،وال من
أواخر كتبه كام يقال .وكام قال الدكتور.
71
-24بيان بطالن إقعاد اهلل تعاىل ملحمد صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم عىل
العرش معه:
ونود أن نتعرض ملسألة اإلقعاد ،فنقول :قد روي عن جماهد أنه فرس املقام
املحمود الوارد يف قوله تعاىل( :ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك
ربك مقاما حممودا) بإقعاد اهلل تعاىل حممدا صىل اهلل عليه وسلم وآله وسلم عىل
العرش معه ،وتبع جماهدا عىل هذا بعض الناس منهم ابن تيمية ،وانظر جمموع
الفتاوى 43وأشار إليها ابن القيم يف بدائع الفوائد.44
قال الكوثري يف الكالم عىل هذا التفسري :روي عنه -أي عن جماهد-
بطرق ضعيفة ،وتفسريه بالشفاعة متواتر معنى عن النبي صىل اهلل عليه وآله
وسلم -فأنى يناهضه قول التابعي عىل تقدير ثبوته عنه.
ومن يقول :إن اهلل سبحانه قد أخىل مكانا للنبي صىل اهلل عليه وسلم وآله
يف عرشه فيقعده عليه يف جنب ذاته فال شك يف زيغه وضالله واختالل عقله،
تقو ِل مجاعة الربهبارية من احلشوية ،وكم آذوا ابن جرير حتى أدخل يف
رغم ر
تفسريه بعض يشء من ذلك مع أنه القائل:
سبحان من ليس له أنيس ::وال له يف عرشه جليس
374 443
39 4 44
72
ولو ورد مثل ذلك بسند صحيح لرد وعد أن هذا سند مركب ،فكيف
وهو مل يرفع إىل النبي صىل اهلل تعاىل وآله وسلم أصال ،بل نسب إىل جماهد بن
جرب.
نعم ال مانع من أن يكون اهلل سبحانه يقعده عىل عرش أعده لرسول اهلل
صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم يف القيامة إظهارا ملنزلته ،ال أنه يقعد ويقعده يف
جنبه تعاىل اهلل عن ذلك علوا كبريا ،إذ هو ٌ
حمال ي َر ُّد بمثله خرب اآلحاد عىل
تقدير وروده مرفوعا ،فكيف ومل يرد ذلك يف املرفوع! حتى قال الذهبي :ومل
يثبت يف قعود نبينا صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم عىل العرش نص ،بل يف
الباب حديث واه ،وقال أيضا :ويروى مرفوعا وهو باطل.
فام ذكره ابن عطية وسايره اآللويس فليس يف حمله ألن أصحاب االستقراء
مل جيدوه مرفوعا حتى نحتاج إىل حماولة التأويل بام يمجه الذوق.
ومن ظن أنه يوجد يف مسند الفردوس ما يصح من ذلك مل يعرف
الديلمي وال مسنده وأرسل الكالم جزافا.
جزى اهلل الواحدي خريا حيث رد تلك األخلوقة ردا مشبعا ،وكذا ابن
معلم القرييش.
وأما ما يروى عن أيب داود أنه قال :من أنكر هذا احلديث فهو عندنا متهم،
فبطريق النقاش صاحب شفاء الصدور ،وهو كذاب عند أهل النقد.
73
وقال ابن عبد الرب :إن ملجاهد قولني مهجورين عند أهل العلم :أحدمها:
تأويل املقام املحمود هبذا اإلجالس .والثاين :تأويل (إىل رهبا ناظرة) 45بانتظار
الثواب.
وفتنة أيب حممد الربهباري ببغداد يف اإلقعاد وصمة عار يأبى أهل الدين أن
يميلوا إليها الستحالة ذلك وتضافر األدلة عىل تفسري املقام املحمود بالشفاعة،
وإنام هذه األسطورة ترسبت إىل معتقد احلشوية من قول بعض النصارى بأن
عيسى عليه السالم رفع إىل السامء وقعد يف جنب أبيه تعاىل اهلل عن ذلك،
فحاولوا أن جيعلوا للنبي صىل اهلل عليه وآله وسلم مثل ما جعله النصارى
لعيسى عليه السالم كسابقة هلم .تعاىل اهلل عن ذلك.
قال الدكتور{ :رأيت من واجبي أن أسهم بتفصيل مذهب األشاعرة يف
كل أبواب العقيدة ليتضح أهنم عىل منهج فكري مستقل يف كل األبواب
واألصول ،وخيتلفون مع أهل السنة واجلامعة من أول مصدر التلقي حتى آخر
السمعيات ما عدا قضية واحدة فقط!!!}
أقول تكرارا :إن التسنن وكون املذهب مذهب أهل السنة واجلامعة ليس
بالدعاوي (ولو أعطي الناس بدعواهم الدعى أناس دماء أقوام وأمواهلم)
وإنام التسنن باملوافقة للكتاب والسنة ولسلف األمة ،وقد ادعى الدكتور سفر
45
23
74
أن األشاعرة خيتلفون مع أهل السنة يف كل مسائل العقيدة بام فيها السمعيات،
أي إن مذهبهم خمالف للكتاب والسنة والعتقاد سلف األمة ،والسبب
األصل يف ذلك ضالهلم يف مصدر التلقي حيث جعلوا مصدر التلقي العقل
فقط ،ومل يعريوا للنقل أي للكتاب والسنة باال .هذا ما يدعيه الدكتور هنا
إمجاال ،ثم استعرض مخسة عرشة مسألة ادعى أن مذهب األشاعرة فيها
خمالف ملذهب أهل السنة واجلامعة خمالفة تامة ما عدا املسألة الرابعة عرش
حيث إن املخالفة فيها ليست بتامة ،وقد حاول إثبات ذلك بام أقنع به نفسه،
وأقنع من هو عىل شاكلته ممن مل يدرسوا مذهب األشاعرة ،ومل يتعلموه عىل
وجهه.
ونحن نستعرض كالم الدكتور ،ثم نتعقبه خطوة خطوة عىل وجه يتضح
للقارئ املتأين مدى صحة دعوى الدكتور هذه ،ومدى موافقة مذهب
األشاعرة للكتاب والسنة وخمالفته هلام ،وبذلك يتضح أن أهيام أوفق بالكتاب
والسنة ،مذهب األشاعرة أو مذهب الدكتور ،ويتبني أن أهيام أحق باسم
مذهب أهل السنة واجلامعة ،وال أستعجل احلكم بيشء من ذلك هنا ،بل أترك
احلكم بذلك للقارئ املتأين املنصف.
75
-25مصدر التلقي عند األشاعرة وتقديمهم للعقل عىل النقل وبيان أن هذا
التقديم من املقرر عند املحدثني وغريهم:
قال الدكتور{ :األول :مصدر التلقي :أ-مصدر التلقي عند األشاعرة هو
العقل وقد رصح اجلويني والرازي والبغدادي والغزايل واآلمدي واإلجيي وابن
فورك والسنويس ورشاح اجلوهرة وسائر أئمتهم بتقديم العقل عىل النقل عند
التعارض}
أقول:البد هنا من التنبيه عىل أمور:
أن أسباب ومنهم األشاعرة األول :أنه من املقرر عند أهل النظر
العلم ثالثة :العقل ،واحلواس السليمة ،واخلرب الصادق .واخلرب الصادق هو
ف بالقرائن.
خرب اهلل تعاىل ،وخرب رسوله ،وخرب أهل التواتر ،واخلرب املح َت ُّ
فمصدر التلقي عند األشاعرة ليس هو العقل فقط ،بل هو اخلرب الصادق
والعقل .قال الغزايل« :وأهل النظر يف هذا العلم يتمسكون أوال بآيات اهلل
تعاىل من القرآن ،ثم بأخبار الرسول صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم ،ثم
76
بالدالئل العقلية والرباهني القياسية» ،46وكيف يكون مصدر التلقي عندهم
هو العقل وحده ومن مذهبهم أنه ال جمال للعقل يف التحسني والتقبيح ،وأنه ال
حسن إال ما حسنه الرشع وال قبيح إال ما قبحه الرشع.
الثاين :أن اإلسالم هو دين النقل املؤيد بالعقل ،ومن أجل ذلك كان من
عادة اهلل تعاىل يف كتابه املبني عندما يبني عقيدة من عقائد اإلسالم أن يقرهنا
بذكر دليلها العقيل أو يشري إىل هذا الدليل.
الثالث :أن التعارض ال يتصور بني العقل والنص القطعي الثبوت
القطعي الداللة ،المتناع التعارض بني يقينيني ،وإنام يتصور التعارض بني
العقل والنص غري قطعي الثبوت أو غري قطعي الداللة ،كام يتصور التعارض
بني هذين النوعني من النصوص ،فالذي قرره األشاعرة من تقديم العقل عىل
النقل مفروض فيام إذا تعارض ما هو ثابت بالعقل ثبوتا قطعيا للنص غري
القطعي الثبوت أو غري قطعي الداللة.
الرابع :أن أهم أصول العقيدة اإلسالمية ال يصح إثباهتا إال بالعقل،
وإثباهتا بالدالئل النقلية مستلزم للدور املحال؛ وذلك مثل إثبات وجود اهلل
تعاىل وعلمه وقدرته ومشيئته وغريها مما يتوقف عليه ثبوت الوحي .فألن
ثبوت النقل موقوف عىل ثبوت الوحي ،وثبوت الوحي موقوف عىل ثبوهتا ال
46
117 116
77
يصح االستدالل عليها بالنقل .واالستدالل عليها بالنقل موجب لتقدم
اليشء عىل نفسه وهو الدور املحال.
وكذلك النبوة إنام يتوقف ثبوهتا عىل املعجزة الدالة عليه بطريق العقل،
فكان العقل عىل هذا أصال للنقل وشاهدا عىل صدقه ،فإمهال العقل إذا كانت
ور ُّد مقتضاه موجب الهنيار أصل النقل ،وللطعن يف شاهده
داللته قطعيةَ ،
الذي مل يثبت إال به ،فيكون هذا إبطاال للنقل .والقاعدة -كام قلنا -مفروضة
فيام إذا تعارض ما هو ثابت بالعقل ثبوتا قطعيا لظاهر نص غري قطعي الثبوت
أو غري قطعي الداللة ،وأما النص القطعي الثبوت القطعي الداللة فال يتصور
التعارض بينه وبني العقل.
فالقاعدة التي قررها األشاعرة قاعدة ذهبية ال ينبغي أن خيتلف فيها اثنان،
لكنه مما ينبغي التنبيه عليه أيضا أن هذه القاعدة قد أيسء استخدامها من قبل
بعض املتكلمني وال سيام املعتزلة منهم ،فردوا هبا كثريا من النصوص املتفق
عىل صحتها من السنة ،وأولوا بسببها كثريا من اآليات ،وأخرجوها عن
ظواهرها ،وليس ذلك إال ملخالفة هذه النصوص وهذه الظواهر ملا أدى إليه
اجتهادهم العقيل املتأثر بالفلسفة وبعقائده الفاسدة ،وليس ذلك ملخالفتها
للعقل القطعي الداللة الذي ال يقبل النقض.
فظهر هبذا التحقيق أن األشاعرة قد استعملوا العقل يف املجال الذي ال
جيوز أن يستعمل فيه إال العقل ،ويكون استعامل النقل فيه موجبا للدور
78
واملحال،كام يكون إمهال العقل فيه موجبا إلبطال العقل والنقل مجيعا ،فهم قد
استعملوا العقل يف جماله الذي جيب أن يستعمل فيه ،وهذه هي احلكمة" ،يؤيت
احلكمة من يشاء ومن يؤت احلكمة فقد أويت خريا كثريا"
اخلامس :أن تقديم العقل عىل النقل إذا عارض العقل النقل ،وتأويل
النقل بناء عىل هذا التعارض أو َرده ليس شيئا انفرد به األشاعرة بل هو من
مقررات العقول؛ وقد قرره أصحاب العلوم املختلفة يف علومهم ،فمثال
التأويالت التي أول هبا السلف مجلة من نصوص الكتاب والسنة كثري منها
مبنية عىل خمالفة ظواهر هذه النصوص للعقل ،وحتى املحدثون الذين قد
يتخيل أهنم أبعد الناس عن هذا التقديم قد قرروا هذا التقديم يف مؤلفاهتم
وجعلوه من أصوهلم ،قال اخلطيب البغدادي :باب القول فيام يرد به خرب
الواحد :.... ،وإذا روى الثقة املأمون خربا متصل اإلسناد رد بأمور:
أحدها :أن خيالف موجبات العقول فيعلم بطالنه؛ ألن الرشع إنام يرد
بمجوزات العقول ،وأما بخالف العقول فال.
والثاين :أن خيالف نص الكتاب أو السنة املتواترة فيعلم انه ال أصل له أو
منسوخ.
79
والثالث :أن خيالف اإلمجاع فيستدل عىل أنه منسوخ أو ال أصل له،
انتهى.47
وأفاجئ الدكتور بأن ابن تيمية أيضا قائل هبذه القاعدة التي قررها
األشاعرة .قال يف الرسالة التدمرية 48يف معرض االستدالل عىل أمر من أمور
العقيدة" :والسمع قد دل عليه ،ومل يعارض ذلك معارض عقيل وال سمعي،
فيجب إثبات ما أثبته الدليل السامل عن املعارض املقاوم" ففكر أهيا الدكتور يف
كالم ابن تيمية هذا ،أليس معناه أنه إذا عارض هذا الدليل من السمع معارض
عقيل ال َيثبت ما دل عليه لعدم سالمته عن املعارض الذي هو الدليل العقيل.
وهل هذا إال قول هبذه القاعدة التي قررها األشاعرة ؟؟!!
ذكر الدكتور قول اإلمام الرازي"{ :وملا بطلت األقسام الثالثة مل يبق إال
أن يقطع بمقتىض الدالئل العقلية القاطعة بأن هذه الدالئل النقلية إما أن يقال
إهنا غري صحيحة أو يقال إهنا صحيحة إال أن املراد منها غري ظواهرها".
فعلق الدكتور عليها باحلاشية رقم ( )1بقوله :يالحظ أن الدالئل النقلية
تشمل نصوص الكتاب والسنة معا .فكيف يقال إهنا غري صحيحة دون تفريق
بينهام ،مع أن جمرد إطالقها عىل السنة وحدها يف غاية اخلطورة}
47
132 1
23 48
81
أقول :من املقرر أن األحكام والصفات إنام تعود ملا تصلح أن تكون حكام
عليه وصفة له .وما يصلح أن ُيكم عليه بعدم الصحة من الدالئل النقلية هي
ما تسمى باألحاديث ،وليس الكتاب ،ثم أي خطورة يف احلكم عىل ما مل يصح
من األحاديث بأهنا غري صحيحة؟ وهل كان واجب العلامء أي يتوقفوا عن
نقد األحاديث؟؟!! ...ولكن الدكتور ال يرغب يف أن يفهم الكالم عىل
وجهه!.
ثم ذكر الدكتور قول اإلمام الرازي"{ :ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا عىل
سبيل التربع بذكر تلك التأويالت عىل التفصيل ،وإن مل جيز التأويل فوضنا
العلم هبا إىل اهلل تعاىل" .ثم علق الدكتور عليه باحلاشية رقم ( )2فقال:
هل وصلت قيمة نصوص الوحي إىل حد أن االشتغال بتأويلها -الذي
هو حتريف هلا -يعترب تربعا وإحسانا؟!}
أقول :ليس مراد اإلمام بالتربع اإلحسان؛ بل مراده به مقابل الوجوب ،وهل
التأويل واجب أهيا الدكتور؟! ثم انه ليس كل تأويل حتريفا ،بل منه ما هو
حتريف ،ومنه ما هو بيان للمعنى املقصود ،وهذا األخري هو الذي قصده اإلمام،
ولكن الدكتور مبتىل بسوء الظن بأئمة السنة.
81
قال الدكتور{:ويقول (السنويس) :أصول الكفر ستة ...ذكر منها مخسة،
ثم قال:
سادسا :التمسك يف أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غري
عرضها عىل الرباهني العقلية والقواطع الرشعية}
أقول :لكي نفهم معنى ما قاله السنويس أذكر بعض التطبيقات له لنفهم املراد
منه :قال اهلل تعاىل( :فاليوم ننساهم كام نسوا لقاء يومهم هذا) وقال تعاىل:
(فذوقوا بام نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم) وقال تعاىل( :وهو معكم أينام
كنتم) ،وقال تعاىل( :واهلل من ورائهم حميط) وقال النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله
وسلم( :قلب ابن آدم بني أصبعني من أصابع الرمحن) أو كام قال.
فظاهر اآليتني األوليني ثبوت النسيان هلل تعاىل ،فهل النسيان من صفات
اهلل ،تعاىل اهلل عن ذلك علوا كبريا ،وظاهر اآلية الثالثة املعية الذاتية كام أن
ظاهر اآلية الرابعة هو اإلحاطة الذاتية.
واحلديث بظاهره فيه إثبات األصبعني هلل تعاىل ثم إثبات األصابع له،
ويفيد أن قلب اإلنسان بني إصبعني هلل تعاىل واملتبادر البينية احلقيقية ،وإذا أقر
احلديث عىل ظاهره أثبتنا هلل مليارات األصابع ،وروى مسلم عن أيب هريرة
ريض اهلل عنه أن رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم قال( :إن اهلل عز
وجل يقول يوم القيامة :يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى! قال :يا رب كيف
أعودك وأنت رب العاملني! قال :أما علمت أن عبدى فالنا مرض فلم تعده!
82
أما علمت أنك لو عدته لوجدتنى عنده) فهل من صفات اهلل تعاىل املرض،
وقد أسند إليه يف هذا احلديث؟! فام أضيف هلل تعاىل يف هذه النصوص كلها
حمالة عىل اهلل تعاىل ،واألخذ بظواهر هذه النصوص كفر وإحلاد ،أو بدعة
وضالل.
هذه نامذج وأمثلة لذلك ،ونظائرها كثرية.
83
فال بد أن نبني املسألة ،فننقل فيها أوال كالم اإلمام الرازي يف املحصول .قال
حتت العنوان املذكور «منهم من أنكره( ،أي أنكر إفادة اخلطاب القطع) وقال :إن
االستدالل باألدلة اللفظية مبني عىل مقدمات ظنية ،واملبني عىل املقدمات الظنية
ظني ،فاالستدالل باخلطاب ال يفيد إال الظن.
وإنام قلنا" :إنه مبني عىل مقدمات ظنية" ألنه مبني عىل نقل اللغات ،ونقل
النحو والتَصيف ،وعدم االشرتاك واملجاز والنقل واإلضامر والتخصيص
أمور ظنية .ثم أفاض
والتقديم والتأخري والناسخ ،واملعارض ،وكل ذلك ٌ
الرازي يف بيان أن هذه األمور ظنية ،ثم قال يف آخر الكالم :واعلم أن
اإلنصاف أنه ال سبيل إىل استفادة اليقني من هذه الدالئل اللفظية إال إذا
اقرتنت هبا قرائن تفيد اليقني ،سواء كانت تلك القرائن مشاهدة أو كانت
منقولة إلينا بالتواتر» .هذا هو كالم الرازي يف املحصول 49.فنقل اإلنكار عن
غريه ثم بني رأيه الذي هو اإلنصاف ،وكذلك فعل يف األربعني.
وعرب بعض العلامء عن املسألة بتعبري آخر ،فقال :إن األدلة السمعية ال
َ
تفيد اليقني إال بنفي عرشة احتامالت :االشرتاك ،والنقل ،واملجاز ،واإلضامر،
والتخصيص ،والتقديم ،والتأخري ،والناسخ ،واملعارض العقيل ،وتغري
اإلعراب.
49
418 416 44 39 2
84
قال القرايف شارحا رأي الرازي واختياره :تقريره أن الوضع بام هو وضع
تتطرق إليه هذه االحتامالت ،ومع القرائن يقطع بأن املراد ظاهر اللفظ ،ثم
القرائن تكون بتكرر تلك األلفاظ إىل حد يقبل القطع ،أو سياق الكالم ،أو بحال
املخرب الذي هو رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم .والقرائن ال تفي هبا
العبارات ،وال تنحَص حتت ضابط ،ولذا قطعنا بقواعد الرشع ،وقواعد الوعد
50
والوعيد وغريها بقرائن األحوال واملقال ،وهو كثري يف الكتاب والسنة.
وقال املحقق البيايض« :إن الدليل النقيل يفيد االعتقاد واليقني يف
املعتقدات عند التوارد عىل معنى واحد بالعبارات والطرق املتعددة ،والقرائن
املنضامت ...واختاره متقدموا األشاعرة .وقال صاحب األبكار واملقاصد :هو
احلق ...وبينه يف التلويح واملقاصد بأن من األوضاع ما هو معلوم بطريق
التواتر كلفظ السامء واألرض ،وكأكثر قواعد الَصف والنحو مما وضع
هليئات املفردات وهيئات الرتاكيب ،والعلم باإلرادة ُيصل بمعونة القرائن
بحيث ال يبقى شبهة ،كام يف النصوص الواردة يف إجياب الصالة والزكاة ،ويف
البعث إذا اكتفى فيه بمجرد السمع كقوله تعاىل( :قل ُيييها الذي أنشأها أول
مرة وهو بكل خلق عليم) 51،ونفي املعارض العقيل حاصل عند العلم
بالوضع واإلرادة وصدق املخرب ،وذلك ألن العلم بتحقق أحد املتنافيني يفيد
50
51 2
51
79
85
العلم بانتفاء اآلخر ،عىل أن احلق أن إفادة اليقني إنام تتوقف عىل انتفاء
املعارض وعدم اعتقاد ثبوته ،ال عىل العلم بانتفائه ،إذ كثريا ما ُيصل اليقني
من الدالئل ،وال خيطر املعارض بالبال إثباتا أو نفيا فضال عن العلم بذلك».
52
انتهى.
هذا هو حتقيق املسألة ،وقد ظهر به أن ما ذهب إليه الرازي هو احلق
احلقيق بالقبول ،وأنه قد وافق يف ذلك متقدمي األشاعرة ،وقد وافقه عليه
اآلمدي صاحب "األبكار" ،والسعد التفتازاين صاحب "املقاصد والتلويح".
أقول :وقد ذهب إىل هذا الرأي إمام احلرمني والغزايل .وانظر "التلخيص"
إلمام احلرمني «فصل القول يف تقسيم اخلطاب وما يفيده» 53و"املستصفى"
55
للغزايل «فصل الكالم املفيد» 54،و«فصل طريق فهم املراد من اخلطاب».
وهبذا التحقيق ظهر مدى صحة نسبة الدكتور سفر الرأي الذي أشار إليه
بإطالقه إىل متكلمي األشاعرة وإىل من ذكرهم يف فقرة (أ)
وذلك ألن سياق كالمه يدل عىل أنه يقصد أن األشاعرة يرون أن
نصوص الكتاب والسنة ظنية الداللة ،وال يفيد اليقني قطعا ألهنا ال تسلم من
املعارضات املذكورة أو من بعضها ،مع أهنم قد قالوا :إهنا تفيد اليقني إذا اقرتن
52
47 46
53
35 34
333 1 54
55
337 1
86
هبا قرائن تفيد اليقني والقرائن ال تدخل حتت الضابط واحلَص ،وأما إذا كان
مراد الدكتور اإلنكار عىل األشاعرة مع هذه الضميمة التى هبا يكتمل
مذهبهم ،فال ريب أن هذا اإلنكار غري صحيح.
وظهر أيضا خطأ قوله :وسلمت بعد هذا من املعارض العقيل .فإن
املعارض العقيل داخل يف العرشة وواحد منها .وكالمه يفيد أنه خارج عنها.
87
ذلك حتتاج إىل تفصيل وحتقيق ،ولقد فصلنا الكالم فيها يف كتابنا "السنة
النبوية حجية وتدوينا" ،فننقل ما كتباه هناك ،ثم نعقبه ببيان ما يف كالم
الدكتور فيها من أخطاء فنقول:
{مدى حجية خرب الواحد يف العقيدة}
العمل بخرب الواحد يف األحكام العملية مما أمجع عليه علامء األمة ومل
خيالف فيه أحد من علامء اإلسالم من حيث إنه خرب واحد ،واملقصود هنا
الكالم عىل العمل بخرب الواحد يف املسائل االعتقادية ،فإنه قد طال كالم
العلامء حول هذه املسألة ،ومل أر أحدا حقق املسألة وحررها عىل الوجه
املريض ،فنقول وباهلل التوفيق:
قد شاع بني علامء الكالم أن خرب الواحد ليس بحجة يف املسائل
االعتقادية ،واجلمهور األعظم من العلامء عىل أنه حجة فيها.
وحتقيق املسألة ُيتاج إىل تفصيل :وهو أن مسائل االعتقاد منقسمة إىل
مخسة أقسام:
-1ما يكون عدم العلم به موجبا للكفر مثل وجوده تعاىل ووحدانيته
وصفاته الذاتية.
-2ما يكون إنكاره موجبا للكفر وعدم العلم به موجبا لإلثم ،مثل قدم
الباري تعاىل وحدوث ما عداه من العامل ،فإن اإلنسان بعد اعتقاده بوجود اهلل
تعاىل ووحدانيته وصفاته الذاتية لو لقي اهلل تعاىل خايل الذهن عن احلدوث
88
والقدم يف حقه تعاىل ويف حق العامل ،يكون مسلام ،لكنه آثم بعدم العلم به،
فيجب عليه أن يعتقد القدم يف حقه تعاىل واحلدوث يف العامل كي ال يعتقد
العكس عند دخول املسألة حتت مالحظته فيقع يف الكفر.
ومن هذا القبيل معظم العقائد الثابتة بالدالئل القطعية الثبوت القطعية
الداللة من الكتاب والسنة املتواترة مما قد خيفى عىل بعض العوام .وهذا القسم
من العقائد ال يصح االستدالل عليه بخرب الواحد ألن املطلوب فيها اليقني
وخرب الواحد مفيد للظن.
عىل أن هذا القسم من أجل ثبوته بالدالئل القطعية من الكتاب والسنة
املتواترة ال حاجة يف إثباته إىل أخبار اآلحاد.
-3ما يكون إنكاره بدعة غليظة وجهله إثام وذلك ما هو ثابت بظواهر
الكتاب والسنة املتواترة أو املستفيضة مما تلقته األمة عىل ظاهره بالقبول ،فهذا
إنكاره بَصف النصوص عن ظواهرها وتأويلها عىل خالف ما تلقاه السلف
بالقبول بدعة غليظة ،وربام يكون كفرا إذا كان ما تلقته األمة بالقبول جممعا
عليه معلوما من الدين بالرضورة.
-4ما يكون إنكاره إثام وبدعة خفيفة وجهله معفوا عنه ،وذلك ما ثبت
باآلحاد الصحيحة غري املستفيضة مما خيفى عىل أكثر العوام وعىل بعض
اخلواص مما مل تتعارض فيه الدالئل املتكافئة من الكتاب والسنة.
89
-5ما تعارضت فيه الدالئل املتكافئة -بحسب الظاهرة -من الكتاب
والسنة ومن أجل ذلك وقع فيها االختالف بني علامء األمة.
فام كان من هذا القسم األخري فأمره عفو بمعنى أنه ال ُيكم فيه بحكم
عام ،بل هو من مسائل االجتهاد والتقليد.
وهذا التفصيل مل نجده يف كالم أحد من العلامء هبذا الوجه لكنه مقتىض
الدالئل الرشعية ومأخوذ من تَصُيات العلامء ونصوصهم.
وهبذا التفصيل نجمع بني اخلالف يف خرب الواحد .هل هو حجة يف
مسائل االعتقاد أم ال؟
فيحمل كالم من قال :إنه ليس بحجة عىل أن خمالفته وعدم اعتقاد مقتضاه
ليس بكفر ألن ثبوته ليس بقطعي فال تكون خمالفته ردا لقول الرسول صىل
اهلل عليه وسلم ،وإنام هو لعدم الوثوق بالرواة ،إال أن يكون رده بعد اعتقاد أنه
كالم رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم ،ويكون بدون تأويل له ،فرده حينئذ
كفر ،وال أعلم أنه خيالف ما قلناه أحد من العلامء ،فإنا نرى املتكلمني الذين
نسب إليهم عدم االستدالل بخرب اآلحاد يف العقائد كثريا ما يستدلون به فيها،
وال سيام يف قسم السمعيات من العقائد ،كام ال خيفى عىل من له إملام بكالمهم.
قال عبد احلي اللكنوي رمحه اهلل تعاىل يف «ظفر األماين»(:)56
56
223 222
91
قد رصحوا بأن أخبار اآلحاد وإن كانت صحيحة ال تكفي يف باب
العقائد ،فام بالك بالضعيفة منها ،واملراد بعدم كفايتها أهنا ال تفيد القطع ،فال
يعترب هبا مطلقا يف العقائد التي كلف الناس باالعتقاد اجلازم فيها ،ال أهنا ال
تفيد الظن أيضا ،وال أهنا ال عربة هبا رأسا يف العقائد مطلقا ،كام تومهه كثري من
أبناء عَصنا .ثم قال .قال التفتازاين يف رشح .املقاصد يف بحث عصمة
املالئكة :وما يقال إنه ال عربة بالظنيات يف باب االعتقاد فإن أريد أنه ال ُيصل
منه االعتقاد اجلازم ،وال يصح احلكم القطعي به فال نزاع فيه ،وإن أريد أنه ال
ُيصل الظن بذلك احلكم فظاهر البطالن ،انتهى.
فهذا التفتازاين وهو من أئمة الكالم رصح بام قلته.
وُيمل كالم من قال إنه حجة عىل أنه -بعد ثبوت صحته بدون معارض
وال صارف له عن ظاهره -جيب اعتقاد مقتضاه عىل وجه الظن أو عىل وجه
العلم إذا كان مقرونا بقرائن يفيد معها العلم.
وأن عدم اعتقاد مقتضاه بعد العلم به وبصحته وعدم اقرتانه بقرائن يفيد
معها العلم موجب لإلثم والبدعة ،وهذا أيضا مما ال أظن أن أحدا من العلامء
خيالف فيه.
ثم إنه مما ينبغي التنبيه عليه أن أصول العقائد مثل التوحيد ،وصفات اهلل.
والرسالة ،والبعث ،وجزاء األعامل ،واجلنة والنار ،قد تكفل القرآن ببياهنا،
91
وركز عىل بياهنا أكرب تركيز ،وفصل القول فيها وكرره وأوردها مقرونة بدالئلها
العقلية التي تضطر العقول إىل قبوهلا واجلزم هبا.
وما ورد من األحاديث يف بياهنا فإنام هي مؤيدة للقرآن ومقررة له أو
موضحة ومفصلة له أو من جزئيات ما ورد فيه.
فلم يبق من العقائد ما يكون العمدة يف االستدالل عليه أخبار اآلحاد إال
العقائد التي ليست من األصول ،وهي التي ال يكون اعتقاد ما خيالفها موجبا
للكفر .واهلل سبحانه وتعاىل أعلم.
وقد اتضح هبذا التحقيق موقف األشاعرة من االستدالل بالسنة وبخرب
الواحد منها ،كام اتضح أن ما نسبه الدكتور إليهم من أن السنة ال يثبت هبا
عقيدة عندهم ..غري صحيح.
أما كالم اإلمام الرازي يف املسألة فقد قال يف «أساس التقديس» 57أما
التمسك بخرب الواحد يف معرفة اهلل فغري جائز ،يدل عليه وجوه :األول :أن
أخبار اآلحاد مظنونة فلم جيز التمسك هبا يف معرفة اهلل تعاىل وصفاته ،وإنام
قلنا :إهنا مظنونة ،وذلك ألنا أمجعنا عىل أن الرواة ليسوا بمعصومني ...إىل
آخر كالمه.
فاإلمام قال :إن خرب الواحد ال يتمسك به يف معرفة اهلل وصفاته ،ومل يقل
ال يتمسك به يف العقيدة مطلقا .وذلك ألن من العقائد ما يطلب فيه القطع
168 57
92
واليقني وال يكتفي فيه بالظن ،وهي أصول العقائد اإلسالمية ويف مقدمتها
معرفة اهلل تعاىل وصفاته .وهذا القسم من العقيدة ال يصح االستدالل عليه إال
بالدالئل املفيدة للقطع واليقني ،وال يصح االستدالل عليها بالدالئل املفيدة
للظن .ومنها خرب الواحد إذا مل يقرتن بقرائن يفيد معها العلم ،وهذا القسم من
العقائد هو الذي يكون جهله وعدم العلم به موجبا للكفر ،أو ال يكون جهله
موجبا للكفر لكن يكون اعتقاد ضده موجبا للكفر كام قدمناه آنفا.
والقسم الثاين من العقائد ما يكتفي فيه بالظن وال يطلب فيه القطع
واليقني ،وهو ما ليس من األصول يف العقيدة ،وهذا القسم ال يكون جهله أو
اعتقاد ضده موجبا للكفر ،بل يكون اعتقاد ضده موجبا لإلثم والبدعة .وهذا
القسم من العقائد يستدل عليه بالدالئل املفيدة للظن ،ومنها خرب الواحد هذا
هو معنى كالم اإلمام الرازي« :أن أخبار اآلحاد مظنونة فلم جيز التمسك هبا
يف معرفة اهلل تعاىل وصفاته».
وأما قطع اإلمام الرازي بأن رواية الصحابة كلهم مظنونة وأهنا ال تفيد
القطع واليقني فقد قصد هبا الرواية التي وردت آحادا ومل يقرتن هبا من القرائن
ما تفيد معها العلم ،يدل عىل هذا سياق كالمه ،فإن كالمه يف أخبار اآلحاد،
وأخبار اآلحاد من حيث هي أخبار آحاد مظنونة ال تفيد القطع واليقني .وهذا
ما ال خيالف فيه أحد من أئمة املسلمني وعلامئهم إال النزر القليل ،وقد استدل
93
اإلمام عىل ذلك بطعن الصحابة بعضهم يف بعض ورد بعضهم رواية البعض
اآلخر ألسباب اقتضت ذلك .وهو استدالل صحيح ال غبار عليه.
171 58
94
(يعني أن مجلة من هذه األخبار مشتملة عىل وصف اهلل تعاىل بذلك) ،فوجب
القطع يف أمثال هذه األخبار بأهنا موضوعة.
وأما البخاري والقشريي (يعني مسلام) فهام ما كان عاملني بالغيوب ،بل
اجتهدا واحتاطا بمقدار طاقتهام .فأما اعتقاد أهنام علام مجيع األحوال الواقعة يف
زمان الرسول صىل اهلل عليه وآله وسلم إىل زماننا59فذلك ال يقوله عاقل .غاية
ما يف الباب أنا نحسن الظن هبام وبالذين رويا عنهم ،إال أنا إذا شاهدنا خربا
مشتمال عىل منكر ال يمكن إسناده إىل الرسول صىل اهلل عليه وسلم قطعنا بأنه
من أوضاع املالحدة ،ومن تروجياهتم عىل أولئك املحدثني» .هذا هو كالم
اإلمام بنصه يف "أساس التقديس" فارجع البَص هل ترى من فطور؟ ومل أر له
كالما متعلقا باملوضوع يف "األربعني".
أقول ما قاله اإلمام الرازي موافق ملا قاله أئمة احلديث ونقاده من أن من
عالمات وضع احلديث أن يكون خمالفا لألصول الرشعية والقواعد املقررة،
ومن عالماته اشتامله عىل أمر منكر ومستحيل.
ومن ثمة قال اإلمام الناقد عبد الرمحن بن اجلوزي( :كل حديث رأيته
خيالف املعقول أو يناقض األصول فاعلم أنه موضوع )..وذكر حديثا من هذا
النوع ،ثم قال( :فمثل هذا احلديث ال ُيتاج إىل اعتبار رواته ألن املستحيل لو
59
95
صدر عن الثقات رد ونسب إليهم اخلطأ 60وقال اإلمام احلافظ اخلطيب
61
البغدادي يف "الفقيه واملتفقه".
باب القول فيام يرد به خرب الواحد:
..وإذا روى الثقة املأمون خربا متصل اإلسناد رد بأمور:
أحدها أن خيالف موجبات العقول فيعلم بطالنه ،ألن الرشع إنام يرد
بمجوزات العقول ،وأما بخالف العقول فال.
الثاين أن خيالف نص الكتاب أو السنة املتواترة ،فيعلم أنه ال أصل له أو
منسوخ.
والثالث أن خيالف اإلمجاع ،فيستدل عىل أنه منسوخ أو ال أصل له..
فانظر أهيا القارئ املنصف هل قال الرازي شيئا غري ما قال أئمة احلديث
ونقاده؟!
ثم انظر هل صحيح أن الرازي قد قطع بأن يف الصحيحني أحاديث
وضعها الزنادقة..؟!
أم أنه تكلم بكالم عام متني ،وحكم بحكم واسع مستقيم وافق فيه غريه
من األئمة النقاد املحققني.
60
115 1
132 1 61
96
وذلك قوله« :إال أنا إذا شاهدنا خربا مشتمال عىل منكر» حيث عمم فيه
جي روز أن يكون يف الصحيحني
الكالم ومل خيصص .نعم سياق كالمه يوهم أن َ
يشء من هذا النوع من األخبار ،ويفيد أنه عىل تقدير وجودها فيهام فهي
مردودة .لكن ما يومهه كالمه غري صحيح ،وأما ما يفيده فهو صحيح ال غبار
عليه.
وأما أن اإلمام الرازي قطع بأن يف الصحيحني أحاديث وضعها الزنادقة
فليس له يف كالمه عني وال أثر!
ثم إن ابن تيمية قال ببعض ما قاله الرازي وزاد عليه يف البعض اآلخر.
قال يف "منهاج السنة" (وخرب الواحد ال يفيد العلم إال بقرائن) 62،وقد توقف
ابن تيمية يف قبول احلديث اآلحادى يف العقيدة بحجة أنه غري متواتر ،حيث
قال يف "نقد مراتب اإلمجاع" عن حديث (كان اهلل ومل يكن يشء غريه):
(وهذا احلديث لو كان نصا فيام ذكر فليس متواترا) 63وقال يف "جمموع
الفتاوى"( :والكذب كان قليال يف السلف...أما الصحابة فلم يعرف فيهم- ،
وهلل احلمد -من تعمد الكذب عىل النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم...أما الغلط
فلم يسلم منه أكثر الناس ،بل يف الصحابة من غلط أحيانا وفيمن بعدهم،
وهلذا كان فيام صنف يف الصحيح أحاديث يعلم أهنا غلط وإن كان مجهور
516 7 62
171 63
97
متون الصحيحني مما يعلم أنه حق) 64تأمل أهيا الدكتور جيدا يف هذا الكالم
وال سيام قوله( :مجهور متون الصحيحني) وتب من اهلجوم عىل األشاعرة
والرازي ،وإال فهاجم ابن تيمية أيضا .والتكن من الذين يكيلون بمكيالني!!!
64
251 249 1
98
واألدهى من ذلك أن سياق كالم الدكتور يوهم أن األشاعرة يعتمدون يف
عقيدهتم عىل أقوال الفالسفة ،ويستمدون عقيدهتم منها كام قال فيام سبق:
«إهنم يستمدون عقيدهتم من املتفلسف برش املريس الذي كفره اإلمام
الشافعي» وكام سيأيت يف آخر فقرة نقلناها من كالمه .فامذا بقي لألشاعرة من
الدين بعد هذا؟! معاذ اهلل!سبحانك اللهم هذا هبتان عظيم يعظكم اهلل أن
تعودوا ملثله أبدا إن كنتم مؤمنني!
وأقول مقدما :إن هناك جمموعة كبرية من كتب األشاعرة املتعلقة
بالعقيدة :ال يعثر القارئ يف واحد منها ال عىل «قال احلكامء» ،وال عىل «قال
املعلم األول» ،وال عىل «قالت الفالسفة» ،وجمموعة كبرية أخرى منها نادرا ما
يعثر القارئ فيها عليها ،ومن ارتاب يف هذا األمر فليقرأ ما كتبه األوائل منهم
وما كتبه املتأخرون منهم.
ثم أقول :األشاعرة ال يوردون كالم اهلل تعاىل وكالم رسوله إال لالعتامد
عليهام واالحتجاج هبام ،أو لدفع الشبه عنهام ،وال يوردون كالم الفالسفة يف
األعم األغلب إال للرد عليه وبيان زيفه.
وجتلية للحقيقة نصنف األشاعرة إىل أصناف ،ونبني حال كتب كل
صنف منهم من كثرة إيراد اآليات واألحاديث فيها وقلتها ونبني السبب يف
ذلك ،فنقول:
99
علامء األشاعرة كعلامء سائر املذاهب منهم حفاظ وحمدثون ومعتنون
باحلديث ،ومنهم من ليسوا كذلك ،أما الصنف األول كالبيهقي والنووي
وابن حجر العسقالين فكتبهم حمشوة باآليات واألحاديث .وكل العلامء يعلم
حال كتاب "األسامء والصفات" وكتاب "اإلعتقاد" للبيهقي ،وأما الصنف
الثاين فالقدامى منهم واملتأخرون ممن أتى بعد القرن الثامن اهلجري حال
كتبهم أيضا كذلك هي حمشوة باآليات واألحاديث ،ونورد عدة شواهد عىل
ذلك:
-1كتاب "اإلنصاف" للباقالين هو مائة وسبعون صفحة تقريبا ،وقد
اشتمل عىل أكثر من أربعامئة آية وأكثر من مائة حديث.
" -2املسايرة" البن اهلامم مع رشحها "املسامرة" البن أبى رشيف قد
اشتمل عىل حوايل مئي آية ومئتي حديث.
" -3رشح الباجوري عىل جوهرة التوحيد" قد اشتمل عىل قرابة مئتني
ومخسني آية ومئات األحاديث.
" -4رشح جوهرة التوحيد" يف جملدين ضخمني لعبد الكريم تتان
وحممد أديب الكيالين ومها معارصان ،وهو حمشو باآليات واألحاديث.
وأما املتوسطون منهم كالرازي واآلمدي والبيضاوي واإلجيي والتفتازاين
فصحيح أن اآليات واألحاديث قليلة الورود يف كتبهم الكالمية ،والسبب يف
ذلك أن هؤالء كان جل مههم جمادلة غري املسلمني من الفالسفة واليهود
111
والنصارى والوثنية والرد عليهم ،وبيان بطالن ما هم عليه من االعتقاد ،وقد
كان جل جدهلم مع الفالسفة منهم ،وكذلك قد اعتنى هؤالء يف كتبهم
الكالمية بالرد عىل مذاهب غري أهل السنة من املعتزلة واجلربية واخلوارج
أيضا .وغري املسلمني ال جت ِد فيهم الدالئل النقلية ،بل جمادلتهم ال بد أن تكون
بالدالئل العقلية .وهذا ما فعله كل األنبياء مع أقوامهم الذين أرسلوا إليهم ،مل
جيادلوهم إال بالدالئل العقلية .والقرآن حمشو هبذا النوع من الدالئل وهذا
النوع من اجلدل .وأما غري أهل السنة من املسلمني فقد كان جل رصاع أهل
السنة باملعتزلة منهم ،ومن املعلوم أن املعتزلة يردون كثريا من األحاديث التى
ال توافق مذهبهم أو يؤولوهنا ،وكذلك يؤولون اآليات التى ال يوافق ظاهرها
مذهبهم ،فاالعتامد يف اجلدال معهم عىل النقل أيضا غري جمد إال قليال ،ومن
أجل اعتناء هؤالء املتكلمني بالرد عىل الفالسفة َأو َر َد بعضهم يف صدور
كتبهم الفلسفة اإل̃هلية والطبيعية ،حتى استغرقت الفلسفة قسام كبريا من هذه
الكتب ،وهذا القسم من الفلسفة ال حمل إليراد اآليات واألحاديث فيها ،فمن
أجل ما ذكرناه قل ورود اآليات واألحاديث يف كتب هؤالء املتكلمني
املتوسطني .هذا حال كتب األشاعرة املطولة.
وأما املختَصات املؤلفة يف العقيدة املكونة من عدة صفحات فصحيح أن
معظمها خال عن الدالئل النقلية .والسبب يف ذلك أهنا مؤلفة للعوام
واملبتدئني يف العلم .فأراد مؤلفوها أن تكون بمقدار يستوعبها العوام
111
واملبتدئون بسهولة ،ولو كانوا قرنوا كل عقيدة بدالئلها النقلية لطالت هذه
الكتب وصعب استيعاهبا عىل العوام واملبتدئني ،وشأهنا يف ذلك شأن
املختَصات املؤلفة يف املذاهب الفقهية.
لكن كالم الدكتور ال ينطبق عىل هذه املختَصات فإنه قد تكلم عىل
الكتب ذات املئات الصفحات.
112
باألحكام الرشعية ،وكذلك مل يصحح احلديث بطريق الكشف والذوق أحدٌ
من الصوفية املعتربين .ونحتم هذه الفقرة بكالم علمني من أعالم التصوف،
قال السهروردي( :وكل علم ال يوافق الكتاب والسنة وما هو مستفاد منهام أو
معني عىل فهمهام أو مستند إليهام كائنا ما كان -فهو رذيلة وليس بفضيلة،
يزداد اإلنسان به هوانا ورذيلة يف الدنيا واآلخرة) 65،وقال الشيخ أمحد
الرفاعي( :إذا رأيتم واعظا أو قاصا أو مدرسا فخذوا منه كالم اهلل وكالم
رسوله صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم ،وكالم أئمة الدين الذين ُيكمون
عدال ويقولون حقا ،واطرحوا ما زاد ،وإن أتى بام مل يأت رسول اهلل صىل اهلل
تعاىل عليه وآله وسلم فارضبوا به وجهه) 66هذا كالم أهل الرسوخ والتحقيق
من الصوفية.
وأما نجاة والدي املصطفى صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم فقد ذهب
فريق من علامء األمة إىل ذلك .وعمدهتم يف االستدالل عليه أهنام من أهل
الفرتة ،وقد ثبت نجاة أهل الفرتة بقوله تعاىل( :وما كنا معذبني حتى نبعث
رسوال) ،وأما ما أشار إليه الدكتور من احلديث الضعيف فقد أورده بعض
املتأخرين من األشاعرة عىل وجه االستئناس بعد احتجاجه عىل املسألة بام
65
48 1
66
39
113
ذكرناه ،ثم إن املسألة من مسائل اخلالف ،وليست من مسائل االعتقاد التى
يبدع فيها أحد الطرفني أو يؤثم ،فلكل فريق رأيه ودليله.
114
اهلل أمرا معلوما بالرضورة ملا خالف فيه أحد من العقالء وملا احتيج إىل
االستدالل عليه.
واألدلة املستنبطة من الكون والنفس واآلثار واآلفاق هي دليل النظام،
وسامه ابن رشد «دليل العناية» ..ودليل احلدوث وسامه ابن رشد «دليل
االخرتاع» ،ودليل اإلمكان إىل غري ذلك من األدلة التي أوردها األشاعرة يف
كتبهم.
وليس دليل احلدوث هو الدليل الوحيد عند األشاعرة بل هو أحد أدلتهم،
ومن أدلتهم كام ذكرنا دليل اإلمكان ودليل النظام إىل غري ذلك كام ال خيفى عىل
من مارس كتبهم .والذي ذكره الدكتور يسمى «دليل احلدوث» وال يوجد هلم
دليل يسمى «دليل احلدوث والقدم».
وننقل هنا شيئا من كالم األشاعرة يف االستدالل عىل وجود اهلل تعاىل كي
يتحقق القارئ ما قلناه .قال الباقالين« :والبد هلذا العامل املحدَ ث املصور من
مصور .والدليل عىل ذلك أن الكتابة البد هلا من كاتب والبد للصورة ِ
حمدث ر
من مصور ،وللبناء من بان ،وإنا ال نشك يف جهل من خربنا بكتابة حصلت ال
من كاتب ،وصياغة ال من صائغ ،فوجب أن تكون صور العامل وحركات
الفلك متعلقة بصانع صنعها إذ كان ألطف وأعجب صنعا من سائر ما يتعذر
115
وجوده ال من صانع من احلركات والصور» 67وقال الباقالين« :وإن أردتم
بقولكم ما هو ما الداللة عىل وجوده؟ فالداللة عىل وجوده مجيع ما نراه
ونشاهده من حمكم فعله وعجيب تدبريه» 68وقال الرازي« :ومن الناس من
اعتمد (يف إثبات وجود اهلل تعاىل) عىل اإلحكام واإلتقان املشاهدين يف
الساموات واألرضني وخاصة يف بدن اإلنسان وما فيه من املنافع اجللية
والبدائع الغريبة التي تشهد فطرة كل عاقل بأهنا ال تصدر إال عن تدبري حكيم
عليم .وهذه الطريقة دالة عىل الذات وعىل العاملية ،وهي طريقة من تأملها
ورفض عن نفسه املقاالت الباطلة وجد نفسه مضطرة إىل االعرتاف بإثبات
املدبر عند مشاهدة خلقة أعضاء احليوان» 69وهذا الدليل الذي ذكره الرازي
هو «دليل النظام» وكذالك الدليل الثاين للباقالين.
67
27 43
68
311
69
471 471 2
116
قال الدكتور{ :وأخص صفات هذا القديم خمالفته للحوادث وعدم
حلوهلا فيه ،ومن خمالفته للحوادث إثبات أنه ليس جوهرا وال عرضا وال جسام
وال يف جهة وال مكان...إلخ ثم أطالوا جدا يف تقرير هذه القضايا .هذا.
وقد رتبوا عليها من األصول الفاسدة ما ال يدخل حتت العد مثل إنكارهم
لكثري من الصفات كالريض والغضب واالستواء بشبهة نفي حلول احلوادث
يف القديم ،ونفي اجلوهرية والعرضية واجلهة واجلسمية ...إىل آخر
املصطلحات البدعية}
يضيق الدكتور صدرا بقول األشاعرة بمخالفته تعاىل للحوادث وعدم
حلوهلا فيه ،وأن من خمالفته للحوادث أنه ليس جوهرا وال عرضا ،وال جسام،
وال يف جهة ،وال يف مكان ،ويعد الدكتور نفي هذه األمور عن اهلل تعاىل من
املصطلحات البدعية!!.
أقول :من أجل حتقيق املسألة وبيان ما هو احلق فيها ال بد من بيان أمور،
والرتكيز عليها بقدر من التفصيل.
األول :أن هذه الصفات يسميها األشاعرة بالصفات السلبية ،ألهنا عبارة
نفي ملامثلته تعاىل
عن سلب أمور ال تليق باهلل تعاىل عنه ،فإن املخالفة للحوادث ٌ
للحوادث ،ثم إن املخالفة للحوادث عند األشاعرة من صفات اهلل تعاىل
وليست أخص صفاته تعاىل ،عندهم ،وأما أخص صفاته تعاىل إذا سلمنا أنه
يصح التعبري بذلك -فهي الصفات الثبوتية التي يتوقف عليها أصل اإل̃هلية من
117
احلياة والعلم والقدرة واإلرادة ،أو يتوقف عليها كامل اإل̃هلية من احلكمة
والسمع والبَص إىل غري ذلك من الصفات الثبوتية.
ٌ
مدلول الثاين :أن الصفات السلبية ويف مقدمتها خمالفته تعاىل للحوادث،
عليها باآليات الكثرية :منها قوله تعاىل( :ومل يكن له كفوا أحد) ومنها قوله:
(ليس كمثله يشء وهو السميع البصري)
قال الشيخ عبد الرمحن بن نارص السعدي :وهذه اآلية ونحوها دليل
ملذاهب أهل السنة واجلامعة من إثبات الصفات ،ونفي مماثلة املخلوقات،
وفيها رد عىل املشبهة يف قوله( :ليس كمثله يشء) وعىل املعطلة يف قوله( :وهو
السميع البصري)
وقال القرطبي :يف الكالم عىل هذه اآلية :قال بعض املحققني :التوحيد
إثبات ذات غري مشبهة للذوات وال معطلة عن الصفات .وزاد الوسطي رمحه
اهلل تعاىل فقال :ليس كذاته ذات وال كاسمه اسم وال كفعله فعل ،وال كصفته
صفة إال من جهة موافقة اللفظ ،وجل ِ
ت الذات القديمة أن يكون هلا صف ٌة َ
حديثة ،كام استحال أن يكون للذات املحدثة صف ٌة قديمة.
70
وهذا كله مذهب أهل احلق والسنة واجلامعة ريض اهلل تعاىل عنهم.
70
11 16
118
وقال الرازي :احتج علامء التوحيد قديام وحديثا هبذه اآلية يف نفي كونه
تعاىل جسام مركبا من األعضاء واألجزاء ،وحاصال يف املكان واجلهة ،وقالوا:
لو كان جسام لكان مثال لسائر األجسام ،فيلزم حصول األمثال واألشباه له،
71 وذلك ٌ
باطل بَصيح قوله تعاىل( :ليس كمثله يشء)
وقال ابن عاشور يف تفسريه :اآلية نفت أن يكون يش ٌء من املوجودات
مماثال هلل تعاىل يف صفات ذاته ،ألن ذاته تعاىل ال يامثلها ذوات املخلوقني،
ويلزم ذلك أن كل ما ثبت للمخلوقني يف حمسوس ذواهتم فهو منتف عن اهلل
تعاىل .وبذلك كانت اآلية أصال يف تنـزيه اهلل تعاىل عن اجلوارح واحلواس
واألعضاء عند أهل التأويل .والذين أثبتوا هلل تعاىل ما ورد يف القرآن مما نسميه
باملتشابه فإنام أثبتوه مع التنـزيه عن ظاهره ،إذ ال خالف يف إعامل قوله( :ليس
72
كمثله يشء) وأنه ال شبيه له وال نظري له...
الثالث :أن أئمة أهل السنة قديام وحديثا قد قرروا ما قاله األشاعرة مما
نقله عنهم الدكتور هنا .قال اإلمام أبو حنيفة يف الفقه األكرب« :ومعنى اليشء
إثباته تعاىل -بال جسم وال جوهر ،وال عرض ،وال حد له ،وال ضد له ،وال
ند له ،وال ِم َثل له».
71
392 7
72
47 25
119
ونقتطف نبذا من عقيدة اإلمام أمحد املطبوعة يف آخر املجلد الثاين من
طبقات احلنابلة للقايض أبى احلسني حممد بن أيب يعىل« :إن اهلل -عز وجل-
التجزؤ وال القسمة ،وهو واحدٌ من كل وجه،
ُّ واحدٌ ال من عدد ،ال جيوز عليه
73
وما سواه واحد من وجه دون وجه»
«إن هلل تعاىل َيدَ ين ،ومها صفة له يف ذاته ،ليستا بجارحتني ،وليستا
بمركبتني ،وال جسم ،وال من جنس األجسام ،وال من جنس املحدود
والرتكيب ،وال األعضاء واجلوارح»« 74وال جيوز أن يقال :استوي بمامسة وال
تغيري وال تبديل،
بمالقاة ،تعاىل اهلل عن ذلك علوا كبريا ،واهلل تعاىل مل يلحقه ٌ
وال يلحقه احلدود قبل خلق العرش ،وال بعد خلق العرش»« 75وأنكر عىل من
يقول باجلسم ،وقال :إن األسامء مأخوذة بالرشيعة واللغة ،وأهل اللغة وضعوا
هذا االسم عىل كل ذي طول وعرض وسمك ،وتركيب وصورة وتأليف،
واهلل تعاىل خارج عن ذلك كله ،فلم جيز أن يسمى جسام خلروجه عن معنى
76
اجلسمية ،ومل جيئ يف الرشيعة ذلك فبطل»
«وكان يقول إن اهلل قديم بصفاته التي هي مضافة إليه يف نفسه .وقد سئل
اإلمام أمحد -هل املوصوف القديم وصفته قديامن؟ فقال :هذا سؤال خطأ،
293 73
294 74
297 75
298 76
111
ال جيوز أن ينفرد احلق عن صفاته .ومعنى ما قاله من ذلك أن املحدَ ث حمدَ ٌ
ث
77
قديم بجميع صفاته»
بجميع صفاته عىل غري تفصيل ،وكذلك القديم ٌ
وقال الطحاوي( :ال تبلغه األوهام ،وال تدركه األفهام ،وال يشبه األنام،
خالق بال جارحة ...ما زال بصفاته قديام قبل خلقه) وقال( :تعاىل اهلل عن
ٌ
احلدود والغايات ،واألركان واألعضاء واألدوات ،ال حتويه اجلهات الست
كسائر املبتدعات ،وهو مستغنى عن العرش وما دونه ،حميط بكل يشء وبام
فوقه ،وقد أعجز عن اإلحاطة خلقه)
وقال شيخ احلنابلة القايض أبو يعىل( :وال جيوز وصفه بأنه يف كل مكان،
وال يف مكان ...والداللة عىل أنه ال جيوز إطالق القول عليه بأنه يف مكان هو
78
أن إضافته إىل املكان توجب قدم املكان بقدمه تعاىل)...
وبعد نقل ما نقلناه من كالم املفرسين وكالم أئمة أهل السنة املتعلق
باملوضوع نقول :هذه اآلية الكريمة (ليس كمثله يشء) وغريها من آيات
كريامت رصُية يف أنه تعاىل خمالف للحوادث ويلزم ذلك أنه تعاىل ليس بجسم
وال جوهر وال عرض .وما نقلناه من كالم أئمة السنة رصيح يف سلب هذه
ِ
سلب هذه األمور عن اهلل تعاىل األمور عن اهلل تعاىل ،فهل بعد هذا يصح َعدُّ
بدعة!!؟؟ وال أدرى ماذا يقصده الدكتور بالبدعة!! وليت شعري ما الذي
111
يعتقده الدكتور يف املوضوع بعد إنكاره عىل األشاعرة سلب هذه األمور عن
اهلل تعاىل!!.
112
فعند ذلك افرتقوا فرقتني :الفرقة األوىل :نفت املعاين احلقيقية مما هو حمال
يف حقه تعاىل أن تكون مرادة من هذه النصوص ،ومل ختض يف تعيني املعاين
املرادة من هذه النصوص ،بل فو َضتها إىل اهلل تعاىل ،ويسمى هذا بالتأويل
اإلمجايل ،وعىل هذا معظم السلف يف معظم هذه النصوص.
والفرقة الثانية نفت أن تكون هذه املعاين مرادة من هذه النصوص،
وحاولت مع ذلك بيان املعنى املراد عىل سبيل االحتامل والظن ال عىل سبيل
القطع واجلزم .وعىل هذا معظم اخللف يف معظم هذه النصوص ،ويسمى هذا
بمذهب التأويل ،ويسمى املذهب األول بمذهب التفويض .والتأويل البد أن
يكون برشوطه .وسيأيت بيان هذه الرشوط مع تفصيل املسألة فيام بعد.
وبعد هذه املقدمة نقول :املتبادر من الغضب ما يعرض لإلنسان من احلنق
بعد ما مل يكن ويزول بعد ما كان ،وكذلك الرضا املتبادر منه ما ُيصل لإلنسان
من االنبساط بعد ما مل يكن ،ثم يزول .وال شك أن هذا تغري وانفعال
وحدوث أمر مل يكن قبل .واهلل تعاىل ال يكون حمال للحوادث ،وال جيرى عليه
التغري واالنفعال ،فال يصح إثبات الغضب والرضا هلل تعاىل هبذين املعنيني،
فإما أن ننفي هذين املعنيني عن اهلل تعاىل مع إثبات الريض والغضب باملعنى
الذي أراده بدون أن نبيرنه ،وإما أن نثبت الريض والغضب هلل تعاىل ليس هبذين
املعنيني ،بل بمعنيني آخرين جائزين عىل اهلل تعاىل ،وإىل ما قلناه أشار الباقالين
يف كتابه "اإلنصاف" مع جريه عىل طريقة اخللف .قال( :وأنه سبحانه مل يزل
113
مريدا وشائيا ،وحمبا ومبغضا ،وراضيا وساخطا ،ومواليا ومعاديا ،ورحيام
ورمحانا ،وألن مجيع هذه الصفات راجعة إىل إرادته يف عباده ومشيئته ،ال إىل
غضب يغريه ،ورىض يس ركنه طبعا له ،وحنق وغيظ يلحقه ،وحقد جيده ،إذ
79
كان سبحانه متعاليا عن امليل والنفور)
وقال اإلمام أبو احلسن األشعري يف رسالته إىل أهل الثغر( :وأمجعوا عىل
أنه عز وجل يرىض عن الطائعني وأن رضاه هلم إرادته لنعيمهم ،وأنه ُيب
80
التوابني ويسخط عىل الكافرين ويغضب عليهم ،وأن غضبه إرادته لعذاهبم)
وقال البيهقي يف "األسامء والصفات"( :الرىض والسخط عند بعض
أصحابنا من صفات الفعل ،وعند أيب احلسن األشعري يرجعان إىل اإلرادة،
فالرىض إرادته إكرام املؤمنني وإثابتهم عىل التأبيد ،والسخط إرادته تعذيب
الكفار وعقوبتهم عىل التأبيد ،وإرادته تعذيب فس ِ
اق املؤمنني إىل ما شاء اهلل
81
تعاىل)
وقال شيخ احلنابلة القايض أبو يعىل يف "املعتمد يف األصول الدين":
(وجيوز وصفه بالغضب والرىض ...ومها إرادته إلثابة املريض عنه وعقوبة
82
املغضوب عليه)
79
22
73 80
81
641
61 82
114
واحلاصل أن الرىض والغضب الثابتني هلل تعاىل ليسا عبارتني عن احلنق
واالنبساط الذين يعرضان ويزوالن ،بل مها إما راجعان إىل صفة الذات التي
هي إرادة اإلثابة والتعذيب ،وإما إىل صفة الفعل وهي اإلثابة والتعذيب.
وأما االستواء فلم ينكره أحد من األشاعرة أيضا ،وإنام أنكروا أن يكون
باملعنى املحال يف حقه تعاىل مما هو من صفات املحدثات واألجسام املقتىض
ملشاهبة اهلل تعاىل بخلقه ،فأنكروا أن يكون بمعنى االستقرار والتمكن واحللول
واالنتقال ،وهم يف ذلك موافقون لإلمام أمحد رمحه اهلل تعاىل ،ففي عقيدة اإلمام
أمحد املطبوعة يف آخر جملد الثاين من طبقات احلنابلة البن أيب يعىل« :وكان يقول
يف معنى االستواء :هو العلو واالرتفاع ،ومل يزل اهلل عاليا رفيعا قبل أن خيلق
عرشه ،فهو فوق كل يشء والعايل عىل كل يشء ،وإنام خص اهلل العرش ملعنى
فيه خمالف لسائر األشياء ،والعرش أفضل األشياء وأرفعها ،فامتدح اهلل تعاىل
نفسه بأنه عىل العرش استوى ،أي عليه عال .وال جيوز أن يقال :استوى بمامسة
وال بمالقاة .تعاىل اهلل عن ذلك علوا كبريا ،واهلل تعاىل مل يلحقه تغري وال تبدل،
83
وال يلحقه احلدود قبل خلق العرش وال بعد خلق العرش».
196 83
115
وقال الباقالين يف "اإلنصاف"« :وإن اهلل َ -جل ثناه -مستوى عىل
العرش ،ومستول عىل مجيع خلقه كام قال تعاىل( :الرمحن عىل العرش استوى)
84
بغري مماسة وكيفية وال جماورة».
وقال الغزايل يف "قواعد العقائد"...« :وأنه مستوى عىل العرش عىل الوجه
الذي قاله ،وباملعنى الذي أراده ،استواء منزها عن املامسة واالستقرار والتمكن
واحللول واالنتقال ،ال ُيمله العرش ،بل العرش ومحلته حممولون بلطف
قدرته» ثم قال« :تعاىل اهلل عن أن ُيويه مكان ،كام تقدس عن أن ُيده زمان ،بل
85
كان قبل خلق الزمان واملكان ،وهو اآلن عىل ما عليه كان».
86
وقال نحو هذا عز الدين بن عبد السالم يف "العقائد" له.
هذا كالم هؤالء العلامء من األشاعرة وهو موافق ملا قاله اإلمام أمحد.
نعم قد أول بعض األشاعرة االستواء عىل العرش بتأويالت .والتأويل إذا
كان برشوطه صحيح ،وليس كل تأويل صحيحا.
وهذه التأويالت قد يناقش يف بعضها هل هي صحيحة أم ال؟ وهل هي
عىل رشوط التأويل أم ال؟ وهذا النقاش إذا كان جاريا عىل حسب قواعد
العلوم ومقرراهتا أمر طيب جيد.
84
22
7 6 85
8 7 86
116
وأما نسبة إنكار الصفات الوارد نسبتها إىل اهلل تعاىل يف الكتاب والسنة
الصحيحة إىل األشاعرة فهذا أمر غري صحيح ،وكذلك رد التأويل هلذه
الصفات إمجاال وإنكار أصل التأويل غري صحيح ،فإن أصل التأويل أمر
رضوري مل ينج منه أحد من علامء األمة ال قديام وال حديثا ،وإنام الكالم
واخلالف يف التوسع فيه .فهذا هو الذي أنكره من أنكره من علامء األمة
وأئمتها وسيأيت تفصيل املسألة إن شاء اهلل تعاىل.
-35تقسيم األمور الوارد نسبتها إىل اهلل تعاىل إىل أربعة أقسام،
وبيان حكم كل قسم منها:
وتتميام ملوضوع الصفات نقرر قاعدة مهمة جدا متعلقة بالصفات.
فنقول :األصل يف إثبات األسامء والصفات هلل تعاىل ونفيها عنه نوعان من
النصوص:النوع األول نصوص الكتاب الواردة بتنـزيه اهلل تعاىل عن كل
عيب ونقيصة ،النوع الثاين النصوص الواردة بمخالفته تعاىل للمحدثات.
هذه النصوص هي األصل يف هذا الباب تقيض عىل ما عداها من
النصوص املتعلقة باألسامء والصفات الواردة يف الكتاب والسنة ،وتنَزل ما
عداها من النصوص عليها ،وتفرس عىل وفقها.
ثم نقول :األمور الوارد نسبتها إىل اهلل تعاىل يف الكتاب والسنة أربعة أنواع:
117
النوع األول :ما يوهم نقصا بالنسبة إىل اهلل سبحانه تعاىل ،مثل ما ورد من
نسبة النسيان إىل اهلل تعاىل يف قوله تعاىل( :نسوا اهلل فنسيهم) 87وقوله( :فذوقوا بام
نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم) 88ومثل ما ورد من نسبة املرض إليه تعاىل يف
احلديث القديس( :عبدي مرضت فلم تعدين)
فهذه النصوص جيب نفي ما تومهه من النقص من األصل ،وجيب
تأويلها ،وال يتوقف فيها ،فمن أجل ذلك أوهلا العلامء ،ومل يتوقفوا عن
تأويلها.
وإنام قلنا :إن هذه النصوص توهم نقصا ،فعربنا باإلهيام ،ومل نعرب بالداللة
أو االقتضاء ،ألن كل ما هو من هذا النوع من النصوص مقرون بقرائن تعني
املعنى املجازي املراد منها ،فال جيوز مع ذلك أن يقال :إهنا تدل عىل النقص أو
تفيده أو تقتضيه.
النوع الثاين :ما يوهم مماثلته تعاىل للمحدثات ومشاهبته هلا من ثبوت
خواص األجسام واملحدثات هلل تعاىل من األعضاء واجلوارح واحلدود
والغايات وحلول احلوادث واملكان هلل تعاىل .فهذه النصوص أيضا جيب نفي
ما تومهه عن أن يكون مرادا منها ،ثم هل يتوقف بعد هذا النفي ،ويفوض
87
67
88
14
118
املعنى املراد منها إىل اهلل تعاىل ،أو تفرس بمعان يصح نسبتها إىل اهلل تعاىل وفق
رشوط التأويل؟ املذهبان املعروفان ،وعربنا هنا أيضا باإلهيام ملا قلناه آنفا.
النوع الثالث :ما يفيد ثبوت صفات معنوية هلل تعاىل ال يصح إثباهتا هلل
تعاىل بحسب ما وضعت له من املعاين اللغوية التي يتصف هبا اإلنسان ،ألن
االتصاف هبا عىل ذلك الوجه يقتيض مماثلته تعاىل للحوادث من التغري
واالنفعال ،وكو َن املتصف هبا حمال للحوادث تعاىل اهلل عن ذلك علوا
كبريا -وذلك مثل الرمحة والرىض والغضب كام قدمناه آنفا .وهذا النوع قريب
من النوع الذي قبله ،وجيرى فيه ما جيرى فيه من القولني املعروفني .لكنه
يفرتق عنه فيام سنذكره قريبا.
النوع الرابع :ما يفيد ثبوت صفات معنوية هلل تعاىل ليس يف إثباهتا هلل تعاىل
إهيام نقص ،وليس هلذه الصفات معان لغوية يمتنع اتصاف اهلل تعاىل هبا ،بل
هذه الصفات مقتىض ذاته تعاىل ومقتىض ̃إهليته وربوبيته من صفات العظمة
والكامل واجلالل ،كاحلياة والعلم والقدرة واإلرادة والسمع والبَص واحلكمة
والكربياء.
فهذا النوع من الصفات جيب إثباته هلل تعاىل باملعنى اللغوي لدواهلا عىل
وجه الكامل ،كام أن بعضا منها ثابت لغريه تعاىل لكن ال عىل وجه الكامل ،فإهنا
يف املخلوقات عارضة ناقصة ،و يف اهلل تعاىل واجبة يف غاية ما يتصور من
119
الكامل .فهذا النوع من الصفات أيضا تنفى عنها مماثلتها لصفات املخلوقني
لكن من جهة الكيف ال من جهة األصل.
فنفي مماثلته تعاىل للحوادث املدلول عليه بقوله تعاىل( :ليس كمثله يشء وهو
السميع البصري) وبغريه من اآليات ثابت هلل تعاىل بالنسبة إىل احلوادث كلها
ذواهتا وصفاهتا ،لكن نفي املامثلة بالنسبة إىل بعض صفات املحدثني متوجه إىل
أصلها ووجودها ،فيمتنع قيامها باهلل تعاىل من األصل ويف بعضها إىل كيفيتها
ووصفها ،فيمتنع قيامها باهلل تعاىل عىل الوجه املوجود يف املخلوقني.
وقد أشار اهلل تعاىل إىل هذا بقوله( :وهو السميع البصري) ،حيث أثبت
لنفسه السمع والبَص بعد نفيه تعاىل املامثلة للحوادث عن نفسه ،فنبه بذلك
عىل أن نفي مماثلة األشياء له إنام هو عىل الطريق الذي ذكرناه.
ومن هذا التفصيل ظهر أنه يصح أن يقال :هلل تعاىل علم ليس كعلمنا
وقدرة ليس كقدرتنا إىل غري ذلك من النوع األخري من الصفات ،وال يصح أن
يقال :هلل تعاىل نسيان ليس كنسياننا وال مرض ليس كمرضنا :وذلك ألن
املرض منفي عن اهلل تعاىل من األصل رأسا ،وكذلك النسيان :قال اهلل تعاىل:
(وما كان ربك نسيا)
121
وجنب ال
ٌ -37هل يصح أن يقال :هلل تعاىل يدٌ ال كيدنا
كجنبنا....؟
وأما أنه هل يصح أن يقال :هلل يد ال كيدنا وجنب ال كجنبنا ورجل ال
كرجلنا وأصبع ال كأصبعنا؟ وهل يصح أن يقال :هلل تعاىل رمحة ليست كرمحتنا
ورىض ليس كرضانا وغضب ليس كغضبنا؟ .الثاين صحيح واألول غري
صحيح .والفرق بينهام من وجوه:
األول :أنك يف الثاين تثبت صفة معنوية هلل تعاىل أثبتها اهلل تعاىل لنفسه من
الرىض والغضب ونحومها ،ثم تنفي عن اهلل تعاىل ما يومهه اللفظ من التغري
واالنفعال الذي هو عىل اهلل تعاىل حمال ،فتعود هذه الصفات إىل صفة اإلرادة أو
إىل صفة الفعل كام قدمناه ،فيكون كالمك من نوع قولنا :هلل علم ال كعلمنا حيث
أثبت هلل تعاىل العلم ،ونفيت أن يكون عىل وجه النقص الذي هو يف حقه تعاىل
حمال ،فينفعك قولك« :ليس كرضانا» بعد قولك« :هلل تعاىل رضا» حيث يفيد
قولك هذا أن رضاه تعاىل ونحوه ليس عىل وجه التغري واالنفعال الذي هو عىل
اهلل حمال.
وأما يف قولك« :هلل تعاىل يد ال كيدنا» فمن أجل أن اليد موضوع للعضو
املعلوم ،وهي منفية عن اهلل تعاىل أصال بدالئل خمالفته للحوادث ،فقد أث َبت
بقولك هذا هلل ما هو منفي عنه أصال ورأسا ،ومل تثبت له ما هو ثابت له أصال
121
ومنفي عنه وصفا وكيفية ،حتى ينفعك بعد قولك« :هلل يد» قولك« :ال كيدنا»،
بل يكون قولك« :ال كيدنا» كالما ال معنى له ومناقضا لقولك" :هلل يد" إن كنت
أردت بقولك« :ال كيدنا» نفي الوصف واألصل ألنك نفيت به ما أثبته بقولك:
"هلل يد" ،ويكون مؤكدا للتشبيه والتمثيل إن أردت بقولك« :ال كيدنا» نفي
الوصف دون األصل ألنك تكون قد أثبت هلل أصل اجلارحة ،ونفيت عنها
الوصف واهليئة املخصوصة ليد اإلنسان ،فيكون كالمك هذا من قبيل قولك:
«هلل نسيان ال كنسياننا ومرض ال كمرضنا».
والثاين :أن اهلل تعاىل قد أسند الرمحة والرىض والغضب ونحوها إىل نفسه
يف كتابه وعىل لسان رسوله عىل وجه اإلسناد التام الذي هو بني الفعل وفاعله
واملبتدأ وخربه ونحوها ،حيث وصف اهلل تعاىل نفسه بالغفور الرحيم والرمحن
الرحيم ،وقال( :إال من رحم اهلل) الدخان 42وقال تعاىل( :ريض اهلل عنهم
ورضوا عنه) وقال( :وغضب اهلل عليهم)
وأما ما هو موضوع لألعضاء واجلوارح ونحوها فلم يرد يف كالم اهلل
تعاىل وكالم رسوله إسنادها إىل اهلل تعاىل عىل هذا الوجه ،وإنام ورد نسبتها إىل
اهلل تعاىل عىل وجه اإلضافة فقط كقوله تعاىل( :بيده امللك) وقوله( :يف جنب
اهلل).
الثالث :أن الرىض والرمحة والغضب ونحوها قد سيقت يف كالم اهلل تعاىل
وكالم رسوله عىل وجه إثباهتا هلل تعاىل ،ومل تسق َّف كالمهام عىل طريق إثبات
122
أمر آخر هلل تعاىل ،وأما اليد واجلنب والرجل واألصبع ونحوها فلم تسق َّف
كالم اهلل تعاىل وكالم رسوله عىل طريق إثباهتا هلل تعاىل ،بل سيقت عىل طريق
إثبات أمر آخر هلل تعاىل .فمثال قوله تعاىل( :تبارك الذي بيده امللك) سيق
إلثبات امللوكية والسلطنة املطلقة هلل تعاىل ،ال إلثبات اليد هلل تعاىل ،وقوله
تعاىل( :يا حرستا عىل ما فرطت يف جنب اهلل) سيق إلثبات احلرسة عىل
التفريط يف حقوق اهلل ،ال إلثبات اجلنب هلل تعاىل.
وقول النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم( :إن قلب ابن آدم بني أصبعني
من أصابع الرمحن) سيق لبيان أن قلب اإلنسان طوع إرادته تعاىل وقدرته يقلبه
كيف يشاء ،ومل يرد إلثبات األصابع هلل تعاىل ،وال لبيان أن يف جوف كل
إنسان أصبعني من أصابع الرمحن مكتنفتني بقلبه ،تعاىل اهلل عن ذلك علوا
كبريا ،إىل غري ذلك من األمثلة ،واهلل تعاىل أعلم بالصواب.
قال الدكتور سفر{ :الثالث التوحيد :21التوحيد عند أهل السنة واجلامعة
معروف بأقسامه الثالثة ،وهو عندهم أول واجب عىل املكلف ..أما األشاعرة
قدمائهم ومعارصوهم فالتوحيد عندهم هو نفي التثنية أو التعدد ،ونفي
التبعيض والتجزئة ،أي بحسب تعبريهم «نفي الكمية املتصلة والكمية
املنفصلة» ،ومن هذا املعنى فرسوا اإلله بأنه اخلالق أو القادر عىل اإلخرتاع،
وأنكروا بعض الصفات كالوجه واليد والعني ألهنا تدل عىل الرتكيب
واألجزاء عندهم .أما التوحيد احلقيقي وما يقابله من الرشك ومعرفته
123
والتحذير منه فال ذكر له يف كتب عقيدهتم إطالقا ،وال أدرى أين يضعونه؟:
أيف كتب الفروع؟ فليس فيها ،أم يرتكونه باملرة؟ فهذا الذي أجزم به}
أقول :يقصد الدكتور باألقسام الثالثة للتوحيد ما شهره ابن تيمية من
تقسيم التوحيد إىل توحيد الربوبية ،وتوحيد األلوهية ،وتوحيد األسامء
والصفات.
وقد كتبنا رسالة متعلقة هبذا املوضوع فنوردها هنا بنصها ،ثم نعود إىل
كالم الدكتور .وهي هذه:
124
وكذلك قسم ابن تيمية التوحيد إىل ثالثة أقسام :توحيد الربوبية ،وتوحيد
أي
األلوهية وتوحيد األسامء والصفات .ومقصدنا يف هذا البحث أن نبني أن ُّ
التقسيمني أقرب إىل الصواب ،وأوىل بالقبول.
فننقل أوال كالم األشاعرة يف التوحيد وأقسامه ،ثم ننقل كالمهم عىل
الكفر وأسبابه وأقسامه ،وبعد ذلك ننثنري عىل تقسيم ابن تيمية للتوحيد
ونتكلم عليه ،فنقول:
قد قسم األشاعرة التوحيد إىل ثالثة أقسام :توحيد الذات ،وتوحيد
الصفات ،وتوحيد األفعال .قال كامل الدين ابن أيب رشيف يف املسامرة رشح
املسايرة :التوحيد هو اعتقاد الوحدانية يف الذات والصفات واألفعال .89أي إنه
ثالثة أقسام :توحيد الذات ،وتوحيد الصفات ،وتوحيد األفعال.
وقد خيتَص األشاعرة :فيقولون :التوحيد اعتقاد عدم الرشيك يف اإل̃هلية
وخواصها .قال سعد الدين التفتازاين يف رشح املقاصد:90
حقيقة التوحيد اعتقاد عدم الرشيك يف اإلهلية وخواصها ،وال نزاع ألهل
اإلسالم يف أن تدبري العامل ،وخلق األجسام ،واستحقاق العبادة ،وقدم ما يقوم
بنفسه ،كلها من اخلواص...
43 89
27 3 90
125
وباجلملة فنفي الرشيك يف اإلهلية ثابت عقال ورشعا ،ويف استحقاق
العبادة رشعا (وما أمروا إال ليعبدوا إ̃هلا واحدا ال إ̃له إال هو سبحانه عام
91
يرشكون)
وقال ابن اهلامم يف املسايرة« :ملا ثبت وحدانيته يف اإل̃هلية ثبت استناد كل
احلوادث إليه»
اإلهلية االتصاف بالصفات التي ألجلها
وقال ابن أيب رشيف يف رشحه̃ :
استحق أن يكون معبودا ،وهي صفاته التي توحد هبا سبحانه ،فال رشيك له
يف يشء منها ،وتسمى خواص اإل̃هلية ،ومنها اإلجياد من العدم وتدبري العامل
92
والغنى املطلق
وقال أيضا« :واعلم أن الوحدة تطلق بمعنى انتفاء قبول االنقسام،
وبمعنى انتفاء الشبيه ،والباري تعاىل واحد بكل من املعنيني أيضا .أما األول:
فلتعاليه عن الوصف بالكمية والرتكيب من األجزاء واحلد واملقدار .وأما
93
الثاين :فحاصله انتفاء املشابه له تعاىل بوجه من الوجوه».
وأما كالم األشاعرة عىل الكفر وأسبابه وأقسامه فننقل فيه كالم ابن اهلامم
يف املسايرة مع رشحه البن أيب رشيف وذلك ملا اشتمل عليه كالمهام من
91
31
92
58
93
43
126
بيانات تتعلق بموضوع التوحيد والرشك ،ومن االستدالل عىل وجود اهلل
تعاىل باألدلة القرآنية وبشهادة الفطرة .وابن اهلامم وإن كان حنفي املذهب لكنه
جار عىل منهج األشاعرة يف العقيدة ،وأما كامل الدين ابن أيب رشيف فهو
شافعي أشعري .وإليك كالمهام:
(األصل األول العلم بوجوده) تعاىل ،وأوىل ما يستضاء به من األنوار،
ويسلك من طرق االعتبار ما اشتمل عليه القرآن ،فليس بعد بيان اهلل تعاىل
بيان ( وقد أرشد سبحانه إليه) أي إىل وجوده تعاىل (بآيات نحو) قوله تعاىل:
(إن يف خلق السموات واألرض واختالف الليل والنهار والفلك التي جتري
يف البحر بام ينفع الناس وما أنزل اهلل من السامء من ماء فأحيا به األرض بعد
موهتا وبث فيها من كل دابة وتَصيف الرياح والسحاب املسخر بني السامء
واألرض آليات .و) نحو (قوله) ( :أفرأيتم ما متنون أأنتم ختلقونه أم نحن
اخلالقون .و) قوله تعاىل( :أفرأيتم ما حترثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون
لو نشاء جلعلناه حطاما) أي متحطام وهو املتكرس ليبسه (و) قوله تعاىل
(أفرأيتم املاء الذي ترشبون أأنتم أنزلتموه من املزن) أي :السحاب (أم نحن
املنزلون) لو نشاء جعلناه أجاجا .أي شديد امللوحة ال يمكن ذوقه (و) قوله
94
تعاىل ( :أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرهتا أم نحن املنشئون)
94الواقعة .72-58
127
فمن أدار نظره يف عجائب تلك املذكورات من األرضني والساموات
وبدائع فطرة احليوان والنبات ،وسائر ما اشتملت عليه اآليات (اضطره) ذلك
(إىل احلكم بأن هذه األمور مع هذا الرتتيب املحكم الغريب ال يستغنى كل)
منها ( عن صانع أوجده) من العدم (وحكيم رتبه) عىل قانون وضع فيه فنونا
من احلكم (وعىل هذا درجت كل العقالء إال من ال عربة بمكابرهتم) وهم
بعض الدهرية.
(وإنام كفروا باإلرشاك) حيث دعوا مع اهلل إهلا آخر( .ونسبة) أي بنسبة
(بعض احلوادث إىل غريه تعاىل وإنكار) أي وبإنكار (ما جعل اهلل تعاىل إنكاره
كفرا كالبعث وإحياء املوتى).
ومثل املصنف للذين أرشكوا بقوله( :كاملجوس بالنسبة إىل النار) حيث
عبدوها ،فدعوها إهلا آخر ،تعاىل اهلل عن ذلك (والوثنيني باألصنام) أي بسببها
فإهنم عبدوها( .والصابئة بالكواكب) أي بسبب الكواكب حيث عبدوها من
دون اهلل تعاىل.
وأما نسبة احلوادث إىل غريه تعاىل فاملجوس ينسبون الرش إىل َأه َر َمن،
والوثنيون ينسبون بعض اآلثار إىل األصنام كام أخرب اهلل تعاىل عنهم بقوله( :إن
نقول إال اعرتاك بعض آهلتنا بسوء) ،والصابئون ينسبون بعض اآلثار إىل
الكواكب ،تعاىل اهلل عام يرشكون.
128
(واعرتف الكل بأن خلق الساموات واألرض واأللوهية األصلية هلل تعاىل.
قال اهلل تعاىل( :ولئن سألتهم من خلق الساموات واألرض ليقولن اهلل) (فهذا)
أي االعرتاف بام ذكر (كان) ثابتا (يف فطرهم) من مبدأ خلقهم ،قد جبلت عليه
عقوهلم .قال اهلل تعاىل( :فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة اهلل التي فطر الناس
عليها ال تبديل خللق اهلل ذالك الدين القيم ،ولكن أكثر الناس ال يعلمون)
(ولذا) أي لكون االعرتاف بام ذكر ثابتا يف فطرهم (كان املسموع من
األنبياء)-املبعوثني عليهم أفضل الصالة والسالم( -دعوة اخللق إىل التوحيد)
واملراد به هنا اعتقاد عدم الرشيك يف األلوهية وخواصها كتدبري العامل،
واستحقاق العبادة ،وخلق األجسام ،بدليل أنه بني التوحيد بقوله( :شهادة أن
ال إله إال اهلل ،دون أن يشهدوا أن للخلق إهلا) ملا مر من أن ذلك كان ثابتا يف
فطرهم ،ففي فطرة اإلنسان وشهادة آيات القرآن ما يغنى عن إقامة الربهان.
95
انتهى كالم املسايرة مع رشحها املسامرة.
هذا هو كالم األشاعرة يف التوحيد ويف الرشك حيث فرسوا التوحيد
باعتقاد الوحدانية هلل تعاىل يف الذات والصفات واألفعالَ ،أ ُّي باعتقاد أنه ال
يوجد ذات مثل ذاته ،وال يوجد لغريه صفات مثل صفاته ،وأنه املتفرد بخلق
األشياء وإجيادها وليس لغريه أي دخل يف خلق األشياء وإجيادها.
17 16 15 95
129
وبعبارة أخرى :التوحيد :اعتقاد عدم الرشيك يف اإل̃هلية وخواصها.
إلهلية هي االتصاف بالصفات التي ألجلها استحق املتصف هبا أن يكون
وا ̃
معبودا.
وهذه الصفات هي املسامت بخواص اإل̃هلية ،وهي خلق العامل ،وتدبريه
واستحقاق العبادة ،والتفرد بحق الترشيع ،والغنى املطلق عن غريه.
وقد يعربون عن هذا التوحيد بنفي التشبيه أي :اعتقاد أنه ال مشابه له
تعاىل بوجه من الوجوه ال يف ذاته وال يف صفاته وال يف أفعاله ( ليس كمثله
يشء وهو السميع البصري)
هذا هو معنى التوحيد ،وهو الذي به بعثت األنبياء ،ويقابله الرشك ،وهو
اعتقاد الرشيك هلل تعاىل يف ذاته ،أو يف صفاته أو يف أفعاله.
وبعبارة أخرى هو اعتقاد الرشيك يف اإل̃هلية وخواصها أو يف يشء من
خواصها.
وبعبارة أخرى هو اعتقاد املشابه هلل تعاىل يف ذاته أو يف صفاته أو يف أفعاله.
وقد يطلق التوحيد عىل نفي قبول االنقسام لتعاليه تعاىل عن الوصف
بالكمية والرتكيب من األجزاء واحلد واملقدار.
هذا حاصل كالم األشاعرة يف التوحيد والرشك ،وهو كالم دقيق حمقق ال
غبار عليه.
131
وأما التقسيم الثالثي للتوحيد الذي قرره ابن تيمية فنتكلم عليه بيشء من
التوسع ونبدأ أوال بالكالم عىل توحيد الربوبية وتوحيد األلوهية.
وقبل اخلوض يف ذلك نتكلم عىل كلمتي الربوبية واأللوهية .فنقول وباهلل
التوفيق:
الربوبية :اسم موضوع للداللة عىل الصفات التي يتصف هبا الرب اخلالق
جل وعال أي الصفات التي يقتضيها كونه تعاىل ربا.
الصبي أو
َ والرب :يف األصل مصدر َر ّب َير ُّب ،يقالَ :رب ٌ
فالن الولدَ أو
املهر َير ًّبه ربا ،كام يقال :رباه يربيه تربية ،والرتبية كام يقولون -تبليغ اليشء
َ
إىل الكامل شيئا فشيئا.
ثم نقلت كلمة الرب من معنى املصدر إىل معنى املريب ،ثم توسع يف
معناها فأطلقت عىل السيد واألمري ،ومالك اليشء ،واملنعم إىل غري ذلك من
املعاين القريبة ألصل معناه.
وملا كانت الرتبية احلقيقية لكل املخلوقات بخلقها ابتداء ،وإمدادها بالبقاء
ورعايتها وتنميتها ،صفة من صفات الرب جل وعال ،كان سبحانه هو رب
العاملني ،ورب كل يشء ،فالربوبية هي الوصف اجلامع لكل صفات اهلل ذات
العالقة واألثر يف خملوقاته واسم الرب هو االسم الدال عىل كل هذه
الصفات.
131
وإِهلة ،وقال أهل
وأما كلمة األلوهية فبمعنى العبادة ،ويقال فيها :ألو َهة ̃
اللغة :الت َأ ُّله هو التعبد والتنسك ،والتأليه هو التعبيد ،وقالوا̃ :إله عىل وزن ِفعال
هو بمعنى مفعول ،أي :مألوه بمعنى معبود ،سواء كان معبودا بحق أم بباطل،
فاإلله هو املعبود(.انظر لسان العرب والقاموس املحيط)
̃
فظهر من هذا أن األلوهية بمعنى العبادة ،وليس بمعنى الكون إهلا ،وأن
إطالقه عىل هذا املعنى يف كالم كثري من العلامء حلن ،وإنام الذي يصح إطالقه
اإلهلية" مصدر جعيل من كلمة اإل̃له ،وهو الذي
عىل هذا املعنى هو كلمة " ̃
استعمله املحققون من العلامء ،فمعنى ال إ̃له إال اهلل ال معبود بحق إال اهلل،
بمعنى ال متصف بالصفات التي ألجلها استحق أن يكون معبودا إال اهلل،
وهذه الصفات هي املسامة بخواص اإل̃هلية ،وهي خلق العامل وتدبريه وتربيته
أي تبليغه إىل الكامل شيئا فشيئا ،والغنى املطلق عن غريه ،وافتقار ما سواه إليه
وتفرده بحق الترشيع ،ويتفرع عن هذه الصفات وينبني عليها استحقاق
العبادة.
فظهر من هذا أن توحيد اإلهلية أي إفراد اهلل تعاىل بالعبادة متفرع عن
توحيد الربوبية ومنبن عليه ومالزم له ،فالناس إنام يعبدون من يعتقدون فيه
الربوبية سواء اعتقدوا فيه ربوبية كبرية مطلقة ،وهذا ما أثبته ر
املتأهلون هلل تعاىل،
أم اعتقدوا فيه ربوبية حمدودة صغرية مستمدة من الرب األكرب ،وهذا ما كان
يعتقده يف معبودهيم معظم أصناف الذين كانوا يعبدون إ̃هلا أو آهلة من دون
132
اهلل ،فإن معظمهم كانوا يعبدوهنم بناء عىل اعتقادهم أن اهلل تعاىل قد فوض
إليهم التَصف يف بعض األمور ،وختىل هلم عنها ،بمعنى أن اهلل تعاىل قد
خوهلم ربوبية صغرية حمدودة فاستحقوا بذلك أن يع َبدوا استعطافا لرمحتهم،
وابتعادا عن غضبهم وسخطهم .فمن أجل أهنم اعتقدوا فيهم الربوبية
اعتقدوا فيهم اإلهلية.
والذين يعبدون من دون اهلل ̃إهلا أو آهلة أصناف:
الصنف األول :هم الذين حتدث اهلل عنهم بقوله( :أال هلل الدين اخلالص
والذين اختذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إال ليقربونا إىل اهلل زلفى إن اهلل ُيكم
96
بينهم فيام كانوا فيه خيتلفون إن اهلل ال هيدى من هو كاذب كفار)
فهذا الصنف من املرشكني يؤمنون باهلل تعاىل ،وال يعتقدون فيام يعبدونه
من دون اهلل مشاركة هلل ال يف اخللق وال يف التَصف يف أحوال أهل األرض
من رزق وصحة ومحل ووالدة وكون اجلنني ذكرا أو سليام ،ونحو ذلك.
وإنام يعتقدون فيهم أن اهلل تعاىل قد جعلهم وسطاء بينه وبني عباده ،وأنه
ال يتم تقرب العبد إىل اهلل تعاىل إال بواسطتهم ،وعن طريق تقريب هذا
الوسيط هلم إىل اهلل تعاىل
96
3
133
والصنف الثاين :هم الذين حتدث اهلل تعاىل عنهم بقوله( :فمن أظلم ممن
افرتى عىل اهلل كذبا أو كذب بآياته إنه ال يفلح املجرمون ويعبدون من دون اهلل
ما ال يرضهم وال ينفعهم ويقولون هؤالء شفعائنا عند اهلل قل أتنبؤون اهلل بام
97
ال يعلم يف الساموات واألرض سبحانه وتعاىل عام يرشكون)
فهذا الصنف من املرشكني مل يكونوا يعبدون آهلتهم ألجل أن تنفعهم يف
أمور دنياهم وال ألجل أن ال ترضهم فيها ،بل كانوا يعبدوهنم ألهنم كانوا
يعتقدون يف آهلتهم أهنم يملكون الشفاعة عند اهلل بدون إذن من اهلل ،أو أن اهلل
قد خوهلم هذا التَصف اخلاص وهو التَصف يف الشفاعة ،وأهنم يتَصفون يف
الشفاعة عىل حسب ما يشاءون ال عىل حسب ما يشاء اهلل تعاىل.
وقد أشار اهلل تعاىل إىل هذا املعنى بقوله تعاىل( :أم اختذوا من دون اهلل
شفعاء قل أولو كانوا ال يملكون شيئا وال يعقلون قل هلل الشفاعة مجيعا له
ملك الساموات واألرض ثم إليه ترجعون) 98فرد اهلل تعاىل عليهم بأمرين:
األول :أهنم ال يملكون شيئا ال الشفاعة وال غريها .وهذا رد عىل اعتقادهم
أهنم يملكون الشفاعة عند اهلل بدون إذن من اهلل ،فإن امللك يقتىض تَصف
صاحبه فيام ملكه بدون إذن من أحد .واألمر الثاين :أن الشفاعة كلها هلل فام من
97
18 17
98
44 43
134
شافع يشفع إال بإذنه ،وليست الشفاعة وحدها هلل ،بل له ملك الساموات
واألرض وإليه ترجعون ،فيفصل بينكم وجيازيكم عىل عقائدكم ،وأعاملكم.
فاملرشكون من هذا الصنف كانوا يعتقدون يف آهلتهم ملك الشفاعة
والتَصف فيها حسب ما شاءوا ال حسب ما شاء اهلل ،وكان املرشكون
يعبدوهنم استعطافا هلم وجلبا لرمحتهم أن يشفعوا هلم عند اهلل.
والصنف الثالث من املرشكني :كانوا يعتقدون يف آهلتهم النفع والرض،
وإهنا جتلب هلم اخلريات وتدفع عنهم الباليا وتنَصهم عىل أعدائهم،
ويعتقدون أن اهلل تعاىل قد خوهلم هذه الربوبية الصغرية ،كام يويل امللوك الوالة
عىل املناطق الصغرية ،فكان هذا الصنف يعتقدون يف آهلتهم هذه الربوبية
الصغرية ومن أجل ذلك كانوا يعبدوهنم ر
ويأهلوهنم.
وقد ذكر اهلل تعاىل هذا الصنف بقوله( :واختذوا من دون اهلل آهلة لعلهم
ينَصون ال يستطيعون نَصهم وهم هلم جند حمرضون) 99وقوله تعاىل( :واختذوا
100
من دون اهلل آهلة ليكون هلم عزا كال سيكفرون بعبادهتم ويكونون عليهم ضدا)
أي واختذ املرشكون من دون اهلل آهلة يعبدوهنا لتجازهيم عىل عبادهتم بأن تكون
بتأثرياهتا الغيبية سببا لعزهم وغلبتهم عىل أعدائهم.
99
75 74
100
82 81
135
وهذه األنواع الثالثة من الرشك هي التي كان عليها معظم املرشكني من
العرب يف جاهليتهم .وربام كانوا يعتقدون يف آهلتهم جمموع هذه املعاين الثالثة
أو اثنني منها.
والصنف الرابع من املرشكني :كانوا يعطون حق الترشيع الذي هو خاص
باهلل تعاىل لغريه من األحبار والرهبان ،وقد ذكر اهلل تعاىل هذا الصنف بقوله:
(اختذوا أحبارهم ورهباهنم أربابا من دون اهلل) 101وأشار إليه بقوله( :وال يتخذ
األحبار
َ بعضنا بعضا أربابا من دون اهلل ) 102فأعطى هذا الصنف من املرشكني
والرهبا َن َ
حق الترشيع وهو من صفات الربوبية وخواصها ،فاختذوهم بذلك
أربابا ،ثم أطاعوهم فيام رشعوا من األحكام ،وبذلك كانوا قد عبدوهم
وأهلوهم؛ فإن اإلطاعة يف الترشيع نوع من العبادة.
والصنف اخلامس :هم الذين يعتقدون فيمن يعبدوهنم أهنم رشكاء هلل يف
تدبري العامل والتَصف فيه .وهؤالء أصناف كثرية ،فمنهم أهل التثنية وأهل
التثليث ومنهم من يعددون اآلهلة فوق ذلك.
وأهل هذا الرشك هلم أرباب جيعلوهنا مشرتكة فيام بينها يف الربوبية
وتصاريفها يف الكون ،وقد جيسدوهنا يف أجسام مادية ،أو يعتقدون أهنا قد حتل يف
أجسام مادية ،أو تظهر بصور برشية.
101
31
102
64
136
وهذه األصناف اخلمسة من املرشكني هم الذين كانوا يعبدون آهلة من
دون اهلل عن اقتناع ،وكانوا ر
يأهلوهنا بناء عىل اعتقادهم فيها الربوبية إما ربوبية
صغرية حمدودة مستمدة من ربوبية اهلل تعاىل كام هو حال األصناف األربعة
األول ،وهو حال معظم مرشكي العرب يف جاهليته ،أو ربوبية حقيقية كبرية
كام هو حال الصنف اخلامس.
الصنف السادس من املرشكني :ناس كانوا ال يعتقدون يف معبوداهتم شيئا
من معانى الربوبية ،فلم يكونوا يعبدوهنا عن عقيدة واقتناع ،بل كانوا يعبدوهنا
ر
ويأهلوهنا بناء عىل مصلحة اجتامعية وهو احلفاظ عىل الوحدة القومية ،وعدم
تفريق الكلمة فيها ،حيث كانت آهلتهم التي يعبدوهنا ويقدسوهنا بمثابة رموز
رباط وحدة قومية ،جتمع أفرادهم عىل مودة تسوقوهم عىل التعاون والتنارص
وعىل كل ما تقتضيه األخوة بني مجاعة ذات كيان واحد.
وهذا ما كشفه إبراهيم عليه السالم لقومه .قال اهلل تعاىل يف معرض ذكر
لقطات من قصة إبراهيم وقومه( :وقال إنام اختذتم من دون اهلل أوثانا مودة
بينكم يف احلياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا
ومأواكم النار وما لكم من نارصين) العنكبوت .25
من هذا التصنيف للمرشكني ،ومما تقدم سده من النصوص القرآنية،
وهي غيض من فيض وقليل من كثري من النصوص املتعلقة باملوضوع ،من
هذا ظهر لنا أن الربوبية هي األساس الذي تنبني عليه اإل̃هلية ،فمن كانت له
137
الربوبية فمن حقه عىل مربوبيه أن يؤهلوه ،وظهر أن املرشكني الذين كانوا
يعبدون من دون اهلل آهلة عن عقيدة واقتناع إنام كانوا يعبدوهنم ر
ويأهلوهنم بناء
عىل اعتقادهم فيهم الربوبية إما ربوبية صغرية حمدودة أو ربوبية أصلية مطلقة.
ومن هذا ظهر خطأ الذين يرون أن مجيع العرب يف جاهليتهم كانوا
يؤمنون بتوحيد الربوبية هلل عز وجل ،إال أهنم كانوا يعبدون مع اهلل آهلة أخرى
فيتخذوهنا رشكاء هلل يف إ̃هليته دون أن جيعلوها رشكاء هلل يف ربوبيته.
وذلك ألن النصوص القرآنية ومنها ما أوردناه آنفا تبني أن أكثر العرب
كانوا جيعلون مع اهلل رشكاء يف بعض صفات ربوبيته ال يف كلها ،ومن أجل
ذلك كانوا يطلبون من رشكائهم الرمحة والرزق والنَص ،وكثريا من مطالبهم
الدنيوية ،وكانوا يعبدون آهلتهم طمعا يف أن ُيققوا هلم ما يرجون بمعونات
غيبية هي من خصائص الرب اخلالق الذي بيده مقاليد كل يشء ،وهو عىل كل
يشء قدير.
وملا كانت اإل̃هلية هي الالزم العقيل املبارش للربوبية ،وكانت الربوبية يف
الوجود كله هلل وحده ال رشيك له فيها وجب عقال وجوبا حتميا أن تكون
اإلهلية خاصة باهلل وحده ال يشاركه فيها أحد.
̃
ومن أجل هذه احلقيقة كان منهج القرآن الكريم لإلقناع بتوحيد اإل̃هلية هلل
وحده ال رشيك له ،يعتمد عىل تذكري ذوى الفكر بتوحيد الربوبية هلل عز
وجل ،وأنه ال رشيك له يف الربوبية ،و عىل تنبيههم عىل هذه احلقيقة ،ويعتمد
138
يف بعض النصوص عىل استئناف عرض أدلة تثبت أن الربوبية يف الوجود كله
هلل وحده ال رشيك له ،ويراعي يف هذا التنويع مقتضيات أحوال املخاطبني
إ ّبان نزول النص.
من هذه النصوص القرآنية ما ييل( :يا أهيا الناس اعبدوا ربكم الذي
خلقكم والذين من قبلكم)( 103وما يل ال أعبد الذي فطرين وإليه ترجعون
أأختذ من دونه آهلة إن يردن الرمحن برض ال تغني عنى شفاعتهم شيئا وال
(رب 104
ينقذون إين إذا لفي ضالل مبني إين آمنت بربكم فاسمعون)
105
السموات واألرض وما بينهام فاعبدوه واصطرب لعبادته هل تعلم له سميا)
(واختذوا من دون اهلل آهلة ال خيلقون شيئا وهم خيلقون وال يملكون ألنفسهم
رضا وال نفعا وال يملكون موتا وال حياتا وال نشورا)( 106يا أهيا الناس اذكروا
نعمة اهلل عليكم هل من خالق غري اهلل يرزقكم من السامء واألرض ال إله إال
(أال يسجدوا هلل الذي خيرج اخلبأ يف السموات 107
هو فأنى تؤفكون)
واألرض)( 108قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس) 109جاء البيان يف
103
21
104
25 22
105
65
106
3
107
3
108
25
109
3 1
139
هذه السورة مرتبا ترتيبا عقليا منطقيا ،فإثبات ربوبية اهلل للناس يلزم منه لزوما
عقليا منطقيا إثبات كونه مالكا هلم فهم عبيده وكونه ملكا عليهم ،ويلزم منهام
لزوما عقليا منطقيا إثبات إ̃هليته هلم ،وبام أهنم ال رب هلم غريه فال إ̃له هلم غريه.
واحلاصل أنه قد استقر يف عقول بني آدم أن من ثبتت له الربوبية فمستحق
للعبادة ،ومن انتفت عنه الربوبية فهو غري مستحق للعبادة ،فثبوت الربوبية
واستحقاق العبادة متالزمان فيام رشع اهلل من رشائعه ،ويف عقول الناس.
وعىل أساس اعتقاد الرشكة يف الربوبية بنى املرشكون استحقاق العبادة ملن
اعتقدوهم أربابا من دون اهلل تعاىل ،ومتى اهندم هذا األساس من نفوسهم
تبعه اهندام ما بني عليه من استحقاق غري اهلل للعبادة ،وال يسلم املرشك بإنفراد
اهلل سبحانه باستحقاق العبادة حتى يسلم بإنفراده عز وجل بالربوبية ،وما دام
يف نفسه اعتقاد الربوبية لغريه عز وجل استتبع ذلك االعتقاد يف هذا الغري
االستحقاق للعبادة.
ولذلك كان من الواضح عند أوىل األلباب أن توحيد الربوبية وتوحيد اإل̃هلية
متالزمان ال ينفك أحدمها عن اآلخر ال يف االعتقاد وال يف الوجود ،وكان تقسيم
التوحيد إىل توحيد الربوبية وتوحيد األلوهية بناء عىل انفصال أحدمها عن اآلخر
وعدم التالزم بينهام من اخلطأ الواضح ،فإنه من اعرتف أنه ال رب إال اهلل كان
معرتفا بأنه ال يستحق العبادة غريه ،ومن أقر بأنه ال يستحق العبادة غريه كان
مذعنا بأنه ال رب سواه .وهذا معنى ال إله إال اهلل يف قلوب مجيع املسلمني.
141
ولذلك نرى القرآن يف كثري من املواضع يكتفي بأحدمها عن اآلخر،
ويرتب اللوازم املرتتبة عىل انتفاء أحدمها عىل انتفاء اآلخر ليستدل بذلك عىل
ثبوته ،فانظر إىل قوله تعاىل( :لو كان فيهام آهلة إال اهلل لفسدتا) 110وقوله تعاىل:
111
(وما كان معه من إ̃له إذا لذهب كل إ̃له بام خلق ولعال بعضهم عىل بعض)
حيث رتب عىل تعدد اإل̃له ما يرتتب عىل تعدد الرب من فساد السموات
واألرض ليثبت بذلك عدم تعدد الرب ووحدان َي َته.
هذا وقد اشتمل تقسيم التوحيد إىل توحيد الربوبية وتوحيد اإل̃هلية عىل
أخطاء:
األول :ختصيص الربوبية باخلالقية مع أهنا تشمل كل خصائص اإل̃هلية
وهي الصفات التي من أجلها استحق الرب أن يكون معبودا من خلق العامل
وتدبريه وتَصيفه وحق الترشيع والغنى املطلق عن غريه.
الثاين :التعبري عن الكون إ̃هلا باأللوهية فإن األلوهية هي العبادة والتعبري
الصحيح عن الكون إ̃هلا هو اإل̃هلية ،وليس األلوهية.
الثالث :ادعاء أن توحيد الربوبية منفصل عن توحيد اإل̃هلية وغري مالزم
له ،يتحقق توحيد الربوبية مع الرشك يف اإل̃هلية ،وقد حققنا أنه مالزم له.
110
22
111
91
141
الرابع :ما بنى صاحب هذا التقسيم عليه من أن املرشكني من العرب كانوا
يف جاهليتهم يوحدون اهلل تعاىل توحيد الربوبية ،ولكنهم مل يكونوا يوحدونه
توحيد اإل̃هلية.
واخلطأ اخلامس :وهو األدهى واألمر ،وهو الذي كان هيدف إليه صاحب
التقسيم ،هو حكمه عىل كثري من املسلمني بمثل ما حكم به عىل املرشكني من
العرب يف جاهليتهم اجلهالء .وبنائه هذا عىل التقسيم املذكور.
فظهر هبذا خطأ هذا التقسيم وخطأ ما بناه عليه صاحبه.
وأما التقسيم الصحيح للتوحيد فهو تقسيم األشاعرة ،وهو تقسيم
التوحيد إىل توحيد الذات ،وتوحيد الصفات ،وتوحيد األفعال .واهلل سبحانه
وتعاىل أعلم.
وأما ثالث األقسام من التقسيم الثالثي وهو «توحيد األسامء والصفات»
فقد قصد به صاحب التقسيم أن يثبت هلل من األسامء والصفات ما أثبته لنفسه
بدون إمهال يشء مما أثبته لنفسه بأن ينفي عن اهلل تعاىل بعض ما أثبته لنفسه،
وال أن يزاد عليها بأن يثبت هلل تعاىل من األسامء والصفات ما مل يثبت إطالقه
عىل اهلل تعاىل يف الكتاب والسنة الصحيحة .هذا هو الذي قرره صاحب
التقسيم وسامه «توحيد األسامء والصفات».
أما تقرير املسألة فهو تقرير غري حمرر أدى عدم حترير التقرير بصاحبه إىل
أخطاء عقدية جسيمة.
142
والتحرير أن يقال :جيب أن يثبت هلل تعاىل من األسامء والصفات ما ورد
إطالقه عىل اهلل تعاىل يف الكتاب والسنة الصحيحة مما كان إطالقه عليه تعاىل عىل
وجه احلقيقة دون املجاز والكناية ،وحترير املسألة هبذا الوجه ثم تطبيقها عىل
نصوص الكتاب والسنة تطبيقا صحيحا هو الذي يقي الوالج يف املسألة من
اخلطأ ،وجينبه اإلحلاد يف أسامء اهلل تعاىل وصفاته ،وأما عدم حترير املسألة أو
حتريرها ثم تطبيقها عىل النصوص تطبيقا غري صحيح فيورط صاحبه يف األخطاء
العقدية اجلسيمة ،ويف اإلحلاد يف أسامء اهلل تعاىل وصفاته .وهذا ما تورط فيه
صاحب التقسيم الثالثي.
وبعد هذه املقدمة نقول :قد تورط صاحب التقسيم الثالثي بالنسبة إىل
القسم الثالث يف أخطاء.
اخلطأ األول :يف العنوان حيث عنون املسألة بتوحيد األسامء والصفات،
وإنام املسألة مسألة إثبات األسامء والصفات .وقد عرب هبذا التعبري يف كتابه
منهاج السنة.
الثاين :عدم حترير تقرير املسألة.
الثالث :أن صاحب التقسيم مل يثبت هلل تعاىل كثريا مما ورد يف الكتاب
والسنة إطالقه عىل اهلل تعاىل مما هو داخل حتت القاعدة غري املحررة .وذلك
مثل النسيان الوارد يف قوله تعاىل( :نسوا اهلل فنسيهم) وكذلك ورد يف
األحاديث الصحيحة إثبات اهلرولة والضحك واملرض واجلوع هلل تعاىل ،ومل
143
يثبتها صاحب التقسيم هلل تعاىل ،وذلك من أجل اعتقاده أن هذه اإلطالقات
إنام وردت عىل سبيل املجاز ال عىل سبيل احلقيقة بسبب اعتقاده استحالة
ثبوت هذه األمور هلل تعاىل عىل سبيل احلقيقة ،وهو اعتقاد صحيح.
الرابع :إن صاحب التقسيم قد أثبت هلل تعاىل أمورا مل يرد هبا الكتاب وال
السنة حيث أثبت هلل تعاىل ما ييل:
112
احلد .انظر (موافقة رصيح املعقول لصحيح املنقول)
اجللوس عىل العرش قال يف جمموع الفتاوى :حدث العلامء املرضيون
واألولياء املتقون أن حممدا رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم جيلسه
114
ربه عىل العرش معه 113...وقد أشار إليه ابن القيم يف بدائع الفوائد.
يقول بجواز إطالق أن اهلل تعاىل جسم قال يف التأسيس يف رد "أساس
التقديس" (وليس يف كتاب اهلل وال سنة رسوله وال قول أحد من سلف األمة
وأئمتها أنه ليس بجسم وأن صفاته ليست أجساما وال أعراضا) 115وسيأيت عن
اإلمام أمحد نفي اجلسمية عن اهلل تعاىل.
29 2112
374 4 113
39 4 114
111 1 115
144
الستقر عىل ظهر بعوضة ويقول يف كتابه التأسيس :ولو شاء اهلل
فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف عىل عرش عظيم .واالستقرار من
لوازم اجلسمية.
ويقول يف كتابه "بيان تلبيس اجلهمية" 116:ما نصه( :فاسم املشبهة ليس له
ذكر بذم يف الكتاب والسنة ،وال يف كالم أحد من الصحابة والتابعني) ومعنى
هذا أن التشبيه ليس به بأس 117.هذا ما يراه ابن تيمية خمالفا لقوله تعاىل( :ليس
كمثله يشء) وقوله( :ومل يكن له كفوا أحد) وخمالفا األمة وسيأيت قريبا نقل
مجلة من أقواهلم يف ذلك.
واخلامس :وهو بيت القصيد من ذكر توحيد األسامء والصفات ،أن
صاحب التقسيم قد أثبت هلل تعاىل أمورا ورد يف الكتاب والسنة إطالقها عىل
اهلل تعاىل عىل سبيل املجاز أو الكناية ،فأثبتها هلل تعاىل عىل سبيل احلقيقة ،فأدى
به ذلك إىل التشبيه الذي ال يرى به بأسا ،ويكون بذلك خمالفا لكتاب اهلل
ولسنة رسول اهلل ولسلف األمة.
وننقل هنا جمموعة من أقوال علامء األمة وأئمتها من السلف واخللف يف
نفي التشبيه عن اهلل تعاىل.
119 1 116
568 1 117
145
فنقول :نقل الذهبي يف عن اإلمام أبو حنيفة ريض اهلل تعاىل عنه أنه قال:
(أتانا من املرشق رأيان خبيثان :جهم معطل ومقاتل مشبه) 118وذكر ابن جرير
الطربي يف تفسري سورة اإلخالص عن أيب العالية وغريه من السلف( :أن اهلل
تعاىل ليس له شبيه وال مثيل)
ونقل اإلمام البيهقي يف كتابه مناقب اإلمام أمحد عن اإلمام أمحد ما نصه:
(أنكر أمحد عىل من قال باجلسم ،وقال :إن األسامء مأخوذة من الرشيعة
واللغة ،وأهل اللغة وضعوا هذا االسم عىل ذي طول وعرض وسمك
وتركيب وصورة وتأليف .واهلل سبحانه خارج عن ذلك كله ،فلم جيز أن
يسمى جسام خلروجه عن معنى اجلسمية ،ومل جييء يف الرشيعة ذلك فبطل)
انتهى.وهذا الكالم بنصه وارد يف ذيل طبقات احلنابلة البن أيب يعىل منسوبا
119
إىل اإلمام أمحد.
وورد يف ذيل طبقات احلنابلة يف ذكر عقيدة اإلمام أمحد ريض اهلل تعاىل
عنه« :كان اإلمام أمحد رمحه اهلل يقول :إن هلل تعاىل يدين ومها صفة له يف
ذاته ،ليستا بجارحتني ،وليستا بمركبتني ،وال جسم وال من جنس األجسام،
وال من جنس املحدود والرتكيب واألبعاض واجلوارح ،وال يقاس عىل ذلك،
وال له مرفق ،وال عضد ،وال فيام يقتىض ذلك من إطالق قوهلم "يد" إال ما
118
212 7
298 2 119
146
نطق القرآن الكريم به ،أو صحت عن رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله
120
وسلم السنة فيه».
ويف ذيل الطبقات أيضا «أن اإلمام أمحد كان يقول :واهلل تعاىل مل يلحقه
121
تغري وال تبدل ،وال يلحقه احلدود قبل خلق العرش وال بعد خلق العرش».
وقال اإلمام الطحاوي يف عقيدته التي هي بيان أهل السنة واجلامعة باتفاق
أهل السنة «وتعاىل أي اهلل -عن احلدود والغايات ،واألركان واألعضاء
واألدوات ،وال حتويه اجلهات الست كسائر املبتدعات».
وقال اإلمام أبو سليامن اخلطايب :ما نصه« :وليس معنى قول املسلمني إن
اهلل عىل العرش هو أنه تعاىل مماس له ،أو متمكن فيه ،أو متحيز يف جهة من
جهاته ،لكنه بائن من مجيع خلقه ،وإنام هو خرب جاء به التوقيف ،فقلنا به ونفينا
122
عنه التكييف إذ (ليس كمثله يشء وهو السميع البصري»
وقال اإلمام ابن اجلوزي يف جمالسه يف املتشاهبات« 123وليس اخلالف يف
اليد ،وإنام اخلالف يف اجلارحة ،وليس اخلالف يف الوجه ،وإنام اخلالف يف
الصورة اجلسمية ،وليس اخلالف يف العني ،وإنام اخلالف يف احلدقة».
294 2 120
297 2 121
122
147 2
123
54
147
وقال اإلمام عز الدين بن عبد السالم« :ليس اهلل بجسم مصور ،وال
جوهر حمدود مقدر ،وال يشبه شيئا وال يشبهه يشء ،وال حتيط به اجلهات ،وال
تكتنفه األرضون والسموات ،كان قبل أن كون املكان ودبر األزمان ،وهو
124
اآلن عىل ما عليه كان»
وقال احلافظ العسقالين« :وال يلزم من كون جهتي العلو والسفل حماال
عىل اهلل أن ال يوصف بالعلو ،ألن وصفه بالعلو من جهة املعنى ،واملستحيل
125
كون ذلك من جهة احلس».
وقال أيضا عند رشح حديث النزول« :استدل به من أثبت اجلهة وقال
هي جهة العلو ،وأنكر ذلك اجلمهور ،ألن القول بذلك يفيض إىل التحيز،
126
تعاىل اهلل عن ذلك»
وقال أيضا« :فمعتقد سلف األمة وعلامء السنة من اخللف أن اهلل تعاىل
127
منزه عن احلركة والتحول واحللول ،ليس كمثله يشء».
فظهر هبذا التحقيق أن التقسيم الثالثي للتوحيد الذي اخرتعه ابن تيمية
تقسيم فاسد يف التعبري ،وفاسد يف مضمونه ،وفاسد فيام قصد منه.
124
219 8
125
136 6
126
31 3
124 7 127
148
والتقسيم الصحيح للتوحيد هو تقسيم الثالثي الذي ذكره األشاعرة،
وهو توحيد الذات ،وتوحيد الصفات ،وتوحيد األفعال.
أما توحيد الذات فمأخوذ من قوله تعاىل( :قل هو اهلل أحد) وغريها من
اآليات ،وأما توحيد الصفات فمأخوذ من قوله تعاىل( :ليس كمثله يشء)
وقوله تعاىل( :ومل يكن له كفوا أحد) وأما توحيد األفعال فمأخوذ من قوله
تعاىل( :اهلل خالق كل يشء) وقوله( :واهلل خلقكم وما تعملون) إىل غريها من
اآليات الكريمة .واهلل تعاىل أعلم بالصواب.
149
اخلطأ الثاين :قوله( :وهو أي التوحيد بأقسامه الثالثة -عندهم أي عند
أهل السنة -أول واجب عىل املكلف) وال أدرى من الذي قال من أهل السنة:
إن التوحيد أول واجب عىل املكلف؟! وكيف يقوله قائل ،ويقدم عىل القول به
عاقل ،والتوحيد ال يتصور اعتقاده إال بعد اعتقاد وجود اهلل تعاىل! وهل يقدم
عاقل عىل القول بأن الواجب عىل املكلف أن يوحد اهلل تعاىل توحيد اإلهلية
وتوحيد الربوبية وتوحيد األسامء والصفات ،ثم يعتقد وجوده؟؟!! نعم
توحيد اهلل تعاىل داخل يف معرفته بحسب املعنى الذي أراده األشاعرة من
املعرفة حينام قالوا( :أول واجب عىل املكلف معرفة اهلل) ،فإن مرادهم بمعرفة
اهلل ليس اعتقاد وجوده تعاىل فقط ،بل معرفته بوجه يكون عدمها موجبا
للكفر وعدم اإلسالم واعتقاد ذلك ،وهو أن يعرف أن للعامل ربا خلقه وخلق
كل يشء يستحق العبادة عىل عباده واحد ال رشيك له ويعتقد ذلك .وذلك
ألن املقصود بوجوب املعرفة التخلص من الكفر ،وهو ال يكون إال باملعرفة
املذكورة واالعتقاد املذكور املشتمل عىل توحيد الربوبية وتوحيد اإل̃هلية
وتوحيد األسامء والصفات ،بمعنى عدم الرشيك له يف صفاته وسنفصل
الكالم عىل مسألة أول الواجب عىل املكلف قريبا.
اخلطأ الثالث والرابع :قوله( :فالتوحيد عندهم أي عند األشاعرة -هو
نفي التثنية والتعدد ،ونفي التبعيض والرتكيب ،والتجزئة ،أي بحسب
151
تعبريهم (نفي الكمية املتصلة والكمية املنفصلة) وقد اشتمل هذا الكالم عىل
خطأين:
اخلطأ األول :حَص الدكتور للتوحيد عند األشاعرة يف األنواع املذكورة
من النفي ،املفيد أنه ال يوجد عند األشاعرة نوع آخر من التوحيد وهو التوحيد
يف العبادة الذي ي َعرب عنه بتوحيد اإل̃هلية ،وقد رصح فيام ييل بأنه ال يوجد
عندهم هذا النوع من التوحيد ،حيث قال.....( :فهذا الذي أجزم به)
وقد علمت أن حقيقة التوحيد عند األشاعرة :هو اعتقاد الوحدانية يف
الذات والصفات واألفعال ،وبعبارة أخرى اعتقاد عدم الرشيك يف اإل̃هلية
وخواصها ،وقد نقلنا عن التفتازاين أنه قال :وال نزاع ألهل اإلسالم يف أن
تدبري العامل ،وخلق األجسام ،واستحقاق العبادة ،وقدم ما يقوم بنفسه كلها
من اخلواص.
اخلطأ الثاين :سياقه هلذا الكالم مساق اإلنكار عىل األشاعرة ،كأن الدكتور
ينكر عىل األشاعرة قوهلم بالتوحيد باملعنى املذكور ،وال أدرى ملاذا ينكر الدكتور
عىل األشاعرة قوهلم :التوحيد أن تعتقد أن اهلل تعاىل واحد ليس اثنني وال ثالثة،
وال متبعض وال مركب وال متجزأ ،وقد رصح اإلمام أمحد وغريه هبذا ،حيث
151
قال« :إن اهلل عز وجل واحد ال من عدد ،وال جيوز عليه التجزؤ وال القسمة،
128
وهو واحد من كل وجه .وما سواه واحد من وجه دون وجه».
أراد اإلمام أمحد بقوله« :واحد ال من عدد» نفي إرادة الواحدة العددية من
قولنا« :اهلل واحد» ومل يرد به نفي الوحدة العددية ،وذلك ألن الوحدة من
طريق العدد غري خمتص باهلل تعاىل ،بل هو الزم بني لكل جزئي حقيقي ،فأنت
واحد من طريق العدد أي لست اثنني وال أكثر ،وأنا واحد من طريق العدد
؛كام ان اهلل تعاىل واحد من طريق العدد،ثم إن الوحدة العددية ال تنفي
الرشيك والشبيه والنظري ،ومقصود اإلمام أمحد بيان الوحدة هلل تعاىل باملعنى
املختص به وهو أنه ال جيوز عليه التجزؤ....الخ،وبمعنى نفي الرشيك
والشبيه والنظري؛فمن أجل ذلك نفى إرادة الوحدة العددية عن قوله :اهلل تعاىل
واحد؛ وقد سبق اإلمام أمحد إىل هذا التعبري اإلمام أبو حنيفة .قال-رمحه اهلل
تعاىل -يف الفقه األكرب« :اهلل واحد ال من طريق العدد ،ولكن من طريق أنه ال
رشيك له ،مل يلد ومل يولد ،ومل يكن له كفوا أحدٌ »؟
وقال شيخ احلنابلة القايض أبو يعىل« :وأما وصفه بأنه واحد فإنه يرجع إىل
نفي الرشيك ،وأنه ال ثاين له ،وإىل نفي التجزؤ واالنقسام عن ذاته» 129وقال
128
293 2
129
26
152
ابن تيمية« :فإن اهلل سبحانه أحد صمد مل يلد ومل يولد ومل يكن له كفوا أحد،
130
فيمتنع عليه أن يتفرق أو يتجزأ أو يكون قد ركب من أجزاء»
اخلطأ اخلامس :قوله( :ومن هذا املعنى فرسوا اإل̃له بأنه اخلالق أو القادر
عىل االخرتاع)
وقد علمت أن األشاعرة قد فرسوا اإل̃هلية باالتصاف بالصفات التي
ألجلها استحق أن يكون معبودا ،فاإل̃له عندهم عىل هذا هو املتصف بتلك
الصفات ،وليس هو اخلالق أو القادر عىل االخرتاع كام يقول الدكتور .وليت
شعري من الذي فرس اإل̃له منهم باخلالق أو القادر عىل االخرتاع؟!
اخلطأ السادس :قوله( :وأنكروا بعض الصفات كالوجه واليد والعني،
ألهنا تدل عىل الرتكيب واألجزاء عندهم) أقول :نعم قد أنكر األشاعرة تلك
الصفات بمعنى اجلارحة الستلزامه الرتكيب واألجزاء ،وهذا النفي مما اتفق
عليه سلف األمة وخلفها ،وال أدري هل الدكتور يثبتها بمعنى اجلارحة هلل تعاىل
كام يدل عليه سياق كالمه!! تعاىل اهلل عن ذلك علوا كبريا!
اخلطأ السابع :قوله( :وأما التوحيد احلقيقي وما يقابله من الرشك ومعرفته
والتحذير منه فال ذكر له يف كتب عقيدهتم إطالقا ..إىل آخر كالمه).
130
119
153
أقول :قدمنا أن األشاعرة قد ذكروا التوحيد بتعريف واضح جامع مانع
يتضح منه تعريف الرشك كذلك ،ولكن ماذا نقول للذي يتكلم عن عدم
معرفة وعدم رغبة يف معرفة ما يتكلم فيه ،وإنام يتكلم مندفعا عام َمت َ ّل َك َ
نفسه
ومتكن يف قلبه من احلقد عىل أئمة األمة وقادهتا.
صحيح أنه مل يتوسع األشاعرة يف كتبهم ال َع َقدية يف الكالم عىل الرشك
العميل كالعبادة لغري اهلل تعاىل والذبح له ألن موضوع كتب العقيدة هو العقيدة
وليس العمل ،وقد توسعوا يف الكالم عليه يف كتب الفقه يف باب الردة ويف
كتبهم يف التفسري ويف رشوح احلديث .نعم الرشك العميل مبني عىل الرشك
اإلعتقادي وهو إثبات يشء من خواص اإل̃هلية لغري اهلل تعاىل ،وقد بينوا الرشك
اإلعتقادي يف كتبهم العقدية كام تقدم يف كالم التفتازاين وكالم ابن اهلامم وابن
أبى رشيف ،وقال الباقالين يف "اإلنصاف"« :وجيب أن يعلم أن صانع العامل
جلت قدرته واحد أحد ،ومعنى ذلك أنه ليس معه إ̃له سواه ،وال من يستحق
العبادة إال إياه وال نريد بذلك أنه واحد من جهة العدد ،وكذلك قولنا :أحد
وفرد وجود ذلك ،إنام نريد به أنه ال شبيه له وال نظري ،ونريد بذلك أنه ليس معه
من يستحق اإل̃هلية سواه .وقد قال اهلل تعاىل( :إنام اهلل إ̃له واحد ومعناه ال إ̃له إال
اهلل» وقال عز الدين بن عبد السالم« :فإن األلوهية ترجع إىل استحقاق العبادة،
وال يستحق العبودية إال من اتصف بجميع ما ذكرناه» ثم قال« :وال يستحق
154
اإلهلية إال من اتصف بجميع ما قررناه» 131وقال السنويس« :وأنواع الرشك ستة:
̃
رشك االستقالل ،وهو إثبات إهلني مستقلني كرشك املجوس ،ورشك
التبعيض ،وهو تركيب إ̃له من آهلة كرشك النصارى ،ورشك تقرب ،وهو عبادة
غري اهلل تعاىل ليتقرب إىل اهلل تعاىل زلفى ،كرشك متقدمي اجلاهلية ،ورشك
132
تقليد ،وهو عبادة غري اهلل تبعا للغري كرشك متأخري اجلاهلية»...
-39أول واجب عىل املكلف وما تورط فيه الدكتور من األخطاء يف بيان
املسألة:
قال الدكتور{ :أما أول واجب عند األشاعرة فهو النظر ،أو القصد إىل
النظر أو أول جزء من النظر ،أو !...إىل آخر فلسفتهم املختلف فيها .وعندهم
أن اإلنسان إذا بلغ وجب عليه النظر ،ثم اإليامن ،واختلفوا فيمن مات قبل
النظر أو أثنائه ،أحيكم له باإلسالم أم بالكفر؟! وينكر األشاعرة املعرفة
الفطرية ،ويقولون :من آمن باهلل بغري طريق النظر فإنام هو مقلد ورجح
بعضهم كفره ،واكتفى بعضهم بتعصيته ...وإن الزم قوهلم تكفري العوام ،بل
تكفري صدر األول}
131
12 11
132
41 32
155
قد أشار الدكتور سفر هبذا الكالم إىل مسألتني من مسائل علم الكالم،
األوىل :مسألة أول واجب عىل املكلف ،والثانية :مسألة وجوب النظر يف معرفة
اهلل تعاىل ،وقد وقع فيهام يف أخطاء جسيمة ،فال بد أن ُيقق املسألتني املشار
إليهام.
أما املسألة األوىل فننقل فيها كالم القايض عضد الدين اإلجيي يف املواقف
مع رشحه للسيد الرشيف اجلرجاين مع االختصار فيهام .ونفتتح هبا الكالم،
وأما املسألة الثانية فنبينها فيام بعد .وإليك كالم "املواقف" ورشحه يف املسألة:
(املقصد السابع :قد اختلف يف أول واجب عىل املكلف) أنه ماذا
(فاألكثر) ومنهم الشيخ أبو احلسن األشعري (عىل أنه معرفة اهلل تعاىل إذ هو
أصل املعارف) والعقائد (الدينية ،وعليه يتفرع وجوب كل واجب) من
الواجبات الرشعية (وقيل :هو النظر فيها) أي يف معرفة اهلل سبحانه (ألنه
واجب) اتفاقا كام مر (وهو قبلها) وهو مذهب مجهور املعتزلة واألستاذ أيب
إسحاق االسفرائيني (وقيل) :هو (أول جزء من النظر) ألن وجوب الكل
يستلزم وجوب أجزائه :فأول جزء من النظر واجب ،وهو متقدم عىل النظر
املتقدم عىل املعرفة (وقال القايض واختاره ابن فورك) وإمام احلرمني :إنه
(القصد إىل النظر) ألن النظر فعل اختياري مسبوق بالقصد املتقدم عىل أول
أجزائه.
156
(والنزاع لفظي إذ لو أريد الواجب بالقصد األول )،أي لو أريد أول
الواجبات املقصودة أوال وبالذات (فهو املعرفة) اتفاقا (وإال) أي وإن مل يرد
ذلك ،بل أريد أول الواجبات مطلقا (فالقصد إىل النظر) ألنه مقدمة للنظر
الواجب مطلقا فيكون واجبا أيضا..
(وقال أبو هاشم هو) أي أول الواجبات (الشك) ثم رد اإلجيي هذا القول
بوجهني ثم قال( :إن قلنا :الواجب) األول (النظر فمن أمكنه زمان يسع فيه
النظر التام) والتوصل به إىل معرفة اهلل تعاىل (ومل ينظر) يف ذلك الزمان ،ومل
يتوصل بال عذر (فهو عاص) بال شبهة (ومن مل يمكنه زمان أصال) بأن مات
حال البلوغ (فهو كالصبي) الذي مات يف صباه (ومن أمكنه) من الزمان (ما
يسع بعض النظر دون متامه) فإن رشع فيه بال تأخري واخرتمته املنية قبل
انقضاء النظر وحصول املعرفة فال عصيان قطعا ،وأما إذا مل يرشع فيه ،بل
133
أخره بال عذر ومات (ففيه احتامل ،واألظهر عصيانه) لتقصريه بالتأخري.
وههنا ينبغي التنبيه عىل أمور:
األول :أن املراد بمعرفة اهلل تعاىل التي هي أول الواجبات املقصودة
بالذات معرفته بوجه يكون عدم االتصاف هبا موجبا للكفر وعدم اإلسالم،
من معرفة وجوده تعاىل ووحدانيته وعلمه وإرادته وقدرته إىل غري ذلك مما
133
381 375 1
157
يكون عدم معرفتها موجبا للكفر ،وليس املراد منها معرفة وجوده فقط.
وذلك ألن املقصود من وجوب املعرفة التخلص من الكفر ،وهو ال يكون إال
باملعرفة املذكورة.
وهذه املعرفة ليست فطرية باملعنى الذي قصده الدكتور هنا ،ورصح به
سابقا من أنه يولد عليها اإلنسان ،وينشأ عليها املسلم بال تلقني وال تعلم ،وقد
قال اهلل تعاىل( :واهلل أخرجكم من بطون أمهاتكم ال تعلمون شيئا) بل املراد
بالفطرة يف قوله تعاىل( :فطرة اهلل التي فطر الناس عليها) ويف قوله صىل اهلل
عليه وآله وسلم (كل مولود يولد عىل الفطرة...إلخ) ما جبل عليه اإلنسان من
ميله إىل معرفة احلق ،ورغبته يف نبذ الباطل ،وكونه أكثر استعدادا لقبول اخلري
منه لقبول الرش ،وليس ذلك احلق واخلري إال اإلسالم.
قال اإلمام النووي يف رشح احلديث :واألصح أن معناه أن كل مولود
يولد متهيئا لإلسالم .انتهى
والثاين :أن املراد بالواجبات يف قوهلم (أول الواجبات عىل املكلف ما هو)
أعم مما يكون عدم القيام به موجبا للكفر أو موجبا للمعصية وذلك ألن
عدم املعرفة موجب للكفر ،وأما عدم النظر أو عدم القصد إىل النظر مع
اإليامن عىل وجه التقليد فموجب للمعصية واإلثم ،كام تقدم يف كالم املواقف
ورشحه .وليس موجبا للكفر إال عند أيب هاشم من املعتزلة .وهذه هي مسألة
158
التقليد يف اإليامن ،وقال فريق من أهل السنة بعدم تأثيم املقلد بعدما جزم بام
جيب اإليامن به جزما قاطعا .ومل يكفره أحد منهم.
الثالث :أن املراد بالنظر واالستدالل عىل القول بوجوبه هو النظر
واالستدالل اإلمجايل وإن مل يستطع صاحبه اإلفصاح به وتقريره ودفع
القوادح عنه ،وهذا النوع من االستدالل قلام خيلو عنه مؤمن ،بل لو قيل بعدم
خلو مؤمن عنه مل يكن بعيدا ،فإن كالم العوام حمشو بمثل هذا االستدالل،
ومن أجل ذلك قال بعض املحققني :إن التقليد إنام يتصور فيمن نشأ يف شاهق
جبل بدون أن جيري يف خلده وجود اهلل تعاىل ،فأخربه خمرب بوجود اهلل تعاىل
وبصفاته ،فصدقه وثوقا به بدون أن يستند إىل دليل ،وأما املسلم الذي نشأ بني
املسلمني فال بد أن ُيصل عنده دليل إمجايل ،وغالبا ما يكون بدون نظر وال
قصد إىل النظر ،ومن أقوى الدالئل االستناد إىل صدق الرسول املؤيد
باملعجزات ،وذلك ألن املراد بالتقليد األخذ بقول الغري بغري حجة .ومن
قامت عليه حجة ثبوت النبوة حتى حصل له القطع هبا ،فام سمعه من النبي
كان مقطوعا عنده بصدقه ،فإذا اعتقده مل يكن مقلدا فيه ألنه مل يأخذ بقول
الغري بغري حجة.
وهبذا التحقيق ظهر ما يف كالم الدكتور سفر من أخطاء.
األول :نسبته اخلالف يف أول الواجبات إىل األشاعرة فقط مع أن املعتزلة
داخلني يف اخلالف ،فكان عليه أن يقول :أما أول واجب عند املتكلمني.
159
والثاين :قوله( :وعندهم أن اإلنسان إذا بلغ وجب عليه النظر ثم اإليامن)
هذا مفروض عند األشاعرة يف غري املسلم الذي بلغ ،أما املسلم الذي بلغ
مقلدا فيجب عليه النظر عند القائلني بوجوب النظر منهم ،وأما اإليامن
فحاصل من قبل ،ثم إن الوجوب بالنسبة إليه بمعنى أن املقلد عاص وليس
بمعنى أنه غري مسلم كام محله عليه الدكتور .نعم هو كذلك عند أبى هاشم من
املعتزلة .وكذلك االحتامالن اللذان أبدامها القايض فيمن مات يف أثناء النظر
مفروض يف املسلم املقلد الذي ابتدأ يف النظر مع تأخريه عن زمن الوجوب بال
عذر ومات قبل اإلنتهاء منه هل هو عاص عند القائلني بوجوب النظر أم ال
كام تقدم يف كالم املواقف ورشحه ،وليس االحتامالن يف احلكم باإلسالم له
وعدمه .نعم جيرى االحتامالن يف احلكم باإلسالم وعدمه بالنسبة إىل من بلغ
غري مسلم ،أو بلغته الدعوة بالغا ورشع يف النظر بعد تأخريه عن أول زمن
الوجوب بال عذر ومات يف أثنائه .فكالم املواقف عام للمكلف املسلم وغري
املسلم ومن أجل ذلك عرب بالعصيان الشامل للكفر واإلثم.
اخلطأ الثالث :قوله( :واختلفوا فيمن مات قبل النظر أو يف أثنائه أُيكم
عليه باإلسالم أم بالكفر) وذلك أنه التبس عىل الدكتور االحتامالن اللذان
أبدامها القايض فيمن مات يف أثناء النظر بعد تأخري الرشوع فيه عن أول زمن
الوجوب هل هو عاص أم ال ،التبس عليه ذلك باالختالف ،كام التبس عليه
احلكم بالعصيان وعدمه باحلكم باإلسالم والكفر!!!
161
اخلطأ الرابع :نسبته القول بكفر املقلد يف العقيدة إىل بعض األشاعرة مع
أن كفر املقلد مل يقل به إال أبو هاشم من املعتزلة .قال اآلمدي يف إبكار
األفكار :ذهب أبو هاشم من املعتزلة إىل أن من مل يعرف اهلل بالدليل فهو كافر،
ألن ضد املعرفة النكرة ،والنكرة كفر .قال :وأصحابنا جممعون عىل خالفه،
وإنام اختلفوا فيام إذا كان االعتقاد موافقا لكن من غري دليل ،فمنهم من قال:
إن صاحبه مؤمن عاص برتك النظر الواجب .ومنهم من اكتفى بمجرد
االعتقاد املوافق ،وإن مل يكن عن دليل وسامه علام ،وعىل هذا فال يلزم من
134
حصول املعرفة هبذا الطريق وجوب النظر .انتهى نقله يف فتح الباري.
اخلطأ اخلامس :دندنته باملعرفة الفطرية.
اخلطأ السادس :قوله( :وإن الزم مذهبهم تكفري العوام بل تكفري الصدر
األول)
أقول :قد قررنا أن العوام كلهم أو جلهم مستدلون عند األشاعرة
استدالال إمجاليا ،وهو كاف يف االستدالل عندهم .وقررنا أنه ال خالف عند
األشاعرة يف صحة إيامن املقلد ،وإنام اخلالف يف تعصيته! وأما الصدر األول
فحاشاهم أن يكونوا غري مستدلني .وال أدرى كيف جتاس الدكتور عىل
التكلم هبذا الكالم!!! ثم إن هذا التكفري لو سلمنا أنه الزم لقول أحد فإنام هو
134
351 13
161
الزم لقول أبى هاشم من املعتزلة ،وليس بالزم لقول أحد من األشاعرة مع
أنه غري الزم لقول أبى هاشم أيضا ،ألنه يقول بعدم صحة إيامن املقلد ،وهل
العوام كلهم ،والصدر األول كلهم مقلدون يف اإليامن!! سبحانك اللهم هذا
هبتان عظيم يعظكم اهلل أن تعودوا ملثله أبدا إن كنتم مؤمنني.
-41حكم الدكتور عىل األشاعرة بأهنم مرجئة َج َهمية ،وحتقيق هذه املسألة:
قال الدكتور{ :الرابع اإليامن :األشاعرة يف اإليامن مرجئة جهمية أمجعت
كتبهم قاطبة عىل أن اإليامن هو التصديق القلبي ،واختلفوا يف النطق
بالشهادتني أيكفي عنه تصديق القلب ،أم ال بد منه}....
القلب .وقد
َ اإليامن حم ُّله
َ َ
اإليامن وصف القلب وأن أقول :ال شبهة يف أن
ور َد هذا يف كثري من اآليات القرآنية ،قال اهلل تعاىل( :أولئك كتب يف قلوهبم
اإليامن) وقال( :وملا يدخل اإليامن يف قلوهبم) وقال( :إال من أكره وقلبه
ِ
القلب وصدقه مطمئن باإليامن) وجاء يف احلديث" :اإليامن ما َو َقر يف
القلبي؛
ُّ العمل" .كذلك ال مرية أنه البد يف حتقق اإليامن من التصديق
ِ
باإلذعان ِ
الصدق باالختيار إىل النبي .ويسمى هذا والتصديق عبارة عن ِ
نسبة
الرشعي عند األشاعرة وغريهم من
ر والتسليم ،وهذا هو املعترب يف اإليامن
طوائف املسلمني ما عدى اجلهمية.
162
وكام أن اإلذعان والتسليم معترب رشعا يف حتقق اإليامن الرشعي الذي
طلبه اهلل من املكلفني ،كذلك هو معترب يف املعنى اللغوي للفظ اإليامن ،فال
يقال يف اللغة آمن به إال إذا صدقه وأذعن له بقلبه ،وأما جمرد وقوع نسبة
الصدق يف القلب فال يسمى إيامنا لغة ،وإنام يسمى علام ومعرفة كام قال اهلل
تعاىل عن الفريق الذين يعلمون صدق الرسول يف دعوى الرسالة بدون أن
يؤمنوا به( :الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كام يعرفون أبنائهم ،وإن فريقا منهم
ليكتمون احلق وهم يعلمون) ،فالبد يف حتقق كل من املعنى الرشعي واللغوي
لإليامن من ضم فعل قلبي إىل املعرفة ،وهو اإلذعان ملا عرفه والتسليم له ،لكن
الرشع قد نقل لفظ اإليامن إىل التصديق بأمور خاصة وهي ما جاء به الرسول
وعلم جميئه به بالرضورة ،وجعل له نواقض اعترب الرشع اإليامن ملغى معها
كالعبادة لغري اهلل والتلفظ بكلمة الكفر يف حال االختيار.
ِ
التصديق ِ
الصدق يف القلب بدون ِ
نسبة وأما جمرد املعرفة ووقوع
واإلذعان ،فال يكفي يف اإليامن .واملوجود عندَ أيب طالب ِ
وغريه من كثري من
املرشكني هو املعرفة فقط بدون تصديق وإذعان.
والذي قالت اجلهمية بكفايته يف حصول اإليامن هو املعرفة .وكم من فرق
بني املذهبني!! قال أبو منصور البغدادي( :وزعمت اجلهمية أن اإليامن هو
163
املعرفة وحدها) 135ونقل الشهرستاين عن جهم أنه قال( :من أتى باملعرفة ثم
جحد بلسانه مل يكفر بجحده ألن العلم واملعرفة ال يزوالن باجلحد فهو
مؤمن) 136وهذا املذهب مردود بقوله تعاىل عن بعض الكفار( :وجحدوا هبا
واستيقنتها أنفسهم ظلام وعلوا) وقوله( :يعرفونه كام يعرفون أبنائهم ،وإن
فريقا منهم ليكتمون احلق وهو يعلمون)
ثم اختلف األشاعرة يف أنه هل يكفي يف حصول أصل اإليامن ويف
اخلروج من الكفر هذا التصديق والتسليم واإلذعان القلبي أم البد يف حتققه
من ضم التلفظ بالشهادتني إليه إن كان املكلف قادرا عىل ذلك بأن مل يكن
أخرس؟ والذين قالوا بكفاية التصديق بالقلب يف ذلك قالوا :البد أن يكون
هذا املصدق بحيث إذا طولب بالتلفظ بالشهادتني تلفظ هبام ومل يمتنع عن
ذلك ،فإذا امتنع عن التلفظ هبام بعد املطالبة به فهو غري مسلم بامتناعه هذا ،ثم
إهنم أرادوا بكفاية التصديق كفايته فيام بني العبد وبني اهلل تعاىل وكفايته يف
النجاة من اخللود يف النار ،أما إجراء أحكام املسلم الدنيوية عىل املكلف فال
خالف يف أنه البد فيه من النطق بالشهادتني فيمن أسلم بعد كفر ،وأما ولد
املسلم إذا بلغ فنجرى عليه أحكام املسلمني وإن مل يتلفظ بالشهادتني طول
عمره ما مل يثبت عليه ما يقتيض احلكم عليه بالكفر.
135
249
136
111 1
164
ثم إن من مذهب األشاعرة أهنم يرجئون أمر العصاة إىل اهلل إن شاء
عذهبم وإن شاء عفا عنهم .هذا هو مذهبهم يف اإلرجاء وهو اإلرجاء السني
الذي ال خيالف فيه أحد من أهل السنة ،وأما اإلرجاء البدعي وهو اعتقاد أنه
ال يرض مع اإليامن معصية كام ال ينفع مع الكفر طاعة ،فهم من أبعد الناس عنه
كام أهنم من أبعد الناس عن رأي جهم ،وقد عدوا يف كتبهم هذين املذهبني من
مذاهب املبتدعة .هذا هو خالصة مذهب األشاعرة يف القضية ،وهو مأخوذ
من الكتاب والسنة ،ونورد هنا مجلة قليلة من اآليات واألحاديث التي هي
رصُية يف مذهبهم.
أما مذهبهم يف اإليامن فمن الدالئل عليه ما ييل :قال اهلل تعاىل( :الذين
آمنوا وعملوا الصاحلات) فعطف اهلل تعاىل عمل الصاحلات عىل اإليامن
والعطف يقتىض املغايرة ،وقال اهلل تعاىل( :وإن طائفتان من املؤمنني اقتتلوا
فأصلحوا بينهام) فعد اهلل تعاىل الطائفتني املقتتلني مؤمنتني مع أن إحدامها باغية
واألخرى مبغي عليها ،وقد تكون كلتامها باغيتني ،فلم ينف اهلل تعاىل عنهام
اإليامن وعدمها مؤمنتني ،وقال تعاىل( :فمن يعمل من الصاحلات وهو مؤمن
فال كفران لسعيه) فجعل اهلل تعاىل اإليامن رشطا لقيام األعامل الصاحلة ولو
137
كان اإليامن اسام لكل عبادة لكان رشط اليشء نفسه قاله أبو املعني النسفي.
137
112 111
165
وأما السنة فنكتفي منها بحديث جربيل ،فقد فرس النبي صىل اهلل تعاىل
عليه وآله وسلم فيه اإليامن بقوله( :أن تؤمن باهلل ومالئكته ،وكتبه ،ورسله،
واليوم اآلخر ،وبالقدر خريه ورشه من اهلل تعاىل) فقد فرس األشاعرة اإليامن بام
فرسه به النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم ،ثم فرس النبي صىل اهلل تعاىل
عليه وآله وسلم اإلسالم (بالتلفظ بالشهادتني ،والصالة ،والزكاة ،والصيام،
واحلج) ،فجعل التلفظ بالشهادتني من اإلسالم ال من اإليامن ،وأدخله يف نوع
العمل كا الصالة والزكاة ،دون نوع االعتقاد ،وهذا دليل ملن يقول من
األشاعرة وغريهم إن التلفظ بالشهادة ليس برشط يف حصول أصل اإليامن.
وأما مذهب األشاعرة يف اإلرجاء فدليله ما ال ُيىص من اآليات
واألحاديث ونقتَص منها عىل قوله تعاىل( :إن اهلل ال يغفر أن يرشك به ويغفر
ما دون ذالك ملن يشاء) وعىل ما جاء عن النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم
أنه قال( :من مات ال يرشك باهلل شيئا دخل اجلنة) رواه مسلم.
فهل بعد هذا يصح أن يقال :إن األشاعرة يف اإليامن مرجئة جهمية؟!
غضب الدكتور أن األشاعرة مل يقولوا( :اإليامن اعتقاد وقول
َ نعم يثري
وعمل) مثل من قال ذلك من األئمة ،ولكن األشاعرة مل خيالفوا يف هذا القول
بمعناه الذي قصده القائلون به .وكيف جيوز هلم أن خيالفوا فيه وقد قال اهلل
تعاىل( :وما كان اهلل ليضيع إيامنكم) فقد عرب عن الصالة باإليامن ،وقال النبي
166
صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم( :اإليامن بضع وسبعون شعبة أعالها قول ال
̃إله إال اهلل ،وأدناها إماطة األذى عن الطريق) وقال( :الطهور شطر اإليامن)
وبيان ذلك أن اإليامن شبيه بالشجرة فاسم الشجرة يطلق عىل جمموع
الساق واألغصان والورق والثمر وإذا قطف الثمر فال يزال اسم الشجرة
يطلق عىل الباقي ،وكذلك إذا قطعت الورق واألغصان ،وأما إذا قطع الساق
فقد عدمت الشجرة ،ومل يبق هناك ما يطلق عليه اسم الشجرة.
كذلك اسم اإليامن قد أطلق يف كثري من نصوص الكتاب والسنة عىل معنى
عام يشتمل أصل اإليامن وما يرتتب عليه من األعامل والثمرات ،وبانعدام
األعامل والثمرات ال ينعدم أصل اإليامن ،وأما بانعدام التصديق القلبي فينعدم
أصل اإليامن ،فتعريف األشاعرة لإليامن بأنه التصديق القلبي وحده أو مع التلفظ
بالشهادتني عىل اخلالف يف الشهادتني عندهم ،تعريف ألصل اإليامن التي بدونه
يعد اإلنسان كافرا خملدا يف النار ،وأما من قال( :اإليامن اعتقاد وقول وعمل) فقد
عرف اإليامن باملعنى العام الذي جاء به كثري من نصوص الكتاب والسنة ،فال
خالف بني الفريقني ألن كل واحد منهام عرف معنى لإليامن مغايرا للمعنى الذي
عرفه اآلخر .واهلل تعاىل أعلم.
167
-41مسألة زيادة اإليامن ونقصه:
ِ
اإليامن ٍ
حديث ور َد يف زيادة قال الدكتور{ :هذا وقد أولوا ك َُّل ٍ
آية أو َّ
ِ
إيامن أو من اإليامن} و ُن ْقصانه أو وصف بعض ُشعبه َّ
بأهنا ٌ
اإليامن يزيد وينقص ،وعمدهتم يف االستدالل ِ أقول :مذهب األشاعرة أن
ِ
والسنة يف الزيادة ،والذين يقولون بنفي ِ
الكتاب عىل ذلك ما ور َد من نصوص
والنقص يف اإليامن هم مجهور احلنفية ،وهلم أيضا دالئلهم عىل ذلك.
َ الزياد َة
وأما ما جاء يف كثري من نصوص الكتاب والسنة من التعبري عن بعض
األعامل املطلوبة باإليامن كام قال اهلل تعاىل( :وما كان اهلل ليضيع إيامنكم) أي
صالتكم أو التعبري بأهنا من اإليامن ،فصحيح أن األشاعرة قد أولوها ،وذلك
ألهنم يرون أن اإليامن موضوع لغة ورشعا للتصديق القلبي لكن الرشع نقله
إىل التصديق بأمور خاصة .وهذه األعامل ليست نفس التصديق ،بل هي آثاره
وثمراته ،فيكون إطالق اإليامن عليها جمازا ال حقيقة.
وأنا أسأل الدكتور هل إذا عمل أحد الكفار شيئا من هذه األعامل املطلوبة
رشعا يطلق عىل ما عمله أنه إيامن،؟ فإن كان إطالق اإليامن عىل هذا األعامل
عىل وجه احلقيقة فال بد أن يصح أن يطلق عىل ما عمله الكافر من ذلك أنه
إيامن .وال أعتقد أن الدكتور جييب بنعم ،فإذا مل يصح إطالق اإليامن عليها يف
هذه الصورة ،يكون إطالقه عليها مرشوطا باتصاف صاحبها باإليامن ،ومعنى
168
هذا أن إطالق اإليامن عليها باعتبار أهنا ثمراته وآثاره ،وهذا هو تأويل
األشاعرة الذي أنكره الدكتور عليهم!.
169
قاربت العرشين خطأ .ثم أقول :ال بد أن نبني مذهب األشاعرة يف كالم اهلل
تعاىل عىل وجهه ،ثم نعود إىل كالم الدكتور وإىل بيان ما حواه من أخطاء.
فأقول وباهلل التوفيق :-املتكلم من أجل حتقق الكالم اللفظي اللساين
عنده ال بد من حتقق أمرين آخرين عنده:
األمر األول :املعاين النفسية التي ال ختتلف باختالف اللغات ،وال تتغري
بتغري العبارات ،وهو املعنى الذي نجده يف أنفسنا عند أخبارنا عن قيام زيد.
أعني النسبة اإلجيابية بني القيام وزيد ،وعند طلب القيام منه أعنى النسبة
اإلنشائية الطلبية بيننا وبني زيد.
األمر الثاين :األلفاظ املتخيلة التي يصوغها املتكلم يف ذهنه بإحدى
اللغات ،ثم يتكلم هبا بلسانه بنفس اللغة.
فتحقق هناك ثالثة أنواع من الكالم :املعاين التي ال ختتلف باختالف
اللغات والتعبريات ،واأللفاظ املتخيلة الذهنية ،واأللفاظ اللسانية ،ويمكن أن
نختَصها إىل قسمني :الكالم املعنوي النفيس ،والكالم اللفظي ،وهو منقسم
إىل قسمني لفظي نفيس ،ولفظي لساين .وبعد هذه التوطئة نقول:
قد أثبت األشاعرة وكذلك املاتريدية هلل تعاىل نوعني من الكالم عىل وجه
احلقيقة ال عىل وجه املجاز.
النوع األول :الكالم املعنوي النفيس ،وقالوا :إنه معنى قديم قائم بذاته
ليس بحرف وال صوت ،وهو معنى واحد غري منقسم إىل اخلرب واألمر
171
والنهي يف األزل ،وإنام ينقسم إىل هذه األقسام فيام ال يزال .هذا هو مذهب ابن
كالب ،وهو املشهور من مذهب اإلمام األشعري.
وذهب بعض األشاعرة إىل أنه عبارة عن اخلرب فقط ،وأن األمر والنهي
راجعان إليه ،ألن الطلب من اهلل تعاىل يرجع إىل اخلرب بوصول الثواب
والعقاب ،ونسب اآلمدي هذا القول إىل اإلمام األشعري.
وذهب بعضهم إىل انقسامه يف األزل إىل األمر والنهي واخلرب.
وذهب بعضهم إىل انقسامه يف األزل إىل األقسام اخلمسة :األمر ،والنهي،
واخلرب ،واالستخبار ،والنداء.
وهذا النوع من الكالم -وهو الكالم املعنوي النفيس -مما ال ينبغي ألحد
من العقالء أن خيالف يف ثبوته هلل تعاىل ألن اهلل تعاىل آمر ،ناه ،خمرب ،وال حتقق
هلذه الصفات بدون الكالم املعنوي ،لكن املعتزلة نفوه عن اهلل تعاىل وأثبتوا هلل
الكالم اللفظي فقط ،واحلنابلة أثبتوا الكالم اللفظي هلل تعاىل ومل يتكلموا عىل
الكالم املعنوي ال نفيا وال إثباتا.
هذا هو املشهور عن احلنابلة
وذهب القايض أبو يعىل منهم إىل ما ذهب إليه األشاعرة .قال( :وهو
سبحانه عامل بعلم واحد ،وقادر بقدرة واحدة ،وحي بحياة واحدة ،ومريد
171
بإرادة واحدة ،ومتكلم بكالم واحد) وقال( :غري ممتنع أن له كالما واحدا
138
بلغات خمتلفة ُيصل اإلفهام لكل واحد بلغته)
وقد استدل األشاعرة عىل إطالق الكالم يف اللغة عىل املعنى النفيس
بكالم اهلل تعاىل وكالم رسوله وكالم أقحاح العرب .قال الباقالين( :ومما يدل
عىل أن حقيقة الكالم هو املعنى القائم بالنفس من الكتاب والسنة وكالم
العرب ما نذكر ...وقوله تعاىل خمربا عن الكفار( :ويقولون يف أنفسهم لو ال
يعذبنا اهلل بام نقول) ...وقوله صىل اهلل تعاىل عليه وسلم( :يقول اهلل تعاىل إذا
ذكرين عبدي يف نفسه )...ويدل عىل ذلك أيضا قول عمر بن اخلطاب ريض
اهلل تعاىل عنه( :زورت يف نفيس كالما فأتى أبو بكر فزاد عليه) فأثبت الكالم
يف النفس من غري نطق لسان ،وعمر ريض اهلل عنه -كان من أجل أهل
اللسان والفصاحة ....والعريب الفصيح يقول:كان يف نفيس كالم ،وكان يف
نفيس قول ،وكان يف نفيس حديث إىل غري ذلك ،وأنشد األخطل:
139
إن الكالم لفي الفؤاد وإنام ::جعل اللسان عىل الفؤاد دليال
النوع الثاين من الكالم الذي أثبته األشاعرة هلل تعاىل الكالم اللفظي ،وبعد
اتفاقهم عىل ثبوته هلل تعاىل عىل وجه احلقيقة ال املجاز اختلفوا يف قدمه
وحدوثه ،فذهب مجهور األشاعرة واملعتزلة عامة إىل حدوثه ،وإىل أنه غري قائم
138
79 49
139
97 96
172
باهلل تعاىل ألنه تعاىل ال يكون حمال للحوادث ،بل هو قائم بغريه تعاىل ،وذلك
ألهنم رأوا أن الكالم اللفظي ال يتحقق إال بحروف وكلامت وألفاظ مرتتبة
متعاقبة موقوف وجود املتأخر منها عىل انقضاء املتقدم .وهذا من صفات
املحدثات ،فمن أجل ذلك قالوا بحدوثه بمعنى أن اهلل تعاىل هو الذي استقل
بإحداثه بدون كسب ألحد فيه ،أوجده اهلل تعاىل يف اللوح املحفوظ أو يف
الشجرة أو يف جربيل مثال .وهو كالمه عىل وجه احلقيقة يؤديه الناس
بحروفهم وأصواهتم حني تالوهتم له ،نظري تالوهتم لغريه من كالم الناس.
ومع قوهلم بحدوث الكالم اللفظي هلل تعاىل قالوا :ال جيوز التَصيح بذلك إال
يف مقام التعليم لئال يسبق الوهم إىل حدوث الكالم املعنوي النفيس القديم
القائم باهلل تعاىل.
وذهب فريق من األشاعرة إىل قدم الكالم اللفظي وقيامه باهلل تعاىل كالكالم
املعنوي وأجابوا عن شبهة اجلمهور واملعتزلة بالرتتيب ،والتقدم ،والتأخر،
واالبتداء ،واالنقضاء ،بأن هذا قياس منهم للغائب عىل الشاهد ،ومن املقرر أنه
غري مقبول ،فإن الرتتيب املذكور إنام هو يف كالم املخلوق لعدم مساعدة اآللة.
وأما كالم اهلل تعاىل فهو اللفظ مع املعنى ،وهو لفظ نفيس كاملعنى قائم بذاته تعاىل
برتتيب وتقدم وتأخر ذايت ال زماين ،وبدون ابتداء وانقضاء ،وبدون صوت ،ومما
ُياكى ذلك حماكاة بعيدة وجود األلفاظ يف نفس احلافظ .فإن مجيع احلروف
هبيئاهتا التأليفية حمفوظة يف نفسه جمتمعة الوجود فيها ،وليس وجود بعضها
173
مرشوطا بانقضاء البعض وانعدامه يف نفسه ،فبطل ما يتوهم من أنه إذا مل يكن
ترتيب ال يبقى فرق بني ملع وملع ونظائرمها.
وممن ذهب إىل هذا الرأي اإلمام عبد الكريم الشهرستاين يف كتابه هناية
140
اإلقدام.
والقايض عضد الدين االجيي يف مقالة له أوردها السيد الرشيف يف رشح
املواقف141.والسعد التفتازاين ،والسيد الرشيف اجلرجاين ،وقد علق السعد
القول به عىل إمكان تصور وجود األلفاظ بدون ترتيب ،وقد بينا إمكانه ،وقد
كان شيخنا املحقق الكبري الشيخ حممد العربكندي يؤيد هذا املذهب ويذهب
إليه ،وهو املختار عندنا.
والفرق بني هذا املذهب ومذهب احلنابلة أن أهل هذا املذهب يقولون
بقدم الكالم النفيس وقيامه بذاته تعاىل بمعنى اللفظ النفيس من نوع ما يعرب
عنه بالنسبة لإلنسان بحديث النفيس ،وهو يكون بدون صوت كام يفيده
وصف الكالم بالنفيس.
وأما احلنابلة فقد ذهبوا إىل أن كالم اهلل تعاىل مؤلف من أصوات وحروف
مرتتبة ،وأهنا قائمة بذاته تعاىل .وال خيفى ما يف كالمهم من التناقض ،فإن قيام
الصفة بذات اهلل تعاىل يقتيض قدمها ألن اهلل تعاىل ال يكون حمال للحوادث،
140
117 113
113 8 141
174
وكون الكالم مؤلفا من األصوات واحلروف املرتتبة يقتيض حدوثها لبداهة
تعاقبها وجتددها املستلزم للحدوث ،وهذا ما دعى املعتزلة ومجهور األشاعرة
إىل القول بحدوث الكالم اللفظي وأنه غري قائم باهلل تعاىل كام قدمناه.
175
حتل ال يف األذهان وال يف اللسان وال يف األذان وال يف القرطاس .وأما اللفظ
الدال عليهام فهو حمفوظ مقروء مسموع مكتوب.
قال إمام احلرمني :كالم اهلل تعاىل مسموع يف إطالق املسلمني والشاهد
لذلك من كتاب اهلل تعاىل قوله تعاىل (وإن أحد من املرشكني استجارك فأجره
حتى يسمع كالم اهلل)...142
والذي جيب القطع به أن املسموع املدرك يف وقتنا األصوات ،فإذا سمي
كالم اهلل تعاىل مسموعا فاملعنى به كونه مفهوما معلوما عن أصوات مدركة
143
ومسموعة.
وقال :جيب إطالق القول بأن كالم اهلل تعاىل مسموع ،وليس املراد بذلك
تعلق اإلدراك بالكالم األزيل القائم بالباري تعاىل ،ولكن املدرك صوت
القارئ ،واملفهوم عند قراءته كالم اهلل سبحانه.
وال بعد يف تسمية املفهوم عند مسموع مسموعا ،فهذا بمثابة ما إذا بلغ
مبلغ رسالة ملك ،فيحسن ممن بلغته الرسالة أن يقول :سمعت كالم امللك
ورسالته ،وكالم امللك حديث نفسه وأصواته ،ومن بلغ الرسالة مل ينقل
144
صوت مرسله ،وال حديث نفسه.
142
2
143
129
144
157
176
ورك:
وقال ابن ف َ
معاين كالمه
َ «إن كالم اهلل تعاىل مل يزل وال يزال موجودا ،وإنه يف ِهم خل َقه
أوال فأوال وشيئا فشيئا ،وإن الذي يتجدد اإلسامع واإلفهام ،دون املسموع
واملفهوم ...كالمه ال خيص األوقات واألزمان ،كام أن علمه وسمعه وقدرته
ال يصح أن يقال فيه يشء من ذلك ،وإنام يتجدد املعلوم واملقدور بحدوثه شيئا
بعد يشء ،دون العلم والقدرة عليه) ثم قال( :واعلم أنه كام ينكر قول من قال:
إن اهلل مل يتكلم إال مرة واحدة كذلك ينكر قول من قال :إن اهلل يتكلم مرة بعد
145
أخرى ،ألن كل ذلك يوجب حدوث الكالم»...
وعىل هذا معنى كالم من قال من األئمة كاإلمام أمحد" :إن اهلل تعاىل مل يزل
متكلام إن شاء" أن كالم اهلل صفة قديمة قائمة بذات اهلل ،وأن اهلل يكلم أنبيائه متى
شاء بالوحي ،أو من وراء احلجاب ،أو بإرسال الرسول ،كام قال اهلل تعاىل( :وما
كان برش أن يكلمه اهلل إال وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسوال فيوحي
بإذنه ما يشاء) 146وقد كان اهلل تعاىل متكلام قبل أن يك رلم األنبياء ،كام أنه كان خالقا
قبل أن خيلق اخللق .فمعنى يكلم أنبيائه متى شاء يوحي إليهم كالمه القديم،
ويفهمهم إياه متى شاء،وليس معناه أنه ينشئ كالما يكلمهم به متى شاء ذلك،
145
449 446 445
146
51
177
فإن هذا املعنى مناقض لقوهلم" :مل يزل متكلام" ،ومقتيض حلدوث الكالم .وقد
اتفق أهل السنة عىل قدمه.
هذا عن املسموع لنا يف الدنيا كام أشار إليه إمام احلرمني بقوله" :والذي
جيب القطع به أن املسموع املدرك يف وقتنا األصوات".
وأما املسموع لسيدنا موسى عليه الصالة والسالم ولسيدنا حممد صىل اهلل
تعاىل عليه وآله وسلم ليلة املعراج وللمؤمنني يوم القيامة ما هو؟ فقد اختلفوا
فيه.
فذهب الشيخ أبو احلسن األشعري والقايض أبو بكر الباقالين إىل أن
املسموع هلم الكالم النفيس الذي هو ليس بحرف وال صوتِ ،
يسمعه اهلل
تعاىل من يشاء من عباده عىل سبيل خرق العادة ،فإن العادة أن ال تسمع إال
األصوات .وذلك عىل أصل األشعري" :أن كل موجود يصح أن يسمع" كام
أن من أصله" :أن كل موجود يصح أن يرى".
قال البيهقي( :إن كان املتكلم ذا خمارج سمع كالمه ذا حروف وأصوات،
وإن كان املتكلم غري ذي خمارج سمع كالمه غري ذي حروف وأصوات.
والباري جل ثنائه ليس بذي خمارج ،وكالمه ليس بحرف وصوت ،فإذا
147
فهمناه ثم تلوناه تلوناه بحروف وأصوات)
147
273
178
وذهب اإلمام أبو منصور املاتريدي وأبو إسحاق االسفراييني من
األشاعرة إىل أن املسموع هلؤالء هو صوت خملوق هلل تعاىل دال عىل املعنى
القائم بنفسه .قال أبو املعني النسفي يف التبَصة :وذكر (أبو منصور) يف كتاب
"التأويالت" أن موسى عليه السالم سمع صوتا داال عىل كالم اهلل تعاىل،
وكان اختصاصه (أي سبب اختصاصه باسم الكليم) أن اهلل تعاىل أفهمه
كالمه بإسامعه صوتا توىل ختليقه من غري أن يكون ذلك الصوت مكتسبا
ألحد من اخللق إكراما منه إياه ،وذهب بعده إىل هذا القول أبو إسحاق
االسفراييني من مجلة األشاعرة...
ومل يرض أبو إسحاق باختياره هذا املذهب ،حتى ادعى أن مجيع من
148
تقدمه من متكلمي أهل احلديث عىل هذا)...
148
315 1
179
ثم ليس املعن ِ ُّي باإلنزال حط اليشء من علو إىل سفل ،فإن اإلنزال بمعنى
االنتقال يتخصص باألجسام واألجرام ،ومن اعتقد قدم كالم اهلل تعاىل وقيامه
بنفس الباري سبحانه وتعاىل واستحالة مزايلته للموصوف به ،فال يسرتيب يف
استحالة االنتقال عليه.
ومن اعتقد حدوث الكالم ،وصار إىل أنه عرض من األعراض ،فال
يسوغ عىل معتقده أيضا تقدير االنتقال ،إذا العرض ال يزول وال ينتقل.
فاملعنِ ُّي باإلنزال أن جربيل صلوات اهلل عليه أدرك كالم اهلل تعاىل ،وهو يف
مقامه فوق سبع سموات ،ثم نزل إىل األرض ،فأفهم الرسول ما فهمه عند سدرة
املنتهى من غري نقل لذات الكالم.
وإذا قال القائل :نزلت رسالة امللك إىل القَص مل يرد بذلك انتقال أصواته،
149
أو انتقال كالمه القائم بنفسه.
هذا مذهب األشاعرة واملاتريدية يف كالم اهلل تعاىل.
وبه يتبني أهنم اثبتوا هلل تعاىل نوعني من الكالم :األول :الكالم املعنوي
النفيس ،وقد اتفقوا عىل قدمه ،وقيامه باهلل تعاىل ،والثاين :الكالم اللفظي ،وقد
اختلفوا فيه ،فذهب فريق من املحققني منهم إىل قدمه أيضا ،وقالوا :إن كالم اهلل
تعاىل عبارة عن اللفظ واملعنى القديمني القائمني باهلل تعاىل.
149
131
181
وذهب مجهورهم إىل حدوث الكالم اللفظي بمعنى أن اهلل تعاىل تفرد
بخلقه بدون كسب ألحد فيه ،وهو كالم اهلل عىل احلقيقة دون املجاز.
ومل يذهب أحد منهم إىل ما ذهب إليه مجهور احلنابلة من أن كالم اهلل تعاىل
عبارة عن احلروف واألصوات ،قالوا :ألنه من البدهيي أن ذلك يقتيض
الرتتيب والتعاقب املقتيض للحدوث ،وكالم اهلل تعاىل منزه عن احلدوث
باتفاق منا ومنهم.
ومذهب األشاعرة هذا هو مذهب اإلمام أيب حنيفة .قال -رمحه اهلل
تعاىل -يف الفقه األكرب ":ويتكلم ال ككالمنا ونحن نتكلم باآلالت واحلروف،
واهلل تعاىل يتكلم بال آلة وال حروف ،واحلروف خملوقة ،وكالم اهلل غري
خملوق"
181
"األسامء الصفات" للبيهقي ،150وبتقدير ثبوهتا فقد جعلوا الصوت فيها راجعا
إىل غري اهلل تعاىل كام تقدم يف كالم أيب املعني النسفي عن اإلمام أيب منصور
املاتريدي واألستاذ أيب اإلسحاق اإلسفراييني من أن اهلل يسمع كالمه بصوت
يتوىل ختليقه ،ال أن كالمه عبارة عن احلرف والصوت ،وُيتمل يف بعض هذه
األحاديث أن يكون الصوت للسامء ،أو للملك اآليت بالوحي ،أو ألجنحة
املالئكة ،كام ُيتمل أن يكون الصوت من تعبري الراوي ،وأن النبي قال:
(ينادهيم نداء يسمعه )...أو نحو ذلك ،فعرب الراوي بالصوت.
قال البيهقي يف "األسامء والصفات"" :وقد جيوز أن يكون الصوت فيه
إن كان ثابتا راجعا إىل غريه تعاىل ،كام روينا عن عبد اهلل بن مسعود موقوفا
(وموقوف الصحايب يف ما ال جمال للرأي فيه من املرفوع حكام)( :إذا تكلم اهلل
بالوحي سمع أهل السامء صلصلة كجر السلسلة عىل الصفا) ويف حديث أيب
هريرة( :إذا قىض اهلل األمر يف السامء رضبت املالئكة بأجنحتها خضعنا لقوله
كأنه سلسلة عىل صفوان)
ففي هذين احلديثني الصحيحني داللة عىل أهنم يسمعون عند الوحي
صوتا ،لكن للسامء ،وألجنحة املالئكة تعاىل اهلل عن شبه املخلوقني علوا
كبريا ...وكام روينا عن نبينا صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم( :أنه كان يأته
182
الوحي أحيان يف مثل صلصلة اجلرس) وكل ذلك مضاف إىل غري اهلل
سبحانه .انتهى.
151
88 18
152
121
153
61
183
قال الذهبي :قال اإلمام أمحد يف آخر رسالة أمالها عىل ابنه عبد اهلل:
القرآن من علم اهلل 154وقال :رواة هذه الرسالة عن أمحد أئمة أثبات أشهد باهلل
أنه أمالها عىل ولده ،ورواها أبو نعيم يف حلية األولياء وابن اجلوزي يف مناقب
اإلمام أمحد
155
هكذا ثبت عن اإلمام أمحد أن كالم اهلل تعاىل من علمه ،وعلمه ليس من
األصوات ،ومل يظهر يل وجه اجلمع بني قوله هذا وقوله :إن اهلل يتكلم
بصوت.
والذي يظهر ىل أن هذان القوالن عنه جاريان عىل مذهبه من الوقوف يف
باب العقيدة عند ظواهر النصوص وعدم جتاوزها ،وكراهة البحث والتنقيب
عن األمور الغامضة ،كام قال البخاري :املعروف عن أمحد وأهل العلم أن
كالم اهلل غري خملوق ،وما سواه خملوق ،وأهنم كرهوا البحث والتنقيب عن
والتنازع إال فيام جاء به العلم
َ وض
األمور الغامضة ،وجتنبوا أهل الكالم واخل َ
وبينه رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم
156
154
286 11
155
111 99 18
156
62
184
وبعد هذا اجلولة يف بيان مذهب أهل السنة من األشاعرة واملاتريدية
وغريهم يف كالم اهلل تعاىل نعود إىل كالم الدكتور لنبني كم حواه من أخطاء،
فنقول:
اخلطأ األول والثاين :ما حواه قوله" :أما مذهب األشاعرة فمن منطلق
التوفيقية التي مل ُيالفها التوفيق فرقوا بني املعنى واللفظ".
اخلطأ األول :أن الدكتور نسب التفرقة بني املعنى واللفظ إىل كل
األشاعرة يعنى أهنم كلهم قالوا :إن املعنى قديم واللفظ حادث .وقد بينا أن
هذا هو مذهب مجهور األشاعرة ،وأن فريقا من املحققني منهم ذهب إىل قدم
اللفظ كاملعنى.
اخلطأ الثاين :ما ادعاه الدكتور من أن تفرقتهم بني اللفظ واملعنى إنام هو
من منطلق التوفيق بني مذهب أهل السنة ومذهب املعتزلة ،وهو غري صحيح.
فمن املعلوم لكل ملم بمذهب األشاعرة ومذهب املعتزلة ومذهب غريمها من
الفرق اإلسالمية أن مذهب األشاعرة أبعد املذاهب عن مذهب املعتزلة ،أو
من أبعدها عنه.
حتى أنه قد يتخيل للباحث أن بعض آراء األمام األشعري رد فعل نفيس
ملذهب املعتزلة.
185
فاألشاعرة مل يذهبوا إىل يشء مما ذهبوا إليه من اآلراء من منطلق التوفيق،
بل إنام ذهبوا إىل ما ذهبوا إليه ألن الدليل أداهم لذلك .نعم ملن ال يوافقهم عىل
ما أداهم إليه الدليل أن يناقشهم يف ذلك.
اخلطأ الثالث :قوله( :فالكالم الذي يثبتونه هلل تعاىل هو معنى أزيل أبدي
قائم بالنفس ليس بحرف وال صوت) أقول :نعم قد أثبتوا الكالم هبذا املعنى
هلل تعاىل ،لكن اخلطأ يف كالم الدكتور يف احلَص ،فقد بينا أن األشاعرة قد أثبتوا
هلل تعاىل الكالم اللفظي أيضا عىل وجه احلقيقة ،لكنهم اختلفوا يف قدمه
وحدوثه.
اخلطأ الرابع :قوله ....( :وال يوصف باخلرب واإلنشاء) حيث إهنم اتفقوا
عىل أن كالم اهلل تعاىل يوصف باخلرب واإلنشاء ،فقال بعضهم :يوصف هبام يف
األزل ،وقال آخرون :يوصف هبام فيامال يزال.
اخلطأ اخلامس والسادس :قوله{:واستدلوا بالبيت املنسوب لألخطل
النرصاين:
إن الكالم لفي الفؤاد وإنام ::جعل اللسان عىل الفؤاد دليال}
األول :أن سياق كالم الدكتور يوهم أن األشاعرة استدلوا بكالم النَصاين
عىل أمر من أمور العقيدة -معاذ اهلل ،-مع أن استدالهلم به إنام هو عىل مسألة
لغوية ،وهي أن الكالم يطلق يف اللغة عىل الكالم النفيس ،وإن كان مراده اإلنكار
عىل االستدالل بكالم األخطل عىل هذه املسألة اللغوية فهو أيضا خطأ ،وليست
186
نَصانية األخطل بامنعة من االحتجاج بكالمه و شعره يف اللغة ،فاملرشكون من
الشعراء واليهود والنصارى منهم ُيتج بأشعارهم ،وال زال أئمة اللغة ُيتجون
هبا.بل معظم احتجاجهم بكالم غري املسلمني من شعراء اجلاهلية
الثاين :أن كالمه يوهم أن األشاعرة مل يستدلوا عىل املسألة إال ببيت
األخطل ،وقدعلمت اهنم قد استدلوا عليها بالكتاب والسنة وكالم أقحاح
العرب كام تقدم.
اخلطأ السابع :قوله{ :أما الكتب املنزلة ذات الرتتيب والنظم واحلروف
ومنها القرآن -فليست هي كالم اهلل عىل احلقيقة بل هي عبارة عن كالم اهلل
النفيس}
وقد قدمنا أن كالم اهلل وكذلك القرآن يطلق عىل وجه احلقيقة ال املجاز
عىل املعنى النفيس القديم القائم باهلل تعاىل ،وعىل النظم املنزل املعجز املفصل
إىل السور واآليات ،وتأييدا ملا قلناه ننقل كالم سعد الدين التفتازاين فيه .قال
يف "رشح العقائد النسفية"« :فإن قيل :لو كان كالم اهلل حقيقة يف املعنى القديم
جمازا يف النظم املؤلف لصح نفيه ،بأن يقال :ليس النظم املنزل املعجز املفصل
إىل السور واآليات كالم اهلل تعاىل ،واإلمجاع عىل خالفه ،وأيضا املعجز
املتحدى به هو كالم اهلل حقيقة ،مع القطع بأن ذلك إنام يتصور يف النظم
املؤلف املفصل إىل السور ،إذ ال معنى ملعارضة الصفة القديمة.
187
قلنا :التحقيق أن كالم اهلل تعاىل اسم مشرتك بني كالم اهلل النفيس القديم،
ومعنى اإلضافة (إىل اهلل) كونه صفة له ،وبني اللفظي احلادث املؤلف من
السور واآليات ،ومعنى اإلضافة أنه خملوق اهلل تعاىل ليس من تأليفات
املخلوقني ،فال يصح النفي أصال ،وال يكون اإلعجاز والتحدي إال يف كالم
اهلل تعاىل .وما وقع يف عبارة املشايخ من أنه جماز يف النظم فليس معناه أنه غري
موضوع للنظم املؤلف ،بل معناه أن الكالم يف التحقيق وبالذات اسم للمعنى
القائم بالنفس ،وتسمية اللفظ به ووضعه لذلك إنام هو باعتبار داللته عىل
املعنى ،فال نزاع هلم يف الوضع والتسمية» هذا كالم السعد.
اخلطأ الثامن :قوله{ :واملعنى النفيس يشء واحد يف ذاته لكن إن جاء
التعبري عنه بالعربانية فهو توراة وإن جاء بالرسيانية فهو إنجيل ،وإن جاء
بالعربية فهو قرآن}
هذا صحيح لو كان نسبة هذا القول إىل مجهور األشاعرة ال إىل كلهم،
واخلطأ يف نسبته إىل األشاعرة كلهم ،وقد قدمنا أن فريقا من املحققني من
األشاعرة عىل أن كالم اهلل عبارة عن اللفظ واملعنى ،وعىل هذا املذهب ال
يكون الكالم أمرا واحدا ،بل يكون أمورا متكثرة منه سياين ومنه عرباين ومنه
عريب ،وكله قديم قائم باهلل عند هذا الفريق.
اخلطأ التاسع والعارش واحلادي عرش :قوله{ :فهذه الكتب كلها خملوقة،
ووصفها بأهنا كالم اهلل جماز ،ألهنا تعبري عنه}
188
اخلطأ األول :حكمه بأن هذه الكتب كلها خملوقة عند األشاعرة ،اخلطأ
الثاين نسبة هذا القول إىل األشاعرة كلهم ،مع أن كتاب اهلل ككالم اهلل يطلق
عند األشاعرة عىل املعنى النفيس وعىل األلفاظ ،وهو باملعنى النفيس ال خالف
عندهم يف أنه قديم ،وقد اختلفوا يف الكتاب بمعنى األلفاظ فاجلمهور عىل
حدوثه ،وفريق منهم عىل أهنا أيضا قديمة.
اخلطأ الثالث :قوله( :ووصفها بأهنا كالم اهلل تعاىل جماز) وقد تقدم بيانه
آنفا.
اخلطأ الثاين عرش :قوله{ :واختلفوا يف القرآن خاصة فقال بعضهم :إن اهلل
خلقه أوال يف اللوح املحفوظ ،ثم أنزله يف صحائف إىل سامء الدنيا فكان
جربيل يقرأ هذا الكالم املخلوق ،ويبلغه حممدا صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم،
وقال آخرون :إن اهلل أفهم جربيل كالمه النفيس ،وأفهمه جربيل ملحمد صىل
اهلل تعاىل عليه وآله وسلم}
أقول :ليس ههنا أي اختالف ،بل قول من قال( :إن اهلل خلقه أوال يف
اللوح املحفوظ ...إلخ) منزل عىل القرآن بمعنى األلفاظ والنظم املؤلف.
وهذا كالم مجهور األشاعرة القائلون بأن األلفاظ حادثة ،وليس قوال للقائلني
منهم بأهنا قديمة ،وأما أن اهلل تعاىل أفهم جربيل كالمه النفيس ...إلخ فهو
كالم األشاعرة كلهم ،وهو منزل عىل املعنى النفيس ،ولنا أن نقول :إنه كالم
مجهورهم أيضا إن كان املراد أفهمه الكالم النفيس فقط بدون األلفاظ ،وهو
189
املناسب بمقابلة هذا الكالم بسابقه ،وهو أن اهلل خلقه أوال يف اللوح
املحفوظ ...إلخ فأين االختالف الذي قاله الدكتور؟!
اخلطأ الثالث عرش والرابع عرش واخلامس عرش :قوله{ :فالنزول نزول
إعالم وإفهام ال نزول حركة وانتقال ألهنم ينكرون علو اهلل}
اخلطأ األول :نسبت الدكتور إىل األشاعرة عىل وجه اإلنكار ،أن النزول
للقرآن عندهم نزول إعالم وإفهام ،ال نزول حركة وانتقال ،فالنسبة صحيحة
واخلطأ هو اإلنكار لذلك ،وذلك ألن احلركة واالنتقال من صفات األجسام،
وال يتصور ذلك يف كالم اهلل تعاىل ،ثم إن معنى االنتقال املزايلة واالنفصال،
وهو ال جيوز عىل صفات اهلل ،وهل زايل القرآن ذات اهلل تعاىل وانفصل عنه
حني نزل؟! ومعنى هذا أن اهلل تعاىل قد بقي بعد نزول القرآن بدون صفة
الكالم .سبحان ربك رب العزة عام يصفون .وراجع ما نقلناه آنفا عن إمام
احلرمني يف معنى اإلنزال.
واخلطأ الثاين :قوله(:ألهنم ينكرون علو اهلل) هم ال ينكرون علو اهلل
تعاىل ،كيف ،وهم ال يذكرون اهلل تعاىل إال ويقرنونه بقوهلم( :تعاىل) من العلو،
والذي ينكرونه هو ثبوت اجلهة هلل ،وهو الذي أنكره السلف واخللف.
واخلطأ الثالث :حكم الدكتور بأن قول األشاعرة بأن نزول القرآن نزول
إعالم وإفهام ال نزول حركة وانتقال ،مبني عىل انكارهم العلو هلل تعاىل ،وقد
191
علمت بأنه ليس بمبني عليه ،بل هو مبني عىل أن احلركة واالنتقال ال
يتصوران بالنسبة إىل الكالم ،وعىل أن االنتقال ال جيوز عىل صفات اهلل تعاىل.
اخلطأ السادس عرش :قول الدكتور{ :ثم اختلفوا يف الذي عرب عن الكالم
النفيس هبذا اللفظ .والنظم العريب من هو؟ .فقال بعضهم :هو جربيل ،وقال
بعضهم :بل هو حممد صىل اهلل تعاىل وآله وسلم}
أقول :قدمنا أن مذهب األشاعرة أن القرآن معناه ولفظه كالم اهلل عىل
احلقيقة ال املجاز ،وأهنم قد اختلفوا يف القرآن بمعنى اللفظ املعجز املنزل هل
هو قديم قائم باهلل كاملعنى ،أو أنه حادث توىل اهلل ختليقه وتأليفه بدون كسب
ألحد يف هذا التأليف ،هذا مذهب مجهورهم ،واألول مذهب فريق منهم ،هذا
هو مذهب األشاعرة فمن أين أتى هذان القوالن اللذان نسبهام الدكتور إىل
األشاعرة كلهم؟ نعم قد نسبهام إىل بعض األشاعرة ابن تيمية! (كام نقله
الدكتور)! فقلده الدكتور ،وهال قلده تقليدا صحيحا!
وليت شعري من هم القائلون هبذين القولني املخالفني ملا أطبقت عليه
كتب األشاعرة ،فهال ذكرهم ابن تيمية بأسامئهم! نعم قد نقل هذين القولني
الباجوري يف رشح جوهرة التوحيد بصيغة التمريض بدون أن يذكر أسامء
القائلني ،وال أدري كيف يقول هذا مسلم! فاملؤكد أن هذين القولني قوالن
مدسوسان عىل األشاعرة كام قاله الزرقاين يف "مناهل العرفان".
191
وبعد هذا هل يصح نسبة هذين القولني إىل األشاعرة ،وجعلهام مذهبني
هلم كلهم أو بعضهم؟!!! سبحانك اللهم هذا هبتان عظيم يعظكم اهلل أن
تعودوا ملثله أبدا إن كنتم مؤمنني.
اخلطأ السابع عرش :قوله{ :واستدلوا بمثل قوله تعاىل( :إنه لقول رسول
كريم) يف سوريت احلاقة واالنشقاق حيث أضافه يف األوىل إىل حممد صىل اهلل
تعاىل عليه وآله وسلم ،ويف األخرى إىل جربيل بأن اللفظ ألحد الرسولني
(جربيل أوحممد) صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم}
فإذا مل يكن األشاعرة قائلني بيشء من هذين القولني ،بل قائلني بضدمها
فكيف يستدلون عىل صحتهام بكتاب اهلل تعاىل؟!
اخلطأ الثامن عرش :قوله{ :وقد رصح باألول الباقالين ،وتابعه اجلويني}
يقصد باألول أن لفظ القرآن من انشاء جربيل وتأليفه ال من اهلل تعاىل،
فادعى الدكتور أن الباقالين واجلويني رصحا بذلك .وهذا الدعوى كسابقاهتا
غري صحيحة! وننقل كالم هذين اإلمامني كي يتحقق القارئ من ذلك.
أما اجلويني فقد نقلنا عنه آنفا أنه قال يف بيان معنى إنزال كالم اهلل تعاىل:
(كالم اهلل منزل عىل األنبياء ...فاملعن ِ ُّي باإلنزال أن جربيل -صلوات اهلل
عليه -أدرك كالم اهلل تعاىل وهو يف مقامه فوق سبع سموات ،ثم نزل إىل
األرض ،فأفهمه الرسول صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم ما فهمه عند سدرة
املنتهى) فاجلويني يقول( :إن جربيل أدرك كالم اهلل) وكالم اهلل عند اإلطالق
192
يراد به اللفظ واملعنى ،ثم يقول( :فأفهم الرسول ما فهمه) ويعنى به أن الذي
أفهمه جربيل الرسول هو ما فهمه نفسه وعينه بدون إضافة إليه أو نقص عنه،
ومل يقل اجلويني :أفهم الرسول املعنى باللفظ العريب الذي ألفه هو ورتبه.
واملنزل عىل الوجه الذي بيناه من وأما الباقالين فقد قالِ ( :
فاملنزل هو اهللَ ...
كونه نزول إعالم وإفهام ال نزول حركة وانتقال ،كالم اهلل األزيل القائم بذاته...
واملنزل عليه قلب النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم ...واملنزل به هو اللغة
العربية التي تال هبا جربيل ونحن نتلوا هبا إىل يوم القيامة ....والنازل عىل احلقيقة
املنتقل من قطر إىل قطر قول جربيل عليه السالم يدل عىل هذا قوله تعاىل( :إنه
لقول رسول كريم .وما هو بقول شاعر قليال ما تؤمنون .وال بقول كاهن قليال ما
تذكرون .تنزيل من رب العاملني) ...فحصل من هذا أن اهلل تعاىل علم جربيل
عليه السالم القرآن ...،وعلمه اهلل النظم العريب الذي هو قرائته ،وعلم هو القراءة
نبينا صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم ،وعلم النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم
أصحابه) 157،فأنت ترى أن الباقالين يَصح بأن اهلل تعاىل علم جربيل القرآن
وعلمه النظم العريب الذي هو قراءته ،وعرب بالقراءة عن املقروء ،ألن اللفظ
العريب مقروء وليس نفس القراءة ،فاللفظ العريب عىل هذا شيئ علمه اهلل تعاىل
جربيل ،وليس شيئا اخرتعه جربيل ونظمه ورتبه هو .نعم يأيت االشكال يف قول
157
86 85
193
الباقالين( :والنازل عىل احلقيقة املنتقل من قطر إىل قطر قول جربيل) ومراده
القول الذي ُيمله جربيل ،وعرب هبذا التعبري موافقة للفظ اآلية (إنه لقول رسول
كريم) كام أن املراد باآلية :إنه لقول ُيمله وينزل به رسول كريم.
اخلطأ التاسع عرش :قوله:
{وعىل القول بأن القرآن الذي نقرؤه يف املصاحف خملوق سار األشاعرة
املعارصون ،ورصحوا به ،فكشفوا بذلك ما أراد شارح اجلوهرة أن يسرته حني
قال( :يمتنع أن يقال :إن القرآن خملوق إال يف مقام التعليم}
حمل اخلطأ يف هذا الكالم قوله( :ما أراد شارح اجلوهرة أن يسرته)
فالباجوري مل يرد أن يسرت بكالمه شيئا ،بل أباح بام أراد أن يقوله ورصح به،
فإن الذي قاله هو قول مجهور األشاعرة القائلون بأن األلفاظ خملوقة هلل تعاىل
وقد قرروا ما قاله الباجوري يف كتبهم ،وأرادوا تعليمه للناس ،ومل يريدوا أن
يسرتوه فقالوا :ال جيوز التَصيح بأن القرآن خملوق وإن أراد القائل النظم
العريب دون املعنى القديم القائم باهلل ،لئال يذهب الوهم إىل أن صفة الكالم
القائمة باهلل تعاىل خملوقة فمنعوا هذا اإلطالق يف غري مقام التعليم سدا
للذريعة.
194
قال الدكتور{ :السادس :القدر :أراد األشاعرة هنا أن يوفقوا بني اجلربية
أي قدرة
والقدرية ،فجاؤوا بنظرية الكسب وهي يف مآهلا جربية خالصة ألهنا تنفي َّ
للعبد أو تأثري أما حقيقتها النظرية الفلسفية ،فقد عجز األشاعرة أنفسهم عن
فهمها فض ً
ال عن إفهامها لغريهم}
أقول :الكسب الذي قال به األشاعرة ال ينفي قدرة العبد وال اختياره،
تأثري قدرته يف يشء من أفعاله ،وقد ساقهم إىل القول بذلك
وإنام ينفي َ
بتفر ِد ِه تعاىل ِ
بخلق ر
كل يشء، ِ
النصوص الكثرية من الكتاب والسنة املَصحة ُّ
الدالة عىل أنه ال مؤثر يف الكون إال اهلل ،ال حماولة التوفيق كام يقول الدكتور.
وأما عدم املعرفة التفصيلية حلقيقة الكسب وعدم تعريف األشاعرة له
ِ
الغموض بتعريف جامع مانع فإنام هو ألجل ما اختصت به املسألة من
ِ
اخلوض فيها .وقالوا« :إن القدر س واخلفاء ،ومن ِ
أجل ذلك هنى السلف عن
اهلل فال تتكلفوه» ،وجاء عن النبي أنه قال( :إذا ذكر القدر فامسكوا) ،ولو
كانت املسألة واضحة وكانت بحيث تعلم عىل وجه التفصيل ملا أمر النبي
صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم باإلمساك عن القدر ،وملا هنى السلف عن
املذهب من أدلة كونِ ِه هو الصواب .واهلل تعاىل أعلم.
ِ اخلوض فيه ،فغموض
ثم إن مذهب األشاعرة يف القدر أوفق املذاهب بنصوص الكتاب والسنة،
وهو املوافق ملذهب السلف ومذهب اإلمام أمحد رمحه اهلل تعاىل ،ففي عقيدة
195
اإلمام أمحد املطبوعة بآخر املجلد الثاين من طبقات احلنابلة البن أيب يعىل ما
ييل:
«وكان يذهب إىل أن أفعال العباد خملوقة هلل عز وجل ،وال جيوز أن خيرج
يشء من أفعاله عن خلقه ،لقوله عز وجل( :خالق كل يشء) ،ثم لو كان
خمصوصا جلاز مثل ذلك التخصيص يف قوله( :ال إله إال اهلل) وأن يكون
خمصوصا أنه إله لبعض األشياء .وقرأ (وجعلنا يف قلوب الذين اتبعوه رأفة
ورمحة) وقرأ (عسى أن جيعل بينكم وبني الذين عاديتم منهم مودة) وقرأ
(وقدرنا فيها السري سريوا فيها ليايل وأياما آمنني) ،وروي عن عىل ابن أبى
طالب ريض اهلل تعاىل عنه أنه سئل عن أعامل اخللق التي يستوجبون هبا من اهلل
تعاىل السخط والرضا ؟ فقال :هي من العباد فعال ،ومن اهلل تعاىل خلقا ال
تسأل عن هذا أحدا بعدى» 158،فمذهب األشاعرة هو مذهب اإلمام أمحد
نفسه ،وليت شعري ما الذي يعتقده الدكتور يف القدر؟!
ِ
مذهب األشاعرة يف مسألة ثم أقول :قد قرر اإلمام تاج الدين السبكي
القدر بطريقة جيدة؛ فأردت أن َ
أنقل كالمه هنا ليعلم الدكتور و َمن هم عىل
ِ
لنصوص الكتاب والسنة موافق
ٌ شاكلته هل مذهب األشاعرة يف املسألة
158
299 2
196
خمالف هلم .قال التاج يف "رشح
ٌ ولقواعد اإلسالم ومذهب السلف أم أنه
خمتَص ابن احلاجب" :159
ويل أنا طريق ٌة أراها الصواب فاقتَص عىل ذكرها قائال:
ثبت لنا قاعدتان ،إحدامها :أن العبدَ غري خالق ألفعال نفسه.
والثانية أن اهللَ ال يعاقب إال عىل ما فعله العبد ،والثواب العقاب واقعان
عىل اجلوارح ،فلزمت الواسطة بني ال َقدَ ِر واجلَ ِرب ،وساعدنا ِعليها شاهدٌ يف
اخلارج ،وهو التفرقة الرضورية بني حركة املرتعش واملريد ،فأثبتنا هذه
الواسطة ،وسميناها بالكسب لقوله تعاىل( :هلا ما كسبت وعليها ما
اكتسبت) 160وغري ذلك من اآلي واألخبار ،فإن سئلنا عن التعبري عن هذا
الكسب بتعريف جامع مانع قلنا :ال سبيل لنا إىل ذلك والسال َم ،فرب ثابت ال
أخ َذ ُي رقق حتيطه العبارات ،وحمسوس ال تكتنفه اإلشاراتِ .
ومن أصحابنا َمن َ
الكسب فوقع يف معضل أرب ال ق َب َل له به.
َ
حق فكان حقا ،وعضده ما ذكرناه،
أمر لزم عن ٍّ
والصواب عندنا :إنه ٌ
دون التفصيل. ِ
اجلملة َ فعرفناه عىل
عيل بن موسى الرضا وقد سئل :أيك رلف اهلل العبا َد بام ال
وما أحس َن قول ر
يطيقون؟ قال :هو أعدل من ذلك.
462 1 159
160
286
197
قيل :أفيستطيعون أن يفعلوا ما يريدون؟ قال :هم أعجز من ذلك.
وعيل بن الرضا هو ابن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن حممد الباقر
ُّ
عيل بن أيب طالب ريض اهلل عنهم
عيل بن احلسني بن ر بن ِ
زين العابدين ابن ر
األشعري وفاة بام ينيف عىل
ر وهذا الذي قاله عني مذهبنا فافهمه .وهو قبل
الشافعي
ر مات بـ"طوس" سن َة ثالث ومائتني قبل
مائة وعرشي َن سنة ،فإنه َ
واألشعري مات بعد العرشين وثالثامئة.
ُّ بسنة
وأي برهان قا َم عىل إبطال القدر واجلرب؟
فإن قلتُّ :
قلت :هذا اآل َن ِمن ف رن الكالم .وإدخاله يف األصول فضول ،ونحن نشري
إىل ز ِ
بدة القول فيه ،فنقول:
طالب عباده بأعامهلم يف حاهلم،
ب أن الرب تعاىل م ٌ قد تقرر عند ر
كل ذي ل ٍّ
ومثيبهم ويعاقبهم عليها يف مآهلم ،وتبني بالنصوص املرتقية عن درجات
التأويل أهنم من الوفاء بام كلفوه بسبيل.
ِ
االستحثاث عىل املَكر َمات، و َمن نظر يف كليات الرشائع وما فيها من
ِ
ووعيد بالزلفى، والزواجر عن املوبقات ،وما اشتملت عليه من ِ
وعد الطائعني ُّ ِ
العاصني بسوء املنقلب ،وما تضمنَه قوله تعاىل :تعديتم وعصيتم وأبيتم ،وقد
السب َل
فأرسلت الرس َل وأوضحت ُّ
أرخيت لكم ال ّطول و َفسحت لكم ا َمله َلَ ،
اسرتاب يف أن القول
َ ِ
للناس عىل اهلل حجة ،وأحاط بذلك ك رله ،ثم لئ ّ
ال يكون
مصاب يف عقله ،أو ملقى من التقليد يف َوهدَ ة من جهله.
ٌ باجلرب ٌ
باطل فهو
198
اجلربي يقول( :ال يسأل عام يفعل وهم يسألون)َ 161
قيل له :كلمة ُّ فإن أخذ
َح ٍّق أريد هبا باطل ،نعم يفعل اهلل ما يشاء ،وُيكم ما يريد ،ولكن يتقدس عن
نقيض الصدق .وقد فهمنا برضورات العقول ِم َن الرشع املنقول أنه
ِ فاخلل ِ
طالب عباده بام أخرب أهنم متمكرنون من الوفاء به ،فلم يك رلفهم إال
َ عزت قدرته
عىل مبلغ الطاقة والوسعِ ،فقد الح إبطال القول باجلرب.
األولوندرج عليه ّ عمّا َ ِ
بخلق األفعال؛ فإن فيه مروقا ّ و َأسفه ِمنه القول
ِ
الواحد بقادرين ،ومدَ اناة ِ
الفعل واقتحا َم ورطات الضالل ،ولزو َم حدوث
ِ
برشيك الباري ،فلقد أمجع املسلمون قاطبة قبل ظهور البِدَ ع واآلراء، ِ
القول
خالق إال اهلل ،وفاهوا به كام فاهوا بقوهلم: ِ
أصحاب األهواء عىل أنه ال َ واجتام ِع
الرب سبحانه وتعاىل يف آي من الكتاب بقوله( :أفمن
ال إله إال اهلل ،وبمدح ر
خيلق كمن ال خيلق)( 162،هل من خالق غري اهلل)( 163،وخلق كل يشء) 164،فال
وصف نفسه بكونه خالقا عىل احلقيقة فقد أعظم ِ
الفري َة عىل لبيب أن َمن ر
َ َ َ يشك ٌ
ربه ،فلقد وضح كالشمس أ رن اجلربي ٌ
مبطل لدعوة األنبياء عليهم السالم،
والقدري مثبت لر ربه رشيكا ،وهذه مجلة ال يقنَع هبا الطالب للبسط ،وفيها َرم ٌز
ِ
الصة ما يقوله علامؤنا ريض اهلل عنه.إىل خ
161
23
162
71
163
3
164
111
199
قال الدكتور{ :وهلذا قال الرازي الذي عجز هو اآلخر عن ِ
فهمها :إ َّن
صورة ٍ
خمتار. ِ جمبور يف اإلنسا َن
ٌ
ألحد أصحابِ ِه يف تفسريها ِ البغدادي فأراد أن يوضحها ،فذكر مثاالً ُّ أما
ِ
الكبري ِ
باحلجر ِ
الكسب إىل العبد َّشبه فيه اقرتا َن قدرةِ اهلل بقدرة العبد مع ِ
نسبة َ
آخر عىل محلِ ِه منفرد ًا به ،فإذا اجتمعا مجيعاً عىل ويقدر ٌ ُ رجل يعج ُز عن محله ٌ قد َ
ال}خرج أضعفهام بذلك عن كونِ ِه حام ً بأقوامها ،وال َ ُ ِ
احلمل ُ
حصول محله كا َن
ِ
الضعيف بتوج ِه ٌ ِ
مرشوط ُّ احلمل القوي إىل
ر وتوجه
ُّ وأقول تتميام للمثال:
الضعيف عىل احلمل عزما مصمام ِ القوي إنام يتحقق عندَ عز ِم ومحلإليهَ ،
ر
واختياره له.
األشعري عبار ٌة عن اختيار العبد للفعل وتعليق قدرته به
ر فالكسب عند
الفعل وإجياده ِ
فم َن اهللِ تعاىل وأثر ِ وعنده تتعلق قدرة اهلل تعاىل به .وأما خلق
لقدرته ،ال تأثري لقدرة العبد فيه ،ألن التأثري واإلجياد واخللق من خصائص
قدرة اهلل تعاىل .والعباد إنام جيازون عىل كسبهم املذكور واختيارهم للفعل،
وتعليق قدرهتم به الذي هو رشط عادي لتعلق قدرة اهلل بالفعل وتأثريه فيه.
واجلزاء عىل الكسب املذكور ليس فيه شائبة ظلم بل هو عدل حمض ألن
كسب العبد له دور كبري يف وجود فعله وحتققه ،ألنه رشط عادي لتعلق قدرة
اهلل تعاىل بالفعل وتأثريها فيه.
211
ِ
العباد االختيارية خملوق ٌة هلل أم خملوقة وأنا أسأل الدكتور :هل أفعال
بني األمرين واسطة. للعباد؟ وليس َ
ِ
السنة أهنا خملوق ٌة هلل تعاىل لكن باختيار وكسب من العبد، فمذهب ِ
أهل
ِ
الكتاب وهو الذي دلت عليه النصوص الَصُية التي ال تقبل التأويل من
ِ
والسنة ،وهو مذهب األشاعرة .ومذهب اإلمام أمحد رمحه اهلل تعاىل كام نقلنا
كالمه آنفا.
ِ
بدون ومذهب املعتزلة أهنا خملوق ٌة للعبد ،ومذهب اجلربية أهنا خملوق ٌة هلل
اختيار وال كَسب من العبد ،فاخرت أهيا الدكتور منها ما شئت!
وقد كتبنا يف مسألة الكسب وخلق أفعال العباد رسالة أحطنا فيها
بمذاهب علامء اإلسالم فيها ،وبيناها بينا وافيا.
211
ثم إنه من املقرر أن مذهب األشاعرة أن املحبة والريض غري اإلرادة ،فقد
يريد اهلل اليشء وال ُيبه وال يرضاه كالكفر من الكافر ،وقد ُيبه ويرضاه وال
يريده كاإليامن من الكافر ،وقد ُيبه ويرضاه ويريده كاإليامن من املؤمن ،وأما
كون اإلرادة عبارة عن املحبة والرضا أو مستلزمة هلام فهو مذهب املعتزلة ،ومل
يذهب إليه من األشاعرة إال إمام احلرمني ،وقد رد عليه من أتى بعده .وانظر
املسايرة البن اهلامم برشحها البن أبى رشيف 165ولعل الدكتور اغرت بام يف
"اإلنصاف" للباقالين حيث قال( :واعلم أنه ال فرق بني اإلرادة واملشيئة
واالختيار والرىض واملحبة عىل ما قدمنا) 166وليس مراد الباقالين أن هذه
الكلامت بمعنى واحد كام توهم ،وإنام مراده أن رضا اهلل تعاىل لإلنسان وحمبته
له عبارة عن إرادة اخلري والنفع له ،فإن هذا هو الذي قدمه الباقالين يف كتابه
دون الرتادف ،ويدل عليه الحق كالمه ،حيث قال عقب هذا الكالم( :واعلم
أن االعتبار يف ذلك كله باملآل ال باحلال ،فمن ريض سبحانه عنه مل يزل راضيا
عنه ال يسخط عليه أبدا وإن كان يف احلال عاصيا .ومن سخط عليه فال يزال
ساخطا عليه .وال يرىض عنه أبدا وإن كان يف احلال مطيعا)
ثم إن ما نسبه الدكتور إىل األشاعرة خطئا وانتقدهم بناء عىل ذلك هو
ظاهر كالم اإلمام أمحد ففي اعتقاد اإلمام أمحد امللحق بطبقات احلنابلة ما ييل:
124 165
41 166
212
وكان أمحد بن حنبل ريض اهلل تعاىل عنه يقول :إن اهلل تعاىل يكره الطاعة من
العايص ،كام يكره املعصية من الطائع حكاه ابن أيب داود ،وقرأ( :ولو أرادوا
اخلروج ألعدوا هلم عدة .ولكن كره اهلل انبعاثهم) وانبعاثهم طاعة اهلل .واهلل
167
يكرهه.
167
311 2
213
أحدمها :سالمة األسباب وصحة اآلالت والتهيؤ لتنفيذ الفعل عن إرادة
املختار ،واملراد بصحة اآلالت صالحيتها لقبول القدرة احلقيقة ،وأن تكون
بحالة يصح الفعل هبا عادة كصحة البدن واألعضاء واجلوارح عن األمراض
والعلل التي تعوقها عن القيام بالفعل ،وعىل هذا املعنى ورد قوله تعاىل( :وهلل
عىل الناس حج البيت من استطاع إليه سبيال) وقوله تعاىل( :فمن مل يستطع
فإطعام ستني مسكينا) إىل غري ذلك من اآليات وال خالف يف أن االستطاعة
هبذا املعنى سابقة عىل الفعل ،وهي رشط لصحة التكليف ومتقدمة عليه.
وثانيهام :االستطاعة املستجمعة لرشائط التأثري التي يقام هبا الفعل ظاهرا.
وعىل هذا املعنى ورد قوله تعاىل( :ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا
يبَصون) وقوله تعاىل( :إنك لن تستطيع معي صربا) إىل غري ذلك من
اآليات.
واالستطاعة هبذا املعنى هي التي اختلف فيها ،فقال أهل السنة إهنا مقارنة
للفعل ال متقدمة عليه ،وقالت املعتزلة :إهنا متقدمة عىل الفعل.
وهذا اخلالف مبني عىل اخلالف يف خلق أفعال العباد ،فاملعتزلة من أجل
وأثر عن قدرهتم قالوا :إن القدرة
قوهلم بأن أفعال العباد االختيارية خملوقة هلم ٌ
التي هبا الفعل متقدمة عىل الفعل ،ألن إجياد الفعل عبارة عن إخراجه من
العدم إىل الوجود ،فالبد للقدرة املؤثرة يف إجياده من أن تقارن عدمه حتى
يصح إخراجها إياه من العدم إىل الوجود ،فال بد من تقدمها عىل الفعل.
214
وأما أهل السنة فمن أجل قوهلم :بأن القدرة التي هبا الفعل ظاهرا غري
مؤثرة يف وجود الفعل ،بل متعلقة به بدون تأثري هلا فيه ،قالوا :إهنا مقارنة
للفعل ،ألن املقارنة البد منها ليصح تعلقها بالفعل ،ويصح كون الفعل
مكسوبا للعبد ،وأما تقدمها عىل الفعل فإنام ُيتاج إىل القول به إذا قيل :إهنا
مؤثرة يف الفعل ،وأهل السنة مل يقولوا بتأثريها ،فلم ُيتاجوا إىل القول بقدرة
موجودة قبل الفعل.
وقد ذكر املتكلمون من أهل السنة يف بيان أن القدرة مقارن ٌة للفعل ال
متقدمة عليه دالئل أخرى ووجوها َ
أخر ،ونحن نكتفي هبذا القدر.
ثم إن كون االستطاعة مع الفعل هو مذهب اإلمام أمحد رمحه اهلل تعاىل،
ففي عقيدة اإلمام أمحد املطبوعة بآخر املجلد الثاين من طبقات احلنابلة ما ييل:
(وكان أمحد يذهب إىل أن االستطاعة مع الفعل ،وقرأ قوله عز وجل( :انظر
كيف رضبوا لك األمثال فضلوا فال يستطيعون سبيال) وقرأ (ذلك تأويل ما مل
تَسطِع عليه صربا) والقوم ال آفة هبم .وكان موسى تاركا للصرب .وقرأ (ولن
تستطيعوا أن تعدلوا بني النساء ولو حرصتم) فدل عىل عجزنا .ودل ذلك عىل أن
اخللق هبذه الصفة ال يقدرون إال باهلل ،وال يصنعون إال بقدرة اهلل) 168يقصد
اإلمام أمحد رمحه اهلل أن قدر َة اخللق املقرونة بالفعل غري مؤثرة يف وجود الفعل،
168
299 2
215
بل متعلقة به بال تأثري ،وأهنا خملوقة هلل تعاىل ،فمن أجل ذلك فهم ال يقدرون إال
باهلل ،وال يصنعون إال بقدرة اهلل تعاىل ،ال بقدرهتم .ثم قال اإلمام أمحد رمحه اهلل
تعاىل إشارة إىل املعنى األول لالستطاعة ،وهي املتقدمة عىل الفعل اتفاقا( :وقد
سمي اإلنسان مستطيعا إذا كان سليام من اآلفات)
هذا هو كالم اإلمام أمحد ،وهذا مذهبه ،وهو مذهب األشاعرة نفسه،
فليت شعري ما الذي ينكره الدكتور عىل األشاعرة يف مسألة االستطاعة ،وما
هو املنقول واملعقول الذي خرجوا عنه؟؟!!
216
سبب ومس َّب ٍ
ب أصالً ،وإنام املسألة اقرتان كاقرتان الزميلني من ٍ بني
عندَ ُه ْم َ
األصدقاء يف ذهاهبام وإياهبام}
أقول:مل ينكر األشاعرة الربط العادي بني السبب واملسبب بل أثبتوه ،وإنام
احلقيقي والتأثري ،فقالوا :املؤثر يف وجود املسب ِ
ب ُّ الذي أنكروه هو الربط
حقيقة هو اهلل تعاىل ،وهذا هو التوحيد اخلالص .وكفروا الفالسفة الذين
يقولون :إن النار حترق بطبعها ال يستطيع اهلل تعاىل أن يسلبها وصف اإلحراق
ملنافاته للتوحيد ولتحديده قدرة اهلل تعاىل.
السبب مؤ رث ٌر يف وجود املسب ِ
ب بقوة أو َدعها اهلل فيه ّ وأما الذين يقولون ّ
إن
يسلب اهلل تعاىل تلك القوة إذا شاءَ ،فلِ َقوهلم ٌّ
حظ من النظر ،وهم ال يبدر عون
بذلك.
وأما الباء السببية الواردة يف القرآن فلم ينكروها ،بل ُيملوهنا عىل السببية
فية دون السببية احلقيقية وذلك ألن اللغة يالحظ فيها العادة العادية والعر ِ
والعرف ،وال يالحظ فيها التدقيقات الفلسفية .وما ورد يف بعض الكتب من
رأي لبعض املتأخرين منهم. ِ
نسبة القائلني بالقوة املودعة إىل البدعة فإنام هو ٌ
عز الدين بن ِ
عبد السالم :والعجب ّأهنم -احلشوي َة يذ ُّمو َن قال اإلمام ُّ
والنار ال حترق" وهذا كال ٌم َ
أنزل اهلل َ اخلبز ال يشبع،
األشعري بقوله" :إن َ
ٌ
حوادث انفر َد اهلل بخلقها؛ فلم َ
واإلحراق معناه يف كتابه ،فإن الشب َع والري
َ
اإلحراق ،وإن كانت خيلق املاء الري ،ومل ِ
ختلق النار الشبع ،ومل ِ
َ خيلق اخلبز
217
رميت إذ
َ أسبابا يف ذلك .فاخلالق هو اهلل دون السبب كام قال تعاىل" :وما
َ
يكون رسوله خالقا للرمي وإن كان سببا فيه. رميت ولكن اهلل رمى" َفنَ َفى أن
أمات وأحيا" فاقتطع
وقد قال تعاىل" :وإنّه هو أضحك وأبكى وأنه هو َ
اإلضحاك واإلبكاء واإلمات َة واإلحيا َء عن أسباهبا وأضا َفها إليه ،فكذلك
َ
واإلحراق عن أسباهبا ،وأضافها إىل الشبع والري
َ األشعري رمحه اهلل
ُّ اقتطع
كل يشء" وقول ِ ِه" :هل من خالق غري اهلل".
خالقها لقوله تعاىل" :خالق ر
"بل كذبوا بام مل ُييطوا بعلمه وملا ِ
يأهتم تأويله" "أكذبتم بآيايت ومل حتيطوا
هبا علام أم ماذا تعملون".
وآفته من الفه ِم السقيم
وكم من عائب قوال صحيحا
يض عن أقوام فداناهم وسخط عىل آخرين فأقصاهم" .الِ
فسبحان من َر َ
169
يسأل عام يفعل وهم يسألون".
وقوله( :لكن فعله يقع مقرتنا بيشء ظاهري خملوق) وإتيانه بعد قوله:
«قالوا :إن فاعل اإلحراق هو اهلل» يدل عىل أن الدكتور يقصد به أن األشاعرة
يقولون :إن فعل اهلل غري مؤثر يف وجود املسبب بل مقارن له ،وهذا مع أنه
خطأ مناقض لسابقه.
169
48
218
سمى املدرس َة الوضع َّي َة
مذهب ما ُي َّ
ُ والغريب أ َّن هذا هو
ُ قال الدكتور{ :
وم ْن واف َق ُه ْم من مالحدة العرب ،وما ذاك إال
من املفكرين الغربيني املحدثني َ
كالمها ٌ
ناقل عن الفكر الفلسفي اإلغريقي} ألن األشاعر َة والوضعيني ُ
َّ
أقول :األشاعرة إنام قالوا بذلك عىل َحسب ما أداهم إليه نصوص
الكتاب والسنة التي تنص عىل أنه ال خالق إال اهلل وال مؤثر يف الكون إال اهلل.
ِ
وللمشاغب أن يقو َل ما يشاء. ورأوا أن ذلك هو التوحيد اخلالص..
219
ِ
وجواز وخي ّلدَ يف اجلنَّة َ
أفجر الك ّفار، أخلص أوليائهُ ،
َ بجواز أ ْن خيل ِد اهللُ يف النار
ِ
ِ
ونحوها. ِ
التكليف بام ال ُي ُ
طاق
ِ
واحلكمة تعار َض بني املشيئة ِ ِ ِ
الباطل عد ُم فهمهم أال ُ التأصيل وسبب هذا
ُ
ِ ِ ِ ِ ِ
الس ْب ِع واكتفوا
مع الصفات َّ أو املشيئة والرمحة .وهلذا مل ُي ْثبِت األشاعر ُة احلكم َة َ
بإثبات اإلرادةِ مع أ َّن احلكم َة تقتيض اإلرادة والعلم وزيادة} ِ
أقول :قد اشتملت هذه الفقرة من كالم الدكتور مثل سابقاهتا عىل أخطاء
مجة جسيمة ،وليت الدكتور مل يتدخل يف مثل هذه األمور التي ليست من جماله
وهو من أبعد الناس عن معرفتها ،فنقرر أوال مذهب األشاعرة يف املسألة ،ثم
نثني بيان ما اشتمل عليه كالم الدكتور من أخطاء.
فنقول :املشهور من مذهب األشاعرة أن أفعال اهلل تعاىل ليست معللة
باألغراض .قالوا :ال جيوز تعليل أفعاله تعاىل بيشء من األغراض والعلل
الغائية فال جيوز أن يبعثه عىل فعله عل ٌة وغرض يكون حتصيله هو املقصود من
الفعل والباعث عليه.
ومع قول األشاعرة بعدم التعليل قالوا :إن أفعاله تعاىل ال ختلو عن أن ترتتب
عليها ِ
احل َكم واملصالح الراجع نفعها إىل العباد ،فكل فعل من أفعاله تعاىل ال بد
أن يرتتب عليه يشء من احلكم واملصالح الراجعة إىل العباد ،وذلك ألنه تعاىل
حكيم ،ومقتىض حكمته أن ال خيلو فعل من أفعاله عن احلكم واملصالح ،ومن
211
أجل ذلك قالوا :إن أفعاله غري معللة بالعلل ،لكنها غري خالية .عن احلكم
واملصالح.
فاألشاعرة قالوا :إنه تعاىل جيب عليه رعاية احلكمة يف أفعاله وجوبا عاديا
بمعنى أنه تعاىل يفعل الفعل الذي ترتتب عليه املصلحة البتة ،ألن احلكمة
ترجح جانب الفعل عىل الرتك وخترجه عن حدر املساواة مع جواز الرتك يف
ر
نفسه.
وهذا النوع من الوجوب من الوجوب اجلائز يف حقه تعاىل مثل وجوب ما
أوجبه عىل نفسه مما وعد بفعله من ختليد املؤمنني يف اجلنة وختليد الكافرين يف
النار ،وغري ذلك مما يدل عليه ما ورد يف بعض األحاديث من أن النبي صىل
حق عىل اهلل أن يفعل كذا".
اهلل تعاىل عليه وآله وسلم قالٌ " :
وأما الوجوب املمتنع يف حقه تعاىل فهو الوجوب الذي قالت به الفالسفة
من أنه تعاىل موجب بالذات وليس فاعال باالختيار ،فسلبوا عن اهلل تعاىل
وصف االختيار ،وكذلك الوجوب الذي قالت به املعتزلة ،وهو أنه جيب عىل
اهلل تعاىل ما هو األصلح بالنسبة إىل كل فرد من أفراد الناس ،وقالوا :إن تركه
موجب للسفه والعبث وهذا هو الوجوب العقيل ،ويلزم عليه عدم قدرته تعاىل
عىل هداية الكافر ،وإصالح الفاسق ،تعاىل اهلل عن ذلك علوا كبريا ،وهذا
خمالف لنصوص الكتاب والسنة كقوله تعاىل" :ولو شاء ربك آلمن من يف
األرض كلهم مجيعا".
211
وأما احلكمة التي يقول هبا أهل السنة ،ويقولون بوجوب رعايتها عىل اهلل
تعاىل وجوبا عاديا ،فهي مطلق احلكمة العامة بالنسبة إىل نظام العامل ال بالنسبة
إىل الدنيا فقط ،وال بالنسبة إىل اإلنسان فقط ،وهذه احلكمة قد تكون مفسدة
بالنسبة إىل بعض الناس ،وقد يطلع عليها الناس كلهم أو بعضهم ،وقد ختفى
عليهم .وهذا ما يقتضيه اسمه تعاىل احلكيم.
قال املحقق عبد احلكيم السيالكويت يف حاشيته عىل "رشح العقائد
النسفية" للسعد التفتازاين :وأما نحن أهل السنة فال نقول باستحالة ترك ما
تقتضيه احلكمة ،وال باستلزامه نقصا جلواز أن يكون يف تركه حكم ومصالح
170
أخرى ال نطلع عليها ،وإن كان جيب عليه رعاية مطلق احلكمة.
هذا هو املشهور من مذهب األشاعرة ،ويقابله مذهب املاتريدية واملعتزلة
حيث ذهبوا إىل أن أفعال اهلل كلها معللة بالعلل واألغراض ،وقد وافقهم عىل
ذلك بعض األشاعرة ،وأما دالئل الفريقني فمذكورة يف مطوالت كتب
الكالم.
وقد أبدى التفتازاين يف مذهب األشاعرة احتامال آخر .قال يف "رشح
املقاصد" :ما ذهب إليه األشاعرة من أن أفعال اهلل تعاىل ليست معللة
باألغراض يفهم من بعض أدلته عموم السلب ولزوم النفي بمعنى أنه يمتنع
170
317
212
أن يكون يشء من أفعاله معلال بالغرض ،ومن بعضها سلب العموم ونفي
اللزوم بمعنى أن ذلك ليس بالزم يف كل فعل.
وبعد أن أورد التفتازاين األدلة الدالة عىل األول واألدلة الدالة عىل الثاين
قال:
واحلق أن تعليل بعض األفعال سيام رشعية األحكام باحلكم واملصالح
ظاهر كإجياب احلدود والكفارات ،وحتريم املسكرات ،وما أشبه ذلك،
والنصوص أيضا شاهدة بذلك ،كقوله تعاىل" :وما خلقت اجلن واإلنس إال
ليعبدون" "ومن أجل ذلك كتبنا عىل بني إسائيل" اآلية" ،فلام قىض زيد منها
وطرا زوجناكها لكي ال يكون عىل املؤمنني حرج يف أزواج أدعيائهم" اآلية،
وهلذا كان القياس حجة إال عند رشذمة ال يعتد هبم.
وأما تعميم ذلك بأن ال خيلو فعل من أفعاله عن غرض فمحل بحث.
انتهى.
هذا هو مذهب األشاعرة يف مسألة تعليل أفعال اهلل تعاىل عىل ما قرره
أئمتهم.
213
وبعد االنتهاء من تقرير مذهب األشاعرة نعود إىل كالم الدكتور سفر،
فنقول :هذه الفقرة من كالمه قد احتوت أكثر من عرشة أخطاء عظيمة،
املتسورين عىل العلوم الذين يتدخلون فيام ال يعلمون.
ر وهكذا يكون حال
اخلطأ األول :يف عنوان الفقرة وهو قوله( :احلكمة الغائية) ،فإن املتكلمني
قد عنونوا املسألة بنفي الغرض عن أفعال اهلل ،أو بتعليل أفعال اهلل ،وأما تعبري
الدكتور فهو تعبري من مل يعرف الفرق بني احلكمة والغاية ،فإن احلكمة عبارة
عام يرتتب عىل الفعل من املصالح ،وأما الغاية فهي األمر الباعث عىل الفعل،
واألشاعرة أو معظمهم قائلون باحلكمة ،وليسوا قائلني بالغاية.
الثاين :قوله" :ينفي األشاعرة قطعا أن يكون ليشء من أفعال اهلل تعاىل علة
مشتملة عىل حكمة" .وهذا أيضا خطأ ،فإن مقصوده أن األشاعرة قد نفوا
احلكمة عن أفعال اهلل تعاىل ،وقد قررنا أهنم قد أثبتوها ،بل قالوا بوجوهبا.
الثالث :قوله" :تقتيض إجياد ذلك الفعل أو عدمه" .فقوله :أو عدمه ليس
له حمل هنا ،فإن اخلالف املتقدم إنام هو يف أفعاله تعاىل هل هي معللة أم ال،
وليس يف عدم فعله تعاىل .ثم إن الكالم غري مستقيم من جهة اللغة فإنه ال
يصح أن يقال :نفوا أن يكون ليشء من أفعاله علة تقتيض عدمه ،بل الصحيح
أن يقال :نفوا أن يكون ليشء من أفعاله علة تقتيض إجياده.
الرابع :قوله" :وهذا نص كالمهم تقريبا" ،بل هو كالم بعيدٌ عن كالمهم
وخمالف لكالمهم ،وأما نص كالمهم تقريبا :فهو "أفعال اهلل تعاىل
ٌ بمراحل
214
غري معللة بالعلل واألغراض ،لكنها غري خالية عن احلكم واملصالح" وقد
أدخلوا هذا النص يف متون العقائد الصغرية.
اخلامس :قوله" :وهو رد فعل لقول املعتزلة بالوجوب عىل اهلل" فإن
مذهب األشاعرة ليس رد فعل لقول املعتزلة ،وإنام هو رد له ،فإن املقرر عند
أهل السنة أنه ال جيب عىل اهلل تعاىل فعل يشء وال تركه بالوجوب الذي قصده
املعتزلة ،وهو الوجوب العقيل ،وذلك ألن اهلل تعاىل ال ُيكمه قانون ،يفعل ما
يشاء وُيكم ما يريد ،ال يس َأل عام يفعل ،وأما املعتزلة فقد قالوا :بوجوب
الصالح واألصلح عليه تعاىل ،وبنوا عىل ذلك وجوب تعليل أفعاله تعاىل.
السادس :قوله" :حتى أنكر األشاعرة كل الم تعليل يف القرآن" األشاعرة
مل ينكروا الم التعليل يف القرآن بل جعلوه الم العاقبة كام يف قوله تعاىل:
"فالتقطه آل فرعون ليكون هلم عدوا وحزنا" وقول الشاعر:
وابنوا للخراب لِدوا للموت
قالوا :إن املقصود هبذه الالمات بيان العاقبة واحلكمة واملصلحة املرتتبة
عىل الفعل :ال بيان الباعث عىل الفعل ،ألنه منتف عن اهلل عندهم ،فالذي نفوه
هو كون الالم لبيان الباعث.
وقد سمى الزركيش يف "الربهان" هذه الالم بالم احلكمة ،قال :الم
العاقبة إنام تكون يف حق من جيهل العاقبة ،كقوله تعاىل" :فالتقطه آل فرعون
215
ليكون هلم عدوا وحزنا" وأما من هو بكل يشء عليم فمستحيل ٌة يف حقه ،وإنام
171
الالم الواردة يف أحكامه وأفعاله الم احلكمة.
السابع :قوله« :وقالوا :إن كونه يفعل شيئا لعلة ينايف كونه خمتارا مريدا» مل
يقل هذا أحد منهم ،وال يقوله عاقل ،فإن الفعل لعلة ال بد أن يكون عن
اختيار وإرادة ،بل قالوا :إن الفعل لعلة ينايف كونه تعاىل ال جيب عليه يشء
الذي هو مذهب أهل السنة.
الثامن :قوله" :وجعلوا أفعاله تعاىل كلها راجعة إىل حمض املشيئة ،وال
هبا" قد قدمنا أن مذهب األشاعرة أن تعلق لصفة أخرى كاحلكمة مثال
أفعال اهلل تعاىل راجعة إىل املشيئة واحلكمة ،،ومن أجل ذلك قالوا :إن أفعاله
تعاىل ال ختلو عن احلكم واملصالح .وأفعاله راجعة إىل القدرة أيضا .فاحلَص يف
كالمه غري صحيح.
171
116 3
216
أقول :هذا األصل من األصول الصحيحة التي أخذها األشاعرة من
الكتاب والسنة.
أما الكتاب فقوله تعاىل" :يعذب من يشاء ويغفر ملن يشاء".
قال ابن كثري :وقوله تعاىل" :يعذب من يشاء ويرحم من يشاء" أي :هوا
حلاكم املتَصف الذي يفعل ما يشاء وُيكم ما يريد ،ال معقب حلكمه ،وال يس َأل
عام يفعل وهم يس َألون ،فله اخللق واألمر ،مهام فعل فعدل ألنه املالك الذي ال
يظلم مثقال ذرة ،كام جاء يف احلديث الذي رواه أهل السنن" :إن اهلل لو عذب أهل
172
سامواته وأهل أرضه لعذهبم وهو غري ظامل هلم" .انتهى.
وأما السنة فقوله صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم فيام رواه الشيخان عن أيب
هريرة ريض اهلل تعاىل عنه" :لن ينجي أحدا منكم عمله" قالوا :وال أنت يا
رسول اهلل ،قال" :وال أنا إ ال أن يتغمدين اهلل برمحة ،سددوا وقاربوا ،واغدوا
وروحوا ،ويشء من الدجلة ،والقصد القصد تبلغوا".
وكذلك احلديث الذي أورده ابن كثري.
قال احلافظ تعليقا عىل قوله صىل اهلل عليه وآله وسلم" :لن ينجي أحدا
منكم عمله" قال املازري :ذهب أهل السنة إىل أن إثابة اهلل تعاىل من أطاعه
بفضل منه ،وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدل منه ،وال يثبت واحد منها إال
172
419 3
217
بالسمع ،وله سبحانه أن يعذب الطائع ،وينعم العايص ،ولكنه أخرب أنه ال
يفعل ذلك ،وخربه صدق ال خلف فيه.
وهذا احلديث يقوي مقالتهم ،ويرد عىل املعتزلة حيث أثبتوا بعقوهلم
173
أعواض األعامل ،وهلم يف ذلك خبط كثري وتفصيل طويل.
وقال احلافظ يف "الكالم" عىل قوله صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم( :هذا
أثنيتم عليه خريا فوجبت له اجلنة) واملراد بالوجوب الثبوت ،إذ هو يف صحة
الثبوت كاليشء الواجب.
واألصل أنه ال جيب عىل اهلل يشء ،بل الثواب فضله والعقاب عدله .ال
174
يسأل عام يفعل.
فهذه شواهد الكتاب والسنة وأقوال األئمة شاهدة ملا قاله األشاعرة وليست
املسألة مرتبة عىل ما قاله الدكتور ،وال أدري هل الدكتور بعد وقوفه عليها يَص
عىل استنكاره أم يتوب عنه؟!
173
397 11
174
339 3
218
نحرر مسألة التكليف بام ال يطاق ونبني مذهب
أقول :ال بد أوال أن ر
األشاعرة فيها.
فنقول :ما ال يطاق ثالث مراتب :املرتبة األوىل :ما امتنع لذاته كجمع
النقيضني ،وكجعل القديم حمدثا ،املرتبة الثانية :ما أمكن يف نفسه ،ومل يقع
ومح ِل
متعلقا لقدرة العبد أصال كخلق األجسام ،أو عادة كالصعود إىل السامء َ
اجلبال .املَرتَبة الثالثة :وهو أدنى املراتب :ما يمتنع بسبب علم اهلل تعاىل بعدم
وقوعه ،أو إلرادته ذلك ،أو إلخباره بذلك.
وهذا القسم األخري ال خالف يف وقوع التكليف به فضال عن اجلواز ،فإن
من علم اهلل تعاىل بموته عىل الكفر ومن أخرب اهلل بعدم إيامنه مكلفان عاصيان
إمجاعا.
واملرتبة الوسطى هو الذي وقع النزاع يف جواز التكليف به ،بمعنى طلب
حتقيق الفعل واإلتيان به ،واستحقاق العقاب عىل تركه ،فجوزه األشاعرة،
ومنعه املعتزلة.
وجتويز األشاعرة مبني عىل مذهب أهل السنة من أنه ال جيب عىل اهلل
تعاىل يشء وال يقبح منه يشء ،فقالوا بناء عىل هذا األصل :إنه تعاىل ال جيب
عليه عدم تكليف الناس بام ال يطيقون ،بل جيوز عليه ذلك ،ولو فرض وقوع
هذا التكليف منه تعاىل مل يكن قبيحا منه تعاىل ،ألنه تعاىل ال يقبح منه يشء.
219
ثم هذا اخلالف إنام هو يف جواز الوقوع ال يف الوقوع ،قال التفتازاين :وأما
الوقوع فمنفي بحكم االستقراء ،وبشهادة مثل قوله تعاىل( :ال يكلف اهلل نفسا
175
إال وسعها)
176
وقال الغزايل :ومن جوز تكليف ما ال يطاق عقال فإنه يمنعه رشعا.
هذا هو مذهب األشاعرة يف املسألة ،وهو مبني عىل أنه ال جيب عىل اهلل
يشء وقد قدمنا آنفا أن هذا األصل مؤيد بدالئل الكتاب والسنة .وليس
مذهبهم مرتبا عىل ما قاله الدكتور سفر .فهل بعد وقوف الدكتور عىل حقيقة
القضية ال يزال يَص عىل استنكاره هلا؟!
احلادي عرش :دعوى الدكتور أن املسألتني اآلنفتني مرتبتان عىل ما قاله
باطال« :من أن األشاعرة جعلوا أفعاله تعاىل كلها راجعة إىل حمض املشيئة ،وال
تعلق لصفة أخرى كاحلكمة هبا» فإن نسبة هذا اجلعل إىل األشاعرة خطأ
كام تقدم ،فكيف يبنون عليه أمرا آخر ،وقد ذكرنا مبنى هاتني املسألتني عند
األشاعرة.
الثاين عرش :قوله" :وسبب هذا التأصيل الباطل عدم فهمهم أال تعارض
بني املشيئة واحلكمة ،أو املشيئة والرمحة" أقول :أوال :إن هذا التأصيل هو
تأصيل الدكتور سفر وليس بتأصيل األشاعرة كام حققنا .وأقول ثانيا :إن
175
155 3
176
73 1
221
األشاعرة قد فهموا جيدا أنه ال تعارض بني صفاته تعاىل ،وأصلوا عىل كل
منها ما يبني عليها من املسائل العقدية ،ولكن الدكتور سفر مل يفهم ال األصل
وال املؤصل وال التأصيل.
الثالث عرش :قوله" :وهلذا مل يثبت األشاعرة احلكمة مع الصفات السبع،
واكتفوا بإثبات اإلرادة" أقول :أما أن األشاعرة مل يثبتوا احلكمة مع الصفات
السبع فصحيح ،وأما أن عدم إثباهتم هلا معها مبني عىل عدم الفهم الذي ادعاه
الدكتور سفر فواضح أنه باطل ،ألن ما ادعاه من عدم فهمهم أن ال تعارض بني
املشيئة واحلكمة باطل ليس له أصل من الصحة ،فكيف يبنون عليه غريه؟! نعم
السبب يف عدم ذكرهم للحكمة مع الصفات السبع أن احلكمة راجعة إىل صفات
األفعال ،والصفات السبع صفات الذات ،أو أهنا راجعة إىل العلم .الذي هو من
صفات الذات.
حلكَم واحلكيم ،مها بمعنىقال ابن األثري يف "النهاية" يف أسامء اهلل تعاىل ا َ
احلاكم ،وهو القايض واحلكيم فعيل بمعنى فاعل ،أو هو الذي ُيكِم األشيا َء
ويت ِقنها ،فهو فعيل بمعنى مفعل ،وقيل :احلكيم ذو احلكمة ،واحلكمة عبارة
عن معرفة أفضل األشياء بأفضل العلوم ،ويقال ملن ُيسن دقائق الصناعات
ويتقنها :حكيم.
فاحلكمة إما بمعنى القضاء ،أو بمعنى إحكام األشياء ،وإتقاهنا .ومها
صفتا فعل ،أو بمعنى معرفة أفضل األشياء بأفضل العلوم .وهي صفة ذات.
221
-57التاسع النبوات:
السنة واجلامعة
أهل ُّ ِ
مذهب ِ مذهب األشاعرة عن
ُ ُ
خيتلفقال الدكتور{ :
راجع للمشيئة
ٌ َ
إرسال الرسل يف النبوات اختالف ًا بعيد ًا ،فهم يقررون أ ّن
ِ
صدق النبي إال املحضة كام يف الفقرة السابقة ،ثم يقررون أنه ال َ
دليل عىل
س املعجزةِ لكنّها ال
أفعال السحرةِ والك ُّهان من جن ِ
يقررون أ ّن َ
َ املعجزة ،ثم
تكون مقرون ًة بادعاء النبوة ،والتحدي ،قالوا :ولو ا َّدعى الساحر أو الكاهن
يمتنع
ُ النبوة لسلبه اهللُ معرفة السحر رأساً وإال كان هذا إضالالً من اهلل وهو
َّ
َ
واملعقول .ولضعف َ
املنقول عليه اإلضالل ..إىل آخر ما يقررونه مما خيالفُ
كل أمورها متوقف ٌة النبوات مع ِ
كوهنا من أخطر أبواب العقيدة ،إذ ُّ ِ مذهبهم يف
َ
واستطال عليه الفالسفة أعداء اإلسالم بالنيل منه
َ النبو ِة .أغروا
عىل ثبوت َّ
واملالحد ُة.
الوحي تفسري ًا قرمطياً فيقولونه هو
َ والصوفي ُة منهم كالغزايل يفرسون
ِ
الفائض من العقل الكيل يف العقل اجلزئي (ونسب هذا الكالم يف ُ
انتقاش العل ِم
احلاشية إىل :اإلرشاد ،وهناية اإلقدام ،وأصول الدين ،واملواقف ،وغاية املرام،
والرسالة اللدنية)
222
الذن ِ
ْب عن األنبياء ويؤولون صدور َّ ِ
العصمة فينكرو َن أما يف موضوع
َ
ِ
تأويالت واألحاديث الكثري َة تأويالً متعسف ًا متك ّلف ًا كاحلال يف
َ اآليات
الصفات}
223
أقول :إن األشاعرة يقولون :إن إرسال الرسل راجع إىل املشيئة واحلكمة،
ومل يقولوا برجوع إرسال الرسل إىل املشيئة فقط .وهذا اخلطأ من الدكتور مبني
عىل اخلطأ السابق ،وهو قوله بأن األشاعرة ال يقولون باحلكمة ،وقد بينا خطأه
هناك بام فيه الكفاية.
وأما رجوع إرسال الرسل إىل احلكمة فقد قال النسفي يف "عقائده":
"ويف إرسال الرسل حكمة" قال التفتازاين يف "رشحه" :أي :مصلحة وعاقبة
محيدة ..بمعنى أن قضية احلكمة تقتضيه ملا فيه من احلكم واملصالح ..إىل آخر
كالمه.
الثالث :قوله( :ثم يقررون أنه ال دليل عىل صدق النبي إال املعجزة)
أقول :ال يقررون ذلك ،بل يقرون أن هناك دالئل غري املعجزة تدل عىل
صدق النبي ،ويذكرون يف كتبهم مجلة من هذه الدالئل ،وإنام الذي يقررونه
هو أن العمدة يف إثبات النبوة وإلزام احلجة عىل املجادل املعاند هو املعجزة،
مع قوهلم بوجود غري املعجزة من الدالئل.
وهل تقوم احلجة عىل املكلف بمجرد أن يدعى أحد الناس مهام كان من
أهل الفضل والصالح -النبوة بدون أن تظهر املعجزة عىل يده؟ ال ريب يف أنه
ال تقوم احلجة بمجرد ذلك ،وال تقوم إال بإظهار اهلل تعاىل املعجزة عىل يد
مدعى النبوة ،ومن أجل ذلك كان من عادة اهلل تعاىل أن يظهر املعجزة عىل يد
مدعى النبوة صادقا ،وال يوكل الناس إىل االستدالل عىل صحة دعواه النبوة
224
بام اتصف به من الفضل والصالح .والصفات احلميدة واخللق العظيم إىل غري
ذلك مما عده العلامء من دالئل النبوة.
قال التفتازاين يف "رشح املقاصد" بعد انتهائه من ذكر دليل املعجزة
م َفصال :ما سبق هو العمدة يف إثبات النبوة ،وإلزام احلجة عىل املجادل املعاند،
وقد يذكر وجوه أخرى تقوية له وتتميام وإرشادا لطالب احلق وتعليام ،ثم ذكر
مخسة دالئل من هذا النوع:
أحدها :ما اجتمع فيه من الكامالت العلمية والعملية والنفسانية والبدنية،
واخلارجية.
الثاين :ما اشتمل عليه رشيعته من أمر االعتقادات ،والعبادات،
واملعامالت ،والسياسات ،وغري ذلك.
الثالث :ظهور دينه عىل سائر األديان مع قلة األنصار واألعوان ،وكثرة
أهل الضالل والعدوان.
الرابع :أنه ظهر عىل فرتة من الرسل واختالل يف امللك ،وانتشار الضالل
واشتهار املحال .وافتقار إىل من جيدد أمر الدين ،ويدفع يف صدر امللحدين،
ويرفع لواء املتقني ،ومل يكن هبذه الصفة غريه من العاملني.
177
اخلامس :نصوص الكتب الساموية ،ثم ذكر جمموعة منها.
177
299 3
225
وقال القايض عضد الدين يف "املواقف" :املقصد الرابع :يف إثبات نبوة حممد
صىل اهلل عليه وسلم :وفيه مسالك :املسلك األول وهو العمدة أنه ادعى النبوة،
وظهرت املعجزة عىل يده.
وبعد أن ذكر القايض مجلة من خوارق العادات الظاهرة عىل يده صىل اهلل
عليه وآله وسلم ذكر ثالثة مسالك أخرى ،حيث قال:
وارتضاه اجلاحظ والغزايل االستدالل بأحواله قبل املسلك الثاين
النبوة وحال الدعوة وبعد متامها ،وأخالقه العظيمة ،وأحكامه احلكيمة،
وإقدامه حيث ُيجم األبطال،
املسلك الثالث :إخبار األنبياء املتقدمني عليه عن نبوته..
املسلك الرابع وارتضاه اإلمام الرازي أنه عليه السالم ادعى بني قوم
ال كتاب هلم وال حكمة فيهم أين بعثت بالكتاب واحلكمة ألمتم مكارم
األخالق ،وأكمل الناس يف قوهتم العلمية والعملية ،وأنور العامل باإليامن
والعمل الصالح ،ففعل ذلك وأظهر دينه عىل الدين كله كام وعده اهلل .وال
178
معنى للنبوة إال هذا.
وقال التفتازاين يف "رشح املقاصد" ال خفاء يف ثبوت النبوة بخلق العلم
الرضوري ،كعلم الصديق ريض اهلل تعاىل عنه ،وبخرب من ثبتت عصمته عن
178
357 349
226
الكذب كنصوص التوراة واإلنجيل يف نبوة نبينا عليه السالم ،وكإخبار موسى
عليه السالم بنبوة هارون وكالب ويوشع عليهم السالم.
فام ذكر إمام احلرمني "من أنه ال يمكن نصب دليل عىل النبوة سوى
املعجزة ألن ما ي َقدر دليال إن مل يكن خارقا للعادة أو كان خارقا ومل يكن
مقرونا بالدعوة مل يصلح دليال لالتفاق عىل جواز وقوع اخلوارق من اهلل تعاىل
ابتداء" ،حممول عىل ما يصلح دليال للنبوة عىل اإلطالق وحجة عىل املنكرين
بالنسبة إىل كل نبي حتى الذي ال نبي قبله وال كتاب.
وأما ما سيأيت من االستدالل عىل نبوة حممد صىل اهلل تعاىل عليه وآله
وسلم بام شاع من أخالقه وأحواله فعائد إىل املعجزة عىل ما نبني إن شاء اهلل
179
تعاىل .انتهى.
اخلطأ الرابع :قوله( :ثم يقررون أن أفعال السحرة والكهان من جنس
املعجزة لكنها ال تكون مقرونة بادعاء النبوة والتحدي ،قالوا :ولو ادعى
الساحر أو الكاهن النبوة لسلبه اهلل تعاىل معرفة السحر ،..وإال كان هذا
إضالال من اهلل تعاىل ،وهو يمتنع عليه اإلضالل ..إىل آخر ما يقررونه مما
خيالف املنقول واملعقول)
أقول :ليت شعري ما هو املنقول واملعقول الذي خيالفه كالمهم هذا!!؟؟
179
281 3
227
اخلامس :قوله( :ولضعف مذهبهم يف النبوات مع كونه من أخطر أبواب
العقيدة ،إذ كل أمورها متوقفة عىل ثبوت النبوة أغروا أعداء اإلسالم بالنيل
منه ،واستطال عليهم الفالسفة واملالحدة)
أقول :ما هو وجه الضعف يف مذهبهم يف النبوات؟ ومن هم هؤالء
األعداء الذين أغراهم األشاعرة بالنيل من اإلسالم؟ وكيف أغروهم؟ ومن
هم هؤالء الفالسفة واملالحدة الذين استطالوا عىل األشاعرة؟ وما هو الذي
مهد هلم االستطالة من مذهب األشاعرة؟
هذه أسئلة أوجهها إىل الدكتور سفر ال أعلم اجلواب عنها ،ولعله ما
املسؤول بأعلم من السائل!.
السادس :قوله :والصوفية منهم كالغزايل يفرسون الوحي تفسريا قرمطيا،
فيقولون :هو انتفاش العلم الفائض من العقل الكيل يف العقل اجلزئي.
أقول :ال بد أن يصحح الدكتور النقل
الدعاوى إذا مل يقم عليها ::بينات أصحاهبا أدعياء
وما أورده يف أسفل الصفحة من أسامء الكتب وأرقامها ال يوجد فيها
يشء مما نسبه إىل الصوفية والغزايل!!
السابع :قوله :أما يف موضوع العصمة فينكرون صدور الذنب عن
األنبياء ،ويؤولون اآليات واألحاديث الكثرية تأويال متعسفا متكلفا.
228
أقول :أصل العصمة لألنبياء موضع إمجاع من أهل السنة ،وقد اختلف يف
تفاصيلها خالفا منترشا يراجع من حمله ،والعصمة مقتىض وصف النبوة
ومقتىض كون األنبياء أسوة حسنة ،ولو مل يكن األنبياء معصومني ملا كانوا
أسوة حسنة ،وملا جاز االحتجاج بأقواهلم وأفعاهلم وتقريراهتم ..وهذا ما دفع
األشاعرة إىل تأويل النصوص التي خيالف ظاهرها عصمة األنبياء ،وأما أفراد
التأويالت فهي أمور اجتهادية من اجلائز أن يكونوا قد أخطأوا يف بعضها.
الرشع.
ُ قبيح يف العقل ومع ذلك أباحه بذبح احليوان ،فإنّه إيال ٌم له بال ٍ
ذنب ،وهو ٌ
ِ
الربامهة الذين ُحيرمون َ
أكل احليوان ،فلام عجز هؤالء قول ِ
احلقيقة هو ُ وهذا يف
229
العقل من أصلِهَّ ،
وتومهوا أهنم هبذا ِ عن رد ُش ْبهتهم ووافقوهم عليها أنكروا ُح َ
كم
ِ
أصل َم ْن قال بوجوب ِ
أسباب ذلك مناقض ُة أن ِم ْن
يدافعون عن اإلسالم .كام َّ
ِ
العقل ومقتضاه} ِ
والعقاب عىل اهلل ُب ُح ْك ِم ِ
الثواب
أقول :قد اشتمل كالم الدكتور يف هذه الفقرة أيضا عىل أخطاء مجة
جسيمة.
وال بد من تقرير املسألة وبيان مذهب األشاعرة فيها أوال كي نكون عىل
بينة من أمرنا ،ثم نتكلم عىل كالم الدكتور.
فأقول :احلسن والقبح عند أهل السنة رشعيان ،وعند املعتزلة عقليان.
وال بد من حترير حمل النـزاع بني األشعرية القائلني بأن احلسن والقبح
رشعيان ،واملعتزلة القائلني بأهنام عقليان.
فنقول :احلسن والقبح يقال ملعان ثالث:
األول :صفة الكامل وصفة النقص ،فاحلسن كون الصفة صفة كامل كالعلم
واجلود والعدل والشجاعة ،والقبح كون الصفة صفة نقصان كاجلهل والبخل
والظلم واجلبن ،وال نزاع يف أن هذا املعنى أمر ثابت للصفات يف نفسها ،وأن
مدركه العقل ورد به الرشع أم مل يرد.
الثاين :مالئمة الغرض ومنافرته ،وقد يعرب عنه بمالئمة الطبع ومنافرته،
وقد يعرب عنه باملصلحة واملفسدة ،وذلك كالعدل والظلم ،وإنقاذ الغريق
واهتام الربئ.
231
فيقال :ما وافق الغرض أو الطبع كان حسنا وما خالفه كان قبيحا ،وما
ليس كذلك مل يكن حسنا وال قبيحا ،ويقال :احلسن ما فيه مصلحة ،والقبيح
ما فيه مفسدة ،وما خال عنهام ال يكون شيئا منهام .وهذا املعنى متداخل مع
املعنى األول قد جيتمعان كام يف العدل والظلم .وهذا املعنى خيتلف باالعتبار،
وخمالف لغرض أوليائه
ٌ موافق لغرض أعدائه ومصلحة هلم،
ٌ فإن َ
قتل زيد
ومفسدة هلم .وهذا املعنى أيضا عقيل مدركه العقل ورد به الرشع أم مل يرد.
قال التفتازاين :وباجلملة كل ما يستحق املدح أو الذم يف نظر العقول
180
وجماري العادات فإن ذلك يدرك بالعقل ورد الرشع أم ال.
وإنام النزاع يف املعنى الثالث ،وهو احلسن والقبح عند اهلل تعاىل ،بمعنى
استحقاق فاعل الفعل يف حكم اهلل تعاىل املدح أو الذم ،عاجال ،والثواب أو
العقاب آجال ،فام تعلق به املدح يف العاجل والثواب يف اآلجل من األفعال
فهو حسن ،وما تعلق به الذم يف العاجل والعقاب يف اآلجل فهو قبيح ،وما ال
يتعلق به يشء منهام فهو خارج عنهام.
فعند أهل السنة ومنهم األشاعرة أن احلسن والقبح هبذين املعنيني
رشعي بمعنى أن العقل ال ُيكم بأن الفعل حسن أو قبيح يف حكم اهلل تعاىل،
بل ما ورد األمر به فهو حسن وما ورد النهي عنه فقبيح من غري أن يكون
180
148 3
231
حمسنة أو مق ربحة هبذا املعنى -يف ذاته ،وال بحسب جهاته
للفعل جهة ر
واعتباراته.
حمسنة أو مق ربحة
وعند املعتزلة مها عقليان بمعنى أن للفعل عندهم جهة ر
يف حكم اهلل تعاىل يدركها العقل بالرضورة كحسن الصدق النافع وقبح
الكذب الضار ،أو بالنظر كحسن الكذب النافع وقبح الصدق الضار ،أو
بورود الرشع فيام توقف فيه العقل كحسن صوم يوم عرفة وقبح صوم يوم
العيد.
واحلاصل أن األمر والنهي عند أهل السنة من موجبات احلسن والقبح،
بمعنى أن الفعل أمر به فحسن ،وهني عنه فقبح ،وعند املعتزلة من مقتضياته
بمعنى أنه حسن فأمر به ،وقبح فنهي عنه ،فاألمر والنهي عندهم إذا ورد
كشف عن حسن وقبح سابقني حاصلني للفعل لذاته أو جلهاته ،قد يدركهام
العقل يف الفعل قبل ورود الرشع ،فيتعلق الطلب أو احلظر باملدرك بدون
ورود الرشع هبام ،ويرتتب عليه الثواب والعقاب قبل ورود الرشع.
وقد جتتمع املعاين الثالثة يف يشء واحد كالعدل ،فإنه وصف كامل ،وموافق
للطبع ،وحسن عند اهلل يثيب اهلل عليه ،وكالظلم ،فإنه صفة نقص ،ومنافر للطبع،
وقبيح عند اهلل يعاقب اهلل تعاىل عليه.
متسك أهل السنة بدالئل منها قوله تعاىل( :وما كنا معذبني حتى نبعث
رسوال) وقوله تعاىل( :لئال يكون للناس عىل اهلل حجة بعد الرسل) وذلك أنه لو
232
حسن الفعل أو قبح عقال كام تقول املعتزلة لزم تعذيب تارك الواجب ،ومرتكب
احلرام سواء ورد الرشع أم ال ،بناء عىل أصلهم يف وجوب تعذيب من استحق
العذاب إذا مات غري تائب ،والالزم باطل لقوله تعاىل( :وما كنا معذبني حتى
نبعث رسوال) ،إىل غري ذلك من الدالئل املذكورة يف مطوالت كتب الكالم.
فهذا هو مذهب أهل السنة ومنهم األشاعرة يف القضية مفصال .وليس
هو رد فعل لقول أحد ،وال مناقضة ألصل أحد كام زعم الدكتور ،وليس
منافيا للنصوص وإنام هو مأخوذ من اآلية الكريمة ،وال مكابرا للعقول،
وليس فيه إلغاء دور العقل مطلقا ،وإنام فيه إلغاء لدوره فيام ال جمال له فيه،
وإعامل له يف جماله الذي ينبغي أن يعمل فيه ،ويقابله مذهب املعتزلة الذي
أعطى العقل من الدور زيادة عىل ما يستحقه.
ولوال أين أعتقد أن الدكتور كتب ما كتب عن جهل باملسألة وبمذهب
األشاعرة فيها وعن جهل بمذهب املعتزلة ،لوال ذلك لقلت :إن الدكتور
يعتقد مذهب املعتزلة.
فإن كنت ال تدري فتلك مصيبة ::وإن كنت تدري فاملصيبة أعظم
233
اخلطأ األول :قوله( :ينكر األشاعرة أن يكون للعقل والفطرة أي دور يف
احلكم عىل األشياء باحلسن والقبح ،ويقولون :مرد ذلك إىل الرشع وحده)
وقد علمت أن األشاعرة يثبتون دور العقل يف احلكم باحلسن والقبح يف
األفعال بمعنيني للحسن والقبح ،األول :احلسن والقبح بمعنى صفة الكامل
وصفة النقص ،الثاين :احلسن والقبح بمعنى املصلحة واملفسدة ،وإنام ينكر
األشاعرة احلسن والقبح باملعنى الثالث ،وهو وجود األحكام الرشعية
التكليفية قبل ورود الرشع .وهذا اخلطأ هو اخلطأ األصل الذي تورط فيه
الدكتور يف هذا الباب الذي تفرعت عنه األخطاء األخرى .ولو كان الدكتور
تأنى وفهم مذهب األشاعرة عىل وجهه ملا تورط يف هذه األخطاء اجلمة
اجلسيمة.
اخلطأ الثاين :قوله( :وهذا رد فعل مغال لقول الربامهة واملعتزلة :إن العقل
يوجب حسن احلسن وقبح القبيح) وقد علمت أن مذهب األشاعرة يف املسألة
مأخوذ من قوله تعاىل( :وما كنا معذبني حتى نبعث رسوال) ،وليس برد فعل
ملذهب أحد ،بل هو رد للمذاهب الباطلة يف املسألة.
اخلطأ الثالث والرابع :قوله( :وهو مع منافاته للنصوص مكابرة للعقول)
وقد علمت أنه املوافق للنصوص دون املذاهب األخرى يف املسألة ،وهو
األوفق بالعقول أيضا ،وهل من األوفق بالعقول أن يعذب اهلل الناس عىل فعل
يشء مل يرد الرشع باملنع منه؟!
234
اخلطأ اخلامس :قوله( :ومما يرتتب عليه من األصول الفاسدة قوهلم :إن
الرشع قد يأيت بام هو قبيح يف العقل) هذا ما مل يقله أحدٌ من األشاعرة ،وال
أحدٌ من املسلمني .قال القايض عضد الدين اإلجيي يف "املواقف"( :إعلم أن
األمة أمجعت عىل أن اهلل ال يفعل القبيح ،وال يرتك الواجب .فاألشاعرة من
جهة أنه ال قبيح منه ،وال واجب عليه ،وأما املعتزلة فمن جهة أن ما هو قبيح
منه يرتكه ،وما جيب عليه يفعله) 181وإنزال األحكام فعل من أفعاله تعاىل ،فلو
كان الرشع ورد بام هو قبيح لكان اهلل تعاىل قد فعل ضد احلسن.
وينبغي التنبيه عىل أمرين:
األول :أن الناس كثريا ما خيتلفون بحسب العادات وبحسب األزمنة
واألمكنة يف احلكم عىل بعض األشياء باحلسن والقبح كام يف ذبح احليوان فربام
يستحسنه قوم ،وربام يستقبحه قوم ،وربام يكون بالنسبة إىل قوم وزمان ومكان
حسنا ،وربام يكون قبيحا .فالرشع قد يرد بام هو قبيح عند بعض الناس أو يف
بعض األزمنة واألمكنة ،ألن استقباحهم له خمالف للمصلحة ،والرشع ال يرد
إال باملصلحة .وأما ورود الرشع بام هو قبيح يف نظر العقل الصحيح ،فلم يقل
به أحدٌ من املسلمني ،ألن معنى قبحه يف نظر العقل الصحيح كونه مفسدة،
والرشع ال يرد بام هو مفسدة ،ومل يرد إال باملصالح.
181
328
235
الثاين :أن كثريا من األفعال تقبح منا ،وال تقبح من اهلل تعاىل كإيالم الربئ،
وإهالك احلرث والنسل إىل غري ذلك ...فإن نفس اإلغراق واإلهالك ُيسن
منه تعاىل وال يقبح ،وذلك منا قبيح 182فاهلل تعاىل قد يفعل ما هو قبيح منا ،ألن
اهلل تعاىل ال ُيكمه رشع وال قانون ،يفعل ما يشاء وُيكم ما يريد ،ال معقب
حلكمه ،ال يسأل عام يفعل وهم يسألون ،وكل ما فعله فهو مقتىض حكمته،
ولكن اهلل تعاىل ال يرشع ذلك ،فورود الرشع بام هو قبيح يف العقل مل يقل به
أحد من املسلمني.
اخلطأ السادس :قوله( :ومثلوا ذلك بذبح احليوان فإنه إيالم له بال ذنب،
وهو قبيح يف العقل ،ومع ذلك أباحه الرشع) فإنه مل يقل أحد من املسلمني :إن
ذبح احليوان قبيح يف العقل.
ُيرمون أكل
اخلطأ السابع:قوله( :وهذا يف احلقيقة هو قول الربامهة الذين ر
احليوان)
أقول :صحيح أن هذا قول للربامهة ،وأما أنه قول لألشاعرة فمعاذ اهلل!!
اخلطأ الثامن :قوله( :فلام عجز هؤالء عن رد شبهتهم ووافقوهم عليها
أنكروا حكم العقل من أصله ،وتومهوا أهنم هبذا يدافعون عن اإلسالم) وقد
اشتملت هذه اجلملة من كالم الدكتور عىل أربعة أخطاء:
182
279 273
236
األول :قوله( :فلام عجزوا عن رد شبهتهم) فام قيمة شبهتهم حتى يعجز
األشاعرة الذين هم فحول األمة عن ردها ،وهي شبهة أوهى من نسج
العنكبوت.
الثاين :قوله( :وافقوهم عليها) هل وافق األشاعرة الربامهة عىل أن ذبح
احليوان قبيح مطلقا ،أم أهنم قالوا :إنه قبيح عندهم ،وليس بقبيح يف الواقع،
بل هو أمر حسن؟؟!!
الثالث :قوله( :أنكروا حكم العقل من أصله) قد علمت أهنم مل ينكروا
حكم العقل من أصله ،بل ينكرون حكم العقل باحلسن والقبح باملعنى
الثالث؟
الرابع :قوله( :وتومهوا أهنم بذلك يدافعون عن اإلسالم) الناس كلهم
يعلمون أن األشاعرة أقوى فرقة دافعت عن اإلسالم ،لكنهم مل يدافعوا عن
اإلسالم بإنكار حكم العقل من أصله .وأنت أهيا الدكتور تتهم األشاعرة دائام
بأهنم يقدمون العقل عىل النقل ،فكيف تسوغ لنفسك أن تقول بعد ذلك :إن
األشاعرة ألغوا دور العقل ،وأنكروا حكمه من أصله؟؟!!
التاسع :قوله( :كام أن من أسباب ذلك مناقضة أصل من قال بوجوب
الثواب والعقاب عىل اهلل بحكم العقل ومقتضاه)
237
أقول :األشاعرة قد ناقضوا هذا األصل ونقضوه ،لكن ليس الباعث هلم
عىل نفي احلسن والقبح باملعنى الثالث مناقضة هذا األصل الفاسد ،بل
الباعث هلم عىل ذلك قوله تعاىل( :وما كنا معذبني حتى نبعث رسوال)
ثم إن قول املعتزلة بوجوب الثواب والعقاب عىل اهلل بحكم العقل،
مفروض يف أفعال اهلل تعاىل ،وذلك أن املعتزلة أوجبوا عىل اهلل تعاىل أربعة
أمور :األول :اللطف :وفرسوه بأنه الذي يقرب العبد إىل الطاعة ،ويبعده عن
املعصية ،كبعثة األنبياء .الثاين :الثواب عىل الطاعة .الثالث :العقاب عىل
املعصية .الرابع :األصلح للعبد.
وأما قول األشاعرة بنفي احلسن والقبح باملعنى الثالث ،فمفروض يف
أفعال املكلفني ،فأين أحدمها من اآلخر فلو فرض أن األشاعرة وافقوا املعتزلة
يف قوهلم بوجوب الثواب والعقاب عىل اهلل بحكم العقل ،لساغ هلم أن يقولوا
بنفي احلسن والقبح باملعنى الثالث عن أفعال املكلفني ،ألنه ليس بني القول
بوجوب الثواب والعقاب وبني القول باحلسن والقبح أي مالزمة.
املتسور عىل العلوم املتدخل فيام ال يعلم .كلام خيطو
ر وهكذا يكون حال
خطوة خيطئ خطأ!
عصمنا اهلل تعاىل عن كثرة اخلطأ والزلل.
238
ف اللفظ عن
رص ُ
قال الدكتور{ :احلادي عرش :التأويل :ومعنا ُه املبتَدَ ُع َ ْ
ٍ
احتامل مرجوحٍ لقرينة. ظاهرهِ الراجحِ إىل
مواضع ِه كام َّقر َر ذلك ُ
شيخ اإلسالم} ِ فهو هبذا املعنى حتريفٌ للكال ِم عن
وليس االصطالح م َن االبتدا ِع يف
َ أقول :هذا هو اصطالح األصوليني
يشء .ثم إذا كان الَصف لقرينة فلامذا يكون حتريفا للكلم عن مواضعه؟ وما
معنى القرينة؟ بل عدم الَصف حينئذ يكون حتريفا للكلم عن مواضعه،
وتقرير ابن تيمية ليس من الوحي! بل قد رصح هو بخالف ما نقله الدكتور
ٌ
تأويل فاسد، عنه كام سيأيت قريبا .نعم رصف اللفظ عن ظاهره ال لقرينة
وحتريف للكلم عن مواضعه .قال اإلمام فخر الدين الرازي( :إذا كان لفظ
ٌ
اآلية واخلرب ظاهرا يف معنى فإنام جيوز لنا ترك ذلك الظاهر بدليل منفصل،
وإال خلرج الكالم عن أن يكون مفيدا ،وخلرج القرآن عن أن يكون حجة) ثم
قال( :رصف اللفظ عن ظاهره إىل معناه املرجوح ال جيوز إال عند قيام الدليل
القاطع عىل أن ظاهره حمال ممتنع) 183وقال تاج الدين السبكي يف أول مباحث
الكتاب من "مجع اجلوامع"( :وال جيوز ورود ما يعنى به غري ظاهره إال
بدليل) ثم قال يف مبحث الظاهر واملؤول من مباحث الكتاب( :الظاهر ما دل
داللة ظنية ،والتأويل محل الظاهر عىل املحتمل املرجوح ،فإن محل لدليل
183
182 181
239
فصحيح ،أو ملا يظن دليال ففاسد ،أو ال ليشء فلعب ،ال تأويل) وقال ابن
تيمية( :وأما التأويل املذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع الذين
يتأولونه عىل غري تأويله ويدعون رصف اللفظ عن مدلوله إىل غري مدلوله بغري
دليل يوجب ذلك) 184فانظر إىل قوله( :بغري دليل يوجب ذلك)
منهجي من أصول ٌّ قال الدكتور مكمال كالمه عن التأويل{ :وهو ٌ
أصل
أكثر نصو ِ
ص اإليامن ُ ِ ِ وليس هو خاص ًا ِ
يشمل َ الصفات ،بل بمبحث األشاعرة َ
ِ
ونحوها، بعض ُشعبِ ِه إيامن ًا
ِ ِ
وتسمية خاص ًة ما يتع َّل ُق بإثبات زيادتِ ِه ونقصانِ ِه
ِ
األنبياء خصوصاً موضو َع ِ
وقصص ِ
والوعيد الو ْع ِد عض نصو ِ
وكذا ب َ
ص َ
األوامر التكليفيَّ ِة أيضاً.
ِ العصمة ،وبعض
ُ
األصول العقلي ُة ورضورته ملنهج عقيدهتم أصلها أنَّه ملا تعارضت عندَ هم
مأزق رد الكل ِ
الرشعية ،وقعوا يف ِ التي قرروها بعيد ًا عن الرشع مع النصوص
أو ِ
أخذ الكل ،فوجدوا يف التأويل مهرب ًا عقلي ًا وخمرج ًا من التعارض الذي
أوهامهم ،وهلذا قالوا أنَّنا مضطرون للتأويل ،وإالّ أوقعنا القرآن يف
ُ اختلق ْت ُه
ٍ
حاجة واضطرار هوى ومكابرةٍ وإنام عن وإن اخللفَ مل يؤولوا عن
التناقضَّ ،
ً
ِ
االعرتاف بعض ِه أو
ض يف كتاب اهللِ يا مسلمون نضطر معه إىل رد ِ فأي تناق ٍ
ُّ
ِ
لألعداء بتناقضه.
184
71
241
ٍ
تأويالت غريب ًة" ،فاممذهب األشاعرةِ "
ِ بأن يف
الصابوين َّ وقد اعرتف
ُّ
الغريب من ِ
غري الغريب؟ َ ف به
املعيار الذي َع َر َ
ُ
لنص من مذهب السلف ال َ
تأويل فيه ٍّ َ وهنا ال ُبدَّ من زيادة التأكيد عىل أ َّن
ِ
نص واحدٌ ال يف الصفات وال غريها النصوص الرشعية إطالقاً ،وال يوجدُ ٌّ
ِ
واألحاديث التي ذكرها السلف إىل تأويلِ ِه وهللِ احلمدُ ُّ .
وكل اآليات ُ اضطُ َّر
يدل عىل املعنى الصحيحِ الذي فهمه نفسها ما ُّ حتمل يف ِ ُ وغريه الصابوين
ُ ُّ
ٍ
حاجة إىل التأويل. دون أدنى
يدل عىل تنـزيه اهللِ تعاىل َ السلفُ منها والذي ُّ
ثم قال الدكتور:30-22
ِ
السلف فله معنيان: ُ
التأويل يف كال ِم أما
القول يف تأويل هذه اآلية" ِ
تفسري الطربي ونحوهُ " : التفسري كام جتدُ يف-1
ُ
ِ
تفسريها. أي:
يصري إليها اليشء ،كام يف قوله تعاىل" :هذا ُ
تأويل رؤياي ُ -2احلقيق ُة التي
من َق ْبل" أي :حتقيقها .وقوله" :يوم يأيت تأويله" أي :حتقيقه ووقو ُعه .أما
الت َُّّأو ُل فله مفهو ٌم آخر :راجع احلاشية.
فأعجب هلذه اللفظة النابية التي يستعملها األشاعرة مع
ُ وإن تعجب
توهم" التشبيه :وهلذا وجب تأوي ُلها .فهل يف كتاب اهلل
النصوص ،وهي أهنا " ُ
توهم. ليست َ
جمال ُّ ْ أن ال َ
عقول الكاسد َة تتوهم ،والعقيد ُة إهيا ٌم أم َّ
241
ليس يف ظواهر النصوص عياذ ًا باهلل ولكنه يف األفهامِ ،بل
فالعيب َ
ُ
األوها ِم السقيمة .أما دعوى أ َّن اإلما َم أمحدَ استثنى ثالث َة أحاديث وقال :ال ُبدَّ
صل التفرقة" ونفاها ِمن تأويلها فهي فِري ٌة عليه افرتاها الغزايل يف "اإل ِ
حياء و َف ْي ِ ُّ ْ ْ
شيخ اإلسالم سند ًا ومتناً.
ُ
ٍ
رشور بسببه، وحسب األشاعرة يف ِ
باب التأويل ما فتحوه عىل اإلسالم من ُ
ِ
احلالل واحتجت عليهم يف تأويل
ّ تبعته ُم الباطني ُة
ُ فإهنم ملا َّأولوا ما َّأولوا
حيتج هبا ٍ ِ ِ واحلرا ِم والصالةِ والصو ِم واحلج
واحلساب ،وما من ُحجة ُّ واحلرش
احتج الباطني ُة عليهم بمثلها أو أقوى
األشاعر ُة عليهم يف األحكا ِم واآلخرة إال َّ
منها ِم ْن واق ِع تأويلهم للصفات .وإال فلامذا يكو ُن ُ
تأويل األشاعرة لعلو اهلل
ُ
وتأويل الباطنية والرشائع تنـزهي ًا وتوحيد ًا،
ُ والفطر
ُ ُ
العقول تقطع به
ُ الذي
ِ
واحلرش كفر ًا ور َّدةً؟ ِ
للبعث
وأشهر
ُ أكثر
نصوص العلو ُ
َ كل منهام ر ّد ًا لظواهر النصو ِ
ص مع أ َّن أليس ٌّ
َ
ثم يشاركوهنم يف ِ
احلرش اجلسامين؟ وملاذا يكف ُر األشاعر ُة الباطني َة َّ من نصوص
ٍ
أصل من أعظم أصوهلم؟}
-71أقول :قد كتبنا رسالة متعلقة بالصفات سميناها "متشابه الصفات بني
التأويل واإلثبات" فنوردها هنا أوالً ،ثم نعود إىل كالم الدكتور ،ونبني ما
حواه من أخطاء .وهذا نص الرسالة:
242
بسم اهلل الرمحن الرحيم
احلمد هلل والصالة والسالم عىل رسول اهلل ،وعىل آله وصحبه ومن
اهتدى هبداه.
أما بعد :فنريد أن نحقق يف هذا البحث مسألة صفات اهلل املتشاهبة الواردة
يف الكتاب والسنة ،وقبل الدخول يف املسألة البد أن نقرر أمورا:
األول :أن النصوص الرشعية إذا كان ظاهرها خمالفا لَصائح العقول
ومقرراهتا وجب أن ُيكم أن ظاهرها غري مراد.
الثاين :أن النصوص الرشعية منها ما هو حمكم ومنها ما هو متشابه كام قال
اهلل تعاىل( :هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات حمكامت هن أم الكتاب
وأخر متشاهبات ) والنصوص املحكامت هي األصول الثوابت لإلسالم ،وأما
املتشاهبات فرتد إىل املحكامت وُيكم بأن ظاهرها غري مراد.
الثالث :أن الكتاب والسنة قد وردا عىل أساليب اللغة العربية ،واللغة
العربية كسائر اللغات قد وردت عىل ثالثة أنواع من األساليب :أسلوب
احلقيقة ،وأسلوب املجاز ،وأسلوب الكناية ،وذلك ألن كل كلمة من كلامت
اللغة العربية قد وضعت ملعنى معني ،وكذلك كل مركب منها ،وهذه الكلامت
واملركبات قد تستعمل يف املعنى الذي وضعت له ،وقد ال تستعمل فيه ،بل
تستعمل يف معنى يناسب املعنى الذي وضعت له بإحدى املناسبات ،وذلك
كاألسد قد يستعمل يف املعني الذي وضع له وهو احليوان املفرتس املعروف،
243
وقد يستعمل يف الرجل الشجاع ملناسبته للحيوان املفرتس يف الشجاعة،
وملشاهبته له فيها .وهذا ما ال ينبغي أن خيتلف فيه أحد من العقالء .فإذا
استعمل اللفظ يف املعني الذي وضع له سمى يف اصطالح علامء البالغة
باحلقيقة ،وإذا استعمل يف غري ما وضع له إلحدى املناسبات مع قرينة تدل
عيل هذا االستعامل سمي جمازا أو كناية.
الرابع :الكالم عىل التأويل وبيان معناه ،وننقل هنا كالما البن القيم
وتعليق تقي الدين السبكي عليه .قال ابن القيم يف النونية :التأويل الصحيح
هو تفسريه وظهور معناه كقول عائشة :يتأول القران .وحقيقة التأويل معناه
الرجوع إيل احلقيقة .ال خلف بني أئمة التفسري يف هذا .تأويله عندهم تأويله
بالظاهر .ما قال منهم شخص واحد :تأويله رصفه عن الرجحان.
قال تقي الدين السبكي تعليقا عيل هذا الكالم :قال اهلل تعايل يف املتشابه:
(وما يعلم تأويله اال اهلل) فكيف يكون تأويله بالظاهر ،واملتشابه ال ظاهر له.
وقوله( :ما قال منهم أحد إن التأويل رصف عن الرجحان) كذب ،بل َخل ٌق
185
قالوا به .ويطلق التأويل أيضا عيل تدبر القرآن وتفهم معناه.
يقصد اإلمام تقي الدين السبكي أن محل التأويل عىل معنى التفسري
بالظاهر يف باب املتشاهبات غري صحيح ،وذلك ألن املتشابه مدلوله خفي غري
185
158
244
واضح ،وإال ملا كان متشاهبا ،والظاهر يف اللغة يقابل اخلفي ،فال جيوز أن يقال
يف املتشابه الذي هو غاية يف اخلفاء :إن تأويله تفسريه بالظاهر ،فإنه كالم
متناقض ينقض نفسه .وأما الظاهر يف أصول الفقه فبمعني الراجح من
االحتاملني بالوضع أو بالدليل ،وهو من أقسام الواضح املقابل للخفي الذي
من أقسامه املتشابه .ويقابل الظاهر املؤول ،فال يتصور اجتامعهام يف لفظ أيضا.
وإذا تقرر هذا فنقول :إنه من األمور املجمع عليها بني علامء املسلمني أن
من نصوص الكتاب والسنة ما إذا قطع عن سياقه وسباقه ،ولوحظ باملعنى
الذي وضع له يف اللغة وهو املعنى احلقيقي كان إما خمالفا لَصائح العقول ،أو
خمالفا للمحكامت من نصوص الكتاب والسنة ،أو خمالفا للقواعد اإلسالمية
املقررة املأخوذة من الكتاب والسنة .وهذه النصوص هي النصوص
املتشاهبات املذكورة يف اآلية الكريمة.
وهذه النصوص املتشاهبات قد أمجعت األمة عىل سبيل اإلمجال عىل أن
معناها املوضوع له ليس بمراد منها .هذا إمجاع عىل سبيل اإلمجال ،وأما إذا أتينا
إىل التفاصيل وإىل جزئيات هذه النصوص فقد جيري فيها اخلالف.
ثم اختلفت األمة فذهب معظم السلف يف معظم هذه النصوص إىل
التوقف عند هذا احلد ،وهو أن املعنى املوضوع له هلذه النصوص غري مراد،
بدون أن يتجاوزوا هذا احلد إىل تعيني املعنى املجازي ،أو الكنائي هلا ،وذلك
245
تورعا منهم ،وخمافة أن يفرسوا كالم اهلل تعاىل وكالم رسوله عىل خالف
مرادمها .وهذا يسمى بالتأويل اإلمجايل.
وذهب معظم اخللف إىل جواز تأويلها ورصفها إىل معان تناسب املعني
احلقيقي هلذه النصوص ،وذلك بمعونة القرائن والسياق والسباق واأللفاظ
املقرونة هبا ،لكن بدون قطع باملعنى املؤول به ،بل يكون الَصف عىل سبيل
االحتامل والرجحان .وذلك برشوط.
األول :أن يكون املعنى الذي محل عليه النص ثابتا هلل تعاىل.
الثاين :أن ال يكون محل النص عىل املعنى الذي رصف إليه خمالفا ألساليب
اللغة العربية.
الثالث :أن ال يكون خمالفا لسياق النص بل يكون مناسبا له.
الرابع :أن ال يكون املعنى الذي رصف إليه النص مشعرا بالنقص بالنسبة
إىل اهلل تعاىل.
اخلامس :أن يكون مشعرا بالعظمة.
وههنا نكتة نبه عليها اإلمام الغزايل يف كتاب (قانون التأويل)-وهو كتاب
جدير بالعناية بقراءته -وهي أنه ال جيوز بالنسبة إىل هذه النصوص تفريق
جمتمع وال مجع متفرق ،وذلك ألن كل واحد من هذه النصوص يف سياقه
وسباقه ما يدل عيل املعنى املجازي أو الكنائي الذي استعمل فيه ،فإذا قطع من
سياقه وأفرد عن سابقه والحقه فاتت هذه الداللة ،وكذالك إذا مجعت هذه
246
النصوص عىل صعيد واحد عضدت الظواهر بعضها البعض ،فيرتجح بقاؤها
عىل ظواهرها املفيد للتشبيه .وذلك كام ألف بعضهم مؤلفات فذكر فيها باب
ما ورد يف العني ،وباب ما ورد يف اليد ،وباب ما ورد يف الوجه إيل غري ذلك
وقد قرر قريبا من هذا الكالم اإلمام تقي السبكي :حيث قال:
وانظر إىل هذه الصفات التي يثبتها هذا املبتدع مل جتيء قط يف الغالب
مقصودة ،وإنام يف ضمن كالم يقصد منه أمر آخر ،وجاءت لتقرير ذلك األمر،
وقد فهمها الصحابة ،ولذلك مل يسألوا عنها النبي صيل اهلل تعايل عليه وآله
وسلم ألهنا كانت معقولة عندهم بوضع اللسان وقرائن األحوال ،وسياق
الكالم ،وسبب النزول.
ومضت األعصار الثالثة التي هي خيار القرون عىل ذلك ،حتى حدثت
البدع واألهواء ،فيجيء مثل هذا املتخلف بجمع كلامت وقعت يف أثناء آيات
أو أخبار فهم املوفقون معناها بانضاممها مع الكالم املقصود ،فجعلها هذا
املتخلف يف أمثاله مقصودة ،وبالغ فيها ،فأورث الريب يف قلوب املهتدين.
وانظر إىل أكثرها ال جتده مقصودا بالكالم ،بل املقصود غريه إما بسياق
قبله ،أو بسباق بعده ،أو يكون املحدث عنه معنى آخر ...ويكون ذلك
247
املقوي ملعنى ما سيق الكالم ألجله .انتهى كالم
مذكورا عىل جهة الوصف ر
186
السبكي.
وتوسط اإلمام تقي الدين ابن دقيق العيد بني مذهب السلف واخللف،
فقال :نقول يف الصفات املشكلة :إهنا حق وصدق عىل املعنى الذي أراده اهلل
تعاىل .ومن تأوهلا نظرنا فإن كان تأويله قريبا عىل مقتىض لسان العرب مل ننكر
عليه ،وإن كان بعيدا توقفنا عنه ،ورجعنا إىل التصديق مع التنزيه.
وما كان منها معناه ظاهرا مفهوما من ختاطب العرب محلناه عليه كقوله
تعاىل( :يا حرستا عىل ما فرطت يف جنب اهلل) فإن املراد به يف استعامهلم الشائع
حق اهلل ،فال يتوقف يف محله عليه ،وكذلك قوله صيل اهلل عليه وآله وسلم( :إن
قلب ابن آدم بني إصبعني من أصابع الرمحن) فإن املراد به إرادة قلب ابن آدم
مَصفة بقدرة اهلل وما يوقعه فيه ،وكذلك قوله تعاىل( :فأتى اهلل بنياهنم من
القواعد) معناه خرب اهلل بنيانه ،وقوله( :إنام نطعمكم لوجه اهلل) معناه ألجل
اهلل ،وقس عىل ذلك .وهو تفصيل بالغ قل من تيقظ له .انتهى.
وهلل در ابن دقيق العيد ما أدق نظره وأسده ،فإنه إذا كان املعنى املجازي للنص
مفهوما من ختاطب العرب بحيث ال يفهم العريب من ذلك النص إال املعنى
املجازي ،كان ذلك النص من قبيل املجاز املشهور واحلقيقة املهجورة ،فيكون
186
169
248
رصفه عن ذلك املعنى املجازي إحلادا يف آيات اهلل وحتريفا للكلم عن مواضعه.
كيف وكثري من تلك النصوص لو ترمجت ترمجة حرفية إىل لغة أخري ملا فهم منها
أهل تلك اللغة إال املعني املجازي ،فكيف جيوز إذا رصفها عن تلك املعاين ،وهل
نزل القرآن إال عىل أساليب اللغة العربية .وذلك كقوله تعاىل (تبارك الذي بيده
امللك) فإنه ال أحد يفهم منه إال إثبات امللك هلل تعاىل ،ال إثبات اليد هلل ،كيف
وامللك بالضم هو السلطنة ،وهو أمر معنوي ال يكون يف اليد وال ملتصقا هبا،
وكقوله صىل اهلل تعىل عليه وآله وسلم ( :إن قلب ابن آدم بني إصبعني من أصابع
الرمحن) ال يفهم منه أحد إال أن قلوب بني آدم طوع إرادته وقدرته تعاىل ال إثبات
اإلصبعني هلل تعاىل ،كيف وال يوجد يف داخل أحد إصبعان مكتنفان بقلبه وهذا
أمر معلوم لكل عاقل.
ومن ذلك قوله تعاىل( :نسوا اهلل فنسيهم) 187والنسيان باملعنى احلقيقي
حمال عىل اهلل تعاىل قال اهلل تعاىل( :وما كان ربك نسيا) 188وقال( :قل علمها
عند ريب يف كتاب ال يضل ريب وال ينسى) 189فتعني محل النسيان يف اآلية األوىل
عىل املعنى املجازي ،وهو الرتك وعدم املباالة هبم ،وإيكاهلم إىل أنفسهم.
187
67
188
64
189
52
249
ومنه قوله تعاىل( :يا أهيا النبي قل ملن يف أيديكم من األسى) 190واألسى
ليست يف أيدهيم حقيقة ،وإنام هم حتت سيطرهتم ،وهو املعنى املجازي.
ومنه قول اهلل تعاىل فيام رواه عنه النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم:
(عبدي مرضت فلم تعدين) واملرض عىل اهلل تعاىل حمال ،وإنام املراد مرض
عبدي كام جاء تفسريه يف آخر احلديث وهو املعنى املجازي.
ومنه قول صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم( :اللهم ...واغسلني باملاء
والثلج والربد) رواه مسلم ،وليس املراد حقيقية الغسل ،بل املراد تنقيته من
ذنوبه كام ينقى من الدنس الثوب الذي يغسل باملاء والثلج والربد.
ومنه قوله صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم( :فعليكم بسنتي وسنة خلفاء
الراشدين املهديني ،وعضوا عليها بالنواجذ) رواه أمحد يف املسند ،واملراد
بالعض عىل السنة بالنواجذ التزامها وشدة التمسك هبا .وال يتصور املعنى
احلقيقي للعض بالنسبة إىل السنة.
إىل غري ذلك مما ال يعد وال ُيىص من نصوص الكتاب والسنة وكالم
العرب .فحمل الكالم عىل املعنى املجازي لقرينة تدل عىل ذلك هو الذي
يسميه األشاعرة تأويال ،وهو أمر ال مناص منه ال يف الكتاب وال يف السنة وال
يف كالم العرب ،وال يف لغة من لغات العامل.
190
71
251
وقد نقل بعضهم كالم ابن دقيق بوجه وجيز حمرر ،فقال :قال اإلمام
املجتهد ابن دقيق العيد :إن كان التأويل من املجاز البني الشائع فاحلق سلوكه
من غري توقف ،أو من املجاز البعيد الشاذ فاحلق تركه ،وإن استوى األمران
فاالختالف يف جوازه وعدم جوازه مسألة فقهية اجتهادية ،واألمر فيها ليس
باخلطر بالنسبة إىل الفريقني .انتهى.
وهو كالم نفيس ينبئ عن علم جم ،ورصاحة يف بيان احلق ،وتوسط
حكيم.
وههنا نريد أن نركز عىل حتقيق أمرين:
األول :حتقيق أن السلف قد توقفوا عند حد أن املعنى املوضوع له هلذه
النصوص غري مراد بدون أن يتجاوزوا هذا احلد إىل تعيني املعنى املجازي أو
الكنائي هلا .وهذا ما سامه العلامء بالتفويض ،وحتقيق هذا إنام يكون بنقل كالم
السلف املتعلق بذلك.
فنقول :قال اإلمام احلافظ البيهقي :أخربنا عبد اهلل بن حممد احلافظ ،ثنا
أبو بكر حممد بن امحد بن بالويه ،ثنا حممد بن بشري بن مطر ،ثنا اهليثم بن
خارجه،ثنا الوليد بن مسلم ،قال :سئل األوزاعي ومالك وسفيان الثوري
والليث بن سعد عن هذه األحاديث التي جاءت يف التشبيه ،فقالوا :أمروها
كام جاءت بال كيفية.
251
أخربنا أبو بكر أمحد بن حممد بن احلارث الفقيه أنبأ أبو حممد بن حيان
اإلصبهاين ثنا إسحق بن أمحد الفاريس ثنا حفص بن عمر املهرقاين ثنا أبو داود
وهو الطياليس قال :كان سفيان الثوري وشعبة ومحاد بن زيد ومحاد بن سلمة
ورشيك وأبو عوانة ال ُيدون وال يشبهون وال يمثلون ،يروون احلديث ،وال
191
يقولون كيف ،وإذا سئلوا أجابوا باألثر».
وقال احلافظ :وأخرج أبو القاسم الاللكائي يف كتاب السنة من طريق
احلسن البَصي عن أمه عن أم سلمة أهنا قالت :االستواء غري جمهول،
192
والكيف غري معقول ،واإلقرار به إيامن ،واجلحود به كفر.
وقال اإلمام الرتمذي يف سننه :وقد قال غري واحد من أهل العلم يف هذا
احلديث -حديث الصدقة وما يشبه هذا من الروايات يف الصفات ،ونزول
الرب تبارك وتعاىل كل ليلة إىل السامء الدنيا ،قالوا :قد ثبتت الروايات يف هذا،
ويؤمن هبا ،وال يتوهم ،وال يقال :كيف؟ هكذا روي عن مالك وسفيان بن
عيينة وعبد اهلل بن املبارك أهنم قالوا يف هذه األحاديث :أمروها بال كيف،
193
وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة واجلامعة.
191
23
192
342 13
598 193
252
وقال الذهبي :واملحفوظ عن مالك رمحه اهلل رواية الوليد بن مسلم أنه
194
سأله عن أحاديث الصفات فقال :أمروها كام جاءت بال تفسري.
وقال احلافظ :وأسند البيهقي بسند صحيح عن أمحد بن احلواري عن
سفيان بن عيينة قال :كل ما وصف اهلل به نفسه يف كتابه فتفسريه تالوته
195
والسكوت عنه.
وقال الرتمذي عند الكالم عىل حديث (يمني الرمحن مألى سخاء):
وهذا حديث قد روته األئمة ،نؤمن به كام جاء من غري أن يفرس أو يتوهم،
هكذا قال غري واحد من األئمة .منهم الثوري ،ومالك بن أنس ،وابن عيينة،
وابن املبارك أنه تروى هذه األشياء ويؤمن هبا فال يقال :كيف .انتهى.
ونقل ابن أيب يعىل يف "طبقات احلنابلة" عن أيب حممد الربهباري شيخ
احلنابلة يف بغداد تـ 322وكان معارصا لإلمام أيب احلسن األشعري .أنه قال:
وكل ما سمعت من اآلثار شيئا مل يبلغه عقلك نحو قول رسول اهلل صيل اهلل
تعاىل عليه وآله وسلم( :قلوب العباد بني إصبعني من أصابع الرمحن) وقوله(:
إن اهلل ينزل ايل سامء الدنيا .وينزل يوم عرفة .وينزل يوم القيامة) و(إن جهنم ال
يزال يطرح فيها حتى يضع عليها قدمه جل ثناءه) وقول اهلل تعايل للعبد (إن
مشيت إيل َهر َولت إليك) وقوله( :خلق اهلل آدم عيل صورته) وقول رسول اهلل
َ
194
115 8
195
343 13
253
صيل اهلل عليه وسلم( :رأيت ريب يف أحسن صورة) وأشباه هذه األحاديث،
فعليك بالتسليم والتصديق والتفويض والرضاء وال تفرس شيئا من هذه
هبواك ،فإن اإليامن هبا واجب ،فمن فرس شيئا من هذا هبواه ورده فهو جهمي.
196
انتهي.
وقال البيهقي أخربنا أبو عبد اهلل احلافظ ،قال :سمعت أبا حممد أمحد بن
عبد اهلل املزين يقول :حديث النزول قد ثبت عن رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله
وسلم من وجوه صحيحة وورد يف التنزيل ما يصدقه وهو قوله تعاىل( :وجاء
ربك وامللك صفا صفا) والنزول واملجيء صفتان منفيتان عن اهلل تعاىل من
طريق احلركة واالنتقال من حال إىل حال ،بل مها صفتان من صفات اهلل تعاىل
بال تشبيه جل اهلل تعاىل عام تقول املعطلة لصفاته واملشبهة هبا علوا كبريا .قلت
-القائل البيهقي : -وكان أبو سليامن اخلطايب رمحه اهلل تعاىل يقول :إنام ينكر
هذا وما أشبهه من احلديث من يقيس األمور يف ذلك بام يشاهده من النزول
الذي هو تدل من أعىل إىل أسفل ،وانتقال من فوق إىل حتت ،وهذه صفة
األجسام واألشباح.
فأما نزول من ال تستويل عليه صفات األجسام فإن هذه املعاين غري
متومهة ،وإنام هو خرب عن قدرته تعاىل ورأفته بعباده ،وعطفه عليهم،
196
23 2
254
واستجابته دعائهم ،ومغفرته هلم .يفعل ما يشاء .ال يتوجه عىل صفاته كيفية،
وال عىل أفعاله كمية .سبحانه ليس كمثله يشء وهو السميع البصري .انتهى
197
كالم البيهقي.
هذه النصوص الواردة عن سلف األمة -وهي غيض من فيض وقليل
من كثري -بعضها ظاهر ،وبعضها اآلخر رصيح يف أن السلف كان مذهبهم
التفويض .وهو الَصف عن املعنى احلقيقي بدون تعيني للمعنى املجازي أو
املعنى الكنائي ،فإن ما نقله الذهبي عن اإلمام املالك من أنه قال ( :أمروها كام
جاءت بال تفسري) رصيح يف ذلك .وكذلك ما نقله احلافظ العسقالين عن
سفيان بن عيينة أنه قال( :كل ما وصف به نفسه يف كتابه فتفسريه تالوته،
والسكوت عنه) ،ومثله كالم الربهباري ،وذلك ألنه حكم أوال بأن هذه
النصوص ال تبلغها العقول ،ثم حكم بوجوب التصديق والتفويض هلا،
وعدم تفسريها .وكذلك ما نقله البيهقي عن أمحد بن عبد اهلل املزين ،وذلك
حيث نفى املعنى احلقيقي للنزول واملجيء بقوله« :والنزول واملجيء صفتان
منفيتان عن اهلل تعاىل من طريق احلركة واالنتقال من حال إىل حال» ،ثم فوض
املعني املراد إيل اهلل تعاىل بقوله« :بل مها صفتان من صفات اهلل تعاىل بال
تشبيه».
197
33
255
وتعبري الربهباري عن كل من املجيء والنزول بالصفة جار عىل طريقة
فريق من السلف منهم اإلمام أبو حنيفة يف الفقه األكرب واإلمام أبو احلسن
األشعري يف اإلبانة يعربون عن مثلها بالصفات ،فيقولون :يد اهلل صفة له
وعينه صفة له ،وهكذا كل ما ورد يف الكتاب والسنة مما يكون محله عىل
حقيقته مفضيا إىل التشبيه املنفي بقوله تعاىل (ليس كمثله يشء) ،فمن قال من
السلف إن العني صفة تربأ هبذا القول عن القول باجلارحة ،بل يكون قائال بأن
املراد معنى قائم باهلل ،وكذلك اليد ،لكن يقول ال أعني ذلك املعنى املراد ،بأن
أقول :إنه احلفظ أو القدرة أو النعمة ،أو العناية اخلاصة ،لكون تعيني املراد من
بني املحتمالت املوافقة للتنزيه حتكم عىل مراد اهلل تعاىل.
وتسميته هلام صفتني يدل عىل أنه جازم بأهنام ليسا من قبيل أجزاء الذات
تعاىل اهلل عن ذلك.
وأما من قال :له يد يبطش هبا ،وعني يرى هبا فقد جعلهام من قبيل
اجلوارح ،وخالف السلف الصالح.
نعم قد يقع يف كالم من يميل إىل التشبيه ذكر الوجه والعني واليد وغريها
بأهنا صفات ،لكن السياق والسباق يف كالمه يناديان أهنم أرادوا هبا أجزاء
الذات ال املعاين القائمة باهلل تعاىل كام يقول السلف .يقول ابن تيمية يف
"األجوبة املَصية" :إن اهلل يقبض السموات واألرض باليدين اللتني مها
256
اليدان .فام جيدي بعد هذا التَصيح أن يسمى اليد صفة ،وذلك أنه محل
القبض عىل القبض احليس ،وذلك من لوازم اجلارحة والتجسيم.
وأما ما نقله البيهقي عن اخلطايب فجار عىل طريقة التأويل حيث عني
املعنى املجازي بقوله« :وإنام هو خرب عن قدرته تعاىل ورأفته بعباده وعطفه
عليهم واستجابته دعائهم» .وهذا ما ذهب إليه فريق من املحققني كتاج الدين
السبكي وسعد الدين التفتازاين والسيد الرشيف اجلرجاين من أن هذه
النصوص من قبيل االستعارة املركبة ويسموهنا باالستعارة التمثيلية،
وبالتمثيل ،ويدل عليه كالم اإلمام تقي الدين السبكي الذي أوردناه آنفا.
وأما ما ذهب إليه بعض من يميل إىل التشبيه من أن مذهب السلف يف
هذه النصوص هو بقاؤها عىل معانيها احلقيقية مع نفي الكيفية عنها .فهذا
القول خمالف لَصيح كالم السلف .ثم إنه كالم فاسد يف نفسه ومتناقض.
وذلك ألن املعاين احلقيقية هلذه النصوص هي املعاين املعروفة املكيفة.
فالقول ببقائها عىل معانيها احلقيقية مع نفي الكيفية عنها كالم متناقض ينقض
نفسه بنفسه.
قال اإلمام تقي الدين السبكي يف معرض الرد عىل من قال إن هذه
النصوص مع بقائها عىل معانيها احلقيقية هي أوصاف وليست عبارة عن
األجزاء واجلوارح :قال :وهذه األشياء التي ذكرناها «من الوجه ،واليد،
والساق ،والقدم ،واجلنب ،والعني» هي عند أهل اللغة أجزاء ال أوصاف،
257
فهي رصُية يف الرتكيب لألجسام ،فذكر لفظ األوصاف تلبيس ،وكل أهل
اللغة ال يفهمون من الوجه ،والعني ،والقدم إال األجزاء ،وال يفهم من
االستواء بمعنى القعود إال أنه هيئة املتمكن ،وال من املجيء واإلتيان والنزول
إال احلركة اخلاصة باجلسم.
وأما املشيئة والعلم والقدرة ونحوها فهي صفات ذات ،وهي فينا ذات
أمرين :أحدمها عرض قائم باجلسم ،واهلل تعاىل منزه عنه والثاين :املعاين
املتعلقة باملراد واملعلوم واملقدور ،وهي املوصوف هبا الرب سبحانه وتعاىل،
198
وليست خمتصة باألجسام .فظهر الفرق .انتهى.
فالقول بأن هذه النصوص باقية عىل معانيها احلقيقية يلزمه التجسيم لزوما
بينا ،وال ينجي صاحبه من التجسيم القول بنفي الكيفية ،وال القول بأهنا صفات
وليست عبارة عن اجلوارح واألبعاض ،ألنه بعد القول ببقائها عىل معانيها
احلقيقية مل يبق معنى للقول بنفي الكيفية وال للقول بأهنا صفات .وحينئذ ينطبق
عىل هذا القول ما قاله اإلمام فخر الدين الرازي حيث قال :من قال :إنه مركب
من األعضاء واألجزاء فإما أن يثبت األعضاء التي ورد ذكرها يف القرآن ،وال
يزيد عليها أوال ،فإن كان األول لزم إثبات صورة ال يمكن أن يزاد عليها يف
القبح ،ألنه إثبات وجه بحيث ال يوجد منه إال رقعة الوجه لقوله تعاىل ( كل يشء
198
167
258
هالك إال وجهه) 199ويلزمه أن يثبت يف تلك الرقعة عيونا كثرية لقوله تعاىل:
(جتري بأعيننا) 200وأن يثبت له جنبا واحدا لقوله تعاىل( :يا حرستا عىل ما فرطت
يف جنب اهلل) 201وأن يثبت عىل ذلك اجلنب أيدي كثرية لقوله تعاىل( :مما عملت
أيدينا أنعاما) 202وبتقدير أن يكون له يدان فإنه جيب أن يكون كالمها عىل جانب
واحد لقوله صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم( :وكلتا يديه يمني) وأن يثبت له ساقا
واحدا لقوله تعاىل( :يوم يكشف عن ساق) 203فيكون احلاصل من هذه الصورة
جمرد رقعة الوجه ،ويكون عليها عيون كثرية وجنب واحد ويكون عليها أيدي
كثرية وساق واحد.
ومعلوم أن هذه الصورة أقبح الصور ،ولو كان هذا عبدا مل يرغب أحد يف
رشائه .فكيف يقول عاقل :إن رب العلمني موصوف هبذه الصورة؟
وإن كان الثاين وهو أن ال تقتَص عىل األعضاء املذكورة يف القرآن بل يزيد
وينقص عىل وفق التأويالت ،فحينئذ يبطل مذهبه يف احلمل عىل جمرد
204
الظواهر ،وال بد له من قبول دالئل العقل .انتهى.
199
88
200
14
201
56
202
71
203
42
204
148 7
259
فاحلق هو التوسط بني الظاهرية والغلو يف التأويل .قال اإلمام ابن عقيل
احلنبيل :هلك اإلسالم بني طائفتني :الباطنية والظاهرية ،واحلق بني املنزلتني.
وهو أن نأخذ بالظاهر ما مل يَصف عنه دليل ،ونرفض كل باطن ال يشهد به
دليل من أدلة الرشع.
األمر الثاين :بيان أن التأويل ليس خاصا بمذهب اخللف ،وبيان أن فريقا
من سلف األمة قد أول جمموعة من النصوص إما ملخالفته لَصائح العقول،
أو ملخالفته للنصوص املحكامت.
وذلك ألن أصل التأويل أمر رضوري ال بد منه ،فإن من النصوص ما ال
يمكن محله عىل املعنى الذي وضع اللفظ له إما ملخالفتها لَصائح العقول ،أو
ملخالفتها للنصوص املحكامت ،وقد اقرتن به قرينة تعني املعنى املستعمل فيه
املناسب للمعنى املوضوع له ،فمثل هذه النصوص ال وجه للتوقف فيها،
ويتعني محلها عىل املعاين التي تعينها القرائن ،وهذا هو معنى قول اإلمام ابن
دقيق العيد السابق« :وما كان منها أي من النصوص معناه ظاهرا مفهوما
من ختاطب العرب محلناه عليه ،كقوله تعاىل ( :عىل ما فرطت يف جنب اهلل)
فإن معناه يف استعامهلم الشائع :حق اهلل ،فال يتوقف يف محله عليه» إىل آخر
كالمه.
فالتأويل قد يكون متعينا ،كام قد يكون جائزا ،وقد يكون ممتنعا ،وقد ذكرنا
رشائطه آنفا.
261
وقد غال يف باب التأويل فريقان :فريق غلق باب التأويل وسد الطريق
عىل العقل ،وهم املشبهة ظاهرية العقيدة ،وفريق آخر غال يف التأويل ،وقلد
املعتزلة يف تأويالهتم التي بدعهم السلف من أهل السنة من أجلها ،وهم كثري
من متأخري األشاعرة ،وخري األمور أوسطها وهو ما ذهب إليه اإلمام ابن
دقيق العيد.
ومن أجل أن أصل التأويل أمر رضوري البد منه أول فريق من سلف
األمة بام فيهم بعض الصحابة والتابعني جمموعة من نصوص الكتاب والسنة
وإليك جمموعة من هذه التأويالت.
تأويل حرب األمة عبد اهلل بن عباس ريض اهلل تعاىل عنهام:
أول ابن عباس قوله تعاىل( :يوم يكشف عن ساق) 205فقال :يكشف عن
شدة ،فأول الكشف عن الساق بكشف الشدة ،نقل ذلك عنه بسند صحيح
احلافظ العسقالين 206.واإلمام الطربي يف تفسريه 207.وقال يف صدر كالمه عىل
هذه اآلية :قال مجاعة من الصحابة والتابعني من أهل التأويل :يبدو عن أمر
شديد .فنسب التأويل إىل مجاعة من الصحابة والتابعني.
205
42
206
428 13
38 29 207
261
وأول ابن عباس ريض اهلل تعاىل عنهام األيدي يف قوله تعاىل (والسامء
بنيناها بأيد وإنا ملوسعون) 208بالقوة نقله الطربي يف التفسري 209ونقل هذا
التأويل عن مجاعة من أئمة السلف منهم جماهد وقتادة ومنصور وابن زيد
وسفيان ،فاليد مفردا كان أو مثنى كام يف قوله تعاىل( :ملا خلقت بيدي) أو مجعا
كام هنا يفرس بالقوة والقدرة مفردا .وال يفرس املثنى بالقدرتني وال اجلمع
بالقدرات كام قيل ،فقد ورد يف حديث يأجوج ومأجوج( :ال يدان ألحد هبم)
ومعناه ال قوة ألحد بقتاهلم ومقاومتهم.
وأول ابن عباس ريض اهلل عنهام النسيان الوارد يف قوله تعاىل (فاليوم
ننساهم كام نسوا لقاء يومهم هذا ) 210بالرتك يف العذاب .نقله الطربي يف
تفسريه 211وروى هذا التأويل بأسانيده عن جماهد وغريه.
تأويل اإلمام امحد:
روي األمام البيهقي يف كتابه مناقب اإلمام أمحد وهو كتاب خمطوط وعنه نقل
احلافظ ابن الكثري يف البداية والنهاية :فقال :روي البيهقي عن احلاكم عن أيب عمر بن
208
47
7 27 209
210
15
211 8 211
262
السامك عن حنبل ان أمحد بن حنبل تأول قوله تعايل ( :وجاء ربك) أنه جاء ثوابه ،ثم
212
قال البيهقي :وهذا إسناد ال غبار عليه.
وقال ابن كثري :ومن طريق أيب احلسن امليموين عن أمحد بن حنبل أنه
أجاب اجلهمية حني احتجوا عليه بقوله تعاىل( :ما يأتيهم من ذكر من رهبم
حمدث إال استمعوه وهم يلعبون) قالُ :يتمل أن يكون تنزيله إلينا هو
213
املحدث ال الذكر نفسه هو املحدث.
تأويل اإلمام النرض بن شميل:
وهو اإلمام احلافظ اللغوي من رجال الستة .ولد 122هـ ذكر احلافظ
الذهبي يف األسامء والصفات أن النرض بن شميل قال :إن معنى حديث:
214
(حتى يضع اجلبار قدمه فيها) من سبق يف علمه أنه من أهل النار.
تأويل اإلمام سفيان الثوري ريض اهلل تعاىل عنه.
ذكر الذهبي أن معدان سأل اإلمام الثوري عن قوله تعاىل( :وهو معكم
أينام كنتم) فقال :علمه ،وسئل سفيان عن أحاديث الصفات ،فقال :أمروها
215
كام جاءت.
تأويل اإلمام عبد اهلل ابن مبارك.
212
327 11
213
327 11
444 214
215
274 7
263
روى البخاري عن صفوان بن حمرز عن ابن عمر ريض اهلل عنهام قال :بينام أنا
أمشى معه إذ جاء رجل فقال :يا ابن عمر كيف سمعت رسول اهلل صىل اهلل عليه
وسلم يذكر يف النجوى؟ قال :سمعته يقول :يدنو املؤمن من ربه حتى يضع عليه
كنفه...ثم قال البخاري :قال ابن املبارك كنفه يعنى سرته .رواه البخاري يف خلق
217
أفعال العباد 216ونقله احلافظ يف "فتح الباري".
تأويل اإلمام الرتمذي:
روى الرتمذي يف جامعه احلديث املشهور( :أنا عند ظن عبدي يب ....وإن
أتاين يميش أتيته هرولة) ثم قال :هذا حديث حسن صحيح ،ويروى عن
األعمش يف تفسري هذا احلديث (من تقرب منى شربا تقربت منه ذراعا) يعنى
باملغفرة والرمحة ،وهكذا فرس بعض أهل العلم هذا احلديث ،قالوا :إنام معناه:
218
يقول :إذا تقرب إيل العبد بطاعتى وبام أمرت ،تسارع إليه مغفريت ورمحتي.
هذه نامذج من تأويل السلف للنصوص ،واستقصائه يتعرس أو يتعذر من
كثرته.
وما ذكرناه هنا هو حاصل مذاهب علامء األمة وأئمتها من السلف
واخللف يف باب الصفات وباب التأويل حمققا حمررا.
78 216
477 13 217
218
64 11
264
واهلل تعاىل يتوىل هدانا وهو حسبنا ونعم الوكيل.
265
أقول :التأويل -إذا كان صحيحا -أصل منهجي لألشاعرة ولكل
املسلمني ،ولكل العقالء بام فيهم الدكتور سفر .نعم للدكتور وغريه أن ينازع
يف صحة بعض التأويالت ،ويناقش فيها ،أما إنكار التأويل رأسا فال يقدم
عليه عاقل فضال عن فاضل.
الرابع :قوله( :ورضورته ملنهج عقيدهتم ،أصلها أنه ملا تعارضت عندهم
األصول العقلية التي قرروها بعيدا عن الرشع مع النصوص الرشعية ،وقعوا
يف مأزق رد الكل أو ِ
أخذ الكل ،فوجدوا يف التأويل مهربا عقليا ،وخمرجا من ر
التعارض الذي اختلقته أوهامهم)
أقول :ليس رضورة التأويل ملنهج عقيدة األشاعرة ملا ذكره الدكتور .وهال
ذكر الدكتور أصول األشاعرة التي قرروها بعيدا عن الرشع لنتكلم عليها؟!
بل رضورة التأويل الصحيح ملنهج األشاعرة ولكل املسلمني أن من
نصوص الكتاب والسنة ما لو محِ َل عىل ظاهره وعىل املعنى احلقيقي له ،قد
خيالف رصائح العقول ،وقد خيالف املحكامت من الكتاب والسنة ،وقد
خيالف القواعد الرشعية املقررة املأخوذة من نصوص الشارع ،فاملسلمون
كلهم يف مثل هذه النصوص مضطرون إىل رصف هذه النصوص عن معانيها
احلقيقية ،واعتقاد أهنا غري مرادة للشارع ،ثم اختلفوا فمنهم من توقف عند
هذا احلد ،وفوض معانيها املرادة منها إىل اهلل تعاىل ،ويسمى هذا بالتأويل
266
اإلمجايل ،ومنهم من حاول بيان معانيها املجازية أو الكنائية املرادة منها بقرائن
تساعده عىل ذلك.
هذا ما اضطر األشاعرة واضطر كل املسلمني إىل التأويل الصحيح لبعض
النصوص من الكتاب والسنة.
اخلامس :قوله( :فأي تناقض يف كتاب اهلل يا مسلمون نضطر معه إىل رد
بعضه ،أو االعرتاف لألعداء بتناقضه)
عار عليك أهيا الدكتور! َمن ِم َن األشاعرة قال بالتناقض يف كتاب اهلل،
ٌ
ورد ألجل ذلك بعضه ،واعرتف ألعداء اإلسالم بتناقضه؟؟؟!!!
نعم التناقض مرفوض ،وال يقول به مسلم .وأما االختالف بني ظواهر
بعض النصوص أي خمالفة بعضها للبعض اآلخر بحسب معانيها احلقيقية
فمن يستطيع أن ينكره؟! .وأرضب عىل ذلك مثالني .قال اهلل تعاىل( :فلم
تقتلوهم ولكن اهلل قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن اهلل رمى) ففي لفظ (إذ
رميت) إثبات الرمي للنبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم ،ويف لفظ (ما
رميت) نفي للرمي عنه ،ويف قوله تعاىل (فلم تقتلوهم) نفي ألن يكون
املؤمنون قتلوا قتىل بدر ،أليس ظاهر هذا القول خمالفا للظاهر املشاهد؟ وقال
تعاىل( :وما كان ربك نسيا) وقال( :نسوا اهلل فنسيهم)
267
ثم أقول للدكتور :وملاذا قال اهلل تعاىل( :ولو ردوه إىل الرسول وإىل أويل
العلم منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)؟
219
219
83
268
األشاعرة تأويالت غريبة ،أو غري صحيحة ،وذلك مثل تأويل االستواء
باالستيالء وذلك ألن االستيالء إن مل يكن مفيدا للمغالبة فال شبهة يف أنه
موهم له ،ومن رشط التأويل الصحيح أن ال يكون املعنى الذي أول به النص
ٌ
ممتنع عىل اهلل تعاىل .ثم إن بعض التأويالت مما ختتلف فيها
مومها ملا هو ٌ
األنظار ،فرياها هذا صحيحة ويراها اآلخر فاسدة.
269
وغريه حتمل يف نفسها ما يدل عىل املعنى الصحيح الذي فهمه السلف منها ،والذي
يدل عىل تنزيه اهلل تعاىل ،دون أدنى حاجة إىل التأويل» حيث قال« :حتمل يف نفسها
ما يدل عىل املعنى الصحيح» ثم قال« :دون أي حاجة إىل التأويل» والتأويل هبذه
املعنى حتريف للكلم عن مواضعه ،ولعب كام قال السبكي ،وال ينطبق هذا التأويل
عىل تأويالت األشاعرة باملعنى الذي اصطلح عليه األصوليون ،بل إنام ينطبق عىل
تأويالت الباطنية!
لكن التأويل هبذا املعنى ليس معنى لغويا للفظ التأويل ،وال اصطالحا ألحد
من علامء األمة.
ثم إن الدكتور إذا كان قصد هذا املعنى للتأويل ،فال وجه إلنكاره عىل
األشاعرة ،ألهنم اليأ رولون هذا التأويل ،كام أنه ال وجه لتقريره أن األشاعرة
يأ رولون ،والسلف اليأ رولون.
بل التحقيق أن األشاعرة وبعض السلف يأ رولون باملعنى الذي قصده
األشاعرة للتأويل ،واليأ رولون باملعنى الذي قصده الدكتور للتأويل.
وقد نقلنا مجلة من تأويالت السلف فيام تقدم.
اخلطأ الثامن :قوله( :وإن تعجب فأعجب هلذه اللفظة النابية التي
يستعملها األشاعرة مع النصوص ،وهي أهنا توهم التشبيه ،وهلذا وجب
تأويلها ،فهل يف كتاب اهلل إهيام ،أم أن العقول الكاسدة تتوهم ،والعقيدة
ليست جماال للتوهم)
271
أقول للدكتور :املسألة مسألة علمية ال ينفع فيها التهويل والتقذيع
والتهويش ،وال يليق هذا بأهل العلم ،بل هذه األمور عالمة عىل ضعف
فاعلها ،وعىل عدم نجاحه علميا ،فيتجه إىل اإلقذاع والتهويش.
ثم أقول :قد قررنا أن من ألفاظ الكتاب والسنة ما لو قطع عن سابقه والحقه
وعري عن القرائن املقرونة به املعينة للمعنى املراد منه ،ألوهم معنى ال يصح أن
ينسب إىل اهلل تعاىل ،وقد مرت أمثلة كثرية له ،واألشاعرة قد عربوا باإلهيام ،ومل
يعربوا باإلفادة أو الداللة ،ألن هذه النصوص معها من القرائن ما يدل عىل أن
التشبيه غري مقصود منها ،ويعني املعنى املراد منها املوافق للتنزيه ،فهل بعد هذا
يصح إنكار هذا التعبري عىل األشاعرة؟ وإذا مل يعربوا باإلهيام فبامذا يعربون؟؟!!
اخلطأ التاسع :قوله( :فالعيب ليس يف ظواهر النصوص عياذا باهلل-
ولكن العيب يف األفهام ،بل األوهام السقيمة)
من الذي قال :العيب يف ظواهر النصوص معاذ اهلل -وهل استعامل املجاز
والكناية يف الكالم من عيوب الكالم؟ أم أهنام مما يزيد الكالم فصاحة وبالغة
ورونقا؟ بل ال حتيا لغة من لغات العامل بدون املجاز والكنايةَ ،أ َو َلي َس التأويل عند
األشاعرة إال محل الكالم عىل املجاز أو الكناية ،نعم صحيح أن العيب يف األفهام
واألوهام السقيمة التي ال تريد أن تفهم كالم علامء اإلسالم وأئمة األمة عىل
وجهه ،وتيسء الظن هبم ،وتتصيد لكالمهم أسوأ املعاين ،وأبشع املحامل!
271
-74نسبة الغزايل إىل اإلمام أمحد أنه َّأول ثالثة أحاديث:
اخلطأ العارش واحلادي عرش :قوله( :أما دعوى أن اإلمام أمحد استثنى
ثالثة أحاديث ،وقال :البد من تأويلها ،فهي فرية عليه افرتاها الغزايل يف
"اإلحياء" وفيصل التفرقة ،ونفاها شيخ اإلسالم سندا ومتنا) هكذا قال
الدكتور ،وأنا أنقل كالم الغزايل بنصه كي يعلم القارئ احلقيقة ،هل حقيقة
افرتى الغزايل عىل اإلمام أمحد ،أم أن هذا الكالم افرتا ٌء عىل الغزايل؟! وأنقل
كالم ابن تيمية املتعلق به ليعلم هل نفى ابن تيمية هذه الدعوى سندا ومتنا ،أم
انتقدها سندا فقط.
قال الغزايل يف "إحياء علوم الدين"( :وغال اآلخرون يف حسم الباب -
أي باب التأويل -منهم أمحد بن حنبل ،حتى منع تأويل قوله تعاىل( :كن
خطاب بحرف وصوت يوجد من اهلل
ٌ فيكون) وزعموا (أي أتباعه) أن ذلك
يف كل حلظة عند كون كل مكون .حتى سمعت بعض أصحابه يقولَ :ح َس َم
باب التأويل إال لثالثة ألفاظ :قوله صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم( :احلجر
َ
األسود يمني اهلل يف أرضه) قال العراقي أخرجه احلاكم وصححه.
وقوله صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم( :قلب املؤمن بني إصبعني من
أصابع الرمحن) أخرجه مسلم.
وقوله صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم( :إين ألجد نفس الرمحن من جانب
اليمن) أخرجه أمحد ورجاله ثقات .قاله العراقي.
272
هذا كالم الغزايل بنصه ما عدا التخريج ،وقد علمت أن الغزايل مل ينسب هذا
القول إىل اإلمام أمحد مبارشة ،وال بصيغة التضعيف ،كأن يقول :قال أمحد ،أو
روي عن أمحد أنه قال ،وإنام نسبه إليه عن طريق سامعه عن بعض أصحابه.
ويقصد ببعض أصحابه بعض علامء مذهبه كام هو اصطالح الفقهاء وغريهم،
ومل يقصد بعض الذين صحبوه ،لوضوح أن الغزايل مل يدرك أصحاب أمحد ،وال
أصحاب أصحابه .والغزايل ثقة ثبت فوقع احلمل يف هذه الرواية عىل بعض
أصحاب أمحد ،فهل يصح بعد هذا أن يقال :إن الغزايل افرتى هذه الدعوى عىل
أمحد؟!
وابن تيمية مل ينسب الكذب يف هذه الدعوى إىل الغزايل ،بل جعل احلمل
فيها عىل بعض األصحاب الذي نقل الغزايل التأويل عنه ،قال( :فهذه احلكاية
كذب عىل أمحد مل ينقلها أحد عنه بإسناد ،وال يعرف أحد من أصحابه نقل
ذلك عنه .وهذا احلنبيل الذي ذكر عنه أبو حامد جمهول ال يعرف ال علمه بام
قال ،وال صدقه فيام قال) 220هذا كالم ابن تيمية ،ومل ينتقد هذه الرواية متنا وإنام
انتقدها سندا فقط.
بل قد أول ابن تيمية احلديث األول والثالث يف "جمموع الفتاوى"
فراجعها 221،ولكن الدكتور ال جي روز تأويل هذه األحاديث ،فأقول للدكتور:
220
398 5
398 397 6 221
273
هل تعتقد أن احلجر األسود يمني اهلل حقيقة أي يده اليمنى ،وأن يمني اهلل
الوارد يف بعض األحاديث عبارة عن احلجر األسود ،وأن اهلل خلق آدم بيديه
اللتني إحدامها احلجر األسود ،حيث قال تعاىل( :يا إبليس ما منعك أن تسجد
ملا خلقت بيدي) أو كلتامها احلجر األسود كام ورد يف احلديث الصحيح
«وكلتا يديه يمني» وهل تعتقد أن هلل تعاىل مليارات األصابع ،وأن بداخل كل
مؤمن إصبعني من أصابع الرمحن حقيقة ال جمازا مكتنفتني بقلبه؟ وإذا كنت
تعتقد ذلك فهل حتس بأن بداخلك إصبعني حميطتني بقلبك؟!
وهل تعتقد أنه حينام قال النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم( :إين ألجد
نفس الرمحن من جانب اليمن) ،كان اهلل تعاىل يف جانب اليمن ،فوجد النبي
صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم نفسه حقيقة ال جمازا من جانب اليمن؟! ال
شبهة عندي يف أن الدكتور ال يعتقد شيئا من ذلك ،فالدكتور إذا ُيمل هذه
األحاديث عىل معانيها غري احلقيقة .وهذا هو تأويل الذي أنكره عىل
األشاعرة.
ثم إنه قد جاء التأويل عن اإلمام أمحد يف غري هذه األحاديث ،وقد نقلنا
اثنني منها فيام تقدم ،ونعززمها هنا بثالث:
روى الذهبي عن صالح ابن اإلمام أمحد -رمحه اهلل -عن أبيه أن املعتزلة
احتجوا عليه وقت املحنة بحديث ابن مسعود( :ما خلق اهلل من جنة وال نار وال
274
سامء وال أرض أعظم من آية الكريس) قال :فقلت :إنام وقع اخللق عىل اجلنة
222
والنار والسامء واألرض ،ومل يقع عىل القرآن.
اخلطأ الثاين عرش :تسوية الدكتور بني األشاعرة والباطنية يف التأويل،
وقوله أخريا( :وملاذا يكفر األشاعرة الباطنية ثم يشاركوهنم يف أصل عظيم من
أصوهلم؟)
أقول للدكتور أوال :اتق اهلل ،وتذكر قول النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله
وسلم( :إن الرجل ليتكلم بالكلمة ال يلقى هلا باال هيوى هبا يف النار سبعني
خريفا) أو كام قال.
ثم أقول له :تذكر ما نقلناه عن تاج الدين السبكي وهو من األشاعرة قال يف
"مجع اجلوامع" (الظاهر ما دل داللة ظنية ،والتأويل محل الظاهر عىل املحتمل
املرجوح ،فإن محل لدليل فصحيح ،أو ملا يظن دليال ففاسد ،أو ال ليشء فلعب ال
تأويل) وتأويل األشاعرة وغريهم من املسلمني من التأويل لدليل ،وأما تأويالت
الباطنية فمن اللعب بنصوص الشارع ،فهل يصح ملؤمن يرجو اهلل واليوم اآلخرة
أن يقول :إن األشاعرة قد شاركوا الباطنية يف أصل من أعظم أصوهلم؟؟!!
فإن التأويل الذي قال به األشاعرة مل يتخلص ولن يتخلص منهم أحدٌ من
املسلمني بام فيهم الدكتور سفر.
222
578 11 246 11
275
-75تقسيم األشاعرة ألصول العقيدة بحسب مصدر التلقي إىل ثالثة أقسام
وبيان ذلك بوجه مفصل:
أصول العقيدةِ
َ قال الدكتور{ :الثاين عرش :السمعياتُ :يقس ُم األشاعر ُة
ِ
بحسب مصدر التلقي إىل ثالثة أقسام:
باب الصفات، معظم األبواب ومن ُه ُ
ُ ُ
العقل وحدَ ه وهو -1قسم مصدره
ُ
العقل القسم "هو ما حيك ُُم السبع "عقلية" .وهذا ِ
الصفات يسمو َن
ُ َ وهلذا ُّ
الوحي عندَ ُه ْم.
ِ ٍ
توقف عىل دون
بوجوبه" َ
-2قسم مصدره العقل والنقل معا كالرؤية عىل خالف بينهم فيها-
وهذا القسم هو ما حيكم العقل بجوازه استقالال أو بمعاضدة الوحي.
-3قس ٍم مصدره ُ
النقل وحدَ ُه ،وهو السمعيات أي :املغيبات من أمور
ُ
العقل حيك ُُم ِ
والرصاط وا ِ
مليزان ،وهو عندَ ُهم ما ال َ ْ اآلخرة كعذاب القرب
العقل إدرا َك ُه منفرد ًا ،و ُيدْ خلو َن فيه
الوحي مل يستط ِع ُ
ُ لكن لو مل يرد به
باستحالتهْ ،
َ
والتحليل والتحريم. والتقبيح
َ التحسني
َ
واحلاصل أهنم يف صفات اهلل جعلوا العقل حاكام ،ويف إثبات اآلخرة
جعلوا العقل عاطال ،ويف الرؤية جعلوه مساويا .فهذه األمور الغيبية نتفق
معهم عىل إثباهتا ،لكننا نخالفهم يف املأخذ واملصدر .فهم يقولون عند ذكر أي
276
أمر منها :نؤمن به ألن العقل ال حيكم باستحالته وألن الرشع جاء به.
ويكررون ذلك دائام.
ِ
السنة واجلامعة فال منافا َة بني العقل والنقل أصالً ،وال أهل ِ
مذهب ِ أما يف
ِ
أصول وليس هناك ٌ
أصل من ٍ
جانب؛ َ وإهدار يف ٍ
جانب. ِ
للعقل يف تضخيم
َ َ
يستطيع العقل بإثباته أبد ًا؛ كام أنه ليس هناك ٌ
أصل منها ال ُ ُّ
يستقل العقيدةِ
ُ
العقل إثبا َت ُه أبد ًا.
ُ
ِ
السمعيات ليس هو يف مذهب أهل السنة فاإليامن باآلخرة وهو ُ
أصل كل ُ
واجلامعة سمعي ًا فقط ،بل إن األدلة عليه من القرآن هي يف نفسها عقلية كام أ َّن
حير ْف ُهم عنها ِ
أذهان البرش ما مل ُ َ الفطر السليم َة تشهدُ به ،فهو حقيق ٌة مركوزة يف
َ
حارف.
العقل حكم باستحالة ٍ
يشء من تفصيالته فرض ًا وجدالً َ أن
لكن لو َّ
َ
َ
العقل فحكم ُه مردو ٌد؛ وليس إيامنُنا به متوقفاً عىل حك ِم العقل .وغاي ُة األمر أ َّن
ُ
قد يعج ُز عن تصوره ،أما أن حيكم باستحالته فغري ٍ
وارد ،وهللِ احلمدُ } ُ َ ّ
أقول :هذا التقسيم الثالثي ألصول العقيدة الذي ذكره الدكتور ناسبا له
إىل األشاعرة هو من املقررات عند األشاعرة ،وقد ذكره إمام احلرمني يف
"اإلرشاد" ،وبينه بيانا وافيا ال يصح ملن يفهم كالمه أن يرتاب يف صحة هذا
التقسيم فضال عن أن ينتقده أو ينكره!
277
والدكتور قد اطلع عىل بيان إمام احلرمني ،فإن "اإلرشاد" أول مراجعه
التي أوردها يف التعليق ،لكن الدكتور مل يفهم هذا البيان ،وال أدري هل مل
يستطع فهمه ألنه مل يتمرن عىل فهم كالم األشاعرة لدقته وعلوه عن فهمه ،أم
أنه مل يتجشم فهمه عىل وجهه كي يتسنى له النقد واإلنكار الذي هو مغرم
به؟؟!!
وأنقل كالم إمام احلرمني بنصه ،ثم أعقبه بتوضيح له ،ثم أعود إىل كالم
الدكتور ،وإىل بيان ما حواه من أخطاء.
قال إمام احلرمني( :إعلموا وفقكم اهلل تعاىل أن أصول العقائد تنقسم إىل
ما يدرك عقال وال يسوغ تقدير إدراكه سمعا .وإىل ما يدرك سمعا وال يتقدر
إدراكه عقال .وإىل ما جيوز إدراكه سمعا وعقال .فأما ما ال يدرك إال عقال فكل
قاعدة يف الدين تتقدم عىل العلم بكالم اهلل تعاىل ووجوب اتصافه بكونه
صادقا ،إذ السمعيات تستند إىل كالم اهلل تعاىل؛ وما يسبق ثبوته يف الرتتيب
ثبوت الكالم وجوبا فيستحيل أن يكون مدركه السمع.
وأما ما ال يدرك إال سمعا فهو القضاء بوقوع ما جيوز يف العقل وقوعه،
وال جيب أن يتقرر احلكم بثبوت اجلائز ثبوته فيام غاب عنا إال بسمع ،ويتصل
هبذا القسم عندنا مجلة أحكام التكليف وقضاياها من التحسني والتقبيح
واإلجياب واحلظر والندب واإلباحة.
278
وأما ما جيوز إدراكه سمعا وعقال فهو الذي تدل عليه شواهد العقول،
ويتصور ثبوت العلم بكالم اهلل تعاىل متقدما عليه .فهذا القسم يتوصل إىل
دركه بالسمع والعقل .ونظري هذا القسم إثبات جواز الرؤية ،واثبات استبداد
الباري تعاىل باخللق واالخرتاع ،وما ضاهامها مما يندرج حتت الضبط الذي
ذكرناه .فأما كون الرؤية ووقوعها فطريق ثبوهتا الوعد الصدق والقول احلق)
223
هذا كالم إمام احلرمني.
وإيضاحا له أقول :السمع هو كتاب اهلل تعاىل وسنة رسوله صىل اهلل عليه
وآله وسلم .والقرآن ال يثبت كونه كالم اهلل تعاىل إال بعد ثبوت وجود اهلل تعاىل
وثبوت اتصافه باحلياة والعلم واإلرادة والقدرة ،وكذلك بعد ثبوت صدق
الرسول املخرب بأن القرآن كالم اهلل تعاىل يف دعواه النبوة بالدالئل الدالة عىل
صدقه يف دعواه هذه ،والسنة ال يثبت كوهنا حجة عىل الناس فيام احتوت عليه
من األحكام إال بعد ثبوت صدق الرسول يف دعواه النبوة ،فكون القرآن كالم اهلل
تعاىل وكونه حجة عىل الناس ،وكون سنة حممد صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم
حجة عىل الناس كل منهام متوقف عىل ما ذكرناه ،فلو حاولنا االستدالل عىل
يشء مما يتوقف عليه حجية الكتاب والسنة بالكتاب والسنة يلزم الدور .وهو
توقف اليشء عىل ما يتوقف عليه ذلك اليشء ،املستلزم لتقدم اليشء عىل نفسه.
223
312 311
279
وهل يقدم عاقل عىل االستدالل عىل وجود اهلل واتصافه بتلك الصفات ،وعىل
صدق الرسول يف دعواه الرسالة عىل من ال يعرتف بذلك ،بالكتاب والسنة ،وإذا
حاول بعض الناس االستدالل هبذا الطريق عىل اخلصم املذكور فامذا عسى أن
يكون موقف هذا اخلصم من هذا املستدل؟ أال ُيكم عليه باجلهل بطرق
االستدالل؟
فمعنى أن مدرك هذه العقائد هو العقل فقط أنه ال يصح االستدالل عىل
ثبوهتا عىل من ال يعرتف هبا ،إال بالعقل ،وليس معناه أن الرشع ال يدل عىل
ثبوهتا ،وأما املؤمن فال يكون مؤمنا إال باعتقادها ،فال يتصور بالنسبة إليه
االستدالل عليه بالسمع.نعم يكون توارد األدلة السمعية عىل ما اعتقده مقويا
العتقاده
نعم وجوب اعتقاد هذه العقائد إنام يثبت عند األشاعرة بالسمع ال بالعقل،
ألنه ال حكم عندهم للعقل بيشء من األحكام الرشعية -ومنه وجوب اعتقاد
هذه العقائد -قبل ورود الرشع ،فوجوب اعتقاد هذه األمور أمر ،وإدراكها أي
معرفتها أمر آخر .فاألول ال يدرك إال بالرشع ،والثاين ال يدرك إال بالعقل .فإذا
ورد الرشع وبلغت الدعوة إىل املكلف فقد استقرت عليه كل الواجبات وثبتت
التكاليف ،ومنها هذه العقائد ،فقد وجب عليه رشعا أن يدرك هذه العقائد
بالعقل ويعتقدها ،فوجوب اعتقاد هذه العقائد رشعي ،وأما إدراكها ومعرفتها
فطريقه العقل ،ألن الرشع وإن كان قد ثبت عليه ببلوغ الدعوة ،لكنه مل يثبت
281
عنده بعد ،فال يصح له أن يستدل لنفسه ،وال أن يستدل غريه عليه إلثبات هذه
العقائد بالرشع ،ألن الدليل البد أن يكون من املسلامت عند اخلصم ،والرشع مل
يثبت عنده بعد .وإن كان قد ثبت عليه.
فالواجب عىل املكلف عند بلوغ الدعوة إليه أن يستدل عىل هذه العقائد
بالعقل ،إما بأن يستدل عىل كل واحد منها بدليل عقيل يثبتها ،أو يكتفي
بالدليل العقيل الدال عىل صدق الرسول يف دعواه الرسالة ،فإنه هبذا الدليل
يثبت صدقه ،ويثبت صحة كل ما أخربه عن اهلل تعاىل ،ومنها هذه العقائد،
فالدليل عىل ثبوت هذه العقائد يف هذه الصورة يكون أيضا عقليا ،وهو دليل
صدق الرسول يف دعواه.
ومن أجل ذلك كان طريقة القرآن عند ما خيرب عن هذه العقائد أن يستدل
عليها بالدالئل العقلية ،فاإلخبار هبا يؤخذ منه حكم رشعي بوجوب اعتقادها،
وأما إدراكها ومعرفتها ،وإذعان العقل هلا فيكون عن طريق هذه الدالئل العقلية
التي أوردها القرآن استدالال عىل ثبوهتا.
وأما عند املعتزلة ومجهور املاتريدية :فوجوب اعتقاد هذه العقائد ثابت
بالعقل قبل ورود الرشع هبا ،وقبل بلوغ الدعوة إىل املكلف .واخلالف هنا
مبني عىل اخلالف يف التحسني والتقبيح العقليني ،فاملعتزلة ذهبوا إىل أن أفعال
املكلف مشتملة عىل صفة من احلسن والقبح توجب ورود احلكم الرشعي
عىل حسبها يف األصول والفروع قبل جمئ الرشع ،والعقل قد يدرك صفة
281
احلسن والقبح من الفعل فيدرك عندها احلكم الذي تقتضيه هذه الصفة من
الوجوب والندب واحلظر واإلباحة؛ وقد ال يدرك العقل ذلك فيتوقف عن
احلكم حتى يرد الرشع به .فالرشع عندهم مؤيد فيام أدركه العقل من
األحكام ،ومبني فيام ال يدركه منها.
واألشاعرة :نفوا صفة احلسن والقبح عن الفعل قبل ورود الرشع رأسا،
وقالوا :ال َح َس َن إال ما ورد الرشع بحسنه ،وال قبيح إال ما ورد الرشع بقبحه،
ومن أجل ذلك نفوا أن يكون هلل تعاىل حكم يف فعل من أفعال املكلف قبل
ورود الرشع ال يف األصول وال يف الفروع.
وأما املاتريدية فتوسطوا بني املذهبني ،فأثبتوا للفعل أصل صفة احلسن والقبح،
املقتضيني لورود الرشع بحسبهام عند وروده ،وأما قبل ورود الرشع فلم يثبتوا
احلكم الرشعي يف الفروع ،واختلفوا يف ثبوته يف األصول التي مدركها العقل دون
الرشع ،فأثبته معظمهم فيها ،ومل يثبته اآلخرون.
وأما العقائد التي ال يتوقف ثبوت السمع من الكتاب والسنة عىل ثبوهتا مما
جيوز للعقل أن يدركها ورد الرشع هبا أم مل يرد .وذلك كجواز رؤية اهلل تعاىل،
واستبداد اهلل تعاىل باخللق واالخرتاع ،فيصح االستدالل عليها بالعقل والرشع،
فتستدل عليها بالعقل فقط عىل غري املؤمن بالرشع ،وبالرشع والعقل معا عىل
املؤمن بالرشع ،وأما نفس رؤية اهلل فال تثبت إال بالرشع.
282
وأما األحكام الرشعية سواء كانت تكليفية أو وضعية فال سبيل إىل
إدراكها عند األشاعرة إال الرشع ،وال يستقل العقل بإدراك يشء منها قبل
ورود الرشع .وقالت املعتزلة :قد يستقل العقل بإدراكها يف األصول والفروع،
وقال مجهور املاتريدية :يستقل العقل بإدراكها يف األصول دون الفروع.
هذا توضيح كالم إمام احلرمني ،وأرى أن املسألة قد وضحت وضوحا
تاما .وبعد هذا اإليضاح نعود إىل كالم الدكتور ،فنقول وباهلل التوفيق:
283
األبواب .قال البيهقي يف "اإلعتقاد"( :فصفات ذاته ما يستحقه فيام مل يزل وال
يزال ،وهي عىل قسمني :أحدمها عقيل ،واآلخر سمعي .فالعقيل ما كان طريق
إثباته أدلة العقول مع ورود السمع به ...وأما السمعي فهو ما كان طريق ثبوته
224
الكتاب والسنة فقط)
اخلطأ الثاين :قوله( :وهذا القسم هو ما ُيكم العقل بوجوبه دون توقف
عىل الوحي عندهم)
أقول :بل هذا القسم هو ما ُيكم العقل بوجوده وثبوته ،وال يصح االستدالل
عىل ثبوته بالرشع ،مع أن الرشع قد ورد به ،وذلك ملا ذكرناه من لزوم الدور ،وأما
وجوب اعتقاد هذه العقائد فمأخوذ من الرشع فقط عند األشاعرة كام قدمناه ،وال
أدري ماذا أقول هلذا الدكتور الذي خيلط بني الوجود والوجوب ،وال يفرق
بينهام!!! فإن الوجود أمر واقعي ،والوجوب حكم رشعي.
اخلطأ الثالث والرابع واخلامس والسادس :قوله »2«( :قسم مصدره
العقل والنقل معا كالرؤية عىل خالف بينهم فيها -وهذا القسم هو" :ما
ُيكم العقل بجوازه استقالال أو بمعاضدة الوحي")
فاخلطأ الثالث متثيله هلذا القسم بالرؤية مع أن املثال الصحيح هو جواز
الرؤية .وأما الرؤية نفسها فمدركها الرشع فقط كام تقدم ،فالدكتور ال يفرق
31 224
284
بني الرؤية نفسها وبني جوازها ،فمن أجل ذلك وقع يف هذا اخلطأ واخلطأ
الرابع :وهو قوله( :عىل خالف بينهم فيها) ملا رأى إمام احلرمني جعل جواز
الرؤية من القسم الثاين ،وجعل الرؤية نفسها من القسم الثالث ،ظن أن هذين
قوالن يف الرؤية نفسها .واخلطأ اخلامس :قوله( :وهذا القسم هو :ما ُيكم
العقل بجوازه استقالال أو بمعاضدة الوحي) فقوله( :أو بمعاضدة الوحي)
خطأ ،فإن هذا القسم ُيكم العقل بجوازه استقالال ،وُيكم الرشع أيضا
بجوازه استقالال ،وكالم الدكتور يفيد أن العقل قد ال يستقل باحلكم بجوازه،
بل إنام ُيكم بذلك بمعاضدة من الرشع.
وقد ترتب عىل عدم التفرقة بني الرؤية وجوازها خطأ سادس ،حيث عرب
بقوله( :وهذا القسم هو ما ُيكم العقل بجوازه) وقد علمت أن مثال هذا
القسم هو جواز الرؤية ال الرؤية ،فكان الصواب أن يقول( :وهذا القسم هو
ما ُيكم العقل به )...ولكن الدكتور حيث أخطأ يف التمثيل اضطر إىل أن خيطأ
يف التعبري أيضا ويقول( :هو ما ُيكم العقل بجوازه)
اخلطأ السابع والثامن :قوله( :واحلاصل أهنم يف الصفات جعلوا العقل
حاكام ،ويف إثبات اآلخرة جعلوا العقل عاطال) فاألشاعرة مل جيعلوا العقل
حاكام يف الصفات كلها ،بل يف بعضها ،وهو ما توقف ورود الرشع عىل ثبوته،
دون غريها ،ومل يعطلوا العقل يف إثبات اآلخرة ،بل جعلوا جتويز العقل هلا
285
إحدى مقدمات دليل إثباهتا ،حيث يقولون :هذا أمر قد جوزه العقل وورد به
السمع ،فالبد من اعتقاد ثبوته.
اخلطأ التاسع :قوله عىل وجه اإلنكار عىل األشاعرة( :فهم يقولون عند
ذكر أي أمر منها :نؤمن به ألن العقل ال ُيكم باستحالته وألن الرشع جاء به،
ويكررون ذلك دائام) أقول :يقصد األشاعرة هبذا الكالم أنه لو كان العقل
حكم باستحالة هذا األمر حكام قاطعا ،وفرض أن ظاهر الرشع قد جاء به ،مل
نحكم بثبوت هذا األمر ،ألن الرشع ال يرد بام خيالف رصائح العقول ،بل
الواجب حينئذ تأويل ظاهر الرشع ،ورصفه إىل معنى صحيح ال ُييله العقل،
وما الذي يستنكر من هذا الكالم؟؟!!
وابن تيمية نفسه قد استعمل يف االستدالل هذا املعنى فقال يف "التدمرية"
مناقشا للمعتزلة يف بعض املسائل( :وليس لك أن تنفيه بغري دليل ،ألن النايف
عليه الدليل كام عىل املثبت ،والسمع قد دل عليه ،ومل يعارض ذلك معارض
225
عقيل وال سمعي ،فيجب إثبات ما أثبته الدليل السامل عن املعارض املقاوم)
فلامذا تستنكر أهيا الدكتور قول األشاعرة املذكور ،ومل تنتقد قول ابن تيمية
هذا ،واملعنى واحد؟؟!!
225
23
286
اخلطأ العارش :قوله( :وأما يف مذهب أهل السنة فال منافاة بني العقل
والنقل أصال ،وال تضخيم للعقل يف جانب وإهدار يف جانب)
أقول :هذا الكالم إذا قطع عن سياقه كالم قويم ،واخلطأ فيه أن الدكتور
قصد به أن األشاعرة قد حكموا بتقسيمهم الثالثي املتقدم باملنافاة بني العقل
والنقل ،وأهنم قد ضخموا العقل يف هذا التقسيم يف جانب جيب عدم
تضخيمهم له فيه ،وأهدروه يف جانب جيب استعامهلم له فيه.
مع أنه ليس يف هذا التقسيم أي حكم باملنافاة بني العقل والنقل ،بل ما
فعلوه يف هذا التقسيم إنام هو استعامل لكل من العقل والنقل يف جماله الذي
جيب أن يستعمل فيه ،وإمهال لكل منهام يف املجال الذي ال جمال له فيه .وهذه
هي احلكمة التي أوتيها األشاعرة ،ومن يؤت احلكمة فقد أويت خريا كثريا.
اخلطأ احلادي عرش والثاين عرش والثالث عرش :قوله( :ليس هناك أصول
من أصول العقيدة يستقل العقل بإثباته أبدا ،كام أنه ليس هناك أصل منها ال
يستطيع العقل إثباته أبدا)
اخلطأ األول يف هذا الكالم نسبة األمرين املذكورين إىل مذهب أهل
السنة ،وليت شعري من هم أهل السنة القائلون هبذين اخلطأين العظيمني؟!
نعم من عادة الدكتور أن جيعل كل ما هيويه مذهبا ألهل السنة!!!
اخلطأ الثاين :قوله( :وليس هناك أصل من أصول العقيدة يستقل العقل
بإثباته أبدا)
287
وقد علمت أن العقل يستقل بإثبات ما يتوقف صحة النقل عليه من
العقائد ،ومعظم الفالسفة قد آمنوا بذلك عن طريق العقل املجرد ،وإن كان
مراد الدكتور أنه ليس هناك أصل من أصول العقيدة يثبته العقل وال يثبته
السمع ،فاملعنى صحيح لكن اللفظ ال يفيد ذلك.
اخلطأ الثالث :قوله( :كام أنه ليس هناك أصل منها ال يستطيع العقل إثباته
أبدا)
وقد علمت أن وجوب الواجبات مما ال يستقل العقل بإثباته أبدا .وكذلك
السمعيات كلها ال يستقل العقل بإثباهتا ،والعقل جيوزها فقط ،وإما ثبوهتا
وحتققها فلم يدل عليه إال السمع ،ثم إن هذين احلكمني من الدكتور مع
كوهنام خطأين مها حكامن متناقضان ،أثبت الدكتور يف كل منهام ما نفاه يف
اآلخر!!!
اخلطأ الرابع عرش واخلامس عرش :قوله ( :فاإليامن باآلخرة وهو أصل كل
السمعيات -ليس يف مذهب أهل السنة واجلامعة سمعيا فقط ،بل األدلة عليه من
القرآن كلها عقلية)
اخلطأ األول أيضا يف نسبة هذا القول إىل أهل السنة واجلامعة عىل عادته يف
نسبة ما هيواه إليهم!
اخلطأ الثاين :حكمه بأن األدلة عىل اإليامن باآلخرة من القرآن كلها عقلية،
وذلك أن كل ما ورد يف القرآن من األدلة العقلية املتعلقة باحلرش إنام تدل عىل
288
إمكانه ،وترد استبعاد الكافرين لوقوعه ،وأقرأ اآليات األخرية من سورة يس،
وهي أوضح ما ورد يف القرآن من الدالئل املتعلقة باحلرش،هل ترى فيها غري
إثبات اإلمكان ،وتزييف استبعاد وقوعه من الكافرين املنكرين لوقوعه.
وأما إثبات وقوع احلرش فال يتم إال بضم الدليل السمعي وهو إخبار هلل
تعاىل بوقوعه -إىل تلك األدلة العقلية.
ولكن الدكتور ال يفرق بني جواز الوقوع ،ونفس الوقوع فمن أجل ذلك
تورط يف هذا اخلطأ!
اخلطأ السادس عرش :قوله( :لكن لو أن العقل حكم باستحالة يشء من
تفصيالته فرضا وجدال -فحكمه مردود)
أقول :كيف يكون حكم العقل باالستحالة مردودا؟ هذا كالم من ال
يعرف أن استحالة العقل ما هي .نعم قد يكون العقل وامها يف احلكم
باالستحالة مع أنه ال استحالة يف الواقع ،وهذا احلكم الومهي هو الذي جيوز
أن ي َرد ببيان وهم العقل يف هذا احلكم ،وأما استحالة العقل فال يرفضها إال
رافض لعقله.
وقد قال إمام احلرمني :إن العقل عبارة عن معرفة وجوب الواجبات،
وجواز اجلائزات ،واستحالة املستحيالت .وهل جيوز أن يرد الرشع بام حتيله
العقول؟! وقد ناقض الدكتور نفسه بقوله عقب هذا الكالم وهو كالم
289
حق( :-وغاية األمر أن العقل قد يعجز عن تصوره ،وأما أن ُيكم باستحالته
فغري وارد .وهلل احلمد)
اخلطأ السابع عرش :قوله( :وليس إيامننا به متوقفا عىل حكم العقل)
أقول :إيامننا بكل ما نؤمن به متوقف عىل حكم العقل بعدم استحالته ،ثم
ورود الرشع به .ولو حكم العقل حكام صحيحا قاطعا باستحالة أمر ،وفرض
أن ظاهر الرشع ورد به ،فال نؤمن بام يدل عليه هذا الظاهر ،ونؤل هذا الظاهر،
ونَصفه إىل معنى صحيح يقبله العقل وال ُييله ،فإن الرشع ال يرد بام حتيله
العقول.
-76املقرر عند األشاعرة أهنم ال يكفرون إال من أنكر أمر ًا جممعاً عليه معلوماً
من الدين بالرضورة:
قال الدكتور{ :الثالث عرش :التكفري :التكفري عند أهل السنة واجلامعة حق
اهلل تعاىل ،ال يطلق إال عىل من يستحقه رشعا ،وال تردد يف إطالقه عىل من ثبت
كفره برشوطه الرشعية.
أما األشاعر ُة فهم مضطربون اضطراب ًا كبري ًا ،فتار ًة يقولونُ :
نحن ال نكف ُر
نكفر إال َم ْن ك َّفرنا ،وتار ًة يكفرون بأمور ال أحد ًا ،وتار ًة يقولونُ :
نحن ال ُ
توجب جمرد
ُ ٍ
بأمور ال تستوجب أكثر من التفسيق أو التبديع ،وتار ًة يكفرون
ُ
291
نفسها رشعية وجيب عىل كل مسل ٍم أن ٍ
بأمور هي ُ التفسيق ،وتار ًة يكفرون
يعتقدَ ها.......
يستحق سوى التبديع فمثل ترصحيهم يف أغلب كتبهم
ُّ تكفري من ال
ُ وأما
جسم ال كاألجسام .وهذا ليس بكافر بل هو ٌّ
ضال ٌ بتكفري َم ْن قال :إ َّن اهلل
مبتدع ألنه أتى ٍ
تستعمل ما هو مث ُل ُه َ ٌّ
ورش منه. ُ بلفظ مل يرد به الرش ُع .واألشاعر ُة
مر يف الفقرة
تكفري من ال يستحق حتى جمرد الفسق أو املعصية فكام ّ
ُ وأما
السابقة من تكفريهم من قال :إن النار ع ّلة اإلحراق والطعام ع ّلة الشبع.
علو ِ ِ
يثبت َّ
جيب اعتقا ُده فنحو تكفريهم ملن ُ حق يف نفسه ُ التكفري بام هو ٌّ
ُ وأما
يؤمن باهلل عىل طريق َة أهل الكالم ،وكقوهلم :إن األخذ بظواهر
ْ اهلل ،ومن مل
النصوص من أصول الكفر ،وكقوهلم :إن عبادة األصنام فرع من مذهب املشبهة،
ويعنون هبم أهل السنة واجلامعة}
أقول :املقرر عند األشاعرة وهو مذهب اجلمهور األعظم منهم -أنه إنام
يكفر من أنكر جممعا عليه معلوما من الدين بالرضورة .قال القايض عضد الدين
اإلجيي( :املقصد الثالث يف الكفر وهو خالف اإليامن ،فهو عندنا عدم تصديق
الرسول يف بعض ما علم جميئه به رضورة) وقال( :املقصد اخلامس يف أن
املخالف للحق من أهل القبلة هل يكفر أم ال؟ مجهور املتكلمني والفقهاء عىل أنه
291
ال يكفر أحدٌ من أهل القبلة) 226وقال شارح "املواقف" السيد الرشيف اجلرجاين
عقب هذا الكالم« :فإن الشيخ أبا احلسن قال يف أول كتابه مقاالت اإلسالميني:
اختلف املسلمون بعد نبيهم يف أشياء ضلل بعضهم بعضا ،وتربأ بعضهم عن
بعض ،فصاروا فرقا متباينني ،إال أن اإلسالم جيمعهم ويعمهم .ثم قال السيد:
227
فهذا مذهبه ،وعليه أكثر أصحابنا».
وقال ابن أيب رشيف يف "املسامرة" رشح "املسايرة" البن اهلامم« :قال
ِ
جاحد املجم ِع عليه عىل إطالقه ،بل من النووي يف "الروضة" :ليس تكفري
جحد جممعا عليه فيه نص وهو من األمور الظاهرة التي يشرتك يف معرفتها
اخلواص والعوام كالصالة وحتريم اخلمر ونحومها ،فهو كافر ومن جحد
جممعا عليه ال يعرفه إال اخلواص كاستحقاق بنت اإلبن السدس مع بنت
الصلب ،ونحوه فليس بكافر.
وقال ابن دقيق العيد يف "رشح العمدة" أول كتاب القصاص :أطلق
بعضهم أن خمالف اإلمجاع يكفر .واحلق أن املسائل اإلمجاعية تارة يصحبها
التواتر عن صاحب الرشع كوجوب اخلَمس ،وقد ال يصحبها ،فاألول يكفر
228
جاحده ملخالفته التواتر ال ملخالفة اإلمجاع».
226
392 388
227
339 8
228
318
292
-78أخطاء الدكتور يف مسألة التكفري:
هذا كالم هؤالء األساطني من أئمة األشاعرة يف مسألة التكفري ،وبعد هذا
نعود إىل كالم الدكتور لنبني كم حواه من أخطاء ،فنقول:
اخلطأ األول :قوله( :التكفري عند أهل السنة واجلامعة حق اهلل تعاىل) سياق
هذا الكالم يقتىض أن مراد الدكتور أن التكفري عند األشاعرة الذين جعلهم
الدكتور مقابلني ألهل السنة -ليس بحق اهلل ،فامذا يقصد الدكتور بقوله:
(التكفري ...حق اهلل) هل يقصد أنه حق هلل تعاىل ،وال جيوز ألحد من علامء األمة
أن يتدخل فيه وُيكم بكفر أحد من الناس ،وهذا خطأ حمض .أم يقصد أنه حق
اهلل تعاىل ،وال جيوز ألحد من علامء األمة أن خيالف اهلل فيه ،فهذا ما ال خيالف فيه
أحدٌ من فرق املسلمني ،إن كانت املخالفة قصدية ،أو كانت يف ما ال جمال
لالجتهاد فيه ،وأما إذا كانت املسألة اجتهادية فاجتهد املجتهد فحكم بكفر فريق
من الناس لكنه أخطأ يف اجتهاده هذا ،فقد خالف حكم اهلل يف املسألة ،ومع ذلك
ال يقال :ال جتوز له هذه املخالفة ،بل هو مأجور عىل اجتهاده فال وجه لنسبة هذا
القول ألهل السنة الذين قصدهم ،واإلشار ِة بذلك إىل أن األشاعرة خيالفون فيه!
عرب هبذا التعبري غري املحرر؟! ِ
ثم َمن من أهل السنة َ
نعم من عادة الدكتور أن ينسب ما هيواه إىل أهل السنة واجلامعة!
293
اخلطأ الثاين :قوله( :ال يطلق إال عىل من يستحقه رشعا ،وال تردد يف
إطالقه عىل من ثبت كفره برشوطه الرشعية)
أقول :هذا كالم جممل مل خيالف فيه -عىل إمجاله -أحد من الفرق
اإلسالمية ،والدكتور قد ساقه عىل أنه مذهب أهل السنة الذين قصدهم ،وأن
غريهم من الفرق خمالفون فيه ،ثم هال بني الدكتور الرشوط الرشعية للتكفري
عنده ،أو عند أهل السنة الذين قصدهم ،حتى نعلم هل هي صحيحة أم ال،
وهل هي موافقة ملذهب األشاعرة أم خمالفة له.
اخلطأ الثالث :قوله( :أما األشاعرة فهم مضطربون اضطرابا كبريا) قد
علمت مذهب اجلمهور األعظم من األشاعرة يف املسألة ،وأنه هو املذهب
الذي تقرر عندهم ،فال اضطراب عندهم فضال عن أن يكون كبريا .نعم هناك
خالف من بعضهم ،وهو أمر طبيعي ،وال يصح أن يطلق عليه اسم
االضطراب.
اخلطأ الرابع :قوله( :فتارة يقولون :نحن ال نكفر أحدا) قد نسب الدكتور
هذا القول إىل األشاعرة كلهم حيث قال( :يقولون) مع أنه ليس قوال ألحد
منهم ،وهال بني الدكتور قائل ذلك ،وهل ال يكفر األشاعرة املالحدة واليهود
والنصاري؟! والذي ال يكفرهم كافر ،فلامذا ال ُيكم الدكتور بكفر األشاعرة
إذا ،أو من قال منهم هذا القول؟!
294
اخلطأ اخلامس :قوله( :وتارة يقولون :نحن ال نكفر إال من كفرنا) هذا
قول لألستاذ أيب إسحاق اإلسفراييني فقط من األشاعرة ،وهو قول غري
مقبول عند غريه منهم ،وليس هو قوال لألشاعرة كلهم كام قال الدكتور:
(يقولون)
اخلطأ السادس :قوله( :وأما تكفري من ال يستحق سوى التبديع فمثل
تَصُيهم يف أغلب كتبهم بتكفري من قال :إن اهلل جسم ال كاألجسام)
أقول :مل يكفر األشاعرة قائل هذا القول ،وإنام َخطئوه و َأثموه من أجل
إطالقه عىل اهلل تعاىل ما ال جيوز إطالقه عليه ال عىل مذهب التوقيف ،وال عىل
مذهب االشتقاق ،لعدم التوقيف فيه ،وإلهيامه معنى ال جيوز عىل اهلل تعاىل .قال
ابن اهلامم( :األصل اخلامس :أنه تعاىل ليس بجسم ...فإن سامه أحدٌ جسام
وقال :ال كاألجسام يعنى يف نفي لوازم اجلسمية ،فإنام خطئوه يف إطالق
االسم ...فمن أطلقه فهو عاص) 229وقال القايض عضد الدين اإلجيي( :وال
نكفر أحدا من أهل القبلة إال بام فيه نفي الصانع القادر املختار العليم ،أو بام فيه
رشك ،أو إنكار النبوة ،أو إنكار ما علم جميء حممد صىل اهلل تعاىل عليه وآله
وسلم به رضورة ،أو إنكار أمر جممع عليه قطعا ،أو استحالل املحرمات ،وأما
غري ذلك فالقائل به مبتدع وليس بكافر .ومنه التجسيم) وقال الشارح جالل
229
29
295
الدين الدواين( :التجسيم مع البلكفة غري مكفر ،بخالف التجسيم مع غري
البلكفة) 230ومعنى البلكفة أن يقول القائل :جسم بال كيف ،أي ال كاألجسام.
اخلطأ السابع :قوله( :وأما تكفري من ال يستحق حتى جمرد الفسق أو
املعصية فكام مر يف الفقرة السابقة من تكفريهم من قال :إن النار علة اإلحراق،
والطعام علة الشبع)
أقول :األشاعرة مل يكفروا من قال :إن النار علة عادية أو سبب عادي
لإلحراق ،بل هم قائلون بذلك ،وإنام يكفرون من قال :إن النار علة حقيقية
لإلحراق بمعنى أن النار حترق بطبعها ال يستطيع اهلل تعاىل سلب وصف اإلحراق
عنها كام هو مذهب الفالسفة ،ولعل الدكتور ال خيالف األشاعرة يف هذا .فإن فيه
إثبات التأثري احلقيقي لغري اهلل تعاىل ،كام أنه يقتيض حتديد قدرة اهلل تعاىل.
اخلطأ الثامن والتاسع والعارش واحلادي عرش :قوله( :وأما التكفري بام هو
حق يف نفسه ،جيب اعتقاده ،فنحو تكفريهم ملن يثبت العلو ،ومن ال يؤمن باهلل
عىل طريقة أهل الكالم ،وقوهلم :إن األخذ بظواهر النصوص من أصول
الكفر ،وقوهلم :إن عبادة األصنام فرع من مذهب املشبهة ،ويعنون هبم أهل
السنة واجلامعة)
230
293 291 2
296
فأقول أوال :إن األشاعرة يثبتون العلو هلل تعاىل باملعنى الذي أراده ،أو
بمعنى علو املكانة ،ال بمعنى علو املكان واجلهة ،ثم إهنم مع نفيهم عن اهلل تعاىل
علو املكان واجلهة ال يكفرون القائلني باجلهة ،بل يكفرون املجسمة إذا قالوا:
جسم كاألجسام ،وأظن أن الدكتور ال خيالفهم يف هذا.
وثانيا :إن أحدا من األشاعرة مل يكفر من مل يؤمن باهلل عىل طريقة أهل
الكالم فضال عن أن يكفره كلهم كام يفيده كالم الدكتور ،وهال ذكر الدكتور
من كفره منهم ونقل كالمه؟! بل األشاعرة جممعون عىل صحة إيامن املقلد غري
املستدل ،والذين قالوا بوجوب االستدالل مل يعدوا االستدالل رشطا لصحة
اإليامن ،بل أرادوا أن غري املستدل آثم ،ومل يشرتط أحد منهم أن يكون
االستدالل عىل طريقة علامء الكالم ،بل قالوا بكفاية الدليل اإلمجايل الذي
ينقدح يف القلب ،ومل يستطع صاحبه تقريره ،وقد مر بيان هذه املسألة.
وثالثا :إهنم مل يقولوا :إن األخذ بظواهر النصوص من أصول الكفر ،بل
قالوا :إن األخذ بظواهر بعض النصوص من أصول الكفر وكم من فرق بني
التعبريين .وقد تكلمنا عىل هذا فيام تقدم بام فيه الكفاية.
ورابعا :إن قول األشاعرة بل قول بعضهم :إن عبادة األصنام فرع من
مذهب املشبهة ،قصدوا باملشبهة املجسمة القائلون :إنه تعاىل جسم
كاألجسام ،وأثبتوا له لوازم اجلسمية فالقائل هبذا إنام يعبد صنام ،وال يعبد اهلل
297
الذي ليس كمثله يشء ،ولعل الدكتور يوافق األشاعرة عىل هذا ،ويوافقهم
عليه من عناهم الدكتور بأهل السنة واجلامعة.
قال الدكتور{ :الرابع عرش :الصحابة واإلمامة:
من خالل استعرايض ألكثر أمهات كتب األشاعرة وجدت أن موضوع
الصحابة هو املوضوع الوحيد الذي يتفقون فيه مع أهل السنة واجلامعة،
وقريب منه موضوع اإلمامة ،وال يعنى هذا االتفاق التام ،بل هم خيالفون يف
تفصيالت كثرية}
أقول :نعم قد نظر الدكتور يف جمموعة كبرية من كتب األشاعرة نظرات،
ولكنه -لألسف الشديد مل يفهم كالمهم ،ألنه مل يدرس شيئا من هذه
الكتب عىل أحد من العارفني بمذهب األشاعرة ،وكالمهم دقيق يعلو عن
فهمه ،فمن أجل ذلك تورط يف مئات األخطاء اجلسيمة يف هذه الصفحات
املعدودة من هذا الكتيب.
وكم من عائب قوال صحيحا ::وآفته من الفهم السقيم
ثم إن الدكتور مل يذكر شيئا من التفصيالت التي خالف فيها األشاعرة من
سامههم بأهل السنة حتى يتبني صدقه فيام ادعاه!! وحتى يتسنى لنا الكالم عليها
كام تكلمنا عىل دعاويه املتقدمة.
قال الدكتور{ :اخلامس عرش الصفات:
298
واحلديث عنها يطول ،وتناقضهم وحتكمهم فيها أشهر وأكثر ،وكل مذهبهم
يف الصفات مركب من بدع سابقة ،وأضافوا إليها بدعا أحدثوها ،فأصبح غاية يف
التلفيق املتنافر}
أقول :من أسهل األمور اكتيال التهم للمخالفني ،وأما إثباهتا واإلتيان
بالبينة عليها فمن الصعوبة بمكان .وهال ذكر الدكتور مثاال واحدا إلثبات ما
ادعاه من التناقض والتلفيق والتنافر .ولو أعطي الناس بدعواهم الدعى ناس
دماء أقوام وأمواهلم ،ولكن البينة عىل املدعي.
وقد تكلمنا عىل مسألة الصفات فيام تقدم بام فيه الكفاية.
299
ومن أجل معرفة مدى موافقة مذهب األشاعرة لسنة رسول اهلل صىل اهلل
تعاىل عليه وآله وسلم ،وملا كان عليه السلف الصالح ،أدعو طالب معرفة ذلك
إىل قراءة تعليقاتنا هذه ،ودراستها بإنصاف وحياد ومتعن.
متمامت للبحث
بعد أن انتهى الدكتور من املواضع اخلمسة عرش التي وعد بإيرادها وبيان
خمالفة مذهب األشاعرة فيها ملذهب أهلة السنة واجلامعة عىل حسب دعواه،
بعد ذلك حاول الدكتور أن يثبت أن مذهب األشاعرة مع ما تقدم من
خمالفته للسنة -متناقض يف نفسه ،ومكابر للعقل ،ادعى الدكتور ذلك وحاول
إثبات دعواه بإيراد أمثلة عىل ذلك ،من هذه األمثلة ما هو معاد ،ومنها ما هو
جديد .أما املعاد فنكتفي بام تكلمنا عليه سابقا .وأما اجلديد فنتكلم عليه حتى
يتضح مدى صحته وسقمه.
ادعى الدكتور هنا ثالثة دعاوى 34
{-1ليس هناك مذهب أكثر تناقضا من مذهب األشاعرة!.
-2يدعون العقل وحيكمونه يف النقل ،ثم يتناقضون تناقضا يربأ منه
العقل!}
هاتان التهمتان من التهم التي يسهل كيلها للمخالفني ،والدكتور قد كاهلا
لألشاعرة بدون أن يأيت ببينة عليها!
311
نعم الذي ُياول أن يتعلم علام بدون أن يدرسه عىل مشاخيه املتضلعني منه،
وال سيام إذا كان هذا العلم من أدق العلوم أو أدقها كعلم العقيدة عىل مذهب
األشاعرة ،ال يستطيع هذا املحاول أن يتعلم ذلك العلم عىل وجهه ويفهمه
لدقته وعلوه عن فهمه ،فترتائ له فيه تناقضات كثرية عجيبة ،فإذا كان هذا
املحاول من املعجبني بآرائهم ،والسيام إذا كان عدوا هلذا العلم وألصحابه،
املستور ،فيحكم بفساد هذا العلم ،ملا احتوى عليه
ر يترسع هذا الباحث الصحفي
من هذه التناقضات ،وهذا هو حال الدكتور سفر .وفقنا اهلل وإياه إىل ما فيه خري
الدنيا واألخري.
ثم حاول الدكتور إثبات هاتني الدعويني بدليل إمجايل ،وهو يف احلقيقة
دعوى ثالثة ينقصها الدليل ،ويعوزها اإلثبات ،بل تنقضها البينة ،ويزيفها
التثبت .فقال:
{-3يرجع معظم تناقضهم إىل كوهنم مل يسلموا للوحي تسلي ًام كامال ،ومل
يعرفوا للعقل منزلته احلقيقية وحدوده الرشعية .ومل يلتزموا بالعقل التزاماً
واضحا ،ويرسموا منهج ًا عقلي ًا متكامال كاملعتزلة والفالسفة ،بل خلطوا
وركبوا ،فتناقضوا واضطربوا}
يقصد الدكتور أن األشاعرة مل يلتزموا ال بمذهب فرقته ،وال بمذهب
املعتزلة والفالسفة ،بل حاولوا التلفيق بينهام فتناقضوا واضطربوا.
311
أقول :إن اهلل تعاىل قد أنعم عىل اإلنسان بنعمة العقل ال ليعطله وهيمله ،بل
ليفكر به ويستعمله ،ومن أجل ذلك جعل اهلل تعاىل العقل مناطا للتكليف ،لكن
اهلل تعاىل خلق العقل حمدود اإلدراك ،وحدد له حدودا ال يستطيع أن يتخطاها
ويتجاوزها إىل وراءها ،وعندما ُياول العقل جتاوز هذه احلدود يقع يف اخلطأ،
ومن أجل ذلك كان اإلنسان بحاجة إىل نزول الوحي وبعثة الرسل ،ألن العقل
ال يفي بدرك احلقائق كلها وال بدرك مصالح اإلنسان كلها ،فأنزل اهلل تعاىل
الوحي ،وأرسل الرسل ،فاألشاعرة مل هيملوا العقل ومل يعطلوه ،بل استعملوه
يف جماله الذي خلقه اهلل ألن يستعمل فيه ،ومل يطلقوا له العنوان حتى يتعدى
جماله وحدوده إىل ما ليس بمجال له ،بل هو جمال للوحي كام فعلت املعتزلة
والفالسفة.
ثم استعمل األشاعرة النقل الذي هو الكتاب والسنة الواردين بلغة العرب
عىل أساليب اللغة العربية من احلقيقة واملجاز والكناية ،فحكموا عىل ما هو
حقيقة منه بأنه حقيقة ،وعىل ما هو جماز بأنه جماز ،وعىل ما هو كناية بأنه كناية،
هذا ما فعله األشاعرة ،وقد أصابوا فيام فعلوه يف عامة األحوال ،وقد يكونون
قد أخطأ كلهم أو بعضهم يف بعضها ،ومل جيعل اهلل العصمة ألحد غري أنبيائه،
فخرج مذهبهم من بني فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربني .وهذه هي
احلكمة التي أوتوها ،يؤيت احلكمة من يشاء ومن يؤت احلكمة فقد أويت خريا
كثريا.
312
ثم قال الدكتور{ :وإليك أمثلة رسيعة للتناقض ومكابرة العقل:
قالوا :إنه جيوز أن يرى األعمى باملرشق البقة باألندلس}
أقول :من مشاكل الدكتور أنه ال يعلم كثريا من االصطالحات العلمية،
ولو كان عاملا هبا ملا تورط يف كثري من األخطاء التي تورط فيها يف هذا الكتيب،
وذلك أ ن معنى أن هذا األمر جائز أنه ليس بمحال ،حتى يكون مما ال تتعلق
قدرة الباري تعاىل به ،بل هو جائز جيوز تعلق قدرة اهلل تعاىل به ،وأنه داخل يف
قدرته تعاىل أن ي ِر َي أعمى الصني البقة بأرض األندلس عىل سبيل خرق العادة،
كام قال شيخ مشاخينا العالمة الشيخ خليل األسعردي يف كتابه "هنج األنام"
فأعمى بصني الرشق قد جاز أن يرى ::بعوضا بأرض الغرب عند الذي
يرى
وال أدرى إذا كان الدكتور ينكر ذلك عىل األشاعرة هل يعتقد امتناع
خوارق العادات التي منها معجزات األنبياء وكرامات األولياء ،أم يعتقد أن
هذا األمر ليس من اجلائز الذي جيوز خرق العادة فيه ،بل يعتقد أنه من املمتنع
واملحال العقيل الذي ال جيوز خرقه ،واالعتقادان كالمها باطالن!
-61هل نفي اجلهة عن اهلل تعاىل يقتيض نفي الرؤية له ،واالستدالل عىل نفي
اجلهة:
313
قال الدكتور{ :34قالوا :إن اجلهة مستحيلة يف حق اهلل تعاىل ،ثم قالوا:
بإثبات الرؤية ،وهلذا قيل فيهم :من أنكر اجلهة وأثبت الرؤية فقد أضحك
الناس عىل عقله}
أقول :قائل هذا القول هم املعتزلة املنكرون لرؤية اهلل تعاىل وللجهة معا،
ونلزمهم بأن اجلهة لو كانت رشطا عقليا للرؤية ال يمكن أن تتحقق الرؤية
بدونه لزم أن ال نكون مرئيني هلل تعاىل ،ألنه كام أنه تعاىل ليس يف جهة منا ،فإننا
أيضا لسنا يف جهة منه ،ألنه لو حتققت اجلهة بالنسبة إىل طرف من الرائي
واملرئي لتحققت بالنسبة إىل الطرف اآلخر أيضا ،وإذا انتفت عن طرف انتفت
بالنسبة إليه عن الطرف اآلخر ،فثبت عىل املعتزلة أن اجلهة ليست برشط عقيل
بالنسبة إىل الرؤية ،بل هي رشط عادي جيوز ختلفه كام يف رؤية اهلل تعاىل.
ثم نقول للدكتور :إن من رشط الرؤية يف الشاهد ثبوت مسافة معينة ال
تتحقق الرؤية عند جتاوز املرئي هلا ،فهل تعتقد أن اهلل تعاىل حينام يراه املؤمنون
يكون عىل هذه املسافة من الرائي ،وأنت تعتقد أن اهلل تعاىل فوق الساموات
السبع وفوق العرش ،وإن قلت :ينزل ربنا حينئذ إىل تلك املسافة قلنا :النزول
واحلركة من صفات األجسام حماالن عىل اهلل تعاىل ،فثبت أن اهلل تعاىل يري
بدون هذه املسافة املعينة ،فنقول :إذا جاز أن يرى بدون هذه املسافة املعينة،
جاز أن يرى بدون جهة أيضا ألن اجلهة كاملسافة رشط عادي يف الشاهد جيوز
314
ختلفه ،وليس رشطا عقليا ال جيوز ختلفه ،قال القايض أبو يعىل( :كام جاز رؤيته
232
ال يف جهة) 231وقال البيهقي( :فإنه عز وجل يرى ال يف جهة)
وأما أن اجلهة املعينة مستحيلة عىل اهلل تعاىل فقد استدل عليها األشاعرة
باملعقول واملنقول .أما املعقول فقد استدلوا منه بدالئل كثرية نكتفي منها بام
ييل :فنقول :اجلهة ليس أمرا ثابتا ال يتغري ،بل هي أمر إضايف نسبي خيتلف
باختالف الناس واختالف األحوال واألوضاع ،فهذا فوق هلذا ،وهو نفسه
حتت لآلخر ،ويمني هلذا وشامل لآلخر ،وفوق هلذا يف حالة وحتت له يف حالة
أخرى ،كسطح البيت فإنه فوق ملن هو يف داخل البيت ،وحتت ملن هو عىل
السطح.
فنقول ملثبت اجلهة املعينة هلل تعاىل :ال ريب يف أنك تثبت هلل تعاىل جهة العلو
والفوقية كام أنه ال ريب يف أنك تثبت هذه اجلهة هلل تعاىل بالنسبة إىل مجيع الناس يف
كل األحوال ،وقد ثبت أن األرض كروية ،فالذي فوق بالنسبة إىل ناس هو حتت
بالنسبة إىل آخرين ،فال يكون هذا احلكم صحيحا بالنسبة إىل مجيع الناس ،وقد
ثبت أيضا أن األرض متحركة ،فاجلهة التي هي فوق بالنسبة إىل بعض الناس يف
هذه الساعة ال تبقى فوقا هلذا البعض بعد عدة ساعات ،بل تتحول إىل حتت هلم،
231
55
232
63
315
فال يكون هذا احلكم صحيحا بالنسبة إىل كل األحوال أيضا .ونكتفي من املعقول
هبذا الدليل.
وأما املنقول فقد استدل األشاعرة عىل نفي اجلهة واملكان هلل تعاىل باحلديث
الذي رواه مسلم يف صحيحه عن أيب هريرة ريض اهلل تعاىل عنه أن رسول اهلل
صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم كان يقول يف دعائه( :اللهم أنت األول ،فليس
قبلك يشء ،وأنت اآلخر ،فليس بعدك يشء ،وأنت الظاهر فليس فوقك يشء،
وأنت الباطن فليس دونك يشء ،أقض عنا الدين وأغننا من الفقر)
قال البيهقي :استدل بعض أصحابنا هبذا احلديث عىل نفي املكان عن اهلل
233
تعاىل ،فإذا مل يكن فوقه يشء وال دونه يشء مل يكن يف مكان.
وهذه الدالئل من املعقول واملنقول هي التي أدت بالطحاوي أن يقول يف
عقيدته امللقبة ببيان أهل السنة واجلامعة( :ال حتويه اجلهات الست كسائر
املبتدعات) وأدت بشيخ احلنابلة القايض أيب يعىل أن يقول( :كام جازت رؤيته
234
ال يف جهة)
233
41
234
55
316
-61بيان قول األشاعرة :إن اهلل تعاىل ليس داخل العامل وال
خارجه ،وال فوقه وال حتته وال عن يمينه وال عن شامله:
قال الدكتور{ :قالوا بأن رفع النقيضني حمال وهو كذلك -حمتجني هبا يف
مسائل ،ثم قالوا يف صفة من أعظم وأبني الصفات (العلو) :إن اهلل ال داخل
العامل وال خارجه ،وال فوقه وال حتته ،وال عن يمينه وال عن شامله ...وقالوا
عن األحوال :هي صفات ال معدومة وال موجودة ،فرفعوا النقيضني معا}
أقول :أشار الدكتور هبذه الفقرة من كالمه إىل أربع مسائل :األوىل :أن
رفع النقيضني حمال ،والثانية :أن اهلل ليس داخل العامل وال خارجه ،والثالثة :أن
اهلل ليس فوق العامل وال حتته وال عن يمينه وال عن شامله ،والرابعة :مسألة
األحوال.
فنتكلم عليها واحدة واحدة ،فنقول :أما أن رفع النقيضني حمال فهذا من
مقررات العقول وبدهيياهتا ،لكنه كثريا ما يلتبس عىل بعض الناس النقيضني
بالضدين فيحكمون عىل الضدين بحكم النقيضني فيتورطون يف اخلطأ .وهذا
ما تورط فيه الدكتور!
فأقول :الضدان مها الشيئان اللذان ال يمكن اجتامعهام معا يف آن واحد
عىل حمل واحد ،وكذلك األضداد ،وجيوز ارتفاعهام أو ارتفاعها معا .وذلك
كاأللوان ،فإنه يمتنع أي ال يمكن اجتامعها يف حمل واحد ،وال يمكن اجتامع
317
اثنني منها أيضا ،وأما ارتفاعها فممكن كام يف الاللونى ومنه املاء والريح
والروح والعقل واهلل تعاىل.
وأما النقيضان فهام األمران اللذان ال جيتمعان وال يرتفعان .أي إن اجتامعهام
يف حمل واحد يف وقت واحد حمال وممتنع عقال وكذلك ارتفاعهام أي ال بد من أن
يتصف املوجود بواحد منهام ،وال جيوز ارتفاعهام معا عن املوجود ،بأن ال يتصف
املوجود بواحد منهام .والتناقض ال يكون إال بني شيئني فقط :ومها إثبات اليشء
ونفيه .وذلك كالزوجية والالزوجية للعدد ،فإن العدد إما زوج أو ال زوج وهو
الفرد ،وأما التضاد فيكون بني شيئني ،وبني أشياء كاللونني واأللوان.
وبعد هذا التمهيد نقول :الذي جوزه األشاعرة مما ذكره الدكتور إنام هو
من قبيل رفع الضدين ،وليس من قبيل رفع النقيضني حتى يكون حماال ،وبيان
ذلك كام ييل:
إن األشاعرة أرادوا بقوهلم« :إن اهلل تعاىل ليس بداخل العامل» نفي احللول
واإلحتاد واملامزجة ،وإثبات املباينة هلل تعاىل عن العامل ،كام قال اإلمام أبو احلسن
األشعري وغريه من أئمة أصول الدين« :إن اهلل تعاىل بائ ٌن عن خلقه» ،فإن اهلل
تعاىل مل خيلق العامل يف نفسه ،وال حل فيه بعد أن خلقه ،فكان مباينا له .وأرادوا
بقوله« :وال خارجه» نفي االبتعاد باملسافة ونفي اجلهة ،فليس يف هذا الكالم
رفع للنقيضني وذلك ألن كون اليشء داخل اليشء ،وكونه خارجه ،بمعنى
االبتعاد عنه بمسافة وكونه يف جهة منه ،ضدان ال جيوز العقل اجتامعهام ،وجيوز
318
ارتفاعهام يف الالمكاين ،واهلل تعاىل ال مكاين ،كام جيوز ارتفاع األلوان كلها عن
الاللوين ،وليسا بنقيضني ال جيوز اجتامعهام وال ارتفاعهام .وإنام النقيضان اللذان
ال جيوز اجتامعهام وال ارتفاعهام هو كون اليشء داخل اليشء وال داخال فيه،
وكونه خارجا عنه وال خارجا عنه ،ومل يقل أحد من األشاعرة :إن اهلل تعاىل
داخل العامل وال داخله ،وال أنه تعاىل خارج العامل وال خارجه حتى يكونوا
جامعني بني النقيضني أو رافعني هلام .ويقال نفس اليشء يف قول األشاعرة( :إن
اهلل تعاىل ال فوق العامل وال حتته ،وال عن يمينه وال عن شامله) وذلك أن الفوق
والتحت واليمني والشامل من األضداد ال جيوز اجتامعها ،وجيوز ارتفاعها كلها
كام يف الالمكاين ،ولو كان األشاعرة قالوا :إن اهلل تعاىل فوق العامل وال فوقه...
الخ لكان قوال باجلمع بني النقيضني الذي قالوا بامتناعه.
ونظري هذا أنه جيوز لك أن تقول يف حق احلجر والشجر :إهنام ليسا
بجاهلني كام أهنام ليسا بعاملني ،وإهنام ليسا بأعميني كام أهنام ليسا بمبَصين،
وذلك ألن اجلهل عدم العلم عام من شأنه أن يكون عاملا ،وأن العمى عدم
اإلبصار عام من شأنه أن يكون مبَصا ،وأما ما ليس من شأنه أن يكون عاملا،
وال من شأنه أن يكون مبَصا كاحلجر والشجر فكام ال يوصف بالعلم
واإلبصار ال يوصف باجلهل والعمى أيضا ،فالعلم واجلهل ضدان ال جيتمعان
وقد يرتفعان ،وكذلك العمى واإلبصار ،ومن هذا القبيل قول األشاعرة
املذكور.
319
فظهر هبذا البيان خطأ قول من قال :إنه ال فرق بني قول األشاعرة «إن اهلل
تعاىل ليس داخل العامل وال خارجه وال فوقه وال حتته وال عن يمينه وال عن
شامله» وبني قول من يقول :إن اهلل تعاىل غري موجود .وأن منشأ هذا اخلطأ
عدم تفرقة هذا القائل بني النقيضني والضدين.
وقد كتبت رسالة يف مسألة العلو والفوقية هلل تعاىل ،فرأيت من املناسب
أن أوردها هنا .وهذا نص الرسالة
311
بسم اهلل الرمحن الرحيم
من عقائد أهل السنة أن اهلل تعاىل منزه عن اجلهة واملكان،
فنورد أوال ما استدلوا به عىل املسألة ،ثم نرشح ست كلامت متعلقـة هبـا ،ثـم
نحقق املسألة ،ونحاول بذلك اجلمع بني قول القائلني باجلهة وقـول القـائلني بتنـزه
اهلل تعاىل عنها.
[الدالئل عىل أن اهلل تعاىل منزه عن اجلهة]
-1قال النسفي يف رشح العمـدة اسـتدالال عـىل ذلـك :الصـور واجلهـات
خمتلفة ،واجتامعها عليه تعاىل مستحيل لتنافيها يف أنفسها ،ولـيس الـبعض أوىل مـن
البعض الستواء الكل يف إفادة املدح والنقص وعـدم داللـة املحـدثات عليـه ،فلـو
اختص بجهة لكان بتخصيص خمصص وهذا من أمارات احلدوث.
-2وقال السبكي :صانع العامل ال يكون يف جهة ألنه لو كـان يف جهـة لكـان
يف مكان رضورة أهنا املكان أو املستلزمة له ،ولو كان يف مكـان لكـان متحيـزا ،ولـو
كان متحيزا لكان مفتقرا إىل حيزه ومكانه ،فال يكـون واجـب الوجـود ،وثبـت أنـه
واجب الوجود ،وهذا خلف.
-3وأيضا لو كان يف جهة فإما يف كل اجلهات ،وهـو حمـال وشـنيع ،وإمـا يف
البعض فيلزم االختصاص املستلزم لالفتقار إىل املخصص املنـايف للوجـوب .نقـل
كالم النسفي والسبكي الزبيدي يف إحتاف السادة املتقني 104./2
311
-4ومن الدليل عىل تنزه اهلل تعاىل عن اجلهة واملكان من السنة مـا رواه مسـلم
يف صحيحه ( )2804/4عن أيب هريرة ريض اهلل تعاىل عنه أن رسول اهلل صـىل اهلل
تعاىل عليه وآله وسلم كان يقول يف دعائه:
((اللهم أنت األول فلـيس قبلـك يشء ،وأنـت اآلخـر فلـيس بعـدك يشء،
وأنت الظاهر فليس فوقك يشء ،وأنـت البـاطن فلـيس دونـك يشء ،اقـض عنـا
الدين وأغننـا مـن الفقـر) قـال اإلمـام احلـافظ البيهقـي يف األسـامء الصـفات
ص :41استدل بعض أصحابنا هبذا احلديث عىل نفي املكان عـن اهلل ،فـإذا مل يكـن
فوقه يشء وال دونه يشء مل يكن يف مكان.
[الكلامت املتعلقة باملسألة]
ونرشح هنا ست كلامت متعلقة هبـذه املسـألة يكثـر دوراهنـا ويقـع االشـتباه
والزلل فيها ،يكون رشحها مساعدا لتحقيق املسألة وفهمها وهي لفـظ اجلهـة و
أنه تعاىل فوق عرشه وأنه بائن عن خلقه و أنـه تعـاىل لـيس بـداخل العـامل
وال خارجه و أنه استوى عىل العرش .و أنه تعاىل يف السامء .
أما لفظ اجلهة فلم يقع ذكره يف حـق اهلل تعـاىل يف كتـاب اهلل وال يف -1
سنة رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم ،وال يف لفظ صـحايب أو تـابعي ،وال
يف كالم أحد ممن تكلـم يف ذات اهلل تعـاىل وصـفاته سـوى إقحـام املجسـمة ،قالـه
الكوثري يف تكملة الرد عىل نونية ابن القيم ( )117وقال يف صفحة (.)54
312
وأما لفظ أنه تعاىل فوق عرشه فلم يرد مرفوعا إال يف بعـض طـرق -2
حديث األوعال من رواية ابن منده يف كتاب التوحيد وأسانيده مثخنة بـاجلراح ،بـل
خرب األوعال ملفق من اإلسائيليات كام نص عليـه أبـو بكـر بـن العـريب يف رشح
سنن الرتمذي.
وأما أنـه تعـاىل بـائن عـن خلقـه فقـد نقـل البيهقـي يف األسـامء -3
والصفات 411عن أيب احلسن األشعري أنه قال :إن اهلل مستو عىل عرشه ،وأنـه
فوق األشياء بائن منهـا بمعنـى أهنـا ال حتلـه وال ُيلهـا ،وال يمسـها وال يشـبهها،
وليست البينونة بالعزلة تعاىل اهلل عن احللول واملامثلة علوا كبريا.
يعني أن البينونة التي أثبتها اإلمام أبـو احلسـن وغـريه هلل تعـاىل بمعنـى نفـي
املامزجة واالختالط وليست بمعنى االعتزال والتباعـد ،ألن املامسـة واملباينـة التـي
هي ضدها كام قال -من أوصاف األجسام ،واهلل عز وجل أحد صـمد مل يلـد ومل
يولد ومل يكن له كفوا أحد.
فال جيوز عليه ما جيوز عىل األجسام.
وقال العالمة املحقق حممد زاهد الكوثري يف تكملة الرد عىل نونية ابـن القـيم
(:)54-53
ولفظ بائن عن خلقه مل يرد يف كتاب وال سنة ،وإنام أطلقه مـن أطلقـه مـن
السلف بمعنى نفي املامزجة ردا عىل جهم( ،يعنى يف قوله :إن اهلل يف كـل مكـان) ال
بمعنى االبتعاد باملسافة تعاىل اهلل عن ذلك ،ذكره البيهقي يف األسامء والصفات.
313
أقول :وهذا معنى قول املتكلمـني( :إن اهلل تعـاىل ال يكـون داخـل -4
العامل) قصدوا به نفي املامزجة لتعاليه تعاىل عن احللول واالحتاد ،وأمـا قـوهلم( :وال
خارجا عنه) فقد قصدوا به نفي اجلهة ونفي االبتعاد باملسافة ،أشار إليـه البيـايض يف
إشارات املرام ( )127وإال فمن الرضوري أن الذي ال يكون داخـل العـامل يكـون
بائنا عنه وخارجا عنه.
-5وأمـا أنـه تعـاىل اســتوى عـىل العـرش فقــد قـال البيهقـي يف "األســامء
والصفات" ( )327-326وليس معنى قول املسلمني :إن اهلل استوى عىل العـرش
هو أنه مماس له أو متمكن فيه أو متحيز يف جهـة مـن جهاتـه لكنـه بـائن مـن مجيـع
خلقه ،وإنام خرب جاء به التوقيف .فقلنا به ،ونفينا عنه التكييف ،إذ ليس كمثلـه يشء
وهو السميع البصري .وسننقل كـالم اإلمـام األشـعري يف االسـتواء يف آخـر هـذه
الرسالة.
-6وأما أن اهلل تعاىل يف السامء فقد قال ابـن تيميـة :ومـن تـوهم أن كـون اهلل
تعاىل يف السامء بمعنى أن السامء حتيط به أو حتويـه أو أنـه حمتـاج إىل خملوقاتـه ،أو أنـه
حمصور فيها ،فهو مبطل كاذب إن نقله عن غريه ،وضـال إن اعتقـده يف ربـه فإنـه مل
يقل به أحد من املسلمني ،بل لـو سـئل العـوام هـل تفهمـون مـن قـول اهلل تعـاىل
ورسوله صىل اهلل عليه وآله وسـلم :إن اهلل يف السـامء أن السـامء حتويـه؟ لبـادر كـل
واحد منهم بقوله :هذا يشء مل خيطر ببالنا ،بل عند املسلمني أن معنى كون اهلل تعـاىل
يف السامء وكونه عىل العرش واحد ،بمعنى أن اهلل تعاىل يف العلو ال يف السفل.
314
نقل هذا الكالم عن ابن تيمية زين الدين مرعي بن يوسف الكرمـي يف كتابـه
أقاويل الثقات ()24
[ رشح املسألة وإيضاحها ]
ونتكلم هنا عىل املسألة من ثالث جهات :من جهة التحقيق ،فنحقق املسـألة،
ثم نتكلم عنها من جهة حكم الوهم فيها ،ثم نتكلم عليها من جهة العرف
[ حتقيق املسألة ]
أقول :قد رشح العالمة زين الدين الكرمي يف كتابـه (أقاويـل الثقـات) قـول
القائلني باجلهة والعلو بوجه جيد ال خيالف مـذهب النـافني هلـام مـن أهـل السـنة،
فقال:
القائل باجلهة يقول :إن اجلهات تنقطع بانقطـاع العـامل ،وتنتهـي بانتهـاء آخـر
جزء من الكون ،واإلشارة إىل الفوق تقع عىل أعىل جزء من الكون حقيقة.
ومما ُيقق هذا أن الكون الكيل ال يف جهة ألن اجلهات عبارة عن املكان.
واملكان الكيل ال يف مكان ،فلام عدمت األماكن من جوانبه مل يقل :إنـه يمـني،
وال يسار ،وال قدام ،وال وراء ،وال فوق وال حتت.
315
وقالوا :إن ما عدى الكون الكيل وما خال الـذات القديمـة لـيس بيشـء ،وال
يشار إليه ،وال يعرف بخالء وال مالء ،وانفرد الكون الكـيل بوصـف التحـت ،ألن
اهلل تعاىل وصف نفسه بالعلو ومتدح به.
وقالوا :إن اهلل أوجد األكوان ال يف حمل وح ريز ،وهو يف قدمه تعـاىل منـزه عـن
املحل واحل ريز ،فيستحيل رشعا وعقال عند حدوث العامل أن ُيل فيه ،أو خيـتلط بـه،
ألن القديم ال ُيل يف احلادث وليس حمال للحوادث ،فيلزم أن يكون بائنا عنه ،فـإذا
كان بائنا عنه ،يستحيل أن يكون العامل من جهة الفوق والرب يف جهة التحـت ،بـل
هو فوقه بالفوقية الالئقـة التـي ال تكيـف وال متثـل ،بـل تعلـم مـن جهـة اجلملـة
والثبوت ،ال من جهة التمثيل والكيف ،فيوصف الرب بالفوقية كـام يليـق بجاللـه
وعظمته ،وال يفهم منها ما يفهم من صفات املخلوقني.
وقالوا :إن الدليل القاطع دل عىل وجود الباري وثبوت ذاته بحقيقة الثبـوت.
وأنه ال يصلح أن يامس املخلوقني أو متاسه املخلوقات ،حتى إن اخلصم يسـلم أنـه
تعاىل ال يامس اخللق .انتهى.
وهذا التوجيه الذي ذكره الكرمي ناسبا لـه إىل القـائلني باجلهـة توجيـه جيـد
جيمع بني قول القائلني باجلهة ،وقول القائلني بتنزه اهلل تعاىل عنه ،ويرتفع به مـا وقـع
بني الفرق اإلسالمية مـن اخلـالف والنـزاع الـذي أدى هبـا إىل الفرقـة والشـحناء
والبغضاء.
316
وقد أشار إىل هذا الوجه القايض عضد الدين اإلجيي يف كتابه املواقـف .قـال:
ومنهم أي من القائلني باجلهة -من قال ليس كونـه يف جهـة ككـون األجسـام يف
جهة .قال السيد الرشيف اجلرجاين يف رشحه ( .)12/8واملنازعة مـع هـذا القائـل
راجعة إىل اللفظ دون املعنى ،واإلطـالق اللفظـي متوقـف عـىل ورود الرشـع بـه.
انتهى.
وحاصل هذا التوجيه أن اهلل تعاىل ليس داخل العامل خمتلطا به ممازجا إيـاه ،كـام
أن العامل ليس بداخل فيـه ألن اهلل تعـاىل مل خيلـق العـامل يف نفسـه وإنـام خلـق العـامل
خارجا عن نفسه ،كام أنه تعاىل مل ُيل فيه بعد أن خلقه ،وإال لزم املامزجـة واملخالطـة
واحللول واالحتاد وقيام احلـوادث بـه تعـاىل وهـذه األمـور منتفيـة عـن اهلل تعـاىل
باإلمجاع.
بل اهلل تعاىل بائن عن العامل ليس داخال فيه ،وليس يف جهة منه.
وذلك ألن اجلهات تنقطع بانقطاع العامل ،وتنتهي بانتهاء آخر جـزء منـه ،فـال
يوصف العامل وهو الكون الكيل بجملته -بأن له يمينـا وال يسـارا ،وال قـداما وال
خلفا ،وال فوقا وال حتتا ،كام ال يوصف اهلل تعاىل بذلك ،فال يكون اهلل يف جهـة منـه
كام ال يكون هو يف جهة من اهلل تعاىل.
وقد وصف اهلل تعاىل نفسه بالعلو والفوقية ومتدح هبام ،فنثبتهام لـه تعـاىل عـىل
أهنام وصف مدح له تعاىل ،وباملعنى الالئـق بـه تعـاىل الـذي ال يمثـل وال يكيـف،
ونعتقد العلـو والفوقيـة هلل تعـاىل مـن جهـة اجلملـة والثبـوت ،مـع نفـي التمثيـل
317
والتكييف ،فنعتقد وصف الرب بالعلو والفوقية كام يليق بجاللـه وعظمتـه ،بـدون
أن نفهم منها ما يفهـم مـن صـفات املخلـوقني .قـال احلـافظ ابـن حجـر يف فـتح
الباري( :)136/6وال يلزم من كون جهتي العلو والسفل حمـاال عـىل اهلل تعـاىل أن
ال يوصف بالعلو ألن وصفه بالعلو من جهة املعنى واملستحيل كون ذلك من جهـة
احلس ،ولذلك ورد يف صفته العايل والعيل واملتعايل ومل يرد ضد ذلك .انتهـى .هـذا
بحسب التحقيق.
واحلاصل أن الذين نفوا اجلهة عن اهلل تعاىل نفوهـا عنـه بمعنـى أن يكـون يف
جهة معينة من العامل ،وأما الذين أثبتوا الفوقية هلل تعاىل فلم يريدوا أنه تعـاىل يف جهـة
معينة من العامل ،بل أرادوا أنه تعاىل بائن عن العـامل ولـيس بـداخل فيـه ،وأنـه فوقـه
بالفوقية الالئقة بعزته وجالله التي ال متثـل وال تكيـف ،وتعلـم مـن جهـة اجلملـة
والثبوت ال من جهـة التمثيـل والكيـف ،وال يفهـم منهـا مـا يفهـم مـن صـفات
املخلوقني وفوقيتهم .والفوقية هبذا املعنى هلل تعاىل وكذلك البينونة ممـا يثبتـه الفريـق
األول هلل تعاىل .والذي ينفونه إنام هو الفوقية بمعنى الكون يف جهة معينة مـن العـامل
التي هي من صفات املخلوقني .وهذه الفوقية مل يثبتها الفريق الثـاين بـل قـد نفوهـا
عن اهلل تعاىل ،فلم يتوارد نفي اجلهة عن اهلل تعاىل ممن نفاها وإثباهتـا ممـن أثبتهـا عـىل
معنى واحد ،فليس بينهام خالف يف احلقيقة ،بناء عىل هـذا التحقيـق ،بـل خالفهـم
يعود إىل اللفظ ،وأما احلقيقة فالفريقان متفقان فيها ،فقد أثبت كل مـن الفـريقني مـا
أثبته الفريق اآلخر ،ونفى ما نفاه.
318
[ -2حكم الوهم بالعلو والفوقية هلل تعاىل ]
وأما الوهم فيحكم بأن ما وراء العامل فوق له ،واهلل تعاىل بائن عن خلقـه لـيس
بداخل فيه ،فيحكم الوهم بأنـه فوقـه ،فالفوقيـة بحسـب حكـم الـوهم تـؤول إىل
البينونة التي أثبتها العلامء هلل تعاىل ،وهذه الفوقية الومهية هي املركـوزة يف فطـرة كـل
إنسان.
ال يذكر أحد من بني آدم اهلل تعاىل إال وهو يشعر بفوقيته تعاىل.
وهي فوقية ُيكم هبا الوهم خمالفا حلكم العقل كام هو احلال يف معظم أحكـام
الوهم ،فإن معظم أحكامه خمالفة حلكم العقل ،ومن أجل ذلك عد املناطقة القيـاس
املؤلف من القضايا الومهية من األقيسة التي ال تفيد اليقـني ،وسـموا هـذا القيـاس
باملغالطة والسفسطة.
وقالوا :إن النفس أطوع للومهيات منها لليقينيات :مثال ذلك أن العقل ُيكـم
بأن امليت ال خياف منه ألنه مجاد وكل مجاد ال خياف منه ،وأمـا الـوهم فـيحكم بـأن
امليت خياف منه خمالفا للعقل فاإلنسان مع تيقنه بحكم العقل ال يطيعه وال ينقاد لـه،
وإنام ينقاد حلكم الوهم فيخاف من امليت،
وكثريا ما تلتبس الومهيات باليقينيات عند اإلنسان فيعتقد الومهيات يقينيـات
وجيزم هبا كجزمه باليقينيات حتى يتبني له بالدليل بطالهنا ،فـيحكم ببطالهنـا ومـع
ذلك يبقى منقادا هلا .ومن هذا القبيل الفوقية هلل تعاىل ،فإن معظم بنـي آدم جـازمون
319
هبا اتباعا حلكم الوهم وانقيادا لـه وعنـدما يتبـني لـبعض العلـامء بالـدليل القطعـي
بطالهنا ُيكم ببطالهنا ومع ذلك يبقى شاعرا هبا يف قرار نفسه.
ومن أجل صعوبة التخلص من هذا احلكم الومهي رخـص النبـي صـىل اهلل
تعاىل عليه وآله وسلم يف اعتقـاد اجلهـة يف حـديث اجلاريـة حيـنام سـأهلا أيـن اهلل؟
فقالت :يف السامء ،فقال :صىل اهلل تعاىل عليه وسـلم ،إهنـا مؤمنـة ،ومل ينكـر عليهـا،
ولكنه مل يقل :إهنا صادقة ،أو إهنا عىل احلـق ،أو نحـو هـذا الكـالم ممـا يفيـد أن مـا
اعتقدته حق.
ومن أجل ذلك مل ُيكم علامء أهل السنة بكفر معتقد اجلهـة هلل تعـاىل ،وقـالوا
إن هذا االعتقاد َمعف ٌّو للعوام
وأما امتناعه صىل اهلل تعاىل عليه وسلم عن بيان بطالن هذه العقيـدة للجاريـة
وعن بيان احلق يف املسألة هلا فألن بيان احلق فيها ُيتـاج إىل فلسـفة مل تكـن اجلاريـة
أهال ألن تفهمها ،كام أهنا مل تكن مكلفة باعتقاد نفي اجلهة عن اهلل تعـاىل ،وقـد أمـر
صىل اهلل عليه وسلم أن يكلم الناس عىل قدر عقوهلم ،فلم يكن هـذا االمتنـاع مـن
تأخري البيان عن وقت احلاجة ،وهو ليس بجائز عليه صىل اهلل تعـاىل عليـه وسـلم،
ألن هذا البيان ليس من البيان الواجب عليه صىل اهلل تعاىل عليه وسلم حتى يكـون
تأخريه عن وقت احلاجة ممتنعا عليه صىل اهلل تعاىل عليه وسلم.
[ -3الفوقية العرفية هلل تعاىل ]
321
ثم إننا إذا رصفنا النظر عن التدقيق الفلسفي الذي قررنا به نفي اجلهـة عـن اهلل
تعاىل فمام ال ريب فيه وال ينبغي أن خيتلف فيه اثنان أن ما وراء العامل فـو ٌق لبنـي آدم
كلهم بحسب العرف كام أنه ٌ
فوق هلم بحسب الوهم ،ألنه مقابل لرؤوسـهم كـام أن
حتت هلم ألهنا مقابل ٌة ألرجلهم ،وإن مل يكـن فوقـا هلـم بحسـب التحقيـق
األرض ٌ
الذي نقله الكرمي عن القائلني باجلهة ،النقطاع اجلهات بانقطـاع العـامل ،والعـرف
هو الذي يقع به التخاطب يف اللغة بني أهلها دون التدقيقات الفلسـفية؛ واهلل تعـاىل
بائن عن خلقه فهو فوقه بحسب العرف ،فالفوقية العرفية كالفوقيـة الومهيـة تـؤول
إىل البينونة التي أثبتها العلامء هلل تعاىل،فاملعرب عنه بالبينونة يف كالم العلـامء هـو املعـرب
عنه بالفوقية والعلو أو بام يفيدمها يف كالم الشارع.
وهبذا املعنى قال اإلمام أبو احلسن األشعري :فـيام نقلـه عنـه البيهقـي( :وإنـه
فوق األشياء بائ ٌن منها) ومن أجل ذلـك مل ينكـر النبـي صـىل اهلل تعـاىل عليـه وآلـه
وسلم عىل اجلارية إشارهتا إىل فوق.
وهبذا املعنى جاء إثبات العلو والفوقيـة هلل يف نصـوص الكتـاب والسـنة ممـا
يصعب حَصه ،وهذه النصوص وإن كان محل بعضها عىل الفوقية بحسب املكانـة
والعلو بحسب الرتبة مما ال بأس به لكن محل بعضها اآلخر عىل ذلك مما يأبـاه املقـام
والسياق؛ فنتثبـت العلـو والفوقيـة هلل تعـاىل هبـذا املعنـى ،بـدون كيـف وال متثيـل
ونتوقف عنده ،وال نتجاوزه إىل التفاصيل التي مل يرد هبا يشء مـن الكتـاب والسـنة
ونعرتف بالعجز عام وراء ذلك.
321
ونورد هنا نبذة من نصوص الكتـاب والسـنة التـي ورد فيهـا إثبـات الفوقيـة
والعلو هلل تعاىل ،قال اهلل تعاىل( :خيافون رهبم من فوقهم) ،وقال( :إليه يصعد الكلـم
الطيب).
وقال( :أأمنتم من يف السامء أن خيسف بكم األرض فإذا هي متور أم أمنتم مـن
يف السامء أن يرسل عليكم حاصبا) وقال ( :تعرج املالئكة والروح إليه يف يـوم كـان
مقداره مخسني ألف سنة).
وقال النبي صىل اهلل عليه وسـلم( :الرامحـون يـرمحهم الـرمحن ،ارمحـوا أهـل
األرض يرمحكم من يف السامء) أخرجه الرتمذي وقال :حسن.
وقال ( :من اشتكى منكم شيئا أو اشتكى أخ له فليقل :ربنـا ألـذي يف السـامء
تقدس اسمك )...أخرجه أبو داود.
وقال( :اال تأمنوين وأنا أمني من يف السامء يأتيني خـرب مـن يف السـامء صـباحا
ومساء) أخرجه البخاري ومسلم.
وقال( :والذي نفيس بيده ما من رجل يدعو امرأته إىل فراشها فتـأبى عليـه إال
كان الذي يف السامء ساخطا عليها حتى يرىض عنها) أخرجه الشيخان.
وقال( :إن اهلل كتب كتابا قبل أن خيلق اخللق إن رمحتـي سـبقت غضـبي فهـو
عنده فوق العرش) .أخرجه الشيخان ،إىل غري ذلك من نصوص الكتـاب والسـنة
الواردة يف ذلك.
322
وقد تقدم قول ابن تيمية أن معنى كون اهلل تعاىل يف السامء وكونه عـىل العـرش
واحد .وهو أن اهلل تعاىل يف العلو ال يف السفل .وتقدم أن قلنـا :إن وصـف العلـو هلل
تعاىل يؤل إىل البينونة التي أثبتها العلامء هلل تعاىل.
ونختم بحثنا هذا بإيراد نص لإلمام أيب احلسن األشعري قال رمحـه اهلل تعـاىل
يف كتاب اإلبانة صـ ( :)71وأن اهلل استوى عىل العرش عىل الوجه الـذي قالـه،
وباملعنى الـذي أراده اسـتواء منزهـا عـن املامسـة واالسـتقرار والـتمكن واحللـول
واالنتقال ،ال ُيمله العرش بل العرش ومحلته حممولون بلطف قدرته ،ومقهـورون
يف قبضته ،وهو فوق العرش وفوق كل يشء إىل ختوم الثرى فوقية ال تزيـده قربـا إىل
العرش والسامء ،وهو رفيع الدرجات عن العـرش كـام أنـه رفيـع الـدرجات عـن
الثرى ،وهو مع ذلك قريب من كل موجود ،وهو أقرب إىل العبد من حبل الوريـد،
وهو عىل كل يشء شهيد.
وهذا النص من اإلبانة ليس بموجود يف النسخ املطبوعة املتداولة ،وهو ثابـت
يف خمطوطة نسخة بلدية اإلسكندرية ،وقد قامت بتحقيقها الدكتورة فوقيـة حسـني
حممود ،وطبعت الطبعة األوىل منها بـدار األنصـار بالقـاهرة ،والطبعـة الثانيـة بـدار
الكتاب للنرش والتوزيع بالقاهرة.
واهلل تعاىل أعلم ،واحلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم عىل سيدنا حممد
وعىل آله وصحبه وسلم.
323
-63مسألة األحوال:
وأما قول الدكتور{ :وقالوا عن األحوال :هي صفات ال معدومة وال
موجودة ،فرفعوا النقيضني معا}
فقد أخطأ فيه خطأين:
األول :نسبته القول باحلال إىل األشاعرة كلهم ،مع أن القائل به من
األشاعرة إنام هو إمام احلرمني فقط ،وقد قال به بعض املعتزلة أيضا.
والثاين قوله( :فرفعوا النقيضني معا) وذلك أن القائلني باألحوال أثبتوا
الواسطة بني املوجود واملعدوم ،فلم يكن املوجود واملعدوم عندهم نقيضني،
بل مها عندهم ضدان جيوز ارتفاعهام كام يف األحوال وال جيوز اجتامعهام،
فاملوجودات عندهم هي ما له ثبوت وحتقق يف اخلارج ،واألحوال عندهم ما
له ثبوت وحتقق يف نفسه دون اخلارج ،واملعدومات ما ليس له ثبوت وحتقق ال
يف اخلارج وال يف نفسه ،بل هو عدم حمض .وقد أثبت غري إمام احلرمني من
324
أمور ليس هلا ثبوت وحتقق يف اخلارج
األشاعرة األمور االعتبارية ،وقالوا :إهنا ٌ
وال هي أعدام حمضة ،بل هي أقرب إىل املوجودات اخلارجية منها إىل األعدام
املحضة ،ولو قال قائل :لنسمي األحوال واألمور االعتبارية باملوجودات
حتى يكون التقابل بني املوجود واملعدوم تقابل التناقض ال التضاد ،نقول له:
لك أن تصطلح عىل هذا ،وال مشاحة يف االصطالح ،ويكون اخلالف حينئذ
راجعا إىل اللفظ والتسمية.
235
15
236
165
325
الرسل .وليت الدكتور أورد نبذة من تلك النصوص التي زعم أن األشاعرة
ردوها أو أولوها.
نعم قد ذهب املاتريدية واملعتزلة إىل وجوب معرفة اهلل تعاىل بالعقل بدون
بلوغ دعوة الرسل .واخلالف يف هذه املسألة مبني عىل اخلالف يف احلسن
والقبح العقليني ،فمن أثبتهام قال بوجوب معرفة اهلل تعاىل بالعقل ،ومن نفامها
قال :إنه ال يتحقق الوجوب يف أمر من األمور إال بعد ورود الرشع وبلوغه.
وقد فصلنا املسألة فيام تقدم.
326
مسألة أول واجب عىل املكلف ،وقد تكلمنا عىل املسألتني فيام تقدم ،ونلخص
الكالم عليهام هنا ثم نعود إىل كالم الدكتور.
قالت األشاعرة وغريهم من املاتريدية واملعتزلة :جيب عىل املكلف معرفة
اهلل تعاىل بالنظر والدليل ،وأرادوا بالوجوب بالنسبة إىل النظر أن الذي عرف
اهلل تعاىل بالتقليد بدون نظر عقيل يضطره إىل ذلك ،عاص برتك النظر إذا كان
أهال للنظر ،ومل يريدوا أن املقلد يف معرفة اهلل تعاىل كافر غري مسلم ،فإن هذا مل
يقله أحد منهم إال أبوهاشم من املعتزلة والسنويس من األشاعرة.
ثم إهنم أرادوا بالنظر الواجب ،النظر اإلمجايل الذي ينقدح يف ذهن
صاحبه ،وإن مل يستطع صاحبه أن يقرره ويدفع الشبه عنه ،ومنه االستناد إىل
صدق الرسول املؤيد باملعجزات وقد قالوا :إن الدليل اإلمجايل ال خيلو عنه
مسلم خالط املسلمني وعاش فيهم ،واملسألة مفروضة فيمن نشأ يف شاهق
رب
جبل مثال بدون أن خيطر بباله وجود اهلل تعاىل وبدون أن يعرفه ،فأخربه خم ٌ
بوجود صانع هلذا العامل ،فصدقه وثوقا به بدون استناد إىل دليل ،فهذا هو الذي
أمجع األشاعرة عىل صحة إيامنه ،وعىل عصيانه برتك النظر إذا كان أهال له،
وأما غريه ممن خيالط املسلمني ويعيش فيهم ،فالعادة تقتىض أنه البد أن يكون
يف إيامنه مستند إىل دليل وإن كان إمجاليا .هذا حاصل مسألة وجوب النظر.
وأما مسألة أول واجب عىل املكلف فننقل فيها كالم القايض عضد الدين
يف "املواقف" بتلخيص له قال( :قد اخت ِل َ
ف يف أول واجب عىل املكلف
327
فاألكثر عىل أنه معرفة اهلل تعاىل ،إذ هو أصل املعارف الدينية ،وعليه يتفرع
وجوب كل واجب ،وقيل هو النظر فيها ألنه واجب وهو قبلها ،وقيل أول
جزء من النظر ،وقال القايض واختاره ابن فورك القصد إىل النظر
والنزاع لفظي ألنه لو أريد الواجب بالقصد األول فهو املعرفة ،وإال
فالقصد إىل النظر...
ثم قال القايض :إن قلنا :الواجب النظر ،فمن أمكنه زمن يسع فيه النظر
التام ومل ينظر فهو عاص ،ومن مل يمكنه زمان أصال فهو كالصبي ،ومن أمكنه
ما يسع بعض النظر دون متامه) ،فإن رشع فيه بال تأخري واخرتمته املنية قبل
انقضاء النظر وحصول املعرفة فال عصيان ،وأما إذا مل يرشع فيه ،بل أخ َره بال
عذر ومات (ففيه احتامل واألظهر عصيانه) لتقصريه بالتأخر .انتهى مع رشحه
237
للسيد الرشيف.
ومما ينبغي التنبيه عليه أن مراد القايض وغريه بالواجب يف قوهلم« :أول
الواجب كذا» أعم مما يكون عدمه موجبا للكفر أو موجبا للعصيان ،فالكافر
املكلف الذي بلغته الدعوة ومل يكن قد حصل معرفة اهلل من قبل إذا مل ينظر يف
معرفة اهلل تعاىل بعد بلوغ الدعوة له يبقي كافرا مستحقا للخلود يف النار ،وإنام
ينجو من اخللود يف النار إذا بارش يف النظر عقب بلوغ الدعوة إليه وانتهى إىل
237
281 1
328
معرفة اهلل تعاىل وصدق بكل ما علم جميء الرسول به بالرضورة إذا أمكنه
زمان يسع ذلك بعد الرشوع يف النظر.
وأما املسلم الذي بلغ احللم فإذا كان قد حصل النظر يف معرفة اهلل تعاىل
قبل البلوغ ،وإن كان ذلك النظر نظرا إمجاليا ،وهو ما ال خيل عنه مثله بحسب
العادة ،فال جيب عليه النظر ثانيا ألنه موجود عنده ،وأما إذا بلغ املسلم مقلدا
يف معرفة اهلل تعاىل تقليدا حمضا ،فيجب عليه النظر يف معرفة اهلل تعاىل وإذا مل
ينظر فيها فهو مؤمن ولكنه عاص برتك النظر.
ومن أجل أن مراد القايض بالوجوب ما ذكرناه عرب القايض يف كالمه
بالعصيان الشامل للكفر والفسق ،ومل يعرب بالكفر حيث قال« :فهو عاص»
وقال« :واألظهر عصيانه» ومل يقل :فهو كافر ...واألظهر كفره.
329
اخلطأ الثاين والثالث والرابع قول( :أن ينظر يف حدوث العامل ووجود اهلل)
وذلك أن الواجب هو النظر يف معرفة اهلل كام عرب به األشاعرة الشامل ملعرفة
وجوده ومعرفة صفاته ،وليس النظر يف وجوده فقط كام قال الدكتور ،ومل يقل
أحد من األشاعرة :إن النظر يف حدوث العامل أول الواجبات كام قال الدكتور،
ثم إن الواجب النظر بأي دليل كان سواء كان دليل احلدوث أو دليل النظام،
أو االستدالل بصدق الرسول املؤيد باملعجزات عىل صحة كل ما يقوله.
وليس الواجب هو دليل احلدوث بخصوصه كام يفيده كالم الدكتور .فقد
اشتملت هذه اجلملة عىل ثالثة أخطاء!
وأما قوله( :فإن مات قبل النظر أو يف أثنائه اختلفوا يف احلكم بإسالمه،
وجزم بعضهم بكفره) فقد اشتمل عىل مخسة أخطاء :األول وهو
اخلطأ اخلامس:إطالق قوله( :فإن مات قبل النظر أو يف أثنائه) مع أن
املسألة مفروض ٌة فيمن أخ َر النظر بال عذر فامت قبل النظر أو يف أثنائه .األول
عاص قطعا ،والثاين يف عصيانه احتامالن ،واألظهر عصيانه ،أما من مات بعد
بلوغ الدعوة قبل التمكن من النظر أو رشع يف النظر عقب بلوغ الدعوة فامت
يف أثنائه فال عصيان له قطعا عند األشاعرة.
اخلطأ والسادس والسابع والثامن :قوله( :اختلفوا يف احلكم بإسالمه)
حيث حكم باالختالف يف احلكم بإسالم من مات قبل النظر أو يف أثنائه ،مع
أن املوجود هو احتامالن أبدامها القايض عضد الدين ،واستظهر أحدمها،
331
وليس املوجود هو اخلالف ،ثم إن االحتاملني إنام جيريان فيمن مات يف أثناء
النظر بعد التأخري بال عذر ،دون من مات قبل النظر بعد التأخري بال عذر ،فإنه
عاص قطعا .كام أن االحتاملني ليسا يف إسالمه ،بل يف عصيانه الشامل للكفر
بالنسبة إىل الكافر الذي بلغته الدعوة ،واإلثم بالنسبة إىل املسلم الذي بلغ
احللم.
اخلطأ التاسع :قوله "وجزم بعضهم بكفره" فإنه ال يصح بإطالقه يف املسلم
الذي بلغ احللم ومل ينظر يف معرفة اهلل ،فقد يكون هذا املسلم ناظرا فيه قبل بلوغ
احللم ،وإن كان نظرا إمجاليا .وهذا هو احلال يف السواد األعظم من املسلمني أو ال
يوجد فيهم من مل ينظر أصال .ثم إن اإلهبام يف قوله :وجزم بعضهم بكفره .يوهم
قول له اعتبار عند األشاعرة ،مع أنه ٌ
قول غري معترب عندهم أن قول هذا البعض ٌ
مل يقله قبل السنويس أحدٌ من األشاعرة وانفرد هو هبذا القول ،ومل يوافقه عليه
أحد من األشاعرة بعده ،فإذا عددنا هذا اإلهيام أيضا خطأ صارت األخطاء
عرشة.
331
ثم قال الدكتور{ :وهناك قضية بالغة اخلطورة ال سيام يف هذا العرص ،وهي
األخطاء العلمية عن الكون التي متتلئ هبا كتب األشاعرة ...ومن ذلك قول
البغدادي :إن أهل السنة أمجعوا عىل وقوف األرض وسكوهنا ،238وقد استدل
عىل ذلك يف كتابه "أصول الدين" بمعنى اسم اهلل الباسط ،قال :ألنه بسط
األرض وسامها بساطا خالف قول من زعم من الفالسفة واملنجمني :إن
األرض كروية غري مبسوطة 239،ومثله صاحب املوافق الذي أكد أهنا مبسوطة،
240
وأن القول بأهنا كرة زعم الفالسفة}
أقول :أهيا الدكتور إنك بصدد الكالم عىل منهج األشاعرة يف العقيدة،
وهذا األمور التي ذكرهتا يف هذا الفقرة ليست من العقيدة ،يف يشء ،ال يؤثم
املخطئ فيها فضال عن أن يبدع أو يكفر ،وإنام هي مسائل متعلقة بالكون ،فال
وجه إليرادها يف هذا الكتاب ،ثم إن كتب األشاعرة مل متتلئ باألخطاء عن
الكون بل معظمها مل تتعرض للمسائل الكونية حتى يتصور وقوعها يف اخلطأ
فيها ،وما تعرض منها هلذه املسائل ،فهل كل ما فيها من تلك املسائل خطأ؟!
وأقىص ما يمكن أن يقال :إهنا قد احتوت عىل مجلة من األخطاء ،ثم إن أكثر
هذه األخطاء الوارد يف كتبهم ليست أراء هلم ،وإنام هي أخطاء الفالسفة
238
318
239
124
240
219 217 199
332
والفلكيني أوردها األشاعرة يف كتبهم ،وقد كانت معظمها من مقررات
عصورهم ومن ثقافتها ،ومل يتبني خطئها إال بعد احلصول عىل وسائل
االكتشاف وآالته احلديثة ،وهل يتوقع من علامء تلك العصور أن يتوصلوا
بدون هذه الوسائل إىل ما توصل إليه العلامء املحدثون عن طريق هذا
الوسائل؟!
فعدُّ هذه األخطاء يف معائبهم ،والطعن فيهم من أجلها ال يقدم عليه
عاقل.
وأنت أهيا الدكتور إذا تصفحت كالم من تسميهم بأهل السنة واجلامعة
جتد يف كالمهم عني تلك األخطاء أو قريبا منها أو مثيالت هلا ،فأقم الوزن
بالقسط ،وال تكل بمكيالني!
ثم إن كثريا من األشاعرة قد قرر كروية األرض ،ونكتفي هنا بنقل كالم
إمامني عظيمني من أئمتهم :الغزايل والرازي .قال الغزايل« :عرف العقل
برباهني مل يقدر احلس عىل املنازعة فيها أن قرص الشمس أكرب من كرة
األرض بأضعاف مضاعفة» وقال« :إن الواقفني عىل نقطتني متقابلتني من كرة
األرض تتقابل أمخص أقدامهام ،ونحن بالرضورة نعلم ذلك».241
241
81 15 2
333
وقال اإلمام الرازي يف تفسريه« :األرض كرة .وإذا كان كذلك فكل وقت
يمكن أن يفرض فهو صبح لقوم ،وظهر لثان ،وعَص لثالث ،ومغرب لرابع،
242
وعشاء خلامس»...
وقد أكد الرازي كروية األرض يف مواضع متعددة من تفسريه.
ثم إن كالم الدكتور هذا قد اشتمل عىل خطأين يف النقل:
األول :قوله( :واستدل عىل ذلك يف كتابه أصول الدين بمعنى اسم اهلل
الباسط) ،فالبغدادي مل يستدل باسم اهلل الباسط عىل سكون األرض ،وإنام
استدل به عىل كون األرض مبسوطة ،وليست كروية.
والثاين :قوله( :ومثله صاحب املواقف الذي أكد أهنا مبسوطة ،وأن القول
بأهنا كرة من زعم الفالسفة)
أقول :الدكتور عىل عادته يف عدم َفه ِم كالم األشاعرة مل يفهم كالم صاحب
املواقف ،فإن الذي يدقق النظر يف كالم صاحب املواقف يري أنه مل ِ
يبد يف كال
املسألتني رأيا ،وإنام نقل كالم الفالسفة والفلكيني ،ثم ذكر ما أ ِ
ور َد عليهم من
التشكيكات واالعرتاضات ،ثم أورد ما أجابوا به عن تلك االعرتاضات .هذا ما
فعله القايض ،وأما أن القايض عضد الدين أكد أن األرض مبسوطة وليست
كروية ،وأهنا ساكنة وليست متحركة ،واختار ذلك رأيا له ،فليس ذلك بصحيح.
242
319 4
334
-68املرجئة صنفان :مرجئة البدعة ،ومرجئة السنة:
قال الدكتور{ :38وكل من قال :إن اإليامن هو املعرفة أو التصديق فهو
مرجئ}
أقول :املرجئة صنفان:
مرجئة البدعة وهم الذين يقولون :ال يرض مع اإليامن ذنب.
ومرجئة السنة وهم الذين يرجئون أمر العصاة إىل اهلل تعاىل إن شاء عذهبم
وإن شاء عفى عنهم .كام قال اهلل تعاىل( :يعذب من يشاء ويغفر ملن يشاء)
وقال( :إن اهلل ال يغفر أن يرشك به ويغفر ما دون ذلك ملن يشاء) واألشاعرة
من مرجئة السنة ،كام أن الدكتور منهم.
وأما من قال :اإليامن هو املعرفة ،فقوله غري صحيح ألن كثريا من الكفار
يعرفون احلق ولكنهم ال يصدقون به وال يذعنون له ،كام قال اهلل تعاىل( :الذين
آتيناهم الكتاب يعرفونه كام يعرفون أبنائهم وإن فريقا منهم ليكتمون احلق
وهم يعلمون)
وأما أن اإليامن هو التصديق فهو مذهب أهل السنة عىل خالف بينهم يف
النطق بالشهادتني :هل هو داخل يف اإليامن أو خارج عنه رشط أو ليس
برشط.
335
وأما األعامل فمن قال من أهل السنة :إهنا داخلة يف اإليامن وهو املروي
عن معظم السلف ،حيث جاء عنهم أهنم قالوا( :اإليامن اعتقاد ،وقول،
وعمل) ،أراد الدخول ألجل كامل اإليامن ،ال ألجل حتقق أصل اإليامن املنقذ
من اخللود يف النار ،وذلك نظري دخول الثامر والورق واألغصان يف مسمى
الشجرة مع حتقق أصل الشجرة بدوهنا .وهذا ما ال خيالف فيه أحد من أهل
السنة ،ومن قال :إن األعامل غري داخلة يف اإليامن ،أراد أهنا غري معتربة يف
حتقق أصل اإليامن ،وهذا األخري مروي عن أيب حنيفة ،فاخلالف لفظي.
وقالت املعتزلة واخلوارج :إن األعامل داخلة يف اإليامن ومعتربة يف حتقق
أصله ،فكفرت اخلوارج مرتكب الكبرية ،وأثبتت له املعتزلة املنزلة بني
املنزلتني.
قال الشيخ عبد احلي اللكنوي :إن اإلرجاء قد يطلق عىل أهل السنة
واجلامعة من خمالفيهم املعتزلة الزاعمني باخللود الناري لصاحب الكبرية.
وقد يطلق عىل األئمة القائلني بأن األعامل ليست بداخلة يف اإليامن،
من جانب وهو مذهب أيب حنيفة وأتباعه وبعدم الزيادة والنقصان
املحدثني القائلني بالزيادة والنقصان وبدخول األعامل يف اإليامن.
وهذا النزاع وإن كان لفظيا كام حققه املحققون من األولني واآلخرين،
لكنه ملا طال ،وآل األمر إىل بسط كالم الفريقني من املتقدمني واملتأخرين أدى
336
ذلك إىل أن أطلقوا اإلرجاء عىل خمالفيهم ،وشنعوا بذلك عليهم ،وهو ليس
بطعن يف احلقيقة كام ال خيفى عىل مهرة الرشيعة.
وقال اإلمام أنورشاه الكشمريي يف "فيض الباري عىل صحيح
البخاري" :اإليامن عند السلف عبارة عن ثالثة أشياء :اعتقاد ،وقول ،وعمل،
وقد مر الكالم يعني يف كتابه عىل األولني أي :التصديق واإلقرار .بقي
العمل هل هو جزء لإليامن أم ال؟
فاملذاهب فيه أربعة :قالت اخلوارج واملعتزلة :إن األعامل أجزاء لإليامن،
فالتارك للعمل خارج عن اإليامن عندمها ،ثم اختلفوا ،فاخلوارج أخرجوه من
اإليامن وأدخلوه يف الكفر ،واملعتزلة مل يدخلوه يف الكفر ،بل قالوا باملنزلة بني
املنزلتني .والثالث مذهب املرجئة فقالوا :ال حاجة إىل العمل ،ومدار النجاة
هو التصديق فقط ،فصار األولون واملرجئة عىل طريف النقيض.
والرابع مذهب أهل السنة واجلامعة وهم بني بني فقالوا :إن األعامل أيضا ال
بد منها لكن تاركها مفسق ال مكفر ،فلم يشددوا فيها كاخلوارج واملعتزلة ،ومل
هيونوا أمرها كاملرجئة.
ثم هؤالء أي أهل السنة واجلامعة افرتقوا فرقتني فأكثر املحدثني ذهب إىل
أن اإليامن مركب من األعامل ،وإمامنا األعظم رمحه اهلل تعاىل وأكثر الفقهاء
واملتكلمني إىل أن األعامل غري داخلة يف اإليامن مع اتفاقهم مجيعا عىل أن فاقد
التصديق كافر ،وفاقد العمل فاسق ،فلم يبق اخلالف إال يف التعبري فإن السلف
337
وإن جعلوا األعامل جزء لكن ال بحيث ينعدم الكل بانعدامه ،بل يبقى اإليامن
مع انتفائها.
وإمامنا أبو حنيفة وإن مل جيعل األعامل جزء لكنه اهتم هبا وحرض عليها،
وجعلها أسبابا سارية يف نامء اإليامن ،فلم هيدرها هدر املرجئة ،إال أن تعبري
املحدثني القائلني بجزئية األعامل ملا كان أبعد من املرجئة املنكرين جزئية
األعامل ،بخالف تعبري إمامنا األعظم رمحه اهلل تعاىل فإنه كان أقرب إليهم من
حيث نفي جزئية األعامل رمي احلنيفية باإلرجاء ،وهذا كام ترى جور علينا
فاهلل املستعان.
ولو كان االشرتاك مع املرجئة بوجه من الوجوه التعبريية كافيا لنسبة
اإلرجاء إلينا لزم نسبة االعتزال إليهم أي إىل املحدثني -فإهنم أي املعتزلة-
قائلون بجزئية األعامل أيضا كاملحدثني ،ولكن حاشاهم من االعتزال .وعفى
اهلل عمن تعصب ونسب إلينا اإلرجاء ،فإن الدين كله نصح ال مراماة ومنابزة
باأللقاب .وال حول وال قوة إال باهلل العيل العظيم.انتهى.
قال الدكتور يف حاشيته املرقومة بالرقم ({ :)1ومن العجيب أ َّن املاتريدية
أكثر فرقتني يف ُْ
خيرجون األشاعرة من أهل السنة ويدَّ عونه ألنفسهم ،وهم ُ
اإلسالم تقارباً واشرتاكاً يف األصول .انظر حاشية عىل رشح العضدية،38 :
داخيل ضمن
ٌّ خالف
ٌ برمته
أما ما يتعلق باخلالف بني األشاعرة واملعتزلة فهو َّ
338
املدرسة العقلية التي هي مدرسة اهلوى والبدعة .وال بأس أن يستفيد ُ
أهل
ِ
ردود األشاعرة عليهم إذا كانت حقاً} ِ
السنة من
أقول :أما إخراج املاتريدية األشاعرة من أهل السنة ،فهذا ما ال أعلم أحدا
رأي انفرد
من املاتريدية فعله ،وإن كان قد قال به بعض متعصبة املاتريدية فهو ٌ
يصح نسبته إىل املاتريدية ك رلهم ،فإنه من املقرر أن
ُّ به هذا البعض .وال
اخلالف بينَهم ليس يف
َ األشاعرة واملاتريدية مل يبدع بعضهم البعض ،،ألن
األصول التي ي َبدع فيها املخالف.
خالف بني مدرستني مجعت
ٌ وأما اخلالف بني األشعرية واملعتزلة فهو
إحدامها بني النقل والعقل ،واستعملت كالًّ منهام يف جماله الذي جيب أن
يستعمل فيه وهم األشاعرة .وغلت األخرى يف االعتامد عىل العقل ،وردت
ِ
النصوص املجم ِع عىل صحتها وأولت مجلة من اآليات التي بذلك مجلة من
تنقض مذه َبهم ،وهم املعتزلة.
قال الدكتور{ :بل نحن نزيدكم إيضاحاً فنقولَّ :
إن هذه العقائد التي
أدخلتموها يف اإلسالم وجعلتموها عقيدة الفرقة الناجية بزعمكم ،هي ما كان
عليه فالسف ُة اليونان ومرشكوا الصابئة وزنادقة أهل الكتاب ،لكن ورثها عنهم
وابن ُكالّب .وأنتم ورثتموها عن هؤالء ،فهي
وبرش املرييس ُ
صفوان ُ
َ اجله ِم ُ
بن
من تركة الفالسفة واالبتداع وليست من مرياث النبوة والكتاب}
339
أقول :أصلحنا اهلل وإياك أهيا الدكتور .كيل التهم العظيمة للمخالفني
بضاعة الذين يشعرون بضعفهم أمام خمالفيهم ،وُياولون سرت ضعفهم بكيل
التهم للمخالفني ،والناقد البصري هلم باملرصاد ،واهلل من ورائهم حميط.
ثم إن هذه التهم ينقضها ما علقناه سابقا عىل كال ِم الدكتور ،فعىل القارئ
أن يقرأه بتمعن وإنصاف وحياد حتى يعلم ما هو نصيب هذه التهم العظيمة
من الصحة.
وأمواهلم ،ولكن البيرن َة عىل
َ ولو أعطي الناس بدعواهم ال ّدعى ٌ
ناس دما َء أقوام
املدعي.
واهلل تعاىل يتوىل هدانا وهو يتوىل الصاحلني.
ومن أجل أن الدين النصيحة أنصح األخ الفاضل الدكتور سفر بتالوة آيات اإلفك
من سورة النور بتدبر من قوله عز وجل( :إن الذين جائوا باإلفك عصبة منكم.....إىل
قوله تعاىل :يا أهيا الذين آمنوا ال تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه
يأمر بالفحشاء واملنكر ،ولوال فضل اهلل عليكم ورمحته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن
اهلل يزكي من يشاء واهلل سميع عليم) النور 21-11
وأذكره منها خاصة بقوله تعاىل :يعظكم اهلل أن تعودوا ملثله أبدا إن كنتم مؤمنني.
وأدعو لنفيس وله بام ييل:
ربنا آتنا يف الدنيا حسنة ويف اآلخرة حسنة وقنا عذاب النار.
ربنا اغفر لنا وإلخواننا الذين سبقونا باإليامن وال جتعل يف قلوبنا غال
للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.
341
اللهم أرنا احلق حقا وارزقنا اتباعه ،وأرنا الباطل باطال وارزقنا اجتنابه.
يا حي يا قيوم برمحتك استغيث أصلح لنا شؤننا كلها وال تكلنا إىل أنفسنا
طرفة عني.
واحلمد هلل رب العاملني .وصىل اهلل عىل سيدنا حممد وعىل آله وصحبه
وسلم.
4مجادي األوىل 1427هـ
31أيار 2006
قونيه
341
املحتويات
-1مقدمة املؤلف
-2مقدمة الدكتور سفر:
-3حكم الدكتور عىل األشاعرة بأهنم من املرجئة الغالة:
-4األشاعرة أكرب فرقة إسالمية:
-5اإلمام أبو احلسن األشعري مقرر ملذهب السلف ومدافع عنه:
-6ربط الدكتور بني مذهب األشاعرة واإلسترشاق:
-7مل يكفر األشاعرة إال من أنكر أمرا جممعا عليه معلوما من الدين
بالرضورة:
-8حماولة الدكتور إلخراج األشاعرة من أهل السنة:
-2السواد األعظم من علامء األمة عىل املذهب األشعري:
-10عقيدة اإلمام أبو حنيفة والطحاوي موافقتان ملذهب األشعري:
-11بيان حال اإلمام أيب حممد عبد اهلل بن كالب:
-12موقف علامء اجلرح والتعديل من األشاعرة:
342
-13علامء السلوك موافقون لألشاعرة:
-14الذي رجع عنه من رجع من األشاعرة هو منهج اإلستدالل ال
العقيدة:
-15علامء األشاعرة هم اجلمهور األعظم من علامء األمة:
-16األصل يف عوام املسلمني أهنم غري منسوبني ملذهب من مذاهب
العقيدة:
-17حتريف الدكتور لكالم الرازي:
-18بيان حال الرازي واآلمدي:
-12الكالم عىل وصية الرازي:
-20هل انتقد احلافظ ابن حجر األشاعرة وخالفهم؟:
-21نامذج من التأويل:
-22بيان أن ابن اجلوزي والنووي واحلافظ العسقالين موافقون
لألشاعرة:
-23أبو احلسن األشعري وأبو حممد الربهباري أهيام إمام أهل السنة؟:
-24بيان بطالن إقعاد اهلل تعاىل ملحمد صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم عىل العرش
معه:
-25مصدر التلقي عند األشاعرة وتقديمهم للعقل عىل النقل وبيان أن
هذا التقديم من املقرر عند املحدثني وغريهم
343
-26األخذ بظواهر بعض النصوص إحلاد وضاللة:
-27اإلستدالل باخلطاب هل يفيد القطع؟:
-28حتقيق مسألة حجية خرب الواحد يف الواحديف العقيدة وكالم الرازي يف ذلك:
منها:
344
-40حكم الدكتور عىل األشاعرة بأهنم مرجئة جهمية ،وحتقيق هذه
املسألة:
-41مسألة زيادة اإليامن ونقصه:
-42القرآن وبيان مذهب األشاعرة فيه بتوسع:
-43بيان أن كالم اهلل تعاىل مسموع:
-44معنى إنزال كالم اهلل تعاىل:
-45مذهب األشاعرة يف الصوت:
-46مذهب اإلمام أمحد يف كالم اهلل تعاىل:
-47ما تورط فيه الدكتور من األخطاء يف مسألة القرآن وهي 12خطئا:
-48مسألة القدر عىل مذهب األشاعرة:
-42املحبة والرىض عند األشاعرة غري اإلرادة:
-50بيان اإلستطاعة عىل مذهب األشاعرة:
-51العالقة بني السبب واملسبب عند األشاعرة:
-52مسألة تعليل أفعال اهلل تعاىل وأحكامه:
-53ما تورط فيه الدكتور من األخطاء يف مسألة تعليل أفعال اهلل تعاىل وأحكامه وهي 13خطئا:
345
-57أخطاء الدكتور يف كالمه عىل النبوات وهي 7أخطاء:
-58بيان مسألة التحسني والتقبيح العقليني:
-52أخطاء الدكتور يف كالمه عىل التحسني والتقبيح وهي 12خطئا:
-60التأويل وبيان معناها اإلصطالحي:
-61رسالة "متشابه الصفات بني التأويل واإلثبات":
-62أخطاء الدكتور يف كالمه عىل التأويل وهي 12خطئا:
-63بيان أن التأويل ال خيلو عنه مذهب من املذاهب:
-64نسبة الغزايل إىل اإلمام أمحد أنه أول ثالثة أحاديث:
-65تقسيم األشاعرة ألصول العقيدة بحسب مصدر التلقي إىل ثالثة أقسام وبيان ذلك بوجه
مفصل:
بالرضورة:
اجلهة:
346
-71بيان قول األشاعرة :إن اهلل تعاىل ليس داخل العامل وال خارجه ،وال
فوقه وال حتته وال عن يمينه وال عن شامله:
-72رسالةيف بيان العلو والفوقيةهلل تعاىل
-73مسألة األحوال:
-74حكم من مل تبلغه دعوة الرسل:
-75مسألة وجوب النظر يف معرفة اهلل تعاىل ،ومسألة أول واجب عىل
املكلف:
-76أخطاء الدكتور يف كالمه عىل هاتني املسألتني ،وهي 2أخطاء:
-77األخطاء العلمية عن الكون يف كتب األشاعرة ومسألة كروية األرض
وحركتها:
347
348
قائمة مؤلفات املؤلف
دار -1منهج األشاعرة يف العقيدة بني احلقائق واألوهام.
روضة استانبول
مل يطبع -4النكت الغرر عىل" نزهة النظر بتوضيح نخبة الفكر".
-5الفكر اإلسالمي عند اإلمام ويل اهلل الدهلوي .طباعة خاصة
349
مل يطبع. -11تعليق عىل" خمتَص املعاين" للتفتازاين.
مل يطبع. -12حاشية عىل" املسامرة" رشح" املسايرة" البن اهلامم.
دار احلنفية استانبول. -13حاشية عىل رشح العصام ملتن" الفريدة".
مل يطبع. -14حاشية عىل رشح الكلنبوي ملتن" اإليساغوجي".
طباعة -15رشح" اخلبية" يف آداب املناظرة للشيخ خليل األسعردي.
خاصة.
يطبع.
351
مل يطبع. -26رسالة يف علم الفرائض.
مل يطبع -27التعامل مع غري املسلمني والعالقة هبم.
-28تعليقات عىل" إحكام األحكام" البن دقيق العيد رشح" عمدة
مل يطبع
األحكام" للمقديس.
351