You are on page 1of 351

‫منهج األشاعرة‬

‫يف العقيدة‬
‫بني احلقائق واألوهام‬

‫تأليف‬

‫حممد صالح بن أمحمدالغريس‬

‫‪1‬‬
2
‫كلمة شكر‬
‫أقدم الشكر اجلزيل لكل من شارك يف خدمة هذا الكتاب وحتضريه‪:‬‬
‫ويف مقدمتهم رفيقنا العامل اجلليل البحاثة املغرم بتحصيل العلم‪ ،‬الدائب يف طلبه‬
‫األستاذ املال عبد احلليم (حممد حليم شن) بن إبراهيم املارديني الكرميتي‪.‬‬
‫ثم أقدم الشكر ألصحابنا وتالميذنا الذين قدموا خدمة كبرية للكتاب يف صفه‪،‬‬
‫وقراءة جتاربه‪ ،‬وتصحيحه‪ ،‬وإخراجه‪ .‬وهم األستاذ عبد الكريم العربكندي‪،‬‬
‫واألستاذ حتسني گدر الدياربكري‪ ،‬وولدي حممد ضياء الدين‪ ،‬وعبد الرمحن شن‬
‫سوي املويش‪ ،‬وعىل بورا‪ ،‬وأخص منهم صاحبنا حممد دنز الچناري ملا قدمه من‬
‫جهد كبري مضن يف كتابة الكتاب وتصحيحه‪ ،‬وأخانا يف اهلل النشيط يف خدمة العلم‬
‫عبد اهلل فوزي قوجه أر عىل ما بذله من جهد يف تصميم صفحات الكتاب‪.‬‬
‫وفقهم اهلل تعاىل إىل ما فيه خري الدنيا واآلخرة‪ ،‬وبارك عليهم‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫‪-1‬مقدمة املؤلف‪:‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬
‫احلمد هلل‪ ،‬والصالة والسالم عىل رسوله‪ ،‬وعىل آله وصحبه ومن اهتدى هبداه‪،‬‬
‫سح نظري يف مكتبة أحد أصحايب يف مدينة استانبول إذ‬
‫أما بعد‪ :‬فبينام كنت أ َ ر‬
‫بعنوان مكتوب عىل غالف ك َت ريب صغري جلب انتباهي‪ ،‬وهو‪:‬‬
‫"منهج األشاعرة يف العقيدة" للدكتور سفر احلوايل‪ ،‬فطلبت الكتاب من هذا‬
‫األخ «عيل رىض آق گون» فأهداه إياي‪ ،‬وبعد عوديت إىل منزيل يف مدينة قونيه بفرتة‬
‫ب‪ ،‬فإذا بصاحبه قد حاول أن يثبت به أن مذهب األشاعرة يف‬
‫أخذت أتصفح الك َت ري َ‬
‫العقيدة من ألفه حتى يائه مذهب مبتدع خارج عن مذهب أهل السنة واجلامعة‪.‬‬
‫فأخذت أقرأه قراءة تدبر ومتعن وتدقيق‪ ،‬فوجدته قد احتوى عىل أخطاء كثرية‬
‫عظيمة‪ ،‬وقد يكون من املبالغة إذا قلت‪ :‬إن مؤلفه مل خيط خطوة إال وأخطأ خطئا‪ ،‬وقد‬
‫َت َكث َفت هذه األخطاء يف صدر الكتاب ووسطه‪ ،‬وأما القسم األخري منه فمعظمه‬
‫تكرار‪ ،‬وقسم منه هتويشات‪ ،‬وكيل للتهم الباطلة لألشاعرة‪ ،‬وحماولة مضنية إلخراج‬
‫األشاعرة عن مذهب أهل السنة واجلامعة‪.‬‬
‫ورأيت أن السبب يف تورط الدكتور سفر يف هذه األخطاء العلمية الكثرية‬
‫اجلسيمة التي تعد باملئات يف هذا الكتيب الصغري املكون من مخسني صفحة بالتحديد‬
‫ما ييل‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن مذهب األشاعرة يف العقيدة مذهب عميق دقيق املدارك‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫‪ - 2‬أن علم الكالم عامة أدق العلوم اإلسالمية وأعمقها وأصعبها‬
‫‪ - 3‬أن كتب األشاعرة الكالمية املطولة من أدق الكتب اإلسالمية وأعمقها‬
‫ال يتيرس فهمها عىل وجهها أو نادرا ما يتيرس‪ -‬إال ملن درس هذا العلم عىل مشاخيه‬
‫املتضلعني منه ومترس فيه‪ ،‬والدكتور سفر مل يدرسه عىل أحد من مشاخيه‪ ،‬وإنام نظر يف‬
‫هذه الكتب بنفسه متسورا عليها‪ ،‬فخالفه التوفيق يف فهمها‪.‬‬
‫‪ - 4‬أن الدكتور سفر بمقتىض نشأته العلمية وبيئته العلمية‪ -‬قد متكن يف قلبه‬
‫أن مذهب األشاعرة مذهب مبتدع خارج عن مذهب أهل السنة‪ ،‬ف َأدى به اعتقاده‬
‫هذا إىل كراهة املذهب األشعري وكراهة األشاعرة‪ ،‬وتقررت عنده أحكام مس َب َقة‬
‫خاطئة عن مذهب األشاعرة مل يشك هو يف صحة هذه األحكام‪.‬‬
‫فرأى أن من واجبه وهو يرى نفسه متخصصا يف العقيدة‪ -‬أن ينقض هذا‬
‫يت عىل‬
‫املذهب املبتدع الذي طبق العامل اإلسالمي رشقا وغربا وجنوبا وشامال‪ ،‬ويأ َ‬
‫بنيانه من القواعد‪.‬‬
‫فحينام حاول القيام بواجبه هذا بكتابة هذا الكتيب راجع جمموعة كبرية من كتب‬
‫األشاعرة ونظر فيها نظارات‪ ،‬ولكنه مل يراجعها ألجل فهم املذهب عىل وجهه من‬
‫هذه الكتب‪ ،‬ألنه عىل حسب زعمه‪ -‬قد فهم املذهب من اخلارج وال حاجة له إىل‬
‫فهمه ثانيا من هذه الكتب‪ ،‬وإنام راجعها ليتصيد منها الدالئل عىل ما تقرر عنده من‬
‫األحكام املسبقة‪ ،‬فكان هذا سببا ثانيا لعدم فهمها وعدم فهم املذهب عىل وجهه‬
‫منها‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫‪ - 5‬أن الدكتور ال يعلم بعض االصطالحات العلمية الواردة يف كتب‬
‫األشاعرة كام ستقف عليه يف ثنايا الكتاب‪.‬‬
‫‪ - 6‬وهناك مشكلة أخرى عند الدكتور سفر‪ ،‬وهي أن من عادته أن ينسب كل‬
‫ما يراه حقا إىل السلف‪ ،‬وإىل مذهب أهل السنة واجلامعة‪ ،‬بدون أن يتثبت يف ذلك‪،‬‬
‫ولعله يرى أن فهمه ألمر ما أنه حق كاف ألن يكون هذا األمر عقيدة للسلف وألهل‬
‫السنة واجلامعة‪ ،‬وينطبق عىل الدكتور ما قاله ابن تيمية يف "التسعينية" ‪ 245‬منتقدا أحد‬
‫العلامء‪ :‬قال‪( :‬فإنه دائام يقول‪ :‬قال أهل احلق‪ ،‬وإنام يعني أصحابه‪ ،‬وهذه دعوى يمكن‬
‫كل أحد أن يقول ألصحابه مثلها‪ ،‬فإن أهل احلق الذين ال ريب فيهم هم املؤمنون‬
‫الذين ال جيتمعون عىل ضاللة‪ ،‬فأما أن يفرد اإلنسان طائفة منتسبة إىل متبوع من األمة‬
‫ويشعر بأن كل من خالفها يف يشء فهو من أهل الباطل‪ ،‬فهذا‬
‫َ‬ ‫ويسميها أهل احلق‪،‬‬
‫حال أهل األهواء والبدع‪ ...‬فليس احلق الزما لشخص بعينه دائرا معه حيث دار ال‬
‫يفارقه قط إال رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم)‬
‫‪ - 7‬ومن مشاكل الدكتور أنه يرى مذهب أهل السنة واجلامعة حمصورا فيام ذهب‬
‫إليه اإلمام أمحد بن حنبل وشيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬ويرى أهنام دائام عىل احلق يف كل ما‬
‫ذهبا إليه‪ ،‬وأن كل من خالفهام يف العقيدة فهو خمطئ خارج عن أهل السنة‪ ،‬وجيعل‬
‫كالمهام حجة عىل اآلخرين‪ .‬ونحن ‪-‬عىل تقديرنا هلذين اإلمامني العظيمني‪ -‬ال َنعدمها‬
‫إال إمامني من أئمة املسلمني يصيبان وخيطئان كغريمها من أئمة املسلمني‪ ،‬ويف املسائل‬
‫التى خالفا فيها غريمها من أئمة أهل السنة قد يكونان مصيبني فيها‪ ،‬وقد يكونان خمطئني‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫وليس أحد الطرفني حجة عىل الطرف اآلخر‪ ،‬ومل جيعل اهلل العصمة ألحد من الناس‬
‫غري أنبيائه‪ ،‬كام قال اإلمام مالك‪ :‬كل أحد مأخوذ من قوله ومرتوك إال صاحب هذا‬
‫القرب‪ ،‬وأشار إىل قرب رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫ومن التقليل من شأن اإلسالم أن ُي ََص فهمه الصحيح يف رجلني من علامئه‪.‬أو‬
‫يف جمموعة صغرية من علامئه‪.‬‬
‫ثم إن كثريا مما أنكره الدكتور عىل األشاعرة هو مذهب اإلمام أمحد‪ ،‬وكثريا منه‬
‫وافق األشاعرة فيه ابن تيمية كام ستقف عليه يف ثنايا الكتاب‪ ،‬ولكن الدكتور مل يعلم‬
‫ذلك‪ ،‬ولو كان يعلمه ملا أنكر هذه األمور عىل األشاعرة‪.‬‬
‫فهذه األمور هي التى ورطت الدكتور فيام تورط فيه من األخطاء يف هذا‬
‫الكتيب‪ .‬وجعلته يفتعل من األشاعرة خصام جيادله‪ ،‬وعدوا جياهده‪.‬‬
‫وهذه األخطاء منقسمة إىل ثالثة أقسام‪:‬‬
‫القسم األول‪ :‬خطأ يف النسبة‪ ،‬فقد نسب إىل األشاعرة مجلة أمور هم ليسوا‬
‫بقائلني هبا‪ ،‬وبعضها هم قائلون بضدها!‬
‫القسم الثاين‪ :‬خطأ يف الفهم‪ ،‬فقد نسب إىل األشاعرة مجلة أمور هم قائلون هبا‬
‫ولكن الدكتور مل يقف عىل مرادهم منها‪ ،‬فحمل هذه األمور عىل معان مل يقصدوها‬
‫منها‪ ،‬وخ ّطأهم بناء عىل ذلك!‬
‫القسم الثالث‪ :‬خطأ يف احلكم‪ ،‬حيث خطأهم يف أمور هم قائلون هبا‪ ،‬ولكنه هو‬
‫املخطئ يف حكمه عليهم باخلطأ فيها!‬

‫‪7‬‬
‫فالدكتور سفر يف معظم األحوال قد حكم عىل مذهب األشاعرة بدون أن‬
‫يتصوره‪ ،‬ومن املقرر أن احلكم عىل اليشء فرع عن تصوره‪ ،‬فتورط فيام تورط فيه من‬
‫األخطاء‪ ،‬وصار بتأليفه هلذا الكتيب كام قال الشاعر‪:‬‬
‫كناطح صخرة يوما ليوهنها ‪ ::‬فلم يرضها وأوهى قرنه الوعل‬
‫بل كام قال اآلخر‪:‬‬
‫يا ناطح اجلبل العايل ليكلمه ‪ ::‬أشفق عىل الرأس ال تشفق عىل اجلبل‬
‫ونود أن نقرر هنا أمورا‪:‬‬
‫‪ -1‬أن األشاعرة أكرب فرقة إسالمية نافحت عن اإلسالم ودافعت عن مبادئه‬
‫وعقائده ضد غري املسلمني من اليهود والنصارى والثنوية والفالسفة وغريهم‪،‬‬
‫وضد أهل البدع من املعتزلة واملرجئة واجلهمية واخلوارج والرافضة وغريهم‪.‬‬
‫كام أهنم أكرب فرقة خدمت اإلسالم وخدمت العلوم اإلسالمية بنرشها‪ ،‬وبتأليف‬
‫املؤلفات الكثرية العظيمة يف شتى أقسامها وأنواعها‪ .‬فهم بمنزلة العمود الفقري من‬
‫املسلمني ومن أهل السنة‪ .‬كام أهنم بحق‪ -‬فحول األمة‪.‬‬
‫وهذا من املقررات التي ال ينبغي أن يتشكك فيها منصف‪.‬‬
‫‪ -2‬أن أصول مذهب األشاعرة يف العقيدة موافقة للسنة‪ ،‬وال يوجد يف أصول‬
‫مذهبهم ما خيالف السنة‪ ،‬وما كان عليه سلف األمة‪.‬‬
‫وأما غري األصول من املسائل املتعلقة باالعتقاد مما هي جمال لالجتهاد التي ال‬
‫يكفر فيها املخالف وال ي َبدع‪ ،‬فهم يف هذه املسائل جمتهدون‪ ،‬وأعتقد أهنم يف عامة‬

‫‪8‬‬
‫األحوال مصيبون فيها‪ ،‬وال أعتقد أهنم مصيبون فيها يف مجيع األحوال‪ ،‬أي مصيبون‬
‫فيها مائة يف املائة‪ ،‬فقد يكونون أخطئوا يف قسم منها‪.‬‬
‫وقد خالفتهم يف جمموعة من هذه املسائل‪:‬‬
‫منها مسألة تعليل أفعال اهلل تعاىل وأحكامه حيث ذهبوا إىل أن أفعال اهلل تعاىل‬
‫وأحكامه غري معللة بالعلل واألغراض لكنها غري خالية عن احلكم واملصالح‪ ،‬فقد‬
‫اخرتت أن أفعال اهلل تعاىل وأحكامه كام أهنا غري خالية عن احلكم واملصالح‪ ،‬معللة‬
‫بالعلل واألغراض أيضا‪.‬‬
‫ومنها مسألة احلسن والقبح حيث نفوا أصل وصف احلسن والقبح من األفعال‬
‫قبل ورود الرشع‪ .‬وأما املاتريدية فقد ذهبوا إىل وجود وصف احلسن والقبح يف‬
‫األفعال قبل ورود الرشع‪ ،‬وأما احلكم الرشعي نفسه فغري موجود قبل ورود الرشع‪،‬‬
‫بل هو موقوف عىل ورود الرشع به‪ ،‬فاخرتت مذهب املاتريدية يف املسألة‪.‬‬
‫ومنها مسألة الكالم‪ ،‬فإن املختار لدي ما ذهب إليه فريق من املحققني من متأخري‬
‫األشاعرة من أن كالم اهلل تعاىل قديم بلفظه ومعناه‪ ،‬وأن القديم ليس هو املعنى فقط كام‬
‫قاله مجهور األشاعرة‪.‬‬
‫ومنها مسألة أن صفات اهلل تعاىل ليست عينه وال غريه‪ .‬وهذا كالم قد قرره‬
‫السلف‪ ،‬وقد ظهر يل أن اجلمهور األعظم من متأخري األشاعرة قد أخطئوا يف فهم‬
‫هذا الكالم‪ ،‬فخالفتهم يف فهم هذا الكالم‪ ،‬وذهبت إىل ما ذهب إليه شيخ اإلسالم‬

‫‪9‬‬
‫ابن تيمية والقايض عضد الدين اإلجيي من أن معناه أن صفات اهلل تعاىل ليست عينه‬
‫بحسب املفهوم‪ ،‬وال غريه بحسب اهلوية أي بحسب الوجود والتحقق‪.‬‬
‫وقد أعددت يف كل من هذه املسائل رسالة‪.‬‬
‫‪ -3‬أن كتاب الدكتور سفر "منهج األشاعرة يف العقيدة" قد انترش يف العامل‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ورشق فيه وغرب‪ .‬و َأع َلم أن هناك مؤسسات تعتني بنرشه هبدف نرش‬
‫عقيدة أهل السنة واجلامعة‪ ،‬والتعريف بام خالفها من املذاهب املبتدعة‪ ،‬والتنفري عنها‪.‬‬
‫ومن هذه املؤسسات مؤسسة "الغرباء" يف إستانبول التي يديرها صديقنا الفاضل‬
‫«عبد اهلل بن عبد احلميد األثري»‪.‬‬
‫واملسائل التي تعرض هلا الكتاب عند نقده ملذهب األشاعرة وكله نقد له‪ -‬من‬
‫املسائل اخلفية عىل اجلمهور األعظم من القراء‪ ،‬بل معظم هذه املسائل غري معلومة‬
‫بوجه دقيق للجمهور األعظم من العلامء فضال عن غريهم من القراء‪ ،‬ألن هذه‬
‫املسائل من أدق مسائل العلوم وأعوصها‪ ،‬وإنام يعلمها بوجه دقيق قلة من العلامء‪،‬‬
‫وهم املتخصصون يف علم الكالم‪ .‬وال أقصد بالتخصص التخصص الرسمي اللقبى‬
‫‪ ،‬وإنام أقصد به التخصص العلمي الواقعي‪.‬‬
‫فاجلمهور األعظم من القراء هلذا الكتاب وال سيام إذا قرأوه عن ثقة بمؤلفه‬
‫واقتناع بام فيه‪ -‬كام ُيصل عندهم جمموعة كبرية من األخطاء اجلسيمة عن مذهب أكرب‬
‫فرقة إسالمية قدمت لإلسالم أعظم خدمة‪ ،‬كذلك يتمكن يف قلبهم البغض والكراهية‬
‫هلذه الفرقة وملذهبها‪ ،‬وتتقرر عندهم األحكام املسبقة اخلاطئة عن هذه الفرقة‪ ،‬وهذا مما‬

‫‪11‬‬
‫يؤدى إىل التفرق والتدابر والتقاطع بني املسلمني عامة وبني علامئهم خاصة يف وقت‬
‫أحوج ما تكون فيه األمة إىل وحدة الصف وتوحيد الكلمة‪ .‬وهذا مما جيب احليلولة دونه‬
‫بقدر املستطاع‬
‫فمن أجل ما ذكرناه رأيت من واجبي أن أقوم ببيان ما حواه هذا الكتاب من‬
‫أخطاء بطريقة علمية رصينة بعيدة عن املهاترة وكيل التهم‪.‬‬
‫و َأ ِعدُّ ما أقوم به من هذا العمل قربة أتقرب هبا إىل ريب‪ ،‬ثم خدمة أقدمها لألمة‪،‬‬
‫وال سيام من تأثر بقراءة مثل هذا الكتاب منهم‪.‬‬
‫ثم أقدم عميل حتفة أهدهيا ألخينا الفاضل الدكتور سفر‪ ،‬وآمل أن يتقبلها بقبول‬
‫حسن‪ ،‬ملا أعلمه منه من الفضل وطيب النفس‪ .‬وقد جاء عن النبي صىل اهلل تعاىل‬
‫عليه وآله وسلم أنه قال‪( :‬إذا أراد اهلل بعبد خريا بَصه بعيوب نفسه) وروي عن عمر‬
‫بن اخلطاب ريض اهلل تعاىل عنه أنه قال‪( :‬رحم اهلل عبدا أهدى إلينا عيوبنا) وقد قالوا‪:‬‬
‫( َص ِديقك من َصدَ َقك ال من صدقك)‬
‫وأنا َح َسن الظن بالدكتور سفر‪ ،‬وأعلم أنه رجل فاضل طيب‪ ،‬وأقدره عىل ما أعلمه‬
‫منه من الغرية الشديدة عىل اإلسالم‪ ،‬ومن تضحيته يف سبيله بالنفس والنفيس‪ ،‬وعىل ما‬
‫يقوم به من الريادة يف النشاطات واألعامل اإلسالمية اجلليلة‪ ،‬شكر اهلل سعيه‪ ،‬وجزاه خري‬
‫ما جيازي به عباده الصاحلني‪.‬‬
‫وسدد اهلل خطانا وخطاه‪ ،‬ووفقنا وإياه إىل طيب النية‪ ،‬وصالح العمل‪ ،‬وحسن‬
‫اخلتام‪ ،‬ورزقنا احلسنى وزيادة‪ .‬آمـــني‪ ،‬واحلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫حممد صالح بن أمحد الغريس‬
‫مجادى األوىل ‪1427/16‬هـ املوافق ‪2006/6/12‬مـ‬
‫قونيه‬

‫‪12‬‬
‫‪-2‬مقدمة الدكتور سفر‪:‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬احلمد هلل‪ ،‬والصالة والسالم عىل من ال نبي بعده وبعد فقد‬
‫اطلعت عىل ما نرشته جملة «املجتمع» يف األعداد رقم‪ 732-726 :‬واملقاالت‬
‫السابقة هلا‪ ،‬وكذلك املقالتان املتضادتان يف العدد‪ 747 :‬مما كتبه الشيخان‬
‫الفوزان والصابوين عن مذهب األشاعرة‪ ،‬وإذا كان من حق أي قارئ مسلم‬
‫أن هيتم باملوضوع وأن يديل برأيه إن كان لديه جديد‪ ،‬فكيف بمن هو‬
‫متخصص يف هذا املوضوع مثيل؟‪...‬‬
‫أما الصابوين فال يؤسفنى أن أقول‪ :‬إن ما كتبه عن عقيدة السلف‬
‫واألشاعرة يفتقر إىل أساسيات بدائية لكل باحث يف العقيدة‪ ،‬كام أن أسلوبه‬
‫بعيد كثريا عن املنهج العلمي املوثق وعن األسلوب املتعقل الرصني}‬
‫أقول‪ :‬سيظهر للقارئ من خالل قراءة تعليقاتنا عىل الكتاب مدى‬
‫ختصص الدكتور سفر يف املوضوع‪ ،‬والقارئ لتعليقاتنا يتحقق من أن ما قاله‬
‫الدكتور سفر يف حق ما كتبه الصابوين ينطبق عىل كتابه هذا متام االنطباق‪.‬‬

‫‪ -3‬حكم الدكتور عىل األشاعرة بأهنم من املرجئة الغالة‪:‬‬

‫‪13‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬فاألشاعرة ‪ ...‬هي أكرب فرق املرجئة الغالة‪ ،‬ولن أستعجل‬
‫نتائج بحثي‪ ،‬ولكن حسبي أن أدعي دعوى وأطرحها للمناقشة‪ ،‬وأقبل بكل‬
‫رسور من يديل بوجهة نظره فيها}‬
‫أقول‪ :‬قد اشتمل كالم الدكتور هذا عىل اخلطأ والتناقض‪.‬‬
‫أما اخلطأ ‪:‬فقوله‪( :‬فاألشاعرة ‪ ...‬وهي أكرب فرق املرجئة الغالة)وهذه‬
‫الدعوى من الدكتور هي اخلطأ األصل الذي تشعب عنه وتفرع عليه عرشات‬
‫األخطاء بل مئات األخطاء التى تورط فيها يف هذه الرسالة الصغرية‪ ،‬ونظرته إىل‬
‫األشاعرة التى تفيدها هذه اجلملة هي التى ورطته يف هذه األخطاء‪ .‬وحمل اخلطأ‬
‫يف كالمه هذا تقييده املرجئة بقيد الغالة‪ ،‬وعده األشاعرة أكرب فرق املرجئة الغالة‪.‬‬
‫وذلك أن اإلرجاء نوعان‪ :‬إرجاء السنة وإرجاء البدعة‪ ،‬واألشاعرة من مرجئة‬
‫السنة‪ .‬وهم الذين يرجئون أمر العصاة إىل رهبم إن شاء عفا عنهم‪ ،‬وإن شاء‬
‫عاقبهم كام هو مذهب أهل السنة‪ ،‬ولعل هذا هو مذهب الدكتور سفر أيضا‪ ،‬وأما‬
‫مرجئة البدعة فهم الذين يقولون‪ :‬ال يرض مع اإليامن ذنب كام ال ينفع مع الكفر‬
‫طاعة‪ ،‬وهؤالء هم املرجئة الغالة‪ ،‬وقد عدهم األشاعرة من أهل البدعة‪ ،‬وردوا‬
‫عليهم مذهبهم هذا‪ ،‬وبينوا زيغه يف كتبهم‪ .‬ويف مقابل مرجئة البدعة اخلوارج‬
‫الذين يكفرون العصاة ‪ ،‬واملعتزلة الذين يثبتون املنزلة بني املنزلتني‪ ،‬أي يرون أن‬
‫مرتكب الكبرية ليس مؤمنا وال كافرا‪ ،‬وُيكمون بخلوده يف النار‪ .‬وسيأتى‬

‫‪14‬‬
‫تفصيل مسألة اإلرجاء يف آخر هذه التعليقات‪ .‬فاألشاعرة هم أكرب فرق مرجئة‬
‫السنة‪ ،‬وليسوا أكرب فرق املرجئة الغالة‪.‬‬
‫واماالتناقض‪ :‬فإن هذا احلكم من الدكتور عىل األشاعرة كام أنه حكم‬
‫بدون بينة‪ -‬هو استعجال منه ألهم نتائج بحثه‪ ،‬ومن أجل أن املخطأ البد أن‬
‫يناقض نفسه شاء أو أبى ‪-‬كام قالوا‪ .-‬فقد ناقض الدكتور نفسه بقوله‪ :‬ولن‬
‫أستعجل نتائج بحثى‪.‬‬
‫وأما قوله‪{ :‬ولكن حسبي أن أدعي دعوى‪ ،‬وأطرحها للمناقشة‪ ،‬وأقبل‬
‫بكل رسور‪ -‬من يديل بوجهة نظره فيها}‬
‫كالمه هذا إذا أخذناه مقطوعا عن سياقه‪ ،‬كالم جيد يصور ما ينبغى أن‬
‫يكون عليه العامل املحايد غري املتحيز من عدم التعصب لطرف‪ ،‬وعدم الترسع‬
‫يف احلكم باخلطأ فضال عن احلكم بالبدعة لطرف آخر‪.‬‬
‫لكن إيراد الدكتور هلذا الكالم يف صدر رسالته هذه غري صحيح ألمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن الدعاوى البد أن تكون مدعومة بالبينات‪ ،‬كام قال النبي صىل اهلل‬
‫تعاىل عليه وآله وسلم‪( :‬لو أعطي الناس بدعواهم الدعى ناس دماء أقوام‬
‫وأمواهلم‪ ،‬ولكن البينة عىل املدعي واليمني عىل من أنكر) ومعظم دعاوى‬
‫الدكتور التى ادعاها عىل األشاعرة يف هذا الكتيب ومنها دعواه هذه أن‬
‫األشاعرة أكرب فرق املرجئة الغالة غري صحيحة مل يقم عليها ال بينات وال‬
‫شبهات‪ ،‬ولن يستطيع أن يقيم عليها شيئا من ذلك‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫الثاين‪ :‬أن كالمه هذا يصور دعواه التى ادعاها عىل األشاعرة بأهنا دعوى‬
‫قابلة للمناقشة‪ ،‬وأن املسائل التي خالف فيها األشاعرة مما جيوز فيها اخلطأ‬
‫والصواب عىل كل من األطراف املتنازعة‪ ،‬وليست من املسائل التى خيطأ فيها‬
‫عىل سبيل القطع طرف معني‪ ،‬فضال أن يبدع من أجلها‪ ،‬ومن أجل ذلك يقبل‬
‫بكل سور من يديل بوجهة نظره يف هذه الدعوى‪ ،‬لكنه حينام يأيت بدعاويه‬
‫التى ينسبها إىل من يسميهم بأهل السنة يف ثنايا رسالته يوردها عىل أهنا حقائق‬
‫مسلمة غري قابلة للنقاش‪ ،‬ويورد ما ينسبه إىل األشاعرة ومنها هذه الدعوى‬
‫عىل أنه اخلطأ الذي ال ُيتمل الصواب‪ ،‬وأنه البدعة املخالفة للسنة‪ .‬فكالم‬
‫الدكتور هذا مشتمل عىل اخلطأ والتناقض‪ .‬وهو كام أنه مناقض ملا سيأتى يف‬
‫ثنايا الكتاب مناقض لسابقه والحقه‪ ،‬وهو قوله‪( :‬وليكن معلوما أن هذا الرد‬
‫املوعود‪)...‬‬

‫‪ -4‬األشاعرة أكرب فرقة إسالمية‪:‬‬


‫قال الدكتور‪- :‬وقد وعد بكتابة رد مطول عىل األشاعرة‪{ -‬وليكن‬
‫معلوم ًا أ َّن هذا الرد املوعود ليس مقصود ًا به الصابوين وال غريه من األشخاص‬
‫بدعي له وجوده الواقعي‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫مذهب‬ ‫فاملسألة أكرب من ذلك وأخطر‪ ،‬إهنا مسألة‬
‫الضخم يف الفكر اإلسالمي حيث متتلئ به الكثري من كتب التفسري ورشوح‬

‫‪16‬‬
‫احلديث وكتب اللغة والبالغة واألصول فض ً‬
‫ال عن كتب العقائد والفكر‪ ،‬كام‬
‫أن له جامعاته الكربى ومعاهده املنترشة يف أكثر بالد اإلسالم من الفلبني إىل‬
‫السنغال}‬
‫أقول‪ :‬هذا الكالم اعرتاف من الدكتور سفر بأن مذهب األشاعرة‬
‫واملاتريدية هو مذهب مجهور علامء املسلمني‪َ ،‬فج ُّل كتب التفسري واحلديث‬
‫والعقائد واألصول‪ ،‬والبالغة واللغة كتبها األشاعرة واملاتريدية‪ ،‬واجلامعات‬
‫العريقة تتبع هذا املذهب‪ .‬أنطرح كل هذه الكتب ونرتك هؤالء العلام َء ونتبع‬
‫الدكتور سفر؟ وهل من املعقول أن تكون األمة املرحومة عىل ضالل طوال‬
‫قرون حتى يأيت يف القرن اخلامس عرش من يصحح هلا عقائدها‪ ،‬وقد قال النبي‬
‫صىل اهلل عليه وعىل آله وسلم‪ " :‬عليكم بالسواد األعظم" ؟‬
‫ونحن ال نعتقد العصمة لألشعرية وال لغريهم‪ ،‬ولكننا نرى مذهبهم‬
‫ومذهب املاتريدية أقوم املذاهب وأقرهبا إىل احلق‪.‬‬
‫قال اإلمام احلجة املحدث الفقيه األصويل املتكلم النظار تقي الدين‬
‫السبكي يف مقدمة كتابه (السيف الصقيل)‪:‬‬
‫املتكلمون طلبوه‪ -‬أي العلم اإلهلي‪ -‬بالعقل والنقل معا وافرتقوا ثالث‬
‫فرق‪:‬‬
‫إحداها غلب عليها جانب العقل وهم املعتزلة‪.‬‬
‫والثانية غلب عليها جانب النقل وهم احلشوية‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫والثالثة ما غلب عليها أحدمها؛ بل بقي األمران مرعيني عندهم عىل حد‬
‫سواء وهم األشعرية‪ .‬ومجيع الفرق الثالث يف كالمها خماطرة‪ :‬إما خطأ يف‬
‫بعضه وإما سقوط هيبة‪ ،‬والسامل من ذلك كله ما كان عليه الصحابة والتابعون‬
‫وعموم الناس الباقون عىل الفطرة السليمة‪ ،‬وهلذا كان الشافعي ريض اهلل عنه‬
‫ينهى عن االشتغال بعلم الكالم ويأمر باالشتغال بالفقه فهو طريق السالمة‪،‬‬
‫ولو بقي الناس عىل ما كانوا عليه يف زمن الصحابة كان األوىل للعلامء جتنب‬
‫النظر يف علم الكالم مجلة؛ لكن حدثت بد ٌع أوجبت للعلامء النظر فيه ملقاومة‬
‫املبتدعني ودفع شبههم حذرا من أن تزيغ هبا قلوب املهتدين‪.‬‬
‫والفرقة األشعرية هم املتوسطون يف ذلك‪ ،‬وهم الغالبون من الشافعية‬
‫واملالكية واحلنفية وفضالء احلنابلة وسائر الناس‪.‬‬
‫وأما املعتزلة فكانت هلم دولة يف أوائل املائة الثالثة ساعدهم بعض اخللفاء‬
‫ثم انخذلوا وكفى اهلل رشهم‪.‬‬
‫وهاتان الطائفتان األشعرية واملعتزلة مها املتقاومتان‪ ،‬فاألشعرية أعدهلا‬
‫ألهنا بنت أصوهلا عىل الكتاب والسنة والعقل الصحيح‪...‬‬
‫وأما احلشوية فهي طائفة‪ ...‬ينتسبون إىل أمحدَ وأمحد مربأ منهم‪ ،‬وسبب‬
‫نسبتهم إليه أنه قام يف دفع املعتزلة وثبت يف املحنة ريض اهلل عنه‪ ،‬نقلت عنه‬
‫كليامت ما فهمها هؤالء اجلهال‪ ،‬فاعتقدوا هذا االعتقاد السيئ‪ ،‬وصار املتأخر‬
‫منهم يتبع املتقدم إال من عصمه اهلل ‪ ...‬ثم جاء يف أواخر املائة السابعة رجل له‬

‫‪18‬‬
‫جسور متجر ٌد‬
‫ٌ‬ ‫واطالع ومل جيد شيخا هيديه‪ ،‬وهو عىل مذهبهم وهو‬
‫ٌ‬ ‫فضل ذكاء‬
‫لتقرير مذهبه‪ ،‬وجيد أمورا بعيدة فبجسارته يلتزمها‪ ،‬فقال بقيام احلوادث بذات‬
‫الرب سبحانه وتعاىل‪ ،‬وأن اهلل سبحانه ما زال فاعال ‪ ،‬وأن التسلسل ليس‬
‫بمحال فيام مىض كام هو فيام سيأيت ‪ ،‬وشق العصا ‪ ،‬وشوش عقائد املسلمني‪،‬‬
‫وأغرى بينهم‪ ...‬ثم حدث من أصحابه من يشيع عقائده‪ ...‬حتى وقفت يف هذا‬
‫الزمان عىل قصيدة نحو ستة آالف بيت يذكر ناظمها فيها عقائده وعقائد غريه‪،‬‬
‫ويزعم بجهله أن عقائده عقائد أهل احلديث‪ ،‬فوجدت هذه القصيدة تصنيفا يف‬
‫تقرير‬
‫علم الكالم الذي هنى العلامء عن النظر فيه لو كان حقا ‪ ،‬فكيف وهو ٌ‬
‫العوام عىل تكفري كل من‬
‫ر‬ ‫وبوح هبا‪ ،‬وزياد ٌة عىل ذلك‪ ،‬وهي محل‬
‫للعقائد الباطلة ٌ‬
‫سواه وسوى طائفته‪ ،‬فهذه ثالثة أمور هي جمامع ما تضمنته هذه القصيدة‪ ...‬إىل‬
‫آخر كالمه‪.‬‬
‫يقصد السبكي القصيدة النونية البن القيم‪ ،‬وقد جرى الدكتور سفر يف‬
‫كتابه هذا عىل منواهلا‪...‬‬

‫‪ -5‬اإلمام أبو احلسن األشعري مقرر ملذهب السلف ومدافع عنه‪:‬‬


‫ونقل اإلمام تاج الدين السبكي عن الشيخ أيب عبد اهلل حممد بن موسى بن‬
‫عامر املايرقي انه قال‪ :‬ومل يكن أبو احلسن أول متكلم بلسان أهل السنة؛ إنام‬
‫جرى عىل سنن غريه وعىل نَصة مذهب معروف‪ ،‬فزاد املذهب حجة وبيانا‪،‬‬

‫‪19‬‬
‫ومل يبتدع مقالة اخرتعها وال مذهبا انفرد به ‪...‬ليس له يف مذهب السلف أكثر‬
‫من بسطه ورشحه‪ ،‬وتواليفه يف نَصه‪ ...‬ثم ذكر املايرقي رسالة الشيخ أيب‬
‫احلسن القابيس املالكي التى يقول فيها‪ :‬واعلموا أن أبا احلسن األشعري مل‬
‫يأت من علم الكالم إال ما أراد به إيضاح السنن والتثبت عليها‪ ،‬إىل أن يقول‬
‫القابيس‪ :‬وما أبو احلسن إال واحد من مجلة القائمني يف نَصة احلق‪ ،‬ما سمعنا‬
‫من أهل اإلنصاف من يؤخره عن رتبة ذلك‪ ،‬وال من يؤثر عليه يف عَصه‬
‫غريه‪ ،‬و َمن بعده من أهل احلق سلكوا سبيله‪ ،‬إىل أن قال‪ :‬لقد مات األشعري‬
‫يوم مات وأهل السنة باكون عليه وأهل البدع مسرتُيون منه‪.‬‬
‫و َذكَر قول الشيخ أيب حممد عبد اهلل بن أيب زيد يف جوابه ملن المه يف حب‬
‫األشعري‪ :‬ما األشعري إال رجل مشهور بالرد عىل أهل البدع‪ ،‬وعىل القدرية‬
‫واجلهمية‪ ،‬متمسك بالسنن وأطال املايرقي وغريه من املالكية يف تقريظ الشيخ‬
‫‪1‬‬
‫أيب احلسن‪.‬‬
‫وقال اإلمام احلافظ البيهقي يف مجلة ما كتبه إىل عميد امللك‪ :‬إىل أن بلغت‬
‫النوبة إىل شيخنا أيب احلسن األشعري رمحه اهلل‪ -‬فلم ُيدث يف دين اهلل حدثا ‪،‬‬
‫ومل يأت فيه ببدعة ‪ ،‬بل أخذ أقاويل الصحابة والتابعني ومن بعدهم من األئمة‬
‫يف أصول الدين‪ ،‬فنَصها بزيادة رشح وتبيني ‪ ،‬وأن ما قالوا يف األصول وجاء به‬

‫‪1‬‬
‫‪367 3‬‬

‫‪21‬‬
‫صحيح يف العقول‪ ،‬خالف ما زعم أهل األهواء من أن بعضه ال يستقيم‬
‫ٌ‬ ‫الرشع‬
‫يف اآلراء ‪ ،‬فكان يف بيانه‪ ...‬نَصة أقاويل من مىض من األئمة كأيب حنيف َة‬
‫واألوزاعي وغريه من أهل الشام ومن نحا‬
‫ر‬ ‫وسفيان الثوري من أهل الكوفة‬
‫نحومها من أهل احلجاز وغريها من سائر البالد‪ ،‬ومالك والشافعي من أهل‬
‫ِ‬
‫والليث بن سعد وغريه‬ ‫ِ‬
‫وغريه من أهل احلديث‪،‬‬ ‫احلرمني‪ ،‬وكأمحدَ بن حنبل‬
‫وأيب عبد اهلل بن إسامعيل البخاري وأيب احلسني مسلم بن احلجاج النيسابوري‬
‫إمامي أهل األثر وحفاظ السنن التى عليها مدار الرشع ريض اهلل تعاىل عنهم‬
‫أمجعني هذا قطع ٌة من رسالة البيهقي نقلها احلافظ ابن عساكر يف (تبيني كذب‬
‫املفرتي)‪.2‬‬

‫‪ -7‬ربط الدكتور بني مذهب األشاعرة واإلسترشاق‪:‬‬


‫قال الدكتور‪{ :‬وقد ظهرت يف اآلونة األخرية حماوالت ضخمة متواصلة‬
‫لرتميمه (أي لرتميم مذهب األشاعرة) وحتديثه يرشف عليها هيئات رسمية‬
‫كربى‪ ،‬ويغذهيا املسترشقون بام ينبشونه من تراثه وخيرجون من خمطوطاته}‬

‫‪2‬‬
‫‪113‬‬

‫‪21‬‬
‫أقول‪ :‬مذهب األشاعرة مل يقع فيه تصدع وتشقق حتى ُيتاج إىل الرتميم‬
‫والتحديث وليت شعري من الذي حاول ترميمه وحتديثه فهال ذكرهم‬
‫الدكتور!!؟‬
‫وأما الربط بني نرش كتب األشاعرة واإلسترشاق فمن هتويشات الدكتور‪،‬‬
‫فإن املسترشقني يعتنون بفروع املعرفة كافة‪ ،‬وقد أسهموا يف نرش كثري من كتب‬
‫الرتاث اإلسالمي ومنها بعض كتب األشاعرة ككتاب "هناية اإلقدام يف علم‬
‫الكالم" لعبد الكريم الشهرستاين‪ ،‬وال أعلم له ثانيا‪ .‬نعم قد نرش املسترشق‬
‫كلود سالمة كتاب "تبَصة األدلة" يف أصول الدين أليب املعني النسفي‪ ،‬وهو‬
‫عىل مذهب املاتريدية‪ ،‬كام طبعوا كتاب "الرد عىل اجلهمية" للدارمي‪ ،‬وهو من‬
‫كتب العقيدة عىل مذهب الدكتور‪.‬‬
‫وأما دعوى تركيز املسترشقني عىل نرش كتب األشاعرة فغري صحيحة‪،‬‬
‫ولو فرض تركيزهم عىل نرشها فهذا ال ينقص من قدرها وال يكون سبة‬
‫عليها‪.‬‬

‫‪ -6‬مل يكفر األشاعرة إال من أنكر أمرا جممعا عليه معلوما من الدين‬
‫بالرضورة‪:‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬فاألشاعرة هم الذين كفروا وما يزالون يكفرون أتباع‬
‫السلف بل كفروا َّ‬
‫كل من قال إن اهلل تعاىل موصوفٌ بالعلو‪ -‬كام سيأيت هنا‪-‬‬

‫‪22‬‬
‫وحسبك تكفريهم واضطهادهم لشيخ اإلسالم وهو ما مل يفعله أهل السنة‬
‫بعامل أشعري قط}‬
‫أقول‪ :‬مل يك رفر أحدٌ من األشاعرة أهل احلديث الذين عناهم املؤلف بأتباع‬
‫السلف بل عدُّ وهم من مجلة أهل السنة‪.‬‬
‫وأما تكفري كل من قال‪ :‬إن اهلل تعاىل موصوف بالعلو‪ .‬فلم يقل به أحد‬
‫منهم‪ ،‬كيف وهم ال يذكرون اهلل إال ويعقبونه بقوهلم‪( :‬تعاىل)‪ ،‬وقد وصف اهلل‬
‫تعاىل نفسه يف كتابه بأنه العيل!؟ نعم يك رفر األشاعرة املجسمة إذا قالوا‪ :‬جسم‬
‫كاألجسام وقد كفر بعضهم اجلهوية أيضا‪ ،‬وأين وصف العلو من اجلهة‬
‫والتجسيم!‪.‬‬
‫وأما التكفري من بعض املسلمني لبعضهم اآلخر فقد صدر من بعض‬
‫املنسوبني لبعض املذاهب لبعض خمالفيهم عن طريق االجتهاد املشوب بيشء‬
‫من التعصب واهلوى مع خمالفة ذلك ألصول مذاهبهم من عدم تكفري أهل‬
‫القبلة‪ ،‬فاملشكلة مشكلة بعض األفراد‪ ،‬وليست مشكلة املذاهب‪ :‬فال جيوز‬
‫نسبة هذه املشكلة إىل املذاهب والفرق اإلسالمية عامة‪ .‬ومن هذا القبيل تكفري‬
‫تقي الدين احلصني وعالء الدين البخاري البن تيمية‪ .‬وأما معظم األشاعرة‬
‫فمع خمالفتهم له يف كثري من املسائل معرتفون بفضله وجاللة قدره يف العلم‬
‫والعمل‪ .‬ولعل هذا ال خيفى عىل الدكتور سفر‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫واملقرر عند األشعرية أنه ال يكفر إال من أنكر أمرا جممعا عليه معلوما‬
‫كونه من الدين بالرضورة‪.‬‬
‫وأما االضطهاد البن تيمية فإن أراد الدكتور به الرضب واجللد فغري‬
‫صحيح فإن أحدا من علامء األشاعرة مل يفعل به هذا‪ .‬وإن أراد به احلكم‬
‫بحبسه فصحيح‪ ،‬فقد حكم عليه املناظرون له يف املسائل التى خالف فيها‬
‫مجهور األئمة بالزجر وطول السجن واملنع من الفتوى‪.‬‬
‫وأما حكم الدكتور بأن من سامهم أهل السنة مل يفعلوا بعامل أشعري مثل‬
‫هذا فغري صحيح‪ ،‬فقد سجل التاريخ ما فعلوه باإلمام ابن جرير الطربي‪،‬‬
‫حبسوه يف منزله ومنعوا الناس من الدخول عليه حتى تويف فيه‪ .‬قال الذهبي‪:‬‬
‫قال حسني بن عىل النيسابوري‪ :‬أول ما سألني ابن خزيمة قال‪ :‬كتبت عن‬
‫حممد بن جرير؟ قلت‪ :‬ال‪ ،‬قال‪ :‬ومل؟ قلت‪ :‬ألنه كان ال يظهر‪ ،‬وكانت احلنابلة‬
‫متنع من الدخول عليه‪ ،‬فقال‪ :‬بئس ما َف َع َلَت‪ ،‬ليتك مل تكتب عن كل من‬
‫كتبت عنهم‪ ،‬وسمعت منه‪ ،‬ومثله يف "تاريخ بغداد"‪.3‬وابن جرير الطربي وان‬
‫مل يكن أشعريا بمعنى املتابعة لألشعري ألنه معارص له تويف قبله سنة ‪310‬‬
‫وتويف األشعري سنة ‪ ،324‬لكنه أشعري بمعنى املوافقة لألشعري يف‬
‫العقيدة‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫‪162 2‬‬ ‫‪311‬‬

‫‪24‬‬
‫وقد كانوا يؤذون األشاعرة ويوقعون هبم كلام صارت هلم شوكة‪ .‬ومنه ما‬
‫حكاه ابن أيب يعىل يف طبقات احلنابلة يف ترمجة أيب جعفر عبد اخلالق بن عيسى‬
‫قال‪ :‬فوصل إىل مدينة السالم باجلانب الرشقي ولد القشريي‪ ،‬وأظهر عىل‬
‫الكريس مقالة األشعري‪ ،‬ومل تكن ظهرت قبل ذلك عىل رؤوس األشهاد ملا‬
‫كان يلحقهم من أيدي أصحابنا وقمعهم‪ ...‬فاشتد أزر أهل السنة وقويت‬
‫شوكتهم‪ ،‬وأوقعوا بأهل هذه البدعة دفعات‪ ،‬وكانت الغلبة لطائفتنا طائفة‬
‫‪4‬‬
‫احلق‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫يقصد ابن أيب يعىل بأهل السنة من سامهم الدكتور بأهل السنة‪ ،‬ويقصد‬
‫بأهل البدعة األشاعرة‪.‬‬
‫وقد كانوا يشاغبون األشاعرة ومن عىل مذهبهم ويفتعلون الفتن‬
‫واالضطرابات‪ .‬ومنه ما حكاه ابن كثري يف البداية والنهاية يف حوادث سنة ‪317‬‬
‫قال‪ :‬وفيها وقعت فتنة ببغداد بني أصحاب أيب بكر املروزي احلنبيل وبني طائفة‬
‫من العامة اختلفوا يف تفسري قوله تعاىل‪( :‬عيس أن يبعثك ربك مقاما حممودا)‬
‫فقالت احلنابلة‪ :‬جيلسه معه عىل العرش‪ .‬وقال اآلخرون‪ :‬املراد بذلك الشفاعة‬
‫العظمى‪ .‬فاقتتلوا بسبب ذلك ووقع بينهم قتىل فإنا هلل وإنا إليه راجعون‪ .‬وقد‬
‫ثبت يف صحيح البخاري أن املراد بذلك مقام الشفاعة العظمى‪ ،‬وهي الشفاعة‬

‫‪4‬‬
‫‪239 2‬‬

‫‪25‬‬
‫يف فصل القضاء بني العباد‪ .‬انتهى‪ 5.‬واملتتبع للتاريخ جيد الكثري من مشاغباهتم‪.‬‬
‫والدكتور يعلم هذا جيدا حيث أشار إليه يف ما بعد بقوله‪ :‬ومل يزل احلنابلة معهم‬
‫( أي مع األشاعرة) يف معركة طويلة‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬إن مصطلح أهل السنة يطلق ويراد به معنيان‪ :‬املعنى األعم‬
‫وهو ما يقابل الشيعة فيقال‪ :‬املنتسبون لإلسالم قسامن؛ أهل السنة والشيعة‪،‬‬
‫مثلام عنون شيخ اإلسالم كتابه يف الرد عىل الرافيض "منهاج السنة" وفيه بني‬
‫هذين املعنيني‪( ،‬ورصح أن ما ذهبت إليه الطوائف املبتدعة من أهل السنة‬
‫باملعنى األخص) وهذا املعنى يدخل فيه كل من سوى الشيعة‬
‫كاألشاعرة‪..‬الخ كالمه}‬
‫ما بني اهلاللني غري مفهوم‪.‬‬

‫‪ -8‬حماولة الدكتور إلخراج األشاعرة من أهل السنة‪:‬‬


‫قال الدكتور‪ { :‬املعنى األخص‪ :‬وهو ما يقابل املبتدعة وأهل األهواء ‪...‬‬
‫وهذا املعنى ال يدخل فيه األشاعرة ‪ ...‬وقد نص اإلمام أمحد عىل أن من خاض‬

‫‪5‬‬
‫‪162 11‬‬

‫‪26‬‬
‫يف يشء من علم الكالم ال يعترب من أهل السنة وإن أصاب بكالمه السنة حتى‬
‫يدع اجلدل ويسلم للنصوص‪}...‬‬
‫أقول‪ :‬قد خاض يف يشء من الكالم كثري من أئمة السلف منهم اإلمام‬
‫الشافعي‪ ،‬فقد كان ضليعا فيه‪ ،‬وقد ناظر حفصا الفرد وقطعه‪ ،‬وانظر( تبيني‬
‫ُّ‬
‫مناظرات مع املبتدعة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫كذب املفرتي) ومنهم اإلمام أبو حنيفة فقد جرت له‬
‫وأما هني السلف ‪-‬ومنهم الشافعي‪ -‬عن الكالم فمرادهم االعتامد عليه‬
‫يف إثبات العقائد اإلسالمية‪ ،‬واإلكثار منه‪ ،‬والدخول فيه لغري املتأهل الذي‬
‫خياف عليه الضالل‪ ،‬وهناك أسباب أخرى للنهي ذكرها العلامء‪ .‬وقد كتبنا فيها‬
‫رسالة‪.‬‬
‫وهذا النقل الذي نقله الدكتور عن اإلمام أمحد إن صح عنه‪ ،‬ليس حجة عىل‬
‫غريه ممن خاض يف الكالم من أئمة السنة يف عَصه كاحلارث املحاسبي‬
‫والقالنيس وابن كالّب واحلسني بن عيل الكرابييس ملا رءوا من احلاجة إىل ذلك‪.‬‬
‫والكالم الذي هنى عنه اإلمام أمحد قد خاض فيه كل من ابن تيمية وابن القيم‪،‬‬
‫فعىل الدكتور أن خيرجهام من أهل السنة باملعنى األخص كام أخرج منهم‬
‫األشاعرة‪.‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬األشاعرة كام سرتى‪ -‬تلقوا واستمدوا من غري السنة ومل‬
‫يوافقوها يف النتائج فكيف يكونون من أهلها}‬

‫‪27‬‬
‫أقول‪ :‬ليس يف أصول مذهبهم ما خيالف السنة‪ ،‬ومن ادعى املخالفة فعليه‬
‫باإلثبات‪ .‬وقد أثبتنا يف تعليقاتنا هذه موافقة مذهبهم للسنة‪ .‬وأهنم مل يستمدوا‬
‫من غريها‪ ،‬ومل خيالفوها‪ .‬وسيأيت تفصيل هذا فيام بعد يف الكالم عىل املوضوع‬
‫الذي عنونه بمصدر التلقي‪.‬‬

‫‪ -9‬اجلمهور أألعظم من علامء األمة عىل املذهب األشعري‪:‬‬


‫قال الدكتور‪ :‬مؤكدا أن األشاعرة خارجون عن أهل السنة واجلامعة‪،‬‬
‫ومدعيا أن أئمة املذاهب األربعة وعلامء اجلرح والتعديل قد حكموا عليهم‬
‫بذلك!‪{ :‬وسنأيت بحكمهم‪ -‬أي األشاعرة‪ -‬عند أئمة املذاهب األربعة‪ ،‬فام‬
‫بالك بأئمة اجلرح والتعديل من أصحاب احلديث‪}...‬‬
‫أقول‪ :‬األئمة األربعة قد توفوا قبل والدة األشعري‪ :‬فإنه ولد سنة‬
‫‪260‬هـ‪ ،‬وآخر األئمة موتا هو اإلمام أمحد‪ ،‬وقد تويف يف سنة ‪241‬هـ‪ ،‬وإن‬
‫أراد املؤلف علامء املذهب األربعة الكبار من غري األئمة فمن املقرر أن‬
‫اجلمهور األعظم منهم أشعرية أو ماتريدية كام تقدم عن اإلمام السبكي من أن‬
‫األشعرية هم الغالبون من الشافعية واملالكية واحلنفية وفضالء احلنابلة‪.‬‬
‫مقرر ال ينبغي‬
‫أمر ٌ‬‫وقد اعرتف هبذا‪ ،‬املؤلف نفسه يف صدر الكتاب‪ ،‬وهو ٌ‬
‫أن خيتلف فيه اثنان‪ ،‬قال الزبيدي‪ :‬وذكر العز بن عبد السالم أن عقيدة‬

‫‪28‬‬
‫األشعري أمجع عليها الشافعية واملالكية واحلنفية وفضالء احلنابلة ووافقه عىل‬
‫ذلك من أهل عَصه شيخ املالكية يف زمانه أبو عمرو ابن احلاجب وشيخ‬
‫التقي السبكي فيام نقله عنه‬
‫ُّ‬ ‫احلنيفة مجال الدين احلصريي‪ ،‬وأقره عىل ذلك‬
‫‪6‬‬
‫ولده التاج‪.‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬عند املالكية‪ :‬روى حافظ املغرب وع َل ُمها الفذ ابن عبد الرب‬
‫بسنده عن فقيه املالكية باملرشق ابن خويزمنداد أنه قال يف كتاب الشهادات‬
‫رشح ًا لقول مالك‪ :‬ال جتوز شهادة أهل البدع واألهواء‪ ،‬قال‪ " :‬أهل األهواء‬
‫عند مالك وسائر أصحابنا هم أهل الكالم فكل متكلم فهو من أهل األهواء‬
‫والبدع أشعري ًا كان أو غري أشعري‪ ،‬وال تقبل له شهادة يف اإلسالم أبدا‪ ،‬وهيجر‬
‫فإن متادى عليها استتيب منها"‪}.‬‬
‫ويؤدب عىل بدعته‪ْ ،‬‬
‫أقول‪ :‬ابن خويزمنداد ساقط عند علامء اجلرح والتعديل وعند علامء‬
‫الرب وانظر لسان‬
‫الباجي وابن عبد َ ر‬
‫ُّ‬ ‫املالكية أيضا‪ ،‬فقد طعن فيه اإلمامان‬
‫امليزان‪.7‬‬
‫امللقب‬
‫ُ‬ ‫ثم قال الدكتور‪{ :‬عند الشافعية‪ :‬قال اإلمام أبو العباس بن رسيجٍ‬
‫بالشافعي الثاين وقد كان معارص ًا لألشعري‪" :‬ال نقول بتأويل املعتزلة‬

‫‪6‬‬
‫‪365 3‬‬ ‫‪72‬‬
‫‪291 5 7‬‬

‫‪29‬‬
‫واألشعرية واجلهمية وامللحدة‪ ،‬واملجسمة واملشبهة والكرامية واملكيفة‪ ،‬بل‬
‫نقبلها بال تأويل‪ ،‬ونؤمن هبا بال متثيل"}‬
‫أقول‪ :‬الظاهر أن كلمة األشعرية مدرجة يف كالم ابن سيج‪ ،‬أو الكالم‬
‫ٌ‬
‫منحول عليه‪ ،‬فإن سياق هذا الكالم يقتيض أنه كان عىل عهد ابن سيج‬ ‫كله‬
‫مذهب يسمى مذهب األشعري‪ ،‬وفرقة تسمى أشعرية‪ ،‬وقد قالوا إن حتول‬
‫ٌ‬
‫األشعري عن االعتزال كان سنة ‪300‬هـ وكانت وفاة ابن سيج سنة‬
‫‪306‬هـ‪ .‬فكيف حتولت آراء األشعري يف هذه املدة الوجيزة وهي مخس سنني‬
‫تقريبا إىل مذهب معروف يتناقلها العلامء يف مؤلفاهتم؟ وقد نقل املصنف هذا‬
‫الكالم عن كتاب( اجتامع اجليوش اإلسالمية) والكالم منقول فيه بسند فيه‬
‫انقطاع بني الزنجاين وابن سيج‪ .‬فإن ابن سيج تويف سنة (‪ )306‬والزنجاين‬
‫ولد سنة (‪ )380‬فبينهام مسافة شاسعة‪ .‬فالرواية عن ابن سيج مل تصح ال متنا‬
‫وال سندا‪.‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬قال اإلمام أبو احلسن الكُرجي من علامء القرن اخلامس‬
‫الشافعية ما نصه‪ ":‬مل يزل األئمة الشافعية يأنفون ويستنكفون أن ُينْسبوا إىل‬
‫وينه ْو َن أصحاهبم وأحباهبم‬
‫األشعري‪ ،‬ويتربؤون مما بنى األشعري مذه َب ُه عليه‪َ ،‬‬
‫احلو ِم حواليه عىل ما سمعت من ٍ‬
‫عدة من املشايخ واألئمة‪ .‬ورضب مث ً‬
‫ال‬ ‫عن َ ْ‬
‫بشيخ الشافعية يف عرصه اإلمام أيب حامد اإلسفرايئني امللقب «الشافعي الثالث»‬

‫‪31‬‬
‫قائال‪ :‬ومعلو ٌم شدة الشيخ عىل أصحاب الكالم‪ ،‬حتى ميز أصول فقه الشافعي‬
‫من أصول األشعري‪ ...‬وبه اقتدى الشيخ أبو إسحاق الشريازي}‬
‫أقول‪ :‬قال تاج الدين السبكي يف طبقات الشافعية الكربى يف ترمجة‬
‫الكرجي‪ :‬قال ابن السمعاين‪ :‬وله‪ -‬أي للكرجي‪ -‬قصيدة بائية يف السن ِة رشح‬
‫فيها اعتقاده واعتقاد السلف تزيد عىل مائتي بيت قرأهتا عليه يف داره يف‬
‫الكرج‪ ،‬ثم قال السبكي‪ :‬قلت‪ :‬ثبت لنا هبذا الكالم ‪-‬إن ثبت أن ابن السمعاين‬
‫قاله‪ -‬أن هلذا الرجل قصيدة يف االعتقاد وعىل مذهب السلف موافقة للسنة‪،‬‬
‫وابن السمعاين كان أشعري العقيدة‪ ،‬فال يعرتف بأن القصيدة عىل السنة‬
‫ومذهب السلف إال إذا وافقت ما يعتقد انه كذلك وهو رأي األشعري‪.‬‬
‫إذا عرفت ذلك فاعلم أنا وقفنا عىل قصيدة تعزى إىل هذا الشيخ نال فيها‬
‫من أهل السنة وباح بالتجسيم‪ ...‬إين ارتبت يف أمر هذه القصيدة وصحة‬
‫نسبتها إىل هذا الرجل‪ ،‬وغلب عىل ظني أهنا مكذوب ٌة عليه ك ُّلها أو بعضها‪ ،‬ثم‬
‫أورد السبكي الدالئل عىل أهنا مكذوب ٌة فراجع كالمه‪ ،8‬فكالم السبكي هذا‬
‫يدل عىل أن ما نقله الدكتور عن الكرجي ال يصح نسبته إليه‪ ..‬وإن صح نسبة‬
‫عدو لألشاعرة ال تقبل شهادته عليهم‪.‬‬
‫القصيدة إليه فالرجل ٌّ‬

‫‪8‬‬
‫‪141 6‬‬

‫‪31‬‬
‫وأما اإلمام أبو حامد اإلسفرايني فقد قرأت ترمجته يف قريب من ثالثني‬
‫مصدرا ومرجعا فلم َأر أحدا أشار إىل عدائه لعلم الكالم وللمتكلمني‪ .‬ولو‬
‫س رلم عدائه للكالم فله رأيه وللمشتغلني بالكالم من قبله ومن بعده ملا رأوا من‬
‫احلاجة إىل ذلك رأهيم‪ ،‬وليس هو حجة عىل غريه كام أن غريه ليسوا حجة‬
‫عليه‪ ،‬فلكل رأيه واجتهاده‪.‬‬
‫وأما أبو إسحاق الشريازي فأشهر من نار عىل علم أنه من كبار أئمة‬
‫األشاعرة‪ .‬وانظر ترمجته يف {تبيني كذب املفرتى} البن عساكر‪ ،‬واقرأ معتقده‬
‫ني معتقده عىل وفق مذهب األشعري‪ ،‬ثم‬
‫يف مقدمة "رشح اللمع" له حيث َب َ‬
‫عقبه بقوله‪ :‬فمن اعتقد غري ما أرشنا إليه من اعتقاد أهل احلق املنتسبني إىل‬
‫اإلمام أيب احلسن األشعري فهو كافر‪.9‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬وبنحو قوله أي قول الكرجي‪ -‬أو أشد منه قال شيخ‬
‫اإلسالم اهلروي األنصاري}‬
‫عدو لألشاعرة فال تقبل شهادته عليهم‪ ،‬هو غري‬
‫أقول‪ :‬اهلروي مع أنه ٌ‬
‫مريض عند احلنابلة‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫قال تاج الدين السبكي‪ :‬كان‪ ...‬ابن تيمية مع ميله إليه يضع من هذا‬
‫الكتاب ‪ -‬أعني منازل السائرين‪ -‬قال شيخنا الذهبي‪ :‬وكان يعني ابن‬

‫‪9‬‬
‫‪111 1‬‬

‫‪32‬‬
‫تيمية‪ -‬يرمي أبا إسامعيل بالعظائم بسبب هذا الكتاب ويقول‪ :‬انه مشتمل عىل‬
‫االحتاد‪.‬‬
‫قال تاج الدين السبكي‪ :‬قلت‪ :‬واألشاعرة يرمونه بالتشبيه‪ ،‬ويقولون‪ :‬إنه‬
‫كان يلعن شيخ السنة أبا احلسن األشعري‪ ،‬وأنا ال أعتقد أنه يعتقد اإلحتاد‪،‬‬
‫وإنام أعتقد أنه يعتقد التشبيه‪ ،‬وأنه ينال من األشاعرة‪ ،‬وأن ذلك جلهله بعلم‬
‫الكالم‪ ،‬وبعقيدة األشعرية‪ ،‬فقد رأيت أقواما أتوى من ذلك‪ .‬أهـ‪ 10.‬أقول‪:‬‬
‫ومن هؤالء األقوام الدكتور سفر ومن هو عىل شاكلته حيث ينسبون إىل‬
‫األشعرية ما هم بريئون عنه لعدم معرفتهم بمذهب األشعرية‪ .‬وانظر إىل‬
‫إنصاف التاج السبكي حيث نفى عن اهلروي هتمة اإلحتاد التي نسبها إليه ابن‬
‫تيمية‪.‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬احلنفية‪ ...‬الخ هذه الفقرة من كالمه}‬
‫أقول‪ :‬قد احتوت هذه الفقرة من كالم الدكتور عىل مغالطات واشتملت‬
‫عىل احلق والباطل والصواب واخلطأ‪ .‬نبينها فيام ييل‪.‬‬
‫أن واضع الطحاوية وشارحها كالمها حنفيان}‬
‫قال الدكتور‪{ :‬معلو ٌم َّ‬
‫ٌ‬
‫مقبول ‪ ،‬وأما الشارح فغري مقبول‪،‬‬ ‫حنفي‬
‫ٌّ‬ ‫أقول‪ :‬نعم‪ ،‬واضع الطحاوية‬
‫منتَ َقدٌ من أهل مذهبه ومن غريهم ‪ .‬قال فيه عيل القاري‪ :‬واحلاصل أن الشارح‬

‫‪10‬‬
‫‪272 4‬‬

‫‪33‬‬
‫بعلو املكان مع نفي التشبيه‪ ،‬وتبع فيه طائفة من أهل البدعة‪ ...‬ومن‬
‫يقول ر‬
‫الغريب أنه استدل عىل مذهبه الباطل برفع األيدي يف الدعاء إىل السامء‪.‬‬
‫ومن مستشنعاته قدحه يف عصمة النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم وقوله‬
‫بتفضيل املالئكة عىل األنبياء‪ ،‬وقد أنكر عليه أهل مذهبه وغريهم‪ ..‬وممن أنكر‬
‫عليه زين الدين بن رجب‪ ،‬وتقي الدين ابن مفلح وأخوه"‪.11‬‬

‫‪ -11‬عقيدة اإلمام أيب حنيفة والطحاوي موافقتان ملذهب األشعري‪:‬‬


‫قال الدكتور‪{ :‬وكان اإلمام الطحاوي معارص ًا لألشعري‪ ،‬وكتب هذه‬
‫العقيدة لبيان معتقد اإلمام أيب حنيفة وأصحابه وهي مشاهبة ملا يف الفقه األكرب‬
‫رصح بكفر من قال‪ :‬إ َّن اهلل ليس عىل العرش أو‬
‫عنه‪ ،‬وقد نقلوا عن اإلمام أنَّه َّ‬
‫توقف فيه ‪ ،‬وتلميذه أبو يوسف ك َّفر برش ًا املرييس‪ ،‬ومعلوم أن األشاعرة ينفون‬
‫العلو وينكرون كونه تعاىل عىل العرش‪ ،‬ومعلوم أيضا أن أصوهلم مستمدة من‬
‫برش املرييس}‬
‫صحيح‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫أقول‪ :‬قوله‪( :‬وكان معارصا لألشعري)‪:‬‬
‫وقوله‪" :‬وكتب هذه العقيدة لبيان معتقد أيب حنيفة وأصحابه"‪ :‬هذا أيضا‬
‫صحيح ‪ ،‬لكن سياقه يف مساق أن هذه العقيدة خمالف ٌة لعقيدة األشاعرة وإهيا َمه‬
‫ٌ‬

‫‪11‬‬
‫‪97 96 2‬‬ ‫‪172‬‬

‫‪34‬‬
‫معتمدَ ٌة عند أهل السنة واجلامعة من‬
‫َ‬ ‫ذلك غري صحيح‪ ،‬فإن هذه العقيد َة‬
‫األشاعرة واملاتريدية احلنفية إال ثالث مسائل خالف فيها األشاعرة ووافق فيها‬
‫احلنيفة‪ .‬ومن املقرر أن مسائل اخلالف بني األشعرية واملاتريدية مسائل فرعية يف‬
‫العقيدة‪ ،‬ال تقتىض التبديع‪ ،‬ومن أجل ذلك مل يبدع أحدمها اآلخر‪.‬‬
‫قال الزبيدي‪ :‬قال التاج السبكي‪ :‬سمعت الشيخ اإلمام الوالد يقول‪ :‬ما‬
‫تضمنته عقيدة الطحاوي هو ما يعتقده األشعري‪ ،‬ال خيالف إال يف ثالث‬
‫مسائل‪ ...‬وقد تأملت عقيدة أيب جعفر الطحاوي فوجدت األمر عىل ما قاله‬
‫الشيخ اإلمام الوالد‪.‬‬
‫وعقيدة الطحاوي زعم أهنا الذي عليها أبو حنيفة وأبو يوسف وحممد‪ .‬ثم‬
‫تصفحت كتب احلنيفة فوجدت مجيع املسائل التي بيننا وبينهم خالف فيها‬
‫ثالث عرشة مسألة‪ ،‬منها معنوي ست مسائل‪ ،‬والباقي لفظي‪ ،‬وتلك الستة‬
‫املعنوية ال تقتيض خمالفتهم لنا وال خمالفتنا هلم تكفريا وال تبديعا‪ ،‬رصح بذلك‬
‫غني عن التعريف‬
‫أبو منصور البغدادي وغريه من أئمتنا وأئمتهم‪ ،‬وهو ٌّ‬
‫لوضوحه‪ ...‬ثم هذه املسائل الثالثة عرش مل يثبت مجيعها عن الشيخ وال عن‬
‫أيب حنيفة‪ -‬ريض اهلل عنهام‪ -‬ولكن الكالم بتقدير الصحة‪ .‬انتهى كالم‬
‫السبكي‪.12‬‬

‫‪12‬‬
‫‪377 3‬‬ ‫‪78 2‬‬

‫‪35‬‬
‫ثم أن عقيدة الطحاوي خمالفة لعقيدة الدكتور يف أهم مسائل العقيدة‪ ،‬ومن‬
‫ذلك قوله يف نفي احلدود واجلهات‪" :‬تعاىل عن احلدود والغايات واألركان‬
‫واألعضاء واألدوات ال حتويه اجلهات الست كسائر املبتدعات" وقوله‪:‬‬
‫حميط ر‬
‫بكل يشء‪،‬‬ ‫"والعرش والكريس حق‪ ،‬وهو مستغن عن العرش وما دونه‪ٌ ،‬‬
‫وبام فوقه" هكذا بلفظ "بام فوقه" وما فوق العرش هو اللوح املحفوظ كام يف‬
‫حديث الصحيحني‪ " :‬إن اهلل كتب كتابا قبل أن خيلق اخللق‪ ،‬إن رمحتي سبقت‬
‫مكتوب عنده فوق العرش" وقال الطحاوي أيضا‪" :‬له معنى الربوبية‬
‫ٌ‬ ‫غضبي‪ ،‬فهو‬
‫وال مربوب ‪ ،‬ومعنى اخلالق وال خملوق" وهذا خمالف لقول من يقول بالقدم‬
‫النوعي للعامل‪ ،‬وبتسلسل احلوادث يف جانب املايض‪.‬‬
‫وقول الدكتور‪" :‬وهي مشاهبة ملا يف الفقه األكرب عنه" هذا الكالم مثل‬
‫صحيح‪ ،‬ولكن اخلطأ يف السياق واإلهيام‪ ،‬والفقه األكرب أيضا‬
‫ٌ‬ ‫الكالم السابق‬
‫مشتمل عىل ما خيالف عقيدة الدكتور منها قوله‪ " :‬ومعنى اليشء إثباته أي‬
‫إثبات اهلل‪ -‬بال جسم وال جوهر وال َع َرض وال حد له‪ ،‬وال ضد له‪ ،‬وال ند له ‪،‬‬
‫وال َ‬
‫مثل له " ففيه نفي احلد عن اهلل تعاىل الذي هو الزم لالستقرار عىل العرش‪.‬‬
‫ومنها قوله‪ " :‬ويتكلم ال ككالمنا‪ ،‬ونحن نتكلم باآلالت واحلروف‪،‬‬
‫واهلل تعاىل يتكلم بال آلة وال حروف‪ ،‬واحلروف خملوق ٌة‪ ،‬وكالم اهلل تعاىل غري‬
‫خملوق‪ .‬وهذا خمالف ملذهب من قال‪ :‬إن اهلل تعاىل يتكلم بحروف وأصوات‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫وقول الدكتور‪ " :‬وقد نقلوا عن اإلمام انه رصح بكفر من قال ان اهلل ليس‬
‫عىل العرش أو توقف فيه"‪ .‬أقول‪ :‬الذي روى ذلك عن أيب حنيفة اثنان‪:‬‬
‫روى عنه يش ٌء‪.‬‬
‫األول‪ :‬أبو مطيع البلخي‪ ،‬قال اإلمام أمحد‪ :‬ال ينبغي أن ي َ‬
‫وعن ُييى بن معني ‪ :‬ليس بيشء‪ .‬وقال أبو حاتم الرازي‪ :‬كان مر ِجئا كذابا‪.‬‬
‫راجع‪( :‬لسان امليزان) و(ميزان االعتدال)‬
‫والثاين‪ :‬هو نوح اجلامع‪ :‬قال العلامء فيه‪ :‬كان جامعا ر‬
‫لكل يشء إال الصدق‬
‫وهو وضاع مشهور‪ ،‬راجع "هتذيب التهذيب"‪.‬‬
‫وقول الدكتور‪" :‬ومعلوم أن األشاعرة ينفون العلو وينكرون كونه تعاىل‬
‫عىل العرش"‬
‫أقول‪ :‬األشاعرة ال ينفون العلو كام ال ينكرون االستواء عىل العرش‪ ،‬نعم‬
‫ينفون استقراره تعاىل عىل العرش وجلوسه عليه‪ ،‬ألنه مل يرد به كتاب وال سنة‪،‬‬
‫وقد رده العقل والرشع‪ .‬قال احلافظ العسقالين‪( :‬وال يلزم من كون جهتي‬
‫العلو والسفل حماال عىل اهلل أن ال يوصف بالعلو ألن وصفه بالعلو من جهة‬
‫املعنى‪ ،‬واملستحيل كون ذلك من جهة احلس)‪ 13‬وقال اإلمام اخلطايب ما نصه‪:‬‬
‫وليس معنى قول املسلمني إن اهلل عىل العرش هو أنه تعاىل مماس له أو متمكن‬
‫فيه أو متحيز يف جهة من جهاته‪ ،‬لكنه بائن من مجيع خلقه‪ ،‬وإنام هو خرب جاء‬

‫‪13‬‬
‫‪136 6‬‬

‫‪37‬‬
‫به التوقيف فقلنا به ونفينا عنه التكييف إذ (ليس كمثله يشء وهو السميع‬
‫البصري)‪.14‬‬
‫وقول الدكتور‪( :‬ومعلوم أيضا أن أصوهلم مستمدة من برش املرييس)‬
‫أقول‪ :‬أوال‪:‬‬
‫الدعاوى إذا مل يقم عليها ‪ ::‬بينات أصحاهبا أدعياء‪.‬‬
‫وأقول ثانيا كام قال الزبيدي يف رشح اإلحياء‪ :‬إن كال من اإلمامني أيب‬
‫احلسن وأيب منصور ريض اهلل تعاىل عنهام وجزامها اهلل عن اإلسالم خريا مل‬
‫يبدعا من عندمها رأيا ومل يشتقا مذهبا‪ ،‬وإنام مها مقرران ملذهب السلف‬
‫مناضالن عام كان عليه أصحاب رسول اهلل صىل اهلل تعىل عليه وآله وسلم‪،‬‬
‫فأحدمها قام بنَصة نصوص مذهب الشافعي وما دلت عليه‪ ،‬والثاين قام‬
‫بنَصة نصوص مذهب أيب حنيفة وما دلت عليه‪ ،‬وناظر كل منهام ذوي البدع‬
‫والضالالت حتى انقطعوا وولوا منهزمني‪ ،‬وهذا يف احلقيقة أصل اجلهاد‬
‫احلقيقي‪ ...‬فاالنتساب إليهام إنام هو باعتبار أن كال منهام عقد عىل طريق‬
‫السلف نطاقا ومتسك وأقام احلجج والرباهني عليه‪ ،‬فصار املقتدى به يف تلك‬
‫املسائل يسمى أشعريا وماتريديا‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫‪137 3‬‬

‫‪38‬‬
‫وذكر العز بن عبد السالم أن عقيدة األشعري أمجع عليها الشافعية‬
‫واملالكية واحلنفية وفضالء احلنابلة‪ ،‬ووافقه عىل ذلك من أهل عَصه شيخ‬
‫املالكية يف زمانه أبو عمرو بن احلاجب وشيخ احلنيفة مجال الدين احلصريي‬
‫وأقره عىل ذلك التقي السبكي فيام نقله عنه ولده التاج‪ ..‬انتهى ‪ ...‬وأصل هذا‬
‫الكالم لتاج الدين السبكي‪.15‬‬
‫وقال التاج السبكي‪ :‬وهذه املذاهب األربعة ‪-‬وهلل احلمد‪ -‬يف العقائد‬
‫واحدة إال من حلق منها بأهل االعتزال والتجسيم‪ ،‬وإال فجمهورهم عىل‬
‫احلق‪ .‬يقرون عقيدة أيب جعفر الطحاوي التي تلقاها العلامء سلفا وخلفا‬
‫بالقبول‪ ،‬ويدينون اهلل برأي شيخ السنة أيب احلسن األشعري الذي مل يعارضه‬
‫إال مبتدع‪ .16‬وقال‪ :‬ولقد قلت مرة للشيخ اإلمام رمحه اهلل‪ :‬أنا أعجب من‬
‫احلافظ ابن عساكر يف َعدر ه طوائف من أتباع الشيخ‪ ،‬ومل يذكر إال نزرا يسريا‬
‫وعددا قليال‪ ،‬ولو َوَّف االستيعاب حقه الستوعب غالب علامء املذاهب‬
‫األربعة‪ ،‬فإهنم برأي أيب احلسن يدينون اهلل تعاىل‪ ،‬فقال إنام ذكر من اشتهر‬
‫باملناضلة عن أيب احلسن‪ ،‬وإال فاألمر كام ذكرت من أن غالب علامء املذاهب‬
‫‪17‬‬
‫معه‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫‪365 3‬‬
‫‪16‬‬
‫‪35‬‬
‫‪17‬‬
‫‪365 3‬‬

‫‪39‬‬
‫‪ -11‬بيان حال اإلمام أيب حممد عبد اهلل بن ُكالَّب‪:‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬احلنابلة‪ :‬موقف احلنابلة من األشاعرة أشهر من أن يذكر‪،‬‬
‫فمنذ بدع اإلمام أمحد ابن كالب وأمر هبجره وهو املؤسس احلقيقي للمذهب‬
‫األشعري‪ -‬مل يزل احلنابلة منهم يف معركة طويلة‪}...‬‬
‫أقول‪ :‬ابن كالّب‪ :‬هو عبد اهلل بن سعيد أبو حممد بن كالّب القطان‪ :‬هو‬
‫أحد األئمة املتكلمني من أهل السنة قال السبكي‪ :‬وابن كالّب عىل كل حال من‬
‫أهل السنة‪ ،‬ثم نقل عن اإلمام ضياء الدين اخلطيب والد اإلمام فخر الدين‬
‫الرازي أنه قال‪ :‬ومن متكلمي أهل السنة يف أيام املأمون عبد اهلل بن سعيد‬
‫التميمي الذي دمر املعتزلة يف جملس املأمون وفضحهم‪ 18.‬وقال الذهبي‪:‬‬
‫والرجل أقرب املتكلمني إىل السنة‪ ،‬بل هو يف مناظرهيم‪ .‬انتهى‪ 19.‬وقال احلافظ‪:‬‬
‫وقول ابن نديم إنه من احلشوية‪ ،‬يريد من يكون عىل طريقة السلف يف ترك‬
‫التأويل لآليات واألحاديث املتعلقة بالصفات‪ ،‬ويقال هلم‪ :‬املفوضة‪ ،‬وعىل‬
‫‪20‬‬
‫طريقته مشى األشعري يف كتابه اإلبانة‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫ثم إن ابن كالّب كان عمدة البخاري يف نقل املذاهب الكالمية‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫‪311 2‬‬
‫‪19‬‬
‫‪175 11‬‬
‫‪20‬‬
‫‪291 3‬‬
‫‪21‬‬
‫‪243 1‬‬

‫‪41‬‬
‫وأما اإلمام أمحد فقد كان هيجر كل من خيوض يف الكالم أو يف بعض‬
‫مسائله‪ :‬فقد هجر احلارث املحاسبي لذلك‪ ،‬وهجر احلسني الكرابييس وكان‬
‫من كبار املحدثني لقوله‪ :‬لفظي بالقرآن خملوق‪ ،‬وكان عىل رأي الكرابييس هذا‬
‫البخاري ومسلم وغريمها‪ ،‬قال الذهبي‪ :‬ال ريب أن ما ابتدعه الكرابييس‬
‫‪22‬‬
‫وحرره يف مسألة اللفظ وأنه خملوق هو حق‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وقد خاض يف الكالم كثري من أئمة السلف ملا رأوا احلاجة إىل ذلك لقمع‬
‫املتبدعة‪ .‬منهم اإلمام أبو حنيفة واإلمام الشافعي‪ ،‬وليس كالم اإلمام أمحد‬
‫وموقفه حجة عىل غريه من أئمة السلف‪ ،‬فلكل اجتهاده وأجره‪.‬‬
‫وأصل املشكلة عند الدكتور ومن هم عىل شاكلته أهنم جيعلون اإلمام‬
‫أمحد وابن تيمية من األئمة املعصومني‪ ،‬وجيعلون كالمهم حجة عىل كل علامء‬
‫األمة وأئمتها‪ ،‬وُيكمون عىل كل من خالفهم باخلطأ الذي ال ُيتمل‬
‫الصواب‪ ،‬بل يبدعوهنم من أجل ذلك‪.‬‬
‫قال الدكتور عن ابن كالّب‪{ :‬وهو املؤسس احلقيقي للمذهب‬
‫األشعري}‬
‫أقول‪ :‬قال الدكتور آنفا‪ :‬إن أصول األشاعرة مستمدة من برش املرييس‪،‬‬
‫وهو من أكرب رؤوس املتبدعة‪ ،‬كفره اإلمام الشافعي‪ ..‬ثم قال هنا‪ :‬إن املؤسس‬

‫‪22‬‬
‫‪83 12‬‬

‫‪41‬‬
‫احلقيقي ملذهب األشاعرة هو ابن كالب وهو أحد رؤوس أهل السنة‬
‫ومتكلميهم‪ ،‬فأي الكالمني حق!؟ ال شك أن كالمها باطالن‪ .‬نعم قد استفاد‬
‫األشعري من ابن كالب وأخذ ببعض آرائه كام هو الدارج يف استفادة املتأخر‬
‫من املتقدم‪ ،‬ولقي بعض أصحابه‪ ،‬وهذا ال يعني أنه املؤسس للمذهب‬
‫األشعري‪ ،‬واألشعري مقرر ملذهب السلف ومناضل عنه باالستدالل له‬
‫ودفع الشبه عنه‪.‬ومل يأت بيشء جديد يف أصل العقيدة كام أن ابن كالب أيضا‬
‫مل يأت بيشء جديد يف أصل العقيدة‬

‫‪-12‬موقف علامء اجلرح والتعديل من األشاعرة‪:‬‬


‫قال الدكتور‪"{ :‬فام ظنك بحكم رجال اجلرح والتعديل ممن يعلم أن‬
‫مذهب األشاعرة هو رد خرب اآلحاد مجلة‪ ...‬وأن يف الصحيحني أحاديث‬
‫وغريها من الطوام‪}..‬‬
‫موضوعة أدخلها الزنادقة‪ُ ...‬‬
‫أقول أوال‪ :‬إن علم اجلرح والتعديل قد تقرر قبل أن يتكون مذهب‬
‫األشعري كمذهب َع َقدي‪ ،‬وعلامء اجلرح والتعديل قد أفضوا إىل رهبم قبل‬
‫ف بعد ذلك يف اجلرح والتعديل من احلفاظ كاملزي‪،‬‬ ‫ذلك‪ُّ ،‬‬
‫وكل من أل َ‬
‫والذهبي‪ ،‬والعسقالين‪ ،‬فإنام اعتمدوا كالم السابقني ونقلوه‪ ،‬وإن كان الدكتور‬
‫أراد برجال اجلرح والتعديل هؤالء املتأخرين من احلفاظ فام منهم من أحد‬
‫جرح األشاعرة مجلة من حيث هم أشاعرة‪ ،‬نعم قد يكون بعضهم قد جرح‬

‫‪42‬‬
‫بعض األشاعرة‪ ،‬لكن كالم الدكتور يفيد أن األشاعرة مجلة جمروحون عند‬
‫رجال اجلرح والتعديل‪ ،‬وهذا حكم يعلم الدكتور بطالنه‪ ،‬ثم إنه ما من‬
‫مذهب إال وفيه من جرح‪ ،‬فقد جرح الذهبي يف "امليزان" وابن حجر يف‬
‫"لسان امليزان" جمموعة من فقهاء احلنابلة‪ .‬منهم صدقة بن احلسني البغدادي‪،‬‬
‫وعبد العزيز بن احلارث التميمي‪ ،‬وعبيد اهلل بن عيل البغدادي‪ ،‬وعبيد اهلل بن‬
‫حممد ابن بطة العكربي‪ ،‬وانظر خمازيه وفظائعه يف "لسان امليزان"‪ .‬فهل يقدم‬
‫املنصف عىل الطعن يف احلنابلة ويف املذهب احلنبيل بمثل هؤالء املطعونني‬
‫منهم؟؟!!‬
‫ثم أقول‪ :‬ليس من مذهب األشاعرة رد خرب اآلحاد‪ ،‬بل مذهبهم أن خرب‬
‫الواحد ليس بحجة قطعية بحيث يكفر من ال يعتقد مقتضاه‪ ،‬وهو حجة‬
‫عندهم يف االعتقاد بمعنى انه يؤثم ويبدع خمالفه‪ ،‬ولكن ال يكفر‪ ،‬وهذا الرأي‬
‫ماال جيوز املحيد عنه‪ .‬وانظر كتبهم الكالمية كيف يستدلون فيها دائام عىل‬
‫إثبات العقائد بأخبار اآلحاد‪ ،‬وال سيام يف قسم السمعيات منها وسيأيت حتقيق‬
‫املسألة‪.‬‬
‫وأما الصحيحان فأشهر من نار عىل علم أن علامء األشاعرة يرون وقوع‬
‫اإلمجاع عىل صحة ما فيهام من األحاديث غري ما انتقد منها‪ ،‬وغري ما وقع فيها‬
‫التخالف‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫ومل يقل أحد من األشاعرة‪ :‬إن يف الصحيحني أحاديث موضوعة أدخلها‬
‫الزنادقة‪.‬‬

‫‪-13‬علامء السلوك موافقون لألشاعرة‪:‬‬


‫قال الدكتور‪{ :‬وليس ذم األشاعرة وتبديعهم خاصة بأئمة املذاهب‬
‫املعتربين‪ ،‬بل هو منقول أيضا عن أئمة السلوك‪ ...‬حتى إن عبد القادر اجليالين‬
‫ملا سئل هل كان هلل ويل عىل غري اعتقاد أمحد بن حنبل؟ قال‪ :‬ما كان وما يكون}‬
‫أقول‪ :‬إذا جاء عن بعض أئمة السلوك ذم األشاعرة فإن هذا ال يعني أن‬
‫كلهم أو أكثرهم قد ذموا األشاعرة أو رموهم باالبتداع‪ ،‬بل من املقرر الذي‬
‫هو أشهر من نار عىل علم أن معظم أئمة السلوك والرتبية إما أشعرية أو‬
‫ماتريدية‪ ،‬ثم إنه ليست عقيدة األشعرية خمالفة يف األصول ألصول عقيدة‬
‫اإلمام أمحد‪ ،‬كام يفيده كالم الدكتور‪ .‬نعم هناك اختالف يف مسائل هي من‬
‫مسائل االجتهاد وليست من املسائل األصول يف العقيدة‪.‬‬
‫ومن أراد التحقق من أن عقيدة أئمة السلوك موافقة ملذهب األشاعرة‬
‫وخمالفة ملا عليه الدكتور من االعتقاد فلرياجع الفصل األول من الرسالة‬
‫القشريية املعقود لبيان معتقدهم يف األصول وإليك نبذة يسرية من ذلك‪( :‬اهلل‬
‫هو الواحد‪...‬ال حد لذاته وال حروف لكلامته) (أثبت ذاته ونفى مكانه) (ليس‬
‫بجسم وال جوهر وال عرض‪ ...‬ال جهة له وال مكان‪ ...‬وال ُيله حادث‪ ،‬وال‬

‫‪44‬‬
‫ُيمله عىل الفعل باعث‪ ...‬وال يقال أين هو‪ ،‬وال كيف هو‪ ...‬وال يقال‪ :‬مل فعل‬
‫ما فعل؟ إذ ال علة ألفعاله‪ ...‬يرى ال عن مقابلة‪)...‬؛ ثم لرياجع عقيدة كل‬
‫واحد من أئمة السلوك يف كتبهم ورسائلهم كي يتحقق مما قلناه من بطالن ما‬
‫قاله الدكتور‪.‬‬

‫‪ -14‬الذي رجع عنه من رجع من األشاعرة هو منهج االستدالل ال العقيدة‪:‬‬


‫قال الدكتور‪{ :‬وههنا حقيقة كربى أثبتها علامء األشعرية الكبار بأنفسهم‬
‫كاجلويني وابنه أيب املعايل والرازي والغزايل وغريهم‪ ،‬وهي حقيقة إعالن‬
‫حريهتم وتوبتهم ورجوعهم إىل مذهب السلف‪ .‬وكتب األشعرية املتعصبة‬
‫مثل طبقات الشافعية أوردت ذلك يف ترامجهم أو بعضه فام داللة ذلك؟ إذا‬
‫كانوا من أصلهم عىل عقيدة أهل السنة واجلامعة فعن أي يشء رجعوا؟ وملاذا‬
‫رجعوا؟ واىل أي عقيدة رجعوا؟}‬
‫أقول‪ :‬الذي رجع عنه من رجع منهم ليس هو العقيدة‪ ،‬وإنام الذي رجعوا‬
‫عنه هو منهج االستدالل من الغلو يف االعتامد عىل العقل‪ ،‬واجلري يف ذلك‬
‫عىل أساليب الفالسفة ومناهجهم‪ ،‬وهم أوال دعاهم إىل ذلك رضورة ر رد‬
‫مذاهب املعتزلة والفالسفة‪ ،‬وبيان زيف أصوهلم الباطلة‪ ،‬ورد الشبه التي أتت‬
‫من قبلهم ليتم اإللزام هلم من باب‪ (:‬من فمك أدينك)‪ ،‬ثم استقر هذا املنهج‬
‫وصار علام يدرس‪ ،‬وليس يف أصول عقائد األشاعرة واملاتريدية ما خيالف‬

‫‪45‬‬
‫الكتاب والسنة‪ .‬ولو كان قد رجعوا عن عقائد معينة لكانوا بينوها وحذروا‬
‫منها‪ ،‬فإن ذلك من آكد الواجبات‪ ،‬ومل يثبت عن أحد منهم يشء من ذلك‪.‬‬
‫نعم قد رجع بعض العلامء عن التأويل يف الصفات اخلربية إىل التفويض‪،‬‬
‫ومذهب التفويض وإن كان أوىل وأسلم إال أن التأويل برشوطه صحيح‪ ،‬ثم‬
‫انه ال مناص من التأويل يف بعض النصوص‪.‬‬
‫وهذا ما اضطر اإلمام أمحد وبعض السلف إىل التأويل يف بعضها‪ .‬كام‬
‫سيأيت‬
‫قال الدكتور‪{ :‬وكتب األشاعرة نفسها عند تعريف مذهبي السلف واخللف‬
‫تقول إن مذهب السلف هو مذهب القرون الثالثة‪ ،‬وبعضها يقول إنه مذهب‬
‫القرون اخلمسة‪}...‬‬
‫أقول‪ :‬قد فرقت كتب األشاعرة بني مذهب السلف واخللف يف مسألة‬
‫النصوص الواردة يف الصفات فقط‪ ،‬وليس لألشاعرة يف هذه املسألة مذهب‬
‫موحد مقرر‪ ،‬فمنهم من رجح التفويض‪ ،‬ومنهم من رجح التأويل‪ ،‬ومنهم من‬
‫توسط كالعز بن عبد السالم وابن دقيق العيد‪.‬‬
‫نعم مما ال ينبغي أن خيتلف فيه اثنان أن الكثري من املتأخرين من األشاعرة‬
‫قد غلوا يف باب التأويل ووافقوا يف بعض تأويالهتم املعتزلة‪ .‬وهذا ما يؤخذ‬
‫عليهم‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫‪ -15‬علامء األشاعرة هم السواد األعظم من علامء األمة‪:‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬ولوال ضيق الكالم لرسدت قائمة متوازية أذكر فيها كبار‬
‫األشاعرة ومن عارصهم من كبار أهل السنة واجلامعة الذين يفوقون أولئك عددا‬
‫وعلام وفضال‪ ،‬وحسبك ما مجعه ابن القيم يف "اجتامع اجليوش اإلسالمية"‪،‬‬
‫والذهبي يف "العلو" وقبلهام الاللكائي}‬
‫أقول‪ :‬قد أورد اإلمام تاج الدين السبكي يف كتابه "طبقات الشافعية‬
‫الكربى" فصال عنونه بقوله‪( :‬ذكر بيان أن طريق الشيخ أيب احلسن األشعري‬
‫هي التي عليها املعتربون من علامء اإلسالم واملتميزون من املذاهب األربعة يف‬
‫معرفة احلالل واحلرام‪ ،‬والقائمون بنَصة دين سيدنا حممد عليه أفضل الصالة‬
‫والسالم)‪ 23‬هذا هو عنوان الفصل ثم قال‪ :‬قد قدمنا يف تضاعيف الكالم ما يدل‬
‫عىل ذلك‪ ،‬وحكينا لك مقالة الشيخ ابن عبد السالم ومن سبقه إىل مثلها وتاله‬
‫عىل قوهلا حيث ذكروا‪ :‬أن الشافعية واملالكية واحلنفية وفضالء احلنابلة أشعريون‪.‬‬
‫هذه عبارة ابن عبد السالم شيخ الشافعية وابن احلاجب شيخ املالكية‪،‬‬
‫واحلصريي شيح احلنفية‪ ،‬ثم قال السبكي‪:‬‬
‫ومن كالم ابن عساكر حافظ هذه األمة الثقة الثبت‪ :‬هل من الفقهاء احلنفية‬
‫واملالكية والشافعية إال موافق لألشعري ومنتسب إليه وراض بحميد سعيه يف‬

‫‪23‬‬
‫‪373 3‬‬

‫‪47‬‬
‫دين اهلل‪ ،‬ومثن بكثرة العلم عليه‪ ،‬غري رشذمة قليلة تضمر التشبيه وتعادي كل‬
‫موحد يعتقد التنزيه‪ ،‬أو تضاهي قول املعتزلة يف ذمه‪ .‬ثم قال السبكي‪ :‬ونحن‬
‫نحكي لك هنا مقاالت أخر جلامعة من معتربي القول من الفقهاء‪ .‬ثم أورد‬
‫السبكي جمموعة من فتاوى علامء املذاهب األربعة يف تأييد املذهب االشعري‪،‬‬
‫ثم قال السبكي‪ :‬سمعت الشيخ اإلمام (الوالد) رمحه اهلل يقول‪ :‬ما تضمنه عقيدة‬
‫الطحاوي هو ما يعتقده األشعري ال خيالفه إال يف ثالث مسائل ثم قال‪ :‬قلت‪:‬‬
‫أنا اعلم أن املالكية كلهم أشاعرة ال أستثني أحدا‪ ،‬والشافعية غالبهم أشاعرة ال‬
‫أستثني إال من حلق منهم بتجسيم أو اعتزال ممن ال يعبأ اهلل به‪ ،‬واحلنفية أكثرهم‬
‫أشاعرة‪ ،‬أعني يعتقدون عقد األشعري‪ ،‬ال خيرج منهم إال من حلق منهم‬
‫باملعتزلة‪ ،‬واحلنابلة أكثر فضالء متقدميهم أشاعرة‪ ،‬مل خيرج منهم عن عقيدة‬
‫األشعري إال من حلق بأهل التجسيم‪ ،‬وهم يف هذه الفرقة من احلنابلة أكثر من‬
‫‪24‬‬
‫غريهم‪ ،‬وقد تأملت عقيدة الطحاوي‪ ...‬إىل آخر ما نقلناه عنه آنفا‪.‬‬
‫أقول‪ :‬وقد ذكر اإلمام احلافظ ابن عساكر يف كتابه (تبيني كذب املفرتي‬
‫فيام نسب إىل اإلمام أيب احلسن األشعري) مجلة من علامء املذاهب ممن اشتهر‬
‫باملناضلة عن اإلمام أيب احلسن‪ ،‬وقد أورد أسامءهم تاج الدين السبكي يف‬
‫طبقات الشافعية الكربى‪ ،‬ثم قال السبكي‪ :‬فهذه مجلة من ذكرهم احلافظ يف‬

‫‪24‬‬
‫‪377 3‬‬

‫‪48‬‬
‫التبيني‪ ،‬وقال (احلافظ) لوال خويف من اإلمالل واإلسهاب لتتبعت ذكر مجيع‬
‫األصحاب‪ ،‬وكام ال يمكنني إحصاء نجوم السامء كذلك ال أمتكن من‬
‫استقصاء مجيع العلامء مع انتشارهم يف األقطار واآلفاق من املغرب والشام‬
‫وخراسان والعراق‪ ،‬ثم قال السبكي‪ :‬ولقد أمهل عىل سعة حفظه من األعيان‬
‫كثريا وترك ذكر أقوام كان ينبغي حيث ذكر هؤالء أن يشمر عن ساعد‬
‫االجتهاد يف ذكرهم تشمريا‪ ...‬ثم أضاف السبكي مجلة من أعيان علامء األمة‬
‫‪25‬‬
‫ممن فات ابن عساكر ذكره‪ ،‬وممن تأخر عنه‪.‬‬
‫ونقل الذهبي عن اإلمام احلافظ أيب ذر اهلروي أنه قال يف حق إمام‬
‫األشاعرة يف عَصه القايض أيب بكر الباقالين‪" :‬كل بلد دخلته من بالد‬
‫خراسان وغريها ال يشار فيها إىل أحد من أهل السنة إال من كان عىل مذهبه‬
‫وطريقته"‪ 26.‬هذه اجلملة من كالم أيب ذر وحدها فضال عام تقدمها‪ -‬كافية يف‬
‫إثبات دعوى أن أكثر أئمة املسلمني عىل مذهب األشاعرة‪.‬‬
‫أقول‪ :‬إحرتز اإلمام ابن عبد السالم ومن وافقه بقوهلم‪" :‬إن فضالء‬
‫احلنابلة أشعريون" عن أناس من احلنابلة ذهبوا إىل التشبيه وشانوا مذهب‬
‫اإلمام أمحد‪ .‬قال ابن اجلوزي‪" :‬ورأيت من أصحابنا من تكلم يف األصول بام‬
‫ال يصلح‪ ،‬وانتدب للتصنيف ثالثة‪ :‬أبو عبد اهلل بن حامد وصاحبه القايض‬

‫‪25‬‬
‫‪371 3‬‬
‫‪26‬‬
‫‪558 17‬‬

‫‪49‬‬
‫وابن الزاغوين‪ ،‬فصنفوا كتبا شانوا هبا املذهب‪ ،‬ورأيتهم قد نزلوا إىل مرتبة‬
‫العوام‪ ،‬فحملوا الصفات عىل مقتىض احلس‪ ...‬وأخذوا بالظاهر يف األسامء‬
‫والصفات‪ ...‬ومل يقنعوا أن يقولوا‪ :‬صفة فعل‪ ،‬حتى قالوا‪ :‬صفة ذات‪ ...‬وقد‬
‫تبعهم خلق من العوام‪ ...‬وقد كان أبو حممد التميمي يقول يف بعض أئمتكم‪:‬‬
‫لقد شان املذهب شينا قبيحا ال يغسل إىل يوم القيامة"‪ 27‬واخلطاب يف أئمتكم‬
‫للحنابلة‪.‬‬
‫ثم أقول‪ :‬إن العالمة املميزة ملذهب أهل السنة هي املوافقة للكتاب والسنة‬
‫وملا كان عليه سلف األمة‪ ،‬وليس التسنن بالدعاوي وال بكيل التهم للمخالفني‬
‫(ولو أعطي الناس بدعواهم الدعى ناس دماء أقوام وأمواهلم) وأنا أترك احلكم‬
‫بأن مذهب األشاعرة هل هو مذهب أهل السنة واجلامعة ملوافقته للكتاب والسنة‬
‫وملا كان عليه سلف األمة‪ ،‬أو بأنه خارج عن مذهب أهل السنة ملخالفته ملا ذكر‪.‬‬
‫أنا أترك احلكم بذلك لقارئ تعليقاتنا هذه بتدبر وتأمل وجترد وحياد‪ ،‬فليقرأها‬
‫القارئ وليحكم بإنصاف‪.‬‬
‫وال أدعي أن األشاعرة معصومون وال أهنم مصيبون يف مجيع ما ذهبوا إليه‬
‫من املسائل التي خالفهم فيها غريهم‪ ،‬ولكن أدعى أهنم مصيبون فيام هم عليه‬
‫من أصول العقائد‪ ،‬وأهنم هم الطائفة العظمى من طوائف أهل السنة‬

‫‪27‬‬
‫‪112 97‬‬

‫‪51‬‬
‫واجلامعة‪ ،‬وأهنم فحول أهل السنة‪ ،‬وأهنم يمثلون العمود الفقري من مذهب‬
‫أهل السنة واجلامعة‪ ،‬وأما املسائل التي وقع اخلالف فيها بينهم وبني غريهم‬
‫فهم يف عامة أحواهلم عىل حق‪ .‬وقد يكون احلق مع خمالفيهم‪ ،‬وإذا أخطؤوا‬
‫فخطؤهم خطأ اجتهادي هم مأجورون عليه‪ ،‬ألنه ليس خطأ يف أصول‬
‫العقيدة‪ ،‬بل هو خطأ يف املسائل التي هي من جمال االجتهاد من مسائل‬
‫العقيدة‪.‬‬

‫‪ -17‬األصل يف عوام املسلمني أهنم غري منسوبني ملذهب من مذاهب العقيدة‪:‬‬


‫قال الدكتور‪{ :‬أما عوام املسلمني فاألصل فيهم أهنم عىل عقيدة السلف ألهنا‬
‫الفطرة التي يولد عليها اإلنسان وينشأ عليها املسلم بال تلقني وال تعليم( من حيث‬
‫األصل) فكل من مل يلقنه املبتدعة بدعتهم ويدَ رسونه كتَبهم فليس من حق أي فرقة‬
‫أن تدعيه إال أهل السنة واجلامعة}‬
‫أقول‪ :‬املراد بالفطرة التي يولد عليها املولود أنه يولد مستعدا للخري أكثر‬
‫من استعداده لقبول الرش وإال فاملولود يولد كصفحة بيضاء خاليا عن أي‬
‫عقيدة‪ ،‬وال يتقبل أي عقيدة حقا أو باطال إال بعد التلقني والتعليم‪ ،‬ولو كان ما‬
‫قاله املؤلف صحيحا ملا بقي حاجة يف معرفة العقيدة إىل بعثة الرسل‪ ،‬وألحيل‬
‫الناس يف تعلم العقائد إىل الصبيان الذين مل يلقنوا بعد شيئا‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫ثم إن املكلف بمجرد إسالمه يصبح مسلام‪ ،‬وال يصبح ال أشعريا وال‬
‫ماتريديا وال سلفيا إال بالتعليم وبالتلقني وذلك ألن لكل واحدة من هذه‬
‫الفرق آراء ا خاصة هبا‪ ،‬هبا تتاميز يف ما بينها‪ ،‬عوام املسلمني بعيدون عن‬
‫معرفتها بمراحل‪.‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬وإن شئت املثال عىل عقيدة العوام فاسأل املاليني من املسلمني‬
‫رشقا وغربا هل فيهم من يعتقد أن اهلل ال داخل العامل وال خارجه وال فوقه وال‬
‫حتته كام تقول األشاعرة‪ ،‬أم أهنم كلهم مفطورون عىل انه تعاىل فوق املخلوقات‪.‬‬
‫وهذه الفطرة تظل ثابتة يف قلوهبم حتى وإن وجدوا من يلقنهم يف أذهاهنم تلك‬
‫املقولة املوروثة عن فالسفة اليونان}‬
‫أقول‪ :‬وهل هم مفطورون عىل أن العامل قديم بالنوع‪ ،‬وعىل جواز تسلسل‬
‫حوادث ال أول هلا يف جانب املايض؟ وأن هلل حدا؟ وأنه يتحرك؟ وأن له ثقال‬
‫عىل عرشه؟‬
‫احلقيقة أن ابن تيمية الذي اختذه املؤلف إماما وحَص معرفة العلم‬
‫واإلسالم عىل الوجه الصحيح من بني املتأخرين فيه‪ ،‬أنه يف مقدمة من تأثر‬
‫بالفلسفة اليونانية واعتنى بنقل أقوال الفالسفة يف كتبه‪ ،‬وقد انتقده عىل هذا‬
‫صاحبه اإلمام الذهبي يف رسالته "زغل العلم"‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫قال‪ :‬وقد رأيت ما آل أمره من احلط عليه واهلجر والتضليل والتكفري‬
‫والتكذيب بحق وبباطل‪ ،‬فقد كان قبل أن يدخل يف هذه الصناعة‪ -‬الفلسفة‪-‬‬
‫‪28‬‬
‫منورا مضيئا عىل حمياه سيام السلف‪ ،‬ثم صار مظلام مكسوفا‪.‬‬
‫وكذلك أنكر عليه هذا األمر أشد اإلنكار معارصه سيد املتأخرين اإلمام‬
‫ابن دقيق العيد‪ .‬قال احلافظ العسقالين‪ :‬وقد حكي عياض وغريه اإلمجاع عىل‬
‫تكفري من يقول بقدم العامل‪.‬‬
‫وقال ابن دقيق العيد‪ :‬وقع هنا من يدعي احلذق يف املعقوالت ويميل إىل‬
‫الفلسفة فظن أن املخالف يف حدوث العامل ال يكفر ألنه من قبيل خمالفة‬
‫اإلمجاع‪ ،‬ومتسك بقولنا‪ ،‬إن منكر اإلمجاع ال يكفر عىل اإلطالق حتى يثبت‬
‫النقل بذلك متواترا عن صاحب الرشع‪.‬‬
‫قال‪ :‬وهو متسك ساقط إما عن عمى يف البصرية أو تعام؛ ألن حدوث‬
‫‪29‬‬
‫العامل من قبيل ما اجتمع فيه اإلمجاع‪ ،‬والتواتر بالنقل‪.‬‬
‫وأما أن اهلل تعاىل ال داخل العامل وال خارجه وال فوقه وال حتته‪ ،‬فسيأيت‬
‫الكالم عليه يف أواخر الكتاب‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫‪43 42‬‬
‫‪29‬‬
‫‪212 12‬‬

‫‪53‬‬
‫‪ -16‬حتريف الدكتور لكالم الرازي‪:‬‬
‫قال الدكتور يف التعليق‪{ :‬فالرازي مثال مع إنكاره الشديد للعلو يف (‬
‫التأسيس والتفسري) قال يف التفسري‪ :‬إن اهلل "خسف بقارون فجعل األرض‬
‫فوقه ورفع حممدا صىل اهلل عليه وسلم فجعله قاب قوسني حتته" ‪ 248 /1‬ط‪.‬‬
‫بريوت}‬
‫أقول‪ :‬عبارة اإلمام الرازي هكذا‪ ( :‬فجعل قاب قوسني حتته) فأضاف‬
‫املؤلف اهلاء إىل "جعل" ليتم له ما أراده من رجوع ضمري حتته إىل اهلل تعاىل‪،‬‬
‫حتى يفيد كالم الرازي إثبات الفوقية هلل تعاىل باملعنى الذي يعتقده الدكتور‬
‫سفر‪ ،‬مع أن هذا الضمري عائد إىل حممد صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪.‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬وقس عىل هذا نظرية الكسب والكالم النفيس ونفي التأثري‬
‫وأشباهها مما سرتى يف عقائد األشاعرة}‬
‫أقول‪ :‬مذهب اإلمام األشعري يف الكسب هو املوافق لقوله تعاىل‪( :‬واهلل‬
‫خلقكم وما تعملون) وغريها من اآليات‪ ،‬وقول النبي صىل اهلل عليه وآله‬
‫وسلم ‪( :‬ما شاء اهلل كان وما مل يشأ مل يكن) وقوله‪( :‬ال حول وال قوة إال باهلل)‬
‫وأما الكالم النفيس الذي قال به األشعري فهو أمر ال خيلوا عنه متكلم سواء‬

‫‪54‬‬
‫كان هو اهلل أو غريه من املخلوقني‪ ،‬وأما نفي التأثري فهو التوحيد اخلالص كام‬
‫أن مسألة الكسب كذلك‪ .‬وسيأيت الكالم عىل هذه كلها مفصال‪.‬‬

‫‪ -18‬بيان حال الرازي واآلمدي‪:‬‬


‫قال الدكتور‪{ :‬وقد ترجم احلافظ الذهبي‪ -‬رمحه اهلل‪ -‬يف امليزان وغريه‬
‫للرازي ولآلمدي بام هم أهله‪ ،‬ثم جاء ابن السبكي‪ -‬ذلك األشعري املتعصب‪-‬‬
‫فتعقبه وعنف عليه ظلام}‬
‫أقول‪ :‬أنقل لك قطعة من تعقب السبكي‪ ،‬وأترك لك احلكم يف أنه هل كان‬
‫ظاملا يف تعقبه أو كان عادال‪ ،‬قال السبكي‪ :‬وأعلم أن شيخنا الذهبي ذكر اإلمام‬
‫يف كتاب امليزان يف الضعفاء‪ ،‬وكتبت أنا عىل كتابه حاشية مضموهنا أنه ليس‬
‫لذكره يف هذا الكتاب معنى‪ ،‬وال جيوز من وجوه عدة‪ ،‬أعالها أنه ثقة حرب من‬
‫أحبار األمة‪ ،‬وأدناها أنه ال رواية له فذكره يف كتب الرواة جمرد فضول وتعصب‬
‫‪30‬‬
‫وحتامل تقشعر منه اجللود‪ ...‬إىل آخر كالمه يف ترمجة الرازي‪.‬‬
‫ثم قال الدكتور مواصال الكالم عىل الرازي واآلمدي‪{ :‬فامذا كان موقف ابن‬
‫حجر؟ ألن موقفه هو الذي حيدد انتامءه لفكر هؤالء القوم أو عدمه إن الذي يقرأ‬
‫ترمجتيهام يف اللسان ال يمكن أن يقول‪ :‬إن ابن حجر عىل مذهبهام أبدا‪ ،‬كيف وقد‬

‫‪30‬‬
‫‪88 8‬‬

‫‪55‬‬
‫أورد نقوال كثرية موثقة عن ضالهلامو وشنائعهام التي ال يقرها أي مسلم فضال‬
‫عمن هو يف علم احلافظ وفضله}‬
‫أقول أوال‪ :‬ال عالقة للمواقف من األشخاص بتحديد االنتامء‪ ،‬فكم من‬
‫سني جرح سنيا وعدل شيعيا!‬
‫ثم أقول‪ :‬احلافظ ابن حجر العسقالين قد أنصف الرجلني‪ ،‬ونقل ما قيل‬
‫فيهام من املامدح واملذام‪ ،‬ولكنه جرى عىل طريق املؤرخني يف سده ملا نقله‬
‫بدون توثيق‪ ،‬ومل جير عىل طريقة املحدثني يف التوثيق‪ ،‬فقول املؤلف‪ " :‬وقد‬
‫أورد نقوال كثرية موثقة‪ "....‬غري صحيح ال سيام وقد نقل أمورا املعروف عن‬
‫اإلمام الرازي خالفها‪ ،‬وقد اقتَص الدكتور عىل ذكر املذام‪ ،‬وأنا انقل ما أورده‬
‫احلافظ عنهام من املامدح‪.‬‬
‫قال عن الرازي‪ :‬الفخر بن اخلطيب صاحب التصانيف‪ ،‬رأس يف الذكاء‬
‫والعقليات‪ ،‬ثم نقل نقد التاج السبكي للذهبي وأقره ثم قال‪ :‬ومتهر يف عدة‬
‫علوم‪ ،‬وعقد جملس الوعظ‪ ،‬وكان إذا وعظ ُيصل له وجد زائدة‪ ...‬قال‬
‫للسلطان يوما‪ :‬نحن يف ظل سيفك‪ ،‬فقال له السلطان‪ :‬ونحن يف شمس‬
‫علمك‪ ،‬وكانت له أوراد من صالة وصيام ال خيل هبا‪ ،‬وكان مع تبحره يف‬
‫األصول يقول‪ :‬من التزم دين العجائز فهو الفائز‪.‬‬
‫وقال احلافظ عن اآلمدي‪ :‬قال أبو املظفر ابن اجلوزي‪ :‬مل يكن يف زمانه من‬
‫جياريه يف األصلني وعلم الكالم‪ ،‬وكان يظهر منه رقة قلب وسعة دمعة‪،‬‬

‫‪56‬‬
‫ويقال أنه حفظ الوسيط واملستصفى‪ ،‬وحفظ قبل ذلك اهلداية أليب اخلطاب إذ‬
‫كان حنبليا‪ ،‬ويذكر عن ابن عبد السالم قال‪ :‬ما علمت قواعد البحث إال من‬
‫السيف‪ ،‬وما سمعت أحدا يلقي الدرس أحسن منه‪ ،‬وكان إذا غري لفظة من‬
‫الوسيط كان اللفظ الذي يأيت به أقرب إىل املعنى‪ ،‬قال ولو ورد عىل اإلسالم من‬
‫يشكك فيه من املتزندقة لتعني اآلمدي ملناظرته‪ ،‬ثم أورد احلافظ نقد السبكي‬
‫للذهبي الذي نقلناه آنفا وأقره‪ 31.‬وقال احلافظ ابن كثري يف ترمجة اآلمدي‪:‬‬
‫"وكان كثري البكاء رقيق القلب‪ ،‬وقد تكلموا فيه بأشياء أهلل أعلم بصحتها‪،‬‬
‫‪32‬‬
‫والذي يغلب عىل الظن أنه ليس لغالبها صحة"‪.‬‬

‫‪ -19‬الكالم عىل وصية الرازي‪:‬‬


‫قال الدكتور‪{ :‬عىل أنه (أي احلافظ ابن حجر) قال يف آخر ترمجة الرازي‪:‬‬
‫"أوىص بوصية تدل عىل حسن اعتقاده" ثم قال الدكتور‪ :‬وهذه العبارة التي‬
‫قد يفهم منها أهنا متعاطفة مع الرازي ضد مهامجيه هي شاهد ملا نقول نحن‬
‫هنا‪ ،‬فإن وصية الرازي التي نقلها ابن السبكي نفسه رصحية يف رجوعه إىل‬
‫مذهب السلف}‬

‫‪31‬‬
‫‪135 134 3‬‬
‫‪32‬‬
‫‪141 13‬‬

‫‪57‬‬
‫أقول‪ :‬أما اجلملة التي نقلها الدكتور عن احلافظ ابن حجر من أنه "أوىص‬
‫بوصية تدل عىل حسن اعتقاده" فهي موجودة يف الطبعة اهلندية من "لسان‬
‫امليزان"‪ ،‬وهي طبعة سقيمة‪ ،‬وقد حقق الشيخ عبد الفتاح أبو غدة الكتاب‬
‫وقابله بعدة نسخ خطية ليس فيها هذه اجلملة‪ ،‬وإنام هي مكتوبة يف هامش‬
‫إحدى النسخ‪ .‬فبطلت نسبة تلك اجلملة املومهة إىل احلافظ ابن حجر‪ ،‬وبطل‬
‫ما بناه الدكتور عليها‪.‬‬
‫ثم أقول‪ :‬القارئ لوصية اإلمام الرازي بتدبر ومتعن يتحقق أن اإلمام قد‬
‫ركز فيها عىل أمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬تفضيل طريقة القرآن الكريم وترجيح أسلوبه يف تقرير العقائد‬
‫اإلسالمية واالستدالل عليها عىل الطرق الكالمية واملناهج الفلسفية يف ذلك‪،‬‬
‫وهذا األمر حمل إمجاع من علامء املسلمني‪ ،‬وأما اشتغال املتكلمني من أهل السنة‬
‫بالطرق الكالمية واألساليب الفلسفية يف االستدالل عىل العقائد اإلسالمية‬
‫فكان ألجل رضورة طارئة وهي رضورة الرد عىل املعتزلة والفالسفة وقمعهم‬
‫وإبطال أصوهلم الباطلة ليتم اإللزام هلم من باب "من فمك أدينك" وهذا‬
‫التفضيل قد أشار إليه اإلمام بقوله‪ :‬ولقد اختربت الطرق الكالمية واملناهج‬
‫الفلسفية‪ ..‬إىل قوله‪ :‬فلهذا أقول‪...‬‬
‫والثاين‪ :‬أن احلاجة إىل الدفاع عن عقيدة أهل السنة والرد عىل املخالفني هلا‬
‫من املعتزلة واحلشوية وقمعهم كانت قد اضطرته إىل الدخول يف مضايق علم‬

‫‪58‬‬
‫الكالم الذي هو أدق العلوم‪ ،‬وإىل تشقيق مسائله وإبداء الوجوه واالحتامالت‬
‫العقلية فيها‪ ،‬وإىل تقرير مذاهب املخالفني وشبههم عىل أتم وجه‪ ،‬ثم الكر‬
‫عليها بالرد والنقض‪ .‬ومن أجل أن علم الكالم من أدق العلوم أو أدقها كانت‬
‫غوامض مسائله من املزالق واملداحض‪ ،‬وكان اخلائض فيه بالطريق املذكورة‬
‫عرضة للخطأ‪ ،‬وهذا ما كان يعلمه اإلمام الرازي جيدا ويالحظه‪.‬‬
‫فاإلمام الرازي عىل طريقة األئمة املتقني الذين يرجون هلل وقارا ‪-‬مع‬
‫وثوقه بحسن قصده فيام قام به من هذا العمل الذي ال يقوم به إال أفذاذ‬
‫العصور ونوابغ الدهور‪ -‬كان مت ِهام لنفسه‪ ،‬وجموزا عليها اخلطأ يف بعض ما‬
‫تدخل فيه من مضايق املعقول ومداحضه‪ ،‬ومعرتفا بالعجز عن املزيد عىل‬
‫ذلك‪ ،‬وتائبا إىل اهلل عام وقع فيه من اخلطأ والزلل إن كان قد وقع‪ .‬وهذا ما‬
‫ذكره اإلمام بقوله‪ :‬فكل ما مده قلمي‪ ...‬إلخ‬
‫فهذا هو الذي تاب عنه اإلمام الرازي‪ ،‬وأما أنه تاب من عقيدته أو من‬
‫خطأ معني فليس له يف هذه الوصية عني وال أثر‪.‬‬
‫وإليكم نص الوصية منقولة من طبقات الشافعية الكربى لتاج الدين‬
‫السبكي‪.‬‬
‫فاعلموا أين كنت رجال حمبا للعلم‪ ،‬فكنت أكتب من كل يشء شيئا ألقف‬
‫عىل كميته وكيفيته‪ ،‬سواء كان حقا أو باطال‪ ،‬إال أن الذي نطِ َق به يف الكتب‬
‫املعتربة أن العامل املخصوص حتت تدبري مدبره املنزه عن مماثلة املتحيزات‬

‫‪59‬‬
‫موصوف بكامل القدرة والعلم والرمحة‪ ،‬ولقد اختربت الطرق الكالمية‬
‫واملناهج الفلسفية‪ ،‬فام رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدهتا يف القرآن‪،‬‬
‫ألنه يسعى يف تسليم العظمة واجلالل هلل‪ ،‬ويمنع عن التعمق يف إيراد‬
‫املعارضات واملناقضات‪ ،‬وما ذاك إال للعلم بان العقول البرشية تتالشى يف‬
‫تلك املضايق العميقة‪ ،‬واملناهج اخلفية‪ ،‬فلهذا أقول‪ :‬كل ما ثبت بالدالئل‬
‫الظاهرة‪ ،‬من وجوب وجوده‪ ،‬ووحدته‪ ،‬وبراءته عن الرشكاء‪ ،‬كام يف القدم‬
‫واألزلية‪ ،‬والتدبري‪ ،‬والفعالية‪ ،‬فذلك هو الذي أقول به‪ ،‬وألقى اهلل به‪ ،‬وأما ما‬
‫ال ينتهى‪ ،‬األمر فيه إىل الدقة والغموض‪ ،‬وكل ما ورد يف القرآن والصحاح‪،‬‬
‫املتعني للمعنى الواحد‪ ،‬فهو كام قال‪ ،‬والذي مل يكن كذلك أقول‪ :‬يا ̃إله‬
‫العاملني‪ ،‬إين أرى اخللق مطبقني عىل أنك أكرم األكرمني‪ ،‬وأرحم الرامحني‪،‬‬
‫فكل ما مده قلمي‪ ،‬أو خطر ببايل‪ ،‬فأستشهد وأقول‪ ،‬إن علمت مني أين أردت‬
‫به حتقيق باطل‪ ،‬أو إبطال حق‪ ،‬فافعل يب ما أنا أهله‪ ،‬وإن علمت مني إين ما‬
‫سعيت إال يف تقديس اعتقدت أنه احلق‪ ،‬وتصورت أنه الصدق‪ ،‬فلتكن‬
‫رمحتك مع قصدي المع حاصيل‪ ،‬فذاك جهد املقل‪ ،‬وأنت أكرم من أن تضايق‬
‫الضعيف الواقع يف زلة‪ ،‬فأغثني‪ ،‬وارمحني‪ ،‬واسرت زلتي‪ ،‬وامح حوبتي‪ ،‬يا من‬
‫ال يزيد ملكه عرفان العارفني‪ ،‬وال َينقص ملكه بخطأ املجرمني‪.‬‬
‫وأقول‪ :‬ديني متابعة الرسول حممد صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬وكتايب القرآن‬
‫العظيم‪ ،‬وتعوييل يف طلب الدين عليهام‪ ،‬اللهم يا سامع األصوات ويا جميب‬

‫‪61‬‬
‫الدعوات‪ ،‬ويا مقيل العثرات‪ ،‬أنا كنت حسن الظن بك‪ ،‬عظيم الرجاء يف‬
‫رمحتك‪ ،‬وأنت قلت‪ " :‬أنا عند ظن عبدي يب" وأنت قلت‪( :‬أمن جييب‬
‫املضطر إذا دعاه)‪ ،33‬فهب أين ما جئت بيشء‪ ،‬فأنت الغني الكريم‪ ،‬فال ختيب‬
‫رجائي‪ ،‬وال ترد دعائي‪ ،‬واجعلني آمنا من عذابك‪ ،‬قبل املوت‪ ،‬وبعد املوت‪،‬‬
‫وعند املوت‪ ،‬وسهل َع َيل سكرات املوت‪ ،‬فإنك أرحم الرامحني‪.‬‬
‫وأما الكتب التي صنفتها‪ ،‬واستكثرت فيها من إيراد السؤاالت‪ ،‬فليذكرين‬
‫من نظر فيها بصالح دعائه‪ ،‬عىل سبيل التفضل واإلنعام‪ ،‬وإال فليحذف القول‬
‫اليسء‪ ،‬فإين ما أردت إال تكثري البحث‪ ،‬وشحذ اخلاطر‪ ،‬واالعتامد يف الكل‬
‫عىل اهلل‪.‬‬
‫فهذا نص وصية اإلمام الرازي‪ ،‬فانظر أهيا املنصف هل فيها غري ما‬
‫‪34‬‬
‫ذكرناه‪ ،‬وهل فيها الرجوع عن عقيدة كان عليها الرازي قبل؟؟!!‬

‫‪ -21‬هل انتقد احلافظ ابن حجر األشاعرة وخالفهم؟‪:‬‬


‫قال الدكتور‪{ :‬واألخرى‪ :‬أن احلافظ يف الفتح قد نقد األشاعرة بإسمهم‬
‫الرصيح وخالفهم فيام هو من خصائص مذهبهم‪ ،‬فمثال خالفهم يف اإليامن‪،‬‬

‫‪33‬‬
‫‪62‬‬
‫‪34‬‬
‫‪92 91 91 8‬‬

‫‪61‬‬
‫وإن كان تقريره ملذهب السلف فيه حيتاج لتحرير‪ ،‬ونقدهم يف مسألة املعرفة‬
‫وأول واجب عىل املكلف يف أول كتابه وآخره‪.‬‬
‫وكتب يف التعليق "أنظر فتح الباري‪،371 -356/3 ،47/1 :‬‬
‫‪}"351-346/13‬‬
‫أقول‪ :‬أنا أدعو القراء لقراءة هذه الصفحات من فتح الباري بتمعن كي‬
‫يتحققوا من مدى صحة دعاوى الدكتور سفر هذه‪!!.‬‬
‫ثم إنه أشهر من نار عىل علم أن احلافظ ابن حجر أشعري العقيدة‪ ،‬ومن‬
‫كثري ممن هم عىل مذهب الدكتور سفر تارة بأنه ليس عىل‬
‫أجل ذلك يَصح ٌ‬
‫نحلتهم‪ ،‬وتارة بأنه ليس من أهل السنة وتارة بأنه أشعري‪ ،‬وتارة بأنه متمشعر‪،‬‬
‫متأثر باألشاعرة عن جهل وسذاجة‪ ،‬وقال‬
‫وتارة بأنه مذبذب‪ ،‬وتارة بأنه ٌ‬
‫قائلهم يف معرض ذكر فتح الباري رشح صحيح البخاري‪( :‬يرس اهلل من أهل‬
‫السنة من يرشحه) وألف آخر كتابا سامه‪" :‬األخطاء األساسية يف العقيدة‬
‫وتوحيد األلوهية من كتاب فتح الباري برشح صحيح البخاري" تأليف أمحد‬
‫بن حجر العسقالين‪ .‬هكذا‪ :‬األخطاء األساسية يف العقيدة‪.‬‬
‫واحلقيقة التي ال ينبغي أن خيتلف فيها اثنان أن احلافظ ابن حجر يف عامة‬
‫أحواله أشعري‪ ،‬ولكنه إمام جمتهد قد خيالف األشاعرة يف بعض املسائل عىل‬
‫عادة علامء املذاهب الذين قد خيالفون أئمتها يف بعض املسائل‪ ،‬ومع ذلك ال‬
‫يعتربون خارجني عن املذهب‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬كام أنه نقد شيخهم يف التأويل " ابن فورك" يف تأويالته‬
‫التي نقلها عنه يف رشح كتاب التوحيد من الفتح‪ ،‬وذم التأويل واملنطق مرجحا‬
‫منهج القرون الثالثة األوىل‪ ،‬كام أنه خيالفهم يف االحتجاج بحديث اآلحاد يف‬
‫العقيدة وغريها من األمور التي ال جمال لتفصيلها هنا}‬

‫‪-21‬نامذج من التأويل‪:‬‬
‫أقول‪ :‬أما نقده البن فورك يف تأويالته‪ ،‬فال شبهة أن الكثري من متأخري‬
‫األشاعرة‪ ،‬قد غلوا يف التأويل‪ ،‬ووافقوا املعتزلة يف كثري من التأويالت‪ ،‬التي‬
‫انتقدها عليهم السلف وعدوها من بدعهم‪.‬‬
‫وأما ذم التأويل مطلقا فال ينبغي أن يصدر من فاضل‪ ،‬ومل يستطع‬
‫التخلص منه حتى السلف فاضطروا إىل تأويل مجلة من النصوص‪ ،‬وإليك‬
‫نامذج منها‪:‬‬
‫أول ابن عباس ريض اهلل عنه الساق يف قوله تعاىل‪( :‬يوم يكشف عن‬
‫ساق) بالشدة‪ ،‬نقله احلافظ يف فتح الباري (‪ )428 /13‬وقال الطربي يف‬
‫التفسري( ‪ )38 /22‬قال مجاعة من الصحابة والتابعني من أهل التأويل‪ :‬يبدو‬
‫عن أمر شديد‪.‬‬
‫وأول ابن عباس أيضا األيدي يف قوله تعاىل‪ ":‬والسامء بنيناها بأيد"‬
‫بالقوة‪ ،‬ذكره الطربي (‪ )27/7‬واأليدي مجع يد‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫وأول اإلمام أمحد قوله تعاىل‪( :‬وجاء ربك) بمجيء ثوابه‪ ،‬نقله ابن كثري يف‬
‫البداية والنهاية عن اإلمام البيهقي يف مناقب اإلمام أمحد‪ ،‬وأورد سند البيهقي‬
‫له‪ ،‬ثم قال‪ :‬قال البيهقي‪ :‬وهذا إسناد ال غبار عليه‪.‬‬
‫وأول اإلمام أمحد قوله تعاىل‪" :‬ما يأتيهم من ذكر من رهبم حمدث" فقال‪:‬‬
‫ُيتمل أن يكون تنزيله إلينا هو املحدث نقله ابن كثري يف البداية والنهاية‪.35‬‬
‫وأول البخاري الضحك الوارد يف بعض األحاديث بالرمحة‪ ،‬ونقل عنه‬
‫البيهقي يف األسامء والصفات‪.36‬‬
‫وإذا منعنا التأويل مطلقا فامذا نقول يف قوله تعاىل " بيده امللك" وامللك‬
‫بالضم هو السلطنة والسلطنة أمر معنوي ال يمسك باليد وال يلتصق هبا‪،‬‬
‫وليس الكالم مسوقا إلثبات اليد هلل تعاىل‪ ،‬بل الكالم مسوق إلثبات امللوكية‬
‫والسلطنة هلل‪ ،‬فالكالم بجملته كناية عنها‪.‬‬
‫وماذا نقول يف قول النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم‪ ":‬قلب ابن آدم بني‬
‫أصبعني من أصابع الرمحن" فهل هلل تعاىل إصبعان يف داخل كل إنسان‬
‫مكتنفان قلبه؟ وإنام الكالم كناية عن كون قلب اإلنسان طوع إرادته‪ ،‬تعاىل‬
‫وقدرته يقلبه كيف يشاء‪.‬‬

‫‪327 11 35‬‬
‫‪471 36‬‬

‫‪64‬‬
‫وماذا نقول يف قوله تعاىل" إنا نسيناكم كام نسيتم لقاء يومكم هذا‪ :‬وقوله‬
‫صىل اهلل عليه وسلم‪ " :‬كنت يده التي يبطش هبا‪ ،‬ورجله التي يميش هبا"‪.‬‬
‫ونكتفي هبذه النامذج فإن املقصود التمثيل ال االستقصاء‪ .‬وسنبسط‬
‫الكالم عىل التأويل فيام سيأيت‪.‬‬
‫وأما االحتجاج بحديث اآلحاد يف العقيدة فسيأيت حتقيقه قريبا‬

‫‪ -22‬بيان أن ابن اجلوزي والنووي واحلافظ العسقالين موافقون لألشاعرة‪:‬‬


‫قال الدكتور‪{ :‬وقد كان من احلنابلة من ذهب إىل أبعد من هذا كابن‬
‫اجلوزي وابن عقيل وابن الزاغوين‪.‬‬
‫ومع ذلك فهؤالء كانوا أعداء ألداء لألشاعرة‪ ،‬وال جيوز بحال أن يعتربوا‬
‫أشاعرة فام بالك بأولئك}‬
‫أقول‪ :‬اإلمام ابن اجلوزي موافق لألشاعرة يف العقيدة‪ ،‬وأقوى دليل عىل‬
‫ذلك كتابه "دفع شبه التشبيه بأكف التنزيه" وليت شعري متى عادى‬
‫األشاعرة وملاذا؟‬
‫قال الدكتور‪{ :‬وكثريا ما نجد يف كتب اجلرح والتعديل ومنها لسان‬
‫امليزان للحافظ ابن حجر‪ -‬قوهلم عن الرجل‪ :‬إنه وافق املعتزلة يف أشياء من‬
‫مصنفاته‪ ،‬أو وافق اخلوارج يف بعض أقواهلم وهكذا‪ ،‬ومع هذا ال يعتربونه‬
‫معتزليا أو خارجيا‪ .‬وهذا املنهج إذا طبقناه عىل احلافظ وعىل النووي وأمثاهلام مل‬

‫‪65‬‬
‫يصح اعتبارهم أشاعرة وإنام يقال‪ :‬وافقوا األشاعرة يف أشياء‪ .‬مع رضورة بيان‬
‫هذه األشياء واستدراكها عليهم حتى يمكن االستفادة من كتبهم بال توجس‬
‫يف موضوعات العقيدة}‬
‫أقول‪ :‬احلقيقة التي ال تقبل املراء أن اإلمام النووي واإلمام احلافظ ابن حجر يف‬
‫عامة أحواهلام أشعريان‪ ،‬ولكنهام إمامان جمتهدان قد خيالفان األشاعرة يف بعض‬
‫املسائل االجتهادية املتعلقة بالعقيدة‪ ،‬ال يف أصل العقيدة‪ ،‬وال خيرجان بذلك عن أن‬
‫يكونا أشعريني‪ ،‬وقد قدمنا الكالم عىل ابن حجر‪.‬‬
‫وأما النووي فكتبه املباركة التي وضع اهلل هلا القبول شاهدة عىل ذلك‪ ،‬وأظن‬
‫أن الذين يريدون أن خيرجوه من األشعرية ال يصدقون ذلك يف قرار نفوسهم‪،‬‬
‫ومثله يف ذلك احلافظ العسقالين‪ ،‬فالنووي يقرر دائام أن يف الصفات اخلربية‬
‫مذهبني‪ ،‬وقد أكثر من هذا التقرير يف رشح مسلم‪ ،‬وهذا ما دعا بعض املعارضني‬
‫الجتاه النووي األشعري أن كتب هذا الرشح وحذف منه ما تكلم به النووي عىل‬
‫‪37‬‬
‫أحاديث الصفات‪ .‬قاله تاج الدين السبكي يف الطبقات الكربى‪:‬‬
‫والنووي رمحه اهلل يقول يف كتبه‪ :‬قال أصحابنا املتكلمون كذا‪ ،‬ويكرر هذا‬
‫التعبري فيها‪ .‬ويقصد هبم األشاعرة‪ .‬فالنووي يعد نفسه من األشاعرة‪ ،‬وأما‬
‫الدكتور سفر فيحاول إخراجه منهم!!!‬

‫‪19 2 37‬‬

‫‪66‬‬
‫‪ -23‬أبو احلسن األشعري وأبو حممد الربهباري أهيام إمام أهل السنة؟‪:‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬وليكن معلوما أن ابتداء أمر األشاعرة أهنم توسلوا إىل أهل‬
‫السنة أن يكفوا عن هجرهم وتبديعهم وتضليلهم‪ ،‬وقالوا‪ :‬نحن معكم ندافع‬
‫عن الدين وننازل امللحدين‪ ،‬فاغرت هبذا بعض علامء أهل السنة وسكتوا عنهم‪،‬‬
‫فتمكن األشاعرة يف األمة‪ ،‬ثم يف النهاية استطالوا عىل أولئك واستأثروا هبذا‬
‫االسم دون أهله‪ ،‬وأصبحوا هم يضللون أهل السنة‪ ،‬ويضطهدوهنم‪،‬‬
‫ويلقبوهنم بأشنع األلقاب}‬
‫أقول‪ :‬ذكر الدكتور كالمه هذا ثم استدل يف التعليق عىل إثبات دعواه هذه‬
‫بقوله‪" :‬انظر سري أعالم النبالء ‪ 20 /15‬مقابلة األشعري إلمام السنة يف‬
‫عَصه الربهباري" هذا هو كالم الدكتور سفر!‬
‫فانظر يا رعاك اهلل فإن الدكتور عد الربهباري إمام أهل السنة يف عَصه‪،‬‬
‫املضل ِلني من قبل أهل السنة‬
‫وعد اإلمام األشعري من املهجورين املبدعني َ‬
‫وعىل رأسهم الربهباري‪ ،‬وجعل مقابلة األشعري للربهباري دليال عىل ذلك‪،‬‬
‫وعىل أن األشعري توسل هبذه املقابلة إىل الكف عن هجره وتبديعه وتضليله‪،‬‬
‫هذه أربع دعاوي كلها منظور فيها‪ ،‬فنذكر املقابلة أوال‪ ،‬ثم نبني مذهب‬
‫الربهباري يف العقيدة‪ ،‬ثم نورد عقيدة اإلمام أمحد‪ ،‬ثم نعود إىل هذه الدعاوي‬
‫األربع ونبني ما هو حظها من الصحة‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫أما املقابلة فقد أوردها الذهبي يف السري‪ ،‬فقال‪ :‬فقيل‪ :‬إن األشعري ملا قدم‬
‫بغداد جاء إىل أيب حممد الربهباري‪ ،‬فجعل يقول‪ :‬رددت عىل اجلبائي‪ ،‬رددت‬
‫عىل املجوس وعىل النصارى‪ ،‬فقال أبو حممد‪ ،‬ال أدري ما تقول وال نعرف إال‬
‫ما قاله اإلمام أمحد‪ ،‬فخرج وصنف "اإلبانة"‪ ،‬فلم يقبل منه‪ ،‬هكذا أورد‬
‫الذهبي املقابلة بصيغة التضعيف والتمريض حيث قال‪( :‬فقيل‪ :‬إن‬
‫األشعري‪ )...‬ولتضعيف الذهبي وزنه وقيمته‪ ،‬وأورد املقابلة الذهبي يف‬
‫‪38‬‬
‫تاريخ اإلسالم وابن أيب يعىل يف طبقات احلنابلة‪.‬‬
‫وأما عقيدة الربهباري فقد كان من اجلهوية املجسمة عىل ما نقل عنه وأكرر‬
‫فأقول‪ :‬عىل ما نقل عنه‪.‬‬
‫قال ابن أيب يعىل‪" :‬وسمعت أخي أبا القاسم ‪-‬نرض اهلل وجهه‪ -‬يقول‪ :‬مل‬
‫يكن الربهباري جيلس جملسا إال ويذكر فيه أن اهلل عز وجل يقعد حممدا صىل‬
‫اهلل عليه وسلم معه عىل العرش‪ 39"،‬والقعود واملامسة وصف األجسام‪.‬‬
‫وقال ابن األثري يف الكامل حتت عنوان‪( :‬فتنة احلنابلة ببغداد) وفيها عظم‬
‫أمر احلنابلة وقويت شوكتهم‪ ،‬وصاروا يكبسون من دور القواد والعامة‪...‬‬
‫واستظهروا بالعميان الذين كانوا يأوون املساجد‪ ،‬وكانوا إذا مر هبم شافعي‬
‫املذهب أغروا به العميان فيرضبون بعضهم حتى يكاد يموت‪ ،‬فخرج توقيع‬

‫‪38‬‬
‫‪18 3‬‬ ‫‪358 24‬‬
‫‪39‬‬
‫‪43 2‬‬

‫‪68‬‬
‫الرايض (اخلليفة العبايس) بام يقرأ عىل احلنابلة ينكر عليهم فعلهم ويوبخهم‬
‫باعتقاد التشبيه وغريه‪.‬‬
‫فمنه (أي من التوقيع) تارة إنكم تزعمون أن صورة وجوهكم القبيحة‬
‫السمجة عىل مثال رب العاملني‪ ،‬وهيئتكم الرذيلة عىل هيئته‪ ،‬وتذكرون الكف‬
‫واألصابع والرجلني‪ ،‬والنعلني املذهبني‪ ،‬والشعر القطط‪ ،‬والصعود إىل‬
‫السامء‪ ،‬والنزول إىل الدنيا‪ ،‬تعاىل اهلل عام يقول الظاملون واجلاحدون علوا‬
‫‪40‬‬
‫كبريا‪ ...‬إىل آخر ما ورد يف املرسوم من الزيغ والضالل واملخازي والفضائح‪،‬‬
‫وقد كان هذا املرسوم والتوقيع من اخلليفة العبايس ضد أصحاب أيب حممد‬
‫الربهباري‪.‬‬
‫ونورد عقيدة اإلمام أمحد املتعلقة باملوضوع منقولة من الرسالة املطبوعة يف آخر‬
‫اجلزء الثاين من طبقات احلنابلة البن أيب يعىل يف بيان عقيدة اإلمام أمحد وقد جاء يف‬
‫‪41‬‬
‫هذه الرسالة ما ييل‪.‬‬
‫ومذهب أيب عبد اهلل أمحد بن حنبل ريض اهلل تعاىل عنه‪ -‬أن هلل عز وجل‬
‫وجها ال كالصور املصورة واألعيان املخططة‪ ،‬بل وج ٌه وصفه بقوله‪ ( :‬كل‬
‫غري معناه فقد أحلد عنه‪ ،‬وذلك عنده وج ٌه يف‬
‫يشء هالك إال وجهه)‪ ،‬ومن َ‬
‫احلقيقة دون املجاز‪ ،‬ووجه اهلل باق ال يبىل‪ ،‬وصف ٌة له ال تفنى‪ ،‬ومن ادعى أن‬

‫‪40‬‬
‫‪323‬‬ ‫‪248 6‬‬
‫‪41‬‬
‫‪294‬‬

‫‪69‬‬
‫غري معناه فقد كفر‪ ،‬وليس معنى وجهه معنى‬
‫وجهه نفسه فقد أحلد‪ ،‬ومن َ‬
‫جسد عنده‪ ،‬وال صورة‪ ،‬وال ختطيط ومن قال ذلك فقد ابتدع‪.‬‬
‫وكان يقول‪ :‬إن هلل تعاىل يدين‪ ،‬ومها صفة هلل يف ذاته‪ ،‬ليستا بجارحتني‪،‬‬
‫وليستا بمركبتني‪ ،‬وال جسم‪ ،‬وال من جنس األجسام‪ ،‬وال من جنس املحدود‬
‫والرتكيب‪ ،‬وال األبعاض وال اجلوارح‪ ،‬وال يقاس عىل ذلك‪ ،‬وال له مرفق وال‬
‫عضد‪....‬‬
‫ويف هذه الرسالة‪ 42:‬وكان يقول إن اهلل عز وجل مستو عىل العرش املجيد‪.‬‬
‫وحكى مجاعة عنه أن االستواء من صفات الفعل‪ ،‬وحكى مجاعة عنه أن‬
‫كان يقول‪ :‬إن االستواء من صفات الذات‪.‬‬
‫وكان يقول يف معنى االستواء هو العلو واإلرتفاع‪ ،‬ومل يزل اهلل عاليا رفيعا‬
‫قبل أن خيلق عرشه‪ ،‬فهو فوق كل يشء والعاىل عىل كل يشء‪ ،‬وإنام خص اهلل‬
‫العرش ملعنى فيه خمالف لسائر االشياء ‪ ،‬والعرش أفضل األشياء وأرفعها ‪،‬‬
‫فامتدح اهلل نفسه بأنه عىل العرش استوى‪ ،‬أى عليه عال‪.‬‬
‫وال جيوز أن يقال استوى بمامسة وال بمالقاة‪ .‬تعاىل اهلل عن ذلك علوا‬
‫كبريا‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫‪296‬‬

‫‪71‬‬
‫واهلل تعاىل مل يلحقه تغيري وال تبديل وال يلحقه احلدود قبل خلق العرش وال‬
‫بعد خلق العرش‪.‬‬
‫هذه عقيدة اإلمام أمحد كام نقلوها عنه‪ ،‬فقارن بينهام وبني ما نقلوه من‬
‫عقيدة الربهباري‬
‫هل ترى بني عقيدتيهام إال اخلالف والتضاد! ثم قارن بني عقيدة اإلمام‬
‫أمحد وعقيدة اإلمام األشعري التي ذكرها يف كتابه "اإلبانة" هل ترى بينهام إال‬
‫الوفاق والوئام! فأهيام أحق بأن يعد إمام أهل السنة يف عَصه هل الربهباري‬
‫املخالف يف العقيدة لإلمام أمحد‪ ،‬أم األشعري املوافق له فيها؟ وأهيام أحق‬
‫بالتبديع والتضليل!!؟؟‬
‫ثم إن املقابلة مل تشمل عىل يشء من التبديع والتضليل من الربهباري‬
‫لألشعري‪ ،‬كل ما فيها أن الربهباري كان عىل طريقة اإلمام أمحد يف كراهة‬
‫الدخول يف يشء من علم الكالم وحكاية أقوال املخالفني والرد عليهم؛ األمر‬
‫الذي كان يقوم به األشعري ويراه من آكد الواجبات عليه‪ .‬وليس موقف اإلمام‬
‫أمحد هذا حجة عىل غريه من األئمة‪ ،‬فلكل منهم موقفه واجتهاده وأجره‪.‬‬
‫ثم إن هذه املقابلة تدل عىل أن كتاب اإلبانة من أوائل ما كتبه األشعري‬
‫من كتبه‪ ،‬وأنه كتبها استدراجا للربهباري ملذهب اإلمام أمحد الذي كان يدعى‬
‫الربهباري أنه عليه‪ ،‬وليست اإلبانة آخر كتاب لإلمام األشعري‪ ،‬وال من‬
‫أواخر كتبه كام يقال‪ .‬وكام قال الدكتور‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫‪ -24‬بيان بطالن إقعاد اهلل تعاىل ملحمد صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم عىل‬
‫العرش معه‪:‬‬
‫ونود أن نتعرض ملسألة اإلقعاد‪ ،‬فنقول‪ :‬قد روي عن جماهد أنه فرس املقام‬
‫املحمود الوارد يف قوله تعاىل‪( :‬ومن الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك‬
‫ربك مقاما حممودا) بإقعاد اهلل تعاىل حممدا صىل اهلل عليه وسلم وآله وسلم عىل‬
‫العرش معه‪ ،‬وتبع جماهدا عىل هذا بعض الناس منهم ابن تيمية‪ ،‬وانظر جمموع‬
‫الفتاوى‪ 43‬وأشار إليها ابن القيم يف بدائع الفوائد‪.44‬‬
‫قال الكوثري يف الكالم عىل هذا التفسري‪ :‬روي عنه‪ -‬أي عن جماهد‪-‬‬
‫بطرق ضعيفة‪ ،‬وتفسريه بالشفاعة متواتر معنى عن النبي صىل اهلل عليه وآله‬
‫وسلم‪ -‬فأنى يناهضه قول التابعي عىل تقدير ثبوته عنه‪.‬‬
‫ومن يقول‪ :‬إن اهلل سبحانه قد أخىل مكانا للنبي صىل اهلل عليه وسلم وآله‬
‫يف عرشه فيقعده عليه يف جنب ذاته فال شك يف زيغه وضالله واختالل عقله‪،‬‬
‫تقو ِل مجاعة الربهبارية من احلشوية‪ ،‬وكم آذوا ابن جرير حتى أدخل يف‬
‫رغم ر‬
‫تفسريه بعض يشء من ذلك مع أنه القائل‪:‬‬
‫سبحان من ليس له أنيس ‪ ::‬وال له يف عرشه جليس‬

‫‪374 443‬‬
‫‪39 4 44‬‬

‫‪72‬‬
‫ولو ورد مثل ذلك بسند صحيح لرد وعد أن هذا سند مركب‪ ،‬فكيف‬
‫وهو مل يرفع إىل النبي صىل اهلل تعاىل وآله وسلم أصال‪ ،‬بل نسب إىل جماهد بن‬
‫جرب‪.‬‬
‫نعم ال مانع من أن يكون اهلل سبحانه يقعده عىل عرش أعده لرسول اهلل‬
‫صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم يف القيامة إظهارا ملنزلته‪ ،‬ال أنه يقعد ويقعده يف‬
‫جنبه تعاىل اهلل عن ذلك علوا كبريا‪ ،‬إذ هو ٌ‬
‫حمال ي َر ُّد بمثله خرب اآلحاد عىل‬
‫تقدير وروده مرفوعا‪ ،‬فكيف ومل يرد ذلك يف املرفوع! حتى قال الذهبي‪ :‬ومل‬
‫يثبت يف قعود نبينا صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم عىل العرش نص‪ ،‬بل يف‬
‫الباب حديث واه‪ ،‬وقال أيضا‪ :‬ويروى مرفوعا وهو باطل‪.‬‬
‫فام ذكره ابن عطية وسايره اآللويس فليس يف حمله ألن أصحاب االستقراء‬
‫مل جيدوه مرفوعا حتى نحتاج إىل حماولة التأويل بام يمجه الذوق‪.‬‬
‫ومن ظن أنه يوجد يف مسند الفردوس ما يصح من ذلك مل يعرف‬
‫الديلمي وال مسنده وأرسل الكالم جزافا‪.‬‬
‫جزى اهلل الواحدي خريا حيث رد تلك األخلوقة ردا مشبعا‪ ،‬وكذا ابن‬
‫معلم القرييش‪.‬‬
‫وأما ما يروى عن أيب داود أنه قال‪ :‬من أنكر هذا احلديث فهو عندنا متهم‪،‬‬
‫فبطريق النقاش صاحب شفاء الصدور‪ ،‬وهو كذاب عند أهل النقد‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫وقال ابن عبد الرب‪ :‬إن ملجاهد قولني مهجورين عند أهل العلم‪ :‬أحدمها‪:‬‬
‫تأويل املقام املحمود هبذا اإلجالس‪ .‬والثاين‪ :‬تأويل (إىل رهبا ناظرة)‪ 45‬بانتظار‬
‫الثواب‪.‬‬
‫وفتنة أيب حممد الربهباري ببغداد يف اإلقعاد وصمة عار يأبى أهل الدين أن‬
‫يميلوا إليها الستحالة ذلك وتضافر األدلة عىل تفسري املقام املحمود بالشفاعة‪،‬‬
‫وإنام هذه األسطورة ترسبت إىل معتقد احلشوية من قول بعض النصارى بأن‬
‫عيسى عليه السالم رفع إىل السامء وقعد يف جنب أبيه تعاىل اهلل عن ذلك‪،‬‬
‫فحاولوا أن جيعلوا للنبي صىل اهلل عليه وآله وسلم مثل ما جعله النصارى‬
‫لعيسى عليه السالم كسابقة هلم‪ .‬تعاىل اهلل عن ذلك‪.‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬رأيت من واجبي أن أسهم بتفصيل مذهب األشاعرة يف‬
‫كل أبواب العقيدة ليتضح أهنم عىل منهج فكري مستقل يف كل األبواب‬
‫واألصول‪ ،‬وخيتلفون مع أهل السنة واجلامعة من أول مصدر التلقي حتى آخر‬
‫السمعيات ما عدا قضية واحدة فقط!!!}‬
‫أقول تكرارا‪ :‬إن التسنن وكون املذهب مذهب أهل السنة واجلامعة ليس‬
‫بالدعاوي (ولو أعطي الناس بدعواهم الدعى أناس دماء أقوام وأمواهلم)‬
‫وإنام التسنن باملوافقة للكتاب والسنة ولسلف األمة‪ ،‬وقد ادعى الدكتور سفر‬

‫‪45‬‬
‫‪23‬‬

‫‪74‬‬
‫أن األشاعرة خيتلفون مع أهل السنة يف كل مسائل العقيدة بام فيها السمعيات‪،‬‬
‫أي إن مذهبهم خمالف للكتاب والسنة والعتقاد سلف األمة‪ ،‬والسبب‬
‫األصل يف ذلك ضالهلم يف مصدر التلقي حيث جعلوا مصدر التلقي العقل‬
‫فقط‪ ،‬ومل يعريوا للنقل أي للكتاب والسنة باال‪ .‬هذا ما يدعيه الدكتور هنا‬
‫إمجاال‪ ،‬ثم استعرض مخسة عرشة مسألة ادعى أن مذهب األشاعرة فيها‬
‫خمالف ملذهب أهل السنة واجلامعة خمالفة تامة ما عدا املسألة الرابعة عرش‬
‫حيث إن املخالفة فيها ليست بتامة‪ ،‬وقد حاول إثبات ذلك بام أقنع به نفسه‪،‬‬
‫وأقنع من هو عىل شاكلته ممن مل يدرسوا مذهب األشاعرة‪ ،‬ومل يتعلموه عىل‬
‫وجهه‪.‬‬
‫ونحن نستعرض كالم الدكتور‪ ،‬ثم نتعقبه خطوة خطوة عىل وجه يتضح‬
‫للقارئ املتأين مدى صحة دعوى الدكتور هذه‪ ،‬ومدى موافقة مذهب‬
‫األشاعرة للكتاب والسنة وخمالفته هلام‪ ،‬وبذلك يتضح أن أهيام أوفق بالكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬مذهب األشاعرة أو مذهب الدكتور‪ ،‬ويتبني أن أهيام أحق باسم‬
‫مذهب أهل السنة واجلامعة‪ ،‬وال أستعجل احلكم بيشء من ذلك هنا‪ ،‬بل أترك‬
‫احلكم بذلك للقارئ املتأين املنصف‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫‪ -25‬مصدر التلقي عند األشاعرة وتقديمهم للعقل عىل النقل وبيان أن هذا‬
‫التقديم من املقرر عند املحدثني وغريهم‪:‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬األول‪ :‬مصدر التلقي‪ :‬أ‪-‬مصدر التلقي عند األشاعرة هو‬
‫العقل وقد رصح اجلويني والرازي والبغدادي والغزايل واآلمدي واإلجيي وابن‬
‫فورك والسنويس ورشاح اجلوهرة وسائر أئمتهم بتقديم العقل عىل النقل عند‬
‫التعارض}‬
‫أقول‪:‬البد هنا من التنبيه عىل أمور‪:‬‬
‫أن أسباب‬ ‫ومنهم األشاعرة‬ ‫األول‪ :‬أنه من املقرر عند أهل النظر‬
‫العلم ثالثة‪ :‬العقل‪ ،‬واحلواس السليمة‪ ،‬واخلرب الصادق‪ .‬واخلرب الصادق هو‬
‫ف بالقرائن‪.‬‬
‫خرب اهلل تعاىل‪ ،‬وخرب رسوله‪ ،‬وخرب أهل التواتر‪ ،‬واخلرب املح َت ُّ‬
‫فمصدر التلقي عند األشاعرة ليس هو العقل فقط‪ ،‬بل هو اخلرب الصادق‬
‫والعقل‪ .‬قال الغزايل‪« :‬وأهل النظر يف هذا العلم يتمسكون أوال بآيات اهلل‬
‫تعاىل من القرآن‪ ،‬ثم بأخبار الرسول صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪ ،‬ثم‬

‫‪76‬‬
‫بالدالئل العقلية والرباهني القياسية»‪ ،46‬وكيف يكون مصدر التلقي عندهم‬
‫هو العقل وحده ومن مذهبهم أنه ال جمال للعقل يف التحسني والتقبيح‪ ،‬وأنه ال‬
‫حسن إال ما حسنه الرشع وال قبيح إال ما قبحه الرشع‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أن اإلسالم هو دين النقل املؤيد بالعقل‪ ،‬ومن أجل ذلك كان من‬
‫عادة اهلل تعاىل يف كتابه املبني عندما يبني عقيدة من عقائد اإلسالم أن يقرهنا‬
‫بذكر دليلها العقيل أو يشري إىل هذا الدليل‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن التعارض ال يتصور بني العقل والنص القطعي الثبوت‬
‫القطعي الداللة‪ ،‬المتناع التعارض بني يقينيني‪ ،‬وإنام يتصور التعارض بني‬
‫العقل والنص غري قطعي الثبوت أو غري قطعي الداللة‪ ،‬كام يتصور التعارض‬
‫بني هذين النوعني من النصوص‪ ،‬فالذي قرره األشاعرة من تقديم العقل عىل‬
‫النقل مفروض فيام إذا تعارض ما هو ثابت بالعقل ثبوتا قطعيا للنص غري‬
‫القطعي الثبوت أو غري قطعي الداللة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن أهم أصول العقيدة اإلسالمية ال يصح إثباهتا إال بالعقل‪،‬‬
‫وإثباهتا بالدالئل النقلية مستلزم للدور املحال؛ وذلك مثل إثبات وجود اهلل‬
‫تعاىل وعلمه وقدرته ومشيئته وغريها مما يتوقف عليه ثبوت الوحي‪ .‬فألن‬
‫ثبوت النقل موقوف عىل ثبوت الوحي‪ ،‬وثبوت الوحي موقوف عىل ثبوهتا ال‬

‫‪46‬‬
‫‪117 116‬‬

‫‪77‬‬
‫يصح االستدالل عليها بالنقل‪ .‬واالستدالل عليها بالنقل موجب لتقدم‬
‫اليشء عىل نفسه وهو الدور املحال‪.‬‬
‫وكذلك النبوة إنام يتوقف ثبوهتا عىل املعجزة الدالة عليه بطريق العقل‪،‬‬
‫فكان العقل عىل هذا أصال للنقل وشاهدا عىل صدقه‪ ،‬فإمهال العقل إذا كانت‬
‫ور ُّد مقتضاه موجب الهنيار أصل النقل‪ ،‬وللطعن يف شاهده‬
‫داللته قطعية‪َ ،‬‬
‫الذي مل يثبت إال به‪ ،‬فيكون هذا إبطاال للنقل‪ .‬والقاعدة ‪-‬كام قلنا‪ -‬مفروضة‬
‫فيام إذا تعارض ما هو ثابت بالعقل ثبوتا قطعيا لظاهر نص غري قطعي الثبوت‬
‫أو غري قطعي الداللة‪ ،‬وأما النص القطعي الثبوت القطعي الداللة فال يتصور‬
‫التعارض بينه وبني العقل‪.‬‬
‫فالقاعدة التي قررها األشاعرة قاعدة ذهبية ال ينبغي أن خيتلف فيها اثنان‪،‬‬
‫لكنه مما ينبغي التنبيه عليه أيضا أن هذه القاعدة قد أيسء استخدامها من قبل‬
‫بعض املتكلمني وال سيام املعتزلة منهم‪ ،‬فردوا هبا كثريا من النصوص املتفق‬
‫عىل صحتها من السنة‪ ،‬وأولوا بسببها كثريا من اآليات‪ ،‬وأخرجوها عن‬
‫ظواهرها‪ ،‬وليس ذلك إال ملخالفة هذه النصوص وهذه الظواهر ملا أدى إليه‬
‫اجتهادهم العقيل املتأثر بالفلسفة وبعقائده الفاسدة‪ ،‬وليس ذلك ملخالفتها‬
‫للعقل القطعي الداللة الذي ال يقبل النقض‪.‬‬
‫فظهر هبذا التحقيق أن األشاعرة قد استعملوا العقل يف املجال الذي ال‬
‫جيوز أن يستعمل فيه إال العقل‪ ،‬ويكون استعامل النقل فيه موجبا للدور‬

‫‪78‬‬
‫واملحال‪،‬كام يكون إمهال العقل فيه موجبا إلبطال العقل والنقل مجيعا‪ ،‬فهم قد‬
‫استعملوا العقل يف جماله الذي جيب أن يستعمل فيه‪ ،‬وهذه هي احلكمة‪" ،‬يؤيت‬
‫احلكمة من يشاء ومن يؤت احلكمة فقد أويت خريا كثريا"‬
‫اخلامس‪ :‬أن تقديم العقل عىل النقل إذا عارض العقل النقل‪ ،‬وتأويل‬
‫النقل بناء عىل هذا التعارض أو َرده ليس شيئا انفرد به األشاعرة بل هو من‬
‫مقررات العقول؛ وقد قرره أصحاب العلوم املختلفة يف علومهم‪ ،‬فمثال‬
‫التأويالت التي أول هبا السلف مجلة من نصوص الكتاب والسنة كثري منها‬
‫مبنية عىل خمالفة ظواهر هذه النصوص للعقل‪ ،‬وحتى املحدثون الذين قد‬
‫يتخيل أهنم أبعد الناس عن هذا التقديم قد قرروا هذا التقديم يف مؤلفاهتم‬
‫وجعلوه من أصوهلم‪ ،‬قال اخلطيب البغدادي‪ :‬باب القول فيام يرد به خرب‬
‫الواحد‪ :.... ،‬وإذا روى الثقة املأمون خربا متصل اإلسناد رد بأمور‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن خيالف موجبات العقول فيعلم بطالنه؛ ألن الرشع إنام يرد‬
‫بمجوزات العقول‪ ،‬وأما بخالف العقول فال‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬أن خيالف نص الكتاب أو السنة املتواترة فيعلم انه ال أصل له أو‬
‫منسوخ‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫والثالث‪ :‬أن خيالف اإلمجاع فيستدل عىل أنه منسوخ أو ال أصل له‪،‬‬
‫انتهى‪.47‬‬
‫وأفاجئ الدكتور بأن ابن تيمية أيضا قائل هبذه القاعدة التي قررها‬
‫األشاعرة‪ .‬قال يف الرسالة التدمرية‪ 48‬يف معرض االستدالل عىل أمر من أمور‬
‫العقيدة‪" :‬والسمع قد دل عليه‪ ،‬ومل يعارض ذلك معارض عقيل وال سمعي‪،‬‬
‫فيجب إثبات ما أثبته الدليل السامل عن املعارض املقاوم" ففكر أهيا الدكتور يف‬
‫كالم ابن تيمية هذا‪ ،‬أليس معناه أنه إذا عارض هذا الدليل من السمع معارض‬
‫عقيل ال َيثبت ما دل عليه لعدم سالمته عن املعارض الذي هو الدليل العقيل‪.‬‬
‫وهل هذا إال قول هبذه القاعدة التي قررها األشاعرة ؟؟!!‬
‫ذكر الدكتور قول اإلمام الرازي‪"{ :‬وملا بطلت األقسام الثالثة مل يبق إال‬
‫أن يقطع بمقتىض الدالئل العقلية القاطعة بأن هذه الدالئل النقلية إما أن يقال‬
‫إهنا غري صحيحة أو يقال إهنا صحيحة إال أن املراد منها غري ظواهرها"‪.‬‬
‫فعلق الدكتور عليها باحلاشية رقم (‪ )1‬بقوله‪ :‬يالحظ أن الدالئل النقلية‬
‫تشمل نصوص الكتاب والسنة معا‪ .‬فكيف يقال إهنا غري صحيحة دون تفريق‬
‫بينهام‪ ،‬مع أن جمرد إطالقها عىل السنة وحدها يف غاية اخلطورة}‬

‫‪47‬‬
‫‪132 1‬‬
‫‪23 48‬‬

‫‪81‬‬
‫أقول‪ :‬من املقرر أن األحكام والصفات إنام تعود ملا تصلح أن تكون حكام‬
‫عليه وصفة له‪ .‬وما يصلح أن ُيكم عليه بعدم الصحة من الدالئل النقلية هي‬
‫ما تسمى باألحاديث‪ ،‬وليس الكتاب‪ ،‬ثم أي خطورة يف احلكم عىل ما مل يصح‬
‫من األحاديث بأهنا غري صحيحة؟ وهل كان واجب العلامء أي يتوقفوا عن‬
‫نقد األحاديث؟؟!!‪ ...‬ولكن الدكتور ال يرغب يف أن يفهم الكالم عىل‬
‫وجهه!‪.‬‬
‫ثم ذكر الدكتور قول اإلمام الرازي‪"{ :‬ثم إن جوزنا التأويل اشتغلنا عىل‬
‫سبيل التربع بذكر تلك التأويالت عىل التفصيل‪ ،‬وإن مل جيز التأويل فوضنا‬
‫العلم هبا إىل اهلل تعاىل"‪ .‬ثم علق الدكتور عليه باحلاشية رقم (‪ )2‬فقال‪:‬‬
‫هل وصلت قيمة نصوص الوحي إىل حد أن االشتغال بتأويلها‪ -‬الذي‬
‫هو حتريف هلا‪ -‬يعترب تربعا وإحسانا؟!}‬
‫أقول‪ :‬ليس مراد اإلمام بالتربع اإلحسان؛ بل مراده به مقابل الوجوب‪ ،‬وهل‬
‫التأويل واجب أهيا الدكتور؟! ثم انه ليس كل تأويل حتريفا‪ ،‬بل منه ما هو‬
‫حتريف‪ ،‬ومنه ما هو بيان للمعنى املقصود‪ ،‬وهذا األخري هو الذي قصده اإلمام‪،‬‬
‫ولكن الدكتور مبتىل بسوء الظن بأئمة السنة‪.‬‬

‫‪ -27‬األخذ بظواهر بعض النصوص إحلاد وضاللة‪:‬‬

‫‪81‬‬
‫قال الدكتور‪{:‬ويقول (السنويس)‪ :‬أصول الكفر ستة‪ ...‬ذكر منها مخسة‪،‬‬
‫ثم قال‪:‬‬
‫سادسا‪ :‬التمسك يف أصول العقائد بمجرد ظواهر الكتاب والسنة من غري‬
‫عرضها عىل الرباهني العقلية والقواطع الرشعية}‬
‫أقول‪ :‬لكي نفهم معنى ما قاله السنويس أذكر بعض التطبيقات له لنفهم املراد‬
‫منه‪ :‬قال اهلل تعاىل‪( :‬فاليوم ننساهم كام نسوا لقاء يومهم هذا) وقال تعاىل‪:‬‬
‫(فذوقوا بام نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم) وقال تعاىل‪( :‬وهو معكم أينام‬
‫كنتم)‪ ،‬وقال تعاىل‪( :‬واهلل من ورائهم حميط) وقال النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله‬
‫وسلم‪( :‬قلب ابن آدم بني أصبعني من أصابع الرمحن) أو كام قال‪.‬‬
‫فظاهر اآليتني األوليني ثبوت النسيان هلل تعاىل‪ ،‬فهل النسيان من صفات‬
‫اهلل‪ ،‬تعاىل اهلل عن ذلك علوا كبريا‪ ،‬وظاهر اآلية الثالثة املعية الذاتية كام أن‬
‫ظاهر اآلية الرابعة هو اإلحاطة الذاتية‪.‬‬
‫واحلديث بظاهره فيه إثبات األصبعني هلل تعاىل ثم إثبات األصابع له‪،‬‬
‫ويفيد أن قلب اإلنسان بني إصبعني هلل تعاىل واملتبادر البينية احلقيقية‪ ،‬وإذا أقر‬
‫احلديث عىل ظاهره أثبتنا هلل مليارات األصابع‪ ،‬وروى مسلم عن أيب هريرة‬
‫ريض اهلل عنه أن رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم قال‪( :‬إن اهلل عز‬
‫وجل يقول يوم القيامة‪ :‬يا ابن آدم مرضت فلم تعدنى! قال‪ :‬يا رب كيف‬
‫أعودك وأنت رب العاملني! قال‪ :‬أما علمت أن عبدى فالنا مرض فلم تعده!‬

‫‪82‬‬
‫أما علمت أنك لو عدته لوجدتنى عنده) فهل من صفات اهلل تعاىل املرض‪،‬‬
‫وقد أسند إليه يف هذا احلديث؟! فام أضيف هلل تعاىل يف هذه النصوص كلها‬
‫حمالة عىل اهلل تعاىل ‪ ،‬واألخذ بظواهر هذه النصوص كفر وإحلاد‪ ،‬أو بدعة‬
‫وضالل‪.‬‬
‫هذه نامذج وأمثلة لذلك‪ ،‬ونظائرها كثرية‪.‬‬

‫‪ -26‬اإلستدالل باخلطاب هل يفيد القطع؟‪:‬‬


‫قال الدكتور‪ { :‬ب‪ -‬رصح متكلموهم‪ ...‬ومنهم من سبق يف فقرة (أ) أن‬
‫نصوص الكتاب والسنة ظنية الداللة‪ ،‬وال تفيد اليقني إال إذا سلمت من عرشة‬
‫عوارض منها‪:‬‬
‫اإلضامر والتخصيص والنقل واالشرتاك واملجاز ‪ ...‬الخ‪ ،‬وسلمت بعد‬
‫هذا من املعارض العقيل بل قالوا‪ :‬من احتامل املعارض العقيل!}‬
‫أقول‪ :‬قد أشار الدكتور سفر بكالمه هذا إىل مسألة مهمة من مسائل علم‬
‫أصول الفقه بدون أن يكون حميطا هبا‪.‬‬
‫وقد عنونوا املسألة «بمسألة تعارض ما خيل بالفهم»‪ ،‬وهذا تعبري‬
‫البيضاوي يف املنهاج‪ .‬وبمسألة «أن االستدالل باخلطاب هل يفيد القطع أم‬
‫ال؟» وهذا هو عنوان الرازي يف املحصول‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫فال بد أن نبني املسألة‪ ،‬فننقل فيها أوال كالم اإلمام الرازي يف املحصول‪ .‬قال‬
‫حتت العنوان املذكور «منهم من أنكره‪( ،‬أي أنكر إفادة اخلطاب القطع) وقال‪ :‬إن‬
‫االستدالل باألدلة اللفظية مبني عىل مقدمات ظنية‪ ،‬واملبني عىل املقدمات الظنية‬
‫ظني‪ ،‬فاالستدالل باخلطاب ال يفيد إال الظن‪.‬‬
‫وإنام قلنا‪" :‬إنه مبني عىل مقدمات ظنية" ألنه مبني عىل نقل اللغات‪ ،‬ونقل‬
‫النحو والتَصيف‪ ،‬وعدم االشرتاك واملجاز والنقل واإلضامر والتخصيص‬
‫أمور ظنية‪ .‬ثم أفاض‬
‫والتقديم والتأخري والناسخ‪ ،‬واملعارض‪ ،‬وكل ذلك ٌ‬
‫الرازي يف بيان أن هذه األمور ظنية‪ ،‬ثم قال يف آخر الكالم‪ :‬واعلم أن‬
‫اإلنصاف أنه ال سبيل إىل استفادة اليقني من هذه الدالئل اللفظية إال إذا‬
‫اقرتنت هبا قرائن تفيد اليقني‪ ،‬سواء كانت تلك القرائن مشاهدة أو كانت‬
‫منقولة إلينا بالتواتر»‪ .‬هذا هو كالم الرازي يف املحصول‪ 49.‬فنقل اإلنكار عن‬
‫غريه ثم بني رأيه الذي هو اإلنصاف‪ ،‬وكذلك فعل يف األربعني‪.‬‬
‫وعرب بعض العلامء عن املسألة بتعبري آخر‪ ،‬فقال‪ :‬إن األدلة السمعية ال‬
‫َ‬
‫تفيد اليقني إال بنفي عرشة احتامالت‪ :‬االشرتاك‪ ،‬والنقل‪ ،‬واملجاز‪ ،‬واإلضامر‪،‬‬
‫والتخصيص‪ ،‬والتقديم‪ ،‬والتأخري‪ ،‬والناسخ‪ ،‬واملعارض العقيل‪ ،‬وتغري‬
‫اإلعراب‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫‪418 416‬‬ ‫‪44 39 2‬‬

‫‪84‬‬
‫قال القرايف شارحا رأي الرازي واختياره‪ :‬تقريره أن الوضع بام هو وضع‬
‫تتطرق إليه هذه االحتامالت‪ ،‬ومع القرائن يقطع بأن املراد ظاهر اللفظ‪ ،‬ثم‬
‫القرائن تكون بتكرر تلك األلفاظ إىل حد يقبل القطع‪ ،‬أو سياق الكالم‪ ،‬أو بحال‬
‫املخرب الذي هو رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪ .‬والقرائن ال تفي هبا‬
‫العبارات‪ ،‬وال تنحَص حتت ضابط‪ ،‬ولذا قطعنا بقواعد الرشع‪ ،‬وقواعد الوعد‬
‫‪50‬‬
‫والوعيد وغريها بقرائن األحوال واملقال‪ ،‬وهو كثري يف الكتاب والسنة‪.‬‬
‫وقال املحقق البيايض‪« :‬إن الدليل النقيل يفيد االعتقاد واليقني يف‬
‫املعتقدات عند التوارد عىل معنى واحد بالعبارات والطرق املتعددة‪ ،‬والقرائن‬
‫املنضامت‪ ...‬واختاره متقدموا األشاعرة‪ .‬وقال صاحب األبكار واملقاصد‪ :‬هو‬
‫احلق‪ ...‬وبينه يف التلويح واملقاصد بأن من األوضاع ما هو معلوم بطريق‬
‫التواتر كلفظ السامء واألرض‪ ،‬وكأكثر قواعد الَصف والنحو مما وضع‬
‫هليئات املفردات وهيئات الرتاكيب‪ ،‬والعلم باإلرادة ُيصل بمعونة القرائن‬
‫بحيث ال يبقى شبهة‪ ،‬كام يف النصوص الواردة يف إجياب الصالة والزكاة‪ ،‬ويف‬
‫البعث إذا اكتفى فيه بمجرد السمع كقوله تعاىل‪( :‬قل ُيييها الذي أنشأها أول‬
‫مرة وهو بكل خلق عليم)‪ 51،‬ونفي املعارض العقيل حاصل عند العلم‬
‫بالوضع واإلرادة وصدق املخرب‪ ،‬وذلك ألن العلم بتحقق أحد املتنافيني يفيد‬

‫‪50‬‬
‫‪51 2‬‬
‫‪51‬‬
‫‪79‬‬

‫‪85‬‬
‫العلم بانتفاء اآلخر‪ ،‬عىل أن احلق أن إفادة اليقني إنام تتوقف عىل انتفاء‬
‫املعارض وعدم اعتقاد ثبوته‪ ،‬ال عىل العلم بانتفائه‪ ،‬إذ كثريا ما ُيصل اليقني‬
‫من الدالئل‪ ،‬وال خيطر املعارض بالبال إثباتا أو نفيا فضال عن العلم بذلك»‪.‬‬
‫‪52‬‬
‫انتهى‪.‬‬
‫هذا هو حتقيق املسألة‪ ،‬وقد ظهر به أن ما ذهب إليه الرازي هو احلق‬
‫احلقيق بالقبول‪ ،‬وأنه قد وافق يف ذلك متقدمي األشاعرة‪ ،‬وقد وافقه عليه‬
‫اآلمدي صاحب "األبكار"‪ ،‬والسعد التفتازاين صاحب "املقاصد والتلويح"‪.‬‬
‫أقول‪ :‬وقد ذهب إىل هذا الرأي إمام احلرمني والغزايل‪ .‬وانظر "التلخيص"‬
‫إلمام احلرمني «فصل القول يف تقسيم اخلطاب وما يفيده»‪ 53‬و"املستصفى"‬
‫‪55‬‬
‫للغزايل «فصل الكالم املفيد»‪ 54،‬و«فصل طريق فهم املراد من اخلطاب»‪.‬‬
‫وهبذا التحقيق ظهر مدى صحة نسبة الدكتور سفر الرأي الذي أشار إليه‬
‫بإطالقه إىل متكلمي األشاعرة وإىل من ذكرهم يف فقرة (أ)‬
‫وذلك ألن سياق كالمه يدل عىل أنه يقصد أن األشاعرة يرون أن‬
‫نصوص الكتاب والسنة ظنية الداللة‪ ،‬وال يفيد اليقني قطعا ألهنا ال تسلم من‬
‫املعارضات املذكورة أو من بعضها‪ ،‬مع أهنم قد قالوا‪ :‬إهنا تفيد اليقني إذا اقرتن‬

‫‪52‬‬
‫‪47 46‬‬
‫‪53‬‬
‫‪35 34‬‬
‫‪333 1 54‬‬
‫‪55‬‬
‫‪337 1‬‬

‫‪86‬‬
‫هبا قرائن تفيد اليقني والقرائن ال تدخل حتت الضابط واحلَص‪ ،‬وأما إذا كان‬
‫مراد الدكتور اإلنكار عىل األشاعرة مع هذه الضميمة التى هبا يكتمل‬
‫مذهبهم‪ ،‬فال ريب أن هذا اإلنكار غري صحيح‪.‬‬
‫وظهر أيضا خطأ قوله‪ :‬وسلمت بعد هذا من املعارض العقيل‪ .‬فإن‬
‫املعارض العقيل داخل يف العرشة وواحد منها‪ .‬وكالمه يفيد أنه خارج عنها‪.‬‬

‫‪ -28‬حتقيق مسألة حجية خرب الواحد يف العقيدة وكالم الرازي يف ذلك‪:‬‬


‫قال الدكتور‪{ :‬ج‪ -‬موقفهم من السنة خاصة أنه ال يثبت هبا عقيدة‪ .‬بل‬
‫املتواتر منها جيب تأويله‪ ،‬وآحادها ال جيب االشتغال هبا حتى عىل سبيل‬
‫التأويل‪ ،‬حتى إن إمامهم الرازي قطع بأن رواية الصحابة كلهم مظنونة بالنسبة‬
‫لعدالتهم وحفظهم سواء‪ .‬وأنه يف الصحيحني أحاديث وضعها الزنادقة‪ ...‬إىل‬
‫آخر ماال استجيز نقله لغري املختصني‪ ،‬وهو يف كتابيه أساس التقديس‬
‫واألربعني}‬
‫أقول‪ :‬قد احتوى كالم الدكتور أيضا عىل عادته‪ -‬عىل جمموعة من‬
‫األخطاء اجلسيمة‪:‬‬
‫األول‪ :‬نسبته إىل األشاعرة أن السنة ال يثبت هبا عقيدة عندهم‪.‬‬
‫ومن اجل أن املسألة من أهم املسائل يف حد ذاهتا‪ ،‬ومن أجل كوهنا من‬
‫أعظم املسائل التي انتقدت عىل األشاعرة عن جهل بمذهبهم‪ ...‬من أجل‬

‫‪87‬‬
‫ذلك حتتاج إىل تفصيل وحتقيق‪ ،‬ولقد فصلنا الكالم فيها يف كتابنا "السنة‬
‫النبوية حجية وتدوينا"‪ ،‬فننقل ما كتباه هناك‪ ،‬ثم نعقبه ببيان ما يف كالم‬
‫الدكتور فيها من أخطاء فنقول‪:‬‬
‫{مدى حجية خرب الواحد يف العقيدة}‬
‫العمل بخرب الواحد يف األحكام العملية مما أمجع عليه علامء األمة ومل‬
‫خيالف فيه أحد من علامء اإلسالم من حيث إنه خرب واحد‪ ،‬واملقصود هنا‬
‫الكالم عىل العمل بخرب الواحد يف املسائل االعتقادية‪ ،‬فإنه قد طال كالم‬
‫العلامء حول هذه املسألة‪ ،‬ومل أر أحدا حقق املسألة وحررها عىل الوجه‬
‫املريض‪ ،‬فنقول وباهلل التوفيق‪:‬‬
‫قد شاع بني علامء الكالم أن خرب الواحد ليس بحجة يف املسائل‬
‫االعتقادية‪ ،‬واجلمهور األعظم من العلامء عىل أنه حجة فيها‪.‬‬
‫وحتقيق املسألة ُيتاج إىل تفصيل‪ :‬وهو أن مسائل االعتقاد منقسمة إىل‬
‫مخسة أقسام‪:‬‬
‫‪-1‬ما يكون عدم العلم به موجبا للكفر مثل وجوده تعاىل ووحدانيته‬
‫وصفاته الذاتية‪.‬‬
‫‪-2‬ما يكون إنكاره موجبا للكفر وعدم العلم به موجبا لإلثم‪ ،‬مثل قدم‬
‫الباري تعاىل وحدوث ما عداه من العامل‪ ،‬فإن اإلنسان بعد اعتقاده بوجود اهلل‬
‫تعاىل ووحدانيته وصفاته الذاتية لو لقي اهلل تعاىل خايل الذهن عن احلدوث‬

‫‪88‬‬
‫والقدم يف حقه تعاىل ويف حق العامل‪ ،‬يكون مسلام‪ ،‬لكنه آثم بعدم العلم به‪،‬‬
‫فيجب عليه أن يعتقد القدم يف حقه تعاىل واحلدوث يف العامل كي ال يعتقد‬
‫العكس عند دخول املسألة حتت مالحظته فيقع يف الكفر‪.‬‬
‫ومن هذا القبيل معظم العقائد الثابتة بالدالئل القطعية الثبوت القطعية‬
‫الداللة من الكتاب والسنة املتواترة مما قد خيفى عىل بعض العوام‪ .‬وهذا القسم‬
‫من العقائد ال يصح االستدالل عليه بخرب الواحد ألن املطلوب فيها اليقني‬
‫وخرب الواحد مفيد للظن‪.‬‬
‫عىل أن هذا القسم من أجل ثبوته بالدالئل القطعية من الكتاب والسنة‬
‫املتواترة ال حاجة يف إثباته إىل أخبار اآلحاد‪.‬‬
‫‪ -3‬ما يكون إنكاره بدعة غليظة وجهله إثام وذلك ما هو ثابت بظواهر‬
‫الكتاب والسنة املتواترة أو املستفيضة مما تلقته األمة عىل ظاهره بالقبول‪ ،‬فهذا‬
‫إنكاره بَصف النصوص عن ظواهرها وتأويلها عىل خالف ما تلقاه السلف‬
‫بالقبول بدعة غليظة‪ ،‬وربام يكون كفرا إذا كان ما تلقته األمة بالقبول جممعا‬
‫عليه معلوما من الدين بالرضورة‪.‬‬
‫‪ -4‬ما يكون إنكاره إثام وبدعة خفيفة وجهله معفوا عنه‪ ،‬وذلك ما ثبت‬
‫باآلحاد الصحيحة غري املستفيضة مما خيفى عىل أكثر العوام وعىل بعض‬
‫اخلواص مما مل تتعارض فيه الدالئل املتكافئة من الكتاب والسنة‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫‪ -5‬ما تعارضت فيه الدالئل املتكافئة ‪ -‬بحسب الظاهرة ‪ -‬من الكتاب‬
‫والسنة ومن أجل ذلك وقع فيها االختالف بني علامء األمة‪.‬‬
‫فام كان من هذا القسم األخري فأمره عفو بمعنى أنه ال ُيكم فيه بحكم‬
‫عام‪ ،‬بل هو من مسائل االجتهاد والتقليد‪.‬‬
‫وهذا التفصيل مل نجده يف كالم أحد من العلامء هبذا الوجه لكنه مقتىض‬
‫الدالئل الرشعية ومأخوذ من تَصُيات العلامء ونصوصهم‪.‬‬
‫وهبذا التفصيل نجمع بني اخلالف يف خرب الواحد‪ .‬هل هو حجة يف‬
‫مسائل االعتقاد أم ال؟‬
‫فيحمل كالم من قال‪ :‬إنه ليس بحجة عىل أن خمالفته وعدم اعتقاد مقتضاه‬
‫ليس بكفر ألن ثبوته ليس بقطعي فال تكون خمالفته ردا لقول الرسول صىل‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬وإنام هو لعدم الوثوق بالرواة‪ ،‬إال أن يكون رده بعد اعتقاد أنه‬
‫كالم رسول اهلل صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬ويكون بدون تأويل له‪ ،‬فرده حينئذ‬
‫كفر‪ ،‬وال أعلم أنه خيالف ما قلناه أحد من العلامء‪ ،‬فإنا نرى املتكلمني الذين‬
‫نسب إليهم عدم االستدالل بخرب اآلحاد يف العقائد كثريا ما يستدلون به فيها‪،‬‬
‫وال سيام يف قسم السمعيات من العقائد‪ ،‬كام ال خيفى عىل من له إملام بكالمهم‪.‬‬
‫قال عبد احلي اللكنوي رمحه اهلل تعاىل يف «ظفر األماين»(‪:)56‬‬

‫‪56‬‬
‫‪223 222‬‬

‫‪91‬‬
‫قد رصحوا بأن أخبار اآلحاد وإن كانت صحيحة ال تكفي يف باب‬
‫العقائد‪ ،‬فام بالك بالضعيفة منها‪ ،‬واملراد بعدم كفايتها أهنا ال تفيد القطع‪ ،‬فال‬
‫يعترب هبا مطلقا يف العقائد التي كلف الناس باالعتقاد اجلازم فيها‪ ،‬ال أهنا ال‬
‫تفيد الظن أيضا‪ ،‬وال أهنا ال عربة هبا رأسا يف العقائد مطلقا‪ ،‬كام تومهه كثري من‬
‫أبناء عَصنا‪ .‬ثم قال‪ .‬قال التفتازاين يف رشح‪ .‬املقاصد يف بحث عصمة‬
‫املالئكة‪ :‬وما يقال إنه ال عربة بالظنيات يف باب االعتقاد فإن أريد أنه ال ُيصل‬
‫منه االعتقاد اجلازم‪ ،‬وال يصح احلكم القطعي به فال نزاع فيه‪ ،‬وإن أريد أنه ال‬
‫ُيصل الظن بذلك احلكم فظاهر البطالن‪ ،‬انتهى‪.‬‬
‫فهذا التفتازاين وهو من أئمة الكالم رصح بام قلته‪.‬‬
‫وُيمل كالم من قال إنه حجة عىل أنه ‪ -‬بعد ثبوت صحته بدون معارض‬
‫وال صارف له عن ظاهره ‪ -‬جيب اعتقاد مقتضاه عىل وجه الظن أو عىل وجه‬
‫العلم إذا كان مقرونا بقرائن يفيد معها العلم‪.‬‬
‫وأن عدم اعتقاد مقتضاه بعد العلم به وبصحته وعدم اقرتانه بقرائن يفيد‬
‫معها العلم موجب لإلثم والبدعة‪ ،‬وهذا أيضا مما ال أظن أن أحدا من العلامء‬
‫خيالف فيه‪.‬‬
‫ثم إنه مما ينبغي التنبيه عليه أن أصول العقائد مثل التوحيد‪ ،‬وصفات اهلل‪.‬‬
‫والرسالة‪ ،‬والبعث‪ ،‬وجزاء األعامل‪ ،‬واجلنة والنار‪ ،‬قد تكفل القرآن ببياهنا‪،‬‬

‫‪91‬‬
‫وركز عىل بياهنا أكرب تركيز‪ ،‬وفصل القول فيها وكرره وأوردها مقرونة بدالئلها‬
‫العقلية التي تضطر العقول إىل قبوهلا واجلزم هبا‪.‬‬
‫وما ورد من األحاديث يف بياهنا فإنام هي مؤيدة للقرآن ومقررة له أو‬
‫موضحة ومفصلة له أو من جزئيات ما ورد فيه‪.‬‬
‫فلم يبق من العقائد ما يكون العمدة يف االستدالل عليه أخبار اآلحاد إال‬
‫العقائد التي ليست من األصول‪ ،‬وهي التي ال يكون اعتقاد ما خيالفها موجبا‬
‫للكفر‪ .‬واهلل سبحانه وتعاىل أعلم‪.‬‬
‫وقد اتضح هبذا التحقيق موقف األشاعرة من االستدالل بالسنة وبخرب‬
‫الواحد منها‪ ،‬كام اتضح أن ما نسبه الدكتور إليهم من أن السنة ال يثبت هبا‬
‫عقيدة عندهم‪ ..‬غري صحيح‪.‬‬
‫أما كالم اإلمام الرازي يف املسألة فقد قال يف «أساس التقديس»‪ 57‬أما‬
‫التمسك بخرب الواحد يف معرفة اهلل فغري جائز‪ ،‬يدل عليه وجوه‪ :‬األول‪ :‬أن‬
‫أخبار اآلحاد مظنونة فلم جيز التمسك هبا يف معرفة اهلل تعاىل وصفاته‪ ،‬وإنام‬
‫قلنا‪ :‬إهنا مظنونة‪ ،‬وذلك ألنا أمجعنا عىل أن الرواة ليسوا بمعصومني ‪ ...‬إىل‬
‫آخر كالمه‪.‬‬
‫فاإلمام قال‪ :‬إن خرب الواحد ال يتمسك به يف معرفة اهلل وصفاته‪ ،‬ومل يقل‬
‫ال يتمسك به يف العقيدة مطلقا‪ .‬وذلك ألن من العقائد ما يطلب فيه القطع‬

‫‪168 57‬‬

‫‪92‬‬
‫واليقني وال يكتفي فيه بالظن‪ ،‬وهي أصول العقائد اإلسالمية ويف مقدمتها‬
‫معرفة اهلل تعاىل وصفاته‪ .‬وهذا القسم من العقيدة ال يصح االستدالل عليه إال‬
‫بالدالئل املفيدة للقطع واليقني‪ ،‬وال يصح االستدالل عليها بالدالئل املفيدة‬
‫للظن‪ .‬ومنها خرب الواحد إذا مل يقرتن بقرائن يفيد معها العلم‪ ،‬وهذا القسم من‬
‫العقائد هو الذي يكون جهله وعدم العلم به موجبا للكفر‪ ،‬أو ال يكون جهله‬
‫موجبا للكفر لكن يكون اعتقاد ضده موجبا للكفر كام قدمناه آنفا‪.‬‬
‫والقسم الثاين من العقائد ما يكتفي فيه بالظن وال يطلب فيه القطع‬
‫واليقني‪ ،‬وهو ما ليس من األصول يف العقيدة‪ ،‬وهذا القسم ال يكون جهله أو‬
‫اعتقاد ضده موجبا للكفر‪ ،‬بل يكون اعتقاد ضده موجبا لإلثم والبدعة‪ .‬وهذا‬
‫القسم من العقائد يستدل عليه بالدالئل املفيدة للظن‪ ،‬ومنها خرب الواحد هذا‬
‫هو معنى كالم اإلمام الرازي‪« :‬أن أخبار اآلحاد مظنونة فلم جيز التمسك هبا‬
‫يف معرفة اهلل تعاىل وصفاته»‪.‬‬
‫وأما قطع اإلمام الرازي بأن رواية الصحابة كلهم مظنونة وأهنا ال تفيد‬
‫القطع واليقني فقد قصد هبا الرواية التي وردت آحادا ومل يقرتن هبا من القرائن‬
‫ما تفيد معها العلم‪ ،‬يدل عىل هذا سياق كالمه‪ ،‬فإن كالمه يف أخبار اآلحاد‪،‬‬
‫وأخبار اآلحاد من حيث هي أخبار آحاد مظنونة ال تفيد القطع واليقني‪ .‬وهذا‬
‫ما ال خيالف فيه أحد من أئمة املسلمني وعلامئهم إال النزر القليل‪ ،‬وقد استدل‬

‫‪93‬‬
‫اإلمام عىل ذلك بطعن الصحابة بعضهم يف بعض ورد بعضهم رواية البعض‬
‫اآلخر ألسباب اقتضت ذلك‪ .‬وهو استدالل صحيح ال غبار عليه‪.‬‬

‫‪ -29‬هل قطع الرازي بأن يف الصحيحني أحاديث وضعها الزنادقة؟‪:‬‬


‫وأما قول الدكتور‪{ :‬و(قطع الرازي) أنه يف الصحيحني أحاديث وضعها‬
‫الزنادقة‪ ..‬إىل آخر ماال أستجيز نقله لغري املتخصصني‪ .‬وهو يف كتابيه أساس‬
‫التقديس واألربعني}‬
‫أقول‪ :‬مل يستجز الدكتور نقله ألجل التدليس والتلبيس عىل القراء من‬
‫أجل أن ال يطل َع القراء عىل عدم صحة نسبته هذا القول إىل اإلمام الرازي‪،‬‬
‫وهو ال يعلم أن هناك من القراء من هو له باملرصاد‪ .‬وأما أنا فأستجيز نقل‬
‫كالم الرازي بل أستوجبه كي تنجيل حقيقة األمر‪ ،‬وحتى (تعلم حني ينجيل‬
‫الغبار ‪ ::‬أفرس حتتك أم محار)‬
‫‪58‬‬
‫وإليك كالم اإلمام الرازي بنصه‪ :‬قال يف "أساس التقديس"‪:‬‬
‫«إنه اشتهر بني األمة أن مجاعة من املالحدة وضعوا أخبارا منكرة‪،‬‬
‫واحتالوا يف تروجيها عىل املحدثني‪ ،‬واملحدثون لسالمة قلوهبم ما عرفوها‪ ،‬بل‬
‫قبلوها‪ ،‬وأي منكر فوق وصف اهلل تعاىل بام يقدح يف اإل̃هلية ويبطل الربوبية؟‬

‫‪171 58‬‬

‫‪94‬‬
‫(يعني أن مجلة من هذه األخبار مشتملة عىل وصف اهلل تعاىل بذلك)‪ ،‬فوجب‬
‫القطع يف أمثال هذه األخبار بأهنا موضوعة‪.‬‬
‫وأما البخاري والقشريي (يعني مسلام) فهام ما كان عاملني بالغيوب‪ ،‬بل‬
‫اجتهدا واحتاطا بمقدار طاقتهام‪ .‬فأما اعتقاد أهنام علام مجيع األحوال الواقعة يف‬
‫زمان الرسول صىل اهلل عليه وآله وسلم إىل زماننا‪59‬فذلك ال يقوله عاقل‪ .‬غاية‬
‫ما يف الباب أنا نحسن الظن هبام وبالذين رويا عنهم‪ ،‬إال أنا إذا شاهدنا خربا‬
‫مشتمال عىل منكر ال يمكن إسناده إىل الرسول صىل اهلل عليه وسلم قطعنا بأنه‬
‫من أوضاع املالحدة‪ ،‬ومن تروجياهتم عىل أولئك املحدثني»‪ .‬هذا هو كالم‬
‫اإلمام بنصه يف "أساس التقديس" فارجع البَص هل ترى من فطور؟ ومل أر له‬
‫كالما متعلقا باملوضوع يف "األربعني"‪.‬‬
‫أقول ما قاله اإلمام الرازي موافق ملا قاله أئمة احلديث ونقاده من أن من‬
‫عالمات وضع احلديث أن يكون خمالفا لألصول الرشعية والقواعد املقررة‪،‬‬
‫ومن عالماته اشتامله عىل أمر منكر ومستحيل‪.‬‬
‫ومن ثمة قال اإلمام الناقد عبد الرمحن بن اجلوزي‪( :‬كل حديث رأيته‬
‫خيالف املعقول أو يناقض األصول فاعلم أنه موضوع‪ )..‬وذكر حديثا من هذا‬
‫النوع‪ ،‬ثم قال‪( :‬فمثل هذا احلديث ال ُيتاج إىل اعتبار رواته ألن املستحيل لو‬

‫‪59‬‬

‫‪95‬‬
‫صدر عن الثقات رد ونسب إليهم اخلطأ‪ 60‬وقال اإلمام احلافظ اخلطيب‬
‫‪61‬‬
‫البغدادي يف "الفقيه واملتفقه"‪.‬‬
‫باب القول فيام يرد به خرب الواحد‪:‬‬
‫‪ ..‬وإذا روى الثقة املأمون خربا متصل اإلسناد رد بأمور‪:‬‬
‫أحدها أن خيالف موجبات العقول فيعلم بطالنه‪ ،‬ألن الرشع إنام يرد‬
‫بمجوزات العقول‪ ،‬وأما بخالف العقول فال‪.‬‬
‫الثاين أن خيالف نص الكتاب أو السنة املتواترة‪ ،‬فيعلم أنه ال أصل له أو‬
‫منسوخ‪.‬‬
‫والثالث أن خيالف اإلمجاع‪ ،‬فيستدل عىل أنه منسوخ أو ال أصل له‪..‬‬
‫فانظر أهيا القارئ املنصف هل قال الرازي شيئا غري ما قال أئمة احلديث‬
‫ونقاده؟!‬
‫ثم انظر هل صحيح أن الرازي قد قطع بأن يف الصحيحني أحاديث‬
‫وضعها الزنادقة‪..‬؟!‬
‫أم أنه تكلم بكالم عام متني‪ ،‬وحكم بحكم واسع مستقيم وافق فيه غريه‬
‫من األئمة النقاد املحققني‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫‪115 1‬‬
‫‪132 1 61‬‬

‫‪96‬‬
‫وذلك قوله‪« :‬إال أنا إذا شاهدنا خربا مشتمال عىل منكر» حيث عمم فيه‬
‫جي روز أن يكون يف الصحيحني‬
‫الكالم ومل خيصص‪ .‬نعم سياق كالمه يوهم أن َ‬
‫يشء من هذا النوع من األخبار‪ ،‬ويفيد أنه عىل تقدير وجودها فيهام فهي‬
‫مردودة‪ .‬لكن ما يومهه كالمه غري صحيح‪ ،‬وأما ما يفيده فهو صحيح ال غبار‬
‫عليه‪.‬‬
‫وأما أن اإلمام الرازي قطع بأن يف الصحيحني أحاديث وضعها الزنادقة‬
‫فليس له يف كالمه عني وال أثر!‬
‫ثم إن ابن تيمية قال ببعض ما قاله الرازي وزاد عليه يف البعض اآلخر‪.‬‬
‫قال يف "منهاج السنة" (وخرب الواحد ال يفيد العلم إال بقرائن)‪ 62،‬وقد توقف‬
‫ابن تيمية يف قبول احلديث اآلحادى يف العقيدة بحجة أنه غري متواتر‪ ،‬حيث‬
‫قال يف "نقد مراتب اإلمجاع" عن حديث (كان اهلل ومل يكن يشء غريه)‪:‬‬
‫(وهذا احلديث لو كان نصا فيام ذكر فليس متواترا)‪ 63‬وقال يف "جمموع‬
‫الفتاوى"‪( :‬والكذب كان قليال يف السلف‪...‬أما الصحابة فلم يعرف فيهم‪- ،‬‬
‫وهلل احلمد‪ -‬من تعمد الكذب عىل النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم‪...‬أما الغلط‬
‫فلم يسلم منه أكثر الناس‪ ،‬بل يف الصحابة من غلط أحيانا وفيمن بعدهم‪،‬‬
‫وهلذا كان فيام صنف يف الصحيح أحاديث يعلم أهنا غلط وإن كان مجهور‬

‫‪516 7 62‬‬
‫‪171 63‬‬

‫‪97‬‬
‫متون الصحيحني مما يعلم أنه حق)‪ 64‬تأمل أهيا الدكتور جيدا يف هذا الكالم‬
‫وال سيام قوله‪( :‬مجهور متون الصحيحني) وتب من اهلجوم عىل األشاعرة‬
‫والرازي‪ ،‬وإال فهاجم ابن تيمية أيضا‪ .‬والتكن من الذين يكيلون بمكيالني!!!‬

‫‪-31‬بيان السبب يف قلة وجود اآليات واألحاديث يف بعض كتب األشاعرة‬


‫الكالمية‪:‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬د‪ -‬تقرأ يف كتب عقيدهتم قديمها وحديثها املائة صحفة أو‬
‫أكثر فال جتد فيها آية وال حديثا‪ ،‬لكنك جتد يف كل فقرة (قال احلكامء) أو (قال‬
‫املعلم األول) أو (قالت الفالسفة‪ ،‬ونحوها)}‬
‫هكذا يصور الدكتور كتب عقيدة األشاعرة عامة‪ :‬ال جتد يف مائة صفحة‬
‫أو أكثر آية وال حديثا‪ ،‬وال ختلو فقرة منها من نقل كالم الفالسفة‪ ،‬هكذا‬
‫يصور الدكتور كتب األشاعرة كلها بدون استثناء! من يصدق ذلك؟! ولعل‬
‫الدكتور نفسه إذا راجع نفسه ال يصدق ذلك! نعم يصدق ذلك‪ ،‬ويتعجب‬
‫منه‪ ،‬ويعوذ باهلل من األشاعرة ومن كتبهم من يقرأ كالم الدكتور واثقا به ومل‬
‫يفتح يوما من األيام كتابا من كتب عقيدة األشاعرة‪ ،‬ومل يقرأ صفحة منها‪ .‬هذا‬
‫وحده هو الذي يصدق ذلك‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫‪251 249 1‬‬

‫‪98‬‬
‫واألدهى من ذلك أن سياق كالم الدكتور يوهم أن األشاعرة يعتمدون يف‬
‫عقيدهتم عىل أقوال الفالسفة‪ ،‬ويستمدون عقيدهتم منها كام قال فيام سبق‪:‬‬
‫«إهنم يستمدون عقيدهتم من املتفلسف برش املريس الذي كفره اإلمام‬
‫الشافعي» وكام سيأيت يف آخر فقرة نقلناها من كالمه‪ .‬فامذا بقي لألشاعرة من‬
‫الدين بعد هذا؟! معاذ اهلل!سبحانك اللهم هذا هبتان عظيم يعظكم اهلل أن‬
‫تعودوا ملثله أبدا إن كنتم مؤمنني!‬
‫وأقول مقدما‪ :‬إن هناك جمموعة كبرية من كتب األشاعرة املتعلقة‬
‫بالعقيدة‪ :‬ال يعثر القارئ يف واحد منها ال عىل «قال احلكامء»‪ ،‬وال عىل «قال‬
‫املعلم األول»‪ ،‬وال عىل «قالت الفالسفة»‪ ،‬وجمموعة كبرية أخرى منها نادرا ما‬
‫يعثر القارئ فيها عليها‪ ،‬ومن ارتاب يف هذا األمر فليقرأ ما كتبه األوائل منهم‬
‫وما كتبه املتأخرون منهم‪.‬‬
‫ثم أقول‪ :‬األشاعرة ال يوردون كالم اهلل تعاىل وكالم رسوله إال لالعتامد‬
‫عليهام واالحتجاج هبام‪ ،‬أو لدفع الشبه عنهام‪ ،‬وال يوردون كالم الفالسفة يف‬
‫األعم األغلب إال للرد عليه وبيان زيفه‪.‬‬
‫وجتلية للحقيقة نصنف األشاعرة إىل أصناف‪ ،‬ونبني حال كتب كل‬
‫صنف منهم من كثرة إيراد اآليات واألحاديث فيها وقلتها ونبني السبب يف‬
‫ذلك‪ ،‬فنقول‪:‬‬

‫‪99‬‬
‫علامء األشاعرة كعلامء سائر املذاهب منهم حفاظ وحمدثون ومعتنون‬
‫باحلديث‪ ،‬ومنهم من ليسوا كذلك‪ ،‬أما الصنف األول كالبيهقي والنووي‬
‫وابن حجر العسقالين فكتبهم حمشوة باآليات واألحاديث‪ .‬وكل العلامء يعلم‬
‫حال كتاب "األسامء والصفات" وكتاب "اإلعتقاد" للبيهقي‪ ،‬وأما الصنف‬
‫الثاين فالقدامى منهم واملتأخرون ممن أتى بعد القرن الثامن اهلجري حال‬
‫كتبهم أيضا كذلك هي حمشوة باآليات واألحاديث‪ ،‬ونورد عدة شواهد عىل‬
‫ذلك‪:‬‬
‫‪ -1‬كتاب "اإلنصاف" للباقالين هو مائة وسبعون صفحة تقريبا‪ ،‬وقد‬
‫اشتمل عىل أكثر من أربعامئة آية وأكثر من مائة حديث‪.‬‬
‫‪" -2‬املسايرة" البن اهلامم مع رشحها "املسامرة" البن أبى رشيف قد‬
‫اشتمل عىل حوايل مئي آية ومئتي حديث‪.‬‬
‫‪" -3‬رشح الباجوري عىل جوهرة التوحيد" قد اشتمل عىل قرابة مئتني‬
‫ومخسني آية ومئات األحاديث‪.‬‬
‫‪" -4‬رشح جوهرة التوحيد" يف جملدين ضخمني لعبد الكريم تتان‬
‫وحممد أديب الكيالين ومها معارصان‪ ،‬وهو حمشو باآليات واألحاديث‪.‬‬
‫وأما املتوسطون منهم كالرازي واآلمدي والبيضاوي واإلجيي والتفتازاين‬
‫فصحيح أن اآليات واألحاديث قليلة الورود يف كتبهم الكالمية‪ ،‬والسبب يف‬
‫ذلك أن هؤالء كان جل مههم جمادلة غري املسلمني من الفالسفة واليهود‬

‫‪111‬‬
‫والنصارى والوثنية والرد عليهم‪ ،‬وبيان بطالن ما هم عليه من االعتقاد‪ ،‬وقد‬
‫كان جل جدهلم مع الفالسفة منهم‪ ،‬وكذلك قد اعتنى هؤالء يف كتبهم‬
‫الكالمية بالرد عىل مذاهب غري أهل السنة من املعتزلة واجلربية واخلوارج‬
‫أيضا‪ .‬وغري املسلمني ال جت ِد فيهم الدالئل النقلية‪ ،‬بل جمادلتهم ال بد أن تكون‬
‫بالدالئل العقلية‪ .‬وهذا ما فعله كل األنبياء مع أقوامهم الذين أرسلوا إليهم‪ ،‬مل‬
‫جيادلوهم إال بالدالئل العقلية‪ .‬والقرآن حمشو هبذا النوع من الدالئل وهذا‬
‫النوع من اجلدل‪ .‬وأما غري أهل السنة من املسلمني فقد كان جل رصاع أهل‬
‫السنة باملعتزلة منهم‪ ،‬ومن املعلوم أن املعتزلة يردون كثريا من األحاديث التى‬
‫ال توافق مذهبهم أو يؤولوهنا‪ ،‬وكذلك يؤولون اآليات التى ال يوافق ظاهرها‬
‫مذهبهم‪ ،‬فاالعتامد يف اجلدال معهم عىل النقل أيضا غري جمد إال قليال‪ ،‬ومن‬
‫أجل اعتناء هؤالء املتكلمني بالرد عىل الفالسفة َأو َر َد بعضهم يف صدور‬
‫كتبهم الفلسفة اإل̃هلية والطبيعية‪ ،‬حتى استغرقت الفلسفة قسام كبريا من هذه‬
‫الكتب‪ ،‬وهذا القسم من الفلسفة ال حمل إليراد اآليات واألحاديث فيها‪ ،‬فمن‬
‫أجل ما ذكرناه قل ورود اآليات واألحاديث يف كتب هؤالء املتكلمني‬
‫املتوسطني‪ .‬هذا حال كتب األشاعرة املطولة‪.‬‬
‫وأما املختَصات املؤلفة يف العقيدة املكونة من عدة صفحات فصحيح أن‬
‫معظمها خال عن الدالئل النقلية‪ .‬والسبب يف ذلك أهنا مؤلفة للعوام‬
‫واملبتدئني يف العلم‪ .‬فأراد مؤلفوها أن تكون بمقدار يستوعبها العوام‬

‫‪111‬‬
‫واملبتدئون بسهولة‪ ،‬ولو كانوا قرنوا كل عقيدة بدالئلها النقلية لطالت هذه‬
‫الكتب وصعب استيعاهبا عىل العوام واملبتدئني‪ ،‬وشأهنا يف ذلك شأن‬
‫املختَصات املؤلفة يف املذاهب الفقهية‪.‬‬
‫لكن كالم الدكتور ال ينطبق عىل هذه املختَصات فإنه قد تكلم عىل‬
‫الكتب ذات املئات الصفحات‪.‬‬

‫‪ -31‬هل صحيح أن الصوفية يقدمون الكشف والذوق عىل‬


‫النص؟‪:‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬هـ‪ -‬مذهب طائفة منهم وهم صوفيتهم ‪ -‬كالغزايل‬
‫واجلامي ‪ -‬يف مصدر التلقي هو تقديم الكشف والذوق عىل النص وتأويل‬
‫النص ليوافقه‪ ،‬وقد يصححون بعض األحاديث ويضعفوهنا حسب هذا‬
‫الذوق كحديث إسالم أبوي النبي صىل اهلل عليه وسلم ودخوهلام اجلنة‬
‫بزعمهم‪ .‬ويسمون هذا «العلم اللدين» جريا عىل قاعدة الصوفية‪« :‬حدثني‬
‫قلبي عن ريب»}‬
‫أقول‪ :‬مل يثبت عن أحد من الصوفية املعتربين ويف مقدمتهم الغزايل‬
‫واجلامي أنه قال بأن الكشف والذوق مصدران الستنباط األحكام فضال عن‬
‫القول بتقديمهام عىل النص‪ .‬نعم يستأنس بالكشف واإلهلام فيام ال عالقة له‬

‫‪112‬‬
‫باألحكام الرشعية‪ ،‬وكذلك مل يصحح احلديث بطريق الكشف والذوق أحدٌ‬
‫من الصوفية املعتربين‪ .‬ونحتم هذه الفقرة بكالم علمني من أعالم التصوف‪،‬‬
‫قال السهروردي‪( :‬وكل علم ال يوافق الكتاب والسنة وما هو مستفاد منهام أو‬
‫معني عىل فهمهام أو مستند إليهام كائنا ما كان‪ -‬فهو رذيلة وليس بفضيلة‪،‬‬
‫يزداد اإلنسان به هوانا ورذيلة يف الدنيا واآلخرة)‪ 65،‬وقال الشيخ أمحد‬
‫الرفاعي‪( :‬إذا رأيتم واعظا أو قاصا أو مدرسا فخذوا منه كالم اهلل وكالم‬
‫رسوله صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪ ،‬وكالم أئمة الدين الذين ُيكمون‬
‫عدال ويقولون حقا‪ ،‬واطرحوا ما زاد‪ ،‬وإن أتى بام مل يأت رسول اهلل صىل اهلل‬
‫تعاىل عليه وآله وسلم فارضبوا به وجهه)‪ 66‬هذا كالم أهل الرسوخ والتحقيق‬
‫من الصوفية‪.‬‬
‫وأما نجاة والدي املصطفى صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم فقد ذهب‬
‫فريق من علامء األمة إىل ذلك‪ .‬وعمدهتم يف االستدالل عليه أهنام من أهل‬
‫الفرتة‪ ،‬وقد ثبت نجاة أهل الفرتة بقوله تعاىل‪( :‬وما كنا معذبني حتى نبعث‬
‫رسوال)‪ ،‬وأما ما أشار إليه الدكتور من احلديث الضعيف فقد أورده بعض‬
‫املتأخرين من األشاعرة عىل وجه االستئناس بعد احتجاجه عىل املسألة بام‬

‫‪65‬‬
‫‪48 1‬‬
‫‪66‬‬
‫‪39‬‬

‫‪113‬‬
‫ذكرناه‪ ،‬ثم إن املسألة من مسائل اخلالف‪ ،‬وليست من مسائل االعتقاد التى‬
‫يبدع فيها أحد الطرفني أو يؤثم‪ ،‬فلكل فريق رأيه ودليله‪.‬‬

‫‪ -32‬دالئل وجود اهلل تعاىل عند األشاعرة‪:‬‬


‫قال الدكتور‪{ :‬الثانى إثبات وجود اهلل‪ .‬معلوم أن مذهب السلف هو أن‬
‫وجود اهلل تعاىل أمر فطري معلوم بالرضورة‪ ،‬واألدلة عليه من الكون والنفس‬
‫واآلثار واآلفاق والوحي أجل من احلرص‪ ،‬ففي كل يشء له آية وعليه دليل‬
‫أما األشاعرة فعندهم دليل يتيم ‪ -‬أي عىل وجوده تعاىل ‪ -‬هو دليل‬
‫احلدوث والقدم‪ ،‬وهو االستدالل عىل وجود اهلل بأن الكون حادث وكل‬
‫حادث فالبد له من حمدث قديم}‬
‫أقول‪ :‬يستدل السلف عىل وجوده تعاىل ٌ‬
‫كل بام بدا له من األدلة‪ ،‬وجل‬
‫اعتامدهم عىل دليل النظام الذي ركز عليه القرآن الكريم‪ ،‬وليس للسلف يف‬
‫هذا األمر مذهب موحد مقرر يصح نسبته إليهم‪ .‬فقول الدكتور‪ :‬معلوم أن‬
‫مذهب السلف أن وجود اهلل تعاىل أمر فطري معلوم بالرضورة غري صحيح‪،‬‬
‫ومن عادة الدكتور نسبة ما هيواه إىل السلف وجعله مذهبا هلم‪ .‬ولو كان وجود‬

‫‪114‬‬
‫اهلل أمرا معلوما بالرضورة ملا خالف فيه أحد من العقالء وملا احتيج إىل‬
‫االستدالل عليه‪.‬‬
‫واألدلة املستنبطة من الكون والنفس واآلثار واآلفاق هي دليل النظام‪،‬‬
‫وسامه ابن رشد «دليل العناية»‪ ..‬ودليل احلدوث وسامه ابن رشد «دليل‬
‫االخرتاع»‪ ،‬ودليل اإلمكان إىل غري ذلك من األدلة التي أوردها األشاعرة يف‬
‫كتبهم‪.‬‬
‫وليس دليل احلدوث هو الدليل الوحيد عند األشاعرة بل هو أحد أدلتهم‪،‬‬
‫ومن أدلتهم كام ذكرنا دليل اإلمكان ودليل النظام إىل غري ذلك كام ال خيفى عىل‬
‫من مارس كتبهم‪ .‬والذي ذكره الدكتور يسمى «دليل احلدوث» وال يوجد هلم‬
‫دليل يسمى «دليل احلدوث والقدم»‪.‬‬
‫وننقل هنا شيئا من كالم األشاعرة يف االستدالل عىل وجود اهلل تعاىل كي‬
‫يتحقق القارئ ما قلناه‪ .‬قال الباقالين‪« :‬والبد هلذا العامل املحدَ ث املصور من‬
‫مصور‪ .‬والدليل عىل ذلك أن الكتابة البد هلا من كاتب والبد للصورة‬ ‫ِ‬
‫حمدث ر‬
‫من مصور‪ ،‬وللبناء من بان‪ ،‬وإنا ال نشك يف جهل من خربنا بكتابة حصلت ال‬
‫من كاتب‪ ،‬وصياغة ال من صائغ‪ ،‬فوجب أن تكون صور العامل وحركات‬
‫الفلك متعلقة بصانع صنعها إذ كان ألطف وأعجب صنعا من سائر ما يتعذر‬

‫‪115‬‬
‫وجوده ال من صانع من احلركات والصور»‪ 67‬وقال الباقالين‪« :‬وإن أردتم‬
‫بقولكم ما هو ما الداللة عىل وجوده؟ فالداللة عىل وجوده مجيع ما نراه‬
‫ونشاهده من حمكم فعله وعجيب تدبريه»‪ 68‬وقال الرازي‪« :‬ومن الناس من‬
‫اعتمد (يف إثبات وجود اهلل تعاىل) عىل اإلحكام واإلتقان املشاهدين يف‬
‫الساموات واألرضني وخاصة يف بدن اإلنسان وما فيه من املنافع اجللية‬
‫والبدائع الغريبة التي تشهد فطرة كل عاقل بأهنا ال تصدر إال عن تدبري حكيم‬
‫عليم‪ .‬وهذه الطريقة دالة عىل الذات وعىل العاملية‪ ،‬وهي طريقة من تأملها‬
‫ورفض عن نفسه املقاالت الباطلة وجد نفسه مضطرة إىل االعرتاف بإثبات‬
‫املدبر عند مشاهدة خلقة أعضاء احليوان»‪ 69‬وهذا الدليل الذي ذكره الرازي‬
‫هو «دليل النظام» وكذالك الدليل الثاين للباقالين‪.‬‬

‫‪-33‬بيان أن اهلل تعاىل خمالف للحوادث‪ ،‬وأنه ليس جوهر ًا وال‬


‫عرض ًا وال جس ًام وال يف ٍ‬
‫جهة وال يف مكان‪:‬‬

‫‪67‬‬
‫‪27‬‬ ‫‪43‬‬
‫‪68‬‬
‫‪311‬‬
‫‪69‬‬
‫‪471 471 2‬‬

‫‪116‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬وأخص صفات هذا القديم خمالفته للحوادث وعدم‬
‫حلوهلا فيه‪ ،‬ومن خمالفته للحوادث إثبات أنه ليس جوهرا وال عرضا وال جسام‬
‫وال يف جهة وال مكان‪...‬إلخ ثم أطالوا جدا يف تقرير هذه القضايا‪ .‬هذا‪.‬‬
‫وقد رتبوا عليها من األصول الفاسدة ما ال يدخل حتت العد مثل إنكارهم‬
‫لكثري من الصفات كالريض والغضب واالستواء بشبهة نفي حلول احلوادث‬
‫يف القديم‪ ،‬ونفي اجلوهرية والعرضية واجلهة واجلسمية‪ ...‬إىل آخر‬
‫املصطلحات البدعية}‬
‫يضيق الدكتور صدرا بقول األشاعرة بمخالفته تعاىل للحوادث وعدم‬
‫حلوهلا فيه‪ ،‬وأن من خمالفته للحوادث أنه ليس جوهرا وال عرضا‪ ،‬وال جسام‪،‬‬
‫وال يف جهة‪ ،‬وال يف مكان‪ ،‬ويعد الدكتور نفي هذه األمور عن اهلل تعاىل من‬
‫املصطلحات البدعية!!‪.‬‬
‫أقول‪ :‬من أجل حتقيق املسألة وبيان ما هو احلق فيها ال بد من بيان أمور‪،‬‬
‫والرتكيز عليها بقدر من التفصيل‪.‬‬
‫األول‪ :‬أن هذه الصفات يسميها األشاعرة بالصفات السلبية‪ ،‬ألهنا عبارة‬
‫نفي ملامثلته تعاىل‬
‫عن سلب أمور ال تليق باهلل تعاىل عنه‪ ،‬فإن املخالفة للحوادث ٌ‬
‫للحوادث‪ ،‬ثم إن املخالفة للحوادث عند األشاعرة من صفات اهلل تعاىل‬
‫وليست أخص صفاته تعاىل‪ ،‬عندهم‪ ،‬وأما أخص صفاته تعاىل إذا سلمنا أنه‬
‫يصح التعبري بذلك‪ -‬فهي الصفات الثبوتية التي يتوقف عليها أصل اإل̃هلية من‬

‫‪117‬‬
‫احلياة والعلم والقدرة واإلرادة‪ ،‬أو يتوقف عليها كامل اإل̃هلية من احلكمة‬
‫والسمع والبَص إىل غري ذلك من الصفات الثبوتية‪.‬‬
‫ٌ‬
‫مدلول‬ ‫الثاين‪ :‬أن الصفات السلبية ويف مقدمتها خمالفته تعاىل للحوادث‪،‬‬
‫عليها باآليات الكثرية‪ :‬منها قوله تعاىل‪( :‬ومل يكن له كفوا أحد) ومنها قوله‪:‬‬
‫(ليس كمثله يشء وهو السميع البصري)‬
‫قال الشيخ عبد الرمحن بن نارص السعدي‪ :‬وهذه اآلية ونحوها دليل‬
‫ملذاهب أهل السنة واجلامعة من إثبات الصفات‪ ،‬ونفي مماثلة املخلوقات‪،‬‬
‫وفيها رد عىل املشبهة يف قوله‪( :‬ليس كمثله يشء) وعىل املعطلة يف قوله‪( :‬وهو‬
‫السميع البصري)‬
‫وقال القرطبي‪ :‬يف الكالم عىل هذه اآلية‪ :‬قال بعض املحققني‪ :‬التوحيد‬
‫إثبات ذات غري مشبهة للذوات وال معطلة عن الصفات‪ .‬وزاد الوسطي رمحه‬
‫اهلل تعاىل فقال‪ :‬ليس كذاته ذات وال كاسمه اسم وال كفعله فعل‪ ،‬وال كصفته‬
‫صفة إال من جهة موافقة اللفظ‪ ،‬وجل ِ‬
‫ت الذات القديمة أن يكون هلا صف ٌة‬ ‫َ‬
‫حديثة‪ ،‬كام استحال أن يكون للذات املحدثة صف ٌة قديمة‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫وهذا كله مذهب أهل احلق والسنة واجلامعة ريض اهلل تعاىل عنهم‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫‪11 16‬‬

‫‪118‬‬
‫وقال الرازي‪ :‬احتج علامء التوحيد قديام وحديثا هبذه اآلية يف نفي كونه‬
‫تعاىل جسام مركبا من األعضاء واألجزاء‪ ،‬وحاصال يف املكان واجلهة‪ ،‬وقالوا‪:‬‬
‫لو كان جسام لكان مثال لسائر األجسام‪ ،‬فيلزم حصول األمثال واألشباه له‪،‬‬
‫‪71‬‬ ‫وذلك ٌ‬
‫باطل بَصيح قوله تعاىل‪( :‬ليس كمثله يشء)‬
‫وقال ابن عاشور يف تفسريه‪ :‬اآلية نفت أن يكون يش ٌء من املوجودات‬
‫مماثال هلل تعاىل يف صفات ذاته‪ ،‬ألن ذاته تعاىل ال يامثلها ذوات املخلوقني‪،‬‬
‫ويلزم ذلك أن كل ما ثبت للمخلوقني يف حمسوس ذواهتم فهو منتف عن اهلل‬
‫تعاىل‪ .‬وبذلك كانت اآلية أصال يف تنـزيه اهلل تعاىل عن اجلوارح واحلواس‬
‫واألعضاء عند أهل التأويل‪ .‬والذين أثبتوا هلل تعاىل ما ورد يف القرآن مما نسميه‬
‫باملتشابه فإنام أثبتوه مع التنـزيه عن ظاهره‪ ،‬إذ ال خالف يف إعامل قوله‪( :‬ليس‬
‫‪72‬‬
‫كمثله يشء) وأنه ال شبيه له وال نظري له‪...‬‬
‫الثالث‪ :‬أن أئمة أهل السنة قديام وحديثا قد قرروا ما قاله األشاعرة مما‬
‫نقله عنهم الدكتور هنا‪ .‬قال اإلمام أبو حنيفة يف الفقه األكرب‪« :‬ومعنى اليشء‬
‫إثباته تعاىل‪ -‬بال جسم وال جوهر‪ ،‬وال عرض‪ ،‬وال حد له‪ ،‬وال ضد له‪ ،‬وال‬
‫ند له‪ ،‬وال ِم َثل له»‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫‪392 7‬‬
‫‪72‬‬
‫‪47 25‬‬

‫‪119‬‬
‫ونقتطف نبذا من عقيدة اإلمام أمحد املطبوعة يف آخر املجلد الثاين من‬
‫طبقات احلنابلة للقايض أبى احلسني حممد بن أيب يعىل‪« :‬إن اهلل ‪-‬عز وجل‪-‬‬
‫التجزؤ وال القسمة‪ ،‬وهو واحدٌ من كل وجه‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫واحدٌ ال من عدد‪ ،‬ال جيوز عليه‬
‫‪73‬‬
‫وما سواه واحد من وجه دون وجه»‬
‫«إن هلل تعاىل َيدَ ين‪ ،‬ومها صفة له يف ذاته‪ ،‬ليستا بجارحتني‪ ،‬وليستا‬
‫بمركبتني‪ ،‬وال جسم‪ ،‬وال من جنس األجسام‪ ،‬وال من جنس املحدود‬
‫والرتكيب‪ ،‬وال األعضاء واجلوارح»‪« 74‬وال جيوز أن يقال‪ :‬استوي بمامسة وال‬
‫تغيري وال تبديل‪،‬‬
‫بمالقاة‪ ،‬تعاىل اهلل عن ذلك علوا كبريا‪ ،‬واهلل تعاىل مل يلحقه ٌ‬
‫وال يلحقه احلدود قبل خلق العرش‪ ،‬وال بعد خلق العرش»‪« 75‬وأنكر عىل من‬
‫يقول باجلسم‪ ،‬وقال‪ :‬إن األسامء مأخوذة بالرشيعة واللغة‪ ،‬وأهل اللغة وضعوا‬
‫هذا االسم عىل كل ذي طول وعرض وسمك‪ ،‬وتركيب وصورة وتأليف‪،‬‬
‫واهلل تعاىل خارج عن ذلك كله‪ ،‬فلم جيز أن يسمى جسام خلروجه عن معنى‬
‫‪76‬‬
‫اجلسمية‪ ،‬ومل جيئ يف الرشيعة ذلك فبطل»‬
‫«وكان يقول إن اهلل قديم بصفاته التي هي مضافة إليه يف نفسه‪ .‬وقد سئل‬
‫اإلمام أمحد‪ -‬هل املوصوف القديم وصفته قديامن؟ فقال‪ :‬هذا سؤال خطأ‪،‬‬

‫‪293 73‬‬
‫‪294 74‬‬
‫‪297 75‬‬
‫‪298 76‬‬

‫‪111‬‬
‫ال جيوز أن ينفرد احلق عن صفاته‪ .‬ومعنى ما قاله من ذلك أن املحدَ ث حمدَ ٌ‬
‫ث‬
‫‪77‬‬
‫قديم بجميع صفاته»‬
‫بجميع صفاته عىل غري تفصيل‪ ،‬وكذلك القديم ٌ‬
‫وقال الطحاوي‪( :‬ال تبلغه األوهام‪ ،‬وال تدركه األفهام‪ ،‬وال يشبه األنام‪،‬‬
‫خالق بال جارحة‪ ...‬ما زال بصفاته قديام قبل خلقه) وقال‪( :‬تعاىل اهلل عن‬
‫ٌ‬
‫احلدود والغايات‪ ،‬واألركان واألعضاء واألدوات‪ ،‬ال حتويه اجلهات الست‬
‫كسائر املبتدعات‪ ،‬وهو مستغنى عن العرش وما دونه‪ ،‬حميط بكل يشء وبام‬
‫فوقه‪ ،‬وقد أعجز عن اإلحاطة خلقه)‬
‫وقال شيخ احلنابلة القايض أبو يعىل‪( :‬وال جيوز وصفه بأنه يف كل مكان‪،‬‬
‫وال يف مكان‪ ...‬والداللة عىل أنه ال جيوز إطالق القول عليه بأنه يف مكان هو‬
‫‪78‬‬
‫أن إضافته إىل املكان توجب قدم املكان بقدمه تعاىل‪)...‬‬
‫وبعد نقل ما نقلناه من كالم املفرسين وكالم أئمة أهل السنة املتعلق‬
‫باملوضوع نقول‪ :‬هذه اآلية الكريمة (ليس كمثله يشء) وغريها من آيات‬
‫كريامت رصُية يف أنه تعاىل خمالف للحوادث ويلزم ذلك أنه تعاىل ليس بجسم‬
‫وال جوهر وال عرض‪ .‬وما نقلناه من كالم أئمة السنة رصيح يف سلب هذه‬
‫ِ‬
‫سلب هذه األمور عن اهلل تعاىل‬ ‫األمور عن اهلل تعاىل‪ ،‬فهل بعد هذا يصح َعدُّ‬
‫بدعة!!؟؟ وال أدرى ماذا يقصده الدكتور بالبدعة!! وليت شعري ما الذي‬

‫‪299 298 77‬‬


‫‪78‬‬
‫‪57 56‬‬

‫‪111‬‬
‫يعتقده الدكتور يف املوضوع بعد إنكاره عىل األشاعرة سلب هذه األمور عن‬
‫اهلل تعاىل!!‪.‬‬

‫‪ -34‬الكالم عىل صفات الرىض والغضب واالستواء هلل تعاىل‪:‬‬


‫وأما قول الدكتور‪{ :‬وقد رتبوا عليه من األصول الفاسدة ما ال يدخل‬
‫حتت العد مثل إنكارهم لكثري من الصفات كالرىض والغضب‪ ،‬واالستواء‬
‫بشبهة نفي حلول احلوادث يف القديم ونفي اجلوهرية والعرضية واجلسمية‪}...‬‬
‫فال بد أن نقف عنده وقفة‪ ،‬فنقول‪ :‬مل ينكر األشاعرة شيئا من الصفات‬
‫الوارد يف الكتاب والسنة الصحيحة ثبوهتا هلل تعاىل عىل وجه احلقيقة‪ ،‬وال أنكر‬
‫ذلك واحد من األشاعرة!‬
‫لكن األشاعرة وغريهم من أهل السنة قديام وحديثا قامت عندهم‬
‫الدالئل النقلية القطعية والعقلية اليقينية عىل أنه تعاىل ليس كمثله يشء‪ ،‬وأنه‬
‫تعاىل خمالف للحوادث‪ ،‬وأنه تعاىل قديم بصفاته الذاتية ال حتل فيه احلوادث‪،‬‬
‫وال يكون حمال للتغري واالنفعال‪ ،‬ثم إهنم وجدوا بعض الصفات الوارد يف‬
‫الكتاب والسنة الصحيحة ثبوهتا هلل تعاىل لو محلت عىل معانيها احلقيقية‬
‫ألفادت التشبيه ومماثلة اهلل تعاىل للحوادث‪ ،‬وكونه حمال للحوادث وللتغري‬
‫واالنفعال‪ ،‬وكون بعض الصفات القائمة بذاته حادثة‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫فعند ذلك افرتقوا فرقتني‪ :‬الفرقة األوىل‪ :‬نفت املعاين احلقيقية مما هو حمال‬
‫يف حقه تعاىل أن تكون مرادة من هذه النصوص‪ ،‬ومل ختض يف تعيني املعاين‬
‫املرادة من هذه النصوص‪ ،‬بل فو َضتها إىل اهلل تعاىل‪ ،‬ويسمى هذا بالتأويل‬
‫اإلمجايل‪ ،‬وعىل هذا معظم السلف يف معظم هذه النصوص‪.‬‬
‫والفرقة الثانية نفت أن تكون هذه املعاين مرادة من هذه النصوص‪،‬‬
‫وحاولت مع ذلك بيان املعنى املراد عىل سبيل االحتامل والظن ال عىل سبيل‬
‫القطع واجلزم‪ .‬وعىل هذا معظم اخللف يف معظم هذه النصوص‪ ،‬ويسمى هذا‬
‫بمذهب التأويل‪ ،‬ويسمى املذهب األول بمذهب التفويض‪ .‬والتأويل البد أن‬
‫يكون برشوطه‪ .‬وسيأيت بيان هذه الرشوط مع تفصيل املسألة فيام بعد‪.‬‬
‫وبعد هذه املقدمة نقول‪ :‬املتبادر من الغضب ما يعرض لإلنسان من احلنق‬
‫بعد ما مل يكن ويزول بعد ما كان‪ ،‬وكذلك الرضا املتبادر منه ما ُيصل لإلنسان‬
‫من االنبساط بعد ما مل يكن‪ ،‬ثم يزول‪ .‬وال شك أن هذا تغري وانفعال‬
‫وحدوث أمر مل يكن قبل‪ .‬واهلل تعاىل ال يكون حمال للحوادث‪ ،‬وال جيرى عليه‬
‫التغري واالنفعال‪ ،‬فال يصح إثبات الغضب والرضا هلل تعاىل هبذين املعنيني‪،‬‬
‫فإما أن ننفي هذين املعنيني عن اهلل تعاىل مع إثبات الريض والغضب باملعنى‬
‫الذي أراده بدون أن نبيرنه‪ ،‬وإما أن نثبت الريض والغضب هلل تعاىل ليس هبذين‬
‫املعنيني‪ ،‬بل بمعنيني آخرين جائزين عىل اهلل تعاىل‪ ،‬وإىل ما قلناه أشار الباقالين‬
‫يف كتابه "اإلنصاف" مع جريه عىل طريقة اخللف‪ .‬قال‪( :‬وأنه سبحانه مل يزل‬

‫‪113‬‬
‫مريدا وشائيا‪ ،‬وحمبا ومبغضا‪ ،‬وراضيا وساخطا‪ ،‬ومواليا ومعاديا‪ ،‬ورحيام‬
‫ورمحانا‪ ،‬وألن مجيع هذه الصفات راجعة إىل إرادته يف عباده ومشيئته‪ ،‬ال إىل‬
‫غضب يغريه‪ ،‬ورىض يس ركنه طبعا له‪ ،‬وحنق وغيظ يلحقه‪ ،‬وحقد جيده‪ ،‬إذ‬
‫‪79‬‬
‫كان سبحانه متعاليا عن امليل والنفور)‬
‫وقال اإلمام أبو احلسن األشعري يف رسالته إىل أهل الثغر‪( :‬وأمجعوا عىل‬
‫أنه عز وجل يرىض عن الطائعني وأن رضاه هلم إرادته لنعيمهم‪ ،‬وأنه ُيب‬
‫‪80‬‬
‫التوابني ويسخط عىل الكافرين ويغضب عليهم‪ ،‬وأن غضبه إرادته لعذاهبم)‬
‫وقال البيهقي يف "األسامء والصفات"‪( :‬الرىض والسخط عند بعض‬
‫أصحابنا من صفات الفعل‪ ،‬وعند أيب احلسن األشعري يرجعان إىل اإلرادة‪،‬‬
‫فالرىض إرادته إكرام املؤمنني وإثابتهم عىل التأبيد‪ ،‬والسخط إرادته تعذيب‬
‫الكفار وعقوبتهم عىل التأبيد‪ ،‬وإرادته تعذيب فس ِ‬
‫اق املؤمنني إىل ما شاء اهلل‬
‫‪81‬‬
‫تعاىل)‬
‫وقال شيخ احلنابلة القايض أبو يعىل يف "املعتمد يف األصول الدين"‪:‬‬
‫(وجيوز وصفه بالغضب والرىض‪ ...‬ومها إرادته إلثابة املريض عنه وعقوبة‬
‫‪82‬‬
‫املغضوب عليه)‬

‫‪79‬‬
‫‪22‬‬
‫‪73 80‬‬
‫‪81‬‬
‫‪641‬‬
‫‪61 82‬‬

‫‪114‬‬
‫واحلاصل أن الرىض والغضب الثابتني هلل تعاىل ليسا عبارتني عن احلنق‬
‫واالنبساط الذين يعرضان ويزوالن‪ ،‬بل مها إما راجعان إىل صفة الذات التي‬
‫هي إرادة اإلثابة والتعذيب‪ ،‬وإما إىل صفة الفعل وهي اإلثابة والتعذيب‪.‬‬
‫وأما االستواء فلم ينكره أحد من األشاعرة أيضا‪ ،‬وإنام أنكروا أن يكون‬
‫باملعنى املحال يف حقه تعاىل مما هو من صفات املحدثات واألجسام املقتىض‬
‫ملشاهبة اهلل تعاىل بخلقه‪ ،‬فأنكروا أن يكون بمعنى االستقرار والتمكن واحللول‬
‫واالنتقال‪ ،‬وهم يف ذلك موافقون لإلمام أمحد رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬ففي عقيدة اإلمام‬
‫أمحد املطبوعة يف آخر جملد الثاين من طبقات احلنابلة البن أيب يعىل‪« :‬وكان يقول‬
‫يف معنى االستواء‪ :‬هو العلو واالرتفاع‪ ،‬ومل يزل اهلل عاليا رفيعا قبل أن خيلق‬
‫عرشه‪ ،‬فهو فوق كل يشء والعايل عىل كل يشء‪ ،‬وإنام خص اهلل العرش ملعنى‬
‫فيه خمالف لسائر األشياء‪ ،‬والعرش أفضل األشياء وأرفعها‪ ،‬فامتدح اهلل تعاىل‬
‫نفسه بأنه عىل العرش استوى‪ ،‬أي عليه عال‪ .‬وال جيوز أن يقال‪ :‬استوى بمامسة‬
‫وال بمالقاة‪ .‬تعاىل اهلل عن ذلك علوا كبريا‪ ،‬واهلل تعاىل مل يلحقه تغري وال تبدل‪،‬‬
‫‪83‬‬
‫وال يلحقه احلدود قبل خلق العرش وال بعد خلق العرش»‪.‬‬

‫‪196 83‬‬

‫‪115‬‬
‫وقال الباقالين يف "اإلنصاف"‪« :‬وإن اهلل ‪َ -‬جل ثناه‪ -‬مستوى عىل‬
‫العرش‪ ،‬ومستول عىل مجيع خلقه كام قال تعاىل‪( :‬الرمحن عىل العرش استوى)‬
‫‪84‬‬
‫بغري مماسة وكيفية وال جماورة»‪.‬‬
‫وقال الغزايل يف "قواعد العقائد"‪...« :‬وأنه مستوى عىل العرش عىل الوجه‬
‫الذي قاله‪ ،‬وباملعنى الذي أراده‪ ،‬استواء منزها عن املامسة واالستقرار والتمكن‬
‫واحللول واالنتقال‪ ،‬ال ُيمله العرش‪ ،‬بل العرش ومحلته حممولون بلطف‬
‫قدرته» ثم قال‪« :‬تعاىل اهلل عن أن ُيويه مكان‪ ،‬كام تقدس عن أن ُيده زمان‪ ،‬بل‬
‫‪85‬‬
‫كان قبل خلق الزمان واملكان‪ ،‬وهو اآلن عىل ما عليه كان»‪.‬‬
‫‪86‬‬
‫وقال نحو هذا عز الدين بن عبد السالم يف "العقائد" له‪.‬‬
‫هذا كالم هؤالء العلامء من األشاعرة وهو موافق ملا قاله اإلمام أمحد‪.‬‬
‫نعم قد أول بعض األشاعرة االستواء عىل العرش بتأويالت‪ .‬والتأويل إذا‬
‫كان برشوطه صحيح‪ ،‬وليس كل تأويل صحيحا‪.‬‬
‫وهذه التأويالت قد يناقش يف بعضها هل هي صحيحة أم ال؟ وهل هي‬
‫عىل رشوط التأويل أم ال؟ وهذا النقاش إذا كان جاريا عىل حسب قواعد‬
‫العلوم ومقرراهتا أمر طيب جيد‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫‪22‬‬
‫‪7 6 85‬‬
‫‪8 7 86‬‬

‫‪116‬‬
‫وأما نسبة إنكار الصفات الوارد نسبتها إىل اهلل تعاىل يف الكتاب والسنة‬
‫الصحيحة إىل األشاعرة فهذا أمر غري صحيح‪ ،‬وكذلك رد التأويل هلذه‬
‫الصفات إمجاال وإنكار أصل التأويل غري صحيح‪ ،‬فإن أصل التأويل أمر‬
‫رضوري مل ينج منه أحد من علامء األمة ال قديام وال حديثا‪ ،‬وإنام الكالم‬
‫واخلالف يف التوسع فيه‪ .‬فهذا هو الذي أنكره من أنكره من علامء األمة‬
‫وأئمتها وسيأيت تفصيل املسألة إن شاء اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪ -35‬تقسيم األمور الوارد نسبتها إىل اهلل تعاىل إىل أربعة أقسام‪،‬‬
‫وبيان حكم كل قسم منها‪:‬‬
‫وتتميام ملوضوع الصفات نقرر قاعدة مهمة جدا متعلقة بالصفات‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬األصل يف إثبات األسامء والصفات هلل تعاىل ونفيها عنه نوعان من‬
‫النصوص‪:‬النوع األول نصوص الكتاب الواردة بتنـزيه اهلل تعاىل عن كل‬
‫عيب ونقيصة‪ ،‬النوع الثاين النصوص الواردة بمخالفته تعاىل للمحدثات‪.‬‬
‫هذه النصوص هي األصل يف هذا الباب تقيض عىل ما عداها من‬
‫النصوص املتعلقة باألسامء والصفات الواردة يف الكتاب والسنة‪ ،‬وتنَزل ما‬
‫عداها من النصوص عليها‪ ،‬وتفرس عىل وفقها‪.‬‬
‫ثم نقول‪ :‬األمور الوارد نسبتها إىل اهلل تعاىل يف الكتاب والسنة أربعة أنواع‪:‬‬

‫‪117‬‬
‫النوع األول‪ :‬ما يوهم نقصا بالنسبة إىل اهلل سبحانه تعاىل‪ ،‬مثل ما ورد من‬
‫نسبة النسيان إىل اهلل تعاىل يف قوله تعاىل‪( :‬نسوا اهلل فنسيهم)‪ 87‬وقوله‪( :‬فذوقوا بام‬
‫نسيتم لقاء يومكم هذا إنا نسيناكم)‪ 88‬ومثل ما ورد من نسبة املرض إليه تعاىل يف‬
‫احلديث القديس‪( :‬عبدي مرضت فلم تعدين)‬
‫فهذه النصوص جيب نفي ما تومهه من النقص من األصل‪ ،‬وجيب‬
‫تأويلها‪ ،‬وال يتوقف فيها‪ ،‬فمن أجل ذلك أوهلا العلامء‪ ،‬ومل يتوقفوا عن‬
‫تأويلها‪.‬‬
‫وإنام قلنا‪ :‬إن هذه النصوص توهم نقصا‪ ،‬فعربنا باإلهيام‪ ،‬ومل نعرب بالداللة‬
‫أو االقتضاء‪ ،‬ألن كل ما هو من هذا النوع من النصوص مقرون بقرائن تعني‬
‫املعنى املجازي املراد منها‪ ،‬فال جيوز مع ذلك أن يقال‪ :‬إهنا تدل عىل النقص أو‬
‫تفيده أو تقتضيه‪.‬‬
‫النوع الثاين‪ :‬ما يوهم مماثلته تعاىل للمحدثات ومشاهبته هلا من ثبوت‬
‫خواص األجسام واملحدثات هلل تعاىل من األعضاء واجلوارح واحلدود‬
‫والغايات وحلول احلوادث واملكان هلل تعاىل‪ .‬فهذه النصوص أيضا جيب نفي‬
‫ما تومهه عن أن يكون مرادا منها‪ ،‬ثم هل يتوقف بعد هذا النفي‪ ،‬ويفوض‬

‫‪87‬‬
‫‪67‬‬
‫‪88‬‬
‫‪14‬‬

‫‪118‬‬
‫املعنى املراد منها إىل اهلل تعاىل‪ ،‬أو تفرس بمعان يصح نسبتها إىل اهلل تعاىل وفق‬
‫رشوط التأويل؟ املذهبان املعروفان‪ ،‬وعربنا هنا أيضا باإلهيام ملا قلناه آنفا‪.‬‬
‫النوع الثالث‪ :‬ما يفيد ثبوت صفات معنوية هلل تعاىل ال يصح إثباهتا هلل‬
‫تعاىل بحسب ما وضعت له من املعاين اللغوية التي يتصف هبا اإلنسان‪ ،‬ألن‬
‫االتصاف هبا عىل ذلك الوجه يقتيض مماثلته تعاىل للحوادث من التغري‬
‫واالنفعال‪ ،‬وكو َن املتصف هبا حمال للحوادث تعاىل اهلل عن ذلك علوا‬
‫كبريا‪ -‬وذلك مثل الرمحة والرىض والغضب كام قدمناه آنفا‪ .‬وهذا النوع قريب‬
‫من النوع الذي قبله‪ ،‬وجيرى فيه ما جيرى فيه من القولني املعروفني‪ .‬لكنه‬
‫يفرتق عنه فيام سنذكره قريبا‪.‬‬
‫النوع الرابع‪ :‬ما يفيد ثبوت صفات معنوية هلل تعاىل ليس يف إثباهتا هلل تعاىل‬
‫إهيام نقص‪ ،‬وليس هلذه الصفات معان لغوية يمتنع اتصاف اهلل تعاىل هبا‪ ،‬بل‬
‫هذه الصفات مقتىض ذاته تعاىل ومقتىض ̃إهليته وربوبيته من صفات العظمة‬
‫والكامل واجلالل‪ ،‬كاحلياة والعلم والقدرة واإلرادة والسمع والبَص واحلكمة‬
‫والكربياء‪.‬‬
‫فهذا النوع من الصفات جيب إثباته هلل تعاىل باملعنى اللغوي لدواهلا عىل‬
‫وجه الكامل‪ ،‬كام أن بعضا منها ثابت لغريه تعاىل لكن ال عىل وجه الكامل‪ ،‬فإهنا‬
‫يف املخلوقات عارضة ناقصة‪ ،‬و يف اهلل تعاىل واجبة يف غاية ما يتصور من‬

‫‪119‬‬
‫الكامل‪ .‬فهذا النوع من الصفات أيضا تنفى عنها مماثلتها لصفات املخلوقني‬
‫لكن من جهة الكيف ال من جهة األصل‪.‬‬
‫فنفي مماثلته تعاىل للحوادث املدلول عليه بقوله تعاىل‪( :‬ليس كمثله يشء وهو‬
‫السميع البصري) وبغريه من اآليات ثابت هلل تعاىل بالنسبة إىل احلوادث كلها‬
‫ذواهتا وصفاهتا‪ ،‬لكن نفي املامثلة بالنسبة إىل بعض صفات املحدثني متوجه إىل‬
‫أصلها ووجودها‪ ،‬فيمتنع قيامها باهلل تعاىل من األصل ويف بعضها إىل كيفيتها‬
‫ووصفها‪ ،‬فيمتنع قيامها باهلل تعاىل عىل الوجه املوجود يف املخلوقني‪.‬‬
‫وقد أشار اهلل تعاىل إىل هذا بقوله‪( :‬وهو السميع البصري)‪ ،‬حيث أثبت‬
‫لنفسه السمع والبَص بعد نفيه تعاىل املامثلة للحوادث عن نفسه‪ ،‬فنبه بذلك‬
‫عىل أن نفي مماثلة األشياء له إنام هو عىل الطريق الذي ذكرناه‪.‬‬
‫ومن هذا التفصيل ظهر أنه يصح أن يقال‪ :‬هلل تعاىل علم ليس كعلمنا‬
‫وقدرة ليس كقدرتنا إىل غري ذلك من النوع األخري من الصفات‪ ،‬وال يصح أن‬
‫يقال‪ :‬هلل تعاىل نسيان ليس كنسياننا وال مرض ليس كمرضنا‪ :‬وذلك ألن‬
‫املرض منفي عن اهلل تعاىل من األصل رأسا‪ ،‬وكذلك النسيان‪ :‬قال اهلل تعاىل‪:‬‬
‫(وما كان ربك نسيا)‬

‫‪121‬‬
‫وجنب ال‬
‫ٌ‬ ‫‪ -37‬هل يصح أن يقال‪ :‬هلل تعاىل يدٌ ال كيدنا‬
‫كجنبنا‪....‬؟‬
‫وأما أنه هل يصح أن يقال‪ :‬هلل يد ال كيدنا وجنب ال كجنبنا ورجل ال‬
‫كرجلنا وأصبع ال كأصبعنا؟ وهل يصح أن يقال‪ :‬هلل تعاىل رمحة ليست كرمحتنا‬
‫ورىض ليس كرضانا وغضب ليس كغضبنا؟‪ .‬الثاين صحيح واألول غري‬
‫صحيح‪ .‬والفرق بينهام من وجوه‪:‬‬
‫األول‪ :‬أنك يف الثاين تثبت صفة معنوية هلل تعاىل أثبتها اهلل تعاىل لنفسه من‬
‫الرىض والغضب ونحومها‪ ،‬ثم تنفي عن اهلل تعاىل ما يومهه اللفظ من التغري‬
‫واالنفعال الذي هو عىل اهلل تعاىل حمال‪ ،‬فتعود هذه الصفات إىل صفة اإلرادة أو‬
‫إىل صفة الفعل كام قدمناه‪ ،‬فيكون كالمك من نوع قولنا‪ :‬هلل علم ال كعلمنا حيث‬
‫أثبت هلل تعاىل العلم‪ ،‬ونفيت أن يكون عىل وجه النقص الذي هو يف حقه تعاىل‬
‫حمال‪ ،‬فينفعك قولك‪« :‬ليس كرضانا» بعد قولك‪« :‬هلل تعاىل رضا» حيث يفيد‬
‫قولك هذا أن رضاه تعاىل ونحوه ليس عىل وجه التغري واالنفعال الذي هو عىل‬
‫اهلل حمال‪.‬‬
‫وأما يف قولك‪« :‬هلل تعاىل يد ال كيدنا» فمن أجل أن اليد موضوع للعضو‬
‫املعلوم‪ ،‬وهي منفية عن اهلل تعاىل أصال بدالئل خمالفته للحوادث‪ ،‬فقد أث َبت‬
‫بقولك هذا هلل ما هو منفي عنه أصال ورأسا‪ ،‬ومل تثبت له ما هو ثابت له أصال‬

‫‪121‬‬
‫ومنفي عنه وصفا وكيفية‪ ،‬حتى ينفعك بعد قولك‪« :‬هلل يد» قولك‪« :‬ال كيدنا»‪،‬‬
‫بل يكون قولك‪« :‬ال كيدنا» كالما ال معنى له ومناقضا لقولك‪" :‬هلل يد" إن كنت‬
‫أردت بقولك‪« :‬ال كيدنا» نفي الوصف واألصل ألنك نفيت به ما أثبته بقولك‪:‬‬
‫"هلل يد"‪ ،‬ويكون مؤكدا للتشبيه والتمثيل إن أردت بقولك‪« :‬ال كيدنا» نفي‬
‫الوصف دون األصل ألنك تكون قد أثبت هلل أصل اجلارحة‪ ،‬ونفيت عنها‬
‫الوصف واهليئة املخصوصة ليد اإلنسان‪ ،‬فيكون كالمك هذا من قبيل قولك‪:‬‬
‫«هلل نسيان ال كنسياننا ومرض ال كمرضنا»‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬أن اهلل تعاىل قد أسند الرمحة والرىض والغضب ونحوها إىل نفسه‬
‫يف كتابه وعىل لسان رسوله عىل وجه اإلسناد التام الذي هو بني الفعل وفاعله‬
‫واملبتدأ وخربه ونحوها‪ ،‬حيث وصف اهلل تعاىل نفسه بالغفور الرحيم والرمحن‬
‫الرحيم‪ ،‬وقال‪( :‬إال من رحم اهلل) الدخان ‪ 42‬وقال تعاىل‪( :‬ريض اهلل عنهم‬
‫ورضوا عنه) وقال‪( :‬وغضب اهلل عليهم)‬
‫وأما ما هو موضوع لألعضاء واجلوارح ونحوها فلم يرد يف كالم اهلل‬
‫تعاىل وكالم رسوله إسنادها إىل اهلل تعاىل عىل هذا الوجه‪ ،‬وإنام ورد نسبتها إىل‬
‫اهلل تعاىل عىل وجه اإلضافة فقط كقوله تعاىل‪( :‬بيده امللك) وقوله‪( :‬يف جنب‬
‫اهلل)‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن الرىض والرمحة والغضب ونحوها قد سيقت يف كالم اهلل تعاىل‬
‫وكالم رسوله عىل وجه إثباهتا هلل تعاىل‪ ،‬ومل تسق َّف كالمهام عىل طريق إثبات‬

‫‪122‬‬
‫أمر آخر هلل تعاىل‪ ،‬وأما اليد واجلنب والرجل واألصبع ونحوها فلم تسق َّف‬
‫كالم اهلل تعاىل وكالم رسوله عىل طريق إثباهتا هلل تعاىل‪ ،‬بل سيقت عىل طريق‬
‫إثبات أمر آخر هلل تعاىل‪ .‬فمثال قوله تعاىل‪( :‬تبارك الذي بيده امللك) سيق‬
‫إلثبات امللوكية والسلطنة املطلقة هلل تعاىل ‪،‬ال إلثبات اليد هلل تعاىل‪ ،‬وقوله‬
‫تعاىل‪( :‬يا حرستا عىل ما فرطت يف جنب اهلل) سيق إلثبات احلرسة عىل‬
‫التفريط يف حقوق اهلل‪ ،‬ال إلثبات اجلنب هلل تعاىل‪.‬‬
‫وقول النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪( :‬إن قلب ابن آدم بني أصبعني‬
‫من أصابع الرمحن) سيق لبيان أن قلب اإلنسان طوع إرادته تعاىل وقدرته يقلبه‬
‫كيف يشاء‪ ،‬ومل يرد إلثبات األصابع هلل تعاىل‪ ،‬وال لبيان أن يف جوف كل‬
‫إنسان أصبعني من أصابع الرمحن مكتنفتني بقلبه‪ ،‬تعاىل اهلل عن ذلك علوا‬
‫كبريا‪ ،‬إىل غري ذلك من األمثلة‪ ،‬واهلل تعاىل أعلم بالصواب‪.‬‬
‫قال الدكتور سفر‪{ :‬الثالث التوحيد‪ :21‬التوحيد عند أهل السنة واجلامعة‬
‫معروف بأقسامه الثالثة‪ ،‬وهو عندهم أول واجب عىل املكلف‪ ..‬أما األشاعرة‬
‫قدمائهم ومعارصوهم فالتوحيد عندهم هو نفي التثنية أو التعدد‪ ،‬ونفي‬
‫التبعيض والتجزئة‪ ،‬أي بحسب تعبريهم «نفي الكمية املتصلة والكمية‬
‫املنفصلة»‪ ،‬ومن هذا املعنى فرسوا اإلله بأنه اخلالق أو القادر عىل اإلخرتاع‪،‬‬
‫وأنكروا بعض الصفات كالوجه واليد والعني ألهنا تدل عىل الرتكيب‬
‫واألجزاء عندهم‪ .‬أما التوحيد احلقيقي وما يقابله من الرشك ومعرفته‬

‫‪123‬‬
‫والتحذير منه فال ذكر له يف كتب عقيدهتم إطالقا‪ ،‬وال أدرى أين يضعونه؟‪:‬‬
‫أيف كتب الفروع؟ فليس فيها‪ ،‬أم يرتكونه باملرة؟ فهذا الذي أجزم به}‬
‫أقول‪ :‬يقصد الدكتور باألقسام الثالثة للتوحيد ما شهره ابن تيمية من‬
‫تقسيم التوحيد إىل توحيد الربوبية‪ ،‬وتوحيد األلوهية‪ ،‬وتوحيد األسامء‬
‫والصفات‪.‬‬
‫وقد كتبنا رسالة متعلقة هبذا املوضوع فنوردها هنا بنصها‪ ،‬ثم نعود إىل‬
‫كالم الدكتور‪ .‬وهي هذه‪:‬‬

‫‪-36‬التقسيم الثالثي للتوحيد بني األشاعرة وابن تيمية‪:‬‬


‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬
‫قسم األشاعرة التوحيد إىل ثالثة أقسام‪ :‬توحيد الذات‪ ،‬و توحيد‬
‫الصفات‪ ،‬وتوحيد األفعال‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫وكذلك قسم ابن تيمية التوحيد إىل ثالثة أقسام‪ :‬توحيد الربوبية‪ ،‬وتوحيد‬
‫أي‬
‫األلوهية وتوحيد األسامء والصفات‪ .‬ومقصدنا يف هذا البحث أن نبني أن ُّ‬
‫التقسيمني أقرب إىل الصواب‪ ،‬وأوىل بالقبول‪.‬‬
‫فننقل أوال كالم األشاعرة يف التوحيد وأقسامه‪ ،‬ثم ننقل كالمهم عىل‬
‫الكفر وأسبابه وأقسامه‪ ،‬وبعد ذلك ننثنري عىل تقسيم ابن تيمية للتوحيد‬
‫ونتكلم عليه‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫قد قسم األشاعرة التوحيد إىل ثالثة أقسام‪ :‬توحيد الذات‪ ،‬وتوحيد‬
‫الصفات‪ ،‬وتوحيد األفعال‪ .‬قال كامل الدين ابن أيب رشيف يف املسامرة رشح‬
‫املسايرة‪ :‬التوحيد هو اعتقاد الوحدانية يف الذات والصفات واألفعال‪ .89‬أي إنه‬
‫ثالثة أقسام‪ :‬توحيد الذات‪ ،‬وتوحيد الصفات‪ ،‬وتوحيد األفعال‪.‬‬
‫وقد خيتَص األشاعرة‪ :‬فيقولون‪ :‬التوحيد اعتقاد عدم الرشيك يف اإل̃هلية‬
‫وخواصها‪ .‬قال سعد الدين التفتازاين يف رشح املقاصد‪:90‬‬
‫حقيقة التوحيد اعتقاد عدم الرشيك يف اإلهلية وخواصها‪ ،‬وال نزاع ألهل‬
‫اإلسالم يف أن تدبري العامل‪ ،‬وخلق األجسام‪ ،‬واستحقاق العبادة‪ ،‬وقدم ما يقوم‬
‫بنفسه‪ ،‬كلها من اخلواص‪...‬‬

‫‪43 89‬‬
‫‪27 3 90‬‬

‫‪125‬‬
‫وباجلملة فنفي الرشيك يف اإلهلية ثابت عقال ورشعا‪ ،‬ويف استحقاق‬
‫العبادة رشعا (وما أمروا إال ليعبدوا إ̃هلا واحدا ال إ̃له إال هو سبحانه عام‬
‫‪91‬‬
‫يرشكون)‬
‫وقال ابن اهلامم يف املسايرة‪« :‬ملا ثبت وحدانيته يف اإل̃هلية ثبت استناد كل‬
‫احلوادث إليه»‬
‫اإلهلية االتصاف بالصفات التي ألجلها‬
‫وقال ابن أيب رشيف يف رشحه‪̃ :‬‬
‫استحق أن يكون معبودا‪ ،‬وهي صفاته التي توحد هبا سبحانه‪ ،‬فال رشيك له‬
‫يف يشء منها‪ ،‬وتسمى خواص اإل̃هلية‪ ،‬ومنها اإلجياد من العدم وتدبري العامل‬
‫‪92‬‬
‫والغنى املطلق‬
‫وقال أيضا‪« :‬واعلم أن الوحدة تطلق بمعنى انتفاء قبول االنقسام‪،‬‬
‫وبمعنى انتفاء الشبيه‪ ،‬والباري تعاىل واحد بكل من املعنيني أيضا‪ .‬أما األول‪:‬‬
‫فلتعاليه عن الوصف بالكمية والرتكيب من األجزاء واحلد واملقدار‪ .‬وأما‬
‫‪93‬‬
‫الثاين‪ :‬فحاصله انتفاء املشابه له تعاىل بوجه من الوجوه»‪.‬‬
‫وأما كالم األشاعرة عىل الكفر وأسبابه وأقسامه فننقل فيه كالم ابن اهلامم‬
‫يف املسايرة مع رشحه البن أيب رشيف وذلك ملا اشتمل عليه كالمهام من‬

‫‪91‬‬
‫‪31‬‬
‫‪92‬‬
‫‪58‬‬
‫‪93‬‬
‫‪43‬‬

‫‪126‬‬
‫بيانات تتعلق بموضوع التوحيد والرشك‪ ،‬ومن االستدالل عىل وجود اهلل‬
‫تعاىل باألدلة القرآنية وبشهادة الفطرة‪ .‬وابن اهلامم وإن كان حنفي املذهب لكنه‬
‫جار عىل منهج األشاعرة يف العقيدة‪ ،‬وأما كامل الدين ابن أيب رشيف فهو‬
‫شافعي أشعري‪ .‬وإليك كالمهام‪:‬‬
‫(األصل األول العلم بوجوده) تعاىل‪ ،‬وأوىل ما يستضاء به من األنوار‪،‬‬
‫ويسلك من طرق االعتبار ما اشتمل عليه القرآن‪ ،‬فليس بعد بيان اهلل تعاىل‬
‫بيان ( وقد أرشد سبحانه إليه) أي إىل وجوده تعاىل (بآيات نحو) قوله تعاىل‪:‬‬
‫(إن يف خلق السموات واألرض واختالف الليل والنهار والفلك التي جتري‬
‫يف البحر بام ينفع الناس وما أنزل اهلل من السامء من ماء فأحيا به األرض بعد‬
‫موهتا وبث فيها من كل دابة وتَصيف الرياح والسحاب املسخر بني السامء‬
‫واألرض آليات‪ .‬و) نحو (قوله)‪ ( :‬أفرأيتم ما متنون أأنتم ختلقونه أم نحن‬
‫اخلالقون‪ .‬و) قوله تعاىل‪( :‬أفرأيتم ما حترثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون‬
‫لو نشاء جلعلناه حطاما) أي متحطام وهو املتكرس ليبسه (و) قوله تعاىل‬
‫(أفرأيتم املاء الذي ترشبون أأنتم أنزلتموه من املزن) أي‪ :‬السحاب (أم نحن‬
‫املنزلون) لو نشاء جعلناه أجاجا‪ .‬أي شديد امللوحة ال يمكن ذوقه (و) قوله‬
‫‪94‬‬
‫تعاىل‪ ( :‬أفرأيتم النار التي تورون أأنتم أنشأتم شجرهتا أم نحن املنشئون)‬

‫‪ 94‬الواقعة ‪.72-58‬‬

‫‪127‬‬
‫فمن أدار نظره يف عجائب تلك املذكورات من األرضني والساموات‬
‫وبدائع فطرة احليوان والنبات‪ ،‬وسائر ما اشتملت عليه اآليات (اضطره) ذلك‬
‫(إىل احلكم بأن هذه األمور مع هذا الرتتيب املحكم الغريب ال يستغنى كل)‬
‫منها ( عن صانع أوجده) من العدم (وحكيم رتبه) عىل قانون وضع فيه فنونا‬
‫من احلكم (وعىل هذا درجت كل العقالء إال من ال عربة بمكابرهتم) وهم‬
‫بعض الدهرية‪.‬‬
‫(وإنام كفروا باإلرشاك) حيث دعوا مع اهلل إهلا آخر‪( .‬ونسبة) أي بنسبة‬
‫(بعض احلوادث إىل غريه تعاىل وإنكار) أي وبإنكار (ما جعل اهلل تعاىل إنكاره‬
‫كفرا كالبعث وإحياء املوتى)‪.‬‬
‫ومثل املصنف للذين أرشكوا بقوله‪( :‬كاملجوس بالنسبة إىل النار) حيث‬
‫عبدوها‪ ،‬فدعوها إهلا آخر‪ ،‬تعاىل اهلل عن ذلك (والوثنيني باألصنام) أي بسببها‬
‫فإهنم عبدوها‪( .‬والصابئة بالكواكب) أي بسبب الكواكب حيث عبدوها من‬
‫دون اهلل تعاىل‪.‬‬
‫وأما نسبة احلوادث إىل غريه تعاىل فاملجوس ينسبون الرش إىل َأه َر َمن‪،‬‬
‫والوثنيون ينسبون بعض اآلثار إىل األصنام كام أخرب اهلل تعاىل عنهم بقوله‪( :‬إن‬
‫نقول إال اعرتاك بعض آهلتنا بسوء)‪ ،‬والصابئون ينسبون بعض اآلثار إىل‬
‫الكواكب‪ ،‬تعاىل اهلل عام يرشكون‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫(واعرتف الكل بأن خلق الساموات واألرض واأللوهية األصلية هلل تعاىل‪.‬‬
‫قال اهلل تعاىل‪( :‬ولئن سألتهم من خلق الساموات واألرض ليقولن اهلل) (فهذا)‬
‫أي االعرتاف بام ذكر (كان) ثابتا (يف فطرهم) من مبدأ خلقهم‪ ،‬قد جبلت عليه‬
‫عقوهلم‪ .‬قال اهلل تعاىل‪( :‬فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة اهلل التي فطر الناس‬
‫عليها ال تبديل خللق اهلل ذالك الدين القيم‪ ،‬ولكن أكثر الناس ال يعلمون)‬
‫(ولذا) أي لكون االعرتاف بام ذكر ثابتا يف فطرهم (كان املسموع من‬
‫األنبياء)‪-‬املبعوثني عليهم أفضل الصالة والسالم‪( -‬دعوة اخللق إىل التوحيد)‬
‫واملراد به هنا اعتقاد عدم الرشيك يف األلوهية وخواصها كتدبري العامل‪،‬‬
‫واستحقاق العبادة‪ ،‬وخلق األجسام‪ ،‬بدليل أنه بني التوحيد بقوله‪( :‬شهادة أن‬
‫ال إله إال اهلل‪ ،‬دون أن يشهدوا أن للخلق إهلا) ملا مر من أن ذلك كان ثابتا يف‬
‫فطرهم‪ ،‬ففي فطرة اإلنسان وشهادة آيات القرآن ما يغنى عن إقامة الربهان‪.‬‬
‫‪95‬‬
‫انتهى كالم املسايرة مع رشحها املسامرة‪.‬‬
‫هذا هو كالم األشاعرة يف التوحيد ويف الرشك حيث فرسوا التوحيد‬
‫باعتقاد الوحدانية هلل تعاىل يف الذات والصفات واألفعال‪َ ،‬أ ُّي باعتقاد أنه ال‬
‫يوجد ذات مثل ذاته‪ ،‬وال يوجد لغريه صفات مثل صفاته‪ ،‬وأنه املتفرد بخلق‬
‫األشياء وإجيادها وليس لغريه أي دخل يف خلق األشياء وإجيادها‪.‬‬

‫‪17 16 15 95‬‬

‫‪129‬‬
‫وبعبارة أخرى‪ :‬التوحيد‪ :‬اعتقاد عدم الرشيك يف اإل̃هلية وخواصها‪.‬‬
‫إلهلية هي االتصاف بالصفات التي ألجلها استحق املتصف هبا أن يكون‬
‫وا ̃‬
‫معبودا‪.‬‬
‫وهذه الصفات هي املسامت بخواص اإل̃هلية‪ ،‬وهي خلق العامل‪ ،‬وتدبريه‬
‫واستحقاق العبادة‪ ،‬والتفرد بحق الترشيع‪ ،‬والغنى املطلق عن غريه‪.‬‬
‫وقد يعربون عن هذا التوحيد بنفي التشبيه أي‪ :‬اعتقاد أنه ال مشابه له‬
‫تعاىل بوجه من الوجوه ال يف ذاته وال يف صفاته وال يف أفعاله ( ليس كمثله‬
‫يشء وهو السميع البصري)‬
‫هذا هو معنى التوحيد‪ ،‬وهو الذي به بعثت األنبياء‪ ،‬ويقابله الرشك‪ ،‬وهو‬
‫اعتقاد الرشيك هلل تعاىل يف ذاته‪ ،‬أو يف صفاته أو يف أفعاله‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى هو اعتقاد الرشيك يف اإل̃هلية وخواصها أو يف يشء من‬
‫خواصها‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى هو اعتقاد املشابه هلل تعاىل يف ذاته أو يف صفاته أو يف أفعاله‪.‬‬
‫وقد يطلق التوحيد عىل نفي قبول االنقسام لتعاليه تعاىل عن الوصف‬
‫بالكمية والرتكيب من األجزاء واحلد واملقدار‪.‬‬
‫هذا حاصل كالم األشاعرة يف التوحيد والرشك‪ ،‬وهو كالم دقيق حمقق ال‬
‫غبار عليه‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫وأما التقسيم الثالثي للتوحيد الذي قرره ابن تيمية فنتكلم عليه بيشء من‬
‫التوسع ونبدأ أوال بالكالم عىل توحيد الربوبية وتوحيد األلوهية‪.‬‬
‫وقبل اخلوض يف ذلك نتكلم عىل كلمتي الربوبية واأللوهية‪ .‬فنقول وباهلل‬
‫التوفيق‪:‬‬
‫الربوبية‪ :‬اسم موضوع للداللة عىل الصفات التي يتصف هبا الرب اخلالق‬
‫جل وعال أي الصفات التي يقتضيها كونه تعاىل ربا‪.‬‬
‫الصبي أو‬
‫َ‬ ‫والرب‪ :‬يف األصل مصدر َر ّب َير ُّب‪ ،‬يقال‪َ :‬رب ٌ‬
‫فالن الولدَ أو‬
‫املهر َير ًّبه ربا‪ ،‬كام يقال‪ :‬رباه يربيه تربية‪ ،‬والرتبية كام يقولون‪ -‬تبليغ اليشء‬
‫َ‬
‫إىل الكامل شيئا فشيئا‪.‬‬
‫ثم نقلت كلمة الرب من معنى املصدر إىل معنى املريب‪ ،‬ثم توسع يف‬
‫معناها فأطلقت عىل السيد واألمري‪ ،‬ومالك اليشء‪ ،‬واملنعم إىل غري ذلك من‬
‫املعاين القريبة ألصل معناه‪.‬‬
‫وملا كانت الرتبية احلقيقية لكل املخلوقات بخلقها ابتداء‪ ،‬وإمدادها بالبقاء‬
‫ورعايتها وتنميتها‪ ،‬صفة من صفات الرب جل وعال‪ ،‬كان سبحانه هو رب‬
‫العاملني‪ ،‬ورب كل يشء‪ ،‬فالربوبية هي الوصف اجلامع لكل صفات اهلل ذات‬
‫العالقة واألثر يف خملوقاته واسم الرب هو االسم الدال عىل كل هذه‬
‫الصفات‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫وإِهلة‪ ،‬وقال أهل‬
‫وأما كلمة األلوهية فبمعنى العبادة‪ ،‬ويقال فيها‪ :‬ألو َهة ̃‬
‫اللغة‪ :‬الت َأ ُّله هو التعبد والتنسك‪ ،‬والتأليه هو التعبيد‪ ،‬وقالوا‪̃ :‬إله عىل وزن ِفعال‬
‫هو بمعنى مفعول‪ ،‬أي‪ :‬مألوه بمعنى معبود‪ ،‬سواء كان معبودا بحق أم بباطل‪،‬‬
‫فاإلله هو املعبود‪(.‬انظر لسان العرب والقاموس املحيط)‬
‫̃‬
‫فظهر من هذا أن األلوهية بمعنى العبادة‪ ،‬وليس بمعنى الكون إهلا‪ ،‬وأن‬
‫إطالقه عىل هذا املعنى يف كالم كثري من العلامء حلن‪ ،‬وإنام الذي يصح إطالقه‬
‫اإلهلية" مصدر جعيل من كلمة اإل̃له‪ ،‬وهو الذي‬
‫عىل هذا املعنى هو كلمة " ̃‬
‫استعمله املحققون من العلامء‪ ،‬فمعنى ال إ̃له إال اهلل ال معبود بحق إال اهلل‪،‬‬
‫بمعنى ال متصف بالصفات التي ألجلها استحق أن يكون معبودا إال اهلل‪،‬‬
‫وهذه الصفات هي املسامة بخواص اإل̃هلية‪ ،‬وهي خلق العامل وتدبريه وتربيته‬
‫أي تبليغه إىل الكامل شيئا فشيئا‪ ،‬والغنى املطلق عن غريه‪ ،‬وافتقار ما سواه إليه‬
‫وتفرده بحق الترشيع‪ ،‬ويتفرع عن هذه الصفات وينبني عليها استحقاق‬
‫العبادة‪.‬‬
‫فظهر من هذا أن توحيد اإلهلية أي إفراد اهلل تعاىل بالعبادة متفرع عن‬
‫توحيد الربوبية ومنبن عليه ومالزم له‪ ،‬فالناس إنام يعبدون من يعتقدون فيه‬
‫الربوبية سواء اعتقدوا فيه ربوبية كبرية مطلقة‪ ،‬وهذا ما أثبته ر‬
‫املتأهلون هلل تعاىل‪،‬‬
‫أم اعتقدوا فيه ربوبية حمدودة صغرية مستمدة من الرب األكرب‪ ،‬وهذا ما كان‬
‫يعتقده يف معبودهيم معظم أصناف الذين كانوا يعبدون إ̃هلا أو آهلة من دون‬

‫‪132‬‬
‫اهلل‪ ،‬فإن معظمهم كانوا يعبدوهنم بناء عىل اعتقادهم أن اهلل تعاىل قد فوض‬
‫إليهم التَصف يف بعض األمور‪ ،‬وختىل هلم عنها‪ ،‬بمعنى أن اهلل تعاىل قد‬
‫خوهلم ربوبية صغرية حمدودة فاستحقوا بذلك أن يع َبدوا استعطافا لرمحتهم‪،‬‬
‫وابتعادا عن غضبهم وسخطهم‪ .‬فمن أجل أهنم اعتقدوا فيهم الربوبية‬
‫اعتقدوا فيهم اإلهلية‪.‬‬
‫والذين يعبدون من دون اهلل ̃إهلا أو آهلة أصناف‪:‬‬
‫الصنف األول‪ :‬هم الذين حتدث اهلل عنهم بقوله‪( :‬أال هلل الدين اخلالص‬
‫والذين اختذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إال ليقربونا إىل اهلل زلفى إن اهلل ُيكم‬
‫‪96‬‬
‫بينهم فيام كانوا فيه خيتلفون إن اهلل ال هيدى من هو كاذب كفار)‬
‫فهذا الصنف من املرشكني يؤمنون باهلل تعاىل‪ ،‬وال يعتقدون فيام يعبدونه‬
‫من دون اهلل مشاركة هلل ال يف اخللق وال يف التَصف يف أحوال أهل األرض‬
‫من رزق وصحة ومحل ووالدة وكون اجلنني ذكرا أو سليام‪ ،‬ونحو ذلك‪.‬‬
‫وإنام يعتقدون فيهم أن اهلل تعاىل قد جعلهم وسطاء بينه وبني عباده‪ ،‬وأنه‬
‫ال يتم تقرب العبد إىل اهلل تعاىل إال بواسطتهم‪ ،‬وعن طريق تقريب هذا‬
‫الوسيط هلم إىل اهلل تعاىل‬

‫‪96‬‬
‫‪3‬‬

‫‪133‬‬
‫والصنف الثاين‪ :‬هم الذين حتدث اهلل تعاىل عنهم بقوله‪( :‬فمن أظلم ممن‬
‫افرتى عىل اهلل كذبا أو كذب بآياته إنه ال يفلح املجرمون ويعبدون من دون اهلل‬
‫ما ال يرضهم وال ينفعهم ويقولون هؤالء شفعائنا عند اهلل قل أتنبؤون اهلل بام‬
‫‪97‬‬
‫ال يعلم يف الساموات واألرض سبحانه وتعاىل عام يرشكون)‬
‫فهذا الصنف من املرشكني مل يكونوا يعبدون آهلتهم ألجل أن تنفعهم يف‬
‫أمور دنياهم وال ألجل أن ال ترضهم فيها‪ ،‬بل كانوا يعبدوهنم ألهنم كانوا‬
‫يعتقدون يف آهلتهم أهنم يملكون الشفاعة عند اهلل بدون إذن من اهلل‪ ،‬أو أن اهلل‬
‫قد خوهلم هذا التَصف اخلاص وهو التَصف يف الشفاعة‪ ،‬وأهنم يتَصفون يف‬
‫الشفاعة عىل حسب ما يشاءون ال عىل حسب ما يشاء اهلل تعاىل‪.‬‬
‫وقد أشار اهلل تعاىل إىل هذا املعنى بقوله تعاىل‪( :‬أم اختذوا من دون اهلل‬
‫شفعاء قل أولو كانوا ال يملكون شيئا وال يعقلون قل هلل الشفاعة مجيعا له‬
‫ملك الساموات واألرض ثم إليه ترجعون)‪ 98‬فرد اهلل تعاىل عليهم بأمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬أهنم ال يملكون شيئا ال الشفاعة وال غريها‪ .‬وهذا رد عىل اعتقادهم‬
‫أهنم يملكون الشفاعة عند اهلل بدون إذن من اهلل‪ ،‬فإن امللك يقتىض تَصف‬
‫صاحبه فيام ملكه بدون إذن من أحد‪ .‬واألمر الثاين‪ :‬أن الشفاعة كلها هلل فام من‬

‫‪97‬‬
‫‪18 17‬‬
‫‪98‬‬
‫‪44 43‬‬

‫‪134‬‬
‫شافع يشفع إال بإذنه‪ ،‬وليست الشفاعة وحدها هلل‪ ،‬بل له ملك الساموات‬
‫واألرض وإليه ترجعون‪ ،‬فيفصل بينكم وجيازيكم عىل عقائدكم‪ ،‬وأعاملكم‪.‬‬
‫فاملرشكون من هذا الصنف كانوا يعتقدون يف آهلتهم ملك الشفاعة‬
‫والتَصف فيها حسب ما شاءوا ال حسب ما شاء اهلل‪ ،‬وكان املرشكون‬
‫يعبدوهنم استعطافا هلم وجلبا لرمحتهم أن يشفعوا هلم عند اهلل‪.‬‬
‫والصنف الثالث من املرشكني‪ :‬كانوا يعتقدون يف آهلتهم النفع والرض‪،‬‬
‫وإهنا جتلب هلم اخلريات وتدفع عنهم الباليا وتنَصهم عىل أعدائهم‪،‬‬
‫ويعتقدون أن اهلل تعاىل قد خوهلم هذه الربوبية الصغرية‪ ،‬كام يويل امللوك الوالة‬
‫عىل املناطق الصغرية‪ ،‬فكان هذا الصنف يعتقدون يف آهلتهم هذه الربوبية‬
‫الصغرية ومن أجل ذلك كانوا يعبدوهنم ر‬
‫ويأهلوهنم‪.‬‬
‫وقد ذكر اهلل تعاىل هذا الصنف بقوله‪( :‬واختذوا من دون اهلل آهلة لعلهم‬
‫ينَصون ال يستطيعون نَصهم وهم هلم جند حمرضون)‪ 99‬وقوله تعاىل‪( :‬واختذوا‬
‫‪100‬‬
‫من دون اهلل آهلة ليكون هلم عزا كال سيكفرون بعبادهتم ويكونون عليهم ضدا)‬
‫أي واختذ املرشكون من دون اهلل آهلة يعبدوهنا لتجازهيم عىل عبادهتم بأن تكون‬
‫بتأثرياهتا الغيبية سببا لعزهم وغلبتهم عىل أعدائهم‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫‪75 74‬‬
‫‪100‬‬
‫‪82 81‬‬

‫‪135‬‬
‫وهذه األنواع الثالثة من الرشك هي التي كان عليها معظم املرشكني من‬
‫العرب يف جاهليتهم‪ .‬وربام كانوا يعتقدون يف آهلتهم جمموع هذه املعاين الثالثة‬
‫أو اثنني منها‪.‬‬
‫والصنف الرابع من املرشكني‪ :‬كانوا يعطون حق الترشيع الذي هو خاص‬
‫باهلل تعاىل لغريه من األحبار والرهبان‪ ،‬وقد ذكر اهلل تعاىل هذا الصنف بقوله‪:‬‬
‫(اختذوا أحبارهم ورهباهنم أربابا من دون اهلل)‪ 101‬وأشار إليه بقوله‪( :‬وال يتخذ‬
‫األحبار‬
‫َ‬ ‫بعضنا بعضا أربابا من دون اهلل )‪ 102‬فأعطى هذا الصنف من املرشكني‬
‫والرهبا َن َ‬
‫حق الترشيع وهو من صفات الربوبية وخواصها‪ ،‬فاختذوهم بذلك‬
‫أربابا‪ ،‬ثم أطاعوهم فيام رشعوا من األحكام‪ ،‬وبذلك كانوا قد عبدوهم‬
‫وأهلوهم؛ فإن اإلطاعة يف الترشيع نوع من العبادة‪.‬‬
‫والصنف اخلامس‪ :‬هم الذين يعتقدون فيمن يعبدوهنم أهنم رشكاء هلل يف‬
‫تدبري العامل والتَصف فيه‪ .‬وهؤالء أصناف كثرية‪ ،‬فمنهم أهل التثنية وأهل‬
‫التثليث ومنهم من يعددون اآلهلة فوق ذلك‪.‬‬
‫وأهل هذا الرشك هلم أرباب جيعلوهنا مشرتكة فيام بينها يف الربوبية‬
‫وتصاريفها يف الكون‪ ،‬وقد جيسدوهنا يف أجسام مادية‪ ،‬أو يعتقدون أهنا قد حتل يف‬
‫أجسام مادية‪ ،‬أو تظهر بصور برشية‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫‪31‬‬
‫‪102‬‬
‫‪64‬‬

‫‪136‬‬
‫وهذه األصناف اخلمسة من املرشكني هم الذين كانوا يعبدون آهلة من‬
‫دون اهلل عن اقتناع‪ ،‬وكانوا ر‬
‫يأهلوهنا بناء عىل اعتقادهم فيها الربوبية إما ربوبية‬
‫صغرية حمدودة مستمدة من ربوبية اهلل تعاىل كام هو حال األصناف األربعة‬
‫األول‪ ،‬وهو حال معظم مرشكي العرب يف جاهليته‪ ،‬أو ربوبية حقيقية كبرية‬
‫كام هو حال الصنف اخلامس‪.‬‬
‫الصنف السادس من املرشكني‪ :‬ناس كانوا ال يعتقدون يف معبوداهتم شيئا‬
‫من معانى الربوبية‪ ،‬فلم يكونوا يعبدوهنا عن عقيدة واقتناع‪ ،‬بل كانوا يعبدوهنا‬
‫ر‬
‫ويأهلوهنا بناء عىل مصلحة اجتامعية وهو احلفاظ عىل الوحدة القومية‪ ،‬وعدم‬
‫تفريق الكلمة فيها‪ ،‬حيث كانت آهلتهم التي يعبدوهنا ويقدسوهنا بمثابة رموز‬
‫رباط وحدة قومية‪ ،‬جتمع أفرادهم عىل مودة تسوقوهم عىل التعاون والتنارص‬
‫وعىل كل ما تقتضيه األخوة بني مجاعة ذات كيان واحد‪.‬‬
‫وهذا ما كشفه إبراهيم عليه السالم لقومه‪ .‬قال اهلل تعاىل يف معرض ذكر‬
‫لقطات من قصة إبراهيم وقومه‪( :‬وقال إنام اختذتم من دون اهلل أوثانا مودة‬
‫بينكم يف احلياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضا‬
‫ومأواكم النار وما لكم من نارصين) العنكبوت ‪.25‬‬
‫من هذا التصنيف للمرشكني‪ ،‬ومما تقدم سده من النصوص القرآنية‪،‬‬
‫وهي غيض من فيض وقليل من كثري من النصوص املتعلقة باملوضوع‪ ،‬من‬
‫هذا ظهر لنا أن الربوبية هي األساس الذي تنبني عليه اإل̃هلية‪ ،‬فمن كانت له‬

‫‪137‬‬
‫الربوبية فمن حقه عىل مربوبيه أن يؤهلوه‪ ،‬وظهر أن املرشكني الذين كانوا‬
‫يعبدون من دون اهلل آهلة عن عقيدة واقتناع إنام كانوا يعبدوهنم ر‬
‫ويأهلوهنم بناء‬
‫عىل اعتقادهم فيهم الربوبية إما ربوبية صغرية حمدودة أو ربوبية أصلية مطلقة‪.‬‬
‫ومن هذا ظهر خطأ الذين يرون أن مجيع العرب يف جاهليتهم كانوا‬
‫يؤمنون بتوحيد الربوبية هلل عز وجل‪ ،‬إال أهنم كانوا يعبدون مع اهلل آهلة أخرى‬
‫فيتخذوهنا رشكاء هلل يف إ̃هليته دون أن جيعلوها رشكاء هلل يف ربوبيته‪.‬‬
‫وذلك ألن النصوص القرآنية ومنها ما أوردناه آنفا تبني أن أكثر العرب‬
‫كانوا جيعلون مع اهلل رشكاء يف بعض صفات ربوبيته ال يف كلها‪ ،‬ومن أجل‬
‫ذلك كانوا يطلبون من رشكائهم الرمحة والرزق والنَص‪ ،‬وكثريا من مطالبهم‬
‫الدنيوية‪ ،‬وكانوا يعبدون آهلتهم طمعا يف أن ُيققوا هلم ما يرجون بمعونات‬
‫غيبية هي من خصائص الرب اخلالق الذي بيده مقاليد كل يشء‪ ،‬وهو عىل كل‬
‫يشء قدير‪.‬‬
‫وملا كانت اإل̃هلية هي الالزم العقيل املبارش للربوبية‪ ،‬وكانت الربوبية يف‬
‫الوجود كله هلل وحده ال رشيك له فيها وجب عقال وجوبا حتميا أن تكون‬
‫اإلهلية خاصة باهلل وحده ال يشاركه فيها أحد‪.‬‬
‫̃‬
‫ومن أجل هذه احلقيقة كان منهج القرآن الكريم لإلقناع بتوحيد اإل̃هلية هلل‬
‫وحده ال رشيك له‪ ،‬يعتمد عىل تذكري ذوى الفكر بتوحيد الربوبية هلل عز‬
‫وجل‪ ،‬وأنه ال رشيك له يف الربوبية‪ ،‬و عىل تنبيههم عىل هذه احلقيقة‪ ،‬ويعتمد‬

‫‪138‬‬
‫يف بعض النصوص عىل استئناف عرض أدلة تثبت أن الربوبية يف الوجود كله‬
‫هلل وحده ال رشيك له‪ ،‬ويراعي يف هذا التنويع مقتضيات أحوال املخاطبني‬
‫إ ّبان نزول النص‪.‬‬
‫من هذه النصوص القرآنية ما ييل‪( :‬يا أهيا الناس اعبدوا ربكم الذي‬
‫خلقكم والذين من قبلكم)‪( 103‬وما يل ال أعبد الذي فطرين وإليه ترجعون‬
‫أأختذ من دونه آهلة إن يردن الرمحن برض ال تغني عنى شفاعتهم شيئا وال‬
‫(رب‬ ‫‪104‬‬
‫ينقذون إين إذا لفي ضالل مبني إين آمنت بربكم فاسمعون)‬
‫‪105‬‬
‫السموات واألرض وما بينهام فاعبدوه واصطرب لعبادته هل تعلم له سميا)‬
‫(واختذوا من دون اهلل آهلة ال خيلقون شيئا وهم خيلقون وال يملكون ألنفسهم‬
‫رضا وال نفعا وال يملكون موتا وال حياتا وال نشورا)‪( 106‬يا أهيا الناس اذكروا‬
‫نعمة اهلل عليكم هل من خالق غري اهلل يرزقكم من السامء واألرض ال إله إال‬
‫(أال يسجدوا هلل الذي خيرج اخلبأ يف السموات‬ ‫‪107‬‬
‫هو فأنى تؤفكون)‬
‫واألرض)‪( 108‬قل أعوذ برب الناس ملك الناس إله الناس)‪ 109‬جاء البيان يف‬

‫‪103‬‬
‫‪21‬‬
‫‪104‬‬
‫‪25 22‬‬
‫‪105‬‬
‫‪65‬‬
‫‪106‬‬
‫‪3‬‬
‫‪107‬‬
‫‪3‬‬
‫‪108‬‬
‫‪25‬‬
‫‪109‬‬
‫‪3 1‬‬

‫‪139‬‬
‫هذه السورة مرتبا ترتيبا عقليا منطقيا‪ ،‬فإثبات ربوبية اهلل للناس يلزم منه لزوما‬
‫عقليا منطقيا إثبات كونه مالكا هلم فهم عبيده وكونه ملكا عليهم‪ ،‬ويلزم منهام‬
‫لزوما عقليا منطقيا إثبات إ̃هليته هلم‪ ،‬وبام أهنم ال رب هلم غريه فال إ̃له هلم غريه‪.‬‬
‫واحلاصل أنه قد استقر يف عقول بني آدم أن من ثبتت له الربوبية فمستحق‬
‫للعبادة‪ ،‬ومن انتفت عنه الربوبية فهو غري مستحق للعبادة‪ ،‬فثبوت الربوبية‬
‫واستحقاق العبادة متالزمان فيام رشع اهلل من رشائعه‪ ،‬ويف عقول الناس‪.‬‬
‫وعىل أساس اعتقاد الرشكة يف الربوبية بنى املرشكون استحقاق العبادة ملن‬
‫اعتقدوهم أربابا من دون اهلل تعاىل‪ ،‬ومتى اهندم هذا األساس من نفوسهم‬
‫تبعه اهندام ما بني عليه من استحقاق غري اهلل للعبادة‪ ،‬وال يسلم املرشك بإنفراد‬
‫اهلل سبحانه باستحقاق العبادة حتى يسلم بإنفراده عز وجل بالربوبية‪ ،‬وما دام‬
‫يف نفسه اعتقاد الربوبية لغريه عز وجل استتبع ذلك االعتقاد يف هذا الغري‬
‫االستحقاق للعبادة‪.‬‬
‫ولذلك كان من الواضح عند أوىل األلباب أن توحيد الربوبية وتوحيد اإل̃هلية‬
‫متالزمان ال ينفك أحدمها عن اآلخر ال يف االعتقاد وال يف الوجود‪ ،‬وكان تقسيم‬
‫التوحيد إىل توحيد الربوبية وتوحيد األلوهية بناء عىل انفصال أحدمها عن اآلخر‬
‫وعدم التالزم بينهام من اخلطأ الواضح‪ ،‬فإنه من اعرتف أنه ال رب إال اهلل كان‬
‫معرتفا بأنه ال يستحق العبادة غريه‪ ،‬ومن أقر بأنه ال يستحق العبادة غريه كان‬
‫مذعنا بأنه ال رب سواه‪ .‬وهذا معنى ال إله إال اهلل يف قلوب مجيع املسلمني‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫ولذلك نرى القرآن يف كثري من املواضع يكتفي بأحدمها عن اآلخر‪،‬‬
‫ويرتب اللوازم املرتتبة عىل انتفاء أحدمها عىل انتفاء اآلخر ليستدل بذلك عىل‬
‫ثبوته‪ ،‬فانظر إىل قوله تعاىل‪( :‬لو كان فيهام آهلة إال اهلل لفسدتا)‪ 110‬وقوله تعاىل‪:‬‬
‫‪111‬‬
‫(وما كان معه من إ̃له إذا لذهب كل إ̃له بام خلق ولعال بعضهم عىل بعض)‬
‫حيث رتب عىل تعدد اإل̃له ما يرتتب عىل تعدد الرب من فساد السموات‬
‫واألرض ليثبت بذلك عدم تعدد الرب ووحدان َي َته‪.‬‬
‫هذا وقد اشتمل تقسيم التوحيد إىل توحيد الربوبية وتوحيد اإل̃هلية عىل‬
‫أخطاء‪:‬‬
‫األول‪ :‬ختصيص الربوبية باخلالقية مع أهنا تشمل كل خصائص اإل̃هلية‬
‫وهي الصفات التي من أجلها استحق الرب أن يكون معبودا من خلق العامل‬
‫وتدبريه وتَصيفه وحق الترشيع والغنى املطلق عن غريه‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬التعبري عن الكون إ̃هلا باأللوهية فإن األلوهية هي العبادة والتعبري‬
‫الصحيح عن الكون إ̃هلا هو اإل̃هلية‪ ،‬وليس األلوهية‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ادعاء أن توحيد الربوبية منفصل عن توحيد اإل̃هلية وغري مالزم‬
‫له‪ ،‬يتحقق توحيد الربوبية مع الرشك يف اإل̃هلية‪ ،‬وقد حققنا أنه مالزم له‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫‪22‬‬
‫‪111‬‬
‫‪91‬‬

‫‪141‬‬
‫الرابع‪ :‬ما بنى صاحب هذا التقسيم عليه من أن املرشكني من العرب كانوا‬
‫يف جاهليتهم يوحدون اهلل تعاىل توحيد الربوبية‪ ،‬ولكنهم مل يكونوا يوحدونه‬
‫توحيد اإل̃هلية‪.‬‬
‫واخلطأ اخلامس‪ :‬وهو األدهى واألمر‪ ،‬وهو الذي كان هيدف إليه صاحب‬
‫التقسيم‪ ،‬هو حكمه عىل كثري من املسلمني بمثل ما حكم به عىل املرشكني من‬
‫العرب يف جاهليتهم اجلهالء‪ .‬وبنائه هذا عىل التقسيم املذكور‪.‬‬
‫فظهر هبذا خطأ هذا التقسيم وخطأ ما بناه عليه صاحبه‪.‬‬
‫وأما التقسيم الصحيح للتوحيد فهو تقسيم األشاعرة‪ ،‬وهو تقسيم‬
‫التوحيد إىل توحيد الذات‪ ،‬وتوحيد الصفات‪ ،‬وتوحيد األفعال‪ .‬واهلل سبحانه‬
‫وتعاىل أعلم‪.‬‬
‫وأما ثالث األقسام من التقسيم الثالثي وهو «توحيد األسامء والصفات»‬
‫فقد قصد به صاحب التقسيم أن يثبت هلل من األسامء والصفات ما أثبته لنفسه‬
‫بدون إمهال يشء مما أثبته لنفسه بأن ينفي عن اهلل تعاىل بعض ما أثبته لنفسه‪،‬‬
‫وال أن يزاد عليها بأن يثبت هلل تعاىل من األسامء والصفات ما مل يثبت إطالقه‬
‫عىل اهلل تعاىل يف الكتاب والسنة الصحيحة‪ .‬هذا هو الذي قرره صاحب‬
‫التقسيم وسامه «توحيد األسامء والصفات»‪.‬‬
‫أما تقرير املسألة فهو تقرير غري حمرر أدى عدم حترير التقرير بصاحبه إىل‬
‫أخطاء عقدية جسيمة‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫والتحرير أن يقال‪ :‬جيب أن يثبت هلل تعاىل من األسامء والصفات ما ورد‬
‫إطالقه عىل اهلل تعاىل يف الكتاب والسنة الصحيحة مما كان إطالقه عليه تعاىل عىل‬
‫وجه احلقيقة دون املجاز والكناية‪ ،‬وحترير املسألة هبذا الوجه ثم تطبيقها عىل‬
‫نصوص الكتاب والسنة تطبيقا صحيحا هو الذي يقي الوالج يف املسألة من‬
‫اخلطأ‪ ،‬وجينبه اإلحلاد يف أسامء اهلل تعاىل وصفاته‪ ،‬وأما عدم حترير املسألة أو‬
‫حتريرها ثم تطبيقها عىل النصوص تطبيقا غري صحيح فيورط صاحبه يف األخطاء‬
‫العقدية اجلسيمة‪ ،‬ويف اإلحلاد يف أسامء اهلل تعاىل وصفاته‪ .‬وهذا ما تورط فيه‬
‫صاحب التقسيم الثالثي‪.‬‬
‫وبعد هذه املقدمة نقول‪ :‬قد تورط صاحب التقسيم الثالثي بالنسبة إىل‬
‫القسم الثالث يف أخطاء‪.‬‬
‫اخلطأ األول‪ :‬يف العنوان حيث عنون املسألة بتوحيد األسامء والصفات‪،‬‬
‫وإنام املسألة مسألة إثبات األسامء والصفات‪ .‬وقد عرب هبذا التعبري يف كتابه‬
‫منهاج السنة‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬عدم حترير تقرير املسألة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن صاحب التقسيم مل يثبت هلل تعاىل كثريا مما ورد يف الكتاب‬
‫والسنة إطالقه عىل اهلل تعاىل مما هو داخل حتت القاعدة غري املحررة‪ .‬وذلك‬
‫مثل النسيان الوارد يف قوله تعاىل‪( :‬نسوا اهلل فنسيهم) وكذلك ورد يف‬
‫األحاديث الصحيحة إثبات اهلرولة والضحك واملرض واجلوع هلل تعاىل‪ ،‬ومل‬

‫‪143‬‬
‫يثبتها صاحب التقسيم هلل تعاىل‪ ،‬وذلك من أجل اعتقاده أن هذه اإلطالقات‬
‫إنام وردت عىل سبيل املجاز ال عىل سبيل احلقيقة بسبب اعتقاده استحالة‬
‫ثبوت هذه األمور هلل تعاىل عىل سبيل احلقيقة‪ ،‬وهو اعتقاد صحيح‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬إن صاحب التقسيم قد أثبت هلل تعاىل أمورا مل يرد هبا الكتاب وال‬
‫السنة حيث أثبت هلل تعاىل ما ييل‪:‬‬
‫‪112‬‬
‫احلد‪ .‬انظر (موافقة رصيح املعقول لصحيح املنقول)‬
‫اجللوس عىل العرش قال يف جمموع الفتاوى‪ :‬حدث العلامء املرضيون‬
‫واألولياء املتقون أن حممدا رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم جيلسه‬
‫‪114‬‬
‫ربه عىل العرش معه‪ 113...‬وقد أشار إليه ابن القيم يف بدائع الفوائد‪.‬‬
‫يقول بجواز إطالق أن اهلل تعاىل جسم قال يف التأسيس يف رد "أساس‬
‫التقديس" (وليس يف كتاب اهلل وال سنة رسوله وال قول أحد من سلف األمة‬
‫وأئمتها أنه ليس بجسم وأن صفاته ليست أجساما وال أعراضا)‪ 115‬وسيأيت عن‬
‫اإلمام أمحد نفي اجلسمية عن اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪29 2112‬‬
‫‪374 4 113‬‬
‫‪39 4 114‬‬
‫‪111 1 115‬‬

‫‪144‬‬
‫الستقر عىل ظهر بعوضة‬ ‫ويقول يف كتابه التأسيس‪ :‬ولو شاء اهلل‬
‫فاستقلت به بقدرته ولطف ربوبيته فكيف عىل عرش عظيم‪ .‬واالستقرار من‬
‫لوازم اجلسمية‪.‬‬
‫ويقول يف كتابه "بيان تلبيس اجلهمية"‪ 116:‬ما نصه‪( :‬فاسم املشبهة ليس له‬
‫ذكر بذم يف الكتاب والسنة‪ ،‬وال يف كالم أحد من الصحابة والتابعني) ومعنى‬
‫هذا أن التشبيه ليس به بأس‪ 117.‬هذا ما يراه ابن تيمية خمالفا لقوله تعاىل‪( :‬ليس‬
‫كمثله يشء) وقوله‪( :‬ومل يكن له كفوا أحد) وخمالفا األمة وسيأيت قريبا نقل‬
‫مجلة من أقواهلم يف ذلك‪.‬‬
‫واخلامس‪ :‬وهو بيت القصيد من ذكر توحيد األسامء والصفات‪ ،‬أن‬
‫صاحب التقسيم قد أثبت هلل تعاىل أمورا ورد يف الكتاب والسنة إطالقها عىل‬
‫اهلل تعاىل عىل سبيل املجاز أو الكناية‪ ،‬فأثبتها هلل تعاىل عىل سبيل احلقيقة‪ ،‬فأدى‬
‫به ذلك إىل التشبيه الذي ال يرى به بأسا‪ ،‬ويكون بذلك خمالفا لكتاب اهلل‬
‫ولسنة رسول اهلل ولسلف األمة‪.‬‬
‫وننقل هنا جمموعة من أقوال علامء األمة وأئمتها من السلف واخللف يف‬
‫نفي التشبيه عن اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪119 1 116‬‬
‫‪568 1 117‬‬

‫‪145‬‬
‫فنقول‪ :‬نقل الذهبي يف عن اإلمام أبو حنيفة ريض اهلل تعاىل عنه أنه قال‪:‬‬
‫(أتانا من املرشق رأيان خبيثان‪ :‬جهم معطل ومقاتل مشبه)‪ 118‬وذكر ابن جرير‬
‫الطربي يف تفسري سورة اإلخالص عن أيب العالية وغريه من السلف‪( :‬أن اهلل‬
‫تعاىل ليس له شبيه وال مثيل)‬
‫ونقل اإلمام البيهقي يف كتابه مناقب اإلمام أمحد عن اإلمام أمحد ما نصه‪:‬‬
‫(أنكر أمحد عىل من قال باجلسم‪ ،‬وقال‪ :‬إن األسامء مأخوذة من الرشيعة‬
‫واللغة‪ ،‬وأهل اللغة وضعوا هذا االسم عىل ذي طول وعرض وسمك‬
‫وتركيب وصورة وتأليف‪ .‬واهلل سبحانه خارج عن ذلك كله‪ ،‬فلم جيز أن‬
‫يسمى جسام خلروجه عن معنى اجلسمية‪ ،‬ومل جييء يف الرشيعة ذلك فبطل)‬
‫انتهى‪.‬وهذا الكالم بنصه وارد يف ذيل طبقات احلنابلة البن أيب يعىل منسوبا‬
‫‪119‬‬
‫إىل اإلمام أمحد‪.‬‬
‫وورد يف ذيل طبقات احلنابلة يف ذكر عقيدة اإلمام أمحد ريض اهلل تعاىل‬
‫عنه‪« :‬كان اإلمام أمحد رمحه اهلل يقول‪ :‬إن هلل تعاىل يدين ومها صفة له يف‬
‫ذاته‪ ،‬ليستا بجارحتني‪ ،‬وليستا بمركبتني‪ ،‬وال جسم وال من جنس األجسام‪،‬‬
‫وال من جنس املحدود والرتكيب واألبعاض واجلوارح‪ ،‬وال يقاس عىل ذلك‪،‬‬
‫وال له مرفق‪ ،‬وال عضد ‪ ،‬وال فيام يقتىض ذلك من إطالق قوهلم "يد" إال ما‬

‫‪118‬‬
‫‪212 7‬‬
‫‪298 2 119‬‬

‫‪146‬‬
‫نطق القرآن الكريم به‪ ،‬أو صحت عن رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله‬
‫‪120‬‬
‫وسلم السنة فيه»‪.‬‬
‫ويف ذيل الطبقات أيضا «أن اإلمام أمحد كان يقول‪ :‬واهلل تعاىل مل يلحقه‬
‫‪121‬‬
‫تغري وال تبدل‪ ،‬وال يلحقه احلدود قبل خلق العرش وال بعد خلق العرش»‪.‬‬
‫وقال اإلمام الطحاوي يف عقيدته التي هي بيان أهل السنة واجلامعة باتفاق‬
‫أهل السنة «وتعاىل أي اهلل‪ -‬عن احلدود والغايات‪ ،‬واألركان واألعضاء‬
‫واألدوات‪ ،‬وال حتويه اجلهات الست كسائر املبتدعات»‪.‬‬
‫وقال اإلمام أبو سليامن اخلطايب‪ :‬ما نصه‪« :‬وليس معنى قول املسلمني إن‬
‫اهلل عىل العرش هو أنه تعاىل مماس له‪ ،‬أو متمكن فيه‪ ،‬أو متحيز يف جهة من‬
‫جهاته‪ ،‬لكنه بائن من مجيع خلقه‪ ،‬وإنام هو خرب جاء به التوقيف‪ ،‬فقلنا به ونفينا‬
‫‪122‬‬
‫عنه التكييف إذ (ليس كمثله يشء وهو السميع البصري»‬
‫وقال اإلمام ابن اجلوزي يف جمالسه يف املتشاهبات‪« 123‬وليس اخلالف يف‬
‫اليد‪ ،‬وإنام اخلالف يف اجلارحة‪ ،‬وليس اخلالف يف الوجه‪ ،‬وإنام اخلالف يف‬
‫الصورة اجلسمية‪ ،‬وليس اخلالف يف العني‪ ،‬وإنام اخلالف يف احلدقة»‪.‬‬

‫‪294 2 120‬‬
‫‪297 2 121‬‬
‫‪122‬‬
‫‪147 2‬‬
‫‪123‬‬
‫‪54‬‬

‫‪147‬‬
‫وقال اإلمام عز الدين بن عبد السالم‪« :‬ليس اهلل بجسم مصور‪ ،‬وال‬
‫جوهر حمدود مقدر‪ ،‬وال يشبه شيئا وال يشبهه يشء‪ ،‬وال حتيط به اجلهات‪ ،‬وال‬
‫تكتنفه األرضون والسموات‪ ،‬كان قبل أن كون املكان ودبر األزمان‪ ،‬وهو‬
‫‪124‬‬
‫اآلن عىل ما عليه كان»‬
‫وقال احلافظ العسقالين‪« :‬وال يلزم من كون جهتي العلو والسفل حماال‬
‫عىل اهلل أن ال يوصف بالعلو‪ ،‬ألن وصفه بالعلو من جهة املعنى‪ ،‬واملستحيل‬
‫‪125‬‬
‫كون ذلك من جهة احلس»‪.‬‬
‫وقال أيضا عند رشح حديث النزول‪« :‬استدل به من أثبت اجلهة وقال‬
‫هي جهة العلو‪ ،‬وأنكر ذلك اجلمهور‪ ،‬ألن القول بذلك يفيض إىل التحيز‪،‬‬
‫‪126‬‬
‫تعاىل اهلل عن ذلك»‬
‫وقال أيضا‪« :‬فمعتقد سلف األمة وعلامء السنة من اخللف أن اهلل تعاىل‬
‫‪127‬‬
‫منزه عن احلركة والتحول واحللول‪ ،‬ليس كمثله يشء»‪.‬‬
‫فظهر هبذا التحقيق أن التقسيم الثالثي للتوحيد الذي اخرتعه ابن تيمية‬
‫تقسيم فاسد يف التعبري‪ ،‬وفاسد يف مضمونه‪ ،‬وفاسد فيام قصد منه‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫‪219 8‬‬
‫‪125‬‬
‫‪136 6‬‬
‫‪126‬‬
‫‪31 3‬‬
‫‪124 7 127‬‬

‫‪148‬‬
‫والتقسيم الصحيح للتوحيد هو تقسيم الثالثي الذي ذكره األشاعرة‪،‬‬
‫وهو توحيد الذات‪ ،‬وتوحيد الصفات‪ ،‬وتوحيد األفعال‪.‬‬
‫أما توحيد الذات فمأخوذ من قوله تعاىل‪( :‬قل هو اهلل أحد) وغريها من‬
‫اآليات‪ ،‬وأما توحيد الصفات فمأخوذ من قوله تعاىل‪( :‬ليس كمثله يشء)‬
‫وقوله تعاىل‪( :‬ومل يكن له كفوا أحد) وأما توحيد األفعال فمأخوذ من قوله‬
‫تعاىل‪( :‬اهلل خالق كل يشء) وقوله‪( :‬واهلل خلقكم وما تعملون) إىل غريها من‬
‫اآليات الكريمة‪ .‬واهلل تعاىل أعلم بالصواب‪.‬‬

‫‪ -38‬بيان أخطاء الدكتور يف الكالم عىل التوحيد‪:‬‬


‫وبعد االنتهاء من حتقيق مسألة التوحيد نعود إىل كالم الدكتور‪ ،‬فنقول‪ :‬إن‬
‫هذه الفقرة من كالم الدكتور قد اشتملت عىل أخطاء مجة‪:‬‬
‫اخلطأ األول‪ :‬قوله‪( :‬التوحيد عند أهل السنة واجلامعة معروف بأقسامه‬
‫الثالثة) حيث نسب تقسيم التوحيد إىل األقسام الثالثة‪ :‬توحيد األلوهية‪،‬‬
‫وتوحيد الربوبية‪ ،‬وتوحيد األسامء والصفات إىل أهل السنة‪ ،‬مع أن هذا‬
‫التقسيم مل يكن معروفا عند أهل السنة قبل ابن تيمية‪ ،‬وإنام شهره وركز عليه‬
‫ابن تيمية وال يزال غري معروف وال معرتفا به إال عند أولئك الذين اختذوا ابن‬
‫تيمية اإلمام الوحيد ألنفسهم‪ ،‬وقد بينا فساد هذا التقسيم‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫اخلطأ الثاين‪ :‬قوله‪( :‬وهو أي التوحيد بأقسامه الثالثة‪ -‬عندهم أي عند‬
‫أهل السنة‪ -‬أول واجب عىل املكلف) وال أدرى من الذي قال من أهل السنة‪:‬‬
‫إن التوحيد أول واجب عىل املكلف؟! وكيف يقوله قائل‪ ،‬ويقدم عىل القول به‬
‫عاقل‪ ،‬والتوحيد ال يتصور اعتقاده إال بعد اعتقاد وجود اهلل تعاىل! وهل يقدم‬
‫عاقل عىل القول بأن الواجب عىل املكلف أن يوحد اهلل تعاىل توحيد اإلهلية‬
‫وتوحيد الربوبية وتوحيد األسامء والصفات‪ ،‬ثم يعتقد وجوده؟؟!! نعم‬
‫توحيد اهلل تعاىل داخل يف معرفته بحسب املعنى الذي أراده األشاعرة من‬
‫املعرفة حينام قالوا‪( :‬أول واجب عىل املكلف معرفة اهلل)‪ ،‬فإن مرادهم بمعرفة‬
‫اهلل ليس اعتقاد وجوده تعاىل فقط‪ ،‬بل معرفته بوجه يكون عدمها موجبا‬
‫للكفر وعدم اإلسالم واعتقاد ذلك‪ ،‬وهو أن يعرف أن للعامل ربا خلقه وخلق‬
‫كل يشء يستحق العبادة عىل عباده واحد ال رشيك له ويعتقد ذلك‪ .‬وذلك‬
‫ألن املقصود بوجوب املعرفة التخلص من الكفر‪ ،‬وهو ال يكون إال باملعرفة‬
‫املذكورة واالعتقاد املذكور املشتمل عىل توحيد الربوبية وتوحيد اإل̃هلية‬
‫وتوحيد األسامء والصفات‪ ،‬بمعنى عدم الرشيك له يف صفاته وسنفصل‬
‫الكالم عىل مسألة أول الواجب عىل املكلف قريبا‪.‬‬
‫اخلطأ الثالث والرابع‪ :‬قوله‪( :‬فالتوحيد عندهم أي عند األشاعرة‪ -‬هو‬
‫نفي التثنية والتعدد‪ ،‬ونفي التبعيض والرتكيب‪ ،‬والتجزئة‪ ،‬أي بحسب‬

‫‪151‬‬
‫تعبريهم (نفي الكمية املتصلة والكمية املنفصلة) وقد اشتمل هذا الكالم عىل‬
‫خطأين‪:‬‬
‫اخلطأ األول‪ :‬حَص الدكتور للتوحيد عند األشاعرة يف األنواع املذكورة‬
‫من النفي‪ ،‬املفيد أنه ال يوجد عند األشاعرة نوع آخر من التوحيد وهو التوحيد‬
‫يف العبادة الذي ي َعرب عنه بتوحيد اإل̃هلية‪ ،‬وقد رصح فيام ييل بأنه ال يوجد‬
‫عندهم هذا النوع من التوحيد‪ ،‬حيث قال‪.....( :‬فهذا الذي أجزم به)‬
‫وقد علمت أن حقيقة التوحيد عند األشاعرة‪ :‬هو اعتقاد الوحدانية يف‬
‫الذات والصفات واألفعال‪ ،‬وبعبارة أخرى اعتقاد عدم الرشيك يف اإل̃هلية‬
‫وخواصها‪ ،‬وقد نقلنا عن التفتازاين أنه قال‪ :‬وال نزاع ألهل اإلسالم يف أن‬
‫تدبري العامل‪ ،‬وخلق األجسام‪ ،‬واستحقاق العبادة‪ ،‬وقدم ما يقوم بنفسه كلها‬
‫من اخلواص‪.‬‬
‫اخلطأ الثاين‪ :‬سياقه هلذا الكالم مساق اإلنكار عىل األشاعرة‪ ،‬كأن الدكتور‬
‫ينكر عىل األشاعرة قوهلم بالتوحيد باملعنى املذكور‪ ،‬وال أدرى ملاذا ينكر الدكتور‬
‫عىل األشاعرة قوهلم‪ :‬التوحيد أن تعتقد أن اهلل تعاىل واحد ليس اثنني وال ثالثة‪،‬‬
‫وال متبعض وال مركب وال متجزأ‪ ،‬وقد رصح اإلمام أمحد وغريه هبذا‪ ،‬حيث‬

‫‪151‬‬
‫قال‪« :‬إن اهلل عز وجل واحد ال من عدد‪ ،‬وال جيوز عليه التجزؤ وال القسمة‪،‬‬
‫‪128‬‬
‫وهو واحد من كل وجه‪ .‬وما سواه واحد من وجه دون وجه»‪.‬‬
‫أراد اإلمام أمحد بقوله‪« :‬واحد ال من عدد» نفي إرادة الواحدة العددية من‬
‫قولنا‪« :‬اهلل واحد» ومل يرد به نفي الوحدة العددية‪ ،‬وذلك ألن الوحدة من‬
‫طريق العدد غري خمتص باهلل تعاىل‪ ،‬بل هو الزم بني لكل جزئي حقيقي‪ ،‬فأنت‬
‫واحد من طريق العدد أي لست اثنني وال أكثر‪ ،‬وأنا واحد من طريق العدد‬
‫؛كام ان اهلل تعاىل واحد من طريق العدد‪،‬ثم إن الوحدة العددية ال تنفي‬
‫الرشيك والشبيه والنظري‪ ،‬ومقصود اإلمام أمحد بيان الوحدة هلل تعاىل باملعنى‬
‫املختص به وهو أنه ال جيوز عليه التجزؤ‪....‬الخ‪،‬وبمعنى نفي الرشيك‬
‫والشبيه والنظري؛فمن أجل ذلك نفى إرادة الوحدة العددية عن قوله‪ :‬اهلل تعاىل‬
‫واحد؛ وقد سبق اإلمام أمحد إىل هذا التعبري اإلمام أبو حنيفة‪ .‬قال‪-‬رمحه اهلل‬
‫تعاىل‪ -‬يف الفقه األكرب‪« :‬اهلل واحد ال من طريق العدد‪ ،‬ولكن من طريق أنه ال‬
‫رشيك له‪ ،‬مل يلد ومل يولد‪ ،‬ومل يكن له كفوا أحدٌ »؟‬
‫وقال شيخ احلنابلة القايض أبو يعىل‪« :‬وأما وصفه بأنه واحد فإنه يرجع إىل‬
‫نفي الرشيك‪ ،‬وأنه ال ثاين له‪ ،‬وإىل نفي التجزؤ واالنقسام عن ذاته»‪ 129‬وقال‬

‫‪128‬‬
‫‪293 2‬‬
‫‪129‬‬
‫‪26‬‬

‫‪152‬‬
‫ابن تيمية‪« :‬فإن اهلل سبحانه أحد صمد مل يلد ومل يولد ومل يكن له كفوا أحد‪،‬‬
‫‪130‬‬
‫فيمتنع عليه أن يتفرق أو يتجزأ أو يكون قد ركب من أجزاء»‬
‫اخلطأ اخلامس‪ :‬قوله‪( :‬ومن هذا املعنى فرسوا اإل̃له بأنه اخلالق أو القادر‬
‫عىل االخرتاع)‬
‫وقد علمت أن األشاعرة قد فرسوا اإل̃هلية باالتصاف بالصفات التي‬
‫ألجلها استحق أن يكون معبودا‪ ،‬فاإل̃له عندهم عىل هذا هو املتصف بتلك‬
‫الصفات‪ ،‬وليس هو اخلالق أو القادر عىل االخرتاع كام يقول الدكتور‪ .‬وليت‬
‫شعري من الذي فرس اإل̃له منهم باخلالق أو القادر عىل االخرتاع؟!‬
‫اخلطأ السادس‪ :‬قوله‪( :‬وأنكروا بعض الصفات كالوجه واليد والعني‪،‬‬
‫ألهنا تدل عىل الرتكيب واألجزاء عندهم) أقول‪ :‬نعم قد أنكر األشاعرة تلك‬
‫الصفات بمعنى اجلارحة الستلزامه الرتكيب واألجزاء‪ ،‬وهذا النفي مما اتفق‬
‫عليه سلف األمة وخلفها‪ ،‬وال أدري هل الدكتور يثبتها بمعنى اجلارحة هلل تعاىل‬
‫كام يدل عليه سياق كالمه!! تعاىل اهلل عن ذلك علوا كبريا!‬
‫اخلطأ السابع‪ :‬قوله‪( :‬وأما التوحيد احلقيقي وما يقابله من الرشك ومعرفته‬
‫والتحذير منه فال ذكر له يف كتب عقيدهتم إطالقا ‪ ..‬إىل آخر كالمه)‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫‪119‬‬

‫‪153‬‬
‫أقول‪ :‬قدمنا أن األشاعرة قد ذكروا التوحيد بتعريف واضح جامع مانع‬
‫يتضح منه تعريف الرشك كذلك‪ ،‬ولكن ماذا نقول للذي يتكلم عن عدم‬

‫معرفة وعدم رغبة يف معرفة ما يتكلم فيه‪ ،‬وإنام يتكلم مندفعا عام َمت َ ّل َك َ‬
‫نفسه‬
‫ومتكن يف قلبه من احلقد عىل أئمة األمة وقادهتا‪.‬‬
‫صحيح أنه مل يتوسع األشاعرة يف كتبهم ال َع َقدية يف الكالم عىل الرشك‬
‫العميل كالعبادة لغري اهلل تعاىل والذبح له ألن موضوع كتب العقيدة هو العقيدة‬
‫وليس العمل‪ ،‬وقد توسعوا يف الكالم عليه يف كتب الفقه يف باب الردة ويف‬
‫كتبهم يف التفسري ويف رشوح احلديث‪ .‬نعم الرشك العميل مبني عىل الرشك‬
‫اإلعتقادي وهو إثبات يشء من خواص اإل̃هلية لغري اهلل تعاىل‪ ،‬وقد بينوا الرشك‬
‫اإلعتقادي يف كتبهم العقدية كام تقدم يف كالم التفتازاين وكالم ابن اهلامم وابن‬
‫أبى رشيف‪ ،‬وقال الباقالين يف "اإلنصاف"‪« :‬وجيب أن يعلم أن صانع العامل‬
‫جلت قدرته واحد أحد‪ ،‬ومعنى ذلك أنه ليس معه إ̃له سواه‪ ،‬وال من يستحق‬
‫العبادة إال إياه وال نريد بذلك أنه واحد من جهة العدد‪ ،‬وكذلك قولنا‪ :‬أحد‬
‫وفرد وجود ذلك‪ ،‬إنام نريد به أنه ال شبيه له وال نظري‪ ،‬ونريد بذلك أنه ليس معه‬
‫من يستحق اإل̃هلية سواه‪ .‬وقد قال اهلل تعاىل‪( :‬إنام اهلل إ̃له واحد ومعناه ال إ̃له إال‬
‫اهلل» وقال عز الدين بن عبد السالم‪« :‬فإن األلوهية ترجع إىل استحقاق العبادة‪،‬‬
‫وال يستحق العبودية إال من اتصف بجميع ما ذكرناه» ثم قال‪« :‬وال يستحق‬

‫‪154‬‬
‫اإلهلية إال من اتصف بجميع ما قررناه»‪ 131‬وقال السنويس‪« :‬وأنواع الرشك ستة‪:‬‬
‫̃‬
‫رشك االستقالل‪ ،‬وهو إثبات إهلني مستقلني كرشك املجوس‪ ،‬ورشك‬
‫التبعيض‪ ،‬وهو تركيب إ̃له من آهلة كرشك النصارى‪ ،‬ورشك تقرب‪ ،‬وهو عبادة‬
‫غري اهلل تعاىل ليتقرب إىل اهلل تعاىل زلفى‪ ،‬كرشك متقدمي اجلاهلية‪ ،‬ورشك‬
‫‪132‬‬
‫تقليد‪ ،‬وهو عبادة غري اهلل تبعا للغري كرشك متأخري اجلاهلية‪»...‬‬

‫‪ -39‬أول واجب عىل املكلف وما تورط فيه الدكتور من األخطاء يف بيان‬
‫املسألة‪:‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬أما أول واجب عند األشاعرة فهو النظر‪ ،‬أو القصد إىل‬
‫النظر أو أول جزء من النظر‪ ،‬أو‪ !...‬إىل آخر فلسفتهم املختلف فيها‪ .‬وعندهم‬
‫أن اإلنسان إذا بلغ وجب عليه النظر‪ ،‬ثم اإليامن‪ ،‬واختلفوا فيمن مات قبل‬
‫النظر أو أثنائه‪ ،‬أحيكم له باإلسالم أم بالكفر؟! وينكر األشاعرة املعرفة‬
‫الفطرية‪ ،‬ويقولون‪ :‬من آمن باهلل بغري طريق النظر فإنام هو مقلد ورجح‬
‫بعضهم كفره‪ ،‬واكتفى بعضهم بتعصيته‪ ...‬وإن الزم قوهلم تكفري العوام‪ ،‬بل‬
‫تكفري صدر األول}‬

‫‪131‬‬
‫‪12 11‬‬
‫‪132‬‬
‫‪41 32‬‬

‫‪155‬‬
‫قد أشار الدكتور سفر هبذا الكالم إىل مسألتني من مسائل علم الكالم‪،‬‬
‫األوىل‪ :‬مسألة أول واجب عىل املكلف‪ ،‬والثانية‪ :‬مسألة وجوب النظر يف معرفة‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬وقد وقع فيهام يف أخطاء جسيمة‪ ،‬فال بد أن ُيقق املسألتني املشار‬
‫إليهام‪.‬‬
‫أما املسألة األوىل فننقل فيها كالم القايض عضد الدين اإلجيي يف املواقف‬
‫مع رشحه للسيد الرشيف اجلرجاين مع االختصار فيهام‪ .‬ونفتتح هبا الكالم‪،‬‬
‫وأما املسألة الثانية فنبينها فيام بعد‪ .‬وإليك كالم "املواقف" ورشحه يف املسألة‪:‬‬
‫(املقصد السابع‪ :‬قد اختلف يف أول واجب عىل املكلف) أنه ماذا‬
‫(فاألكثر) ومنهم الشيخ أبو احلسن األشعري (عىل أنه معرفة اهلل تعاىل إذ هو‬
‫أصل املعارف) والعقائد (الدينية‪ ،‬وعليه يتفرع وجوب كل واجب) من‬
‫الواجبات الرشعية (وقيل‪ :‬هو النظر فيها) أي يف معرفة اهلل سبحانه (ألنه‬
‫واجب) اتفاقا كام مر (وهو قبلها) وهو مذهب مجهور املعتزلة واألستاذ أيب‬
‫إسحاق االسفرائيني (وقيل)‪ :‬هو (أول جزء من النظر) ألن وجوب الكل‬
‫يستلزم وجوب أجزائه‪ :‬فأول جزء من النظر واجب‪ ،‬وهو متقدم عىل النظر‬
‫املتقدم عىل املعرفة (وقال القايض واختاره ابن فورك) وإمام احلرمني‪ :‬إنه‬
‫(القصد إىل النظر) ألن النظر فعل اختياري مسبوق بالقصد املتقدم عىل أول‬
‫أجزائه‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫(والنزاع لفظي إذ لو أريد الواجب بالقصد األول‪ )،‬أي لو أريد أول‬
‫الواجبات املقصودة أوال وبالذات (فهو املعرفة) اتفاقا (وإال) أي وإن مل يرد‬
‫ذلك‪ ،‬بل أريد أول الواجبات مطلقا (فالقصد إىل النظر) ألنه مقدمة للنظر‬
‫الواجب مطلقا فيكون واجبا أيضا‪..‬‬
‫(وقال أبو هاشم هو) أي أول الواجبات (الشك) ثم رد اإلجيي هذا القول‬
‫بوجهني ثم قال‪( :‬إن قلنا‪ :‬الواجب) األول (النظر فمن أمكنه زمان يسع فيه‬
‫النظر التام) والتوصل به إىل معرفة اهلل تعاىل (ومل ينظر) يف ذلك الزمان‪ ،‬ومل‬
‫يتوصل بال عذر (فهو عاص) بال شبهة (ومن مل يمكنه زمان أصال) بأن مات‬
‫حال البلوغ (فهو كالصبي) الذي مات يف صباه (ومن أمكنه) من الزمان (ما‬
‫يسع بعض النظر دون متامه) فإن رشع فيه بال تأخري واخرتمته املنية قبل‬
‫انقضاء النظر وحصول املعرفة فال عصيان قطعا‪ ،‬وأما إذا مل يرشع فيه‪ ،‬بل‬
‫‪133‬‬
‫أخره بال عذر ومات (ففيه احتامل‪ ،‬واألظهر عصيانه) لتقصريه بالتأخري‪.‬‬
‫وههنا ينبغي التنبيه عىل أمور‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن املراد بمعرفة اهلل تعاىل التي هي أول الواجبات املقصودة‬
‫بالذات معرفته بوجه يكون عدم االتصاف هبا موجبا للكفر وعدم اإلسالم‪،‬‬
‫من معرفة وجوده تعاىل ووحدانيته وعلمه وإرادته وقدرته إىل غري ذلك مما‬

‫‪133‬‬
‫‪381 375 1‬‬

‫‪157‬‬
‫يكون عدم معرفتها موجبا للكفر‪ ،‬وليس املراد منها معرفة وجوده فقط‪.‬‬
‫وذلك ألن املقصود من وجوب املعرفة التخلص من الكفر‪ ،‬وهو ال يكون إال‬
‫باملعرفة املذكورة‪.‬‬
‫وهذه املعرفة ليست فطرية باملعنى الذي قصده الدكتور هنا‪ ،‬ورصح به‬
‫سابقا من أنه يولد عليها اإلنسان‪ ،‬وينشأ عليها املسلم بال تلقني وال تعلم‪ ،‬وقد‬
‫قال اهلل تعاىل‪( :‬واهلل أخرجكم من بطون أمهاتكم ال تعلمون شيئا) بل املراد‬
‫بالفطرة يف قوله تعاىل‪( :‬فطرة اهلل التي فطر الناس عليها) ويف قوله صىل اهلل‬
‫عليه وآله وسلم (كل مولود يولد عىل الفطرة‪...‬إلخ) ما جبل عليه اإلنسان من‬
‫ميله إىل معرفة احلق‪ ،‬ورغبته يف نبذ الباطل‪ ،‬وكونه أكثر استعدادا لقبول اخلري‬
‫منه لقبول الرش‪ ،‬وليس ذلك احلق واخلري إال اإلسالم‪.‬‬
‫قال اإلمام النووي يف رشح احلديث‪ :‬واألصح أن معناه أن كل مولود‬
‫يولد متهيئا لإلسالم‪ .‬انتهى‬
‫والثاين‪ :‬أن املراد بالواجبات يف قوهلم (أول الواجبات عىل املكلف ما هو)‬
‫أعم مما يكون عدم القيام به موجبا للكفر أو موجبا للمعصية وذلك ألن‬
‫عدم املعرفة موجب للكفر‪ ،‬وأما عدم النظر أو عدم القصد إىل النظر مع‬
‫اإليامن عىل وجه التقليد فموجب للمعصية واإلثم‪ ،‬كام تقدم يف كالم املواقف‬
‫ورشحه‪ .‬وليس موجبا للكفر إال عند أيب هاشم من املعتزلة‪ .‬وهذه هي مسألة‬

‫‪158‬‬
‫التقليد يف اإليامن‪ ،‬وقال فريق من أهل السنة بعدم تأثيم املقلد بعدما جزم بام‬
‫جيب اإليامن به جزما قاطعا‪ .‬ومل يكفره أحد منهم‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن املراد بالنظر واالستدالل عىل القول بوجوبه هو النظر‬
‫واالستدالل اإلمجايل وإن مل يستطع صاحبه اإلفصاح به وتقريره ودفع‬
‫القوادح عنه‪ ،‬وهذا النوع من االستدالل قلام خيلو عنه مؤمن‪ ،‬بل لو قيل بعدم‬
‫خلو مؤمن عنه مل يكن بعيدا‪ ،‬فإن كالم العوام حمشو بمثل هذا االستدالل‪،‬‬
‫ومن أجل ذلك قال بعض املحققني‪ :‬إن التقليد إنام يتصور فيمن نشأ يف شاهق‬
‫جبل بدون أن جيري يف خلده وجود اهلل تعاىل‪ ،‬فأخربه خمرب بوجود اهلل تعاىل‬
‫وبصفاته‪ ،‬فصدقه وثوقا به بدون أن يستند إىل دليل‪ ،‬وأما املسلم الذي نشأ بني‬
‫املسلمني فال بد أن ُيصل عنده دليل إمجايل‪ ،‬وغالبا ما يكون بدون نظر وال‬
‫قصد إىل النظر‪ ،‬ومن أقوى الدالئل االستناد إىل صدق الرسول املؤيد‬
‫باملعجزات‪ ،‬وذلك ألن املراد بالتقليد األخذ بقول الغري بغري حجة‪ .‬ومن‬
‫قامت عليه حجة ثبوت النبوة حتى حصل له القطع هبا‪ ،‬فام سمعه من النبي‬
‫كان مقطوعا عنده بصدقه‪ ،‬فإذا اعتقده مل يكن مقلدا فيه ألنه مل يأخذ بقول‬
‫الغري بغري حجة‪.‬‬
‫وهبذا التحقيق ظهر ما يف كالم الدكتور سفر من أخطاء‪.‬‬
‫األول‪ :‬نسبته اخلالف يف أول الواجبات إىل األشاعرة فقط مع أن املعتزلة‬
‫داخلني يف اخلالف‪ ،‬فكان عليه أن يقول‪ :‬أما أول واجب عند املتكلمني‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫والثاين‪ :‬قوله‪( :‬وعندهم أن اإلنسان إذا بلغ وجب عليه النظر ثم اإليامن)‬
‫هذا مفروض عند األشاعرة يف غري املسلم الذي بلغ‪ ،‬أما املسلم الذي بلغ‬
‫مقلدا فيجب عليه النظر عند القائلني بوجوب النظر منهم‪ ،‬وأما اإليامن‬
‫فحاصل من قبل‪ ،‬ثم إن الوجوب بالنسبة إليه بمعنى أن املقلد عاص وليس‬
‫بمعنى أنه غري مسلم كام محله عليه الدكتور‪ .‬نعم هو كذلك عند أبى هاشم من‬
‫املعتزلة‪ .‬وكذلك االحتامالن اللذان أبدامها القايض فيمن مات يف أثناء النظر‬
‫مفروض يف املسلم املقلد الذي ابتدأ يف النظر مع تأخريه عن زمن الوجوب بال‬
‫عذر ومات قبل اإلنتهاء منه هل هو عاص عند القائلني بوجوب النظر أم ال‬
‫كام تقدم يف كالم املواقف ورشحه‪ ،‬وليس االحتامالن يف احلكم باإلسالم له‬
‫وعدمه‪ .‬نعم جيرى االحتامالن يف احلكم باإلسالم وعدمه بالنسبة إىل من بلغ‬
‫غري مسلم‪ ،‬أو بلغته الدعوة بالغا ورشع يف النظر بعد تأخريه عن أول زمن‬
‫الوجوب بال عذر ومات يف أثنائه‪ .‬فكالم املواقف عام للمكلف املسلم وغري‬
‫املسلم ومن أجل ذلك عرب بالعصيان الشامل للكفر واإلثم‪.‬‬
‫اخلطأ الثالث‪ :‬قوله‪( :‬واختلفوا فيمن مات قبل النظر أو يف أثنائه أُيكم‬
‫عليه باإلسالم أم بالكفر) وذلك أنه التبس عىل الدكتور االحتامالن اللذان‬
‫أبدامها القايض فيمن مات يف أثناء النظر بعد تأخري الرشوع فيه عن أول زمن‬
‫الوجوب هل هو عاص أم ال‪ ،‬التبس عليه ذلك باالختالف‪ ،‬كام التبس عليه‬
‫احلكم بالعصيان وعدمه باحلكم باإلسالم والكفر!!!‬

‫‪161‬‬
‫اخلطأ الرابع‪ :‬نسبته القول بكفر املقلد يف العقيدة إىل بعض األشاعرة مع‬
‫أن كفر املقلد مل يقل به إال أبو هاشم من املعتزلة‪ .‬قال اآلمدي يف إبكار‬
‫األفكار‪ :‬ذهب أبو هاشم من املعتزلة إىل أن من مل يعرف اهلل بالدليل فهو كافر‪،‬‬
‫ألن ضد املعرفة النكرة‪ ،‬والنكرة كفر‪ .‬قال‪ :‬وأصحابنا جممعون عىل خالفه‪،‬‬
‫وإنام اختلفوا فيام إذا كان االعتقاد موافقا لكن من غري دليل‪ ،‬فمنهم من قال‪:‬‬
‫إن صاحبه مؤمن عاص برتك النظر الواجب‪ .‬ومنهم من اكتفى بمجرد‬
‫االعتقاد املوافق‪ ،‬وإن مل يكن عن دليل وسامه علام‪ ،‬وعىل هذا فال يلزم من‬
‫‪134‬‬
‫حصول املعرفة هبذا الطريق وجوب النظر‪ .‬انتهى نقله يف فتح الباري‪.‬‬
‫اخلطأ اخلامس‪ :‬دندنته باملعرفة الفطرية‪.‬‬
‫اخلطأ السادس‪ :‬قوله‪( :‬وإن الزم مذهبهم تكفري العوام بل تكفري الصدر‬
‫األول)‬
‫أقول‪ :‬قد قررنا أن العوام كلهم أو جلهم مستدلون عند األشاعرة‬
‫استدالال إمجاليا‪ ،‬وهو كاف يف االستدالل عندهم‪ .‬وقررنا أنه ال خالف عند‬
‫األشاعرة يف صحة إيامن املقلد‪ ،‬وإنام اخلالف يف تعصيته! وأما الصدر األول‬
‫فحاشاهم أن يكونوا غري مستدلني‪ .‬وال أدرى كيف جتاس الدكتور عىل‬
‫التكلم هبذا الكالم!!! ثم إن هذا التكفري لو سلمنا أنه الزم لقول أحد فإنام هو‬

‫‪134‬‬
‫‪351 13‬‬

‫‪161‬‬
‫الزم لقول أبى هاشم من املعتزلة‪ ،‬وليس بالزم لقول أحد من األشاعرة مع‬
‫أنه غري الزم لقول أبى هاشم أيضا‪ ،‬ألنه يقول بعدم صحة إيامن املقلد‪ ،‬وهل‬
‫العوام كلهم‪ ،‬والصدر األول كلهم مقلدون يف اإليامن!! سبحانك اللهم هذا‬
‫هبتان عظيم يعظكم اهلل أن تعودوا ملثله أبدا إن كنتم مؤمنني‪.‬‬

‫‪ -41‬حكم الدكتور عىل األشاعرة بأهنم مرجئة َج َهمية‪ ،‬وحتقيق هذه املسألة‪:‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬الرابع اإليامن‪ :‬األشاعرة يف اإليامن مرجئة جهمية أمجعت‬
‫كتبهم قاطبة عىل أن اإليامن هو التصديق القلبي‪ ،‬واختلفوا يف النطق‬
‫بالشهادتني أيكفي عنه تصديق القلب‪ ،‬أم ال بد منه‪}....‬‬
‫القلب‪ .‬وقد‬
‫َ‬ ‫اإليامن حم ُّله‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫اإليامن وصف القلب وأن‬ ‫أقول‪ :‬ال شبهة يف أن‬
‫ور َد هذا يف كثري من اآليات القرآنية‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪( :‬أولئك كتب يف قلوهبم‬
‫اإليامن) وقال‪( :‬وملا يدخل اإليامن يف قلوهبم) وقال‪( :‬إال من أكره وقلبه‬
‫ِ‬
‫القلب وصدقه‬ ‫مطمئن باإليامن) وجاء يف احلديث‪" :‬اإليامن ما َو َقر يف‬
‫القلبي؛‬
‫ُّ‬ ‫العمل"‪ .‬كذلك ال مرية أنه البد يف حتقق اإليامن من التصديق‬
‫ِ‬
‫باإلذعان‬ ‫ِ‬
‫الصدق باالختيار إىل النبي‪ .‬ويسمى هذا‬ ‫والتصديق عبارة عن ِ‬
‫نسبة‬
‫الرشعي عند األشاعرة وغريهم من‬
‫ر‬ ‫والتسليم‪ ،‬وهذا هو املعترب يف اإليامن‬
‫طوائف املسلمني ما عدى اجلهمية‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫وكام أن اإلذعان والتسليم معترب رشعا يف حتقق اإليامن الرشعي الذي‬
‫طلبه اهلل من املكلفني‪ ،‬كذلك هو معترب يف املعنى اللغوي للفظ اإليامن‪ ،‬فال‬
‫يقال يف اللغة آمن به إال إذا صدقه وأذعن له بقلبه‪ ،‬وأما جمرد وقوع نسبة‬
‫الصدق يف القلب فال يسمى إيامنا لغة‪ ،‬وإنام يسمى علام ومعرفة كام قال اهلل‬
‫تعاىل عن الفريق الذين يعلمون صدق الرسول يف دعوى الرسالة بدون أن‬
‫يؤمنوا به‪( :‬الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كام يعرفون أبنائهم‪ ،‬وإن فريقا منهم‬
‫ليكتمون احلق وهم يعلمون)‪ ،‬فالبد يف حتقق كل من املعنى الرشعي واللغوي‬
‫لإليامن من ضم فعل قلبي إىل املعرفة‪ ،‬وهو اإلذعان ملا عرفه والتسليم له‪ ،‬لكن‬
‫الرشع قد نقل لفظ اإليامن إىل التصديق بأمور خاصة وهي ما جاء به الرسول‬
‫وعلم جميئه به بالرضورة‪ ،‬وجعل له نواقض اعترب الرشع اإليامن ملغى معها‬
‫كالعبادة لغري اهلل والتلفظ بكلمة الكفر يف حال االختيار‪.‬‬
‫ِ‬
‫التصديق‬ ‫ِ‬
‫الصدق يف القلب بدون‬ ‫ِ‬
‫نسبة‬ ‫وأما جمرد املعرفة ووقوع‬
‫واإلذعان‪ ،‬فال يكفي يف اإليامن‪ .‬واملوجود عندَ أيب طالب ِ‬
‫وغريه من كثري من‬
‫املرشكني هو املعرفة فقط بدون تصديق وإذعان‪.‬‬
‫والذي قالت اجلهمية بكفايته يف حصول اإليامن هو املعرفة‪ .‬وكم من فرق‬
‫بني املذهبني!! قال أبو منصور البغدادي‪( :‬وزعمت اجلهمية أن اإليامن هو‬

‫‪163‬‬
‫املعرفة وحدها)‪ 135‬ونقل الشهرستاين عن جهم أنه قال‪( :‬من أتى باملعرفة ثم‬
‫جحد بلسانه مل يكفر بجحده ألن العلم واملعرفة ال يزوالن باجلحد فهو‬
‫مؤمن)‪ 136‬وهذا املذهب مردود بقوله تعاىل عن بعض الكفار‪( :‬وجحدوا هبا‬
‫واستيقنتها أنفسهم ظلام وعلوا) وقوله‪( :‬يعرفونه كام يعرفون أبنائهم‪ ،‬وإن‬
‫فريقا منهم ليكتمون احلق وهو يعلمون)‬
‫ثم اختلف األشاعرة يف أنه هل يكفي يف حصول أصل اإليامن ويف‬
‫اخلروج من الكفر هذا التصديق والتسليم واإلذعان القلبي أم البد يف حتققه‬
‫من ضم التلفظ بالشهادتني إليه إن كان املكلف قادرا عىل ذلك بأن مل يكن‬
‫أخرس؟ والذين قالوا بكفاية التصديق بالقلب يف ذلك قالوا‪ :‬البد أن يكون‬
‫هذا املصدق بحيث إذا طولب بالتلفظ بالشهادتني تلفظ هبام ومل يمتنع عن‬
‫ذلك‪ ،‬فإذا امتنع عن التلفظ هبام بعد املطالبة به فهو غري مسلم بامتناعه هذا‪ ،‬ثم‬
‫إهنم أرادوا بكفاية التصديق كفايته فيام بني العبد وبني اهلل تعاىل وكفايته يف‬
‫النجاة من اخللود يف النار‪ ،‬أما إجراء أحكام املسلم الدنيوية عىل املكلف فال‬
‫خالف يف أنه البد فيه من النطق بالشهادتني فيمن أسلم بعد كفر‪ ،‬وأما ولد‬
‫املسلم إذا بلغ فنجرى عليه أحكام املسلمني وإن مل يتلفظ بالشهادتني طول‬
‫عمره ما مل يثبت عليه ما يقتيض احلكم عليه بالكفر‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫‪249‬‬
‫‪136‬‬
‫‪111 1‬‬

‫‪164‬‬
‫ثم إن من مذهب األشاعرة أهنم يرجئون أمر العصاة إىل اهلل إن شاء‬
‫عذهبم وإن شاء عفا عنهم‪ .‬هذا هو مذهبهم يف اإلرجاء وهو اإلرجاء السني‬
‫الذي ال خيالف فيه أحد من أهل السنة‪ ،‬وأما اإلرجاء البدعي وهو اعتقاد أنه‬
‫ال يرض مع اإليامن معصية كام ال ينفع مع الكفر طاعة‪ ،‬فهم من أبعد الناس عنه‬
‫كام أهنم من أبعد الناس عن رأي جهم‪ ،‬وقد عدوا يف كتبهم هذين املذهبني من‬
‫مذاهب املبتدعة‪ .‬هذا هو خالصة مذهب األشاعرة يف القضية‪ ،‬وهو مأخوذ‬
‫من الكتاب والسنة‪ ،‬ونورد هنا مجلة قليلة من اآليات واألحاديث التي هي‬
‫رصُية يف مذهبهم‪.‬‬
‫أما مذهبهم يف اإليامن فمن الدالئل عليه ما ييل‪ :‬قال اهلل تعاىل‪( :‬الذين‬
‫آمنوا وعملوا الصاحلات) فعطف اهلل تعاىل عمل الصاحلات عىل اإليامن‬
‫والعطف يقتىض املغايرة‪ ،‬وقال اهلل تعاىل‪( :‬وإن طائفتان من املؤمنني اقتتلوا‬
‫فأصلحوا بينهام) فعد اهلل تعاىل الطائفتني املقتتلني مؤمنتني مع أن إحدامها باغية‬
‫واألخرى مبغي عليها‪ ،‬وقد تكون كلتامها باغيتني‪ ،‬فلم ينف اهلل تعاىل عنهام‬
‫اإليامن وعدمها مؤمنتني‪ ،‬وقال تعاىل‪( :‬فمن يعمل من الصاحلات وهو مؤمن‬
‫فال كفران لسعيه) فجعل اهلل تعاىل اإليامن رشطا لقيام األعامل الصاحلة ولو‬
‫‪137‬‬
‫كان اإليامن اسام لكل عبادة لكان رشط اليشء نفسه قاله أبو املعني النسفي‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫‪112 111‬‬

‫‪165‬‬
‫وأما السنة فنكتفي منها بحديث جربيل‪ ،‬فقد فرس النبي صىل اهلل تعاىل‬
‫عليه وآله وسلم فيه اإليامن بقوله‪( :‬أن تؤمن باهلل ومالئكته‪ ،‬وكتبه‪ ،‬ورسله‪،‬‬
‫واليوم اآلخر‪ ،‬وبالقدر خريه ورشه من اهلل تعاىل) فقد فرس األشاعرة اإليامن بام‬
‫فرسه به النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪ ،‬ثم فرس النبي صىل اهلل تعاىل‬
‫عليه وآله وسلم اإلسالم (بالتلفظ بالشهادتني‪ ،‬والصالة‪ ،‬والزكاة‪ ،‬والصيام‪،‬‬
‫واحلج)‪ ،‬فجعل التلفظ بالشهادتني من اإلسالم ال من اإليامن‪ ،‬وأدخله يف نوع‬
‫العمل كا الصالة والزكاة‪ ،‬دون نوع االعتقاد‪ ،‬وهذا دليل ملن يقول من‬
‫األشاعرة وغريهم إن التلفظ بالشهادة ليس برشط يف حصول أصل اإليامن‪.‬‬
‫وأما مذهب األشاعرة يف اإلرجاء فدليله ما ال ُيىص من اآليات‬
‫واألحاديث ونقتَص منها عىل قوله تعاىل‪( :‬إن اهلل ال يغفر أن يرشك به ويغفر‬
‫ما دون ذالك ملن يشاء) وعىل ما جاء عن النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‬
‫أنه قال‪( :‬من مات ال يرشك باهلل شيئا دخل اجلنة) رواه مسلم‪.‬‬
‫فهل بعد هذا يصح أن يقال‪ :‬إن األشاعرة يف اإليامن مرجئة جهمية؟!‬
‫غضب الدكتور أن األشاعرة مل يقولوا‪( :‬اإليامن اعتقاد وقول‬
‫َ‬ ‫نعم يثري‬
‫وعمل) مثل من قال ذلك من األئمة‪ ،‬ولكن األشاعرة مل خيالفوا يف هذا القول‬
‫بمعناه الذي قصده القائلون به‪ .‬وكيف جيوز هلم أن خيالفوا فيه وقد قال اهلل‬
‫تعاىل‪( :‬وما كان اهلل ليضيع إيامنكم) فقد عرب عن الصالة باإليامن‪ ،‬وقال النبي‬

‫‪166‬‬
‫صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪( :‬اإليامن بضع وسبعون شعبة أعالها قول ال‬
‫̃إله إال اهلل‪ ،‬وأدناها إماطة األذى عن الطريق) وقال‪( :‬الطهور شطر اإليامن)‬
‫وبيان ذلك أن اإليامن شبيه بالشجرة فاسم الشجرة يطلق عىل جمموع‬
‫الساق واألغصان والورق والثمر وإذا قطف الثمر فال يزال اسم الشجرة‬
‫يطلق عىل الباقي‪ ،‬وكذلك إذا قطعت الورق واألغصان‪ ،‬وأما إذا قطع الساق‬
‫فقد عدمت الشجرة‪ ،‬ومل يبق هناك ما يطلق عليه اسم الشجرة‪.‬‬
‫كذلك اسم اإليامن قد أطلق يف كثري من نصوص الكتاب والسنة عىل معنى‬
‫عام يشتمل أصل اإليامن وما يرتتب عليه من األعامل والثمرات‪ ،‬وبانعدام‬
‫األعامل والثمرات ال ينعدم أصل اإليامن‪ ،‬وأما بانعدام التصديق القلبي فينعدم‬
‫أصل اإليامن‪ ،‬فتعريف األشاعرة لإليامن بأنه التصديق القلبي وحده أو مع التلفظ‬
‫بالشهادتني عىل اخلالف يف الشهادتني عندهم‪ ،‬تعريف ألصل اإليامن التي بدونه‬
‫يعد اإلنسان كافرا خملدا يف النار‪ ،‬وأما من قال‪( :‬اإليامن اعتقاد وقول وعمل) فقد‬
‫عرف اإليامن باملعنى العام الذي جاء به كثري من نصوص الكتاب والسنة‪ ،‬فال‬
‫خالف بني الفريقني ألن كل واحد منهام عرف معنى لإليامن مغايرا للمعنى الذي‬
‫عرفه اآلخر‪ .‬واهلل تعاىل أعلم‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫‪-41‬مسألة زيادة اإليامن ونقصه‪:‬‬
‫ِ‬
‫اإليامن‬ ‫ٍ‬
‫حديث ور َد يف زيادة‬ ‫قال الدكتور‪{ :‬هذا وقد أولوا ك َُّل ٍ‬
‫آية أو‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫إيامن أو من اإليامن}‬ ‫و ُن ْقصانه أو وصف بعض ُشعبه َّ‬
‫بأهنا ٌ‬
‫اإليامن يزيد وينقص‪ ،‬وعمدهتم يف االستدالل‬ ‫ِ‬ ‫أقول‪ :‬مذهب األشاعرة أن‬
‫ِ‬
‫والسنة يف الزيادة‪ ،‬والذين يقولون بنفي‬ ‫ِ‬
‫الكتاب‬ ‫عىل ذلك ما ور َد من نصوص‬
‫والنقص يف اإليامن هم مجهور احلنفية‪ ،‬وهلم أيضا دالئلهم عىل ذلك‪.‬‬
‫َ‬ ‫الزياد َة‬
‫وأما ما جاء يف كثري من نصوص الكتاب والسنة من التعبري عن بعض‬
‫األعامل املطلوبة باإليامن كام قال اهلل تعاىل‪( :‬وما كان اهلل ليضيع إيامنكم) أي‬
‫صالتكم أو التعبري بأهنا من اإليامن‪ ،‬فصحيح أن األشاعرة قد أولوها‪ ،‬وذلك‬
‫ألهنم يرون أن اإليامن موضوع لغة ورشعا للتصديق القلبي لكن الرشع نقله‬
‫إىل التصديق بأمور خاصة‪ .‬وهذه األعامل ليست نفس التصديق‪ ،‬بل هي آثاره‬
‫وثمراته‪ ،‬فيكون إطالق اإليامن عليها جمازا ال حقيقة‪.‬‬
‫وأنا أسأل الدكتور هل إذا عمل أحد الكفار شيئا من هذه األعامل املطلوبة‬
‫رشعا يطلق عىل ما عمله أنه إيامن‪،‬؟ فإن كان إطالق اإليامن عىل هذا األعامل‬
‫عىل وجه احلقيقة فال بد أن يصح أن يطلق عىل ما عمله الكافر من ذلك أنه‬
‫إيامن‪ .‬وال أعتقد أن الدكتور جييب بنعم‪ ،‬فإذا مل يصح إطالق اإليامن عليها يف‬
‫هذه الصورة‪ ،‬يكون إطالقه عليها مرشوطا باتصاف صاحبها باإليامن‪ ،‬ومعنى‬

‫‪168‬‬
‫هذا أن إطالق اإليامن عليها باعتبار أهنا ثمراته وآثاره‪ ،‬وهذا هو تأويل‬
‫األشاعرة الذي أنكره الدكتور عليهم!‪.‬‬

‫‪ -42‬القرآن وبيان مذهب األشاعرة فيه بتوسع‪:‬‬


‫قال الدكتور‪{ :‬اخلامس القرآن‪ :‬فمذهب أهل السنة واجلامعة أن القرآن‬
‫كالم اهلل غري خملوق‪ ،‬وأنه تعاىل يتكلم بكالم مسموع تسمعه املالئكة وسمعه‬
‫جربيل‪ ،‬وسمعه موسى ‪-‬عليه السالم‪ ، -‬وتسمعه اخلالئق يوم القيامة‪.‬‬
‫ومذهب املعتزلة أنه خملوق‪.‬‬
‫أما مذهب األشاعرة فمن منطلق التوفيقية التي مل حيالفها التوفيق‪ -‬فرقوا‬
‫بني املعنى واللفظ‪ ،‬فالكالم الذي يثبتونه هلل تعاىل هو معنى أزيل أبدي قائم‬
‫بالنفس ليس بحرف‪ ،‬وال صوت‪ ،‬وال يوصف باخلرب وال اإلنشاء‪.‬‬
‫واستدلوا بالبيت املنسوب لألخطل النرصاين‪:‬‬
‫إن الكالم لفي الفؤآد وإنام ‪ ::‬جعل اللسان عىل الفؤآد دليال}‬
‫أقول‪ :‬نتوسع يف هذا الباب ملا له من األمهية القصوى‪ ،‬وألنه طويل الذيل‬
‫متشعب األطراف‪ ،‬بعيد الغور‪ ،‬صعب التناول‪ ،‬ال يتيرس الوقوف عىل دقائقه‪،‬‬
‫والوصول إىل قعره إال للمحققني املتمرسني بعلم الكالم‪ ،‬ومن أجل ذلك‬
‫تورط الدكتور يف هذا الفقرة من كالمه فيام تورط فيه من األخطاء اجلمة‪ ،‬وقد‬

‫‪169‬‬
‫قاربت العرشين خطأ‪ .‬ثم أقول‪ :‬ال بد أن نبني مذهب األشاعرة يف كالم اهلل‬
‫تعاىل عىل وجهه‪ ،‬ثم نعود إىل كالم الدكتور وإىل بيان ما حواه من أخطاء‪.‬‬
‫فأقول وباهلل التوفيق‪ :-‬املتكلم من أجل حتقق الكالم اللفظي اللساين‬
‫عنده ال بد من حتقق أمرين آخرين عنده‪:‬‬
‫األمر األول‪ :‬املعاين النفسية التي ال ختتلف باختالف اللغات‪ ،‬وال تتغري‬
‫بتغري العبارات‪ ،‬وهو املعنى الذي نجده يف أنفسنا عند أخبارنا عن قيام زيد‪.‬‬
‫أعني النسبة اإلجيابية بني القيام وزيد‪ ،‬وعند طلب القيام منه أعنى النسبة‬
‫اإلنشائية الطلبية بيننا وبني زيد‪.‬‬
‫األمر الثاين‪ :‬األلفاظ املتخيلة التي يصوغها املتكلم يف ذهنه بإحدى‬
‫اللغات‪ ،‬ثم يتكلم هبا بلسانه بنفس اللغة‪.‬‬
‫فتحقق هناك ثالثة أنواع من الكالم‪ :‬املعاين التي ال ختتلف باختالف‬
‫اللغات والتعبريات‪ ،‬واأللفاظ املتخيلة الذهنية‪ ،‬واأللفاظ اللسانية‪ ،‬ويمكن أن‬
‫نختَصها إىل قسمني‪ :‬الكالم املعنوي النفيس‪ ،‬والكالم اللفظي‪ ،‬وهو منقسم‬
‫إىل قسمني لفظي نفيس‪ ،‬ولفظي لساين‪ .‬وبعد هذه التوطئة نقول‪:‬‬
‫قد أثبت األشاعرة وكذلك املاتريدية هلل تعاىل نوعني من الكالم عىل وجه‬
‫احلقيقة ال عىل وجه املجاز‪.‬‬
‫النوع األول‪ :‬الكالم املعنوي النفيس‪ ،‬وقالوا‪ :‬إنه معنى قديم قائم بذاته‬
‫ليس بحرف وال صوت‪ ،‬وهو معنى واحد غري منقسم إىل اخلرب واألمر‬

‫‪171‬‬
‫والنهي يف األزل‪ ،‬وإنام ينقسم إىل هذه األقسام فيام ال يزال‪ .‬هذا هو مذهب ابن‬
‫كالب‪ ،‬وهو املشهور من مذهب اإلمام األشعري‪.‬‬
‫وذهب بعض األشاعرة إىل أنه عبارة عن اخلرب فقط‪ ،‬وأن األمر والنهي‬
‫راجعان إليه‪ ،‬ألن الطلب من اهلل تعاىل يرجع إىل اخلرب بوصول الثواب‬
‫والعقاب‪ ،‬ونسب اآلمدي هذا القول إىل اإلمام األشعري‪.‬‬
‫وذهب بعضهم إىل انقسامه يف األزل إىل األمر والنهي واخلرب‪.‬‬
‫وذهب بعضهم إىل انقسامه يف األزل إىل األقسام اخلمسة‪ :‬األمر‪ ،‬والنهي‪،‬‬
‫واخلرب‪ ،‬واالستخبار‪ ،‬والنداء‪.‬‬
‫وهذا النوع من الكالم ‪-‬وهو الكالم املعنوي النفيس‪ -‬مما ال ينبغي ألحد‬
‫من العقالء أن خيالف يف ثبوته هلل تعاىل ألن اهلل تعاىل آمر‪ ،‬ناه‪ ،‬خمرب‪ ،‬وال حتقق‬
‫هلذه الصفات بدون الكالم املعنوي‪ ،‬لكن املعتزلة نفوه عن اهلل تعاىل وأثبتوا هلل‬
‫الكالم اللفظي فقط‪ ،‬واحلنابلة أثبتوا الكالم اللفظي هلل تعاىل ومل يتكلموا عىل‬
‫الكالم املعنوي ال نفيا وال إثباتا‪.‬‬
‫هذا هو املشهور عن احلنابلة‬
‫وذهب القايض أبو يعىل منهم إىل ما ذهب إليه األشاعرة‪ .‬قال‪( :‬وهو‬
‫سبحانه عامل بعلم واحد‪ ،‬وقادر بقدرة واحدة‪ ،‬وحي بحياة واحدة‪ ،‬ومريد‬

‫‪171‬‬
‫بإرادة واحدة‪ ،‬ومتكلم بكالم واحد) وقال‪( :‬غري ممتنع أن له كالما واحدا‬
‫‪138‬‬
‫بلغات خمتلفة ُيصل اإلفهام لكل واحد بلغته)‬
‫وقد استدل األشاعرة عىل إطالق الكالم يف اللغة عىل املعنى النفيس‬
‫بكالم اهلل تعاىل وكالم رسوله وكالم أقحاح العرب‪ .‬قال الباقالين‪( :‬ومما يدل‬
‫عىل أن حقيقة الكالم هو املعنى القائم بالنفس من الكتاب والسنة وكالم‬
‫العرب ما نذكر‪ ...‬وقوله تعاىل خمربا عن الكفار‪( :‬ويقولون يف أنفسهم لو ال‬
‫يعذبنا اهلل بام نقول)‪ ...‬وقوله صىل اهلل تعاىل عليه وسلم‪( :‬يقول اهلل تعاىل إذا‬
‫ذكرين عبدي يف نفسه‪ )...‬ويدل عىل ذلك أيضا قول عمر بن اخلطاب ريض‬
‫اهلل تعاىل عنه‪( :‬زورت يف نفيس كالما فأتى أبو بكر فزاد عليه) فأثبت الكالم‬
‫يف النفس من غري نطق لسان‪ ،‬وعمر ريض اهلل عنه‪ -‬كان من أجل أهل‬
‫اللسان والفصاحة‪ ....‬والعريب الفصيح يقول‪:‬كان يف نفيس كالم‪ ،‬وكان يف‬
‫نفيس قول‪ ،‬وكان يف نفيس حديث إىل غري ذلك‪ ،‬وأنشد األخطل‪:‬‬
‫‪139‬‬
‫إن الكالم لفي الفؤاد وإنام ‪ ::‬جعل اللسان عىل الفؤاد دليال‬
‫النوع الثاين من الكالم الذي أثبته األشاعرة هلل تعاىل الكالم اللفظي‪ ،‬وبعد‬
‫اتفاقهم عىل ثبوته هلل تعاىل عىل وجه احلقيقة ال املجاز اختلفوا يف قدمه‬
‫وحدوثه‪ ،‬فذهب مجهور األشاعرة واملعتزلة عامة إىل حدوثه‪ ،‬وإىل أنه غري قائم‬

‫‪138‬‬
‫‪79 49‬‬
‫‪139‬‬
‫‪97 96‬‬

‫‪172‬‬
‫باهلل تعاىل ألنه تعاىل ال يكون حمال للحوادث‪ ،‬بل هو قائم بغريه تعاىل‪ ،‬وذلك‬
‫ألهنم رأوا أن الكالم اللفظي ال يتحقق إال بحروف وكلامت وألفاظ مرتتبة‬
‫متعاقبة موقوف وجود املتأخر منها عىل انقضاء املتقدم‪ .‬وهذا من صفات‬
‫املحدثات‪ ،‬فمن أجل ذلك قالوا بحدوثه بمعنى أن اهلل تعاىل هو الذي استقل‬
‫بإحداثه بدون كسب ألحد فيه‪ ،‬أوجده اهلل تعاىل يف اللوح املحفوظ أو يف‬
‫الشجرة أو يف جربيل مثال‪ .‬وهو كالمه عىل وجه احلقيقة يؤديه الناس‬
‫بحروفهم وأصواهتم حني تالوهتم له‪ ،‬نظري تالوهتم لغريه من كالم الناس‪.‬‬
‫ومع قوهلم بحدوث الكالم اللفظي هلل تعاىل قالوا‪ :‬ال جيوز التَصيح بذلك إال‬
‫يف مقام التعليم لئال يسبق الوهم إىل حدوث الكالم املعنوي النفيس القديم‬
‫القائم باهلل تعاىل‪.‬‬
‫وذهب فريق من األشاعرة إىل قدم الكالم اللفظي وقيامه باهلل تعاىل كالكالم‬
‫املعنوي وأجابوا عن شبهة اجلمهور واملعتزلة بالرتتيب‪ ،‬والتقدم‪ ،‬والتأخر‪،‬‬
‫واالبتداء‪ ،‬واالنقضاء‪ ،‬بأن هذا قياس منهم للغائب عىل الشاهد‪ ،‬ومن املقرر أنه‬
‫غري مقبول‪ ،‬فإن الرتتيب املذكور إنام هو يف كالم املخلوق لعدم مساعدة اآللة‪.‬‬
‫وأما كالم اهلل تعاىل فهو اللفظ مع املعنى‪ ،‬وهو لفظ نفيس كاملعنى قائم بذاته تعاىل‬
‫برتتيب وتقدم وتأخر ذايت ال زماين‪ ،‬وبدون ابتداء وانقضاء‪ ،‬وبدون صوت‪ ،‬ومما‬
‫ُياكى ذلك حماكاة بعيدة وجود األلفاظ يف نفس احلافظ‪ .‬فإن مجيع احلروف‬
‫هبيئاهتا التأليفية حمفوظة يف نفسه جمتمعة الوجود فيها‪ ،‬وليس وجود بعضها‬

‫‪173‬‬
‫مرشوطا بانقضاء البعض وانعدامه يف نفسه‪ ،‬فبطل ما يتوهم من أنه إذا مل يكن‬
‫ترتيب ال يبقى فرق بني ملع وملع ونظائرمها‪.‬‬
‫وممن ذهب إىل هذا الرأي اإلمام عبد الكريم الشهرستاين يف كتابه هناية‬
‫‪140‬‬
‫اإلقدام‪.‬‬
‫والقايض عضد الدين االجيي يف مقالة له أوردها السيد الرشيف يف رشح‬
‫املواقف‪141.‬والسعد التفتازاين‪ ،‬والسيد الرشيف اجلرجاين‪ ،‬وقد علق السعد‬
‫القول به عىل إمكان تصور وجود األلفاظ بدون ترتيب‪ ،‬وقد بينا إمكانه‪ ،‬وقد‬
‫كان شيخنا املحقق الكبري الشيخ حممد العربكندي يؤيد هذا املذهب ويذهب‬
‫إليه‪ ،‬وهو املختار عندنا‪.‬‬
‫والفرق بني هذا املذهب ومذهب احلنابلة أن أهل هذا املذهب يقولون‬
‫بقدم الكالم النفيس وقيامه بذاته تعاىل بمعنى اللفظ النفيس من نوع ما يعرب‬
‫عنه بالنسبة لإلنسان بحديث النفيس‪ ،‬وهو يكون بدون صوت كام يفيده‬
‫وصف الكالم بالنفيس‪.‬‬
‫وأما احلنابلة فقد ذهبوا إىل أن كالم اهلل تعاىل مؤلف من أصوات وحروف‬
‫مرتتبة‪ ،‬وأهنا قائمة بذاته تعاىل‪ .‬وال خيفى ما يف كالمهم من التناقض‪ ،‬فإن قيام‬
‫الصفة بذات اهلل تعاىل يقتيض قدمها ألن اهلل تعاىل ال يكون حمال للحوادث‪،‬‬

‫‪140‬‬
‫‪117 113‬‬
‫‪113 8 141‬‬

‫‪174‬‬
‫وكون الكالم مؤلفا من األصوات واحلروف املرتتبة يقتيض حدوثها لبداهة‬
‫تعاقبها وجتددها املستلزم للحدوث‪ ،‬وهذا ما دعى املعتزلة ومجهور األشاعرة‬
‫إىل القول بحدوث الكالم اللفظي وأنه غري قائم باهلل تعاىل كام قدمناه‪.‬‬

‫‪-43‬بيان أن كالم اهلل تعاىل مسموع‪:‬‬


‫وأما أن كالم اهلل تعاىل مسموع تسمعه املالئكة‪ ،‬وسمعه جربيل‪ ،‬وسمعه‬
‫موسى عليه الصالة السالم‪ ،‬وتسمعه اخلالئق‪ ،‬فمحل وفاق عند األشاعرة‬
‫وكذلك عند املاتريدية‪.‬‬
‫حيث قالوا كلهم‪ :‬كالم اهلل تعاىل حمفوظ يف القلوب‪ ،‬مقروء باأللسنة‪،‬‬
‫مسموع باآلذان‪ ،‬مكتوب يف املصاحف‪ ،‬عىل وجه احلقيقة ال املجاز‪ ،‬غري حال‬
‫فيها‪ ،‬وذلك ألن كالم اهلل تعاىل وصف له قديم قائم بذاته ال ينفصل عنه‪ ،‬وال‬
‫ُيل يف غريه من املحدثات‪.‬‬
‫وبيان ذلك أن لكل يشء وجودا يف األعيان‪ ،‬ووجودا يف األذهان‪،‬‬
‫ووجودا يف العبارة‪ ،‬ووجودا يف األسامع‪ ،‬ووجودا يف الكتابة‪ ،‬فالكتابة تدل‬
‫عىل العبارة‪ ،‬والعبارة تدل عىل ما يف األذهان‪ ،‬وما يف األذهان‪ ،‬صور ملا يف‬
‫األعيان‪ .‬واألسامع متعلقة بالعبارة‪،‬وليس ما يف األعيان بحال يف يشء من‬
‫األذهان واللسان والقرطاس واآلذان‪ ،‬وذلك كاحلجر والنار‪ ،‬فان أعياهنا ال‬

‫‪175‬‬
‫حتل ال يف األذهان وال يف اللسان وال يف األذان وال يف القرطاس‪ .‬وأما اللفظ‬
‫الدال عليهام فهو حمفوظ مقروء مسموع مكتوب‪.‬‬
‫قال إمام احلرمني‪ :‬كالم اهلل تعاىل مسموع يف إطالق املسلمني والشاهد‬
‫لذلك من كتاب اهلل تعاىل قوله تعاىل (وإن أحد من املرشكني استجارك فأجره‬
‫حتى يسمع كالم اهلل)‪...142‬‬
‫والذي جيب القطع به أن املسموع املدرك يف وقتنا األصوات‪ ،‬فإذا سمي‬
‫كالم اهلل تعاىل مسموعا فاملعنى به كونه مفهوما معلوما عن أصوات مدركة‬
‫‪143‬‬
‫ومسموعة‪.‬‬
‫وقال‪ :‬جيب إطالق القول بأن كالم اهلل تعاىل مسموع‪ ،‬وليس املراد بذلك‬
‫تعلق اإلدراك بالكالم األزيل القائم بالباري تعاىل‪ ،‬ولكن املدرك صوت‬
‫القارئ‪ ،‬واملفهوم عند قراءته كالم اهلل سبحانه‪.‬‬
‫وال بعد يف تسمية املفهوم عند مسموع مسموعا‪ ،‬فهذا بمثابة ما إذا بلغ‬
‫مبلغ رسالة ملك‪ ،‬فيحسن ممن بلغته الرسالة أن يقول‪ :‬سمعت كالم امللك‬
‫ورسالته‪ ،‬وكالم امللك حديث نفسه وأصواته‪ ،‬ومن بلغ الرسالة مل ينقل‬
‫‪144‬‬
‫صوت مرسله‪ ،‬وال حديث نفسه‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫‪2‬‬
‫‪143‬‬
‫‪129‬‬
‫‪144‬‬
‫‪157‬‬

‫‪176‬‬
‫ورك‪:‬‬
‫وقال ابن ف َ‬
‫معاين كالمه‬
‫َ‬ ‫«إن كالم اهلل تعاىل مل يزل وال يزال موجودا‪ ،‬وإنه يف ِهم خل َقه‬
‫أوال فأوال وشيئا فشيئا‪ ،‬وإن الذي يتجدد اإلسامع واإلفهام‪ ،‬دون املسموع‬
‫واملفهوم‪ ...‬كالمه ال خيص األوقات واألزمان‪ ،‬كام أن علمه وسمعه وقدرته‬
‫ال يصح أن يقال فيه يشء من ذلك‪ ،‬وإنام يتجدد املعلوم واملقدور بحدوثه شيئا‬
‫بعد يشء‪ ،‬دون العلم والقدرة عليه) ثم قال‪( :‬واعلم أنه كام ينكر قول من قال‪:‬‬
‫إن اهلل مل يتكلم إال مرة واحدة كذلك ينكر قول من قال‪ :‬إن اهلل يتكلم مرة بعد‬
‫‪145‬‬
‫أخرى‪ ،‬ألن كل ذلك يوجب حدوث الكالم‪»...‬‬
‫وعىل هذا معنى كالم من قال من األئمة كاإلمام أمحد‪" :‬إن اهلل تعاىل مل يزل‬
‫متكلام إن شاء" أن كالم اهلل صفة قديمة قائمة بذات اهلل‪ ،‬وأن اهلل يكلم أنبيائه متى‬
‫شاء بالوحي‪ ،‬أو من وراء احلجاب‪ ،‬أو بإرسال الرسول‪ ،‬كام قال اهلل تعاىل‪( :‬وما‬
‫كان برش أن يكلمه اهلل إال وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسوال فيوحي‬
‫بإذنه ما يشاء)‪ 146‬وقد كان اهلل تعاىل متكلام قبل أن يك رلم األنبياء‪ ،‬كام أنه كان خالقا‬
‫قبل أن خيلق اخللق‪ .‬فمعنى يكلم أنبيائه متى شاء يوحي إليهم كالمه القديم‪،‬‬
‫ويفهمهم إياه متى شاء‪،‬وليس معناه أنه ينشئ كالما يكلمهم به متى شاء ذلك‪،‬‬

‫‪145‬‬
‫‪449 446 445‬‬
‫‪146‬‬
‫‪51‬‬

‫‪177‬‬
‫فإن هذا املعنى مناقض لقوهلم‪" :‬مل يزل متكلام"‪ ،‬ومقتيض حلدوث الكالم‪ .‬وقد‬
‫اتفق أهل السنة عىل قدمه‪.‬‬
‫هذا عن املسموع لنا يف الدنيا كام أشار إليه إمام احلرمني بقوله‪" :‬والذي‬
‫جيب القطع به أن املسموع املدرك يف وقتنا األصوات"‪.‬‬
‫وأما املسموع لسيدنا موسى عليه الصالة والسالم ولسيدنا حممد صىل اهلل‬
‫تعاىل عليه وآله وسلم ليلة املعراج وللمؤمنني يوم القيامة ما هو؟ فقد اختلفوا‬
‫فيه‪.‬‬
‫فذهب الشيخ أبو احلسن األشعري والقايض أبو بكر الباقالين إىل أن‬
‫املسموع هلم الكالم النفيس الذي هو ليس بحرف وال صوت‪ِ ،‬‬
‫يسمعه اهلل‬
‫تعاىل من يشاء من عباده عىل سبيل خرق العادة‪ ،‬فإن العادة أن ال تسمع إال‬
‫األصوات‪ .‬وذلك عىل أصل األشعري‪" :‬أن كل موجود يصح أن يسمع" كام‬
‫أن من أصله‪" :‬أن كل موجود يصح أن يرى"‪.‬‬
‫قال البيهقي‪( :‬إن كان املتكلم ذا خمارج سمع كالمه ذا حروف وأصوات‪،‬‬
‫وإن كان املتكلم غري ذي خمارج سمع كالمه غري ذي حروف وأصوات‪.‬‬
‫والباري جل ثنائه ليس بذي خمارج‪ ،‬وكالمه ليس بحرف وصوت‪ ،‬فإذا‬
‫‪147‬‬
‫فهمناه ثم تلوناه تلوناه بحروف وأصوات)‬

‫‪147‬‬
‫‪273‬‬

‫‪178‬‬
‫وذهب اإلمام أبو منصور املاتريدي وأبو إسحاق االسفراييني من‬
‫األشاعرة إىل أن املسموع هلؤالء هو صوت خملوق هلل تعاىل دال عىل املعنى‬
‫القائم بنفسه‪ .‬قال أبو املعني النسفي يف التبَصة‪ :‬وذكر (أبو منصور) يف كتاب‬
‫"التأويالت" أن موسى عليه السالم سمع صوتا داال عىل كالم اهلل تعاىل‪،‬‬
‫وكان اختصاصه (أي سبب اختصاصه باسم الكليم) أن اهلل تعاىل أفهمه‬
‫كالمه بإسامعه صوتا توىل ختليقه من غري أن يكون ذلك الصوت مكتسبا‬
‫ألحد من اخللق إكراما منه إياه‪ ،‬وذهب بعده إىل هذا القول أبو إسحاق‬
‫االسفراييني من مجلة األشاعرة‪...‬‬
‫ومل يرض أبو إسحاق باختياره هذا املذهب‪ ،‬حتى ادعى أن مجيع من‬
‫‪148‬‬
‫تقدمه من متكلمي أهل احلديث عىل هذا‪)...‬‬

‫‪-44‬معنى إنزال كالم اهلل تعاىل‪:‬‬


‫وأما معنى إنزال كالم اهلل تعاىل فننقل فيه كالم إمام احلرمني قال يف‬
‫"اإلرشاد"‪:‬‬
‫"كالم اهلل تعاىل منزل عىل األنبياء‪ ،‬وقد دل عىل ذلك آي كثرية من كتاب‬
‫اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫‪315 1‬‬

‫‪179‬‬
‫ثم ليس املعن ِ ُّي باإلنزال حط اليشء من علو إىل سفل‪ ،‬فإن اإلنزال بمعنى‬
‫االنتقال يتخصص باألجسام واألجرام‪ ،‬ومن اعتقد قدم كالم اهلل تعاىل وقيامه‬
‫بنفس الباري سبحانه وتعاىل واستحالة مزايلته للموصوف به‪ ،‬فال يسرتيب يف‬
‫استحالة االنتقال عليه‪.‬‬
‫ومن اعتقد حدوث الكالم‪ ،‬وصار إىل أنه عرض من األعراض‪ ،‬فال‬
‫يسوغ عىل معتقده أيضا تقدير االنتقال‪ ،‬إذا العرض ال يزول وال ينتقل‪.‬‬
‫فاملعنِ ُّي باإلنزال أن جربيل صلوات اهلل عليه أدرك كالم اهلل تعاىل‪ ،‬وهو يف‬
‫مقامه فوق سبع سموات‪ ،‬ثم نزل إىل األرض‪ ،‬فأفهم الرسول ما فهمه عند سدرة‬
‫املنتهى من غري نقل لذات الكالم‪.‬‬
‫وإذا قال القائل‪ :‬نزلت رسالة امللك إىل القَص مل يرد بذلك انتقال أصواته‪،‬‬
‫‪149‬‬
‫أو انتقال كالمه القائم بنفسه‪.‬‬
‫هذا مذهب األشاعرة واملاتريدية يف كالم اهلل تعاىل‪.‬‬
‫وبه يتبني أهنم اثبتوا هلل تعاىل نوعني من الكالم‪ :‬األول‪ :‬الكالم املعنوي‬
‫النفيس‪ ،‬وقد اتفقوا عىل قدمه‪ ،‬وقيامه باهلل تعاىل‪ ،‬والثاين‪ :‬الكالم اللفظي‪ ،‬وقد‬
‫اختلفوا فيه‪ ،‬فذهب فريق من املحققني منهم إىل قدمه أيضا‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن كالم اهلل‬
‫تعاىل عبارة عن اللفظ واملعنى القديمني القائمني باهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫‪131‬‬

‫‪181‬‬
‫وذهب مجهورهم إىل حدوث الكالم اللفظي بمعنى أن اهلل تعاىل تفرد‬
‫بخلقه بدون كسب ألحد فيه‪ ،‬وهو كالم اهلل عىل احلقيقة دون املجاز‪.‬‬
‫ومل يذهب أحد منهم إىل ما ذهب إليه مجهور احلنابلة من أن كالم اهلل تعاىل‬
‫عبارة عن احلروف واألصوات‪ ،‬قالوا‪ :‬ألنه من البدهيي أن ذلك يقتيض‬
‫الرتتيب والتعاقب املقتيض للحدوث‪ ،‬وكالم اهلل تعاىل منزه عن احلدوث‬
‫باتفاق منا ومنهم‪.‬‬
‫ومذهب األشاعرة هذا هو مذهب اإلمام أيب حنيفة‪ .‬قال‪ -‬رمحه اهلل‬
‫تعاىل‪ -‬يف الفقه األكرب‪ ":‬ويتكلم ال ككالمنا ونحن نتكلم باآلالت واحلروف‪،‬‬
‫واهلل تعاىل يتكلم بال آلة وال حروف‪ ،‬واحلروف خملوقة‪ ،‬وكالم اهلل غري‬
‫خملوق"‬

‫‪ -45‬مذهب األشاعرة يف الصوت‪:‬‬


‫وأما ما ورد من ثبوت الصوت يف كالم اهلل تعاىل يف بعض األحاديث‬
‫كحديث عبد اهلل بن أنيس عن النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪ُ( :‬يرش اهلل‬
‫العباد أو قال الناس‪ -‬عراة غرال هبام‪ ،‬ثم ينادهيم بصوت يسمعه من بعد كام‬
‫سمعه من قرب أنا امللك الديان) قلم يثبتوا هذه األحاديث وانتقدوها‪ ،‬انظر‬

‫‪181‬‬
‫"األسامء الصفات" للبيهقي‪ ،150‬وبتقدير ثبوهتا فقد جعلوا الصوت فيها راجعا‬
‫إىل غري اهلل تعاىل كام تقدم يف كالم أيب املعني النسفي عن اإلمام أيب منصور‬
‫املاتريدي واألستاذ أيب اإلسحاق اإلسفراييني من أن اهلل يسمع كالمه بصوت‬
‫يتوىل ختليقه‪ ،‬ال أن كالمه عبارة عن احلرف والصوت‪ ،‬وُيتمل يف بعض هذه‬
‫األحاديث أن يكون الصوت للسامء‪ ،‬أو للملك اآليت بالوحي‪ ،‬أو ألجنحة‬
‫املالئكة‪ ،‬كام ُيتمل أن يكون الصوت من تعبري الراوي‪ ،‬وأن النبي قال‪:‬‬
‫(ينادهيم نداء يسمعه‪ )...‬أو نحو ذلك‪ ،‬فعرب الراوي بالصوت‪.‬‬
‫قال البيهقي يف "األسامء والصفات"‪" :‬وقد جيوز أن يكون الصوت فيه‬
‫إن كان ثابتا راجعا إىل غريه تعاىل‪ ،‬كام روينا عن عبد اهلل بن مسعود موقوفا‬
‫(وموقوف الصحايب يف ما ال جمال للرأي فيه من املرفوع حكام)‪( :‬إذا تكلم اهلل‬
‫بالوحي سمع أهل السامء صلصلة كجر السلسلة عىل الصفا) ويف حديث أيب‬
‫هريرة‪( :‬إذا قىض اهلل األمر يف السامء رضبت املالئكة بأجنحتها خضعنا لقوله‬
‫كأنه سلسلة عىل صفوان)‬
‫ففي هذين احلديثني الصحيحني داللة عىل أهنم يسمعون عند الوحي‬
‫صوتا‪ ،‬لكن للسامء‪ ،‬وألجنحة املالئكة تعاىل اهلل عن شبه املخلوقني علوا‬
‫كبريا‪ ...‬وكام روينا عن نبينا صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪( :‬أنه كان يأته‬

‫‪276 273 150‬‬

‫‪182‬‬
‫الوحي أحيان يف مثل صلصلة اجلرس) وكل ذلك مضاف إىل غري اهلل‬
‫سبحانه‪ .‬انتهى‪.‬‬

‫‪ -47‬مذهب اإلمام أمحد يف كالم اهلل تعاىل‪:‬‬


‫وهنا نود اإلشارة إىل مذهب اإلمام أمحد يف الكالم‪ ،‬فأقول‪ :‬قد جاء عن‬
‫اإلمام أمحد أن اهلل تعاىل يتكلم بصوت‪.‬‬
‫قال الذهبي يف تاريخ اإلسالم‪ :‬قال عبد اهلل ابن اإلمام أمحد يف كتاب‬
‫"الرد عىل اجلهمية" تأليفه‪ :‬سألت أيب عن قوم يقولون‪ :‬ملا كلم اهلل موسى مل‬
‫يتكلم بصوت‪ ،‬فقال أيب‪ :‬بل تكلم جل ثنائه‪ -‬بصوت‪ ،‬هذه األحاديث‬
‫‪151‬‬
‫نروهيا كام جاءت‪....‬‬
‫وقد ثبت عن اإلمام أمحد بطرق صحيحة أنه كان يقول‪ :‬القرآن من علم‬
‫اهلل‪ ،‬واستدل عىل ذلك بالكتاب مثل قوله تعاىل‪( :‬ولئن اتبعت أهواهم من بعد‬
‫ما جاءك من العلم)‪ 152‬وقوله تعاىل‪( :‬فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من‬
‫‪153‬‬
‫العلم)‬

‫‪151‬‬
‫‪88 18‬‬
‫‪152‬‬
‫‪121‬‬
‫‪153‬‬
‫‪61‬‬

‫‪183‬‬
‫قال الذهبي‪ :‬قال اإلمام أمحد يف آخر رسالة أمالها عىل ابنه عبد اهلل‪:‬‬
‫القرآن من علم اهلل‪ 154‬وقال‪ :‬رواة هذه الرسالة عن أمحد أئمة أثبات أشهد باهلل‬
‫أنه أمالها عىل ولده‪ ،‬ورواها أبو نعيم يف حلية األولياء وابن اجلوزي يف مناقب‬
‫اإلمام أمحد‬
‫‪155‬‬

‫هكذا ثبت عن اإلمام أمحد أن كالم اهلل تعاىل من علمه‪ ،‬وعلمه ليس من‬
‫األصوات‪ ،‬ومل يظهر يل وجه اجلمع بني قوله هذا وقوله‪ :‬إن اهلل يتكلم‬
‫بصوت‪.‬‬
‫والذي يظهر ىل أن هذان القوالن عنه جاريان عىل مذهبه من الوقوف يف‬
‫باب العقيدة عند ظواهر النصوص وعدم جتاوزها‪ ،‬وكراهة البحث والتنقيب‬
‫عن األمور الغامضة‪ ،‬كام قال البخاري‪ :‬املعروف عن أمحد وأهل العلم أن‬
‫كالم اهلل غري خملوق‪ ،‬وما سواه خملوق‪ ،‬وأهنم كرهوا البحث والتنقيب عن‬
‫والتنازع إال فيام جاء به العلم‬
‫َ‬ ‫وض‬
‫األمور الغامضة‪ ،‬وجتنبوا أهل الكالم واخل َ‬
‫وبينه رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‬
‫‪156‬‬

‫‪-46‬بيان ما تورط فيه الدكتور من األخطاء يف مسألة القرآن‪:‬‬

‫‪154‬‬
‫‪286 11‬‬
‫‪155‬‬
‫‪111 99 18‬‬
‫‪156‬‬
‫‪62‬‬

‫‪184‬‬
‫وبعد هذا اجلولة يف بيان مذهب أهل السنة من األشاعرة واملاتريدية‬
‫وغريهم يف كالم اهلل تعاىل نعود إىل كالم الدكتور لنبني كم حواه من أخطاء‪،‬‬
‫فنقول‪:‬‬
‫اخلطأ األول والثاين‪ :‬ما حواه قوله‪" :‬أما مذهب األشاعرة فمن منطلق‬
‫التوفيقية التي مل ُيالفها التوفيق فرقوا بني املعنى واللفظ"‪.‬‬
‫اخلطأ األول‪ :‬أن الدكتور نسب التفرقة بني املعنى واللفظ إىل كل‬
‫األشاعرة يعنى أهنم كلهم قالوا‪ :‬إن املعنى قديم واللفظ حادث‪ .‬وقد بينا أن‬
‫هذا هو مذهب مجهور األشاعرة‪ ،‬وأن فريقا من املحققني منهم ذهب إىل قدم‬
‫اللفظ كاملعنى‪.‬‬
‫اخلطأ الثاين‪ :‬ما ادعاه الدكتور من أن تفرقتهم بني اللفظ واملعنى إنام هو‬
‫من منطلق التوفيق بني مذهب أهل السنة ومذهب املعتزلة‪ ،‬وهو غري صحيح‪.‬‬
‫فمن املعلوم لكل ملم بمذهب األشاعرة ومذهب املعتزلة ومذهب غريمها من‬
‫الفرق اإلسالمية أن مذهب األشاعرة أبعد املذاهب عن مذهب املعتزلة‪ ،‬أو‬
‫من أبعدها عنه‪.‬‬
‫حتى أنه قد يتخيل للباحث أن بعض آراء األمام األشعري رد فعل نفيس‬
‫ملذهب املعتزلة‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫فاألشاعرة مل يذهبوا إىل يشء مما ذهبوا إليه من اآلراء من منطلق التوفيق‪،‬‬
‫بل إنام ذهبوا إىل ما ذهبوا إليه ألن الدليل أداهم لذلك‪ .‬نعم ملن ال يوافقهم عىل‬
‫ما أداهم إليه الدليل أن يناقشهم يف ذلك‪.‬‬
‫اخلطأ الثالث‪ :‬قوله‪( :‬فالكالم الذي يثبتونه هلل تعاىل هو معنى أزيل أبدي‬
‫قائم بالنفس ليس بحرف وال صوت) أقول‪ :‬نعم قد أثبتوا الكالم هبذا املعنى‬
‫هلل تعاىل‪ ،‬لكن اخلطأ يف كالم الدكتور يف احلَص‪ ،‬فقد بينا أن األشاعرة قد أثبتوا‬
‫هلل تعاىل الكالم اللفظي أيضا عىل وجه احلقيقة‪ ،‬لكنهم اختلفوا يف قدمه‬
‫وحدوثه‪.‬‬
‫اخلطأ الرابع‪ :‬قوله‪ ....( :‬وال يوصف باخلرب واإلنشاء) حيث إهنم اتفقوا‬
‫عىل أن كالم اهلل تعاىل يوصف باخلرب واإلنشاء‪ ،‬فقال بعضهم‪ :‬يوصف هبام يف‬
‫األزل‪ ،‬وقال آخرون‪ :‬يوصف هبام فيامال يزال‪.‬‬
‫اخلطأ اخلامس والسادس‪ :‬قوله‪{:‬واستدلوا بالبيت املنسوب لألخطل‬
‫النرصاين‪:‬‬
‫إن الكالم لفي الفؤاد وإنام ‪ ::‬جعل اللسان عىل الفؤاد دليال}‬
‫األول‪ :‬أن سياق كالم الدكتور يوهم أن األشاعرة استدلوا بكالم النَصاين‬
‫عىل أمر من أمور العقيدة ‪-‬معاذ اهلل‪ ،-‬مع أن استدالهلم به إنام هو عىل مسألة‬
‫لغوية‪ ،‬وهي أن الكالم يطلق يف اللغة عىل الكالم النفيس‪ ،‬وإن كان مراده اإلنكار‬
‫عىل االستدالل بكالم األخطل عىل هذه املسألة اللغوية فهو أيضا خطأ‪ ،‬وليست‬

‫‪186‬‬
‫نَصانية األخطل بامنعة من االحتجاج بكالمه و شعره يف اللغة‪ ،‬فاملرشكون من‬
‫الشعراء واليهود والنصارى منهم ُيتج بأشعارهم‪ ،‬وال زال أئمة اللغة ُيتجون‬
‫هبا‪.‬بل معظم احتجاجهم بكالم غري املسلمني من شعراء اجلاهلية‬
‫الثاين‪ :‬أن كالمه يوهم أن األشاعرة مل يستدلوا عىل املسألة إال ببيت‬
‫األخطل‪ ،‬وقدعلمت اهنم قد استدلوا عليها بالكتاب والسنة وكالم أقحاح‬
‫العرب كام تقدم‪.‬‬
‫اخلطأ السابع‪ :‬قوله‪{ :‬أما الكتب املنزلة ذات الرتتيب والنظم واحلروف‬
‫ومنها القرآن‪ -‬فليست هي كالم اهلل عىل احلقيقة بل هي عبارة عن كالم اهلل‬
‫النفيس}‬
‫وقد قدمنا أن كالم اهلل وكذلك القرآن يطلق عىل وجه احلقيقة ال املجاز‬
‫عىل املعنى النفيس القديم القائم باهلل تعاىل‪ ،‬وعىل النظم املنزل املعجز املفصل‬
‫إىل السور واآليات‪ ،‬وتأييدا ملا قلناه ننقل كالم سعد الدين التفتازاين فيه‪ .‬قال‬
‫يف "رشح العقائد النسفية"‪« :‬فإن قيل‪ :‬لو كان كالم اهلل حقيقة يف املعنى القديم‬
‫جمازا يف النظم املؤلف لصح نفيه‪ ،‬بأن يقال‪ :‬ليس النظم املنزل املعجز املفصل‬
‫إىل السور واآليات كالم اهلل تعاىل‪ ،‬واإلمجاع عىل خالفه‪ ،‬وأيضا املعجز‬
‫املتحدى به هو كالم اهلل حقيقة‪ ،‬مع القطع بأن ذلك إنام يتصور يف النظم‬
‫املؤلف املفصل إىل السور‪ ،‬إذ ال معنى ملعارضة الصفة القديمة‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫قلنا‪ :‬التحقيق أن كالم اهلل تعاىل اسم مشرتك بني كالم اهلل النفيس القديم‪،‬‬
‫ومعنى اإلضافة (إىل اهلل) كونه صفة له‪ ،‬وبني اللفظي احلادث املؤلف من‬
‫السور واآليات‪ ،‬ومعنى اإلضافة أنه خملوق اهلل تعاىل ليس من تأليفات‬
‫املخلوقني‪ ،‬فال يصح النفي أصال‪ ،‬وال يكون اإلعجاز والتحدي إال يف كالم‬
‫اهلل تعاىل‪ .‬وما وقع يف عبارة املشايخ من أنه جماز يف النظم فليس معناه أنه غري‬
‫موضوع للنظم املؤلف‪ ،‬بل معناه أن الكالم يف التحقيق وبالذات اسم للمعنى‬
‫القائم بالنفس‪ ،‬وتسمية اللفظ به ووضعه لذلك إنام هو باعتبار داللته عىل‬
‫املعنى‪ ،‬فال نزاع هلم يف الوضع والتسمية» هذا كالم السعد‪.‬‬
‫اخلطأ الثامن‪ :‬قوله‪{ :‬واملعنى النفيس يشء واحد يف ذاته لكن إن جاء‬
‫التعبري عنه بالعربانية فهو توراة وإن جاء بالرسيانية فهو إنجيل‪ ،‬وإن جاء‬
‫بالعربية فهو قرآن}‬
‫هذا صحيح لو كان نسبة هذا القول إىل مجهور األشاعرة ال إىل كلهم‪،‬‬
‫واخلطأ يف نسبته إىل األشاعرة كلهم‪ ،‬وقد قدمنا أن فريقا من املحققني من‬
‫األشاعرة عىل أن كالم اهلل عبارة عن اللفظ واملعنى‪ ،‬وعىل هذا املذهب ال‬
‫يكون الكالم أمرا واحدا‪ ،‬بل يكون أمورا متكثرة منه سياين ومنه عرباين ومنه‬
‫عريب‪ ،‬وكله قديم قائم باهلل عند هذا الفريق‪.‬‬
‫اخلطأ التاسع والعارش واحلادي عرش‪ :‬قوله‪{ :‬فهذه الكتب كلها خملوقة‪،‬‬
‫ووصفها بأهنا كالم اهلل جماز‪ ،‬ألهنا تعبري عنه}‬

‫‪188‬‬
‫اخلطأ األول‪ :‬حكمه بأن هذه الكتب كلها خملوقة عند األشاعرة‪ ،‬اخلطأ‬
‫الثاين نسبة هذا القول إىل األشاعرة كلهم‪ ،‬مع أن كتاب اهلل ككالم اهلل يطلق‬
‫عند األشاعرة عىل املعنى النفيس وعىل األلفاظ‪ ،‬وهو باملعنى النفيس ال خالف‬
‫عندهم يف أنه قديم‪ ،‬وقد اختلفوا يف الكتاب بمعنى األلفاظ فاجلمهور عىل‬
‫حدوثه‪ ،‬وفريق منهم عىل أهنا أيضا قديمة‪.‬‬
‫اخلطأ الثالث‪ :‬قوله‪( :‬ووصفها بأهنا كالم اهلل تعاىل جماز) وقد تقدم بيانه‬
‫آنفا‪.‬‬
‫اخلطأ الثاين عرش‪ :‬قوله‪{ :‬واختلفوا يف القرآن خاصة فقال بعضهم‪ :‬إن اهلل‬
‫خلقه أوال يف اللوح املحفوظ‪ ،‬ثم أنزله يف صحائف إىل سامء الدنيا فكان‬
‫جربيل يقرأ هذا الكالم املخلوق‪ ،‬ويبلغه حممدا صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪،‬‬
‫وقال آخرون‪ :‬إن اهلل أفهم جربيل كالمه النفيس‪ ،‬وأفهمه جربيل ملحمد صىل‬
‫اهلل تعاىل عليه وآله وسلم}‬
‫أقول‪ :‬ليس ههنا أي اختالف‪ ،‬بل قول من قال‪( :‬إن اهلل خلقه أوال يف‬
‫اللوح املحفوظ‪ ...‬إلخ) منزل عىل القرآن بمعنى األلفاظ والنظم املؤلف‪.‬‬
‫وهذا كالم مجهور األشاعرة القائلون بأن األلفاظ حادثة‪ ،‬وليس قوال للقائلني‬
‫منهم بأهنا قديمة‪ ،‬وأما أن اهلل تعاىل أفهم جربيل كالمه النفيس‪ ...‬إلخ فهو‬
‫كالم األشاعرة كلهم‪ ،‬وهو منزل عىل املعنى النفيس‪ ،‬ولنا أن نقول‪ :‬إنه كالم‬
‫مجهورهم أيضا إن كان املراد أفهمه الكالم النفيس فقط بدون األلفاظ‪ ،‬وهو‬

‫‪189‬‬
‫املناسب بمقابلة هذا الكالم بسابقه‪ ،‬وهو أن اهلل خلقه أوال يف اللوح‬
‫املحفوظ‪ ...‬إلخ فأين االختالف الذي قاله الدكتور؟!‬
‫اخلطأ الثالث عرش والرابع عرش واخلامس عرش‪ :‬قوله‪{ :‬فالنزول نزول‬
‫إعالم وإفهام ال نزول حركة وانتقال ألهنم ينكرون علو اهلل}‬
‫اخلطأ األول‪ :‬نسبت الدكتور إىل األشاعرة عىل وجه اإلنكار‪ ،‬أن النزول‬
‫للقرآن عندهم نزول إعالم وإفهام‪ ،‬ال نزول حركة وانتقال‪ ،‬فالنسبة صحيحة‬
‫واخلطأ هو اإلنكار لذلك‪ ،‬وذلك ألن احلركة واالنتقال من صفات األجسام‪،‬‬
‫وال يتصور ذلك يف كالم اهلل تعاىل‪ ،‬ثم إن معنى االنتقال املزايلة واالنفصال‪،‬‬
‫وهو ال جيوز عىل صفات اهلل‪ ،‬وهل زايل القرآن ذات اهلل تعاىل وانفصل عنه‬
‫حني نزل؟! ومعنى هذا أن اهلل تعاىل قد بقي بعد نزول القرآن بدون صفة‬
‫الكالم‪ .‬سبحان ربك رب العزة عام يصفون‪ .‬وراجع ما نقلناه آنفا عن إمام‬
‫احلرمني يف معنى اإلنزال‪.‬‬
‫واخلطأ الثاين‪ :‬قوله‪(:‬ألهنم ينكرون علو اهلل) هم ال ينكرون علو اهلل‬
‫تعاىل‪ ،‬كيف‪ ،‬وهم ال يذكرون اهلل تعاىل إال ويقرنونه بقوهلم‪( :‬تعاىل) من العلو‪،‬‬
‫والذي ينكرونه هو ثبوت اجلهة هلل‪ ،‬وهو الذي أنكره السلف واخللف‪.‬‬
‫واخلطأ الثالث‪ :‬حكم الدكتور بأن قول األشاعرة بأن نزول القرآن نزول‬
‫إعالم وإفهام ال نزول حركة وانتقال‪ ،‬مبني عىل انكارهم العلو هلل تعاىل‪ ،‬وقد‬

‫‪191‬‬
‫علمت بأنه ليس بمبني عليه‪ ،‬بل هو مبني عىل أن احلركة واالنتقال ال‬
‫يتصوران بالنسبة إىل الكالم‪ ،‬وعىل أن االنتقال ال جيوز عىل صفات اهلل تعاىل‪.‬‬
‫اخلطأ السادس عرش‪ :‬قول الدكتور‪{ :‬ثم اختلفوا يف الذي عرب عن الكالم‬
‫النفيس هبذا اللفظ‪ .‬والنظم العريب من هو؟‪ .‬فقال بعضهم‪ :‬هو جربيل‪ ،‬وقال‬
‫بعضهم‪ :‬بل هو حممد صىل اهلل تعاىل وآله وسلم}‬
‫أقول‪ :‬قدمنا أن مذهب األشاعرة أن القرآن معناه ولفظه كالم اهلل عىل‬
‫احلقيقة ال املجاز‪ ،‬وأهنم قد اختلفوا يف القرآن بمعنى اللفظ املعجز املنزل هل‬
‫هو قديم قائم باهلل كاملعنى‪ ،‬أو أنه حادث توىل اهلل ختليقه وتأليفه بدون كسب‬
‫ألحد يف هذا التأليف‪ ،‬هذا مذهب مجهورهم‪ ،‬واألول مذهب فريق منهم‪ ،‬هذا‬
‫هو مذهب األشاعرة فمن أين أتى هذان القوالن اللذان نسبهام الدكتور إىل‬
‫األشاعرة كلهم؟ نعم قد نسبهام إىل بعض األشاعرة ابن تيمية! (كام نقله‬
‫الدكتور)! فقلده الدكتور‪ ،‬وهال قلده تقليدا صحيحا!‬
‫وليت شعري من هم القائلون هبذين القولني املخالفني ملا أطبقت عليه‬
‫كتب األشاعرة‪ ،‬فهال ذكرهم ابن تيمية بأسامئهم! نعم قد نقل هذين القولني‬
‫الباجوري يف رشح جوهرة التوحيد بصيغة التمريض بدون أن يذكر أسامء‬
‫القائلني‪ ،‬وال أدري كيف يقول هذا مسلم! فاملؤكد أن هذين القولني قوالن‬
‫مدسوسان عىل األشاعرة كام قاله الزرقاين يف "مناهل العرفان"‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫وبعد هذا هل يصح نسبة هذين القولني إىل األشاعرة‪ ،‬وجعلهام مذهبني‬
‫هلم كلهم أو بعضهم؟!!! سبحانك اللهم هذا هبتان عظيم يعظكم اهلل أن‬
‫تعودوا ملثله أبدا إن كنتم مؤمنني‪.‬‬
‫اخلطأ السابع عرش‪ :‬قوله‪{ :‬واستدلوا بمثل قوله تعاىل‪( :‬إنه لقول رسول‬
‫كريم) يف سوريت احلاقة واالنشقاق حيث أضافه يف األوىل إىل حممد صىل اهلل‬
‫تعاىل عليه وآله وسلم‪ ،‬ويف األخرى إىل جربيل بأن اللفظ ألحد الرسولني‬
‫(جربيل أوحممد) صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم}‬
‫فإذا مل يكن األشاعرة قائلني بيشء من هذين القولني‪ ،‬بل قائلني بضدمها‬
‫فكيف يستدلون عىل صحتهام بكتاب اهلل تعاىل؟!‬
‫اخلطأ الثامن عرش‪ :‬قوله‪{ :‬وقد رصح باألول الباقالين‪ ،‬وتابعه اجلويني}‬
‫يقصد باألول أن لفظ القرآن من انشاء جربيل وتأليفه ال من اهلل تعاىل‪،‬‬
‫فادعى الدكتور أن الباقالين واجلويني رصحا بذلك‪ .‬وهذا الدعوى كسابقاهتا‬
‫غري صحيحة! وننقل كالم هذين اإلمامني كي يتحقق القارئ من ذلك‪.‬‬
‫أما اجلويني فقد نقلنا عنه آنفا أنه قال يف بيان معنى إنزال كالم اهلل تعاىل‪:‬‬
‫(كالم اهلل منزل عىل األنبياء‪ ...‬فاملعن ِ ُّي باإلنزال أن جربيل ‪-‬صلوات اهلل‬
‫عليه‪ -‬أدرك كالم اهلل تعاىل وهو يف مقامه فوق سبع سموات‪ ،‬ثم نزل إىل‬
‫األرض‪ ،‬فأفهمه الرسول صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم ما فهمه عند سدرة‬
‫املنتهى) فاجلويني يقول‪( :‬إن جربيل أدرك كالم اهلل) وكالم اهلل عند اإلطالق‬

‫‪192‬‬
‫يراد به اللفظ واملعنى‪ ،‬ثم يقول‪( :‬فأفهم الرسول ما فهمه) ويعنى به أن الذي‬
‫أفهمه جربيل الرسول هو ما فهمه نفسه وعينه بدون إضافة إليه أو نقص عنه‪،‬‬
‫ومل يقل اجلويني‪ :‬أفهم الرسول املعنى باللفظ العريب الذي ألفه هو ورتبه‪.‬‬
‫واملنزل عىل الوجه الذي بيناه من‬ ‫وأما الباقالين فقد قال‪ِ ( :‬‬
‫فاملنزل هو اهلل‪َ ...‬‬
‫كونه نزول إعالم وإفهام ال نزول حركة وانتقال‪ ،‬كالم اهلل األزيل القائم بذاته‪...‬‬
‫واملنزل عليه قلب النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪ ...‬واملنزل به هو اللغة‬
‫العربية التي تال هبا جربيل ونحن نتلوا هبا إىل يوم القيامة‪ ....‬والنازل عىل احلقيقة‬
‫املنتقل من قطر إىل قطر قول جربيل عليه السالم يدل عىل هذا قوله تعاىل‪( :‬إنه‬
‫لقول رسول كريم‪ .‬وما هو بقول شاعر قليال ما تؤمنون‪ .‬وال بقول كاهن قليال ما‬
‫تذكرون‪ .‬تنزيل من رب العاملني)‪ ...‬فحصل من هذا أن اهلل تعاىل علم جربيل‬
‫عليه السالم القرآن‪ ...،‬وعلمه اهلل النظم العريب الذي هو قرائته‪ ،‬وعلم هو القراءة‬
‫نبينا صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪ ،‬وعلم النبي صىل اهلل عليه وآله وسلم‬
‫أصحابه)‪ 157،‬فأنت ترى أن الباقالين يَصح بأن اهلل تعاىل علم جربيل القرآن‬
‫وعلمه النظم العريب الذي هو قراءته‪ ،‬وعرب بالقراءة عن املقروء‪ ،‬ألن اللفظ‬
‫العريب مقروء وليس نفس القراءة‪ ،‬فاللفظ العريب عىل هذا شيئ علمه اهلل تعاىل‬
‫جربيل‪ ،‬وليس شيئا اخرتعه جربيل ونظمه ورتبه هو‪ .‬نعم يأيت االشكال يف قول‬

‫‪157‬‬
‫‪86 85‬‬

‫‪193‬‬
‫الباقالين‪( :‬والنازل عىل احلقيقة املنتقل من قطر إىل قطر قول جربيل) ومراده‬
‫القول الذي ُيمله جربيل‪ ،‬وعرب هبذا التعبري موافقة للفظ اآلية (إنه لقول رسول‬
‫كريم) كام أن املراد باآلية‪ :‬إنه لقول ُيمله وينزل به رسول كريم‪.‬‬
‫اخلطأ التاسع عرش‪ :‬قوله‪:‬‬
‫{وعىل القول بأن القرآن الذي نقرؤه يف املصاحف خملوق سار األشاعرة‬
‫املعارصون‪ ،‬ورصحوا به‪ ،‬فكشفوا بذلك ما أراد شارح اجلوهرة أن يسرته حني‬
‫قال‪( :‬يمتنع أن يقال‪ :‬إن القرآن خملوق إال يف مقام التعليم}‬
‫حمل اخلطأ يف هذا الكالم قوله‪( :‬ما أراد شارح اجلوهرة أن يسرته)‬
‫فالباجوري مل يرد أن يسرت بكالمه شيئا‪ ،‬بل أباح بام أراد أن يقوله ورصح به‪،‬‬
‫فإن الذي قاله هو قول مجهور األشاعرة القائلون بأن األلفاظ خملوقة هلل تعاىل‬
‫وقد قرروا ما قاله الباجوري يف كتبهم‪ ،‬وأرادوا تعليمه للناس‪ ،‬ومل يريدوا أن‬
‫يسرتوه فقالوا‪ :‬ال جيوز التَصيح بأن القرآن خملوق وإن أراد القائل النظم‬
‫العريب دون املعنى القديم القائم باهلل‪ ،‬لئال يذهب الوهم إىل أن صفة الكالم‬
‫القائمة باهلل تعاىل خملوقة فمنعوا هذا اإلطالق يف غري مقام التعليم سدا‬
‫للذريعة‪.‬‬

‫‪ -48‬بيان مسألة القدر عىل مذهب األشاعرة‪:‬‬

‫‪194‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬السادس‪ :‬القدر‪ :‬أراد األشاعرة هنا أن يوفقوا بني اجلربية‬
‫أي قدرة‬
‫والقدرية‪ ،‬فجاؤوا بنظرية الكسب وهي يف مآهلا جربية خالصة ألهنا تنفي َّ‬
‫للعبد أو تأثري أما حقيقتها النظرية الفلسفية‪ ،‬فقد عجز األشاعرة أنفسهم عن‬
‫فهمها فض ً‬
‫ال عن إفهامها لغريهم}‬
‫أقول‪ :‬الكسب الذي قال به األشاعرة ال ينفي قدرة العبد وال اختياره‪،‬‬
‫تأثري قدرته يف يشء من أفعاله‪ ،‬وقد ساقهم إىل القول بذلك‬
‫وإنام ينفي َ‬
‫بتفر ِد ِه تعاىل ِ‬
‫بخلق ر‬
‫كل يشء‪،‬‬ ‫ِ‬
‫النصوص الكثرية من الكتاب والسنة املَصحة ُّ‬
‫الدالة عىل أنه ال مؤثر يف الكون إال اهلل‪ ،‬ال حماولة التوفيق كام يقول الدكتور‪.‬‬
‫وأما عدم املعرفة التفصيلية حلقيقة الكسب وعدم تعريف األشاعرة له‬
‫ِ‬
‫الغموض‬ ‫بتعريف جامع مانع فإنام هو ألجل ما اختصت به املسألة من‬
‫ِ‬
‫اخلوض فيها‪ .‬وقالوا‪« :‬إن القدر س‬ ‫واخلفاء‪ ،‬ومن ِ‬
‫أجل ذلك هنى السلف عن‬
‫اهلل فال تتكلفوه»‪ ،‬وجاء عن النبي أنه قال‪( :‬إذا ذكر القدر فامسكوا)‪ ،‬ولو‬
‫كانت املسألة واضحة وكانت بحيث تعلم عىل وجه التفصيل ملا أمر النبي‬
‫صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم باإلمساك عن القدر‪ ،‬وملا هنى السلف عن‬
‫املذهب من أدلة كونِ ِه هو الصواب‪ .‬واهلل تعاىل أعلم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫اخلوض فيه‪ ،‬فغموض‬
‫ثم إن مذهب األشاعرة يف القدر أوفق املذاهب بنصوص الكتاب والسنة‪،‬‬
‫وهو املوافق ملذهب السلف ومذهب اإلمام أمحد رمحه اهلل تعاىل‪ ،‬ففي عقيدة‬

‫‪195‬‬
‫اإلمام أمحد املطبوعة بآخر املجلد الثاين من طبقات احلنابلة البن أيب يعىل ما‬
‫ييل‪:‬‬
‫«وكان يذهب إىل أن أفعال العباد خملوقة هلل عز وجل‪ ،‬وال جيوز أن خيرج‬
‫يشء من أفعاله عن خلقه‪ ،‬لقوله عز وجل‪( :‬خالق كل يشء)‪ ،‬ثم لو كان‬
‫خمصوصا جلاز مثل ذلك التخصيص يف قوله‪( :‬ال إله إال اهلل) وأن يكون‬
‫خمصوصا أنه إله لبعض األشياء‪ .‬وقرأ (وجعلنا يف قلوب الذين اتبعوه رأفة‬
‫ورمحة) وقرأ (عسى أن جيعل بينكم وبني الذين عاديتم منهم مودة) وقرأ‬
‫(وقدرنا فيها السري سريوا فيها ليايل وأياما آمنني)‪ ،‬وروي عن عىل ابن أبى‬
‫طالب ريض اهلل تعاىل عنه أنه سئل عن أعامل اخللق التي يستوجبون هبا من اهلل‬
‫تعاىل السخط والرضا ؟ فقال‪ :‬هي من العباد فعال‪ ،‬ومن اهلل تعاىل خلقا ال‬
‫تسأل عن هذا أحدا بعدى»‪ 158،‬فمذهب األشاعرة هو مذهب اإلمام أمحد‬
‫نفسه‪ ،‬وليت شعري ما الذي يعتقده الدكتور يف القدر؟!‬
‫ِ‬
‫مذهب األشاعرة يف مسألة‬ ‫ثم أقول‪ :‬قد قرر اإلمام تاج الدين السبكي‬
‫القدر بطريقة جيدة؛ فأردت أن َ‬
‫أنقل كالمه هنا ليعلم الدكتور و َمن هم عىل‬
‫ِ‬
‫لنصوص الكتاب والسنة‬ ‫موافق‬
‫ٌ‬ ‫شاكلته هل مذهب األشاعرة يف املسألة‬

‫‪158‬‬
‫‪299 2‬‬

‫‪196‬‬
‫خمالف هلم‪ .‬قال التاج يف "رشح‬
‫ٌ‬ ‫ولقواعد اإلسالم ومذهب السلف أم أنه‬
‫خمتَص ابن احلاجب" ‪:159‬‬
‫ويل أنا طريق ٌة أراها الصواب فاقتَص عىل ذكرها قائال‪:‬‬
‫ثبت لنا قاعدتان‪ ،‬إحدامها‪ :‬أن العبدَ غري خالق ألفعال نفسه‪.‬‬
‫والثانية أن اهللَ ال يعاقب إال عىل ما فعله العبد‪ ،‬والثواب العقاب واقعان‬
‫عىل اجلوارح‪ ،‬فلزمت الواسطة بني ال َقدَ ِر واجلَ ِرب‪ ،‬وساعدنا ِعليها شاهدٌ يف‬
‫اخلارج‪ ،‬وهو التفرقة الرضورية بني حركة املرتعش واملريد‪ ،‬فأثبتنا هذه‬
‫الواسطة‪ ،‬وسميناها بالكسب لقوله تعاىل‪( :‬هلا ما كسبت وعليها ما‬
‫اكتسبت)‪ 160‬وغري ذلك من اآلي واألخبار‪ ،‬فإن سئلنا عن التعبري عن هذا‬
‫الكسب بتعريف جامع مانع قلنا‪ :‬ال سبيل لنا إىل ذلك والسال َم‪ ،‬فرب ثابت ال‬
‫أخ َذ ُي رقق‬ ‫حتيطه العبارات‪ ،‬وحمسوس ال تكتنفه اإلشارات‪ِ .‬‬
‫ومن أصحابنا َمن َ‬
‫الكسب فوقع يف معضل أرب ال ق َب َل له به‪.‬‬
‫َ‬
‫حق فكان حقا‪ ،‬وعضده ما ذكرناه‪،‬‬
‫أمر لزم عن ٍّ‬
‫والصواب عندنا‪ :‬إنه ٌ‬
‫دون التفصيل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫اجلملة َ‬ ‫فعرفناه عىل‬
‫عيل بن موسى الرضا وقد سئل‪ :‬أيك رلف اهلل العبا َد بام ال‬
‫وما أحس َن قول ر‬
‫يطيقون؟ قال‪ :‬هو أعدل من ذلك‪.‬‬

‫‪462 1 159‬‬
‫‪160‬‬
‫‪286‬‬

‫‪197‬‬
‫قيل‪ :‬أفيستطيعون أن يفعلوا ما يريدون؟ قال‪ :‬هم أعجز من ذلك‪.‬‬
‫وعيل بن الرضا هو ابن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن حممد الباقر‬
‫ُّ‬
‫عيل بن أيب طالب ريض اهلل عنهم‬
‫عيل بن احلسني بن ر‬ ‫بن ِ‬
‫زين العابدين ابن ر‬
‫األشعري وفاة بام ينيف عىل‬
‫ر‬ ‫وهذا الذي قاله عني مذهبنا فافهمه‪ .‬وهو قبل‬
‫الشافعي‬
‫ر‬ ‫مات بـ"طوس" سن َة ثالث ومائتني قبل‬
‫مائة وعرشي َن سنة‪ ،‬فإنه َ‬
‫واألشعري مات بعد العرشين وثالثامئة‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫بسنة‬
‫وأي برهان قا َم عىل إبطال القدر واجلرب؟‬
‫فإن قلت‪ُّ :‬‬
‫قلت‪ :‬هذا اآل َن ِمن ف رن الكالم‪ .‬وإدخاله يف األصول فضول‪ ،‬ونحن نشري‬
‫إىل ز ِ‬
‫بدة القول فيه‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫طالب عباده بأعامهلم يف حاهلم‪،‬‬
‫ب أن الرب تعاىل م ٌ‬ ‫قد تقرر عند ر‬
‫كل ذي ل ٍّ‬
‫ومثيبهم ويعاقبهم عليها يف مآهلم‪ ،‬وتبني بالنصوص املرتقية عن درجات‬
‫التأويل أهنم من الوفاء بام كلفوه بسبيل‪.‬‬
‫ِ‬
‫االستحثاث عىل املَكر َمات‪،‬‬ ‫و َمن نظر يف كليات الرشائع وما فيها من‬
‫ِ‬
‫ووعيد‬ ‫بالزلفى‪،‬‬ ‫والزواجر عن املوبقات‪ ،‬وما اشتملت عليه من ِ‬
‫وعد الطائعني ُّ‬ ‫ِ‬

‫العاصني بسوء املنقلب‪ ،‬وما تضمنَه قوله تعاىل‪ :‬تعديتم وعصيتم وأبيتم‪ ،‬وقد‬
‫السب َل‬
‫فأرسلت الرس َل وأوضحت ُّ‬
‫أرخيت لكم ال ّطول و َفسحت لكم ا َمله َل‪َ ،‬‬
‫اسرتاب يف أن القول‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫للناس عىل اهلل حجة‪ ،‬وأحاط بذلك ك رله‪ ،‬ثم‬ ‫لئ ّ‬
‫ال يكون‬
‫مصاب يف عقله‪ ،‬أو ملقى من التقليد يف َوهدَ ة من جهله‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫باجلرب ٌ‬
‫باطل فهو‬

‫‪198‬‬
‫اجلربي يقول‪( :‬ال يسأل عام يفعل وهم يسألون)‪َ 161‬‬
‫قيل له‪ :‬كلمة‬ ‫ُّ‬ ‫فإن أخذ‬
‫َح ٍّق أريد هبا باطل‪ ،‬نعم يفعل اهلل ما يشاء‪ ،‬وُيكم ما يريد‪ ،‬ولكن يتقدس عن‬
‫نقيض الصدق‪ .‬وقد فهمنا برضورات العقول ِم َن الرشع املنقول أنه‬
‫ِ‬ ‫ف‬‫اخلل ِ‬

‫طالب عباده بام أخرب أهنم متمكرنون من الوفاء به‪ ،‬فلم يك رلفهم إال‬
‫َ‬ ‫عزت قدرته‬
‫عىل مبلغ الطاقة والوسعِ‪ ،‬فقد الح إبطال القول باجلرب‪.‬‬
‫األولون‬‫درج عليه ّ‬ ‫عمّا َ‬ ‫ِ‬
‫بخلق األفعال؛ فإن فيه مروقا ّ‬ ‫و َأسفه ِمنه القول‬
‫ِ‬
‫الواحد بقادرين‪ ،‬ومدَ اناة‬ ‫ِ‬
‫الفعل‬ ‫واقتحا َم ورطات الضالل‪ ،‬ولزو َم حدوث‬
‫ِ‬
‫برشيك الباري‪ ،‬فلقد أمجع املسلمون قاطبة قبل ظهور البِدَ ع واآلراء‪،‬‬ ‫ِ‬
‫القول‬
‫خالق إال اهلل‪ ،‬وفاهوا به كام فاهوا بقوهلم‪:‬‬ ‫ِ‬
‫أصحاب األهواء عىل أنه ال َ‬ ‫واجتام ِع‬
‫الرب سبحانه وتعاىل يف آي من الكتاب بقوله‪( :‬أفمن‬
‫ال إله إال اهلل‪ ،‬وبمدح ر‬
‫خيلق كمن ال خيلق)‪( 162،‬هل من خالق غري اهلل)‪( 163،‬وخلق كل يشء)‪ 164،‬فال‬
‫وصف نفسه بكونه خالقا عىل احلقيقة فقد أعظم ِ‬
‫الفري َة عىل‬ ‫لبيب أن َمن‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫يشك ٌ‬
‫ربه‪ ،‬فلقد وضح كالشمس أ رن اجلربي ٌ‬
‫مبطل لدعوة األنبياء عليهم السالم‪،‬‬
‫والقدري مثبت لر ربه رشيكا‪ ،‬وهذه مجلة ال يقنَع هبا الطالب للبسط‪ ،‬وفيها َرم ٌز‬
‫ِ‬
‫الصة ما يقوله علامؤنا ريض اهلل عنه‪.‬‬‫إىل خ‬

‫‪161‬‬
‫‪23‬‬
‫‪162‬‬
‫‪71‬‬
‫‪163‬‬
‫‪3‬‬
‫‪164‬‬
‫‪111‬‬

‫‪199‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬وهلذا قال الرازي الذي عجز هو اآلخر عن ِ‬
‫فهمها‪ :‬إ َّن‬
‫صورة ٍ‬
‫خمتار‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫جمبور يف‬ ‫اإلنسا َن‬
‫ٌ‬
‫ألحد أصحابِ ِه يف تفسريها‬ ‫ِ‬ ‫البغدادي فأراد أن يوضحها‪ ،‬فذكر مثاالً‬ ‫ُّ‬ ‫أما‬
‫ِ‬
‫الكبري‬ ‫ِ‬
‫باحلجر‬ ‫ِ‬
‫الكسب إىل العبد‬ ‫َّشبه فيه اقرتا َن قدرةِ اهلل بقدرة العبد مع ِ‬
‫نسبة‬ ‫َ‬
‫آخر عىل محلِ ِه منفرد ًا به‪ ،‬فإذا اجتمعا مجيعاً عىل‬ ‫ويقدر ٌ‬ ‫ُ‬ ‫رجل‬ ‫يعج ُز عن محله ٌ‬ ‫قد َ‬
‫ال}‬‫خرج أضعفهام بذلك عن كونِ ِه حام ً‬ ‫بأقوامها‪ ،‬وال َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫احلمل‬ ‫ُ‬
‫حصول‬ ‫محله كا َن‬
‫ِ‬
‫الضعيف‬ ‫بتوج ِه‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫مرشوط ُّ‬ ‫احلمل‬ ‫القوي إىل‬
‫ر‬ ‫وتوجه‬
‫ُّ‬ ‫وأقول تتميام للمثال‪:‬‬
‫الضعيف عىل احلمل عزما مصمام‬ ‫ِ‬ ‫القوي إنام يتحقق عندَ عز ِم‬ ‫ومحل‬‫إليه‪َ ،‬‬
‫ر‬
‫واختياره له‪.‬‬
‫األشعري عبار ٌة عن اختيار العبد للفعل وتعليق قدرته به‬
‫ر‬ ‫فالكسب عند‬
‫الفعل وإجياده ِ‬
‫فم َن اهللِ تعاىل وأثر‬ ‫ِ‬ ‫وعنده تتعلق قدرة اهلل تعاىل به‪ .‬وأما خلق‬
‫لقدرته‪ ،‬ال تأثري لقدرة العبد فيه‪ ،‬ألن التأثري واإلجياد واخللق من خصائص‬
‫قدرة اهلل تعاىل‪ .‬والعباد إنام جيازون عىل كسبهم املذكور واختيارهم للفعل‪،‬‬
‫وتعليق قدرهتم به الذي هو رشط عادي لتعلق قدرة اهلل بالفعل وتأثريه فيه‪.‬‬
‫واجلزاء عىل الكسب املذكور ليس فيه شائبة ظلم بل هو عدل حمض ألن‬
‫كسب العبد له دور كبري يف وجود فعله وحتققه‪ ،‬ألنه رشط عادي لتعلق قدرة‬
‫اهلل تعاىل بالفعل وتأثريها فيه‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫ِ‬
‫العباد االختيارية خملوق ٌة هلل أم خملوقة‬ ‫وأنا أسأل الدكتور‪ :‬هل أفعال‬
‫بني األمرين واسطة‪.‬‬ ‫للعباد؟ وليس َ‬
‫ِ‬
‫السنة أهنا خملوق ٌة هلل تعاىل لكن باختيار وكسب من العبد‪،‬‬ ‫فمذهب ِ‬
‫أهل‬
‫ِ‬
‫الكتاب‬ ‫وهو الذي دلت عليه النصوص الَصُية التي ال تقبل التأويل من‬
‫ِ‬
‫والسنة‪ ،‬وهو مذهب األشاعرة‪ .‬ومذهب اإلمام أمحد رمحه اهلل تعاىل كام نقلنا‬
‫كالمه آنفا‪.‬‬
‫ِ‬
‫بدون‬ ‫ومذهب املعتزلة أهنا خملوق ٌة للعبد‪ ،‬ومذهب اجلربية أهنا خملوق ٌة هلل‬
‫اختيار وال كَسب من العبد‪ ،‬فاخرت أهيا الدكتور منها ما شئت!‬
‫وقد كتبنا يف مسألة الكسب وخلق أفعال العباد رسالة أحطنا فيها‬
‫بمذاهب علامء اإلسالم فيها‪ ،‬وبيناها بينا وافيا‪.‬‬

‫‪-49‬املحبة والرىض عند األشاعرة غري اإلرادة‪:‬‬


‫وأو ُلوا قوله‬
‫قال الدكتور‪{:‬واإلرادة عند األشاعرة معناها املحبة والرضا َّ‬
‫تعاىل‪( :‬وال يرىض لعباده الكفر) بأنه ال يرىض لعباده املؤمنني! فبقي السؤال‬
‫وارد ًا عليهم‪ :‬وهل رضيه للكفار أم فعلوه وهو مل يرده؟}‬
‫أقول‪ :‬ال أدرى ماذا أقول هلذا الدكتور الذي يدعى التخصص يف أصول‬
‫الدين‪ ،‬وينتقد مذهب األشاعرة بدون معرفة له وال إملام به‪ ،‬ومن املقرر أن احلكم‬
‫عىل اليشء فرع عن تصوره‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫ثم إنه من املقرر أن مذهب األشاعرة أن املحبة والريض غري اإلرادة‪ ،‬فقد‬
‫يريد اهلل اليشء وال ُيبه وال يرضاه كالكفر من الكافر‪ ،‬وقد ُيبه ويرضاه وال‬
‫يريده كاإليامن من الكافر‪ ،‬وقد ُيبه ويرضاه ويريده كاإليامن من املؤمن‪ ،‬وأما‬
‫كون اإلرادة عبارة عن املحبة والرضا أو مستلزمة هلام فهو مذهب املعتزلة‪ ،‬ومل‬
‫يذهب إليه من األشاعرة إال إمام احلرمني‪ ،‬وقد رد عليه من أتى بعده‪ .‬وانظر‬
‫املسايرة البن اهلامم برشحها البن أبى رشيف‪ 165‬ولعل الدكتور اغرت بام يف‬
‫"اإلنصاف" للباقالين حيث قال‪( :‬واعلم أنه ال فرق بني اإلرادة واملشيئة‬
‫واالختيار والرىض واملحبة عىل ما قدمنا)‪ 166‬وليس مراد الباقالين أن هذه‬
‫الكلامت بمعنى واحد كام توهم‪ ،‬وإنام مراده أن رضا اهلل تعاىل لإلنسان وحمبته‬
‫له عبارة عن إرادة اخلري والنفع له‪ ،‬فإن هذا هو الذي قدمه الباقالين يف كتابه‬
‫دون الرتادف‪ ،‬ويدل عليه الحق كالمه‪ ،‬حيث قال عقب هذا الكالم‪( :‬واعلم‬
‫أن االعتبار يف ذلك كله باملآل ال باحلال‪ ،‬فمن ريض سبحانه عنه مل يزل راضيا‬
‫عنه ال يسخط عليه أبدا وإن كان يف احلال عاصيا‪ .‬ومن سخط عليه فال يزال‬
‫ساخطا عليه‪ .‬وال يرىض عنه أبدا وإن كان يف احلال مطيعا)‬
‫ثم إن ما نسبه الدكتور إىل األشاعرة خطئا وانتقدهم بناء عىل ذلك هو‬
‫ظاهر كالم اإلمام أمحد ففي اعتقاد اإلمام أمحد امللحق بطبقات احلنابلة ما ييل‪:‬‬

‫‪124 165‬‬
‫‪41 166‬‬

‫‪212‬‬
‫وكان أمحد بن حنبل ريض اهلل تعاىل عنه يقول‪ :‬إن اهلل تعاىل يكره الطاعة من‬
‫العايص‪ ،‬كام يكره املعصية من الطائع حكاه ابن أيب داود‪ ،‬وقرأ‪( :‬ولو أرادوا‬
‫اخلروج ألعدوا هلم عدة‪ .‬ولكن كره اهلل انبعاثهم) وانبعاثهم طاعة اهلل‪ .‬واهلل‬
‫‪167‬‬
‫يكرهه‪.‬‬

‫‪-51‬بيان االستطاعة عىل مذهب األشاعرة‪:‬‬


‫ُ‬
‫واحلاصل َّأهنم يف‬ ‫كالمهم يف االستطاعة‪.‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬ومن هذا القبيل ُ‬
‫ال عن‬ ‫ِ‬
‫واملعقول ومل ُي ْعربوا عن مذهبهم فض ً‬ ‫ِ‬
‫املنقول‬ ‫ِ‬
‫الباب خرجوا عن‬ ‫هذا‬
‫الربهنة عليه}‬
‫أجل دق ِة‬
‫أقول‪ :‬ال‪ ،‬بل هم قد أعربوا عنه‪ ،‬وبرهنوا عليه‪ ،‬ولكن من ِ‬
‫يفه َمه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مذهب األشاعرة فيها مل يستطع الدكتور أن َ‬ ‫وغموضها ودقة‬ ‫املسألة‬
‫ومن أجل ذلك أمجل الدكتور‪ ،‬فقال‪« :‬ومن هذا القبيل كالمهم يف‬
‫االستطاعة»‪.‬‬
‫فال بد من بيان ملسألة االستطاعة‪ ،‬والكالم عليها طويل ال يليق هبذا‬
‫الكتاب‪ ،‬فنبينها عىل وجه اإلمجال‪ ،‬فنقول‪ :‬املسمى باسم االستطاعة أمران‪:‬‬

‫‪167‬‬
‫‪311 2‬‬

‫‪213‬‬
‫أحدمها‪ :‬سالمة األسباب وصحة اآلالت والتهيؤ لتنفيذ الفعل عن إرادة‬
‫املختار‪ ،‬واملراد بصحة اآلالت صالحيتها لقبول القدرة احلقيقة‪ ،‬وأن تكون‬
‫بحالة يصح الفعل هبا عادة كصحة البدن واألعضاء واجلوارح عن األمراض‬
‫والعلل التي تعوقها عن القيام بالفعل‪ ،‬وعىل هذا املعنى ورد قوله تعاىل‪( :‬وهلل‬
‫عىل الناس حج البيت من استطاع إليه سبيال) وقوله تعاىل‪( :‬فمن مل يستطع‬
‫فإطعام ستني مسكينا) إىل غري ذلك من اآليات وال خالف يف أن االستطاعة‬
‫هبذا املعنى سابقة عىل الفعل‪ ،‬وهي رشط لصحة التكليف ومتقدمة عليه‪.‬‬
‫وثانيهام‪ :‬االستطاعة املستجمعة لرشائط التأثري التي يقام هبا الفعل ظاهرا‪.‬‬
‫وعىل هذا املعنى ورد قوله تعاىل‪( :‬ما كانوا يستطيعون السمع وما كانوا‬
‫يبَصون) وقوله تعاىل‪( :‬إنك لن تستطيع معي صربا) إىل غري ذلك من‬
‫اآليات‪.‬‬
‫واالستطاعة هبذا املعنى هي التي اختلف فيها‪ ،‬فقال أهل السنة إهنا مقارنة‬
‫للفعل ال متقدمة عليه‪ ،‬وقالت املعتزلة‪ :‬إهنا متقدمة عىل الفعل‪.‬‬
‫وهذا اخلالف مبني عىل اخلالف يف خلق أفعال العباد‪ ،‬فاملعتزلة من أجل‬
‫وأثر عن قدرهتم قالوا‪ :‬إن القدرة‬
‫قوهلم بأن أفعال العباد االختيارية خملوقة هلم ٌ‬
‫التي هبا الفعل متقدمة عىل الفعل‪ ،‬ألن إجياد الفعل عبارة عن إخراجه من‬
‫العدم إىل الوجود‪ ،‬فالبد للقدرة املؤثرة يف إجياده من أن تقارن عدمه حتى‬
‫يصح إخراجها إياه من العدم إىل الوجود‪ ،‬فال بد من تقدمها عىل الفعل‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫وأما أهل السنة فمن أجل قوهلم‪ :‬بأن القدرة التي هبا الفعل ظاهرا غري‬
‫مؤثرة يف وجود الفعل‪ ،‬بل متعلقة به بدون تأثري هلا فيه‪ ،‬قالوا‪ :‬إهنا مقارنة‬
‫للفعل‪ ،‬ألن املقارنة البد منها ليصح تعلقها بالفعل‪ ،‬ويصح كون الفعل‬
‫مكسوبا للعبد‪ ،‬وأما تقدمها عىل الفعل فإنام ُيتاج إىل القول به إذا قيل‪ :‬إهنا‬
‫مؤثرة يف الفعل‪ ،‬وأهل السنة مل يقولوا بتأثريها‪ ،‬فلم ُيتاجوا إىل القول بقدرة‬
‫موجودة قبل الفعل‪.‬‬
‫وقد ذكر املتكلمون من أهل السنة يف بيان أن القدرة مقارن ٌة للفعل ال‬
‫متقدمة عليه دالئل أخرى ووجوها َ‬
‫أخر‪ ،‬ونحن نكتفي هبذا القدر‪.‬‬
‫ثم إن كون االستطاعة مع الفعل هو مذهب اإلمام أمحد رمحه اهلل تعاىل‪،‬‬
‫ففي عقيدة اإلمام أمحد املطبوعة بآخر املجلد الثاين من طبقات احلنابلة ما ييل‪:‬‬
‫(وكان أمحد يذهب إىل أن االستطاعة مع الفعل‪ ،‬وقرأ قوله عز وجل‪( :‬انظر‬
‫كيف رضبوا لك األمثال فضلوا فال يستطيعون سبيال) وقرأ (ذلك تأويل ما مل‬
‫تَسطِع عليه صربا) والقوم ال آفة هبم‪ .‬وكان موسى تاركا للصرب‪ .‬وقرأ (ولن‬
‫تستطيعوا أن تعدلوا بني النساء ولو حرصتم) فدل عىل عجزنا‪ .‬ودل ذلك عىل أن‬
‫اخللق هبذه الصفة ال يقدرون إال باهلل‪ ،‬وال يصنعون إال بقدرة اهلل)‪ 168‬يقصد‬
‫اإلمام أمحد رمحه اهلل أن قدر َة اخللق املقرونة بالفعل غري مؤثرة يف وجود الفعل‪،‬‬

‫‪168‬‬
‫‪299 2‬‬

‫‪215‬‬
‫بل متعلقة به بال تأثري‪ ،‬وأهنا خملوقة هلل تعاىل‪ ،‬فمن أجل ذلك فهم ال يقدرون إال‬
‫باهلل‪ ،‬وال يصنعون إال بقدرة اهلل تعاىل‪ ،‬ال بقدرهتم‪ .‬ثم قال اإلمام أمحد رمحه اهلل‬
‫تعاىل إشارة إىل املعنى األول لالستطاعة‪ ،‬وهي املتقدمة عىل الفعل اتفاقا‪( :‬وقد‬
‫سمي اإلنسان مستطيعا إذا كان سليام من اآلفات)‬
‫هذا هو كالم اإلمام أمحد‪ ،‬وهذا مذهبه‪ ،‬وهو مذهب األشاعرة نفسه‪،‬‬
‫فليت شعري ما الذي ينكره الدكتور عىل األشاعرة يف مسألة االستطاعة‪ ،‬وما‬
‫هو املنقول واملعقول الذي خرجوا عنه؟؟!!‬

‫‪ -51‬العالقة بني السبب واملسبب عند األشاعرة‪:‬‬


‫قال الدكتور‪{ :‬السابع السببية وأفعال املخلوقات}‬
‫ٍ‬
‫يشء‪،‬‬ ‫يشء مؤثر ًا يف‬ ‫ٍ‬
‫نكر األشاعر ُة الربط العادي بإطالق‪ ،‬وأن يكون ٌ‬ ‫{ ُي ُ‬
‫ُ‬
‫ومأخذهم‬ ‫ٍ‬
‫سببية" يف القرآن‪ ،‬وك َّفروا وبدَّ عوا َم ْن خالفهم‪.‬‬ ‫وأنكروا كل " ِ‬
‫باء‬
‫حترق ِ‬ ‫النار ُ‬
‫بطبعها أو هي‬ ‫فيها هو مأخذهم يف القدر‪ .‬فمثالً عندهم َم ْن قال‪ :‬إن َ‬
‫مرشك‪ ،‬ألنه ال َ‬
‫فاعل عندهم إال اهللُ مطلقاً‪َ ...‬‬
‫وم ْن قال‬ ‫ٌ‬ ‫ع َّل ُة اإلحراق فهو ٌ‬
‫كافر‬
‫مبتدع ُّ‬
‫ضال‪ .‬قالوا‪ :‬إ َّن فاعل‬ ‫حترق ٍ‬
‫بقوة أودعها اهللُ فيها فهو‬ ‫عندهم‪ :‬إ َّن النار ُ‬
‫ٌ‬
‫ٍ‬
‫خملوق‪ ،‬فال ارتباط‬ ‫ظاهري‬ ‫يقع مقرتن ًا بيشء‬ ‫ِ‬
‫ٍّ‬ ‫ولكن ف ْعله ُ‬
‫َّ‬ ‫اإلحراق هو اهلل‪،‬‬

‫‪216‬‬
‫سبب ومس َّب ٍ‬
‫ب أصالً‪ ،‬وإنام املسألة اقرتان كاقرتان الزميلني من‬ ‫ٍ‬ ‫بني‬
‫عندَ ُه ْم َ‬
‫األصدقاء يف ذهاهبام وإياهبام}‬
‫أقول‪:‬مل ينكر األشاعرة الربط العادي بني السبب واملسبب بل أثبتوه‪ ،‬وإنام‬
‫احلقيقي والتأثري‪ ،‬فقالوا‪ :‬املؤثر يف وجود املسب ِ‬
‫ب‬ ‫ُّ‬ ‫الذي أنكروه هو الربط‬
‫حقيقة هو اهلل تعاىل‪ ،‬وهذا هو التوحيد اخلالص‪ .‬وكفروا الفالسفة الذين‬
‫يقولون‪ :‬إن النار حترق بطبعها ال يستطيع اهلل تعاىل أن يسلبها وصف اإلحراق‬
‫ملنافاته للتوحيد ولتحديده قدرة اهلل تعاىل‪.‬‬
‫السبب مؤ رث ٌر يف وجود املسب ِ‬
‫ب بقوة أو َدعها اهلل فيه‬ ‫ّ‬ ‫وأما الذين يقولون ّ‬
‫إن‬
‫يسلب اهلل تعاىل تلك القوة إذا شاء‪َ ،‬فلِ َقوهلم ٌّ‬
‫حظ من النظر‪ ،‬وهم ال يبدر عون‬
‫بذلك‪.‬‬
‫وأما الباء السببية الواردة يف القرآن فلم ينكروها‪ ،‬بل ُيملوهنا عىل السببية‬
‫فية دون السببية احلقيقية وذلك ألن اللغة يالحظ فيها العادة‬ ‫العادية والعر ِ‬

‫والعرف‪ ،‬وال يالحظ فيها التدقيقات الفلسفية‪ .‬وما ورد يف بعض الكتب من‬
‫رأي لبعض املتأخرين منهم‪.‬‬ ‫ِ‬
‫نسبة القائلني بالقوة املودعة إىل البدعة فإنام هو ٌ‬
‫عز الدين بن ِ‬
‫عبد السالم‪ :‬والعجب ّأهنم ‪-‬احلشوي َة يذ ُّمو َن‬ ‫قال اإلمام ُّ‬
‫والنار ال حترق" وهذا كال ٌم َ‬
‫أنزل اهلل‬ ‫َ‬ ‫اخلبز ال يشبع‪،‬‬
‫األشعري بقوله‪" :‬إن َ‬
‫ٌ‬
‫حوادث انفر َد اهلل بخلقها؛ فلم‬ ‫َ‬
‫واإلحراق‬ ‫معناه يف كتابه‪ ،‬فإن الشب َع والري‬
‫َ‬
‫اإلحراق‪ ،‬وإن كانت‬ ‫خيلق املاء الري‪ ،‬ومل ِ‬
‫ختلق النار‬ ‫الشبع‪ ،‬ومل ِ‬
‫َ‬ ‫خيلق اخلبز‬

‫‪217‬‬
‫رميت إذ‬
‫َ‬ ‫أسبابا يف ذلك‪ .‬فاخلالق هو اهلل دون السبب كام قال تعاىل‪" :‬وما‬
‫َ‬
‫يكون رسوله خالقا للرمي وإن كان سببا فيه‪.‬‬ ‫رميت ولكن اهلل رمى" َفنَ َفى أن‬
‫أمات وأحيا" فاقتطع‬
‫وقد قال تعاىل‪" :‬وإنّه هو أضحك وأبكى وأنه هو َ‬
‫اإلضحاك واإلبكاء واإلمات َة واإلحيا َء عن أسباهبا وأضا َفها إليه‪ ،‬فكذلك‬
‫َ‬
‫واإلحراق عن أسباهبا‪ ،‬وأضافها إىل‬ ‫الشبع والري‬
‫َ‬ ‫األشعري رمحه اهلل‬
‫ُّ‬ ‫اقتطع‬
‫كل يشء" وقول ِ ِه‪" :‬هل من خالق غري اهلل"‪.‬‬
‫خالقها لقوله تعاىل‪" :‬خالق ر‬
‫"بل كذبوا بام مل ُييطوا بعلمه وملا ِ‬
‫يأهتم تأويله" "أكذبتم بآيايت ومل حتيطوا‬
‫هبا علام أم ماذا تعملون"‪.‬‬
‫وآفته من الفه ِم السقيم‬
‫وكم من عائب قوال صحيحا‬
‫يض عن أقوام فداناهم وسخط عىل آخرين فأقصاهم‪" .‬ال‬‫ِ‬
‫فسبحان من َر َ‬
‫‪169‬‬
‫يسأل عام يفعل وهم يسألون"‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬لكن فعله يقع مقرتنا بيشء ظاهري خملوق) وإتيانه بعد قوله‪:‬‬
‫«قالوا‪ :‬إن فاعل اإلحراق هو اهلل» يدل عىل أن الدكتور يقصد به أن األشاعرة‬
‫يقولون‪ :‬إن فعل اهلل غري مؤثر يف وجود املسبب بل مقارن له‪ ،‬وهذا مع أنه‬
‫خطأ مناقض لسابقه‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫‪48‬‬

‫‪218‬‬
‫سمى املدرس َة الوضع َّي َة‬
‫مذهب ما ُي َّ‬
‫ُ‬ ‫والغريب أ َّن هذا هو‬
‫ُ‬ ‫قال الدكتور‪{ :‬‬
‫وم ْن واف َق ُه ْم من مالحدة العرب‪ ،‬وما ذاك إال‬
‫من املفكرين الغربيني املحدثني َ‬
‫كالمها ٌ‬
‫ناقل عن الفكر الفلسفي اإلغريقي}‬ ‫ألن األشاعر َة والوضعيني ُ‬
‫َّ‬
‫أقول‪ :‬األشاعرة إنام قالوا بذلك عىل َحسب ما أداهم إليه نصوص‬
‫الكتاب والسنة التي تنص عىل أنه ال خالق إال اهلل وال مؤثر يف الكون إال اهلل‪.‬‬
‫ِ‬
‫وللمشاغب أن يقو َل ما يشاء‪.‬‬ ‫ورأوا أن ذلك هو التوحيد اخلالص‪..‬‬

‫‪ -52‬مسألة تعليل أفعال اهلل تعاىل وأحكامه‪:‬‬


‫ٍ‬
‫ليشء‬ ‫يكون‬
‫َ‬ ‫قال الدكتور‪{:‬الثامن احلكمة الغائية‪ :‬ينفي األشاعر ُة قطع ًا أن‬
‫ٍ‬
‫حكمة تقيض إجيا َد ذلك الفعل أو َعدَ مه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أفعال اهللِ تعاىل عل ٌة مشتمل ٌة عىل‬ ‫من‬
‫ِ‬
‫بالوجوب عىل اهلل‪ ،‬حتى‬ ‫لقول املع ِ‬
‫تزلة‬ ‫فعل ِ‬ ‫نص كالمهم تقريباً‪ ،‬وهو ر ُّد ٍ‬ ‫وهذا ُّ‬
‫يفعل شيئاً لع َّل ٍة ينايف‬ ‫ٍ‬
‫تعليل يف القرآن وقالوا إ َّن كو َن ُه ُ‬ ‫أنكر األشاعر ُة َّ‬
‫كل ال ِم‬ ‫َ‬
‫كو َن ُه خمتار ًا مريد ًا‪.‬‬
‫ِ‬
‫الغرض عن اهلل" ويعتربونه من‬ ‫نفي‬ ‫األصل تُسم ِيه ُ‬
‫بعض ُكتُبهم " َ‬ ‫ُ‬ ‫وهذا‬
‫تعليق‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫حمض املشيئة وال‬ ‫لواز ِم التنزيه‪ ،‬وجعلوا أفعالَ ُه تعاىل ك َّلها راجع ًة إىل‬
‫لصفة أخرى كاحلكمة مثالً هبا‪ ،‬ورتَّبوا عىل هذا أصوالً فاسد ًة كقوهلم‬ ‫ٍ‬

‫‪219‬‬
‫ِ‬
‫وجواز‬ ‫وخي ّلدَ يف اجلنَّة َ‬
‫أفجر الك ّفار‪،‬‬ ‫أخلص أوليائه‪ُ ،‬‬
‫َ‬ ‫بجواز أ ْن خيل ِد اهللُ يف النار‬
‫ِ‬
‫ِ‬
‫ونحوها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫التكليف بام ال ُي ُ‬
‫طاق‬
‫ِ‬
‫واحلكمة‬ ‫تعار َض بني املشيئة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الباطل عد ُم فهمهم أال ُ‬ ‫التأصيل‬ ‫وسبب هذا‬
‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الس ْب ِع واكتفوا‬
‫مع الصفات َّ‬ ‫أو املشيئة والرمحة‪ .‬وهلذا مل ُي ْثبِت األشاعر ُة احلكم َة َ‬
‫بإثبات اإلرادةِ مع أ َّن احلكم َة تقتيض اإلرادة والعلم وزيادة}‬ ‫ِ‬

‫أقول‪ :‬قد اشتملت هذه الفقرة من كالم الدكتور مثل سابقاهتا عىل أخطاء‬
‫مجة جسيمة‪ ،‬وليت الدكتور مل يتدخل يف مثل هذه األمور التي ليست من جماله‬
‫وهو من أبعد الناس عن معرفتها‪ ،‬فنقرر أوال مذهب األشاعرة يف املسألة‪ ،‬ثم‬
‫نثني بيان ما اشتمل عليه كالم الدكتور من أخطاء‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬املشهور من مذهب األشاعرة أن أفعال اهلل تعاىل ليست معللة‬
‫باألغراض‪ .‬قالوا‪ :‬ال جيوز تعليل أفعاله تعاىل بيشء من األغراض والعلل‬
‫الغائية فال جيوز أن يبعثه عىل فعله عل ٌة وغرض يكون حتصيله هو املقصود من‬
‫الفعل والباعث عليه‪.‬‬
‫ومع قول األشاعرة بعدم التعليل قالوا‪ :‬إن أفعاله تعاىل ال ختلو عن أن ترتتب‬
‫عليها ِ‬
‫احل َكم واملصالح الراجع نفعها إىل العباد‪ ،‬فكل فعل من أفعاله تعاىل ال بد‬
‫أن يرتتب عليه يشء من احلكم واملصالح الراجعة إىل العباد‪ ،‬وذلك ألنه تعاىل‬
‫حكيم‪ ،‬ومقتىض حكمته أن ال خيلو فعل من أفعاله عن احلكم واملصالح‪ ،‬ومن‬

‫‪211‬‬
‫أجل ذلك قالوا‪ :‬إن أفعاله غري معللة بالعلل‪ ،‬لكنها غري خالية‪ .‬عن احلكم‬
‫واملصالح‪.‬‬
‫فاألشاعرة قالوا‪ :‬إنه تعاىل جيب عليه رعاية احلكمة يف أفعاله وجوبا عاديا‬
‫بمعنى أنه تعاىل يفعل الفعل الذي ترتتب عليه املصلحة البتة‪ ،‬ألن احلكمة‬
‫ترجح جانب الفعل عىل الرتك وخترجه عن حدر املساواة مع جواز الرتك يف‬
‫ر‬
‫نفسه‪.‬‬
‫وهذا النوع من الوجوب من الوجوب اجلائز يف حقه تعاىل مثل وجوب ما‬
‫أوجبه عىل نفسه مما وعد بفعله من ختليد املؤمنني يف اجلنة وختليد الكافرين يف‬
‫النار‪ ،‬وغري ذلك مما يدل عليه ما ورد يف بعض األحاديث من أن النبي صىل‬
‫حق عىل اهلل أن يفعل كذا"‪.‬‬
‫اهلل تعاىل عليه وآله وسلم قال‪ٌ " :‬‬
‫وأما الوجوب املمتنع يف حقه تعاىل فهو الوجوب الذي قالت به الفالسفة‬
‫من أنه تعاىل موجب بالذات وليس فاعال باالختيار‪ ،‬فسلبوا عن اهلل تعاىل‬
‫وصف االختيار‪ ،‬وكذلك الوجوب الذي قالت به املعتزلة‪ ،‬وهو أنه جيب عىل‬
‫اهلل تعاىل ما هو األصلح بالنسبة إىل كل فرد من أفراد الناس‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن تركه‬
‫موجب للسفه والعبث وهذا هو الوجوب العقيل‪ ،‬ويلزم عليه عدم قدرته تعاىل‬
‫عىل هداية الكافر‪ ،‬وإصالح الفاسق‪ ،‬تعاىل اهلل عن ذلك علوا كبريا‪ ،‬وهذا‬
‫خمالف لنصوص الكتاب والسنة كقوله تعاىل‪" :‬ولو شاء ربك آلمن من يف‬
‫األرض كلهم مجيعا"‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫وأما احلكمة التي يقول هبا أهل السنة‪ ،‬ويقولون بوجوب رعايتها عىل اهلل‬
‫تعاىل وجوبا عاديا‪ ،‬فهي مطلق احلكمة العامة بالنسبة إىل نظام العامل ال بالنسبة‬
‫إىل الدنيا فقط‪ ،‬وال بالنسبة إىل اإلنسان فقط‪ ،‬وهذه احلكمة قد تكون مفسدة‬
‫بالنسبة إىل بعض الناس‪ ،‬وقد يطلع عليها الناس كلهم أو بعضهم‪ ،‬وقد ختفى‬
‫عليهم‪ .‬وهذا ما يقتضيه اسمه تعاىل احلكيم‪.‬‬
‫قال املحقق عبد احلكيم السيالكويت يف حاشيته عىل "رشح العقائد‬
‫النسفية" للسعد التفتازاين‪ :‬وأما نحن أهل السنة فال نقول باستحالة ترك ما‬
‫تقتضيه احلكمة‪ ،‬وال باستلزامه نقصا جلواز أن يكون يف تركه حكم ومصالح‬
‫‪170‬‬
‫أخرى ال نطلع عليها‪ ،‬وإن كان جيب عليه رعاية مطلق احلكمة‪.‬‬
‫هذا هو املشهور من مذهب األشاعرة‪ ،‬ويقابله مذهب املاتريدية واملعتزلة‬
‫حيث ذهبوا إىل أن أفعال اهلل كلها معللة بالعلل واألغراض‪ ،‬وقد وافقهم عىل‬
‫ذلك بعض األشاعرة‪ ،‬وأما دالئل الفريقني فمذكورة يف مطوالت كتب‬
‫الكالم‪.‬‬
‫وقد أبدى التفتازاين يف مذهب األشاعرة احتامال آخر‪ .‬قال يف "رشح‬
‫املقاصد"‪ :‬ما ذهب إليه األشاعرة من أن أفعال اهلل تعاىل ليست معللة‬
‫باألغراض يفهم من بعض أدلته عموم السلب ولزوم النفي بمعنى أنه يمتنع‬

‫‪170‬‬
‫‪317‬‬

‫‪212‬‬
‫أن يكون يشء من أفعاله معلال بالغرض‪ ،‬ومن بعضها سلب العموم ونفي‬
‫اللزوم بمعنى أن ذلك ليس بالزم يف كل فعل‪.‬‬
‫وبعد أن أورد التفتازاين األدلة الدالة عىل األول واألدلة الدالة عىل الثاين‬
‫قال‪:‬‬
‫واحلق أن تعليل بعض األفعال سيام رشعية األحكام باحلكم واملصالح‬
‫ظاهر كإجياب احلدود والكفارات‪ ،‬وحتريم املسكرات‪ ،‬وما أشبه ذلك‪،‬‬
‫والنصوص أيضا شاهدة بذلك‪ ،‬كقوله تعاىل‪" :‬وما خلقت اجلن واإلنس إال‬
‫ليعبدون" "ومن أجل ذلك كتبنا عىل بني إسائيل" اآلية‪" ،‬فلام قىض زيد منها‬
‫وطرا زوجناكها لكي ال يكون عىل املؤمنني حرج يف أزواج أدعيائهم" اآلية‪،‬‬
‫وهلذا كان القياس حجة إال عند رشذمة ال يعتد هبم‪.‬‬
‫وأما تعميم ذلك بأن ال خيلو فعل من أفعاله عن غرض فمحل بحث‪.‬‬
‫انتهى‪.‬‬
‫هذا هو مذهب األشاعرة يف مسألة تعليل أفعال اهلل تعاىل عىل ما قرره‬
‫أئمتهم‪.‬‬

‫‪ -53‬ما تورط فيه الدكتور من األخطاء يف مسألة تعليل أفعال اهلل‬


‫تعاىل وأحكامه‪:‬‬

‫‪213‬‬
‫وبعد االنتهاء من تقرير مذهب األشاعرة نعود إىل كالم الدكتور سفر‪،‬‬
‫فنقول‪ :‬هذه الفقرة من كالمه قد احتوت أكثر من عرشة أخطاء عظيمة‪،‬‬
‫املتسورين عىل العلوم الذين يتدخلون فيام ال يعلمون‪.‬‬
‫ر‬ ‫وهكذا يكون حال‬
‫اخلطأ األول‪ :‬يف عنوان الفقرة وهو قوله‪( :‬احلكمة الغائية)‪ ،‬فإن املتكلمني‬
‫قد عنونوا املسألة بنفي الغرض عن أفعال اهلل‪ ،‬أو بتعليل أفعال اهلل‪ ،‬وأما تعبري‬
‫الدكتور فهو تعبري من مل يعرف الفرق بني احلكمة والغاية‪ ،‬فإن احلكمة عبارة‬
‫عام يرتتب عىل الفعل من املصالح‪ ،‬وأما الغاية فهي األمر الباعث عىل الفعل‪،‬‬
‫واألشاعرة أو معظمهم قائلون باحلكمة‪ ،‬وليسوا قائلني بالغاية‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬قوله‪" :‬ينفي األشاعرة قطعا أن يكون ليشء من أفعال اهلل تعاىل علة‬
‫مشتملة عىل حكمة"‪ .‬وهذا أيضا خطأ‪ ،‬فإن مقصوده أن األشاعرة قد نفوا‬
‫احلكمة عن أفعال اهلل تعاىل‪ ،‬وقد قررنا أهنم قد أثبتوها‪ ،‬بل قالوا بوجوهبا‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬قوله‪" :‬تقتيض إجياد ذلك الفعل أو عدمه"‪ .‬فقوله‪ :‬أو عدمه ليس‬
‫له حمل هنا‪ ،‬فإن اخلالف املتقدم إنام هو يف أفعاله تعاىل هل هي معللة أم ال‪،‬‬
‫وليس يف عدم فعله تعاىل‪ .‬ثم إن الكالم غري مستقيم من جهة اللغة فإنه ال‬
‫يصح أن يقال‪ :‬نفوا أن يكون ليشء من أفعاله علة تقتيض عدمه‪ ،‬بل الصحيح‬
‫أن يقال‪ :‬نفوا أن يكون ليشء من أفعاله علة تقتيض إجياده‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬قوله‪" :‬وهذا نص كالمهم تقريبا"‪ ،‬بل هو كالم بعيدٌ عن كالمهم‬
‫وخمالف لكالمهم‪ ،‬وأما نص كالمهم تقريبا‪ :‬فهو "أفعال اهلل تعاىل‬
‫ٌ‬ ‫بمراحل‬

‫‪214‬‬
‫غري معللة بالعلل واألغراض‪ ،‬لكنها غري خالية عن احلكم واملصالح" وقد‬
‫أدخلوا هذا النص يف متون العقائد الصغرية‪.‬‬
‫اخلامس‪ :‬قوله‪" :‬وهو رد فعل لقول املعتزلة بالوجوب عىل اهلل" فإن‬
‫مذهب األشاعرة ليس رد فعل لقول املعتزلة‪ ،‬وإنام هو رد له‪ ،‬فإن املقرر عند‬
‫أهل السنة أنه ال جيب عىل اهلل تعاىل فعل يشء وال تركه بالوجوب الذي قصده‬
‫املعتزلة‪ ،‬وهو الوجوب العقيل‪ ،‬وذلك ألن اهلل تعاىل ال ُيكمه قانون‪ ،‬يفعل ما‬
‫يشاء وُيكم ما يريد‪ ،‬ال يس َأل عام يفعل‪ ،‬وأما املعتزلة فقد قالوا‪ :‬بوجوب‬
‫الصالح واألصلح عليه تعاىل‪ ،‬وبنوا عىل ذلك وجوب تعليل أفعاله تعاىل‪.‬‬
‫السادس‪ :‬قوله‪" :‬حتى أنكر األشاعرة كل الم تعليل يف القرآن" األشاعرة‬
‫مل ينكروا الم التعليل يف القرآن بل جعلوه الم العاقبة كام يف قوله تعاىل‪:‬‬
‫"فالتقطه آل فرعون ليكون هلم عدوا وحزنا" وقول الشاعر‪:‬‬
‫وابنوا للخراب‬ ‫لِدوا للموت‬
‫قالوا‪ :‬إن املقصود هبذه الالمات بيان العاقبة واحلكمة واملصلحة املرتتبة‬
‫عىل الفعل‪ :‬ال بيان الباعث عىل الفعل‪ ،‬ألنه منتف عن اهلل عندهم‪ ،‬فالذي نفوه‬
‫هو كون الالم لبيان الباعث‪.‬‬
‫وقد سمى الزركيش يف "الربهان" هذه الالم بالم احلكمة‪ ،‬قال‪ :‬الم‬
‫العاقبة إنام تكون يف حق من جيهل العاقبة‪ ،‬كقوله تعاىل‪" :‬فالتقطه آل فرعون‬

‫‪215‬‬
‫ليكون هلم عدوا وحزنا" وأما من هو بكل يشء عليم فمستحيل ٌة يف حقه‪ ،‬وإنام‬
‫‪171‬‬
‫الالم الواردة يف أحكامه وأفعاله الم احلكمة‪.‬‬
‫السابع‪ :‬قوله‪« :‬وقالوا‪ :‬إن كونه يفعل شيئا لعلة ينايف كونه خمتارا مريدا» مل‬
‫يقل هذا أحد منهم‪ ،‬وال يقوله عاقل‪ ،‬فإن الفعل لعلة ال بد أن يكون عن‬
‫اختيار وإرادة‪ ،‬بل قالوا‪ :‬إن الفعل لعلة ينايف كونه تعاىل ال جيب عليه يشء‬
‫الذي هو مذهب أهل السنة‪.‬‬
‫الثامن‪ :‬قوله‪" :‬وجعلوا أفعاله تعاىل كلها راجعة إىل حمض املشيئة‪ ،‬وال‬
‫هبا" قد قدمنا أن مذهب األشاعرة أن‬ ‫تعلق لصفة أخرى كاحلكمة مثال‬
‫أفعال اهلل تعاىل راجعة إىل املشيئة واحلكمة‪ ،،‬ومن أجل ذلك قالوا‪ :‬إن أفعاله‬
‫تعاىل ال ختلو عن احلكم واملصالح‪ .‬وأفعاله راجعة إىل القدرة أيضا‪ .‬فاحلَص يف‬
‫كالمه غري صحيح‪.‬‬

‫‪ -54‬مسألة جواز أن خيلد اهلل املؤمن يف النار والكافر يف اجلنة‪:‬‬


‫التاسع‪ :‬قوله‪" :‬ورتبوا عىل ذلك أصوال فاسدة كقوهلم‪ :‬بجواز أن خي رلد‬
‫اهلل يف النار أخلص أوليائه‪ ،‬وخي رلد يف اجلنة أفجر الكفار"‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫‪116 3‬‬

‫‪216‬‬
‫أقول‪ :‬هذا األصل من األصول الصحيحة التي أخذها األشاعرة من‬
‫الكتاب والسنة‪.‬‬
‫أما الكتاب فقوله تعاىل‪" :‬يعذب من يشاء ويغفر ملن يشاء"‪.‬‬
‫قال ابن كثري‪ :‬وقوله تعاىل‪" :‬يعذب من يشاء ويرحم من يشاء" أي‪ :‬هوا‬
‫حلاكم املتَصف الذي يفعل ما يشاء وُيكم ما يريد‪ ،‬ال معقب حلكمه‪ ،‬وال يس َأل‬
‫عام يفعل وهم يس َألون‪ ،‬فله اخللق واألمر‪ ،‬مهام فعل فعدل ألنه املالك الذي ال‬
‫يظلم مثقال ذرة‪ ،‬كام جاء يف احلديث الذي رواه أهل السنن‪" :‬إن اهلل لو عذب أهل‬
‫‪172‬‬
‫سامواته وأهل أرضه لعذهبم وهو غري ظامل هلم"‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وأما السنة فقوله صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم فيام رواه الشيخان عن أيب‬
‫هريرة ريض اهلل تعاىل عنه‪" :‬لن ينجي أحدا منكم عمله" قالوا‪ :‬وال أنت يا‬
‫رسول اهلل‪ ،‬قال‪" :‬وال أنا إ ال أن يتغمدين اهلل برمحة‪ ،‬سددوا وقاربوا‪ ،‬واغدوا‬
‫وروحوا‪ ،‬ويشء من الدجلة‪ ،‬والقصد القصد تبلغوا"‪.‬‬
‫وكذلك احلديث الذي أورده ابن كثري‪.‬‬
‫قال احلافظ تعليقا عىل قوله صىل اهلل عليه وآله وسلم‪" :‬لن ينجي أحدا‬
‫منكم عمله" قال املازري‪ :‬ذهب أهل السنة إىل أن إثابة اهلل تعاىل من أطاعه‬
‫بفضل منه‪ ،‬وكذلك انتقامه ممن عصاه بعدل منه‪ ،‬وال يثبت واحد منها إال‬

‫‪172‬‬
‫‪419 3‬‬

‫‪217‬‬
‫بالسمع‪ ،‬وله سبحانه أن يعذب الطائع‪ ،‬وينعم العايص‪ ،‬ولكنه أخرب أنه ال‬
‫يفعل ذلك‪ ،‬وخربه صدق ال خلف فيه‪.‬‬
‫وهذا احلديث يقوي مقالتهم‪ ،‬ويرد عىل املعتزلة حيث أثبتوا بعقوهلم‬
‫‪173‬‬
‫أعواض األعامل‪ ،‬وهلم يف ذلك خبط كثري وتفصيل طويل‪.‬‬
‫وقال احلافظ يف "الكالم" عىل قوله صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪( :‬هذا‬
‫أثنيتم عليه خريا فوجبت له اجلنة) واملراد بالوجوب الثبوت‪ ،‬إذ هو يف صحة‬
‫الثبوت كاليشء الواجب‪.‬‬
‫واألصل أنه ال جيب عىل اهلل يشء‪ ،‬بل الثواب فضله والعقاب عدله‪ .‬ال‬
‫‪174‬‬
‫يسأل عام يفعل‪.‬‬
‫فهذه شواهد الكتاب والسنة وأقوال األئمة شاهدة ملا قاله األشاعرة وليست‬
‫املسألة مرتبة عىل ما قاله الدكتور‪ ،‬وال أدري هل الدكتور بعد وقوفه عليها يَص‬
‫عىل استنكاره أم يتوب عنه؟!‬

‫‪-55‬مسألة جواز تكليف ما ال يطاق‪:‬‬


‫العارش‪ :‬قوله‪" :‬وجواز التكليف بام ال يطاق"‪.‬‬

‫‪173‬‬
‫‪397 11‬‬
‫‪174‬‬
‫‪339 3‬‬

‫‪218‬‬
‫نحرر مسألة التكليف بام ال يطاق ونبني مذهب‬
‫أقول‪ :‬ال بد أوال أن ر‬
‫األشاعرة فيها‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬ما ال يطاق ثالث مراتب‪ :‬املرتبة األوىل‪ :‬ما امتنع لذاته كجمع‬
‫النقيضني‪ ،‬وكجعل القديم حمدثا‪ ،‬املرتبة الثانية‪ :‬ما أمكن يف نفسه‪ ،‬ومل يقع‬
‫ومح ِل‬
‫متعلقا لقدرة العبد أصال كخلق األجسام‪ ،‬أو عادة كالصعود إىل السامء َ‬
‫اجلبال‪ .‬املَرتَبة الثالثة‪ :‬وهو أدنى املراتب‪ :‬ما يمتنع بسبب علم اهلل تعاىل بعدم‬
‫وقوعه‪ ،‬أو إلرادته ذلك‪ ،‬أو إلخباره بذلك‪.‬‬
‫وهذا القسم األخري ال خالف يف وقوع التكليف به فضال عن اجلواز‪ ،‬فإن‬
‫من علم اهلل تعاىل بموته عىل الكفر ومن أخرب اهلل بعدم إيامنه مكلفان عاصيان‬
‫إمجاعا‪.‬‬
‫واملرتبة الوسطى هو الذي وقع النزاع يف جواز التكليف به‪ ،‬بمعنى طلب‬
‫حتقيق الفعل واإلتيان به‪ ،‬واستحقاق العقاب عىل تركه‪ ،‬فجوزه األشاعرة‪،‬‬
‫ومنعه املعتزلة‪.‬‬
‫وجتويز األشاعرة مبني عىل مذهب أهل السنة من أنه ال جيب عىل اهلل‬
‫تعاىل يشء وال يقبح منه يشء‪ ،‬فقالوا بناء عىل هذا األصل‪ :‬إنه تعاىل ال جيب‬
‫عليه عدم تكليف الناس بام ال يطيقون‪ ،‬بل جيوز عليه ذلك‪ ،‬ولو فرض وقوع‬
‫هذا التكليف منه تعاىل مل يكن قبيحا منه تعاىل‪ ،‬ألنه تعاىل ال يقبح منه يشء‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫ثم هذا اخلالف إنام هو يف جواز الوقوع ال يف الوقوع‪ ،‬قال التفتازاين‪ :‬وأما‬
‫الوقوع فمنفي بحكم االستقراء‪ ،‬وبشهادة مثل قوله تعاىل‪( :‬ال يكلف اهلل نفسا‬
‫‪175‬‬
‫إال وسعها)‬
‫‪176‬‬
‫وقال الغزايل‪ :‬ومن جوز تكليف ما ال يطاق عقال فإنه يمنعه رشعا‪.‬‬
‫هذا هو مذهب األشاعرة يف املسألة‪ ،‬وهو مبني عىل أنه ال جيب عىل اهلل‬
‫يشء وقد قدمنا آنفا أن هذا األصل مؤيد بدالئل الكتاب والسنة‪ .‬وليس‬
‫مذهبهم مرتبا عىل ما قاله الدكتور سفر‪ .‬فهل بعد وقوف الدكتور عىل حقيقة‬
‫القضية ال يزال يَص عىل استنكاره هلا؟!‬
‫احلادي عرش‪ :‬دعوى الدكتور أن املسألتني اآلنفتني مرتبتان عىل ما قاله‬
‫باطال‪« :‬من أن األشاعرة جعلوا أفعاله تعاىل كلها راجعة إىل حمض املشيئة‪ ،‬وال‬
‫تعلق لصفة أخرى كاحلكمة هبا» فإن نسبة هذا اجلعل إىل األشاعرة خطأ‬
‫كام تقدم‪ ،‬فكيف يبنون عليه أمرا آخر‪ ،‬وقد ذكرنا مبنى هاتني املسألتني عند‬
‫األشاعرة‪.‬‬
‫الثاين عرش‪ :‬قوله‪" :‬وسبب هذا التأصيل الباطل عدم فهمهم أال تعارض‬
‫بني املشيئة واحلكمة‪ ،‬أو املشيئة والرمحة" أقول‪ :‬أوال‪ :‬إن هذا التأصيل هو‬
‫تأصيل الدكتور سفر وليس بتأصيل األشاعرة كام حققنا‪ .‬وأقول ثانيا‪ :‬إن‬

‫‪175‬‬
‫‪155 3‬‬
‫‪176‬‬
‫‪73 1‬‬

‫‪221‬‬
‫األشاعرة قد فهموا جيدا أنه ال تعارض بني صفاته تعاىل‪ ،‬وأصلوا عىل كل‬
‫منها ما يبني عليها من املسائل العقدية‪ ،‬ولكن الدكتور سفر مل يفهم ال األصل‬
‫وال املؤصل وال التأصيل‪.‬‬
‫الثالث عرش‪ :‬قوله‪" :‬وهلذا مل يثبت األشاعرة احلكمة مع الصفات السبع‪،‬‬
‫واكتفوا بإثبات اإلرادة" أقول‪ :‬أما أن األشاعرة مل يثبتوا احلكمة مع الصفات‬
‫السبع فصحيح‪ ،‬وأما أن عدم إثباهتم هلا معها مبني عىل عدم الفهم الذي ادعاه‬
‫الدكتور سفر فواضح أنه باطل‪ ،‬ألن ما ادعاه من عدم فهمهم أن ال تعارض بني‬
‫املشيئة واحلكمة باطل ليس له أصل من الصحة‪ ،‬فكيف يبنون عليه غريه؟! نعم‬
‫السبب يف عدم ذكرهم للحكمة مع الصفات السبع أن احلكمة راجعة إىل صفات‬
‫األفعال‪ ،‬والصفات السبع صفات الذات‪ ،‬أو أهنا راجعة إىل العلم‪ .‬الذي هو من‬
‫صفات الذات‪.‬‬
‫حلكَم واحلكيم‪ ،‬مها بمعنى‬‫قال ابن األثري يف "النهاية" يف أسامء اهلل تعاىل ا َ‬
‫احلاكم‪ ،‬وهو القايض واحلكيم فعيل بمعنى فاعل‪ ،‬أو هو الذي ُيكِم األشيا َء‬
‫ويت ِقنها‪ ،‬فهو فعيل بمعنى مفعل‪ ،‬وقيل‪ :‬احلكيم ذو احلكمة‪ ،‬واحلكمة عبارة‬
‫عن معرفة أفضل األشياء بأفضل العلوم ‪ ،‬ويقال ملن ُيسن دقائق الصناعات‬
‫ويتقنها‪ :‬حكيم‪.‬‬
‫فاحلكمة إما بمعنى القضاء‪ ،‬أو بمعنى إحكام األشياء‪ ،‬وإتقاهنا‪ .‬ومها‬
‫صفتا فعل‪ ،‬أو بمعنى معرفة أفضل األشياء بأفضل العلوم‪ .‬وهي صفة ذات‪.‬‬

‫‪221‬‬
‫‪ -57‬التاسع النبوات‪:‬‬
‫السنة واجلامعة‬
‫أهل ُّ‬ ‫ِ‬
‫مذهب ِ‬ ‫مذهب األشاعرة عن‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫خيتلف‬‫قال الدكتور‪{ :‬‬
‫راجع للمشيئة‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫إرسال الرسل‬ ‫يف النبوات اختالف ًا بعيد ًا‪ ،‬فهم يقررون أ ّن‬
‫ِ‬
‫صدق النبي إال‬ ‫املحضة كام يف الفقرة السابقة‪ ،‬ثم يقررون أنه ال َ‬
‫دليل عىل‬
‫س املعجزةِ لكنّها ال‬
‫أفعال السحرةِ والك ُّهان من جن ِ‬
‫يقررون أ ّن َ‬
‫َ‬ ‫املعجزة‪ ،‬ثم‬
‫تكون مقرون ًة بادعاء النبوة‪ ،‬والتحدي‪ ،‬قالوا‪ :‬ولو ا َّدعى الساحر أو الكاهن‬
‫يمتنع‬
‫ُ‬ ‫النبوة لسلبه اهللُ معرفة السحر رأساً وإال كان هذا إضالالً من اهلل وهو‬
‫َّ‬
‫َ‬
‫واملعقول‪ .‬ولضعف‬ ‫َ‬
‫املنقول‬ ‫عليه اإلضالل‪ ..‬إىل آخر ما يقررونه مما خيالفُ‬
‫كل أمورها متوقف ٌة‬ ‫النبوات مع ِ‬
‫كوهنا من أخطر أبواب العقيدة‪ ،‬إذ ُّ‬ ‫ِ‬ ‫مذهبهم يف‬
‫َ‬
‫واستطال عليه الفالسفة‬ ‫أعداء اإلسالم بالنيل منه‬
‫َ‬ ‫النبو ِة‪ .‬أغروا‬
‫عىل ثبوت َّ‬
‫واملالحد ُة‪.‬‬
‫الوحي تفسري ًا قرمطياً فيقولونه هو‬
‫َ‬ ‫والصوفي ُة منهم كالغزايل يفرسون‬
‫ِ‬
‫الفائض من العقل الكيل يف العقل اجلزئي (ونسب هذا الكالم يف‬ ‫ُ‬
‫انتقاش العل ِم‬
‫احلاشية إىل‪ :‬اإلرشاد‪ ،‬وهناية اإلقدام‪ ،‬وأصول الدين‪ ،‬واملواقف‪ ،‬وغاية املرام‪،‬‬
‫والرسالة اللدنية)‬

‫‪222‬‬
‫الذن ِ‬
‫ْب عن األنبياء ويؤولون‬ ‫صدور َّ‬ ‫ِ‬
‫العصمة فينكرو َن‬ ‫أما يف موضوع‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫تأويالت‬ ‫واألحاديث الكثري َة تأويالً متعسف ًا متك ّلف ًا كاحلال يف‬
‫َ‬ ‫اآليات‬
‫الصفات}‬

‫‪ -56‬أخطاء الدكتور يف كالمه عىل النبوات‪:‬‬


‫أقول‪ :‬قد اشتمل كالم الدكتور أيضا عىل أخطاء عظيمة مجة‬
‫األول‪( :‬قوله‪ :‬خيتلف مذهب األشاعرة عن مذهب أهل السنة واجلامعة‬
‫يف النبوات اختالفا بعيدا)‬
‫أقول‪ :‬هذا هو اخلطأ األصل الذي تفرع عنه أخطاء غري حمصورة‪ ،‬وهو أنه‬
‫قد تقرر يف عقل الدكتور أن األشاعرة ليسوا من أهل السنة وأن مذهبهم‬
‫خمالف ملذهب أهل السنة‪ ،‬وذلك عن عدم معرفته بمذهبهم الذي هو مذهب‬
‫أهل السنة‪ ،‬ولعل الدكتور عند معرفته بمذهب األشاعرة عامة عن طريق‬
‫قراءته هلذا التعليق يرتك جانبا ما كان يستخدمه لتفريق كلمة املسلمني وإيقاع‬
‫الشقاق فيام بينهم من املعاول واألسافني يف وقت أحوج ما تكون فيه األمة إىل‬
‫مجع الكلمة ووحدة الصف‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬قوله‪( :‬فهم يقررون أن إرسال الرسل راجع للمشيئة املحضة)‬

‫‪223‬‬
‫أقول‪ :‬إن األشاعرة يقولون‪ :‬إن إرسال الرسل راجع إىل املشيئة واحلكمة‪،‬‬
‫ومل يقولوا برجوع إرسال الرسل إىل املشيئة فقط‪ .‬وهذا اخلطأ من الدكتور مبني‬
‫عىل اخلطأ السابق‪ ،‬وهو قوله بأن األشاعرة ال يقولون باحلكمة‪ ،‬وقد بينا خطأه‬
‫هناك بام فيه الكفاية‪.‬‬
‫وأما رجوع إرسال الرسل إىل احلكمة فقد قال النسفي يف "عقائده"‪:‬‬
‫"ويف إرسال الرسل حكمة" قال التفتازاين يف "رشحه"‪ :‬أي‪ :‬مصلحة وعاقبة‬
‫محيدة‪ ..‬بمعنى أن قضية احلكمة تقتضيه ملا فيه من احلكم واملصالح‪ ..‬إىل آخر‬
‫كالمه‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬قوله‪( :‬ثم يقررون أنه ال دليل عىل صدق النبي إال املعجزة)‬
‫أقول‪ :‬ال يقررون ذلك‪ ،‬بل يقرون أن هناك دالئل غري املعجزة تدل عىل‬
‫صدق النبي‪ ،‬ويذكرون يف كتبهم مجلة من هذه الدالئل‪ ،‬وإنام الذي يقررونه‬
‫هو أن العمدة يف إثبات النبوة وإلزام احلجة عىل املجادل املعاند هو املعجزة‪،‬‬
‫مع قوهلم بوجود غري املعجزة من الدالئل‪.‬‬
‫وهل تقوم احلجة عىل املكلف بمجرد أن يدعى أحد الناس مهام كان من‬
‫أهل الفضل والصالح‪ -‬النبوة بدون أن تظهر املعجزة عىل يده؟ ال ريب يف أنه‬
‫ال تقوم احلجة بمجرد ذلك‪ ،‬وال تقوم إال بإظهار اهلل تعاىل املعجزة عىل يد‬
‫مدعى النبوة‪ ،‬ومن أجل ذلك كان من عادة اهلل تعاىل أن يظهر املعجزة عىل يد‬
‫مدعى النبوة صادقا‪ ،‬وال يوكل الناس إىل االستدالل عىل صحة دعواه النبوة‬

‫‪224‬‬
‫بام اتصف به من الفضل والصالح‪ .‬والصفات احلميدة واخللق العظيم إىل غري‬
‫ذلك مما عده العلامء من دالئل النبوة‪.‬‬
‫قال التفتازاين يف "رشح املقاصد" بعد انتهائه من ذكر دليل املعجزة‬
‫م َفصال‪ :‬ما سبق هو العمدة يف إثبات النبوة‪ ،‬وإلزام احلجة عىل املجادل املعاند‪،‬‬
‫وقد يذكر وجوه أخرى تقوية له وتتميام وإرشادا لطالب احلق وتعليام‪ ،‬ثم ذكر‬
‫مخسة دالئل من هذا النوع‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬ما اجتمع فيه من الكامالت العلمية والعملية والنفسانية والبدنية‪،‬‬
‫واخلارجية‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬ما اشتمل عليه رشيعته من أمر االعتقادات‪ ،‬والعبادات‪،‬‬
‫واملعامالت‪ ،‬والسياسات‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬ظهور دينه عىل سائر األديان مع قلة األنصار واألعوان‪ ،‬وكثرة‬
‫أهل الضالل والعدوان‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أنه ظهر عىل فرتة من الرسل واختالل يف امللك‪ ،‬وانتشار الضالل‬
‫واشتهار املحال‪ .‬وافتقار إىل من جيدد أمر الدين‪ ،‬ويدفع يف صدر امللحدين‪،‬‬
‫ويرفع لواء املتقني‪ ،‬ومل يكن هبذه الصفة غريه من العاملني‪.‬‬
‫‪177‬‬
‫اخلامس‪ :‬نصوص الكتب الساموية‪ ،‬ثم ذكر جمموعة منها‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫‪299 3‬‬

‫‪225‬‬
‫وقال القايض عضد الدين يف "املواقف"‪ :‬املقصد الرابع‪ :‬يف إثبات نبوة حممد‬
‫صىل اهلل عليه وسلم‪ :‬وفيه مسالك‪ :‬املسلك األول وهو العمدة أنه ادعى النبوة‪،‬‬
‫وظهرت املعجزة عىل يده‪.‬‬
‫وبعد أن ذكر القايض مجلة من خوارق العادات الظاهرة عىل يده صىل اهلل‬
‫عليه وآله وسلم ذكر ثالثة مسالك أخرى‪ ،‬حيث قال‪:‬‬
‫وارتضاه اجلاحظ والغزايل االستدالل بأحواله قبل‬ ‫املسلك الثاين‬
‫النبوة وحال الدعوة وبعد متامها‪ ،‬وأخالقه العظيمة‪ ،‬وأحكامه احلكيمة‪،‬‬
‫وإقدامه حيث ُيجم األبطال‪،‬‬
‫املسلك الثالث‪ :‬إخبار األنبياء املتقدمني عليه عن نبوته‪..‬‬
‫املسلك الرابع وارتضاه اإلمام الرازي أنه عليه السالم ادعى بني قوم‬
‫ال كتاب هلم وال حكمة فيهم أين بعثت بالكتاب واحلكمة ألمتم مكارم‬
‫األخالق‪ ،‬وأكمل الناس يف قوهتم العلمية والعملية‪ ،‬وأنور العامل باإليامن‬
‫والعمل الصالح‪ ،‬ففعل ذلك وأظهر دينه عىل الدين كله كام وعده اهلل‪ .‬وال‬
‫‪178‬‬
‫معنى للنبوة إال هذا‪.‬‬
‫وقال التفتازاين يف "رشح املقاصد" ال خفاء يف ثبوت النبوة بخلق العلم‬
‫الرضوري‪ ،‬كعلم الصديق ريض اهلل تعاىل عنه‪ ،‬وبخرب من ثبتت عصمته عن‬

‫‪178‬‬
‫‪357 349‬‬

‫‪226‬‬
‫الكذب كنصوص التوراة واإلنجيل يف نبوة نبينا عليه السالم‪ ،‬وكإخبار موسى‬
‫عليه السالم بنبوة هارون وكالب ويوشع عليهم السالم‪.‬‬
‫فام ذكر إمام احلرمني "من أنه ال يمكن نصب دليل عىل النبوة سوى‬
‫املعجزة ألن ما ي َقدر دليال إن مل يكن خارقا للعادة أو كان خارقا ومل يكن‬
‫مقرونا بالدعوة مل يصلح دليال لالتفاق عىل جواز وقوع اخلوارق من اهلل تعاىل‬
‫ابتداء"‪ ،‬حممول عىل ما يصلح دليال للنبوة عىل اإلطالق وحجة عىل املنكرين‬
‫بالنسبة إىل كل نبي حتى الذي ال نبي قبله وال كتاب‪.‬‬
‫وأما ما سيأيت من االستدالل عىل نبوة حممد صىل اهلل تعاىل عليه وآله‬
‫وسلم بام شاع من أخالقه وأحواله فعائد إىل املعجزة عىل ما نبني إن شاء اهلل‬
‫‪179‬‬
‫تعاىل‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫اخلطأ الرابع‪ :‬قوله‪( :‬ثم يقررون أن أفعال السحرة والكهان من جنس‬
‫املعجزة لكنها ال تكون مقرونة بادعاء النبوة والتحدي‪ ،‬قالوا‪ :‬ولو ادعى‬
‫الساحر أو الكاهن النبوة لسلبه اهلل تعاىل معرفة السحر‪ ،..‬وإال كان هذا‬
‫إضالال من اهلل تعاىل‪ ،‬وهو يمتنع عليه اإلضالل‪ ..‬إىل آخر ما يقررونه مما‬
‫خيالف املنقول واملعقول)‬
‫أقول‪ :‬ليت شعري ما هو املنقول واملعقول الذي خيالفه كالمهم هذا!!؟؟‬

‫‪179‬‬
‫‪281 3‬‬

‫‪227‬‬
‫اخلامس‪ :‬قوله‪( :‬ولضعف مذهبهم يف النبوات مع كونه من أخطر أبواب‬
‫العقيدة‪ ،‬إذ كل أمورها متوقفة عىل ثبوت النبوة أغروا أعداء اإلسالم بالنيل‬
‫منه‪ ،‬واستطال عليهم الفالسفة واملالحدة)‬
‫أقول‪ :‬ما هو وجه الضعف يف مذهبهم يف النبوات؟ ومن هم هؤالء‬
‫األعداء الذين أغراهم األشاعرة بالنيل من اإلسالم؟ وكيف أغروهم؟ ومن‬
‫هم هؤالء الفالسفة واملالحدة الذين استطالوا عىل األشاعرة؟ وما هو الذي‬
‫مهد هلم االستطالة من مذهب األشاعرة؟‬
‫هذه أسئلة أوجهها إىل الدكتور سفر ال أعلم اجلواب عنها‪ ،‬ولعله ما‬
‫املسؤول بأعلم من السائل‪!.‬‬
‫السادس‪ :‬قوله‪ :‬والصوفية منهم كالغزايل يفرسون الوحي تفسريا قرمطيا‪،‬‬
‫فيقولون‪ :‬هو انتفاش العلم الفائض من العقل الكيل يف العقل اجلزئي‪.‬‬
‫أقول‪ :‬ال بد أن يصحح الدكتور النقل‬
‫الدعاوى إذا مل يقم عليها ‪ ::‬بينات أصحاهبا أدعياء‬
‫وما أورده يف أسفل الصفحة من أسامء الكتب وأرقامها ال يوجد فيها‬
‫يشء مما نسبه إىل الصوفية والغزايل!!‬
‫السابع‪ :‬قوله‪ :‬أما يف موضوع العصمة فينكرون صدور الذنب عن‬
‫األنبياء‪ ،‬ويؤولون اآليات واألحاديث الكثرية تأويال متعسفا متكلفا‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫أقول‪ :‬أصل العصمة لألنبياء موضع إمجاع من أهل السنة‪ ،‬وقد اختلف يف‬
‫تفاصيلها خالفا منترشا يراجع من حمله‪ ،‬والعصمة مقتىض وصف النبوة‬
‫ومقتىض كون األنبياء أسوة حسنة‪ ،‬ولو مل يكن األنبياء معصومني ملا كانوا‬
‫أسوة حسنة‪ ،‬وملا جاز االحتجاج بأقواهلم وأفعاهلم وتقريراهتم‪ ..‬وهذا ما دفع‬
‫األشاعرة إىل تأويل النصوص التي خيالف ظاهرها عصمة األنبياء‪ ،‬وأما أفراد‬
‫التأويالت فهي أمور اجتهادية من اجلائز أن يكونوا قد أخطأوا يف بعضها‪.‬‬

‫‪ -58‬بيان مسألة التحسني والتقبيح العقليني‪:‬‬


‫ينكر األشاعرة أن يكون‬
‫والتقبيح‪ُ :‬‬
‫ُ‬ ‫التحسني‬
‫ُ‬ ‫قال الدكتور‪{ :‬العارش‪:‬‬
‫باحل ْس ِن وال ُق ْبحِ ويقولون‪ :‬مر ُّد‬
‫أي دور يف احلكم عىل األشياء ُ‬ ‫للعقل والفطرة ّ‬
‫َ‬
‫العقل‬ ‫ِ‬
‫الربامهة واملعتزلة‪ :‬إ َّن‬ ‫ذلك إىل الرشع وحدَ ُه‪ ،‬وهذا ر ُّد فعل ٍ‬
‫مغال لقول‬
‫ِ‬
‫للنصوص مكابرة‬ ‫يوجب ُح ْس َن احلسن و ُق َ‬
‫بح القبيح‪ .‬وهو مع ُمنافاته‬ ‫ُ‬
‫للعقول‪.‬‬
‫قبيح يف‬
‫إن الرشع قد يأيت بام هو ٌ‬ ‫قوهلم َّ‬ ‫ومما يرتتَّب عليه من األصول الفاسدة ُ‬
‫العقل باملر ِة أسلم من ِ‬ ‫عقل‪ .‬فإلغاء َد ْو ِر‬
‫نسبة ال ُق ْبحِ إىل الرشع مثالً‪ ،‬وم َّثلوا ذلك‬ ‫ُ‬ ‫ِ َّ‬ ‫ال ِ‬

‫الرشع‪.‬‬
‫ُ‬ ‫قبيح يف العقل ومع ذلك أباحه‬ ‫بذبح احليوان‪ ،‬فإنّه إيال ٌم له بال ٍ‬
‫ذنب‪ ،‬وهو ٌ‬
‫ِ‬
‫الربامهة الذين ُحيرمون َ‬
‫أكل احليوان‪ ،‬فلام عجز هؤالء‬ ‫قول‬ ‫ِ‬
‫احلقيقة هو ُ‬ ‫وهذا يف‬

‫‪229‬‬
‫العقل من أصلِه‪َّ ،‬‬
‫وتومهوا أهنم هبذا‬ ‫ِ‬ ‫عن رد ُش ْبهتهم ووافقوهم عليها أنكروا ُح َ‬
‫كم‬
‫ِ‬
‫أصل َم ْن قال بوجوب‬ ‫ِ‬
‫أسباب ذلك مناقض ُة‬ ‫أن ِم ْن‬
‫يدافعون عن اإلسالم‪ .‬كام َّ‬
‫ِ‬
‫العقل ومقتضاه}‬ ‫ِ‬
‫والعقاب عىل اهلل ُب ُح ْك ِم‬ ‫ِ‬
‫الثواب‬
‫أقول‪ :‬قد اشتمل كالم الدكتور يف هذه الفقرة أيضا عىل أخطاء مجة‬
‫جسيمة‪.‬‬
‫وال بد من تقرير املسألة وبيان مذهب األشاعرة فيها أوال كي نكون عىل‬
‫بينة من أمرنا‪ ،‬ثم نتكلم عىل كالم الدكتور‪.‬‬
‫فأقول‪ :‬احلسن والقبح عند أهل السنة رشعيان‪ ،‬وعند املعتزلة عقليان‪.‬‬
‫وال بد من حترير حمل النـزاع بني األشعرية القائلني بأن احلسن والقبح‬
‫رشعيان‪ ،‬واملعتزلة القائلني بأهنام عقليان‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬احلسن والقبح يقال ملعان ثالث‪:‬‬
‫األول‪ :‬صفة الكامل وصفة النقص‪ ،‬فاحلسن كون الصفة صفة كامل كالعلم‬
‫واجلود والعدل والشجاعة‪ ،‬والقبح كون الصفة صفة نقصان كاجلهل والبخل‬
‫والظلم واجلبن‪ ،‬وال نزاع يف أن هذا املعنى أمر ثابت للصفات يف نفسها‪ ،‬وأن‬
‫مدركه العقل ورد به الرشع أم مل يرد‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬مالئمة الغرض ومنافرته‪ ،‬وقد يعرب عنه بمالئمة الطبع ومنافرته‪،‬‬
‫وقد يعرب عنه باملصلحة واملفسدة‪ ،‬وذلك كالعدل والظلم‪ ،‬وإنقاذ الغريق‬
‫واهتام الربئ‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫فيقال‪ :‬ما وافق الغرض أو الطبع كان حسنا وما خالفه كان قبيحا‪ ،‬وما‬
‫ليس كذلك مل يكن حسنا وال قبيحا‪ ،‬ويقال‪ :‬احلسن ما فيه مصلحة‪ ،‬والقبيح‬
‫ما فيه مفسدة‪ ،‬وما خال عنهام ال يكون شيئا منهام‪ .‬وهذا املعنى متداخل مع‬
‫املعنى األول قد جيتمعان كام يف العدل والظلم‪ .‬وهذا املعنى خيتلف باالعتبار‪،‬‬
‫وخمالف لغرض أوليائه‬
‫ٌ‬ ‫موافق لغرض أعدائه ومصلحة هلم‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫فإن َ‬
‫قتل زيد‬
‫ومفسدة هلم‪ .‬وهذا املعنى أيضا عقيل مدركه العقل ورد به الرشع أم مل يرد‪.‬‬
‫قال التفتازاين‪ :‬وباجلملة كل ما يستحق املدح أو الذم يف نظر العقول‬
‫‪180‬‬
‫وجماري العادات فإن ذلك يدرك بالعقل ورد الرشع أم ال‪.‬‬
‫وإنام النزاع يف املعنى الثالث‪ ،‬وهو احلسن والقبح عند اهلل تعاىل‪ ،‬بمعنى‬
‫استحقاق فاعل الفعل يف حكم اهلل تعاىل املدح أو الذم‪ ،‬عاجال‪ ،‬والثواب أو‬
‫العقاب آجال‪ ،‬فام تعلق به املدح يف العاجل والثواب يف اآلجل من األفعال‬
‫فهو حسن‪ ،‬وما تعلق به الذم يف العاجل والعقاب يف اآلجل فهو قبيح‪ ،‬وما ال‬
‫يتعلق به يشء منهام فهو خارج عنهام‪.‬‬
‫فعند أهل السنة ومنهم األشاعرة أن احلسن والقبح هبذين املعنيني‬
‫رشعي بمعنى أن العقل ال ُيكم بأن الفعل حسن أو قبيح يف حكم اهلل تعاىل‪،‬‬
‫بل ما ورد األمر به فهو حسن وما ورد النهي عنه فقبيح من غري أن يكون‬

‫‪180‬‬
‫‪148 3‬‬

‫‪231‬‬
‫حمسنة أو مق ربحة هبذا املعنى‪ -‬يف ذاته‪ ،‬وال بحسب جهاته‬
‫للفعل جهة ر‬
‫واعتباراته‪.‬‬
‫حمسنة أو مق ربحة‬
‫وعند املعتزلة مها عقليان بمعنى أن للفعل عندهم جهة ر‬
‫يف حكم اهلل تعاىل يدركها العقل بالرضورة كحسن الصدق النافع وقبح‬
‫الكذب الضار‪ ،‬أو بالنظر كحسن الكذب النافع وقبح الصدق الضار‪ ،‬أو‬
‫بورود الرشع فيام توقف فيه العقل كحسن صوم يوم عرفة وقبح صوم يوم‬
‫العيد‪.‬‬
‫واحلاصل أن األمر والنهي عند أهل السنة من موجبات احلسن والقبح‪،‬‬
‫بمعنى أن الفعل أمر به فحسن‪ ،‬وهني عنه فقبح‪ ،‬وعند املعتزلة من مقتضياته‬
‫بمعنى أنه حسن فأمر به‪ ،‬وقبح فنهي عنه‪ ،‬فاألمر والنهي عندهم إذا ورد‬
‫كشف عن حسن وقبح سابقني حاصلني للفعل لذاته أو جلهاته‪ ،‬قد يدركهام‬
‫العقل يف الفعل قبل ورود الرشع‪ ،‬فيتعلق الطلب أو احلظر باملدرك بدون‬
‫ورود الرشع هبام‪ ،‬ويرتتب عليه الثواب والعقاب قبل ورود الرشع‪.‬‬
‫وقد جتتمع املعاين الثالثة يف يشء واحد كالعدل‪ ،‬فإنه وصف كامل‪ ،‬وموافق‬
‫للطبع‪ ،‬وحسن عند اهلل يثيب اهلل عليه‪ ،‬وكالظلم‪ ،‬فإنه صفة نقص‪ ،‬ومنافر للطبع‪،‬‬
‫وقبيح عند اهلل يعاقب اهلل تعاىل عليه‪.‬‬
‫متسك أهل السنة بدالئل منها قوله تعاىل‪( :‬وما كنا معذبني حتى نبعث‬
‫رسوال) وقوله تعاىل‪( :‬لئال يكون للناس عىل اهلل حجة بعد الرسل) وذلك أنه لو‬

‫‪232‬‬
‫حسن الفعل أو قبح عقال كام تقول املعتزلة لزم تعذيب تارك الواجب‪ ،‬ومرتكب‬
‫احلرام سواء ورد الرشع أم ال‪ ،‬بناء عىل أصلهم يف وجوب تعذيب من استحق‬
‫العذاب إذا مات غري تائب‪ ،‬والالزم باطل لقوله تعاىل‪( :‬وما كنا معذبني حتى‬
‫نبعث رسوال)‪ ،‬إىل غري ذلك من الدالئل املذكورة يف مطوالت كتب الكالم‪.‬‬
‫فهذا هو مذهب أهل السنة ومنهم األشاعرة يف القضية مفصال‪ .‬وليس‬
‫هو رد فعل لقول أحد‪ ،‬وال مناقضة ألصل أحد كام زعم الدكتور‪ ،‬وليس‬
‫منافيا للنصوص وإنام هو مأخوذ من اآلية الكريمة‪ ،‬وال مكابرا للعقول‪،‬‬
‫وليس فيه إلغاء دور العقل مطلقا‪ ،‬وإنام فيه إلغاء لدوره فيام ال جمال له فيه‪،‬‬
‫وإعامل له يف جماله الذي ينبغي أن يعمل فيه‪ ،‬ويقابله مذهب املعتزلة الذي‬
‫أعطى العقل من الدور زيادة عىل ما يستحقه‪.‬‬
‫ولوال أين أعتقد أن الدكتور كتب ما كتب عن جهل باملسألة وبمذهب‬
‫األشاعرة فيها وعن جهل بمذهب املعتزلة‪ ،‬لوال ذلك لقلت‪ :‬إن الدكتور‬
‫يعتقد مذهب املعتزلة‪.‬‬
‫فإن كنت ال تدري فتلك مصيبة ‪ ::‬وإن كنت تدري فاملصيبة أعظم‬

‫‪ -59‬أخطاء الدكتور يف كالمه هذا‪:‬‬


‫فظهر هبذا البيان أن كالم الدكتور ‪-‬كام هو العادة املطردة يف كالمه‪ -‬قد‬
‫احتوى عىل أخطاء مجة جسيمة‪:‬‬

‫‪233‬‬
‫اخلطأ األول‪ :‬قوله‪( :‬ينكر األشاعرة أن يكون للعقل والفطرة أي دور يف‬
‫احلكم عىل األشياء باحلسن والقبح‪ ،‬ويقولون‪ :‬مرد ذلك إىل الرشع وحده)‬
‫وقد علمت أن األشاعرة يثبتون دور العقل يف احلكم باحلسن والقبح يف‬
‫األفعال بمعنيني للحسن والقبح‪ ،‬األول‪ :‬احلسن والقبح بمعنى صفة الكامل‬
‫وصفة النقص‪ ،‬الثاين‪ :‬احلسن والقبح بمعنى املصلحة واملفسدة‪ ،‬وإنام ينكر‬
‫األشاعرة احلسن والقبح باملعنى الثالث‪ ،‬وهو وجود األحكام الرشعية‬
‫التكليفية قبل ورود الرشع‪ .‬وهذا اخلطأ هو اخلطأ األصل الذي تورط فيه‬
‫الدكتور يف هذا الباب الذي تفرعت عنه األخطاء األخرى‪ .‬ولو كان الدكتور‬
‫تأنى وفهم مذهب األشاعرة عىل وجهه ملا تورط يف هذه األخطاء اجلمة‬
‫اجلسيمة‪.‬‬
‫اخلطأ الثاين‪ :‬قوله‪( :‬وهذا رد فعل مغال لقول الربامهة واملعتزلة‪ :‬إن العقل‬
‫يوجب حسن احلسن وقبح القبيح) وقد علمت أن مذهب األشاعرة يف املسألة‬
‫مأخوذ من قوله تعاىل‪( :‬وما كنا معذبني حتى نبعث رسوال)‪ ،‬وليس برد فعل‬
‫ملذهب أحد‪ ،‬بل هو رد للمذاهب الباطلة يف املسألة‪.‬‬
‫اخلطأ الثالث والرابع‪ :‬قوله‪( :‬وهو مع منافاته للنصوص مكابرة للعقول)‬
‫وقد علمت أنه املوافق للنصوص دون املذاهب األخرى يف املسألة‪ ،‬وهو‬
‫األوفق بالعقول أيضا‪ ،‬وهل من األوفق بالعقول أن يعذب اهلل الناس عىل فعل‬
‫يشء مل يرد الرشع باملنع منه؟!‬

‫‪234‬‬
‫اخلطأ اخلامس‪ :‬قوله‪( :‬ومما يرتتب عليه من األصول الفاسدة قوهلم‪ :‬إن‬
‫الرشع قد يأيت بام هو قبيح يف العقل) هذا ما مل يقله أحدٌ من األشاعرة‪ ،‬وال‬
‫أحدٌ من املسلمني‪ .‬قال القايض عضد الدين اإلجيي يف "املواقف"‪( :‬إعلم أن‬
‫األمة أمجعت عىل أن اهلل ال يفعل القبيح‪ ،‬وال يرتك الواجب‪ .‬فاألشاعرة من‬
‫جهة أنه ال قبيح منه‪ ،‬وال واجب عليه‪ ،‬وأما املعتزلة فمن جهة أن ما هو قبيح‬
‫منه يرتكه‪ ،‬وما جيب عليه يفعله)‪ 181‬وإنزال األحكام فعل من أفعاله تعاىل‪ ،‬فلو‬
‫كان الرشع ورد بام هو قبيح لكان اهلل تعاىل قد فعل ضد احلسن‪.‬‬
‫وينبغي التنبيه عىل أمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن الناس كثريا ما خيتلفون بحسب العادات وبحسب األزمنة‬
‫واألمكنة يف احلكم عىل بعض األشياء باحلسن والقبح كام يف ذبح احليوان فربام‬
‫يستحسنه قوم‪ ،‬وربام يستقبحه قوم‪ ،‬وربام يكون بالنسبة إىل قوم وزمان ومكان‬
‫حسنا‪ ،‬وربام يكون قبيحا‪ .‬فالرشع قد يرد بام هو قبيح عند بعض الناس أو يف‬
‫بعض األزمنة واألمكنة‪ ،‬ألن استقباحهم له خمالف للمصلحة‪ ،‬والرشع ال يرد‬
‫إال باملصلحة‪ .‬وأما ورود الرشع بام هو قبيح يف نظر العقل الصحيح‪ ،‬فلم يقل‬
‫به أحدٌ من املسلمني‪ ،‬ألن معنى قبحه يف نظر العقل الصحيح كونه مفسدة‪،‬‬
‫والرشع ال يرد بام هو مفسدة‪ ،‬ومل يرد إال باملصالح‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫‪328‬‬

‫‪235‬‬
‫الثاين‪ :‬أن كثريا من األفعال تقبح منا‪ ،‬وال تقبح من اهلل تعاىل كإيالم الربئ‪،‬‬
‫وإهالك احلرث والنسل إىل غري ذلك‪ ...‬فإن نفس اإلغراق واإلهالك ُيسن‬
‫منه تعاىل وال يقبح‪ ،‬وذلك منا قبيح‪ 182‬فاهلل تعاىل قد يفعل ما هو قبيح منا‪ ،‬ألن‬
‫اهلل تعاىل ال ُيكمه رشع وال قانون‪ ،‬يفعل ما يشاء وُيكم ما يريد‪ ،‬ال معقب‬
‫حلكمه‪ ،‬ال يسأل عام يفعل وهم يسألون‪ ،‬وكل ما فعله فهو مقتىض حكمته‪،‬‬
‫ولكن اهلل تعاىل ال يرشع ذلك‪ ،‬فورود الرشع بام هو قبيح يف العقل مل يقل به‬
‫أحد من املسلمني‪.‬‬
‫اخلطأ السادس‪ :‬قوله‪( :‬ومثلوا ذلك بذبح احليوان فإنه إيالم له بال ذنب‪،‬‬
‫وهو قبيح يف العقل‪ ،‬ومع ذلك أباحه الرشع) فإنه مل يقل أحد من املسلمني‪ :‬إن‬
‫ذبح احليوان قبيح يف العقل‪.‬‬
‫ُيرمون أكل‬
‫اخلطأ السابع‪:‬قوله‪( :‬وهذا يف احلقيقة هو قول الربامهة الذين ر‬
‫احليوان)‬
‫أقول‪ :‬صحيح أن هذا قول للربامهة‪ ،‬وأما أنه قول لألشاعرة فمعاذ اهلل!!‬
‫اخلطأ الثامن‪ :‬قوله‪( :‬فلام عجز هؤالء عن رد شبهتهم ووافقوهم عليها‬
‫أنكروا حكم العقل من أصله‪ ،‬وتومهوا أهنم هبذا يدافعون عن اإلسالم) وقد‬
‫اشتملت هذه اجلملة من كالم الدكتور عىل أربعة أخطاء‪:‬‬

‫‪182‬‬
‫‪279 273‬‬

‫‪236‬‬
‫األول‪ :‬قوله‪( :‬فلام عجزوا عن رد شبهتهم) فام قيمة شبهتهم حتى يعجز‬
‫األشاعرة الذين هم فحول األمة عن ردها‪ ،‬وهي شبهة أوهى من نسج‬
‫العنكبوت‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬قوله‪( :‬وافقوهم عليها) هل وافق األشاعرة الربامهة عىل أن ذبح‬
‫احليوان قبيح مطلقا‪ ،‬أم أهنم قالوا‪ :‬إنه قبيح عندهم‪ ،‬وليس بقبيح يف الواقع‪،‬‬
‫بل هو أمر حسن؟؟!!‬
‫الثالث‪ :‬قوله‪( :‬أنكروا حكم العقل من أصله) قد علمت أهنم مل ينكروا‬
‫حكم العقل من أصله‪ ،‬بل ينكرون حكم العقل باحلسن والقبح باملعنى‬
‫الثالث؟‬
‫الرابع‪ :‬قوله‪( :‬وتومهوا أهنم بذلك يدافعون عن اإلسالم) الناس كلهم‬
‫يعلمون أن األشاعرة أقوى فرقة دافعت عن اإلسالم‪ ،‬لكنهم مل يدافعوا عن‬
‫اإلسالم بإنكار حكم العقل من أصله‪ .‬وأنت أهيا الدكتور تتهم األشاعرة دائام‬
‫بأهنم يقدمون العقل عىل النقل‪ ،‬فكيف تسوغ لنفسك أن تقول بعد ذلك‪ :‬إن‬
‫األشاعرة ألغوا دور العقل‪ ،‬وأنكروا حكمه من أصله؟؟!!‬
‫التاسع‪ :‬قوله‪( :‬كام أن من أسباب ذلك مناقضة أصل من قال بوجوب‬
‫الثواب والعقاب عىل اهلل بحكم العقل ومقتضاه)‬

‫‪237‬‬
‫أقول‪ :‬األشاعرة قد ناقضوا هذا األصل ونقضوه‪ ،‬لكن ليس الباعث هلم‬
‫عىل نفي احلسن والقبح باملعنى الثالث مناقضة هذا األصل الفاسد‪ ،‬بل‬
‫الباعث هلم عىل ذلك قوله تعاىل‪( :‬وما كنا معذبني حتى نبعث رسوال)‬
‫ثم إن قول املعتزلة بوجوب الثواب والعقاب عىل اهلل بحكم العقل‪،‬‬
‫مفروض يف أفعال اهلل تعاىل‪ ،‬وذلك أن املعتزلة أوجبوا عىل اهلل تعاىل أربعة‬
‫أمور‪ :‬األول‪ :‬اللطف‪ :‬وفرسوه بأنه الذي يقرب العبد إىل الطاعة‪ ،‬ويبعده عن‬
‫املعصية‪ ،‬كبعثة األنبياء‪ .‬الثاين‪ :‬الثواب عىل الطاعة‪ .‬الثالث‪ :‬العقاب عىل‬
‫املعصية‪ .‬الرابع‪ :‬األصلح للعبد‪.‬‬
‫وأما قول األشاعرة بنفي احلسن والقبح باملعنى الثالث‪ ،‬فمفروض يف‬
‫أفعال املكلفني‪ ،‬فأين أحدمها من اآلخر فلو فرض أن األشاعرة وافقوا املعتزلة‬
‫يف قوهلم بوجوب الثواب والعقاب عىل اهلل بحكم العقل‪ ،‬لساغ هلم أن يقولوا‬
‫بنفي احلسن والقبح باملعنى الثالث عن أفعال املكلفني‪ ،‬ألنه ليس بني القول‬
‫بوجوب الثواب والعقاب وبني القول باحلسن والقبح أي مالزمة‪.‬‬
‫املتسور عىل العلوم املتدخل فيام ال يعلم‪ .‬كلام خيطو‬
‫ر‬ ‫وهكذا يكون حال‬
‫خطوة خيطئ خطأ!‬
‫عصمنا اهلل تعاىل عن كثرة اخلطأ والزلل‪.‬‬

‫‪-71‬التأويل وبيان معناه اإلصطالحي‪:‬‬

‫‪238‬‬
‫ف اللفظ عن‬
‫رص ُ‬
‫قال الدكتور‪{ :‬احلادي عرش‪ :‬التأويل‪ :‬ومعنا ُه املبتَدَ ُع َ ْ‬
‫ٍ‬
‫احتامل مرجوحٍ لقرينة‪.‬‬ ‫ظاهرهِ الراجحِ إىل‬
‫مواضع ِه كام َّقر َر ذلك ُ‬
‫شيخ اإلسالم}‬ ‫ِ‬ ‫فهو هبذا املعنى حتريفٌ للكال ِم عن‬
‫وليس االصطالح م َن االبتدا ِع يف‬
‫َ‬ ‫أقول‪ :‬هذا هو اصطالح األصوليني‬
‫يشء‪ .‬ثم إذا كان الَصف لقرينة فلامذا يكون حتريفا للكلم عن مواضعه؟ وما‬
‫معنى القرينة؟ بل عدم الَصف حينئذ يكون حتريفا للكلم عن مواضعه‪،‬‬
‫وتقرير ابن تيمية ليس من الوحي! بل قد رصح هو بخالف ما نقله الدكتور‬
‫ٌ‬
‫تأويل فاسد‪،‬‬ ‫عنه كام سيأيت قريبا‪ .‬نعم رصف اللفظ عن ظاهره ال لقرينة‬
‫وحتريف للكلم عن مواضعه‪ .‬قال اإلمام فخر الدين الرازي‪( :‬إذا كان لفظ‬
‫ٌ‬
‫اآلية واخلرب ظاهرا يف معنى فإنام جيوز لنا ترك ذلك الظاهر بدليل منفصل‪،‬‬
‫وإال خلرج الكالم عن أن يكون مفيدا‪ ،‬وخلرج القرآن عن أن يكون حجة) ثم‬
‫قال‪( :‬رصف اللفظ عن ظاهره إىل معناه املرجوح ال جيوز إال عند قيام الدليل‬
‫القاطع عىل أن ظاهره حمال ممتنع)‪ 183‬وقال تاج الدين السبكي يف أول مباحث‬
‫الكتاب من "مجع اجلوامع"‪( :‬وال جيوز ورود ما يعنى به غري ظاهره إال‬
‫بدليل) ثم قال يف مبحث الظاهر واملؤول من مباحث الكتاب‪( :‬الظاهر ما دل‬
‫داللة ظنية‪ ،‬والتأويل محل الظاهر عىل املحتمل املرجوح‪ ،‬فإن محل لدليل‬

‫‪183‬‬
‫‪182 181‬‬

‫‪239‬‬
‫فصحيح‪ ،‬أو ملا يظن دليال ففاسد‪ ،‬أو ال ليشء فلعب‪ ،‬ال تأويل) وقال ابن‬
‫تيمية‪( :‬وأما التأويل املذموم والباطل فهو تأويل أهل التحريف والبدع الذين‬
‫يتأولونه عىل غري تأويله ويدعون رصف اللفظ عن مدلوله إىل غري مدلوله بغري‬
‫دليل يوجب ذلك)‪ 184‬فانظر إىل قوله‪( :‬بغري دليل يوجب ذلك)‬
‫منهجي من أصول‬ ‫ٌّ‬ ‫قال الدكتور مكمال كالمه عن التأويل‪{ :‬وهو ٌ‬
‫أصل‬
‫أكثر نصو ِ‬
‫ص اإليامن‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وليس هو خاص ًا‬ ‫ِ‬
‫يشمل َ‬ ‫الصفات‪ ،‬بل‬ ‫بمبحث‬ ‫األشاعرة َ‬
‫ِ‬
‫ونحوها‪،‬‬ ‫بعض ُشعبِ ِه إيامن ًا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وتسمية‬ ‫خاص ًة ما يتع َّل ُق بإثبات زيادتِ ِه ونقصانِ ِه‬
‫ِ‬
‫األنبياء خصوصاً موضو َع‬ ‫ِ‬
‫وقصص‬ ‫ِ‬
‫والوعيد‬ ‫الو ْع ِد‬ ‫عض نصو ِ‬
‫وكذا ب َ‬
‫ص َ‬
‫األوامر التكليفيَّ ِة أيضاً‪.‬‬
‫ِ‬ ‫العصمة‪ ،‬وبعض‬
‫ُ‬
‫األصول العقلي ُة‬ ‫ورضورته ملنهج عقيدهتم أصلها أنَّه ملا تعارضت عندَ هم‬
‫مأزق رد الكل‬ ‫ِ‬
‫الرشعية‪ ،‬وقعوا يف ِ‬ ‫التي قرروها بعيد ًا عن الرشع مع النصوص‬
‫أو ِ‬
‫أخذ الكل‪ ،‬فوجدوا يف التأويل مهرب ًا عقلي ًا وخمرج ًا من التعارض الذي‬
‫أوهامهم‪ ،‬وهلذا قالوا أنَّنا مضطرون للتأويل‪ ،‬وإالّ أوقعنا القرآن يف‬
‫ُ‬ ‫اختلق ْت ُه‬
‫ٍ‬
‫حاجة واضطرار‬ ‫هوى ومكابرةٍ وإنام عن‬ ‫وإن اخللفَ مل يؤولوا عن‬
‫التناقض‪َّ ،‬‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫االعرتاف‬ ‫بعض ِه أو‬
‫ض يف كتاب اهللِ يا مسلمون نضطر معه إىل رد ِ‬ ‫فأي تناق ٍ‬
‫ُّ‬
‫ِ‬
‫لألعداء بتناقضه‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫‪71‬‬

‫‪241‬‬
‫ٍ‬
‫تأويالت غريب ًة"‪ ،‬فام‬‫مذهب األشاعرةِ "‬
‫ِ‬ ‫بأن يف‬
‫الصابوين َّ‬ ‫وقد اعرتف‬
‫ُّ‬
‫الغريب من ِ‬
‫غري الغريب؟‬ ‫َ‬ ‫ف به‬
‫املعيار الذي َع َر َ‬
‫ُ‬
‫لنص من‬ ‫مذهب السلف ال َ‬
‫تأويل فيه ٍّ‬ ‫َ‬ ‫وهنا ال ُبدَّ من زيادة التأكيد عىل أ َّن‬
‫ِ‬
‫نص واحدٌ ال يف الصفات وال غريها‬ ‫النصوص الرشعية إطالقاً‪ ،‬وال يوجدُ ٌّ‬
‫ِ‬
‫واألحاديث التي ذكرها‬ ‫السلف إىل تأويلِ ِه وهللِ احلمدُ ‪ُّ .‬‬
‫وكل اآليات‬ ‫ُ‬ ‫اضطُ َّر‬
‫يدل عىل املعنى الصحيحِ الذي فهمه‬ ‫نفسها ما ُّ‬ ‫حتمل يف ِ‬ ‫ُ‬ ‫وغريه‬ ‫الصابوين‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫حاجة إىل التأويل‪.‬‬ ‫دون أدنى‬
‫يدل عىل تنـزيه اهللِ تعاىل َ‬ ‫السلفُ منها والذي ُّ‬
‫ثم قال الدكتور‪:30-22‬‬
‫ِ‬
‫السلف فله معنيان‪:‬‬ ‫ُ‬
‫التأويل يف كال ِم‬ ‫أما‬
‫القول يف تأويل هذه اآلية"‬ ‫ِ‬
‫تفسري الطربي ونحوه‪ُ " :‬‬ ‫التفسري كام جتدُ يف‬‫‪-1‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫تفسريها‪.‬‬ ‫أي‪:‬‬
‫يصري إليها اليشء‪ ،‬كام يف قوله تعاىل‪" :‬هذا ُ‬
‫تأويل رؤياي‬ ‫ُ‬ ‫‪ -2‬احلقيق ُة التي‬
‫من َق ْبل" أي‪ :‬حتقيقها‪ .‬وقوله‪" :‬يوم يأيت تأويله" أي‪ :‬حتقيقه ووقو ُعه‪ .‬أما‬
‫الت َُّّأو ُل فله مفهو ٌم آخر‪ :‬راجع احلاشية‪.‬‬
‫فأعجب هلذه اللفظة النابية التي يستعملها األشاعرة مع‬
‫ُ‬ ‫وإن تعجب‬
‫توهم" التشبيه‪ :‬وهلذا وجب تأوي ُلها‪ .‬فهل يف كتاب اهلل‬
‫النصوص‪ ،‬وهي أهنا " ُ‬
‫توهم‪.‬‬ ‫ليست َ‬
‫جمال ُّ‬ ‫ْ‬ ‫أن ال َ‬
‫عقول الكاسد َة تتوهم‪ ،‬والعقيد ُة‬ ‫إهيا ٌم أم َّ‬

‫‪241‬‬
‫ليس يف ظواهر النصوص عياذ ًا باهلل ولكنه يف األفهامِ‪ ،‬بل‬
‫فالعيب َ‬
‫ُ‬
‫األوها ِم السقيمة‪ .‬أما دعوى أ َّن اإلما َم أمحدَ استثنى ثالث َة أحاديث وقال‪ :‬ال ُبدَّ‬
‫صل التفرقة" ونفاها‬ ‫ِمن تأويلها فهي فِري ٌة عليه افرتاها الغزايل يف "اإل ِ‬
‫حياء و َف ْي ِ‬ ‫ُّ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫شيخ اإلسالم سند ًا ومتناً‪.‬‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫رشور بسببه‪،‬‬ ‫وحسب األشاعرة يف ِ‬
‫باب التأويل ما فتحوه عىل اإلسالم من‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫احلالل‬ ‫واحتجت عليهم يف تأويل‬
‫ّ‬ ‫تبعته ُم الباطني ُة‬
‫ُ‬ ‫فإهنم ملا َّأولوا ما َّأولوا‬
‫حيتج هبا‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫واحلرا ِم والصالةِ والصو ِم واحلج‬
‫واحلساب‪ ،‬وما من ُحجة ُّ‬ ‫واحلرش‬
‫احتج الباطني ُة عليهم بمثلها أو أقوى‬
‫األشاعر ُة عليهم يف األحكا ِم واآلخرة إال َّ‬
‫منها ِم ْن واق ِع تأويلهم للصفات‪ .‬وإال فلامذا يكو ُن ُ‬
‫تأويل األشاعرة لعلو اهلل‬
‫ُ‬
‫وتأويل الباطنية‬ ‫والرشائع تنـزهي ًا وتوحيد ًا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫والفطر‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫العقول‬ ‫تقطع به‬
‫ُ‬ ‫الذي‬
‫ِ‬
‫واحلرش كفر ًا ور َّدةً؟‬ ‫ِ‬
‫للبعث‬
‫وأشهر‬
‫ُ‬ ‫أكثر‬
‫نصوص العلو ُ‬
‫َ‬ ‫كل منهام ر ّد ًا لظواهر النصو ِ‬
‫ص مع أ َّن‬ ‫أليس ٌّ‬
‫َ‬
‫ثم يشاركوهنم يف‬ ‫ِ‬
‫احلرش اجلسامين؟ وملاذا يكف ُر األشاعر ُة الباطني َة َّ‬ ‫من نصوص‬
‫ٍ‬
‫أصل من أعظم أصوهلم؟}‬

‫‪-71‬أقول‪ :‬قد كتبنا رسالة متعلقة بالصفات سميناها "متشابه الصفات بني‬
‫التأويل واإلثبات" فنوردها هنا أوالً‪ ،‬ثم نعود إىل كالم الدكتور‪ ،‬ونبني ما‬
‫حواه من أخطاء‪ .‬وهذا نص الرسالة‪:‬‬

‫‪242‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬
‫احلمد هلل والصالة والسالم عىل رسول اهلل‪ ،‬وعىل آله وصحبه ومن‬
‫اهتدى هبداه‪.‬‬
‫أما بعد‪ :‬فنريد أن نحقق يف هذا البحث مسألة صفات اهلل املتشاهبة الواردة‬
‫يف الكتاب والسنة‪ ،‬وقبل الدخول يف املسألة البد أن نقرر أمورا‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن النصوص الرشعية إذا كان ظاهرها خمالفا لَصائح العقول‬
‫ومقرراهتا وجب أن ُيكم أن ظاهرها غري مراد‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أن النصوص الرشعية منها ما هو حمكم ومنها ما هو متشابه كام قال‬
‫اهلل تعاىل‪( :‬هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات حمكامت هن أم الكتاب‬
‫وأخر متشاهبات ) والنصوص املحكامت هي األصول الثوابت لإلسالم‪ ،‬وأما‬
‫املتشاهبات فرتد إىل املحكامت وُيكم بأن ظاهرها غري مراد‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن الكتاب والسنة قد وردا عىل أساليب اللغة العربية‪ ،‬واللغة‬
‫العربية كسائر اللغات قد وردت عىل ثالثة أنواع من األساليب‪ :‬أسلوب‬
‫احلقيقة‪ ،‬وأسلوب املجاز‪ ،‬وأسلوب الكناية‪ ،‬وذلك ألن كل كلمة من كلامت‬
‫اللغة العربية قد وضعت ملعنى معني‪ ،‬وكذلك كل مركب منها‪ ،‬وهذه الكلامت‬
‫واملركبات قد تستعمل يف املعنى الذي وضعت له‪ ،‬وقد ال تستعمل فيه‪ ،‬بل‬
‫تستعمل يف معنى يناسب املعنى الذي وضعت له بإحدى املناسبات‪ ،‬وذلك‬
‫كاألسد قد يستعمل يف املعني الذي وضع له وهو احليوان املفرتس املعروف‪،‬‬

‫‪243‬‬
‫وقد يستعمل يف الرجل الشجاع ملناسبته للحيوان املفرتس يف الشجاعة‪،‬‬
‫وملشاهبته له فيها‪ .‬وهذا ما ال ينبغي أن خيتلف فيه أحد من العقالء‪ .‬فإذا‬
‫استعمل اللفظ يف املعني الذي وضع له سمى يف اصطالح علامء البالغة‬
‫باحلقيقة‪ ،‬وإذا استعمل يف غري ما وضع له إلحدى املناسبات مع قرينة تدل‬
‫عيل هذا االستعامل سمي جمازا أو كناية‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬الكالم عىل التأويل وبيان معناه‪ ،‬وننقل هنا كالما البن القيم‬
‫وتعليق تقي الدين السبكي عليه‪ .‬قال ابن القيم يف النونية‪ :‬التأويل الصحيح‬
‫هو تفسريه وظهور معناه كقول عائشة‪ :‬يتأول القران‪ .‬وحقيقة التأويل معناه‬
‫الرجوع إيل احلقيقة‪ .‬ال خلف بني أئمة التفسري يف هذا‪ .‬تأويله عندهم تأويله‬
‫بالظاهر‪ .‬ما قال منهم شخص واحد‪ :‬تأويله رصفه عن الرجحان‪.‬‬
‫قال تقي الدين السبكي تعليقا عيل هذا الكالم‪ :‬قال اهلل تعايل يف املتشابه‪:‬‬
‫(وما يعلم تأويله اال اهلل) فكيف يكون تأويله بالظاهر‪ ،‬واملتشابه ال ظاهر له‪.‬‬
‫وقوله‪( :‬ما قال منهم أحد إن التأويل رصف عن الرجحان) كذب‪ ،‬بل َخل ٌق‬
‫‪185‬‬
‫قالوا به‪ .‬ويطلق التأويل أيضا عيل تدبر القرآن وتفهم معناه‪.‬‬
‫يقصد اإلمام تقي الدين السبكي أن محل التأويل عىل معنى التفسري‬
‫بالظاهر يف باب املتشاهبات غري صحيح‪ ،‬وذلك ألن املتشابه مدلوله خفي غري‬

‫‪185‬‬
‫‪158‬‬

‫‪244‬‬
‫واضح‪ ،‬وإال ملا كان متشاهبا‪ ،‬والظاهر يف اللغة يقابل اخلفي‪ ،‬فال جيوز أن يقال‬
‫يف املتشابه الذي هو غاية يف اخلفاء‪ :‬إن تأويله تفسريه بالظاهر‪ ،‬فإنه كالم‬
‫متناقض ينقض نفسه‪ .‬وأما الظاهر يف أصول الفقه فبمعني الراجح من‬
‫االحتاملني بالوضع أو بالدليل‪ ،‬وهو من أقسام الواضح املقابل للخفي الذي‬
‫من أقسامه املتشابه‪ .‬ويقابل الظاهر املؤول‪ ،‬فال يتصور اجتامعهام يف لفظ أيضا‪.‬‬
‫وإذا تقرر هذا فنقول‪ :‬إنه من األمور املجمع عليها بني علامء املسلمني أن‬
‫من نصوص الكتاب والسنة ما إذا قطع عن سياقه وسباقه‪ ،‬ولوحظ باملعنى‬
‫الذي وضع له يف اللغة وهو املعنى احلقيقي كان إما خمالفا لَصائح العقول‪ ،‬أو‬
‫خمالفا للمحكامت من نصوص الكتاب والسنة‪ ،‬أو خمالفا للقواعد اإلسالمية‬
‫املقررة املأخوذة من الكتاب والسنة‪ .‬وهذه النصوص هي النصوص‬
‫املتشاهبات املذكورة يف اآلية الكريمة‪.‬‬
‫وهذه النصوص املتشاهبات قد أمجعت األمة عىل سبيل اإلمجال عىل أن‬
‫معناها املوضوع له ليس بمراد منها‪ .‬هذا إمجاع عىل سبيل اإلمجال‪ ،‬وأما إذا أتينا‬
‫إىل التفاصيل وإىل جزئيات هذه النصوص فقد جيري فيها اخلالف‪.‬‬
‫ثم اختلفت األمة فذهب معظم السلف يف معظم هذه النصوص إىل‬
‫التوقف عند هذا احلد‪ ،‬وهو أن املعنى املوضوع له هلذه النصوص غري مراد‪،‬‬
‫بدون أن يتجاوزوا هذا احلد إىل تعيني املعنى املجازي‪ ،‬أو الكنائي هلا‪ ،‬وذلك‬

‫‪245‬‬
‫تورعا منهم‪ ،‬وخمافة أن يفرسوا كالم اهلل تعاىل وكالم رسوله عىل خالف‬
‫مرادمها‪ .‬وهذا يسمى بالتأويل اإلمجايل‪.‬‬
‫وذهب معظم اخللف إىل جواز تأويلها ورصفها إىل معان تناسب املعني‬
‫احلقيقي هلذه النصوص‪ ،‬وذلك بمعونة القرائن والسياق والسباق واأللفاظ‬
‫املقرونة هبا‪ ،‬لكن بدون قطع باملعنى املؤول به‪ ،‬بل يكون الَصف عىل سبيل‬
‫االحتامل والرجحان‪ .‬وذلك برشوط‪.‬‬
‫األول‪ :‬أن يكون املعنى الذي محل عليه النص ثابتا هلل تعاىل‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أن ال يكون محل النص عىل املعنى الذي رصف إليه خمالفا ألساليب‬
‫اللغة العربية‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أن ال يكون خمالفا لسياق النص بل يكون مناسبا له‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬أن ال يكون املعنى الذي رصف إليه النص مشعرا بالنقص بالنسبة‬
‫إىل اهلل تعاىل‪.‬‬
‫اخلامس‪ :‬أن يكون مشعرا بالعظمة‪.‬‬
‫وههنا نكتة نبه عليها اإلمام الغزايل يف كتاب (قانون التأويل)‪-‬وهو كتاب‬
‫جدير بالعناية بقراءته‪ -‬وهي أنه ال جيوز بالنسبة إىل هذه النصوص تفريق‬
‫جمتمع وال مجع متفرق‪ ،‬وذلك ألن كل واحد من هذه النصوص يف سياقه‬
‫وسباقه ما يدل عيل املعنى املجازي أو الكنائي الذي استعمل فيه‪ ،‬فإذا قطع من‬
‫سياقه وأفرد عن سابقه والحقه فاتت هذه الداللة‪ ،‬وكذالك إذا مجعت هذه‬

‫‪246‬‬
‫النصوص عىل صعيد واحد عضدت الظواهر بعضها البعض‪ ،‬فيرتجح بقاؤها‬
‫عىل ظواهرها املفيد للتشبيه‪ .‬وذلك كام ألف بعضهم مؤلفات فذكر فيها باب‬
‫ما ورد يف العني‪ ،‬وباب ما ورد يف اليد‪ ،‬وباب ما ورد يف الوجه إيل غري ذلك‬
‫وقد قرر قريبا من هذا الكالم اإلمام تقي السبكي‪ :‬حيث قال‪:‬‬
‫وانظر إىل هذه الصفات التي يثبتها هذا املبتدع مل جتيء قط يف الغالب‬
‫مقصودة‪ ،‬وإنام يف ضمن كالم يقصد منه أمر آخر‪ ،‬وجاءت لتقرير ذلك األمر‪،‬‬
‫وقد فهمها الصحابة‪ ،‬ولذلك مل يسألوا عنها النبي صيل اهلل تعايل عليه وآله‬
‫وسلم ألهنا كانت معقولة عندهم بوضع اللسان وقرائن األحوال‪ ،‬وسياق‬
‫الكالم‪ ،‬وسبب النزول‪.‬‬
‫ومضت األعصار الثالثة التي هي خيار القرون عىل ذلك‪ ،‬حتى حدثت‬
‫البدع واألهواء‪ ،‬فيجيء مثل هذا املتخلف بجمع كلامت وقعت يف أثناء آيات‬
‫أو أخبار فهم املوفقون معناها بانضاممها مع الكالم املقصود‪ ،‬فجعلها هذا‬
‫املتخلف يف أمثاله مقصودة‪ ،‬وبالغ فيها‪ ،‬فأورث الريب يف قلوب املهتدين‪.‬‬
‫وانظر إىل أكثرها ال جتده مقصودا بالكالم‪ ،‬بل املقصود غريه إما بسياق‬
‫قبله‪ ،‬أو بسباق بعده‪ ،‬أو يكون املحدث عنه معنى آخر‪ ...‬ويكون ذلك‬

‫‪247‬‬
‫املقوي ملعنى ما سيق الكالم ألجله‪ .‬انتهى كالم‬
‫مذكورا عىل جهة الوصف ر‬
‫‪186‬‬
‫السبكي‪.‬‬
‫وتوسط اإلمام تقي الدين ابن دقيق العيد بني مذهب السلف واخللف‪،‬‬
‫فقال‪ :‬نقول يف الصفات املشكلة‪ :‬إهنا حق وصدق عىل املعنى الذي أراده اهلل‬
‫تعاىل‪ .‬ومن تأوهلا نظرنا فإن كان تأويله قريبا عىل مقتىض لسان العرب مل ننكر‬
‫عليه‪ ،‬وإن كان بعيدا توقفنا عنه‪ ،‬ورجعنا إىل التصديق مع التنزيه‪.‬‬
‫وما كان منها معناه ظاهرا مفهوما من ختاطب العرب محلناه عليه كقوله‬
‫تعاىل‪( :‬يا حرستا عىل ما فرطت يف جنب اهلل) فإن املراد به يف استعامهلم الشائع‬
‫حق اهلل‪ ،‬فال يتوقف يف محله عليه‪ ،‬وكذلك قوله صيل اهلل عليه وآله وسلم‪( :‬إن‬
‫قلب ابن آدم بني إصبعني من أصابع الرمحن) فإن املراد به إرادة قلب ابن آدم‬
‫مَصفة بقدرة اهلل وما يوقعه فيه‪ ،‬وكذلك قوله تعاىل‪( :‬فأتى اهلل بنياهنم من‬
‫القواعد) معناه خرب اهلل بنيانه‪ ،‬وقوله‪( :‬إنام نطعمكم لوجه اهلل) معناه ألجل‬
‫اهلل‪ ،‬وقس عىل ذلك‪ .‬وهو تفصيل بالغ قل من تيقظ له‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وهلل در ابن دقيق العيد ما أدق نظره وأسده‪ ،‬فإنه إذا كان املعنى املجازي للنص‬
‫مفهوما من ختاطب العرب بحيث ال يفهم العريب من ذلك النص إال املعنى‬
‫املجازي‪ ،‬كان ذلك النص من قبيل املجاز املشهور واحلقيقة املهجورة‪ ،‬فيكون‬

‫‪186‬‬
‫‪169‬‬

‫‪248‬‬
‫رصفه عن ذلك املعنى املجازي إحلادا يف آيات اهلل وحتريفا للكلم عن مواضعه‪.‬‬
‫كيف وكثري من تلك النصوص لو ترمجت ترمجة حرفية إىل لغة أخري ملا فهم منها‬
‫أهل تلك اللغة إال املعني املجازي‪ ،‬فكيف جيوز إذا رصفها عن تلك املعاين‪ ،‬وهل‬
‫نزل القرآن إال عىل أساليب اللغة العربية‪ .‬وذلك كقوله تعاىل (تبارك الذي بيده‬
‫امللك) فإنه ال أحد يفهم منه إال إثبات امللك هلل تعاىل‪ ،‬ال إثبات اليد هلل‪ ،‬كيف‬
‫وامللك بالضم هو السلطنة‪ ،‬وهو أمر معنوي ال يكون يف اليد وال ملتصقا هبا‪،‬‬
‫وكقوله صىل اهلل تعىل عليه وآله وسلم‪ ( :‬إن قلب ابن آدم بني إصبعني من أصابع‬
‫الرمحن) ال يفهم منه أحد إال أن قلوب بني آدم طوع إرادته وقدرته تعاىل ال إثبات‬
‫اإلصبعني هلل تعاىل‪ ،‬كيف وال يوجد يف داخل أحد إصبعان مكتنفان بقلبه وهذا‬
‫أمر معلوم لكل عاقل‪.‬‬
‫ومن ذلك قوله تعاىل‪( :‬نسوا اهلل فنسيهم)‪ 187‬والنسيان باملعنى احلقيقي‬
‫حمال عىل اهلل تعاىل قال اهلل تعاىل‪( :‬وما كان ربك نسيا)‪ 188‬وقال‪( :‬قل علمها‬
‫عند ريب يف كتاب ال يضل ريب وال ينسى)‪ 189‬فتعني محل النسيان يف اآلية األوىل‬
‫عىل املعنى املجازي‪ ،‬وهو الرتك وعدم املباالة هبم‪ ،‬وإيكاهلم إىل أنفسهم‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫‪67‬‬
‫‪188‬‬
‫‪64‬‬
‫‪189‬‬
‫‪52‬‬

‫‪249‬‬
‫ومنه قوله تعاىل‪( :‬يا أهيا النبي قل ملن يف أيديكم من األسى)‪ 190‬واألسى‬
‫ليست يف أيدهيم حقيقة‪ ،‬وإنام هم حتت سيطرهتم‪ ،‬وهو املعنى املجازي‪.‬‬
‫ومنه قول اهلل تعاىل فيام رواه عنه النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪:‬‬
‫(عبدي مرضت فلم تعدين) واملرض عىل اهلل تعاىل حمال‪ ،‬وإنام املراد مرض‬
‫عبدي كام جاء تفسريه يف آخر احلديث وهو املعنى املجازي‪.‬‬
‫ومنه قول صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪( :‬اللهم‪ ...‬واغسلني باملاء‬
‫والثلج والربد) رواه مسلم‪ ،‬وليس املراد حقيقية الغسل‪ ،‬بل املراد تنقيته من‬
‫ذنوبه كام ينقى من الدنس الثوب الذي يغسل باملاء والثلج والربد‪.‬‬
‫ومنه قوله صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪( :‬فعليكم بسنتي وسنة خلفاء‬
‫الراشدين املهديني‪ ،‬وعضوا عليها بالنواجذ) رواه أمحد يف املسند‪ ،‬واملراد‬
‫بالعض عىل السنة بالنواجذ التزامها وشدة التمسك هبا‪ .‬وال يتصور املعنى‬
‫احلقيقي للعض بالنسبة إىل السنة‪.‬‬
‫إىل غري ذلك مما ال يعد وال ُيىص من نصوص الكتاب والسنة وكالم‬
‫العرب‪ .‬فحمل الكالم عىل املعنى املجازي لقرينة تدل عىل ذلك هو الذي‬
‫يسميه األشاعرة تأويال‪ ،‬وهو أمر ال مناص منه ال يف الكتاب وال يف السنة وال‬
‫يف كالم العرب‪ ،‬وال يف لغة من لغات العامل‪.‬‬

‫‪190‬‬
‫‪71‬‬

‫‪251‬‬
‫وقد نقل بعضهم كالم ابن دقيق بوجه وجيز حمرر‪ ،‬فقال‪ :‬قال اإلمام‬
‫املجتهد ابن دقيق العيد‪ :‬إن كان التأويل من املجاز البني الشائع فاحلق سلوكه‬
‫من غري توقف‪ ،‬أو من املجاز البعيد الشاذ فاحلق تركه‪ ،‬وإن استوى األمران‬
‫فاالختالف يف جوازه وعدم جوازه مسألة فقهية اجتهادية‪ ،‬واألمر فيها ليس‬
‫باخلطر بالنسبة إىل الفريقني‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وهو كالم نفيس ينبئ عن علم جم‪ ،‬ورصاحة يف بيان احلق‪ ،‬وتوسط‬
‫حكيم‪.‬‬
‫وههنا نريد أن نركز عىل حتقيق أمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬حتقيق أن السلف قد توقفوا عند حد أن املعنى املوضوع له هلذه‬
‫النصوص غري مراد بدون أن يتجاوزوا هذا احلد إىل تعيني املعنى املجازي أو‬
‫الكنائي هلا‪ .‬وهذا ما سامه العلامء بالتفويض‪ ،‬وحتقيق هذا إنام يكون بنقل كالم‬
‫السلف املتعلق بذلك‪.‬‬
‫فنقول‪ :‬قال اإلمام احلافظ البيهقي‪ :‬أخربنا عبد اهلل بن حممد احلافظ‪ ،‬ثنا‬
‫أبو بكر حممد بن امحد بن بالويه‪ ،‬ثنا حممد بن بشري بن مطر‪ ،‬ثنا اهليثم بن‬
‫خارجه‪،‬ثنا الوليد بن مسلم‪ ،‬قال‪ :‬سئل األوزاعي ومالك وسفيان الثوري‬
‫والليث بن سعد عن هذه األحاديث التي جاءت يف التشبيه‪ ،‬فقالوا‪ :‬أمروها‬
‫كام جاءت بال كيفية‪.‬‬

‫‪251‬‬
‫أخربنا أبو بكر أمحد بن حممد بن احلارث الفقيه أنبأ أبو حممد بن حيان‬
‫اإلصبهاين ثنا إسحق بن أمحد الفاريس ثنا حفص بن عمر املهرقاين ثنا أبو داود‬
‫وهو الطياليس قال‪ :‬كان سفيان الثوري وشعبة ومحاد بن زيد ومحاد بن سلمة‬
‫ورشيك وأبو عوانة ال ُيدون وال يشبهون وال يمثلون‪ ،‬يروون احلديث‪ ،‬وال‬
‫‪191‬‬
‫يقولون كيف‪ ،‬وإذا سئلوا أجابوا باألثر‪».‬‬
‫وقال احلافظ‪ :‬وأخرج أبو القاسم الاللكائي يف كتاب السنة من طريق‬
‫احلسن البَصي عن أمه عن أم سلمة أهنا قالت‪ :‬االستواء غري جمهول‪،‬‬
‫‪192‬‬
‫والكيف غري معقول‪ ،‬واإلقرار به إيامن‪ ،‬واجلحود به كفر‪.‬‬
‫وقال اإلمام الرتمذي يف سننه‪ :‬وقد قال غري واحد من أهل العلم يف هذا‬
‫احلديث ‪ -‬حديث الصدقة وما يشبه هذا من الروايات يف الصفات‪ ،‬ونزول‬
‫الرب تبارك وتعاىل كل ليلة إىل السامء الدنيا‪ ،‬قالوا‪ :‬قد ثبتت الروايات يف هذا‪،‬‬
‫ويؤمن هبا‪ ،‬وال يتوهم‪ ،‬وال يقال‪ :‬كيف؟ هكذا روي عن مالك وسفيان بن‬
‫عيينة وعبد اهلل بن املبارك أهنم قالوا يف هذه األحاديث‪ :‬أمروها بال كيف‪،‬‬
‫‪193‬‬
‫وهكذا قول أهل العلم من أهل السنة واجلامعة‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫‪23‬‬
‫‪192‬‬
‫‪342 13‬‬
‫‪598 193‬‬

‫‪252‬‬
‫وقال الذهبي‪ :‬واملحفوظ عن مالك رمحه اهلل رواية الوليد بن مسلم أنه‬
‫‪194‬‬
‫سأله عن أحاديث الصفات فقال‪ :‬أمروها كام جاءت بال تفسري‪.‬‬
‫وقال احلافظ‪ :‬وأسند البيهقي بسند صحيح عن أمحد بن احلواري عن‬
‫سفيان بن عيينة قال‪ :‬كل ما وصف اهلل به نفسه يف كتابه فتفسريه تالوته‬
‫‪195‬‬
‫والسكوت عنه‪.‬‬
‫وقال الرتمذي عند الكالم عىل حديث (يمني الرمحن مألى سخاء)‪:‬‬
‫وهذا حديث قد روته األئمة‪ ،‬نؤمن به كام جاء من غري أن يفرس أو يتوهم‪،‬‬
‫هكذا قال غري واحد من األئمة‪ .‬منهم الثوري‪ ،‬ومالك بن أنس‪ ،‬وابن عيينة‪،‬‬
‫وابن املبارك أنه تروى هذه األشياء ويؤمن هبا فال يقال‪ :‬كيف‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫ونقل ابن أيب يعىل يف "طبقات احلنابلة" عن أيب حممد الربهباري شيخ‬
‫احلنابلة يف بغداد تـ‪ 322‬وكان معارصا لإلمام أيب احلسن األشعري‪ .‬أنه قال‪:‬‬
‫وكل ما سمعت من اآلثار شيئا مل يبلغه عقلك نحو قول رسول اهلل صيل اهلل‬
‫تعاىل عليه وآله وسلم‪( :‬قلوب العباد بني إصبعني من أصابع الرمحن) وقوله‪(:‬‬
‫إن اهلل ينزل ايل سامء الدنيا‪ .‬وينزل يوم عرفة‪ .‬وينزل يوم القيامة) و(إن جهنم ال‬
‫يزال يطرح فيها حتى يضع عليها قدمه جل ثناءه) وقول اهلل تعايل للعبد (إن‬
‫مشيت إيل َهر َولت إليك) وقوله‪( :‬خلق اهلل آدم عيل صورته) وقول رسول اهلل‬
‫َ‬

‫‪194‬‬
‫‪115 8‬‬
‫‪195‬‬
‫‪343 13‬‬

‫‪253‬‬
‫صيل اهلل عليه وسلم‪( :‬رأيت ريب يف أحسن صورة) وأشباه هذه األحاديث‪،‬‬
‫فعليك بالتسليم والتصديق والتفويض والرضاء وال تفرس شيئا من هذه‬
‫هبواك‪ ،‬فإن اإليامن هبا واجب‪ ،‬فمن فرس شيئا من هذا هبواه ورده فهو جهمي‪.‬‬
‫‪196‬‬
‫انتهي‪.‬‬
‫وقال البيهقي أخربنا أبو عبد اهلل احلافظ‪ ،‬قال‪ :‬سمعت أبا حممد أمحد بن‬
‫عبد اهلل املزين يقول‪ :‬حديث النزول قد ثبت عن رسول اهلل صىل اهلل عليه وآله‬
‫وسلم من وجوه صحيحة وورد يف التنزيل ما يصدقه وهو قوله تعاىل‪( :‬وجاء‬
‫ربك وامللك صفا صفا) والنزول واملجيء صفتان منفيتان عن اهلل تعاىل من‬
‫طريق احلركة واالنتقال من حال إىل حال‪ ،‬بل مها صفتان من صفات اهلل تعاىل‬
‫بال تشبيه جل اهلل تعاىل عام تقول املعطلة لصفاته واملشبهة هبا علوا كبريا‪ .‬قلت‬
‫‪-‬القائل البيهقي ‪ : -‬وكان أبو سليامن اخلطايب رمحه اهلل تعاىل يقول‪ :‬إنام ينكر‬
‫هذا وما أشبهه من احلديث من يقيس األمور يف ذلك بام يشاهده من النزول‬
‫الذي هو تدل من أعىل إىل أسفل‪ ،‬وانتقال من فوق إىل حتت‪ ،‬وهذه صفة‬
‫األجسام واألشباح‪.‬‬
‫فأما نزول من ال تستويل عليه صفات األجسام فإن هذه املعاين غري‬
‫متومهة‪ ،‬وإنام هو خرب عن قدرته تعاىل ورأفته بعباده‪ ،‬وعطفه عليهم‪،‬‬

‫‪196‬‬
‫‪23 2‬‬

‫‪254‬‬
‫واستجابته دعائهم‪ ،‬ومغفرته هلم‪ .‬يفعل ما يشاء‪ .‬ال يتوجه عىل صفاته كيفية‪،‬‬
‫وال عىل أفعاله كمية‪ .‬سبحانه ليس كمثله يشء وهو السميع البصري‪ .‬انتهى‬
‫‪197‬‬
‫كالم البيهقي‪.‬‬
‫هذه النصوص الواردة عن سلف األمة ‪-‬وهي غيض من فيض وقليل‬
‫من كثري‪ -‬بعضها ظاهر‪ ،‬وبعضها اآلخر رصيح يف أن السلف كان مذهبهم‬
‫التفويض‪ .‬وهو الَصف عن املعنى احلقيقي بدون تعيني للمعنى املجازي أو‬
‫املعنى الكنائي‪ ،‬فإن ما نقله الذهبي عن اإلمام املالك من أنه قال‪ ( :‬أمروها كام‬
‫جاءت بال تفسري) رصيح يف ذلك‪ .‬وكذلك ما نقله احلافظ العسقالين عن‬
‫سفيان بن عيينة أنه قال‪( :‬كل ما وصف به نفسه يف كتابه فتفسريه تالوته‪،‬‬
‫والسكوت عنه)‪ ،‬ومثله كالم الربهباري‪ ،‬وذلك ألنه حكم أوال بأن هذه‬
‫النصوص ال تبلغها العقول‪ ،‬ثم حكم بوجوب التصديق والتفويض هلا‪،‬‬
‫وعدم تفسريها‪ .‬وكذلك ما نقله البيهقي عن أمحد بن عبد اهلل املزين‪ ،‬وذلك‬
‫حيث نفى املعنى احلقيقي للنزول واملجيء بقوله‪« :‬والنزول واملجيء صفتان‬
‫منفيتان عن اهلل تعاىل من طريق احلركة واالنتقال من حال إىل حال»‪ ،‬ثم فوض‬
‫املعني املراد إيل اهلل تعاىل بقوله‪« :‬بل مها صفتان من صفات اهلل تعاىل بال‬
‫تشبيه»‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫‪33‬‬

‫‪255‬‬
‫وتعبري الربهباري عن كل من املجيء والنزول بالصفة جار عىل طريقة‬
‫فريق من السلف منهم اإلمام أبو حنيفة يف الفقه األكرب واإلمام أبو احلسن‬
‫األشعري يف اإلبانة يعربون عن مثلها بالصفات‪ ،‬فيقولون‪ :‬يد اهلل صفة له‬
‫وعينه صفة له‪ ،‬وهكذا كل ما ورد يف الكتاب والسنة مما يكون محله عىل‬
‫حقيقته مفضيا إىل التشبيه املنفي بقوله تعاىل (ليس كمثله يشء)‪ ،‬فمن قال من‬
‫السلف إن العني صفة تربأ هبذا القول عن القول باجلارحة‪ ،‬بل يكون قائال بأن‬
‫املراد معنى قائم باهلل‪ ،‬وكذلك اليد‪ ،‬لكن يقول ال أعني ذلك املعنى املراد‪ ،‬بأن‬
‫أقول‪ :‬إنه احلفظ أو القدرة أو النعمة‪ ،‬أو العناية اخلاصة‪ ،‬لكون تعيني املراد من‬
‫بني املحتمالت املوافقة للتنزيه حتكم عىل مراد اهلل تعاىل‪.‬‬
‫وتسميته هلام صفتني يدل عىل أنه جازم بأهنام ليسا من قبيل أجزاء الذات‬
‫تعاىل اهلل عن ذلك‪.‬‬
‫وأما من قال‪ :‬له يد يبطش هبا‪ ،‬وعني يرى هبا فقد جعلهام من قبيل‬
‫اجلوارح‪ ،‬وخالف السلف الصالح‪.‬‬
‫نعم قد يقع يف كالم من يميل إىل التشبيه ذكر الوجه والعني واليد وغريها‬
‫بأهنا صفات‪ ،‬لكن السياق والسباق يف كالمه يناديان أهنم أرادوا هبا أجزاء‬
‫الذات ال املعاين القائمة باهلل تعاىل كام يقول السلف‪ .‬يقول ابن تيمية يف‬
‫"األجوبة املَصية"‪ :‬إن اهلل يقبض السموات واألرض باليدين اللتني مها‬

‫‪256‬‬
‫اليدان‪ .‬فام جيدي بعد هذا التَصيح أن يسمى اليد صفة‪ ،‬وذلك أنه محل‬
‫القبض عىل القبض احليس‪ ،‬وذلك من لوازم اجلارحة والتجسيم‪.‬‬
‫وأما ما نقله البيهقي عن اخلطايب فجار عىل طريقة التأويل حيث عني‬
‫املعنى املجازي بقوله‪« :‬وإنام هو خرب عن قدرته تعاىل ورأفته بعباده وعطفه‬
‫عليهم واستجابته دعائهم»‪ .‬وهذا ما ذهب إليه فريق من املحققني كتاج الدين‬
‫السبكي وسعد الدين التفتازاين والسيد الرشيف اجلرجاين من أن هذه‬
‫النصوص من قبيل االستعارة املركبة ويسموهنا باالستعارة التمثيلية‪،‬‬
‫وبالتمثيل‪ ،‬ويدل عليه كالم اإلمام تقي الدين السبكي الذي أوردناه آنفا‪.‬‬
‫وأما ما ذهب إليه بعض من يميل إىل التشبيه من أن مذهب السلف يف‬
‫هذه النصوص هو بقاؤها عىل معانيها احلقيقية مع نفي الكيفية عنها‪ .‬فهذا‬
‫القول خمالف لَصيح كالم السلف‪ .‬ثم إنه كالم فاسد يف نفسه ومتناقض‪.‬‬
‫وذلك ألن املعاين احلقيقية هلذه النصوص هي املعاين املعروفة املكيفة‪.‬‬
‫فالقول ببقائها عىل معانيها احلقيقية مع نفي الكيفية عنها كالم متناقض ينقض‬
‫نفسه بنفسه‪.‬‬
‫قال اإلمام تقي الدين السبكي يف معرض الرد عىل من قال إن هذه‬
‫النصوص مع بقائها عىل معانيها احلقيقية هي أوصاف وليست عبارة عن‬
‫األجزاء واجلوارح ‪ :‬قال‪ :‬وهذه األشياء التي ذكرناها «من الوجه‪ ،‬واليد‪،‬‬
‫والساق‪ ،‬والقدم‪ ،‬واجلنب‪ ،‬والعني» هي عند أهل اللغة أجزاء ال أوصاف‪،‬‬

‫‪257‬‬
‫فهي رصُية يف الرتكيب لألجسام‪ ،‬فذكر لفظ األوصاف تلبيس‪ ،‬وكل أهل‬
‫اللغة ال يفهمون من الوجه‪ ،‬والعني‪ ،‬والقدم إال األجزاء‪ ،‬وال يفهم من‬
‫االستواء بمعنى القعود إال أنه هيئة املتمكن‪ ،‬وال من املجيء واإلتيان والنزول‬
‫إال احلركة اخلاصة باجلسم‪.‬‬
‫وأما املشيئة والعلم والقدرة ونحوها فهي صفات ذات‪ ،‬وهي فينا ذات‬
‫أمرين‪ :‬أحدمها عرض قائم باجلسم‪ ،‬واهلل تعاىل منزه عنه والثاين‪ :‬املعاين‬
‫املتعلقة باملراد واملعلوم واملقدور‪ ،‬وهي املوصوف هبا الرب سبحانه وتعاىل‪،‬‬
‫‪198‬‬
‫وليست خمتصة باألجسام‪ .‬فظهر الفرق‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫فالقول بأن هذه النصوص باقية عىل معانيها احلقيقية يلزمه التجسيم لزوما‬
‫بينا‪ ،‬وال ينجي صاحبه من التجسيم القول بنفي الكيفية‪ ،‬وال القول بأهنا صفات‬
‫وليست عبارة عن اجلوارح واألبعاض‪ ،‬ألنه بعد القول ببقائها عىل معانيها‬
‫احلقيقية مل يبق معنى للقول بنفي الكيفية وال للقول بأهنا صفات‪ .‬وحينئذ ينطبق‬
‫عىل هذا القول ما قاله اإلمام فخر الدين الرازي حيث قال‪ :‬من قال‪ :‬إنه مركب‬
‫من األعضاء واألجزاء فإما أن يثبت األعضاء التي ورد ذكرها يف القرآن‪ ،‬وال‬
‫يزيد عليها أوال‪ ،‬فإن كان األول لزم إثبات صورة ال يمكن أن يزاد عليها يف‬
‫القبح‪ ،‬ألنه إثبات وجه بحيث ال يوجد منه إال رقعة الوجه لقوله تعاىل ( كل يشء‬

‫‪198‬‬
‫‪167‬‬

‫‪258‬‬
‫هالك إال وجهه)‪ 199‬ويلزمه أن يثبت يف تلك الرقعة عيونا كثرية لقوله تعاىل‪:‬‬
‫(جتري بأعيننا)‪ 200‬وأن يثبت له جنبا واحدا لقوله تعاىل‪( :‬يا حرستا عىل ما فرطت‬
‫يف جنب اهلل)‪ 201‬وأن يثبت عىل ذلك اجلنب أيدي كثرية لقوله تعاىل‪( :‬مما عملت‬
‫أيدينا أنعاما)‪ 202‬وبتقدير أن يكون له يدان فإنه جيب أن يكون كالمها عىل جانب‬
‫واحد لقوله صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪( :‬وكلتا يديه يمني) وأن يثبت له ساقا‬
‫واحدا لقوله تعاىل‪( :‬يوم يكشف عن ساق)‪ 203‬فيكون احلاصل من هذه الصورة‬
‫جمرد رقعة الوجه‪ ،‬ويكون عليها عيون كثرية وجنب واحد ويكون عليها أيدي‬
‫كثرية وساق واحد‪.‬‬
‫ومعلوم أن هذه الصورة أقبح الصور‪ ،‬ولو كان هذا عبدا مل يرغب أحد يف‬
‫رشائه‪ .‬فكيف يقول عاقل‪ :‬إن رب العلمني موصوف هبذه الصورة؟‬
‫وإن كان الثاين وهو أن ال تقتَص عىل األعضاء املذكورة يف القرآن بل يزيد‬
‫وينقص عىل وفق التأويالت‪ ،‬فحينئذ يبطل مذهبه يف احلمل عىل جمرد‬
‫‪204‬‬
‫الظواهر‪ ،‬وال بد له من قبول دالئل العقل‪ .‬انتهى‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫‪88‬‬
‫‪200‬‬
‫‪14‬‬
‫‪201‬‬
‫‪56‬‬
‫‪202‬‬
‫‪71‬‬
‫‪203‬‬
‫‪42‬‬
‫‪204‬‬
‫‪148 7‬‬

‫‪259‬‬
‫فاحلق هو التوسط بني الظاهرية والغلو يف التأويل ‪ .‬قال اإلمام ابن عقيل‬
‫احلنبيل‪ :‬هلك اإلسالم بني طائفتني‪ :‬الباطنية والظاهرية‪ ،‬واحلق بني املنزلتني‪.‬‬
‫وهو أن نأخذ بالظاهر ما مل يَصف عنه دليل‪ ،‬ونرفض كل باطن ال يشهد به‬
‫دليل من أدلة الرشع‪.‬‬
‫األمر الثاين‪ :‬بيان أن التأويل ليس خاصا بمذهب اخللف‪ ،‬وبيان أن فريقا‬
‫من سلف األمة قد أول جمموعة من النصوص إما ملخالفته لَصائح العقول‪،‬‬
‫أو ملخالفته للنصوص املحكامت‪.‬‬
‫وذلك ألن أصل التأويل أمر رضوري ال بد منه‪ ،‬فإن من النصوص ما ال‬
‫يمكن محله عىل املعنى الذي وضع اللفظ له إما ملخالفتها لَصائح العقول‪ ،‬أو‬
‫ملخالفتها للنصوص املحكامت‪ ،‬وقد اقرتن به قرينة تعني املعنى املستعمل فيه‬
‫املناسب للمعنى املوضوع له‪ ،‬فمثل هذه النصوص ال وجه للتوقف فيها‪،‬‬
‫ويتعني محلها عىل املعاين التي تعينها القرائن‪ ،‬وهذا هو معنى قول اإلمام ابن‬
‫دقيق العيد السابق‪« :‬وما كان منها أي من النصوص معناه ظاهرا مفهوما‬
‫من ختاطب العرب محلناه عليه‪ ،‬كقوله تعاىل ‪( :‬عىل ما فرطت يف جنب اهلل)‬
‫فإن معناه يف استعامهلم الشائع‪ :‬حق اهلل‪ ،‬فال يتوقف يف محله عليه» إىل آخر‬
‫كالمه‪.‬‬
‫فالتأويل قد يكون متعينا‪ ،‬كام قد يكون جائزا‪ ،‬وقد يكون ممتنعا‪ ،‬وقد ذكرنا‬
‫رشائطه آنفا‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫وقد غال يف باب التأويل فريقان‪ :‬فريق غلق باب التأويل وسد الطريق‬
‫عىل العقل‪ ،‬وهم املشبهة ظاهرية العقيدة‪ ،‬وفريق آخر غال يف التأويل‪ ،‬وقلد‬
‫املعتزلة يف تأويالهتم التي بدعهم السلف من أهل السنة من أجلها‪ ،‬وهم كثري‬
‫من متأخري األشاعرة‪ ،‬وخري األمور أوسطها وهو ما ذهب إليه اإلمام ابن‬
‫دقيق العيد‪.‬‬
‫ومن أجل أن أصل التأويل أمر رضوري البد منه أول فريق من سلف‬
‫األمة بام فيهم بعض الصحابة والتابعني جمموعة من نصوص الكتاب والسنة‬
‫وإليك جمموعة من هذه التأويالت‪.‬‬
‫تأويل حرب األمة عبد اهلل بن عباس ريض اهلل تعاىل عنهام‪:‬‬
‫أول ابن عباس قوله تعاىل‪( :‬يوم يكشف عن ساق)‪ 205‬فقال‪ :‬يكشف عن‬
‫شدة‪ ،‬فأول الكشف عن الساق بكشف الشدة‪ ،‬نقل ذلك عنه بسند صحيح‬
‫احلافظ العسقالين‪ 206.‬واإلمام الطربي يف تفسريه‪ 207.‬وقال يف صدر كالمه عىل‬
‫هذه اآلية‪ :‬قال مجاعة من الصحابة والتابعني من أهل التأويل‪ :‬يبدو عن أمر‬
‫شديد‪ .‬فنسب التأويل إىل مجاعة من الصحابة والتابعني‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫‪42‬‬
‫‪206‬‬
‫‪428 13‬‬
‫‪38 29 207‬‬

‫‪261‬‬
‫وأول ابن عباس ريض اهلل تعاىل عنهام األيدي يف قوله تعاىل (والسامء‬
‫بنيناها بأيد وإنا ملوسعون)‪ 208‬بالقوة نقله الطربي يف التفسري‪ 209‬ونقل هذا‬
‫التأويل عن مجاعة من أئمة السلف منهم جماهد وقتادة ومنصور وابن زيد‬
‫وسفيان‪ ،‬فاليد مفردا كان أو مثنى كام يف قوله تعاىل‪( :‬ملا خلقت بيدي) أو مجعا‬
‫كام هنا يفرس بالقوة والقدرة مفردا‪ .‬وال يفرس املثنى بالقدرتني وال اجلمع‬
‫بالقدرات كام قيل‪ ،‬فقد ورد يف حديث يأجوج ومأجوج‪( :‬ال يدان ألحد هبم)‬
‫ومعناه ال قوة ألحد بقتاهلم ومقاومتهم‪.‬‬
‫وأول ابن عباس ريض اهلل عنهام النسيان الوارد يف قوله تعاىل (فاليوم‬
‫ننساهم كام نسوا لقاء يومهم هذا )‪ 210‬بالرتك يف العذاب‪ .‬نقله الطربي يف‬
‫تفسريه‪ 211‬وروى هذا التأويل بأسانيده عن جماهد وغريه‪.‬‬
‫تأويل اإلمام امحد‪:‬‬
‫روي األمام البيهقي يف كتابه مناقب اإلمام أمحد وهو كتاب خمطوط وعنه نقل‬
‫احلافظ ابن الكثري يف البداية والنهاية‪ :‬فقال‪ :‬روي البيهقي عن احلاكم عن أيب عمر بن‬

‫‪208‬‬
‫‪47‬‬
‫‪7 27 209‬‬
‫‪210‬‬
‫‪15‬‬
‫‪211 8 211‬‬

‫‪262‬‬
‫السامك عن حنبل ان أمحد بن حنبل تأول قوله تعايل‪ ( :‬وجاء ربك) أنه جاء ثوابه‪ ،‬ثم‬
‫‪212‬‬
‫قال البيهقي‪ :‬وهذا إسناد ال غبار عليه‪.‬‬
‫وقال ابن كثري‪ :‬ومن طريق أيب احلسن امليموين عن أمحد بن حنبل أنه‬
‫أجاب اجلهمية حني احتجوا عليه بقوله تعاىل‪( :‬ما يأتيهم من ذكر من رهبم‬
‫حمدث إال استمعوه وهم يلعبون) قال‪ُ :‬يتمل أن يكون تنزيله إلينا هو‬
‫‪213‬‬
‫املحدث ال الذكر نفسه هو املحدث‪.‬‬
‫تأويل اإلمام النرض بن شميل‪:‬‬
‫وهو اإلمام احلافظ اللغوي من رجال الستة‪ .‬ولد ‪122‬هـ ذكر احلافظ‬
‫الذهبي يف األسامء والصفات أن النرض بن شميل قال‪ :‬إن معنى حديث‪:‬‬
‫‪214‬‬
‫(حتى يضع اجلبار قدمه فيها) من سبق يف علمه أنه من أهل النار‪.‬‬
‫تأويل اإلمام سفيان الثوري ريض اهلل تعاىل عنه‪.‬‬
‫ذكر الذهبي أن معدان سأل اإلمام الثوري عن قوله تعاىل‪( :‬وهو معكم‬
‫أينام كنتم) فقال‪ :‬علمه‪ ،‬وسئل سفيان عن أحاديث الصفات‪ ،‬فقال‪ :‬أمروها‬
‫‪215‬‬
‫كام جاءت‪.‬‬
‫تأويل اإلمام عبد اهلل ابن مبارك‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫‪327 11‬‬
‫‪213‬‬
‫‪327 11‬‬
‫‪444 214‬‬
‫‪215‬‬
‫‪274 7‬‬

‫‪263‬‬
‫روى البخاري عن صفوان بن حمرز عن ابن عمر ريض اهلل عنهام قال‪ :‬بينام أنا‬
‫أمشى معه إذ جاء رجل فقال‪ :‬يا ابن عمر كيف سمعت رسول اهلل صىل اهلل عليه‬
‫وسلم يذكر يف النجوى؟ قال‪ :‬سمعته يقول‪ :‬يدنو املؤمن من ربه حتى يضع عليه‬
‫كنفه‪...‬ثم قال البخاري‪ :‬قال ابن املبارك كنفه يعنى سرته‪ .‬رواه البخاري يف خلق‬
‫‪217‬‬
‫أفعال العباد‪ 216‬ونقله احلافظ يف "فتح الباري"‪.‬‬
‫تأويل اإلمام الرتمذي‪:‬‬
‫روى الرتمذي يف جامعه احلديث املشهور‪( :‬أنا عند ظن عبدي يب‪ ....‬وإن‬
‫أتاين يميش أتيته هرولة) ثم قال‪ :‬هذا حديث حسن صحيح‪ ،‬ويروى عن‬
‫األعمش يف تفسري هذا احلديث (من تقرب منى شربا تقربت منه ذراعا) يعنى‬
‫باملغفرة والرمحة‪ ،‬وهكذا فرس بعض أهل العلم هذا احلديث‪ ،‬قالوا‪ :‬إنام معناه‪:‬‬
‫‪218‬‬
‫يقول‪ :‬إذا تقرب إيل العبد بطاعتى وبام أمرت‪ ،‬تسارع إليه مغفريت ورمحتي‪.‬‬
‫هذه نامذج من تأويل السلف للنصوص‪ ،‬واستقصائه يتعرس أو يتعذر من‬
‫كثرته‪.‬‬
‫وما ذكرناه هنا هو حاصل مذاهب علامء األمة وأئمتها من السلف‬
‫واخللف يف باب الصفات وباب التأويل حمققا حمررا‪.‬‬

‫‪78 216‬‬
‫‪477 13 217‬‬
‫‪218‬‬
‫‪64 11‬‬

‫‪264‬‬
‫واهلل تعاىل يتوىل هدانا وهو حسبنا ونعم الوكيل‪.‬‬

‫‪ -72‬أخطاء الدكتور يف كالمه عىل التأويل‪:‬‬


‫وبعد هذه اجلولة نعود إىل كالم الدكتور‪ ،‬وإىل بيان ما حواه من أخطاء‪،‬‬
‫فنقول وباهلل التوفيق‪:‬‬
‫اخلطأ األول‪ :‬قوله‪( :‬ومعناه املبتدع رصف اللفظ عن ظاهره الراجح إىل احتامل‬
‫مرجوح لقرينة)‬
‫أقول‪ :‬هذا املعنى للتأويل اصطالح لألصوليني‪ ،‬وألهل العلوم أن‬
‫يصطلحوا عىل ما يشاءون‪ ،‬كام أنه من املقرر أنه ال مشاحة يف االصطالح‪،‬‬
‫فلامذا يشاح الدكتور يف االصطالح‪ ،‬وُيكم عليه باالبتداع؟! نعم ألنه يعتقد‬
‫أنه حتريف للكلم عن مواضعه!!!‪.‬‬
‫حتريف للكلم عن مواضعه كام قرر ذلك‬
‫ٌ‬ ‫الثاين‪ :‬قوله‪( :‬فهو هبذا املعنى‬
‫شيخ اإلسالم) ومن املقرر أن القرينة إذا دلت عىل ذلك الَصف كان الَصف‬
‫أمرا ال بد منه‪ ،‬وإال فام معنى داللة القرينة عىل ذلك؟ وتقرير ابن تيمية ملا قاله‬
‫الدكتور ال يغني عنه شيئا‪ ،‬فإن اخلطأ خط ٌأ كائنا قائله من كان‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬قوله‪( :‬وهو أصل منهجي من أصول األشاعرة‪ ...‬إىل قوله‪:‬‬
‫وبعض األوامر التكليفية)‬

‫‪265‬‬
‫أقول‪ :‬التأويل ‪-‬إذا كان صحيحا‪ -‬أصل منهجي لألشاعرة ولكل‬
‫املسلمني‪ ،‬ولكل العقالء بام فيهم الدكتور سفر‪ .‬نعم للدكتور وغريه أن ينازع‬
‫يف صحة بعض التأويالت‪ ،‬ويناقش فيها‪ ،‬أما إنكار التأويل رأسا فال يقدم‬
‫عليه عاقل فضال عن فاضل‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬قوله‪( :‬ورضورته ملنهج عقيدهتم‪ ،‬أصلها أنه ملا تعارضت عندهم‬
‫األصول العقلية التي قرروها بعيدا عن الرشع مع النصوص الرشعية‪ ،‬وقعوا‬
‫يف مأزق رد الكل أو ِ‬
‫أخذ الكل‪ ،‬فوجدوا يف التأويل مهربا عقليا‪ ،‬وخمرجا من‬ ‫ر‬
‫التعارض الذي اختلقته أوهامهم)‬
‫أقول‪ :‬ليس رضورة التأويل ملنهج عقيدة األشاعرة ملا ذكره الدكتور‪ .‬وهال‬
‫ذكر الدكتور أصول األشاعرة التي قرروها بعيدا عن الرشع لنتكلم عليها؟!‬
‫بل رضورة التأويل الصحيح ملنهج األشاعرة ولكل املسلمني أن من‬
‫نصوص الكتاب والسنة ما لو محِ َل عىل ظاهره وعىل املعنى احلقيقي له‪ ،‬قد‬
‫خيالف رصائح العقول‪ ،‬وقد خيالف املحكامت من الكتاب والسنة‪ ،‬وقد‬
‫خيالف القواعد الرشعية املقررة املأخوذة من نصوص الشارع‪ ،‬فاملسلمون‬
‫كلهم يف مثل هذه النصوص مضطرون إىل رصف هذه النصوص عن معانيها‬
‫احلقيقية‪ ،‬واعتقاد أهنا غري مرادة للشارع‪ ،‬ثم اختلفوا فمنهم من توقف عند‬
‫هذا احلد‪ ،‬وفوض معانيها املرادة منها إىل اهلل تعاىل‪ ،‬ويسمى هذا بالتأويل‬

‫‪266‬‬
‫اإلمجايل‪ ،‬ومنهم من حاول بيان معانيها املجازية أو الكنائية املرادة منها بقرائن‬
‫تساعده عىل ذلك‪.‬‬
‫هذا ما اضطر األشاعرة واضطر كل املسلمني إىل التأويل الصحيح لبعض‬
‫النصوص من الكتاب والسنة‪.‬‬
‫اخلامس‪ :‬قوله‪( :‬فأي تناقض يف كتاب اهلل يا مسلمون نضطر معه إىل رد‬
‫بعضه‪ ،‬أو االعرتاف لألعداء بتناقضه)‬
‫عار عليك أهيا الدكتور! َمن ِم َن األشاعرة قال بالتناقض يف كتاب اهلل‪،‬‬
‫ٌ‬
‫ورد ألجل ذلك بعضه‪ ،‬واعرتف ألعداء اإلسالم بتناقضه؟؟؟!!!‬
‫نعم التناقض مرفوض‪ ،‬وال يقول به مسلم‪ .‬وأما االختالف بني ظواهر‬
‫بعض النصوص أي خمالفة بعضها للبعض اآلخر بحسب معانيها احلقيقية‬
‫فمن يستطيع أن ينكره؟!‪ .‬وأرضب عىل ذلك مثالني‪ .‬قال اهلل تعاىل‪( :‬فلم‬
‫تقتلوهم ولكن اهلل قتلهم وما رميت إذ رميت ولكن اهلل رمى) ففي لفظ (إذ‬
‫رميت) إثبات الرمي للنبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪ ،‬ويف لفظ (ما‬
‫رميت) نفي للرمي عنه‪ ،‬ويف قوله تعاىل (فلم تقتلوهم) نفي ألن يكون‬
‫املؤمنون قتلوا قتىل بدر‪ ،‬أليس ظاهر هذا القول خمالفا للظاهر املشاهد؟ وقال‬
‫تعاىل‪( :‬وما كان ربك نسيا) وقال‪( :‬نسوا اهلل فنسيهم)‬

‫‪267‬‬
‫ثم أقول للدكتور‪ :‬وملاذا قال اهلل تعاىل‪( :‬ولو ردوه إىل الرسول وإىل أويل‬
‫العلم منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم)؟‬
‫‪219‬‬

‫وملاذا ألف علم مشكل القرآن‪ ،‬وعلم مشكل احلديث أو خمتلف‬


‫احلديث؟؟؟‬
‫نعم التناقض الزم لقول من يرفض التأويل رأسا‪ ،‬لكني ال أقول‪ :‬إنه قائل‬
‫بالتناقض‪ ،‬معاذ اهلل!!!‬
‫اخلطأ السادس‪ :‬قوله‪( :‬وقد اعرتف الصابوين بأن يف مذهب األشاعرة‬
‫تأويالت غريبة‪ ،‬فام املعيار الذي عرف به الغريب من غري الغريب) وهذا إنكار‬
‫ألن يكون عند األشاعرة معيار للتأويل الصحيح‬
‫أقول أوال‪ :‬املعيار ما أشار إليه ابن دقيق العيد فيام نقلناه عنه من كالمه‪،‬‬
‫وقد فصلناه بأن التأويل الصحيح ما توفرت فيه مخسة رشوط‪.‬‬
‫ثم أقول‪ :‬القول بأن يف مذهب األشاعرة تأويالت غريبة غري صحيح‪،‬ألن‬
‫إذا كان برشوطه‪ -‬صحيح‪ ،‬وأما أفراد‬ ‫مذهب األشاعرة أن التأويل‬
‫التأويالت فال يصح نسبتها إىل مذهب األشاعرة عامة‪ ،‬بل ال بد من نسبتها إىل‬
‫القائلني هبا من األشاعرة‪ ،‬إال إذا كان هناك أفراد من التأويل متفق عليها من‬
‫األشاعرة فيصح نسبتها إىل املذهب حينئذ‪ .‬فالتعبري الصحيح‪ :‬أن عند بعض‬

‫‪219‬‬
‫‪83‬‬

‫‪268‬‬
‫األشاعرة تأويالت غريبة‪ ،‬أو غري صحيحة‪ ،‬وذلك مثل تأويل االستواء‬
‫باالستيالء وذلك ألن االستيالء إن مل يكن مفيدا للمغالبة فال شبهة يف أنه‬
‫موهم له‪ ،‬ومن رشط التأويل الصحيح أن ال يكون املعنى الذي أول به النص‬
‫ٌ‬
‫ممتنع عىل اهلل تعاىل‪ .‬ثم إن بعض التأويالت مما ختتلف فيها‬
‫مومها ملا هو ٌ‬
‫األنظار‪ ،‬فرياها هذا صحيحة ويراها اآلخر فاسدة‪.‬‬

‫‪ -73‬بيان أن التأويل ال خيلو عنه مذهب من املذاهب‪:‬‬


‫اخلطأ السابع‪ :‬قوله‪( :‬وهنا ال بد من زيادة التاكيد عىل أن مذهب السلف‬
‫ال تأويل فيه لنص من النصوص الرشعية إطالقا‪ ،‬وال يوجد نص واحد ال‬
‫يف الصفات وال يف غريها‪ -‬اضطر السلف إىل تأويله‪ .‬وهلل احلمد)‬
‫أقول‪ :‬من املقرر أن أهم يشء يف مسائل اخلالف هو حترير حمل النزاع‪ ،‬فإنه عند‬
‫حتريره كثريا ما يتبني أنه ال خالف يف الواقع‪ ،‬وأن اخلالف لفظي‪ ،‬ومن هذا القبيل‬
‫هذا اخلالف بيننا وبني الدكتور‪ .‬وذلك أن التأويل يف اصطالح األصوليني‪:‬‬
‫«رصف اللفظ عن الظاهر الراجح إىل احتامل مرجوح لقرينة» وقد قررنا أن التأويل‬
‫هبذه املعنى ال يسوغ لعاقل أن ينكره يف ألفاظ الكتاب والسنة‪.‬‬
‫وأما الدكتور فأظن أنه يقصد بالتأويل كام يدل عليه الحق كالمه «رصف‬
‫الكالم عن املعنى الذي تدل عليه القرآن من السياق والسباق واأللفاظ املقرونة به»‬
‫هذا ما يدل عليه قول الدكتور‪« :‬وكل اآليات واألحاديث التي ذكرها الصابوين‬

‫‪269‬‬
‫وغريه حتمل يف نفسها ما يدل عىل املعنى الصحيح الذي فهمه السلف منها‪ ،‬والذي‬
‫يدل عىل تنزيه اهلل تعاىل‪ ،‬دون أدنى حاجة إىل التأويل» حيث قال‪« :‬حتمل يف نفسها‬
‫ما يدل عىل املعنى الصحيح» ثم قال‪« :‬دون أي حاجة إىل التأويل» والتأويل هبذه‬
‫املعنى حتريف للكلم عن مواضعه‪ ،‬ولعب كام قال السبكي‪ ،‬وال ينطبق هذا التأويل‬
‫عىل تأويالت األشاعرة باملعنى الذي اصطلح عليه األصوليون‪ ،‬بل إنام ينطبق عىل‬
‫تأويالت الباطنية!‬
‫لكن التأويل هبذا املعنى ليس معنى لغويا للفظ التأويل‪ ،‬وال اصطالحا ألحد‬
‫من علامء األمة‪.‬‬
‫ثم إن الدكتور إذا كان قصد هذا املعنى للتأويل‪ ،‬فال وجه إلنكاره عىل‬
‫األشاعرة‪ ،‬ألهنم اليأ رولون هذا التأويل‪ ،‬كام أنه ال وجه لتقريره أن األشاعرة‬
‫يأ رولون‪ ،‬والسلف اليأ رولون‪.‬‬
‫بل التحقيق أن األشاعرة وبعض السلف يأ رولون باملعنى الذي قصده‬
‫األشاعرة للتأويل‪ ،‬واليأ رولون باملعنى الذي قصده الدكتور للتأويل‪.‬‬
‫وقد نقلنا مجلة من تأويالت السلف فيام تقدم‪.‬‬
‫اخلطأ الثامن‪ :‬قوله‪( :‬وإن تعجب فأعجب هلذه اللفظة النابية التي‬
‫يستعملها األشاعرة مع النصوص‪ ،‬وهي أهنا توهم التشبيه‪ ،‬وهلذا وجب‬
‫تأويلها‪ ،‬فهل يف كتاب اهلل إهيام‪ ،‬أم أن العقول الكاسدة تتوهم‪ ،‬والعقيدة‬
‫ليست جماال للتوهم)‬

‫‪271‬‬
‫أقول للدكتور‪ :‬املسألة مسألة علمية ال ينفع فيها التهويل والتقذيع‬
‫والتهويش‪ ،‬وال يليق هذا بأهل العلم‪ ،‬بل هذه األمور عالمة عىل ضعف‬
‫فاعلها‪ ،‬وعىل عدم نجاحه علميا‪ ،‬فيتجه إىل اإلقذاع والتهويش‪.‬‬
‫ثم أقول‪ :‬قد قررنا أن من ألفاظ الكتاب والسنة ما لو قطع عن سابقه والحقه‬
‫وعري عن القرائن املقرونة به املعينة للمعنى املراد منه‪ ،‬ألوهم معنى ال يصح أن‬
‫ينسب إىل اهلل تعاىل‪ ،‬وقد مرت أمثلة كثرية له‪ ،‬واألشاعرة قد عربوا باإلهيام‪ ،‬ومل‬
‫يعربوا باإلفادة أو الداللة‪ ،‬ألن هذه النصوص معها من القرائن ما يدل عىل أن‬
‫التشبيه غري مقصود منها‪ ،‬ويعني املعنى املراد منها املوافق للتنزيه‪ ،‬فهل بعد هذا‬
‫يصح إنكار هذا التعبري عىل األشاعرة؟ وإذا مل يعربوا باإلهيام فبامذا يعربون؟؟!!‬
‫اخلطأ التاسع‪ :‬قوله‪( :‬فالعيب ليس يف ظواهر النصوص عياذا باهلل‪-‬‬
‫ولكن العيب يف األفهام‪ ،‬بل األوهام السقيمة)‬
‫من الذي قال‪ :‬العيب يف ظواهر النصوص معاذ اهلل‪ -‬وهل استعامل املجاز‬
‫والكناية يف الكالم من عيوب الكالم؟ أم أهنام مما يزيد الكالم فصاحة وبالغة‬
‫ورونقا؟ بل ال حتيا لغة من لغات العامل بدون املجاز والكناية‪َ ،‬أ َو َلي َس التأويل عند‬
‫األشاعرة إال محل الكالم عىل املجاز أو الكناية‪ ،‬نعم صحيح أن العيب يف األفهام‬
‫واألوهام السقيمة التي ال تريد أن تفهم كالم علامء اإلسالم وأئمة األمة عىل‬
‫وجهه‪ ،‬وتيسء الظن هبم‪ ،‬وتتصيد لكالمهم أسوأ املعاين‪ ،‬وأبشع املحامل!‬

‫‪271‬‬
‫‪ -74‬نسبة الغزايل إىل اإلمام أمحد أنه َّأول ثالثة أحاديث‪:‬‬
‫اخلطأ العارش واحلادي عرش‪ :‬قوله‪( :‬أما دعوى أن اإلمام أمحد استثنى‬
‫ثالثة أحاديث‪ ،‬وقال‪ :‬البد من تأويلها‪ ،‬فهي فرية عليه افرتاها الغزايل يف‬
‫"اإلحياء" وفيصل التفرقة‪ ،‬ونفاها شيخ اإلسالم سندا ومتنا) هكذا قال‬
‫الدكتور‪ ،‬وأنا أنقل كالم الغزايل بنصه كي يعلم القارئ احلقيقة‪ ،‬هل حقيقة‬
‫افرتى الغزايل عىل اإلمام أمحد‪ ،‬أم أن هذا الكالم افرتا ٌء عىل الغزايل؟! وأنقل‬
‫كالم ابن تيمية املتعلق به ليعلم هل نفى ابن تيمية هذه الدعوى سندا ومتنا‪ ،‬أم‬
‫انتقدها سندا فقط‪.‬‬
‫قال الغزايل يف "إحياء علوم الدين"‪( :‬وغال اآلخرون يف حسم الباب ‪-‬‬
‫أي باب التأويل‪ -‬منهم أمحد بن حنبل‪ ،‬حتى منع تأويل قوله تعاىل‪( :‬كن‬
‫خطاب بحرف وصوت يوجد من اهلل‬
‫ٌ‬ ‫فيكون) وزعموا (أي أتباعه) أن ذلك‬
‫يف كل حلظة عند كون كل مكون‪ .‬حتى سمعت بعض أصحابه يقول‪َ :‬ح َس َم‬
‫باب التأويل إال لثالثة ألفاظ‪ :‬قوله صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪( :‬احلجر‬
‫َ‬
‫األسود يمني اهلل يف أرضه) قال العراقي أخرجه احلاكم وصححه‪.‬‬
‫وقوله صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪( :‬قلب املؤمن بني إصبعني من‬
‫أصابع الرمحن) أخرجه مسلم‪.‬‬
‫وقوله صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪( :‬إين ألجد نفس الرمحن من جانب‬
‫اليمن) أخرجه أمحد ورجاله ثقات‪ .‬قاله العراقي‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫هذا كالم الغزايل بنصه ما عدا التخريج‪ ،‬وقد علمت أن الغزايل مل ينسب هذا‬
‫القول إىل اإلمام أمحد مبارشة‪ ،‬وال بصيغة التضعيف‪ ،‬كأن يقول‪ :‬قال أمحد‪ ،‬أو‬
‫روي عن أمحد أنه قال‪ ،‬وإنام نسبه إليه عن طريق سامعه عن بعض أصحابه‪.‬‬
‫ويقصد ببعض أصحابه بعض علامء مذهبه كام هو اصطالح الفقهاء وغريهم‪،‬‬
‫ومل يقصد بعض الذين صحبوه‪ ،‬لوضوح أن الغزايل مل يدرك أصحاب أمحد‪ ،‬وال‬
‫أصحاب أصحابه‪ .‬والغزايل ثقة ثبت فوقع احلمل يف هذه الرواية عىل بعض‬
‫أصحاب أمحد‪ ،‬فهل يصح بعد هذا أن يقال‪ :‬إن الغزايل افرتى هذه الدعوى عىل‬
‫أمحد؟!‬
‫وابن تيمية مل ينسب الكذب يف هذه الدعوى إىل الغزايل‪ ،‬بل جعل احلمل‬
‫فيها عىل بعض األصحاب الذي نقل الغزايل التأويل عنه‪ ،‬قال‪( :‬فهذه احلكاية‬
‫كذب عىل أمحد مل ينقلها أحد عنه بإسناد‪ ،‬وال يعرف أحد من أصحابه نقل‬
‫ذلك عنه‪ .‬وهذا احلنبيل الذي ذكر عنه أبو حامد جمهول ال يعرف ال علمه بام‬
‫قال‪ ،‬وال صدقه فيام قال)‪ 220‬هذا كالم ابن تيمية‪ ،‬ومل ينتقد هذه الرواية متنا وإنام‬
‫انتقدها سندا فقط‪.‬‬
‫بل قد أول ابن تيمية احلديث األول والثالث يف "جمموع الفتاوى"‬
‫فراجعها‪ 221،‬ولكن الدكتور ال جي روز تأويل هذه األحاديث‪ ،‬فأقول للدكتور‪:‬‬

‫‪220‬‬
‫‪398 5‬‬
‫‪398 397 6 221‬‬

‫‪273‬‬
‫هل تعتقد أن احلجر األسود يمني اهلل حقيقة أي يده اليمنى‪ ،‬وأن يمني اهلل‬
‫الوارد يف بعض األحاديث عبارة عن احلجر األسود‪ ،‬وأن اهلل خلق آدم بيديه‬
‫اللتني إحدامها احلجر األسود‪ ،‬حيث قال تعاىل‪( :‬يا إبليس ما منعك أن تسجد‬
‫ملا خلقت بيدي) أو كلتامها احلجر األسود كام ورد يف احلديث الصحيح‬
‫«وكلتا يديه يمني» وهل تعتقد أن هلل تعاىل مليارات األصابع‪ ،‬وأن بداخل كل‬
‫مؤمن إصبعني من أصابع الرمحن حقيقة ال جمازا مكتنفتني بقلبه؟ وإذا كنت‬
‫تعتقد ذلك فهل حتس بأن بداخلك إصبعني حميطتني بقلبك؟!‬
‫وهل تعتقد أنه حينام قال النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪( :‬إين ألجد‬
‫نفس الرمحن من جانب اليمن)‪ ،‬كان اهلل تعاىل يف جانب اليمن‪ ،‬فوجد النبي‬
‫صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم نفسه حقيقة ال جمازا من جانب اليمن؟! ال‬
‫شبهة عندي يف أن الدكتور ال يعتقد شيئا من ذلك‪ ،‬فالدكتور إذا ُيمل هذه‬
‫األحاديث عىل معانيها غري احلقيقة‪ .‬وهذا هو تأويل الذي أنكره عىل‬
‫األشاعرة‪.‬‬
‫ثم إنه قد جاء التأويل عن اإلمام أمحد يف غري هذه األحاديث‪ ،‬وقد نقلنا‬
‫اثنني منها فيام تقدم‪ ،‬ونعززمها هنا بثالث‪:‬‬
‫روى الذهبي عن صالح ابن اإلمام أمحد ‪-‬رمحه اهلل‪ -‬عن أبيه أن املعتزلة‬
‫احتجوا عليه وقت املحنة بحديث ابن مسعود‪( :‬ما خلق اهلل من جنة وال نار وال‬

‫‪274‬‬
‫سامء وال أرض أعظم من آية الكريس) قال‪ :‬فقلت‪ :‬إنام وقع اخللق عىل اجلنة‬
‫‪222‬‬
‫والنار والسامء واألرض‪ ،‬ومل يقع عىل القرآن‪.‬‬
‫اخلطأ الثاين عرش‪ :‬تسوية الدكتور بني األشاعرة والباطنية يف التأويل‪،‬‬
‫وقوله أخريا‪( :‬وملاذا يكفر األشاعرة الباطنية ثم يشاركوهنم يف أصل عظيم من‬
‫أصوهلم؟)‬
‫أقول للدكتور أوال‪ :‬اتق اهلل‪ ،‬وتذكر قول النبي صىل اهلل تعاىل عليه وآله‬
‫وسلم‪( :‬إن الرجل ليتكلم بالكلمة ال يلقى هلا باال هيوى هبا يف النار سبعني‬
‫خريفا) أو كام قال‪.‬‬
‫ثم أقول له‪ :‬تذكر ما نقلناه عن تاج الدين السبكي وهو من األشاعرة قال يف‬
‫"مجع اجلوامع" (الظاهر ما دل داللة ظنية‪ ،‬والتأويل محل الظاهر عىل املحتمل‬
‫املرجوح‪ ،‬فإن محل لدليل فصحيح‪ ،‬أو ملا يظن دليال ففاسد‪ ،‬أو ال ليشء فلعب ال‬
‫تأويل) وتأويل األشاعرة وغريهم من املسلمني من التأويل لدليل‪ ،‬وأما تأويالت‬
‫الباطنية فمن اللعب بنصوص الشارع‪ ،‬فهل يصح ملؤمن يرجو اهلل واليوم اآلخرة‬
‫أن يقول‪ :‬إن األشاعرة قد شاركوا الباطنية يف أصل من أعظم أصوهلم؟؟!!‬
‫فإن التأويل الذي قال به األشاعرة مل يتخلص ولن يتخلص منهم أحدٌ من‬
‫املسلمني بام فيهم الدكتور سفر‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫‪578 11 246 11‬‬

‫‪275‬‬
‫‪ -75‬تقسيم األشاعرة ألصول العقيدة بحسب مصدر التلقي إىل ثالثة أقسام‬
‫وبيان ذلك بوجه مفصل‪:‬‬
‫أصول العقيدةِ‬
‫َ‬ ‫قال الدكتور‪{ :‬الثاين عرش‪ :‬السمعيات‪ُ :‬يقس ُم األشاعر ُة‬
‫ِ‬
‫بحسب مصدر التلقي إىل ثالثة أقسام‪:‬‬
‫باب الصفات‪،‬‬ ‫معظم األبواب ومن ُه ُ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫العقل وحدَ ه وهو‬ ‫‪ -1‬قسم مصدره‬
‫ُ‬
‫العقل‬ ‫القسم "هو ما حيك ُُم‬ ‫السبع "عقلية"‪ .‬وهذا‬ ‫ِ‬
‫الصفات‬ ‫يسمو َن‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫وهلذا ُّ‬
‫الوحي عندَ ُه ْم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫توقف عىل‬ ‫دون‬
‫بوجوبه" َ‬
‫‪ -2‬قسم مصدره العقل والنقل معا كالرؤية عىل خالف بينهم فيها‪-‬‬
‫وهذا القسم هو ما حيكم العقل بجوازه استقالال أو بمعاضدة الوحي‪.‬‬
‫‪ -3‬قس ٍم مصدره ُ‬
‫النقل وحدَ ُه‪ ،‬وهو السمعيات أي‪ :‬املغيبات من أمور‬
‫ُ‬
‫العقل‬ ‫حيك ُُم‬ ‫ِ‬
‫والرصاط وا ِ‬
‫مليزان‪ ،‬وهو عندَ ُهم ما ال َ ْ‬ ‫اآلخرة كعذاب القرب‬
‫العقل إدرا َك ُه منفرد ًا‪ ،‬و ُيدْ خلو َن فيه‬
‫الوحي مل يستط ِع ُ‬
‫ُ‬ ‫لكن لو مل يرد به‬
‫باستحالته‪ْ ،‬‬
‫َ‬
‫والتحليل والتحريم‪.‬‬ ‫والتقبيح‬
‫َ‬ ‫التحسني‬
‫َ‬
‫واحلاصل أهنم يف صفات اهلل جعلوا العقل حاكام‪ ،‬ويف إثبات اآلخرة‬
‫جعلوا العقل عاطال‪ ،‬ويف الرؤية جعلوه مساويا‪ .‬فهذه األمور الغيبية نتفق‬
‫معهم عىل إثباهتا‪ ،‬لكننا نخالفهم يف املأخذ واملصدر‪ .‬فهم يقولون عند ذكر أي‬

‫‪276‬‬
‫أمر منها‪ :‬نؤمن به ألن العقل ال حيكم باستحالته وألن الرشع جاء به‪.‬‬
‫ويكررون ذلك دائام‪.‬‬
‫ِ‬
‫السنة واجلامعة فال منافا َة بني العقل والنقل أصالً‪ ،‬وال‬ ‫أهل‬ ‫ِ‬
‫مذهب ِ‬ ‫أما يف‬
‫ِ‬
‫أصول‬ ‫وليس هناك ٌ‬
‫أصل من‬ ‫ٍ‬
‫جانب؛ َ‬ ‫وإهدار يف‬ ‫ٍ‬
‫جانب‪.‬‬ ‫ِ‬
‫للعقل يف‬ ‫تضخيم‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫يستطيع‬ ‫العقل بإثباته أبد ًا؛ كام أنه ليس هناك ٌ‬
‫أصل منها ال‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬
‫يستقل‬ ‫العقيدةِ‬
‫ُ‬
‫العقل إثبا َت ُه أبد ًا‪.‬‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫السمعيات ليس هو يف مذهب أهل السنة‬ ‫فاإليامن باآلخرة وهو ُ‬
‫أصل كل‬ ‫ُ‬
‫واجلامعة سمعي ًا فقط‪ ،‬بل إن األدلة عليه من القرآن هي يف نفسها عقلية كام أ َّن‬
‫حير ْف ُهم عنها‬ ‫ِ‬
‫أذهان البرش ما مل ُ َ‬ ‫الفطر السليم َة تشهدُ به‪ ،‬فهو حقيق ٌة مركوزة يف‬
‫َ‬
‫حارف‪.‬‬
‫العقل حكم باستحالة ٍ‬
‫يشء من تفصيالته فرض ًا وجدالً‬ ‫َ‬ ‫أن‬
‫لكن لو َّ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫العقل‬ ‫فحكم ُه مردو ٌد؛ وليس إيامنُنا به متوقفاً عىل حك ِم العقل‪ .‬وغاي ُة األمر أ َّن‬
‫ُ‬
‫قد يعج ُز عن تصوره‪ ،‬أما أن حيكم باستحالته فغري ٍ‬
‫وارد‪ ،‬وهللِ احلمدُ }‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫أقول‪ :‬هذا التقسيم الثالثي ألصول العقيدة الذي ذكره الدكتور ناسبا له‬
‫إىل األشاعرة هو من املقررات عند األشاعرة‪ ،‬وقد ذكره إمام احلرمني يف‬
‫"اإلرشاد"‪ ،‬وبينه بيانا وافيا ال يصح ملن يفهم كالمه أن يرتاب يف صحة هذا‬
‫التقسيم فضال عن أن ينتقده أو ينكره!‬

‫‪277‬‬
‫والدكتور قد اطلع عىل بيان إمام احلرمني‪ ،‬فإن "اإلرشاد" أول مراجعه‬
‫التي أوردها يف التعليق‪ ،‬لكن الدكتور مل يفهم هذا البيان‪ ،‬وال أدري هل مل‬
‫يستطع فهمه ألنه مل يتمرن عىل فهم كالم األشاعرة لدقته وعلوه عن فهمه‪ ،‬أم‬
‫أنه مل يتجشم فهمه عىل وجهه كي يتسنى له النقد واإلنكار الذي هو مغرم‬
‫به؟؟!!‬
‫وأنقل كالم إمام احلرمني بنصه‪ ،‬ثم أعقبه بتوضيح له‪ ،‬ثم أعود إىل كالم‬
‫الدكتور‪ ،‬وإىل بيان ما حواه من أخطاء‪.‬‬
‫قال إمام احلرمني‪( :‬إعلموا وفقكم اهلل تعاىل أن أصول العقائد تنقسم إىل‬
‫ما يدرك عقال وال يسوغ تقدير إدراكه سمعا‪ .‬وإىل ما يدرك سمعا وال يتقدر‬
‫إدراكه عقال‪ .‬وإىل ما جيوز إدراكه سمعا وعقال‪ .‬فأما ما ال يدرك إال عقال فكل‬
‫قاعدة يف الدين تتقدم عىل العلم بكالم اهلل تعاىل ووجوب اتصافه بكونه‬
‫صادقا‪ ،‬إذ السمعيات تستند إىل كالم اهلل تعاىل؛ وما يسبق ثبوته يف الرتتيب‬
‫ثبوت الكالم وجوبا فيستحيل أن يكون مدركه السمع‪.‬‬
‫وأما ما ال يدرك إال سمعا فهو القضاء بوقوع ما جيوز يف العقل وقوعه‪،‬‬
‫وال جيب أن يتقرر احلكم بثبوت اجلائز ثبوته فيام غاب عنا إال بسمع‪ ،‬ويتصل‬
‫هبذا القسم عندنا مجلة أحكام التكليف وقضاياها من التحسني والتقبيح‬
‫واإلجياب واحلظر والندب واإلباحة‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫وأما ما جيوز إدراكه سمعا وعقال فهو الذي تدل عليه شواهد العقول‪،‬‬
‫ويتصور ثبوت العلم بكالم اهلل تعاىل متقدما عليه‪ .‬فهذا القسم يتوصل إىل‬
‫دركه بالسمع والعقل‪ .‬ونظري هذا القسم إثبات جواز الرؤية‪ ،‬واثبات استبداد‬
‫الباري تعاىل باخللق واالخرتاع‪ ،‬وما ضاهامها مما يندرج حتت الضبط الذي‬
‫ذكرناه‪ .‬فأما كون الرؤية ووقوعها فطريق ثبوهتا الوعد الصدق والقول احلق)‬
‫‪223‬‬
‫هذا كالم إمام احلرمني‪.‬‬
‫وإيضاحا له أقول‪ :‬السمع هو كتاب اهلل تعاىل وسنة رسوله صىل اهلل عليه‬
‫وآله وسلم‪ .‬والقرآن ال يثبت كونه كالم اهلل تعاىل إال بعد ثبوت وجود اهلل تعاىل‬
‫وثبوت اتصافه باحلياة والعلم واإلرادة والقدرة‪ ،‬وكذلك بعد ثبوت صدق‬
‫الرسول املخرب بأن القرآن كالم اهلل تعاىل يف دعواه النبوة بالدالئل الدالة عىل‬
‫صدقه يف دعواه هذه‪ ،‬والسنة ال يثبت كوهنا حجة عىل الناس فيام احتوت عليه‬
‫من األحكام إال بعد ثبوت صدق الرسول يف دعواه النبوة‪ ،‬فكون القرآن كالم اهلل‬
‫تعاىل وكونه حجة عىل الناس‪ ،‬وكون سنة حممد صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‬
‫حجة عىل الناس كل منهام متوقف عىل ما ذكرناه‪ ،‬فلو حاولنا االستدالل عىل‬
‫يشء مما يتوقف عليه حجية الكتاب والسنة بالكتاب والسنة يلزم الدور‪ .‬وهو‬
‫توقف اليشء عىل ما يتوقف عليه ذلك اليشء‪ ،‬املستلزم لتقدم اليشء عىل نفسه‪.‬‬

‫‪223‬‬
‫‪312 311‬‬

‫‪279‬‬
‫وهل يقدم عاقل عىل االستدالل عىل وجود اهلل واتصافه بتلك الصفات‪ ،‬وعىل‬
‫صدق الرسول يف دعواه الرسالة عىل من ال يعرتف بذلك‪ ،‬بالكتاب والسنة‪ ،‬وإذا‬
‫حاول بعض الناس االستدالل هبذا الطريق عىل اخلصم املذكور فامذا عسى أن‬
‫يكون موقف هذا اخلصم من هذا املستدل؟ أال ُيكم عليه باجلهل بطرق‬
‫االستدالل؟‬
‫فمعنى أن مدرك هذه العقائد هو العقل فقط أنه ال يصح االستدالل عىل‬
‫ثبوهتا عىل من ال يعرتف هبا‪ ،‬إال بالعقل‪ ،‬وليس معناه أن الرشع ال يدل عىل‬
‫ثبوهتا‪ ،‬وأما املؤمن فال يكون مؤمنا إال باعتقادها‪ ،‬فال يتصور بالنسبة إليه‬
‫االستدالل عليه بالسمع‪.‬نعم يكون توارد األدلة السمعية عىل ما اعتقده مقويا‬
‫العتقاده‬
‫نعم وجوب اعتقاد هذه العقائد إنام يثبت عند األشاعرة بالسمع ال بالعقل‪،‬‬
‫ألنه ال حكم عندهم للعقل بيشء من األحكام الرشعية ‪-‬ومنه وجوب اعتقاد‬
‫هذه العقائد‪ -‬قبل ورود الرشع‪ ،‬فوجوب اعتقاد هذه األمور أمر‪ ،‬وإدراكها أي‬
‫معرفتها أمر آخر‪ .‬فاألول ال يدرك إال بالرشع‪ ،‬والثاين ال يدرك إال بالعقل‪ .‬فإذا‬
‫ورد الرشع وبلغت الدعوة إىل املكلف فقد استقرت عليه كل الواجبات وثبتت‬
‫التكاليف‪ ،‬ومنها هذه العقائد‪ ،‬فقد وجب عليه رشعا أن يدرك هذه العقائد‬
‫بالعقل ويعتقدها‪ ،‬فوجوب اعتقاد هذه العقائد رشعي‪ ،‬وأما إدراكها ومعرفتها‬
‫فطريقه العقل‪ ،‬ألن الرشع وإن كان قد ثبت عليه ببلوغ الدعوة‪ ،‬لكنه مل يثبت‬

‫‪281‬‬
‫عنده بعد‪ ،‬فال يصح له أن يستدل لنفسه‪ ،‬وال أن يستدل غريه عليه إلثبات هذه‬
‫العقائد بالرشع‪ ،‬ألن الدليل البد أن يكون من املسلامت عند اخلصم‪ ،‬والرشع مل‬
‫يثبت عنده بعد‪ .‬وإن كان قد ثبت عليه‪.‬‬
‫فالواجب عىل املكلف عند بلوغ الدعوة إليه أن يستدل عىل هذه العقائد‬
‫بالعقل‪ ،‬إما بأن يستدل عىل كل واحد منها بدليل عقيل يثبتها‪ ،‬أو يكتفي‬
‫بالدليل العقيل الدال عىل صدق الرسول يف دعواه الرسالة‪ ،‬فإنه هبذا الدليل‬
‫يثبت صدقه‪ ،‬ويثبت صحة كل ما أخربه عن اهلل تعاىل‪ ،‬ومنها هذه العقائد‪،‬‬
‫فالدليل عىل ثبوت هذه العقائد يف هذه الصورة يكون أيضا عقليا‪ ،‬وهو دليل‬
‫صدق الرسول يف دعواه‪.‬‬
‫ومن أجل ذلك كان طريقة القرآن عند ما خيرب عن هذه العقائد أن يستدل‬
‫عليها بالدالئل العقلية‪ ،‬فاإلخبار هبا يؤخذ منه حكم رشعي بوجوب اعتقادها‪،‬‬
‫وأما إدراكها ومعرفتها‪ ،‬وإذعان العقل هلا فيكون عن طريق هذه الدالئل العقلية‬
‫التي أوردها القرآن استدالال عىل ثبوهتا‪.‬‬
‫وأما عند املعتزلة ومجهور املاتريدية‪ :‬فوجوب اعتقاد هذه العقائد ثابت‬
‫بالعقل قبل ورود الرشع هبا‪ ،‬وقبل بلوغ الدعوة إىل املكلف‪ .‬واخلالف هنا‬
‫مبني عىل اخلالف يف التحسني والتقبيح العقليني‪ ،‬فاملعتزلة ذهبوا إىل أن أفعال‬
‫املكلف مشتملة عىل صفة من احلسن والقبح توجب ورود احلكم الرشعي‬
‫عىل حسبها يف األصول والفروع قبل جمئ الرشع‪ ،‬والعقل قد يدرك صفة‬

‫‪281‬‬
‫احلسن والقبح من الفعل فيدرك عندها احلكم الذي تقتضيه هذه الصفة من‬
‫الوجوب والندب واحلظر واإلباحة؛ وقد ال يدرك العقل ذلك فيتوقف عن‬
‫احلكم حتى يرد الرشع به‪ .‬فالرشع عندهم مؤيد فيام أدركه العقل من‬
‫األحكام‪ ،‬ومبني فيام ال يدركه منها‪.‬‬
‫واألشاعرة‪ :‬نفوا صفة احلسن والقبح عن الفعل قبل ورود الرشع رأسا‪،‬‬
‫وقالوا‪ :‬ال َح َس َن إال ما ورد الرشع بحسنه‪ ،‬وال قبيح إال ما ورد الرشع بقبحه‪،‬‬
‫ومن أجل ذلك نفوا أن يكون هلل تعاىل حكم يف فعل من أفعال املكلف قبل‬
‫ورود الرشع ال يف األصول وال يف الفروع‪.‬‬
‫وأما املاتريدية فتوسطوا بني املذهبني‪ ،‬فأثبتوا للفعل أصل صفة احلسن والقبح‪،‬‬
‫املقتضيني لورود الرشع بحسبهام عند وروده‪ ،‬وأما قبل ورود الرشع فلم يثبتوا‬
‫احلكم الرشعي يف الفروع‪ ،‬واختلفوا يف ثبوته يف األصول التي مدركها العقل دون‬
‫الرشع‪ ،‬فأثبته معظمهم فيها‪ ،‬ومل يثبته اآلخرون‪.‬‬
‫وأما العقائد التي ال يتوقف ثبوت السمع من الكتاب والسنة عىل ثبوهتا مما‬
‫جيوز للعقل أن يدركها ورد الرشع هبا أم مل يرد‪ .‬وذلك كجواز رؤية اهلل تعاىل‪،‬‬
‫واستبداد اهلل تعاىل باخللق واالخرتاع‪ ،‬فيصح االستدالل عليها بالعقل والرشع‪،‬‬
‫فتستدل عليها بالعقل فقط عىل غري املؤمن بالرشع ‪ ،‬وبالرشع والعقل معا عىل‬
‫املؤمن بالرشع‪ ،‬وأما نفس رؤية اهلل فال تثبت إال بالرشع‪.‬‬

‫‪282‬‬
‫وأما األحكام الرشعية سواء كانت تكليفية أو وضعية فال سبيل إىل‬
‫إدراكها عند األشاعرة إال الرشع‪ ،‬وال يستقل العقل بإدراك يشء منها قبل‬
‫ورود الرشع‪ .‬وقالت املعتزلة‪ :‬قد يستقل العقل بإدراكها يف األصول والفروع‪،‬‬
‫وقال مجهور املاتريدية‪ :‬يستقل العقل بإدراكها يف األصول دون الفروع‪.‬‬
‫هذا توضيح كالم إمام احلرمني‪ ،‬وأرى أن املسألة قد وضحت وضوحا‬
‫تاما‪ .‬وبعد هذا اإليضاح نعود إىل كالم الدكتور‪ ،‬فنقول وباهلل التوفيق‪:‬‬

‫‪ -77‬ما حواه كالم الدكتور من األخطاء‪:‬‬


‫قد احتوى كالم الدكتور يف هذه املسألة ‪-‬كام هو احلال يف سائر املسائل‪-‬‬
‫عىل أخطاء كثرية جسيمة‪:‬‬
‫اخلطأ األول‪ :‬قوله‪ »1«( :‬قسم مصدره العقل وحده‪ ،‬وهو معظم‬
‫األبواب‪ ،‬ومنه باب الصفات)‬
‫مقصور عىل العقائد التي يتوقف ثبوت‬
‫ٌ‬ ‫أقول‪ :‬قد علمت أن هذا القسم‬
‫السمع عىل ثبوهتا‪ ،‬وليس بجار يف معظم الصفات‪ ،‬فضال عن جريانه يف معظم‬

‫‪283‬‬
‫األبواب‪ .‬قال البيهقي يف "اإلعتقاد"‪( :‬فصفات ذاته ما يستحقه فيام مل يزل وال‬
‫يزال‪ ،‬وهي عىل قسمني‪ :‬أحدمها عقيل‪ ،‬واآلخر سمعي‪ .‬فالعقيل ما كان طريق‬
‫إثباته أدلة العقول مع ورود السمع به‪ ...‬وأما السمعي فهو ما كان طريق ثبوته‬
‫‪224‬‬
‫الكتاب والسنة فقط)‬
‫اخلطأ الثاين‪ :‬قوله‪( :‬وهذا القسم هو ما ُيكم العقل بوجوبه دون توقف‬
‫عىل الوحي عندهم)‬
‫أقول‪ :‬بل هذا القسم هو ما ُيكم العقل بوجوده وثبوته‪ ،‬وال يصح االستدالل‬
‫عىل ثبوته بالرشع‪ ،‬مع أن الرشع قد ورد به‪ ،‬وذلك ملا ذكرناه من لزوم الدور‪ ،‬وأما‬
‫وجوب اعتقاد هذه العقائد فمأخوذ من الرشع فقط عند األشاعرة كام قدمناه‪ ،‬وال‬
‫أدري ماذا أقول هلذا الدكتور الذي خيلط بني الوجود والوجوب‪ ،‬وال يفرق‬
‫بينهام!!! فإن الوجود أمر واقعي‪ ،‬والوجوب حكم رشعي‪.‬‬
‫اخلطأ الثالث والرابع واخلامس والسادس‪ :‬قوله‪ »2«( :‬قسم مصدره‬
‫العقل والنقل معا كالرؤية عىل خالف بينهم فيها‪ -‬وهذا القسم هو‪" :‬ما‬
‫ُيكم العقل بجوازه استقالال أو بمعاضدة الوحي")‬
‫فاخلطأ الثالث متثيله هلذا القسم بالرؤية مع أن املثال الصحيح هو جواز‬
‫الرؤية‪ .‬وأما الرؤية نفسها فمدركها الرشع فقط كام تقدم‪ ،‬فالدكتور ال يفرق‬

‫‪31 224‬‬

‫‪284‬‬
‫بني الرؤية نفسها وبني جوازها‪ ،‬فمن أجل ذلك وقع يف هذا اخلطأ واخلطأ‬
‫الرابع‪ :‬وهو قوله‪( :‬عىل خالف بينهم فيها) ملا رأى إمام احلرمني جعل جواز‬
‫الرؤية من القسم الثاين‪ ،‬وجعل الرؤية نفسها من القسم الثالث‪ ،‬ظن أن هذين‬
‫قوالن يف الرؤية نفسها‪ .‬واخلطأ اخلامس‪ :‬قوله‪( :‬وهذا القسم هو‪ :‬ما ُيكم‬
‫العقل بجوازه استقالال أو بمعاضدة الوحي) فقوله‪( :‬أو بمعاضدة الوحي)‬
‫خطأ‪ ،‬فإن هذا القسم ُيكم العقل بجوازه استقالال‪ ،‬وُيكم الرشع أيضا‬
‫بجوازه استقالال‪ ،‬وكالم الدكتور يفيد أن العقل قد ال يستقل باحلكم بجوازه‪،‬‬
‫بل إنام ُيكم بذلك بمعاضدة من الرشع‪.‬‬
‫وقد ترتب عىل عدم التفرقة بني الرؤية وجوازها خطأ سادس‪ ،‬حيث عرب‬
‫بقوله‪( :‬وهذا القسم هو ما ُيكم العقل بجوازه) وقد علمت أن مثال هذا‬
‫القسم هو جواز الرؤية ال الرؤية‪ ،‬فكان الصواب أن يقول‪( :‬وهذا القسم هو‬
‫ما ُيكم العقل به‪ )...‬ولكن الدكتور حيث أخطأ يف التمثيل اضطر إىل أن خيطأ‬
‫يف التعبري أيضا ويقول‪( :‬هو ما ُيكم العقل بجوازه)‬
‫اخلطأ السابع والثامن‪ :‬قوله‪( :‬واحلاصل أهنم يف الصفات جعلوا العقل‬
‫حاكام‪ ،‬ويف إثبات اآلخرة جعلوا العقل عاطال) فاألشاعرة مل جيعلوا العقل‬
‫حاكام يف الصفات كلها‪ ،‬بل يف بعضها‪ ،‬وهو ما توقف ورود الرشع عىل ثبوته‪،‬‬
‫دون غريها‪ ،‬ومل يعطلوا العقل يف إثبات اآلخرة‪ ،‬بل جعلوا جتويز العقل هلا‬

‫‪285‬‬
‫إحدى مقدمات دليل إثباهتا‪ ،‬حيث يقولون‪ :‬هذا أمر قد جوزه العقل وورد به‬
‫السمع‪ ،‬فالبد من اعتقاد ثبوته‪.‬‬
‫اخلطأ التاسع‪ :‬قوله عىل وجه اإلنكار عىل األشاعرة‪( :‬فهم يقولون عند‬
‫ذكر أي أمر منها‪ :‬نؤمن به ألن العقل ال ُيكم باستحالته وألن الرشع جاء به‪،‬‬
‫ويكررون ذلك دائام) أقول‪ :‬يقصد األشاعرة هبذا الكالم أنه لو كان العقل‬
‫حكم باستحالة هذا األمر حكام قاطعا‪ ،‬وفرض أن ظاهر الرشع قد جاء به‪ ،‬مل‬
‫نحكم بثبوت هذا األمر‪ ،‬ألن الرشع ال يرد بام خيالف رصائح العقول‪ ،‬بل‬
‫الواجب حينئذ تأويل ظاهر الرشع‪ ،‬ورصفه إىل معنى صحيح ال ُييله العقل‪،‬‬
‫وما الذي يستنكر من هذا الكالم؟؟!!‬
‫وابن تيمية نفسه قد استعمل يف االستدالل هذا املعنى فقال يف "التدمرية"‬
‫مناقشا للمعتزلة يف بعض املسائل‪( :‬وليس لك أن تنفيه بغري دليل‪ ،‬ألن النايف‬
‫عليه الدليل كام عىل املثبت‪ ،‬والسمع قد دل عليه‪ ،‬ومل يعارض ذلك معارض‬
‫‪225‬‬
‫عقيل وال سمعي‪ ،‬فيجب إثبات ما أثبته الدليل السامل عن املعارض املقاوم)‬
‫فلامذا تستنكر أهيا الدكتور قول األشاعرة املذكور‪ ،‬ومل تنتقد قول ابن تيمية‬
‫هذا‪ ،‬واملعنى واحد؟؟!!‬

‫‪225‬‬
‫‪23‬‬

‫‪286‬‬
‫اخلطأ العارش‪ :‬قوله‪( :‬وأما يف مذهب أهل السنة فال منافاة بني العقل‬
‫والنقل أصال‪ ،‬وال تضخيم للعقل يف جانب وإهدار يف جانب)‬
‫أقول‪ :‬هذا الكالم إذا قطع عن سياقه كالم قويم‪ ،‬واخلطأ فيه أن الدكتور‬
‫قصد به أن األشاعرة قد حكموا بتقسيمهم الثالثي املتقدم باملنافاة بني العقل‬
‫والنقل‪ ،‬وأهنم قد ضخموا العقل يف هذا التقسيم يف جانب جيب عدم‬
‫تضخيمهم له فيه‪ ،‬وأهدروه يف جانب جيب استعامهلم له فيه‪.‬‬
‫مع أنه ليس يف هذا التقسيم أي حكم باملنافاة بني العقل والنقل‪ ،‬بل ما‬
‫فعلوه يف هذا التقسيم إنام هو استعامل لكل من العقل والنقل يف جماله الذي‬
‫جيب أن يستعمل فيه‪ ،‬وإمهال لكل منهام يف املجال الذي ال جمال له فيه‪ .‬وهذه‬
‫هي احلكمة التي أوتيها األشاعرة‪ ،‬ومن يؤت احلكمة فقد أويت خريا كثريا‪.‬‬
‫اخلطأ احلادي عرش والثاين عرش والثالث عرش‪ :‬قوله‪( :‬ليس هناك أصول‬
‫من أصول العقيدة يستقل العقل بإثباته أبدا‪ ،‬كام أنه ليس هناك أصل منها ال‬
‫يستطيع العقل إثباته أبدا)‬
‫اخلطأ األول يف هذا الكالم نسبة األمرين املذكورين إىل مذهب أهل‬
‫السنة‪ ،‬وليت شعري من هم أهل السنة القائلون هبذين اخلطأين العظيمني؟!‬
‫نعم من عادة الدكتور أن جيعل كل ما هيويه مذهبا ألهل السنة!!!‬
‫اخلطأ الثاين‪ :‬قوله‪( :‬وليس هناك أصل من أصول العقيدة يستقل العقل‬
‫بإثباته أبدا)‬

‫‪287‬‬
‫وقد علمت أن العقل يستقل بإثبات ما يتوقف صحة النقل عليه من‬
‫العقائد‪ ،‬ومعظم الفالسفة قد آمنوا بذلك عن طريق العقل املجرد‪ ،‬وإن كان‬
‫مراد الدكتور أنه ليس هناك أصل من أصول العقيدة يثبته العقل وال يثبته‬
‫السمع‪ ،‬فاملعنى صحيح لكن اللفظ ال يفيد ذلك‪.‬‬
‫اخلطأ الثالث‪ :‬قوله‪( :‬كام أنه ليس هناك أصل منها ال يستطيع العقل إثباته‬
‫أبدا)‬
‫وقد علمت أن وجوب الواجبات مما ال يستقل العقل بإثباته أبدا‪ .‬وكذلك‬
‫السمعيات كلها ال يستقل العقل بإثباهتا‪ ،‬والعقل جيوزها فقط‪ ،‬وإما ثبوهتا‬
‫وحتققها فلم يدل عليه إال السمع‪ ،‬ثم إن هذين احلكمني من الدكتور مع‬
‫كوهنام خطأين مها حكامن متناقضان‪ ،‬أثبت الدكتور يف كل منهام ما نفاه يف‬
‫اآلخر!!!‬
‫اخلطأ الرابع عرش واخلامس عرش‪ :‬قوله‪ ( :‬فاإليامن باآلخرة وهو أصل كل‬
‫السمعيات‪ -‬ليس يف مذهب أهل السنة واجلامعة سمعيا فقط‪ ،‬بل األدلة عليه من‬
‫القرآن كلها عقلية)‬
‫اخلطأ األول أيضا يف نسبة هذا القول إىل أهل السنة واجلامعة عىل عادته يف‬
‫نسبة ما هيواه إليهم!‬
‫اخلطأ الثاين‪ :‬حكمه بأن األدلة عىل اإليامن باآلخرة من القرآن كلها عقلية‪،‬‬
‫وذلك أن كل ما ورد يف القرآن من األدلة العقلية املتعلقة باحلرش إنام تدل عىل‬

‫‪288‬‬
‫إمكانه‪ ،‬وترد استبعاد الكافرين لوقوعه‪ ،‬وأقرأ اآليات األخرية من سورة يس‪،‬‬
‫وهي أوضح ما ورد يف القرآن من الدالئل املتعلقة باحلرش‪،‬هل ترى فيها غري‬
‫إثبات اإلمكان‪ ،‬وتزييف استبعاد وقوعه من الكافرين املنكرين لوقوعه‪.‬‬
‫وأما إثبات وقوع احلرش فال يتم إال بضم الدليل السمعي وهو إخبار هلل‬
‫تعاىل بوقوعه‪ -‬إىل تلك األدلة العقلية‪.‬‬
‫ولكن الدكتور ال يفرق بني جواز الوقوع‪ ،‬ونفس الوقوع فمن أجل ذلك‬
‫تورط يف هذا اخلطأ!‬
‫اخلطأ السادس عرش‪ :‬قوله‪( :‬لكن لو أن العقل حكم باستحالة يشء من‬
‫تفصيالته فرضا وجدال‪ -‬فحكمه مردود)‬
‫أقول‪ :‬كيف يكون حكم العقل باالستحالة مردودا؟ هذا كالم من ال‬
‫يعرف أن استحالة العقل ما هي‪ .‬نعم قد يكون العقل وامها يف احلكم‬
‫باالستحالة مع أنه ال استحالة يف الواقع‪ ،‬وهذا احلكم الومهي هو الذي جيوز‬
‫أن ي َرد ببيان وهم العقل يف هذا احلكم‪ ،‬وأما استحالة العقل فال يرفضها إال‬
‫رافض لعقله‪.‬‬
‫وقد قال إمام احلرمني‪ :‬إن العقل عبارة عن معرفة وجوب الواجبات‪،‬‬
‫وجواز اجلائزات‪ ،‬واستحالة املستحيالت‪ .‬وهل جيوز أن يرد الرشع بام حتيله‬
‫العقول؟! وقد ناقض الدكتور نفسه بقوله عقب هذا الكالم وهو كالم‬

‫‪289‬‬
‫حق‪( :-‬وغاية األمر أن العقل قد يعجز عن تصوره‪ ،‬وأما أن ُيكم باستحالته‬
‫فغري وارد‪ .‬وهلل احلمد)‬
‫اخلطأ السابع عرش‪ :‬قوله‪( :‬وليس إيامننا به متوقفا عىل حكم العقل)‬
‫أقول‪ :‬إيامننا بكل ما نؤمن به متوقف عىل حكم العقل بعدم استحالته‪ ،‬ثم‬
‫ورود الرشع به‪ .‬ولو حكم العقل حكام صحيحا قاطعا باستحالة أمر‪ ،‬وفرض‬
‫أن ظاهر الرشع ورد به‪ ،‬فال نؤمن بام يدل عليه هذا الظاهر‪ ،‬ونؤل هذا الظاهر‪،‬‬
‫ونَصفه إىل معنى صحيح يقبله العقل وال ُييله‪ ،‬فإن الرشع ال يرد بام حتيله‬
‫العقول‪.‬‬

‫‪ -76‬املقرر عند األشاعرة أهنم ال يكفرون إال من أنكر أمر ًا جممعاً عليه معلوماً‬
‫من الدين بالرضورة‪:‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬الثالث عرش‪ :‬التكفري‪ :‬التكفري عند أهل السنة واجلامعة حق‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬ال يطلق إال عىل من يستحقه رشعا‪ ،‬وال تردد يف إطالقه عىل من ثبت‬
‫كفره برشوطه الرشعية‪.‬‬

‫أما األشاعر ُة فهم مضطربون اضطراب ًا كبري ًا‪ ،‬فتار ًة يقولون‪ُ :‬‬
‫نحن ال نكف ُر‬
‫نكفر إال َم ْن ك َّفرنا‪ ،‬وتار ًة يكفرون بأمور ال‬ ‫أحد ًا‪ ،‬وتار ًة يقولون‪ُ :‬‬
‫نحن ال ُ‬
‫توجب جمرد‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بأمور ال‬ ‫تستوجب أكثر من التفسيق أو التبديع‪ ،‬وتار ًة يكفرون‬
‫ُ‬

‫‪291‬‬
‫نفسها رشعية وجيب عىل كل مسل ٍم أن‬ ‫ٍ‬
‫بأمور هي ُ‬ ‫التفسيق‪ ،‬وتار ًة يكفرون‬
‫يعتقدَ ها‪.......‬‬
‫يستحق سوى التبديع فمثل ترصحيهم يف أغلب كتبهم‬
‫ُّ‬ ‫تكفري من ال‬
‫ُ‬ ‫وأما‬
‫جسم ال كاألجسام‪ .‬وهذا ليس بكافر بل هو ٌّ‬
‫ضال‬ ‫ٌ‬ ‫بتكفري َم ْن قال‪ :‬إ َّن اهلل‬
‫مبتدع ألنه أتى ٍ‬
‫تستعمل ما هو مث ُل ُه َ ٌّ‬
‫ورش منه‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫بلفظ مل يرد به الرش ُع‪ .‬واألشاعر ُة‬
‫مر يف الفقرة‬
‫تكفري من ال يستحق حتى جمرد الفسق أو املعصية فكام ّ‬
‫ُ‬ ‫وأما‬
‫السابقة من تكفريهم من قال‪ :‬إن النار ع ّلة اإلحراق والطعام ع ّلة الشبع‪.‬‬
‫علو‬ ‫ِ ِ‬
‫يثبت َّ‬
‫جيب اعتقا ُده فنحو تكفريهم ملن ُ‬ ‫حق يف نفسه ُ‬ ‫التكفري بام هو ٌّ‬
‫ُ‬ ‫وأما‬
‫يؤمن باهلل عىل طريق َة أهل الكالم‪ ،‬وكقوهلم‪ :‬إن األخذ بظواهر‬
‫ْ‬ ‫اهلل‪ ،‬ومن مل‬
‫النصوص من أصول الكفر‪ ،‬وكقوهلم‪ :‬إن عبادة األصنام فرع من مذهب املشبهة‪،‬‬
‫ويعنون هبم أهل السنة واجلامعة}‬
‫أقول‪ :‬املقرر عند األشاعرة وهو مذهب اجلمهور األعظم منهم‪ -‬أنه إنام‬
‫يكفر من أنكر جممعا عليه معلوما من الدين بالرضورة‪ .‬قال القايض عضد الدين‬
‫اإلجيي‪( :‬املقصد الثالث يف الكفر وهو خالف اإليامن‪ ،‬فهو عندنا عدم تصديق‬
‫الرسول يف بعض ما علم جميئه به رضورة) وقال‪( :‬املقصد اخلامس يف أن‬
‫املخالف للحق من أهل القبلة هل يكفر أم ال؟ مجهور املتكلمني والفقهاء عىل أنه‬

‫‪291‬‬
‫ال يكفر أحدٌ من أهل القبلة)‪ 226‬وقال شارح "املواقف" السيد الرشيف اجلرجاين‬
‫عقب هذا الكالم‪« :‬فإن الشيخ أبا احلسن قال يف أول كتابه مقاالت اإلسالميني‪:‬‬
‫اختلف املسلمون بعد نبيهم يف أشياء ضلل بعضهم بعضا‪ ،‬وتربأ بعضهم عن‬
‫بعض‪ ،‬فصاروا فرقا متباينني‪ ،‬إال أن اإلسالم جيمعهم ويعمهم‪ .‬ثم قال السيد‪:‬‬
‫‪227‬‬
‫فهذا مذهبه‪ ،‬وعليه أكثر أصحابنا»‪.‬‬
‫وقال ابن أيب رشيف يف "املسامرة" رشح "املسايرة" البن اهلامم‪« :‬قال‬
‫ِ‬
‫جاحد املجم ِع عليه عىل إطالقه‪ ،‬بل من‬ ‫النووي يف "الروضة"‪ :‬ليس تكفري‬
‫جحد جممعا عليه فيه نص وهو من األمور الظاهرة التي يشرتك يف معرفتها‬
‫اخلواص والعوام كالصالة وحتريم اخلمر ونحومها‪ ،‬فهو كافر ومن جحد‬
‫جممعا عليه ال يعرفه إال اخلواص كاستحقاق بنت اإلبن السدس مع بنت‬
‫الصلب‪ ،‬ونحوه فليس بكافر‪.‬‬
‫وقال ابن دقيق العيد يف "رشح العمدة" أول كتاب القصاص‪ :‬أطلق‬
‫بعضهم أن خمالف اإلمجاع يكفر‪ .‬واحلق أن املسائل اإلمجاعية تارة يصحبها‬
‫التواتر عن صاحب الرشع كوجوب اخلَمس‪ ،‬وقد ال يصحبها‪ ،‬فاألول يكفر‬
‫‪228‬‬
‫جاحده ملخالفته التواتر ال ملخالفة اإلمجاع»‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫‪392 388‬‬
‫‪227‬‬
‫‪339 8‬‬
‫‪228‬‬
‫‪318‬‬

‫‪292‬‬
‫‪ -78‬أخطاء الدكتور يف مسألة التكفري‪:‬‬
‫هذا كالم هؤالء األساطني من أئمة األشاعرة يف مسألة التكفري‪ ،‬وبعد هذا‬
‫نعود إىل كالم الدكتور لنبني كم حواه من أخطاء‪ ،‬فنقول‪:‬‬
‫اخلطأ األول‪ :‬قوله‪( :‬التكفري عند أهل السنة واجلامعة حق اهلل تعاىل) سياق‬
‫هذا الكالم يقتىض أن مراد الدكتور أن التكفري عند األشاعرة الذين جعلهم‬
‫الدكتور مقابلني ألهل السنة‪ -‬ليس بحق اهلل‪ ،‬فامذا يقصد الدكتور بقوله‪:‬‬
‫(التكفري‪ ...‬حق اهلل) هل يقصد أنه حق هلل تعاىل‪ ،‬وال جيوز ألحد من علامء األمة‬
‫أن يتدخل فيه وُيكم بكفر أحد من الناس‪ ،‬وهذا خطأ حمض‪ .‬أم يقصد أنه حق‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬وال جيوز ألحد من علامء األمة أن خيالف اهلل فيه‪ ،‬فهذا ما ال خيالف فيه‬
‫أحدٌ من فرق املسلمني‪ ،‬إن كانت املخالفة قصدية‪ ،‬أو كانت يف ما ال جمال‬
‫لالجتهاد فيه‪ ،‬وأما إذا كانت املسألة اجتهادية فاجتهد املجتهد فحكم بكفر فريق‬
‫من الناس لكنه أخطأ يف اجتهاده هذا‪ ،‬فقد خالف حكم اهلل يف املسألة‪ ،‬ومع ذلك‬
‫ال يقال‪ :‬ال جتوز له هذه املخالفة‪ ،‬بل هو مأجور عىل اجتهاده فال وجه لنسبة هذا‬
‫القول ألهل السنة الذين قصدهم‪ ،‬واإلشار ِة بذلك إىل أن األشاعرة خيالفون فيه!‬
‫عرب هبذا التعبري غري املحرر؟!‬ ‫ِ‬
‫ثم َمن من أهل السنة َ‬
‫نعم من عادة الدكتور أن ينسب ما هيواه إىل أهل السنة واجلامعة!‬

‫‪293‬‬
‫اخلطأ الثاين‪ :‬قوله‪( :‬ال يطلق إال عىل من يستحقه رشعا‪ ،‬وال تردد يف‬
‫إطالقه عىل من ثبت كفره برشوطه الرشعية)‬
‫أقول‪ :‬هذا كالم جممل مل خيالف فيه ‪-‬عىل إمجاله‪ -‬أحد من الفرق‬
‫اإلسالمية‪ ،‬والدكتور قد ساقه عىل أنه مذهب أهل السنة الذين قصدهم‪ ،‬وأن‬
‫غريهم من الفرق خمالفون فيه‪ ،‬ثم هال بني الدكتور الرشوط الرشعية للتكفري‬
‫عنده‪ ،‬أو عند أهل السنة الذين قصدهم‪ ،‬حتى نعلم هل هي صحيحة أم ال‪،‬‬
‫وهل هي موافقة ملذهب األشاعرة أم خمالفة له‪.‬‬
‫اخلطأ الثالث‪ :‬قوله‪( :‬أما األشاعرة فهم مضطربون اضطرابا كبريا) قد‬
‫علمت مذهب اجلمهور األعظم من األشاعرة يف املسألة‪ ،‬وأنه هو املذهب‬
‫الذي تقرر عندهم‪ ،‬فال اضطراب عندهم فضال عن أن يكون كبريا‪ .‬نعم هناك‬
‫خالف من بعضهم‪ ،‬وهو أمر طبيعي‪ ،‬وال يصح أن يطلق عليه اسم‬
‫االضطراب‪.‬‬
‫اخلطأ الرابع‪ :‬قوله‪( :‬فتارة يقولون‪ :‬نحن ال نكفر أحدا) قد نسب الدكتور‬
‫هذا القول إىل األشاعرة كلهم حيث قال‪( :‬يقولون) مع أنه ليس قوال ألحد‬
‫منهم‪ ،‬وهال بني الدكتور قائل ذلك‪ ،‬وهل ال يكفر األشاعرة املالحدة واليهود‬
‫والنصاري؟! والذي ال يكفرهم كافر‪ ،‬فلامذا ال ُيكم الدكتور بكفر األشاعرة‬
‫إذا‪ ،‬أو من قال منهم هذا القول؟!‬

‫‪294‬‬
‫اخلطأ اخلامس‪ :‬قوله‪( :‬وتارة يقولون‪ :‬نحن ال نكفر إال من كفرنا) هذا‬
‫قول لألستاذ أيب إسحاق اإلسفراييني فقط من األشاعرة‪ ،‬وهو قول غري‬
‫مقبول عند غريه منهم‪ ،‬وليس هو قوال لألشاعرة كلهم كام قال الدكتور‪:‬‬
‫(يقولون)‬
‫اخلطأ السادس‪ :‬قوله‪( :‬وأما تكفري من ال يستحق سوى التبديع فمثل‬
‫تَصُيهم يف أغلب كتبهم بتكفري من قال‪ :‬إن اهلل جسم ال كاألجسام)‬
‫أقول‪ :‬مل يكفر األشاعرة قائل هذا القول‪ ،‬وإنام َخطئوه و َأثموه من أجل‬
‫إطالقه عىل اهلل تعاىل ما ال جيوز إطالقه عليه ال عىل مذهب التوقيف‪ ،‬وال عىل‬
‫مذهب االشتقاق‪ ،‬لعدم التوقيف فيه‪ ،‬وإلهيامه معنى ال جيوز عىل اهلل تعاىل‪ .‬قال‬
‫ابن اهلامم‪( :‬األصل اخلامس‪ :‬أنه تعاىل ليس بجسم‪ ...‬فإن سامه أحدٌ جسام‬
‫وقال‪ :‬ال كاألجسام يعنى يف نفي لوازم اجلسمية‪ ،‬فإنام خطئوه يف إطالق‬
‫االسم‪ ...‬فمن أطلقه فهو عاص)‪ 229‬وقال القايض عضد الدين اإلجيي‪( :‬وال‬
‫نكفر أحدا من أهل القبلة إال بام فيه نفي الصانع القادر املختار العليم‪ ،‬أو بام فيه‬
‫رشك‪ ،‬أو إنكار النبوة‪ ،‬أو إنكار ما علم جميء حممد صىل اهلل تعاىل عليه وآله‬
‫وسلم به رضورة‪ ،‬أو إنكار أمر جممع عليه قطعا‪ ،‬أو استحالل املحرمات‪ ،‬وأما‬
‫غري ذلك فالقائل به مبتدع وليس بكافر‪ .‬ومنه التجسيم) وقال الشارح جالل‬

‫‪229‬‬
‫‪29‬‬

‫‪295‬‬
‫الدين الدواين‪( :‬التجسيم مع البلكفة غري مكفر‪ ،‬بخالف التجسيم مع غري‬
‫البلكفة)‪ 230‬ومعنى البلكفة أن يقول القائل‪ :‬جسم بال كيف‪ ،‬أي ال كاألجسام‪.‬‬
‫اخلطأ السابع‪ :‬قوله‪( :‬وأما تكفري من ال يستحق حتى جمرد الفسق أو‬
‫املعصية فكام مر يف الفقرة السابقة من تكفريهم من قال‪ :‬إن النار علة اإلحراق‪،‬‬
‫والطعام علة الشبع)‬
‫أقول‪ :‬األشاعرة مل يكفروا من قال‪ :‬إن النار علة عادية أو سبب عادي‬
‫لإلحراق‪ ،‬بل هم قائلون بذلك‪ ،‬وإنام يكفرون من قال‪ :‬إن النار علة حقيقية‬
‫لإلحراق بمعنى أن النار حترق بطبعها ال يستطيع اهلل تعاىل سلب وصف اإلحراق‬
‫عنها كام هو مذهب الفالسفة‪ ،‬ولعل الدكتور ال خيالف األشاعرة يف هذا‪ .‬فإن فيه‬
‫إثبات التأثري احلقيقي لغري اهلل تعاىل‪ ،‬كام أنه يقتيض حتديد قدرة اهلل تعاىل‪.‬‬
‫اخلطأ الثامن والتاسع والعارش واحلادي عرش‪ :‬قوله‪( :‬وأما التكفري بام هو‬
‫حق يف نفسه‪ ،‬جيب اعتقاده‪ ،‬فنحو تكفريهم ملن يثبت العلو‪ ،‬ومن ال يؤمن باهلل‬
‫عىل طريقة أهل الكالم‪ ،‬وقوهلم‪ :‬إن األخذ بظواهر النصوص من أصول‬
‫الكفر‪ ،‬وقوهلم‪ :‬إن عبادة األصنام فرع من مذهب املشبهة‪ ،‬ويعنون هبم أهل‬
‫السنة واجلامعة)‬

‫‪230‬‬
‫‪293 291 2‬‬

‫‪296‬‬
‫فأقول أوال‪ :‬إن األشاعرة يثبتون العلو هلل تعاىل باملعنى الذي أراده‪ ،‬أو‬
‫بمعنى علو املكانة‪ ،‬ال بمعنى علو املكان واجلهة‪ ،‬ثم إهنم مع نفيهم عن اهلل تعاىل‬
‫علو املكان واجلهة ال يكفرون القائلني باجلهة‪ ،‬بل يكفرون املجسمة إذا قالوا‪:‬‬
‫جسم كاألجسام‪ ،‬وأظن أن الدكتور ال خيالفهم يف هذا‪.‬‬
‫وثانيا‪ :‬إن أحدا من األشاعرة مل يكفر من مل يؤمن باهلل عىل طريقة أهل‬
‫الكالم فضال عن أن يكفره كلهم كام يفيده كالم الدكتور‪ ،‬وهال ذكر الدكتور‬
‫من كفره منهم ونقل كالمه؟! بل األشاعرة جممعون عىل صحة إيامن املقلد غري‬
‫املستدل‪ ،‬والذين قالوا بوجوب االستدالل مل يعدوا االستدالل رشطا لصحة‬
‫اإليامن‪ ،‬بل أرادوا أن غري املستدل آثم‪ ،‬ومل يشرتط أحد منهم أن يكون‬
‫االستدالل عىل طريقة علامء الكالم‪ ،‬بل قالوا بكفاية الدليل اإلمجايل الذي‬
‫ينقدح يف القلب‪ ،‬ومل يستطع صاحبه تقريره‪ ،‬وقد مر بيان هذه املسألة‪.‬‬
‫وثالثا‪ :‬إهنم مل يقولوا‪ :‬إن األخذ بظواهر النصوص من أصول الكفر‪ ،‬بل‬
‫قالوا‪ :‬إن األخذ بظواهر بعض النصوص من أصول الكفر وكم من فرق بني‬
‫التعبريين‪ .‬وقد تكلمنا عىل هذا فيام تقدم بام فيه الكفاية‪.‬‬
‫ورابعا‪ :‬إن قول األشاعرة بل قول بعضهم‪ :‬إن عبادة األصنام فرع من‬
‫مذهب املشبهة‪ ،‬قصدوا باملشبهة املجسمة القائلون‪ :‬إنه تعاىل جسم‬
‫كاألجسام‪ ،‬وأثبتوا له لوازم اجلسمية فالقائل هبذا إنام يعبد صنام‪ ،‬وال يعبد اهلل‬

‫‪297‬‬
‫الذي ليس كمثله يشء‪ ،‬ولعل الدكتور يوافق األشاعرة عىل هذا‪ ،‬ويوافقهم‬
‫عليه من عناهم الدكتور بأهل السنة واجلامعة‪.‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬الرابع عرش‪ :‬الصحابة واإلمامة‪:‬‬
‫من خالل استعرايض ألكثر أمهات كتب األشاعرة وجدت أن موضوع‬
‫الصحابة هو املوضوع الوحيد الذي يتفقون فيه مع أهل السنة واجلامعة‪،‬‬
‫وقريب منه موضوع اإلمامة‪ ،‬وال يعنى هذا االتفاق التام‪ ،‬بل هم خيالفون يف‬
‫تفصيالت كثرية}‬
‫أقول‪ :‬نعم قد نظر الدكتور يف جمموعة كبرية من كتب األشاعرة نظرات‪،‬‬
‫ولكنه ‪-‬لألسف الشديد مل يفهم كالمهم‪ ،‬ألنه مل يدرس شيئا من هذه‬
‫الكتب عىل أحد من العارفني بمذهب األشاعرة‪ ،‬وكالمهم دقيق يعلو عن‬
‫فهمه‪ ،‬فمن أجل ذلك تورط يف مئات األخطاء اجلسيمة يف هذه الصفحات‬
‫املعدودة من هذا الكتيب‪.‬‬
‫وكم من عائب قوال صحيحا ‪ ::‬وآفته من الفهم السقيم‬
‫ثم إن الدكتور مل يذكر شيئا من التفصيالت التي خالف فيها األشاعرة من‬
‫سامههم بأهل السنة حتى يتبني صدقه فيام ادعاه!! وحتى يتسنى لنا الكالم عليها‬
‫كام تكلمنا عىل دعاويه املتقدمة‪.‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬اخلامس عرش الصفات‪:‬‬

‫‪298‬‬
‫واحلديث عنها يطول‪ ،‬وتناقضهم وحتكمهم فيها أشهر وأكثر‪ ،‬وكل مذهبهم‬
‫يف الصفات مركب من بدع سابقة‪ ،‬وأضافوا إليها بدعا أحدثوها‪ ،‬فأصبح غاية يف‬
‫التلفيق املتنافر}‬
‫أقول‪ :‬من أسهل األمور اكتيال التهم للمخالفني‪ ،‬وأما إثباهتا واإلتيان‬
‫بالبينة عليها فمن الصعوبة بمكان‪ .‬وهال ذكر الدكتور مثاال واحدا إلثبات ما‬
‫ادعاه من التناقض والتلفيق والتنافر‪ .‬ولو أعطي الناس بدعواهم الدعى ناس‬
‫دماء أقوام وأمواهلم‪ ،‬ولكن البينة عىل املدعي‪.‬‬
‫وقد تكلمنا عىل مسألة الصفات فيام تقدم بام فيه الكفاية‪.‬‬

‫‪ -79‬دعوى الدكتور أن مذهب األشاعرة متناقض‪:‬‬


‫ثم قال الدكتور‪{ :‬هل بقي شك؟‬
‫بعد هذه املخالفات املنهجية يف أبواب العقيدة كلها‪ ،‬وبعد هذا التميز‬
‫الفكري الواضح ملذهب األشاعرة إضافة إىل التميز التارخيي‪ ،‬هل بقي شك يف‬
‫خروجهم عن مذهب أهل السنة واجلامعة الذي هو مذهب السلف الصالح}‬
‫أقول‪ :‬ليس التسنن وعدمه بالدعاوي‪ ،‬وال بكيل التهم للمخالفني‪ ،‬بل‬
‫التسنن إنام هو بموافقته سنة رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪ ،‬وعدم‬
‫موافقتها‬
‫تقر هلم بذاكا‬ ‫ِ‬
‫وكل يدعى وصال بليىل ‪ ::‬وليىل ال ُّ‬

‫‪299‬‬
‫ومن أجل معرفة مدى موافقة مذهب األشاعرة لسنة رسول اهلل صىل اهلل‬
‫تعاىل عليه وآله وسلم‪ ،‬وملا كان عليه السلف الصالح‪ ،‬أدعو طالب معرفة ذلك‬
‫إىل قراءة تعليقاتنا هذه‪ ،‬ودراستها بإنصاف وحياد ومتعن‪.‬‬

‫متمامت للبحث‬
‫بعد أن انتهى الدكتور من املواضع اخلمسة عرش التي وعد بإيرادها وبيان‬
‫خمالفة مذهب األشاعرة فيها ملذهب أهلة السنة واجلامعة عىل حسب دعواه‪،‬‬
‫بعد ذلك حاول الدكتور أن يثبت أن مذهب األشاعرة مع ما تقدم من‬
‫خمالفته للسنة‪ -‬متناقض يف نفسه‪ ،‬ومكابر للعقل‪ ،‬ادعى الدكتور ذلك وحاول‬
‫إثبات دعواه بإيراد أمثلة عىل ذلك‪ ،‬من هذه األمثلة ما هو معاد‪ ،‬ومنها ما هو‬
‫جديد‪ .‬أما املعاد فنكتفي بام تكلمنا عليه سابقا‪ .‬وأما اجلديد فنتكلم عليه حتى‬
‫يتضح مدى صحته وسقمه‪.‬‬
‫ادعى الدكتور هنا ثالثة دعاوى ‪34‬‬
‫{‪-1‬ليس هناك مذهب أكثر تناقضا من مذهب األشاعرة!‪.‬‬
‫‪ -2‬يدعون العقل وحيكمونه يف النقل‪ ،‬ثم يتناقضون تناقضا يربأ منه‬
‫العقل!}‬
‫هاتان التهمتان من التهم التي يسهل كيلها للمخالفني‪ ،‬والدكتور قد كاهلا‬
‫لألشاعرة بدون أن يأيت ببينة عليها!‬

‫‪311‬‬
‫نعم الذي ُياول أن يتعلم علام بدون أن يدرسه عىل مشاخيه املتضلعني منه‪،‬‬
‫وال سيام إذا كان هذا العلم من أدق العلوم أو أدقها كعلم العقيدة عىل مذهب‬
‫األشاعرة‪ ،‬ال يستطيع هذا املحاول أن يتعلم ذلك العلم عىل وجهه ويفهمه‬
‫لدقته وعلوه عن فهمه‪ ،‬فترتائ له فيه تناقضات كثرية عجيبة‪ ،‬فإذا كان هذا‬
‫املحاول من املعجبني بآرائهم‪ ،‬والسيام إذا كان عدوا هلذا العلم وألصحابه‪،‬‬
‫املستور‪ ،‬فيحكم بفساد هذا العلم‪ ،‬ملا احتوى عليه‬
‫ر‬ ‫يترسع هذا الباحث الصحفي‬
‫من هذه التناقضات‪ ،‬وهذا هو حال الدكتور سفر‪ .‬وفقنا اهلل وإياه إىل ما فيه خري‬
‫الدنيا واألخري‪.‬‬
‫ثم حاول الدكتور إثبات هاتني الدعويني بدليل إمجايل‪ ،‬وهو يف احلقيقة‬
‫دعوى ثالثة ينقصها الدليل‪ ،‬ويعوزها اإلثبات‪ ،‬بل تنقضها البينة‪ ،‬ويزيفها‬
‫التثبت‪ .‬فقال‪:‬‬
‫{‪-3‬يرجع معظم تناقضهم إىل كوهنم مل يسلموا للوحي تسلي ًام كامال‪ ،‬ومل‬
‫يعرفوا للعقل منزلته احلقيقية وحدوده الرشعية‪ .‬ومل يلتزموا بالعقل التزاماً‬
‫واضحا‪ ،‬ويرسموا منهج ًا عقلي ًا متكامال كاملعتزلة والفالسفة‪ ،‬بل خلطوا‬
‫وركبوا‪ ،‬فتناقضوا واضطربوا}‬
‫يقصد الدكتور أن األشاعرة مل يلتزموا ال بمذهب فرقته‪ ،‬وال بمذهب‬
‫املعتزلة والفالسفة‪ ،‬بل حاولوا التلفيق بينهام فتناقضوا واضطربوا‪.‬‬

‫‪311‬‬
‫أقول‪ :‬إن اهلل تعاىل قد أنعم عىل اإلنسان بنعمة العقل ال ليعطله وهيمله‪ ،‬بل‬
‫ليفكر به ويستعمله‪ ،‬ومن أجل ذلك جعل اهلل تعاىل العقل مناطا للتكليف‪ ،‬لكن‬
‫اهلل تعاىل خلق العقل حمدود اإلدراك‪ ،‬وحدد له حدودا ال يستطيع أن يتخطاها‬
‫ويتجاوزها إىل وراءها‪ ،‬وعندما ُياول العقل جتاوز هذه احلدود يقع يف اخلطأ‪،‬‬
‫ومن أجل ذلك كان اإلنسان بحاجة إىل نزول الوحي وبعثة الرسل‪ ،‬ألن العقل‬
‫ال يفي بدرك احلقائق كلها وال بدرك مصالح اإلنسان كلها‪ ،‬فأنزل اهلل تعاىل‬
‫الوحي‪ ،‬وأرسل الرسل‪ ،‬فاألشاعرة مل هيملوا العقل ومل يعطلوه‪ ،‬بل استعملوه‬
‫يف جماله الذي خلقه اهلل ألن يستعمل فيه‪ ،‬ومل يطلقوا له العنوان حتى يتعدى‬
‫جماله وحدوده إىل ما ليس بمجال له‪ ،‬بل هو جمال للوحي كام فعلت املعتزلة‬
‫والفالسفة‪.‬‬
‫ثم استعمل األشاعرة النقل الذي هو الكتاب والسنة الواردين بلغة العرب‬
‫عىل أساليب اللغة العربية من احلقيقة واملجاز والكناية‪ ،‬فحكموا عىل ما هو‬
‫حقيقة منه بأنه حقيقة‪ ،‬وعىل ما هو جماز بأنه جماز‪ ،‬وعىل ما هو كناية بأنه كناية‪،‬‬
‫هذا ما فعله األشاعرة‪ ،‬وقد أصابوا فيام فعلوه يف عامة األحوال‪ ،‬وقد يكونون‬
‫قد أخطأ كلهم أو بعضهم يف بعضها‪ ،‬ومل جيعل اهلل العصمة ألحد غري أنبيائه‪،‬‬
‫فخرج مذهبهم من بني فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربني‪ .‬وهذه هي‬
‫احلكمة التي أوتوها‪ ،‬يؤيت احلكمة من يشاء ومن يؤت احلكمة فقد أويت خريا‬
‫كثريا‪.‬‬

‫‪312‬‬
‫ثم قال الدكتور‪{ :‬وإليك أمثلة رسيعة للتناقض ومكابرة العقل‪:‬‬
‫قالوا‪ :‬إنه جيوز أن يرى األعمى باملرشق البقة باألندلس}‬
‫أقول‪ :‬من مشاكل الدكتور أنه ال يعلم كثريا من االصطالحات العلمية‪،‬‬
‫ولو كان عاملا هبا ملا تورط يف كثري من األخطاء التي تورط فيها يف هذا الكتيب‪،‬‬
‫وذلك أ ن معنى أن هذا األمر جائز أنه ليس بمحال‪ ،‬حتى يكون مما ال تتعلق‬
‫قدرة الباري تعاىل به‪ ،‬بل هو جائز جيوز تعلق قدرة اهلل تعاىل به‪ ،‬وأنه داخل يف‬
‫قدرته تعاىل أن ي ِر َي أعمى الصني البقة بأرض األندلس عىل سبيل خرق العادة‪،‬‬
‫كام قال شيخ مشاخينا العالمة الشيخ خليل األسعردي يف كتابه "هنج األنام"‬
‫فأعمى بصني الرشق قد جاز أن يرى ‪ ::‬بعوضا بأرض الغرب عند الذي‬
‫يرى‬
‫وال أدرى إذا كان الدكتور ينكر ذلك عىل األشاعرة هل يعتقد امتناع‬
‫خوارق العادات التي منها معجزات األنبياء وكرامات األولياء‪ ،‬أم يعتقد أن‬
‫هذا األمر ليس من اجلائز الذي جيوز خرق العادة فيه‪ ،‬بل يعتقد أنه من املمتنع‬
‫واملحال العقيل الذي ال جيوز خرقه‪ ،‬واالعتقادان كالمها باطالن!‬

‫‪ -61‬هل نفي اجلهة عن اهلل تعاىل يقتيض نفي الرؤية له‪ ،‬واالستدالل عىل نفي‬
‫اجلهة‪:‬‬

‫‪313‬‬
‫قال الدكتور‪{ :34‬قالوا‪ :‬إن اجلهة مستحيلة يف حق اهلل تعاىل‪ ،‬ثم قالوا‪:‬‬
‫بإثبات الرؤية‪ ،‬وهلذا قيل فيهم‪ :‬من أنكر اجلهة وأثبت الرؤية فقد أضحك‬
‫الناس عىل عقله}‬
‫أقول‪ :‬قائل هذا القول هم املعتزلة املنكرون لرؤية اهلل تعاىل وللجهة معا‪،‬‬
‫ونلزمهم بأن اجلهة لو كانت رشطا عقليا للرؤية ال يمكن أن تتحقق الرؤية‬
‫بدونه لزم أن ال نكون مرئيني هلل تعاىل‪ ،‬ألنه كام أنه تعاىل ليس يف جهة منا‪ ،‬فإننا‬
‫أيضا لسنا يف جهة منه‪ ،‬ألنه لو حتققت اجلهة بالنسبة إىل طرف من الرائي‬
‫واملرئي لتحققت بالنسبة إىل الطرف اآلخر أيضا‪ ،‬وإذا انتفت عن طرف انتفت‬
‫بالنسبة إليه عن الطرف اآلخر‪ ،‬فثبت عىل املعتزلة أن اجلهة ليست برشط عقيل‬
‫بالنسبة إىل الرؤية‪ ،‬بل هي رشط عادي جيوز ختلفه كام يف رؤية اهلل تعاىل‪.‬‬
‫ثم نقول للدكتور‪ :‬إن من رشط الرؤية يف الشاهد ثبوت مسافة معينة ال‬
‫تتحقق الرؤية عند جتاوز املرئي هلا‪ ،‬فهل تعتقد أن اهلل تعاىل حينام يراه املؤمنون‬
‫يكون عىل هذه املسافة من الرائي‪ ،‬وأنت تعتقد أن اهلل تعاىل فوق الساموات‬
‫السبع وفوق العرش‪ ،‬وإن قلت‪ :‬ينزل ربنا حينئذ إىل تلك املسافة قلنا‪ :‬النزول‬
‫واحلركة من صفات األجسام حماالن عىل اهلل تعاىل‪ ،‬فثبت أن اهلل تعاىل يري‬
‫بدون هذه املسافة املعينة‪ ،‬فنقول‪ :‬إذا جاز أن يرى بدون هذه املسافة املعينة‪،‬‬
‫جاز أن يرى بدون جهة أيضا ألن اجلهة كاملسافة رشط عادي يف الشاهد جيوز‬

‫‪314‬‬
‫ختلفه‪ ،‬وليس رشطا عقليا ال جيوز ختلفه‪ ،‬قال القايض أبو يعىل‪( :‬كام جاز رؤيته‬
‫‪232‬‬
‫ال يف جهة)‪ 231‬وقال البيهقي‪( :‬فإنه عز وجل يرى ال يف جهة)‬
‫وأما أن اجلهة املعينة مستحيلة عىل اهلل تعاىل فقد استدل عليها األشاعرة‬
‫باملعقول واملنقول‪ .‬أما املعقول فقد استدلوا منه بدالئل كثرية نكتفي منها بام‬
‫ييل‪ :‬فنقول‪ :‬اجلهة ليس أمرا ثابتا ال يتغري‪ ،‬بل هي أمر إضايف نسبي خيتلف‬
‫باختالف الناس واختالف األحوال واألوضاع‪ ،‬فهذا فوق هلذا‪ ،‬وهو نفسه‬
‫حتت لآلخر‪ ،‬ويمني هلذا وشامل لآلخر‪ ،‬وفوق هلذا يف حالة وحتت له يف حالة‬
‫أخرى‪ ،‬كسطح البيت فإنه فوق ملن هو يف داخل البيت‪ ،‬وحتت ملن هو عىل‬
‫السطح‪.‬‬
‫فنقول ملثبت اجلهة املعينة هلل تعاىل‪ :‬ال ريب يف أنك تثبت هلل تعاىل جهة العلو‬
‫والفوقية كام أنه ال ريب يف أنك تثبت هذه اجلهة هلل تعاىل بالنسبة إىل مجيع الناس يف‬
‫كل األحوال‪ ،‬وقد ثبت أن األرض كروية‪ ،‬فالذي فوق بالنسبة إىل ناس هو حتت‬
‫بالنسبة إىل آخرين‪ ،‬فال يكون هذا احلكم صحيحا بالنسبة إىل مجيع الناس‪ ،‬وقد‬
‫ثبت أيضا أن األرض متحركة‪ ،‬فاجلهة التي هي فوق بالنسبة إىل بعض الناس يف‬
‫هذه الساعة ال تبقى فوقا هلذا البعض بعد عدة ساعات‪ ،‬بل تتحول إىل حتت هلم‪،‬‬

‫‪231‬‬
‫‪55‬‬
‫‪232‬‬
‫‪63‬‬

‫‪315‬‬
‫فال يكون هذا احلكم صحيحا بالنسبة إىل كل األحوال أيضا‪ .‬ونكتفي من املعقول‬
‫هبذا الدليل‪.‬‬
‫وأما املنقول فقد استدل األشاعرة عىل نفي اجلهة واملكان هلل تعاىل باحلديث‬
‫الذي رواه مسلم يف صحيحه عن أيب هريرة ريض اهلل تعاىل عنه أن رسول اهلل‬
‫صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم كان يقول يف دعائه‪( :‬اللهم أنت األول‪ ،‬فليس‬
‫قبلك يشء‪ ،‬وأنت اآلخر‪ ،‬فليس بعدك يشء‪ ،‬وأنت الظاهر فليس فوقك يشء‪،‬‬
‫وأنت الباطن فليس دونك يشء‪ ،‬أقض عنا الدين وأغننا من الفقر)‬
‫قال البيهقي‪ :‬استدل بعض أصحابنا هبذا احلديث عىل نفي املكان عن اهلل‬
‫‪233‬‬
‫تعاىل‪ ،‬فإذا مل يكن فوقه يشء وال دونه يشء مل يكن يف مكان‪.‬‬
‫وهذه الدالئل من املعقول واملنقول هي التي أدت بالطحاوي أن يقول يف‬
‫عقيدته امللقبة ببيان أهل السنة واجلامعة‪( :‬ال حتويه اجلهات الست كسائر‬
‫املبتدعات) وأدت بشيخ احلنابلة القايض أيب يعىل أن يقول‪( :‬كام جازت رؤيته‬
‫‪234‬‬
‫ال يف جهة)‬

‫‪233‬‬
‫‪41‬‬
‫‪234‬‬
‫‪55‬‬

‫‪316‬‬
‫‪ -61‬بيان قول األشاعرة‪ :‬إن اهلل تعاىل ليس داخل العامل وال‬
‫خارجه‪ ،‬وال فوقه وال حتته وال عن يمينه وال عن شامله‪:‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬قالوا بأن رفع النقيضني حمال وهو كذلك‪ -‬حمتجني هبا يف‬
‫مسائل‪ ،‬ثم قالوا يف صفة من أعظم وأبني الصفات (العلو)‪ :‬إن اهلل ال داخل‬
‫العامل وال خارجه‪ ،‬وال فوقه وال حتته‪ ،‬وال عن يمينه وال عن شامله‪ ...‬وقالوا‬
‫عن األحوال‪ :‬هي صفات ال معدومة وال موجودة‪ ،‬فرفعوا النقيضني معا}‬
‫أقول‪ :‬أشار الدكتور هبذه الفقرة من كالمه إىل أربع مسائل‪ :‬األوىل‪ :‬أن‬
‫رفع النقيضني حمال‪ ،‬والثانية‪ :‬أن اهلل ليس داخل العامل وال خارجه‪ ،‬والثالثة‪ :‬أن‬
‫اهلل ليس فوق العامل وال حتته وال عن يمينه وال عن شامله‪ ،‬والرابعة‪ :‬مسألة‬
‫األحوال‪.‬‬
‫فنتكلم عليها واحدة واحدة‪ ،‬فنقول‪ :‬أما أن رفع النقيضني حمال فهذا من‬
‫مقررات العقول وبدهيياهتا‪ ،‬لكنه كثريا ما يلتبس عىل بعض الناس النقيضني‬
‫بالضدين فيحكمون عىل الضدين بحكم النقيضني فيتورطون يف اخلطأ‪ .‬وهذا‬
‫ما تورط فيه الدكتور!‬
‫فأقول‪ :‬الضدان مها الشيئان اللذان ال يمكن اجتامعهام معا يف آن واحد‬
‫عىل حمل واحد‪ ،‬وكذلك األضداد‪ ،‬وجيوز ارتفاعهام أو ارتفاعها معا‪ .‬وذلك‬
‫كاأللوان‪ ،‬فإنه يمتنع أي ال يمكن اجتامعها يف حمل واحد‪ ،‬وال يمكن اجتامع‬

‫‪317‬‬
‫اثنني منها أيضا‪ ،‬وأما ارتفاعها فممكن كام يف الاللونى ومنه املاء والريح‬
‫والروح والعقل واهلل تعاىل‪.‬‬
‫وأما النقيضان فهام األمران اللذان ال جيتمعان وال يرتفعان‪ .‬أي إن اجتامعهام‬
‫يف حمل واحد يف وقت واحد حمال وممتنع عقال وكذلك ارتفاعهام أي ال بد من أن‬
‫يتصف املوجود بواحد منهام‪ ،‬وال جيوز ارتفاعهام معا عن املوجود‪ ،‬بأن ال يتصف‬
‫املوجود بواحد منهام‪ .‬والتناقض ال يكون إال بني شيئني فقط‪ :‬ومها إثبات اليشء‬
‫ونفيه‪ .‬وذلك كالزوجية والالزوجية للعدد‪ ،‬فإن العدد إما زوج أو ال زوج وهو‬
‫الفرد‪ ،‬وأما التضاد فيكون بني شيئني‪ ،‬وبني أشياء كاللونني واأللوان‪.‬‬
‫وبعد هذا التمهيد نقول‪ :‬الذي جوزه األشاعرة مما ذكره الدكتور إنام هو‬
‫من قبيل رفع الضدين‪ ،‬وليس من قبيل رفع النقيضني حتى يكون حماال‪ ،‬وبيان‬
‫ذلك كام ييل‪:‬‬
‫إن األشاعرة أرادوا بقوهلم‪« :‬إن اهلل تعاىل ليس بداخل العامل» نفي احللول‬
‫واإلحتاد واملامزجة‪ ،‬وإثبات املباينة هلل تعاىل عن العامل‪ ،‬كام قال اإلمام أبو احلسن‬
‫األشعري وغريه من أئمة أصول الدين‪« :‬إن اهلل تعاىل بائ ٌن عن خلقه»‪ ،‬فإن اهلل‬
‫تعاىل مل خيلق العامل يف نفسه‪ ،‬وال حل فيه بعد أن خلقه‪ ،‬فكان مباينا له‪ .‬وأرادوا‬
‫بقوله‪« :‬وال خارجه» نفي االبتعاد باملسافة ونفي اجلهة‪ ،‬فليس يف هذا الكالم‬
‫رفع للنقيضني وذلك ألن كون اليشء داخل اليشء‪ ،‬وكونه خارجه‪ ،‬بمعنى‬
‫االبتعاد عنه بمسافة وكونه يف جهة منه‪ ،‬ضدان ال جيوز العقل اجتامعهام‪ ،‬وجيوز‬

‫‪318‬‬
‫ارتفاعهام يف الالمكاين‪ ،‬واهلل تعاىل ال مكاين‪ ،‬كام جيوز ارتفاع األلوان كلها عن‬
‫الاللوين‪ ،‬وليسا بنقيضني ال جيوز اجتامعهام وال ارتفاعهام‪ .‬وإنام النقيضان اللذان‬
‫ال جيوز اجتامعهام وال ارتفاعهام هو كون اليشء داخل اليشء وال داخال فيه‪،‬‬
‫وكونه خارجا عنه وال خارجا عنه‪ ،‬ومل يقل أحد من األشاعرة‪ :‬إن اهلل تعاىل‬
‫داخل العامل وال داخله‪ ،‬وال أنه تعاىل خارج العامل وال خارجه حتى يكونوا‬
‫جامعني بني النقيضني أو رافعني هلام‪ .‬ويقال نفس اليشء يف قول األشاعرة‪( :‬إن‬
‫اهلل تعاىل ال فوق العامل وال حتته‪ ،‬وال عن يمينه وال عن شامله) وذلك أن الفوق‬
‫والتحت واليمني والشامل من األضداد ال جيوز اجتامعها‪ ،‬وجيوز ارتفاعها كلها‬
‫كام يف الالمكاين‪ ،‬ولو كان األشاعرة قالوا‪ :‬إن اهلل تعاىل فوق العامل وال فوقه‪...‬‬
‫الخ لكان قوال باجلمع بني النقيضني الذي قالوا بامتناعه‪.‬‬
‫ونظري هذا أنه جيوز لك أن تقول يف حق احلجر والشجر‪ :‬إهنام ليسا‬
‫بجاهلني كام أهنام ليسا بعاملني‪ ،‬وإهنام ليسا بأعميني كام أهنام ليسا بمبَصين‪،‬‬
‫وذلك ألن اجلهل عدم العلم عام من شأنه أن يكون عاملا‪ ،‬وأن العمى عدم‬
‫اإلبصار عام من شأنه أن يكون مبَصا‪ ،‬وأما ما ليس من شأنه أن يكون عاملا‪،‬‬
‫وال من شأنه أن يكون مبَصا كاحلجر والشجر فكام ال يوصف بالعلم‬
‫واإلبصار ال يوصف باجلهل والعمى أيضا‪ ،‬فالعلم واجلهل ضدان ال جيتمعان‬
‫وقد يرتفعان‪ ،‬وكذلك العمى واإلبصار‪ ،‬ومن هذا القبيل قول األشاعرة‬
‫املذكور‪.‬‬

‫‪319‬‬
‫فظهر هبذا البيان خطأ قول من قال‪ :‬إنه ال فرق بني قول األشاعرة «إن اهلل‬
‫تعاىل ليس داخل العامل وال خارجه وال فوقه وال حتته وال عن يمينه وال عن‬
‫شامله» وبني قول من يقول‪ :‬إن اهلل تعاىل غري موجود‪ .‬وأن منشأ هذا اخلطأ‬
‫عدم تفرقة هذا القائل بني النقيضني والضدين‪.‬‬

‫وقد كتبت رسالة يف مسألة العلو والفوقية هلل تعاىل‪ ،‬فرأيت من املناسب‬
‫أن أوردها هنا‪ .‬وهذا نص الرسالة‬

‫‪ -62‬العلو والفوقية هلل تعاىل‪:‬‬

‫‪311‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬
‫من عقائد أهل السنة أن اهلل تعاىل منزه عن اجلهة واملكان‪،‬‬
‫فنورد أوال ما استدلوا به عىل املسألة‪ ،‬ثم نرشح ست كلامت متعلقـة هبـا‪ ،‬ثـم‬
‫نحقق املسألة‪ ،‬ونحاول بذلك اجلمع بني قول القائلني باجلهة وقـول القـائلني بتنـزه‬
‫اهلل تعاىل عنها‪.‬‬
‫[الدالئل عىل أن اهلل تعاىل منزه عن اجلهة]‬
‫‪ -1‬قال النسفي يف رشح العمـدة اسـتدالال عـىل ذلـك‪ :‬الصـور واجلهـات‬
‫خمتلفة‪ ،‬واجتامعها عليه تعاىل مستحيل لتنافيها يف أنفسها‪ ،‬ولـيس الـبعض أوىل مـن‬
‫البعض الستواء الكل يف إفادة املدح والنقص وعـدم داللـة املحـدثات عليـه‪ ،‬فلـو‬
‫اختص بجهة لكان بتخصيص خمصص وهذا من أمارات احلدوث‪.‬‬
‫‪ -2‬وقال السبكي‪ :‬صانع العامل ال يكون يف جهة ألنه لو كـان يف جهـة لكـان‬
‫يف مكان رضورة أهنا املكان أو املستلزمة له‪ ،‬ولو كان يف مكـان لكـان متحيـزا‪ ،‬ولـو‬
‫كان متحيزا لكان مفتقرا إىل حيزه ومكانه‪ ،‬فال يكـون واجـب الوجـود‪ ،‬وثبـت أنـه‬
‫واجب الوجود‪ ،‬وهذا خلف‪.‬‬
‫‪ -3‬وأيضا لو كان يف جهة فإما يف كل اجلهات‪ ،‬وهـو حمـال وشـنيع‪ ،‬وإمـا يف‬
‫البعض فيلزم االختصاص املستلزم لالفتقار إىل املخصص املنـايف للوجـوب‪ .‬نقـل‬
‫كالم النسفي والسبكي الزبيدي يف إحتاف السادة املتقني ‪104./2‬‬

‫‪311‬‬
‫‪ -4‬ومن الدليل عىل تنزه اهلل تعاىل عن اجلهة واملكان من السنة مـا رواه مسـلم‬
‫يف صحيحه (‪ )2804/4‬عن أيب هريرة ريض اهلل تعاىل عنه أن رسول اهلل صـىل اهلل‬
‫تعاىل عليه وآله وسلم كان يقول يف دعائه‪:‬‬
‫((اللهم أنت األول فلـيس قبلـك يشء‪ ،‬وأنـت اآلخـر فلـيس بعـدك يشء‪،‬‬
‫وأنت الظاهر فليس فوقك يشء‪ ،‬وأنـت البـاطن فلـيس دونـك يشء‪ ،‬اقـض عنـا‬
‫الدين وأغننـا مـن الفقـر) قـال اإلمـام احلـافظ البيهقـي يف األسـامء الصـفات‬
‫ص‪ :41‬استدل بعض أصحابنا هبذا احلديث عىل نفي املكان عـن اهلل‪ ،‬فـإذا مل يكـن‬
‫فوقه يشء وال دونه يشء مل يكن يف مكان‪.‬‬
‫[الكلامت املتعلقة باملسألة]‬
‫ونرشح هنا ست كلامت متعلقة هبـذه املسـألة يكثـر دوراهنـا ويقـع االشـتباه‬
‫والزلل فيها‪ ،‬يكون رشحها مساعدا لتحقيق املسألة وفهمها وهي لفـظ اجلهـة و‬
‫أنه تعاىل فوق عرشه وأنه بائن عن خلقه و أنـه تعـاىل لـيس بـداخل العـامل‬
‫وال خارجه و أنه استوى عىل العرش ‪ .‬و أنه تعاىل يف السامء ‪.‬‬
‫أما لفظ اجلهة فلم يقع ذكره يف حـق اهلل تعـاىل يف كتـاب اهلل وال يف‬ ‫‪-1‬‬
‫سنة رسول اهلل صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم‪ ،‬وال يف لفظ صـحايب أو تـابعي‪ ،‬وال‬
‫يف كالم أحد ممن تكلـم يف ذات اهلل تعـاىل وصـفاته سـوى إقحـام املجسـمة‪ ،‬قالـه‬
‫الكوثري يف تكملة الرد عىل نونية ابن القيم (‪ )117‬وقال يف صفحة (‪.)54‬‬

‫‪312‬‬
‫وأما لفظ أنه تعاىل فوق عرشه فلم يرد مرفوعا إال يف بعـض طـرق‬ ‫‪-2‬‬
‫حديث األوعال من رواية ابن منده يف كتاب التوحيد وأسانيده مثخنة بـاجلراح‪ ،‬بـل‬
‫خرب األوعال ملفق من اإلسائيليات كام نص عليـه أبـو بكـر بـن العـريب يف رشح‬
‫سنن الرتمذي‪.‬‬
‫وأما أنـه تعـاىل بـائن عـن خلقـه فقـد نقـل البيهقـي يف األسـامء‬ ‫‪-3‬‬
‫والصفات ‪ 411‬عن أيب احلسن األشعري أنه قال‪ :‬إن اهلل مستو عىل عرشه‪ ،‬وأنـه‬
‫فوق األشياء بائن منهـا بمعنـى أهنـا ال حتلـه وال ُيلهـا‪ ،‬وال يمسـها وال يشـبهها‪،‬‬
‫وليست البينونة بالعزلة تعاىل اهلل عن احللول واملامثلة علوا كبريا‪.‬‬
‫يعني أن البينونة التي أثبتها اإلمام أبـو احلسـن وغـريه هلل تعـاىل بمعنـى نفـي‬
‫املامزجة واالختالط وليست بمعنى االعتزال والتباعـد‪ ،‬ألن املامسـة واملباينـة التـي‬
‫هي ضدها كام قال‪ -‬من أوصاف األجسام‪ ،‬واهلل عز وجل أحد صـمد مل يلـد ومل‬
‫يولد ومل يكن له كفوا أحد‪.‬‬
‫فال جيوز عليه ما جيوز عىل األجسام‪.‬‬
‫وقال العالمة املحقق حممد زاهد الكوثري يف تكملة الرد عىل نونية ابـن القـيم‬
‫(‪:)54-53‬‬
‫ولفظ بائن عن خلقه مل يرد يف كتاب وال سنة‪ ،‬وإنام أطلقه مـن أطلقـه مـن‬
‫السلف بمعنى نفي املامزجة ردا عىل جهم‪( ،‬يعنى يف قوله‪ :‬إن اهلل يف كـل مكـان) ال‬
‫بمعنى االبتعاد باملسافة تعاىل اهلل عن ذلك‪ ،‬ذكره البيهقي يف األسامء والصفات‪.‬‬

‫‪313‬‬
‫أقول‪ :‬وهذا معنى قول املتكلمـني‪( :‬إن اهلل تعـاىل ال يكـون داخـل‬ ‫‪-4‬‬
‫العامل) قصدوا به نفي املامزجة لتعاليه تعاىل عن احللول واالحتاد‪ ،‬وأمـا قـوهلم‪( :‬وال‬
‫خارجا عنه) فقد قصدوا به نفي اجلهة ونفي االبتعاد باملسافة‪ ،‬أشار إليـه البيـايض يف‬
‫إشارات املرام (‪ )127‬وإال فمن الرضوري أن الذي ال يكون داخـل العـامل يكـون‬
‫بائنا عنه وخارجا عنه‪.‬‬
‫‪ -5‬وأمـا أنـه تعـاىل اســتوى عـىل العـرش فقــد قـال البيهقـي يف "األســامء‬
‫والصفات" (‪ )327-326‬وليس معنى قول املسلمني‪ :‬إن اهلل استوى عىل العـرش‬
‫هو أنه مماس له أو متمكن فيه أو متحيز يف جهـة مـن جهاتـه لكنـه بـائن مـن مجيـع‬
‫خلقه‪ ،‬وإنام خرب جاء به التوقيف‪ .‬فقلنا به‪ ،‬ونفينا عنه التكييف‪ ،‬إذ ليس كمثلـه يشء‬
‫وهو السميع البصري‪ .‬وسننقل كـالم اإلمـام األشـعري يف االسـتواء يف آخـر هـذه‬
‫الرسالة‪.‬‬
‫‪-6‬وأما أن اهلل تعاىل يف السامء فقد قال ابـن تيميـة‪ :‬ومـن تـوهم أن كـون اهلل‬
‫تعاىل يف السامء بمعنى أن السامء حتيط به أو حتويـه أو أنـه حمتـاج إىل خملوقاتـه‪ ،‬أو أنـه‬
‫حمصور فيها‪ ،‬فهو مبطل كاذب إن نقله عن غريه‪ ،‬وضـال إن اعتقـده يف ربـه فإنـه مل‬
‫يقل به أحد من املسلمني‪ ،‬بل لـو سـئل العـوام هـل تفهمـون مـن قـول اهلل تعـاىل‬
‫ورسوله صىل اهلل عليه وآله وسـلم‪ :‬إن اهلل يف السـامء أن السـامء حتويـه؟ لبـادر كـل‬
‫واحد منهم بقوله‪ :‬هذا يشء مل خيطر ببالنا‪ ،‬بل عند املسلمني أن معنى كون اهلل تعـاىل‬
‫يف السامء وكونه عىل العرش واحد‪ ،‬بمعنى أن اهلل تعاىل يف العلو ال يف السفل‪.‬‬

‫‪314‬‬
‫نقل هذا الكالم عن ابن تيمية زين الدين مرعي بن يوسف الكرمـي يف كتابـه‬
‫أقاويل الثقات (‪)24‬‬
‫[ رشح املسألة وإيضاحها ]‬
‫ونتكلم هنا عىل املسألة من ثالث جهات‪ :‬من جهة التحقيق‪ ،‬فنحقق املسـألة‪،‬‬
‫ثم نتكلم عنها من جهة حكم الوهم فيها‪ ،‬ثم نتكلم عليها من جهة العرف‬

‫[ حتقيق املسألة ]‬
‫أقول‪ :‬قد رشح العالمة زين الدين الكرمي يف كتابـه (أقاويـل الثقـات) قـول‬
‫القائلني باجلهة والعلو بوجه جيد ال خيالف مـذهب النـافني هلـام مـن أهـل السـنة‪،‬‬
‫فقال‪:‬‬
‫القائل باجلهة يقول‪ :‬إن اجلهات تنقطع بانقطـاع العـامل‪ ،‬وتنتهـي بانتهـاء آخـر‬
‫جزء من الكون‪ ،‬واإلشارة إىل الفوق تقع عىل أعىل جزء من الكون حقيقة‪.‬‬
‫ومما ُيقق هذا أن الكون الكيل ال يف جهة ألن اجلهات عبارة عن املكان‪.‬‬
‫واملكان الكيل ال يف مكان‪ ،‬فلام عدمت األماكن من جوانبه مل يقل‪ :‬إنـه يمـني‪،‬‬
‫وال يسار‪ ،‬وال قدام‪ ،‬وال وراء‪ ،‬وال فوق وال حتت‪.‬‬

‫‪315‬‬
‫وقالوا‪ :‬إن ما عدى الكون الكيل وما خال الـذات القديمـة لـيس بيشـء‪ ،‬وال‬
‫يشار إليه‪ ،‬وال يعرف بخالء وال مالء‪ ،‬وانفرد الكون الكـيل بوصـف التحـت‪ ،‬ألن‬
‫اهلل تعاىل وصف نفسه بالعلو ومتدح به‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬إن اهلل أوجد األكوان ال يف حمل وح ريز‪ ،‬وهو يف قدمه تعـاىل منـزه عـن‬
‫املحل واحل ريز‪ ،‬فيستحيل رشعا وعقال عند حدوث العامل أن ُيل فيه‪ ،‬أو خيـتلط بـه‪،‬‬
‫ألن القديم ال ُيل يف احلادث وليس حمال للحوادث‪ ،‬فيلزم أن يكون بائنا عنه‪ ،‬فـإذا‬
‫كان بائنا عنه‪ ،‬يستحيل أن يكون العامل من جهة الفوق والرب يف جهة التحـت‪ ،‬بـل‬
‫هو فوقه بالفوقية الالئقـة التـي ال تكيـف وال متثـل‪ ،‬بـل تعلـم مـن جهـة اجلملـة‬
‫والثبوت‪ ،‬ال من جهة التمثيل والكيف‪ ،‬فيوصف الرب بالفوقية كـام يليـق بجاللـه‬
‫وعظمته‪ ،‬وال يفهم منها ما يفهم من صفات املخلوقني‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬إن الدليل القاطع دل عىل وجود الباري وثبوت ذاته بحقيقة الثبـوت‪.‬‬
‫وأنه ال يصلح أن يامس املخلوقني أو متاسه املخلوقات‪ ،‬حتى إن اخلصم يسـلم أنـه‬
‫تعاىل ال يامس اخللق‪ .‬انتهى‪.‬‬
‫وهذا التوجيه الذي ذكره الكرمي ناسبا لـه إىل القـائلني باجلهـة توجيـه جيـد‬
‫جيمع بني قول القائلني باجلهة‪ ،‬وقول القائلني بتنزه اهلل تعاىل عنه‪ ،‬ويرتفع به مـا وقـع‬
‫بني الفرق اإلسالمية مـن اخلـالف والنـزاع الـذي أدى هبـا إىل الفرقـة والشـحناء‬
‫والبغضاء‪.‬‬

‫‪316‬‬
‫وقد أشار إىل هذا الوجه القايض عضد الدين اإلجيي يف كتابه املواقـف‪ .‬قـال‪:‬‬
‫ومنهم أي من القائلني باجلهة‪ -‬من قال ليس كونـه يف جهـة ككـون األجسـام يف‬
‫جهة‪ .‬قال السيد الرشيف اجلرجاين يف رشحه (‪ .)12/8‬واملنازعة مـع هـذا القائـل‬
‫راجعة إىل اللفظ دون املعنى‪ ،‬واإلطـالق اللفظـي متوقـف عـىل ورود الرشـع بـه‪.‬‬
‫انتهى‪.‬‬
‫وحاصل هذا التوجيه أن اهلل تعاىل ليس داخل العامل خمتلطا به ممازجا إيـاه‪ ،‬كـام‬
‫أن العامل ليس بداخل فيـه ألن اهلل تعـاىل مل خيلـق العـامل يف نفسـه وإنـام خلـق العـامل‬
‫خارجا عن نفسه‪ ،‬كام أنه تعاىل مل ُيل فيه بعد أن خلقه‪ ،‬وإال لزم املامزجـة واملخالطـة‬
‫واحللول واالحتاد وقيام احلـوادث بـه تعـاىل وهـذه األمـور منتفيـة عـن اهلل تعـاىل‬
‫باإلمجاع‪.‬‬
‫بل اهلل تعاىل بائن عن العامل ليس داخال فيه‪ ،‬وليس يف جهة منه‪.‬‬
‫وذلك ألن اجلهات تنقطع بانقطاع العامل‪ ،‬وتنتهي بانتهاء آخر جـزء منـه‪ ،‬فـال‬
‫يوصف العامل وهو الكون الكيل بجملته‪ -‬بأن له يمينـا وال يسـارا‪ ،‬وال قـداما وال‬
‫خلفا‪ ،‬وال فوقا وال حتتا‪ ،‬كام ال يوصف اهلل تعاىل بذلك‪ ،‬فال يكون اهلل يف جهـة منـه‬
‫كام ال يكون هو يف جهة من اهلل تعاىل‪.‬‬
‫وقد وصف اهلل تعاىل نفسه بالعلو والفوقية ومتدح هبام‪ ،‬فنثبتهام لـه تعـاىل عـىل‬
‫أهنام وصف مدح له تعاىل‪ ،‬وباملعنى الالئـق بـه تعـاىل الـذي ال يمثـل وال يكيـف‪،‬‬
‫ونعتقد العلـو والفوقيـة هلل تعـاىل مـن جهـة اجلملـة والثبـوت‪ ،‬مـع نفـي التمثيـل‬

‫‪317‬‬
‫والتكييف‪ ،‬فنعتقد وصف الرب بالعلو والفوقية كام يليق بجاللـه وعظمتـه‪ ،‬بـدون‬
‫أن نفهم منها ما يفهـم مـن صـفات املخلـوقني‪ .‬قـال احلـافظ ابـن حجـر يف فـتح‬
‫الباري(‪ :)136/6‬وال يلزم من كون جهتي العلو والسفل حمـاال عـىل اهلل تعـاىل أن‬
‫ال يوصف بالعلو ألن وصفه بالعلو من جهة املعنى واملستحيل كون ذلك من جهـة‬
‫احلس‪ ،‬ولذلك ورد يف صفته العايل والعيل واملتعايل ومل يرد ضد ذلك‪ .‬انتهـى‪ .‬هـذا‬
‫بحسب التحقيق‪.‬‬
‫واحلاصل أن الذين نفوا اجلهة عن اهلل تعاىل نفوهـا عنـه بمعنـى أن يكـون يف‬
‫جهة معينة من العامل‪ ،‬وأما الذين أثبتوا الفوقية هلل تعاىل فلم يريدوا أنه تعـاىل يف جهـة‬
‫معينة من العامل‪ ،‬بل أرادوا أنه تعاىل بائن عن العـامل ولـيس بـداخل فيـه‪ ،‬وأنـه فوقـه‬
‫بالفوقية الالئقة بعزته وجالله التي ال متثـل وال تكيـف‪ ،‬وتعلـم مـن جهـة اجلملـة‬
‫والثبوت ال من جهـة التمثيـل والكيـف‪ ،‬وال يفهـم منهـا مـا يفهـم مـن صـفات‬
‫املخلوقني وفوقيتهم‪ .‬والفوقية هبذا املعنى هلل تعاىل وكذلك البينونة ممـا يثبتـه الفريـق‬
‫األول هلل تعاىل‪ .‬والذي ينفونه إنام هو الفوقية بمعنى الكون يف جهة معينة مـن العـامل‬
‫التي هي من صفات املخلوقني‪ .‬وهذه الفوقية مل يثبتها الفريق الثـاين بـل قـد نفوهـا‬
‫عن اهلل تعاىل‪ ،‬فلم يتوارد نفي اجلهة عن اهلل تعاىل ممن نفاها وإثباهتـا ممـن أثبتهـا عـىل‬
‫معنى واحد‪ ،‬فليس بينهام خالف يف احلقيقة‪ ،‬بناء عىل هـذا التحقيـق‪ ،‬بـل خالفهـم‬
‫يعود إىل اللفظ‪ ،‬وأما احلقيقة فالفريقان متفقان فيها‪ ،‬فقد أثبت كل مـن الفـريقني مـا‬
‫أثبته الفريق اآلخر‪ ،‬ونفى ما نفاه‪.‬‬

‫‪318‬‬
‫‪ [ -2‬حكم الوهم بالعلو والفوقية هلل تعاىل ]‬
‫وأما الوهم فيحكم بأن ما وراء العامل فوق له‪ ،‬واهلل تعاىل بائن عن خلقـه لـيس‬
‫بداخل فيه‪ ،‬فيحكم الوهم بأنـه فوقـه‪ ،‬فالفوقيـة بحسـب حكـم الـوهم تـؤول إىل‬
‫البينونة التي أثبتها العلامء هلل تعاىل‪ ،‬وهذه الفوقية الومهية هي املركـوزة يف فطـرة كـل‬
‫إنسان‪.‬‬
‫ال يذكر أحد من بني آدم اهلل تعاىل إال وهو يشعر بفوقيته تعاىل‪.‬‬
‫وهي فوقية ُيكم هبا الوهم خمالفا حلكم العقل كام هو احلال يف معظم أحكـام‬
‫الوهم‪ ،‬فإن معظم أحكامه خمالفة حلكم العقل‪ ،‬ومن أجل ذلك عد املناطقة القيـاس‬
‫املؤلف من القضايا الومهية من األقيسة التي ال تفيد اليقـني‪ ،‬وسـموا هـذا القيـاس‬
‫باملغالطة والسفسطة‪.‬‬
‫وقالوا‪ :‬إن النفس أطوع للومهيات منها لليقينيات‪ :‬مثال ذلك أن العقل ُيكـم‬
‫بأن امليت ال خياف منه ألنه مجاد وكل مجاد ال خياف منه‪ ،‬وأمـا الـوهم فـيحكم بـأن‬
‫امليت خياف منه خمالفا للعقل فاإلنسان مع تيقنه بحكم العقل ال يطيعه وال ينقاد لـه‪،‬‬
‫وإنام ينقاد حلكم الوهم فيخاف من امليت‪،‬‬
‫وكثريا ما تلتبس الومهيات باليقينيات عند اإلنسان فيعتقد الومهيات يقينيـات‬
‫وجيزم هبا كجزمه باليقينيات حتى يتبني له بالدليل بطالهنا‪ ،‬فـيحكم ببطالهنـا ومـع‬
‫ذلك يبقى منقادا هلا‪ .‬ومن هذا القبيل الفوقية هلل تعاىل‪ ،‬فإن معظم بنـي آدم جـازمون‬

‫‪319‬‬
‫هبا اتباعا حلكم الوهم وانقيادا لـه وعنـدما يتبـني لـبعض العلـامء بالـدليل القطعـي‬
‫بطالهنا ُيكم ببطالهنا ومع ذلك يبقى شاعرا هبا يف قرار نفسه‪.‬‬
‫ومن أجل صعوبة التخلص من هذا احلكم الومهي رخـص النبـي صـىل اهلل‬
‫تعاىل عليه وآله وسلم يف اعتقـاد اجلهـة يف حـديث اجلاريـة حيـنام سـأهلا أيـن اهلل؟‬
‫فقالت‪ :‬يف السامء‪ ،‬فقال‪ :‬صىل اهلل تعاىل عليه وسـلم‪ ،‬إهنـا مؤمنـة‪ ،‬ومل ينكـر عليهـا‪،‬‬
‫ولكنه مل يقل‪ :‬إهنا صادقة‪ ،‬أو إهنا عىل احلـق‪ ،‬أو نحـو هـذا الكـالم ممـا يفيـد أن مـا‬
‫اعتقدته حق‪.‬‬
‫ومن أجل ذلك مل ُيكم علامء أهل السنة بكفر معتقد اجلهـة هلل تعـاىل‪ ،‬وقـالوا‬
‫إن هذا االعتقاد َمعف ٌّو للعوام‬
‫وأما امتناعه صىل اهلل تعاىل عليه وسلم عن بيان بطالن هذه العقيـدة للجاريـة‬
‫وعن بيان احلق يف املسألة هلا فألن بيان احلق فيها ُيتـاج إىل فلسـفة مل تكـن اجلاريـة‬
‫أهال ألن تفهمها‪ ،‬كام أهنا مل تكن مكلفة باعتقاد نفي اجلهة عن اهلل تعـاىل‪ ،‬وقـد أمـر‬
‫صىل اهلل عليه وسلم أن يكلم الناس عىل قدر عقوهلم‪ ،‬فلم يكن هـذا االمتنـاع مـن‬
‫تأخري البيان عن وقت احلاجة‪ ،‬وهو ليس بجائز عليه صىل اهلل تعـاىل عليـه وسـلم‪،‬‬
‫ألن هذا البيان ليس من البيان الواجب عليه صىل اهلل تعاىل عليه وسلم حتى يكـون‬
‫تأخريه عن وقت احلاجة ممتنعا عليه صىل اهلل تعاىل عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ [ -3‬الفوقية العرفية هلل تعاىل ]‬

‫‪321‬‬
‫ثم إننا إذا رصفنا النظر عن التدقيق الفلسفي الذي قررنا به نفي اجلهـة عـن اهلل‬
‫تعاىل فمام ال ريب فيه وال ينبغي أن خيتلف فيه اثنان أن ما وراء العامل فـو ٌق لبنـي آدم‬
‫كلهم بحسب العرف كام أنه ٌ‬
‫فوق هلم بحسب الوهم‪ ،‬ألنه مقابل لرؤوسـهم كـام أن‬
‫حتت هلم ألهنا مقابل ٌة ألرجلهم‪ ،‬وإن مل يكـن فوقـا هلـم بحسـب التحقيـق‬
‫األرض ٌ‬
‫الذي نقله الكرمي عن القائلني باجلهة‪ ،‬النقطاع اجلهات بانقطـاع العـامل‪ ،‬والعـرف‬
‫هو الذي يقع به التخاطب يف اللغة بني أهلها دون التدقيقات الفلسـفية؛ واهلل تعـاىل‬
‫بائن عن خلقه فهو فوقه بحسب العرف‪ ،‬فالفوقية العرفية كالفوقيـة الومهيـة تـؤول‬
‫إىل البينونة التي أثبتها العلامء هلل تعاىل‪،‬فاملعرب عنه بالبينونة يف كالم العلـامء هـو املعـرب‬
‫عنه بالفوقية والعلو أو بام يفيدمها يف كالم الشارع‪.‬‬
‫وهبذا املعنى قال اإلمام أبو احلسن األشعري‪ :‬فـيام نقلـه عنـه البيهقـي‪( :‬وإنـه‬
‫فوق األشياء بائ ٌن منها) ومن أجل ذلـك مل ينكـر النبـي صـىل اهلل تعـاىل عليـه وآلـه‬
‫وسلم عىل اجلارية إشارهتا إىل فوق‪.‬‬
‫وهبذا املعنى جاء إثبات العلو والفوقيـة هلل يف نصـوص الكتـاب والسـنة ممـا‬
‫يصعب حَصه‪ ،‬وهذه النصوص وإن كان محل بعضها عىل الفوقية بحسب املكانـة‬
‫والعلو بحسب الرتبة مما ال بأس به لكن محل بعضها اآلخر عىل ذلك مما يأبـاه املقـام‬
‫والسياق؛ فنتثبـت العلـو والفوقيـة هلل تعـاىل هبـذا املعنـى‪ ،‬بـدون كيـف وال متثيـل‬
‫ونتوقف عنده‪ ،‬وال نتجاوزه إىل التفاصيل التي مل يرد هبا يشء مـن الكتـاب والسـنة‬
‫ونعرتف بالعجز عام وراء ذلك‪.‬‬

‫‪321‬‬
‫ونورد هنا نبذة من نصوص الكتـاب والسـنة التـي ورد فيهـا إثبـات الفوقيـة‬
‫والعلو هلل تعاىل‪ ،‬قال اهلل تعاىل‪( :‬خيافون رهبم من فوقهم)‪ ،‬وقال‪( :‬إليه يصعد الكلـم‬
‫الطيب)‪.‬‬
‫وقال‪( :‬أأمنتم من يف السامء أن خيسف بكم األرض فإذا هي متور أم أمنتم مـن‬
‫يف السامء أن يرسل عليكم حاصبا) وقال‪ ( :‬تعرج املالئكة والروح إليه يف يـوم كـان‬
‫مقداره مخسني ألف سنة)‪.‬‬
‫وقال النبي صىل اهلل عليه وسـلم‪( :‬الرامحـون يـرمحهم الـرمحن‪ ،‬ارمحـوا أهـل‬
‫األرض يرمحكم من يف السامء) أخرجه الرتمذي وقال‪ :‬حسن‪.‬‬
‫وقال‪ ( :‬من اشتكى منكم شيئا أو اشتكى أخ له فليقل‪ :‬ربنـا ألـذي يف السـامء‬
‫تقدس اسمك‪ )...‬أخرجه أبو داود‪.‬‬
‫وقال‪( :‬اال تأمنوين وأنا أمني من يف السامء يأتيني خـرب مـن يف السـامء صـباحا‬
‫ومساء) أخرجه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫وقال‪( :‬والذي نفيس بيده ما من رجل يدعو امرأته إىل فراشها فتـأبى عليـه إال‬
‫كان الذي يف السامء ساخطا عليها حتى يرىض عنها) أخرجه الشيخان‪.‬‬
‫وقال‪( :‬إن اهلل كتب كتابا قبل أن خيلق اخللق إن رمحتـي سـبقت غضـبي فهـو‬
‫عنده فوق العرش)‪ .‬أخرجه الشيخان‪ ،‬إىل غري ذلك من نصوص الكتـاب والسـنة‬
‫الواردة يف ذلك‪.‬‬

‫‪322‬‬
‫وقد تقدم قول ابن تيمية أن معنى كون اهلل تعاىل يف السامء وكونه عـىل العـرش‬
‫واحد‪ .‬وهو أن اهلل تعاىل يف العلو ال يف السفل‪ .‬وتقدم أن قلنـا‪ :‬إن وصـف العلـو هلل‬
‫تعاىل يؤل إىل البينونة التي أثبتها العلامء هلل تعاىل‪.‬‬
‫ونختم بحثنا هذا بإيراد نص لإلمام أيب احلسن األشعري قال رمحـه اهلل تعـاىل‬
‫يف كتاب اإلبانة صـ (‪ :)71‬وأن اهلل استوى عىل العرش عىل الوجه الـذي قالـه‪،‬‬
‫وباملعنى الـذي أراده اسـتواء منزهـا عـن املامسـة واالسـتقرار والـتمكن واحللـول‬
‫واالنتقال‪ ،‬ال ُيمله العرش بل العرش ومحلته حممولون بلطف قدرته‪ ،‬ومقهـورون‬
‫يف قبضته‪ ،‬وهو فوق العرش وفوق كل يشء إىل ختوم الثرى فوقية ال تزيـده قربـا إىل‬
‫العرش والسامء‪ ،‬وهو رفيع الدرجات عن العـرش كـام أنـه رفيـع الـدرجات عـن‬
‫الثرى‪ ،‬وهو مع ذلك قريب من كل موجود‪ ،‬وهو أقرب إىل العبد من حبل الوريـد‪،‬‬
‫وهو عىل كل يشء شهيد‪.‬‬
‫وهذا النص من اإلبانة ليس بموجود يف النسخ املطبوعة املتداولة‪ ،‬وهو ثابـت‬
‫يف خمطوطة نسخة بلدية اإلسكندرية‪ ،‬وقد قامت بتحقيقها الدكتورة فوقيـة حسـني‬
‫حممود‪ ،‬وطبعت الطبعة األوىل منها بـدار األنصـار بالقـاهرة‪ ،‬والطبعـة الثانيـة بـدار‬
‫الكتاب للنرش والتوزيع بالقاهرة‪.‬‬
‫واهلل تعاىل أعلم‪ ،‬واحلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم عىل سيدنا حممد‬
‫وعىل آله وصحبه وسلم‪.‬‬

‫‪323‬‬
‫‪ -63‬مسألة األحوال‪:‬‬
‫وأما قول الدكتور‪{ :‬وقالوا عن األحوال‪ :‬هي صفات ال معدومة وال‬
‫موجودة‪ ،‬فرفعوا النقيضني معا}‬
‫فقد أخطأ فيه خطأين‪:‬‬
‫األول‪ :‬نسبته القول باحلال إىل األشاعرة كلهم‪ ،‬مع أن القائل به من‬
‫األشاعرة إنام هو إمام احلرمني فقط‪ ،‬وقد قال به بعض املعتزلة أيضا‪.‬‬
‫والثاين قوله‪( :‬فرفعوا النقيضني معا) وذلك أن القائلني باألحوال أثبتوا‬
‫الواسطة بني املوجود واملعدوم‪ ،‬فلم يكن املوجود واملعدوم عندهم نقيضني‪،‬‬
‫بل مها عندهم ضدان جيوز ارتفاعهام كام يف األحوال وال جيوز اجتامعهام‪،‬‬
‫فاملوجودات عندهم هي ما له ثبوت وحتقق يف اخلارج‪ ،‬واألحوال عندهم ما‬
‫له ثبوت وحتقق يف نفسه دون اخلارج‪ ،‬واملعدومات ما ليس له ثبوت وحتقق ال‬
‫يف اخلارج وال يف نفسه‪ ،‬بل هو عدم حمض‪ .‬وقد أثبت غري إمام احلرمني من‬

‫‪324‬‬
‫أمور ليس هلا ثبوت وحتقق يف اخلارج‬
‫األشاعرة األمور االعتبارية‪ ،‬وقالوا‪ :‬إهنا ٌ‬
‫وال هي أعدام حمضة‪ ،‬بل هي أقرب إىل املوجودات اخلارجية منها إىل األعدام‬
‫املحضة‪ ،‬ولو قال قائل‪ :‬لنسمي األحوال واألمور االعتبارية باملوجودات‬
‫حتى يكون التقابل بني املوجود واملعدوم تقابل التناقض ال التضاد‪ ،‬نقول له‪:‬‬
‫لك أن تصطلح عىل هذا‪ ،‬وال مشاحة يف االصطالح‪ ،‬ويكون اخلالف حينئذ‬
‫راجعا إىل اللفظ والتسمية‪.‬‬

‫‪ -64‬حكم من مل تبلغه دعوة الرسل‪:‬‬


‫ثم قال الدكتور‪{ :‬جزموا بأن من مل يبلغه الرشع غري مؤاخذ بإطالق‪،‬‬
‫وردوا أو َّأولوا النصوص يف ذلك}‬
‫أقول‪ :‬نعم جزم األشاعرة بأن من مل تبلغه دعوة نبي من األنبياء عىل‬
‫وجهها غري مؤاخذ‪ ،‬وإن مل يعرف اهلل تعاىل أو أرشك به‪ .‬ودليلهم يف ذلك قوله‬
‫تعاىل‪( :‬وما كنا معذبني حتى نبعث رسوال)‪ 235‬وقوله تعاىل‪( :‬رسال مبرشين‬
‫ومنذرين لئال يكون للناس عىل اهلل حجة بعد الرسل)‪ 236‬هاتان اآليتان‬
‫نص‬
‫رصُيتان فيام ذهب إليه األشاعرة‪ ،‬وال يوجد ال يف الكتاب وال يف السنة ٌ‬
‫رصيح مثل رصاحة هاتني اآليتني يدل عىل مؤاخذة من مل تبلغه دعوة‬
‫ٌ‬ ‫واحدٌ‬

‫‪235‬‬
‫‪15‬‬
‫‪236‬‬
‫‪165‬‬

‫‪325‬‬
‫الرسل‪ .‬وليت الدكتور أورد نبذة من تلك النصوص التي زعم أن األشاعرة‬
‫ردوها أو أولوها‪.‬‬
‫نعم قد ذهب املاتريدية واملعتزلة إىل وجوب معرفة اهلل تعاىل بالعقل بدون‬
‫بلوغ دعوة الرسل‪ .‬واخلالف يف هذه املسألة مبني عىل اخلالف يف احلسن‬
‫والقبح العقليني‪ ،‬فمن أثبتهام قال بوجوب معرفة اهلل تعاىل بالعقل‪ ،‬ومن نفامها‬
‫قال‪ :‬إنه ال يتحقق الوجوب يف أمر من األمور إال بعد ورود الرشع وبلوغه‪.‬‬
‫وقد فصلنا املسألة فيام تقدم‪.‬‬

‫‪-65‬مسألة وجوب النظر يف معرفة اهلل تعاىل‪ ،‬ومسألة أول واجب‬


‫عىل املكلف‪:‬‬
‫ثم قال الدكتور‪{ :‬قالوا‪ :‬إن عىل املكلف وإن كان مولود ًا من أبوين‬
‫مسلمني يف ديار اإلسالم وهو يظهر اإلسالم عليه إذا بلغ سن التكليف أن ينظر‬
‫يف حدوث العامل ووجود اهلل‪ ،‬فمن مات قبل النظر أو يف أثنائه اختلفوا يف احلكم‬
‫بإسالمه‪ ،‬وجزم بعضهم بكفره}‬
‫أقول‪ :‬أكرب مشكلة عند الدكتور أنه مل يفهم كالم األشاعرة عىل وجهه‪،‬‬
‫فتورط يف نقده هلم يف مئات األخطاء‪ .‬وكالم الدكتور هذا متعلق بمسألتني من‬
‫مسائل علم الكالم‪ :‬األوىل مسألة وجوب النظر يف معرفة اهلل تعاىل‪ .‬والثانية‪:‬‬

‫‪326‬‬
‫مسألة أول واجب عىل املكلف‪ ،‬وقد تكلمنا عىل املسألتني فيام تقدم‪ ،‬ونلخص‬
‫الكالم عليهام هنا ثم نعود إىل كالم الدكتور‪.‬‬
‫قالت األشاعرة وغريهم من املاتريدية واملعتزلة‪ :‬جيب عىل املكلف معرفة‬
‫اهلل تعاىل بالنظر والدليل‪ ،‬وأرادوا بالوجوب بالنسبة إىل النظر أن الذي عرف‬
‫اهلل تعاىل بالتقليد بدون نظر عقيل يضطره إىل ذلك‪ ،‬عاص برتك النظر إذا كان‬
‫أهال للنظر‪ ،‬ومل يريدوا أن املقلد يف معرفة اهلل تعاىل كافر غري مسلم‪ ،‬فإن هذا مل‬
‫يقله أحد منهم إال أبوهاشم من املعتزلة والسنويس من األشاعرة‪.‬‬
‫ثم إهنم أرادوا بالنظر الواجب‪ ،‬النظر اإلمجايل الذي ينقدح يف ذهن‬
‫صاحبه‪ ،‬وإن مل يستطع صاحبه أن يقرره ويدفع الشبه عنه‪ ،‬ومنه االستناد إىل‬
‫صدق الرسول املؤيد باملعجزات وقد قالوا‪ :‬إن الدليل اإلمجايل ال خيلو عنه‬
‫مسلم خالط املسلمني وعاش فيهم‪ ،‬واملسألة مفروضة فيمن نشأ يف شاهق‬
‫رب‬
‫جبل مثال بدون أن خيطر بباله وجود اهلل تعاىل وبدون أن يعرفه‪ ،‬فأخربه خم ٌ‬
‫بوجود صانع هلذا العامل‪ ،‬فصدقه وثوقا به بدون استناد إىل دليل‪ ،‬فهذا هو الذي‬
‫أمجع األشاعرة عىل صحة إيامنه‪ ،‬وعىل عصيانه برتك النظر إذا كان أهال له‪،‬‬
‫وأما غريه ممن خيالط املسلمني ويعيش فيهم‪ ،‬فالعادة تقتىض أنه البد أن يكون‬
‫يف إيامنه مستند إىل دليل وإن كان إمجاليا‪ .‬هذا حاصل مسألة وجوب النظر‪.‬‬
‫وأما مسألة أول واجب عىل املكلف فننقل فيها كالم القايض عضد الدين‬
‫يف "املواقف" بتلخيص له قال‪( :‬قد اخت ِل َ‬
‫ف يف أول واجب عىل املكلف‬

‫‪327‬‬
‫فاألكثر عىل أنه معرفة اهلل تعاىل‪ ،‬إذ هو أصل املعارف الدينية‪ ،‬وعليه يتفرع‬
‫وجوب كل واجب‪ ،‬وقيل هو النظر فيها ألنه واجب وهو قبلها‪ ،‬وقيل أول‬
‫جزء من النظر‪ ،‬وقال القايض واختاره ابن فورك القصد إىل النظر‬
‫والنزاع لفظي ألنه لو أريد الواجب بالقصد األول فهو املعرفة‪ ،‬وإال‬
‫فالقصد إىل النظر‪...‬‬
‫ثم قال القايض‪ :‬إن قلنا‪ :‬الواجب النظر‪ ،‬فمن أمكنه زمن يسع فيه النظر‬
‫التام ومل ينظر فهو عاص‪ ،‬ومن مل يمكنه زمان أصال فهو كالصبي‪ ،‬ومن أمكنه‬
‫ما يسع بعض النظر دون متامه)‪ ،‬فإن رشع فيه بال تأخري واخرتمته املنية قبل‬
‫انقضاء النظر وحصول املعرفة فال عصيان‪ ،‬وأما إذا مل يرشع فيه‪ ،‬بل أخ َره بال‬
‫عذر ومات (ففيه احتامل واألظهر عصيانه) لتقصريه بالتأخر‪ .‬انتهى مع رشحه‬
‫‪237‬‬
‫للسيد الرشيف‪.‬‬
‫ومما ينبغي التنبيه عليه أن مراد القايض وغريه بالواجب يف قوهلم‪« :‬أول‬
‫الواجب كذا» أعم مما يكون عدمه موجبا للكفر أو موجبا للعصيان‪ ،‬فالكافر‬
‫املكلف الذي بلغته الدعوة ومل يكن قد حصل معرفة اهلل من قبل إذا مل ينظر يف‬
‫معرفة اهلل تعاىل بعد بلوغ الدعوة له يبقي كافرا مستحقا للخلود يف النار‪ ،‬وإنام‬
‫ينجو من اخللود يف النار إذا بارش يف النظر عقب بلوغ الدعوة إليه وانتهى إىل‬

‫‪237‬‬
‫‪281 1‬‬

‫‪328‬‬
‫معرفة اهلل تعاىل وصدق بكل ما علم جميء الرسول به بالرضورة إذا أمكنه‬
‫زمان يسع ذلك بعد الرشوع يف النظر‪.‬‬
‫وأما املسلم الذي بلغ احللم فإذا كان قد حصل النظر يف معرفة اهلل تعاىل‬
‫قبل البلوغ‪ ،‬وإن كان ذلك النظر نظرا إمجاليا‪ ،‬وهو ما ال خيل عنه مثله بحسب‬
‫العادة‪ ،‬فال جيب عليه النظر ثانيا ألنه موجود عنده‪ ،‬وأما إذا بلغ املسلم مقلدا‬
‫يف معرفة اهلل تعاىل تقليدا حمضا‪ ،‬فيجب عليه النظر يف معرفة اهلل تعاىل وإذا مل‬
‫ينظر فيها فهو مؤمن ولكنه عاص برتك النظر‪.‬‬
‫ومن أجل أن مراد القايض بالوجوب ما ذكرناه عرب القايض يف كالمه‬
‫بالعصيان الشامل للكفر والفسق‪ ،‬ومل يعرب بالكفر حيث قال‪« :‬فهو عاص»‬
‫وقال‪« :‬واألظهر عصيانه» ومل يقل‪ :‬فهو كافر‪ ...‬واألظهر كفره‪.‬‬

‫‪-67‬أخطاء الدكتور يف كالمه‪:‬‬


‫فظهر هبذا أن كالم الدكتور هذا قد اشتمل عىل أخطاء‪:‬‬
‫اخلطأ األول‪ :‬فرضه املسألة يف املسلم الذي بلغ احللم‪ ،‬مع أن املسألة‬
‫ليست مفروضة فيه فقط‪ ،‬بل املسألة مفروضة ‪-‬يف األصل‪ -‬فيمن بلغته‬
‫الدعوة من الكفار‪ ،‬وهو بالغ عاقل‪ ،‬ويف الكافر الذي بلغ احللم عاملا بالدعوة‬
‫ويمكن جرياهنا يف املسلم الذي بلغ احللم كام قررناه‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫اخلطأ الثاين والثالث والرابع قول‪( :‬أن ينظر يف حدوث العامل ووجود اهلل)‬
‫وذلك أن الواجب هو النظر يف معرفة اهلل كام عرب به األشاعرة الشامل ملعرفة‬
‫وجوده ومعرفة صفاته‪ ،‬وليس النظر يف وجوده فقط كام قال الدكتور‪ ،‬ومل يقل‬
‫أحد من األشاعرة‪ :‬إن النظر يف حدوث العامل أول الواجبات كام قال الدكتور‪،‬‬
‫ثم إن الواجب النظر بأي دليل كان سواء كان دليل احلدوث أو دليل النظام‪،‬‬
‫أو االستدالل بصدق الرسول املؤيد باملعجزات عىل صحة كل ما يقوله‪.‬‬
‫وليس الواجب هو دليل احلدوث بخصوصه كام يفيده كالم الدكتور‪ .‬فقد‬
‫اشتملت هذه اجلملة عىل ثالثة أخطاء!‬
‫وأما قوله‪( :‬فإن مات قبل النظر أو يف أثنائه اختلفوا يف احلكم بإسالمه‪،‬‬
‫وجزم بعضهم بكفره) فقد اشتمل عىل مخسة أخطاء‪ :‬األول وهو‬
‫اخلطأ اخلامس‪:‬إطالق قوله‪( :‬فإن مات قبل النظر أو يف أثنائه) مع أن‬
‫املسألة مفروض ٌة فيمن أخ َر النظر بال عذر فامت قبل النظر أو يف أثنائه‪ .‬األول‬
‫عاص قطعا‪ ،‬والثاين يف عصيانه احتامالن‪ ،‬واألظهر عصيانه‪ ،‬أما من مات بعد‬
‫بلوغ الدعوة قبل التمكن من النظر أو رشع يف النظر عقب بلوغ الدعوة فامت‬
‫يف أثنائه فال عصيان له قطعا عند األشاعرة‪.‬‬
‫اخلطأ والسادس والسابع والثامن‪ :‬قوله‪( :‬اختلفوا يف احلكم بإسالمه)‬
‫حيث حكم باالختالف يف احلكم بإسالم من مات قبل النظر أو يف أثنائه‪ ،‬مع‬
‫أن املوجود هو احتامالن أبدامها القايض عضد الدين‪ ،‬واستظهر أحدمها‪،‬‬

‫‪331‬‬
‫وليس املوجود هو اخلالف‪ ،‬ثم إن االحتاملني إنام جيريان فيمن مات يف أثناء‬
‫النظر بعد التأخري بال عذر‪ ،‬دون من مات قبل النظر بعد التأخري بال عذر‪ ،‬فإنه‬
‫عاص قطعا‪ .‬كام أن االحتاملني ليسا يف إسالمه‪ ،‬بل يف عصيانه الشامل للكفر‬
‫بالنسبة إىل الكافر الذي بلغته الدعوة‪ ،‬واإلثم بالنسبة إىل املسلم الذي بلغ‬
‫احللم‪.‬‬
‫اخلطأ التاسع‪ :‬قوله "وجزم بعضهم بكفره" فإنه ال يصح بإطالقه يف املسلم‬
‫الذي بلغ احللم ومل ينظر يف معرفة اهلل‪ ،‬فقد يكون هذا املسلم ناظرا فيه قبل بلوغ‬
‫احللم‪ ،‬وإن كان نظرا إمجاليا‪ .‬وهذا هو احلال يف السواد األعظم من املسلمني أو ال‬
‫يوجد فيهم من مل ينظر أصال‪ .‬ثم إن اإلهبام يف قوله‪ :‬وجزم بعضهم بكفره‪ .‬يوهم‬
‫قول له اعتبار عند األشاعرة‪ ،‬مع أنه ٌ‬
‫قول غري معترب عندهم‬ ‫أن قول هذا البعض ٌ‬
‫مل يقله قبل السنويس أحدٌ من األشاعرة وانفرد هو هبذا القول‪ ،‬ومل يوافقه عليه‬
‫أحد من األشاعرة بعده‪ ،‬فإذا عددنا هذا اإلهيام أيضا خطأ صارت األخطاء‬
‫عرشة‪.‬‬

‫‪-66‬األخطاء العلمية عن الكون يف كتب األشاعرة ومسألة‬


‫كروية األرض وحركتها‪:‬‬

‫‪331‬‬
‫ثم قال الدكتور‪{ :‬وهناك قضية بالغة اخلطورة ال سيام يف هذا العرص‪ ،‬وهي‬
‫األخطاء العلمية عن الكون التي متتلئ هبا كتب األشاعرة‪ ...‬ومن ذلك قول‬
‫البغدادي‪ :‬إن أهل السنة أمجعوا عىل وقوف األرض وسكوهنا‪ ،238‬وقد استدل‬
‫عىل ذلك يف كتابه "أصول الدين" بمعنى اسم اهلل الباسط‪ ،‬قال‪ :‬ألنه بسط‬
‫األرض وسامها بساطا خالف قول من زعم من الفالسفة واملنجمني‪ :‬إن‬
‫األرض كروية غري مبسوطة‪ 239،‬ومثله صاحب املوافق الذي أكد أهنا مبسوطة‪،‬‬
‫‪240‬‬
‫وأن القول بأهنا كرة زعم الفالسفة}‬
‫أقول‪ :‬أهيا الدكتور إنك بصدد الكالم عىل منهج األشاعرة يف العقيدة‪،‬‬
‫وهذا األمور التي ذكرهتا يف هذا الفقرة ليست من العقيدة‪ ،‬يف يشء‪ ،‬ال يؤثم‬
‫املخطئ فيها فضال عن أن يبدع أو يكفر‪ ،‬وإنام هي مسائل متعلقة بالكون‪ ،‬فال‬
‫وجه إليرادها يف هذا الكتاب‪ ،‬ثم إن كتب األشاعرة مل متتلئ باألخطاء عن‬
‫الكون بل معظمها مل تتعرض للمسائل الكونية حتى يتصور وقوعها يف اخلطأ‬
‫فيها‪ ،‬وما تعرض منها هلذه املسائل‪ ،‬فهل كل ما فيها من تلك املسائل خطأ؟!‬
‫وأقىص ما يمكن أن يقال‪ :‬إهنا قد احتوت عىل مجلة من األخطاء‪ ،‬ثم إن أكثر‬
‫هذه األخطاء الوارد يف كتبهم ليست أراء هلم‪ ،‬وإنام هي أخطاء الفالسفة‬

‫‪238‬‬
‫‪318‬‬
‫‪239‬‬
‫‪124‬‬
‫‪240‬‬
‫‪219 217 199‬‬

‫‪332‬‬
‫والفلكيني أوردها األشاعرة يف كتبهم‪ ،‬وقد كانت معظمها من مقررات‬
‫عصورهم ومن ثقافتها‪ ،‬ومل يتبني خطئها إال بعد احلصول عىل وسائل‬
‫االكتشاف وآالته احلديثة‪ ،‬وهل يتوقع من علامء تلك العصور أن يتوصلوا‬
‫بدون هذه الوسائل إىل ما توصل إليه العلامء املحدثون عن طريق هذا‬
‫الوسائل؟!‬
‫فعدُّ هذه األخطاء يف معائبهم‪ ،‬والطعن فيهم من أجلها ال يقدم عليه‬
‫عاقل‪.‬‬
‫وأنت أهيا الدكتور إذا تصفحت كالم من تسميهم بأهل السنة واجلامعة‬
‫جتد يف كالمهم عني تلك األخطاء أو قريبا منها أو مثيالت هلا‪ ،‬فأقم الوزن‬
‫بالقسط‪ ،‬وال تكل بمكيالني!‬
‫ثم إن كثريا من األشاعرة قد قرر كروية األرض‪ ،‬ونكتفي هنا بنقل كالم‬
‫إمامني عظيمني من أئمتهم‪ :‬الغزايل والرازي‪ .‬قال الغزايل‪« :‬عرف العقل‬
‫برباهني مل يقدر احلس عىل املنازعة فيها أن قرص الشمس أكرب من كرة‬
‫األرض بأضعاف مضاعفة» وقال‪« :‬إن الواقفني عىل نقطتني متقابلتني من كرة‬
‫األرض تتقابل أمخص أقدامهام‪ ،‬ونحن بالرضورة نعلم ذلك»‪.241‬‬

‫‪241‬‬
‫‪81‬‬ ‫‪15 2‬‬

‫‪333‬‬
‫وقال اإلمام الرازي يف تفسريه‪« :‬األرض كرة‪ .‬وإذا كان كذلك فكل وقت‬
‫يمكن أن يفرض فهو صبح لقوم‪ ،‬وظهر لثان‪ ،‬وعَص لثالث‪ ،‬ومغرب لرابع‪،‬‬
‫‪242‬‬
‫وعشاء خلامس‪»...‬‬
‫وقد أكد الرازي كروية األرض يف مواضع متعددة من تفسريه‪.‬‬
‫ثم إن كالم الدكتور هذا قد اشتمل عىل خطأين يف النقل‪:‬‬
‫األول‪ :‬قوله‪( :‬واستدل عىل ذلك يف كتابه أصول الدين بمعنى اسم اهلل‬
‫الباسط)‪ ،‬فالبغدادي مل يستدل باسم اهلل الباسط عىل سكون األرض‪ ،‬وإنام‬
‫استدل به عىل كون األرض مبسوطة‪ ،‬وليست كروية‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬قوله‪( :‬ومثله صاحب املواقف الذي أكد أهنا مبسوطة‪ ،‬وأن القول‬
‫بأهنا كرة من زعم الفالسفة)‬
‫أقول‪ :‬الدكتور عىل عادته يف عدم َفه ِم كالم األشاعرة مل يفهم كالم صاحب‬
‫املواقف‪ ،‬فإن الذي يدقق النظر يف كالم صاحب املواقف يري أنه مل ِ‬
‫يبد يف كال‬
‫املسألتني رأيا‪ ،‬وإنام نقل كالم الفالسفة والفلكيني‪ ،‬ثم ذكر ما أ ِ‬
‫ور َد عليهم من‬
‫التشكيكات واالعرتاضات‪ ،‬ثم أورد ما أجابوا به عن تلك االعرتاضات‪ .‬هذا ما‬
‫فعله القايض‪ ،‬وأما أن القايض عضد الدين أكد أن األرض مبسوطة وليست‬
‫كروية‪ ،‬وأهنا ساكنة وليست متحركة‪ ،‬واختار ذلك رأيا له‪ ،‬فليس ذلك بصحيح‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫‪319 4‬‬

‫‪334‬‬
‫‪ -68‬املرجئة صنفان‪ :‬مرجئة البدعة‪ ،‬ومرجئة السنة‪:‬‬
‫قال الدكتور‪{ :38‬وكل من قال‪ :‬إن اإليامن هو املعرفة أو التصديق فهو‬
‫مرجئ}‬
‫أقول‪ :‬املرجئة صنفان‪:‬‬
‫مرجئة البدعة وهم الذين يقولون‪ :‬ال يرض مع اإليامن ذنب‪.‬‬
‫ومرجئة السنة وهم الذين يرجئون أمر العصاة إىل اهلل تعاىل إن شاء عذهبم‬
‫وإن شاء عفى عنهم‪ .‬كام قال اهلل تعاىل‪( :‬يعذب من يشاء ويغفر ملن يشاء)‬
‫وقال‪( :‬إن اهلل ال يغفر أن يرشك به ويغفر ما دون ذلك ملن يشاء) واألشاعرة‬
‫من مرجئة السنة‪ ،‬كام أن الدكتور منهم‪.‬‬
‫وأما من قال‪ :‬اإليامن هو املعرفة‪ ،‬فقوله غري صحيح ألن كثريا من الكفار‬
‫يعرفون احلق ولكنهم ال يصدقون به وال يذعنون له‪ ،‬كام قال اهلل تعاىل‪( :‬الذين‬
‫آتيناهم الكتاب يعرفونه كام يعرفون أبنائهم وإن فريقا منهم ليكتمون احلق‬
‫وهم يعلمون)‬
‫وأما أن اإليامن هو التصديق فهو مذهب أهل السنة عىل خالف بينهم يف‬
‫النطق بالشهادتني‪ :‬هل هو داخل يف اإليامن أو خارج عنه رشط أو ليس‬
‫برشط‪.‬‬

‫‪335‬‬
‫وأما األعامل فمن قال من أهل السنة‪ :‬إهنا داخلة يف اإليامن وهو املروي‬
‫عن معظم السلف‪ ،‬حيث جاء عنهم أهنم قالوا‪( :‬اإليامن اعتقاد‪ ،‬وقول‪،‬‬
‫وعمل)‪ ،‬أراد الدخول ألجل كامل اإليامن‪ ،‬ال ألجل حتقق أصل اإليامن املنقذ‬
‫من اخللود يف النار‪ ،‬وذلك نظري دخول الثامر والورق واألغصان يف مسمى‬
‫الشجرة مع حتقق أصل الشجرة بدوهنا‪ .‬وهذا ما ال خيالف فيه أحد من أهل‬
‫السنة‪ ،‬ومن قال‪ :‬إن األعامل غري داخلة يف اإليامن‪ ،‬أراد أهنا غري معتربة يف‬
‫حتقق أصل اإليامن‪ ،‬وهذا األخري مروي عن أيب حنيفة‪ ،‬فاخلالف لفظي‪.‬‬
‫وقالت املعتزلة واخلوارج‪ :‬إن األعامل داخلة يف اإليامن ومعتربة يف حتقق‬
‫أصله‪ ،‬فكفرت اخلوارج مرتكب الكبرية‪ ،‬وأثبتت له املعتزلة املنزلة بني‬
‫املنزلتني‪.‬‬
‫قال الشيخ عبد احلي اللكنوي‪ :‬إن اإلرجاء قد يطلق عىل أهل السنة‬
‫واجلامعة من خمالفيهم املعتزلة الزاعمني باخللود الناري لصاحب الكبرية‪.‬‬
‫وقد يطلق عىل األئمة القائلني بأن األعامل ليست بداخلة يف اإليامن‪،‬‬
‫من جانب‬ ‫وهو مذهب أيب حنيفة وأتباعه‬ ‫وبعدم الزيادة والنقصان‬
‫املحدثني القائلني بالزيادة والنقصان وبدخول األعامل يف اإليامن‪.‬‬
‫وهذا النزاع وإن كان لفظيا كام حققه املحققون من األولني واآلخرين‪،‬‬
‫لكنه ملا طال‪ ،‬وآل األمر إىل بسط كالم الفريقني من املتقدمني واملتأخرين أدى‬

‫‪336‬‬
‫ذلك إىل أن أطلقوا اإلرجاء عىل خمالفيهم‪ ،‬وشنعوا بذلك عليهم‪ ،‬وهو ليس‬
‫بطعن يف احلقيقة كام ال خيفى عىل مهرة الرشيعة‪.‬‬
‫وقال اإلمام أنورشاه الكشمريي يف "فيض الباري عىل صحيح‬
‫البخاري"‪ :‬اإليامن عند السلف عبارة عن ثالثة أشياء‪ :‬اعتقاد‪ ،‬وقول‪ ،‬وعمل‪،‬‬
‫وقد مر الكالم يعني يف كتابه عىل األولني أي‪ :‬التصديق واإلقرار‪ .‬بقي‬
‫العمل هل هو جزء لإليامن أم ال؟‬
‫فاملذاهب فيه أربعة‪ :‬قالت اخلوارج واملعتزلة‪ :‬إن األعامل أجزاء لإليامن‪،‬‬
‫فالتارك للعمل خارج عن اإليامن عندمها‪ ،‬ثم اختلفوا‪ ،‬فاخلوارج أخرجوه من‬
‫اإليامن وأدخلوه يف الكفر‪ ،‬واملعتزلة مل يدخلوه يف الكفر‪ ،‬بل قالوا باملنزلة بني‬
‫املنزلتني‪ .‬والثالث مذهب املرجئة فقالوا‪ :‬ال حاجة إىل العمل‪ ،‬ومدار النجاة‬
‫هو التصديق فقط‪ ،‬فصار األولون واملرجئة عىل طريف النقيض‪.‬‬
‫والرابع مذهب أهل السنة واجلامعة وهم بني بني فقالوا‪ :‬إن األعامل أيضا ال‬
‫بد منها لكن تاركها مفسق ال مكفر‪ ،‬فلم يشددوا فيها كاخلوارج واملعتزلة‪ ،‬ومل‬
‫هيونوا أمرها كاملرجئة‪.‬‬
‫ثم هؤالء أي أهل السنة واجلامعة افرتقوا فرقتني فأكثر املحدثني ذهب إىل‬
‫أن اإليامن مركب من األعامل‪ ،‬وإمامنا األعظم رمحه اهلل تعاىل وأكثر الفقهاء‬
‫واملتكلمني إىل أن األعامل غري داخلة يف اإليامن مع اتفاقهم مجيعا عىل أن فاقد‬
‫التصديق كافر‪ ،‬وفاقد العمل فاسق‪ ،‬فلم يبق اخلالف إال يف التعبري فإن السلف‬

‫‪337‬‬
‫وإن جعلوا األعامل جزء لكن ال بحيث ينعدم الكل بانعدامه‪ ،‬بل يبقى اإليامن‬
‫مع انتفائها‪.‬‬
‫وإمامنا أبو حنيفة وإن مل جيعل األعامل جزء لكنه اهتم هبا وحرض عليها‪،‬‬
‫وجعلها أسبابا سارية يف نامء اإليامن‪ ،‬فلم هيدرها هدر املرجئة‪ ،‬إال أن تعبري‬
‫املحدثني القائلني بجزئية األعامل ملا كان أبعد من املرجئة املنكرين جزئية‬
‫األعامل‪ ،‬بخالف تعبري إمامنا األعظم رمحه اهلل تعاىل فإنه كان أقرب إليهم من‬
‫حيث نفي جزئية األعامل رمي احلنيفية باإلرجاء‪ ،‬وهذا كام ترى جور علينا‬
‫فاهلل املستعان‪.‬‬
‫ولو كان االشرتاك مع املرجئة بوجه من الوجوه التعبريية كافيا لنسبة‬
‫اإلرجاء إلينا لزم نسبة االعتزال إليهم أي إىل املحدثني‪ -‬فإهنم أي املعتزلة‪-‬‬
‫قائلون بجزئية األعامل أيضا كاملحدثني‪ ،‬ولكن حاشاهم من االعتزال‪ .‬وعفى‬
‫اهلل عمن تعصب ونسب إلينا اإلرجاء‪ ،‬فإن الدين كله نصح ال مراماة ومنابزة‬
‫باأللقاب‪ .‬وال حول وال قوة إال باهلل العيل العظيم‪.‬انتهى‪.‬‬
‫قال الدكتور يف حاشيته املرقومة بالرقم (‪{ :)1‬ومن العجيب أ َّن املاتريدية‬
‫أكثر فرقتني يف‬ ‫ُْ‬
‫خيرجون األشاعرة من أهل السنة ويدَّ عونه ألنفسهم‪ ،‬وهم ُ‬
‫اإلسالم تقارباً واشرتاكاً يف األصول‪ .‬انظر حاشية عىل رشح العضدية‪،38 :‬‬
‫داخيل ضمن‬
‫ٌّ‬ ‫خالف‬
‫ٌ‬ ‫برمته‬
‫أما ما يتعلق باخلالف بني األشاعرة واملعتزلة فهو َّ‬

‫‪338‬‬
‫املدرسة العقلية التي هي مدرسة اهلوى والبدعة‪ .‬وال بأس أن يستفيد ُ‬
‫أهل‬
‫ِ‬
‫ردود األشاعرة عليهم إذا كانت حقاً}‬ ‫ِ‬
‫السنة من‬
‫أقول‪ :‬أما إخراج املاتريدية األشاعرة من أهل السنة‪ ،‬فهذا ما ال أعلم أحدا‬
‫رأي انفرد‬
‫من املاتريدية فعله‪ ،‬وإن كان قد قال به بعض متعصبة املاتريدية فهو ٌ‬
‫يصح نسبته إىل املاتريدية ك رلهم ‪ ،‬فإنه من املقرر أن‬
‫ُّ‬ ‫به هذا البعض‪ .‬وال‬
‫اخلالف بينَهم ليس يف‬
‫َ‬ ‫األشاعرة واملاتريدية مل يبدع بعضهم البعض‪ ،،‬ألن‬
‫األصول التي ي َبدع فيها املخالف‪.‬‬
‫خالف بني مدرستني مجعت‬
‫ٌ‬ ‫وأما اخلالف بني األشعرية واملعتزلة فهو‬
‫إحدامها بني النقل والعقل‪ ،‬واستعملت كالًّ منهام يف جماله الذي جيب أن‬
‫يستعمل فيه وهم األشاعرة‪ .‬وغلت األخرى يف االعتامد عىل العقل‪ ،‬وردت‬
‫ِ‬
‫النصوص املجم ِع عىل صحتها وأولت مجلة من اآليات التي‬ ‫بذلك مجلة من‬
‫تنقض مذه َبهم‪ ،‬وهم املعتزلة‪.‬‬
‫قال الدكتور‪{ :‬بل نحن نزيدكم إيضاحاً فنقول‪َّ :‬‬
‫إن هذه العقائد التي‬
‫أدخلتموها يف اإلسالم وجعلتموها عقيدة الفرقة الناجية بزعمكم‪ ،‬هي ما كان‬
‫عليه فالسف ُة اليونان ومرشكوا الصابئة وزنادقة أهل الكتاب‪ ،‬لكن ورثها عنهم‬
‫وابن ُكالّب‪ .‬وأنتم ورثتموها عن هؤالء‪ ،‬فهي‬
‫وبرش املرييس ُ‬
‫صفوان ُ‬
‫َ‬ ‫اجله ِم ُ‬
‫بن‬
‫من تركة الفالسفة واالبتداع وليست من مرياث النبوة والكتاب}‬

‫‪339‬‬
‫أقول‪ :‬أصلحنا اهلل وإياك أهيا الدكتور‪ .‬كيل التهم العظيمة للمخالفني‬
‫بضاعة الذين يشعرون بضعفهم أمام خمالفيهم‪ ،‬وُياولون سرت ضعفهم بكيل‬
‫التهم للمخالفني‪ ،‬والناقد البصري هلم باملرصاد‪ ،‬واهلل من ورائهم حميط‪.‬‬
‫ثم إن هذه التهم ينقضها ما علقناه سابقا عىل كال ِم الدكتور‪ ،‬فعىل القارئ‬
‫أن يقرأه بتمعن وإنصاف وحياد حتى يعلم ما هو نصيب هذه التهم العظيمة‬
‫من الصحة‪.‬‬
‫وأمواهلم‪ ،‬ولكن البيرن َة عىل‬
‫َ‬ ‫ولو أعطي الناس بدعواهم ال ّدعى ٌ‬
‫ناس دما َء أقوام‬

‫املدعي‪.‬‬
‫واهلل تعاىل يتوىل هدانا وهو يتوىل الصاحلني‪.‬‬
‫ومن أجل أن الدين النصيحة أنصح األخ الفاضل الدكتور سفر بتالوة آيات اإلفك‬
‫من سورة النور بتدبر من قوله عز وجل‪( :‬إن الذين جائوا باإلفك عصبة منكم‪.....‬إىل‬
‫قوله تعاىل‪ :‬يا أهيا الذين آمنوا ال تتبعوا خطوات الشيطان ومن يتبع خطوات الشيطان فإنه‬
‫يأمر بالفحشاء واملنكر‪ ،‬ولوال فضل اهلل عليكم ورمحته ما زكى منكم من أحد أبدا ولكن‬
‫اهلل يزكي من يشاء واهلل سميع عليم) النور ‪21-11‬‬
‫وأذكره منها خاصة بقوله تعاىل‪ :‬يعظكم اهلل أن تعودوا ملثله أبدا إن كنتم مؤمنني‪.‬‬
‫وأدعو لنفيس وله بام ييل‪:‬‬
‫ربنا آتنا يف الدنيا حسنة ويف اآلخرة حسنة وقنا عذاب النار‪.‬‬

‫ربنا اغفر لنا وإلخواننا الذين سبقونا باإليامن وال جتعل يف قلوبنا غال‬
‫للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم‪.‬‬

‫‪341‬‬
‫اللهم أرنا احلق حقا وارزقنا اتباعه‪ ،‬وأرنا الباطل باطال وارزقنا اجتنابه‪.‬‬
‫يا حي يا قيوم برمحتك استغيث أصلح لنا شؤننا كلها وال تكلنا إىل أنفسنا‬
‫طرفة عني‪.‬‬
‫واحلمد هلل رب العاملني‪ .‬وصىل اهلل عىل سيدنا حممد وعىل آله وصحبه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫‪ 4‬مجادي األوىل ‪1427‬هـ‬
‫‪ 31‬أيار ‪2006‬‬
‫قونيه‬

‫‪341‬‬
‫املحتويات‬
‫‪-1‬مقدمة املؤلف‬
‫‪-2‬مقدمة الدكتور سفر‪:‬‬
‫‪-3‬حكم الدكتور عىل األشاعرة بأهنم من املرجئة الغالة‪:‬‬
‫‪-4‬األشاعرة أكرب فرقة إسالمية‪:‬‬
‫‪-5‬اإلمام أبو احلسن األشعري مقرر ملذهب السلف ومدافع عنه‪:‬‬
‫‪-6‬ربط الدكتور بني مذهب األشاعرة واإلسترشاق‪:‬‬
‫‪ -7‬مل يكفر األشاعرة إال من أنكر أمرا جممعا عليه معلوما من الدين‬
‫بالرضورة‪:‬‬
‫‪-8‬حماولة الدكتور إلخراج األشاعرة من أهل السنة‪:‬‬
‫‪-2‬السواد األعظم من علامء األمة عىل املذهب األشعري‪:‬‬
‫‪ -10‬عقيدة اإلمام أبو حنيفة والطحاوي موافقتان ملذهب األشعري‪:‬‬
‫‪-11‬بيان حال اإلمام أيب حممد عبد اهلل بن كالب‪:‬‬
‫‪-12‬موقف علامء اجلرح والتعديل من األشاعرة‪:‬‬

‫‪342‬‬
‫‪-13‬علامء السلوك موافقون لألشاعرة‪:‬‬
‫‪-14‬الذي رجع عنه من رجع من األشاعرة هو منهج اإلستدالل ال‬
‫العقيدة‪:‬‬
‫‪-15‬علامء األشاعرة هم اجلمهور األعظم من علامء األمة‪:‬‬
‫‪-16‬األصل يف عوام املسلمني أهنم غري منسوبني ملذهب من مذاهب‬
‫العقيدة‪:‬‬
‫‪-17‬حتريف الدكتور لكالم الرازي‪:‬‬
‫‪-18‬بيان حال الرازي واآلمدي‪:‬‬
‫‪-12‬الكالم عىل وصية الرازي‪:‬‬
‫‪-20‬هل انتقد احلافظ ابن حجر األشاعرة وخالفهم؟‪:‬‬
‫‪-21‬نامذج من التأويل‪:‬‬
‫‪-22‬بيان أن ابن اجلوزي والنووي واحلافظ العسقالين موافقون‬
‫لألشاعرة‪:‬‬
‫‪ -23‬أبو احلسن األشعري وأبو حممد الربهباري أهيام إمام أهل السنة؟‪:‬‬
‫‪-24‬بيان بطالن إقعاد اهلل تعاىل ملحمد صىل اهلل تعاىل عليه وآله وسلم عىل العرش‬

‫معه‪:‬‬

‫‪ -25‬مصدر التلقي عند األشاعرة وتقديمهم للعقل عىل النقل وبيان أن‬
‫هذا التقديم من املقرر عند املحدثني وغريهم‬

‫‪343‬‬
‫‪-26‬األخذ بظواهر بعض النصوص إحلاد وضاللة‪:‬‬
‫‪-27‬اإلستدالل باخلطاب هل يفيد القطع؟‪:‬‬
‫‪-28‬حتقيق مسألة حجية خرب الواحد يف الواحديف العقيدة وكالم الرازي يف ذلك‪:‬‬

‫‪-22‬هل قطع الرازي بأن يف الصحيحني أحاديث وضعها الزنادقة؟‪:‬‬


‫‪-30‬بيان السبب يف قلة ورود اآليات واألحاديث يف بعض كتب األشاعرة‬
‫الكالمية‪:‬‬

‫‪-31‬هل صحيح أن الصوفية يقدمون الكشف والذوق عىل النص؟‪:‬‬


‫‪-32‬دالئل وجود اهلل تعاىل عند األشاعرة‪:‬‬
‫‪--33‬بيان أن اهلل تعاىل خمالف للحوادث‪ ،‬وأنه ليس جوهرا وال عرضا وال جسام وال يف‬
‫جهةواليفمكان‪:‬‬
‫‪-34‬الكالم عىل صفات الرىض والغضب واإلستواء هلل تعاىل‪:‬‬
‫‪-35‬تقسيم األمور الوارد نسبتها إىل اهلل تعاىل يف الكتاب والسنة إىل أربعة أقسام‪ ،‬وبيان حكم كل قسم‬

‫منها‪:‬‬

‫‪-36‬هل يصح أن يقال‪ :‬هلل تعاىل يد ال كيدنا وجنب ال كجنبنا‪....‬؟‬


‫‪-37‬رسالة "التقسيم الثالثي للتوحيد بني األشاعرة وابن تيمية"‪:‬‬
‫‪-38‬بيان أخطاء الدكتور يف الكالم عىل التوحيد وهي ‪ 7‬أخطاء‪:‬‬
‫‪-32‬أول واجب عىل املكلف وما تورط فيه الدكتور من األخطاء وهي ‪ 6‬أخطاء‪:‬‬

‫‪344‬‬
‫‪-40‬حكم الدكتور عىل األشاعرة بأهنم مرجئة جهمية‪ ،‬وحتقيق هذه‬
‫املسألة‪:‬‬
‫‪-41‬مسألة زيادة اإليامن ونقصه‪:‬‬
‫‪-42‬القرآن وبيان مذهب األشاعرة فيه بتوسع‪:‬‬
‫‪-43‬بيان أن كالم اهلل تعاىل مسموع‪:‬‬
‫‪-44‬معنى إنزال كالم اهلل تعاىل‪:‬‬
‫‪-45‬مذهب األشاعرة يف الصوت‪:‬‬
‫‪-46‬مذهب اإلمام أمحد يف كالم اهلل تعاىل‪:‬‬
‫‪-47‬ما تورط فيه الدكتور من األخطاء يف مسألة القرآن وهي ‪ 12‬خطئا‪:‬‬
‫‪-48‬مسألة القدر عىل مذهب األشاعرة‪:‬‬
‫‪-42‬املحبة والرىض عند األشاعرة غري اإلرادة‪:‬‬
‫‪-50‬بيان اإلستطاعة عىل مذهب األشاعرة‪:‬‬
‫‪-51‬العالقة بني السبب واملسبب عند األشاعرة‪:‬‬
‫‪-52‬مسألة تعليل أفعال اهلل تعاىل وأحكامه‪:‬‬
‫‪-53‬ما تورط فيه الدكتور من األخطاء يف مسألة تعليل أفعال اهلل تعاىل وأحكامه وهي ‪ 13‬خطئا‪:‬‬

‫‪-54‬مسألة جواز أن خيلد اهلل املؤمن يف النار والكافر يف اجلنة‪:‬‬


‫‪-55‬مسألة جواز تكليف ما ال يطاق‪:‬‬
‫‪-56‬التاسع النبوات‪:‬‬

‫‪345‬‬
‫‪-57‬أخطاء الدكتور يف كالمه عىل النبوات وهي ‪ 7‬أخطاء‪:‬‬
‫‪-58‬بيان مسألة التحسني والتقبيح العقليني‪:‬‬
‫‪-52‬أخطاء الدكتور يف كالمه عىل التحسني والتقبيح وهي ‪ 12‬خطئا‪:‬‬
‫‪-60‬التأويل وبيان معناها اإلصطالحي‪:‬‬
‫‪-61‬رسالة "متشابه الصفات بني التأويل واإلثبات"‪:‬‬
‫‪-62‬أخطاء الدكتور يف كالمه عىل التأويل وهي ‪ 12‬خطئا‪:‬‬
‫‪-63‬بيان أن التأويل ال خيلو عنه مذهب من املذاهب‪:‬‬
‫‪-64‬نسبة الغزايل إىل اإلمام أمحد أنه أول ثالثة أحاديث‪:‬‬
‫‪-65‬تقسيم األشاعرة ألصول العقيدة بحسب مصدر التلقي إىل ثالثة أقسام وبيان ذلك بوجه‬

‫مفصل‪:‬‬

‫‪-66‬ما حواه كالم الدكتور من األخطاء وهي ‪ 17‬خطئا‪:‬‬


‫‪-67‬املقرر عند األشاعرة أهنم ال يكفرون إال من أنكر أمرا جممعا عليه معلوما من الدين‬

‫بالرضورة‪:‬‬

‫‪-68‬أخطاء الدكتور يف املسألة وهي ‪ 11‬خطئا‪:‬‬


‫‪-62‬دعوى الدكتور أن مذهب األشاعرة متناقض‪:‬‬
‫‪-70‬هل نفي اجلهة عن اهلل تعاىل يقتيض نفي الرؤية له‪ ،‬واإلستدالل عىل نفي‬

‫اجلهة‪:‬‬

‫‪346‬‬
‫‪-71‬بيان قول األشاعرة‪ :‬إن اهلل تعاىل ليس داخل العامل وال خارجه‪ ،‬وال‬
‫فوقه وال حتته وال عن يمينه وال عن شامله‪:‬‬
‫‪-72‬رسالةيف بيان العلو والفوقيةهلل تعاىل‬
‫‪-73‬مسألة األحوال‪:‬‬
‫‪-74‬حكم من مل تبلغه دعوة الرسل‪:‬‬
‫‪-75‬مسألة وجوب النظر يف معرفة اهلل تعاىل‪ ،‬ومسألة أول واجب عىل‬
‫املكلف‪:‬‬
‫‪-76‬أخطاء الدكتور يف كالمه عىل هاتني املسألتني‪ ،‬وهي ‪ 2‬أخطاء‪:‬‬
‫‪-77‬األخطاء العلمية عن الكون يف كتب األشاعرة ومسألة كروية األرض‬

‫وحركتها‪:‬‬

‫‪ -78‬املرجئة صنفان‪ :‬مرجئة البدعة‪ ،‬ومرجئة السنة‪:‬‬

‫‪347‬‬
348
‫قائمة مؤلفات املؤلف‬
‫دار‬ ‫‪-1‬منهج األشاعرة يف العقيدة بني احلقائق واألوهام‪.‬‬
‫روضة استانبول‬

‫طباعة دار القلم دمشق‬ ‫‪-2‬فصل اخلطاب يف مواقف األصحاب‪.‬‬


‫‪-3‬التحقيقات الوفية بام يف " البهجة املرضية" من النكات والرموز‬
‫اخلفية‪.‬‬
‫دار السالم‪/‬القاهرة‪ ،‬واملكتبة احلنفية استانبول‬

‫مل يطبع‬ ‫‪-4‬النكت الغرر عىل" نزهة النظر بتوضيح نخبة الفكر"‪.‬‬
‫‪-5‬الفكر اإلسالمي عند اإلمام ويل اهلل الدهلوي‪ .‬طباعة خاصة‬

‫مؤسسة الريان بريوت‬ ‫‪-6‬السنة النبوية حجية وتدوينا‪.‬‬


‫مؤسسة الريان بريوت‬ ‫‪-7‬منهج القاصد‪.‬‬
‫دار القادري دمشق‪.‬‬ ‫‪-8‬سبيل من أناب إىل اهلل‪.‬‬
‫دار الفارايب‪.‬‬ ‫‪-2‬حاشية عىل رشح الباجوري ل"جوهرة التوحيد"‪.‬‬
‫دار‬ ‫‪-10‬األسوة احلسنة نشئتهاوتكوهناومساس احلاجةاليها‪.‬‬
‫الروضة‪.‬‬

‫‪349‬‬
‫مل يطبع‪.‬‬ ‫‪-11‬تعليق عىل" خمتَص املعاين" للتفتازاين‪.‬‬
‫مل يطبع‪.‬‬ ‫‪-12‬حاشية عىل" املسامرة" رشح" املسايرة" البن اهلامم‪.‬‬
‫دار احلنفية استانبول‪.‬‬ ‫‪-13‬حاشية عىل رشح العصام ملتن" الفريدة"‪.‬‬
‫مل يطبع‪.‬‬ ‫‪-14‬حاشية عىل رشح الكلنبوي ملتن" اإليساغوجي"‪.‬‬
‫طباعة‬ ‫‪-15‬رشح" اخلبية" يف آداب املناظرة للشيخ خليل األسعردي‪.‬‬
‫خاصة‪.‬‬

‫مل يطبع‪.‬‬ ‫‪-16‬اإلجابة عىل أسئلة تتعلق بمن يسب الصحابة‪.‬‬


‫مل‬
‫‪-17‬تعليقات عىل" قرة العني" رشح الورقات المام احلرمني‪ ،‬ومقدمةمطولةللرشح‬

‫يطبع‪.‬‬

‫دار الفارايب‬ ‫‪-18‬رسالة يف الكسب وخلق أفعال العباد‪.‬‬


‫دار الفارايب‬ ‫‪-12‬رسالة يف حتقيق معنى أن صفات اهلل ليست عينه وال غريه‪.‬‬
‫دار‬ ‫‪-20‬رسالة يف حكم تعلم علم الكالم والسبب يف هني السلف عنه‪.‬‬
‫الفارايب‬

‫دار الفارايب‬ ‫‪-21‬رسالة يف حتقيق مذاهب العلامء يف كالم اهلل تعاىل‪.‬‬


‫دار الفارايب‬ ‫‪-22‬رسالة متشابه الصفات بني التأويل واإلثبات‪.‬‬
‫دار الفارايب‬ ‫‪-23‬رسالة التوحيد الثالثي بني األشاعرة وابن تيمية‪.‬‬
‫دار الفارايب‬ ‫‪-24‬رسالة العلو والفوقية هلل تعاىل‬
‫دار الفارايب‬ ‫‪-25‬رسالة تعليل أفعال اهلل وأحكامه‪.‬‬

‫‪351‬‬
‫مل يطبع‪.‬‬ ‫‪-26‬رسالة يف علم الفرائض‪.‬‬
‫مل يطبع‬ ‫‪-27‬التعامل مع غري املسلمني والعالقة هبم‪.‬‬
‫‪ -28‬تعليقات عىل" إحكام األحكام" البن دقيق العيد رشح" عمدة‬
‫مل يطبع‬
‫األحكام" للمقديس‪.‬‬

‫‪351‬‬

You might also like