You are on page 1of 25

‫‪ #‬‬

‫&‪#$ %‬אْ " نאْ  ‬


‫  
 و   א
אْ ‬
‫د و אْ ‬

‫
('א‪+,‬א*) ‬

‫‪ -.#/0$‬‬
‫‪2‬א‪ 1‬‬

‫يتضمن ھذا الكتيب نص المحاضرة التي ألقاھا المفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه‬
‫ﷲ في رابطة الحقوقيين بتـاريخ ‪ 23‬ﺻـفر ‪ 1392‬للھجـرة‪ ،‬الموافـق ‪ 28‬آذار )مـارس(‬
‫‪ 1972‬للميالد‪ ،‬في مدينة دمشق‪ ،‬تحت عنوان "دور المسلم في الثلـث األخيـر مـن‬
‫القرن العشرين" ونص المحاضرة التي ألقاھا في مسجد المرابط في مدينة دمشق‬
‫بتاريخ ‪ 19‬ربيع الثاني ‪1392‬ھـ الموافق ‪ 22‬أيار )مايو( ‪1972‬م‪ ،‬تحـت عنـوان "رسـالة‬
‫المسلم في الثلث األخير من القرن العشرين"‪.‬‬
‫‬
‫‬

‫‪%/:3456‬א‪9:‬ق ‬
‫‪@bhallak‬‬
‫=א‪5>،<
/‬ن ‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫المحاضرة األولى‬

‫ن ا ْل ِع ْ‬
‫ش ِر ْين‬ ‫ن ا ْلق َْر ِ‬
‫ير ِم َ‬
‫خ ِ‬‫األ َ ِ‬
‫ث ْ‬‫م فِي ال ﱡث ُل ِ‬
‫س ِل ِ‬ ‫دور ا ْل ُ‬
‫م ْ‬ ‫ُ‬
‫محاضرة األستاذ مالك بن نبي في رابطة الحقوقيين في دمشق‬
‫‪1972 /3 /28‬‬

‫بسم ﷲ الرحمن الرحيم والصالة والسالم على خير المرسلين‪،،‬‬

‫أيھــا الــسادة الكــرام‪ ،‬األبنــاء والطلبــة األعــزاء‪ ،‬إننــي ال أســتطيع أن أقــدر ھــذه‬
‫اللحظة حق قدرھا في سجل حياتي مـع أن اللحظـات واللقـاءات تتكـرر‪ .‬إننـي‬
‫أشــعر بمزيــد مــن الــسرور والفــرح إذ أتحــدث مــع ھــذه الطائفــة مــن الــشباب‬
‫المسلم في ھذه األﺻقاع من البالد الشقيقة‪ ،‬سورية العزيزة‪ ،‬وفي معقل من‬
‫معاقل اإلسالم‪ ،‬المعقل العريق دمشق‪ .‬ويجب علي أن أتوجه بالشكر إلخواننا‬
‫الحقــوقيين الــذين أفــسحوا لنــا المجــال وقــدموا لنــا ھــذا المكــان‪ ،‬لنعــرض مــا‬
‫استطعنا دور المسلم في الثلث األخير من القرن العشرين في رأينا‪.‬‬

‫لو حاولنا تحديد دور المسلم عامة ما كان لنا أن نختار سوى مـا اختـاره ﷲ لـه‬
‫شـ َھ َدا َء‬ ‫ُم ُأ ﱠمـ ًة َو َ‬
‫سـطًا لِ َتكُو ُنـوا ُ‬ ‫ج َع ْل َنـاك ْ‬ ‫ل } َو َكـ َذلِ َ‬
‫ك َ‬ ‫دوراً في التاريخ‪ .‬يقول ع ﱠز وجـ ﱠ‬
‫ش ِھي ًدا{ ]البقـرة‪ [143 :‬ھكـذا يحـدد ﷲ دور‬ ‫ُم َ‬ ‫ول َعلَ ْيك ْ‬
‫س ُ‬‫الر ُ‬
‫اس َويَكُونَ ﱠ‬
‫ِ‬ ‫َعلَى ال ﱠن‬
‫المسلم بصورة عامة‪ ،‬ولـيس لنـا أن نختـار لـه دوراً أشـرف وأفـضل منـه‪ ،‬وإنمـا‬
‫نلفت النظر إلى خطورة ھـذا الـدور وإلـى مقتـضياته التـي ھـي مـن اختـصاص‬
‫الفقھــاء ومــن اختــصاص الحقــوقيين‪ ،‬ألنھــم يعرفــون شــروط تزكيــة الــشھادة‬
‫والشاھد من الناحية العقلية ومن الناحية األخالقية معاً‪.‬‬

‫لكن لماذا أفردنا وتعمدنا إفراد فترة معينة من ھذا القرن؟!‬

‫أوال ً‪ :‬لطبيعة القرن العـشرين التـي يتميـز بھـا عـن القـرون األخـرى كلھـا‪ ،‬ألنـه‬
‫القرن الذي تحققت فيـه تغيـرات جذريـة‪ ،‬بـدت وكأنھـا ترسـم لإلنـسانية نقطـة‬
‫الالرجوع على محور الزمن‪ ،‬فھـو القـرن الـذي ھبـت فيـه أكبـر عواﺻـف التـاريخ‬
‫على مصير اإلنسانية‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫ثانياً‪ :‬ألنه القرن الذي سجل األحداث الكبرى‪ ،‬سواء في مجـال العلـم‪ ،‬أو ‪-‬كمـا‬
‫سنرى‪ -‬في المجال النفـسي‪ ،‬أو فـي المجـال األخالقـي والـديني‪ .‬ففـي كـل‬
‫ھذه المجاالت ھبت عواﺻف كبرى يبدو أنھا غيـرت معـالم الطريـق‪ ،‬وعلـى أيـة‬
‫حال فھي قد غيرت مالمح الزمن والمجتمعات اإلنسانية‪.‬‬

‫ھذه التغيرات تحققت من خالل أحداث كبرى‪ ،‬خاﺻة منھـا الحـربين العـالميتين‬
‫اللتين ھزتا العالم مرتين في ظـرف أربعـين سـنة‪ ،‬وشـملتا للمـرة األولـى فـي‬
‫التاريخ سائر أنحائـه‪ .‬ولوقـع ھـذه األحـداث نتـائج ال منـاص منھـا‪ ،‬بعـضھا دخـل‬
‫سجل التاريخ وتسجل في حافظة اإلنسانية وفـي كتبھـا‪ ،‬وبعـضھا دخـل عـالم‬
‫النفوس‪ ،‬سواء استطعنا قراءته أم لم نستطع‪ ،‬وبعضھا الزال توقعات في ضـمير‬
‫الغيب نرى من خاللھا أحداثاً كبرى مطلة على زماننا‪.‬‬

‫فھذه األسباب تجعلنا نرى فـي ھـذا الثلـث األخيـر مـن القـرن العـشرين‪ ،‬كأنـه‬
‫النھر قرب شاطئ البحر وقد بلغ المصب‪ ،‬بعد أن تجمعت فيه جميع روافده مـن‬
‫المياه‪ ،‬التي انحدرت من أعالي الجبال في أقصى داخل الـبالد‪ .‬فالثلـث األخيـر‬
‫يبدو ھكذا تلك الفتـرة مـن التـاريخ التـي تتجمـع فيھـا كـل روافـد التـاريخ‪ ،‬بكـل‬
‫نتائجھا النفـسية واالجتماعيـة والـسياسية والعلميـة‪ ،‬وكـل التغيـرات المترتبـة‬
‫على ھـذه النتـائج‪ .‬وعليـه فـإن ھـذه المـسوغات تكفـي لتـسويغ اختيارنـا لـه‬
‫بــصفته حقبــة زمنيــة اســتثنائية فــي التــاريخ‪ ،‬يكــون دور المــسلم فيھــا شــيئاً‬
‫استثنائياً أيضاً‪ ،‬يجب إدراجـه بطريقـة خاﺻـة فـي الـدور العـام الـذي حـدده لـه‬
‫القرآن الكريم بوﺻفه شاھداً‪ ،‬وذلك أمر يجـب أن يـدخل فـي اعتبارنـا ويجـب أن‬
‫نقدره بقدر ما يمكننـا مـن الواقعيـة‪ ،‬حتـى نقـدم لـشبابنا الـصورة الموضـوعية‪،‬‬
‫التي يـرى مـن خاللھـا دوره ھـو ودور إخوانـه اآلخـرين فيـه‪ ،‬ألن رسـالة الجيـل‬
‫الناشئ ستحقق على أية حال إمـا سـلبية أو إيجابيـة فيـه‪ ،‬فھـو ثلـث تحقـق‬
‫رسالته‪.‬‬

‫ولكي نتبين طبيعة ھذا الدور‪ ،‬الذي يجب على الشباب المـسلم أن يتـصدى ‪-‬‬
‫منذ اآلن‪ -‬لالضطالع به في ھذه الحقبة المواجھة لـه‪ ،‬المنفتحـة أمامـه‪ ،‬يجـب‬
‫أن نراجع بعض السمات التي يتميز بھا ھذا الثلث األخير في العـالم المتحـضر‪،‬‬
‫ألن مركز الفكر العالمي اليوم يوجد على محـور سـبق أن سـميناه )فـي كتـاب‬

‫‪3‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫الفكــرة اإلفريقيــة اآلســيوية( "محــور واشــنطن‪ -‬موســكو"‪ ،‬محــور القــوة‪ ،‬محــور‬


‫العلم‪ ،‬محور الحضارة‪ .‬يجب إذن أن نلتفت إلى ھذا المحـور‪ ،‬مركـز الثقـل الـذي‬
‫تطبع عليه األحداث كـل أبعادھـا العالميـة‪ ،‬ونتـساءل مـا الـذي طـرأ علـى ھـذا‬
‫المحور؟ ماذا حدث فيه خالل القرن العـشرين؟ مـا ھـي التـسجيالت الخاﺻـة ‪-‬‬
‫وھذا ما يھمنا‪ -‬في العالم الثقافي وفي العالم النفسي عليه؟!‬

‫إن األجيال في ھذا المجتمع المتحضر عاشـت علـى رﺻـيد ثقـافي ورثتـه مـن‬
‫األجيال السابقة‪ ،‬أعني أنھا عاشت على رﺻيد المسوّغات التي دفعت عجلـة‬
‫التــاريخ فــي القــرون الماضــية‪ ،‬وخــصوﺻاً فــي القــرن التاســع عــشر والقــرن‬
‫العشرين‪ .‬والذي يبدو ‪-‬خاﺻة إذا رجعنا إلى فترة ما بعد الحربين العالميتين‪ -‬أن‬
‫مـل أعبـاء الحيـاة‪ ،‬بـدأ ينفـد‪ ،‬وبـدأت‬
‫ھذا الرﺻيد مـن المـسوّغات الـضرورية لتح ّ‬
‫الشعوب التي تعيش على محور واشنطن‪ -‬موسكو‪ ،‬الشعوب المتحضرة‪ ،‬بدأت‬
‫تــشعر جميعھــا بنفــاد رﺻــيدھا الثقــافي‪ ،‬رﺻــيد مــسوّغات حياتھــا التقليديــة‬
‫الموروثة عن أجدادھا‪ ،‬وبدأت فعال ً تجري عمليات تعويض في شـتى الميـادين‪،‬‬
‫حتى في ميدان األدب حيث نرى لوناً جديداً يظھر تحت اسـم "الوجوديـة"‪ .‬وإذا‬
‫كان من حق أﺻحاب ھذا اللون من األدب أن يحللوا القضية من الناحية األدبية‪،‬‬
‫كما يفعل كير كجارد وھايدجر وسارتر في كل من الدانمرك أو ألمانيا أو فرنـسا‪،‬‬
‫فإن من حقنا نحن أن نحلله من ناحية أخـرى‪ .‬فنـرى فيـه رد فعـل أدبـي علـى‬
‫شعور غامض لفقدان المسوغات في المجال النفسي‪.‬‬

‫والسؤال اآلن كيف فقدت ھذه المـسوغات‪ ،‬التـي تحركـت ودارت عليھـا عجلـة‬
‫التاريخ طيلة القرون الماضية فـي أوربـة؟ لنتـصور كيـف كـان ينـشأ الطفـل فـي‬
‫زمان كيبلنج مثال ً أو في زمان أرنست رنان مثال ً‪ .‬كيف كان ينشأ فـي بيتـه؟ ثـم‬
‫كيف يتعلم فـي مدرسـته؟ ثـم كيـف كـان يتوجـه فـي عملـه بعـد التخـرج مـن‬
‫الجامعــة‪ ،‬أو عنــدما يبلــغ أشــده ويتوجــه إلــى الحيــاة العمليــة جنــدياً فــي تلــك‬
‫الجيوش التي تفتح البلدان التي تسمى المستعمرات‪ .‬كـان الطفـل فـي ذلـك‬
‫الوقت ينشأ وحوله جو من األفكـار منبتھـا االسـتعمار‪ ،‬أي المنـاخ االسـتعماري‬
‫د سـواء‪ ،‬وفـي االتحـاد الـسوفييتي‬ ‫الذي تك ﱠون في أوربة وفي أمريكة علـى حـ ٍّ‬
‫قبل الثورة أيضاً‪ .‬ھذا المناخ االستعماري ھو الذي كـان ينـشأ فيـه الطفـل منـذ‬
‫والدتــه‪ ،‬نــشأة ال يبــدو معھــا غريبــا فــي ھــذا المنــاخ الــذي كــان يــسود العــالم‬

‫‪4‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫المتحضر أن يقوم من فرنسا كاتب قصصي كبير في أواخر القـرن الماضـيى ھـو‬
‫جلفــرن‪ ،‬ليكتــب عــن ملحمــة ال تمــت بــصلة إلــى بطولـة الفرنــسيين أو بطولــة‬
‫الجيش الفرنسي‪ ،‬ھي ملحمة عنوانھـا ميـشال سـتروجوف‪ ،‬بـل تتـصل بفـتح‬
‫روسيا للبالد اإلسالمية في بخـارى‪ .‬وكانـت قـصة غريبـة فعـالً‪ ،‬إن دلـت علـى‬
‫شيء فإنما تدل على سيادة المنـاخ االسـتعماري شـرق الـبالد وغربھـا‪ ،‬ذلـك‬
‫المناخ الذي سيتم فيه إبرام الميثـاق االسـتعماري فـي مـؤتمر بـرلين ‪1881‬م‪،‬‬
‫حيث كان الضمير األوربي‪ ،‬الضمير المتحضر يعيش ھذه الملحمـة المتفقـة مـع‬
‫روح ذلـــك الميثـــاق‪ ،‬فـــال نـــستغرب معـــه اســـتعمال تـــسميات االكتـــشافات‬
‫االستعمارية والفتوحات االستعمارية‪ .‬لكن الشيء الذي يھمنا نحن مـن جانـب‬
‫التحليل اليوم‪ -‬كي نعود إلى موضوعنا‪ -‬ھو كيف فقدت المسوغات؟ كان الطفل‬
‫يشبع جانب تعطشه لألشياء الغريبة والقصص النـادرة وقـصص البطـوالت‪ ،‬فـي‬
‫جو االستعمار وفي ملحمة الفكرة االسـتعمارية نفـسھا‪ ،‬لـذلك ال نـستغرب أن‬
‫نرى رجال ً كـ ستانلي في أواخر القـرن الماضـي‪ ،‬نـشأ فـي ھـذا الجـو وتكونـت‬
‫عنده فكرة االكتشافات وفكرة الفتوحات‪ ،‬نـراه يغـادر وطنـه وينـزل إلـى إفريقيـة‬
‫الوسطى فيحتل قطاعا ًكبيراً منھا‪ .‬لقد كان يرى ما يـراه علـى الخريطـة قطعـة‬
‫بيــضاء فراودتــه الفكــرة أن يلونھــا بلــون مــا‪ ،‬وكــان اللــون األحمــر علــى الخــرائط‬
‫المستعملة في أواخر القرن الماضي مخصصاً لتلوين المـستعمرات الفرنـسية‪،‬‬
‫واللـــون األخـــضر لتلـــوين المـــستعمرات اإلنجليزيـــة‪ ،‬واللـــون البنـــي لتلـــوين‬
‫المستعمرات البرتغالية‪ ،‬واللـون األﺻـفر لتلـوين المـستعمرات الھولنديـة إلـخ‪...‬‬
‫فأراد ستانلي أن يلون قطعة ما من إفريقية بلون يخـول ھـذه القطعـة أن تكـون‬
‫م وضع اليد عليھا ‪-‬على‬ ‫ھدية ألوروبة بصفتھا مستعمرة‪ ،‬وقد أھداھا فعال ً لما ت ﱠ‬
‫ـر َكتھم يقـدمھا إلـى‬
‫الكونغو‪ -‬إلى تاج بلجيكا وكأنھا ملك أجداده أو قطعـة مـن تَ ِ‬
‫ملك أو ملكة بروكسل‪.‬‬

‫أما إذا كان ھذا األوربي جندياً فإن نشأته فـي ھـذا الجـو‪ ،‬تـصور لـه أن المجـال‬
‫ألداء واجباتــه الوطنيــة وواجباتــه العــسكرية‪ ،‬ھــو قطــاع مــن قطاعــات إفريقيــة‬
‫وآسية‪ .‬ھكذا كانت األمور تسير‪ ،‬وھكذا كانت تتفتح نفوس األطفال في أوربـة‪،‬‬
‫يضاف إلى ذلك تدخل بعض األشياء ذات الجانب الخفـي‪ ،‬الجانـب الـذي يتـصل‬
‫بما نسميه الصراع الفكري؛ األشياء التي تصور لھذا الطفل الناشئ حتى قبـل‬
‫دخوله إلى المدرسـة االبتدائيـة أو قبـل خروجـه منھـا ‪-‬فـي مجـالت متخصـصة‬

‫‪5‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫لألطفال‪ -‬تصور له آيات البطولة فـي إفريقيـة علـى حـساب أولئـك البرابـرة مـن‬
‫السود أو من الصفر‪ ،‬مما يجعلـه يعتقـد عنـدما ينـزل بـالداً مثـل شـنغھاي فـي‬
‫أواخر القرن الماضي‪ ،‬أنه ھو رب الصين‪ .‬فيضع الفتة على باب الحديقة ‪-‬رأيناھا‬
‫نحــن عنــدما زرنــا الــصين‪ ،‬ألن الحكومــة الــصينية تركتھــا كمــا ھــي بع ـد خ ـروج‬
‫االستعمار منھـا‪ -‬كتـب عليھـا "ال يـدخل ھـذه الحديقـة الكـالب وال الـصينيون"‪،‬‬
‫بعض الكالب طبعاً‪ .‬لقد كان ترتيب الكلمتين الكالب أوال ً والصينيون ثانيا‪.‬‬

‫ھذا ھو المناخ الذي كانت تتكون فيه نفوس األطفـال ونفـوس الـشبان ونفـوس‬
‫الرجال‪ ،‬وھذا ھو المناخ الذي كانـت تنطلـق فيـه الطاقـات ‪-‬طاقـات ال نحتقرھـا‬
‫فعال ً‪ -‬كتلك الطاقة الجبارة التي نتصورھا في شخص مثـل األب دوفوكـو‪ ،‬الـذي‬
‫تطوع أن يذھب في سنة ‪1908‬م على األقدام‪ ،‬من مدينة في جنـوب الجزائـر‪،‬‬
‫لفتح القطاع الصحراوي حتى حدود ما يسمى بالسودان الغربي‪ .‬فھذه األشياء‬
‫كانت تغمر الحياة األوربية بفيض من المسوغات‪ .‬وربما كانت ھناك منابع أخرى‬
‫ـف نبعھــا بعــد الحــرب العالميــة األولــي والثانيــة‪،‬‬
‫جـ ّ‬
‫لھــذه المــسوغات فقــدت أو َ‬
‫بسبب تطـورات تتـصل بمـا حـدث مـثال ً بـشأن الـروابط الخفيـة أو الظـاھرة بـين‬
‫مجالي العلم والنفس‪ .‬فبقدر مـا كانـت تتحقـق اكتـشافات علميـة كبـرى فـي‬
‫أوربة‪ ،‬بقدر ما كانت تتـرك ﺻـداھا علـى المجـال النفـسي‪ ،‬وأثرھـا الكبيـر فـي‬
‫التطور الروحي‪ ،‬حتى بدأت تفتـر بعـض المـسوغات الروحيـة ألسـباب ال نطيـل‬
‫عندھا الوقوف‪ ،‬حتى ال نتعدى بعض الحدود من اللياقة‪.‬‬

‫ھكــذا فقــدت المــسوغات الروحيــة‪ ،‬وفقــدت حتــى المــسوغات التــي نــسميھا‬


‫المــــسوغات االجتماعيــــة‪ ،‬المــــسوغات الموضــــوعية‪ ..‬وإذا أردنــــا أن نعــــرف‬
‫المسوغات الموضوعية نذكر على سبيل المثال‪ ،‬ما كان لھم من ثقـة بكلمتـي‬
‫العلم والحضارة‪ ،‬فقد كانت ھذه الثقة ھي منطلق األفكـار األوربيـة فـي القـرن‬
‫التاسع عشر‪ ،‬وفي بداية القرن العشرين‪ ،‬خصوﺻاً قبل الحرب العالمية األولى‪.‬‬
‫والــصلة بــين ھــذين الجــانبين واضــحة‪ ،‬فحينمــا تفقــد حيــاة مــا أو مجتمــع مــا‬
‫مــسوغاته‪ ،‬البــ ﱠد أن يقــوم بعمليــات تعــويض؛ يــستبدل مــسوغات قديمــة أو‬
‫تقادمت‪ ،‬أو فقدت تأثيرھا في الحيـاة االجتماعيـة‪ ،‬بـصفتھا دوافـع قويـة للحيـاة‬
‫الفكرية والعلمية والعسكرية واالقتصادية‪ ،‬يستبدل بھا مـسوغات جديـدة‪ ،‬فـإذا‬
‫لم تـأت عمليـة التعـويض كمـا ينتظـر منھـا بالمـسوغات الجديـدة فمـاذا يحـدث‬

‫‪6‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫عندئذ؟ تحدث األزمـة الخطيـرة التـي يعيـشھا العـالم المتحـضر اليـوم‪ .‬فالعـالم‬
‫المتحصر اليوم‪ ،‬يبدو أنـه قـد أخفـق فـي عمليـة التعـويض‪ ،‬سـواء مـن الجانـب‬
‫األدبي كمحاولـة الوجوديـة مـثالً‪ ،‬أو مـن الجانـب الـسياسي كمحاولـة الرجـوع‬
‫ألﺻــله األوربــي‪ ،‬بحث ـاً عــن منطلقــات جديــدة ألفكــاره ولنــشاطاته االقتــصادية‪،‬‬
‫فكأنما تقطعت أنفاسه‪ ،‬ولم تعد في متداولـه تلـك األشـياء المتينـة التـي كـان‬
‫يرتكز عليھا في القرن الماضي وبداية ھذا القرن‪ .‬وعندھا فإن من الطبيعـي أن‬
‫من ال يجد سنداً في مسيرته التاريخية سيقع في حيرة وتيه وقلـق‪ ،‬وھـذا مـا‬
‫يفسرلنا ما نراه اليوم‪ ،‬من حيرة قائمة فعال ً في العقول والنفـوس واألرواح‪ ،‬فـإذا‬
‫ما اجتمعت ھذه األشياء فعال ً في نفـس بـشرية‪ ،‬فعنـدھا يمكـن أن نتـصور مـا‬
‫تولده من دوافع سلبية‪ .‬فإذا ما فقد مجتمع ما مسوغاته ولم يستطع تعويـضھا‬
‫بالطرق المشروعة في محاوالت مبذولـة‪ ،‬عنـدھا يعتريـه القلـق ويعتريـه التيـه‬
‫وتعتريه الحيرة‪...‬‬

‫فماذا يترتب على ھذا من تـصرفات؟ يترتـب عليھـا التـصرفات التـى نراھـا فـي‬
‫أوربة وأمريكة اليوم‪ .‬يترتب على ھذا مثال ً أن نجد البلـد الـذي حقـق الـضمانات‬
‫االجتماعية إلى أقصى حد مثل السويد‪ ،‬يتميز بـشيء خطيـر وھـو أنـه يتـصدر‬
‫رأس القائمة في إحصائية االنتحار العالمية‪ .‬فظاھرة االنتحار في العالم‪ ،‬يشغل‬
‫فيھا المكان األول‪ ،‬البلد االكثر تقـدماً نـسبياً مـن حيـث الـضمانات االجتماعيـة‪.‬‬
‫وھذا إن عنـى شـيئاً فإنمـا يعنـي أن البطـون إذا امـتألت ال تغنـي النفـوس وال‬
‫تشبعھا‪ ،‬إذا شبعت البطون قد تبقـى األرواح متعطـشة‪،‬تبقى األرواح متطلعـة‪،‬‬
‫وحين ال تجد وجھة تتطلع إليھا تفضل االستقالة من الحياة‪ .‬ھذا إذن ما يحدث‪،‬‬
‫وقد يحدث في بالد أخرى أكثر مـن ھـذا فـي ﺻـورة مـا؛ ويبـدو أن ھنـاك ﺻـوراً‬
‫أخرى لالستقالة من الحياة‪ ،‬ھي في الحقيقة أشنع من الناحية األخالقية‪ ،‬وال‬
‫أقول من الناحية الدينية‪ .‬فھي أشنع ألن كل ﺻور خيبة األمل تتجلى فيھا‪ ،‬مـع‬
‫شيء من العجز حتى عن القيام بھذه المحاولة إلعدام النفس‪ .‬وذلـك أن ھـذه‬
‫المحاولة تتطلب شـيئاً مـن الـشجاعة‪ .‬وألن اإلنـسان فقـد مروءتـه إلـى درجـة‬
‫الفشل‪ ،‬حتى في التخلص من الحياة بالطرق غير المـشروعة‪ ،‬فإنـه يفـر منھـا‬
‫عن طريق الموبقات‪ ،‬عن طريق التـدھور األخالقـي‪ ،‬عـن طريـق اإلدمـان علـى‬
‫المخدرات‪ ،‬فيصبح المجتمع مھدداً بالخراب‪ ،‬ألن قاعدتـه االجتماعيـة تنھـار‪ ،‬أي‬
‫شبابه ينھار‪ .‬إن بعض اإلحصائيات األخيـرة‪ ،‬التـي وقعـت بـين يـدي عـن إدمـان‬

‫‪7‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫المخــدرات فــي محافظــة بــاريس‪ ،‬والتــي نــشرتھا مــصلحة األمــن فــي ھــذه‬
‫المحافظة‪ ،‬في تقرير رسمي ﺻادر عن مجلة تـصدرھا تلـك المـصلحة‪ ،‬تفيـد أن‬
‫نسبة المدمنين بين الشباب لِلمخـدرات‪ ،‬تـضاعف بنـسبة عـشرين فـي المئـة‬
‫في السنتين األخيرتين‪ ،‬فبإمكانكم إذن أن تتصوروا مـاذا سـيكون معـدل ارتفـاع‬
‫النسبة خالل السنوات العشر المقبلة‪ .‬ويمكن‪ ،‬إن جـرت المـسائل كمـا تجـري‬
‫اآلن‪ ،‬أن يعم اإلدمان الـشباب كلـه فـي بـاريس‪ .‬وأظـن أن األمـور تجـري علـى‬
‫الوتيرة نفسھا في سائر أنحاء فرنسا‪ .‬يبدو أن الشباب الفرنسي سـوف ينھـار‪،‬‬
‫وسوف يحاول االنفالت من حياة فقـدت مـسوغاتھا‪ ،‬عـن طريـق المخـدرات‪ .‬إن‬
‫ل ھذا على شيء‪ ،‬فھو يدل على أن المجتمع يفقد اآلن قاعدتـه االجتماعيـة‬ ‫د ﱠ‬
‫المتينــة وھــي شــبابه‪ ،‬يــضيعه إمــا فــي المتاھــات‪ ،‬أو فــي الخمــارات‪ ،‬أو فــي‬
‫المخدرات أو في المقابر‪ ،‬عندما ينتحر‪.‬‬

‫وھذا ما يدعونا بالطبع إلى أن نحلل ھـذه األشـياء‪ .‬مـاذا تعنـي ھـذه األشـياء؟‬
‫ماذا تعني ھذه اللوحة القاتمـة التـي قـدمناھا بخطـوط سـريعة‪ ،‬بعبـارات فجـة‬
‫ملتقطة يميناً وشماالً؟‬

‫ل األزمــة خــصوﺻاً فــي أمريكــة‪ ،‬يبــدو لنــا أن المجتمــع‬


‫إذا مــضينا قلــيال ً فــي حـ ِ ّ‬
‫األمريكي يعاني ظـاھرة تـضخم مـن ناحيـة وتنـاقص مـن ناحيـة أخـرى‪ .‬تـضخم‬
‫اإلمكــان الحــضاري وتــضاؤل اإلرادة الحــضارية‪ .‬أي تنــاقض بــين اإلرادة الحــضارية‬
‫واإلمكان الحضاري‪ .‬إذا أردنا توضيحاً أكثر‪ ،‬نقـول‪ :‬إن الھـوة أﺻـبحت تتـسع بـين‬
‫الواقع الطبيعـي اإلنـساني الـذي ورثـه وورث مـسوغاته التقليديـة وبـين واقعـه‬
‫الثقافي اليوم‪ .‬فالھوة بدأت تتـسع‪ ،‬واإلنـسان أﺻـبح يتمـزق ‪-‬خاﺻـة الـشباب‪-‬‬
‫بين فكرة ال يستطيع التخلص منھا تماماً ألنھـا مـسجلة فـي طينتـه البـشرية‪،‬‬
‫تلك الطينة التي كرمھا ﷲ‪ ،‬وبين واقع ثقافي ال يقدم لـه مـسوغات وال يعطيـه‬
‫بــديال ً عــن مــسوغاته التقليديــة المفقــودة‪ .‬ھــذه ھــي الــصورة التــي نــستطيع‬
‫تقديمھا في خطوط عريضة‪ ،‬عـن الحيـاة فـي المجتمـع المتحـضر وعلـى محـور‬
‫واشنطن‪ -‬موسكو‪ .‬وإذا تساءلنا اآلن ھل ظاھرة التدھور واالنحالل‪ ..‬ھذه فاقدة‬
‫المعنــى بالنــسبة للمــؤرخ‪ ،‬الــذي يريــد أن يفيــد حتــى مــن التجــارب الــشاذة‬
‫ل ﷲ يريد شيئاً من وراء‬ ‫المؤلمة؟ نستطيع أن نقدم افتراضاً احتمالياً فنقول‪ :‬لع ﱠ‬
‫ھذا كله‪ .‬كأنما ھذا استدراج‪ ،‬تسوق األقدار فيه ھـذا المجتمـع المتحـضر إلـى‬

‫‪8‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫طريــق حيــث تنتھــي فيــه أخطـاؤه‪ ،‬ليفــسح مجــاال ً لتجربــة أخــرى بعــد إخفــاق‬
‫التجارب السابقة‪ ،‬ونحن نري فعال ً أن التجارب األساسـية فـي التـاريخ لـن تبـدأ‬
‫حتى تخفق قبلھا كل التجارب السابقة التي فقـدت أسـسھا التاريخيـة‪ .‬يجـب‬
‫أن ينتھي التاريخ في نقطة ما كي يتجدد التـاريخ مـن نقطـة جديـدة‪ .‬يجـب أن‬
‫يكون ھذا مفھوماً وخاﺻة لدى الشباب‪ .‬يجب أن يخفق التاريخ‪ ،‬يجب أن يفلس‬
‫التاريخ‪ .‬وأحياناً يجب أن نعلن اإلفالس كي نشعر الناس وخصوﺻاً الـشباب بـأن‬
‫ل ھذا الذي نراه على ذلك المحور استدراج‬ ‫ھذا اإلفالس ھو طريق البداية‪ .‬فلع ﱠ‬
‫سـولَ ُه بِا ْل ُھـ َدى َو ِد ِ‬
‫يـن‬ ‫ل َر ُ‬ ‫ھـ َو الﱠـ ِذي أَ ْر َ‬
‫سـ َ‬ ‫لشيء ربما تعبر عنه اآليـة الكريمـة‪ُ } :‬‬
‫ـش ِركون{ ]الـصف‪ [9 :‬ربمـا ھـذا ھـو‬ ‫الم ْ‬ ‫ه ول ْو َك ِ‬
‫ـر َه ُ‬ ‫ين ُك ِل ّ ِ‬
‫د ِ‬‫ظ ِھ َر ُه َعلَى ال ِّ‬
‫ق لِ ُي ْ‬ ‫ا ْل َ‬
‫ح ِّ‬
‫القطــب الــذي يتجــه إليــه مجــرى التــاريخ فــي ھــذا الثلــث األخيــر مــن القــرن‬
‫ت فـي‬ ‫العشرين‪ .‬وعلينا أن نتأكد بقدر إمكاننا من ھذا‪ ،‬ولـيس لنـا أن نقـرر ونبـ ّ‬
‫شيء قبل انقضائه‪ ،‬فلكم أنتم أيھا الشباب بعد ثالثـين سـنة أن تـروا الحقيقـة‬
‫سافرة كما ھي‪ .‬أما نحن في جيلنا فال نـرى إال توقعـات‪ ،‬ونحـاول أن نـرى مـن‬
‫خالل ھذه التوقعات جانباً من مصير اإلنسانية‪.‬‬

‫يجب علينا أن نقـوم بعمليتـين‪ :‬أن نرسـم خريطـة‪ ،‬الخريطـة األيديولوجيـة كمـا‬
‫يقولون اليوم أو خريطة األديان كما نقول نحن‪ ،‬في العصر الذي تنزلت فيه ھـذه‬
‫اآلية‪ ،‬وھذه اآليـة فيمـا أظـن آيـة مكيـة أعنـي فـي البدايـة‪ ،‬أعنـي فـي نقطـة‬
‫الصفر‪ .‬لو كان لنا أن نرسم الخريطة فعال ً في وقت تنزلھا ‪-‬تنزيـل اآليـة‪ -‬لوضـعنا‬
‫على الخريطة نقطة من لون معين يعبر عـن رقعـة اإلسـالم فـي العـالم وھـي‬
‫مكة‪ ،‬فنلونھا بلون ما‪ .‬ھذا اللون اإلسالمي ال يعدو أن يكون نقطة في الكون‪...‬‬
‫د لھذا الواقع‪ ،‬كأنھا تحد ال يتـصوره العقـل تـصوراً‬‫بينما تتنزل ھذه اآلية كأنھا تح ٍّ‬
‫لو كنا معه نحن معشر عباد القـرن العـشرين‪ ،‬بعقالنيتنـا وعلميتنـا نعـيش فـي‬
‫وقت التنزيل لقلنا ھذه خرافة‪ .‬ما ھي ھذه الخرافة؟ إن ھـذه اآليـة تتحـدى‪!!..‬‬
‫تتحدى اإلمبراطوريتين والحـضارتين القـديمتين الكبيـرتين‪ :‬إمبراطوريـة وحـضارة‬
‫فارس من ناحية‪ ،‬وإمبراطورية وحضارة بيزنطة والبحر األبيض علـى العمـوم مـن‬
‫ناحية أخرى‪ ،‬فھذا التحدي ھو من أقسى معجزات القرآن في الحقيقـة‪ ،‬وذلـك‬
‫عندما نتصوره في وقت التنزيـل‪ ،‬ألننـا إذا رسـمنا الخريطـة األيديولوجيـة آنـذاك‬
‫فماذا نجد عليھا؟ إننا نجد عليھا لون المجوسية أو لون الديانة الفارسية‪ ،‬ولـون‬
‫البوذية‪ ،‬ولون البرھمية أو لون الھندوكية كمـا يقولـون‪ ،‬ولـون المـسيحية‪ ،‬ولـون‬

‫‪9‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫اليھودية‪ ...‬ونقطة مغمورة في الكون ھي مكة نقطة اإلسالم‪ .‬فلـو أردنـا ونحـن‬
‫في ذؤابة القـرن العـشرين‪ ،‬الثلـث األخيـر منـه‪ ،‬رسـم خريطـة جديـدة لألديـان‬
‫اليوم‪ ،‬في عام ‪1972‬م فماذا نجد؟ نجد أن البوذية قد شطب عليھا قلم الـسيد‬
‫ماوتــسي تونــغ فمحاھــا مــن الوجــود‪ .‬وأمــا المجوســية فقــد محاھــا عمــر يــوم‬
‫القادسية‪ .‬وأما البرھمية فقـد محتھـا ظروفھـا الخاﺻـة بوﺻـفھا دينـاً ال بوﺻـفھا‬
‫ثقافــة‪ ،‬فھــي بوﺻــفھا تراثـاً تقافيـاً ســتبقى إلــى أجــل ال نــدري مــداه ‪-‬نتجنــب‬
‫التكھنات‪ -‬أما بوﺻفھا ديناً فقد انتھت وانتھى دورھـا‪ ،‬لقـد فـشلت فـي أبـسط‬
‫مھماتھا خاﺻة بعد استقالل الھند‪ ،‬فقد سجلت الھند في السطور األولى مـن‬
‫دستورھا عام ‪1948‬م أنھا سوف تقضي على حالة المنبـوذ‪ ،‬وكـان مـن سـجل‬
‫ھذا إنما سجله تحت إمالء الـروح الكبيـر كمـا يقولـون أي مھاتمـا غانـدي‪ ،‬وقـد‬
‫سجل ھذا البند في أحسن ظروف تطبيقه بعد الخالص من محنـة االسـتعمار‪،‬‬
‫وبعد فرج االسـتقالل وفرحـة االسـتقالل‪ .‬واليـوم إذا راجـع الھنـدوكي أو راجعنـا‬
‫نحن القضية بعد عشرين سنة نراھا قـد فـشلت فـشال ً ذريعـاً‪ .‬وھـي قـضية ال‬
‫تتصل بمصير عشرة آالف مثال ً بل تتصل بمصير ثمانين مليوناً من البشر تقريبـاً‪،‬‬
‫وھــذا لــيس بالــشيء الھــين‪ .‬لقدفــشلت ألنھــا لــم تــستطع حــل المــشكالت‬
‫االجتماعية‪ ،‬وھذا يعني كأنما قد قدمت استقالتھا من التاريخ‪.‬‬

‫أما المسيحية فقد حدثت لھا أيضا في الفترة األخيرة تطورات غريبـة عبـر عنھـا‬
‫ذلك المجمع المسكوني األخير‪ ،‬وقبلـه مجمـع الفاتيكـان الثـاني‪ .‬لقـد أﺻـبحت‬
‫تعاني من مشكالت تعبر عـن ظـروف خطيـرة جـداً تواجھھـا المـسيحية اليـوم‪.‬‬
‫فالمسوغات المسيحية بدأت فعال تفقد تأثيرھا في الحياة المسيحية‪ ،‬فقد بـدأ‬
‫بعض القسيسين‪ -‬على رغم من تـأديتھم يمـين الـدخول فـي سـلك الرھبنـة‪:‬‬
‫يمين أنھم يعيشون من أجـل ﷲ‪ ،‬وأنھـم ال يتزوجـون ويلتزمـون بجميـع شـروط‬
‫الرھبانيــة ‪-‬بــدؤوا بعــد ھــذا اليمــين المقــدس‪ -‬علــى شــروطھم‪ -‬يــصرحون فــي‬
‫الصحافة‪ .‬وفي مؤتمرات ﺻحفية كبرى تدور أحياناً أمام عدسة المصور‪ ،‬ويعلنون‬
‫أنھم ألقوا المسوح وتخلصوا من أعبائه وأنھم تزوجوا… ونرى المعركة تـدور فـي‬
‫مــستوى أعلــى‪ ،‬علــى مــستوى الكردينــاالت فــي الفاتيكــان‪ ،‬فيقــدم كردينــال‬
‫ھولنــدي الكردينــال ســانس اســتقالته مــن المجمــع المــسكوني‪ ،‬مــساند ًة‬
‫للقــساوسة مــن الــشباب الــذين تم ـردوا علــى الم ـسوح وشــروط لباســه‪ ،‬ثــم‬
‫احتجاجاً على سياسة الفاتيكان االجتماعية‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫مــا معنــى ھــذا بالنــسبة إلينــا نحــن الــذين نحلــل ھــذه الظــروف‪...‬؟ معنــاه أن‬
‫المـــسيحية بـــدأت فعـــال ً تفقـــد المـــسوغات التـــي يجـــب تقـــديمھا للـــشباب‬
‫د سواء‪ .‬ولقد حدث الذي كان البـ ﱠد مـن أن يحـدث‬ ‫والقسيسين وللمرأة على ح ٍّ‬
‫على أثر فقدان المسوغات‪ ،‬حدث أن بدأت دور التعليم العالي المـسيحي فـي‬
‫العالم‪ ،‬خاﺻة في أمريكة الالتينية تغلق أبوابھا الواحدة بعد األخرى‪ ،‬ثـم تبعتھـا‬
‫األديــرة‪ .‬ذلــك ألن فتيــات المجتمــع اإليطــالي قــد انــصرفن لمجــاالت أخــرى مــن‬
‫النشاط األخالقي‪ ،‬غير تلك التي تشرف عليھا الھيئات الكھنوتيـة‪ .‬وھكـذا رأينـا‬
‫من سنتين حادثة ربما بلغكم ﺻداھا أن أحد األديـرة ذا التـاريخ العريـق المم َتـد‬
‫إلى سـتة أو سـبعة قـرون ‪-‬كانـت أبوابـه خاللھـا مفتوحـة دائمـاً‪ -‬أﺻـبح مھـدداً‬
‫باإلغالق‪ ،‬ألنه فقـد البنـات المتطوعـات لـسلك الرھبنـة ولـبس المـسوح‪ ،‬ممـا‬
‫جعل القس المشرف على إدارة ھذا الدير‪ ،‬يرى نفسه مضطراً أن يقوم بعمليـة‬
‫أخذت أبعاد الفضيحة‪ ،‬وذلك حينما اكتشفتھا ﺻحيفة إنكليزية‪ .‬لقـد ذھـب ھـذا‬
‫القس لتفادي الوضع في ديره ‪-‬ونحن نعلم كم كان له من عطـف وحنـان علـى‬
‫حياة ھذا الدير‪ -‬إلى الھند وإلـى منطقـة فقيـرة منطقـة كـاراال‪ ،‬فاشـترى منھـا‬
‫عدداً من البنات بالعملة الـصعبة‪ ،‬كـي يعلمھـن ارتـداء لبـاس المـسوح والقيـام‬
‫ببعض الطقوس البسيطة‪ ،‬وذلك لمدة شھرين قبل أن يزج بھن فـي الـدير‪ ،‬كـل‬
‫ھذا كي يبقى الدير‪ ...‬ولكن ﺻحيفة إنكليزية قد أفشت ھذا السر لألسف‪ ،‬ثـم‬
‫تناولته الصحافة العالمية فأﺻبح فضيحة‪ ،‬وأﺻبح الفاتيكان يحاول التغطيـة بقـدر‬
‫اإلمكان‪ ،‬ألنھا فعال فضيحة‪.‬‬

‫فإذا رجعنا إذن إلى الخريطة المرسومة أمامنـا نجـد أن اللـون المـسيحي أيـضاً‬
‫يعاني ما يعاني‪ ،‬فھو كأنما بھت أو شحب‪ .‬ونرى على الخريطة شيئاً غريباً‪ :‬إن‬
‫اللون اإلسالمي ولونـاً آخـر جديـداً ‪-‬ھـو لـون ديانـة جديـدة‪ -‬يكتـسحان العـالم‪.‬‬
‫فاللون اإلسالمي اليوم يغطي مساحة من الدنيا تعادل نصفھا تقريباً مـساحته‬
‫اإلفريقية واآلسوية تقدر بنصف الدنيا تقريباً‪ ،‬وعدته البشرية تبلـغ ‪ 800‬مليـون ‪-‬‬
‫صلنا ھذا الرقم من إحصائية أخيرة تحت إشراف األمم المتحدة‪ -‬ولكي نعطي‬ ‫ح ﱠ‬
‫ھذا العدد االعتبار الصحيح يجب أن تكون لـدينا فكـرة عـن نمـوه فـي عـدد مـن‬
‫السنين‪ .‬إنني حينما قرأت ألول مرة ما يسمى بالجغرافيا البشرية وأنـا ابـن ‪12‬‬
‫أو ‪ 13‬سنة كان توزيع أتباع األديان كما يلي‪ :‬للمسيحية فيما أظـن ‪ 600‬مليـون‬
‫وللبوذية ‪ 500‬مليون وللبرھمية ‪ 400‬مليون ولإلسالم ‪ 250‬مليوناً‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫وفي أوائل الحرب العالمية األولى كان ھذا عدد المسلمين كلھـم فـي العـالم‪،‬‬
‫أي إن عدة العالم اإلسـالمي البـشري كانـت ‪ 250‬مليونـاً‪ .‬فھـا نحـن أوالء فـي‬
‫مدى نصف قرن مثال ً نرى أن العدد قد تصاعد إلى ما يقرب اآلن من المليار‪.‬‬

‫إذن فنحن نرى طرفين في القضية وعلى خطين متوازيين؛ نرى أن سير التاريخ‬
‫كأنمــا يــستدرج العــالم إلــى فــشل تجاربــه وخيبــة أملــه‪ ،‬فــي تجاربــه العلميــة‬
‫والتكنولوجية إلخ‪ ...‬من ناحية‪ ،‬ومـن ناحيـة أخـرى نمـو العـالم اإلسـالمي كمـاً‬
‫وكيفاً؛ كماً من حيث ازدياد السكان‪ ،‬وكيفـاً باكتـساب تجـارب جديـدة حتـى لـو‬
‫كانــت ســلبية‪ .‬ونــرى فــي الخــط المــوازي كأنمــا ﷲ يھيــئ القاعــدة التاريخيــة‬
‫ـق‬
‫ح ِّ‬ ‫سولَ ُه بِا ْل ُھ َدى َو ِد ِ‬
‫ين ا ْل َ‬ ‫ل َر ُ‬ ‫ھ َو الﱠ ِذي أَ ْر َ‬
‫س َ‬ ‫االجتماعية لتحقيق اآلية الكريمة‪ُ } :‬‬
‫ه{ ]الصف‪ [61 :‬فنحن نرى أن القـضية تـسير فـي اتجـاه‬ ‫ين ُك ِل ّ ِ‬
‫د ِ‬‫ظ ِھ َر ُه َعلَى ال ِّ‬
‫لِ ُي ْ‬
‫ھذا القطب‪ ،‬إذ يبدو أن من يسير على الخط الحضاري‪ ،‬كأنه يـستدرج بأخطائـه‬
‫وباكتشافاته العلمية‪ ،‬لتتھيأ لمن يسير على الخط الموازي ظروف ظھوره على‬
‫مسرح التاريخ‪.‬‬

‫سبق أن أشرنا إلى اللون الجديد الذي ظھر على الخريطـة سـنة ‪1917‬م وھـو‬
‫لون أحمر لـون الـشيوعية‪ ،‬وھـي أيـضاً ديـن وأنـا أتحـدث عنھـا ھنـا علـى ھـذا‬
‫األســاس‪ .‬فأنــا ال أتنــاول الــشيوعية ھنــا بوﺻــفھا مــذھباً سياســياً أو مــذھباً‬
‫اقتصادياً‪ ،‬وإنما أتناولھا فـي حـديثي ھـذا علـى أنھـا عقيـدة وديـن تقـدم ھـي‬
‫األخرى مـسوغاتھا‪ ،‬وھـي فـي الطريـق إحـدى عمليـات التعـويض فـي العـالم‬
‫المتحضر للمسوغات التي فقدھا‪ .‬فإذا أخفقت محاولـة الوجوديـة كمـا أخفقـت‬
‫محاولة التعـويض الـسياسي‪ ،‬لتنظـيم وبنـاء جديـد لحيـاة أورييـة متحـضرة بعـد‬
‫تصفية االستعمار‪ ،‬فيجب أن نضيف إلى ھذا أن عمليات التعويض التي نجحـت‪،‬‬
‫إنما نجحت على حساب المسوغات األساسـية التقليديـة التاريخيـة أي علـى‬
‫حــساب المــسيحية‪ .‬فالــشيوعية ظھــرت نتيجــة لعمليــة تعــويض لمــسوغات‬
‫مفقودة‪.‬‬

‫يتبين إذن أن خطي السير واألحـداث التـي تجـري عليھمـا‪ ،‬كأنمـا تقـود مـصير‬
‫ل‬ ‫ھـ َو الﱠـ ِذي أَ ْر َ‬
‫سـ َ‬ ‫اإلنسانية نحو قطب يتحقق فيه معنى اآلية التـي ذكرناھـا‪ُ } :‬‬
‫ين ُك ِل ّ ِ‬
‫ه{‪.‬‬ ‫د ِ‬‫ظ ِھ َر ُه َعلَى ال ِّ‬
‫ق لِ ُي ْ‬
‫ح ِّ‬ ‫سولَ ُه بِا ْل ُھ َدى َو ِد ِ‬
‫ين ا ْل َ‬ ‫َر ُ‬

‫‪12‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫إن ھذا ما يجعلنا نعيد النظر في موقف المسلم في ھذا الثلـث األخيـر‪ ،‬إذ اآلن‬
‫يبدأ دور المـسلم أمـام ھـذه الظـاھرة‪ ،‬حتـى لكأنمـا أراد ﷲ عـز وجـل تعطيـل‬
‫وتأجيل دور المسلم في ھذا القرن حتى تنتھي كل تجـارب اآلخـرين بالفـشل‪،‬‬
‫ويستطيع إﺻالح أخطائھم‪ ،‬أو حتى تصل تجاربه إلـى نھايـة فـشلھا فتكـون لـه‬
‫الخبرة لتدارك أخطائه‪.‬‬

‫ولكــن كيــف يتحــدد ھــذا الــدور؟ يتحــدد طبعـاً طبقـاً لھــذه الظــاھرة التــي نــرى‬
‫جانبيھا‪ ،‬جانبھا الذي يتحقـق علـى محـور واشـنطن‪ -‬موسـكو‪ ،‬والجانـب اآلخـر‬
‫الذي يتحقق على محور ما سميناه محور طنجة‪ -‬جاكرتـا‪ ،‬والـذي نـسميه اآلن‬
‫محور اإلسالم‪.‬‬

‫فكيــف نتــصور دور المــسلم؟ يجــب أن يفكــر المــسلم كيــف يــسير فــي اتجــاه‬
‫التاريخ‪،‬كيف يستغل الظروف السانحة التي تتھيأ لـه علـى المحـورين‪ :‬المحـور‬
‫الذي فقد المسوغات التقليدية والذي ينتظر مسوغات جديـدة‪ ،‬والمحـور الـذي‬
‫سـولَ ُه بِا ْل ُھـ َدى‬
‫ل َر ُ‬ ‫ھـ َو الﱠـ ِذي أَ ْر َ‬
‫سـ َ‬ ‫ل إليه فـي اآليـة الكريمـة‪ُ } :‬‬ ‫أشار ﷲ ع ﱠز وج ﱠ‬
‫ين ُك ِل ّ ِ‬
‫ه{‬ ‫د ِ‬‫ظ ِھ َر ُه َعلَى ال ِّ‬
‫ق لِ ُي ْ‬ ‫ين ا ْل َ‬
‫ح ِّ‬ ‫َو ِد ِ‬

‫كيف نتصور إذن دور المسلم؟ نتصوره طبقاً لضرورات داخلية وضـرورات خارجيـة‪:‬‬
‫ضرورات إنشاء وتشييد في الداخل‪ ،‬وضرورات اتصال وإشـعاع فـي الخـارج‪ .‬ولـو‬
‫ألقينا سؤاال ً اآلن فال شك أننا سنتفق على الجواب‪ .‬فعندما نتساءل كيف يقوم‬
‫المسلم بدوره في اتجاه تحقيق معنى اآلية الكريمة التي أوردناھا نجيـب آليـاً؛‬
‫إن علــى المــسلم أن ُيبل ّـغ اإلســالم‪ ،‬دون أن نحــدد فــي إجابتنــا شــروط ھــذا‬
‫التبليغ‪ ،‬وھذا ھـو المنطـق الـسھل الـذي يغـرر بنـا‪ ،‬إن الجـواب ﺻـحيح شـكلياً‬
‫ولكننا بكل أسف نقف عند الجواب وال نرى مقتضياته الواقعية‪.‬‬

‫سأعطيكم ﺻورة رمزية نطبقھا بعد ذلك‪ :‬ھـل تـرون إلـى أرض عطـشى تنتظـر‬
‫الري مـن المـاء؟ ھـل نـستطيع ريھـا بمـاء يجـري تحـت مـستواھا؟ إن اإلجابـة‬
‫ستكون بالطبع‪ :‬ال باستثناء المجنون أو ﺻاحب الشطحات الصوفية إذ يعتقـد أن‬
‫الماء سوف يطلع إليھا فيسقيھا‪ .‬ال لن يسقي الماء األرض بالصعود إليھا‪ ،‬وإنما‬

‫‪13‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫باالنحدار وذلك بحكم السنن اإللھية عن طريق الجاذبيـة‪ .‬سـنة ﷲ تقتـضي أن‬
‫ينحدر إلى ھذه األرض إذا كان مستواه يخوله ذلك‪.‬‬

‫إذن إذا أراد المسلم أن يقوم بدور الري بالنسبة للشعوب المتحضرة والمجتمـع‬
‫المتحضر‪ ،‬وأراد‪ -‬بعبارة أوضح‪ -‬أن يقدم المسوغات الجديدة التـي تنتظرھـا تلـك‬
‫األرواح‪ ،‬التــي تتــألم لفراغھــا وحيرتھــا وتيھھــا‪ ،‬إذا أراد المــسلم ذلــك‪ ،‬فليرفــع‬
‫مستواه رفعاً يستطيع معـه فعـال ً القيـام بھـذا الـدور‪ .‬إذ بمقـدار مـا يرتفـع إلـى‬
‫مستوى الحضارة بمقدار ما يصبح قادراً على تعميم ذلك الفـضل‪ ،‬الـذي أعطـاه‬
‫ﷲ له ‪-‬أعني دينه‪ -‬إذ عندھا فقط يصبح قـادراً أيـضاً علـى بلـوغ قمـم الحقيقـة‬
‫اإلســالمية‪ ،‬واكتــشاف قــيم الفــضيلة اإلســالمية‪ ،‬ومــن ثــم ينــزل إلــى ھــضاب‬
‫الحضارة المتعطشة‪ ،‬فيرويھا بالحقيقة اإلسالمية وبالھدى‪ ،‬وبذلك يـضيف إليھـا‬
‫بعداً جديداً‪ .‬ألن الحضارة العلمانية‪ ،‬حضارة الصاروخ‪ ،‬حضارة اإللكترون اكتـسبت‬
‫ھــذه األشــياء‪ ،‬وضــيعت بعــداً آخــر تــشعر بفقدانــه وھــو ُبعــد الــسماء‪ .‬إن أوربــة‬
‫حققت المعجـزات فـي عـالم االكتـشافات وعـالم العلـوم‪ ...‬ولكنھـا فقـدت فـي‬
‫أعماق نفسھا البعد الـذي كـان يـروّح عليھـا ويرفّـه عنھـا ويـسندھا فـي وقـت‬
‫المحن‪ ،‬ألنه يربطھا بوجود ﷲ‪.‬‬

‫إذا أراد المــسلم أن يــس ﱠد ھــذا الفــراغ فــي النفــوس المتعطــشة‪ ،‬النفــوس‬
‫المنتظــرة للمــسوغات الجديــدة‪ ...‬فيجــب أوال ً أن يرفــع مــستواه إلــى مــستوى‬
‫الحضارة أو أعلى منھا كي يرفع الحضارة بذلك إلى قداسة الوجود‪ ،‬إلـى ربانيـة‬
‫الوجود‪ ،‬وال قداسة لھذا الوجود إال بوجود ﷲ‪.‬‬

‫والمسلم إذا أتى بھذا ال بلسانه وال بشطحاته الـصوفية‪ ،‬وإنمـا بوﺻـفه إنـساناً‬
‫معاﺻراً للناس شاھداً عليھم بالتقى والورع‪ ،‬بنزاھة الشاھد الصادق‪ ،‬الـصادق‬
‫الخبير‪ ،‬الواعي لقيمة شھادته‪ ...‬إذا أتـى المـسلم ھكـذا فـي ﺻـورة اإلنـسان‬
‫بالبعد الذي يضيفه اإلسالم إلى الحضارة وھـو‬ ‫ُ‬ ‫المتحضر‪ ،‬الذي اكتملت حضارته‬
‫ُبعد السماء‪ ،‬عندئذ ترتفع الحضارة كلھا إلى مـستوى القداسـة‪ ،‬أي إن الوجـود‬
‫الذي فقد القداسة في القرنين األخيـرين خـصوﺻاً فـي ھـذا القـرن‪ ،‬تعـود إليـه‬
‫قداسته ألن القداسة من ﷲ ومن ﷲ وحده وال شـيء يعطـي القداسـة لھـذا‬
‫الوجود غير ﷲ‪ ،‬والسالم عليكم‪) .‬نھاية المحاضرة األولى(‬

‫‪14‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫المحاضرة الثانية‬

‫ن ا ْل ِع ْ‬
‫ش ِر ْين‬ ‫ن ا ْلق َْر ِ‬
‫ير ِم َ‬
‫خ ِ‬‫األ َ ِ‬
‫ث ْ‬‫م فِي ال ﱡث ُل ِ‬
‫س ِل ِ‬ ‫سالَ ُة ا ْل ُ‬
‫م ْ‬ ‫ِر َ‬
‫محاضرة األستاذ مالك بن نبي في جامع المرابط في دمشق‬
‫‪1972 /5 /22‬‬

‫بسم ﷲ الرحمن الرحيم والصالة والسالم على خير المرسلين‪،،‬‬

‫إخواني‪ ،‬أيھا األبناء الكرام‪ ،‬إن الظرف الذي يجمعني بكـم فـي ھـذا البيـت مـن‬
‫بيوت ﷲ‪ ،‬وأنا على وشك العودة إلى الجزائر‪ ،‬يجعلني أفكـر بـدال ً مـن أن أعيـد‬
‫محاضرة سابقة ھي اآلن بين أيديكم‪ ،‬أن أضيف لھا بإيجاز حلقـة تمثـل امتـداداً‬
‫في سلسلة أفكارھا‪ .‬ففي سلسلة األفكار التي تناولتھا المحاضـرة الـسابقة‪،‬‬
‫انتھيــت آخــر المطــاف إلــى نتيجــة كبــرى‪ ،‬تــضع إشــارة اســتفھام علــى مــصير‬
‫اإلنسانية عموماً‪ ،‬في ھذا الثلث األخير من القرن العـشرين‪ ،‬كمـا تـضع إشـارة‬
‫استفھام على دور المسلم في ھذا الثلث األخيـر‪ .‬وقـد قلـت فعـال ً فـي نھايـة‬
‫تلك المحاضرة "إن أوربة حققت المعجزات في عالم االكتشافات وعـالم العلـوم‬
‫ولكنھـا فقــدت فــي أعمـاق نفــسھا البعــد الـذي كــان يــروح عليھـا ويرفــه عنھــا‬
‫ويسندھا في وقت المحن ألنه يربطھا بوجود ﷲ‪ .‬إذا أراد المسلم أن يس ﱠد ھذا‬
‫الفراغ في النفوس المتعطشة‪ ،‬النفوس المنتظرة للمـسوغات الجديـدة فيجـب‬
‫أوال ً أن يرفع مستواه إلى مستوى الحـضارة أو أعلـى منھـا كـي يرفـع الحـضارة‬
‫بذلك إلى قداسة الوجود"‪.‬‬

‫فحضارة القرن العشرين أفقـدت أو أتلفـت قداسـة الوجـود‪ ،‬فـي النفـوس وفـي‬
‫الثقافة وفي الضمائر‪ .‬ولقد أ ْتل َفت القداسة ألنھا عدتھا شيئاً تافھاً ال حاجـة لنـا‬
‫به‪ .‬ولقد انجرّت إلـى إتالفھـا بـسبب منـشأ ثقافتھـا التـي يطلـق عليھـا اليـوم‬
‫العلمية‪ ،‬والتي أخضعت كـل شـيء وكـل فكـرة إلـى مقـاييس الكـم منـذ عھـد‬
‫ديكارت‪ .‬لقد حاولت أوربة ونجحت‪ ،‬ونجاحھا قـد يفـسر لنـا اليـوم علـى المـدى‬
‫البعيد‪ ،‬فشلھا في االستمرار‪ .‬لقـد نجحـت فـي إخـضاع كـل شـيء لمقـاييس‬
‫الكم‪ ،‬ولكن نجاحھا يفسر بالتالي األزمة التـي تمـ ﱡر بھـا اليـوم حـضارتھا‪ ،‬التـي‬
‫فقدت كل مسوغات وجودھا ألنھا أفقدت الوجود قداسته‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫كان الوجود مقدساً في كل تفاﺻيله‪ ،‬في حياة الحشرات كـان مقدسـاً‪ ،‬وحيـاة‬
‫اإلنسان كان أكثر قداسة‪ ،‬حتى األشياء التي تلقى في الشوارع‪ ،‬كانت ھنـاك‬
‫خبـز‪،‬‬
‫تفاﺻيل توحي بقداستھا‪ ،‬كان المار في الشارع إذا التقى بـصره بِ ُف َتـات ال ُ‬
‫ينحني ويلتقط ھذا الفتات ثم يقبله ويضعه فـي مكـان طـاھر‪ ،‬ألنـه كـان يـشعر‬
‫بقداسة ھذه األشياء‪ .‬أما األوربي فال يھمه ھذا وال يلتفت إليه ألن ھذا الفتـات‬
‫من الخبز‪ ،‬ال قيمة له في نظره الكمي‪ ،‬إذ ال ثمـن لـه‪ ،‬لـذا يلقـى مـع األشـياء‬
‫األخرى في سـلة المھمـالت‪ .‬وتركـت أوربـة فـي سـلة مھمالتھـا كـل قداسـة‬
‫األشياء‪ ،‬وكل القيم المقدسـة‪ ،‬وفـي آخـر المطـاف دار عليھـا ﺻـولجان علمھـا‬
‫وطغيانھا العقلي‪ ،‬كثعبان التوى على ﺻدرھا ُيضي ّق عليھا األنفاس‪ ،‬أوربة اليوم‬
‫ال تتنفس التنفس الطليق‪ ،‬بل تتنفس تحت ضغط عـالم األشـياء المتراكمـة‪ .‬إذ‬
‫بقــدر مــا تراكم ـت األشــياء‪ ،‬وبقــدر ماتراكم ـت اإلمكانيــات الحــضارية اضــمحلت‬
‫القاعدة األخالقية الروحية المعنوية التي تتحمل في كل مجتمـع عـبء األثقـال‬
‫االجتماعية واألثقال المادية‪ ،‬إذ الب ﱠد من قاعدة روحية متينة حتى تتحمـل ھـذه‬
‫األعباء‪ ،‬ھذه األعباء التي ترزح تحتھا أوربة أو الحضارة الغربية اليـوم وھـي فـي‬
‫خضم األشياء التي تنتجھا التكنولوجية‪.‬‬

‫من ھنا نتصور إذن دور المسلم باعتباره رسالة‪ .‬دور المسلم ألنـه يعـاني أيـضاً‬
‫أزمته الخاﺻة به وھو يعلم ذلك‪ ،‬إذ ال يمكنه أال يعلم‪ ،‬وأعداؤه أﺻبحوا أقرب من‬
‫قبل من معاقله المقدسة‪ .‬إنني ال أريد أن أشير ھنا إلى أشـياء سـمعتھا أثنـاء‬
‫الحجة األخيـرة‪ ،‬أشـياء تـدل علـى أن الـشعور بـالخطر موجـود فـي ضـمير كـل‬
‫مسلم‪ ،‬شعور بخطر كبير داھم‪.‬‬

‫إذن نحن نعيش أزمتنـا الخاﺻـة بنـا ونعيـشھا بكـل أبعادھـا‪ ،‬بعـدھا اإلقتـصادي‬
‫مثالً‪ ،‬يكفينا أن نذكر على سـبيل المثـال أن أحـطﱠ المـستويات االقتـصادية فـي‬
‫العــالم فــي ﺻــورة مــا يــسمى متوســط دخــل الفــرد الــسنوي ھــو فــي الــبالد‬
‫اإلسالمية‪ ،‬إن ھذا معناه أن أحطﱠ الحظـوظ فـي ھـذه الـدنيا أﺻـبح لألمـة التـي‬
‫خصھا ﷲ بالھداية اإلسالمية وخصھا ﷲ برسالة األمـر بـالمعروف والنھـي عـن‬
‫المنكر في ھذه الدنيا‪ .‬ھذه األمة أﺻـبحت تعـاني األزمـات المتنوعـة التـي قـد‬
‫نجمعھا في كلمة واحدة ھي األزمة الحضارية‪ ،‬وھي فعال ً أزمة حضارية ال غير‪،‬‬
‫إذن نحن نعاني أزمتنا ومن ناحية أخرى تعاني اإلنسانية المتحضرة أزمتھا‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫واألزمة التي تعانيھا اإلنسانية المتحضرة أخطر وأعمق بكثيـر مـن أزمتنـا نحـن‪،‬‬
‫ألن أزمتنا ال تمس جوھر كياننا اإلنساني فيبقى مع أزمتنا على الرغم من كـل‬
‫شيء‪ ،‬شيء من الكرامة أو شيء من التكريم الذي وضـعه ﷲ عـز وجـل فـي‬
‫اإلنسان على العمـوم‪ ،‬أمـا األزمـة التـي تنتـاب الحـضارة أو اإلنـسان المتحـضر‬
‫اليوم‪ ،‬فھي أحيانـاً تفقـده حتـى إنـسانيته‪ ،‬فيـصبح إمـا وحـشاً مفترسـاً ضـارياً‬
‫ينقض على كل ما يستطيع تحطيمه‪ ،‬أو يصبح حيواناً تائھاً في المتاھـات التـي‬
‫تفــتح لــه بالمخــدرات‪ ،‬ھــذه ھــي األزمــة الخطيــرة التــي تعانيھــا اإلنــسانية‬
‫المتحضرة أو يعانيھا اإلنسان المتحضر‪.‬‬

‫إذن اإلنسانية بشطريھا‪ ،‬بشطرھا المتخلف‪ ،‬وبشطرھا المتحـضر‪ ،‬تعـاني أزمـة‬


‫خطيرة ھي أخطر أزمة في وجودھا على سطح ھذه األرض‪ .‬وفي حين يـسير‬
‫الزمان كعادته إلى مصب‪ ،‬فإننـا نـرى خطـورة ھـذا الـسير مـن خـالل التوقعـات‬
‫التي تـصورھا لنـا مالبـسات ھـذه الفتـرة مـن الـزمن‪ ،‬التـي نعيـشھا اآلن بكـل‬
‫تقلباتھا الـسياسية العـسكرية االقتـصادية الثقافيـة‪ .‬إننـا نتـصور أن نھايـة ھـذا‬
‫الثلــث األخيــر مــن القــرن العــشرين لــن تك ـون كــالفترات األخــرى‪ ،‬ألن التــاريخ‬
‫د كبير بأشياء أخطر مما يتصور العقل‪ ،‬كأنما التـاريخ كلـه تجمـع‬ ‫سينفرد إلى ح ٍّ‬
‫منذ بدايته‪ ،‬أعني منذ بدايـة دخـول اإلنـسان فـي العھـد الـذي يـسمى العھـد‬
‫التاريخي‪ ،‬واقترب من مصبه‪ ،‬كالنھر الذي تجمعت كل روافده فيه عنـدما أﺻـبح‬
‫قريباً من البحر‪ ،‬ولھذا أﺻبح الثلث األخير ھذا ممتلئاً بكـل التوقعـات‪ .‬وسينـصب‬
‫قريباً في سنة ألفين التي ستضع أمام اإلنسانية جمعاء أخطر نقط االسـتفھام‬
‫على مصير اإلنسانية منذ بدايتھا‪ .‬ألننا ال ندري في الحقيقة كيف تنتھـي ھـذه‬
‫الحقبة من الزمن‪.‬‬

‫ونحــن باعتبارنــا مــسلمين أو باعتبارنــا بــشراً‪ ،‬نــشاطر البــشرية مــصيرھا‪ ،‬إن‬


‫اإلنسانية تعيش فعال ً ما يسمى حالة طوارئ‪ ،‬أمام حالـة الطـوارئ ھـذه يطـرح‬
‫سؤال‪ :‬ما ھي رسالة المسلم؟ إن رسالته قد نلخصھا في كلمة ال تعطينا حال ً‬
‫د ما غليلنا ألنھا كلمة مقبولة‪ ،‬وھي مقبولة من ناحية ألن‬ ‫ولكن تشفي إلى ح ٍّ‬
‫الظروف تفرضھا علينا‪ ،‬وتتعارض من ناحية أخرى ‪-‬ربما في أعماق أذھاننـا‪ -‬مـع‬
‫مقدمات تتنافى مع مقتضيات الرسالة‪ ،‬فمـا ھـي رسـالة المـسلم أمـام حالـة‬
‫تتطلب اإلنقاذ؟‬

‫‪17‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫الجواب‪ :‬إنقاذ نفسه وإنقـاذ اآلخـرين‪ ،‬ھـذه ھـي رسـالة المـسلم‪ .‬ألـيس فـي‬
‫أذھاننا مقدمات سلبية تتناقض مع ھذا الـزعم‪ ،‬كأننـا انجـذبنا إلـى شـيء مـن‬
‫الغــرور؟ كيــف يــستطيع اإلنــسان المــسلم الــذي ال يتمتــع بالقــدر الكــافي مــن‬
‫اإلمكانيات الحضارية حتى لتحقيق لقمة عيشه؟ كيف يستطيع إنقاذ اآلخـرين؟‬
‫وكيــف يتطلــع لھــذه الرســالة؟ إذا تــساءلنا ھــذا الــسؤال يجــب علينــا أيــضاً أن‬
‫نتساءل بھذا المنطق نفسه‪ :‬لمـاذا اسـتطاع ذلـك أولئـك األعـراب الفقـراء فـي‬
‫عھد محمد ﺻلى ﷲ عليه وسـلم؟ لمـاذا قـام أولئـك األعـراب الفقـراء األميـون‬
‫بإنقاذ اإلنسانية وشعروا أنھم جاؤوا من أجـل إنقاذھـا؟ فقـد كـانوا يعلنـون ھـذا‬
‫في أقوالھم ومخاطباتھم لآلخرين سواء من أھل الفرس أو من أھل روما‪ .‬كـانوا‬
‫يقولون لھم‪ :‬لقـد أتينـا لننقـذكم‪ .‬إنھـم لـم يـشعروا بمركّـب الـنقص‪ .‬لمـاذا لـم‬
‫يشعروا بمركب النقص؟ ألن اإلمكانيات الحضارية المتكدسة أمامھم في فـارس‬
‫أو في بيزنطة أو في روما لم تفرض عليھم النقص‪ ،‬وبعبارة أخرى لـم تبھـرھم‪،‬‬
‫كانوا يشعرون أمام اإلمكانيات الحضارية المتكدسة‪ ،‬بإرادة حضارية تفـوق كثيـراً‬
‫ما تبقى منھا لدى المجتمعات المتحضرة في ذلك العصر‪ .‬كذلك الحال اليوم لـو‬
‫أننا عقدنا موازنة‪.‬‬

‫فليس إذن من الـصعب أن يقـوم ھـذا المـسلم الفقيـر‪ ،‬األعـزل‪ ،‬ھـذا المـسلم‬
‫الذي يضحي بمصالحه الكبرى حتى في ھيئة األمم‪ ،‬أن يقوم على الرغم مـن‬
‫ذلك بفضل إسالمه فقط‪ ،‬بمھمة اإلنقاذ‪ ،‬ولھـذه المھمـة شـروط ربمـا نـشرحھا‬
‫إذا اتــسع المجــال لــذلك‪ .‬إنــه بفــضل إســالمه ال غيــر يــستطيع اليــوم إنقــاذ‬
‫اإلنسانية المتورطة قي الضياع على الرغم من علمھا وكبريائھا وتكنولوجيتھا‪.‬‬

‫غير أن كل رسالة تقوم على إعجاز؛ رسالة موسى قامت علـى إعجـاز‪ ،‬كانـت‬
‫خر السحرة ساجدين واعترفوا بإله ھـارون‬ ‫عصا موسى تلقف ما يأفكون‪ ،‬حتى ﱠ‬
‫وموسى‪ ،‬إعجاز عيسى كان إنقاذ المرضى من أمراضھم وإحياء الموتى أحياناً‪،‬‬
‫إعجــاز النبــي ﺻــلوات ﷲ عليــه وأزكــى التــسليم تعرفونــه جميع ـاً‪ ،‬فقــد أيدتــه‬
‫م جرا…‬ ‫ه العظيم وأيدته أحياناً بالمالئكة‪ ،‬وھل ﱠ‬‫خ ُلق ِ‬
‫السماء بالقرآن وأيدته ب ُ‬

‫فاليوم أيضاً إذا أراد المسلم أن يقـوم برسـالة‪ ،‬فھـذا يتطلـب نوعـاً مـن اإلعجـاز‬
‫تفرضه الظروف الخاﺻة التي تم ﱡر بھا اإلنسانية اليـوم‪ ،‬علـى اعتبـار أن اإلعجـاز‬

‫‪18‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫ھو مجموعة شروط منطقية وغير منطقية أعني خارجة عن المنطق‪ ،‬مجموعة‬
‫شروط تحقق أمرين‪ :‬االقتناع واإلقناع‪ .‬االقتناع أوال ً ألن فاقد الـشيء ال يعطيـه‪،‬‬
‫فال يمكن للمسلم إن لم يقتنع بأن له رسالة أن يبلغ اآلخرين ھذه الرسـالة‪ ،‬أو‬
‫فحوى ھذه الرسالة أو مفعول ھذه الرسـالة‪ .‬إذن يجـب أن يقتنـع ھـو أوال ً‪ .‬وأنـا‬
‫أعني قناعته برسـالته فـي الثلـث األخيـر مـن القـرن العـشرين وال أتكلـم عـن‬
‫اقتناعه بدينه‪ ،‬فكل مسلم مقتنع بدينه من يوم أن نزلت اآلية األولـى فـي غـار‬
‫حراء‪ .‬ومن يحاول أن يأتي للمـسلمين بوسـائل إلقنـاعھم بـدينھم فإنمـا يـضيع‬
‫وقته وربما يضيع وقت المسلمين أنفسھم‪.‬‬

‫فالمھم في األمر اليوم أن نالحظ أن الشكوك التي تسربت إلى عقول اآلخـرين‬
‫عن المجتمع اإلسالمي إنما تتناول رسالة المـسلم ال عقيدتـه‪ .‬فھـل اإلنـسان‬
‫الذي يستمع إلى المسلم وھو يتحدث عن رسالته‪ ،‬إنسان تفحص أو راجع أمر‬
‫القرآن من حيث ھو فكرة ﺻحيحة؟ إن ھذا ھو مـن شـأن بعـض االختـصاﺻيين‪،‬‬
‫بعض األفراد من النخبة مثل المارتين الذي خصص أكبر فصل كتبه إنسان لحياة‬
‫النبي ﺻلى ﷲ عليه وسلم أو برناردشو أو توماس كارليل‪ .‬أما الجموع الغفيـرة‬
‫من الناس فـال تـصبر لتـدليلنا المنطقـي أن ﷲ واحـد ال شـريك لـه‪ ،‬وأن النبـي‬
‫رسوله‪ ،‬وأن ھذا الـدين ﺻـحيح‪ .‬لقـد أﺻـبح ھـذا كلـه مـسلمات‪ .‬أمـا بالنـسبة‬
‫لآلخرين‪ ،‬فإن كان مـن النخبـة فـيمكن أن يدركـه مـن خـالل كالمنـا‪ ،‬وھـو فـي‬
‫الحقيقة ال ينتظر كالمنا‪ ،‬بل ينصرف بجھده الخـاص إلـى ھـذا النبـع مـن النـور‪،‬‬
‫ويشعر بأن اإلسالم فعال ً حقيقة منزلة مـن الـسماء‪ .‬أمـا الجمـوع الغفيـرة‪ ،‬أمـا‬
‫مئات الماليين من البشر‪ ،‬الذين تخصھم رسالة المسلم في ھذا الثلث األخيـر‬
‫من القرن العشرين‪ ،‬فھي تقول دعونا نلمس‪ ،‬وقولھا آتٍ من كونھا نشأت على‬
‫ما يسمى المنطق العملي أو كما يقول المـسيحي منطـق القـديس تومـا‪ ،‬فــ‬
‫توما ھذا حينما رجع المسيح بعد أربعـين يومـاً إلـى الحـواريين قـال لھـم إننـي‬
‫عدت من السماء‪ ...‬إلخ‪ ،‬ورفعتني المالئكة‪ ...‬إلخ فسأله توما وأين آثار الـصليب‬
‫على يديك وعلى قدميك؟ أرني كي ألمـس ھـذه اآلثـار بيـدي ال بعقلـي‪ .‬ھـذا‬
‫قــولھم بــالطبع ولــيس قولنــا‪ ،‬وإنمــا ن ـذكره بوﺻــفه عي ّنــة مــن تفكيــرھم ومــن‬
‫أوضاعھم النفسية أمام األفكار‪ .‬فھل ھم يتصلون باألفكـار عـن طريـق المنطـق‬
‫الذي نعتبره نحن السند األول إلبطال أو تأييد فكرة معينة؟ كال إنھـم ال يطرقـون‬
‫الموضوع من ھذا الباب وإنما من باب سان توما‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫فما ھو واضح في تصوري أنا المـسلم‪ ،‬لـيس واضـحاً بالنـسبة لآلخـرين الـذين‬
‫ينبغي علي أن أتقـدم إلـيھم‪ ،‬آخـذاً بإالعتبـار تـصورھم ھـم ال تـصوري أنـا عـن‬
‫حقيقة المسلم‪ .‬ألن حقيقـة المـسلم محجوبـة عـن نظـر اآلخـرين‪ .‬إن حقيقـة‬
‫المسلم‪ ،‬كرامة المسلم‪ ،‬فضيلة المسلم‪ ،‬أخـالق المـسلم‪ ،‬شـرف المـسلم‪،‬‬
‫عزة المسلم؛ كل ھذه األشياء تخفيھا عن نظر اآلخـرين المظـاھر االجتماعيـة‪.‬‬
‫وھي تشھد بكل أسف في نظر اآلخرين على المسلم وضده‪ .‬فالمسلم فقير‪،‬‬
‫والمسلم جاھل‪ ،‬المسلم كذا‪ ...‬اإلحصائيات الموجودة في العالم كـذا‪ ...‬إلـخ‪...‬‬
‫فنحن حينما تكلمنا عن اإلعجاز الذي يتضمن شـروط اإلقتنـاع وشـروط اإلقنـاع‪،‬‬
‫تكلمنا عن شيء جوھري جداً‪ ،‬أعني أن المسلم ال يستطيع أن يقوم برسالته‬
‫في الثلث األخيـر مـن القـرن العـشرين‪ ،‬إال إذا حقـق مـن خـالل منطـق خـاص‬
‫لرسالته كل شروط االقتناع وكل شروط اإلقناع‪.‬‬

‫حـة‪ ،‬حتـى يفـي‬ ‫ومن ھنا نرى ما يترتب على المسلم مـن القيـام بواجبـات ُمل ّ‬
‫بشرط إعجازه في ھذا الثلث األخير نحو نفسه ونحو اآلخرين‪ ،‬إنه يحتاج أحيانـاً‬
‫المعرضـين‪ ،‬ألنھـم‬ ‫إلى ھذه الوسائل حتـى بالنـسبة إلـى إخوانـه المـسلمين ُ‬
‫يخضعون ھم أيضاً لمنطق سان توما الـذي يريـد أن يمـس األشـياء بيـده حتـى‬
‫يعترف بوجودھا‪ .‬أليس في ﺻفوف شـبابنا عـدد يمنطـق قـضاياه بطريقـة سـان‬
‫توما‪ ،‬يعني بلمس اليد ال بالنظرة العقلية‪ ،‬بحيث يجـب فعـال ً أن تتـوافر لرسـالة‬
‫المسلم كل شروط االقتناع وكل شروط اإلقناع؟ ولن يتوافر ھـذا إال بتغييـر فـي‬
‫داخل المسلم‪ ،‬في أغوار نفـسه وحـول المـسلم فـي محيطـه الخـاص أو فـي‬
‫محيطه العالمي‪ ،‬ألننا حين تكلمنـا فـي بدايـة الحـديث‪ ،‬عـن األزمـة اإلنـسانية‬
‫المواجھة ألزمتنا نحن المـسلمين‪ ،‬رأينـا أزمـة إنـسانية مـن أخطـر مـا واجھتـه‬
‫اإلنسانية منذ بداية تاريخھا‪ ،‬وكنتيجـة لھـذه األزمـة بـصورتيھا‪ ،‬الـصورة الخاﺻـة‬
‫بالمــسلم والــصورة الخاﺻــة باإلنــسان المتحــضر‪ ،‬أﺻــبح العــالم كأنــه ازدواجيــة‪،‬‬
‫ازدواجيــة بــين عنــصرين متــوازيين ال يتــصالن إال عــن طريــق شــبكة عالقــات‬
‫متناقضة‪.‬‬

‫ﺻالت من الطرف المتقـدم ومـن الطـرف‬ ‫ھناك في العالم اليوم إذا تصورناه كالً‪ِ ،‬‬
‫المتخلف الذي يـسمى العـالم الثالـث‪ ،‬إذا تفحـصنا كيـف تـسير العالقـات بـين‬
‫الطرفين نراھا تسير وفق ثالثـة أﺻـناف؛ ففـي المجـال االقتـصادي‪ ،‬أﺻـبح كـل‬

‫‪20‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫شيء في منطق القرن العـشرين يفـسر باالقتـصاد وأﺻـبح كـل شـيء يخـضع‬
‫لالقتــصاد‪ ،‬نــرى أن طرفــي العــالم يتعــامالن علــى أســاس عالقــة اقتــصادية‬
‫متناقضة‪ ،‬في طرفھا األول المجتمع الذي ينتج المواد الخام كـالنفط وغيـر ذلـك‬
‫مــن المــواد األوليــة‪ ،‬وفــي طرفھــا الثــاني مــن يحــول ھــذه المــواد األوليــة إلــى‬
‫منتجات حضارية‪ ،‬وطبعاً على حساب العالم الثالـث أي علـى حـساب اقتـصاده‬
‫وعلى حساب نموه‪ ،‬كما ھـو ظـاھر لنـا مـثال ً فـي قـضية الـنفط‪ ،‬خـصوﺻاً قبـل‬
‫خمس أو ست سنوات‪ ،‬حين كانت مـادة الـنفط تـدر علـى أﺻـحاب التروسـتات‬
‫وعلى أﺻحاب االحتكارات عشرات المرات‪ ،‬أكثـر ممـا تـدر علـى أﺻـحاب الـبالد‬
‫المنتجة‪ .‬ھكذا كان الوضع في المجاالت األخرى حيث كانت الصالت االقتـصادية‬
‫تسير على ھذه الوتيرة‪.‬‬

‫وفي المجال السياسي كانت العالقة أيضاً متناقـضة فـي طرفيھـا‪ .‬كـان الحـوار‬
‫بين متكلمين؛ في الطرف األول االستعمار‪ ،‬وفي طرف آخر القابلية لالستعمار‪.‬‬
‫ھذا الوضع الذي كـان‪ ،‬وأخـشى أن أقـول وال يـزال قائمـاً بـين االسـتعمار وبـين‬
‫القابلية لالستعمار‪ ،‬ألننا لم نغير شروط القابلية لالستعمار في أنفـسنا‪ .‬غيﱠرنـا‬
‫بعض السطحيات ولم نغير القابلية لالستعمار‪ ،‬غير أن ضغط بعض الظروف وقوة‬
‫د مـا‪ ،‬ولكـن لـم تتغيـر‬
‫األشياء‪ ،‬جعلت بعض المواقف االستعمارية تتغير إلى حـ ٍّ‬
‫كلھا ولن تتغير‪ ،‬مادامت القابليـة لالسـتعمار ھـي التـي تحاورھـا فـي المجـال‬
‫السياسي‪.‬‬

‫وفي المجال النفسي أو الثقافي ھناك محوران‪ :‬محور ثقـافي ھـو مـا نـسميه‬
‫محور واشنطن ‪ -‬موسكو‪ ،‬وھو محور واحد ال يختلـف فيـه شـرقه عـن غربـه وال‬
‫غربه عن شرقه في ھذه الناحية‪ .‬ھـذا المحـور يطـرق أو يطـرح كـل مـشكالته‬
‫بمنطق القوة‪ .‬بينما يجب على المحور اآلخر أعني محور طنجة ‪ -‬جاكرتـا الـذي‬
‫نعيش عليه نحن‪ ،‬نحن المجتمعات المتخلفة وخصوﺻاً نحـن المـسلمين يجـب‬
‫علينا أن نطرح المشكالت بمنطق البقاء‪ ،‬ألننا بحاجة إلى رفع مـستوى بقائنـا‪،‬‬
‫إلــى مــستوى الحــضارة‪ ،‬وھــذا يتنــافى مــع طــرح القــضايا بمنطــق القــوة‪ ،‬وال‬
‫تستطيع وال تسمح لنا ظروفنا بغير ذلك‪ ،‬وال يھمنا وال يھم اإلنسانية التي تعـد‬
‫نفسھا متقدمة أن ترجع إلى رشدھا‪ .‬ال يھم أن تطـرح أمريكـة مـثال ً اليـوم كـل‬
‫مشكالتھا بمنطق القوة‪ ،‬بينما مجتمعھـا أيـضاً يعـاني أعـراض التخلـف‪ ،‬خاﺻـة‬

‫‪21‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫المدن الصناعية الكبيرة مثل نيويـورك وديترويـت وشـيكاغو‪ ...‬إلـخ‪ .‬ھـذه المـدن‬
‫أﺻبحت فيھا عينات تدل على أن التخلف بدأ يتفشى في المجتمع األمريكـي‪،‬‬
‫ومع ذلك فأمريكة تخصص كل إمكانياتھا لطرح مشكالتھا بمنطق القوة‪.‬‬

‫أما نحن فمضطرون أن نطرح مشكالتنا بمنطق البقاء‪ ،‬حتى نستطيع أن نتقـدم‬
‫بعض الخطوات‪ ،‬حتى نستطيع أن نرفع مستوانا إلـى مـستوى الحـضارة‪ ،‬وھنـا‬
‫يفرض علينا طبعاً ھذه العالقات الثالثيـة المتناقـضة؛ العالقـة الثقافيـة‪ ،‬العالقـة‬
‫النفسية‪ ،‬العالقة السياسية‪ .‬إذ يجب علينا أن نصفي ھـذه الخريطـة للعالقـات‬
‫العالميــة حتــى يتــسنى لھــذه اإلنــسانية أن ترفــع مــستواھا إلــى مــستوى‬
‫القداسة‪ ،‬أن ترفع ھذه اإلنسانية مستواھا الـواقعي ومـستواھا الثقـافي إلـى‬
‫مستوى القداسة‪ ،‬وإلى المستوى الـذي تـستوعب معـه مـسوغاتھا الجديـدة‬
‫في المرحلة الخطيرة التي تم ﱡر بھا اإلنسانية اليوم‪ ،‬في ھذا الثلث األخيـر مـن‬
‫القرن العشرين‪ ،‬إذن يجب على المسلم الـذي يـضطلع برسـالته أن يفكـر فـي‬
‫إعجازه‪ ،‬وإعجـازه ال يتـأتى إال بتحقيـق شـرط جـوھري‪ ،‬وھـو تغييـر مـا بنفـسه‬
‫ح ﱠتـى‬
‫م َ‬
‫ـر َمـا بِقَـ ْو ٍ‬ ‫وتغيير ما في محيطـه مـصداقاً لآليـة الكريمـة }إِ ﱠ‬
‫ن اللﱠـ َه َال ُي َغ ِي ّ ُ‬
‫م{ ]الرعد‪ [11 :‬وال يمكنه أن يغير شيئاً في الخارج إن لم يغير‬ ‫ُي َغ ِي ّ ُروا َما بِأَ ْن ُف ِ‬
‫س ِھ ْ‬
‫شيئاً في نفسه‪ .‬وحينما نقول ھذه الكلمة نقولھـا باعتبارھـا علمـاً‪ ،‬وال نقولھـا‬
‫فقط تبركاً بآية‪ ،‬نقولھا علمـاً ونعلـم مقـدارھا مـن الـصحة العلميـة‪ ،‬ال يـستطيع‬
‫مسلم أو غير مسلم أن يغير ما حوله إن لم يغير أوال ً ما بنفسه‪ ،‬فھـذه حقيقـة‬
‫علمية يجب أن نتصورھا قانوناً إنسانياً وضعه ﷲ عز وجل في القرآن‪ ،‬سنة من‬
‫سنن ﷲ التي تسير عليھا حياة البشر‪.‬‬

‫إذن لكي يتحقق التغيير في محيطنا يجب أن يتحقـق أوال ً فـي أنفـسنا‪ .‬وبـذلك‬
‫تتوفر شروط رسالة المسلم في الثلـث األخيـر مـن القـرن العـشرين‪ ،‬وإال فـإن‬
‫المسلم لن يستطيع إنقاذ نفسه وال إنقاذ اآلخرين‪.‬‬

‫ثم إذا كان منھج الرسالة يقتضي التغيير‪ ،‬والتغيير يقتضي تغيير ما في النفوس‬
‫أوالً‪ ،‬إذا كان منھج الرسالة يقتضي ھذا‪ ،‬فإننا نـستطيع أن نـتكلم عـن وسـائل‬
‫الرسالة أو الطرق العملية لتطبيق ھذه الرسالة كي تفـي بمھمتھـا‪ ،‬أال وھـي‬

‫‪22‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫اإلنقاذ أو مواجھة حالة إنقاذ أو حالة طـوارئ تخـص المـسلم وتخـص اإلنـسانية‬
‫عامة‪ ،‬عندھا يجب على كل مسلم أن يحقق بمفرده شروطاً ثالثة‪:‬‬

‫فسه‪.‬‬ ‫‪ -1‬أن يَ ْع ِر َ‬
‫ف نَ َ‬

‫رف اآلخرين‪ ،‬وأال يتعـالى علـيھم‪ ،‬وأال يتجـاھلھم‪ ،‬وھنـا يجـب أن تحـل‬ ‫‪ -2‬أن يَ ْع َ‬
‫عقـدة نعرفھـا‪ ،‬وھــي أن المـسلم يزھــد كثيـراً فــي عـالم النفــوس ممـا يتــصل‬
‫باآلخرين‪ ،‬ال يجوز للمسلم أن يجھل ما في نفوس اآلخرين‪ ،‬وال يجوز أن يتعالى‬
‫عـ ﱠد للجنـة و ُأ ِ‬
‫عـ ﱠد للتكـريم‪،‬‬ ‫على اآلخرين وال أن يتـسامى علـيھم بـدعوى أنـه ُأ ِ‬
‫يجب عليه أن يعلم ما في نفوس اآلخرين ويجب عليه أن يعلـم ذلـك ألمـرين ال‬
‫ألمر واحد‪ ،‬إما لكي يتقي شرھم عـن معرفـة وإدراك لكـل معطيـات نفوسـھم‪،‬‬
‫وإما لتبليغھم إشراق اإلسالم وإشـراق الھدايـة اإلسـالمية‪ .‬فھـو إن لـم يعـرف‬
‫النفــوس فكيــف يقــدر أن يتــصرف معھــا بحكمــة؟ إن لــم يعــرف نفــوس اآلخــرين‬
‫وظلت ﺻناديق مغلقة عليه فكيف يبلغھا الھداية اإلسالمية؟ إنه لـن يـستطيع‪.‬‬
‫عرف نفوس اآلخرين‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫عرف نفسه أن يَ‬ ‫يجب إذن على المسلم بعد أن يَ‬

‫يعـرّف اآلخـرين بنفـسه‪ ،‬لكـن بالـصورة‬‫ِ‬ ‫‪ -3‬ويجب عليـه فـي الـشرط الثالـث أن‬
‫المحببة‪ ،‬بالصورة التي أجريت عليھا كل عمليات التغيير بعـد التنقيـة والتـصفية‬
‫مــن كــل رواســب القابليــة لالســتعمار والتخلــف وأﺻــناف التقھقــر‪ ،‬كــل أﺻــناف‬
‫التخلف وأﺻناف التـأخر‪ .‬ويجـب عليـه أوال ً أن يقـوم بھـذه التـصفية حتـى يقـدم‬
‫لآلخرين ﺻورة مقبولة محببة بوﺻفھا عينة من العينـات البـشرية التـي يـصنعھا‬
‫اإلسالم‪ ،‬أما إذا تقدم المـسلم إلـى اآلخـرين بوﺻـفه عـورة يجـب أن يـستحى‬
‫منھا‪ ،‬فالعورة تستر وال تكشف‪ ،‬والعورة ال يمكنھا أن تبل ّغ إشعاعاً‪ .‬الجھل عورة‬
‫الفقر الذي يسببه كسلنا‪ ،‬وكسلنا عورة‪ ،‬الفوضى عورة‪ ،‬وھذه العورات كلھـا ال‬
‫تستطيع وال تتيح لشخصية المسلم أن ُتبل ّغ إشراق اإلسالم‪.‬‬

‫إذن ھناك شروط ثالثة يجب أن تتحقق‪ ،‬أن يعرف المسلم نفسه بالتـدقيق وأال‬
‫يغــالط نفــسه فــي معرفــة نف ـسه‪ ،‬ألنــه طالمــا عمــي المــسلم بــسبب ھــذه‬
‫المغالطــة؛ يــا ليتــه لــم يلعــن طيلــة القــرن الماضــي االســتعمار بــل القابليــة‬
‫ومرضية لنفسه ولآلخرين‪.‬‬ ‫لالستعمار‪ ،‬ولو فعل ذلك لكان اليوم ذا ﺻورة محببة ُ‬

‫‪23‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫إذن يجب على المسلم أن يعـرف نفـسه مـن دون مغالطـة‪ ،‬وأن يعـرف نفـوس‬
‫اآلخرين من دون كبرياء وتعال‪ ،‬وبكل أخوة وﺻدق وإخالص أن يحـبھم لوجـه ﷲ‬
‫حتى تصل إليھم عن طريق وعلى جسر ھذه المحبة‪ ،‬حـرارة اإلسـالم‪ ،‬حـرارة‬
‫الحب اإلسالمي وكل ما يناط بمفھوم التغيير‪ ،‬يجب أن نتوخى فيه أمراً أال وھو‬
‫أن كل فكرة لھا جانبان؛ جانب الصحة‪ ،‬وجانب الصالحية‪.‬‬

‫قد تكون فكرة ما ﺻالحة وليست ﺻحيحة‪ ،‬وقد تكـون فكـرة ﺻـحيحة ثـم فقـدت‬
‫في الطريق ﺻالحيتھا ألية أسباب‪ .‬ألسنا نشعر نحن مثال ً بأن ديننا وھـو أوضـح‬
‫د مـا وبـسببنا نحـن‪ ،‬وبـسبب‬ ‫من حيث الصحة من شمس النھـار‪ ،‬أنـه إلـى حـ ٍّ‬
‫تقاعسنا وتكاسلنا ونومنا في النھار فقد بعض ﺻالحيته‪.‬‬

‫كأن ھذه الفكرة المقدسة التي أنزلھا ﷲ على محمد عليـه الـصالة والـسالم‪،‬‬
‫ھذه الفكرة ‪-‬التي ال يختلف فـي ﺻـحتھا عقـل سـليم مـع عقـل سـليم‪ -‬تبـدو‬
‫اليوم وكأنھا فقدت ﺻالحيتھا‪.‬‬

‫أين كرامة المسلم؟ أين عزة المسلم؟ أين مجد المسلم؟ أين علـم المـسلم؟‬
‫أين نزاھة المسلم؟ أين بطولة المسلم؟ أين استشھاد المسلم؟ أيـن شـھادة‬
‫المسلم ولو على نفسه؟!‬

‫ل ھـذا‪ ،‬والغـرب أو‬ ‫ل ھـذا‪ ،‬المـسلم فـرّط وضـي ّع وأتلـف كـ ﱠ‬


‫المسلم فرّط فـي كـ ِ ّ‬
‫الحضارة الغربية أتلفت مسوغات وجودھا‪ ،‬وھي تعاني ھذه األزمة التي أشرت‬
‫إليھا‪ .‬والمسلم ُيضيع القيم اإلسالمية التي كانت تشرق على وجھه‪ ،‬وتجعلـه‬
‫في نظر اآلخرين أجمل ﺻورة إنسانية في التاريخ‪ ،‬فقد كان أحد المؤرخين فـي‬
‫أوائل القرن التاسع عـشر‪ ،‬ھـو المستـشرق فرينـو الـذي تـرجم جغرافيـة أبـي‬
‫الفداء‪ ،‬يذكر في مقدمته وھو يعلق فـي مقطـع يخـص رحلـة أبـي الفـداء إلـى‬
‫نـواحي الفولغـا‪ ،‬حيــث كانـت تعــيش قبائـل ﺻــقالبة متوحـشة كمــا يـصفھا أبــو‬
‫الفداء‪ ،‬وكان أبو الفداء مرتدياً لباسه العربـي وعمتـه العربيـة‪ .‬فرينـو ھـذا وكأنـه‬
‫الحظ شيئاً غريباً‪ ،‬يقول "كان العربي يريد أن يظھر في كل مكان بزيه القـومي"‬
‫نعم ألن ﺻورته في نظر اآلخرين كانـت ھـي الـصورة المثلـى لبنـي آدم بفـضل‬
‫اإلسالم‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫دور المسلم ورسالته – مالك بن نبي‬

‫أقول ھذه الكلمات‪ ،‬وﺻية إلخـواني وألبنائنـا الكـرام مـن الطلبـة‪ ،‬وأدعـو ﷲ أن‬
‫تتحقق رسالة المـسلم فـي الثلـث األخيـر مـن القـرن العـشرين بفـضل ھـؤالء‬
‫الشباب‪ ،‬وإخوانه في مصر‪ ،‬وإخوانه في ليبيا‪ ،‬وإخوانه في الجزائر‪ ،‬وإخوانه في‬
‫كل البالد اإلسـالمية‪ ...‬أن تتحقـق ھـذه الرسـالة إلنقـاذ المـسلم مـن كـسله‬
‫وإلنقاذ اإلنسان المتحضر من استھتاره‪ ،‬والسالم عليكم‪.‬‬

‫مؤلفات مالك بن نبي‬

‫بين الرشاد والتيه‬ ‫•‬


‫في مھب المعركة‪ ،‬إرھاﺻات الثورة‬ ‫•‬
‫تأمالت‬ ‫•‬
‫شروط النھضة‬ ‫•‬
‫مرة‬
‫الصراع الفكري في البالد المستع َ‬ ‫•‬
‫الظاھرة القرآنية‬ ‫•‬
‫الفكرة اإلفريقية اآلسيوية‬ ‫•‬
‫فكرة كومنولث إسالمي‬ ‫•‬
‫القضايا الكبرى‬ ‫•‬
‫مذكرات شاھد للقرن‪ ،‬الطفل‬ ‫•‬
‫مذكرات شاھد للقرن‪ ،‬الطالب‬ ‫•‬
‫المسلم في عالم االقتصاد‬ ‫•‬
‫مشكلة األفكار في العالم اإلسالمي‬ ‫•‬
‫مشكلة الثقافة‬ ‫•‬
‫من أجل التغيير‬ ‫•‬
‫ميالد مجتمع‬ ‫•‬
‫وجھة العالم اإلسالمي‬ ‫•‬
‫آفاق جزائرية‬ ‫•‬
‫النجدة‪ ...‬الشعب الجزائري يباد‬ ‫•‬
‫إنتاج المستشرقين‬ ‫•‬
‫اإلسالم والديمقراطية‬ ‫•‬
‫معنى المرحلة‬ ‫•‬

‫‪25‬‬

You might also like