Professional Documents
Culture Documents
Asrar Assalat PDF
Asrar Assalat PDF
www.4kotob.com
واهلل املوفق
الصالة
أسرار َّ
و الفَرق و املوازنَة بني ذَوق الصَّالة و السَّماع
لإلمَام العالمَة أيب عَبد اهلل حممَّد بن أيب بَكر بن أيُّوب الزَّرعي الدِّمشقي
الشَّهري بابن قيِّم اجلَوزيَّة
156-196
8440/40/82م
بسم اهلل الرمحن الرحيم
فصلٌ
يف املوازنة بني ذوق السَّماع وذوق الصالة و القرآن ،و بيان أنَّ أحد الذوقني
مباين لآلخر من كل وجه ،و أنه كلَّما قوي ذوق أحدمها و سلطانه ضعف
ذوق اآلخر و سلطانه.
()6
الصالة قرة عيون احملبني و هدية اهلل للمؤمنني
فاعلم أنه ال ريب أن الصالة قرة عُيون احملبني ،و لذة أرواح املوحدين ،و
بستان العابدين و لذة نفوس اخلاشعني ،و حمك أحوال الصادقني ،و ميزان
أحوال السالكني ،و هي رمحةُ اهلل املهداة إىل عباده املؤمنني .
هداهم إليها ،و عرَّفهم هبا ،و أهداها إليهم على يد رسوله الصادق األمني ،
رمحة هبم ،و إكراما هلم ،لينالوا هبا شرف كرامته ،و الفوز بقربه ال حلاجة منه
إليهم ،بل منَّة منه ،و تفضَّال عليهم ،و تعبَّد هبا قلوهبم و جوارحهم مجيعا ،و
()1
ـ العناوين اجلانبية من وضع مُحقِّق الرسالة
جعل حظ القلب العارف منها أكمل احلظني و أعظمهما ؛ و هو إقباله على ربِّه
سبحانه ،و فرحه و تلذذه بقربه ،و تنعمه حببه ،و ابتهاجه بالقيام بني يديه ،و
انصرافه حال القيام له بالعبودية عن االلتفات إىل غري معبوده ،و تكميله حقوق
حقوق عبوديته ظاهرا و باطنا حىت تقع على الوجه الذي يرضاه ربه سبحانه.
و ملا امتحن اهلل سبحانه عبده بالشهوة و أشباهها من داخل فيه و خارج عنه ،
اقتضت متام رمحته به و إحسانه إليه أن هيأ له مأدبة قد مجعت من مجيع األلوان و
التحف و التحف و اخللع و اخللع و العطايا ،و دعاه إليها كل يوم مخس مرَّات
،و جعل يف كل لون من ألوان تلك املأدبة ،لذة و منفعة و مصلحة و وقار هلذا
العبد ،الذي قد دعاه إىل تلك املأدبة ليست يف اللون اآلخر ،لتكمل لذة عبده
بكل صنفٍ من أصناف الكرامة ،و يكون يف كل من ألوان العبودية و يُكرمه ِّ
كل فعل من أفعال تلك العبودية مُكفّرا ملذموم كان يكرهه بإزائه ،و يثيبه عليه
نورا خاصا ،فإن الصالة نور و قوة يف قلبه و جوارحه و سعة يف رزقه ،و حمبة
يف العباد له ،و إن املالئكة لتفرح و كذلك بقاع األرض ،و جباهلا و أشجارها
،و أهنارها تكون له نورا و ثوابا خاصا يوم لقائه.
فيصدر املدعو من هذه املأدبة و قد أشبعه و قد أشبعه و أرواه ،و خلع عليه خبلع
القبول ،و أغناه ،و ذلك أن قلبه كان قبل أن يأيت هذه املأدبة ،قد ناله من
اجلوع و القحط و اجلذب و الظمأ و العري و السقم ما ناله ،فصدر من عنده و
قد أغناه و أعطاه من الطعام و الشراب و اللباس و التحف ما يغنيه .
تشبيه القلب باألرض
و ملا كانت اجلدُوب متتابعة على القلوب ،و قحطُ النفوس متوالياً عليها ،جدّد
له الدعوة آلة هذه املأدبة وقتا بعد وقت رمحة منه به ،فال يزال مُستسقيا ،طالبا
إىل من بيده غيثُ القلوب ،و سَقيُها مستمطراً سحائب رمحته لئال يَيبس ما أنبتته
له تلك الرمحة من نبات اإلميان ،و كأل اإلحسان و عُشبه و مثاره ،و لئال
تنقطع مادة النبات من الروح و القلب ،فال يزال القلب يف استسقاء و استمطار
هكذا دائما ،يشكو إىل ربه جدبه ،و قحطه ،و ضرورته إىل سُقيا رمحته ،و
غيث برِّه ،فهذا دأب العبد أيام حياته.
فالقحط الذي ينزل بالقلب هو الغفلة ،فالغفلة هي قحط القلوب و جدهبا ،و
ما دام العبد يف ذكر اهلل و اإلقبال عليه فغيث الرمحة ينزل عليه كاملطر املتدارك ،
فإذا غفل ناله من القحط حبسب غفلته قلة و كثرة ،فإذا متكَّنت الغفلة منه ،و
استحكمت صارت أرضه خرابا ميتة ،و سنته جرداء يابسة ،و حريق الشهوات
يعمل فيها من كل جانب كالسَّمائم.
فتصري أرضه بورا بعد أن كانت خمصبة بأنواع النبات ،و الثمار و غريها ،و إذا
تدارك عليه غيث الرمحة اهتزت أرض إميانه و أعماله و ربت ،و أنبتت من كلِّ
زوج هبيج ،فإذا ناله القحط و اجلدب كان مبنزلة شجرة رطوبتها و خضرهتا و
لينها و مثارها من املاء ،فإذا منعت من املاء يبسَت عروقها و ذبلت أغصاهنا ،و
حُبست مثارها ،و رمبا يبست األغصان و الشجرة ،فإذا مددت منها غصناً إىل
نفسك مل ميتد ،و مل يْنقَد لك ،و انكسر ،فحينئذ تقتضي حِكمة قيِّم البستان
قَطع تلك الشجرة و جعلَها وقوداً للنار .
القلب ييبس إذا خال من توحيد اهلل
فكذلك القلب ،إمنا يَيبس إذا خال من توحيد اهلل و حبه و معرفته و ذكره و
دعائه ،فتصيبه حرارة النفس ،و نار الشهوات ،فتمتنع أغصان اجلوارح من
االمتداد إذا مددهتا ،و االنقياد إذا قُدهتا ،فال تصلح بعدُ هي و الشجرة إال للنَّار
{ فويلٌ للقاسية قُلوهبم مِّن ذكر اهلل أولئك يف ضالل مُّبني} [الزمر ، ]88:
فإذا كان القلب ممطورا مبطر الرمحة ،كانت األغصان ليِّنة مُنقادة رطبة ،فإذا
مددهتا إىل أمر اهلل انقادت معك ،و أقبلت سريعة لينة وادعة ،فجنيت منها من
مثار العبودية ما حيمله كل غصن من تلك األغصان و مادهتا من رطوبة القلب و
ريِّه ،فاملادة تعمل عملها يف القلب و اجلوارح ،و إذا يبس القلب تعطلت
األغصان من أعمال البِّر ؛ ألن مادة القلب و حياته قد انقطعت منه فلم تنتشر يف
اجلوارح ،فتحمل كل جارحة مثرها من العبودية ،و هلل يف كل جارحة من
جوارح العبد عبودية ختُصُّه ،و طاعة مطلوبة منها ،خلقت ألجلها و هيئت هلا .
و الصالة وُضعت الستعمال اجلوارح مجيعها يف العبودية تبعاً لقيام القلب هبا و
هذا رجلٌ عرَف نعمة اهلل فيما خُلق له من اجلوارح و ما أنعم عليه من اآلالء ،
و النعم ،فقام بعبوديته ظاهراً و باطناً و استعمل جوارحه يف طاعة ربِّه ،و حفظ
نفسه و جوارحه عمَّا يُغضب ربه و يشينه عنده.
و الثـاين :من استعمل جوارحه فيما مل تُخلق له ،بل حبسها على املخالفات
و املعاصي ،و مل يطلقها ،فهذا هو الذي خابَ سعيه ،و خسرت جتارته ،و
فاته رضا ربَّه عزَّ و جل عنه ،و جَزيل ثوابه ،و حصل على سخطه و أليم
عقابه.
و الثـالث :مَن عطَّل جوارحه ،و أماهتا بالبطالة و اجلهالة ،فهذا أيضا خاسر
بائر أعظم خسارة من الذي قبله ،فإن العبد إمنا خُلق للعبادة و الطاعة ال للبطالة .
و أبغض اخللق إىل اهلل العبد البطَّال الذي ال يف شغل الدنيا و ال يف سعي اآلخرة.
بل هو ك ّل على الدنيا و الدين ،بل لو سعى للدنيا و مل يسع لآلخرة كان
مذموماً خمذوالً ،و كيف إذا عطّل األمرين ،و إنَّ امرء يسعى لدنياه دائما ،و
يذهل عن أُخراه ،ال شكَّ خاسر.
فالرجل األول ،كرجل أُقطع أرضا واسعة ،و أعني على عمارهتا بآالت احلرث
،و البذر و أعطي ما يكفيها لسقيها و حرثها ،فحرثها و هيَّأها للزراعة ،و
بذر فيها من أنواع الغالت ،و غرس فيها من أنواع األشجار و الفواكه املختلفة
األلوان مث أحاطها حبائط ،و مل يهملها بل أقام عليها احلرس ،و حصنها من
الفساد و املفسدين ،و جعل يتعاهدها كل يوم فيُصلح ما فسد منه ،و يغرس
فيها عوض ما يبس ،و ينقي دغلها و يقطع شوكها ،و يستعني بغلَّتها على
عمارهتا.
و الثـاين :مبنزلة رجل أخذ تلك األرض ،و جعلها مأوى السباع و اهلوام ،و
موضعاً للجيف و األنتان ،و جعلها معقال يأوي إليه فيها كل مفسد و مؤذٍ و
لصٍّ ،و أخذ ما أعني به من حرثتها و بذارها و صالحها ،فصرفه و جعله
معونة و معيشة ملن فيها ،من أهل الشرِّ و الفساد.
و الثالث :مبنزلة رجل عطَّلها و أمهلها و أرسل املاء ضائعاً يف القفار و
الصحارى فقعد مذموماً حمسوراً.
فهذا مثال أهل اليقظة ،و أهل الغفلة ،و أهل اخليانة.
فاألول :إذا حترّك أو َسكَن ،أو قام أو قعد ،أو أكل أو شرب ،أو نام ،أو
لبس ،أو نطق ،أو سكت كان كلِّه له ال عليه ،و كان يف ذكر و طاعةٍ و قربة
و مزيد .
و الثاين :إذا فعل ذلك كان عليه ال له ،و كان يف طردٍ و إبعادٍ و خُسران .
و الثـالث :إذا فعل ذلك كان يف غفلة و بطالةٍ و تفريطٍ .
سر الصالة و لُبها إقبال القلب فيها على اهلل ،و حضوره بكلِّيته بني يديه
و كان ُّ
،فإذا مل يقبل عليه و اشتغل بغريه و هلى حبديث نفسه ،كان مبنزلة وافد وفد إىل
باب امللك معتذرا من خطاياه و زهلل مستمطرا سحائب جوده و كرمه و رمحته ،
مستطعما له ما يقيت قلبه ،ليقوى به على القيام يف خدمته ،فلما وصل إىل باب
امللك ،و مل يبق إال مناجته له ،التفت عن امللك وزاغ عنه ميينا و مشاال ،أو
واله ظهره ،و اشتغل عنه بأمقت شيء إىل امللك ،و أقلّه عنده قدرا عليه ،
فآثره عليه ،و صيَّره قلبة قلبه ،و حملَّ توجهه ،و موضع سرَّه ،و بعث
غلمانه و خدمة ليقفوا يف خدم طاعة امللك عوضا عنه و يعتذروا عنه ،و ينوبوا
عنه يف اخلدمة ،و امللك يشاهد ذلك و يرى حاله مع هذا ،فكرم امللك وجوده
و سعة برّه و إحسانه تأيب أن يصرف عنه تلك اخلدم و األتباع ،فيصيبه من
رمحته و إحسانه ؛ لكن فرق بني قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغامنني ،
و بني الرضَّخ ملن ال سهم له { :و لكل درجات ممَّا عملوا و ليُوَفيهم أعماهلم
و هم ال يظلَمون }[األحقاف ، ]11:و اهلل سبحانه و تعاىل خلق هذا النوع
اإلنساين لنفسه و اختصه له ،و خلق كل شيء له ،و من أجله كما يف األثر
اإلهلي " :ابن آدم خلقتك لنفسي ،و خلقت كلِّ شيء لك ،فبحقي عليك ال
تشتغل مبا خلقته لك عمَّا خلقتك له " .
و يف أثر آخر " :ابن آدم خلقتك لنفسي فال تلعب و تكفلت برزقك فال تتعب
،ابن آدم اطلبين جتدين ،فإن و جدتين و جدت كلّ شيء ،و إن فُتَّك فاتك
كلّ شيء ،و أنا أحب إليك من كلّ شيء".
و جعل سبحانه و تعاىل الصالة سببا موصال إىل قُربه ،و مناجاته ،و حمبته و
األنس به .
و ما بني الصالتني حتدث للعبد الغفلة و اجلفوة و القسوة ،و اإلعراض و الزَّالت
،و اخلطايا ،فيبعده ذلك عن ربه ،و ينحّيه عن قربه ،فيصري بذلك كأنه
أجنبيا من عبوديته ،ليس من مجلة العبيد ،و رمبا ألقى بيده إىل أسر العدو له
فأسره ،و غلَّه ،و قيَّده ،و حبسه يف سجن نفسه و هواه .
فحظه ضيق الصدر ،و معاجلة اهلموم ،و الغموم ،و األحزان ،و احلسرات ،و
ال يدري السبب يف ذلك .فاقتضت رمحه ربه الرحيم الودود أن جعل له من
عبوديته عبودية جامعة ،خمتلفة األجزاء ،و احلاالت حبسب اختالف األحداث
اليت كانت من العبد ،و حبسب شدَّة حاجته إىل نصيبه من كل خري من أجزاء
تلك العبودية .
الكالم عن الوضوء
فبالوضوء يتطَّهر من األوساخ ،و يُقدم على ربِّه متطهرا ،و الوضوء له ظاهر و
باطن :
فظاهره :طهارة البدن ،و أعضاء العبادة.
و باطنه و سرّه :طهارة القلب من أوساخ الذنوب و املعاصي و أدرانه بالتوبة ؛
و هلذا يقرن تعاىل بني التوبة و الطهارة يف قوله تعاىل { :إن اهلل حيب التَّوابني و
حيب املتظهرين }[ البقرة ]888 :و شرع النيب صلى اهلل عليه و سلم للمتطهِّر
أن يقول بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد مث يقول " :اللهم اجعلين من التوّابني
،و اجعلين من املتطهرين " .
فكمَّل له مراتب العبدية و الطهارة ،باطنا و ظاهرا ،فإنه بالشهادة يتطهر من
الشرك ،و بالتوبة يتطهر من الذنوب ،و باملاء يتطهر من األوساخ الظاهرة .
فشرع له أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على اهلل عز و جل ،و الوقوف بني
يديه ،فلما طهر ظاهرا و باطنا ،أذن له بالدخول عليه بالقيام بني يديه و بذلك
خيلص من اإلباق.
و مبجيئه إىل داره ،و حمل عبوديته يصري من مجلة خدمه ،و هلذا كان اجمليء إىل
املسجد من متام عبودية الصالة الواجبة عند قوم و املستحبة عند آخرين.
و العبد يف حال غفلته كاآلبق من ربه ،قد عطّل جوارحه و قلبه عن اخلدمة اليت
خُلق هلا فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه ،فإذا وقف بني يديه موقف و التذلل و
االنكسار ،فقد استدعى عطف سيِّده عليه ،و إقباله عليه بعد اإلعراض عنه .
عبودية التكبري " اهلل أكرب ".
و أُمر بأن يستقبل القبلة ـ بيته احلرام ـ بوجهه ،و يستقبل اهلل عز و جل بقلبه
،لينسلخ مما كان فيه من التويل و اإلعراض ،مث قام بني يديه مقام املتذلل اخلاضع
املسكني املستعطف لسيِّده عليه ،و ألقى بيديه مسلّماً مستسلماً ناكس الرأس ،
خاشع القلب مُطرق الطرف ال يلتفت قلبه عنه ،و طرفة عني ،ال مينة و ال
يسرة ،خاشع قد توجه بقلبه كلِّه إليه.
و أقبل بكليته عليه ،مث كبَّره بالتعظيم و اإلجالل و واطأ قلبه لسانه يف التكبري
فكان اهلل أكرب يف قلبه من كلِّ شيء ،و صدَّق هذا التكبري بأنه مل يكن يف قلبه
شيء أكرب من اهلل تعاىل يشغله عنه ،فإنه إذا كان يف قلبه شيء يشتغل به عن
اهلل دلّ على أن ذلك الشيء أكرب عنده من اهلل فإنه إذا اشتغل عن اهلل بغريه ،
كان ما اشتغل به هو أهم عنده من اهلل ،و كان قوله " اهلل أكرب " بلسانه دون
ال ،فإذا ما أطاع اللسان
قلبه ؛ ألن قلبه مقبل على غري اهلل ،معظما له ،لج ً
القلب يف التكبري ،أخرجه من لبس رداء التكبّر املنايف للعبودية ،و منعه من
التفات قلبه إىل غري اهلل ،إذا كان اهلل عنده و يف قلبه أكرب من كل شيء فمنعه
حقّ قوله :اهلل أكرب و القيام بعبودية التكبري من هاتني اآلفتني ،اللتني هُما من
أعظم احلُجب بينه و بني اهلل تعاىل.
عبودية االستفتاح
فإذا قال " :سبحانك اللهم و حبمدك" و أثىن على اهلل تعاىل مبا هو أهله ،فقد
خرج بذلك عن الغفلة و أهلها ،فإن الغفلة حجاب بينه و بني اهلل.
و أتى بالتحية و الثناء الذي يُخاطب به امللك عند الدخول عليه تعظيما له و
متهيدا ،و كان ذلك متجيدا و مقدمة بني يدي حاجته.
فكان يف الثناء من آداب العبودية ،و تعظيم املعبود ما يستجلب به إقباله عليه ،
و رضاه عنه ،و إسعافه بفضله حوائجه
فإذا شرع يف القراءة قدَّم أمامها االستعاذة باهلل من الشيطان الرجيم فإنه أحرص
ما يكون على خُذالن العبد يف مثل هذا املقام الذي هو أشرف مقامات العبد و
أنفعها له يف دنياه و آخرته ،فهو أحرص شيء على صرفه عنه ،و انتفاعه دونه
بالبدن و القلب ،فإن عجز عن اقتطاعه و تعطيله عنه بالبدن اقتطع قلبه و عطَّله
،و ألقى فيه الوساوس ليشغله بذلك عن القيام حبق العبودية بني يدي الرب
تبارك و تعاىل ،فأمر العبد باالستعاذة باهلل منه ليسلم له مقامه بني يدي ربه و
ليحي قلبه ،و يستنري مبا يتدبره و يتفهمه من كالم اهلل سيِّده الذي هو سبب
حياة قلبه ،و نعيمه و فالحه ،فالشيطان أحرص شيء على اقتطاع قلبه عن
مقصود التالوة.
و ملا علم اهلل سبحانه و تعاىل َحسَد العدو للعبد ،و تفرّغه له ،و علم عجز
العبد عنه ،أمره بأن يستعيذ به سبحانه ،و يلتجئ إليه يف صرفه عنه ،فيكتفي
باالستعاذة من مؤونة حماربته و مقاومته ،و كأنه قيل له :ال طاقة لك هبذا العدو
،فاستعذ يب أعيذك منه ،و استجر يب أجريك منه ،و أكفيكه و أمنعك منه .
نصيحة ابن تيمية البن القيِّم
و قال يل شيخ اإلسالم ابن تيمية قدس اهلل روحه و نوَّر ضرحيه يومًا :إذا هاش
عليك كلب الغنم فال تشتغل مبحاربته ،و مدافعته ،و عليك بالراعي فاستغث به
فهو يصرف عنك الكلب ،و يكفيكه.
فإذا أخذ العبد يف قراءة القرآن ،فقد قام يف مقام خماطبة ربِّه و مناجاته ،فليحذر
كل احلذر من التعرّض ملقته و سخطه ،بأن يناجيه و خياطبه ،و قلبه معرِض عنه
،ملتفت ،إىل غريه ،فإنه يستدعي بذلك مقته ،و يكون مبنزلة رجل قرَّبه ملك
من ملوك الدنيا ،و أقامه بني يديه فجعل خياطب امللك ،و قد والَّه قفاه ،أو
التفت عنه بوجهه يَمنَة و يسرة ،فهو ال يفهم ما يقول امللك ،فما الظن مبقت
امللك هلذا.
فما الظن مبقت امللك احلق املبني رب العاملني و قيوم السماوات و األرضني.
حال العبد يف الفاحتة
فينبغي باملصلي أن يقف عند كل آية من الفاحتة وقفة يسرية ،ينتظر جواب ربِّه
له ،و كأنه يسمعه و هو يقول " :محدين عبدي " إذا قال { :احلمدُ هللِ ربِّ
العاملنيَ}.
فإذا قال { :الرَّمحن الرَّحيم } وقفَ حلظة ينتظر قوله " :أثىن عليَّ عبدي ".
فإذا قال { :مالكِ يومِ الدِّينِ } انتظر قوله " :لجَّدين عبدي ".
فإذا قال { :إيَّاك نَعبدُ و إيَّاك نَستعني } انتظر قوله تعاىل " :هذا بيين و بني
عبدي ".
فإذا قال { :اهدِنا الصِّراط املُستقيم } إىل آخرها انتظر قوله " :هذا لعبدي و
لعبدي ما قال ".
و مَن ذاق طعم الصالة عَلِمَ أنه ال يقوم مقام التكبري و الفاحتة غريمها مقامها ،
كما ال يقوم غري القيام و الركوع و السجود مقامها ،فلكلٍّ عبوديته من عبودية
الصالة سرٌّ و تأثريٌ و عبودية ال حتصل يف غريها ،مثَّ لكل آية من آيات الفاحتة
عبودية و ذوق و وجد خيُصُّها ال يوجد يف غريها.
فعند قوله { :احلمد هلل رب العاملني } جتد حتت هذه الكلمة إثبات كللّ كمال
للرب و وصفا و امسا ،و تنزيهه سُبحَانه و حبمده عن كلِّ سوء ،فعالً و وصفاً
و امسًا ،و إمنا هو حممود يف أفعاله و أوصافه و أمسائه ،مُنزَّه عن العيوب و
النقائص يف أفعاله و أوصافه و أمسائه.
فأفعاله كلّها حكمة و رمحة و مصلحة و عدل و ال خترج عن ذلك ،و أوصافه
كلها أوصاف كمال ،و نعوت جالل ،و أمساؤه كلّها حُسىن.
من معاين احلمد
و محده تعاىل قد مأل الدنيا و اآلخرة ،و السموات و األرض ،و ما بينهما و ما
فيهما ،فالكون كلّه ناطق حبمده ،و اخللق و األمر كلّه صادر عن محده ،و
قائم حبمده ،و وجوده و عدمه حبمده ،فحمدُه هو سبب وجود كل شيء
موجود ،و هو غاية كل موجود ،و كلّ موجود شاهد حبمده ،فإرساله رسله
حبمده ،و إنزاله كتبه حبمده ،و اجلنة عُمِّرت بأهلها حبمده ،و النَّار عُمِّرت
بأهلها حبمده ،كما أنَّها إنَّما وجدتا حبمده.
و ما أُطيع إال حبمده ،و ما عُصي إال حبمده ،و ال تسقط ورقة إال حبمده ،و
ال يتحرك يف الكون ذرَّة إال حبمده ،فهو سبحانه و تعاىل احملمود لذاته ،و إن مل
حيمده العباد.
كما أنه هو الواحد األحد ،و إن مل يوحِّده العباد ،و هو اإلله احلقُّ و إن مل
يؤلِّهه ،سبحانه هو الذي محِد نفسه على لسان احلامد كما قال النيب صلى اهلل
عليه و سلم " :إن اهلل تعاىل قال على لسان نبيه :سَمعَ اهللُ ملن حَمِدَه".
فهو احلامدُ لنفسه يف احلقيقة على لسان عبده ،فإنه هو الذي أجري احلم َد على
لسانه و قلبه ،و أجراؤه حبمده فله احلمد كله ،و له امللك كله ،و بيده اخلري
كله ،و إليه يرجع األمر كله ،عالنيته و سره .
فهذه املعرفة نبذة يسرية من معرفة عبودية احلمد ،و هي نقطة من حبر لُجِّي من
عبوديته.
و من عبوديته أيضا :أن يعلم أن محده لربه نعمة مِنه عليه ،يستحق عليها احلمد
،فإذا محده عليها استَّحق على محده محداً آخر ،و هلَّم جرا.
فالعبد و لو استنفد أنفاسه كلّها يف محد ربه على نعمة من نعمه ،كان ما جيب
عليه من احلمد عليها فوق ذلك ،و أضعاف أضعافه ،و ال يُحصي أحد البتّة
ثناءً عليه مبحتمده ،و لو محده جبميع احملامد فالعبد سائر إىل اهلل بكلِّ نعمة من
ربِّه ،حيمده عليها ،فإذا حَمده على صرفها عنه ،محده على إهلامه احلمدُ.
قال األوزاعي " :مسعت بعض قوَّال ينشد يف محامٍ لك احلم ُد إمّا على نعمةٍ و
إمَّا على نقمة تُدفع".
و من عبودية احلمد :تسليط احلمد على تفاصيل أحوال العبد كلها ظاهرها و
باطنها على ما حيب العبد منها و ما يكره ،بل على تفاصيل أحوال اخللق كلّهم
،برِّهم و فاجرهم ،علويهم و سفليهم ،فهو سبحانه احملمود على ذلك كلّه يف
احلقيقة ،و إن غاب عن شهود العبد حكمة ذلك ،و ما يستحق الرب تبارك و
تعاىل من احلمد على ذلك و احلمد هلل :هو إهلام من اهلل للعباد ،فمستقل و
مستكثر على قدر معرفة العبد بربه.
و قد قال النيب صلى اهلل عليه و سلم يف حديث الشفاعة " :فأقع ساجداً فيلهمين
اهلل حمامد أمحده هبا مل ختطر على بايل قط ".
عبودية {ربِّ العاملني}
مث لقول العبد { : :ربِّ العاملني} من العبودية شهود تفرّده سبحانه بالربوبية
وحده ،و أنَّه كما أنه رب العاملني ،و خالقهم ،و رازقهم ،و مدبِّر أمورهم ،
و موجدهم ،و مغنيهم ،فهو أيضا وحده إهلهم ،و معبودهم ،و ملجأهم و
مفزعهم عند النوائب ،فال ربَّ غريه ،و ال إله سواه.
و لقوله { :الرَّمحن الرَّحيم } عبودية ختصه سبحانه ،و هي شهود العبد عموم
رمحته.
و مشوهلا لكلّ شيء ،و سعتها لكلِّ خملوق و أخذ كلّ موجود بنصيبه منها ،و
السيما الرمحة اخلاصَّة بالعبد و هي اليت أقامته بني يدي ربه :أقم قالناً ـ ففق
بعض اآلثار أن جربائيل يقول كل ليلة أقم فالنًا ،و أمن فالنا فربمحته للعبد أقامه
يف خدمته يناجيه بكالمه ،و يتملقه و يسترمحه و يدعوه و يستعطفه و يسأله
هدايته و رمحته ،و متام نعمته عليه دنياه و أخراه فهذا من رمحته بعبده ،فرمحته
وسعت كل شيء ،كما أن محده وسع كل شيء ،و علمه وسع كل شيء { ،
ربَّنا وسعتَ كُلَّ شيء رَّمحة و علما} [ غافر ، ]7:و غريه مطرود حمروم قد
فاتته هذه الرمحة اخلاصَّة فهو منفي عنها.
و ملا كان قوله { الرمحن الرحيم} إعادة و تكريرا ألوصاف كماله قال " :أثىن
علي عبدي " ،فإنَّ الثناء إنَّما يكون بتكرار احملامد ،و تعداد أوصاف احملمود ،
َّ
فاحلمد ثناء عليه ،و { الرمحن الرَّحيم } وصفه بالرمحة.
و ملا وصف العبد ربه بتفرُّده مبلك يوم الدين و هو امللك احلق ،مالك الدنيا و
اآلخرة ؛ و ذلك متضمِّن لظهور عدله ،و كربيائه و عظمته ،و وحدانيته ،و
صدق رُسله ،مسَّى هذا الثناء لجدًا فقال " :لجَّدين عبدي " فإن التمجيد هو :
الثناء بصفات العظمة ،و اجلالل ،و العدل ،و اإلحسان .
فإذا قال { :إيَّاك نعبدُ و إيَّاك نستعني } انتظر جواب ربه له " :هذا بيين و بني
عبدي ،و لعبدي ما سأل ".
و تأمل عبودية هاتني الكلمتني و حقوقهما ،و ميِّز الكلمة اليت هلل سبحانه و
تعاىل ،و الكلمة اليت للعبد ،و فِق ِه سرَّ كون إحدامها هلل ،و األخرى للعبد ،و
ميِّز بني التوحيد الذي تقتضيه كلمة { إيَّاك نعبدُ } و التوحيد الذي تقتضيه
كلمة { و إيَّاك نستعني } ،و فِق َه سرَّ كون هاتني الكلمتني يف وسط السورة
بني نوعي الثناء قبلهما ،و الدعاء بعدمها ،و فِقه تقدمي { إياك نعبد } على { و
إياك نستعني } ،و تقدمي املعمول على العامل مع اإلتيان به مؤخراً أوجز و
أخضر ،و سرَّ إعادة الضمري مرَّة بعد مرة .
و تأمل عِلم كيف يدور القرآن كلّه من أوّله إىل آخره عليهما ،و كذلك اخللق
،و األمر و الثواب و العقاب و الدنيا و اآلخرة ،و كيف تضمّنتا ألجلِّ الغايات
،و أكمل الوسائل ،و كيف أتى هبما بضمري املخاطب احلاضر ،دون ضمري
الغائب ،و هذا موضوع يستدعي كتاباً كبرياً ،و لوال اخلروج عمَّا حنن بصدده
ألوضحناه و بسطناه ،فمن أراد الوقوف عليه فقد ذكرناه يف كتاب " :مراحل
السائرين بني منازل إياك نعبد و إياك نستعني " و يف كتاب " الرسالة املصرية ".
مث ليتأمل العبد ضرورته و فاقته إىل قوله { اهدنا الصِّراط املُستقيم } الذي
مضمونه معرفة احلق ،و قصده و إرادته و العمل به ،و الثبات عليه ،و الدعوة
إليه ،و الصرب على أذى املدعو إليه فباستكمال هذه املراتب اخلمس يستكمل
العبد اهلداية و ما نقص منها نقص من هدايته.
و ملا كان العبد مفتقراً إىل هذه اهلداية يف ظاهره و باطنه ،بل و يف مجيع ما يأتيه
،و يذره من :
أمور فعلها على غري اهلداية علماً و عمالً و إرادة ،فهو حمتاج إىل التوبة منها
و توبته منها هي من اهلداية.
و أمور قد هُدي إىل أصلها دون تفصيلها فهو حمتاج إىل هداية تفاصيلها.
و أمور قد هُدي إليها من وجهٍ دون وجهٍ ،فهو حمتاجٌ إىل متام اهلداية يف
كماهلا على اهلدى املستقيم ،و أن يزداد هدى إىل هداه.
و أمور هو حمتاج فيها إىل أن حيصل له من اهلداية يف مستقبلها مثل ما حصل
له يف ماضيها.
وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو حمتاج إىل اهلداية فيها اعتقاداً صحيحاً.
و أمور يعتقد فيها خالف ما هي عليه ،فهو حمتاج إىل هداية تنسخ من قلبه
ذلك االعتقاد الباطل ،و تُثبت فيه ضدّه.
و أمور من اهلداية :هو قادر عليها ،و لكن مل خيلق له إرادة فعلها ،فهو
حمتاج يف متام اهلداية إىل خلق إرادة.
و أمور منها :هو غري قادر على فعلها مع كونه مريد هلا ،فهو حمتاج يف
هدايته إىل إقدار عليها.
و أمور منها :هو غري قادر عليها و ال مريد هلا ،فهو حمتاج إىل خلق القدرة
عليها و اإلرادة هلا لتتم له اهلداية.
و أمور :هو قائم هبا على وجه اهلداية اعتقادا و إرادة ،و علما و عمالً ،
فهو حمتاج إىل الثبات عليها و استدامتها ،فكانت حاجته إىل سؤال اهلداية
أعظم احلاجات ،و فاقته إليها أشد الفاقات ،و هلذا فرض عليه الرب الرحيم
هذا السؤال على العبيد كلّ يوم و ليلة يف أفضل أحواله ،و هي الصلوات
اخلمسُ ،مرات متعددة ،لشدَّة ضرورته و فاقته إىل هذا املطلوب.
مث بيَّن أن سبيل أهل هذه اهلداية مغاير لسبيل أهل الغضب و أهل الضالل ،و
هو اليهود ،و النصارى و غريهم .
فانقسم اخللق إذن إىل ثالثة أقسام بالنسبة إىل هذه اهلداية :
مُنعم عليه :حبصوهلا له و استمرارها و حظه من املنعم عليهم ،حبسب حظه من
تفاصيلها و أقسامها.
و ضالٌ :مل يُعطَ هذه اهلداية و مل يُوفق هلا .
و مغضوب عليه :عَرفها و مل يوفق للعمل مبوجبها.
فالضال :حائد عنها ،حائر ال يهتدي إليها سبيال.
و املغضوب عليه :متحيّر منحرف عنها ؛ الحنرافه عن احلق بعد معرفته به مع
علمه هبا.
ال و اعتقادا و الضال فاألول املنعم عليه قائم باهلدى ،و دين احلق علما و عم ً
عكسه ،منسلخ منه علماً و عمالً.
و املغضوب عليه ال يرفع فيها رأسا ،عارف به علماً منسلخ عمالً ،و اهلل املوفق
للصواب.
و لوال أن املقصود التنبيه على املضادة و املنافرة اليت بني ذوق الصالة ،و ذوق
لكل مقام مقال ،فلنرجعالسماع ،لبسطنا هذا املوضوع بسطاً شافيا ،و لكن ِّ
إىل املقصود.
و شرع له التأمني يف آخر هذا الدعاء تفاؤالً بإجابته ،و حصوله ،و طابعاً عليه
،و حتقيقاً له ،و هلذا اشتد حسدُ اليهود للمسلمني عليه حني مسعُوهم جيهرون به
يف صالهتم.
مث شرع له رفع اليدين عند الركوع تعظيما ألمر اهلل ،و زينةً للصالة ،و عبودية
خاصةً لليدين كعبودية باقي اجلوارح ،و اتباعاً لسنَّة رسول اهلل صلى اهلل عليه و
سلم فهو حليةُ الصالة ،و زينتها و تعظيمٌ لشعائرها.
مث شرع له التكبري الذي هو يف انتقاالت الصالة من رُكن إىل ركن ،كالتلبية يف
انتقاالت احلاجِّ ،من مشعر إىل مشعر ،فهو شعار الصالة ،كما أن التلبية شعار
احلج (،مميز ليعلم أن سر الصالة هو تعظيم الرب تعاىل و تكبريه بعبادته وحده) .
عبودية الركوع
مث شرع له بأن خيضع للمعبود سبحانه بالركوع خضوعاً لعظمة ربه ،و استكانة
هليبته و تذلال لعزته.
فثناء العبد على ربه يف هذا الركن ؛ هو أن حيين له صلبه ،و يضع له قامته ،و
ينكس له رأسه ،و حيين له ظهره ،و يكربه مُعظمًا له ،ناطقاً بتسبيحه ،املقترن
بتعظيمه.
فاجتمع له خضوع القلب ،و خضوع اجلوارح ،و خضوع القول على أمت
األحوال ،و جيتمع له يف هذا الركن من اخلضوع و التواضع و التعظيم و الذكر
ما يفرق به بني اخلضوع لربه ،و اخلضوع للعبيد بعضهم لبعض ،فإنَّ اخلضوع
وصف العبد ،و العظمة وصف الرب .
و متام عبودية الركوع أن يتصاغر الراكع ،و يتضاءل لربه ،حبيث ميحو تصاغره
لربه من قلبه كلَّ تعظيم فيه لنفسه ،و خللقه و يثبت مكانه تعظيمه ربه وحده ال
شريك له .
إذا عظَّم القلب الرب خرج تعظيم اخللق
و كلما استوىل على قلبه تعظيم الربِّ ،و قوى خرج منه تعظيم اخللق ،و ازداد
تصاغره هو عند نفسه فالركوع للقلب بالذات ،و القصد و اجلوارح بالتبع و
التكملة.
مث شرع له أن حيمد ربه ،و يثين عليه بآالئه عند اعتداله و انتصابه و رجوعه إىل
أحسن هيئاته ،منتصب القامة معتدهلا فيحمد ربه و يثين عليه بآالئه عند اعتداله
و انتصابه و رجوعه إىل أحسن تقومي ،بأن وفقه و هداه هلذا اخلضوع الذي قد
حرمه غريه.
عبودية القيام
مث نقله منه إىل مقام االعتدال و االستواء ،واقفا يف خدمته ،بني يديه كما كان
يف حالة القراءة يف ذلك ،و هلذا شرع له من احلمد و اجملد نظري ما شرع له من
حال القراءة يف ذلك.
و هلذا االعتدال ذوقٌ خاص و حال حيصل للقلب ،و خيصه سوى ذوق الركوع
و حاله ،و هو ركنٌ مقصود لذاته كركن الركوع و السجود سواء.
و هلذا كان رسول اهلل صلى اهلل عليه و سلم يُطيلُه كما يطيل الركوع و السجود
،و يُكثر فيه من الثناء و احلمد و التمجيد ،كما ذكرناه يف هديه صلى اهلل عليه
و سلم يف صالته و كان يف قيام الليل يُكثر فيه من قول " :لريب احلَمد ،لريب
احلمد " و يكرِّرها.
عبودية السجود
مث شرع له أن يكرب و يدنو و خيرَّ ساجدا ،و يُعطي يف سجوده كل غضو من
أعضائه حظَّه من العبودية ،فيضع ناصيته باألرض بني يدي ربه ،مسندة راغما
له أنفه ،خاضعا له قلبه ،و يضع أشرف ما فيه ـ و هو وجهه ـ باألرض و
السيما وجه قلبه مع وجهه الظاهر ساجدا على األرض معفِّراً له وجهه و أشرف
ال لعظمة
ما فيه بني يدي سيِّده ،راغمًا أنفه ،خاضعاً له قلبه و جوارحه ،متذلِّ ً
ربه ،خاضعاً لعزَّته ،منيباً إليه ،مستكيناً ذالً و خضوعاً و انكساراً ،قد صارت
أعاليه ملويةً ألسافله.
و قد طابق قلبُه يف ذلك حال جسده ،فسجد القلب للرب كما سجد اجلسد
بني يدي اهلل ،و قد سجد معه أنفه و وجهه ،و يداه و ركبتاه ،و رجاله فهذا
العبد هو القريب املقرَّب فهو أقرب فهو ما يكون من ربه و هو ساجد .
و شرع له أن يُقلَّ فخذيه عن ساقيه ،و بطنه عن فخذيه و عَضُديه عن جنبيه ،
ليأخذ كل جزءٍ منه حظّه من اخلضوع ال حيملَ بعضه بعضاً .
فأحرِ به به يف هذه احلال أن يكون أقرب إىل ربه منه يف غريها من األحوال كلِّها
،كما قال النيب صلى اهلل عليه و سلم " :أقربُ ما يكونُ العب ُد من ربَّه و هو
ساجدٌ "[.رواه مسلم ( )028عن أيب هريرة رضي اهلل عنه ].
و ملا كان سجود القلب خضوعه التام لربّه أمكنه استدامة هذا السجود إىل يوم
القيامة ،كما قيل لبعض السلف :
هل يسجد القلب ؟
الصالة مبناها على مخسة أركان
قال " :أي و اهلل سجدةً ال يرفع رأسه منها حىت يلقى اهلل عزَّ و جل "[.هذا
القول عزاه ابن تيمية لسهل بن عبد اهلل التستري كما يف لجموع الفتاوى
(] )122/82( )827/81
إشارة إىل إخبات القلب ،و ذلّه ،و خضوعه ،و تواضعه و إنابته و حضوره مع
اهلل أينما كان ،و مراقبته له يف اخلالء و املأل ،و ملا بنيت الصالة على مخس :
القراءة و القيام و الركوع و السجود و الذكر .
مسّيت باسم كل واحد من هذه اخلمس :
فسمّيت " قياماً " لقوله { :قُم اللَّيل إالَّ قليالً} [ املزمل ، ]8:و قوله :
{وقُومُوا هلل قانتني} [البقرة .]822:
و "قراءة" لقوله { :وقرآن الفَجر إنَّ قُرآن الفَجر كان مشهُوداً} [اإلسراء
{ ، ]72:فاقرءوا ما تيَسَّر منه } [املزمل .]02:
و مسّيت " ركوعاً " لقوله { :و اركعُوا مع الرَّاكعني } [ البقرة { ، ]02:و
إذا قيل هلم اركعوا ال يركعُون}[املراسالت .]02:
و " سجوداً " لقوله { :فسبِّح حبمد ربِّك و كن مّن السَّاجدين} [ احلجر :
، ]12وقوله { و اسجُد و اقترب} [العلق .]11:
و "ذكراً " لقوله { :فاسعوا إىل ذكر اهلل} [ اجلمعة { ، ]1:ال تُلهكم
أموالكم و ال أوالدكم عن ذكر اهلل } [ املنافقون .]1:
و أشرف أففعاهلا السجود ،و أشرف أذكارها القراءة ،و أول سورة أنزلت
على النيب صلى اهلل عليه و سلم سورة { اقرأ باسم ربِّك } افتتحت بالقراءة ،و
خُتمت بالسجود ،فوضعت الركعة على ذلك ،أوهلا قراءة و آخرها سجود.
حال العبد بني السجدتني
مث شرع له أن يرفع رأسه ،و يعتدل جالساً ،و ملا كان هذا االعتدال حمفوفا
بسجودين ؛ سجود قبله ،و سجود بعده ،فينتقل من السجود إليه ،مث منه إىل
السجود اآلخر ،كان له شأن ،فكان رسول اهلل صلى اهلل عليه و سلم يطيل
اجللوس بني السجدتني بقدر السجود يتضرع إىل ربه فيه ،و يدعوه و يستغفره ،
و يسأله رمحته ،و هدايته و رزقه و عافيته ،و له ذوق خاص ،و حال للقلب
غري ذوق السجود و حاهلن ؛ فالعبد يف هذا القعود يتمثَّل جاثيا بني يدي ربه ،
مُلقيا نفسه بني يديه ،مُعتَذراً إليه مما جَناَه ،راغباً إليه أن يغفر له و يرمحه ،
مستَعدياً له على نفسه األمَّارة بالسوء.
و قد كان النيب صلى اهلل عليه و سلم يكرر االستغفار يف هذه اجللسة فيقول " :
رب اغفر يل ،رب اغفر يل ،رب اغفر يل " ،و يكثر من الرغبة فيها إىل ربه.
فمثِّل أيها املصلي نفسك فيها مبنزلة غرمي عليه حق ،و أنت كفيل به ،و الغرمي
مماطل خمادع ،و أنت مطلوب بالكفالة ،و الغرمي مطلوب باحلق ،فأنت
تستعدي عليه حىت تستخرج ما عليه من احلق ،؛ لتتخلص من املطالبة ،و القلب
شريك النفس يف اخلري و الشر ،و الثواب و العقاب ،و احلمد و الذم .
و النفس من شأهنا اإلباق و اخلروج من رقِّ العبودية ،و تضييع حقوق اهلل عو و
جل و حقوق العباد اليت قبلها ،و القلب شريكها إن قوي سلطاهنا و أسريها ،و
هي شريكته و أسريته إن قوي سلطانه.
فشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود أن جيثو بني يدي اهلل تعاىل مستعديا على
نفسه ،معتذرا من ذنبه إىل ربه و مما كان منها ،راغباً إليه أن يرمحه و يغفر له و
يرمحه و يهديه و يرزقه و يعافيه ،ز هذه اخلمس كلمات ،قد مجعت مجاع خري
الدنيا و اآلخرة فإن العبد حمتاج بل مضطر إىل حتصيل مصاحله يف الدنيا و يف
اآلخرة ،و دفع املضار عنه يف الدنيا و اآلخرة ،و قد تضمّن هذا الدعاء ذلك
كله.
فإن الرزق جيلب له مصاحل دنياه و أخراه و جيمع رزق بدنه و رزق قلبه و روحه
،و هو أفضل الرازقني.
و العافية تدفع مضارّها.
و اهلداية جتلب له مصاحل أخراه.
و املغفرة تدفع عنه مضارّ الدنيا و اآلخرة.
و الرمحة جتمع ذلك كلّه .و اهلداية تعمُّ تفاصيل أموره كلّها.
و شرع له أن يعودَ ساجداً كما كان ،و ال يكتفي منه بسجدة واحدة يف
الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد ؛ و ذلك لفضل السجود و شرفه و قرب
العبد من ربِّه و موقعه من اهلل عز و جل ،حىت إنَّه أقرب ما يكون إىل ربه و هو
ساجد ،و هو أشهر يف العبودية و أعرق فيها من غريه من أركان الصالة ؛ و
هلذا جُعل خامتة الركعة ،و ما قبله كاملقدمة بني يديه ،فمحلّه من الصالة حمل
طواف الزيارة ،و كما أنه أقرب ما يكون العبد من ربه و هو ساجد ،فكذلك
أقرب ما يكون منه يف املناسك و هو طائف كما قال ابن عمر ملن خطب ابنته و
هو يف الطواف فلم يرد عليه فلما فرغ من الطواف قال :أتذكر أمراً من أمور
الدنيا و حنن نتراءى هلل سبحانه و تعاىل يف طوافنا.
و هلذا و اهلل أعلم ،جُعل الركوع قبل السجود تدرجيا و انتقاالً من الشيء إىل ما
هو أعلى منه.
ملاذا يكرر السجود مرتان
و شُرع له تكرير هذه األفعال و األقوال ؛ إذ هي غذاء القلب و الروح اليت ال
قوام هلما إال هبا ،فكان تكريرها مبنزلة تكرير األكل لقمة بعد لقمة حىت يشبع ،
و الشرب نفسا بعد نفس حىت يَروى ،فلو تناول اجلائع لقمة واحدة مث دفع
الطعام من بني يديه فماذا كانت يغين عنه تلك اللقمة ؟ و رمبا فتحت عليه باب
اجلوع أكثر مما به ؛ و هلذا قال بعض السلف " :مثل الذي يصلي و ال يطمئن يف
صالته كمثل اجلائع إذا قدم إليه طعام فتناول منه لقمة أو لقمتني ماذا تغين عنه
ذلك".
و يف إعادة كل قول أو فعل من العبودية و القرب ،و تنزيل الثانية منزلة الشكر
على األوىل ،و حصول مزيد خري و إميان من فعلها ،و معرفة و إقبال و قوة
قلب ،و انشراح صدر و زوال درنٍ و وسخٍ عن القلب مبنزلة غسل الثوب مرَّة
بعد مرَّة .
فهذه حكمة اهلل اليت بَهَرت العقول حكمته يف خلقه و أمره ،و دلَّت على كمال
رمحته و لطفه ،و ما مل حتط به علمًا منها أعلى و أعظم و أكرب و إمنا هذا يسري
من كثري منها.
فلما قضى صالته و أكملها و مل يبق إال االنصراف منها ،فشرع اجللوس يف
آخرها بني يدي ربه مُثنياً عليه مبا هو أهله ،فأفضل ما يقول العبد يف جلوسه
هذه التحيات اليت ال تصلح إال هلل ،و ال تليق بغريه.
عبودية اجللوس للتشهد و معىن التحيات
مث عطف عليها الصلوات بلفظ اجلمع و التعريف ؛ ليشمل ذلك كلّما أُطلق عليه
لفظ الصالة خصوصا و عموماً ،فكلّها هلل و ال تنبغي إال له ،فالتحيات له ملكاً
،و الصلوات له عبودية و استحقاقاً ،فالتحيات ال تكون إال هلل ،و الصلوات ال
تنبغي إال له .
مث عطف عليها بالطيِّبات ،و هذا يتناول أمرين :الوصف و امللك.
طيبٌ ،و فعله كلّه طيب ،و الفأما الوصفُ :فإنه سبحانه طيِّب ،و كالمه ِّ
يصدر منه إال طيّب ،و ال يضاف إليه إال الطيِّب ،و ال يصعد إليه إال الطيّب.
معىن الطيِّبات
فالطيبات له وصفًا و فعالً و قوالً و نسب ًة ،و كلّ طيّب مضاف إليه طيّب ،فله
الكلمات الطيبات و األفعال ،و كلّ مضاف إليه كبيته و عبده ،و روحه و
ناقته ،و جنته دار الطيبني ،فهي طيبات كلّها ،و أيضا فمعاين الكلمات
الطيبات هلل وحده ،فإهنا تتضمن تسبيحه ،و حتميده ،و تكبريه ،و متجيده ،و
الثناء عليه باآلئه و أوصافه ؛ فهذه الكلمات الطيبات اليت يثىن عليه هبا ،و
معانيها له وحده ال شريك له :كسبحانك اللهمَّ و حبمدك وتبارك امسك و تعاىل
جدك و ال إله غريك.
و كسبحان اهلل و احلمد هلل ،و ال إله إال اهلل ،و اهلل أكرب.
و سبحان اهلل و حبمده ،سبحان اهلل العظيم ،و حنو ذلك .و كلّ طيّب له و
عنده و منه و إليه ،و هو طيّب ال يقبل إال طيّبًا ،و هو إله الطيبني و رهبم ،و
جريانه يف دار كرامته ،هم الطيبون.
فتأمل أطيب الكلمات بعد القرآن ،كيف ال تنبغي إال هلل ؟ و هي :سبحان اهلل
و احلمد هلل و ال إله إال اهلل و اهلل أكرب و ال حول و ال قوة إال باهلل ،فإن "
سبحان اهلل " تتضمن تنزيهه عن كل نقص و عيب و سوء عن خصائص
املخلوقني و شبههم.
ال ،و وصفاً على أمتِّ و " احلمد هلل " تتضمن إثبات كلّ كمال له قوالً ،و فع ً
الوجوه ،و أكملها أزالً و أبداً .
و " ال إله إال اهلل " تتضمن انفراده باإلهلية ،و أن كل معبود سواه باطل ،و أنه
وحده اإلله احلق ،و أن من تأله غريه فهو مبنزلة من اختذ بيتًا من بيوت
العنكبوت ،يأوي إليه ،و يسكنه من احلرِّ و الربد ،فهل يغين عنه ذلك شيئاً .
و " اهلل أكرب " تتضمن أنه أكرب من كلِّ شيء ،و أجل ،و اعظم ،و أعز و
أقوى و أمنع ،و أقدر ،و اعلم ،و أحكم ،فهذه الكلمات ال تصح هي و
معانيها إال هلل وحده.
عبودية التَّسليم على األنبياء و الصاحلني
مث شرع له أن يسلِّم على سائر عباد اهلل الصاحلني ،و هم عباده الذين اصطفى
بعد الثناء ،و تقدمي احلمد هلل فطابق ذلك قوله { :قُل احلمدُ هللِ و سال ٌم على
عباده الذين اصطفى}[النمل ، ]71:و كأنه امتثال له ،و أيضا فإن هذا حتية
املخلوق فشرعت بعد حتية اخلالق و قدم يف هذه التحية أوىل اخللق هبا و هو النيب
صلى اهلل عليه و سلم ،الذي نالت أمته على يده كل خري ،و على نفسه ،و
بعده و على سائر عباد اهلل الصاحلني ،و أخصهم هبذه التحية األنبياء و املالئكة ،
مث أصحاب حممد صلى اهلل عليه و سلم ،و أتباع األنبياء مع عمومها كل عبد
صاحل يف السماء و األرض.
مث شرع له بعد هذه التحية السالم على من يستحق السالم عليه خصوصاً و
عموماً.
مث شرع له أن يشهد شهادة احلق اليت بنيت عليها الصالة ،و الصالة حق من
حقوقها ،و ال تنفعه إال بقرينتها و هي الشهادة للرسول صلى اهلل عليه و سلم
بالرسالة ،و ختمت هبا الصالة كما قال عبد اهلل بن مسعود " :فإذا قلت ذلك
فقد قضيت صالتك ،فإن شئت فقم و إن شئت فاجلس".
و هذا إما أن حيمل على انقضائها إذا فرغ منه حقيقة ،كما يقوله الكوفيون ،او
على مقاربة انقضائها و مشارفته ،كما يقول أهل احلجاز و غريهم ،و على
التقديرين فجعلت شهادة احلق خامتة الصالة .كما شرع أن تكون هي خامتة
احلياة.
"فمن كان آخر كالمه ال إله إال اهلل دخل اجلنة ".
و كذلك شرع للمتوضئ أن خيتتم وضوءه بالشهادتني ،مث ملا قضى صالته أذن
له أن يسأل حاجته.
و شرع له أن يتوسل قبلها بالصالة على النيب صلى اهلل عليه و سلم ،فإهنا من
أعظم الوسائل بني يدي الدعاء ،كما يف السنن عن فضالة بن عبيد أن رسول اهلل
صلى اهلل عليه و سلم قال " :إذا دعا أحدكم فليبدأ حبمد اهلل ،و الثناء عليه ،و
ليصل على رسوله مث ليسل حاجته".
مث جعل الدعاء آلخر الصالة كاخلتم عليها.
فجاءت التحيات على ذلك ،أوهلا محدٌ هلل ،و الثناء عليه مث الصالة على رسوله
مث الدعاء آخر الصالة ،و َأذِنَ النيب صلى اهلل عليه و سلم للمصلي بعد الصالة
عليه أن يتخري من املسألة ما يشاء.
و سرُّ الصالة و روحها و لبُّها ،هو إقبال العبد على اهلل بكليّته فيها ،فكما أنه
ال ينبغي أن يصرف وجهه عن القبلة إىل غريها فيها ،فكذلك ال ينبغي له أن
يصرف قلبه عن ربِّه إىل غريه فيها.
بل جيعل الكعبة ـ اليت هي بيت اهلل ـ قبلة وجهه و بدنه ،و رب البيت تبارك
و تعاىل قبلة قلبه و روحه ،و على حسب إقبال العبد على اهلل يف صالته ،يكون
إقبال اهلل عليه ،و إذا أعرضَ أعرض اهلل عنه ،كما تدين تُدان.
فإذا انتصب العبد قائماً بني يديه ،فإقباله على قيُّومية اهلل و عظمته فال يتفلت مينة
و ال يسرة.
و إذا كبَّر اهلل تعاىل كان إقباله على كربيائه و إجالله و عظمته.
و كان إقباله على اهلل يف استفتاحه على تسبيحه و الثناء عليه و على سُبحات
وجهه ،و تنزيهه عمَّا ال يليق به ،و يثين عليه بأوصافه و كماله.
فإذا استعاذ باهلل من الشيطان الرجيم ،كان إقباله على ركنه الشديد ،و سلطانه
و انتصاره لعبده ،و منعه له منه و حفظه من عدوه.
و إذا تلى كالمه كان إقباله على معرفته يف كالمه كأنه يراه و يشاهده يف كالمه
كما قال بعض السلف :لقد جتلّي اهلل لعباده يف كالمه.
و الناس يف ذلك على أقسام و هلم يف ذلك مشارب ،و أذواق فمنهم البصري ،و
األعور ،و األعمى ،و األصم ،و األعمش ،و غري ذلك ،يف حال التالوة و
الصالة ،فهو يف هذه احلال ينبغي له أن يكون مقبالً على ذاته و صفاته و أفعاله
و أمره و هنيه و أحكامه و أمسائه.
و إذا ركع كان إقباله على عظمة ربه ،و إجالله و عزه و كربسائه ،و هلذا
شرع له يف ركوعه أن يقول " :سبحان ريب العظيم " .
فإذا رفع رأسه من الركوع كان إقباله على محد ربه و الثناء عليه و متجيده و
عبوديته له و تفرده بالعطاء و املنع.
فإذا سجد ،كان إقباله على قربه ،و الدنو منه ،و اخلضوع له و التذلل له ،و
االفتقار إليه و االنكسار بني يديه ،و التملق له.
فإذا رفع رأسه من السجود جثى على ركبتيه ،و كان إقباله على غنائه وجوده ،
و كرمه و شدة حاجته إليه ّن ،و تضرعه بني يديه و االنكسار ؛ أن يغفر له و
يرمحه ،و يعافيه و يهديه و يرزقه.
فإذا جلس يف التشهد فله حال آخر ،و إقبال آخر يشبه حال احلاج يف طواف
الوداع ،و استشعر قلبه االنصراف من بني يدي ربه إىل أشغال الدنيا و العالئق
و الشواغل اليت قطعه عنها الوقوف بني يدي ربه و قد ذاق قلبه التأمل و العذاب
هبا قبل دخوله يف الصالة ،فباشر قلبه روح القرب ،و نعيم اإلقبال على اهلل
تعاىل ،و عافيته منها و انقطاعها عنه مدة الصالة ،مث استشعر قلبه عوده إليها
خبروجه من محى الصالة ،فهو حيمل همَّ انقضاء الصالة و فراغه منها و يقول :
ليتها اتصلت بيوم اللقاء.
و يعلم أنه ينصرف من مناجاة مَن كلّ السعادة يف مناجته ،إىل مناجاة من كان
األذى و اهلم و الغم و النكد يف مناجاته ،و ال يشعر هبذا و هذا إال من قلبه حي
معمور بذكر اهلل و حمبته ،و األنس به ،و من هو عامل مبا يف مناجاة اخللق و
رؤيتهم ،و خمالطتهم من األذى و النكد ،و ضيق الصدر و ظلمة القلب ،و
فوات احلسنات ،و اكتساب السيئات ،و تشتيت الذهن عن مناجاة اهلل تعاىل
عز و جل .
و ملا اطمأن قلبه بذكر اهلل ،و كالمه ،و حمبته و عبوديته سكن إىل ربه ،و
قرب منه ،و قرَّت به عينه فنال األمان بإميانه و نال السعادة بإحسانه ،و كان
قيامه هبذين األمرين أمرًا ضرورياً اه ال حياة له ،و ال فالح و ال سعادة إال به .
و ملا كان ما بُلي به من النفس األمارة ،و اهلوى املقتضي ملرادها و الطباع
املطالبة ،و الشيطان املغوي ،يقتضون منه إضاعة حظه من ذلك ،أو نقصانه ،
اقتضت رمحة ربه العزيز الرحيم أن شَرَعَ له الصالة مُخلِفة عليه ما ضاع عليه من
ذلك ،رادَّة عليه ما ذهب منه ،لجددة له ما ذهب من عزمه و ما فقده ،و ما
أخلِقَ من إميانه ،و جعل بني كل صالتني برزخا من الزمان حكمة و رمحة ،
ليُجمّ نفسه ،و ميحو هبا ما يكتسبه من الدرن ،و جعل صورهتا على صورة
أفعاله ،خشوعاً و خضوعاً و انقياداً و تسليمًا و أعطى كل جارحة من جوارحه
حظَّها من العبودية ،و جعل مثرهتا و روحها إقباله على ربه فيها بكليته ،و جعل
ثواهبا و حملها الدخول عليه تبارك و تعاىل ،و التزين للعرض عليه تذكرياً
بالعرض األكرب عليه يوم القيامة.
لكل شيء مثرة و مثرة الصالة اإلقبال على اهلل
و كما أن الصوم مثرته تطهري النفس ،و مثرة الزكاة تطهري املال ،و مثرة احلج
وجوب املغفرة ،و مثرة اجلهاد تسليم النفس إليه ،اليت اشتراها سبحانه من العباد
،و جعل اجلنة مثنها ؛ فالصالة مثرهتا اإلقبال على اهلل ،و إقبال اهلل سبحانه على
العبد ،و يف اإلقبال على اهلل يف الصالة مجيع ما ذكر من مثرات األعمال و مجيع
مثرات األعمال يف اإلقبال على اهلل فيها.
و هلذا مل يقل النيب صلى اهلل عليه و سلم :جعلت قرة عيين يف الصوم ،و ال يف
احلج و العمرة ،و ال يف شيء من هذه األعمال و إمنا قال " :و جعلت قرة عيين
يف الصالة ".
و تأمل قوله " :و جعلت قرة عيين يف الصالة " و مل يقل " :بالصالة " ،
إعالمًا منه بأن عينه ال تقر إال بدخوله كما تقر عني احملب مبالبسته حملبوبه و تقر
عني اخلائف بدخول يف حمل أنسه و أمنه ،فقرة العني بالدخول يف الشيء أم و
أكمل مِت قرة العني به قبل الدخول فيه ،و ملا جاء إىل راحة القلب من تعبه و
نصبه قال " :يا بالل أرحنا بالصالة ".
أي أقمها لنستريح هبا من مقاساة الشواغل كما يستريح التعبان إذا وصل إىل
قر فيه ،و سكن و فارق ما كان فيه من التعب و النصب. مأمنه و منزله و َّ
و تامل كيف قال " :أرحنا بالصّالة " و مل يقل " :أرحنا منها " ،كما يقوله
املتكلف الكاره هلا ،الذي ال يصليها إال على إغماض و تكلف ،فهو يف عذاب
ما دام فيها ،فإذا خرج منها وجد راحة قلبه و نفسه ؛ و ذلك أنَّ قلبه ممتلئ
بغريه ،و الصالة قاطعة له عن أشغاله و حمبوباته الدنيوية ،فهو معذَّب هبا حىت
خيرج منها ،و ذلك ظاهر يف أحواله فيها ،من نقرها ،و التفات قلبه إىل غري
ربه ،و ترك الطمأنينة و اخلشوع فيها ،و لكن قد عَلِمَ أنَّه ال بدّ له من أدائها ،
فهو يؤديها على أنقص الوجوه ،قائل بلسانه ما ليس يف قلبه و يقول بلسان قلبه
حىت نصلي فنستريح من الصالة ،ال هبا.
فهذا لونٌ و ذاك لونٌ آخر .
ففرق بني مَن كانت الصالة جلوارحه قيداً ثقيالً ،و لقلبه سجناً ضيقا حرجًا ،و
لنفسه عائقا ،و بني مَن كانت الصالة لقلبه نعيمًا ،و لعينه قرة و جلوارحه راحة
،و لنفسه بستاناً و لذة.
فاألول :الصالة سجن لنفسه ،و تقييد جلوارحه عن التورط يف مساقط
اهللكات ،و قد ينال هبا التكفري و الثواب ،أو ينال من الرمحة حبسب عبوديته هلل
تعاىل فيها ،و قد يعاقب على ما نقص منها.
و القسم اآلخر :الصالة بستان له ،جيد فيها راحة قلبه ،و قرّة عينه ،و لذَّة
نفسه ،و راحة جوارحه ،و رياض روحه ،فهو فيها يف نعيم يتفكَّه ،و يف نعيم
عز و جل ،و يتقلَّب يوجب له القرب اخلاص و الدنو ،و املنزلة العالية من اهلل َّ
يشارك األولني يف ثواهبم ،بل خيتص بأعاله ،و ينفرد دوهنم بعلو املنزلة و القربة
،اليت هي قدر زائد على لجرد الثواب.
و هلذا َتعِدُ امللوك من أرضاهم باألجر و التقريب ،كما قال السحرة لفرعون { :
إنَّ َلنَا ألَجراً إن كُنَّا حننُ الغالبنيَ} [الشعراء { ، ]01:قالَ نَعم و إنَّكم لَمنَ
املُقرَّبني} [األعراف .]110 :
فوعدهم باألجر و القرب ،و هو علو املنزلة عنده.
فاألول :مَثَله مثل عبد دخل الدار ،دار امللك ،و لكن حيل بينه و بني رب
الدار بسترٍ و حجاب ،فهو حمجوب من وراء الستر فلذلك مل تقر عينه بالنظر
إىل صاحب الدار و النظر إليه ؛ ألنه حمجوب بالشهوات ،و غيوم اهلوى و
دخان النَفس ،و خبار األماين ،فالقلب منه بذلك و بغريه عليل ،و النفس مُكبَّة
على ما هنواه ،طالبة حلظها العاجل.
فلهذا ال يريد أحد من هؤالء الصالة إال على إغماض ،و ليس له فيها راحة ،و
ال رغبة و ال رهبة فهو يف عذاب حىت خيرج منها إىل ما فيه قرة عينه من هواه و
دنياه.
و القسم اآلخر :مَثَُل ُه كمث ِل َرجُلٍ دخَل دار امللك ،و رفع الستر بينه وبينه ،
فقرَّت عينه بالنظر إىل امللك ،بقيامه يف خدمته و طاعته ،و قد أحتفه امللك
بأنواع التحف ،و أدناه و قربه ،فهو ال حيب االنصراف من بني يديه ،ملا جيده
من لذَّة القرب و قرة العني ،و إقبال امللك عليه ،و لذة مناجاة امللك ،و طيب
كالمه ،و تذلُّله بني يديه ،فهو يف مزيد مناجاة ،و التحف وافدة عليه مِن كلِّ
جهة ،و مكنت و قد اطمأنت نفسه ،و خشع قلبه لربه و جوارحه ،فهو يف
سرورٍ و راحةٍ يعبد اهلل ،كأنه يراه ،و جتلَّى له يف كالمه ،فأشد شيء عليه
انصرافه مِن بني يديه ،و اهلل املوفق املُرشد املعني ،فهذه إشارة و نبذة يسرية يف
جتل من جتلياهتا.
ذوق الصالة ،و سرّ من أسرارها و ٍّ
فصل
الفرق بني أهل السماع و أهل الصالة
فنحن نناشد أهل السماع باهلل الذي ال إله إال هو ،هل جيدون يف مساعهم مثل
هذا الذوق أو شيء منه؟ بل نناشدهم باهلل ،هل يدعهم السماع جيدون بعض
هذا الذوق يف صالهتم أو جزءاً يسرياً منها؟
شقُوا من هذا الذوق رائحة ،أو مشوا منه مشة قط ؟ بل هل َن َ
و حنن حنلف ،عنهم أن ذوقهم يف صالهتم و مساعهم صد هذا الذوق ،و
مشرهبم ضد هذا املشرب.
و لوال خشية اإلطالة لذكرنا نُبذة من ذوقهم يف مساعهم ،تدلُّ على ما ورائها .
و ال خيفى على من له أدىن عقل ،و حياة قلب ،الفرق بني ذوق اآليات ،و
ذوق األبيات ،و بني ذوق القيام بني يدي رب العاملني ،و القيام بني يدي
املغنني ،و بني ذوق اللذة و النعيم مبعاين ذكر اهلل تعاىل و التلذذ بكالمه ،و
ذوق معاين الغناء ،و التطريب الذي هو رقية الزنا ،و قرآن الشيطان ،و التلذذ
مبضموهنا فما اجتمع و اهلل األمران يف قلب إال و طرد أحدمها اآلخر ،و ال
جتتمع بنت رسول اهلل و بنت عدو اهلل عز و جل عند رجلٍ أبداً ،و اهلل سبحانه
و تعاىل أعلم.
فصل
فمىت جتئ األذواق الصحيحة املستقيمة إىل قلوب قد احنرفت أشد االحنراف عن
هدي نبيها صلى اهلل عليه و سلم ،و تركت ما كان عليه هو و أصحابه و
السلف الصاحل ،فإهنم كانوا جيدون األذواق الصحيحة املتصلة باهلل عز و جل يف
األعمال :الصالة املشروعة ،و يف قراءة القرآن ،و تدبره و استماعه ،و أجر
ذلك ،و يف مزامحة العلماء بالركب ،و يف اجلهاد يف سبيل اهلل ،و يف األمر
باملعروف و النهي عن املنكر ،و يف احلب يف اهلل و البغض فيه ،و توابع ذلك ،
فصار ذوق املتأخرين ـ إال من عصمه اهلل ـ يف الرياع و الدف ،و املواصيل ،
و األغاين املطربة من الصور احلسان و الرقص ،و الضجيج ،و ارتفاع األصوات
،و تعطيل ما حيبه اهلل ،و يرضاه من عبادته املخالفة هلوى النفس .فشتَّان بني
ذوق األجلان و ذوق القرآن و بني ذوق العود و الطنبور ،و ذوق املؤمنني و
النُّور ،و بني ذوق الزَّمر و ذوق الزمر ،و بني ذوق الناي و ذوق { اقتربت
السَّاعة و انشق القمر } [القمر ]41 :و بني ذوق املواصيل و الشبَابات و
ذوق يس و الصافات ،و بني ذوق غناء الشعر و ذوق سورة الشعراء ،و بني
ذوق مساع املكاء و التصدية و ذوق األنبياء.
و بني الذوق على مساع تُذكر فيه العيون السود و اخلصور و القدود ،و ذوق
مساع سورة يونس و هود ،و بني ذوق الواقفني يف طاعة الشيطان على أقدامهم
صواف ،و ذوق الواقفني يف خدمة الرمحن يف سورة األنعام و األعراف ،و بني
ذوق الواجدين على طرب املثالث و املثاين ،و ذوق العارفني عند استماع القرآن
العظيم و السبع املثاين ،و بني ذوق أوىل األقدام الصفات يف حظرية مساع
الشيطان ،و ذوق أصحاب األقدام الصافات بني يدي الرمحن.
سبحان اهلل هكذا تنقسم و املواجيد ،و يتميز خُلق املطرودين مِن خُلق العبيد ،
و سبحان املمد هلؤالء و هؤالء من عطائه و املفارق بينهم يف الكرامة يوم القيامة
،فواهلل ال جيتمع حمبو مساع قرآن الشيطان و حمب مساع كالم الرمحن يف قلب
رجل واحد أبداً.
كما ال جتتمع بنت عدو اهلل و بنت رسول اهلل عند رجل واحد أبداً.
كان أصحاب حممد صلى اهلل عليه و سلم و رضي اهلل عنهم ،إذا اجتمعوا و
اشتاقوا إىل حاد حيدو هبم ،ليطيب هلم السري ،و حمرك حيرك قلوهبم إىل حمبوهبم ،
أمروا واحدا منهم يقرأ و الباقون يستمعون ،فتطمئن قلوهبم ،و تفيض عيوهنم و
جيدون من حالوة اإلميان أضعاف ما جيده السماعاتية من حالوة السماع.
و كان عمر بن اخلطاب إذا جلس عنده أبو موسى يقول :يا أبا موسى ذكرنا
ربنا ،فيأخذ أبو موسى ،يف القراءة ،و تعمل تلك األقوال يف قلوب القوم
عملها ،و كان عثمان بن عفان يقول :لو طهرت قلوبنا ملا شبعت من كالم
اهلل.
و أي و اهلل ،كيف تشبع من كالم حمبوهبم و فيه هناية مطلوهبم ؟ و كيف تشبع
من القرآن ؟ و إمنا فتحت به ال بالغناء و األحلان؟!
فأين حال من يطرب على مساع الغناء و القصب بني املثالث و املثاين و ذوقه و
وجده إىل حال من جيد لذة السماع و روح احلال ،و ذوق طعم اإلميان إذا مسع
يف حال إقبال قلبه على اهلل و أنسه به و شوقه إىل لقائه ،و استعداده لفهم مراده
من كالمه و تنزيله على حاله و أخذه حبضه الوافر منه قارئاً لجيداص حسن
الصوت و األداء يقرأ :
بسم اهلل الرمحن الرحيم {طه ما أنزلنا عليك القُرآن لتشقى إالَّ تذكرةً ملن
ال ممَّن خلقَ األرضَ و السَّماوات العُلى الرَّمحَن على العرش استوى
خيشَى تنزي ً
له ما يف السَّماوات و ما يف األرضِ و ما بينهما و ما حتت الثَّرى و إن جتهر
بالقولِ فإنَّه يَعلَمُ السِّرَّ و أخفى}[طه.]7-1:
و أمثال هذا النمط من القرآن الذي إذا صادف حياة يف قلب صادق قد َّ
شم
رائحة احملبة و ذاق حالوهتا ،فقلبه ال يشبع من كالم حمبوبه و ال يقر و ال يطمئن
إال به ،كان موقعه من قلبه كموقع وصال احلبيب بعد طول اهلجران ،وحلَّ منه
حملَّ املاء البارد يف شدَّة اهلجري من الظمأ ،فما ظنُّك بأرض حياهتا بالغيث أصاهبا
وابله ،أحوج ما كانت إليه ،فأنبت فيها من كلِّ زوج هبيج ،قائم على سوقه
يشكره و يثين عليه.
فهل يستوي عند اهلل تعاىل و مالئكته و رسوله و الصادقني من عباده ،مساع هذا
و مساع هذا ،و ذوق هذا و ذوق هذا ،فأهل مساع الغناء عبيد نفوسهم
الشهوانية ،يعلمون السماع طلباً للذة النفس و نيالً حلظها الباطل ،فمن مل مييز
بني هذين السماعني ،و الذوقني فليسأل ربه بصدق ،رغبته إليه أن حييي قلبه
امليت ،و أن جيعل له نوراً يستضيء به يف ظلمات جهله ،و أن جيعل له فرقاناً
فيفرِّق به بني احلق و الباطل ،فإنه قريب لجيب.
فصل
يف التنبيه على نكتة خفيَّةٍ من نكت السَّماع
و يف السماع نكتة حقيقية أصلية يعرفها أهلها ،و جيدوهنا بعد انقضائه و هي أنه
قد علم الذائقون منهم أنه ما وجد صادق يف السماع الشعري وجدًا ،و حترك به
إال وجد بعد انقضائه و مفارقة اجمللس قبضاً على قلبه ،و نوع استيحاش ،و
أحس ببعده و انقطاعاً و ظلمة ،و ال يتفطن هلذا األمر إال من يف قلبه أدىن حياة
و إال :فما جلرح مبيت إيالم ،و لو سئل عن سبب هذا مل يعرفه ؛ ألن قلبه
مغمور يف السماع و ذوقه الباطل ؛ فهو غافل عن استخراج آالمه اليت طرقته فيه
،و عن أسباب فساد القلب منه ،و لو وزنه بامليزان العدل لعلِمَ من أين أتى ،
فامسع اآلن السبب الذي ألجله نشأ منه هذا القبض ،و هذه الوحشة ،و البعد .
ملا كان السماع الشعري أعلى أحواله أن يكون ممتزجاً حبق و باطل ،و مركباً
من شهوة و شبهة ،و أحسن أحوال صاحبه أن تأخذ الروح حظها احملمود منه ،
ف ،و ال خالص ،فامتزج ممتزجًا حبظ النفس ،و الشيطان و اهلوى فهو غري صا ٍ
نصيب الصادق فيه من الرمحن بنصيب الشيطان ،و اختلط حظ القلب حبظ
النفس ،هذا أحسن أحواله ،فإنه مؤسس على حظ النفس و الشيطان و هو فيه
بذاته و هو نصيبه من الرمحن فهو فيه بالعرض ،لوم يوضع عليه و ال أسس عليه
فاختلط يف وادي القلب املاء اليسري الصايف باملاء الكثري الكدر ،و غلب اخلبيث
يف الطيب ،أو جتاورا و التقت الواردات الرمحانية ،و الواردات الشيطانية.
و املستمع الصاد لغلبة صدقه ،و ظهور أحكام القلب فيه خيفى عليه ذلك الوقت
أثر الكدر و ال يشعر به سيَّما مع سُكر الروح به ،و غيبتها عن سوى مطلوبه ،
فلما أفاق من سكره ،و فارق لذة السماع و طيبه ،وجد اللوث و الكدر الذي
هو حظ النفس ،و الشيطان ،و أثر جثوم الشيطان على قلبه فأثر فيه ذلك األثر
قبضاً ،و وحشة ،و أحس به بعدًا و كلما كان أصدق و أمت طلباً كان وجوده
هلذا أمت و أظهر فإن استعداده هو حبياة قلبه يوجب له االحساس هبذا ،و ال
يدري من أين أتى ،و هذا له يف الشاهد نظائر و أشباه منها :
إنَّ الرجل إذا اشتغل قلبه اشتغاالً تامًا مبشاهدة حمبوب أو رؤية خموف ،أو لذةٍ
مَلَكت عليه حسّه و قلبه ،إذا أصابه يف تلك احلالة ضربٌ ،أو لسعٌ أو سببٌ
مؤمل ،فأنه ال يكاد يشعر به ،فإذا فارقته تلك احلالة وجد منه أمل حىت كأنه
أصابه تلك الساعة ،فإنه كان يف مانع مينعه من اإلحساس باألمل فلما زال املانع
أحس باألمل.
و هلذا كان بعض الصادقني إذا فارق السماع بادر إىل جتديد التوبة و االستغفار
،و أخذ يف أسباب التداوي اليت يُدفع هبا موجب أسباب القبض و الوحشة و
البعد.
و هذا القدر إمنا يعرفه أولوا الفقه يف الطريق أصحاب الفِطَن ،املعتنون بتكميل
نفوسهم ،و معرفة أدوائها و أدويتها و اهلل املستعان.
و ال ريب أن الصادق يف مساع األبيات قد جيد ذوقاً صحيحاً إميانيًا ،و لكن
ذلك مبنزلة من شرب عسالً يف إناء جنس.
و النفوس الصادقة ذوات اهلمم العالية رفعت أنفسها عن الشراب يف ذلك اإلناء
تقذراً له ،ففرت منه الستقامتها و طهارهتا ،و علو مهتها فهي ال تشرب ذلك
الشراب إال يف إناء يناسبه ،فإذا مل جيد إناء يناسبه صانت الشراب عن وضعه يف
ذلك اإلناء ،و انتظرت أن يليق به.
و غريها من النفوس تضع ذلك الشراب يف أي إناء انفق هلا ؛ من عظام ميتة أو
جلد كلب أو خنزير أو إناء مخر ،طاملا ما شرب به اخلمر ،أو ال يستحي
الغراب أن يشرب أطيب شراب و ألذه يف هذه اآلنية ؟
و لو جرَّد الصادق ذلك يف حال مساعه لوجد ذوقه من ذلك ،و لكن حالوة
العسل تغيب عنه نتنه و قذره و أثر قبحه على قلبه يف تلك احلال ،فبعد مفارقته
يوجب له ذلك وحشةً و قبضًا ،هذا إذا كان صادقاً يف حاله مع اهلل و كان
مساعه هلل و باهلل.
و أما إن كان كاذباً كان مساعه للذة نفسه و حظه فهو يشرب النجاسات يف
اآلنية القذرات و ال حيس بشيء مما ذكرناه ؛ الستيالء اهلوى و النفس و الشيطان
عليه.
و أما صاحب السماع القرآين الذي تذوَّقه ،و شرب منه ،فهو يشرب الشراب
الطهور ،الطيب النظيف يف أنظف إناءٍ ،و أطيبه ،و أطهره .
فاآلنية ثالثة :نظيف ،و جنس ،و خمتلط.
و الشرابات ثالثة :طاهر و جنس و ممزوج.
القلوب ثالثةٌ
و القلوب ثالثة :صحيح سليم فشرابه الشراب الطهور يف اإلناء النظيف ،و
سقيم مريض فشرابه الشراب النجس يف اإلناء القذر ،و قلب فيه مادتان.
إميان و نفاق ،فشرابه يف إناء حبسب املادتني ،و قد جعل اهلل لكل شيء قدرًا ،
فالعارف مَن نظر يف األسباب إىل غاياهتا و نتائجها ،و تأمل مقاصدها ،و ما
تؤول إليه.
سد الذرائع املفضية إىل احلرام ،قطع بتحرمي هذا
و مَن عرف مقاصد الشرع يف ِّ
فإن املرأة األجنبية و مساع صوهتا حرام ،و كذلك اخللوة هبا .
السَّماع َّ ،
احملرمات يف الشريعة
انتهى