You are on page 1of 52

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬

‫مت بفضل اهلل التحميل من موقعكم‬

‫‪www.4kotob.com‬‬

‫نرجو منكم اخوايت األحباء املسامهة معنا يف نشر املوقع بني‬

‫األصدقاء واألقارب ويف املنتديات‬

‫يكن لنا مجيعا بإذن اهلل صدقة جارية‬

‫للمزيد من الكتب افتح ‪www.4kotob.com‬‬

‫واهلل املوفق‬
‫الصالة‬
‫أسرار َّ‬
‫و الفَرق و املوازنَة بني ذَوق الصَّالة و السَّماع‬

‫لإلمَام العالمَة أيب عَبد اهلل حممَّد بن أيب بَكر بن أيُّوب الزَّرعي الدِّمشقي‬
‫الشَّهري بابن قيِّم اجلَوزيَّة‬
‫‪156-196‬‬

‫مرةٍ على الشبكة املعلوماتية‬


‫يُنشَر ألوَّل ِّ‬
‫اعتىن به‬
‫أبو عبد اهلل مهَّام اجلزائري‬

‫‪8440/40/82‬م‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬

‫ربِّ يسّر و أعن يا كرمي‬


‫قال اإلمام حممد بن أيب بكر بن القيِّم اجلَوزية رمحه اهلل تعاىل ‪.‬‬

‫فصلٌ‬
‫يف املوازنة بني ذوق السَّماع وذوق الصالة و القرآن ‪ ،‬و بيان أنَّ أحد الذوقني‬
‫مباين لآلخر من كل وجه ‪ ،‬و أنه كلَّما قوي ذوق أحدمها و سلطانه ضعف‬
‫ذوق اآلخر و سلطانه‪.‬‬

‫(‪)6‬‬
‫الصالة قرة عيون احملبني و هدية اهلل للمؤمنني‬

‫فاعلم أنه ال ريب أن الصالة قرة عُيون احملبني ‪ ،‬و لذة أرواح املوحدين ‪ ،‬و‬
‫بستان العابدين و لذة نفوس اخلاشعني ‪ ،‬و حمك أحوال الصادقني ‪ ،‬و ميزان‬
‫أحوال السالكني ‪ ،‬و هي رمحةُ اهلل املهداة إىل عباده املؤمنني ‪.‬‬
‫هداهم إليها ‪ ،‬و عرَّفهم هبا ‪ ،‬و أهداها إليهم على يد رسوله الصادق األمني ‪،‬‬
‫رمحة هبم ‪ ،‬و إكراما هلم ‪ ،‬لينالوا هبا شرف كرامته ‪ ،‬و الفوز بقربه ال حلاجة منه‬
‫إليهم ‪ ،‬بل منَّة منه ‪ ،‬و تفضَّال عليهم ‪ ،‬و تعبَّد هبا قلوهبم و جوارحهم مجيعا ‪ ،‬و‬

‫(‪)1‬‬
‫ـ العناوين اجلانبية من وضع مُحقِّق الرسالة‬
‫جعل حظ القلب العارف منها أكمل احلظني و أعظمهما ؛ و هو إقباله على ربِّه‬
‫سبحانه ‪ ،‬و فرحه و تلذذه بقربه ‪ ،‬و تنعمه حببه ‪ ،‬و ابتهاجه بالقيام بني يديه ‪ ،‬و‬
‫انصرافه حال القيام له بالعبودية عن االلتفات إىل غري معبوده ‪ ،‬و تكميله حقوق‬
‫حقوق عبوديته ظاهرا و باطنا حىت تقع على الوجه الذي يرضاه ربه سبحانه‪.‬‬
‫و ملا امتحن اهلل سبحانه عبده بالشهوة و أشباهها من داخل فيه و خارج عنه ‪،‬‬
‫اقتضت متام رمحته به و إحسانه إليه أن هيأ له مأدبة قد مجعت من مجيع األلوان و‬
‫التحف و التحف و اخللع و اخللع و العطايا ‪ ،‬و دعاه إليها كل يوم مخس مرَّات‬
‫‪ ،‬و جعل يف كل لون من ألوان تلك املأدبة ‪ ،‬لذة و منفعة و مصلحة و وقار هلذا‬
‫العبد ‪ ،‬الذي قد دعاه إىل تلك املأدبة ليست يف اللون اآلخر ‪ ،‬لتكمل لذة عبده‬
‫بكل صنفٍ من أصناف الكرامة ‪ ،‬و يكون‬ ‫يف كل من ألوان العبودية و يُكرمه ِّ‬
‫كل فعل من أفعال تلك العبودية مُكفّرا ملذموم كان يكرهه بإزائه ‪ ،‬و يثيبه عليه‬
‫نورا خاصا ‪ ،‬فإن الصالة نور و قوة يف قلبه و جوارحه و سعة يف رزقه ‪ ،‬و حمبة‬
‫يف العباد له ‪ ،‬و إن املالئكة لتفرح و كذلك بقاع األرض ‪ ،‬و جباهلا و أشجارها‬
‫‪ ،‬و أهنارها تكون له نورا و ثوابا خاصا يوم لقائه‪.‬‬
‫فيصدر املدعو من هذه املأدبة و قد أشبعه و قد أشبعه و أرواه ‪ ،‬و خلع عليه خبلع‬
‫القبول ‪ ،‬و أغناه ‪ ،‬و ذلك أن قلبه كان قبل أن يأيت هذه املأدبة ‪ ،‬قد ناله من‬
‫اجلوع و القحط و اجلذب و الظمأ و العري و السقم ما ناله ‪ ،‬فصدر من عنده و‬
‫قد أغناه و أعطاه من الطعام و الشراب و اللباس و التحف ما يغنيه ‪.‬‬
‫تشبيه القلب باألرض‬

‫و ملا كانت اجلدُوب متتابعة على القلوب ‪ ،‬و قحطُ النفوس متوالياً عليها ‪ ،‬جدّد‬
‫له الدعوة آلة هذه املأدبة وقتا بعد وقت رمحة منه به‪ ،‬فال يزال مُستسقيا ‪ ،‬طالبا‬
‫إىل من بيده غيثُ القلوب ‪ ،‬و سَقيُها مستمطراً سحائب رمحته لئال يَيبس ما أنبتته‬
‫له تلك الرمحة من نبات اإلميان ‪ ،‬و كأل اإلحسان و عُشبه و مثاره ‪ ،‬و لئال‬
‫تنقطع مادة النبات من الروح و القلب ‪ ،‬فال يزال القلب يف استسقاء و استمطار‬
‫هكذا دائما ‪ ،‬يشكو إىل ربه جدبه ‪ ،‬و قحطه ‪ ،‬و ضرورته إىل سُقيا رمحته ‪ ،‬و‬
‫غيث برِّه ‪ ،‬فهذا دأب العبد أيام حياته‪.‬‬
‫فالقحط الذي ينزل بالقلب هو الغفلة ‪ ،‬فالغفلة هي قحط القلوب و جدهبا ‪ ،‬و‬
‫ما دام العبد يف ذكر اهلل و اإلقبال عليه فغيث الرمحة ينزل عليه كاملطر املتدارك ‪،‬‬
‫فإذا غفل ناله من القحط حبسب غفلته قلة و كثرة ‪ ،‬فإذا متكَّنت الغفلة منه ‪ ،‬و‬
‫استحكمت صارت أرضه خرابا ميتة ‪ ،‬و سنته جرداء يابسة ‪ ،‬و حريق الشهوات‬
‫يعمل فيها من كل جانب كالسَّمائم‪.‬‬
‫فتصري أرضه بورا بعد أن كانت خمصبة بأنواع النبات ‪ ،‬و الثمار و غريها ‪ ،‬و إذا‬
‫تدارك عليه غيث الرمحة اهتزت أرض إميانه و أعماله و ربت ‪ ،‬و أنبتت من كلِّ‬
‫زوج هبيج ‪ ،‬فإذا ناله القحط و اجلدب كان مبنزلة شجرة رطوبتها و خضرهتا و‬
‫لينها و مثارها من املاء ‪ ،‬فإذا منعت من املاء يبسَت عروقها و ذبلت أغصاهنا ‪ ،‬و‬
‫حُبست مثارها ‪ ،‬و رمبا يبست األغصان و الشجرة ‪ ،‬فإذا مددت منها غصناً إىل‬
‫نفسك مل ميتد ‪ ،‬و مل يْنقَد لك ‪ ،‬و انكسر ‪ ،‬فحينئذ تقتضي حِكمة قيِّم البستان‬
‫قَطع تلك الشجرة و جعلَها وقوداً للنار ‪.‬‬
‫القلب ييبس إذا خال من توحيد اهلل‬

‫فكذلك القلب ‪ ،‬إمنا يَيبس إذا خال من توحيد اهلل و حبه و معرفته و ذكره و‬
‫دعائه ‪ ،‬فتصيبه حرارة النفس ‪ ،‬و نار الشهوات ‪ ،‬فتمتنع أغصان اجلوارح من‬
‫االمتداد إذا مددهتا ‪ ،‬و االنقياد إذا قُدهتا ‪ ،‬فال تصلح بعدُ هي و الشجرة إال للنَّار‬
‫{ فويلٌ للقاسية قُلوهبم مِّن ذكر اهلل أولئك يف ضالل مُّبني} [الزمر ‪، ]88:‬‬
‫فإذا كان القلب ممطورا مبطر الرمحة ‪ ،‬كانت األغصان ليِّنة مُنقادة رطبة ‪ ،‬فإذا‬
‫مددهتا إىل أمر اهلل انقادت معك ‪ ،‬و أقبلت سريعة لينة وادعة ‪ ،‬فجنيت منها من‬
‫مثار العبودية ما حيمله كل غصن من تلك األغصان و مادهتا من رطوبة القلب و‬
‫ريِّه ‪ ،‬فاملادة تعمل عملها يف القلب و اجلوارح ‪ ،‬و إذا يبس القلب تعطلت‬
‫األغصان من أعمال البِّر ؛ ألن مادة القلب و حياته قد انقطعت منه فلم تنتشر يف‬
‫اجلوارح ‪ ،‬فتحمل كل جارحة مثرها من العبودية ‪ ،‬و هلل يف كل جارحة من‬
‫جوارح العبد عبودية ختُصُّه ‪ ،‬و طاعة مطلوبة منها ‪ ،‬خلقت ألجلها و هيئت هلا ‪.‬‬

‫الناس ثالثة أقسام يف استعمال جوارحهم‬

‫و الناس بعد ذلك ثالثة أقسام ‪:‬‬


‫أحدمها ‪ :‬من استعمل تلك اجلوارح فيما خلقت له ‪ ،‬و أريد منها ‪ ،‬فهذا هو‬
‫الذي تاجر اهلل بأربح التجارة ‪ ،‬و باع نفسه هلل بأربح البيع‪.‬‬

‫و الصالة وُضعت الستعمال اجلوارح مجيعها يف العبودية تبعاً لقيام القلب هبا و‬
‫هذا رجلٌ عرَف نعمة اهلل فيما خُلق له من اجلوارح و ما أنعم عليه من اآلالء ‪،‬‬
‫و النعم ‪ ،‬فقام بعبوديته ظاهراً و باطناً و استعمل جوارحه يف طاعة ربِّه ‪ ،‬و حفظ‬
‫نفسه و جوارحه عمَّا يُغضب ربه و يشينه عنده‪.‬‬

‫و الثـاين ‪ :‬من استعمل جوارحه فيما مل تُخلق له ‪ ،‬بل حبسها على املخالفات‬
‫و املعاصي ‪ ،‬و مل يطلقها ‪ ،‬فهذا هو الذي خابَ سعيه ‪ ،‬و خسرت جتارته ‪ ،‬و‬
‫فاته رضا ربَّه عزَّ و جل عنه ‪ ،‬و جَزيل ثوابه ‪ ،‬و حصل على سخطه و أليم‬
‫عقابه‪.‬‬
‫و الثـالث ‪ :‬مَن عطَّل جوارحه ‪ ،‬و أماهتا بالبطالة و اجلهالة‪ ،‬فهذا أيضا خاسر‬
‫بائر أعظم خسارة من الذي قبله ‪،‬فإن العبد إمنا خُلق للعبادة و الطاعة ال للبطالة ‪.‬‬
‫و أبغض اخللق إىل اهلل العبد البطَّال الذي ال يف شغل الدنيا و ال يف سعي اآلخرة‪.‬‬
‫بل هو ك ّل على الدنيا و الدين ‪ ،‬بل لو سعى للدنيا و مل يسع لآلخرة كان‬
‫مذموماً خمذوالً ‪ ،‬و كيف إذا عطّل األمرين ‪ ،‬و إنَّ امرء يسعى لدنياه دائما ‪ ،‬و‬
‫يذهل عن أُخراه ‪ ،‬ال شكَّ خاسر‪.‬‬

‫متثيل هلذه األصناف الثالثة‬

‫فالرجل األول ‪ ،‬كرجل أُقطع أرضا واسعة ‪ ،‬و أعني على عمارهتا بآالت احلرث‬
‫‪ ،‬و البذر و أعطي ما يكفيها لسقيها و حرثها ‪ ،‬فحرثها و هيَّأها للزراعة ‪ ،‬و‬
‫بذر فيها من أنواع الغالت ‪ ،‬و غرس فيها من أنواع األشجار و الفواكه املختلفة‬
‫األلوان مث أحاطها حبائط ‪ ،‬و مل يهملها بل أقام عليها احلرس ‪ ،‬و حصنها من‬
‫الفساد و املفسدين ‪ ،‬و جعل يتعاهدها كل يوم فيُصلح ما فسد منه ‪ ،‬و يغرس‬
‫فيها عوض ما يبس ‪ ،‬و ينقي دغلها و يقطع شوكها ‪ ،‬و يستعني بغلَّتها على‬
‫عمارهتا‪.‬‬
‫و الثـاين ‪ :‬مبنزلة رجل أخذ تلك األرض ‪ ،‬و جعلها مأوى السباع و اهلوام ‪ ،‬و‬
‫موضعاً للجيف و األنتان ‪ ،‬و جعلها معقال يأوي إليه فيها كل مفسد و مؤذٍ و‬
‫لصٍّ ‪ ،‬و أخذ ما أعني به من حرثتها و بذارها و صالحها ‪ ،‬فصرفه و جعله‬
‫معونة و معيشة ملن فيها ‪ ،‬من أهل الشرِّ و الفساد‪.‬‬
‫و الثالث ‪ :‬مبنزلة رجل عطَّلها و أمهلها و أرسل املاء ضائعاً يف القفار و‬
‫الصحارى فقعد مذموماً حمسوراً‪.‬‬

‫فهذا مثال أهل اليقظة ‪ ،‬و أهل الغفلة ‪ ،‬و أهل اخليانة‪.‬‬

‫أهل اليقظة و الغفلة اخليانة‬

‫فاألول ‪ :‬مثال أهل اليقظة ‪ ،‬واالستعداد ملا خلقوا له‪.‬‬


‫و الثـاين ‪ :‬مثال أهل اخليانة‪.‬‬
‫و الثـالث ‪ :‬مثال ألهل الغفلة ‪.‬‬

‫فاألول ‪ :‬إذا حترّك أو َسكَن ‪ ،‬أو قام أو قعد ‪ ،‬أو أكل أو شرب ‪ ،‬أو نام ‪ ،‬أو‬
‫لبس ‪ ،‬أو نطق ‪ ،‬أو سكت كان كلِّه له ال عليه ‪ ،‬و كان يف ذكر و طاعةٍ و قربة‬
‫و مزيد ‪.‬‬
‫و الثاين ‪ :‬إذا فعل ذلك كان عليه ال له ‪ ،‬و كان يف طردٍ و إبعادٍ و خُسران ‪.‬‬
‫و الثـالث ‪ :‬إذا فعل ذلك كان يف غفلة و بطالةٍ و تفريطٍ ‪.‬‬

‫فاألول ‪ :‬يتقلَّب فيما يتقلب فيه حبكم الطاعة و القربة‪.‬‬


‫و الثاين ‪ :‬يتقلب يف ذلك حبكم اخليانة و التعدِّي ‪ ،‬فإن اهلل مل ميلِّكه ما ملّكه‬
‫ليستعني به على خمالفته ‪ ،‬فهو جا ٍن متعد خائن هلل تعاىل يف نعمه عليه معاقبٌ‬
‫على التنعُّم هبا يف غري طاعته‪.‬‬
‫و الثالث ‪ :‬يتقلب يف ذلك و يتناوله حبكم الغفلة و اهلوى و هنمة النفس و طبعها‬
‫‪ ،‬مل يتمتع بذلك ابتغاء رضوان اهلل تعاىل و التقرب إليه ‪ ،‬فهذا خسرانه بيَّن‬
‫واضح ‪ ،‬إذ عطّل أوقات عمره اليت ال قيمة هلا عن أفضل األرباح و التجارات ‪.‬‬
‫فدعا اهلل عباده املؤمنني املوحدين إىل هذه الصلوات اخلمس ‪ ،‬رمحة منه هبم ‪ ،‬و‬
‫هيأ هلم فيها أنواع العبادة ؛ لينال العبد من كلِّ قول و فعل و حركة و سكون‬
‫حظه من عطاياه‪.‬‬

‫ما هو سرّ الصالة ؟ و متثيل لذلك‬

‫سر الصالة و لُبها إقبال القلب فيها على اهلل ‪ ،‬و حضوره بكلِّيته بني يديه‬
‫و كان ُّ‬
‫‪ ،‬فإذا مل يقبل عليه و اشتغل بغريه و هلى حبديث نفسه ‪ ،‬كان مبنزلة وافد وفد إىل‬
‫باب امللك معتذرا من خطاياه و زهلل مستمطرا سحائب جوده و كرمه و رمحته ‪،‬‬
‫مستطعما له ما يقيت قلبه ‪ ،‬ليقوى به على القيام يف خدمته ‪ ،‬فلما وصل إىل باب‬
‫امللك ‪ ،‬و مل يبق إال مناجته له ‪ ،‬التفت عن امللك وزاغ عنه ميينا و مشاال ‪ ،‬أو‬
‫واله ظهره ‪ ،‬و اشتغل عنه بأمقت شيء إىل امللك ‪ ،‬و أقلّه عنده قدرا عليه ‪،‬‬
‫فآثره عليه ‪ ،‬و صيَّره قلبة قلبه ‪ ،‬و حملَّ توجهه ‪ ،‬و موضع سرَّه ‪ ،‬و بعث‬
‫غلمانه و خدمة ليقفوا يف خدم طاعة امللك عوضا عنه و يعتذروا عنه ‪ ،‬و ينوبوا‬
‫عنه يف اخلدمة ‪ ،‬و امللك يشاهد ذلك و يرى حاله مع هذا ‪ ،‬فكرم امللك وجوده‬
‫و سعة برّه و إحسانه تأيب أن يصرف عنه تلك اخلدم و األتباع ‪ ،‬فيصيبه من‬
‫رمحته و إحسانه ؛ لكن فرق بني قسمة الغنائم على أهل السُّهمان من الغامنني ‪،‬‬
‫و بني الرضَّخ ملن ال سهم له ‪ { :‬و لكل درجات ممَّا عملوا و ليُوَفيهم أعماهلم‬
‫و هم ال يظلَمون }[األحقاف ‪ ، ]11:‬و اهلل سبحانه و تعاىل خلق هذا النوع‬
‫اإلنساين لنفسه و اختصه له ‪ ،‬و خلق كل شيء له ‪ ،‬و من أجله كما يف األثر‬
‫اإلهلي ‪ " :‬ابن آدم خلقتك لنفسي ‪ ،‬و خلقت كلِّ شيء لك ‪ ،‬فبحقي عليك ال‬
‫تشتغل مبا خلقته لك عمَّا خلقتك له " ‪.‬‬
‫و يف أثر آخر ‪ " :‬ابن آدم خلقتك لنفسي فال تلعب و تكفلت برزقك فال تتعب‬
‫‪ ،‬ابن آدم اطلبين جتدين ‪ ،‬فإن و جدتين و جدت كلّ شيء ‪ ،‬و إن فُتَّك فاتك‬
‫كلّ شيء ‪ ،‬و أنا أحب إليك من كلّ شيء"‪.‬‬
‫و جعل سبحانه و تعاىل الصالة سببا موصال إىل قُربه ‪ ،‬و مناجاته ‪ ،‬و حمبته و‬
‫األنس به ‪.‬‬

‫ما بني الصلوات اخلمسة حتدث الغفلة‬

‫و ما بني الصالتني حتدث للعبد الغفلة و اجلفوة و القسوة ‪ ،‬و اإلعراض و الزَّالت‬
‫‪ ،‬و اخلطايا ‪ ،‬فيبعده ذلك عن ربه ‪ ،‬و ينحّيه عن قربه ‪ ،‬فيصري بذلك كأنه‬
‫أجنبيا من عبوديته ‪ ،‬ليس من مجلة العبيد ‪ ،‬و رمبا ألقى بيده إىل أسر العدو له‬
‫فأسره ‪ ،‬و غلَّه ‪ ،‬و قيَّده ‪ ،‬و حبسه يف سجن نفسه و هواه ‪.‬‬
‫فحظه ضيق الصدر ‪ ،‬و معاجلة اهلموم ‪ ،‬و الغموم ‪ ،‬و األحزان ‪ ،‬و احلسرات ‪ ،‬و‬
‫ال يدري السبب يف ذلك‪ .‬فاقتضت رمحه ربه الرحيم الودود أن جعل له من‬
‫عبوديته عبودية جامعة ‪ ،‬خمتلفة األجزاء ‪ ،‬و احلاالت حبسب اختالف األحداث‬
‫اليت كانت من العبد ‪ ،‬و حبسب شدَّة حاجته إىل نصيبه من كل خري من أجزاء‬
‫تلك العبودية ‪.‬‬
‫الكالم عن الوضوء‬

‫فبالوضوء يتطَّهر من األوساخ ‪ ،‬و يُقدم على ربِّه متطهرا ‪ ،‬و الوضوء له ظاهر و‬
‫باطن ‪:‬‬
‫فظاهره ‪ :‬طهارة البدن ‪ ،‬و أعضاء العبادة‪.‬‬
‫و باطنه و سرّه ‪ :‬طهارة القلب من أوساخ الذنوب و املعاصي و أدرانه بالتوبة ؛‬
‫و هلذا يقرن تعاىل بني التوبة و الطهارة يف قوله تعاىل ‪ { :‬إن اهلل حيب التَّوابني و‬
‫حيب املتظهرين }[ البقرة ‪ ]888 :‬و شرع النيب صلى اهلل عليه و سلم للمتطهِّر‬
‫أن يقول بعد فراغه من الوضوء أن يتشهد مث يقول ‪" :‬اللهم اجعلين من التوّابني‬
‫‪ ،‬و اجعلين من املتطهرين " ‪.‬‬
‫فكمَّل له مراتب العبدية و الطهارة ‪ ،‬باطنا و ظاهرا ‪ ،‬فإنه بالشهادة يتطهر من‬
‫الشرك ‪ ،‬و بالتوبة يتطهر من الذنوب ‪ ،‬و باملاء يتطهر من األوساخ الظاهرة ‪.‬‬
‫فشرع له أكمل مراتب الطهارة قبل الدخول على اهلل عز و جل ‪ ،‬و الوقوف بني‬
‫يديه ‪ ،‬فلما طهر ظاهرا و باطنا ‪ ،‬أذن له بالدخول عليه بالقيام بني يديه و بذلك‬
‫خيلص من اإلباق‪.‬‬
‫و مبجيئه إىل داره ‪ ،‬و حمل عبوديته يصري من مجلة خدمه ‪ ،‬و هلذا كان اجمليء إىل‬
‫املسجد من متام عبودية الصالة الواجبة عند قوم و املستحبة عند آخرين‪.‬‬

‫من متام العبودية الذهاب للمسجد‬

‫و العبد يف حال غفلته كاآلبق من ربه ‪ ،‬قد عطّل جوارحه و قلبه عن اخلدمة اليت‬
‫خُلق هلا فإذا جاء إليه فقد رجع من إباقه ‪ ،‬فإذا وقف بني يديه موقف و التذلل و‬
‫االنكسار ‪ ،‬فقد استدعى عطف سيِّده عليه ‪ ،‬و إقباله عليه بعد اإلعراض عنه ‪.‬‬
‫عبودية التكبري " اهلل أكرب "‪.‬‬

‫و أُمر بأن يستقبل القبلة ـ بيته احلرام ـ بوجهه ‪ ،‬و يستقبل اهلل عز و جل بقلبه‬
‫‪ ،‬لينسلخ مما كان فيه من التويل و اإلعراض ‪ ،‬مث قام بني يديه مقام املتذلل اخلاضع‬
‫املسكني املستعطف لسيِّده عليه ‪ ،‬و ألقى بيديه مسلّماً مستسلماً ناكس الرأس ‪،‬‬
‫خاشع القلب مُطرق الطرف ال يلتفت قلبه عنه ‪ ،‬و طرفة عني ‪ ،‬ال مينة و ال‬
‫يسرة ‪ ،‬خاشع قد توجه بقلبه كلِّه إليه‪.‬‬
‫و أقبل بكليته عليه ‪ ،‬مث كبَّره بالتعظيم و اإلجالل و واطأ قلبه لسانه يف التكبري‬
‫فكان اهلل أكرب يف قلبه من كلِّ شيء ‪ ،‬و صدَّق هذا التكبري بأنه مل يكن يف قلبه‬
‫شيء أكرب من اهلل تعاىل يشغله عنه ‪ ،‬فإنه إذا كان يف قلبه شيء يشتغل به عن‬
‫اهلل دلّ على أن ذلك الشيء أكرب عنده من اهلل فإنه إذا اشتغل عن اهلل بغريه ‪،‬‬
‫كان ما اشتغل به هو أهم عنده من اهلل ‪ ،‬و كان قوله " اهلل أكرب " بلسانه دون‬
‫ال ‪ ،‬فإذا ما أطاع اللسان‬
‫قلبه ؛ ألن قلبه مقبل على غري اهلل ‪ ،‬معظما له ‪ ،‬لج ً‬
‫القلب يف التكبري ‪ ،‬أخرجه من لبس رداء التكبّر املنايف للعبودية ‪ ،‬و منعه من‬
‫التفات قلبه إىل غري اهلل ‪ ،‬إذا كان اهلل عنده و يف قلبه أكرب من كل شيء فمنعه‬
‫حقّ قوله ‪ :‬اهلل أكرب و القيام بعبودية التكبري من هاتني اآلفتني ‪ ،‬اللتني هُما من‬
‫أعظم احلُجب بينه و بني اهلل تعاىل‪.‬‬

‫عبودية االستفتاح‬

‫فإذا قال ‪ " :‬سبحانك اللهم و حبمدك" و أثىن على اهلل تعاىل مبا هو أهله ‪ ،‬فقد‬
‫خرج بذلك عن الغفلة و أهلها ‪ ،‬فإن الغفلة حجاب بينه و بني اهلل‪.‬‬
‫و أتى بالتحية و الثناء الذي يُخاطب به امللك عند الدخول عليه تعظيما له و‬
‫متهيدا ‪ ،‬و كان ذلك متجيدا و مقدمة بني يدي حاجته‪.‬‬
‫فكان يف الثناء من آداب العبودية ‪ ،‬و تعظيم املعبود ما يستجلب به إقباله عليه ‪،‬‬
‫و رضاه عنه ‪ ،‬و إسعافه بفضله حوائجه‬

‫حال العبد يف القراءة و االستعاذة‬

‫فإذا شرع يف القراءة قدَّم أمامها االستعاذة باهلل من الشيطان الرجيم فإنه أحرص‬
‫ما يكون على خُذالن العبد يف مثل هذا املقام الذي هو أشرف مقامات العبد و‬
‫أنفعها له يف دنياه و آخرته ‪ ،‬فهو أحرص شيء على صرفه عنه ‪ ،‬و انتفاعه دونه‬
‫بالبدن و القلب ‪ ،‬فإن عجز عن اقتطاعه و تعطيله عنه بالبدن اقتطع قلبه و عطَّله‬
‫‪ ،‬و ألقى فيه الوساوس ليشغله بذلك عن القيام حبق العبودية بني يدي الرب‬
‫تبارك و تعاىل ‪ ،‬فأمر العبد باالستعاذة باهلل منه ليسلم له مقامه بني يدي ربه و‬
‫ليحي قلبه ‪ ،‬و يستنري مبا يتدبره و يتفهمه من كالم اهلل سيِّده الذي هو سبب‬
‫حياة قلبه ‪ ،‬و نعيمه و فالحه ‪ ،‬فالشيطان أحرص شيء على اقتطاع قلبه عن‬
‫مقصود التالوة‪.‬‬
‫و ملا علم اهلل سبحانه و تعاىل َحسَد العدو للعبد ‪ ،‬و تفرّغه له ‪ ،‬و علم عجز‬
‫العبد عنه ‪ ،‬أمره بأن يستعيذ به سبحانه ‪ ،‬و يلتجئ إليه يف صرفه عنه ‪ ،‬فيكتفي‬
‫باالستعاذة من مؤونة حماربته و مقاومته ‪ ،‬و كأنه قيل له ‪ :‬ال طاقة لك هبذا العدو‬
‫‪ ،‬فاستعذ يب أعيذك منه ‪ ،‬و استجر يب أجريك منه ‪ ،‬و أكفيكه و أمنعك منه ‪.‬‬
‫نصيحة ابن تيمية البن القيِّم‬

‫و قال يل شيخ اإلسالم ابن تيمية قدس اهلل روحه و نوَّر ضرحيه يومًا ‪ :‬إذا هاش‬
‫عليك كلب الغنم فال تشتغل مبحاربته ‪ ،‬و مدافعته ‪ ،‬و عليك بالراعي فاستغث به‬
‫فهو يصرف عنك الكلب ‪ ،‬و يكفيكه‪.‬‬

‫فإذا استعاذ اإلنسان باهلل من الشيطان الرجيم أبعده عنه ‪.‬‬


‫فأفضى القلب إىل معاين القرآن ‪ ،‬و وقع يف رياضه املونقة و شاهد عجائبه اليت‬
‫تبهر العقول ‪ ،‬و استخرج من كنوزه و ذخائره ما عني رأت و ال أذن مسعت و‬
‫ال خطر على قلب بشر ‪ ،‬و كان احلائل بينه و بني ذلك ‪ ،‬النفس و الشيطان ‪،‬‬
‫فإن النفس منفعلة للشيطان ‪ ،‬سامعة منه ‪ ،‬مطيعة فإذا َبعُدَ عنها ‪ ،‬و طُرد ألَّم هبا‬
‫امللَك ‪ ،‬و ثبَّتها و ذكّرها مبا فيه سعادهتا و جناهتا‪.‬‬

‫فإذا أخذ العبد يف قراءة القرآن ‪ ،‬فقد قام يف مقام خماطبة ربِّه و مناجاته ‪ ،‬فليحذر‬
‫كل احلذر من التعرّض ملقته و سخطه ‪ ،‬بأن يناجيه و خياطبه ‪ ،‬و قلبه معرِض عنه‬
‫‪ ،‬ملتفت ‪ ،‬إىل غريه ‪ ،‬فإنه يستدعي بذلك مقته ‪ ،‬و يكون مبنزلة رجل قرَّبه ملك‬
‫من ملوك الدنيا ‪ ،‬و أقامه بني يديه فجعل خياطب امللك ‪ ،‬و قد والَّه قفاه ‪ ،‬أو‬
‫التفت عنه بوجهه يَمنَة و يسرة ‪ ،‬فهو ال يفهم ما يقول امللك ‪ ،‬فما الظن مبقت‬
‫امللك هلذا‪.‬‬
‫فما الظن مبقت امللك احلق املبني رب العاملني و قيوم السماوات و األرضني‪.‬‬
‫حال العبد يف الفاحتة‬

‫فينبغي باملصلي أن يقف عند كل آية من الفاحتة وقفة يسرية ‪ ،‬ينتظر جواب ربِّه‬
‫له ‪ ،‬و كأنه يسمعه و هو يقول ‪ " :‬محدين عبدي " إذا قال ‪ { :‬احلمدُ هللِ ربِّ‬
‫العاملنيَ}‪.‬‬
‫فإذا قال ‪ { :‬الرَّمحن الرَّحيم } وقفَ حلظة ينتظر قوله ‪ " :‬أثىن عليَّ عبدي "‪.‬‬
‫فإذا قال ‪{ :‬مالكِ يومِ الدِّينِ } انتظر قوله ‪ " :‬لجَّدين عبدي "‪.‬‬
‫فإذا قال ‪ { :‬إيَّاك نَعبدُ و إيَّاك نَستعني } انتظر قوله تعاىل ‪ " :‬هذا بيين و بني‬
‫عبدي "‪.‬‬
‫فإذا قال ‪{ :‬اهدِنا الصِّراط املُستقيم } إىل آخرها انتظر قوله ‪ " :‬هذا لعبدي و‬
‫لعبدي ما قال "‪.‬‬
‫و مَن ذاق طعم الصالة عَلِمَ أنه ال يقوم مقام التكبري و الفاحتة غريمها مقامها ‪،‬‬
‫كما ال يقوم غري القيام و الركوع و السجود مقامها ‪ ،‬فلكلٍّ عبوديته من عبودية‬
‫الصالة سرٌّ و تأثريٌ و عبودية ال حتصل يف غريها ‪ ،‬مثَّ لكل آية من آيات الفاحتة‬
‫عبودية و ذوق و وجد خيُصُّها ال يوجد يف غريها‪.‬‬

‫فعند قوله ‪ { :‬احلمد هلل رب العاملني } جتد حتت هذه الكلمة إثبات كللّ كمال‬
‫للرب و وصفا و امسا ‪ ،‬و تنزيهه سُبحَانه و حبمده عن كلِّ سوء ‪ ،‬فعالً و وصفاً‬
‫و امسًا ‪ ،‬و إمنا هو حممود يف أفعاله و أوصافه و أمسائه ‪ ،‬مُنزَّه عن العيوب و‬
‫النقائص يف أفعاله و أوصافه و أمسائه‪.‬‬
‫فأفعاله كلّها حكمة و رمحة و مصلحة و عدل و ال خترج عن ذلك ‪ ،‬و أوصافه‬
‫كلها أوصاف كمال ‪ ،‬و نعوت جالل ‪ ،‬و أمساؤه كلّها حُسىن‪.‬‬
‫من معاين احلمد‬

‫و محده تعاىل قد مأل الدنيا و اآلخرة ‪ ،‬و السموات و األرض ‪ ،‬و ما بينهما و ما‬
‫فيهما ‪ ،‬فالكون كلّه ناطق حبمده ‪ ،‬و اخللق و األمر كلّه صادر عن محده ‪ ،‬و‬
‫قائم حبمده ‪ ،‬و وجوده و عدمه حبمده ‪ ،‬فحمدُه هو سبب وجود كل شيء‬
‫موجود ‪ ،‬و هو غاية كل موجود ‪ ،‬و كلّ موجود شاهد حبمده ‪ ،‬فإرساله رسله‬
‫حبمده ‪ ،‬و إنزاله كتبه حبمده ‪ ،‬و اجلنة عُمِّرت بأهلها حبمده ‪ ،‬و النَّار عُمِّرت‬
‫بأهلها حبمده ‪ ،‬كما أنَّها إنَّما وجدتا حبمده‪.‬‬

‫و ما أُطيع إال حبمده ‪ ،‬و ما عُصي إال حبمده ‪ ،‬و ال تسقط ورقة إال حبمده ‪ ،‬و‬
‫ال يتحرك يف الكون ذرَّة إال حبمده ‪ ،‬فهو سبحانه و تعاىل احملمود لذاته ‪ ،‬و إن مل‬
‫حيمده العباد‪.‬‬
‫كما أنه هو الواحد األحد ‪ ،‬و إن مل يوحِّده العباد ‪ ،‬و هو اإلله احلقُّ و إن مل‬
‫يؤلِّهه ‪ ،‬سبحانه هو الذي محِد نفسه على لسان احلامد كما قال النيب صلى اهلل‬
‫عليه و سلم ‪ " :‬إن اهلل تعاىل قال على لسان نبيه ‪ :‬سَمعَ اهللُ ملن حَمِدَه"‪.‬‬
‫فهو احلامدُ لنفسه يف احلقيقة على لسان عبده ‪ ،‬فإنه هو الذي أجري احلم َد على‬
‫لسانه و قلبه ‪ ،‬و أجراؤه حبمده فله احلمد كله ‪ ،‬و له امللك كله ‪ ،‬و بيده اخلري‬
‫كله ‪ ،‬و إليه يرجع األمر كله ‪ ،‬عالنيته و سره ‪.‬‬
‫فهذه املعرفة نبذة يسرية من معرفة عبودية احلمد ‪ ،‬و هي نقطة من حبر لُجِّي من‬
‫عبوديته‪.‬‬
‫و من عبوديته أيضا ‪ :‬أن يعلم أن محده لربه نعمة مِنه عليه ‪ ،‬يستحق عليها احلمد‬
‫‪ ،‬فإذا محده عليها استَّحق على محده محداً آخر ‪ ،‬و هلَّم جرا‪.‬‬
‫فالعبد و لو استنفد أنفاسه كلّها يف محد ربه على نعمة من نعمه ‪ ،‬كان ما جيب‬
‫عليه من احلمد عليها فوق ذلك ‪ ،‬و أضعاف أضعافه ‪ ،‬و ال يُحصي أحد البتّة‬
‫ثناءً عليه مبحتمده ‪ ،‬و لو محده جبميع احملامد فالعبد سائر إىل اهلل بكلِّ نعمة من‬
‫ربِّه ‪ ،‬حيمده عليها ‪ ،‬فإذا حَمده على صرفها عنه ‪ ،‬محده على إهلامه احلمدُ‪.‬‬
‫قال األوزاعي ‪ " :‬مسعت بعض قوَّال ينشد يف محامٍ لك احلم ُد إمّا على نعمةٍ و‬
‫إمَّا على نقمة تُدفع"‪.‬‬

‫و من عبودية احلمد ‪ :‬شهود العبد لعجزه عن احلمد ‪ ،‬و َّ‬


‫أن ما قام به منه ‪،‬‬
‫فالرب سبحانه هو الذي أهلمه ذلك ‪ ،‬فهو حممود عليه ‪ ،‬إذ هو الذي أجراه على‬
‫لسانه و قلبه ‪ ،‬و لوال اهلل ما اهتدى أحد‪.‬‬

‫و من عبودية احلمد ‪ :‬تسليط احلمد على تفاصيل أحوال العبد كلها ظاهرها و‬
‫باطنها على ما حيب العبد منها و ما يكره ‪ ،‬بل على تفاصيل أحوال اخللق كلّهم‬
‫‪ ،‬برِّهم و فاجرهم ‪ ،‬علويهم و سفليهم ‪ ،‬فهو سبحانه احملمود على ذلك كلّه يف‬
‫احلقيقة ‪ ،‬و إن غاب عن شهود العبد حكمة ذلك ‪ ،‬و ما يستحق الرب تبارك و‬
‫تعاىل من احلمد على ذلك و احلمد هلل ‪ :‬هو إهلام من اهلل للعباد ‪ ،‬فمستقل و‬
‫مستكثر على قدر معرفة العبد بربه‪.‬‬
‫و قد قال النيب صلى اهلل عليه و سلم يف حديث الشفاعة ‪ " :‬فأقع ساجداً فيلهمين‬
‫اهلل حمامد أمحده هبا مل ختطر على بايل قط "‪.‬‬
‫عبودية {ربِّ العاملني}‬

‫مث لقول العبد ‪ { : :‬ربِّ العاملني} من العبودية شهود تفرّده سبحانه بالربوبية‬
‫وحده ‪ ،‬و أنَّه كما أنه رب العاملني ‪ ،‬و خالقهم ‪ ،‬و رازقهم ‪ ،‬و مدبِّر أمورهم ‪،‬‬
‫و موجدهم ‪ ،‬و مغنيهم ‪ ،‬فهو أيضا وحده إهلهم ‪ ،‬و معبودهم ‪،‬و ملجأهم و‬
‫مفزعهم عند النوائب ‪ ،‬فال ربَّ غريه ‪ ،‬و ال إله سواه‪.‬‬

‫عنوان ‪ :‬عبودية { الرَّمحَن الرَّحيم}‬

‫و لقوله ‪ { :‬الرَّمحن الرَّحيم } عبودية ختصه سبحانه ‪ ،‬و هي شهود العبد عموم‬
‫رمحته‪.‬‬
‫و مشوهلا لكلّ شيء ‪ ،‬و سعتها لكلِّ خملوق و أخذ كلّ موجود بنصيبه منها ‪ ،‬و‬
‫السيما الرمحة اخلاصَّة بالعبد و هي اليت أقامته بني يدي ربه ‪ :‬أقم قالناً ـ ففق‬
‫بعض اآلثار أن جربائيل يقول كل ليلة أقم فالنًا ‪ ،‬و أمن فالنا فربمحته للعبد أقامه‬
‫يف خدمته يناجيه بكالمه ‪ ،‬و يتملقه و يسترمحه و يدعوه و يستعطفه و يسأله‬
‫هدايته و رمحته ‪ ،‬و متام نعمته عليه دنياه و أخراه فهذا من رمحته بعبده ‪ ،‬فرمحته‬
‫وسعت كل شيء ‪ ،‬كما أن محده وسع كل شيء ‪ ،‬و علمه وسع كل شيء ‪{ ،‬‬
‫ربَّنا وسعتَ كُلَّ شيء رَّمحة و علما} [ غافر ‪ ، ]7:‬و غريه مطرود حمروم قد‬
‫فاتته هذه الرمحة اخلاصَّة فهو منفي عنها‪.‬‬

‫عنوان عبودية { مالكِ يومِ الدِّينِ}‬


‫و يعطى قوله { مالك يوم الدِّين } عبوديته من الذلِّ و االنقياد ‪ ،‬و قصد العدل‬
‫و القيام بالقسط ‪ ،‬و كفَّ العبد نفسه عن الظلم و املعاصي ‪ ،‬و ليتأمل ما تضمنته‬
‫من إثبات املعاد و تفرَّد الربِّ يف ذلك باحلكم بني خلقه ‪ ،‬و أنه يو ٌم يدين اهلل فيه‬
‫اخللق بأعماهلم من اخلري و الشر ‪ ،‬و ذلك من تفاصيل محده ‪ ،‬و موجبه كما قال‬
‫تعاىل ‪ { :‬و قُض َي بينَهم باحلقِّ و قيل احلم ُد هلل ربِّ العاملني}[الزمر‪.]77:‬‬
‫و يروى أن مجيع اخلالئق حيمدونه يومئذ أهل اجلنة و أهل النار ‪ ،‬عدال و فضال ‪،‬‬
‫و ملا كان قوله {احلمد هلل رب العاملني}‪.‬‬
‫إخبارا عن محد عبده له قال ‪ :‬محدين عبدي‪.‬‬

‫ما معىن ( الثناء ) (التمجيد)‬

‫و ملا كان قوله { الرمحن الرحيم} إعادة و تكريرا ألوصاف كماله قال ‪ " :‬أثىن‬
‫علي عبدي " ‪ ،‬فإنَّ الثناء إنَّما يكون بتكرار احملامد ‪ ،‬و تعداد أوصاف احملمود ‪،‬‬
‫َّ‬
‫فاحلمد ثناء عليه ‪ ،‬و { الرمحن الرَّحيم } وصفه بالرمحة‪.‬‬
‫و ملا وصف العبد ربه بتفرُّده مبلك يوم الدين و هو امللك احلق ‪ ،‬مالك الدنيا و‬
‫اآلخرة ؛ و ذلك متضمِّن لظهور عدله ‪ ،‬و كربيائه و عظمته ‪ ،‬و وحدانيته ‪ ،‬و‬
‫صدق رُسله ‪ ،‬مسَّى هذا الثناء لجدًا فقال ‪ " :‬لجَّدين عبدي " فإن التمجيد هو ‪:‬‬
‫الثناء بصفات العظمة ‪ ،‬و اجلالل ‪ ،‬و العدل ‪ ،‬و اإلحسان ‪.‬‬

‫عبودية { إيَّاك نعبدُ }‬

‫فإذا قال ‪ { :‬إيَّاك نعبدُ و إيَّاك نستعني } انتظر جواب ربه له ‪ " :‬هذا بيين و بني‬
‫عبدي ‪ ،‬و لعبدي ما سأل "‪.‬‬
‫و تأمل عبودية هاتني الكلمتني و حقوقهما ‪ ،‬و ميِّز الكلمة اليت هلل سبحانه و‬
‫تعاىل ‪ ،‬و الكلمة اليت للعبد ‪ ،‬و فِق ِه سرَّ كون إحدامها هلل ‪ ،‬و األخرى للعبد ‪ ،‬و‬
‫ميِّز بني التوحيد الذي تقتضيه كلمة { إيَّاك نعبدُ } و التوحيد الذي تقتضيه‬
‫كلمة { و إيَّاك نستعني } ‪ ،‬و فِق َه سرَّ كون هاتني الكلمتني يف وسط السورة‬
‫بني نوعي الثناء قبلهما ‪ ،‬و الدعاء بعدمها ‪ ،‬و فِقه تقدمي { إياك نعبد } على { و‬
‫إياك نستعني } ‪ ،‬و تقدمي املعمول على العامل مع اإلتيان به مؤخراً أوجز و‬
‫أخضر ‪ ،‬و سرَّ إعادة الضمري مرَّة بعد مرة ‪.‬‬

‫تقدمي العبادة على االستعانة‬

‫قلت ‪ :‬أراد تقدمي العبادة ـ و هي العمل ـ على االستعانة ‪ ،‬فالعبادة هلل و‬


‫االستعانة للعبد ‪ ،‬فاهلل هو املعبود ‪ ،‬و هو املستعان على عبادته ‪ ،‬فإياك نعبد ؛ أي‬
‫إياك أريد بعباديت ‪ ،‬و هو يتضمن العمل الصاحل اخلالص ‪ ،‬و العلم النافع الدال‬
‫على اهلل ‪ ،‬معرفة و حمبة ‪ ،‬و صدقا و إخالصًا ‪ ،‬فالعبادة حق الرب تعاىل على‬
‫خلقه ‪ ،‬و االستعانة تتضمن استعانة العبد بربه على مجيع أموره ‪ ،‬و هي القول‬
‫املتضمن قسم العبد‪.‬‬
‫فكل عبادة ال تكون هلل و باهلل فهي باطلة مضمحلة ‪ ،‬و كل استعانة تكون باهلل‬
‫وحده فهي خذالنٌ و ذل‪.‬‬
‫و تأمل علم ما ينفع العباد و ما يدفع عنهم كل واحد من هاتني الكلمتني من‬
‫اآلفة املنافية للعبودية نفعاً و دفعاً و كيف تدخل العبد هاتان الكلمتان يف صريح‬
‫العبودية‪.‬‬
‫القرآن مداره على هذه الكلمة‬

‫و تأمل عِلم كيف يدور القرآن كلّه من أوّله إىل آخره عليهما ‪ ،‬و كذلك اخللق‬
‫‪ ،‬و األمر و الثواب و العقاب و الدنيا و اآلخرة ‪ ،‬و كيف تضمّنتا ألجلِّ الغايات‬
‫‪ ،‬و أكمل الوسائل ‪ ،‬و كيف أتى هبما بضمري املخاطب احلاضر ‪ ،‬دون ضمري‬
‫الغائب ‪ ،‬و هذا موضوع يستدعي كتاباً كبرياً ‪ ،‬و لوال اخلروج عمَّا حنن بصدده‬
‫ألوضحناه و بسطناه ‪ ،‬فمن أراد الوقوف عليه فقد ذكرناه يف كتاب ‪" :‬مراحل‬
‫السائرين بني منازل إياك نعبد و إياك نستعني " و يف كتاب " الرسالة املصرية "‪.‬‬

‫ضرورة العبد لقوله {اهدنا الصِّراط املُستقيم }‬

‫مث ليتأمل العبد ضرورته و فاقته إىل قوله { اهدنا الصِّراط املُستقيم } الذي‬
‫مضمونه معرفة احلق ‪ ،‬و قصده و إرادته و العمل به ‪ ،‬و الثبات عليه ‪ ،‬و الدعوة‬
‫إليه ‪ ،‬و الصرب على أذى املدعو إليه فباستكمال هذه املراتب اخلمس يستكمل‬
‫العبد اهلداية و ما نقص منها نقص من هدايته‪.‬‬
‫و ملا كان العبد مفتقراً إىل هذه اهلداية يف ظاهره و باطنه ‪ ،‬بل و يف مجيع ما يأتيه‬
‫‪ ،‬و يذره من ‪:‬‬

‫أنواع اهلدايات اليت يفتقر هلا العبد‬

‫‪ ‬أمور فعلها على غري اهلداية علماً و عمالً و إرادة ‪ ،‬فهو حمتاج إىل التوبة منها‬
‫و توبته منها هي من اهلداية‪.‬‬
‫‪ ‬و أمور قد هُدي إىل أصلها دون تفصيلها فهو حمتاج إىل هداية تفاصيلها‪.‬‬
‫‪ ‬و أمور قد هُدي إليها من وجهٍ دون وجهٍ ‪ ،‬فهو حمتاجٌ إىل متام اهلداية يف‬
‫كماهلا على اهلدى املستقيم ‪ ،‬و أن يزداد هدى إىل هداه‪.‬‬
‫‪ ‬و أمور هو حمتاج فيها إىل أن حيصل له من اهلداية يف مستقبلها مثل ما حصل‬
‫له يف ماضيها‪.‬‬
‫‪ ‬وأمور هو خال عن اعتقاد فيها فهو حمتاج إىل اهلداية فيها اعتقاداً صحيحاً‪.‬‬
‫‪ ‬و أمور يعتقد فيها خالف ما هي عليه ‪ ،‬فهو حمتاج إىل هداية تنسخ من قلبه‬
‫ذلك االعتقاد الباطل ‪ ،‬و تُثبت فيه ضدّه‪.‬‬
‫‪ ‬و أمور من اهلداية ‪ :‬هو قادر عليها ‪ ،‬و لكن مل خيلق له إرادة فعلها ‪ ،‬فهو‬
‫حمتاج يف متام اهلداية إىل خلق إرادة‪.‬‬
‫‪ ‬و أمور منها ‪ :‬هو غري قادر على فعلها مع كونه مريد هلا ‪ ،‬فهو حمتاج يف‬
‫هدايته إىل إقدار عليها‪.‬‬
‫‪ ‬و أمور منها ‪ :‬هو غري قادر عليها و ال مريد هلا ‪ ،‬فهو حمتاج إىل خلق القدرة‬
‫عليها و اإلرادة هلا لتتم له اهلداية‪.‬‬
‫‪ ‬و أمور ‪ :‬هو قائم هبا على وجه اهلداية اعتقادا و إرادة ‪ ،‬و علما و عمالً ‪،‬‬
‫فهو حمتاج إىل الثبات عليها و استدامتها ‪ ،‬فكانت حاجته إىل سؤال اهلداية‬
‫أعظم احلاجات ‪ ،‬و فاقته إليها أشد الفاقات ‪ ،‬و هلذا فرض عليه الرب الرحيم‬
‫هذا السؤال على العبيد كلّ يوم و ليلة يف أفضل أحواله ‪ ،‬و هي الصلوات‬
‫اخلمسُ ‪ ،‬مرات متعددة ‪ ،‬لشدَّة ضرورته و فاقته إىل هذا املطلوب‪.‬‬
‫‪ ‬مث بيَّن أن سبيل أهل هذه اهلداية مغاير لسبيل أهل الغضب و أهل الضالل ‪ ،‬و‬
‫هو اليهود ‪ ،‬و النصارى و غريهم ‪.‬‬
‫فانقسم اخللق إذن إىل ثالثة أقسام بالنسبة إىل هذه اهلداية ‪:‬‬
‫مُنعم عليه ‪ :‬حبصوهلا له و استمرارها و حظه من املنعم عليهم ‪ ،‬حبسب حظه من‬
‫تفاصيلها و أقسامها‪.‬‬
‫و ضالٌ ‪ :‬مل يُعطَ هذه اهلداية و مل يُوفق هلا ‪.‬‬
‫و مغضوب عليه ‪ :‬عَرفها و مل يوفق للعمل مبوجبها‪.‬‬
‫فالضال ‪ :‬حائد عنها ‪ ،‬حائر ال يهتدي إليها سبيال‪.‬‬
‫و املغضوب عليه ‪ :‬متحيّر منحرف عنها ؛ الحنرافه عن احلق بعد معرفته به مع‬
‫علمه هبا‪.‬‬
‫ال و اعتقادا و الضال‬ ‫فاألول املنعم عليه قائم باهلدى ‪ ،‬و دين احلق علما و عم ً‬
‫عكسه ‪ ،‬منسلخ منه علماً و عمالً‪.‬‬
‫و املغضوب عليه ال يرفع فيها رأسا ‪ ،‬عارف به علماً منسلخ عمالً ‪ ،‬و اهلل املوفق‬
‫للصواب‪.‬‬
‫و لوال أن املقصود التنبيه على املضادة و املنافرة اليت بني ذوق الصالة ‪ ،‬و ذوق‬
‫لكل مقام مقال ‪ ،‬فلنرجع‬‫السماع ‪ ،‬لبسطنا هذا املوضوع بسطاً شافيا ‪ ،‬و لكن ِّ‬
‫إىل املقصود‪.‬‬

‫عبودية التأمني و رفع اليدين‬

‫و شرع له التأمني يف آخر هذا الدعاء تفاؤالً بإجابته ‪ ،‬و حصوله ‪ ،‬و طابعاً عليه‬
‫‪ ،‬و حتقيقاً له ‪ ،‬و هلذا اشتد حسدُ اليهود للمسلمني عليه حني مسعُوهم جيهرون به‬
‫يف صالهتم‪.‬‬
‫مث شرع له رفع اليدين عند الركوع تعظيما ألمر اهلل ‪ ،‬و زينةً للصالة ‪ ،‬و عبودية‬
‫خاصةً لليدين كعبودية باقي اجلوارح ‪ ،‬و اتباعاً لسنَّة رسول اهلل صلى اهلل عليه و‬
‫سلم فهو حليةُ الصالة ‪ ،‬و زينتها و تعظيمٌ لشعائرها‪.‬‬
‫مث شرع له التكبري الذي هو يف انتقاالت الصالة من رُكن إىل ركن ‪ ،‬كالتلبية يف‬
‫انتقاالت احلاجِّ ‪ ،‬من مشعر إىل مشعر ‪ ،‬فهو شعار الصالة ‪ ،‬كما أن التلبية شعار‬
‫احلج ‪(،‬مميز ليعلم أن سر الصالة هو تعظيم الرب تعاىل و تكبريه بعبادته وحده‪) .‬‬

‫عبودية الركوع‬

‫مث شرع له بأن خيضع للمعبود سبحانه بالركوع خضوعاً لعظمة ربه ‪ ،‬و استكانة‬
‫هليبته و تذلال لعزته‪.‬‬
‫فثناء العبد على ربه يف هذا الركن ؛ هو أن حيين له صلبه ‪ ،‬و يضع له قامته ‪ ،‬و‬
‫ينكس له رأسه ‪ ،‬و حيين له ظهره ‪ ،‬و يكربه مُعظمًا له ‪ ،‬ناطقاً بتسبيحه ‪ ،‬املقترن‬
‫بتعظيمه‪.‬‬
‫فاجتمع له خضوع القلب ‪ ،‬و خضوع اجلوارح ‪ ،‬و خضوع القول على أمت‬
‫األحوال ‪ ،‬و جيتمع له يف هذا الركن من اخلضوع و التواضع و التعظيم و الذكر‬
‫ما يفرق به بني اخلضوع لربه ‪ ،‬و اخلضوع للعبيد بعضهم لبعض ‪ ،‬فإنَّ اخلضوع‬
‫وصف العبد ‪ ،‬و العظمة وصف الرب ‪.‬‬
‫و متام عبودية الركوع أن يتصاغر الراكع ‪ ،‬و يتضاءل لربه ‪ ،‬حبيث ميحو تصاغره‬
‫لربه من قلبه كلَّ تعظيم فيه لنفسه ‪ ،‬و خللقه و يثبت مكانه تعظيمه ربه وحده ال‬
‫شريك له ‪.‬‬
‫إذا عظَّم القلب الرب خرج تعظيم اخللق‬

‫و كلما استوىل على قلبه تعظيم الربِّ ‪ ،‬و قوى خرج منه تعظيم اخللق ‪ ،‬و ازداد‬
‫تصاغره هو عند نفسه فالركوع للقلب بالذات ‪ ،‬و القصد و اجلوارح بالتبع و‬
‫التكملة‪.‬‬
‫مث شرع له أن حيمد ربه ‪ ،‬و يثين عليه بآالئه عند اعتداله و انتصابه و رجوعه إىل‬
‫أحسن هيئاته ‪ ،‬منتصب القامة معتدهلا فيحمد ربه و يثين عليه بآالئه عند اعتداله‬
‫و انتصابه و رجوعه إىل أحسن تقومي ‪ ،‬بأن وفقه و هداه هلذا اخلضوع الذي قد‬
‫حرمه غريه‪.‬‬

‫عبودية القيام‬

‫مث نقله منه إىل مقام االعتدال و االستواء ‪ ،‬واقفا يف خدمته ‪ ،‬بني يديه كما كان‬
‫يف حالة القراءة يف ذلك ‪ ،‬و هلذا شرع له من احلمد و اجملد نظري ما شرع له من‬
‫حال القراءة يف ذلك‪.‬‬
‫و هلذا االعتدال ذوقٌ خاص و حال حيصل للقلب ‪ ،‬و خيصه سوى ذوق الركوع‬
‫و حاله ‪ ،‬و هو ركنٌ مقصود لذاته كركن الركوع و السجود سواء‪.‬‬
‫و هلذا كان رسول اهلل صلى اهلل عليه و سلم يُطيلُه كما يطيل الركوع و السجود‬
‫‪ ،‬و يُكثر فيه من الثناء و احلمد و التمجيد ‪ ،‬كما ذكرناه يف هديه صلى اهلل عليه‬
‫و سلم يف صالته و كان يف قيام الليل يُكثر فيه من قول ‪ " :‬لريب احلَمد ‪ ،‬لريب‬
‫احلمد " و يكرِّرها‪.‬‬
‫عبودية السجود‬

‫مث شرع له أن يكرب و يدنو و خيرَّ ساجدا ‪ ،‬و يُعطي يف سجوده كل غضو من‬
‫أعضائه حظَّه من العبودية ‪ ،‬فيضع ناصيته باألرض بني يدي ربه ‪ ،‬مسندة راغما‬
‫له أنفه ‪ ،‬خاضعا له قلبه ‪ ،‬و يضع أشرف ما فيه ـ و هو وجهه ـ باألرض و‬
‫السيما وجه قلبه مع وجهه الظاهر ساجدا على األرض معفِّراً له وجهه و أشرف‬
‫ال لعظمة‬
‫ما فيه بني يدي سيِّده ‪ ،‬راغمًا أنفه ‪ ،‬خاضعاً له قلبه و جوارحه ‪ ،‬متذلِّ ً‬
‫ربه ‪ ،‬خاضعاً لعزَّته ‪ ،‬منيباً إليه ‪ ،‬مستكيناً ذالً و خضوعاً و انكساراً ‪ ،‬قد صارت‬
‫أعاليه ملويةً ألسافله‪.‬‬
‫و قد طابق قلبُه يف ذلك حال جسده ‪ ،‬فسجد القلب للرب كما سجد اجلسد‬
‫بني يدي اهلل ‪ ،‬و قد سجد معه أنفه و وجهه ‪ ،‬و يداه و ركبتاه ‪ ،‬و رجاله فهذا‬
‫العبد هو القريب املقرَّب فهو أقرب فهو ما يكون من ربه و هو ساجد ‪.‬‬
‫و شرع له أن يُقلَّ فخذيه عن ساقيه ‪ ،‬و بطنه عن فخذيه و عَضُديه عن جنبيه ‪،‬‬
‫ليأخذ كل جزءٍ منه حظّه من اخلضوع ال حيملَ بعضه بعضاً ‪.‬‬
‫فأحرِ به به يف هذه احلال أن يكون أقرب إىل ربه منه يف غريها من األحوال كلِّها‬
‫‪ ،‬كما قال النيب صلى اهلل عليه و سلم ‪ " :‬أقربُ ما يكونُ العب ُد من ربَّه و هو‬
‫ساجدٌ "‪[.‬رواه مسلم (‪ )028‬عن أيب هريرة رضي اهلل عنه ]‪.‬‬
‫و ملا كان سجود القلب خضوعه التام لربّه أمكنه استدامة هذا السجود إىل يوم‬
‫القيامة ‪ ،‬كما قيل لبعض السلف ‪:‬‬
‫هل يسجد القلب ؟‬
‫الصالة مبناها على مخسة أركان‬

‫قال ‪ " :‬أي و اهلل سجدةً ال يرفع رأسه منها حىت يلقى اهلل عزَّ و جل "‪[.‬هذا‬
‫القول عزاه ابن تيمية لسهل بن عبد اهلل التستري كما يف لجموع الفتاوى‬
‫(‪] )122/82( )827/81‬‬
‫إشارة إىل إخبات القلب ‪ ،‬و ذلّه ‪ ،‬و خضوعه ‪ ،‬و تواضعه و إنابته و حضوره مع‬
‫اهلل أينما كان ‪ ،‬و مراقبته له يف اخلالء و املأل ‪ ،‬و ملا بنيت الصالة على مخس ‪:‬‬
‫القراءة و القيام و الركوع و السجود و الذكر ‪.‬‬
‫مسّيت باسم كل واحد من هذه اخلمس ‪:‬‬
‫فسمّيت " قياماً " لقوله ‪ { :‬قُم اللَّيل إالَّ قليالً} [ املزمل ‪ ، ]8:‬و قوله ‪:‬‬
‫{وقُومُوا هلل قانتني} [البقرة ‪.]822:‬‬
‫و "قراءة" لقوله ‪{ :‬وقرآن الفَجر إنَّ قُرآن الفَجر كان مشهُوداً} [اإلسراء‬
‫‪{ ، ]72:‬فاقرءوا ما تيَسَّر منه } [املزمل ‪.]02:‬‬
‫و مسّيت " ركوعاً " لقوله ‪ { :‬و اركعُوا مع الرَّاكعني } [ البقرة ‪ { ، ]02:‬و‬
‫إذا قيل هلم اركعوا ال يركعُون}[املراسالت ‪.]02:‬‬
‫و " سجوداً " لقوله ‪ { :‬فسبِّح حبمد ربِّك و كن مّن السَّاجدين} [ احلجر ‪:‬‬
‫‪ ، ]12‬وقوله { و اسجُد و اقترب} [العلق ‪.]11:‬‬
‫و "ذكراً " لقوله ‪ { :‬فاسعوا إىل ذكر اهلل} [ اجلمعة ‪ { ، ]1:‬ال تُلهكم‬
‫أموالكم و ال أوالدكم عن ذكر اهلل } [ املنافقون ‪.]1:‬‬
‫و أشرف أففعاهلا السجود ‪ ،‬و أشرف أذكارها القراءة ‪ ،‬و أول سورة أنزلت‬
‫على النيب صلى اهلل عليه و سلم سورة { اقرأ باسم ربِّك } افتتحت بالقراءة ‪ ،‬و‬
‫خُتمت بالسجود ‪ ،‬فوضعت الركعة على ذلك ‪ ،‬أوهلا قراءة و آخرها سجود‪.‬‬
‫حال العبد بني السجدتني‬

‫مث شرع له أن يرفع رأسه ‪ ،‬و يعتدل جالساً ‪ ،‬و ملا كان هذا االعتدال حمفوفا‬
‫بسجودين ؛ سجود قبله ‪ ،‬و سجود بعده ‪ ،‬فينتقل من السجود إليه ‪ ،‬مث منه إىل‬
‫السجود اآلخر ‪ ،‬كان له شأن ‪ ،‬فكان رسول اهلل صلى اهلل عليه و سلم يطيل‬
‫اجللوس بني السجدتني بقدر السجود يتضرع إىل ربه فيه ‪ ،‬و يدعوه و يستغفره ‪،‬‬
‫و يسأله رمحته ‪ ،‬و هدايته و رزقه و عافيته ‪ ،‬و له ذوق خاص ‪ ،‬و حال للقلب‬
‫غري ذوق السجود و حاهلن ؛ فالعبد يف هذا القعود يتمثَّل جاثيا بني يدي ربه ‪،‬‬
‫مُلقيا نفسه بني يديه ‪ ،‬مُعتَذراً إليه مما جَناَه ‪ ،‬راغباً إليه أن يغفر له و يرمحه ‪،‬‬
‫مستَعدياً له على نفسه األمَّارة بالسوء‪.‬‬

‫ملاذا االستغفار بني السجدتني‬

‫و قد كان النيب صلى اهلل عليه و سلم يكرر االستغفار يف هذه اجللسة فيقول ‪" :‬‬
‫رب اغفر يل ‪ ،‬رب اغفر يل ‪ ،‬رب اغفر يل " ‪ ،‬و يكثر من الرغبة فيها إىل ربه‪.‬‬
‫فمثِّل أيها املصلي نفسك فيها مبنزلة غرمي عليه حق ‪ ،‬و أنت كفيل به ‪ ،‬و الغرمي‬
‫مماطل خمادع ‪ ،‬و أنت مطلوب بالكفالة ‪ ،‬و الغرمي مطلوب باحلق ‪ ،‬فأنت‬
‫تستعدي عليه حىت تستخرج ما عليه من احلق ‪،‬؛ لتتخلص من املطالبة ‪ ،‬و القلب‬
‫شريك النفس يف اخلري و الشر ‪ ،‬و الثواب و العقاب ‪ ،‬و احلمد و الذم ‪.‬‬
‫و النفس من شأهنا اإلباق و اخلروج من رقِّ العبودية ‪ ،‬و تضييع حقوق اهلل عو و‬
‫جل و حقوق العباد اليت قبلها ‪ ،‬و القلب شريكها إن قوي سلطاهنا و أسريها ‪ ،‬و‬
‫هي شريكته و أسريته إن قوي سلطانه‪.‬‬
‫فشرع للعبد إذا رفع رأسه من السجود أن جيثو بني يدي اهلل تعاىل مستعديا على‬
‫نفسه ‪ ،‬معتذرا من ذنبه إىل ربه و مما كان منها ‪ ،‬راغباً إليه أن يرمحه و يغفر له و‬
‫يرمحه و يهديه و يرزقه و يعافيه ‪ ،‬ز هذه اخلمس كلمات ‪ ،‬قد مجعت مجاع خري‬
‫الدنيا و اآلخرة فإن العبد حمتاج بل مضطر إىل حتصيل مصاحله يف الدنيا و يف‬
‫اآلخرة ‪ ،‬و دفع املضار عنه يف الدنيا و اآلخرة ‪ ،‬و قد تضمّن هذا الدعاء ذلك‬
‫كله‪.‬‬
‫فإن الرزق جيلب له مصاحل دنياه و أخراه و جيمع رزق بدنه و رزق قلبه و روحه‬
‫‪ ،‬و هو أفضل الرازقني‪.‬‬
‫و العافية تدفع مضارّها‪.‬‬
‫و اهلداية جتلب له مصاحل أخراه‪.‬‬
‫و املغفرة تدفع عنه مضارّ الدنيا و اآلخرة‪.‬‬
‫و الرمحة جتمع ذلك كلّه‪ .‬و اهلداية تعمُّ تفاصيل أموره كلّها‪.‬‬
‫و شرع له أن يعودَ ساجداً كما كان ‪ ،‬و ال يكتفي منه بسجدة واحدة يف‬
‫الركعة كما اكتفى منه بركوع واحد ؛ و ذلك لفضل السجود و شرفه و قرب‬
‫العبد من ربِّه و موقعه من اهلل عز و جل ‪ ،‬حىت إنَّه أقرب ما يكون إىل ربه و هو‬
‫ساجد ‪ ،‬و هو أشهر يف العبودية و أعرق فيها من غريه من أركان الصالة ؛ و‬
‫هلذا جُعل خامتة الركعة ‪ ،‬و ما قبله كاملقدمة بني يديه ‪ ،‬فمحلّه من الصالة حمل‬
‫طواف الزيارة ‪ ،‬و كما أنه أقرب ما يكون العبد من ربه و هو ساجد ‪ ،‬فكذلك‬
‫أقرب ما يكون منه يف املناسك و هو طائف كما قال ابن عمر ملن خطب ابنته و‬
‫هو يف الطواف فلم يرد عليه فلما فرغ من الطواف قال ‪ :‬أتذكر أمراً من أمور‬
‫الدنيا و حنن نتراءى هلل سبحانه و تعاىل يف طوافنا‪.‬‬
‫و هلذا و اهلل أعلم ‪ ،‬جُعل الركوع قبل السجود تدرجيا و انتقاالً من الشيء إىل ما‬
‫هو أعلى منه‪.‬‬
‫ملاذا يكرر السجود مرتان‬

‫و شُرع له تكرير هذه األفعال و األقوال ؛ إذ هي غذاء القلب و الروح اليت ال‬
‫قوام هلما إال هبا ‪ ،‬فكان تكريرها مبنزلة تكرير األكل لقمة بعد لقمة حىت يشبع ‪،‬‬
‫و الشرب نفسا بعد نفس حىت يَروى ‪ ،‬فلو تناول اجلائع لقمة واحدة مث دفع‬
‫الطعام من بني يديه فماذا كانت يغين عنه تلك اللقمة ؟ و رمبا فتحت عليه باب‬
‫اجلوع أكثر مما به ؛ و هلذا قال بعض السلف ‪ " :‬مثل الذي يصلي و ال يطمئن يف‬
‫صالته كمثل اجلائع إذا قدم إليه طعام فتناول منه لقمة أو لقمتني ماذا تغين عنه‬
‫ذلك"‪.‬‬
‫و يف إعادة كل قول أو فعل من العبودية و القرب ‪ ،‬و تنزيل الثانية منزلة الشكر‬
‫على األوىل ‪ ،‬و حصول مزيد خري و إميان من فعلها ‪ ،‬و معرفة و إقبال و قوة‬
‫قلب ‪ ،‬و انشراح صدر و زوال درنٍ و وسخٍ عن القلب مبنزلة غسل الثوب مرَّة‬
‫بعد مرَّة ‪.‬‬
‫فهذه حكمة اهلل اليت بَهَرت العقول حكمته يف خلقه و أمره ‪ ،‬و دلَّت على كمال‬
‫رمحته و لطفه ‪ ،‬و ما مل حتط به علمًا منها أعلى و أعظم و أكرب و إمنا هذا يسري‬
‫من كثري منها‪.‬‬
‫فلما قضى صالته و أكملها و مل يبق إال االنصراف منها ‪ ،‬فشرع اجللوس يف‬
‫آخرها بني يدي ربه مُثنياً عليه مبا هو أهله ‪ ،‬فأفضل ما يقول العبد يف جلوسه‬
‫هذه التحيات اليت ال تصلح إال هلل ‪ ،‬و ال تليق بغريه‪.‬‬
‫عبودية اجللوس للتشهد و معىن التحيات‬

‫و ملا كان من عادة امللوك أن حييوا بأنواع التحيات من األفعال و األقوال‬


‫املتضمنة للخضوع هلم ‪ ،‬و الذل ‪ ،‬و الثناء عليهم و طلب البقاء ‪ ،‬و الدوام هلم ‪،‬‬
‫و أن يدوم ملكهم‪.‬‬
‫فمنهم ‪ :‬من حييّي بالسجود و منهم من حييي بالثناء عليه‬
‫و منهم ‪ :‬من حييي بطلب البقاء ‪ ،‬و الدوام له ‪.‬‬
‫و منهم ‪ :‬من جيمع له ذلك كلّه فيسجد له ‪ ،‬مث يثين عليه ‪ ،‬مث يدعي له بالبقاء و‬
‫الدوام‪.‬‬
‫و كان امللك احلق املبني ‪ ،‬الذي كل شيء هالك إال وجهه سبحانه أوىل‬
‫بالتحيات كلِّها من مجيع خلقه ‪ ،‬و هي له باحلقيقة و هو أهلها ؛ و هلذا فُسرت‬
‫التحيات بامللك ‪ ،‬و فسرت بالبقاء و الدوام ‪ ،‬و حقيقتها ما ذكرته ‪ ،‬و هي‬
‫حتيات املُلك و املَلك و املليك‪.‬‬
‫فاهلل سبحانه هو املتصف جبميع ذلك ‪ ،‬فهو أوىل به فهو سبحانه املَلك ‪ ،‬و له‬
‫املُلك ‪ ،‬فكل حتية حتي هبا ملك من سجود أو ثناء ‪ ،‬أو بقاء ‪ ،‬أو دوام فهي هلل‬
‫على احلقيقة ؛ و هلذا أتى هبا لجموعة معرَّفة باأللف و الالم إرادة للعموم ‪ ،‬و هي‬
‫مجع حتية ‪ ،‬حتيا هبا امللوك ‪ ،‬و هي " تُفعُلة" من احلياة ‪ ،‬و أصلها " حتييه" على‬
‫وزن " تكرمه" ‪ ،‬مث أدغم إحدى اليائني يف اآلخر فصارت " حتيَّة " فإذا كان‬
‫أصلها من احلياة ‪ ،‬و املطلوب منها ملن حتي هبا دوام احلياة ‪ ،‬كما كانوا يقولون‬
‫مللوكهم ‪:‬‬
‫لك احلياة الباقية ‪ ،‬و لك احلياة الدائمة‪.‬‬
‫و بعضهم يقول ‪ :‬عش عشرة آالف سنة‪.‬‬
‫و اشتق منها ‪:‬‬
‫أدام اهلل أيامك أو أيامه ‪ ،‬و أطال اهلل بقاءك‪.‬‬
‫و حنو ذلك مما يراد به دوام احلياة و امللك ‪ ،‬فذلك مجيعه ال ينبغي إال هلل احلي‬
‫القيوم الذي ال ميوت‪.‬‬
‫الذي كل مَلكٍ سواه ميوت ‪ ،‬و كل مُلك سوى ملكه زائل‪.‬‬

‫عطف الصلوات و الطيبات‬

‫مث عطف عليها الصلوات بلفظ اجلمع و التعريف ؛ ليشمل ذلك كلّما أُطلق عليه‬
‫لفظ الصالة خصوصا و عموماً ‪ ،‬فكلّها هلل و ال تنبغي إال له ‪،‬فالتحيات له ملكاً‬
‫‪ ،‬و الصلوات له عبودية و استحقاقاً ‪ ،‬فالتحيات ال تكون إال هلل ‪ ،‬و الصلوات ال‬
‫تنبغي إال له ‪.‬‬
‫مث عطف عليها بالطيِّبات ‪ ،‬و هذا يتناول أمرين ‪ :‬الوصف و امللك‪.‬‬
‫طيبٌ ‪ ،‬و فعله كلّه طيب ‪ ،‬و ال‬‫فأما الوصفُ ‪ :‬فإنه سبحانه طيِّب ‪ ،‬و كالمه ِّ‬
‫يصدر منه إال طيّب ‪ ،‬و ال يضاف إليه إال الطيِّب ‪ ،‬و ال يصعد إليه إال الطيّب‪.‬‬

‫معىن الطيِّبات‬

‫فالطيبات له وصفًا و فعالً و قوالً و نسب ًة ‪ ،‬و كلّ طيّب مضاف إليه طيّب ‪ ،‬فله‬
‫الكلمات الطيبات و األفعال ‪ ،‬و كلّ مضاف إليه كبيته و عبده ‪ ،‬و روحه و‬
‫ناقته ‪ ،‬و جنته دار الطيبني ‪ ،‬فهي طيبات كلّها ‪ ،‬و أيضا فمعاين الكلمات‬
‫الطيبات هلل وحده ‪ ،‬فإهنا تتضمن تسبيحه ‪ ،‬و حتميده ‪ ،‬و تكبريه ‪ ،‬و متجيده ‪ ،‬و‬
‫الثناء عليه باآلئه و أوصافه ؛ فهذه الكلمات الطيبات اليت يثىن عليه هبا ‪ ،‬و‬
‫معانيها له وحده ال شريك له ‪ :‬كسبحانك اللهمَّ و حبمدك وتبارك امسك و تعاىل‬
‫جدك و ال إله غريك‪.‬‬
‫و كسبحان اهلل و احلمد هلل ‪ ،‬و ال إله إال اهلل ‪ ،‬و اهلل أكرب‪.‬‬
‫و سبحان اهلل و حبمده ‪ ،‬سبحان اهلل العظيم ‪ ،‬و حنو ذلك ‪ .‬و كلّ طيّب له و‬
‫عنده و منه و إليه ‪ ،‬و هو طيّب ال يقبل إال طيّبًا ‪ ،‬و هو إله الطيبني و رهبم ‪ ،‬و‬
‫جريانه يف دار كرامته ‪ ،‬هم الطيبون‪.‬‬

‫أطيب الكالم بعد القرآن‬

‫فتأمل أطيب الكلمات بعد القرآن ‪ ،‬كيف ال تنبغي إال هلل ؟ و هي ‪ :‬سبحان اهلل‬
‫و احلمد هلل و ال إله إال اهلل و اهلل أكرب و ال حول و ال قوة إال باهلل ‪ ،‬فإن "‬
‫سبحان اهلل " تتضمن تنزيهه عن كل نقص و عيب و سوء عن خصائص‬
‫املخلوقني و شبههم‪.‬‬
‫ال ‪ ،‬و وصفاً على أمتِّ‬ ‫و " احلمد هلل " تتضمن إثبات كلّ كمال له قوالً ‪ ،‬و فع ً‬
‫الوجوه ‪ ،‬و أكملها أزالً و أبداً ‪.‬‬
‫و " ال إله إال اهلل " تتضمن انفراده باإلهلية ‪ ،‬و أن كل معبود سواه باطل ‪ ،‬و أنه‬
‫وحده اإلله احلق ‪ ،‬و أن من تأله غريه فهو مبنزلة من اختذ بيتًا من بيوت‬
‫العنكبوت ‪ ،‬يأوي إليه ‪ ،‬و يسكنه من احلرِّ و الربد ‪ ،‬فهل يغين عنه ذلك شيئاً ‪.‬‬
‫و " اهلل أكرب " تتضمن أنه أكرب من كلِّ شيء ‪ ،‬و أجل ‪ ،‬و اعظم ‪ ،‬و أعز و‬
‫أقوى و أمنع ‪ ،‬و أقدر ‪ ،‬و اعلم ‪ ،‬و أحكم ‪ ،‬فهذه الكلمات ال تصح هي و‬
‫معانيها إال هلل وحده‪.‬‬
‫عبودية التَّسليم على األنبياء و الصاحلني‬

‫مث شرع له أن يسلِّم على سائر عباد اهلل الصاحلني ‪ ،‬و هم عباده الذين اصطفى‬
‫بعد الثناء ‪ ،‬و تقدمي احلمد هلل فطابق ذلك قوله ‪ { :‬قُل احلمدُ هللِ و سال ٌم على‬
‫عباده الذين اصطفى}[النمل ‪ ، ]71:‬و كأنه امتثال له ‪ ،‬و أيضا فإن هذا حتية‬
‫املخلوق فشرعت بعد حتية اخلالق و قدم يف هذه التحية أوىل اخللق هبا و هو النيب‬
‫صلى اهلل عليه و سلم ‪ ،‬الذي نالت أمته على يده كل خري ‪ ،‬و على نفسه ‪ ،‬و‬
‫بعده و على سائر عباد اهلل الصاحلني ‪ ،‬و أخصهم هبذه التحية األنبياء و املالئكة ‪،‬‬
‫مث أصحاب حممد صلى اهلل عليه و سلم ‪ ،‬و أتباع األنبياء مع عمومها كل عبد‬
‫صاحل يف السماء و األرض‪.‬‬
‫مث شرع له بعد هذه التحية السالم على من يستحق السالم عليه خصوصاً و‬
‫عموماً‪.‬‬

‫معىن الشهادتني يف التحيات‬

‫مث شرع له أن يشهد شهادة احلق اليت بنيت عليها الصالة ‪ ،‬و الصالة حق من‬
‫حقوقها ‪ ،‬و ال تنفعه إال بقرينتها و هي الشهادة للرسول صلى اهلل عليه و سلم‬
‫بالرسالة ‪ ،‬و ختمت هبا الصالة كما قال عبد اهلل بن مسعود ‪ " :‬فإذا قلت ذلك‬
‫فقد قضيت صالتك ‪ ،‬فإن شئت فقم و إن شئت فاجلس"‪.‬‬
‫و هذا إما أن حيمل على انقضائها إذا فرغ منه حقيقة ‪ ،‬كما يقوله الكوفيون ‪ ،‬او‬
‫على مقاربة انقضائها و مشارفته ‪ ،‬كما يقول أهل احلجاز و غريهم ‪ ،‬و على‬
‫التقديرين فجعلت شهادة احلق خامتة الصالة ‪ .‬كما شرع أن تكون هي خامتة‬
‫احلياة‪.‬‬
‫"فمن كان آخر كالمه ال إله إال اهلل دخل اجلنة "‪.‬‬
‫و كذلك شرع للمتوضئ أن خيتتم وضوءه بالشهادتني ‪ ،‬مث ملا قضى صالته أذن‬
‫له أن يسأل حاجته‪.‬‬

‫الصالة على النيبِّ‬

‫و شرع له أن يتوسل قبلها بالصالة على النيب صلى اهلل عليه و سلم ‪ ،‬فإهنا من‬
‫أعظم الوسائل بني يدي الدعاء ‪ ،‬كما يف السنن عن فضالة بن عبيد أن رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه و سلم قال ‪" :‬إذا دعا أحدكم فليبدأ حبمد اهلل ‪ ،‬و الثناء عليه ‪ ،‬و‬
‫ليصل على رسوله مث ليسل حاجته"‪.‬‬
‫مث جعل الدعاء آلخر الصالة كاخلتم عليها‪.‬‬
‫فجاءت التحيات على ذلك ‪ ،‬أوهلا محدٌ هلل ‪ ،‬و الثناء عليه مث الصالة على رسوله‬
‫مث الدعاء آخر الصالة ‪ ،‬و َأذِنَ النيب صلى اهلل عليه و سلم للمصلي بعد الصالة‬
‫عليه أن يتخري من املسألة ما يشاء‪.‬‬

‫سنن اآلذان اخلمس‬

‫و نظري هذا ما شرع ملن مسع اآلذان ‪:‬‬


‫أن يقول كما يقول املؤذن‪.‬‬
‫و أن يقول رضيت باهلل ربا ‪ ،‬و باإلسالم دينا ‪ ،‬و مبحد رسوالً‪.‬‬
‫و أن يسأل اهلل لرسوله الوسيلة و الفضيلة ‪ ،‬و أن يبعثه املقام احملمود‪.‬‬
‫مث ليصل عليه ‪.‬‬
‫مث يسأل حاجته‪.‬‬
‫فهذه مخس سنن يف إجابة املؤذن ال ينبغي الغفلة عنها‪.‬‬
‫فصلٌ‬
‫سرّ الصالة اإلقبال على اهلل‬

‫و سرُّ الصالة و روحها و لبُّها ‪ ،‬هو إقبال العبد على اهلل بكليّته فيها ‪ ،‬فكما أنه‬
‫ال ينبغي أن يصرف وجهه عن القبلة إىل غريها فيها ‪ ،‬فكذلك ال ينبغي له أن‬
‫يصرف قلبه عن ربِّه إىل غريه فيها‪.‬‬
‫بل جيعل الكعبة ـ اليت هي بيت اهلل ـ قبلة وجهه و بدنه ‪ ،‬و رب البيت تبارك‬
‫و تعاىل قبلة قلبه و روحه ‪ ،‬و على حسب إقبال العبد على اهلل يف صالته ‪ ،‬يكون‬
‫إقبال اهلل عليه ‪ ،‬و إذا أعرضَ أعرض اهلل عنه ‪ ،‬كما تدين تُدان‪.‬‬

‫لإلقبال على اهلل يف الصالة ثالث منازل‬

‫و اإلقبال يف الصالة على ثالثة منازل‪:‬‬


‫*إقبال العبد على قلبه فيحفظه و يصلحه من أمراض الشهوات و الوساوس ‪ ،‬و‬
‫اخلطرات املُبطلة لثواب صالته أو املنقصة هلا‪.‬‬
‫* و الثاين ‪ :‬إقباله على اهلل مبراقبته فيها حىت يعبده كانه يراه‪.‬‬
‫*و الثالث ‪ :‬إقباله على معاين كالم اهلل ‪ ،‬و تفاصيله و عبودية الصالة ليعطيها‬
‫حقها من اخلشوع و الطمأنينة و غري ذلك‪.‬‬
‫فباستكمال هذه املراتب الثالث يكون قد أقام الصالة حقًا ‪ ،‬و يكون إقبال اهلل‬
‫على املصلي حبسب ذلك‪.‬‬
‫كيف يكون اإلقبال يف كل جزء من أجزاء الصالة‬

‫فإذا انتصب العبد قائماً بني يديه ‪ ،‬فإقباله على قيُّومية اهلل و عظمته فال يتفلت مينة‬
‫و ال يسرة‪.‬‬
‫و إذا كبَّر اهلل تعاىل كان إقباله على كربيائه و إجالله و عظمته‪.‬‬
‫و كان إقباله على اهلل يف استفتاحه على تسبيحه و الثناء عليه و على سُبحات‬
‫وجهه ‪ ،‬و تنزيهه عمَّا ال يليق به ‪ ،‬و يثين عليه بأوصافه و كماله‪.‬‬
‫فإذا استعاذ باهلل من الشيطان الرجيم ‪ ،‬كان إقباله على ركنه الشديد ‪ ،‬و سلطانه‬
‫و انتصاره لعبده ‪ ،‬و منعه له منه و حفظه من عدوه‪.‬‬
‫و إذا تلى كالمه كان إقباله على معرفته يف كالمه كأنه يراه و يشاهده يف كالمه‬
‫كما قال بعض السلف ‪ :‬لقد جتلّي اهلل لعباده يف كالمه‪.‬‬
‫و الناس يف ذلك على أقسام و هلم يف ذلك مشارب ‪ ،‬و أذواق فمنهم البصري ‪ ،‬و‬
‫األعور ‪ ،‬و األعمى ‪ ،‬و األصم ‪ ،‬و األعمش ‪ ،‬و غري ذلك ‪ ،‬يف حال التالوة و‬
‫الصالة ‪ ،‬فهو يف هذه احلال ينبغي له أن يكون مقبالً على ذاته و صفاته و أفعاله‬
‫و أمره و هنيه و أحكامه و أمسائه‪.‬‬
‫و إذا ركع كان إقباله على عظمة ربه ‪ ،‬و إجالله و عزه و كربسائه ‪ ،‬و هلذا‬
‫شرع له يف ركوعه أن يقول ‪ " :‬سبحان ريب العظيم " ‪.‬‬
‫فإذا رفع رأسه من الركوع كان إقباله على محد ربه و الثناء عليه و متجيده و‬
‫عبوديته له و تفرده بالعطاء و املنع‪.‬‬
‫فإذا سجد ‪ ،‬كان إقباله على قربه ‪ ،‬و الدنو منه ‪ ،‬و اخلضوع له و التذلل له ‪ ،‬و‬
‫االفتقار إليه و االنكسار بني يديه ‪ ،‬و التملق له‪.‬‬
‫فإذا رفع رأسه من السجود جثى على ركبتيه ‪ ،‬و كان إقباله على غنائه وجوده ‪،‬‬
‫و كرمه و شدة حاجته إليه ّن ‪ ،‬و تضرعه بني يديه و االنكسار ؛ أن يغفر له و‬
‫يرمحه ‪ ،‬و يعافيه و يهديه و يرزقه‪.‬‬
‫فإذا جلس يف التشهد فله حال آخر ‪ ،‬و إقبال آخر يشبه حال احلاج يف طواف‬
‫الوداع ‪ ،‬و استشعر قلبه االنصراف من بني يدي ربه إىل أشغال الدنيا و العالئق‬
‫و الشواغل اليت قطعه عنها الوقوف بني يدي ربه و قد ذاق قلبه التأمل و العذاب‬
‫هبا قبل دخوله يف الصالة ‪ ،‬فباشر قلبه روح القرب ‪ ،‬و نعيم اإلقبال على اهلل‬
‫تعاىل ‪ ،‬و عافيته منها و انقطاعها عنه مدة الصالة ‪ ،‬مث استشعر قلبه عوده إليها‬
‫خبروجه من محى الصالة ‪ ،‬فهو حيمل همَّ انقضاء الصالة و فراغه منها و يقول ‪:‬‬
‫ليتها اتصلت بيوم اللقاء‪.‬‬
‫و يعلم أنه ينصرف من مناجاة مَن كلّ السعادة يف مناجته ‪ ،‬إىل مناجاة من كان‬
‫األذى و اهلم و الغم و النكد يف مناجاته ‪ ،‬و ال يشعر هبذا و هذا إال من قلبه حي‬
‫معمور بذكر اهلل و حمبته ‪ ،‬و األنس به ‪ ،‬و من هو عامل مبا يف مناجاة اخللق و‬
‫رؤيتهم ‪ ،‬و خمالطتهم من األذى و النكد ‪ ،‬و ضيق الصدر و ظلمة القلب ‪ ،‬و‬
‫فوات احلسنات ‪ ،‬و اكتساب السيئات ‪ ،‬و تشتيت الذهن عن مناجاة اهلل تعاىل‬
‫عز و جل ‪.‬‬

‫الكالم على التسليم‬

‫و ملا كان العبد بني أمرين من ربه عز و جل ‪:‬‬


‫أحدمها ‪ :‬حكم الرب عليه يف أحواله كلها ظاهرا و باطنا ‪ ،‬و اقتضاؤه من القيام‬
‫بعبودية حكمه ‪ ،‬فإن لكلّ حكم عبودية ختصه ‪ ،‬أعين احلكم الكوين القدري‪.‬‬
‫و الثاين ‪ :‬فعل ‪ ،‬يفعله العبد عبودية لربه ‪ ،‬و هو موجب حكمه الديين األمري‪.‬‬
‫و كال األمرين يوجبان بتسليم النفس إىل اهلل سبحانه ‪ ،‬و هلذا اشتق له اسم‬
‫اإلسالم من التسليم ‪ ،‬فإنه ملا سلّم حلكم ربه الديين األمري ‪ ،‬و حلكمه الكوين‬
‫القدري ‪ ،‬بقيامه بعبودية ربه فيه ال باسترساله معه يف اهلوى ‪ ،‬و الشهوات ‪ ،‬و‬
‫املعاصي ‪ ،‬و يقول ‪ :‬قدَّر عليّ استحق اسم اإلسالم فقيل له ‪ :‬مسلم‪.‬‬

‫الشروع يف بيان مثرات اخلشوع‬

‫و ملا اطمأن قلبه بذكر اهلل ‪ ،‬و كالمه ‪ ،‬و حمبته و عبوديته سكن إىل ربه ‪ ،‬و‬
‫قرب منه ‪ ،‬و قرَّت به عينه فنال األمان بإميانه و نال السعادة بإحسانه ‪ ،‬و كان‬
‫قيامه هبذين األمرين أمرًا ضرورياً اه ال حياة له ‪ ،‬و ال فالح و ال سعادة إال به ‪.‬‬
‫و ملا كان ما بُلي به من النفس األمارة ‪ ،‬و اهلوى املقتضي ملرادها و الطباع‬
‫املطالبة ‪ ،‬و الشيطان املغوي ‪ ،‬يقتضون منه إضاعة حظه من ذلك ‪ ،‬أو نقصانه ‪،‬‬
‫اقتضت رمحة ربه العزيز الرحيم أن شَرَعَ له الصالة مُخلِفة عليه ما ضاع عليه من‬
‫ذلك ‪ ،‬رادَّة عليه ما ذهب منه ‪ ،‬لجددة له ما ذهب من عزمه و ما فقده ‪ ،‬و ما‬
‫أخلِقَ من إميانه ‪ ،‬و جعل بني كل صالتني برزخا من الزمان حكمة و رمحة ‪،‬‬
‫ليُجمّ نفسه ‪ ،‬و ميحو هبا ما يكتسبه من الدرن ‪ ،‬و جعل صورهتا على صورة‬
‫أفعاله ‪ ،‬خشوعاً و خضوعاً و انقياداً و تسليمًا و أعطى كل جارحة من جوارحه‬
‫حظَّها من العبودية ‪ ،‬و جعل مثرهتا و روحها إقباله على ربه فيها بكليته ‪ ،‬و جعل‬
‫ثواهبا و حملها الدخول عليه تبارك و تعاىل ‪ ،‬و التزين للعرض عليه تذكرياً‬
‫بالعرض األكرب عليه يوم القيامة‪.‬‬
‫لكل شيء مثرة و مثرة الصالة اإلقبال على اهلل‬

‫و كما أن الصوم مثرته تطهري النفس ‪ ،‬و مثرة الزكاة تطهري املال ‪ ،‬و مثرة احلج‬
‫وجوب املغفرة ‪ ،‬و مثرة اجلهاد تسليم النفس إليه ‪ ،‬اليت اشتراها سبحانه من العباد‬
‫‪ ،‬و جعل اجلنة مثنها ؛ فالصالة مثرهتا اإلقبال على اهلل ‪ ،‬و إقبال اهلل سبحانه على‬
‫العبد ‪ ،‬و يف اإلقبال على اهلل يف الصالة مجيع ما ذكر من مثرات األعمال و مجيع‬
‫مثرات األعمال يف اإلقبال على اهلل فيها‪.‬‬
‫و هلذا مل يقل النيب صلى اهلل عليه و سلم ‪ :‬جعلت قرة عيين يف الصوم ‪ ،‬و ال يف‬
‫احلج و العمرة ‪ ،‬و ال يف شيء من هذه األعمال و إمنا قال ‪ " :‬و جعلت قرة عيين‬
‫يف الصالة "‪.‬‬
‫و تأمل قوله ‪ " :‬و جعلت قرة عيين يف الصالة " و مل يقل ‪ " :‬بالصالة " ‪،‬‬
‫إعالمًا منه بأن عينه ال تقر إال بدخوله كما تقر عني احملب مبالبسته حملبوبه و تقر‬
‫عني اخلائف بدخول يف حمل أنسه و أمنه ‪ ،‬فقرة العني بالدخول يف الشيء أم و‬
‫أكمل مِت قرة العني به قبل الدخول فيه ‪ ،‬و ملا جاء إىل راحة القلب من تعبه و‬
‫نصبه قال ‪ " :‬يا بالل أرحنا بالصالة "‪.‬‬

‫ملاذا الراحة بالصالة ؟‬

‫أي أقمها لنستريح هبا من مقاساة الشواغل كما يستريح التعبان إذا وصل إىل‬
‫قر فيه ‪ ،‬و سكن و فارق ما كان فيه من التعب و النصب‪.‬‬ ‫مأمنه و منزله و َّ‬
‫و تامل كيف قال ‪ " :‬أرحنا بالصّالة " و مل يقل ‪ " :‬أرحنا منها " ‪ ،‬كما يقوله‬
‫املتكلف الكاره هلا ‪ ،‬الذي ال يصليها إال على إغماض و تكلف ‪ ،‬فهو يف عذاب‬
‫ما دام فيها ‪ ،‬فإذا خرج منها وجد راحة قلبه و نفسه ؛ و ذلك أنَّ قلبه ممتلئ‬
‫بغريه ‪ ،‬و الصالة قاطعة له عن أشغاله و حمبوباته الدنيوية ‪ ،‬فهو معذَّب هبا حىت‬
‫خيرج منها ‪ ،‬و ذلك ظاهر يف أحواله فيها ‪ ،‬من نقرها ‪ ،‬و التفات قلبه إىل غري‬
‫ربه ‪ ،‬و ترك الطمأنينة و اخلشوع فيها ‪ ،‬و لكن قد عَلِمَ أنَّه ال بدّ له من أدائها ‪،‬‬
‫فهو يؤديها على أنقص الوجوه ‪ ،‬قائل بلسانه ما ليس يف قلبه و يقول بلسان قلبه‬
‫حىت نصلي فنستريح من الصالة ‪ ،‬ال هبا‪.‬‬
‫فهذا لونٌ و ذاك لونٌ آخر ‪.‬‬
‫ففرق بني مَن كانت الصالة جلوارحه قيداً ثقيالً ‪ ،‬و لقلبه سجناً ضيقا حرجًا ‪ ،‬و‬
‫لنفسه عائقا ‪ ،‬و بني مَن كانت الصالة لقلبه نعيمًا ‪ ،‬و لعينه قرة و جلوارحه راحة‬
‫‪ ،‬و لنفسه بستاناً و لذة‪.‬‬
‫فاألول ‪ :‬الصالة سجن لنفسه ‪ ،‬و تقييد جلوارحه عن التورط يف مساقط‬
‫اهللكات ‪ ،‬و قد ينال هبا التكفري و الثواب ‪ ،‬أو ينال من الرمحة حبسب عبوديته هلل‬
‫تعاىل فيها ‪ ،‬و قد يعاقب على ما نقص منها‪.‬‬
‫و القسم اآلخر ‪ :‬الصالة بستان له ‪ ،‬جيد فيها راحة قلبه ‪ ،‬و قرّة عينه ‪ ،‬و لذَّة‬
‫نفسه ‪ ،‬و راحة جوارحه ‪ ،‬و رياض روحه ‪ ،‬فهو فيها يف نعيم يتفكَّه ‪ ،‬و يف نعيم‬
‫عز و جل ‪ ،‬و‬ ‫يتقلَّب يوجب له القرب اخلاص و الدنو ‪ ،‬و املنزلة العالية من اهلل َّ‬
‫يشارك األولني يف ثواهبم ‪ ،‬بل خيتص بأعاله ‪ ،‬و ينفرد دوهنم بعلو املنزلة و القربة‬
‫‪ ،‬اليت هي قدر زائد على لجرد الثواب‪.‬‬

‫من فوائد الصالة القرب من اهلل‬

‫و هلذا َتعِدُ امللوك من أرضاهم باألجر و التقريب ‪ ،‬كما قال السحرة لفرعون ‪{ :‬‬
‫إنَّ َلنَا ألَجراً إن كُنَّا حننُ الغالبنيَ} [الشعراء‪ { ، ]01:‬قالَ نَعم و إنَّكم لَمنَ‬
‫املُقرَّبني} [األعراف ‪.]110 :‬‬
‫فوعدهم باألجر و القرب ‪ ،‬و هو علو املنزلة عنده‪.‬‬
‫فاألول ‪ :‬مَثَله مثل عبد دخل الدار ‪ ،‬دار امللك ‪ ،‬و لكن حيل بينه و بني رب‬
‫الدار بسترٍ و حجاب ‪ ،‬فهو حمجوب من وراء الستر فلذلك مل تقر عينه بالنظر‬
‫إىل صاحب الدار و النظر إليه ؛ ألنه حمجوب بالشهوات ‪ ،‬و غيوم اهلوى و‬
‫دخان النَفس ‪ ،‬و خبار األماين ‪ ،‬فالقلب منه بذلك و بغريه عليل ‪ ،‬و النفس مُكبَّة‬
‫على ما هنواه ‪ ،‬طالبة حلظها العاجل‪.‬‬
‫فلهذا ال يريد أحد من هؤالء الصالة إال على إغماض ‪ ،‬و ليس له فيها راحة ‪ ،‬و‬
‫ال رغبة و ال رهبة فهو يف عذاب حىت خيرج منها إىل ما فيه قرة عينه من هواه و‬
‫دنياه‪.‬‬
‫و القسم اآلخر ‪:‬مَثَُل ُه كمث ِل َرجُلٍ دخَل دار امللك ‪ ،‬و رفع الستر بينه وبينه ‪،‬‬
‫فقرَّت عينه بالنظر إىل امللك ‪ ،‬بقيامه يف خدمته و طاعته ‪ ،‬و قد أحتفه امللك‬
‫بأنواع التحف ‪ ،‬و أدناه و قربه ‪ ،‬فهو ال حيب االنصراف من بني يديه ‪ ،‬ملا جيده‬
‫من لذَّة القرب و قرة العني ‪ ،‬و إقبال امللك عليه ‪ ،‬و لذة مناجاة امللك ‪ ،‬و طيب‬
‫كالمه ‪ ،‬و تذلُّله بني يديه ‪ ،‬فهو يف مزيد مناجاة ‪ ،‬و التحف وافدة عليه مِن كلِّ‬
‫جهة ‪ ،‬و مكنت و قد اطمأنت نفسه ‪ ،‬و خشع قلبه لربه و جوارحه ‪ ،‬فهو يف‬
‫سرورٍ و راحةٍ يعبد اهلل ‪ ،‬كأنه يراه ‪ ،‬و جتلَّى له يف كالمه ‪ ،‬فأشد شيء عليه‬
‫انصرافه مِن بني يديه ‪ ،‬و اهلل املوفق املُرشد املعني ‪ ،‬فهذه إشارة و نبذة يسرية يف‬
‫جتل من جتلياهتا‪.‬‬
‫ذوق الصالة ‪ ،‬و سرّ من أسرارها و ٍّ‬
‫فصل‬
‫الفرق بني أهل السماع و أهل الصالة‬

‫فنحن نناشد أهل السماع باهلل الذي ال إله إال هو ‪ ،‬هل جيدون يف مساعهم مثل‬
‫هذا الذوق أو شيء منه؟ بل نناشدهم باهلل ‪ ،‬هل يدعهم السماع جيدون بعض‬
‫هذا الذوق يف صالهتم أو جزءاً يسرياً منها؟‬
‫شقُوا من هذا الذوق رائحة ‪ ،‬أو مشوا منه مشة قط ؟‬ ‫بل هل َن َ‬
‫و حنن حنلف ‪ ،‬عنهم أن ذوقهم يف صالهتم و مساعهم صد هذا الذوق ‪ ،‬و‬
‫مشرهبم ضد هذا املشرب‪.‬‬
‫و لوال خشية اإلطالة لذكرنا نُبذة من ذوقهم يف مساعهم ‪ ،‬تدلُّ على ما ورائها ‪.‬‬
‫و ال خيفى على من له أدىن عقل ‪ ،‬و حياة قلب ‪ ،‬الفرق بني ذوق اآليات ‪ ،‬و‬
‫ذوق األبيات ‪ ،‬و بني ذوق القيام بني يدي رب العاملني ‪ ،‬و القيام بني يدي‬
‫املغنني ‪ ،‬و بني ذوق اللذة و النعيم مبعاين ذكر اهلل تعاىل و التلذذ بكالمه ‪ ،‬و‬
‫ذوق معاين الغناء ‪ ،‬و التطريب الذي هو رقية الزنا ‪ ،‬و قرآن الشيطان ‪ ،‬و التلذذ‬
‫مبضموهنا فما اجتمع و اهلل األمران يف قلب إال و طرد أحدمها اآلخر ‪ ،‬و ال‬
‫جتتمع بنت رسول اهلل و بنت عدو اهلل عز و جل عند رجلٍ أبداً ‪ ،‬و اهلل سبحانه‬
‫و تعاىل أعلم‪.‬‬
‫فصل‬
‫فمىت جتئ األذواق الصحيحة املستقيمة إىل قلوب قد احنرفت أشد االحنراف عن‬
‫هدي نبيها صلى اهلل عليه و سلم ‪ ،‬و تركت ما كان عليه هو و أصحابه و‬
‫السلف الصاحل ‪ ،‬فإهنم كانوا جيدون األذواق الصحيحة املتصلة باهلل عز و جل يف‬
‫األعمال ‪ :‬الصالة املشروعة ‪ ،‬و يف قراءة القرآن ‪ ،‬و تدبره و استماعه ‪ ،‬و أجر‬
‫ذلك ‪ ،‬و يف مزامحة العلماء بالركب ‪ ،‬و يف اجلهاد يف سبيل اهلل ‪ ،‬و يف األمر‬
‫باملعروف و النهي عن املنكر ‪ ،‬و يف احلب يف اهلل و البغض فيه ‪ ،‬و توابع ذلك ‪،‬‬
‫فصار ذوق املتأخرين ـ إال من عصمه اهلل ـ يف الرياع و الدف ‪ ،‬و املواصيل ‪،‬‬
‫و األغاين املطربة من الصور احلسان و الرقص ‪ ،‬و الضجيج ‪ ،‬و ارتفاع األصوات‬
‫‪ ،‬و تعطيل ما حيبه اهلل ‪ ،‬و يرضاه من عبادته املخالفة هلوى النفس ‪.‬فشتَّان بني‬
‫ذوق األجلان و ذوق القرآن و بني ذوق العود و الطنبور ‪ ،‬و ذوق املؤمنني و‬
‫النُّور ‪ ،‬و بني ذوق الزَّمر و ذوق الزمر ‪ ،‬و بني ذوق الناي و ذوق { اقتربت‬
‫السَّاعة و انشق القمر } [القمر ‪ ]41 :‬و بني ذوق املواصيل و الشبَابات و‬
‫ذوق يس و الصافات ‪ ،‬و بني ذوق غناء الشعر و ذوق سورة الشعراء ‪ ،‬و بني‬
‫ذوق مساع املكاء و التصدية و ذوق األنبياء‪.‬‬
‫و بني الذوق على مساع تُذكر فيه العيون السود و اخلصور و القدود ‪ ،‬و ذوق‬
‫مساع سورة يونس و هود ‪ ،‬و بني ذوق الواقفني يف طاعة الشيطان على أقدامهم‬
‫صواف ‪ ،‬و ذوق الواقفني يف خدمة الرمحن يف سورة األنعام و األعراف ‪ ،‬و بني‬
‫ذوق الواجدين على طرب املثالث و املثاين ‪ ،‬و ذوق العارفني عند استماع القرآن‬
‫العظيم و السبع املثاين ‪ ،‬و بني ذوق أوىل األقدام الصفات يف حظرية مساع‬
‫الشيطان ‪ ،‬و ذوق أصحاب األقدام الصافات بني يدي الرمحن‪.‬‬
‫سبحان اهلل هكذا تنقسم و املواجيد ‪ ،‬و يتميز خُلق املطرودين مِن خُلق العبيد ‪،‬‬
‫و سبحان املمد هلؤالء و هؤالء من عطائه و املفارق بينهم يف الكرامة يوم القيامة‬
‫‪ ،‬فواهلل ال جيتمع حمبو مساع قرآن الشيطان و حمب مساع كالم الرمحن يف قلب‬
‫رجل واحد أبداً‪.‬‬
‫كما ال جتتمع بنت عدو اهلل و بنت رسول اهلل عند رجل واحد أبداً‪.‬‬

‫بكل مَن أحببته ** فاختر لنفسك يف اهلوى مَن تصطفي‬


‫أنت القتيل ِّ‬

‫مساع أهل احلق‬

‫كان أصحاب حممد صلى اهلل عليه و سلم و رضي اهلل عنهم ‪ ،‬إذا اجتمعوا و‬
‫اشتاقوا إىل حاد حيدو هبم ‪ ،‬ليطيب هلم السري ‪ ،‬و حمرك حيرك قلوهبم إىل حمبوهبم ‪،‬‬
‫أمروا واحدا منهم يقرأ و الباقون يستمعون ‪ ،‬فتطمئن قلوهبم ‪ ،‬و تفيض عيوهنم و‬
‫جيدون من حالوة اإلميان أضعاف ما جيده السماعاتية من حالوة السماع‪.‬‬
‫و كان عمر بن اخلطاب إذا جلس عنده أبو موسى يقول ‪ :‬يا أبا موسى ذكرنا‬
‫ربنا ‪ ،‬فيأخذ أبو موسى ‪ ،‬يف القراءة ‪ ،‬و تعمل تلك األقوال يف قلوب القوم‬
‫عملها ‪ ،‬و كان عثمان بن عفان يقول ‪ :‬لو طهرت قلوبنا ملا شبعت من كالم‬
‫اهلل‪.‬‬
‫و أي و اهلل ‪ ،‬كيف تشبع من كالم حمبوهبم و فيه هناية مطلوهبم ؟ و كيف تشبع‬
‫من القرآن ؟ و إمنا فتحت به ال بالغناء و األحلان؟!‬

‫و إذا مَرضنا تداوينا بذكركُم ** فإن تركناه زادَ السقم و املرض‬


‫و أصحاب الطرب و األحلان عن هذا كله مبعزل ‪ ،‬هم يف وادي و القوم يف واد‪.‬‬

‫الضب و النُون قد يرجى التقاؤمها ** و ليس يُرجى التقاء الوحي و القصب‬


‫ُّ‬ ‫و‬

‫فأين حال من يطرب على مساع الغناء و القصب بني املثالث و املثاين و ذوقه و‬
‫وجده إىل حال من جيد لذة السماع و روح احلال ‪ ،‬و ذوق طعم اإلميان إذا مسع‬
‫يف حال إقبال قلبه على اهلل و أنسه به و شوقه إىل لقائه ‪ ،‬و استعداده لفهم مراده‬
‫من كالمه و تنزيله على حاله و أخذه حبضه الوافر منه قارئاً لجيداص حسن‬
‫الصوت و األداء يقرأ ‪:‬‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم {طه ما أنزلنا عليك القُرآن لتشقى إالَّ تذكرةً ملن‬
‫ال ممَّن خلقَ األرضَ و السَّماوات العُلى الرَّمحَن على العرش استوى‬
‫خيشَى تنزي ً‬
‫له ما يف السَّماوات و ما يف األرضِ و ما بينهما و ما حتت الثَّرى و إن جتهر‬
‫بالقولِ فإنَّه يَعلَمُ السِّرَّ و أخفى}[طه‪.]7-1:‬‬

‫و أمثال هذا النمط من القرآن الذي إذا صادف حياة يف قلب صادق قد َّ‬
‫شم‬
‫رائحة احملبة و ذاق حالوهتا ‪ ،‬فقلبه ال يشبع من كالم حمبوبه و ال يقر و ال يطمئن‬
‫إال به ‪ ،‬كان موقعه من قلبه كموقع وصال احلبيب بعد طول اهلجران ‪ ،‬وحلَّ منه‬
‫حملَّ املاء البارد يف شدَّة اهلجري من الظمأ ‪ ،‬فما ظنُّك بأرض حياهتا بالغيث أصاهبا‬
‫وابله ‪ ،‬أحوج ما كانت إليه ‪ ،‬فأنبت فيها من كلِّ زوج هبيج ‪ ،‬قائم على سوقه‬
‫يشكره و يثين عليه‪.‬‬
‫فهل يستوي عند اهلل تعاىل و مالئكته و رسوله و الصادقني من عباده ‪ ،‬مساع هذا‬
‫و مساع هذا ‪ ،‬و ذوق هذا و ذوق هذا ‪ ،‬فأهل مساع الغناء عبيد نفوسهم‬
‫الشهوانية ‪ ،‬يعلمون السماع طلباً للذة النفس و نيالً حلظها الباطل ‪ ،‬فمن مل مييز‬
‫بني هذين السماعني ‪ ،‬و الذوقني فليسأل ربه بصدق ‪ ،‬رغبته إليه أن حييي قلبه‬
‫امليت ‪ ،‬و أن جيعل له نوراً يستضيء به يف ظلمات جهله ‪ ،‬و أن جيعل له فرقاناً‬
‫فيفرِّق به بني احلق و الباطل ‪ ،‬فإنه قريب لجيب‪.‬‬

‫فصل‬
‫يف التنبيه على نكتة خفيَّةٍ من نكت السَّماع‬

‫و يف السماع نكتة حقيقية أصلية يعرفها أهلها ‪ ،‬و جيدوهنا بعد انقضائه و هي أنه‬
‫قد علم الذائقون منهم أنه ما وجد صادق يف السماع الشعري وجدًا ‪ ،‬و حترك به‬
‫إال وجد بعد انقضائه و مفارقة اجمللس قبضاً على قلبه ‪ ،‬و نوع استيحاش ‪ ،‬و‬
‫أحس ببعده و انقطاعاً و ظلمة ‪ ،‬و ال يتفطن هلذا األمر إال من يف قلبه أدىن حياة‬
‫و إال ‪ :‬فما جلرح مبيت إيالم ‪ ،‬و لو سئل عن سبب هذا مل يعرفه ؛ ألن قلبه‬
‫مغمور يف السماع و ذوقه الباطل ؛ فهو غافل عن استخراج آالمه اليت طرقته فيه‬
‫‪ ،‬و عن أسباب فساد القلب منه ‪ ،‬و لو وزنه بامليزان العدل لعلِمَ من أين أتى ‪،‬‬
‫فامسع اآلن السبب الذي ألجله نشأ منه هذا القبض ‪ ،‬و هذه الوحشة ‪ ،‬و البعد ‪.‬‬
‫ملا كان السماع الشعري أعلى أحواله أن يكون ممتزجاً حبق و باطل ‪ ،‬و مركباً‬
‫من شهوة و شبهة ‪ ،‬و أحسن أحوال صاحبه أن تأخذ الروح حظها احملمود منه ‪،‬‬
‫ف ‪ ،‬و ال خالص ‪ ،‬فامتزج‬ ‫ممتزجًا حبظ النفس ‪ ،‬و الشيطان و اهلوى فهو غري صا ٍ‬
‫نصيب الصادق فيه من الرمحن بنصيب الشيطان ‪ ،‬و اختلط حظ القلب حبظ‬
‫النفس ‪ ،‬هذا أحسن أحواله ‪ ،‬فإنه مؤسس على حظ النفس و الشيطان و هو فيه‬
‫بذاته و هو نصيبه من الرمحن فهو فيه بالعرض ‪ ،‬لوم يوضع عليه و ال أسس عليه‬
‫فاختلط يف وادي القلب املاء اليسري الصايف باملاء الكثري الكدر ‪ ،‬و غلب اخلبيث‬
‫يف الطيب ‪ ،‬أو جتاورا و التقت الواردات الرمحانية ‪ ،‬و الواردات الشيطانية‪.‬‬
‫و املستمع الصاد لغلبة صدقه ‪ ،‬و ظهور أحكام القلب فيه خيفى عليه ذلك الوقت‬
‫أثر الكدر و ال يشعر به سيَّما مع سُكر الروح به ‪ ،‬و غيبتها عن سوى مطلوبه ‪،‬‬
‫فلما أفاق من سكره ‪ ،‬و فارق لذة السماع و طيبه ‪ ،‬وجد اللوث و الكدر الذي‬
‫هو حظ النفس ‪ ،‬و الشيطان ‪ ،‬و أثر جثوم الشيطان على قلبه فأثر فيه ذلك األثر‬
‫قبضاً ‪ ،‬و وحشة ‪ ،‬و أحس به بعدًا و كلما كان أصدق و أمت طلباً كان وجوده‬
‫هلذا أمت و أظهر فإن استعداده هو حبياة قلبه يوجب له االحساس هبذا ‪ ،‬و ال‬
‫يدري من أين أتى ‪ ،‬و هذا له يف الشاهد نظائر و أشباه منها ‪:‬‬
‫إنَّ الرجل إذا اشتغل قلبه اشتغاالً تامًا مبشاهدة حمبوب أو رؤية خموف ‪ ،‬أو لذةٍ‬
‫مَلَكت عليه حسّه و قلبه ‪ ،‬إذا أصابه يف تلك احلالة ضربٌ ‪ ،‬أو لسعٌ أو سببٌ‬
‫مؤمل ‪ ،‬فأنه ال يكاد يشعر به ‪ ،‬فإذا فارقته تلك احلالة وجد منه أمل حىت كأنه‬
‫أصابه تلك الساعة ‪ ،‬فإنه كان يف مانع مينعه من اإلحساس باألمل فلما زال املانع‬
‫أحس باألمل‪.‬‬

‫أهل الصدق إذا دخلوا يف السماع الباطل‬

‫و هلذا كان بعض الصادقني إذا فارق السماع بادر إىل جتديد التوبة و االستغفار‬
‫‪ ،‬و أخذ يف أسباب التداوي اليت يُدفع هبا موجب أسباب القبض و الوحشة و‬
‫البعد‪.‬‬
‫و هذا القدر إمنا يعرفه أولوا الفقه يف الطريق أصحاب الفِطَن ‪ ،‬املعتنون بتكميل‬
‫نفوسهم ‪ ،‬و معرفة أدوائها و أدويتها و اهلل املستعان‪.‬‬
‫و ال ريب أن الصادق يف مساع األبيات قد جيد ذوقاً صحيحاً إميانيًا ‪ ،‬و لكن‬
‫ذلك مبنزلة من شرب عسالً يف إناء جنس‪.‬‬
‫و النفوس الصادقة ذوات اهلمم العالية رفعت أنفسها عن الشراب يف ذلك اإلناء‬
‫تقذراً له ‪ ،‬ففرت منه الستقامتها و طهارهتا ‪ ،‬و علو مهتها فهي ال تشرب ذلك‬
‫الشراب إال يف إناء يناسبه ‪ ،‬فإذا مل جيد إناء يناسبه صانت الشراب عن وضعه يف‬
‫ذلك اإلناء ‪ ،‬و انتظرت أن يليق به‪.‬‬
‫و غريها من النفوس تضع ذلك الشراب يف أي إناء انفق هلا ؛ من عظام ميتة أو‬
‫جلد كلب أو خنزير أو إناء مخر ‪ ،‬طاملا ما شرب به اخلمر ‪ ،‬أو ال يستحي‬
‫الغراب أن يشرب أطيب شراب و ألذه يف هذه اآلنية ؟‬
‫و لو جرَّد الصادق ذلك يف حال مساعه لوجد ذوقه من ذلك ‪ ،‬و لكن حالوة‬
‫العسل تغيب عنه نتنه و قذره و أثر قبحه على قلبه يف تلك احلال ‪ ،‬فبعد مفارقته‬
‫يوجب له ذلك وحشةً و قبضًا ‪ ،‬هذا إذا كان صادقاً يف حاله مع اهلل و كان‬
‫مساعه هلل و باهلل‪.‬‬
‫و أما إن كان كاذباً كان مساعه للذة نفسه و حظه فهو يشرب النجاسات يف‬
‫اآلنية القذرات و ال حيس بشيء مما ذكرناه ؛ الستيالء اهلوى و النفس و الشيطان‬
‫عليه‪.‬‬
‫و أما صاحب السماع القرآين الذي تذوَّقه ‪ ،‬و شرب منه ‪ ،‬فهو يشرب الشراب‬
‫الطهور ‪ ،‬الطيب النظيف يف أنظف إناءٍ ‪ ،‬و أطيبه ‪ ،‬و أطهره ‪.‬‬
‫فاآلنية ثالثة ‪ :‬نظيف ‪ ،‬و جنس ‪ ،‬و خمتلط‪.‬‬
‫و الشرابات ثالثة ‪ :‬طاهر و جنس و ممزوج‪.‬‬
‫القلوب ثالثةٌ‬

‫و القلوب ثالثة ‪ :‬صحيح سليم فشرابه الشراب الطهور يف اإلناء النظيف ‪ ،‬و‬
‫سقيم مريض فشرابه الشراب النجس يف اإلناء القذر ‪ ،‬و قلب فيه مادتان‪.‬‬
‫إميان و نفاق ‪ ،‬فشرابه يف إناء حبسب املادتني ‪ ،‬و قد جعل اهلل لكل شيء قدرًا ‪،‬‬
‫فالعارف مَن نظر يف األسباب إىل غاياهتا و نتائجها ‪ ،‬و تأمل مقاصدها ‪ ،‬و ما‬
‫تؤول إليه‪.‬‬
‫سد الذرائع املفضية إىل احلرام ‪ ،‬قطع بتحرمي هذا‬
‫و مَن عرف مقاصد الشرع يف ِّ‬
‫فإن املرأة األجنبية و مساع صوهتا حرام ‪ ،‬و كذلك اخللوة هبا ‪.‬‬
‫السَّماع ‪َّ ،‬‬

‫احملرمات يف الشريعة‬

‫و حمرمات الشريعة قسمان ‪:‬‬


‫‪ ‬قسم حُرِّم ملا فيه من املفسدة‪.‬‬
‫‪ ‬و قسم حُرِّم ألنه ذريعة إىل ما اشتمل عليه من املفسدة‪.‬‬
‫فمن نظر إىل صورة هذا احملرم ‪ ،‬و مل ينظر إىل ما هو وسيلة إليه استشكل وجه‬
‫التحرمي ‪.‬‬
‫و اهلل سبحانه و تعاىل أعلم ‪ ،‬و احلمد هلل رب العاملني ‪ ،‬و صلى اهلل و سلم على‬
‫سيد املرسلني حممد صلى اهلل عليه و سلم و على آله و أصحابه و التابعني هلم‬
‫بإحسان إىل يوم الدين ‪ ،‬مبنِّك و كرمك يا أرحم الرامحني‪.‬‬
‫قال حمقِّقه ـ عفا اهلل عنه ـ ‪:‬‬
‫علي إذ وفقين و انتدبين إلخراج هذا السفر اجلليل ‪ ،‬هبذه الصورة ‪،‬‬ ‫"فقد منَّ اهلل َّ‬
‫معتمدا يف إخراجه على ثالثة نُسخٍ خطية من بلدان ثالث" [ص‪ " ، ]47‬و هي‬
‫مصر و العراق و اململكة العربية السعودية‪.‬‬
‫و الكتاب مل يُنشر سابقاً هبذه الصورة أبداً و ال هو مستلٌ من كتاب كبري ‪.‬‬
‫و حقيقة هذه الرسالة هو أهنا جزء من كتاب " مسألة السَّماع " و الذي نشر‬
‫أيضا بعنوان آخر ـ كما سيمر ـ و لكن هذا اجلزء جاء ناقصا عن املخطوطات‬
‫‪ ،‬و فيه تقدمي و تأخري ‪ ،‬و فيه حتريف‪[".‬ص‪]11‬‬
‫مث قال ‪ " :‬فوجدت أن نشر هذه الرسالة بشكل مستقل و باسم مغاير هو عمل‬
‫شرعي و مشروع ؛ ألسباب كثرية أذكر منها ‪:‬‬
‫أ‪ -‬أنَّ هذه الرسالة بشكلها النهائي ختتلف كثريا عن اجلزء املطبوع يف كتاب‬
‫" الكالم على مسألة السماع"‪.‬‬
‫ب‪ -‬أهنا ال تشبه أي كتاب أو رسالة منشورة سابقا ‪ ،‬فقد استلت من كتب‬
‫ابن القيم كثري من املؤلفات ‪ ،‬منها ما استل قدميا ‪ ،‬و منها ما استله‬
‫املعاصرون ‪[ "..‬ص‪]11‬‬
‫و أضاف قائالً ‪" :‬فهذا الكتاب ال يعترب كتاباً مستالً فهو ال يشبه أبداً املستالت‬
‫السابقة سواء ما استل حديثا أو قدميا ‪ ،‬بل هو كتاب مستقل بذاته‪.‬‬
‫ج‪ -‬كتاب " الكالم على مسألة السماع " ألفه ابن القيم على مراحل فهو مكون‬
‫من قسمني أو جزئني كما يف مقدمة الكتاب [ص‪ ]72‬حملققه راشد بن عبد‬
‫العزيز احلمد‪.‬‬
‫اجلزء األول من فصلني ‪ :‬الفصل األول بيان حكم الغناء يف الشريعة‪.‬‬
‫الفصل الثاين ‪ :‬أن تعاطي السماع على وجه اللعب و اخلالعة و على وجه للقربة‬
‫و الطاعة‪.‬‬
‫و ختم هذا الفصل باملوازنة بني ذوق الصالة و ذوق الغناء‪.‬‬
‫اجلزء الثاين ‪ :‬و اشتمل على ذكر شبه املغنني و دحضها‪.‬‬
‫و يبدو يل أن ابن القيم أجاب عن هذه الفتيا يف سنة [ ‪704‬هـ ] مث بعد فترة‬
‫أضاف هلا اجلزء الثاين و دليل ذلك قول ابن القيم يف بداية اجلزء الثاين [‬
‫ص‪ : ]822‬قال الشيخ مشس الدين أبو عبد اهلل حممد بن أيب بكر احلنبلي إمام‬
‫اجلوزية يف متام اجلواب عن الفتيا الواردة يف السماع سنة أربعني و سبعمائة اليت‬
‫أجاب فيها العلماء على املذاهب األربعة رضي اهلل عنهم أمجعني‪.‬‬
‫أي أن ابن القيم ألف كتابه على مرحلتني ‪.‬‬
‫و رسالتنا هذه مستلة من هناية اجلزء األول و فصله األخري‬
‫بقي هناك سؤاالً ملاذا كل هذه االختالفات يف النسخ بني املطبوع و املخطوط ‪،‬‬
‫و بني نفس املخطوط؟‬
‫و أقرب جواب وقع يل هو ‪ :‬أن ابن القيم نفسه استل هذه الرسالة مث نقحها‬
‫أكثر من مرَّة‪.‬‬
‫و مع وقوع السقط و التحريف من النساخ ‪ ،‬و كثرة النسخ املنقحة و املصححة‬
‫من ابن القيم نفسه‪.‬‬
‫جعل هذا االختالف الكبري بني النسخ‪.‬‬
‫فهي إذن رسالة استلها ابن القيم نفسه و نقحها و أعاد النظر فيها عدَّة مرات و‬
‫أضاف و حذف و قدَّم و أخر ‪ .‬و أصبحت على شكلها احلايل ‪ .‬هذه األسباب‬
‫الثالثة هي اليت دفعتين لنشر هذه الرسالة بشكل مستقل‪[.‬ص‪.]88-81‬‬

‫انتهى‬

You might also like