You are on page 1of 5

‫معنى االستواء عند أكابر أئمة األشاعرة‬

‫االستواء عند القاضي أبي بكر الباقالني‪:‬‬


‫قال أبو بكر الباقالني ‪" :‬وأن هللا جل ثناؤه مستو عن العرش‪ ،‬ومستول على جميع خلقه كما قال تعالى‪{ :‬الرحمن على العرش‬
‫استوى}‪ .‬بغير مماسة وكيفية‪ ،‬وال مجاورة‪ ،‬وأنه في السماء إله وفي األرض إله كما أخبر بذلك"‪.‬كتاب‪( :‬الإلنصاف فيما يجب‬
‫اعتقاده وال يجوز الجهل به)‪ ،‬ألبي بكر الباقالني‪ ،‬تقديم محمد زاهد الكوثري‪ ،‬عنى بنشره عزت العطارفي الحسيني‪ ،‬سنة‬
‫‪1369‬هـ‪1950/‬م(ص‪.)22:‬‬

‫وقال أيضا‪" :‬ويجب أن يعلم‪ :‬أن كل ما يدل على الحدوث‪ ،‬أو على سمة النقص‪ ،‬فالرب تعالى يتقدس عنه‪.‬‬
‫فمن ذلك‪ :‬أنه تعالى متقدس عن االختصاص بالجهات‪ ،‬واالتصاف بصفات المحدثات‪ ،‬وكذلك ال يوصف بالتحول‪ ،‬واالنتقال‪،‬‬
‫وال القيام‪ ،‬والقعود؛ لقوله تعالى‪{ :‬ليس كمثله شيء} وقوله‪{ :‬ولم يكن له كفوا أحد} وأن هذه الصفات تدل على الحدوث‪ ،‬وهللا‬
‫تعالى يتقدس عن ذلك فإن قيل أليس قد قال‪{ :‬الرحمن على العرش استوى}‪ .‬قيل‪ :‬بلى‪ .‬قد قال ذلك‪ ،‬ونحن نطلق ذلك وأمثاله‬
‫على ما جاء في الكتاب والسنة‪ ،‬لكن ننفي عنه أمارة الحدوث‪ ،‬ونقول‪ :‬استواؤه ال يشبه استواء الخلق‪ ،‬وال نقول إن العرش له‬
‫قرار‪ ،‬وال مكان‪ ،‬ألن هللا تعالى كان وال مكان‪ ،‬فلما خلق المكان لم يتغير عما كان"‪.‬كتاب‪( :‬اإلنصاف فيما يجب اعتقاده وال‬
‫يجوز الجهل به)‪ ،‬ألبي بكر الباقالني (ص‪.)36:‬‬

‫وقال في "الرد على االتحادية"‪" :‬وأما قول من قال إن االتحاد هو حلول الكلمة في الناسوت من غير مماسة‪ ،‬وأنه كحلول‬
‫الباري سبحانه في السماء‪ ،‬وكحلوله على العرش من غير مماسة لهما‪ ،‬فإنه باطل غير معقول؛ وذلك أن الباري سبحانه ليس‬
‫في السماء‪ ،‬وال هو مستو على عرشه بمعنى حلوله على العرش؛ ألنه لو كان حاال في أحدهما‪ ،‬ومستويا على اآلخر بمعنى‬
‫الحلول‪ ،‬لوجب أن يكون مماسا لهما ال محالة"‪.‬كتاب‪( :‬تمهيد األوائل في تلخيص الدالئل)‪ ،‬للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب‬
‫الباقالني‪ ،‬تح‪ :‬عماد الدين أحمد حيدر‪ ،‬مؤسسة الكتب الثقافية‪ ،‬الطبعة األولى ‪1407‬هـ‪1987/‬م(ص‪.)111:‬‬

‫االستواء عند إمام الحرمين الجويني‪:‬‬


‫قال إمام الحرمين في "اإلرشاد"‪" :‬فإن قال قائل‪ :‬قد ذكرتم أنه ال يمتنع اشتراك القديم والحادث في بعض صفات اإلثبات‪،‬‬
‫ففصلوا ما يختص بالحوادث من الصفات‪ ،‬وهي تستحيل في حكم اإلله‪ .‬قلنا‪ :‬نذكر أوال ما يختص الجواهر به‪ :‬فمما تختص‬
‫الجواهر به التحيز‪ ،‬ومذهب أهل الحق قاطبة أن هللا سبحانه وتعالى يتعالى عن التحيز والتخصص بالجهات‪.‬‬
‫و ذهبت الكرامية وبعض الحشوية إلى أن الباري ـ تعالى عن قولهم ـ متحيز مختص بجهة فوق‪ ،‬ـ تعالى هللا عن قولهم ـ‪ .‬و‬
‫من الدليل على فساد ما انتحلوه أن المختص بالجهات يجوز عليه المحاذاة مع األجسام‪ ،‬وكل ما حاذى األجسام لم يخل من أن‬
‫يكون مساويا ألقدارها‪ ،‬أو ألقدار بعضها‪ ،‬أو يحاذيها منه بعضه‪ ،‬وكل أصل قاد إلى تقدير اإلله أو تبعيضه فهو كفر صراح‪ .‬ثم‬
‫ما يحاذي األجرام يجوز أن يماسها‪ ،‬وما جاز عليه مماسة األجسام ومباينتها كان حادثا‪ ،‬إذ سبيل الدليل على حدث الجواهر‬
‫قبولها للمماسة والمباينة على ما سبق‪ .‬فإن طردوا دليل حدث الجواهر‪ ،‬لزم القضاء بحدث ما أثبتوا متحيزا؛ وإن نقضوا الدليل‬
‫فيما ألزموه انحسم الطريق إلى إثبات حدث الجواهر‪.‬‬
‫عرش اسْتوى}‪ ،‬فالوجه معارضتهم بآي يساعدوننا على تأويلها‪ ،‬منها قوله‬ ‫فإن استدلوا بظاهر قوله تعالى‪{ :‬الرحْ من على ْال ْ‬
‫ْ‬
‫أفمن هو قائم على كل نفس بما كسبتْ } [سورة الرعد‪.]33 :‬‬‫تعالى‪ {:‬و هو معكم أين ما ك ْنت ْم }[سورة الحديد‪ ،]4 :‬وقوله تعالى‪ْ { :‬‬
‫فنسائلهم عن معنى ذلك؛ فإن حملوه على كونه معنى باإلحاطة والعلم‪ ،‬لم يمتنع منا حمل االستواء على القهر والغلبة‪ ،‬وذلك‬
‫شائع في اللغة‪ ،‬إذ العرب تقول استوى فالن على الممالك إذا احتوى على مقاليد الملك واستعلى على الرقاب‪ .‬وفائدة تخصيص‬
‫العرش بالذكر أنه أعظم المخلوقات في ظن البرية‪ ،‬فنص تعالى عليه تنبيها بذكره على ما دونه‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬االستواء بمعنى الغلبة ينبئ عن سبق مكافحة ومحاولة قلنا‪ :‬هذا باطل‪ ،‬إذ لو أنبأ االستواء عن ذلك ألنبأ عنه القهر‪ .‬ثم‬
‫االستواء بمعنى االستقرار بالذات ينبي عن اضطراب واعوجاج سابق‪ ،‬والتزام ذلك كفر‪ .‬وال يبعد حمل االستواء على قصد‬
‫اإلله إلى أمر في العرش‪ ،‬وهذا تأويل سفيان الثوري رحمه هللا واستشهد عليه بقوله تعالى‪ {:‬ثم اسْتوى إلى السماء وهي دخان}‬
‫[سوره فصلت‪ ،]11 :‬معناه قصد إليها‪.‬‬

‫فإن قيل‪ :‬هال أجريتم اآلية على ظاهرها من غير تعرض للتأويل‪ ،‬مصيرا إلى أنها من المتشابهات التي ال يعلم تأويلها إال هللا‪،‬‬
‫قلنا‪ :‬إن رام السائل إجراء االستواء على ما ينبي عنه في ظاهر اللسان‪ ،‬و هو االستقرار‪ ،‬فهو التزام للتجسيم‪ ،‬و إن تشكك في‬
‫ذلك كان في حكم المصمم على اعتقاد التجسيم‪ ،‬و إن قطع باستحالة االستقرار‪ ،‬فقد زال الظاهر‪ ،‬والذي دعا إليه من إجراء‬
‫اآلية على ظاهرها لم يستقم له‪ ،‬وإذا أزيل الظاهر قطعا فال بد بعده في حمل اآلية على محمل مستقيم في العقول مستقر في‬
‫موجب الشرع‪ .‬و اإلعراض عن التأويل حذرا من مواقعة محذور في االعتقاد يجر إلى اللبس واإليهام و استزالل العوام‪،‬‬
‫وتطريق الشبهات إلى أصول الدين‪ ،‬وتعريض بعض كتاب هللا تعالى لرجم الظنون"‪.‬كتاب‪( :‬اإلرشاد ) عبد الملك الجوينى‪ ،‬دار‬
‫الكتب العلمية‪( ،‬ص‪.)23-22 :‬‬

‫وقال‪" :‬فإذا ثبت تقدس الباري عن التحيز واالختصاص بالجهات فيترتب على ذلك تعاليه عن االختصاص بمكان‪ ،‬ومالقاة‬
‫سئلنا عن قوله تعالى‪ {:‬الرحمن على العرش استوى}‪ ،‬قلنا‪ :‬المراد باالستواء القهر والغلبة والعلو‪ ،‬ومنه‬
‫أجرام وأجسام‪ ،‬فإن ُ‬
‫قول العرب استوى فالن على المملكة أي استعلى عليها واطردت له‪ ،‬ومنه قول الشاعر‪ :‬قد استوى بشر على العراق ‪ ...‬من‬
‫غير سيف ودم مهراق"‪.‬كتاب‪( :‬لمع األدلة في قواعد أهل السنة والجماعة)‪ ،‬عبدالملك الجويني‪ ،‬تح‪ :‬د‪.‬فوقية حسين محمود‪،‬‬
‫عالم الكتب ‪ -‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية‪1987 ،‬م‪( ،‬ص‪.)108:‬‬

‫وقال في "الشامل"‪" :‬وقد افترق األئمة في وجه الكالم على اآلية (الرحمن على العرش استوى) فتمنع بعضهم عن تأويلها‪،‬‬
‫وأجراها على تنزيلها‪ ،‬ولكن مع القطع ينفي الجهات والمحاذيات والكيفية‪ ،‬والكمية‪ ،‬وهذا القائل ال يستبعد أن يكون في القرآن‬
‫أسرار ال يطلع عليها الخالئق‪ ،‬والرب مستأثر بعلمها‪ ،‬وإنما يجوز هذا القائل ذلك مع االعتراف بأن المغيب عن الخلق من‬
‫المعاني المكنونة‪ ،‬المستأثر بعلمها المصونة‪ ،‬ال تكون مما تمس الحاجة إليه في عقد أو قضية تكليف‪...‬‬
‫فإن سلك سالك هذه الطريقة‪ ،‬وكان يعتقد تقدس القديم عن مشابهة الحوادث‪ ،‬ويؤمن باستوائه على عرشه‪ ،‬وينكف عن تكييفه‬
‫وتأويله‪ ،‬فال يعترض على من قال ذلك بما يقطع به‪.‬‬
‫ثم نقول للمتمسكين باآلية المدّعين التّمسك بالظواهر ليس لكم المزيد على ظاهرها وتعدى مطلقها‪ ...‬ومن سلك من أصحابنا‬
‫سبيل إثبات هذه الصفات بظواهر هذه اآليات‪ ،‬ألزمه سوق كالمه أن يجعل االستواء والمجيء والنزول والجنب من الصفات‬
‫تمسكا بالظاهر"‪.‬كتاب‪( :‬الشامل في أصول الدين)‪ ،‬لعبد الملك الجويني‪ ،‬حققه وقدم له علي سامي النشار وفيصل بدير عون‬
‫وشهيد محمد مختار‪،‬نشر منشأة المعارف باالسكندرية‪( ،‬ص‪ 550:‬وما بعدها)‪.‬‬

‫وقال‪" :‬وذهب أئمة السلف إلى االنكفاف عن التأويل‪ ،‬وإجراء الظواهر على مواردها‪ ،‬وتفويض معانيها إلى الرب‪ .‬فقال‪ :‬والذي‬
‫نرتضيه رأيا وندين هللا به عقيدة‪ :‬اتباع سلف األمة‪ ،‬والدليل السمعي القاطع في ذلك إجماع األمة‪ ،‬وهو حجة متبعة‪ ،‬وهو مستند‬
‫معظم الشريعة‪.‬وقد درج صحب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم على ترك التعرض لمعانيها ودرك ما فيها‪ ،‬وهم صفوة‬
‫اإلسالم‪ ،‬والمستقلون بأعباء الشريعة‪ ،‬وكانوا ال يألون جهدا في ضبط قواعد الملة والتواصي بحفظها‪ ،‬وتعليم الناس ما‬
‫يحتاجون إليه منها؛ فلو كان تأويل هذه الظواهر مسوغا أو محتوما‪ ،‬ألوشك أن يكون اهتمامهم بها فوق اهتمامهم بفروع‬
‫الشريعة‪ ،‬وإذا انصرم عصرهم وعصر التابعين على اإلضراب عن التأويل‪ ،‬كان ذلك هو الوجه المتبع‪ ،‬فحق على ذي الدين‬
‫أن يعتقد تنزه هللا عن صفات المحدثين‪ ،‬وال يخوض في تأويل المشكالت‪ ،‬ويكل معناها إلى الرب تعالى‪ ...،‬فلتجر آية االستواء‬
‫والمجيء‪ ،‬وقوله‪ِ {:‬ل َما َخلَ ْقتُ ِب َي َدي} [ص‪َ { ،]75:‬و َي ْبقَى َو ْجهُ َر ِّبكَ ذُو ْال َجال ِل َواإل ْك َر ِام}[الرحمن‪ ،]27:‬وقوله‪ {:‬ت ِ‬
‫َجْري‬
‫بِأ َ ْعيُ ِننَا} [القمر‪ ،]14:‬وما صح من أخبار الرسول كخبر النزول وغيره على ما ذكرناه"‪ .‬كتاب‪( :‬العقيدة النظامية في األركان‬
‫اإلسالمية)‪ ،‬إمام الحرمين الجويني‪ ،‬تحقيق وتعليق محمد زاهد الكوثري‪ ،‬المكتبة األزهرية للتراث‪1412 ،‬هـ‪1992/‬م(ص‪-33:‬‬
‫‪.)34‬‬

‫االستواء عند أبي اسحاق الشيرازي‪:‬‬


‫قال اإلمام أبو إسحاق الشيرازي في "معقده"‪":‬في [أن هللا مستو على العرش] ثم يعتقدون ـ أي األشاعرة ـ أن هللا تعالى مستو‬
‫على العرش‪ ،‬قال هللا‪{:‬إن ربكم هللا الذي خلق السماوات واألرض في ستة أيام ثم استوى على العرش}[غافر‪ ،]65:‬وإن استواءه‬
‫ليس باستقرار وال مالصقة ألن االستقرار والمالصقة صفة األجسام المخلوقة‪ ،‬والرب عز وجل قديم أزلي‪ .‬فدل على أنه كان‬
‫وال مكان‪ ،‬ثم خلق المكان‪ ،‬وهو على ما عليه كان"‪.‬كتاب‪( :‬معتقد أبي إسحاق الشيرازي ضمن شرح اللمع له)‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد‬
‫المجيد تركي‪ ،‬نشر دار الغرب اإلسالمي الطبعة األولى‪1408،‬هـ‪1988/‬م (‪.)101/1‬‬

‫االستواء عند اإلمام أبي حامد الغزالي‪:‬‬


‫قال اإلمام الغزالي في القطب األول في النظر في ذات هللا تعالى‪" :‬الدعوى الثامنة‪ :‬ندعي أن هللا تعالى منزه عن أن يوصف‬
‫باالستقرار على العرش‪ ،‬فإن كل متمكن على جسم ومستقر عليه مقدر ال محالة‪ ،‬فإنه إما أن يكون أكبر منه أو أصغر أو‬
‫مساويا‪ ،‬وكل ذلك ال يخلو عن التقدير‪ ،‬وأنه لو جاز أن يماسه جسم من هذه الجهة‪ ،‬لجاز أن يماسه من سائر الجهات فيصير‬
‫محاطا به‪ ،‬والخصم ال يعتقد ذلك بحال وهو الزم على مذهبه بالضرورة‪ ،‬وعلى الجملة ال يستقر على الجسم إال جسم‪ ،‬وال يحل‬
‫فيه إال عرض وقد بان أنه تعالى ليس بجسم وال عرض‪ ،‬فال يحتاج إلى إقران هذه الدعوى بإقامة البرهان‪ .‬فإن قيل فما معنى‬
‫للا كل ليلة إلى السماء الدنيا " قلنا الكالم على‬
‫قوله تعالى‪{ :‬الرحمن على العرش استوى}؟ وما معنى قوله عليه السالم‪" :‬ينزل ّ‬
‫الظواهر الواردة في هذا الباب طويل ولكن نذكر منهجا في هذين الظاهرين يرشد إلى ما عداه وهو أنا نقول‪ :‬الناس في هذا‬
‫فريقان عوام وعلماء‪ ،‬والذي نراه الالئق بعوام الخلق أن ال يخاض بهم في هذه التأويالت بل ننزع عن عقائدهم كل ما يوجب‬
‫التشبيه ويدل على الحدوث ونحقق عندهم أنه موجود ليس كمثله شيء‪ ،‬وهو السميع البصير‪ ،‬وإذا سألوا عن معاني هذه اآليات‬
‫زجروا عنها‪ ،‬وقيل ليس هذا بعشكم فادرجوا فلكل علم رجال‪ .‬ويجاب بما أجاب به مالك بن أنس رضي هللا عنه‪ ،‬بعض السلف‬
‫حيث سئل عن االستواء‪ ،‬فقال‪ :‬االستواء معلوم والكيفية مجهولة‪ ،‬والسؤال عنه بدعة‪ ،‬واإليمان به واجب‪ ،‬وهذا ألن عقول‬
‫العوام ال تتسع لقبول المعقوالت‪ ،‬وال إحاطتهم باللغات‪ ،‬وال تتسع لفهم توسيعات العرب في االستعارات‪.‬‬
‫وأما العلماء فالالئق بهم تعريف ذلك وتفهمه‪ ،‬ولست أقول أن ذلك فرض عين؛ إذ لم يرد به تكليف‪ ،‬بل التكليف التنزيه عن كل‬
‫ما تشبهه بغيره‪ .‬فأما معاني القرآن‪ ،‬فلم يكلف األعيان فهم جميعها أصال ولكن لسنا نرتضي قول من يقول‪ ،‬أن ذلك من‬
‫المتشابهات كحروف أوائل السور‪ ،‬فإن حروف أوائل السور ليست موضوعة باصطالح سابق للعرب للداللة على المعاني‪،‬‬
‫ومن نطق بحروف وهن كلمات لم يصطلح عليها‪ ،‬فواجب أن يكون معناه مجهوال إال أن يعرف ما أردته‪ ،‬فإذا ذكره صارت‬
‫تلك الحروف كاللغة المخترعة من جهته‪......‬فلنرجع إلى معنى االستواء والنزول؛ أما االستواء فهو نسبة للعرش ال محالة‪ ،‬وال‬
‫يمكن أن يكون للعرش إليه نسبة إال بكونه معلوما‪ ،‬أو مرادا‪ ،‬أو مقدورا عليه‪ ،‬أو محال مثل محل العرض‪ ،‬أو مكانا مثل مستقر‬
‫الجسم‪ .‬ولكن بعض هذه النسبة تستحيل عقال وبعضها ال يصلح اللفظ لالستعارة به له‪ ،‬فإن كان في جملة هذه النسبة‪ ،‬مع أنه ال‬
‫نسبة سواها‪ ،‬نسبة ال يحيلها العقل‪ ،‬وال ينبو عنها اللفظ‪ ،‬فليعلم أنها المراد إما كونه مكانا أو محال‪ ،‬كما كان للجوهر والعرض‪،‬‬
‫إذا اللفظ يصلح له ولكن العقل يحيله كما سبق‪ ،‬وإما كونه معلوما ومرادا فالعقل ال يحيله‪ ،‬ولكن اللفظ ال يصلح له‪ ،‬وإما كونه‬
‫مقدورا عليه وواقعا في قبضة القدرة ومسخرا له مع أنه أعظم المقدورات ويصلح االستيالء عليه ألن يمتدح به وينبه به على‬
‫غيره الذي هو دونه في العظم‪ ،‬فهذا مما ال يحيله العقل ويصلح له اللفظ‪ ،‬فأخلق بأن يكون هو المراد قطعا‪ ،‬أما صالح اللفظ له‬
‫فظاهر عند الخبير بلسان العرب‪ ،‬وإنما ينبو عن فهم مثل هذا أفهام المتطفلين على لغة العرب الناظرين إليها من بعد الملتفتين‬
‫إليها التفات العرب إلى لسان الترك حيث لم يتعلموا منها إال أوائلها‪ ،‬فمن المستحسن في اللغة أن يقال استوى األمير على‬
‫مملكته‪ ،‬حتى قال الشاعر‪:‬‬
‫قد استوى بشير على العراق ‪ ...‬من غير سيف ودم مهراق‬
‫ولذلك قال بعض السلف رضي هللا عنهم‪ :‬يفهم من قوله تعالى‪{:‬الرحمن على العرش استوى} ما فهم من قوله تعالى {ثم استوى‬
‫إلى السماء وهي دخان}‪.‬كتاب‪( :‬االقتصاد في االعتقاد)‪ ،‬ألبي حامد الغزالي وضع حواشيه عبد هللا محمد الخليلي دار الكتب‬
‫العلمية الطبعة األولى‪1424 ،‬هـ‪2004/‬م (ص‪.)38:‬‬

‫وقال أيضا في األربعين في أصول الدين في األصل الثاني في التقديس‪ ..." :‬وأنه مستو على العرش على الوجه الذي قاله‪،‬‬
‫وبالمعنى الذي أراده‪ ،‬استواء منزها عن المماسة واالستقرار‪ ،‬والتمكن والحلول واالنتقال‪.‬‬
‫ال يحمله العرش‪ ،‬بل العرش وحملته محمولون بلطف قدرته‪ ،‬ومقهورون في قبضته‪ ،‬وهو فوق العرش وفوق كل شيء إلى‬
‫ثخوم الثرى‪ ،‬فوقية ال تزيده قربا إلى العرش والسماء‪ ،‬كما ال تزيده بعدا عن األرض والثرى‪ ،‬بل هو رفيع الدرجات عن‬
‫العرش‪ ،‬كما أنه رفيع الدرجات عن الثرى‪"....‬كتاب‪( :‬األربعين في أصول الدين)‪ ،‬ألبي حامد الغزالي عني به بوجمعة عبد‬
‫القادر مكري‪ ،‬دار المنهاج الطبعة األولى ‪1426‬هـ‪2006/‬م (ص‪)40:‬‬

‫وقال في ‪..." :‬العلم بأنه تعالى مستو على عرشه بالمعنى الذي أراد هللا تعالى باالستواء وهو الذي ال ينافي وصف الكبرياء وال‬
‫يتطرق إليه سمات الحدوث والفناء وهو الذي أريد باالستواء إلى السماء حيث قال في القرآن‪{ :‬ثم استوى إلى السماء وهي‬
‫دخان} وليس ذلك إال بطريق القهر واالستيالء كما قال الشاعر ‪ :‬قد استوى بشر على العراق ‪ ...‬من غير سيف ودم مهراق"‬
‫‪ .‬كتاب‪( :‬إحياء علوم الدين) ألبي حامد الغزالي‪ ،‬دار المعرفة ‪ -‬بيروت (‪.)108 /1‬‬

‫االستواء عند اإلمام عبد الكريم الشهرستاني‪:‬‬


‫قال الشهرستاني في إبطال التشبيه‪...." :‬وقد تخطى بعض الكرامية إلى إثبات الجسمية فقال‪ :‬أعني بها القيام بالنفس‪ ،‬وذلك‬
‫تلبيس على العقالء وإال فمذهب أستاذهم مع اعتقاد كونه محال للحوادث قائال باألصوات مستويا على العرش استقرارا مختصا‬
‫بجهة فوق مكانا واستعالء فليس ينجيه من هذه المخازي تزويرات ابن هيصم فليس يريد بالجسمية القائم بالنفس‪ ،‬وال بالجهة‬
‫الفوقية عالء‪ ،‬وال باالستواء استيالء‪ ،‬وإنما هو إصالح مذهب ال يقبل اإلصالح وإبرام معتقد ال يقبل اإلبرام واإلحكام‪ ،‬وكيف‬
‫استوى الظل والعود أعوج‪ ،‬وكيف استوى المذهب وصاحب المقالة أهوج‪ .‬وهللا الموفق" ‪.‬كتاب‪( :‬نهاية اإلقدام في علم الكالم)‪،‬‬
‫لإلمام عبد الكريم الشهرستاني‪ ،‬حرره وصححه ألفريد جيوم مكتبة الثقافة الدينية الطبعة األولى‪1430 ،‬هـ‪2009/‬م (ص‪-116:‬‬
‫‪.)117‬‬

‫االستواء عند اإلمام فخر الدين الرازي‪:‬‬


‫قال رحمه هللا في "مفاتيح الغيب"‪" :‬قال هللا تعالى {الرحمن على العرش استوى}؛ دل الدليل على أنه يمتنع أن يكون اإلله في‬
‫المكان‪ ،‬فعرفنا أنه ليس مراد هللا تعالى من هذه اآلية ما أشعر به ظاهرها إال أن في مجازات هذه اللفظة كثرة‪ ،‬فصرف اللفظ‬
‫إلى البعض دون البعض ال يكون إال بالترجيحات اللغوية الظنية والقول بالظن في ذات هللا تعالى وصفاته غير جائز بإجماع‬
‫المسلمين‪ ،‬وهذه حجة قاطعة في المسألة والقلب الخالي عن التعصب يميل إليه‪ ،‬والفطرة األصلية تشهد بصحته‪ .‬وباهلل‬
‫التوفيق"‪.‬كتاب‪( :‬مفاتيح الغيب) للرازي‪ ،‬دار الكتب العلمية ‪ -‬بيروت ‪1421 -‬هـ ‪ 2000 -‬م (‪ )153 /7‬وانظر كالمه في‬
‫المسألة العاشرة ‪":‬في أنه سبحانه وتعالى منزه عن المكان والجهة والحيز" من كتابه المسائل الخمسون في أصول الدين تح‪:‬‬
‫أحمد حجازي السقا‪ ،‬دار الجيل بيروت الطبعة الثانية ‪1410‬هـ‪(1990/‬ص‪ 38:‬وما بعدها)‪.‬‬

‫االستواء عند اإلمام سيف الدين اآلمدي‪:‬‬


‫قال في "أبكار األفكار" في‪" :‬الصفة التاسعة‪« :‬االستواء على العرش»‬
‫علَى ْالعَ ْر ِش ا ْست َوى}‪.‬‬
‫قال هللا تعالى‪ {:‬الرحْ َمنُ َ‬
‫وقد اختلف أهل الملة في ذلك‪.‬‬
‫فمنهم‪ :‬من حمله على االستقرار والمماسة للعرش‪ :‬كالمشبهة وهو باطل ألنه لو كان مستقرا على العرش‪ .‬والعرش جسم من‬
‫األجسام؛ فإما أن يكون مساويا له‪ ،‬أو أكبر‪ ،‬أو أصغر‪ ،‬والكل محال لما سيأتى في إبطال ما ال يجوز على هللا تعالى‪.‬‬
‫وعلى هذا فما نقل عن بعض األئمة المشهورين من قوله‪« :‬االستواء معلوم‪ ،‬والكيف مجهول‪ ،‬والسؤال عنه بدعة‪ ،‬واإليمان به‬
‫واجب»‪.‬‬
‫إن أراد باالستواء المعلوم‪ :‬االستقرار والمماسة فهو محال‪.‬‬
‫وإن أراد به استواء ال كاستوائنا‪ ،‬كما ذهب إليه السلف‪ ،‬والشيخ أبى الحسن األشعرى في أحد قوليه فغير معلوم لعدم داللة‬
‫القاطع عليه‪ ،‬وعدم داللة اللفظ عليه لغة كما سبق‪ ،‬وما عداه فاالحتماالت فيه متعارضة‪ ،‬على ما يأتى‪.‬‬
‫ومنهم من توقف‪ .‬والتوقف إن كان للتردد بين االستواء بمعنى االستقرار‪ ،‬وغيره من االحتماالت فخطأ ضرورة انتفاء االستواء‬
‫بمعنى االستقرار قطعا‪ ،‬وإن كان للتردد بين ما عدا ذلك من االحتماالت لعدم القطع بواحد منها على سبيل التعيين فال بأس به‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬من صار إلى التأويل‪ .‬والقائلون بالتأويل فقد اختلفوا‪:‬‬
‫فمنهم من حمل االستواء في اآلية على االستيالء‪ ،‬والقهر‪ .‬ومنه قول العرب‪:‬‬
‫استوى األمير على مملكته‪ ،‬عند دخول العباد في طاعته‪ .‬ومنه قول الشاعر‪:‬‬
‫قد استوى بشر على العراق من غير سيف ودم مهراق أى استولى‪.‬‬
‫وقال اآلخر‪:‬‬
‫ول ّما علونا واستوينا عليهم تركناهم صرعى لنسر وطائر ‪ ،‬أي استولينا عليهم وهو من أحسن التأويالت وأقربها‪.‬‬
‫فإن قيل‪ :‬حمل االستواء على االستيالء‪ ،‬يشعر بسبق المغالبة وتقدم المقاومة وهو ممتنع على هللا تعالى‪.‬‬
‫سلمنا عدم إشعاره بذلك‪ ،‬غير أنه ال فائدة في تخصيص العرش بذلك‪ ،‬مع تحقيقه بالنسبة إلى كل الحوادث‪.‬‬
‫قلنا‪ :‬أما األول‪ ،‬فإنه وإن جاز أن يكون االستيالء مسبوقا بالمقاومة‪ ،‬ولكن ال يلزم أن يكون مسبوقا بها‪ ،‬وال لفظ االستيالء‬
‫على َ أ َ ْم ِر ِه}[ يوسف‪.]21 /12 :‬‬
‫مشعر به‪ ،‬وإال لكان لفظ الغالب مشعر به وليس كذلك‪ .‬بدليل قوله تعالى‪َ {:‬وللاُ غَالِب َ‬
‫وأما الثانى‪ :‬فمندفع أيضا فإنه جاز أن تكون فائدة تخصيص العرش بالذكر للتشريف‪ ،‬كما سبق‪ .‬وجاز أن يكون ذلك للتنبيه‬
‫باألعلى على األدنى من حيث أن العرش في اعتقاد الخالئق أعظم المخلوقات‪ ،‬وأجل الكائنات‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬من حمل االستواء في اآلية على االستعالء والرفعة‪ ،‬وينقدح فيه اإلشكاالن السابقان‪ ،‬وجوابهما ما سبق‪.‬‬
‫ومنهم‪ :‬من حمله على القصد واإلرادة لخلق العرش؛ فإن االستواء قد يطلق بمعنى القصد‪ .‬ومنه قوله تعالى‪ {:‬ثُم ا ْست َوى َ ِإلَى‬
‫ِي ُدخَان}[ فصلت‪ :]11 /41 :‬أى قصد إلى السماء‪.‬‬
‫الس َماءِ َوه َ‬
‫وفيه نظر فإن االستواء وإن أطلق بمعنى القصد عند صلته بـ "إلى" فال يلزم مثله‪ ،‬عند صلته بـ "على" ولهذا يحسن أن يقال‪:‬‬
‫فالن قاصد إليك‪ ،‬وال يقال‪ :‬قاصد عليك"‪.‬‬
‫كتاب‪( :‬أبكار األفكار في أصول الدين)‪ ،‬لإلمام سيف الدين اآلمدي‪ ،‬تحقيق‪ :‬أ‪ .‬د‪ .‬أحمد محمد المهدي‪ ،‬مطبعة دار الكتب‬
‫واآلثار القومية بالقاهرة الطبعة الثانية‪ 1424‬هـ ‪ 2004 -‬م(‪.)461-463/1‬‬

You might also like