Professional Documents
Culture Documents
Cef n5 Ar PDF
Cef n5 Ar PDF
DOSSIER
مـلــف
5
�شتنرب 2011 -
القيم يف جمتمع قيد التحول
5
N°
aux valeurs dans une société
en mouvement
5
Septembre - 2011
يف امللف Dossier :
• املدر�سة املغربية وم�سارات الرتبية • Le système éducatif
على القيم امل�شرتكة à l’épreuve des
• حـدود االخـتـيـار الـتـوافـقـي
changements
socioculturels au Maroc
وانعكا�ساته على منظومة القيم
يف املدر�سة املغربية
• Activités scolaires
et éducation à la
• قيـم الـمواطنة بيـن مقـت�ضيات citoyenneté
الد�ستور ورهانات مدر�سة امل�ستقبل • Le Service
• املدر�سة املغربية ومطلب تر�سيخ Communautaire à
قيم املواطنة وال�سلوك املدين l’Université Al Akhawayn
• املواطنة واجلامعة
• L’Avis du Conseil
Supérieur de
• ر�أي الـمجل�س الأعلى للـتعليم فـي l’Enseignement n° 2/07
«دور الـمدر�سة يف تنمية ال�سلوك sur le « rôle de l’école
املدين» dans la promotion du
• الـنظـام الـتـربوي فـي حمـك » comportement civique
املتغريات ال�سو�سيوثقافية باملغرب • Ecole marocaine et
(بالفرن�سية) parcours d’éducation aux
valeurs communes (en
• الأن�شطـة الـمدر�سية والرتبية على
)arabe
املواطنة(بالفرن�سية)
• Limites du choix
• اخلدمة من �أجل اجلماعة :جتربة consensuel et ses
جامعة الأخوين (بالفرن�سية) effets sur le système
�شهادات des valeurs à l’école
)marocaine (en arabe
الـمدر�سة ودورها يف الرتبية على •
قيم املواطنة ومبادئ ال�سلوك املدين
• Valeurs de la citoyenneté
entre les dispositions de
قراءات la constitution et les défis
• قراءة يف كتاب «�أية مدر�سة لأية de l’école de l’avenir (en
مواطنة» )arabe
• Citoyenneté et université
جتارب متميزة )(en arabe
• جتربة منهاج الرتبية على حقوق • L’école marocaine et
الإن�سان :البدايات والت�سا�ؤالت l’éducation aux valeurs
• الدار البي�ضاء :الـمدر�سة والـمدينة، de citoyenneté et de
جتربة �إبداع متميزة )civisme (en arabe
دفاتر الرتبية والتكوين
Cahiers de l’Education et de la Formation من�شورات دورية ت�صدر ثالث مرات يف ال�سنة
Publication périodique triannuelle
املدير امل�س�ؤول
Directeur responsable عبد اللطيف املودين
Abdellatif El MOUDNI
رئي�س التحرير
Directeur de rédaction حماين �أقفلي
Hammani AKEFLI
هيئة التحرير
Comité de rédaction ، عبد اللطيف املودين، عبد احلق من�صف، ادري�س كثري،ادري�س اليعقوبي
Nassreddine EL HAFI, Azzedine EL KHATTABI, Abdellatif EL MOUDNI,
ن�رص الدين احلايف،عز الدين اخلطابي
Driss EL YAKOUBI, Driss KATIR, Abdelhak MOUNCEF
�سكرتري التحرير
Secrétaire de rédaction
Omar EL AZAMI EL IDRISSI
عمر الأزمي الإدري�سي
Editeur
النا�شر
Conseil Supérieur de l’Enseignement
املجل�س الأعلى للتعليم
53 �شهادات
54 • املدر�سة ودورها يف الرتبية على قيم املواطنة ومبادئ ال�سلوك املدين
حوار مع الدكتور حممد الدريج
61 قراءات
62 • قراءة يف كتاب «�أية مدر�سة لأية مواطنة ؟»
عز الدين اخلطابي
83 ترجمة
84 • العلم واملواطنة � :أي عالقات و�أي رهانات ؟
ترجمة :م�صطفى كاك
• �أ�ضحى �إجناح م�رشوع الدفاتر هدفا متقا�سما بني �إدارة الدفاتر والقراء .وهو الأمر
الذي ميكن تبينه من خالل �آراء القراء ،ومالحظاتهم ،ومقرتحاتهم املعرب عنها يف
ا�ستمارات التقومي التي يبعثون بها م�شكورين �إىل �إدارة الدفاتر؛
• تعزز موقع الدفاتر �ضمن الإنتاجات املهتمة مبيدان الرتبية والتكوين ،كما يعك�س ذلك
الإقبال املتزايد على اقتنائها واال�شرتاك فيها من قبل القراء؛
• كر�ست الدفاتر انفتاحها على م�ساهمات كافة الفاعلني الرتبويني يف موادها املختلفة،
يف حر�ص دائم على معايري البحث والإنتاج الفكري املتعارف عليها؛
غري �أن هذه املكت�سبات ال حتجب جملة من الإكراهات التي مت ر�صدها ،والتي ميكن
تلخي�صها يف ما يلي:
• مت الرتكيز يف امللفات اخلم�سة الأوىل من الدفاتر على معاجلة ق�ضايا ذات طابع
ماكروتربوي ،يف وقت يتزايد فيه الطلب على معاجلة ق�ضايا �أكرث تخ�ص�صا ،وهي
مفارقة قد جتد تف�سريها ،عالوة على متطلبات الت�أ�سي�س ،يف �سعي الدفاتر �إىل
اال�ستجابة النتظارات �أكرب �رشيحة من قراء �أهم ما مييزهم تنوع التخ�ص�ص وتباين
احلاجات؛
• مت ت�سجيل حمدودية �إقبال الفاعلني واملهتمني بق�ضايا البحث الرتبوي على امل�ساهمة
بكتاباتهم يف مواد الدفاتر ،الأمر الذي جتد معه هيئة التحرير �صعوبة يف انتقاء
امل�ساهمات القابلة للن�رش طبقا للمعايري املعمول بها؛
• ال ترقى وترية الإ�صدار حلد الآن �إىل م�ستوى طموح �إدارة الدفاتر وقرائها ،الهادف لالنتقال �إىل وترية
�أربعة �أعداد يف ال�سنة؛
هذا ،ولئن مت الرتكيز ،يف هذه الفرتة املنق�ضية ،على الق�ضايا اال�سرتاتيجية للمنظومة الوطنية للرتبية
والتكوين من قبيل العالقات البيداغوجية داخل الف�صل الدرا�سي ،واملقاربات البيداغوجية ،والكتاب
املدر�سي ،والتقومي والتح�صيل الدرا�سي ،ثم الرتبية على قيم املواطنة وال�سلوك املدين ،ف�إن التفكري يتجه
الآن �إىل املزاوجة بني مقاربة ق�ضايا ذات طابع ماكروتربوي �إىل جانب موا�ضيع ميكروتربوية تخاطب
االن�شغاالت امليدانية للفاعلني الرتبويني ،وتواكب التغريات التي ت�شهدها املفاهيم واملعارف والت�صورات
الرتبوية والبيداغوجية يف تفاعل مع دينامية املجتمع ومتطلبات الع�رص.
من وراء كل ذلك ،ت�سعى هيئة التحرير �إىل موا�صلة الإ�صدار املنتظم لهذه الدفاتر �أمال يف حتقيق
�أهدافها املعلن عنها يف خطها التحريري ،واملتمثلة �أ�سا�سا يف تبادل املفاهيم واملعارف والتجارب املرتبطة
بق�ضايا الرتبية والتكوين والبحث العلمي وال �سيما مع الفاعلني الرتبويني ،ومواكبة امل�ستجدات الرتبوية
والبيداغوجية والديداكتيكية والتعريف باملمار�سات التدبريية الناجعة ،والإ�سهام يف ن�رش املعرفة العلمية
حول ق�ضايا الرتبية والتكوين ببالدنا.
ملـف العـدد
املدر�سة املغربية والرتبية على القيم
يف جمتمع قيد التحول
توطئة
تقرتح هيئة التحرير جعل «املدر�سة والقيم يف جمتمع قيد التحول» عنوانا مللف هذا العدد ،وذلك
لتزامن �صدوره مع �سياق وطني و�إقليمي وعاملي ت�شهد فيه منظومة القيم حتوالت ملمو�سة.
من التجليات الكربى لهذا التحول ببالدنا اعتماد تعاقد جمتمعي جديد يج�سده الد�ستور امل�صادق
عليه يف ا�ستفتاء فاحت يوليوز ،2011الذي �أتى مبنظومة متكاملة من القيم امل�شرتكة واملتقا�سمة،
جتمع بني مفاهيم الهوية ،واالنتماء ،واحلرية ،واحلق ،والعدل ،وامل�ساواة ،والواجب � ...إلخ ،وذلك يف
انفتاح على القيم الكونية .وهو ما يلقي على عاتق املدر�سة ،بو�صفها �إحدى �أهم م�ؤ�س�سات التن�شئة
االجتماعية والرتبية على القيم ،م�س�ؤولية مواكبة هذا التحول ،مواكبة من بني �آلياتها الأ�سا�س فتح
نقا�ش متعدد حول مو�ضوع القيم ،من �ش�أنه �أن يف�ضي �إىل تعاقد حول القيم املتقا�سمة التي يتعني
على مدر�سة مغرب احلا�رض وامل�ستقبل تن�شئة الأجيال عليها وتربية املواطن على ف�ضائلها.
تهدف الرتبية على القيم عموما ،وعلى الأخ�ص املواطنة وف�ضائل ال�سلوك املدين لدى الأجيال
ال�صاعدة يف املدر�سة� ،إىل تكوين املواطن املت�شبث بالثوابت الدينية والوطنية لبالده ،يف احرتام تام
لرموزها وقيمها احل�ضارية املنفتحة ،املتم�سك بهويته ب�شتى روافدها ،املعتز بانتمائه لأمته ،املدرك
لواجباته وحقوقه .كما ت�ستهدف تربيته على التحلي بف�ضيلة االجتهاد املثمر ،وتعريفه بالتزاماته الوطنية
ومب�س�ؤولياته جتاه نف�سه و�أ�رسته وجمتمعه ،وعلى الت�شبع بقيم الت�سامح والت�ضامن والتعاي�ش؛
لي�ساهم يف احلياة الدميوقراطية لوطنه بثقة وتفا�ؤل ،يف اعتماد على الذات وت�شبع بروح املبادرة.
ولكون هذا املو�ضوع ي�شكل �أحد االن�شغاالت الدائمة للمدر�سة املغربية التي حتتاج �إىل التفكري
والتقومي املتجددين ،فقد مت تخ�صي�ص ملف العدد اخلام�س من هذه الدفاتر ملو�ضوع «املدر�سة
املغربية والرتبية على القيم يف جمتمع قيد التحول».
6
-2واقع القيم مب�ؤ�س�سات الرتبية والتكوين
يتوخى هذا املحور الإ�سهام يف ت�شخي�ص الواقع احلايل لقيم املواطنة وال�سلوك املدين داخل
م�ؤ�س�سات الرتبية والتكوين ،من خالل الوقوف على املجهودات التي تقوم بها بالدنا يف جمال الرتبية
على املواطنة وحقوق الإن�سان مواكبة لدينامية الإ�صالحات التي يعرفها املجتمع .وي�سعى كذلك
�إىل ر�صد بع�ض مظاهر ال�سلوك الالمدين يف بع�ض م�ؤ�س�ساتنا الرتبوية .فما هي نوعية القيم التي
تعمل املدر�سة املغربية على ن�رشها ؟ هل يوجد ان�سجام يف اخلطاب املدر�سي حول القيم ؟ ما هو
ت�أثري ذلك على الرتبية على القيم ؟
تلك بع�ض املحاور التي ميكن �أن تنتظم وفقها املقاربات املعتمدة يف املقاالت وامل�ساهمات املت�ضمنة
يف ملف هذا العدد.
8
املدر�سة املغربية وم�سارات الرتبية
على القيم امل�شرتكة
عبد اللطيف املودين
يعد مو�ضوع الرتبية على القيم( )1يف املدر�سة� ،سواء بالن�سبة للمغرب� ،أو لغريه من البلدان
الأخرى ،ان�شغاال م�ستمرا و�إ�شكالية دائمة الراهنية ،متجددة املقاربات ،متعددة الر�ؤى ووجهات
النظر .لذلك ،يقع هذا املو�ضوع يف �صلب النقا�ش العمومي ،وي�شكل حافزا على �إنتاج اخلطاب
امل�ؤطر لل�سلوك واملعاملة ،وعلى �إر�ساء الآليات الكفيلة بتحويل القيم �إىل اقتناع ،والتزام ،وممار�سة.
كما �أنه �ش�أن يهم بناء املواطن ،وي�ستهدف ،ببعده الرتبوي ،النا�شئة ال�صاعدة و�أجيال احلا�رض
وامل�ستقبل .ومن ثم ،اندراجه يف �صميم ان�شغاالت الدولة واملجتمع مبكوناتهما الر�سمية وغري
احلكومية ،وال�سيما املدر�سة واجلامعة وغريها من م�ؤ�س�سات الرتبية والتكوين ،واجلمعيات ذات
الوظائف الت�أطريية ،والرتبوية ،والثقافية ،واحلقوقية.
تت�أطر مقاربة �إ�شكالية الرتبية على القيم يف املدر�سة �ضمن �أربعة م�سارات ،على اخل�صو�ص:
• امل�سار الأول ،يتحدد يف �أن ال�سيا�سات التعليمية اخلا�صة بالرتبية على القيم ،بو�صفها �إحدى
الوظائف الأ�سا�س للمدر�سة ،تظل مدعوة ال�ستح�ضار �أن القيم ،يف عالقتها الع�ضوية ب�سريورة
الواقع الب�رشي وبدينامية املجتمعات ،وبتعقد العمليات الرتبوية الهادفة �إىل بناء ال�سلوك ،تت�سم
بكونها متعددة الدالالت ،واال�ستعماالت ،خمتلفة املرجعيات ،والأهداف ،ومو�ضوع تعار�ض
و�رصاع؛ ذلك �أن «القيم هي تف�ضيالت جماعية ميكن اقت�سامها� ،أو عدم اقت�سامها من طرف
�أ�شخا�ص ،وجمموعات اجتماعية»(.)2
• امل�سار الثاين ،يتمثل يف �أن القيم تتفاعل �ضمن منظومات قيمية دائمة التغري ،يف ارتباط بتطور
املجتمع وحتوله ،وبتجدد غاياته وخياراته ،وتبعا لتجاذبه بني اخل�صو�صية والكونية ،بني واقع
املمار�سات القائمة ،وبني ما حتمله القيم من ُمث ٍُل تعرب عن الطموح نحو ما ينبغي �أن يكون؛
• امل�سار الثالث ،م�ؤداه �أن الرهان على املدر�سة يف الرتبية على القيم ،ينبع من اقتناع مفاده �أن
يف ارتباط بذلك ،مييل الكثريون �إىل ت�صنيف ق�ضايا الرتبية والتكوين �ضمن خانة امللفات
االجتماعية ،مبنظور يجعلها حقال مليئا بالإكراهات وامل�شاكل ،ولي�س بو�صفها ف�ضاء للإمكانات
اخل�صبة وللم�ستقبل .هذا ،مع �أن امل�ؤ�رشات والدرا�سات والتجارب الدولية تثبت ب�أن البلدان التي
متثل اليوم قوى �صاعدة ،مثل كوريا اجلنوبية ،وماليزيا ،والهند ،هي تلك التي ا�ستثمرت يف الر�أ�سمال
الب�رشي ،ويف تكوين املواطن امل�ؤهل ،املت�شبع بقيم املواطنة وبثقافة احلقوق والواجبات؛ مما مكنها
مبكرا ،من ح�سم �إ�صالح منظوماتها الرتبوية ،و�إر�ساء الآليات الالزمة ملالءمتها امل�ستمرة مع انتظارات
املجتمع ومتطلبات الع�رص.
• امل�سار الرابع ،مفاده �أن امل�س�ؤولية امللقاة على املدر�سة يف نقل القيم ينبغي �أال تتطابق مع القول
ب�أن ال�صعوبات التي ما تزال تعرت�ض منظومة الرتبية والتكوين باملغرب ،وال�سيما يف �أداء وظيفتها
الرتبوية هي ال�سبب الأ�صلي والوحيد لكل املمار�سات الالمدنية ،والظواهر املنافية للمواطنة من
قبيل الغ�ش ،عدم احرتام الأدوار والغري ،الإ�رضار باملمتلكات العامة وبالبيئة ،بع�ض �أ�شكال
العنف ،...التي تثبت مالحظة الواقع والعديد من الدرا�سات تزايد انت�شارها يف املجتمع ،ويف
بع�ض امل�ؤ�س�سات التعليمية()4؛ ذلك �أن مثل هذه املمار�سات والظواهر جتد كثريا من �أ�سبابها،
لي�س فقط يف الإ�شكاليات التي تعرت�ض املدر�سة ،ولكن �أي�ضا يف االختالالت املرتبطة بوظائف
بع�ض بنيات املجتمع ،وم�ؤ�س�ساته.
يف �ضوء هذه امل�سارات �ستتم معاجلة �إ�شكالية العالقة بني القيم واملدر�سة ،من خالل املحاور
الثالثة التالية:
- 3املجل�س الأعلى للتعليم ،تقرير 2008حول حالة منظومة الرتبية والتكوين و�آفاقها ،اجلزء الأول� :إجناح مدر�سة للجميع� ،ص.43 :
� -4أنظر �أ�شغال الندوة الوطنية حول املدر�سة وال�سلوك املدين املنظمة من قبل املجل�س الأعلى للتعليم بالرباط يف ماي .2007
5- REZSOHAZY Rudolf sociologie des valeurs, Armand Colin 2006, pp. 13-14
10
من هذا املنظور ،فبقدر ما يتعني على املدر�سة القيام بدورها املحوري يف تعميق االعتزاز
بالذات الوطنية ،بقدر ما تقع على عاتقها مهمة تربية النا�شئة على احرتام االنتماءات الأخرى ،يف
انفتاح م�ستمر على الغري وعلى القيم الكونية(.)6
يف املقابل ،ال ينبغي لأ�سئلة الهوية �أن ترهن الف�ضاءات التعليمية والتكوينية ،وال �أن جتعل
منها جماال لت�رصيف التموقعات القائمة خارج تلك الف�ضاءات(.)7
يف ارتباط ب�أ�سئلة الهوية ،وقيمها تظل املدر�سة املغربية مدعوة ،وهي ت�ستح�رض لزوما القيم
الوطنية امل�شرتكة املنفتحة على القيم الكونية للإن�سانية ،التي جاء بها الد�ستور اجلديد ،2011
للمزاوجة بني الرتبية على قيم املواطنة ،وقواعد ال�سلوك املدين وحقوق وواجبات الإن�سان ،واحرتام
الغري ،وعلى ف�ضائل النقا�ش املتعدد ،و�إ�شاعة ثقافة االجتهاد املثمر ،واملناف�سة ال�شفافة ،والنزيهة
القائمة على اال�ستحقاق ،وبني تر�سيخ املمار�سة الدميوقراطية يف ف�ضاءات الرتبية والتكوين()8؛ ذلك
�أن ا�ستمرارية توطيد البناء الدميوقراطي باملغرب ،كما �أنها تتم عرب الإ�صالحات اجلارية ،ف�إنها تقع
على نخب الغد ،التي متثلها النا�شئة املتعلمة اليوم.
• االعتبار الأول ،هدفه ت�أكيد امل�رشوعية الدائمة مل�ؤ�س�سات الرتبية والتكوين يف نقل القيم؛ ذلك
�أن على املدر�سة �أن تكون دوما مر�آة متجددة ملجتمع يتغري ،وملنظومة قيمية يف حتول م�ستمر.
كما �أنها يف املقام الأول ،مرفق عمومي يهم اجلميع .هذا ،عالوة على كونها ممرا �رضوريا لكل
الطفالت والأطفال ،منذ بلوغ �سن التمدر�س �إىل غاية ا�ستيفاء � 15سنة من العمر� ،أي �إمتام
التعليم الإلزامي على الأقل؛ حيث يق�ضون يف ف�ضاءاتها احليز الأهم من وقتهم وحياتهم.
يف ارتباط بذلك ،ت�شكل املدر�سة ،رغم ما قد يخرتق املجتمع من فوارق وتراتبات ،الف�ضاء
الذي مينح فر�صة متميزة للعمل على جت�سيد �أف�ضل �رشوط الإن�صاف وتكاف�ؤ الفر�ص ،يف موازاة
مع ت�شجيع التفوق ،واالمتياز بناء على اال�ستحقاق ،مع ال�سهر على تكري�س قيم املواطنة ،وثقافة
احلقوق ،والواجبات ،واحلرية ،والإبداع ،واالبتكار؛ وذلك يف �إطار ا�ضطالع املدر�سة مب�س�ؤوليتها
الدائمة يف تكوين املواطن� ،ضمن نهو�ضها الطبيعي بوظيفتها الرتبوية.
من ثم ،فاملدر�سة ملزمة بت�أ�سي�س فعلها الرتبوي على تر�سيخ القيم املتقا�سمة للأمة ،بعيدا عن
القناعات الذاتية للأفراد واملجموعات ،بل للفاعلني الرتبويني �أنف�سهم .هذا يعني �أن مدر�سة القيم
� -6أنظر امليثاق الوطني للرتبية والتكوين ،املطبعة الر�سمية � ،2002ص 9 .و .10
-7ر�أي املجل�س الأعلى للتعليم حول ال�سلوك املدين رقم 07/2ال�صادر يف �سنة .2007
8- MERCKELBACH Stefane, définir les valeurs d’un établissement scolaire, www.ordinata.
ch, 2004.
• �أما االعتبار الثاين ،فيجليه االنت�شار الوا�سع وال�رسيع لتكنولوجيا الإعالم واالت�صال وال�ستعمالها،
وال�سيما من لدن النا�شئة وال�شباب .معلوم �أن هذه التقنيات الع�رصية حتمل يف ثنايا �إر�سالياتها
جملة من القيم واملوجهات الأخالقية؛ مما ي�ستدعي من املدر�سة مالءمة �آليات ا�شتغالها وطرائق
فعلها البيداغوجي ،يف اجتاه رفع حتدي التناف�سية الرقمية ،بل والتحكم يف تلك التقنيات،
والقدرة على ح�سن توظيفها ،بهدف نقل القيم امل�شرتكة ب�أ�ساليب مقنعة ،ومبتكرة.
➣ �آلية اخلطاب ،بو�صفه �آلية لنقل القيم عرب امل�ضامني الدرا�سية ،وبرامج التكوين و�أعمال البحث،
التي حتمل �ضمن �إر�سالياتها تلك القيم؛
➣ �آلية القدوة ،القائمة على حث املدر�سني ،واملربني على تقدمي مثال بيداغوجي يج�سد القيم
امل�ستهدفة ،من خالل ت�رصفاتهم ،و�سلوكاتهم ،ومعامالتهم ،يف مراعاة للنماذج التي تتيحها
املنظومة القيمية املرجعية للمدر�سة؛
➣ �آلية الأن�شطة الثقافية والريا�ضية ،الكفيلة بجعل احلياة املدر�سية ،واجلامعية ،والتكوينية
ف�ضاءات للت�شبع بالقيم ،وتر�سيخ ثقافتها؛
➣ و�أخريا �آليات �سري امل�ؤ�س�سات املدر�سية ،وتدبري جمال�سها ،وكيفية ا�شتغالها ،التي ب�إمكانها تقدمي
مناذج متميزة يف امل�شاركة ،والدمقرطة ،وال�شفافية ،والنزاهة.
ب�رصف النظر عن هذه الآليات وغريها ،ف�إن نقل املدر�سة للقيم تعرت�ضه جملة من ال�صعوبات،
تتلخ�ص �أهمها يف خم�سة �أ�سا�سية:
• ال�صعوبة الأوىل ،متثلها �إ�شكالية تقا�سم امل�س�ؤولية يف نقل القيم ،وتر�سيخها؛ ذلك �أن تنمية
القيم� ،إذا كانت مهمة مطروحة ب�إحلاح على املنظومات الرتبوية ،ف�إنها تظل م�س�ؤولية متقا�سمة
تتوالها املدر�سة �إىل جانب الأ�رسة ،والإعالم ،وكذا امل�ؤ�س�سات ،واجلمعيات ذات الوظائف الرتبوية
والثقافية ،والت�أطريية ،التي ما فتئت تقوم بدور رائد ،ومببادرات متميزة ،من �أجل ن�رش ثقافة القيم
املواطنة ،مما ي�ستدعي �إعطاء الأهمية لإر�ساء �صيغ م�ؤ�س�ساتية م�ستدمية لل�رشاكة ،والتعاقد،
والتن�سيق ،من �أجل برامج عمل م�شرتكة لتنمية القيم ،وتر�سيخها لدى الأجيال ال�صاعدة؛
12
• ال�صعوبة الثانية ،جتليها حمدودية التج�سيد الفعلي للقيم يف ال�سلوك واملمار�سات ،يف مقابل
ت�ضخم اخلطاب البيداغوجي الذي يتم �إنتاجه حول القيم؛
• ال�صعوبة الثالثة ،تربز يف مو�سمية الربامج املخ�ص�صة للرتبية على القيم ،يف مقابل �إ�شكالية
ا�ستمرارها ،وا�ستدامتها؛
• ال�صعوبة الرابعة ،متثلها م�س�ألة تدبري الرتبية على القيم ،وذلك باالنتقال بها من التوجيهات
الرتبوية ،وبرامج العمل الوطنية واجلهوية� ،إىل قلب الف�صول الدرا�سية ،وف�ضاءات امل�ؤ�س�سات
التعليمية ،ومن ثم� ،إىل حتقيق االقتناع بها ،وااللتزام بقواعدها ،وجت�سيدها يف ال�سلوك،
واملعاملة ،واملمار�سات اليومية لدى كل متعلم ومتعلمة؛
• �أما ال�صعوبة اخلام�سة ،فتتحدد يف نق�ص الأدوات الكفيلة بتتبع الأثر على م�ستوى بناء ال�سلوك
والفعل ،وتقومي م�ؤ�رشات االجنازية ،وال�سيما يف جمال الرتبية على القيم ،التي يظل تلم�س
نتائجها يف املمار�سات حمدودا .كما �أن حتقيق �أهدافها يندرج يف مدى زمني بعيد.
ميكن القول �إجماال� ،إن املدر�سة املغربية التواقة لأن تكون م�ؤ�س�سة املردودية العالية ،والإن�صاف،
واال�ستحقاق ،واكت�ساب ف�ضائل ال�سلوك املدين ،وقيم املواطنة ،وقواعد املمار�سة الدميقراطية،
مدعوة ،وال�سيما يف �سياق التحوالت ال�سو�سيو�سيا�سية التي ي�شهدها املجتمع املغربي اليوم ،مل�ضاعفة
اجلهود من �أجل حتقيق التوازن ال�رضوري بني القيام بوظيفتها يف التن�شئة على القيم املتقا�سمة بني
مكونات الأمة( ،)11والرتبية عليها ،وبني مهمتيها املعتادتني يف تعليم الكفايات املنهجية واملعرفية،
واكت�سابها ،ويف الت�أهيل للحياة املهنية.
وهو ما ي�ستدعي املزاوجة اخلالقة بني نقل املعارف ،والتكوين الهادف �إىل بناء احلكم عليها
�أي تر�سيخ الفكر النقدي ،وبني الرتبية على القيم والتكوين الهادف �إىل احلكم على تلك القيم.
-11يفرت�ض �أن ت�ستمد قيم املدر�سة املغربية اليوم مرجعيتها على اخل�صو�ص من الد�ستور اجلديد 2011وغايات املنظومة
الوطنية للرتبية والتكوين املحددة يف امليثاق الوطني للرتبية والتكوين بو�صفه �إطارا مرجعيا وطنيا لتجديد بناء املنظومة
الرتبوية و�إ�صالحها.
فال �أحد يجادل يف كون املجتمع املغربي ي�شهد منذ مطلع القرن الع�رشين حتوالت بنيوية
عميقة :ت�سارع وترية متدر�س ال�ساكنة ب�شكل خا�ص ،تراجع ن�سب الأمية ،انخفا�ض معدل اخل�صوبة
وحتقق م�ؤ�رشات التحول �أو االنتقال الدميغرايف ،انت�شار نظام الأ�رسة النووية ،ارتفاع ن�سب التعمري
احل�رضي والتحديث التقني ،الربوز التدريجي للفرد كفاعل جديد ،تعقد بنيات املجتمع وعالئقه
وارتفاع كثافة تق�سيم العمل ،...وغريها من امل�ؤ�رشات املتعارف عليها عامليا يف الأدبيات ال�سو�سيو
اقت�صادية ك�أدوات لقيا�س درجات االنتقال من منط التنظيم اجلماعاتي التقليدي نحو املجتمع
احلديث .وكلنا يعرف �أن اللحظة الت�أ�سي�سية للفكر ال�سو�سيولوجي ت�شكلت عند حماولة درا�سة وفهم
هذا التحول (�أعمال دوركهامي مثال) .لكن �إذا كان هذا التغري �أمرا واقعا يف املجتمع املغربي املعا�رص،
ف�إن الدار�سني يالحظون عادة �أن هذا التغري مل يواكبه «ب�شكل مت�ساوق ومتنا�سق حتول يف جمال
الوعي الفردي واجلماعي الذي ظل يغلب عليه نزوع ثقايف تقليداين وحمافظ».
ومع �أن ال �أحد ينكر وجود تغريات يف املنظومة القيمية ،هناك نوع من الإجماع على
اعتبارها ال تتخذ �إيقاعا مت�ساوقا ومتنا�سقا مع �إيقاع التحوالت االجتماعية البنيوية امل�شار �إليها
�أعاله .ولعل الإبداعات الفنية والأدبية (ال�سينما والرواية وامل�رسح) توفقت �إىل حد كبري يف التعبري
عن هذا الإح�سا�س بالتفاوت والالتناغم يف معي�ش الإن�سان املغربي املعا�رص .هناك� ،إن �شئنا،
نوع من التنافر ) (1)(dissonanceبني خمتلف الأ�صوات ( )sonsامل�شكلة لن�سيج جتارب الأفراد
- 1يف القامو�س املو�سيقي تعني عبارة ( )dissonanceتوايل �أ�صوات متنافرة ال تنا�سق وال ت�آلف بينها ،مما يحدث انزعاجا لدى
امل�ستمع .وعندما تذهب الأ�صوات يف اجتاهات متنافرة� ،أو عندما جتتمع يف لوحة ت�شكيلية واحدة �ألوان غري متجان�سة يعرب
عن ذلك �أي�ضا بعبارة ( ،)dissonanceنوع من الفو�ضى غري املح�سوبة �أو غرياملدرو�سة وهي نقي�ض التناغم (.)consonance
14
واجلماعات يف املجتمع .و�سنبني الحقا �أن من املهام الأ�سا�سية للمدر�سة يف املجتمع احلديث،
العمل على تدارك التنافر الطبيعي القائم يف كل جمتمع ،لإحداث �أق�صى ما ميكن من التناغم
(� )consonanceأو الهرمونيا ( )harmonieعلى كل امل�ستويات.
القيم يف املجتمع احلديث ،مثلها مثل الأ�صوات ،توجد يف حالة تنافر ( )dissonanceبن�سب
متفاوتة ،ح�سب درجات االندماج الثقايف واالجتماعي واالقت�صادي لكل جمتمع .ومهمة املدر�سة
احلديثة ،كما ت�صورتها الدولة ــ الأمة انطالقا من القرن 19م ،هي �أن ت�صوغ من الأ�صوات املتنافرة
معزوفة حتظى باحلد الأدنى املطلوب من التنا�سق والتناغم ال�رضوريني ل�سري جمتمع ديناميكي
منتج ،ومنظم.
املدر�سة العمومية ،مثل الإدارة احلديثة ،واجلي�ش ،وغريهما من امل�ؤ�س�سات تعد من �أهم �إبداعات
الدولة ــ الأمة احلديثة .ومل تكن هذه الأخرية لت�ؤ�س�س املدر�سة العمومية ،وتعمل على ب�سط ح�ضورها
عرب كل الرتاب الوطني ،لو مل تكن تعتربها الور�شة الأ�سا�سية لرتكيب وبناء املجتمع احلديث ؛ �أي
املجتمع املندمج واملعقد يف نف�س الآن .ذلك املجتمع الذي يتمتع �أفراده بحركية «عالية» ،وبحد �أدنى
من املعارف (القراءة ،الكتابة ،احل�ساب) ،واملهارات اللغوية ل�ضمان توا�صل �رسيع وفعال فيما بينهم.
ومن مهام املدر�سة العمومية ،يف نطاق الدولة ــ الأمة احلديثة ،تزويد النا�شئة مبنظومة قيمية م�شرتكة
ي�ستبطنونها ويت�شبتون بها ،بحيث ت�صبح نوعا من املرجعية البديهية لدى غالبية املواطنني.
مل يكن الأمر مطروحا كذلك يف اجلماعات الزراعية التقليدية (ما قبل احلديثة) ،نظرا لكونها
ت�ضطلع �أ�سا�سا مبهام �إعادة �إنتاج ذاتها ،ولكون التن�شئة االجتماعية كانت تتمثل يف �إعادة �إنتاج
الأفراد على �شاكلة �آبائهم ،و�أجدادهم .ومن ثم ،ف�إنه مل تكن هناك حاجة �إىل مدر�سة عمومية
موحدة على م�ستوى تراب البلد الواحد .فالأ�رسة ،والع�شرية ،والزاوية ،والقبيلة ،وغريها من امل�ؤ�س�سات
االجتماعية التقليدية كانت ت�ضطلع مبهام التن�شئة االجتماعية با�ستقالل عن احلكم املركزي.
وعلى نقي�ض النظام التقليدي ،تطمح املدر�سة احلديثة النتزاع الأطفال من و�سطهم الأ�صلي
وف�صلهم عن �أ�رسهم وعن االقت�صاد الأ�رسي ( )l’économie domestiqueب�شكل عام ،لالرتقاء
بهم نحو ثقافة �أعلى و�أو�سع �أفقا ،ثقافة كونية تتجاوز املحيط املحلي املبا�رش (الأ�رسي ،والقبلي ،الخ).
وجتدر الإ�شارة هنا �إىل �أن عبارة كوين ( )universelتعني قبل كل �شيء درجة عالية من التعميم
مثل كونية القواعد القانونية.
ال�س�ؤال الذي يطرح نف�سه باال�ستناد �إىل التوطئة �أعاله هو كالآتي :هل من املمكن بناء
موقف توافقي يف املجال القيمي� ،أو املعياري ؟
لعله من املمكن جدا ت�صور توافقات �سيا�سية� ،أو اقت�صادية� ،أو اجتماعية يف جماالت
امل�صالح املختلفة القابلة للقيا�س ،وللتدبري الرباغماتي ،بحيث ت�صل الأطراف املتناف�سة عرب تنازالت
معقلنة ،ومتفاو�ض ب�ش�أنها� ،إىل نوع من احلد الأدنى املتوافق ب�ش�أنه ،والذي ،و�إن مل ير�ض جممل
تطلعات خمتلف الأطراف ،فهو ،على الأقل ،يلبي ،جزئيا انتظارات كل طرف .وهكذا ميكننا ت�صور
توافقات بني �أرباب املقاوالت ،والنقابات العمالية حول الأجور ،مثال� ،أو التوافق بني الأحزاب الليربالية
واال�شرتاكية حول ال�سيا�سة ال�رضيبية ،وم�ستوى الإنفاق العمومي ،الخ.
لكن ،هل من املمكن �إيجاد توافق بني قيم مت�ضاربة ،متنازعة ،حيث يعترب املدافعون عن كل
منظومة قيمية �أنها مطلقة ونهائية ؟ هل ميكن مثال �أن جنمع يف برنامج درا�سي واحد موجه لكل
التالميذ توفيقا وجمعا بني درو�س تقدم للنا�شئة نظرية اخللق الإلهي للإن�سان ،باعتبارها حقيقة �أزلية
مطلقة ،وبني درو�س تب�سط نظرية الن�شوء والتطور باعتبارها م�ستمدة من مالحظات �أمربيقية باال�ستناد
�إىل املنهج العلمي املتعارف عليه (الفر�ضية ؛ التجريب ؛ �صياغة القانون العلمي الن�سبي القابل للمراجعة
والتفنيد على �ضوء فر�ضيات وجتارب جديدة ناجحة )..؟ هل ميكن �أن جنمع يف نف�س املناهج الدرا�سية
بني درو�س عقدية حتمل خطابا قيميا ي�ستند �إىل قراءة للن�صو�ص املقد�سة ت�ؤ�س�س لفكرة �أن الإن�سان م�سري
يف كل حركاته ،و�سكناته ،و�أن كل �شيء يحدث يف الكون �سبق و�أن كتب ،و�سجل ،وقرر ،بعناية �إلهية منذ
الأزل ؛ ويف ذات الوقت ندمج يف نف�س املناهج املدر�سية قيم احلرية وامل�س�ؤولية الفردية �سواء تلك التي
يحملها فكر الأنوار ،وما تاله� ،أو فل�سفة حقوق الإن�سان يف �صيغتها احلديثة ؟ وبعبارة �أخرى هل ميكن
�أن تت�أ�س�س املنظومة القيمية يف ن�سق تربوي معني على الن�سبية املعيارية ()le relativisme normatif
بحيث تكتفي ب�أن تعر�ض على النا�شئة خليطا من القيم املت�ضاربة واملتناق�ضة فيما بينها ؟
�إن متفح�ص الن�صو�ص املرجعية احلديثة للمنظومة الرتبوية املغربية (امليثاق الوطني للرتبية
والتكوين مثال)� ،أو املناهج والكتب املدر�سية املعمول بها ،لن يجد عناء يف القول ب�أن املنظومة
16
الرتبوية املغربية تقبل بالن�سبية املعيارية وتعتمدها كخيط رابط بني كل ما تقدمه من قيم لرواد
املدر�سة املغربية.
جرت العادة ،يف و�سائل الإعالم ،ويف خطاب خمتلف ال�سيا�سيني والقائمني على النظام
الرتبوي� ،أن ي�شار �إىل امليثاق الوطني للرتبية والتكوين باعتباره ثمرة توافق وطني ،حتددت عربه
الأ�س�س ،والآفاق ،والغايات التي ارت�ضتها القوى الفاعلة (ال�سيا�سية ،والنقابية ،والدينية ،والأكادميية،
الخ) للمنظومة الرتبوية الوطنية .فما املق�صود ،مثال ،بالتوافق الوطني على م�ستوى الأ�س�س املعيارية
التي تعر�ضها هذه الوثيقة ؟
يف الق�سم اخلا�ص باملرتكزات �أو الثوابت امل�ؤ�س�سة للم�رشوع الرتبوي املغربي ،جند ب�أن وا�ضعي
امليثاق الوطني للرتبية والتكوين( )2توافقوا على اعتماد جمموعة من الدوائر املعيارية املتجاورة التي
تر�سم للمدر�سة املغربية الآفاق القيمية �أو املعيارية الآتية :
• الدائرة الدينية ،التي حتمل املدر�سة مهمة موا�صلة التن�شئة الدينية التي تنطلق يف حميط
الأ�رسة ،وذلك على �ضوء «مبادئ العقيدة الإ�سالمية» و«الإميان باهلل».
• �أما الدائرة الثانية من املرتكزات القيمية ،فهي ذات بعد ثقايف لغوي .وتقت�ضي �أن ي�رضب
النظام الرتبوي جذوره يف «الرتاث احل�ضاري والثقايف للبالد» .وهو تراث تعددي ي�شمل «اللغة
العربية» ،والرتاث املحلي «بتنوع روافده اجلهوية» ،كما ي�شمل االنفتاح على «اللغات الأكرث انت�شارا
يف العامل» ،و«الوفاء للأ�صالة» املغربية.
• ثم هناك الدائرة ال�سيا�سية املتعلقة بتكوين «مواطنني» مت�سمني بـ«حب الوطن والتم�سك
بامللكية الد�ستورية» ،و«امل�شاركة االيجابية يف ال�ش�أن العام» ،وواعني «�أمت الوعي بواجباتهم وحقوقهم»،
مت�شبعني «بروح احلوار ،وقبول االختالف وتبني املمار�سة الدميقراطية ،يف ظل دولة احلق والقانون».
• ودائرة العلم واملعرفة الكونية احلديثة ،حيث الغاية هي «امتالك نا�صية العلوم والتكنولوجيا
املتقدمة ،والإ�سهام يف تطويرها» ،و«التطلع الدائم للمعا�رصة» ،واالنفتاح على «معطيات احل�ضارة
الإن�سانية الع�رصية ،وما فيها من �آليات و�أنظمة تكر�س حقوق الإن�سان ،وتدعم كرامته».
�إذا كان التوافق الذي يعرتف ويقبل بوجود وتناف�س منظومات واختيارات متعددة� ،أمرا
حممودا يف احلقول ال�سيا�سية ،واالجتماعية ،واالقت�صادية ،ف�إن نقله وا�ستنباته يف جمال الرتبية،
ي�ؤدي �إىل م�ضاعفات �سلبية تفقد املدر�سة جتان�سها ،وفعاليتها .ومن ثم ،ي�صبح التوافق يف احلقل
الرتبوي معناه �إرجاء االختيار ،ونقل ال�رصاع املعياري ،والقيمي الطبيعي القائم يف املجتمع �إىل قلب
املدر�سة .وي�صري التوافق تخليا عن بذل اجلهد الفكري املطلوب لإعادة بناء فل�سفة املنظومة الرتبوية
يف �شموليتها ،على �ضوء باراديغم� ،أو اختيارات حمددة.
ويف ظل غياب املجهود الفكري امل�شار �إليه ،يتم االكتفاء بتوافق �سلبي ( )passifيح�سم
ال جدال� ،إذن ،يف �أن املقاربة التوافقية تتخذ هنا دينامية معاك�سة متاما للفل�سفة التي
ن�ش�أت مبوجبها م�ؤ�س�سة «املدر�سة» يف املجتمعات احلديثة .فالتوافق ،هنا ،معناه اختيار نقل التنافر
( )dissonanceالطبيعي القائم معياريا يف املجتمع� ،أو ما يطلق عليه ال�سو�سيولوجيون «تنازع
القيم» (� ،)le conflit des valeursإىل قلب امل�ؤ�س�سة الرتبوية .ومن ثم ،ت�صبح املدر�سة مر�آة تعك�س
تناق�ضات املجتمع ،عو�ض �أن تكون ،كما هو الأمر يف الدولة احلديثة� ،أداة لإعادة بناء و�إدماج
مكونات املجتمع .ولعل من الآثار املبا�رشة لهذا القلب يف �أدوار املدر�سة واملجتمع ،هو عودة
العملية الرتبوية �إىل �سابق عهدها ــ يف مرحلة ما قبل احلداثة ــ �أي �إعادة �إنتاج املجتمع لذاته
( .)reproductionيبدو الأمر وك�أن املجتمع يقول للمدر�سة :هذه قيمنا يف تنافرها ،وت�ضاربها،
نريدها �أن تنقل كذلك على حالها للأجيال اجلديدة .وهنا قد يعرت�ض معرت�ض قائال :وما العيب،
�أو الغرابة يف �أن تكون املدر�سة مر�آة للمجتمع تعك�س ت�ضارب م�شاريعه وقيمه ؟ �أو لي�ست املدر�سة
يف كل مكان ،وزمان� ،صورة ،وجتليا للمجتمع الذي �أنتجها ؟
�إن �أهم الدرو�س التي قدمتها الدرا�سات ال�سو�سيولوجية املقارنة للأنظمة الرتبوية هو التفنيد
الدقيق واملمنهج لهذه البديهية التي ترى يف املدر�سة مر�آة عاك�سة للمجتمع( .)3فعلى الرغم من قوة
هذا الت�صور ،يتبني من املقارنة العلمية امليدانية للمنظومات الرتبوية املختلفة �أن هناك ،دائما ،نوع
من امل�سافة الفا�صلة بني املجتمع واملدر�سة ،و�أن دينامية التغيري ،والإبداع ال تت�أتى للمجتمعات �إال
بقدر ما ترعى اال�ستقاللية الن�سبية ملنظوماتها الرتبوية.
خـاتـمـة
ختاما ،ميكن العودة �إىل ال�س�ؤال الذي انطلقنا منه :ملاذا مل يتحقق يف املغرب تطور متناغم،
ومن�سجم بني دينامية حتوالت املحيط املادي ،ومنظومة القيم يف املدر�سة ؟
لعل من �أهم عوامل هذا التطور الالمتوازن ،وغري املن�سجم كما �أو�ضحنا �أعاله ،هو كون املجتمع
املغربي املعا�رص (دولة ونخبا) مل يحدد بعد مهمة املدر�سة� ،أو لنقل �إنه كلفها ب�أداء مهام متناق�ضة.
فعو�ض �أن يجعل من املدر�سة قلعة حم�صنة �ضد التنافر القيمي القائم ب�شكل طبيعي يف املجتمع ؛
قلعة ي�سود فيها نوع من ال�سلم العقدي واملعياري� ،صارت ترتدد بني جدرانها �أ�صداء النزاعات العقدية
والقيمية امل�شتعلة يف املجتمع .ومن ثم �أ�صبحت املدر�سة ور�شة ل�صناعة احلرية والت�ضارب القيمي.
18
قيم املواطنة بني مقت�ضيات الد�ستور
ورهانات مدر�سة امل�ستقبل
عمر االزمي االدري�سي
باحث يف العلوم القانونية
باعتماد الد�ستور املغربي اجلديد يف ا�ستفتاء فاحت يوليوز ،2011تكون بالدنا ،وهي تتطلع
�إىل تر�سيخ مقومات الدولة الع�رصية القائمة على احلق والقانون ،قد حققت قفزة نوعية يف اجتاه
تكري�س قيم املواطنة ،والدميوقراطية ،وحقوق الإن�سان بو�صفها �أ�سا�س البناء ال�سيا�سي واالجتماعي
للدولة( ،)1وباعتبار املواطن قيمة يف حد ذاته( .)2وهو ما يجعل منه د�ستورا حلقوق الإن�سان،
وميثاقا حلقوق وواجبات املواطنة(.)3
و�إذا كان الد�ستور ،بو�صفه القانون الأ�سمى للدولة ،قد ت�ضمن �إعالنا �رصيحا عن تبني قيم
املواطنة ،حمددا مبادئها العامة وتوجهاتها الأ�سا�سية ،ف�إن الرهان الأكرب يتمثل يف تفعيل هذه
املقت�ضيات القانونية وتنزيلها �إىل �أر�ض الواقع مبا يجعل منها قيما متقا�سمة ومتعاقدا عليها بني
جميع مكونات الأمة ،وير�سخها يف املمار�سة اليومية للمواطن والدولة على حد �سواء(.)4
من هنا ،تبدو م�رشوعية الت�سا�ؤل حول دور املدر�سة ،بو�صفها م�ؤ�س�سة للتن�شئة االجتماعية،
يف ن�رش وتعميم قيم املواطنة عرب نقلها �إىل النا�شئة ،ومن ثم ،الإ�سهام يف تر�سيخها كالتزام ،واقتناع،
ثم كممار�سة يومية تنعك�س ب�شكل مبا�رش وتلقائي يف �سلوكات ،ومعامالت الأفراد وامل�ؤ�س�سات.
ملقاربة هذا املو�ضوع نتطرق ،بداية ،ملفهوم املواطنة ،قبل �أن نتناول قيم املواطنة كما وردت
يف الد�ستور اجلديد ،ثم نختم باحلديث عن دور املدر�سة املغربية يف ن�رش ،وتعميم هذه القيم،
ورهاناتها يف هذا ال�ش�أن.
ن�ص ت�صدير الد�ستور اجلديد على ما يلي�« :إن اململكة املغربية ،وفاء الختيارها الذي ال رجعة فيه ،يف بناء دولة دميقراطية -1
ي�سودها احلق والقانون ،توا�صل �إقامة م�ؤ�س�سات دولة حديثة ،مرتكزاتها امل�شاركة والتعددية واحلكامة اجليدة ،و�إر�ساء
دعائم جمتمع مت�ضامن ،يتمتع فيه اجلميع بالأمن واحلرية والكرامة وامل�ساواة ،وتكاف�ؤ الفر�ص ،والعدالة االجتماعية،
ومقومات العي�ش الكرمي ،يف نطاق التالزم بني حقوق وواجبات املواطنة»
ورد ذكر كلمتي «املواطنات» و«املواطنني» متالزمتني 18مرة يف الد�ستور. -2
من اخلطاب امللكي بتاريخ 17يونيو ،2011مبنا�سبة عر�ض م�رشوع الد�ستور على اال�ستفتاء ال�شعبي. -3
يف ال�سياق ذاته جاء يف اخلطاب امللكي بتاريخ 30يوليوز 2011مبنا�سبة عيد العر�ش�« :إن التعاقد الد�ستوري وال�سيا�سي -4
اجلديد ،مبا يكفله من منظومة متكاملة حلقوق الإن�سان ،وواجبات املواطنة� ،سيبقى �صوريا ما مل يقرتن بانبثاق تعاقد اجتماعي
واقت�صادي ت�ضامني ،يجعل كل مواطن ،ومواطنة يلم�س الأثر الإيجابي لهذه احلقوق على معي�شه اليومي ،وعلى تقدم وطنه»
هكذا ،مت تعريف املواطنة يف مباحث علم االجتماع ب�أنها مكانة �أو عالقة اجتماعية تقوم بني
فرد طبيعي (املواطن) ،وجمتمع �سيا�سي (الدولة) ،ومن خالل هذه العالقة يقدم الطرف الأول الوالء،
ويتوىل الطرف الثاين احلماية ،ويحدد القانون هذه العالقة بني الفرد والدولة.
من ثم ،ف�إن املواطنة ،من حيث هي عالقة قانونية واجتماعية بني الفرد والدولة ،ذات �أبعاد
وم�ستويات ترتبط ارتباط ًا وثيقا مبفاهيم الهوية ،واالنتماء ،واحلرية ،واحلق ،والعدل ،وامل�ساواة،
والواجب� ...إلخ .وتتمثل �أبعاد املواطنة فيما يلي:
• البعد القانوين ،وال�سيا�سي :يتمثل يف القواعد املج�سدة للم�ساواة بني املواطنات واملواطنني يف
احلقوق ،واحلريات ،والواجبات ،دون متييز بينهم ب�سبب الدين� ،أو العرق� ،أو اللون� ،أو اجلن�س....
الخ.
• البعد الثقايف واحل�ضاري :يعنى باجلوانب الروحية ،واملعنوية للأفراد ،واجلماعات على �أ�سا�س
احرتام خ�صو�صية الهوية الثقافية واحل�ضارية ،ونبذ كل �أ�شكال التهمي�ش ،والتنميط.
• البعد االقت�صادي واالجتماعي :يرتبط بالتوزيع العادل للرثوات واخلريات العامة ،وحق كل
مواطن يف احل�صول علي فر�ص مت�ساوية حلياة اجتماعية كرمية ،وتطوير جودة احلياة التي
يعي�شها.
من جهة �أخرى ،عرف مفهوم املواطنة تطورا كبريا ،متا�شيا مع املفهوم اجلديد للعوملة ،وما �أتت
به من حتوالت �سيا�سية ،واقت�صادية ،وثقافية ،وعلمية ،وتقنية ،جعلت من العامل وطنا كبريا .ومن
ثم ،ظهر ما يعرف باملواطنة الكونية� ،أواملواطنة العاملية ( .)Global Citizenshipواملواطنة مبفهومها
العوملي تنبني على جمموعة من املفاهيم التي ت�شكل يف جوهرها قيما متقا�سمة كونيا كال�سالم،
والت�سامح الإن�ساين والتعاي�ش وقبول الآخر .غري �أن املواطنة العاملية ال تلغى املواطنة مبفهومها
الوطني ،بل �إن كليهما ي�ساند الأخر.
انطالقا من الأبعاد �سالفة الذكر� ،إذن ،تنتظم املواطنة يف جمموعة من القيم امل�شرتكة،
واملتقا�سمة بني �أفراد املجتمع ،وبني الدولة .وهي قيم خ�صت لها الد�ساتري احلديثة حيزا هاما بالنظر
20
�إىل الأهمية التي �أ�صبح املواطن يحظى بها ،باعتباره حمور العملية ال�سيا�سية ،و�أحد �أركانها
الأ�سا�سية.
فما موقع قيم املواطنة يف الد�ستور املغربي ؟ و�إىل �أي حد ا�ستح�رض امل�رشع الد�ستوري �أبعاد
هذه املواطنة كما هي متعارف عليها كونيا ؟
وترتكز املواطنة يف الد�ستور املغربي على جملة من القيم الأ�سا�سية ،تتمثل يف احلرية،
وامل�ساواة والعدل ،وامل�شاركة .وهي قيم وجدت لها �صدى يف خمتلف ف�صول هذا الد�ستور من
خالل تف�صيل مقت�ضيات املواطنة ومتطلباتها.
ويف �إطار تر�سيخ التعددية الثقافية واللغوية التي يتميز بها املغرب ،متت د�سرتة اللغة الأمازيغية
كلغة ر�سمية �إىل جانب اللغة العربية باعتبارها «ر�صيدا م�شرتكا جلميع املغاربة بدون ا�ستثناء» ،كما
ن�ص على «�صيانة احل�سانية ،باعتبارها جزءا ال يتجز�أ من الهوية الثقافية املغربية املوحدة» ،وعلى
«حماية اللهجات والتعبريات الثقافية امل�ستعملة يف املغرب» ،و«ان�سجام ال�سيا�سة اللغوية ،والثقافية
الوطنية» (الف�صل .)5
-6من الر�سالة امللكية املوجهة �إىل امل�شاركني يف الندوة الوطنية التي نظمها املجل�س الأعلى للتعليم يف مو�ضوع «املدر�سة
وال�سلوك املدين» يومي 24-23ماي 2007بالرباط.
• احلقوق املدنية
متثل احلقوق املدنية جمموعة من احلقوق الطبيعية الل�صيقة ب�شخ�صية الإن�سان .وت�شمل حق
املواطن يف احلياة (الف�صل ،)20واحلق يف �سالمته ،و�سالمة �أقربائه ،وحماية ممتلكاته (الف�صل ،)21
وعدم معاملته معاملة قا�سية� ،أو ال �إن�سانية� ،أو مهينة� ،أو حاطة بالكرامة الإن�سانية ،وجترمي ممار�سة
التعذيب بكافة �أ�شكاله (الف�صل ،)22وجترمي االعتقال التع�سفي� ،أو ال�رسي� ،أو االختفاء الق�رسي،
وحق املعتقل يف التمتع باحلقوق الأ�سا�سية وظروف اعتقال �إن�سانية ،واال�ستفادة من برامج التكوين،
و�إعادة الإدماج ،وحظر التحري�ض على العن�رصية� ،أو الكراهية� ،أو العنف (الف�صل ،)23واحلق يف
حماية احلياة اخلا�صة للأفراد ،وعدم انتهاك حرمة املنازل ،و�رسية االت�صاالت ال�شخ�صية ،وحرية
التنقل عرب الرتاب الوطني ،واخلروج منه والعودة �إليه (الف�صل ،)24وحرية الفكر ،والر�أي ،والتعبري،
وحرية الإبداع ،والن�رش ،والعر�ض (الف�صل ،)25واحلق يف احل�صول على املعلومات (الف�صل ،)27
وحرية ال�صحافة ،والتعبري ،والن�رش (الف�صل ،)28وحرية ممار�سة ال�ش�ؤون الدينية (الف�صل .)3
وقد عزز الد�ستور املغربي ممار�سة هذه احلقوق بد�سرتة م�ؤ�س�سات وهيئات حماية احلقوق
واحلريات ،ويتعلق الأمر باملجل�س الوطني حلقوق الإن�سان (الف�صل ،)161وم�ؤ�س�سة الو�سيط
(الف�صل ،)162وجمل�س اجلالية املغربية باخلارج (الف�صل ،)163والهي�أة املكلفة باملنا�صفة وحماربة
جميع �أ�شكال التمييز (الف�صل .)165
• احلقوق ال�سيا�سية
تتج�سد احلقوق ال�سيا�سية يف متكني املواطن من امل�شاركة يف تدبري �ش�ؤون جمتمعه ،باعتبارها
�أهم جتليات الدميوقراطية احلديثة .ويتعلق الأمر بحق االنتماء النقابي ،وال�سيا�سي ،وحرية االجتماع،
والتجمهر ،والتظاهر ال�سلمي ،وممار�سة حق الإ�رضاب (الف�صل )30؛ حق الت�صويت ،والرت�شح لالنتخابات
(الف�صل )31؛ احلق يف تقدمي ملتم�سات يف جمال الت�رشيع (الف�صل )14؛ احلق يف تقدمي عرائ�ض
�إىل ال�سلطات العمومية (الف�صل ،)15واحلق يف ت�أ�سي�س اجلمعيات (الف�صل .)12
من جهة �أخرى� ،أ�س�س الد�ستور املغربي ملفهوم «الدميوقراطية الت�شاركية» عرب �إف�ساح املجال
�أمام جميع الفاعلني االجتماعيني يف �إعداد ال�سيا�سات العمومية ،وتفعيلها ،وتنفيذها ،وتقييمها
(الف�صل ،)13وكذا من خالل د�سرتة جمموعة من الهي�آت ،وامل�ؤ�س�سات التي تندرج يف �إطار هذا
22
املفهوم .يتعلق الأمر هنا باملجل�س الأعلى للرتبية والتكوين والبحث العلمي (الف�صل ،)168واملجل�س
اال�ست�شاري للأ�رسة والطفولة (الف�صل ،)169واملجل�س اال�ست�شاري لل�شباب والعمل اجلمعوي
(الف�صل .)170
ومن �أجل تفعيل هذه الفئة من احلقوق ،متت د�سرتة جمموعة من الهي�آت وامل�ؤ�س�سات التي
تعنى باحلكامة اجليدة وتقنني املناف�سة .ويتعلق الأمر باملجل�س الوطني للغات والثقافة املغربية
(الف�صل ،)5والهي�أة العليا لالت�صال ال�سمعي الب�رصي (الف�صل ،)165وجمل�س املناف�سة (الف�صل
،)166والهي�أة الوطنية للنزاهة ،والوقاية من الر�شوة ،وحماربتها (الف�صل .)167
يف هذا ال�صدد ن�ص الد�ستور املغربي �رصاحة على تالزم احلقوق والواجبات؛ �إذ ن�ص يف
الف�صل 37منه «على جميع املواطنني ،واملواطنات احرتام الد�ستور ،والتقيد بالقانون ،ويتعني عليهم
ممار�سة احلقوق واحلريات التي يكفلها الد�ستور بروح امل�س�ؤولية واملواطنة امللتزمة ،التي تتالزم فيها
ممار�سة احلقوق بالنهو�ض ب�أداء الواجبات».
هكذا ،تقت�ضي واجبات و�أعباء املواطنة احرتام القانون ،الذي يعد �أ�سمى تعبري عن �إرادة الأمة،
-7من �أبلغ ما قيل يف هذا ال�صدد ،ما عرب عنه جيمي كارتر الرئي�س الأ�سبق للواليات املتحدة الأمريكية ،على �إثر انتهاء مدة
ال «�إين عائد �إىل �أعلى وظيفة يف الدولة وهي وظيفة مواطن».رئا�سته وعودته �إىل واليته قائ ً
كما تقت�ضي املواطنة �أي�ضا امل�شاركة الفاعلة للأفراد يف تدبري ال�ش�أن العام� ،سواء بطريقة مبا�رشة
من خالل الرت�شح لالنتخابات� ،أو بطريقة غري مبا�رشة من خالل الت�صويت يف االنتخابات (الف�صل .)30
ويت�أكد دور املدر�سة يف تر�سيخ قيم املواطنة يف وجدان و�سلوك املتعلمات واملتعلمني ،من
خالل ا�ستح�ضار وظائفها املتعارف عليها ،املتمثلة يف التعليم ،والتعلم ،والتكوين ،والت�أهيل ،وال�سيما
يف الرتبية والتن�شئة كوظيفة جتعل م�س�ؤولية امل�ؤ�س�سة التعليمية مركزية ودورها راهنيا وحا�سما يف
هذا امل�ضمار( .)10هكذا ،ف�إن رهان النظام الرتبوي يتجلى �أ�سا�سا يف تكوين املواطن املت�شبث بالهوية
املغربية والثوابت الوطنية الرا�سخة( ،)11مواطن يدرك حقوقه ،ويلتزم بالواجبات التي يفر�ضها عليه
انتما�ؤه �إىل الوطن .من هنا ،تت�ضح املهام اجل�سيمة امللقاة على النظام الرتبوي لكي يجعل تلك القيم
ت�ستوطن يف �شخ�صية الن�شئ(.)12
و�إذا �سلمنا بدور املدر�سة ،بو�صفها م�ؤ�س�سة للتن�شئة االجتماعية ،يف نقل وتر�سيخ قيم
املواطنة ،فعرب �أية �آليات ميكنها القيام بذلك ؟
-8من الر�سالة امللكية املوجهة �إىل امل�شاركني يف الندوة الوطنية التي نظمها املجل�س الأعلى للتعليم يف مو�ضوع «املدر�سة وال�سلوك
املدين» يومي 24-23ماي 2007بالرباط.
-9رحمة بورقية ،احل�س املدين والقيم والرتبية ،مداخلة يف �إطار الندوة الوطنية حول «املدر�سة وال�سلوك املدين» املنظمة من
طرف املجل�س الأعلى للتعليم ،يومي 24-23ماي 2007بالرباط� ،أ�شغال الندوة� ،ص.38 .
-10ر�أي املجل�س الأعلى للتعليم رقم 02/07بتاريخ 23يوليوز ،2007يف مو�ضوع «دور املدر�سة يف تنمية ال�سلوك
املدين».
-11الف�صل 31من الد�ستور.
-12رحمة بورقية ،احل�س املدين والقيم والرتبية ،مداخلة يف �إطار الندوة الوطنية حول «املدر�سة وال�سلوك املدين» املنظمة من
طرف املجل�س الأعلى للتعليم ،يومي 24-23ماي 2007بالرباط� ،أ�شغال الندوة� ،ص.33 .
24
جوابا على هذا ال�س�ؤال ،ميكن القول �إن قيام املدر�سة بهذه الوظيفة ميكن �أن يتم عرب جملة
من الآليات املرتبطة واملتكاملة فيما بينها:
من هذا املنطلق ف�إنه يتعني توجيه اجلهد �إىل مالءمة املناهج والربامج الدرا�سية مع متطلبات
الرتبية على قيم املواطنة وتنمية ال�سلوك املدين ،غري �أن ذلك ال ميكن �أن يتم بجعلها مادة تخ�ص�ص
درا�سي ،بل ب�إدراجها يف خمتلف املواد والتخ�ص�صات ،مع االجتهاد يف ابتكار الطرائق البيداغوجية
الكفيلة ب�إدماج هذه القيم واملفاهيم يف املناهج ،والو�سائط التعليمية ،وتي�سري نقلها �إىل املتعلمني.
وكذا تقدمي التجارب الديداكتيكية الناجحة يف جمال الرتبية على املواطنة والنظر يف اعتمادها
مناذج تطبيقية(.)14
�إن م�شاركة التالميذ ،مثال� ،ضمن الفرق الن�شيطة ،ويف تدبري امل�ؤ�س�سات (منذ املرحلة االبتدائية)،
ويف خمتلف النوادي (ال�شعر ،امل�رسح ،البيئة وغريها) ،يجعلهم يف و�ضعية تعلم وممار�سة املواطنة،
�إذ بالأن�شطة التي يقومون بها انطالقا من الت�صور� ،إىل التخطيط� ،إىل التنفيذ ...يف انفتاح على
� -13أوراق عمل الور�شات املقامة يف يف �إطار الندوة الوطنية حول «املدر�سة وال�سلوك املدين» املنظمة من طرف املجل�س الأعلى
للتعليم ،يومي 24-23ماي 2007بالرباط� ،أ�شغال الندوة� ،ص.133 .
-14من ر�أي املجل�س الأعلى للتعليم رقم 02/07بتاريخ 23يوليوز ،2007يف مو�ضوع «دور املدر�سة يف تنمية ال�سلوك
املدين».
-15من الر�سالة امللكية املوجهة �إىل امل�شاركني يف الندوة الوطنية التي نظمها املجل�س الأعلى للتعليم يف مو�ضوع «املدر�سة
وال�سلوك املدين» يومي 24-23ماي 2007بالرباط.
� -16أمينة املريني ،املدر�سة وتنمية احل�س املدين ،مداخلة يف �إطار الندوة الوطنية حول «املدر�سة وال�سلوك املدين» ،املنظمة من
طرف املجل�س الأعلى للتعليم ،يومي 24-23ماي 2007بالرباط� ،أ�شغال الندوة � ،ص.50 .
� -17أوراق عمل الور�شات املقامة يف يف �إطار الندوة الوطنية حول «املدر�سة وال�سلوك املدين» املنظمة من طرف املجل�س الأعلى
للتعليم ،يومي 23-24ماي 2007بالرباط� ،أ�شغال الندوة � ،ص.137.
-18ر�أي املجل�س الأعلى للتعليم رقم 02/07بتاريخ 23يوليوز 2007يف مو�ضوع «دور املدر�سة يف تنمية ال�سلوك املدين».
26
6.3التتبع والتقومي
�إن �أي �إجناح للرتبية على قيم املواطنة رهني بالتتبع امل�ستمر بهدف الر�صد ،والتقومي ،بغاية
حتقيق الأهداف املتوخاة ،وذلك من خالل:
• التقومي امل�ستمر للربامج ،والأن�شطة الرتبوية املوجهة للرتبية على املواطنة ،وذلك بهدف ت�شخي�ص
مكونات هذه الربامج ،والفئات امل�ستفيدة ،ور�صد نتائجها ،و�آثارها على النا�شئة ،ومدى ت�شبعها
بقيم املواطنة اقتناعا ،وممار�سة؛
• تطوير م�ؤ�رشات خا�صة بقيا�س مدى جناعة املنظومة الوطنية للرتبية ،والتكوين ،والبحث العلمي يف
جمال الرتبية على قيم املواطنة.
خـاتـمـة
�إذا كان الد�ستور املغربي قد ت�ضمن �إ�شارات قوية ونوعية يف جمال تر�سيخ قيم املواطنة ب�شتى
جتلياتها املتمثلة يف الهوية ،واالنتماء ،واحلقوق ،واحلريات ،والواجبات ،والأعباء؛ ف�إن املنظومة
الرتبوية الوطنية مدعوة ،من جهتها ،وعلى اختالف قطاعاتها ،و�أ�سالكها (التعليم املدر�سي ،التعليم
اجلامعي ،التكوين املهني ،البحث العلمي)� ،إىل التفاعل الإيجابي مع هذه املكت�سبات الد�ستورية،
وتلقيها ب�شكل �إيجابي وبناء ،ق�صد الإ�سهام� ،إىل جانب باقي امل�ؤ�س�سات املجتمعية ،يف تر�سيخ قيم
املواطنة ،وجعلها واقعا ملمو�سا ،وثقافة متجذرة يف املمار�سة اليومية للمواطنني والدولة على حد
�سواء.
ال�شك �أن �إ�شكالية الثابت واملتغري يف منظومة القيم ،ال �سيما �أمام التحوالت العميقة التي مت�س
حياة الأفراد ،واجلماعات والدول بعاملنا املعا�رص ،حتيلنا على ما �أ�صبح يكتنف احلياة الإن�سانية من
حتول م�ستمر يفر�ض اال�ستجابة ملتطلبات جمتمع الألفية الثالثة .
لي�س غريبا �أن ت�ؤدي هذه التحوالت التي يعي�شها العامل ب�شكل عام ،والعامل العربي على
وجه اخل�صو�ص ،ومن �ضمنه املغرب� ،إىل �إعادة �صياغة ت�صور جديد لوظيفة املدر�سة ،ي�سمح لها
�أن ت�ضطلع بدور تنمية قيمة االنتماء �إىل الوطن وتر�سيخ ال�سلوك الذي تقت�ضيه املدنية .وبالتايل
فالت�سا�ؤل الذي يطرح نف�سه ب�إحلاح اليوم لي�س هو :كيف نحمي �أنف�سنا من االنت�شار الوا�سع
لقيم احلداثة بفعل التدفق الالمتناهي للمعلومات والأفكار العابرة للقارات ،بل هو كيف ميكننا �أن
ن�ستفيد من هذا االنت�شار القيمي وفق ر�ؤية مزدوجة ت�ؤمن يف ذات الوقت ب�رضورة حت�صني الذاتية
الثقافية والهوية الوطنية ،وب�أهمية االنفتاح على فكر الآخر وقيمه ؟
ي�شكل هذا الت�سا�ؤل ،يف حقيقة الأمر ،جوهر فل�سفة مدر�سة النجاح التي جتعل من املدر�سة
لي�س فقط ناقلة للمعارف واملعلومات ،بل �أي�ضا ف�ضاء لغر�س قيم املواطنة واالعتزاز باالنتماء للوطن
وال�سعي خلدمته ،مع الأخذ بعني االعتبار �أن حتقيق هذا املبتغى مير بال�رضورة عرب تنمية �إدراك
الذات واالنفتاح على الآخر.
هذه املقاربة التي جتعل من تر�سيخ قيم املواطنة وال�سلوك املدين �أ�سا�سا ملدر�سة النجاح
تدفعنا ،يف املقام الأول� ،إىل حتديد �أبرز جتليات طبيعة هذه العالقة ،على �أن ن�سلط ال�ضوء ،يف
املقام الثاين من هذه املقالة ،على بع�ض من ال�صعوبات والتحديات التي تعرت�ض ا�ضطالع املدر�سة
املغربية مبطلب تن�شئة تلميذ ــ مواطن �صالح قادر على اكت�ساب املعارف ،مت�شبع يف نف�س الوقت
بهويته ،فخور بانتمائه ،مدرك حلقوقه وواجباته.
28
�أوال :جتليات دور املدر�سة يف تنمية املواطنة وال�سلوك املدين
�إن االهتمام مبو�ضوع املواطنة وال�سلوك املدين يكت�سي �أهمية بالغة بالنظر للتحول االجتماعي
الذي يعي�شه املجتمع املغربي من جهة ،والتغري الذي يطال منظومة القيم داخله من جهة ثانية ،دون
�إغفال التحوالت املت�سارعة التي يعرفها العامل برمته على م�ستوى القيم والأنظمة املرجعية الثقافية
واالجتماعية.
و�إذا كانت القيم ،باعتبارها «روافد لل�سلوك املدين ت�شمل كافة مناحي احلياة الب�رشية ،ف�إنها
تعني بنف�س الدرجة كل امل�ؤ�س�سات االجتماعية التي تقوم بوظيفة التن�شئة والرتبية ،رغم اختالف
مواقعها وتباين ت�أثريها»(.)1
والأكيد �أن املدر�سة تعد �أحد �أبرز امل�ؤ�س�سات االجتماعية املعنية ببناء ال�سلوك املدين لدى �أفراد
املجتمع وفق قواعد م�ضبوطة و�أطر مرجعية دقيقة تعك�س كل خ�صو�صيات املجتمع� ،سواء على
امل�ستوى االجتماعي �أو الثقايف �أو التاريخي �أو ال�سيا�سي �أو االقت�صادي .متثل املدر�سة� ،إذن ،الو�سط
االجتماعي الثاين بعد الأ�رسة التي يت�رشب فيها النا�شئة تلك القيم االجتماعية والثقافية يف املجتمع.
و�إذا مل تنجح املدر�سة يف ذلك ،ف�إن املجتمع يفقد خط الدفاع الثاين �ضد كل �أ�شكال العنف
والتطرف واالغرتاب .لذا ،ف�إن احلديث عن دور امل�ؤ�س�سات التعليمية يف تكري�س املواطنة وال�سلوك
املدين �أ�صبح �أمرا �رضوريا يف الوقت احلا�رض ،وذلك ملا متثله املدر�سة من دور حيوي يف بناء ثقافة
املجتمع .لذلك ،فاملدر�سة اليوم مطالبة ب�أن تتجاوز تلك الأدوار التقليدية املتمثلة يف التعليم والتعلم
والتكوين والت�أهيل� ،إىل �أدوار �أخرى ت�ؤهلها ملواكبة احلركية التي ي�شهدها املجتمع املغربي وتقدمي
�إجابات ممكنة عنها من منظور املمار�سة الرتبوية .فما طبيعة الأدوار املنتظرة من املدر�سة ؟ و�أين
يتجلى دورها يف �إر�ساء دعائم املواطنة وال�سلوك املدين ؟
قبل الإجابة عن هذين ال�س�ؤالني ،نرى من ال�رضوري الوقوف عند مفهومي املواطنة وال�سلوك
املدين من حيث �سياقهما التاريخي وداللتهما (الفقرة الأوىل) و�أهميتهما داخل منظومة الرتبية
والتكوين (الفقرة الثانية).
خالل مرحلة القرون الو�سطى ،عرفت �أوربا الغربية �سيادة احلكم الفردي املطلق ،الذي ال يعري
-1كلمة العدد ،ر�سالة الرتبية والتكوين ،ن�رشة �إخبارية ت�صدرها وزارة الرتبية الوطنية والتعليم العايل وتكوين الأطر والبحث
العلمي ،العدد ،31يونيو� ،2007ص 3 :
-2حممد الغايل« ،املخت�رص يف �أ�س�س ومناهج البحث يف العلوم االجتماعية» ،مكتبة املعرفة ،الطبعة الأوىل ،ماي ،2005
�ص .97
كما �شكلت الثورة الفرن�سية �أهم تلك الثورات التي �ضخت دماء جديدة يف اجل�سم الأوروبي،
ومعها عرف مفهوم املواطنة تطورا ملحوظا ،نتج عن انهيار النظام الفيودايل وبزوغ طبقة الربجوازية،
و�إ�صدار بيان حقوق الإن�سان واملواطن �سنة ،1789الذي �أ�صبح مبوجبه مفهوم املواطنة ي�شمل
احلقوق املدنية وال�سيا�سية ،واحلقوق االقت�صادية واالجتماعية والثقافية ،مع �إقرار مبد�أ امل�ساواة �أمام
القانون ،وعدم �إق�صاء الأقليات �أو �أية فئة يف املجتمع.
وقد ات�سع احلديث عن املواطنة وال�سلوك املدين مع ع�رص الأنوار ،يف عالقته بالعلوم
االجتماعية و «فل�سفة احلق» �أو «فل�سفة العقد االجتماعي» مع كل من جان لوك ،وتوما�س هوبز،
وجان جاك رو�سو وغريهم من الفال�سفة .ففي الوقت الذي عرفت فيه �أوروبا تغريات جذرية ،بفعل
النه�ضة الأوروبية ،وما نتج عنها من بروز للحركة الإن�سية وحركات �إ�صالحية دينية ،ن�ش�أت هذه
الفل�سفة كمحاولة لتربير الظرف الراهن لأوروبا ،الذي بد�أ يتجه نحو ا�ستبدال حكم الكني�سة بحكم
�آخر ،م�ستمد من تعاقد واتفاق الأفراد( .)3غري �أن انطالق الفال�سفة من واقع م�شرتك ومن ارتكازهم
على نف�س املعطى الفل�سفي املتمثل يف �أن الطبيعة املفرت�ضة للإن�سان ت�شكل �أ�سا�سا لكل حقوقه
يف احلالة املدنية �أو االجتماع ،مل مينع من بروز عــدة اختالفات .هــكذا ،جنــد اختالفا على �سبيل
املثال بني توما�س هـــوبز Thomas Hobbesوجان جاك رو�سو Jean-Jacques Rousseau؛ فحالة
الطبيعة عند هوبز حالة حرب الكل �ضد الكل� ،أي �أنها حالة �رصاع وعنف وفو�ضى؛ �أما طبيعة
الإن�سان فهي �رشيرة وماكرة .وبالتايل ،ف�إنه من ال�رضوري اال�ستعا�ضة عن احلق الطبيعي بالقانون
املدين ،الذي �سيتم من خالله حتويل فعل الإن�سان من فعل مطبوع بالأنانية �إىل فعل اجتماعي،
ي�صبح كــل واحد عن�رصا �ضمن تكتل ي�سمــى «املجتمع �أو الدولة» .يف حني ،يرى رو�سو �أن حالة
الطبيعة هي حالة �أمن و�سالم ،و�أن الإن�سان خري بطبعه .غري �أنه يلتقي مع هوبز يف رجوعه �إىل حالة
الطبيعة من �أجل البحث عن مرجعية ومرتكز لت�أ�سي�س احلق .وعليه ،فمبادئ التعاقد االجتماعي
عند رو�سو جتد مرجعيتها الأوىل يف احلقوق الطبيعية للإن�سان .لكنه يعرت�ض على فكرة كون
�إثبات احلق متوقف على القوة ،بحكم �أن امتالك احلق ال ي�ؤدي �رضورة �إىل امتالك القوة ،مادام �أن
ح�صول ذلك رهني حتويل القوة �إىل حق والطاعة �إىل التزام وواجب .يقول رو�سو يف هذا ال�صدد �« :إن
�أقوى النا�س ال يكون قويا بال�شكل الذي ميكنه من �أن يكون دائما ال�سيد ،ما مل يحول قوته �إىل حق
-3حممد بهاوي« ،الفل�سفة لتالمذة البكالوريا (وفق برنامج وزارة الرتبية الوطنية)» ،من�شورات عامل املعرفة ،الطبعة الأوىل ،2010
�ص . 159 :
30
والطاعة �إىل واجب»( .)4لقد كانت فكرة الواجب ثمرة جمهود قام خالله الإن�سان باالنتقال من حالة
الطبيعة املفرت�ضة �إىل احلالة املدنية ،رغبة يف ت�أمني و�ضعه و�إعطاء �أفعاله ال�صفة الأخالقية امللزمة(.)5
من جهته ،عالج �شارل لوي دي �سيكوندا املعروف با�سم مونتي�سكيو Montesquieu
مـــو�ضوع «املـواطنة» ومفهوم «الوطنية» بالتف�صيل يف كتابه «روح القوانني» ،Esprit des Lois
و�سمى حب الوطن وامل�ساواة بالف�ضيلة ال�سيا�سية(� .)6إن مفهوم الوطن يقرتن عنده مبفهوم امل�ساواة،
امل�ساواة يف احلقوق ،وامل�ساواة �أمام القانون� ،أو قل «امل�ساواة ال�سيا�سية»؛ لذلك كان حب الوطن �أو
حب امل�ساواة ف�ضيلة �سيا�سية� .أي �أن امل�ساواة ال�سيا�سية بهذا املعنى مقدمة الزمة و�رشط �رضوري
للم�ساواة االجتماعية(.)7
ما ميكن ا�ستخال�صه ،من هذه ال�سريورة التاريخية املقت�ضبة� ،أن تطور مفهوم املواطنة مل يكن
حدثا منعزال ،بل واكبه �أي�ضا بزوغ جملة من املفاهيم احلقوقية ،ومن �ضمنها ال�سلوك املدين ،ومرد
ذلك �أن االعرتاف باملواطنة ا�ستتبعته �رضورة تر�سيخ ال�سلوك املدين .لذلك ،فاملواطنة وال�سلوك
املدين وجهان لعملة واحدة .فاملواطنة ال�صاحلة تقت�ضي التحلي مبنظومة من القيم الأخالقية التي
جتعل املواطنني �أفرادا معتزين بوطنهم ،حمرتمني لغريهم ،ملتزمني بواجباتهم ،مدركني حلقوقهم(.)8
هذا عن ال�سياق التاريخي العام ملفهومي املواطنة وال�سلوك املدين ،فماذا عن داللتهما ؟
• داللة املواطنة
�إذا رجعنا �إىل �أ�صل كلمة مواطنة ،جند �أنها بالن�سبة للغة العربية من الكلمات امل�ستحدثة،
ودخلت �إليها على الأرجح يف �إطار ترجمة الرتاث الغربي احلديث ،وهي تقابل كلمة ()Citizenship
يف اللغة الإجنليزية ،وكلمة ( )Citoyennetéيف اللغة الفرن�سية ،وي�أتي اال�شتقاق من الكلمة الإجنليزية
( ،)Cityوالكلمة الفرن�سية ( .)Citéوتعني هذه الكلمات يف اللغات املذكورة املدينة؛ �أما �أ�صل م�صطلح
املواطنة ،فهو يوناين يعود لكلمة ( )Politeiaامل�شتقة من كلمة ( )Polisوهي املدينة.
جاء يف ل�سان العرب البن منظور« :وطن :الوطن :املنزل تقيم به ،وهو موطن الإن�سان
وحمله ...و�أوطان الغنم والبقر ،مراب�ضها و�أماكنها التي ت�أوي �إليها ...ومواطن مكة :مواقفها...
َو َط َن باملكان و�أوطن� :أقام .و�أوطنه اتخذه وطنا .يقال� :أوطن فالن �أر�ض كذا وكذا �أي اتخذها
حمال وم�سكنا يقيم فيها ...و�أوطنت الأر�ض ووطنتها توطينا وا�ستوطنتها �أي اتخذتها وطنا»(.)9
ي�ست�شف من خالل تعريف ابن منظور اللغوي� ،أن الوطن ا�سم يدل على املكان الذي يقيم فيه
-4جان جاك رو�سو�« ،أ�صل التفاوت بني النا�س» ،ترجمة بول�س غامن ،بريوت� ،1972 ،ص .79 :
-5حممد بهاوي« ،الفل�سفة لتالمذة البكالوريا (وفق برنامج وزارة الرتبية الوطنية)» ،مرجع �سابق� ،ص .162 :
-6مونت�سيكو« ،روح القوانني» ،ترجمة :عادل زعيرت ،دار املعارف مب�رص ،1953 ،املجلد الأول ،اجلزء الأول� ،ص .6 :
-7مونت�سيكو« ،روح القوانني» ،مرجع �سابق� ،ص .17-16 :
-8عبد الوهاب �صديقي« ،املدر�سة املغربية وقيم املواطنة و ال�سلوك املدين :درا�سة يف ح�ضور القيم يف مقررات مادة اللغة العربية يف
ال�سلك الثانوي الإعدادي» ،جملة علوم الرتبية ،العدد ،48يوليوز� ،2011ص .66 :
-9ابن منظور« ،ل�سان العرب» ،مادة :وطن.
ترتجم كلمة املواطنة يف بع�ض املعاجم العربية ،ب�أنها اال�سم الذي يطلق على حقوق وواجبات
املواطن ،وكلمة املواطن وفق املفهوم الغربي الذي ا�شتق منه ،هو الفرد الذي ينتمي لدولة معينة،
ويقيم فيها ب�شكل معتاد ولو مل يولد بها كحالة اكت�ساب اجلن�سية .ويحدد الد�ستور والقوانني
العالقات بني املواطن والدولة وت�شمل احلقوق واحلريات واالمتيازات التي يتمتع بها املواطن،
وواجباته وم�س�ؤولياته والتزاماته جتاه وطنه ،وبالتايل ميكن القول �إن املواطنة تعني الروابط القانونية
وال�سيا�سية التي جتمع الفرد املواطن بوطنه.
ورد يف معجم املجل�س الأوربي حول م�صطلحات الرتبية على املواطنة الدميقراطية الذي
�أجنزه كارين �أو�شي � Karen O’sheaأن « :املواطن ب�صفة عامة يطلق على �شخ�ص يعي�ش مع
�أ�شخا�ص �آخرين يف جمتمع معني»( ،)10وال تفرق بع�ض املراجع الغربية بني املواطنة واجلن�سية .ويف
مــو�سوعة كــولري الأمريكية ،تعرف املواطنة ( )Citizenshipب�أنها «�أكرث �أ�شكال الع�ضوية اكتماال
يف جماعة �سيا�سية»()11؛ وتعرفها دائرة املعارف الربيطانية ب�أنها« :عالقة بني فرد ودولة ،يحددها
قانون هذه الأخرية ،وما ت�شمله تلك العالقة من واجبات وحقوق يف ذات الدولة ،وتخول للمواطن
على وجه العموم حقوقا �سيا�سية مثل حق االنتخاب وتويل املنا�صب العامة» .وجاء يف مو�سوعة
الكتاب الدويل �أن املواطنة ( )Citizenshipهي « :ع�ضوية كاملة يف دولة� ،أو يف بع�ض وحدات
احلكم ،وتخول للمواطنني بع�ض احلقوق كالت�صويت وتويل املنا�صب العامة ،وعليهم واجبات كدفع
ال�رضائب والدفاع عن بلدهم»(.)12
32
وعلى هذه الأ�سا�س ،ال ميكن �أن نت�صور ال�سلوك املدين �إال م�ؤطرا مبنظومة �أخالقية حمددة
و�ضوابط قانونية معينة ،ال�شيء الذي �أ�ضفى على مفهوم ال�سلوك املدين جمموعة من الأبعاد
هي( :)13البعد الأخالقي (القيم ،التمثالت ،الرتبية ،)...والبعد االجتماعي (ال�سلوكيات ال�سائدة يف
احلياة اليومية) ،والبعد القانوين (القوانني املنظمة لعالقة احلقوق والواجبات) ،ثم البعد الرتبوي
(ال�سلوك املدين منتوج لعملية بنائية م�ستمرة تتطلب تدخل التن�شئة).
جاء يف الر�سالة امللكية املوجهة للم�شاركني يف الندوة الوطنية الأوىل للمجل�س الأعلى
للتعليم ،ربط بني املواطنة وال�سلوك املدين،حيث اعتربت الر�سالة �أن « :ال�سلوك املدين بالأ�سا�س،
منظومة قيمية ــ �أخالقية متكاملة ،ال تقبل التجزيء ،وتتخذ م�سارين متوازيني ومتوازنني:
• م�سار الت�شبع بقيم املواطنة الكاملة و�إ�شاعتها ،من حيث �أنها تقوم على التمتع باحلقوق
الأ�سا�سية ،وااللتزام الفعلي بالواجبات الفردية واجلماعية؛
• وم�سار الت�صدي احلازم لل�سلوكيات الالمدنية ،مبختلف �أ�شكالها ،عرب حماربة مظاهر العنف
والغ�ش والر�شوة و�سوء املعاملة ،وغريها من املمار�سات الال�أخالقية ،التي يكون وقعها �أكرث خطورة
حني تت�رسب �إىل امل�ؤ�س�سات التعليمية»(.)14
كما ورد بنف�س الر�سالة �أن «الغاية املثلى من تنمية ال�سلوك املدين هي تكوين املواطن املت�شبث
بالثوابت الدينية والوطنية لبالده ،يف احرتام تام لرموزها وقيمها احل�ضارية املنفتحة ،املتم�سك بهويته
ب�شتى روافدها ،املعتز بانتمائه لأمته ،املدرك لواجباته وحقوقه».
«ت�ستهدف هذه الغاية �أي�ضا تربية املواطن على التحلي بف�ضيلة االجتهاد املثمر ،وتعريفه
بالتزاماته الوطنية ومب�س�ؤولياته جتاه نف�سه و�أ�رسته وجمتمعه ،وعلى الت�شبع بقيم الت�سامح والت�ضامن
والتعاي�ش لي�ساهم يف احلياة الدميقراطية لوطنه ،بثقة وتفا�ؤل ،يف اعتماد على الذات وت�شبع بروح
املبادرة .وتندرج هذه الأهداف جمتمعة يف �إطار خيار املغرب الثابت يف تر�سيخ مغرب املواطنة
امل�س�ؤولة والدميقراطية والت�ضامن ،وتكري�س دولة احلق والقانون ،يف انفتاح على القيم الكونية»(.)15
ال�شك �أن ت�شبع التلميذ املغربي بهذه القيم يك�سبه مناعة قوية ما �أحوجنا �إليها يف املرحلة
الراهنة ،لأن من �ش�أن ذلك �ضمان ح�صول ما ي�سميه �إ.موران Edgar Morinحلظة «الفهم
الإن�ساين»( ،)16وهي حلظة قد تقي املغرب من كل ما من �ش�أنه �أن يهيئ �أ�سباب االنزالقات الأخالقية،
كما تثنينا عن تبني املقاربة الأمنية كحل ال حميد عنه لقطع دابر مثل هذه االنزالقات.
• اخلطابات الر�سمية
بو�أ امليثاق الوطني قطاع الرتبية والتكوين منزلة �سامية ،حيث �أعلن �أن « :قطاع الرتبية
والتكوين �أول �أ�سبقية وطنية بعد الوحدة الرتابية»( .)18كما �أعطى نف�سا جديدا للرتبية على حقوق
الإن�سان ،بل و�سهل مهمة تنفيذ الربنامج الوطني للرتبية على حقوق الإن�سان ،خا�صة فيما يتعلق
مبراجعة الربامج واملناهج على �ضوء اعتبارات و�أهداف متعددة ،من بينها �إدماج حقوق الإن�سان(.)19
وجاء يف اخلطاب الذي �ألقاه ﺠﻼﻟﺔ ﺍﻤﻟﻠﻙ حممد ال�ساد�س مبنا�سبة تن�صيب ﺍﻤﻟﺠﻠ�ﺱ ﺍ�ﻷﻋﻠﻰ
ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻡ « :لقد �أبينا �إال �أن نفتتح املو�سم الدرا�سي لهاته ال�سنة بتن�صيب املجل�س الأعلى للتعليم،
جمددين الت�أكيد على املكانة املتميزة التي نخ�ص بها الإ�صالح الرتبوي يف م�رشوعنا التنموي،
اعتبارا لدوره احلا�سم يف تعميم املعرفة ،وتر�سيخ قيم املواطنة ،و�إعداد �أجيال امل�ستقبل»(.)20
ويبدو �أن �أع�ضاء املجل�س الأعلى للتعليم قد التقطوا هذه الإ�شارات من خالل الندوة الأوىل
التي نظمها هذا املجل�س يف مو�ضوع « :املدر�سة وال�سلوك املدين».
عزز هذا االختيار باخلطاب امللكي الذي وجه يف ر�سالة �إىل امل�شاركني يف الندوة الوطنية
التي نظمها املجل�س الأعلى ،حتت عنوان « :املدر�سة وال�سلوك املدين» ،والتي جاء فيها�« :إذا
كان النهو�ض بال�سلوك املدين ،يعد مهمة تربوية مطروحة ب�إحلاح على املجتمعات املعا�رصة ،ف�إن
اال�ضطالع بها ي�سائل بالدرجة الأوىل ،املنظومات الرتبوية ،ويجعل م�س�ؤوليتها مركزية ودورها
راهنيا وحا�سما يف هذا امل�ضمار.
ذلكم �أن املدر�سة مدعوة ،قبل غريها ،لأن تكون منفتحة با�ستمرار على حميطها باعتماد
-17حممد بوبكري« ،املدر�سة و �إ�شكالية املعنى» ،ال�سل�سلة البيداغوجية ،رقم ،6الطبعة الأوىل ،1998 ،دار الثقافة� ،ص .1 :
-18املادة 21من امليثاق الوطني الرتبية والتكوين.
-19للمزيد من املعلومات ،انظر :درا�سة حتت عنوان « :الربنامج الوطني للرتبية على حقوق الإن�سان»� ،أجنزت من طرف
الطلبة � :أبو طالب عبد ال�صديق؛ حجار م�صطفى؛ موالي امل�صطفى منريي ،حتت �إ�رشاف :الأ�ستاذ م�صطفى حم�سن،
جملة علوم الرتبية ،العدد � ،2004 ،15ص .402 :
-20مقتطف من اخلطاب الذي �ألقاه جاللة امللك مبنا�سبة تن�صيب ﺍﻤﻟﺠﻠ�ﺱ ﺍ�ﻷﻋﻠﻰ ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻡ مبدينة اﻟﺩﺍﺭ ﺍﻟﺒﻴ�ﻀﺎﺀ ،بتاريخ :
ﺍﺨﻟﻤﻴ�ﺱ � 14شتنرب .2006
34
نهج تربوي قوامه جعل املجتمع يف �صلب اهتماماتها ،مبا يعود بالنفع على �أمتنا عامة و�شبابنا
ب�صفة خا�صة .وهو ما يتطلب دعم تفاعلها مع املجاالت املجتمعية والثقافية واالقت�صادية»(.)21
وعليه ،مل يكن مبد�أ «تر�سيخ ال�سلوك املدين» باملدر�سة املغربية ،الذي اتخذته وزارة الرتبية
الوطنية �شعارا للمو�سم الدرا�سي 2007ــ ،2008جمرد حملة مو�سمية عابرة وطارئة ،بل دعوة
�إىل �إعادة االعتبار للرتبية ذاتها ،وتكري�سا للأغرا�ض ال�سامية املناطة باملنظومة التعليمية الرتبوية.
هذه الأخرية� ،أ�صبحت «على جانب كبري من التعقيد ،بحيث تعددت �أبعادها وم�ؤ�س�ساتها ،فهي
ت�شمل ــ �إىل جانب الأ�رسة واملدر�سة ــ و�سائل الإعالم بجميع �أنواعها التي باتت ت�شكل م�صدرا
هاما ت�ستقي منه القيم ومناذج الت�رصف وال�سلوك ،ومتلك �سلطانا قويا على ت�شكيل العقول
والنف�سيات» ( .)22بالتايل ،فاملدر�سة «ال ميكن فهمها كنواة م�ستقلة يعني كتنظيم خا�ص منغلق على
ذاته بل اعتبارها بنية مرتبطة مبحيطها ،تتفاعل معه وت�ؤثر فيه وتت�أثر به»(.)23
مبقت�ضى هذه املقاربة ال�شمولية اجلديدة ،ف�إن املدر�سة ب�إمكانها «ا�سرتجاع الثقة يف املدر�سة
املغربية ومتكني بالدنا من مدر�سة مت�صاحلة مع جمتمعها م�ؤهلة ومندجمة يف بيئتها ،وفاعلة يف
معركة التنمية الب�رشية»(.)24
• الربامج الدرا�سية
ال يكفي ا�ستجالء مظاهر املواطنة وال�سلوك املدين من خالل اخلطابات الر�سمية لوحدها،
بل البد �أي�ضا من قراءة ،ولو ب�سيطة ،يف تنزيل هذه اخلطابات على م�ستوى الربامج واملناهج
والتوجيهات الرتبوية ،وحتديدا باملواد املدر�سة بامل�ؤ�س�سات التعليمية .
من خالل ا�ستقراء بع�ض م�ضامني الكتب املدر�سية ،ميكن القول �إجماال �إن املواطنة وال�سلوك
املدين حا�رضان بقوة يف مقررات الكتاب املدر�سي �سواء باملرحلة االبتدائية �أو الإعدادية �أو الثانوية،
خ�صو�صا يف مواد كالرتبية الإ�سالمية واللغة العربية واالجتماعيات .درو�س عديدة يف هذه املواد،
ومواد بعينها كالرتبية على املواطنة مبادة االجتماعيات ،ت�سعى �إىل مقاربة مفاهيم كالت�سامح،
والكرامة ،والدميقراطية ،وامل�ساواة ،واحلريات العامة ،واحلقوق ال�سيا�سية واملدنية ،وغريها من املفاهيم
احلقوقية ،هادفة من خالل ذلك ،متا�شيا مع فل�سفة امليثاق الوطني للرتبية والتكوين� ،إىل امل�ساهمة
يف تكوين مواطن م�ستقل ومتوازن ومتفتح ،وعارف لدينه وذاته ،ولغته وتاريخ وطنه ،وواع مبا له
من حقوق وما عليه من واجبات .ويبدو �أن ال�س�ؤال الذي يتبادر �إىل الأذهان ،بعد هذا اال�ستقراء
-21مقتطف من الر�سالة امللكية املوجهة �إىل امل�شاركني يف الندوة الوطنية بالرباط حول «املدر�سة وال�سلوك املدين» الأربعاء،
بتاريخ 23 :ماي . 2007
-22عبد املجيد بنم�سعود« ،منظومتنا الرتبوية �إىل �أين ؟ �أ�ضواء نقدية و�أفق البديل» ،من�شورات الفرقان� ،سل�سلة احلوار ،37
�ص .13 :
-23حممد بنعلي« ،املدر�سة يف الو�سط القروي :مقاربة �سو�سيولوجية» ،جملة علوم الرتبية� ،ص ،95 :ورد عن :
حممد بنلح�سن « ،املدر�سة املغربية ومفهوم املواطنة» ،وثيقة �إلكرتونية arabeagreg3.voila.net/pdf/ecoleci� :
toyenne-benlahcen.pdf
-24مقتطف من خطاب جاللة امللك مبنا�سبة تن�صيب ﺍﻤﻟﺠﻠ�ﺱ ﺍ�ﻷﻋﻠﻰ ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻡ.
�إن جناح امل�ؤ�س�سة التعليمية يف تربية التلميذ ــ املواطن على قيم املواطنة و ال�سلوك املدين،
رهني تذليل جمموعة من ال�صعوبات نذكرها ب�إيجاز على النحو التايل:
�إن الإقناع ي�ستلزم تعويد التلميذ على الت�سا�ؤل واملناق�شة ،و ذلك لكون تبادل الر�أي والإن�صات
�إىل الآخر يعترب ج�رسا لرت�سيخ قيم الدميقراطية يف حياة املتعلم و�سلوكه ،من حيث كونه مواطنا
للم�ستقبل(.)26
36
� -2صعوبة انخراط خمتلف الفاعلني وال�شركاء
�إن القول ب�رضورة انفتاح املدر�سة على حميطها ،ال يعني البتة �أن املدر�سة معنية لوحدها
باالنفتاح على املحيط الذي تتواجد فيه ،لكن حري بهذا الو�سط �أي�ضا �أن ميد يد العون �إىل املدر�سة
ويحت�ضنها .وقد جتد هذه الفكرة حجيتها يف كون �أنا�س كرث يعتقدون �أن تكوين وتربية مواطن
م�س�ؤول �ش�أن خال�ص للمدر�سة .لكن� ،إىل �أي حد ي�صح هذا االعتقاد بدون ت�ضافر جهود خمتلف
ال�رشكاء والفاعلني ،ويف مقدمتهم الأ�رسة والتلميذ نف�سه ؟.
ت�ؤكد كل الدرا�سات والأبحاث الرتبوية �أن الأ�رسة تعد طرفا رئي�سيا� ،إىل جانب املدر�سة،
يف تعليم الأبناء وتربيتهم على القيم ،لذلك ينبغي تفعيل عملية التوا�صل معها داخل امل�ؤ�س�سات
التعليمية ،يف �إطار يطبعه احلوار والت�شاور ال الندية واملجابهة .بالإ�ضافة �إىل �أطراف �أخرى كجمعيات
املجتمع املدين ذات الطابع املحلي �أو اجلهوي ،وكذا اجلماعات املحلية والإدارات العمومية� .إن هذه
الأطراف ،كل من موقعه ،يجب �أن ت�سهم يف ربط ج�سور التوا�صل بينها وبني امل�ؤ�س�سة التعليمية
لأن مهمة �إعداد مواطن م�س�ؤول هي م�س�ؤولية اجلميع �أفرادا وجماعات وم�ؤ�س�سات من منطلق �أن
جناح �شعار «مدر�سة للجميع» ال ي�ستقيم �إال بانخراط اجلميع.
-3غياب ر�ؤية �شمولية و�إرادة كافية �إزاء �صياغة «م�شروع قيمي» ت�ضطلع به
امل�ؤ�س�سة التعليمية
يرى فيليب مرييه � Phillipe Meirieuأن �صالحية �أي منوذج تربوي �أو بيداغوجي يقوم على
ثالثة عنا�رص مرتابطة ،بدءا ب�صالحية امل�رشوع الأخالقي الذي ت�ستوحي منه (ما نريد �أن يكونه
املتعلم) ،ثم تطابقه ثانيا� ،أو على الأقل ،عدم تناق�ضه مع �إجنازات العلوم الإن�سانية (ما نعرفه عن
الإن�سان) ،وثالث هذه العنا�رص خ�صوبة طريقة هذا امل�رشوع الأخالقي (ما توفره لكي يتغري املتعلم
وفق ما نريده)(.)27
قد اليجدي نفعا االكتفاء بتغيري الربامج وامل�ضامني الدرا�سية وتطوير املقاربات البيداغوجية،
�إذا مل ت�ؤ�س�س الدولة ــ متمثلة يف الوزارة الو�صية على قطاع الرتبية الوطنية ــ م�رشوعا �أخالقيا
ي�ستجيب ملتطلبات املواطنني �سواء على امل�ستوى االجتماعي �أو االقت�صادي �أو ال�سيا�سي .لذلك
فغمو�ض غايات ومرامي و�أهداف التعليم العمومي املغربي� ،أو بالأحرى عدم و�ضوح ال�سيا�سة
التعليمية باملغرب قد ي�ستع�صي معه و�ضع م�رشوع دقيق يحمل الإجابة عن �أ�سئلة ،قابلة للتغيري
ح�سب الزمان واملكان والثقافة ال�سائدة واالختيارات االجتماعية الكربى للبلد ،وهي من قبيل :من
نحن ؟ ماذا نريد ؟ كيف نعي�ش جمتمعني ؟ كيف �سيكون �أطفالنا م�ستقبال ؟ كما يحدد من نعطيه
والءنا ؟ كيف نتفاعل مع باقي املواطنني وننفتح على الثقافات الأخرى ؟
27- Phillipe Meirieu, «Apprendre... oui, mais comment», 18ème édition, ESF éditeur, Paris,
2002, pp : 155 et s.
نقـال عن :حل�سـن بوتكـالي« ،الرتبية على املواطنة من نقل املعارف �إىل بناء الكفايات» ،جملـة عالـم الرتبيـة ،الـعدد ،15
� ،2004ص . 331 :
خـاتـمـة
ت�أ�سي�سا على كل ما تقدم ،ميكن القول �إنه ال يختلف اثنان اليوم يف كون امل�ؤ�س�سة التعليمية
هي الأقدر على منح املواطنني جرعات كافية من الرتبية على قيم املواطنة وال�سلوك املدين ،لكن
يف غياب انخراط اجلميع �أفرادا ،وجماعات ،وم�ؤ�س�سات ،وبالنظر ل�ضبابية امل�رشوع القيمي املجتمعي
الذي ي�سمح بقيا�س مدى جناح املدر�سة يف وظائفها الكيفية ،يبقى حتدي تكوين مواطن له من
املعارف و املهارات ما ي�ؤهله لإدراك �أن املواطنة ال تختزل يف االنتماء �إىل الوطن ،بل بحبه واالعتزاز
به واال�ستعداد الكامل خلدمته والدفاع عنه ،و�أن االلتزام بالواجبات لي�س فيه �أدنى انتقا�ص
للحقوق ،بل ،بالعك�س من ذلك ،يحفظها وي�صونها ،يف �إطار من التعاقد االجتماعي الذي يكفل
للجميع ،بدون ا�ستثناء ،العي�ش بكرامة ،تظل هذه املدر�سة عر�ضة للت�شكيك ،وعدم الثقة .بيد �أن
هذا ال يثنينا �أبدا عن التفا�ؤل والتطلع ،ال �سيما �أمام املجهودات التي بذلت يف �إطار املخطط
اال�ستعجايل� ،إىل مغرب �أف�ضل وعهد جديد يتم الرهان فيه على منظومة الرتبية والتكوين ،ويتعب�أ
لأجله اجلميع بغية تهيئة الأ�سباب احلقيقية لإعداد نا�شئة مغربية حرة ،م�س�ؤولة ،وخالقة.
38
املواطنة واجلامعة
عبد احلق من�صف
�أ�ستاذ باحث يف الرتبية والفل�سفة ال�سيا�سية
مل يحظ مو�ضوع اجلامعة واملواطنة باالهتمام كما حظي به يف وقتنا احلايل .من امل�ؤكد �أن
اجلامعة ،بو�صفها م�ؤ�س�سة لإنتاج املعارف والنخب واملخت�صني يف تدبري خمتلف ميادين احلياة
االجتماعية واملدنية ،كانت دائما مركز اهتمام مفكرين وفال�سفة كبار منذ القرن 18م يف الغرب
الأوربي .غري �أن ال�سياق العوملي احلايل ،وما يفر�ضه على الأنظمة الوطنية من حتوالت وحتديات
تهم جماالت االقت�صاد ،وال�سيا�سة ،والرتبية ،وال�صحة ،والبيئة ،واملعرفة ،والبحث العلمي ،وغريها،
جعل اهتمام احلكومات الوطنية واملنظمات املحلية والإقليمية والأممية ين�صب �أكرث على العالقة
بني اجلامعة وبني املواطنة يف م�ستويات عدة على ر�أ�سها التكوين ،والت�أطري ،والبحث الهادف �إىل
التنمية املحلية والوطنية على وجه اخل�صو�ص(.)1
�سنحاول يف هذه املقالة حتليل عالقة اجلامعة باملواطنة با�ستثمار خمتلف نتائج الندوات
الدولية والإعالنات الأممية املنبثقة عنها ،وكذا بع�ض الدرا�سات يف هذا املجال.
تعترب عالقة اجلامعة باملواطنة من �أحدث الق�ضايا املطروحة للبحث يف املنتديات الدولية يف
ظل ما تعانيه جمتمعات اليوم من م�شاكل خمتلفة ،وما تطرحه �أمامها العوملة من حتديات حملية
ووطنية وعاملية .وت�شكل اجلامعة �إحدى امل�ؤ�س�سات التي ت�سهم يف تطوير املقاربات والتدابري املعتمدة
يف ال�سيا�سات العمومية للتنمية وحت�سني ظروف عي�ش املواطن وممار�سة كل من الفرد واجلماعات
والهيئات املدنية ملواطنتها داخل الدولة.
-1تكفينا الإ�شارة هنا �إىل �أن مو�ضوع اجلامعة والتعليم العايل حظي منذ العقد الأخري من القرن الع�رشين باهتمام دويل (من
قبل اليون�سكو خ�صو�صا منذ )1996و�إقليمي (لدى االحتاد الأوربي منذ ،1996والوكالة اجلامعية للفرانكفونية ،بتعاون
مع ملتقى ر�ؤ�ساء اجلامعات الفرنكفونية يف �إفريقيا واملحيط الهندي ،واملجل�س الإفريقي واملالغا�شي للتعليم العايل على وجه
التحديد يف يوليوز .)2011وقد نتج عن هذا االهتمام �إعادة النظر يف و�ضعها املعريف واالجتماعي و�أدوارها لي�س فقط
يف جماالت التكوين والت�أهيل املعريف واملهني ،والبحث والإ�شعاع الثقايف (وهي �أدوار راكمتها اجلامعة وم�ؤ�س�ساتها عرب
التاريخ) ،بل �أي�ضا يف جماالت التنمية الب�رشية والبيئية ،واخلربة لدى املحيط االقت�صادي واالجتماعي ،والت�أطري املدين
والرتبية على املواطنة ،والتعاون الدويل ،والتبادل احل�ضاري.
• التكيف مع نظام املعارف العلمية والتكنولوجية الراهنة؛ وهذا يتطلب مراجعة النموذج املرجعي يف
هند�سة وتنظيم املعارف والبيداغوجيا اجلامعية؛
• تقدمي ثقافة نقدية منفتحة على مقت�ضيات التعدد واحلوار واملواطنة والدميقراطية والتعاي�ش
والتفاعل وطنيا ودوليا.
• الإ�سهام يف التنمية الدائمة لل�شعوب بجعل التعليم والتكوين يف جمال املعارف والتكنولوجيات
�أداة لتحرير الأفراد واجلماعات من املجاعة ،والفقر ،والأمية ،واملر�ض ،والتطرف...
• الإ�سهام يف بناء مواطنة حملية وعاملية مت�ضامنة حترتم احلوار والتبادل الثقايف بني ال�شعوب،
ويف تنمية الوعي ب�أهمية ال�سلم ،ونبذ احلرب ،والإرهاب ،وت�شجيع املبادرات اخلا�صة لل�شعوب يف
جمال التحديث ال�سيا�سي والتنمية.
غري �أن اخل�ضوع للطلب االقت�صادي واالجتماعي فيما يخ�ص النجاعة وتلبية احلاجات قد
ُي َح ِّو ُل ،بل حول يف كثري من البلدان ،اجلامعة �إىل جمرد م�ؤ�س�سة عليا للتكوين يف الكفايات
املهنية ،على ح�ساب الرتبية على املواطنة واالنخراط يف التنمية املحلية والوطنية .فاجلامعة تتحمل
م�س�ؤولية كربى جتاه ف�ضاءاتها الداخلية وجتاه املجتمع املحيط بها؛ ومن بني مهامها الأ�سا�سية
اليوم �إعطاء �أهمية �أكرب لتنمية هذه الف�ضاءات وهذا املجتمع من نواحي عدة ،معرفية واقت�صادية
و�سيا�سية .وقد �أ�صبح تقومي اجلامعة يعتمد م�ؤ�رشات هذا الدور التنموي االجتماعي وال يقت�رص
فقط على املنتوج املعريف للجامعة وم�ؤ�س�ساتها وعلى املوقع الذي حتتله داخل الرتتيب العاملي يف
هذا املجال.
ُتطرح عالقة اجلامعة باملواطنة على الأقل من زاويتني هما :الأوىل تهم اجلامعة كم�ؤ�س�سة
لإنتاج املعرفة والقيم؛ والثانية تخ�ص اجلامعة يف عالقتها باملحيط املحلي واجلهوي والوطني
والدويل.
40
�أوال :اجلامعة والرتبية على القيم واملواطنة
ت�شكل اجلامعة ف�ضاء مدنيا للرتبية على القيم واملواطنة .وتخرتق هذه الرتبية يف مقام �أول
ِ
املواطن عمليات التكوين والت�أطري ،حيث يتم متكني الطلبة من املعارف والقيم املتعلقة ب�سلوكيات
كفاعل اجتماعي ومدين ،ومن الكفايات املنهجية امل�ستهدفة يف هذه الرتبية على املواطنة يف
�سياقات دولية خمتلفة� ،إىل جانب ال�سياق الوطني ،من قبيل :احرتام القواعد املتقا�سمة للحياة
اجلماعية؛ تبني ح�س امل�س�ؤولية جتاه الذات والغري واملحيط؛ اكت�ساب قيم التعاون والت�ضامن
والت�سامح؛ تنمية ملكة التمييز النقدي وا�ستقاللية احلكم؛ امتالك القدرة على حل امل�شاكل
وال�رصاعات؛ اكت�ساب القدرة على التفاو�ض وتدبري النزاعات واالختالفات؛ التحكم يف القدرة على
تقييم الو�ضعيات وتخطيط و�ضعيات الت�أطري املدين..
يف هذا ال�صدد ،ميكن جلامعاتنا تخ�صي�ص وحدات درا�سية للتكوين يف جمال املواطنة،
مع ا�ستغالل خمتلف الفر�ص التي توفرها م�سالك التكوين وتخ�ص�صاته يف هذا ال�ش�أن ،وال�سيما
التخ�ص�صات يف جمال العلوم القانونية وال�سيا�سية واالجتماعية ،وفل�سفة القيم ،وتاريخ احل�ضارة،
ونظريات االقت�صاد والعوملة وغريها .غري �أن �إدراج الرتبية على القيم من هذا املنظور التكويني
يقت�ضي تغيري هند�سة التكوين اجلامعي لأجل �إدماج التكوينات املختلفة على الرتبية على القيم
واملواطنة ،وجعلها �أحد مكونات التقومي والإ�شهاد .فلي�ست كفايات املواطنة �أقل قيمة من مو�ضوعات
التخ�ص�ص املعريف ومن الكفايات املنهجية واملهنية املرتبطة به.
وعلى م�ستوى ت�أطري البحث اجلامعي ،ت�أخذ الرتبية على املواطنة موقعا �أكرب ،وذلك بحكم
م�س�ؤولية اجلامعة جتاه تنمية حميطها املحلي واجلهوي .فالأدوار اجلديدة للجامعة وم�ؤ�س�سات
التعليم العايل يف هذا ال�ش�أن تفر�ض عليها �أن تكون ف�ضاء �أكادمييا وتربويا لتوثيق ذاكرة هذه
اجلهة ،قبل �أن توجه اهتماماتها للق�ضايا الوطنية والدولية .على جميع امل�ؤ�س�سات التابعة للجامعة،
كل واحدة من موقعها املعريف والتكويني� ،أن توجه بحوثها جلمع وحفظ مكونات اجلهة ،الطبيعية
والتاريخية واالجتماعية وال�سيا�سية والثقافية وغريها ،ولت�شخي�ص خمتلف ق�ضاياها وم�شاكلها
والآفاق املمكنة حللها .وي�شكل البحث اجلامعي �أداة �أ�سا�سية لتعزيز الرتبية على املواطنة وقيمها
لدى �أطر التكوين والطلبة على حد �سواء ،وذلك مبختلف جماالت احلياة االجتماعية واالقت�صادية
وال�سيا�سية والثقافية .يف هذا ال�صدد ،ميكن تخ�صي�ص ن�سبة من الت�أطري والبحث اجلامعي (حوايل
)% 50مل�شاريع تهم تنمية اجلهة� ،رشيطة تنظيمه وم�أ�س�سته ،على �أ�سا�س �أن يكون الإ�شهاد �شامال
للتكوينات النظرية يف جمال التخ�ص�ص ،وللإ�سهام يف م�شاريع البحث اجلهوية مهما �صغر حجمها.
فانخراط الطلبة ،بتوجيه وت�أطري من مراكز البحث واملخابر اجلامعية ،يف م�شاريع وبرامج التنمية
املحلية ،من قبيل حمو الأمية وحماربة اله�شا�شة والفقر ،ون�رش املعرفة ،والتوعية والتح�سي�س بق�ضايا
املر�ض وال�صحة ،والتطرف واالنحراف ،واملواطنة الفاعلة ،والإ�سهام يف �أعمال املجتمع املدين وهيئاته
يف هذه املجاالت وغريها ،كلها �أن�شطة تكوينية اجتماعية موجهة بالدرجة الأوىل لتنمية املجتمع
املحلي واجلهوي للجامعة ،يف �أفق امل�شاركة يف �أن�شطة �أخرى مماثلة وطنيا ودوليا .من �ش�أن ذلك
يف ال�سياق ذاته ،وعلى م�ستوى احلياة اجلامعية� ،سيكون مفيدا جدا توفري كافة �رشوط
وم�ستلزمات الت�أطري اجليد للطلبة ،من خالل:
• �إحداث منتديات لتوجيه الطلبة �إىل احلياة اجلامعية و�أن�شطتها ،و�أهمية االنخراط يف بحث
ق�ضاياها وتطويرها؛
• ت�شجيع �إحداث الأندية واجلمعيات الطالبية اجلامعية ،الريا�ضية واالجتماعية والثقافية والبيداغوجية،
ودعمها ،بهدف الإ�سهام يف االندماج الطالبي داخل ف�ضاءات اجلامعة وبنياتها ،وتطوير ثقافة
االنتماء للف�ضاء اجلامعي بكل م�ؤ�س�ساته ؛
• خلق ف�ضاءات للتوا�صل والإعالم بكل ما يحدث وي�ستجد يف الف�ضاء اجلامعي ،مبختلف الو�سائل:
مل�صقات ،الويب ،الر�سائل الإلكرتونية ،ن�رشات منتظمة� ...إلخ.
من �ش�أن هذه الأن�شطة �أن تعزز الدور االجتماعي للجامعة داخليا ،و�أن ت�سهم ب�شكل كبري
يف حترير ف�ضاءاتنا اجلامعية احلالية من خمتلف ظواهر العنف وال�سلوك الالمدين التي نالحظها �أو
نقر�أ عنها كثريا ،وحتويلها �إىل ف�ضاءات للمبادرة واحلوار وتنمية احل�س املدين يف �صفوف املجتمع
الرتبوي اجلامعي (�أ�ساتذة� ،أطر �إدارية ،طلبة .)...غري �أن هذا الدور �سيتقوى �أكرث يف �إطار حكامة
تربوية جامعية مل�شاركة الطلبة يف تدبري ال�ش�أن اجلامعي .و�إن العمل على م�أ�س�سة ناجعة لهذه
امل�شاركة يف خمتلف جمال�س وهيئات امل�ؤ�س�سات اجلامعية وباقي م�ؤ�س�سات التعليم العايل ،وفتح
املجال �أمامهم للإ�سهام يف اتخاذ كافة القرارات التي تهم احلياة اجلامعية والتكوين والت�أطري وغريها،
ِ
املواطنة والتحكم فيها ،والتخل�ص التدريجي �سي�شكل ال حمالة مدر�سة فعلية لتعلم املمار�سات
من �أمناط التفكري وال�سلوك «الفئوية» التي ُتخ�ضع كل امل�شاكل والق�ضايا ملنظور االنتماء الطالبي
اخلال�ص �أكرث من منظور االنتماء للم�ؤ�س�سة وف�ضاءاتها والقيم الدميقراطية الت�شاركية ،ولردود
الأفعال الآنية التي تطبعها يف الغالب �أ�ساليب املواجهة والرف�ض وال�رصاع واملقاطعة ،التي تنتهي
�أحيانا مبواقف المدنية .من �ش�أن ذلك �أي�ضا �أن يفتح �أكرث الأ�ساتذة واملكونني باجلامعات على �آراء
ومواقف �رشيحة كبرية من «املنتمني» للف�ضاء اجلامعي ،وميد ج�سور احلوار فيما بينهم يف اجتاه
ِ
املواطنة. تطوير الت�أطري البيداغوجي وتنمية املمار�سات
ِ
املواطنة وغريها من غري �أن االعرتاف مبختلف �أ�شكال انخراط الطلبة يف هذه املمار�سات
الأن�شطة التي �سبق ذكرها (والتي تهم التكوين والت�أطري والبحث)� ،سي�شكل �أجلى و�سيلة لرت�سيخ
42
هذه املواطنة اجلامعية .فاالنتماء ،كمحدد �أول للمواطنة ،يتطلب االعرتاف امل�ؤ�س�سي والثقايف.
و�سيكون االعرتاف اجلامعي عن طريق الإ�شهاد و�سيلة حمفزة للطلبة لالنخراط يف �سلوكيات
املواطنة ومتلك ح�س امل�س�ؤولية جتاه الذات والغري واملحيط .واجلامعات ،يف هذا الإطار ،ملزمة
بتقدمي �شهادات خا�صة� ،أو ت�ضمني هذا االعرتاف �ضمن ال�شهادات التي متنحها للطلبة عند نهاية
تكويناتهم اجلامعية الأولية �أو العليا.
• البحث يف �سبل االندماج ال�سو�سيو ــ مهني لطلبتها ،وتي�سري هذا االندماج :تنظيم
التداريب واالنغما�س يف املقاولة واملجتمع؛
• االجتهاد يف ابتكار �أ�ساليب وطرق للتنمية املهنية ملختلف الفاعلني و�أع�ضاء املجتمع املحلي
واجلهوي� ،ضمانا لتحقيق �أهداف تعلم الكبار والتعلم مدى احلياة ،بغاية حت�سني القدرات وتطوير
الأداء وحتقيقا مزيد من االرتقاء االجتماعي.
�إىل جانب ذلك ،طورت بع�ض الدول يف االحتاد الأوربي جتربة ما ي�سمى «جامعة املواطن»()2؛
وهي ف�ضاءات تربوية وت�أطريية يتم �إحداثها داخل امل�ؤ�س�سات اجلامعية ،ت�ستثمر خ�صي�صا لأجل:
• تنظيم لقاءات يح�رضها املجتمع املدين على اختالف هيئاته و�أفراده ملناق�شة ق�ضايا املواطنة
املحلية والوطنية والتباحث يف �ش�أنها و�إعداد برامج عمل لتطويرها؛
كما طورت بع�ض املجتمعات جتربة اجلامعات ال�شعبية التي تفتح ف�ضاءاتها �أمام عموم املواطنني
لأجل تعميق معارفهم بخ�صو�ص مو�ضوعات وق�ضايا قانونية �أخالقية و�سيا�سية واقت�صادية�..إلخ،
واالنخراط يف مناق�شات حرة ومفتوحة حولها خارج �إكراهات �ضوابط الدرا�سة والتقومي .ومما
يعزز القيمة املدنية وال�سيا�سية لهذه اجلامعات ال�شعبية ال�رشاكات التي تقيمها مع م�ؤ�س�سات الن�رش
وامل�ؤ�س�سات الإعالمية ،ال�سمعية والب�رصية وال�سمعية الب�رصية ،لأجل توثيق �أن�شطتها وحما�رضاتها
ونقا�شاتها ،ون�رشها وتوزيعها على الأفراد واملهتمني وامل�ؤ�س�سات الرتبوية والثقافية وطنيا ودوليا ،حتى
يتمكن املواطن من اال�ستفادة منها .هذه ال�رشاكات دفعت اجلامعات �إىل تطوير عالقاتها باملحيط
وتو�سيعها حتقيقا لهدف تعميم املعرفة وتي�سري ولوج حقولها ولأهداف تعلم الكبار والتعلم مدى
احلياة ،بو�صفها جميعا تندرج �ضمن غايات تر�سيخ جمتمع املعرفة والتوا�صل.
تبقى �أخريا �إمكانية وا�سعة وحا�سمة جدا يف تقوية مواطنة اجلامعة داخل حميطها ،نق�صد
بذلك انخراطها يف حتقيق �أهداف املواطنة الكونية ،خ�صو�صا يف زمن عوملي تبلور فيه �أفق �آخر
للمواطنة كانتماء للمعمور و�إ�سهام يف املحافظة عليه وتطويره مبا يخدم رفاهية اجلن�س الب�رشي.
تطرح املواطنة الكونية حتديات وق�ضايا خمتلفة تهم املجتمعات الب�رشية قاطبة ،من قبيل :ق�ضايا
البيئة العاملية و�رضورة الت�ضامن بني الأمم والدول لأجل املحافظة عليها؛ ق�ضايا الهجرة وال�صحة
والفقر واملجاعات والأمن الغذائي ،والفروق ال�صارخة بني ال�شعوب يف ا�ستغالل املوارد العاملية؛
ق�ضايا الإرهاب واحلروب و�آثارها على تدمري ال�شعوب و�إبادة ح�ضاراتها؛ ق�ضايا التحديث العلمي
والتكنولوجي وما يثريه عامليا من �إ�شكاليات تهم الرتبية وتعميم التعليم والق�ضاء على كل �أ�شكال
الأمية والتخلف الفكري والثقايف ...كلها وغريها ق�ضايا �أ�صبحت تطرح على امل�ستوى الدويل
�إ�شكاليات كربى مت�س م�س�ؤولية الدول وال�شعوب فيما يخ�ص التدخل امل�شرتك لأجل بحثها و�إيجاد
حلول لها تراعي الإرث امل�شرتك للإن�سانية وحقها يف بيئة عاملية �آمنة ت�سمح بتنمية ال�شعوب الأكرث
فقرا ،وت�أ�سي�س عالقات �سلمية بني الدول ت�ضمن حق الأفراد واجلماعات يف العي�ش الكرمي .وي�شكل
التعاون الدويل بني اجلامعات يف بحث ق�ضايا املواطنة العاملية� ،أحد الو�سائل ال�رضورية واحلا�سمة
حاليا يف تو�ضيح الر�ؤية العاملية بخ�صو�صها واالنخراط يف بلورة �سبل حلها.
ختاما ،لي�ست اجلامعة وم�ؤ�س�ساتها جمرد ف�ضاء حمدود للتكوين ،بل هي �إمكانية هائلة
قادرة على اخرتاق الف�ضاءات االجتماعية ،واللغوية ،والثقافية ،بل اجلغرافية ،بف�ضل ما تختزنه من
فر�ص للت�أطري ،والرتبية ،واملبادرة ،واالبتكار ،والتنمية .وت�شكل الرتبية على املواطنة ،بل االنخراط
يف �أفعال املواطنة� ،إحدى فر�ص هذه الإمكانية ،و�أحد �سبل تطوير احلقل اجلامعي ذاته ببالدنا
على وجه اخل�صو�ص.
44
مراجع للتو�سع
• Tobelem. G, «Pour une université citoyenne» - Editions John Libbey Eurotext ;
Paris, 1998.
• كون هذا الر�أي ،الذي يقرتح �إطار عمل وطني لإعداد برامج تربوية متنوعة ،ال
يزال يحافظ على راهنيته ،ويحتاج اليوم� ،أكرث من �أي وقت م�ضى� ،إىل تفعيل
مقرتحاته وتو�صياته ،وال �سيما يف �سياق وطني ودويل ي�شهد حتوالت عميقة
يف منظومات القيم ،ومن ثم ي�سائل الوظيفة الرتبوية للم�ؤ�س�سات الوطنية للرتبية
والتكوين؛
• كونه يقدم �أجوبة عن العديد من الأ�سئلة املرتبطة بقيم املواطنة وال�سلوك املدين
التي يفرزها الواقع اليومي ،خ�صو�صا مب�ؤ�س�سات الرتبية والتكوين؛
• كونه يف�سح املجال �أمام �إذكاء نقا�ش عمومي حول م�س�ألة القيم ودور امل�ؤ�س�سة
التعليمية يف ن�رشها وتر�سيخها كاقتناع والتزام وممار�سة يومية ،وذلك يف �إطار
مهمتها الأ�سا�س املتمثلة يف بناء مواطن احلا�رض وامل�ستقبل.
حتـديد املو�ضوع
حتيل تنمية ال�سلوك املدين �إىل امتداداته يف املجتمع وداخل املدر�سة واجلامعة وخارج
ف�ضاءاتهما ،ووجوده يف احلياة العامة ويف عالقة الأفراد فيما بينهم وبامل�ؤ�س�سات ،وعالقتهم بالوطن
والعامل .غري �أن �أبعاده :الأخالقية املرتبطة بالقيم ؛ الرتبوية املتعلقة بالتن�شئة ؛ االجتماعية املنظمة
للحياة العامة ؛ والقانونية املرتكزة على احرتام القوانني وحقوق الإن�سان ،جتعل تنميته مهمة تقع
يف �صميم عمل املدر�سة.
ويت�أكد دور املدر�سة يف تنمية احل�س املدين ،وتر�سيخ قيم املواطنة يف وجدان و�سلوك
املتعلمات واملتعلمني ،من خالل ا�ستح�ضار وظائفها املتعارف عليها ،املتمثلة يف التعليم والتعلم
والتكوين والت�أهيل ،وال�سيما يف الرتبية والتن�شئة كوظيفة جتعل م�س�ؤولية امل�ؤ�س�سة التعليمية مركزية
ودورها راهنيا وحا�سما يف هذا امل�ضمار ؛ ذلك� ،أن الغاية املثلى من الرتبية على ال�سلوك املدين هي
(*) ر�أي املجل�س الأعلى للتعليم رقم 07/2ال�صادر بتاريخ 23يوليوز .2007
46
تكوين املواطن املتحلي بالأخالق احل�سنة ،املعتز بالثوابت الدينية والوطنية لبالده يف احرتام تام
لرموزها ،املتم�سك مبقومات هويته ب�شتى روافدها ،املتمتع باحلقوق والكرامة واحلرية يف احرتام
حلقوق الآخرين ،امللتزم بالواجبات والقوانني والقواعد املتعاقد حولها ،امل�سهم يف احلياة الدميقراطية
لبالده ،واملكت�سب للمناعة جتاه ال�سلوكات الالمدنية.
اعتبارا لذلك ينبغي �أن تكون املدر�سة ف�ضاء يكر�س كل جتليات ال�سلوك املدين ،ويت�صدى
باملقابل ملختلف املظاهر ال�سلبية املنافية له.
ال�سيـاقـات
يندرج االهتمام بدور املدر�سة يف تنمية ال�سلوك املدين �ضمن �سياقات دالة �أهمها:
• حتمية تر�سيخ قيم املواطنة وف�ضائل ال�سلوك املدين يف املمار�سات اليومية للأفراد واجلماعات
وامل�ؤ�س�سات ،وال�سيما يف خ�ضم التحوالت العميقة التي ت�شهدها يف الع�رص الراهن املنظومات
القيمية والثقافية �سواء يف املجتمع املغربي �أو غريه من بلدان العامل ؛
• الدينامية التي ما فتئ يحركها �إ�صالح منظومة الرتبية والتكوين يف واقع املدر�سة وحميطها،
منذ �إقرار امليثاق الوطني للرتبية والتكوين ،والوعي املتنامي بالدور احلا�سم للمدر�سة يف توطيد
جمتمع املواطنة امل�س�ؤولة والدميقراطية والت�ضامن والتنمية ،والعمل احلازم لإجراء قطيعة مع كل
مظاهر الإخالل بالقانون والتع�صب والتطرف واالنغالق ؛
• الربامج واملبادرات التي تعرفها املدر�سة املغربية يف الرتبية على قيم املواطنة وحقوق الإن�سان،
ويف تنمية ال�سلوكات الإيجابية ،وذلك يف �إطار ال�سهر الدائم على ا�ضطالع امل�ؤ�س�سات املدر�سية
واجلامعية بر�سالتها الرتبوية النبيلة ،بو�صفها ف�ضاءات للتعلم واملواطنة وجماالت منزهة عن كل
املمار�سات الالمدنية واملزايدات العقيمة.
كما �أن املكت�سبات التي حققها املغرب يف جمال الرتبية على املواطنة وحقوق الإن�سان ،التي
واكبت دينامية الإ�صالحات املجتمعية ،وخا�صة منها �إ�صالح املنظومة الرتبوية الوطنية مل تبدد
ال�رضورة امللحة للت�صدي احلازم والعاجل لكل جتليات ال�سلوك الالمدين التي �أ�ضحت تواجهها
امل�ؤ�س�سات التعليمية وال�سيما :العنف ب�شتى �أ�شكاله ،والغ�ش مبختلف �أ�ساليبه ،وعدم احرتام الأدوار
و�سوء املعاملة ،وامل�سا�س بنبل الف�ضاء املدر�سي واجلامعي ،وتراجع االلتزام بالأنظمة الداخلية للم�ؤ�س�سة
التعليمية ،والإ�رضار بامللك العام وبالبيئة.
• تتمثل الإ�شكاالت املرتبطة باملمار�سة يف الهوة املتنامية بني اخلطاب حول القيم واحلقوق والواجبات
وبني املمار�سة الفعلية لها ،كما ترتبط برتاجع االن�ضباط لقواعد و�أنظمة املهنة ،وااللتزام مبا تقوم
عليه من واجبات ؛
• �أما الإ�شكاالت البيداغوجية واملنهجية فتتمحور ،بالأ�سا�س ،حول الق�ضايا التالية :
ــ كيفية تر�سيخ منظومة بيداغوجية للحياة مع الآخرين تعتمد �إعطاء القدوة احل�سنة يف
ال�سلوك واملعاملة ،ويكون �أ�سا�سها القيام بامل�س�ؤولية والتمتع باحلقوق يف التزام تام بالواجبات ،من
خالل متلك قواعد ال�سلوك املدين وجعلها ممار�سة تلقائية لدى الفاعلني الرتبويني واملتعلمني ؛
ــ مدى حتقيق املدر�سة لوظيفتها الرتبوية يف التن�شئة االجتماعية عرب �أ�ساليب �إي�صال املناهج
والربامج الدرا�سية والتكوينية بجوانبها الإن�سانية واالجتماعية والنف�سية ،ومدى االهتمام ببعدها
العملي والنفعي يف احلياة اخلا�صة والعامة ؛
ــ مدى مالءمة طرائق التدري�س والتعلم وبرامج التكوين الأ�سا�سي وامل�ستمر املعتمدة،
وفعاليتها يف تر�سيخ ال�سلوك املدين ؛
ــ الآليات الكفيلة بتنظيم العمل امل�شرتك يف الف�ضاء املدر�سي واجلامعي� ،سواء يف الف�صول
�أو خارجها ،ومدى انخراط �أفراد جماعة املدر�سة يف امل�شاركة امل�س�ؤولة لتدبري ف�ضائهم امل�شرتك
وعالقاتهم اليومية ؛
-املنهجية التي ميكن اعتمادها لتنفيذ برامج تنمية ال�سلوك املدين يف ممار�سات املتعلمني،
بالعالقة مع تنوع املراحل الدرا�سية و�أنواع التعليم ،واختالف الفئات العمرية للتالميذ والطلبة ،وما
تتطلبه من مقاربات بيداغوجية خا�صة.
-1املداخـل املهيكـلة
1.1االنطالق من �أن الرتبية على ال�سلوك املدين� ،إذا كانت م�س�ؤولية جمتمعية متقا�سمة ،ف�إن
48
ا�ضطالع منظومة الرتبية والتكوين بهاته املهمة يعد وظيفة من وظائفها الطبيعية ،ويندرج يف
عمق �سريورة �إ�صالحها ،كما يرتبط النجاح يف �إجناز هاته املهمة بالت�أهيل امل�ستمر للفاعلني
الرتبويني ،بالتح�سني املطرد حلكامة تلك املنظومة وبتعميق �إقرار الالمركزية وعدم التمركز،
مبالءمة املناهج والربامج ،ب�إحكام التنظيم البيداغوجي وتدبري الإيقاعات الزمنية ،بنجاعة
�آلية التوجيه الدرا�سي و�أنظمة تقومي التعلمات والتكوينات ،وكذا بجودة املردودية الداخلية
واخلارجية ؛
2.1ال�سهر على جعل املو�سم الدرا�سي � 2008-2007سنة للتعبئة و�إذكاء النقا�ش املو�سع ،من �أجل
�إر�ساء اللبنات الأ�سا�سية وو�ضع التدابري الإجرائية لربامج تر�سيخ قواعد ال�سلوك املدين،
وتنميته يف املدر�سة واجلامعة ويف ف�ضاءاتهما ؛
ولهذا الغر�ض ،يتم جتديد وتنويع �صيغ �أ�ساليب م�شاركة كل الفاعلني الرتبويني والتالميذ
والطلبة يف م�رشوع تنمية ال�سلوك املدين ،وذلك بانخراط فاعل للأ�رس ول�رشكاء املدر�سة ؛
3.1التحديد الوا�ضح للم�س�ؤوليات ب�ضبط االخت�صا�صات الرتبوية والإدارية ملختلف الفاعلني يف
ف�ضاء املدر�سة ،ل�ضمان ن�رش ال�سلوكات الإيجابية والت�صدي ملا ينافيها ،واحلر�ص املنتظم على
تتبع ذلك ،ح�سب املواقع والأدوار ؛
4.1اعتبار �أن االرتقاء البيداغوجي بال�سلوك املدين يف التعلمات ويف م�سالك التكوين ال ميكن �أن
يتم بجعله مادة تخ�ص�ص درا�سي ،بل هو مهمة تتوالها خمتلف املواد والتخ�ص�صات .كما
�أن طرائق اكت�سابه ت�ستدعي االجتهاد يف ابتكار الو�سائل الكفيلة ب�إدماج مفاهيمه وقيمه
وقواعده يف املناهج والو�سائط التعليمية ؛
5.1اعتماد مبد�إ التدرج يف مالءمة املناهج والربامج والتعلمات ملتطلبات تنمية ال�سلوك املدين،
والعمل مببد�إ التعميم بالن�سبة للجوانب املعززة لل�سلوك املدين ،وو�سائل الت�صدي ملا ينافيه،
�ضمن احلياة املدر�سية واجلامعية ؛
6.1مراعاة الفئات العمرية للمتعلمني ،تبعا لأ�سالك التعليم ،مع الأخذ بعني االعتبار �أن تنمية
ال�سلوك املدين يجب �أن تتم ب�شكل مبكر ،ابتداء من التعليم الأويل ،و�أن تكون مواكبة
للمتعلمني طيلة م�سارهم الدرا�سي ؛
7.1اعتماد املنهج العلمي يف الر�صد والتتبع والتقومي للربامج ،واالرتقاء بالبحث العلمي الرتبوي
وتقوية املالحظة العلمية للظواهر التي تعرفها املدر�سة ؛
8.1امل�ساهمة يف بناء معرفة علمية وميدانية دقيقة بواقع املدر�سة املغربية وب�أدوارها ووظائفها ،مع
ت�شجيع االبتكار والبحث الرتبوي ؛
9.1توطيد وا�ستثمار املكت�سبات الإيجابية التي نتجت عن املبادرات والربامج ال�سابقة يف ميدان
الرتبية على حقوق الإن�سان واملواطنة.
� 2.2إطالق �أورا�ش بيداغوجية ميدانية ي�شارك فيها خمتلف املعنيني املبا�رشين من �إدارة تربوية
و�أ�ساتذة وتالميذ وطلبة ؛ وذلك بهدف انخراطهم املبا�رش يف حتديد وبناء ت�صورهم الرتبوي
لتنمية ال�سلوك املدين ؛
وميكن �أن تنكب هاته الأورا�ش ب�صفة خا�صة على ما يلي :
�إعداد برامج مبتكرة لن�رش ثقافة اال�ستحقاق واحلوار واحرتام الغري وتوطيد املمار�سة الدميقراطية •
و�صيانة امللك العام واملحافظة على البيئة ،وكذا لتنمية الأن�شطة الثقافية والفنية والإبداعية يف
الف�ضاءات املدر�سية واجلامعية ؛
التفكري اجلماعي املنظم من طرف الفاعلني الرتبويني يف التجديد املتوا�صل لعملهم الرتبوي، •
وكذا يف �أ�ساليب الرتبية بالقدوة ؛
تقدمي التجارب الديداكتيكية الناجحة يف جمال الرتبية على املواطنة واملمار�سة الدميقراطية، •
والنظر يف اعتمادها كنماذج تطبيقية ؛
و�ضع �صيغ حمفزة على اخلدمة التطوعية للتالميذ والطلبة لفائدة م�ؤ�س�ساتهم التعليمية �أو •
حميطها القريب ،مع �أخذها بعني االعتبار يف تقومي مردودهم الدرا�سي ؛
3.2تكري�س خمتلف املمار�سات والتقاليد الهادفة �إىل تر�سيخ احل�س الوطني واالنتماء امل�شرتك،
وال�سيما واجب حتية العلم وترديد الن�شيد الوطني ،مبا يليق بهما من اعتزاز والتزام واحرتام.
على �أن جتري هاته العملية ب�صفة منتظمة ويف توقيت موحد ،وعلى الأقل مرة كل �أ�سبوع،
بالن�سبة جلميع امل�ؤ�س�سات التعليمية على ال�صعيد الوطني ؛
4.2ت�شكيل وحدات مركزية وجهوية للبحث العلمي الرتبوي يف جمال تنمية ال�سلوك املدين ،من
هيئة التفتي�ش وهيئة التدري�س واخلرباء من �أجل :
50
ر�صد الظواهر ال�سلبية التي حتدث يف ف�ضاء املدر�سة ،و�إخ�ضاعها للدرا�سة والفح�ص العلمي، •
والتعرف على �أ�سبابها وحتديد و�سائل مواجهتها وجتاوزها.
5.2مراجعة مناهج التكوين مبعاهد ومراكز تكوين الأطر ،من �أجل جتديدها وبغاية ت�أهيل الأطر
الرتبوية ملمار�سة �أدوارها يف تنمية ال�سلوك املدين ؛
� 6.2صياغة برامج للتكوين امل�ستمر جتعل تنمية ال�سلوك املدين من مقوماتها و�أهدافها؛
� 7.2إحداث مراكز لال�ستماع والإر�شاد والدعم مزودة ب�أخ�صائيني ،وذلك يف �إطار تقدمي اخلدمات
الطبية وامل�ساعدة النف�سية واالجتماعية لفائدة املتعلمني ؛
� 9.2سن قواعد لتثمني وت�شجيع االبتكار واالجتهاد الفردي واجلماعي واملبادرات املتميزة فيما
يخ�ص كل م�رشوع يهم خمتلف جماالت تنمية املمار�سات املدنية والت�ضامنية� ،سواء تلك
التي يقوم بها التالميذ �أو الطلبة �أو الفاعلون الرتبويون �أو ال�رشكاء لفائدة املدر�سة �أو حميطها
القريب ،مع احلر�ص على التعريف باملمار�سات اجليدة ،وتو�سيع جمال اال�ستفادة منها ؛
10.2بناء �رشاكات م�ؤ�س�ساتية فاعلة مع القطاعات احلكومية واجلمعيات واملنظمات املدنية املعنية،
فيما يخ�ص الربامج الهادفة �إىل النهو�ض بال�سلوك املدين يف امل�ؤ�س�سات الرتبوية.
54
ال�سالفة ،حدد امليثاق الوطني للرتبية والتكوين - 2تعريف املتعلم برتاث �أجداده ،و�أجماد
(وهو م�رشوع متكامل ،و�شامل لإ�صالح التعليم بالده ،حتى ين�ش�أ حمب ًا لوطنه ،خمل�ص ًا
يف املغرب و�ضع �سنة 1999م) �أ�س�س التعبئة له ،م�ساهم ًا يف خدمته ،وتقدمه ،متم�سك ًا
الوطنية لتجديد املدر�سة ،وفق زمن عميق، مبقد�ساته.
يندرج �ضمن ال�سريورة التاريخية لتقدم البالد
هذا ،وال ب�أ�س �أن ن�شري �إىل �أن هذه الوثيقة
ورقيها ؛ ب�إعالن الع�رشية 2000ــ 2009م ،ع�رشية
حتدد ،ويف موازاة مع تلك املقا�صد ،التي ت�ؤكد
وطنية للرتبية والتكوين ،و�إعالن قطاع الرتبية
التوجه الأ�صيل للنظام التعليمي يف املغرب،
والتكوين �أولوية وطنية بعد الوحدة الرتابية.
عدداً من الأهداف التي ت�سعى �إىل �إك�ساب
وجاءت االختيارات الرتبوية الأ�سا�سية املتعلم القدرة على التوا�صل مع العامل اخلارجي
يف هذا امليثاق ،يف �أ�سالك التعليم باملدر�سة �أخذاً وعطاء ،بفكر متفتح �سموح ،وعقل واع
املغربية ،لتحدد املوا�صفات اخللقية ،والرتبوية متوقد ،و�إذكاء ف�ضوله العلمي ،وحفزه على
ح�سب كل �سلك؛ واملتمثلة �أ�سا�سا يف البحث ،والتنقيب .وعلى جعل املتعلم عن�رصاً
الت�شبع بالقيم الدينية ،واخللقية ،والوطنية، للتطور ،والنماء ،قادراً على ا�ستيعاب الظواهر
التالميذ لي�صبح الأ�سا�سية، والإن�سانية و�إدراك وغريها، والتكنولوجية، العلمية،
مواطنني معتزين بهويتهم ،وبرتاثهم ،وواعني ن�سبتها وتكييفها ،بهدف م�سايرة ركب التقدم
بتاريخهم ،ومندجمني فاعلني يف جمتمعهم، يف جميع املجاالت ،ثم امل�ساهمة فيه عن طريق
ومتتني معرفته بحقوق الإن�سان ،وحقوق اخللق ،والإبداع.
املواطنني املغاربة وواجباتهم .كما اعترب يوم
- 3وعموما ،ف�إن ما الحظناه عند حتليل
افتتاح املدر�سة يوم عيد يطلق عليه ا�سم «عيد
عينة من املقررات ،والكتب املدر�سية املغربية ،
املدر�سة» ،واالنتقال من «الرتبية الوطنية» �إىل
هو الإحلاح على تكوين تلميذ:
«الرتبية على املواطنة».
• متفتح على العامل ،وعلى ح�ضارات
�إننا نعتقد مع العديد من املخت�صني،
ال�شعوب الأخرى ،وعلى الإن�سانية جمعاء،
�أن احلديث يف خمتلف م�شاريع �إ�صالح
ميال �إىل التعاون ،والتعاي�ش ،والت�سامح .له من
التعليم باملغرب ،عن ت�شكيل وحت�صني الهوية
الطالقة يف اللغات الأجنبية ،مثل الإجنليزية،
الثقافية للتالميذ ،يف مقابل االخرتاق الثقايف
والفرن�سية ،ما ميكنه من ذلك .وهو �إىل جانب
الغربي والغزو املعلوماتي ،يحيل بال�رضورة
�أ�صالته ،وحفاظه على تراث بالده ،وعلى ما يف
على عمليات بالغة التعقيد ،ترتبط مبختلف
تقاليدها من حما�سن ،ف�إنه متطلع نحو التغيري،
امل�ؤ�س�سات االجتماعية التي توكل �إليها مهمة
ومواكبة م�ستجدات الع�رص ،ومواكبة التطور
التن�شئة ،واملتمثلة يف �إنتاج القيم ،واالجتاهات،
العلمي ،والتكنولوجي ،متهيئ للم�ستقبل بكل
ومعايري ال�سلوك ،و�ضمان ا�ستمرارها ،والتي
ملكاته ،وجوارحه.
ت�أتي م�ؤ�س�سات التن�شئة التقليدية من قبيل
املدر�سة والأ�رسة على ر�أ�س قائمتها ،ال�شيء ولرت�سيخ منظومة القيم التي ا�ستهدفتها
الذي يحيل بقوة على التطرق ملطالب الرتبية وزارة الرتبية الوطنية يف م�شاريع الإ�صالح
ماهو الدور الذي ميكن �أن يقوم به و«الذات خ�صو�صا، الأطفال �شخ�صية
التوظيف الرتبوي للرثاث يف تر�سيخ القيم االجتماعية» ،ب�شكل عام� ،ضد �آليات العوملة
املت�صلة باملجتمع ،وبالوطن ؟ والتنميط الثقايف ؟.
جــواب :من احلقائق الأ�سا�سية التي هكذا ،ف�إن املمار�سة الرتبوية يف اعتقادنا،
ننطلق منها يف دعوتنا للتوظيف الرتبوي هي �صمام �أمان ال�ضبط واملحافظة االجتماعية،
للرتاث ،الإحلاح على دور التن�شئة االجتماعية، باعتبارها موجهة نحو �إنتاج ،و�إعادة �إنتاج
باعتبارها العملية التي يتم من خاللها نقل القيم ،عن طريق نقلها ب�شكل �أمني للأجيال
تراث املجتمع �إىل الفرد ،ومتكينه من امل�شاركة املتعاقبة ،خا�صة �إذا نظرنا للرتبية باعتبارها
يف حياة املجتمع ،والتفاعل مع �أع�ضائه� .إنها العمل الذي متار�سه الأجيال الرا�شدة على
عملية �أ�سا�سية يف حياة الفرد يتم من خاللها الأجيال التي مل تن�ضج بعد ،من �أجل الإدماج
حتويله من كائن بيولوجي �إىل كائن اجتماعي، يف احلياة االجتماعية .وهدفها �أن تنمي لدى
و�إىل مواطن له �أدواره ومكانته ،يحمل قيم الن�شء طائفة من الأحوال وال�سلوكات اجل�سدية،
ومعايري املجتمع ،ولغته .هكذا ،ومن خالل هذا والفكرية ،واخللقية التي يتطلبها منهم املجتمع،
التعريف ،تت�ضمن التن�شئة االجتماعية العنا�رص وتتطلبها البيئة املحلية التي يعدون لها بوجه
ال�رضورية حل�صول التح�صني النف�سي للطفل، ٍّ
جتل لهذه العملية يف خا�ص ،ولعل هذا �أبلغ
وتقوية �شخ�صيته ،واحلفاظ على هويته العربية
ا�صطالحات العلوم الإن�سانية ،وهو ما ميكن
الإ�سالمية ،والتي ت�صبح منطلقا وهدفا للعملية
اختزاله يف مفهوم التن�شئة االجتماعية والتي
برمتها .على �أن التح�صني النف�سي وظيفة معقدة
يقدمها ال�سو�سيولوجي الكندي غاي رو�شي
تنهل مثلها مثل التن�شئة االجتماعية ،من
( ،)Guy Rocherباعتبارها منظومة الأوليات
روافد متعددة ،ومن ت�أثريات متنوعة من خارج
التي متكن الفرد على مدى حياته من تعلم
�إطارات الأ�رسة ،واملدر�سة ،ومكملة لوظيفتهما.
وا�ستبطان القيم االجتماعية الثقافية ال�سائدة
روافد مت�شعبة ،ت�ؤطر احلياة اليومية لأبنائنا:
من �إعالم وو�سائط مرئية ،وم�سموعة ،ومكتوبة يف و�سطه االجتماعي .بهذا املعنى ،ميكن
ونوادي ريا�ضية ،وجمعيات ،ودور �شباب، ت�صور التن�شئة كمنظومة عمليات يعتمدها
وم�ساجد ،ومراكز الإنرتنيت ،ومراكز لتعلم املجتمع يف نقل ثقافته ،مبا تنطوي عليه هذه
اللغات الأجنبية� ...إلخ ،وكلها ت�أخذ مبدئيا الثقافة من مفاهيم وقيم وعادات وتقاليد �إىل
من الرتاث ،والقيم ،واملبادئ العليا ،كما ت�أخذ �أفراده…� ،إنها العملية التي يتم من خاللها
�أمناط ال�سلوك ومعايريه. دمج الفرد يف املجتمع واملجتمع يف الفرد.
56
املالحظ �أن عملية البناء القيمي لي�ست م�س�ؤولية وت�ستهدف التن�شئة االجتماعية تر�سيخ
م�ؤ�س�سة اجتماعية بعينها� ،أو منهج درا�سي القيم ،والتي تعترب مكونات نف�سية مكت�سبة
بعينه ،ولكنها م�س�ؤولية كل من له عالقة لتوجيه التفكري ،وال�سلوك لدى الفرد .وهي تنبع
بعملية الرتبية. من التجربة االجتماعية ،وتتمثلها ال�شخ�صية،
وتتوحد بها ،وهي عن�رص م�شرتك يف تكوين
كما �أن الرتبية تعمل على تر�سيخ القيم
البناء االجتماعي ،وال�شخ�صية الفردية ،ذلك البناء
عن طريق ما ت�ستمده من املجتمع الذي توجد
الذي يعمل على توجيه رغبات الفرد واجتاهاته،
فيه ،فالرتبية الإ�سالمية ت�ستمد قيمها من الدين
وحتديد ،وتقييم ال�سلوك املقبول ،واملرفو�ض.
الإ�سالمي احلنيف الذي ميثل م�صدرا �أ�سا�سيا
للقيم التي حتكمها ،كما تعمل الرتبية على من املعلوم� ،أن لكل جمتمع قدمي �أو
تـر�سيخ القيـم ،لي�س فقط عـن طريق اجلانب معا�رص ،متح�رض �أو متخلف ،جمموعة من
النظري املعريف فح�سب ،بل عـن طريق اجلـانب القيم واملبادئ ت�شكل عن�رصا �أ�سا�سيا يف تراثه
التطبيقي ال�سلوكي. املعنوي ،والتي ي�ستمد منها ت�صوره ،وت�صور
�أفراده عن الكون ،واحلياة .هذه القيم تكون
�إذن ،ال بد يف �إطار تطوير مناهجنا ،ويف
هي ال�ضابط الأول ل�سلوك الأفراد نحو توجه
�إطار التوظيف الرتبوي للرتاث فيها ،من �إعادة
اجتماعي معني ،فما هو مقبول يف عرف هذه
االعتبار للرتبية الأخالقية ،و�رضورة �صياغة
املبادئ يكون مقبوال عند هذا املجتمع ،وما
ثقافة ترتكز �أولوياتها على منظومة القيم ،هذه
يكون مرفو�ضا يف عرف هذه املبادئ يكون
الرتبية القيمية ميكن تلخي�ص ما ت�ستهدفه يف
مرفو�ضا عند هذا املجتمع ،وبني هذا وذاك
النقاط التالية:
�أمور تدور بني الرف�ض ،والقبول.
• احلر�ص على �إك�ساب الأطفال،
من املعلوم كذلك� ،أن الإن�سان يحتاج
واملراهقني �سمات ،وعادات �شخ�صية مرغوب
�إىل القيم االجتماعية ،واملبادئ الأخالقية،
فيها ،مثل :ال�صدق ،والأمانة ،والتعاون،
واملعتقدات الدينية بقدر حاجته �إىل املاء،
وم�ساعدة الآخرين.
والهواء .فهو يحتاج �إىل �أن ي�شعر بوجوده
• احلر�ص على االرتباط بالقيم املت�صلة ك�إن�سان ،وبقيمة املجتمع ،وقيمه ،كما يحتاج
باملجتمع ،وبالوطن ،وتاريخه ،ومقد�ساته ،مثل �إىل احلرية ،و�إىل هوية ينت�سب �إليها ،لأن
االنتماء ،وااللتزام ،والت�ضحية ،وتقدير العمل، الإن�سان بحاجة �إىل االنتماء �إىل �شيء حمدد.
والإخال�ص فيه ،ومعرفة اخل�صائ�ص املميزة
�إن الرتبية يف جوهرها عملية معيارية ــ
لثقافة املجتمع ،وتراثه.
قيمية ،و�إن �أهم ناجت الرتبية هو �أن تتخذ لها
• تر�سيخ القيم الكونية ،مثل :احرتام جمموعة من القيم البناءة الدائمة التي تخ�ضع
حقوق الإن�سان ،ورف�ض فكرة االحتالل، لها اجلماعة ،وتنتظم حولها حياتها ،فال�شخ�ص
وتر�سيخ مبادئ التعاون ،واحلوار ،والت�سامح، املتعلم الذي ال توجه معارفه وقدراته نحو
وتقدير �أهمية ال�رشعية الدولية ،واملواثيق التي �أهداف قيمية يتخذها لنف�سه ،ي�صبح خطرا
�صادقت عليها الأمم. على نف�سه ،وعلى املجتمع على حد �سواء .ومن
كذلك ،يتم مترير جمموعة من القيم لكن ومع الأ�سف ال�شديد ،ف�إن الكثري
واالنحراف، ال�شذوذ، ل�سلوكيات النابذة مما يتم ا�سترياده حتى الآن يف بلداننا العربية
واالن�سالخ عن الهوية الوطنية ،عرب جمموعة من «�أخالقيات العوملة» ،يف معظمه ،يتمثل
من املواد من مثل الرتبية الإ�سالمية ،والتاريخ، يف و�سائل ،و�أمناط العي�ش ،ومنظومة القيم،
والرتبية على املواطنة. و�آليات الت�سلح ،وال�رصاع ،وجميعها متحو
يف طريقها معامل ،ومعارف ،وجتارب ،وقيما
ثانيا :ثم مقاربة تفعيل الأدوار يف احلياة نحتتها �شعوبنا العربية منذ �رشوق الإ�سالم،
املدر�سية ،وتطوير الأن�شطة الال�صفية :وذلك و�أورثتها للإن�سانية ،فت�صبح عارية من تاريخها،
من خالل ت�شجيع الأن�شطة الثقافية ،والفنية، وح�ضارتها� ،أو م�ساهمة ،لكن ب�شكل ه�ش ،مما
والريا�ضية يف �إطار مدر�سة النجاح ،من �أجل ي�ؤدي �إىل �إنتاج �أجيال تائهة جمهولة الن�سب
تر�سيخ الأخالق النبيلة ،وتثبيت ال�سلوكات والهوية ،فارغة الروح...
الإيجابية ،ونبذ كل ما مي�س بدور امل�ؤ�س�سات
التعليمية. يف هذا الإطار ،ف�إن الوزارة الو�صية على
التعليم يف املغرب� ،أولت مو�ضوع الرتبية على
�س�ؤال :كيف ميكن للأهداف الرتبوية القيم ،وتوظيفها يف حت�صني التالميذ� ،أهمية
امل�سطرة يف املناهج الدرا�سية �أن ت�ساهم يف ق�صوى يف �إطار الربنامج اال�ستعجايل الذي
الرفع من درجة الوعي لدى املتعلمني ،وبالتايل �رشعت يف تفعيل براجمه منذ عام 2009م،
�إك�سابهم �سلوكات �إيجابية نحو ذواتهم حيث قامت باتخاذ عدة تدابري ملواجهة ظواهر
وجمتمعهم ؟ الغزو الثقايف ،وذلك بتن�سيق مع القطاعات،
واجلهات املعنية .فقامت الوزارة مبعاجلة العديد
جواب� :إن التن�شئة كما �أ�سلفنا ،هي الو�سيلة
من الظواهر ،خا�صة ما ارتبط منها بالعوملة
الأ�سا�س التي تكون �شخ�صية الطفل� ،إذ عن
املتوح�شة ،من خالل عدة مقاربات:
طريقها ي�ستطيع الطفل �أن يتمثل قيم جمتمعه،
واحلفاظ عليها .و�إذا كانت الأ�رسة ،واملدر�سة �أوال :املقاربة الرتبوية ،وذلك باعتبار �أن
امل�ؤ�س�ستان الرتبويتان الأوليتان يف تطبيع الطفل، وزارة الرتبية الوطنية من مهامها ،و�أدوارها
وتن�شئته ،ف�إن دور املربني فيها� ،آباء كانوا �أو الأ�سا�سية ،الرتبية والتكوين؛ فقد �ضمنت
معلمني ،دور �أ�سا�سي وخطري يف اكت�ساب الطفل جمموعة من القيم ،وال�سلوكات ،واملهارات التي
قيم ًا �أ�سا�سية ،و�أ�صيلة ،جتعله يت�شبث بدينه تعمل على تربية النا�شئة تربية �سليمة ،وتوعيتها
58
�إن تعاون الأ�رسة ،واملدر�سة ،والتن�سيق احلنيف ،وبلغته الوطنية ،ومبا�ضيه التاريخي،
بينهما ،وبني و�سائل الإعالم ،هو �أمر يف الذي ي�ستمد منه العربة ،والفائدة ،للحفاظ على
غاية الأهمية ،حتى ت�شكل هذه الو�سائط هويته ،وخ�صو�صيته الثقافية.
الرتبوية ،والتعليمية �إطاراً موحداً ي�ستقي منه
فالرتبية اليوم عملية واعية تتخذها
الطفل �سلوك ًا يغر�س يف نف�سيته تقدير الرتاث،
خمتلف الأمم وال�شعوب لبناء كيانها وحتديد
وحمبته ،واحلفاظ عليه.
هويتها .و�شعوبنا الإ�سالمية والعربية مطالبة
�إن القدوة ،واملمار�سات الفعلية وال�سليمة اليوم ــ وهي يف �إطار حتدي ،ومواجهة خمتلف
من خالل اخلربات اليومية داخل الأ�رسة� ،أو التيارات التي ت�سعى �إىل امل�س ب�شخ�صيتها ــ
يف املدر�سة ،وامل�سجد ،ويف احلياة املجتمعية �أن تعمل على ربط العمل الرتبوي بامل�ستوى
العامة ،والتي تعتمد ا�ستيحاء الرثاء كف�ضاء املن�شود من العناية بثقافتنا ،وتراثنا احل�ضاري،
حي ومتطور ،لهي �أف�ضل معلم يعلم الطفل وتقدميه ب�شكل ممنهج ،ومالئم ،حتى ي�ستفيد
�أ�سلوب الت�شبث برتاثه ،وتاريخه الغني ،والزاخر، منه الطفل ،ويعمق خربته ،وينمي ج�سمه،
ويب�رصه ب�إن�سانيته وكينونته املمتدة يف التاريخ. ووعيه باالنتماء الديني ،والقومي ،والوطني.
60
قـراءات
قراءة يف كتاب
«�أية مدر�سة لأية مواطنة ؟»
مل�ؤلفه :جورج رو�ش
عز الدين اخلطابي
�أ�ستاذ باحث
جامعة موالي �إ�سماعيل ،مكنا�س
تقـديـم
يت�ضمن هذا الكتاب ،مل�ؤلفه جورج رو�ش( ،)1ثالثة �أق�سام .وي�شتمل الق�سم الأول على نبذة
تاريخية عن ظهور املدر�سة وتطورها ،من الع�رص الإغريقي �إىل فرتة اجلمهورية الثالثة بفرن�سا� .أما
الق�سم الثاين ،فيثري بع�ض الأ�سئلة املتعلقة باملدر�سة حاليا ،تهم وظيفة املدر�سة يف �ضوء التطورات
االجتماعية ،واالقت�صادية ،وال�سيا�سية ،والتكنولوجية التي عرفها الغرب ،مع الإ�شارة �إىل و�ضع
املدر�سة يف ظل النظام الدميوقراطي ،و�أهمية الرتبية على املواطنة يف هذا الإطار .وت�شكل هذه
النقطة الأخرية مدخال للق�سم الثالث (وهو الأكرث �أهمية يف نظرنا) ،حيث عر�ض امل�ؤلف مل�س�ألة القيم،
وعلمـانية املدر�سـة ،واحلق يف املعرفـة ،والرتبيـة على املواطنـة ،ومعنى �أن يكـون الإن�سـان مواطنـا
يف هذا القرن.
مما جاء يف مقدمة الكتاب� ،أن الآباء ينتظرون من امل�ؤ�س�سة الرتبوية تربية �أبنائهم ،و�ضمان
تكوين نظري ،ومهني ،متالئم مع الرتبية على املواطنة( .)2وبتوقفنا عند خطاب البيداغوجيني،
�سنالحظ ت�أكيدهم على ارتباط احلياة املدر�سية بال�سلوكات املواطنة .ذلك �أن دور املدر�سة ال
ينح�رص يف املجال الديداكتيكي ،واملعريف ،بل يجب عليه تر�سيخ االنتماء �إىل الوطن� ،أوال ،و�إىل
العامل ،ثانيا ،يف �إطار ما يعرف باملواطنة الكونية ،لأن مبادئ احلرية ،وحقوق الإن�سان ،والتعاون،
والت�سامح ...الخ ،تت�سم ببعد كوين ولي�س حمليا.
1- Georges Roche, Quelle école pour quelle citoyenneté ? ESF éditeur , Paris, 2ème
édition, 2000 ,128 pages.
2- Ibidem , p. 8. z
62
الفرن�سية ،والنظام اجلمهوري الدميوقراطي .و�سيتوقف عند هذه املرحلة الأخرية التي ا�ستجابت فيها
املدر�سة لر�سالة رجال ال�سيا�سة ،مبعنى �أنها �ساهمت يف حترير الوعي من التع�صب الديني ،ومن
الأفكار الرجعية ،و�ساهمت يف بلورة �شعور املواطنة لدى الأفراد.
�صحيح �أن الإغريق هم الذين �صاغوا القانون املنظم للمدينة كتجمع للمواطنني ،مبعنى �أن
املواطن كان معنيا بال�ش�أن العام ملدينته ،وهو ما جتلى �أي�ضا لدى الرومان يف مفهوم ال�شيء العمومي.
لكن يجب انتظار ع�رص الأنوار ،وقيام الثورة الفرن�سية ،لكي يقرتن مفهوم املواطن مبفاهيم احلرية،
والعدالة ،وامل�ساواة ،وحقوق الإن�سان .ويف هذا الإطار� ،سيعترب التعليم املجاين والعمومي ،كما
�سي�ؤكد كوندور�سي� ،أبرز �سالح �ضد اال�ستعباد املتمثل يف اجلهل .فال ميكن للمواطن �أن يتعرف
على حقوقه ،وواجباته� ،إال من خالل م�ؤ�س�سات الرتبية ،والتعليم ،التي تهدف �إىل تنمية القدرات
الذهنية ،واجل�سمية لكل واحد ،وتهييئه للم�ساهمة يف تدبري ال�ش�أن العام.
-2رهانات املدر�سة
الحظ امل�ؤلف ب�أن النموذج اجلمهوري يرتكز على الإرادة امل�شرتكة لدى اجلميع يف احرتام
القانون يف �إطار دولة احلق ،على اعتبار �أن القانون �صيغ من طرف ممثلي ال�شعب الذين انتخبهم
�أغلب املواطنني بطريقة دميوقراطية( .)3لهذا ،ف�إن رهانات املدر�سة تتمثل يف تر�سيخ قيم الدميوقراطية،
وامل�شاركة الفعالة ،وامل�س�ؤولية .وال يتحقق ذلك �إال عرب حتفيز املتعلمني على تبني هذه القيم،
وتكوينهم ب�شكل جيد ،وتعويدهم على اقرتاح ،و�إجناز امل�شاريع ،بو�صفها �أداة للتوا�صل ،وللإدماج
ال�سو�سيو مهني ،وللت�شبع بروح املواطنة .لأن امل�رشوع لي�س جمرد برنامج �إجرائي� ،أو تنظيما
لعمليات حمددة ،بل هو �أ�سا�سا ق�صد رمزي يروم خدمة قيم ،وت�صورات اجتماعية ،و�سيا�سية،
و�إتيقية .فاملطلوب من املدر�سة حاليا ،هو االعرتاف بقدرات املتعلم ،وبروح االبتكار لديه .لهذا يتعني
�أن تكون حظوظ تلقي املعرفة ،واكت�ساب الكفايات ،وتعلم املهارات مت�ساوية لدى اجلميع.
�صحيح �أن امل�ؤ�س�سة املدر�سية لي�ست دميوقراطية يف جوهرها ،لأنها قائمة على الرتاتبية،
ولأن التعليمات ،والتوجيهات ت�أتيها من فوق ،ومع ذلك ،ميكنها �أن تكون م�ؤ�س�سة من �أجل
الدميوقراطية .وهنا تربز مهمة املدر�س ،الذي يجب عليه امل�ساهمة يف تنمية عقل نقدي لدى
املتعلم ،وحتفيزه على اتخاذ املبادرة ،وعلى امل�شاركة يف م�شاريع امل�ؤ�س�سة ،والتعبري بحرية عن �آرائه،
ومعتقداته .وبهذا املقت�ضى� ،ستكون عالقة املتعلم باملدر�س� ،أو املكون ،قائمة على االحرتام املتبادل،
والتفاعل الإيجابي ،و�سيكون املدر�س م�شاركا ،ولي�س جمرد م�سري .لكن عدم التدخل ال مينعه من
حماية ،و�ضمان مثل هذه العالقة .فال ميكن اعتبار املدر�سة م�ؤ�س�سة للرتبية احلديثة ،ما مل ت�ساهم
يف الرتبية على املواطنة ،ويجب على املدر�س �أن يعطي املثال ،من خالل �إن�صاته للآخرين ،ودفاعه
عن مبادئ الت�سامح وامل�س�ؤولية والواجب ،وكل ما يهدف خلدمة ال�صالح العام(.)4
1.3يت�ساءل امل�ؤلف« :هل �سيكون للرتبية معنى خارج �إطار العقالنية ؟» ،ليجيب على الفور
ب�أن العقالنية النقدية هي املرتكز الذي تقوم عليه مبادئ احلرية ،والعدالة ،واحلقوق االجتماعية.
وقد ا�ست�شهد بنتائج ا�ستمارة وزعتها رابطة حقوق الإن�سان (الفرن�سية) على جمموعة من تالميذ
الإعداديات ،والثانويات (ترتاوح �أعمارهم ما بني 14و � 21سنة) ،حيث طلبت منهم و�ضع ترتيب
لأخطر اجلرائم ،فكانت جرائم امل�س بكرامة الإن�سان وب�شخ�صه ،على ر�أ�س القائمة بالن�سبة لكل
امل�ستجوبني .وهذا يعني وجود وعي ب�أهمية العدالة كمبد�أ �أ�سا�سي يف احلياة ،ال ميكن للم�ؤ�س�سة
الرتبوية �أن تتجاهله(.)6
2.3ترتبط العلمانية بالدميوقراطية ،وبفكرة اجلمهورية ،ومببد�أ احلق .لكن املفهوم ظل مثريا
للجدل ،مع ذلك ،فهو ي�ستجيب ملطلب اجتماعي ال ميكن �أن تكون فيه الهيمنة لأية ديانة ،علما
ب�أن املدر�سة ت�ستقبل متعلمني حاملني لثقافات ،ومعتقدات ،وقيم متباينة .ولهذا ،يتعني �أن يكون
املدر�س منوذجا للو�سيط العلماين ،مبعنى �أال يفر�ض �أي معتقد ،و�أن يتوجه خطابه �إىل اجلميع دون
�أن ي�صدم احل�سا�سية االعتقادية لهذه الفئة� ،أو تلك .فهو ال يلقي املواعظ ،بل يحث على التفكري
وامل�ساءلة .فالعلمانية بهذا املعنى هي دفاع عن العقالنية �ضد املواقف الدوغمائية� ،إنها دعوة �إىل
حرية التفكري ،والقول ،واالعتقاد� ،أو لنقل �إنها عبارة عن ت�سامح م�ؤ�س�س (.)7
3.3هناك م�س�ألة هامة مرتبطة مبعنى املدر�سة ،وتتعلق بالرهان املعريف املتمثل يف �ضبط
املعارف ،ومو�ضعتها داخل املادة املدر�سة ،وفهم عالقاتها مبعارف �أخرى وا�ستيعابها ،وتدبريها.
فاملدر�سة تقدم املعارف بكل ت�أكيد ،لكنها مطالبة �أي�ضا بتوفري املناهج ،والطرق التي ت�سمح بتدبري
هذه املعارف ،ما دامت هي الف�ضاء النموذجي لإقرار احلق يف املعرفة .وبهذا ال�صدد ،ف�إن عمل
املدر�س ال يقت�رص على تقدمي املعارف الأكادميية ،بل هو مطالب بتحفيز فكر املتعلم على امل�ساءلة،
64
والتحليل ،والنقد .ف�إثارة ال�شك داخل تفكري التالميذ مثال ،ت�سمح لهم مبقارنة وجهات نظرهم
املختلفة فيما بينها ،واالقتناع ب�أن الفهم ينبني داخل النقا�ش ،وال�رصاع بني الأفكار .وت�شكل هذه
املقت�ضيات جميعها ،طرقا ت�سمح ب�إقناع املتعلم ب�أنه لن يطور وجهة نظره ويغنيها� ،إال �إذا ما جعلها
تواجه فكر الغري.
4.3وتظل الرتبية على املواطنة هي املطلب الأ�سا�سي ملدر�سة هذا الع�رص .فاملدر�سة تعترب
ف�ضاء الكلمة احلرة ،وهي حتفز على التفكري النقدي ،وعلى املحاججة العقالنية ،وعلى حتمل
امل�س�ؤولية ،واحرتام الآخر ،وهذه جميعها جتليات لل�سلوك املدين .وتتجلى �أهمية املدر�سة هنا ،يف
تر�سيخ هذه القيم من منطلق �أن اجلحيم لي�س هو الآخر ،كما يعتقد البع�ض ،بل �إن تقدير الذات
يبد�أ بتقدير الآخر وتقبل اختالفه .و�إذن ،ف�إن الرتبية على املواطنة تهدف يف املقام الأول �إىل تنوير
العقول ،وتغذيتها بقيم احلرية ،والت�سامح ،واحلق ،والواجب ،وامل�ساواة ،والعدالة ،والإن�صاف .فقد
ت�صور الإغريق تدبري �سيا�سة املدينة وفق القانون ،ولي�س انطالقا من �أهواء الأ�شخا�ص ،و�صاغ
الرومان مفهوم املواطنة وفق مبد�أ احلق والقانون .لذلك ،ف�إن القدماء ت�صوروا جماعة املواطنني من
خالل فكرة الدميوقراطية املبا�رشة .واليوم ،ف�إن املواطنة ترتبط بامل�شاركة يف تدبري ال�ش�أن العمومي،
واالنخراط يف �سلطة م�ضادة �إذا ما كانت ال�سلطة القائمة ال تخدم م�صالح املواطنني (.)8
يجب �أال تنح�رص الرتبية على املواطنة يف النطاق املحلي �أو الوطني ،بل يتعني تبني قيم
كونية ،وااللتزام بق�ضايا الإن�سانية جمعاء ،يف �إطار ما يعرف باملواطنة الكونية .فكيف ميكن
للمدر�سة �أن ت�ساهم يف تر�سيخ هذه القيم ؟ يتم ذلك ،ح�سب امل�ؤلف ،عرب نهج م�سلكني وهما:
الدفاع عن البيئة ،والدفاع عن حقوق الإن�سان .فالرتبية الإيكولوجية �رضورية للتوعية باملخاطر
املحدقة بكوكبنا� ،أي مباليري ال�سكان .وال يتعلق الأمر هنا بنقد التقدم العلمي والتكنولوجي ،بل
بالدعوة �إىل ا�ستغالل هذا التقدم ل�صيانة وحماية البيئة الطبيعية التي ي�شكل الإن�سان جزءا منها (.)9
بخ�صو�ص الرتبية على حقوق الإن�سان ،ف�إن الأمر يهم خمتلف الفاعلني ،يف ال�سيا�سة
واالقت�صاد ،والرتبية ،وداخل جمعيات املجتمع املدين ،لأنه يتعلق بق�ضايا العدالة ،والإن�صاف،
واحلرية ،والكرامة ،وباقي حقوق الإن�سان ،الطبيعية ،واملدنية .وال ميكن �أن يتحقق تقدم على
م�ستوى التوعية بهذه احلقوق� ،إال �إذا ما لعب املدر�س دورا �أ�سا�سيا يف �إقناع التالميذ ب�رضورة الدفاع
عن حقوق قطاعية (مثل حقوق الأطفال والن�ساء والأقليات وذوي االحتياجات اخلا�صة� ...إلخ).
ورغـم االختـالف القـائم بني الثقـافات ،واللغـات ،واملعتقـدات ،وتـاريخ املجتمعـات ،فـ�إن املـدر�س
مطالب بالت�أكيد على كونية هذه احلقوق ،وعلى �أهمية احلوار بني الثقافات ،وال�شعوب بهذا
اخل�صو�ص(.)10
اخلال�صة ،هي �أن الرتبية على املواطنة تتم باملدر�سة بو�صفها ف�ضاء للتفكري احلر املنفتح على
لقد الحظ امل�ؤلف يف الأخري ،ب�أنه مل يتطرق لظاهرة العنف ،رغم كونها م�شكلة راهنة
وحا�رضة بقوة� ،سواء حتدثنا عن العنف باملدر�سة� ،أو عنف املجتمع الذي ت�ساهم و�سائل الإعالم،
املرئية باخل�صو�ص ،يف ت�ضخيمه .لكن هذا ال مينع من الإقرار ب�أن هذه الظاهرة التي ال تنتمي �إىل
املدر�سة ،ت�ستدعي ت�ضافر جمهودات كل فعاليات املجتمع ملواجهتها ،خ�صو�صا و�أن �ضحاياها هم
�أي�ضا من التالميذ واملدر�سني(.)11
كيفما كان احلال ،ف�إن املتعلم مطالب ب�أن يتبنى مبادئ احرتام احلياة والعمل الت�شاركي
واالنفتاح على الآخر وحتمل امل�س�ؤولية .ويجب �أن يكون مواطن هذا الع�رص كونيا ،مبعنى �أن يدافع
عن القيم الإن�سانية يف �شموليتها ،كما يجب �أن تتوفر املدر�سة على العدة الالزمة لرت�سيخ هذه
القيم ،ون�رشها.
بقيت الإ�شارة �إىل �أن امل�ؤلف كان على وعي بالطابع اخل�صو�صي لبع�ض املفاهيم ،مثل
العلمانية ،واجلمهورية ،والثقافة الغربية .لذلك حاول تعريفها عرب ربطها بال�سياق الغربي (والفرن�سي
بالتحديد) مع الت�أكيد على �رضورة فتح قنوات االت�صال ،والتحاور مع الثقافات الأخرى.
66
جتارب متميزة
جتربــة
منهاج الرتبية على حقوق الإن�سان :
البدايات والت�سا�ؤالت
ذة .خديجة �شاكر
باحثة يف الرتبية
الفرتة التاريخية التي كان مير منها املغرب، يف �أواخر �سنة ،1995بد�أ ،يف املغرب،
وبحكم طبيعة االختيارات الرتبوية املعتمدة، نقا�ش تربوي ،وبيداغوجي بني خرباء مغاربة من
والتي بد�أ الإعالن ال�رصيح عنها قبل فرتة وجيزة �أ�ساتذة جامعيني ،ومفت�شني للتعليم ،متحور
خا�صة بالن�سبة للتعليم الثانوي ( ،1994هيكلة حول ال�س�ؤال :كيف ميكن بيداغوجي ًا تعزيز� ،أو
جديدة ،مناهج وبرامج جديدة.)... �إدماج مفاهيم ثقافة حقوق الإن�سان يف املناهج
�أما منا�سبة بدء هذا النقا�ش ،وطرح هذه الدرا�سية القائمة �آنذاك يف جميع الأ�سالك
الأ�سئلة ،فقد كانت مرتبطة مب�رشوع الربنامج التعليمية ؟ ومل يكن هذا ال�س�ؤال رغم طابعه
الوطني للرتبية على حقوق الإن�سان ،الذي و�ضع التقني ،قادرا على �إخفاء عمق الأبعاد الرتبوية،
يف �إطار اتفاقية التعاون ،وال�رشاكة التي �أبرمت واالجتماعية ،والثقافية التي حتيط به ،كما �أنه
بني وزارة الرتبية الوطنية ،ووزارة حقوق الإن�سان مل ي�ستطع جتاوز ال�س�ؤال الأ�صل� ،س�ؤال الرتبية:
يف دجنرب ،1994والتي دخلت �ضمن �إجراءات كيف ميكن الرتبي ُة على حقوق الإن�سان يف
�إعمال الع�رشية الأممية اخلا�صة بالرتبية على امل�ؤ�س�سة املدر�سية املغربية ؟ هل ب�إحداث مادة
حقوق الإن�سان. خا�صة ت�ضاف �إىل قائمة املواد املد َّر�سة ؟ �أم
با�ستح�ضار نوعية هذه الأ�سئلة ،وخمتلف ب�إدماج الرتبية على حقوق الإن�سان يف املنظومة
�أبعادها ،وطبيعة مو�ضوعها ،وكذا الإطار الذي التعليمية القائمة عرب املناهج الدرا�سية ؟ ما الذي
انبثقت منه� ،ستتناول هذه املداخلة جتربة منهاج نراهن عليه :هل هو تعليم وتدري�س حقوق
الرتبية على حقوق الإن�سان كجواب بيداغوجي الإن�سان بكل ما يفرت�ضه من تباعد وجترد ؟
على بع�ض من تلك الأ�سئلة ،جواب ت�أ�س�س و ُبنـي، �أم تربية وفق حقوق الإن�سان ،بجميع دالالت
وعمم فكانت تلك بداياته ،وبتلك ثم ُجربُ ، الرتبية ،وبكل حموالت ثقافة حقوق الإن�سان،
البدايات ،وعربها رافقته ت�سا�ؤالت ،وا�ستفهامات وما يفرت�ضانه مع ًا من وعي ،ومتثل ،وتن�شئة،
لإجالئه� ،أو لنقده� ،أو لتجاوزه. وانخراط ،ومواقف ؟
�سيكون املرجع املبا�رش لهذه املقالة ،هو �أكيد �أن هذه الأ�سئلة ،وكل ما ميكن �أن
�أعمال اللجنة امل�شرتكة املكلفة بتنفيذ الربنامج يتفرع عنها تربويا ،وبيداغوجيا ،وديداكتيكيا
الوطني للرتبية على حقوق الإن�سان ،و�أعمال �أي�ضا ،كانت �أ�سئلة مقلقة ال تفرت�ض �إجابات،
اللجان التقنية املتفرعة عنها ،وخا�صة منها بل حتتم اختيارات مل تكن �سهلة �آنذاك ،بحكم
68
تن�ضح باحلياة ،والتفاعل ،ومتتد يف الزمان. جلنة بناء املنهاج و�إعداد اجلذاذات� ،أما املرجع
وقد كان احل�سم نابعا من العالقة التي بدت �شبه غري املبا�رش� ،إذا �صح التعبري ،فهو معاي�شة
م�ستحيلة بني فعل التدري�س ،والتعليم ،وبني هذه التجربة ،ومواكبة خمتلف مراحلها عن
ثقافة حقوق الإن�سان� ،إذ كيف ميكن �إخ�ضاع قرب ،والإح�سا�س القوي بكل االرجتاجات
ثقافة حية متجددة حل�صار املادة الدرا�سية، التي �أحدثتها على م�ستوى القناعات الرتبوية،
ولتقاليد التلقني ،واالمتحان ،والتنقيط العددي، والبيداغوجية التي كانت مرت�سبة يف �صفوف
واملعدالت� ...إلخ ،وكلها يف �أعني النا�شئة من الأطر الرتبوية .ورمبا �سيكون لهذا املرجع بحكم
�أ�سباب الإكراه ،و�أ�ساليب الزجر ؟ لقد كان من طبيعته� ،أثر ما على نوعية املقاربة التي �سيتم
ال�رضوري جتاوز كل ما ميكن �أن ي�شكل تعرثات، اعتمادها عند عر�ض هذه التجربة ،وعلى هذا
�أو م�شاكل �أمام تقبل التالميذ ،والتلميذات الأثر �أن يكون ظاهرا جليا وقويا ،لأن كل حديث
ملفاهيم ثقافة حقوق الإن�سان ،با�ستح�ضار ما عن جتربة ،وخا�صة التجربة الرتبوية يف جمال
تتميز به من خ�صو�صيات معرفية ،واجتماعية، حقوق الإن�سان ،ال ميكن �أن يتخل�ص من نفحة
ونف�سية ،وتربوية .لذلك ،كان املنهاج خا�صا ال ذاتية ،رغم كل الت�أكيد املبدئي على املو�ضوعية
بتدري�س حقوق الإن�سان ،وتعليمها ،بل خا�صا ال�رضورية يف امليدان البيداغوجي ،حتى تت�ضح يف
بالرتبية عليها ،لأن «الرتبية تت�ضمن التدري�س التجربة كل املنطلقات ،واملرجعيات ،والأهداف،
والتعليم ،وتتجاوزهما لت�شمل جوانب �أخرى، وامل�ضامني ،والأ�ساليب ،والو�سائل.
كاجلانب ال�سيكولوجي من تنمية القدرات �سنتناول �إذن املحاور التالية:
العقلية ،واال�ستعدادات النف�سية ،واالجتماعية،
• بناء منهاج الرتبية على حقوق
وكذلك التن�شئة االجتماعية التي تهدف �إدماج
الإن�سان :ما بني الو�ضوح ،وااللتبا�س؛
الفرد يف املجتمع ،وتكيفه مع مقت�ضيات احلياة
االجتماعية عن طريق ا�ستدماجه ملقومات • �إعداد اجلذاذات التطبيقية :ما بني
املجتمع الثقافية من قواعد لل�سلوك ،وقيم، الي�رس ،والتع�سف؛
ومعايري ،ودالالت رمزية� ...إلخ ،فالرتبية عملية • مناذج للمعاينة والفهم :من منطق
موجهة �إىل الإن�سان يف كليته ،تتعامل مع كل النظرية �إىل حكم الواقع.
مكونات ال�شخ�صية البيولوجية ،والوجدانية،
والعقلية ،واالجتماعية يف تكاملها� ...إلخ » (من -1املحور الأول
وثائق اللجنة امل�شرتكة .)1995 بناء منهاج الرتبية على حقوق الإن�سان :ما
لقد كان الو�ضوح يف املنطلق ،ومن هذا بني الو�ضوح وااللتبا�س
الو�ضوح كان احل�سم بني اختيارين: بد�أ التفكري يف بناء منهاج خا�ص
االختيار ال�سهل ،وهو اعتبار جمال حقوق بالرتبية على حقوق الإن�سان ،بعد الف�صل بني
الإن�سان جماال معرفيا ك�سائر جماالت املعرفة فعل التدري�س ،وفعل الرتبية ،بني فعل التعليم،
الإن�سانية الغنية واخل�صبة ،ميكن حتويله �إىل وفعل التن�شئة� ،أي بني �أفعال �أ�صبحت تعترب
مادة درا�سية تن�ضاف �إىل املواد الأخرى ،تقف ميكانيكية ،و�آلية ،وحم�صورة ،خا�صة مع انهمار
عند تلقني املعارف ،وعند التدريب على املهارات، �أفكار ومفاهيم الرتبية احلديثة ،وبني �أفعال
70
• ثاين حمطة ،كانت حتديد طبيعة، من مكونات �أنظمة القيم ال�شخ�صية يفر�ض
وخ�صائ�ص املنهاج املراد بنا�ؤه: ذاته كمرجعية قيمية ،ومفاهيمية تقر�أ من
«�إن هذا املنهاج ال ي�شبه باقي املناهج ،الأمر خاللها الأحداث التاريخية ،والظواهر اجلغرافية،
الذي ي�ستلزم التعرف على خ�صو�صياته وحتديد واالقت�صادية ،وكذا ق�ضايا البيئة ،والتغذية،
االلتبا�سات التي ينبغي تالفيها عند ال�رشوع يف والظواهر ال�سكانية (مادة االجتماعيات) ،وحتلل
�إجنازه ...كما �أن بناء منهاج �شمويل واحد ال وت�رشح من خاللها �أي�ضا الن�صو�ص ،وامل�ؤلفات
ينبغي �أن ي�ؤدي �إىل تغييب تام للخ�صو�صيات الأدبية (مادة اللغة العربية ،واللغة الفرن�سية)،
املرتبطة باملواد والأ�سالك التعليمية وباملتعلمني، وحتلل وتخ�ضع للت�أمل الأ�س�س الأخالقية،
و�إال ا�ستحالت عملية �إدماج املفاهيم واملبادىء والفل�سفية التي تقوم عليها (مادة الفل�سفة،
�ضمن املواد امل�سماة حاملة ،و�أ�صبحت جمرد والفكر الإ�سالمي) ..و�إن ح�ضور حقوق الإن�سان
عملية �إقحام ال تخدم الأهداف املتوخاة( »...من بهذا ال�شكل يعطي جلل املعارف املدر�سية بعدا
وثائق اللجنة التقنية .)1997 �إن�سانيا ،وي�ضفي عليها معنى ي�ساعد على تفاعل
التالميذ والتلميذات معها وجدانيا ،وبالتايل على
لقد كان حتديد الطبيعة واخل�صائ�ص
االهتمام بها وجعلها �أكرث فاعلية وت�أثري( »...من
م�شوبا باحلذر وبجملة من االحتياطات ،رغم
وثائق اللجنة امل�شرتكة .)1995
و�ضوح املنطلق وو�ضوح االختيار .فهل كانت
الهواج�س البيداغوجية �أكرث ح�ضورا من البحث لقد كانت غايات الرتبية على حقوق
عن تدعيم قوي للأبعاد الإن�سانية والقيمية الإن�سان بكل مثاليتها ،ومفاهيم ثقافة حقوق
للمواد الدرا�سية املحددة كمواد حاملة لثقافة الإن�سان بكل تاريخها النظري ،والأخالقي،
حقوق الإن�سان ؟ والفل�سفي ،والقانوين ،واملدين ،حا�رضة عند
ال بد من الإ�شارة �إىل �أن هذه الفرتة التفكري يف بناء منهاج الرتبية على حقوق
التاريخية عرفت على م�ستوى االجتهادات الإن�سان� ،إال �أنها كانت تلتب�س ،رغم و�ضوحها،
الرتبوية والبيداغوجية يف التعليم املدر�سي املغربي، عند طغيان التخ�ص�ص املعريف ،واالختيار
تواجدا قويا ملفاهيم كانت تعترب جديدة وجمددة البيداغوجي للمادة الدرا�سية.
يف �أفق التحرر من الأ�ساليب العتيقة يف التعليم «�رضورة التعامل مع املواد احلاملة،
والتدري�س ورمبا لذلك كانت كا�سحة �أي�ضا ،من باعتبارها ف�ضاءات فكرية ،تتكامل فيما بينها،
هذه املفاهيم :مفهوم املنهاج ،مفهوم الأهداف، وذات �إمكانيات متنوعة ،ومتفاوتة من حيث
مفهوم املرامي ،مفهوم الغايات ،امل�ضامني ،مفهوم قابليتها لتلقي ،واحت�ضان املفاهيم املتعلقة
التقومي التكويني ،التقومي امل�ستمر ...وبعد ذلك بحقوق الإن�سان .كما ينبغي التعامل مع هذه
ويف خ�ضمه بد�أ يظهر ب�شكل خجول مفهوم املواد على �أنها تت�ضمن ،بدرجة قوية� ،أو �ضعيفة،
جديد �سي�صبح الآن مع مراجعة املناهج يف وب�صورة �ضمنية� ،أو �رصيحة ،حمولة معينة من
�إطار �إ�صالح نظام الرتبية والتكوين كما يحدده هذه املفاهيم ،مع احلر�ص على تاليف التجزيء
امليثاق الوطني� ،سي�صبح مفهوما مركزيا و�أ�سا�سيا والت�شويه الذي قد ي�صيب هذا املنهاج �إذا
وهو مفهوم الكفايات. اعتربت املواد كمنطلق لبنائه( »...من وثائق
�إىل جانب ذلك ،ال بد من الإ�شارة �أي�ضا اللجنة التقنية .)1997
72
�أو مرحلة من مراحل اكت�سابها ،وهو �سلوك العدد 2 / 1مار�س يونيو 1998اخلا�صة
قابل للمالحظة� ،إنه عالمة حمتملة حل�صول مبنهاج الرتبية على حقوق الإن�سان )
التفاعل بني تنمية القدرات ،وبني املعارف .ميثل • ثالث حمطة كانت هي احل�سم يف
امل�ؤ�رش بع�ض متظهرات الكفاية التي تكون قابلة حتديد املفاهيم الأ�سا�سية للمنهاج:
للمالحظة ،ويفرت�ض �أنها تدل على اكت�ساب
لقد كان بناء املنهاج مبنطلقاته ،ومرجعياته
الكفاية ،وامل�ؤ�رش موجه نحو عملية الأجر�أة
ومبقاربته املندجمة الدينامية املبتكرة ،معتمدا
والتطبيق ومي�رس لعملية التقومي.
على جمموعة من املفاهيم طبعت خ�صو�صيته،
التقومي :يفر�ض منطق الكفاية �أ�سلوبا ومتيزه ،وهي مفاهيم:
خا�صا يف التقومي ،نظرا ل�صعوبة تقومي املواقف،
«الكفاية ،كا�ستعداد يكت�سبه املتعلم(ة) �أو
من جهة ،و�صعوبة التحقق من ت�أثريها الفعال يف
ينمى لديه جلعله قادرا على �أداء ن�شاط تعليمي،
ال�سلوك ،من جهة ثانية .ويتحدد هذا الأ�سلوب
�أو مهام معينة� ،إنها� ،أي الكفاية ،تتمظهر من
يف و�ضع التلميذ(ة) �أمام و�ضعيات اجتماعية
خالل ن�شاط ناجع يقوم به املتعلم(ة) �أمام
مماثلة للو�ضعيات التي يفرت�ض �أنه واجهها �أو و�ضعيات جديدة� ،أو �إ�شكالية.
�سيواجهها يف حياته ،ثم تقومي مدى ا�ستح�ضاره
القدرة ،وهي مفهوم افرتا�ضي غري قابل
للمرجعيات مو�ضوع التكوين عند معاجلته لتلك
للمالحظة ،يدل على تنظيم داخلي لدى الفرد
الو�ضعيات .على �أن تكون الأ�سئلة التي تعرب عن
ينمو لديه عرب عملية التكوين ،ومن خالل
املطلوب من التلميذ(ة)� ،أ�سئلة غري موجهة بل
التفاعل بني العمليات العقلية ،و�أ�ساليب ال�سلوك
مفتوحة ،كما ميكن �أن تكون الإجابات املقدمة
الذي تخلقه الأن�شطة التكوينية انطالقا من
من طرفه (ها) مو�ضوعا للحوار� ،أو للتقومي
توظيف معارف وم�ضامني معينة .وميكن للقدرة
الذاتي( ».مقتطف بت�رصف من وثيقة منهاج
�أن تكون مو�ضوعا للتعلم واالكت�ساب ،كما �أنها
الرتبية على حقوق الإن�سان ،ن�رشة االت�صال،
قابلة للتطور امل�ستمر ،فنموها عملية متوا�صلة
مار�س/يونيو )1998
تتم يف جدلية مع املعارف.
لقد كان اعتماد هذه املفاهيم ،وحتديدها امل�ضمون املعريف :امل�ضامني املعرفية لي�ست
الدقيق خطوة جبارة يف طريق نبذ الطرق هدفا يف حد ذاتها ،و�إمنا هي �أداة ت�ساعد على
التقليدية يف التدري�س ،ويف االبتعاد عن اكت�ساب الكفاية ،وللكفاية يف هذا امل�ستوى
الأ�ساليب امليكانيكية التي بد�أت تنت�رش يف �إطار وظيفة الفرز ،واالنتقاء داخل مادة درا�سية� ،أو
االرتكاز على بيداغوجيا الأهداف التي ارتبطت جمموعة من املواد .فلي�س املهم هو معرفة العهود
بت�صور تقني يجزىء ميكانيكيا العملية الرتبوية واملواثيق الدولية ،وحت�صيلها� ،أو معرفة تطور
ال�شاملة. ثقافة حقوق الإن�سان ،وال م�صادرها فقط؛ بل
• �أما املحطة الرابعة فكانت هي ال�صياغة املهم هو توظيف هذه املعارف ،واالقتناع بها،
ال�شاملة والدقيقة للمنهاج� :شاملة من حيث واعتمادها مرجعية لل�سلوك ،وللتفاعل داخل
املنطلقات واملرجعيات ،واملدخل البيداغوجي، الواقع االجتماعي.
ودقيقة من حيث تفريع الكفايات ،وتف�صيل امل�ؤ�رشات :امل�ؤ�رش نتيجة لتحليل كفاية،
74
املنظمة لعمل املدر�س(ة) حني يكون ب�صدد لقد كانت هذه املفاهيم �أ�سا�سية لو�ضع ما
در�س �أو فقرة من در�س تتالءم مع متطلبات �سمي يف ما بعد «ا�سرتاتيجية الإدماج» ،وقد
منهاج الرتبية على حقوق الإن�سان ،وتتطابق ت�شكلت من م�ستويني« :م�ستوى التخطيط:
كفايته وقدراته مع امل�ضمون املعريف للدر�س يف وتبتدىء بقراءة ا�ستك�شافية �شاملة للربنامج
هذه املادة الدرا�سية �أو تلك. املقرر للمادة ،مع ر�صد �أماكن ا�ستيعاب الكفايات
لقد كانت حمددات الإدماج والقدرات الواردة يف املنهاج اخلا�ص .ومن هذه
وا�سرتاتيجيته ،واملعايري ال�ضابطة للجذاذة القراءة يتم ا�ستخراج خطاطة عامة ت�ستعر�ض
التطبيقية للمنهاج ،مبثابة خارطة طريق �أفقيا عناوين الدرو�س احلاملة مل�ضامني حقوق
تعتمدها الأطر الرتبوية لل�سري يف هذا املجال الإن�سان ومفاهيمها ،وعموديا الكفايات
اجلديد واملعقد �أي�ضا. والقدرات املذكورة� ».أما امل�ستوى الثاين فهو
م�ستوى التنفيذ« :على م�ستوى تنفيذ الإدماج
كان الهدف املبا�رش لهذه الأداة ،هو �ضبط
ميكن �سلوك �سبيل املعاجلة املرافقة �أو �سبيل
مقايي�س اال�شتغال وتوحيد �أ�س�سها ومنطلقاتها
املعاجلة التتويجية .ويق�صد باملعاجلة املرافقة،
وهو هدف م�رشوع بالنظر �إىل جدة التجربة من
�أن تتداخل بنود من ثقافة حقوق الإن�سان مع
جهة و�إىل تنوع وتعدد املواد الدرا�سية امل�ستهدفة
بنود من در�س املادة احلاملة .وهكذا مثال
من جهة ثانية� ،إال �أن هذه الأداة التي مل تكن
تعالج الأبعاد املعرفية بكيفية مندجمة ،وكذلك
طيعة دائما بني �أيدي املخت�صني ،مل تكن �إال
ال�ش�أن بالن�سبة ملختلف الأبعاد الأخرى� .إال �أن
عالمة على تخوف ظل مالزما للتجربة ،وا�ستمر
من �سلبيات هذه اخلطة �أنها حتدث �رشوخا يف
حما�رصا للتطبيق ،وهو تخوف من التع�سف،
در�س املادة احلاملة على اعتبار �أنه منظومة
تع�سف على منهاج املادة الدرا�سية ،حني ال يتم
هادفة ومتناغمة يف كليتها ،وميكن �أن يطال
الو�صول �إىل �إدماج منهاج الرتبية على حقوق
نف�س الت�صدع اجلانب احلقوقي� .أما املعاجلة
الإن�سان بني مكونات هذا املنهاج الأ�صلي.
التتويجية �أو املوالية ،فيق�صد بها معاجلة البنود
لذلك ظلت مطالب الي�رس واملرونة والدينامية
احلقوقية جمتمعة فور االنتهاء من معاجلة
والتال�ؤم حا�رضة كمبادىء للإدماج نف�سه ،منها
بنود در�س املادة احلاملة جمتمعة .وهذه
ما ُي�ستقى من طبيعة منهاج املادة احلاملة
املعاجلة حتافظ على متا�سك عنا�رص الدر�س
ذاته ،ومنها ما ميتد من �أبعاد منهاج حقوق
وعلى متا�سك عنا�رص املنظومة احلقوقية يف
الإن�سان وخ�صو�صياته .لذلك كان التطبيق
نف�س الآن( »...نف�س املرجع ال�سابق).
اختبارا �أ�سا�سيا لهذه التجربة الفريدة ،وكان على
كل منهاج وكل برنامج معني من املواد املذكورة لقد كان و�ضع هذه اخلطة �رضوريا من
وح�سب الأ�سالك التعليمية من جهة ،وعلى �أجل تعبيد الطريق �أمام كل املخت�صني ح�سب
منهاج الرتبية على حقوق الإن�سان اخلا�ص املواد الدرا�سية املعنية من هيئة التفتي�ش وهيئة
واملندمج وال�شامل من جهة �أخرى؛ كان على التدري�س للقيام بعملية الإدماج با�ستح�ضار
كل منهم �أن ي�سري يف اجتاه الآخر ق�صد التفاعل املفاهيم ال�سابقة ووفق معايري م�ضبوطة
والتكيف ورمبا التطابق ،من �أجل اعتماد الي�رس و�ضعت ملعدي اجلذاذات التطبيقية ،وهي
واملرونة ،ال التع�سف والإقحام. بطاقات بيداغوجية جت�سد خمتلف اخلطوات
امل�ستوى امل�ستهدف من هذه الكفاية التال�ؤم مع املنهاج اخلا�ص ،وكذا على ا�ستمرار
�أما القدرات املطلوب تنميتها ح�سب الرتباطها بالثقافة والتاريخ الإن�سانيني عامة.
املنهاج يف هذا امل�ستوى ،فقد مت ا�ستهدافها اجلذاذة الأوىل :يف مادة التاريخ،
ب�شكل خمتلف ما بني اجلذاذتني ،ومت ذلك مب�ستوى ال�سابعة �أ�سا�سي (الأوىل �إعدادي حاليا)،
كالتايل: يف مو�ضوع« :العامل بني القرنني 13و 17م،
76
اجلذاذة الثانية فهو ن�ص فل�سفي لأر�سطو يف املنهاج �ضمن خانة امل�ضامني ،و�إن
م�أخوذ عن الكتاب املدر�سي املقرر. كانت ت�ستدعى يف �سياقات خمتلفة .وقد
ويف ما يخ�ص التقومي ،فقد اعتمدت ا�ستعملت الن�صو�ص التمثيلية يف كلتا
اجلذاذتان على الف�صل بني التقومي اجلزئي اجلذاذتني :ن�صان تاريخيان ،الأول مناف
�أو املرحلي ،والتقومي العام �أو الرتكيبي� .إال �أن حلقوق الإن�سان ،من كتاب «جتارة الرق
االختالف يبقى حا�رضا بينهما بخ�صو�ص والرقيق» مل�ؤلفه جان هرني كالرك ،والثاين
نوعية ا�ستثمار الر�صيد املعريف املكت�سب خالل و�صفي من كتاب «ت�رشيح جثة اال�ستعمار»
احل�صة الدرا�سية .ويظهر ذلك كالتايل: مل�ؤلفه غي دوبو�شري� .أما الن�ص امل�ستعمل يف
يف النزاع القائم يف تلك الو�ضعيات ،واقرتاح يحدد املنهاج معايري التقومي بالن�سبة لهذا
حلول لها». امل�ستوى يف ما يلي:
يت�ضح من هذه املقارنة ال�رسيعة والتطبيقية «ر�صد �أنواع الالم�ساواة من خالل
ملنهاج الرتبية على حقوق الإن�سان� ،أن االجتهاد و�ضعيات اجتماعية خمتلفة ،وحتديد دورها
78
الدار البي�ضاء :
املدر�سة واملدينة ،جتربة �إبداع متميزة
خديجة بن�شويخ
مديرة الأكادميية اجلهوية للرتبية والتكوين
بالدار البي�ضاء
الفكري والأخالقي لدى �شبابنا لكي يبني �أدوات مدينة الدار البي�ضاء ف�ضاء عي�ش غني
تتيح له التفكري يف وجوده الفردي ،واجلماعي، مب�ضمونه احل�رضي ،وتعقده االجتماعي ،ومداه
وما يرتبط به من �أ�سئلة �أ�سا�سية. الرمزي .هذا البعد احل�رضي البارز يف مدينة الدار
تعميقا لهذه العالقة بني املدر�سة ،واملدينة، البي�ضاء يعني ارتباط ف�ضائها مبرجعية احلياة
بني الف�ضاء الرتبوي ،والف�ضاء احل�رضي� ،أطلقت العامة ،مبا حتمله من قيم العي�ش امل�شرتك .وهو
الأكادميية اجلهوية للرتبية والتكوين خالل ال�سنة بعد تربوي �أي�ضا� ،إذ ي�ضع املواطن �أمام �رضورة
الدرا�سية 2011-2010تظاهرة «الدار البي�ضاء، بناء عالقات تقوم على االلتزام بقيم املواطنة� ،أي
مدينة للحياة والإبداع» ،وهي تظاهرة ثقافية بقيم االنتماء لف�ضاء يتحدد مبعايري امل�س�ؤولية
وتربوية �سعت من خاللها �إىل خلق منا�سبة اجلماعية ،والفردية.
لالحتفاء ،والتفكري ،والإبداع ،تظاهرة ت�ؤ�س�س
والأكادميية اجلهوية للرتبية والتكوين جلهة
ملمار�سة تربوية تتميز بالعمق واال�ستمرارية .وقد
الدار البي�ضاء الكربى ،بو�صفها فاعال �أ�سا�سيا
اكت�ست �أبعادا ثالثة �أردنا �أن جت�سد غنى العالقة
يف احلياة العمومية للمدينة ،تقع يف �صميم
بني املدينة وامل�ؤ�س�سة املدر�سية:
املمار�سة املواطنة التي على امل�ؤ�س�سات العمومية
• بعد تربوي؛ جتلى يف خلق �سياق النهو�ض بها .وهذه امل�س�ؤولية تزداد �أهمية بالنظر
تربوي م�ؤ�س�سي يجرب فيه التلميذ ،والتلميذة للموقع التي حتتله الأكادميية يف جمال الرتبية،
داللة القيم مبعناها الأخالقي ،واملواطني، وت�أهيل الأطفال وال�شباب لالنخراط يف حياة
واجلمايل ،وي�شتغالن على بنائها كمعايري تتحكم
مهنية ،واجتماعية على نحو فاعل ،وم�س�ؤول.
يف عالقة الفرد مع ذاته ،ومع الآخرين،
من ثمة ،كان ال بد من بناء عالقات تفاعل بني
• بعد ثقايف؛ يتج�سد يف اخلو�ض يف املدر�سة ،واملدينة ،تفاعل يج�سد انتماء ف�ضاء
�أ�شكال من التفكري ،والإبداع تتعلق مبعي�ش الرتبية والتعليم لف�ضاء �أ�شمل هو ف�ضاء العي�ش
الفرد ،واجلماعة ،وتتيح حرية ال�س�ؤال ،والتناول، امل�شرتك ،فالتعلم� ،إن مل يكن يف بعد �أ�سا�سي
• بعد ح�رضي؛ متثل يف ربط عالقة منه جتربة تفكري ،وت�أمل يف املعي�ش الفردي،
فاعلة بني التلميذ ،واملجال احل�رضي بدالالته واجلماعي ويف �سياقاته االجتماعية واملواطنية،
االجتماعية ،وامل�ؤ�س�سية ،والإن�سانية ،ذلك �أن ف�إنه يظل قا�رصا عن خلق ذلك اال�ستعداد
80
من هذه التجربة حلظة �أوىل تكون اللحظات �إن الأعمال التي �أجنزها التالميذ ،والتلميذات،
الآتية حلظات ن�ضج ،وتطوير نحو بناء م�رشوع ي�ؤازرهم يف ذلك م�ؤطرون تربويون تبنوا روح
يكون جماال تعرب فيه قيم احلياة امل�شرتكة عن امل�رشوع ،وانخرطوا فيه ،هي عالمة �أوىل �سيكون
نف�سها. علينا يف الأكادميية �أن نحولها �إىل �سريورة
�شكرا لتالميذنا وتلميذاتنا لكونهم �أعادوا تر�سخها املدر�سة ،وتغني عمقها الرتبوي ،وتتبناها
ت�شكيل هذه الف�ضاءات عرب �أحالمهم ورغباتهم املدينة لت�ؤكد جوهرها املواطن .واملدينة كما ننظر
وانتظاراتهم� ،شكرا للأ�ساتذة والأ�ستاذات �إليها هي جمموع الفاعلني الذين ت�ستمد املدينة
الذين رافقوا هذه اللحظات الت�أملية و�ساعدوا من فعاليتهم وجودها وقيمتها ،م�س�ؤولون عن
يف منحها �شكال ودالالت ت�ستدعي �إن�صاتنا م�ؤ�س�سات املدينة ،فاعلون اقت�صاديون ،جمعويون
وانتباهنا. يعملون على تثمني ذاكرة املدينة ،وحا�رضها،
و�صنع م�ستقبلها ،فنانون تبنوا ف�ضاءات املدينة،
و�أبدعوا جماليتها� .سيكون علينا جميعا �أن جنعل
ما مييز عامل اليوم هو الت�أثري البالغ للعلم والتكنولوجيات على احلياة املعا�رصة ،وحجم
التغريات التي م�ست املجتمعات .ومع ذلك ،ف�إن الأ�ساليب املعتمدة يف الأنظمة الدميقراطية جتد
�صعوبة يف التال�ؤم مع هذه التغريات .فالعامل الذي نعي�ش فيه اليوم مطبوع بال�شمولية والتوا�صل
اللحظي ،وبن�رش املعرفة وبالتغريات ال�رسيعة .ومع ذلك ،مل جتد الدول الأوربية منوذجا �أح�سن من
منوذج الدولة الأمة ،كما مت حتديده يف معاهدات و�ستفايل عام ،1648التي �أر�ست فكرة التوازن
الدويل ،كما مل جتد �أح�سن من نظام للحكم غري منط احلكومة التمثيلية ،وهو منط ظهر ب�إجنلرتا،
ومت حت�سينه من طرف الآباء امل�ؤ�س�سني للواليات املتحدة الأمريكية عام .1876
لقد �أكد الفيل�سوف الأمريكي جون ديوي ،ع�شية بدء احلرب العاملية الثانية ،على �رضورة
�إعادة ت�أ�سي�س الدميقراطية .كما �سجل ،بعد ذلك� ،أن الإمكان الب�رشي ،يف ع�رص العلم وال�صناعة،
�سيكون هو من يعاين الإهمال ،ولي�س الأرا�ضي التي مل حترث بعد .ويف هذا ال�سياق يقول ديوي:
«�إن املوارد التي مل ت�ستعمل بعد �ستكون هي املوارد الب�رشية ولي�س املادية».
ويتبني من النقا�ش العمومي حول مكانة العلم� ،أن املفكرين والفال�سفة ،وهم يبحثون عن
تعريف جديد للدميقراطية احلقيقية ،ما زالوا يعيدون تعريف الأغورا (�ساحة احلوار) الأثينية .فالأمر
يوحي ،داخل هذا العامل ال�شمويل حيث التوا�صل عن بعد يف �أوج تطوره ،كما لو �أن �رشوط احلوار،
والت�ضامن ،والتناظر ،وامل�ساواة ،وهي �رشوط �رضورية للنقا�ش الدميقراطي احلقيقي ،ال ميكن �أن
تتحقق �إال يف دميقراطية القرب من النمط الأثيني .هذه النتيجة تبدو اليوم غري مقبولة ،بقدر ما
�أن العودة �إىل الأغورا الأثينية ال ميكن �أن تن�سجم مع عاملنا الراهن .غري �أن هذا النقا�ش الدائر حول
الدميقراطية ،يك�شف �إىل �أي حد غريت التطورات التكنولوجية ،مفهوم الدميقراطية ذاته ،ومن ثم
مفهوم املواطنة.
�أول نتيجة لتطور العلم والتكنولوجيات رمبا هي الت�أكيد على �رضورة الرتبية .فال ميكن فعال
تكوين مواطنني يف جمتمع حديث �إذا مل ن�صل �إىل م�ستوى كاف من الرتبية� .إن فهم العامل الذي
نحيا داخله ال ميكن �أبدا �أن يتم بوا�سطة تعلم يعتمد الرتاكم لوحده ،وال على تقليد من �سبقونا
-1ت�شكل هذه املقالة ترجمة وتركيبا لأبرز عنا�رص املحا�رضة التي �ألقاها الأ�ستاذ برتراند كوملب ،Bertrand collombرئي�س معهد
الدرا�سات العليا من �أجل العلم والتكنولوجيا ،بتاريخ � 26أكتوبر ،2010وذلك مبقر وزارة التعليم العايل والبحث بفرن�سا.
84
فقط .هذا الإقرار بديهي متاما بحيث يبدو من غري ال�رضوري الوقوف عنده .ومع ذلك ،ف�إن �إجبارية
الرتبية يف عاملنا الراهن مل تدرك بكيفية بديهية .فهناك الكثري من البلدان التي ال تعطي للرتبية
الأولوية التي ت�ستحقها .فبع�ض البلدان الأ�سيوية مثل اليابان ،وكوريا ،وال�صني� ،إمنا �أقامت جناحها
على جهود ،وقرو�ض �ضخمة ،ومتفوقة .لكن بلدانا �أخرى ،تعترب بلدانا نامية مع ذلك ،مثل الربازيل،
والهند� ،أو �أحيانا بلدانا غنية ،مثل دول اخلليج العربي املنتجة للبرتول ،هذه البلدان لديها �أنظمة
تربوية متنافرة متاما ،و�أبعد ما تكون عن حتقيق �أهداف الرتبية جلميع النا�س .وحتى يف الواليات
املتحدة ،التي تتوفر على نظام جد متميز للتعليم العايل ،فما زال املرء ي�صطدم بالفكرة التي تقول
�إن التعلمات الأ�سا�سية ،وهي القراءة ،والكتابة ،واحل�ساب ،كافية للو�صول �إىل النجاح ،وبالتايل،
ال داعي لتعلم �أ�شياء كثرية .ويف �إطار هذا التقليد الأمريكي ،جند الأن�شطة املقاوالتية ،واملبادرة
حتل حمل النق�ص احلا�صل يف املعارف� .أما يف فرن�سا ،ف�إن النظام التعليمي ،الذي كان يف و�ضعه
النخبوي جيدا ،يعاين اليوم من عدم القدرة على التال�ؤم مع تعليم جماهري ،ومع التباين املتنامي
بني مكونات املجتمع الفرن�سي .واملالحظ ب�صفة عامة �أن جميع البلدان امل�صنعة تقريبا ،تتجه نحو
املزيد من النفور �إزاء الدرا�سات العلمية.
�إن تطور تقنيات التوا�صل ،و�إن كان يحمل �إمكانيات هائلة لبلوغ املعارف ،ف�إنه ميكن �أن
يخلق الوهم ب�أن فهم الظواهر قد �أ�صبح عدمي الفائدة ،مادام �أنه مبجرد نقرة على الآلة ميكن
احل�صول على اجلواب لكل �س�ؤال يطرح .و�أكرث الأمور �إزعاجا ،هو �أن الأجهزة الرقمية تكاد حتدث
هوة كبرية بني من لديهم القدرة على الو�صول �إىل هذه املعرفة الآلية ويتحكمون يف هذه التقنيات
وبني الآخرين .و�أبرز مثال على ذلك هو النقا�ش الذي يدور حول املناخ� ،إذ يبدو من البديهي �أنه
ي�ستحيل مناق�شة التغريات املناخية �إذا مل نكن قادرين على تف�سري الظواهر الطبيعية� ،أو كنا ما نزال
ننظر �إىل الرعد على �أنه تعبري عن غ�ضب الآلهة .كما يظهر من النقا�ش اجلاري بالواليات املتحدة
حول نظرية التطور� ،أن الو�ضع �شبيه مبا يدور حول ق�ضايا املناخ .وال�س�ؤال املطروح اليوم هو كيف
جنعل �أبناءنا يفهمون التغيري الذي �أحدثه العلم والتكنولوجيا يف ت�صورنا للعامل ،بل �أكرث من ذلك،
وب�صفة خا�صة ،كيف نحبب �إليهم تعميق التعلم العلمي والتقني ؟
ال يفر�ض العلم فقط على املواطن القيام باجلهد الالزم لإدراك الإمكانيات التي يوفرها
وا�ستخال�ص النتائج ،بل يقدم للإن�سانية �إمكانيات مراقبة بيئتها ،ومراقبة النوع الب�رشي ذاته ،وذلك
يف �أح�سن الأحوال كما يف �أ�سوئها .وال ميكن للإن�سان االكتفاء بالعي�ش حمليا ،واالن�شغال فقط
مبا يراه ومبا يح�سه مبا�رشة� .إن عمله املحلي �ستكون له نتائج كونية مت�س التوازنات العامة لهذا
الكوكب ،وهي توازنات �أحيانا غري م�ستقرة� ،أو مهددة .وفوق ذلك� ،سيعطي العلم للإن�سان �إمكانية
خللق الكائن احلي� ،إمكانية ما تزال حلد اليوم جمهولة .و�أخريا ،ف�إن العلم �سيتيح للإن�سان الت�أثري
يف ن�ش�أته هو بالذات ويف تطور النوع الذي ينتمي �إليه .واحلالة هذه ،ف�إن العلم ،و�إن كان يقدم
اجلواب على �س�ؤايل ماذا وكيف ،ف�إنه ال يجيب على �س�ؤايل ملاذا و�إىل �أي حد.
و�إذا كنا نود تربية املواطن ،فذلك بطبيعة احلال لي�س لأجل �أن ي�صري �أداة يف خدمة قوة ال
ميلك زمامها ،و�إمنا لكي يتمكن من �أخذ القرار الفردي واجلماعي بخ�صو�ص كيفية ا�ستعمال هذا
و�إذا كانت �رشعية املواطن يف املناق�شة ،ويف اتخاذ القرار اجلماعي ب�ش�أن ا�ستعماالت العلم،
لي�ست مو�ضوع جدال ،ف�إنه لي�س من البديهي القول �إن للمواطن وحده ال�رشعية يف اتخاذ القرار يف
م�صري العلم ،و�أن من حقه �أن يقف حجر عرثة �أمام تقدم املعرفة العلمية .يعتقد بع�ض النا�س �أن العلم
واقعة اجتماعية مثل �سائر الوقائع تخ�ضع للت�أثريات ،واالختالفات الثقافية للمجتمعات .وبالتايل
مييل ه�ؤالء �إىل �إنكار القدرة على الو�صول �إىل حقيقة علمية م�ستقلة عن الت�أثريات الثقافية� ،أو عن
رهانات ال�سلطة القائمة يف تلك اللحظة.
من امل�ؤكد �أن تفكري العلماء لي�س دائما م�ستقال عن الأفكار الفل�سفية ،بل والدينية لع�رصهم.
ذلك �أن هذه الأفكار ت�ستطيع توجيه العلماء نحو جماالت معينة للبحث فيها ،كما ميكنها �أن
توجه طريقتهم يف و�صف الظواهر .ولإدراك ذلك يكفي قراءة ن�صو�ص علمية من حقب خمتلفة.
ومع ذلك ف�إن املعرفة العلمية ذاتها ،وبف�ضل املواجهة التي تفر�ضها بني فكرة ،وواقع ميكن مالحظته،
ت�ستطيع مبدئيا التغلب على هذه الن�سبية .فاملعرفة العلمية تخلق واقعا مو�ضوعيا يخ�ضع له
اجلميع ،مهما اختلفت الثقافات ،واملعتقدات .ولهذا ال�سبب كان العلم دائما منا�سبة للتقارب بني
�أنا�س لهم �آفاق ،و�أراء خمتلفة.
ت�ستطيع اجلماعة العلمية املتخ�ص�صة يف جمال معني �أن تتعاىل على احلدود الوطنية� ،أو
اخل�صومات .وهذا �أمر �صحيح دائما كما ت�شهد على ذلك التبادالت التي متت بني العلماء الإغريق،
والعرب ،والأوربيني .وقد كان هذا �صحيحا �أي�ضا �أثناء احلرب الباردة ،حيث ا�ستطاع العلماء ،عرب
�ستار حديدي� ،أن يتحاوروا فيما بينهم ،ما مل تتدخل ال�سلطة ال�سيا�سية لتمنع ذلك .وهذا �صحيح
�أكرث الآن� ،إذ ال ينبغي �أن نن�سى �أن الأنرتنيت قد تطورت �أوال ا�ستجابة حلاجيات اجلامعات ،ولي�س
لأجل املقاوالت� ،أو اجلمهور العري�ض.
يقول جون ديوي �إن املعرفة بالأ�شياء كما هي ،تعترب القاعدة الوحيدة ،وال�صلبة للتوا�صل،
والتقا�سم .وكل توا�صل �آخر� ،إمنا يقوم بربط ما يقرتحه بع�ض الأ�شخا�ص ب�آراء لأ�شخا�ص �آخرين .ومن
املهم الإقرار �أن املعرفة العلمية ،حتى تلك التي بنيت على �أ�سا�س �صلب� ،إمنا تعترب على الدوام معرفة
م�ؤقتة .ذلك �أن نظرية قادرة على الإحاطة بالواقع عند م�ستوى معني ،وداخل �إطار حمدد ،مثل
هذه النظرية ميكن دوما الت�شكيك فيها الحقا .وميكن �أن ي�ستنتج البع�ض من ذلك �أن النظرية كانت
خاطئة ،وبالتايل ،ال توجد حقيقة علمية .لكن مع ذلك هل ميكننا �أن نقول �إن نيوتن كان خمطئا يف
كل �شيء ،لأن �إن�شتاين �أدخل فيما بعد نظرية الن�سبية ؟ �إن القوانني التي تتحكم يف �سقوط التفاحة ما
تزال �صاحلة لدى من ت�سقط على ر�أ�سه ،رغم �أن الأمر ي�صبح �أكرث تعقيدا يف �إطار مغاير.
86
تك�شف هذه املناق�شات �أننا ال ن�ستطيع �إدراك طبيعة احلقيقة العلمية �إذا ركزنا فقط على
النتائج .ففكرة الو�صول �إىل املعرفة العلمية بوا�سطة «الأنرتنيت» ،حيث تكفي نقرة للح�صول على
النتيجة ،فكرة غري جمدية ،لأننا ال ن�ستطيع �إدراك طبيعة احلقيقة العلمية بدون �أن نفهم الطريقة
املتبعة .فال ميكن تثمني �أهمية وقيمة العلم دون �أن نقطع معه جزء من الطريق الذي قطعه .ويف
هذا الإطار� ،سيكون من املهم تعليم تاريخ العلوم ،ولي�س فقط تعليم الو�ضع الذي و�صل �إليه .ومن
املحتمل �أن ي�شكل هذا تقدما عظيما يجب حتقيقه يف �أنظمتنا الرتبوية.
لقد �أدى �إنكار احلقيقة العلمية ،والت�أكيد على طابعها الن�سبي بالبع�ض �إىل اعتبار �أن
�سريورات جمتمع دميقراطي وحدها ت�سمح ب�إقامة حقيقة اللحظة .وهذا يعني ا�ستبدال ال�سريورة
العلمية ب�سريورة اجتماعية دميقراطية .ويف هذا �شيء من اللب�س اخلطري جدا الذي �سيعيدنا �إىل
ع�صور الظالم .فال�سريورات االجتماعية ،حتى داخل نظام دميقراطي ،تخ�ضع للمعتقدات اجلماعية،
وللم�صالح املختلفة .واخلطري هو �أن جنعل من هذه ال�سريورات احلكم يف جمال املعرفة العلمية� ،إذ
�سريدنا ذلك �إىل اخللف لقرون عديدة.
ميتلك املواطنون ال�رشعية يف اتخاذ القرار ب�ش�أن ا�ستعمال العلم والتكنولوجيا يف جمتمع
معني .لكنهم ال ميتلكون ال�رشعية يف اتخاذ القرار ب�ش�أن ما يجب �أن تكون عليه املعرفة العلمية
يف حلظة معينة .ال ميكن �أن توجد دميقراطية املعرفة العلمية �إال باملعنى الذي تكون فيه تلك
املعرفة دميقراطية ،ويف متناول �أكرب عدد من النا�س ،ولي�س باملعنى الذي يجعل املعرفة العلمية
نتيجة ل�سريورة اجتماعية �أو ثقافية .هذا اال�ستنتاج ،الذي قد ال يعجب �أ�صحاب النزعة املطلقة يف
الدميقراطية ،البد �أن تكون له انعكا�سات على تنظيم امل�ؤ�س�سات العلمية عندما يتم تنظيمها على
منط دميقراطي .وهذا يقت�ضي عدم ح�رص الو�صول �إىل املعرفة العلمية يف عدد قليل من النا�س،
وعدم انغالق اجلماعة العلمية داخل برج عاجي .فالعلماء الذين يرف�ضون احلوار مع غري املتعلمني،
بدعوى �أنهم لن يفهموا �شيئا ،هم خمطئون مثلهم مثل �أولئك الذين يدعون احل�سم يف ال�ش�أن
العلمي ،بدال عن العلماء.
�س�ؤال �آخر يتم طرحه يف هذا ال�سياق� :إذا كان املواطن ،فيما يبدو ،ال ميكنه �أن يكون حكما
على العلم ،فهل ميكنه مع ذلك اتخاذ القرار ب�إيقاف تطوره؟ هل مبقدورنا ،فرادى �أو جماعات،
احل�سم ب�أن النتائج ال�سلبية� ،أو يف جميع الأحوال ،ب�أن خماطر تقدم املعرفة العلمية هي من الأهمية
بحيث يجب �إيقاف ال�رشيط ككل؟ ي�سود هذا املوقف لدى بع�ض الطوائف التي ي�ؤمن �أتباعها
بالإنعزال عن العامل اخلارجي ،ورف�ض �أي حماولة لدجمهم� ،أو خلطهم مبجتمعات ،وتعاليم �أخرى.
ثم هناك موقف خ�صوم التعديل اجليني للكائنات احلية ( )OMGالذين يريدون منع البحث،
وبالتايل� ،إيقاف تطور املعرفة ح�سب احلاجة ،عن طريق فر�ض اختيارهم ال�شخ�صي بوا�سطة العنف.
اجلواب عن هذا ال�س�ؤال ال ميكن �إال �أن يكون فل�سفيا� ،أو ناجتا عن اختيار من بني ر�ؤى
متفائلة� ،أو مت�شائمة بخ�صو�ص القدرات الب�رشية على ا�ستعمال العلم .ويف الغالب يعترب احلوار
�صعبا بني الذين يرون يف التاريخ احلديث عمليات هدم ،وعنف ،وجرائم مت ت�صنيعها بكيفية
88
مفاهيم مفتاحية
�إعداد :هيئة التحرير
القيم •
احلق •
الواجب •
املواطنة •
ال�سلوك املدين •
�أما العلم الذي يدر�س القيمة كقيمة يف حد ذاتها ،فهو االك�سيولوجيا من �أك�سي�س مبعنى
قيمة .ومن �أ�سئلة علم القيم :هل القيمة ذاتية �أم مو�ضوعية ؟ ال�س�ؤاالن يعودان �إىل �رضبني
من احلد�س ،الأول يت�أ�س�س على ميل نحو كون الأ�شياء قمينة باحلب يف حد ذاتها /املو�ضوعية
الأك�سيولوجية ،والثاين يت�أ�س�س على كون الأ�شياء خا�ضعة للأف�ضلية� ،أو الرتاتبية /الذاتية
الأك�سيولوجية ،واحلكم الذي ن�صدره اعتمادا على هذه القيم ي�سمى حكم قيمة ،وهو
حكم يختلف عن احلكم اجلمايل الذي يقوم على الرتفع واحلكم املنطقي الذي ينبني على
االن�سجام ،و�أحكام القيمة نفعية معيارية لذا ي�صف مبحثها بالعلم املعياري ،واملعيار قاعدة
ينبغي اتباعها� ،أو التوافق حولها للبقاء يف الطريق امل�ستقيم ،واالبتعاد عن االعوجاج.
الـحق
يت�ضمن مفهوم احلق يف اللغة العربية (انظر ل�سان العرب البن منظور) دالالت عديدة
تت�أرجح بني ال�صدق ،والثبات ،والوجوب ،واليقني ،واحلقيقة ،واالخت�صام ،والتفاهم .ويربز
هذا التعدد الداليل يف اللغات الأخرى ،ويف فكرها .يف هذا الإطار ،اعترب �أندري الالند
يف معجمه الفل�سفي والتقني ،ب�أن مفهوم «احلق» يقرتن بفكرتني �أ�سا�سيتني وهما:
• �أن احلق هو ما يكون مطابقا لقاعدة حمددة ،وبالتايل ،ف�إن �إقراره يعترب م�رشوعا ،مثل
قولنا :لكل املواطنني احلق يف اللجوء �إىل القانون.
• �أن احلق هو ما يكون م�سموحا به ،وقائما على احلرية .ومن هنا ركزت خمتلف الإعالنات
عن حقوق الإن�سان ،على احلق يف الأمن ،وامللكية اخلا�صة ،وامل�ساواة ،ومقاومة الظلم،
والقهر الخ...
وميكننا التمييز يف �ضوء ذلك ،بني ثالثة �أ�شكال للحق ،وهي:
• احلق الطبيعي ،الناجت عن طبيعة الب�رش ،والعالقات القائمة فيما بينهم با�ستقالل عن كل
ت�رشيع (مثل احلق يف احلياة) .
90
• احلق الو�ضعي ،الناجت عن القوانني املكتوبة� ،أو الأعراف التي اكت�ست �صبغة القانون ،مثل
احلق املدين ،واحلق الروماين.
• حق النا�س الذي ت�أ�س�س على مبد�أ امل�ساواة ،ومت تطبيقه يف البداية على الأجانب
اخلا�ضعني للقانون الروماين ،وات�سع يف الع�صور احلديثة لي�شمل العالقات بني الدول ،و�أي�ضا
العالقات بني املواطنني.
ومعلوم �أن الإعالنات احلديثة ،واملعا�رصة عن حقوق الإن�سان ،واملواطن ،انبثقت من النظريات
الفل�سفية حول احلقوق الطبيعية ،واملدنية .وهي النظريات التي تبلورت على يد كل من
ا�سبينوزا ،وهوبز ،ولوك ،ورو�سو يف �إطار ما يعرف بنظرية احلق الطبيعي ،وتطورت على
يد فال�سفة بارزين ،نذكر من بينهم :كانط ،فيخته وهيجل .وقد �سمحت معاجلة م�س�ألة
احلق (الطبيعي واملدين) ب�إثارة ق�ضايا تتعلق باحلرية ،وال�سلطة ،والعنف ،والدميوقراطية،
واملواطنة ،والت�سامح ،والعدالة ،والإن�صاف ،وهي الق�ضايا التي �شكلت جمال اهتمام الفل�سفة
ال�سيا�سية املعا�رصة.
وقد �أكد الباحثون يف جمال الفل�سفة ال�سيا�سية على تطور منظومة احلقوق ،بفعل التحوالت
االجتماعية ،واالقت�صادية ،وال�سيا�سية ،والثقافية التي عرفتها خمتلف بلدان العامل .هكذا،
مل يعد الأمر مقت�رصا على احلقوق املدنية ،وال�سيا�سية ،بل تعداه �إىل احلديث عن احلقوق
االقت�صادية ،واالجتماعية ،مثل احلق يف ال�شغل ،والتعليم ،وحق الإ�رضاب ،وعن احلقوق
البيئية ،وحقوق الأقليات ،واحلق يف االختالف� ...إلخ.
الـواجـب
ت�ستعمل كلمة «واجب» كرتجمة للفظة الفرن�سية ،Devoir :وتعني حينما تكون مقرونة
بفعل ما (مثل� )Devoir faire :رضورة القيام به .وهي كلمة م�شتقة من الأ�صل الالتيني:
Debereالتي جتمع كال من ،De :و ،Habereوتعني �أن يكون املرء مدينا ل�شخ�ص �آخر
ب�شيء ما.
�أما يف القامو�س العربي ،فكلمة «واجب» م�شتقة من الفعل الثالثي «وجب» التي تت�ضمن معنى
«وجب ال�شي ُء ،يجب وجوبا� ،أي لزم» و�أ�صبح �أمرا م�ستحقا� ،أي �رضوري الوقوع.
َ اللزوم .يقال:
«و�أوجبه هو ،و�أوجبه اهلل ،وا�ستوجبه� ،أي ا�ستحقه» (ل�سان العرب؛ القامو�س املحيط).
�إجماال ،يعرب «الواجب» على وجه العموم عن �رضورة قد تكون ذاتية �أو مو�ضوعية� ،أي
�رضورة قد تعود لقرار ذاتي لل�شخ�ص� ،أو لدواع يفر�ضها املجتمع �أو ال�سياق الطبيعي الذي
يتواجد فيه الفرد .ومبا هي كذلك ،فهي ت�أخذ �شكل �إلزام �أخالقي ذاتي �أو اجتماعي �أو
ديني ...غري �أن هذا الإلزام ،يف كل الأحوال ،ال يكون �إكراها مفرو�ضا على املرء من اخلارج
ولي�س الواجب �رضورة عملية �إال باعتباره داال على اال�ستقالل الذاتي للإرادة ال�شخ�صية
التي تلزم ذاتها بذاتها باالمتثال للواجبات ،باعتبارها �أوامر �أخالقية ،وال حتتاج �إىل �سلطة
خارجية (�سلطة امل�ؤ�س�سات مثال) ،اللهم �سلطتها الداخلية .هذا االلتزام الأخالقي بالواجب
يرقى باملرء من م�ستوى الفرد اخلا�ضع ملحددات طبيعته الفيزيائية (احلاجات وال�رضورات
املادية) وال�سيكولوجية (الأهواء وامليول والرغبات )...واالجتماعية (االنتماء االجتماعي،
الوالء ،الروابط املنفعية� ،)...إىل م�ستوى ال�شخ�ص الأخالقي� ،أي الكائن الإن�ساين ذي الكرامة
الأخالقية ،الذي يوجد كغاية يف ذاته ال كو�سيلة قابلة لال�ستغالل لأي هدف كان ،والذي
ينبغي �أن ت�صونه احلياة املدنية وقوانينها بكاملها.
و�إذا كانت القوانني ال�سيا�سية معربة عن احلرية ال�سيا�سية التي تكفلها الد�ساتري وامل�ؤ�س�سات
والآليات الدميقراطية ،ف�إن القوانني الأخالقية ،التي ت�صوغ الواجبات ك�رضورة كونية مطلقة
(فواجب الت�ضامن �أو امل�ساعدة �أو الوفاء ...واجب كوين مطلق ال يتقيد بهذه الظرفية �أو تلك،
وال بهذه الغاية �أو تلك )...تعرب عن احلرية الأخالقية لل�شخ�ص .و�إذا كان ا�ستمرار احلرية
والقوانني ال�سيا�سية رهني ا�ستمرار امل�ؤ�س�سات والآليات االجتماعية والت�رشيعية ال�ضامنة
الحرتام حقوق املواطنة ،ف�إن ا�ستمرار احلرية والقوانني الأخالقية يظل رهني االلتزام الذاتي
لل�شخ�ص بالواجبات جتاه ذاته والغري.
غري �أن هذا التمييز بني نظام الت�رشيعات والقوانني و«الواجبات» ال�سيا�سية ،وبني نظام القوانني
والواجبات الأخالقية ال يعني انف�صالهما عن بع�ضهما البع�ض ،ر غم �أنهما يتعار�ضان �أحيانا،
بل تكاملهما العملي .ف�إذا كان النظام الأول يقوم على �أ�سا�س احلقوق الفردية واملدنية ،ف�إن
نظام الواجبات الأخالقية يقوم على االلتزام الفردي باحرتام هذه احلقوق واحلريات املدنية،
�إىل جانب عدم انتهاك احلقوق الكونية للإن�سان بو�صفه �شخ�صا �أخالقيا �أينما وجد .بهذا
املعنى ،كانت دائرة الواجب الأخالقي �أ�شمل من دائرة االلتزامات ال�سيا�سية واملدنية للمواطن،
طاملا �أنها ت�شمل التزام ال�شخ�ص جتاه الإن�سانية ككل.
92
الـمواطنــة
لفظ املواطنة ( )Citoyenneté-Citizenshipم�شتق يف اللغات الأجنبية من كلمات:
،Cité - ،Cityالتي تعني املدينة ( Polisيف اللغة الإغريقية القدمية) .يف هذا الإطار ،تعد
املواطنة انتماء ملدينة بو�صفها ف�ضاء م�شرتكا للتعاي�ش وامل�ساهمة يف القرار وتدبري الق�ضايا
العمومية .ويف اللغة العربية ،ا�شتقت الكلمة من لفظة «وطن» التي تعني يف املعجم العربي
القدمي «املنزل الذي تقيم فيه ،وهو موطن الإن�سان وحمله» (ل�سان العرب) .لذلك قيلَ :و َط َن
باملكان وواطن مبعنى �أقام فيه .بهذا املعنى ،مل تتعد الكلمة يف اال�شتقاق العربي معاين
الإقامة يف املكان واال�ستقرار فيه .وكل املعاين «ال�سيا�سية» التي حلقت هذا املعنى ،من
قبيل االنتماء امل�شرتك للمكان وح�ضارته وثقافته وقيمه ،ا�ستمدت من املعجم االجتماعي
وال�سيا�سي للكلمة؛ وهو معجم متعدد الأ�صول ال�سيا�سية والقانونية والتاريخية.
�أما املواطنة يف اال�صطالح املعا�رص ،فتعني ،ح�سب دائرة املعارف الربيطانية« :عالقة بني
فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة ،ومبا تت�ضمنه تلك العالقة من واجبات وحقوق
متبادلة يف تلك الدولة .واملواطنة تدل �ضمنا على مرتبة من احلرية مع ما يرتبط بها من
م�س�ؤوليات».
ال تنح�رص املواطنة فقط يف االنتماء لبلد ما (ملجال ترابي) �أو لأمة معينة ،بل هي انتماء
قائم على االعرتاف .و�إذا ا�ستند هذا االعرتاف يف تاريخ املجتمعات �إىل معايري تختلف
باختالف منظوماتها الثقافية والقيمية (النبالة واملكانة االجتماعية� ،أو املِلكية� ،أو الدين� ،أو
اخل�صو�صية الإثنية �أو العرقية ،)..فقد �أ�صبح يف الع�رص احلديث ،خ�صو�صا بعد الثورة
الفرن�سية ( ،)1789قائما على معيار احلق الطبيعي ومنظومة القيم الأخالقية وال�سيا�سية
التي �أقامتها نظريات احلق والفل�سفة ال�سيا�سية حتديدا .يف �إطار هذه املرجعية ،ومن زاويتها
القانونية ــ ال�سيا�سية بالذات ،متنح املواطنة ال�شخ�ص حقا م�رشوعا يف �أن يكون �صاحب
حقوق خمتلفة �سيا�سية ومدنية وثقافية واجتماعية (.)Un Sujet de Droits
يف مقابل هذه احلقوق ،امل�ؤطرة بقوانني وت�رشيعات ،تتحدد التزامات وواجبات املواطنة
على ر�أ�سها احرتام الفرد للقوانني والف�ضاءات العمومية ،وامل�شاركة ال�سيا�سية ،والإ�سهام يف
الإنفاق العمومي ح�سب الإمكانيات ،واالنخراط يف حل الق�ضايا وال�ش�ؤون العامة ،والدفاع
عن الوطن�..إلخ.
يف زمننا احلايل ،فر�ضت العوملة تو�سيع مرجعيات املواطنة ،بحيث �أ�صبحنا نتحدث عن
املواطنة الفاعلة ،وهي �أن�شطة عمومية لأفراد وهيئات ،وم�ؤ�س�سات ،وجمعيات منظمة يف
�إطار ف�ضاءات ،و�شبكات للإعالم ،والتح�سي�س ،والتوا�صل ،و�أعمال ت�ضامنية وتعبوية ،الهدف
منها الإ�سهام التطوعي يف التنمية املحلية واجلهوية خ�صو�صا ،واالنخراط يف تدار�س
م�شاكل املواطنني وم�شاركتهم يف بلورة حلول مالئمة لها .يف هذا ال�سياق� ،أ�صبحت
املواطنة تطرح يف �أفق �أو�سع �سو�سيو ــ ثقايف و�أخالقي :فهي تهم الفرد ك�شخ�ص �أخالقي،
�أخريا ،البد من الإ�شارة �إىل �أن العوملة بقدر ما عززت املفاهيم ال�سيا�سية ،والقانونية،
واالجتماعية للمواطنة الفاعلة ،بقدر ما خلقت �أي�ضا �رشوطا جديدة مكنت من م�ساءلة
املواطنة داخل الدولة الواحدة يف �أفق التفكري ،و�إر�ساء مقت�ضيات ما ي�سمى حاليا املواطنة
الكونية .لقد بلورت العوملة �أفقا �آخر للمواطنة الكونية ي�ستوعب ق�ضايا خمتلفة ،من قبيل:
ق�ضايا البيئة العاملية و�رضورة الت�ضامن بني الأمم والدول لأجل املحافظة عليها؛ ق�ضايا
الهجرة ،وال�صحة ،والفقر ،واملجاعة ،والتغذية ،والفروق ال�صارخة بني ال�شعوب يف ا�ستغالل
املوارد العاملية؛ ق�ضايا الإرهاب ،واحلروب ،و�آثارها على ال�شعوب ،وعالقاتها الدولية؛
ق�ضايا التحديث العلمي ،والتكنولوجي ،وما يثريه عامليا من �إ�شكاليات تهم الرتبية ،وتعميم
التعليم ،والق�ضاء على كل �أ�شكال الأمية ،والتخلف الفكري ،والثقايف؛ كلها ،وغريها ق�ضايا
�أ�صبحت تطرح على امل�ستوى الدويل �إ�شكاليات كربى مت�س املواطنة العاملية ،وم�س�ؤولية
الدول ،وال�شعوب عن التدخل امل�شرتك لأجل بحثها ،و�إيجاد حلول لها تراعي الإرث امل�شرتك
للإن�سانية ،وحقها يف بيئة عاملية �آمنة ت�سمح بتنمية ال�شعوب الأكرث فقرا ،وت�أ�سي�س عالقات
�سلمية بني الدول ت�ضمن حق الأفراد ،واجلماعات يف العي�ش الكرمي.
-1من �أر�ضية الندوة الوطنية حول «املدر�سة وال�سلوك املدين» املنظمة من طرف املجل�س الأعلى للتعليم ،الرباط 23و 24ماي
.2007
94
هكذا ،ف�إن �أي م�صطلح من امل�صطلحات املذكورة له معناه ،وهدفه اخلا�ص ،و�سياقه
التاريخي.
• معنى عام ،ي�شمل واجبات املواطن(ة) ،وم�س�ؤولياته يف عالقته بالدولة من جهة ،وباملواطنني
من جهة ثانية؛
• ومعنى خا�ص ،يحدد الف�ضائل ال�رضورية الواجبة يف تن�شئة املواطن(ة) ال�صالح ،املتمتع
باحل�س املدين ،واالن�ضباط ،والإخال�ص للمجموعة الوطنية.
�إن هذه املعاين ،التي ارتبطت بتطور املفهوم يف الثقافات الغربية اليونانية ،والالتينية،
واملعا�رصة ،تظهر بو�ضوح يف مفهوم الرتبية يف الثقافة العربية ،ويف الرتاث الإ�سالمي
الديني ،والفكري .فهي تعني الت�أديب ،من جهة ،والتهذيب ،من جهة ثانية .فالت�أديب هو
توجيه الطفل(ة) نحو االن�ضباط واالنتظام� ،أي تلقينه قواعد ال�ضبط الأخالقي االجتماعي
�أما التهذيب فغايته طبع النف�س الب�رشية بالف�ضائل الدينية والأخالقية ،وهي ف�ضائل
�أخالقية وعقلية يف نف�س الوقت .فغاية الرتبية الإ�سالمية هي توجيه ال�سلوك الفردي ،من
جهة ،وتنظيم احلياة االجتماعية ،من جهة ثانية.
�إن هذا التعدد الداليل الذي يرتبط مبفهوم تنمية ال�سلوك املدين ،والذي يحيل �إىل حقول
وا�سعة مثل القانون ،والأخالق ،وقواعد ال�سلوك ،و�أمناط الرتبية ،بقدر ما يغنى حتديد
املفهوم نظريا ،بقدر ما يجعل حتديده على �صعيد املمار�سة �صعبا ،وغري ي�سري� .إال �أن هناك
جمموعة من التحديدات الأولية متكن من ت�شخي�ص هذا املفهوم يف عمليات �أ�سا�سية لها
بعدها الرتبوي ،مثل:
• فهم قواعد احلياة املجتمعية مبعناها الوا�سع ،واكت�ساب ح�س امل�س�ؤولية الفردية ،واجلماعية؛
• الوعي باحلرية يف التفكري ،والتعبري ،ويف ممار�سة احلياة العامة ،واخلا�صة مع احرتام
حرية الآخرين؛
وذلك مع اعتبار ت�أ�سي�سها على قاعدة قبول الآخر واحلق يف االختالف عنه ،وانطالقها من
املبادئ العامة النتظام احلياة امل�شرتكة بني الأفراد.
• «التقرير الرتكيبي للبحث الوطني حول القيم»� ،إجناز :ح�سن ر�شيق ،رحمة بورقية ،عبد اللطيف بن�رشيفة،
حممد الطوزي ،من�شورات «� 50سنة من التنمية الب�رشية و�آفاق �سنة 2004 ،»2025؛
• �أ�شغال الندوة الوطنية حول «املدر�سة وال�سلوك املدين» ،املنظمة من قبل املجل�س الأعلى للتعليم ،الرباط،
ماي 2007؛
• دليل «الرتبية على قيم ال�شفافية وحماربة الر�شوة» ،ن�رش وزارة الرتبية الوطنية والتعليم العايل وتكوين الأطر
والبحث العلمي واجلمعية املغربية ملحاربة الر�شوة «تران�سبارن�سي املغرب» ؛
• ر�أي املجل�س الأعلى للتعليم رقم 07/02بتاريخ 23يوليوز 2007يف مو�ضوع «دور املدر�سة يف تنمية
ال�سلوك املدين»؛
• �سل�سة من�شورات وزارة الرتبية الوطنية ووزارة حقوق الإن�سان ،ال�صادرة حتت عنوان «الربنامج الوطني
للرتبية على حقوق الإن�سان»2002-2001 ،؛
• �سيف بن نا�رص املعمري« ،تربية املواطنة :توجهات وجتارب عاملية يف �إعداد املواطن ال�صالح» ــ مكتبة اجليل
الواعد� ،سلطنة عمان.2006 ،
• www.pogar.org/publications/gender/.../gendera.p
• «�س�ؤال الأخالق ونظام القيم» ،ن�رش جملة الإحياء ال�صادرة عن الرابطة املحمدية للعلماء ،العدد املزدوج
،33-23غ�شت .2010
• عبد ال�سالم ال�سعيدي« ،تدري�س مفاهيم قيم حقوق الإن�سان �ضمن املناهج التعليمية :مع درا�سة تطبيقية»،
ن�رش دار الثقافة2001 ،؛
• علي خليفة الكواري« ،درا�سة حول مفهوم املواطنة يف الدولة الدميوقراطية» ،العدد 30من �سل�سلة كتب
امل�ستقبل العربي حول الدميوقراطية والتنمية الدميوقراطية يف الوطن العربي ،بريوت.2004 ،
• حممد �أوحلاج« ،بيداغوجيا القيم� :أ�س�سها ،ومكوناتها ،ومرجعياتها الأ�سا�سية» ،من�شورات �صدى الت�ضامن،
2009؛
• م�ؤلف جماعي :اجلامعة وبناء املواطنة يف م�رص ،النا�رش :برنامج الدميقراطية وحقوق الإن�سان.2007 ،
• ن�رص و�ضاح« ،القيم والتعليم» ،ن�رش الهيئة اللبنانية للعلوم الرتبوية2001 ،؛
98
• Audigier. F, «Enseigner la société, transmettre des valeurs», Conseil de
l’Europe, 1993.
• Le Gal, Jean, «Les droits de l’enfant à l’école [Texte imprimé] : pour une
éducation à la citoyenneté», De Boeck, 2002.
100
• Lenoir. Y ; Janet, Ch ; Xypas, C, Ecole et citoyenneté : un défi multiculturel-
Armand Colin, Paris, 2006.
• Rezsohazy, Rudolf, «sociologie des valeurs», Armand Colin 2006, pp. 13-14
• Robin, Alexander, Hofmann Jan, Prairat Eirick, «L’apprentissage de la
civilité à l’école» : Regards croisés - Les rencontres de la DSSCO ; 2003.
• Roche, Georges, «Quelle école pour quelle citoyenneté ?» ed. ESF , 1998.
• Valentin Ch, «Enseignants : reconnaitre ses valeurs pour agir», ESF éditeur ;
1997.
102
م�ستجدات الرتبية والتكوين
املجل�س الأعلى للتعليم
مبقت�ضى د�ستور اململكة ،املجل�س الأعلى للتعليم ي�صبح جمل�سا �أعلى للرتبية والتكوين
والبحث العلمي
ن�ص د�ستور 2011على �إحداث جمل�س �أعلى للرتبية والتكوين والبحث العلمي ،عو�ض
املجل�س الأعلى للتعليم الذي مت تن�صيبه يف فرباير .2006يعد هذا املجل�س ،ب�صيغته اجلديدة،
ا�ستمرارا مل�ؤ�س�سة وطنية ت�شكل قوة اقرتاحية ،و�آلية تقوميية ،وف�ضاء لتبادل الر�أي املتعدد وللنقا�ش
الدميقراطي ،وجماال لال�ستفادة من خربة وجتربة الكفاءات الوطنية ذات العطاء املتميز يف ميدان
الرتبية والتكوين والبحث العملي ،بغاية االرتقاء باملنظومة الوطنية للرتبية والتكوين والبحث العلمي،
وح�شد التعبئة املجتمعية حول املدر�سة املغربية وق�ضاياها الأ�سا�سية.
يف هذا ال�صدد ،حدد الف�صل 168من الد�ستور مهام املجل�س الأعلى للرتبية والتكوين
والبحث العلمي فيما يلي:
• �إبداء الر�أي حول كل ال�سيا�سات العمومية والق�ضايا الوطنية التي تهم التعليم والتكوين
والبحث العلمي؛
• �إبداء الر�أي حول �أهداف املرافق العمومية املكلفة مبيادين الرتبية والتكوين والبحث العلمي
وت�سيريها؛
• الإ�سهام يف تقومي ال�سيا�سات والربامج العمومية يف ميادين الرتبية والتكوين والبحث
العلمي؛
�آراء املجل�س
• ر�أي املجل�س يف م�رشوع ت�أهيل التعليم العتيق (فرباير )2007؛
• ر�أي املجل�س يف دور املدر�سة يف تنمية ال�سلوك املدين (يوليوز )2007؛
•وجهة نظر املجل�س حول الربنامج اال�ستعجايل لقطاعات الرتبية والتكوين (�شتنرب )2008؛
•ر�أي املجل�س يف واقع و�آفاق برامج الرتبية غري النظامية وحماربة الأمية (يوليوز .)2009
�أ�شغال الندوات
• �أ�شغال ندوة املجل�س الأعلى حول «املدر�سة وال�سلوك املدين»؛
104
• �أ�شغال ندوة املجل�س الأعلى حول «تدري�س اللغات وتعلمها يف منظومات الرتبية
والتكوين»؛
• �أ�شغال ندوة املجل�س الأعلى حول «ال�رشاكة امل�ؤ�س�ساتية من �أجل املدر�سة املغربية»؛
الدرا�سات
• درا�سة تتعلق بالقيام بت�شخي�ص ا�سرتاتيجي لل�رشاكة من �أجل املدر�سة املغربية :درا�سة
مقارنة لأنظمة ال�رشاكة (بالفرن�سية)؛
• درا�سة مقارنة لأنظمة ال�رشاكة امل�ؤ�س�ساتية (بالفرن�سية)؛
• درا�سة حول تقومي �أثر الربامج التعليمية على حقوق الإن�سان واملواطنة (بالفرن�سية)؛
• درا�سة حول الالمركزية والالتركيز يف قطاع الرتبية الوطنية :جتربة الأكادمييات اجلهوية
للرتبية والتكوين؛
• درا�سة حول جمال�س تدبري امل�ؤ�س�سات الرتبوية يف عالقتها بالإدارة الرتبوية واملجال�س
الأخرى مل�ؤ�س�سات الرتبية والتعليم؛
• درا�سة تقوميية للمناهج املطبقة بال�سلك االبتدائي والثانوي الإعدادي (بالفرن�سية)؛
• درا�سة ت�شخي�صية حول التعليم العتيق باملغرب (بالفرن�سية)؛
• درا�سة حول متويل وتكلفة التعليم باملغرب؛
• درا�سة حول و�ضعية و�آفاق التعليم الأويل باملغرب (بالفرن�سية)؛
• درا�سة حول م�سل�سل ا�ستقاللية اجلامعات (بالفرن�سية)؛
• نتائج ا�ستطالع ر�أي حول الو�ضعية احلالية ملهنة التفتي�ش الرتبوي و�آفاق تطويره
(بالفرن�سية)؛
• درا�سة حول «التفتي�ش الرتبوي ،بع�ض االجتاهات الدولية» (بالفرن�سية)؛
• درا�سة حول الرتبية غري النظامية وحماربة الأمية؛
• درا�سة حول �سبل تطوير برامج حماربة الأمية والرتبية غري النظامية (بالفرن�سية).
فرن�سا
ماذا يقول الباحثون حول «�أثر املدر�س»؟ .ت�رشح مذكرة مركز التحليل اال�سرتاتيجي (،)CAS
وهي م�ؤ�س�سة للبحث تعمل بجانب الوزير الأول بفرن�سا� ،أنه منذ �أربعة عقود� ،أكدت جمموعة
من البحوث يف جمال التعليم �أن �أثر املدر�س يف النجاح الدرا�سي �أكرب من عامل اختيار امل�ؤ�س�سة.
ويقرتح املركز حت�سني تقومي املمار�سات الأ�ستاذية.
(www.strategie.gouv.fr/content/que-disent-les-recherches-sur-leffet-enseignant-
)note-danalyse-232-juillet-2011
تدابري من �أجل تعزيز مواكبة التالميذ املعاقني مبنا�سبة الدخول املدر�سي � :2011سيتم تعزيز
نوعية مواكبة التالميذ املعاقني ،وتعيني م�ساعدين م�ؤهلني �إ�ضافيني ،كما �ستتم موا�صلة حت�سني
ممار�سات تقومي الأطفال املعاقني من قبل دور الأ�شخا�ص املعاقني ( .)MDPHيتعلق الأمر ب�إجراء
تقومي �أف�ضل الحتياجات الطفل حتى يتمكن من اال�ستفادة من توجيه تعليمي منا�سب ومواكبة
مدر�سية مالئمة� .سيتم �أي�ضا ت�شجيع املبادرات الرامية �إىل تي�سري الو�صول �إىل الكتب الدرا�سية.
(www.gouvernement.fr/gouvernement/des-mesures-pour-renforcer-l-
)accompagnement-des-eleves-handicapes-des-la-rentree-2011
106
ملفا العددين المقبلين
من «دفاتر التربية والتكوين»
t
ملف العـــدد ال�ســابع
المدر�س في نظام تربوي قيد الإ�صالح
t
Thème du sixième numéro
Programmes et curricula scolaires : Questions et enjeux
t