You are on page 1of 109

‫‪N°‬‬

‫املدر�سة املغربية والرتبية على‬ ‫‪L’Ecole Marocaine et l’éducation‬‬

‫‪DOSSIER‬‬
‫مـلــف‬
‫‪5‬‬
‫�شتنرب ‪2011 -‬‬
‫القيم يف جمتمع قيد التحول‬
‫‪5‬‬
‫‪N°‬‬
‫‪aux valeurs dans une société‬‬
‫‪en mouvement‬‬
‫‪5‬‬
‫‪Septembre - 2011‬‬
‫يف امللف‬ ‫‪Dossier :‬‬
‫ • املدر�سة املغربية وم�سارات الرتبية‬ ‫‪• Le système éducatif‬‬
‫على القيم امل�شرتكة‬ ‫‪à l’épreuve des‬‬
‫ • حـدود االخـتـيـار الـتـوافـقـي‬
‫‪changements‬‬
‫‪socioculturels au Maroc‬‬
‫وانعكا�ساته على منظومة القيم‬
‫يف املدر�سة املغربية‬
‫‪• Activités scolaires‬‬
‫‪et éducation à la‬‬
‫ • قيـم الـمواطنة بيـن مقـت�ضيات‬ ‫‪citoyenneté‬‬
‫الد�ستور ورهانات مدر�سة امل�ستقبل‬ ‫‪• Le Service‬‬
‫ • املدر�سة املغربية ومطلب تر�سيخ‬ ‫‪Communautaire à‬‬
‫قيم املواطنة وال�سلوك املدين‬ ‫‪l’Université Al Akhawayn‬‬
‫ • املواطنة واجلامعة‬
‫‪• L’Avis du Conseil‬‬
‫‪Supérieur de‬‬
‫ • ر�أي الـمجل�س الأعلى للـتعليم فـي‬ ‫‪l’Enseignement n° 2/07‬‬
‫«دور الـمدر�سة يف تنمية ال�سلوك‬ ‫‪sur le « rôle de l’école‬‬
‫املدين»‬ ‫‪dans la promotion du‬‬
‫ • الـنظـام الـتـربوي فـي حمـك‬ ‫» ‪comportement civique‬‬
‫املتغريات ال�سو�سيوثقافية باملغرب‬ ‫‪• Ecole marocaine et‬‬
‫(بالفرن�سية)‬ ‫‪parcours d’éducation aux‬‬
‫‪valeurs communes (en‬‬
‫ • الأن�شطـة الـمدر�سية والرتبية على‬
‫)‪arabe‬‬
‫املواطنة(بالفرن�سية)‬
‫‪• Limites du choix‬‬
‫ • اخلدمة من �أجل اجلماعة ‪ :‬جتربة‬ ‫‪consensuel et ses‬‬
‫جامعة الأخوين (بالفرن�سية)‬ ‫‪effets sur le système‬‬
‫�شهادات‬ ‫‪des valeurs à l’école‬‬
‫)‪marocaine (en arabe‬‬
‫الـمدر�سة ودورها يف الرتبية على‬ ‫•‬
‫قيم املواطنة ومبادئ ال�سلوك املدين‬
‫‪• Valeurs de la citoyenneté‬‬
‫‪entre les dispositions de‬‬
‫قراءات‬ ‫‪la constitution et les défis‬‬
‫ • قراءة يف كتاب «�أية مدر�سة لأية‬ ‫‪de l’école de l’avenir (en‬‬
‫مواطنة»‬ ‫)‪arabe‬‬
‫‪• Citoyenneté et université‬‬
‫جتارب متميزة‬ ‫)‪(en arabe‬‬
‫ • جتربة منهاج الرتبية على حقوق‬ ‫‪• L’école marocaine et‬‬
‫الإن�سان ‪ :‬البدايات والت�سا�ؤالت‬ ‫‪l’éducation aux valeurs‬‬
‫ • الدار البي�ضاء ‪ :‬الـمدر�سة والـمدينة‪،‬‬ ‫‪de citoyenneté et de‬‬
‫جتربة �إبداع متميزة‬ ‫)‪civisme (en arabe‬‬
‫دفاتر الرتبية والتكوين‬
Cahiers de l’Education et de la Formation ‫من�شورات دورية ت�صدر ثالث مرات يف ال�سنة‬
Publication périodique triannuelle
‫املدير امل�س�ؤول‬
Directeur responsable ‫عبد اللطيف املودين‬
Abdellatif El MOUDNI
‫رئي�س التحرير‬
Directeur de rédaction ‫حماين �أقفلي‬
Hammani AKEFLI
‫هيئة التحرير‬
Comité de rédaction ،‫ عبد اللطيف املودين‬،‫ عبد احلق من�صف‬،‫ ادري�س كثري‬،‫ادري�س اليعقوبي‬
Nassreddine EL HAFI, Azzedine EL KHATTABI, Abdellatif EL MOUDNI,
‫ ن�رص الدين احلايف‬،‫عز الدين اخلطابي‬
Driss EL YAKOUBI, Driss KATIR, Abdelhak MOUNCEF

‫�سكرتري التحرير‬
Secrétaire de rédaction
Omar EL AZAMI EL IDRISSI
‫عمر الأزمي الإدري�سي‬

Editeur
‫النا�شر‬
Conseil Supérieur de l’Enseignement
‫املجل�س الأعلى للتعليم‬

Rédaction, administration et abonnements


‫التحرير‬
Conseil Supérieur de l’Enseignement, Complexe administratif de la Fondation ،‫املجمع الإداري مل�ؤ�س�سة حممد ال�ساد�س للنهو�ض بالأعمال االجتماعية للرتبية والتكوين‬
Mohammed VI des Œuvres Sociales de l’Education-Formation, Aile A2, ‫ الربـــاط‬،‫ مدينـــة العرفـــان‬،‫ �شـــارع عــالل الفا�سـي‬،2‫جنـــاح �أ‬
Avenue Allal El Fassi, Madinat Al Irfane-Rabat. B.P. 6536, ‫ املعـــاهـد‬- ‫ الربـــاط‬،6535 ‫ب‬.‫�ص‬
Rabat-Instituts
05 37 77 44 25 :‫تلفون‬
Tel : 05 37 77 44 25
05 37 77 46 12 :‫فاك�س‬
Fax : 05 37 77 46 12
E-mail : dafatir@cse.ma
dafatir@cse.ma :‫الربيد الإلكرتوين‬
Site web : http://dafatir.cse.ma http://dafatir.cse.ma :‫املوقع الإلكرتوين‬

Conception, réalisation et impression ‫�إجناز وطبع‬


Librairie des Ecoles ‫مكتبة املدار�س‬
12, Avenue Hassan II – Casablanca – MAROC ‫ �شارع احل�سن الثاين ــ الدار البي�ضاء‬،12
Tél : 05 22.26.67.41/42/43 - Fax : 05 22.20.10.03 0522.20.10.03 : ‫ ــ الفاك�س‬0522.26.67.41 / 42 / 43 : ‫الهاتف‬
E-mail : lipadec@almadariss.ma - Site web : www.almadariss.ma lipadec@almadariss.ma : ‫الربيد الإلكرتوين‬
www.almadariss.ma : ‫الوب‬
ِ ‫املوقع على‬
Distribution
Sapress
‫توزيع‬
‫�سابري�س‬
Les opinions exprimées dans les Cahiers de l’Education
et de la Formation ne reflétent pas forcément la position officielle de ces Cahiers,
et n’engagent que la responsabilité de leurs auteurs ،‫جميع الآراء الواردة يف «دفاتر الرتبية والتكوين» تعرب عن وجهات نظر �أ�صحابها‬
‫وال تعك�س بال�رضورة موقف الدفاتر‬
Tous droits réservés
Toute reproduction même partielle est strictement interdite ‫جميع حقوق الن�رش حمفوظة للمجل�س الأعلى للتعليم‬
‫ال ي�سمح ب�إعادة ن�رش املواد املت�ضمنة يف هذا الإ�صدار ولو جزئيا‬
Dépôt Légal : N° 2009 PE 0120
Dossier de presse : 09/22
2009 PE 0120 : ‫رقم الإيداع القانوين‬
ISSN : 2028 - 0955
‫ح‬.‫ �ص‬09/22 : ‫ملف ال�صحافة‬
2028 - 0955 : ‫ردمــــد‬
‫املحــتـويـــات‬
‫‪2‬‬ ‫مع القارئ‬
‫ملف العدد‬
‫‪5‬‬ ‫املدر�سة املغربية والرتبية على القيم يف جمتمع قيد التحول‬
‫‪9‬‬ ‫• املدر�سة املغربية وم�سارات الرتبية على القيم امل�شرتكة‬
‫عبد اللطيف املودين‬
‫‪14‬‬ ‫• حدود االختيار التوافقي وانعكا�ساته على منظومة القيم يف املدر�سة املغربية‬
‫حممد ال�صغري جنجار‬
‫‪19‬‬ ‫• قيم املواطنة بني مقت�ضيات الد�ستور ورهانات مدر�سة امل�ستقبل‬
‫عمر االزمي االدري�سي‬
‫‪28‬‬ ‫• املدر�سة املغربية ومطلب تر�سيخ قيم املواطنة وال�سلوك املدين ‪ :‬التجليات والتحديات‬
‫عبد الإله مرتبط‬
‫‪39‬‬ ‫• املواطنة واجلامعة‬
‫عبد احلق من�صف‬
‫‪46‬‬ ‫• ر�أي املجل�س الأعلى للتعليم يف «دور املدر�سة يف تنمية ال�سلوك املدين»‬

‫‪53‬‬ ‫�شهادات‬
‫‪54‬‬ ‫• املدر�سة ودورها يف الرتبية على قيم املواطنة ومبادئ ال�سلوك املدين‬
‫حوار مع الدكتور حممد الدريج‬

‫‪61‬‬ ‫قراءات‬
‫‪62‬‬ ‫• قراءة يف كتاب «�أية مدر�سة لأية مواطنة ؟»‬
‫عز الدين اخلطابي‬

‫‪67‬‬ ‫جتارب متميزة‬


‫‪68‬‬ ‫• جتربة منهاج الرتبية على حقوق الإن�سان ‪ :‬البدايات والت�سا�ؤالت‬
‫ذة ‪ :‬خديجة �شاكر‬
‫‪79‬‬ ‫• الدار البي�ضاء ‪ :‬املدر�سة واملدينة‪ ،‬جتربة �إبداع متميزة‬
‫خديجة بن�شويخ‬

‫‪83‬‬ ‫ترجمة‬
‫‪84‬‬ ‫• العلم واملواطنة ‪� :‬أي عالقات و�أي رهانات ؟‬
‫ترجمة ‪ :‬م�صطفى كاك‬

‫‪89‬‬ ‫مفاهيم مفتاحية‬


‫‪97‬‬ ‫بيبليوغرافيا‬
‫‪103‬‬ ‫م�ستجدات الرتبية والتكوين‬
‫‪107‬‬ ‫ملفا العددين املقبلني من «دفاتر الرتبية والتكوين»‬
‫«مع القارئ»‬
‫�سنتان من م�سار طموح لدفاتر الرتبية والتكوين‪:‬‬
‫ب�صدور العدد اخلام�س‪ ،‬تكون دفاتر الرتبية والتكوين قد ا�ستوفت �سنتني على انطالق‬
‫هذا الإ�صدار‪ .‬وهي منا�سبة لإجناز وقفة على جتربة �سنتني من عمر هذه الدفاتر‪ ،‬من‬
‫�ش�أنها امل�ساعدة على حت�صني املكت�سبات‪ ،‬ور�صد الإكراهات‪ ،‬بغية ا�ستخال�ص الدرو�س‪،‬‬
‫وا�ستثمارها من �أجل االرتقاء امل�ستمر بهذا امل�رشوع الرتبوي الطموح‪.‬‬

‫يف هذا ال�صدد‪ ،‬ميكن ت�سجيل املكت�سبات التالية‪:‬‬

‫ • �أ�ضحى �إجناح م�رشوع الدفاتر هدفا متقا�سما بني �إدارة الدفاتر والقراء‪ .‬وهو الأمر‬
‫الذي ميكن تبينه من خالل �آراء القراء‪ ،‬ومالحظاتهم‪ ،‬ومقرتحاتهم املعرب عنها يف‬
‫ا�ستمارات التقومي التي يبعثون بها م�شكورين �إىل �إدارة الدفاتر؛‬

‫ • تعزز موقع الدفاتر �ضمن الإنتاجات املهتمة مبيدان الرتبية والتكوين‪ ،‬كما يعك�س ذلك‬
‫الإقبال املتزايد على اقتنائها واال�شرتاك فيها من قبل القراء؛‬

‫ • كر�ست الدفاتر انفتاحها على م�ساهمات كافة الفاعلني الرتبويني يف موادها املختلفة‪،‬‬
‫يف حر�ص دائم على معايري البحث والإنتاج الفكري املتعارف عليها؛‬

‫غري �أن هذه املكت�سبات ال حتجب جملة من الإكراهات التي مت ر�صدها‪ ،‬والتي ميكن‬
‫تلخي�صها يف ما يلي‪:‬‬

‫ • مت الرتكيز يف امللفات اخلم�سة الأوىل من الدفاتر على معاجلة ق�ضايا ذات طابع‬
‫ماكروتربوي‪ ،‬يف وقت يتزايد فيه الطلب على معاجلة ق�ضايا �أكرث تخ�ص�صا‪ ،‬وهي‬
‫مفارقة قد جتد تف�سريها‪ ،‬عالوة على متطلبات الت�أ�سي�س‪ ،‬يف �سعي الدفاتر �إىل‬
‫اال�ستجابة النتظارات �أكرب �رشيحة من قراء �أهم ما مييزهم تنوع التخ�ص�ص وتباين‬
‫احلاجات؛‬

‫ • مت ت�سجيل حمدودية �إقبال الفاعلني واملهتمني بق�ضايا البحث الرتبوي على امل�ساهمة‬
‫بكتاباتهم يف مواد الدفاتر‪ ،‬الأمر الذي جتد معه هيئة التحرير �صعوبة يف انتقاء‬
‫امل�ساهمات القابلة للن�رش طبقا للمعايري املعمول بها؛‬
‫ • ال ترقى وترية الإ�صدار حلد الآن �إىل م�ستوى طموح �إدارة الدفاتر وقرائها‪ ،‬الهادف لالنتقال �إىل وترية‬
‫�أربعة �أعداد يف ال�سنة؛‬

‫هذا‪ ،‬ولئن مت الرتكيز‪ ،‬يف هذه الفرتة املنق�ضية‪ ،‬على الق�ضايا اال�سرتاتيجية للمنظومة الوطنية للرتبية‬
‫والتكوين من قبيل العالقات البيداغوجية داخل الف�صل الدرا�سي‪ ،‬واملقاربات البيداغوجية‪ ،‬والكتاب‬
‫املدر�سي‪ ،‬والتقومي والتح�صيل الدرا�سي‪ ،‬ثم الرتبية على قيم املواطنة وال�سلوك املدين‪ ،‬ف�إن التفكري يتجه‬
‫الآن �إىل املزاوجة بني مقاربة ق�ضايا ذات طابع ماكروتربوي �إىل جانب موا�ضيع ميكروتربوية تخاطب‬
‫االن�شغاالت امليدانية للفاعلني الرتبويني‪ ،‬وتواكب التغريات التي ت�شهدها املفاهيم واملعارف والت�صورات‬
‫الرتبوية والبيداغوجية يف تفاعل مع دينامية املجتمع ومتطلبات الع�رص‪.‬‬

‫من وراء كل ذلك‪ ،‬ت�سعى هيئة التحرير �إىل موا�صلة الإ�صدار املنتظم لهذه الدفاتر �أمال يف حتقيق‬
‫�أهدافها املعلن عنها يف خطها التحريري‪ ،‬واملتمثلة �أ�سا�سا يف تبادل املفاهيم واملعارف والتجارب املرتبطة‬
‫بق�ضايا الرتبية والتكوين والبحث العلمي وال �سيما مع الفاعلني الرتبويني‪ ،‬ومواكبة امل�ستجدات الرتبوية‬
‫والبيداغوجية والديداكتيكية والتعريف باملمار�سات التدبريية الناجعة‪ ،‬والإ�سهام يف ن�رش املعرفة العلمية‬
‫حول ق�ضايا الرتبية والتكوين ببالدنا‪.‬‬
‫ملـف العـدد‬
‫املدر�سة املغربية والرتبية على القيم‬
‫يف جمتمع قيد التحول‬
‫توطئة‬

‫تقرتح هيئة التحرير جعل «املدر�سة والقيم يف جمتمع قيد التحول» عنوانا مللف هذا العدد‪ ،‬وذلك‬
‫لتزامن �صدوره مع �سياق وطني و�إقليمي وعاملي ت�شهد فيه منظومة القيم حتوالت ملمو�سة‪.‬‬

‫من التجليات الكربى لهذا التحول ببالدنا اعتماد تعاقد جمتمعي جديد يج�سده الد�ستور امل�صادق‬
‫عليه يف ا�ستفتاء فاحت يوليوز ‪ ،2011‬الذي �أتى مبنظومة متكاملة من القيم امل�شرتكة واملتقا�سمة‪،‬‬
‫جتمع بني مفاهيم الهوية‪ ،‬واالنتماء‪ ،‬واحلرية‪ ،‬واحلق‪ ،‬والعدل‪ ،‬وامل�ساواة‪ ،‬والواجب ‪� ...‬إلخ‪ ،‬وذلك يف‬
‫انفتاح على القيم الكونية‪ .‬وهو ما يلقي على عاتق املدر�سة‪ ،‬بو�صفها �إحدى �أهم م�ؤ�س�سات التن�شئة‬
‫االجتماعية والرتبية على القيم‪ ،‬م�س�ؤولية مواكبة هذا التحول‪ ،‬مواكبة من بني �آلياتها الأ�سا�س فتح‬
‫نقا�ش متعدد حول مو�ضوع القيم‪ ،‬من �ش�أنه �أن يف�ضي �إىل تعاقد حول القيم املتقا�سمة التي يتعني‬
‫على مدر�سة مغرب احلا�رض وامل�ستقبل تن�شئة الأجيال عليها وتربية املواطن على ف�ضائلها‪.‬‬

‫تهدف الرتبية على القيم عموما‪ ،‬وعلى الأخ�ص املواطنة وف�ضائل ال�سلوك املدين لدى الأجيال‬
‫ال�صاعدة يف املدر�سة‪� ،‬إىل تكوين املواطن املت�شبث بالثوابت الدينية والوطنية لبالده‪ ،‬يف احرتام تام‬
‫لرموزها وقيمها احل�ضارية املنفتحة‪ ،‬املتم�سك بهويته ب�شتى روافدها‪ ،‬املعتز بانتمائه لأمته‪ ،‬املدرك‬
‫لواجباته وحقوقه‪ .‬كما ت�ستهدف تربيته على التحلي بف�ضيلة االجتهاد املثمر‪ ،‬وتعريفه بالتزاماته الوطنية‬
‫ومب�س�ؤولياته جتاه نف�سه و�أ�رسته وجمتمعه‪ ،‬وعلى الت�شبع بقيم الت�سامح والت�ضامن والتعاي�ش؛‬
‫لي�ساهم يف احلياة الدميوقراطية لوطنه بثقة وتفا�ؤل‪ ،‬يف اعتماد على الذات وت�شبع بروح املبادرة‪.‬‬

‫ولكون هذا املو�ضوع ي�شكل �أحد االن�شغاالت الدائمة للمدر�سة املغربية التي حتتاج �إىل التفكري‬
‫والتقومي املتجددين‪ ،‬فقد مت تخ�صي�ص ملف العدد اخلام�س من هذه الدفاتر ملو�ضوع «املدر�سة‬
‫املغربية والرتبية على القيم يف جمتمع قيد التحول»‪.‬‬

‫ميكن مقاربة هذا املو�ضوع من خالل املحاور التالية‪:‬‬

‫‪ -1‬احلقل الداليل للقيم وملفاهيم املواطنة وال�سلوك املدين‬


‫يتعلق الأمر يف هذا املحور مب�ساءلة بع�ض املفاهيم النظرية املرتبطة باملواطنة وال�سلوك املدين والبحث‬
‫يف جذورها الفكرية والفل�سفية واحلقوقية‪ ،‬وعالقتها باملفاهيم الأخرى التي تنتمي للمنظومة القيمية‪،‬‬
‫وذلك يف ارتباط وثيق بالرتبية‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫‪ -2‬واقع القيم مب�ؤ�س�سات الرتبية والتكوين‬
‫يتوخى هذا املحور الإ�سهام يف ت�شخي�ص الواقع احلايل لقيم املواطنة وال�سلوك املدين داخل‬
‫م�ؤ�س�سات الرتبية والتكوين‪ ،‬من خالل الوقوف على املجهودات التي تقوم بها بالدنا يف جمال الرتبية‬
‫على املواطنة وحقوق الإن�سان مواكبة لدينامية الإ�صالحات التي يعرفها املجتمع‪ .‬وي�سعى كذلك‬
‫�إىل ر�صد بع�ض مظاهر ال�سلوك الالمدين يف بع�ض م�ؤ�س�ساتنا الرتبوية‪ .‬فما هي نوعية القيم التي‬
‫تعمل املدر�سة املغربية على ن�رشها ؟ هل يوجد ان�سجام يف اخلطاب املدر�سي حول القيم ؟ ما هو‬
‫ت�أثري ذلك على الرتبية على القيم ؟‬

‫‪ -3‬الرتبية على القيم والتحوالت املجتمعية الراهنة‬


‫تنبع اخلا�صية الإ�شكالية للرتبية على القيم من كون املنظومات القيمية والثقافية ت�شهد يف الع�رص‬
‫الراهن حتوالت عميقة �سواء يف املجتمع املغربي‪� ،‬أو غريه من بلدان العامل‪ ،‬مما ي�سائل دور املدر�سة‬
‫يف تنمية القيم املتقا�سمة للمجتمع‪ ،‬وم�س�ؤوليتها يف مواكبة التغريات املجتمعية من خالل ن�رش‬
‫وتر�سيخ القيم الإن�سانية امل�شرتكة لدى النا�شئة‪ ،‬وانخراطها‪ ،‬بو�صفها فاعال اجتماعيا‪ ،‬يف تكري�س‬
‫التحوالت التي مت�س منظومة القيم‪.‬‬

‫‪ -4‬رهانات الرتبية على القيم‬


‫ي�سعى هذا املحور �إىل م�ساءلة الرهانات الفكرية واملجتمعية وال�سيا�سية املرتبطة بالرتبية على القيم‪.‬‬
‫وي�سعى كذلك �إىل تقومي الآثار الفعلية لهذه الرتبية على الأجيال ال�صاعدة بخ�صو�ص اندماجها‬
‫يف حميطها االجتماعي والتفاعل معه‪ ،‬وانفتاحها على العامل اخلارجي‪ ،‬وت�أهيل بالدنا ملواجهة‬
‫التحديات التي بات يطرحها انخراطها يف املجتمع الدويل وقيمه الكونية‪.‬‬

‫‪ -5‬الرتبية على القيم وامل�س�ألة البيداغوجية‬


‫يتناول هذا املحور املقاربات واملنهجيات والو�سائط البيداغوجية املعتمدة يف الرتبية على قيم‬
‫املواطنة وال�سلوك املدين‪ .‬ومن جملة الأ�سئلة التي يثريها‪ :‬كيف ميكن حتويل اخلطاب املتعلق بقيم‬
‫املواطنة وال�سلوك املدين �إىل قناعات فكرية‪ ،‬ومن ثم‪� ،‬إىل التزام وممار�سة يومية تنعك�س ب�شكل‬
‫مبا�رش وتلقائي على �سلوكيات ومعامالت الأفراد داخل املجتمع ؟ ما مدى مالءمة طرائق التدري�س‬
‫والتعلم وبرامج التكوين الأ�سا�سي وامل�ستمر املعتمدة يف م�ؤ�س�ساتنا الرتبوية والتكوينية خل�صو�صيات‬
‫الرتبية على املواطنة وال�سلوك املدين ؟‬

‫‪7‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫‪ -6‬الرتبية على القيم بني املدر�سة وباقي م�ؤ�س�سات التن�شئة االجتماعية‬
‫يتناول هذا املحور الرتبية على القيم يف املدر�سة يف عالقتها بدور باقي م�ؤ�س�سات التن�شئة االجتماعية‪،‬‬
‫وخا�صة منها الأ�رسة‪ ،‬ومنظمات املجتمع املدين‪ ،‬والإعالم‪ .‬وبالنظر �إىل الت�ضارب القائم بني بع�ض‬
‫القيم التي تن�رشها تلك امل�ؤ�س�سات‪ ،‬وخا�صة منها و�سائل الإعالم واالت�صال كاالنرتنت‪ ،‬من هنا يربز‬
‫الت�سا�ؤل حول الدور الذي يتعني على املدر�سة �أن تقوم به يف تدبري هذه التعددية القيمية وتزويد‬
‫املتعلمني بالأدوات الفكرية والنقدية التي متكنهم من االختيار العقالين‪.‬‬

‫تلك بع�ض املحاور التي ميكن �أن تنتظم وفقها املقاربات املعتمدة يف املقاالت وامل�ساهمات املت�ضمنة‬
‫يف ملف هذا العدد‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫املدر�سة املغربية وم�سارات الرتبية‬
‫على القيم امل�شرتكة‬
‫عبد اللطيف املودين‬

‫يعد مو�ضوع الرتبية على القيم(‪ )1‬يف املدر�سة‪� ،‬سواء بالن�سبة للمغرب‪� ،‬أو لغريه من البلدان‬
‫الأخرى‪ ،‬ان�شغاال م�ستمرا و�إ�شكالية دائمة الراهنية‪ ،‬متجددة املقاربات‪ ،‬متعددة الر�ؤى ووجهات‬
‫النظر‪ .‬لذلك‪ ،‬يقع هذا املو�ضوع يف �صلب النقا�ش العمومي‪ ،‬وي�شكل حافزا على �إنتاج اخلطاب‬
‫امل�ؤطر لل�سلوك واملعاملة‪ ،‬وعلى �إر�ساء الآليات الكفيلة بتحويل القيم �إىل اقتناع‪ ،‬والتزام‪ ،‬وممار�سة‪.‬‬
‫كما �أنه �ش�أن يهم بناء املواطن‪ ،‬وي�ستهدف‪ ،‬ببعده الرتبوي‪ ،‬النا�شئة ال�صاعدة و�أجيال احلا�رض‬
‫وامل�ستقبل‪ .‬ومن ثم‪ ،‬اندراجه يف �صميم ان�شغاالت الدولة واملجتمع مبكوناتهما الر�سمية وغري‬
‫احلكومية‪ ،‬وال�سيما املدر�سة واجلامعة وغريها من م�ؤ�س�سات الرتبية والتكوين‪ ،‬واجلمعيات ذات‬
‫الوظائف الت�أطريية‪ ،‬والرتبوية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬واحلقوقية‪.‬‬

‫تت�أطر مقاربة �إ�شكالية الرتبية على القيم يف املدر�سة �ضمن �أربعة م�سارات‪ ،‬على اخل�صو�ص‪:‬‬

‫• امل�سار الأول‪ ،‬يتحدد يف �أن ال�سيا�سات التعليمية اخلا�صة بالرتبية على القيم‪ ،‬بو�صفها �إحدى‬
‫الوظائف الأ�سا�س للمدر�سة‪ ،‬تظل مدعوة ال�ستح�ضار �أن القيم‪ ،‬يف عالقتها الع�ضوية ب�سريورة‬
‫الواقع الب�رشي وبدينامية املجتمعات‪ ،‬وبتعقد العمليات الرتبوية الهادفة �إىل بناء ال�سلوك‪ ،‬تت�سم‬
‫بكونها متعددة الدالالت‪ ،‬واال�ستعماالت‪ ،‬خمتلفة املرجعيات‪ ،‬والأهداف‪ ،‬ومو�ضوع تعار�ض‬
‫و�رصاع؛ ذلك �أن «القيم هي تف�ضيالت جماعية ميكن اقت�سامها‪� ،‬أو عدم اقت�سامها من طرف‬
‫�أ�شخا�ص‪ ،‬وجمموعات اجتماعية»(‪.)2‬‬

‫• امل�سار الثاين‪ ،‬يتمثل يف �أن القيم تتفاعل �ضمن منظومات قيمية دائمة التغري‪ ،‬يف ارتباط بتطور‬
‫املجتمع وحتوله‪ ،‬وبتجدد غاياته وخياراته‪ ،‬وتبعا لتجاذبه بني اخل�صو�صية والكونية‪ ،‬بني واقع‬
‫املمار�سات القائمة‪ ،‬وبني ما حتمله القيم من ُمث ٍُل تعرب عن الطموح نحو ما ينبغي �أن يكون؛‬

‫• امل�سار الثالث‪ ،‬م�ؤداه �أن الرهان على املدر�سة يف الرتبية على القيم‪ ،‬ينبع من اقتناع مفاده �أن‬

‫‪ - 1‬القيم جمع قيمة وحتمل ثالثة معان على الأقل‪:‬‬


‫ــ ال�سمة املميزة ل�شخ�ص �أو �شيء بناء على تقدير معني؛‬ ‫‪ ‬‬
‫ــ خا�صية �شخ�ص �أو �شيء يف حد ذاتهما؛‬ ‫‪ ‬‬
‫ــ خا�صية �شخ�ص �أو �شيء بالنظر لتج�سيد قيمة معينة‪.‬‬ ‫‪ ‬‬
‫‪Dictionnaire encyclopédique de l’éducation et de la formation, NATHAN université,‬‬
‫‪Paris 1981, pp 1025, 1026‬‬
‫‪ -2‬رحمة بورقية و�آخرون‪ ،‬التقرير الرتكيبـي للبحث الوطني حـول القيم‪� 50 ،‬سنة من التنمية الب�رشيـة‪ RDH50 ،‬الرباط ‪2006‬‬
‫�ص ‪.10‬‬

‫‪9‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫�إجناح املدر�سة املغربية يقع يف �صميم التحديات التي على املغرب رفعها‪ ،‬واحلال �أن هذا االقتناع‬
‫مل يتحول بعد �إىل التزام را�سخ ومتقا�سم على �أو�سع نطاق‪ .‬وهو ما جتليه التعبئة اخلجولة حول‬
‫املدر�سة املغربية‪ ،‬رغم حجم الرهانات املطروحة عليها(‪.)3‬‬

‫يف ارتباط بذلك‪ ،‬مييل الكثريون �إىل ت�صنيف ق�ضايا الرتبية والتكوين �ضمن خانة امللفات‬
‫االجتماعية‪ ،‬مبنظور يجعلها حقال مليئا بالإكراهات وامل�شاكل‪ ،‬ولي�س بو�صفها ف�ضاء للإمكانات‬
‫اخل�صبة وللم�ستقبل‪ .‬هذا‪ ،‬مع �أن امل�ؤ�رشات والدرا�سات والتجارب الدولية تثبت ب�أن البلدان التي‬
‫متثل اليوم قوى �صاعدة‪ ،‬مثل كوريا اجلنوبية‪ ،‬وماليزيا‪ ،‬والهند‪ ،‬هي تلك التي ا�ستثمرت يف الر�أ�سمال‬
‫الب�رشي‪ ،‬ويف تكوين املواطن امل�ؤهل‪ ،‬املت�شبع بقيم املواطنة وبثقافة احلقوق والواجبات؛ مما مكنها‬
‫مبكرا‪ ،‬من ح�سم �إ�صالح منظوماتها الرتبوية‪ ،‬و�إر�ساء الآليات الالزمة ملالءمتها امل�ستمرة مع انتظارات‬
‫املجتمع ومتطلبات الع�رص‪.‬‬

‫• امل�سار الرابع‪ ،‬مفاده �أن امل�س�ؤولية امللقاة على املدر�سة يف نقل القيم ينبغي �أال تتطابق مع القول‬
‫ب�أن ال�صعوبات التي ما تزال تعرت�ض منظومة الرتبية والتكوين باملغرب‪ ،‬وال�سيما يف �أداء وظيفتها‬
‫الرتبوية هي ال�سبب الأ�صلي والوحيد لكل املمار�سات الالمدنية‪ ،‬والظواهر املنافية للمواطنة من‬
‫قبيل الغ�ش‪ ،‬عدم احرتام الأدوار والغري‪ ،‬الإ�رضار باملمتلكات العامة وبالبيئة‪ ،‬بع�ض �أ�شكال‬
‫العنف‪ ،...‬التي تثبت مالحظة الواقع والعديد من الدرا�سات تزايد انت�شارها يف املجتمع‪ ،‬ويف‬
‫بع�ض امل�ؤ�س�سات التعليمية(‪)4‬؛ ذلك �أن مثل هذه املمار�سات والظواهر جتد كثريا من �أ�سبابها‪،‬‬
‫لي�س فقط يف الإ�شكاليات التي تعرت�ض املدر�سة‪ ،‬ولكن �أي�ضا يف االختالالت املرتبطة بوظائف‬
‫بع�ض بنيات املجتمع‪ ،‬وم�ؤ�س�ساته‪.‬‬

‫يف �ضوء هذه امل�سارات �ستتم معاجلة �إ�شكالية العالقة بني القيم واملدر�سة‪ ،‬من خالل املحاور‬
‫الثالثة التالية‪:‬‬

‫�أوال‪ :‬حماولة حتديد قيم املدر�سة املغربية اليوم‬


‫ميكن القول �إنه يف عامل متغري حامل لو�سائط وقيم متعددة(‪ ،)5‬و�ضمن جمتمع مغربي‬
‫ي�شهد حتوالت عميقة‪ ،‬وت�سعى م�ؤ�س�ساته اليوم �إىل املزيد من اال�ستقاللية‪ ،‬ويف ف�ضاءات تعليمية‬
‫�أ�ضحى تالمذتها ي�سلكون وفق قيم تتعار�ض �أحيانا مع قيم املنظومة الرتبوية؛ ف�إن املدر�سة تعد‬
‫ذرعا جمتمعيا بالغ الأهمية ل�صيانة الثوابت الوطنية‪ ،‬ولإذكاء ال�شعور باالنتماء للأمة‪ ،‬ولنقل القيم‬
‫امل�شرتكة للمجتمع املغربي ــ املعرب عنها على العموم يف مقت�ضيات الد�ستور اجلديد ــ ولتج�سيد‬
‫تعدد روافد الهوية وثراء الثقافة الوطنية‪ .‬وتكري�س االنفتاح املغربي الدائم على القيم الكونية‪.‬‬

‫‪ - 3‬املجل�س الأعلى للتعليم‪ ،‬تقرير ‪ 2008‬حول حالة منظومة الرتبية والتكوين و�آفاقها‪ ،‬اجلزء الأول‪� :‬إجناح مدر�سة للجميع‪� ،‬ص‪.43 :‬‬
‫‪� -4‬أنظر �أ�شغال الندوة الوطنية حول املدر�سة وال�سلوك املدين املنظمة من قبل املجل�س الأعلى للتعليم بالرباط يف ماي ‪.2007‬‬
‫‪5- REZSOHAZY Rudolf sociologie des valeurs, Armand Colin 2006, pp. 13-14‬‬

‫‪10‬‬
‫من هذا املنظور‪ ،‬فبقدر ما يتعني على املدر�سة القيام بدورها املحوري يف تعميق االعتزاز‬
‫بالذات الوطنية‪ ،‬بقدر ما تقع على عاتقها مهمة تربية النا�شئة على احرتام االنتماءات الأخرى‪ ،‬يف‬
‫انفتاح م�ستمر على الغري وعلى القيم الكونية(‪.)6‬‬

‫يف املقابل‪ ،‬ال ينبغي لأ�سئلة الهوية �أن ترهن الف�ضاءات التعليمية والتكوينية‪ ،‬وال �أن جتعل‬
‫منها جماال لت�رصيف التموقعات القائمة خارج تلك الف�ضاءات(‪.)7‬‬

‫يف ارتباط ب�أ�سئلة الهوية‪ ،‬وقيمها تظل املدر�سة املغربية مدعوة‪ ،‬وهي ت�ستح�رض لزوما القيم‬
‫الوطنية امل�شرتكة املنفتحة على القيم الكونية للإن�سانية‪ ،‬التي جاء بها الد�ستور اجلديد ‪،2011‬‬
‫للمزاوجة بني الرتبية على قيم املواطنة‪ ،‬وقواعد ال�سلوك املدين وحقوق وواجبات الإن�سان‪ ،‬واحرتام‬
‫الغري‪ ،‬وعلى ف�ضائل النقا�ش املتعدد‪ ،‬و�إ�شاعة ثقافة االجتهاد املثمر‪ ،‬واملناف�سة ال�شفافة‪ ،‬والنزيهة‬
‫القائمة على اال�ستحقاق‪ ،‬وبني تر�سيخ املمار�سة الدميوقراطية يف ف�ضاءات الرتبية والتكوين(‪)8‬؛ ذلك‬
‫�أن ا�ستمرارية توطيد البناء الدميوقراطي باملغرب‪ ،‬كما �أنها تتم عرب الإ�صالحات اجلارية‪ ،‬ف�إنها تقع‬
‫على نخب الغد‪ ،‬التي متثلها النا�شئة املتعلمة اليوم‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬املدر�سة ومدى ا�ضطالعها مبهمة الرتبية على القيم‬


‫�ستتم معاجلة هذا املحور‪ ،‬باال�ستناد �إىل اعتبارين �أ�سا�سيني‪:‬‬

‫• االعتبار الأول‪ ،‬هدفه ت�أكيد امل�رشوعية الدائمة مل�ؤ�س�سات الرتبية والتكوين يف نقل القيم؛ ذلك‬
‫�أن على املدر�سة �أن تكون دوما مر�آة متجددة ملجتمع يتغري‪ ،‬وملنظومة قيمية يف حتول م�ستمر‪.‬‬
‫كما �أنها يف املقام الأول‪ ،‬مرفق عمومي يهم اجلميع‪ .‬هذا‪ ،‬عالوة على كونها ممرا �رضوريا لكل‬
‫الطفالت والأطفال‪ ،‬منذ بلوغ �سن التمدر�س �إىل غاية ا�ستيفاء ‪� 15‬سنة من العمر‪� ،‬أي �إمتام‬
‫التعليم الإلزامي على الأقل؛ حيث يق�ضون يف ف�ضاءاتها احليز الأهم من وقتهم وحياتهم‪.‬‬

‫يف ارتباط بذلك‪ ،‬ت�شكل املدر�سة‪ ،‬رغم ما قد يخرتق املجتمع من فوارق وتراتبات‪ ،‬الف�ضاء‬
‫الذي مينح فر�صة متميزة للعمل على جت�سيد �أف�ضل �رشوط الإن�صاف وتكاف�ؤ الفر�ص‪ ،‬يف موازاة‬
‫مع ت�شجيع التفوق‪ ،‬واالمتياز بناء على اال�ستحقاق‪ ،‬مع ال�سهر على تكري�س قيم املواطنة‪ ،‬وثقافة‬
‫احلقوق‪ ،‬والواجبات‪ ،‬واحلرية‪ ،‬والإبداع‪ ،‬واالبتكار؛ وذلك يف �إطار ا�ضطالع املدر�سة مب�س�ؤوليتها‬
‫الدائمة يف تكوين املواطن‪� ،‬ضمن نهو�ضها الطبيعي بوظيفتها الرتبوية‪.‬‬

‫من ثم‪ ،‬فاملدر�سة ملزمة بت�أ�سي�س فعلها الرتبوي على تر�سيخ القيم املتقا�سمة للأمة‪ ،‬بعيدا عن‬
‫القناعات الذاتية للأفراد واملجموعات‪ ،‬بل للفاعلني الرتبويني �أنف�سهم‪ .‬هذا يعني �أن مدر�سة القيم‬

‫‪� -6‬أنظر امليثاق الوطني للرتبية والتكوين‪ ،‬املطبعة الر�سمية ‪� ،2002‬ص‪ 9 .‬و ‪.10‬‬
‫‪ -7‬ر�أي املجل�س الأعلى للتعليم حول ال�سلوك املدين رقم ‪ 07/2‬ال�صادر يف �سنة ‪.2007‬‬
‫‪8- MERCKELBACH Stefane, définir les valeurs d’un établissement scolaire, www.ordinata.‬‬
‫‪ch, 2004.‬‬

‫‪11‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫متر بال�رضورة عرب تقا�سم االقتناع‪ ،‬وااللتزام بالقيم امل�شرتكة‪ ،‬التي يعهد املجتمع بنقلها للمدر�سة(‪.)9‬‬

‫• �أما االعتبار الثاين‪ ،‬فيجليه االنت�شار الوا�سع وال�رسيع لتكنولوجيا الإعالم واالت�صال وال�ستعمالها‪،‬‬
‫وال�سيما من لدن النا�شئة وال�شباب‪ .‬معلوم �أن هذه التقنيات الع�رصية حتمل يف ثنايا �إر�سالياتها‬
‫جملة من القيم واملوجهات الأخالقية؛ مما ي�ستدعي من املدر�سة مالءمة �آليات ا�شتغالها وطرائق‬
‫فعلها البيداغوجي‪ ،‬يف اجتاه رفع حتدي التناف�سية الرقمية‪ ،‬بل والتحكم يف تلك التقنيات‪،‬‬
‫والقدرة على ح�سن توظيفها‪ ،‬بهدف نقل القيم امل�شرتكة ب�أ�ساليب مقنعة‪ ،‬ومبتكرة‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬الرتبية على القيم ‪ :‬الآليات وال�صعوبات‬


‫ت�ؤدي املدر�سة مهمتها يف تربية النا�شئة والأجيال ال�صاعدة على القيم بتوظيف جملة من‬
‫الآليات(‪� )10‬أهمها �أربعة على اخل�صو�ص‪:‬‬

‫➣ �آلية اخلطاب‪ ،‬بو�صفه �آلية لنقل القيم عرب امل�ضامني الدرا�سية‪ ،‬وبرامج التكوين و�أعمال البحث‪،‬‬
‫التي حتمل �ضمن �إر�سالياتها تلك القيم؛‬

‫➣ �آلية القدوة‪ ،‬القائمة على حث املدر�سني‪ ،‬واملربني على تقدمي مثال بيداغوجي يج�سد القيم‬
‫امل�ستهدفة‪ ،‬من خالل ت�رصفاتهم‪ ،‬و�سلوكاتهم‪ ،‬ومعامالتهم‪ ،‬يف مراعاة للنماذج التي تتيحها‬
‫املنظومة القيمية املرجعية للمدر�سة؛‬

‫➣ �آلية الأن�شطة الثقافية والريا�ضية‪ ،‬الكفيلة بجعل احلياة املدر�سية‪ ،‬واجلامعية‪ ،‬والتكوينية‬
‫ف�ضاءات للت�شبع بالقيم‪ ،‬وتر�سيخ ثقافتها؛‬

‫➣ و�أخريا �آليات �سري امل�ؤ�س�سات املدر�سية‪ ،‬وتدبري جمال�سها‪ ،‬وكيفية ا�شتغالها‪ ،‬التي ب�إمكانها تقدمي‬
‫مناذج متميزة يف امل�شاركة‪ ،‬والدمقرطة‪ ،‬وال�شفافية‪ ،‬والنزاهة‪.‬‬

‫ب�رصف النظر عن هذه الآليات وغريها‪ ،‬ف�إن نقل املدر�سة للقيم تعرت�ضه جملة من ال�صعوبات‪،‬‬
‫تتلخ�ص �أهمها يف خم�سة �أ�سا�سية‪:‬‬

‫• ال�صعوبة الأوىل‪ ،‬متثلها �إ�شكالية تقا�سم امل�س�ؤولية يف نقل القيم‪ ،‬وتر�سيخها؛ ذلك �أن تنمية‬
‫القيم‪� ،‬إذا كانت مهمة مطروحة ب�إحلاح على املنظومات الرتبوية‪ ،‬ف�إنها تظل م�س�ؤولية متقا�سمة‬
‫تتوالها املدر�سة �إىل جانب الأ�رسة‪ ،‬والإعالم‪ ،‬وكذا امل�ؤ�س�سات‪ ،‬واجلمعيات ذات الوظائف الرتبوية‬
‫والثقافية‪ ،‬والت�أطريية‪ ،‬التي ما فتئت تقوم بدور رائد‪ ،‬ومببادرات متميزة‪ ،‬من �أجل ن�رش ثقافة القيم‬
‫املواطنة‪ ،‬مما ي�ستدعي �إعطاء الأهمية لإر�ساء �صيغ م�ؤ�س�ساتية م�ستدمية لل�رشاكة‪ ،‬والتعاقد‪،‬‬
‫والتن�سيق‪ ،‬من �أجل برامج عمل م�شرتكة لتنمية القيم‪ ،‬وتر�سيخها لدى الأجيال ال�صاعدة؛‬

‫‪9- OBIN Jean-Pierre, les valeurs et l’école, www.afae.fr, 2009‬‬


‫‪ - 10‬نف�س املرجع ال�سابق ‪OBIN Jean-Pierre, les valeurs et l’école, www.afae.fr, 2003‬‬

‫‪12‬‬
‫• ال�صعوبة الثانية‪ ،‬جتليها حمدودية التج�سيد الفعلي للقيم يف ال�سلوك واملمار�سات‪ ،‬يف مقابل‬
‫ت�ضخم اخلطاب البيداغوجي الذي يتم �إنتاجه حول القيم؛‬

‫• ال�صعوبة الثالثة‪ ،‬تربز يف مو�سمية الربامج املخ�ص�صة للرتبية على القيم‪ ،‬يف مقابل �إ�شكالية‬
‫ا�ستمرارها‪ ،‬وا�ستدامتها؛‬

‫• ال�صعوبة الرابعة‪ ،‬متثلها م�س�ألة تدبري الرتبية على القيم‪ ،‬وذلك باالنتقال بها من التوجيهات‬
‫الرتبوية‪ ،‬وبرامج العمل الوطنية واجلهوية‪� ،‬إىل قلب الف�صول الدرا�سية‪ ،‬وف�ضاءات امل�ؤ�س�سات‬
‫التعليمية‪ ،‬ومن ثم‪� ،‬إىل حتقيق االقتناع بها‪ ،‬وااللتزام بقواعدها‪ ،‬وجت�سيدها يف ال�سلوك‪،‬‬
‫واملعاملة‪ ،‬واملمار�سات اليومية لدى كل متعلم ومتعلمة؛‬

‫• �أما ال�صعوبة اخلام�سة‪ ،‬فتتحدد يف نق�ص الأدوات الكفيلة بتتبع الأثر على م�ستوى بناء ال�سلوك‬
‫والفعل‪ ،‬وتقومي م�ؤ�رشات االجنازية‪ ،‬وال�سيما يف جمال الرتبية على القيم‪ ،‬التي يظل تلم�س‬
‫نتائجها يف املمار�سات حمدودا‪ .‬كما �أن حتقيق �أهدافها يندرج يف مدى زمني بعيد‪.‬‬

‫ميكن القول �إجماال‪� ،‬إن املدر�سة املغربية التواقة لأن تكون م�ؤ�س�سة املردودية العالية‪ ،‬والإن�صاف‪،‬‬
‫واال�ستحقاق‪ ،‬واكت�ساب ف�ضائل ال�سلوك املدين‪ ،‬وقيم املواطنة‪ ،‬وقواعد املمار�سة الدميقراطية‪،‬‬
‫مدعوة‪ ،‬وال�سيما يف �سياق التحوالت ال�سو�سيو�سيا�سية التي ي�شهدها املجتمع املغربي اليوم‪ ،‬مل�ضاعفة‬
‫اجلهود من �أجل حتقيق التوازن ال�رضوري بني القيام بوظيفتها يف التن�شئة على القيم املتقا�سمة بني‬
‫مكونات الأمة(‪ ،)11‬والرتبية عليها‪ ،‬وبني مهمتيها املعتادتني يف تعليم الكفايات املنهجية واملعرفية‪،‬‬
‫واكت�سابها‪ ،‬ويف الت�أهيل للحياة املهنية‪.‬‬

‫وهو ما ي�ستدعي املزاوجة اخلالقة بني نقل املعارف‪ ،‬والتكوين الهادف �إىل بناء احلكم عليها‬
‫�أي تر�سيخ الفكر النقدي‪ ،‬وبني الرتبية على القيم والتكوين الهادف �إىل احلكم على تلك القيم‪.‬‬

‫‪ -11‬يفرت�ض �أن ت�ستمد قيم املدر�سة املغربية اليوم مرجعيتها على اخل�صو�ص من الد�ستور اجلديد ‪ 2011‬وغايات املنظومة‬
‫الوطنية للرتبية والتكوين املحددة يف امليثاق الوطني للرتبية والتكوين بو�صفه �إطارا مرجعيا وطنيا لتجديد بناء املنظومة‬
‫الرتبوية و�إ�صالحها‪.‬‬

‫‪13‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫حدود االختيار التوافقي وانعكا�ساته‬
‫على منظومة القيم يف املدر�سة املغربية‬
‫حممد ال�صغري جنجار‬
‫باحث ــ مدير حترير جملة «املدر�سة املغربية»‬

‫التحوالت املجتمعية والتنافر القيمي‬


‫عند درا�سة مو�ضوع القيم يف املجتمعات العربية املعا�رصة‪ ،‬هناك مفارقة طاملا �شدت اهتمام‬
‫علماء االجتماع‪ ،‬وامل�شتغلني بالتحوالت االجتماعية‪ ،‬والثقافية ب�شكل عام‪ .‬وميكن حتديد نواة‬
‫تلك املفارقة فيما اعترب م�سافة �أو تفاوتا قائما بني �إيقاع التحديث البنيوي (البنيات التحتية‪،‬‬
‫القوانني‪ ،‬امل�ؤ�س�سات‪� ،‬أمناط العي�ش واال�ستهالك‪� ،‬إلخ) الذي ُيعرب عنه عادة بكلمة «حتديث»‬
‫(‪)modernisation‬؛ وبني �إيقاع احلداثة (‪ )modernité‬باعتبارها مت�س بالأ�سا�س الفكر‪،‬‬
‫والتمثالت‪ ،‬والقيم‪ ،‬والعقليات‪ ،‬والتي عادة ما تبدو وتريتها �أقل �رسعة من �إيقاع حتول الإطار‬
‫املادي حلياة النا�س‪.‬‬

‫فال �أحد يجادل يف كون املجتمع املغربي ي�شهد منذ مطلع القرن الع�رشين حتوالت بنيوية‬
‫عميقة‪ :‬ت�سارع وترية متدر�س ال�ساكنة ب�شكل خا�ص‪ ،‬تراجع ن�سب الأمية‪ ،‬انخفا�ض معدل اخل�صوبة‬
‫وحتقق م�ؤ�رشات التحول �أو االنتقال الدميغرايف‪ ،‬انت�شار نظام الأ�رسة النووية‪ ،‬ارتفاع ن�سب التعمري‬
‫احل�رضي والتحديث التقني‪ ،‬الربوز التدريجي للفرد كفاعل جديد‪ ،‬تعقد بنيات املجتمع وعالئقه‬
‫وارتفاع كثافة تق�سيم العمل‪ ،...‬وغريها من امل�ؤ�رشات املتعارف عليها عامليا يف الأدبيات ال�سو�سيو‬
‫اقت�صادية ك�أدوات لقيا�س درجات االنتقال من منط التنظيم اجلماعاتي التقليدي نحو املجتمع‬
‫احلديث‪ .‬وكلنا يعرف �أن اللحظة الت�أ�سي�سية للفكر ال�سو�سيولوجي ت�شكلت عند حماولة درا�سة وفهم‬
‫هذا التحول (�أعمال دوركهامي مثال)‪ .‬لكن �إذا كان هذا التغري �أمرا واقعا يف املجتمع املغربي املعا�رص‪،‬‬
‫ف�إن الدار�سني يالحظون عادة �أن هذا التغري مل يواكبه «ب�شكل مت�ساوق ومتنا�سق حتول يف جمال‬
‫الوعي الفردي واجلماعي الذي ظل يغلب عليه نزوع ثقايف تقليداين وحمافظ»‪.‬‬

‫ومع �أن ال �أحد ينكر وجود تغريات يف املنظومة القيمية‪ ،‬هناك نوع من الإجماع على‬
‫اعتبارها ال تتخذ �إيقاعا مت�ساوقا ومتنا�سقا مع �إيقاع التحوالت االجتماعية البنيوية امل�شار �إليها‬
‫�أعاله‪ .‬ولعل الإبداعات الفنية والأدبية (ال�سينما والرواية وامل�رسح) توفقت �إىل حد كبري يف التعبري‬
‫عن هذا الإح�سا�س بالتفاوت والالتناغم يف معي�ش الإن�سان املغربي املعا�رص‪ .‬هناك‪� ،‬إن �شئنا‪،‬‬
‫نوع من التنافر )‪ (1)(dissonance‬بني خمتلف الأ�صوات (‪ )sons‬امل�شكلة لن�سيج جتارب الأفراد‬

‫‪ - 1‬يف القامو�س املو�سيقي تعني عبارة (‪ )dissonance‬توايل �أ�صوات متنافرة ال تنا�سق وال ت�آلف بينها‪ ،‬مما يحدث انزعاجا لدى‬
‫امل�ستمع‪ .‬وعندما تذهب الأ�صوات يف اجتاهات متنافرة‪� ،‬أو عندما جتتمع يف لوحة ت�شكيلية واحدة �ألوان غري متجان�سة يعرب‬
‫عن ذلك �أي�ضا بعبارة (‪ ،)dissonance‬نوع من الفو�ضى غري املح�سوبة �أو غرياملدرو�سة وهي نقي�ض التناغم (‪.)consonance‬‬

‫‪14‬‬
‫واجلماعات يف املجتمع‪ .‬و�سنبني الحقا �أن من املهام الأ�سا�سية للمدر�سة يف املجتمع احلديث‪،‬‬
‫العمل على تدارك التنافر الطبيعي القائم يف كل جمتمع‪ ،‬لإحداث �أق�صى ما ميكن من التناغم‬
‫(‪� )consonance‬أو الهرمونيا (‪ )harmonie‬على كل امل�ستويات‪.‬‬

‫�إنتاج التنا�سق القيمي ك�أحد مهام املدر�سة‬


‫مل �أكن لأختار ا�ستعارة مو�سيقية كمدخل لب�سط الفر�ضية التي تعاجلها هذه الورقة‪ ،‬لوال �أنني‬
‫�أنطلق من اعتبار �أن النزاع حول القيم هو معطى جمتمعي كوين‪ ،‬غري �أن املدر�سة بحكم طبيعتها‬
‫الرتبوية ال ميكن �أن تقف حمايدة‪� ،‬أو تقبل برتويج قيم مت�ضاربة‪ ،‬عاك�سة بذلك الت�ضارب القيمي‬
‫احلا�صل يف املجتمع‪.‬‬

‫القيم يف املجتمع احلديث‪ ،‬مثلها مثل الأ�صوات‪ ،‬توجد يف حالة تنافر (‪ )dissonance‬بن�سب‬
‫متفاوتة‪ ،‬ح�سب درجات االندماج الثقايف واالجتماعي واالقت�صادي لكل جمتمع‪ .‬ومهمة املدر�سة‬
‫احلديثة‪ ،‬كما ت�صورتها الدولة ــ الأمة انطالقا من القرن ‪19‬م‪ ،‬هي �أن ت�صوغ من الأ�صوات املتنافرة‬
‫معزوفة حتظى باحلد الأدنى املطلوب من التنا�سق والتناغم ال�رضوريني ل�سري جمتمع ديناميكي‬
‫منتج‪ ،‬ومنظم‪.‬‬

‫املدر�سة العمومية‪ ،‬مثل الإدارة احلديثة‪ ،‬واجلي�ش‪ ،‬وغريهما من امل�ؤ�س�سات تعد من �أهم �إبداعات‬
‫الدولة ــ الأمة احلديثة‪ .‬ومل تكن هذه الأخرية لت�ؤ�س�س املدر�سة العمومية‪ ،‬وتعمل على ب�سط ح�ضورها‬
‫عرب كل الرتاب الوطني‪ ،‬لو مل تكن تعتربها الور�شة الأ�سا�سية لرتكيب وبناء املجتمع احلديث ؛ �أي‬
‫املجتمع املندمج واملعقد يف نف�س الآن‪ .‬ذلك املجتمع الذي يتمتع �أفراده بحركية «عالية»‪ ،‬وبحد �أدنى‬
‫من املعارف (القراءة‪ ،‬الكتابة‪ ،‬احل�ساب)‪ ،‬واملهارات اللغوية ل�ضمان توا�صل �رسيع وفعال فيما بينهم‪.‬‬
‫ومن مهام املدر�سة العمومية‪ ،‬يف نطاق الدولة ــ الأمة احلديثة‪ ،‬تزويد النا�شئة مبنظومة قيمية م�شرتكة‬
‫ي�ستبطنونها ويت�شبتون بها‪ ،‬بحيث ت�صبح نوعا من املرجعية البديهية لدى غالبية املواطنني‪.‬‬

‫مل يكن الأمر مطروحا كذلك يف اجلماعات الزراعية التقليدية (ما قبل احلديثة)‪ ،‬نظرا لكونها‬
‫ت�ضطلع �أ�سا�سا مبهام �إعادة �إنتاج ذاتها‪ ،‬ولكون التن�شئة االجتماعية كانت تتمثل يف �إعادة �إنتاج‬
‫الأفراد على �شاكلة �آبائهم‪ ،‬و�أجدادهم‪ .‬ومن ثم‪ ،‬ف�إنه مل تكن هناك حاجة �إىل مدر�سة عمومية‬
‫موحدة على م�ستوى تراب البلد الواحد‪ .‬فالأ�رسة‪ ،‬والع�شرية‪ ،‬والزاوية‪ ،‬والقبيلة‪ ،‬وغريها من امل�ؤ�س�سات‬
‫االجتماعية التقليدية كانت ت�ضطلع مبهام التن�شئة االجتماعية با�ستقالل عن احلكم املركزي‪.‬‬

‫وعلى نقي�ض النظام التقليدي‪ ،‬تطمح املدر�سة احلديثة النتزاع الأطفال من و�سطهم الأ�صلي‬
‫وف�صلهم عن �أ�رسهم وعن االقت�صاد الأ�رسي (‪ )l’économie domestique‬ب�شكل عام‪ ،‬لالرتقاء‬
‫بهم نحو ثقافة �أعلى و�أو�سع �أفقا‪ ،‬ثقافة كونية تتجاوز املحيط املحلي املبا�رش (الأ�رسي‪ ،‬والقبلي‪ ،‬الخ)‪.‬‬
‫وجتدر الإ�شارة هنا �إىل �أن عبارة كوين (‪ )universel‬تعني قبل كل �شيء درجة عالية من التعميم‬
‫مثل كونية القواعد القانونية‪.‬‬

‫‪15‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫حدود املقاربة التوافقية‪ ،‬وم�ضاعفاتها على امل�ستوى القيمي‬
‫على امل�ستوى النظري املح�ض‪ ،‬يق�صد باملقاربة التوافقية تلك التي ت�سعى‪� ،‬سواء على امل�ستوى‬
‫املجتمعي‪� ،‬أو ال�سيا�سي‪� ،‬إىل نيل ر�ضى جميع الأطراف‪� ،‬أو �أغلبها‪ ،‬من خالل تعاقد‪� ،‬أو ميثاق‬
‫يعك�س ت�صوراتها و�أهدافها‪ .‬وهي منهجية يتم اللجوء �إليها عادة يف حلظات الأزمة احلادة حيث‬
‫احلاجة �إىل جتميع القوى املختلفة‪ ،‬واملتناق�ضة يف ر�ؤاها‪ ،‬و�أهدافها‪ ،‬بغية و�ضع تعاقد مرحلي يجد‬
‫فيه كل واحد من الأطراف جتليا لأطروحاته‪ ،‬حتى و�إن كان التعاقد يف جممل بنيته وروحه ال‬
‫يعك�س م�رشوع �أي طرف من الأطراف املتبارية على ال�ساحة ال�سيا�سة‪� ،‬أو االجتماعية‪ .‬وميكن القول‬
‫ب�أن املقاربة التوافقية ال تتخذ �إال ا�ستثناءا‪ ،‬وملدة زمنية حمدودة ؛ فالقاعدة يف ال�سياق الدميقراطي‬
‫العادي هي التناف�س ما بني الربامج وامل�شاريع‪ ،‬واعتماد تلك التي حتملها الأغلبية التي تنال ثقة‬
‫املواطنني عرب االنتخابات املنتظمة‪ ،‬وامل�ؤطرة قانونيا‪ ،‬وم�ؤ�س�ساتيا‪.‬‬

‫ال�س�ؤال الذي يطرح نف�سه باال�ستناد �إىل التوطئة �أعاله هو كالآتي ‪ :‬هل من املمكن بناء‬
‫موقف توافقي يف املجال القيمي‪� ،‬أو املعياري ؟‬

‫لعله من املمكن جدا ت�صور توافقات �سيا�سية‪� ،‬أو اقت�صادية‪� ،‬أو اجتماعية يف جماالت‬
‫امل�صالح املختلفة القابلة للقيا�س‪ ،‬وللتدبري الرباغماتي‪ ،‬بحيث ت�صل الأطراف املتناف�سة عرب تنازالت‬
‫معقلنة‪ ،‬ومتفاو�ض ب�ش�أنها‪� ،‬إىل نوع من احلد الأدنى املتوافق ب�ش�أنه‪ ،‬والذي‪ ،‬و�إن مل ير�ض جممل‬
‫تطلعات خمتلف الأطراف‪ ،‬فهو‪ ،‬على الأقل‪ ،‬يلبي‪ ،‬جزئيا انتظارات كل طرف‪ .‬وهكذا ميكننا ت�صور‬
‫توافقات بني �أرباب املقاوالت‪ ،‬والنقابات العمالية حول الأجور‪ ،‬مثال‪� ،‬أو التوافق بني الأحزاب الليربالية‬
‫واال�شرتاكية حول ال�سيا�سة ال�رضيبية‪ ،‬وم�ستوى الإنفاق العمومي‪ ،‬الخ‪.‬‬

‫لكن‪ ،‬هل من املمكن �إيجاد توافق بني قيم مت�ضاربة‪ ،‬متنازعة‪ ،‬حيث يعترب املدافعون عن كل‬
‫منظومة قيمية �أنها مطلقة ونهائية ؟ هل ميكن مثال �أن جنمع يف برنامج درا�سي واحد موجه لكل‬
‫التالميذ توفيقا وجمعا بني درو�س تقدم للنا�شئة نظرية اخللق الإلهي للإن�سان‪ ،‬باعتبارها حقيقة �أزلية‬
‫مطلقة‪ ،‬وبني درو�س تب�سط نظرية الن�شوء والتطور باعتبارها م�ستمدة من مالحظات �أمربيقية باال�ستناد‬
‫�إىل املنهج العلمي املتعارف عليه (الفر�ضية ؛ التجريب ؛ �صياغة القانون العلمي الن�سبي القابل للمراجعة‬
‫والتفنيد على �ضوء فر�ضيات وجتارب جديدة ناجحة‪ )..‬؟ هل ميكن �أن جنمع يف نف�س املناهج الدرا�سية‬
‫بني درو�س عقدية حتمل خطابا قيميا ي�ستند �إىل قراءة للن�صو�ص املقد�سة ت�ؤ�س�س لفكرة �أن الإن�سان م�سري‬
‫يف كل حركاته‪ ،‬و�سكناته‪ ،‬و�أن كل �شيء يحدث يف الكون �سبق و�أن كتب‪ ،‬و�سجل‪ ،‬وقرر‪ ،‬بعناية �إلهية منذ‬
‫الأزل ؛ ويف ذات الوقت ندمج يف نف�س املناهج املدر�سية قيم احلرية وامل�س�ؤولية الفردية �سواء تلك التي‬
‫يحملها فكر الأنوار‪ ،‬وما تاله‪� ،‬أو فل�سفة حقوق الإن�سان يف �صيغتها احلديثة ؟ وبعبارة �أخرى هل ميكن‬
‫�أن تت�أ�س�س املنظومة القيمية يف ن�سق تربوي معني على الن�سبية املعيارية (‪)le relativisme normatif‬‬
‫بحيث تكتفي ب�أن تعر�ض على النا�شئة خليطا من القيم املت�ضاربة واملتناق�ضة فيما بينها ؟‬

‫�إن متفح�ص الن�صو�ص املرجعية احلديثة للمنظومة الرتبوية املغربية (امليثاق الوطني للرتبية‬
‫والتكوين مثال)‪� ،‬أو املناهج والكتب املدر�سية املعمول بها‪ ،‬لن يجد عناء يف القول ب�أن املنظومة‬

‫‪16‬‬
‫الرتبوية املغربية تقبل بالن�سبية املعيارية وتعتمدها كخيط رابط بني كل ما تقدمه من قيم لرواد‬
‫املدر�سة املغربية‪.‬‬

‫جرت العادة‪ ،‬يف و�سائل الإعالم‪ ،‬ويف خطاب خمتلف ال�سيا�سيني والقائمني على النظام‬
‫الرتبوي‪� ،‬أن ي�شار �إىل امليثاق الوطني للرتبية والتكوين باعتباره ثمرة توافق وطني‪ ،‬حتددت عربه‬
‫الأ�س�س‪ ،‬والآفاق‪ ،‬والغايات التي ارت�ضتها القوى الفاعلة (ال�سيا�سية‪ ،‬والنقابية‪ ،‬والدينية‪ ،‬والأكادميية‪،‬‬
‫الخ) للمنظومة الرتبوية الوطنية‪ .‬فما املق�صود‪ ،‬مثال‪ ،‬بالتوافق الوطني على م�ستوى الأ�س�س املعيارية‬
‫التي تعر�ضها هذه الوثيقة ؟‬

‫يف الق�سم اخلا�ص باملرتكزات �أو الثوابت امل�ؤ�س�سة للم�رشوع الرتبوي املغربي‪ ،‬جند ب�أن وا�ضعي‬
‫امليثاق الوطني للرتبية والتكوين(‪ )2‬توافقوا على اعتماد جمموعة من الدوائر املعيارية املتجاورة التي‬
‫تر�سم للمدر�سة املغربية الآفاق القيمية �أو املعيارية الآتية ‪:‬‬

‫• الدائرة الدينية‪ ،‬التي حتمل املدر�سة مهمة موا�صلة التن�شئة الدينية التي تنطلق يف حميط‬
‫الأ�رسة‪ ،‬وذلك على �ضوء «مبادئ العقيدة الإ�سالمية» و«الإميان باهلل»‪.‬‬

‫• �أما الدائرة الثانية من املرتكزات القيمية‪ ،‬فهي ذات بعد ثقايف لغوي‪ .‬وتقت�ضي �أن ي�رضب‬
‫النظام الرتبوي جذوره يف «الرتاث احل�ضاري والثقايف للبالد»‪ .‬وهو تراث تعددي ي�شمل «اللغة‬
‫العربية»‪ ،‬والرتاث املحلي «بتنوع روافده اجلهوية»‪ ،‬كما ي�شمل االنفتاح على «اللغات الأكرث انت�شارا‬
‫يف العامل»‪ ،‬و«الوفاء للأ�صالة» املغربية‪.‬‬

‫ • ثم هناك الدائرة ال�سيا�سية املتعلقة بتكوين «مواطنني» مت�سمني بـ«حب الوطن والتم�سك‬
‫بامللكية الد�ستورية»‪ ،‬و«امل�شاركة االيجابية يف ال�ش�أن العام»‪ ،‬وواعني «�أمت الوعي بواجباتهم وحقوقهم»‪،‬‬
‫مت�شبعني «بروح احلوار‪ ،‬وقبول االختالف وتبني املمار�سة الدميقراطية‪ ،‬يف ظل دولة احلق والقانون»‪.‬‬

‫• ودائرة العلم واملعرفة الكونية احلديثة‪ ،‬حيث الغاية هي «امتالك نا�صية العلوم والتكنولوجيا‬
‫املتقدمة‪ ،‬والإ�سهام يف تطويرها»‪ ،‬و«التطلع الدائم للمعا�رصة»‪ ،‬واالنفتاح على «معطيات احل�ضارة‬
‫الإن�سانية الع�رصية‪ ،‬وما فيها من �آليات و�أنظمة تكر�س حقوق الإن�سان‪ ،‬وتدعم كرامته»‪.‬‬

‫�إذا كان التوافق الذي يعرتف ويقبل بوجود وتناف�س منظومات واختيارات متعددة‪� ،‬أمرا‬
‫حممودا يف احلقول ال�سيا�سية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬واالقت�صادية‪ ،‬ف�إن نقله وا�ستنباته يف جمال الرتبية‪،‬‬
‫ي�ؤدي �إىل م�ضاعفات �سلبية تفقد املدر�سة جتان�سها‪ ،‬وفعاليتها‪ .‬ومن ثم‪ ،‬ي�صبح التوافق يف احلقل‬
‫الرتبوي معناه �إرجاء االختيار‪ ،‬ونقل ال�رصاع املعياري‪ ،‬والقيمي الطبيعي القائم يف املجتمع �إىل قلب‬
‫املدر�سة‪ .‬وي�صري التوافق تخليا عن بذل اجلهد الفكري املطلوب لإعادة بناء فل�سفة املنظومة الرتبوية‬
‫يف �شموليتها‪ ،‬على �ضوء باراديغم‪� ،‬أو اختيارات حمددة‪.‬‬

‫ويف ظل غياب املجهود الفكري امل�شار �إليه‪ ،‬يتم االكتفاء بتوافق �سلبي (‪ )passif‬يح�سم‬

‫‪ -2‬اململكة املغربية‪ ،‬امليثاق الوطني للرتبية والتكوين‪ ،‬املطبعة الر�سمية ‪.2002‬‬

‫‪17‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫�إ�شكالية بناء املرجعية الفل�سفية للم�رشوع الرتبوي من خالل الأخذ بدوائر قيمية متجاورة (القيم‬
‫الدينية ؛ القيم الوطنية ؛ القيم الفل�سفية احلديثة وحقوق الإن�سان‪ ،‬الخ)‪ .‬ومن ثم يرتك لوا�ضعي‬
‫الربامج الرتبوية وم�ؤلفي الكتب املدر�سية وللمدر�سني �أمر التزود من هذه الدائرة �أو تلك وفق قناعاتهم‪،‬‬
‫ومن دون �أدنى تراتبية �أو وحدة ع�ضوية‪ .‬الأمر الذي يتجلى وا�ضحا يف الت�ضارب القيمي الذي تنطوي‬
‫عليه املقررات الدرا�سية املختلفة‪ ،‬والذي يت�رسب يف كثري من الأحيان �إىل الدر�س الواحد‪.‬‬

‫ال جدال‪� ،‬إذن‪ ،‬يف �أن املقاربة التوافقية تتخذ هنا دينامية معاك�سة متاما للفل�سفة التي‬
‫ن�ش�أت مبوجبها م�ؤ�س�سة «املدر�سة» يف املجتمعات احلديثة‪ .‬فالتوافق‪ ،‬هنا‪ ،‬معناه اختيار نقل التنافر‬
‫(‪ )dissonance‬الطبيعي القائم معياريا يف املجتمع‪� ،‬أو ما يطلق عليه ال�سو�سيولوجيون «تنازع‬
‫القيم» (‪� ،)le conflit des valeurs‬إىل قلب امل�ؤ�س�سة الرتبوية‪ .‬ومن ثم‪ ،‬ت�صبح املدر�سة مر�آة تعك�س‬
‫تناق�ضات املجتمع‪ ،‬عو�ض �أن تكون‪ ،‬كما هو الأمر يف الدولة احلديثة‪� ،‬أداة لإعادة بناء و�إدماج‬
‫مكونات املجتمع‪ .‬ولعل من الآثار املبا�رشة لهذا القلب يف �أدوار املدر�سة واملجتمع‪ ،‬هو عودة‬
‫العملية الرتبوية �إىل �سابق عهدها ــ يف مرحلة ما قبل احلداثة ــ �أي �إعادة �إنتاج املجتمع لذاته‬
‫(‪ .)reproduction‬يبدو الأمر وك�أن املجتمع يقول للمدر�سة ‪ :‬هذه قيمنا يف تنافرها‪ ،‬وت�ضاربها‪،‬‬
‫نريدها �أن تنقل كذلك على حالها للأجيال اجلديدة‪ .‬وهنا قد يعرت�ض معرت�ض قائال ‪ :‬وما العيب‪،‬‬
‫�أو الغرابة يف �أن تكون املدر�سة مر�آة للمجتمع تعك�س ت�ضارب م�شاريعه وقيمه ؟ �أو لي�ست املدر�سة‬
‫يف كل مكان‪ ،‬وزمان‪� ،‬صورة‪ ،‬وجتليا للمجتمع الذي �أنتجها ؟‬

‫�إن �أهم الدرو�س التي قدمتها الدرا�سات ال�سو�سيولوجية املقارنة للأنظمة الرتبوية هو التفنيد‬
‫الدقيق واملمنهج لهذه البديهية التي ترى يف املدر�سة مر�آة عاك�سة للمجتمع(‪ .)3‬فعلى الرغم من قوة‬
‫هذا الت�صور‪ ،‬يتبني من املقارنة العلمية امليدانية للمنظومات الرتبوية املختلفة �أن هناك‪ ،‬دائما‪ ،‬نوع‬
‫من امل�سافة الفا�صلة بني املجتمع واملدر�سة‪ ،‬و�أن دينامية التغيري‪ ،‬والإبداع ال تت�أتى للمجتمعات �إال‬
‫بقدر ما ترعى اال�ستقاللية الن�سبية ملنظوماتها الرتبوية‪.‬‬

‫خـاتـمـة‬
‫ختاما‪ ،‬ميكن العودة �إىل ال�س�ؤال الذي انطلقنا منه‪ :‬ملاذا مل يتحقق يف املغرب تطور متناغم‪،‬‬
‫ومن�سجم بني دينامية حتوالت املحيط املادي‪ ،‬ومنظومة القيم يف املدر�سة ؟‬

‫لعل من �أهم عوامل هذا التطور الالمتوازن‪ ،‬وغري املن�سجم كما �أو�ضحنا �أعاله‪ ،‬هو كون املجتمع‬
‫املغربي املعا�رص (دولة ونخبا) مل يحدد بعد مهمة املدر�سة‪� ،‬أو لنقل �إنه كلفها ب�أداء مهام متناق�ضة‪.‬‬
‫فعو�ض �أن يجعل من املدر�سة قلعة حم�صنة �ضد التنافر القيمي القائم ب�شكل طبيعي يف املجتمع ؛‬
‫قلعة ي�سود فيها نوع من ال�سلم العقدي واملعياري‪� ،‬صارت ترتدد بني جدرانها �أ�صداء النزاعات العقدية‬
‫والقيمية امل�شتعلة يف املجتمع‪ .‬ومن ثم �أ�صبحت املدر�سة ور�شة ل�صناعة احلرية والت�ضارب القيمي‪.‬‬

‫‪ - 3‬انظر بهذا ال�صدد كتاب‪2 :‬‬


‫‪- Les Sociétés et leur école : emprise du diplôme et cohésion social, par F. Dubet, M.‬‬
‫‪Duru–Bellat et A.Vérétout, Paris : Seuil, 2010‬‬

‫‪18‬‬
‫قيم املواطنة بني مقت�ضيات الد�ستور‬
‫ورهانات مدر�سة امل�ستقبل‬
‫عمر االزمي االدري�سي‬
‫باحث يف العلوم القانونية‬

‫باعتماد الد�ستور املغربي اجلديد يف ا�ستفتاء فاحت يوليوز ‪ ،2011‬تكون بالدنا‪ ،‬وهي تتطلع‬
‫�إىل تر�سيخ مقومات الدولة الع�رصية القائمة على احلق والقانون‪ ،‬قد حققت قفزة نوعية يف اجتاه‬
‫تكري�س قيم املواطنة‪ ،‬والدميوقراطية‪ ،‬وحقوق الإن�سان بو�صفها �أ�سا�س البناء ال�سيا�سي واالجتماعي‬
‫للدولة(‪ ،)1‬وباعتبار املواطن قيمة يف حد ذاته(‪ .)2‬وهو ما يجعل منه د�ستورا حلقوق الإن�سان‪،‬‬
‫وميثاقا حلقوق وواجبات املواطنة(‪.)3‬‬
‫و�إذا كان الد�ستور‪ ،‬بو�صفه القانون الأ�سمى للدولة‪ ،‬قد ت�ضمن �إعالنا �رصيحا عن تبني قيم‬
‫املواطنة‪ ،‬حمددا مبادئها العامة وتوجهاتها الأ�سا�سية‪ ،‬ف�إن الرهان الأكرب يتمثل يف تفعيل هذه‬
‫املقت�ضيات القانونية وتنزيلها �إىل �أر�ض الواقع مبا يجعل منها قيما متقا�سمة ومتعاقدا عليها بني‬
‫جميع مكونات الأمة‪ ،‬وير�سخها يف املمار�سة اليومية للمواطن والدولة على حد �سواء(‪.)4‬‬
‫من هنا‪ ،‬تبدو م�رشوعية الت�سا�ؤل حول دور املدر�سة‪ ،‬بو�صفها م�ؤ�س�سة للتن�شئة االجتماعية‪،‬‬
‫يف ن�رش وتعميم قيم املواطنة عرب نقلها �إىل النا�شئة‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬الإ�سهام يف تر�سيخها كالتزام‪ ،‬واقتناع‪،‬‬
‫ثم كممار�سة يومية تنعك�س ب�شكل مبا�رش وتلقائي يف �سلوكات‪ ،‬ومعامالت الأفراد وامل�ؤ�س�سات‪.‬‬
‫ملقاربة هذا املو�ضوع نتطرق‪ ،‬بداية‪ ،‬ملفهوم املواطنة‪ ،‬قبل �أن نتناول قيم املواطنة كما وردت‬
‫يف الد�ستور اجلديد‪ ،‬ثم نختم باحلديث عن دور املدر�سة املغربية يف ن�رش‪ ،‬وتعميم هذه القيم‪،‬‬
‫ورهاناتها يف هذا ال�ش�أن‪.‬‬

‫‪ -1‬يف مفهوم املواطنة‬


‫لي�س من الي�سري و�ضع تعريف �شامل ودقيق ملفهوم املواطنة‪ ،‬غري �أن خمتلف التعريفات‬

‫ن�ص ت�صدير الد�ستور اجلديد على ما يلي‪�« :‬إن اململكة املغربية‪ ،‬وفاء الختيارها الذي ال رجعة فيه‪ ،‬يف بناء دولة دميقراطية‬ ‫‪ -1‬‬
‫ي�سودها احلق والقانون‪ ،‬توا�صل �إقامة م�ؤ�س�سات دولة حديثة‪ ،‬مرتكزاتها امل�شاركة والتعددية واحلكامة اجليدة‪ ،‬و�إر�ساء‬
‫دعائم جمتمع مت�ضامن‪ ،‬يتمتع فيه اجلميع بالأمن واحلرية والكرامة وامل�ساواة‪ ،‬وتكاف�ؤ الفر�ص‪ ،‬والعدالة االجتماعية‪،‬‬
‫ومقومات العي�ش الكرمي‪ ،‬يف نطاق التالزم بني حقوق وواجبات املواطنة»‬
‫ورد ذكر كلمتي «املواطنات» و«املواطنني» متالزمتني ‪ 18‬مرة يف الد�ستور‪.‬‬ ‫‪ -2‬‬
‫من اخلطاب امللكي بتاريخ ‪ 17‬يونيو ‪ ،2011‬مبنا�سبة عر�ض م�رشوع الد�ستور على اال�ستفتاء ال�شعبي‪.‬‬ ‫‪ -3‬‬
‫يف ال�سياق ذاته جاء يف اخلطاب امللكي بتاريخ ‪ 30‬يوليوز ‪ 2011‬مبنا�سبة عيد العر�ش‪�« :‬إن التعاقد الد�ستوري وال�سيا�سي‬ ‫‪ -4‬‬
‫اجلديد‪ ،‬مبا يكفله من منظومة متكاملة حلقوق الإن�سان‪ ،‬وواجبات املواطنة‪� ،‬سيبقى �صوريا ما مل يقرتن بانبثاق تعاقد اجتماعي‬
‫واقت�صادي ت�ضامني‪ ،‬يجعل كل مواطن‪ ،‬ومواطنة يلم�س الأثر الإيجابي لهذه احلقوق على معي�شه اليومي‪ ،‬وعلى تقدم وطنه»‬

‫‪19‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫املتداولة يف املراجع‪ ،‬والأدبيات ال�سيا�سية واالجتماعية تكاد تتفق حول عنا�رص هذا التعريف‪،‬‬
‫من حيث اعتبارها رابطة اجتماعية وقانونية بني الأفراد والدولة‪ ،‬مع ما تت�ضمنه تلك الرابطة من‬
‫حقوق‪ ،‬وواجبات‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬مت تعريف املواطنة يف مباحث علم االجتماع ب�أنها مكانة �أو عالقة اجتماعية تقوم بني‬
‫فرد طبيعي (املواطن)‪ ،‬وجمتمع �سيا�سي (الدولة)‪ ،‬ومن خالل هذه العالقة يقدم الطرف الأول الوالء‪،‬‬
‫ويتوىل الطرف الثاين احلماية‪ ،‬ويحدد القانون هذه العالقة بني الفرد والدولة‪.‬‬

‫واملواطنة‪ ،‬بو�صفها اال�ستعمال العربي للفظة «‪ ،»Citizenship‬عرفتها دائرة املعارف الربيطانية‬


‫ب�أنها «عالقة بني فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة‪ ،‬ومبا تت�ضمنه تلك العالقة من واجبات‬
‫وحقوق ــ متبادلة ــ يف تلك الدولة‪ ،‬وتت�ضمن قدرا من احلرية‪ ،‬مع ما ي�صاحبها من م�س�ؤوليات»(‪.)5‬‬

‫من ثم‪ ،‬ف�إن املواطنة‪ ،‬من حيث هي عالقة قانونية واجتماعية بني الفرد والدولة‪ ،‬ذات �أبعاد‬
‫وم�ستويات ترتبط ارتباط ًا وثيقا مبفاهيم الهوية‪ ،‬واالنتماء‪ ،‬واحلرية‪ ،‬واحلق‪ ،‬والعدل‪ ،‬وامل�ساواة‪،‬‬
‫والواجب‪� ...‬إلخ‪ .‬وتتمثل �أبعاد املواطنة فيما يلي‪:‬‬

‫• البعد القانوين‪ ،‬وال�سيا�سي‪ :‬يتمثل يف القواعد املج�سدة للم�ساواة بني املواطنات واملواطنني يف‬
‫احلقوق‪ ،‬واحلريات‪ ،‬والواجبات‪ ،‬دون متييز بينهم ب�سبب الدين‪� ،‬أو العرق‪� ،‬أو اللون‪� ،‬أو اجلن�س‪....‬‬
‫الخ‪.‬‬

‫• البعد الثقايف واحل�ضاري‪ :‬يعنى باجلوانب الروحية‪ ،‬واملعنوية للأفراد‪ ،‬واجلماعات على �أ�سا�س‬
‫احرتام خ�صو�صية الهوية الثقافية واحل�ضارية‪ ،‬ونبذ كل �أ�شكال التهمي�ش‪ ،‬والتنميط‪.‬‬

‫• البعد االقت�صادي واالجتماعي‪ :‬يرتبط بالتوزيع العادل للرثوات واخلريات العامة‪ ،‬وحق كل‬
‫مواطن يف احل�صول علي فر�ص مت�ساوية حلياة اجتماعية كرمية‪ ،‬وتطوير جودة احلياة التي‬
‫يعي�شها‪.‬‬

‫من جهة �أخرى‪ ،‬عرف مفهوم املواطنة تطورا كبريا‪ ،‬متا�شيا مع املفهوم اجلديد للعوملة‪ ،‬وما �أتت‬
‫به من حتوالت �سيا�سية‪ ،‬واقت�صادية‪ ،‬وثقافية‪ ،‬وعلمية‪ ،‬وتقنية‪ ،‬جعلت من العامل وطنا كبريا‪ .‬ومن‬
‫ثم‪ ،‬ظهر ما يعرف باملواطنة الكونية‪� ،‬أواملواطنة العاملية (‪ .)Global Citizenship‬واملواطنة مبفهومها‬
‫العوملي تنبني على جمموعة من املفاهيم التي ت�شكل يف جوهرها قيما متقا�سمة كونيا كال�سالم‪،‬‬
‫والت�سامح الإن�ساين والتعاي�ش وقبول الآخر‪ .‬غري �أن املواطنة العاملية ال تلغى املواطنة مبفهومها‬
‫الوطني‪ ،‬بل �إن كليهما ي�ساند الأخر‪.‬‬

‫انطالقا من الأبعاد �سالفة الذكر‪� ،‬إذن‪ ،‬تنتظم املواطنة يف جمموعة من القيم امل�شرتكة‪،‬‬
‫واملتقا�سمة بني �أفراد املجتمع‪ ،‬وبني الدولة‪ .‬وهي قيم خ�صت لها الد�ساتري احلديثة حيزا هاما بالنظر‬

‫‪ -5‬عن املوقع الإلكرتوين لدائرة املعارف الربيطانية‪:‬‬


‫‪http://www.britannica.com/EBchecked/topic/118828/citizenship‬‬

‫‪20‬‬
‫�إىل الأهمية التي �أ�صبح املواطن يحظى بها‪ ،‬باعتباره حمور العملية ال�سيا�سية‪ ،‬و�أحد �أركانها‬
‫الأ�سا�سية‪.‬‬

‫فما موقع قيم املواطنة يف الد�ستور املغربي ؟ و�إىل �أي حد ا�ستح�رض امل�رشع الد�ستوري �أبعاد‬
‫هذه املواطنة كما هي متعارف عليها كونيا ؟‬

‫‪ -2‬قيم املواطنة من خالل مقت�ضيات الد�ستور املغربي‬


‫بالرجوع �إىل الد�ستور املغربي‪ ،‬جنده قد خ�ص قيم املواطنة مبجموعة من املقت�ضيات ا�ستح�رضت‬
‫�إقامة التوازن التام بني احلقوق والواجبات‪ ،‬انطالقا من كون املواطنة الكاملة ال تقبل التجزيء‪� ،‬إذ‬
‫تقوم على التمتع باحلقوق الأ�سا�سية‪ ،‬وااللتزام الفعلي بالواجبات الفردية واجلماعية(‪.)6‬‬

‫وترتكز املواطنة يف الد�ستور املغربي على جملة من القيم الأ�سا�سية‪ ،‬تتمثل يف احلرية‪،‬‬
‫وامل�ساواة والعدل‪ ،‬وامل�شاركة‪ .‬وهي قيم وجدت لها �صدى يف خمتلف ف�صول هذا الد�ستور من‬
‫خالل تف�صيل مقت�ضيات املواطنة ومتطلباتها‪.‬‬

‫‪ 1.2‬املواطنة هوية وانتماء‬


‫تتمثل �أوىل �أركان املواطنة يف �إح�سا�س املواطن باالنتماء �إىل الوطن على اختالف تنوعه العرقي‪،‬‬
‫والديني‪ ،‬واملذهبي‪ ،‬ب�شكل يجعله يتمثل ويتبنى خ�صو�صيات وقيم املجموعة التي ينتمي �إليها‪ .‬وقد‬
‫خ�ص�ص الد�ستور املغربي حيزا هاما منه للح�سم يف م�س�ألة هوية الأمة املغربية املوحدة‪ ،‬املت�سمة‬
‫بتعدد روافدها‪ ،‬وبان�صهار جميع مكوناتها‪ .‬وت�أكيدا لهذا املبد�إ جاء يف ت�صدير الد�ستور �أن «اململكة‬
‫املغربية دولة �إ�سالمية ذات �سيادة كاملة‪ ،‬مت�شبثة بوحدتها الوطنية والرتابية‪ ،‬وب�صيانة تالحم مقومات‬
‫هويتها الوطنية‪ ،‬املوحدة بان�صهار كل مكوناتها‪ ،‬العربية ــ الإ�سالمية‪ ،‬والأمازيغية‪ ،‬وال�صحراوية‬
‫احل�سانية‪ ،‬والغنية بروافدها الإفريقية‪ ،‬والأندل�سية‪ ،‬والعربية‪ ،‬واملتو�سطية‪ .‬كما �أن الهوية املغربية تتميز‬
‫بتبوئ الدين الإ�سالمي مكانة ال�صدارة فيها‪ ،‬وذلك يف ظل ت�شبث ال�شعب املغربي بقيم االنفتاح‪،‬‬
‫واالعتدال‪ ،‬والت�سامح‪ ،‬واحلوار‪ ،‬والتفاهم املتبادل بني الثقافات‪ ،‬واحل�ضارات الإن�سانية جمعاء»‪.‬‬

‫ويف �إطار تر�سيخ التعددية الثقافية واللغوية التي يتميز بها املغرب‪ ،‬متت د�سرتة اللغة الأمازيغية‬
‫كلغة ر�سمية �إىل جانب اللغة العربية باعتبارها «ر�صيدا م�شرتكا جلميع املغاربة بدون ا�ستثناء»‪ ،‬كما‬
‫ن�ص على «�صيانة احل�سانية‪ ،‬باعتبارها جزءا ال يتجز�أ من الهوية الثقافية املغربية املوحدة»‪ ،‬وعلى‬
‫«حماية اللهجات والتعبريات الثقافية امل�ستعملة يف املغرب»‪ ،‬و«ان�سجام ال�سيا�سة اللغوية‪ ،‬والثقافية‬
‫الوطنية» (الف�صل ‪.)5‬‬

‫‪ -6‬من الر�سالة امللكية املوجهة �إىل امل�شاركني يف الندوة الوطنية التي نظمها املجل�س الأعلى للتعليم يف مو�ضوع «املدر�سة‬
‫وال�سلوك املدين» يومي ‪ 24-23‬ماي ‪ 2007‬بالرباط‪.‬‬

‫‪21‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫‪ 2.2‬املواطنة حقوق وحريات‬
‫يرتتب على املواطنة متتيع الأفراد مبجموعة من احلقوق واحلريات على قدم امل�ساواة‪ ،‬ودون‬
‫متييز فيما بينهم ب�سبب الدين‪� ،‬أو العرق‪� ،‬أو اللون‪� ،‬أو اجلن�س‪ ...‬الخ‪ .‬يف هذا ال�صدد‪ ،‬ت�ضمن‬
‫الد�ستور املغربي �إعالنا للحقوق واحلريات التي تتطلبها املواطنة‪ ،‬ويتعلق الأمر مبجموعة من احلقوق‬
‫املدنية‪ ،‬وال�سيا�سية‪ ،‬واالقت�صادية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬والبيئية التي ت�ضمنتها العهود واملواثيق الدولية‬
‫املتعلقة بحقوق الإن�سان‪ ،‬باعتبارها حقوقا متعارفا عليها كونيا‪.‬‬

‫• احلقوق املدنية‬
‫متثل احلقوق املدنية جمموعة من احلقوق الطبيعية الل�صيقة ب�شخ�صية الإن�سان‪ .‬وت�شمل حق‬
‫املواطن يف احلياة (الف�صل ‪ ،)20‬واحلق يف �سالمته‪ ،‬و�سالمة �أقربائه‪ ،‬وحماية ممتلكاته (الف�صل ‪،)21‬‬
‫وعدم معاملته معاملة قا�سية‪� ،‬أو ال �إن�سانية‪� ،‬أو مهينة‪� ،‬أو حاطة بالكرامة الإن�سانية‪ ،‬وجترمي ممار�سة‬
‫التعذيب بكافة �أ�شكاله (الف�صل ‪ ،)22‬وجترمي االعتقال التع�سفي‪� ،‬أو ال�رسي‪� ،‬أو االختفاء الق�رسي‪،‬‬
‫وحق املعتقل يف التمتع باحلقوق الأ�سا�سية وظروف اعتقال �إن�سانية‪ ،‬واال�ستفادة من برامج التكوين‪،‬‬
‫و�إعادة الإدماج‪ ،‬وحظر التحري�ض على العن�رصية‪� ،‬أو الكراهية‪� ،‬أو العنف (الف�صل ‪ ،)23‬واحلق يف‬
‫حماية احلياة اخلا�صة للأفراد‪ ،‬وعدم انتهاك حرمة املنازل‪ ،‬و�رسية االت�صاالت ال�شخ�صية‪ ،‬وحرية‬
‫التنقل عرب الرتاب الوطني‪ ،‬واخلروج منه والعودة �إليه (الف�صل ‪ ،)24‬وحرية الفكر‪ ،‬والر�أي‪ ،‬والتعبري‪،‬‬
‫وحرية الإبداع‪ ،‬والن�رش‪ ،‬والعر�ض (الف�صل ‪ ،)25‬واحلق يف احل�صول على املعلومات (الف�صل ‪،)27‬‬
‫وحرية ال�صحافة‪ ،‬والتعبري‪ ،‬والن�رش (الف�صل ‪ ،)28‬وحرية ممار�سة ال�ش�ؤون الدينية (الف�صل ‪.)3‬‬

‫وقد عزز الد�ستور املغربي ممار�سة هذه احلقوق بد�سرتة م�ؤ�س�سات وهيئات حماية احلقوق‬
‫واحلريات‪ ،‬ويتعلق الأمر باملجل�س الوطني حلقوق الإن�سان (الف�صل ‪ ،)161‬وم�ؤ�س�سة الو�سيط‬
‫(الف�صل ‪ ،)162‬وجمل�س اجلالية املغربية باخلارج (الف�صل ‪ ،)163‬والهي�أة املكلفة باملنا�صفة وحماربة‬
‫جميع �أ�شكال التمييز (الف�صل ‪.)165‬‬

‫• احلقوق ال�سيا�سية‬
‫تتج�سد احلقوق ال�سيا�سية يف متكني املواطن من امل�شاركة يف تدبري �ش�ؤون جمتمعه‪ ،‬باعتبارها‬
‫�أهم جتليات الدميوقراطية احلديثة‪ .‬ويتعلق الأمر بحق االنتماء النقابي‪ ،‬وال�سيا�سي‪ ،‬وحرية االجتماع‪،‬‬
‫والتجمهر‪ ،‬والتظاهر ال�سلمي‪ ،‬وممار�سة حق الإ�رضاب (الف�صل ‪)30‬؛ حق الت�صويت‪ ،‬والرت�شح لالنتخابات‬
‫(الف�صل ‪)31‬؛ احلق يف تقدمي ملتم�سات يف جمال الت�رشيع (الف�صل ‪)14‬؛ احلق يف تقدمي عرائ�ض‬
‫�إىل ال�سلطات العمومية (الف�صل ‪ ،)15‬واحلق يف ت�أ�سي�س اجلمعيات (الف�صل ‪.)12‬‬

‫من جهة �أخرى‪� ،‬أ�س�س الد�ستور املغربي ملفهوم «الدميوقراطية الت�شاركية» عرب �إف�ساح املجال‬
‫�أمام جميع الفاعلني االجتماعيني يف �إعداد ال�سيا�سات العمومية‪ ،‬وتفعيلها‪ ،‬وتنفيذها‪ ،‬وتقييمها‬
‫(الف�صل ‪ ،)13‬وكذا من خالل د�سرتة جمموعة من الهي�آت‪ ،‬وامل�ؤ�س�سات التي تندرج يف �إطار هذا‬

‫‪22‬‬
‫املفهوم‪ .‬يتعلق الأمر هنا باملجل�س الأعلى للرتبية والتكوين والبحث العلمي (الف�صل ‪ ،)168‬واملجل�س‬
‫اال�ست�شاري للأ�رسة والطفولة (الف�صل ‪ ،)169‬واملجل�س اال�ست�شاري لل�شباب والعمل اجلمعوي‬
‫(الف�صل ‪.)170‬‬

‫• احلقوق االقت�صادية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬والبيئية‬


‫تتمثل هذه الفئة من احلقوق يف �ضمان ا�ستفادة املواطنات واملواطنني من جمموعة من‬
‫احلقوق‪ ،‬واخلدمات على قدم امل�ساواة فيما بينهم؛ وت�شمل احلق يف العالج‪ ،‬والعناية ال�صحية‪،‬‬
‫واحلماية االجتماعية‪ ،‬والتغطية ال�صحية‪ ،‬والت�ضامن التعا�ضدي‪� ،‬أو املنظم من لدن الدولة‪ ،‬واحل�صول‬
‫على تعليم ع�رصي مي�رس الولوج وذي جودة‪ ،‬والتن�شئة على الت�شبث بالهوية املغربية‪ ،‬والثوابت‬
‫الوطنية الرا�سخة‪ ،‬والتكوين املهني واال�ستفادة من الرتبية البدنية والفنية‪ ،‬وال�سكن الالئق‪ ،‬وال�شغل‪،‬‬
‫والدعم من طرف ال�سلطات العمومية يف البحث عن من�صب �شغل‪� ،‬أو يف الت�شغيل الذاتي وولوج‬
‫الوظائف العمومية ح�سب اال�ستحقاق‪ ،‬واحل�صول على املاء والعي�ش يف بيئة �سليمة‪ ،‬والتنمية‬
‫امل�ستدامة (الف�صل ‪ ،)31‬ورعاية الأ�شخا�ص والفئات من ذوي االحتياجات اخلا�صة (الف�صل ‪،)34‬‬
‫و�إقرار حق امللكية اخلا�صة وحرية املبادرة واملقاولة والتناف�س احلر‪ ،‬وجترمي �شتى املمار�سات املخلة‬
‫مببادئ املناف�سة احلرة‪ ،‬وامل�رشوعة‪ ،‬والنزيهة يف العالقات االقت�صادية (الف�صل ‪.)35‬‬

‫ومن �أجل تفعيل هذه الفئة من احلقوق‪ ،‬متت د�سرتة جمموعة من الهي�آت وامل�ؤ�س�سات التي‬
‫تعنى باحلكامة اجليدة وتقنني املناف�سة‪ .‬ويتعلق الأمر باملجل�س الوطني للغات والثقافة املغربية‬
‫(الف�صل ‪ ،)5‬والهي�أة العليا لالت�صال ال�سمعي الب�رصي (الف�صل ‪ ،)165‬وجمل�س املناف�سة (الف�صل‬
‫‪ ،)166‬والهي�أة الوطنية للنزاهة‪ ،‬والوقاية من الر�شوة‪ ،‬وحماربتها (الف�صل ‪.)167‬‬

‫‪ 3.2‬املواطنة م�س�ؤوليات وواجبات‬


‫جت�سد الواجبات الوجه الآخر للمواطنة الذي ال ت�ستقيم بدونه‪ .‬فاملواطنة الكاملة تقت�ضي‪،‬‬
‫ف�ضال عن التمتع باحلقوق واحلريات‪ ،‬االلتزام بالواجبات التي ميليها االنتماء �إىل الوطن‪ ،‬مما يجعل‬
‫من املواطنة وظيفة يف حد ذاتها ينبغي على اجلميع اال�ضطالع ب�أعبائها على �أكمل وجه(‪.)7‬‬

‫يف هذا ال�صدد ن�ص الد�ستور املغربي �رصاحة على تالزم احلقوق والواجبات؛ �إذ ن�ص يف‬
‫الف�صل ‪ 37‬منه «على جميع املواطنني‪ ،‬واملواطنات احرتام الد�ستور‪ ،‬والتقيد بالقانون‪ ،‬ويتعني عليهم‬
‫ممار�سة احلقوق واحلريات التي يكفلها الد�ستور بروح امل�س�ؤولية واملواطنة امللتزمة‪ ،‬التي تتالزم فيها‬
‫ممار�سة احلقوق بالنهو�ض ب�أداء الواجبات»‪.‬‬

‫هكذا‪ ،‬تقت�ضي واجبات و�أعباء املواطنة احرتام القانون‪ ،‬الذي يعد �أ�سمى تعبري عن �إرادة الأمة‪،‬‬

‫‪ -7‬من �أبلغ ما قيل يف هذا ال�صدد‪ ،‬ما عرب عنه جيمي كارتر الرئي�س الأ�سبق للواليات املتحدة الأمريكية‪ ،‬على �إثر انتهاء مدة‬
‫ال «�إين عائد �إىل �أعلى وظيفة يف الدولة وهي وظيفة مواطن»‪.‬‬‫رئا�سته وعودته �إىل واليته قائ ً‬

‫‪23‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫واالمتثال له (الف�صل ‪ ،)6‬وم�ساهمة كل املواطنات واملواطنني يف الدفاع عن الوطن‪ ،‬وحوزته الرتابية‬
‫جتاه �أي تهديد‪� ،‬أو عدوان (الف�صل ‪ ،)38‬وحتمل التكاليف العمومية على قدر اال�ستطاعة (الف�صل‬
‫‪ ،)39‬وحتمل التكاليف التي تتطلبها تنمية البالد ب�صفة ت�ضامنية‪ ،‬وكذا تلك الناجتة عن الأعباء‬
‫الناجمة عن الآفات‪ ،‬والكوارث الطبيعية التي ت�صيب البالد (الف�صل ‪.)39‬‬

‫كما تقت�ضي املواطنة �أي�ضا امل�شاركة الفاعلة للأفراد يف تدبري ال�ش�أن العام‪� ،‬سواء بطريقة مبا�رشة‬
‫من خالل الرت�شح لالنتخابات‪� ،‬أو بطريقة غري مبا�رشة من خالل الت�صويت يف االنتخابات (الف�صل ‪.)30‬‬

‫‪ -3‬قيم املواطنة ورهانات مدر�سة امل�ستقبل‬


‫�إذا كان الد�ستور‪ ،‬بو�صفه القانون الأ�سمى للدولة‪ ،‬قد ت�ضمن �إعالنا للحقوق واحلريات‪،‬‬
‫والواجبات التي ت�شكل يف جوهرها جمموع القيم املتقا�سمة بني املواطن واملجتمع ال�سيا�سي‪ ،‬ف�إن‬
‫تر�سيخ هذه القيم وتفعيلها من الناحية الواقعية‪ ،‬يقت�ضي �أن ين�رصف اجلهد �إيل حت�سني �رشوط‬
‫ممار�سة املواطنة الكاملة علي ال�صعيد العملي‪ ،‬والعمل على النهو�ض بال�سلوك املدين للأفراد‪ ،‬وهي‬
‫م�س�ؤولية جمتمعية متقا�سمة تتوالها املنظومة التعليمية‪� ،‬إىل جانب الأ�رسة وو�سائل الإعالم‪ ،‬وكذا‬
‫امل�ؤ�س�سات ذات الوظائف الرتبوية والثقافية والت�أطريرية(‪ .)8‬فاملواطنة لي�ست لها قيمة �إال عندما‬
‫يتم بنا�ؤها عرب �أفعال‪ ،‬و�أن�شطة خمتلفة‪ ،‬ومتعددة‪ ،‬من بينها الفعل الرتبوي‪ ،‬حيث تنتظم حولها‬
‫ممار�سات وطرق وطقو�س تربوية تر�سخها يف الأذهان‪ ،‬والوجدان(‪.)9‬‬

‫ويت�أكد دور املدر�سة يف تر�سيخ قيم املواطنة يف وجدان و�سلوك املتعلمات واملتعلمني‪ ،‬من‬
‫خالل ا�ستح�ضار وظائفها املتعارف عليها‪ ،‬املتمثلة يف التعليم‪ ،‬والتعلم‪ ،‬والتكوين‪ ،‬والت�أهيل‪ ،‬وال�سيما‬
‫يف الرتبية والتن�شئة كوظيفة جتعل م�س�ؤولية امل�ؤ�س�سة التعليمية مركزية ودورها راهنيا وحا�سما يف‬
‫هذا امل�ضمار(‪ .)10‬هكذا‪ ،‬ف�إن رهان النظام الرتبوي يتجلى �أ�سا�سا يف تكوين املواطن املت�شبث بالهوية‬
‫املغربية والثوابت الوطنية الرا�سخة(‪ ،)11‬مواطن يدرك حقوقه‪ ،‬ويلتزم بالواجبات التي يفر�ضها عليه‬
‫انتما�ؤه �إىل الوطن‪ .‬من هنا‪ ،‬تت�ضح املهام اجل�سيمة امللقاة على النظام الرتبوي لكي يجعل تلك القيم‬
‫ت�ستوطن يف �شخ�صية الن�شئ(‪.)12‬‬

‫و�إذا �سلمنا بدور املدر�سة‪ ،‬بو�صفها م�ؤ�س�سة للتن�شئة االجتماعية‪ ،‬يف نقل وتر�سيخ قيم‬
‫املواطنة‪ ،‬فعرب �أية �آليات ميكنها القيام بذلك ؟‬

‫‪ -8‬من الر�سالة امللكية املوجهة �إىل امل�شاركني يف الندوة الوطنية التي نظمها املجل�س الأعلى للتعليم يف مو�ضوع «املدر�سة وال�سلوك‬
‫املدين» يومي‪ 24-23‬ماي ‪ 2007‬بالرباط‪.‬‬
‫‪ -9‬رحمة بورقية‪ ،‬احل�س املدين والقيم والرتبية‪ ،‬مداخلة يف �إطار الندوة الوطنية حول «املدر�سة وال�سلوك املدين» املنظمة من‬
‫طرف املجل�س الأعلى للتعليم‪ ،‬يومي ‪ 24-23‬ماي ‪ 2007‬بالرباط‪� ،‬أ�شغال الندوة‪� ،‬ص‪.38 .‬‬
‫‪ -10‬ر�أي املجل�س الأعلى للتعليم رقم ‪ 02/07‬بتاريخ ‪ 23‬يوليوز ‪ ،2007‬يف مو�ضوع «دور املدر�سة يف تنمية ال�سلوك‬
‫املدين»‪.‬‬
‫‪ -11‬الف�صل ‪ 31‬من الد�ستور‪.‬‬
‫‪ -12‬رحمة بورقية‪ ،‬احل�س املدين والقيم والرتبية‪ ،‬مداخلة يف �إطار الندوة الوطنية حول «املدر�سة وال�سلوك املدين» املنظمة من‬
‫طرف املجل�س الأعلى للتعليم‪ ،‬يومي ‪ 24-23‬ماي ‪ 2007‬بالرباط‪� ،‬أ�شغال الندوة‪� ،‬ص‪.33 .‬‬

‫‪24‬‬
‫جوابا على هذا ال�س�ؤال‪ ،‬ميكن القول �إن قيام املدر�سة بهذه الوظيفة ميكن �أن يتم عرب جملة‬
‫من الآليات املرتبطة واملتكاملة فيما بينها‪:‬‬

‫‪ 1.3‬املناهج والربامج والكتب املدر�سية واملعينات الديداكتيكية‬


‫تعترب املناهج والربامج‪ ،‬مبفهومها ال�شامل‪ ،‬ومبختلف مكوناتها‪ ،‬امل�ضمون الرئي�سي للرتبية‬
‫والتكوين‪ ،‬بل �إنها ت�شكل فل�سفة‪ ،‬وغايات‪ ،‬وتوجهات النظام الرتبوي‪ ،‬التي يتم جت�سيدها يف برامج‬
‫درا�سية وم�ضامني معرفية‪ ،‬وتعلمات‪ ،‬وتكوينات‪ ،‬وطرائق بيداغوجية‪ ،‬ويف �أدوات ديداكتيكية من‬
‫كتب مدر�سية وو�سائط تعليمية‪ ،‬وهي بذلك تفتح �إمكانات وا�سعة لرت�سيخ القيم‪ ،‬والرتبية على‬
‫ال�سلوك وفقها(‪.)13‬‬

‫من هذا املنطلق ف�إنه يتعني توجيه اجلهد �إىل مالءمة املناهج والربامج الدرا�سية مع متطلبات‬
‫الرتبية على قيم املواطنة وتنمية ال�سلوك املدين‪ ،‬غري �أن ذلك ال ميكن �أن يتم بجعلها مادة تخ�ص�ص‬
‫درا�سي‪ ،‬بل ب�إدراجها يف خمتلف املواد والتخ�ص�صات‪ ،‬مع االجتهاد يف ابتكار الطرائق البيداغوجية‬
‫الكفيلة ب�إدماج هذه القيم واملفاهيم يف املناهج‪ ،‬والو�سائط التعليمية‪ ،‬وتي�سري نقلها �إىل املتعلمني‪.‬‬
‫وكذا تقدمي التجارب الديداكتيكية الناجحة يف جمال الرتبية على املواطنة والنظر يف اعتمادها‬
‫مناذج تطبيقية(‪.)14‬‬

‫‪ 2.3‬احلياة املدر�سية والأن�شطة املوازية‬


‫تعد احلياة املدر�سية‪ ،‬بكل تفا�صيلها‪ ،‬ف�ضاء خ�صبا للرتبية على املواطنة‪ ،‬والت�شبع بقيمها‪.‬‬
‫من ثم‪ ،‬ف�إن الرتبية على املواطنة يجب �أال تقت�رص على املناهج‪ ،‬والربامج‪ ،‬والكتب املدر�سية‬
‫فقط‪ ،‬بل البد و�أن جتد امتدادها الطبيعي والعملي يف العالقات والف�ضاءات الرتبوية‪� ،‬سواء داخل‬
‫الف�صول الدرا�سية‪� ،‬أو يف املحيط املبا�رش للم�ؤ�س�سات التعليمية‪ ،‬حيث يتعني �أن ت�شكل احلياة‬
‫املدر�سية واجلامعية مثاال حيا ل�سلوك املواطن امل�س�ؤول‪ ،‬ومنوذجا الحرتام النظام والقانون‪ ،‬وجت�سيدا‬
‫للممار�سة الدميوقراطية‪ ،‬وف�ضاء لتنمية الأن�شطة الثقافية‪ ،‬والريا�ضية‪ ،‬والإبداعية(‪.)15‬‬

‫�إن م�شاركة التالميذ‪ ،‬مثال‪� ،‬ضمن الفرق الن�شيطة‪ ،‬ويف تدبري امل�ؤ�س�سات (منذ املرحلة االبتدائية)‪،‬‬
‫ويف خمتلف النوادي (ال�شعر‪ ،‬امل�رسح‪ ،‬البيئة وغريها)‪ ،‬يجعلهم يف و�ضعية تعلم وممار�سة املواطنة‪،‬‬
‫�إذ بالأن�شطة التي يقومون بها انطالقا من الت�صور‪� ،‬إىل التخطيط‪� ،‬إىل التنفيذ‪ ...‬يف انفتاح على‬

‫‪� -13‬أوراق عمل الور�شات املقامة يف يف �إطار الندوة الوطنية حول «املدر�سة وال�سلوك املدين» املنظمة من طرف املجل�س الأعلى‬
‫للتعليم‪ ،‬يومي ‪ 24-23‬ماي ‪ 2007‬بالرباط‪� ،‬أ�شغال الندوة‪� ،‬ص‪.133 .‬‬
‫‪ -14‬من ر�أي املجل�س الأعلى للتعليم رقم ‪ 02/07‬بتاريخ ‪ 23‬يوليوز ‪ ،2007‬يف مو�ضوع «دور املدر�سة يف تنمية ال�سلوك‬
‫املدين»‪.‬‬
‫‪ -15‬من الر�سالة امللكية املوجهة �إىل امل�شاركني يف الندوة الوطنية التي نظمها املجل�س الأعلى للتعليم يف مو�ضوع «املدر�سة‬
‫وال�سلوك املدين» يومي ‪ 24-23‬ماي ‪ 2007‬بالرباط‪.‬‬

‫‪25‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫بع�ضهم البع�ض‪ ،‬وعلى املحيط‪� ،‬سيجد التالميذ يف املدر�سة فائدة ومتعة(‪ .)16‬نف�س ال�شيء ينطبق‬
‫على كافة الفاعلني الرتبويني الذين ي�شكل انخراطهم‪� ،‬إىل جانب التالميذ‪ ،‬يف خمتلف هذه‬
‫الأن�شطة‪ ،‬عامال �أ�سا�سيا لتحقيق �أهداف الرتبية على املواطنة‪ .‬من ثم‪ ،‬تبدو �أهمية تفعيل �أدوار‬
‫احلياة املدر�سية‪ ،‬وت�أهيل الف�ضاءات املدر�سية‪ ،‬وتوجيه ن�شاط الأندية �إىل االهتمام بقيم املواطنة‪،‬‬
‫وتعميمها‪ ،‬وممار�ستها‪.‬‬

‫‪ 3.3‬التكوين الأ�سا�س وامل�ستمر للأطر الرتبوية‬


‫يعد دور التكوين الأ�سا�س وامل�ستمر للأطر الرتبوية حا�سما يف تنمية املعارف والكفايات حول‬
‫قيم املواطنة وتر�سيخها كممار�سة‪ .‬يف هذا الإطار‪ ،‬تبدو احلاجة ملحة �إىل مراجعة برامج ومناهج‬
‫التكوين مبعاهد ومراكز تكوين الأطر الرتبوية بال�شكل الذي يعزز مكانة قيم املواطنة كمكون �أ�سا�سي‬
‫لهذه الربامج‪ ،‬ومبا يجعل الت�شبع بقيم املواطنة �أحد �أهدافها ومقوماتها‪ .‬ذلك �أن تكوين الأطر‬
‫الرتبوية على الت�شبع بقيم املواطنة‪ ،‬وممار�ستها من �ش�أنه الإ�سهام يف نقل هذه القيم �إىل النا�شئة‬
‫عن طريق القدوة‪ ،‬وذلك من خالل التزامهم بتج�سيدها يف ت�رصفاتهم‪ ،‬و�سلوكاتهم‪ ،‬ومعامالتهم‪.‬‬

‫‪ 4.3‬البحث العلمي والرتبوي‬


‫ي�شكل البحث العلمي ركيزة �أ�سا�سية ومدخال مفتاحيا ملعرفة الواقع الرتبوي‪ ،‬ور�صد حتوالته‪،‬‬
‫وفهمها‪ ،‬ولبناء الت�صورات املجددة‪ ،‬وحتديد الغايات من النظام الرتبوي بالعالقة مع تطور املجتمع‪،‬‬
‫و�سعيه نحو التقدم(‪ .)17‬من هنا‪ ،‬تبدو �أهمية توجيه البحث العلمي‪ ،‬والرتبوي �إىل البحث يف �أف�ضل‬
‫الأ�ساليب‪ ،‬والطرائق البيداغوجية الكفيلة بنقل قيم املواطنة‪ ،‬وال�سلوك املدين �إىل املتعلمني‪ ،‬ور�صد‬
‫الظواهر ال�سلبية التي حتدث يف ف�ضاء املدر�سة‪ ،‬و�إخ�ضاعها للدرا�سة والفح�ص العلمي‪ ،‬والتعرف على‬
‫�أ�سبابها وحتديد و�سائل مواجهتها وجتاوزها(‪.)18‬‬

‫‪ 5.3‬تعبئة املحيط االجتماعي واملدين للمدر�سة‬


‫لن يكتمل حتقيق الأهداف املرتبطة بالرتبية على قيم املواطنة �إال بتعبئة املحيط االجتماعي‪،‬‬
‫واملدين للمدر�سة حول �أهمية تر�سيخ هذه القيم يف الواقع اليومي للم�ؤ�س�سات الرتبوية‪ ،‬وذلك‬
‫عرب �إ�رشاك منظمات املجتمع املدين‪ ،‬وال �سيما منها الن�شيطة يف ميدان الرتبية على املواطنة‬
‫وحقوق الإن�سان‪ ،‬بغاية ا�ستثمار خربات �أطر هذه املنظمات يف تنويع الأن�شطة الرتبوية والثقافية‪،‬‬
‫واالجتماعية‪ ،‬والبيئية‪ ،‬وتوجيهها نحو االهتمام بتعميم املواطنة‪ ،‬وممار�ستها‪.‬‬

‫‪� -16‬أمينة املريني‪ ،‬املدر�سة وتنمية احل�س املدين‪ ،‬مداخلة يف �إطار الندوة الوطنية حول «املدر�سة وال�سلوك املدين»‪ ،‬املنظمة من‬
‫طرف املجل�س الأعلى للتعليم‪ ،‬يومي ‪ 24-23‬ماي ‪ 2007‬بالرباط‪� ،‬أ�شغال الندوة ‪� ،‬ص‪.50 .‬‬
‫‪� -17‬أوراق عمل الور�شات املقامة يف يف �إطار الندوة الوطنية حول «املدر�سة وال�سلوك املدين» املنظمة من طرف املجل�س الأعلى‬
‫للتعليم‪ ،‬يومي ‪ 23-24‬ماي ‪ 2007‬بالرباط‪� ،‬أ�شغال الندوة ‪� ،‬ص‪.137.‬‬
‫‪ -18‬ر�أي املجل�س الأعلى للتعليم رقم ‪ 02/07‬بتاريخ ‪ 23‬يوليوز ‪ 2007‬يف مو�ضوع «دور املدر�سة يف تنمية ال�سلوك املدين»‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫‪ 6.3‬التتبع والتقومي‬
‫�إن �أي �إجناح للرتبية على قيم املواطنة رهني بالتتبع امل�ستمر بهدف الر�صد‪ ،‬والتقومي‪ ،‬بغاية‬
‫حتقيق الأهداف املتوخاة‪ ،‬وذلك من خالل‪:‬‬

‫• التقومي امل�ستمر للربامج‪ ،‬والأن�شطة الرتبوية املوجهة للرتبية على املواطنة‪ ،‬وذلك بهدف ت�شخي�ص‬
‫مكونات هذه الربامج‪ ،‬والفئات امل�ستفيدة‪ ،‬ور�صد نتائجها‪ ،‬و�آثارها على النا�شئة‪ ،‬ومدى ت�شبعها‬
‫بقيم املواطنة اقتناعا‪ ،‬وممار�سة؛‬

‫• �إجناز تقارير ودرا�سات مو�ضوعاتية حول الرتبية على قيم املواطنة؛‬

‫• تطوير م�ؤ�رشات خا�صة بقيا�س مدى جناعة املنظومة الوطنية للرتبية‪ ،‬والتكوين‪ ،‬والبحث العلمي يف‬
‫جمال الرتبية على قيم املواطنة‪.‬‬

‫خـاتـمـة‬
‫�إذا كان الد�ستور املغربي قد ت�ضمن �إ�شارات قوية ونوعية يف جمال تر�سيخ قيم املواطنة ب�شتى‬
‫جتلياتها املتمثلة يف الهوية‪ ،‬واالنتماء‪ ،‬واحلقوق‪ ،‬واحلريات‪ ،‬والواجبات‪ ،‬والأعباء؛ ف�إن املنظومة‬
‫الرتبوية الوطنية مدعوة‪ ،‬من جهتها‪ ،‬وعلى اختالف قطاعاتها‪ ،‬و�أ�سالكها (التعليم املدر�سي‪ ،‬التعليم‬
‫اجلامعي‪ ،‬التكوين املهني‪ ،‬البحث العلمي)‪� ،‬إىل التفاعل الإيجابي مع هذه املكت�سبات الد�ستورية‪،‬‬
‫وتلقيها ب�شكل �إيجابي وبناء‪ ،‬ق�صد الإ�سهام‪� ،‬إىل جانب باقي امل�ؤ�س�سات املجتمعية‪ ،‬يف تر�سيخ قيم‬
‫املواطنة‪ ،‬وجعلها واقعا ملمو�سا‪ ،‬وثقافة متجذرة يف املمار�سة اليومية للمواطنني والدولة على حد‬
‫�سواء‪.‬‬

‫‪27‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫املدر�سة املغربية ومطلب تر�سيخ قيم‬
‫املواطنة وال�سلوك املدين ‪:‬‬
‫التجليات والتحديات‬
‫عبد الإله مرتبط‬
‫باحث يف الإ�شهار‪ ،‬والتوا�صل‬
‫احلبيب ا�ستاتي‬
‫باحث يف ال�سيا�سات العمومية‬

‫ال�شك �أن �إ�شكالية الثابت واملتغري يف منظومة القيم‪ ،‬ال �سيما �أمام التحوالت العميقة التي مت�س‬
‫حياة الأفراد‪ ،‬واجلماعات والدول بعاملنا املعا�رص‪ ،‬حتيلنا على ما �أ�صبح يكتنف احلياة الإن�سانية من‬
‫حتول م�ستمر يفر�ض اال�ستجابة ملتطلبات جمتمع الألفية الثالثة‪ .‬‬

‫لي�س غريبا �أن ت�ؤدي هذه التحوالت التي يعي�شها العامل ب�شكل عام‪ ،‬والعامل العربي على‬
‫وجه اخل�صو�ص‪ ،‬ومن �ضمنه املغرب‪� ،‬إىل �إعادة �صياغة ت�صور جديد لوظيفة املدر�سة‪ ،‬ي�سمح لها‬
‫�أن ت�ضطلع بدور تنمية قيمة االنتماء �إىل الوطن وتر�سيخ ال�سلوك الذي تقت�ضيه املدنية‪ .‬وبالتايل‬
‫فالت�سا�ؤل الذي يطرح نف�سه ب�إحلاح اليوم لي�س هو‪ :‬كيف نحمي �أنف�سنا من االنت�شار الوا�سع‬
‫لقيم احلداثة بفعل التدفق الالمتناهي للمعلومات والأفكار العابرة للقارات‪ ،‬بل هو كيف ميكننا �أن‬
‫ن�ستفيد من هذا االنت�شار القيمي وفق ر�ؤية مزدوجة ت�ؤمن يف ذات الوقت ب�رضورة حت�صني الذاتية‬
‫الثقافية والهوية الوطنية‪ ،‬وب�أهمية االنفتاح على فكر الآخر وقيمه ؟‬

‫ي�شكل هذا الت�سا�ؤل‪ ،‬يف حقيقة الأمر‪ ،‬جوهر فل�سفة مدر�سة النجاح التي جتعل من املدر�سة‬
‫لي�س فقط ناقلة للمعارف واملعلومات‪ ،‬بل �أي�ضا ف�ضاء لغر�س قيم املواطنة واالعتزاز باالنتماء للوطن‬
‫وال�سعي خلدمته‪ ،‬مع الأخذ بعني االعتبار �أن حتقيق هذا املبتغى مير بال�رضورة عرب تنمية �إدراك‬
‫الذات واالنفتاح على الآخر‪.‬‬

‫هذه املقاربة التي جتعل من تر�سيخ قيم املواطنة وال�سلوك املدين �أ�سا�سا ملدر�سة النجاح‬
‫تدفعنا‪ ،‬يف املقام الأول‪� ،‬إىل حتديد �أبرز جتليات طبيعة هذه العالقة‪ ،‬على �أن ن�سلط ال�ضوء‪ ،‬يف‬
‫املقام الثاين من هذه املقالة‪ ،‬على بع�ض من ال�صعوبات والتحديات التي تعرت�ض ا�ضطالع املدر�سة‬
‫املغربية مبطلب تن�شئة تلميذ ــ مواطن �صالح قادر على اكت�ساب املعارف‪ ،‬مت�شبع يف نف�س الوقت‬
‫بهويته‪ ،‬فخور بانتمائه‪ ،‬مدرك حلقوقه وواجباته‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫�أوال‪ :‬جتليات دور املدر�سة يف تنمية املواطنة وال�سلوك املدين‬
‫�إن االهتمام مبو�ضوع املواطنة وال�سلوك املدين يكت�سي �أهمية بالغة بالنظر للتحول االجتماعي‬
‫الذي يعي�شه املجتمع املغربي من جهة‪ ،‬والتغري الذي يطال منظومة القيم داخله من جهة ثانية‪ ،‬دون‬
‫�إغفال التحوالت املت�سارعة التي يعرفها العامل برمته على م�ستوى القيم والأنظمة املرجعية الثقافية‬
‫واالجتماعية‪.‬‬

‫و�إذا كانت القيم‪ ،‬باعتبارها «روافد لل�سلوك املدين ت�شمل كافة مناحي احلياة الب�رشية‪ ،‬ف�إنها‬
‫تعني بنف�س الدرجة كل امل�ؤ�س�سات االجتماعية التي تقوم بوظيفة التن�شئة والرتبية‪ ،‬رغم اختالف‬
‫مواقعها وتباين ت�أثريها»(‪.)1‬‬

‫والأكيد �أن املدر�سة تعد �أحد �أبرز امل�ؤ�س�سات االجتماعية املعنية ببناء ال�سلوك املدين لدى �أفراد‬
‫املجتمع وفق قواعد م�ضبوطة و�أطر مرجعية دقيقة تعك�س كل خ�صو�صيات املجتمع‪� ،‬سواء على‬
‫امل�ستوى االجتماعي �أو الثقايف �أو التاريخي �أو ال�سيا�سي �أو االقت�صادي‪ .‬متثل املدر�سة‪� ،‬إذن‪ ،‬الو�سط‬
‫االجتماعي الثاين بعد الأ�رسة التي يت�رشب فيها النا�شئة تلك القيم االجتماعية والثقافية يف املجتمع‪.‬‬
‫و�إذا مل تنجح املدر�سة يف ذلك‪ ،‬ف�إن املجتمع يفقد خط الدفاع الثاين �ضد كل �أ�شكال العنف‬
‫والتطرف واالغرتاب‪ .‬لذا‪ ،‬ف�إن احلديث عن دور امل�ؤ�س�سات التعليمية يف تكري�س املواطنة وال�سلوك‬
‫املدين �أ�صبح �أمرا �رضوريا يف الوقت احلا�رض‪ ،‬وذلك ملا متثله املدر�سة من دور حيوي يف بناء ثقافة‬
‫املجتمع‪ .‬لذلك‪ ،‬فاملدر�سة اليوم مطالبة ب�أن تتجاوز تلك الأدوار التقليدية املتمثلة يف التعليم والتعلم‬
‫والتكوين والت�أهيل‪� ،‬إىل �أدوار �أخرى ت�ؤهلها ملواكبة احلركية التي ي�شهدها املجتمع املغربي وتقدمي‬
‫�إجابات ممكنة عنها من منظور املمار�سة الرتبوية‪ .‬فما طبيعة الأدوار املنتظرة من املدر�سة ؟ و�أين‬
‫يتجلى دورها يف �إر�ساء دعائم املواطنة وال�سلوك املدين ؟‬

‫قبل الإجابة عن هذين ال�س�ؤالني‪ ،‬نرى من ال�رضوري الوقوف عند مفهومي املواطنة وال�سلوك‬
‫املدين من حيث �سياقهما التاريخي وداللتهما (الفقرة الأوىل) و�أهميتهما داخل منظومة الرتبية‬
‫والتكوين (الفقرة الثانية)‪.‬‬

‫‪� -1‬سياق وداللة مفهومي املواطنة وال�سلوك املدين‬


‫�إن ا�ستيعاب داللة مفهومي املواطنة و ال�سلوك املدين تقت�ضي و�ضعهما يف �سياقهما التاريخي‬
‫بالنظر لكون «حا�رض الظاهرة ال ينف�صل عن ما�ضيها‪ ،‬بل هو امتداد لها وفقا ملبد�أ التطور»(‪.)2‬‬

‫خالل مرحلة القرون الو�سطى‪ ،‬عرفت �أوربا الغربية �سيادة احلكم الفردي املطلق‪ ،‬الذي ال يعري‬

‫‪ -1‬كلمة العدد‪ ،‬ر�سالة الرتبية والتكوين‪ ،‬ن�رشة �إخبارية ت�صدرها وزارة الرتبية الوطنية والتعليم العايل وتكوين الأطر والبحث‬
‫العلمي‪ ،‬العدد‪ ،31‬يونيو‪� ،2007‬ص ‪3 :‬‬
‫‪ -2‬حممد الغايل‪« ،‬املخت�رص يف �أ�س�س ومناهج البحث يف العلوم االجتماعية»‪ ،‬مكتبة املعرفة‪ ،‬الطبعة الأوىل‪ ،‬ماي ‪،2005‬‬
‫�ص ‪.97‬‬

‫‪29‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫اهتماما للمواطنة‪ .‬لكن منذ القرن الثالث ع�رش‪ ،‬قام الفكر ال�سيا�سي والقانوين الغربي ب�صياغة مبادئ‪،‬‬
‫و�إقامة م�ؤ�س�سات‪ ،‬و�إبداع وتطوير �آليات جديدة للحكم‪� ،‬سمحت بت�أ�سي�س وتنمية نظم حكم قومية‬
‫مقيدة لل�سلطة‪ .‬ولقد مت ذلك من خالل حركات �إ�صالحية ما كان لها �أن حتقق �أهدافها دائما ب�شكل‬
‫عفوي‪� ،‬أو بكيفية �سل�سة‪ ،‬بل تطلب الأمر ن�ضاال طويال وثورات �شعبية متكنت من الق�ضاء على‬
‫منط احلكم املطلق‪ ،‬الذي يحتكر فيه احلاكم كل ال�سلط‪ ،‬وي�ستبد باتخاذ كل القرارات‪ ،‬وفتحت‬
‫املجال لقيام الدميقراطية‪ ،‬التي جتعل ال�سلطة بيد ال�شعب‪.‬‬

‫كما �شكلت الثورة الفرن�سية �أهم تلك الثورات التي �ضخت دماء جديدة يف اجل�سم الأوروبي‪،‬‬
‫ومعها عرف مفهوم املواطنة تطورا ملحوظا‪ ،‬نتج عن انهيار النظام الفيودايل وبزوغ طبقة الربجوازية‪،‬‬
‫و�إ�صدار بيان حقوق الإن�سان واملواطن �سنة ‪ ،1789‬الذي �أ�صبح مبوجبه مفهوم املواطنة ي�شمل‬
‫احلقوق املدنية وال�سيا�سية‪ ،‬واحلقوق االقت�صادية واالجتماعية والثقافية‪ ،‬مع �إقرار مبد�أ امل�ساواة �أمام‬
‫القانون‪ ،‬وعدم �إق�صاء الأقليات �أو �أية فئة يف املجتمع‪.‬‬

‫وقد ات�سع احلديث عن املواطنة وال�سلوك املدين مع ع�رص الأنوار‪ ،‬يف عالقته بالعلوم‬
‫االجتماعية و «فل�سفة احلق» �أو «فل�سفة العقد االجتماعي» مع كل من جان لوك‪ ،‬وتوما�س هوبز‪،‬‬
‫وجان جاك رو�سو وغريهم من الفال�سفة‪ .‬ففي الوقت الذي عرفت فيه �أوروبا تغريات جذرية‪ ،‬بفعل‬
‫النه�ضة الأوروبية‪ ،‬وما نتج عنها من بروز للحركة الإن�سية وحركات �إ�صالحية دينية‪ ،‬ن�ش�أت هذه‬
‫الفل�سفة كمحاولة لتربير الظرف الراهن لأوروبا‪ ،‬الذي بد�أ يتجه نحو ا�ستبدال حكم الكني�سة بحكم‬
‫�آخر‪ ،‬م�ستمد من تعاقد واتفاق الأفراد(‪ .)3‬غري �أن انطالق الفال�سفة من واقع م�شرتك ومن ارتكازهم‬
‫على نف�س املعطى الفل�سفي املتمثل يف �أن الطبيعة املفرت�ضة للإن�سان ت�شكل �أ�سا�سا لكل حقوقه‬
‫يف احلالة املدنية �أو االجتماع‪ ،‬مل مينع من بروز عــدة اختالفات‪ .‬هــكذا‪ ،‬جنــد اختالفا على �سبيل‬
‫املثال بني توما�س هـــوبز ‪ Thomas Hobbes‬وجان جاك رو�سو ‪ Jean-Jacques Rousseau‬؛ فحالة‬
‫الطبيعة عند هوبز حالة حرب الكل �ضد الكل‪� ،‬أي �أنها حالة �رصاع وعنف وفو�ضى؛ �أما طبيعة‬
‫الإن�سان فهي �رشيرة وماكرة‪ .‬وبالتايل‪ ،‬ف�إنه من ال�رضوري اال�ستعا�ضة عن احلق الطبيعي بالقانون‬
‫املدين‪ ،‬الذي �سيتم من خالله حتويل فعل الإن�سان من فعل مطبوع بالأنانية �إىل فعل اجتماعي‪،‬‬
‫ي�صبح كــل واحد عن�رصا �ضمن تكتل ي�سمــى «املجتمع �أو الدولة»‪ .‬يف حني‪ ،‬يرى رو�سو �أن حالة‬
‫الطبيعة هي حالة �أمن و�سالم‪ ،‬و�أن الإن�سان خري بطبعه‪ .‬غري �أنه يلتقي مع هوبز يف رجوعه �إىل حالة‬
‫الطبيعة من �أجل البحث عن مرجعية ومرتكز لت�أ�سي�س احلق‪ .‬وعليه‪ ،‬فمبادئ التعاقد االجتماعي‬
‫عند رو�سو جتد مرجعيتها الأوىل يف احلقوق الطبيعية للإن�سان‪ .‬لكنه يعرت�ض على فكرة كون‬
‫�إثبات احلق متوقف على القوة‪ ،‬بحكم �أن امتالك احلق ال ي�ؤدي �رضورة �إىل امتالك القوة‪ ،‬مادام �أن‬
‫ح�صول ذلك رهني حتويل القوة �إىل حق والطاعة �إىل التزام وواجب‪ .‬يقول رو�سو يف هذا ال�صدد ‪�« :‬إن‬
‫�أقوى النا�س ال يكون قويا بال�شكل الذي ميكنه من �أن يكون دائما ال�سيد‪ ،‬ما مل يحول قوته �إىل حق‬

‫‪ -3‬حممد بهاوي‪« ،‬الفل�سفة لتالمذة البكالوريا (وفق برنامج وزارة الرتبية الوطنية)»‪ ،‬من�شورات عامل املعرفة‪ ،‬الطبعة الأوىل ‪،2010‬‬
‫�ص ‪. 159 :‬‬

‫‪30‬‬
‫والطاعة �إىل واجب»(‪ .)4‬لقد كانت فكرة الواجب ثمرة جمهود قام خالله الإن�سان باالنتقال من حالة‬
‫الطبيعة املفرت�ضة �إىل احلالة املدنية‪ ،‬رغبة يف ت�أمني و�ضعه و�إعطاء �أفعاله ال�صفة الأخالقية امللزمة(‪.)5‬‬

‫من جهته‪ ،‬عالج �شارل لوي دي �سيكوندا املعروف با�سم مونتي�سكيو ‪Montesquieu‬‬
‫مـــو�ضوع «املـواطنة» ومفهوم «الوطنية» بالتف�صيل يف كتابه «روح القوانني» ‪،Esprit des Lois‬‬
‫و�سمى حب الوطن وامل�ساواة بالف�ضيلة ال�سيا�سية(‪� .)6‬إن مفهوم الوطن يقرتن عنده مبفهوم امل�ساواة‪،‬‬
‫امل�ساواة يف احلقوق‪ ،‬وامل�ساواة �أمام القانون‪� ،‬أو قل «امل�ساواة ال�سيا�سية»؛ لذلك كان حب الوطن �أو‬
‫حب امل�ساواة ف�ضيلة �سيا�سية‪� .‬أي �أن امل�ساواة ال�سيا�سية بهذا املعنى مقدمة الزمة و�رشط �رضوري‬
‫للم�ساواة االجتماعية(‪.)7‬‬

‫ما ميكن ا�ستخال�صه‪ ،‬من هذه ال�سريورة التاريخية املقت�ضبة‪� ،‬أن تطور مفهوم املواطنة مل يكن‬
‫حدثا منعزال‪ ،‬بل واكبه �أي�ضا بزوغ جملة من املفاهيم احلقوقية‪ ،‬ومن �ضمنها ال�سلوك املدين‪ ،‬ومرد‬
‫ذلك �أن االعرتاف باملواطنة ا�ستتبعته �رضورة تر�سيخ ال�سلوك املدين‪ .‬لذلك‪ ،‬فاملواطنة وال�سلوك‬
‫املدين وجهان لعملة واحدة‪ .‬فاملواطنة ال�صاحلة تقت�ضي التحلي مبنظومة من القيم الأخالقية التي‬
‫جتعل املواطنني �أفرادا معتزين بوطنهم‪ ،‬حمرتمني لغريهم‪ ،‬ملتزمني بواجباتهم‪ ،‬مدركني حلقوقهم(‪.)8‬‬

‫هذا عن ال�سياق التاريخي العام ملفهومي املواطنة وال�سلوك املدين‪ ،‬فماذا عن داللتهما ؟‬

‫• داللة املواطنة‬
‫�إذا رجعنا �إىل �أ�صل كلمة مواطنة‪ ،‬جند �أنها بالن�سبة للغة العربية من الكلمات امل�ستحدثة‪،‬‬
‫ودخلت �إليها على الأرجح يف �إطار ترجمة الرتاث الغربي احلديث‪ ،‬وهي تقابل كلمة (‪)Citizenship‬‬
‫يف اللغة الإجنليزية‪ ،‬وكلمة (‪ )Citoyenneté‬يف اللغة الفرن�سية‪ ،‬وي�أتي اال�شتقاق من الكلمة الإجنليزية‬
‫(‪ ،)City‬والكلمة الفرن�سية (‪ .)Cité‬وتعني هذه الكلمات يف اللغات املذكورة املدينة؛ �أما �أ�صل م�صطلح‬
‫املواطنة‪ ،‬فهو يوناين يعود لكلمة (‪ )Politeia‬امل�شتقة من كلمة (‪ )Polis‬وهي املدينة‪.‬‬

‫جاء يف ل�سان العرب البن منظور‪« :‬وطن ‪ :‬الوطن ‪ :‬املنزل تقيم به‪ ،‬وهو موطن الإن�سان‬
‫وحمله‪ ...‬و�أوطان الغنم والبقر‪ ،‬مراب�ضها و�أماكنها التي ت�أوي �إليها‪ ...‬ومواطن مكة ‪ :‬مواقفها‪...‬‬
‫َو َط َن باملكان و�أوطن‪� :‬أقام‪ .‬و�أوطنه اتخذه وطنا‪ .‬يقال‪� :‬أوطن فالن �أر�ض كذا وكذا �أي اتخذها‬
‫حمال وم�سكنا يقيم فيها‪ ...‬و�أوطنت الأر�ض ووطنتها توطينا وا�ستوطنتها �أي اتخذتها وطنا»(‪.)9‬‬

‫ي�ست�شف من خالل تعريف ابن منظور اللغوي‪� ،‬أن الوطن ا�سم يدل على املكان الذي يقيم فيه‬

‫‪ -4‬جان جاك رو�سو‪�« ،‬أ�صل التفاوت بني النا�س»‪ ،‬ترجمة بول�س غامن‪ ،‬بريوت‪� ،1972 ،‬ص ‪.79 :‬‬
‫‪ -5‬حممد بهاوي‪« ،‬الفل�سفة لتالمذة البكالوريا (وفق برنامج وزارة الرتبية الوطنية)»‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.162 :‬‬
‫‪ -6‬مونت�سيكو‪« ،‬روح القوانني»‪ ،‬ترجمة‪ :‬عادل زعيرت‪ ،‬دار املعارف مب�رص‪ ،1953 ،‬املجلد الأول‪ ،‬اجلزء الأول‪� ،‬ص ‪.6 :‬‬
‫‪ -7‬مونت�سيكو‪« ،‬روح القوانني»‪ ،‬مرجع �سابق‪� ،‬ص ‪.17-16 :‬‬
‫‪ -8‬عبد الوهاب �صديقي‪« ،‬املدر�سة املغربية وقيم املواطنة و ال�سلوك املدين ‪ :‬درا�سة يف ح�ضور القيم يف مقررات مادة اللغة العربية يف‬
‫ال�سلك الثانوي الإعدادي»‪ ،‬جملة علوم الرتبية‪ ،‬العدد ‪ ،48‬يوليوز‪� ،2011‬ص ‪.66 :‬‬
‫‪ -9‬ابن منظور‪« ،‬ل�سان العرب»‪ ،‬مادة ‪ :‬وطن‪.‬‬

‫‪31‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫الإن�سان‪� ،‬أما لفظ املواطنة الذي يبدو م�أخوذا من وطن‪ ،‬فال �شك يحمل بع�ضا من معاين كلمة وطن‬
‫الدالة على ا�سم املكان الذي ي�ستقر فيه الإن�سان‪ ،‬لكن هل ثمة معان �أخرى حتملها هذه الكلمة ؟‬

‫ترتجم كلمة املواطنة يف بع�ض املعاجم العربية‪ ،‬ب�أنها اال�سم الذي يطلق على حقوق وواجبات‬
‫املواطن‪ ،‬وكلمة املواطن وفق املفهوم الغربي الذي ا�شتق منه‪ ،‬هو الفرد الذي ينتمي لدولة معينة‪،‬‬
‫ويقيم فيها ب�شكل معتاد ولو مل يولد بها كحالة اكت�ساب اجلن�سية‪ .‬ويحدد الد�ستور والقوانني‬
‫العالقات بني املواطن والدولة وت�شمل احلقوق واحلريات واالمتيازات التي يتمتع بها املواطن‪،‬‬
‫وواجباته وم�س�ؤولياته والتزاماته جتاه وطنه‪ ،‬وبالتايل ميكن القول �إن املواطنة تعني الروابط القانونية‬
‫وال�سيا�سية التي جتمع الفرد املواطن بوطنه‪.‬‬

‫ورد يف معجم املجل�س الأوربي حول م�صطلحات الرتبية على املواطنة الدميقراطية الذي‬
‫�أجنزه كارين �أو�شي ‪� Karen O’shea‬أن ‪« :‬املواطن ب�صفة عامة يطلق على �شخ�ص يعي�ش مع‬
‫�أ�شخا�ص �آخرين يف جمتمع معني»(‪ ،)10‬وال تفرق بع�ض املراجع الغربية بني املواطنة واجلن�سية‪ .‬ويف‬
‫مــو�سوعة كــولري الأمريكية‪ ،‬تعرف املواطنة (‪ )Citizenship‬ب�أنها «�أكرث �أ�شكال الع�ضوية اكتماال‬
‫يف جماعة �سيا�سية»(‪)11‬؛ وتعرفها دائرة املعارف الربيطانية ب�أنها‪« :‬عالقة بني فرد ودولة‪ ،‬يحددها‬
‫قانون هذه الأخرية‪ ،‬وما ت�شمله تلك العالقة من واجبات وحقوق يف ذات الدولة‪ ،‬وتخول للمواطن‬
‫على وجه العموم حقوقا �سيا�سية مثل حق االنتخاب وتويل املنا�صب العامة»‪ .‬وجاء يف مو�سوعة‬
‫الكتاب الدويل �أن املواطنة (‪ )Citizenship‬هي ‪« :‬ع�ضوية كاملة يف دولة‪� ،‬أو يف بع�ض وحدات‬
‫احلكم‪ ،‬وتخول للمواطنني بع�ض احلقوق كالت�صويت وتويل املنا�صب العامة‪ ،‬وعليهم واجبات كدفع‬
‫ال�رضائب والدفاع عن بلدهم»(‪.)12‬‬

‫• داللة ال�سلوك املدين‬


‫البد �أن ن�شري‪ ،‬مبدئيا‪� ،‬إىل �صعوبة �إعطاء تعريف نهائي و�أحادي اجلانب ملفهوم ال�سلوك‬
‫املدين‪ ،‬فهو مفهوم متعدد الدالالت من جهة‪ ،‬و تتداخل �ضمنه م�ستويات �أخرى‪� ،‬إن على م�ستوى‬
‫الرتكيب �أو احلقول الأخرى القريبة من هذا املفهوم؛ فمن حيث تركيبته‪ .‬فالعبارة مركبة من لفظتني‬
‫هما ‪ :‬ال�سلوك واملدين‪ .‬و�إذا كانت الأوىل حتيل على الوجه الفردي للممار�سة االجتماعية‪ ،‬فالثانية‬
‫حتيل على معطى التمدن والتح�رض �أي على مظهر من مظاهر ارتقاء وتطور املجتمعات الإن�سانية‪.‬‬
‫مفاد ذلك �أن مفهوم ال�سلوك املدين ينطوي على حمولة �سيا�سية وثقافية ترتبط بتاريخية تطور‬
‫املجتمعات وبنوعية القيم املواكبة لذلك التطور؛ وهذا ما يف�رس التداخل املوجود بني مفهوم ال�سلوك‬
‫املدين ومفاهيم �أخرى كالرتبية على املواطنة والرتبية على حقوق الإن�سان‪.‬‬

‫‪10- Karen O’Shea, «Glossaire des termes de l’éducation à la citoyenneté démocratique»,‬‬


‫‪Conseil de l’Europe : www.coe.int.‬‬
‫‪� -11‬أنظر �أحمد �صدقي الدجاين‪« ،‬م�سلمون وم�سيحيون يف احل�ضارة العربية الإ�سالمية»‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مركز يافا للدرا�سات‬
‫والأبحاث‪� ،1999 ،‬ص ‪.96‬‬
‫‪ -12‬علي خليفة الكواري‪« ،‬درا�سة حول مفهوم املواطنة يف الدولة الدميوقراطية»‪ ،‬العدد ‪ 30‬من �سل�سلة كتب امل�ستقبل العربي‬
‫حول الدميوقراطية والتنمية الدميوقراطية يف الوطن العربي‪ ،‬بريوت ‪� ، 2004‬ص‪.93 :‬‬

‫‪32‬‬
‫وعلى هذه الأ�سا�س‪ ،‬ال ميكن �أن نت�صور ال�سلوك املدين �إال م�ؤطرا مبنظومة �أخالقية حمددة‬
‫و�ضوابط قانونية معينة‪ ،‬ال�شيء الذي �أ�ضفى على مفهوم ال�سلوك املدين جمموعة من الأبعاد‬
‫هي(‪ :)13‬البعد الأخالقي (القيم‪ ،‬التمثالت‪ ،‬الرتبية‪ ،)...‬والبعد االجتماعي (ال�سلوكيات ال�سائدة يف‬
‫احلياة اليومية)‪ ،‬والبعد القانوين (القوانني املنظمة لعالقة احلقوق والواجبات)‪ ،‬ثم البعد الرتبوي‬
‫(ال�سلوك املدين منتوج لعملية بنائية م�ستمرة تتطلب تدخل التن�شئة)‪.‬‬

‫جاء يف الر�سالة امللكية املوجهة للم�شاركني يف الندوة الوطنية الأوىل للمجل�س الأعلى‬
‫للتعليم‪ ،‬ربط بني املواطنة وال�سلوك املدين‪،‬حيث اعتربت الر�سالة �أن ‪« :‬ال�سلوك املدين بالأ�سا�س‪،‬‬
‫منظومة قيمية ــ �أخالقية متكاملة‪ ،‬ال تقبل التجزيء‪ ،‬وتتخذ م�سارين متوازيني ومتوازنني‪:‬‬

‫• م�سار الت�شبع بقيم املواطنة الكاملة و�إ�شاعتها‪ ،‬من حيث �أنها تقوم على التمتع باحلقوق‬
‫الأ�سا�سية‪ ،‬وااللتزام الفعلي بالواجبات الفردية واجلماعية؛‬

‫• وم�سار الت�صدي احلازم لل�سلوكيات الالمدنية‪ ،‬مبختلف �أ�شكالها‪ ،‬عرب حماربة مظاهر العنف‬
‫والغ�ش والر�شوة و�سوء املعاملة‪ ،‬وغريها من املمار�سات الال�أخالقية‪ ،‬التي يكون وقعها �أكرث خطورة‬
‫حني تت�رسب �إىل امل�ؤ�س�سات التعليمية»(‪.)14‬‬

‫كما ورد بنف�س الر�سالة �أن «الغاية املثلى من تنمية ال�سلوك املدين هي تكوين املواطن املت�شبث‬
‫بالثوابت الدينية والوطنية لبالده‪ ،‬يف احرتام تام لرموزها وقيمها احل�ضارية املنفتحة‪ ،‬املتم�سك بهويته‬
‫ب�شتى روافدها‪ ،‬املعتز بانتمائه لأمته‪ ،‬املدرك لواجباته وحقوقه»‪.‬‬

‫«ت�ستهدف هذه الغاية �أي�ضا تربية املواطن على التحلي بف�ضيلة االجتهاد املثمر‪ ،‬وتعريفه‬
‫بالتزاماته الوطنية ومب�س�ؤولياته جتاه نف�سه و�أ�رسته وجمتمعه‪ ،‬وعلى الت�شبع بقيم الت�سامح والت�ضامن‬
‫والتعاي�ش لي�ساهم يف احلياة الدميقراطية لوطنه‪ ،‬بثقة وتفا�ؤل‪ ،‬يف اعتماد على الذات وت�شبع بروح‬
‫املبادرة‪ .‬وتندرج هذه الأهداف جمتمعة يف �إطار خيار املغرب الثابت يف تر�سيخ مغرب املواطنة‬
‫امل�س�ؤولة والدميقراطية والت�ضامن‪ ،‬وتكري�س دولة احلق والقانون‪ ،‬يف انفتاح على القيم الكونية»(‪.)15‬‬

‫ال�شك �أن ت�شبع التلميذ املغربي بهذه القيم يك�سبه مناعة قوية ما �أحوجنا �إليها يف املرحلة‬
‫الراهنة‪ ،‬لأن من �ش�أن ذلك �ضمان ح�صول ما ي�سميه �إ‪.‬موران ‪ Edgar Morin‬حلظة «الفهم‬
‫الإن�ساين»(‪ ،)16‬وهي حلظة قد تقي املغرب من كل ما من �ش�أنه �أن يهيئ �أ�سباب االنزالقات الأخالقية‪،‬‬
‫كما تثنينا عن تبني املقاربة الأمنية كحل ال حميد عنه لقطع دابر مثل هذه االنزالقات‪.‬‬

‫‪ -13‬نف�س املرجع �أعاله‪.‬‬


‫‪ -14‬مقتطف من ن�ص الر�سالة ال�سامية التي وجهها جاللة امللك �إىل امل�شاركني يف الندوة الوطنية حول «املدر�سة وال�سلوك املدين»‪،‬‬
‫الرباط ‪ 23 ،‬ماي ‪.2007‬‬
‫‪ -15‬نف�س املرجع �أعاله‪.‬‬
‫‪16- Edgar Morin, «Les sept savoirs nécessaires à l’éducation du futur» , édit.Seuil,‬‬
‫‪pp : 103-105.‬‬

‫‪33‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫‪� -2‬أهمية مفهوم املواطنة وال�سلوك املدين داخل منظومة الرتبية والتكوين‬
‫قد يحدث �أن يقود �إن�سان �سيارته على ال�ساعة الرابعة �صباحا ويتوقف عند �إ�شارة ال�ضوء‬
‫الأحمر‪ ،‬راف�ضا بذلك خرق القانون‪ ،‬رغم خلو الطريق من ال�سيارات‪ .‬فلماذا يقوم بهذا ال�سلوك؟‬
‫وماذا يريد �أن يحرتم بوا�سطته ؟ �إن املرور غري ممنوع‪� ،‬إذ لي�س هناك �رشطي‪ .‬ال يحرتم هذا الفرد‬
‫ال�ضوء الأحمر يف حد ذاته‪ ،‬و�إمنا يحرتم وجودا افرتا�ضيا(‪ .)17‬ال �شك �أن تنمية احرتام هذا الوجود‬
‫االفرتا�ضي داخل امل�ؤ�س�سة التعليمية يتطلب تناغما بني اخلطابات الر�سمية‪ ،‬والربامج الدرا�سية‪ ،‬بغية‬
‫خلق ج�سور توا�صل بني الت�صور واملمار�سة‪.‬‬

‫• اخلطابات الر�سمية‬
‫بو�أ امليثاق الوطني قطاع الرتبية والتكوين منزلة �سامية‪ ،‬حيث �أعلن �أن ‪« :‬قطاع الرتبية‬
‫والتكوين �أول �أ�سبقية وطنية بعد الوحدة الرتابية»(‪ .)18‬كما �أعطى نف�سا جديدا للرتبية على حقوق‬
‫الإن�سان‪ ،‬بل و�سهل مهمة تنفيذ الربنامج الوطني للرتبية على حقوق الإن�سان‪ ،‬خا�صة فيما يتعلق‬
‫مبراجعة الربامج واملناهج على �ضوء اعتبارات و�أهداف متعددة‪ ،‬من بينها �إدماج حقوق الإن�سان(‪.)19‬‬

‫وجاء يف اخلطاب الذي �ألقاه ﺠﻼﻟﺔ ﺍﻤﻟﻠﻙ حممد ال�ساد�س مبنا�سبة تن�صيب ﺍﻤﻟﺠﻠ�ﺱ ﺍ�ﻷﻋﻠﻰ‬
‫ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻡ ‪« :‬لقد �أبينا �إال �أن نفتتح املو�سم الدرا�سي لهاته ال�سنة بتن�صيب املجل�س الأعلى للتعليم‪،‬‬
‫جمددين الت�أكيد على املكانة املتميزة التي نخ�ص بها الإ�صالح الرتبوي يف م�رشوعنا التنموي‪،‬‬
‫اعتبارا لدوره احلا�سم يف تعميم املعرفة‪ ،‬وتر�سيخ قيم املواطنة‪ ،‬و�إعداد �أجيال امل�ستقبل»(‪.)20‬‬

‫ويبدو �أن �أع�ضاء املجل�س الأعلى للتعليم قد التقطوا هذه الإ�شارات من خالل الندوة الأوىل‬
‫التي نظمها هذا املجل�س يف مو�ضوع ‪« :‬املدر�سة وال�سلوك املدين»‪.‬‬

‫عزز هذا االختيار باخلطاب امللكي الذي وجه يف ر�سالة �إىل امل�شاركني يف الندوة الوطنية‬
‫التي نظمها املجل�س الأعلى‪ ،‬حتت عنوان ‪« :‬املدر�سة وال�سلوك املدين»‪ ،‬والتي جاء فيها‪�« :‬إذا‬
‫كان النهو�ض بال�سلوك املدين‪ ،‬يعد مهمة تربوية مطروحة ب�إحلاح على املجتمعات املعا�رصة‪ ،‬ف�إن‬
‫اال�ضطالع بها ي�سائل بالدرجة الأوىل‪ ،‬املنظومات الرتبوية‪ ،‬ويجعل م�س�ؤوليتها مركزية ودورها‬
‫راهنيا وحا�سما يف هذا امل�ضمار‪.‬‬

‫ذلكم �أن املدر�سة مدعوة‪ ،‬قبل غريها‪ ،‬لأن تكون منفتحة با�ستمرار على حميطها باعتماد‬

‫‪ -17‬حممد بوبكري‪« ،‬املدر�سة و �إ�شكالية املعنى»‪ ،‬ال�سل�سلة البيداغوجية‪ ،‬رقم ‪ ،6‬الطبعة الأوىل‪ ،1998 ،‬دار الثقافة‪� ،‬ص ‪.1 :‬‬
‫‪ -18‬املادة ‪ 21‬من امليثاق الوطني الرتبية والتكوين‪.‬‬
‫‪ -19‬للمزيد من املعلومات‪ ،‬انظر ‪ :‬درا�سة حتت عنوان ‪« :‬الربنامج الوطني للرتبية على حقوق الإن�سان»‪� ،‬أجنزت من طرف‬
‫الطلبة ‪� :‬أبو طالب عبد ال�صديق؛ حجار م�صطفى؛ موالي امل�صطفى منريي‪ ،‬حتت �إ�رشاف ‪ :‬الأ�ستاذ م�صطفى حم�سن‪،‬‬
‫جملة علوم الرتبية‪ ،‬العدد ‪� ،2004 ،15‬ص ‪.402 :‬‬
‫‪ -20‬مقتطف من اخلطاب الذي �ألقاه جاللة امللك مبنا�سبة تن�صيب ﺍﻤﻟﺠﻠ�ﺱ ﺍ�ﻷﻋﻠﻰ ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻡ مبدينة اﻟﺩﺍﺭ ﺍﻟﺒﻴ�ﻀﺎﺀ‪ ،‬بتاريخ ‪:‬‬
‫ﺍﺨﻟﻤﻴ�ﺱ ‪� 14‬شتنرب ‪.2006‬‬

‫‪34‬‬
‫نهج تربوي قوامه جعل املجتمع يف �صلب اهتماماتها‪ ،‬مبا يعود بالنفع على �أمتنا عامة و�شبابنا‬
‫ب�صفة خا�صة‪ .‬وهو ما يتطلب دعم تفاعلها مع املجاالت املجتمعية والثقافية واالقت�صادية»(‪.)21‬‬

‫وعليه‪ ،‬مل يكن مبد�أ «تر�سيخ ال�سلوك املدين» باملدر�سة املغربية‪ ،‬الذي اتخذته وزارة الرتبية‬
‫الوطنية �شعارا للمو�سم الدرا�سي ‪ 2007‬ــ ‪ ،2008‬جمرد حملة مو�سمية عابرة وطارئة‪ ،‬بل دعوة‬
‫�إىل �إعادة االعتبار للرتبية ذاتها‪ ،‬وتكري�سا للأغرا�ض ال�سامية املناطة باملنظومة التعليمية الرتبوية‪.‬‬
‫هذه الأخرية‪� ،‬أ�صبحت «على جانب كبري من التعقيد‪ ،‬بحيث تعددت �أبعادها وم�ؤ�س�ساتها‪ ،‬فهي‬
‫ت�شمل ــ �إىل جانب الأ�رسة واملدر�سة ــ و�سائل الإعالم بجميع �أنواعها التي باتت ت�شكل م�صدرا‬
‫هاما ت�ستقي منه القيم ومناذج الت�رصف وال�سلوك‪ ،‬ومتلك �سلطانا قويا على ت�شكيل العقول‬
‫والنف�سيات» (‪ .)22‬بالتايل‪ ،‬فاملدر�سة «ال ميكن فهمها كنواة م�ستقلة يعني كتنظيم خا�ص منغلق على‬
‫ذاته بل اعتبارها بنية مرتبطة مبحيطها‪ ،‬تتفاعل معه وت�ؤثر فيه وتت�أثر به»(‪.)23‬‬

‫مبقت�ضى هذه املقاربة ال�شمولية اجلديدة‪ ،‬ف�إن املدر�سة ب�إمكانها «ا�سرتجاع الثقة يف املدر�سة‬
‫املغربية ومتكني بالدنا من مدر�سة مت�صاحلة مع جمتمعها م�ؤهلة ومندجمة يف بيئتها‪ ،‬وفاعلة يف‬
‫معركة التنمية الب�رشية»(‪.)24‬‬

‫• الربامج الدرا�سية‬
‫ال يكفي ا�ستجالء مظاهر املواطنة وال�سلوك املدين من خالل اخلطابات الر�سمية لوحدها‪،‬‬
‫بل البد �أي�ضا من قراءة‪ ،‬ولو ب�سيطة‪ ،‬يف تنزيل هذه اخلطابات على م�ستوى الربامج واملناهج‬
‫والتوجيهات الرتبوية‪ ،‬وحتديدا باملواد املدر�سة بامل�ؤ�س�سات التعليمية ‪.‬‬

‫من خالل ا�ستقراء بع�ض م�ضامني الكتب املدر�سية‪ ،‬ميكن القول �إجماال �إن املواطنة وال�سلوك‬
‫املدين حا�رضان بقوة يف مقررات الكتاب املدر�سي �سواء باملرحلة االبتدائية �أو الإعدادية �أو الثانوية‪،‬‬
‫خ�صو�صا يف مواد كالرتبية الإ�سالمية واللغة العربية واالجتماعيات‪ .‬درو�س عديدة يف هذه املواد‪،‬‬
‫ومواد بعينها كالرتبية على املواطنة مبادة االجتماعيات‪ ،‬ت�سعى �إىل مقاربة مفاهيم كالت�سامح‪،‬‬
‫والكرامة‪ ،‬والدميقراطية‪ ،‬وامل�ساواة‪ ،‬واحلريات العامة‪ ،‬واحلقوق ال�سيا�سية واملدنية‪ ،‬وغريها من املفاهيم‬
‫احلقوقية‪ ،‬هادفة من خالل ذلك‪ ،‬متا�شيا مع فل�سفة امليثاق الوطني للرتبية والتكوين‪� ،‬إىل امل�ساهمة‬
‫يف تكوين مواطن م�ستقل ومتوازن ومتفتح‪ ،‬وعارف لدينه وذاته‪ ،‬ولغته وتاريخ وطنه‪ ،‬وواع مبا له‬
‫من حقوق وما عليه من واجبات‪ .‬ويبدو �أن ال�س�ؤال الذي يتبادر �إىل الأذهان‪ ،‬بعد هذا اال�ستقراء‬

‫‪ -21‬مقتطف من الر�سالة امللكية املوجهة �إىل امل�شاركني يف الندوة الوطنية بالرباط حول «املدر�سة وال�سلوك املدين» الأربعاء‪،‬‬
‫بتاريخ ‪ 23 :‬ماي ‪. 2007‬‬
‫‪ -22‬عبد املجيد بنم�سعود‪« ،‬منظومتنا الرتبوية �إىل �أين ؟ �أ�ضواء نقدية و�أفق البديل»‪ ،‬من�شورات الفرقان‪� ،‬سل�سلة احلوار ‪،37‬‬
‫�ص ‪.13 :‬‬
‫‪ -23‬حممد بنعلي‪« ،‬املدر�سة يف الو�سط القروي ‪ :‬مقاربة �سو�سيولوجية»‪ ،‬جملة علوم الرتبية‪� ،‬ص ‪ ،95 :‬ورد عن ‪:‬‬
‫حممد بنلح�سن ‪« ،‬املدر�سة املغربية ومفهوم املواطنة»‪ ،‬وثيقة �إلكرتونية ‪arabeagreg3.voila.net/pdf/ecoleci� :‬‬
‫‪toyenne-benlahcen.pdf‬‬
‫‪ -24‬مقتطف من خطاب جاللة امللك مبنا�سبة تن�صيب ﺍﻤﻟﺠﻠ�ﺱ ﺍ�ﻷﻋﻠﻰ ﻟﻠﺘﻌﻠﻴﻡ‪.‬‬

‫‪35‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫العام‪ ،‬هو‪� :‬إىل �أي حد ي�صح القول �إن امل�ضامني الدرا�سية ت�أتى لها النجاح يف تر�سيخ هذه املفاهيم‬
‫الرامية �إىل تر�سيخ مطلب املواطنة وال�سلوك املدين ال �سيما �أن املواطنة �إح�سا�س وال�سلوك ممار�سة ؟‬

‫ثانيا‪� :‬صعوبات وحتديات حتقيق املدر�سة ملطلب تر�سيخ قيم املواطنة‬


‫وال�سلوك املدين‬
‫ل�سنا يف حاجة‪ ،‬هنا‪� ،‬إىل ت�أكيد �أن الإف�صاح عن النوايا احل�سنة‪� ،‬سواء من خالل اخلطابات‬
‫الر�سمية �أو الربامج الدرا�سية كما ر�أينا‪ ،‬لي�س كافيا لتكـوين التلميذ ــ املواطن‪ .‬يــــ�ؤكد الباحث‬
‫ال�سوي�رسي فيليب برينو ‪ Phillipe Perrenoud‬يف ذات ال�سياق‪� ،‬أن «الرتبية على املواطنة ال‬
‫تختزل يف ح�صة زمنية‪ ،‬بل �إن تكوين املواطن يف املدر�سة يكمن يف قلب املعارف»‪ ،‬كما يقر ب�أنه‬
‫«ينبغي خلق و�ضعيات تي�رس تعلما حقيقيا‪ ،‬وتك�سب وعيا‪ ،‬وتبني قيما وهوية �أخالقية ومدنية»‪.‬‬
‫وي�ضيف كذلك �أن حتقيق هذا املبتغى «يتم من خالل املنهاج‪� ،‬سواء كان ذلك ظاهرا �أو خفيا؛‬
‫فكيف نتقي العنف يف املجتمع �إذا كنا نت�ساهل معه يف املدر�سة ؟‪ ...‬كيف نر�سخ االحرتام بدون‬
‫جت�سيده يوميا»(‪.)25‬‬

‫�إن جناح امل�ؤ�س�سة التعليمية يف تربية التلميذ ــ املواطن على قيم املواطنة و ال�سلوك املدين‪،‬‬
‫رهني تذليل جمموعة من ال�صعوبات نذكرها ب�إيجاز على النحو التايل‪:‬‬

‫‪� -1‬إ�شكالية اختيار الطرائق البيداغوجية املالئمة‬


‫ي�ستوجب مطلب تر�سيخ قيم املواطنة وال�سلوك املدين �إدراك املتعلم للحقوق التي يتمتع‬
‫بها وللواجبات التي ينبغي االلتزام باحرتامها‪ ،‬باعتبار �أن هذين العن�رصين �رضوريان لتنظيم العي�ش‬
‫داخل املجتمع ال غاية يف حد ذاتهما‪ .‬فالقاعدة القانونية مثال‪ ،‬ال يجب �أن ي�شكل فيها �إقرار الإلزام‬
‫واجلزاء هو مبتغى العملية التعليمية‪ ،‬ولكن ينبغي االقتناع ب�رضورة وجودها والإ�شارة �إىل �سبل‬
‫امل�شاركة يف �صياغتها و�إمكانية اقرتاح تعديلها �أو حت�سينها‪ .‬يتعني لأجل تكوين التلميذ على ذلك‬
‫خلق عالقة تقارب وان�سجام بني املعرفة وفعل التعلم ذاته‪ ،‬وهذا معناه توظيف الطرق الفعالة التي‬
‫حترتم املتعلم وتبني معارفه وتطور مهاراته وكفاياته‪ ،‬مع الأخذ بعني االعتبار ما اكت�سبه من جتارب‬
‫�سابقة �سواء داخل املدر�سة �أو غريها‪.‬‬

‫�إن الإقناع ي�ستلزم تعويد التلميذ على الت�سا�ؤل واملناق�شة‪ ،‬و ذلك لكون تبادل الر�أي والإن�صات‬
‫�إىل الآخر يعترب ج�رسا لرت�سيخ قيم الدميقراطية يف حياة املتعلم و�سلوكه‪ ،‬من حيث كونه مواطنا‬
‫للم�ستقبل(‪.)26‬‬

‫‪25- Phillipe Perrenoud,«Dix nouvelles compétences pour enseigner», 3ème édition,‬‬


‫‪ESF édition, 2003, Paris, p : 136.‬‬
‫‪ -26‬حممد بوبكري‪«،‬ق�ضايا تربوية»‪ ،‬دار الثقافة‪ ،‬الطبعة الأوىل‪ ،‬الدار البي�ضاء‪� ،2003 ،‬ص‪.112 :‬‬

‫‪36‬‬
‫‪� -2‬صعوبة انخراط خمتلف الفاعلني وال�شركاء‬
‫�إن القول ب�رضورة انفتاح املدر�سة على حميطها‪ ،‬ال يعني البتة �أن املدر�سة معنية لوحدها‬
‫باالنفتاح على املحيط الذي تتواجد فيه‪ ،‬لكن حري بهذا الو�سط �أي�ضا �أن ميد يد العون �إىل املدر�سة‬
‫ويحت�ضنها‪ .‬وقد جتد هذه الفكرة حجيتها يف كون �أنا�س كرث يعتقدون �أن تكوين وتربية مواطن‬
‫م�س�ؤول �ش�أن خال�ص للمدر�سة‪ .‬لكن‪� ،‬إىل �أي حد ي�صح هذا االعتقاد بدون ت�ضافر جهود خمتلف‬
‫ال�رشكاء والفاعلني‪ ،‬ويف مقدمتهم الأ�رسة والتلميذ نف�سه ؟‪.‬‬

‫ت�ؤكد كل الدرا�سات والأبحاث الرتبوية �أن الأ�رسة تعد طرفا رئي�سيا‪� ،‬إىل جانب املدر�سة‪،‬‬
‫يف تعليم الأبناء وتربيتهم على القيم‪ ،‬لذلك ينبغي تفعيل عملية التوا�صل معها داخل امل�ؤ�س�سات‬
‫التعليمية‪ ،‬يف �إطار يطبعه احلوار والت�شاور ال الندية واملجابهة‪ .‬بالإ�ضافة �إىل �أطراف �أخرى كجمعيات‬
‫املجتمع املدين ذات الطابع املحلي �أو اجلهوي‪ ،‬وكذا اجلماعات املحلية والإدارات العمومية‪� .‬إن هذه‬
‫الأطراف‪ ،‬كل من موقعه‪ ،‬يجب �أن ت�سهم يف ربط ج�سور التوا�صل بينها وبني امل�ؤ�س�سة التعليمية‬
‫لأن مهمة �إعداد مواطن م�س�ؤول هي م�س�ؤولية اجلميع �أفرادا وجماعات وم�ؤ�س�سات من منطلق �أن‬
‫جناح �شعار «مدر�سة للجميع» ال ي�ستقيم �إال بانخراط اجلميع‪.‬‬

‫‪ -3‬غياب ر�ؤية �شمولية و�إرادة كافية �إزاء �صياغة «م�شروع قيمي» ت�ضطلع به‬
‫امل�ؤ�س�سة التعليمية‬
‫يرى فيليب مرييه ‪� Phillipe Meirieu‬أن �صالحية �أي منوذج تربوي �أو بيداغوجي يقوم على‬
‫ثالثة عنا�رص مرتابطة‪ ،‬بدءا ب�صالحية امل�رشوع الأخالقي الذي ت�ستوحي منه (ما نريد �أن يكونه‬
‫املتعلم)‪ ،‬ثم تطابقه ثانيا‪� ،‬أو على الأقل‪ ،‬عدم تناق�ضه مع �إجنازات العلوم الإن�سانية (ما نعرفه عن‬
‫الإن�سان)‪ ،‬وثالث هذه العنا�رص خ�صوبة طريقة هذا امل�رشوع الأخالقي (ما توفره لكي يتغري املتعلم‬
‫وفق ما نريده)(‪.)27‬‬

‫قد اليجدي نفعا االكتفاء بتغيري الربامج وامل�ضامني الدرا�سية وتطوير املقاربات البيداغوجية‪،‬‬
‫�إذا مل ت�ؤ�س�س الدولة ــ متمثلة يف الوزارة الو�صية على قطاع الرتبية الوطنية ــ م�رشوعا �أخالقيا‬
‫ي�ستجيب ملتطلبات املواطنني �سواء على امل�ستوى االجتماعي �أو االقت�صادي �أو ال�سيا�سي‪ .‬لذلك‬
‫فغمو�ض غايات ومرامي و�أهداف التعليم العمومي املغربي‪� ،‬أو بالأحرى عدم و�ضوح ال�سيا�سة‬
‫التعليمية باملغرب قد ي�ستع�صي معه و�ضع م�رشوع دقيق يحمل الإجابة عن �أ�سئلة‪ ،‬قابلة للتغيري‬
‫ح�سب الزمان واملكان والثقافة ال�سائدة واالختيارات االجتماعية الكربى للبلد‪ ،‬وهي من قبيل ‪ :‬من‬
‫نحن ؟ ماذا نريد ؟ كيف نعي�ش جمتمعني ؟ كيف �سيكون �أطفالنا م�ستقبال ؟ كما يحدد من نعطيه‬
‫والءنا ؟ كيف نتفاعل مع باقي املواطنني وننفتح على الثقافات الأخرى ؟‬

‫‪27- Phillipe Meirieu, «Apprendre... oui, mais comment», 18ème édition, ESF éditeur, Paris,‬‬
‫‪2002, pp : 155 et s.‬‬
‫نقـال عن ‪ :‬حل�سـن بوتكـالي‪« ،‬الرتبية على املواطنة من نقل املعارف �إىل بناء الكفايات»‪ ،‬جملـة عالـم الرتبيـة‪ ،‬الـعدد ‪،15‬‬
‫‪� ،2004‬ص ‪. 331 :‬‬

‫‪37‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫هذه ال�صعوبات‪ ،‬على اقت�ضابها‪ ،‬تف�صح عن التحديات املطروحة �أمام كل املتدخلني‪،‬‬
‫وخ�صو�صا منهم امل�س�ؤولني عن قطاع الرتبية والتكوين باملغرب لأجل جتاوز «�أزمة الثقة» بني‬
‫املدر�سة واملحيط‪ .‬ولعل غياب التجهيزات واللوازم ال�رضورية (�سواء منها البيداغوجية �أو الإدارية)‬
‫داخل امل�ؤ�س�سة التعليمية‪ ،‬وعدم و�ضوح الأهداف املراد حتقيقها من املنهاج الدرا�سي على امل�ستوى‬
‫القيمي والأخالقي ب�شكل خا�ص‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل انت�شار العنف وعدم احرتام الآخر‪ ،‬وتكاثر عدد‬
‫العاطلني‪ ،‬هي جزء من التحديات التي ت�ستلزم �رضورة �إيجاد ال�سبل القمينة لالرتقاء بجودة املدر�سة‬
‫كميا وكيفيا حتى تكون كما �أرادها امليثاق الوطني للرتبية والتكوين �أن تكون ‪�« :‬أ ــ مفعمة باحلياة‪،‬‬
‫بف�ضل نهج تربوي ن�شيط‪ ،‬يجاوز التلقي ال�سلبي والعمل الفردي �إىل اعتماد التعلم الذاتي‪ ،‬والقدرة‬
‫على احلوار وامل�شاركة يف االجتهاد اجلماعي؛ ب ــ مفتوحة على حميطها بف�ضل نهج تربوي‬
‫قوامه ا�ستح�ضار املجتمع يف قلب املدر�سة‪ ،‬واخلروج �إليه منها بكل ما يعود بالنفع على الوطن‪،‬‬
‫مما يتطلب ن�سج عالقات جديدة بني املدر�سة وف�ضائها البيئي واملجتمعي والثقايف واالقت�صادي»‪.‬‬

‫خـاتـمـة‬
‫ت�أ�سي�سا على كل ما تقدم‪ ،‬ميكن القول �إنه ال يختلف اثنان اليوم يف كون امل�ؤ�س�سة التعليمية‬
‫هي الأقدر على منح املواطنني جرعات كافية من الرتبية على قيم املواطنة وال�سلوك املدين‪ ،‬لكن‬
‫يف غياب انخراط اجلميع �أفرادا‪ ،‬وجماعات‪ ،‬وم�ؤ�س�سات‪ ،‬وبالنظر ل�ضبابية امل�رشوع القيمي املجتمعي‬
‫الذي ي�سمح بقيا�س مدى جناح املدر�سة يف وظائفها الكيفية‪ ،‬يبقى حتدي تكوين مواطن له من‬
‫املعارف و املهارات ما ي�ؤهله لإدراك �أن املواطنة ال تختزل يف االنتماء �إىل الوطن‪ ،‬بل بحبه واالعتزاز‬
‫به واال�ستعداد الكامل خلدمته والدفاع عنه‪ ،‬و�أن االلتزام بالواجبات لي�س فيه �أدنى انتقا�ص‬
‫للحقوق‪ ،‬بل‪ ،‬بالعك�س من ذلك‪ ،‬يحفظها وي�صونها‪ ،‬يف �إطار من التعاقد االجتماعي الذي يكفل‬
‫للجميع‪ ،‬بدون ا�ستثناء‪ ،‬العي�ش بكرامة‪ ،‬تظل هذه املدر�سة عر�ضة للت�شكيك‪ ،‬وعدم الثقة‪ .‬بيد �أن‬
‫هذا ال يثنينا �أبدا عن التفا�ؤل والتطلع‪ ،‬ال �سيما �أمام املجهودات التي بذلت يف �إطار املخطط‬
‫اال�ستعجايل‪� ،‬إىل مغرب �أف�ضل وعهد جديد يتم الرهان فيه على منظومة الرتبية والتكوين‪ ،‬ويتعب�أ‬
‫لأجله اجلميع بغية تهيئة الأ�سباب احلقيقية لإعداد نا�شئة مغربية حرة‪ ،‬م�س�ؤولة‪ ،‬وخالقة‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫املواطنة واجلامعة‬
‫عبد احلق من�صف‬
‫�أ�ستاذ باحث يف الرتبية والفل�سفة ال�سيا�سية‬

‫مل يحظ مو�ضوع اجلامعة واملواطنة باالهتمام كما حظي به يف وقتنا احلايل‪ .‬من امل�ؤكد �أن‬
‫اجلامعة‪ ،‬بو�صفها م�ؤ�س�سة لإنتاج املعارف والنخب واملخت�صني يف تدبري خمتلف ميادين احلياة‬
‫االجتماعية واملدنية‪ ،‬كانت دائما مركز اهتمام مفكرين وفال�سفة كبار منذ القرن ‪18‬م يف الغرب‬
‫الأوربي‪ .‬غري �أن ال�سياق العوملي احلايل‪ ،‬وما يفر�ضه على الأنظمة الوطنية من حتوالت وحتديات‬
‫تهم جماالت االقت�صاد‪ ،‬وال�سيا�سة‪ ،‬والرتبية‪ ،‬وال�صحة‪ ،‬والبيئة‪ ،‬واملعرفة‪ ،‬والبحث العلمي‪ ،‬وغريها‪،‬‬
‫جعل اهتمام احلكومات الوطنية واملنظمات املحلية والإقليمية والأممية ين�صب �أكرث على العالقة‬
‫بني اجلامعة وبني املواطنة يف م�ستويات عدة على ر�أ�سها التكوين‪ ،‬والت�أطري‪ ،‬والبحث الهادف �إىل‬
‫التنمية املحلية والوطنية على وجه اخل�صو�ص(‪.)1‬‬

‫�سنحاول يف هذه املقالة حتليل عالقة اجلامعة باملواطنة با�ستثمار خمتلف نتائج الندوات‬
‫الدولية والإعالنات الأممية املنبثقة عنها‪ ،‬وكذا بع�ض الدرا�سات يف هذا املجال‪.‬‬

‫تعترب عالقة اجلامعة باملواطنة من �أحدث الق�ضايا املطروحة للبحث يف املنتديات الدولية يف‬
‫ظل ما تعانيه جمتمعات اليوم من م�شاكل خمتلفة‪ ،‬وما تطرحه �أمامها العوملة من حتديات حملية‬
‫ووطنية وعاملية‪ .‬وت�شكل اجلامعة �إحدى امل�ؤ�س�سات التي ت�سهم يف تطوير املقاربات والتدابري املعتمدة‬
‫يف ال�سيا�سات العمومية للتنمية وحت�سني ظروف عي�ش املواطن وممار�سة كل من الفرد واجلماعات‬
‫والهيئات املدنية ملواطنتها داخل الدولة‪.‬‬

‫تطورات املجتمعات املعا�رصة �إعادة النظر يف و�ضع اجلامعة و�أدوارها ووظائفها‪،‬‬


‫ُ‬ ‫لقد فر�ضت‬
‫بل ويف م�س�ؤوليتها يف التنمية والتغيري االجتماعي‪ُ .‬تطرح على امل�ستوى الدويل م�س�أل ُة �إ�صالح‬
‫اجلامعة والتعليم العايل يف ظل تناف�سية قوية بني املجتمعات على امل�ستوى املعريف واالقت�صادي‪،‬‬
‫امتدت �إىل م�ساءلة النموذج الثقايف والرتبوي لهذا الإ�صالح‪ .‬مل يعد هذا الإ�صالح ُيفهم كمجرد‬
‫�إ�صالح �إداري وبيداغوجي‪ ،‬بل ك�إ�صالح ي�ستجيب لأهداف التغيري والتنمية التي تطرحها الألفية‬
‫الثالثة‪ .‬يف ظل هذا الإ�صالح‪ ،‬تواجه اجلامعة حتديات �أهمها‪:‬‬

‫‪ -1‬تكفينا الإ�شارة هنا �إىل �أن مو�ضوع اجلامعة والتعليم العايل حظي منذ العقد الأخري من القرن الع�رشين باهتمام دويل (من‬
‫قبل اليون�سكو خ�صو�صا منذ ‪ )1996‬و�إقليمي (لدى االحتاد الأوربي منذ ‪ ،1996‬والوكالة اجلامعية للفرانكفونية‪ ،‬بتعاون‬
‫مع ملتقى ر�ؤ�ساء اجلامعات الفرنكفونية يف �إفريقيا واملحيط الهندي‪ ،‬واملجل�س الإفريقي واملالغا�شي للتعليم العايل على وجه‬
‫التحديد يف يوليوز ‪ .)2011‬وقد نتج عن هذا االهتمام �إعادة النظر يف و�ضعها املعريف واالجتماعي و�أدوارها لي�س فقط‬
‫يف جماالت التكوين والت�أهيل املعريف واملهني‪ ،‬والبحث والإ�شعاع الثقايف (وهي �أدوار راكمتها اجلامعة وم�ؤ�س�ساتها عرب‬
‫التاريخ)‪ ،‬بل �أي�ضا يف جماالت التنمية الب�رشية والبيئية‪ ،‬واخلربة لدى املحيط االقت�صادي واالجتماعي‪ ،‬والت�أطري املدين‬
‫والرتبية على املواطنة‪ ،‬والتعاون الدويل‪ ،‬والتبادل احل�ضاري‪.‬‬

‫‪39‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫• اال�ستجابة حلاجات املجتمع يف جمال التكوين و�إعداد الأطر والكفاءات لأجل املهن اجلديدة؛‬

‫• التكيف مع نظام املعارف العلمية والتكنولوجية الراهنة؛ وهذا يتطلب مراجعة النموذج املرجعي يف‬
‫هند�سة وتنظيم املعارف والبيداغوجيا اجلامعية؛‬

‫• تقدمي ثقافة نقدية منفتحة على مقت�ضيات التعدد واحلوار واملواطنة والدميقراطية والتعاي�ش‬
‫والتفاعل وطنيا ودوليا‪.‬‬

‫• الإ�سهام يف التنمية الدائمة لل�شعوب بجعل التعليم والتكوين يف جمال املعارف والتكنولوجيات‬
‫�أداة لتحرير الأفراد واجلماعات من املجاعة‪ ،‬والفقر‪ ،‬والأمية‪ ،‬واملر�ض‪ ،‬والتطرف‪...‬‬

‫• الإ�سهام يف بناء مواطنة حملية وعاملية مت�ضامنة حترتم احلوار والتبادل الثقايف بني ال�شعوب‪،‬‬
‫ويف تنمية الوعي ب�أهمية ال�سلم‪ ،‬ونبذ احلرب‪ ،‬والإرهاب‪ ،‬وت�شجيع املبادرات اخلا�صة لل�شعوب يف‬
‫جمال التحديث ال�سيا�سي والتنمية‪.‬‬

‫غري �أن اخل�ضوع للطلب االقت�صادي واالجتماعي فيما يخ�ص النجاعة وتلبية احلاجات قد‬
‫ُي َح ِّو ُل‪ ،‬بل حول يف كثري من البلدان‪ ،‬اجلامعة �إىل جمرد م�ؤ�س�سة عليا للتكوين يف الكفايات‬
‫املهنية‪ ،‬على ح�ساب الرتبية على املواطنة واالنخراط يف التنمية املحلية والوطنية‪ .‬فاجلامعة تتحمل‬
‫م�س�ؤولية كربى جتاه ف�ضاءاتها الداخلية وجتاه املجتمع املحيط بها؛ ومن بني مهامها الأ�سا�سية‬
‫اليوم �إعطاء �أهمية �أكرب لتنمية هذه الف�ضاءات وهذا املجتمع من نواحي عدة‪ ،‬معرفية واقت�صادية‬
‫و�سيا�سية‪ .‬وقد �أ�صبح تقومي اجلامعة يعتمد م�ؤ�رشات هذا الدور التنموي االجتماعي وال يقت�رص‬
‫فقط على املنتوج املعريف للجامعة وم�ؤ�س�ساتها وعلى املوقع الذي حتتله داخل الرتتيب العاملي يف‬
‫هذا املجال‪.‬‬

‫مواط َنةٍ عربها يتعرف الأفراد‬


‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫ملمار�سات‬ ‫لنعرتف بداية �أنه ال وجود ملواطنة دون ف�ضاءات‬
‫واجلماعات على بع�ضهم البع�ض‪ ،‬ويعرتف بع�ضهم ببع�ض‪ .‬هذه الف�ضاءات هي جماالت للنقا�ش‬
‫واحلوار‪ ،‬وللمواجهة واخلالف‪ ،‬وللمبادرة واالبتكار‪ ،‬وللتفاو�ض والبحث عن احللول املتقا�سمة‪ .‬داخل‬
‫هذه الف�ضاءات تظهر متثالت وم�صالح خمتلفة‪� ،‬إىل جانب قواعد عمل يتم بنا�ؤها وفق قيم م�ؤ�س�سة‬
‫للحقوق الب�رشية وواجباتهم املتبادلة‪ .‬والرتبية على املواطنة ت�سمح لكل فرد ب�أن ي�صبح فاعال‬
‫اجتماعيا داخل ف�ضاءات كثرية‪ :‬ق�سم درا�سي‪ ،‬حياة مدر�سية �أو جامعية‪ ،‬جمعية مدر�سية‪ ،‬نادي‬
‫جامعي‪ ،‬جماعة حملية �أو جهوية‪ ،‬هيئة وطنية‪ ،‬دولة‪ ،‬هيئات دولية‪ ...‬ف�ضاءات املواطنة ال حدود‬
‫لها‪ .‬تتنوع ف�ضاءات ممار�سة املواطنة وق�ضاياها (حمليا‪ ،‬وطنيا‪ ،‬دوليا)؛ غري �أن �أفعال املواطنة ال‬
‫تتغري‪ ،‬لأنها مرتبطة مب�شاريع اجتماعية للعي�ش امل�شرتك‪.‬‬

‫ُتطرح عالقة اجلامعة باملواطنة على الأقل من زاويتني هما‪ :‬الأوىل تهم اجلامعة كم�ؤ�س�سة‬
‫لإنتاج املعرفة والقيم؛ والثانية تخ�ص اجلامعة يف عالقتها باملحيط املحلي واجلهوي والوطني‬
‫والدويل‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫�أوال‪ :‬اجلامعة والرتبية على القيم واملواطنة‬
‫ت�شكل اجلامعة ف�ضاء مدنيا للرتبية على القيم واملواطنة‪ .‬وتخرتق هذه الرتبية يف مقام �أول‬
‫ِ‬
‫املواطن‬ ‫عمليات التكوين والت�أطري‪ ،‬حيث يتم متكني الطلبة من املعارف والقيم املتعلقة ب�سلوكيات‬
‫كفاعل اجتماعي ومدين‪ ،‬ومن الكفايات املنهجية امل�ستهدفة يف هذه الرتبية على املواطنة يف‬
‫�سياقات دولية خمتلفة‪� ،‬إىل جانب ال�سياق الوطني‪ ،‬من قبيل‪ :‬احرتام القواعد املتقا�سمة للحياة‬
‫اجلماعية؛ تبني ح�س امل�س�ؤولية جتاه الذات والغري واملحيط؛ اكت�ساب قيم التعاون والت�ضامن‬
‫والت�سامح؛ تنمية ملكة التمييز النقدي وا�ستقاللية احلكم؛ امتالك القدرة على حل امل�شاكل‬
‫وال�رصاعات؛ اكت�ساب القدرة على التفاو�ض وتدبري النزاعات واالختالفات؛ التحكم يف القدرة على‬
‫تقييم الو�ضعيات وتخطيط و�ضعيات الت�أطري املدين‪..‬‬

‫يف هذا ال�صدد‪ ،‬ميكن جلامعاتنا تخ�صي�ص وحدات درا�سية للتكوين يف جمال املواطنة‪،‬‬
‫مع ا�ستغالل خمتلف الفر�ص التي توفرها م�سالك التكوين وتخ�ص�صاته يف هذا ال�ش�أن‪ ،‬وال�سيما‬
‫التخ�ص�صات يف جمال العلوم القانونية وال�سيا�سية واالجتماعية‪ ،‬وفل�سفة القيم‪ ،‬وتاريخ احل�ضارة‪،‬‬
‫ونظريات االقت�صاد والعوملة وغريها‪ .‬غري �أن �إدراج الرتبية على القيم من هذا املنظور التكويني‬
‫يقت�ضي تغيري هند�سة التكوين اجلامعي لأجل �إدماج التكوينات املختلفة على الرتبية على القيم‬
‫واملواطنة‪ ،‬وجعلها �أحد مكونات التقومي والإ�شهاد‪ .‬فلي�ست كفايات املواطنة �أقل قيمة من مو�ضوعات‬
‫التخ�ص�ص املعريف ومن الكفايات املنهجية واملهنية املرتبطة به‪.‬‬

‫وعلى م�ستوى ت�أطري البحث اجلامعي‪ ،‬ت�أخذ الرتبية على املواطنة موقعا �أكرب‪ ،‬وذلك بحكم‬
‫م�س�ؤولية اجلامعة جتاه تنمية حميطها املحلي واجلهوي‪ .‬فالأدوار اجلديدة للجامعة وم�ؤ�س�سات‬
‫التعليم العايل يف هذا ال�ش�أن تفر�ض عليها �أن تكون ف�ضاء �أكادمييا وتربويا لتوثيق ذاكرة هذه‬
‫اجلهة‪ ،‬قبل �أن توجه اهتماماتها للق�ضايا الوطنية والدولية‪ .‬على جميع امل�ؤ�س�سات التابعة للجامعة‪،‬‬
‫كل واحدة من موقعها املعريف والتكويني‪� ،‬أن توجه بحوثها جلمع وحفظ مكونات اجلهة‪ ،‬الطبيعية‬
‫والتاريخية واالجتماعية وال�سيا�سية والثقافية وغريها‪ ،‬ولت�شخي�ص خمتلف ق�ضاياها وم�شاكلها‬
‫والآفاق املمكنة حللها‪ .‬وي�شكل البحث اجلامعي �أداة �أ�سا�سية لتعزيز الرتبية على املواطنة وقيمها‬
‫لدى �أطر التكوين والطلبة على حد �سواء‪ ،‬وذلك مبختلف جماالت احلياة االجتماعية واالقت�صادية‬
‫وال�سيا�سية والثقافية‪ .‬يف هذا ال�صدد‪ ،‬ميكن تخ�صي�ص ن�سبة من الت�أطري والبحث اجلامعي (حوايل‬
‫‪ )% 50‬مل�شاريع تهم تنمية اجلهة‪� ،‬رشيطة تنظيمه وم�أ�س�سته‪ ،‬على �أ�سا�س �أن يكون الإ�شهاد �شامال‬
‫للتكوينات النظرية يف جمال التخ�ص�ص‪ ،‬وللإ�سهام يف م�شاريع البحث اجلهوية مهما �صغر حجمها‪.‬‬
‫فانخراط الطلبة‪ ،‬بتوجيه وت�أطري من مراكز البحث واملخابر اجلامعية‪ ،‬يف م�شاريع وبرامج التنمية‬
‫املحلية‪ ،‬من قبيل حمو الأمية وحماربة اله�شا�شة والفقر‪ ،‬ون�رش املعرفة‪ ،‬والتوعية والتح�سي�س بق�ضايا‬
‫املر�ض وال�صحة‪ ،‬والتطرف واالنحراف‪ ،‬واملواطنة الفاعلة‪ ،‬والإ�سهام يف �أعمال املجتمع املدين وهيئاته‬
‫يف هذه املجاالت وغريها‪ ،‬كلها �أن�شطة تكوينية اجتماعية موجهة بالدرجة الأوىل لتنمية املجتمع‬
‫املحلي واجلهوي للجامعة‪ ،‬يف �أفق امل�شاركة يف �أن�شطة �أخرى مماثلة وطنيا ودوليا‪ .‬من �ش�أن ذلك‬

‫‪41‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫�أن ينمي لدى الطالب �أو الطالبة امل�س�ؤولية جتاه املجتمع املحلي واجلهوي‪ ،‬و�أن ِّ‬
‫ميكنهما من ت�أطري‬
‫اختياراتها املعرفية واملهنية �ضمن �سياق جهوي واكت�ساب خربات عملية على م�ستوى اجلهة‪ .‬هكذا‪،‬‬
‫ميكن خلطط وم�شاريع البحث اجلامعي على م�ستوى اجلهة �أن ت�سهم يف بناء ال�سيا�سات العمومية‬
‫التي تهم تطويرها‪ .‬كما ميكنها �أن تغتني بخلق ف�ضاءات ملمار�سة املواطنة‪� ،‬أق�صد ف�ضاءات للحوار‬
‫وتنظيم ملتقيات للطلبة حول ق�ضايا املواطنة املختلفة لأجل التداول والنقا�ش العمومي احلر‪� ،‬ضمن‬
‫خطط املختربات اجلامعية للبحث وبراجمها الإ�شعاعية الداخلية‪.‬‬

‫يف ال�سياق ذاته‪ ،‬وعلى م�ستوى احلياة اجلامعية‪� ،‬سيكون مفيدا جدا توفري كافة �رشوط‬
‫وم�ستلزمات الت�أطري اجليد للطلبة‪ ،‬من خالل‪:‬‬

‫• �إحداث منتديات لتوجيه الطلبة �إىل احلياة اجلامعية و�أن�شطتها‪ ،‬و�أهمية االنخراط يف بحث‬
‫ق�ضاياها وتطويرها؛‬

‫ • ت�شجيع �إحداث الأندية واجلمعيات الطالبية اجلامعية‪ ،‬الريا�ضية واالجتماعية والثقافية والبيداغوجية‪،‬‬
‫ودعمها‪ ،‬بهدف الإ�سهام يف االندماج الطالبي داخل ف�ضاءات اجلامعة وبنياتها‪ ،‬وتطوير ثقافة‬
‫االنتماء للف�ضاء اجلامعي بكل م�ؤ�س�ساته ؛‬

‫• خلق ف�ضاءات للتوا�صل والإعالم بكل ما يحدث وي�ستجد يف الف�ضاء اجلامعي‪ ،‬مبختلف الو�سائل‪:‬‬
‫مل�صقات‪ ،‬الويب‪ ،‬الر�سائل الإلكرتونية‪ ،‬ن�رشات منتظمة‪� ...‬إلخ‪.‬‬

‫من �ش�أن هذه الأن�شطة �أن تعزز الدور االجتماعي للجامعة داخليا‪ ،‬و�أن ت�سهم ب�شكل كبري‬
‫يف حترير ف�ضاءاتنا اجلامعية احلالية من خمتلف ظواهر العنف وال�سلوك الالمدين التي نالحظها �أو‬
‫نقر�أ عنها كثريا‪ ،‬وحتويلها �إىل ف�ضاءات للمبادرة واحلوار وتنمية احل�س املدين يف �صفوف املجتمع‬
‫الرتبوي اجلامعي (�أ�ساتذة‪� ،‬أطر �إدارية‪ ،‬طلبة‪ .)...‬غري �أن هذا الدور �سيتقوى �أكرث يف �إطار حكامة‬
‫تربوية جامعية مل�شاركة الطلبة يف تدبري ال�ش�أن اجلامعي‪ .‬و�إن العمل على م�أ�س�سة ناجعة لهذه‬
‫امل�شاركة يف خمتلف جمال�س وهيئات امل�ؤ�س�سات اجلامعية وباقي م�ؤ�س�سات التعليم العايل‪ ،‬وفتح‬
‫املجال �أمامهم للإ�سهام يف اتخاذ كافة القرارات التي تهم احلياة اجلامعية والتكوين والت�أطري وغريها‪،‬‬
‫ِ‬
‫املواطنة والتحكم فيها‪ ،‬والتخل�ص التدريجي‬ ‫�سي�شكل ال حمالة مدر�سة فعلية لتعلم املمار�سات‬
‫من �أمناط التفكري وال�سلوك «الفئوية» التي ُتخ�ضع كل امل�شاكل والق�ضايا ملنظور االنتماء الطالبي‬
‫اخلال�ص �أكرث من منظور االنتماء للم�ؤ�س�سة وف�ضاءاتها والقيم الدميقراطية الت�شاركية‪ ،‬ولردود‬
‫الأفعال الآنية التي تطبعها يف الغالب �أ�ساليب املواجهة والرف�ض وال�رصاع واملقاطعة‪ ،‬التي تنتهي‬
‫�أحيانا مبواقف المدنية‪ .‬من �ش�أن ذلك �أي�ضا �أن يفتح �أكرث الأ�ساتذة واملكونني باجلامعات على �آراء‬
‫ومواقف �رشيحة كبرية من «املنتمني» للف�ضاء اجلامعي‪ ،‬وميد ج�سور احلوار فيما بينهم يف اجتاه‬
‫ِ‬
‫املواطنة‪.‬‬ ‫تطوير الت�أطري البيداغوجي وتنمية املمار�سات‬

‫ِ‬
‫املواطنة وغريها من‬ ‫غري �أن االعرتاف مبختلف �أ�شكال انخراط الطلبة يف هذه املمار�سات‬
‫الأن�شطة التي �سبق ذكرها (والتي تهم التكوين والت�أطري والبحث)‪� ،‬سي�شكل �أجلى و�سيلة لرت�سيخ‬

‫‪42‬‬
‫هذه املواطنة اجلامعية‪ .‬فاالنتماء‪ ،‬كمحدد �أول للمواطنة‪ ،‬يتطلب االعرتاف امل�ؤ�س�سي والثقايف‪.‬‬
‫و�سيكون االعرتاف اجلامعي عن طريق الإ�شهاد و�سيلة حمفزة للطلبة لالنخراط يف �سلوكيات‬
‫املواطنة ومتلك ح�س امل�س�ؤولية جتاه الذات والغري واملحيط‪ .‬واجلامعات‪ ،‬يف هذا الإطار‪ ،‬ملزمة‬
‫بتقدمي �شهادات خا�صة‪� ،‬أو ت�ضمني هذا االعرتاف �ضمن ال�شهادات التي متنحها للطلبة عند نهاية‬
‫تكويناتهم اجلامعية الأولية �أو العليا‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬املواطنة اجلامعية واملحيط‬


‫عادة ما يتم ح�رص عالقة اجلامعة مبحيطها‪ ،‬اجلهوي �أو الوطني‪ ،‬يف عمليات التكوين‬
‫والت�أطري‪ ،‬ويف تقدمي �أو ت�سويق اخلربة يف �إطار تعاقدات معينة مع مقاوالت �أو م�ؤ�س�سات معينة‪.‬‬
‫غري �أن التحوالت املعا�رصة فر�ضت �رضورة تو�سيع اجلامعة عالقاتها مع حميطها لت�شمل الت�أطري‬
‫الثقايف والإ�سهام يف التنمية‪ ،‬كما ر�أينا‪ ،‬عرب التوا�صل الدائم مع املجتمع املحيط بها وخلق ف�ضاءات‬
‫للحوار مع املواطن املحلي واجلهوي قبل الوطني‪ .‬واحلقيقة �أن العديد من امللتقيات اجلهوية والدولية‬
‫ت�ؤكد م�س�ؤولية اجلامعة وم�ؤ�س�سات التعليم العايل يف �أن تكون �أول م�صدر للمعارف حول خمتلف‬
‫امل�شاكل االجتماعية والبيئية التي تواجه الإن�سان املعا�رص‪ ،‬ويف �أن تبحث �إمكانات و�سبل مواجهة‬
‫التحديات العاملية كالأمن الغذائي والتغريات املناخية وتدبري املياه والطاقات املتجددة وال�صحة‬
‫العمومية وحوار الثقافات‪ ،...‬بل هي مطالبة بامل�شاركة يف بناء القرارات التي مت�س الدميقراطية‬
‫والتنمية االقت�صادية والثقافية‪ ،‬والإ�سهام يف بلورة وتنفيذ ال�سيا�سات العمومية يف هذا ال�ش�أن‪ .‬يف‬
‫املواطنة‪ .‬ت�أخذ مواطنة اجلامعة يف عالقتها مبحيطها‬ ‫ِ‬ ‫هذا الإطار‪ ،‬ميكن احلديث عن اجلامعة‬
‫مظاهر عدة‪ ،‬نكتفي هنا بالإ�شارة �إىل بع�ضها‪ ،‬من قبيل‪:‬‬

‫• تنظيم �أن�شطة خمتلفة لفائدة املحيط‪ :‬معرفية‪ ،‬اجتماعية‪ ،‬ت�ضامنية‪ ،‬تعبوية‪..‬؛‬

‫• البحث يف �سبل االندماج ال�سو�سيو ــ مهني لطلبتها‪ ،‬وتي�سري هذا االندماج‪ :‬تنظيم‬
‫التداريب واالنغما�س يف املقاولة واملجتمع؛‬

‫• االجتهاد يف ابتكار �أ�ساليب وطرق للتنمية املهنية ملختلف الفاعلني و�أع�ضاء املجتمع املحلي‬
‫واجلهوي‪� ،‬ضمانا لتحقيق �أهداف تعلم الكبار والتعلم مدى احلياة‪ ،‬بغاية حت�سني القدرات وتطوير‬
‫الأداء وحتقيقا مزيد من االرتقاء االجتماعي‪.‬‬

‫�إىل جانب ذلك‪ ،‬طورت بع�ض الدول يف االحتاد الأوربي جتربة ما ي�سمى «جامعة املواطن»(‪)2‬؛‬
‫وهي ف�ضاءات تربوية وت�أطريية يتم �إحداثها داخل امل�ؤ�س�سات اجلامعية‪ ،‬ت�ستثمر خ�صي�صا لأجل‪:‬‬

‫• تنظيم لقاءات يح�رضها املجتمع املدين على اختالف هيئاته و�أفراده ملناق�شة ق�ضايا املواطنة‬
‫املحلية والوطنية والتباحث يف �ش�أنها و�إعداد برامج عمل لتطويرها؛‬

‫‪2- Université du citoyen.‬‬

‫‪43‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫• بلورة م�شاريع متقا�سمة ي�ستفيد منها املحيط املحلي واجلهوي مب�شاركة اخلرباء‬
‫واملخت�صني واملهنيني واملنتخبني واجلمعيات‪� ،‬إثر تنظيم �أيام للت�أطري والنقا�ش والتداول يف م�شاكل‬
‫معينة تهم املواطن يف حياته اليومية‪ .‬الهدف من ذلك تطوير كفايات املواطنني يف املعرفة (حت�صيل‬
‫معارف حول امل�شكل مو�ضوع النقا�ش) واملناق�شة العمومية والتدخل لأجل حل امل�شاكل والرفع من‬
‫قيمة مواقفه لدى ال�سلطات العمومية واملنتخبني املحليني‪.‬‬

‫كما طورت بع�ض املجتمعات جتربة اجلامعات ال�شعبية التي تفتح ف�ضاءاتها �أمام عموم املواطنني‬
‫لأجل تعميق معارفهم بخ�صو�ص مو�ضوعات وق�ضايا قانونية �أخالقية و�سيا�سية واقت�صادية‪�..‬إلخ‪،‬‬
‫واالنخراط يف مناق�شات حرة ومفتوحة حولها خارج �إكراهات �ضوابط الدرا�سة والتقومي‪ .‬ومما‬
‫يعزز القيمة املدنية وال�سيا�سية لهذه اجلامعات ال�شعبية ال�رشاكات التي تقيمها مع م�ؤ�س�سات الن�رش‬
‫وامل�ؤ�س�سات الإعالمية‪ ،‬ال�سمعية والب�رصية وال�سمعية الب�رصية‪ ،‬لأجل توثيق �أن�شطتها وحما�رضاتها‬
‫ونقا�شاتها‪ ،‬ون�رشها وتوزيعها على الأفراد واملهتمني وامل�ؤ�س�سات الرتبوية والثقافية وطنيا ودوليا‪ ،‬حتى‬
‫يتمكن املواطن من اال�ستفادة منها‪ .‬هذه ال�رشاكات دفعت اجلامعات �إىل تطوير عالقاتها باملحيط‬
‫وتو�سيعها حتقيقا لهدف تعميم املعرفة وتي�سري ولوج حقولها ولأهداف تعلم الكبار والتعلم مدى‬
‫احلياة‪ ،‬بو�صفها جميعا تندرج �ضمن غايات تر�سيخ جمتمع املعرفة والتوا�صل‪.‬‬

‫تبقى �أخريا �إمكانية وا�سعة وحا�سمة جدا يف تقوية مواطنة اجلامعة داخل حميطها‪ ،‬نق�صد‬
‫بذلك انخراطها يف حتقيق �أهداف املواطنة الكونية‪ ،‬خ�صو�صا يف زمن عوملي تبلور فيه �أفق �آخر‬
‫للمواطنة كانتماء للمعمور و�إ�سهام يف املحافظة عليه وتطويره مبا يخدم رفاهية اجلن�س الب�رشي‪.‬‬
‫تطرح املواطنة الكونية حتديات وق�ضايا خمتلفة تهم املجتمعات الب�رشية قاطبة‪ ،‬من قبيل‪ :‬ق�ضايا‬
‫البيئة العاملية و�رضورة الت�ضامن بني الأمم والدول لأجل املحافظة عليها؛ ق�ضايا الهجرة وال�صحة‬
‫والفقر واملجاعات والأمن الغذائي‪ ،‬والفروق ال�صارخة بني ال�شعوب يف ا�ستغالل املوارد العاملية؛‬
‫ق�ضايا الإرهاب واحلروب و�آثارها على تدمري ال�شعوب و�إبادة ح�ضاراتها؛ ق�ضايا التحديث العلمي‬
‫والتكنولوجي وما يثريه عامليا من �إ�شكاليات تهم الرتبية وتعميم التعليم والق�ضاء على كل �أ�شكال‬
‫الأمية والتخلف الفكري والثقايف‪ ...‬كلها وغريها ق�ضايا �أ�صبحت تطرح على امل�ستوى الدويل‬
‫�إ�شكاليات كربى مت�س م�س�ؤولية الدول وال�شعوب فيما يخ�ص التدخل امل�شرتك لأجل بحثها و�إيجاد‬
‫حلول لها تراعي الإرث امل�شرتك للإن�سانية وحقها يف بيئة عاملية �آمنة ت�سمح بتنمية ال�شعوب الأكرث‬
‫فقرا‪ ،‬وت�أ�سي�س عالقات �سلمية بني الدول ت�ضمن حق الأفراد واجلماعات يف العي�ش الكرمي‪ .‬وي�شكل‬
‫التعاون الدويل بني اجلامعات يف بحث ق�ضايا املواطنة العاملية‪� ،‬أحد الو�سائل ال�رضورية واحلا�سمة‬
‫حاليا يف تو�ضيح الر�ؤية العاملية بخ�صو�صها واالنخراط يف بلورة �سبل حلها‪.‬‬

‫ختاما‪ ،‬لي�ست اجلامعة وم�ؤ�س�ساتها جمرد ف�ضاء حمدود للتكوين‪ ،‬بل هي �إمكانية هائلة‬
‫قادرة على اخرتاق الف�ضاءات االجتماعية‪ ،‬واللغوية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬بل اجلغرافية‪ ،‬بف�ضل ما تختزنه من‬
‫فر�ص للت�أطري‪ ،‬والرتبية‪ ،‬واملبادرة‪ ،‬واالبتكار‪ ،‬والتنمية‪ .‬وت�شكل الرتبية على املواطنة‪ ،‬بل االنخراط‬
‫يف �أفعال املواطنة‪� ،‬إحدى فر�ص هذه الإمكانية‪ ،‬و�أحد �سبل تطوير احلقل اجلامعي ذاته ببالدنا‬
‫على وجه اخل�صو�ص‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫مراجع للتو�سع‬
• Tobelem. G, «Pour une université citoyenne» - Editions John Libbey Eurotext ;
Paris, 1998.

• Engel. V, «L’université européenne, acteur de citoyenneté» - Ed. Academia -


Bruylant ; 1999.

• Thill. G, Warrant. «F, Plaidoyer pour des universités citoyennes


et responsables» - Presses universitaires de Namur (Belgique), 1997.

• Felouzis. G, «Les mutations actuelles de l’université» - PUF ; Paris, 2003.


• Elbaz. M, Helly. D (sous la dir.), «Mondialisation, citoyenneté et multicultu-
ralisme - L’Harmattan» - Paris, 2000.

• Michiels. J-P, Jacquemotte. FJ, Uzunidis. D, «Mondialisation et citoyenneté» -


L’Harmattan, Paris, 1999.

• Ikeda. D, «Pour une citoyenneté planétaire : vos valeurs, vos convictions


et vos actions ont le pouvoir de construire un monde durable». - L’Harmattan;
Paris, 2005.

• Monga Oliga. MM, «Le développement par l’éducation à la citoyenneté» -


Presses universitaires de Kinshasa, 2006.

• Conseil de l’Europe : «Education à la citoyenneté démocratique : méthodes,


pratiques et stratégies» - 2001.

• Conseil de l’Europe : «Education à la citoyenneté démocratique et cohésion


sociale» - 2001.

• Guigue. X, (coordination), «L’éducation à une citoyenneté active


et responsable» - Source : http:// www.alliance21.org/fr/proposals

45 2011 ‫• �شتنرب‬ 5 ‫العدد‬


‫ر�أي املجل�س الأعلى للتعليم‬
‫*‬
‫يف «دور املدر�سة يف تنمية ال�سلوك املدين»‬
‫تقرتح هيئة التحرير ن�رش ال�صيغة الكاملة لر�أي املجل�س الأعلى للتعليم حول «دور‬
‫املدر�سة يف تنمية ال�سلوك املدين» ال�صادر �سنة ‪ ،2007‬وذلك لالعتبارات التالية‪:‬‬

‫• كون هذا الر�أي‪ ،‬الذي يقرتح �إطار عمل وطني لإعداد برامج تربوية متنوعة‪ ،‬ال‬
‫يزال يحافظ على راهنيته‪ ،‬ويحتاج اليوم‪� ،‬أكرث من �أي وقت م�ضى‪� ،‬إىل تفعيل‬
‫مقرتحاته وتو�صياته‪ ،‬وال �سيما يف �سياق وطني ودويل ي�شهد حتوالت عميقة‬
‫يف منظومات القيم‪ ،‬ومن ثم ي�سائل الوظيفة الرتبوية للم�ؤ�س�سات الوطنية للرتبية‬
‫والتكوين؛‬

‫• كونه يقدم �أجوبة عن العديد من الأ�سئلة املرتبطة بقيم املواطنة وال�سلوك املدين‬
‫التي يفرزها الواقع اليومي‪ ،‬خ�صو�صا مب�ؤ�س�سات الرتبية والتكوين؛‬

‫• كونه يف�سح املجال �أمام �إذكاء نقا�ش عمومي حول م�س�ألة القيم ودور امل�ؤ�س�سة‬
‫التعليمية يف ن�رشها وتر�سيخها كاقتناع والتزام وممار�سة يومية‪ ،‬وذلك يف �إطار‬
‫مهمتها الأ�سا�س املتمثلة يف بناء مواطن احلا�رض وامل�ستقبل‪.‬‬

‫حتـديد املو�ضوع‬
‫حتيل تنمية ال�سلوك املدين �إىل امتداداته يف املجتمع وداخل املدر�سة واجلامعة وخارج‬
‫ف�ضاءاتهما‪ ،‬ووجوده يف احلياة العامة ويف عالقة الأفراد فيما بينهم وبامل�ؤ�س�سات‪ ،‬وعالقتهم بالوطن‬
‫والعامل‪ .‬غري �أن �أبعاده ‪ :‬الأخالقية املرتبطة بالقيم ؛ الرتبوية املتعلقة بالتن�شئة ؛ االجتماعية املنظمة‬
‫للحياة العامة ؛ والقانونية املرتكزة على احرتام القوانني وحقوق الإن�سان‪ ،‬جتعل تنميته مهمة تقع‬
‫يف �صميم عمل املدر�سة‪.‬‬

‫ويت�أكد دور املدر�سة يف تنمية احل�س املدين‪ ،‬وتر�سيخ قيم املواطنة يف وجدان و�سلوك‬
‫املتعلمات واملتعلمني‪ ،‬من خالل ا�ستح�ضار وظائفها املتعارف عليها‪ ،‬املتمثلة يف التعليم والتعلم‬
‫والتكوين والت�أهيل‪ ،‬وال�سيما يف الرتبية والتن�شئة كوظيفة جتعل م�س�ؤولية امل�ؤ�س�سة التعليمية مركزية‬
‫ودورها راهنيا وحا�سما يف هذا امل�ضمار ؛ ذلك‪� ،‬أن الغاية املثلى من الرتبية على ال�سلوك املدين هي‬

‫(*) ر�أي املجل�س الأعلى للتعليم رقم ‪ 07/2‬ال�صادر بتاريخ ‪ 23‬يوليوز ‪.2007‬‬

‫‪46‬‬
‫تكوين املواطن املتحلي بالأخالق احل�سنة‪ ،‬املعتز بالثوابت الدينية والوطنية لبالده يف احرتام تام‬
‫لرموزها‪ ،‬املتم�سك مبقومات هويته ب�شتى روافدها‪ ،‬املتمتع باحلقوق والكرامة واحلرية يف احرتام‬
‫حلقوق الآخرين‪ ،‬امللتزم بالواجبات والقوانني والقواعد املتعاقد حولها‪ ،‬امل�سهم يف احلياة الدميقراطية‬
‫لبالده‪ ،‬واملكت�سب للمناعة جتاه ال�سلوكات الالمدنية‪.‬‬

‫اعتبارا لذلك ينبغي �أن تكون املدر�سة ف�ضاء يكر�س كل جتليات ال�سلوك املدين‪ ،‬ويت�صدى‬
‫باملقابل ملختلف املظاهر ال�سلبية املنافية له‪.‬‬

‫ال�سيـاقـات‬
‫يندرج االهتمام بدور املدر�سة يف تنمية ال�سلوك املدين �ضمن �سياقات دالة �أهمها‪:‬‬

‫• حتمية تر�سيخ قيم املواطنة وف�ضائل ال�سلوك املدين يف املمار�سات اليومية للأفراد واجلماعات‬
‫وامل�ؤ�س�سات‪ ،‬وال�سيما يف خ�ضم التحوالت العميقة التي ت�شهدها يف الع�رص الراهن املنظومات‬
‫القيمية والثقافية �سواء يف املجتمع املغربي �أو غريه من بلدان العامل ؛‬

‫• الدينامية التي ما فتئ يحركها �إ�صالح منظومة الرتبية والتكوين يف واقع املدر�سة وحميطها‪،‬‬
‫منذ �إقرار امليثاق الوطني للرتبية والتكوين‪ ،‬والوعي املتنامي بالدور احلا�سم للمدر�سة يف توطيد‬
‫جمتمع املواطنة امل�س�ؤولة والدميقراطية والت�ضامن والتنمية‪ ،‬والعمل احلازم لإجراء قطيعة مع كل‬
‫مظاهر الإخالل بالقانون والتع�صب والتطرف واالنغالق ؛‬

‫• الربامج واملبادرات التي تعرفها املدر�سة املغربية يف الرتبية على قيم املواطنة وحقوق الإن�سان‪،‬‬
‫ويف تنمية ال�سلوكات الإيجابية‪ ،‬وذلك يف �إطار ال�سهر الدائم على ا�ضطالع امل�ؤ�س�سات املدر�سية‬
‫واجلامعية بر�سالتها الرتبوية النبيلة‪ ،‬بو�صفها ف�ضاءات للتعلم واملواطنة وجماالت منزهة عن كل‬
‫املمار�سات الالمدنية واملزايدات العقيمة‪.‬‬

‫عنا�صر ت�شخي�صية لواقع ال�سلوك املدين والإ�شكاليات املرتبطة بتنميته‬


‫يقوم هذا الت�شخي�ص على ما تربزه الدرا�سات واملالحظة‪ ،‬وما �أ�سفرت عنه نتائج مناق�شة‬
‫وتداول املجل�س الأعلى للتعليم يف املو�ضوع‪ ،‬خالل دورته العادية الثانية املنعقدة �أيام ‪ 27‬و ‪28‬‬
‫فرباير وفاحت مار�س ‪ ،2007‬وكذا ح�صيلة �أ�شغال الندوة الوطنية حول «املدر�سة وال�سلوك املدين»‪.‬‬

‫كما �أن املكت�سبات التي حققها املغرب يف جمال الرتبية على املواطنة وحقوق الإن�سان‪ ،‬التي‬
‫واكبت دينامية الإ�صالحات املجتمعية‪ ،‬وخا�صة منها �إ�صالح املنظومة الرتبوية الوطنية مل تبدد‬
‫ال�رضورة امللحة للت�صدي احلازم والعاجل لكل جتليات ال�سلوك الالمدين التي �أ�ضحت تواجهها‬
‫امل�ؤ�س�سات التعليمية وال�سيما‪ :‬العنف ب�شتى �أ�شكاله‪ ،‬والغ�ش مبختلف �أ�ساليبه‪ ،‬وعدم احرتام الأدوار‬
‫و�سوء املعاملة‪ ،‬وامل�سا�س بنبل الف�ضاء املدر�سي واجلامعي‪ ،‬وتراجع االلتزام بالأنظمة الداخلية للم�ؤ�س�سة‬
‫التعليمية‪ ،‬والإ�رضار بامللك العام وبالبيئة‪.‬‬

‫‪47‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• فرباير‬ ‫‪4‬‬ ‫العدد‬


‫و�إىل جانب ذلك‪ ،‬هناك �إ�شكاالت تثريها تنمية ال�سلوك املدين يف املدر�سة‪� ،‬سواء على‬
‫م�ستوى عالقته باملمار�سة‪� ،‬أو على م�ستوى مقاربته البيداغوجية واملنهجية‪ ،‬وتكري�سه يف احلياة‬
‫املدر�سية واجلامعية ‪:‬‬

‫• تتمثل الإ�شكاالت املرتبطة باملمار�سة يف الهوة املتنامية بني اخلطاب حول القيم واحلقوق والواجبات‬
‫وبني املمار�سة الفعلية لها‪ ،‬كما ترتبط برتاجع االن�ضباط لقواعد و�أنظمة املهنة‪ ،‬وااللتزام مبا تقوم‬
‫عليه من واجبات ؛‬

‫• �أما الإ�شكاالت البيداغوجية واملنهجية فتتمحور‪ ،‬بالأ�سا�س‪ ،‬حول الق�ضايا التالية ‪:‬‬

‫ــ كيفية تر�سيخ منظومة بيداغوجية للحياة مع الآخرين تعتمد �إعطاء القدوة احل�سنة يف‬
‫ال�سلوك واملعاملة‪ ،‬ويكون �أ�سا�سها القيام بامل�س�ؤولية والتمتع باحلقوق يف التزام تام بالواجبات‪ ،‬من‬
‫خالل متلك قواعد ال�سلوك املدين وجعلها ممار�سة تلقائية لدى الفاعلني الرتبويني واملتعلمني ؛‬

‫ــ مدى حتقيق املدر�سة لوظيفتها الرتبوية يف التن�شئة االجتماعية عرب �أ�ساليب �إي�صال املناهج‬
‫والربامج الدرا�سية والتكوينية بجوانبها الإن�سانية واالجتماعية والنف�سية‪ ،‬ومدى االهتمام ببعدها‬
‫العملي والنفعي يف احلياة اخلا�صة والعامة ؛‬

‫ــ مدى مالءمة طرائق التدري�س والتعلم وبرامج التكوين الأ�سا�سي وامل�ستمر املعتمدة‪،‬‬
‫وفعاليتها يف تر�سيخ ال�سلوك املدين ؛‬

‫ــ الآليات الكفيلة بتنظيم العمل امل�شرتك يف الف�ضاء املدر�سي واجلامعي‪� ،‬سواء يف الف�صول‬
‫�أو خارجها‪ ،‬ومدى انخراط �أفراد جماعة املدر�سة يف امل�شاركة امل�س�ؤولة لتدبري ف�ضائهم امل�شرتك‬
‫وعالقاتهم اليومية ؛‬

‫‪ -‬املنهجية التي ميكن اعتمادها لتنفيذ برامج تنمية ال�سلوك املدين يف ممار�سات املتعلمني‪،‬‬
‫بالعالقة مع تنوع املراحل الدرا�سية و�أنواع التعليم‪ ،‬واختالف الفئات العمرية للتالميذ والطلبة‪ ،‬وما‬
‫تتطلبه من مقاربات بيداغوجية خا�صة‪.‬‬

‫مداخل ومقرتحات لبلورة م�شروع �إطار عمل لتنمية ال�سلوك املدين‬


‫بناء على التوجيهات امللكية ال�سامية‪ ،‬واملنطلقات امل�شار �إليها �أعاله‪ ،‬وا�ستح�ضارا لأبعاد‬
‫ال�سلوك املدين وللإ�شكاالت التي تطرحها تنميته‪ ،‬وبهدف بلورة �إطار عمل لإعداد برامج تربوية‬
‫متنوعة‪ ،‬من �أجل االنطالق يف تطبيق هذا امل�رشوع يف �أفق املو�سم الدرا�سي املقبل ؛ ف�إن املجل�س‬
‫يعرب عن اعتزازه للإ�سهام بر�أيه يف هذا املو�ضوع‪ ،‬وذلك بتقدمي مداخل مهيكلة للم�رشوع مرفوقة‬
‫مبقرتحات �إجرائية وب�آليات للتفعيل والتتبع ‪:‬‬

‫‪ -1‬املداخـل املهيكـلة‬
‫‪ 1.1‬االنطالق من �أن الرتبية على ال�سلوك املدين‪� ،‬إذا كانت م�س�ؤولية جمتمعية متقا�سمة‪ ،‬ف�إن‬

‫‪48‬‬
‫ا�ضطالع منظومة الرتبية والتكوين بهاته املهمة يعد وظيفة من وظائفها الطبيعية‪ ،‬ويندرج يف‬
‫عمق �سريورة �إ�صالحها‪ ،‬كما يرتبط النجاح يف �إجناز هاته املهمة بالت�أهيل امل�ستمر للفاعلني‬
‫الرتبويني‪ ،‬بالتح�سني املطرد حلكامة تلك املنظومة وبتعميق �إقرار الالمركزية وعدم التمركز‪،‬‬
‫مبالءمة املناهج والربامج‪ ،‬ب�إحكام التنظيم البيداغوجي وتدبري الإيقاعات الزمنية‪ ،‬بنجاعة‬
‫�آلية التوجيه الدرا�سي و�أنظمة تقومي التعلمات والتكوينات‪ ،‬وكذا بجودة املردودية الداخلية‬
‫واخلارجية ؛‬

‫‪ 2.1‬ال�سهر على جعل املو�سم الدرا�سي ‪� 2008-2007‬سنة للتعبئة و�إذكاء النقا�ش املو�سع‪ ،‬من �أجل‬
‫�إر�ساء اللبنات الأ�سا�سية وو�ضع التدابري الإجرائية لربامج تر�سيخ قواعد ال�سلوك املدين‪،‬‬
‫وتنميته يف املدر�سة واجلامعة ويف ف�ضاءاتهما ؛‬

‫ولهذا الغر�ض‪ ،‬يتم جتديد وتنويع �صيغ �أ�ساليب م�شاركة كل الفاعلني الرتبويني والتالميذ‬
‫والطلبة يف م�رشوع تنمية ال�سلوك املدين‪ ،‬وذلك بانخراط فاعل للأ�رس ول�رشكاء املدر�سة ؛‬

‫‪ 3.1‬التحديد الوا�ضح للم�س�ؤوليات ب�ضبط االخت�صا�صات الرتبوية والإدارية ملختلف الفاعلني يف‬
‫ف�ضاء املدر�سة‪ ،‬ل�ضمان ن�رش ال�سلوكات الإيجابية والت�صدي ملا ينافيها‪ ،‬واحلر�ص املنتظم على‬
‫تتبع ذلك‪ ،‬ح�سب املواقع والأدوار ؛‬

‫‪ 4.1‬اعتبار �أن االرتقاء البيداغوجي بال�سلوك املدين يف التعلمات ويف م�سالك التكوين ال ميكن �أن‬
‫يتم بجعله مادة تخ�ص�ص درا�سي‪ ،‬بل هو مهمة تتوالها خمتلف املواد والتخ�ص�صات‪ .‬كما‬
‫�أن طرائق اكت�سابه ت�ستدعي االجتهاد يف ابتكار الو�سائل الكفيلة ب�إدماج مفاهيمه وقيمه‬
‫وقواعده يف املناهج والو�سائط التعليمية ؛‬

‫‪ 5.1‬اعتماد مبد�إ التدرج يف مالءمة املناهج والربامج والتعلمات ملتطلبات تنمية ال�سلوك املدين‪،‬‬
‫والعمل مببد�إ التعميم بالن�سبة للجوانب املعززة لل�سلوك املدين‪ ،‬وو�سائل الت�صدي ملا ينافيه‪،‬‬
‫�ضمن احلياة املدر�سية واجلامعية ؛‬

‫‪ 6.1‬مراعاة الفئات العمرية للمتعلمني‪ ،‬تبعا لأ�سالك التعليم‪ ،‬مع الأخذ بعني االعتبار �أن تنمية‬
‫ال�سلوك املدين يجب �أن تتم ب�شكل مبكر‪ ،‬ابتداء من التعليم الأويل‪ ،‬و�أن تكون مواكبة‬
‫للمتعلمني طيلة م�سارهم الدرا�سي ؛‬

‫‪ 7.1‬اعتماد املنهج العلمي يف الر�صد والتتبع والتقومي للربامج‪ ،‬واالرتقاء بالبحث العلمي الرتبوي‬
‫وتقوية املالحظة العلمية للظواهر التي تعرفها املدر�سة ؛‬

‫‪ 8.1‬امل�ساهمة يف بناء معرفة علمية وميدانية دقيقة بواقع املدر�سة املغربية وب�أدوارها ووظائفها‪ ،‬مع‬
‫ت�شجيع االبتكار والبحث الرتبوي ؛‬

‫‪ 9.1‬توطيد وا�ستثمار املكت�سبات الإيجابية التي نتجت عن املبادرات والربامج ال�سابقة يف ميدان‬
‫الرتبية على حقوق الإن�سان واملواطنة‪.‬‬

‫‪49‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• فرباير‬ ‫‪4‬‬ ‫العدد‬


‫‪ -2‬مقرتحات �إجرائية‬
‫‪ 1.2‬فتح نقا�ش حول �إطار تربوي تعاقدي لل�سلوك املدين بارتباط مع القوانني الداخلية للم�ؤ�س�سات‬
‫الرتبوية‪ ،‬ت�شارك فيه كل الأطراف لبلورة �أ�س�س ذلك التعاقد وقواعد ال�سلوك املدين وجتلياته‪،‬‬
‫والإجراءات املالئمة للت�صدي لكل املظاهر املنافية له‪ ،‬وال�سيما الإخالل بالقانون والواجبات‪،‬‬
‫العنف‪ ،‬الغ�ش‪ ،‬عدم احرتام الأدوار و�سوء املعاملة‪ ،‬الإ�رضار بامللك العام وبالبيئة‪ .‬على �أن‬
‫يتم �إدراج مدى االلتزام مبقت�ضيات هذا التعاقد �ضمن م�ؤ�رشات تقومي الأداء ال�سنوي لكل‬
‫م�ؤ�س�سة تعليمية ؛‬

‫‪� 2.2‬إطالق �أورا�ش بيداغوجية ميدانية ي�شارك فيها خمتلف املعنيني املبا�رشين من �إدارة تربوية‬
‫و�أ�ساتذة وتالميذ وطلبة ؛ وذلك بهدف انخراطهم املبا�رش يف حتديد وبناء ت�صورهم الرتبوي‬
‫لتنمية ال�سلوك املدين ؛‬

‫وميكن �أن تنكب هاته الأورا�ش ب�صفة خا�صة على ما يلي ‪:‬‬

‫�إعداد برامج مبتكرة لن�رش ثقافة اال�ستحقاق واحلوار واحرتام الغري وتوطيد املمار�سة الدميقراطية‬ ‫• ‬
‫و�صيانة امللك العام واملحافظة على البيئة‪ ،‬وكذا لتنمية الأن�شطة الثقافية والفنية والإبداعية يف‬
‫الف�ضاءات املدر�سية واجلامعية ؛‬

‫التفكري اجلماعي املنظم من طرف الفاعلني الرتبويني يف التجديد املتوا�صل لعملهم الرتبوي‪،‬‬ ‫• ‬
‫وكذا يف �أ�ساليب الرتبية بالقدوة ؛‬

‫تقدمي التجارب الديداكتيكية الناجحة يف جمال الرتبية على املواطنة واملمار�سة الدميقراطية‪،‬‬ ‫• ‬
‫والنظر يف اعتمادها كنماذج تطبيقية ؛‬

‫و�ضع �صيغ حمفزة على اخلدمة التطوعية للتالميذ والطلبة لفائدة م�ؤ�س�ساتهم التعليمية �أو‬ ‫• ‬
‫حميطها القريب‪ ،‬مع �أخذها بعني االعتبار يف تقومي مردودهم الدرا�سي ؛‬

‫‪ 3.2‬تكري�س خمتلف املمار�سات والتقاليد الهادفة �إىل تر�سيخ احل�س الوطني واالنتماء امل�شرتك‪،‬‬
‫وال�سيما واجب حتية العلم وترديد الن�شيد الوطني‪ ،‬مبا يليق بهما من اعتزاز والتزام واحرتام‪.‬‬
‫على �أن جتري هاته العملية ب�صفة منتظمة ويف توقيت موحد‪ ،‬وعلى الأقل مرة كل �أ�سبوع‪،‬‬
‫بالن�سبة جلميع امل�ؤ�س�سات التعليمية على ال�صعيد الوطني ؛‬

‫‪ 4.2‬ت�شكيل وحدات مركزية وجهوية للبحث العلمي الرتبوي يف جمال تنمية ال�سلوك املدين‪ ،‬من‬
‫هيئة التفتي�ش وهيئة التدري�س واخلرباء من �أجل ‪:‬‬

‫تطوير االجتهاد حول الأ�ساليب والطرائق البيداغوجية القائمة ؛‬ ‫• ‬

‫البحث يف مالءمة ال�صيغ الرتبوية مع تطور الف�صول الدرا�سية وف�ضاء املدر�سة ؛‬ ‫• ‬

‫‪50‬‬
‫ر�صد الظواهر ال�سلبية التي حتدث يف ف�ضاء املدر�سة‪ ،‬و�إخ�ضاعها للدرا�سة والفح�ص العلمي‪،‬‬ ‫• ‬
‫والتعرف على �أ�سبابها وحتديد و�سائل مواجهتها وجتاوزها‪.‬‬

‫‪ 5.2‬مراجعة مناهج التكوين مبعاهد ومراكز تكوين الأطر‪ ،‬من �أجل جتديدها وبغاية ت�أهيل الأطر‬
‫الرتبوية ملمار�سة �أدوارها يف تنمية ال�سلوك املدين ؛‬

‫‪� 6.2‬صياغة برامج للتكوين امل�ستمر جتعل تنمية ال�سلوك املدين من مقوماتها و�أهدافها؛‬

‫‪� 7.2‬إحداث مراكز لال�ستماع والإر�شاد والدعم مزودة ب�أخ�صائيني‪ ،‬وذلك يف �إطار تقدمي اخلدمات‬
‫الطبية وامل�ساعدة النف�سية واالجتماعية لفائدة املتعلمني ؛‬

‫‪� 8.2‬إر�ساء �آليات للو�ساطة يف الف�ضاء الرتبوي حلل النزاعات والتوترات ؛‬

‫‪� 9.2‬سن قواعد لتثمني وت�شجيع االبتكار واالجتهاد الفردي واجلماعي واملبادرات املتميزة فيما‬
‫يخ�ص كل م�رشوع يهم خمتلف جماالت تنمية املمار�سات املدنية والت�ضامنية‪� ،‬سواء تلك‬
‫التي يقوم بها التالميذ �أو الطلبة �أو الفاعلون الرتبويون �أو ال�رشكاء لفائدة املدر�سة �أو حميطها‬
‫القريب‪ ،‬مع احلر�ص على التعريف باملمار�سات اجليدة‪ ،‬وتو�سيع جمال اال�ستفادة منها ؛‬

‫‪ 10.2‬بناء �رشاكات م�ؤ�س�ساتية فاعلة مع القطاعات احلكومية واجلمعيات واملنظمات املدنية املعنية‪،‬‬
‫فيما يخ�ص الربامج الهادفة �إىل النهو�ض بال�سلوك املدين يف امل�ؤ�س�سات الرتبوية‪.‬‬

‫‪51‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• فرباير‬ ‫‪4‬‬ ‫العدد‬


‫�شهادات‬
‫املدر�سة ودورها يف الرتبية على املواطنة‬
‫ومبادئ ال�سلوك املدين‬
‫حوار مع الدكتور حممد الدريج‬
‫�أ�ستاذ التعليم العايل بجامعة حممد اخلام�س ــ الرباط‬
‫مدير م�ؤ�س�سة «املعرفة للجميع»‬
‫�أجرى اللقاء ‪ :‬م�صطفى ح�ســني‬

‫م�ؤ�س�سة تربوية لها دورها يف تنمية ال�سلوك‬ ‫تقدمي‬


‫املدين‪ ،‬وتر�سيخ �أ�ساليب ممار�سته كثقافة‬
‫تواجه املدر�سة املغربية اليوم رهانات‬
‫يومية‪ .‬انطالقا من هذه الإعتبارات‪ ،‬ما هي �أهم‬
‫وحتــــديات خمتلفــة يف جمال تلقـــني القيـــم‬
‫التوجهات التي حتكم النظام التعليمي املغربي‬
‫ومبادئ ال�سلوك املدين‪ ،‬وذلك لإعـتبارات‬
‫فيما يخ�ص تر�سيخ قيم املواطنة‪ ،‬وف�ضائل‬
‫متعددة‪ ،‬تتمثل بالأ�سا�س يف الوعي املــتنامي‬
‫ال�سلوك املدين‪ ،‬متا�شيا مع التحوالت العميقة‬
‫مبكانة املدر�سة ودورها يف ن�رش قيم املواطنة‬
‫التي ت�شهدها البالد يف ال�سنوات الأخرية ؟‬
‫امل�س�ؤولة‪ ،‬واملنــفتحة‪ ،‬بالإ�ضافة �إىل جمـــلة‬
‫التوجيهات‬ ‫�إىل‬ ‫برجوعنا‬ ‫جــواب‪:‬‬ ‫من الوثائق والتقارير الر�سمية التي تدعو �إىل‬
‫الر�سمية ال�صادرة عن وزارة الرتبية الوطنية‬ ‫�رضورة �إنخراط املنظومة الرتبوية مبختلــــف‬
‫املغربية‪ ،‬ندرك مدى الإحلاح حول ت�أ�صيل‬ ‫م�ستوياتها يف تلقني‪ ،‬وتر�سيخ مبادئ ال�سلوك‬
‫الطفل املغربي يف الرتاث الإ�سالمي‪ ،‬وجتذيره‪،‬‬ ‫املدين للأجيال ال�صاعدة‪ .‬يف هذا ال�سياق‪،‬‬
‫واندماجه يف ح�ضارته العريقة‪ .‬ففي معر�ض‬ ‫كان لنا هذا اللقاء مع الدكتور حممد الدريج‪،‬‬
‫ا�ستعرا�ضها للأهداف العامة من مرحلة التعليم‬ ‫�أ�ستاذ التعليم العايل بجامعة حممد اخلام�س‬
‫الأ�سا�سي على �سبيل املثال‪ ،‬تذكر «وثيقة عمل‬ ‫بالرباط‪ ،‬مدير م�ؤ�س�سة «املعرفة للجميع»‪.‬‬
‫لإ�صالح النظام التعليمي»‪ ،‬والتي �أعدتها الوزارة‬
‫�سنة ‪ 1985‬م‪ ،‬ب�أن التعليم الأ�سا�سي يعمل على‬ ‫ن�ص احلوار‬
‫حتقيق الأهداف التالية‪:‬‬
‫�س�ؤال ‪ :‬لقد �أ�ضحى بناء املواطن‬
‫‪ -1‬تثبيت العقيدة الإ�سالمية املبنية على‬ ‫املتح�رض‪ ،‬املعتز بهويته‪ ،‬املت�سلح بف�ضيلة‬
‫الكتاب وال�سنة‪ ،‬وغر�س القيم الروحية يف النا�شئة‬ ‫التوا�صل‪ ،‬واحلوار‪ ،‬والت�سامح‪� ،‬أحد الرهانات‬
‫عن طريق العقل‪ ،‬واحلوا�س‪ ،‬والوجدان‪ ،‬حر�ص ًا‬ ‫التنموية الأ�سا�سية للمنظومات الرتبوية احلديثة‪.‬‬
‫على الت�شبث بف�ضائل الإ�سالم‪ ،‬و�أحكامه‪،‬‬ ‫فبعد �أن كان هذا الرهان حكرا على م�ؤ�س�سات‬
‫لتكون املوجه لل�سلوك الذاتي للفرد‪ ،‬ولعالقته‬ ‫الأ�رسة‪ ،‬والإعالم‪ ،‬وجمعيات املجتمع املدين‪،‬‬
‫بغريه‪.‬‬ ‫�أ�صبح اليوم يعتمد على املدر�سة‪ ،‬بو�صفها‬

‫‪54‬‬
‫ال�سالفة‪ ،‬حدد امليثاق الوطني للرتبية والتكوين‬ ‫‪ - 2‬تعريف املتعلم برتاث �أجداده‪ ،‬و�أجماد‬
‫(وهو م�رشوع متكامل‪ ،‬و�شامل لإ�صالح التعليم‬ ‫بالده‪ ،‬حتى ين�ش�أ حمب ًا لوطنه‪ ،‬خمل�ص ًا‬
‫يف املغرب و�ضع �سنة ‪1999‬م) �أ�س�س التعبئة‬ ‫له‪ ،‬م�ساهم ًا يف خدمته‪ ،‬وتقدمه‪ ،‬متم�سك ًا‬
‫الوطنية لتجديد املدر�سة‪ ،‬وفق زمن عميق‪،‬‬ ‫مبقد�ساته‪.‬‬
‫يندرج �ضمن ال�سريورة التاريخية لتقدم البالد‬
‫هذا‪ ،‬وال ب�أ�س �أن ن�شري �إىل �أن هذه الوثيقة‬
‫ورقيها ؛ ب�إعالن الع�رشية ‪ 2000‬ــ ‪2009‬م‪ ،‬ع�رشية‬
‫حتدد‪ ،‬ويف موازاة مع تلك املقا�صد‪ ،‬التي ت�ؤكد‬
‫وطنية للرتبية والتكوين‪ ،‬و�إعالن قطاع الرتبية‬
‫التوجه الأ�صيل للنظام التعليمي يف املغرب‪،‬‬
‫والتكوين �أولوية وطنية بعد الوحدة الرتابية‪.‬‬
‫عدداً من الأهداف التي ت�سعى �إىل �إك�ساب‬
‫وجاءت االختيارات الرتبوية الأ�سا�سية‬ ‫املتعلم القدرة على التوا�صل مع العامل اخلارجي‬
‫يف هذا امليثاق‪ ،‬يف �أ�سالك التعليم باملدر�سة‬ ‫�أخذاً وعطاء‪ ،‬بفكر متفتح �سموح‪ ،‬وعقل واع‬
‫املغربية‪ ،‬لتحدد املوا�صفات اخللقية‪ ،‬والرتبوية‬ ‫متوقد‪ ،‬و�إذكاء ف�ضوله العلمي‪ ،‬وحفزه على‬
‫ح�سب كل �سلك؛ واملتمثلة �أ�سا�سا يف‬ ‫البحث‪ ،‬والتنقيب‪ .‬وعلى جعل املتعلم عن�رصاً‬
‫الت�شبع بالقيم الدينية‪ ،‬واخللقية‪ ،‬والوطنية‪،‬‬ ‫للتطور‪ ،‬والنماء‪ ،‬قادراً على ا�ستيعاب الظواهر‬
‫التالميذ‬ ‫لي�صبح‬ ‫الأ�سا�سية‪،‬‬ ‫والإن�سانية‬ ‫و�إدراك‬ ‫وغريها‪،‬‬ ‫والتكنولوجية‪،‬‬ ‫العلمية‪،‬‬
‫مواطنني معتزين بهويتهم‪ ،‬وبرتاثهم‪ ،‬وواعني‬ ‫ن�سبتها وتكييفها‪ ،‬بهدف م�سايرة ركب التقدم‬
‫بتاريخهم‪ ،‬ومندجمني فاعلني يف جمتمعهم‪،‬‬ ‫يف جميع املجاالت‪ ،‬ثم امل�ساهمة فيه عن طريق‬
‫ومتتني معرفته بحقوق الإن�سان‪ ،‬وحقوق‬ ‫اخللق‪ ،‬والإبداع‪.‬‬
‫املواطنني املغاربة وواجباتهم‪ .‬كما اعترب يوم‬
‫‪ - 3‬وعموما‪ ،‬ف�إن ما الحظناه عند حتليل‬
‫افتتاح املدر�سة يوم عيد يطلق عليه ا�سم «عيد‬
‫عينة من املقررات‪ ،‬والكتب املدر�سية املغربية ‪،‬‬
‫املدر�سة»‪ ،‬واالنتقال من «الرتبية الوطنية» �إىل‬
‫هو الإحلاح على تكوين تلميذ‪:‬‬
‫«الرتبية على املواطنة»‪.‬‬
‫• متفتح على العامل‪ ،‬وعلى ح�ضارات‬
‫�إننا نعتقد مع العديد من املخت�صني‪،‬‬
‫ال�شعوب الأخرى‪ ،‬وعلى الإن�سانية جمعاء‪،‬‬
‫�أن احلديث يف خمتلف م�شاريع �إ�صالح‬
‫ميال �إىل التعاون‪ ،‬والتعاي�ش‪ ،‬والت�سامح‪ .‬له من‬
‫التعليم باملغرب‪ ،‬عن ت�شكيل وحت�صني الهوية‬
‫الطالقة يف اللغات الأجنبية‪ ،‬مثل الإجنليزية‪،‬‬
‫الثقافية للتالميذ‪ ،‬يف مقابل االخرتاق الثقايف‬
‫والفرن�سية‪ ،‬ما ميكنه من ذلك‪ .‬وهو �إىل جانب‬
‫الغربي والغزو املعلوماتي‪ ،‬يحيل بال�رضورة‬
‫�أ�صالته‪ ،‬وحفاظه على تراث بالده‪ ،‬وعلى ما يف‬
‫على عمليات بالغة التعقيد‪ ،‬ترتبط مبختلف‬
‫تقاليدها من حما�سن‪ ،‬ف�إنه متطلع نحو التغيري‪،‬‬
‫امل�ؤ�س�سات االجتماعية التي توكل �إليها مهمة‬
‫ومواكبة م�ستجدات الع�رص‪ ،‬ومواكبة التطور‬
‫التن�شئة‪ ،‬واملتمثلة يف �إنتاج القيم‪ ،‬واالجتاهات‪،‬‬
‫العلمي‪ ،‬والتكنولوجي‪ ،‬متهيئ للم�ستقبل بكل‬
‫ومعايري ال�سلوك‪ ،‬و�ضمان ا�ستمرارها‪ ،‬والتي‬
‫ملكاته‪ ،‬وجوارحه‪.‬‬
‫ت�أتي م�ؤ�س�سات التن�شئة التقليدية من قبيل‬
‫املدر�سة والأ�رسة على ر�أ�س قائمتها‪ ،‬ال�شيء‬ ‫ولرت�سيخ منظومة القيم التي ا�ستهدفتها‬
‫الذي يحيل بقوة على التطرق ملطالب الرتبية‬ ‫وزارة الرتبية الوطنية يف م�شاريع الإ�صالح‬

‫‪55‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫�س�ؤال ‪ :‬من املتعارف عليه �أن التح�صني‬ ‫كفاعلية ن�شطة‪ ،‬من �ش�أنها توفري جمال جد‬
‫النف�سي للمتعلم يواجه ت�أثريات متنوعة من‬ ‫مالئم للمقاومة‪� ،‬أو «املمانعة»‪ ،‬بتعبري عبد الإله‬
‫خارج �إطارات الأ�رسة‪ ،‬و املدر�سة‪ ،‬مثل و�سائل‬ ‫بلقزيز‪ .‬ف�إىل �أي حد ميكن اعتبار امل�ؤ�س�سات‬
‫الإعالم‪ ،‬والأنرتنت‪� ...‬إلخ‪.‬‬ ‫الرتبوية التقليدية جبهة ممانعة ثقافية لتح�صني‬

‫ماهو الدور الذي ميكن �أن يقوم به‬ ‫و«الذات‬ ‫خ�صو�صا‪،‬‬ ‫الأطفال‬ ‫�شخ�صية‬
‫التوظيف الرتبوي للرثاث يف تر�سيخ القيم‬ ‫االجتماعية»‪ ،‬ب�شكل عام‪� ،‬ضد �آليات العوملة‬
‫املت�صلة باملجتمع‪ ،‬وبالوطن ؟‬ ‫والتنميط الثقايف ؟‪.‬‬

‫جــواب‪ :‬من احلقائق الأ�سا�سية التي‬ ‫هكذا‪ ،‬ف�إن املمار�سة الرتبوية يف اعتقادنا‪،‬‬
‫ننطلق منها يف دعوتنا للتوظيف الرتبوي‬ ‫هي �صمام �أمان ال�ضبط واملحافظة االجتماعية‪،‬‬
‫للرتاث‪ ،‬الإحلاح على دور التن�شئة االجتماعية‪،‬‬ ‫باعتبارها موجهة نحو �إنتاج‪ ،‬و�إعادة �إنتاج‬
‫باعتبارها العملية التي يتم من خاللها نقل‬ ‫القيم‪ ،‬عن طريق نقلها ب�شكل �أمني للأجيال‬
‫تراث املجتمع �إىل الفرد‪ ،‬ومتكينه من امل�شاركة‬ ‫املتعاقبة‪ ،‬خا�صة �إذا نظرنا للرتبية باعتبارها‬
‫يف حياة املجتمع‪ ،‬والتفاعل مع �أع�ضائه‪� .‬إنها‬ ‫العمل الذي متار�سه الأجيال الرا�شدة على‬
‫عملية �أ�سا�سية يف حياة الفرد يتم من خاللها‬ ‫الأجيال التي مل تن�ضج بعد‪ ،‬من �أجل الإدماج‬
‫حتويله من كائن بيولوجي �إىل كائن اجتماعي‪،‬‬ ‫يف احلياة االجتماعية‪ .‬وهدفها �أن تنمي لدى‬
‫و�إىل مواطن له �أدواره ومكانته‪ ،‬يحمل قيم‬ ‫الن�شء طائفة من الأحوال وال�سلوكات اجل�سدية‪،‬‬
‫ومعايري املجتمع‪ ،‬ولغته‪ .‬هكذا‪ ،‬ومن خالل هذا‬ ‫والفكرية‪ ،‬واخللقية التي يتطلبها منهم املجتمع‪،‬‬
‫التعريف‪ ،‬تت�ضمن التن�شئة االجتماعية العنا�رص‬ ‫وتتطلبها البيئة املحلية التي يعدون لها بوجه‬
‫ال�رضورية حل�صول التح�صني النف�سي للطفل‪،‬‬ ‫ٍّ‬
‫جتل لهذه العملية يف‬ ‫خا�ص‪ ،‬ولعل هذا �أبلغ‬
‫وتقوية �شخ�صيته‪ ،‬واحلفاظ على هويته العربية‬
‫ا�صطالحات العلوم الإن�سانية‪ ،‬وهو ما ميكن‬
‫الإ�سالمية‪ ،‬والتي ت�صبح منطلقا وهدفا للعملية‬
‫اختزاله يف مفهوم التن�شئة االجتماعية والتي‬
‫برمتها‪ .‬على �أن التح�صني النف�سي وظيفة معقدة‬
‫يقدمها ال�سو�سيولوجي الكندي غاي رو�شي‬
‫تنهل مثلها مثل التن�شئة االجتماعية‪ ،‬من‬
‫(‪ ،)Guy Rocher‬باعتبارها منظومة الأوليات‬
‫روافد متعددة‪ ،‬ومن ت�أثريات متنوعة من خارج‬
‫التي متكن الفرد على مدى حياته من تعلم‬
‫�إطارات الأ�رسة‪ ،‬واملدر�سة‪ ،‬ومكملة لوظيفتهما‪.‬‬
‫وا�ستبطان القيم االجتماعية الثقافية ال�سائدة‬
‫روافد مت�شعبة‪ ،‬ت�ؤطر احلياة اليومية لأبنائنا‪:‬‬
‫من �إعالم وو�سائط مرئية‪ ،‬وم�سموعة‪ ،‬ومكتوبة‬ ‫يف و�سطه االجتماعي‪ .‬بهذا املعنى‪ ،‬ميكن‬

‫ونوادي ريا�ضية‪ ،‬وجمعيات‪ ،‬ودور �شباب‪،‬‬ ‫ت�صور التن�شئة كمنظومة عمليات يعتمدها‬
‫وم�ساجد‪ ،‬ومراكز الإنرتنيت‪ ،‬ومراكز لتعلم‬ ‫املجتمع يف نقل ثقافته‪ ،‬مبا تنطوي عليه هذه‬
‫اللغات الأجنبية‪� ...‬إلخ‪ ،‬وكلها ت�أخذ مبدئيا‬ ‫الثقافة من مفاهيم وقيم وعادات وتقاليد �إىل‬
‫من الرتاث‪ ،‬والقيم‪ ،‬واملبادئ العليا‪ ،‬كما ت�أخذ‬ ‫�أفراده…‪� ،‬إنها العملية التي يتم من خاللها‬
‫�أمناط ال�سلوك ومعايريه‪.‬‬ ‫دمج الفرد يف املجتمع واملجتمع يف الفرد‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫املالحظ �أن عملية البناء القيمي لي�ست م�س�ؤولية‬ ‫وت�ستهدف التن�شئة االجتماعية تر�سيخ‬
‫م�ؤ�س�سة اجتماعية بعينها‪� ،‬أو منهج درا�سي‬ ‫القيم‪ ،‬والتي تعترب مكونات نف�سية مكت�سبة‬
‫بعينه‪ ،‬ولكنها م�س�ؤولية كل من له عالقة‬ ‫لتوجيه التفكري‪ ،‬وال�سلوك لدى الفرد‪ .‬وهي تنبع‬
‫بعملية الرتبية‪.‬‬ ‫من التجربة االجتماعية‪ ،‬وتتمثلها ال�شخ�صية‪،‬‬
‫وتتوحد بها‪ ،‬وهي عن�رص م�شرتك يف تكوين‬
‫كما �أن الرتبية تعمل على تر�سيخ القيم‬
‫البناء االجتماعي‪ ،‬وال�شخ�صية الفردية‪ ،‬ذلك البناء‬
‫عن طريق ما ت�ستمده من املجتمع الذي توجد‬
‫الذي يعمل على توجيه رغبات الفرد واجتاهاته‪،‬‬
‫فيه‪ ،‬فالرتبية الإ�سالمية ت�ستمد قيمها من الدين‬
‫وحتديد‪ ،‬وتقييم ال�سلوك املقبول‪ ،‬واملرفو�ض‪.‬‬
‫الإ�سالمي احلنيف الذي ميثل م�صدرا �أ�سا�سيا‬
‫للقيم التي حتكمها‪ ،‬كما تعمل الرتبية على‬ ‫من املعلوم‪� ،‬أن لكل جمتمع قدمي �أو‬
‫تـر�سيخ القيـم‪ ،‬لي�س فقط عـن طريق اجلانب‬ ‫معا�رص‪ ،‬متح�رض �أو متخلف‪ ،‬جمموعة من‬
‫النظري املعريف فح�سب‪ ،‬بل عـن طريق اجلـانب‬ ‫القيم واملبادئ ت�شكل عن�رصا �أ�سا�سيا يف تراثه‬
‫التطبيقي ال�سلوكي‪.‬‬ ‫املعنوي‪ ،‬والتي ي�ستمد منها ت�صوره‪ ،‬وت�صور‬
‫�أفراده عن الكون‪ ،‬واحلياة‪ .‬هذه القيم تكون‬
‫�إذن‪ ،‬ال بد يف �إطار تطوير مناهجنا‪ ،‬ويف‬
‫هي ال�ضابط الأول ل�سلوك الأفراد نحو توجه‬
‫�إطار التوظيف الرتبوي للرتاث فيها‪ ،‬من �إعادة‬
‫اجتماعي معني‪ ،‬فما هو مقبول يف عرف هذه‬
‫االعتبار للرتبية الأخالقية‪ ،‬و�رضورة �صياغة‬
‫املبادئ يكون مقبوال عند هذا املجتمع‪ ،‬وما‬
‫ثقافة ترتكز �أولوياتها على منظومة القيم‪ ،‬هذه‬
‫يكون مرفو�ضا يف عرف هذه املبادئ يكون‬
‫الرتبية القيمية ميكن تلخي�ص ما ت�ستهدفه يف‬
‫مرفو�ضا عند هذا املجتمع‪ ،‬وبني هذا وذاك‬
‫النقاط التالية‪:‬‬
‫�أمور تدور بني الرف�ض‪ ،‬والقبول‪.‬‬
‫• احلر�ص على �إك�ساب الأطفال‪،‬‬
‫من املعلوم كذلك‪� ،‬أن الإن�سان يحتاج‬
‫واملراهقني �سمات‪ ،‬وعادات �شخ�صية مرغوب‬
‫�إىل القيم االجتماعية‪ ،‬واملبادئ الأخالقية‪،‬‬
‫فيها‪ ،‬مثل‪ :‬ال�صدق‪ ،‬والأمانة‪ ،‬والتعاون‪،‬‬
‫واملعتقدات الدينية بقدر حاجته �إىل املاء‪،‬‬
‫وم�ساعدة الآخرين‪.‬‬
‫والهواء‪ .‬فهو يحتاج �إىل �أن ي�شعر بوجوده‬
‫• احلر�ص على االرتباط بالقيم املت�صلة‬ ‫ك�إن�سان‪ ،‬وبقيمة املجتمع‪ ،‬وقيمه‪ ،‬كما يحتاج‬
‫باملجتمع‪ ،‬وبالوطن‪ ،‬وتاريخه‪ ،‬ومقد�ساته‪ ،‬مثل‬ ‫�إىل احلرية‪ ،‬و�إىل هوية ينت�سب �إليها‪ ،‬لأن‬
‫االنتماء‪ ،‬وااللتزام‪ ،‬والت�ضحية‪ ،‬وتقدير العمل‪،‬‬ ‫الإن�سان بحاجة �إىل االنتماء �إىل �شيء حمدد‪.‬‬
‫والإخال�ص فيه‪ ،‬ومعرفة اخل�صائ�ص املميزة‬
‫�إن الرتبية يف جوهرها عملية معيارية ــ‬
‫لثقافة املجتمع‪ ،‬وتراثه‪.‬‬
‫قيمية‪ ،‬و�إن �أهم ناجت الرتبية هو �أن تتخذ لها‬
‫• تر�سيخ القيم الكونية‪ ،‬مثل‪ :‬احرتام‬ ‫جمموعة من القيم البناءة الدائمة التي تخ�ضع‬
‫حقوق الإن�سان‪ ،‬ورف�ض فكرة االحتالل‪،‬‬ ‫لها اجلماعة‪ ،‬وتنتظم حولها حياتها‪ ،‬فال�شخ�ص‬
‫وتر�سيخ مبادئ التعاون‪ ،‬واحلوار‪ ،‬والت�سامح‪،‬‬ ‫املتعلم الذي ال توجه معارفه وقدراته نحو‬
‫وتقدير �أهمية ال�رشعية الدولية‪ ،‬واملواثيق التي‬ ‫�أهداف قيمية يتخذها لنف�سه‪ ،‬ي�صبح خطرا‬
‫�صادقت عليها الأمم‪.‬‬ ‫على نف�سه‪ ،‬وعلى املجتمع على حد �سواء‪ .‬ومن‬

‫‪57‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫مبخاطر التقليد الأعمى لعادات وتقاليد غريبة‪،‬‬ ‫للتذكري ف�إننا جند يف املنهاج الإ�سالمي‬
‫وبعيدة كل البعد عن كل ما ي�شكل كنه‬ ‫يف الرتبية‪ ،‬منبعا ملثل هذه الأهداف‪،‬‬
‫هويتنا العربية الإ�سالمية؛ وهذا يظهر جليا‬ ‫والتوجهات‪ ،‬ذلك �أن الإ�سالم دين قيم‪ ،‬و�أن‬
‫يف الربامج‪ ،‬حيث جند العديد من الن�صو�ص‬ ‫جميع ت�رشيعاته و�أحكامه و�أفكاره‪ ،‬لي�ست غاية‬
‫الرتبوية يف الكتب املدر�سية‪ ،‬حتذر من التقليد‪،‬‬ ‫يف ذاتها‪ ،‬و�إمنا الغاية الق�صوى تتمثل فيما‬
‫والت�شبه ب�أمناط �أجنبية‪ ،‬قد تكون �سببا ل�ضعف‬ ‫قاله الر�سول عليه ال�صالة وال�سالم‪�« :‬إمنا بعثت‬
‫�شخ�صية الطفل‪ ،‬وا�ضطرابها‪.‬‬ ‫لأمتم مكارم الأخالق»‪.‬‬

‫كذلك‪ ،‬يتم مترير جمموعة من القيم‬ ‫لكن ومع الأ�سف ال�شديد‪ ،‬ف�إن الكثري‬
‫واالنحراف‪،‬‬ ‫ال�شذوذ‪،‬‬ ‫ل�سلوكيات‬ ‫النابذة‬ ‫مما يتم ا�سترياده حتى الآن يف بلداننا العربية‬
‫واالن�سالخ عن الهوية الوطنية‪ ،‬عرب جمموعة‬ ‫من «�أخالقيات العوملة»‪ ،‬يف معظمه‪ ،‬يتمثل‬
‫من املواد من مثل الرتبية الإ�سالمية‪ ،‬والتاريخ‪،‬‬ ‫يف و�سائل‪ ،‬و�أمناط العي�ش‪ ،‬ومنظومة القيم‪،‬‬
‫والرتبية على املواطنة‪.‬‬ ‫و�آليات الت�سلح‪ ،‬وال�رصاع‪ ،‬وجميعها متحو‬
‫يف طريقها معامل‪ ،‬ومعارف‪ ،‬وجتارب‪ ،‬وقيما‬
‫ثانيا‪ :‬ثم مقاربة تفعيل الأدوار يف احلياة‬ ‫نحتتها �شعوبنا العربية منذ �رشوق الإ�سالم‪،‬‬
‫املدر�سية‪ ،‬وتطوير الأن�شطة الال�صفية‪ :‬وذلك‬ ‫و�أورثتها للإن�سانية‪ ،‬فت�صبح عارية من تاريخها‪،‬‬
‫من خالل ت�شجيع الأن�شطة الثقافية‪ ،‬والفنية‪،‬‬ ‫وح�ضارتها‪� ،‬أو م�ساهمة‪ ،‬لكن ب�شكل ه�ش‪ ،‬مما‬
‫والريا�ضية يف �إطار مدر�سة النجاح‪ ،‬من �أجل‬ ‫ي�ؤدي �إىل �إنتاج �أجيال تائهة جمهولة الن�سب‬
‫تر�سيخ الأخالق النبيلة‪ ،‬وتثبيت ال�سلوكات‬ ‫والهوية‪ ،‬فارغة الروح‪...‬‬
‫الإيجابية‪ ،‬ونبذ كل ما مي�س بدور امل�ؤ�س�سات‬
‫التعليمية‪.‬‬ ‫يف هذا الإطار‪ ،‬ف�إن الوزارة الو�صية على‬
‫التعليم يف املغرب‪� ،‬أولت مو�ضوع الرتبية على‬
‫�س�ؤال ‪ :‬كيف ميكن للأهداف الرتبوية‬ ‫القيم‪ ،‬وتوظيفها يف حت�صني التالميذ‪� ،‬أهمية‬
‫امل�سطرة يف املناهج الدرا�سية �أن ت�ساهم يف‬ ‫ق�صوى يف �إطار الربنامج اال�ستعجايل الذي‬
‫الرفع من درجة الوعي لدى املتعلمني‪ ،‬وبالتايل‬ ‫�رشعت يف تفعيل براجمه منذ عام ‪2009‬م‪،‬‬
‫�إك�سابهم �سلوكات �إيجابية نحو ذواتهم‬ ‫حيث قامت باتخاذ عدة تدابري ملواجهة ظواهر‬
‫وجمتمعهم ؟‬ ‫الغزو الثقايف‪ ،‬وذلك بتن�سيق مع القطاعات‪،‬‬
‫واجلهات املعنية‪ .‬فقامت الوزارة مبعاجلة العديد‬
‫جواب‪� :‬إن التن�شئة كما �أ�سلفنا‪ ،‬هي الو�سيلة‬
‫من الظواهر‪ ،‬خا�صة ما ارتبط منها بالعوملة‬
‫الأ�سا�س التي تكون �شخ�صية الطفل‪� ،‬إذ عن‬
‫املتوح�شة‪ ،‬من خالل عدة مقاربات‪:‬‬
‫طريقها ي�ستطيع الطفل �أن يتمثل قيم جمتمعه‪،‬‬
‫واحلفاظ عليها‪ .‬و�إذا كانت الأ�رسة‪ ،‬واملدر�سة‬ ‫�أوال‪ :‬املقاربة الرتبوية‪ ،‬وذلك باعتبار �أن‬
‫امل�ؤ�س�ستان الرتبويتان الأوليتان يف تطبيع الطفل‪،‬‬ ‫وزارة الرتبية الوطنية من مهامها‪ ،‬و�أدوارها‬
‫وتن�شئته‪ ،‬ف�إن دور املربني فيها‪� ،‬آباء كانوا �أو‬ ‫الأ�سا�سية‪ ،‬الرتبية والتكوين؛ فقد �ضمنت‬
‫معلمني‪ ،‬دور �أ�سا�سي وخطري يف اكت�ساب الطفل‬ ‫جمموعة من القيم‪ ،‬وال�سلوكات‪ ،‬واملهارات التي‬
‫قيم ًا �أ�سا�سية‪ ،‬و�أ�صيلة‪ ،‬جتعله يت�شبث بدينه‬ ‫تعمل على تربية النا�شئة تربية �سليمة‪ ،‬وتوعيتها‬

‫‪58‬‬
‫�إن تعاون الأ�رسة‪ ،‬واملدر�سة‪ ،‬والتن�سيق‬ ‫احلنيف‪ ،‬وبلغته الوطنية‪ ،‬ومبا�ضيه التاريخي‪،‬‬
‫بينهما‪ ،‬وبني و�سائل الإعالم‪ ،‬هو �أمر يف‬ ‫الذي ي�ستمد منه العربة‪ ،‬والفائدة‪ ،‬للحفاظ على‬
‫غاية الأهمية‪ ،‬حتى ت�شكل هذه الو�سائط‬ ‫هويته‪ ،‬وخ�صو�صيته الثقافية‪.‬‬
‫الرتبوية‪ ،‬والتعليمية �إطاراً موحداً ي�ستقي منه‬
‫فالرتبية اليوم عملية واعية تتخذها‬
‫الطفل �سلوك ًا يغر�س يف نف�سيته تقدير الرتاث‪،‬‬
‫خمتلف الأمم وال�شعوب لبناء كيانها وحتديد‬
‫وحمبته‪ ،‬واحلفاظ عليه‪.‬‬
‫هويتها‪ .‬و�شعوبنا الإ�سالمية والعربية مطالبة‬
‫�إن القدوة‪ ،‬واملمار�سات الفعلية وال�سليمة‬ ‫اليوم ــ وهي يف �إطار حتدي‪ ،‬ومواجهة خمتلف‬
‫من خالل اخلربات اليومية داخل الأ�رسة‪� ،‬أو‬ ‫التيارات التي ت�سعى �إىل امل�س ب�شخ�صيتها ــ‬
‫يف املدر�سة‪ ،‬وامل�سجد‪ ،‬ويف احلياة املجتمعية‬ ‫�أن تعمل على ربط العمل الرتبوي بامل�ستوى‬
‫العامة‪ ،‬والتي تعتمد ا�ستيحاء الرثاء كف�ضاء‬ ‫املن�شود من العناية بثقافتنا‪ ،‬وتراثنا احل�ضاري‪،‬‬
‫حي ومتطور‪ ،‬لهي �أف�ضل معلم يعلم الطفل‬ ‫وتقدميه ب�شكل ممنهج‪ ،‬ومالئم‪ ،‬حتى ي�ستفيد‬
‫�أ�سلوب الت�شبث برتاثه‪ ،‬وتاريخه الغني‪ ،‬والزاخر‪،‬‬ ‫منه الطفل‪ ،‬ويعمق خربته‪ ،‬وينمي ج�سمه‪،‬‬
‫ويب�رصه ب�إن�سانيته وكينونته املمتدة يف التاريخ‪.‬‬ ‫ووعيه باالنتماء الديني‪ ،‬والقومي‪ ،‬والوطني‪.‬‬

‫*‬ ‫*‬ ‫*‬ ‫�إن ثقافة الطفل ال تكون ثقافة ايجابية‪،‬‬


‫وبناءة ما مل تعمل على تكوين املواطن ال�صالح‬
‫يف الأخري‪ ،‬نخل�ص �إىل بع�ض املقرتحات‬ ‫ذي ال�شخ�صية املتكاملة‪ ،‬القادر على ا�ستيعاب‬
‫العملية‪ ،‬التي ميكن �أن ت�شكل �أر�ضية ل�صياغة‬ ‫اخلربات الإن�سانية العامة‪ ،‬وحتديد انتمائه‬
‫بع�ض التو�صيات اخلا�صة بهذا املو�ضوع‪.‬‬ ‫التاريخي‪ ،‬واملجتمعي لل�شعور بهويته‪ ،‬ولكي‬
‫مادامت الرتبية هي الو�سيلة الأ�سا�سية يف‬ ‫يتم ذلك‪ ،‬البد من �أن ت�سعى الأهداف الرتبوية‬
‫تكوين �شخ�صية الطفل‪ ،‬ومادامت التن�شئة‬ ‫امل�سطرة يف املناهج الدرا�سية‪� ،‬إىل رفع درجة‬
‫االجتماعية من �أهم الأدوات يف رقي الثقافة‪،‬‬ ‫الوعي لدى املتعلمني‪ ،‬وتنمية ن�شاطهم الذاتي‪،‬‬
‫عموم ًا‪ ،‬وثقافة الطفل‪ ،‬على وجه اخل�صو�ص‪،‬‬ ‫و�إك�سابهم اجتاهات �إيجابية نحو ذواتهم‪ ،‬ونحو‬
‫فالبد يف اعتقادنا من �أن نعمل ب�أكرب قدر من‬ ‫ما�ضيهم املجتمعي‪ ،‬وتاريخهم احل�ضاري‪.‬‬
‫الو�ضوح والعقالنية على جعل الطفل يعي قيمة‬
‫�إن على الرتبية �أن تتوفق يف جعل الطفل‬
‫تراثه‪ ،‬ويقدره‪ ،‬باعتباره ي�شكل حلقة من حلقات‬
‫يعي قيمة تراثه ويقدره‪ ،‬باعتبار هذا الرتاث‬
‫التطور الإن�ساين‪ ،‬و�أن يكت�سب يف الوقت ذاته‪،‬‬
‫ي�شكل حلقة من حلقات تطور الإن�سانية‪ ،‬و�أن‬
‫ح�سا نقديا قادرا على متثل ما هو �إيجابي وبناء‬
‫تك�سب الطفل ح�س ًا نقدي ًا قادراً على متثل‬
‫يف الرتاث‪ ،‬وذلك‪:‬‬
‫ما هو �إيجابي‪َ ،‬وب َّناء من الرتاث‪ ،‬حتى ي�ستنري‬
‫• مبراعاة املناهج الرتبوية‪ ،‬والكتب‬ ‫به يف حا�رضه ويهتدي به يف امل�ستقبل‪ ،‬كما‬
‫املدر�سية‪ ،‬وكذا �أ�ساليب ت�أليف‪ ،‬وعر�ض الثقافة‬ ‫�أن على الرتبية �أن تك�سب الطفل كيف يحرتم‬
‫املوجهة للأطفال‪ ،‬ب�شكل عام‪ ،‬للأ�صول امل�ستمدة‬ ‫تراث الآخرين‪ ،‬وجتاربهم‪ ،‬ومعارفهم‪ .‬فاخلربات‬
‫من تاريخنا‪ ،‬وتراثنا احل�ضاري‪.‬‬ ‫الإن�سانية تتكامل لت�شكل �إطاراً عام ًا للإن�سان‪.‬‬

‫‪59‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫بدءا ب�إدماجه يف املقررات‪ ،‬وانتهاء باال�ستفادة‬ ‫الأ�رسة‪،‬‬ ‫بني‬ ‫اجلهود‬ ‫• بتن�سيق‬
‫منه من طرف املربني‪ ،‬والأطفال‪.‬‬ ‫واملدر�سة‪ ،‬وو�سائل الإعالم‪ ،‬والقائمني على‬
‫امل�ساجد‪ ،‬وغريها من م�ؤ�س�سات التن�شئة‬
‫• �إقامة معار�ض‪ ،‬ومتاحف للرتاث يف‬
‫الإجتماعية‪ ،‬باعتبارها و�سائل تربوية تثقيفية‪،‬‬
‫خمتلف جماالت احلياة‪ ،‬ودرا�سة �إمكانية‬
‫حتى ت�شكل �إطاراً من�سجم ًا يوجه الطفل نحو‬
‫توظيفها يف تربية الأطفال‪ ،‬وتثقيفهم‪ ،‬من‬
‫االعتزاز برتاثه‪ ،‬والعمل على �إغنائه م�ستقبال‪.‬‬
‫خالل الربامج امل�ؤ�س�سية املنظمة‪� ،‬أو يف �إطار‬
‫الأن�شطة املوازية (الال�صفية)‪.‬‬ ‫ • �إنتاج و�سائل تعليمية ت�ساعد املربي‬
‫انتهــــــــى‬ ‫يف تو�ضيح مفاهيم الرتاث‪ ،‬وت�ضمني الكتب‬
‫املدر�سية ن�صو�ص ًا من الرتاث يتم انتقا�ؤها‬
‫وتوظيفها مبراعاة احلقائق العلمية احلديثة‪،‬‬
‫ومقت�ضيات بناء املناهج‪ ،‬وت�أليف الكتب‬
‫املدر�سية‪.‬‬

‫• �إدراج ح�ص�ص حول الرتاث يف برامج‬


‫تكوين املدر�سني‪ ،‬واملن�شطني الرتبويني ب�شكل‬
‫عام يف كليات الرتبية‪ ،‬ومعاهد تكوين املعلمني‪.‬‬

‫العليا‬ ‫واملعاهد‬ ‫اجلامعات‬ ‫• قيام‬


‫بالدرا�سات‪ ،‬والبحوث حول الرتاث‪ ،‬وحول‬
‫ثقافة الطفل لتي�سري احلقائق حول تعريف‬
‫الرتاث وت�صنيفه‪ ،‬وبيان خ�صائ�ص كل �صنف‪،‬‬
‫و�إمكانيات دجمه يف املناهج‪...‬‬

‫• عقد ندوات و�أيام درا�سية حول ثقافة‬


‫الطفل مبختلف �أ�شكالها‪ ،‬وحول مدى ما ينبغي‬
‫�أن ميثله الرتاث فيها‪.‬‬

‫• دعوة املبدعني من الكتاب‪ ،‬والفنانني‬


‫�سواء يف جمال الق�صة‪� ،‬أو امل�رسح‪� ،‬أو الر�سوم‬
‫املتحركة‪� ،‬أو الأنا�شيد‪ ،‬وغريها‪ ،‬لدرا�سة �أف�ضل‬
‫لأ�ساليب تعليم الرتاث وتوظيفه التوظيف‬
‫ال�سليم يف �إبداعاتهم‪.‬‬

‫• اال�ستفادة من التكنولوجيات احلديثة‬


‫مثل الإنرتنيت يف التوظيف الرتبوي للرتاث‪،‬‬

‫‪60‬‬
‫قـراءات‬
‫قراءة يف كتاب‬
‫«�أية مدر�سة لأية مواطنة ؟»‬
‫مل�ؤلفه‪ :‬جورج رو�ش‬
‫عز الدين اخلطابي‬
‫�أ�ستاذ باحث‬
‫جامعة موالي �إ�سماعيل ‪ ،‬مكنا�س‬

‫تقـديـم‬
‫يت�ضمن هذا الكتاب‪ ،‬مل�ؤلفه جورج رو�ش(‪ ،)1‬ثالثة �أق�سام‪ .‬وي�شتمل الق�سم الأول على نبذة‬
‫تاريخية عن ظهور املدر�سة وتطورها‪ ،‬من الع�رص الإغريقي �إىل فرتة اجلمهورية الثالثة بفرن�سا‪� .‬أما‬
‫الق�سم الثاين‪ ،‬فيثري بع�ض الأ�سئلة املتعلقة باملدر�سة حاليا‪ ،‬تهم وظيفة املدر�سة يف �ضوء التطورات‬
‫االجتماعية‪ ،‬واالقت�صادية‪ ،‬وال�سيا�سية‪ ،‬والتكنولوجية التي عرفها الغرب‪ ،‬مع الإ�شارة �إىل و�ضع‬
‫املدر�سة يف ظل النظام الدميوقراطي‪ ،‬و�أهمية الرتبية على املواطنة يف هذا الإطار‪ .‬وت�شكل هذه‬
‫النقطة الأخرية مدخال للق�سم الثالث (وهو الأكرث �أهمية يف نظرنا)‪ ،‬حيث عر�ض امل�ؤلف مل�س�ألة القيم‪،‬‬
‫وعلمـانية املدر�سـة‪ ،‬واحلق يف املعرفـة‪ ،‬والرتبيـة على املواطنـة‪ ،‬ومعنى �أن يكـون الإن�سـان مواطنـا‬
‫يف هذا القرن‪.‬‬

‫مما جاء يف مقدمة الكتاب‪� ،‬أن الآباء ينتظرون من امل�ؤ�س�سة الرتبوية تربية �أبنائهم‪ ،‬و�ضمان‬
‫تكوين نظري‪ ،‬ومهني‪ ،‬متالئم مع الرتبية على املواطنة(‪ .)2‬وبتوقفنا عند خطاب البيداغوجيني‪،‬‬
‫�سنالحظ ت�أكيدهم على ارتباط احلياة املدر�سية بال�سلوكات املواطنة‪ .‬ذلك �أن دور املدر�سة ال‬
‫ينح�رص يف املجال الديداكتيكي‪ ،‬واملعريف‪ ،‬بل يجب عليه تر�سيخ االنتماء �إىل الوطن‪� ،‬أوال‪ ،‬و�إىل‬
‫العامل‪ ،‬ثانيا‪ ،‬يف �إطار ما يعرف باملواطنة الكونية‪ ،‬لأن مبادئ احلرية‪ ،‬وحقوق الإن�سان‪ ،‬والتعاون‪،‬‬
‫والت�سامح‪ ...‬الخ‪ ،‬تت�سم ببعد كوين ولي�س حمليا‪.‬‬

‫‪� -1‬شيء من التاريخ‬


‫اعترب جورج رو�ش ب�أن املدر�سة هي �صورة املجتمع‪ ،‬والثقافة التي يحملها على مدى تاريخه‪.‬‬
‫وال ميكن للمدر�سة الفرن�سية �أن تخرج عن هذا التحديد‪ ،‬فهي ترتكز على ثالث دعامات تاريخية‪،‬‬
‫وح�ضارية �أ�سا�سية؛ تتمثل يف املرياث الإغريقي الالتيني‪ ،‬واملرياث اليهودي امل�سيحي‪ ،‬ومرياث الثورة‬

‫‪1- Georges Roche, Quelle école pour quelle citoyenneté ? ESF éditeur , Paris, 2ème‬‬
‫‪édition, 2000 ,128 pages.‬‬
‫‪2- Ibidem , p. 8. z‬‬

‫‪62‬‬
‫الفرن�سية‪ ،‬والنظام اجلمهوري الدميوقراطي‪ .‬و�سيتوقف عند هذه املرحلة الأخرية التي ا�ستجابت فيها‬
‫املدر�سة لر�سالة رجال ال�سيا�سة‪ ،‬مبعنى �أنها �ساهمت يف حترير الوعي من التع�صب الديني‪ ،‬ومن‬
‫الأفكار الرجعية‪ ،‬و�ساهمت يف بلورة �شعور املواطنة لدى الأفراد‪.‬‬

‫�صحيح �أن الإغريق هم الذين �صاغوا القانون املنظم للمدينة كتجمع للمواطنني‪ ،‬مبعنى �أن‬
‫املواطن كان معنيا بال�ش�أن العام ملدينته‪ ،‬وهو ما جتلى �أي�ضا لدى الرومان يف مفهوم ال�شيء العمومي‪.‬‬
‫لكن يجب انتظار ع�رص الأنوار‪ ،‬وقيام الثورة الفرن�سية‪ ،‬لكي يقرتن مفهوم املواطن مبفاهيم احلرية‪،‬‬
‫والعدالة‪ ،‬وامل�ساواة‪ ،‬وحقوق الإن�سان‪ .‬ويف هذا الإطار‪� ،‬سيعترب التعليم املجاين والعمومي‪ ،‬كما‬
‫�سي�ؤكد كوندور�سي‪� ،‬أبرز �سالح �ضد اال�ستعباد املتمثل يف اجلهل‪ .‬فال ميكن للمواطن �أن يتعرف‬
‫على حقوقه‪ ،‬وواجباته‪� ،‬إال من خالل م�ؤ�س�سات الرتبية‪ ،‬والتعليم‪ ،‬التي تهدف �إىل تنمية القدرات‬
‫الذهنية‪ ،‬واجل�سمية لكل واحد‪ ،‬وتهييئه للم�ساهمة يف تدبري ال�ش�أن العام‪.‬‬

‫‪ -2‬رهانات املدر�سة‬
‫الحظ امل�ؤلف ب�أن النموذج اجلمهوري يرتكز على الإرادة امل�شرتكة لدى اجلميع يف احرتام‬
‫القانون يف �إطار دولة احلق‪ ،‬على اعتبار �أن القانون �صيغ من طرف ممثلي ال�شعب الذين انتخبهم‬
‫�أغلب املواطنني بطريقة دميوقراطية(‪ .)3‬لهذا‪ ،‬ف�إن رهانات املدر�سة تتمثل يف تر�سيخ قيم الدميوقراطية‪،‬‬
‫وامل�شاركة الفعالة‪ ،‬وامل�س�ؤولية‪ .‬وال يتحقق ذلك �إال عرب حتفيز املتعلمني على تبني هذه القيم‪،‬‬
‫وتكوينهم ب�شكل جيد‪ ،‬وتعويدهم على اقرتاح‪ ،‬و�إجناز امل�شاريع‪ ،‬بو�صفها �أداة للتوا�صل‪ ،‬وللإدماج‬
‫ال�سو�سيو مهني‪ ،‬وللت�شبع بروح املواطنة‪ .‬لأن امل�رشوع لي�س جمرد برنامج �إجرائي‪� ،‬أو تنظيما‬
‫لعمليات حمددة‪ ،‬بل هو �أ�سا�سا ق�صد رمزي يروم خدمة قيم‪ ،‬وت�صورات اجتماعية‪ ،‬و�سيا�سية‪،‬‬
‫و�إتيقية‪ .‬فاملطلوب من املدر�سة حاليا‪ ،‬هو االعرتاف بقدرات املتعلم‪ ،‬وبروح االبتكار لديه‪ .‬لهذا يتعني‬
‫�أن تكون حظوظ تلقي املعرفة‪ ،‬واكت�ساب الكفايات‪ ،‬وتعلم املهارات مت�ساوية لدى اجلميع‪.‬‬

‫�صحيح �أن امل�ؤ�س�سة املدر�سية لي�ست دميوقراطية يف جوهرها‪ ،‬لأنها قائمة على الرتاتبية‪،‬‬
‫ولأن التعليمات‪ ،‬والتوجيهات ت�أتيها من فوق‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬ميكنها �أن تكون م�ؤ�س�سة من �أجل‬
‫الدميوقراطية‪ .‬وهنا تربز مهمة املدر�س‪ ،‬الذي يجب عليه امل�ساهمة يف تنمية عقل نقدي لدى‬
‫املتعلم‪ ،‬وحتفيزه على اتخاذ املبادرة‪ ،‬وعلى امل�شاركة يف م�شاريع امل�ؤ�س�سة‪ ،‬والتعبري بحرية عن �آرائه‪،‬‬
‫ومعتقداته‪ .‬وبهذا املقت�ضى‪� ،‬ستكون عالقة املتعلم باملدر�س‪� ،‬أو املكون‪ ،‬قائمة على االحرتام املتبادل‪،‬‬
‫والتفاعل الإيجابي‪ ،‬و�سيكون املدر�س م�شاركا‪ ،‬ولي�س جمرد م�سري‪ .‬لكن عدم التدخل ال مينعه من‬
‫حماية‪ ،‬و�ضمان مثل هذه العالقة‪ .‬فال ميكن اعتبار املدر�سة م�ؤ�س�سة للرتبية احلديثة‪ ،‬ما مل ت�ساهم‬
‫يف الرتبية على املواطنة‪ ،‬ويجب على املدر�س �أن يعطي املثال‪ ،‬من خالل �إن�صاته للآخرين‪ ،‬ودفاعه‬
‫عن مبادئ الت�سامح وامل�س�ؤولية والواجب‪ ،‬وكل ما يهدف خلدمة ال�صالح العام(‪.)4‬‬

‫‪3- Ibid. , p.76‬‬


‫‪4- Ibid. , p. 90‬‬

‫‪63‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫‪ -3‬من �أجل مدر�سة مواطنة‬
‫يتعلق الأمر يف هذا الق�سم الثالث‪ ،‬والأخري ب�إبراز دور املدر�سة يف الرتبية على املواطنة‪ .‬فمعنى‬
‫املدر�سة‪ ،‬والعمل الرتبوي‪ ،‬يقوم على تر�سيخ القيم الإن�سانية الكونية‪ ،‬ومتكني املتعلمني من مواجهة‬
‫امل�شاكل احلقيقية‪ ،‬والقيام باختيارات م�س�ؤولة‪ .‬ويالحظ جورج رو�ش يف هذا الإطار‪ ،‬ب�أن �إعطاء‬
‫معنى ملهنة التدري�س يقت�ضي �صيانة مفهومني �أ�سا�سيني‪ ،‬هما من جهة‪ ،‬العقالنية النقدية املت�ضمنة‬
‫للنقد الذاتي‪ ،‬والتي ت�سمح مبواجهة الأحكام اجلاهزة‪ ،‬والت�صورات االعتباطية‪ ،‬ومن جهة �أخرى‪،‬‬
‫العلمانية التي ترافق الت�صورات العقالنية‪ ،‬وتتج�سد يف املعي�ش اليومي‪ .‬ويتعني �أن يعزز التكوين‬
‫املعريف هذين املفهومني‪ ،‬و�أن يهيئ املتعلم لتبني قيم املواطنة وممار�ستها‪ .‬هكذا‪� ،‬ستكون مدر�سة‬
‫الع�رص يف �آخر املطاف‪ ،‬قائمة على �أربعة مفاهيم �أ�سا�سية‪ ،‬وهي‪ :‬العقالنية‪ ،‬والعلمانية‪ ،‬واحلق يف‬
‫املعرفة‪ ،‬والرتبية على املواطنة (‪.)5‬‬

‫‪ 1.3‬يت�ساءل امل�ؤلف‪« :‬هل �سيكون للرتبية معنى خارج �إطار العقالنية ؟»‪ ،‬ليجيب على الفور‬
‫ب�أن العقالنية النقدية هي املرتكز الذي تقوم عليه مبادئ احلرية‪ ،‬والعدالة‪ ،‬واحلقوق االجتماعية‪.‬‬
‫وقد ا�ست�شهد بنتائج ا�ستمارة وزعتها رابطة حقوق الإن�سان (الفرن�سية) على جمموعة من تالميذ‬
‫الإعداديات‪ ،‬والثانويات (ترتاوح �أعمارهم ما بني ‪ 14‬و ‪� 21‬سنة)‪ ،‬حيث طلبت منهم و�ضع ترتيب‬
‫لأخطر اجلرائم‪ ،‬فكانت جرائم امل�س بكرامة الإن�سان وب�شخ�صه‪ ،‬على ر�أ�س القائمة بالن�سبة لكل‬
‫امل�ستجوبني‪ .‬وهذا يعني وجود وعي ب�أهمية العدالة كمبد�أ �أ�سا�سي يف احلياة‪ ،‬ال ميكن للم�ؤ�س�سة‬
‫الرتبوية �أن تتجاهله(‪.)6‬‬

‫‪ 2.3‬ترتبط العلمانية بالدميوقراطية‪ ،‬وبفكرة اجلمهورية‪ ،‬ومببد�أ احلق‪ .‬لكن املفهوم ظل مثريا‬
‫للجدل‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬فهو ي�ستجيب ملطلب اجتماعي ال ميكن �أن تكون فيه الهيمنة لأية ديانة‪ ،‬علما‬
‫ب�أن املدر�سة ت�ستقبل متعلمني حاملني لثقافات‪ ،‬ومعتقدات‪ ،‬وقيم متباينة‪ .‬ولهذا‪ ،‬يتعني �أن يكون‬
‫املدر�س منوذجا للو�سيط العلماين‪ ،‬مبعنى �أال يفر�ض �أي معتقد‪ ،‬و�أن يتوجه خطابه �إىل اجلميع دون‬
‫�أن ي�صدم احل�سا�سية االعتقادية لهذه الفئة‪� ،‬أو تلك‪ .‬فهو ال يلقي املواعظ‪ ،‬بل يحث على التفكري‬
‫وامل�ساءلة‪ .‬فالعلمانية بهذا املعنى هي دفاع عن العقالنية �ضد املواقف الدوغمائية‪� ،‬إنها دعوة �إىل‬
‫حرية التفكري‪ ،‬والقول‪ ،‬واالعتقاد‪� ،‬أو لنقل �إنها عبارة عن ت�سامح م�ؤ�س�س (‪.)7‬‬

‫‪ 3.3‬هناك م�س�ألة هامة مرتبطة مبعنى املدر�سة‪ ،‬وتتعلق بالرهان املعريف املتمثل يف �ضبط‬
‫املعارف‪ ،‬ومو�ضعتها داخل املادة املدر�سة‪ ،‬وفهم عالقاتها مبعارف �أخرى وا�ستيعابها‪ ،‬وتدبريها‪.‬‬
‫فاملدر�سة تقدم املعارف بكل ت�أكيد‪ ،‬لكنها مطالبة �أي�ضا بتوفري املناهج‪ ،‬والطرق التي ت�سمح بتدبري‬
‫هذه املعارف‪ ،‬ما دامت هي الف�ضاء النموذجي لإقرار احلق يف املعرفة‪ .‬وبهذا ال�صدد‪ ،‬ف�إن عمل‬
‫املدر�س ال يقت�رص على تقدمي املعارف الأكادميية‪ ،‬بل هو مطالب بتحفيز فكر املتعلم على امل�ساءلة‪،‬‬

‫‪5- Ibid. , p.100‬‬


‫‪6- Ibid. , p.103‬‬
‫‪7- Ibid. , p.107‬‬

‫‪64‬‬
‫والتحليل‪ ،‬والنقد‪ .‬ف�إثارة ال�شك داخل تفكري التالميذ مثال‪ ،‬ت�سمح لهم مبقارنة وجهات نظرهم‬
‫املختلفة فيما بينها‪ ،‬واالقتناع ب�أن الفهم ينبني داخل النقا�ش‪ ،‬وال�رصاع بني الأفكار‪ .‬وت�شكل هذه‬
‫املقت�ضيات جميعها‪ ،‬طرقا ت�سمح ب�إقناع املتعلم ب�أنه لن يطور وجهة نظره ويغنيها‪� ،‬إال �إذا ما جعلها‬
‫تواجه فكر الغري‪.‬‬

‫‪ 4.3‬وتظل الرتبية على املواطنة هي املطلب الأ�سا�سي ملدر�سة هذا الع�رص‪ .‬فاملدر�سة تعترب‬
‫ف�ضاء الكلمة احلرة‪ ،‬وهي حتفز على التفكري النقدي‪ ،‬وعلى املحاججة العقالنية‪ ،‬وعلى حتمل‬
‫امل�س�ؤولية‪ ،‬واحرتام الآخر‪ ،‬وهذه جميعها جتليات لل�سلوك املدين‪ .‬وتتجلى �أهمية املدر�سة هنا‪ ،‬يف‬
‫تر�سيخ هذه القيم من منطلق �أن اجلحيم لي�س هو الآخر‪ ،‬كما يعتقد البع�ض‪ ،‬بل �إن تقدير الذات‬
‫يبد�أ بتقدير الآخر وتقبل اختالفه‪ .‬و�إذن‪ ،‬ف�إن الرتبية على املواطنة تهدف يف املقام الأول �إىل تنوير‬
‫العقول‪ ،‬وتغذيتها بقيم احلرية‪ ،‬والت�سامح‪ ،‬واحلق‪ ،‬والواجب‪ ،‬وامل�ساواة‪ ،‬والعدالة‪ ،‬والإن�صاف‪ .‬فقد‬
‫ت�صور الإغريق تدبري �سيا�سة املدينة وفق القانون‪ ،‬ولي�س انطالقا من �أهواء الأ�شخا�ص‪ ،‬و�صاغ‬
‫الرومان مفهوم املواطنة وفق مبد�أ احلق والقانون‪ .‬لذلك‪ ،‬ف�إن القدماء ت�صوروا جماعة املواطنني من‬
‫خالل فكرة الدميوقراطية املبا�رشة‪ .‬واليوم‪ ،‬ف�إن املواطنة ترتبط بامل�شاركة يف تدبري ال�ش�أن العمومي‪،‬‬
‫واالنخراط يف �سلطة م�ضادة �إذا ما كانت ال�سلطة القائمة ال تخدم م�صالح املواطنني (‪.)8‬‬

‫يجب �أال تنح�رص الرتبية على املواطنة يف النطاق املحلي �أو الوطني‪ ،‬بل يتعني تبني قيم‬
‫كونية‪ ،‬وااللتزام بق�ضايا الإن�سانية جمعاء‪ ،‬يف �إطار ما يعرف باملواطنة الكونية‪ .‬فكيف ميكن‬
‫للمدر�سة �أن ت�ساهم يف تر�سيخ هذه القيم ؟ يتم ذلك‪ ،‬ح�سب امل�ؤلف‪ ،‬عرب نهج م�سلكني وهما‪:‬‬
‫الدفاع عن البيئة‪ ،‬والدفاع عن حقوق الإن�سان‪ .‬فالرتبية الإيكولوجية �رضورية للتوعية باملخاطر‬
‫املحدقة بكوكبنا‪� ،‬أي مباليري ال�سكان‪ .‬وال يتعلق الأمر هنا بنقد التقدم العلمي والتكنولوجي‪ ،‬بل‬
‫بالدعوة �إىل ا�ستغالل هذا التقدم ل�صيانة وحماية البيئة الطبيعية التي ي�شكل الإن�سان جزءا منها (‪.)9‬‬

‫بخ�صو�ص الرتبية على حقوق الإن�سان‪ ،‬ف�إن الأمر يهم خمتلف الفاعلني‪ ،‬يف ال�سيا�سة‬
‫واالقت�صاد‪ ،‬والرتبية‪ ،‬وداخل جمعيات املجتمع املدين‪ ،‬لأنه يتعلق بق�ضايا العدالة‪ ،‬والإن�صاف‪،‬‬
‫واحلرية‪ ،‬والكرامة‪ ،‬وباقي حقوق الإن�سان‪ ،‬الطبيعية‪ ،‬واملدنية‪ .‬وال ميكن �أن يتحقق تقدم على‬
‫م�ستوى التوعية بهذه احلقوق‪� ،‬إال �إذا ما لعب املدر�س دورا �أ�سا�سيا يف �إقناع التالميذ ب�رضورة الدفاع‬
‫عن حقوق قطاعية (مثل حقوق الأطفال والن�ساء والأقليات وذوي االحتياجات اخلا�صة‪� ...‬إلخ)‪.‬‬
‫ورغـم االختـالف القـائم بني الثقـافات‪ ،‬واللغـات‪ ،‬واملعتقـدات‪ ،‬وتـاريخ املجتمعـات‪ ،‬فـ�إن املـدر�س‬
‫مطالب بالت�أكيد على كونية هذه احلقوق‪ ،‬وعلى �أهمية احلوار بني الثقافات‪ ،‬وال�شعوب بهذا‬
‫اخل�صو�ص(‪.)10‬‬

‫اخلال�صة‪ ،‬هي �أن الرتبية على املواطنة تتم باملدر�سة بو�صفها ف�ضاء للتفكري احلر املنفتح على‬

‫‪8- Ibid. , p.116/ 117‬‬


‫‪9- Ibid. , p. 121‬‬
‫‪10- Ibid. , p. 122‬‬

‫‪65‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫القيم‪ ،‬واملبادئ التي تي�رس التفاهم والتحاور‪ ،‬وخدمة امل�صلحة العامة (مثل امل�س�ؤولية‪ ،‬والت�شارك‪،‬‬
‫والت�سامح)‪ .‬ويجب �أن ينخرط م�رشوع امل�ؤ�س�سة يف هذه العملية الرتبوية‪ ،‬من خالل تقدمي �أجوبة‬
‫مالئمة‪ ،‬تتعلق بامل�ستقبل ال�شخ�صي‪ ،‬واملهني للمتعلم‪ ،‬وتفاعله مع املحيط البيئي‪ ،‬واالجتماعي‪.‬‬

‫لقد الحظ امل�ؤلف يف الأخري‪ ،‬ب�أنه مل يتطرق لظاهرة العنف‪ ،‬رغم كونها م�شكلة راهنة‬
‫وحا�رضة بقوة‪� ،‬سواء حتدثنا عن العنف باملدر�سة‪� ،‬أو عنف املجتمع الذي ت�ساهم و�سائل الإعالم‪،‬‬
‫املرئية باخل�صو�ص‪ ،‬يف ت�ضخيمه‪ .‬لكن هذا ال مينع من الإقرار ب�أن هذه الظاهرة التي ال تنتمي �إىل‬
‫املدر�سة‪ ،‬ت�ستدعي ت�ضافر جمهودات كل فعاليات املجتمع ملواجهتها‪ ،‬خ�صو�صا و�أن �ضحاياها هم‬
‫�أي�ضا من التالميذ واملدر�سني(‪.)11‬‬

‫كيفما كان احلال‪ ،‬ف�إن املتعلم مطالب ب�أن يتبنى مبادئ احرتام احلياة والعمل الت�شاركي‬
‫واالنفتاح على الآخر وحتمل امل�س�ؤولية‪ .‬ويجب �أن يكون مواطن هذا الع�رص كونيا‪ ،‬مبعنى �أن يدافع‬
‫عن القيم الإن�سانية يف �شموليتها‪ ،‬كما يجب �أن تتوفر املدر�سة على العدة الالزمة لرت�سيخ هذه‬
‫القيم‪ ،‬ون�رشها‪.‬‬

‫بقيت الإ�شارة �إىل �أن امل�ؤلف كان على وعي بالطابع اخل�صو�صي لبع�ض املفاهيم‪ ،‬مثل‬
‫العلمانية‪ ،‬واجلمهورية‪ ،‬والثقافة الغربية‪ .‬لذلك حاول تعريفها عرب ربطها بال�سياق الغربي (والفرن�سي‬
‫بالتحديد) مع الت�أكيد على �رضورة فتح قنوات االت�صال‪ ،‬والتحاور مع الثقافات الأخرى‪.‬‬

‫‪11- Ibid. , p. 125‬‬

‫‪66‬‬
‫جتارب متميزة‬
‫جتربــة‬
‫منهاج الرتبية على حقوق الإن�سان ‪:‬‬
‫البدايات والت�سا�ؤالت‬
‫ذة‪ .‬خديجة �شاكر‬
‫باحثة يف الرتبية‬

‫الفرتة التاريخية التي كان مير منها املغرب‪،‬‬ ‫يف �أواخر �سنة ‪ ،1995‬بد�أ‪ ،‬يف املغرب‪،‬‬
‫وبحكم طبيعة االختيارات الرتبوية املعتمدة‪،‬‬ ‫نقا�ش تربوي‪ ،‬وبيداغوجي بني خرباء مغاربة من‬
‫والتي بد�أ الإعالن ال�رصيح عنها قبل فرتة وجيزة‬ ‫�أ�ساتذة جامعيني‪ ،‬ومفت�شني للتعليم‪ ،‬متحور‬
‫خا�صة بالن�سبة للتعليم الثانوي (‪ ،1994‬هيكلة‬ ‫حول ال�س�ؤال‪ :‬كيف ميكن بيداغوجي ًا تعزيز‪� ،‬أو‬
‫جديدة‪ ،‬مناهج وبرامج جديدة‪.)...‬‬ ‫�إدماج مفاهيم ثقافة حقوق الإن�سان يف املناهج‬
‫�أما منا�سبة بدء هذا النقا�ش‪ ،‬وطرح هذه‬ ‫الدرا�سية القائمة �آنذاك يف جميع الأ�سالك‬
‫الأ�سئلة‪ ،‬فقد كانت مرتبطة مب�رشوع الربنامج‬ ‫التعليمية ؟ ومل يكن هذا ال�س�ؤال رغم طابعه‬
‫الوطني للرتبية على حقوق الإن�سان‪ ،‬الذي و�ضع‬ ‫التقني‪ ،‬قادرا على �إخفاء عمق الأبعاد الرتبوية‪،‬‬
‫يف �إطار اتفاقية التعاون‪ ،‬وال�رشاكة التي �أبرمت‬ ‫واالجتماعية‪ ،‬والثقافية التي حتيط به‪ ،‬كما �أنه‬
‫بني وزارة الرتبية الوطنية‪ ،‬ووزارة حقوق الإن�سان‬ ‫مل ي�ستطع جتاوز ال�س�ؤال الأ�صل‪� ،‬س�ؤال الرتبية‪:‬‬
‫يف دجنرب ‪ ،1994‬والتي دخلت �ضمن �إجراءات‬ ‫كيف ميكن الرتبي ُة على حقوق الإن�سان يف‬
‫�إعمال الع�رشية الأممية اخلا�صة بالرتبية على‬ ‫امل�ؤ�س�سة املدر�سية املغربية ؟ هل ب�إحداث مادة‬
‫حقوق الإن�سان‪.‬‬ ‫خا�صة ت�ضاف �إىل قائمة املواد املد َّر�سة ؟ �أم‬
‫با�ستح�ضار نوعية هذه الأ�سئلة‪ ،‬وخمتلف‬ ‫ب�إدماج الرتبية على حقوق الإن�سان يف املنظومة‬
‫�أبعادها‪ ،‬وطبيعة مو�ضوعها‪ ،‬وكذا الإطار الذي‬ ‫التعليمية القائمة عرب املناهج الدرا�سية ؟ ما الذي‬
‫انبثقت منه‪� ،‬ستتناول هذه املداخلة جتربة منهاج‬ ‫نراهن عليه‪ :‬هل هو تعليم وتدري�س حقوق‬
‫الرتبية على حقوق الإن�سان كجواب بيداغوجي‬ ‫الإن�سان بكل ما يفرت�ضه من تباعد وجترد ؟‬
‫على بع�ض من تلك الأ�سئلة‪ ،‬جواب ت�أ�س�س و ُبنـي‪،‬‬ ‫�أم تربية وفق حقوق الإن�سان‪ ،‬بجميع دالالت‬
‫وعمم فكانت تلك بداياته‪ ،‬وبتلك‬ ‫ثم ُجرب‪ُ ،‬‬ ‫الرتبية‪ ،‬وبكل حموالت ثقافة حقوق الإن�سان‪،‬‬
‫البدايات‪ ،‬وعربها رافقته ت�سا�ؤالت‪ ،‬وا�ستفهامات‬ ‫وما يفرت�ضانه مع ًا من وعي‪ ،‬ومتثل‪ ،‬وتن�شئة‪،‬‬
‫لإجالئه‪� ،‬أو لنقده‪� ،‬أو لتجاوزه‪.‬‬ ‫وانخراط‪ ،‬ومواقف ؟‬

‫�سيكون املرجع املبا�رش لهذه املقالة‪ ،‬هو‬ ‫�أكيد �أن هذه الأ�سئلة‪ ،‬وكل ما ميكن �أن‬
‫�أعمال اللجنة امل�شرتكة املكلفة بتنفيذ الربنامج‬ ‫يتفرع عنها تربويا‪ ،‬وبيداغوجيا‪ ،‬وديداكتيكيا‬
‫الوطني للرتبية على حقوق الإن�سان‪ ،‬و�أعمال‬ ‫�أي�ضا‪ ،‬كانت �أ�سئلة مقلقة ال تفرت�ض �إجابات‪،‬‬
‫اللجان التقنية املتفرعة عنها‪ ،‬وخا�صة منها‬ ‫بل حتتم اختيارات مل تكن �سهلة �آنذاك‪ ،‬بحكم‬

‫‪68‬‬
‫تن�ضح باحلياة‪ ،‬والتفاعل‪ ،‬ومتتد يف الزمان‪.‬‬ ‫جلنة بناء املنهاج و�إعداد اجلذاذات‪� ،‬أما املرجع‬
‫وقد كان احل�سم نابعا من العالقة التي بدت �شبه‬ ‫غري املبا�رش‪� ،‬إذا �صح التعبري‪ ،‬فهو معاي�شة‬
‫م�ستحيلة بني فعل التدري�س‪ ،‬والتعليم‪ ،‬وبني‬ ‫هذه التجربة‪ ،‬ومواكبة خمتلف مراحلها عن‬
‫ثقافة حقوق الإن�سان‪� ،‬إذ كيف ميكن �إخ�ضاع‬ ‫قرب‪ ،‬والإح�سا�س القوي بكل االرجتاجات‬
‫ثقافة حية متجددة حل�صار املادة الدرا�سية‪،‬‬ ‫التي �أحدثتها على م�ستوى القناعات الرتبوية‪،‬‬
‫ولتقاليد التلقني‪ ،‬واالمتحان‪ ،‬والتنقيط العددي‪،‬‬ ‫والبيداغوجية التي كانت مرت�سبة يف �صفوف‬
‫واملعدالت‪� ...‬إلخ‪ ،‬وكلها يف �أعني النا�شئة من‬ ‫الأطر الرتبوية‪ .‬ورمبا �سيكون لهذا املرجع بحكم‬
‫�أ�سباب الإكراه‪ ،‬و�أ�ساليب الزجر ؟ لقد كان من‬ ‫طبيعته‪� ،‬أثر ما على نوعية املقاربة التي �سيتم‬
‫ال�رضوري جتاوز كل ما ميكن �أن ي�شكل تعرثات‪،‬‬ ‫اعتمادها عند عر�ض هذه التجربة‪ ،‬وعلى هذا‬
‫�أو م�شاكل �أمام تقبل التالميذ‪ ،‬والتلميذات‬ ‫الأثر �أن يكون ظاهرا جليا وقويا‪ ،‬لأن كل حديث‬
‫ملفاهيم ثقافة حقوق الإن�سان‪ ،‬با�ستح�ضار ما‬ ‫عن جتربة‪ ،‬وخا�صة التجربة الرتبوية يف جمال‬
‫تتميز به من خ�صو�صيات معرفية‪ ،‬واجتماعية‪،‬‬ ‫حقوق الإن�سان‪ ،‬ال ميكن �أن يتخل�ص من نفحة‬
‫ونف�سية‪ ،‬وتربوية‪ .‬لذلك‪ ،‬كان املنهاج خا�صا ال‬ ‫ذاتية‪ ،‬رغم كل الت�أكيد املبدئي على املو�ضوعية‬
‫بتدري�س حقوق الإن�سان‪ ،‬وتعليمها‪ ،‬بل خا�صا‬ ‫ال�رضورية يف امليدان البيداغوجي‪ ،‬حتى تت�ضح يف‬
‫بالرتبية عليها‪ ،‬لأن «الرتبية تت�ضمن التدري�س‬ ‫التجربة كل املنطلقات‪ ،‬واملرجعيات‪ ،‬والأهداف‪،‬‬
‫والتعليم‪ ،‬وتتجاوزهما لت�شمل جوانب �أخرى‪،‬‬ ‫وامل�ضامني‪ ،‬والأ�ساليب‪ ،‬والو�سائل‪.‬‬
‫كاجلانب ال�سيكولوجي من تنمية القدرات‬ ‫�سنتناول �إذن املحاور التالية‪:‬‬
‫العقلية‪ ،‬واال�ستعدادات النف�سية‪ ،‬واالجتماعية‪،‬‬
‫• بناء منهاج الرتبية على حقوق‬
‫وكذلك التن�شئة االجتماعية التي تهدف �إدماج‬
‫الإن�سان‪ :‬ما بني الو�ضوح‪ ،‬وااللتبا�س؛‬
‫الفرد يف املجتمع‪ ،‬وتكيفه مع مقت�ضيات احلياة‬
‫االجتماعية عن طريق ا�ستدماجه ملقومات‬ ‫• �إعداد اجلذاذات التطبيقية‪ :‬ما بني‬
‫املجتمع الثقافية من قواعد لل�سلوك‪ ،‬وقيم‪،‬‬ ‫الي�رس‪ ،‬والتع�سف؛‬
‫ومعايري‪ ،‬ودالالت رمزية‪� ...‬إلخ‪ ،‬فالرتبية عملية‬ ‫• مناذج للمعاينة والفهم‪ :‬من منطق‬
‫موجهة �إىل الإن�سان يف كليته‪ ،‬تتعامل مع كل‬ ‫النظرية �إىل حكم الواقع‪.‬‬
‫مكونات ال�شخ�صية البيولوجية‪ ،‬والوجدانية‪،‬‬
‫والعقلية‪ ،‬واالجتماعية يف تكاملها‪� ...‬إلخ » (من‬ ‫‪ -1‬املحور الأول‬
‫وثائق اللجنة امل�شرتكة ‪.)1995‬‬ ‫بناء منهاج الرتبية على حقوق الإن�سان‪ :‬ما‬
‫لقد كان الو�ضوح يف املنطلق‪ ،‬ومن هذا‬ ‫بني الو�ضوح وااللتبا�س‬
‫الو�ضوح كان احل�سم بني اختيارين‪:‬‬ ‫بد�أ التفكري يف بناء منهاج خا�ص‬
‫االختيار ال�سهل‪ ،‬وهو اعتبار جمال حقوق‬ ‫بالرتبية على حقوق الإن�سان‪ ،‬بعد الف�صل بني‬
‫الإن�سان جماال معرفيا ك�سائر جماالت املعرفة‬ ‫فعل التدري�س‪ ،‬وفعل الرتبية‪ ،‬بني فعل التعليم‪،‬‬
‫الإن�سانية الغنية واخل�صبة‪ ،‬ميكن حتويله �إىل‬ ‫وفعل التن�شئة‪� ،‬أي بني �أفعال �أ�صبحت تعترب‬
‫مادة درا�سية تن�ضاف �إىل املواد الأخرى‪ ،‬تقف‬ ‫ميكانيكية‪ ،‬و�آلية‪ ،‬وحم�صورة‪ ،‬خا�صة مع انهمار‬
‫عند تلقني املعارف‪ ،‬وعند التدريب على املهارات‪،‬‬ ‫�أفكار ومفاهيم الرتبية احلديثة‪ ،‬وبني �أفعال‬

‫‪69‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫ • هل هي كل املواد املد َّر�سة ؟‬ ‫مع احتمال �أن ت�صبح بدورها رهينة هواج�س‬
‫ • هل هي مواد تلتقي يف بع�ض‬ ‫االمتحان وح�ساباته؛‬
‫خ�صائ�صها املعرفية والبيداغوجية مع قيم حقوق‬ ‫�أو االختيار ال�صعب‪ ،‬وهو البحث عن‬
‫الإن�سان ومع خ�صو�صيات الرتبية عليها ؟‬ ‫�أ�سلوب‪ ،‬وطريقة جديدة ملقاربة الرتبية على‬
‫ • هل هي مواد ينح�رص تدري�سها يف‬ ‫حقوق الإن�سان‪ ،‬عرب املواد الدرا�سية نف�سها‪� ،‬أي‬
‫بع�ض �أ�سالك التعليم �أم ميتد يف جميع املراحل‬ ‫�أن حتمل هذه املواد مبجاالتها املعرفية املختلفة‪،‬‬
‫التعليمية ؟‬ ‫بطرقها البيداغوجية اخلا�صة‪ ،‬وبو�سائلها‬
‫الديداكتيكية املتنوعة واملتمايزة؛ �أن حتمل‬
‫رغم الب�ساطة الظاهرة لهذه الأ�سئلة ف�إنها‬
‫�صيغا مالئمة للرتبية على حقوق الإن�سان‪ ،‬رغم‬
‫فتحت �أبواب مغامرة كبرية دخلها �أع�ضاء اللجنة‬
‫االختالف‪ ،‬واخل�صو�صية‪ ،‬والتنوع والتمايز‪ ،‬ورغم‬
‫التقنية املكلفة ببناء املنهاج بحما�س قوي‪ ،‬فك�أمنا‬
‫قبل كل ذلك‪ ،‬امتداد �سريورة التكوين فيها عرب‬
‫كان عليهم ا�ستك�شاف هذا العامل اجلذاب‪ ،‬عامل‬
‫�سنوات التمدر�س كلها‪� ،‬أي من �سن ال�سابعة‪ ،‬وهو‬
‫الرتبية على حقوق الإن�سان‪ ،‬و�أ�صبح كل تالمذة‬
‫�سن بداية التمدر�س الإجباري �آنذاك‪� ،‬إىل �سن‬
‫املدر�سة املغربية �أبناءهم الطبيعيني‪ ،‬يتوقون �إىل‬
‫الثامنة ع�رشة‪ ،‬وهو حاليا ال�سن الر�سمي لبداية‬
‫�أن يروهم جميعا مواطنني ومواطنات غد مغربي‬
‫الت�صويت يف االنتخابات‪ .‬وهو عمر ت�ستغرقه‬
‫م�رشق نام متطور‪ ،‬وحديث‪ ،‬ومتقدم ي�شاركون‬
‫الكثري من املواد الدرا�سية‪ ،‬فكيف �سي�ستغرقه‬
‫جميعا يف بنائه‪ ،‬ونه�ضته‪ ،‬ويتحملون يف ذلك‬
‫منهاج خا�ص بالرتبية على حقوق الإن�سان‬
‫كل امل�س�ؤولية‪ ،‬يحرتمون اختالف الآخر‪� ،‬أحرارا‬
‫يرافق م�سرية تكوين التلميذ(ة) املدر�سية‪ ،‬منهاج‬
‫ذوي كرامة مت�أ�صلة‪ ،‬يحيون يف م�ساواة كاملة‪،‬‬
‫مندمج يف مواد درا�سية‪ ،‬تظهر هي مبعارفها‪،‬‬
‫وبت�ضامن‪ ،‬وت�سامح‪ ،‬وميار�سون الدميوقراطية يف‬
‫وطرقها‪ ،‬وكتبها املدر�سية‪ ،‬وامتحاناتها‪ ،‬ويندمج‬
‫ظل �سيادة القانون‪ ،‬واحلق‪.‬‬
‫هو‪( ،‬هل يختفي ؟) �ضمنها يتخلل جمالها‬
‫ • �أول حمطة‪ ،‬كانت هي �إنتاج مفهوم‬ ‫املعريف‪ ،‬يت�رسب بني طرقها البيداغوجية‪ ،‬ويوازي‬
‫املواد الدرا�سية احلاملة ملفاهيم ثقافة حقوق‬ ‫امتحاناتها‪ ،‬ويتجاوز �أ�ساليبها يف التقومي ؟؟؟‬
‫الإن�سان‪ ،‬والتي �أ�صبحت تعرف تداوال واخت�صارا‬ ‫فعال‪ ،‬لقد كان هذا هو االختيار الذي‬
‫با�سم املواد احلاملة‪ ...‬وهي خم�س مواد درا�سية‪،‬‬ ‫انطلقت منه جتربة منهاج الرتبية على حقوق‬
‫منها ما يدر�س منذ بداية التمدر�س �إىل نهايته‪،‬‬ ‫الإن�سان‪� .‬إال �أنه فتح �أمامها متاهات �أخرى من‬
‫وهي مادة اللغة العربية‪ ،‬ومادة الرتبية الإ�سالمية‪،‬‬ ‫الأ�سئلة املت�شابكة‪:‬‬
‫ومنها ما يدر�س يف بع�ض م�ستويات التعليم‬
‫ • ما هو هذا املنهاج اخلفي للرتبية‬
‫االبتدائي‪ ،‬وي�ستمر �إىل نهاية التمدر�س‪ ،‬وهي‬
‫على حقوق الإن�سان الذي ميكنه االندماج يف‬
‫مادة اللغة الفرن�سية‪ ،‬ومادة االجتماعيات‪ ،‬ومنها‬
‫مناهج متمايزة عنه من جهة وفيما بينها من‬
‫ما يدر�س فقط يف ال�سنتني الأخريتني من التعليم‬
‫جهة ثانية ؟‬
‫الثانوي‪ ،‬وهي مادة الفل�سفة‪ ،‬والفكر الإ�سالمي‪.‬‬
‫لقد �أنتج هذا املفهوم انطالقا من االقتناع ب�أن‬ ‫ • ما هي املواد الدرا�سية التي ميكنها‬
‫« ا�ستدماج قيم حقوق الإن�سان لت�صبح مكونا‬ ‫ا�ستقباله واالمتزاج بـه ؟‬

‫‪70‬‬
‫ • ثاين حمطة‪ ،‬كانت حتديد طبيعة‪،‬‬ ‫من مكونات �أنظمة القيم ال�شخ�صية يفر�ض‬
‫وخ�صائ�ص املنهاج املراد بنا�ؤه‪:‬‬ ‫ذاته كمرجعية قيمية‪ ،‬ومفاهيمية تقر�أ من‬
‫«�إن هذا املنهاج ال ي�شبه باقي املناهج‪ ،‬الأمر‬ ‫خاللها الأحداث التاريخية‪ ،‬والظواهر اجلغرافية‪،‬‬
‫الذي ي�ستلزم التعرف على خ�صو�صياته وحتديد‬ ‫واالقت�صادية‪ ،‬وكذا ق�ضايا البيئة‪ ،‬والتغذية‪،‬‬
‫االلتبا�سات التي ينبغي تالفيها عند ال�رشوع يف‬ ‫والظواهر ال�سكانية (مادة االجتماعيات)‪ ،‬وحتلل‬
‫�إجنازه‪ ...‬كما �أن بناء منهاج �شمويل واحد ال‬ ‫وت�رشح من خاللها �أي�ضا الن�صو�ص‪ ،‬وامل�ؤلفات‬
‫ينبغي �أن ي�ؤدي �إىل تغييب تام للخ�صو�صيات‬ ‫الأدبية (مادة اللغة العربية‪ ،‬واللغة الفرن�سية)‪،‬‬
‫املرتبطة باملواد والأ�سالك التعليمية وباملتعلمني‪،‬‬ ‫وحتلل وتخ�ضع للت�أمل الأ�س�س الأخالقية‪،‬‬
‫و�إال ا�ستحالت عملية �إدماج املفاهيم واملبادىء‬ ‫والفل�سفية التي تقوم عليها (مادة الفل�سفة‪،‬‬
‫�ضمن املواد امل�سماة حاملة‪ ،‬و�أ�صبحت جمرد‬ ‫والفكر الإ�سالمي)‪ ..‬و�إن ح�ضور حقوق الإن�سان‬
‫عملية �إقحام ال تخدم الأهداف املتوخاة‪( »...‬من‬ ‫بهذا ال�شكل يعطي جلل املعارف املدر�سية بعدا‬
‫وثائق اللجنة التقنية ‪.)1997‬‬ ‫�إن�سانيا‪ ،‬وي�ضفي عليها معنى ي�ساعد على تفاعل‬
‫التالميذ والتلميذات معها وجدانيا‪ ،‬وبالتايل على‬
‫لقد كان حتديد الطبيعة واخل�صائ�ص‬
‫االهتمام بها وجعلها �أكرث فاعلية وت�أثري‪( »...‬من‬
‫م�شوبا باحلذر وبجملة من االحتياطات‪ ،‬رغم‬
‫وثائق اللجنة امل�شرتكة ‪.)1995‬‬
‫و�ضوح املنطلق وو�ضوح االختيار‪ .‬فهل كانت‬
‫الهواج�س البيداغوجية �أكرث ح�ضورا من البحث‬ ‫لقد كانت غايات الرتبية على حقوق‬
‫عن تدعيم قوي للأبعاد الإن�سانية والقيمية‬ ‫الإن�سان بكل مثاليتها‪ ،‬ومفاهيم ثقافة حقوق‬
‫للمواد الدرا�سية املحددة كمواد حاملة لثقافة‬ ‫الإن�سان بكل تاريخها النظري‪ ،‬والأخالقي‪،‬‬
‫حقوق الإن�سان ؟‬ ‫والفل�سفي‪ ،‬والقانوين‪ ،‬واملدين‪ ،‬حا�رضة عند‬
‫ال بد من الإ�شارة �إىل �أن هذه الفرتة‬ ‫التفكري يف بناء منهاج الرتبية على حقوق‬
‫التاريخية عرفت على م�ستوى االجتهادات‬ ‫الإن�سان‪� ،‬إال �أنها كانت تلتب�س‪ ،‬رغم و�ضوحها‪،‬‬
‫الرتبوية والبيداغوجية يف التعليم املدر�سي املغربي‪،‬‬ ‫عند طغيان التخ�ص�ص املعريف‪ ،‬واالختيار‬
‫تواجدا قويا ملفاهيم كانت تعترب جديدة وجمددة‬ ‫البيداغوجي للمادة الدرا�سية‪.‬‬
‫يف �أفق التحرر من الأ�ساليب العتيقة يف التعليم‬ ‫«�رضورة التعامل مع املواد احلاملة‪،‬‬
‫والتدري�س ورمبا لذلك كانت كا�سحة �أي�ضا‪ ،‬من‬ ‫باعتبارها ف�ضاءات فكرية‪ ،‬تتكامل فيما بينها‪،‬‬
‫هذه املفاهيم‪ :‬مفهوم املنهاج‪ ،‬مفهوم الأهداف‪،‬‬ ‫وذات �إمكانيات متنوعة‪ ،‬ومتفاوتة من حيث‬
‫مفهوم املرامي‪ ،‬مفهوم الغايات‪ ،‬امل�ضامني‪ ،‬مفهوم‬ ‫قابليتها لتلقي‪ ،‬واحت�ضان املفاهيم املتعلقة‬
‫التقومي التكويني‪ ،‬التقومي امل�ستمر‪ ...‬وبعد ذلك‬ ‫بحقوق الإن�سان‪ .‬كما ينبغي التعامل مع هذه‬
‫ويف خ�ضمه بد�أ يظهر ب�شكل خجول مفهوم‬ ‫املواد على �أنها تت�ضمن‪ ،‬بدرجة قوية‪� ،‬أو �ضعيفة‪،‬‬
‫جديد �سي�صبح الآن مع مراجعة املناهج يف‬ ‫وب�صورة �ضمنية‪� ،‬أو �رصيحة‪ ،‬حمولة معينة من‬
‫�إطار �إ�صالح نظام الرتبية والتكوين كما يحدده‬ ‫هذه املفاهيم‪ ،‬مع احلر�ص على تاليف التجزيء‬
‫امليثاق الوطني‪� ،‬سي�صبح مفهوما مركزيا و�أ�سا�سيا‬ ‫والت�شويه الذي قد ي�صيب هذا املنهاج �إذا‬
‫وهو مفهوم الكفايات‪.‬‬ ‫اعتربت املواد كمنطلق لبنائه‪( »...‬من وثائق‬
‫�إىل جانب ذلك‪ ،‬ال بد من الإ�شارة �أي�ضا‬ ‫اللجنة التقنية ‪.)1997‬‬

‫‪71‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫ميكن الوعي بالعوائق التي يحملها كل فرد ذاتيا‬ ‫�إىل تواجد م�رشوعني خمتلفني من حيث املقاربة‪،‬‬
‫وتلقائيا وحتول بينه وبني هذه الثقافة فكرا‬ ‫�سبق �أن و�ضعهما يف �إطار الإجابة البيداغوجية‬
‫وممار�سة ؟ ما دور القوانني والت�رشيعات الوطنية‬ ‫على �س�ؤال الو�سيلة والأ�سلوب املنا�سبني للرتبية‬
‫ل�ضمان االلتزام بحقوق الإن�سان وممار�ستها ؟‬ ‫على حقوق الإن�سان‪ ،‬خبريان مغربيان من‬
‫كيف ميكن تغيري الو�سط املدر�سي ليتالءم يف‬ ‫الأ�ساتذة اجلامعيني املخت�صني يف املجال الرتبوي‪.‬‬
‫تنظيماته وعالقاته مع متطلبات حقوق الإن�سان‪،‬‬ ‫متت درا�ستهما واعتماد �أحدهما ملالءمته املبا�رشة‬
‫التلميذ(ة) واملدر�س(ة) والإطار الإداري‪...‬‬ ‫�إجماال مع التوجهات العامة‪ .‬ومل يكن ذلك يعني‬
‫مل تكن هذه الأ�سئلة تنتظر �إجابات حا�سمة‪،‬‬ ‫�أن امل�رشوع الثاين مل يكن ي�ستجيب لالنتظارات‪،‬‬
‫كما �أن بناء املنهاج مل ينتظر تقدمي �إجابات عنها‪،‬‬ ‫بل رمبا �أنه كان �أكرث دقة وتف�صيال من الناحية‬
‫بل ظلت تالزمه وترافق كل العمليات التي مر‬ ‫الديداكتيكية بال�شكل الذي مل يكن ي�ساعد على‬
‫منها و�ضعه‪ ،‬فبقدر ما كانت هذه الأ�سئلة مقلقة‬ ‫فهمه بي�رس وتطبيقه ب�سهولة‪ .‬ويبقى امل�رشوعان‬
‫ومدعاة لتوتر فكري م�ستمر لدى �أع�ضاء اللجنة‬ ‫ر�صيدا غنيا يف ح�صيلة الربنامج الوطني للرتبية‬
‫التقنية‪ ،‬بقدر ما �ساهمت بقوة يف ح�سم الرتددات‬ ‫على حقوق الإن�سان‪ ،‬قابال للقراءة التاريخية‬
‫وطرد الهواج�س‪ ،‬والدخول يف التطبيق التجريبي‬ ‫وللتقومي ال�شامل يف كل �آن‪.‬‬
‫واحلذر ملنهاج الرتبية على حقوق الإن�سان الذي‬ ‫�إن البحث عن و�ضوح منهاج للرتبية على‬
‫ت�أ�س�س وبني يف جو مل يكن جمرد م�صنع‬ ‫حقوق الإن�سان‪� ،‬سواء على م�ستوى عالقاته مع‬
‫�أو معمل بيداغوجي وديداكتيكي ت�صنع فيه‬ ‫املواد املختارة لدجمه‪� ،‬أو على م�ستوى منطلقاته‬
‫املناهج‪ ،‬بل كان امتدادا لآثار املجتمع ال�صغري‪:‬‬ ‫�أومرجعياته �أو�أهدافه �أو م�ضامينه �أو �أ�ساليبه يف‬
‫املدر�سة املغربية‪ ،‬وللمجتمع الكبري‪ :‬واقع الثقافة‬ ‫التقومي؛ كان يجيب على �أ�سئلة �أخرى ال تتعلق‬
‫والعالقات واالقت�صاد وال�سيا�سة يف املغرب‪.‬‬ ‫فقط باالختيار البيداغوجي �أو باملدخل املعتمد‬
‫«�إن الرتبية على حقوق الإن�سان‪ ،‬وهي‬ ‫هل هو بيداغوجيا الأهداف وكانت جل املواد‬
‫متثل يف حد ذاتها حقا من حقوق الإن�سان‪،‬‬ ‫املعنية تعتمده منذ تعديل ‪� ،1994‬أم بيداغوجيا‬
‫تظل هي ال�سبيل الأجنع لإر�ساء وتر�سيخ‬ ‫الكفايات وهو مدخل يحتم �رضورة التال�ؤم‬
‫ثقافتها يف وعي ووجدان و�سلوك املواطن(ة)‪،‬‬ ‫والتوافق بني املناهج للدمج الي�سري والناجح؛‬
‫كما �أن املدر�سة تظل املعرب املالئم لتنظيم ن�رشها‬ ‫بل كانت �أ�سئلة تثري �إ�شكاالت كربى من قبيل‬
‫و�إ�شعاعها‪ .‬ومن هنا تربز �أهمية و�رضورة �إعداد‬ ‫ما تعني كونية ثقافة حقوق الإن�سان ؟ وما هي‬
‫منهاج للرتبية على حقوق الإن�سان‪ ،‬يتم من‬ ‫حدود اخل�صو�صية الثقافية ؟ ما نوعية العالقة‬
‫خالله وعربه الو�صول �إىل تطبيق فعلي لثقافة‬ ‫التي تفر�ضها بني الكوين واخل�صو�صي امل�ضامني‬
‫حقوق الإن�سان يف كل مظاهر احلياة‪ :‬يف‬ ‫املعرفية للمواد الدرا�سية املعنية ؟ ما العالقة بني‬
‫املدر�سة‪ ،‬يف املجتمع املحلي �أو خارجه‪ ،‬و�إىل‬ ‫الدميوقراطية وحقوق الإن�سان ؟ كيف ميكن ن�رش‬
‫�إدخال الأ�ساليب الدميوقراطية يف احلياة‬ ‫قيم حقوق الإن�سان والرتبية عليها يف ف�ضاءات‬
‫املدر�سية‪ ،‬لكي تكون امل�ؤ�س�سات التعليمية مراكز‬ ‫ت�سود يف �أغلبها عالقات غري دميوقراطية ؟ كيف‬
‫متميزة ملمار�سة حقوق الإن�سان والتدريب على‬ ‫ميكن جتاوز العوائق املو�ضوعية التي تقف يف‬
‫الت�سامح‪( »...‬مقتطف من ن�رشة االت�صال‪،‬‬ ‫املجتمع دون ن�رش حقوق الإن�سان ؟ بل كيف‬

‫‪72‬‬
‫�أو مرحلة من مراحل اكت�سابها‪ ،‬وهو �سلوك‬ ‫العدد ‪ 2 / 1‬مار�س يونيو ‪ 1998‬اخلا�صة‬
‫قابل للمالحظة‪� ،‬إنه عالمة حمتملة حل�صول‬ ‫مبنهاج الرتبية على حقوق الإن�سان )‬
‫التفاعل بني تنمية القدرات‪ ،‬وبني املعارف‪ .‬ميثل‬ ‫ • ثالث حمطة كانت هي احل�سم يف‬
‫امل�ؤ�رش بع�ض متظهرات الكفاية التي تكون قابلة‬ ‫حتديد املفاهيم الأ�سا�سية للمنهاج‪:‬‬
‫للمالحظة‪ ،‬ويفرت�ض �أنها تدل على اكت�ساب‬
‫لقد كان بناء املنهاج مبنطلقاته‪ ،‬ومرجعياته‬
‫الكفاية‪ ،‬وامل�ؤ�رش موجه نحو عملية الأجر�أة‬
‫ومبقاربته املندجمة الدينامية املبتكرة‪ ،‬معتمدا‬
‫والتطبيق ومي�رس لعملية التقومي‪.‬‬
‫على جمموعة من املفاهيم طبعت خ�صو�صيته‪،‬‬
‫التقومي‪ :‬يفر�ض منطق الكفاية �أ�سلوبا‬ ‫ومتيزه‪ ،‬وهي مفاهيم‪:‬‬
‫خا�صا يف التقومي‪ ،‬نظرا ل�صعوبة تقومي املواقف‪،‬‬
‫«الكفاية‪ ،‬كا�ستعداد يكت�سبه املتعلم(ة) �أو‬
‫من جهة‪ ،‬و�صعوبة التحقق من ت�أثريها الفعال يف‬
‫ينمى لديه جلعله قادرا على �أداء ن�شاط تعليمي‪،‬‬
‫ال�سلوك‪ ،‬من جهة ثانية‪ .‬ويتحدد هذا الأ�سلوب‬
‫�أو مهام معينة‪� ،‬إنها‪� ،‬أي الكفاية‪ ،‬تتمظهر من‬
‫يف و�ضع التلميذ(ة) �أمام و�ضعيات اجتماعية‬
‫خالل ن�شاط ناجع يقوم به املتعلم(ة) �أمام‬
‫مماثلة للو�ضعيات التي يفرت�ض �أنه واجهها �أو‬ ‫و�ضعيات جديدة‪� ،‬أو �إ�شكالية‪.‬‬
‫�سيواجهها يف حياته‪ ،‬ثم تقومي مدى ا�ستح�ضاره‬
‫القدرة‪ ،‬وهي مفهوم افرتا�ضي غري قابل‬
‫للمرجعيات مو�ضوع التكوين عند معاجلته لتلك‬
‫للمالحظة‪ ،‬يدل على تنظيم داخلي لدى الفرد‬
‫الو�ضعيات‪ .‬على �أن تكون الأ�سئلة التي تعرب عن‬
‫ينمو لديه عرب عملية التكوين‪ ،‬ومن خالل‬
‫املطلوب من التلميذ(ة)‪� ،‬أ�سئلة غري موجهة بل‬
‫التفاعل بني العمليات العقلية‪ ،‬و�أ�ساليب ال�سلوك‬
‫مفتوحة‪ ،‬كما ميكن �أن تكون الإجابات املقدمة‬
‫الذي تخلقه الأن�شطة التكوينية انطالقا من‬
‫من طرفه (ها) مو�ضوعا للحوار‪� ،‬أو للتقومي‬
‫توظيف معارف وم�ضامني معينة‪ .‬وميكن للقدرة‬
‫الذاتي‪( ».‬مقتطف بت�رصف من وثيقة منهاج‬
‫�أن تكون مو�ضوعا للتعلم واالكت�ساب‪ ،‬كما �أنها‬
‫الرتبية على حقوق الإن�سان‪ ،‬ن�رشة االت�صال‪،‬‬
‫قابلة للتطور امل�ستمر‪ ،‬فنموها عملية متوا�صلة‬
‫مار�س‪/‬يونيو ‪)1998‬‬
‫تتم يف جدلية مع املعارف‪.‬‬
‫لقد كان اعتماد هذه املفاهيم‪ ،‬وحتديدها‬ ‫امل�ضمون املعريف‪ :‬امل�ضامني املعرفية لي�ست‬
‫الدقيق خطوة جبارة يف طريق نبذ الطرق‬ ‫هدفا يف حد ذاتها‪ ،‬و�إمنا هي �أداة ت�ساعد على‬
‫التقليدية يف التدري�س‪ ،‬ويف االبتعاد عن‬ ‫اكت�ساب الكفاية‪ ،‬وللكفاية يف هذا امل�ستوى‬
‫الأ�ساليب امليكانيكية التي بد�أت تنت�رش يف �إطار‬ ‫وظيفة الفرز‪ ،‬واالنتقاء داخل مادة درا�سية‪� ،‬أو‬
‫االرتكاز على بيداغوجيا الأهداف التي ارتبطت‬ ‫جمموعة من املواد‪ .‬فلي�س املهم هو معرفة العهود‬
‫بت�صور تقني يجزىء ميكانيكيا العملية الرتبوية‬ ‫واملواثيق الدولية‪ ،‬وحت�صيلها‪� ،‬أو معرفة تطور‬
‫ال�شاملة‪.‬‬ ‫ثقافة حقوق الإن�سان‪ ،‬وال م�صادرها فقط؛ بل‬
‫ • �أما املحطة الرابعة فكانت هي ال�صياغة‬ ‫املهم هو توظيف هذه املعارف‪ ،‬واالقتناع بها‪،‬‬
‫ال�شاملة والدقيقة للمنهاج‪� :‬شاملة من حيث‬ ‫واعتمادها مرجعية لل�سلوك‪ ،‬وللتفاعل داخل‬
‫املنطلقات واملرجعيات‪ ،‬واملدخل البيداغوجي‪،‬‬ ‫الواقع االجتماعي‪.‬‬
‫ودقيقة من حيث تفريع الكفايات‪ ،‬وتف�صيل‬ ‫امل�ؤ�رشات‪ :‬امل�ؤ�رش نتيجة لتحليل كفاية‪،‬‬

‫‪73‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫• التال�ؤم‪ ،‬وهو تال�ؤم بني املنهاج اخلا�ص‬ ‫القدرات‪ ،‬وحتديد امل�ضامني‪ ،‬و�ضبط امل�ؤ�رشات‪،‬‬
‫بالرتبية على حقوق الإن�سان‪ ،‬ومنهاج كل مادة‬ ‫و�إحداث معايري التقومي‪�( .‬أنظر وثيقة منهاج‬
‫درا�سية معنية (من املواد اخلم�س املذكورة �آنفا)‬ ‫الرتبية على حقوق الإن�سان‪ ،‬نف�س املرجع‬
‫باعتبار خ�صو�صياتها املعرفية والبيداغوجية‪،‬‬ ‫ال�سابق) ويجدر بالذكر �أن املفاهيم املحورية‬
‫باعتبار املرحلة الدرا�سية وموا�صفات املتخرج(ة)‬ ‫التي اعتمدت كمجال لتحديد الكفايات هي‪:‬‬
‫منها‪ ،‬وباعتبار املرحلة العمرية للتلميذ(ة)‬ ‫القاعدة القانونية‪ ،‬الكرامة الإن�سانية‪ ،‬احلرية‪،‬‬
‫وخ�صائ�صها النف�سية والذهنية‪.‬‬ ‫امل�ساواة‪ ،‬الت�ضامن‪ ،‬الت�سامح‪ ،‬والدميوقراطية‪.‬‬
‫• الت�أثري‪ ،‬ويق�صد به مدى الت�أثري الذي ميكن‬ ‫تفرعت عنها م�ستويات ثالث كانت مبثابة‬
‫�أن يحدثه �إدماج هذا املنهاج يف منهاج املادة‬ ‫�أهداف فرعية انطالقا من معيار للتدرج ينطلق‬
‫احلاملة املختارة‪ ،‬خا�صة على م�ستوى الطرائق‪،‬‬ ‫من امل�ستوى الذاتي‪� ،‬إىل امل�ستوى الوطني‪،‬‬
‫وعلى م�ستوى التغري الإيجابي لأدوار التلميذ(ة)‪،‬‬ ‫�إىل امل�ستوى العاملي عند حتليل الو�ضعيات‪،‬‬
‫وعلى م�ستوى بناء عالقات تربوية جديدة بني‬ ‫واملواقف‪.‬‬
‫املدر�س(ة) وتالميذه(ها) وتلميذاته (ها)‪ ،‬عالقات‬
‫منفتحة ودميوقراطية‪ ،‬واالمتداد املفرت�ض لهذه‬ ‫‪ -2‬املحور الثاين‬
‫الروح اجلديدة �إىل الو�سط املدر�سي عامة‪.‬‬ ‫�إعداد اجلذاذات التطبيقية‪ :‬ما بني الي�رس‬
‫• التدرج‪ ،‬وهو تدرج عرب امل�ستويات‬ ‫والتع�سف‬
‫التعليمية‪« ،‬تدرج يف م�ستوى و�أ�ساليب تناول‬ ‫كان ال بد من �إدخال املنهاج املندمج‬
‫م�ضامني املنهاج ولي�س يف معيار الب�ساطة‬ ‫اجلديد �إىل حمك التطبيق‪ ،‬فالبناء النظري‪،‬‬
‫والتعقيد‪ ،‬على �أن يتم تعميق هذا التناول يف‬ ‫رغم خمتلف ال�صعوبات التي �أحاطت به‪ ،‬ورغم‬
‫املرحلة الثانوية حتى يتم ا�ستدماج هذا املنهاج‬ ‫ثقل الأ�سئلة التي رافقته؛ مت وا�ستقام‪ ،‬لكن‬
‫وفق ما تتطلبه غايات الرتبية على حقوق‬ ‫االلتبا�سات التي حا�رصته لن جتد �إجالء لها �إال‬
‫الإن�سان نف�سيا واجتماعيا وقيميا‪( ».‬من وثائق‬ ‫يف �إجراء جتريب له كبناء متا�سك‪ ،‬بكل اجلدة‬
‫اللجنة التقنية ‪.)1998‬‬ ‫التي يحملها‪ ،‬و�سط تقاليد تربوية خمتلفة و�إن‬
‫• الأولوية‪ ،‬وتعني �إعطاء الأ�سبقية‬ ‫كانت حديثة وجديدة‪.‬‬
‫للأن�شطة املرتبطة مبفاهيم حقوق الإن�سان الأكرث‬ ‫مت ال�رشوع يف تطبيق منهاج الرتبية على‬
‫الت�صاقا باملو�ضوع املدرو�س يف املادة املعنية‪،‬‬ ‫حقوق الإن�سان با�ستح�ضار مفاهيم �أ�سا�سية‪،‬‬
‫والأكرث �إحلاحا �أو نفعا بح�سب حاجات التالميذ‬ ‫وذلك بغاية �إجراء العملية الأ�سا�سية‪ ،‬واملركزية‪،‬‬
‫والتلميذات‪ ،‬وكذا الأي�رس دجما‪.‬‬ ‫وهي عملية الإدماج‪� ،‬إدماج هذا املنهاج اخلا�ص‬
‫• التفاعل‪ ،‬وهو تفاعل مع الواقع يعطي‬ ‫الذي ميتد طيلة م�سرية التكوين‪ ،‬يف مناهج‬
‫الأ�سبقية ملا هو �إيجابي فيه ق�صد تعزيزه‪،‬‬ ‫مواد درا�سية متنوعة وخمتلفة‪ ،‬و�إن كانت متتد‬
‫واحلث على االقتداء به‪ ،‬وي�ستح�رض ال�سلبي يف‬ ‫هي �أي�ضا يف نف�س ال�سريورة �إال �أنها تعرف‬
‫الواقع ق�صد �إبراز نقائ�صه‪ ،‬وبناء بديل مغاير له‪،‬‬ ‫قطائع‪ ،‬وحمطات تفر�ضها الأ�سالك التعليمية‬
‫ومتجاوز ل�سلبيته للت�أثري يف ال�سلوك والقناعات‪.‬‬ ‫الثالث‪ .‬وهكذا ح�رضت بقوة مفاهيم مثل‪:‬‬

‫‪74‬‬
‫املنظمة لعمل املدر�س(ة) حني يكون ب�صدد‬ ‫لقد كانت هذه املفاهيم �أ�سا�سية لو�ضع ما‬
‫در�س �أو فقرة من در�س تتالءم مع متطلبات‬ ‫�سمي يف ما بعد «ا�سرتاتيجية الإدماج»‪ ،‬وقد‬
‫منهاج الرتبية على حقوق الإن�سان‪ ،‬وتتطابق‬ ‫ت�شكلت من م�ستويني‪« :‬م�ستوى التخطيط‪:‬‬
‫كفايته وقدراته مع امل�ضمون املعريف للدر�س يف‬ ‫وتبتدىء بقراءة ا�ستك�شافية �شاملة للربنامج‬
‫هذه املادة الدرا�سية �أو تلك‪.‬‬ ‫املقرر للمادة‪ ،‬مع ر�صد �أماكن ا�ستيعاب الكفايات‬
‫لقد كانت حمددات الإدماج‬ ‫والقدرات الواردة يف املنهاج اخلا�ص‪ .‬ومن هذه‬
‫وا�سرتاتيجيته‪ ،‬واملعايري ال�ضابطة للجذاذة‬ ‫القراءة يتم ا�ستخراج خطاطة عامة ت�ستعر�ض‬
‫التطبيقية للمنهاج‪ ،‬مبثابة خارطة طريق‬ ‫�أفقيا عناوين الدرو�س احلاملة مل�ضامني حقوق‬
‫تعتمدها الأطر الرتبوية لل�سري يف هذا املجال‬ ‫الإن�سان ومفاهيمها‪ ،‬وعموديا الكفايات‬
‫اجلديد واملعقد �أي�ضا‪.‬‬ ‫والقدرات املذكورة‪� ».‬أما امل�ستوى الثاين فهو‬
‫م�ستوى التنفيذ‪« :‬على م�ستوى تنفيذ الإدماج‬
‫كان الهدف املبا�رش لهذه الأداة‪ ،‬هو �ضبط‬
‫ميكن �سلوك �سبيل املعاجلة املرافقة �أو �سبيل‬
‫مقايي�س اال�شتغال وتوحيد �أ�س�سها ومنطلقاتها‬
‫املعاجلة التتويجية‪ .‬ويق�صد باملعاجلة املرافقة‪،‬‬
‫وهو هدف م�رشوع بالنظر �إىل جدة التجربة من‬
‫�أن تتداخل بنود من ثقافة حقوق الإن�سان مع‬
‫جهة و�إىل تنوع وتعدد املواد الدرا�سية امل�ستهدفة‬
‫بنود من در�س املادة احلاملة‪ .‬وهكذا مثال‬
‫من جهة ثانية‪� ،‬إال �أن هذه الأداة التي مل تكن‬
‫تعالج الأبعاد املعرفية بكيفية مندجمة‪ ،‬وكذلك‬
‫طيعة دائما بني �أيدي املخت�صني‪ ،‬مل تكن �إال‬
‫ال�ش�أن بالن�سبة ملختلف الأبعاد الأخرى‪� .‬إال �أن‬
‫عالمة على تخوف ظل مالزما للتجربة‪ ،‬وا�ستمر‬
‫من �سلبيات هذه اخلطة �أنها حتدث �رشوخا يف‬
‫حما�رصا للتطبيق‪ ،‬وهو تخوف من التع�سف‪،‬‬
‫در�س املادة احلاملة على اعتبار �أنه منظومة‬
‫تع�سف على منهاج املادة الدرا�سية‪ ،‬حني ال يتم‬
‫هادفة ومتناغمة يف كليتها‪ ،‬وميكن �أن يطال‬
‫الو�صول �إىل �إدماج منهاج الرتبية على حقوق‬
‫نف�س الت�صدع اجلانب احلقوقي‪� .‬أما املعاجلة‬
‫الإن�سان بني مكونات هذا املنهاج الأ�صلي‪.‬‬
‫التتويجية �أو املوالية‪ ،‬فيق�صد بها معاجلة البنود‬
‫لذلك ظلت مطالب الي�رس واملرونة والدينامية‬
‫احلقوقية جمتمعة فور االنتهاء من معاجلة‬
‫والتال�ؤم حا�رضة كمبادىء للإدماج نف�سه‪ ،‬منها‬
‫بنود در�س املادة احلاملة جمتمعة‪ .‬وهذه‬
‫ما ُي�ستقى من طبيعة منهاج املادة احلاملة‬
‫املعاجلة حتافظ على متا�سك عنا�رص الدر�س‬
‫ذاته‪ ،‬ومنها ما ميتد من �أبعاد منهاج حقوق‬
‫وعلى متا�سك عنا�رص املنظومة احلقوقية يف‬
‫الإن�سان وخ�صو�صياته‪ .‬لذلك كان التطبيق‬
‫نف�س الآن‪( »...‬نف�س املرجع ال�سابق)‪.‬‬
‫اختبارا �أ�سا�سيا لهذه التجربة الفريدة‪ ،‬وكان على‬
‫كل منهاج وكل برنامج معني من املواد املذكورة‬ ‫لقد كان و�ضع هذه اخلطة �رضوريا من‬
‫وح�سب الأ�سالك التعليمية من جهة‪ ،‬وعلى‬ ‫�أجل تعبيد الطريق �أمام كل املخت�صني ح�سب‬
‫منهاج الرتبية على حقوق الإن�سان اخلا�ص‬ ‫املواد الدرا�سية املعنية من هيئة التفتي�ش وهيئة‬
‫واملندمج وال�شامل من جهة �أخرى؛ كان على‬ ‫التدري�س للقيام بعملية الإدماج با�ستح�ضار‬
‫كل منهم �أن ي�سري يف اجتاه الآخر ق�صد التفاعل‬ ‫املفاهيم ال�سابقة ووفق معايري م�ضبوطة‬
‫والتكيف ورمبا التطابق‪ ،‬من �أجل اعتماد الي�رس‬ ‫و�ضعت ملعدي اجلذاذات التطبيقية‪ ،‬وهي‬
‫واملرونة‪ ،‬ال التع�سف والإقحام‪.‬‬ ‫بطاقات بيداغوجية جت�سد خمتلف اخلطوات‬

‫‪75‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫�إفريقيا ال�سوداء‪ ،‬التدخل اال�ستعماري وجتارة‬ ‫‪ -3‬املحور الثالث‬
‫الرقيق»‪ ،‬مدة الإجناز �ساعتان‪.‬‬
‫مناذج للمعاينة والفهم‪ :‬من منطق النظرية �إىل‬
‫اجلذاذة الثانية‪ :‬يف مادة الفل�سفة‪،‬‬ ‫حكم الواقع‬
‫مب�ستوى الثانية ثانوي �آداب (ال�سنة الأوىل‬
‫�سي�أخذ هذا املحور طابع التطبيق‪،‬‬
‫باكلوريا حاليا)‪ ،‬يف مو�ضوع‪« :‬العـدالة»‪ ،‬مدة‬ ‫و�سيعر�ض جلذاذتني فقط من ما جمموعه‬
‫الإجناز �ساعتان‪.‬‬ ‫‪ 120‬جذاذة تطبيقية ملنهاج الرتبية على حقوق‬
‫الكفاية امل�ستهدفة يف كلتا اجلذاذتني هي‪:‬‬ ‫الإن�سان‪ ،‬و�ضعت يف كل املواد املعنية وملختلف‬
‫كفاية امل�ساواة وهي م�صاغة كالتايل يف املنهاج‪:‬‬ ‫الأ�سالك‪ ،‬مل تكن الأعداد املحددة لكل مادة‬
‫«التعامل مبرجعية امل�ساواة كمبد�أ ميثل �أ�سا�س‬ ‫مت�ساوية‪ ،‬بل اعتمد العدد اخلا�ص بكل مادة‬
‫احلقوق والواجبات و�أ�سا�س الكرامة الإن�سانية»؛‬ ‫على حمولتها املعرفية وقدرتها البيداغوجية على‬

‫امل�ستوى امل�ستهدف من هذه الكفاية‬ ‫التال�ؤم مع املنهاج اخلا�ص‪ ،‬وكذا على ا�ستمرار‬

‫هو امل�ستوى الأول يف كلتا اجلذاذتني‪ ،‬وهو‬ ‫تدري�سها عرب الأ�سالك‪.‬‬

‫م�صاغ يف املنهاج كالتايل‪« :‬معاجلة خمتلف‬ ‫َتدخَّ ل يف اختيار جمال اجلذاذتني‬


‫�أوجه الالم�ساواة من مرجعية الكرامة الإن�سانية‬ ‫الدرا�سي واملعريف‪ ،‬معيار املجال الثقايف‬
‫ومتطلبات ال�سلم االجتماعي»؛‬ ‫والتاريخي‪� ،‬أي �إمكانية الفهم الي�سري للم�ضامني‬

‫�أما القدرات املطلوب تنميتها ح�سب‬ ‫الرتباطها بالثقافة والتاريخ الإن�سانيني عامة‪.‬‬

‫املنهاج يف هذا امل�ستوى‪ ،‬فقد مت ا�ستهدافها‬ ‫اجلذاذة الأوىل‪ :‬يف مادة التاريخ‪،‬‬
‫ب�شكل خمتلف ما بني اجلذاذتني‪ ،‬ومت ذلك‬ ‫مب�ستوى ال�سابعة �أ�سا�سي (الأوىل �إعدادي حاليا)‪،‬‬
‫كالتايل‪:‬‬ ‫يف مو�ضوع‪« :‬العامل بني القرنني ‪ 13‬و ‪17‬م‪،‬‬

‫القدرات يف جذاذة الفل�سفة املوجهة‬ ‫القدرات يف جذاذة التاريخ املوجهة‬


‫�إىل تالمذة ال�سنة الأوىل باكالوريا‪:‬‬ ‫�إىل تالمذة ال�سنة الأوىل �إعدادي‪:‬‬
‫ • القدرة على و�ضع الذات مو�ضع الآخر؛‬ ‫• االجتاه نحو معرفة الآخر؛‬
‫ • القدرة على بناء الأحكام على عنا�رص‬ ‫• مالحظة الواقع االجتماعي يف بعده‬
‫مو�ضوعية؛‬ ‫الإن�ساين وحتليله؛‬
‫ • القدرة على التفكري يف العالقات االجتماعية‬ ‫ • �إخ�ضاع الأحكام امل�سبقة والنمطية للتفكري‬
‫والفح�ص النقدي لها‪.‬‬ ‫والتمحي�ص؛‬
‫ • حتليل الوثائق وا�ستخال�ص املعلومات‬
‫الأ�سا�سية؛‬
‫ • القدرة على التوا�صل واحلوار‪.‬‬

‫املختلفني �إال �أنهما ي�ستح�رضان بع�ض‬ ‫�أما امل�ضامني املعتمدة يف كلتا‬


‫امل�ضامني املتطابقة املن�صو�ص عليها عموما‬ ‫اجلذاذتني فمنبثقة من جماليهما املعرفيني‬

‫‪76‬‬
‫اجلذاذة الثانية فهو ن�ص فل�سفي لأر�سطو‬ ‫يف املنهاج �ضمن خانة امل�ضامني‪ ،‬و�إن‬
‫م�أخوذ عن الكتاب املدر�سي املقرر‪.‬‬ ‫كانت ت�ستدعى يف �سياقات خمتلفة‪ .‬وقد‬
‫ويف ما يخ�ص التقومي‪ ،‬فقد اعتمدت‬ ‫ا�ستعملت الن�صو�ص التمثيلية يف كلتا‬
‫اجلذاذتان على الف�صل بني التقومي اجلزئي‬ ‫اجلذاذتني‪ :‬ن�صان تاريخيان‪ ،‬الأول مناف‬
‫�أو املرحلي‪ ،‬والتقومي العام �أو الرتكيبي‪� .‬إال �أن‬ ‫حلقوق الإن�سان‪ ،‬من كتاب «جتارة الرق‬
‫االختالف يبقى حا�رضا بينهما بخ�صو�ص‬ ‫والرقيق» مل�ؤلفه جان هرني كالرك‪ ،‬والثاين‬
‫نوعية ا�ستثمار الر�صيد املعريف املكت�سب خالل‬ ‫و�صفي من كتاب «ت�رشيح جثة اال�ستعمار»‬
‫احل�صة الدرا�سية‪ .‬ويظهر ذلك كالتايل‪:‬‬ ‫مل�ؤلفه غي دوبو�شري‪� .‬أما الن�ص امل�ستعمل يف‬

‫يف جذاذة الفل�سفة املوجهة‬ ‫يف جذاذة التاريخ املوجهة‬


‫�إىل تالمذة ال�سنة الأوىل باكالوريا‪:‬‬ ‫�إىل تالمذة ال�سنة الأوىل �إعدادي‪:‬‬
‫هل تعترب ف�شل �أحد زمالئك يف الدرا�سة وجها‬ ‫تلخي�ص ت�صور امل�ستعمر للإفريقي‪ ،‬وا�ستخال�ص‬
‫من �أوجه الالم�ساواة ؟‬ ‫التف�سريات التي يعتمدها يف ذلك‪ ،‬والت�سا�ؤل‬
‫هل �سبق لك �أن وقعت �ضحية الالم�ساواة يف‬ ‫حول �صحة هذه التف�سريات‪ ،‬وتقدمي الأدلة‬
‫عائلتك ؟ كيف كان رد فعلك ؟‬ ‫التي ي�ستندون �إليها‪( ،‬توظيف امل�ضامني‬
‫�إذا حرمت يوما ما من ا�ستعمال اللغة التي‬ ‫املعرفية حول قدرة الإن�سان الإفريقي على‬
‫تعتربها �أ�سا�س هويتك‪ ،‬هل �ستعترب ذلك‬ ‫العطاء احل�ضاري)‬
‫وجها من �أوجه الالم�ساواة ؟ ب�أي معنى ؟‬ ‫ا�ستح�ضار �أمثلة عن بع�ض الرموز والأعالم‬
‫هل تنفيذ حكم الإعدام يف حق مرتكب‬ ‫والنجوم ال�سود (يف ال�سيا�سة‪ ،‬الريا�ضة‪ ،‬الفن)‬
‫جرمية القتل‪ٌ ،‬‬
‫فعل عادل ؟‬ ‫وتبادل الأفكار والتمييز بني �أهداف امل�ستعمر‬
‫احلقيقية واملربرات التي ي�سوقها‪ ،‬ويختم‬
‫مبطالبتهم بتحديد ر�أيهم يف هذه الأحكام‪،‬‬
‫ويف جتارة الرقيق‪ ،‬وبتحديد نوع احلق‬
‫الإن�ساين الذي يرف�ض التمييز ويقاومه‪.‬‬
‫�إرفاق اجلذاذة بتمارين هادفة لتقومي املكت�سب‬
‫املعريف وللتعرف على م�ؤ�رشات دالة على‬
‫اكت�ساب القدرات امل�ستهدفة وعلى منوها‪...‬‬
‫(�أنظر النموذج يف كتيب اجلذاذات ملادة‬
‫االجتماعيات بالتعليم الثانوي الإعدادي)‬

‫يف النزاع القائم يف تلك الو�ضعيات‪ ،‬واقرتاح‬ ‫يحدد املنهاج معايري التقومي بالن�سبة لهذا‬
‫حلول لها»‪.‬‬ ‫امل�ستوى يف ما يلي‪:‬‬
‫يت�ضح من هذه املقارنة ال�رسيعة والتطبيقية‬ ‫«ر�صد �أنواع الالم�ساواة من خالل‬
‫ملنهاج الرتبية على حقوق الإن�سان‪� ،‬أن االجتهاد‬ ‫و�ضعيات اجتماعية خمتلفة‪ ،‬وحتديد دورها‬

‫‪77‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫حولها‪ ،‬ويف ربط ج�سور جديدة للتوا�صل بني‬ ‫الرتبوي والبيداغوجي حا�رض يف هذه التجربة‪،‬‬
‫�أطر الرتبية والتدري�س يف جمال �إن�ساين نبيل‬ ‫و�أن تطوير املهارات و تنمية القدرات و�إك�ساب‬
‫ولأجل تن�شئة مواطنة ووطنية‪ .‬ولكنها ككل‬ ‫الكفايات مل تكن تتجه فقط �إىل التلميذ(ة)‪ ،‬بل‬
‫جتربة تربوية ال ميكن �أن تكتفي بذاتها �أو تغلق‬ ‫تتجه �أي�ضا �إىل املدر�س(ة)‪ ،‬لأن متطلبات املنهاج‬
‫عليها‪ ،‬بل �إن الأ�سئلة املفتوحة التي رافقتها‬ ‫اجلديد والثقافة التي ينهل منها تقت�ضي وعيا‬
‫وال زالت تالزمها‪ ،‬عالم ٌة قوية على حيويتها‬ ‫عميقا بدور الرتبية وبدور التجديد البيداغوجي‪،‬‬
‫وعلى �رضورة جتديدها وفتح �آفاق �أخرى �أكرث‬ ‫كما تقت�ضي �أدوات مالئمة وا�ستعدادا �صلبا‬
‫رحابة وات�ساعا‪ ،‬خا�صة والتعليم املغربي يعرف‬ ‫للدخول �إىل هذه التجربة الغنية وال�صعبة‪ .‬ف�إذا‬
‫حاليا دينامية الإ�صالح ال�شامل ملنظومة الرتبية‬ ‫كانت النظرية البيداغوجية قد جت�سدت يف‬
‫والتكوين طبق مقت�ضيات امليثاق الوطني الذي‬ ‫منهاج له منطقه ومتا�سكه‪ ،‬ف�إن حكم الواقع‬
‫ين�ص على �رضورة احرتام احلقوق الواجبات يف‬ ‫الذي يطبق فيه ميكن �أن يكون غالبا �إذا مل‬
‫الو�سط املدر�سي وال�سلوك وفق قيمها الإن�سانية‪.‬‬ ‫يكن اال�ستعداد لدى هيئة التدري�س‪ ،‬ومل تكن‬
‫الأدوات املنا�سبة بني �أيديها‪ ،‬ومل يكن الوعي‬
‫بال�رضورة احل�ضارية والتنموية للرتبية على حقوق‬
‫الإن�سان حا�صال‪ .‬ولقد و�ضع الربنامج الوطني‬
‫يف ا�سرتاتيجيته برامج للتكوين مت �إجنازها وفق‬
‫مقاربة مبتكرة‪ ،‬و�أجنز وثائق كدالئل وم�صنفات‬
‫م�ساعدة على اكت�شاف ومعرفة جمال حقوق‬
‫الإن�سان‪ ،‬ومل تكن تلك الإجنازات �إال لت�أهيل‬
‫الواقع التعليمي و�إعداده لتعزيز �أكرب لثقافة حقوق‬
‫الإن�سان‪ ،‬حتى ال ت�صطدم الأعمال والأدوات‬
‫البيداغوجية املجددة مبا ميكن �أن يعرقل ت�أثريها‬
‫�أو �أن يح�رص �إ�شعاعها‪.‬‬

‫على �سبيل اخلال�صة‬


‫�إن التجربة البيداغوجية التي مت عر�ض‬
‫بع�ض عنا�رصها‪ ،‬جتربة انبثقت يف خ�ضم‬
‫حتوالت �سيا�سية واجتماعية و�إ�صالحات‬
‫تعليمية‪ ،‬وميكن اعتبارها انطالقا من ذلك‬
‫غنية ورائدة‪ ،‬يتجلى غناها يف قوة االجتهاد‬
‫الذي �أنتجها‪ ،‬ويف التجاوز امل�ستمر حل�صار‬
‫الأ�سئلة والإ�شكاليات‪� .‬أما ريادتها فتظهر من‬
‫خالل جدة املفاهيم وجر�أة الطرح واملقاربة‪ ،‬ويف‬
‫اقتحام احلواجز التي ترفعها كل مادة درا�سية‬

‫‪78‬‬
‫الدار البي�ضاء ‪:‬‬
‫املدر�سة واملدينة‪ ،‬جتربة �إبداع متميزة‬
‫خديجة بن�شويخ‬
‫مديرة الأكادميية اجلهوية للرتبية والتكوين‬
‫بالدار البي�ضاء‬

‫الفكري والأخالقي لدى �شبابنا لكي يبني �أدوات‬ ‫مدينة الدار البي�ضاء ف�ضاء عي�ش غني‬
‫تتيح له التفكري يف وجوده الفردي‪ ،‬واجلماعي‪،‬‬ ‫مب�ضمونه احل�رضي‪ ،‬وتعقده االجتماعي‪ ،‬ومداه‬
‫وما يرتبط به من �أ�سئلة �أ�سا�سية‪.‬‬ ‫الرمزي‪ .‬هذا البعد احل�رضي البارز يف مدينة الدار‬
‫تعميقا لهذه العالقة بني املدر�سة‪ ،‬واملدينة‪،‬‬ ‫البي�ضاء يعني ارتباط ف�ضائها مبرجعية احلياة‬
‫بني الف�ضاء الرتبوي‪ ،‬والف�ضاء احل�رضي‪� ،‬أطلقت‬ ‫العامة‪ ،‬مبا حتمله من قيم العي�ش امل�شرتك‪ .‬وهو‬
‫الأكادميية اجلهوية للرتبية والتكوين خالل ال�سنة‬ ‫بعد تربوي �أي�ضا‪� ،‬إذ ي�ضع املواطن �أمام �رضورة‬
‫الدرا�سية ‪ 2011-2010‬تظاهرة «الدار البي�ضاء‪،‬‬ ‫بناء عالقات تقوم على االلتزام بقيم املواطنة‪� ،‬أي‬
‫مدينة للحياة والإبداع»‪ ،‬وهي تظاهرة ثقافية‬ ‫بقيم االنتماء لف�ضاء يتحدد مبعايري امل�س�ؤولية‬
‫وتربوية �سعت من خاللها �إىل خلق منا�سبة‬ ‫اجلماعية‪ ،‬والفردية‪.‬‬
‫لالحتفاء‪ ،‬والتفكري‪ ،‬والإبداع‪ ،‬تظاهرة ت�ؤ�س�س‬
‫والأكادميية اجلهوية للرتبية والتكوين جلهة‬
‫ملمار�سة تربوية تتميز بالعمق واال�ستمرارية‪ .‬وقد‬
‫الدار البي�ضاء الكربى‪ ،‬بو�صفها فاعال �أ�سا�سيا‬
‫اكت�ست �أبعادا ثالثة �أردنا �أن جت�سد غنى العالقة‬
‫يف احلياة العمومية للمدينة‪ ،‬تقع يف �صميم‬
‫بني املدينة وامل�ؤ�س�سة املدر�سية‪:‬‬
‫املمار�سة املواطنة التي على امل�ؤ�س�سات العمومية‬
‫ • بعد تربوي؛ جتلى يف خلق �سياق‬ ‫النهو�ض بها‪ .‬وهذه امل�س�ؤولية تزداد �أهمية بالنظر‬
‫تربوي م�ؤ�س�سي يجرب فيه التلميذ‪ ،‬والتلميذة‬ ‫للموقع التي حتتله الأكادميية يف جمال الرتبية‪،‬‬
‫داللة القيم مبعناها الأخالقي‪ ،‬واملواطني‪،‬‬ ‫وت�أهيل الأطفال وال�شباب لالنخراط يف حياة‬
‫واجلمايل‪ ،‬وي�شتغالن على بنائها كمعايري تتحكم‬
‫مهنية‪ ،‬واجتماعية على نحو فاعل‪ ،‬وم�س�ؤول‪.‬‬
‫يف عالقة الفرد مع ذاته‪ ،‬ومع الآخرين‪،‬‬
‫من ثمة‪ ،‬كان ال بد من بناء عالقات تفاعل بني‬
‫ • بعد ثقايف؛ يتج�سد يف اخلو�ض يف‬ ‫املدر�سة‪ ،‬واملدينة‪ ،‬تفاعل يج�سد انتماء ف�ضاء‬
‫�أ�شكال من التفكري‪ ،‬والإبداع تتعلق مبعي�ش‬ ‫الرتبية والتعليم لف�ضاء �أ�شمل هو ف�ضاء العي�ش‬
‫الفرد‪ ،‬واجلماعة‪ ،‬وتتيح حرية ال�س�ؤال‪ ،‬والتناول‪،‬‬ ‫امل�شرتك‪ ،‬فالتعلم‪� ،‬إن مل يكن يف بعد �أ�سا�سي‬
‫ • بعد ح�رضي؛ متثل يف ربط عالقة‬ ‫منه جتربة تفكري‪ ،‬وت�أمل يف املعي�ش الفردي‪،‬‬
‫فاعلة بني التلميذ‪ ،‬واملجال احل�رضي بدالالته‬ ‫واجلماعي ويف �سياقاته االجتماعية واملواطنية‪،‬‬
‫االجتماعية‪ ،‬وامل�ؤ�س�سية‪ ،‬والإن�سانية‪ ،‬ذلك �أن‬ ‫ف�إنه يظل قا�رصا عن خلق ذلك اال�ستعداد‬

‫‪79‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫وامل�ؤ�س�سية‪ ،‬والرمزية التي متنح للحياة داخل‬ ‫منو املدينة ال ميكن �أن يتم مبعزل عن انخراط‬
‫املدينة طبيعتها اخلا�صة‪ .‬وهو �س�ؤال يتعلق‬ ‫املواطن الذي ي�ستطيع �إدراك لغات الف�ضاء‬
‫�أي�ضا بكيفية تهييىء الفرد لتحمل م�س�ؤولية‬ ‫احل�رضي والتجاوب معها‪.‬‬
‫القيم التي ي�ستطيع بناءها كفرد م�س�ؤول وكع�ضو‬ ‫متثلت تظاهرة «الدار البي�ضاء‪ ،‬مدينة‬
‫يف جماعة تنتظم وفق قواعد وتعاقد‪ .‬واخلطوة‬ ‫للحياة‪ ،‬والإبداع» يف �أن�شطة �أطرها الأطر‬
‫الأوىل التي على املدر�سة �أن تر�سم معاملها يف هذا‬ ‫الرتبوية للأكادميية على م�ستوى امل�ؤ�س�سات‬
‫الأفق هي جعل الف�ضاء احل�رضي يف متناول‬ ‫التعليمية‪ ،‬ويف ف�ضاءات ثقافية‪ ،‬وتربوية �أخرى‬
‫التلميذ كمو�ضوع للتفكري‪ .‬هذا التقريب للمدينة‬ ‫�شكلت امتدادا للف�ضاء املدر�سي‪ ،‬و�إغناء له‪ .‬وقد‬
‫من �أطفالها ميكن التلميذ من االقرتاب من عامل‬ ‫حر�صنا على �أن تتوزع �أ�شكال الإنتاج الفكري‪،‬‬
‫يبدو للوهلة الأوىل غام�ضا وجمهوال‪.‬‬ ‫والإبداعي على املكتوب‪ ،‬وال�صورة‪ ،‬والت�شكيل‪.‬‬
‫ولعل هذا امل�رشوع يحمل يف طياته رغبة‬ ‫وقد �أدى انخراط امل�ؤطرين‪ ،‬والتالميذ‪ ،‬والتلميذات‬
‫�أخرى ال تقل �أهمية عن تلك االعتبارات التي‬ ‫يف هذا امل�رشوع الإبداعي على نحو مكن اجلميع‬
‫حتدثنا عنها‪ ،‬الرغبة يف جعل مدينة بحجم‬ ‫من ر�صد ق�ضايا‪ ،‬و�أ�سئلة‪ ،‬وم�شاهد‪ ،‬وتناولها يف‬
‫وتعقد الدار البي�ضاء ت�ستطيع �إدماج �أبنائها‪.‬‬ ‫�صيغ متيزت باحلرية يف التفكري‪ ،‬والتعبري‪.‬‬
‫ومن الأكيد �أن اندماج ال�شباب يف حميطهم‬ ‫ولعل النجاح الذي حققته التظاهرة‪ ،‬و�شعر‬
‫يهم املدينة كتنظيم وم�ؤ�س�سات ح�رضية‪ ،‬لكنه‬ ‫به التالميذ‪ ،‬والتلميذات يحمل معنى �أ�سا�سيا هو‬
‫يعني بنف�س القدر امل�ؤ�س�سات التي تلعب دور‬ ‫قدرة املدر�سة على فتح �آفاق احلياة بدالالتها‪،‬‬
‫الرتبية‪ ،‬والإعداد للحياة اجلماعية‪ ،‬و�أولها‬ ‫و�أبعادها املتعددة‪ ،‬و�أن هذا االنفتاح ال يتم‬
‫امل�ؤ�س�سة املدر�سية‪.‬‬ ‫دون الوقوف على الق�ضايا‪ ،‬والأ�سئلة الفعلية‬
‫كيف نعي�ش املدينة يف حياتنا اليومية؟‬ ‫التي يواجهها التالميذ‪ ،‬والتلميذات يف وجودهم‬
‫وكيف ندركها ؟ هل نعي�شها كف�ضاء ومو�ضوعات‬ ‫اليومي‪ ،‬ودون اعتبار رغباتهم‪ ،‬و�أحالمهم‪،‬‬
‫خارجية �أم كمكون لذواتنا ؟ كم�رسح جتري فيه‬ ‫وخماوفهم‪.‬‬
‫وقائع �أمام نظرنا‪� ،‬أم كعالقات تربط بني �أفراد‬ ‫�إن ال�شعور الإن�ساين الب�سيط ب�رشوط‬
‫وجماعات ؟ هذه الأ�سئلة لي�ست تلقائية‪ ،‬وال بد‬ ‫الوجود مع الآخرين ال يكون دافعا لبناء ت�صور‬
‫لها من منطلق يجعلها قابلة للبناء‪ .‬واملمار�سة‬ ‫عقلي يقوم على مبادئ‪ ،‬وقيم تنظم ذلك الوجود‪،‬‬
‫الإبداعية‪ ،‬والت�أملية هي املجال الأمثل خللق‬ ‫�إال �إذا توفرت �إمكانيات الت�سا�ؤل ال�صادق‪،‬‬
‫تلك النظرة التي تنقل الفرد �إىل متلك هذا الف�ضاء‬ ‫والنابع من خربة الذات‪ ،‬ومتكن كل واحد من‬
‫وا�ستدماج �إ�شاراته‪ ،‬ورموزه‪ ،‬ودالالته‪ ،‬واكت�شاف‬ ‫خلق فر�ص بناء خطاب قادر على حتويل الواقع‪،‬‬
‫البعد احل�رضي الذي تخفيه النظرة االعتيادية‪،‬‬ ‫والتجربة �إىل مو�ضوعات ميكن التداول حولها‪،‬‬
‫وال�سطحية‪ ،‬والذي يدل يف هند�سته‪ ،‬ومعماره‪،‬‬ ‫و�إخ�ضاعها للحكم‪ .‬وجتربة الإبداع كما �أرادتها‬
‫وقوانينه على هذا البعد الأ�سا�سي لدى الإن�سان‪.‬‬ ‫�أكادميية الدار البي�ضاء تتعلق يف عمقها بالت�سا�ؤل‬
‫�أية ح�صيلة لهذه التجربة الإبداعية ؟ ومن‬ ‫عن معنى املدينة‪� .‬إن ال�س�ؤال «ما هي املدينة ؟»‬
‫�أي منظور ينبغي النظر �إليها ؟ ب�إمكاننا القول‬ ‫يوجهنا نحو التفكري يف املحددات ال�سيا�سية‪،‬‬

‫‪80‬‬
‫من هذه التجربة حلظة �أوىل تكون اللحظات‬ ‫�إن الأعمال التي �أجنزها التالميذ‪ ،‬والتلميذات‪،‬‬
‫الآتية حلظات ن�ضج‪ ،‬وتطوير نحو بناء م�رشوع‬ ‫ي�ؤازرهم يف ذلك م�ؤطرون تربويون تبنوا روح‬
‫يكون جماال تعرب فيه قيم احلياة امل�شرتكة عن‬ ‫امل�رشوع‪ ،‬وانخرطوا فيه‪ ،‬هي عالمة �أوىل �سيكون‬
‫نف�سها‪.‬‬ ‫علينا يف الأكادميية �أن نحولها �إىل �سريورة‬
‫�شكرا لتالميذنا وتلميذاتنا لكونهم �أعادوا‬ ‫تر�سخها املدر�سة‪ ،‬وتغني عمقها الرتبوي‪ ،‬وتتبناها‬
‫ت�شكيل هذه الف�ضاءات عرب �أحالمهم ورغباتهم‬ ‫املدينة لت�ؤكد جوهرها املواطن‪ .‬واملدينة كما ننظر‬
‫وانتظاراتهم‪� ،‬شكرا للأ�ساتذة والأ�ستاذات‬ ‫�إليها هي جمموع الفاعلني الذين ت�ستمد املدينة‬
‫الذين رافقوا هذه اللحظات الت�أملية و�ساعدوا‬ ‫من فعاليتهم وجودها وقيمتها‪ ،‬م�س�ؤولون عن‬
‫يف منحها �شكال ودالالت ت�ستدعي �إن�صاتنا‬ ‫م�ؤ�س�سات املدينة‪ ،‬فاعلون اقت�صاديون‪ ،‬جمعويون‬
‫وانتباهنا‪.‬‬ ‫يعملون على تثمني ذاكرة املدينة‪ ،‬وحا�رضها‪،‬‬
‫و�صنع م�ستقبلها‪ ،‬فنانون تبنوا ف�ضاءات املدينة‪،‬‬
‫و�أبدعوا جماليتها‪� .‬سيكون علينا جميعا �أن جنعل‬

‫‪81‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫ترجـمـة‬
‫(‪)1‬‬
‫العلم واملواطنة ‪�:‬أي عالقات و�أي رهانات؟‬
‫برتراند كوملب‬
‫(ترجمة بت�صرف)‬
‫م�صطفى كاك‬
‫مفت�ش تربوي ملادة الفل�سفة‬

‫ما مييز عامل اليوم هو الت�أثري البالغ للعلم والتكنولوجيات على احلياة املعا�رصة‪ ،‬وحجم‬
‫التغريات التي م�ست املجتمعات‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ف�إن الأ�ساليب املعتمدة يف الأنظمة الدميقراطية جتد‬
‫�صعوبة يف التال�ؤم مع هذه التغريات‪ .‬فالعامل الذي نعي�ش فيه اليوم مطبوع بال�شمولية والتوا�صل‬
‫اللحظي‪ ،‬وبن�رش املعرفة وبالتغريات ال�رسيعة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬مل جتد الدول الأوربية منوذجا �أح�سن من‬
‫منوذج الدولة الأمة‪ ،‬كما مت حتديده يف معاهدات و�ستفايل عام ‪ ،1648‬التي �أر�ست فكرة التوازن‬
‫الدويل‪ ،‬كما مل جتد �أح�سن من نظام للحكم غري منط احلكومة التمثيلية‪ ،‬وهو منط ظهر ب�إجنلرتا‪،‬‬
‫ومت حت�سينه من طرف الآباء امل�ؤ�س�سني للواليات املتحدة الأمريكية عام ‪.1876‬‬

‫لقد �أكد الفيل�سوف الأمريكي جون ديوي‪ ،‬ع�شية بدء احلرب العاملية الثانية‪ ،‬على �رضورة‬
‫�إعادة ت�أ�سي�س الدميقراطية‪ .‬كما �سجل‪ ،‬بعد ذلك‪� ،‬أن الإمكان الب�رشي‪ ،‬يف ع�رص العلم وال�صناعة‪،‬‬
‫�سيكون هو من يعاين الإهمال‪ ،‬ولي�س الأرا�ضي التي مل حترث بعد‪ .‬ويف هذا ال�سياق يقول ديوي‪:‬‬
‫«�إن املوارد التي مل ت�ستعمل بعد �ستكون هي املوارد الب�رشية ولي�س املادية»‪.‬‬

‫ويتبني من النقا�ش العمومي حول مكانة العلم‪� ،‬أن املفكرين والفال�سفة‪ ،‬وهم يبحثون عن‬
‫تعريف جديد للدميقراطية احلقيقية‪ ،‬ما زالوا يعيدون تعريف الأغورا (�ساحة احلوار) الأثينية‪ .‬فالأمر‬
‫يوحي‪ ،‬داخل هذا العامل ال�شمويل حيث التوا�صل عن بعد يف �أوج تطوره‪ ،‬كما لو �أن �رشوط احلوار‪،‬‬
‫والت�ضامن‪ ،‬والتناظر‪ ،‬وامل�ساواة‪ ،‬وهي �رشوط �رضورية للنقا�ش الدميقراطي احلقيقي‪ ،‬ال ميكن �أن‬
‫تتحقق �إال يف دميقراطية القرب من النمط الأثيني‪ .‬هذه النتيجة تبدو اليوم غري مقبولة‪ ،‬بقدر ما‬
‫�أن العودة �إىل الأغورا الأثينية ال ميكن �أن تن�سجم مع عاملنا الراهن‪ .‬غري �أن هذا النقا�ش الدائر حول‬
‫الدميقراطية‪ ،‬يك�شف �إىل �أي حد غريت التطورات التكنولوجية‪ ،‬مفهوم الدميقراطية ذاته‪ ،‬ومن ثم‬
‫مفهوم املواطنة‪.‬‬

‫�أول نتيجة لتطور العلم والتكنولوجيات رمبا هي الت�أكيد على �رضورة الرتبية‪ .‬فال ميكن فعال‬
‫تكوين مواطنني يف جمتمع حديث �إذا مل ن�صل �إىل م�ستوى كاف من الرتبية‪� .‬إن فهم العامل الذي‬
‫نحيا داخله ال ميكن �أبدا �أن يتم بوا�سطة تعلم يعتمد الرتاكم لوحده‪ ،‬وال على تقليد من �سبقونا‬

‫‪ -1‬ت�شكل هذه املقالة ترجمة وتركيبا لأبرز عنا�رص املحا�رضة التي �ألقاها الأ�ستاذ برتراند كوملب ‪ ،Bertrand collomb‬رئي�س معهد‬
‫الدرا�سات العليا من �أجل العلم والتكنولوجيا‪ ،‬بتاريخ ‪� 26‬أكتوبر ‪ ،2010‬وذلك مبقر وزارة التعليم العايل والبحث بفرن�سا‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫فقط‪ .‬هذا الإقرار بديهي متاما بحيث يبدو من غري ال�رضوري الوقوف عنده‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ف�إن �إجبارية‬
‫الرتبية يف عاملنا الراهن مل تدرك بكيفية بديهية‪ .‬فهناك الكثري من البلدان التي ال تعطي للرتبية‬
‫الأولوية التي ت�ستحقها‪ .‬فبع�ض البلدان الأ�سيوية مثل اليابان‪ ،‬وكوريا‪ ،‬وال�صني‪� ،‬إمنا �أقامت جناحها‬
‫على جهود‪ ،‬وقرو�ض �ضخمة‪ ،‬ومتفوقة‪ .‬لكن بلدانا �أخرى‪ ،‬تعترب بلدانا نامية مع ذلك‪ ،‬مثل الربازيل‪،‬‬
‫والهند‪� ،‬أو �أحيانا بلدانا غنية‪ ،‬مثل دول اخلليج العربي املنتجة للبرتول‪ ،‬هذه البلدان لديها �أنظمة‬
‫تربوية متنافرة متاما‪ ،‬و�أبعد ما تكون عن حتقيق �أهداف الرتبية جلميع النا�س‪ .‬وحتى يف الواليات‬
‫املتحدة‪ ،‬التي تتوفر على نظام جد متميز للتعليم العايل‪ ،‬فما زال املرء ي�صطدم بالفكرة التي تقول‬
‫�إن التعلمات الأ�سا�سية‪ ،‬وهي القراءة‪ ،‬والكتابة‪ ،‬واحل�ساب‪ ،‬كافية للو�صول �إىل النجاح‪ ،‬وبالتايل‪،‬‬
‫ال داعي لتعلم �أ�شياء كثرية‪ .‬ويف �إطار هذا التقليد الأمريكي‪ ،‬جند الأن�شطة املقاوالتية‪ ،‬واملبادرة‬
‫حتل حمل النق�ص احلا�صل يف املعارف‪� .‬أما يف فرن�سا‪ ،‬ف�إن النظام التعليمي‪ ،‬الذي كان يف و�ضعه‬
‫النخبوي جيدا‪ ،‬يعاين اليوم من عدم القدرة على التال�ؤم مع تعليم جماهري‪ ،‬ومع التباين املتنامي‬
‫بني مكونات املجتمع الفرن�سي‪ .‬واملالحظ ب�صفة عامة �أن جميع البلدان امل�صنعة تقريبا‪ ،‬تتجه نحو‬
‫املزيد من النفور �إزاء الدرا�سات العلمية‪.‬‬

‫�إن تطور تقنيات التوا�صل‪ ،‬و�إن كان يحمل �إمكانيات هائلة لبلوغ املعارف‪ ،‬ف�إنه ميكن �أن‬
‫يخلق الوهم ب�أن فهم الظواهر قد �أ�صبح عدمي الفائدة‪ ،‬مادام �أنه مبجرد نقرة على الآلة ميكن‬
‫احل�صول على اجلواب لكل �س�ؤال يطرح‪ .‬و�أكرث الأمور �إزعاجا‪ ،‬هو �أن الأجهزة الرقمية تكاد حتدث‬
‫هوة كبرية بني من لديهم القدرة على الو�صول �إىل هذه املعرفة الآلية ويتحكمون يف هذه التقنيات‬
‫وبني الآخرين‪ .‬و�أبرز مثال على ذلك هو النقا�ش الذي يدور حول املناخ‪� ،‬إذ يبدو من البديهي �أنه‬
‫ي�ستحيل مناق�شة التغريات املناخية �إذا مل نكن قادرين على تف�سري الظواهر الطبيعية‪� ،‬أو كنا ما نزال‬
‫ننظر �إىل الرعد على �أنه تعبري عن غ�ضب الآلهة‪ .‬كما يظهر من النقا�ش اجلاري بالواليات املتحدة‬
‫حول نظرية التطور‪� ،‬أن الو�ضع �شبيه مبا يدور حول ق�ضايا املناخ‪ .‬وال�س�ؤال املطروح اليوم هو كيف‬
‫جنعل �أبناءنا يفهمون التغيري الذي �أحدثه العلم والتكنولوجيا يف ت�صورنا للعامل‪ ،‬بل �أكرث من ذلك‪،‬‬
‫وب�صفة خا�صة‪ ،‬كيف نحبب �إليهم تعميق التعلم العلمي والتقني ؟‬

‫ال يفر�ض العلم فقط على املواطن القيام باجلهد الالزم لإدراك الإمكانيات التي يوفرها‬
‫وا�ستخال�ص النتائج‪ ،‬بل يقدم للإن�سانية �إمكانيات مراقبة بيئتها‪ ،‬ومراقبة النوع الب�رشي ذاته‪ ،‬وذلك‬
‫يف �أح�سن الأحوال كما يف �أ�سوئها‪ .‬وال ميكن للإن�سان االكتفاء بالعي�ش حمليا‪ ،‬واالن�شغال فقط‬
‫مبا يراه ومبا يح�سه مبا�رشة‪� .‬إن عمله املحلي �ستكون له نتائج كونية مت�س التوازنات العامة لهذا‬
‫الكوكب‪ ،‬وهي توازنات �أحيانا غري م�ستقرة‪� ،‬أو مهددة‪ .‬وفوق ذلك‪� ،‬سيعطي العلم للإن�سان �إمكانية‬
‫خللق الكائن احلي‪� ،‬إمكانية ما تزال حلد اليوم جمهولة‪ .‬و�أخريا‪ ،‬ف�إن العلم �سيتيح للإن�سان الت�أثري‬
‫يف ن�ش�أته هو بالذات ويف تطور النوع الذي ينتمي �إليه‪ .‬واحلالة هذه‪ ،‬ف�إن العلم‪ ،‬و�إن كان يقدم‬
‫اجلواب على �س�ؤايل ماذا وكيف‪ ،‬ف�إنه ال يجيب على �س�ؤايل ملاذا و�إىل �أي حد‪.‬‬

‫و�إذا كنا نود تربية املواطن‪ ،‬فذلك بطبيعة احلال لي�س لأجل �أن ي�صري �أداة يف خدمة قوة ال‬
‫ميلك زمامها‪ ،‬و�إمنا لكي يتمكن من �أخذ القرار الفردي واجلماعي بخ�صو�ص كيفية ا�ستعمال هذا‬

‫‪85‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫الإمكان‪ ،‬وحتديد الغاية‪ ،‬ومعرفة احلدود‪ .‬هذا النقا�ش اجلماعي �صعب جدا‪ ،‬كما ت�شهد على ذلك‬
‫املناق�شات الدائرة حول تكنولوجيا النانو يف فرن�سا‪ .‬وميكن فح�ص الكيفية التي يجب اعتمادها يف‬
‫�إدارة النقا�ش حول العلم وا�ستعماالته‪ .‬ويبدو �أن �أمثلة من �أمريكا‪ ،‬واجنلرتا‪ ،‬ت�شري �إىل �أن النقا�شات‬
‫غري املمركزة‪ ،‬والتلقائية‪ ،‬واملدعمة ب�أعمال جامعية ممهدة‪ ،‬تكون �أكرث فعالية بخ�صو�ص هذا املو�ضوع‬
‫من تلك البناءات العقالنية التي ت�ضعها الدولة لتنظيم النقا�ش العمومي ال�ضخم‪.‬‬

‫و�إذا كانت �رشعية املواطن يف املناق�شة‪ ،‬ويف اتخاذ القرار اجلماعي ب�ش�أن ا�ستعماالت العلم‪،‬‬
‫لي�ست مو�ضوع جدال‪ ،‬ف�إنه لي�س من البديهي القول �إن للمواطن وحده ال�رشعية يف اتخاذ القرار يف‬
‫م�صري العلم‪ ،‬و�أن من حقه �أن يقف حجر عرثة �أمام تقدم املعرفة العلمية‪ .‬يعتقد بع�ض النا�س �أن العلم‬
‫واقعة اجتماعية مثل �سائر الوقائع تخ�ضع للت�أثريات‪ ،‬واالختالفات الثقافية للمجتمعات‪ .‬وبالتايل‬
‫مييل ه�ؤالء �إىل �إنكار القدرة على الو�صول �إىل حقيقة علمية م�ستقلة عن الت�أثريات الثقافية‪� ،‬أو عن‬
‫رهانات ال�سلطة القائمة يف تلك اللحظة‪.‬‬

‫من امل�ؤكد �أن تفكري العلماء لي�س دائما م�ستقال عن الأفكار الفل�سفية‪ ،‬بل والدينية لع�رصهم‪.‬‬
‫ذلك �أن هذه الأفكار ت�ستطيع توجيه العلماء نحو جماالت معينة للبحث فيها‪ ،‬كما ميكنها �أن‬
‫توجه طريقتهم يف و�صف الظواهر‪ .‬ولإدراك ذلك يكفي قراءة ن�صو�ص علمية من حقب خمتلفة‪.‬‬
‫ومع ذلك ف�إن املعرفة العلمية ذاتها‪ ،‬وبف�ضل املواجهة التي تفر�ضها بني فكرة‪ ،‬وواقع ميكن مالحظته‪،‬‬
‫ت�ستطيع مبدئيا التغلب على هذه الن�سبية‪ .‬فاملعرفة العلمية تخلق واقعا مو�ضوعيا يخ�ضع له‬
‫اجلميع‪ ،‬مهما اختلفت الثقافات‪ ،‬واملعتقدات‪ .‬ولهذا ال�سبب كان العلم دائما منا�سبة للتقارب بني‬
‫�أنا�س لهم �آفاق‪ ،‬و�أراء خمتلفة‪.‬‬

‫ت�ستطيع اجلماعة العلمية املتخ�ص�صة يف جمال معني �أن تتعاىل على احلدود الوطنية‪� ،‬أو‬
‫اخل�صومات‪ .‬وهذا �أمر �صحيح دائما كما ت�شهد على ذلك التبادالت التي متت بني العلماء الإغريق‪،‬‬
‫والعرب‪ ،‬والأوربيني‪ .‬وقد كان هذا �صحيحا �أي�ضا �أثناء احلرب الباردة‪ ،‬حيث ا�ستطاع العلماء‪ ،‬عرب‬
‫�ستار حديدي‪� ،‬أن يتحاوروا فيما بينهم‪ ،‬ما مل تتدخل ال�سلطة ال�سيا�سية لتمنع ذلك‪ .‬وهذا �صحيح‬
‫�أكرث الآن‪� ،‬إذ ال ينبغي �أن نن�سى �أن الأنرتنيت قد تطورت �أوال ا�ستجابة حلاجيات اجلامعات‪ ،‬ولي�س‬
‫لأجل املقاوالت‪� ،‬أو اجلمهور العري�ض‪.‬‬

‫يقول جون ديوي �إن املعرفة بالأ�شياء كما هي‪ ،‬تعترب القاعدة الوحيدة‪ ،‬وال�صلبة للتوا�صل‪،‬‬
‫والتقا�سم‪ .‬وكل توا�صل �آخر‪� ،‬إمنا يقوم بربط ما يقرتحه بع�ض الأ�شخا�ص ب�آراء لأ�شخا�ص �آخرين‪ .‬ومن‬
‫املهم الإقرار �أن املعرفة العلمية‪ ،‬حتى تلك التي بنيت على �أ�سا�س �صلب‪� ،‬إمنا تعترب على الدوام معرفة‬
‫م�ؤقتة‪ .‬ذلك �أن نظرية قادرة على الإحاطة بالواقع عند م�ستوى معني‪ ،‬وداخل �إطار حمدد‪ ،‬مثل‬
‫هذه النظرية ميكن دوما الت�شكيك فيها الحقا‪ .‬وميكن �أن ي�ستنتج البع�ض من ذلك �أن النظرية كانت‬
‫خاطئة‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬ال توجد حقيقة علمية‪ .‬لكن مع ذلك هل ميكننا �أن نقول �إن نيوتن كان خمطئا يف‬
‫كل �شيء‪ ،‬لأن �إن�شتاين �أدخل فيما بعد نظرية الن�سبية ؟ �إن القوانني التي تتحكم يف �سقوط التفاحة ما‬
‫تزال �صاحلة لدى من ت�سقط على ر�أ�سه‪ ،‬رغم �أن الأمر ي�صبح �أكرث تعقيدا يف �إطار مغاير‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫تك�شف هذه املناق�شات �أننا ال ن�ستطيع �إدراك طبيعة احلقيقة العلمية �إذا ركزنا فقط على‬
‫النتائج‪ .‬ففكرة الو�صول �إىل املعرفة العلمية بوا�سطة «الأنرتنيت»‪ ،‬حيث تكفي نقرة للح�صول على‬
‫النتيجة‪ ،‬فكرة غري جمدية‪ ،‬لأننا ال ن�ستطيع �إدراك طبيعة احلقيقة العلمية بدون �أن نفهم الطريقة‬
‫املتبعة‪ .‬فال ميكن تثمني �أهمية وقيمة العلم دون �أن نقطع معه جزء من الطريق الذي قطعه‪ .‬ويف‬
‫هذا الإطار‪� ،‬سيكون من املهم تعليم تاريخ العلوم‪ ،‬ولي�س فقط تعليم الو�ضع الذي و�صل �إليه‪ .‬ومن‬
‫املحتمل �أن ي�شكل هذا تقدما عظيما يجب حتقيقه يف �أنظمتنا الرتبوية‪.‬‬

‫لقد �أدى �إنكار احلقيقة العلمية‪ ،‬والت�أكيد على طابعها الن�سبي بالبع�ض �إىل اعتبار �أن‬
‫�سريورات جمتمع دميقراطي وحدها ت�سمح ب�إقامة حقيقة اللحظة‪ .‬وهذا يعني ا�ستبدال ال�سريورة‬
‫العلمية ب�سريورة اجتماعية دميقراطية‪ .‬ويف هذا �شيء من اللب�س اخلطري جدا الذي �سيعيدنا �إىل‬
‫ع�صور الظالم‪ .‬فال�سريورات االجتماعية‪ ،‬حتى داخل نظام دميقراطي‪ ،‬تخ�ضع للمعتقدات اجلماعية‪،‬‬
‫وللم�صالح املختلفة‪ .‬واخلطري هو �أن جنعل من هذه ال�سريورات احلكم يف جمال املعرفة العلمية‪� ،‬إذ‬
‫�سريدنا ذلك �إىل اخللف لقرون عديدة‪.‬‬

‫ميتلك املواطنون ال�رشعية يف اتخاذ القرار ب�ش�أن ا�ستعمال العلم والتكنولوجيا يف جمتمع‬
‫معني‪ .‬لكنهم ال ميتلكون ال�رشعية يف اتخاذ القرار ب�ش�أن ما يجب �أن تكون عليه املعرفة العلمية‬
‫يف حلظة معينة‪ .‬ال ميكن �أن توجد دميقراطية املعرفة العلمية �إال باملعنى الذي تكون فيه تلك‬
‫املعرفة دميقراطية‪ ،‬ويف متناول �أكرب عدد من النا�س‪ ،‬ولي�س باملعنى الذي يجعل املعرفة العلمية‬
‫نتيجة ل�سريورة اجتماعية �أو ثقافية‪ .‬هذا اال�ستنتاج‪ ،‬الذي قد ال يعجب �أ�صحاب النزعة املطلقة يف‬
‫الدميقراطية‪ ،‬البد �أن تكون له انعكا�سات على تنظيم امل�ؤ�س�سات العلمية عندما يتم تنظيمها على‬
‫منط دميقراطي‪ .‬وهذا يقت�ضي عدم ح�رص الو�صول �إىل املعرفة العلمية يف عدد قليل من النا�س‪،‬‬
‫وعدم انغالق اجلماعة العلمية داخل برج عاجي‪ .‬فالعلماء الذين يرف�ضون احلوار مع غري املتعلمني‪،‬‬
‫بدعوى �أنهم لن يفهموا �شيئا‪ ،‬هم خمطئون مثلهم مثل �أولئك الذين يدعون احل�سم يف ال�ش�أن‬
‫العلمي‪ ،‬بدال عن العلماء‪.‬‬

‫�س�ؤال �آخر يتم طرحه يف هذا ال�سياق‪� :‬إذا كان املواطن‪ ،‬فيما يبدو‪ ،‬ال ميكنه �أن يكون حكما‬
‫على العلم‪ ،‬فهل ميكنه مع ذلك اتخاذ القرار ب�إيقاف تطوره؟ هل مبقدورنا‪ ،‬فرادى �أو جماعات‪،‬‬
‫احل�سم ب�أن النتائج ال�سلبية‪� ،‬أو يف جميع الأحوال‪ ،‬ب�أن خماطر تقدم املعرفة العلمية هي من الأهمية‬
‫بحيث يجب �إيقاف ال�رشيط ككل؟ ي�سود هذا املوقف لدى بع�ض الطوائف التي ي�ؤمن �أتباعها‬
‫بالإنعزال عن العامل اخلارجي‪ ،‬ورف�ض �أي حماولة لدجمهم‪� ،‬أو خلطهم مبجتمعات‪ ،‬وتعاليم �أخرى‪.‬‬
‫ثم هناك موقف خ�صوم التعديل اجليني للكائنات احلية (‪ )OMG‬الذين يريدون منع البحث‪،‬‬
‫وبالتايل‪� ،‬إيقاف تطور املعرفة ح�سب احلاجة‪ ،‬عن طريق فر�ض اختيارهم ال�شخ�صي بوا�سطة العنف‪.‬‬

‫اجلواب عن هذا ال�س�ؤال ال ميكن �إال �أن يكون فل�سفيا‪� ،‬أو ناجتا عن اختيار من بني ر�ؤى‬
‫متفائلة‪� ،‬أو مت�شائمة بخ�صو�ص القدرات الب�رشية على ا�ستعمال العلم‪ .‬ويف الغالب يعترب احلوار‬
‫�صعبا بني الذين يرون يف التاريخ احلديث عمليات هدم‪ ،‬وعنف‪ ،‬وجرائم مت ت�صنيعها بكيفية‬

‫‪87‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫ما بوا�سطة التكنولوجيات احلديثة‪ ،‬وبني الذين يركزون على دور العلم يف متديد حياة الإن�سان‪،‬‬
‫وحت�سني الرتبية‪ ،‬و�رشوط احلياة‪ .‬ومنذ قطف �آدم وحواء التفاحة من �شجرة املعرفة‪� ،‬أ�صبحت كرامة‬
‫الإن�سان‪ ،‬وم�أزقه متوقفني على التقدم يف هذه املعرفة‪ .‬فالإن�سان لن ي�ستطيع التخلي عن القدرة يف‬
‫التقدم بدون التخلي عن ذاته‪ .‬و هذا الواقع يفر�ض على العلماء وعلى امل�س�ؤولني ال�سيا�سيني العمل‬
‫على تو�ضيح‪ ،‬وتثمني الإمكان الذي يوفره العلم للمواطنني‪ ،‬مع اتخاذ الإجراءات ال�رضورية لتدبري‬
‫املخاطر التكنولوجية‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫مفاهيم مفتاحية‬
‫�إعداد ‪ :‬هيئة التحرير‬

‫القيم‬ ‫ •‬
‫احلق‬ ‫• ‬
‫الواجب‬ ‫• ‬
‫املواطنة‬ ‫• ‬
‫ال�سلوك املدين‬ ‫• ‬

‫يت�ضمن هذا الركن تعريفات مقت�ضبة لبع�ض املفاهيم‬


‫ذات ال�صلة مبواد العدد‪ .‬وهي تعريفات �إجرائية ال‬
‫تدعي الإحاطة مبجموع املفاهيم املرتبطة مبو�ضوع‬
‫ملف هذا العدد‪ ،‬وال مبختلف الأبعاد التي حتيل �إليها‬
‫امل�صطلحات املدرجة يف هذا الباب‪.‬‬
‫القـيــــم ‬
‫جمع قيمة‪ .‬والقيمة خا�صية �إن وجدت يف ال�شيء جعلته مرغوبا فيه‪� ،‬أو غري مرغوب فيه‪،‬‬
‫كاخلري‪ ،‬وال�رش‪ ،‬والف�ضيلة‪ ،‬والرذيلة‪ ،‬والعدل‪ ،‬واجلور‪ ،‬واجلمال‪ ،‬والقبح‪ ،‬وال�صدق‪ ،‬والكذب‪.‬‬
‫هذه الثنائيات تندرج �ضمن �أنواع كربى من القيم‪ ،‬كالقيم ال�سيا�سية‪ :‬املواطنة‪ ،‬والدميوقراطية‪،‬‬
‫والقيم املنطقية‪ :‬ال�صحيح واخلط�أ‪ ،‬والقيم االقت�صادية‪ :‬ال�سعر‪ ،‬وفائ�ض القيمة‪ ،‬والقيم‬
‫الأدبية‪ :‬الذوق‪ ،‬واملتعة‪ ،‬والقيم اجلمالية‪ :‬اجلميل‪ ،‬والعظيم‪ ،‬والقيم الأخالقية‪ :‬الواجب‪،‬‬
‫والإيثار‪ .‬وان كانت القيم عادة ما ترتبط بالأخالق‪ ،‬فان هناك فرقا بني الأخالق‪ ،‬وااليتيقا‪.‬‬
‫فالأوىل حتدد لنا الواجبات‪ ،‬واحلقوق‪� .‬أما الثانية‪ ،‬فتو�صينا باحلكمة‪ ،‬وال�سعادة‪ ،‬فهي ذات‬
‫بعد فل�سفي‪ ،‬وميكن نعتها بفل�سفة الأخالق‪.‬‬

‫�أما العلم الذي يدر�س القيمة كقيمة يف حد ذاتها‪ ،‬فهو االك�سيولوجيا من �أك�سي�س مبعنى‬
‫قيمة‪ .‬ومن �أ�سئلة علم القيم‪ :‬هل القيمة ذاتية �أم مو�ضوعية ؟ ال�س�ؤاالن يعودان �إىل �رضبني‬
‫من احلد�س‪ ،‬الأول يت�أ�س�س على ميل نحو كون الأ�شياء قمينة باحلب يف حد ذاتها ‪ /‬املو�ضوعية‬
‫الأك�سيولوجية‪ ،‬والثاين يت�أ�س�س على كون الأ�شياء خا�ضعة للأف�ضلية‪� ،‬أو الرتاتبية ‪ /‬الذاتية‬
‫الأك�سيولوجية‪ ،‬واحلكم الذي ن�صدره اعتمادا على هذه القيم ي�سمى حكم قيمة‪ ،‬وهو‬
‫حكم يختلف عن احلكم اجلمايل الذي يقوم على الرتفع واحلكم املنطقي الذي ينبني على‬
‫االن�سجام‪ ،‬و�أحكام القيمة نفعية معيارية لذا ي�صف مبحثها بالعلم املعياري‪ ،‬واملعيار قاعدة‬
‫ينبغي اتباعها‪� ،‬أو التوافق حولها للبقاء يف الطريق امل�ستقيم‪ ،‬واالبتعاد عن االعوجاج‪.‬‬

‫الـحق ‬
‫يت�ضمن مفهوم احلق يف اللغة العربية (انظر ل�سان العرب البن منظور) دالالت عديدة‬
‫تت�أرجح بني ال�صدق‪ ،‬والثبات‪ ،‬والوجوب‪ ،‬واليقني‪ ،‬واحلقيقة‪ ،‬واالخت�صام‪ ،‬والتفاهم‪ .‬ويربز‬
‫هذا التعدد الداليل يف اللغات الأخرى‪ ،‬ويف فكرها‪ .‬يف هذا الإطار‪ ،‬اعترب �أندري الالند‬
‫يف معجمه الفل�سفي والتقني‪ ،‬ب�أن مفهوم «احلق» يقرتن بفكرتني �أ�سا�سيتني وهما‪:‬‬
‫• �أن احلق هو ما يكون مطابقا لقاعدة حمددة‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬ف�إن �إقراره يعترب م�رشوعا‪ ،‬مثل‬
‫قولنا‪ :‬لكل املواطنني احلق يف اللجوء �إىل القانون‪.‬‬
‫• �أن احلق هو ما يكون م�سموحا به‪ ،‬وقائما على احلرية‪ .‬ومن هنا ركزت خمتلف الإعالنات‬
‫عن حقوق الإن�سان‪ ،‬على احلق يف الأمن‪ ،‬وامللكية اخلا�صة‪ ،‬وامل�ساواة‪ ،‬ومقاومة الظلم‪،‬‬
‫والقهر الخ‪...‬‬
‫وميكننا التمييز يف �ضوء ذلك‪ ،‬بني ثالثة �أ�شكال للحق‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫• احلق الطبيعي‪ ،‬الناجت عن طبيعة الب�رش‪ ،‬والعالقات القائمة فيما بينهم با�ستقالل عن كل‬
‫ت�رشيع (مثل احلق يف احلياة) ‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫• احلق الو�ضعي‪ ،‬الناجت عن القوانني املكتوبة‪� ،‬أو الأعراف التي اكت�ست �صبغة القانون‪ ،‬مثل‬
‫احلق املدين‪ ،‬واحلق الروماين‪.‬‬

‫• حق النا�س الذي ت�أ�س�س على مبد�أ امل�ساواة‪ ،‬ومت تطبيقه يف البداية على الأجانب‬
‫اخلا�ضعني للقانون الروماين‪ ،‬وات�سع يف الع�صور احلديثة لي�شمل العالقات بني الدول‪ ،‬و�أي�ضا‬
‫العالقات بني املواطنني‪.‬‬

‫ومعلوم �أن الإعالنات احلديثة‪ ،‬واملعا�رصة عن حقوق الإن�سان‪ ،‬واملواطن‪ ،‬انبثقت من النظريات‬
‫الفل�سفية حول احلقوق الطبيعية‪ ،‬واملدنية‪ .‬وهي النظريات التي تبلورت على يد كل من‬
‫ا�سبينوزا‪ ،‬وهوبز‪ ،‬ولوك‪ ،‬ورو�سو يف �إطار ما يعرف بنظرية احلق الطبيعي‪ ،‬وتطورت على‬
‫يد فال�سفة بارزين‪ ،‬نذكر من بينهم‪ :‬كانط‪ ،‬فيخته وهيجل‪ .‬وقد �سمحت معاجلة م�س�ألة‬
‫احلق (الطبيعي واملدين) ب�إثارة ق�ضايا تتعلق باحلرية‪ ،‬وال�سلطة‪ ،‬والعنف‪ ،‬والدميوقراطية‪،‬‬
‫واملواطنة‪ ،‬والت�سامح‪ ،‬والعدالة‪ ،‬والإن�صاف‪ ،‬وهي الق�ضايا التي �شكلت جمال اهتمام الفل�سفة‬
‫ال�سيا�سية املعا�رصة‪.‬‬

‫وقد �أكد الباحثون يف جمال الفل�سفة ال�سيا�سية على تطور منظومة احلقوق‪ ،‬بفعل التحوالت‬
‫االجتماعية‪ ،‬واالقت�صادية‪ ،‬وال�سيا�سية‪ ،‬والثقافية التي عرفتها خمتلف بلدان العامل‪ .‬هكذا‪،‬‬
‫مل يعد الأمر مقت�رصا على احلقوق املدنية‪ ،‬وال�سيا�سية‪ ،‬بل تعداه �إىل احلديث عن احلقوق‬
‫االقت�صادية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬مثل احلق يف ال�شغل‪ ،‬والتعليم‪ ،‬وحق الإ�رضاب‪ ،‬وعن احلقوق‬
‫البيئية‪ ،‬وحقوق الأقليات‪ ،‬واحلق يف االختالف‪� ...‬إلخ‪.‬‬

‫الـواجـب ‬
‫ت�ستعمل كلمة «واجب» كرتجمة للفظة الفرن�سية‪ ،Devoir :‬وتعني حينما تكون مقرونة‬
‫بفعل ما (مثل‪� )Devoir faire :‬رضورة القيام به‪ .‬وهي كلمة م�شتقة من الأ�صل الالتيني‪:‬‬
‫‪ Debere‬التي جتمع كال من ‪ ،De :‬و ‪ ،Habere‬وتعني �أن يكون املرء مدينا ل�شخ�ص �آخر‬
‫ب�شيء ما‪.‬‬

‫�أما يف القامو�س العربي‪ ،‬فكلمة «واجب» م�شتقة من الفعل الثالثي «وجب» التي تت�ضمن معنى‬
‫«وجب ال�شي ُء‪ ،‬يجب وجوبا‪� ،‬أي لزم» و�أ�صبح �أمرا م�ستحقا‪� ،‬أي �رضوري الوقوع‪.‬‬
‫َ‬ ‫اللزوم‪ .‬يقال‪:‬‬
‫«و�أوجبه هو‪ ،‬و�أوجبه اهلل‪ ،‬وا�ستوجبه‪� ،‬أي ا�ستحقه» (ل�سان العرب؛ القامو�س املحيط)‪.‬‬

‫�إجماال‪ ،‬يعرب «الواجب» على وجه العموم عن �رضورة قد تكون ذاتية �أو مو�ضوعية‪� ،‬أي‬
‫�رضورة قد تعود لقرار ذاتي لل�شخ�ص‪� ،‬أو لدواع يفر�ضها املجتمع �أو ال�سياق الطبيعي الذي‬
‫يتواجد فيه الفرد‪ .‬ومبا هي كذلك‪ ،‬فهي ت�أخذ �شكل �إلزام �أخالقي ذاتي �أو اجتماعي �أو‬
‫ديني‪ ...‬غري �أن هذا الإلزام‪ ،‬يف كل الأحوال‪ ،‬ال يكون �إكراها مفرو�ضا على املرء من اخلارج‬

‫‪91‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫(‪ ،)Une contrainte‬بل هو التزام ذاتي (‪ )Un engagement‬نابع عن اقتناع داخلي لدى‬
‫ال�شخ�ص بقوة �إلزامية الواجب‪ ،‬حتى حينما يتم �إرجاع هذه القوة الإلزامية �إىل الدين �أو‬
‫املجتمع‪ .‬فال يكون ال�سلوك واجبا �إال حينما يكون التزام الفرد مبقت�ضياته نابعا من �صميم‬
‫قناعته الأخالقية الذاتية‪ .‬بهذا ال�شكل‪ ،‬ميز «كانط»‪� ،‬أحد منظري الفل�سفة الأخالقية يف‬
‫القرن ‪18‬م‪ ،‬بني االلتزام الذاتي بالواجب‪ ،‬وهو ا�ستجابة ملا ي�أمر به الواجب الأخالقي جتد‬
‫مبد�أها يف ال�ضمري �أو الوازع �أو الوعي �أو الإرادة الأخالقية‪ ،‬وبني اال�ستجابة ملا ت�أمر به‬
‫القوانني الو�ضعية التي جتد مبد�أها يف الإكراه امل�ؤ�س�ساتي اخلارجي وخمتلف الت�رشيعات‬
‫والآليات التي ي�ستند �إليها‪ .‬هكذا‪ ،‬يعرب مفهوم الواجب عن �رضورة يلزم حتقيقها �أو هو‬
‫�رضورة القيام بفعل ما نتيجة احرتام القانون‪� .‬إنه ال�صيغة التي ت�أخذ هنا �رضورة القانون‬
‫الأخالقي وحدها مع ا�ستبعاد كل �رضورة �أخرى غريها‪ .‬وكلما كان هذا الإلتزام نابعا من‬
‫داخل الإرادة كلما كان �أخالقيا خال�صا‪.‬‬

‫ولي�س الواجب �رضورة عملية �إال باعتباره داال على اال�ستقالل الذاتي للإرادة ال�شخ�صية‬
‫التي تلزم ذاتها بذاتها باالمتثال للواجبات‪ ،‬باعتبارها �أوامر �أخالقية‪ ،‬وال حتتاج �إىل �سلطة‬
‫خارجية (�سلطة امل�ؤ�س�سات مثال)‪ ،‬اللهم �سلطتها الداخلية‪ .‬هذا االلتزام الأخالقي بالواجب‬
‫يرقى باملرء من م�ستوى الفرد اخلا�ضع ملحددات طبيعته الفيزيائية (احلاجات وال�رضورات‬
‫املادية) وال�سيكولوجية (الأهواء وامليول والرغبات‪ )...‬واالجتماعية (االنتماء االجتماعي‪،‬‬
‫الوالء‪ ،‬الروابط املنفعية‪� ،)...‬إىل م�ستوى ال�شخ�ص الأخالقي‪� ،‬أي الكائن الإن�ساين ذي الكرامة‬
‫الأخالقية‪ ،‬الذي يوجد كغاية يف ذاته ال كو�سيلة قابلة لال�ستغالل لأي هدف كان‪ ،‬والذي‬
‫ينبغي �أن ت�صونه احلياة املدنية وقوانينها بكاملها‪.‬‬

‫و�إذا كانت القوانني ال�سيا�سية معربة عن احلرية ال�سيا�سية التي تكفلها الد�ساتري وامل�ؤ�س�سات‬
‫والآليات الدميقراطية‪ ،‬ف�إن القوانني الأخالقية‪ ،‬التي ت�صوغ الواجبات ك�رضورة كونية مطلقة‬
‫(فواجب الت�ضامن �أو امل�ساعدة �أو الوفاء‪ ...‬واجب كوين مطلق ال يتقيد بهذه الظرفية �أو تلك‪،‬‬
‫وال بهذه الغاية �أو تلك‪ )...‬تعرب عن احلرية الأخالقية لل�شخ�ص‪ .‬و�إذا كان ا�ستمرار احلرية‬
‫والقوانني ال�سيا�سية رهني ا�ستمرار امل�ؤ�س�سات والآليات االجتماعية والت�رشيعية ال�ضامنة‬
‫الحرتام حقوق املواطنة‪ ،‬ف�إن ا�ستمرار احلرية والقوانني الأخالقية يظل رهني االلتزام الذاتي‬
‫لل�شخ�ص بالواجبات جتاه ذاته والغري‪.‬‬

‫غري �أن هذا التمييز بني نظام الت�رشيعات والقوانني و«الواجبات» ال�سيا�سية‪ ،‬وبني نظام القوانني‬
‫والواجبات الأخالقية ال يعني انف�صالهما عن بع�ضهما البع�ض‪ ،‬ر غم �أنهما يتعار�ضان �أحيانا‪،‬‬
‫بل تكاملهما العملي‪ .‬ف�إذا كان النظام الأول يقوم على �أ�سا�س احلقوق الفردية واملدنية‪ ،‬ف�إن‬
‫نظام الواجبات الأخالقية يقوم على االلتزام الفردي باحرتام هذه احلقوق واحلريات املدنية‪،‬‬
‫�إىل جانب عدم انتهاك احلقوق الكونية للإن�سان بو�صفه �شخ�صا �أخالقيا �أينما وجد‪ .‬بهذا‬
‫املعنى‪ ،‬كانت دائرة الواجب الأخالقي �أ�شمل من دائرة االلتزامات ال�سيا�سية واملدنية للمواطن‪،‬‬
‫طاملا �أنها ت�شمل التزام ال�شخ�ص جتاه الإن�سانية ككل‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫الـمواطنــة ‬
‫لفظ املواطنة (‪ )Citoyenneté-Citizenship‬م�شتق يف اللغات الأجنبية من كلمات‪:‬‬
‫‪ ،Cité - ،City‬التي تعني املدينة (‪ Polis‬يف اللغة الإغريقية القدمية)‪ .‬يف هذا الإطار‪ ،‬تعد‬
‫املواطنة انتماء ملدينة بو�صفها ف�ضاء م�شرتكا للتعاي�ش وامل�ساهمة يف القرار وتدبري الق�ضايا‬
‫العمومية‪ .‬ويف اللغة العربية‪ ،‬ا�شتقت الكلمة من لفظة «وطن» التي تعني يف املعجم العربي‬
‫القدمي «املنزل الذي تقيم فيه‪ ،‬وهو موطن الإن�سان وحمله» (ل�سان العرب)‪ .‬لذلك قيل‪َ :‬و َط َن‬
‫باملكان وواطن مبعنى �أقام فيه‪ .‬بهذا املعنى‪ ،‬مل تتعد الكلمة يف اال�شتقاق العربي معاين‬
‫الإقامة يف املكان واال�ستقرار فيه‪ .‬وكل املعاين «ال�سيا�سية» التي حلقت هذا املعنى‪ ،‬من‬
‫قبيل االنتماء امل�شرتك للمكان وح�ضارته وثقافته وقيمه‪ ،‬ا�ستمدت من املعجم االجتماعي‬
‫وال�سيا�سي للكلمة؛ وهو معجم متعدد الأ�صول ال�سيا�سية والقانونية والتاريخية‪.‬‬

‫�أما املواطنة يف اال�صطالح املعا�رص‪ ،‬فتعني‪ ،‬ح�سب دائرة املعارف الربيطانية‪« :‬عالقة بني‬
‫فرد ودولة كما يحددها قانون تلك الدولة‪ ،‬ومبا تت�ضمنه تلك العالقة من واجبات وحقوق‬
‫متبادلة يف تلك الدولة‪ .‬واملواطنة تدل �ضمنا على مرتبة من احلرية مع ما يرتبط بها من‬
‫م�س�ؤوليات»‪.‬‬

‫ال تنح�رص املواطنة فقط يف االنتماء لبلد ما (ملجال ترابي) �أو لأمة معينة‪ ،‬بل هي انتماء‬
‫قائم على االعرتاف‪ .‬و�إذا ا�ستند هذا االعرتاف يف تاريخ املجتمعات �إىل معايري تختلف‬
‫باختالف منظوماتها الثقافية والقيمية (النبالة واملكانة االجتماعية‪� ،‬أو املِلكية‪� ،‬أو الدين‪� ،‬أو‬
‫اخل�صو�صية الإثنية �أو العرقية‪ ،)..‬فقد �أ�صبح يف الع�رص احلديث‪ ،‬خ�صو�صا بعد الثورة‬
‫الفرن�سية (‪ ،)1789‬قائما على معيار احلق الطبيعي ومنظومة القيم الأخالقية وال�سيا�سية‬
‫التي �أقامتها نظريات احلق والفل�سفة ال�سيا�سية حتديدا‪ .‬يف �إطار هذه املرجعية‪ ،‬ومن زاويتها‬
‫القانونية ــ ال�سيا�سية بالذات‪ ،‬متنح املواطنة ال�شخ�ص حقا م�رشوعا يف �أن يكون �صاحب‬
‫حقوق خمتلفة �سيا�سية ومدنية وثقافية واجتماعية (‪.)Un Sujet de Droits‬‬

‫يف مقابل هذه احلقوق‪ ،‬امل�ؤطرة بقوانني وت�رشيعات‪ ،‬تتحدد التزامات وواجبات املواطنة‬
‫على ر�أ�سها احرتام الفرد للقوانني والف�ضاءات العمومية‪ ،‬وامل�شاركة ال�سيا�سية‪ ،‬والإ�سهام يف‬
‫الإنفاق العمومي ح�سب الإمكانيات‪ ،‬واالنخراط يف حل الق�ضايا وال�ش�ؤون العامة‪ ،‬والدفاع‬
‫عن الوطن‪�..‬إلخ‪.‬‬

‫يف زمننا احلايل‪ ،‬فر�ضت العوملة تو�سيع مرجعيات املواطنة‪ ،‬بحيث �أ�صبحنا نتحدث عن‬
‫املواطنة الفاعلة‪ ،‬وهي �أن�شطة عمومية لأفراد وهيئات‪ ،‬وم�ؤ�س�سات‪ ،‬وجمعيات منظمة يف‬
‫�إطار ف�ضاءات‪ ،‬و�شبكات للإعالم‪ ،‬والتح�سي�س‪ ،‬والتوا�صل‪ ،‬و�أعمال ت�ضامنية وتعبوية‪ ،‬الهدف‬
‫منها الإ�سهام التطوعي يف التنمية املحلية واجلهوية خ�صو�صا‪ ،‬واالنخراط يف تدار�س‬
‫م�شاكل املواطنني وم�شاركتهم يف بلورة حلول مالئمة لها‪ .‬يف هذا ال�سياق‪� ،‬أ�صبحت‬
‫املواطنة تطرح يف �أفق �أو�سع �سو�سيو ــ ثقايف و�أخالقي‪ :‬فهي تهم الفرد ك�شخ�ص �أخالقي‪،‬‬

‫‪93‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫ويف خ�صو�صياته اجلهوية واملحلية االجتماعية والثقافية‪ .‬هنا بالذات ترتبط بق�ضايا العدالة‬
‫االجتماعية‪ ،‬والإن�صاف‪ ،‬واحلق يف اال�ستفادة من الرثوات‪ ،‬واملوارد الوطنية ب�شكل ي�ضمن‬
‫تكاف�ؤ الفر�ص‪ .‬فامل�ساواة ال�سيا�سية �أمام القانون غري كافية‪ ،‬وال بد من �إكمال املواطنة بال�سعي‬
‫الدائم �إىل حتقيق العدالة االجتماعية والإن�صاف‪.‬‬

‫�أخريا‪ ،‬البد من الإ�شارة �إىل �أن العوملة بقدر ما عززت املفاهيم ال�سيا�سية‪ ،‬والقانونية‪،‬‬
‫واالجتماعية للمواطنة الفاعلة‪ ،‬بقدر ما خلقت �أي�ضا �رشوطا جديدة مكنت من م�ساءلة‬
‫املواطنة داخل الدولة الواحدة يف �أفق التفكري‪ ،‬و�إر�ساء مقت�ضيات ما ي�سمى حاليا املواطنة‬
‫الكونية‪ .‬لقد بلورت العوملة �أفقا �آخر للمواطنة الكونية ي�ستوعب ق�ضايا خمتلفة‪ ،‬من قبيل‪:‬‬
‫ق�ضايا البيئة العاملية و�رضورة الت�ضامن بني الأمم والدول لأجل املحافظة عليها؛ ق�ضايا‬
‫الهجرة‪ ،‬وال�صحة‪ ،‬والفقر‪ ،‬واملجاعة‪ ،‬والتغذية‪ ،‬والفروق ال�صارخة بني ال�شعوب يف ا�ستغالل‬
‫املوارد العاملية؛ ق�ضايا الإرهاب‪ ،‬واحلروب‪ ،‬و�آثارها على ال�شعوب‪ ،‬وعالقاتها الدولية؛‬
‫ق�ضايا التحديث العلمي‪ ،‬والتكنولوجي‪ ،‬وما يثريه عامليا من �إ�شكاليات تهم الرتبية‪ ،‬وتعميم‬
‫التعليم‪ ،‬والق�ضاء على كل �أ�شكال الأمية‪ ،‬والتخلف الفكري‪ ،‬والثقايف؛ كلها‪ ،‬وغريها ق�ضايا‬
‫�أ�صبحت تطرح على امل�ستوى الدويل �إ�شكاليات كربى مت�س املواطنة العاملية‪ ،‬وم�س�ؤولية‬
‫الدول‪ ،‬وال�شعوب عن التدخل امل�شرتك لأجل بحثها‪ ،‬و�إيجاد حلول لها تراعي الإرث امل�شرتك‬
‫للإن�سانية‪ ،‬وحقها يف بيئة عاملية �آمنة ت�سمح بتنمية ال�شعوب الأكرث فقرا‪ ،‬وت�أ�سي�س عالقات‬
‫�سلمية بني الدول ت�ضمن حق الأفراد‪ ،‬واجلماعات يف العي�ش الكرمي‪.‬‬

‫الـ�سلوك املدين(‪ )1‬‬


‫يندرج مفهوم «ال�سلوك املدين» يف �شبكة مفاهيمية وا�سعة‪ ،‬تتداخل فيها املعاين‪ ،‬وتتعدد‬
‫يل يف نف�س الوقت على‬ ‫الدالالت‪ ،‬و�إذا كان هذا املفهوم مبكونيه‪ :‬ال�سلوك‪ ،‬واملدنية ُي ِح ُ‬
‫الأخالق والإيتيقا‪ ،‬و�إىل التمدن كحالة جمتمعية ترادف التح�رض؛ ف�إنه ي�ستدعي‪ ،‬يف الآن‬
‫ذاته‪ ،‬مفاهيم �أخرى حمورية‪ ،‬مثل‪ :‬الدميوقراطية‪ ،‬واملواطنة‪ ،‬والوطنية‪ ،‬واحرتام حقوق‬
‫الإن�سان‪ ،‬واملدنية‪ ،‬واحل�س املدين‪ ،‬والرتبية املدنية‪� ،‬أو الرتبية على املواطنة‪� ،‬أو الرتبية على‬
‫حقوق الإن�سان‪ .‬لذلك‪ ،‬تعك�س امل�صطلحات امل�ستعملة يف جماله الوا�سع‪ ،‬واملرادفات التي‬
‫يحيل عليها يف �أحيان كثرية؛ تطورا تاريخيا و�سيا�سيا للمجتمع‪ ،‬وكذا حتوال يف القيم‬
‫الأخالقية والإن�سانية؛ ف�إذا كان احل�س املدين‪ ،‬مثال‪ ،‬يعرب عن الف�ضائل ال�رضورية لل�سلوك‬
‫الفردي واجلماعي‪ ،‬ف�إن الرتبية على املواطنة تهدف �إىل حتديد وفهم العالقات القانونية التي‬
‫ت�ضبطها قوانني‪ ،‬وت�رشيعات الدولة‪ ،‬بينما ت�سعى الرتبية على حقوق الإن�سان �إىل التعلق‬
‫بالقيم الكونية للإن�سانية جمعاء‪.‬‬

‫‪ -1‬من �أر�ضية الندوة الوطنية حول «املدر�سة وال�سلوك املدين» املنظمة من طرف املجل�س الأعلى للتعليم‪ ،‬الرباط ‪ 23‬و ‪ 24‬ماي‬
‫‪.2007‬‬

‫‪94‬‬
‫هكذا‪ ،‬ف�إن �أي م�صطلح من امل�صطلحات املذكورة له معناه‪ ،‬وهدفه اخلا�ص‪ ،‬و�سياقه‬
‫التاريخي‪.‬‬

‫هناك‪� ،‬إذن‪ ،‬معنيان يعك�سان تطور املفهوم ‪:‬‬

‫• معنى عام‪ ،‬ي�شمل واجبات املواطن(ة)‪ ،‬وم�س�ؤولياته يف عالقته بالدولة من جهة‪ ،‬وباملواطنني‬
‫من جهة ثانية؛‬

‫• ومعنى خا�ص‪ ،‬يحدد الف�ضائل ال�رضورية الواجبة يف تن�شئة املواطن(ة) ال�صالح‪ ،‬املتمتع‬
‫باحل�س املدين‪ ،‬واالن�ضباط‪ ،‬والإخال�ص للمجموعة الوطنية‪.‬‬

‫�إن هذه املعاين‪ ،‬التي ارتبطت بتطور املفهوم يف الثقافات الغربية اليونانية‪ ،‬والالتينية‪،‬‬
‫واملعا�رصة‪ ،‬تظهر بو�ضوح يف مفهوم الرتبية يف الثقافة العربية‪ ،‬ويف الرتاث الإ�سالمي‬
‫الديني‪ ،‬والفكري‪ .‬فهي تعني الت�أديب‪ ،‬من جهة‪ ،‬والتهذيب‪ ،‬من جهة ثانية‪ .‬فالت�أديب هو‬
‫توجيه الطفل(ة) نحو االن�ضباط واالنتظام‪� ،‬أي تلقينه قواعد ال�ضبط الأخالقي االجتماعي‬
‫�أما التهذيب فغايته طبع النف�س الب�رشية بالف�ضائل الدينية والأخالقية‪ ،‬وهي ف�ضائل‬
‫�أخالقية وعقلية يف نف�س الوقت‪ .‬فغاية الرتبية الإ�سالمية هي توجيه ال�سلوك الفردي‪ ،‬من‬
‫جهة‪ ،‬وتنظيم احلياة االجتماعية‪ ،‬من جهة ثانية‪.‬‬

‫�إن هذا التعدد الداليل الذي يرتبط مبفهوم تنمية ال�سلوك املدين‪ ،‬والذي يحيل �إىل حقول‬
‫وا�سعة مثل القانون‪ ،‬والأخالق‪ ،‬وقواعد ال�سلوك‪ ،‬و�أمناط الرتبية‪ ،‬بقدر ما يغنى حتديد‬
‫املفهوم نظريا‪ ،‬بقدر ما يجعل حتديده على �صعيد املمار�سة �صعبا‪ ،‬وغري ي�سري‪� .‬إال �أن هناك‬
‫جمموعة من التحديدات الأولية متكن من ت�شخي�ص هذا املفهوم يف عمليات �أ�سا�سية لها‬
‫بعدها الرتبوي‪ ،‬مثل‪:‬‬

‫• تر�سيخ مبادئ وقيم املجتمع يف انفتاحها على القيم الكونية؛‬

‫• معرفة امل�ؤ�س�سات‪ ،‬والقوانني‪ ،‬واملعايري الوطنية‪ ،‬وااللتزام بقواعدها؛‬

‫• فهم قواعد احلياة املجتمعية مبعناها الوا�سع‪ ،‬واكت�ساب ح�س امل�س�ؤولية الفردية‪ ،‬واجلماعية؛‬

‫• الوعي باحلرية يف التفكري‪ ،‬والتعبري‪ ،‬ويف ممار�سة احلياة العامة‪ ،‬واخلا�صة مع احرتام‬
‫حرية الآخرين؛‬

‫• �إعمال الفكر النقدي‪ ،‬والدفاع عن الر�أي‪.‬‬

‫وذلك مع اعتبار ت�أ�سي�سها على قاعدة قبول الآخر واحلق يف االختالف عنه‪ ،‬وانطالقها من‬
‫املبادئ العامة النتظام احلياة امل�شرتكة بني الأفراد‪.‬‬

‫‪95‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫بيبليـوغـرافيـا‬
‫�إعداد ‪ :‬هيئة التحرير‬

‫يهدف هذا الركن �إىل متكني القارئ من الئحة‬


‫بيبليوغرافية مقرتحة‪ ،‬من �ش�أنها �أن ت�ساعد على تعميق‬
‫البحث والدرا�سة يف املوا�ضيع املدرجة يف ملف العدد‪.‬‬
‫وهي الئحة خمت�رصة ال ت�ستويف كل العناوين‪ ،‬وال‬
‫تغني عن �أهمية �إثرائها مبختلف املراجع والدرا�سات ذات‬
‫ال�صلة‪.‬‬
‫مراجع باللغة العربية ‬
‫• اململكة املغربية‪ ،‬امليثاق الوطني للرتبية والتكوين‪ ،‬املطبعة الر�سمية‪2002 ،‬؛‬

‫• «التقرير الرتكيبي للبحث الوطني حول القيم»‪� ،‬إجناز‪ :‬ح�سن ر�شيق‪ ،‬رحمة بورقية‪ ،‬عبد اللطيف بن�رشيفة‪،‬‬
‫حممد الطوزي‪ ،‬من�شورات «‪� 50‬سنة من التنمية الب�رشية و�آفاق �سنة ‪2004 ،»2025‬؛‬

‫• �أ�شغال الندوة الوطنية حول «املدر�سة وال�سلوك املدين»‪ ،‬املنظمة من قبل املجل�س الأعلى للتعليم‪ ،‬الرباط‪،‬‬
‫ماي ‪2007‬؛‬

‫ • دليل «الرتبية على قيم ال�شفافية وحماربة الر�شوة»‪ ،‬ن�رش وزارة الرتبية الوطنية والتعليم العايل وتكوين الأطر‬
‫والبحث العلمي واجلمعية املغربية ملحاربة الر�شوة «تران�سبارن�سي املغرب» ؛‬

‫• ر�أي املجل�س الأعلى للتعليم رقم ‪ 07/02‬بتاريخ ‪ 23‬يوليوز ‪ 2007‬يف مو�ضوع «دور املدر�سة يف تنمية‬
‫ال�سلوك املدين»؛‬

‫• �سل�سة من�شورات وزارة الرتبية الوطنية ووزارة حقوق الإن�سان‪ ،‬ال�صادرة حتت عنوان «الربنامج الوطني‬
‫للرتبية على حقوق الإن�سان»‪2002-2001 ،‬؛‬

‫• �سيف بن نا�رص املعمري‪« ،‬تربية املواطنة‪ :‬توجهات وجتارب عاملية يف �إعداد املواطن ال�صالح» ــ مكتبة اجليل‬
‫الواعد‪� ،‬سلطنة عمان‪.2006 ،‬‬

‫• �سعاد جوزيف‪« ،‬املواطنة ونوع اجلن�س يف العامل العربي»‪ ،‬امل�صدر‪:‬‬

‫‪• www.pogar.org/publications/gender/.../gendera.p‬‬
‫• «�س�ؤال الأخالق ونظام القيم»‪ ،‬ن�رش جملة الإحياء ال�صادرة عن الرابطة املحمدية للعلماء‪ ،‬العدد املزدوج‬
‫‪ ،33-23‬غ�شت ‪.2010‬‬

‫• عبد ال�سالم ال�سعيدي‪« ،‬تدري�س مفاهيم قيم حقوق الإن�سان �ضمن املناهج التعليمية‪ :‬مع درا�سة تطبيقية»‪،‬‬
‫ن�رش دار الثقافة‪2001 ،‬؛‬

‫• علي خليفة الكواري‪« ،‬درا�سة حول مفهوم املواطنة يف الدولة الدميوقراطية»‪ ،‬العدد ‪ 30‬من �سل�سلة كتب‬
‫امل�ستقبل العربي حول الدميوقراطية والتنمية الدميوقراطية يف الوطن العربي‪ ،‬بريوت‪.2004 ،‬‬

‫• حممد �أوحلاج‪« ،‬بيداغوجيا القيم‪� :‬أ�س�سها‪ ،‬ومكوناتها‪ ،‬ومرجعياتها الأ�سا�سية»‪ ،‬من�شورات �صدى الت�ضامن‪،‬‬
‫‪2009‬؛‬

‫• م�ؤلف جماعي‪ :‬اجلامعة وبناء املواطنة يف م�رص‪ ،‬النا�رش‪ :‬برنامج الدميقراطية وحقوق الإن�سان‪.2007 ،‬‬

‫• ن�رص و�ضاح‪« ،‬القيم والتعليم»‪ ،‬ن�رش الهيئة اللبنانية للعلوم الرتبوية‪2001 ،‬؛‬

‫مراجع باللغة الفرن�سية‬


‫‪• Apap G., Azzimonti F., Beal Y. (et autres), «Construire ses savoirs,‬‬
‫‪construire sa citoyenneté ; De l’école à la cité», Lyon, Chronique Sociale,‬‬
‫‪1996.‬‬

‫‪98‬‬
• Audigier. F, «Enseigner la société, transmettre des valeurs», Conseil de
l’Europe, 1993.

• Belayeur. D, Soutmans. Ph, (et autres), «Education à la citoyenneté


et à l’environnement», Presses universitaires de Namur (Belgique), 2008.

• Belle Bladé. M, «Démocratie et éducation à la citoyenneté en Afrique»,


L’Harmattan, Paris, 2008.

• Blind D., Lobstein L., Lobstein P. (et autres), «Eduquer à la responsabilité»,


Lyon, Chronique Sociale ; 2001.

• Bruder. D, «A la recherche de l’établissement citoyen», L’Harmattan,


Paris, 2002.

• Canivez, Patric , «Eduquer le citoyen», Hatier, Paris, 1995.


• Carlo yvan, Guinemard Monique, «Une éducation civique autrement
dite», Lyon, CRDP, 1992.

• Cellier. H, «La démocratie à l’école : apprendre, mais ensemble»,


L’Harmattan, Paris, 2000.

• Conseil de l’Europe, «Education à la citoyenneté démocratique :


méthodes, pratiques et stratégies», 2001.

• Conseil de l’Europe, «Education à la citoyenneté démocratique


et cohésion sociale», 2001.

• Claudine Leleux, «Éducation à la citoyenneté» Tome 1: Les valeurs


et les Normes de 5 à 14 an s ; Bruxelles, De Boeck ; 2006.

• Claudine Leleux, «Éducation à la citoyenneté» Tome 2: Les droits


et les devoirs de 5 à 14 ans - Bruxelles ; De Boeck, 2006.

• Claudine Leleux, «Éducation à la citoyenneté», Tome 3 : La coopération


et la participation de 5 à 14 ans- Bruxelles, De Boeck, 2008.

• Collette Crémieux , «La citoyenneté à l’école», ed. Syros, 1998.


• Collectif , «La citoyenneté c’est quoi ?, Parole d’ados», ed. Sépia , 2003.
• Collectif, «Construire la citoyenneté : de l’école à la cité», Chronique
sociale, 1996.

• Constant, Fred, «La citoyenneté : éducation civique, juridique et sociale»,


Montchrestien, 2000.

99 2011 ‫• �شتنرب‬ 5 ‫العدد‬


• Dubet, F., M. Duru-Bellat et A.Vérétout, Les Sociétés et leur école :
emprise du diplôme et cohésion social, Paris : Seuil, 2010.

• Duhamel. A, Jutas. F, «Enseigner et éduquer à la citoyenneté» Hatier ;


Paris, 1995.

• Elbaz. M, Helly. D (sous la dir.), Mondialisation, citoyenneté et


multiculuralisme. Quebec / Paris Les Presses de l’Univrsité Laval /
L’Harmattan 2000.

• Engel. V, «L’université européenne, acteur de citoyenneté»,


Ed. Academia- Bruylant ; 1999.

• Felouzis. G, «Les mutations actuelles de l’université», PUF ; Paris, 2003.


• Galichet. F, «L’éducation à la citoyenneté», Paris, Anthropos/Economica,
1998.

• Gisbert, Rolland, «Civilité, civisme, citoyenneté», Académie de Grenoble,


éd 2007.

• Gonnet, Jacques, «De l’actualité à l’école, pour des ateliers de démocratie»,


Armand Colin, 1995.

• Guigue. X, (coordination), «L’éducation à une citoyenneté active


et responsable», Source : http:// www.alliance21.org/fr/proposals

• Houssaye Jean, «Les valeurs à l’école. L’éducation aux temps de la


sécularisation», PUF, Paris, 1992.

• Ikeda. D, «Pour une citoyenneté planétaire : vos valeurs, vos convictions


et vos actions», L’Harmattan, Paris, 2005.

• Jolnet. D ; Lannoye. Ch (coord.), «Apprendre la démocratie et la vivre


à l’école», Bruxelles, Labor, 1995.

• Jutas. F, «L’éducation à la citoyenneté : enjeux socioéconomiques


et pédagogiques» Presses de l’université de Quebec, 2010.

• Lamrini, Rida, «L’université marocaine autrement», Ed. Marsam, Rabat,


2007.

• Le Gal, Jean, «Les droits de l’enfant à l’école [Texte imprimé] : pour une
éducation à la citoyenneté», De Boeck, 2002.

100
• Lenoir. Y ; Janet, Ch ; Xypas, C, Ecole et citoyenneté : un défi multiculturel-
Armand Colin, Paris, 2006.

• Liebel, Manfred, «Enfants, droits et citoyenneté [Texte imprimé] : faire


émerger la perspective des enfants sur leurs droits», L’Harmattan, 2011.

• Monga، Oliga. MM, Le développement par l’éducation à la citoyenneté-


Presses universitaires de Kinshasa, 2006.

• Merckelbach, Stefane, «définir les valeurs d’un établissement scolaire»,


www.ordinata.ch, 2004.

• Michiels. J-P, Jacqumotte. FJ, Uzunidis. D, «Mondialisation et citoyenneté»,


L’Harmattan, Paris, 1999.

• Mougnioute, Alain, «Eduquer à la démocratie», éd. du Cerf , 1987.


• Obin, Jean-Pierre, «les valeurs et l’école», www.afae.fr, 2009
• O’Shea, Karen, «Glossaire des termes de l’éducation à la citoyenneté
démocratique», Conseil de l’Europe : www.coe.int.

• Ouellet. F, «Quelle formation pour l’éducation à la citoyenneté ?»,


Presses universitaires de Laval, 2004.

• Page, Michel, «Pluralisme, citoyenneté et éducation», L’Harmattan, 1996.


• Prairat E., Andrieu B., «Les valeurs ; Savoirs et éducation à l’école»,
Presses Universitaires Nancy ; 2003.

• Raulet. G, «Apologie de la citoyenneté», éd. Cerf ; Paris, 1999.


• Raveaud Maroussia, «De l’enfant au citoyen : la construction de la
citoyenneté à l’école en France et en Angleterre» ; PUF, Paris, 2006.

• Reboul, Olivier, «Les valeurs de l’éducation», 2e éd. - Paris, PUF, 1999 -


coll. Premier cycle.

• Roche, Georges, «L’apprenti citoyen, une éducation civique et morale» ,


éd. ESF, 1993.

• Rezsohazy, Rudolf, «sociologie des valeurs», Armand Colin 2006, pp. 13-14
• Robin, Alexander, Hofmann Jan, Prairat Eirick, «L’apprentissage de la
civilité à l’école» : Regards croisés - Les rencontres de la DSSCO ; 2003.

• Roche, Georges, «Quelle école pour quelle citoyenneté ?» ed. ESF , 1998.

101 2011 ‫• �شتنرب‬ 5 ‫العدد‬


• Rueff-Escoubres. C, «La démocratie dans l’école : une pratique
d’expression des élèves», La Découverte ; Paris ; 1997.

• Schnapper, Dominique et Christian Bachelier, «Qu’est-ce que la


citoyenneté ?», Gallimard/Folio, 2000.

• Solere-Queval Sylvie, «Les valeurs au risque de l’école» Presses


Universitaires du septentrion/Villeneuve d’Ascq ; 1999.

• Thill. G, Warrant. F, «Plaidoyer pour des universités citoyennes


et responsables», Presses universitaires de Namur (Belgique), 1997.

• Tobelem. G, «Pour une université citoyenne», Editions John Libbey


Eurotext, Paris, 1998.

• Valentin Ch, «Enseignants : reconnaitre ses valeurs pour agir», ESF éditeur ;
1997.

• Xypas. Constantin (dir) «Education et Valeurs : Approches plurielles»,


L’Harmattan, Paris, 2001.

• Xypas. C, «L’éducation à la citoyenneté», L’Harmattan, Paris, 2001.


• Xypas. C, «Les citoyennetés scolaires», PUF, Paris, 2003.

102
‫م�ستجدات الرتبية والتكوين‬
‫املجل�س الأعلى للتعليم‬

‫مبقت�ضى د�ستور اململكة‪ ،‬املجل�س الأعلى للتعليم ي�صبح جمل�سا �أعلى للرتبية والتكوين‬
‫والبحث العلمي‬
‫ن�ص د�ستور ‪ 2011‬على �إحداث جمل�س �أعلى للرتبية والتكوين والبحث العلمي‪ ،‬عو�ض‬
‫املجل�س الأعلى للتعليم الذي مت تن�صيبه يف فرباير ‪ .2006‬يعد هذا املجل�س‪ ،‬ب�صيغته اجلديدة‪،‬‬
‫ا�ستمرارا مل�ؤ�س�سة وطنية ت�شكل قوة اقرتاحية‪ ،‬و�آلية تقوميية‪ ،‬وف�ضاء لتبادل الر�أي املتعدد وللنقا�ش‬
‫الدميقراطي‪ ،‬وجماال لال�ستفادة من خربة وجتربة الكفاءات الوطنية ذات العطاء املتميز يف ميدان‬
‫الرتبية والتكوين والبحث العملي‪ ،‬بغاية االرتقاء باملنظومة الوطنية للرتبية والتكوين والبحث العلمي‪،‬‬
‫وح�شد التعبئة املجتمعية حول املدر�سة املغربية وق�ضاياها الأ�سا�سية‪.‬‬
‫يف هذا ال�صدد‪ ،‬حدد الف�صل ‪ 168‬من الد�ستور مهام املجل�س الأعلى للرتبية والتكوين‬
‫والبحث العلمي فيما يلي‪:‬‬
‫• �إبداء الر�أي حول كل ال�سيا�سات العمومية والق�ضايا الوطنية التي تهم التعليم والتكوين‬
‫والبحث العلمي؛‬
‫• �إبداء الر�أي حول �أهداف املرافق العمومية املكلفة مبيادين الرتبية والتكوين والبحث العلمي‬
‫وت�سيريها؛‬
‫• الإ�سهام يف تقومي ال�سيا�سات والربامج العمومية يف ميادين الرتبية والتكوين والبحث‬
‫العلمي؛‬

‫مركز التوثيق باملجل�س الأعلى للرتبية والتعليم يتعزز مبجموعة من املطبوعات‬


‫يف �إطار تعزيز ر�صيده الوثائقي‪ ،‬عمل مركز التوثيق باملجل�س على طبع ‪� 4‬آراء‪ ،‬و�أ�شغال ‪3‬‬
‫ندوات‪ ،‬و‪ 17‬درا�سة �سبق �إجنازها يف �إطار دعم خمتلف الآراء والتقارير التي �أ�صدرها املجل�س‬
‫خالل واليته املمتدة من ‪� 2006‬إىل ‪.2010‬‬

‫�آراء املجل�س‬
‫• ر�أي املجل�س يف م�رشوع ت�أهيل التعليم العتيق (فرباير ‪)2007‬؛‬
‫• ر�أي املجل�س يف دور املدر�سة يف تنمية ال�سلوك املدين (يوليوز ‪)2007‬؛‬
‫‪ •‬وجهة نظر املجل�س حول الربنامج اال�ستعجايل لقطاعات الرتبية والتكوين (�شتنرب ‪)2008‬؛‬
‫‪ •‬ر�أي املجل�س يف واقع و�آفاق برامج الرتبية غري النظامية وحماربة الأمية (يوليوز ‪.)2009‬‬

‫�أ�شغال الندوات‬
‫• �أ�شغال ندوة املجل�س الأعلى حول «املدر�سة وال�سلوك املدين»؛‬

‫‪104‬‬
‫• �أ�شغال ندوة املجل�س الأعلى حول «تدري�س اللغات وتعلمها يف منظومات الرتبية‬
‫والتكوين»؛‬
‫• �أ�شغال ندوة املجل�س الأعلى حول «ال�رشاكة امل�ؤ�س�ساتية من �أجل املدر�سة املغربية»؛‬

‫الدرا�سات‬
‫• درا�سة تتعلق بالقيام بت�شخي�ص ا�سرتاتيجي لل�رشاكة من �أجل املدر�سة املغربية‪ :‬درا�سة‬
‫مقارنة لأنظمة ال�رشاكة (بالفرن�سية)؛‬
‫• درا�سة مقارنة لأنظمة ال�رشاكة امل�ؤ�س�ساتية (بالفرن�سية)؛‬
‫• درا�سة حول تقومي �أثر الربامج التعليمية على حقوق الإن�سان واملواطنة (بالفرن�سية)؛‬
‫• درا�سة حول الالمركزية والالتركيز يف قطاع الرتبية الوطنية‪ :‬جتربة الأكادمييات اجلهوية‬
‫للرتبية والتكوين؛‬
‫• درا�سة حول جمال�س تدبري امل�ؤ�س�سات الرتبوية يف عالقتها بالإدارة الرتبوية واملجال�س‬
‫الأخرى مل�ؤ�س�سات الرتبية والتعليم؛‬
‫• درا�سة تقوميية للمناهج املطبقة بال�سلك االبتدائي والثانوي الإعدادي (بالفرن�سية)؛‬
‫• درا�سة ت�شخي�صية حول التعليم العتيق باملغرب (بالفرن�سية)؛‬
‫• درا�سة حول متويل وتكلفة التعليم باملغرب؛‬
‫• درا�سة حول و�ضعية و�آفاق التعليم الأويل باملغرب (بالفرن�سية)؛‬
‫• درا�سة حول م�سل�سل ا�ستقاللية اجلامعات (بالفرن�سية)؛‬
‫• نتائج ا�ستطالع ر�أي حول الو�ضعية احلالية ملهنة التفتي�ش الرتبوي و�آفاق تطويره‬
‫(بالفرن�سية)؛‬
‫• درا�سة حول «التفتي�ش الرتبوي‪ ،‬بع�ض االجتاهات الدولية» (بالفرن�سية)؛‬
‫• درا�سة حول الرتبية غري النظامية وحماربة الأمية؛‬
‫• درا�سة حول �سبل تطوير برامج حماربة الأمية والرتبية غري النظامية (بالفرن�سية)‪.‬‬

‫اجتاهات حديثة يف ميدان الرتبية والتكوين‬


‫بريطانيا‬
‫افتتاح ‪« 24‬مدر�سة خا�صة» مبنا�سبة الدخول املدر�سي ‪ :2011‬هذه املدار�س ممولة من طرف‬
‫الدولة‪ ،‬غري �أن �إن�شاءها مرتوك ملبادرة اجلمعيات املحلية والأ�ساتذة‪ ،‬بل لأولياء التالميذ �أي�ضا‪.‬‬
‫مت ا�ستيحاء اجلانب املتعلق بالتدري�س من مناذج �أجنبية‪ ،‬ال�سيما ال�سويدية والأمريكية‬
‫(مدار�س امليثاق)‪ ،‬حيث تكون امل�ؤ�س�سات امل�ستقلة حرة يف تنظيم تعليمها على النحو الذي تراه‬

‫‪105‬‬ ‫‪2011‬‬ ‫• �شتنرب‬ ‫‪5‬‬ ‫العدد‬


‫منا�سبا‪ .‬مع الإ�شارة‪� ،‬إىل �أن هذا النوع من املدار�س كان موجودا باململكة املتحدة «الأكادمييات» ‪،‬‬
‫�إال �أنه مل يكن ي�سمح ب�إحداثها �سوى مببادرة من الهيئات املتخ�ص�صة‪ ،‬ولي�س من قبل املواطنني‪.‬‬
‫‪(http://www.lefigaro.fr/international/2011/09/02/01003-‬‬
‫‪20110902ARTFIG00629-rentree-le-royaume-uni-teste-les-ecoles-libres-free-‬‬
‫)‪schools-faites-par-les-parents.php‬‬

‫فرن�سا‬
‫ماذا يقول الباحثون حول «�أثر املدر�س»؟‪ .‬ت�رشح مذكرة مركز التحليل اال�سرتاتيجي (‪،)CAS‬‬
‫وهي م�ؤ�س�سة للبحث تعمل بجانب الوزير الأول بفرن�سا‪� ،‬أنه منذ �أربعة عقود‪� ،‬أكدت جمموعة‬
‫من البحوث يف جمال التعليم �أن �أثر املدر�س يف النجاح الدرا�سي �أكرب من عامل اختيار امل�ؤ�س�سة‪.‬‬
‫ويقرتح املركز حت�سني تقومي املمار�سات الأ�ستاذية‪.‬‬
‫‪(www.strategie.gouv.fr/content/que-disent-les-recherches-sur-leffet-enseignant-‬‬
‫)‪note-danalyse-232-juillet-2011‬‬

‫�أ�صدر مركز التحليل اال�سرتاتيجي (‪ )CAS‬تقريره عن «العمل والعمالة يف ع�رشين عاما‪:‬‬


‫خم�سة �أ�سئلة‪� ،‬سيناريوهني‪ ،‬و�أربعة مقرتحات»‪ :‬التقرير يحلل متغريات عامل ال�شغل يف مواجهة‬
‫ا�ستمرار ارتفاع معدالت البطالة‪ ،‬وت�سارع العوملة ‪ ،‬وانت�شار التكنولوجيات احلديثة والتطورات‬
‫املجتمعية‪.‬‬
‫)‪(www.strategie.gouv.fr/system/files/rappte20_05juillet_11h_0.pdf‬‬

‫تدابري من �أجل تعزيز مواكبة التالميذ املعاقني مبنا�سبة الدخول املدر�سي ‪� :2011‬سيتم تعزيز‬
‫نوعية مواكبة التالميذ املعاقني‪ ،‬وتعيني م�ساعدين م�ؤهلني �إ�ضافيني‪ ،‬كما �ستتم موا�صلة حت�سني‬
‫ممار�سات تقومي الأطفال املعاقني من قبل دور الأ�شخا�ص املعاقني (‪ .)MDPH‬يتعلق الأمر ب�إجراء‬
‫تقومي �أف�ضل الحتياجات الطفل حتى يتمكن من اال�ستفادة من توجيه تعليمي منا�سب ومواكبة‬
‫مدر�سية مالئمة‪� .‬سيتم �أي�ضا ت�شجيع املبادرات الرامية �إىل تي�سري الو�صول �إىل الكتب الدرا�سية‪.‬‬
‫‪(www.gouvernement.fr/gouvernement/des-mesures-pour-renforcer-l-‬‬
‫)‪accompagnement-des-eleves-handicapes-des-la-rentree-2011‬‬

‫الواليات املتحدة الأمريكية‬


‫�أ�صدر مكتب الدرا�سات الأمريكي »‪ «Mc Kensey‬تقريره عن تكلفة الف�شل املدر�سي يف‬
‫الواليات املتحدة‪.‬‬
‫‪(www.agirpourlecole.org/v2/wp-content/uploads/2011/05/McKinsey-the-cost-‬‬
‫)‪of-the-US-edu-gap-June-20091.pdf‬‬

‫‪106‬‬
‫ملفا العددين المقبلين‬
‫من «دفاتر التربية والتكوين»‬

‫ملف العـــدد ال�ســاد�س‬


‫المناهج والبرامج الدرا�سية ‪� :‬أ�سئلة ورهانات‬

‫‪t‬‬
‫ملف العـــدد ال�ســابع‬
‫المدر�س في نظام تربوي قيد الإ�صالح‬

‫‪t‬‬
‫‪Thème du sixième numéro‬‬
‫‪Programmes et curricula scolaires : Questions et enjeux‬‬
‫‪t‬‬

‫‪Thème du septième numéro‬‬


‫‪L’enseignant dans un système éducatif en cours de réforme‬‬
‫‪t‬‬

You might also like