You are on page 1of 7

‫اإلطار النظري العام‪ :‬العالماتية املنظومية املزكاة‬

‫املنعم ‪1‬‬ ‫علي عبد‬

‫تشكل العالماتية املنظومية املزكاة قوام املكون املعرفي (االبستمولوجي) من النموذج‬


‫املقاصدي الذي تمكنا من اشتقاقه من القرآن الكريم‪ ،‬ونعرض له الحقا في الباب الرابع بإذن‬
‫هللا‪ .‬وهذا النموذج‪ ،‬وإن كان نموذجا ’مقاصديا‘ يشمل الغايات الكبرى للمنظومة الوجودية‬
‫وعالقاتها (مجمع اآليات الكونية)‪ ،‬واملنظومة الرسالية وعالقاتها (مجمع اآليات القولية)‪ ،‬إال إنه‬
‫أيضا ينطوي على نموذج معرفي خاص به؛ إنه نموذج العالماتية املنظومية املزكاة‪ .‬ونعني بكونه‬
‫نموذجا معرفيا خاصا أنه مما نص عليه األمر اإللهي بشكل مباشر صريح أو غير مباشر‪ .2‬ونعني‬
‫أيضا بكونه ينطوي على نموذج معرفي خاص به‪ ،‬أن منظومة املقاصد من مقاصد للخلق واألمر‬
‫ُ‬
‫وما ينطوي تحتهما من مقاصد فرعية‪ ،‬لن تعرف على وجه الدقة‪ ،‬بل لن تعرف أصال‪ ،‬من غير‬

‫‪1‬‬
‫‪aliman77@yahoo.com‬‬
‫‪ 2‬من األمثلة على األمر الصريح بالعلم‪ ،‬وبالعلم املنظومي‪ ،‬وبالعلم املتمايز‪ ،‬وبالعلم املسؤول‪:‬‬
‫ْ َ ُ َ َّ َّ َ ُ ْ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َ ْ َ َّ َّ َ ُ ُ ْ َ َ َّ ُ َ ُ َ‬
‫ات ل َعلك ْم ت ْع ِقلون ﴿الحديد‪ ،﴾١٧ :‬وهي آية كريمة تدل‬ ‫‪ ‬اعلموا أن الله يح ِيي األرض بعد مو ِتها قد بينا لكم اآلي ِ‬
‫على العلم‪ ،‬وعلى العلم املتكامل أيضا‪ ،‬عبر استحضارها لعملية إدراكية منظومية هي ’العقل‘؛ والعقل هو الربط‬
‫واإلحكام‪ ،‬ومنه كلمات عربية مثل العقال (رباط الرأس)‪ ،‬والعقلة (مفاصل األصابع)‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ َ ْ‬ ‫َّ َ َّ َّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫‪َ ‬و َما ل ُهم ِب ِه ِم ْن ِعل ٍم ِإن َيت ِب ُعون ِإال الظ َّن َوِإ َّن الظ َّن ال ُيغ ِني ِم َن ال َح ِ ِّق ش ْي ًئا ﴿النجم‪ ،﴾٢٨ :‬وهي آية كريمة تدل‬
‫على العلم املتمايز عن الظن‪ ،‬والتمايز عن الظن هو أحد أبعاد ’املعرفة املزكاة‘ كما سيلي شرحه‪.‬‬
‫َ َ َ ْ َ ٰ َ َ ْ َ ُ ُ َ َ َّ َ َ ٰ َ َّ ٰ َ َّ َ َّ َ ُ ْ ُ ْ َّ ُ َ َّ ُ َ ْ ُ َ ٰ َ َ َّ َ ْ َ َ ْ َ َ ُ َ ْ َ َّ‬
‫‪ ‬ولن ترض ى عنك اليهود وال النصارى حتى تت ِبع ِملتهم قل ِإن هدى الل ِه هو الهدى ول ِئ ِن اتبعت أهواءهم بعد ال ِذي‬
‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ ْ‬
‫َج َاء َك ِم َن ال ِعل ِم َما ل َك ِم َن الل ِه ِمن َو ِل ِّ ٍي َوال ن ِص ٍير ﴿البقرة‪ ،﴾١٢٠ :‬وهي آية كريمة تدل على العلم املتمايز عن‬
‫الهوى‪ ،‬والتمايز عن الهوى هو أحد أبعاد ’املعرفة املزكاة‘ كما سيلي شرحه‪.‬‬
‫َ َ َ َ ُ ُ َّ ُ َ َ َ َل َّ ُ َ ُ َ ْ َ َّ ُ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ ُ ُ ْ َ َ ْ ُ َن َ ْ ً َ َ َ ْ َ ُ نَ‬
‫‪ ‬وِإذا ِقيل لهم ات ِبعوا ما أنز الله قالوا بل نت ِبع ما ألفينا علي ِه آباءنا أولو كان آباؤهم ال يع ِقلو شيئا وال يهتدو‬
‫﴿البقرة‪ ،﴾١٧٠ :‬وهي آية كريمة تدل على العلم التكاملي (يعقلون) واملسؤول (االهتداء) املتمايز عن املعرفة‬
‫املؤسسة ع لى تقليد اآلباء؛ ذلك التمايز الذي يعد بعدا من أبعاد املعرفة املزكاة‪.‬‬
‫ْ ٌ َّ َّ ْ َ َ ْ َ َ َ َ ْ ُ َ َ ُ ُّ ُ َٰ َ َ َ َ ْ ُ َ ْ ُ ً‬ ‫ََ َ ْ ُ َ َْ َ َ‬
‫س ل َك ِب ِه ِعلم ِإن السمع والبصر والفؤاد كل أول ِئك كان عنه مسئوال ﴿اإلسراء‪ ،﴾٣٦ :‬وهي آية‬ ‫‪ ‬وال تقف ما لي‬
‫كريمة تدل على نفي كل مصادر املعرفة إال املعرفة العالماتية‪ ،‬وفي نفس الوقت تدل على منظومية وسائل املعرفة‬
‫(السمع والبصر والفؤاد)‪ ،‬وثالثا تدلنا على أن املعرفة العلمية املنظومية (التكاملية بين وسائل املعرفة‪ :‬السمع‬
‫والبصر والفؤاد) التمايزية (التي تتمايز عن كل ما هو ليس علما) البد وأن تكون مسؤولة‪.‬‬
‫وأما أن تكون املعرفة العلمية املنظومية املزكاة أمرا مترتبا بشكل ضروري على أمر إلهي عام‪ ،‬فأمثلتها كثيرة‪ ،‬وأهمها‬
‫األمر اإللهي بالعبادة له سبحانه‪ ،‬فاستوجب ذلك علما به سبحانه‪ ،‬واألمر اإللهي بعمران األرض‪ ،‬فاستوجب ذلك علما‬
‫باألرض وما فيها‪ ،‬واألمر اإللهي باالستخالف‪ ،‬فاستوجب ذلك علما بالبشر وما يمتلكون من مقدرات أو مواطن ضعف‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫ذلك النموذج املعرفي‪ .‬فمن أجل معرفة تلك املنظومة املقاصدية وجودا وفهما وتنزيال وتسييرا‬
‫وتقييما وتقويما‪ ،‬البد للمهتم بالدرس املقاصدي من التمكن من ذلك النموذج املعرفي ابتداء‪.‬‬
‫‪ .1.2.2‬العالماتية‪:‬‬
‫ونعني بالعالماتية أن مادة ذلك النموذج املعرفي هي العالمات (اآليات)‪ ،‬سواء آيات قولية‬
‫أو كونية‪ .‬واآلية هي العالمة التي تأوي بنا إلى داللة رابطة بين الشاهد والغائب‪ .‬وتجعلنا نتعرف‬
‫على الغائب إذا حضر‪ ،‬وعلى الشاهد إذا غاب‪ ،‬دون أن نقع في توهم انتفاء الوجود ملجرد انتفاء‬
‫الحضور‪ .‬والعالماتية هي الضمانة األساسية لتحقق التمايز املعرفي اإلسالمي عن الهوى والظن‬
‫والتقليد‪ ،‬سواء للقوي أو لآلباء أو للكثرة‪ .‬والشكل التالي يوضح مفهوم العالماتية (التصور العلمي‬

‫في القرآن) وتمايزها عن غيرها من أنواع املعرفة األخرى‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪ .2.2.2‬املنظومية‪:‬‬
‫وأما كونها منظومية فهو مما يناسب مقاصد النبوة التربوية (تربية شاملة)‪ .‬فالتربية النبوية‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تنطوي على ’تالوة اآليات‘‪ .3‬فالتالوة تعني أن تقرأ (تجمع)‪ 4‬اآليات (العالمات) للذات وللناس بشكل‬
‫’متتال‘ غير مجزأ‪ .‬وما ذلك إال ألن تلك اآليات هي صورة للنفس ولآلفاق من حولنا‪ ،‬والنفس واآلفاق‪،‬‬
‫كما هو معلوم‪ ،‬مترابطان ال ينفكان‪ ،‬وهكذا ينبغي أن تكون اآليات املعبرة عنهما‪ :‬متتاليات غير‬
‫منفكات‪ ،‬كي تؤتي ثمارها في بناء الحقيقة في األذهان بشكل يقترب من الواقع بأكثر مما تقترب منه‬
‫البناءات األخرى التي ال تؤسس على ذلك النموذج املعرفي اإلسالمي‪.‬‬

‫‪ 3‬يتواتر عبر القرآن ذكر مفصل ملهام التربية النبوية‪ ،‬وبنفس الترتيب‪ ،‬وهي ثالث مهام‪ :‬تالوة اآليات – تزكية النفوس –‬
‫تعليم الكتاب والحكمة‪ .‬فضال راجع اآليات الكريمات التاليات‪:‬‬
‫ْ َ ُ ً ِّ ْ َ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ ْ َ َ ُ َ ِّ ْ َ ُ َ ِّ ُ ُ ُ ْ َ َ َ ْ ْ َ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َّ َ ْ ُ‬ ‫ََ‬
‫‪ ‬لق ْد َم َّن الل ُه َعلى امل ْؤ ِم ِن َين ِإذ َب َعث ِف ِيهم رسوال ِمن أنف ِس ِهم يتلو علي ِهم آيا ِت ِه ويز ِك ِيهم ويع ِلمهم ال ِكتاب وال ِحكمة‬
‫ََ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ضال ٍل ُّم ِب ٍين ﴿آلعمران‪﴾١٦٤ :‬‬ ‫َوِإن ك ُانوا ِمن ق ْب ُل ل ِفي‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ ُ ِّ ِّ َ َ ُ ً ِّ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ ْ َ َ ُ َ ِّ ْ َ ُ َ ِّ ُ ُ ُ ْ َ َ ْ ْ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫اب َوال ِحك َمة َوِإن ك ُانوا ِمن ق ْب ُل ل ِفي‬ ‫‪ُ ‬ه َو ال ِذي َب َعث ِفي األ ِم ِيين رسوال ِمنهم يتلو علي ِهم آيا ِت ِه ويز ِك ِيهم ويع ِلمهم ال ِكت‬
‫ََ‬
‫ضال ٍل ُّم ِب ٍين ﴿الجمعة‪﴾٢ :‬‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ِّ‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ُ ً ِّ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ ُ ْ َ َ َ ُ َ ِّ ُ ْ َ ُ َ ِّ ُ ُ ُ ْ َ َ ْ‬
‫اب َوال ِح ْك َمة َو ُي َع ِل ُم ُكم َّما ل ْم َت ُك ُونوا ت ْعل ُمو َن‬ ‫‪ ‬كما أرسلنا ِفيكم رسوال ِمنكم يتلو عليكم آيا ِتنا ويز ِكيكم ويع ِلمكم ال ِكت‬
‫﴿البقرة‪﴾١٥١ :‬‬
‫ومن الطريف‪ ،‬ومما يؤكد على أن تلك املهام مقصودة بترتيبها‪ ،‬كما لفت نظرنا لذلك أ‪.‬د‪ .‬سالمت (البروفيسور‬
‫بكلية االقتصاد بجامعة كادجه مادا‪ ،‬وكان لحرصه على العلم‪ ،‬ولتواضعه أحد طالبنا في ماجستير االقتصاد اإلسالمي‬
‫بالجامعة اإلسالمية اإلندونيسية)‪ ،‬أن النبيين إبراهيم وإسماعيل عليهما السالم‪ ،‬دعوا هللا سبحانه بدعاء مشابه‪ ،‬لكن مع‬
‫تأخير مهمة التزكية للنهاية‪ ،‬لكن هللا سبحانه وتعالى عندما تحدث عن تلك املهام نجده وقد ’صحح‘ موضع التزكية في‬
‫املنتصف‪ ،‬بين تالوة اآليات وتعلم الكتاب والحكمة‪ ،‬إن التزكية لتمثل الركن الركين في النموذج املقاصدي املعرفي‪ ،‬وفي‬
‫النموذج التنموي املستدام املشتق منه‪ ،‬حيث أولوية التزكية أو التنمية التربوية على ما عداها‪ ،‬فالنفس (املنطوية على‬
‫الفجور والتقوى مختلطين) لن تستطيع تمرير العالمات (اآليات) من املجال املعرفي (الحقيقة‪/‬معرفة التنمية) إلى املجال‬
‫السلوكي (الحق‪/‬فعل التنمية) بشكل متناغم إال إذا تم تزكيتها‪ ،‬أي تم تنمية إمكانات التقوى وتم تحجيم إمكانات الفجور‬
‫أوال‪.‬‬
‫‪ 4‬معنى القراءة في العربية وفي القرآن الكريم ال يدل فقط على ’فعل تمرير العين على نص ما بغرض فهم محتواه‘‪ ،‬إنما‬
‫يمتد إلى املعنى العميق لتمرير العين والفهم‪ ،‬أال وهو الوعي أو الجمع‪ .‬فالوعي (ومنه الوعاء) هو وعاء العالمات تمييزا وتعقيال‪.‬‬
‫َ َ‬ ‫َ ْ ُ َ َّ َ ُ َ َ َ َّ ْ َ َ ُ َّ َ َ َ َ ُ ُ َ‬
‫وء َوال َي ِح ُّل ل ُه َّن أن‬ ‫ففي اآلية الكريمة التالية تتضح داللة القراءة بمعنى الجمع‪ :‬واملطلقات يتربصن ِبأنف ِس ِهن ثالثة قر ٍ‬
‫َ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫ْ‬
‫َيك ُت ْم َن َما خل َق الل ُه ِفي أ ْر َح ِام ِه َّن ﴿البقرة‪ .﴾٢٢٨ :‬فالقرء هنا هو مدة اجتماع الدم في الرحم (الحيضة الواحدة)‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫واملعرفة املقاصدية‪ ،‬كي تؤتي ثمارها تلك‪ ،‬البد أن تكون منظومية‪ 5‬على مستويات سبعة‬
‫ْ‬
‫الرئيسين‬ ‫هي‪ )1( :‬التكامل بين مصادر العالمات (وحيا وأنفسا وآفاقا)‪ )2( ،‬وبين ُبعدي العالمات‬
‫(الغيب والشهادة)‪ )3( ،6‬وبين وسائل جمع العالمات (سمعا وبصرا وفؤادا)‪ )4( ،‬وبين موضوعات‬
‫العالمات (حقوال علمية)‪ )5( ،‬وبين العمليات العقلية الالزمة لفهم العالمات ودالالتها تفصيال (نظرا‬
‫وتفكرا وتفقها)‪ ،‬وتركيبا (تعقال وإحاطة وتذكرا وتدبرا)‪ )6( ،‬وبين فاعلي العلم (الباحثين من شتى‬
‫الحقول‪/‬التعاون)‪ )7( ،‬وبين العملية العلمية وما يترتب عليها من مسؤولية (التكامل الشخص ي)‪.‬‬
‫وبناء املعرفة عبر تجميع العالمات مفصلة ومعقلة هو خطوة أساسية لخدمة مقصدة التزكية من‬
‫جهة اإليجاب‪ ،‬في حين تتكفل املعرفة التمايزية (الفقرة التالية) بخدمة مقصد التزكية من جهة‬
‫السلب‪ .‬والشكل التالي يوضح أشكال التكامل املعرفي (منظومية املعرفة) تلك‪.‬‬

‫‪ 5‬نقصد باملنظومية هنا أن تتحلى تلك املعرفة بخصائص املنظومات العامة‪ ،‬كما يعرفها جاسر عودة (اإلدراكية‪ ،‬والكلية‪،‬‬
‫وتعددية األبعاد‪ ،‬والهيراركية متعددة األبعاد‪ ،‬واالنفتاحية‪ ،‬واملقاصدية)‪ ،‬وكما أدخلنا عليها التعديل الخاص باستيعاب‬
‫مقولة ’األنتروبي‘ تعبيرا عن تواجد قوى الفجور وقوى الشيطان‪ ،‬التي تتسبب في خلخلة الروابط املنظومية بين مكونات‬
‫املنظومات املعرفية من جهة‪ ،‬واملعلوم بالضرورة من الحقيقة والحق من جهة أخرى‪ .‬فضال راجع القسم الخاص بنظرية‬
‫النظم في الجزء الخاص بـ ’مقدمات في التصور والتصرف‘‪.‬‬
‫‪ 6‬على الرغم من أن مجال العالمات هو الشهادة أساسا‪ ،‬إال إنها قد تؤول بنا إلى مشهود (كأن نرى سائال يغلي عند ‪100‬‬
‫درجة‪ ،‬فنحكم أنه ماء؛ فالعالمة هنا (درجة الغليان) تدل على مشهود (املاء)‪ .‬وقد تؤول بنا إلى غائب (كأن نرى أثر ْ‬
‫قدمين‬
‫غيب (اإلنسان))‪.‬‬ ‫متجاورتين على الرمال‪ ،‬فنحكم أن إنسانا ما قد مر من هناك؛ فالعالمة هنا (آثار األقدام) تدل على ُم ِّ‬
‫والتكامل املعرفي بين الشهادة والغيب يعني أال نغفل عن التعرف على الغيب ملجرد أنه ليس مشهودا بالنسبة لنا‪.‬‬
‫وفي إطار بحثنا الراهن‪ ،‬يتجاهل خطاب التنمية اإلندونيس ي‪ ،‬بشكل شبه تام‪ ،‬أثر متغيرات البيئة النفسية (إلهام‬
‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الفجور‪ ،‬إلهام التقوى‪ ،‬أمانة الوعي‪ ،‬التدسية‪ ،‬التزكية‪ ،‬ملة الشيطان‪ ،‬وملة امللك)‪ ،‬كما يتجاهل أثر الفعل اإللهي في مجاالت‬
‫التنمية املختلفة‪ ،‬رغم الديباجات اإلنسانية واألخالقية والدينية‪ .‬وفي نفس الوقت يتم التركيز بشكل شبه تام على أثر‬
‫املؤسسات والقانون والدولة‪.‬‬
‫ويظهر ’فارق التركيز‘ هذا ميال معرفيا نحو الظاهر الحاضر‪ ،‬وغفلة عن الباطن الغائب‪ .‬يحدث ذلك امليل‪ ،‬رغم‬
‫أن ُج ِّل عمليات التنمية (النمو) تحدث على ذلك املستوى الباطن الغائب‪ ،‬سواء على املستوى الفيزيائي (فضال راجع القسم‬
‫الخاص حول املادة السوداء والطاقة السوداء في الكون)‪ ،‬أو على املستوى الحيوي البيولوجي (الجنين – النبات – التغذية‬
‫والنمو في اإلنسان ‪... -‬إلخ)‪ .‬إن التركيز على الشهادة وقصر الرصد والقصد والجهد التنموي عليها‪ ،‬وإغفال الغيب التنموي‪،‬‬
‫لهو مما يورث تشوها في التصور‪ ،‬ووهنا في التخطيط التنموي‪ ،‬ومن ثم قصوره عن بلوغ مرماه‪ ،‬سواء الكائن (االستقاللية‬
‫والتقدم والعدالة واملعمورية)‪ ،‬أو الواجب مما ينبغي أن يكون (تنمية العمل الصالح في الدنيا من أجل املكانة الصالحة في‬
‫اآلخرة)‪ .‬وعلى ذكر ’مرمى‘ التنمية‪ ،‬يمكن توضيح ما يسببه إغفال الغيب من تشوه في التصور‪ ،‬ومن ثم وهن في التخطيط‪،‬‬
‫باستعارة من لعبة كرة القدم‪ .‬فمثل من يركز على الشهادة ويهمل الغيب‪ ،‬رغم أن مركز ثقل التنمية في الغيب وليس في‬
‫الشهادة‪ ،‬مثله مثل من يريد ركل الكرة وهو يظنها ’بالونة‘ (تشوه التصور)‪ ،‬فتراه يركلها بضعف ووهن (وهن التخطيط)‪،‬‬
‫فال تتحرك من موضعها (قصور عن بلوغ املرمى)!‬
‫‪4‬‬
‫‪ .3.2.2‬املعرفة املزكاة‪:‬‬
‫ونعني بالتزكية في إطار اإلطار النظري العام لهذا البحث عدة أمور‪ ،‬أهمها التمايز املعرفي‬
‫واملسؤولية املعرفية‪.‬‬
‫أ‪ .‬املعرفة املتمايزة‪:‬‬
‫ونعني بكونها متمايزة أمرين‪ )1( :‬أنها تمايز بين العالمات الدالة على األشياء‪ ،‬سعيا لتفصيلها‪،‬‬
‫ومن ثم فقهها‪ ،‬تمهيدا لتركيبا وتعقيلها واإلحاطة بمعناها الكلي ضمن املنظومة الوجودية الشاملة؛‬

‫‪5‬‬
‫إذ لن يتسنى الفهم والتعقيل‪ ،‬فضال عن اإلحاطة‪ ،‬إال بالتفصيل والتبيين أوال‪ ،7‬وهو املعنى املتضمن‬
‫في الخاصية األولى (العالماتية)‪ )2( ،‬واألمر الثاني أن أمر التكامل املعرفي ليس مطلقا‪ ،‬فمن مصادر‬
‫املعرفة ومن وسائلها ومن فاعليها ما ينبغي التمايز عنه‪ ،‬كلية أو بشكل انتقائي‪ .‬والتمايز املعرفي هو‬
‫نتيجة مباشرة مترتبة على حقيقة النفس البشرية التي تجمع إلى التقوى فجورا وإلى التزكية تدسية‪.‬‬
‫فاملعرفة ال تتواجد بشكل منعزل‪ ،‬وإنما تتواجد متداخلة من ذلك املزيج النفس ي‪ ،‬وهو ما يحتم على‬
‫فاعلي النموذج املعرفي اإلسالمي البقاء في حالة تيقظ دائم تجاه ذلك التداخل‪ ،‬بما فيه التداخل‬
‫داخل نفس الباحث‪ .8‬ونقصد بكونها فعالة أن دور املتعلم (الباحث) في بناء تلك املعرفة ليس دورا‬
‫سلبيا متلقيا‪ ،‬بل هو دور فعال يؤثر ويتأثر بالبناءات املعرفية قبل وحيال وبعد تشكلها‪ ،‬وهو ما‬
‫يطرح قضية املعرفة املسؤولة‪.‬‬
‫ب‪ .‬املعرفة املسؤولة‪:‬‬
‫ونقصد بكونها معرفة مسؤولة أنها ال تعرف ما يعرفه اآلخرون من عزل بين واليتي املثال‬
‫والواقع‪ ،‬أو ما ينبغي أن يكون وما هو كائن‪ ،‬وهي األزمة األخالقية الراهنة للمعرفة املتعلقة بإدارة‬
‫الدولة الحديثة طبقا لوائل حالق‪ .9‬فبناء الحقيقة الذي يتم في الذهن‪ ،‬والذي يؤثر في‪ ،‬ويتأثر‬
‫باتجاهات وتحيزات الباحث‪ ،‬البد وأن يتبعه بناء للحق على أرض الواقع‪ ،‬بل البد من أن يترافق‬
‫معه‪ ،‬عبر تغيير النفس باملعرفة التي تتم في الذهن على األقل‪ .‬وهو املفهوم الذي كان حاضرا بوضوح‬
‫لدى الجيل الذهبي للمسلمين‪ ،‬فقد روي عن الفاروق رض ي هللا عنه أن جيله كانوا يحفظون اآلية‬
‫من القرآن‪ ،‬فال يحفظون غيرها قبل أن يعملوا باألولى‪ .‬وللمعرفة املسؤولية أثران رئيسان؛ (‪ )1‬أثر‬
‫بعدي يتلو املعرفة‪ ،‬ويتمثل في بناء الحق واقعا‪ ،‬كما تم بناؤه في الذهن تصورا‪ )2( ،‬وأثر قبلي‪ ،‬يتمثل‬
‫في اختيار موضوع املعرفة‪ ،‬طبقا ملنظومة األولويات املقاصدية‪ ،‬فال معرفة من أجل املعرفة‪ ،‬بل‬
‫هناك سلم لألولويات بشكل دائم يطرح أجندة بحثية تتسق ومتطلبات املنظومة املقاصدية وحالتها‪،‬‬
‫وهذا األثر القبلي إنما هو أثر بعدي ملعرفة عالماتية متمايزة مسؤولة سابقة‪.‬‬
‫‪ .4.2.2‬ثنائية التكامل – التمايز املعرفي وحرية التعاطي مع األطر النظرية املختلفة‪:‬‬
‫وثنائية التكامل – التمايز املعرفي تمنح الباحث املسلم حرية ال مثيل لها في التعاطي‪،‬‬
‫استيعابا (فهما وتفهما وتفاهما)‪ ،‬وتتميما (تقييما وتحسينا وتقويما)‪ ،‬مع كافة تيارات املنجز املعرفي‬

‫ُ َ‬ ‫َ‬
‫ات ِلق ْو ٍم َي ْع ِقلون ﴿الروم‪﴾٢٨ :‬‬ ‫‪َ 7‬ك َٰذل َك ُن َف ِّ ْ َ‬
‫ص ُل اآلي ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ 8‬كان النبي (ص)‪ ،‬كما روى الحاكم في املستدرك‪ ،‬يبدأ حديثه إذا كانت لديه حاجة يجمع الناس لها‪ ،‬بمقدمة يستغيذ‬
‫فيها من شرور أنفس الحاضرين‪ ،‬بمن فيهم نفسه الشريفة‪ ،‬وهو مستوى فائق التطور من الوعي اإلنساني‪ ،‬يجعل ذلك‬
‫الوعي محررا بشكل شبه تام‪ ،‬ويطلق طاقاته التطورية إلى أقص ى حد‪ ،‬وصوال لتلقي الوحي!‬
‫‪ 9‬وائل حالق‪ ،‬مرجع سبق ذكره‬
‫‪6‬‬
‫اإلنساني‪ ،‬خاصة إذا تكاملت تلك الثنائية (ثنائية التكامل‪-‬التمايز املعرفي) مع مقصد الشهادة‬
‫اإليجابية املتسقة‪ ،‬والتي تبدو فيها املهمة النقدية واجبا دينيا‪ .‬وبفضل هذه الحرية تمكنا في بحثنا‬
‫هذا من توظيف العديد من املقوالت النظرية التعقيلية واملنهجية التفصيلية في مجال الفلسفة‬
‫واللغة ونظرية النظم ونظرية الخطاب والسياسات العامة والقانون والتربية‪ ،‬دون تحسس متحفظ‬
‫تماه مستهوى‪ .‬فتحت مظلة الشهادة اإليجابية املتسقة املدعومة بالنظرة املعرفية التكاملية‪-‬‬ ‫أو ٍ‬
‫التمايزية‪ ،‬يتم استيعاب نموذج التنمية املستدام الشائع ونقده‪ ،‬ويتم استيعاب نموذج التنمية‬
‫اإلندونيسية املستدامة ونقده‪ ،‬ويتم استيعاب نموذج تنمية التربية القانونية اإلندونيس ي ونقده‪،‬‬
‫ويتم اقتراح مقرر دراس ي ملرحلة دكتوراه القانون اإلسالمي من أجل تنمية مستدامة مقاصدية‪ ،‬بما‬
‫ينطوي عليه ذلك من استيعاب املقرر الحالي ونقده‪.‬‬
‫لقد منحت تلك الثنائية القرآنية حرية واسعة في التحرك من أجل بناء معرفة ذات صلة‬
‫قوية بالواقع (واقع خطة التنمية طويلة األجل اإلندونيسية في حالة هذا البحث)‪ ،‬سواء على مستوى‬
‫واقع النص أو واقع السياق املحيط به‪ .‬فاجتمع تحت مظلتها مناهج تحليلية عدة أهمها منهج تحليل‬
‫النظم (مقاصدية البنائية – كليتها ‪ -‬انفتاحيتها – أنتروبي النظم – الهيراركية املعتمدة – نظم‬
‫املعلومات – النظم الحيوية)‪ ،‬ومنهج تحليل الخطاب النقدي (جدل السياق والنص – جدل‬
‫الخطابات داخل النص – جدل النماذج داخل الخطاب – جدل املفاهيم داخل النموذج –‬
‫تحيزات الخطاب الوجودية واملعرفية والقيمية‪ ،‬وعالقاتها بجدل القوة في سياقات النص)‪ ،‬ومنهج‬
‫التحليل الفلسفي ثالثي األبعاد (الوجود – املعرفة – القيم)‪ ،‬ومنهج التحليل اللغوي (الداللة‬
‫اللغوية – الفروق اللغوية – املجازاللغوي – التغليظ والتخفيف اللغوي)‪ ،‬ومنهج التحليل السياس ي‬
‫(تحليل التواصل في مجتمع النخبة)‪ ،‬ومنهج التحليل الثقافي (التحليل األنثروبولوجي – تحليل النظم‬
‫الثقافية)‪ ،‬ومنهج التحليل القانوني (مادة القانون – هيكل القانون – تطبيق القانون – ثقافة‬
‫القانون)‪ ،‬ومنهج التحليل التربوي (املقررات – املنهاجيات – املتربي – املربي – بيئة التربية)‪ ،‬ليسعها‬
‫ِّ‬
‫املعقل املسؤول‪.‬‬ ‫ِّ‬
‫املفصل ِ‬ ‫كلها املنهج القرآني ِ‬

‫‪7‬‬

You might also like