Professional Documents
Culture Documents
المبحث الثالث
األساس التداولي في استعمال المنزلة
يكتمل الفضاء االستداللي عند سيبويه بقيام لسانيّات المحاور إلى جانب لسانيّات الظواهر,
وننوه بهذا
إن الخصائص الصوريّة للنماذج تجعل بعضها ذا واقعيّة بكفايتها التجريبيّةّ . من حيث ّ
الخصوص إلى فكرة القيمة القانونية التي تقد ّم قوالً ما بما له من سلطة معينة ترتبط بصورة وثيقة
ي الذي يتموضع فيه المتكلّم فان مدار بحثنا سيكون ضمن المجال الخطاب ّ بالفرضية .ومن هنا ّ
والمخاطب باعتماد المنزلة وسيلة لتقديم الحجج ,بما يؤدّي إلى نتيجة معينة .فالحجاج بالمنزلة
يتمثّل في سلسلة استنتاجيّة ( متواليات األقوال ) ,فتكون الحجة بالمنزلة في ضوء هذا اإلطار
ي آخر بمختلف هيئاته( لفظ ,أو جملة, عبارة عن عنصر داللي يقدّمه سيبويه لصالح عنصر دالل ّ
ي).
أو مشهد ,أو سلوك غير لفظ ّ
ول ّما كان فعل الحجاج يفرض على المخاطب نمطا ً معيّنا ً من النتائج بوصفه االتجاه الوحيد
فان األداءات الحوارية -المباشرة وغير المباشرة -جاءت في أن يسير فيه الحوارّ , الذي يمكن ْ
كتاب سيبويه متنوعة ,تبعا ً لتغاير العالقات التخاطبية باإلفادة من المقام ,فترى السبيل االحتجاج ّ
ي
يتر ّجح فيه العمل على النظر.
إنّنا نقف على هذه الحقائق الحواريّة االستدالليّة في الكتاب عبر( السؤال والمنزلة )؛ إذ يُعدّ
استعمال أسلوب االستفهام من اآلليات اللغوية التوجيهية؛ ألنّها تو ّجه المتلقي نحو محتواها لإلجابة
أن يعرض للمسائل في هيأة أسئلة و ّجهها إلى الخليل تقوية لموقفه عنها .وقد آثر سيبويه أحيانا ً ْ
ي؛ قال سيبويه ((:وسألته عن قوله :ما تدوم لي س ْوق كالم من يحظى باحترام علم ّ يب َالحجاج ّ
ّ
أدوم لك ,فقال :ليس في هذا جزاء ,من قبل أنّ الفعل صلة لما ,فصار بمنزلة الذي ,وهو بصلته
كالمصدر ,ويقع على الحين كأنّه قال :أدوم لك دوامك لي .فما ودمتُ بمنزلة الدوام ,ويدلّك على
أنّ الجزاء ال يكون ههنا أنّك ال تستطيع ْ
أن تستفهم بما تدوم على هذا الح ّد))(.)i
يستعين سيبويه بسؤال الخليل ال لمجرد االسترشاد ,فتعزيز الجواب بسرد األدلة هو ردّ
العتراض أو أشكال قد يُثيره جوابٌ مثل( ليس في هذا جزاء)؛ ألنّه بمنزلة (الدوام) .فالجزاء ال
ألن األصل فيه ْ
أن أن تستفهم ))؛ ّ يقع في األسماء ويربطه باالستفهام قائالً (( :أنّك ال تستطيع ْ
يدخل على األفعال.
صه في صورة استدالليّة طوى فيها مقدّمات للوصول إلى نتيجة أنّه ال لقد بنى سيبويه ن ّ
صه ً
يجوز الجزاء ههنا ,مس ّخرا االستفهام كآلية لبلوغ القصد من الخطاب ,وتنبعث المنزلة من ن ّ
ي في ذهن المحاور ,لما يدور من تساؤل في ذهن المتلقي.
لتكون بمثابة معادل موضوع ّ
ّ
يوظف االستفهام وتترآى مسألة تتعلَّق بالطبيعة المقصديّة للسؤال ,تكمن في ّ
أن سيبويه قد
ال لينتظر إجابة من المتلقي ,وإنّما لحصول التوجيه في مخاطبه ,والنظر في المسائل التي
ترى عبدَهللا
عرضها عليه ,وهي متصلة بخدمة المقصد الذي أراده ,قال سيبويه ((:وتقول :أين َ
قائماً؟ وهل تُرى زيدا ً ذاهباً؟ ألنّ هل وأين كأنّك لم تذكرهما؛ ألنّ مابعدهما ابتداء ,كأنّك
قلت:أتُرى زيدا ً ذاهباً؟ وأتظنُّ عمرا ً منطلقاً؟ْ .
فإن قلت :أين وأنت تريد ْ
أن تجعلها بمنزلة فيها إذا
ً ()ii
استغنى بها االبتداء ،قلت :أين تُرى زيدٌ ,وأين تُرى زيدا )) .ويعدّ هذا اإلجراء بتطويع مفهوم
المنزلة مع االستفهام في بناء الخطاب ضربا ً من اإلبداع؛ إلدراكه أنّه أمام لغة طبيعية وليست لغة
صورية .وهو مسلك حصيف في بيان األثر اإلسنادي لالستفهام ومنزلته في تكوين الجملة وإن لم
تكن وظيفته اإلخبار ،بقياسه الى الجار والمجرور الدال على الظرفية( فيها).
ويمثّل قانون اإلضافة أحيانا ً قيمة جوهرية ,فنضيف عبره اضطالع المحا ِور للقيام
بوظيفتين في الوقت نفسه ,فيكون مرة عارضاً ,ومرة معترضا ً ُمنشأ ً معرفةً تناظرية ,وطريق هذه
صه إذ يقولْ ((:
وإن المرتبة حمولة االستفهام والمنزلة .فيتألق مسلك سيبويه باستعمالها جدالً في ن ّ
المنون .قيل له :ألستَ تعلم
ّ ففرق بينه وبين
مخالط بَ َدنِه دا ٌءَّ ,
ِ زعم زاعم أنّه يقول :مررتُ برج ٍل
أنّ الصفة إذا كانت لألول فالتنوين وغير التنوين سوا ٌء ,إذا أردتَ بإسقاط التنوين معنى
مالزمك .فإنّه ال
ِ مالزم أبيك ,أو
ِ مالزم أباك ,ومررتُ برجل ٍ التنوين ,نحو قولك :مررتُ برجل
أن يقول :نَعَ ْم .وإالّ خالف جميع العرب والنحويين ,فإذا قال ذلك قلت :أفلست تجعل يجد بُ ّدا ً من ْ
منوناً ,وكان لشيء من سبب األول ,أو التبس به بمنزلته إذا كان لألول؟ فإنّه هذا العمل إذا كان ّ
قائل :نَعَم .وكأنّك قلت :مررتُ برجل مالزم ,فإذا قال ذلك ,قلت له :ما بال التنوين وغير التنوين
استويا حيث كانا لألول ,واختلفا حيث كانا لآلخر ,وقد زعمتَ أنّه يجري عليه إذا كان لآلخر
كمجراه إذا كان لألول.)iii())...
الرد على بعض القضايا باستعمال ألفاظ من قبيل قد يقتضي الجانب التعليمي عند سيبويه ّ
"يقول -قيل -قائل " ...التّي تُبنى على اعتراضات مفترضة من قبل معترض هو نفسه العارض,
وإال أُتهم بمخالفته جميع
فيقدّم أدلته وحججه على تلك االعتراضات مستدرجا ً متلقيه إلى مجاراته ّ
العرب والنحويين حتى ينساق لما أراده قائالً ( :نَ َعم ) .وهذه الطبيعة البنيوية للجواب الراجعة إلى
أن يقدّم عددا ً من المقدمات تكفي لحصول الفهم واإلدراك. طبيعة المخاطب ,احتاجت من المجيب ْ
وهو مبدأ تتحكم به مقتضيات التداول فالمقاصد لها أطرها في ذهن سيبويه ,يت ّم توصيلها إلى
المتلقي عن طريق مراعاة اللغة ,ما يُظهر أهمية المخاطب لدى سيبويه فيتجاوز باإلسناد الوظيفة
سد بهي ,بتوظيفه لضمير المخاطب( أنت ) مع الفعل( تعلم ) ليج ّ النحويّة إلى المعيار التداول ّ
تواصالً مع مخاطبه ,ويشي بالقول إنّه بنى خطابه في الكتاب على ملمح مقاصدي افترض فيه
وجود متلق لرسالته ,وهو ما يظهر في استعماله ضمير المخاطب( أنت ) المضمر في الفعل
أن خصوصية سيبويهيّة (تعلم) .وكثُر ما استعمل سيبويه األمر من هذا الفعل؛ إذ يرى المتمعن ّ
ألن هذا الفعل يصنّف ضمن األفعال التوجيهية ,فيخرجه سيبويه تأتت له من بين الصيغ الفعلية؛ ّ
عن داللة األمر إلى قصد إعمال الذهن عند المتلقي إليه ,وتقرير الحكم له من دون ممارسات
وجوب األمر عليه ,فاإلخبار يكون بأسلوب العرض ال الوجوب؛ ليُحدِث التأثير في المتلقي ومن
ث َّم انجاز فعل معين في مرحلة تالية إذ يقول:
(( واعلم أنّ من العرب َمن يرفع سالماً ,إذا أراد معنى المبارأة كما رفعوا "حنان".
سمعنا بعض العرب يقول لرجل :ال تكونَنَّ مني في شيء إالّ سال ٌم بسالم ,أي :أمري وأمرك
المبارأة والمتاركة ،وتركوا لفظ ما يرفع ,كما تركوا فيه لفظ ما ينصب؛ ألنّ فيه ذلك المعنى؛
وألنّه بمنزلة لفظك بالفعل))(.)iv
ترتسم مظاهر التضامن في النص أعاله بين طرفين هما :فعل األمر( اعلم ) ومفهوم
موجها ً إيّاها نحو
مكونين حجاجيين تُعرض عبرهما الفكرة ويشرحها بتمعّنّ , (المنزلة) بوصفهما ّ
المتلقي ,فيتحقق التواصل واالنتفاع بين الطرفين .ويعي أبو بشر ما يمكن ْ
أن يو ّجه إلى قوانينه
فينص على وثاقها بقول ":سمعنا بعض العرب " .فالنص على ُّ المبنية على االستقراء من انتقاد
معايير السالمة حماية للقاعدة النحوية ,ومثله قوله ((:اعلم أنّ ناسا ً من العرب يجعلون هل ّمُ
بمنزلة األمثلة التي أُخذت من الفعل يقولون :هلُ َّم وهلُ ّمي وهلُ ّما وهلُ ّموا ))(.)v
كانت المنزلة رابطا ً حجاجيّا ً إلحداث موازنة بين لفظ هو موضع نظر ببنيته ،ال بمعناه وقد
سلكت بعض العرب فيه مسلكا خالفوا فيه بقية نظائره من أسماء األفعال فاستدعى سيبويه هذا
الرابط في إعادة النظر إلى هذا المسلك الذي يشبه طريقة إسناد الضمائر إلى األفعال؛ ليتبع هذا
المحور التقابلي خطابا موجه إلى متعلّم.
نتائج البحث:
عول سيبويه كثيرا ً على مفهوم (المنزلة ) على نحو يُلفت االنتباه ,مما جعلنا نتتبع توظيفه لها
ّ
عبر نصوص الكتاب لنخرج بنتائج أبرزها:
-1لقد كانت المنزلة نفسا ً حجاجيا ً يت ّم بها االستدالل على المسائل اللغوية.
ي في رؤيته إلى المنزلة من منظور كونها تقنية مركبة ي السيبويه ّ -2تجلى اإلبداع الحقيق ّ
ّ
تعتمد الرمزية في ترجمة ما في التفكير الباطن وملمحه المميّز للرمز أن معناه ال يتغيّر من
جانب ,وتعتمد التداعي من جانب آخر في ّ
أن التثبيت للمعنى ال يستبعد إمكانية تعدّده.
-3المنزلة بناء لغوي شيّده خيال سيبويه ,فتجاوزت عنده وظيفتها األولية( المشابهة ) إلى ْ
أن
تكون إطارا ً تقع فيه األحداث ,فهو يقيم بها قضية بعد قضية؛ ويخوض في مسائل اللغة عرضا ً
وتحليالً واستنتاجا ً في مقاربات بين العقل والنقل تن ّم عن بعد نظر ودقة مالحظة.
-4استعمال سيبويه للمنزلة بهدف اإلقناع بناه على اقتراحات سابقة بشأن المعرفة اللغوية
واإلدراك المتوقع وعناصر السياق( المتكلّم والمخاطب والمقام ) .فالتوصل إلى إدراك المقصد
الحقيقي حينما يخرج القول عن معناه الحقيقي ,وعن تركيبه األصل ،ال بدّ فيه من مراعاة هذه
األمور.
-5لقد كانت المنزلة مفهوماً:
أ -لالكتشاف :فاستعان بها سيبويه في تطبيق اإلجراءات المحدّدة على النصوص اللغوية
بصفة آلية م ّكنته من بناء نحو اللغة.
ب -للتقرير :بوصفها طريقة عملية استعملها سيبويه في بيان مقبوليّة التراكيب واأللفاظ
المقترح للمادة المعروضة.
ت -للتقييم :فأمام المادة اللغوية ووصفها أبَانَ لنا سيبويه عن معرفة النحو األليق عبر رصد
ظواهره.
ثبت المظان