Professional Documents
Culture Documents
الاعتكاف2
الاعتكاف2
التّعريف به -مشروعيّته -والحكمة منه -بيان أنواعه -شروطه -مدّته -مبطالته -ما يُباح للمعتكف فعلُه
األول .التّعريف باالعتكاف :المبحث ّ
ْي َم ْعكُوفا شرا ،ومنه قوله تعالىَ {:وا ْل َهد َ وحبس النّفس عليه ،خيرا كان أو ّ ُ لغة :االعتكاف هو لزوم الشّيء
أ َ ْن يَ ْبلُ َغ َم ِحلَّه} ،قال قتادة رحمه هللا :أي محبوسا.
اجد} ،أي مقيمون ،ومنه قوله تعالىَ {:ما َه ِذ ِه س ِش ُروهُنَّ َوأ َ ْنت ُ ْم عَا ِكفُونَ فِي ا ْل َم َ وقال عز وجلَ {:وال تُبَا ِ
الت َّ َماثِي ُل الَّتِي أ َ ْنت ُ ْم لَ َها عَا ِكفُونَ } ،أي :مالزمون لها مقيمون عليها ،وقال سبحانهَ {:وا ْنظ ْر إِلَى إِلَ ِهكَ الَّذِي
ُ
علَ ْي ِه عَا ِكفا} ،أي :مقيما عليه مالزما له. َظ ْلتَ َ
والتاء في االعتكاف تفيد ضربا من المعالجة والمزاولة ،ألن فيه كلفة ،كما يقال :عمل واعتمل ،وقطع
واقتطع.
التقرب إلى هللا عز وجل. ّ شرعا :هو لزوم المسجد واإلقامة فيه بنيّة
صالة ،أ ّما االعتكاف فهو أع ّم من ذلك. الرباط بنيّة انتظار ال ّ الرباط أنّ ّ والفرق بينه وبين ّ
ظمه ،كما كان المشركون قال شيخ اإلسالم رحمه هللا ":ول ّما كان المرء ال يلزم ويواظب إالّ من يحبّه ويع ّ
يعكفون على أصنامهم وتماثيلهم ،ويعكف أهل الشّهوات على شهواتهم ،شرع هللا ألهل اإليمان أن يعكفوا
وأخص البقاع بذكر اسمه سبحانه والعبادة له بيوته المبنية لذلك ،فلذلك كان ّ على ربّهم سبحانه وتعالى.
االعتكاف لزوم المسجد لطاعة هللا ".
سو ُل هللاِ صلى هللا ويُس ّمى االعتكاف ِج َوارا؛ لما رواه البخاري عن عائشة رضي هللا عنها قالت ":كَانَ َر ُ
س ِج ِد ،فَأ ُ َر ِ ّجلُهُ َوأَنَا َحائِض ". سهُ َو ُه َو ُم َجا ِور فِي ال َم ْ ص ِغي ِإلَ َّي َرأْ َعليه وسلم يُ ْ
الخدري رضي هللا عنه أَنَّ النَّ ِب َّي صلى هللا عليه وسلم قَالَِ (( :إ ِنّي ُك ْنتُ ّ وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد
اخ َر )).أ ُ َجا ِو ُر َه ِذ ِه ال َعش َْر ،ث ُ َّم َبدَا ِلي أ َ ْن أ ُ َجا ِو َر ال َعش َْر األ َ َو ِ
وروى عبد الرزاق في "المصنّف" والبيهقي في "الكبرى" عن ابن عبّاس وابن عمر رضي هللا
ص ْوم ". ار ِإالَّ بِ َ
عنهما قاال ":الَ ِج َو َ
وكره العلماء تسميته خلوة ،قال ابن هبيرة -كما في " مطالب أولي النّهى " ( ":-)228/2وهذا االعتكاف
المشروع ال يح ّل أن يس ّمى خلوة " .قال :وكأنّه نظر إلى قول بعضهم:
إذا خلوت الدّهر يوما فال تقل *** خلوت ولكن قلي علي رقيب
قال ابن مفلح رحمه هللا في "الفروع" ( ":)147/3ولع ّل الكراهة أولى ".
المبحث ال ّثاني :مشروعيّته:
اجد} ،ولفعل س ِ ش ُروهُنَّ َوأ َ ْنت ُ ْم عَا ِكفُونَ فِي ا ْل َم َ أجمع العلماء على مشروعيّة االعتكاف؛ لقوله تعالىَ {:وال ت ُ َبا ِ
النبي صلى هللا عليه وسلم. ّ
طائِ ِفينَس َما ِعي َل أ َ ْن َط ِ ّه َرا بَ ْيتِ َي ِلل َّ َ َ
واالعتكاف من الشرائع القديمة ،كما قال تعالىَ {:وع َِه ْدنا إِلى إِب َْرا ِهي َم َوإِ ْ
َوا ْلعَا ِك ِفينَ } ،وقال تعالى عن مريم{:فَات َّ َخذَتْ ِم ْن دُونِ ِه ْم ِح َجابا}.
محررة له ،وكانت ّ قال شيخ اإلسالم رحمه هللا ":وألنّ مريم عليها السالم قد أخبر هللا سبحانه أنّها جعلت
مقيمة في المسجد األقصى في المحراب ،وأنّها انتبذت من أهلها مكانا شرقيا ،فاتخذت من دونهم
حجابا ،وهذا اعتكاف في المسجد واحتجاب فيه "اهـ.
ف فِي َ ْ َ ْ َ َ
ع َم َر رضي هللا عنه نذ َر فِي ال َجا ِه ِليَّ ِة أن يَ ْعت ِك َ عمر رضي هللا عنه :أنّ ُ َ وروى البخاري عن ابن
ْ
ف بِنذ ِركَ )). َ َ
سو ُل هللاِ صلى هللا عليه وسلم (( :أ ْو ِ س ِج ِد ا ْل َح َر ِام لَ ْيلَة ،قَا َل لهُ َر ُ
َ ا ْل َم ْ
المبحث ال ّثالث :الحكمة من تشريع االعتكاف.
فإنّ االعتكاف -وإن كان قربة -لم يرد في فضله حديث صحيح ،قال أبو داود رحمه هللا :قلت ألحمد رحمه
هللا :تعرف في فضل االعتكاف شيئا ؟ قال :ال ،إالّ شيئا ضعيفا.
ومن األحاديث الّتي ال تص ّح في الباب ":من اعتكف ليلة كان له كأجر عمرة ،ومن اعتكف ليلتين كان له
كأجر عمرتين ".
ويظهر لنا فضل االعتكاف من خالل معرفة ِحكْمة مشروعيّته ،فقد قال ابن القيّم رحمه هللا في " زاد المعاد
"(:)82/2
َ ّ
" ل ّما كان صالح القلب واستقامته على طريق سيره إلى هللا تعالى متوقفا على جمعيّته على هللا ،ول ِ ّم شعثه
بإقباله بالكلّية على هللا تعالى ،فإنّ شعث القلب ال يل ّمه إالّ اإلقبال على هللا تعالى.
ول ّما كان فضول الطعام والشّراب ،وفضول مخالطة األنام ،وفضول الكالم ،وفضول المنام ،مما ّ يزيده شعثا،
ض ِعفُه أو يَعُوقُه ويُوقِفُه ،اقتضت رحمة العزيز سي ِْره إلى هللا تعالى ،أو يُ ْ ويشتّته في ك ّل واد ،ويقطعه عن َ
الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشّراب،ويستفرغ من القلب أخالط ّ
المعوقة له عن سيره إلى هللا تعالى ،وشرعه بقدر المصلحة بحيث ينتفع به العبد في ّ الشّهوات
يضره وال يقطعه عن مصالحه العاجلة واآلجلة. ّ دنياه وأخراه ،وال
وشرع لهم االعتكاف الّذي مقصوده وروحه عكوف القلب على هللا تعالى ،وجمعيّته عليه والخلوة به
واالنقطاع عن االشتغال بالخلق واالشتغال به وحده سبحانه ،بحيث يصير ذكره وحبه واإلقبال بدلها ،ويصير
سه باهلل بدال عن قرب منه ،فيصير أ ُ ْن ُ اله ّم كلّه به ،والخطرات كلّها بذكره ،والتفكّر في تحصيل مراضيه وما يُ ِ ّ
أنسه بالخلق ،فيُ ِعدّه بذلك ألنسه به يوم الوحشة في القبور حين ال أنيس له ،وال ما يفرح به سواه ،فهذا
مقصود االعتكاف األعظم "اهـ.
المبحث ال ّرابع:في ذكر أنواعه:
مستحب ،وواجب. ّ االعتكاف نوعان:
بالرسول صلوات هللا تقربا إلى هللا ،وطلبا لثوابه ،واقتداء ّ تطوع به المسلم ّ المستحب :ما ّ ّ أ) فاالعتكاف
سنة. وسالمه عليه ،وذلك في جميع أيّام ال ّ
آخ َر العَش ِْر ِم ْن ش ََّوال )). َف ِ النبي صلى هللا عليه وسلم (( اِ ْعتَك َ ّ روى البخاري ومسلم أنّ
-ويتأكّد استحبابُه في شهر رمضان؛ لما رواه البخاري عن أبي هريرةَ رضي هللا عنه قال ":كَانَ
َف ِعش ِْرينَ ض فِي ِه ا ْعتَك َ عش َْرةَ أَيَّام ،فَلَ َّما كَانَ ا ْل َعا ُم الَّذِي قُ ِب َ ف فِي ُك ِ ّل َر َمضَان َ النَّ ِبي صلى هللا عليه وسلم يَ ْعت َ ِك ُ
َي ْوما ".
بن ع َم َر رضي هللا -وأحسنه وأفضله في العشر األواخر من رمضان ،لما رواه البخاري ومسلم عن عب ِد هللاِ ِ
اخ َر ِم ْن َر َمضَانَ .قَا َل نَافِع :وق ْد أ َ َرانِي عب ُد ف ا ْل َعش َْر ْاأل َ َو ِ سو ُل هللاِ صلى هللا عليه وسلم يَ ْعت َ ِك ُ عنه قال :كَانَ َر ُ
يعتكف فيه رسو ُل هللا صلى هللا عليه وسلم من المسجدِ. ُ هللاِ رضي هللا عنه المكانَ الّذي كان
ف ا ْل َعش َْر بي صلى هللا عليه وسلم كانَ َي ْعت َ ِك ُ وروى البخاري ومسلم أيضا عن عائشةَ رضي هللا عنها أنّ النّ َّ
َف أ َ ْز َوا ُجهُ ِم ْن َب ْع ِدهِ. اخ َر ِم ْن َر َمضَانَ َحتَّى ت َ َوفَّا ُه هللاُ ،ث ُ َّم ا ْعتَك َ ْاأل َ َو ِ
َف رسو ُل هللاِ صلى هللا عليه الخدري ِ رضي هللا عنه قال :ا ْعتَك َ ّ وروى البخاري ومسلم أيضا عن أبي سعيد
َف ا ْل َعش َْر ب أ َ َما َمكَ ،فَا ْعتَك َ عش َْر ْاأل ُ َو ِل ِم ْن َر َمضَانَ َ ،وا ْعت َ َك ْفنَا َم َعهُ ،فَأَتَا ُه ِجب ِْري ُل فَقَا َلِ :إنَّ الَّذِي ت َ ْطلُ ُ وسلم َ
ب أ َ َما َمكَ . ْاأل َ ْو َ
س َط فَا ْعت َ َك ْفنَا َمعَهُ ،فَأَتَاهُ ِجب ِْري ُل فَقَا َل :إِنَّ الَّذِي ت َ ْطلُ ُ
ب) واالعتكاف الواجب :ما أوجبه المرء على نفسه:
علَ ّي أن أعتكف كذا يوما. إ ّما بالنّذر المطلق ،مثل أن يقول :هلل َ
أو بالنّذر المعلّق كقوله :إن شفا هللا مريضي العتكفنّ كذا يوما.
النبي صلى هللا عليه وسلم قالَ (( :م ْن نَذَ َر أ َ ْن يُ ِطي َع هللاَ فَ ْليُ ِط ْعهُ )) ،ومنه حديث ّ وفي صحيح البخاري أنّ
سابق ونذره في الجاهليّة. عمر رضي هللا عنه ال ّ
المبحث الخامس :شروط االعتكاف.
بالزمان. لالعتكاف شرطان مه ّمان ،أحدهما يتعلّق بالمكان ،والثّاني ّ
األول -
اج ِد{:تعالى أن يكون في المسجد ،لقوله :الشّرط ّ
س ِش ُروهُنَّ َوأ َ ْنت ُ ْم عَا ِكفُونَ فِي ال َم َ
}.والَ تُبَا ِ
َ
ف في المساج ِد االعتكاف في العش ِْر األواخر ،واالعتكا ُ ِ قال اإلمام البخاري رحمه هللا في "صحيحه" ":باب
ّللاِ فَ َال ت َ ْق َربُو َها َكذَ ِلكَ يُ َب ِيّنُ َّ
ّللاُ آ َياتِ ِه اج ِد تِ ْلكَ ُحدُو ُد َّس ِش ُروهُنَّ َوأ َ ْنت ُ ْم عَا ِكفُونَ فِي ا ْل َم َ ك ِلّها؛ لقوله تعالىَ {:و َال ت ُ َبا ِ
اس لَ َعلَّ ُه ْم َيتَّقُونَ } ".ِللنَّ ِ
يخص تحري َم ّ قال الحافظ ابن حجر رحمه هللا ":ووجه الدّاللة من اآلية :أنّه لو ص ّح في غير المسجد لم
المباشرة به ،ألنّ الجماع منافلالعتكاف باإلجماع ،فعلم من ذكر المساجد أن المراد أنّ االعتكاف ال يكون إالّ
فيها ".
شرع في المساجد كلّها ؟ وهل يُشترط مسجد بعينه ،أو أنّه يُ َ
أ) فالجمهور على أنّه في ك ّل مسجد تقام فيه صالة الجماعة ،إلطالق اآلية.
ب) ومنهم من اشترط كونَه جامعا ،أي :تُقام فيه الجمعة أيضا؛ لما رواه أبو داود بسند جيّد عن عائشة
امع ". س ِجد َج َِاف إِ َّال فِي َم ْ قالتَ ":ال ا ْعتِك َ
ضطر للخروج منه لصالة الجمعة ،فإنّ الخروج لها واجب عليه. ّ ولع ّل ذلك لكي ال يُ
صى. بوي ،والمسجد األق َ ّ ّ
ج) ومنهم من اشترط أن يكون أح َد المساجد الثالثة :المسجد الحرام ،والمسجد الن ّ
وهو قول حذيفة بن اليمان رضي هللا عنه ،وسعيد بن المسيّب.
اج ِد الثَّالَث َ ِة )) ،ور ّجح المحدّثون وقفه ،ولو ص ّح ل ُح ِمل س َِاف إِالَّ فِي ال َم َومنهم من استد ّل بحديث (( :الَ ا ْعتِك َ
على نفي كمال األجر.
اعتكاف إال في مسجد ّ َ وقد روى ابن أبي شيبة وابن حزم بسند صحيح عن سعيد بن المسيّب قال ":ال
نبي ".
ّ
د) ومنهم من قال :ال اعتكاف إالّ في الحرمين.
ّ
النبي صلى هللا عليه وسلم لم يعت ِكف إال به. ّ المدني؛ ألنّ
ّ صه بالحرم هـ) ومنهم من خ ّ
صواب؛ لما ّ
شرع في ك ّل ما يُطلق عليه لفظ مسجد حتّى مسجد الدّار ،ولكنه خالف ال ّ و) ومنهم من قال :يُ َ
رواه البيهقي عن ابن عبّاس رضي هللا عنه قال ":إنّ أبغض األمور إلى هللا البدع ،وإنّ من البدع االعتكاف
في المساجد الّتي في الدّور ".
التّرجيح:
صواب -إن شاء هللا -هو مشروعيّته في ك ّل مسجد تُقام فيه الجماعة؛ لعموم اآلية. وال ّ
ض اعتكافه إذا خرج إلى الجمعة ،فيَ ِرد عليهم االعتكاف سائر األيّام، ُ الجام َع كيال يُنقَ َ ِ أ ّما من اشترط المسجد
بيوم الجمعة لكان له وجه،أ ّما أنّه يُشترط ثابت في جميع األيّام. صوا ذلك ِ ولو خ ّ
بالزمان ،فهو: هذا فيما يتعلّق بالمكان ،أ ّما ما يتعلّق ّ
الشّرط الثّاني :مراعاة مدّة االعتكاف.
وقد اختلف العلماء أيضا في أق ِ ّل زمن لالعتكاف على أقوال:
األول :أنّ أق ّل مدّته يوم .وهو رواية عن أبي حنيفة ،وبه قال بعض المالكية. -القول ّ
-القول الثاني :أن أق ّل مدّته يوم وليلة .وهو مذهب جمهور المالكيّة .
-القول الثالث :أن أقل مدته عشرة أيام .وهو رواية عن اإلمام مالك .
َ
النبي صلى هللا عليه وسلم اعتكافه صحيحا. ّ اعتكاف عمر رضي هللا عنه ليلة ،وع ّد ُ يرد عليها وهذه األقوال ِ
الرابع :أنّ أق ّل مدّته لحظة .وهو قول كثير من العلماء. -القول ّ
عربي مبين ،وبالعربية الّتي خاطبنا ّ واستدلّوا بإطالق اآلية ،قال ابن حزم ( ":)179/5فالقرآن نزل بلسان
رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،واالعتكاف في لغة العرب اإلقامة ...فك ّل إقامة في مسجد هلل تعالى بنيّة
يخص القرآن والسنّة عددا من عدد ،ووقتا من ّ التقرب إليه اعتكاف ...م ّما ق ّل من األزمان أو كثر؛ إذ لم ّ
وقت " اهـ.
ّ
الرزاق وابن أبي شيبة عن يعلى بن أميّة رضي هللا عنه قال ":إني ألمكث في واستدلّوا أيضا بما رواه عبد ّ
ساعة ،وما أمكث إال ألعتكف ". المسجد ال ّ
التّرجيح:
صحيح -وهللا أعلم -أنّ أق ّل مدّة االعتكاف يوم أو ليلة ،وذلك ألمرين اثنين: لع ّل القول ال ّ
صحابة ،واشتهر النبي صلى هللا عليه وسلم ،وأمر به ال ّ ّ األول :أنّه لو ش ُِرع االعتكاف أق ّل من يوم ،لثبت عن ّ
صالة، صحابة رضي هللا عنهم كانوا يجلسون في المسجد النتظار ال ّ عنهم؛ ِلتَكر ِر مجيئهم إلى المسجد .فال ّ
وسماع الخطبة أو العلم ،وغير ذلك ،ولم يَ ِر ْد عنهم قص ُد االعتكاف.
الثّاني :أنّه سيأتي أنّ االعتكاف ينتقض بالخروج من غير حاجة ،فلو كان أق َّل من يوم لما كان هناك حرج
على المعتكف في أن يخرج من المسجد متى شاء ،ث ّم يعود وين ِوي االعتكاف !
تنبيه:
إذا أراد أن يعتكف ليلة فإنّه يبدأ مع الغروب ،وإذا أراد أن يعتكف يوما فيدخل المسجد مع صالة الفجر.
سابق ذكره قالت -كما في صحيح اعتكاف أكثر من ذلك فإنّه يدخل مع الفجر لحديث عائشة ال ّ َ أ ّما إذا أراد
ُ
صلَّى ا ْلفَجْ َر ث َّم َد َخ َل ُم ْعت َ َكفَهُ ).ف َ َ َ َ
مسلم ( :-كَانَ رسو ُل هللاِصلى هللا عليه وسلم إِذا أ َرا َد أ ْن يَ ْعت َ ِك َ
صوم في االعتكاف ؟ ( فصل ) هل يُشترط ال ّ
طعام ،و ِذكْر هللا يُذهب عنه فضول الكالم ،والقيام يذهب عنه فضول صوم أنّه يُذ ِهب فضو َل ال ّ والحكمة من ال ّ
المنام.
صوم لالعتكاف على قولين: وقد اختلف العلماء في اشتراط ال ّ
األول :أنّه شرط :وهو مذهب أبي حنيفة ،ومالك ،وأحمد -في رواية ،-وهو قول عائشة وابن -القول ّ
عبّاس وابن عمر .وح ّجتهم:
خص االعتكاف برمضان ،ولم يثبت عنه غير ذلك. ّ النبي صلى هللا عليه وسلم ّ أ) أنّ
صوم في اآلية. ب) اقتران االعتكاف بال ّ
سازةَ ،و َال َي َم َّ ش َه َد َجنَ َ ف أ َ ْن َال َيعُو َد َم ِريضاَ ،و َال َي ْ علَى ا ْل ُم ْعت َ ِك ِ ج) قول عائشة في سنن أبي داود ":السنَّةُ َ
َاف ِإ َّال فِي َم ْ
س ِجد ص ْومَ ،و َال ا ْع ِتك َ ش َر َهاَ ،و َال َي ْخ ُر َج ِل َحا َجة ِإ َّال ِل َما َال بُ َّد ِم ْنهَُ ،و َال ا ْع ِتك َ
َاف ِإ َّال ِب َ ام َرأَةَ ،و َال يُ َبا ِ ْ
امع ". َج ِ
قال اإلمام ابن القيم رحمه هللا في " زاد المعاد ":
النبي صلى هللا عليه وسلم أنّه اعتكف مفطرا ،بل قد قالت عائشة ":ال اعتكاف إالّ بصوم "، ّ " ولم يُنقل عن
الراجح في صوم ،فالقول ّ صوم ،وال فَ َعلَه صلى هللا عليه وسلم إالّ مع ال ّ االعتكاف إالّ مع ال ّ
َ ولم يذكر سبحانه
صوم شرط في االعتكاف ،وهو الّذي كان ير ّجحه شيخ اإلسالم أبو سلف أنّ ال ّ الدّليل الذي عليه جمهور ال ّ
العباس ابن تيمية "اهـ.
-القول ال ّثاني :أنّه ال يُشترط:
وعلي رضي هللا عنهما. ّ ّافعي وأحمد -في رواية أخرى -وهو قول ابن مسعود وهو قول الش ّ
ويد ّل على قولهم:
َ
شوال ،فقد روى مسلم عن عائشة رضي هللا األول من ّ النبي صلى هللا عليه وسلم اعتكف في َّ ّ أ) أنّ
َف صلى هللا عليه وسلم فِيا ْلعَش ِْر ْاأل َ َّو ِل ِم ْن ش ََّوال. عنها قالت ":ا ْعتَك َ
صوم؛ ألنّه يوم عيد. شوال ليس محالّ لل ّ أول ّ ووجه الدّاللة أنّ ّ
ّ
ف بِنذ ِركَ )) ،ولم ينذر عمر إال أن يعتكف ليلة، ْ َ َ
ب) أنّه صلى هللا عليه وسلم قال لعمر رضي هللا عنه (( :أ ْو ِ
صوم. واللّيل ليس محالّ لل ّ
كالرباط. صيام ّ ج) أنّ االعتكاف عبادة مستقلّة ال تفتقر إلى ال ّ
مستحب وليس واجبا.
ّ واألظهر أنّ ال ّ
صوم
المبحث السادسِ :
مبطالت االعتكاف.
يبطل االعتكاف بأحد أمرين:
.الجماع 1-
فإذا انصرف المعت ِكف إلى بيتِه لحاجة ،فإنّه ال يح ّل له أن يواقِع أهله ،وهذا بإجماع العلماء؛
اج ِد}.
س ِش ُروهُنَّ َوأ َ ْنت ُ ْم عَا ِكفُونَ فِيا ْل َم َ
لقوله تعالىَ {:و َال تُبَا ِ
فحرم
قال ابن عبّاس رضي هللا عنه ":هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضانّ ،
هللا عليه أن ينكح النساء ليال ونهارا حتى يقضي اعتكافه ".
الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد ،جامع إن شاء ،فقال وقال الضحاك ومجاهد وقتادة وغيرهم :كان ّ
اج ِد} أي :ال تقربوهنّ ما دمتم عاكفين في المسجد. س ِ ش ُروهُنَّ َوأ َ ْنت ُ ْم عَا ِكفُونَ فِي ا ْل َم َهللا تعالىَ {:وال تُبَا ِ
-أ ّما القبلة والمعانقة :فإن كانت بشهوة فال يح ّل له ذلك ،وهو آ ِثم باتّفاق العلماء.
صحابة طل إالّ إذا أنزل؛ ألنّ اآلية على تفسير جميع ال ّ طل اعتكافُه ؟ جمهور العلماء على أنّه ال يب ُ ولكن هل ي ْب ُ
لم تشمل إالّ الجماع.
بري عن ابن عبّاس رضي هللا عنهما قال ":المباشرة :الجماع ،ولكنّ هللا كريم يُ َكنِّي ما شاء بما ط ّ روى ال ّ
شاء ".
قال ابن كثير رحمه هللا ":وليس له أن يُقَ ِبّل امرأتَه ،وال يض ّمها إليه ،وال يشتغل بشيء سوى اعتكافِه ".
-2الخروج من المسجد بجميع البدن ،بال عذر:
فهذا يبطل اعتكافه باتّفاق األئ ّمة كذالك؛ لمنافاته لركن االعتكاف.
النبي صلى هللا عليه وسلم َ -ال َي ْد ُخ ُل
ّ وقد روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي هللا عنها ( :كَانَ -أي:
ا ْلبَيْتَ إِ َّال ِل َحا َجة إِذَا كَانَ ُم ْعت َ ِكفا )).
["فتح القدير" ( ،)396/2و"الدر المختار" ( ،)447/2و"الشرح الكبير وحاشيته" ( ،)543/1و"األم"
( ،)108/2و"المجموع" ( ،)500/2و"روضة الطالبين" ( ،)404/2و"كشاف القناع" ( ،)362/3و"المحلى"
(.])188/5
وهل يح ّل له الخروج لألكل والشّرب ؟
طعام والشّراب فال يح ّل له الخروج .وإالّ جاز له. فإن كان هناك من يأتيه بال ّ
المبحث السابع :ما يُباح للمعتكف.
-1الخروج ألمر ال ب ّد له منه طبعا أو شرعا:
فما ال ب ّد منه طبْعا :الخروج لقضاء الحاجة ،واألكل أو الشّرب إن تعذّر عليه دون الخروج ،وما أشبه ذلك
كالخروج للقيء ،أو غسل نجاسة.
قال ابن المنذر رحمه هللا ":وأجمعوا على أنّ للمعتكف أن يخر َج عن ُمعت َ َك ِفه للغائط والبول " [" اإلجماع "
البن المنذر (ص .])54
وقال ابن هبيرة رحمه هللا ":وأجمعوا على أنّه يجوز لإلنسان الخروج إلى ما ال ب ّد منه كحاجة اإلنسان
"[ "...اإلفصاح " (.])259/1
لكن إن طال مكثه بعد حاجته فسد اعتكافه "[ .فتح القدير " ( ،)396/2و" المجموع " ( ،)502/6و" شرح
العمدة " (.])835/2
قال ابن كثير رحمه هللا ":ولو ذهب إلى منزله لحاجة ال ب ّد له منها ،فال يح ّل له أن يتلبَّث فيه إالّ بمقدار ما
مار في طريقه يفرغ من حاجته تلك ،من قضاء الغائط ،أو أكل ...وال يعود المريض ،لكن يسأل عنه وهو ّ ُ
"اهـ.
وما ال ب ّد منه شرعا :االغتسال من الجنابة.
سرح. سل ويُ َّ سه من المسجد؛ ليُغ َّ خرج رأ َ -2ويجوز له أن يُ ِ
سهُ َو ُه َو [ ُم ْعت َ ِكف] فِي علَ َّي َرأْ َ
سو ُل هللاِ صلى هللا عليه وسلم لَيُد ِْخ ُل َ قالت عائشة رضي هللا عنهاَ :وإِ ْن كَانَ َر ُ
ب َوأَنَا َحائِض - سلُهَُ ،و ِإنَّ بَ ْينِي َوبَ ْينَهُ لَعَتَبَةَ البَا ِ س ِج ِد [ َوأَنَا فِي حُجْ َرتِي] ،فَأ ُ َر ِ ّجلُهُ -وفي رواية :فَأ َ ْغ ِ ال َم ْ
ان إِذَا كَانَ ُم ْعت َ ِكفا. س ِ اإل ْن َ
َ ،وكَانَ الَ يَ ْد ُخ ُل البَيْتَ إِالَّ ِل َحا َج ِة ِ
[رواه الشيخان ،وابن أبي شيبة ،وأحمد ،والزيادة لهما].
-3وله أن يتّخذ خيمة صغيرة في مؤ ّخرة المسجد يعتكف فيها؛ ألنّ عائشة رضي هللا عنها كانت تضرب
للنبي صلى هللا عليه وسلم خباء إذا اعتكف ،وكان ذلك بأمره صلى هللا عليه وسلم[ .رواه الشيخان]. ّ
-4وله أن يضع فراشه أو سريره فيها:
ح ط ِر َ َفُ ، َ
ع َمر رضي هللا عنه عَن النَّبِ ّي ِ صلى هللا عليه وسلم ( :أنَّهُ كَانَ ِإذَا ا ْعتَك َ ابن ُ لما رواه ابن ماجه عن ِ
ط َوانَ ِة الت َّ ْوبَ ِة ). س ُ س ِرير َو َرا َء ا ْ ض ُع لَهُ َ لَهُ فِ َراش ،أ َ ْو يُو َ
-5ويجوز للمرأة أن تزور زو َجها وهو في معتكفه ،وأن يشيّعها إلى باب المسجد:
لما رواه الشّيخان وغيرهما عن ص ِفيَّةَ رضي هللا عنها قالت :كَانَ النَّبِي صلى هللا عليه وسلم ُم ْعت َ ِكفا [ فِي
لَيْال [ َو ِع ْن َدهُ أ َ ُز ُ
ورهُ َر َمضَانَ ]،فَأَت َ ْيتُهُ ِم ْن األ َ َو ِ
اخ ِر العَش ِْر فِي س ِج ِد ال َم ْ
ب [ ،فَقَالَ: ساعَة ] ،ث ُ َّم قُ ْمتُ ِأل َ ْنقَ ِل َ أ َ ْز َوا ُجهُ ،فَ ُرحْ نَ ] ،فَ َح َّدثْتُهُ [ َ
س ِج ِد ] فَ َم َّر َر ُجالَ ِن ِم ْن ب ال َم ْ ف َمعَ ِك ))] فَقَا َم َم ِعي ِليَ ْق ِلبَنِيَ [ ،حتَّى ِإذَا كَانَ ِع ْن َد بَا ِ (( الَ ت َ ْع َج ِلي َحتَّى أ َ ْن َ
ص ِر َ
س َرعَا ! ص ِار ،فَلَ َّما َرأَيَا النَّبِ َّي صلّى هللا عليه وسلّم أ َ ْ األ َ ْن َ
سو َل هللاِ ! س ْب َحانَ هللاِ يَا َر ُ ص ِفيَّةُ ِب ْنتُ ُحيَ ّي )) فَقَاالَُ : س ِل ُك َماِ ،إنَّ َها َ علَى ِر ْ فَقا َ َل النَّ ِبي صلى هللا عليه وسلمَ (( :
ِف فِي قُلُوبِ ُك َما ش ًَّرا -أو قال- ان َمجْ َرى ال َّد ِمَ ،وإِ ِنّي َخشِيتُ أ َ ْن يَ ْقذ َ س ِ ش ْي َطانَ يَجْ ِري ِمنَ ِ
اإل ْن َ قَالَ (( :إِنَّ ال َّ
شيْئا )). َ :
[أخرجه الشيخان وأبو داود والزيادة األخيرة له].
وأه ّم آداب االعتكاف:
صالة ،وتالوة القرآن ،والذّكر، -أن يُش ِغل نفسه بالمقصود منه ،وهو :االجتهاد في طاعة هللا باإلكثار من ال ّ
النبي صلى هللا عليه وسلم ،وتفسير القرآن ،ودراسة الحديث. ّ صالة على واالستغفار ،والدّعاء ،وال ّ
-ويكره له أن يُش ِغل نفسه بما ال يفيد من األقوال واألفعال ،أو أن يتّخذ مكان االعتكَاف للكالم عن الدّنيا،
النبي صلى هللا عليه ّ للزائرين ،واألخذ بأطراف الحديث ،فهذا االعتكاف في واد ،واعتكاف ويجعله مجلبة ّ
وسلم في واد آخر.