You are on page 1of 6

‫الجواب ‪ :‬فضيلة األستاذ الدكتور علي جمعة محمد‬

‫لمعرفة معنى البدعة ومفهومها الصحيح ال بد أن نتعرف على معناها‬


‫في اللغة‪ ،‬وكذلك معناها في االصطالح الشرعي‪ ،‬ونبدأ بالمعنى‬
‫اللغوي‪.‬‬
‫اإلكمال‪ .‬قال‬ ‫ع من ال ِدِّين بعد ِ‬ ‫فالبدعة في اللغة‪ :‬هي ال َحدَث وما ا ْبت ُ ِد َ‬
‫ع ْرفًا في‬ ‫ع ُ‬ ‫ابن السكيت‪ :‬ال ِب ْدعةُ ك ُّل ُم ْحدَثةٍ‪ .‬وأَكثر ما يستعمل ال ُم ْبت َ ِد ُ‬
‫شبَ ٍه لم يكن ابتدأَه‬ ‫الذم‪ .‬وقال أَبو َع ْدنان‪ :‬المبتَدِع الذي يأْتي أ َ ْم ًرا على َ‬ ‫ِ ِّ‬
‫ع في هذا األَمر أَي أ َ َّول لم يَ ْس ِب ْقه أَحد‪ .‬ويقال‪ :‬ما هو‬ ‫ِإياه‪ .‬وفالن ِب ْد ٌ‬
‫ع وتَبَدَّع‪ :‬أَتَى بِب ْدعةٍ‪ ،‬قال هللا‬ ‫ديع‪ ...‬وأ َ ْبدَ َ‬
‫ع وا ْبتَد َ‬ ‫م ِنِّي ب ِب ْدعٍ وبَ ٍ‬
‫عوهَا﴾[ الحديد‪].27 :‬‬ ‫﴿و َر ْهبَانِيَّةً ا ْبتَدَ ُ‬
‫تعالى ‪َ :‬‬
‫سبه ِإلى ال ِب ْدع ِة‪ .‬وا ْست َ ْبدَ َعه‪ :‬عدَّه بَديعًا‪ .‬والبَدِي ُع‪ :‬ال ُم ْحدَ ُ‬
‫ث‬ ‫وبَدَّعه‪ :‬ن َ‬
‫اخت َ َر ْعتُه ال على ِمثا ٍل‪.‬‬ ‫العَجيب‪ .‬والبَدِي ُع‪ :‬ال ُم ْب ِدعُ‪ .‬وأَبد ْعتُ الشيء‪ْ :‬‬
‫"لسان العرب" (‪ 8 /6‬مادة‪ :‬بدع) بتصرف‪.‬‬
‫عا مسلكان‪:‬‬ ‫وللعلماء في تعريف البدعة شر ً‬
‫المسلك األول‪ :‬وهو مسلك اإلمام العز بن عبد السالم؛ حيث اعتبر أن‬
‫سمها إلى أحكام‪،‬‬ ‫ما لم يفعله النبي صلى هللا عليه وآله وسلم بدعة‪ ،‬وق َّ‬
‫حيث قال في "قواعد األحكام في مصالح األنام" (‪ ،204 /2‬ط‪ .‬مكتبة‬
‫الكليات األزهرية القاهرة)‪[ :‬البدعة ِف ْع ُل َما لم يعهد في عصر رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وهي منقسمة إلى‪ :‬بدعة واجبة‪ ،‬وبدعة‬
‫محرمة‪ ،‬وبدعة مندوبة‪ ،‬وبدعة مكروهة‪ ،‬وبدعة مباحة‪ ،‬والطريق في‬
‫معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة‪ :‬فإن دخلت في‬
‫قواعد اإليجاب فهي واجبة‪ ،‬وإن دخلت في قواعد التحريم فهي‬
‫محرمة‪ ،‬وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة‪ ،‬وإن دخلت في‬
‫قواعد المكروه فهي مكروهة‪ ،‬وإن دخلت في قواعد المباح فهي‬
‫مباحة] اهـ‪.‬‬
‫وأكد اإلمام الحافظ ابن حجر العسقالني هذا المعنى؛ حيث قال في‬
‫"فتح الباري" (‪ ،394 /2‬ط‪ .‬دار المعرفة بيروت)‪[ :‬وكل ما لم يكن‬
‫في زمنه يسمى بدعةً‪ ،‬لكن منها ما يكون حسنًا‪ ،‬ومنها ما يكون‬
‫بخالف ذلك] اهـ‪.‬‬
‫والمسلك الثاني‪ :‬جعل مفهوم البدعة في الشرع أخص منه في اللغة‪،‬‬
‫فجعل البدعة هي المذمومة فقط‪ ،‬ولم يسم البدع الواجبة والمندوبة‬
‫عا كما فعل اإلمام العز بن عبد السالم‪ ،‬وإنما‬ ‫والمباحة والمكروهة بد ً‬
‫جماهير الفقهاء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫المحرمة‪ ،‬وعلى ذلك‬ ‫َّ‬ ‫اقتصر مفهوم البدعة عنده على‬
‫وممن ذهب إلى ذلك اإلما ُم ابن رجب الحنبلي‪ ،‬ويوضح هذا المعنى‬
‫فيقول في "جامع العلوم والحكم" (‪ ،781 /2‬ط‪ .‬دار السالم للطباعة‬
‫ِث م َّما ال أصل له في‬‫والنشر والتوزيع)‪[ :‬المراد بالبدعة ما أ ُ ْحد َ‬
‫شرع يد ُّل عليه‪ ،‬فليس‬ ‫الشريعة يد ُّل عليه‪ ،‬فأ َّما ما كان له أص ٌل ِمنَ ال َّ‬
‫وإن كان بدعةً لغةً] اهـ‪.‬‬ ‫عا‪ْ ،‬‬ ‫ببدع ٍة شر ً‬
‫وفي الحقيقة فإن المسلكين اتفقا على حقيقة مفهوم البدعة المذمومة‬
‫عا‪ ،‬وإنما االختالف في المدخل للوصول إلى هذا المفهوم المتفق‬ ‫شر ً‬
‫عا هي التي ليس‬ ‫عليه‪ ،‬وهو أن البدعة المذمومة التي يأثم فاعلها شر ً‬
‫لها أص ٌل في الشريعة يدل عليها‪ ،‬وهي المرادة من قوله صلى هللا‬
‫عليه وآله وسلم فيما أخرجه مسل ٌم في "صحيحه" عن جابر بن عبد هللا‬
‫ض َاللَةٌ‪».‬‬
‫رضي هللا عنهما‪ُ « :‬ك ُّل ِب ْد َع ٍة َ‬
‫وكان على هذا الفهم الواضح الصريح أئمة الفقهاء وعلماء األمة‬
‫المتبوعون‪ ،‬فقد روى أبو نعيم في "الحلية" (‪ ،)113 /9‬والبيهقي في‬
‫"مناقب الشافعي" (‪ )468-469 /1‬عن اإلمام الشافعي رضي هللا عنه‬
‫أنه قال‪[ :‬المحدثات من األمور ضربان؛ أحدهما‪ :‬ما أحدث مما‬
‫عا‪ ،‬فهذه بدعة الضاللة‪ ،‬والثاني‪:‬‬ ‫أثرا أو إجما ً‬‫سنَّةً أو ً‬ ‫يخالف كتابًا أو ُ‬
‫ما أحدث من الخير ال خالف فيه لواحد من هذا‪ ،‬فهذه محدثة غير‬
‫مذمومة] اهـ‪.‬‬
‫وقال حجة اإلسالم أبو حامد الغزالي رضي هللا عنه في "إحياء علوم‬
‫ي عنه بدعةٌ‬ ‫الدين" (‪[ :)248 /2‬ليس كل ما أبدع منهيًّا عنه‪ ،‬بل المنه ُّ‬
‫أمرا من الشرع] اهـ‪.‬‬ ‫تضاد سنةً ثابتةً‪ ،‬وترفع ً‬
‫وقد نقل اإلمام النووي رحمه هللا عن سلطان العلماء اإلمام عز الدين‬
‫بن عبد السالم ذلك‪ ،‬فقال في "األذكار" (ص‪[ :)382 :‬قال الشيخ‬
‫اإلمام المجمع على جاللته وتم ُّكنه من أنواع العلوم وبراعته‪ ،‬أبو‬
‫محمد عبد العزيز بن عبد السالم رحمه هللا ورضي عنه في آخر‬
‫كتاب "القواعد"‪ :‬البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومباحة‬
‫‪ ...‬إلخ] اهـ‪.‬‬
‫وقال في حديثه عن المصافحة عقب الصالة‪[ :‬واعلم أن هذه‬
‫المصافحة مستحبةٌ عند كل لقاء‪ ،‬وأما ما اعتاده الناس من المصافحة‬
‫بعد صالتي الصبح والعصر فال أصل له في الشرع على هذا الوجه‪،‬‬
‫ولكن ال بأس به‪ ،‬فإن أصل المصافحة سنة‪ ،‬وكونهم حافظوا عليها في‬
‫بعض األحوال‪ ،‬وفرطوا فيها في كثير من األحوال أو أكثرها‪ ،‬ال‬
‫يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها]‬
‫اهـ‪.‬‬
‫وقال ابن األثير في "النهاية في غريب الحديث" (‪ ،106 /1‬ط‪.‬‬
‫المكتبة العلمية بيروت)‪[ :‬البدعة بدعتان‪ :‬بدعة هدًى‪ ،‬وبدعة ضالل‪،‬‬
‫فما كان في خالف ما أمر هللا به ورسولُه صلى هللا عليه وآله وسلم‬
‫فهو في حيز الذم واإلنكار‪ ،‬وما كان واقعًا تحت عموم ما ندب إليه‬
‫َّللا أو رسوله فهو في حيز المدح‪ ،‬وما لم يكن له ِمثال‬ ‫وحض عليه َّ‬
‫سخاء وفِ ْعل الـمعروف فهو من األفعال‬ ‫موجود كن َْوع من ال ُجود وال َّ‬
‫المحمودة‪ ،‬وال يجوز أَن يكون ذلك في خالف ما ورد الشرع به؛ ألَن‬
‫النبي صلى هللا عليه وآله وسلم قد جعل له في ذلك ثوابًا‪ ،‬فقال‪َ « :‬م ْن‬
‫سنَةً َكانَ لَهُ أ َ ْج ُرهَا َوأ َ ْج ُر َم ْن َع ِم َل ِب َها»‪ .‬وقال في ض ِدِّه‪:‬‬ ‫سنَّةً َح َ‬‫س َّن ُ‬ ‫َ‬
‫س ِيِّئَةً َكانَ َعلَ ْي ِه ِو ْز ُرهَا َو ِو ْز ُر َم ْن َع ِم َل ِب َها»‪ ،‬وذلك ِإذا‬
‫سنَّةً َ‬ ‫« َم ْن َس َّن ُ‬
‫كان في خالف ما أَمر هللا به ورسوله‪ ،‬ومن هذا النوع قول عمر‬
‫ت ال ِب ْدعةُ هذه"‪ .‬ل َّما كانت من أَفعال الخير‬ ‫رضي هللا عنه‪" :‬نعم ِ‬
‫سماها بدعة ومدَ َحها؛ أل َ َّن النبي صلى هللا عليه‬ ‫وداخلة في ح ِيِّز المدح َ‬
‫ي ثم تركها ولم يحافظ عليها‬ ‫سنَّها لهم‪ ،‬و ِإنما َّ‬
‫صالها لَيا ِل َ‬ ‫وآله وسلم لم يَ ُ‬
‫وال َج َم َع الناس لها‪ ،‬وال كانت في زمن أَبي بكر‪ ،‬و ِإنما عمر رضي‬
‫الناس عليها وندَبهم ِإليها‪ ،‬فبهذا سماها بدعة‪ ،‬وهي على‬ ‫َ‬ ‫هللا عنه َج َم َع‬
‫سنَّ ِة‬
‫سنَّتِي َو ُ‬‫الحقيقة سنَّة؛ لقوله صلى هللا عليه وآله وسلم‪َ « :‬علَ ْي ُك ْم ِب ُ‬
‫الرا ِشدِينَ ِم ْن بَ ْعدِي»‪ ،‬وقوله‪« :‬ا ْقتَدُوا ِباللَّذَي ِْن ِم ْن بَ ْعدِي أ َ ِبي‬ ‫اء َّ‬‫ْال ُخلَفَ ِ‬
‫ع َم َر»‪ ،‬وعلـى هذا التأويل يُحمل الحديث اآل َخر‪ُ « :‬ك ُّل ُم ْحدَث َ ٍة‬ ‫بَ ْك ٍر َو ُ‬
‫ِب ْد َعةٌ»‪ .‬إنما يريد ما خالَف أُصو َل الشريعة‪ ،‬ولم يوافق السنة] اهـ‪.‬‬
‫وضرب العلماء أمثلةً للبدع التي تعتريها األحكا ُم التكليفيةُ؛ فالبدعة‬
‫الواجبة‪ :‬كاالشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كالم هللا ورسوله صلى‬
‫لح ْف ِظ الشريعة‪ ،‬وما‬ ‫واجب؛ ألنه ال بدَّ منه ِ‬ ‫ٌ‬ ‫هللا عليه وآله وسلم‪ ،‬وذلك‬
‫واجب‪ ،‬والبدعة المحرمة من أمثلتها‪ :‬مذهب‬ ‫ٌ‬ ‫الواجب إال به فهو‬ ‫ُ‬ ‫ال يتم‬
‫القدرية والجبرية والمرجئة والخوارج‪ ،‬والبدعة المندوبة‪ :‬مثل إحداث‬
‫المدارس‪ ،‬وبناء القناطر‪ ،‬ومنها صالة التراويح جماعة في المسجد‬
‫بإمام واحد‪ ،‬والبدعة المكروهة‪ :‬مثل زخرفة المساجد‪ ،‬وتزويق‬
‫المصاحف‪ ،‬والبدعة المباحة‪ :‬مثل المصافحة عقب الصلوات‪ ،‬ومنها‬
‫التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والمالبس‪ ،‬واستدلوا لرأيهم‬
‫في تقسيم البدعة إلى األحكام الخمسة بأدلة منها‪:‬‬
‫أ‪ -‬قول سيدنا عمر رضي هللا عنه في صالة التراويح جماعة في‬
‫المسجد في رمضان‪" :‬نعمت البدعة هذه"؛ فقد روى البخاري في‬
‫"صحيحه" عن التابعي الجليل عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال‪:‬‬
‫[خرجت مع عمر بن الخطاب رضي هللا عنه ليلةً في رمضان إلى‬
‫المسجد‪ ،‬فإذا الناس أوزاع متفرقون‪ ،‬يصلي الرجل لنفسه‪ ،‬ويصلي‬
‫الرجل فيصلي بصالته الرهط‪ .‬فقال عمر‪" :‬إني أرى لو جمعت‬
‫ي ب ِْن‬ ‫قارئ واحد لكان أمث َل"‪ ،‬ثم عزم فجمعهم على أُبَ ِِّ‬
‫ٍ‬ ‫هؤالء على‬
‫ب‪ ،‬ثم خرجت معه ليلة أخرى‪ ،‬والناس يصلون بصالة قارئهم‪ ،‬قال‬ ‫َك ْع ٍ‬
‫عمر‪" :‬نعم البدعة هذه‪ ،‬والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون"‬
‫يريد آخر الليل‪ ،‬وكان الناس يقومون أوله] اهـ‪.‬‬
‫ب‪ -‬تسمية ابن عمر رضي هللا عنهما صالة َ الضحى جماعةً في‬
‫المسجد بدعة‪ ،‬وهي من األمور الحسنة‪ ،‬روى البخاري ومسلم في‬
‫"صحيحيهما"‪[ :‬عن مجاهد قال‪ :‬دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد‪،‬‬
‫فإذا عبد هللا بن عمر جالس إلى حجرة عائشة‪ ،‬وإذا ناس يصلون في‬
‫المسجد صالة الضحى‪ ،‬فسألناه عن صالتهم‪ ،‬فقال‪" :‬بدعة"] اهـ‪.‬‬
‫ومما سبق يتضح أن هناك مسلكين‪ :‬مسلَ ًكا إجماليًّا‪ :‬وهو الذي ذهب‬
‫إليه اإلمام ابن رجب الحنبلي وغيره‪ ،‬وهو أن األفعال التي يثاب‬
‫المرء عليها ويشرع له فعلها ‪-‬بعد تحقيق األصول الشرعية واألدلة‬
‫عا وإن صدق عليها‬ ‫المرعية عند األصوليين‪ -‬ال تسمى بدعةً شر ً‬
‫يقصد أنها ال تسمى بدعةً مذمومةً شر ً‬
‫عا‪،‬‬ ‫االسم في اللغة‪ ،‬وهو ِ‬
‫ومسل ًكا تفصيليًّا‪ :‬وهو ما ذكره اإلمام العز بن عبد السالم وأوردناه‬
‫تفصيال‪ ،‬والقاسم المشترك بين المسلكين أنه ليس ك ُّل ُمحدَث في‬ ‫ً‬
‫العبادات أو المعامالت منهيًّا عنه؛ بل األمور المحدثة تعتريها األحكا ُم‬
‫التكليفيةُ بحسب ما تدل عليه األصول الشرعية‪ ،‬أ َّما الزع ُم بأنها‬
‫فغير سديدٍ؛ ألنه‬ ‫ُ‬ ‫محرمةٌ ا ِتِّكا ًء على تسميتها بدعةً عند بعض العلماء‪،‬‬
‫يسد باب االجتهاد المعمول به المستقر بين العلماء‪ ،‬وهذا هو عين‬
‫البدعة المذمومة التي جاء الشرع بالنهي عنها‪.‬‬
‫وهللا سبحانه وتعالى أعلم‪.‬‬

You might also like