لمعرفة معنى البدعة ومفهومها الصحيح ال بد أن نتعرف على معناها
في اللغة ،وكذلك معناها في االصطالح الشرعي ،ونبدأ بالمعنى اللغوي. اإلكمال .قال ع من ال ِدِّين بعد ِ فالبدعة في اللغة :هي ال َحدَث وما ا ْبت ُ ِد َ ع ْرفًا في ع ُ ابن السكيت :ال ِب ْدعةُ ك ُّل ُم ْحدَثةٍ .وأَكثر ما يستعمل ال ُم ْبت َ ِد ُ شبَ ٍه لم يكن ابتدأَه الذم .وقال أَبو َع ْدنان :المبتَدِع الذي يأْتي أ َ ْم ًرا على َ ِ ِّ ع في هذا األَمر أَي أ َ َّول لم يَ ْس ِب ْقه أَحد .ويقال :ما هو ِإياه .وفالن ِب ْد ٌ ع وتَبَدَّع :أَتَى بِب ْدعةٍ ،قال هللا ديع ...وأ َ ْبدَ َ ع وا ْبتَد َ م ِنِّي ب ِب ْدعٍ وبَ ٍ عوهَا﴾[ الحديد].27 : ﴿و َر ْهبَانِيَّةً ا ْبتَدَ ُ تعالى َ : سبه ِإلى ال ِب ْدع ِة .وا ْست َ ْبدَ َعه :عدَّه بَديعًا .والبَدِي ُع :ال ُم ْحدَ ُ ث وبَدَّعه :ن َ اخت َ َر ْعتُه ال على ِمثا ٍل. العَجيب .والبَدِي ُع :ال ُم ْب ِدعُ .وأَبد ْعتُ الشيءْ : "لسان العرب" ( 8 /6مادة :بدع) بتصرف. عا مسلكان: وللعلماء في تعريف البدعة شر ً المسلك األول :وهو مسلك اإلمام العز بن عبد السالم؛ حيث اعتبر أن سمها إلى أحكام، ما لم يفعله النبي صلى هللا عليه وآله وسلم بدعة ،وق َّ حيث قال في "قواعد األحكام في مصالح األنام" ( ،204 /2ط .مكتبة الكليات األزهرية القاهرة)[ :البدعة ِف ْع ُل َما لم يعهد في عصر رسول هللا صلى هللا عليه وآله وسلم ،وهي منقسمة إلى :بدعة واجبة ،وبدعة محرمة ،وبدعة مندوبة ،وبدعة مكروهة ،وبدعة مباحة ،والطريق في معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة :فإن دخلت في قواعد اإليجاب فهي واجبة ،وإن دخلت في قواعد التحريم فهي محرمة ،وإن دخلت في قواعد المندوب فهي مندوبة ،وإن دخلت في قواعد المكروه فهي مكروهة ،وإن دخلت في قواعد المباح فهي مباحة] اهـ. وأكد اإلمام الحافظ ابن حجر العسقالني هذا المعنى؛ حيث قال في "فتح الباري" ( ،394 /2ط .دار المعرفة بيروت)[ :وكل ما لم يكن في زمنه يسمى بدعةً ،لكن منها ما يكون حسنًا ،ومنها ما يكون بخالف ذلك] اهـ. والمسلك الثاني :جعل مفهوم البدعة في الشرع أخص منه في اللغة، فجعل البدعة هي المذمومة فقط ،ولم يسم البدع الواجبة والمندوبة عا كما فعل اإلمام العز بن عبد السالم ،وإنما والمباحة والمكروهة بد ً جماهير الفقهاء، ُ المحرمة ،وعلى ذلك َّ اقتصر مفهوم البدعة عنده على وممن ذهب إلى ذلك اإلما ُم ابن رجب الحنبلي ،ويوضح هذا المعنى فيقول في "جامع العلوم والحكم" ( ،781 /2ط .دار السالم للطباعة ِث م َّما ال أصل له فيوالنشر والتوزيع)[ :المراد بالبدعة ما أ ُ ْحد َ شرع يد ُّل عليه ،فليس الشريعة يد ُّل عليه ،فأ َّما ما كان له أص ٌل ِمنَ ال َّ وإن كان بدعةً لغةً] اهـ. عاْ ، ببدع ٍة شر ً وفي الحقيقة فإن المسلكين اتفقا على حقيقة مفهوم البدعة المذمومة عا ،وإنما االختالف في المدخل للوصول إلى هذا المفهوم المتفق شر ً عا هي التي ليس عليه ،وهو أن البدعة المذمومة التي يأثم فاعلها شر ً لها أص ٌل في الشريعة يدل عليها ،وهي المرادة من قوله صلى هللا عليه وآله وسلم فيما أخرجه مسل ٌم في "صحيحه" عن جابر بن عبد هللا ض َاللَةٌ». رضي هللا عنهماُ « :ك ُّل ِب ْد َع ٍة َ وكان على هذا الفهم الواضح الصريح أئمة الفقهاء وعلماء األمة المتبوعون ،فقد روى أبو نعيم في "الحلية" ( ،)113 /9والبيهقي في "مناقب الشافعي" ( )468-469 /1عن اإلمام الشافعي رضي هللا عنه أنه قال[ :المحدثات من األمور ضربان؛ أحدهما :ما أحدث مما عا ،فهذه بدعة الضاللة ،والثاني: أثرا أو إجما ًسنَّةً أو ً يخالف كتابًا أو ُ ما أحدث من الخير ال خالف فيه لواحد من هذا ،فهذه محدثة غير مذمومة] اهـ. وقال حجة اإلسالم أبو حامد الغزالي رضي هللا عنه في "إحياء علوم ي عنه بدعةٌ الدين" ([ :)248 /2ليس كل ما أبدع منهيًّا عنه ،بل المنه ُّ أمرا من الشرع] اهـ. تضاد سنةً ثابتةً ،وترفع ً وقد نقل اإلمام النووي رحمه هللا عن سلطان العلماء اإلمام عز الدين بن عبد السالم ذلك ،فقال في "األذكار" (ص[ :)382 :قال الشيخ اإلمام المجمع على جاللته وتم ُّكنه من أنواع العلوم وبراعته ،أبو محمد عبد العزيز بن عبد السالم رحمه هللا ورضي عنه في آخر كتاب "القواعد" :البدعة منقسمة إلى واجبة ومحرمة ومندوبة ومباحة ...إلخ] اهـ. وقال في حديثه عن المصافحة عقب الصالة[ :واعلم أن هذه المصافحة مستحبةٌ عند كل لقاء ،وأما ما اعتاده الناس من المصافحة بعد صالتي الصبح والعصر فال أصل له في الشرع على هذا الوجه، ولكن ال بأس به ،فإن أصل المصافحة سنة ،وكونهم حافظوا عليها في بعض األحوال ،وفرطوا فيها في كثير من األحوال أو أكثرها ،ال يخرج ذلك البعض عن كونه من المصافحة التي ورد الشرع بأصلها] اهـ. وقال ابن األثير في "النهاية في غريب الحديث" ( ،106 /1ط. المكتبة العلمية بيروت)[ :البدعة بدعتان :بدعة هدًى ،وبدعة ضالل، فما كان في خالف ما أمر هللا به ورسولُه صلى هللا عليه وآله وسلم فهو في حيز الذم واإلنكار ،وما كان واقعًا تحت عموم ما ندب إليه َّللا أو رسوله فهو في حيز المدح ،وما لم يكن له ِمثال وحض عليه َّ سخاء وفِ ْعل الـمعروف فهو من األفعال موجود كن َْوع من ال ُجود وال َّ المحمودة ،وال يجوز أَن يكون ذلك في خالف ما ورد الشرع به؛ ألَن النبي صلى هللا عليه وآله وسلم قد جعل له في ذلك ثوابًا ،فقالَ « :م ْن سنَةً َكانَ لَهُ أ َ ْج ُرهَا َوأ َ ْج ُر َم ْن َع ِم َل ِب َها» .وقال في ض ِدِّه: سنَّةً َح َس َّن ُ َ س ِيِّئَةً َكانَ َعلَ ْي ِه ِو ْز ُرهَا َو ِو ْز ُر َم ْن َع ِم َل ِب َها» ،وذلك ِإذا سنَّةً َ « َم ْن َس َّن ُ كان في خالف ما أَمر هللا به ورسوله ،ومن هذا النوع قول عمر ت ال ِب ْدعةُ هذه" .ل َّما كانت من أَفعال الخير رضي هللا عنه" :نعم ِ سماها بدعة ومدَ َحها؛ أل َ َّن النبي صلى هللا عليه وداخلة في ح ِيِّز المدح َ ي ثم تركها ولم يحافظ عليها سنَّها لهم ،و ِإنما َّ صالها لَيا ِل َ وآله وسلم لم يَ ُ وال َج َم َع الناس لها ،وال كانت في زمن أَبي بكر ،و ِإنما عمر رضي الناس عليها وندَبهم ِإليها ،فبهذا سماها بدعة ،وهي على َ هللا عنه َج َم َع سنَّ ِة سنَّتِي َو ُالحقيقة سنَّة؛ لقوله صلى هللا عليه وآله وسلمَ « :علَ ْي ُك ْم ِب ُ الرا ِشدِينَ ِم ْن بَ ْعدِي» ،وقوله« :ا ْقتَدُوا ِباللَّذَي ِْن ِم ْن بَ ْعدِي أ َ ِبي اء َّْال ُخلَفَ ِ ع َم َر» ،وعلـى هذا التأويل يُحمل الحديث اآل َخرُ « :ك ُّل ُم ْحدَث َ ٍة بَ ْك ٍر َو ُ ِب ْد َعةٌ» .إنما يريد ما خالَف أُصو َل الشريعة ،ولم يوافق السنة] اهـ. وضرب العلماء أمثلةً للبدع التي تعتريها األحكا ُم التكليفيةُ؛ فالبدعة الواجبة :كاالشتغال بعلم النحو الذي يفهم به كالم هللا ورسوله صلى لح ْف ِظ الشريعة ،وما واجب؛ ألنه ال بدَّ منه ِ ٌ هللا عليه وآله وسلم ،وذلك واجب ،والبدعة المحرمة من أمثلتها :مذهب ٌ الواجب إال به فهو ُ ال يتم القدرية والجبرية والمرجئة والخوارج ،والبدعة المندوبة :مثل إحداث المدارس ،وبناء القناطر ،ومنها صالة التراويح جماعة في المسجد بإمام واحد ،والبدعة المكروهة :مثل زخرفة المساجد ،وتزويق المصاحف ،والبدعة المباحة :مثل المصافحة عقب الصلوات ،ومنها التوسع في اللذيذ من المآكل والمشارب والمالبس ،واستدلوا لرأيهم في تقسيم البدعة إلى األحكام الخمسة بأدلة منها: أ -قول سيدنا عمر رضي هللا عنه في صالة التراويح جماعة في المسجد في رمضان" :نعمت البدعة هذه"؛ فقد روى البخاري في "صحيحه" عن التابعي الجليل عبد الرحمن بن عبد القاري أنه قال: [خرجت مع عمر بن الخطاب رضي هللا عنه ليلةً في رمضان إلى المسجد ،فإذا الناس أوزاع متفرقون ،يصلي الرجل لنفسه ،ويصلي الرجل فيصلي بصالته الرهط .فقال عمر" :إني أرى لو جمعت ي ب ِْن قارئ واحد لكان أمث َل" ،ثم عزم فجمعهم على أُبَ ِِّ ٍ هؤالء على ب ،ثم خرجت معه ليلة أخرى ،والناس يصلون بصالة قارئهم ،قال َك ْع ٍ عمر" :نعم البدعة هذه ،والتي ينامون عنها أفضل من التي يقومون" يريد آخر الليل ،وكان الناس يقومون أوله] اهـ. ب -تسمية ابن عمر رضي هللا عنهما صالة َ الضحى جماعةً في المسجد بدعة ،وهي من األمور الحسنة ،روى البخاري ومسلم في "صحيحيهما"[ :عن مجاهد قال :دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد، فإذا عبد هللا بن عمر جالس إلى حجرة عائشة ،وإذا ناس يصلون في المسجد صالة الضحى ،فسألناه عن صالتهم ،فقال" :بدعة"] اهـ. ومما سبق يتضح أن هناك مسلكين :مسلَ ًكا إجماليًّا :وهو الذي ذهب إليه اإلمام ابن رجب الحنبلي وغيره ،وهو أن األفعال التي يثاب المرء عليها ويشرع له فعلها -بعد تحقيق األصول الشرعية واألدلة عا وإن صدق عليها المرعية عند األصوليين -ال تسمى بدعةً شر ً يقصد أنها ال تسمى بدعةً مذمومةً شر ً عا، االسم في اللغة ،وهو ِ ومسل ًكا تفصيليًّا :وهو ما ذكره اإلمام العز بن عبد السالم وأوردناه تفصيال ،والقاسم المشترك بين المسلكين أنه ليس ك ُّل ُمحدَث في ً العبادات أو المعامالت منهيًّا عنه؛ بل األمور المحدثة تعتريها األحكا ُم التكليفيةُ بحسب ما تدل عليه األصول الشرعية ،أ َّما الزع ُم بأنها فغير سديدٍ؛ ألنه ُ محرمةٌ ا ِتِّكا ًء على تسميتها بدعةً عند بعض العلماء، يسد باب االجتهاد المعمول به المستقر بين العلماء ،وهذا هو عين البدعة المذمومة التي جاء الشرع بالنهي عنها. وهللا سبحانه وتعالى أعلم.