You are on page 1of 126

‫ق�ررت وزارة الرتبيـ�ة والتعلـي�م تدري�س‬

‫هـ�ذا الكـت�اب وطـبــعـه على نفـقـــتـها‬

‫آ‬‫ر‬ ‫ـ‬‫ق‬ ‫ـ‬ ‫ل‬‫ا‬ ‫ظ‬ ‫ـ‬‫حـفــي‬


‫ـ‬‫ل‬‫ا‬ ‫ن‬ ‫ـ‬‫ست‬
‫كـ‬

‫دار‬
‫ـر‬
‫يـم‬

‫مـ‬
‫مدخـل لتاريخ الفقـه وأصـولـه‬
‫لل�صف الثالث الثانوي‬

‫طـبــعـة ‪ 1428‬هـ ‪ 1429 -‬هـ‬


‫‪2007‬م ‪2008 -‬م‬
‫وزارة الرتبية والتعليم ‪1426 ،‬هـ‬
‫ ‬
‫فهرسة مكتبـة الملك فهد الوطنيـة أثناء النـشـر‬
‫وزارة التربـيـة والتعلـيـم‬
‫مدخل لتاريخ الفقـه وأصولـه ‪ :‬المرحلـة الثانويـة ‪ -‬الصف الثالث ‪ -‬الرياض ‪.‬‬
‫ ‪ 126‬ص ؛ ‪ x 23 21‬سم‬
‫ ردمك ‪9960 - 09 - 400 - 6 :‬‬
‫‪ - 2‬التعليم الثانوي ‪ -‬السعوديـة‬ ‫‪ - 1‬الفقـه اإلسالمـي ‪ -‬تاريخ ‪ -‬كتب دراسية‬
‫أ ‪ -‬العنوان‬ ‫‪ -‬كتب دراسية ‬ ‫ ‬ ‫ ‬
‫‪16 / 2401‬‬ ‫ ‬‫ديوي ‪250،90712‬‬

‫رقم اإليداع ‪16 / 2401 :‬‬


‫ردمك ‪9960 - 09 - 400 - 6 :‬‬

‫لهذا الكتاب قيمة مه ّمة وفائدة كبيرة فلنحافظ عليه ولنجـعـل نظافتـه ت�شـهـد على ح�سـن �سلوكـنا مـعـه‪...‬‬

‫�إذا لم نحتفظ بهذا الكتاب في مكتبتنا الخا�صـة في �آخـر العــام لال�ستفادة فلنجعـل مكتبة مدر�ستنا تحتفظ به‪...‬‬

‫حقوق الطبع والن�شر محفوظة لوزارة التربية والتعليم ـ المملكة العربية ال�سعودية‬

‫وزارة التربية والتعليم‬ ‫موقع‬


‫‪www.moe.gov.sa‬‬

‫الإدارة العامة للمناهج‬ ‫موقع‬


‫‪www.moe.gov.sa/curriculum/index.htm‬‬

‫وحدة العلوم ال�شرعية‬ ‫بريـد‬


‫‪runit@moe.gov.sa‬‬
‫مقدمة‬

‫�إن الحـمــد هلل نـحـمــده ون�سـتـعـيـنه‪ ،‬ونـعــوذ بـاهلل مـن �شــرور �أنـفـ�س ـنــا ومـن �سيـئــات �أعـمــالـنــا‪،‬‬
‫﴾ (�سورة الأعراف ‪.)178 :‬‬ ‫﴿‬
‫ون�شهد �أن ال �إله �إال اهلل وحده ال �شريك له ون�شهد �أن محمد ًا عبده ور�سوله �صلى اهلل عليه‬
‫وعلى �آله الطيبين و�أ�صحابه والتابعين ‪� ...‬أما بعد ‪:‬‬
‫فقد �أ�سند �إلينا ت�أليف كتاب في مدخل تاريخ الفقه و�أ�صوله‪ ،‬وفق المنهج المقرر على طالبات‬
‫ال�صف الثالث من المرحلة الثانوية لمدار�س تحفيظ القر�آن الكريم‪ ،‬وقد توخينا في هذا المنهج‬
‫عدة �أمور من �أهمها ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ـ ال�سهولة في العبارة بقدر الإمكان ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ الإيجاز المفيد في كل م�س�ألة نتعر�ض لبيانها ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ ذكر نماذج من الأ�سئلة عقب كل مبحث �أو ف�صل وذلك لتدريب الطالبات على‬
‫معرفة ما يوجه �إليهن‪ ،‬ولكي ت�ستعين بها مد ِّر�سة المادة في عمل حوار بينها وبين‬
‫الطالبات‪.‬‬
‫ولقد راعينا من وراء هذه الدرا�سة تحقيق الأهداف التالية ‪:‬‬
‫مي�سرة عن �أهمية الت�شريع و�أنه �أمر البد منه لحفظ كيان الجماعة‬
‫‪ 1‬ـ ـ �إعطاء الطالبة فكرة ّ‬
‫وحماية الأفراد وتحقيق العدالة والم�ساواة فيما بينهم ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ تعريف الطالبة بمبادئ تاريخ الت�شريع الإ�سالمي ومقا�صده والثمار المرجوة منه ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ �إعانة الطالبة على فهم القر�آن وال�سنة ومعرفة المنهج الحقيقي لكل منهما في بيان‬
‫الأحكام ال�شرعية‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ـ تمكين الطالبة من فهم مادة الفقه الإ�سالمي ومعرفة كيف يمكن التو�صل �إلى حكم‬
‫م�س�ألة م�ستحدثة تتطلب بيان حكمها ال�شرعي ‪.‬‬
‫‪� – 5‬إعانة الطالبة على فهم ودرا�سة المواد الدينية مثل التف�سير والحديث والفقه وغير‬
‫ذلك من علوم ال�شريعة الإ�سالمية ‪.‬‬
‫هذا ولما كان الت�شريع �سابق ًا في �أدواره يعتمد على الفقه‪ ،‬كما �أن الفقه م�أخوذ من الت�شريع‬
‫وم�ستمد منه‪ ،‬ر�أينا �أنه من المنا�سب �أن نقدم الحديث عن الت�شريع �أو ًال ثم عن الفقه ثاني ًا ‪.‬‬
‫وندعو اهلل العلي القدير �أن ينفع به الجميع �إنه نعم المولى ونعم الن�صير ‪.‬‬

‫الم�ؤلـفـون‬
.
‫الفصل الدراسي األول‬
‫الباب األول ‪:‬‬

‫تاريخ الت�شريع والفقه الإ�سالمي‬

‫وي�شتمل على �ستة مباحث ‪:‬‬


‫المبحث الأول ‪ :‬في الحديث عن تعريف تاريخ الت�شريع ‪ ،‬ومعنى الت�شريع و�أهميته والغر�ض من‬
‫درا�سته ون�ش�أته وتطوره و�أدواره ‪.‬‬
‫المبحث الثاني ‪ :‬في بيان مفهوم ال�شريعة الإ�سالمية ومكانتها ومميزاتها وخ�صائ�صها ‪.‬‬
‫المبحث الثالث ‪ :‬في م�صادر الت�شريع ‪.‬‬
‫المبحث الرابع ‪ :‬في الحديث عن تعريف الفقه الإ�سالمي ون�ش�أته وتطوره ومميزاته وظهور‬
‫المذاهب الفقهية‪ ،‬و�أ�صولها و�أ�شهر م�ؤلفاتها ‪.‬‬
‫المبحث الخام�س ‪ :‬في �أ�سباب االختالف بين المذاهب الفقهية ‪.‬‬
‫المبحث ال�ساد�س ‪ :‬في الحديث عن �أ�شهر �أئمة المذاهب الفقهية و�أهل الفتوى واالجتهاد ‪.‬‬

‫‬
‫المبحث األول‬

‫الحـديـث عن ‪:‬‬
‫تعريف تاريخ الت�شريع‬ ‫ ‬
‫ومعنى الت�شريع و�أهميته‬ ‫ ‬
‫والغر�ض من درا�سته‬ ‫ ‬
‫ون�ش�أته‪ ،‬وتطوره‪ ،‬و�أدواره‬ ‫ ‬

‫‬
‫تـــاريخ الت�شـــريــــع‬

‫تعريف تاريخ الت�شريع ‪:‬‬

‫تاريـخ التشريـع ‪ :‬علم يبحث فيه عن أحوال التشريع في عصر الرسالة وأطوار الفقه فيما بعده من‬
‫العصور من حيث تعيين األزمنة التي أنشئ فيها‪ ،‬ومصادره وطرقه‪ ،‬وسلطته وما طرأ عليها وعن أحوال‬
‫المجتهدين وما كان لهم من شأن ‪.‬‬

‫تعـريـف الت�شـريــع ‪:‬‬

‫الراء» كالشرع‪ ،‬مصدر شرع بتخفيف الراء المفتوحة‪.‬‬‫شرع ‪« ،‬بتشديد ِ‬ ‫التشريـع في اللغـة ‪ :‬مصدر َّ‬
‫وفـي االصطالح الشرعـي ‪ :‬وضع القواعد وبيان النظم وإظهار األحكام التي تسير عليها األفراد‬
‫والجماعات ‪.‬‬
‫فإن كان مصدر هذا التشريع هو الله سبحانه وتعالى بواسطة رسله وكتبه سمي شرع ًا أو تشريع ًا‬
‫إالهي ًا‪ ،‬وإن كان مصدره الناس أفراد ًا كانوا أم جماعات سمي قانون ًا وضعي ًا ‪.‬‬

‫�أهـمـيـة الت�شـريــع ‪:‬‬

‫التشريع أمر البد منه وذلك لحفظ كيان الجماعة وحماية األفراد باستقرار األمن وتحقيق العدالة‬
‫والمساواة بينهم‪ ،‬فإن النفوس البشرية جبلت على حب الذات‪ ،‬وقد قضت الفطرة التي فطر الله تعالى‬
‫الناس عليها منذ بدء الخليقة أن الفرد وحده ال ينهض بشؤون نفسه‪ ،‬بل هو محتاج إلى معاونة بني‬
‫جنسه في تحصيل حاجاته وتكميل أسباب حياته من األمور التي يعجز هو عنها ‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫وبهذا كانت الحياة اإلنسانية حياة جماعية يسد كل فرد منها ثغرة في بناء المجتمع فتتكون من‬
‫مجهودات الجميع حياة سعيدة طيبة ينعم بها الجميع ‪.‬‬
‫فلو ُترك الناس وشأنهم يستبد كل منهم برأيه تبع ًا لشهواته دون أن يكون هناك شرع يميز الخبيث‬
‫من الطيب‪ ،‬وينظم العالقة فيما بينهم لفسدت حياتهم وعمت الفوضى فيهم‪ ،‬وصارت حياة الفرد حياة‬
‫بهيمية وحياة الجماعة حياة شيطانية متمردة يموت فيها الحق وينهض فيها الباطل وتقوم األنانية مقام‬
‫المساواة لكل هذا كان البد من تشريع سماوي يضعه الحق تبارك وتعالى يحيط بكل ما يحتاجه الناس‬
‫في حياتهم وآخرتهم ‪.‬‬

‫الغر�ض من درا�سة تاريخ الت�شريع ‪:‬‬

‫الغـرض من دراسـة تـاريـخ التشـريـع هـو معرفـة مبـادئـه وأهـدافـه ونتـائجـه كـي تتحـقـق‬
‫االستفـادة مـنـه ‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫ن�شـ�أة الت�شريــع ‪ -‬وتطور الفقــه و�أدواره‬

‫�أو ًال ‪ :‬الت�شـريـع في عـهـد الـر�ســول ﷺ ‪:‬‬

‫وهذا العهد يسمى عهد اإلنشاء والتكوين ‪ ،‬وقد بدأ من بعثة الرسول ﷺ وانتهى بوفاته ﷺ‪ ،‬ومدة‬
‫هذا العهد لم تزد على (‪ )22‬سنة وبضعة أشهر‪ ،‬ومع ذلك فقد كانت آثاره جليلة ألنه خ ّلف نصوص‬
‫األحكام في القرآن والسنة‪ ،‬كما خلف مجموعة كبيرة من األصول التشريعية الكلية‪ ،‬ووضع عدة مصادر‬
‫ودالئل يرجع إليها حين إرادة معرفة حكم واقعة ال نص على حكمها‪ ،‬فهو بهذا خلف أسس التشريع‬
‫اإلسالمي الكامل‪ .‬وقد كان هذا العهد فترتين ‪:‬‬

‫الفترة الأولى ‪ :‬فترة وجود الرسول ﷺ بمكة ومدتها (‪ 12‬سنة) وبضعة أشهر من بعثته إلى هجرته‪،‬‬
‫وتميزت هذه الفترة بالدعوة إلى توحيد الله وتحويل وجوه الناس عن عبادة األوثان ‪.‬‬

‫الفترة الثانية ‪ :‬هي مدة وجود الرسول ﷺ في المدينة وقدرها عشر سنوات تقريب ًا‪ ،‬من هجرته‬
‫إلى وفاته‪ .‬وتميزت هذه الفترة بعز اإلسالم وكثرة عدد المسلمين وتكوين أمة أصبح لها شأن بين‬
‫األمم‪ ،‬كما تميزت بوجود التشريع العملي إلصالح حياة الناس‪ ،‬وكانت مصادر التشريع في هذا‬
‫العهد القرآن والسنة ‪.‬‬

‫ثـان ًيــا ‪ :‬الفقـــه فـي عــهــد ال�صحـابــة ‪:‬‬

‫ابتدأ هذا العهد بوفاة الرسول ﷺ سنة ‪11‬هـ وانتهى بوفاة الخليفة علي بن أبي طالب ‪ ‬سنة‪ 40‬هـ‪ .‬وقد‬
‫تولي الفتيا التشريعية في هذا العصر العلماء من الصحابـة‪ .‬ومصادر الفقه في هذا العهد ثالثة‪ :‬القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬والسنة‪ ،‬واجتهاد الصحابة رضي الله عنهم‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫ثـالثـ ًا ‪ :‬الفـقــه فـي عهـد التـابعـيـن ‪:‬‬

‫ابتدأ هذا العهد بوفاة الخليفة الرابع «علي بن أبي طالب » ‪ ‬في شهر رمضان سنة ‪40‬هـ وانتهى‬
‫بأوائل القرن الثاني الهجري ‪.‬‬
‫وقد تولى السلطة التشريعية في هذا العهد العلماء المبرزون من الصحابة وكبار التابعين وكانت‬
‫طريقتهم في الفتيا متمثلة في االقتصار على ما تدعو إليه الحاجة وعدم سبق الحوادث بالتشريع لها‪.‬‬
‫وتميز هذا العهد بأن التشريع فيه كان يصدر عن أفراد بخالف التشريع في عهد الصحابة رضي الله‬
‫عنهم‪ ،‬فكان أغلبه يصدر عن جماعة‪ ،‬كما تميز هذا العهد بكثرة الخالف في الفروع الفقهية‪ ،‬وقد خلف‬
‫هذا العهد فتاوى مختلفة للصحابة وكبار التابعين ‪.‬‬
‫وكانت مصادر الفقه في هذا العهد الكتاب والسنة واإلجماع واالجتهاد بالقياس أو بأي طريقة من‬
‫طرق االستنباط‪.‬‬

‫رابع ًا ‪ :‬الفقه في عهد الأئمة المجتهدين ‪:‬‬

‫هذا العهد من أوائل القرن الثاني الهجري وانتهى في منتصف القرن الرابع الهجري‪ ،‬فمدته تقريب ًا‬
‫مائتان وخمسون سنة هجريـة‪ ،‬ويتميز هذا العهد بنشاط حركـة الفتيا وظهور المذاهب الفقهية ‪.‬‬
‫وقد تولى الفتيا وغيرها في هذا العهد الفقهاء وكان أكثرهم في هذا العهد يقومون بتدريس العلوم‬
‫الشرعية ورواية الحديث ومنهم من ولي القضاء‪ ،‬ومصادر التشريع في هذا العهد هي الكتاب والسنة‬
‫واإلجماع واالجتهاد بالقياس أو بأي طريقة من طرق االستنباط ‪.‬‬

‫خام�س ًا ‪ :‬الفقه فيما بعد عهد الأئمة المجتهدين ‪:‬‬

‫الطور الأول ‪ :‬وبدأ هذا العهد من منتصف القرن الرابع الهجري وانتهى في منتصف القرن السابع‬
‫الهجري‪ ،‬ويتميز هذا العهد بظهور التقليد فيه بين الفقهاء‪ ،‬فلم يوجد فيه مجتهد كأبي حنيفة واإلمام‬
‫مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأقرانهم‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وقد تولى الفتيا وغيرها في هذا العهد الفقهاء الكبار التابعون لألئمة السابقين في العهد الرابع‬
‫من عهود الفقه‪ ،‬وذلك بتدريسهم كتب األئمة السابقين‪ ،‬وإفتائهم فيما ينزل من الحوادث والقضاء‬
‫فيما يرفع إليهم من النوازل‪ ،‬وكان ذلك واجب ًا عليهم‪ ،‬ألنهم هم القادرون على تبليغ أحكام الشريعة‬
‫لقدرتهم على فهم كتب األئمة السابقين ‪.‬‬

‫الطور الثـانــي ‪ :‬وقد ابتدأ هذا العهد من منتصف القرن السابع الهجري واستمر حتى اآلن‪.‬‬
‫ويتميز هذا العهد بأن غلب فيه التقليد لمذاهب األئمة األربعة رضي الله عنهم‪ ،‬ولم يكن تقليد‬
‫هذه المذاهب بإلزام من أئمتها للناس بأن يتبعوها دون غيرها من المذاهب واستمر األمر على هذا‬
‫حتى عادت الحركة العلمية مرة ثانية بتوفيق الله‪ ،‬ثم بجهود العلماء المخلصين الذين عملوا بمقاصد‬
‫التشريع اإلسالمي في تحقيق المصالح والمحافظة عليها وإثبات مسايرة الشريعة اإلسالمية لكل زمان‬
‫إلى أن يرث الله األرض ومن عليها ‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫�أدوار الت�شــريـــع والفقــــه‬
‫تنحصر أدوار التشريع اإلسالمي والفقه في خمسة أدوار هي ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ـ الدور الأول ‪ :‬وهو التشريع في عهد الرسول ﷺ وفي عهد الصحابة رضي الله عنهم ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ الدور الثاني ‪ :‬وهو دور تأسيس الفقه ويبدأ من سنة ‪41‬هـ حتى سنة ‪132‬هـ ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ الدور الثالث ‪ :‬وهو دور نهضة الفقه وتدوينه‪ ،‬وجعله علم ًا مثل سائر العلوم وتأسيس المذاهب‬
‫وتدوين الحديث وفيه ظهر األئمة العظام أصحاب المذاهب المدونة‪ ،‬أبو حنيفة‪ ،‬ومالك‪،‬‬
‫والشافعي‪ ،‬وأحمد رضي الله عنهم ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ـ الدور الرابع ‪ :‬وهو دور التقليد وسد باب االجتهاد وهذا بعد استقرار المذاهب الفقهية وفيه‬
‫عكف الناس على المذاهب األربعة المعروفة عند أهل السنة ‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ـ الدور الخام�س ‪ :‬وهو دور اليقظة الفقهية وحركة اإلصالح الديني في الوقت الحاضر من أجل‬
‫فتح باب االجتهاد وإثبات أن الشريعة اإلسالمية صالحة لكل زمان ومكان إلى يوم القيامـة‪.‬‬

‫أسئـلــة‬

‫عرفـي تاريخ التشريـع‪.‬‬‫‪ 1‬ـ ِّ‬


‫عرفـي التشريع في اللغة واالصطالح‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ ِّ‬
‫‪ 3‬ـ تحدثي عن أهميـة التشريع‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ما الغرض من دراسة تاريخ التشريع؟‬
‫‪ 5‬ـ تحدثي بالتفصيل المفيد عن النقاط التالية ‪:‬‬
‫(ج) أدواره ‪.‬‬ ‫ ‬
‫(ب) تطوره ‪.‬‬ ‫ ‬ ‫ (أ) نشأة التشريع‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫المبحث الثاني‬

‫بيـان مفهوم ال�شريعـة الإ�سـالمـيـة‬ ‫ ‬


‫ومكانتها‪ ،‬ومميزاتها‪ ،‬وخ�صائ�صها‬

‫‪16‬‬
‫ال�شـريـعـة الإ�ســالمـيــــة‬

‫مفهــوم ال�شـريـعـة الإ�سـالمـية ‪:‬‬

‫لقد وردت الشريعة في اللغة بمعنيين ‪:‬‬


‫الأول ‪ :‬أنها الطريقـة المستقيمـة‪ ،‬ومنـه قـولـه تعـالى ‪:‬‬
‫﴾‬
‫(سورة الجاثية اآلية ‪.)18 :‬‬ ‫﴿‬
‫الثاني ‪ :‬مـورد المـاء الجاري الـذي يقصد للشرب‪ ،‬ومنه قولهم‪« :‬شرعت اإلبـل» إذا وردت‬
‫شرعـة المـاء‪.‬‬
‫ال�شريعة في ا�صطالح الفقهاء ‪ :‬تطلق الشريعة في اصطالح الفقهاء على األحكام التي سنها الله‬
‫تعالى لعباده ليكونوا مؤمنين بها عاملين على ما يسعدهم في الدنيا واآلخرة ‪.‬‬
‫وسميت هذه األحكام شريعة ألنها مستقيمة محكمة الوضع ال ينحرف نظامها وال تلتوي عن‬
‫مقصدها‪ ،‬كالجادة المستقيمة ال التواء فيها وال اعوجاج‪ ،‬أو ألنها شبيهة بمورد الماء حيث يستقي‬
‫الناس منها أحكام دينهم ودنياهم ‪.‬‬

‫مكانة ال�شريعة الإ�سالمية بين ال�شرائع ال�سماوية والو�ضعية ‪:‬‬

‫تحتل الشريعة اإلسالمية مكانـة مرموقـة عالية بين الشرائع السمـاويـة األخرى ألنها جاءت وافيـة‬
‫بجمي�ع مطال�ب الحياة اإلنس�انية تس�د عوزها‪ ،‬وتحق�ق لها أهداف العمران من ش�تى جوان�ب حياتها‬
‫االجتماعيـة واالقتصاديـة والسياس�يـة‪ ،‬فاإلسلام عقيدة وعبادة وخلق وتشريع‪ ،‬وحكم وقضاء‪ ،‬وهو‬
‫علم وعمل‪ ،‬فالشريعـة اإلسالمية ليست كبقية الشرائع السابقة‪ ،‬ألنه إذا كانت الشرائع قاصرة على أقوام‬
‫معينين بمعنى أن شريعة كل نبي قاصرة على قومه‪ ،‬خاصة في إصالح ما فسد من عقائدهم وأخالقهم‪،‬‬

‫‪17‬‬
‫والعمـ�ل على تهذيب نفوس�هم وأرواحهم ع�ن طريـق إرجاعهم إلى فطـ�رة التوحيـد وهي التـي فطر‬
‫اللـه الناس عليها ففطرهم على اإليمان بـه‪ ،‬فالشريعة اإلسالمية ليست كذلك فهي شريعة عامة للناس‬
‫كافة وصالحة لكـل زمان ولكـل مكـان ولكل أنـاس‪ ،‬قـال تعالى ‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة األعراف اآليـة‪.)158 :‬‬

‫وقـد اكتسبت نصوص الشريعة اإلسالمية من المرونة والعموم ما جعل قواعدها صالحة لجميع‬
‫النـاس في كل العصور‪ ،‬تساير عوامل النمو واالرتقاء وتقود الحضارة اإلنسانيـة إلى معالـم الحق‬
‫وسبل الرشاد‪ ،‬ويكفي الشريعة اإلسالمية أن تكون خاتمة الشرائع السماوية‪ ،‬فبها أتم الله علينا نعمته‬
‫﴾‬ ‫وأكمل بها دينه حيث يقول ‪﴿ :‬‬
‫(سورة المائدة اآليـة ‪.)3 :‬‬ ‫ ‬

‫إذا كان هذا هو شأن الشريعة مع بقية الشرائع السماوية وأنها تحتل تلك المكانة السامية‪ ،‬فمن باب‬
‫أولى أن تحتل الصدارة واالرتقاء بالنسبة للقوانين الوضعية ويكفي في بيان تلك المكانـة أنها من عند‬
‫الله والقانون الوضعي من صنع البشر ‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫مميزات ال�شريعة الإ�سالمية وخ�صائ�صها‬

‫تمتاز الشريعة اإلسالمية بأنها جاءت من عند الله تبارك وتعالى وأنها خاتمة الشرائع السماوية‪ ،‬كما‬
‫تمتاز بأنها وحي إلهي منزه عن الميل للنزوات واألهواء وهي تنزيل من حكيم حميد الذي يعلم أحوال‬
‫عباده‪ ،‬وما يصلح معاشهم ومعادهم وما يكفل لهم الخير في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وكذلك تمتاز بأنها لم تأت‬
‫لقوم دون قوم‪ ،‬بل أتت لكل الناس ولكل العصور ‪.‬‬

‫ومن أهم خصائص الشريعة اإلسالمية أنها تتناول اإليمان بالله ورسوله وعالم الغيب وصلة العبد‬
‫بربه وسلوكه األخالقي وأنظمة الحياة كلها‪ ،‬كما أن الشريعة اإلسالمية تنبثق من فكرة الحالل والحرام‪،‬‬
‫واإليمان بالدار اآلخرة وتربي الضمير اإلنساني كي يكون رقيب ًا على المسلم في السر والعلن فهي تقيم‬
‫من داخل النفس البشرية رقابة على تعاليمها األمر الذي يجعل المسلم يراعي هذه التعاليم ويحافظ‬
‫عليها في كل وقت حتى ولو كان في جوف الليل‪ ،‬فإتباعه لها مستمر وقائم في كل وقت وحين ‪.‬‬

‫أسئـلــة‬
‫‪ 1‬ـ ب ِّيني على ضوء ما درستيه مفهوم الشريعة اإلسالمية ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ تحدثي عن مكانة الشريعة اإلسالمية بين الشرائع والقوانين الوضعية ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ اذكري ما تعرفينه عن مميزات الشريعة اإلسالمية وخصائصها ‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫المبحث الثالث‬

‫م�صــادر الت�شــريــع الإ�ســالمــي‬ ‫ ‬

‫‪20‬‬
‫م�صـادر الت�شـريـع الإ�سـالمــي‬

‫إن الكالم عن مصادر التشريع اإلسالمي يستوجب منا أن نتحدث عنها حسب عهود التشريع‬
‫اإلسالمية أي عهد الرسول ﷺ وعهد الصحابة وعهد التدوين وعهد التقليد ‪.‬‬

‫ففي عهد الرسول ﷺ كان للتشريع مصدران‪ ،‬الوحي اإللـهي واجتهاد الرسول نفسه‪ ،‬فإذا حدث ما‬
‫يستوجب تشريع ًا‪ ،‬أوحى الله تعالى إلى رسوله ﷺ بآية أو آيات فيها حكم ما أريد معرفة حكمه وبلغ‬
‫الرسول ما أوحي الله إليه وكان تشريع ًا واجب ًا اتباعه‪ ،‬وإذا حدث ما يقتضي تشريع ًا‪ ،‬ولم يوح الله إلى‬
‫تعرف الحكم وما أداه إليه اجتهاده قضى به‬
‫الرسول بآية أو آيات تبين الحكم اجتهد الرسول ﷺ في ّ‬
‫وعرفه للناس‪ ،‬وكان ما صدر عن اجتهاده تشريع ًا واجب ًا اتباعه مع قانون الوحي اإللهي ‪ -‬والمتتبع آليات‬
‫َّ‬
‫القرآن الكريم يتضح له ذلك‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة البقرة اآليـة ‪.)219 :‬‬

‫كما أن المتتبع أحاديث األحكام وما رواه المحدثون من أسباب ورودها يتبين له ذلك أيض ًا‪ ،‬فقد‬
‫روى أبو هريرة ‪ ‬قال‪( :‬سأل رجل رسول الله ﷺ فقـال ‪ :‬يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا‬
‫القليل من الماء فإن توضأنـا بـه عطشنا أفنتوضأ بماء البحر‪ ،‬فقال الرسول ﷺ ‪« :‬هو الطهور مـاؤه‬
‫الحـل ميتتـه ») (رواه الخمسة وقال الترمذي حديث حسن صحيح) (‪.)1‬‬

‫فكل ما شرع من األحكام في عهد الرسول ﷺ كان مصدره الوحي اإللهي أو االجتهاد النبوي‪،‬‬
‫وكان صدوره نتيجة لحاجة تشريعية اقتضته وكانت وظيفة الرسول ﷺ بالنسبة لما شرع بالمصدر‬
‫﴾ (سورة المائدة اآليـة ‪.)67 :‬‬ ‫األول تبليغه وتبيينه تنفيذ ًا لقوله تعالى‪﴿ :‬‬

‫(‪ )1‬نيل األوطار ‪ ،‬جزء ‪ 1‬ص ‪ ،17 :‬باب طهورية ماء البحر‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫﴾ (سورة النحل اآليـة ‪.)44 :‬‬ ‫وقال تعالى ‪﴿ :‬‬

‫وبالنسبة لما صدر عن المصدر الثاني فتارة التعبير عن إلهام إلهي أي أن الرسول ﷺ إذا أخذ في‬
‫االجتهاد ألهمه الله حكم ما أراد معرفة حكمه‪ ،‬وتارة عن طريق االستنباط واستمداد الحكم مما تهدى‬
‫إليه المصلحة ومقاصد التشريع ‪.‬‬

‫واألحكام التشريعية التي يلهم الله بها الرسول أحكام إلهية دور الرسول فيها التعبير عنها بقوله أو‬
‫فعله‪ ،‬أما األحكام االجتهادية التي لم يلهم بها رسوله‪ ،‬بل صدرت عن بحث منه ونظر فهي أحكام نبوية‬
‫بمعانيها وعباراتها وهذه األحكام ال يقره الله عليها إال إذا كانت صواب ًا‪ ،‬وأما إذا لم يوفق الرسول فيها‬
‫إلى الصواب فإن الله يرده إلى الصواب ‪ -‬ومثال ذلك حادث افتداء أسرى بدر الذي يبين الله لرسوله‬
‫الصواب فيه بقوله تعالى ‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة األنفال االيـة ‪.)67 :‬‬

‫فمن هذا نستنتج أن مصدر التشريع في عهد الرسول كان إلهي ًا كله‪ .‬وفي عهد الصحابة ‪ -‬رضي الله‬
‫عنهم ‪ -‬كانت مصادر الفقه ثالثـة ‪ :‬القرآن الكريم ‪ -‬والسنة ‪ -‬واجتهاد الصحابـة ‪.‬‬
‫فكانوا إذا عرضت حادثة أو وقعت خصومة ينظرون في كتاب الله تعالى أو ً‬
‫ال‪ ،‬فإن وجدوا فيه نص ًا‬
‫على حكمها حكموا به‪ ،‬وإن لم يجدوا في كتاب الله‪ ،‬ذهبوا إلى سنة رسول الله ﷺ فإن وجدوا فيها‬
‫منشدهم وتبينوا الحكم فيها أمضوه وحكموا به‪ ،‬وإن لم يجدوا في الكتاب أو السنة اجتهدوا في معرفة‬
‫حكمها واستنبطوه قياس ًا على ما ورد فيه النص أو بما تقتضيه روح التشريع ومصالح الناس ‪.‬‬

‫أما بالنسبة لمصادر الفقه في عهد التدوين واألئمة المجتهدين فهي أربعة ‪ :‬القرآن الكريم ‪ -‬السنة ‪-‬‬
‫اإلجماع ‪ -‬القياس؛ فإذا وقعت واقعة بحث عن حكمها في كتاب الله تعالى‪ ،‬فإن وجد فيه نص يدل‬
‫على حكمها عمل به‪ ،‬وإن لم يوجد بحث في السنة‪ ،‬فإن وجد فيها نص يدل على حكمها حكم به‬
‫ووجب اتباعه ‪ ،‬وإن لم يكن هناك إجماع اجتهد فيها واستخرج الحكم الشرعي لها عن طريق القياس‬
‫فيلحق ما لم ينص على حكمه بما ورد فيه نص ‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫أما عن مصادر الفقه في عهد التقليد فالحقيقة أن مصادره تمثلت في أقوال األئمة السابقين وعباراتهم‬
‫ألنه نصوص الشارع ومبادؤه العامة‪ ،‬ولعل السبب في ذلك هو فتور الهمم عن االجتهاد والرجوع إلى‬
‫المصادر السابقة ‪ ،‬القرآن والسنة واإلجماع والقياس ‪.‬‬

‫أسئـلــة‬

‫س‪ 1‬ـ تحدثي بإيجاز مفيد عن مصادر التشريع اإلسالمي في عهد الرسول ﷺ ومصادر‬
‫الفقـه في عهد الصحابة رضوان الله عليهم ‪.‬‬
‫س‪ 2‬ـ مـا هي مصادر الفقـه اإلسالمي في عهد التدويـن واألئمـة المجتهـدين وفي عهد‬
‫التقلـيـد؟‬

‫‪23‬‬
‫المبحث الرابـع‬

‫«الحديث عن تعريف الفقـه الإ�سالمي ون�ش�أتـه‬


‫وتطوره ومميزاته وظهور المذاهب الفقهية‬
‫و�أ�صولها ‪ ،‬و�أ�شهر م�ؤلفاتها»‬

‫‪24‬‬
‫ن�ش�أة الفقه الإ�سالمي وتطوره ومميزاته‬

‫الفقـه في اللغة هو الفهم مطلـق ًا‪ ،‬وفي اإلصـالح «العلم باألحكام الشرعـيـة العملـيـة المكتسـبـة‬
‫من األدلـة التفصيلية » (‪.)1‬‬

‫والفقه بهذا المعنى لم يكن موجود ًا قبل اإلسالم‪ ،‬بل ما كان عند العرب قبل اإلسالم ما هو إال‬
‫مجموعة قليلة من الضوابط ال يطلق عليها مسمى الفقه اصطالحـ ًا ‪.‬‬

‫فلمـا جـاء اإلسالم لـم يجـد لـدى األمـة العربيـة فقه ًا كـافيـ ًا سماويـ ًا وال وضعيـ ًا بل وجـدها‬
‫في ظلمـة الجهل بالحقـوق‪ ،‬فأفـاض عليهـا نور التشريـع وهـذب األخـالق وصـان الحـقـوق‬
‫وحـررها‪ ،‬فأصبحـت األمـة على علم بالفقـه اإلسالمـي المؤسس بالوحـي اإللهي المبين في آيات‬
‫القـرآن العظيم وسنـة النبي الكـريـم علـيـه أفضل صـالة وأتـم تسلـيـم قـال تعـالـى ‪:‬‬
‫﴾ (سورة النحل اآليـة ‪.)89 :‬‬ ‫﴿‬

‫وما خرج أصحاب رسول الله ﷺ من جزيرة العرب فاتحين بالد الفرس والروم إال وهم فقهاء‪،‬‬
‫ومن هنا بدأ الفقه يتطور‪ ،‬فبدأ بطور الطفولة وهو ما يسميه الكثير من المؤلفين «عصر التشريع» ثم تاله‬
‫الطور الثاني وهو «طور الشباب» عصر االجتهاد‪ ،‬ففيه صار الفقه شاب ًا قوي ًا كام ً‬
‫ال سوي ًا‪ ،‬حيث امتد‬
‫اإلسالم وكثرت الفتوحات‪ ،‬وكثرت القضايا التي تحتاج إلى بيان ألحكامها الشرعية‪ ،‬وظهر الفقهاء‬
‫المفتون والقضاة العادلون‪ ،‬فصار للفقه مكان واعتبار حيث اجتهد الفقهاء واستنبطوا اآلراء‪ ،‬وأسسوا‬
‫المبادئ وقعدوا القواعد ورووا السنن وفسروا القرآن فعمموا وخصصوا وأطلقوا وقيدوا‪ ،‬وتوصلوا‬
‫إلى الكثير من األصول التي جعلوها علوم ًا وصناعات تحتاج إلى المزيد من الممارسات والمهارات‬
‫كي ينضبط بذلك الفقه‪.‬‬

‫(‪ )1‬راجعي تعريف الفقـه في قسـم األصـول ص‪.88‬‬

‫‪25‬‬
‫وينتظم أمر االجتهاد الذي توقف عليه تقدم األمة وصون حقوقها‪ ،‬وفي هذا الطور صار الفقه مدار‬
‫سياسة أهل هذا العصر وروح حياتهم ‪.‬‬
‫وبعد ذلك انتقل الفقه إلى الطور الثالث وهو «طور الكهولة» وفي هذا الطور توقف الخط البياني‬
‫للفقه عن الصعود بمعنى أنه لم تضف إلى الفقه في هذا الطور أي إضافات جديدة بحركة االجتهاد‪ ،‬إذ‬
‫أن حركته بدأت تضعف وأصبح الفقهاء يدورون في إطار المذاهب السابقة ويشمل هذا الطور القرنين‬
‫الهجريين الثالث والرابع ‪.‬‬
‫وبعد هذا الطور انحدر الفقه إلى طوره الرابع وهو «طور الشيخوخة والهرم» وهذا العنوان يتحدث‬
‫عن مضمونه فهو ال يحتاج إلى بيان وتفصيل‪ ،‬ألن الهمم قعدت عن االجتهاد واشتغل المثقفون بالقشور‬
‫عن اللباب ونقد أساليب الفقهاء فيه نقد ًا الذع ًا‪ ،‬ومع كل هذا فيجب أال ننسى أنه رغم ما في هذه المرحلة‬
‫من جمود كانت توجد ومضات من نور وضياء تتمثل في بعض المصلحين من العباقرة الفقهاء الذين‬
‫كسروا هذا الجمود باجتهادهم وفكرهم الثاقب وبصيرتهم وعلمهم بعد توفيق الله وخرجوا بالفقه إلى‬
‫دوره الحقيقي في معالجة قضايا المجتمع وتحقيق مصالح الناس ‪.‬‬
‫هذا وللفقه مميزات كثيرة �أهمها ما ي�أتي ‪:‬‬
‫‪ – 1‬أن الفقه اإلسالمي جامعة ورابطة لألمة اإلسالمية وهو حياتها تدوم بدوامه وتنعدم بعدمه‪،‬‬
‫وهو جزء ال يتجزأ من تاريخ حياة األمة اإلسالمية‪ ،‬وهو مفخرة من مفاخرها حيث لم يكن ألي أمة من‬
‫األمم السابقة عليها مثله ‪.‬‬
‫‪ – 2‬الفقه اإلسالمي نظام عام للمجتمع البشري ال اإلسالمي فقط‪ ،‬تام األحكام لم يدع شاردة وال‬
‫واردة‪ ،‬وهو التشريع األساسي لدول اإلسالم واألمة اإلسالمية جمعاء ‪.‬‬
‫‪ – 3‬أن الفقه اإلسالمي أسس على روح العدل والمساواة واحترام الحقوق الخاصة والعامة والنظام‬
‫األمثل‪ ،‬وقد اعتبر درء المفاسد مقدم ًا على جلب المصالح وسد الذرائع‪ ،‬والمصالح المرسلة وال ضرر‬
‫وال ضرار‪ ،‬وتقديم األهم على المهم وبنيت أحكامه على االعتدال ال إفراط وال تفريط‪ ،‬كما أنه اعتبر‬
‫األعراف الصحيحة والعادات السليمة ‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫المــذاهــب الفقهــيـــة‬

‫ظهرت المذاهب الفقهية في العصر الرابع من عصور التشريع وهو الذي بدأ في أوائل القرن الثاني‬
‫الهجري وانتهى بمنتصف القرن الرابع الهجري‪ ،‬وأشهر المذاهب التي ظهرت في هذا العصر ولها‬
‫أتباع دونوها وشرحوها وأخذوا بها وعملوا على نشرها ‪:‬‬
‫‪ – 1‬مذهب الحنفية ‪.‬‬
‫‪ – 2‬مذهب المالكية ‪.‬‬
‫‪ – 3‬مذهب ال�شافعية ‪.‬‬
‫‪ – 4‬مذهب الحنابلة ‪.‬‬

‫وفيما يلي كلمة موجزة عن كل مذهب من هذه المذاهب ‪:‬‬

‫‪27‬‬
‫‪ 1‬ـــ مـذهـب الحـنـفـيــة‬

‫ينسب هذا المذهب إلى اإلمام أبي حنيفة النعمان ‪ ،‬وقد نشأ هذا المذهب في الكوفة‪ ،‬ثم‬
‫تدارسه العلماء في بغداد‪ ،‬ثم انتشر بعد ذلك في أكثر البالد اإلسالمية‪ ،‬فدخل مصر والشام‪ ،‬والهند‪،‬‬
‫وباكستان وتركيا ووسط آسيا والصين واألفغان‪ ،‬وأول من أدخله مصر القاضي الحنفي إسماعيل‬
‫ابن اليسع الكوفي حين ولي قضاء مصر في عهد المهدي‪ ،‬وانتشر المذهب ألن أبا يوسف صاحب‬
‫أبي حنيفة قد ولي القضاء في عهد الرشيد‪ ،‬ألنه كان ال يتم تولية أي قاضي في بالد العراق والشام‬
‫ومصر‪ ،‬وغيرها من البالد إلى أقصى بالد أفريقية‪ ،‬إال من أشار بـه أبو يوسف وكان على مذهبه‪،‬‬
‫فاضطر العامة إلى تعرف أحكام القضاء وفتاوى أهل الرأي من علماء المذهب الحنفي‪ ،‬وبهذا انتشر‬
‫المذهب انتشار ًا عظيم ًا ‪.‬‬

‫�أ�صول مذهب الحنفية وقواعده ‪:‬‬

‫األصول التي استمد منها اإلمام أبو حنيفة مذهبه سبعة هـي ‪:‬‬
‫‪ 3‬ـ أقوال الصحابـة ‪ 4 .‬ـ اإلجماع ‪.‬‬ ‫ ‬ ‫‪ 2‬ـ السنـة‪.‬‬ ‫ ‬ ‫‪ 1‬ـ القرآن الكريم ‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ العــرف‪.‬‬ ‫‪ 6‬ـ االستحسـان‪ .‬‬ ‫‪ 5‬ـ القيـاس‪ .‬‬
‫هذه هي األصول التي اعتمد عليها اإلمام أبو حنيفة في استنباطه لألحكام أما قواعد مذهبه ما قاله‬
‫اإلمام أبو حنيفة عن نفسه ‪( :‬إني آخذ بكتاب الله إذا وجدته‪ ،‬فما لم أجده فيه أخذت بسنة رسوله ﷺ‬
‫واآلثار الصحاح عنه التي فشت في أيدي الثقات‪ ،‬فإذا لم أجد في كتاب الله وال سنة رسوله ﷺ أخذت‬
‫بقول أصحابه من شئت وأترك قول من شئت ثم ال أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم‪ ،‬فإذا انتهى األمر على‬
‫إبراهيم النخعي وعامر الشعبي وسعيد بن المسيب ‪ -‬وعدد منهم رجا ًال‪ ،‬فلي أن اجتهد كما اجتهدوا) (‪.)1‬‬
‫(‪ )1‬الفكـر السامي في تاريخ الفقـه اإلسالمي جزء ‪ 1‬ص ‪.354‬‬

‫‪28‬‬
‫�أ�شهر الكتب التي �ألفت في مذهب الحنفية ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ ـ كتـاب الخـراج ‪ :‬كتبه أبو يوسف صاحب أبي حنيفة للرشيد في مالية الدولة فبين فيه المصادر‬
‫المالية للدولة ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ كتاب اختالف �أبي حنيفة وابن �أبي ليلى ‪ :‬وهو ألبي يوسف أيض ًا وجمع فيه مسائل اختلف فيها‬
‫أبو حنيفة مع ابن أبي ليلى وكان ينتصر ألبي حنيفة في أغلبها‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ كتاب المب�سوط ‪ :‬وهذا الكتاب ألفـه محمد بن الحسـن وفيـه جمـع المسائـل التي أفتى فيها‬
‫اإلمام أبـو حنيفة ‪ .‬ثم ذكر المسائل التي خالـف فيهـا أبو حنيفة أبا يوسف وطوائـف من المسائل‬
‫التي ليس فيها خالف‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ـ كتاب الجامع ال�صغير ‪ :‬لمحمـد بن الحسن‪ ،‬وجمـع فيـه المسائل التي رواها عن أبي يوسف‬
‫عـن أبي حنيفة ‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ـ كتاب الجامع الكبير ‪ :‬لـه أيض ًا‪ ،‬وفيه جمع المسائل التي رواها عن أبي يوسف عن أبي حنيفة‪،‬‬
‫وزاد عليها ما تلقاه من سائر فقهاء العراق‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ ـ كتاب الكافي في فروع الحنفية ‪ :‬تأليف الحاكم أبي الفضل محمد بن أحمد المروزي وهو‬
‫مؤلف مختصر يتضمن معاني كتب محمد بن الحسن رحمه الله وحذف المكرر من مسائله‬
‫ترغيب ًا للمقتبسين ‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ ـ كتاب مخت�صر القدوري في فروع الحنفيـة ‪ :‬تألـيف أبـي الحسين أحمد بـن محمـد القدوري‬
‫البغـدادي الحنفي‪ ،‬ويعتبر هـذا الكتاب أول المتـون األربعـة المعتمـدة في المـذهب الحنفي‬
‫عند المتأخرين‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ ـ كتاب بدائع ال�صنائع في ترتيب ال�شرائع ‪ :‬تـأليف عالء الدين أبي بكـر الكاساني وهـذا الكتاب‬
‫من الفقه الحنفـي الذي يهتم بعرض مسائـل الفـروع الفقهية وذكـر الخـالف فيها بين الفقهاء‬
‫األحناف وغيرهم من فقهاء المذاهب األخرى واالستدالل لكل مذهب بطريقـة موجـزة‪ ،‬ثم‬
‫يرجح واحـد ًا منها‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫‪ 9‬ـ ـ كتاب البداية في الفقه ‪ :‬تأليف أبي الحسن علي بن أبي بكر بن عبد الجليل بن برهان الدين‬
‫المرغيناني الرشداني‪ ،‬وفيه جمع مؤلفه مسائل القدوري والجامع الصغير لمحمد بن الحسن‬
‫وشرحهما في نحو ثمانين مجلد ًا وسماه كفاية المنتهى ‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ ـ كتاب الهداية ‪ :‬ومؤلفه هو صاحب كتاب البدايـة في الفقـه‪ ،‬وفيـه شرح المؤلف كتاب البدايـة‬
‫السابق ذكره ‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ ـ كتاب فتح القدير ‪ :‬تأليف الكمال بن الهمام محمد بن عبد الواحد بن عبد الحميد بن مسعود‬
‫السيراسي ‪ -‬وهو من أكبر شروح الهداية وأوسعها‪ ،‬وهو غزير في مادته العلمية‪ ،‬كما أنه ليس‬
‫بالمعقد في تراكيبه ‪.‬‬

‫الم�سائل الفقهية في مذهب الحنفية ‪:‬‬

‫تنقسم المسائل الفقهية عند الحنفية إلى األقسام التالية ‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ ـ الأ�صول ‪ :‬وهي المسائل التي تضمنتها كتب ظاهر الرواية لمحمد بن الحسن ‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ ـ النوادر ‪ :‬وهي المسائل التي تضمنتها غير كتب ظاهر الرواية لمحمد بن الحسن وغيره‬
‫من أصحاب أبي حنيفة‪ ،‬وهذا القسم أقل في المرتبة من القسم األول‪ ،‬ولذا لو تعارضت‬
‫األصول والنوادر في حكم مسألة يؤخذ برواية األصول ألنها هي المعتبرة أص ً‬
‫ال للمذهب‬
‫وهي أقوى سند ًا‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ ـ الفتاوى في الواقعات ‪ :‬وهي مسائل استنبطها المجتهدون المتأخرون فيما سئلوا عنه من‬
‫مسائل واقعة لم يجدوا فيها رواية ألهل المذهب المتقدمين وهذا القسم أنزل من األصول‬
‫والنوادر ألن األصول والنوادر أقوال أصحاب المذهب‪ ،‬أما الفتاوى فهي تخريج على‬
‫أقوالهم‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫‪ 2‬ـــ مـذهـب المــالكـيــة‬
‫ينسب هـذا المـذهـب إلى اإلمام مالك بن أنس بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث بن عثمان بن‬
‫جثيل بن عمرو بن الحارث وكنيته أبو عبد الله وهو من قبيلة حمير من اليمن‪ ،‬وينسب إليها ‪.‬‬
‫وقد نشأ هذا المذهب بالمدينة‪ ،‬ثم نقله أصحابه إلى أمصار اإلسالم‪ ،‬ثم نقله عنهم غيرهم ممن‬
‫تلقاه من العلماء‪ ،‬وبهذا أخذ هذا المذهب في االنتشار حتى غلب في مصر وأفريقيا واألندلس‬
‫والمغرب األقصى‪ ،‬كما غلب على البصرة وبغداد وغيرهما من بالد المشرق وإن كان قد ضعف‬
‫أمره في بعضها بعد ذلك وأول من أدخل فقه اإلمام مالك إلى مصر‪ ،‬عثمان بن الحكم الجذامي‪،‬‬
‫وعبدالرحيم بن خالد بن يحيى‪ ،‬واستمرت شهرة هذا المذهب بمصر حتى قدم إليها الشافعي ويعد‬
‫زياد بن عبد الرحمن أول من أدخل المذهب إلى األندلس‪ ،‬وبقي المذهب غالب ًا على بالد المغرب‬
‫األقصى وال يزال كذلك حتى اليوم ‪.‬‬

‫�أ�صول هـذا المــذهــب وقـواعـده ‪:‬‬

‫تنحصر أصول مذهب المالكية فيما يأتي ‪:‬‬


‫‪ 3‬ـ اإلجمـاع ‪.‬‬ ‫ ‬ ‫‪ 2‬ـ السـنـة ‪.‬‬ ‫‪ 1‬ـ القـرآن الكريم ‪ .‬‬
‫‪ 6‬ـ قول الصحابـي ‪.‬‬ ‫ ‬ ‫‪ 5‬ـ القـيـاس‪.‬‬ ‫ ‬‫‪ 4‬ـ إجماع أهل المدينـة‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ سد الذرائـع ‪.‬‬ ‫ ‬ ‫‪ 8‬ـ العـرف والعادة ‪.‬‬ ‫ ‬ ‫‪ 7‬ـ المصالح المرسلـة ‪.‬‬
‫‪ 11‬ـ االستحسـان‪.‬‬ ‫‪ 10‬ـ االستصحاب ‪ .‬‬
‫هذه هي أصول مذهب اإلمام مالك رضي الله تعالى عنـه ‪.‬‬
‫وفي بيان قواعد المذهب ذكر الحجوي في الفكر السامي أن السبكي قال ‪ :‬إنها تزيد على الخمسمائة‪،‬‬
‫كما ذكر أيض ًا أنها عند القرافي خمسمائة وثمانية وأربعين (‪.)1‬‬
‫(‪ )1‬الفكـر السامي في تاريخ الفقـه اإلسالمي لمحمد بن الحسن الحجوي ط ‪ 1‬ص ‪.387‬‬

‫‪31‬‬
‫وحقيقة القول في بيان قواعد هذا المذهب ‪ :‬أن قواعد المذهب تفرعت عن هذه األصول واإلمام‬
‫مالك لم ينص على كل قاعدة‪ ،‬وإنما ذلك مأخوذ من طريقته وطريقة أصحابه في االستنباط ‪.‬‬

‫�أ�شهـر الكتب التي �ألفت في هـذا المـذهـب ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ ـ كتاب الموط�أ ‪ :‬وهذا الكتاب ألفه اإلمام مالك بنفسه وهو أول كتاب دون في الفقه والحديث‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ كتـاب المدونة ‪ :‬وهذا الكتاب صنفه سحنون التنوخي وراجعه علي بن القاسم وفي هذا الكتاب‬
‫والمخرجة على أصوله‪ ،‬وبعض آراء الصحابة وبعض‬
‫ّ‬ ‫جمعت آراء اإلمام مالك المروية عنه‪،‬‬
‫اآلثار واألحاديث التي وردت في مسائل الفقه المالكي ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ كتاب الوا�ضحة ‪ :‬لعبد الملك بن حبيب‪ ،‬وهذا الكتاب يعتبره بعض الناس أص ً‬
‫ال ثابت ًا للفقه‬
‫المالكي بعد المدونة‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ـ كتاب الموازنـة ‪ :‬لمحمد بن إبراهيم بن زياد االسكندري المعروف « بابن المواز » وقد بين فيه‬
‫كيفية بناء الفروع الفقهية التي ذكرها أصحاب المذهب على أصولهم ‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ـ كتاب المخت�صر في الفقه المالكي ‪ :‬تأليف العالمة الشيخ خليل بن إسحاق المالكي وهو كتاب‬
‫لمسائل المذهب في أسلوب وجيز محكم اشتغل به العلماء تدريس ًا وتأليف ًا ‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ ـ كتاب مواهب الجليل ل�شرح مخت�صر ال�شيخ خليل ‪ :‬تأليف أبي عبد الله محمد بن عبد الرحمن‬
‫المكي المعروف بالخطاب‪ ،‬وفيه شرح المؤلف مختصر الشيخ خليل وتكلم عن جميع مسائله‬
‫مع ذكر ما تحتاج إليه كل مسألة من تقييدات وفروع مناسبة وتتمات مفيدة من ضبط وغيره ‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ ـ ال�شرح الكبير على مخت�صر �سيدي خليل ‪ :‬تأليف أحمد بن محمد بن أحمد بن أبي حامد العدوي‬
‫المالكي الخلوي الشهير بالدردير‪ ،‬وفيه شرح مؤلفه مختصر خليل شرح ًا موجز ًا‪ ،‬اقتصر فيه‬
‫مؤلفه على حل غامضه‪ ،‬وتقييد مطلقه‪ ،‬كما ألزم نفسه بذكر المعتمد من أقوال المذهب‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫‪ 8‬ـ ـ حا�شية الد�سوقي على ال�شرح الكبير ‪ :‬تأليف محمد بن أحمد بن عرقة الدسوقي ذكر مؤلفه أنها‬
‫تقييدات على شرح الشيخ أحمد الدردير وأنه اقتبسها من كتب األئمة السابقين ‪.‬‬

‫‪ 9‬ـ ـ المجموع الفقهي في مذهب الإمام مالك ‪ :‬تأليف محمد بن محمد بن أحمد بن عبد القادر بن‬
‫عبد العزيز المعروف باألمير ‪.‬‬

‫وفيه راعـى المـؤلف تدوين المفتى به من اآلراء‪ ،‬عند المتأخرين سواء في ذلك المشهور وما‬
‫جرى بـه العمل‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫‪ 3‬ـــ مـذهـب ال�شــافـعـيــة‬

‫ينسب هذا المذهب إلى اإلمام الشافعي وقد نشأ مذهب الشافعية في الحجاز‪ ،‬وانتشر في‬
‫العراق ومصر والشام‪ ،‬ومرو‪ ،‬واسفراين‪ ،‬وخراسان‪ ،‬وقد نشره اإلمام الشافعي بنفسه في الحجاز‬
‫والعراق‪ ،‬ومصر بتدريسه‪ ،‬ونشر كتبه فيها‪ ،‬وقام أصحابه من بعده بتدريسه والتأليف فيه‪ ،‬وهو اآلن‬
‫غالب في القطر المصري‪ ،‬ماعدا بالد الصعيد‪ ،‬وغالب على بالد فلسطين‪ ،‬وبالد الكرد‪ ،‬وأرمينية‪،‬‬
‫وأكثر أهل السنة من أهل فارس شافعية‪ ،‬ومسلموا جزية سيالن‪ ،‬وجزائر الفلبين وما جاورها من‬
‫الجزائر والهند الصينية وأستراليا والسنيون في اليمن وعدن كلهم شافعية عدا عدن فإن بها بعض ًا‬
‫من الحنفية‪ ،‬وهذا المذهب يلي مذهب الحنفية في االنتشار ببالد العراق ويتبعه في الهند نحو‬
‫مليون مسلم ‪.‬‬

‫قواعــد و�أ�صــول هذا المذهــب ‪:‬‬

‫األصول التي اعتمد عليها اإلمام الشافعي في فقهه أربعـة وهي ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ القـرآن الكريـم ‪ .‬‬
‫‪ 2‬ـ السـنـة ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ اإلجـمـاع ‪ .‬‬
‫‪ 4‬ـ القـيـاس ‪.‬‬
‫وقد ترك اإلمام الشافعي االستحسان الذي قال به الحنفية والمالكية وأنكر االحتجاج به وقال «من‬
‫شرع» كما رد المصالح وأنكر االحتجاج بعمل أهل المدينة‪.‬‬ ‫استحسن فقد ّ‬
‫وفي بيان قواعد هذا المذهب ذكر الشافعي في كتابه األم ما نصه ‪« :‬األصل قرآن وسنة‪ ،‬فإن لم‬
‫يكن فقياس عليهما‪ ،‬وإذا تصل الحديث عن رسول الله ﷺ وصح اإلسناد منه فهو سنة‪ ،‬واإلجماع‬

‫‪34‬‬
‫أكبر من الخبر المفرد‪ ،‬والحديث على ظاهره‪ ،‬وإذا احتمل المعاني مما أشبه منها ظاهره أوالها به‪،‬‬
‫وإذا تكافأت األحاديث فأفصحها إسناد ًا أواله ًا‪ ،‬وليس المنقطع بشيء ماعدا منقطع ابن المسيب‪،‬‬
‫وال يقاس على أصل وال يقال لألصل لم وكيف وإنما يقال للفرع لم فإذا صح قياسه على األصل‬
‫صح وقامت به الحجة» فمن هذا النص يتبين لنا أن القرآن والسنة عند اإلمام الشافعي في التشريع‬
‫سواء ويليهما اإلجماع ثم القياس ‪.‬‬

‫�أهـم الكتب التي �ألفت في هـذا المـذهـب ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ ـ كتاب الحجة ‪ :‬أمـاله اإلمام الشافعي على تالميـذه بالعـراق ويطلق على مسائـله أنها مذهب‬
‫الشافعـي القديـم (‪.)1‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ كتاب الأم ‪ :‬أمـاله اإلمام الشافعـي عـلى تالميذه بمصر وتمثل مسائـل هذا الكتاب مذهب‬
‫الشافعـي الجديد (‪.)2‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ كتاب الر�سالة في �أ�صول الفقه ‪ :‬وهو أول كتاب ظهر في أصول الفقه يتناولها مستقلة عن الفروع‬
‫الفقهية ‪ -‬حتى نسب إلى الشافعي ‪ -‬أنـه الواضع ألصول الفقه ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ـ كتاب المهذب ‪ :‬تأليف أبي إسحاق إبراهيم بن علي بن يوسف الشيرازي ‪ ،‬ويعتبر هذا الكتاب من‬
‫أهم كتب الشافعية ‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ـ كتاب التنبيه في فروع ال�شافعية ‪ :‬للمؤلف السابق وهو الشيرازي وهو من الكتب الخمسة‬
‫المشهورة المتداولة بين الشافعية ‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ ـ كتاب الب�سيط في فروع المذاهب ‪ :‬لحجة اإلسالم أبي حامد الغزالي ‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ ـ كتاب فتح العزيز في �شرح الوجيز ‪ :‬تأليف أبي القاسم عبد الكريم بن محمد الرافعي ‪ ،‬وفيه شرح‬
‫مؤلفه كتاب الوجيز للغزالي ‪.‬‬

‫(‪ )1‬تاريخ التشريع اإلسالمي للدكتور الشهاوي ص ‪.187 :‬‬


‫(‪ )2‬المصدر السابـق‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫‪ 8‬ـ ـ كتاب منهاج الطالبين ‪ :‬تأليف أبي زكريا محي الدين يحيى بن شرف النووي‪ ،‬وهذا الكتاب‬
‫اختصار لكتاب المحرر‪ ،‬الذي ألفه الرافعي‪ ،‬ويمتاز بما تضمنه من التنبيه على قيود بعض‬
‫المسائل محذوفة عن األصل ‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ ـ كتاب تحفة المحتاج ل�شرح المنهاج ‪ :‬تأليف أحمد بن محمد بن علي بن حجر الهيثمي‪ ،‬وفي هذا‬
‫الكتاب يستمد مؤلفـه كثير ًا من حاشية شيخه عبد الحق في شرح المنهاج للجالل المحلي ‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ ـ كتاب نهاية المحتاج في �شرح المنهاج ‪ :‬تأليف شمس الدين الجمال‪ ،‬محمد بن أحمد بن‬
‫حمزة الرملي‪ ،‬ولقد اشتهر هذا الكتاب عن المتأخرين ونال من الثقة والتقدير ما جعله المعتمد‬
‫المتفرد في المذهب ‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫‪ 4‬ـــ مـذهـب الحنــابـلـــة‬

‫ينسب هذا المذهب إلى اإلمام أحمد بن حنبل‪ ،‬وقد نشأ هذا المذهب ببغداد موطن اإلمام أحمد بن‬
‫حنبل‪ ،‬ثم انتقل إلى غيرها من البالد‪ ،‬وقد كثر أتباعه ببغداد في القرن الرابع‪ ،‬وظهر هذا المذهب بمصر‬
‫وهو أظهر ما يكون في نجد‪ ،‬وهو الغالب على الحجاز‪ ،‬مع مذهب الشافعية والنجديون هم الذين‬
‫نقلوا مذهب اإلمام أحمد إلى الحرمين الشريفين‪ ،‬وإلى سائر ربوع الحجاز‪ ،‬ودخل المذهب فلسطين‪،‬‬
‫ودخل الشام وغيرها من بالد المسلمين شأنـه في ذلك شأن المذاهب السابقة ‪.‬‬

‫�أ�صول مـذهـب الحنابلة وقـواعـده ‪:‬‬

‫األصول التي اعتمد عليها اإلمام أحمد بن حنبل وجعلها قواعد في بناء مذهبه تتمثل في اآلتي ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ القـرآن الكريم ‪ .‬‬
‫‪ 2‬ـ السنـة ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ فتـاوى الصحابـة رضي الله عنهم ‪ .‬‬
‫‪ 4‬ـ اإلجـمـاع ‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ القـيـاس ‪ .‬‬
‫‪ 6‬ـ االستصحاب ‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ المصالـح المرسلـة ‪ .‬‬
‫‪ 8‬ـ ســد الذرائـع ‪.‬‬

‫هذه هي القواعد واألصول التي بني عليها مذهب الحنابلة ‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫�أهـم الكتب التي �ألفت في هـذا المـذهـب ‪:‬‬

‫اشتهر عن اإلمام أحمد أنه كان يكره أن يدون عنه تالمذته غير الحديث‪ ،‬مخافة أن يشتغلوا بآرائه‬
‫ال يؤخذ منه مذهبه‪ ،‬ولكن‬ ‫وفتاويه عن حديث الرسول ﷺ‪ ،‬ولذلك لم يصنف كتاب ًا في الفقه يعد أص ً‬
‫شهرة اإلمام أحمد خاصة بعد محنته في القول بخلق القرآن ‪ -‬دعت إلى نشر آرائـه والتصنيف فيها‪،‬‬
‫وأشهر ما صنف في الفقه على مذهب اإلمام أحمد كتابان جليالن هما ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ـ كتاب الجامع الكبير ‪ :‬صنفه أبو بكر الخالل أحمد بن محمد بن هارون‪ ،‬وذلك بعد أن جمعه‬
‫عن أصحاب اإلمام أحمد ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ كتاب مخت�صر الخرقي ‪ :‬ألفه عمر بن الحسين الخرقي‪ ،‬وهذا المختصر أشهر كتاب في فقه الحنابلة‬
‫‪ -‬ولذلك تناوله العلماء بالشرح والتعليق عليه ‪ -‬حتى أصبح له أكثر من ثالث مئة شرح‪.‬‬
‫وهناك كتب أخرى كثيرة وهي أكبر من أن تحصى إال أننا اقتصرنا على ذكر األشهر منها فقط لمناسبة‬
‫المقام الذي نتحدث فيه ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ كتاب �شرح الخرقي ‪ :‬تأليف القاضي أبي يعلى محمد بن الحسن بن الفراء البغدادي‪ ،‬وفيه يذكر‬
‫المؤلف المسألة من الخرقي‪ ،‬ثم يذكر من خالف فيها ثم يقول ودليلنا‪ ،‬فيفيض في إقامة الدليل‬
‫من الكتاب والسنة والقياس على طريقة الجدل‪ ،‬وهذا تحقيق لما هو في المتن من مسائل مع‬
‫ذكر األدلة ومذاهب المخالفين فيها ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ـ كتاب الهداية ‪ :‬تأليف أبي الخطاب محفوظ بن أحمد الكلوزاني‪ ،‬وفيه يذكر المؤلف المسائل‬
‫الفقهية والروايات عن اإلمام أحمد ‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ ـ كتاب المقنع ‪ :‬تأليف موفق الدين عبد الله بن محمد بن أحمد بن محمد بن قدامة وقد اجتهد‬
‫المؤلف في جمع هذا الكتاب وترتيبه وإيجازه وتقريبه وهو وسط بين القصير والطويل ‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ ـ كتاب العمدة ‪ :‬البن قدامة هو كتاب مختصر في الفقه وجرى فيه المؤلف على ذكر قول واحد‬
‫مما اختاره من أقوال اإلمام أحمد وهو سهل العبارة يصلح للمبتدئين ‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫‪ 7‬ـ ـ كتاب المغني ‪ :‬البن قدامة وفيه شرح مسائل الخرقي وأوفاه في عشر مجلدات وهو من الكتب‬
‫التي يعتمد عليها اعتماد ًا أصي ً‬
‫ال في مذهب الحنابلة‪.‬‬
‫‪ 8‬ـ ـ كتاب ال�شافي « ال�شرح الكبير » ‪ :‬تأليف عبد الرحمن بن اإلمام أبي عمرو محمد بن أحمد بن‬
‫قدامة المقـدسـي‪ ،‬وفيـه شرح المؤلف كتـاب المقنـع‪ ،‬كما ذكر أنـه اعتمد في جمعه على‬
‫كتـاب المغني‪.‬‬
‫‪ 9‬ـ كتاب الإقناع في فقه الإمام �أحمد بن حنبل ‪ :‬تأليف موسى بـن أحمد بن موسى بن سـالم بن‬
‫عيسى بن سالم الحجـاوي المقـدسي‪ ،‬وهو ثانـي الكتب المعتمدة في المذهب عند متأخري‬
‫الحنابلة ‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ ـ كتاب �شرح منتهى الإرادات ‪ :‬تأليف منصور بن يونس بن إدريس البهوتي‪ ،‬وهو شرح لكتاب‬
‫منتهى اإلرادات جمع المقنع مع التنقيح وزيادات للفتوحي المشهور بابن النجار‪ ،‬ويمتاز هذا‬
‫الكتاب بالعرض المفصل والتدليل والتعليل لما يذكره من مسائل في أسلوب سهل مبسط‬
‫خال من التعقيد‪.‬‬

‫أسئـلــة‬
‫س‪ : 1‬تحدثي بإيجاز مفيد عن نشأة الفقه اإلسالمي وتطوره ‪.‬‬
‫س‪ :2‬للفقه اإلسالمي مميزات كثيرة‪ ،‬فما هي ؟‬
‫س‪ : 3‬اذكري ما تعرفينه عن مذهب الحنفية مع بيان أصول هذا المذهب وأشهر الكتب المؤلفة فيه‪.‬‬
‫س‪ : 4‬بيني مذهب المالكية وأهم مصادره‪ ،‬وأماكن انتشاره‪ .‬وأهم مؤلفاته ‪.‬‬
‫س‪ :5‬لمن ينسب مذهب الشافعية ؟ وما أهم مصادره؟ وفي أي البقاع غلب انتشاره؟ ولماذا؟‬
‫س‪ :6‬لمن ينسب مذهب الحنابلة ؟ وما هي األصول التي اعتمد عليها هذا المذهب؟ وفي أي‬
‫األماكن انتشر هذا المذهب؟ وما أهم الكتب المؤلفة فيه؟‬

‫‪39‬‬
‫المبحث الخامس‬

‫�أ�سباب االختالف بين المذاهب الفقهيـة‬

‫‪40‬‬
‫�أ�سباب االختالف بين المذاهب الفقهية‬

‫يجب أن نعلم أن اختالف اآلراء ظاهرة طبيعية نتيجة اختالف األغراض والطبائع‪ ،‬وهذا واضح في‬
‫عادات الناس وأعرافهم‪ ،‬وكل أمر يستقل به اإلنسان يظهر فيه االختالف وهذا ما سلمت منه الشريعة‬
‫اإلسالمية في أصولها عامة‪ ،‬عقائد‪ ،‬وعبادات‪ ،‬ومعامالت‪.‬‬
‫كما يجب أن نعلم أن ما حدث من اختالف بين المذاهب راجع للمجتهدين واختالف أنظارهم‬
‫وتطبيقهم النصوص على الوقائع ‪.‬‬
‫وفيما يلي بيان ألهم أسباب االختالف بين الفقهاء ‪:‬‬

‫ال�سبب الأول ‪ :‬اختالف القراءات ‪:‬‬

‫فـقد تـرد عن الرسول ﷺ قـراءات بطرق متواترة‪ ،‬فيكون ورودها سبب ًا لالختالف في األحكام‬
‫المستنبطة‪ ،‬فمن ذلك المثال التالي ‪ :‬قال تعالى‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة النساء اآليـة ‪.)43 :‬‬

‫قرأ حمزة والكسائي (أو لمستم) بغير ألف(‪ )1‬وقرأ الباقون «أو لـمستم» بألف فكان اختالف القراءة‬
‫سبب ًا في االختالف بين الفقهاء هل هو الجماع أو اللمس باليد فقد روى ابن جرير الطبري رحمه الله‬
‫تعالى عن طائفة أنه الجماع وروى عن آخرين أنه اللمس باليد (‪ )2‬فمن قرأ «لـمستم» بألف قال ‪ :‬إنـه‬
‫الجماع ومن قرأ «أو لمستم» بغير ألف قال ‪ :‬إنـه اللمس باليد ‪.‬‬

‫(‪ )1‬الكشف عن وجوه القراءات السبع ‪ :‬لمكي بن أبي طالب ج ‪ ، 1‬ص ‪.392-391‬‬
‫(‪ )2‬انظري تفسير الطبري جـ ‪ ،8‬ص ‪ 389‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫ال�سبب الثاني ‪ :‬عدم االطالع على الحديث ‪:‬‬

‫لم يكن الصحابة رضي الله عنهم على درجة واحدة من االطالع على سنة رسول الله ﷺ من قول‬
‫أو فعل‪ ،‬بل كانوا على درجات متفاوتـة وكان لهذا التفاوت في االطالع على الحديث أثر كبير في‬
‫االختالف في كثير من المسائل الفقهية‪ ،‬نذكر منها مثا ً‬
‫ال واحد ًا وهو‪ :‬عدة الحامل المتوفى عنها زوجها‬
‫‪ :‬فلقد كان علي ‪ ‬وابن عباس وغيرهما يفتون بأن المتوفي عنها زوجها إذا كانت حام ً‬
‫ال فعدتها أبعد‬
‫األجلين عم ً‬
‫ال بالعموم الوارد في اآليتين الكريمتين‪ :‬قوله تعالى ‪﴿ :‬‬

‫﴾ (سورة البقرة اآليـة ‪.)234 :‬‬

‫﴾ (سورة الطالق اآليـة ‪.)4 :‬‬ ‫وقوله تعالى ‪﴿ :‬‬


‫ولـم يكن قد بلغهم سنـة رسول الله ﷺ في سبيعـة األسلميـة‪ ،‬حيث أفتاها النبي ﷺ بأن عدتها‬
‫تنتهـي بوضع حملـها‪ ،‬فقـد روي أن سبيعة األسلميـة نفست بعد وفـاة زوجها بليال فجاءت إلى‬
‫النبي ﷺ فاستأذنتـه أن تنكح فأذن لها فنكحـت‪ .‬هنا نجـد أن عدم االطالع على الحديث كان سبب ًا‬
‫في االختالف بين العلماء ‪.‬‬

‫ال�سبب الثالث ‪ :‬ال�شك في ثبوت الحديث ‪:‬‬

‫لقد كانت ظاهرة الشك في ثبوت الحديث من األسباب التي أدت إلى االختالف في كثير من‬
‫المسائل‪ ،‬نذكر منها المسألة التالية «ثبوت الشفعة للجار»‪ ،‬اختلف الفقهاء في ثبوت حق الشفعة‬
‫بالجوار‪ ،‬فذهب الشافعي ومالك وأحمد إلى أنه ال شفعة لغير الشريك‪ ،‬وذهب أبـو حنيفة وأصحابـه‬
‫وابن أبي ليلى إلى ثبوت حق الشفعة بالجوار‪ ،‬والسبب في هذا االختالف هو أن الحديث الذي استدل‬
‫بـه األحناف غير ثابت عند الشافعية ومن معهم كما أن الحديث الذي استدل به الشافعية ومن معهم غير‬
‫ثابت عند األحناف‪ ،‬فكان الشك في ثبوت الحديث سبب ًا من أسباب االختالف بين الفقهاء ‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫ال�سبب الرابع ‪ :‬االختالف في فهم الن�ص وتف�سيره ‪:‬‬

‫فلقد كان هذا السبب أيض ًا مؤدي ًا إلى االختالف بين الفقهاء في مسائل فقهية كثيرة نذكر منها على‬
‫سبيل المثال فقط ما يأتي ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ زكاة الخليطين ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ تقسيم األراضي التي فتحت عنوة بين المقاتلين ‪.‬‬
‫وإنمـا ذكرنا هـاتين المسألتين دون تفصيل لطـول البحـث فيهما بمـا ال يتفـق ومـا نحـن بصـدد‬
‫الحديـث عنـه‪.‬‬

‫ال�سبب الخام�س ‪ :‬اال�شتراك في اللفظ ‪:‬‬

‫للفظ العربي عدة أقسام من حيث الداللة على المعنى منها «المشترك» وهو اللفظ الموضوع‬
‫لكل واحد من معنيين فأكثر كالعين‪ ،‬والظهر وغيرهما‪ ،‬واالشتراك يقع في األسماء كما في األلفاظ‪،‬‬
‫ويقع في األفعال مثل عسعس‪ ،‬فإنها تطلق على أقبل وعلى أدبر‪ ،‬ومثل قضى فإنها تطلق بمعنى حكم‬
‫وبمعنى أمر وحتم‪ ،‬ويقع االشتراك في الحروف‪ ،‬ولقد استعمل القرآن الكريم والسنة المطهرة ألفاظ ًا‬
‫مشتركة فكان ذلك سبب ًا من أسباب االختالف بين الفقهاء‪ ،‬كاختالفهم في عدة الحائض المطلقة هل‬
‫هي بالحيض أو بالطهر وذلك بسبب التعبير بلفظ « القرء » في القرآن الكريم ‪.‬‬
‫﴾ (سورة البقرة اآليـة ‪.)228 :‬‬ ‫وقال تعالى ‪﴿ :‬‬

‫ال�سبـب ال�ساد�س ‪ :‬تـعــار�ض الأدلـــة ‪:‬‬

‫من أسباب االختالف بين الفقهاء تعارض األدلة فيما يتراءى لنا‪ ،‬وقلنا فيما يتراءى لنا ألنه في‬
‫الحقيقة ال تعارض بين األدلة ألنها كلها آتية من مصدر واحد‪ ،‬هو الله تعالى‪ ،‬إال أنه قد تكتنف النصوص‬
‫عوامل فتظهر وقد حدث بينهـا من التعارض ما يدعو المجتهد إلى أن يقف أمامها مرجح ًا بعضها على‬
‫بعض‪ ،‬وذلك حسب ما يظهر له من أدلة أخرى ‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫ولقد كان للتعارض بين األدلة أثر كبير في االختالف في الفروع الفقهية لدرجة أنه يندر أن نجد‬
‫باب ًا من أبواب الفقه إال ونجد فيه مسألة أو أكثر كان االختالف فيها وليد التعارض بين األدلة‪ ،‬مثل‬
‫نكاح المحرم بالحج أو العمرة فقد ذهب الشافعي ومالك وأحمد رضي الله عنهم إلى أنه ال يصح‬
‫«ال َي ْن ِك ُح المح ِر ُم وال ُي ْن َك ُح وال َي ْخ ُطب»(‪ )1‬وذهب‬
‫نكاح المحرم واستدلوا على ما ذهبوا إليه بحديث َ‬
‫أبو حنيفة إلى جواز هذا النكاح‪ ،‬واستدل على ذلك بما رواه ابن عباس ‪ ‬أن النبي ﷺ تزوج ميمونـة‬
‫وهو محرم ‪.‬‬

‫فهنا نجد تعارض ًا بين ما استدل به الفريق األول وما استدل به الفريق الثاني‪ ،‬وكل واحد من الفريقين‬
‫يرجح دليله على دليل اآلخر‪ ،‬فالفريق األول يرجح دليله برواية صاحبة القصة ميمونة‪ ،‬أن الرسول ﷺ‬
‫تزوج بها وهو حالل‪ ،‬ورجح الفريق الثاني دليله بأن الحديث رواه ابن عباس وهو أكثرهم فقه ًا وعلم ًا‬
‫فهو أرجح رواية من غيره‪ ،‬فالمجتهد تجاه هذين الدليلين مطالب بترجيح واحد على اآلخر بمرجح‬
‫مقبول‪ ،‬وعليه فالراجح قول الفريق األول ألن رواية صاحبة القصة أولى بالقبول ‪.‬‬

‫ال�سبب ال�سابع ‪ :‬عدم وجود ن�ص في الم�س�ألة التي يراد معرفة حكمها ‪:‬‬

‫وهذا السبب من أبرز أسباب االختالف بين الفقهاء‪ ،‬وله أثر كبير جد ًا في االختالف في المسائل‬
‫الفقهية كميراث الجد مع األخوة‪ ،‬وقتل الجماعة بالواحد وغير ذلك ‪.‬‬

‫أسئـلــة‬

‫يرجع اختالف الفقهاء إلى عدة أسباب‪ ،‬المطلوب التحدث بإيجاز مفيد عنها ‪.‬‬

‫(‪ )1‬رواه مسـلـم‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫المبحث السادس‬

‫الحديث عن �أ�شهر �أئمـة المذاهب الفقهيـة‬


‫و�أهـل الفتـوى واالجتهـاد‬

‫‪45‬‬
‫التعريف ب�أ�شهر �أئمة المذاهب الفقهية‬

‫سـوف نذكر فيما يأتي نبـذة موجـزة في ترجمة ألشهـر أئـمة المذاهب الفقهية وأهـل الفتوى‬
‫واالجتـهاد‪.‬‬

‫�أو ًال ‪ :‬الإمــام �أبــو حنـيـفــة‬

‫ا�ســــمــــه ‪:‬‬

‫النعمان بن ثابت بن زوطي بن ماه الفارسي الكوفي وكنيته أبو حنيفة‪.‬‬

‫مــولـده ون�شــ�أتــه ‪:‬‬

‫ولد ‪ ‬بالكوفـة سنة ‪ 80‬هـ ‪ -‬وتربى وعاش فيها أكثر حياته‪ ،‬حيث نشأ تاجر ًا يتاجر في الخز‬
‫بالكوفة‪ ،‬وهي في هذا الوقت حافلة بالعلماء والفقهاء‪ ،‬فما لبث أبو حنيفة حتى مال إلى مجالسة العلماء‬
‫والفقهاء واألخذ عنهم‪ ،‬وأقبل على الفقه فأخذه عن حماد بن أبي سليمان من أشهر أهل الرأي آنذاك‪،‬‬
‫وسار أبو حنيفة على طريقة شيخه حماد حتى ُعدّ من أهل الرأي ونبغ في الفقه إلى أن بلغ فيه منزلة لم‬
‫يصل إليها أحد من معاصريه وال من أتى بعدهم ‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫مكــانتــــه ‪:‬‬

‫لقد شهد لإلمام أبي حنيفة أقرانه ومعاصروه بعلو مكانته وارتقاء منزلته بينهم في الفقه‪ ،‬فقال سفيان‬
‫الثوري ألحد أصحابه ‪ :‬من أين جئت؟ فقال له ‪« :‬جئت من عند أبي حنيفة » فقال له سفيان‪« :‬جئت من‬
‫عند أفقه أهل األرض»‪ .‬وقال الشافعي ‪« :‬الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة» ‪.‬‬
‫ويضاف إلى تلك المكانة السامية ما كان عليه أبو حنيفة من فطنة وقوة حجة وكثرة علم وأمانة وورع‬
‫وزهد وتقوى وعبادة الله عز وجل‪ ،‬فمناقبه كثيرة وعظيمة ومفاخره جليلة تناولها العلماء بالتأليف تارة‬
‫ضمن كتب التراجم وتارة في كتب مستقلـة ‪.‬‬

‫تــالمــيــذه ‪:‬‬

‫كان ألبي حنيفة تالميذ تلقوا عنه مذهبه ودونوه وعرفوا بأصحاب أبي حنيفة واشتهر من هؤالء‬
‫األصحاب أربعة وهم ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم األنصاري ‪ .‬المتوفى سنة ‪182‬هـ ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ محمد بن الحسن الشيباني ‪ .‬المتوفى سنة ‪198‬هـ ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ الحسن بن زياد اللؤلؤي الكوفي ‪ .‬المتوفى سنة ‪204‬هـ‬
‫‪ 4‬ـ زفر بن الهذيل بن قيس الكوفي ‪ .‬المتوفى سنة ‪158‬هـ ‪.‬‬
‫وكان لهؤالء أيض ًا أتباع وتالميذ لهم فضل في القيام على المذهب ونشره ‪.‬‬

‫�أثــره الفقــهــي ‪:‬‬

‫لإلمام أبي حنيفة ‪ ‬أثر عظيم في الفقه اإلسالمي‪ ،‬فينسب إليه « الفقه األكبر » وأنه حوى ستين‬
‫ألف مسألة أو أكثر وقيل إنه من تأليف أصحابه‪ ،‬ولإلمام أبو حنيفة دور هام في ظهور ما يسمى بالفقه‬

‫‪47‬‬
‫التقديري وهو اإلفتاء في مسائل لم تقع بل يقدر وقوعها‪ ،‬وهذا منه من باب االستعداد للبالء قبل نزوله‪،‬‬
‫فإذا وقع عرف الدخول إليه والخروج منه‪ ،‬وهذا ما ذكره هو بنفسه عندما سأل قتادة عن مسألة فقال له‬
‫قتادة‪ :‬هل وقعت‪ ،‬قال أبو حنيفة‪ :‬ال فقال له قتادة‪ :‬فلم تسألني عما لم يقع؟ فقال أبو حنيفة ‪ :‬إنا نستعد‬
‫للبالء قبل نزوله‪ ،‬فإذا وقع عرفنا الدخول إليه والخروج منه‪.‬‬

‫وفــــــــاتــــــه ‪:‬‬

‫توفي اإلمام أبو حنيفة رحمة الله تبارك وتعالى عليه في بغداد سنة مئة وخمسين من الهجرة ودفن‬
‫بها فجزاه الله عن المسلمين خير الجزاء ‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫ثـانـيـ ًا ‪ :‬الإمــام مـالــك‬

‫ا�ســــمــــه ‪:‬‬

‫هو مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامـر بن عمرو بن الحارث بن عثمان بن جثيل بن عمرو بن‬
‫«الحميري»‪ ،‬وينسب‬
‫ّ‬ ‫الحارث‪ .‬وكنيته أبو عبد الله‪ ،‬وهو من قبيلة حمير من اليمن‪ ،‬وينسب إليها فيقال له‬
‫أيض ًا إلى قبيلة « ذي أصبح » ويقال له « األصبحي »‪ ،‬ألنـه كان بين قبيلة حمير وقبيلة ذي أصبح‪ ،‬حلف‬
‫على التعاون والتناصر‪ ،‬فهو أصبحي بوالء الحلف‪ ،‬حميري‪ ،‬صليبة‪ ،‬وينسب إلى « المدينة » دار الهجرة‬
‫النبويـة‪ ،‬فيقال لـه « المدني » ألن أحد أجداده قدم إلى المدينـة وسكنها‪ ،‬وأنجب فيها ذريـة صالحـة‪،‬‬
‫كان منها اإلمام مالك ‪. ‬‬

‫مــولـده ون�شــ�أتــه ‪:‬‬

‫ولد ‪ ‬بالمدينة المنورة سنة ثالث وتسعين من الهجرة‪ ،‬وتربى فيها‪ ،‬ولم يرحل عنها إلى غيرها‬
‫من البالد‪.‬‬

‫وكانت المدينة المنورة في هذا الوقت مهد العلم‪ ،‬ومبعث النور‪ ،‬ومنهل العرفان‪ ،‬فطلب اإلمام‬
‫مالك العلم على علمائها‪ ،‬وكان أول من الزمـه منهم عبد الرحمن بن هرمز‪ ،‬فاستمر معه نحو سبع‬
‫سنوات‪ ،‬ثم صار بعد ذلك يتنقل بين شيوخ المدينة يأخذ عنهم أصول العلم وفروعه ويجمع أحاديث‬
‫الرسول ﷺ حتى صار ‪ -‬إمام ًا في الحديث بارع ًا ثبت ًا‪ ،‬ثقة مأمون ًا وفقيه ًا مجتهد ًا ‪ -‬صاحب مذهب نشره‬
‫تالميذه في جميع اآلفاق‪ ،‬شهد له بذلك شيوخـه وأقرانـه وعارفوا علمه وفضله ‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫مكــانتــــه ‪:‬‬

‫لإلمام مالك مكانة سامية ومنزلية رفيعة بين أهل عصره وفي بيان هذه المكانة وتلك المنزلة قال‬
‫الشافعي ‪« : ‬مالك حجة الله تعالى ‪ -‬على خلقه بعد التابعين»(‪.)1‬‬

‫وقال ابن حبان ‪« :‬كان مالك أول من انتقى الرجال بالمدينة‪ .‬وأعرض عمن ليس بثقة في الحديث‪،‬‬
‫ولم يكن يروي إال ما صح وال يحدث إال عن ثقة‪ ،‬مع الفقه والدين والنسك‪ ،‬وبه تخرج الشافعي‪،‬‬
‫رضي الله عنهما»‪ ،‬وقال ابن مهدي ‪« :‬ما رأيت أحد ًا أتم عق ً‬
‫ال‪ ،‬وأشد تقوى من مالك» (‪.)2‬‬

‫وقال الليث بن سعد ‪« :‬مالك عالم تقي‪ ،‬علم مالك أمان لمن أخذ به من األنام»‪ ،‬وقد نصب نفسه‬
‫للتدريس بعد أن شهد له شيوخه بالحديث والفقه وكان ذا هيبة ال يتكلم أحد في مجلسه‪ ،‬فمناقبه ‪‬‬
‫عظيمة كلها وفضائله جمة وكثيرة ‪.‬‬

‫�شــيـــــــوخـــــه ‪:‬‬

‫كان لإلمام مالك شيوخ كثيرون‪ ،‬أخذ عنهم الفقه والحديث من أشهرهم ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عبد الرحمن بن هرمز ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ محمد بن مسلم بن عبيد الله بن شهاب الزهري ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ نافع مولى ابن عمر ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أبو الزناد عبد الله بن ذكوان ‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ يحيى بن سعيد األنصاري ‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ ربيعة بن عبد الرحمن ‪ ،‬المشهور بربيعة الرأي ‪.‬‬

‫(‪ )1‬الفكر السامي في تاريخ الفقـه اإلسالمي جـ ‪ 1‬ص ‪.377‬‬


‫(‪ )2‬المصدر السابق‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫تــالمــيــذه ‪:‬‬

‫كان لإلمام مالك تالميذ كثيرون يتعذر حصرهم أخذوا عنه الفقه والحديث وعلوم أخرى‪ ،‬ودونوا‬
‫عنه‪ ،‬ونقلوا مذهبه إلى بالدهم وعملوا على نشره‪ ،‬ومن أشهر هؤالء التالميذ ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ عبد الله بن وهب ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ عبد الرحمن بن القاسم ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أشهب بن عبد العزيز القيسي العامري ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أسد بن الفرات بن سنان ‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ عبد الملك بن عبد العزيز بن الماجشون ‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ عبد الله بن عبد الحكـم بن أعين ‪.‬‬

‫وفــــــــاتــــــه ‪:‬‬

‫توفي اإلمام مالـك بن أنس ‪ ‬سنة مـائـة وتسع وسبعين من الهجرة ‪ -‬ودفن بالبقيع ‪ -‬وعمره‬
‫خمس وثمانون سنـة‪ ،‬قضاها في التعلم والتعليم وشرح الفقـه رحمه الله رحمة واسعة وأسكنـه فسيح‬
‫جناتـه ‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫ثالث ًا ‪ :‬الإمام ال�شافعي‬

‫ا�ســــمــــه ‪:‬‬

‫محمـد بن إدريس بـن العباس بـن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن عبد المطلب‬
‫ابن عبد مناف بن قصي‪ ،‬يلتقي نسبه مع النبي ﷺ في عبد مناف بن قصي‪ .‬وكنيته «أبو عبد الله» وينسب‬
‫إلى «شافع بن السائب» فيقال له الشافعي واشتهر بذلك حتى غلب على اسمه ‪.‬‬

‫مــولـده ون�شــ�أتــه ‪:‬‬

‫ولد اإلمام الشافعي ‪ ‬بمدينة غزة من الشام يتيم ًا سنة مائة وخمسين من الهجرة وليست غزة‬
‫موطن آبائه وإنما خرج إليها أبوه إدريس في حاجة‪ ،‬فمات فيها‪ ،‬وولد له ابنه محمد‪ ،‬ثم انتقلت به أمه‬
‫إلى مكة موطن آبائه‪ ،‬فنشأ بها يتيم ًا في حجر أمه وظهرت ألمعيته في وقت مبكر‪ ،‬فحفظ القرآن الكريم‬
‫في صباه‪ ،‬ثم خرج إلى قبيلة هذيل بالبادية ليتعلم كالمها ويأخذ طبيعتها وكانت أفصح العرب فرحل‬
‫برحيلهم‪ ،‬ونزل بنزولهم والزمهم في كل أحوالهم‪ ،‬حتى صار في العربية كواحد منهم‪ ،‬وبجانب ذلك‬
‫تعلم وهو في البادية الرماية حتى أجادها‪ ،‬وبهذا استكمل تربيته في الدين واللغة وأعمال الفروسية ‪.‬‬

‫طلبه العلم وواليته ‪:‬‬

‫أخذ اإلمام الشافعي العلم على فقهاء مكة ومحدثيها‪ ،‬ثم رحل إلى المدينة المنورة حيث اإلمام‬
‫مالك بن أنس الذي اشتاق الشافعي إليه‪ ،‬فقرأ له الموطأ وتفقه عليه‪ ،‬وظل مالزم ًا له حتى مات‪ ،‬ثم سافر‬
‫إلى اليمن مع واليها وعمل بنجران وظهرت مواهبه ووضح ذكاؤه‪ ،‬وكتب الله له النجاة مما دبره له‬
‫األعداء في اليمن وانتهت محنته فيها سنة ‪184‬هـ وكان في الرابعة والثالثين من عمره‪ ،‬فخرج من تلك‬

‫‪52‬‬
‫المحنة عاكف ًا على دراسة العلم وخدمته‪ ،‬فذهب إلى بغداد حيث محمد بن الحسن تلميذ أبي حنيفة‪،‬‬
‫فأخذ الشافعي عنه فقه العراقيين وقرأ كتبه‪ ،‬وبذلك اجتمع له فقه الحجاز‪ ،‬وفقه العراق‪ ،‬أي الفقه الذي‬
‫يغلب عليه النقل‪ ،‬والفقه الذي يغلب عليه العقل‪ ،‬ثم عاد من بغداد إلى مكة عالم ًا جلي ً‬
‫ال‪ ،‬اتخذ مكانه‬
‫في جوار مقام إبراهيم في فناء زمزم وأخذ يلقي دروسه في الحرم المكي‪ ،‬ويلتقي بكبار العلماء في‬
‫موسم الحج‪ ،‬فالتقى باإلمام أحمد بن حنبل‪ ،‬وظل في مكة‪ ،‬حتى سافر إلى بغداد مرة ثانية‪ ،‬التف حوله‬
‫فيها العلماء والمتفقهون‪ ،‬وأهل الرأي جميع ًا‪ ،‬ولم يطب المقام لإلمام الشافعي في بغداد‪ ،‬فانتقل إلى‬
‫مصر بدعوة من العباس بن عبد الله القرشي الهاشمي‪ ،‬ونشر بمصر علمه وآراؤه الفقهية وظل بها إلى‬
‫أن لقي ربه تبارك وتعالى ‪.‬‬

‫مــــواهــبـــه ‪:‬‬

‫لقد وهب الله تعالى اإلمام الشافعي حظ ًا وفير ًا من المواهب‪ ،‬فلقد كان قوي المدارك‪ ،‬حاضر‬
‫البديهة‪ ،‬ثاقب الفكر‪ ،‬فصيح اللسان‪ ،‬بعيد الفهم يعتمد على الضوابط العامة‪ ،‬والقواعد الكلية في معرفة‬
‫الجزئيات والفروع وكان قوي البيان نافـذ البصيرة قوي الفراسة‪ ،‬مخلص ًا لله في كل شيء ‪.‬‬

‫�شــيــوخـــــــه ‪:‬‬

‫تلقى اإلمام الشافعي الفقه والحديث على شيوخ تباعدت أماكنهم‪ ،‬واختلفت طرائقهم في استنباط‬
‫األحكام من أدلتها فأخذ عن شيوخ مكة‪ ،‬والمدينة‪ ،‬واليمن‪ ،‬والعراق‪ ،‬فمن مكة ‪ :‬مسلم بن خالد‬
‫الزنجي‪ ،‬وسفيان بن عيينه وغيرهم‪ .‬ومن المدينة‪ :‬اإلمام مالك بن أنس‪ ،‬وإبراهيم بن سعد األنصاري‪،‬‬
‫وغيرهم‪ ،‬ومن اليمن‪ :‬مطرف بن مازن وهشام بن يوسف قاضي صنعاء‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬ومن العراق‪ :‬وكيع‬
‫ابن الجراح الكوفي‪ ،‬وأبو أسامة حماد بن أسامة الكوفي وغيرهم ‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫تــالمــيــذه ‪:‬‬

‫كان للشافعي تالميذ كثيرون نقلوا فقهه ورووا عنه مذهبه وتداولوا كتبه ونشروها بين الناس‪،‬‬
‫من أشهرهم أبو بكر الحميدي‪ ،‬وأبو علي الحسن الصباح الزعفراني‪ ،‬وحرملة بن يحيى بن حرملة‬
‫وغيرهم‪ ،‬ولم يكن هؤالء من بلد واحد‪ ،‬بل كانوا من بلدان متفرقة‪ ،‬فمنهم من كان بمكة‪ ،‬ومن كان‬
‫ببغداد‪ ،‬ومن كان بمصر ‪.‬‬

‫وفــــــــاتــــــه ‪:‬‬

‫توفي اإلمام الشافعي رضي الله تعالى عنه بمصر في آخر شهر رجب سنة ‪ 204‬هجرية‪ ،‬وقد بلغ من‬
‫العمر أربعة وخمسين عام ًا ‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫رابع ًا ‪ :‬الإمام �أحمد بن حنبل‬

‫ا�ســــمــــه ‪:‬‬

‫هو أحمد بن محمد بن حنبل بن هالل بن أسد بن إدريس بن حيان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن‬
‫قاسط بن مازن بن شيبان بن ذهل بن ثعلبه ‪ .‬وكنيته «أبو عبد الله» وينسب إلى «شيبان بن ذهل» فيقال له‬
‫الشيباني‪ ،‬وينسب إلى «مرو» فيقال له «المروي» وإلى بغداد فيقال له «البغدادي»‪.‬‬

‫ن�شــ�أتـــــه ‪:‬‬

‫ولد اإلمام أحمد بن حنبل ‪ ‬ببغداد‪ ،‬سنة ‪164‬هـ مائة وأربع وستين من الهجرة‪ ،‬وقد مات أبوه‬
‫وهو طفل فقامت أمه على تربيته‪ ،‬واستعانت في نفقتها بما تركه أبوه من عقار ببغداد‪ ،‬وقد ساهم نسبه‬
‫الرفيع ويتمه في نشأته على سمو نفسه‪ ،‬وذكائه وعلو همته‪ ،‬ونمو مواهبه‪ ،‬وتعرفه على أحوال مجتمعه‬
‫الذي نشأ فيه‪ .‬وكانت بغداد في هذا الوقت حاضرة العالم اإلسالمي وفيها وجدت العلوم المختلفة‪،‬‬
‫الشرعية‪ ،‬واللغوية‪ ،‬والعقلية‪ ،‬فكانت مليئة بكل أنواع المعارف والعلوم‪ ،‬وقد وفق الله تعالى أسرة‬
‫اإلمام أحمد أن تتخير له منذ نعومة أظفاره أن يتجه نحو خدمة الدين‪ ،‬فحفظ القرآن الكريم وتزود من‬
‫علومه‪ ،‬ولمع بين رفاقه‪ ،‬وتميز بالتقوى واالستقامة وحسن الخلق‪.‬‬

‫طلبــه للعــلــــم ‪:‬‬

‫وجد اإلمام أحمد أمامه في بغداد منهجين لطلب الشريعة األول منهج الفقه‪ ،‬والثاني منهج‬
‫الحديث‪ ،‬فبدأ بطريق الفقهاء على مذهب أهل الرأي‪ ،‬وأخذ عن أبي يوسف صاحب أبي حنيفة ثم مال‬
‫إلى طريق المحدثين‪ ،‬فانصرف إلى الحديث‪ ،‬ولكنه كان على صلة أيض ًا بالفقه‪ ،‬ويدل مسنده على أنه‬

‫‪55‬‬
‫أخذ الحديث عن علماء العراق‪ ،‬والشام‪ ،‬والحجاز‪ ،‬فأخذ الحديث عن شيوخ بغداد هذا أو ً‬
‫ال‪ ،‬ثم رحل‬
‫إلى البصرة‪ ،‬ومنها إلى الكوفة‪ ،‬والحجاز واليمن والتقى اإلمام أحمد باإلمام الشافعي وأخذ عنه وكان‬
‫ذلك بالحجاز‪ ،‬ثم التقى به مرة ثانية في بغداد فوعى فقهه وأصوله‪ ،‬والتقى بعبد الرزاق بن همام وأخذ‬
‫عنه الفقه وذلك بعد مشقة وتعب في لقائه ‪.‬‬
‫واهتم اإلمام بتدوين ما يسمع من أحاديث وآثار‪ ،‬ولم يكتف بالحفظ‪ ،‬وكان يحمل في رحالته‬
‫حقائب كتبه على ظهره‪ ،‬وال يحدث إال من كتاب مخافة أن ينسى‪ ،‬وهذا منه تورع ًا وتقوى‪ ،‬مع مالحظة‬
‫أنه كان جيد الحفظ ‪ ،‬قوي الذاكرة ‪.‬‬
‫ولما بلغ اإلمام أحمد الحد الذي استوثق هو من نفسه وتيقن من علمه بعد رحالته العلمية الشاقة‬
‫جلس للتحديث والفتوى وتميز مجلسه بالوقار والسكينة‪ ،‬وكان يتحرى النقل من كتبه غالب ًا حينما‬
‫يسأل عن األحاديث المروية في موضوع ما‪ ،‬دون أن يعتمد في ذلك على الحفظ وحده‪ ،‬وكان يرى َّ‬
‫أن‬
‫علم الكتاب والسنة يمثل علم الدين‪ ،‬وكان ال يسمح بتدوين فتاواه الفقهية ويعتبر تدوين آراء الناس في‬
‫الدين من البدع ‪.‬‬

‫مكــانتــــه ‪:‬‬

‫لقد شهد لإلمام أحمد بن حنبل بعلو مكانته وارتقاء منزلته في الدين والعلم والحديث والفقه أقرانه‬
‫وعارفوا فضله فقال فيه إبراهيم الحربي ‪« :‬رأيت أحمد كأن الله قد جمع له علم األولين واآلخرين»‪.‬‬
‫وقـال الشافعي حين ارتحل إلى مصر ‪« :‬خـرجت مـن بغـداد وما خلفت فيها أتـقى وال أفـقه من‬
‫ابن حنبل»‪.‬‬
‫وقـال العماد الحنبلي ‪« :‬كان أحمد بن حنبل إما ًما في الحديث وضروبـه‪ ،‬إمـا ًما في الفـقه ودقائقـه‪،‬‬
‫إمـا ًما في السنـة ودقـائـقهـا‪ ،‬إما ًمـا في الورع وغوامضـه‪ ،‬إما ًمـا في الزهـد وحقائقـه» فمناقبه كثيرة‬
‫وجليلة ‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫�شيـــوخــــــــه ‪:‬‬

‫بعد أن حفظ اإلمام أحمد القرآن وتعلم اللغـة والكتابة توجـه إلى أخذ الحديث عن علماء بغداد‪،‬‬
‫وأول شيوخه منهم‪ ،‬هشيم بن بشير بن أبي حازم الواسطي‪ ،‬وقد الزمه أحمد مدة طويلة تقدر بنحو‬
‫أربعين عام ًا‪ ،‬ثم رحل بعد وفاة شيخه بمدة إلى الحجاز واليمن والبصرة‪ ،‬والكوفة وتكررت رحالته‬
‫إلى هذه البالد لقي فيها اإلمام الشافعي وأبو يوسف صاحب أبي حنيفة‪ ،‬وغيرهم ‪.‬‬

‫تــالمــيــذه ‪:‬‬

‫كان لإلمام أحمد تالميذ كثيرون منهم من أخذ عنه الحديث ومنهم من أخذ عنه الحديث والفقه‪،‬‬
‫وقد دونوا ما أخذوه‪ ،‬كما عملوا على نشره والعمل بـه‪ ،‬ومن أشهرهم ‪ :‬صابح بن أحمد بن حنبل‪،‬‬
‫وعبدالله بن أحمد بن حنبل‪ ،‬وأبو بكر األثرم أحمد بن محمد بن هاني‪ ،‬وعبد الملك بن عبد الحميد بن‬
‫مهران الميموني‪ ،‬وإبراهيم بن إسحاق الحري وغيرهم ‪.‬‬

‫وفــــــــاتــــــه ‪:‬‬

‫توفي اإلمام أحمد بن حنبل عليه رحمة الله ببغداد في شهر ربيع األول سنة ‪241‬هـ‪ ،‬وكانت جنازته‬
‫بعد منصرف الناس من صالة الجمعة‪ ،‬ودفن في قبره ببغداد‪ ،‬فرضي الله عنه ‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫أسئـلــة‬

‫س‪ : 1‬من هو اإلمام أبو حنيفة؟ ومتى ولد؟ وأين نشأ؟ وما هي مكانته بين العلماء؟ ومن أشهر‬
‫تالميذه؟ وما أثره في الفقه اإلسالمي؟‬
‫س‪ : 2‬تحدثي بإيجاز مفيد عن اإلمام مالك من ناحية اسمه ومولده ونشأته ومنزلته العلمية‪،‬‬
‫وأشهر شيوخه وتالميذه‪.‬‬
‫س‪ : 3‬من هو اإلمام الشافعي؟ ومتى ولد؟ وأين نشأ؟ وكيف طلب العلم؟ ومن هم شيوخه‬
‫وتالميذه؟‬
‫س‪ : 4‬ما اسم اإلمام أحمد بن حنبل؟ وأين ولد؟ وأين نشأ؟ وكيف طلب العلم؟ وما مكانته‬
‫وآراء العلماء فيه؟ ومن أشهر شيوخه؟ ومتى توفي؟ وأين ؟‬

‫‪58‬‬
‫الفصل الدراسي الثاني‬
‫الباب الثاني ‪:‬‬

‫�أ�صـــــــول الفقــــــه‬
‫التمهيد ‪ :‬وي�شتمل على فكرة مي�سرة عن تعريف علم �أ�صول الفقه‪ ،‬ون�ش�أته وتدوينه‪ ،‬وا�ستمداده‪،‬‬
‫و�أهميته‪ ،‬والغاية من درا�سته ‪.‬‬
‫الف�صل الأول ‪ :‬في �إعطاء فكرة مي�سرة عن الأحكام ال�شرعية ‪.‬‬
‫الف�صل الثاني ‪ :‬في الكالم عن الأدلة ال�شرعية ‪.‬‬
‫الف�صل الثالث ‪ :‬في الحديث عن القواعد الأ�صولية الت�شريعية ‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫التمهيد في ‪:‬‬
‫تعريف علم �أ�صول الفقه ‪.‬‬ ‫ ‬
‫ن�ش�أة علم �أ�صول الفقه ‪.‬‬ ‫ ‬
‫تدوين علم �أ�صول الفقه ‪.‬‬ ‫ ‬
‫ا�ستمداد علم �أ�صول الفقه ‪.‬‬ ‫ ‬
‫�أهمية علم �أ�صول الفقه ‪.‬‬ ‫ ‬

‫‪61‬‬
‫تمهـــيــــــــد‬

‫بعد االنتهاء من الحديث عن الباب األول‪ ،‬ننتقل بعون الله تعالى إلى الباب الثاني في «أصول‬
‫الفقه» فنقول وبالله التوفيق ‪....‬‬
‫علم أصول الفقه من أهم العلوم الشرعية‪ ،‬فبه تعرف أحكام الله تعالى في كتابه الكريم‪ ،‬وفي‬
‫سنة نبيه األمين ﷺ‪ ،‬فهو قاعدة هذه األحكام كما أنه أساس الفتاوى الفرعية التي بها صالح‬
‫المسلمين في الدنيا واآلخرة ‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫تــعــريــف علــم �أ�صــول الفــقـــــه‬

‫عرف علماء األصول «أصول الفقه» بتعريفين‪ ،‬أحدهما اعتبار التركيب أي باعتبار كون أصول الفقه‬
‫ّ‬
‫مركب ًا إضافي ًا من كلمتي «أصول وفقه» وثانيهما باعتباره اسم ًا على علم مخصوص ‪.‬‬
‫وفيما يلي توضيح كل تعريف على حدة ‪:‬‬

‫التعـريـف الأول ‪:‬‬


‫(‪)1‬‬
‫تعريف علم �أ�صول الفقه باعتبار كونه مركباً �إ�ضافياً ‪:‬‬
‫يجب أن نعلم أن المركب ال يمكن معرفته إال بمعرفة أجزاء التركيب فلكي نعرف أصول الفقه بهذا‬
‫االعتبار البد من تعريف األصول وحدها والفقه وحده‪ ،‬وبتمام ذلك يتم التعريف األول ‪.‬‬

‫تعـريف الأ�صـول ‪:‬‬


‫األصول جمع أصل واألصل في اللغة ما يبنى عليه غيره أو ما يؤخذ منه غيره‪.‬‬
‫وفي االصطالح‪ ،‬يطلق على معان متعددة‪ .‬أقربها أن األصل معناه الدليل مثل األصل في هذه‬
‫المسألة الكتاب أو السنة أي دليلها الكتاب أو السنة ‪.‬‬

‫تعـريـف الفـقـه ‪:‬‬


‫الفقه في اللغة هو الفهم مطلق ًا ‪ .‬أما في االصطالح ‪ :‬فهو «العلم باألحكام الشرعية العملية المكتسبة‬
‫من أدلتها التفصيلية» وبهذا يتم التعريف األول لعلم أصوله الفقه‪.‬‬

‫(‪ )1‬من الممكن أن نطلق على هذا التعريف أصول الفقـه قبل أن يجعل علم ًا على فن األصــول‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫التعـريـف الثــانــي ‪:‬‬

‫تعريف علم �أ�صول الفقـه باعتبار كونه علماً على فن الأ�صول ‪:‬‬
‫هو معرفـة دالئل الفقـه إجما ً‬
‫ال‪ ،‬وكيفيـة االستفادة منها‪ ،‬وحـال المستفيد وفيما يلي شرح موجـز‬
‫لهذا التعريـف ‪:‬‬

‫«معرفـة دالئل الفقـه إجما ًال» المعرفـة ‪ :‬الكثير فيها أن تتعلق بالمفرد فتتعدى إلى مفعول واحد‬
‫ويكون معناها التصور‪ ،‬فتقول عرفت أصول الفقه أي تصورته ويقل ويندر في المعرفة تعلقها بالنسب‪،‬‬
‫وإذا كان هذا هو شأن المعرفة‪ ،‬فشأن العلم على العكس منها‪ ،‬إذ أن الكثير فيه أن يتعلق بالنسب ويكون‬
‫معناه التصديق فنقول علمت أن العلم نور‪ ،‬أي صدقت بنورانية العلم‪ ،‬ويقل ويندر تعلق العلم بالمفرد‪.‬‬
‫والمعرفة جنس في التعريف يشمل معرفة األدلة‪ ،‬ومعرفة األحكام‪ ،‬ومعرفة غيرهما ‪.‬‬

‫«دالئل الفقـه» الـدالئـل ‪ :‬جمع دليل‪ ،‬والدليل هو ما يمكن التوصل بصحيح النظر فيه إلى العلم‬
‫بمطلوب خبري‪ ،‬ودالئل مضاف والفقه مضاف إليه‪ ،‬وفائدة هذه اإلضافة العموم‪ ،‬ألن الجمع حينما‬
‫يضاف فإنه يفيد العموم‪ ،‬وعليه تكون أصول الفقه معرفة جميع أدلة الفقه ومن ثم ال تسمى معرفة بعض‬
‫أدلة الفقه أصول فقه والمقصود من معرفة دالئل الفقه ‪ :‬معرفة األحوال المتعلقة بهذه األدلة كأن يعرف‬
‫أن األمر للوجوب وأن النهي للتحريم ‪.‬‬

‫«إجما ًال» وردت فيه أقوال كثيرة أصحها أنها حال من األدلة واغتفر فيه التذكير لكونه مصدر‪،‬‬
‫ألن المراد من األصول المعرفة التفصيلية لألدلة اإلجمالية والمراد من األدلة اإلجمالية األدلة الكلية‬
‫«وكيفية االستفادة منها» هذا القول معطوف على دالئل فيكون لفظ معرفة متوجه ًا إليه‪ ،‬والمعنى معرفة‬
‫كيفية االستفادة منها ‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫وعليه يكون المعنى استفادة الفقه من تلك الدالئل‪ ،‬أي استنباط األحكام الشرعية من األدلة واستفادة‬
‫األحكام من األدلة تكون بمعرفة شرائط االستدالل كتقديم النص على الظاهر‪ ،‬وتقديم المتواتر على‬
‫اآلحاد وغير ذلك ‪.‬‬

‫«وحال المستفيد» بالجر عطف ًا على دالئل‪ ،‬أي معرفة حال مستفيد الدليل الصحيح من بين األدلة‬
‫عند االستنباط‪ ،‬واستفادة الدليل التفصيلي ليس باألمر الهين أو اليسير‪ ،‬بل هو أمـر جـد خطير يحتاج‬
‫إلى توفر شروط في الشخص الذي يقوم بهذا العمل‪ ،‬وهذا ما أطلق عليه علماء األصول «شرائط‬
‫االجتهاد» والمستفيد هو من يطلب الحكم من الدليل‪ ،‬والذي يطلب الحكم من الدليل هو المجتهد‪،‬‬
‫لذا يكون المستفيد هو المجتهد ‪.‬‬

‫وبهذا نجد أن أصول الفقه مكون من معارف ثالث هي ‪ :‬معرفة دالئل الفقه إجما ً‬
‫ال‪ ،‬ومعرفة كيفية‬
‫استفادة األحكام من هذه الدالئل‪ ،‬ومعرفة حال مستفيد هذه األحكام وهو المجتهد‪ .‬وبهذا يتم تعريف‬
‫علم أصول الفقه ‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫نـ�شـــ�أة عـلــم �أ�صــول الفــقـــه‬

‫ل�م يك�ن الن�اس ف�ي حاج�ة إل�ى أص�ول الفقه ف�ي عه�د الرس�ول ﷺ‪ ،‬وكذل�ك عه�د الصحابة‬
‫والتابعين‪.‬‬

‫أما عدم احتياجهم إليه في عهد الرسول ﷺ فيرجع إلى وجود الرسول ﷺ‪ ،‬فمنه كان الناس‬
‫يأخذون األحكام وذلك بما يوحى إليه من القرآن الكريم وبما يبينـه ﷺ بقولـه أو فعلـه أو تقريـره‪.‬‬
‫وفي عهد الصحابة يرجع عدم احتياج الناس إلى أصول الفقه إلى تولي الصحابة منصب اإلفتاء‬
‫والقضاء بين الناس‪ ،‬فهم الذين عايشوا رسول الله ﷺ‪ ،‬وعايشوا نزول الوحي‪ ،‬وتلقي الرسالة من‬
‫المصطفى ﷺ ‪ ،‬لكل هذا لم تكن هناك حاجة لهذا العلم في ذلك العهد ‪.‬‬

‫ولم يختلف عهد التابعين عن عهد الصحابة في هذا األمر‪ ،‬فالناس في هذه العهد كانوا في غنية‬
‫تامة عن هذا العلم‪ ،‬غاية األمر أن هذا العهد كثرت فيه الوقائع الناتجة عن كثرة الفتوحات‪ ،‬فأفتى فيها‬
‫التـابعون بما ورد في كتاب الله تعالى وسنة رسولـه ﷺ‪ ،‬أو بما أفتى به الصحابة رضي الله عنهم‪ ،‬وإذا‬
‫لم يجدوا في كتاب الله وال في سنة رسول الله اجتهدوا واستنبطوا‪ ،‬دون احتياج إلى قواعد جديدة‬
‫يسيرون على ضوئها في استنباط األحكام من مصادرها‪ ،‬فهذه المصادر عربية وهم عرب‪ ،‬والعرب‬
‫أدرى الناس بفهم لغتهم‪ ،‬ثم جاء عهد تابعي التابعين وأول عهد األئمة المجتهدين‪ ،‬وفي هذا العهد‬
‫بدأت بعض الضوابط والكليات العامة تذكر في عملية االستدالل على األحكام عرض ًا‪ ،‬دون أن تذكر‬
‫كقواعد عامة لالستنباط‪ ،‬وإنما كانت تجري على ألسنة المجتهدين أثناء جدلهم ودفاعهم عن أرائهم‬
‫ال غير ألن القائمين بالفتوى واالجتهاد كانوا مماثلين للسابقين عليهم في معرفة اللغة العربية وغير‬
‫ذلك مما أغناهم عن علم األصول واستمر األمر هكذا حتى قرب القرن الثاني الهجري‪ ،‬حيث اتسعت‬

‫‪66‬‬
‫رقعة الدولة اإلسالمية وكثرت الفتوحات واختلط العرب بالعجم ودخل العربية كثير من المفردات‬
‫واألساليب غير العربية‪ ،‬وفقدت الملكة اللسانية سالمتها وكثرت االشتباهات واالحتماالت في فهم‬
‫النصوص‪ ،‬وتشعبت طرق المجتهدين‪ ،‬عند ذلك وجد الفقهاء أنهم في حاجة ماسة إلى وضع قواعد‬
‫وقوانين تصون العقول من الخطأ في استخالص األحكام من مصادرها‪ ،‬ولتكون أساس ًا يتبع بعد ذلك‬
‫في هذه العملية‪ ،‬فاستعانوا في هذا األمر بما قرره أئمة اللغة من قواعد وضعوها لحماية اللغة العربية‬
‫من الضياع فاستقرأ الفقهاء األساليب العربية‪ ،‬كما استعانوا في استخراج قواعدهم باستعماالت‬
‫األلفاظ الشرعية‪ ،‬وبالمقاصد الشرعية ‪.‬‬

‫وبذلك دونوا تلك القواعد وجعلوها علم ًا مستق ً‬


‫ال بذاته أطلقوا عليه اسم « أصول الفقه » ومن هنا‬
‫بدأت نشأة علم أصول الفقـه‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫دون �أ�صــول الفقـــــه‬
‫�أول من َّ‬

‫كان أول من دون قواعد علم أصول الفقه اإلسالمي مجموعة مستقلة مرتبـة مضبوطة ومؤيد ًا‬
‫كل ضابط فيها بالبرهان والحجة هو‪ :‬اإلمام محمد بن إدريس الشافعي‪ ،‬الذي أملى في علم أصول‬
‫الفقه رسالته المشهورة‪ ،‬التي رواها عنه صاحبه الربيع المرادي وكانت تلك الرسالة أول كتاب دون‬
‫في علم أصول الفقه‪ ،‬ووصل إلى العلماء خاص ًا بهذا العلم‪ ،‬ولهذا اشتهر بين العلماء أن أول من‬
‫دون علم أصول الفقه هو اإلمام الشافعي ‪ ، ‬وقد تكلم الشافعي في رسالته عن القرآن الكريم‬
‫وبيانه وعن السنة الطاهرة ومقامها بالنسبة للقرآن الكريم وأقام األدلة على حجية السنة بوجه لم‬
‫يسبقه إليه غيره وتكلم عن الناسخ والمنسوخ وعلل األحاديث واالحتجاج بخبر الواحد وما يجوز‬
‫فيه الخالف وما ال يجوز وغير ذلك من الموضوعات التي أبرزت معالم هذا العلم وبينت كثير ًا من‬
‫أصوله وقواعده‪.‬‬

‫ثم تتابع العلماء في التأليف في هذا العلم فكتب اإلمام أحمد بن حنبل في طاعة الرسول ﷺ‪ ،‬وفي‬
‫الناسخ والمنسوخ والعلل‪ ،‬وكتب فقهاء الحنفية فحققوا قواعده التي منها ما يرجع إلى أحوال األدلة‬
‫ومنها ما يرجع إلى كيفية داللة األلفاظ على معانيها اللغوية كما كتب فيه المتكلمون وغيرهم‪ ،‬وقد‬
‫اختلفت طريقة هؤالء في التأليف في هذا العلم نظر ًا لتباين مشاربهم وتعدد أفكارهم وتنوع أغراضهم‪،‬‬
‫وأسفر هذا االختالف عن ظهور ثالث طرق في التأليف في هذا العلم هي ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ ـ طريقة ال�شافعية‪ ،‬وبع�ض المتكلمين‪.‬‬


‫‪ 2‬ـ ـ طريقة الأحناف ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ الطريقة الجامعة ‪.‬‬
‫وفيما يلي توضيح موجـز لكـل طريقـة ‪:‬‬

‫‪68‬‬
‫‪ 1‬ـــ طريقة ال�شافعية وبع�ض المتـكلمين ‪:‬‬

‫سميت بهذا االسم ألن أكثر المؤلفين فيها من علماء الكالم‪ ،‬وسميت أيض ًا بطريقة الشافعية‬
‫ألن أول من ألف بهذه الطريقة هو اإلمام الشافعي‪ .‬وتمتاز هذه الطريقة بتقرير القواعد األصولية‬
‫وتحقيقها تحقيق ًا منطقي ًا نظري ًا أساسه الحجة والبرهان‪ ،‬مع تمحيص ما فيها من خالف من غير‬
‫تعصب لمذهب معين‪ ،‬فما قام الدليل على صحته وأيده العقل فهو الضابط عندهم وافق الفروع في‬
‫ذلك أو لم يوافقها ‪.‬‬
‫�أ�شهر الكتب التي �ألفت ح�سب هذه الطريقة ‪:‬‬
‫‪ – 1‬كتاب العمدة ـ للقاضي عبد الجبار ‪.‬‬
‫‪ – 2‬كتاب البرهان ـ ألبي المعالي عبد الملك الجويني النيسابوري الشافعي ‪.‬‬
‫‪ – 3‬كتاب المستصفى ـ ألبي حامد محمد بن محمد الغزالي الشافعي ‪.‬‬
‫‪ – 4‬كتاب المعتمد ـ لمحمد بن محمد المشهور بأبي الحسين البصري ‪.‬‬

‫‪ 2‬ـــ طريقة الأحــنـــاف ‪:‬‬

‫سميت هذه الطريقة بذلك ألن الذين التزموا التأليف بها هم علماء الحنفية ‪.‬‬
‫وتمتاز هذه الطريقة بتقرير القواعد األصولية التي ظنوا أن أئمة المذهب ساروا عليها في اجتهاداتهم‬
‫وتفريع المسائل الفقهية وإبداء الحكم فيها وعمدتهم في تقرير القواعد هو الفروع الفقهية المنقولة عن‬
‫أولئك األئمة‪ ،‬فالقواعد األصولية في هذه الطريقة تابعة للفروع الفقهية المنقولة عن أئمة المذهب‪ ،‬فما‬
‫كان من القواعد موافق ًا لتلك الفروع أقروه‪ ،‬وما كان منها مخالف ًا هجروه ولم يعترفوا به‪.‬‬
‫�أ�شهر الكتب التي �ألفت ح�سب هذه الطريقة ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ كتاب األصول ألبي بكر أحمد بن علي الرازي المعروف بالجصاص ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ كتاب تقويم األدلة ألبي زيد عبد الله بن عمر الدبوسي ‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫‪ 3‬ـ كـتاب كشـف األسـرار وهو شـرح لكـتاب األصـول للبـزدوي والشـارح هـو عبد العزيز بن‬
‫أحمد البخاري ‪.‬‬

‫‪ 3‬ـــ الطـريـقـة الجــامـعــة ‪:‬‬

‫وسميت هذه الطريقة بهذا االسم ألن الذين كتبوا بها جمعوا بين الطريقتين السابقتين‪ ،‬وتمتاز هذه‬
‫الطريقة بميزتين ‪:‬‬
‫األولى ‪ :‬تحقيق القواعد وتمحيصها باألدلة الشرعية مع إقامة البراهين عليها والدفاع عنها ‪.‬‬
‫الثـانـية ‪ :‬تطبيق القواعد على الفروع المذهبية وربطها بها ‪.‬‬
‫�أ�شهر الكتب التي �ألفت ح�سب هذه الطريقة ‪:‬‬
‫لقد ألف حسب هذه الطريقة كتب كثيرة منها ما يأتي ‪:‬‬
‫‪ – 1‬العدة في أصول الفقـه ‪ :‬ألبي يعلى الحنبلي ‪.‬‬
‫‪ – 2‬المحصول ‪ :‬البن العربي ‪.‬‬
‫‪ – 3‬البحر المحيط ‪ :‬للزركشي ‪.‬‬
‫‪ – 4‬كتاب التحرير ‪ -‬لكمال الدين محمد بن عبد الواحد الشهير بالكمال بن الهمام ‪.‬‬
‫‪ – 5‬كتاب إرشاد الفحول إلى تحقيق الحق من علم األصول ‪ -‬للشوكاني ‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫(‪)1‬‬
‫«ا�ستمداد علـم الأ�صـــول»‬
‫يستمد علم أصول الفقـه من ثالثـة علـوم هـي ‪:‬‬

‫‪ - 1‬علـــوم الكتــاب وال�سنــة ‪:‬‬

‫فإن كثير ًا من المباحث المشتركة بينهما كالكالم على التواتر واآلحاد والقراءات الشاذة والجرح‬
‫والتعديل والناسخ والمنسوخ والكالم على متن األحاديث أو طريقها مما استمده األصوليون منهما ‪.‬‬

‫‪ - 2‬عــلـــم العـقـيـــدة ‪:‬‬


‫وذلـك لتوقف األدلـة الكلية على معرفـة الحـق تبارك وتعالى وصدق المبلغ وهـو رسول الله ﷺ‪،‬‬
‫وتوقف صدق المبلغ على داللة المعجزة على صدقـه‪ ،‬وداللة المعجزة على صدقـه تتوقف على امتناع تأثير‬
‫غير قدرة الله تعالى فيها وغير ذلك من المباحث المحتاج إليها في ذلك والتي انفرد علم الكالم بدراستها ‪.‬‬

‫‪ - 3‬عـلـــم اللغــة العـــربيــة ‪:‬‬

‫وذلك ألن األدلة الكلية من الكتاب والسنة عربية‪ ،‬واالستدالل بها على األحكام الشرعية يتوقف‬
‫على معرفة اللغة العربية من حيث العموم والخصوص واإلطالق والتقييد والمنطوق والمفهوم وغير‬
‫ذلك من المباحث اللغوية التي لها أثر في استنباط األحكام من األدلة ‪.‬‬

‫‪ - 4‬عـلـــم الـفــقــــه ‪:‬‬

‫إذ إن األمثلـة التي يمثل بـها األصولـيون مستمدة من الفـروع الفقهيـة أو أدلتها التفصيليـة من‬
‫الكتـاب والسنـة ‪.‬‬
‫(‪ )1‬المقصود باستمداد علم األصول هي العلوم التي اعتمد عليها في التأليف في هذا العلم‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫�أهمية علم �أ�صول الفقه والغاية من درا�سته‬

‫لعلم أصول الفقه اإلسالمي أهمية عظيمة وهي تتمثل فيما يأتي ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ حاجة الناس إلى قواعد وأسس يمكن الرجوع إليها في استنباط األحكام الشرعية من أدلتها‪،‬‬
‫وذلك في الوقت الذي ضعفت فيه مدارك الناس‪ ،‬وفسد طريق االجتهاد بسبب ظهور الكثير‬
‫من مدعي االجتهاد وهم في الحقيقة بعيدون عنه كل البعد ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ يعيـن هذا العلم على معرفـة األحكام الشرعـية التي يترتب عليها الفـوز والسعـادة في الدنيا‬
‫واآلخـرة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ يجعـل الفقيـه على بصيرة تامـة بما يتعرض له من مسائل وأبحاث فقهية يكون بصدد إظهار‬
‫حكم الشارع فيها ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ يعطـي القاضي المقـدرة التامـة على الحكم بما يحقق للناس مصالحهم‪ ،‬وتوصيل كل حق‬
‫إلى صاحبـه‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ يستفيد منه المفتـي فائـدة عظيمة ال تدانيها فائدة حيث يجعله على درايـة كاملة بما هو بصدد‬
‫اإلفتـاء عنه وبيان حكم الشارع فيـه‪ ،‬وذلك عن طريق قواعد هذا العلم ومباحثـه التي تتضافر‬
‫في إتمام ذلك ‪.‬‬

‫تقل الغاية من تدريس هذا العلم لطالبات وطالب المراحل التعليمية المختلفة‪ ،‬خاصة‬ ‫هذا وال ّ‬
‫من يدرسون المواد الدينية والشرعية‪ ،‬عن أهميته السابق بيان أهم ثمارها وفوائدها‪ ،‬ويمكننا أن نجمل‬
‫الغاية من دراسته فيما يأتي ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ يعين الطالبـة على فهم كتاب الله تعالى وسنـة رسوله ﷺ ومعرفة منهج كل منهما في بيان‬
‫األحكام الشرعـية ‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫‪ 2‬ـ يعطي الطالبة القدرة على فهم مادة الفقه اإلسالمي ومعرفة كيف يمكن التوصل إلى حكم مسألة‬
‫جديدة لم ينص على حكمها الشرعي ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ يوقف الطالبة على حقيقة العمل الجليل الذي قام به األئمة المجتهدون لحفظ قواعد الشريعة‬
‫اإلسالمية وتحقيق صالحيتها لكل زمان ومكان ومسايرتها لجميع الحوادث إلى أن يرث الله‬
‫األرض ومن عليها‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ يعين الطالبة في دراسة المواد الدينية مثل التفسير والحديث وغيرهما من علوم الشريعة اإلسالمية‬
‫وذلك عن طريق مباحثه التي لها عالقة وثيقة بذلك ‪.‬‬

‫وهناك من الفوائد الكثير والكثير‪ ،‬ولكن اقتصرنا على ذكرنا أهمها سائلين الله العلي القدير أن ينفع‬
‫الدارسين والدارسات بهذا العلم وأن يوفق الجميع إلى مرضاتـه‪.‬‬

‫أسئـلــة‬

‫س‪ : 1‬عرفي علم أصول الفقه باعتبار كونه مركب ًا إضافي ًا ‪.‬‬
‫س ‪ :2‬تحدثي بإيجاز مفيد عن نشأة علم أصول الفقه ‪.‬‬
‫س‪ : 3‬من أول مدون لعلم أصول الفقه؟ وما اسم مؤلفه في ذلك؟ وكيف سار األصوليون في‬
‫التأليف في هذا العلم ؟‬
‫س‪ : 4‬ما ذا تعرفين عن استمداد علم أصول الفقه وأهميته ؟‬

‫‪73‬‬
‫الفصل األول‬

‫�إعطــاء فكـرة مي�سـرة عن الأحكــام ال�شــرعيــة‬

‫‪74‬‬
‫تعــريـف الحــكــم ال�شــرعـــــي‬
‫والعلم ِ‬
‫والحلم‪ ،‬وأصله المنع‬ ‫العدْ ل ِ‬‫الحكم في اللغة ‪ :‬هو القضاء‪ ،‬ويطلق على الحكمـة‪ ،‬وهي َ‬
‫يقال حكمت عليه بكذا إذا منعته من خالفه‪ ،‬فلم َي ْقتدر على الخروج من ذلك‪ ،‬وحكمت بين القوم‪،‬‬
‫مت الرجل بالتشديد أي فوضت‬ ‫َّ‬
‫وحك ُ‬ ‫وح َكم‪ ،‬والجمع ُح َّكام‪ ،‬أو حاكمون‪،‬‬
‫فصلت بينهم‪ ،‬فأنا حاكم َ‬
‫َ‬
‫وأحك ْمت الشيء يعني أتقنـتـه‪.‬‬ ‫الحكم إليه‪،‬‬

‫تعريف الحكم في ا�صطالح الأ�صوليين ‪:‬‬


‫هو «خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين باالقتضاء أو التخيير أو الوضع»‪.‬‬

‫�شــــرح الـتـعـــــريــــف ‪:‬‬

‫خطاب الله تعالى ‪ :‬الخطاب معناه توجيه الكالم نحو الغير لإلفهام‪ ،‬فيقال خاطب فالن فالن ًا‪ ،‬أي‬
‫وجه اللفظ المفيد إليه بحيث يسمعه‪ ،‬فالخطاب هو التوجيه‪ ،‬وخطاب الله تعالى توجيه ما أفاد إلى‬
‫المستمع أو من في حكمه والخطاب مضاف ولفظ الجاللـة مضاف إليه‪ ،‬وبإضافة الخطاب إلى لفظ‬
‫الجاللـة يخرج خطاب المالئكة واإلنس والجن‪ ،‬فهذه ال تسمى أحكام ًا‪ ،‬ومن ذكر أن األحكام الثابتة‬
‫ال في هذا التعريف‪ ،‬يجاب عليه بأن هذه‬ ‫بقول الرسول ﷺ وبفعله وباإلجماع‪ ،‬والقياس ليس داخ ً‬
‫األحكام داخلة في التعريف ألن الحكم هو خطاب الله تعالى مطلق ًا وهذه األربعـة أي أقوال الرسول‬
‫وأفعالـه واإلجماع والقياس معرفات للحكم ال مثبتات لـه ‪.‬‬

‫المتعلق ب�أفعال المكلفين ‪:‬‬

‫التعـلـق ‪ :‬معناه االرتباط‪ ،‬وعليه يكون معنى المتعلق أي المرتبط وورود التعلق في التعريف له‬
‫فائـدة هي الداللـة على شأن الخطاب وحالـه أي إنشاء الخطاب هو أنه البد وأن يكون متعلق ًا بشيء‪،‬‬

‫‪75‬‬
‫وهذا المتعلق هو أفعال المكلفين‪ ،‬و«األفعال» جمع فعل‪ ،‬والمراد بفعل المكلف هو كل ما يصدر عن‬
‫المكلف من قول أو فعل أو اعتقاد‪ ،‬والمكلفين جمع مكلف‪ ،‬والمكلف في الحقيقة هو الشخص البالغ‬
‫العاقل الذي بلغتـه الدعـوة وهذا ما عرفـه بـه األصوليين والفقهاء ‪.‬‬

‫بـاالقت�ضاء �أو التخيـير �أو الو�ضع ‪:‬‬

‫االقت�ضاء ‪ :‬معناه الطلب‪ ،‬والطلب إما أن يكون طلب فعل أو طلب ترك‪ ،‬وطلب الفعل إن كان‬
‫جازم ًا فهو اإليجاب‪ ،‬وإن كان غير جازم فهو الندب‪ ،‬وطلب الترك إن كان جازم ًا فهو التحري‪ ،‬وإن كان‬
‫غير جازم فهو الكراهة ‪.‬‬

‫والتخيير ‪ :‬معناه التسويـة بين الفعل والترك من غير ترجيح ألحدهما على اآلخر‪ ،‬ويسمى اإلباحة‪،‬‬
‫وبذلك تناولت كلمتي االقتضاء والتخيير األحكام الخمسة (‪ )1‬التكليفيـة ‪.‬‬

‫�أو الو�ضع ‪ :‬الوضع معناه الجعل على نحو خاص مثل جعل الشيء سبب ًا أو شرط ًا أو مانع ًا أو صحيح ًا‬
‫أو فاسد ًا‪ .‬وهذا ما يعرف باألحكام الوضعية ‪.‬‬

‫‪ 5‬ـ اإلباحة ‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ الكراهة ‪.‬‬ ‫‪ 3‬ـ التحريم ‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ الندب‪.‬‬ ‫(‪ )1‬وهـي ‪ 1 :‬ـ اإليجاب‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫�أقـ�سـام الحـكـم ال�شـرعـي‬

‫··‬
‫ينقسم الحكم الشرعي إلى قسمين ‪:‬‬
‫ الأول ‪ :‬التكلـيفـي ‪.‬‬

‫·‬
‫ الثاني ‪ :‬الو�ضـعـي(‪. )1‬‬
‫الحـكـم التكـليفــي ‪:‬‬
‫هو «خطاب الله تعالى المتعلق بأفعال المكلفين باالقتضاء أو التخيير» ‪.‬‬

‫�أق�سام الحكم التكليفي باعتبار ذاته ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ ـ الإيجـاب ‪ :‬هـو خطاب الله تعالـى الطالب للفـعـل طلب ًا جازمـ ًا‪ .‬مـثـل قـولـه تـعـالـى‪:‬‬
‫﴾ (سورة البقرة اآليـة ‪.)43 :‬‬ ‫﴿‬
‫‪ 2‬ـ ـ الندب ‪ :‬هـو خطاب اللـه تعالى الطالـب للفـعل طلـبـ ًا غـيـر جـازم‪ .‬مثل قـولـه تعالى‪:‬‬
‫﴾ (سورة البقرة اآليـة ‪. )282 :‬‬ ‫﴿‬
‫‪ 3‬ـ ـ التحريم ‪ :‬هو خطاب الله تعالى الطالب لترك الفعل طلب ًا جازم ًا‪ .‬مثل قوله تعالى‪:‬‬
‫﴾ (سورة األنعام اآليـة ‪.)151 :‬‬ ‫﴿‬
‫‪ 4‬ـ ـ الكـراهـة ‪ :‬هي خطاب الله تعالى الطالب لترك الفعل طلب ًا غير جازم‪ .‬مثل قول الرسول ﷺ ‪:‬‬
‫حـرم عقوق األمهات ووأد البنات ومنع ًا وهات وكره لكم‪ :‬قيل وقال وكثرة السؤال‪،‬‬ ‫«أن الله َّ‬
‫وإضاعـة المال » (‪ .)2‬والكراهة قد تكون كراهة تحريم‪.‬‬
‫المخير بين الفعل والترك‪ .‬مثل قوله تعالى‪:‬‬
‫َّ‬ ‫‪ 5‬ـ ـ الإباحة ‪ :‬هي خطاب الله تعالى‬
‫﴾ ( سورة المائدة اآليـة ‪. )2 :‬‬ ‫﴿‬
‫(‪ )2‬بلوغ المرام مع شرح سبل السالم‪ ،‬جـ ‪ ، 4‬ص ‪.252‬‬ ‫ ‬
‫(‪ )1‬وسيأتي تعريفه ص (‪.)81‬‬

‫‪77‬‬
‫�أق�سام الحكم التكليفي باعتبار متعلقـه ‪:‬‬

‫ينقسم الحكم التكليفي باعتبار متعلقـه أي باعتبار الفعل الذي تعلق به إلى األقسام التالية ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ـ ـ الواجب ‪ :‬وهو الفعل الذي طلبه الشارع طلب ًا جازم ًا‪ .‬مثل « الصالة » فالشارع طلب فعلها طلب ًا‬
‫﴾ (سورة البقرة اآليـة ‪. )43 :‬‬ ‫جازم ًا‪ ،‬والدليل على ذلك قوله تعالى‪﴿ :‬‬

‫‪ 2‬ـ ـ ـ المندوب ‪ :‬وهو الفعل الذي طلبه الشارع طلب ًا غير جازم‪ .‬مثل كتابة الد ْي ِن فالشارع طلب فعلها‬
‫طلبـ ًا غـيـر جـازم‪ .‬بدلـيل قوله تعالى ‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة البقرة اآليـة ‪. )282 :‬‬

‫‪ 3‬ـ ـ ـ المحرم �أو الحرام ‪ :‬وهو الفعل الذي طلب الشارع تركه طلب ًا جازم ًا مثل السرقة‪ ،‬فالشارع طلب‬
‫تركها طلـب ًا جازمـ ًا بدليل قوله تعالى‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة المائدة اآليـة ‪.)38 :‬‬

‫‪ 4‬ـ ـ المكروه ‪ :‬وهو الفعل الذي طلب الشارع تركه طلب ًا غير جازم‪ .‬مثل كراهة السؤال عن األشياء‬
‫المباحـة‪ ،‬فالشـارع طلـب ترك هذا الفعل طلب ًا غير جازم بدليل قوله تعالى‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة المائدة اآليـة ‪.)101 :‬‬

‫‪ 5‬ـ ـ المباح ‪ :‬وهـو مـا دل الدليل السمعي على تخيير المكلف فيه بين الفعل والترك‪ ،‬مثل إباحة‬
‫االنتشـار في األرض بعد صـالة الجمعة ودلـيل ذلـك قولـه تعالـى ‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة الجمعة اآليـة ‪.)10 :‬‬

‫‪78‬‬
‫�أق�سام الحكم التكليفي باعتبار موافقته للدليل وعدم موافقته ‪:‬‬

‫ينقسم الحكم التكليفي من حيث موافقته للدليل وعدم موافقته له إلى قسمين ‪:‬‬
‫�أ ـ ـ رخـ�صـة ‪.‬‬
‫ب ـ ـ وعـزيـمـة ‪.‬‬
‫�أو ًال ‪ :‬الــرخــ�صــة ‪:‬‬

‫الرخ�صة في اللغة ‪ :‬التيسير والتسهيل‪ ،‬فيقال رخص السعر إذا تيسر وفي الشرع‪ :‬هي الحكم الثابت‬
‫على خالف الدليل لعذر‪ ،‬مثل قصر الصالة الرباعية للمسافر (سفر طاعة ال سفر معصية) وإباحة الفطر‬
‫في نهار رمضان للمريض والمسافر‪ ،‬وإباحة أكل الميتة للمضطر ‪.‬‬

‫�أنواع الرخ�صة وحكم كل نوع ‪:‬‬

‫النــوع الأول ‪:‬‬


‫إباحـة فعـل المحرم عند الضـرورة ‪ :‬والحاجـة‪ ،‬مثل إباحة أكل لحم الخنزير والميتة عند الضرورة‬
‫للمحافظـة على الحياة ودليل ذلك قوله تعالى ‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة النحل اآليـة ‪.)115 :‬‬
‫حكـم هـذا النوع ‪ :‬هو جواز العمل بموجب الرخصة إال إذا تأكد المكلف هالك نفسه أو إتالف‬
‫عضو من أعضائه فحينئذ يجب على المكلف العمل بالرخصة ‪.‬‬
‫النـوع الثـانــي ‪:‬‬
‫هو إباحة ترك الواجب إذا كان في فعله مشقة تلحق المكلف ‪ -‬مثل إباحة الفطر في نهار رمضان للمسافر‬
‫والمـريـض ودليل ذلك قولـه تعالـى ‪﴿ :‬‬

‫﴾ (سورة البقرة اآليـة ‪.)185 :‬‬

‫‪79‬‬
‫حكـم هـذا النوع ‪ :‬أنـه األفضل إذا كـان في فعلـه مشقة لقولـه تعالـى ‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة البقرة اآليـة ‪.)185 :‬‬

‫النـوع الثـالـث ‪:‬‬


‫إباحة العقود والتصرفات التي يحتاج إليها الناس مع مخالفتها للقواعد العامة المقررة في نوعها أو‬
‫األدلة الشرعية العامة التي تدل على منعها مثل السلم‪ ،‬فإنه من قبيل بيع المعدوم لكن الشارع رخص‬
‫فيه للحاجة إليـه ‪.‬‬
‫حكـم هـذا النوع ‪ :‬هو جواز العمل بموجب الرخصة وتركه‪ ،‬إال إذا كان في تركه هالك النفس‬
‫فحينئذ يجب العمل بموجب الرخصة ‪.‬‬

‫النـوع الـرابـع ‪:‬‬


‫وهو األحكام التي رفعها الله تعالى عنا ولم تشرع في حقنا مثلما كانت مشروعة على األمم السابقة‬
‫من التكاليف الشاقة التي كانت في شريعتهم ‪ -‬مثل اشتراط قتل النفس في التوبة عن المعصية وقطع‬
‫األعضاء الخاطئة للتكفير عن ذنبها‪ ،‬وتطهير الثوب بقطع موضع النجاسة ‪.‬‬
‫حكـم هـذا النوع ‪ :‬هذه األحكام لم يشرعها الله تعالى في حقنا‪ ،‬لذلك أباح لنا عدم العمل بمقتضى‬
‫شيء منها عند الضرورة والحاجة المقتضية لذلك ‪.‬‬

‫ثاني ًا ‪ :‬العــزيــمـــة ‪:‬‬

‫العزيمة في اللغة ‪ :‬مصدر عزم على األمر عزم ًا وعزيمة‪ ،‬إذا قصد األمر قصد ًا مؤكد ًا ‪.‬‬
‫وفـي اال�صطـالح ‪ :‬هي األحكام الكلية التي شرعها الله تبارك وتعالى ابتداء ليعمل بها المكلفون‬
‫بموجب دليل ثبتت على وفقه أو على خالفه لغير عذر ‪.‬‬
‫مثل وجوب الصالة الزكاة والصوم والحج وغير ذلك من بقية التكاليف التي ألزمنا الله تعالى بها‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫�أنـــــــواع العــــــزيمـــــة‪:‬‬

‫تتنوع العزيمـة إلى األنـواع التالـيـة ‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ ـ النوع الأول ‪:‬‬
‫ما شرعه الله تعالى ابتداء من أول األمر لصالح جميع المكلفين مثل الصالة والزكاة والحج والصيام‪،‬‬
‫والبيع وغيره من المعامالت وأحكام الجنايات والقصاص وغير ذلك من األحكام الكلية التي شرعها‬
‫الله تعالى لتحقيق مصالح العباد ‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ ـ النوع الثاني ‪:‬‬


‫األحكـام الناسخة ألحكام سابقـة ألن المنسوخ مع وجـود الناسخ كأنـه لم يكن‪ ،‬مثل ثبـات الواحد من‬
‫المسلمين تجاه اثنين من الكفار في الحرب‪ ،‬فهذا يعتبر عزيمـة‪ ،‬ألن ثبات الواحد من المسلمين تجاه عشرة‬
‫من الكفـار بعـد نسخـه بقـولـه تعالى ‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة األنفال اآليـة ‪.)66 :‬‬
‫يصبـح كـأن لم يكن ويكون إثبـات الواحد من المسلمين أمـام اثنين من الكفـار في الحـرب‬
‫حكـم ًا ابتـدائـي ًا ‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ ـ النـوع الثـالــث ‪:‬‬


‫األحكام الثابتة باالستثنـاء‪ ،‬مثل قتل النفس بالحق الثابت باالستثناء في قولـه تعالى‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة األنعام اآليـة ‪.)151 :‬‬
‫فقتل النفس بالحق الثابت باالستثناء يعتبر عزيمة ‪.‬‬
‫وبعد االنتهاء من الكالم عن الحكم التكليفي ننتقل إلى بيان القسم الثاني وهو الحكم الوضعي‬
‫وحقيقته ‪ :‬هو خطاب الله تعالى المتعلق بجعل الشيء سبب ًا أو شرط ًا أو مانع ًا أو صحيح ًا أو فاسد ًا‪.‬‬
‫وبهذا ينتهي حديثنا عن أقسام الحكم الشرعي وتعريف كل قسم ‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫الحــاكــــم‬

‫الحديث عن مسألة الحاكم في كتب األصول يدور حول اإلجابة عن سؤالين هما ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ـ من هو الحاكم ؟‬
‫‪ 2‬ـ ـ بم يعرف الحكم ؟‬
‫ولإلجابـة عن السؤال األول نقول وبالله التوفيق ‪:‬‬
‫اتفقت كلمة علماء اإلسالم جميع ًا سلف ًا وخلف ًا على أن الحاكم‪ ،‬أي منشئ الحكم ومشرعه هو الله‬
‫عز وجل‪ ،‬فال حاكم سوى الله تعالى وال شرع إال من الله تبارك وتعالى‪ .‬قال تعالى‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة األنعام اآليـة ‪ .)57 :‬وهذا فيما يتعلق بالتشريع‪.‬‬

‫أمـا اإلجابـة عـن السؤال الثانـي‪ ،‬هو ‪ :‬بما يعـرف الحكم؟ فنقول ‪ :‬اختلـف العلمـاء في ذلك على‬
‫ثالثـة أقـوال ‪:‬‬
‫القول الأول ‪:‬‬
‫يرى أصحابـه أن األحكام الشرعية ال تعرف إال عن طريق الرسل عليهم السالم‪.‬‬
‫القول الثاني ‪:‬‬
‫يرى أصحابـه أن العقل وحـده يستطيع إدراك األحكام ‪.‬‬
‫القول الثالث ‪:‬‬
‫يرى أصحابـه أن العقل وحده ال يستطيع إدراك األحكام‪ ،‬بل البـد من االستعانـة بطريق‬
‫الرسل فـي ذلك ‪.‬‬
‫الراجـح ‪ :‬هو القول األول ‪ :‬فاألحكام لها مصادر هي ‪[ :‬الكتاب ـ والسنة بفهم سلف األمـة]‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫المحكــــــــوم فيــــــه‬

‫ويقال لـه المحكوم بـه وهو ‪ :‬الفعل الذي تعلق به خطاب الشارع الحكيم وخطاب الشارع ‪-‬‬
‫سواء كان من قبيل الحكم التكليفي أو من قبيل الحكم الوضعي ‪ -‬يتعلق بفعل المكلف إال أنه إذا‬
‫كان الخطاب من قبيل الحكم التكليفي فالمحكوم فيه ال يكون إال فع ً‬
‫ال‪ ،‬أما إذا كان من قبيل الحكم‬
‫ال وقد يكون ما ارتبط بالفعل‪.‬‬ ‫الوضعي فقد يكون المحكوم فيه فع ً‬
‫�شروط المحكوم فـيـه ‪ :‬يجب أن يتوفر في المحكوم فيه شرطين وهما ‪:‬‬
‫ال�شـرط الأول ‪ :‬أن يكون المحكوم فيه معلوم ًا للمكلف علم ًا تام ًا‪ ،‬وذلك لكي يستطيع المكلف‬
‫القيام بما طلب منه على الوجه الذي يرضي الله تعالى ويرضي رسوله ﷺ والذي‬
‫يجعل أداءه لما طلب منه صحيح ًا‪.‬‬
‫ال ممكن ًا‪ ،‬ليستطيع المكلف أن يأتي به وأن يتركه حسب‬‫ال�شـرط الثانـي ‪ :‬أن يكون المكلف به فع ً‬
‫الخطاب الموجه إليـه ‪.‬‬

‫المحكــــــــوم عـلـيــــــه‬
‫وهو المكلف الذي تعلق بفعله حكم الشارع وتوجـه خطابـه إليه ‪.‬‬
‫ال�شروط الواجب توافرها في المحكوم عليه ‪:‬‬
‫يشترط في المحكوم عليه ثالثة شروط وهي ‪:‬‬
‫ال�ش ــرط الأول ‪ :‬أن يكون المكلف قادر ًا على فهم دليل التكليف ‪.‬‬
‫ال�شرط الثاني ‪ :‬أن يرد الخطاب الشرعي الذي يفيد التكليف ‪.‬‬
‫ال لما يكلف بـه ‪.‬‬‫ال�شرط الثالث ‪ :‬أن يكون المكلف أه ً‬

‫‪83‬‬
‫أسئـلــة‬

‫س‪ : 1‬اذكري تعريف الحكم الشرعي في اللغة وفي اصطالح علماء األصول‪ ،‬ثم اشرحي بإيجاز‬
‫تعريف األصوليين ‪.‬‬
‫س‪ : 2‬ما هي أقسام الحكم التكليفي باعتبار ذاته ؟ وما تعريف كل قسم مع التمثيل ؟‬
‫س‪ : 3‬ما هو تعريف الرخصة لغة واصطالح ًا؟ وما أنواعها؟ مع التمثيل وما حكم كل نوع؟‬
‫س‪ : 4‬اذكري تعريف العزيمة‪ ،‬ثم بيني أنواعها مع التمثيل‪.‬‬
‫س‪ : 5‬مـا هو المحكوم فـيه؟ وما شرطـه؟ ومن هو المحكوم علـيـه؟ وما الشروط الواجب‬
‫تـوافرها فـيـه؟‬

‫‪84‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫الكالم عن الأدلـة ال�شرعية ب�إيجــاز‬

‫‪85‬‬
‫الأدلــــــة ال�شــرعيـــــــة‬

‫قبل الحديث عن األدلة الشرعية ‪ -‬يجب أن نعلم أن األدلة الشرعية منها ما هو متفق على حجيته‪،‬‬
‫ومنها ما هو مختلف في حجيته ‪.‬‬
‫أما بالنسبة لما اتفق على حجيته فيتمثل في القرآن الكريم والسنة واإلجماع‪ ،‬والقياس‪ ،‬وماعدا‬
‫ذلك من األدلة كاالستحسان والمصالح المرسلة والعرف واالستصحاب وغير ذلك فمن قبيل األدلة‬
‫المختلف فيها‪.‬‬
‫وفيما يلي بيان ذلك ‪:‬‬

‫الدليل الأول ‪ :‬القر�آن الكريم‬

‫وهو غني عن التعريف غير أن علماء األصول اهتموا بتعريفه ليتبين ما تجوز به الصالة وما ال تجوز‬
‫بـه‪ ،‬وما يكون حجة في استنباط األحكام وما ال يكون‪ ،‬وما يكفر جاحده وما ال يكفر‪.‬‬
‫وقد وردت فيه تعاريف كثيرة نختار منها التعريف التالي ‪ :‬القرآن الكريم هو ‪« :‬كالم الله تعالى‬
‫المنزل على نبينا محمد ﷺ باللفظ العربي‪ ،‬المنقول بالتواتـر‪ ،‬والمكتوب في المصاحف المبدوء‬
‫بسورة الفاتحة المختوم بسورة الناس»‪.‬‬

‫خ�صــائ�صــــــه ‪:‬‬

‫من التعريف يمكننا معرفة خصائص القرآن الكريم التي يمتاز بها عن الكتب السماوية السابقة وعن‬
‫األحاديث الواردة عن الرسول ﷺ ‪ ،‬والتي إذا فقدت واحدة منها لم يسم كتاب ًا وال قرآن ًا‪ ،‬وفيما يلي بيان‬
‫تلك الخصائص ‪:‬‬

‫‪86‬‬
‫‪ 1‬ـ أن القرآن الكريم منزل باللسان العربي‪ ،‬وبهذه الخاصية يمتاز القرآن الكريم عن الكتب السابقة‬
‫عليه كالتوراة‪ ،‬واإلنجيل ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن معاني القرآن الكريم وألفاظه العربية كالهما منزل من عند الله عز وجل ووظيفة الرسول ﷺ‬
‫في ذلك إنما هي تلقيه عن الله تعالى بواسطة جبريل عليه السالم‪ ،‬وتبليغه إلى الناس وبيان ما‬
‫يحتاج منه إلى البيان‪ ،‬وبهذه الخاصية يمتاز عن األحاديث الصادرة عن الرسول ﷺ سواء كانت‬
‫قدسيـة أم نبويـة ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن القرآن الكريم منقول بطريق التواتر‪ ،‬وهو ثابت للقرآن كتابة ومشافهة في جميع العصور‪.‬‬
‫والنقل بالتواتـر يفيـد القطـع واليقين بصحـة المنقـول‪ ،‬لذا كانت نصوصـه قطعيـة الثبـوت بـال‬
‫خـالف‪.‬‬

‫حجـيــة الـقـــر�آن ‪:‬‬

‫اتفـق المسلمون جميعـ ًا على أن القرآن حجـة يجب العمل بـما ورد فيـه‪ ،‬وال يجوز العدول‬
‫عنه إلى غيره من األدلة إال إذا لم يوقف فيه على حكم الحادثة التي يراد الوقوف على حكمها‪،‬‬
‫وذلـك العتقادهم الحق بأن القرآن كالم الله الذي ال يأتيـه الباطل من بين يديـه وال من خلفـه‬
‫تنزيـل من حكيم حميـد‪.‬‬

‫منزلته في اال�ستدالل ‪:‬‬

‫يشغل القـرآن الكريم المرتبـة األولى من بين مراتب االستدالل‪ ،‬فال يجـوز العـدول عنـه إلى‬
‫غيره مـن األدلـة إال إذا بحثنا فيه عن حكم الحادثـة التي يراد الوقوف على حكمـها فلم نجـده‪،‬‬
‫وإنما شغـل القرآن المرتبـة األولى في االستدالل العتقـاد المسلمين وهو اعتقاد حق ‪ -‬أنـه كـالم‬
‫الله تعالـى ‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫وجـوه �إعجـاز القر�آن الكريـم ‪:‬‬

‫لقد أعجـز القرآن الكريم الناس عن أن يأتوا بمثله‪ ،‬ولم يقتصر اإلعجاز على ناحيـة معينـة‪ ،‬وإنما‬
‫أعجزهـم من نواحي متعددة‪ ،‬لفظيـة ومعنويـة وروحيـة‪ ،‬تسانـدت وتجمعت فأعجزت الناس على أن‬
‫يعارضـوه ولم تصـل العقول إلى إدراك نـواح اإلعجـاز كلها‪ ،‬بل وصلت إلى بعضها فقط نذكر منها‬
‫مـا يلي ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ ـ التنا�سب بين جميع ما ت�ضمنه القر�آن الكريم ‪:‬‬


‫يتكون القرآن الكريم من حوالي ستة آالف آية‪ ،‬طرقت شتى الموضوعات االعتقادية وعالجت‬
‫الكثير من المسائل الخلقية والتشريعية وقررت الكثير من النظريات الكونية واالجتماعية والوجدانية‪،‬‬
‫ً‬
‫تعارضا‪ ،‬وهذا يدل على أنه تنزيل من حكيم حميد‪ ،‬وقال تعالى ‪:‬‬ ‫ومع ذلك فال تجد تناقض ًا وال تلمح‬
‫﴾ (سورة النساء اآليـة ‪.)82 :‬‬ ‫﴿‬

‫‪ 2‬ـ ـ �إخبار القر�آن بالمغيبات ‪:‬‬


‫إذا تصفحت القرآن الكريم وجدته يحمل بين ثناياه أخبار الماضين فهو مليء بقصص أمم زالت‬
‫دولتهم وذهب معالمها وغابت آثارها مما يدل على أن القرآن من عند الله الذي ال تخفى عليه خافية في‬
‫األرض‪ ،‬وال في السماء قـال تعالـى ‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة هود اآليـة ‪.)49 :‬‬

‫‪ 3‬ـ ـ �إخبار القر�آن الكريم بالحقائق العلمية ‪:‬‬


‫اشتمل القرآن على حقائق علمية تبعد كل البعد أن يعرفها ويصل إليها نبي أمي ال يعرف القراءة وال‬
‫الكتابة من تلقاء نفسه‪ ،‬فقد جاء القرآن بحقائق علمية خاصة بخلق األرض والسماء وأنهما كانتا شيئ ًا واحد ًا‪،‬‬
‫ثم انفصلت األرض عن السماء‪ ،‬قال تعالى‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة األنبياء اآليـة ‪.)30 :‬‬

‫‪88‬‬
‫‪ 4‬ـ ـ ف�صاحة القر�آن الكريم وبالغته وقوة ت�أثيره ‪:‬‬
‫ِ‬
‫وأطلت النظر فيه ال تجدي لفظ ًا ينبو عنه السمع وال يقبله الذوق وال‬ ‫إنك مهما بحثت في القرآن‬
‫يتسق مع سابقه والحقه ولن تجدي في القرآن إال المطابقة لمقتضى األحوال وال أدل على ذلك من‬
‫شهادة ألد أعداء المسلمين وهو الوليد بن المغيرة حيث يقول في القرآن «إن له لحالوة وإن عليه‬
‫لطالوة وإن أعاله لمثمر وإن أسفله لمغدق وما هو بقول بشر » (‪.)1‬‬
‫أما قوة تأثير القرآن في النفوس وسلطانه الروحي على القلوب فذلك مما يقف القلم عاجز ًا أمام‬
‫عظمته فال منصف إال ويشعر بشدة تأثيره‪ ،‬وليس هنا صاحب وجدان صادق إال ويحس بهيمنة القرآن‬
‫وسلطانـه على المشاعر واألحاسيس ‪ ،‬وعلى القلب والعقل والبدن‪.‬‬

‫بـيـان القــر�آن للأحـكــام ‪:‬‬

‫من المعلوم لنا جميع ًا أن القرآن الكريم أساس الشريعة اإلسالمية وأصلها األول وأن الله عز وجل جعله‬
‫﴾ ‬ ‫تبيـان ًا لكـل شـيء ويدل على ذلك قـولـه جـل شأنـه ‪﴿:‬‬
‫(سورة النحل اآليـة ‪.)89 :‬‬ ‫ ‬
‫إال أن بيان القرآن لألحكام على سبيل اإلجمال ال التفصيل وعلى نحو كلي ال جزئي كما دل‬
‫على ذلك االستقراء والتتبع‪ ،‬فالصالة والزكاة والحج ذكرت في القرآن‪ ،‬ولكن ال نجد فيه بيان عدد‬
‫الركعات في الصالة وال كيفية القراءة فيها‪ ،‬كذلك ال نجد بيان أفعال الحج وكيفيته‪ ،‬وإنما المرجع في‬
‫بيان كل ذلك إلى السنة المطهرة‪ ،‬على أن القرآن قد تعرض لبيان بعض األحكام على وجه التفصيل‬
‫مثل أحكام معقولة ولكن مصالحها ثابته ال تتغير تبع ًا لتغير الزمن وال تختلف تبع ًا الختالف البيئات‪،‬‬
‫وحكمة مجيء التشريع في القرآن هكذا هي جعل قواعد الشريعة ونصوصها مرنة وشاملة بحيث تتسع‬
‫لحاجات الناس في أي زمان وفي أي مكان‪ ،‬فالقواعد ال تختلف باختالف األزمنة واألمكنة‪ ،‬وإنما‬
‫الذي يختلف هو الجزئيات ‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظري أصول الفقه للدكتور محمد زكريا البرديسي ‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫�أ�سلوب القر�آن في بيان الأحكام ‪:‬‬

‫للقرآن الكريم في بيان األحكام أساليب متنوعة‪ ،‬فتارة يدل عليها بصيغة األمر بالفعل أو النهي عنه‬
‫﴾ (سورة البقرة اآليـة ‪.)43 :‬‬ ‫مثل قولـه تعالى ‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة األنعام اآليـة ‪.)151 :‬‬ ‫وقـولـه تعالـى ‪﴿ :‬‬
‫وتارة يدل عليها باإلخبار بأن الفعل مكتوب أو مفروض أو بأنه حالل أو حرام أو خير أو موصل إلى‬
‫البر‪ ،‬أو بأنـه شر ًا وليس من البر مثل قولـه عز وجل ‪:‬‬
‫﴾ (سورة النساء اآليـة ‪.)103 :‬‬ ‫﴿‬
‫﴾‬ ‫وقولـه تعالى ‪﴿ :‬‬
‫(سورة المائـدة اآليـة ‪.)5 :‬‬ ‫ ‬
‫﴾‬ ‫وقولـه تعالى ‪﴿ :‬‬
‫(سورة آل عمران اآليـة ‪.)180 :‬‬ ‫ ‬
‫وتـارة يـدل عليها بما يرتبه على الفعـل في العاجل أو اآلجـل من خير أو شـر أو نفع أو ضرر‬
‫﴾ (سورة المؤمنون اآليـة ‪.)2 ،1 :‬‬ ‫كقولـه تعالـى ‪﴿ :‬‬
‫﴾‬ ‫وقولـه عـز وجـل ‪﴿ :‬‬
‫(سورة البقرة اآليـة ‪.)245 :‬‬ ‫ ‬

‫إلى غير ذلك من األساليب الكثيرة التي نوعها الشارع الحكيم في كتابه ترغيب ًا لعباده وترهيب ًا وتقريب ًا‬
‫إلى أفهامهم وعلى هذا يجب على من يريد استنباط األحكام الشرعية مراعاة هذه األساليب المتنوعة‬
‫والصيغ المختلفة مع االستعانة في ذلك بما يقارن تلك الصيغ من وعد أو وعيد‪ ،‬وبما جرى عليه عرف‬
‫العرب في االستعمال ‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫الدليل الثـانـي ‪ :‬ال�سنــــة‬

‫تعرف السنة بما يلـي ‪:‬‬


‫ال ‪ :‬السنـة لغـة ‪ :‬هي اسم للطريقة المعتادة‪ ،‬فسنة كل واحد‪ ،‬ما تعود المحافظة عليه واإلكثار‬ ‫�أو ً‬
‫منه سواء كان من األمور المحمودة أو المذمومة ‪.‬‬
‫ثانـيـاً ‪ :‬فـي اصطالح علماء األصول ‪ :‬هي اسم لكل ما صدر عن الرسول ﷺ من قول أو فعل‬
‫أو تقـريـر‪.‬‬
‫فهي بهـذا االعتـبار ثـالثـة أنـواع ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ سـنـة قـولـيـة ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ سـنـة فعلـيـة ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ سـنـة تقـريـريـة ‪.‬‬
‫‪ 1‬ـ ـ ال�سنة القولية ‪:‬‬
‫هي األحاديث التي قالها الرسول ﷺ في المناسبات المختلفة‪ ،‬مثل قوله ﷺ ‪« :‬إنما األعمال بالنيات‬
‫وإنما لكل امريء ما نوى فمن كانت هجرتـه إلى الله ورسولـه فهجرتـه إلى الله ورسولـه ومن كانت‬
‫هجرتـه لدنيا يصيبها أو امرأة يتزوجهـا فهجرتـه إلى ما هاجـر إليه»(‪.)1‬‬

‫‪ 2‬ـ ـ وال�سنة الفعلية ‪:‬‬


‫هي ما صدر عن الرسول ﷺ من األفعال مثل الوضوء‪ ،‬والصالة‪ ،‬والحج ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ وال�سنة التقريرية هي ‪:‬‬
‫ما أقره الرسول ﷺ مما صدر عن بعض أصحابه من أقوال وأفعال بسكوته وعدم إنكاره‪ ،‬أو بموافقته‬
‫وإظهار استحسانه‪ ،‬فيعتبر بهذا اإلقرار والموافقة عليه صادر ًا عن الرسول ﷺ نفسه مثل ما روي أن‬
‫صحابيين خرجا في سفر فانعدم الماء منهما فتيمما وصليا‪ ،‬ثم وجدا الماء قبل خروج الوقت فتوضأ‬

‫(‪ )1‬رواه البخاري‪ ،‬ج ‪ ،1‬ص ‪ ،7‬كتاب بدء الوحي‪ ،‬ورواه مسلم‪ ،‬ج ‪ ،13‬ح (‪ )1907‬واللفظ لمسلم‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫قصا ما حدث للرسول ﷺ فقال‬ ‫أحدهما وأعاد الصالة ولم يتوضأ اآلخر ولم يعد الصالة‪ ،‬فلما رجعا َّ‬
‫للذي توضأ وأعاد ‪« :‬لك األجر مرتين‪ ،‬وقال للذي لم يتوضأ ولم يعد الصالة أصبت السنة وأجزأتك‬
‫صالتك»‪ ،‬فكان هذا تقرير ًا من الرسول ﷺ لفعل كل واحد منهما ‪.‬‬
‫ومن ذلك إقرار الرسول ﷺ لمعاذ بن جبل حين بعثه إلى اليمن فقال له ‪« :‬بم تقضي؟ قال ‪ :‬أقضي‬
‫بكتاب الله‪ ،‬قال ‪ :‬فإن لم تجد؟ قال ‪ :‬فبسنة رسول الله‪ ،‬قال فإن لم تجد؟ قال ‪ :‬أجتهد رأيي وال آلو (أي‬
‫ال أقصر في اجتهادي) فضرب الرسول ﷺ على صدره وقال الحمد لله الذي وفق رسول رسول الله‬
‫لما يرضي الله ورسولـه»رواه أحمد وأبو داود والترمذي ‪ .‬فهذا إقرار من الرسول ﷺ لقول معاذ ‪. ‬‬

‫حجــيــــة الــ�ســنـــــة ‪:‬‬

‫أجمع المسلمون على أن ما صدر عن الرسول ﷺ من قول أو فعل أو تقرير‪ ،‬وكان مقصود ًا بـه‬
‫التشريع واالقتداء‪ ،‬ونقل إلينا بسند صحيح يفيد القطع أو الظن الراجح‪ ،‬بصدقـه يكون حجة على‬
‫المسلمين‪ .‬ومصدر ًا تشريعي ًا يستنبط منه المجتهدون األحكام الشرعية ألفعال المكلفين‪ ،‬ومن هذا‬
‫نأخذ أن األحكام الواردة في السنة الطاهرة تكون مع األحكام الواردة في القرآن الكريم تشريع ًا يجب‬
‫إتباعه والعمل بـه ‪.‬‬

‫الأدلة على حجية ال�سنة ‪:‬‬


‫إن األدلـة على حجيـة السنة كثيرة منها ما يأتـي ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ نصوص القرآن الكريم وتتمثل الداللة فيها على حجية السنة في أن الكثير من تلك النصوص أمر‬
‫فيها الحق سبحانه وتعالى المسلمين بطاعة الرسول ﷺ‪ ،‬كما أمرهم إذا تنازعوا في شيء أن يردوه‬
‫إلى الله وإلى الرسول ﷺ‪ ،‬دون أن يجعل لهم خيار ًا إذا قضى الله ورسوله أمر ًا‪ ،‬ونفى اإليمان‬
‫عمن لم يطمئن إلى قضاء الرسول ﷺ ولم يسلم له‪ ،‬وفي هذا كله داللة من الله تعالى على أن‬
‫﴾‬ ‫تشريع النبي ﷺ هو تشريع إلهي يجب إتباعـه‪ ،‬فقال تعالى ‪﴿ :‬‬
‫(سورة النـور اآليـة ‪.)54 :‬‬

‫‪92‬‬
‫﴾‬ ‫وقال ‪﴿ :‬‬
‫(سورة النساء اآليـة ‪.)59 :‬‬
‫﴾‬ ‫وقـال ‪﴿ :‬‬
‫(سورة األحزاب اآليـة ‪.)36 :‬‬
‫﴾ (سورة الحشر اآليـة ‪.)7 :‬‬ ‫وقـال عز من قائل ‪﴿ :‬‬
‫‪ 2‬ـ إجماع الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين في حياة الرسول ﷺ وبعد وفاته على وجوب إتباع‬
‫سنته‪ ،‬فكانوا في حياته يمضون أحكامه ويمتثلون ألوامره ونواهيه وتحليله وتحريمه وال يفرقون‬
‫في وجوب اإلتباع بين حكم أوحي إليه في القرآن وحكم صدر عنـه ﷺ نفسـه ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن القرآن الكريم فرض الله فيه على الناس عدة فرائض مجملة غير مبينة‪ ،‬لم تفصل أحكامها وال‬
‫كيفية آدائها مثل ‪ :‬أقيموا الصالة‪ ،‬وآتوا الزكاة‪ ،‬وكتب عليكم الصيام‪ ،‬ولله على الناس حج البيت‪،‬‬
‫ولم يبين كيفية أداء كل ذلك وقد بين الرسول ﷺ هذا اإلجمال بسنته الطاهرة‪ ،‬فهذا يدل على أنها‬
‫حجة‪ ،‬إذ لو لم تكن حجة لما بينت مجمل القرآن لكنها بينته‪ ،‬فهذا يدل على أنها حجة‪.‬‬

‫ن�سـبــة ال�سـنــة للـقـــر�آن ‪:‬‬

‫تتنوع نسبـة السنـة إلى القرآن تبع ًا لتـنوع جهـة السنـة ‪:‬‬
‫فنسبة السنة إلى القرآن من جهة االحتجاج بها والرجوع إليها في استنباط األحكام الشرعية‪ ،‬فهي‬
‫في المرتبة التالية للقرآن في ذلك‪ ،‬فالمجتهد ال يرجع إلى السنة في االستدالل على حكم واقعة إال‬
‫إذا لم يجد في القرآن الدليل الدال عليها‪ ،‬ألن القرآن أصل التشريع ومصدره األول‪ ،‬فإذا نص القرآن‬
‫على حكم وجب اتباعه وإذا لم ينص على حكم الواقعة انتقل المجتهد إلى المصدر الثاني وهو السنة‬
‫فإن وجد فيها حكمـه اتبعه وعمل بـه‪ .‬أما نسبتها إلى القرآن من جهة ما ورد فيها من األحكام فإنها إما‬
‫أن تكون سنة مقررة ومؤكدة لما جاء في القرآن‪ ،‬وإما أن تكون سنة مفصلة ومفسرة لما جاء في القرآن‬
‫ال أو مقيدة لما جاء فيه مطلق ًا‪ ،‬أو مخصصة لما جاء فيه عام ًا‪ ،‬وإما أن تكون سنة مثبتـة ومنشئة‬ ‫مجم ً‬
‫حكم ًا سكت عنه القرآن الكريم فيكون هذا الحكم ثابـت ًا بالسنـة ‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫�أقـ�ســــام ال�ســنـــة‪:‬‬

‫تنقسم السنة باعتبار الرواية عن الرسول ﷺ إلى األقسام التالية ‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ ـ ال�سـنـة المتـواتـرة ‪:‬‬
‫هي ما رواها في كل طبقة من طبقاتها جماعة تحيل العادة تواطؤهم على الكذب‪ .‬فالحديث والسنة‬
‫المتواترة يرويه من طبقة الصحابة جماعة ويرويه عنهم من طبقة التابعين جماعة ثم يرويه عن التابعين‬
‫من أتباع التابعين وهكذا إلى نهاية السند ‪ .‬هذه الجماعة من كل طبقة ال يتصور اتفاقهم على الكذب ‪.‬‬
‫والسنة المتواترة كثيرة الوجود في السنن العملية كاألحاديث المرويـة عن الرسول ﷺ في كيفية‬
‫الوضوء والصالة والحج وغيرها من شعائر الدين التي اطلع عليها جمهور المسلمين ونقلها عنه جمع‬
‫يمتنع تواطؤهم على الكذب عادة ‪.‬‬
‫حـكـم ال�سنـة المتـواتـرة ‪:‬‬
‫إنها ثابته عن الرسول ﷺ قطع ًا فيجب العمل بها ويكفر جاحدها ‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ ـ ال�سنة الم�شهورة ‪:‬‬


‫المشهور في اإلصطالح هو ما رواه ثالثـة أو أكثر من كل طبقـة من طبقاتـه بحيث ال يبلغ حـد‬
‫التـواتـر‪.‬‬
‫والسنة المشهورة هي المستفيضة عند المحدثين وجماعـة من الفقهاء واألصوليين فهما لفظان‬
‫مترادفان على معنى واحد وسميت مرة مشهورة لوضوحها وسميت مرة أخرى مستفيضة النتشارها في‬
‫الناس من فاض الماء يفيض إذا كثر‪ .‬ويلزم من ذلك االنتشار والشيوع أي الظهور وينقسم المشهور في‬
‫السنة من حيث القول إلى (صحيح ـ وحسن ـ وضعيف)‪.‬‬
‫حـكـم ال�سنـة الم�شهـورة ‪:‬‬
‫أنـها تفيد الطمأنينة وقـد تفيد القطع بالقرائن‪ ،‬ولهذا جـاز بـها تقييد المطلق وتخصيص العام من‬
‫الكتاب الكريم ‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ �سـنــة الآحـ ــاد ‪:‬‬
‫مـا رواها عن الرسول ﷺ عدد ال يبلغ حد التواتر من الصحابة‪ ،‬ثم رواها عن هذا العدد ٌ‬
‫عدد ال يبلغ‬
‫حد التواتر من التابعين‪ ،‬ثم نقلها عن هؤالء عدد ال يبلغ حد التواتر من تابعي التابعين‪ ،‬ومعظم السنة‬
‫من هذا النـوع ‪.‬‬
‫حكـم �سـنـة الآحــاد ‪:‬‬
‫أنها تفيد الظن أي الظن الراجح وقد تفيد القطع بالقرائن ويجب العمل بها بجميع ما صح منها‬
‫في مسائل الدين كلها االعتقادية والعملية‪ ،‬والظن الراجح معتبر في الشرع‪ ،‬ورجحان الظن كاف في‬
‫وجوب العمل‪ ،‬لهذا يقضي بشهادة الشاهد وهي إنما تفيد رجحان الظن بالمشهود به‪ ،‬وتصح الصالة‬
‫بالتحري في استقبال القبلة ‪.‬‬

‫الدليل الثـالـث ‪ :‬الإجمـــاع‬

‫تعـريـفـه ‪:‬‬
‫يطلق اإلجماع في اللغة على معنيين ‪ :‬األول العزم والتصميم ‪ ،‬والثاني االتفاق‪ ،‬فيقال أجمع القوم‬
‫على هذا األمر إذا اتفقوا عليه ‪.‬‬
‫وعند علماء األصول هـو ‪ :‬اتفاق المجتهدين من أمـة محمد ﷺ بعد وفاته في عصر من العصور‬
‫على حكم شرعي في واقـعـة من الوقـائـع ‪.‬‬

‫�أركــــــــان الإجمــــــاع ‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ ـ ـ الركن الأول ‪ :‬وجود عدد من المجتهدين في العصر الذي وقعت فيه المسألـة المراد معرفة‬
‫حكمـها الشرعي ‪.‬‬
‫فلـو خال عصر وقوع المسألـة من عدد من المجتهدين بحيث وجد مجتهد واحد فقط أو لم‬
‫يوجـد أحد أص ً‬
‫ال ال ينعقد اإلجماع ‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ الركن الثاني ‪ :‬أن يكون االتفاق على الحكم الشرعي صادر ًا من جميع المجتهدين في العصر‬
‫الذي وقعت فيه المسألـة‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ ـ الركن الثالث ‪ :‬أن يكون االتفاق من جميع المجتهدين في عصر وقوع المسألة بإبداء كل واحد‬
‫منهم رأيه صريح ًا في الواقعة المراد معرفة حكمها الشرعي سواء كان إبداؤه بطريق القول أو‬
‫بطريق الفعل ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ ـ الركن الرابع ‪ :‬أن يكون االتفاق من جميع المجتهدين في عصر وقوع المسألة على حكم‬
‫شرعي كالحل والحرمة والصحة والفساد وغير ذلك ‪.‬‬

‫�أنــــــــــواع الإجمــــــاع ‪:‬‬

‫تنحصر أنواع اإلجماع في نوعين وهما ‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ ـ النوع الأول ‪ :‬اإلجماع الصريح ‪ -‬وهو اتفاق آراء المجتهدين جميع ًا في زمن من األزمان على‬
‫حكم معين في مسألة من المسائل المراد معرفة حكم الشارع فيها ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ النوع الثاني ‪ :‬اإلجماع السكوتي وهو أن يتفق بعض المجتهدين على قول أو فعل في مسألة‬
‫من المسائل ويسمع الباقون من المجتهدين بذلك فيسكتون وال يردون عليهم وال يظهر منهم‬
‫ما يدل على االعتراف وال على اإلنكار صراحة ‪.‬‬

‫حجــيـــة الإجمــــــاع ‪:‬‬

‫إذا تحقق اإلجماع على حكم مسألة من المسائل‪ ،‬وعلم ذلك اإلجماع صار الحكم الذي أجمعوا‬
‫عليه ثابت ًا قطع ًا وال تجوز مخالفته وخرجت المسألة التي اتفقوا على حكمها عن أن تكون مح ً‬
‫ال لالجتهاد‬
‫والنزاع بعد ذلك اإلجماع‪ .‬واألدلة على حجية اإلجماع كثيرة نذكر منها ما يأتي ‪:‬‬
‫ً‬
‫أوال ‪ :‬قـول اللـه تعـالـى ‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة النساء اآليـة ‪.)115 :‬‬

‫‪96‬‬
‫ووجه الداللة على حجية اإلجماع يتمثل في أن الله تعالى توعد من اتبع غير سبيل المؤمنين‬
‫بدخول جنهم‪ ،‬وسوء المصير‪ ،‬فكان ذلك دلي ً‬
‫ال على أن سبيل غير المؤمنين باطل‪،‬وأن سبيل المؤمنين‬
‫حق‪ ،‬وما اتفق عليه أهل االجتهاد من المؤمنين هو سبيل المؤمنين فيكون هو الحق الذي يجب اتباعه‪،‬‬
‫وال تجوز مخالفته ‪.‬‬
‫ثـانـيـ ًا ‪ :‬قول الرسول ﷺ ‪« :‬ال تجتمع أمتي على خطأ» وقولـه ‪« :‬لم يكن الله ليجمع أمتي على‬
‫الضاللة»‪ ،‬ووجـه الداللة من الحديثين الشريفين هو داللتها على عصمة األمة من الخطأ‪ ،‬وذلك ألن‬
‫اتفاق جميع هؤالء المجتهدين على حكم واحد في الواقعة مع اختالف أنظارهم وبيئتهم المحيطة بهم‬
‫وتحقق عدة أسباب الختالفهم دليل على أن وحدة الحق والصواب هي التي جمعت كلمتهم ومنعت‬
‫وقوع االختالف بينهم وأصبح الحكم الذي اتفقت عليه آراء جميع المجتهدين من أمة محمد ﷺ هو‬
‫في الحقيقة حكم األمة ممثلة في مجتهديها الذين أجمعوا على هذا الحكم‪.‬‬

‫�إمـكـــان انعـقـــاد الإجـمــــــاع ‪:‬‬

‫ذهبت طائفة من العلماء إلى أن اإلجماع ال يمكن انعقاده‪ ،‬لتعذر تحقق أركان اإلجماع‪ ،‬لعدم وجود‬
‫معيار حقيقي به يتعرف على الشخص ويحكم عليه بأنه وصل إلى مرتبة االجتهاد أو لم يصل إليها‪ ،‬فمعرفة‬
‫المجتهد من غيره متعذرة‪ ،‬ومع فرض وجود مجتهدين وتيسر معرفتهم فالوقوف على أرائهم جميع ًا في‬
‫مسألة من المسائل بطريق يفيد اليقين أمر متعذر لتفرقهم بتفرق بالدهم في قارات متباعدة األمر الذي‬
‫يتعذر معه تحقيق اإلجماع‪ ،‬فمن أجل ذلك حكم بعدم إمكانية انعقاد اإلجماع ‪.‬‬
‫وذهب جمهور العلماء إلى القول بأن اإلجماع يمكن انعقاده عادة‪ ،‬وما ذكره منكروا انعقاد اإلجماع‬
‫مجرد تشكيك في أمر واقع بالفعل‪ ،‬وذكروا أمثله لما ثبت انعقاد اإلجماع عليه كخالفة أبي بكر‪ ،‬وقتال‬
‫مانعي الزكاة‪ ،‬وتحريم شحم الخنزير‪ ،‬وغير ذلك من أحكام جزئية وكلية انعقد اإلجماع على إثباتها ‪.‬‬
‫والذي نراه راجح ًا هو أن اإلجماع يمكن انعقاده وذلك بحيث تخصص جهات معينة يتعرف من خاللهم‬
‫على أن الشخص بلغ مرتبة االجتهاد أو ًال‪ ،‬ويمكنها أيض ًا التعرف على آراء المجتهدين وتكثيف االتصاالت بين‬
‫مجتهدي كل بلد‪ ،‬وبهذا يمكن انعقاد اإلجماع‪ ،‬ويكون الحكم المجمع عليه حكم ًا شرعي ًا واجب االتباع ‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫الدليل الـــرابــع ‪ :‬القــيــــــا�س‬

‫تعـريـف القـيــا�س ‪:‬‬


‫يطلق القياس في اللغة على تقدير شيء بشيء آخر‪ ،‬يقال ‪ :‬قاس القماش بالمتر‪ ،‬إذا قدره به‪ ،‬ويطلق‬
‫على التسوية بين الشيئين‪ ،‬حسية كانت التسوية مثل‪ :‬قاس كذا على كذا‪ ،‬إذا حاذاه وسواه به‪ ،‬أو معنوية‬
‫مثل فالن ال يقاس بفالن يعني ال يساوى به في اإليمان والتقوى ‪.‬‬

‫وفي اصطالح علماء األصول يعرف بأنه ‪ :‬إلحاق أمر لم ينص على حكمه فـي الكتاب أو السنة أو‬
‫اإلجماع بأمر نص على حكمه في أحدهما الشتراكهما في علة الحكم ‪.‬‬

‫وإذا أردنا بيان هذا التعريف نقول ‪ :‬إنه إذا دل الكتاب « القرآن الكريم» أو السنة أو اإلجماع على‬
‫حكم وعرف المجتهد علة تشريع هذا الحكم عن طريق من طرق معرفة علل األحكام‪ ،‬ثم طرحت‬
‫عليه مسألة لم ينص على حكمها في واحد من األدلة الثالثة‪ ،‬ولكن توجد فيها العلة التي وجدت في‬
‫المنصوص عليه فإنه والحالة هذه يجمع بينهما في العلة وعندئذ يلحق ما لم يرد فيه نص بما ورد فيه‬
‫نص ويسوى بينهما في الحكم‪ ،‬فهذا اإللحاق يسمى قياس ًا في اصطالح األصوليين‪ ،‬وما ورد النص‬
‫بحكمه يسمى عندهم باألصل أو المقيس عليه‪ ،‬وما لم يرد النص بحكمه يسمى بالفرع أو المقيس‪،‬‬
‫والمعنى الذي ألجله شرع الحكم في المنصوص عليه يسمى بالعلة ‪.‬‬

‫‪﴿:‬‬ ‫تعالى‬ ‫قال‬ ‫‪:‬‬ ‫ذلك‬ ‫مثال‬

‫﴾ (سورة المائدة اآليـة ‪.)90 :‬‬

‫فهذه اآلية الكريمة دلت على حكم الخمر وهو التحريم لعلة وهي اإلسكار‪ ،‬فكل شيء ماثل الخمر‬
‫في العلة وهي اإلسكار يسوى بالخمر ويلحق بها في الحكم وهو التحريم سواء كان هذا الشيء مشروب ًا‬
‫كالخمر أو غير مشروب‪ .‬المهم وجود العلـة فيـه ‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫�أركـــــان القــيـــــــــا�س ‪:‬‬

‫المقصود بأركـان الشيء أجـزاؤه التي ال يتحقق بدونها‪ ،‬والقياس كذلك البد لتحققـه من أركان‬
‫وهذه األركـان أربعــة وهـي ‪:‬‬
‫‪ :‬وهو ما ثبت الحكم فيه بالنص (‪ )1‬أو اإلجماع ‪.‬‬ ‫‪ 1‬ـ األصـل‬
‫‪ :‬وهو ما لم يرد بحكمه نص وال إجماع ‪.‬‬ ‫‪ 2‬ـ الفـــرع‬
‫‪ 3‬ـ حكم األصل ‪ :‬وهو الحكم الشرعي الثابت لألصل‪ ،‬ويراد إثباته للفرع بطريق القياس ‪.‬‬
‫‪ :‬وهي المعنى الذي ألجله شرع الحكم في األصل ‪.‬‬ ‫‪ 4‬ـ العلـــة‬
‫أما الحكم الذي ثبت في الفرع بطريق القيـاس فـال يعد ركنـ ًا من أركـان القياس وإنما هو نتيجـة‬
‫القيـاس وثمرتـه ‪.‬‬

‫�شــــــروط القــيـــــــــا�س ‪:‬‬

‫كما أن للقياس أركانـ ًا فلـه أيض ًا شروط ال يصح إال بتحققها‪ ،‬وهذه الشروط في الحقيقة ألركان‬
‫القيـاس‪ ،‬وفيما يلي بيان تلـك الشروط ‪:‬‬

‫�أو ًال ‪� :‬شروط الأ�صل والفرع ‪:‬‬


‫ال يشترط فيهما شروط سوى أن األصل البد وأن يكون قد ثبت حكمه بنص‪ ،‬والفرع يشترط فيه‬
‫أن يكون مساوي ًا لألصل في علة الحكم وأال يكون فيه نص أو إجماع يدل على حكم مخالف للقياس‪،‬‬
‫ألن القياس حينئذ يكون مصادم ًا للنص أو اإلجماع ومعارض ًا له والقياس المعارض للنص أو اإلجماع‬
‫ال يكون صحيح ًا ‪.‬‬

‫(‪ )1‬أي النص من الكتاب أو السنـة ‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫ثانياً ‪� :‬شروط حكم الأ�صل ‪:‬‬
‫يشترط في حكم األصل ما يأتـي ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن يكون حكم األصل حكم ًا شرعي ًا عملي ًا ثابت ًا بالنص ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن يكون للحكم علة يستطيع العقل إدراكها‪ ،‬ألن القياس يقوم على وجود علة لحكم األصل‪،‬‬
‫وإدراك العقل لها‪ ،‬كي يمكن أن ينقل الحكم إلى الفرع الذي يشترك مع األصل في هذه العلة‪،‬‬
‫فإذا لم يكن للعقل سبيل إلى إدراك العلة التي ألجلها شرع حكم األصل امتنع القياس‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أال يكون حكم األصل مختص ًا به‪ ،‬ألن االختصاص ال يثبت إال بدليل شرعي يدل عليه‪ ،‬فإذا‬
‫دل الدليل على االختصاص‪ ،‬كان إثبات الحكم للفرع بالقياس مخالف ًا لذلك الدليل‪ ،‬والقياس‬
‫المخالف للدليل الشرعي باطل ‪.‬‬

‫ثالثاً ‪� :‬شروط العلـة ‪:‬‬


‫يشترط في العلة عدة شروط وهـي ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن تكـون العلـة ظاهرة جليـة‪ ،‬بحيث يمكن التحقـق من وجودها وعدم وجودها‪ ،‬ألن العلـة‬
‫عالمة على الحكم‪ ،‬كما أنها معرفـة لـه‪ ،‬فإذا لم تكن ظاهرة لم تصلح أن تكون عالمـة للحكم‬
‫ومعرفـة لـه ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن تكون العلة منضبطـة‪ ،‬أي أن تكون لها حقيقـة معينـة ال تختلف اختالف ًا واضح ًا باختالف‬
‫األفـراد واألحوال‪ ،‬ألن القياس مبني على التساوي بين األصل والفـرع في علـة الحكم‪ ،‬فإذا‬
‫كانت العلـة من األمور التي تختلف باختالف األفراد واألحوال لم يتحقق التساوي الذي يبنى‬
‫عليـه القياس‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن تكون العلة وصف ًا مناسب ًا للحكم أي مناسبة ألن يترتب على تشريع الحكم عنده تحصيل‬
‫منفعـة للعباد أو دفع مفسـدة عنهم مثل اإلسكار بالنسبة لتحريم الخمر‪ ،‬فإنه مناسب للحكم‪،‬‬
‫حيث يحصل من ترتيب الحكم عليـه‪ ،‬وهو الحرمـة ‪ :‬تحصيل منفعة للعباد وهي المحافظة‬
‫على عقولـهم‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫‪ 4‬ـ أال تكون العلة وصف ًا قاصر ًا على األصل‪ ،‬ومعنى هذا أن يكون الوصف الذي علل به حكم‬
‫األصل مما يمكن وجوده في غيره من األفراد والمحال أما إذا كان الوصف الذي علل به حكم‬
‫األصل قاصر ًا عليه وال يوجد في غيره‪ ،‬فال يتحقق القياس ألن القياس البد فيه من اشتراك‬
‫األصل والفرع في علة الحكم‪ ،‬فإذا كانت علة الحكم قاصرة على األصل وال توجد في غيره‪،‬‬
‫لم يتحقق القياس النعدام العلة في الفرع ‪.‬‬
‫مثل إباحة الفطر في رمضان للمسافر والمريض‪ ،‬فعلة اإلباحة لذلك هي السفر والمرض‪ ،‬وكل‬
‫منهما وصف قاصر على األصل ال يتعداه إلى غيره ألن السفر ال يوجد إال في مسافر والمرض‬
‫ال يكون إال في مريض‪ ،‬فال يقاس على ذلك صاحب الصنعة الشاقة النعدام علة الحكم فيه ‪.‬‬

‫حجـيــــة القــيـــــــــا�س ‪:‬‬

‫انقسم العلماء حول حجية القياس إلى فريقين ‪:‬‬


‫الفـريـق الأول ‪ :‬يقول إن القياس أصل من أصـول التشريع وحجـة على األحكام الشرعيـة العملية‬
‫وهـذا الفريق هو جمهور العلمـاء ‪.‬‬
‫الفريق الثاني ‪ :‬يقـول بعدم حجيـة القياس فال يصلـح أن يكون دلي ً‬
‫ال يرجع إلـيـه في استـنباط‬
‫األحكـام الشرعيـة ‪.‬‬
‫ولكن فريق أدلته التي استدل بها على ما يقول نذكر منها ما يأتـي ‪:‬‬

‫�أدل ــة الجـمـهـور ‪:‬‬


‫استدل الجمهور بأدلة من الكتاب والسنة‪ ،‬فمن الكتاب ‪:‬‬
‫﴾ (سورة الحشر اآليـة ‪ . )2 :‬ووجـه الداللة من اآليـة الكريمة‬ ‫‪ 1‬ـ قولـه تعالى ‪﴿ :‬‬
‫على حجية القياس يتمثل في أمر الله تعالى باالعتبار واالعتبار معناه االنتقال من الشيء إلى‬
‫غيره‪ ،‬والقياس ال يخرج عن ذلك‪ ،‬ألن فيه نقل الحكم من المقيس عليه إلى المقيس فاالعتبار‬
‫ال على حجيـة القياس ‪.‬‬ ‫شامل للقياس‪ ،‬وبذلك تكون اآليـة الكريمة دلي ً‬

‫‪101‬‬
‫ال من‬‫‪ 2‬ـ ومن السنة ما ثبت عن النبي ﷺ أنـه استخدم القياس في كثير من المسائل منها ‪ :‬أن رج ً‬
‫خثعم جاء إلى رسول الله ﷺ فقال ‪ :‬إن أبي أدركه اإلسالم‪ ،‬وهو شيخ كبير ال يستطيع ركوب‬
‫الرحل‪ ،‬والحج مكتوب عليه‪ ،‬أفأحج عنه؟ قال ﷺ ‪ :‬أنت أكبر ولده؟ قال ‪ :‬نعم‪ ،‬قال ﷺ ‪:‬‬
‫أرأيت لو كان على أبيك دين‪ ،‬فقضيته أكان يجزئ ذلك عنه؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ﷺ ‪ :‬فحج عنه ‪.‬‬

‫فهذا بيان من الرسول ﷺ للحكم بطريق القياس‪( ،‬وهو) قياس دين الله تعالى الحج على دين‬
‫الخلق في صحة القضاء‪ ،‬وتجزيئه عن الغير‪ ،‬وهذا دليل على حجية القياس ألنه لو لم يكن حجة لما‬
‫استخدمه الرسول ﷺ‪ ،‬ولكنه استخدمه فدل هذا على أنه دليل وحجة يرجع إليه في استنباط األحكام‬
‫الشرعـيـة‪.‬‬

‫�أدلة الفريق الثاني والــرد عليهـا ‪:‬‬


‫﴾ (سورة المائدة اآليـة ‪ .)49 :‬فهذه اآلية الكريمة دليل على‬ ‫‪ 1‬ـ قال تعالى ‪﴿ :‬‬
‫عدم حجية القياس‪ ،‬ألن الحكم بالقياس حكم بغير ما أنزل الله‪ ،‬واآلية أمرت بالحكم بما أنزل‬
‫ال على أن القياس ليس حجة‪ .‬ويرد على هذا القول في توجيه اآلية‪ ،‬بأن‬‫الله‪ ،‬لذا كانت اآلية دلي ً‬
‫الحكم بالقياس حكم بالمنزل فالحكم بالقياس ليس حكم ًا بغير ما أنزل الله‪ ،‬بل هو حكم بما‬
‫ال على حجية القياس‪ ،‬ويصبح الدليل بذلك مردود على الفريق الثاني‬ ‫أنزل الله فتكون اآلية دلي ً‬
‫وال ينهض إلثبات ما قالـه ‪.‬‬

‫﴾ (سورة يونس اآليـة ‪ .)36 :‬ووجه‬ ‫‪ 2‬ـ قال تعالى ‪﴿ :‬‬


‫االستدالل هو ‪ :‬أن القياس ظن من الظنون‪ ،‬ألن مبناه على الظن‪ ،‬بأن العلة التي ألجلها شرع‬
‫الحكم في المنصوص عليه هي كذا‪ ،‬والظن منهي عن اتباعـه بمقتضى هذه اآليـة‪ ،‬فالقياس‬
‫منهي عن اتباعـه فال يفيد في إثبات األحكام‪ ،‬وإذا كان كذلك فال يصلح أن يكون حجة ‪.‬‬

‫ويجاب عن هذا بأن الظن المنهي عن اتباعه في الكتاب هو الظن المذموم والمرجوح‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫أما األحكـام العمليـة الشرعيـة فالظن فيها يكفي باالتفاق بين العلماء‪ ،‬وال أدل على ذلك من أننا‬
‫مكلفون بالعمل بخبر الواحد‪ ،‬وهو يفيد الظن الراجح‪ ،‬وعليه فالقياس ليس منهي ًا عنه‪ ،‬فيكون‬
‫حجة ويصلـح ألن يرجـع إليه في استنباط األحكام الشرعيـة‪ ،‬وبذلك يكون الدليل الثاني أيض ًا‬
‫مردود كالدليل األول‪.‬‬

‫ولو نظرنا في أدلة كل فريق تبين لنا بجالء ووضوح رجحان مذهب الجمهور القائل بحجية‬
‫القياس وذلك لسالمة أدلتهم من المناقشات والردود األمر الذي جعلها صالحة إلثبات رأيهم‬
‫بخالف أدلة الفريق الثاني فهي لم تسلم من الردود والمناقشات األمر الذي نال من قوتها‬
‫وجعلها غير صالحة إلثبات رأيهم في حجية القياس‪.‬‬

‫* وبعد االنتهاء من الحديث عن األدلة التي أتفق على أنها حجة يستدل بها على األحكام‬
‫الشرعية‪ ،‬ننتقل إلى الحديث عن بعض األدلة المختلف في حجيتها‪ .‬وفي الصفحات التالية‬
‫إيضاح لذلك إيضاح بإيجاز مفيد ‪.‬‬

‫الدليل الخـامـ�س ‪ :‬اال�ستح�ســان‬

‫تعـريـفـه ‪:‬‬
‫االستحسان في اللغة عد الشيء حسن ًا ‪ .‬وعند علماء األصول ‪ :‬هو « عدول المجتهد عن قياس جلي‬
‫إلى قياس خفي أو عن حكم كلي إلى حكم استثنائي لدليل أنقدح في عقله رجح إليه هذا العدول»‪.‬‬
‫فإذا عرضت مسألة ال نص فيها وال إجماع واختلف النظر فيها إلى وجهتين مختلفتين إحداهما‬
‫ظاهرة تقتضي حكم ًا واألخرى خفية تقتضي حكم ًا آخر‪ ،‬ولكن قام بنفس المجتهد دليل رجح وجهة‬
‫النظر الخفية فعدل عن الوجهة الظاهرة إلى الخفية‪ ،‬فهذا العدول هو االستحسان ‪ -‬وكذلك إذا كان‬
‫الحكم كلي ًا قام بنفس المجتهد دليل يقتضي استثناء جزئية من هذا الحكم الكلي والحكم عليها بحكم‬
‫آخر‪ ،‬فهذا أيض ًا يسمى شرع ًا استحسان ًا ‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫حجـيــــة اال�ستحـ�ســـان ‪:‬‬

‫اختلف العلماء في حجية االستحسان على مذهبين ‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ ـ المذهب الأول ‪ :‬يرى أصحابه أن االستحسان حجة وهذا المذهب ذهب إليه الحنفية والمالكية‪،‬‬
‫أما الحنابلة فالصحيح أنهم من القائلين بحجية االستحسان ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ـ المذهب الثاني ‪ :‬يرى أصحابه نفي حجية االستحسان ويمثل هذا المذهب الظاهرية والشيعة‪.‬‬

‫الأدلــــــــــــــــة ‪:‬‬

‫�أو ًال ‪� :‬أدلة المذهب الأول ‪:‬‬


‫﴾ (سورة الزمر اآليـة ‪.)55 :‬‬ ‫‪ 1‬ـ قال تعالى ‪﴿ :‬‬
‫ووجه الداللـة ‪ :‬أن النص الكريم احتوى على فعل األمر الذي يدل على الطلب‪ ،‬بإتباع البعض وترك البعض‬
‫لمجرد كونه أحسن‪ ،‬وهذا هو معنى االستحسان‪ .‬فدل ذلك على وجوب العمل به وهو المطلوب‪.‬‬

‫﴾ (سورة الزمر اآليـة ‪.)18 – 17( :‬‬ ‫‪ 2‬ـ قـال تعالى ‪﴿ :‬‬
‫ووجه الداللـة ‪ :‬يتمثل في أن اآلية الكريمة ذكرت في مقام المدح والثناء على المتبعين ألحسن‬
‫القول‪ ،‬والمدح على الفعل إن كان مع العقاب على الترك‪ ،‬كان واجب الفعل‪ ،‬وإن كان مع عدم‬
‫العقاب على الترك كان مندوب ًا هكذا قال علماء األصول ‪.‬‬
‫فقد دار العمل باالستحسان بين الوجوب والندب‪ ،‬ويقوي جانب الوجوب اآلية األولى فيكون‬
‫العمل باالستحسان واجب ًا وهذا ما ندعيه ‪.‬‬

‫ثانياً ‪� :‬أدلـة المذهب الثانـي ‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ أن الشارع الحكيم لـم يترك أمـر ًا مـن أمور الدنيـا سـدى من غيـر تبيـان لحكمـه قـال تعـالـى ‪:‬‬
‫﴾ (سورة القيامة اآليـة ‪ .)36 :‬فقد بين األحكام في القرآن أو السنة وما لم يبينه‬ ‫﴿‬

‫‪104‬‬
‫فيهما ترك األمـر فيه إلى استنتاج الحكم من القياس عليهما‪ ،‬قـال تعالـى ‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة النساء اآليـة ‪ ،)59 :‬فـإن كان االستحسان من الكتاب أو السنـة فال‬
‫داعي لذكـره‪ ،‬وإن كان خارج ًا عنهما فالواجب طرحه وعـدم االلتفات إليـه‪ ،‬وإال كـان مناقض ًا‬
‫لآليـة الكريمة ‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ تأمر اآليـة القرآنية بطاعة الله وطاعة رسولـه ﷺ‪ ،‬وتنهى عن اتباع الهوى‪ .‬وتأمر المؤمنين عند‬
‫التنازع في شيء أن يـردوه إلى اللـه والرسول‪ ،‬قـال تعالى ‪﴿ :‬‬

‫﴾ (سورة النساء اآليـة ‪.)59 :‬‬


‫فهذه اآليـة تدل أيض ًا على عدم حجية االستحسان حيث بينت المنهج الذي يجب اتباعه عند‬
‫استنباط األحكام دون ذكر لالستحسان ‪.‬‬
‫ومن خالل النظر يمكننا أن نقول ‪ :‬أن الفريقين المختلفين في حجية االستحسان إنما اختلفوا في‬
‫الحجية‪ ،‬ألنهم لم يتفقوا على معناه‪ ،‬فمن أكره ‪ :‬أراد أنه تشريع بالهوى والتشهي‪ ،‬ومن اعتبره ‪ :‬أراد أنـه‬
‫مجرد عدول عن دليل ظاهر أو عن حكم كلي لدليل اقتضى هذا العدول‪ ،‬واالستحسان بهذا المعنى‬
‫األخير ال يمكن ألحد أن ينكر حجيته‪ ،‬فهو بهذا المعنى حجة عند الكل وما نقل عن اإلمام الشافعي‬
‫من أنه قال ‪« :‬من استحسن فقد شرع» فمعناه من استحسن بالهوى فقد شرع أو من استحسن فقد صار‬
‫شرع فمقصوده مدح المستحسن ‪.‬‬
‫بمنزلة من ّ‬
‫أما إذا كان االستحسان مبني على الهوى والتشهي فالكل ينكره وال يقر أنـه حجـة ‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫الدليل ال�ساد�س ‪ :‬الم�صــالــح المــر�سـلــة (‪: )1‬‬

‫تعريـفـهـا ‪:‬‬
‫هي المصالح التي لم يقم دليل من الشرع على اعتبارها أو إلغائها‪ ،‬وسميت مرسلة ألنها لم تقيد‬
‫بدليل اعتبار أو دليل إلغاء‪ ،‬وأمثلة المصالح المرسلة أكثر من أن تحصى‪ ،‬فمنها إنشاء الدواوين لرعاية‬
‫مصالح األمة‪ ،‬وضرب النقود وتوثيق الزواج وكتابة المصحف‪ ،‬كل ذلك لمصالح تترتب عليها‪ ،‬ولم‬
‫يوجد عن الشارع نص باعتبارها أو إلغائها ‪.‬‬

‫حجـيــــة الم�صـالـح المر�سلـة ‪:‬‬

‫اختلف األصوليون في اعتبار المصالح المرسلة أدلة تثبت بها األحكام الشرعية على ثالثـة أقوال ‪:‬‬
‫الأول ‪ :‬أنها ليست بحجـة مطلقـ ًا ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬أنها حجـة مطلقـ ًا ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬أنها حجة إذا كانت المصالح التي تترتب عليها ضروريـة قطعيـة كليـة‪ ،‬وليست بحجة إن‬
‫فقد واحد من هذه األمور الثالثـة ‪.‬‬
‫وقد اشترط القائلون بحجية المصالح المرسلة عدة شروط البد من توافرها في تلك وهي ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ أن تكون مصلحة حقيقية وليست مصلحة وهمية ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن تكون مصلحة عامة وليست مصلحة شخصية ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن ال يعارض التشريع لهذه المصلحة حكم ًا أو مبدأ ثبت بالنص أو اإلجماع ‪.‬‬
‫واسـتدل القائلون بأنها حجـة بدليلين ‪:‬‬
‫الأول ‪ :‬أن مصالح الناس تتجدد بتجدد الزمان والمكان والناس‪ ،‬فهي ال تنتهي‪ .‬فلو لم تشرع‬
‫واقتصر التشريع على المصالح التي اعتبرها الشارع فقط‪ ،‬لترتب على ذلك تعطيل الكثير‬

‫(‪ )1‬المراد بكلمة المصالح أي األوصاف المناسبة لما يراد تشريعه من أحكام ومعنى المرسلة أي المطلقة عن دليل اعتبار أو إلغاء‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫من مصالح الناس في مختلف األزمنة واألمكنة‪ ،‬ووقف التشريع عن مسايره ومواكبة‬
‫حياة الناس ومصالحهم وهذا ال يتفق وما قصد بالتشريع من تحقيق مصالح الناس ‪.‬‬

‫الثاني ‪ :‬أن من تتبع فقه الصحابة والتابعين واألئمة المجتهدين يظهر له بوضوح أنهم أفتوا بأحكام‬
‫كثيرة تهدف إلى تحقيق مطلق المصلحة‪ ،‬ال لوجود شاهد من الشرع باالعتبار‪ ،‬واألمثلة‬
‫على ذلك كثيرة منها جمع أبي بكر للصحف والرقاع واأللواح التي دون فيها القرآن‬
‫الكريم ومحاربته لمانعي الزكاة‪ ،‬ومنها منع عمر سهم المؤلفة قلوبهم من الصدقات‪،‬‬
‫وغير ذلك مما يدل على إعمالهم لتلك المصالح وتشريعهم األحكام بناء عليها وهذا‬
‫دليل على أنها حجة ‪.‬‬
‫وأظهر المنكرون لحجيتها عدة شبه لدعم قولهم إال أنها نوقشت من قبل القائلين بحجية‬
‫المصالح المرسلة وأسفرت عن ردها وعدم اعتبارها األمر الذي من أجله رجح القول‬
‫بحجية المصالح المرسلة‪.‬‬

‫الدليل ال�سابع ‪ :‬العـــــــــــرف ‪:‬‬

‫العـرف ‪ :‬هو ما تعارفـه الناس واستقروا عليه من قول أو فعل‪ ،‬مثل تعارفهم على أنهم ال يطلقون‬
‫على السمك لحم ًا ‪.‬‬
‫وتعارفهم على أن الصداق بعضـه مقدم‪ ،‬والبعض اآلخـر مؤجل‪ ،‬فإذا اضطرب العرف ولم يستقروا‬
‫عليـه فال اعتبـار لـه ‪.‬‬

‫�أنــــــــواع العــــــــــرف ‪:‬‬

‫العـرف نـوعـان ‪:‬‬


‫الأول ‪ :‬عـرف �صحيح ‪.‬‬
‫الثاني ‪ :‬عـرف فــا�سـ ــد ‪.‬‬
‫‪107‬‬
‫فالعرف الصحـيـح ‪ :‬هـو ما تعارفـه الناس‪ ،‬وال يخالف دلي ً‬
‫ال شرع ًا وال يحل محرم ًا ‪ -‬وال يبطل‬
‫واجب ًا ‪ -‬مثل عقد االستصناع‪ ،‬فقد أجازه جمهور الفقهاء لجريان العرف الصحيح بـه‪ ،‬مع أنه مخالف‬
‫لما تقتضي به القواعد العامة التي ال تجيز بيع المعدوم‪ ،‬لكنه أجيز لما فيه من مصلحة تعارف الناس‬
‫عليها‪ ،‬ومثل تعارفهم على تقسيم المهر إلى مقـدم ومؤخـر ‪.‬‬

‫أما العـرف الفاسـد ‪ :‬فهو ما تعارفه الناس لكنـه يخالف الشرع أو يحل المحرم أو يبطل الواجب‪،‬‬
‫كتعارف الناس كثير ًا من المنكرات في الموالد والمآتم وتعارفهم أكل الربا‪ ،‬وعقود المقامرة‪ ،‬فكل‬
‫ذلك عرف فاسد ال يعتد بـه وال اعتبار لـه شرع ًا ‪.‬‬

‫حجــيـــة العـــــــــرف ‪:‬‬

‫ال نزاع بين العلماء في أن العرف إذا كان مخالف ًا ألدلة الشرع وأحكامه الثابتة التي ال تتغير باختالف‬
‫البيئات والعادات ال يلتفت إليه وال يعتد به بل يجب إلغاؤه فور ًا‪ ،‬كتعارف الناس شرب الخمر ولعب‬
‫الميسر‪ ،‬والتعامل بالربا‪ ،‬وغير ذلك من األعراف الفاسدة التي حرمتها الشريعة اإلسالمية لما يترتب‬
‫عليها من المفاسد الدينية واالجتماعية ‪.‬‬

‫أما إذا كان العرف ال يخالف دلي ً‬


‫ال من األدلة الشرعية فإنه يجب االعتداد به في االستنباط وتشريع‬
‫األحكام‪ ،‬مثل تعارف الناس كثير ًا من العادات التجارية والخطط السياسية واألنظمة القضائية‬
‫واالجتماعية التي تتطلبها حاجاتهم وتستدعيها مصالحهم‪ ،‬ألن المقصود من التشريع إصالح حال‬
‫الناس وإقامة العدل بينهم ورفع الحرج والضيق عنهم‪ ،‬فإذا لم يراع في تشريع األحكام ما اعتاده الناس‪،‬‬
‫وما عرفه أهل العقول الرشيدة والطباع السليمة وقع الناس في الضيق والحرج‪ ،‬وصارت الشريعة بعيدة‬
‫عن الغرض الذي بنيت عليه ‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫الدليل الثامـن ‪ :‬اال�ست�صحــاب ‪:‬‬

‫اال�ست�صحـاب ‪ :‬هو جعل الحكم الثابت في الماضي باقي ًا إلى الحال لعدم العلم بالمغير ‪.‬‬
‫مثال ذلـك ‪ :‬الملـك الذي ثبت بعقد البيع في الماضي‪ ،‬فإنـه يبقى فـي الحـال إلى أن يقـوم دليل‬
‫على تغيـيـره‪.‬‬
‫وكذلك الطهارة في الماضي فإنها تبقى في الحال إلى أن يقوم دليل على زوالها ‪.‬‬

‫حجــيـــتــه ‪:‬‬

‫اختلف العلماء في حجة االستصحاب واعتباره دلي ً‬


‫ال على ثالثـة أقـوال ‪:‬‬

‫القــول الأول ‪ :‬أن االستصحاب دليل في اإلثبات والنفي ‪.‬‬


‫ال في اإلثبات وال دلي ً‬
‫ال في النفي ‪.‬‬ ‫القول الثاني ‪ :‬أنـه ال يعتبر دلي ً‬
‫ال في اإلثبات ويعتبر دلي ً‬
‫ال في النفي ‪.‬‬ ‫القول الثالث ‪ :‬أنـه ال يعتبر دلي ً‬

‫ال مستق ً‬
‫ال وإنما‬ ‫وتجاه هذه األقوال الثالثة يمكن القول بأن الحقيقة هي أن االستصحاب ليس دلي ً‬
‫هو إبقاء لداللة الدليل الدال على الحكم‪ ،‬حتى يقوم دليل على تغييره ‪.‬‬
‫من أجل ذلك قال العلماء ‪« :‬أن االستصحاب آخر ما يلجأ إليه المجتهد» ‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫أسئـلــة‬

‫س‪ : 1‬تحدثي بالتفصيل المفيد عن خصائص القرآن الكريم وحجيته وأسلوبه في بيان األحكام‪.‬‬
‫س‪ : 2‬ما هي حقيقة السنة في اللغة وفي اصطالح علماء األصول؟ وما أنواعها؟ وما هي آراء‬
‫العلماء في حجيتها؟‬
‫س ‪ : 3‬عرفي اإلجماع‪ ،‬ثم اذكري أركانـه‪ ،‬وأنـواعـه‪ ،‬وما هي آراء العلمـاء في حجيتـه؟‬
‫س‪ : 4‬ما هي أركان القياس ؟ وما هي شروطه؟ وما هي آراء العلماء في حجيتـه ؟‬
‫س‪ : 5‬تحدثي بإيجاز مفيد عن آراء العلماء في حجية االستحسان مع االستدالل على كـل رأي‪.‬‬
‫س‪ : 6‬ما هي حقيقـة العـرف؟ وما هي آراء العلماء في االستدالل بـه على األحكام الشرعية؟‬

‫‪110‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫الحديث عن القواعد الأ�صولية الت�شريعية‬

‫‪111‬‬
‫القـواعـد الأ�صـولـيـة الت�شـريـعـيـة‬

‫المقصود بالقواعد األصولية التشريعية هي القواعد التي استمدها علماء أصول الفقه‬ ‫تمهيد ‪:‬‬
‫اإلسالمي من خالل تتبعهم األحكام الشرعية ومن استقراء عللها وحكم مشروعيتها ومن النصوص‬
‫المقررة للمبادئ التشريعية العامة واألصول التشريعية الكلية ‪ ،‬وهذه القواعد كما تجب مراعاتها في‬
‫عملية استخراج األحكام من األدلة‪ ،‬فكذلك تجب مراعاتها في عملية استنباط األحكام من األدلة‪،‬‬
‫فكذلك تجب مراعاتها في عملية استنباط األحكام فيما ال نص فيه‪ ،‬من أجل تحقيق المقاصد التي‬
‫قصدها التشريع اإلسالمي ليحقق مصالح الناس ويقيم العدل بينهم ‪.‬‬

‫القاعدة الأولى في الحديث عن المقا�صد العامة من ت�شريع الأحكام ‪:‬‬

‫المقاصد جمع مقصد‪ ،‬والمقصد العام للشارع من تشريع األحكام هو تحقيق مصالح العباد في‬
‫هذه الحياة‪ ،‬وذلك بجلب المنفعة لهم ودفع المضرة عنهم‪ ،‬ألن مصالح العباد تتكون من أمور ضرورية‬
‫لهم‪ ،‬وأمور حاجية‪ ،‬وأمور تحسينية فإذا توافرت لهم الضروريات والحاجيات والتحسينات تحققت‬
‫مصالحهم‪.‬‬

‫ولتحقيق هذه المصالح شرع الشارع الحكيم أحكام ًا في مختلف أبواب أعمال اإلنسان كي يحقق‬
‫ما تتكون منه هذه المصالح من ضروريات وحاجيات وتحسينات للفرد وللجماعة دون إهمال لواحد‬
‫منها‪ ،‬فما من حكم شرع إال وتجد فيه حفظ لواحد من هذه الثالثـة ‪.‬‬

‫وفيما يلي تعريف الضروريات والحاجيات والتحسينيات مع ذكر مثال لكل منها ‪:‬‬

‫‪112‬‬
‫�أو ًال ‪ :‬ال�ضـــروريـــــات ‪:‬‬

‫هي األمور التي ال تستقيم حياة الناس بدونها‪ ،‬ويترتب على فقدهـا اختالف نظام الحياة وشيوع‬
‫الفوضى بين الناس وضياع مصالحهم واألمور الضرورية لنا بهذا المعنى ترجع إلى المحافظة على‬
‫خمسة أشياء هي ‪ :‬الدين‪ ،‬النفس‪ ،‬العقل‪ ،‬النسل‪ ،‬المال‪.‬‬

‫وللمحافظة على الدين ‪ :‬فقد شرع اإلسالم أحكام ًا تكفل حفظه وصيانته مثل أحكام الجهاد لمحاربة‬
‫من يقف عقبة في سبيل الدعوة إليه‪ ،‬وتشريع عقوبة المرتد عن دينه‪ ،‬وعقوبة من يبتدع ويحدث في‬
‫الدين أمر ًا ليس منه ‪.‬‬

‫وفي سبيل تحقيق المحافظة على النفس‪ :‬التي هي نعمة من الله تعالى وال يمتلك أحد أخذها فقد‬
‫﴾ (سورة البقرة اآليـة ‪. )179 :‬‬ ‫شرع اإلسالم القصاص‪ ،‬قال تعالى ‪﴿ :‬‬

‫كما شرع منع االعتداء عليها وعلى األطراف أو أي جزء من أجزاء الجسم وشرع كذلك حد القذف‪،‬‬
‫وحرية العمل والرأي واإلقامة وشرع كذلك ما يكون سبب ًا في وجودها مثل مشروعية النكاح من أجل‬
‫التوالد والتناسل ‪.‬‬

‫أمـا العقل ‪ :‬فقد شرع اإلسالم للمحافظة عليه وحمايته من التلف‪ ،‬عقوبة شارب الخمر وغيرها من‬
‫المخدرات قياس ًا عليها ‪.‬‬

‫والنسل ‪ :‬أيض ًا شرع اإلسالم للمحافظة عليه عقوبة الزنا وشدد عليها‪ ،‬كما منع من إشاعة الفاحشة‬
‫بين الناس‪ ،‬وكذلك شرع النكاح وشرع كل ما يكفل حماية الحياة الزوجية ويساعد على استمرارها‪،‬‬
‫حرم القذف وعاقب عليه كل ذلك لتحقيق المحافظة على النسل ‪.‬‬ ‫وكذلك ّ‬
‫والمال ‪ :‬شرع اإلسالم للمحافظة عليه وحمايته أحكام ًا كثيرة مثل تحريم السرقة والمعاقبة عليها‪،‬‬
‫وتحريم الربا وتحريم أكل أموال الناس بالباطل‪ ،‬وتحريم الغش والخيانة وأوجد ضمان المتلفات إلى‬
‫غير ذلك من التشريعات التي حققت المحافظة على المال ‪.‬‬
‫‪113‬‬
‫ثـانـيــ ًا الحـاجــيـــات ‪:‬‬

‫األمور الحاجية هي ما يحتاج إليه الناس لليسر والسعة‪ ،‬واحتمال مشاق التكاليف‪ ،‬وأعباء الحياة‪.‬‬
‫وإذا فقد األمر الحاجي فال يترتب على فقدانه اختالل نظام الحياة‪ ،‬كما ال تعم الفوضى في حياة الناس‬
‫بسبب فقدانه وللمحافظة على األمور الحاجية شرع اإلسالم في مختلف أبواب العبادات والمعامالت‬
‫والعقوبات مجموعة من األحكام لتحقيق المقصود منها وهو رفع الحرج عن الناس والتيسير لهم ‪.‬‬

‫ففـي العـبـادات ‪ :‬شرع اإلسالم الرخص تحقيق ًا وتيسير ًا على المكلفين فأباح الفطر في رمضان‬
‫للمريض والمسافر سفر طاعة‪ ،‬كما شرع قصر الصالة الرباعية للمسافر ‪.‬‬

‫وفي المعامالت ‪ :‬شرع اإلسالم كثير ًا من أنواع العقود والتصرفات التي تتطلبها وتقتضيها حاجات‬
‫الناس‪ ،‬مثل‪ :‬السلم‪ ،‬واالستصناع‪ ،‬والمزارعة‪ ،‬والمساقاة‪ ،‬وغير ذلك مما جرى عليه عرف الناس‬
‫ودعت إليه حاجاتهم ‪.‬‬

‫وفـي العقوبـات ‪ :‬جعل اإلسـالم الديـة على العاقـل تخفيـفـ ًا عن القـاتـل خطأ‪ ،‬وشـرع درء‬
‫الحـدود بالشبهات‪.‬‬

‫ثـالـث ًا ‪ :‬التح�سـيـنـيـات ‪:‬‬

‫وهي األمور التي تقتضيها المروءة واآلداب وسير األمور على المنهاج القويم ‪.‬‬

‫وال يترتب على فقدانها اختالل نظام حياة الناس‪ ،‬كما ال ينالهم حرج من فقدانه وترجع األمور‬
‫التحسينية إلى مكارم األخالق ومحاسن العادات وإلى كل ما يقصد به سير الناس في حياتهم على‬
‫أحسن منهاج ولقد شرع اإلسالم أحكام ًا تهدف إلى التحسين والتجميل وتعود الناس أحسن العادات‬
‫وترشدهم إلى المنهاج الطيب الحسن ‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫ففـي العـبـادات ‪ :‬مث ً‬
‫ال شرع الطهارة للبدن‪ ،‬والثوب والمكان وستر العورة واالحتراز عن النجاسات‪،‬‬
‫وندب أخذ الزينة عند كل مسجد ‪.‬‬

‫وفـي المعامـالت ‪ّ :‬‬


‫حـرم الغش والتدليس والتغرير واإلسراف والتقتير‪ ،‬وحرم التعامل في كل‬
‫نجـس وضـار‪.‬‬
‫وفي مجال العقوبات ‪ :‬شرع في الجهاد تحريم قتل الرهبان والصبيان والنساء كما نهى عند الغدر‪،‬‬
‫وقتل األعزل من السيف وإحراق ميت أو حي ‪.‬‬
‫وبهذا كله حقق اإلسالم المقاصد العامة التي تعود بالنفع والخير على الناس وتثبت حرص الشريعة‬
‫اإلسالمية على هذه المصالح وتحقيقها والمحافظة عليها ‪.‬‬

‫القـاعـدة الثانية ‪ :‬في الحـديـث عـن الن�سـخ ‪:‬‬

‫تعريف الن�سخ ‪ :‬هو بيان انتهاء حكم شرعي بطريق شرعي(‪ )1‬آخر متراخ عنه(‪.)2‬‬
‫فحقيقـة النسخ ‪ :‬أن يثبت بدليل شرعي تعلق حكم شرعي بفعل المكلف خالي ًا عن قرينة التأبيد أو‬
‫التوقيت‪ ،‬ثم يأتي الشارع بدليل يبين به أن الزمن المحدد في علمه ‪ -‬لتعلق هذا الحكم قد انتهى ويسمى‬
‫الحكم األول منسوخ ًا‪ ،‬والثاني ناسخ ًا‪ .‬مثال ذلك ‪ :‬أن الله تعالى قد أباح الخمر في أول اإلسالم‪ ،‬وكان‬
‫في علمه أن يحرمها بعد مدة‪ ،‬ولكن لم يقل لنا ‪ :‬إني أبيح الخمر إلى مدة معينة‪ ،‬بل أطلق اإلباحة‪ ،‬فكان‬
‫في زعمنا بقاء هذه اإلباحة إلى يوم القيامة‪ ،‬ثم لما جاء التحريم بعد ذلك كان بيان ًا من الشارع بانتهاء‬
‫زمن اإلباحة الذي كان في علمه‪ ،‬وتبدي ً‬
‫ال لإلباحة بالحرمـة‪.‬‬

‫(‪ )1‬الكتاب والسنـة‪.‬‬


‫(‪ )2‬المراد بالتراخي أن يكون الناسخ متأخر ًا عن المنسوخ‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫�شــــروط النـ�ســــــخ ‪:‬‬

‫يشترط في النسخ الشروط التالية ‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ أن يكون المنسوخ حكم ًا شرعي ًا‪ ،‬فال نسخ في األحكام غير الشرعية‪ ،‬وال في األخبار المتعلقة‬
‫بقيام الساعة‪ ،‬ودخول المؤمنين الجنة‪ ،‬والكافرين النار ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن يكون الناسخ دلي ً‬
‫ال شرعي ًا‪ ،‬فال يكون نسخ ًا ما ارتفع من األحكام الشرعية بالموت‪ ،‬بل هو‬
‫سقوط تكليف ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ أن يكون الناسخ منفص ً‬
‫ال عن المنسوخ‪ ،‬ومتأخر ًا عنه‪ ،‬فالمتصل به مثل الشرط والصفة واالستثناء‬
‫ال يكون ناسخ ًا‪ ،‬ألن الحكم لم يثبت إال باتصالها فال ناسخ وال منسوخ بها ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ أن يكون بين الدليلين تعارض حقيقي بحيث ال يمكن الجمع بينهما أو إعمالها مع ًا‪.‬‬

‫مـا يعـرف بـه النـا�ســخ والمن�ســوخ ‪:‬‬

‫يعرف الناسخ والمنسوخ باألمور التالية ‪:‬‬


‫‪ 1‬ـ بقول الرسول ﷺ ‪ :‬وذلك مثل أن يقول الرسول ﷺ ‪ :‬هذا ناسخ لهذا‪ ،‬ومثل حديث «كنت‬
‫نهيتكم عن زيارة القبور أال فزوروها » وبفعل الرسول ﷺ مثل قوله في معرفة الناسخ‬
‫والمنسوخ وذلك مثل ‪ :‬رجمه لماعز ولم يجلده فإنه يفيد نسخ قولـه ‪« :‬الثيب بالثيب جلد‬
‫مائة ورجم بالحجارة»‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن يعلم تقدم أحدهما في النزول‪ ،‬وتأخر اآلخر‪ ،‬فالعدة بأربعة أشهر وعشر ناسخة للعدة بالحول‪،‬‬
‫لتأخرها في النزول‪ ،‬وإن كانت سابقة عليها في التالوة‪ ،‬ومع ذلك التصريح في اللفظ بما يدل‬
‫﴾ (سورة األنفال اآليـة ‪.)66 :‬‬ ‫على النسخ‪ ،‬مثل قولـه تعالى ‪﴿ :‬‬
‫‪ 3‬ـ اإلجماع على أن هذا ناسخ وهذا منسوخ ‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫هذا وإن لم يعرف الناسخ والمنسوخ‪ ،‬فإن أمكن الجمع بينهما عمل به‪ ،‬وإن لم يمكن الجمع بينهما‪،‬‬
‫وجب التوقف عن العمل بهما لتعارضهما‪ ،‬ألن العمل بأحدهما ترجيح من غير مرجح‪ ،‬وهو تحكم‪،‬‬
‫ينافي مقتضى العقل ‪.‬‬

‫محــــل النـ�ســــــخ ‪:‬‬

‫هو األحكام الشرعية المتعلقة بأفعال المكلفين‪ ،‬أما األحكام الشرعية المتعلقة بأصول الدين فال‬
‫نسخ فيها‪ ،‬وكذلك األخبار الماضية أو المستقبلية الخاصة باألمم أو بأحوال اآلخرة ‪.‬‬

‫زمــــــن النـ�ســــــخ ‪:‬‬

‫ينحصـر زمـن النسـخ فـي الفـترة الزمنية الواقـعـة بين بعثـة الرسـول ﷺ ووفاتـه‪ ،‬فـال نسخ بـعـد‬
‫وفـاتــه ﷺ ‪.‬‬

‫حكـــــــم النـ�ســــــخ ‪:‬‬

‫بـعـد ثبوت النسخ يترك الحكم المنسـوخ ويعمل بمـا دل عليـه الناسخ وذلك باإلجمـاع ‪.‬‬

‫القاعدة الثالثة ‪ :‬في الحديث عن التعار�ض والترجيح ‪:‬‬

‫التعار�ض هو ‪ :‬تقـابـل الدليليـن على سبيل الممانعـة بحيـث يـدل أحـدهما علـى خـالف مـا يـدل‬
‫عليـه اآلخـر ‪.‬‬
‫هـذا ويقع التعارض بين األدلـة بالنسبـة لنا لجهلنا بالناسخ والمنسوخ إذ البد أن يكون الناسخ‬
‫متأخر ًا عن المنسـوخ فإذا لم يعلم التاريخ بين المتقدم والمتأخر يقع التعارض بينهما ظاهر ًا فإنه ال‬
‫تعارض في نفس األمـر‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫�أقــ�ســـــام التعــــــار�ض ‪:‬‬

‫ينقسم التعارض باعتبار الترجيح وعدمه إلى قسمين ‪:‬‬


‫الق�سـم الأول ‪ :‬التعارض بال ترجيح ‪.‬‬
‫الق�سم الثاني ‪ :‬التعارض مع الترجيح ‪.‬‬
‫فالتعارض بال ترجيح يكون بين الدليلين القطعيين وال يتصور ترجيح أحدهما على اآلخر‪ ،‬ألن‬
‫الترجيح فرع التفاوت في احتمال النقيض‪ ،‬وهو ال يكون إال بيد الدليلين الظنيين ‪.‬‬
‫فإذا تعارض الدليالن القطعيان‪ ،‬فإن علم التاريخ يحمل على نسخ المتأخر للمتقدم‪ ،‬وإن جهل‬
‫التاريخ ‪ :‬فإن أمكن الجمع بينهما باعتبار الحكم أو المحل أو الزمان عمل بهما‪ ،‬وإن لم يمكن الجمع‬
‫بينهما يترك العمل بهما لتعارضهما‪ ،‬وال رجحان ألحدهما على اآلخر وتساقطا‪ ،‬ألن العمل بأحدهما‬
‫على التعيين ترجيح بال مرجح ‪.‬‬
‫﴾ (سورة المزمل اآليـة ‪.)20 :‬‬ ‫ومثـال ذلـك قولـه تعالى ‪﴿ :‬‬
‫﴾ (سورة األعراف اآليـة ‪.)204 :‬‬ ‫مع قولـه تعالى ‪﴿ :‬‬
‫فإن األول بعمومـه يوجب القراءة على المقتدي‪ ،‬والثاني بخصوصه ينفيها ‪.‬‬
‫فوجب المصير على السنـة وهي قولـه ﷺ ‪« :‬إنما جعل اإلمام ليؤتم بـه‪ ،‬فإذا كبر فكبروا وإذا قـرأ‬
‫فانصتوا» (رواه مسلم ) ‪.‬‬
‫وأما التعارض مع الترجيح‪ ،‬فإنه يقع بين الدليلين الظنيين وال يمكن إثبات األحكام بأحدهما إال‬
‫بالترجيح ‪.‬‬

‫التــرجـ ـي ــح ه ــو ‪:‬‬


‫الترجيـح في اللغـة ‪ :‬جعل الشيء راجح ًا ‪.‬‬
‫وفـي االصطــالح ‪ :‬هو بيان الرجحان في القوة ألحد المتعارضين على اآلخر‪ ،‬وتقديم الراجح‬
‫على المرجوح‪ ،‬ألن المرجوح عند مقابلة الراجح ليس دلي ً‬
‫ال‪ ،‬فليس في إهماله إهمال دليل ‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫والمرجحات هي األمور التي يظهر بها قوة أحد الدليلين على اآلخر‪ ،‬وهي كثيرة نذكر منها على‬
‫سبيل المثال ‪:‬‬

‫والمفسر على النص‪،‬‬


‫ّ‬ ‫المفسر‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الترجيح في الكتاب والسنة يكون بقوة الداللـة كالمحكم يترجح على‬
‫والنص على الظاهر‪ ،‬والظاهر على الخفي‪ ،‬والخفي على المشكل‪ ،‬والعام على العام المخصوص‪،‬‬
‫ويكون الترجيح في السنة أيض ًا ‪ -‬في السند وهو رواة السنة بعدالة الراوي‪ ،‬وقوة ضبطـه وورعـه وقوة‬
‫الرواية مثل ترجيح المتواتر على اآلحاد‪ ،‬وترجيح رواية السماع من النبي ﷺ على رواية لم يذكر فيها‬
‫السماع‪ ،‬كما إذا قال أحدهما سمعت رسول الله ﷺ وقال اآلخر ‪ -‬قال رسول الله ﷺ‪ ،‬والترجيح‬
‫يقع بين القياسين المتعارضين‪ ،‬ويكون بقطعية حكم األصل‪ ،‬والعلة وقوة تأثيرها‪ ،‬وغير ذلك من توفر‬
‫شروط القياس كاملة في أحدهما عن اآلخر ‪.‬‬

‫القاعدة الرابعة ‪ :‬في الحديث عن االجتهاد والتقليد ‪:‬‬

‫تعريف االجتهاد ‪:‬‬


‫هو استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم شرعي‪ ،‬ومعنى استفراغ الفقيه وسعه‪ :‬أن يبذل تمام‬
‫طاقته في النظر والبحث في األدلة‪ ،‬والمراد بالفقيه هنا‪ :‬المتهيء للفقه وذلك بأن تتحقق فيه الشروط‬
‫التي تؤهله لالجتهاد‪ ،‬فإذا لم يبذل كل جهده‪ ،‬أو بذل غير الفقيه وسعه‪ ،‬أو بذل الفقيه وسعه لتحصيل‬
‫إدراك حكم غير شرعي‪ ،‬فال يكون هذا اجتهاد ًا ألنه خارج عن تعريف االجتهاد ‪.‬‬

‫تعريف التقليد ‪:‬‬


‫هو أخذ قول الغير‪ ،‬بأن يعتقده من غير معرفة دليله‪ ،‬أما أخذه دليل إمامـه مع معرفة دليلـه فهو‬
‫اجتهاد وافق اجتهاد القائل ‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫�شــــروط المجـتـهــد ‪:‬‬

‫البد في المجتهد أن يكون مكلف ًا متمكن ًا من استخراج األحكام من أدلتها ويتحقق له التمكن من‬
‫ذلك بالشروط التالية ‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ معرفة نصوص الكتاب والسنـة المتعلقة باألحكام ‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ معرفة المسائل المجمع عليها‪ ،‬حتى ال يفتى بخالف ما وقع عليه اإلجماع ‪.‬‬
‫‪ 3‬ـ معرفة القياس وما يتعلق به من المباحث‪ ،‬ألنه قاعدة االجتهاد والموصل إلى تفاصيل األحكام‬
‫التي ال حصر لها ‪.‬‬
‫‪ 4‬ـ معـرفـة كيفية النظـر‪ ،‬وذلك بأن يعرف الحدود والبراهين وما يتعلق بها‪ ،‬ليأمن من الخطأ في النظر‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ معرفة علوم اللغة العربية‪ ،‬من نحو وصرف ومعان وبيان‪ ،‬وما في علم أصول الفقه من مباحث‬
‫العام والخاص والمطلق والمقيد‪ ،‬والمجمل والمبين واألمر والنهي‪ ،‬وغير ذلك مما له دور في‬
‫عملية استنباط األحكام ألن نصوص الكتاب والسنة عربية‪ ،‬فال يمكن االستنباط فيها إال بفهم‬
‫كالم العرب إفراد ًا وتركيب ًا ‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ معرفة الناسخ والمنسوخ‪ ،‬والراجح والمرجوح‪ ،‬وأسباب النزول‪ ،‬كي ال يحكم بالمنسوخ ويترك‬
‫الناسخ‪ ،‬أو بالمرجوح ويترك الراجح‪ ،‬وألن سبب النزول يعينه على فهم المراد من النص‪.‬‬
‫‪ 7‬ـ معرفة حال الرواة من قوة وضعف ومعرفة طرق الجرح والتعديل ليعمل بالصحيح ويترك‬
‫الضعيف‪ ،‬ويمكنـه الترجيح عند التعارض ‪.‬‬

‫حـكــم االجـتـهــــاد ‪:‬‬

‫للعلماء في االجتهاد في المسائل الفقهية مذهبان ‪:‬‬


‫المـذهــب الأول ‪ :‬يرى أصحابـه أن كل مجتهد مصيب ‪.‬‬
‫المذهب الثاني ‪ :‬يرى أصحابه أن المصيب واحد‪ ،‬وهو الذي يدرك حكم الله تعالى في الواقع‬
‫ونفس األمر ومن لم يدركه فهو مخطئ ‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫والمذهب الثاني هو المذهب المختار لقوله ﷺ ‪« :‬إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران وإن أخطأ‬
‫فله أجر» متفق عليه ‪.‬‬
‫وبعد نسأل الله تعالى العلي القدير أن يجعل عملنا خالص ًا لوجهه الكريم وقصدنا ابتغاء مرضاته‪،‬‬
‫فله الحمد في األولى واآلخرة وله الحكم وإليه المصير والصالة والسالم على رسولنا محمد وعلى‬
‫آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ‪.‬‬

‫أسئـلــة‬

‫س‪ : 1‬تحدثـي بالتفصيل مع التمثيل عن مقاصد الشريعة اإلسالمية ‪.‬‬


‫س‪ : 2‬ما معنى التعارض والترجيح ؟ وما هي أقسام التعارض ؟‬
‫س‪ : 3‬عرفي االجتهاد والتقليد‪ ،‬ثم اذكري الشروط التي البد من تحققها في المجتهد ‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫أهم المراجع‬

‫‪ 1‬ـ القر�آن الكريم‬


‫ل�سيف الدين �أبي الح�سن الآمدي‬ ‫ ‬ ‫‪ 2‬ـ الأحكام في �أ�صول الأحكام‬
‫للدكتور م�صطفى �سعيد �آلخن‬ ‫‪ 3‬ـ اثر االختالف في القواعد الأ�صولية في اختالف الفقهاء ‬
‫لمحمد بن علي ال�شوكاني‬ ‫‪ 4‬ـ �إر�شاد الفحول �إلى تحقيق الحق من علم الأ�صول ‬
‫للدكتور‪ /‬زكريا البري‬ ‫‪ 5‬ـ �أ�صول الفقه الإ�سالمي ‬
‫لمحمد زكريا البردي�سي‬ ‫‪ 6‬ـ �أ�صول الفقه الإ�سالمي ‬
‫لزكي الدين �شعبان‬ ‫‪ 7‬ـ �أ�صول الفقه الإ�سالمي ‬
‫لل�شيخ‪ /‬محمد الخ�ضري‬ ‫‪ 8‬ـ تاريخ الت�شريع الإ�سالمي ‬
‫لل�شيخ مناع القطان‬ ‫‪ 9‬ـ الت�شريع والفقه في الإ�سالم ‬
‫لمحمد �أمين المعروف ب�أمير باد�شاه‬ ‫ ‬ ‫‪ 10‬ـ تي�سير التحرير في �شرح كتاب التحرير‬
‫ل�شيخ الإ�سالم ابن قدامة المقد�سي‬ ‫ ‬ ‫‪ 11‬ـ رو�ضة الناظر وجنة المناظر‬
‫للإمام محمد البدخ�شي‬ ‫‪ 12‬ـ �شرح البدخ�شي منهاج العقول ‬
‫ل�سعد الدين التفتازاني‬ ‫‪ 13‬ـ �شرح التلويح على التو�ضيح لمتن التنقيح ‬
‫لل�شيخ محمد الفتوحي المعروف بابن النجار‬ ‫ ‬ ‫‪ 14‬ـ �شرح الكوكب المنير‬
‫لأبي عبد اهلل محمد بن �إ�سماعيل البخاري‬ ‫ ‬ ‫‪ 15‬ـ �صحيح البخاري‬
‫للحافظ �أبي الح�سين م�سلم بن الحجاج الق�شيري الني�سابوري‬ ‫ ‬ ‫‪ 16‬ـ �صحيح م�سلم‬
‫لأبي بكر بن �أحمد بن محمد بن قا�ضي �شهبة الدم�شقي‬ ‫ ‬ ‫‪ 17‬ـ طبقات ال�شافعية‬
‫للقا�ضي �أبي يعلي البغدادي‬ ‫‪ 18‬ـ العدة في �أ�صول الفقه ‬
‫لمحمد بن الح�سن الحجوي الفا�سي‬ ‫‪ 19‬ـ الفكر ال�سامي في تاريخ الفقه الإ�سالمي ‬
‫لعبد الوهاب خالف‬ ‫‪ 20‬ـ علم �أ�صول الفقه ‬
‫‪21‬ـ المدخل �إلى مذهب الإمام �أحمد بن حنبل البن بدران الدم�شقي‬
‫لأبي �إ�سحاق ال�شاطبي‬ ‫‪ 22‬ـ الموافقات في �أ�صول ال�شريعة الإ�سالمية ‬
‫‪ 23‬ـ نزهة الخاطر العاطر �شرح رو�ضة الناظر البن بدران الدم�شقي‬
‫لل�شوكاني‬ ‫‪ 24‬ـ نيل الأوطار ‬

‫‪122‬‬
‫الفهــرس‬

‫ال�صفحة‬ ‫المـــــــو�ضـــــــــوع‬
‫‪4‬‬ ‫المقدمة‬
‫الف�صل الدرا�سي الأول‬
‫‪8‬‬ ‫الباب الأول ‪ :‬تاريخ الت�شريع والفقه الإ�سالمي‬
‫ـ ـ المبحث الأول ‪ :‬تعريف تاريخ الت�شريع ومعنى الت�شريع و�أهميته والغر�ض من درا�سته‪،‬‬
‫‪9‬‬ ‫ون�ش�أته وتطوره و�أدواره‬
‫‪16‬‬ ‫ـ ـ المبحث الثاني ‪ :‬بيان مفهوم ال�شريعة الإ�سالمية‪ ،‬ومكانتها‪ ،‬ومميزاتها وخ�صائ�صها‬
‫‪20‬‬ ‫ـ ـ المبحث الثالث ‪ :‬م�صادر الت�شريع الإ�سالمي‬
‫ـ ـ المبحث الرابع ‪ :‬تعريف الفقه الإ�سالمي وتطوره ومميزاته وظهور المذاهب الفقهية‬
‫‪24‬‬ ‫و�أ�صولها و�أ�شهر م�ؤلفاتها‬
‫‪40‬‬ ‫ـ ـ المبحث الخام�س ‪� :‬أ�سباب االختالف بين المذاهب الفقهية‬
‫‪45‬‬ ‫ـ ـ المبحث ال�ساد�س‪� :‬أ�شهر �أئمة المذاهب الفقهية و�أهل الفتوى واالجتهاد ‬
‫الف�صل الدرا�سي الثاني‬
‫‪60‬‬ ‫الباب الثاني ‪�« :‬أ�صـول الفـقــه»‬
‫‪61‬‬ ‫ـ ـ تمهيد ‪ :‬تعريف علم �أ�صول الفقه ون�ش�أته‪ ،‬وتدوينه وا�ستمداده و�أهميته‬
‫‪74‬‬ ‫ـ ـ الف�صل الأول ‪� :‬إعطاء فكرة مي�سرة عن الأحكام ال�شرعية‬
‫‪75‬‬ ‫ـ ـ تعريف الحكم ال�شرعي‬
‫‪77‬‬ ‫ـ ـ �أق�سام الحكم ال�شرعي‬
‫‪77‬‬ ‫ـ ـ �أق�سام الحكم التكليفي باعتبار ذاته‬
‫‪78‬‬ ‫ـ ـ �أق�سام الحكم التكليفي باعتبار متعلقـه‬
‫‪79‬‬ ‫ـ ـ �أق�سام الحكم التكليفي باعتبار موافقته للدليل وعدم موافقته له‬
‫‪79‬‬ ‫ـ ـ تعريف الرخ�صة و�أنواعها‬
‫‪80‬‬ ‫ـ ـ تعريف العزيمة و�أنواعها‬
‫‪82‬‬ ‫ـ ـ الحاكم‬
‫‪83‬‬ ‫ـ ـ المحكوم فيه‬
‫‪83‬‬ ‫ـ ـ المحكوم عليه ‬
‫‪85‬‬ ‫ـ ـ الف�صل الثاني ‪ :‬الكالم عن الأدلة ال�شرعية‬
‫‪86‬‬ ‫ـ ـ الدليل الأول ‪ :‬القر�آن الكريم وخ�صائ�صه‬
‫‪87‬‬ ‫ـ ـ حجية القر�آن الكريم ومنزلته في اال�ستدالل‬

‫‪123‬‬
‫ال�صفحة‬ ‫المـــــــو�ضـــــــــوع‬
‫‪88‬‬ ‫وجوه �إعجاز القر�آن الكريم‬
‫‪89‬‬ ‫بيان القر�آن الكريم للأحكام‬
‫‪91‬‬ ‫‪ -‬الدليل الثاني ‪ :‬ال�سنة – تعريفها ‪ ,‬و�أنواعها‬
‫‪92‬‬ ‫حجية ال�سنة‬
‫‪93‬‬ ‫ن�سبة ال�سنة�إلى القر�آن‬
‫‪94‬‬ ‫�أق�سام ال�سنة‬
‫‪95‬‬ ‫‪ -‬الدليل الثالث ‪ :‬الإجماع‬
‫‪95‬‬ ‫�أركان الإجماع و�أنواعه‬
‫‪96‬‬ ‫حجية الإجماع‬
‫‪97‬‬ ‫�إمكان انعقاد الإجماع‬
‫‪98‬‬ ‫‪ -‬الدليل الرابع ‪ :‬القيا�س‬
‫‪99‬‬ ‫�أركان القيا�س و�شروطه‬
‫‪101‬‬ ‫حجية القيا�س‬
‫‪103‬‬ ‫‪ -‬الدليل الخام�س ‪ :‬اال�ستح�سان‬
‫‪104‬‬ ‫حجية اال�ستح�سان‬
‫‪106‬‬ ‫‪ -‬الدليل ال�ساد�س ‪ :‬الم�صالح المر�سلة‬
‫‪106‬‬ ‫حجية الم�صالح المر�سلة‬
‫‪107‬‬ ‫‪ -‬الدليل ال�سابع ‪ :‬العرف‬
‫‪107‬‬ ‫�أنواع العرف وحجيته‬
‫‪109‬‬ ‫‪ -‬الدليل الثامن ‪ :‬اال�ست�صحاب‬
‫‪109‬‬ ‫حجية اال�ست�صحاب‬
‫‪111‬‬ ‫الف�صل الثالث ‪ :‬الحديث عن القواعد الأ�صولية الت�شريعية‬
‫‪112‬‬ ‫‪ -‬القاعدة الأولى ‪ :‬المقا�صد العامة من ت�شريع الأحكام‬
‫‪115‬‬ ‫‪ -‬القاعدة الثانية ‪ :‬في الحديث عن الن�سخ‬
‫‪117‬‬ ‫‪ -‬القاعدة الثالثة ‪ :‬في الحديث عن التعار�ض والترجيح‬
‫‪119‬‬ ‫‪ -‬القاعدة الرابعة ‪ :‬في الحديث عن االجتهاد والتقليد‬
‫‪122‬‬ ‫‪� -‬أهم المراجع‬

‫‪124‬‬

You might also like