You are on page 1of 87

‫فن النحت‬

‫«يف العصر القديم»‬

‫د‪ .‬تغريد شعبان‬

‫‪-1-‬‬
‫رئيس جملس اإلدارة‬
‫الدكتور رياض نعسان آغا وزير الثقافة‬
‫املدير املسؤول ‪ -‬املدير العام‪ :‬حممود عبد الواحد‬
‫رئيــــــــــــــــــس التحريــــــــــر‪ :‬أنطوانيــــــت القـــــــــس‬
‫مستشـــــــــار التحريــــــــــــــــــر‪ :‬الدكتور نوفل نيـوف‬

‫اإلشــــــراف الطبـاعـي‪ :‬م‪.‬ماجــــــــــد الزهــــــــر‬

‫‪-2-‬‬
‫تقديم‬

‫النحت هو ثاني الفنون تارخيياً‪ ،‬بعد فن العمارة‬


‫األكثر ارتباطاً باملادة الالعضوية‪ ،‬أي باجلماد‪.‬‬
‫ِّ‬
‫يسجل حياته اليومية‪ ،‬وما‬ ‫فقد كان اإلنسان القديم‬
‫كان يقوم به من صيد احليوانات ومجع القوت والتقاطه‪،‬‬
‫حنتاً على جدران الكهوف واملغاور اليت سكنها وكذلك‬
‫كان يفعل يف مرحلــةِ الزراعة فيما بعد‪ ،‬وال بدّ أن يكون‬
‫هذا السؤال أوّ َل ما خيطرُ على البال‪:‬‬
‫تُرى‪ ،‬ما هي العوامل واألسباب اليت دفعت اإلنسان‬
‫البدائي إىل النحت عموماً‪ ،‬وإىل صنع التماثيل‬
‫خصوصاً؟‬
‫لقد عاش اإلنسان قدميا يف بيئة طبيعية قاسية‬
‫إىل أبعد حد‪ ،‬مبا فيها من حيوانات وحشية وعوامل‬
‫جوية‪ .‬لذلك راودته الرغبة بالسيطرة عليها من خالل‬
‫جعل كل ما فيها خيضع لسلطة عليا حتكمها وتسيطر‬
‫عليها‪ .‬وهذه السلطة جتسدت بفكرة اإلله الذي كانوا‬
‫يصُّ ِورونه بطرق شتى تتناسب مع العقيدة اليت تكونت‬
‫عند هذا اإلنسان أو ذاك حبكم الظروف والبيئة‪.‬‬
‫فلو عدنا إىل فكرة التماثيل األوىل اليت صنعها‬
‫‪-3-‬‬
‫اإلنسان القديم‪ ،‬وأضفنا إليها تصوره عن الروح اليت‬
‫جتعل صورة الشيء معادلة له ألمكننا أن نفهم الدافع‬
‫البعيد الذي كان وراء قيام أول إنسان بصنع متثال من‬
‫احلجر‪ .‬فقد ظنَّ أنه عن طريق صنع هذا التمثال قدِ‬
‫امتلَكَ الشيءَ الذي ميثله التمثال نفسه‪ ،‬أي إنه صار‬
‫قادرا على التحكم به من أجل دفع الشر عن نفسه‪ ،‬أو‬
‫جلب اخلري هلا‪.‬‬
‫يرى كثريون ممّن درسوا الفن أن اإلنسان هو مَن‬
‫يقوم بتشكيل املادة اليت يتكوَّن منها النحت‪ ،‬وذلك من‬
‫خالل األفكار واملعتقدات اليت يعتنقها‪ .‬وبذلك يعكس‬
‫الفنُّ التطورَ الروحي عند اإلنسان‪ .‬أي إن العمل الفين‬
‫حياول أن يصور وجيسم الفكرة أو املوضوع الذي يدور‬
‫يف ذهن اإلنسان وعقله – اإلنسان املعنوي غري احملدد‪-‬‬
‫أن يرسِمَهُ يف املادة اليت سيصنع منها صورة للفكرة‬
‫املوجودة يف عقله‪ ،‬وهي اليت أي املادة‪ ،‬كيان حمدد‪.‬‬
‫وهكذا فإن الفنان ال يستطيع أن ينشئ عمالً فنياً إذا‬
‫مل يكن قد تكون لديه يف نفسه تصور ما لفكرة معينة‪،‬‬
‫وللمكان أو الفراغ الذي سيشغله العمل‪ .‬فالنحت إذاً‬
‫هو إظهار الكتلة النحتية بأبعادها الثالثة – الطول‪،‬‬
‫والعرض‪ ،‬والعمق‪ -‬من خالل معاجلة الكتلة من زواياها‬
‫‪-4-‬‬
‫مجيعاً حبيث حتتل املكان املناسب‪ ،‬أي تأخذ ح ِّيزاً دائماً‬
‫أو مؤقتاً يف الفراغ‪.‬‬
‫املواد املستخدمة يف النحت‪:‬‬

‫إن املوضوع‪ ،‬عندما يتكوَّن أو يتبلور يف الفكر‪ ،‬ال بدَّ‬


‫أن يتطلّب إظهارُه حنتياً موادَّ العضوية كي يستخدمها‬
‫الفنان يف عمله‪.‬‬
‫ولذلك فقد استُخدِمت من أجل بلوغ هذه الغاية‬
‫أنواع شتى من املواد‪:‬‬
‫‪-1‬اخلشب‪:‬‬

‫يعد اخلشب من أقدم املواد اليت استخدمها النحاتون‬


‫يف صنع متاثيل اآلهلة‪ .‬وقد بدأ النحت بشكل بسيط‬
‫معتمداً‪ ،‬كما ذكرنا سابقاً‪ ،‬على إبراز الفكرة بأبسط‬
‫الطرق‪ .‬لذلك جند يف أقدم التمثيالت املصنوعة من‬
‫اخلشب عصاً يعلوها رأس‪ .‬وقد استمر استخدام هذه‬
‫املادة لنحت التماثيل الصغرية ثم الكبرية حتى فرتة‬
‫متأخرة‪ .‬إال أن اخلشب بصفة عامة ال يصلح لنحت‬
‫التماثيل الكبرية بسبب أليافه واجتاهها‪ ،‬إال إذا مت طالؤه‬
‫بالذهب أو بغريه‪ .‬ولذلك كان اخلشب أكثر استخداماً‬
‫‪-5-‬‬
‫يف صنع التماثيل الصغرية‪ .‬وما زال يستخدم على هذا‬
‫األساس إىل اليوم‪.‬‬
‫‪-2‬الربونز‪:‬‬

‫الربونز هو املادة األكثر استخداماً يف النحت‬


‫القديم‪ .‬و قد توصل اإلنسان إىل صَهره واستخدامه‬
‫مبهارة فائقة‪ .‬وانتشر استخدام هذا املعدِ ِن يف القرن‬
‫اخلامس قبل امليالد يف صن ِع متاثي ِل اآلهلة وغريِها من‬
‫املنحوتات‪ .‬ومعروف أن الربونز معدِن يتكون أساساً‬
‫من النحاس والقصدير‪ ،‬بنسب متبدلة تبعاً للون الربونز‬
‫املراد احلصول عليه‪ ,‬كما وميكن أن يُسْتَبدَ َل بالنحاس‬
‫الذهبُ أو الفض ُة يف بعض األحيان‪.‬‬
‫لقد وصل القدماء إىل مستوى من املهارة ال يضاهى‬
‫يف جم��ال صهر ال�برون��ز‪ .‬وبفضل ه��ذه املهارة أصبح‬
‫العمل أقل كلفة‪ ،‬وقابالً للتنفيذ بسرعة أكرب ممّا لو‬
‫كان التمثال من حجر‪ .‬وبذلك جنى الفنّانون فائدة‬
‫أخرى من استعمال الربونز بفضل نقاوة السكب‪ .‬فقد‬
‫مكن من االستغناء عن احلاجة‬ ‫بلغت هذه النقاوة حدَّاً َّ‬
‫إىل شغل التماثيل الربونزية باألزميل‪ .‬وبذلك حافظت‬
‫قسمات التماثيل على قدْ ٍر من النعومة والدقة ربّما‬
‫‪-6-‬‬
‫كان ال بدَّ من التضحية هبا لو َّ‬
‫مت شغلها باألزميل‪.‬‬
‫إن ال��ت��ن��وعَ الكبري يف درج���ة إش���راق ل��ون الربونز‪،‬‬
‫ومطاوعتَه الفائقة جعاله يصلح لصنع شتى ضروب‬
‫التماثيل‪ .‬كما أتاح التنوعُ واملطاوع ُة للنحت أن يو ّسِع‬
‫جماله إىل حد كبري‪ ،‬وأن يبتكر أشكاالً ال هناية لتنوعها‪،‬‬
‫ابتداءً من التماثيل الكبرية وانتهاءً بالتماثيل الصغرية‪،‬‬
‫كل جزء من‬ ‫والصغرية جداً‪ .‬وكان اليونانيون يصبُّون َّ‬
‫أجزاء التمثال على انفراد ثم جيمعوهنا‪ ،‬وير ّكِبوهنا على‬
‫بعضها بعضاً‪ ،‬بعد وصلها وحلمها‪ .‬وكثريا ما كانوا‬
‫يطلوهنا بغشاء من م��ادة براقة من أج��ل أن يكتسب‬
‫التمثال صفة حية‪.‬‬
‫‪-1‬الذهب والعاج‪:‬‬

‫يعود استخدام العاج والذهب يف صنع التماثيل‬


‫إىل عصر مب ّكِر كانت تُلوَّن فيه التماثيل‪ .‬وقد تراجع‬
‫استعمال هاتني املادتني شيئاً فشيئاً لصاحل الربونز‪.‬‬
‫إن العاج مادة نظيفة للغاية‪ ،‬ولذلك فهو غايل‬
‫الثمن‪ .‬وهذا ما جعل اليونانيني عامة واألثينيني خاصة‬
‫حيرصون أشد احلرص على استخدام العاج يف صنع‬
‫متاثيلهم‪ .‬وكان ال بدّ للتماثيل اليونانية أن يتو َّفر فيها‬
‫‪-7-‬‬
‫شرطان مها‪ :‬الغنى‪ ،‬وضخامة احلجم‪ .‬فمن املعروف أن‬
‫الفنان األثيين فيدياس الذي عاش يف القرن اخلامس‬
‫قبل امليالد‪ ،‬كان يستخدم الذهب والعاج يف إجناز‬
‫روائعه‪ .‬وأبرز مثال على ذلك متثال أثينا الضخم الذي‬
‫حنته الفنان فيدياس حبجم أكرب من حجم اإلنسان‬
‫الطبيعي‪ ،‬وذلك هبدف عرضه يف أكروبول أثينا‪ .‬وتظهر‬
‫صورة اإلهلة أثينا وهي تُمسك بيدها شعار النصر‪،‬‬
‫ولعل ذلك إشارةٌ إىل انتصارها على اإلله بوسيدون‬ ‫َّ‬
‫إله البحر الذي تنافست معه على السيادة يف مدينة‬
‫أثينا‪ .‬ثم اتفق اإلهلان‪ ،‬بوسيدون وأثينا‪ ،‬على أن تكون‬
‫السيادة على املدينة ملن يهب اإلنسان أكثر األشياء‬
‫فائدة‪ .‬فوهبت أثينا شجرة الزيتون‪ ،‬بينما وهب اإلله‬
‫احلصانَ لبين البشر‪ .‬وبذلك كانت الغلبة لإلهلة أثينا‪.‬‬
‫وقد صُنعت أقسام اجلسم العارية من صفائح العاج‪،‬‬
‫أما الثياب والرداء فصنعت من الذهب املر َّقط‪.‬‬
‫‪-2‬احلجر‪ -‬املرمر‪:‬‬

‫ميثل احلجر املادة الصلبة األكثر دميومة من بقية‬


‫املواد املستعملة‪ .‬فالتماثيل اخلشبية قابلة للتحلل‪،‬‬
‫والتماثيل الذهبية والعاجية تغري اللصوص بسرقتها‪،‬‬
‫‪-8-‬‬
‫بينما ميكن أن يعاد صبُّ متاثيل الربونز من جديد‬
‫واستخدامها عند احلاجة إىل ذلك‪ .‬أما احلجر فيبقى‬
‫وحده مبنأى إىل ح ّدٍ ما عن العبث به‪.‬‬
‫لقد استخدم املصريون احلجر الغرانييت والبازليت‬
‫يف تنفيذ متاثيلهم الضخمة‪ .‬أمّا اليونانيون الذين‬
‫تأثروا باملنحوتات املصرية الضخمة وراحوا ينحتون‬
‫على منواهلا‪ ،‬فقد اعتمدوا على املرمر‪ ،‬وذلك بسبب‬
‫غنى بالدهم به‪ .‬ويتبني لنا‪ ،‬من خالل معاينة التماثيل‬
‫احلجرية واملرمرية‪ ،‬أن املرمر بنقائه وبياضه وبريقه‬
‫اهلادئ يبقى املادة األنسب للنحت‪ .‬ومن جهة أخرى‪،‬‬
‫فإن الكيفية اليت يعكس املرمر هبا النور تضمن له تفوقاً‬
‫بياضه الطباشريي دون‬‫ُ‬ ‫جلبس الذي حيول‬ ‫كبرياً على ا ِ‬
‫ظهور الفروق الدقيقة‪.‬‬
‫بدأ اإلغريق باستخدام املرمر يف حوايل منتصف‬
‫القرن السابع قبل امليالد‪ .‬ويعود أقدم متثال إغريقي‬
‫رخامي إىل عام ‪ 620‬ق‪.‬م‪ ،‬هو أشبه جبذع شجرة فيه‬
‫داللة بسيطة على وجود رأس وشعر ويدين وحزام‪،‬‬
‫وأسلوبه أكثر بدائية من الفن املصري الذي يعود إىل ما‬
‫قبل عصر األهرام‪ .‬على أن االنتشار الكبري الستخدام‬
‫املرمر يف النحت‪ ،‬وتفضيله على سائر املواد األخرى‬
‫‪-9-‬‬
‫جلي إال يف زمن متأخر‪ ،‬أي يف القرن‬‫مل يظهرا بشكل ٍّ‬
‫الرابع قبل امليالد‪ .‬ثم إن براكستليس وسكوباس كانا‬
‫أبرز الفنانني الذين اعتمدوا على هذه املادة يف حنت‬
‫متاثيلهما‪ .‬وكانا حيرصان على استبعاد اللون بوصفه‬
‫عنصرا متنافياً مع النحت‪ ،‬السيما أن املرمر يساعد‬
‫أكثر من الربونز يف إضفاء مزيد من الرونق والفتنة على‬
‫التماثيل‪ .‬فبفضل شفافيته ونقائه تبدو معامل األشياء‬
‫أكثر وضوحاً ولطافة‪ .‬وهو أقدر على إظهار الفروق‬
‫الدقيقة‪ ،‬والتدرُّجات اخلفيفة بني النور والظل‪ .‬كما أن‬
‫البياض املعتدل يف احلجر يُظ ِهر اجلودة الفنية جبالء‬
‫أكرب مما ميكن أن يفعله أنقى أنواع الربونز‪ .‬األخض ِر‬
‫الذي ك َّلما كان أكثر مجاالً وجدناه يُحدِث قدراً أكرب من‬
‫االنعكاسات اليت تشوش بلمعاهنا وسطوعها تفاصيل‬
‫التمثال‪ .‬وهذا ما أضاف سبباً آخر إىل مجلة األسباب‬
‫ترجح تفضيل احلجر على غريه يف النحت‪.‬‬ ‫اليت ِّ‬
‫أنواع النحت‪:‬‬

‫هناك نوعان أساسيان من النحت‪:‬‬


‫‪-1‬النحت اجملسَّم‪/‬املنفرد‪ ،‬ويكون فيه العمل الفين‬
‫املنحوت حماطاً بالفراغ من كل جانب‪.‬‬
‫‪- 10 -‬‬
‫‪-2‬اجملموعات النحتية‪ ،‬وفيها ينقسم النحت إىل غائر‬
‫و بارز‪.‬‬

‫أو ً‬
‫ال‪:‬النحت اجملسم‬
‫سنبدأ باحلديث عن املنحوتات األوىل صغريةِ‬
‫احلجم‪ ،‬اليت كان قوامها عدة خطوط هندسية‪ .‬فمن‬
‫أهم هذه املنحوتات أشكال فخارية صغرية‪ ،‬إنسانية أو‬
‫مت العثور على أعدادٍ كثرية منها يف القبور‬ ‫حيوانية‪ّ ،‬‬
‫القدمية‪ ،‬أو يف الطبقات السفلية من املعابد األوىل‪.‬‬
‫وهناك أيضاً متاثيل خشبية أطلق عليها اليونانيون‬
‫اسم كزوانة (‪ ،)Xoana‬نُحتت على شاكلة التماثيل‬
‫املصرية‪ .‬وأشكال هذه التماثيل البسيطة هندسية‪،‬‬
‫أجسامها وأعناقها طويلة‪ ،‬وجذوعها مثلثة‪ ،‬وخصورها‬
‫حنيلة‪ ،‬وعجائزها بارزة‪ ،‬وتقاطيع وجوهها مُجْمَل َ ٌة‪،‬‬
‫غري متقنة‪ .‬ويظهر أن الغاية من صنعها واقتنائها كانت‬
‫سحرية‪ ،‬وذلك العتقادهم بوجود روابط سحرية بني‬
‫الكائن وصورته‪.‬‬
‫كان وضع التماثيل املنفردة يف املعبد هو الغاية‬
‫األساسية من حنتها‪ .‬وهي إما متاثيل لآلهلة توضع‬
‫يف املعابد اخلاصة هبا‪ ،‬وتكون وسيلة لتقرب اإلنسان‬
‫‪- 11 -‬‬
‫إليها‪ ،‬طلباً لعوهنا ورضاها‪ ،‬واتقاءً لغضبها‪ .‬أو متاثيل‬
‫إنسانية‪ ،‬شخصية‪ ،‬يضعها املض ّحِي يف املعبد ليمارس‬
‫حياته اليومية بشكل مريح‪ ،‬وهو مطمئن وواثق من رضا‬
‫اإلله عليه‪ ،‬ما دام متثاله‪ ،‬أي متثال املضحي‪ ،‬موجوداً‬
‫بشكل دائم يف بيت اإلله‪ .‬ومل يكن النحات يسعى إلبراز‬
‫التشابه بني التمثال وصاحبه‪ ،‬وإمنا كان هدفه إظهار‬
‫النشاط الذي يقوم به وهو الصالة‪ ،‬أي اإلشارة إىل فعل‬
‫العبادة‪ ،‬وذلك للتأكيد على الصلة الروحية باإلله‪ .‬وهذا‬
‫ما ميكن أن يفسر لنا سبب التعبري يف عينَي التمثال‬
‫وكأهنما ذاهلتان عمّا حييط هبما‪ ،‬واملوقف املتميز‬
‫فيهما بالرتكيز والتوتر‪ .‬وإىل جانب ذلك كانوا ينحتون‬
‫التماثيل أيضا ألغراض تذكارية‪ ،‬كتخليد االنتصارات‪،‬‬
‫ومتجيد الفائزين يف املباريات الرياضية‪.‬‬
‫على أن التماثيل الكبرية ظهرت يف الشرق أول ما‬
‫ظهرت‪ ،‬وخاصة يف مصر اليت كان هلا تأثري كبري يف‬
‫تطور فن النحت اليوناني‪ ،‬والسيما بعد بناء مدينة‬
‫نقراطيس اليونانية‪ ·1‬يف مصر يف القرن السابع‬
‫قبل امليالد ‪.‬ويذكر املؤ ِّرخ والرحّالة اليوناني الشهري‬
‫هريودوت ‪ (482- 425‬ق ‪.‬م )أن امللك املصري بسماتيك‬

‫‪-1‬مدينة تقع يف الشمال الغربي لدلتا النيل وهي من املدن البائدة‪.‬‬


‫‪- 12 -‬‬
‫‪ (660- 609‬ق‪.‬م )منح اليونانيني مناطق ش ّتى يقيمون‬
‫فيها على ضفاف النيل‪ ،‬وأهنم كانوا أوّل من استوطن‬
‫مصر من األجانب لغة وعنصراً‪ .‬واتفاق هذا القول مع‬
‫أقوال غريه من الكتاب القدماء‪ ،‬ومع الدالئل األثرية‪،‬‬
‫نرجح االحتمال القائل بأن منتصف القرن‬ ‫جيعلنا ِّ‬
‫السابع قبل امليالد هو بداية عصر التماثيل الكبرية يف‬
‫اليونان‪.‬‬
‫أما تقنية تنفيذ التماثيل احلجرية الكبرية فيبدو أن‬
‫استخدامها كان جيري عن طريق البدء بعلمية النحت‬
‫يف الكتلة احلجرية مباشرة‪ ،‬أي من دون القيام مسبقاً‬
‫اجلص أو ّ‬
‫الفخار أو غري‬ ‫ِّ‬ ‫بصنع منوذج مصغر أوّيل من‬
‫ذلك‪ .‬فقد كانوا يبدؤون بوضع عدة عالمات على الكتلة‬
‫احلجرية تشري إىل أقسام التمثال األساسية‪ .‬وبعدئذ‬
‫تبدأ عملية تشذيب الكتلة تدرجيياً بأدوات خمتلفة‪،‬‬
‫منها‪ :‬املقص‪ ،‬والسكني‪ ،‬واملِربد‪ ،‬واملِبضع‪ ،‬إىل أن يتجلّى‬
‫ألنظارهم الشكل العام‪ .‬ثم يقومون بنحت التفاصيل‪،‬‬
‫وحفر الظالل‪ ،‬وصقل السطوح‪.‬‬
‫وقد عبّر الفنان ميكيل أجنلو (‪1475-1564‬م) عن‬
‫طريقة النحت هذه‪ ،‬بعد حوايل ألفي عام‪ ،‬بقوله‪(:‬ليس‬
‫النحتُ تشكي َل قطعة صخر صلبة‪ ،‬ولكنه حترير الشكل‬
‫‪- 13 -‬‬
‫من سجن الصخر بإزالة الزوائد عن الصورة املتخيَّلة‬
‫‪2‬‬
‫يف الذهن للشكل الكامن يف الصخرة)‪.‬‬
‫كانت التماثيل الكبرية تُقطع يف احملاجر وَفق‬
‫أشكاهلا التقليدية‪ .‬وقد يقوم امل َّثالون أحياناً بنحت‬
‫بعض أطراف اجلسم بشكل مستقل‪ ،‬كالرؤوس واألذرع‬
‫املمتدة‪ ،‬ثم يثبّتون بعضها إىل بعض باستخدام وصالت‬
‫معدنية‪ ،‬وألسنة حجرية‪ ،‬ويلصقون األجزاء الصغرى‬
‫باإلمسنت‪ .‬وقد جلأ النحاتون إىل طالء متاثيلهم‬
‫املنحوتة‪ ،‬احلجرية منها أو الرخامية‪ ،‬بألوا ٍن اختفى‬
‫معظمُها‪ ،‬ومل يبقَ إال بعضها دليالً على استخدامها‪.‬‬
‫كما مارس اليونانيون نوعاً آخر من الفن‪ ،‬وهو إضافة‬
‫أحجار خمتلفة إىل التمثال‪ ،‬كأن يضعوا مكان العينني‪،‬‬
‫مثالً‪ ،‬حجراً ملوّناً‪ ،‬أو زجاجاً‪ ،‬أو عاجاً‪ ،‬ويصنعوا‬
‫خصالت الشعر من املعدن‪ ،‬ويُحَلّوا التماثيل بالتيجان‪،‬‬
‫واألكاليل‪ ،‬واألقراط ‪ ،‬والقالئد‪...‬‬
‫ثانياً‪:‬اجملموعة النحتية‬

‫أم��ا ال��ن��وع ال��ث��ان��ي م��ن أن���واع حن��ت التماثيل فهو‬


‫اجملموعات النحتية «‪ »relie‬اليت تكون الواحدة منها‬
‫‪-2‬ثروت عكاشة‪ ،‬الفن اإلغريقي‪ ،‬اهليئة املصرية العامة للكتاب‪،‬‬
‫‪1982‬م‪ ،‬ص‪.292‬‬
‫‪- 14 -‬‬
‫على شكل جدارية تضم ع��دداً من األشخاص‪ ،‬وربّما‬
‫بعضاً من احليوانات واألزهار‪ ...‬أو غري ذلك‪ ،‬وتقسم إىل‬
‫نوعني‪ ،‬مها‪ :‬النحت البارز‪ ،‬والنحت الغائر‪.‬‬
‫فقد كان النحاتون يرمسون على الصخر (على الكتلة‬
‫احلجرية) املشاهد اليت يريدون حنتها‪ ،‬ثم يقومون بنزع‬
‫ما حوهلا وصقلها‪ ،‬إذا كان النحت بارزاً‪ .‬أو يقومون‬
‫بتفريغ الكتلة احلجرية (أي بتجويفها) من األشكال اليت‬
‫رمسوها‪ ،‬إذا كان حنتاً غائراً‪.‬‬
‫ويف كلتا هاتني احلالتني كان النحّاتون يبذلون ُقصارى‬
‫جهدهم إلظهار مواقفَ ومواضيعَ يف اجملموعة النحتية‬
‫تكون أكثر حيوية ممّا يف التمثال املنفرد‪.‬‬
‫وكانت تتأ ّلف هذه املنحوتات يف البداية‪ ،‬من عدة‬
‫شخصيات تظهر منحوتة بشكل بسيط دون اعتماد‬
‫العمق‪ .‬إذ يقف أولئك األشخاص واحداً جبانب آخر دون‬
‫تضمينهم أي حركة‪ .‬ولكن هذا األسلوب يف التصوير‬
‫أض َفوْا على‬
‫مل يستمر طويالً‪ ،‬وما لبث الفنانون أن ْ‬
‫جمموعاهتم عنصر احلياة واحلركة‪ .‬ولذلك أصبح هذا‬
‫النوع من النحت‪ ،‬السيما النحت النافر‪ ،‬فنّاً ملحميّاً‪،‬‬
‫روائياً‪ ،‬يصلح عموماً لتصوير األحداث التارخيية‪،‬‬
‫واحلياة اليومية‪ ،‬ونشاط اإلنسان بصفة عامة‪.‬‬

‫‪- 15 -‬‬
‫وقد استخدم هذا األسلوب النحيت التزييين يف‬
‫تزيني املداخل اخلارجية للمعابد‪ .‬وتتأ ّلف عناصر هذا‬
‫األسلوب بشكل عام من بعض أعمال اإلله الذي ُك ِّرس‬
‫املعبد له‪ .‬وينتصب متثال ذلك اإلله املنفرد يف موضع‬
‫داخلي يُبنى خصيصاً هلذه الغاية‪ .‬ففي معبد البارثنون‬
‫يف أثينا‪ ،‬مثال‪ ،‬وهو املعبد الذي بُين تكرمياً لإلهلة‬
‫أثينا حاميةِ املدينة‪ ،‬نُحتت على واجهتَي املعبد املثلثتني‬
‫مواضيعُ خاص ٌة هبذه اإلهلة‪ ،‬إذ صوَّروا على الواجهة‬
‫الغربية صراع اإلهلة أثينا مع إله البحر بوسيدون يف‬
‫سبيل بسط الرعاية على مدينة أثينا‪ ،‬بينما صوَّروا‬
‫على الواجهة الشرقية والدةَ الربة أثينا من رأس أبيها‬
‫اإلله زيوس‪.‬‬
‫نقش‬
‫أما يف امليتوبونات اليت هي يف األصل لوحاتُ ٍ‬
‫منفصلة كانت تزين اإلفريز‪َ ،‬فتُصَوِّرُ صراع الالبيثيني‬
‫والقناطرة (واحدُهم ُقنطور‪ ،‬وهم شعب خرايفٌّ نصفهم‬
‫األعلى إنسان واألسفل حصان) بطريقة سردية متتلئ‬
‫مشاهدها بعنصر احلركة الذي حيقق التوازن مع‬
‫اخلطوط املعمارية الساكنة‪ .‬وكان الفنان اليوناني‬
‫فيدياس الذي أشرف على تنفيذ منحوتات املعبد‬
‫مجيعها قد اعتمد أسلوبَي النحت الغائر والبارز‪ .‬وجدير‬

‫‪- 16 -‬‬
‫بالذكر أن املنحوتات اليت ن ّفِذت بالطريقة البارزة كان‬
‫بروزها شديد الضخامة حتى لتبدو أشكاهلا يف استدارة‬
‫التماثيل وجتسيمها‪.‬‬
‫وقد كان بروز املنحوتات مطلباً ضرورياً كي يتسنّى‬
‫للناس رؤيتُها وهم على األرض دون أن يطغى املبنى‬
‫عليها فيحجبها عن أبصارهم جزئياً أو كلّياً‪.‬‬

‫ميتوب يصور صراع القنطور والالبيث‪.‬حوايل‪445‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪- 17 -‬‬
‫كما صُ ّمِمت األجزاء الغائرة من منحوتات احلشوات‬
‫لتكون عميقة إىل حد يتيح هلا استقطاب ضوء الشمس‬
‫الساطعة استقطاباً كامالً‪ ،‬وبذلك تبدو أشكاهلا مائلة كي‬
‫تتباين مع اخلطوط الرأسية للعتبات أسفلها؛ والطنف‬
‫أعالها‪ ،‬فتشيع التوازن املطلوب‪ .‬ومن أفضل األمثلة‬
‫الباقية اليت حنتها فيدياس نفسُه ذلك القنطور اجلريح‬
‫وهو يستدير للفِرار متحسساً اجلرح يف ظهره بيده‬
‫اليمنى‪ ،‬فيما جيذب الالبيث مؤخرة رأسه حماوالً طعنه‬
‫من جديد‪ .‬ونرى جسد الالبيث ملقىً على األرض‪ ،‬وكأنه‬
‫متثال منفرد أمام طيات عباءته املنسابة فوق ذراعه‪،‬‬
‫واملتعارضةِ تعارضاً خالباً مع القنطور الذي حياول مسك‬
‫رأسه لتسديد ضربة إليه‪.‬‬

‫تطوُّر النحت تارخيياً‪:‬‬

‫مر فن النحت مبراحل خمتلفة قبل أن يصل إىل‬


‫فرتة االزدهار والتألق والكمال يف العصر الكالسيكي‬
‫اإلغريقي (يف القرنني السادس واخلامس قبل امليالد)‪،‬‬
‫بدءاً من الشرق وصوالً إىل الغرب‪ .‬ولذلك فإننا سنكتفي‬
‫باستعراض أهم هذه املراحل‪.‬‬

‫‪- 18 -‬‬
‫‪-1‬النحت السوري القديم‪:‬‬

‫تبني املكتشفات األثرية أن السوريني القدماء عرفوا‬


‫فن النحت منذ آالف السنني‪ ،‬وم��ارس��وه يف خمتلف‬
‫مناطقهم املمتدة من جنوب األناضول وحتى املناطق‬
‫اجلنوبية من بالد الشام‪ ،‬وأن هذا الفن تأثر بفنون‬
‫املناطق اجمل���اورة وتقاليدها‪ ،‬مع احتفاظه بطابعه‬
‫اخلاص‪.‬‬
‫ومل يعتمد الفنانون السوريون يف صنع منحوتاهتم‬
‫على مادة معينة‪ .‬بل استخدموا مواد متعددة‪ ،‬كالبازلت‬
‫والغرانيت واملرمر والعاج‪ ،‬وصوالً اىل احلجارة الكرمية‬
‫و شبه الكرمية‪.‬‬

‫وقد كانت املنحوتات الطينية‪ ،‬يف العصور القدمية‬


‫شائعة بني العامة يستخدموهنا يف صنع التمائم أو‬
‫الرموز‪ ،‬ويغلب عليها الطابع التجريدي (أي اخلطوط‬
‫العريضة‪ ،‬أو الشكل العام للموضوع املراد حنتُه دون‬
‫الدخول يف تفصيالته)‪ .‬أما العاج واملرمر فلم يكونا‬
‫يُستَخدمان إال يف صنع متاثيل الطبقة احلاكمة أو‬
‫النافذة اليت تز ِّين هبا قصورها‪ ،‬أو تق ّدِمها قرابنيَ‬
‫‪- 19 -‬‬
‫للمعابد‪ .‬وتعترب هذه املنحوتات منوذجاً موثقاً للطقوس‬
‫االحتفالية يف العهود القدمية‪ .‬ومن أبرز األشكال اليت‬
‫حنتها الفنان السوري يف العصور القدمية متثال «الربة‬
‫األم» بصدرها الواسع‪ ،‬وثدييها الثقيلني‪ ،‬وعجيزهتا‬
‫الضخمة البارزة‪.‬‬
‫وتعد مدينة جوزن (تل حلَف‪ ،‬الواقع مشال شرقي‬
‫سورية على احلدود السورية الرتكية ويرجع إىل القرنني‬
‫العاشر والتاسع قبل امليالد) من أهم املواقع األثرية‬
‫اليت‪ ‬احتل فيها فن النحت مكاناً بارزاً‪ .‬ففيها نشأ‬
‫وترسّخ الفن اآلرامي (وجد اآلراميون يف سورية منذ‬
‫أواخر األلف الثاني قبل امليالد) يف وقت أبكر ممّا يف‬
‫باقي مناطق بالد الشام‪.‬‬

‫‪- 20 -‬‬
‫صورة من مملكة إميار األلف الثاني قبل امليالد‬

‫‪- 21 -‬‬
‫وقد أبدع فنانو النحت السوري عام ًة و اآلرامي خاص ًة‪،‬‬
‫يف تصوير أشكال خيالية غريبة تتكون من نوعني من‬
‫األحياء‪ ،‬كاحليوانات املفرتسة والطيور اجلارحة (أسد‬
‫جمنح برأس صقر)‪ ،‬أو من اإلنسان واحليوان (إنسان و‬
‫مسكة)‪ ،‬مقلدين يف ذلك فنانني سابقني‪ .‬كما ابتكروا‬
‫أشكاالً خرافية جديدة مت ّثِلها خري متثيل منحوتاتٌ من‬
‫مدينة جوزن كانت تزين بوابة العقارب اليت تفضي إىل‬
‫احلي امللكي‪ .‬ويتألف الشكل املبتكر يف هذه املنحوتات‬
‫من رأس إنسان ملتح عليه تاجً له قرون ُّ‬
‫تدل على ربوبيته‪.‬‬
‫وهذا الرأس مــــر ّكبَ على مقدمة طائر له جسم عقرب‬
‫يعلوه جناحان‪.‬‬

‫حنت مركب من مدينة جوزن القرن العاشر ق‪.‬م‪.‬‬


‫‪- 22 -‬‬
‫ومل يقتصر فن النحت عند السوريني على متاثيل‬
‫إنسانية أو حيوانية منفردة‪ ،‬أو على مزيج من النوعني‪،‬‬
‫وإمنا ارتبط ارتباطاً وثيقاً بفن العمارة حتى كاد أن‬
‫يكون جزءاً منه‪ .‬ويظهر هذا جليّاً يف معبد «عني دارة»‬
‫(بالقرب من مدينة حلب ويرجع إىل القرن العاشر قبل‬
‫امليالد)‪.‬‬

‫منحوتات القرن العاشر ق‪.‬م‬

‫‪- 23 -‬‬
‫فاللوحات املنقوشة والتماثيل هي اجلزء األهم يف‬
‫ذلك املعبد‪ ،‬وهي مستخدمة كزخارف تزيينية وكدعامة‬
‫للجدران تزيدها قوةً وصالبة‪.‬‬

‫منحوتات القرن العاشر ق‪.‬م‬

‫وكان سكان «إبال» (تل مرديخ يقع بالقرب من مدينة‬


‫حلب‪ ،‬سُكن يف منتصف األل��ف الثالث قبل امليالد)‬
‫وسكان «آالالخ» (تل عطشانة ويقع على هنر العاصي‬
‫ويعود إىل بداية األل��ف الثاني قبل امليالد) أو َل من‬
‫‪- 24 -‬‬
‫استعمل اللوحات احلجرية املنحوتة يف دعم اجلدران‪،‬‬
‫يكسون هب��ا األج���زاء السفلى م��ن ب��واب��ات مدينتهم‪،‬‬
‫وذلك يف القرن الثامنَ عَشَرَ ق‪.‬م‪ .‬وسواءٌ أكانت هاتان‬
‫املدينتان أول من ابتكر هذه التقنية املميزة أم ال‪ ،‬فإهنا‬
‫ظهرت أوّ َل ما ظهرت يف بالد الشام وبقيت سائدة يف‬
‫آالالخ خالل القرنني اخلامسَ عَشَرَ والرابعَ عَشَرَ قبل‬
‫امليالد‪.‬‬

‫منحوتات القرن العاشر ق‪.‬م‬

‫‪- 25 -‬‬
‫وتوجد يف معبد عني دارة سبعون قطعة من أهم‬
‫املنحوتات وقد نقشت عليها صور أبي اهلول واألسد‬
‫بطريقة النحت البارز‪ ،‬ونفذت بتقنية عالية‪ .‬وفيها‬
‫نرى أجسام احليوانات شديدة الربوز‪ ،‬تلتفت برؤوسها‬
‫حنو اليمني أو حنو اليسار‪ .‬ويبدو أن هذه االلتفاتة‬
‫سامهت يف جعل األجسام تبدو وكأهنا جمسمة‪ ،‬على‬
‫الرغم من أهنا ملتصقة باللوحة من أحد جانبيها‪.‬‬

‫أبو اهلول القرن العاشر ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪- 26 -‬‬
‫و تظهر احليوانات أزواجاً‪ ،‬يتألف كل زوج من‬
‫أسدين‪ ،‬أو من أسد وأبي اهلول‪ ،‬أو من متثالني ألبي‬
‫اهلول متقابلني يسري كل منهما حنو اآلخر ببطء شديد‪،‬‬
‫فتبدو وكأهنا ساكنة ال حَراك فيها‪.‬‬
‫لقد امتنع النحاتون‪ ،‬كما يف منحوتات جوزن‪ ،‬عن‬
‫إظهار تفاصيل كثرية يف أعضاء اجلسم‪ .‬ولع َّلهم كانوا‬
‫يريدون من ذلك تصوير حيوانات هادئة وقورة‪ ،‬وليس‬
‫حيوانات مهامجة أو متوثبة‪ .‬ويتجلى هذا القصد واضحاً‬
‫من ذيول احليوانات امللتوية بني القائمتني اخللفيتني يف‬
‫حركة ال تكون إال يف حالة السكون أو السري البطيء‪.‬‬
‫كما عكف النحاتون على حنت األشخاص بطريقة‬
‫جتريدية أكثر ممّا هي واقعية‪ ،‬وذلك ألن الغاية الدينية‬
‫من تلك التماثيل كان ميكن أن تتحقق حتى عن طريق‬
‫األشكال اجململة غري املتقنة‪ .‬وقد درج اآلراميون على‬
‫وض��ع متاثيل يف امل��دف��ن لكبار ال��ق��وم‪ ،‬ان��ط�لاق��اً من‬
‫اعتقادهم بأن التمثال ينوب عن اجلسد الفاني‪ ،‬وفيه‬
‫وبواسطته يبقى امليت حياً‪ .‬وقد عثر على متثال لرج ٍل‬
‫وامرأة جالسني جبانب بعضهما يف حجرة عبادة قريبة‬
‫من املدفن‪ .‬ورمبا كانت الغاية من وضع التمثال يف القرب‬
‫خللَفُ بالسَّلفِ عندما يقومون بزيارة القبور‪.‬‬ ‫أن يلتقيَ ا َ‬

‫‪- 27 -‬‬
‫ومع التطور التارخيي يف املنطقة ازداد االهتمام‬
‫بتمثيل األشكال اإلنسانية وجتسيدها‪ ،‬سواءٌ أكانت‬
‫حقيقية أو أسطورية‪ ،‬مبالمح ونسب إنسانية أقرب‬
‫إىل الواقعية منها إىل التجريد‪ .‬على أن أكثر املنحوتات‬
‫كان مصنوعاً من احلجر (الرخام‪ ،‬أو احلجر الكلسي‪،‬‬
‫أو البازلت)‪.‬‬

‫تل حلف القرن العاشر ق‪.‬م‬

‫‪- 28 -‬‬
‫وقد أبدع الفنانون التدمريون يف حنت التماثيل‬
‫البشرية‪ ،‬وال سيّما اجلنائزية اليت مت العثور على أعداد‬
‫كثرية منها يف القبور‪ .‬ويوجَدُ وهناك متثال المرأة‬
‫تدمرية يكشف فيه النحات عن اهتمامه بتصوير‬
‫التفاصيل‪ ،‬من شَعر وحليّ وثياب‪ ،‬وهذا يبني أن الفن‬
‫التدمري كان قد بلغ درجة كبرية من الدقة والواقعية‪.‬‬

‫إمرأة تدمرية القرن األول امليالدي‬

‫‪- 29 -‬‬
‫‪-1‬النحت السومري‪:‬‬

‫كان السومريون الذين استقروا يف جنوبي العراق يف‬


‫النصف الثاني من األلف الرابع قبل امليالد)‪ ،‬شأنُهم‬
‫يف ذلك شأنُ غريهم من الشعوب القدمية‪ ،‬يعتقدون‬
‫بأنه ال يوجد فرق جوهري بني اإلنسان وصورته‪ .‬وهلذا‬
‫السبب جند اإلنسان السومري يهتمُّ بنحت متثال له‬
‫يضعه يف املعبد ليُظهر من خالله خضوعه لآلهلة‪.‬‬
‫وهذه التماثيل كتلة عدمية احلركة‪ ،‬حتملق بعينيها إىل‬
‫حناتوها مبالمح الوجه‬‫األمام بنظرة جامدة‪ ،‬ال يهتم ّ‬
‫وخصوصياته الفردية‪.‬‬

‫ولكن مييزُ هذه التماثي َل القوةُ العضلي ُة اليت استطاع‬


‫النحاتون السومريون إبرازها بشكل متقن مل يصل إليه‬
‫اإلغريق إال بعد فرتة طويلة من الزمن‪.‬‬
‫وخيتلف الوضع عندما يتعلق األمر بالنحت النافر‪.‬‬
‫ففي هذا النوع من النحت يسهل عرض جمموعة من‬
‫األشخاص‪ ،‬وإظهار العالقة املتبادلة فيما بينهم‪ .‬ولذلك‬
‫يتجه األشخاص يف املنحوتات السومرية حنو بعضهم‬
‫بعضاً‪ ،‬وليس حنو املشاهد‪ .‬وقد جلأ بعض النحاتني‬

‫‪- 30 -‬‬
‫الرافديني إىل اعتماد قانون اإلسقاط‪ ،‬الذي ميزج يف‬
‫صورة واحدة أسلوبني متثيليني‪ ،‬مها‪ :‬اجلبهي واجلانيب‪،‬‬
‫وذلك تفادياً لتصوير مالمح الوجه جبهياً‪ ،‬وهو تصوير‬
‫مصحوب ببعض الصعوبات‪ .‬وقانون اإلسقاط أسلوب‬
‫شائع يف فن الشرق القديم‪ ،‬يستخدمونه عندما كانوا‬
‫يصورون اجلذع والقدمني جبهياً‪ ،‬أما الرأس فكانوا‬
‫يصورنه جانبياً‪ ،‬باستثناء واحد هو العني اليت تكون‬
‫مرئية بشكل جبهي‪.‬‬

‫رجل سومري‬
‫‪ 2650-2750‬ق‪.‬م‬

‫‪- 31 -‬‬
‫يربز حب القوة يف املَشاهد الدموية اليت تظهر يف‬
‫عديد من املنحوتات احلجرية البارزة اليت َّ‬
‫مت اكتشافها‬
‫يف مدينة نينوى‪ ،‬واليت يرجع تارخيها إىل الفرتة مابني‬
‫وتسجل تلك املَشاهد انتصارات‬ ‫ِّ‬ ‫(‪ 600-800‬ق‪.‬م)‪.‬‬
‫امللوك وتُصوِّرُ وملذاهتم‪.‬‬

‫احلاكم السومري أورنانشي يشارك‬


‫يف بناء املعبد‪ ،‬حنو ‪ 2520‬ق‪.‬م‬

‫وجدير باإلشارة هنا أن األفضلية يف النحت عند‬


‫املصريني كانت لآلهلة‪ ،‬بينما نرى أنَّ اآلشورينيَ‪ ،‬الذين‬
‫‪- 32 -‬‬
‫سكنوا النصف الشمايل من بالد الرافدين يف أواخر‬
‫ضِلون حنـــت صور‬ ‫األلف الثالث قبـــل امليالد‪ ،‬كانـــوا يف ّ‬
‫ومتاثي َل للملوك‪ .‬فقد صور النحاتون اآلشوريـــون‬
‫ملوكهم أبـــطــــاالً أقوياء يواجهون األعداء وينتصرون‬
‫عليهم‪ ،‬و صيادين ماهرين يستطيعون صيد أقوى‬
‫احليوانات الوحشية أال وهي األسود‪.‬‬
‫ورغم ما أبداه النحاتون اآلشوريون من اهتمام كبري‬
‫بنحت متاثي َل للرجال يف خمتلف أعماهلم‪ ،‬فإهنم مل‬
‫يلتفتوا إىل حنت متاثيل وصور للنساء‪ ،‬ال للملكات وال‬
‫لإلهلات‪ ،‬إال يف حاالت استثنائية نادرة‪.‬‬
‫‪-2‬النحت املصري‪:‬‬

‫يشكل فن النحت املصري مرحلة مهمة يف تطور‬


‫فن النحت عموماً‪ .‬وال يعود السبب يف ذلك إىل أن‬
‫إبداعات املصريني القدماء العظيمة تشهدُ على ما‬
‫ابتكروه من تقنية جتمع بني الكمال والدقة فحسب‪،‬‬
‫وأهنا مصممةٍ وَفق أسلوب خاص متاماً‪ ،‬بل يعود إىل‬
‫أن فن النحت املصري القديم كان أيضاً مصدراً مل ِهماً‪،‬‬
‫ونقطة انطالق هامّة لفن النحت اإلغريقي‪.‬‬
‫لقد اعتمد الفنانون املصريون يف منحوتاهتم قانون‬
‫‪- 33 -‬‬
‫اجلبهة‪ ،‬إذ نالحظ أن مجيع الشخصيات املنحوتة‬
‫عندهم‪ ،‬سواء أكانت واقفة أم جالسة‪ ،‬سائرة أم‬
‫ساكنة‪ ،‬كانت تبدو منتصبة بصورة يبقى فيها أعلى‬
‫الرأس مع منبت العنق ووسط اجلذع يف مستوى واحد‪.‬‬
‫وهذا يعين أن تغيري وضعية العمود الفقري‪ ،‬بانثناء حنو‬
‫اليمني أو اليسار‪ ،‬كان أمراً حمظوراً يف ذلك العهد‬
‫البعيد‪ .‬وعندما جتتمع الشخصيات على قاعدة‪ ،‬كما‬
‫هو احلال يف اجملموعات النحتية‪ ،‬فإن األعمدة الفقرية‬
‫هليئات تلك الشخصيات تظهر متوازية متاماً‪ ،‬وتستند‬
‫مجيعها بكل ثقلها على مشط القدمني‪ .‬وال جند أي‬
‫متثال مصري واقفاً على قدم واحدة‪ ،‬ومستنداً بنهاية‬
‫قدمه األخرى على األرض‪.‬وجاءت معظم صور النساء‬
‫واألطفال وهم يف حالة راحة‪ ،‬ملتحمِي األفخاذ‪ ،‬وال‬
‫وجود لفراغ بينها‪.‬‬
‫وقد راعى النحات املصري من الناحية العملية عدم‬
‫تفريغ التمثال‪ ،‬وإبقاءه كتلة صلبة متماسكة كي يبقى‬
‫سليماً من أجل أن تستطيع الروح بعد موت صاحبها‬
‫التعرف إليه واحللول فيه‪ .‬ولذلك‪ ،‬كان على الفنان‬
‫حت ِّري الصدق والواقع يف تصوير الشخص وتقاطيعه‬
‫ليكون مثاالً صادقاً له‪ ،‬وإال أخطأته الروح‪ .‬إال أن‬
‫‪- 34 -‬‬
‫االلتزام هبذا الصدق مل يفسح اجملال أمام خيال الفنان‬
‫لالنطالق‪ ،‬ومتثي ِل قيم اجلمال العليا يف اإلنسان‪ .‬ويف‬
‫ضوء هذا االستنتاج نستطيع أن نفهم السبب الذي‬
‫حال دون أن تنال متاثيل اآلهلة حظاً كبرياً من اإلتقان‪،‬‬
‫وذلك لسببني‪:‬‬
‫األول‪ ،‬أن متثال اإلله كان يُصنَع يف البداية ليم ّثِ َل‬
‫فكرة معينة خاصة به‪ ،‬وبذلك أصبح كل إله خمتلفاً عن‬
‫غريه مبا يتفرّد به من مميزات ختصُّه وحدَه‪.‬‬
‫والثاني‪ ،‬أن املعابد املصرية مل يكن فيها متثال واحد‬
‫لإلله خمصصٌ هلذا املعبد أو ذاك‪ ،‬يُفرغ فيه النحات‬
‫كل عبقريته وإبداعه‪ ،‬كما سنجد عند اإلغريق فيما‬
‫بعد‪ .‬ألن أفضل مكان يف املعبد عند املصريني‪ ،‬وهو‬
‫وسط اهليكل‪ ،‬كان مقصوراً على رمز اإلله‪ ،‬سواء أكان‬
‫ذلك الرمز حيوان اإلله أم مركبه املقدس أم غري ذلك‬
‫من األشياء اليت متثله‪ .‬ويكون هذا الرمز حمجوباً عن‬
‫أعني الناس مجيعاً‪ ،‬باستثناء امللك والكاهن األعظم‪.‬‬
‫لذلك مل جيد النحات املصري أي ضرورة لبذل جهد‬
‫كبري يف إتقان صنع التماثيل‪.‬‬
‫وسواء صُنعت التماثيل كي توضع يف القرب‪ ،‬أو كي‬
‫مت ّثِل اآلهلة وتكون رمزاً هلا‪ ،‬فإن الغرض الديين كان‬
‫‪- 35 -‬‬
‫دائماً يف حسبان النحاتني ونُصْبَ أعينهم‪ .‬ولَمَّا كان‬
‫املصريون يَعمَدون إىل استخدام أقسى أنواع احلجارة‬
‫الصلبة‪ ،‬كالغرانيت والديوريت‪ ،‬والبازلت‪ ،‬من أجل‬
‫صنع متاثي َل قادرةٍ على أن تقاوم الزمن‪ ،‬فإنَّ عملهم‬
‫كان مصحوباً دائماً بصعوبة يف حنت املادّة وتكييفها‪ ،‬أو‬
‫تطويعها هلدفهم املنشود‪ .‬ولكي يتجنبوا تشويه التمثال‬
‫ُضطرون إىل جعله خالياً من الفراغات‪،‬‬‫أو كسره كانوا ي َّ‬
‫تلتصق ذراعاه باجلسم‪ ،‬فال يظهر حتى الفراغ الذي ال‬
‫بدَّ من وجوده بني الذراع واجلسم‪.‬‬

‫صورة التمثال يف‬


‫املنتصف‪ ،‬منوذج‬
‫للشاب الرياضي‬
‫اليوناني»كورس»‪.‬‬

‫‪- 36 -‬‬
‫وكذلك فعلوا بالفراغ املوجود بني الساقني‪ .‬وألن‬
‫ر ّقة العنق قد تع ِّرض التمثال للكسر‪ ،‬فقد أسدلوا شَعر‬
‫التمثال إىل الكتفني‪ ،‬أو وضعوا على رأسه غطاءً ينسدل‬
‫حتى الكتفني‪ .‬كما كانوا يضعون خلف التمثال الواقف‬
‫عموداً يستند إليه‪ ،‬فيزيده متانة وصالبة‪ ،‬وحيميه من‬
‫الكسر‪.‬‬

‫متثال الكاتب‪2475 ،‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪- 37 -‬‬
‫وقد وضعت مدرسة ممفيس‪ ( ،‬مدينة ممفيس هي‬
‫العاصمة األوىل للفراعنة وتعود إىل بداية األلف الثالث‬
‫قبل امليالد) األسس اليت يقوم عليها فن النحت املصري‬
‫القديم‪ ،‬فنتج عن ذلك تنوع كبري يف الوضعيات اليت‬
‫تتّخذها التماثيل‪ ،‬واختالف بني أوضاع الوقوف‪ ،‬حيث‬
‫تكون الساقان ملتصقتني‪ ،‬أو تتقدم ال ِّرجْل اليسرى على‬
‫اليمنى‪ ،‬وبني أوضاع اجللوس‪ ،‬والركوع‪ ،‬والرتبع‪ .‬ومن أشهر‬
‫متاثيل الوضعية األخرية‪ ،‬أي وضعية الرتبُّع‪ ،‬متثال تربُّ ِع‬
‫الكاتب‪ .‬وقد حرص عديدٌ من علية القوم‪ ،‬على تصوير‬
‫أنفسهم يف جلسة القارئ أو الكاتب على امتداد تاريخ‬
‫مصر القديم‪.‬‬
‫إال أن أول ما يسرتعي نظر املرء عندما يكون أمام‬
‫عمل من أعمال فن النحت املصري هو غياب احلرية‬
‫اخلالقة‪ ،‬رغم جودة التقنية‪ ،‬كما أَسْل َ ْفنا‪ .‬ولذلك‬
‫كانت متاثيل اآلهلة تُن َّفذ وَفق منط ثابت يتحدّث عنه‬
‫الفيلسوف اليوناني العظيم أفالطون (‪347-428‬ق‪.‬م‪).‬‬
‫قائالً‪« :‬جرى تقرير هذا النمط وتثبيته يف زمن ال تعيه‬
‫ذاكرة الكهنة‪ ،‬ومل يكن مباحاً ال للكهنة وال لسائر صنّاع‬
‫األشكال أن يُدخلوا عليه أي جتديد‪ ،‬أو أن يبتكروا‬
‫شيئـــاً آخر غري ما تناقله التقليد»‪.3‬‬
‫‪-3‬هيغل‪ ،‬فن النحت‪ ،‬ص‪.120‬‬
‫‪- 38 -‬‬
‫ولذلك مل يسعَ الفنانون يف صنع متاثيلهم إىل التعبري‬
‫عن احلقيقة واحلياة واحلرية اليت تبث احلركة يف‬
‫العمل الفين احلر‪.‬‬

‫إيزيس حتمل ابنها‪ ،‬حنو بداية األلف الثاني ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪- 39 -‬‬
‫وتبدو هذه التماثيل وكأهنا صورة جلسد تغيب عنه‬
‫احلياة‪ .‬ويكفي إلظهار ذلك أن نستشهد هنا بتمثال‬
‫إيزيس‪ ،‬إهلة اخلصوبة وراعية األمومة‪ ،‬وهي حتمل‬
‫على ركبتيها ابنها حوروس‪ .‬فهناك شبَهٌ بني موضوع‬
‫هذا التمثال وموضوع مريم العذراء وابنها املسيح‪ ،‬وهو‬
‫من املوضوعات املفضلة يف الفن املسيحي‪ .‬لكننا ال‬
‫نالحظ يف متثال إيزيس أي أث ٍر ملشاعر األمومة‪ ،‬إذ‬
‫ليس ثَمَّ ابتسامة‪ ،‬وال طيف مداعبة‪ ،‬وكذلك ابنها الذي‬
‫يبدو كمن ال تربطه بأ ّمِه أي عالقة تنبض بالشعور أو‬
‫العاطفة‪ .‬وهذا ما يضعنا أمام منحوتة متقنة الصنع‬
‫ملشهد حقيقي‪ ،‬ولكنها خالية من احلس واحلياة‪.‬‬
‫أما احلفر يف عهد الدولة الوسطى (‪1778-2052‬ق‪.‬م)‬
‫فكان مشاهباً لنظريه يف العصر املمفيسي األول‪ ،‬مع فارق‬
‫واحد هو أن النحّاتني‪ ،‬ابتداءً من األسرة احلادي َة عشْرةً‪،‬‬
‫باتوا يط ِّولون الساقني‪ ،‬وير ّقِقون الفخذين والعنق‪ ،‬فيبدو‬
‫اجلسم ناحال رقيقاً‪.‬‬
‫ ومل�����ا ج�����اء أخ���ن���ات���ون ب���دي���ان���ت���ه اجل���دي���دة‬
‫(‪1352-1370‬ق‪.‬م) حترر الفنانون من القيود‪ ،‬وأطلقوا‬
‫العنان ملخيالهتم فارتقوا بالفن إىل درج��ة رفيعة‪،‬‬
‫وأنتجوا مواضيع مليئة باملشاهد اجلميلة‪ ،‬كاالحتفاالت‬
‫‪- 40 -‬‬
‫القومية‪ ،‬واالستقباالت الرمسية‪ ،‬ومناظر احلدائق‬
‫واملنازل‪ .‬ومل يهمل النحاتون تصوير حياة الفرعون يف‬
‫قصره وإظهار حبه ألبنائه‪ ،‬من خالل تصويره يف وضع‬
‫إنساني ويف حلظة ود خالصة بينه وبني طفلته‪ .‬إال‬
‫أن هذه التطورات الفنية سرعان ما اهنارت إثر اهنيار‬
‫العبادة اجلديدة عبادة اإلل��ه آت��ون‪ ،‬فعادت التقاليد‬
‫القدمية إىل الظهور من جديد‪.‬‬

‫أخناتون وابنته‬
‫القرن‪14‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪- 41 -‬‬
‫وملّا جاء عصر اإلسكندر والبطاملة من بعده (الثلث‬
‫األخري من القرن الرابع قبل امليالد)‪ ،‬اختلط الفن املصري‬
‫باإلغريقي‪ ،‬وبرزت مدرسة اإلسكندرية للنحت‪ .‬ويف‬
‫عهد الرومان نقش العمال جدران املعابد وَفقاً للقاعدة‬
‫القدمية‪ ،‬فأتت نقوشاً ثقيلة فاترة‪ .‬ومع غارات الربابرة‬
‫وما تالها من انتشار املسيحية (أوائل القرن الرابع‬
‫امليالدي)‪ ،‬انتهى الفن املصري القديم‪ ،‬وبرز عوضاً عنه‬
‫فنٌّ جديد يتم ّتع مبالمح دينية مسيحية واضحة‪.‬‬
‫وال بدَّ من التذكري بأن فن النحت املصري القديم‪،‬‬
‫على الرغم ممّا وصل إليه من انتشار وازدهار‪ ،‬أ َ ّنهُ‬
‫مل يكن لفنانيه حظوة ومكانة يف جمتمعه‪ .‬وكانت‬
‫منزلتهم مع أبنائهم أدنى من منزلة املواطنني الذين ال‬
‫يزاولون أي فن‪ .‬أضف إىل ذلك أن االبن غالباً ما كان‬
‫خيلِف أباه يف هذه املهنة‪ ،‬وذلك نزوالً عند مقتضيات‬
‫الطوائف املغلقة وتقاليدها‪ .‬فقد سار اخللَف على‬
‫خطى السلف‪ ،‬وانقلب فن النحت مهنة أو عمالً روتينياً‬
‫ال غري‪ ،‬ولَمَّا كان عمل النحّاتني جمرداً من كل رغبة‬
‫حرة؛ فقد أصبح عمالً ميكانيكياً هدفه كسب املال‬
‫لتلبية متط َّلبات احلياة‪ ،‬وليس التعبري عن موهبة الفنان‬
‫وفرديته اخلاصة‪ .‬لقد كان النحّاتون يقومون باستنساخ‬
‫‪- 42 -‬‬
‫بعض النماذج واألشكال طبقاً لقواعد ثابتة ال يتطلّب‬
‫تقليدُها وااللتزام هبا موهب ًة خاصة‪ ،‬أو طموحاً إىل‬
‫ابتكار أو جتديد‪.‬‬
‫‪-3‬النحت اإلغريقي‪:‬‬

‫إن فن النحت اإلغريقي مثال واضح على وعي الذات‪.‬‬


‫وهلذا السبب جنده خالياً من عيوب النحت املصري‪.‬‬
‫ولكن هذا التطور مل يأتِ فجأة‪ ،‬بانتقال سريع من‬
‫حنتٍ ناقص ال يزال رمزياً إىل كمال املثال الكالسيكي‪،‬‬
‫وإمنا مت بشكل تدرجيي‪ ،‬مروراً باآلثار الفنية اإلجيينية‬
‫اإلجيينية (جزيرة يف البحر املتوسط قريبة من مدينة‬
‫أثينا) اليت جتاوزت تكرار األشكال لتطابق الواقع يف‬
‫أرجح الظن‪.‬‬
‫لقد حاول النحاتون اإلجيينيون حنت أجسام متاثيلهم‬
‫البشرية بدقة عالية‪ ،‬وواقعية متميزة‪ ،‬باستثناء الرأس‬
‫الذي كانوا يص ِّورنه بشكل واحد‪ :‬األذنان عاليتان‪،‬‬
‫العينان مسطحتان ومنحرفتان‪ ،‬الفم مطبق ينتهي‬
‫بزاويتني صاعدتني‪ ،‬اجلبني غائر‪ ،‬واألنف مدبب‪ .‬ورمبا‬
‫تدل أحادية الشكل هذه على تصور إمجايل للسمات‬
‫القومية‪ ،‬أو على احرتام للتقاليد القدمية اليت حتول‬
‫‪- 43 -‬‬
‫بني الفنانني واإلبداع‪ ،‬على الرغم من قدرهتم عليه‪.‬‬
‫فإذا كان املصريون القدماء قد عبَّروا بف ّنِهم عن‬
‫فكرة اخللود أساساً‪ ،‬واهتمَّ الفن البابلي واآلشوري‬
‫بالتعبري عن القوة‪ ،‬فإن الفن اإلغريقي الذي خيتلف‬
‫عمَّا تقدَّمه من الفنون خبل ِّوه من األسرار‪ ،‬وبعدم تأ ُّثره‬
‫باملفاهيم الدينية الغامضة اليت جهدت فنون األمم‬
‫الشرقية يف الكشف عن خفاياها‪ ،‬فإنَّ هذا الفن كان‬
‫هدفه اجلما َل‪ ،‬والسيَّما اجلمال اإلنساني حتديداً‪.‬‬
‫على الرغم من فقدان عدد كبري من التماثيل اليونانية‪،‬‬
‫فإن ما بقي منها يكفي لتحديد اخلطوط العريضة يف‬
‫تاريخ هذا اللون من ألوان الفن‪ .‬وذلك باالعتماد على‬
‫األعداد الكبرية من املستنسخات الرومانية عن مناذج‬
‫التماثيل اليونانية‪ ،‬باإلضافة إىل الك َّتاب القدامى يف‬
‫جمال الفن‪ ،‬مثل بلينيوس األكرب (‪ 79 -23‬م) يف كتابه‬
‫«التاريخ الطبيعي»‪ ،‬و باوزينياس يف كتابه «دليل اليونان»‬
‫يف القرن الثاني امليالدي‪ .‬وتشكل النقوش اليت تتألف‬
‫غالباً من قوائمَ مبحتويات املعابد‪ ،‬أو توقيعات على‬
‫قوائم التماثيل واللوحات احملفورة‪ ،‬عنصراً إضافياً‬
‫مهمّاً يف حتديد تاريخ هذا الفن‪.‬‬

‫‪- 44 -‬‬
‫مراحل تطور فن النحت يف اليونان‪:‬‬
‫املرحلة األوىل‪:‬‬

‫(مرحلة الفن الباكر‪ ،‬أو املرحلة اهلندسية)‬


‫تبدأ هذه املرحلة مع الغزوات الدُّورية للبالد اليونانية‬
‫يف أواخر األلف الثاني قبل امليالد‪ ,‬وتستمر حتى هناية‬
‫القرن الثامن وبداية السابع قبل امليالد‪ .‬إن متاثيل‬
‫هذه املرحلة صغرية احلجم‪ ،‬بسيطة التكوين‪ ،‬صنعها‬
‫أصحاهبا آلهلتهم كي يستدرّوا عطفها ويستجلبوا‬
‫رضاها‪ .‬وأشكال هذه التماثيل هندسية‪ ،‬فأجسامها‬
‫وأعناقها طويلة‪ ،‬وجذوعها مثلثة‪ ،‬وخصورها حنيلة‪،‬‬
‫وعجائزها ب���ارزة‪ ،‬وتقاطيع وجوهها مُجْمَل َ ٌة وغري‬
‫متقنة‪.‬‬

‫املرحلة الثانية‪:‬‬

‫متتد من القرن السابع وحتى بداية القرن اخلامس‬


‫قبل امليالد‪ .‬وهي مرحلة جديدة دعيت مبرحلة الفن‬
‫العتيق‪ .‬وقد واكبت منوَّ التجارة وإنشاء املدن‪ ،‬وظهرت‬
‫فيها أعمال النحت الكبري‪.‬‬
‫‪- 45 -‬‬
‫ويعود الفضل يف هذه النهضة‪ ،‬طبقا لألدلة املتوافرة‪،‬‬
‫صِالت بني مصر وبالد اليونان‪ ،‬السيما‬ ‫إىل ازدياد قوّة ال ّ‬
‫بعد قيام اليونانيني ببناء مدينة نقراطيس يف مصر يف‬
‫القرن السابع قبل امليالد‪ .‬فقد اعتمد اليونانيون يف‬
‫حنت متاثيلهم منط النحت املصري اعتماداً كامالً‪،‬‬
‫ويظهر ذلك جلياً على وجه اخلصوص يف متثال‬
‫الشاب الرياضي اليوناني «كوروس» ذي الوقفة الثابتة‬
‫اليت تنعدم فيها مالمح الليونة‪ .‬فالوجه جادٌّ‪ ،‬والنظرة‬
‫م َّتجهة بشكل حمدد إىل األمام‪ ،‬والقدم اليسرى متقدمة‬
‫على القدم اليمنى‪ ،‬والذراعان ملتصقتان على اجلانبني‬
‫ومثنيتان قليالً عند املِر َفق يف بعض األحيان‪ ،‬واليدان‬
‫مقبوضتان وكأنه ال يزال فيهما قطعة من احلجر‪.‬‬
‫واالختالف الوحيد بني هذا التمثال والتمثال املصري‪،‬‬
‫أن األخري كان يسنده عمود من اخللف‪ ،‬ويعقد حول‬
‫وسطه مئزراً‪ ،‬أمّا التمثال اليوناني فمن َّفذ دون دعامة‬
‫تسنده‪ ،‬ويظهر عاري اجلسم متاماً‪ ،‬كما هي العادة‬
‫لدى اليونان‪.‬‬

‫‪- 46 -‬‬
‫كورس القرن السادس ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪- 47 -‬‬
‫وعلى الرغم من احتفاظ متاثيل الكوروس بالتأثري‬
‫املصري لفرتة طويلة من الزمن‪ ،‬فإن الفنان اليوناني‬
‫حاول أن يتحلل شيئاً فشيئاً من اجلدية الزائدة‪ ،‬أو‬
‫الصرامة اليت مت ِّيز التماثيل املصرية يف وقفتها‬
‫ونظرهتا‪ .‬فقد بدأت التماثيل يف هذه املرحلة تثري‬
‫لدى املشاهد اليوناني مزيداً من اإلحساس باجلسد‬
‫اإلنساني ومجاليته‪ ،‬ممَّا شجَّع الفنان على التوجُّه إىل‬
‫التعبري عن ذلك بتماثيل ذات أحجام متناسقة‪ ،‬ومالمح‬
‫أكثر طبيعية‪ .‬ونشهد مظاهر التطور التقين حاضرة يف‬
‫بعض متاثيل الكوروس اليت تنتمي إىل أواسط القرن‬
‫السادس قبل امليالد‪ ،‬يوم بدأت تظهر مالمح ابتسامة‬
‫ختفف من صرامة الوجه‪ .‬وال نكاد نصل إىل هناية‬
‫هذه املرحلة مع بداية القرن اخلامس قبل امليالد حتى‬
‫تصبح النظرة أكثر طبيعية‪ ،‬والوقفة أكثر ليونة‪ ،‬فنلمح‬
‫يف الركبتني شيئاً من االسرتخاء‪ ،‬بدال من الركبتني‬
‫املشدودتني سابقاً‪.‬‬

‫املرحلة الثالثة‪:‬‬
‫ت��ب��دأ م��ن هن��اي��ة احل����روب ال��ف��ارس��ي��ة اليونانية‬
‫(‪ 478- 490‬قبل امليالد) وحتى هناية القرن اخلامس‬
‫‪- 48 -‬‬
‫قبل امل��ي�لاد‪ .‬وفيها استمر ال��ف��ن��ان بتمثيل منطي‬
‫لشخص فردٍ‬
‫ٍ‬ ‫للشخص اليوناني بوجه ع��ام‪ ،‬وليس‬
‫بعينه‪ .‬فالتماثيل مجيعها تقريباً متشاهبة يف الطول‬
‫والعرض‪ ،‬ويف مالمح الوجه والعمر – فك ُّلها يف مرحلة‬
‫أوّل الشباب ‪ -‬وهذا ما يشجع على القول بأن التماثيل‬
‫تعرض منطاً مثالياً للفرد‪ ،‬وال متثل أشخاصاً بعينهم‪.‬‬
‫وينطبق ذلك حتى على التماثيل اليت ُكتبت عليها أمساء‬
‫أصحاهبا‪ .‬إال أن التجديد الذي قام به فنانو القرن‬
‫اخلامس قبل امليالد إمنا جتلّى على وجه اخلصوص‬
‫يف تعدد حركات اجلسم الرياضي‪ .‬إذ إن معظم أعمال‬
‫النحت يف هذه املرحلة اهتمت بإبراز تفاصيل اجلسم‬
‫الرياضي بشكل واضح‪ ،‬وبإبراز األوضاع املختلفة اليت‬
‫تالزم أنواع الرياضة املتعددة‪.‬‬

‫ويعزو بعض املهتمني السبب يف ظهور عنصر احلركة‬


‫الرياضية‪ ،‬خاصة مع بقاء االجتاه النمطي‪ ،‬إىل طبيعة‬
‫الفرتة اليت تلت احلروب الفارسية اليونانية‪ .‬فانتصار‬
‫اليونان يف هذه احلروب دفعهم إىل مزيد من االهتمام‬
‫بتدريب الشباب‪ ،‬وخاصة يف اجمل��ال الرياضي‪ .‬كما‬
‫أن الرخاء الذي أمَّنه منوُّ التجارة وازدهارها‪ ،‬أدّى إىل‬
‫‪- 49 -‬‬
‫ازدها ٍر آخر يف جمال الفن عموماً‪ ،‬والنحت خصوصاً‪.‬‬
‫أما بقاء االجتاه النمطي مستمرّاً فريتبط بعودة الثقة‬
‫إىل نفوس اليونانيني‪ ،‬وتوثيق الصلة بني الفرد واجملتمع‪.‬‬
‫وهلذا فإن إقامة التماثيل للمنتصرين يف املباريات اليت‬
‫كانت تقام يف مناسباتٍ عدّة إ ّنما جاء لتخليد منط‬
‫مثايل يع ِّبر عن االلتحام بني اجملتمع واملدينة وآهلة‬
‫املدينة‪ ،‬وليس لتخليد شخص معني انتصر يف مباراته‬
‫على شخص آخر‪.‬‬

‫ومن أهم فناني هذا القرن الفنانُ مورون الذي‬


‫ازدهر نشاطه الفين حوايل عام ‪ 460‬ق‪ .‬م‪ ،‬وهو فنان‬
‫أتيكي (نسبة إىل مقاطعة أتيكا)‪ ،‬مزج الواقع باخليال‪،‬‬
‫واحلركة بالسكون‪ ،‬وجتسَّد هذا املزج يف متثاله رامي‬
‫القرص‪ .‬فهذا التمثال يص ِّور شابّاً يتهيّأ لرمي القرص‬
‫يف إحدى املباريات‪ ،‬وقد احننى إىل األمام مستنداً‬
‫جبسمه كله على الساق اليمنى‪ ،‬فيما تراجعت ساقه‬
‫اليسرى‪ ،‬وارتفع ذراعه األيسر بالقرص إىل حماذاة‬
‫الرأس‪ ،‬وذلك كي يكتسب قوة الدفع القصوى‪ .‬إال أن‬
‫مالمح الوجه ال تتناسب والتوتر املصاحب ملثل هذا‬
‫اجلهد العنيف‪.‬‬
‫‪- 50 -‬‬
‫رامي القرص القرن اخلامس ق‪.‬م‪.‬‬

‫أمّا ثاني فناني القرن اخلامس قبل امليالد فهو‬


‫بولوكليتوس الذي يصفه معاصروه بأنه الفنان الذي‬
‫استطاع االرتقاء بالشكل اإلنساني دون أن يوفق يف‬
‫تصوير اآلهلة‪ .‬وكان له تأثري كبري يف خلق منوذج مثايل‬
‫يرضي تناس ُقه العنيَ والفكر معاً‪ .‬وقد ابتدع يف متاثيله‬
‫مبدأ التوازن القائم على التعارض بني حركات اجلذع‬
‫‪- 51 -‬‬
‫وحركات النصف األدنى من اجلسم‪ .‬ومن أشهر متاثيله‬
‫حامل الرمح الذي وصفه املؤرخ بلينيوس بقوله‪:‬‬

‫حامل الرمح‪ ،‬جزء‪،‬‬


‫القرن اخلامس ق‪.‬م‬

‫«هو فتى تشيع فيه مالمح الرجولة‪ ،‬ميسك رحماً‬


‫فيستمد منه الفنانون أصول الفن وكأهنم يستمدوهنا من‬
‫القانون» ‪.4‬‬
‫أما فيدياس فهو ثالث فناني هذه املرحلة‪ .‬وكنا قد‬
‫أشرنا سابقاً إىل قيامه باإلشراف على منحوتات معبد‬
‫البارثنون‪ .‬فمن خالل أعمال فيدياس ومدرسته نتبني‬

‫‪-4‬عكاشة‪ :‬الفن اإلغريقي‪ ،‬ص‪.404‬‬


‫‪- 52 -‬‬
‫االجتاه الفين الذي اهتم به‪ ،‬وهو اجتاه يَظهر من خالله‬
‫االهتمامُ باللمسات التفصيلية اليت تشمل كل شيء‪،‬‬
‫فتُغين العمل وتزيد تعدد معانيه‪ ،‬دون أن ينحصر دورُها‬
‫يف االنكباب على هدف واحد حيدد العمل‪ .‬وهذا االجتاه‬
‫يعكس عصر بريكلس الذي حكم مدينة أثينا ألكثر من‬
‫ثالثني عاماً (‪429-460‬ق‪.‬م‪ ).‬بكل ما فيه من رخاء وراحة‬
‫نفسية‪ .‬وقد اهتم فيدياس يف منحوتات امليتوبونات بإظهار‬
‫التهدالت والثنيات يف الثياب اليت ترتديها اآلهلة‪ ،‬وبقوام‬
‫األشخاص الذين يظهرون يف االستعراض‪ ،‬سواء أكانوا‬
‫بشراً أم آهلة‪.‬‬

‫ميتوب يصور املعركة بني اإلغريق‬


‫واألمازونات‪ ،‬البارثنون‪ ،‬حنو‪435‬ق‪.‬م‪.‬‬
‫‪- 53 -‬‬
‫املرحلة الرابعة‪:‬‬

‫وتشغل القرن الرابع قبل امليالد‪ .‬وقد احتفظ‬


‫فنانوها باملستوى التقين الذي بلغه فنانو القرن‬
‫السابق‪ ،‬حتى إنه كان من الصعب التفريقُ بني متاثيل‬
‫القرن اخلامس‪ ،‬ومتاثيل مستهل القرن الرابع قبل‬
‫امليالد‪ .‬إال أن األوضاع املضطربة اليت عانت منها بالد‬
‫اليونان‪ ،‬والسيما احلروب البلويونيزية (‪404 -431‬‬
‫ق‪.‬م) اليت قامت بني مدينيت أسربطة وأثينا‪ ،‬وكذلك‬
‫أفكار الشعراء والفالسفة الذين عاش معظمهم يف‬
‫مدينة أثينا‪ ،‬أدّت يف مجلة نتائجها إىل تغيريٍ كبريٍ يف‬
‫نظرة الشعب إىل احلياة وقيمها بشكل عام‪ .‬فبدالً من‬
‫متجيد املثل العليا اجملردة وتعظيمها‪ ،‬بدأت العناية‬
‫باإلنسان فرداً مستقالً تنال حظاً وافراً‪ .‬و مل يعد‬
‫الفنان يهتم باألعراف املألوفة اليت كانت تر ّكِز على‬
‫ارتباط الفرد باجملتمع‪ ،‬بل اجته باهتمامه حنو رفع‬
‫األبطال إىل مصافِّ اآلهلة‪ ،‬وغاص يف أعماق اإلنسان‬
‫ليعرب عن مهومه وعواطفه ومشاعره اخلاصة‪ ،‬بدالً من‬
‫االهتمام بأمور اجملتمع ومشاكله‪.‬‬
‫وقد نادى الفيلسوف سقراط (‪399-470‬ق‪.‬م)‬
‫‪- 54 -‬‬
‫بأنه «ينبغي أن تع ِّبر نظراتُ املقاتلني يف التماثيل عن‬
‫التحدي‪ ،‬وأن نطالع على وجوههم نشوة االنتصار»‪،5‬‬
‫ويف هذا املطلب خمالفة واضحة لفن القرن السابق‬
‫املتح ّفظ الذي كان يتجنب تصوير االنفعاالت‪ ،‬وحيرص‬
‫كل احلرص على تصوير اإلنسان املثايل‪ .‬ومؤدّى هذا‬ ‫َّ‬
‫التحوُّل هو ما مي ّكِننا من القول بأن الفن قد انتقل‬
‫يف ذلك الزمن من املرحلة الكالسيكية إىل املرحلة‬
‫الواقعية‪.‬‬

‫إيريين وبلوتوس‪،‬‬
‫القرن الرابع ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪-5‬عكاشة‪ ،‬الفن اإلغريقي‪ ،‬ص‪.434‬‬


‫‪- 55 -‬‬
‫على أن من مسات القرن الرابع قبل امليالد «النزع َة‬
‫الرمزية» اليت تبدو واضحة يف متثال اإلهلة إيريين «رمز‬
‫السالم»‪ .‬وهو متثال حنته خيفيسودوتوس تكرمياً لـ‬
‫إيريين وهي حتمل على ذراعِها الطف َل بلوتوس رمزَ‬
‫«الثروة والرخاء» وينبغي أن نذكر هنا أن هذا التمثال‬
‫الذي حياكي منوذج اإلبداع املصري‪ ،‬شبيهٌ باملنحوتات‬
‫اليت تصور إيزيس وهي حتمل طفلها حورس‪.‬‬
‫وعلى صعيد التقنيات أدخل حناتو القرن الرابع قبل‬
‫امليالد شفافية جديدة على ثياب التماثيل اليت أبدع‬
‫فيدياس يف حنتها و إظهارها على منحوتات معبد‬
‫البارثنون‪ ،‬إذ ابتكر ثياباً الصقة – وكأهنا مبتلّة‪ -‬تكشف‬
‫عن مفاتن اجلسد البشري‪ ،‬وخاصة عن مفاتن أجساد‬
‫النساء‪.‬‬
‫وقد متثل اجتاه فن النحت يف هذه املرحلة بشكل خاص‬
‫حنات‬‫يف ثالثة فنانني‪ ،‬أوَّلُهم سكوباس وهو مهندس و ّ‬
‫تع َّلمَ كثرياً من والده النحات أريستاندر‪ ،‬ومن النماذج اليت‬
‫ابتكرها؛ بولوكليتس وفيدياس‪ .‬وامتاز سكوباس بقدرته‬
‫على إظهار العواطف اإلنسانية الراقية‪ ،‬واالنفعاالت‬
‫الداخلية‪ .‬وقد ا َّتجه إىل متثيل األبطال الذين يُلقي هبم‬
‫القدر إىل مصري مأساوي‪ ،‬مثل هِرَ ْقل ومِلياجر‪.‬‬

‫‪- 56 -‬‬
‫ملياجر‬
‫القرن الرابع ق‪.‬م‪.‬‬

‫ومن أمجل أعمال سكوباس اليت بقيت سليمة ح ّتى‬


‫اآلن‪ ،‬متثال إله النعاس هيبنوس الذي خيفف أوجاع‬

‫هيبنوس‬
‫القرن الرابع ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪- 57 -‬‬
‫البشر‪ .‬إذ يص ِّوره الفنان شابّاً يافعاً‪ ،‬عارياً‪ ،‬ينبثق عن‬
‫جبينه جناحان رمزيان لعصفور الليل الذي ال يُسمَع‬
‫حفيفٌ لتحليقه‪.‬‬
‫كما ش��ارك سكوباس يف حنت متاثيل وأفاريز‬
‫ضريح هاليكارناسوس ال��ذي ب��دأ ببنائه موزولوس‬
‫(‪ 353-377‬ق‪.‬م) أشهرُ حكام كاريا يف آسيا الصغرى‪.‬‬
‫ولكن هذا الضريح مل يكتمل إال على يدَي اإلسكندر‬
‫األك�بر‪ .‬وك��ان سكوباس قد اتبع يف ه��ذه املنحوتات‬
‫إيقاعاً موسيقياً أحيا يف كل واحدٍ منها منطاً تقليدياً‬
‫من خالل معارك اإلغريق واألمازونات‪.‬‬

‫إفريز من ضريح هاليكارناسوس القرن الرابع ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪- 58 -‬‬
‫وأمَّا الفنان الثاني من فنّاني القرن الرابع فهو‬
‫براكسيتليس الذي وضع فنَّه يف خدمة العقيدة الدينية‪،‬‬
‫فكان يستمدُّ موضوعاته من أساطري اآلهلة‪ .‬غري أنه‬
‫خالف الصورة اليت تبنّاها مَن سبقه من الفنانني‪،‬‬
‫فأظهر اآلهلة على هيئة فتيان رشيقي القوام‪ ،‬وفتيات‬
‫مجيالت عاريات‪ ،‬رقيقات‪ .‬وقد برع يف تصوير اجللد‬
‫البض الطري‪ ،‬كما يف متثال الساتري املتكئ على جذع‬
‫شجرة‪.‬‬

‫ساتري يتكئ‬
‫على جذع شجرة‬
‫القرن الرابع ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪- 59 -‬‬
‫وال شك يف أن شهرة براكسيتليس كانت أساساً‬
‫من قدرته الفذة على تصوير جسم املرأة‪ ،‬سواء أكانت‬
‫عارية أم مكتسية‪ .‬ويُعَدُّ متثاال أفروديت اللذان حنتهما‬
‫حلساب مدينة كنيدوس وجزيرة كوس الواقعتني يف‬
‫نقطة التقاء الشاطئ الغربي آلسيا الصغرى بشاطئها‬
‫اجلنوبي‪ ،‬من أمجل التماثيل اليت قام براكسيتليس‬
‫بنحتها‪ .‬وكان أحدُ التمثالني عارياً واآلخر مكسوَّاً‪.‬‬
‫وقد اختارت مدينة كنيدوس التمثال األول (العاري)‪،‬‬
‫فيما اختارت جزيرة كوس التمثال الثاني (املكتسي)‬
‫الذي مل يبلغ من الشهرة ما بلغه التمثال العاري‪ .‬فقد‬
‫جعل من هذا التمثا َل صورة مثالية للجمال‪ ،‬فجسَّد‬
‫فيه جتسيداً بارعاً هلفة النفس اإلنسانية وشوقها إىل‬
‫لذة ك ِّل مجيل رائع‪.‬‬
‫املتع واستطابة ّ‬
‫وقد وضع الكنيدوسيون هذا التمثال يف معبد متعدد‬
‫املداخل هو معبد اإلهلة فينوس كي يتمكن مجيع الزوار‬
‫من رؤيته من كل اجلهات‪ .‬وبلغ من شهرة هذا التمثال‬
‫أن اإلغريق كانوا يتوجَّهون بالزيارة إىل مدينة كنيدوس‬
‫حتديداً‪ ،‬وكأن الزيارة طقس من طقوسهم‪ ،‬وذلك من‬
‫أجل التمتع مبشاهدته‪ ،‬واإلعراب عن إعجاهبم به‪.‬‬
‫أمّا متثال اإلهلة أرمتيس من جابيس (الواقعة بني‬
‫‪- 60 -‬‬
‫روما وبرينيست)‪ ،‬وهي إهلة الصيد والقمر يف األسطورة‬
‫اإلغريقية‪ ،‬فيعكس عمق إدراك الفنان لألشكال‬
‫والوضعيات األنثوية‪ ،‬إذ إنه يص ِّور ديانا وَ ْفق منوذ ٍج فريدٍ‬
‫هلا‪ ،‬وهي تشبك عباءهتا على كتفها اليمنى‪ ،‬بينما ينسدل‬
‫ثوهبا عن كتفها اليسرى دون أن يالمس القدمني كما جرت‬
‫العادة‪.‬‬
‫بينما كانت أكثر متثيالت اإلهلة أرمتيس تصورها وهي‬
‫تو ّتِر قوساً أخذته من جعبتها‪ ،‬أو تأخذه منها‪.‬‬

‫أرمتيس من جابيس‪،‬‬
‫‪330-350‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪- 61 -‬‬
‫وقد انصبَّ اهتمامُ الفنان الثالث على حنت متاثيله‬
‫من الربونز‪ ،‬وهذا ما ميَّزه عن زميليْهِ اللذين اشتغال‬
‫بالرخام أكثر ممّا اشتغال بالربونز‪ .‬وعلى العكس من‬
‫براكسيتليس‪ ،‬فإنَّ نصيب املرأة من فن لوسيبوس كانَ‬
‫ضئيالً‪ ،‬إذ إنه مل يو ِل اهتماماً إال لصنع التماثيل اليت‬
‫متجد الرجولة والبطولة‪ .‬وق��د اسرتجع لوسيبوس‬ ‫ِّ‬
‫يف أعماله الفنية تقاليد الفن الكالسيكي الذي كان‬
‫معروفاَ يف القرن اخلامس قبل امليالد باجتاهه حنو‬
‫األناقة‪ ،‬واالبتعاد عن إظهار احللم والعاطفة يف تعبري‬
‫الوجوه اليت غالباً ما جندها عنده موسومة بشيء‬
‫ٌ‬
‫متثال‬ ‫من األمل النزق‪ .‬على أن أهم متاثيله وأشهرها‪،‬‬
‫ملصار ٍع يزيل مبكشط يف يده اليسرى ما علق جبسده‬
‫من الشحم والعرق واألوساخ بعد التدريب‪ .‬ويُعَدُّ هذا‬
‫التمثيل خاصاً جداً‪ ،‬ألنه غري مرتبط حبركة رياضية‬
‫يف مباراة أمام اجلماهري‪ ،‬وإمنا هو مسألة شخصية‬
‫يفصح فيها الرياضي عن اهتمامه بنفسه فقط‪.‬‬
‫عجب‬‫لقد كان لوسيبوس من النحّاتني البارزين الذين أ ُ ِ‬
‫هبم القائد العظيم اإلسكندر املقدوني‪ ،‬فطلب منه أن‬
‫يقوم بنحت عم ٍل خيلِّد فيه ذكرى معركة جرانيكوس‬
‫اليت كانت أوىل معاركه يف الشرق وجرت عام ‪334‬‬
‫‪- 62 -‬‬
‫ق‪.‬م‪ .‬ونزوالً عند رغبة اإلسكندر قام لوسيبوس بصنع‬
‫جمموعة حنتية يزيد عدد متاثيلها على ثالثني‪ .‬وفيها‬
‫يظهر القائد اليوناني األشهر وهو حماط بكبار قادته‬
‫من الفرسان واملشاة‪.‬‬
‫كما كشف لوسيبوس عن مقدِرة إبداعية ف ّذة يف‬
‫تصوير األشخاص‪ .‬فمن املعروف انه قام بنحت عدة‬
‫متاثيل لإلسكندر‪ ،‬وكذلك لسلو ُقس الذي كان واحداً من‬
‫قادة اإلسكندر وحاكماً ملنطقة آسيا الغربية من بعده‪.‬‬
‫كما حنت لوسيبوس متثاالً للفيلسوف اليوناني سقراط‬
‫معتمداً يف حتديد مساته على الوصف الذي وصفه به‬
‫أفالطون‪ ،‬وأضاف إليه مسحة من الروحانية‪.‬‬

‫سقراط‪ ،‬القرن‬
‫الرابع ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪- 63 -‬‬
‫إنَّ دارسي َف ِّن النحت اليوناني يستطيعون‪ ،‬من خالل‬
‫اطالعهم على املراحل املختلفة لتطور هذا الفنِّ‪ ،‬أن‬ ‫ّ‬
‫يتبيَّــنوا املالمح الرئيسة اخلاصة بذلك الفن‪ ،‬واليت‬
‫ميكن حتديدها فيما يأتي‪:‬‬
‫‪ -1‬تصوير العري‪ .‬خيتلف اليونانيون عن بقية أمم‬
‫العامل القديم‪ ،‬سواءٌ يف سورية أو يف بالد الرافدين‪ ،‬أو‬
‫يف وادي النيل‪ ،‬أو يف غريها من الشعوب القدمية اليت‬
‫مل تكن تستسيغ العري وال تعدُّه جزءاً من تراثها‪ ،‬بل‬
‫كانت ترى يف كشف األعضاء إذالالً ألصحاهبا‪ .‬ولذلك‬
‫مل يكن أبناء تلك الشعوب الشرقية‪ ،‬غريِ اليونانية‪،‬‬
‫يُعَرّون إال أَسْراهم‪ ،‬احتقاراً هلم‪ .‬وهذا ما مي ّكِننا من‬
‫القول إن التماثيل العارية هي صفة اختص هبا الفن‬
‫اليوناني أوّالً‪ ،‬ثم نسج على منواله الرومان‪ .‬وقد كان‬
‫هذا العري انعكاساً لعاداهتم وتقاليدهم املتوارَثة منذ‬
‫عصور مب ّكِرة‪ ،‬إذ كان املشاركون يف ألعاهبم الرياضية‬
‫خيوضون مبارياهتم وهم عراة متاماً‪ .‬وقد آمن‬
‫اليونانيون القدماء بأن الروح النبيلة القوية ال توجد‬
‫إال يف اجلسم السليم القوي‪ .‬ولع ّل هذا ما ينعكس يف‬
‫قولنا حتى اليوم‪« :‬العقل السليم يف اجلسم السليم»‪.‬‬
‫لئن كان قدماء اليونانيني يُعَرّون أبطاهلم وعظماءهم‬
‫‪- 64 -‬‬
‫وآهلتهم‪ ،‬فإهنم كانوا يكتفون يف بداية األمر بتعرية‬
‫الرجال وحدهم دون النساء‪ .‬إذ مل تكن تعرية النساء‬
‫من األمور املستساغة عندهم بعد‪ .‬ثم درجت العادة يف‬
‫الفن على أن تتخ َّفف النساء من ثياهبن‪ ،‬وأن يكتفني‬
‫بارتداء أثواب ش ّفافة وغالالت تكشف عن شيء من‬
‫مجال املرأة وختفي أشياء‪.‬‬
‫ومل يظهر عندهم أي حنت المرأة عارية إال يف القرن‬
‫اخلامس قبل امليالد‪ .‬ثم أصبح حنتُ جسم املرأة عارياً‬
‫أكثر انتشاراً يف القرن الرابع قبل امليالد‪ ،‬وذلك مع‬
‫ظهور منحوتات براكسيتليس وغريه من الفنانني‪.‬‬
‫‪-2‬احلرية الكاملة للفنان يف تصوير الواقع اليوناني دون‬
‫أن حياول االستخفاءَ وراء الرمز يف تصوير ما يراه أو ما‬
‫يعتقده اجملتمع‪ ،‬حتى ولو كان يف ذلك إشارة إىل احنراف‬
‫ما‪ ،‬أو خطأ يف املمارسات اليومية ألي شخص كان‪ ،‬وحتى‬
‫لآلهلة‪ .‬وهذا ما مهّد الطريق أمام الفن اليوناني‪ ،‬وساعده‬
‫ضي قدُماً حنو اإلبداع حبرّية يف متثيل اإلنسان‬
‫على امل ُ ِّ‬
‫وتصويره‪ .‬بينما كان انعدام احلرية عند الفنانني‬
‫املصريني هو السببَ يف مجود متثيالهتم‪ ،‬كما رأينا‪.‬‬
‫‪-3‬امللمح الثالث اهلامُّ يف هذا السياق هو تداخل فن‬
‫النحت مع فن العمارة تداخالً يكاد يصل يف بعض‬
‫‪- 65 -‬‬
‫األحيان إىل تكامل أو تطابق تا ٍّم بني هذين الفني ِْن‪ .‬فقد‬
‫كان اليونانيون يقومون بتزيني منازهلم‪ ،‬ومنشآهتم‬
‫ال��ع��ام��ة‪ ،‬وم��ع��اب��ده��م مب��ن��ح��وت��ات خمتلفة األشكال‬
‫وامل��واض��ي��ع‪ .‬ففي املعابد كانوا يَ��عْ��مَ��دون‪ ،‬مثالً‪ ،‬إىل‬
‫ملء املساحات املوجودة يف مثلث الواجهة اخلارجية‪،‬‬
‫وامليتوبونات واألفاريز بنحت ب��ارز أو شبه مستدير‬
‫يص ِّور أساطري اليونانيني وآهلتهم وأبطاهلم‪.‬‬
‫وهكذا جند أن الفن اإلغريقي مل يأ ُل جهداً يف‬
‫تصوير حاالت اإلنسان يف خمتلف وضعياته وأحاسيسه‬
‫وأفكاره‪ ،‬سواء أكان ذلك من خالل مشاهدَ واقعيةٍ‪ ،‬أو‬
‫مشاهدَ أسطوريةٍ‪ .‬وقد جسَّد فن النحت ذلك ُك َّلهُ بطرق‬
‫وأساليبَ كانت ختتلف من مرحلة إىل أخرى‪ .‬كما تابع‬
‫هذا الفن تطوُّرَه يف املرحلة التالية من مراحل تطور‬
‫اجملتمع اليوناني اليت ترافقت مع التغريات السياسية‬
‫يف البالد‪ .‬وقد قام الفن اليوناني الحقاً بالتطرق إىل‬
‫مواضيعَ جديدةٍ مل جي ِر تصويرها من قبل‪ .‬وقد ا ُّتفِق‬
‫على تسمية هذه املرحلة بالعصر اهللنسيت (القرون‬
‫الثالثة األخرية قبل امليالد)‪ ،‬وهي تسمية نطلقها على‬
‫العصر الذي امتزجت فيه احلضارة الشرقية باحلضارة‬
‫الغربية أيام سيطرة اليونان القدمية على بلدان الشرق‬
‫بعد انتصارات اإلسكندر الشهرية‪.‬‬
‫‪- 66 -‬‬
‫‪-4‬النحت اهللنسيت‪:‬‬
‫جرتْ يف الثلثِ األخري يف القرن الرابع قبل امليالد‬
‫تغيرياتٌ سياسي ٌة كربى‪ ،‬فقد قام االسكندر املقدوني‬
‫بغزو الشرق والسيطرة عليه‪ ،‬بدءاً من آسيا الصغرى‬
‫وصوالً إىل اقليم البنجاب يف مشال شرقي اهلند‪ .‬وهذا‬
‫ما أدّى إىل انتقال مركز الثقل السياسي من الغرب إىل‬
‫الشرق‪ .‬وكان من نتائج ذلك نشوءُ تيارات فنية جديدة‪،‬‬
‫تظهرُ فيها تأثرياتٌ شرقية واضحة تعود إىل فناني‬
‫بالسعي إىل حتقيق‬
‫ِ‬ ‫القرن الرابع قبل امليالد الذين بدأوا‬
‫مزيد من الواقعية يف احلركة والتعبري‪ .‬ونشأت رغبة‬
‫ملحَّة يف تصوير األشياء كما تراها العني متاماً من دون‬
‫حتسني أو جتميل‪ .‬ومل تقتصر هذه التطورات الفنية‬
‫على منطقة دون أخرى من العامل املتأغرق (أي الساعي‬
‫إىل تقليد اإلغريق والتشبُّه هبم يف كل شيء)‪ ،‬سواء يف‬
‫الشرق أم يف الغرب‪ ،‬وخباصَّـــةٍ أن الفنانني كانوا يرحتلون‬
‫من مكان إىل آخر‪ ،‬ويلبّون ما يُطلب منهم القيامُ به من‬
‫أعمال‪ .‬وما كان الفنان ينجز العمل املطلوبَ منه حتى‬
‫يبادر إىل االنتقال إىل مكان جديد يبدع فيه عمالً آخر‪،‬‬
‫وهكذا دواليك‪ .‬وهذا ما يفسر لنا تشابه األساليب يف‬
‫املنجزات الفنية اليت عُثر عليها يف أحناء خمتلفة من العامل‬
‫املتأغرق‪.‬‬
‫‪- 67 -‬‬
‫وقد عَمَدَ الفنانون يف هذا العصر إىل دراسة اجلسم‬
‫اإلنساني دراسة علمية دقيقة‪ ،‬وسعوا إىل االستفادة‬
‫من األحباث الطبية املعاصرة هلم‪ ،‬وذلك كي يتمكنوا‬
‫من تصوير األجسام بكل حسناهتا وعيوهبا‪ .‬وهلذا‬
‫صوَّروا األجسام املريضة‪ ،‬واملسنَّة‪ ،‬والقبيحة‪ ،‬وتباروا‬
‫يف إبراز مشاعر األمل‪ ،‬واحلزن‪ ،‬وآثار السنني على‬
‫أجسام التماثيل ووجوهها‪.‬‬

‫عجوز‬
‫العصر اهللنسيت‬

‫‪- 68 -‬‬
‫وفضالً عن ذلك برز اهتمامهم بتصوير املوضوعات‬
‫امليثولوجية (األسطورية)‪ ،‬وخاصة الروايات الغزلية‬
‫واألساطري الديونيزيسية‪ ،‬نسب ًة إىل ديونيزوس إله‬
‫اخلمر‪.‬‬
‫كما أن الفنانني اهللنستيني مل يهملوا تصوير األجناس‬
‫البشرية املختلفة‪ ،‬مبا يف ذلك الزنوجُ والربابرةُ بأشكاهلم‬
‫وأزيائهم املميزة‪ ،‬وذلك حتت تأثري فكرة األخوَّة العاملية‬
‫واملساواة اإلنسانية اليت طرحها االسكندر املقدوني‪.‬‬
‫إال أن ما رافق نشوء اإلمرباطوريات يف ذلك العهد‬
‫من ترفٍ عا ٍّم‪ ،‬وإغداقٍ لألموا َل على الفنانني من قِبَل‬
‫امللوك؛ أدّى إىل انقالب فن النحت من عقيدة ودين إىل‬
‫سلعة وجتارة يتسابق فيها األثرياء إىل اقتناء منحوتات‬
‫فنية خمتلفة‪ .‬وقد أ ّثر هذا االنقالب بدوره تأثرياً سلبياً‬
‫على درجة إتقان األعمال الفنية‪ .‬وكان من الطبيعي‪،‬‬
‫إثْرَ هذا االنتشار الكبري لفن النحت‪ ،‬ولرغبة األثرياء‬
‫اجلاحمة بتقليد امللوك واألمراء‪ ،‬أن ي َّتجه الفن يف هذا‬
‫العصر الذي متيز باحلكم الفردي حنو حنت متاثي َل‬
‫خاصةٍ لِعلْيَـــةِ القوم واملشاهري من الكتاب والفالسفة‬
‫وغريهم‪.‬‬

‫‪- 69 -‬‬
‫الشاعر سيمونيدس‪ ،‬منتصف القرن اخلامس‬

‫ولَمّا كان فنانو العصر اهللنسيت يهتمّون بتصوير‬


‫خمتلف مظاهر احلياة‪ ،‬فإهنم اهتمّوا أيضاً بتصوير‬
‫األطفال اجملنَّحني وغريِ اجملنَّحني يف وضعيات بالغة‬
‫التنوع واجلاذبية‪.‬‬

‫‪- 70 -‬‬
‫سوفوكليس‪330-340،‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫ومثال ذلك رسو ُل احلب إيروس يف األساطري‬


‫اليونانية‪ ،‬وهو كيوبيد يف األساطري الرومانية فيما‬
‫بعدُ‪ ،‬الذي كان حتى القرن الرابع قبل امليالد يُصوَّر‬
‫على هيئة غالم‪ ،‬ثُمَّ صُوِّرَ يف العصر اهللنسيت‪ ،‬على‬
‫هيئة طفل مجيل ذي جناحني أيضاً‪.‬‬
‫‪- 71 -‬‬
‫وثَمَّ متثال آخر‪ ،‬أُطلِق عليه اسم متثال اجلوكي‪ ،‬يُعَدُّ‬
‫من النماذج األصيلة لطفل يص ِّورونه يف وضعية فارس‬
‫منهمك يف القيادة‪.‬‬

‫إيروس حيمل دلفيناً علىكتفه‪ ،‬القرن الثالث ق‪.‬م‪.‬‬

‫وقد أبدع الفنان يف تصوير هذا الفارس الطفل‪،‬‬


‫فأظهر كثرياً من العناصر اجلديدة يف مالحمه‪ :‬عيناه‬

‫‪- 72 -‬‬
‫متيقظتان‪ ،‬ويده اليسرى تقبض على الرسن بكل‬
‫قوة‪ ،‬والتوتر يبدو واضحاً يف عضالت فخذيه اللتني‬
‫تط ِّوقان بطن اجلواد (وهذا التمثال أي اجلواد غري‬
‫موجود حاليّاً)‪.‬‬

‫متثال اجلوكي من الربونز ‪200-220‬ق‪.‬م‬

‫‪- 73 -‬‬
‫‪ -5‬الفن الروماني‪:‬‬

‫بعد أن َفرَغ الرومان من بناء قوهتم العسكرية‪،‬‬


‫اجتهوا للسيطرة على املناطق اجملاورة هلم‪ .‬وكانت‬
‫أترورية من أهم هذه املناطق‪ ،‬وقد أثرت وبشك ٍل كبريٍ يف‬
‫تطور وتقدم املفاهيم الفنية‪ ،‬املعمارية والنحتية لديهم‪.‬‬
‫فقد استطاعت املنحوتات األترورية (نسبة إىل منطقة‬
‫إيطالية سكنها األتروسكيون حوايل منتصف القرن‬
‫التاسع قبل امليالد) حماكاة الطبيعة بدرجة فيها كثري‬
‫من الدقة والوضوح‪ .‬إذ متكن النحاتون األتروسكيون من‬
‫حنت متاثيلهم مبالمح طبيعية غري جامدة وبوضعيات‬
‫متعددة‪ .‬ومع ذلك فإهنم مل يصلوا إىل مستوى النحت‬
‫املثايل الذي وصله اإلغريق‪.‬‬
‫وما انتهى الرومان من احتالل كل املناطق اإليطالية‪،‬‬
‫ح ّتى ا ّتجهوا إىل السيطرة على العامل القديم‪ .‬وقد هتيّأ‬
‫هلم ذلك يف القرن األول قبل امليالد‪ ،‬عندما َّ‬
‫متكنوا‬
‫من السيطرة على البالد اليونانية وقرطاجة وسوريا‬
‫وم��ص��ر‪ .‬وم��ا ك��اد ال��روم��ان يسيطرون على البحر‬
‫املتوسط‪ .‬وبشكل خاص على بالد اليونان‪ ،‬حتى تطلّعوا‬
‫إىل أخذ الرتاث اليوناني الفين بأكمله‪ .‬فقد كان لدى‬
‫‪- 74 -‬‬
‫الطبقة الرومانية الثرية رغبة جاحمة يف اقتناء التحف‬
‫الفنية واللوحات والتماثيل اإلغريقية اليت ذكرنا سابقاً‬
‫أهنا كانت قد وصلت إىل درجة عالية من الكمال يف‬
‫متثيل البشر على وجه اخلصوص‪ .‬ولذلك سرعان‬
‫ما أصبح هناك أعداد غفرية من الفنانني املَهَرَة الذين‬
‫تفرّغوا لرتميم التحف اليونانية واستنساخها‪ .‬على أن‬
‫ظاهرةَ الرتميم اجلديدةَ هذه كانت من حسن حظنا‬
‫وحظ تراث اإلنسانية مجعاء‪ ،‬ومن حسن حظ دارسي‬
‫الفن اإلغريقي القديم يف املقام األوّل‪ .‬إذ بفضل أولئك‬
‫الفنانني الذين اشتغلوا بالرتميم وصل إلينا معظم آثار‬
‫ذلك الفن العظيم‪.‬‬
‫ومل يقتصر الفنانون الرومان يف حنت متاثيلهم‬
‫الكبرية املفردة (غري اجلماعية) على استنساخ التماثيل‬
‫اإلغريقية كاملة‪ ،‬وإمنا عَمَدُوا يف بعض األحيان إىل املزج‬
‫بني العناصر اإلغريقية املوروثة والعناصر الرومانية‪.‬‬
‫ويتجلّى أحد أشهر النماذج النمطية اليت جت ّسِد هذا‬
‫املزج يف متثال من مدينة تيفويل‪ ،‬يصور قائداً عسكرياً‬
‫صارماً‪ .‬تبدو الصرامة جليّة على وجهه‪ ،‬ويلتفُّ جسده‬
‫العاري بعباءة تشبه عباءات أبطال األساطري اإلغريقية‪.‬‬
‫فالتقاليد الرومانية كانت تفرض على القائد املنتصر‬
‫‪- 75 -‬‬
‫أن خيلع بزته العسكرية قبل الدخول إىل العاصمة‪،‬‬
‫وبعد ذلك يتقدم إىل جملس الشيوخ كأي مواطن عادي‪.‬‬
‫إال أن هذا التقليد أُلغيَ يف العصر اإلمرباطوري‪ ،‬الذي‬
‫ابتدأ يف هناية القرن األول قبل امليالد‪ ،‬وبات متثيل‬
‫األباطرة فيه وهم يرتدون كامل لباسهم احلربي املدرع‬
‫ليس أمراً مألوفاً فقط‪ .‬بل وتفرضه العادات والتقاليد‪.‬‬
‫ومن أمجل األمثلة على هذا النموذج التصويري اجلديد‬
‫متثال اإلمرباطور أغسطس‪ .‬فقد أبدع حناته يف إبراز‬

‫متثال القائد‬
‫العسكري العصر‬
‫اجلمهوري‬

‫‪- 76 -‬‬
‫اهليبة اليت تليق بإمرباطور عظيم يعطي األوامر لقادته‬
‫وجنوده‪ .‬وقد نُقِش على الدرع املعدني الذي حيمي‬
‫صدر اإلمرباطور عددٌ من املَشاهد اخلفيفة الربوز‬
‫لرتوي جانباً من املآثر العظيمة اليت حققها خالل‬
‫حكمه‪ .‬كما متثل تلك املَشاهد على الدرع عدداً من‬
‫صور اآلهلة واإلهلات الذين أسبغوا عليه بركتهم‪ .‬ونرى‬
‫إىل جوار اإلمرباطور صُوَرَة كيوبيد ممتطياً دلفيناً‪ ،‬ويف‬
‫هذا إشارة واضحة إىل انتساب أسرة أغسطس إىل‬
‫اإلهلة فينوس‪.‬‬

‫متثال أغسطس‪،‬‬
‫القرن األول امليالد‬

‫‪- 77 -‬‬
‫وقد حقق الرومان إجنازات فنية هامّة يف جمالَي‬
‫النحت البارز والبورتريه (تصوير النصف األعلى‬
‫من اجلسم) اللذين ش ّكال جزءاً عضوياً من أصالتهم‬
‫القومية عرب استلهام احلياة اليومية بطريقة واقعية‪،‬‬
‫ومن خال ِل عد ِم إضفائهم مسحة دينية عليها إال نادراً‬
‫ويف حدود املعقول‪.‬‬

‫ُ‬
‫االرتباط الوثيق بني هذا الفن وواقع احلياة‬ ‫ويَظهر‬
‫اليومية بطريقة إبداعية ذات مستوى فين رفيع من‬
‫خالل النحت البارز يف أوستيا‪ ،‬ميناء مدينة روما‪ .‬فهذا‬
‫النحت الذي يعود إىل النصف الثاني من القرن الثاني‬
‫امليالدي‪ ،‬نراه‪ ،‬مثالً‪ ،‬يصور تاجرَ خضراواتٍ ودَجا ٍج‬
‫يعرض خضراواته املكدسة يف السالل‪ ،‬بينما يتد ّلى‬
‫الدجاج املذبوح معلقاً باخلطاطيف‪.‬‬

‫وتُعَدُّ املنحوتات البارزة يف معبد السالم الذي أقيم‬


‫ما بني عامَي ‪ 13‬و‪ 9‬ق‪.‬م تكرمياً لإلمرباطور أغسطس‪،‬‬
‫من أمجل ما أبدعه النحاتون الرومان‪ .‬على أن تلك‬
‫املنحوتات متعددة املواضيع‪ :‬فبعضها ديين‪ ،‬مثل مشهد‬
‫تيللوس ربة خصوبة األرض‪ ...‬وهي حتتضن طفليها‬
‫‪- 78 -‬‬
‫بائع الفواكه والدجاج‪ ،‬القرن األول امليالدي‬

‫املتطلعني إليها وتتأملهما حبب وحنان‪ .‬وبعضها اآلخر‬


‫وثيقة تارخيية هامّة‪ ،‬إذ إنه يسجل وبدقة عالية‬
‫وقائع حفل االفتتاح الذي متيّز مبظاهر األهبة وآيات‬
‫الفخامة‪ .‬ففي هذا االحتفال جرى تقديم عديد من‬
‫القرابني واألضحيات أمام عدد كبري من أفراد الشعب‬
‫يتصدَّرهم القناصل والكهنة وكبار رجال الدولة‪.‬‬

‫‪- 79 -‬‬
‫تيللوس ربة اخلصوبة‪9-13 ،‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫‪- 80 -‬‬
‫جزء من املوكب‪ ،‬أغسطس‬
‫يرتدي زي كبري كهنة روما ‪9-13‬ق‪.‬م‪.‬‬

‫وهناك نقطة أساسية جيب مالحظتها يف النحت‬


‫الروماني أَال وهي االعتماد على األسلوب التوليفي‬
‫الذي يزاوج بني أسلوبني‪ ،‬مها‪ :‬األسلوب املتأغرق من‬
‫حيث املوضوع األسطوري‪ ،‬واألسلوب الروماني من حيث‬
‫املوضوع اإلنساني‪ .‬فاإلمرباطور أغسطس الذي حنتت له‬
‫أعداد كثرية من التماثيل‪ ،‬يظهر يف أحدها على هيئة اإلله‬
‫مريكوريس (اإلله اليوناني هرمس راعي التجار والرسل)‬
‫‪- 81 -‬‬
‫ممسكاً بصوجلان اإلله الذي تلتف عليه حيتان‪ ،‬وترتفع‬
‫يده اليمنى يف إمياءة خطابية‪ ،‬بينما تتد ّلى عباءته على‬
‫سلحفاة‪ .‬ولَمّا كانت السلحفاة رمزاً لإلله هرمس‪،‬‬
‫ورمزاً كذلك لإلهلة فينوس‪ ،‬فإنه قد يكون يف ذلك‬
‫إشارةٌ إىل حق أوكتافيوس (أغسطس) يف االنتساب إىل‬
‫اإلهلة‪ ،‬ومِنْ ثَمَّ إىل ح ّقِه يف املطالبة بالعرش‪ .‬على أن‬
‫هذا التمثال مستوحى من طراز يوناني يعود إىل القرن‬
‫اخلامس قبل امليالد‪.‬‬

‫أغسطس على اليمني‪ ،‬التمثال اليوناني على اليسار‬

‫‪- 82 -‬‬
‫نشأ فن البورتريه وترعرع حتت أنظار الطبقة العليا‬
‫من اجملتمع الروماني‪ ،‬وكان يهتم بتصوير احل ّكام‬
‫ِ‬
‫العكس من النحت البارز الذي يُعَدُّ‬ ‫واألشراف‪ ،‬على‬
‫فنّاً للعامّة أي شعبياً‪ .‬وقد لقيَ فن البورتريه رواجاً‬
‫كبرياً ابتداءً من العصر اجلمهوري (من هناية القرن‬
‫السادس وحتى القرن األول قبل امليالد) وحتى أفول‬
‫اإلمرباطورية الرومانية (يف منتصف القرن اخلامس‬
‫امليالدي)‪.‬‬
‫على أنه‪ ،‬كفن نصفي (يص ِّور النصف األعلى من‬
‫اجلسم) مل يكن شائعاً يف الفن اليوناني الذي ا ّتخذ‬
‫موقفاً يعارض برت أعضاء اجلسم البشري مبثل‬
‫هذا األسلوب االصطناعي‪ .‬إذ كان اليونانيون‪ ،‬كما‬
‫عرفناهم سابقاً‪ ،‬ينظرون إىل اإلنسان نظرة مثالية‪،‬‬
‫ويص ِّورونه كما ينبغي له أن يكون‪ ،‬وليس كما هو يف‬
‫احلقيقة‪ .‬أما الرومان فكانت هلم وجهة نظر معاكسة‬
‫تقضي بأنه ميكن االكتفاء بتصوير مق ّدِمة اإلنسان‪،‬‬
‫أي الرأس بوصفه عضواً مستقالً قائماً بذاته ميثل‬
‫اإلنسان متثيالً تامّاً‪ .‬ولذلك انصرف النحّاتون إىل‬
‫تصويره بواقعية شديدة أُولعت بتسجيل قسمات‬
‫الوجه‪ ،‬وجتاعيد البَشَرة بأمانة كبرية‪ ،‬وتقنية عالية‪.‬‬
‫‪- 83 -‬‬
‫بورتريه أحد األشراف‪ ،‬القرن األول امليالد‬

‫ونظراً الهتمام الرومان مبختلف أنواع فن النحت‪،‬‬


‫فإهنم مل يرتكوا موقعاً من املواقع إال وزيَّنوه بعدد من‬
‫التماثيل اليت تقام تكرمياً ألصحاهبا‪ .‬غري أهنم مل يهتموا‬
‫باختيار املواقع اليت تُنصب فيها هذه التماثيل‪ .‬فعلى‬
‫سبيل املثال‪ ،‬كانت متاثيل املقاتلني تقام إىل جانب متاثيل‬
‫بنات اهلوى والغلمان يف املعابد جنباً إىل جنب مع متاثيل‬
‫‪- 84 -‬‬
‫اآلهلة‪ .‬وهذا ما يبدو غريباً من وجهة نظر العصر القديم‬
‫وحتى احلديث‪ ،‬بل وربّما يف نظرنا اليوم أيضاً‪.‬‬
‫ورغم االهتمام الكبري الذي حظي به فن النحت من‬
‫قِبـَــ ِل أشراف الرومان‪ ،‬وبصفة خاصة من قِبل أباطرهتم‪،‬‬
‫الذين حرصوا على اقتناء روائعه‪ ،‬فإهنم كانوا ينظرون إىل‬
‫امل ّثالني نظرة دونية‪ ،‬ويص ّنِفوهنم يف زمرة الصنّاع واخلدم‪.‬‬
‫وكان حكيم الرومان الشهري «سِنِكا» يقول‪« :‬إنا؛ وإن كنا‬
‫نشيد التماثيل‪ ،‬لَنَحتقرُ الذين يصنعوهنا»‪ .6‬وهلذا السبب‬
‫فإن من صنع التماثيل الرومانية همُ األر ّقاء‪ ،‬أو النحّاتون‬
‫اإلغريق الذين وفدوا إىل مدينة روما رغبة بالكسب املادي‬
‫باعتبارها العاصمة ومركز الثروة والفن يف اإلمرباطورية‪.‬‬
‫أي إن اآلية انقلبت بالنسبة للنحاتني اإلغريق الذين كانوا‬
‫حيتلون مكانة مرموقة يف جمتمعهم جتعلهم مقرَّبني من‬
‫امللوك واحلكام‪ .‬وخري مثال على ذلك ما كان عليه حال‬
‫النحات فيدياس الذي كان صديقا لربيكليس‪ ،‬وأيضاً حا ُل‬
‫النحّات لوسيبوس الذي عهد إليه اإلسكندر املقدوني‬
‫ولعل هذه املكانة الرفيعة هي اليت ساعدت‬ ‫بصنع متاثيله‪َّ .‬‬
‫النحاتني اإلغريق على اإلبداع والوصول مبنحوتاهتم إىل‬
‫درجة الكمال اإلنساني‪ ،‬انطالقاً من حريتهم الفكرية‬
‫واالجتماعية‪.‬‬

‫‪-6‬عز الدين امساعيل‪ ،‬الفن واإلنسان‪ ،‬مكتبة غريب‪ ،1974 ،‬ص‪60‬‬


‫‪- 85 -‬‬
‫يتبني لنا من خالل استعراضنا فنَّ النحت يف خمتلف‬
‫احلضارات القدمية‪ ،‬الشرقية والغربية‪ ،‬أن فن النحت‬
‫حظي مبكانة هامة يف تلك احلضارات‪ ،‬سواء يف ذلك‬
‫احلضارة السورية أم الرافدية أم املصرية أم اإلغريقية‬
‫أم الرومانية‪ ،‬وكانت له بدايات دينية تعود إىل رغبة‬
‫اإلنسان باتقاء غضب اآلهلة‪ .‬وغالباً ما كان ذلك‬
‫الغضب يتجلّى يف شكل كوارثَ طبيعيةٍ ووحوش‪ ،‬أو يف‬
‫املوت الذي شغل ح ِّيزاً كبرياً من فكر اإلنسان القديم‪.‬‬
‫لذلك سعى القدماء إىل استحضار صور هلذه اآلهلة‬
‫تكون قريبة منهم يناجوهنا‪ ،‬ويطلبون رضاها‪ ،‬ويقدمون‬
‫هلا األضاحي‪ ،‬وال سيّما عندما يشعرون باخلوف من‬
‫أم ٍر ما‪.‬‬
‫وشيئاً فشيئاً تطور تفكري البشر وتطورت معه‬
‫نظرهتم إىل احلياة‪ ،‬فظهرت لديهم رغبة برؤية أشياء‬
‫مجيلة تزين حياهتم‪ .‬وقد عبّروا عن تلك الرغبة بأنواع‬
‫خمتلفة من الفنون‪ ،‬كان النحت أقدمها وأكثرها التصاقاً‬
‫باإلنسان‪ ،‬فسعى إىل حنت األشكال اجلميلة‪ ،‬ويف‬
‫طليعتها األجسام اإلنسانية اليت بلغ هبا الفن اإلغريقي‬
‫درجة الكمال‪.‬‬

‫‪- 86 -‬‬
‫صدر من السلسلة‬
‫فايز فوق العادة‬ ‫‪ -‬حنن جزء من هذا الكون ‬
‫حممد قرانيا‬ ‫ ‬ ‫‪-‬دمشق‬
‫ت‪:‬فريوز نيوف‬ ‫‪-‬األشرعة احلمراء (ألكسندر غرين)‬
‫ت‪ :‬قاسم طوير‬ ‫‪-‬مملكة ماري‬
‫ ‬ ‫‪-‬خمتارات من أسامة‬
‫د‪ .‬هشام احلالق ‬ ‫‪ -‬القدس ‬
‫حسن بالل‬ ‫ ‬ ‫‪ -‬الذرة‬
‫فايز فوق العادة‬ ‫ ‬ ‫‪-‬العلم يدهشنا‬
‫أنطوانيت القس‬ ‫ ‬ ‫‪-‬مملكة إيبال‬
‫طــه الزوزو‬ ‫‪ -‬البيئة‪ :‬الطبيعة واإلنسان ‬
‫موسى ديب اخلوري‬ ‫‪ -‬قصة الكون واحلياة واإلنسان‬
‫عبد اهلل عبد‬ ‫ ‬
‫‪-‬ربيع كاذب‬
‫حممد املصري‬ ‫‪ -‬صفحات من تاريخ املوسيق ا‬
‫‪-‬األمري الصغري (أنطون دوسانت أكزوبريي)‬
‫ت‪ :‬أنطوانيت القس‬
‫موسى ديب اخلوري‬ ‫‪-‬قصة اخرتاع األرقا م‬
‫د‪ .‬غزوان زركلي‬ ‫‪ -‬الصوت والزمن ‬
‫هنادي زرقة‬ ‫‪-‬حشرات يف بيتك وحديقت ‬
‫ك‬
‫د‪ .‬ريم منصور األطرش‬ ‫ ‬‫‪-‬طريق احلرير‬
‫أويس الشريف‬ ‫ ‬ ‫‪ -‬احلاسوب‬
‫أ‪.‬د‪ .‬حممد عبود‬ ‫‪-‬فلزات (سليكون‪/‬كوارتز‪/‬حرير صخري)‬
‫فايز فوق العادة‬ ‫ ‬
‫‪-‬الثقوب الكونية السوداء‬
‫موسى ديب اخلوري‬ ‫ ‬ ‫‪-‬الفسيفساء‬

‫‪- 87 -‬‬

You might also like