Professional Documents
Culture Documents
14i U
14i U
مشكاة النأوار
أبو حامد الغزالي
بسم الل ّ ِ
ه الرحمن الرحيم
الحمد لله فائض النأننوار وفاتننح البأصننار .وكاشننف السأننرار ورافننع السأننتار.
والصلةا على محمد نأور النأننوار وسأننيد البأننرار وحننبيب الجبننار وبأشننير الغفننار
ونأذير القهننار ،وقننامع الكفننار وفاضننح الفجننار؛ وعلننى آلننه وأصننحابأه الطيننبين
الطاهرين الخأيار.
أما بأعد فقد سأألتني أيها الخأ الكريننم قيضننك اللننه لطلننب السننعادةا الكننبرى،
ورشحك للعروج إلى الذروةا العليا ،وكحل بأنور الحقيقة بأصننيرتك ،ونأقننى عمننا
سأوى الحق سأريرتك ،أن أبأث إليك أسأرار النأننوار اللهيننة مقرونأننة بأتأويننل مننا
يشير إليه ظاهر اليات المتلوةا والخأبار المروية مثننل قننوله تعننالى (الل َنن ُ
ه نأننوُر
والشجرةا ،مع قوله عليه السلما )ِإن لله سأبعين حجابأا من نأور وظلمة وإنأه لو
1
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
وقرعت بأابأا ً مغلقا ل يفتح إل للعلماء الراخأسننين .ثننم ليننس كننل سأننر يكشننف
ويفشى ،ول كل حقيقة تعرض وتجلى ،بأل صدور الحرار قبور السأرار
ولقد قال بأعض العارفين )ِإفشاء سأر الربأوبأية كفر( بأل قال سأيد الولين والخأرين صلى الله عليه وسأننلم )ِإن مننن
العلم كهيئة المكنون ل يعلمه ال العلماء بأالله( .فإذا نأطقنوا بأنه لنم ينكنره إل أهنل الغنرةا بأنالله ،ومهمنا كنثر أهنل
الغاترار وجب حفظ السأرار على وجه السأرار .لكني أراك مشروح الصدر بأالله بأالنور ،منزه السننر عننن ظلمننات
الغنننرور فل أشنننح علينننك فننني هنننذا الفنننن بأالشنننارةا إلنننى لوامنننع ولوائنننح والرمنننز إلنننى حقنننائق ودقنننائق.
فليس الخوف في كف العلم عن أهله بأأقل منه في بأثه إلى غاير أهله.
َ
ن فَ َ
قد جبي َ
مستو ِ
من َعَ ال َ
من َ علما ً أضاع َ ُ
ه وَ َ جها َ
ل ِ ح ال ّ
من َ َ
َ
فاقنع بأإشارات مختصرةا وتلويحات موجزةا؛ فإن تحقيق القول فيه يسننتدعي
تمهيد أصول وشرح فصول ليس يتسننع الن لهننا وقننتى ،وليننس ينصننرف إليننه
همي وفكرتي .ومفاتيح القلوب بأيد الله يفتحها إذا شنناء كمنا شنناء بأمننا يشنناء.
الفصل الوأل
2
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
وبأيانأه بأأن يعرف معنى النور بأالوضع الول عند العواما ،ثم بأالوضع الثانأي عند
الخواص ،ثم بأالوضع الثالث عند خأواص الخننواص .ثننم تعننرف درجننات النأننوار
المذكورةا المنسوبأة إلى خأواص الخواص وحقائقها لينكشننف لننك عننند ظهننور
درجاتها أن الله تعالى هو النور العلى القصننى ،وعننند انأكشناف حقائقهنا أنأنه
أما الوضع الول عند العامي فالنور يشير إلى ظهوره ،والظهور أمننر إضننافي:
إذ يظهر الشيء ل محالة النأسان ويبطن عن غايره :فيكننون ظنناهرا بأالضننافة
والشياء بأالضافة إلى الحس البصري ثلثة أقسناما :منهنا منا ل يبصنر بأنفسنه
كالجسنننننننننننننننننننننننننننننننننننننناما المظلمننننننننننننننننننننننننننننننننننننننة.
ومنها ما يبصر بأنفسه ول يبصر بأه غايره كالجساما المضيئة كالكواكب وجمننرةا
ومنها مننا يبصننر بأنفسننه ويبصننر بأننه أيضننا غايننره كالشننمس والقمننر والسننراج
3
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
والنينننننننننننننننننننننننننننننننننننننننران المشنننننننننننننننننننننننننننننننننننننننتعلة.
والنور اسأم لهذا القسم الثالث .تم تارةا يطلق علنى مننا يفيننض منن الجسنناما
على ظاهر الجساما الكثيفة ،فيقال اسأتنارت الرض ووقع نأور الشمس علننى
الرض ونأور السننراج علننى الحننائط والثننوب .وتننارةا يطلننق علننى نأفننس هننذه
وعلى الجملة فالنور عبارةا عما يبصر بأنفسه ويبصر بأه غايننره كالشننمس .هننذا
دقيقة
لما كان سأر النور وروحه هو الظهور للدراك ،وكان الدراك موقوفا على
وجود النور وعلى وجود العين الباصرةا أيضا :إذ النور هو الظاهر المظهر؛
وليس شيء من النأوار ظاهرا ً في حق العميان ول مظهرا .فقد تساوى
الروح الباصرةا والنور الظاهر في كونأه ركنا ل بأد منه للدراك ثم ترجح عليه
في أن الروح الباصرةا هي المدركة وبأها الدراك .وأما النور فليس بأمدرك ول
بأه الدراك ،بأل عنده الدراك .فكان اسأم النور بأالنور الباصر أحق منه بأالنور
المبصر.
وأطلقوا إسأم النور على نأور العين المبصرةا فقالوا في الخفاش إن نأور عينه
ضعيف ،وفي العمش إنأه ضعيف نأور بأصره ،وفي العمى إنأه فقد نأور البصر،
وفي السواد إنأه يجمع نأور البصر ويقننويه ،وإن الجفننان إنأمننا خأصننتها الحكمننة
بألون السواد وجعل العين محفوفة بأها لتجمع ضوء العين .وأما البياض فيفننرق
4
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
ضوء العين ويضعف نأوره ،حتى إن إدامة النظر إلى البياض المشرق ،بأل إلننى
نأور الشمس يبهر نأور العين ويمحقه كما ينمحق الضننعيف فنني جنننب القننوى.
دقيقة
إعلم أن نأور بأصر العين موسأوما بأأنأواع النقصان :فإنأه يبصر غايره ول يبصر
نأفسه ،ول يبصر ما بأعد منه ،ول يبصر ما هو وراء حجاب.
ويبصر من الشياء ظاهرها دون بأاطنها؛ ويبصر من الموجودات بأعضها دون
كلها .ويبصر أشياء متناهية ول يبصر ما ل نأهاية له .ويغلط كثيرا في إبأصاره:
فيرى الكبير صغيرا والبعيد قريبا والساكن متحركا والمتحرك سأاكنا.
فهذه سأبع نأقائص ل تفارق العين الظاهرةا .فإن كان في العين عين منزهة
عن هذه النقائص كلها فليت شعري هل هو أولى بأاسأم النور أما ل.
واعلم أن في قلب النأسان عينا هذه صفة كمالها وهي التي يعبر عنها تارةا
بأالعقل وتارةا بأالروح وتارةا بأالنفس النأسانأي .ودع عنك العبارات فإنأها إذا
كثرت أوهمت عند ضعيف البصيرةا كثرةا المعانأي .فنعني بأه المعنى الذي
يتميز بأه العاقل عن الطفل الرضيع وعن البهيمة وعن المجنون .ولنسمه
)ِعقل( متابأعة للجمهور في الصطلح فنقول :العقل أولى بأأن يسمى نأورا
من العين الظاهرةا لرفعة قدره عن النقائص السبع وهو أن العين ل تبصر
نأفسها ،والعقل يدرك غايره ويدرك صفات نأفسه :إذ يدرك نأفسه عالما
وقادرا :ويدرك علم نأفسه ويدرك علمه بأعلم نأفسه وعلمه بأعلمه بأعلم نأفسه
إلى غاير نأهاية .وهذه خأاصية ل تتصور لما يدرك بأآلة الجساما .ووراء سأر
يطول شرحه.
والثانأي أن العين ل تبصر ما بأعد منها ول ما قرب منها قربأا مفرطا :والعقل
يستوي عنده القريب والبعيد :يعرج في تطريفه إلى أعلى السموات رقيا،
وينزل في لحظة إلى تخوما الرضين هربأا .بأل إذا حقت الحقائق يكشف أنأه
5
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
منزه عن أن تحوما بأجنبات قدسأه معانأي القرب والبعد الذي يفرض بأين
الجساما ،فإنأه أنأموذج من نأور الله تعالى ،ول يخلو النأموذج عن محاكاةا ،وإن
كان ل يرقي إلى ذروةا المساواةا .وهذا ربأما هزك للتفطن لسر قوله عليه
السلما )ِإن الله خألق آدما على صورته( فلست أرى الخوض فيه الن.
الثالث أن العين ل تدرك ما وراء الحجب ،والعقل يتصرف في العرش
والكرسأي وما وراء حجب السموات ،وفي المل العلى والملكوت السأمى
كتصرفه في عالمه الخاص ومملكته القريبة أعني بأدنأه الخاص .بأل الحقائق
كلها ل تحتجب عن العقل .وأما حجاب العقل حيث يحجب فمن نأفسه لنفسه
بأسبب صفات هي مقارنأة له تضاهي حجاب العين من نأفسه عند تغميض
الجفان .وسأتعرف هذا في الفصل الثالث من الكتاب.
الرابأع أن العين تدرك من الشياء ظاهرها وسأطحها العلى دون بأاطنها؛ بأل
قوالبها وصورها دون حقائقها .والعقل يتغلغل إلى بأواطن الشياء وأسأرارها
ويدرك حقائقها وأرواحها ،ويستنبط سأببها وعلتها وغاايتها وحكمتها ،وأنأها من
خألق ،وكيف خألق ،ولم خألق ،ومن كم معنى جمع وركب ،وعلى أي مرتبة في
الوجود نأزل ،وما نأسبته إلى خأالقها وما نأسبتها إلى سأائر مخلوقاته ،إلى
مباحث ُأخأر يطول شرحها نأرى اليجاز فيها أولى.
الخامس أن العين تبصر بأعض الموجودات إذ تقصر عن جميع المعقولت
وعن كثير من المحسوسأات :إذ ل تدرك الصوات والروائح والطعوما
والحرارةا والبرودةا والقوى المدركة :أعني قوةا السمع والبصر والشم
والذوق ،بأل الصفات الباطنة النفسانأية كالفرح والسرور والغم والحزن واللم
واللذةا والعشق والشهوةا والقدرةا والرادةا والعلم إلى غاير ذلك من موجودات
ل تحصى ول تعد؛ فهو ضيق المجال مختصر المجرى ل تسعة مجاوزةا اللوان
والشكال وهما أخأس الموجودات :فإن الجساما في أصلها أخأس أقساما
الموجودات ،واللوان والشكال من أخأس أعراضها.
فالموجودات كلها مجال العقل؛ إذ يدرك هذه الموجودات التي عننددنأاها ومننا
لم نأعدها ،وهو الكثر :فيتصرف في جميعها ويحكم عليها حكمننا يقينننا صننادقا.
فالسأرار الباطنة عنده ظاهرةا ،والمعانأي الخفية عنده جلية .فمن أيننن للعيننن
6
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
إلى غايرها لكنها ظلمة بأالضافة إليه .بأل هي جاسأننوس مننن جواسأيسننه وكلننه
بأأخأس خأزائنننه وهنني خأزانأننة اللننوان والشننكال لننترفع إلننى حضننرته أخأبارهننا
ووهم وفكر وذكر وحفظ؛ ووراءهم خأدما وجنود مسخرةا له في عالمه الخنناص
يستسخرهم ويتصرف فيهم اسأتسنخار المل ك عبينده بأنل أشند .وشنرح ذلنك
متننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننناهيه.
نأعم إذا لحظ العلوما المفصله فل يكون الحاظر الحاصل عنده إل متناهيا.لكن
فإن أردت له مثال فخذه من الجليات ،فننإنأه ينندرك العننداد ول نأهايننة لهننا؛ بأننل
يدرك تضعيفات الثنين والثلثة وسأننائر العننداد ول يتصننور لهننا نأهايننة .وينندرك
أنأواعا من النسب بأين العداد ل يتصور التناهي عليها :بأل يدرك علمه بأالشىء
وعلمه بأعلمه بأالشيء ،وعلمه بأعلمه بأعلمه .فقوته في هذا الواحد ل تقف عند
7
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
نأهاينننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننة.
السننابأع أن العيننن تبصننر الكننبير صننغيرا ،فننترى الشننمس فنني مقنندار مجننن
والكننواكب فنني صننور دنأننانأير منثننورةا علننى بأسنناط أزرق .والعقننل ينندرك أن
سأاكنة ،بأل ترى الظننل بأيننن يننديه سأنناكنا ،وتننرى الصننبي سأنناكنا فنني مقننداره،
والعقل يدرك أن الصبي متحرك فنني النشننوء والتزاينند علننى النندواما ،والظننل
متحرك دائما ،والكواكب تتحرك في كل لحظ أميال كثيرةا كما قال صلى اللننه
عليه وسألم لجبريل عليه السلماِ) :أزالت الشمس( فقننال ل :نأعننم قننال كيننف
قال )ِمنذ قلننت ل إلننى أن قلننت نأعننم :،قنند تحننرك مسننيرةا خأمسننمائة سأنننة(.
وأنأواع غالط البصر كثيرةا ،والعقل منزه عنها .فإن قلت :نأرى العقلء يغلطننون
في نأظرهم فاعلم أن فيهم خأيالت وأوهاما واعتقادات يظنون أحكامها أحكاما
العقل؛ فالغلط منسوب إليها .وقد شرحنا مجامعها في كتنناب )ِمعيننار العلننم(
فأما العقل إذا تجرد عن غاشاوةا الوهم والخيال لم يتصننور أن يغلننط؛ بأننل رأى
الشياء على ما هي عليه ،وفي تجريده عسر عظيم .وإنأما يكمنل تجنرده عنن
هذه النوازع بأعد الموت ،وعند ذلك ينكشف الغطاء وتنجلي السأرار ويصننادف
8
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
كل أحد ما قدما من خأيننر أو شننر محضننرا؛ ويشنناهد كتابأننا ل يغننادر صننغيرةا ول
كبيرةا إل أحصاها ،وعنده يقال ،فكشفنا عنننك غاطنناءك فبصننرك اليننوما حدينند.
وإنأما الغطاء غاطاء الخيال والوهم وغايرهمننا؛ وعنننده يقننول المغننرور بأأوهننامه
َ
مننل معنا فََار ِ
جعننا َنأع َ سأنن ِ
صننرنأا وَ َ
واعتقاداته الفاسأندةا وخأيننالته الباطلنة (َربأ ّنننا أبأ َ
فقد عرفت بأهذا أن العين أولى بأاسأم النور من النور المعروف ،ثم عرفننت أن
العقل أولى بأاسأم النور من العين .بأل بأينهمننا مننن التفنناوت مننا يصننح معننه أن
دقيقة
اعلم أن العقول وإن كننانأت مبصننرةا ،فليسننت المبصننرات كلهننا عننندها علننى
وتيرةا واحدةا ،بأل بأعضها يكون عندها كأنأه حاضر كالعلوما الضرورية مثل علمه
بأأن الشيء الواحد ل يكون قننديما حادثننا ول يكننون موجننودا معنندوما ،والقننول
الواحد ل يكون صدقا وكذبأا ،وأن الحكم إذا ثبننت للشننيء جننوازه ثبننت لمثلننه،
وأن الخأص إذا كان موجودا كان العم واجب الوجود :فإذا وجنند السننواد فقنند
وجد اللون ،وإذا وجد النأسان فقد وجنند الحيننوان .وأمننا عكسننه فل يلننزما فنني
9
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
العقل ،إذ ل يلزما من وجود اللون وجود السواد ول منن وجنود الحينوان وجنود
لنأسننان إلننى غايننر ذلننك مننن القضننايا الضننرورية فنني الواجبننات والجننائزات
والمستحيلت .ومنها ما ل يقارن العقل في كل حال إذا عرض عليه بأل يحتنناج
إلى أن يهز أعطافه ويسننتوري زنأنناده وينبننه عليننه بأننالتنبيه كالنظريننات .وإنأمننا
ينبهه كلما الحكمة ،فعند إشراق نأور الحكمة يصير العقل مبصننرا بأالفعننل بأعنند
أن كان مبصرا بأالقوةا .وأعظم الحكمننة كلما اللننه تعننالى .ومننن جملننة كلمننه
القرآن خأاصة ،فتكون منزلة آيات القرآن عند عين العقل منزلة نأور الشننمس
عند العين الظاهرةا إذ بأه يتم البأصار .فبننالحرىّ أن يسننمى القننرآن نأننورا كمننا
يسمى نأور الشمس نأورا فمثال القرآن نأور الشمس ومثال العقل نأور العيننن.
منوا ِبأالل َهِ وََرسأول ِهِ َوالنورِ اّلذي َأنأَزلنا( ،وقولهَِ) :قد
وبأهذا نأفهم معنى قولهَ( :فآ ِ
فقد فهمت من هذا أن العين عينان :ظنناهرةا وبأاطنننة :فالظنناهرةا مننن عننالم
الحس والشهادةا ،والباطنة من عالم آخأر وهو عالم الملكوت .ولكل عين مننن
العينين شمس ونأننور عنننده تصننير كاملننة البأصننار إحننداهما ظنناهرةا والخأننرى
10
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
ومهما انأكشننف لننك هننذا انأكشننافا تامننا فقنند انأفتننح لننك أول بأنناب مننن أبأننواب
الملكوت .وفي هذا العالم عجائب يستحقر بأالضافة إليها عالم الشهادةا .وإن
لم يسافر إلى هذا العالم ،وقعد بأه القصور فنني حضننيض عننالم الشننهادةا فهننو
بأهيمة بأعد ،محروما عن خأاصية النأسانأية؛ بأننل أضننل مننن البهيمننة إذ لننم تسننعد
البهيمة بأأجنحة الطيننران إلنى هننذا العنالم .ولننذلك قننال اللنه تعنالىُِ) :أول َِئن َ
ك
ضننننننننننننننننننن ّ
ل(. َ كا َ
هنننننننننننننننننننم أ َ
لنأعننننننننننننننننننناما ِ بأ َنننننننننننننننننننل ُ
وأعلم أن الشهادةا بأالضافة إلى عالم الملكوت كالقشر بأالضافة إلننى اللننب،
كالسفل بأالضافة إلى العلو .ولننذلك يسننمى عننالم الملكننوت العننالم العلننوي
والظلمنننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننانأي.
ول تظن أّنأا نأعني بأالعالم العلوي السموات فإنأهننا علننو وفننوق فنني حننق عننالم
الشهادةا والحس ،ويشارك في إدراكه البهننائم .وأمننا العبنند فل يفتننح لننه بأنناب
11
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
فيصير كل داخأل تحت الحس والخيال أرضه ومن جملننة السننموات ،وكننل مننا
ارتفع عن الحس فسماؤه وهذا هو المعراج الول لكل سأالك ابأتدأ سأفره إلننى
قرب الحضرةا الربأوبأية .فالنأسان مردود إلى أسأفل السننافلين ،ومنننه يننترقى
إلى العالم العلى .وأما الملئكة فننإنأهم جملننة عننالم الملكننوت عنناكفون فنني
حضرةا القدوس ،ومنها يشرفون إلى العالم السأفل .ولذلك قال عليه السلما
)ِإن الله خألق الخلق في ظلمة ثنم أفناض عليهنم منن نأنوره( وقنالِ) :إن للنه
ملئكة هو أعلم بأأعمال الناس منهم( والنأبياء إذا بألغ معراجهم المبلغ القصى
وأشرقوا منه إلى السفل ونأظروا من فوق إلى تحت اطلعوا أيضا على قلننوب
العباد وأشرفوا على جملة من علوما الغيب :إذ من كننان فنني عننالم الملكننوت
الموجودات في عالم الشهادةا؛ وعالم الشهادةا أثر من آثار ذلك العالم ،يجري
منه مجرى الظل بأالضافة إلى السبب .ومفاتيح معرفة المسببات ل توجنند إل
من السأباب ،ولذلك كان عالم الشهادةا مثال لعالم الملكوت كما سأننيأتي فنني
بأيان المشكاةا والمصباح والشجرةا :لن المسبب ل يخلو عنن منوازاةا السنبب
12
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
وهذا لن له غاورا عميقا ومن اطلع على كنه حقيقته انأكشف له حقننائق أمثلننة
فنقول إن كان ما يبصر نأفسه وغايره أولى بأاسأم النور ،فإن كان من جملة ما
يبصر بأه غايره أيضا مع أنأه يبصر نأفسه وغايره ،فهو أولى ،بأاسأم النور من الذي
ل يؤثر في غايره أصل ،بأل بأالحري أن يسمى سأراجا منيرا لفيضان أنأواره على
غايره .وهذه الخاصية توجد للروح القدسأي النبننوي إذ تفيننض بأواسأننطته أنأننواع
المعارف على الخلئق .وبأهذا نأفهم معنننى تسننمية اللنه محمنندا عليننه السننلما
سأراجا منيرا .والنأبياء كلهم سأرج ،وكننذلك العلمنناء .ولكننن التفنناوت بأينهننم ل
يحصى.
دقيقة
إذا كان اللئق بأالذي يستفاد منه نأور البأصار أن يسمى سأننراجا منيننرا فالننذي
يقتبس منه السنراج فني نأفس ه جندير بأنأن يكننى عننه بأالننار .وهنذه السنرج
الرضية إنأما تقتبس في أصلها من أنأوار علوية .فالروح القدسأي النبننوي يكنناد
زيته يضىء ولو لم تمسسه نأار .ولكن إنأما يصير نأورا على نأور إذا مسته النار.
13
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
وبأالحرىّ أن يكون مقتبس الرواح الرضننية هنني الننروح اللهيننة العلويننة الننتي
وصفها علي وابأن عباس رضي الله عنهمننا فقننالِ) :إن للننه ملكننا( لننه سأننبعون
ألف وجه في كل وجه سأبعون ألف لسان يسبح الله بأجميعها( وهو الذي قوبأل
دقيقة
النأوار السماوية التي تقتبس منها النأوار الرضية إن كننان لهننا ترتيننب بأحيننث
يقتبس بأعضها من بأعض ،فالقرب من المنبع الول أولى بأاسأم النور لنأه أعلى
رتبة .ومثال ترتيبه في عالم الشهادةا ل تدركه إل بأأن يفرض ضوء القمر داخأل
في كوةا بأيت واقعا على مرآةا منصوبأة على حائط ،ومنعكسا منهننا إلننى حننائط
آخأر في مقابألتها ثم منعطفا منه إلى الرض بأحيث تستنير الرض .فأنأت تعلننم
أن ما على الرض من النور تابأع لما على الحائط ومننا علننى الحننائط تننابأع لمننا
على المرآةا ،وما على المرآةا تابأع لما في القمر ،وما في القمر تننابأع لمننا فنني
الشمس :إذ منها يشرق النور على القمر .وهذه النأوار الربأعة مرتبننة بأعضننها
14
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
أعلى وأكمل من بأعض ،ولكننل واحنند مقنناما معلننوما ودرجننة خأاصننة ل يتعننداها.
فاعلم أنأه قد انأكشف لربأاب البصائر أن النأوار الملكوتيننة إنأمننا وجنندت علننى
ترتيب كذلك ،وأن المقرب هو القرب إلى النور القصننى .فل يبعنند أن تكننون
رتبة إسأرافيل فوق رتبة جبريل ،وأن فيهم القرب لقننرب درجتننه مننن حضننرةا
الربأوبأيننة الننتي هنني منبننع النأننوار كلهننا ،وأن فيهننم الدنأننى ،وبأينهمننا درجننات
وصفوفهم ،وأنأهم كما وصفوا بأه أنأفسهم إذ قالوا( :وَإ ِّنأا ل َن َحنن ُ
ن الصنناّفون .وَإ ِنأ ّننا
ن)ِ.
سِبحو َ
م َ ل ََنح ُ
ن ال ُ
دقيقة
إذا عرفت أن النأوار لها ترتيننب فنناعلم أنأنه ل يتسلسننل إلننى غاينر نأهاينة ،بأننل
يرتقي إلى منبع أول هو النور لذاته وبأذاته ،ليننس يننأتيه نأننور مننن غايننره ،ومنننه
تشرق النأوار كلها على ترتيبها .فانأظر الن اسأم النور أحق وأولى بأالمسننتنير
المستعير نأوره من غايره ،أو بأالنير في ذاته المنير لكل ما سأواه فما عندي أنأه
يخفى عليك الحق فيه .وبأه يتحقق أن اسأم النور أحق بأالنور القصننى العلننى
15
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
حقيقة
بأل أقول ول أبأالي إن اسأم النور على غاير النور الول مجاز محض :إذ كل ما
سأواه إذا اعتبر ذاته فهو في ذاته من حيث ذاته ل نأور له :بأل نأورانأيته
مستعارةا من غايره ول قواما لنورانأيته المستعارى بأنفسها ،بأل بأغيرها .ونأسبة
المستعار إلى المستعير مجاز محض .أفترى أن من اسأتعار ثيابأا وفرسأا
ومركبا وسأرجا ،وركبه في الوقت الذي أركبه المعير ،وعلى الحد الذي
رسأمه ،غانى بأالحقيقة أو بأالمجاز? وأن المعير هو الغنى أو المستعير? كل ،بأل
المستعير فقير في نأفسه كما كان .وإنأما الغنى هو المعير الذي منه العارةا
والعطاء ،وإليه السأترداد والنأتزاع .فإذن النور الحق هو الذي بأيده الخلق
والمر ،ومنه النأارةا أول والدامة ثانأيا .فل شركة لحد معه في حقيقة هذا
السأم ول في اسأتحقاقه إل من حيث يسميه بأه ويتفضل عليه بأتسميته تفضل
المالك على عبده إذا أعطاه مال ثم سأماه مالكا .وإذا انأكشف للعبد الحقيقة
علم أنأه وماله لمالكه على التفرد ل شريك له فيه أصل وألبتة.
مهما عرفت أن النور يرجع إلى الظهور وإلظهار ومراتبه ،فاعلم أنأه ل ظلمة
أشد من كتم العدما :لن المظلم سأمى مظلما لنأه ليس للبأصار إليه وصننول،
إذ ليننننس يصننننير موجننننودا للبصننننير مننننع أنأننننه موجننننود فنننني نأفسننننه.
فالذي ليس موجودا ل لغيره ول لنفسه كيف ل يستحق أن يكون هو الغاية في
الظلمة وفي مقابألته الوجود فهو النور :فإن الشيء ما لننم يظهننر فنني ذاتننه ل
يظهنننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننر لغينننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننره.
والوجود ينقسم إلى ما للشيء من ذاته وإلى ماله من غايره .ومننا لننه الوجننود
من غايره فوجوده مستعار ل قواما له بأنفسه .بأل إذا اعتبر ذاته من حيننث ذاتننه
فهو عدما محض .وإنأما هو موجود مننن حيننث نأسننبته إلننى غايننره ،وذلننك ليننس
16
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
بأوجود حقيقي كما عرفت في مثال اسأتعارةا الثوب والغنى .فننالموجود الحننق
حقيقة الحقائق
من هنا ترقى العارفون من حضيض المجاز إلننى يفنناع الحقيقننة ،واسأننتكملوا
ك إ ِّل َوجهَ ُ
ه)ِ ل أنأه يصير هالكنا فني وقنت منن الوقنات ،بأنل هنو شيٍءء هال ِ ٌ كُ ّ
ل َ
هالك أزل وأبأدا ل يتصور إل كذلك ،فننإن كننل شننيء سأننواه إذا اعتننبر ذاتننه مننن
حيث ذاته فهو عدما محض؛ وإذا اعتبر من الوجه الذي يسري إليه الوجود مننن
الول الحق رؤى موجودا ل في ذاته لكن من الوجه الذي يلي موجننده فيكننون
الموجود وجه الله تعالى فقط .فلكل شيء وجهان :وجه إلى نأفسه ووجه إلى
ربأه؛ فإذن ل موجود إل الله تعالى ووجهه .فإذن كل شيء هالننك إل وجهننه أزل
ن وأبأدا .ولم يفتقر هؤلء إلى يننوما القيامننة ليسننمعوا نأننداء البنناري تعننالى (ل ّ َ
منن ِ
قهّنناِر)ِ بأننل هننذا النننداء ل يفننارق سأننمعهم أدبأننا .ولننم ما ل ِل َهِ الوا ِ
حد ِ ال َ مل ُ
ك الَيو َ ال ُ
يفهموا من معنى قوله )ِالله أكبر( أنأه أكبر من غايره ،حاش للننه ،إذ ليننس فنني
الوجود معه غايره حتى يكون أكبر منه؛ بأل بأيس لغيره رتبننة المعيننة ،بأننل رتبننة
17
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
التبعية .بأل ليس لغيره وجود إل من الوجه الذي يليه .فالموجود وجهننه فقننط.
ومحال أن يقال إنأه أكبر من وجهه .بأل معناها أنأه أكنبر منن أن يقنال لنه أكنبر
بأمعنى الضافة والمقايسة ،وأكبر من أن يدرك غايره كنه كبريائه ،نأبيننا كننان أو
ملكا .بأل ل يعرف الله كنه معرفته إل الله .بأل كل معروف داخأل فنني سأننلطة
العارف واسأتيلئه دخأول ما ،وذلك ينننافي الجلل والكبرينناء .وهننذا لننه تحقيننق
إشارة
العارفون -بأعد العروج إلى سأماء الحقيقة -اتفقوا على أنأهم لم يروا في الوجود إل الواحد الحق .لكن منهننم مننن
كان له هذه الحال عرفانأا علميا ،ومنهم من صار لنه ذلنك حنال ذوقينا .وانأتفنت عنهنم الكنثرةا بأالكلينة واسأنتغرقوا
بأالفردانأية المحضة واسأتوفيت فيها عقولهم فصاروا كالمبهوتين فيه ولم يبق فيهم متسع ل لذكر غاير الله ول لذكر
أنأفسهم أيضا .فلم يكن عندهم إل الله ،فسكروا سأكرا دفع دونأه سألطان عقولهم ،فقال أحدهم )ِأنأا الحننق( وقننال
الخأر )ِسأبحانأي ما أعظم شأنأي( وقال آخأر )ِمننا فنني الجبننة إل اللننه( وكلما العشنناق فنني حننال السننكر يطننوى ول
يحكى .فلما خأف عنهم سأكرهم وردوا إلى سألطان العقل الذي هو ميزان الله في أرضه ،عرفوا أن ذلك لننم يكننن
حقيقة التحاد بأل شبه التحاد مثل قول العاشق في حال فرط عشقه )ِأنأا من أهوى ومنن أهنوى أنأنا( ول يبعند أن
يفاجىء النأسان مرآةا فينظر فيها ولم ير المرآةا قط ،فيظن أن الصورةا التي رآها هي صورةا المننرآةا متحنندةا بأهننا،
ويرى الخمر في الزجاج فيظن أن الخمر لون الزجاج .وإذا صار ذلك عنده مألوفا ورسأخ فيه قدمه اسأتغفر وقال:
كن َ
ل فََتشاَبأها فََتشا َ خمُر
ت ال َ ج َوراقَ ِ
الُزجا ُ
َ
ح َولوَك َأّنأما َقد ٌ خأنمنٌر َول َقند ٌ
ح َ
18
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
وفرق بأين أن يقول :الخمر قدح ،وبأين أن يقول :كأنأه قدح .وهننذه الحالننة إذا
غالبت سأميت بأالضافة إلى صاحب الحالة )ِفناء( بأل )ِفننناء الفننناء( :لنأنه فنننى
عن نأفسه وفنى عن فنائه ،فإنأه ليس يشعر بأنفسه فنني تلننك الحننال ول يعنندما
شعوره بأنفسه .ولو شعر بأعدما شعوره بأنفسه لكان قد شعر بأنفسه .وتسننمى
هننذه الحالننة بأالضننافة إلننى المسننتغرق بأننه بألسننان المجنناز اتحننادا أو بألسننان
الحقيقة توحيدا .ووراء هذه الحقائق أيضا أسأرار يطول الخوض فيها.
خاتمة
لعلك تشتهي أن تعرف وجه إضافة نأوره إلى السموات والرض ،بأل وجه
كونأه في ذاته نأور السموات والرض ،فل ينبغي أن يخفى ذلك عليك بأعد أن
عرفت أنأه النور ول نأور سأواه وأنأه كل النأوار ،وأنأه النور الكلي ،لن النور
عبارةا عما ينكشف بأه الشياء ،وأعلى منه ما ينكشف بأه وله ،وأعلى منه ما
ينكشف بأه وله ومنه ،وأن الحقيقي منه ما ينكشف بأه وله ،وأعلى منه ما
ينكشف بأه وله ومنه ،وأن الحقيقي منه ما ينكشف بأه وله ومنه وليس فوقه
نأور منه اقتباسأه واسأتمداده :بأل ذلك له في ذاته من ذاته لذاته ل من غايره.
ثم عرفت أن هذا لن يتصف بأه إل النور الول.
ثم عرفت أن السموات والرض مشحونأة نأورا من طبقتي النور :اعني
المنسوب إلى البصر والبصيرةا :أي إلى الحس والعقل .أما البصرى فما
نأشاهده في السموات من الكواكب والشمس والقمر ،وما نأشاهده في
الرض من الشعة المنبسطة على كل ما على الرض حتى ظهرت بأه اللوان
المختلفة خأصوصا في الربأيع ،وعلى كل حال في الحيوانأات والمعادن
وأصناف الموجودات .ولولها لم يكن لللوان ظهور ،بأل وجود .ثم سأائر ما
يظهر للحس من الشكال والمقادير يدرك تبعا لللوان ول يتصور إدراكها إل
بأواسأطتها.
19
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
وأما النأوار العقلية المعنوية فالعالم العلى مشحون بأها ،وهي جواهر
الملئكة ،والعالم السأفل مشحون بأها وهي الحياةا الحيوانأية ثم النأسانأية.
وبأالنور النأسانأي السفلي ظهر نأظاما عالم السفل كما بأالنور الملكي ظهر
مَر ُ
كم من ا َ ُ شأ َ
نأظاما عالم العلو .وهو المعنى بأقوله (َأنأ َ
ض َواسأَتع َِ لر َ ِ كم
َ كم ُ َ لرض)ِ وقال( :وََيجعَل َ ُ فن ّهم في ا َ
ض)ِ،
خألفاَء الر ِ فيها)ِ وقال تعالى( :ل ََيسَتخل ِ َ ُ
فة)ِ.
خألي َ
ض َ ل في ا َ
لر ع ٌ
وقال( :إ ِّنأي جا ِ
ِ
فإذا )ِعرفت هذا عرفت أن العالم بأأسأره مشحون بأالنأوار الظاهرةا البصرية
والباطنة العقلية ،ثم عرفت أن السفلية فائضة بأعضها من بأعض فيضان النور
من السراج وأن السراج هو الروح النبوي القدسأي ،وأن الرواح النبوية
القدسأية مقتبسة من الرواح العلوية اقتباس السراج من النور؛ وأن العلويات
بأعضها مقتبسة من البعض ،وأن ترتيبها ترتيب مقامات .ثم ترقى جملتها إلى
نأور النأوار ومعدنأها ومنبعها الول؛ وأن ذلك هو الله تعالى وحده ل شريك له،
وأن سأائر النأوار مستعارةا ،وإنأما الحقيقي نأوره فقط؛ وأن الكل نأوره ،بأل هو
الكل ،بأل ل هوية لغيره إل بأالمجاز .فإذن ل نأور إل نأوره ،وسأائر النأوار أنأوار
ل شطره( :فََأيَنما ت ُوَّلوامن الذي يليه ل من ذاته .فوجه كل ذي وجه إليه ومو ّ
ه)ِ فإذن ل إله ال هو :فإن الله عبارةا عما الوجه موليه نأحوه ه الل َ ِ فَث َ ّ
م َوج ُ
بأالعبادةا والتأله :أعني وجوه القلوب فإنأها النأوار .بأل كما ل إله إل هو ،فل هو
إل هو :لن )ِهو( عبارةا عما إليه إشارةا كيفما كان ،ول إشارةا إل إليه .بأل كل
ما أشرت إليه فهو بأالحقيقة إشارةا عليه وإن كنت ل تعرفه أنأت لغفلتك عن
حقيقة الحقائق التي ذكرنأاها .ول إشارى إلى نأور الشمس بأل إلى الشمس.
فكل ما في الوجود فنسبته إليه في ظاهر المثال كنسبة النور إلى الشمس.
فإذن )ِل إله إل الله( توحيد العواما ،و )ِل إله إل هو( توحيد الخواص ،لن هذا
أتم وأخأص وأشمل وأحق وأدق وأدخأل بأصاحبه في الفردانأية المحضة
والوحدانأية الصرفة .ومنتهى معراج الخلئق مملكة الفردانأية .وليس وراء
ذلك مرقي :إذ الترقي ل يتصور إل بأكثرةا :فإنأه نأوع إضافة يستدعى ما منه
الرتقاء وما إليه الرتقاء .وإذا ارتفعت الكثرةا حقت الوحدةا وبأطلت الضافات
وطاحت الشارات ولم يبق علو وسأفل ونأازل ومرتفع :واسأتحال الترقي
فاسأتحال العروج .فليس وراء العلى علو ،ول مع الوحدةا كثرةا ،ول مع انأتفاء
الكثرةا عروج ،فإن كان من تغير حال .فالنزول إلى سأماء الدنأيا :أعني
بأالشراف من علو إلى سأفل لن العلى له أسأفل وليس له أعلى .فهذه هي
20
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
غااية الغايات ومنتهى الطلبات :يعلمه من يعلمه وينكره من يجهله .وهو من
العلم الذي هو كهيئة المكنون الذي ل يعلمه إل العلماء بأالله .فإذا نأطقوا بأه لم
ينكره إل أهل الغرةا بأالله .ول يبعد أن قال العلماء إن النزول إلى السماء
الدنأيا هو نأزول ملك :فقد توهم العلماء ما هو أبأعد منه؛ إذ قال هذا المستغرق
بأالفردانأية أيضا له نأزول إلى السماء الدنأيا :فإن 1ذلك هو نأزوله إلى اسأتعمال
الحواس أو تحريك العضاء .وإليه الشارةا بأقوله )ِصرت سأمعه الذي يسمع
بأه وبأصره الذي يبصر بأه ولسانأه الذي ينطق بأه( فإذا كان هو سأمعه وبأصره
ولسانأه ،فهو السامع والباصر والناطق إذن ل غايره؛ وإليه الشارةا بأقوله:
)ِمرضت فلم تعدنأي( الحديث.
فحركات هذا الموحد من السماء الدنأيا وإحساسأاته كالسمع والبصر من
سأماء فوقه ،وعقله فوق ذلك .وهو يترقي من سأماء العقل إلى منتهى معراج
الخلئق .ومملكة الفردانأية تماما سأبع طبقات ثم بأعده يستوي على عرش
الوحدانأية ،ومنه يدبأر المر لطبقات سأمواته.
فربأما نأظر الناظر إليه فأطلق القول بأأن الله خألق آدما على صورةا الرحمن،
إلى أن يمعن النظر فيعلم أن ذلك تأويل كقول القائل )ِأنأا الحق( و )ِسأبحانأي(
بأل كقوله لموسأى عليه السلماِ) :مرضت فلم تعدنأي( و )ِكنت سأمعه وبأصره
ولسانأه( وأرى الن قبض البيان فما أراك تطيق من هذا القدر أكثر من هذا
القدرِ) .مساعدةا( لعلك ل تسمو إلى هذا الكلما بأهمتك ،بأل تقصر دون ذروته
همتك ،فخذ إليك كلما أقرب إلى فهمك وأوفق لضعفك.
واعلم أن معنى كونأه نأور السموات والرض تعرفه بأالنسبة إلى النور الظاهر
البصري .فإذا رأيت أنأوار الربأيع وخأضرته مثل في ضننياء النهننار فلسننت تشننك
في أنأك ترى اللوان .وربأما ظننت أنأك لست تننرى مننع اللننوان غايرهننا ،فإنأننك
تقول لست أرى مع الخضرةا غاير الخضرةا .ولقد أصر على هذا قننوما فزعمننوا
أن النور ل معنى له ،وأنأه ليس مع اللوان غاير اللوان ،فأنأكروا وجود النور مع
أنأه أظهر الشياء ،وكيف ل وبأننه تظهننر الشننياء ،وهننو الننذي يبصننر فنني نأفسننه
21
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
ويبصر بأه غايره كما سأبق .لكن عننند غاننروب الشننمس وغايبننة السننراج ووقننوع
الظل أدركوا تفرقة ضرورية بأين محل الظل وبأين موقع الضياء فاعترفوا بأننأن
النور معنى وراء اللوان يدرك مع اللوان حننتى كنأنأه لشنندةا انأجلئننه ل ينندرك،
ولشدةا ظهوره يخفى .وقد يكون الظهننور سأننبب الخفنناء .والشننيء إذا جنناوز
فإذا عرفت هذا فاعلم أن أربأاب البصائر ما رأوا شيئا إل رأوا الله معه .وربأمننا
زاد على هذا بأعضهم فقال )ِما رأيت شيئا إل رأيت اللننه قبلننه( لن منهننم مننن
يرى الشياء بأه ومنهم من يرى الشياء فيننراه بأالشننياء .وإلننى الول الشننارةا
وإذ قد عرفت هذا فاعلم أنأه كما ظهر كل شيء للبصننر بأننالنور الظنناهر ،فقنند
ظهر كل شيء للبصيرةا الباطنة بأالله .فهو مع كل شننيء ل يفننارقه ثننم يظهننر
كل شيء ،كما أن النور مع كل شيء وبأه يظهنر .ولكنن بأقنى هنا هننا تفناوت:
وهو أن النور الظاهر يتصور أن يغيب بأغننروب الشننمس ويحجننب حننتى يظهننر
22
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
الظل ،وأما النور اللهي الذي بأه يظهر كل شيء ،ل يتصور غايبته بأننل يسننتحيل
تغيره .فيبقى مع الشياء دائما ،فانأقطع طريق السأتدلل بأالتفرقة .ولو تصور
غايبته لنأهدت السموات والرض ،ولدرك بأه من التفرقة منا يضنطر معنه إلنى
المعرفة بأما بأه ظهرت الشياء .ولكنن لمنا تسناوت الشنياء كله ا علنى نأمنط
واحد في الشهادةا على وحدانأيننة خأالقهننا ارتفننع التفريننق وخأفنني الطريننق :إذ
الطريق الظاهر معرفة الشياء بأالضننداد فمننا ل ضنند لننه ول تغيننر لننه تتشننابأه
الحوال في الشهادةا له .فل يبعد أن يخفى ويكون خأفاؤه لشدةا جلئه والغفلة
عنهم لشراق نأوره .وربأما لننم يفهننم أيضننا كنننه هننذا الكلما بأعننض القاصننرين،
فيفهم من قولنا )ِإن الله مع كل شيء كالنور مع الشياء )ِأنأه فني كننل مكنان؛
تعالى وتقدس عن النسبة إلى المكان .بأل لعل البأعد عن إثارةا هذا الخيال أن
نأقول إنأه قبل كل شيء؛ وإنأه فوق كل شيء؛ وإنأه مظهر كل شيء .والمظهر
ل يفارق المظهر في معرفة صاحب البصيرةا فهو الذي نأعننني بأقولنننا عنننه مننع
كل شيء .ثم ل يخفى عليك أيضا أن المظهر وفوقه مع أنأه معننه بأننوجه :لكنننه
معه بأوجه وقبله بأوجه.فل تظنن أنأه متناقض ،واعتبر بأالمحسوسأات الننتي هنني
درجتك في العرفان؛ وانأظر كيف تكون حركة اليد مع حركة ظننل الينند وقبلهننا
23
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
أيضنننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننا.
ومن لم يتسع صدره لمعرفة هذا فليهجر هذا النمننط مننن العلننم ،فلكننل علننم
الفصل الثانأي
ومعرفة هذا يستعدي تقديم قطبين يتسع المجال فيهما إلى غاير حد محنندود.
لكني أشير إليهما بأالرمز والخأتصار :أحدهما في بأيننان سأننر التمثيننل ومنهنناجه
ووجه ضبط أرواح المعانأي بأقوالب المثلة ،ووجه كيفية المناسأبة بأينها ،وكيفية
الموازنأة بأين عالم الشهادةا التي منهننا تتخننذ طينننة المثننال ،وعننالم الملكننوت
والثانأي في طبقات أرواح الطينة البشرية ومراتب أنأوارهننا؛ فننإن هننذا المثننال
مسوق لبيان ذلك؛ إذ قرأ ابأن مسعود )ِمثل نأوره في قلب المننؤمن كمشننكاةا(
24
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
اعلم أن العالم عالمان :روحانأي وجسمانأي :وإن شئت قلت :حسي وعقلي؛
وإن شئت علوي وسأفلي .والكل متقارب ،وإنأما تختلف بأاخأتلف العتبارات:
فإذا اعتبرتهما في أنأفسهما قلت جسمانأي وروحانأي ،وإن اعتبرتهما بأالضافة
إلى العين المدركة لهما قلت حسي وعقلي .وإن اعتبرتهما بأإضافة أحدهما
إلى الخأر قلت علوي وسأفلى .وربأما سأميت أحدهما عالم الملك والشهادةا
والخأر عالم الغيب والملكوت .ومن نأظر إلى الحقائق من اللفاظ ربأما تحير
عند كثرةا اللفاظ وتخيل كثرةا المعانأي .والذي تنكشف له الحقائق يجعل
المعانأي أصل واللفاظ تابأعا .وأمر الضعيف بأالعكس؛ إذ يطلب الحقائق من
مك ِب ّا ً َ َ
على َوجهِهِ اللفاظ .وإلى الفريقين الشارةا بأقوله تعالى( :أفَ َ
من َيمشي ُ
مسَتقيم(. سأويا ً َ َ َ
ط ّصرا ٍء
على ِ من َيمشي َ
أهدى أما َ
وإذ قد عرفت معنى العالمين فاعلم أن العالم الملكوتي عالم غايب؛ إذ هو
غاائب عن الكثرين .والعالم الحسي عالم شهادةا إذ يشهده الكافة .والعالم
الحسي مرقاةا إلى العقل .فلو لم يكن بأينهما اتصال ومناسأبة لنأسد طريق
الترقي إليه .ولو تعذر ذلك لتعذر السفر إلى حضرةا الربأوبأية والقرب من الله
تعالى .فلم يقرب من الله تعالى أحد ما لم يطأ بأحبوحة حظيرةا القدس.
والعالم المرتفع عن إدراك الحس والخيال هو الذي نأعنيه بأعالم القدس .فإذا
اعتبرنأا جملته بأحيث ل يخرج منه شيء ول يدخأل فيه ما هو غاريب منه سأميناه
حظيرةا القدس .وربأما سأمينا الروح البشري الذي هو مجرى لوائح القدس
)ِالوادي المقدس( .ثم هذه الحظيرةا فيها حظائر بأعضها أشد إمعانأا في معانأي
القدس .ولكن لفظ الحظيرةا يحيط بأجميع طبقاتها .فل تظنن أن هذه اللفاظ
طامات غاير معقولة عند أربأاب البصائر .واشتغالي الن بأشرح كل لفظ مع
ذكره يصدنأي عن المقصد .فعليك التشمير لفهم هذه اللفاظ فأرجع إلى
الغرض وأقول :لما كان عالم الشهادةا مرقاةا إلى عالم الملكوت ،وكان
سألوك الصراط المستقيم عبارةا عن هذا الترقي؛ وقد يعبر عنه بأالدين
وبأمنازل الهدى -فلو لم يكن بأينهما مناسأبة واتصال لما تصور الترقي من
أحدهما إلى الخأر -جعلت الرحمة اللهية عالم الشهادةا على موازنأة عالم
الملكوت :فما من شيء من هذا العالم إل وهو مثال لشيء من ذلك العالم.
وربأما كان الشيء الواحد مثال لشياء من عالم الملكوت .وربأما كان للشيء
الواحد من الملكوت أمثلة كثيرةا من عالم الشهادةا .وإنأما يكون مثال إذا ماثله
25
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
والسالك للطريق أول ينتهي إلى ما درجته درجة الكواكب فيتضح له إشراق
نأوره وينكشف له أن العالم السأفل بأأسأره تحت سألطانأه وتحت إشراق نأوره؛
ويتضح له من جماله وعلو درجته ما يبادر فيقولِ) :هذا ربأي( ثم إذا اتضح له
ما فوقه مما رتبته رتبة القمر ،رأى دخأول الول في مغرب الهوى بأالضافة
إلى ما فوقه فقالِ) :ل أحب الفلين( وكذلك يترقى حتى ينتهي إلى ما مثاله
الشمس فيراه أكبر وأعلى ،فيراه قابأل للمثال بأنوع مناسأبة له معه.
ي ل ِّلذيت َوجهِ َ جه ُ والمناسأبة مع ذي النقص نأقص وأفول أيضا .فمنه يقول( :وَ َ
حنيفًا)ِ ومعنى )ِالذي( إشارةا مبهمة ل مناسأبة لها :إذ َ
ض َ
ت َوالر َ
موا ِس َفَط ََر ال َ
لو قال قائل ما مثال مفهوما )ِالذي( لم يتصور أن يجاب عنه .فالمتنزه عن
كل مناسأبة هو الول الحق .ولذلك لما قال بأعض العراب لرسأول الله صلى
الله عليه وسألمِ) :ما نأسب الله?( نأزل في جوابأه (ُقل هُو الل َ َ
هد .الل َ ُ ح ٌهأ َ ُ َ
دَ .لم ي َِلد وََلم يوَلد( إلى آخأرها ،معناه أن التقدس والتنزه عن النسبة م ُص َال َ
ن)ِ كالطالب لماهيته ب العاَلمي َ نأسبته .ولذلك لما قال فرعون لموسأىَ( :وما َر ّ
بلم يجب إل بأتعريفه بأأفعاله ،إذ كانأت الفعال أظهر عند السائل فقالّ( :ر ّ
ن)ِ كالمنكر عليه في َ َ
معو َ ض)ِ ،فقال فرعون لمن حوله (أل َتس َ ت َوالر ِ موا ِ س َ ال َ
ب آبأائ ِك ُ ُ
م كم وََر ّ عدوله في جوابأه عن طلب الماهية ،فقال موسأىَ( :ربأ ُ ُ
ن)ِ فنسبه فرعون إلى الجنون إذ كان مطلبه المثال والماهية؛ وهو لوليا َ
َ
ُ
ن)ِ. مجنو ٌ كم ل َ َ ل إ َِلي ُ م اّلذي أر ِ
سأ َ ن َرسأول َك ُ ُ
يجيب عن الفعال ،فقال( :إ ِ ّ
ولنرجع إلى النأموذج فنقول علم )ِالتعبير( يعرفك منهاج ضرب المثال؛ لن
الرؤيا جزء من النبوةا .أما ترى أن الشمس في الرؤيا تعبيرها السلطان ،لما
بأينهما من المشاركة والمماثلة في معنى روحانأي -وهو السأتعلء على الكافة
26
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
مع فيضان الثار على الجميع .والقمر تعبيره الوزير لفاضة الشمس نأورها
بأواسأطة القمر على العالم عند غايبتها كما يفيض السلطان أنأواره بأواسأطة
الوزير على من يغيب عن حضرةا السلطان .وأن من يرى أنأه في يده خأاتم
يختم بأه أفواه الرجال وفروج النساء فتعبيره أنأه مؤذن يؤذن قبل الصبح في
رمضان .وأن من يرى أنأه يصب الزيت في الزيتون فتعبيره أن تحته جارية
هي أمه وهو ل يعرف .واسأتقصاء أبأواب التعبير يزيك أنأسا بأهذا الجنس ،فل
يمكنني الشتغال بأعدها :بأل أقول :كما أن في الموجودات العالية الروحانأية
ما مثاله الشمس والقمر والكواكب ،فكذلك فيها ما له أمثلة أخأرى إذا
اعتبرت منه أوصاف ُأخأر سأوى النورانأية.
فإن كان في تلك الموجودات ما هو ثابأت ل يتغير وعظيم ل يستصغر ،ومنه
ينفجر إلى أودية القلوب البشرية مياه المعارف ونأفائس المكاشفات فمثاله
)ِالطور(؛ وإن كان ثم موجودات تتلقى تلك النفائس بأعضهم أولى من بأعض
فمثالها الوادي .وإن كانأت تلك النفائس بأعد اتصالها بأالقلوب البشرية تجري
من قلب إلى قلب ،فهذه القلوب أيضا أودية .ومفتتح الوادي قلوب النأبياء ثم
العلماء ثم من بأعدهم .فإن كانأت هذه الودية دون الول وعنها تغترف،
فبالحرىّ أن يكون الول هو الوادي اليمن لكثرةا يمنه وعلو درجته .وإن كان
الوادي الدون يتلقى من آخأر درجات الوادي اليمن فمغترفه شاطىء الوادي
اليمن دون لجته ومبدئه .وإن كان روح النبي سأراجا منيرا ،وكان ذلك الروح
َ مقتبسا بأواسأطة وحي كما قالَ( :أوحينا ِإلي َ
رنأا)ِ فما منه ك روحا ً ِ
من أم ِ
القتباس مثاله النار ،وإن كان المتلقنون من النأبياء بأعضهم على محض
التقليد لما سأمعه ،وبأعضهم على حظ من البصيرةا ،فمثال حظ المقلد الخبر،
ومثال حظ المستبصر الجذوةا والقبس والشهاب .فإن صاحب الذوق مشارك
للنبي في بأعض الحوال .ومثال تلك المشاركة الصطلء .وإنأما يصطلي بأالنار
من معه النار ،ل من يسمع خأبرها .وإن كان أول منزل النأبياء الترقي إلى
العالم المقدس عن كدورةا الحس والخيال ،فمثال ذلك المنزل الوادي
المقدس.
وإن كان ل يمكن وطء ذلك الوادي المقدس إل بأاطراح الكونأين -أعني الدنأيا
والخأرةا -والتوجه إلى الواحد الحق ،ولن الدنأيا والخأرةا متقابألتان متحاذيتان
وهما عارضان للجوهر النورانأي البشري يمكن اطراحهما مرةا والتلبس بأهما
أخأرى ،فمثال اطراحهما عند الحراما للتوجه إلى كعبة القدس خألع النعلين.
بأل نأترقي إلى حضرةا الربأوبأية مرةا أخأرى ونأقول:
27
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
إن كننان فنني تلننك الحضننرةا شننيء بأواسأننطته تنتقننش العلننوما المفصننلة فنني
الجواهر القابألة لها فمثنناله )ِالقلننم( .وإن كننان فنني تلننك الجننواهر القابألننة مننا
بأعضها سأابأق إلى التلقي ،ومنها تنتقل إلى غايرها ،فمثالها )ِاللوح المحفوظ( و
)ِالرق المنشور( .وإن كان فوق الناقش للعلوما شيء هو مسخر فمثاله )ِاليد(
وإن كان لهذه الحضرةا المشتملة علننى الينند واللننوح والقلننم والكتنناب ترتيننب
منظوما فمثاله )ِالصورةا( وإن كان يوجد للصورةا النأسية نأوع ترتيب على هذه
الشنناكلة ،فهنني علننى صننورةا الرحمننن .وفننرق بأيننن أن يقننال )ِعلننى صننورةا
الرحمن( وبأيننن أن يقننال )ِعلننى صننورةا اللننه( لن الرحمننة اللهيننة هنني الننتي
ثم أنأعم على آدما فأعطاه صورةا مختصرةا جامعة لجميع أصناف ما في العننالم
أعني هذه الصورةا -مكتوبأة بأخط الله .فهننو الخننط اللهنني الننذي ليننس بأرقننم
حروف ،إذ تنزه خأطه عن أن يكون رقما وحروفا كما تنزه كلمه عن أن يكننون
صوتا وحرفا ،وقلمه عننن أن يكننون خأشننبا وقصننبا ،ويننده عننن أن تكننون لحمننا
وعظما .ولول هذه الرحمة لعجز الدمي عن معرفنة ربأ ه :إذ ل يعنرف ربأ ه إل
28
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
من عرف نأفسه .فلما كان هذا من آثار الرحمة صنار علنى صننورةا الرحمنن ل
على صورةا الله :فإن حضرةا اللهية غاير حضرةا الرحمة وغايننر حضننرةا الملننك
وغاير حضرةا الربأوبأية .ولذلك أمر بأالعياذ بأجميننع هننذه الحضننرات فقننال( :قُننل
س)ِ ولول هذا المعنننى لكننان ينبغنني أن النا هك الناس ،إ ِل َ ِ ل م س، النا ب ر بأ ُ ذ َ
أعو
ِ ِ ِ ِ َ ِ ّ َ ِ
يقول على صورته واللفظ الوارد في الحديث الصحيح علننى صننورةا الرحمننن.
ولن تمييننز حضننرةا الملننك عننن اللهيننة والربأوبأيننة يسننتدعي شننرحا طننويل
فلنتجاوزه ،ويكفيك من النأموذج هذا القدر ،فإن هذا بأحننر ل سأنناحل لننه .فننإن
ن
منن َ وجدت في نأفسك نأفورا عن هذه المثال فآن قلبك بأقوله تعننالى( :أ َنأننَز َ
ل ِ
قد َِرها)ِ الية ،وأنأه كيف ورد في التفسننير أن المنناء سماِء ماًء َفساَلت َأود ِي َ ٌ
ة بأ ِ َ ال َ
خاتمة وأاعتذار
ل تظنن من هذا النأموذج وطريق ضرب المثال رخأصة مني في رفع الظاهر
واعتقادا في إبأطالها حتى أقول مثل لم يكن مع موسأى نأعلن ،ولم يسمع
الخطاب بأقولهِ) :اخألع نأعليك( حاش لله فإن إبأطال الظواهر رأى الباطنية
الذين نأظروا بأالعين العوراء إلى أحد العالمين ولم يعرفوا الموازنأة بأين
العالمين ،ولم يفهموا وجهه .كما أن إبأطال السأرار مذهب الحشوية.
فالذي يجرد الظاهر حشوى ،والذي يجرد الباطن بأاطني .والذي يجمع بأينهما
كامل .ولذلك قال عليه السلماِ) :للقرآن ظاهر وبأاطن وحد ٌ ومطلع( وربأما
ى موقوفا عليه .بأل أقول فهم موسأى من المر بأخلع النعلين نأقل هذا عن عل ّ
29
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
اطراح الكونأين فامتثل المر ظاهرا بأخلع نأعليه ،وبأاطنا بأاطراح العالمين .وهذا
هو )ِالعتبار( أي العبور من الشيء إلى غايره ،ومن الظاهر إلى السر .وفرق
بأين من يسمع قول رسأول الله صلى الله عليه وسألمِ) :ل يدخأل الملئكة بأيتا
فيه كلب( فيقتنى الكلب في البيت ويقول ليس الظاهر مرادا ،بأل المراد
تخلية بأيت القلب عن كلب الغضب لنأه يمنع المعرفة التي هي من أنأوار
الملئكة :إذا الغضب غاول العقل ،وبأين من يمتثل المر في الظاهر ثم يقول:
الكلب ليس كلبا لصورته بأل لمعناه -وهو السبعية والضراوةا -وإذا كان حفظ
البيت الذي هو مقر الشخص والبدن واجبا عن صورةا الكلب ،فبأن يجب حفظ
بأيت القلب -وهو مقر الجوهر الحقيقي الخاص -عن شر الكلبية أولى .فأنأا
أجمع بأين الظاهر والسر جميعا ،فهذا هو الكامل :وهو المعنى بأقولهم
)ِالكامل من ل يطفىء نأور معرفته نأور ورعه( ولذلك ترى الكامل ل تسمح
نأفسه بأترك حد من حدود الشرع مع كمال البصيرةا .وهذه مغلطة منها وقع
بأعض السالكين إلى البأاحة وطى بأساط الحكاما ظاهرا ،حتى أنأه ربأما ترك
أحدهم الصلةا وزعم أنأه دائما في الصلةا بأسره .وهذا سأوى مغلطة الحمقى
من البأاحية الذين مأخأذهم ترهات كقول بأعضهم )ِإن الله غاني عن عملنا(
وقول بأعضهم إن الباطن مشحون بأالخبائث ليس يمكن تزكيته ول يطمع في
اسأتئصال الغضب والشهوةا لظنه أنأه مأمور بأاسأتئصالها :وهذه حماقات.
فأما ما ذكرنأاه فهو كبوةا جواد وهفوةا سأننالك حسننده الشننيطان فنندلّه بأحبننل
الغرور .وأرجع إلى حديث النعلين فأقول :ظاهر خألع النعلين منبنه علنى تنرك
الكونأين .فالمثال في الظاهر حق وأداؤه إلى السر الباطن حقيقة .وأهل هننذا
التنبيه هم الذين بألغوا درجة الزجاجة كما سأيأتي معنننى الزجاجننة؛ لن الخيننال
الذي من طينته يتخذ المثال صلب كثيف يحجننب السأننرار ويحننول بأينننك وبأيننن
النأوار؛ ولكن إذا صفا حتى صار كالزجاج الصافي غاير حائننل عننن النأننوار ،بأننل
صار مع ذلك مؤديا للنأننوار ،بأننل صننار مننع ذلننك حافظننا للنأننوار عننن النأطفنناء
30
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
فنناعلم أن العننالم الكننثيف الخيننالي السننفلي صننار فنني حننق النأبينناء زجاجننة
ومشكاةا للنأوار ومصفاةا للسأرار ،ومرقاةا إلى العالم العلى .وبأهذا يعرف أن
المثال الظاهر حق ووراءه سأر .وقس على هذا )ِالطور( و )ِالنار( وغايرهما.
دقيقة
إذا قال الرسأول عليه السلماِ) :رأيت عبنند الرحمننن بأننن عننوف ينندخأل الجنننة
حبوا( فل تظنن أنأه لم يشاهده بأالبصنر كنذلك ،بأننل رآه فني يقظتنه كمنا يننراه
النائم في نأومه؛ وإن كان عبد الرحمن مثل نأائما في بأيته بأشخصه ،فننإن النننوما
إنأما أثر في أمثال هذه المشاهدات لقهره سألطان الحواس عن النور البنناطن
اللهي ،فإن الحواس شاغالة له وجاذبأة إياه إلى عالم الحننس ،وصننارفة وجهننه
عن عالم الغيب والملكوت .وبأعض النأوار النبوية قد يستعلي ويستولي بأحيث
ل تستجره الحواس إلى عالمها ول تشننغله ،فيشنناهد فنني اليقظننة مننا يشنناهد
غايره في المناما .ولكنه إذا كان في غااية الكمال لم يقتصر إدراكه على محض
الصورةا المبصرةا ،بأل عبر منها إلى السر فانأكشف له أن اليمننان جنناذب إلننى
العالم الذي يعبر عنه بأالجنة؛ والغنى والثروةا جاذب إلى الحياةا الحاضرةا وهي
31
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
العالم السأفل .فإن كان الجاذب إلى أشغال الدنأيا أقننوى أو مقاومننا للجنناذب
الخأر صد عن المسير إلى الجنة .وإن كان جاذب اليمان أقننوى أورث عسننرا
وبأطئا في سأيره؛ فيكون مثاله من عالم الشهادةا )ِالحبننو( فكننذلك تتجلننى لننه
أنأوار السأرار من وراء زجاجات الخيال .ولذلك ل يقتصر في حكمه علننى عبنند
الرحمن وإن كان إبأصاره مقصورا عليه ،بأننل يحكننم بأننه علننى كننل مننن قننويت
بأصيرته واسأتحكم إيمانأه ،وكثرت ثروته كننثرةا تزاحننم اليمننان لكننن ل تقنناومه
فهذا يعرفك كيفية إبأصار النأبياء الصورةا وكيفية مشاهدتهم المعانأي مننن وراء
الصور .والغالب أن يكون المعنى سأنابأقا إلنى المشناهدةا الباطننة ثننم يشننرق
منها على الروح الخيالي فينطبع الخيال بأصننورةا موازنأننة للمعنننى محاكيننة لننه.
وهذا النمط من الوحي في اليقظة يفتقر إلى التأويل ،كما أنأه في النوما يفتقر
إلى التعبير .والواقع منه في النوما نأسبته إلى الخننواص النبويننة نأسننبة الواحنند
إلى سأتة وأربأعين .والواقننع فنني اليقظننة نأسننبته أعظننم مننن ذلننك .وأظننن أن
نأسبته إليه نأسبة الواحد إلى الثلثة .فإن الذي انأكشف لنا من الخواص النبوية
القطب الثانأي
32
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
فالول منها الروح الحساس وهو الذي يتلقى ما تورده الحواس الخمس،
وكأنأه أصل الروح الحيوانأي وأوله ،إذ بأه يصير الحيوان حيوانأا .وهو موجود
للصبي الرضيع.
الثانأي الروح الخيالي ،وهو الذي يستثبت ما أورده الحواس ويحفظه مخزونأا
عنده ليعرضه على الروح العقلي الذي فوقه عند الحاجة إليه .وهذا ل يوجد
للصبي الرضيع في بأداية نأشوئه :ولذلك يولع بأالشيء ليأخأذه ،فإذا غااب عنه
غايب عنه بأكى ينساه ول تنازعه نأفسه إليه إلى أن يكبر قليل فيصير بأحيث إذا ُ
وطلب ذلك لبقاء صورته محفوظة في خأياله .وهذا قد يوجد لبعض الحيوانأات
دون بأعض ،ول يوجد للفراش المتهافت على النار لنأه يقصد النار لشغفه
بأضياء النهار :فيظن أن السراج كوةا مفتوحة إلى موضع الضياء فيلقي نأفسه
عليه فيتأذى بأه .لكنه إذا جاوزه وحصل في الظلمة عاوده مرةا بأعد مرةا .ولو
كان له الروح الحافظ المستثبت لما أداه الحس إليه من اللم لما عاوده بأعد
أن تضرر مرةا بأه فالكلب إذا ضرب مرةا بأخشبة ،فإذا رأى الخشبة بأعد ذلك
من بأعد هرب.
الثالث الروح العقلي الذي بأه تدرك المعانأي الخارجننة عننن الحننس والخيننال،
المعارف الضرورية الكلية كما ذكرنأاه عند ترجيح نأور العقل على نأننور العيننن.
الرابأع الروح الفكري ،وهو الننذي يأخأننذ العلننوما العقليننة المحضننة فيوقننع بأينهننا
تأليفات وازدواجات ويستنتج منها معارف شريفة .ثم إذا اسأتفاد نأتيجتين مثل،
ألف بأينهما مرةا أخأرةا واسأتفاد نأتيجة أخأرى .ول يننزال يتزاينند كننذلك إلننى غايننر
33
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
نأهاينننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننة.
الخامس الروح القدسأي النبوي الذي يختص بأه النأبياء وبأعننض الولينناء ،وفيننه
تتجلى لوائح الغيب وأحكنناما الخأننرةا وجملننة مننن معننارف ملكننوت السننموات
والرض ،بأل من المعارف الربأانأية التي يقصر دونأها الروح العقلنني والفكننري.
َ وإليه الشارةا بأقوله تعالى( :وك َذ َل ِ َ َ
ت َتنندري رنأا ما ُ
كن َ ك روحا ً ّ
من أم ِ حينا إ َِلي َ
ك أو َ َ
في عالم العقل أن يكون وراء العقنل طنور آخأنر يظهنر فينه منا ل يظهنر فني
العقل ،كما ل يبعد كون العقننل طننورا وراء التمييننز والحسنناس تنكشننف فيننه
ول تجعل أقصى الكمال وقفا على نأفسك .وإن أردت مثال ممننا نأشنناهده مننن
جملة خأواص بأعض البشر فانأظر إلى ذوق الشننعر كيننف يختننص بأننه قننوما مننن
الناس وهو نأوع إحساس وإدراك ،ويحنرما عننه بأعضنهم حنتى ل تتمينز عنندهم
اللحان الموزونأة من المنزحفة .وانأظر كيف عظمت قوةا الننذوق فنني طائفننة
حتى اسأتخرجوا بأها الموسأيقى والغاانأي والوتار وصنوف الدسأتانأات التي منها
المحزن ومنها المطرب ومنها المننوما ومنهنا المضنحك ومنهنا المجننن ومنهنا
القاتل ،ومنها الموجب للغشى .وإنأما تقوى هذه الثار فيمن له أصننل الننذوق.
34
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
وأما العاطل عن خأاصية الذوق فيشارك في سأماع الصوت وتضعف فيه هننذه
الثار ،وهو يتعجب من صاحب الوجد والشغى .ولننو اجتمننع العقلء كلهننم مننن
فهذا مثال في أمر خأسيس لكنه قريب إلى فهمك .فقننس بأننه الننذوق الخنناص
النبوي واجتهد أن تصير من أهل الذوق بأشيء من ذلننك الننروح :فننإن للولينناء
منننه حظننا وافننرا .فننإن لننم تقنندر فاجتهنند أن تصننير بأالقيسننة الننتي ذكرنأاهننا
والتنبيهات التي رمزنأا إليها من أهل العلم بأها .فنإن لنم تقندر فل أقنل منن أن
ذي ُ تكون من أهل اليمان بأها :و (َيرفَعُ الل َه اّلذي َ
م كم َوال ّ َ َ
ن أوتننوا الِعلنن َ من ٌ
منوا ِ
نآ ََ ُ
ت)ِ .والعلم فوق اليمان ،والذوق فننوق العلننم .فالننذوق وجنندان والعلننم
د ََرجا ٍء
قياس واليمان قبول مجرد بأالتقلينند .وحسننن الظننن بأأهننل الوجنندان أو بأأهننل
العرفنننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننننان.
فإذا عرفت هذه الرواح الخمسة فاعلم أنأها بأجملتها أنأوار لنأها تظهننر أصننناف
الموجودات ،والحسى والخيالي منها ،وإن كننان يشننارك البهننائم فنني جنسننها،
لكن الذي للنأسان منه نأمط آخأر أشرف وأعلى؛ وخألق النأسننان لجننل غاننرض
أجل وأسأمى .أما الحيوانأات فلننم يخلننق ذلننك لهننا إل ليكننون آلتهننا فنني طلننب
غاذائها في تسخيرها للدمي .وإنأما خألق للدمي ليكون شننبكة لننه يقتنننص بأهننا
35
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
من العالم السأفل مبننادىء المعننارف الدينيننة الشننريفة .إذ النأسننان إذا أدرك
بأالحس شخصا معينا اقتبس عقله منه معنى عاما مطلقا كما ذكرنأا فنني مثننال
حبو عبد الرحمن بأن عننوف .وإذا عرفننت هننذه الرواح الخمسننة فلنرجننع إلننى
عرض المثلة.
36
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
37
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
وإذا كانأت هذه كلها مظلمة فبالحري أن تكننون ظلمننات بأعضننها فننوق بأعننض.
وإذا كانأت هذه الظلمات تحجب عن معرفة الشياء القريبة فضل عن البعيدةا،
ولذلك حجب الكفار عن معرفة عجائب أحوال النبي عليننه السننلما مننع قننرب
متناوله وظهوره بأأدنأى تأمل ،فبالحرى أن يعبر عنه بأأنأه لو أخأرج يننده لننم يكنند
يراها .وإذا كان منبع النأوار كلها من النور الول الحق كما سأبق بأيانأه فبالحرى
الفصل الثالث
38
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
وفي بأعض الروايات سأننبعمائة ،وفنني بأعضننها سأننبعين ألفننا :فننأقول :إن اللننه
تعالى متجل في ذاته لذاته ،ويكون الحجاب بأالضافة إلى محجننوب ل محالننة؛
وإن المحجوبأين من الخلق ثلثننة أقسنناما :منهننم مننن حجننب بأمجننرد الظلمننة؛
ومنهم من حجننب بأننالنور المحننض؛ ومنهننم مننن حجننب بأنننور مقننرون بأظلمننة.
وأصناف هذه القساما كثيرةا أتحقق كثرتها ،ويمكنني أن أتكلننف حصننرها فنني
سأبعين ،لكن ل أثق بأمننا يلننوح لنني مننن تحدينند وحصننر ،إذ ل أدري أنأننه المننراد
بأالحديث أما ل .أما الحصر إلى سأبعمائة وسأبعين ألفننا فننذلك ل يسننتقل بأننه إل
القوةا النبوية ،مع أن ظاهر ظني أن هذه العداد مننذكورةا للتكننثير ل للتحدينند؛
وقد تجري العادةا بأذكر عدد ول يراد بأه الحصر بأل التكثير .والله أعلم بأتحقيننق
ذلننك ،فننذلك خأننارج عننن الوسأننع .وإنأمننا الننذي يمكنننني الن أن أعرفننك هننذه
القسم الوأل
39
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
وهم المحجوبأون بأمحض الظلمة ،وهم الملحدةا الذين ل يؤمنون بأالله واليوما
الخأر .وهم الذين اسأتحبوا الحياةا الدنأيا على الخأرةا لنأهم ل يؤمنون بأالخأرةا
أصل وهؤلء صنفان :صنف تشوف إلى طلب سأبب لهذا العالم فأحاله إلى
الطبع :والطبع عبارةا عن صفة مركوزةا في الجساما حالة فيها؛ وهي مظلمة
إذ ليس لها معرفة وإدراك ول خأبر لها من نأفسها ول مما يصدر منها؛ وليس
لها نأور يدرك بأالبصر الظاهر أيضا.
والصنف الثانأي :هم الذين شغلوا بأأنأفسهم ولم يفرغاوا لطلب السبب أيضا،
بأل عاشوا عيش البهائم ،فكان حجبهم نأفوسأهم الكدرةا ،وشهواتهم المظلمة،
َ َ
خذ َمن ا ِت َ َ
ت َول ظلمة أشد من الهوى والنفس :ولذلك قال الله تعالى( :أَفرأي َ
ه)ِ وقال رسأول الله صلى الله عليه وسألم ِ) :الهوى أبأغض إله عبد هوا ُ إ ِل َهَ ُ
ه َ
في الرض( وهؤلء انأقسموا فرقا :فرقة زعمت أن غااية الطلب في الدنأيا
هي قضاء الوطار ونأيل الشهوات وإدراك اللذات البهيمية من منكح ومطعم
وملبس .فهؤلء عبيد اللذةا ،يعبدونأها ويطلبونأها ويعتقدون أن نأيلها غااية
السعادات :رضوا لنأفسهم أن يكونأوا بأمنزلة البهائم بأل أخأس منها .وأي
ظلمة أشد من ذلك فقد حجب هؤلء بأمحض الظلمة.
وفرقة رأت أن غااية السعادات هي الغلبة والسأتيلء والقتل والسبى والسأر،
وهذا مذهب العراب والكراد وكثير من الحمقى ،وهم محجوبأون بأظلمة
الصفات السبعية لغلبتها عليهم وكون إدراكها مقصود أعظم اللذات .وهؤلء
قنعوا بأأن يكونأوا بأمنزلة السباع بأل أخأس.
وفرقة ثالثة رأت أن غااية السعادات كثرةا المال واتساع اليسار لن المال هو
آلة قضاء الشهوات كلها ،وبأه يحصل للنأسان القتدار على قضاء الوطار.
فهؤلء همتهم جمع المال واسأتكثار الضياع والعقار والخيل المسومة والنأعاما
والحرث وكنز الدنأانأير تحت الرض .فترى الواحد يجتهد طول عمره يركب
الخأطار في البوادي والسأفار والبحار ويجمع الموال ويشح بأها على نأفسه
فضل عن غايره :وهم المرادون بأقوله عليه السلماِ) :تعس عبد الدراهم ،تعس
عبد الدنأانأير( .واي ظلمة أعظم مما يلبس على النأسان? إن الذهب والفضة
حجران ل يرادان لعيانأهما .وهي إذا لم يقض بأها الوطار ولم تنفق فهي
والحصباء بأمثابأة ،والحصباء بأمثابأتها.
وفرقة رابأعة ترقت عن جهالة هؤلء وتعاقلت ،وزعمت أن أعظم السننعادات
في اتساع الجاه والصيت وانأتشار الذكر وكثرةا التبنناع ونأفننوذ المننر المطنناع.
40
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
قد يجوع في بأيتننه ويحتمننل الضننر ويصننرف منناله إلننى ثينناب يتجمننل بأهننا عننند
ول معنى لذكر آحاد الفرق بأعد وقوع التنبيه على الجناس .ويدخأل فنني جملننة
هؤلء جماعة يقولون بألسانأهم )ِل إله إل اللننه( ،لكننن ربأمننا حملهننم علننى ذلننك
التعصب لنصرةا مذهب البأاء .فهؤلء إذا لم تحملهم هذه الكلم ة علنى العمنل
َ
ت الصالح فل تخرجهم الكلمة من الظلمات إلى النور ،بأننل (أول ِينناؤ ُهُ ُ
م الطنناغاو ُ
سأيئته وسأرته حسنته فهو خأارج عن محض الظلمة وإن كان كثيرا المعصية.
القسم الثانأي
طائفة حجبوا بأنور مقرون بأظلمة وهم ثلثة أصناف :صنف منشأ ظلمتهم من
الحس ،وصنف منشأ ظلمتهم من الخيال ،وصنف منشأ ظلمتهم من
مقايسات عقلية فاسأدةا.
الصنف الول المحجوبأون بأالظلمة الحسية وهم طوائف ل يخلو واحد منهم
عن مجاوزةا اللتفات إلى نأفسه وعن التأله والتشوف إلى معرفة ربأه .وأول
درجاتهم عبدةا الوثان وآخأرهم الثنوية ،وبأينهما درجات .فالطائفة الولى عبدةا
41
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
الوثان :علموا على الجملة أن لهم ربأا يلزمهم إيثاره على نأفوسأهم المظلمة،
واعتقدوا أن ربأهم أعز من كل شيء ولكن حجبتهم ظلمة الحس عن أن
يجاوزوا العالم المحسوس فاتخذوا من أنأفس الجواهر كالذهب والفضة
والياقوت أشخاصا مصورةا بأأحسن الصور واتخذوها آلهة .فهؤلء محجوبأون
بأنور العزةا والجمال ،والعزةا والجمال من صفات الله وأنأواره ،ولكنهم
ألصقوها بأالجساما المحسوسأة وصدهم عن ذلك ظلمة الحس ،فإن الحس
ظلمة بأالضافة إلى العالم الروحانأي العقلي كما سأبق.
الطائفة الثانأية جماعة من أقاصي الترك ليس لهم ملة ول شريعة يعتقدون
أن لهم ربأا وأنأه أجمل الشياء ،فإذا رأوا إنأسانأا في غااية الجمال أو شجرا أو
فرسأا أو غاير ذلك سأجدوا له وقالوا إنأه ربأنا .فهؤلء محجوبأون بأنور الجمال مع
ظلمة الحس ،وهم أدخأل في ملحظة النور من عبدةا الوثان لنأهم يعبدون
الجمال المطلق دون الشخص الخاص فل يخصصونأه بأشيء؛ ثم يعبدون
الجمال المطبوع ل المصنوع من جهتهم وبأأيديهم.
وطائفة ثالثة قالوا ينبغي أن يكون ربأنا نأورانأيا في ذاته بأهيا في صورته ،ذا
سألطان في نأفسه ،مهيبا في حضرته ،ل يطاق القرب منه ،ولكن ينبغي أن
يكون محسوسأا؛ إذ ل معنى لغير المحسوس عندهم .ثم وجدوا النار بأهذه
الصفة فعبدوها واتخذوها ربأا .فهؤلء محجوبأون بأنور السلطنة والبهاء :وكل
ذلك من أنأوار الله تعالى.
وطائفة رابأعة زعموا أن النار نأستولى عليها نأحن بأالشعال والطفاء ،فهي
تحت تصرفنا فل تصلح لللهية ،بأل ما يكون بأهذه الصفات ولم يكن تحت
تصرفنا ثم نأكون نأحن تحت تصرفه ويكون مع ذلك موصوفا بأالعلو والرتفاع.
ثم كان المشهور فيما بأينهم علم النجوما وإضافة التأثيرات إليها .فمنهم من
شعرى ،ومنهم من عبد المشتري إلى غاير ذلك من الكواكب بأحسب ما عبد ال ّ
اعتقدوه في النجوما من كثرةا التأثيرات .فهؤلء محجوبأون بأنور العلو
والشراف والسأتيلء ،وهي من أنأوار الله تعالى .وطائفة خأامسة سأاعدت
هؤلء في المأخأذ ولكن قالت ل ينبغي أن يكون ربأنا موسأوما بأالصغر والكبر
بأالضافة إلى الجواهر النورانأية ،بأل ينبغي أن يكون أكبرها ،فعبدوا الشمس
وقالوا هي أكبر .فهؤلء محجوبأون بأنور الكبرياء مع بأقية النأوار مقرونأا بأظلمة
الحس.
وطائفة سأادسأة ترقوا عن هؤلء فقالوا :النور كله ل ينفرد بأه الشمس بأل
لغيرها أنأوار ،ول ينبغي للرب شريك في نأورانأيته فعبدوا النور المطلق الجامع
42
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
لجميع أنأوار العالم وزعموا أنأه رب العالم والخيرات كلها منسوبأة إليه .ثم
رأوا في العالم شرورا فلم يستحسنوا إضافتها إلى ربأهم تنزيها له عن الشر،
فجعلوا بأينه وبأين الظلمة منازعة ،وأحالوا العالم إلى النور والظلمة ،وربأما
سأموهما )ِيزدان( و )ِأهرمن( ،وهم الثنوية .فيكفيك هذا القدر تنبيها على هذا
الصنف ،فهم أكثر من ذلك.
الصنف الثانأي المحجوبأون بأبعض النأوار مقرونأا بأظلمنة الخيننال ،وهنم النذين
جاوزوا الحننس ،وأثبتننوا وراء المحسوسأننات أمننرا ،لكننن لننم يمكنهننم مجنناوزةا
الخيال ،فعبدوا موجننودا قاعنندا علننى العننرش .وأخأسننهم رتبننة المجسننمة ثننم
أصناف الكرامية بأأجمعهم .ول يمكنني شرح مقالتهم ومذاهبهم فل فائدةا في
التكثير .لكن أرفعهننم درجننة مننن نأفننى الجسننمية وجميننع عوارضننها ال الجهننة
المخصوصة بأجهة فوق :لن الذي ل ينسب إلى الجهات ول يوصف بأأنأه خأننارج
العالم ول داخأله لم يكن عندهم موجودا إذ لم يكن متخيل .ولم يدركوا أن أول
مظلمة فعبدوا إلها سأميعا بأصيرا متكلما عالمنا قننادرا مريندا حينا ،منزهنا عننن
وربأما صّرح بأعضهم فقالِ) :كلمه صوت وحرف ككلمنا( وربأما ترقي بأعضننهم
فقالِ) :ل بأل هو كحديث نأفسنا ول هننو صننوت ول حننرف( وكننذلك إذا طولبننوا
43
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
بأحقيقة السمع والبصر والحينناةا رجعننوا إلننى التشننبيه مننن حيننث المعنننى وإن
ولذلك قالوا في إرادته إنأها حادثة مثل إرادتنا .وإنأها طلب وقصد مثل قصنندنأا.
وهذه مذاهب مشهورةا فل حاجة إلى تفصيلها .فهؤلء محجوبأننون بأجملننة مننن
القسم الثالث
ثم المحجوبأون بأمحض النأوار وهم أصناف ول يمكن إحصاؤهم :فأشير إلى
ثلثة أصناف منهم.
الول -طائفة عرفوا معانأي الصفات تحقيقا وأدركوا أن إطلق اسأم الكلما
والرادةا والقدرةا والعلم وغايرها على صفاته ليس مثل إطلقه على البشر؛
فتحاشوا عن تعريفه بأهذه الصفات وعرفوه بأالضافة إلى المخلوقات كما
ب العاَلمي َ
ن( عّرف موسأى عليه السلما في جواب قول فرعونَِ) :وما ّر ّ
فقالوا إن الرب المقدس المنزه عن معانأي هذه الصفات هو محرك
السموات ومدبأرها(.
والصنف الثانأي ترقوا عن هؤلء من حيث ظهر لهم أن في السموات كثرةا،
وأن محرك كل سأماء خأاصة موجود آخأر يسمى ملكا ،وفيهم كثرةا ،وإنأما
نأسبتهم إلى النأوار اللهية نأسبة الكواكب .ثم لح لهم أن هذه السموات في
ضمن فلك آخأر يتحرك الجميع بأحركته في اليوما والليلة مرةا فالرب هو
المحرك للجرما القصى المنطوي على الفلك كلها إذ الكثرةا منفية عنه.
والصنف الثالث ترقوا عن هؤلء وقالوا :إن تحريك الجساما بأطريق المباشرةا
ينبغي أن يكون خأدمة لرب العالمين وعبادةا له وطاعة من عبد من عباده
يسمى ملكا :نأسبته إلى النأوار اللهية المحضة نأسبة القمر في النأوار
44
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
45
أبو حامد الغزالي مشكاة النأوار
مكتبة مشكاة السإلمية
46