You are on page 1of 1

‫ما بعد خراب املوصل!

‫موس' برهومة*‬

‫الحياة ‪ -‬الثالثاء‪ ٣ ،‬مارس‪ /‬آذار ‪٢٠١٥‬‬

‫بعد أن »تفنّنت« معاول التهديم في تحطيم آثار املوصل‪ ،‬خرجت‪ ،‬كالعادة‪ ،‬الفتاوى الدينية بـ«تجريم الفعلة املشينة«‬
‫التي ارتكبها الجاهلون حقيق َة الدين‪ ،‬واملتجاهلون القيم َة الحضارية لهذه الكنوز األثرية‪ .‬وزيادة في إبداء األس'‪،‬‬
‫حل بقوم عاد من هالك‪ ،‬بعدما‬ ‫قالت دار اإلفتاء املصرية إن هذه اآلثار »فيها عبرة باألقوام السابقة«‪ ،‬مستذكرة ما ّ‬
‫عقروا ناقة صالح‪ ،‬بحسب املرويات الدينية التاريخية‪.‬‬
‫واستطراداً‪ ،‬فإن تلك املرويات تصف قوم عاد في فجر اليوم الرابع لعقر الناقة‪ ،‬حيث »انشقت السماء عن صيحة‬
‫انقضت الصيحة عل' الجبال‪ ،‬فهلك فيها كل شيء حي‪ .‬هي صرخة واحدة‪ ،‬لم يكد أولها يبدأ وآخرها‬ ‫ّ‬ ‫جبارة واحدة‪.‬‬
‫يجيء‪ ،‬حت' كان كفار قوم صالح قد صعقوا جميعا ً صعقة واحدة‪ .‬هلكوا جميعا ً قبل أن يدركوا ما حدث‪ .‬أما الذين‬
‫آمنوا بسيدنا صالح‪ ،‬فكانوا قد غادروا املكان مع نبيّهم ونجوا«‪ .‬وما يدعو إل' املفارقة في البيان الحزين لدار اإلفتاء‪،‬‬
‫أن ذريعته الوحيدة لإلبقاء عل' آثار الشعوب السالفة تتمثّل فقط في جعلها »عبرة«‪ ،‬وهذا مق ّدم عل' ما سواه!‬
‫ومن بني ما التُقط من مفارقات في غضون الصيحات املن ّددة بتحطيم آثار بالد الرافدين‪» ،‬إجماع« دار اإلفتاء ومجمل‬
‫علماء الدين وفقهائه عل' أن ما أقدم عليه »داعش« دليل عل' »جهله بفهم صحيح الدين«‪ ،‬وفق أستاذ الشريعة ونائب‬
‫رئيس جامعة األزهر السابق الدكتور إسماعيل شاهني‪ ،‬فيما رأى عضو هيئة كبار علماء األزهر الدكتور أحمد عمر‬
‫هاشم‪ ،‬أن ما جرى »خروج عن مفهوم الدين الصحيح«‪ .‬أما دار اإلفتاء فش ّددت عل' أن »اآلراء الشاذة التي اعتمد‬
‫عليها »داعش« في هدم اآلثار‪ ،‬واهية ومض ّللة وال تستند إل' أسانيد شرعية«‪.‬‬
‫ويظهر املقطع املص َّور الذي بثّه »داعش«‪ ،‬رجالً ملتحيا ً يؤكد أ َّن »النبي أمرنا بالتخلص من التماثيل‪ ،‬وقد فعل‬
‫الصحابة الشيء ذاته أثناء الغزوات«‪.‬‬
‫ومن املالحظ أن »داعش« لم يعصف فقط باملنطق العام للتفكير اإلنساني السوي أو القريب من االستواء‪ ،‬بل كان‬
‫أش ّد عصفا ً باملنظومة الفقهية املنتسبة إل' ما يعرف بـ«اإلسالم الوسطي«‪ ،‬التي لم تخبرنا حت' اآلن ما هي مقومات‬
‫»صحيح الدين«‪ ،‬وما هي »اآلراء الشاذة« التي يمتشقها »داعش« وال تعتمد »أسانيد شرعية«‪.‬‬
‫فإذا كان »صحيح الدين« ينظر إل' آثار الشعوب بصفتها »عبرة« لكي يتّعظ الناس مما حاق باألمم السابقة‪ ،‬وإذا‬
‫كان »صحيح الدين« في نظر األزهر‪ ،‬مثالً‪ ،‬يقضي بالرد عل' حارقي الطيار األردني معاذ الكساسبة بأن »تقطع‬
‫أيديهم وأرجلهم من خالف«‪ ،‬فإن ذلك ال يختلف كثيرا ً عن »صحيح الدين الداعشي«‪.‬‬
‫ثم إن للقضية وجها ً آخر‪ ،‬إذا ما س ّلمنا بأن ثمة لدى فقهاء »اإلسالم املعتدل« رواية أخرى لـ«صحيح الدين«‪ ،‬وهي‬
‫ملاذا ال يُطرح هذا »الصحيح« دفعة واحدة‪ ،‬وملاذا ينتظر هذا »الصحيح« وفقهاؤه أن يكون في منطقة رد الفعل؟ أي‬
‫ملاذا ال يق ّدم الفقهاء املعتدلون‪ ،‬كي ال نقول »املتنورين«‪ ،‬تص ّوراتهم الكلية للدين بشكل ير ّكز عل' كيفية تنظيم العالقة‬
‫الروحانية بني األرض والسماء‪ ،‬بمعزل عن اإلغراق في التفاصيل القاتلة؟‬
‫إننا نقتتل عل' »النص« ونقتل باسم »النص«‪ ،‬وبه نُسبي وند ّمر ونحزّ الرقاب ونشعل النار باألبدان والكتب‬
‫والتطلعات‪ ...‬وبالنص نفسه نصبو‪ ،‬داعشيني ومعتدلني‪ ،‬أن نكون »خير أمة أخرجت للناس«!‬

‫*كاتب و أكاديمي أردني‬

You might also like