You are on page 1of 20

‫دويـالت القبيـلة في السـودان‬

‫الحركة اإلسالمية ومسئولية اإلنهيار‬

‫د \ محمد جالل أحمد هاشم‬


‫مقدمة‪:‬‬

‫إن مصير بقاء السودان كدولة موحدة كما ورثناها عشية اإلستقالل أصبح أمراً مشكوكا ً فيه‪ .‬تأتي هذه المقولة‬
‫تأسيسا ً على أرضية الحرب األهلية طويلة األمد التي عصفت بالدولة ومزقت نسيجها اإلجتماعي‪ .‬إن السودان‬
‫يمر بأزمة حقيقية ويواجه شبح التمزق‪ ،‬وهذا األمر لم يعد خافيا ً على أحد‪ ،‬ويتردد صداه في كل موقع‪ .‬وبعيداً‬
‫عن السجال‪ ،‬فإن األمر يتطلب دراسة جد عميقة‪ ،‬تلفت اإلنتباه إلى خطورة هذه المرحلة‪ .‬هذا المصير المشئوم‬
‫كان ـ ومازال ـ نتاج سياسات إنبنت على أسس من التعصب والتطرف واإلقصاء‪ ،‬مستمدة من آيديولوجية‬
‫دينية ال تعترف باآلخر‪ ،‬تتجاوز حدود الزمان والمكان وتلغي التاريخ‪ .‬عمودها الفقري عالقات القربي والدم‬
‫‪1‬‬
‫والتكتالت العشائرية حتى على مستوى السلطة الحاكمة نفسها‪ ،‬تشهد على ذلك "صراعات القبائل اإلسالمية"‬
‫الخفية في الخرطوم‪.‬‬

‫في تقديرنا إن ذلك اليجد أساسه في التقلبات التي تعصف بسماء األحوال السياسية في السودان‪ ،‬فهي وعلى‬
‫الرغم من أهميتها‪ ،‬ليست سوى مظاهر لألزمة العميقة الكائنة في أسس التفكير التي تقود العملية السياسية من‬
‫جانب‪ ،‬تأثير الثقافة السائدة ودرجة تطور المجتمع من جانب آخر‪ .‬هذه العوامل مثلت األساس الذي إنطلقت‬
‫منه ـ وال زالت ـ الممارسة السياسية في السودان‪ ،‬فكان طبيعيا ً جداً إن تندلع النزاعات هنا وهناك بحثا ً عن‬
‫إعادة صياغة لهذه األسس بما يتوافق مع واقع التعدد‪ ،‬ويحقق درجة مقبولة من التعايش واإلستقرار بين‬
‫الكيانات اإلجتماعية المختلفة في السودان‪.‬‬

‫إن إستيالء حركات اإلسالم السياسي إلى السلطة في ‪ 1989‬ومسيرتها المستمرة في الحكم حتى اليوم‪ ،‬تقف‬
‫كنقطة فارقة في تاريخ السودان السياسي المعاصر ألن أهم مظاهرها أنها دفعت باألزمة إلى نهاياتها‬
‫القصوي‪ ،‬وكشفت ـ بصراحة قلما تحدث في الممارسة السياسية ـ عن حقيقة التناقض وبعد المسافة‪ ،‬مابين‬
‫طرق التفكير واآلليات التي مارست الفعل السياسي وحكمت في السودان‪ ،‬وبين الواقع الموضوعي فيه‪ ،‬والتي‬
‫أفضت إلى اإلقصاء والتهميش‪ ،‬ومن ثم النزاعات الدموية‪.‬‬

‫‪ .1‬قد يفهم من مدلول"القبائل اإلسالمية" إشارة إلى ما هو أقرب إلصطالح الفرق اإلسالمية التي نشأت في التاريخ اإلسالمي أو تعدد المذاهب أو ما‬
‫يطلق عليه التيارات اإلسالمية‪ ،‬على أنه حديثا ً يستضمر درجة من الحط‪ .‬لكن في الواقع المعني هو خالف ذلك‪ .‬فهذه التسمية مستلفة من مقولة‬
‫"صراع القبائل الماركسية في اليمن" والذي أطلق عقب النزاعات الدموية بين التيارات الماركسية التي حكمت اليمن الجنوبي سابقاً‪ .‬والتي وعلى‬
‫الرغم من التوجهات اإلشتراكية التي كانت ترفعها أطراف الصراع‪ ،‬غير أنه في الواقع كانت حرب قبائل بمعنى الكلمة‪ ،‬إذ لم تكن الماركسية سوى‬
‫قناع تمت به تغطية الشعور واإلنتماء القبلي الذي كان يغذي حقيقة النزاع‪ .‬ونجد أن الحال هو نفسه في السودان‪ ،‬فالصراع الخفي الذي يدور في أعلى‬
‫قمة هرم السلطة وداخل تيار الحركة اإلسالمية المستحوذ عليها(المؤتمر االوطني) هو اليوم صراع قبائل بين من يقفون خلف البشير "جعلية ساكت"‬
‫وآخرين مع علي عثمان بدافع "شايقيتهم"‪ ،‬وتتسع الدائرة لشمل آخرين على نفس شاكلة التحالفات القبلية التي كانت في الجزيرة العربية قديماً‪ .‬ويتم‬
‫اإلستقطاب واإلستحواذ على الثروة والمناصب وتوزيعها على هذا األساس‪ .‬ومسألة المشروع الحضاري وغيرها من المصطلحات التي بدأت بها دولة‬
‫اإلنقاذ عهدها‪ ،‬أصبحت اآلن من مخلفات الماضي‪ ،‬ألنها في الواقع لم تكن سوى قناع أخفى خلفه النزاعات العرقية والبحث عن المغانم إزاحت الستار‬
‫عنه حدة التناقضات التي تعصف بالدولة من أقصاها إلى أدناها‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫خلفية نظرية‪:‬‬
‫من المهم البدء بمعرفة درجة تطور المجتمع في السودان كإحدى المداخل الهامة في تحليل األزمة ورؤية‬
‫أبعادها‪ ،‬ألن طبيعة العالقات والروابط السياسية في أي مجتمع تتحدد بمدى درجة تطوره‪ .‬ومن ثم تأتي‬
‫مناقشة دور "الشريحة المسيطرة"‪ 2‬فيه‪ ،‬والمعني بالشريحة المسيطرة‪ ،‬تلك التي ظلت مهيمنة وممسكة بمقاليد‬
‫السلطة والنفوذ منذ اإلستقالل وحتى يومنا هذا‪ ،‬وهم في هذه الحالة حاملي الوعي بالثقافة العربية‪ ،‬إال هو‬
‫مجتمع الوسط‪ ،‬والذي تجلي في أقصى صوره في تيار الحركة اإلسالمية الحاكم اليوم بكل تفريعاته‪ .‬وليس‬
‫هناك ثمة إختالف جوهري مابين الحركات أو التيارات التي تصدر في رأيها من منطلق إسالمي مهما كانت‬
‫تدرجات ألوانه‪ ،‬ألنه في نهاية التحليل إختالف كمي وليس نوعي‪.‬‬

‫يطلق على المجتمعات التي لم تتطور بعد إلى مرحلة الرأسمالية‪ ،‬بالمجتمعات "السابقة للرأسمالية"‪Pre- ،‬‬
‫”‪ ،"Capitalistic Societies‬والتي تقع دول العالم الثالث في أفريقيا وآسيا ضمن نطاقها‪ .‬ويأتي هذا‬
‫التصنيف نتيجة للكثير من الدراسات التي قام بها بعض اإلشتراكيين على ظاهرة عرفت بـ (نمط اإلنتا‬
‫اآلسيوي) ‪ .Asian Mode of Production‬ينطلق ريجس دوبري في قراءته لهذه المجتمعات‪ ،‬من‬
‫مناقشته لمسألة العالقة بين الروابط السياسية وما يؤسسها في المجتمع‪ ،‬فيقرر‪ ،‬وخالفا ً للماركسية "الرسمية" ‪:‬‬
‫"إن العالقات السياسية ليست إنعكاسا ً لقاعدة إقتصادية وال هي "اإلقتصاد المكثف" كما يقول لينين‪ ،‬وال هي‬
‫تجد تفسيرها في األشكال التي تظهر فيها نفسها بنفسها‪ .‬وتفسير هذه المقولة هي أن الظاهرة السياسية ـ في‬
‫مثل هذه المجتمعات ـ ال يؤسسها وعي الناس‪ ،‬آراؤهم وطموحاتهم‪ ،‬وال ما يؤسس هذا الوعي نفسه من‬
‫عالقات إجتماعية ومصالح طبقية‪ ،‬بل إنما تجد دوافعها فيما يطلق عليه إسم "الالشعور السياسي" والذي هو‬
‫عبارة عن بنية قوامها عالقات مادية جمعية تمارس على األفراد والجماعات ضغطا ً اليقاوم‪ ،‬عالقات من نوع‬
‫العالقات القبلية والعشائرية والعالقات الطائفية والعالقات المذهبية والحزبية الضيقة‪ ،‬التي تستمد قوتها المادية‬
‫الضاغطة القسرية‪ ،‬مما تقيمه من ترابطات بين الناس تؤطر ما يقوم بينهم‪ ،‬بفعل العالقات نفسها من نعرة‬
‫تناصر أو فرقة وتنافر‪ ،‬وهذه البنية من العالقات الالشعورية تبقى قائمة فاعلة رغم ما قد تتعرض له البنية‬
‫الفوقية في المجتمع من تغييرات نتيجة التطور الذي يحدث للبنية التحتية المقابلة لها‪ ،‬فهي ليست جزءاً من‬
‫تلك‪ ،‬وبالتالي فهي ال تخضع لهذه بل لها وجودها الخاص المستقل عن البنيتين معاً‪ :‬فالنعرة القبلية العشائرية‬
‫والتعصب الطائفي والطموح إلى الحصول على المغانم‪ ،‬ظواهر تبقى نشطة أو كامنة‪ ،‬في كيان الجماعات‪،‬‬
‫سواء إن كان أفرادها يعيشون في مجتمع إقطاعي أو رأسمالي أو إشتراكي"‪[.3‬التشديد من الكاتب]‬

‫هذه مقولة مفتاحية‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬واضعين في ذهننا أن دوبري كان حينذاك يكتب وهو يفكر في المجتمع‬
‫األوروبي المصنع‪ ،‬الذي أصبحت فيه العالقات اإلجتماعية التي من نوع العالقات العشائرية‪ ،‬تحتل مكانا ً يقع‬
‫فعالً خلف الموقع الذي تحتله العالقات اإلقتصادية المتطورة‪( ،‬عالقات اإلنتاج)‪ ،‬إال أن في المجتمعات السابقة‬
‫للرأسمالية العربية قديمها وحديثها (والتي من ضمنها بالطبع المجتمع في السودان) فاألمر يكاد يكون العكس‬
‫من ذلك تماماً‪ .‬فالعالقات اإلجتماعية ذات الطابع العشائري ال تزال تحتل موقعا ً أساسيا ً وصريحا ً في الحياة‬
‫السياسية‪ .‬فإذا كانت وظيفة الالشعور السياسي لدي دوبري عند دراسته للمجتمع األوروبي هي إبراز ما هو‬

‫‪ .2‬إن شئنا الدقة فإن اإلصطالح الواجب أخذه هو "الشريحة المهيمنة "‪ ،‬لكن ذلك يقربنا من المفهوم الماركسي (البنية المهيمنة)‪ ،‬وهو الشئ الذي قد‬
‫يخلق نوع من اللبس‪ ،‬ألن مفهوم (البنية المهينة) ينطبق على المجتمعات الرأسمالية‪ ،‬والتي تتحرك هنا وفقا ً لما تحدده مصالحها اإلقتصادية‪ .‬بينما‬
‫(الشريحة المهيمنة ) التي نتحدث عنها تحركها عوامل أخرى قد تكون دينية أو طائفية أو غيرها‪ .‬وب التالي فإن سيطرتها على مقاليد السلطة ال تحددها‬
‫وض عيتها الطبقية إنما هذه العوامل األخرى كما سنرى‪ ،‬لذلك فإن وصفنا لها بالشريحة المسيطرة القصد منه الكشف عن أن وضعيتها التي إكتسبتها‬
‫هي بالسيطرة واإلستحواذ على السلطة والثروة بطريقة لم تفرضها طبيعة الصراع الطبقي كما تقرر ذلك الماركسية الكالسيكية إنما عبر عوامل الدين‪،‬‬
‫العالقات العشائرية‪ ،‬التناقضات السياسية أو مزيج منها‪.‬‬
‫‪ . 3‬محمد عابد الجابري‪ ،‬العقل السياسي العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية ص‪.14-13‬‬

‫‪2‬‬
‫عشائري وديني في السلوك السياسي‪ ،‬فإن وظيفته عند دراسة المجتمعات السابقة للرأسمالية هي إبراز ماهو‬
‫سياسي في السلوك الديني والعشائري‪.‬‬

‫من هذا المدخل ‪ ،‬واضح أن هناك تمييز في العالقات السياسية بين تلك التي تنشأ وتقوم في المجتمعات‬
‫الرأسمالية‪ ،‬وتلك السابقة لها‪ ،‬ففي األولى تقوم هذه العالقات على أساس من التمايز الطبقي الواضح‪ ،‬وهو ما‬
‫يعني أن الصراع في هذه المجتمعات تحركه المصالح اإلقتصادية المرتبطة بالطبقة اإلجتماعية (برجوازية‪،‬‬
‫رأسمالية‪ ،‬طبقة عمال)‪ ،‬بينما في المجتمعات السابقة للرأسمالية نجد الصراع تحركه عوامل قد تكون دينية‪،‬‬
‫طائفية وغيرها‪ ،‬وبالتالي قراء هذه تختلف عن تلك‪ .‬عليه؛ نحن هنا إزاء مالحظة جد هامة ومفصلية فيما‬
‫يتعلق ببحثنا عن أزمة الممارسة السياسية ونائجها في السودان‪ ،‬ألن أسس هذا التفكير والممارسة السياسية‬
‫المرتبطة به‪ ،‬موروثة أو مستنسخة من الثقافة اإلسالمية العربية بحكم عوامل التاريخ‪ ،‬فهذه الثقافة دخلت‬
‫السودان بفترة قبل حملة عبدهللا بن أبي السرح‪ ،‬وتقنن وجودها ماديا ً وتاريخيا ً من بعدها‪ ،‬وقد تبع ذلك تحوالت‬
‫عميقة في المجتمع‪ ،‬إذ أصبح القادمين الجدد من "األعراب" هم مالك األرض والسادة عبر المصاهرة والنسب‬
‫الشئ الذي حقق لهم السيطرة على المجتمع والدولة عبر الثقافة‪ ،‬الدين وسلسلة الدم‪.‬‬

‫إذاً وبناءاً على مقولة دوبري فهو مجتمع سابق للرأسمالية منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم‪ ،‬ألن هذه العالقات لم‬
‫تنتهي‪ .‬وما يثبت ذلك سيادة العالقات العشائرية فيه والتي مازالت حية إلى يومنا هذا‪ .‬ونمضي مع كاتب آخر‬
‫في مزيد من التوضيح "‪ .....‬أما في العهد اإلسالمي‪ ،‬فقد دخلت إلى السودان الكيانات والثقافة العربية‬
‫اإلسالمية على شاكلة (االستعمار االستيطاني)‪ ،‬وظلت تكتسب لها مواقع فيه ضمن كياناته وثقافاته المتعددة‪.‬‬
‫وهي في ذلك مسنودة بخلفيتها اإلمبراطورية من الناحية المادية‪ ،‬ومن الناحية المعنوية بما يعرف بـ(المد‬
‫الحضاري) العربي اإلسالمي‪ ،‬الذي من أهدافه بالطبع إعادة إنتاج اآلخر داخل (الهوية) اإلسالموعربية أو‬
‫على األقل إلحاقه بسياقها الحضاري‪ .‬هذا النهج االستتباعي قد يبدو عاديا ً ومفهوما ً ومعقوالً في إطاره العام في‬
‫ذلك الوقت‪ ،‬ولكن إستمراره بعد إنهيار الحضارة العربية اإلسالمية أصبح إشكاليا ً باإلضافة إلشكاليات أخرى‬
‫في بنية ومحددات الثقافة العربية اإلسالمية نفسها وكيانها االجتماعي في السودان‪ ،‬مضافا ً إلى ذلك المالبسات‬
‫التاريخية التي جعلت من هذه الثقافة (المأزومة) (مركزية) في الوضعية التاريخية للدولة السودانية‪ .‬وقد قامت‬
‫سيطرة الكيان اإلسالموعروبي في السودان على مكاينزمات عديدة أهمها‪:‬‬
‫‪ .1‬البطرياركية األبوية القائمة على التشدد العرقي‪ :‬فعبر ميكانيزم النفي البيولوجي للرجال في معادلة‬
‫التزاوج األحادية االتجاه‪ ،‬التي يأخذ فيها الكيان العربي وال يعطي‪ ،‬تم طبع أجزاء عديدة من شمال وأواسط‬
‫السودان بالطابع العربي عرقيا ً وثقافيا ً‪ ،‬وعبر األسلمة ـ أي التحرك عبر المقدس ـ تم ويتم التوسع‪ .‬ويقوم‬
‫ميكانيزم النفي البيولوجي للرجال (االستعراب العرقي‪/‬الثقافي) على تزوج الرجال العرب بنساء (اآلخرين)‪،‬‬
‫وتكون الذرية وفق البطريركية األبوية (عربية) وال يعترف بمكونها اآلخر‪ .‬البنات يتزوجن حصريا ً في‬
‫الكيان العروبي‪ ،‬أما األبناء الذكور فيواصلون طريق األسالف‪ ،‬وهكذا بمرور الزمن ينمو الكيان العربي على‬
‫حساب الكيانات األخرى التي تتآكل في نهاية المطاف‪ .‬أما األسلمة‪ ،‬فعبر الدعاة ـ الفكي‪ ،‬والطريقة الصوفية‬
‫ومؤسسات التعليم الحديثة الحقا ـ يدخل الناس اإلسالم‪ ،‬وهو بالطبع يتضمن "أيديولوجيا العروبة" خاصة في‬
‫تفسيراته السنية ومسوغاته لعلوية المؤمن والعربي وتشريعاته في حصر زواج المسلمة‪ .‬وتلقائيا ً يصبح العرب‬
‫(أو بالحد األدنى يتم تصويرهم على أنهم) أعلى شأنا عرقيا ً باعتبارهم على األقل "حاملي الرسالة األصليين"‪،‬‬
‫وهكذا يواصل الكيان العربي تغلغله‪ .‬وتبقى المشكلة فيما يولده هذا النهج من وقائع اإلستعالء العرقي‬
‫واإلجتماعي‪ ،‬خاصة في وجود التعددية والتباين العرقي والثقافي في ظل هيمنة الكيان اإلسالموعروبي على‬
‫جهاز الدولة‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ .2‬نشاط االقتصاد الريعي العشائري (الطفيلي)‪ :‬ومعروف تاريخيا عن العرب والثقافة العربية ومن ثم الثقافة‬
‫اإلسالموعربية إحتقار المهن والحرف والعمل اليدوي باعتباره عمل "العبيد أو الموالي"‪ .‬فحتى القطاع‬

‫‪3‬‬
‫الحضري ـ غير الرعوي ـ يتبنى هذا النمط من االقتصاد القائم على استثمار السلطة والتجارة التي ال تعنى‬
‫باإلنتاج‪ .‬ومن ثم التمسك بالجوهر العبودي في تقسيم العمل‪ .‬وهذا النمط يتطلب بالطبع فرض (هويات) جزئية‬
‫في المجتمع أي سادة (أحرار) وعبيد‪.‬‬
‫‪ .3‬النزعة االستبدادية المتشددة ‪ :‬فبسبب نظام التراتبية االجتماعية القائمة على التشدد العرقي‪ ،‬ونمط االقتصاد‬
‫الطفيلي الذي يستلزم ليس فقط امتالك السلطة بل االستبداد بها‪ ،‬فقد كان وما يزال وعي السلطة في هذه الثقافة‬
‫وعيا ً استبدادياً‪ ،‬واالستبداد لزيم اإلقصاء‪ ،‬واإلقصاء يتطلب في الواقع فرض هويات جزئية حتى في المجتمع‬
‫الواحد لتحجيم وعي التنافس على السلطة مثل ما كان يوضع من أحاديث لتبرير ذلك كـ(األئمة من‬
‫قريش)‪.4"...‬‬

‫وبالنظر إلى تركيبة المجتمع السوداني نجدها تتكون من قبائل وعشائر (تحدد معظم المصادر مايقرب الـ‬
‫‪ 500‬مجموعة إثنية)‪ .‬وقد ظل مجتمع الوسط (=المركز)‪ ،‬هو المجتمع المسيطر تاريخيا ً في السودان‪ ،‬فغالب‬
‫سكان الوسط هم من قوميات الشمال النيلي التي هاجرت إليه منذ فترة طويلة وتزاوجت مع سكانه األصليين‪،‬‬
‫إنضمت إليها مجموعات أخري من غرب السودان أثناء وبعد المهدية‪ .‬كونت هذه الهجرات ومن بعدها‬
‫اإلستعمار‪ ،‬مجتمعات ومدن الوسط فعرفنا نموذج أمدرمان‪ ،‬والذي يطلق عليه البعض أنه يمثل التمازج‬
‫واإلندماج‪ ،‬غير أنه في واقع األمر لم يكن إال معمل كبير إلعادة إنتاج الثقافة العربية في ثوب جديد‪ .‬صنعت‬
‫ثقافة أمدرمان تقريبا ً كل أنواع الفنون والقيم واألخالق التي مثلت فيما بعد الثقافة الرسمية للدولة‪ ،‬والتي ظلت‬
‫على صعيد الوعي تحمل جينات القيم واألخالق والثقافة العربية شكالً ومضموناً‪.‬‬

‫في المقابل نجد أن قاعدة المجتمع األمدرماني "األنموذج" كانت به ـ والزالت ـ تقسيمات تشرح نفسها‬
‫بنفسها‪ ،‬فأسماء األحياء تعبر عن قاطنيها ومكانتهم اإلجتماعية‪ ،‬فعلى سبيل المثال الموردة كان يقطنها‬
‫النازحين من األطراف والذين تنحدر أصولهم إلى النوبة والفور‪ ،‬المساليت والفونج أو من يسمونهم في ذلك‬
‫الوقت بالمنبتين(= الغير معروفة أصولهم)‪ ،‬ويسكن المالزمين وبيت المال والمسالمة وحي األمراء‬
‫والعباسية‪ ،‬إرستقراطية منحدرة إما من عرب الشمال أو ما تبقى من إرستقراطية المهدية والتركية‪ .‬هذا على‬
‫صعيد التركيب اإلثني‪ ،‬وكما قلنا فإن الثقافة السائدة هي الثقافة العربية‪ .‬وبالرغم من هذا التمازج الذي تولد مع‬
‫األيام والذي وبدرجة من الدرجات طغى على التباين اإلثني مع تطور الحياة اإلقتصادية والمعيشية ألهل‬
‫المدينة‪ ،‬إال أنه ظل هناك ثابتان‪:‬‬

‫الثابت األول‪ :‬هو سيادة الثقافة العربية اإلسالمية‪ ،‬ال وبل إنتشارها وحلولها محل الثقافات األصلية للمهاجرين‬
‫الذي أتوا إليها من أطراف السودان المختلفة‪ ،‬والذين وبمرور الوقت أصبحوا جزء ال يتجزاء من هذا الوسط‬
‫بقيمه وثقافته وتقاليده الجديدة (أي إعادة إنتاجهم بمرور الوقت)‪ ،‬وما كان لذلك أن يتحقق لوال آلة السلطة‬
‫والدولة‪.‬‬

‫الثابت الثاني‪ :‬أنه وبالرغم من هذا التمازج الذي تم عبر إعادة اإلنتاج‪ ،‬غير أن التقسيم العشائري ظل حيا ً في‬
‫النفوس في شكل مسكوت عنه‪ ،‬يحدد التراتبيات اإلجتماعية‪ ،‬فالموردة هي الموردة‪ ،‬وهي "القرارقير"‬
‫يتناسلون في بعضهم البعض جيالً بعد جيل‪ .‬وهذا المسكوت عنه موجود في الالشعور بأشكال مختلفة‪ ،‬ويظهر‬
‫هنا وهناك‪ ،‬ويحدد التراتبية اإلجتماعية كما قلنا‪ ،‬أو كما تقول العرب (منازل الناس)‪.‬‬

‫‪ .4‬أبكرآدم إسماعيل‪" ،‬جدلية المركز والهامش وإشكال الهوية في السودان"‪ ،‬مركز الدراسات السودانية‪ ،‬القاهرة ديسمبر ‪.1999‬‬

‫‪4‬‬
‫والنماذج لهذه التراتبيات ممتدة عبر السودان وتكاد تكون في كل مدنه المختلفة‪ ،‬فال تخلوا مدينة من حي إسمه‬
‫الموردة أو ما يشابهه في المعنى‪ ،‬أو الكنابي(جمع كنبو‪ ،‬وهو الحي الذي يقطنه عمال الزراعة النازحين غالبا ً‬
‫من غرب السودان وجنوبه)‪ .‬وكلها تحمل معها وصمة إنحطاط في السلم اإلجتماعي تقطع الطريق بينهم وبين‬
‫الوصول إلى مواقع السلطة ومصادر الثروة‪ .‬تؤكد على ذلك إحصائية الذين تولوا زمام الحكم في السودان‪،‬‬
‫وسنكتفي برؤساء الدولة فالكتاب األسود أعطي الكثير من اإلحصائيات في مجاالت أخرى‪ ،‬ونقوم بذلك لمجرد‬
‫التذكير ليس إال‪ .‬وهم‪ :‬إسماعيل األزهري‪ ،‬عبدهللا خليل‪ ،‬الفريق إبراهيم عبود‪ ،‬سرالختم الخليفة‪ ،‬الصادق‬
‫المهدي‪ ،‬جعفر النميري‪ ،‬الفريق سوار الذهب‪ ،‬الجزولي دفع هللا‪ ،‬أحمد الميرغني‪ ،‬عمر حسن أحمد البشير‪.‬‬
‫فكل الذين حكموا سواءاً عن طريق الديمقراطية أو اإلنقالبات العسكرية في هذه القائمة هم من أبناء الشمال‬
‫النيلي الممتد من الخرطوم إلى حلفا أو ما دونها‪ .‬والذين وعندما نقارنهم ببقية أهل السودان فهم يمثلون أقلية‬
‫بمعنى الكلمة‪ ،‬إذاً أين كان الباقين من هذه السلطة‪ ،‬وكيف إستطاعت هذه األقلية أن تحكم وطوال تلك‬
‫الفترة(؟) ‪ .‬إنها اآليديولوجيا (اإلسالمية العربية) في صورتها المجردة‪ ،‬وآيديولوجيا "أوالد البلد" في صورتها‬
‫المنتجة في أمدرمان‪ .‬والتي يتم بها وعبرها تجييش جماهير الهامش وإعادة إنتاجهم ليخدموا هذه األقلية‪ ،‬مرة‬
‫تأتي عبر اإلنتماءات الطائفية‪ ،‬أو التيارات القومية العروبية أو تيارات اإلسالم السياسي ـ وكل من عاش‬
‫وترعرع في مدن السودان وأريافه على وجه التحديد يدرك مدي السلطة النافذة التي كانت للطائفية آنذاك‪ ،‬فمن‬
‫ليس أنصاريا ً فهو ختمي‪ ،‬وتروي القصص والروايات عن الكيفية التي كان يسيطر بها أقطاب الطائفية وبإسم‬
‫الدين وآلية اإلقتصاد على رقاب البسطاء وحتى المتعلمين منهم‪ .‬والتي غالبا ً ماتنتهي إلى اإلستحواذ على‬
‫السلطة‪ .‬مثال الطرفة التي تروى في الشمالية بأن السيد إذا مشى بقدميه في أرض فهي تعتبر ملكه(!)‪ ،‬مما‬
‫أضطر أحد المزارعين البسطاء ـ عندما رأي "السيد" يتجول في مزرعته ــ إلى حمله على كتفيه حتى ال تطأ‬
‫قدمه أرضه وتؤول ملكيتها إليه‪ .‬وقصص شبيهة أخرى مثال أن فالن قد رشحته دائرة المهدي لينوب عن‬
‫جماهير المنطقة الفالنية أو أخذ مباركة الميرغني للترشح‪ ،‬وكم هو معروف أن ال أحد في ذلك الحين يجرؤ‬
‫على تحدي ترشيح السيد ـ لذلك لن نستغرب إن نجد إن كل الذين حكموا كانوا من أبناء الشريط النيلي‪،‬‬
‫فالبسطاء لم يكون سوى ساللم يرتقي بها السادة إلى أعلى مراتب السلطان‪.‬‬

‫وعموماً؛ ومن زاوية منهجية فإن أي وضعية تاريخية تجتمع فيها كيانات (ماقبل برجوازية‪/‬ماقبل رأسمالية)‬
‫متنوعة ثقافيا ً‪ ،‬ومتمايزة عرقيا ً‪ ،‬ومختلفة دينيا ً‪ ،‬ومتفاوتة تاريخيا ً‪ ،‬في شكل دولة حديثة‪ ،‬يقود اإلفتراض دائما ً‬
‫إلى أنه غالبا ً ما تقوم بعض هذه الكيانات بالسيطرة على جهاز الدولة وتستثمره إقصائيا ً على مستويات عديدة‪،‬‬
‫وتتحول المحددات الثقافية من لغة وآداب وفنون وعادات وتقاليد وعقائد وتراتبيات إجتماعية إلى أسلحة‬
‫أيديولوجية‪ ،‬ويتمفصل العرق واللون مع الطبقة وتقسيم العمل‪ ،‬والديني مع السياسي‪ ،‬والمذهبي واللغوي مع‬
‫اإلجتماعي‪ ،‬وتكون النتيجة وضعية تاريخية مأزومة‪ ،‬يكون الصراع فيها صراعا ً شامالً‪ ،‬صراع هويات ضد‬
‫هويات‪ ،‬صراع كل ضد كل‪ ،‬صراع ثوابت ومتحوالت عند كيان إجتماعي (ما) ضد ثوابت ومتحوالت عند‬
‫كيان آخر‪.5‬‬

‫عليه؛ فإن النتيجة التي خلص إليها ريجس دوبري صحيحة‪":‬بأن النعرة القبلية العشائرية والتعصب الطائفي‬
‫والطموح إلى الحصول على المغانم ظواهر تبقى نشطة أو كامنة‪ ،‬في كيان الجماعات سواء إن كان أفرادها‬
‫يعيشون في مجتمع إقطاعي أو رأسمالي أو إشتراكي(!) وأن هذه العملية تتم من خالل إستغالل األرض‬
‫كإحدى عوامل اإلنتاج وعالقات القرابة والزواج والتحالفات القبلية للسيطرة على النظم السياسية واإلقتصادية‬
‫عبر إستغالل األرض والذين يعيشون عليها لمنفعتها الخاصة‪ .‬والنتيجة أنه وفي السودان‪ ،‬وتبعا ً لهذا السلوك‬

‫‪ .5‬أبكر أدم إسماعيل‪ ،‬مصدر سابق‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫تكونت طبقة مترفة جالسة على قمة الهرم اإلجتماعي تسيطر على من يخدمون األرض"‪ .6‬ويبدو من الواضح‬
‫بالتالي إن الدوافع لم تتخطي أهداف اإلستحواذ على السلطة والمال عبر عناصر اآليديولوجيا الدينية‬
‫والعالقات القبيلة والعشائرية‪ ،‬وهو مايؤكد إن البحث وفي مثل هذه المجتمعات ـ والتي من بينها السودان‬
‫بالطبع ـ يجب أن يكون عما هو سياسي متخفي خلف السلوك الديني والعشائري‪ .‬وبلغة أكثر بساطة‪ ،‬البحث‬
‫عن أهداف اإلستحواذ على السلطة الثروة التي تقبع خلف الخطابات الدينية والسلوك العشائري للوسط في‬
‫السودان والتي نتج عنها هذا التهميش وإزدياد حدته مع تيارات اإلسالم السياسي‪ .‬ذلك ألن السياسة ظلت‬
‫تمارس بإسم الدين حتى يومنا هذا‪ ،‬ويتم تاطيرها بالنظم والمرجعيات المعرفية الدينية بأشكالها المختلفة‪.‬‬
‫صحيح أن التجربة العملية أفرزت حالة من التصادم في الوعي الجمعي للناس بين حقيقة أن هذه الظاهرة تمثل‬
‫إستغالالً للدين في السياسة‪ ،‬مع الدين كإعتقاد وطقوس تربط الفرد بإله متعالي‪ ،‬مما دفع إلى المطالبة وعلى‬
‫المستوى السياسي بالفصل ما بين الدين والدولة أو السياسة‪ ،‬لكن ولتأكيد ذلك البد من إبرازه بوضوح كافي‪.‬‬

‫فإذا كان هذا هو الحال في الماضي الذي سادت فيه قوى الطائفية‪ ،‬فهل حدث جديد عندما جاءت تيارات‬
‫اإلسالم السياسي(؟)‪ .‬يفرض هذا السؤال نفسه بإعتبار أن هذه الحركات تدعي أنها تيارات حداثة في حقل‬
‫اإلسالم السني في السودان‪ ،‬تتبنى أطروحات ومنظور للدولة ومؤسسة حزبية معاصرة‪ ،‬فهل هي فعالً قد‬
‫أحدثت فرقا ً في المجتمع(؟)‪ ،‬إن الواقع يكذب ذلك‪ ،‬بل العكس هو الصحيح‪ ،‬إذ أن الوضعية التي وصفناها في‬
‫السودان بأنها وضعية مجتمع ماقبل رأسمالي يقوم على العالقات اإلثنية والعشائرية إزدادت حدة في عهد‬
‫تيارات اإلسالم السياسي‪ ،‬بدليل إن الصراعات المسلحة التي تدور في الساحة اآلن بلغت ذروتها في عهد هذا‬
‫النظام(نظام اإلسالم السياسي) من كافة النواحي‪ ،‬سواء على صعيد حدة اإلستقطاب الديني أو العشائري على‬
‫مستوى الخطاب‪ ،‬والنفي واإلقصاء الذي وصل حد التطهير العرقي على صعيد المواجهة‪ .‬ولم يقف األمر عند‬
‫الحرب في الجنوب‪ ،‬والتي وإن كانت في الماضي تبرر بأن الجنوب هو زنجي‪ /‬مسيحي مختلف عن الشمال‬
‫العربي المسلم‪ ،‬فإنها تمددت اليوم الى هذا الشمال العربي المسلم نفسه في دارفور والشرق‪ .‬وال يسع المرء‬
‫غير أن يبحث عن جذور إجتماعية وثقافية لهذه النزاعات‪ .‬وترد المقوالت السياسية التي تذخر بها أدبيات‬
‫كثير من حركات الهامش‪ ،‬حدود وجذور إشكاليات النزاع وأصله إلى سياسات التهميش التي ظل يمارسها‬
‫المركز ضد األطراف‪ ،‬وهو األمر الذي اليمكن غير القول أنه في نهاية التحليل وصف لمظهر األزمة‬
‫وتطبيقاتها‪ ،‬لكنه ال يكفي أن يكون سبباً‪ .‬فالتهميش نتيجة ـ هذا صحيح ـ ولكن ما هي أسبابه وداوفعه(؟)‪ ،‬فهذا‬
‫ما يجب معرفته ومعالجته‪.‬‬

‫اآليديولوجيا الدينية وجذور تقنين السيطرة‪:‬‬


‫يصف معظم السودانيين مجتمعهم‪ ،‬بأنه متدين بطبعه‪ ،‬وعندما يقولون ذلك فإنهم يقصدون أن الفرد منهم أو‬
‫الجماعات يقومون بواجباتهم الدينية من صالة وصيام وزكاة كما يعرفونها‪ ،‬أو كما توارثوها أبا ً عن جد منذ‬
‫إنتشار اإلسالم في السودان‪ ،‬وكثيراً مايسميه بعض الدارسين بـ (اإلسالم الشعبي)‪ .‬ولم يكن يعرف ـ وبأي‬
‫شكل من األشكال ـ عن هذه الممارسة الدينية أنها تنطوي على "واجبات سياسية" إال مع ظهور حركات‬
‫اإلسالم السياسي‪ .‬وخير مثال لذلك التيارات الصوفية التي إنتظمت أرجاء السودان منذ أزمنة ليست بالقريبة‪،‬‬
‫فلم يكن يعرف عنها أي ميول للعمل السياسي‪ ،‬بل كانت عبارة عن جماعات شبه منغلقة على نفسها تمارس‬
‫شعائر التصوف المعروفة‪ .‬والحركات الوحيدة التي تنتمي لهذا الحقل ودخلت غمار العمل السياسي حتى اآلن‬
‫هي طائفتي األنصار والختمية‪ ،‬ولظروف تاريخية معروفة‪.‬‬

‫‪ .6‬سامية الهادي النقر‪ ،‬الجمعيات األهلية واإلسالم السياسي في السودان‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مكتبة مدبولي‪ ،‬الطبعة األولى ‪ ،2006‬ص ‪.30‬‬

‫‪6‬‬
‫ير ِجع حيدر إبراهيم تفسير نشأة حركات اإلسالم السياسي إلى نظرية األزمة أو التحدي واإلستجابة‬
‫بإعتبارها‪":‬يمكن أن تكون مفيدة وعملية لفهم الظاهرة(ظاهرة تيارات اإلسالم السياسي)‪ ،‬شريطة التعرض‬
‫للجوانب المختلفة لألزمة" (‪ )...‬ويمضي في التمييز بأن‪" :‬اإلسالمويون (= فعاليات حركات اإلسالم‬
‫السياسي) يعطون خالفا ً للعلماء والسلفيين األولوية للعمل السياسي‪ ،‬والذي يأخذ األشكال الثالثة التالية أو‬
‫مزيجا ً منها‪ :‬حزب من الطراز الغربي‪ ،‬أو حزب من النمط اللينيني أو جمعيات دينية نشطة تغطي مجاالت‬
‫عديدة أحيانا ً كبديل عن دور الدولة في المجتمع"‪ .7‬غير إن هذا التفسير(التحدي‪ ،‬اإلستجابة) في تقديرنا يربط‬
‫مباشرة هذه الظاهرة بمؤثرات خارجية ‪ ،Stimulations‬تجعل من ظهور هذه الحركات مجرد ردة فعل‬
‫للحراك اإلجتماعي ال أكثر‪ ،‬وهو األمر الذي قد يكون مضلالً بدرجة (ما) في فهمها‪ ،‬وبالتالي ال نعتقد أنه قد‬
‫يكون مفيداً إال في سياق آخر‪ ،‬ومن األنجع دراسة األبعاد التاريخية واآليديولوجية المرتبطة بالدين التي تنتجها‬
‫وتروج لها هذه الحركات‪ ،‬بإعتبارها األساس الذي تنمو عليه وتجنى منه مكاسبها السياسية‪ .‬وإلدراك مدى‬
‫تأثير (اآليديولوجيا الدينية كعنصر حاسم داخل الحركات السياسية ذات الخلفية الدينية) البد من وقفة أوالً‬
‫إلجراء تمييز لهذه الحركات في السودان ومن ثم معرفة طبيعة األيديولوجيا الدينية لهذه التيارات وتأثيرها‪.‬‬
‫وهنا يمكن التمييز بوضوح بين ثالثة تيارات تتبنى أطروحات إسالمية وهي‪:‬‬

‫‪ .1‬الحركات الصوفية(العرفانية) األصل والمنشأة‪ :‬وهذه إما تيارات كانت باألساس حركات صوفية دخلت‬
‫العمل السياسي فيما بعد‪ ،‬وضعفت ـ إلى حد (ما) ـ وتحللت صلتها بجذورها العرفانية إال من نتف صغيرة‬
‫أوهى من خيط العنكبوت تشد أعضائها مع بعضهم البعض وتمثل األساس األيديولوجي الذي يرتدون إليه‪.‬‬
‫والمثالين لهذا التيار ـ كما قلنا ـ طائفة األنصار وحزبها السياسي (حزب األمة)‪ ،‬وطائفة الختمية وحزبها‬
‫السياسي (الحزب اإلتحادي الديمقراطي)؛‬

‫أو أنها تيارات مازالت على أصلها العرفاني ولم تتبنى أو تنشئي حزباً‪ ،‬بل تمارس السياسة بصورة غير‬
‫مباشرة ـ "الشعورياً" ـ عن طريق التحكم والسيطرة من بعد على قواعدها(والذين هم في هذه الحالة المريدين‬
‫وأتباع الطريقة المعينة‪ ،‬المباشرين والغير مباشرين) عبر آليات التصوف نفسها‪ .‬وتمارس السياسة هنا‬
‫بواسطة شيخ السجادة‪ ،‬والذي (هو) من يحدد بطريقة "إيحائية" ـ باإلشارة ـ إلى أي صف يجب أن يقف أتباعه‬
‫ومريديه في ساحات المعارك السياسية المحتدمة‪ .‬وما يجدر ذكره تلك العالقة المسكوت عنها التي كانت تربط‬
‫بعض من حكموا السودان مع شيوخ هذه الطرق والتي إنعكست على وضعياتهم في "الحياة الدنيا الفانية" من‬
‫خالل مظاهر الثراء واإلنفتاح على العمل اإلقتصادي وإنشاء المؤسسات‪ ،‬والتي دائما ً ما يتم تبريرها بأنها‬
‫لدعم خالوي حفظة القرآن وللعباد والزهاد(!)‪ .‬وبالتالي فإنها ـ أي التيارات التي من هذا النوع ـ تعتبر مرحلة‬
‫أدنى من الصنف األول‪ ،‬وتحولها إلى نمط ممارسة السياسة بصورة مباشرة ما هو إال مسألة وقت‪.‬‬

‫‪ .2‬تيارات اإلسالم السياسي الحديث‪ :‬وهذه حركات تختلف "أصولياً" مع حركات التصوف وتنتمي إلى حقل‬
‫اإلسالم السني المدرسي‪ .‬وهنا نميز بين نوعين لهذه الحركات‪:‬‬
‫أ‪ .‬تيارات متشددة‪ ،‬وهي تلك التي مازالت متمسكة بأصول اإلسالم المدرسي السني البياني‪ ،‬مثل‬
‫األخوان المسلمين‪ ،‬جماعة أنصار السنة المحمدية‪ ،‬التكفير والهجرة‪ ،‬جماعة البالغ‪ ،‬حزب التحرير‬
‫اإلسالمي والحركات الشبيهة‪.‬‬
‫ب‪ .‬تيارات لم تعد تتمسك بأصول اإلسالم المدرسي السني على الصعيد التنظيمي على األقل‪ ،‬بل أصبحت‬
‫أقرب إلى الحركات السياسية اللبرالية في الغرب‪ ،‬وهي متطورة جداً على صعيد العمل السياسي‬
‫ونماذج لها‪ :‬الجبهة اإلسالمية (سابقاً)‪ ،‬المؤتمر الحاكم في السودان‪ ،‬المؤتمر الشعبي‪.‬‬

‫‪ .7‬حيدر إبراهيم‪ ،‬التيارات اإلسالمية وقضية الديمقراطية‪ ،‬بيروت‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية ‪ ،1996‬ص‪.43‬‬

‫‪7‬‬
‫وعلى الرغم من األصل اآليديولوجي الواحد لهاتين الحركتين األخيرتين‪ ،‬إال أن الفرق يكمن في درجة‬
‫التطور على الصعيد السياسي‪/‬التنظيمي أو "الحركي" كما درج بعض مؤرخي هذه الحركات على وصفه‪.‬‬
‫وهذا الفرق أوجدته تجربة ممارسة السلطة على مستوى الدولة من جانب‪ ،‬والتشبيك مع رصيفاتها في باقي‬
‫أنحاء العالم اإلسالمي من جانب آخر‪ .‬فبالقدر الذي ترتبط به هذه المنظومات بالسلطة‪ ،‬تصطدم من خالل‬
‫التجربة بخاصية ضعف التراث اإلسالمي السني في التنظير لمسألة ممارسة السلطة وإدارة الدولة‪ ،‬وبالتالي‬
‫يبدأ تحلل الخطاب اإلسالمي بصورته التي بدأ بها مواجهة التحديات الجديدة التي تقتضيها ممارسة السلطة‬
‫وإدارة المجتمع‪ ،‬مما يجعله ـ مجبراً ـ يقترب من الموقف البرغماتي‪/‬العلماني على صعيد الموقف والممارسة‬
‫السياسية‪ .‬وبالتالي وحسب تعبير محمد أركون‪ ،‬فإنها ـ أي الحركات اإلسالمية ـ دون أن تعي ذلك‪ ،‬أو حتى‬
‫تريده‪ ،‬تقوم بأكبر عملية علمنة في التاريخ‪ ،‬وهي وفي خضم صراعتها السياسية تكشف عن رهاناتها‬
‫الزمنية‪.‬‬

‫وعندما نقيس ذلك على التيارات اإلسالمية في السودان فإنه يمكن وبوضوح من رسم خط تطور لولبي متعرج‬
‫لهذه الحركات‪ .‬فالتيارات المتشددة(أنصار السنة وغيرها ليست سوى مرحلة متأخرة من الجبهة اإلسالمية‬
‫القومية‪ ،‬واألخيرة مرحلة متأخرة أيضا ً من المؤتمر الوطني)‪ .‬والفرق بين هذه القوى في حلقة تطورها‪ ،‬هو‬
‫مدى إرتباطها بالسلطة‪ ،‬ألنه الشرط الضروري الذي يحدد بصورة قاطعة قرب أو بعد هذه الحركات من‬
‫منابع خطابها األصلي‪ ،‬وبالتالي يشكل مجمل التحوالت الوظيفية والهيكلية التي قد تحدث داخلها وإنعكاسها‬
‫على المجتمع والدولة‪ .‬عليه؛ فإن الحركات المتشددة دينيا ً والتي ما زالت في قاع سلم التطور سيأتي يوما ً‬
‫(ما) وعندما ترتبط بممارسة السلطة ستتحول إلى تيارات أقل تشدداً من الناحية العقائدية‪ ،‬بمعنى نتوقع أن‬
‫يتحول أنصار السنة المحمدية في السودان في لحظة تاريخية معينة إلى نموذج أقرب إلى الجبهة اإلسالمية أو‬
‫المؤتمر الوطني‪ .8‬وإذا ما قارنا ذلك بمراحل تطور الحركات اإلسالمية الذي يورده حسن الترابي يمكننا‬
‫التعرف على الصيرورة التي سوف تنتهي إليها هذه الحركات خالل مسيرتها من المهد إلى اللحد والبعث من‬
‫جديد‪ ،‬ويقسمها الترابي إلى أربعة مراحل هي‪:9‬‬

‫مرحلة الدعوة‪" :‬حين يكون البعث اإلسالمي محض "تيار" ومن مهامه المميزة ـ حيئذ ـ نشر الدعوة‪،‬‬ ‫‪.1‬‬
‫مجادلة المنكرين ودرء الشبهات‪....‬إلخ"‪.‬‬
‫المرحلة الثانية‪" :‬حين يتجسد التيار في "جماعة منتظمة" ‪ ...‬ومن مهامها عندئذ بعد الدعوة البناء‬ ‫‪.2‬‬
‫الجماعي"‪.‬‬
‫المرحلة الثالثة‪" :‬حين تستوى الجماعة فتصبح "حركة" فاعلة في المجتمع‪ .‬وحينئذ تبرز لها حاجات‬ ‫‪.3‬‬
‫وأولويات إصالحية"‪.‬‬
‫مرحلة التمكين واإلستخالف‪" :‬حين تتولى الحركة "قيادة" المجتمع وتنتصب في مواقع السلطان‪ ..‬ويحق‬ ‫‪.4‬‬
‫عليها ـ آنئذ ـ أن تستكمل مهمات العمل العام الصالح إنفاذاً لمشروعات التطهير والتحرير والتغيير نحو‬
‫التي هي أقوم دينيا ً وأصلح دنيا"‪.‬‬

‫‪ .8‬الجدير باإلشارة هنا ولتوضيح هذه النقطة الرجوع إلى الخالفات التي تعصف بجماعة أنصار السنة المحمدية حاليا ً والتي تشبه إلى حد بعيد وفي‬
‫المضمون‪ ،‬نفس الخالفات التي نشبت في السابق داخل جماعة األخوان المسلمين بين صادق عبدهللا عبدالماجد وحسن الترابي‪ ،‬فقد كان الترابي يصر‬
‫على إنفتاح الحركة ويقف صادق عبدهللا عبدالماجد موقف المحافظ على نمط وطريقة التربية التي كانت تمارسها الحركة لعضويتها‪ .‬وكما يبدو أن‬
‫الخالف في ظاهره كأنه على طرق ووسائل إدارة الحركة إال أنه كان خالفا ً إستراتيجيا ً يستند على رؤى مغايرة أساسها كيفية الوصول إلى السلطة‪.‬‬
‫فمضي الترابي وكون الجبهة اإلسالمية وإستولى على السلطة في ‪ ، 1989‬وبقى صادق مجرد حزب صغير‪ .‬اآلن تعاني جماعة أنصار السنة المحمدية‬
‫نفس اإلشكالية سواء إن كانوا على وعي بذلك أم ال‪ ،‬وبالتالي هذا يقوي من فرضيتنا حول صيرورة حركات اإلسالم السياسي‪.‬‬
‫‪ . 9‬حسن الترابي‪" ،‬أولويات التيار اإلسالمي لثالثة عقود قادمة" ‪ ،‬منبر االشرق‪ ،‬العدد ‪ ،1‬مارس ‪ ،1992‬ص‪.17‬‬

‫‪8‬‬
‫وقبل أن ندخل في تحليل مراحل تطور الحركات اإلسالمية‪ ،‬تجدر اإلشارة إلى نقطة خامسة سكت عنها‬
‫الترابي‪ ،‬والتي هي أهم المراحل‪ ،‬ألنها تعطيها ديناميتها التاريخية‪ ،‬أال وهي مرحلة التحلل واإلنزواء‪ .‬ومن‬
‫دون الخوض وراء األسباب التي دفعت بالترابي للسكوت‪ ،‬لكن موضوعيا ً من الضروري إضافة هذه المرحلة‬
‫حتى نستطيع القول بإكتمال الدائرة‪ .‬فالبناء للمراحل الموضوع بواسطة الترابي يحدد نقطة بداية‪ ،‬لكنه يترك‬
‫النهاية مفتوحة غير محددة‪ ،‬أو اليغلق الدائرة بالعودة مرة أخرى إلى نقطة البداية‪ ،‬وفي كال الحالتين فإن‬
‫األمر يتطلب وجود خاتمة (ما) وإال صار األمر وكأنما هذه الحركات هي نهاية التاريخ‪.‬‬

‫واآلن فلنمارس نوع من التفكيك لهذه المراحل لنرى العالقات الداخلية ومدى إرتباطها بحركة تطور تيارات‬
‫اإلسالم السياسي التي أشرنا إليها‪.‬‬
‫الخصائص‬ ‫المظهر السياسي‬ ‫المرحلة‬
‫نشر الدعوة‪ ،‬مجادلة المنكرين ودرء الشبهات‪....‬إلخ‬ ‫"محض تيار"‬ ‫مرحلة الدعوة‬
‫الدعوة البناء الجماعي‬ ‫"جماعة منتظمة"‬ ‫المرحلة الثانية‬
‫بروز حاجات وأولويات إصالحية‬ ‫"حركة"‬ ‫المرحلة الثالثة‬
‫إستكمال مهمات العمل العام الصالح إنفاذاً لمشروعات‬ ‫التمكين "سلطة‪/‬حكومة"‬ ‫مرحلة‬
‫التطهير والتحرير والتغيير نحو التي هي أقوم دينيا ً وأصلح‬ ‫واإلستخالف‬
‫دنيا‪.‬‬

‫الجدول أعاله قد ال يرى فيه البعض جديداً بإعتبار أن األمر اليتعدى مجرد رسم سياج حول نقاط مرتبة‬
‫أصالً‪ ،‬لكن األمر غير ذلك(!)‪ .‬فبالنظر في عناوين الجدوال والترتيب من أعلى إلى أسفل وربط كل ذلك‬
‫بمفاهيم التطور التاريخي فإن الصورة التي نحاول تقريبها تصبح أكثر وضوحاً‪:‬‬

‫فقائمة المظهر السياسي ـ عندما نتحرك من أعلى إلى أسفل ـ تعطينا إنتقال من حالة بدائية تتمثل في أنها‬
‫"محض تيار" ـ كما ذكر الترابي ـ إلى مراحل أعلى تصل قمتها في مرحلة الحكم‪ .‬إذاً ما هو معنى "محض‬
‫تيار"(؟)‪ .‬ففي مثل هذه الحاالت يكون شكل اإلستقطاب في الغالب األعم سريا ً وهذا قد يكون لظروف مختلفة‪،‬‬
‫إما لعدم إستساغة أو قبول المجتمع لهذه الحركة الجديدة‪ ،‬أو لضغط سلطة حاكمة‪ ،‬وبالتالي فإن الدعوة أو‬
‫اإلستقطاب للمفاهيم الجديدة يتم بصورة غير منظمة وال يوجد إطار محدد يمارس من خالله‪ .‬وتفسر قائمة‬
‫الخصائص طبيعة هذا النشاط والذي هو في هذ المرحلة‪ :‬نشر الدعوة‪ ،‬مجادلة المنكرين ودرء الشبهات‪.‬‬
‫وغالبا ً في مثل هذه الحاالت يأخذ الطابع العقائدي المرتبط "بتعليم الناس أمور دينهم"‪ ،‬من كيفية الصالة‬
‫والزكاة والحالل الحرام وغيرها‪ .‬وهذه الممارسة تجد لها أصول يتم القياس عليها والتمثل بها‪ .‬ولمعرفة ذلك‬
‫في هذه المرحلة‪ ،‬البد من إستدعاء الدور الذي قامت به العقيدة في تكوين العقل السياسي العربي عند الجماعة‬
‫اإلسالمية األولى‪ ،‬والتي كانت حينذاك جماعة "روحية" (‪ )..‬الشئ الوحيد الذي يربط أفرادها بعضهم ببعض‬
‫هو اإليمان باهلل وبرسوله"‪ ،10‬لذلك فالتشابه ما بين النمطين في حالة هو "محض تيار" كما في تصنيف‬
‫الترابي‪ ،‬بحالة الدعوة التي كانت تقوم بها الجماعة اإلسالمية األولى التي كانت تحيط بالرسول (ص)‪ ،‬هو من‬
‫الناحية الطقوسية‪ ،‬ويجد تفسيره في الصراع الذي مر في التاريخ اإلسالمي وإنتهي بسيادة "فرقة" أهل السنة‬
‫والجماعة (المدرسة السنية البيانية) على العالم العربي والتي تدعو إلى تمثل سلوك الرسول (ص)‪ ،‬مع فارق‬
‫جوهري كبير بالطبع‪ ،‬إذ إن الجماعة اإلسالمية األولي كانت تدعو لدين جديد وسط "المالء من قريش" والذين‬
‫كانوا يقفون ضد هذا الدين‪ ،‬بينما جماعة الترابي ال تدعو لدين جديد‪ ،‬وإنما تمارس في أحسن الفروض النصح‬
‫واإلرشاد وتعليم الناس أمور دينهم‪.‬‬
‫‪ .10‬الجابري‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.60‬‬

‫‪9‬‬
‫لكن؛ هل باإلمكان التغاطي عن المضمون السياسي لهذه الدعوة (؟) وهل يمكننا القول أنها بال مضمون‬
‫سياسي ولوجه هللا (؟) كما كانت تفعل الجماعة اإلسالمية األولى(؟)‪ .‬تجيب على هذا التساؤل المراحل التي‬
‫تليها والتي تنتقل بالمظهر السياسي للحركة إلى مستوى أعلى من حيث التنظيم‪ ،‬وبالمقابل يبدأ المضمون‬
‫السياسي في التكشف تدريجياً‪ ،‬فمن محض تيار ينشر "الدعوة" ويدراء الشبهات ويعلم الناس أمور دينهم‪ ،‬إلى‬
‫جماعة منتظمة تواصل في نفس الدعوة‪ ،‬ولكنها تبدأ في تنظيم نفسها وتنتقل إلى المرحلة الثالثة كحركة كاملة‬
‫النمو والتطور "تبرز حاجاتها السياسية"‪ ،‬وصوالً إلى الحكم كمرحلة أخيرة حسب تصور الترابي‪.‬‬

‫إذاً السؤال لماذا ال تفصح هذه الحركات ومنذ البداية عن مشروعها السياسي(؟) علما ً بأن أي تيار أو حركة‬
‫سياسية ومنذ البداية تحدد مشروعها وتنطلق في إستقطاب الناس إليه‪ ،‬صحيح أنها قد تمر بنفس المراحل أو ما‬
‫يشابهها‪ ،‬لكن الثابت أنها ومنذ إنطالقتها تحدد موقفها السياسي كما قلنا‪ .‬إن اإلجابة على هذه السؤال تحدد‬
‫بالضبط طبيعة اآليديولوجية الدينية لهذه الحركات وإختالفها مع التيارات السياسية التي التتحذ األديان كأساس‬
‫أيديولوجي‪/‬فكري‪ .‬إن من أهم خصائص هذه الطبيعة إنها تخلق رابطة معنوية بين أفرادها قائمة على قوة‬
‫المقدس الديني‪ .‬وأحيانا ً ترتقي هذه الرابطة ومسوغاتها النظرية في قوتها لتساوي نفسها بالمقدس‪ ،‬أو تقف‬
‫وكأنها الدين نفسه أو عين المراد اإللهي‪ ،‬متخطية بذلك قضية مهمة وهي "تاريخية األديان" بعد إنقطاع‬
‫الوحي‪ .‬بمعنى؛ تحوله عبر التاريخ إلى كم معرفي تراكمي من التفسيرات يخضع لقواعد اللغة وشروط‬
‫المتغيرات اإلجتماعية والسياسية‪ ،‬وهو األمر الذي يفسر ظواهر التشدد والتطرف للمنتسبين لهذه الحركات‪.‬‬
‫فعدم اإلفصاح عن المشروع السياسي منذ البداية هدفه غرس هذه الروح العقائدية المتشددة في الفرد‬
‫والمجتمع‪ ،‬كسبا ً للوالء األعمي الذي يحصدون به مغانم السلطة‪ .‬وينسحب نفس السلوك على الحركات ذات‬
‫الخلفية العرفانية‪.11‬‬

‫لكن وعند الوصول إلى تخوم السلطة والحكم فإن األمر يختلف‪ ،‬ألن الحكم يقتضي السياسة وليس الدعوة‪،‬‬
‫وهذه تقتضي بهرج السلطان وبريقه من مال وجاه وغيره‪ ،‬وهنا تطل الخالفات واإلختالفات برأسها‪ .‬وهذه‬
‫النقطة األخيرة هي بداية المرحلة الخامسة التي سكت عنها الترابي في تصنيفه لتطور الحركات اإلسالمية‪،‬‬
‫مرحلة اإلنهيار والتحلل‪ .‬وقراءة التاريخ اإلسالمي تعطينا صورة حية لذلك‪ .‬فقد بدأت الدعوة مع الرسول‬
‫(ص) وطوال حكم الخلفاء األربعة لم تختلف كثيراً طريقة الحكم‪ ،‬بل كان طابع الدولة زمن الرسول والخلفاء‬
‫هو طابع دولة الدعوة‪ ،‬إلى أن جاءت دولة "الملك العضوض" زمن معاوية بن أبي سفيان‪ ،‬حيث تحولت دولة‬
‫الدعوة إلى دولة الملك الوراثي الصرف والتي مازالت مظاهرها باقية إلى يومنا هذا في الكثير األنظمة‬
‫السياسية المعاصرة‪ .‬لقد إختط معاوية دولته وحدد مبادئها‪ ،12‬ـ وصار بذلك المعلم األوحد لكل من حكموا بعده‬
‫إلى اآلن ـ وقد دشن بذلك قطيعة مع النمط السائد في الماضي‪ ،‬والذي كان فيه األمر هو "العمل بكتاب هللا‬
‫وسنة رسوله" (دولة الدعوة)‪ ،‬إلى ما يستطيع اإللتزام به من كما يقول هو بنفسه‪" :‬مواكلة حسنة‪ ،‬ومشاربة‬

‫‪ . 11‬يروي د‪ .‬شريف حرير حادثة طريفة أنه عندما سأل أحد المنتمين إلى إحدى الطائفتين عن سر والئه الشديد للسيد‪ ،‬إجابه بأنهم وفي داخل الطائفة عند‬
‫أداء قسم الوالء والطاعة يرددون‪ " :‬إن أكون بين يدي سيدي كالميت عند الغسيل "‪ .‬وهو ما يؤكد على طابع الوالء األعمى‪ ،‬فهذا القسم الغليظ‪،‬‬
‫صيغته‪ ،‬ال تعني غير ذلك‪ .‬وهكذا‪ ،‬يصبح المريدين‪ ،‬األشياع‪ ،‬الحواريين أو أعضاء الحزب الذين هم من هذه الشاكلة في وضعية أحط من وضعية‬
‫األقنان في حظيرة حزب السيد‪.‬‬
‫‪ . 12‬هناك رواية تقول‪ :‬أنه لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقاه رجال قريش فقالوا "الحمدهلل الذي أعز نصرك وأعلى كعبك"‪ ،‬فوهللا مارد عليهم بشئ‬
‫حتى صعد المنبر فحمد هللا وأثنى عليه‪ ،‬ثم قال "أما بعد وهللا ماول يتها بمحبة علمتها منكم والمسرة بواليتي‪ ،‬ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة‪ .‬ولقد‬
‫رضيت لكم نفسي على عمل أبن أبي قحافة (أبي بكر) وأردتها على عمل عمر فنفرت من ذلك نفاراً شديداً‪ ،‬وأردتها مثل ثنيات عثمان فأبت على‪،‬‬
‫فسلكت بها طريقا ً لي ولكم فيه منفعة‪ :‬مواكلة حسنة ومش اربة جميلة‪ .‬فإن لم تجدوني خيركم فإني خير لكم والية‪ .‬وهللا ال أحمل السيف على من ال سيف‬
‫له‪ ،‬وإن لم يكن منكم إال ما يستشفي به القائل بلسانه فقد جعلت ذلك له دبر أذني وتحت قدمي‪ .‬وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فأقبلوا مني بعضه‪ ،‬فإن‬
‫أتاكم مني خير فأقبلوه فإن السيل إذا زاد عني‪ ،‬وإذا قل أغنى‪ ،‬وإياكم والفتنة فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة" ثم نزل‪ .‬الجابري‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‬
‫‪.236‬‬

‫‪10‬‬
‫جميلة (‪ )...‬وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فأقبلوا مني بعضه‪ ،‬فإن أتاكم مني خير فأقبلوه "‪ =( ،‬دولة الملك‬
‫السياسي)‪ .‬وكان عمار بن ياسر أول من تنبأ بذلك‪ ،‬وتذكر المصادر أنه نادي في صفين‪ ،‬وكان من قواد جيش‬
‫علي بن أ بي طالب‪" :‬أين من يبتغي رضوان هللا عليه وال يؤوب إلى مال وولد‪ .‬فأتته عصابة من الناس‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫أيها الناس‪ ،‬أقصدوا بنا هؤالء الذين يبغون دم إبن عفان ويزعمون إنه قتل مظلوماً‪ .‬وهللا ما طلبتهم بدمه ولكن‬
‫القوم ذاقوا الدنيا فأستحبوها وإستمرؤوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم‪ ،‬حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من‬
‫دنياهم‪ ،‬ولم يكن للقوم سابقة في اإلسالم يستحقون بها طاعة الناس والوالية عليهم‪ ،‬فخدعوا أتباعهم أن قالوا‪:‬‬
‫إمامنا قتل مظلوماً‪ ،‬ليكونوا بذلك جبابرة ملوكاً‪ 13"..‬فقد كان عمار بن ياسر يرى أن والية الناس وإستحقاق‬
‫طاعتهم تستند على السبق في اإلسالم ـ أي األساس العقائدي الذي تولد لدى الجماعة اإلسالمية األولى حسب‬
‫تجربته ـ لذلك كان هو أول من أزاح الستار عن "رغبات ومطامح الحصول على السلطة المتخفية خلف‬
‫السلوك الديني والعشائري لبني أمية‪ ،‬وتخصيصا ً معاوية في الدولة اإلسالمية الوليدة" كما يمكن القول‬
‫بتعبير ريجس دوبري المعاصر‪ .‬مشيراً في ذات الوقت إلى أولى مظاهر التحلل في طورها الجنيني التي بدأت‬
‫تأخذ طريقها مع بداية دولة معاوية وظلت تنمو وتتخذ أشكاالً مختلفة من الثورات مروراً بالدولة العباسية حتى‬
‫آخر الممالك اإلسالمية‪ ،‬اإلمبراطورية العثمانية‪ .‬وعلى الرغم من األساس العقائدي الذي إستند عليه عمار بن‬
‫ياسر في تفسير هذا اإلنقالب‪ ،‬غير أن ذلك كان إتجاها ً ورؤية أملتها من جانب‪ ،‬طبيعة اإلرتباط الروحي‬
‫والمعنوي لعمار ونشأته في وسط الجماعة اإلسالمية األولى كأحد أوائل الذين أسلموا‪ ،‬ومن جانب آخر تأثير‬
‫وضعيته ف ي المجتمع كأحد الموالي في ذلك الحين‪ .‬ونضيف إلى ذلك تفسير أن التراث اإلسالمي وحتى ذلك‬
‫الحين ـ وربما إلى ما بعده ـ لم يكن قد أرسى تقاليداً في الحكم‪ ،‬كما عرفتها الحضارات التي سبقتها أو تزامنت‬
‫معها‪ ،‬وهو وما يعزز القول بأن الرسالة المحمدية في أصلها لم تكن ذات مضمون سياسي‪ ،‬هذا من ناحية‬
‫عامة‪ ،‬وحتى وإن كان قد قدر للدولة في ذلك الحين أن تمضي حسب رؤية عمار كدولة دعوة‪ ،‬فإن القطيعة‬
‫التي أنشأها معاوية كانت ستأتي حتما ً في مرحلة تاريخية الحقة‪ ،‬ربما على أيدي أناس آخرين‪ ،‬نعم قد تختلف‬
‫عن أهداف معاوية بحكم العوامل التي قد تفرضها هذه المرحلة الالحقة‪ ،‬لكن هذا ما كان سيحدث‪ ،‬ألنه منطق‬
‫التطور التاريخي‪ .‬لذلك تعود األسباب المباشرة وراء جرثومة التحلل إلى أسباب عديدة أهمها إن التحول‬
‫والقطيعة التي بدأت مع حكم معاوية خلقت "مجال سياسي" تمارس فيه السياسة‪ ،‬قام باألساس على عنصر‬
‫القبيلة بعيداً عن الدين‪ ،‬إستناداً على أن دولة اإلسالم قامت على يد قرشي هو النبي (ص)‪ ،‬وبما أن أصحابه‬
‫من بعده قد حسموا الخالف على أساس أن‪" :‬العرب ال تدين إال لهذا الحي من قريش"‪ ،‬فقد أعطت هذه المقولة‬
‫والواقعة التي حدثت فيها‪ ،14‬شرعية لقريش للحكم‪ ،‬إنتقلت إلى معاوية في دولة الملك‪ ،‬وهو ما أكده هو نفسه‪،‬‬
‫إذ تروي المصادر أيضا ً أنه جاء في الحديث‪ :‬كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية‪ ،‬وهو عنده‬
‫في وفد من قريش‪ ،‬أن عبدهللا بن عمرو بن العاص يحدث أنه سيكون ملك من قحطان‪ ،‬فغضب معاوية فقام‬
‫وأثنى على هللا بما هو أهل له ثم قال‪ :‬أما بعد فإنه بلغني أن رجاالً منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب هللا‬
‫وال تؤثر عن رسول هللا‪ ،‬فأؤلئك جهالكم‪ ،‬فإياكم واألماني التي تضل أهلها‪ ،‬فإني سمعت رسول هللا (ص)‬
‫يقول‪ :‬إن هذا األمر في قريش ال يعاديهم أحد إال كبه هللا على وجهه‪ ،‬ما أقاموا الدين"‪ 15‬ويبدوا أن األمر‬
‫بالنسبة لمعاوية أضيق من أن يسع قريش بأجمعها‪ ،‬فهناك أيضا ً تقسيم وتراتبيات داخل قريش نفسها‪ .‬فعندما‬
‫ذهب معاوية إلى المدينة يريد إقناع عبدهللا بن عباس وعبدهللا بن جعفر وعبدهللا بن الزبير وعبدهللا بن‬

‫‪ .13‬الطبري‪ ،‬تاريخ األمم والملوك‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪.98‬‬


‫‪ .14‬المعني بها واقعة سقيفة بني ساعدة‪ :‬وتقول الروايات أ نه لم أعلن عن وفاة الرسول (ص) سارع اإلنصار إلى سقيفة بني ساعدة وقد أرادوا بذلك أن‬
‫يسبقوا المهاجرين‪ .‬خطب سعد بن عبادة وهو زعيم األنصار فقال‪" :‬يامعشر اإلنصار لكم سابقة في الدين وفضيلة في اإلسالم ليست لقبيلة من‬
‫العرب"‪ .‬وختم حديثه قائالً‪" :‬فشدوا أيديكم بهذا األمر فإنكم أحق الناس وأوالهم به"‪ .‬فلما سمع عمر بن الخطاب بما جرى ذهب مسرعا ً إلى أبي بكر‬
‫ثم إنطالقا ودخلوا على األنصار وخطب أبي بكر فيهم‪":‬فكنا معشر المهاجرين أول الناس إسالماً‪ ،‬والناس لنا فيه تُبع‪ ،‬ونحن عشيرة رسول هللا (ص)‪،‬‬
‫ونحن في ذلك أواسط العرب أنساباً‪ ،‬ليست قبيلة من قبائل العرب إال ولقريش فيها والدة" وفي رواية أخرى "وإن العرب ال تعرف هذا األمر إال لهذا‬
‫الحي من قريش"‪ ،‬ورواية ثالثة "إن العرب ال تدين إال لهذا الحي من قريش"‪.‬‬
‫‪ .15‬البخاري‪ ،‬صحيح البخاري‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪.13‬‬

‫‪11‬‬
‫عمر(العبادلة المعروفين برواية الحديث عن النبي) والذين كانوا قد إمتنعوا عن مبايعة إبنه يزيد قال لهم‪ " :‬لقد‬
‫قلتم وقلتم‪ .‬وأنه ذهبت األباء وبقيت األبناء‪ ،‬فإبني أحب إلى من أبنائهم مع أن إبني إن قاولتموه وجد مقاالً‪.‬‬
‫وإنما هذا األمر [لبني عبد مناف] ألنهم أهل رسول هللا فلما مضي رسول هللا (ص) ولي الناس أبا بكر‬
‫وعمر من غير معدن الملك وال الخالفة‪ ،‬غير أنهما سارا بسيرة جميلة‪ ،‬ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف‪ ،‬فال‬
‫يزال فيهم إلى يوم القيامة‪ .‬ولقد أخرجك هللا يا إبن الزبير وأنت يا إبن عمر‪ ،‬فإما أبناء عمي هذان [عبدهللا بن‬
‫عباس وعبدهللا بن جعفر] فليسا بخارجين من الرأي إنشاءهللا"‪ .16‬ويالحظ في مرجعيات معاوية أنه لما جاءه‬
‫وفد قريش وقال ما قال فيه عبدهللا بن عمرو بن العاص‪ ،‬رد عليهم بمنطق الدين بحديث منسوب إلى الرسول‬
‫"أن هذا األمر في قريش"‪ ،‬ولكن عندما إحتدم حديثه مع العبادلة كان المنطق هو القبيلة وإن األمر في‬
‫قريش(حسب الحديث [المنطق الديني])‪ ،‬نعم‪ ،‬لكنه وفي إطار قريش فإنه تخصيصا ً في بني عبد مناف(منطق‬
‫القبيلة‪" :‬أنا وأخي على إبن عمي‪ ،‬وأنا وأخي وإبن عمي على الغريب")‪ ،‬لذلك ألمح إلى أبن الزبير وإبن عمر‬
‫بأنهما ليسا من بني عبد مناف [ولقد أخرجك هللا يا إبن الزبير وأنت يا إبن عمر]‪ ،‬مذكراً أياهم إن أبناء‬
‫عمومته (عبدهللا بن عباس وعبدهللا بن جعفر)‪ ،‬سيعودون إلى إطار القبيلة‪ .‬والمنطق األخير له جذره التاريخي‬
‫الذي يعود إلى ماقبل اإلسالم‪ ،‬فالتقسيم الذي كان قائما ً في مكة آنذاك إن لبني هاشم (أهل النبي) السقاية‬
‫والرفادة (للكعبة) ولبني عبد مناف السلطان‪ ،‬لذلك لم يكن معاوية بعيداً عن المنطق الذي حكم تاريخ قريش‬
‫عندما آلت إليه األمور‪ ،‬مذكراً بأن األمر قد آل إلى أهل "الجزاء والكفاءة" كما يقول هو من بعد أبي بكر‬
‫وعمر‪.‬‬

‫إن ما سبق يجعل لمقولة حيدر إبراهيم من أن قيام هذه الحركات يجد تفسيره من خالل اإلستجابة والتحدي قد‬
‫اليجد القبول المطلق إستناداً إلى أن هذه الحركات تنطلق في نشأتها وخلفيتها اآليديولوجية الدينية من هذا‬
‫التاريخ‪ ،‬واألمر ليس ردة فعل لظروف وتحوالت عارضة في سماء السياسة في العالم العربي أو السودان‪،‬‬
‫صحيح إلى حد (ما) القبول بهذه الظروف العارضة كعوامل مساعدة تسرع من قيام هذه الحركات‪ ،‬لكنها‬
‫ليست األصل‪ ،‬والمضي في التفسير بهذا المنطق(اإلستجابة والتحدي)‪ ،‬يدفع بالباحثين مسافات عن فهم الجذور‬
‫الحقيقية لهذه الحركات‪ .‬وقد أجمل الجابري فهم ذلك من خالل جهازه المفاهيمي الذي بناه لتفسير العقل‬
‫السياسي العربي (اإلسالمي‪/‬العربي في حقيقة األمر) من خالل دور "العقيدة"‪" ،‬القبيلة" و"الغنيمة" بإعتبارها‬
‫عوامل متداخلة شكلت السلوك السياسي للعقل العربي وبطانته الالشعورية‪ .‬والرجوع إليه اليوم بالنسبة لنا‬
‫لتفسير السلوك السياسي في السودان‪ ،‬كرجوعه (هو) إلى إبن خلدون في الماضي لتفسير السلوك السياسي في‬
‫العالم العربي المعاصر‪ ،‬مع الوضع في اإلعتبار بالطبع القضايا المنهجية المتعلقة بدرجة التعميم التي إقتضتها‬
‫دراسته‪ ،‬والحالة الخاصة التي نتناولها‪ .‬ومع ذلك؛ فيبدو أن ال جديد في األمر منذ الجماعة اإلسالمية األولى‬
‫مروراً بدولة معاوية وحتى حاضرنا هذا‪ .‬فقط تتغير اإلصطالحات والمفاهيم لكن تبقى القضايا الجوهرية‬
‫المتمثلة في رغبات الحصول واإلستحواذ على السلطة والمال كما هي‪ .‬فالحركات اإلسالمية القائمة اليوم لم‬
‫تخلق قطيع ة مع ذلك التاريخ‪ ،‬بل إنها تستدعيه في حاضرها‪ ،‬تعيشه وتتمثله وقع الحافر بالحافر‪ ،‬وتنتهي‬
‫بالخروج من ذلك إلى مرحلة التالشي لتقوم حركة أخرى تبدأ أكثر تشدداً تجتر نفس التجربة‪ ،‬وهكذا يمضي‬
‫تاريخ التيارات األصولية‪ .‬وطوال مسيرة المراحل التي حددها الترابي‪ ،‬يظل الخطاب الديني سائداً‪ ،‬يبدأ‬
‫متشدداً ومهتما ً بالجانب العقائدي‪ ،‬وينتهي باحثا ً عن "إستكمال مهمات العمل العام الصالح إنفاذاً لمشروعات‬
‫التطهير والتحرير والتغيير نحو التي هي أقوم دينيا ً وأصلح دنيا" كما يقول‪ ،‬أي حامالً في باطنه مشروع‬
‫سياسي مهما كانت مبرراته‪ .‬وبالقدر الذي يتوغل فيه في المشروع السياسي‪ ،‬تنحسر عنه تدريجيا ً الغاللة‬
‫الدينية‪ .‬وفي تزامن مع هذه الحركة‪ ،‬يبدأ في قاع المجتمع بروز تيارات جديدة تسير على نفس القضبان‬
‫لتمر بنفس المحطات‪ ،‬وكأنما تشدها جميعا ً سلسلة واحدة‪.‬‬

‫‪ .16‬إبن قتيبة‪ ،‬اإلمامة والسياسة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.174‬‬

‫‪12‬‬
‫وبعد‪ ،‬لسنا اآلن في حاجة للتأكيد مرة أخرى على حديث ريجس دوبري بأن النعرة القبلية العشائرية‬
‫والتعصب الطائفي والديني والطموح إلى الحصول على المغانم‪ ،‬ظواهر تبقى نشطة أو كامنة‪ ،‬في كيان‬
‫الجماعات‪ ،‬سواء إن كان أفرادها يعيشون في مجتمع إقطاعي أو رأسمالي أو إشتراكي‪ .‬وبالتالي؛ فإذا كانت‬
‫دراسة وظيفة الالشعور السياسي في المجتمع األوروبي هي إبراز ما هو عشائري وديني في السلوك‬
‫السياسي‪ ،‬فإن العكس تماما ً يحدث عند دراسة المجتمعات السابقة للرأسمالية حيث يجب إبراز ما هو سياسي‬
‫في السلوك الديني والسلوك العشائري‪.‬‬

‫عليه؛ يمكننا تلخيص ماتوصلنا إليه من نتائج بأن‪:‬‬


‫‪ .1‬المجتمع السوداني وبص ورة عامة مجتمع ماقبل رأسمالي تندمج فيه العالقات ما بين البنية الفوقية والبنية‬
‫التحتية المقابلة لها‪ ،‬بحيث يصعب التمييز بين القاعدة وما هو إنعكاس لها‪ ،‬وتشكل العالقات التي من نوع‬
‫العالقات الدينية‪ ،‬الطائفية‪ ،‬العشائرية وجود مستقل عن البنيتين‪ ،‬وتكاد أن تلعب دور العامل المحرك للتاريخ‬
‫في مثل هذا النوع من المجتمعات‪ .‬فالصراع من أجل المصالح المادية‪ ،‬التي تدفعها من الخلف رغبات‬
‫اإلستحواذ على مصادر الثروة والسلطة سواء لهذه الفئة أو تلك‪ ،‬ال يكشف عن نفسه بوضوح كافي في هذه‬
‫المجتمعات‪ ،‬ألنه في الغالب األعم يبقى كعامل "متنحي" ‪ Recessive Factor‬تحت الجينات المسئولة‬
‫عن منظومة القيم واألديان‪ ،‬وتراث العالقات الطائفية والعشائرية‪ ،‬ومسئول من هذا الموقع عن تحريك‬
‫الصراعات العشائرية أو الدينية‪ .‬على العكس تماما ً من المجتمعات التي تجاوزت تلك المرحلة‪ ،‬والتي يبرز‬
‫فيها الصراع على المصالح المادية بوضوح في الممارسة اإلجتماعية والسياسية‪.‬‬

‫‪ .2‬نتيجة لهذه الوضعية (وجود المصالح المادية متنحية داخل نسيج القيم واألديان والدور الذي تقوم به في‬
‫الدفع بالصراعات الدينية والعشائرية‪ ،‬إضافة إلى التحديد‪/‬التعيين للكيانات اإلجتماعية وفقا ً لجذورها اإلثنية أو‬
‫الدينية والثقافية)‪ ،‬كل ذلك في إطار الصورة العامة لحركة الصراع السياسي‪/‬اإلجتماعي‪ ،‬تصبح الدولة مزيج‬
‫متشابك من هذه العالقات المعقدة‪ ،‬والتي قد تصل حتى إلى أعلى المستويات‪ .‬فإذا كان التمييز والصراع‬
‫الديني‪/‬المذهبي أو العشائري في مستواه البسيط في قاع المجتمع‪ ،‬هو صراع يحسمه قانون البقاء لألصلح‪،‬‬
‫بغلبة طائفة‪/‬قبيلة على أخري حسب موازين القوى‪ ،‬فإن األمر على مستوى الدولة يختلف تماماً‪ ،‬ويأخذ طابعا ً‬
‫"إشكالياً" ‪ Problematic‬يتجلى في صور ومستويات عديدة‪ .‬وألن الدولة المعاصرة تقوم على‬
‫المؤسسات‪ ،‬والتي ال تعطي كبير إعتبار للعالقات العشائرية أو الطائفية أو الدينية ـ أو هذا ما يجب أن تكون‬
‫عليه ـ بالتالي فإن تصاعد هذا النمط من العالقات في هيكل الدولة ورؤيتها وطريقة إدارتها إستناداً على هذه‬
‫األسس‪ ،‬يخلق تناقضات حتمية تنتهي بسيادة عنصر‪ ،‬جهة‪ ،‬طائفة‪ ،‬دين (ما)‪ ،‬والتي تقود الصراع الشامل‬
‫داخل منظومة الدولة من أجل مصالحها كمجموعة أو كيان أو طائفة أو دين‪ ،‬محكومة في ذلك بمنطق‬
‫العالقات التي تطبع سمات المجتمعات السابقة للرأسمالية ـ كما بينا ذلك في المدخل‪ .‬وكما قلنا أنه طالما إن‬
‫الوضعية التي تجتمع فيها كيانات من هذا النوع‪ ،‬وتتميز بالتنوع الثقافي والتمايز العرقي واإلختالف الديني‬
‫والتفاوت التاريخي‪ ،‬داخل منظومة دولة حديثة‪ ،‬يقود اإلفتراض دائما ً إلى قيام بعض هذه الكيانات بالسيطرة‬
‫على جهاز الدولة وإستثماره إقصائيا ً على مستويات عديدة‪ .‬فإن الذي يحدث هو تحول المحددات الثقافية من‬
‫لغة وآداب وفنون وعادات وتقاليد وعقائد وتراتبيات إجتماعية إلى أسلحة آيديولوجية‪ ،‬ويتمفصل العرق واللون‬
‫مع الطبقة وتقسيم العمل‪ ،‬والدين مع السياسة‪ ،‬والمذهبي واللغوي مع اإلجتماعي‪ ،‬فتكون النتيجة بالتالي؛‬
‫وضعية تاريخية مأزومة تنتهي بإنفجار متسلسل‪ ،‬يأخذ شكل نزاع شامل‪ ،‬محتواه‪ :‬صراع هويات ضد هويات‪،‬‬
‫ثوابت ومتحوالت عند كيان اجتماعي (ما)‪ ،‬ضد ثوابت ومتحوالت عند كيان آخر‪ ،‬وهو في نهاية التحليل‬
‫صراع كل ضد كل‪ .‬عليه؛ فإن صيرورة هذه الوضعية غالبا ً ما تنتهي إلى مفترق طريق ذو إتجاهين‬
‫متعاكسين‪ ،‬إما بإنكفاء كل كيان على ذاته وتدريجيا ً إنفصاله‪ ،‬أو الوصول إلى نقطة إعادة التأسيس من جديد‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫وهي المرحلة التاريخية التي يمر بها السودان اليوم‪ ،‬والتي يمكن أن نسميها بداية مرحلة إنهيار الدولة التي‬
‫عرفها التاريخ السوداني المعاصر‪ .‬والقارئ لسيرة النزاع في الصومال يجد الكثير العبر والدروس‪.17‬‬
‫وبالتالي فإن التحدي الذي يواجه الدولة السودانية وقواها السياسية هو كيفية اإلتفاق للوصول إلى نقطة إعادة‬
‫التأسيس‪ ،‬وهل لم يفعلوا ذلك من قبل (؟)‪.‬‬

‫‪ .3‬تاريخيا ً ظل الدين يلعب دوراً محوريا ً في التقنين للصراع‪ ،‬ألنه كان ـ والزال ـ يقف بمثابة البنية‬
‫الالشعورية للمعرفة الدينية‪ ،‬تشتق منه اآليديولوجيا واألهداف السياسية في المجتمعات السابقة للرأسمالية‪.‬‬
‫ويكاد ينعدم الحد الفاصل تماما ً ما بين هذه البنية الالشعورية من جانب‪ ،‬واآليديولوجيا واألهداف السياسية من‬
‫جانب آخر‪ ،‬بحيث يصعب التمييز بينهما‪ .‬هذه النقطة مهمة جداً في معرفة طبيعة الحركات الدينية ألنها تكشف‬
‫عن مدى زيف الشرعية التي تدعيها هذه الحركات من تمسكها بتالبيب الدين‪ .‬فكل الذي يحدث‪ ،‬أنها تقوم‬
‫بتفسير النصوص المقدسة مستخدمة في ذلك القواعد البيانية(قواعد اللغة العربية) في حالة تيارات اإلسالم‬
‫السني المدرسي‪ ،‬أو التأويل الذي يستمد أصوله من إدعاء قدرات ماورائية في أغلب التيارات العرفانية بما‬
‫فيها التيار الشيعي نفسه‪ .‬وبمرور الوقت يتسامي التفسير أو التأويل ليقف على قدم المساواة مع النصوص‬
‫المنزلة أو المقدسة‪ .‬هذه العملية لها أهميتها القصوى بالنسبة لهذه الحركات في تجييش األتباع من أجل‬
‫الصراع السياسي البحت‪ ،‬والدفع بهم في آتون المعارك الضارية من أجل السلطة والمال فيما بعد‪ .‬وقد أثبت‬
‫التاريخ أنها لم تكن سوية عملية أضافت طبقة حمراء اللون لحدة الصراع العرقي والثقافي المحتدم في هذه‬
‫المجتمعات‪ ،‬مرتفعة به على صعيد الوعي إلى مستوى المقدس‪ ،‬مسببة بذلك إنقساما ً متعدد اإلتجاهات‬
‫والمستويات‪ ،‬اليقف عند التصادم ما بين ديانتين أو إثنيتين‪ ،‬أو ثقافتين مختلفتين في نفس المجتمع‪ ،‬بل تصل‬
‫لدرجة التصادم داخل الدين أوالعرق أو الثقافة الواحدة كما تعلمنا التجربة الصومالية و الرواندية‪.‬‬

‫الحروب األهلية والسالم والمفقود‪:‬‬


‫إن التحليل العلمي بشكل عام يقرر إن تجدد النزاعات الداخلية والحروب في تاريخ الشعوب واألنظمة‬
‫السياسية ليس نتاج المصادفة‪ ،‬إنما يجد جذوره في كيمياء التحوالت الداخلية الخاصة بهذه المجتمعات‬
‫وأنظمتها السياسية‪ .‬وتلعب ـ على المستوى السياسي ـ قراءآت توازن المصالح اإلقتصادية واإلجتماعية‪،‬‬
‫وصراع البقاء على السلطة‪ ،‬دوراً رئيسيا ً في إندالع هذه النزاعات وإستمراريتها‪ .‬لكن وفي السودان كحالة‬
‫خاصة وعندما نعيد قراءة األزمة‪ ،‬تلفت نظرنا حقيقة هامة‪ ،‬إال وهي تكرار نمط الصراع وأسبابه‪ ،‬فالحرب‬
‫األهلية األولي إنتهت في ‪1972‬م بإتفاقية أديس أبابا‪ .‬لكن بالرغم من ذلك تجددت بعد عشرة أعوام من ذلك‬
‫التاريخ إستناداً لنفس األسباب‪ ،‬مما يمكن معه نظريا ً طرح القضية بصيغة أكثر عمومية‪ ،‬بإعتبار أن هناك‪:‬‬
‫عالقة عضوية‪/‬هيكلية تربط ما بين الهيمنة السياسية والثقافية القائمة على آيديولوجيا العروبة واإلسالم‬
‫وجذورها التاريخية والدينية من جانب‪ ،‬والمصالح اإلقتصادية "أهداف السيطرة واإلستحواذ" من جانب‬

‫‪ .17‬لم يبدأ تفكك الدولة في الصومال دفعة واحدة عقب إنهي ار نظام سياد بري في مطلع تسعينيات القرن الماضي‪ ،‬بل بدأ ذلك منذ وقت مبكر قبل ذلك‬
‫التاريخ‪ ،‬وإرتبط ذلك وإلى حد كبير في تفسير كثير من المهتمين بشئون القرن األفريقي بالسياسات التي إتبعها سياد بري ضد خصومه من إستخدام‬
‫سياسة تسليح القبائل والتي أسماها بالمليشيات الصديقة ـ [الحظ الت شابه بين هذه السياسة وتلك التي إختطها فضل هللا برمة ناصر أيام الديمقراطية‬
‫الثالثة في السودان عندما قام بتسليح المليشيات العربية في جنوب دارفور بدعوى حماية نفسها ضد الحركة الشعبية "التمرد"‪ ،‬وربط ذلك‬
‫باألوضاع التي وصلت إليها دارفور اآلن] ـ وزجها في صراعات مسلحة لصرفها عن معارضة نظامه المتهالك في ذلك الوقت‪ ،‬وعندما سقط سياد‬
‫بري وسقطت معه السلطة المركزية التي تمثل الصفة الرمزية للدولةن أصبحت كل هذه المجموعات تملك المال والسالح ودخلت في صراعات‬
‫دموية فيما بينها‪ ،‬وإتجه كل كيان أو عشيرة لتأسيس دولت ه الخاصة به‪ .‬وعلى الرغم من أن التكوين اإلجتماعي في الصومال متجانس إلى حد كبير‬
‫مقارنة بالسودان‪ ،‬إذ أن جميع الصوماليين يكادون ينحدرون من أصول واحدة ويدينون بدين واحد‪ ،‬إال أن ذلك لم يقف حائالً من الصراع الدموي‪ ،‬ولم‬
‫يحد من اإلندفاع نحو اإلنهيار الكامل للدولة ف يما بعد‪ .‬وهو ما يعزز مقولة أن وحدة اللون أو الجنس أو الدين ال تمنع نشوب الصراعات‪ .‬والمقارنة في‬
‫السودان تجد أساسها في أن نفس السياسات التي قادت إلى إنهيار الدولة في الصومال هي نفسها التي تم إتباعها في السابق والزالت تمارس حتى اآلن‬
‫في السودان مع اإلختالف في التركيبة اإلجتماعية التي ذكرناها للبلدين‪ .‬وبالتالي فإذا كانت الوحدة اإلثنية والدينية لم تمنع اإلنهيار في الصومال فماذا‬
‫سنتوقع في دولة كالسودان تبلغ فيها درجة اإلختالفات اإلثنية والدينية والثقافية مداها األوسع ‪ ،‬ماذا نتوقع أن تكون النتيجة (؟)‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫ثان ‪ ،‬هي السبب الجوهري وراء إستمرار الحرب لفترة طويلة‪ ،‬وفشل أغلب المحاوالت إليجاد تسوية عادلة‬
‫للنزاع‪.‬‬

‫لقد شكلت هذه العالقة العمود الفقري لرؤية وسياسات وآليات الدولة المركزية في السودان في تعاملها مع‬
‫الثورات التي إندلعت ضدها في المناطق المختلفة من البالد(الجنوب‪ ،‬الشرق‪ ،‬الغرب)‪ ،‬سواء في حاالت‬
‫الحرب أو خالل رحالت البحث عن السالم عبر المنابر المختلفة‪ ،‬وأصبحت بذلك ثابتا ً ال يتغير في أجندات‬
‫الحكومات المركزية المختلفة‪ ،‬مهما تفاوتت مواقعها اآليديولوجية‪ .‬لذلك نجد أن نظام الجبهة اإلسالمية وما‬
‫تفرخ منه في السودان نتيجة لإلنقسامات الداخلية‪ ،‬ما هو إال محصلة نهائية‪ ،‬عبرت عن هذه العالقة في أقصى‬
‫صورها عنفاً‪ .‬وبالتالي فإن قضية الحرب والسالم ال يمكن رؤيتها بمعزل عن هذه العالقة‪ ،‬واضعين في ذهننا‬
‫نمط التطور اإلجتماعي‪ ،‬اإلقتصادي والسياسي الذي سارت عبره الدولة السودانية منذ إستقاللها‪ .‬إن كل ذلك‬
‫يتلخص في أن أزمة الدولة السودانية‪ ،‬تكمن في عدم تبلور مشروع وطني ـ إن جاز التعبير ـ نتيجته معادلة‬
‫صراع حاد ما بين مركز مسيطر وهامش يفتقر للتطور على كافة األصعدة‪.‬‬

‫هذه األزمة ليست نتاج سياسات المستعمر أو مؤامرات وأطماع "الصهيونية أو اإلمبريالية العالمية" وحدها‪،‬‬
‫كما درجت الكثير من الرؤى التي دأبت على تعليق كافة المشاكل على شماعة اإلستعمار‪ ،‬والتعامل بنظرية‬
‫المؤامرة‪ .‬صحيح من الزاوية الموضوعية وفي سياق البحث عن جذور اإلشكاليات الوطنية‪ ،‬التعرض للدور‬
‫الذي لعبه اإلستعمار‪ ،‬لكن األكثر صحة منه‪ ،‬عدم القفز فوق دور الحكومات الوطنية التي أعقبت اإلستعمار‬
‫أيضاً‪ ،‬فكلها سلسلة مرتبطة مع بعضها ال تتجزاء‪ .‬لقد خرج المستعمر نعم‪ ،‬لكنه أورث بنية الدولة التي أسسها‬
‫لخدمة مصالحه ألنظمة سياسية حكمت من بعده‪ .‬وليس في السودان وحده‪ ،‬بل الكثير من الدول مرت بهذه‬
‫التجربة‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن التأثير األقوى للصراعات التى نشبت بعد رحيله‪ ،‬هي مسئولية هذه األنظمة الوطنية وليس‬
‫اإلستعمار‪ ،‬قياسا ً على الفترة التي نال فيها السودان إستقالله‪ ،‬والتي تتجاوز النصف قرن من الزمان‪.‬‬
‫وبالمقارنة بالدول اإلفريقية على سبيل المثال‪ ،‬نجد أن كثيراً منها تمكنت من تجاوز اإلشكاليات التي خلفها‬
‫اإلستعمار في بالدها وإنتقلت إلى مرحلة البناء الوطني بفضل أجيالها التي قادت مرحلة التحرر الوطني وما‬
‫بعدها‪ .‬على العكس من السودان‪ ،‬الذي وبدالً من أن تعمل القوى الوطنية فيه على إعادة هيكلة الدولة ـ كما في‬
‫معظم بالد العالم الثالث التي نالت إستقاللها ـ لتخدم األهداف الوطنية التي تعزز الوحدة والتقدم‪ ،‬حافظت على‬
‫على نفس البني والهياكل‪ ،‬ال وبل وظفتها لمصالحها الخاصة‪.‬‬

‫علي هذه الخلفية فإن أي إتفاقيات سالم ألي نزاعات ال تعالج جذور الصراعات المتمثلة في التناقض الناشئ‬
‫من سيادة عالقات السيطرة واإلستحواذ‪ ،‬والقراءة المتحيزة للتاريخ‪ ،‬ال يمكن اإلعتماد عليها لتحقيق إستقرار‬
‫دائم‪ ،‬وال تعدو كونها مرحلة إنتقالية لجوالت قادمة تعيد إنتاج نفس األزمات‪ .‬لذلك فإن النقد الذي تم توجيهه‬
‫إلتفاقية السالم الشامل (‪ ،)CPA‬وما تبعها من إتفاقيات (أبوجا‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الشرق) يستند على مقولة أنها‬
‫جميعها لم تتعرض جميعها لهذه الجذور‪ .‬ومهما يكن من أمر‪ ،‬فهذه قراءة تعوزوها الموضوعية وال يمكن‬
‫األخذ بها على إطالقها‪ .‬فإن كان الزما ً وضروريا ً إعادة تقييم هذه اإلتفاقيات‪ ،‬فإن ذلك يجب أن يتم من زاوية‬
‫مختلفة تماما ً‪ ،‬نعم؛ جميعها ناقشت قضايا قسمة الثروة والسلطة ـ كحجر أساس إلعادة التوازن إلختالل التنمية‬
‫ما بين المركز والهامش ـ بين الحكومة وخصومها‪ ،‬ومهما إختلفت موازنات التقسيم التي نتجت ما بين‬
‫الفرقاء‪ ،‬فإنها تظل محكومة بعامل "الضعف المتبادل" الذي أوصل األطراف جميعها إلى طاولة المفاوضات‪،‬‬
‫إضافة إلى شروط المفاوضات نفسها‪ ،‬والتي تمت تحت ظروف الضغوط الدولية واإلقليمية‪ .‬وبالتالي فالمهم‬
‫ليس محتويات اإلتفاقيات‪ ،‬بل مدي قدرتها‪ ،‬إضافة إلى آلياتها‪ ،‬على تحقيق التحول من وضعية تاريخية‬
‫مأزومة‪ ،‬إلى دولة تحقق المشاركة العادلة للجميع‪ .‬ويمكن القول بسهولة اآلن أن هذه قضية لم تضعها هذه‬

‫‪15‬‬
‫اإلتفاقيات في حساباتها‪ ،‬والمحصلة النهائية إنها تتعرض اآلن ـ وبدرجات متفاوتة وتحت مبررات مختلفة ـ‬
‫للتآكل وخطر اإلنهيار‪.‬‬

‫إن األسباب التي تبدو لنا معقولة هي أن اإلشكالية ال تكمن في المحتوى لهذه اإلتفاقيات كما ذكرنا بقدرما‬
‫في الطريقة والمنهجية التي تمت بها‪ .‬والمدخل لذلك في المالحظة الهامة التي أبدتها كثير من القوى‬
‫السياسية‪ ،‬ولكنها لم تكن بالوضوح والقوة الكافيتين لتحقيق موقف سياسي مؤثر حيال مسيرة السالم‪ .‬فهذه‬
‫كل على حدة‪ ،‬على الرغم من أن جميع هؤالء الخصوم‬ ‫اإلتفاقيات جميعها تمت ما بين الحكومة وخصومها ٍ‬
‫تجمهم ـ في أغلب الحاالت ـ قواسم مشتركة‪ ،‬أدناها خلق التحول الديمقراطي في السودان على حساب نظام‬
‫المؤتمر الوطني الحاكم‪ .‬هذه النقطة بالذات هي التي أكسبت النظام القوة والشرعية واإلستمرارية‪ ،‬تأسيسا ً‬
‫على الحقيقة القائلة بأن الجهة الواحدة التي تربط نفسها بإتفاقيات متعددة مع جهات مختلفة‪ ،‬هي التي تكسب‬
‫في الموازنة النهائية‪ .‬على العكس تماما ً من الصورة المتخيلة التي كان من الممكن أن يقوم فيها إتفاق واحد‬
‫بين المؤتمر الوطني وخصومه جميعا ً‪ ،‬ألن ذلك كان وبالضرورة لن يفرز النسب الحالية لقسمة السلطة‬
‫والثروة‪ ،‬ومهما كان الناتج‪ ،‬فإن درجة تأثيره على الحراك السياسي اليومي في السودان كان سيكون مختلفا ً‬
‫عن الشكل الحالي‪ .‬بإختصار شديد إن هذه اإلتفاقيات المتعددة إتاحت للمؤتمر الوطني درجة كبيرة للمناورة‬
‫واللعب على التناقضات المختلفة للقوى التي وقعت على هذه اإلتفاقيات معه بحيث مكنته من تقوية نفسه على‬
‫عدة أصعدة‪ ،‬أهما على اإلطالق أنها ـ أي هذه اإلتفاقيات ـ ومن ناحية قانونية وسياسية وفرت له اإلستمرارية‬
‫بقوة الضمانات اإلقليمية والدولية التي تقف من خلفها‪ ،‬وهي صورة معكوسة تماما ً بالنسبة لكل الذين سعوا‬
‫لهذه اإلتفاقيات‪ ،‬بما فيهم المجتمع الدولي نفسه‪ ،‬فكل الذين عملوا على الحصول على هذه الضمانات لتأمين‬
‫تنفيذ هذه اإلتفاقيات‪ ،‬تكشف لهم اآلن أنها في الواقع لم تكن سوى ضمانات حققت إستمرارية للنظام بذات‬
‫القدر الذي أمن لهم نصيب من سراب في السلطة والثروة (يسيطر عليه المؤتمر الوطني ال هم)‪ ،‬وبالتالي‬
‫هزموا مشروع التحول الديمقراطي في داخلهم أوالً منذ البداية بقبولهم بمشاركة متعددة المنافذ والسقوف مع‬
‫نظام المؤتمر الوطني‪ ،‬أتاحت لألخير اليد العليا في الدولة ولهم اليد السفلى‪ .‬وقد إنتبه لذلك في أخريات أيامه ـ‬
‫وقبل أن يجف مداد توقيعه على إتفاقية السالم الشامل ـ الراحل د‪ .‬جون قرنق ديمابيور رئيس الحركة الشعبية‬
‫ولخصه بقوله "‪."The NIF cannot be reformed, it should be removed‬‬

‫هذا المشهد وعلى الرغم من تفاؤل الكثيرين به إستناداً على أن إتفاقيات السالم التي وقعت بين الحكومة‬
‫وخصومها حققت قدر من التحول أو مساحة من الحريات قد تمكن من إحداث التغيير ـ كما يطلق عليها‬
‫البعض ـ أمر تدلل شواهد عديدة على أنه كان قراءة غير واقعية لألمور‪ .‬فنيفاشا وغيرها أوقفت الحرب؛‬
‫نعم‪ ،‬لكنها لم تصنع السالم ولم تغير كثيراً من معادالت السلطة أو تقلل بدرجة ملحوظة من قوة قبضة‬
‫المؤتمر الوطني على مقاليد األمور‪ .‬ويعزى كل ذلك إلى األسس التي قامت عليها نيفاشا وماتالها والطرق‬
‫التي تمت بها‪:‬‬

‫الـ (‪ )CPA‬والتناقضات األساسية‪:‬‬


‫ً‬
‫الوصول إلى محطة إتفاقية نيفاشا لعبت فيه عناصر متباينة أدوارا مختلفة ومؤثرة‪ ،‬أهمها العامل الخارجي‪،‬‬
‫من خالل الضغوط التي مورست على طرفي النزاع للتوصل إلى تسوية‪ ،‬والقبول بواقع نظامين سياسيين‬
‫داخل إطار دولة واحدة كثمن لوقف اإلقتتال‪ .‬والمالحظة الجديرة بالتدوين هنا وبالرجوع إلى بدايات إندالع‬
‫الحرب األهلية الثانية في الجنوب في منتصف ثمانينيات القرن الماضي‪ ،‬فقد كانت جل مطالب الحركة الشعبية‬
‫لتحرير السودان آنذاك لتحقيق السالم‪ ،‬تتمثل في إعادة هكيلة الدولة السودانية من جديد بحيث تتمكن من إعادة‬
‫التوازن ما بين المركز واألطراف بعدالة في توزيع الثروة والسطة‪ ،‬ولم تطرح أو تتبنى حينها حق تقرير‬
‫المصير أو خيار نظامين في دولة واحدة كمخرج لألزمة كما أفرزته نيفاشا‪ ،‬وكان بإمكان الحكومة‬

‫‪16‬‬
‫الديمقراطية في ذلك الحين قبول هذا الطرح وتجنيب الدولة خطر تمدد النزاع وإتساع رقعته‪ .‬إن ذلك يظهر‬
‫لنا حقيقة العالقة الجدلية ما بين إزدياد حدة األزمة وإتساع رقعتها الجغرافية واإلجتماعية‪ ،‬مقابل إرتفاع سقف‬
‫المطالب السياسية‪ .‬فبالقدر الذي تزداد في هذه الحدة على صعيد المواجهة المسلحة واإلقصاء السياسي‪ ،‬ترتفع‬
‫سقوف المطالبة بالحقوق المهضومة حتى تصل في أقصي مراحلها إلى المطالبة باإلنفصال‪.‬‬
‫عليه؛ فإن الحقيقة التي ال مناص منها إن اإلتفاق ومن حيث المبدأ لم يكن نتاج إرادة سياسية للطرفين في‬
‫الجلوس إلى طاولة التفاوض‪ ،‬بقدرما كان ذلك مفروضا ً عليهما بفعل عوامل عديدة أهمها‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬عامل داخلي متعلق بوصول الطرفين إلى قناعة عدم قدرة أي منهما على هزيمة اآلخر من الناحية‬
‫العسكرية "توازن الضعف المتبادل"‪.‬‬

‫ثانيا‪ ً:‬عامل خارجي مرتبط بتدخل المجتمع الدولي واإلقليمي لفض نزاع هو األطول عمراً في أفريقيا لمصالح‬
‫قد ال تتفق مع أطراف النزاع‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬إرتباط إتفاقية السالم الشامل في الكثير من بنودها المعلنة والسرية بشخصية د‪ .‬جون قرنق والتي مثلت‬
‫محور إرتكاز إنبنى على فرضية بقائه لتنفيذه‪ ،‬وعندما رحل في مالبسات غامضة‪ ،‬تأثرت عمليات التنفيذ‪.‬‬
‫ومهما حاولنا التقليل من شأن ذلك فإنه أمر يواجه المتابع للساحة السودانية كل يوم‪.‬‬

‫هذه العوامل مجتمعة هي التي شكلت األساس الذي إنطلقت منه كافة الصعوبات التي واجهتها وتواجهها‬
‫اإلتفاقية خالل فترة المفاوضات واآلن في مراحل التنفيذ‪ .‬وبالتالي؛ جاء اإلتفاق وهو يحمل معه تناقض‬
‫أساسي‪ ،‬ينطلق من أن نظرة ورغبة الطرفين متعارضة حيال السالم‪ .‬فالمؤتمر الوطني يريد سالم ونظام‬
‫سـياسي مستقر‪ ،‬لكن وفقا ً لما يحقق له السيطرة على مفاصل الدولة‪ ،‬وبشراكة مع الحركة الشعبية ال تتصادم‬
‫مع هذا الهدف‪ .‬بينما الحركة تريد أن تحقق التغيير نحو سودان جديد عبر هذه الشراكة وبنود اتفاق السالم‬
‫على أقل تقدير‪ .‬وقد كان ذلك واضحا ً للعيان ومنذ وقت مبكر‪ ،‬من خالل الصعوبات التي واجهت تفاصيل‬
‫اإلتفاق‪ ،‬وهي ذات القضايا التي هي اليوم مصدر للخالفات في حكومة الوحدة الوطنية‪ .‬عليه؛ يبدو أن النتيجة‬
‫بعد عامين من التوقيع غيري مشجعة‪ ،‬وتشير مظاهر مختلفة على دخول اإلتفاق إلى نفق مظلم‪ ،‬يهدد‬
‫بإنهياره‪ ،‬والذي قد تستتبعه وضعية من الصعب التهكن بها‪ ،‬لكنها لن تكون بأي حال من األحوال بأفضل من‬
‫الراهن‪.‬‬

‫وإجماالً وبحصر نتائج إتفاقيات السالم التي تمت خالل الفترة الماضية(نيفاشا‪ ،‬أبوجا‪ ،‬القاهرة‪ ،‬وأخيراً إتفاقية‬
‫سالم الشرق) فإن الحصيلة التي يمكن إستنتاجها هي‪ ،‬أن الحرب أوقفت ولكن لم يتحقق السالم‪ .‬ومما يقوي‬
‫من هذه الفرضية‪ ،‬تصاعد درجة اإلحتقان السياسي نتيجة لسلوك الحزب الحاكم حتى بعد التوقيع على هذه‬
‫اإلتفاقيات‪ .‬مما يضع البالد مرة أخرى على أول عتبات إعادة دورة الصراع من جديد في أحسن الفروض‪.‬‬
‫وعلى ضوء ذلك يواجهنا السؤال األساسي‪ :‬إلى أين تمضي األقدار بالدولة السودانية(؟) الكل يجمع على أنها‬
‫مرحلة جد خطير‪ ،‬وأن السودان يقف على حافة إنهيار الدولة‪ ،‬لكن ال أحد يحرك ساكناً‪ .‬فما هو المخرج(؟)‬

‫رهانات التغيير الصعبة‪:‬‬


‫‪ .1‬خيار التحول الديمقراطي النمطي ‪:Systematic Democratic Transformation‬‬
‫يراهن الكثيرين على فضاء التحول الديمقراطي الذي فتحت مجاله إتفاقية السالم الشامل بإعتباره أداة لهزيمة‬
‫المؤتمر الوطني وإقصاؤه من السلطة عبر صناديق اإلقتراع‪ ،‬ومن ثم اإلنطالق نحو إعادة التأسيس للدولة‬

‫‪17‬‬
‫السودانية من جديد‪ .‬فهل باإلمكان تحقيق هذا الرهان (؟؟)‪ .‬هناك حقائق بديهية البد من وضعها في الذهن قبل‬
‫المضي قدما ً مع هذه الفرضية لمعرفة ما إذا كان باإلمكان تحقيق ذلك أم ال‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬المؤتمر الوطني يملك رصيد في ممارسة الحكم يبلغ األن أكثر من خمسة عشر عاماً‪ ،‬راكم خاللها ـ‬
‫وبالضرورة ـ تجربة سياسية مكنته من أن يبني قواعد إرتبطت به عضويا ً بمصالح مادية مباشرة‪ .‬وبالتالي‬
‫فإن الصراع الديمقراطي معه لن يكون باألمر السهل المنال‪ .‬في المقابل نجد القوى السياسية األخرى‪ ،‬والتي‬
‫كانت وطوال تلك الفترة إما كانت تمارس العمل العسكري من خلف الحدود أو العمل السياسي السري تحت‬
‫األرض‪ ،‬وخرجت إلى فضاء التحول الديمقراطي الذي وفرته اإلتفاقيات المتتالية وهي منهكة تنظيميا ً ومتخلفة‬
‫سياسيا ً عن واقع الحال في السودان خالل الـ ‪ 16‬عاما ً الماضية‪ ،‬وهذه فترة ليست بالقصيرة نمت خاللها‬
‫أجيال فاقدة للذاكرة الوطنية‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬سيطرة المؤتمر الوطني على مفاصل الدولة أتاحت له إمتالك الثروة‪ ،‬عززت من ذلك عائدات البترول‪،‬‬
‫وحتى الكثير من القوى السياسية اآلن تجأر بالشكوى من التضييق الذي يمارسه المؤتمر الوطني على منافذ‬
‫دخولها وإستثماراتها مقابل الثراء الواضح للحزب الحاكم‪ .‬عليه؛ فإن قدرات الطرفين غير متكافئة على صعيد‬
‫اإلمكانيات المادية‪ ،‬وهو عامل يؤثر بدرجة كبيرة على القدرة التنافسية لألحزاب في المعارك اإلنتخابية‪.‬‬
‫واليقف األمر عند المستوى الفوقي للسلطة‪ ،‬بل يتعمق في قاعدة المجتمع‪ .‬فقد خلق المؤتمر الوطني شرائح‬
‫منتفعة من موارد ومقدرات الدولة‪ ،‬تمتد من أعلى قمة الهرم السياسي إلى أدنى المستويات‪ ،‬تملك وتدير‬
‫رؤوس أموال ضخمة تغذيها عائدات البترول‪ ،‬وهي ال تشبه الطبقة أو البطانة "الرأسمالية" التي كانت تحيط‬
‫بالنميري وتعيش على إستحالب رؤوس األموال من الفساد في دولة هي أصالً ضعيفة وفقيرة‪ .‬وبالقدر الذي‬
‫تتضخم فيه هذه الثروة في أيدي هذه الشريحة الطفيلية‪ ،‬يقوى إرتباطها العضوي بجهازها الحاكم (المؤتمر‬
‫الوطني)‪ ،‬مما يتيح لها توسيع قاعدتها الجماهيرية بإستثمار هذه األموال الضخمة عبر الفساد وشراء الذمم‬
‫لتثبيت أركان النظام السياسي الذي يدعم مصالحها‪ .‬عليه؛ فإن المواجهة السياسية عبر صناديق اإلقتراع‬
‫لهزيمة المؤتمر الوطني ستصطدم بهذا الواقع ولن يكون من السهل إقصاؤه طالما ظل هو المتحكم في إقتصاد‬
‫الدولة‪ ،‬ويدير هذه الشبكة الطفيلية المنتفعة من وجوده وإستمراريته‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬الظروف الدولية واإلقليمية لم تعد كما كما كانت في الماضي‪ ،‬وإن كان في عقد الثمانينيات من القرن‬
‫الماضي باإلمكان التحرك في هامش التناقضات بين القطبين الكبيرين لتأمين قدر كافي من موازنة للضغوط‬
‫وتوفير المقدرات المادية‪ ،‬فإن ذلك اآلن أصبح أمراً غير ممكن وقد وصل هذا الهامش إلى حده األدنى‪،‬‬
‫وبالتالي فإن أي خيارات ستجد نفسها قد تتصادم مع المصالح الدولية واإلقليمية هذه‪.‬‬

‫عليه؛ وفي أي تقدير للتوقعات السياسية بالسودان في إطار التغيير عبر الممارسة الديمقراطية يصبح من المهم‬
‫جداً إستصحاب هذه العوامل‪ .‬وهنا تنفتح إحتماالت عديدة منها‪:‬‬
‫‪ .1‬ما يرى إن المؤتمر الوطني سيخوض اإلنتخابات خالل منتصف الفترة اإلنتقالية حسبما هو مقرر في‬
‫اإلتفاق وسيكسب هذه اإلنتخابات‪ ،‬لكنه سيعمل على عدم الوصول إلى نقطة اإلستفتاء على حق تقرير‬
‫المصير إستناداً على العوامل الثالثة المذكورة آنفاً‪ .‬دافعه‪ :‬تقنين شرعيته السياسية التي إكتسبها من‬
‫اإلتفاق عبر صناديق اإلقتراع فيما يتعلق بمسألة بقائه على السلطة‪ .‬أسبابه‪ :‬قطع الطريق أمام اإلستفتاء‬
‫إلبقاء الجنوب ضمن إطار الدولة السودانية واإلستفادة من مداخيل البترول في تمويل الدولة والحزب‪.‬‬
‫وهو األمر الذي قد يدفع بالحركة السياسية في الجنوب في اإلتجاه المعاكس حتى نقطة إعالن اإلستقالل‬
‫من جانب واحد (‪ ،)UDI‬فيما يشبه وضعية نظام إيان سميث في ردويسيا العنصرية (سابقاً)‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫‪ .2‬رأى آخر ال يتفق مع هذه الفرضية‪ ،‬تأسيسا ً على أن هناك تيار قوي وقريب من السلطة يراهن ويعمل‬
‫على إنفصال الجنوب عن الشمال(تيار الطيب مصطفى‪/‬عبدالرحيم حمدي)‪ ،‬والذي من مصلحته وضع‬
‫العراقيل في طريق الوصول إلى إإلنتخابات‪ ،‬لكنه قد يقبل باإلستفتاء لتحقيق هدفه‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫‪ .3‬ورأي ثالث يعتقد أن كال الوضعتين قد ال تحدث وأن المؤتمر الوطني سيحقق إنتصارا ساحقا على الحركة‬
‫الشعبية في عقر دارها لتغيير المعادلة السياسية في الجنوب لصالحه كخطوة أولى للتحكم بصورة أو‬
‫أخرى في سير ونتيجة اإلستفتاء على حق تقرير المصير‪ .‬وهو ما قد يعقد األوضاع بالجنوب ويفتح أيضا ً‬
‫إتجاه إعالن اإلستقالل من جانب واحد أو إندالع الحرب مرة أخرى‪.‬‬

‫لذلك فإن رهان هزيمة المؤتمر الوطني عبر صناديق اإلقتراع هو أمر ـ على أقل تقدير ـ يصعب تحقيقه خالل‬
‫الوقت الحاضر‪ ،‬ما لم تتدخل عوامل أخرى‪ ،‬مثل تطور األوضاع في دارفور على صعيد المواجهة والتدخل‬
‫الدولي‪ ،‬أو تزايد حدة الصراعات داخل الحزب الحاكم بين األجنحة المختلفة ووصولها إلى نقطة الالعودة‬
‫والمواجهة‪ .‬وكال الحالتين ستضعفان المؤتمر الوطني‪.‬‬

‫‪ .2‬خيار الفوضي الخالقة أو الالنهائية ‪:Option of the Creative or Infinite Mess‬‬


‫يفرض هذا الخيار نفسه بناء على إعتبارات عديدة تمثل واقعا ً يتحرك على األرض‪ .‬فالرؤية الشاملة للمسرح‬
‫السياسي تجعل من هذا اإلحتمال أمراً ممكن الحدوث‪ .‬فإذا وضعنا عناصر األزمة التي تحيط بالدولة من كل‬
‫جانب‪ ،‬فإننا قد نرى فوضى ال مثيل لها‪ ،‬قد تكون إحدى نتائجها الممكنة تغيير النظام الحاكم‪ ،‬بصرف النظر‬
‫عن التركيبة التي ستخلفه‪ .‬إذاً فلنضع هذه العناصر على الطاولة‪:‬‬
‫أ‪ .‬أزمة دارفور بوجوهها المختلفة حتما ً ستؤثر على النظام وتركيبته‪ ،‬فهناك الواقع الميداني الذي في‬
‫غير صالحه‪ ،‬تطورات ملف المتهمين في جرائم ضد اإلنسانية في اإلقليم وما قد يفرزه ذلك من‬
‫صراعات داخل النظام الحاكم نفسه‪ ،‬المفاوضات بينه وبين العناصر الرافضة على التوقيع على‬
‫إتفاقية أبوجا وماقد تنتجه من أزمة باإلقليم في حال التوصل لتسوية‪ ،‬تأثير خالفاته اإلقليمية مع تشاد‬
‫وتلك الغير معلن عنها بينه وبين ليبيا حليفته القديمة‪ .‬كل هذه القضايا وعلى صعيد أزمة دارفور تظل‬
‫قنابل موقوتة للنظام مهما كانت نتائجها‪.‬‬
‫ب‪ .‬إحتدام الصراع الداخلي في المؤتمر الوطني سواء نتيجة لتفاقم أزمته مع المجتمع الدولي أو اإلقليمي‬
‫بسبب ملف دارفور‪ ،‬أو لعوامل أخرى مرتبطة بتصفية حسابات قديمة بين أجنحة الحركة اإلسالمية‪،‬‬
‫أو لمصالح مادية تدفعها من الخلف مظاهر شبح إنهيار الدولة‪ .‬هذه كلها عوامل دفعت بدوائر مراقبة‬
‫لتطور الصراع داخل الحزب الحاكم للتنبوء بإحتمال لجوئه إلى إحداث تغيير في شكل النظام عبر‬
‫إنقالب مدروس‪.‬‬
‫ج‪ .‬تفاقم أزمة الشريكين في حكومة الوحدة الوطنية مربوط بقوة دفع الصراعات داخل الحركة الشعبية‬
‫مابين تياري الوحدة على أسس جديدة والقوميين الجنوبيين والتي من نتائجها إنها قد تضع الجنوب‬
‫على عتبة التصويت لإلنفصال‪ ،‬مقللة بذلك من فعالية الحركة الشعبية السياسية في التصدي ومواجهة‬
‫المؤتمر الوطني خالل الفترة حتى الوصول لمحطة اإلستفتاء على حق تقرير المصير‪.‬‬
‫د‪ .‬إنهيار إتفاقية سالم الشرق نتيجة لضعف جبهة الشرق وتمزقها األمر الذي قد يفتح الباب من جديد‬
‫لعودة عدم اإلستقرار لشرق السودان بصورة من الصور‪.‬‬
‫هـ‪ .‬بروز تحالفات جديدة في المركز تفكر في وراثة تركة المؤتمر الوطني‪ .‬فإذا قرنا ذلك بفشل تجربة‬
‫التجمع الوطني الديمقراطي‪ ،‬فإن الباب أمام هذا الخيار يظل مشرعا ً خاصة وأن هناك قوى تتحرك‬
‫في هذا اإلتجاه سواء بتعاون مع المؤتمر الشعبي وحزب األمة أو بدونهما‪ ،‬لكن في كال األحوال فإن‬
‫هذا التيار يظل موجوداً حتى ولو على المستوى النظري‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫و‪ .‬هناك حالة تتشكل إفتراضيا ً وهي أن تتحالف قوى اإلسالم السياسي جميعها أو أجزاء منها بما فيها‬
‫المؤتمر الوطني‪ ،‬على خلفية التهديد بإنهيار الحكومة نتيجة لتطور ملف دارفور لدى محكمة الجنايات‬
‫الدولية ومجلس األمن‪ .‬وهي حالة تستند في قراءتها علىى أن الخاسر من ذلك هي "الحركة‬
‫اإلسالمية" بشكل عام وهوما قد يقسم حكومة الوحدة الوطنية إلى شطرين‪ ،‬تيارات اإلسالم السياسي‬
‫مع المؤتمر الوطني في مواجهة الحركة الشعبية وحلفائها‪ ،‬وإحدى النتائج إنهيار إتفاقية االسالم‬
‫والعودة مرة أخرى لمربع الحرب‪.‬‬

‫هذه الخيارات التي تقع تحت رؤية الفوضى الخالقة أو الالنهائية‪ ،‬وفي واقع العمل السياسي من الصعوبة‬
‫بمكان ترتيبها حتى يمكن التقرير بأن األوفر حظا ً للحدوث‪ ،‬وقدم يتقدم خيار على باقي المجموعة نتيجة‬
‫لمتغيرات محددة‪ ،‬أو قد تحصل جميعها بشكل متزامن‪ ،‬وفي هذه الحالة فإنها تخلق وضعية الفوضي الخالقة‬
‫التي نتحدث عنها ويحصل التغيير بواقع ضغط التأثير المتزامن لكل هذه العناصر‪ ،‬والذي أما أن يكون بشكل‬
‫إيجابي نحو إعادة التأسيس للدولة السودانية أو الدخول في الفوضى الالنهائية فيما هو أشبه بالحالة الصومالية‪.‬‬

‫‪ .3‬خيار التدخل الدولي‪:‬‬


‫هناك مؤشرات عديدة تزكي إحتمال تدخل المجتمع الدولي بأي صورة من الصور‪ ،‬وتقف خلف ذلك دوافع‬
‫ومصالح إقليمية ودولية‪ .‬فإنهيار دولة كالسودان ليس باإلمر الذي تقف نتائجه على حدوده فحسب‪ ،‬بل له‬
‫تداعياته على جميع دول الجوار سواء في منظومة القرن اإلفريقي أو وسط وغرب أفريقيا أو الشمال اإلفريقي‬
‫والعالم العربي‪ .‬وهو ما يهدد اإلستقرار األمني على الصعيد اإلقليمي والدولي‪ .‬وبالتالي يصبح التدخل الدولي‬
‫أمر وارد‪ ،‬وتؤكد على ذلك تصريحات كثيرة من القوى السياسية السودانية نفسها مرحبة بهذا التدخل إن كان‬
‫ثمنه حفظ السودان من خطر التمزق‪.‬‬
‫مركز الدراسات السودانية ‪2007‬‬

‫‪20‬‬

You might also like