Professional Documents
Culture Documents
Tribes
Tribes
إن مصير بقاء السودان كدولة موحدة كما ورثناها عشية اإلستقالل أصبح أمراً مشكوكا ً فيه .تأتي هذه المقولة
تأسيسا ً على أرضية الحرب األهلية طويلة األمد التي عصفت بالدولة ومزقت نسيجها اإلجتماعي .إن السودان
يمر بأزمة حقيقية ويواجه شبح التمزق ،وهذا األمر لم يعد خافيا ً على أحد ،ويتردد صداه في كل موقع .وبعيداً
عن السجال ،فإن األمر يتطلب دراسة جد عميقة ،تلفت اإلنتباه إلى خطورة هذه المرحلة .هذا المصير المشئوم
كان ـ ومازال ـ نتاج سياسات إنبنت على أسس من التعصب والتطرف واإلقصاء ،مستمدة من آيديولوجية
دينية ال تعترف باآلخر ،تتجاوز حدود الزمان والمكان وتلغي التاريخ .عمودها الفقري عالقات القربي والدم
1
والتكتالت العشائرية حتى على مستوى السلطة الحاكمة نفسها ،تشهد على ذلك "صراعات القبائل اإلسالمية"
الخفية في الخرطوم.
في تقديرنا إن ذلك اليجد أساسه في التقلبات التي تعصف بسماء األحوال السياسية في السودان ،فهي وعلى
الرغم من أهميتها ،ليست سوى مظاهر لألزمة العميقة الكائنة في أسس التفكير التي تقود العملية السياسية من
جانب ،تأثير الثقافة السائدة ودرجة تطور المجتمع من جانب آخر .هذه العوامل مثلت األساس الذي إنطلقت
منه ـ وال زالت ـ الممارسة السياسية في السودان ،فكان طبيعيا ً جداً إن تندلع النزاعات هنا وهناك بحثا ً عن
إعادة صياغة لهذه األسس بما يتوافق مع واقع التعدد ،ويحقق درجة مقبولة من التعايش واإلستقرار بين
الكيانات اإلجتماعية المختلفة في السودان.
إن إستيالء حركات اإلسالم السياسي إلى السلطة في 1989ومسيرتها المستمرة في الحكم حتى اليوم ،تقف
كنقطة فارقة في تاريخ السودان السياسي المعاصر ألن أهم مظاهرها أنها دفعت باألزمة إلى نهاياتها
القصوي ،وكشفت ـ بصراحة قلما تحدث في الممارسة السياسية ـ عن حقيقة التناقض وبعد المسافة ،مابين
طرق التفكير واآلليات التي مارست الفعل السياسي وحكمت في السودان ،وبين الواقع الموضوعي فيه ،والتي
أفضت إلى اإلقصاء والتهميش ،ومن ثم النزاعات الدموية.
.1قد يفهم من مدلول"القبائل اإلسالمية" إشارة إلى ما هو أقرب إلصطالح الفرق اإلسالمية التي نشأت في التاريخ اإلسالمي أو تعدد المذاهب أو ما
يطلق عليه التيارات اإلسالمية ،على أنه حديثا ً يستضمر درجة من الحط .لكن في الواقع المعني هو خالف ذلك .فهذه التسمية مستلفة من مقولة
"صراع القبائل الماركسية في اليمن" والذي أطلق عقب النزاعات الدموية بين التيارات الماركسية التي حكمت اليمن الجنوبي سابقاً .والتي وعلى
الرغم من التوجهات اإلشتراكية التي كانت ترفعها أطراف الصراع ،غير أنه في الواقع كانت حرب قبائل بمعنى الكلمة ،إذ لم تكن الماركسية سوى
قناع تمت به تغطية الشعور واإلنتماء القبلي الذي كان يغذي حقيقة النزاع .ونجد أن الحال هو نفسه في السودان ،فالصراع الخفي الذي يدور في أعلى
قمة هرم السلطة وداخل تيار الحركة اإلسالمية المستحوذ عليها(المؤتمر االوطني) هو اليوم صراع قبائل بين من يقفون خلف البشير "جعلية ساكت"
وآخرين مع علي عثمان بدافع "شايقيتهم" ،وتتسع الدائرة لشمل آخرين على نفس شاكلة التحالفات القبلية التي كانت في الجزيرة العربية قديماً .ويتم
اإلستقطاب واإلستحواذ على الثروة والمناصب وتوزيعها على هذا األساس .ومسألة المشروع الحضاري وغيرها من المصطلحات التي بدأت بها دولة
اإلنقاذ عهدها ،أصبحت اآلن من مخلفات الماضي ،ألنها في الواقع لم تكن سوى قناع أخفى خلفه النزاعات العرقية والبحث عن المغانم إزاحت الستار
عنه حدة التناقضات التي تعصف بالدولة من أقصاها إلى أدناها.
1
خلفية نظرية:
من المهم البدء بمعرفة درجة تطور المجتمع في السودان كإحدى المداخل الهامة في تحليل األزمة ورؤية
أبعادها ،ألن طبيعة العالقات والروابط السياسية في أي مجتمع تتحدد بمدى درجة تطوره .ومن ثم تأتي
مناقشة دور "الشريحة المسيطرة" 2فيه ،والمعني بالشريحة المسيطرة ،تلك التي ظلت مهيمنة وممسكة بمقاليد
السلطة والنفوذ منذ اإلستقالل وحتى يومنا هذا ،وهم في هذه الحالة حاملي الوعي بالثقافة العربية ،إال هو
مجتمع الوسط ،والذي تجلي في أقصى صوره في تيار الحركة اإلسالمية الحاكم اليوم بكل تفريعاته .وليس
هناك ثمة إختالف جوهري مابين الحركات أو التيارات التي تصدر في رأيها من منطلق إسالمي مهما كانت
تدرجات ألوانه ،ألنه في نهاية التحليل إختالف كمي وليس نوعي.
يطلق على المجتمعات التي لم تتطور بعد إلى مرحلة الرأسمالية ،بالمجتمعات "السابقة للرأسمالية"Pre- ،
” ،"Capitalistic Societiesوالتي تقع دول العالم الثالث في أفريقيا وآسيا ضمن نطاقها .ويأتي هذا
التصنيف نتيجة للكثير من الدراسات التي قام بها بعض اإلشتراكيين على ظاهرة عرفت بـ (نمط اإلنتا
اآلسيوي) .Asian Mode of Productionينطلق ريجس دوبري في قراءته لهذه المجتمعات ،من
مناقشته لمسألة العالقة بين الروابط السياسية وما يؤسسها في المجتمع ،فيقرر ،وخالفا ً للماركسية "الرسمية" :
"إن العالقات السياسية ليست إنعكاسا ً لقاعدة إقتصادية وال هي "اإلقتصاد المكثف" كما يقول لينين ،وال هي
تجد تفسيرها في األشكال التي تظهر فيها نفسها بنفسها .وتفسير هذه المقولة هي أن الظاهرة السياسية ـ في
مثل هذه المجتمعات ـ ال يؤسسها وعي الناس ،آراؤهم وطموحاتهم ،وال ما يؤسس هذا الوعي نفسه من
عالقات إجتماعية ومصالح طبقية ،بل إنما تجد دوافعها فيما يطلق عليه إسم "الالشعور السياسي" والذي هو
عبارة عن بنية قوامها عالقات مادية جمعية تمارس على األفراد والجماعات ضغطا ً اليقاوم ،عالقات من نوع
العالقات القبلية والعشائرية والعالقات الطائفية والعالقات المذهبية والحزبية الضيقة ،التي تستمد قوتها المادية
الضاغطة القسرية ،مما تقيمه من ترابطات بين الناس تؤطر ما يقوم بينهم ،بفعل العالقات نفسها من نعرة
تناصر أو فرقة وتنافر ،وهذه البنية من العالقات الالشعورية تبقى قائمة فاعلة رغم ما قد تتعرض له البنية
الفوقية في المجتمع من تغييرات نتيجة التطور الذي يحدث للبنية التحتية المقابلة لها ،فهي ليست جزءاً من
تلك ،وبالتالي فهي ال تخضع لهذه بل لها وجودها الخاص المستقل عن البنيتين معاً :فالنعرة القبلية العشائرية
والتعصب الطائفي والطموح إلى الحصول على المغانم ،ظواهر تبقى نشطة أو كامنة ،في كيان الجماعات،
سواء إن كان أفرادها يعيشون في مجتمع إقطاعي أو رأسمالي أو إشتراكي"[.3التشديد من الكاتب]
هذه مقولة مفتاحية ،وبالتالي ،واضعين في ذهننا أن دوبري كان حينذاك يكتب وهو يفكر في المجتمع
األوروبي المصنع ،الذي أصبحت فيه العالقات اإلجتماعية التي من نوع العالقات العشائرية ،تحتل مكانا ً يقع
فعالً خلف الموقع الذي تحتله العالقات اإلقتصادية المتطورة( ،عالقات اإلنتاج) ،إال أن في المجتمعات السابقة
للرأسمالية العربية قديمها وحديثها (والتي من ضمنها بالطبع المجتمع في السودان) فاألمر يكاد يكون العكس
من ذلك تماماً .فالعالقات اإلجتماعية ذات الطابع العشائري ال تزال تحتل موقعا ً أساسيا ً وصريحا ً في الحياة
السياسية .فإذا كانت وظيفة الالشعور السياسي لدي دوبري عند دراسته للمجتمع األوروبي هي إبراز ما هو
.2إن شئنا الدقة فإن اإلصطالح الواجب أخذه هو "الشريحة المهيمنة " ،لكن ذلك يقربنا من المفهوم الماركسي (البنية المهيمنة) ،وهو الشئ الذي قد
يخلق نوع من اللبس ،ألن مفهوم (البنية المهينة) ينطبق على المجتمعات الرأسمالية ،والتي تتحرك هنا وفقا ً لما تحدده مصالحها اإلقتصادية .بينما
(الشريحة المهيمنة ) التي نتحدث عنها تحركها عوامل أخرى قد تكون دينية أو طائفية أو غيرها .وب التالي فإن سيطرتها على مقاليد السلطة ال تحددها
وض عيتها الطبقية إنما هذه العوامل األخرى كما سنرى ،لذلك فإن وصفنا لها بالشريحة المسيطرة القصد منه الكشف عن أن وضعيتها التي إكتسبتها
هي بالسيطرة واإلستحواذ على السلطة والثروة بطريقة لم تفرضها طبيعة الصراع الطبقي كما تقرر ذلك الماركسية الكالسيكية إنما عبر عوامل الدين،
العالقات العشائرية ،التناقضات السياسية أو مزيج منها.
. 3محمد عابد الجابري ،العقل السياسي العربي ،بيروت ،مركز دراسات الوحدة العربية ص.14-13
2
عشائري وديني في السلوك السياسي ،فإن وظيفته عند دراسة المجتمعات السابقة للرأسمالية هي إبراز ماهو
سياسي في السلوك الديني والعشائري.
من هذا المدخل ،واضح أن هناك تمييز في العالقات السياسية بين تلك التي تنشأ وتقوم في المجتمعات
الرأسمالية ،وتلك السابقة لها ،ففي األولى تقوم هذه العالقات على أساس من التمايز الطبقي الواضح ،وهو ما
يعني أن الصراع في هذه المجتمعات تحركه المصالح اإلقتصادية المرتبطة بالطبقة اإلجتماعية (برجوازية،
رأسمالية ،طبقة عمال) ،بينما في المجتمعات السابقة للرأسمالية نجد الصراع تحركه عوامل قد تكون دينية،
طائفية وغيرها ،وبالتالي قراء هذه تختلف عن تلك .عليه؛ نحن هنا إزاء مالحظة جد هامة ومفصلية فيما
يتعلق ببحثنا عن أزمة الممارسة السياسية ونائجها في السودان ،ألن أسس هذا التفكير والممارسة السياسية
المرتبطة به ،موروثة أو مستنسخة من الثقافة اإلسالمية العربية بحكم عوامل التاريخ ،فهذه الثقافة دخلت
السودان بفترة قبل حملة عبدهللا بن أبي السرح ،وتقنن وجودها ماديا ً وتاريخيا ً من بعدها ،وقد تبع ذلك تحوالت
عميقة في المجتمع ،إذ أصبح القادمين الجدد من "األعراب" هم مالك األرض والسادة عبر المصاهرة والنسب
الشئ الذي حقق لهم السيطرة على المجتمع والدولة عبر الثقافة ،الدين وسلسلة الدم.
إذاً وبناءاً على مقولة دوبري فهو مجتمع سابق للرأسمالية منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم ،ألن هذه العالقات لم
تنتهي .وما يثبت ذلك سيادة العالقات العشائرية فيه والتي مازالت حية إلى يومنا هذا .ونمضي مع كاتب آخر
في مزيد من التوضيح " .....أما في العهد اإلسالمي ،فقد دخلت إلى السودان الكيانات والثقافة العربية
اإلسالمية على شاكلة (االستعمار االستيطاني) ،وظلت تكتسب لها مواقع فيه ضمن كياناته وثقافاته المتعددة.
وهي في ذلك مسنودة بخلفيتها اإلمبراطورية من الناحية المادية ،ومن الناحية المعنوية بما يعرف بـ(المد
الحضاري) العربي اإلسالمي ،الذي من أهدافه بالطبع إعادة إنتاج اآلخر داخل (الهوية) اإلسالموعربية أو
على األقل إلحاقه بسياقها الحضاري .هذا النهج االستتباعي قد يبدو عاديا ً ومفهوما ً ومعقوالً في إطاره العام في
ذلك الوقت ،ولكن إستمراره بعد إنهيار الحضارة العربية اإلسالمية أصبح إشكاليا ً باإلضافة إلشكاليات أخرى
في بنية ومحددات الثقافة العربية اإلسالمية نفسها وكيانها االجتماعي في السودان ،مضافا ً إلى ذلك المالبسات
التاريخية التي جعلت من هذه الثقافة (المأزومة) (مركزية) في الوضعية التاريخية للدولة السودانية .وقد قامت
سيطرة الكيان اإلسالموعروبي في السودان على مكاينزمات عديدة أهمها:
.1البطرياركية األبوية القائمة على التشدد العرقي :فعبر ميكانيزم النفي البيولوجي للرجال في معادلة
التزاوج األحادية االتجاه ،التي يأخذ فيها الكيان العربي وال يعطي ،تم طبع أجزاء عديدة من شمال وأواسط
السودان بالطابع العربي عرقيا ً وثقافيا ً ،وعبر األسلمة ـ أي التحرك عبر المقدس ـ تم ويتم التوسع .ويقوم
ميكانيزم النفي البيولوجي للرجال (االستعراب العرقي/الثقافي) على تزوج الرجال العرب بنساء (اآلخرين)،
وتكون الذرية وفق البطريركية األبوية (عربية) وال يعترف بمكونها اآلخر .البنات يتزوجن حصريا ً في
الكيان العروبي ،أما األبناء الذكور فيواصلون طريق األسالف ،وهكذا بمرور الزمن ينمو الكيان العربي على
حساب الكيانات األخرى التي تتآكل في نهاية المطاف .أما األسلمة ،فعبر الدعاة ـ الفكي ،والطريقة الصوفية
ومؤسسات التعليم الحديثة الحقا ـ يدخل الناس اإلسالم ،وهو بالطبع يتضمن "أيديولوجيا العروبة" خاصة في
تفسيراته السنية ومسوغاته لعلوية المؤمن والعربي وتشريعاته في حصر زواج المسلمة .وتلقائيا ً يصبح العرب
(أو بالحد األدنى يتم تصويرهم على أنهم) أعلى شأنا عرقيا ً باعتبارهم على األقل "حاملي الرسالة األصليين"،
وهكذا يواصل الكيان العربي تغلغله .وتبقى المشكلة فيما يولده هذا النهج من وقائع اإلستعالء العرقي
واإلجتماعي ،خاصة في وجود التعددية والتباين العرقي والثقافي في ظل هيمنة الكيان اإلسالموعروبي على
جهاز الدولة.
ً
.2نشاط االقتصاد الريعي العشائري (الطفيلي) :ومعروف تاريخيا عن العرب والثقافة العربية ومن ثم الثقافة
اإلسالموعربية إحتقار المهن والحرف والعمل اليدوي باعتباره عمل "العبيد أو الموالي" .فحتى القطاع
3
الحضري ـ غير الرعوي ـ يتبنى هذا النمط من االقتصاد القائم على استثمار السلطة والتجارة التي ال تعنى
باإلنتاج .ومن ثم التمسك بالجوهر العبودي في تقسيم العمل .وهذا النمط يتطلب بالطبع فرض (هويات) جزئية
في المجتمع أي سادة (أحرار) وعبيد.
.3النزعة االستبدادية المتشددة :فبسبب نظام التراتبية االجتماعية القائمة على التشدد العرقي ،ونمط االقتصاد
الطفيلي الذي يستلزم ليس فقط امتالك السلطة بل االستبداد بها ،فقد كان وما يزال وعي السلطة في هذه الثقافة
وعيا ً استبدادياً ،واالستبداد لزيم اإلقصاء ،واإلقصاء يتطلب في الواقع فرض هويات جزئية حتى في المجتمع
الواحد لتحجيم وعي التنافس على السلطة مثل ما كان يوضع من أحاديث لتبرير ذلك كـ(األئمة من
قريش).4"...
وبالنظر إلى تركيبة المجتمع السوداني نجدها تتكون من قبائل وعشائر (تحدد معظم المصادر مايقرب الـ
500مجموعة إثنية) .وقد ظل مجتمع الوسط (=المركز) ،هو المجتمع المسيطر تاريخيا ً في السودان ،فغالب
سكان الوسط هم من قوميات الشمال النيلي التي هاجرت إليه منذ فترة طويلة وتزاوجت مع سكانه األصليين،
إنضمت إليها مجموعات أخري من غرب السودان أثناء وبعد المهدية .كونت هذه الهجرات ومن بعدها
اإلستعمار ،مجتمعات ومدن الوسط فعرفنا نموذج أمدرمان ،والذي يطلق عليه البعض أنه يمثل التمازج
واإلندماج ،غير أنه في واقع األمر لم يكن إال معمل كبير إلعادة إنتاج الثقافة العربية في ثوب جديد .صنعت
ثقافة أمدرمان تقريبا ً كل أنواع الفنون والقيم واألخالق التي مثلت فيما بعد الثقافة الرسمية للدولة ،والتي ظلت
على صعيد الوعي تحمل جينات القيم واألخالق والثقافة العربية شكالً ومضموناً.
في المقابل نجد أن قاعدة المجتمع األمدرماني "األنموذج" كانت به ـ والزالت ـ تقسيمات تشرح نفسها
بنفسها ،فأسماء األحياء تعبر عن قاطنيها ومكانتهم اإلجتماعية ،فعلى سبيل المثال الموردة كان يقطنها
النازحين من األطراف والذين تنحدر أصولهم إلى النوبة والفور ،المساليت والفونج أو من يسمونهم في ذلك
الوقت بالمنبتين(= الغير معروفة أصولهم) ،ويسكن المالزمين وبيت المال والمسالمة وحي األمراء
والعباسية ،إرستقراطية منحدرة إما من عرب الشمال أو ما تبقى من إرستقراطية المهدية والتركية .هذا على
صعيد التركيب اإلثني ،وكما قلنا فإن الثقافة السائدة هي الثقافة العربية .وبالرغم من هذا التمازج الذي تولد مع
األيام والذي وبدرجة من الدرجات طغى على التباين اإلثني مع تطور الحياة اإلقتصادية والمعيشية ألهل
المدينة ،إال أنه ظل هناك ثابتان:
الثابت األول :هو سيادة الثقافة العربية اإلسالمية ،ال وبل إنتشارها وحلولها محل الثقافات األصلية للمهاجرين
الذي أتوا إليها من أطراف السودان المختلفة ،والذين وبمرور الوقت أصبحوا جزء ال يتجزاء من هذا الوسط
بقيمه وثقافته وتقاليده الجديدة (أي إعادة إنتاجهم بمرور الوقت) ،وما كان لذلك أن يتحقق لوال آلة السلطة
والدولة.
الثابت الثاني :أنه وبالرغم من هذا التمازج الذي تم عبر إعادة اإلنتاج ،غير أن التقسيم العشائري ظل حيا ً في
النفوس في شكل مسكوت عنه ،يحدد التراتبيات اإلجتماعية ،فالموردة هي الموردة ،وهي "القرارقير"
يتناسلون في بعضهم البعض جيالً بعد جيل .وهذا المسكوت عنه موجود في الالشعور بأشكال مختلفة ،ويظهر
هنا وهناك ،ويحدد التراتبية اإلجتماعية كما قلنا ،أو كما تقول العرب (منازل الناس).
.4أبكرآدم إسماعيل" ،جدلية المركز والهامش وإشكال الهوية في السودان" ،مركز الدراسات السودانية ،القاهرة ديسمبر .1999
4
والنماذج لهذه التراتبيات ممتدة عبر السودان وتكاد تكون في كل مدنه المختلفة ،فال تخلوا مدينة من حي إسمه
الموردة أو ما يشابهه في المعنى ،أو الكنابي(جمع كنبو ،وهو الحي الذي يقطنه عمال الزراعة النازحين غالبا ً
من غرب السودان وجنوبه) .وكلها تحمل معها وصمة إنحطاط في السلم اإلجتماعي تقطع الطريق بينهم وبين
الوصول إلى مواقع السلطة ومصادر الثروة .تؤكد على ذلك إحصائية الذين تولوا زمام الحكم في السودان،
وسنكتفي برؤساء الدولة فالكتاب األسود أعطي الكثير من اإلحصائيات في مجاالت أخرى ،ونقوم بذلك لمجرد
التذكير ليس إال .وهم :إسماعيل األزهري ،عبدهللا خليل ،الفريق إبراهيم عبود ،سرالختم الخليفة ،الصادق
المهدي ،جعفر النميري ،الفريق سوار الذهب ،الجزولي دفع هللا ،أحمد الميرغني ،عمر حسن أحمد البشير.
فكل الذين حكموا سواءاً عن طريق الديمقراطية أو اإلنقالبات العسكرية في هذه القائمة هم من أبناء الشمال
النيلي الممتد من الخرطوم إلى حلفا أو ما دونها .والذين وعندما نقارنهم ببقية أهل السودان فهم يمثلون أقلية
بمعنى الكلمة ،إذاً أين كان الباقين من هذه السلطة ،وكيف إستطاعت هذه األقلية أن تحكم وطوال تلك
الفترة(؟) .إنها اآليديولوجيا (اإلسالمية العربية) في صورتها المجردة ،وآيديولوجيا "أوالد البلد" في صورتها
المنتجة في أمدرمان .والتي يتم بها وعبرها تجييش جماهير الهامش وإعادة إنتاجهم ليخدموا هذه األقلية ،مرة
تأتي عبر اإلنتماءات الطائفية ،أو التيارات القومية العروبية أو تيارات اإلسالم السياسي ـ وكل من عاش
وترعرع في مدن السودان وأريافه على وجه التحديد يدرك مدي السلطة النافذة التي كانت للطائفية آنذاك ،فمن
ليس أنصاريا ً فهو ختمي ،وتروي القصص والروايات عن الكيفية التي كان يسيطر بها أقطاب الطائفية وبإسم
الدين وآلية اإلقتصاد على رقاب البسطاء وحتى المتعلمين منهم .والتي غالبا ً ماتنتهي إلى اإلستحواذ على
السلطة .مثال الطرفة التي تروى في الشمالية بأن السيد إذا مشى بقدميه في أرض فهي تعتبر ملكه(!) ،مما
أضطر أحد المزارعين البسطاء ـ عندما رأي "السيد" يتجول في مزرعته ــ إلى حمله على كتفيه حتى ال تطأ
قدمه أرضه وتؤول ملكيتها إليه .وقصص شبيهة أخرى مثال أن فالن قد رشحته دائرة المهدي لينوب عن
جماهير المنطقة الفالنية أو أخذ مباركة الميرغني للترشح ،وكم هو معروف أن ال أحد في ذلك الحين يجرؤ
على تحدي ترشيح السيد ـ لذلك لن نستغرب إن نجد إن كل الذين حكموا كانوا من أبناء الشريط النيلي،
فالبسطاء لم يكون سوى ساللم يرتقي بها السادة إلى أعلى مراتب السلطان.
وعموماً؛ ومن زاوية منهجية فإن أي وضعية تاريخية تجتمع فيها كيانات (ماقبل برجوازية/ماقبل رأسمالية)
متنوعة ثقافيا ً ،ومتمايزة عرقيا ً ،ومختلفة دينيا ً ،ومتفاوتة تاريخيا ً ،في شكل دولة حديثة ،يقود اإلفتراض دائما ً
إلى أنه غالبا ً ما تقوم بعض هذه الكيانات بالسيطرة على جهاز الدولة وتستثمره إقصائيا ً على مستويات عديدة،
وتتحول المحددات الثقافية من لغة وآداب وفنون وعادات وتقاليد وعقائد وتراتبيات إجتماعية إلى أسلحة
أيديولوجية ،ويتمفصل العرق واللون مع الطبقة وتقسيم العمل ،والديني مع السياسي ،والمذهبي واللغوي مع
اإلجتماعي ،وتكون النتيجة وضعية تاريخية مأزومة ،يكون الصراع فيها صراعا ً شامالً ،صراع هويات ضد
هويات ،صراع كل ضد كل ،صراع ثوابت ومتحوالت عند كيان إجتماعي (ما) ضد ثوابت ومتحوالت عند
كيان آخر.5
عليه؛ فإن النتيجة التي خلص إليها ريجس دوبري صحيحة":بأن النعرة القبلية العشائرية والتعصب الطائفي
والطموح إلى الحصول على المغانم ظواهر تبقى نشطة أو كامنة ،في كيان الجماعات سواء إن كان أفرادها
يعيشون في مجتمع إقطاعي أو رأسمالي أو إشتراكي(!) وأن هذه العملية تتم من خالل إستغالل األرض
كإحدى عوامل اإلنتاج وعالقات القرابة والزواج والتحالفات القبلية للسيطرة على النظم السياسية واإلقتصادية
عبر إستغالل األرض والذين يعيشون عليها لمنفعتها الخاصة .والنتيجة أنه وفي السودان ،وتبعا ً لهذا السلوك
5
تكونت طبقة مترفة جالسة على قمة الهرم اإلجتماعي تسيطر على من يخدمون األرض" .6ويبدو من الواضح
بالتالي إن الدوافع لم تتخطي أهداف اإلستحواذ على السلطة والمال عبر عناصر اآليديولوجيا الدينية
والعالقات القبيلة والعشائرية ،وهو مايؤكد إن البحث وفي مثل هذه المجتمعات ـ والتي من بينها السودان
بالطبع ـ يجب أن يكون عما هو سياسي متخفي خلف السلوك الديني والعشائري .وبلغة أكثر بساطة ،البحث
عن أهداف اإلستحواذ على السلطة الثروة التي تقبع خلف الخطابات الدينية والسلوك العشائري للوسط في
السودان والتي نتج عنها هذا التهميش وإزدياد حدته مع تيارات اإلسالم السياسي .ذلك ألن السياسة ظلت
تمارس بإسم الدين حتى يومنا هذا ،ويتم تاطيرها بالنظم والمرجعيات المعرفية الدينية بأشكالها المختلفة.
صحيح أن التجربة العملية أفرزت حالة من التصادم في الوعي الجمعي للناس بين حقيقة أن هذه الظاهرة تمثل
إستغالالً للدين في السياسة ،مع الدين كإعتقاد وطقوس تربط الفرد بإله متعالي ،مما دفع إلى المطالبة وعلى
المستوى السياسي بالفصل ما بين الدين والدولة أو السياسة ،لكن ولتأكيد ذلك البد من إبرازه بوضوح كافي.
فإذا كان هذا هو الحال في الماضي الذي سادت فيه قوى الطائفية ،فهل حدث جديد عندما جاءت تيارات
اإلسالم السياسي(؟) .يفرض هذا السؤال نفسه بإعتبار أن هذه الحركات تدعي أنها تيارات حداثة في حقل
اإلسالم السني في السودان ،تتبنى أطروحات ومنظور للدولة ومؤسسة حزبية معاصرة ،فهل هي فعالً قد
أحدثت فرقا ً في المجتمع(؟) ،إن الواقع يكذب ذلك ،بل العكس هو الصحيح ،إذ أن الوضعية التي وصفناها في
السودان بأنها وضعية مجتمع ماقبل رأسمالي يقوم على العالقات اإلثنية والعشائرية إزدادت حدة في عهد
تيارات اإلسالم السياسي ،بدليل إن الصراعات المسلحة التي تدور في الساحة اآلن بلغت ذروتها في عهد هذا
النظام(نظام اإلسالم السياسي) من كافة النواحي ،سواء على صعيد حدة اإلستقطاب الديني أو العشائري على
مستوى الخطاب ،والنفي واإلقصاء الذي وصل حد التطهير العرقي على صعيد المواجهة .ولم يقف األمر عند
الحرب في الجنوب ،والتي وإن كانت في الماضي تبرر بأن الجنوب هو زنجي /مسيحي مختلف عن الشمال
العربي المسلم ،فإنها تمددت اليوم الى هذا الشمال العربي المسلم نفسه في دارفور والشرق .وال يسع المرء
غير أن يبحث عن جذور إجتماعية وثقافية لهذه النزاعات .وترد المقوالت السياسية التي تذخر بها أدبيات
كثير من حركات الهامش ،حدود وجذور إشكاليات النزاع وأصله إلى سياسات التهميش التي ظل يمارسها
المركز ضد األطراف ،وهو األمر الذي اليمكن غير القول أنه في نهاية التحليل وصف لمظهر األزمة
وتطبيقاتها ،لكنه ال يكفي أن يكون سبباً .فالتهميش نتيجة ـ هذا صحيح ـ ولكن ما هي أسبابه وداوفعه(؟) ،فهذا
ما يجب معرفته ومعالجته.
.6سامية الهادي النقر ،الجمعيات األهلية واإلسالم السياسي في السودان ،القاهرة ،مكتبة مدبولي ،الطبعة األولى ،2006ص .30
6
ير ِجع حيدر إبراهيم تفسير نشأة حركات اإلسالم السياسي إلى نظرية األزمة أو التحدي واإلستجابة
بإعتبارها":يمكن أن تكون مفيدة وعملية لفهم الظاهرة(ظاهرة تيارات اإلسالم السياسي) ،شريطة التعرض
للجوانب المختلفة لألزمة" ( )...ويمضي في التمييز بأن" :اإلسالمويون (= فعاليات حركات اإلسالم
السياسي) يعطون خالفا ً للعلماء والسلفيين األولوية للعمل السياسي ،والذي يأخذ األشكال الثالثة التالية أو
مزيجا ً منها :حزب من الطراز الغربي ،أو حزب من النمط اللينيني أو جمعيات دينية نشطة تغطي مجاالت
عديدة أحيانا ً كبديل عن دور الدولة في المجتمع" .7غير إن هذا التفسير(التحدي ،اإلستجابة) في تقديرنا يربط
مباشرة هذه الظاهرة بمؤثرات خارجية ،Stimulationsتجعل من ظهور هذه الحركات مجرد ردة فعل
للحراك اإلجتماعي ال أكثر ،وهو األمر الذي قد يكون مضلالً بدرجة (ما) في فهمها ،وبالتالي ال نعتقد أنه قد
يكون مفيداً إال في سياق آخر ،ومن األنجع دراسة األبعاد التاريخية واآليديولوجية المرتبطة بالدين التي تنتجها
وتروج لها هذه الحركات ،بإعتبارها األساس الذي تنمو عليه وتجنى منه مكاسبها السياسية .وإلدراك مدى
تأثير (اآليديولوجيا الدينية كعنصر حاسم داخل الحركات السياسية ذات الخلفية الدينية) البد من وقفة أوالً
إلجراء تمييز لهذه الحركات في السودان ومن ثم معرفة طبيعة األيديولوجيا الدينية لهذه التيارات وتأثيرها.
وهنا يمكن التمييز بوضوح بين ثالثة تيارات تتبنى أطروحات إسالمية وهي:
.1الحركات الصوفية(العرفانية) األصل والمنشأة :وهذه إما تيارات كانت باألساس حركات صوفية دخلت
العمل السياسي فيما بعد ،وضعفت ـ إلى حد (ما) ـ وتحللت صلتها بجذورها العرفانية إال من نتف صغيرة
أوهى من خيط العنكبوت تشد أعضائها مع بعضهم البعض وتمثل األساس األيديولوجي الذي يرتدون إليه.
والمثالين لهذا التيار ـ كما قلنا ـ طائفة األنصار وحزبها السياسي (حزب األمة) ،وطائفة الختمية وحزبها
السياسي (الحزب اإلتحادي الديمقراطي)؛
أو أنها تيارات مازالت على أصلها العرفاني ولم تتبنى أو تنشئي حزباً ،بل تمارس السياسة بصورة غير
مباشرة ـ "الشعورياً" ـ عن طريق التحكم والسيطرة من بعد على قواعدها(والذين هم في هذه الحالة المريدين
وأتباع الطريقة المعينة ،المباشرين والغير مباشرين) عبر آليات التصوف نفسها .وتمارس السياسة هنا
بواسطة شيخ السجادة ،والذي (هو) من يحدد بطريقة "إيحائية" ـ باإلشارة ـ إلى أي صف يجب أن يقف أتباعه
ومريديه في ساحات المعارك السياسية المحتدمة .وما يجدر ذكره تلك العالقة المسكوت عنها التي كانت تربط
بعض من حكموا السودان مع شيوخ هذه الطرق والتي إنعكست على وضعياتهم في "الحياة الدنيا الفانية" من
خالل مظاهر الثراء واإلنفتاح على العمل اإلقتصادي وإنشاء المؤسسات ،والتي دائما ً ما يتم تبريرها بأنها
لدعم خالوي حفظة القرآن وللعباد والزهاد(!) .وبالتالي فإنها ـ أي التيارات التي من هذا النوع ـ تعتبر مرحلة
أدنى من الصنف األول ،وتحولها إلى نمط ممارسة السياسة بصورة مباشرة ما هو إال مسألة وقت.
.2تيارات اإلسالم السياسي الحديث :وهذه حركات تختلف "أصولياً" مع حركات التصوف وتنتمي إلى حقل
اإلسالم السني المدرسي .وهنا نميز بين نوعين لهذه الحركات:
أ .تيارات متشددة ،وهي تلك التي مازالت متمسكة بأصول اإلسالم المدرسي السني البياني ،مثل
األخوان المسلمين ،جماعة أنصار السنة المحمدية ،التكفير والهجرة ،جماعة البالغ ،حزب التحرير
اإلسالمي والحركات الشبيهة.
ب .تيارات لم تعد تتمسك بأصول اإلسالم المدرسي السني على الصعيد التنظيمي على األقل ،بل أصبحت
أقرب إلى الحركات السياسية اللبرالية في الغرب ،وهي متطورة جداً على صعيد العمل السياسي
ونماذج لها :الجبهة اإلسالمية (سابقاً) ،المؤتمر الحاكم في السودان ،المؤتمر الشعبي.
.7حيدر إبراهيم ،التيارات اإلسالمية وقضية الديمقراطية ،بيروت ،مركز دراسات الوحدة العربية ،1996ص.43
7
وعلى الرغم من األصل اآليديولوجي الواحد لهاتين الحركتين األخيرتين ،إال أن الفرق يكمن في درجة
التطور على الصعيد السياسي/التنظيمي أو "الحركي" كما درج بعض مؤرخي هذه الحركات على وصفه.
وهذا الفرق أوجدته تجربة ممارسة السلطة على مستوى الدولة من جانب ،والتشبيك مع رصيفاتها في باقي
أنحاء العالم اإلسالمي من جانب آخر .فبالقدر الذي ترتبط به هذه المنظومات بالسلطة ،تصطدم من خالل
التجربة بخاصية ضعف التراث اإلسالمي السني في التنظير لمسألة ممارسة السلطة وإدارة الدولة ،وبالتالي
يبدأ تحلل الخطاب اإلسالمي بصورته التي بدأ بها مواجهة التحديات الجديدة التي تقتضيها ممارسة السلطة
وإدارة المجتمع ،مما يجعله ـ مجبراً ـ يقترب من الموقف البرغماتي/العلماني على صعيد الموقف والممارسة
السياسية .وبالتالي وحسب تعبير محمد أركون ،فإنها ـ أي الحركات اإلسالمية ـ دون أن تعي ذلك ،أو حتى
تريده ،تقوم بأكبر عملية علمنة في التاريخ ،وهي وفي خضم صراعتها السياسية تكشف عن رهاناتها
الزمنية.
وعندما نقيس ذلك على التيارات اإلسالمية في السودان فإنه يمكن وبوضوح من رسم خط تطور لولبي متعرج
لهذه الحركات .فالتيارات المتشددة(أنصار السنة وغيرها ليست سوى مرحلة متأخرة من الجبهة اإلسالمية
القومية ،واألخيرة مرحلة متأخرة أيضا ً من المؤتمر الوطني) .والفرق بين هذه القوى في حلقة تطورها ،هو
مدى إرتباطها بالسلطة ،ألنه الشرط الضروري الذي يحدد بصورة قاطعة قرب أو بعد هذه الحركات من
منابع خطابها األصلي ،وبالتالي يشكل مجمل التحوالت الوظيفية والهيكلية التي قد تحدث داخلها وإنعكاسها
على المجتمع والدولة .عليه؛ فإن الحركات المتشددة دينيا ً والتي ما زالت في قاع سلم التطور سيأتي يوما ً
(ما) وعندما ترتبط بممارسة السلطة ستتحول إلى تيارات أقل تشدداً من الناحية العقائدية ،بمعنى نتوقع أن
يتحول أنصار السنة المحمدية في السودان في لحظة تاريخية معينة إلى نموذج أقرب إلى الجبهة اإلسالمية أو
المؤتمر الوطني .8وإذا ما قارنا ذلك بمراحل تطور الحركات اإلسالمية الذي يورده حسن الترابي يمكننا
التعرف على الصيرورة التي سوف تنتهي إليها هذه الحركات خالل مسيرتها من المهد إلى اللحد والبعث من
جديد ،ويقسمها الترابي إلى أربعة مراحل هي:9
مرحلة الدعوة" :حين يكون البعث اإلسالمي محض "تيار" ومن مهامه المميزة ـ حيئذ ـ نشر الدعوة، .1
مجادلة المنكرين ودرء الشبهات....إلخ".
المرحلة الثانية" :حين يتجسد التيار في "جماعة منتظمة" ...ومن مهامها عندئذ بعد الدعوة البناء .2
الجماعي".
المرحلة الثالثة" :حين تستوى الجماعة فتصبح "حركة" فاعلة في المجتمع .وحينئذ تبرز لها حاجات .3
وأولويات إصالحية".
مرحلة التمكين واإلستخالف" :حين تتولى الحركة "قيادة" المجتمع وتنتصب في مواقع السلطان ..ويحق .4
عليها ـ آنئذ ـ أن تستكمل مهمات العمل العام الصالح إنفاذاً لمشروعات التطهير والتحرير والتغيير نحو
التي هي أقوم دينيا ً وأصلح دنيا".
.8الجدير باإلشارة هنا ولتوضيح هذه النقطة الرجوع إلى الخالفات التي تعصف بجماعة أنصار السنة المحمدية حاليا ً والتي تشبه إلى حد بعيد وفي
المضمون ،نفس الخالفات التي نشبت في السابق داخل جماعة األخوان المسلمين بين صادق عبدهللا عبدالماجد وحسن الترابي ،فقد كان الترابي يصر
على إنفتاح الحركة ويقف صادق عبدهللا عبدالماجد موقف المحافظ على نمط وطريقة التربية التي كانت تمارسها الحركة لعضويتها .وكما يبدو أن
الخالف في ظاهره كأنه على طرق ووسائل إدارة الحركة إال أنه كان خالفا ً إستراتيجيا ً يستند على رؤى مغايرة أساسها كيفية الوصول إلى السلطة.
فمضي الترابي وكون الجبهة اإلسالمية وإستولى على السلطة في ، 1989وبقى صادق مجرد حزب صغير .اآلن تعاني جماعة أنصار السنة المحمدية
نفس اإلشكالية سواء إن كانوا على وعي بذلك أم ال ،وبالتالي هذا يقوي من فرضيتنا حول صيرورة حركات اإلسالم السياسي.
. 9حسن الترابي" ،أولويات التيار اإلسالمي لثالثة عقود قادمة" ،منبر االشرق ،العدد ،1مارس ،1992ص.17
8
وقبل أن ندخل في تحليل مراحل تطور الحركات اإلسالمية ،تجدر اإلشارة إلى نقطة خامسة سكت عنها
الترابي ،والتي هي أهم المراحل ،ألنها تعطيها ديناميتها التاريخية ،أال وهي مرحلة التحلل واإلنزواء .ومن
دون الخوض وراء األسباب التي دفعت بالترابي للسكوت ،لكن موضوعيا ً من الضروري إضافة هذه المرحلة
حتى نستطيع القول بإكتمال الدائرة .فالبناء للمراحل الموضوع بواسطة الترابي يحدد نقطة بداية ،لكنه يترك
النهاية مفتوحة غير محددة ،أو اليغلق الدائرة بالعودة مرة أخرى إلى نقطة البداية ،وفي كال الحالتين فإن
األمر يتطلب وجود خاتمة (ما) وإال صار األمر وكأنما هذه الحركات هي نهاية التاريخ.
واآلن فلنمارس نوع من التفكيك لهذه المراحل لنرى العالقات الداخلية ومدى إرتباطها بحركة تطور تيارات
اإلسالم السياسي التي أشرنا إليها.
الخصائص المظهر السياسي المرحلة
نشر الدعوة ،مجادلة المنكرين ودرء الشبهات....إلخ "محض تيار" مرحلة الدعوة
الدعوة البناء الجماعي "جماعة منتظمة" المرحلة الثانية
بروز حاجات وأولويات إصالحية "حركة" المرحلة الثالثة
إستكمال مهمات العمل العام الصالح إنفاذاً لمشروعات التمكين "سلطة/حكومة" مرحلة
التطهير والتحرير والتغيير نحو التي هي أقوم دينيا ً وأصلح واإلستخالف
دنيا.
الجدول أعاله قد ال يرى فيه البعض جديداً بإعتبار أن األمر اليتعدى مجرد رسم سياج حول نقاط مرتبة
أصالً ،لكن األمر غير ذلك(!) .فبالنظر في عناوين الجدوال والترتيب من أعلى إلى أسفل وربط كل ذلك
بمفاهيم التطور التاريخي فإن الصورة التي نحاول تقريبها تصبح أكثر وضوحاً:
فقائمة المظهر السياسي ـ عندما نتحرك من أعلى إلى أسفل ـ تعطينا إنتقال من حالة بدائية تتمثل في أنها
"محض تيار" ـ كما ذكر الترابي ـ إلى مراحل أعلى تصل قمتها في مرحلة الحكم .إذاً ما هو معنى "محض
تيار"(؟) .ففي مثل هذه الحاالت يكون شكل اإلستقطاب في الغالب األعم سريا ً وهذا قد يكون لظروف مختلفة،
إما لعدم إستساغة أو قبول المجتمع لهذه الحركة الجديدة ،أو لضغط سلطة حاكمة ،وبالتالي فإن الدعوة أو
اإلستقطاب للمفاهيم الجديدة يتم بصورة غير منظمة وال يوجد إطار محدد يمارس من خالله .وتفسر قائمة
الخصائص طبيعة هذا النشاط والذي هو في هذ المرحلة :نشر الدعوة ،مجادلة المنكرين ودرء الشبهات.
وغالبا ً في مثل هذه الحاالت يأخذ الطابع العقائدي المرتبط "بتعليم الناس أمور دينهم" ،من كيفية الصالة
والزكاة والحالل الحرام وغيرها .وهذه الممارسة تجد لها أصول يتم القياس عليها والتمثل بها .ولمعرفة ذلك
في هذه المرحلة ،البد من إستدعاء الدور الذي قامت به العقيدة في تكوين العقل السياسي العربي عند الجماعة
اإلسالمية األولى ،والتي كانت حينذاك جماعة "روحية" ( )..الشئ الوحيد الذي يربط أفرادها بعضهم ببعض
هو اإليمان باهلل وبرسوله" ،10لذلك فالتشابه ما بين النمطين في حالة هو "محض تيار" كما في تصنيف
الترابي ،بحالة الدعوة التي كانت تقوم بها الجماعة اإلسالمية األولى التي كانت تحيط بالرسول (ص) ،هو من
الناحية الطقوسية ،ويجد تفسيره في الصراع الذي مر في التاريخ اإلسالمي وإنتهي بسيادة "فرقة" أهل السنة
والجماعة (المدرسة السنية البيانية) على العالم العربي والتي تدعو إلى تمثل سلوك الرسول (ص) ،مع فارق
جوهري كبير بالطبع ،إذ إن الجماعة اإلسالمية األولي كانت تدعو لدين جديد وسط "المالء من قريش" والذين
كانوا يقفون ضد هذا الدين ،بينما جماعة الترابي ال تدعو لدين جديد ،وإنما تمارس في أحسن الفروض النصح
واإلرشاد وتعليم الناس أمور دينهم.
.10الجابري ،مصدر سابق ،ص.60
9
لكن؛ هل باإلمكان التغاطي عن المضمون السياسي لهذه الدعوة (؟) وهل يمكننا القول أنها بال مضمون
سياسي ولوجه هللا (؟) كما كانت تفعل الجماعة اإلسالمية األولى(؟) .تجيب على هذا التساؤل المراحل التي
تليها والتي تنتقل بالمظهر السياسي للحركة إلى مستوى أعلى من حيث التنظيم ،وبالمقابل يبدأ المضمون
السياسي في التكشف تدريجياً ،فمن محض تيار ينشر "الدعوة" ويدراء الشبهات ويعلم الناس أمور دينهم ،إلى
جماعة منتظمة تواصل في نفس الدعوة ،ولكنها تبدأ في تنظيم نفسها وتنتقل إلى المرحلة الثالثة كحركة كاملة
النمو والتطور "تبرز حاجاتها السياسية" ،وصوالً إلى الحكم كمرحلة أخيرة حسب تصور الترابي.
إذاً السؤال لماذا ال تفصح هذه الحركات ومنذ البداية عن مشروعها السياسي(؟) علما ً بأن أي تيار أو حركة
سياسية ومنذ البداية تحدد مشروعها وتنطلق في إستقطاب الناس إليه ،صحيح أنها قد تمر بنفس المراحل أو ما
يشابهها ،لكن الثابت أنها ومنذ إنطالقتها تحدد موقفها السياسي كما قلنا .إن اإلجابة على هذه السؤال تحدد
بالضبط طبيعة اآليديولوجية الدينية لهذه الحركات وإختالفها مع التيارات السياسية التي التتحذ األديان كأساس
أيديولوجي/فكري .إن من أهم خصائص هذه الطبيعة إنها تخلق رابطة معنوية بين أفرادها قائمة على قوة
المقدس الديني .وأحيانا ً ترتقي هذه الرابطة ومسوغاتها النظرية في قوتها لتساوي نفسها بالمقدس ،أو تقف
وكأنها الدين نفسه أو عين المراد اإللهي ،متخطية بذلك قضية مهمة وهي "تاريخية األديان" بعد إنقطاع
الوحي .بمعنى؛ تحوله عبر التاريخ إلى كم معرفي تراكمي من التفسيرات يخضع لقواعد اللغة وشروط
المتغيرات اإلجتماعية والسياسية ،وهو األمر الذي يفسر ظواهر التشدد والتطرف للمنتسبين لهذه الحركات.
فعدم اإلفصاح عن المشروع السياسي منذ البداية هدفه غرس هذه الروح العقائدية المتشددة في الفرد
والمجتمع ،كسبا ً للوالء األعمي الذي يحصدون به مغانم السلطة .وينسحب نفس السلوك على الحركات ذات
الخلفية العرفانية.11
لكن وعند الوصول إلى تخوم السلطة والحكم فإن األمر يختلف ،ألن الحكم يقتضي السياسة وليس الدعوة،
وهذه تقتضي بهرج السلطان وبريقه من مال وجاه وغيره ،وهنا تطل الخالفات واإلختالفات برأسها .وهذه
النقطة األخيرة هي بداية المرحلة الخامسة التي سكت عنها الترابي في تصنيفه لتطور الحركات اإلسالمية،
مرحلة اإلنهيار والتحلل .وقراءة التاريخ اإلسالمي تعطينا صورة حية لذلك .فقد بدأت الدعوة مع الرسول
(ص) وطوال حكم الخلفاء األربعة لم تختلف كثيراً طريقة الحكم ،بل كان طابع الدولة زمن الرسول والخلفاء
هو طابع دولة الدعوة ،إلى أن جاءت دولة "الملك العضوض" زمن معاوية بن أبي سفيان ،حيث تحولت دولة
الدعوة إلى دولة الملك الوراثي الصرف والتي مازالت مظاهرها باقية إلى يومنا هذا في الكثير األنظمة
السياسية المعاصرة .لقد إختط معاوية دولته وحدد مبادئها ،12ـ وصار بذلك المعلم األوحد لكل من حكموا بعده
إلى اآلن ـ وقد دشن بذلك قطيعة مع النمط السائد في الماضي ،والذي كان فيه األمر هو "العمل بكتاب هللا
وسنة رسوله" (دولة الدعوة) ،إلى ما يستطيع اإللتزام به من كما يقول هو بنفسه" :مواكلة حسنة ،ومشاربة
. 11يروي د .شريف حرير حادثة طريفة أنه عندما سأل أحد المنتمين إلى إحدى الطائفتين عن سر والئه الشديد للسيد ،إجابه بأنهم وفي داخل الطائفة عند
أداء قسم الوالء والطاعة يرددون " :إن أكون بين يدي سيدي كالميت عند الغسيل " .وهو ما يؤكد على طابع الوالء األعمى ،فهذا القسم الغليظ،
صيغته ،ال تعني غير ذلك .وهكذا ،يصبح المريدين ،األشياع ،الحواريين أو أعضاء الحزب الذين هم من هذه الشاكلة في وضعية أحط من وضعية
األقنان في حظيرة حزب السيد.
. 12هناك رواية تقول :أنه لما قدم معاوية المدينة عام الجماعة تلقاه رجال قريش فقالوا "الحمدهلل الذي أعز نصرك وأعلى كعبك" ،فوهللا مارد عليهم بشئ
حتى صعد المنبر فحمد هللا وأثنى عليه ،ثم قال "أما بعد وهللا ماول يتها بمحبة علمتها منكم والمسرة بواليتي ،ولكني جالدتكم بسيفي هذا مجالدة .ولقد
رضيت لكم نفسي على عمل أبن أبي قحافة (أبي بكر) وأردتها على عمل عمر فنفرت من ذلك نفاراً شديداً ،وأردتها مثل ثنيات عثمان فأبت على،
فسلكت بها طريقا ً لي ولكم فيه منفعة :مواكلة حسنة ومش اربة جميلة .فإن لم تجدوني خيركم فإني خير لكم والية .وهللا ال أحمل السيف على من ال سيف
له ،وإن لم يكن منكم إال ما يستشفي به القائل بلسانه فقد جعلت ذلك له دبر أذني وتحت قدمي .وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فأقبلوا مني بعضه ،فإن
أتاكم مني خير فأقبلوه فإن السيل إذا زاد عني ،وإذا قل أغنى ،وإياكم والفتنة فإنها تفسد المعيشة وتكدر النعمة" ثم نزل .الجابري ،مصدر سابق ،ص
.236
10
جميلة ( )...وإن لم تجدوني أقوم بحقكم كله فأقبلوا مني بعضه ،فإن أتاكم مني خير فأقبلوه " =( ،دولة الملك
السياسي) .وكان عمار بن ياسر أول من تنبأ بذلك ،وتذكر المصادر أنه نادي في صفين ،وكان من قواد جيش
علي بن أ بي طالب" :أين من يبتغي رضوان هللا عليه وال يؤوب إلى مال وولد .فأتته عصابة من الناس ،فقال:
أيها الناس ،أقصدوا بنا هؤالء الذين يبغون دم إبن عفان ويزعمون إنه قتل مظلوماً .وهللا ما طلبتهم بدمه ولكن
القوم ذاقوا الدنيا فأستحبوها وإستمرؤوها وعلموا أن الحق إذا لزمهم ،حال بينهم وبين ما يتمرغون فيه من
دنياهم ،ولم يكن للقوم سابقة في اإلسالم يستحقون بها طاعة الناس والوالية عليهم ،فخدعوا أتباعهم أن قالوا:
إمامنا قتل مظلوماً ،ليكونوا بذلك جبابرة ملوكاً 13"..فقد كان عمار بن ياسر يرى أن والية الناس وإستحقاق
طاعتهم تستند على السبق في اإلسالم ـ أي األساس العقائدي الذي تولد لدى الجماعة اإلسالمية األولى حسب
تجربته ـ لذلك كان هو أول من أزاح الستار عن "رغبات ومطامح الحصول على السلطة المتخفية خلف
السلوك الديني والعشائري لبني أمية ،وتخصيصا ً معاوية في الدولة اإلسالمية الوليدة" كما يمكن القول
بتعبير ريجس دوبري المعاصر .مشيراً في ذات الوقت إلى أولى مظاهر التحلل في طورها الجنيني التي بدأت
تأخذ طريقها مع بداية دولة معاوية وظلت تنمو وتتخذ أشكاالً مختلفة من الثورات مروراً بالدولة العباسية حتى
آخر الممالك اإلسالمية ،اإلمبراطورية العثمانية .وعلى الرغم من األساس العقائدي الذي إستند عليه عمار بن
ياسر في تفسير هذا اإلنقالب ،غير أن ذلك كان إتجاها ً ورؤية أملتها من جانب ،طبيعة اإلرتباط الروحي
والمعنوي لعمار ونشأته في وسط الجماعة اإلسالمية األولى كأحد أوائل الذين أسلموا ،ومن جانب آخر تأثير
وضعيته ف ي المجتمع كأحد الموالي في ذلك الحين .ونضيف إلى ذلك تفسير أن التراث اإلسالمي وحتى ذلك
الحين ـ وربما إلى ما بعده ـ لم يكن قد أرسى تقاليداً في الحكم ،كما عرفتها الحضارات التي سبقتها أو تزامنت
معها ،وهو وما يعزز القول بأن الرسالة المحمدية في أصلها لم تكن ذات مضمون سياسي ،هذا من ناحية
عامة ،وحتى وإن كان قد قدر للدولة في ذلك الحين أن تمضي حسب رؤية عمار كدولة دعوة ،فإن القطيعة
التي أنشأها معاوية كانت ستأتي حتما ً في مرحلة تاريخية الحقة ،ربما على أيدي أناس آخرين ،نعم قد تختلف
عن أهداف معاوية بحكم العوامل التي قد تفرضها هذه المرحلة الالحقة ،لكن هذا ما كان سيحدث ،ألنه منطق
التطور التاريخي .لذلك تعود األسباب المباشرة وراء جرثومة التحلل إلى أسباب عديدة أهمها إن التحول
والقطيعة التي بدأت مع حكم معاوية خلقت "مجال سياسي" تمارس فيه السياسة ،قام باألساس على عنصر
القبيلة بعيداً عن الدين ،إستناداً على أن دولة اإلسالم قامت على يد قرشي هو النبي (ص) ،وبما أن أصحابه
من بعده قد حسموا الخالف على أساس أن" :العرب ال تدين إال لهذا الحي من قريش" ،فقد أعطت هذه المقولة
والواقعة التي حدثت فيها ،14شرعية لقريش للحكم ،إنتقلت إلى معاوية في دولة الملك ،وهو ما أكده هو نفسه،
إذ تروي المصادر أيضا ً أنه جاء في الحديث :كان محمد بن جبير بن مطعم يحدث أنه بلغ معاوية ،وهو عنده
في وفد من قريش ،أن عبدهللا بن عمرو بن العاص يحدث أنه سيكون ملك من قحطان ،فغضب معاوية فقام
وأثنى على هللا بما هو أهل له ثم قال :أما بعد فإنه بلغني أن رجاالً منكم يتحدثون أحاديث ليست في كتاب هللا
وال تؤثر عن رسول هللا ،فأؤلئك جهالكم ،فإياكم واألماني التي تضل أهلها ،فإني سمعت رسول هللا (ص)
يقول :إن هذا األمر في قريش ال يعاديهم أحد إال كبه هللا على وجهه ،ما أقاموا الدين" 15ويبدوا أن األمر
بالنسبة لمعاوية أضيق من أن يسع قريش بأجمعها ،فهناك أيضا ً تقسيم وتراتبيات داخل قريش نفسها .فعندما
ذهب معاوية إلى المدينة يريد إقناع عبدهللا بن عباس وعبدهللا بن جعفر وعبدهللا بن الزبير وعبدهللا بن
11
عمر(العبادلة المعروفين برواية الحديث عن النبي) والذين كانوا قد إمتنعوا عن مبايعة إبنه يزيد قال لهم " :لقد
قلتم وقلتم .وأنه ذهبت األباء وبقيت األبناء ،فإبني أحب إلى من أبنائهم مع أن إبني إن قاولتموه وجد مقاالً.
وإنما هذا األمر [لبني عبد مناف] ألنهم أهل رسول هللا فلما مضي رسول هللا (ص) ولي الناس أبا بكر
وعمر من غير معدن الملك وال الخالفة ،غير أنهما سارا بسيرة جميلة ،ثم رجع الملك إلى بني عبد مناف ،فال
يزال فيهم إلى يوم القيامة .ولقد أخرجك هللا يا إبن الزبير وأنت يا إبن عمر ،فإما أبناء عمي هذان [عبدهللا بن
عباس وعبدهللا بن جعفر] فليسا بخارجين من الرأي إنشاءهللا" .16ويالحظ في مرجعيات معاوية أنه لما جاءه
وفد قريش وقال ما قال فيه عبدهللا بن عمرو بن العاص ،رد عليهم بمنطق الدين بحديث منسوب إلى الرسول
"أن هذا األمر في قريش" ،ولكن عندما إحتدم حديثه مع العبادلة كان المنطق هو القبيلة وإن األمر في
قريش(حسب الحديث [المنطق الديني]) ،نعم ،لكنه وفي إطار قريش فإنه تخصيصا ً في بني عبد مناف(منطق
القبيلة" :أنا وأخي على إبن عمي ،وأنا وأخي وإبن عمي على الغريب") ،لذلك ألمح إلى أبن الزبير وإبن عمر
بأنهما ليسا من بني عبد مناف [ولقد أخرجك هللا يا إبن الزبير وأنت يا إبن عمر] ،مذكراً أياهم إن أبناء
عمومته (عبدهللا بن عباس وعبدهللا بن جعفر) ،سيعودون إلى إطار القبيلة .والمنطق األخير له جذره التاريخي
الذي يعود إلى ماقبل اإلسالم ،فالتقسيم الذي كان قائما ً في مكة آنذاك إن لبني هاشم (أهل النبي) السقاية
والرفادة (للكعبة) ولبني عبد مناف السلطان ،لذلك لم يكن معاوية بعيداً عن المنطق الذي حكم تاريخ قريش
عندما آلت إليه األمور ،مذكراً بأن األمر قد آل إلى أهل "الجزاء والكفاءة" كما يقول هو من بعد أبي بكر
وعمر.
إن ما سبق يجعل لمقولة حيدر إبراهيم من أن قيام هذه الحركات يجد تفسيره من خالل اإلستجابة والتحدي قد
اليجد القبول المطلق إستناداً إلى أن هذه الحركات تنطلق في نشأتها وخلفيتها اآليديولوجية الدينية من هذا
التاريخ ،واألمر ليس ردة فعل لظروف وتحوالت عارضة في سماء السياسة في العالم العربي أو السودان،
صحيح إلى حد (ما) القبول بهذه الظروف العارضة كعوامل مساعدة تسرع من قيام هذه الحركات ،لكنها
ليست األصل ،والمضي في التفسير بهذا المنطق(اإلستجابة والتحدي) ،يدفع بالباحثين مسافات عن فهم الجذور
الحقيقية لهذه الحركات .وقد أجمل الجابري فهم ذلك من خالل جهازه المفاهيمي الذي بناه لتفسير العقل
السياسي العربي (اإلسالمي/العربي في حقيقة األمر) من خالل دور "العقيدة"" ،القبيلة" و"الغنيمة" بإعتبارها
عوامل متداخلة شكلت السلوك السياسي للعقل العربي وبطانته الالشعورية .والرجوع إليه اليوم بالنسبة لنا
لتفسير السلوك السياسي في السودان ،كرجوعه (هو) إلى إبن خلدون في الماضي لتفسير السلوك السياسي في
العالم العربي المعاصر ،مع الوضع في اإلعتبار بالطبع القضايا المنهجية المتعلقة بدرجة التعميم التي إقتضتها
دراسته ،والحالة الخاصة التي نتناولها .ومع ذلك؛ فيبدو أن ال جديد في األمر منذ الجماعة اإلسالمية األولى
مروراً بدولة معاوية وحتى حاضرنا هذا .فقط تتغير اإلصطالحات والمفاهيم لكن تبقى القضايا الجوهرية
المتمثلة في رغبات الحصول واإلستحواذ على السلطة والمال كما هي .فالحركات اإلسالمية القائمة اليوم لم
تخلق قطيع ة مع ذلك التاريخ ،بل إنها تستدعيه في حاضرها ،تعيشه وتتمثله وقع الحافر بالحافر ،وتنتهي
بالخروج من ذلك إلى مرحلة التالشي لتقوم حركة أخرى تبدأ أكثر تشدداً تجتر نفس التجربة ،وهكذا يمضي
تاريخ التيارات األصولية .وطوال مسيرة المراحل التي حددها الترابي ،يظل الخطاب الديني سائداً ،يبدأ
متشدداً ومهتما ً بالجانب العقائدي ،وينتهي باحثا ً عن "إستكمال مهمات العمل العام الصالح إنفاذاً لمشروعات
التطهير والتحرير والتغيير نحو التي هي أقوم دينيا ً وأصلح دنيا" كما يقول ،أي حامالً في باطنه مشروع
سياسي مهما كانت مبرراته .وبالقدر الذي يتوغل فيه في المشروع السياسي ،تنحسر عنه تدريجيا ً الغاللة
الدينية .وفي تزامن مع هذه الحركة ،يبدأ في قاع المجتمع بروز تيارات جديدة تسير على نفس القضبان
لتمر بنفس المحطات ،وكأنما تشدها جميعا ً سلسلة واحدة.
12
وبعد ،لسنا اآلن في حاجة للتأكيد مرة أخرى على حديث ريجس دوبري بأن النعرة القبلية العشائرية
والتعصب الطائفي والديني والطموح إلى الحصول على المغانم ،ظواهر تبقى نشطة أو كامنة ،في كيان
الجماعات ،سواء إن كان أفرادها يعيشون في مجتمع إقطاعي أو رأسمالي أو إشتراكي .وبالتالي؛ فإذا كانت
دراسة وظيفة الالشعور السياسي في المجتمع األوروبي هي إبراز ما هو عشائري وديني في السلوك
السياسي ،فإن العكس تماما ً يحدث عند دراسة المجتمعات السابقة للرأسمالية حيث يجب إبراز ما هو سياسي
في السلوك الديني والسلوك العشائري.
.2نتيجة لهذه الوضعية (وجود المصالح المادية متنحية داخل نسيج القيم واألديان والدور الذي تقوم به في
الدفع بالصراعات الدينية والعشائرية ،إضافة إلى التحديد/التعيين للكيانات اإلجتماعية وفقا ً لجذورها اإلثنية أو
الدينية والثقافية) ،كل ذلك في إطار الصورة العامة لحركة الصراع السياسي/اإلجتماعي ،تصبح الدولة مزيج
متشابك من هذه العالقات المعقدة ،والتي قد تصل حتى إلى أعلى المستويات .فإذا كان التمييز والصراع
الديني/المذهبي أو العشائري في مستواه البسيط في قاع المجتمع ،هو صراع يحسمه قانون البقاء لألصلح،
بغلبة طائفة/قبيلة على أخري حسب موازين القوى ،فإن األمر على مستوى الدولة يختلف تماماً ،ويأخذ طابعا ً
"إشكالياً" Problematicيتجلى في صور ومستويات عديدة .وألن الدولة المعاصرة تقوم على
المؤسسات ،والتي ال تعطي كبير إعتبار للعالقات العشائرية أو الطائفية أو الدينية ـ أو هذا ما يجب أن تكون
عليه ـ بالتالي فإن تصاعد هذا النمط من العالقات في هيكل الدولة ورؤيتها وطريقة إدارتها إستناداً على هذه
األسس ،يخلق تناقضات حتمية تنتهي بسيادة عنصر ،جهة ،طائفة ،دين (ما) ،والتي تقود الصراع الشامل
داخل منظومة الدولة من أجل مصالحها كمجموعة أو كيان أو طائفة أو دين ،محكومة في ذلك بمنطق
العالقات التي تطبع سمات المجتمعات السابقة للرأسمالية ـ كما بينا ذلك في المدخل .وكما قلنا أنه طالما إن
الوضعية التي تجتمع فيها كيانات من هذا النوع ،وتتميز بالتنوع الثقافي والتمايز العرقي واإلختالف الديني
والتفاوت التاريخي ،داخل منظومة دولة حديثة ،يقود اإلفتراض دائما ً إلى قيام بعض هذه الكيانات بالسيطرة
على جهاز الدولة وإستثماره إقصائيا ً على مستويات عديدة .فإن الذي يحدث هو تحول المحددات الثقافية من
لغة وآداب وفنون وعادات وتقاليد وعقائد وتراتبيات إجتماعية إلى أسلحة آيديولوجية ،ويتمفصل العرق واللون
مع الطبقة وتقسيم العمل ،والدين مع السياسة ،والمذهبي واللغوي مع اإلجتماعي ،فتكون النتيجة بالتالي؛
وضعية تاريخية مأزومة تنتهي بإنفجار متسلسل ،يأخذ شكل نزاع شامل ،محتواه :صراع هويات ضد هويات،
ثوابت ومتحوالت عند كيان اجتماعي (ما) ،ضد ثوابت ومتحوالت عند كيان آخر ،وهو في نهاية التحليل
صراع كل ضد كل .عليه؛ فإن صيرورة هذه الوضعية غالبا ً ما تنتهي إلى مفترق طريق ذو إتجاهين
متعاكسين ،إما بإنكفاء كل كيان على ذاته وتدريجيا ً إنفصاله ،أو الوصول إلى نقطة إعادة التأسيس من جديد.
13
وهي المرحلة التاريخية التي يمر بها السودان اليوم ،والتي يمكن أن نسميها بداية مرحلة إنهيار الدولة التي
عرفها التاريخ السوداني المعاصر .والقارئ لسيرة النزاع في الصومال يجد الكثير العبر والدروس.17
وبالتالي فإن التحدي الذي يواجه الدولة السودانية وقواها السياسية هو كيفية اإلتفاق للوصول إلى نقطة إعادة
التأسيس ،وهل لم يفعلوا ذلك من قبل (؟).
.3تاريخيا ً ظل الدين يلعب دوراً محوريا ً في التقنين للصراع ،ألنه كان ـ والزال ـ يقف بمثابة البنية
الالشعورية للمعرفة الدينية ،تشتق منه اآليديولوجيا واألهداف السياسية في المجتمعات السابقة للرأسمالية.
ويكاد ينعدم الحد الفاصل تماما ً ما بين هذه البنية الالشعورية من جانب ،واآليديولوجيا واألهداف السياسية من
جانب آخر ،بحيث يصعب التمييز بينهما .هذه النقطة مهمة جداً في معرفة طبيعة الحركات الدينية ألنها تكشف
عن مدى زيف الشرعية التي تدعيها هذه الحركات من تمسكها بتالبيب الدين .فكل الذي يحدث ،أنها تقوم
بتفسير النصوص المقدسة مستخدمة في ذلك القواعد البيانية(قواعد اللغة العربية) في حالة تيارات اإلسالم
السني المدرسي ،أو التأويل الذي يستمد أصوله من إدعاء قدرات ماورائية في أغلب التيارات العرفانية بما
فيها التيار الشيعي نفسه .وبمرور الوقت يتسامي التفسير أو التأويل ليقف على قدم المساواة مع النصوص
المنزلة أو المقدسة .هذه العملية لها أهميتها القصوى بالنسبة لهذه الحركات في تجييش األتباع من أجل
الصراع السياسي البحت ،والدفع بهم في آتون المعارك الضارية من أجل السلطة والمال فيما بعد .وقد أثبت
التاريخ أنها لم تكن سوية عملية أضافت طبقة حمراء اللون لحدة الصراع العرقي والثقافي المحتدم في هذه
المجتمعات ،مرتفعة به على صعيد الوعي إلى مستوى المقدس ،مسببة بذلك إنقساما ً متعدد اإلتجاهات
والمستويات ،اليقف عند التصادم ما بين ديانتين أو إثنيتين ،أو ثقافتين مختلفتين في نفس المجتمع ،بل تصل
لدرجة التصادم داخل الدين أوالعرق أو الثقافة الواحدة كما تعلمنا التجربة الصومالية و الرواندية.
.17لم يبدأ تفكك الدولة في الصومال دفعة واحدة عقب إنهي ار نظام سياد بري في مطلع تسعينيات القرن الماضي ،بل بدأ ذلك منذ وقت مبكر قبل ذلك
التاريخ ،وإرتبط ذلك وإلى حد كبير في تفسير كثير من المهتمين بشئون القرن األفريقي بالسياسات التي إتبعها سياد بري ضد خصومه من إستخدام
سياسة تسليح القبائل والتي أسماها بالمليشيات الصديقة ـ [الحظ الت شابه بين هذه السياسة وتلك التي إختطها فضل هللا برمة ناصر أيام الديمقراطية
الثالثة في السودان عندما قام بتسليح المليشيات العربية في جنوب دارفور بدعوى حماية نفسها ضد الحركة الشعبية "التمرد" ،وربط ذلك
باألوضاع التي وصلت إليها دارفور اآلن] ـ وزجها في صراعات مسلحة لصرفها عن معارضة نظامه المتهالك في ذلك الوقت ،وعندما سقط سياد
بري وسقطت معه السلطة المركزية التي تمثل الصفة الرمزية للدولةن أصبحت كل هذه المجموعات تملك المال والسالح ودخلت في صراعات
دموية فيما بينها ،وإتجه كل كيان أو عشيرة لتأسيس دولت ه الخاصة به .وعلى الرغم من أن التكوين اإلجتماعي في الصومال متجانس إلى حد كبير
مقارنة بالسودان ،إذ أن جميع الصوماليين يكادون ينحدرون من أصول واحدة ويدينون بدين واحد ،إال أن ذلك لم يقف حائالً من الصراع الدموي ،ولم
يحد من اإلندفاع نحو اإلنهيار الكامل للدولة ف يما بعد .وهو ما يعزز مقولة أن وحدة اللون أو الجنس أو الدين ال تمنع نشوب الصراعات .والمقارنة في
السودان تجد أساسها في أن نفس السياسات التي قادت إلى إنهيار الدولة في الصومال هي نفسها التي تم إتباعها في السابق والزالت تمارس حتى اآلن
في السودان مع اإلختالف في التركيبة اإلجتماعية التي ذكرناها للبلدين .وبالتالي فإذا كانت الوحدة اإلثنية والدينية لم تمنع اإلنهيار في الصومال فماذا
سنتوقع في دولة كالسودان تبلغ فيها درجة اإلختالفات اإلثنية والدينية والثقافية مداها األوسع ،ماذا نتوقع أن تكون النتيجة (؟).
14
ثان ،هي السبب الجوهري وراء إستمرار الحرب لفترة طويلة ،وفشل أغلب المحاوالت إليجاد تسوية عادلة
للنزاع.
لقد شكلت هذه العالقة العمود الفقري لرؤية وسياسات وآليات الدولة المركزية في السودان في تعاملها مع
الثورات التي إندلعت ضدها في المناطق المختلفة من البالد(الجنوب ،الشرق ،الغرب) ،سواء في حاالت
الحرب أو خالل رحالت البحث عن السالم عبر المنابر المختلفة ،وأصبحت بذلك ثابتا ً ال يتغير في أجندات
الحكومات المركزية المختلفة ،مهما تفاوتت مواقعها اآليديولوجية .لذلك نجد أن نظام الجبهة اإلسالمية وما
تفرخ منه في السودان نتيجة لإلنقسامات الداخلية ،ما هو إال محصلة نهائية ،عبرت عن هذه العالقة في أقصى
صورها عنفاً .وبالتالي فإن قضية الحرب والسالم ال يمكن رؤيتها بمعزل عن هذه العالقة ،واضعين في ذهننا
نمط التطور اإلجتماعي ،اإلقتصادي والسياسي الذي سارت عبره الدولة السودانية منذ إستقاللها .إن كل ذلك
يتلخص في أن أزمة الدولة السودانية ،تكمن في عدم تبلور مشروع وطني ـ إن جاز التعبير ـ نتيجته معادلة
صراع حاد ما بين مركز مسيطر وهامش يفتقر للتطور على كافة األصعدة.
هذه األزمة ليست نتاج سياسات المستعمر أو مؤامرات وأطماع "الصهيونية أو اإلمبريالية العالمية" وحدها،
كما درجت الكثير من الرؤى التي دأبت على تعليق كافة المشاكل على شماعة اإلستعمار ،والتعامل بنظرية
المؤامرة .صحيح من الزاوية الموضوعية وفي سياق البحث عن جذور اإلشكاليات الوطنية ،التعرض للدور
الذي لعبه اإلستعمار ،لكن األكثر صحة منه ،عدم القفز فوق دور الحكومات الوطنية التي أعقبت اإلستعمار
أيضاً ،فكلها سلسلة مرتبطة مع بعضها ال تتجزاء .لقد خرج المستعمر نعم ،لكنه أورث بنية الدولة التي أسسها
لخدمة مصالحه ألنظمة سياسية حكمت من بعده .وليس في السودان وحده ،بل الكثير من الدول مرت بهذه
التجربة .لذلك ،فإن التأثير األقوى للصراعات التى نشبت بعد رحيله ،هي مسئولية هذه األنظمة الوطنية وليس
اإلستعمار ،قياسا ً على الفترة التي نال فيها السودان إستقالله ،والتي تتجاوز النصف قرن من الزمان.
وبالمقارنة بالدول اإلفريقية على سبيل المثال ،نجد أن كثيراً منها تمكنت من تجاوز اإلشكاليات التي خلفها
اإلستعمار في بالدها وإنتقلت إلى مرحلة البناء الوطني بفضل أجيالها التي قادت مرحلة التحرر الوطني وما
بعدها .على العكس من السودان ،الذي وبدالً من أن تعمل القوى الوطنية فيه على إعادة هيكلة الدولة ـ كما في
معظم بالد العالم الثالث التي نالت إستقاللها ـ لتخدم األهداف الوطنية التي تعزز الوحدة والتقدم ،حافظت على
على نفس البني والهياكل ،ال وبل وظفتها لمصالحها الخاصة.
علي هذه الخلفية فإن أي إتفاقيات سالم ألي نزاعات ال تعالج جذور الصراعات المتمثلة في التناقض الناشئ
من سيادة عالقات السيطرة واإلستحواذ ،والقراءة المتحيزة للتاريخ ،ال يمكن اإلعتماد عليها لتحقيق إستقرار
دائم ،وال تعدو كونها مرحلة إنتقالية لجوالت قادمة تعيد إنتاج نفس األزمات .لذلك فإن النقد الذي تم توجيهه
إلتفاقية السالم الشامل ( ،)CPAوما تبعها من إتفاقيات (أبوجا ،القاهرة ،الشرق) يستند على مقولة أنها
جميعها لم تتعرض جميعها لهذه الجذور .ومهما يكن من أمر ،فهذه قراءة تعوزوها الموضوعية وال يمكن
األخذ بها على إطالقها .فإن كان الزما ً وضروريا ً إعادة تقييم هذه اإلتفاقيات ،فإن ذلك يجب أن يتم من زاوية
مختلفة تماما ً ،نعم؛ جميعها ناقشت قضايا قسمة الثروة والسلطة ـ كحجر أساس إلعادة التوازن إلختالل التنمية
ما بين المركز والهامش ـ بين الحكومة وخصومها ،ومهما إختلفت موازنات التقسيم التي نتجت ما بين
الفرقاء ،فإنها تظل محكومة بعامل "الضعف المتبادل" الذي أوصل األطراف جميعها إلى طاولة المفاوضات،
إضافة إلى شروط المفاوضات نفسها ،والتي تمت تحت ظروف الضغوط الدولية واإلقليمية .وبالتالي فالمهم
ليس محتويات اإلتفاقيات ،بل مدي قدرتها ،إضافة إلى آلياتها ،على تحقيق التحول من وضعية تاريخية
مأزومة ،إلى دولة تحقق المشاركة العادلة للجميع .ويمكن القول بسهولة اآلن أن هذه قضية لم تضعها هذه
15
اإلتفاقيات في حساباتها ،والمحصلة النهائية إنها تتعرض اآلن ـ وبدرجات متفاوتة وتحت مبررات مختلفة ـ
للتآكل وخطر اإلنهيار.
إن األسباب التي تبدو لنا معقولة هي أن اإلشكالية ال تكمن في المحتوى لهذه اإلتفاقيات كما ذكرنا بقدرما
في الطريقة والمنهجية التي تمت بها .والمدخل لذلك في المالحظة الهامة التي أبدتها كثير من القوى
السياسية ،ولكنها لم تكن بالوضوح والقوة الكافيتين لتحقيق موقف سياسي مؤثر حيال مسيرة السالم .فهذه
كل على حدة ،على الرغم من أن جميع هؤالء الخصوم اإلتفاقيات جميعها تمت ما بين الحكومة وخصومها ٍ
تجمهم ـ في أغلب الحاالت ـ قواسم مشتركة ،أدناها خلق التحول الديمقراطي في السودان على حساب نظام
المؤتمر الوطني الحاكم .هذه النقطة بالذات هي التي أكسبت النظام القوة والشرعية واإلستمرارية ،تأسيسا ً
على الحقيقة القائلة بأن الجهة الواحدة التي تربط نفسها بإتفاقيات متعددة مع جهات مختلفة ،هي التي تكسب
في الموازنة النهائية .على العكس تماما ً من الصورة المتخيلة التي كان من الممكن أن يقوم فيها إتفاق واحد
بين المؤتمر الوطني وخصومه جميعا ً ،ألن ذلك كان وبالضرورة لن يفرز النسب الحالية لقسمة السلطة
والثروة ،ومهما كان الناتج ،فإن درجة تأثيره على الحراك السياسي اليومي في السودان كان سيكون مختلفا ً
عن الشكل الحالي .بإختصار شديد إن هذه اإلتفاقيات المتعددة إتاحت للمؤتمر الوطني درجة كبيرة للمناورة
واللعب على التناقضات المختلفة للقوى التي وقعت على هذه اإلتفاقيات معه بحيث مكنته من تقوية نفسه على
عدة أصعدة ،أهما على اإلطالق أنها ـ أي هذه اإلتفاقيات ـ ومن ناحية قانونية وسياسية وفرت له اإلستمرارية
بقوة الضمانات اإلقليمية والدولية التي تقف من خلفها ،وهي صورة معكوسة تماما ً بالنسبة لكل الذين سعوا
لهذه اإلتفاقيات ،بما فيهم المجتمع الدولي نفسه ،فكل الذين عملوا على الحصول على هذه الضمانات لتأمين
تنفيذ هذه اإلتفاقيات ،تكشف لهم اآلن أنها في الواقع لم تكن سوى ضمانات حققت إستمرارية للنظام بذات
القدر الذي أمن لهم نصيب من سراب في السلطة والثروة (يسيطر عليه المؤتمر الوطني ال هم) ،وبالتالي
هزموا مشروع التحول الديمقراطي في داخلهم أوالً منذ البداية بقبولهم بمشاركة متعددة المنافذ والسقوف مع
نظام المؤتمر الوطني ،أتاحت لألخير اليد العليا في الدولة ولهم اليد السفلى .وقد إنتبه لذلك في أخريات أيامه ـ
وقبل أن يجف مداد توقيعه على إتفاقية السالم الشامل ـ الراحل د .جون قرنق ديمابيور رئيس الحركة الشعبية
ولخصه بقوله "."The NIF cannot be reformed, it should be removed
هذا المشهد وعلى الرغم من تفاؤل الكثيرين به إستناداً على أن إتفاقيات السالم التي وقعت بين الحكومة
وخصومها حققت قدر من التحول أو مساحة من الحريات قد تمكن من إحداث التغيير ـ كما يطلق عليها
البعض ـ أمر تدلل شواهد عديدة على أنه كان قراءة غير واقعية لألمور .فنيفاشا وغيرها أوقفت الحرب؛
نعم ،لكنها لم تصنع السالم ولم تغير كثيراً من معادالت السلطة أو تقلل بدرجة ملحوظة من قوة قبضة
المؤتمر الوطني على مقاليد األمور .ويعزى كل ذلك إلى األسس التي قامت عليها نيفاشا وماتالها والطرق
التي تمت بها:
16
الديمقراطية في ذلك الحين قبول هذا الطرح وتجنيب الدولة خطر تمدد النزاع وإتساع رقعته .إن ذلك يظهر
لنا حقيقة العالقة الجدلية ما بين إزدياد حدة األزمة وإتساع رقعتها الجغرافية واإلجتماعية ،مقابل إرتفاع سقف
المطالب السياسية .فبالقدر الذي تزداد في هذه الحدة على صعيد المواجهة المسلحة واإلقصاء السياسي ،ترتفع
سقوف المطالبة بالحقوق المهضومة حتى تصل في أقصي مراحلها إلى المطالبة باإلنفصال.
عليه؛ فإن الحقيقة التي ال مناص منها إن اإلتفاق ومن حيث المبدأ لم يكن نتاج إرادة سياسية للطرفين في
الجلوس إلى طاولة التفاوض ،بقدرما كان ذلك مفروضا ً عليهما بفعل عوامل عديدة أهمها:
أوالً :عامل داخلي متعلق بوصول الطرفين إلى قناعة عدم قدرة أي منهما على هزيمة اآلخر من الناحية
العسكرية "توازن الضعف المتبادل".
ثانيا ً:عامل خارجي مرتبط بتدخل المجتمع الدولي واإلقليمي لفض نزاع هو األطول عمراً في أفريقيا لمصالح
قد ال تتفق مع أطراف النزاع.
ثالثاً :إرتباط إتفاقية السالم الشامل في الكثير من بنودها المعلنة والسرية بشخصية د .جون قرنق والتي مثلت
محور إرتكاز إنبنى على فرضية بقائه لتنفيذه ،وعندما رحل في مالبسات غامضة ،تأثرت عمليات التنفيذ.
ومهما حاولنا التقليل من شأن ذلك فإنه أمر يواجه المتابع للساحة السودانية كل يوم.
هذه العوامل مجتمعة هي التي شكلت األساس الذي إنطلقت منه كافة الصعوبات التي واجهتها وتواجهها
اإلتفاقية خالل فترة المفاوضات واآلن في مراحل التنفيذ .وبالتالي؛ جاء اإلتفاق وهو يحمل معه تناقض
أساسي ،ينطلق من أن نظرة ورغبة الطرفين متعارضة حيال السالم .فالمؤتمر الوطني يريد سالم ونظام
سـياسي مستقر ،لكن وفقا ً لما يحقق له السيطرة على مفاصل الدولة ،وبشراكة مع الحركة الشعبية ال تتصادم
مع هذا الهدف .بينما الحركة تريد أن تحقق التغيير نحو سودان جديد عبر هذه الشراكة وبنود اتفاق السالم
على أقل تقدير .وقد كان ذلك واضحا ً للعيان ومنذ وقت مبكر ،من خالل الصعوبات التي واجهت تفاصيل
اإلتفاق ،وهي ذات القضايا التي هي اليوم مصدر للخالفات في حكومة الوحدة الوطنية .عليه؛ يبدو أن النتيجة
بعد عامين من التوقيع غيري مشجعة ،وتشير مظاهر مختلفة على دخول اإلتفاق إلى نفق مظلم ،يهدد
بإنهياره ،والذي قد تستتبعه وضعية من الصعب التهكن بها ،لكنها لن تكون بأي حال من األحوال بأفضل من
الراهن.
وإجماالً وبحصر نتائج إتفاقيات السالم التي تمت خالل الفترة الماضية(نيفاشا ،أبوجا ،القاهرة ،وأخيراً إتفاقية
سالم الشرق) فإن الحصيلة التي يمكن إستنتاجها هي ،أن الحرب أوقفت ولكن لم يتحقق السالم .ومما يقوي
من هذه الفرضية ،تصاعد درجة اإلحتقان السياسي نتيجة لسلوك الحزب الحاكم حتى بعد التوقيع على هذه
اإلتفاقيات .مما يضع البالد مرة أخرى على أول عتبات إعادة دورة الصراع من جديد في أحسن الفروض.
وعلى ضوء ذلك يواجهنا السؤال األساسي :إلى أين تمضي األقدار بالدولة السودانية(؟) الكل يجمع على أنها
مرحلة جد خطير ،وأن السودان يقف على حافة إنهيار الدولة ،لكن ال أحد يحرك ساكناً .فما هو المخرج(؟)
17
السودانية من جديد .فهل باإلمكان تحقيق هذا الرهان (؟؟) .هناك حقائق بديهية البد من وضعها في الذهن قبل
المضي قدما ً مع هذه الفرضية لمعرفة ما إذا كان باإلمكان تحقيق ذلك أم ال.
أوالً :المؤتمر الوطني يملك رصيد في ممارسة الحكم يبلغ األن أكثر من خمسة عشر عاماً ،راكم خاللها ـ
وبالضرورة ـ تجربة سياسية مكنته من أن يبني قواعد إرتبطت به عضويا ً بمصالح مادية مباشرة .وبالتالي
فإن الصراع الديمقراطي معه لن يكون باألمر السهل المنال .في المقابل نجد القوى السياسية األخرى ،والتي
كانت وطوال تلك الفترة إما كانت تمارس العمل العسكري من خلف الحدود أو العمل السياسي السري تحت
األرض ،وخرجت إلى فضاء التحول الديمقراطي الذي وفرته اإلتفاقيات المتتالية وهي منهكة تنظيميا ً ومتخلفة
سياسيا ً عن واقع الحال في السودان خالل الـ 16عاما ً الماضية ،وهذه فترة ليست بالقصيرة نمت خاللها
أجيال فاقدة للذاكرة الوطنية.
ثانياً :سيطرة المؤتمر الوطني على مفاصل الدولة أتاحت له إمتالك الثروة ،عززت من ذلك عائدات البترول،
وحتى الكثير من القوى السياسية اآلن تجأر بالشكوى من التضييق الذي يمارسه المؤتمر الوطني على منافذ
دخولها وإستثماراتها مقابل الثراء الواضح للحزب الحاكم .عليه؛ فإن قدرات الطرفين غير متكافئة على صعيد
اإلمكانيات المادية ،وهو عامل يؤثر بدرجة كبيرة على القدرة التنافسية لألحزاب في المعارك اإلنتخابية.
واليقف األمر عند المستوى الفوقي للسلطة ،بل يتعمق في قاعدة المجتمع .فقد خلق المؤتمر الوطني شرائح
منتفعة من موارد ومقدرات الدولة ،تمتد من أعلى قمة الهرم السياسي إلى أدنى المستويات ،تملك وتدير
رؤوس أموال ضخمة تغذيها عائدات البترول ،وهي ال تشبه الطبقة أو البطانة "الرأسمالية" التي كانت تحيط
بالنميري وتعيش على إستحالب رؤوس األموال من الفساد في دولة هي أصالً ضعيفة وفقيرة .وبالقدر الذي
تتضخم فيه هذه الثروة في أيدي هذه الشريحة الطفيلية ،يقوى إرتباطها العضوي بجهازها الحاكم (المؤتمر
الوطني) ،مما يتيح لها توسيع قاعدتها الجماهيرية بإستثمار هذه األموال الضخمة عبر الفساد وشراء الذمم
لتثبيت أركان النظام السياسي الذي يدعم مصالحها .عليه؛ فإن المواجهة السياسية عبر صناديق اإلقتراع
لهزيمة المؤتمر الوطني ستصطدم بهذا الواقع ولن يكون من السهل إقصاؤه طالما ظل هو المتحكم في إقتصاد
الدولة ،ويدير هذه الشبكة الطفيلية المنتفعة من وجوده وإستمراريته.
ثالثاً :الظروف الدولية واإلقليمية لم تعد كما كما كانت في الماضي ،وإن كان في عقد الثمانينيات من القرن
الماضي باإلمكان التحرك في هامش التناقضات بين القطبين الكبيرين لتأمين قدر كافي من موازنة للضغوط
وتوفير المقدرات المادية ،فإن ذلك اآلن أصبح أمراً غير ممكن وقد وصل هذا الهامش إلى حده األدنى،
وبالتالي فإن أي خيارات ستجد نفسها قد تتصادم مع المصالح الدولية واإلقليمية هذه.
عليه؛ وفي أي تقدير للتوقعات السياسية بالسودان في إطار التغيير عبر الممارسة الديمقراطية يصبح من المهم
جداً إستصحاب هذه العوامل .وهنا تنفتح إحتماالت عديدة منها:
.1ما يرى إن المؤتمر الوطني سيخوض اإلنتخابات خالل منتصف الفترة اإلنتقالية حسبما هو مقرر في
اإلتفاق وسيكسب هذه اإلنتخابات ،لكنه سيعمل على عدم الوصول إلى نقطة اإلستفتاء على حق تقرير
المصير إستناداً على العوامل الثالثة المذكورة آنفاً .دافعه :تقنين شرعيته السياسية التي إكتسبها من
اإلتفاق عبر صناديق اإلقتراع فيما يتعلق بمسألة بقائه على السلطة .أسبابه :قطع الطريق أمام اإلستفتاء
إلبقاء الجنوب ضمن إطار الدولة السودانية واإلستفادة من مداخيل البترول في تمويل الدولة والحزب.
وهو األمر الذي قد يدفع بالحركة السياسية في الجنوب في اإلتجاه المعاكس حتى نقطة إعالن اإلستقالل
من جانب واحد ( ،)UDIفيما يشبه وضعية نظام إيان سميث في ردويسيا العنصرية (سابقاً).
18
.2رأى آخر ال يتفق مع هذه الفرضية ،تأسيسا ً على أن هناك تيار قوي وقريب من السلطة يراهن ويعمل
على إنفصال الجنوب عن الشمال(تيار الطيب مصطفى/عبدالرحيم حمدي) ،والذي من مصلحته وضع
العراقيل في طريق الوصول إلى إإلنتخابات ،لكنه قد يقبل باإلستفتاء لتحقيق هدفه.
ً ً
.3ورأي ثالث يعتقد أن كال الوضعتين قد ال تحدث وأن المؤتمر الوطني سيحقق إنتصارا ساحقا على الحركة
الشعبية في عقر دارها لتغيير المعادلة السياسية في الجنوب لصالحه كخطوة أولى للتحكم بصورة أو
أخرى في سير ونتيجة اإلستفتاء على حق تقرير المصير .وهو ما قد يعقد األوضاع بالجنوب ويفتح أيضا ً
إتجاه إعالن اإلستقالل من جانب واحد أو إندالع الحرب مرة أخرى.
لذلك فإن رهان هزيمة المؤتمر الوطني عبر صناديق اإلقتراع هو أمر ـ على أقل تقدير ـ يصعب تحقيقه خالل
الوقت الحاضر ،ما لم تتدخل عوامل أخرى ،مثل تطور األوضاع في دارفور على صعيد المواجهة والتدخل
الدولي ،أو تزايد حدة الصراعات داخل الحزب الحاكم بين األجنحة المختلفة ووصولها إلى نقطة الالعودة
والمواجهة .وكال الحالتين ستضعفان المؤتمر الوطني.
19
و .هناك حالة تتشكل إفتراضيا ً وهي أن تتحالف قوى اإلسالم السياسي جميعها أو أجزاء منها بما فيها
المؤتمر الوطني ،على خلفية التهديد بإنهيار الحكومة نتيجة لتطور ملف دارفور لدى محكمة الجنايات
الدولية ومجلس األمن .وهي حالة تستند في قراءتها علىى أن الخاسر من ذلك هي "الحركة
اإلسالمية" بشكل عام وهوما قد يقسم حكومة الوحدة الوطنية إلى شطرين ،تيارات اإلسالم السياسي
مع المؤتمر الوطني في مواجهة الحركة الشعبية وحلفائها ،وإحدى النتائج إنهيار إتفاقية االسالم
والعودة مرة أخرى لمربع الحرب.
هذه الخيارات التي تقع تحت رؤية الفوضى الخالقة أو الالنهائية ،وفي واقع العمل السياسي من الصعوبة
بمكان ترتيبها حتى يمكن التقرير بأن األوفر حظا ً للحدوث ،وقدم يتقدم خيار على باقي المجموعة نتيجة
لمتغيرات محددة ،أو قد تحصل جميعها بشكل متزامن ،وفي هذه الحالة فإنها تخلق وضعية الفوضي الخالقة
التي نتحدث عنها ويحصل التغيير بواقع ضغط التأثير المتزامن لكل هذه العناصر ،والذي أما أن يكون بشكل
إيجابي نحو إعادة التأسيس للدولة السودانية أو الدخول في الفوضى الالنهائية فيما هو أشبه بالحالة الصومالية.
20