Professional Documents
Culture Documents
D-8 علاقة الدين بالدولة
D-8 علاقة الدين بالدولة
سامي صالح
amatonj@gmail.com
تمهيد:
السودان /الدولة األزمة:
من المفيد دوماً في إطار النقاش حول أي موضوع تحديد الحقل الجاري البحث فيه أوالً ،ثم تحديد المصطلحات التي يستند عليها
النقاش و البحث ،فبدون تحديد المواقع أوالً من المستحيل بمكان تحديد األهداف و وجهات النظر و المرامي التي نقصدها .لذلك عند
الحديث عن هذا الموضوع أو ذاك أرجو دوماً البدء و بإستم ارر بمتالزماته بتحديد الحقل المعني بالنقاش و خصائصه و متوالفاته
وتناقضاته ،ليس من المفيد أبداً النقاش و اإلسترسال فيه إن لم يكن يبدأ بالتأسيس إلستنطاق مفاهيم محددة ،تعنى بمشكلة معينة،
تحللها ،تناقشها ،تفككها و تفتتها إلى عواملها األولية قبل البدء في النقاش حول الحلول المقترحة لهذه المشكلة ببديهة الحال ،ألن من
يجهل الشئ فهو أجهل بما يترتب عليه أو ما يقي منه و الجهل بجزيئات الموضوع يفضي إلى الجهل بعمومياته.
و من المعلوم بالضرورة بأن دولة متأزمة في عالقاتها القانونية/الوضعية من ناحية مشروعيتها كدولة مثل الدولة السودانية هي
أحوج ما يكون إ لى مثل هذا التأسيس الذي يقصد منه قبل كل شئ إنجاز مشروع نهضوي حقيقي يخرج بها من دائرة الفشل الموصومة
بها تاريخياً .و يرتبط هذا المشروع النهضوي ألي دولة بالتركيبة (الثقافية /اإلقتصادية /السياسية /اإلجتماعية) للحقل الكائنة فيه (و هو
السودان في حالتنا هذه) ،و إرتباط أي مشروع تقدماً أو تأخ اًر سلباً أو إيجاباً إنما يكون مرهوناً بمقدرة هذه التركيبة على مخاطبة مشاكلها
و مواجهة أزماتها و من ثم تجاوزها ،و هذه المقدرة مرهونة بدورها بمقدرة هذه التركيبة على مواكبة المتغيرات و المستجدات فالواقع
الموضوعي عبارة عن مركب متحركات و ليس ثابتاً ،وهذه المواكبة إنما تكون إنطالقاً من عقلية علمية تحليلية ،وليس التمسك
الدوغمائي ( )Dogmaticالنصوصي و/أو اإلنتهازي بنظريات و آيديولوجيات عالقتها بالواقع الحي الماثل أمامها مثل عالقة النار
بكوم القش ما إن تمسه حتى تقضي عليه ،و نحن هنا نقف أمام تحدي تاريخي من أجل بلورة مشروع نهضوي وطني قادر على إعادة
تأسيس الدولة السودانية وفق معايير جديدة حتى ننتشلها من هبوطها التاريخي تأسيساً لدولة الرفاهية .و هذا إنما هو تعبير عن إرادة
اإلرتقاء اإلنساني ،بل هو تجسيد تلك اإلرادة على أرض الواقع ،و إذا كان الواقع السوداني متدهو اًر بإستمرار من ٍ
سئ إلى أسوأ كلما تقدم
فإن ذلك حسب ما سنرى تقف وراءه عوامل كثيرة ،أحدها وأكثرها تأثي اًر ما عبرنا عنه أعاله بـ(التمسك الدوغمائي به الزمانّ ،
( )Dogmaticالنصوصي و/أو اإلنتهازي) ما عبر عنه د .أبكر آدم إسماعيل بـ(فتارة تجاهل التاريخ وتارة تجاهل الواقع و تارات أخرى
مجانبة إعمال الفكر في القضايا وكل ذلك إما لقصور معرفي لدى البعض الذي يعتمد التقارير (الرسمية) التي تقدمها األسماء المدرسية
والتقارير متحيزة وفي أحيان متفائلة دون مبررات واقعية ،واما ألنه معني بتبريرات أيديولوجية دفاعية ومن ثم (السكوت) و المسكوت
فإن النخب السياسية و األكاديمية لم تكن تمتلك
عنه في الخطاب الرسمي في السودان هو في الحقيقة جوهر المسألة)1بمعنى آخر ّ
أدوات فاعلة ،بل إنها وقفت عاجزة تماماً عن مخاطبة واقعها و معالجة قضاياه بشفافية ،و هذا العجز هو ناتج الجهل في بعض
األحيان و سوء النية في األحيان األخرى.الجهل هنا يكتنف النخب ذلك أنها درست النظريات الجميلة التي أنتجت و طبقت في سياقات
زمانية و مكانية أخرى و كما ذكرت في مكان سابق فإن كلمة أخرى هذه ال يجب النظر إليها ببساطة(ألنها تعني أن هذه النظريات
التي وقعت في أسره ا النخبة أنتجت في سياقات زمانية و مكانية أخرى و ظروف مفارقة للظروف التي نعايشها هنا ،و بالتالي فإن
هذه النخب مسئولة تاريخياً عن تشويهها الالواعي للواقع و تعقيد أزماته عبر تزييفها لحقيقته و حقيقة الصراع فيه و بالتالي استم ارره و
تفاقمه ألن من يجهل الداء فه و بالضرورة أجهل بالدواء مما يعني أن هذه النخب الفاشلة هي أحد أكبر أزمات الواقع في حد ذاتها عبر
تطبيقها و تنظيرها اإلستهالكي و اإلجتراري لنظريات مستوردة على واقع مفارق ،وهذا ما جعلنا نصمها بالذاتية و األحادية ألنها تعيش
1أبكر آدم إسماعيل ،تأمالت في الحال والمآل ،حول مسألة الديمقراطية في السودان ،القاهرة ـ نوفمبر 1999م
1
على مستوى المتخيل الذهني ال على صعيد الواقع بغض النظر عما إذا كانت ماركسية أو إسالموسياسية أو قومية عربية أو غيرها من
الجماعات التي تجتر النظريات الجميلة و الخالبة!! ،و هذا يشمل فيما يشمل تلك المجموعات التي تدعي التحديث و التنوير و لكن
بذات النهج اإلجتراري اإلستهالكي و التي تتحرك في قراءتها للتاريخ ( تاريخ الحداثويين الحقيقيين) قراءة خطية حتمية أي أن ما حدث
هناك يجب أن يحدث هنا وفق ذات التسلسل دون أن تراعي شروط اإلختالف فوقعت بهذا في ذات الفخ الحقيقي الذي نحذر منه .
وعجزت بذلك عن إنتاج مشروع حداثوي حقيقي ،لهذا يأتي وصمنا لهذه الجماعات باألحادية /الذاتية ،و يأتي تصنيفنا هذا من أن ما
هو ذاتي بالضرورة يختلف عن ما هو موضوعي في أن الذاتي يعيش في مخيلة صاحبه فقط و ال يوجد في الواقع) 2و لهذا فإن فإنني
3
ألجأ إلى القول بأن هؤالء الذين يطبقون نظريات مستوردة على واقع مفارق إنما كانوا يمددون هذا الواقع على سرير بروتوكوس.
أما سوء النية فقد كان في إستغالل البنية السياسية (الدولة -األحزاب) من أجل تحقيق مشروع المركز أي إستخدام جهاز الدولة
إقصائياً لصالح هيمنة المركز اإلسالموعروبي على حساب الكيانات اإلجتماعية و الثقافية األخرى ،بالتهميش و إعادة اإلنتاج واإلقصاء
و اإللغاء و القمع ،ما أريد التأكيد عليه هنا أن ما يربط التركيبة (الثقافية /اإلقتصادية /السياسية /اإلجتماعية) عبارة عن خيوط
مترابطة تؤثر و تتأثر كل منها ببعضها البعض سلباً و إيجاباً ،أي أننا نتعامل معها كبنية واحدة و ليس كما يذهب ماركس إلى القول
ببنية فوقية و بنية تحتية.
فالتخلف الثقافي/اإلجتماعي ينتج الفشل السياسي و األخير يتمظهر في الفشل اإلقتصادي و الحروب األهلية ،و هكذا تكون النتائج
مشاكل ال حصر لها فمن التخلف اإلجتماعي و النسيج اإلجتماعي المتفكك الذاخر بسلبياته :التمركز حول البنية األبوية البطرياركية و
التركيبة العشائرية القبلية ،اإلستعالء الديني و العرقي و النوعي (ذكر/أنثى) ،التطرف الديني ،إشكاليات قبول اآلخر ،إنعدام السالم
اإلجتماعي ،إنتشار األمية ،إنعدام التنمية إرتفاع معدالت الفقر و التضخم و البطالة ،التدهور في مجاالت الخدمات األساسية ،إرتفاع
معدالت الدعارة و الجريمة و الفساد المالي ،الحروب األهلية و الفقر و الجهل و المرض ...ليس من الممكن بحال من األحوال الفصل
بين هذه النتائج بإعتبار أنها ليست ناتج التخلف الثقافي و اإلجتماعي فالبنية األبوية /العشائرية تتالزم مع عقلية الوصاية و األوامر
الصادرة من أب /رئيس /أعلى...إلخ و تتالزم أيضاً مع إقتصاد الريع و الخراج و تتناقض جوهرياً بهذا مع مفاهيم الديمقراطية و الحرية
و مع العدالة اإلجتماعية و حقوق اإلنسان و كرامته .فمن لم تتحقق إستقالليته المفاهيمية على مستوى بنيته الذهنية/الثقافية و من ثم
اإلجتماعية لن تتحقق على مستوى بنيته اإلقتصادية و السياسية و غني عن القول أن الدولة على رأس هذه البني.
اليمين و اليسار...قراءة مغايرة:
بحسب محمد جالل أحمد هاشم فإن التصنيف إلى يميني و يساري ليس صالحاً وفق التصنيف القديم بإعتبارات الوضعية
التاريخية/السياسية/اإلجتماعية للدولة السودانية عندما نحيلها إلى مفهوم مركز إسالموعروبي مقابل هامش ،حيث أن مفهوم اليمين
ينطلق من أن هم اليمين هو المحافظة على الوضعية القائم بغض النظر عن ماهية هذه الوضعية القائمة و أن مفهوم اليسار هو مفهوم
راديكالي يحاول أن يطيح بهذه الوضعية ،لذا فهو يطرح مفهوما مغاي اًر بأن فهمنا لليمين و اليسار بصورتهما الشائعة إنما هو يمين
كالسيكي و يسار كالسيكي و أن التصنيف إلى يمين و يسار يجب أن يعاد النظر فيه على النحو التالي:
/ 1التيار اليميني :وهو الذي يستند على أيديولوجيا األسلمة واالستعراب والنظام السائد ،ومن ثم كل العوامل التي أدت إلى ظهور
انتهاء بالدولة الوطنية وأنظمة ما بعد االستقالل التي
ً بدء بالفونج ،فالتركية ،ثم المهدية ،إلى الحكم اإلنكليزي،
الدولة السودانية الحديثة ً
تسارعت وتائر فشلها في متوالية عددية أوصلتنا إلى ما نحن فيه .ضمن هذا التيار يدخل العروبيون واإلسالميون بما في ذلك القوميون
العرب وغالبية الماركسيين السودانيين.
2سامي صالح ،العقلية المستقلة ،نحو معايير جديدة لواقع أفضل ،بحري حلة حمد ،أغسطس 2004م.
3بروتوكوس قاطع طريق أوروبي من القرون الوسطى كان يمدد ضحاياه على سرير ذي أبعاد معينة ،فكان يقطع األطراف التي تزيد على طول السرير بالنسبة
ألولئك الطوال القامة ،أما القصار فإنه كان يمطهم حتى يصيروا بذات طول السرير.
2
/ 2التيار اليساري :وهو الذي يقوم على الجهوية دونما إطار قومي ،مثلما كان يشهد بذلك الحال في الماضي القريب (حركة
انفصال جنوب السودان بمختلف مسمياتها التنظيمية ،نهضة دارفور ،مؤتمر البجا ،اتحاد جبال النوبة…إلخ) .إن هذه الحركات الجهوية
في حال اضطرادها المنطقي ُيفترض بها أن تنتهي بالدعوة إلى االنفصال ـ دون التعرض الستعصاء فنياته .وألنها تمثل بذلك رفضاً
مبدئياً للدولة السودانية القومية ،جاز لنا أن يتم تصنيفها كيسار سوداني .بالطبع تن ّكب أغلب هذه الحركات أو كلّها هذا الطريق الجهوي
ثم استعصموا بعرى القومية فيما نشهد اآلن من مآالت. االنفصالي ،ومن ّ
/3تيار الوسط :هذا التيار يقوم على أيديولوجيا القومية السودانية أو التكامل القومي ،والتي تستند بدورها على الحقوق الثقافية
المتكافئة والمتوازنة بين األقوام السودانية شرقاً وغرباً ،جنوباً وشماالً ،ثم وسطاً .كما تقوم على ضرورة إلغاء واقع الهيمنة والقهر الثقافي
بكل تجلياته السياسية ،االقتصادية ،واالجتماعية ،والدولية (نسبة إلى مؤسسة الدولة) .وألن هذا التيار يتوازن أيديولوجياً ما بين القطبين
السابقين ،لهذا جاز لنا تصنيفه كوسط .إن هذا التيار ليس تصالحياً ،لمجرد كونه متوازناً .وفي هذا نقصد بالتصالح كل التيارات الفكرية
التي تسعى لالنعتاق من أسر الثقافة القاهرة عبر التصالح معها ـ مثل اآلفروعروبية.4
4محمد جالل أحمد هاشم ،السودانوعروبية أو تحالف الهاربين ،المشروع الثقافي لعبد هللا علي إبراهيم،قدم هذا البحث في مؤتمر السودان :الثقافة والتنمية
الشاملة :نحو إستراتيجية ثقافية -مهداة للروائـي الطيب صالح" ،مركز الدراسات السودانية ،القاهـرة ،دار األوبرا المصرية -الجزيـرة ،األربعاء 4أغسطس-
السبت 7أغسطس .1999و أنظر كذلك كتاب منهج التحليل الثقافي:ظاهرة الثورة و الديمقراطية في الثقافة السودانية ،لنفس الكاتب.
3
دنياها ،فإن هذا ال ينقض علمانية الدولة التي ندعو إليها كما أنه ال يضع مشروعيةً لدينيتها،ألن لكل من الدين و الدولة طبيعته
المنطقية الخاصة به كما سوف نرى فيما بعد.
على كل مهما كانت الحيثيات التي يترافع بها خطاب السودان القديم في مواجهة بعضه بعضاً (يميناً أو يسا اًر) فإنها تفرض نفسها
كجزء من اإلرث السياسي الذي ظ ّل مسيط اًر على المشهد السياسي لذاكرة الدولة ،أي أنه و إن كان نقيضاً أيديولوجيا لنا هنا إال أنه
يفرض نفسه بإسقاطاته الثقيلة التي ظلّت ترهق كاهل هذا البلد طوال تاريخه في حلقة سوء إدارة أزمات الدولة التي تتوافق بالضرورة مع
مشروعنا هذا.
الدين و الدولة /تفكيك المفاهيم:
الدين:
يرى فراس السواح أن" المعتقد الديني يقوم على اإلحساس بانقسام الوجود إلى مستويين أو مجالين ،المستوى الطبيعاني و هو
عالم الظواهر المحسوسة الذي يعاينه و يتحرك ضمنه اإلنسان ،و المستوى القدسي ،وهو الغيب الذي صدرت عنه هذه الظواهر
المحسوسة بما فيها اإلنسان و أشكال الحياة األخرى .يتصل المستوى القدسي بالكون من خالل حالة فعالية هي قوته السارية التي
تجمع بين المستويين في دارة واحدة ،باطنها األلوهة و ظاهرها ما ال يحصى من الظواهر الحية و الجامدة" ،5و من هذا التأسيس فهو
يرى أن"الدين ليس وهما و المؤمن ليس واهما في إحساسه بوجود قوة أعظم منه تضم الوجود إلى وحدة متكاملة،ألن الخبرة الدينية قد
ارتكزت عبر األزمان على تجربة حقيقية صلبة و على شرط معطى للوجود اإلنساني .من هنا فإن األديان كلها تقف على قدم المساواة
و تتمتع بدرجة واحدة من المشروعية ،حيث ال وجود ألدي ان حقيقية و أخرى زائفة ،ألديان راقية و أخرى منحطة ،ألنها جميعها نتاج
تلك التجربة الحقيقية الصلبة ،و الشرط المعطى للوجود اإلنساني".
6
الدولة:
بحسب ماكس فيبر "الدولة هي هيئة بشرية تطالب بنجاح باحتكار االستخدام الشرعي للعنف الفيزيائي في أرض محددة...
]وهي بحسب بورديو[ شيء مجهول (( )Xللتحديد) تطالب بنجاح باحتكار االستخدام الشرعي للعنف الفيزيائي والرمزي على أرض
محددة وعلى مجمل المجموعة السكانية المرتبطة بها"] .ومن تطبيقاتها لهذا المعنى في الحقل الثقافي أنها[ "تحاول توحيد السوق الثقافية
واللغوية ،وجعل الثقافة المهيمنة ثقافة وطنية مشتركة وشرعية وشاملة ورفض اللغات والثقافات األخرى كلغات وثقافات محلية ...وفرض
مبادئ الرؤية والتحليل أو التصنيف التي تتوافق مع مصالحها الخاصة (عن طريق المدرسة والتربية ومادة التاريخ تحديدا وتنشر أسس
(الدين المدني) والمفترضات المسبقة األساسية للصورة (الوطنية) عن الذات" وهناك تعريفات أخرى كثيرة7.الدين و الدولة /رؤية نقدية:
حسب رأيي أن عالقة الدين بالدولة ليست عالقة بالضرورة عالقة تالزمية أي أن بنية كل منهما قائمة على حدة بخصائصها و
مميزاتها و مجالها و مخاطبيها و شرعيتها،و لتوضيح وجهة نظري فإنني أرى أن المحك األساسي في عالقة الدين بالدولة هي هذه
األسس المنطقية و الموضوعية المذكورة التي يمكن أن تجعلنا أن نقول بأن هنالك عالقة بين الدين و الدولة ،أو أنه ال توجد عالقة
بينهما.
فمع أن الدين و الدولة خطابان تجريديان موجهان للبشر إال أن الدين يخاطب مجموع المؤمنين به المتواجدين على نطاق ال
يرتبط بالضرورة بكونهم مواطنين من دولة أو أخرى ،عكس الدولة التي هي خطاب لمواطنيها فقط بغض النظر عن كونهم موجودين
داخل الدولة أو خارجها.يعني هذا بالضبط أن الدولة الواحدة قد تضم مجموعة من المواطنين الذين ال ينتمون إلى دين واحد ،على
عكس ذلك فان الدين يبدو متجاو اًز لكون شرط مواطنيه يجب أن يكون حاملين لجنسية معينة .الفرق األساسي أن الدين يكتسب طبيعته
من ما و ارء الطبيعة/عالم الغيب/الميتافيزيقيا بينما نجد أن الدولة تكتسبها ما يتعلق بالطبيعة/عالم الشهادة/الفيزياء.هذا يعني أن الدين
5فراس السواح،دين اإلنسان بحث في ماهية الدين و منشأ الدافع الديني،منشورات دار عالء الدين دمشق،الطبعة الثانية 1996م ،ص.312
6نفسه ،ص .327
قراءة نقدية لخطاب المهدية الجديدة الصادق المهدي في آخر تجلياته ،أبكر آدم إسماعيل
4
ٍ
متعال على الذهن اإلنساني غير قابل من ناحية نصوصه للتعديل ،فأي تغير ال يمس الدين في هيكله أو بما هو خطاب ميتافيزيقي
جوهره بل يمكن أن يتغير من ناحية التفسير و التأويل لكن وفق تغير األحوال على األرض على األقل ،أي من ناحية فهم النصوص
و إعادة شرحها وفق مزاج/أيديولوجيا المفسر،بينما الدولة تتغير وفقاً للنظام السياسي الذي يتحكم فيها ليس من ناحية طريقة حكمها
فقط ،بل حتى في طريقة هيكلتها و مؤسساتها و نظامها األساسي الدستوري الذي يحكم عالقاتها و قيمها ،هذا اإلختالف ناتج من
طبيعة الدين و الدولة نفسهما ،و بالتحديد من مصدرهما الجوهري الذي ينطلقان منه.
فالدين هو خطاب ميتافيزيقي يتعلق بتفسير الوجود في بعديه النسبي/الجزئي و المطلق/الكلي ،هذا المطلق الذي هو بحسب
الدين يتحكم في النسبي ومن هنا تشرع النصوص في شرح هذه العالقات ،و الطبيعي أنها هنا تقدم حلوالً جاهزة أي أنها تقدم إجابة
قبلية عن ما يمكن أن نواجهه ،ال يعنيني هنا صحة هذه اإلجابة أو ال ،و ال فيما إذا كان العقل البشري الذي تخاطبه هذه النصوص
عاجز عن حل مشاكله بنفسه األمر الذي
ٌ قاد اًر على إستنباط هذه اإلجابات أم ال ،و لكن المهم هو أن هذا يعني أن العقل البشري
يفضي باإلنسان إلى اإلغتراب عن العالم .
و لكن الدولة بحسب ماكس فيبر " هي هيئة بشرية تطالب بنجاح باحتكار االستخدام الشرعي للعنف الفيزيائي في أرض
محددة .الدولة إذن هي هيئة بشرية و بشريتها تنبع من كونها عقد إجتماعي حيث يتنازل كل فرد عن جزء من ماله و حريته و إرادته
لصالح الجماعة التي يوجد بداخلها و التي بدورها تفوض هذه السلطة لصالح مجموعة أفراد يقودونها و يخططون لها ،هؤالء األفراد هم
الهيئة البشرية التي تمارس سلطتها على هؤالء األفراد الذين فوضوها وفق إرادتهم التي فوضت هذه السلطة ،و الدولة بوضعها التعاقدي
هذا تصبح على درجة من اإلستقالل عن األفراد و عن كل الجماعات داخلها و أن وظيفتها حراسة حقوق األفراد و الجماعات و ذلك
بـ-:
.1توزيع الفرص بين األفراد و بين الجماعات من جهة أخرى بعدالة و مساواة.
.2حراسة التعايش السلمي و اإلرادة العامة و منع التعديات التي تمنع تعدي الفرد على الفرد أو جماعة أخرى وفقاً
8
للحقوق المذكورة أعاله.
فالدولة هي عقد إجتماعي يكونها اإلجتماع البشري الكائن في زمان ما و مكان ما ،يفوض السلطة بحسب ما يعتقد انه يحقق مصالح
هذا اإلجتماع البشري ،و بالتالي فالدولة هي صيرورة بشرية في حالة تشكل و إعادة تشكل مستمرين ،سواءاً من حيث بنيتها الجغرافية
(الحدود التي تحددها) أو البشرية (التكوينات اإلجتماعية التي تنتمي إليها) أو المؤسسية (القوانين و اللوائح و النظم و المؤسسات
الحاكمة أي السلطة المفوضة)أي الدولة معرضة للتغير في مكوناتها الثالثة :األرض و الشعب و السلطة الحاكمة .هذا التشكل و
إعادة التشكل المستمرين هما رهينين بالحراك البشري الموجود و بمصالح اإلجتماع اإلنساني و بالتالي فهو يكتسب مشروعيته من
اإلجماع اإلنساني و ليس من أي شئ آخر بالتحديد المشروعية الدينية ،و هذا ينفي عنها أي قدسية إلهية يمكن أن تنأى بها عن الخطأ
أو الزلل ،فإكساب الدولة أي شرعية إلهية من شأنه مطلقة النسبي :أي إلباس الدولة لباس القداسة و من ثم تتعالى على النقد و التقويم
برغم أنها يمكن أن تمتلئ بالتناقضات 0البشرية التي تتحرك في داخلها ،فإذا كان حكم البشر يمكن النضال ضده بإسم البشر أي في
إطار حكومة و معارضة دستورية تتداول السلطة سلمياً ،فإن خطورة تحكم مجموعة بإسم الدين على الدولة يمكن أن يجعل هذه
فإن أي معارضة لها هي معارضة ضد حكم الدين ،و بالتالي فهي كفر و المجموعة أن تدعي بأنها تحكم الناس بإسم الدين و بالتالي ّ
هرطقة يجب القضاء عليها ،أي أنه يتم التخلص من الوسيط البشري الذي يحكم هنا و إدماجه في مفهوم الدين.
هذا التخلص يتم بمهارة ففي حين أن العقل البشري يقوم بقراءة النص الديني المطلق وفق قدراته النسبية القابلة للصواب/الخطأ حسب
المخطط التالي:
8
برنامج الثورة السودانية (البرنامج السياسي لمؤتمر الطالب المستقلين -القطاع الطالبي لحزب المؤتمر السوداني)
5
تفسير (مخرجات) قراءة النص(تشغيل) نص مقدس (مدخالت)
Input Processing Output
من البديهي القول بأن عملية قراءة النص ترتبط بحالة الكاتب النفسية و المعرفية و المصلحية و األيديولوجية و الحضارية(أي النقطة
الزمانية و المكانية التي يقف فيها) ما يحدث هنا هو أن الذي يقوم بعملية التفسير يلغي إجرائياً نفسه من المخطط أعاله ،ثم يقوم بدمج
التفسير (المخرج) في النص (المدخل ) فيبدو أن المخرج هو المدخل نفسه!! و بالتالي إضفاء القداسة عليه،مع أن هذا النص يمكن أن
يكتسب تفسي اًر مغاي اًر عند مفسر آخر أو عند نفس المفسر بطبيعة الحال ،بالتالي فإن تعرية هذا الخطاب من أدواته تظل واجبة و ذلك
بموضعة الدين بإعتباره إختيا اًر شخصياً معني به الفرد الذي يعتنقه في المقام األول و من ثم المجموع الديني الذي ينتمي إليه ،هذه
الموضعة هي التي توهم بأن للدين عالقة بالدولة مع أنهما كما سلف متباينان من حيث الخطاب و مصدره و الموجه إليه و طبيعته و
شرعيته.
6