You are on page 1of 6

‫علاقة الدين بالدولة ‪ /‬تفكيك المفاهيم‬

‫سامي صالح‬
‫‪amatonj@gmail.com‬‬
‫تمهيد‪:‬‬
‫السودان‪ /‬الدولة األزمة‪:‬‬
‫من المفيد دوماً في إطار النقاش حول أي موضوع تحديد الحقل الجاري البحث فيه أوالً‪ ،‬ثم تحديد المصطلحات التي يستند عليها‬
‫النقاش و البحث‪ ،‬فبدون تحديد المواقع أوالً من المستحيل بمكان تحديد األهداف و وجهات النظر و المرامي التي نقصدها‪ .‬لذلك عند‬
‫الحديث عن هذا الموضوع أو ذاك أرجو دوماً البدء و بإستم ارر بمتالزماته بتحديد الحقل المعني بالنقاش و خصائصه و متوالفاته‬
‫وتناقضاته‪ ،‬ليس من المفيد أبداً النقاش و اإلسترسال فيه إن لم يكن يبدأ بالتأسيس إلستنطاق مفاهيم محددة‪ ،‬تعنى بمشكلة معينة‪،‬‬
‫تحللها‪ ،‬تناقشها‪ ،‬تفككها و تفتتها إلى عواملها األولية قبل البدء في النقاش حول الحلول المقترحة لهذه المشكلة ببديهة الحال‪ ،‬ألن من‬
‫يجهل الشئ فهو أجهل بما يترتب عليه أو ما يقي منه و الجهل بجزيئات الموضوع يفضي إلى الجهل بعمومياته‪.‬‬
‫و من المعلوم بالضرورة بأن دولة متأزمة في عالقاتها القانونية‪/‬الوضعية من ناحية مشروعيتها كدولة مثل الدولة السودانية هي‬
‫أحوج ما يكون إ لى مثل هذا التأسيس الذي يقصد منه قبل كل شئ إنجاز مشروع نهضوي حقيقي يخرج بها من دائرة الفشل الموصومة‬
‫بها تاريخياً‪ .‬و يرتبط هذا المشروع النهضوي ألي دولة بالتركيبة (الثقافية‪ /‬اإلقتصادية‪ /‬السياسية‪ /‬اإلجتماعية) للحقل الكائنة فيه (و هو‬
‫السودان في حالتنا هذه)‪ ،‬و إرتباط أي مشروع تقدماً أو تأخ اًر سلباً أو إيجاباً إنما يكون مرهوناً بمقدرة هذه التركيبة على مخاطبة مشاكلها‬
‫و مواجهة أزماتها و من ثم تجاوزها‪ ،‬و هذه المقدرة مرهونة بدورها بمقدرة هذه التركيبة على مواكبة المتغيرات و المستجدات فالواقع‬
‫الموضوعي عبارة عن مركب متحركات و ليس ثابتاً‪ ،‬وهذه المواكبة إنما تكون إنطالقاً من عقلية علمية تحليلية‪ ،‬وليس التمسك‬
‫الدوغمائي (‪ )Dogmatic‬النصوصي و‪/‬أو اإلنتهازي بنظريات و آيديولوجيات عالقتها بالواقع الحي الماثل أمامها مثل عالقة النار‬
‫بكوم القش ما إن تمسه حتى تقضي عليه‪ ،‬و نحن هنا نقف أمام تحدي تاريخي من أجل بلورة مشروع نهضوي وطني قادر على إعادة‬
‫تأسيس الدولة السودانية وفق معايير جديدة حتى ننتشلها من هبوطها التاريخي تأسيساً لدولة الرفاهية‪ .‬و هذا إنما هو تعبير عن إرادة‬
‫اإلرتقاء اإلنساني‪ ،‬بل هو تجسيد تلك اإلرادة على أرض الواقع‪ ،‬و إذا كان الواقع السوداني متدهو اًر بإستمرار من ٍ‬
‫سئ إلى أسوأ كلما تقدم‬
‫فإن ذلك حسب ما سنرى تقف وراءه عوامل كثيرة‪ ،‬أحدها وأكثرها تأثي اًر ما عبرنا عنه أعاله بـ(التمسك الدوغمائي‬ ‫به الزمان‪ّ ،‬‬
‫(‪ )Dogmatic‬النصوصي و‪/‬أو اإلنتهازي) ما عبر عنه د‪ .‬أبكر آدم إسماعيل بـ(فتارة تجاهل التاريخ وتارة تجاهل الواقع و تارات أخرى‬
‫مجانبة إعمال الفكر في القضايا وكل ذلك إما لقصور معرفي لدى البعض الذي يعتمد التقارير (الرسمية) التي تقدمها األسماء المدرسية‬
‫والتقارير متحيزة وفي أحيان متفائلة دون مبررات واقعية‪ ،‬واما ألنه معني بتبريرات أيديولوجية دفاعية ومن ثم (السكوت) و المسكوت‬
‫فإن النخب السياسية و األكاديمية لم تكن تمتلك‬
‫عنه في الخطاب الرسمي في السودان هو في الحقيقة جوهر المسألة)‪1‬بمعنى آخر ّ‬
‫أدوات فاعلة‪ ،‬بل إنها وقفت عاجزة تماماً عن مخاطبة واقعها و معالجة قضاياه بشفافية‪ ،‬و هذا العجز هو ناتج الجهل في بعض‬
‫األحيان و سوء النية في األحيان األخرى‪.‬الجهل هنا يكتنف النخب ذلك أنها درست النظريات الجميلة التي أنتجت و طبقت في سياقات‬
‫زمانية و مكانية أخرى و كما ذكرت في مكان سابق فإن كلمة أخرى هذه ال يجب النظر إليها ببساطة(ألنها تعني أن هذه النظريات‬
‫التي وقعت في أسره ا النخبة أنتجت في سياقات زمانية و مكانية أخرى و ظروف مفارقة للظروف التي نعايشها هنا ‪ ،‬و بالتالي فإن‬
‫هذه النخب مسئولة تاريخياً عن تشويهها الالواعي للواقع و تعقيد أزماته عبر تزييفها لحقيقته و حقيقة الصراع فيه و بالتالي استم ارره و‬
‫تفاقمه ألن من يجهل الداء فه و بالضرورة أجهل بالدواء مما يعني أن هذه النخب الفاشلة هي أحد أكبر أزمات الواقع في حد ذاتها عبر‬
‫تطبيقها و تنظيرها اإلستهالكي و اإلجتراري لنظريات مستوردة على واقع مفارق‪ ،‬وهذا ما جعلنا نصمها بالذاتية و األحادية ألنها تعيش‬

‫‪ 1‬أبكر آدم إسماعيل‪ ،‬تأمالت في الحال والمآل‪ ،‬حول مسألة الديمقراطية في السودان‪ ،‬القاهرة ـ نوفمبر ‪1999‬م‬

‫‪1‬‬
‫على مستوى المتخيل الذهني ال على صعيد الواقع بغض النظر عما إذا كانت ماركسية أو إسالموسياسية أو قومية عربية أو غيرها من‬
‫الجماعات التي تجتر النظريات الجميلة و الخالبة!! ‪ ،‬و هذا يشمل فيما يشمل تلك المجموعات التي تدعي التحديث و التنوير و لكن‬
‫بذات النهج اإلجتراري اإلستهالكي و التي تتحرك في قراءتها للتاريخ ( تاريخ الحداثويين الحقيقيين) قراءة خطية حتمية أي أن ما حدث‬
‫هناك يجب أن يحدث هنا وفق ذات التسلسل دون أن تراعي شروط اإلختالف فوقعت بهذا في ذات الفخ الحقيقي الذي نحذر منه ‪.‬‬
‫وعجزت بذلك عن إنتاج مشروع حداثوي حقيقي ‪ ،‬لهذا يأتي وصمنا لهذه الجماعات باألحادية ‪ /‬الذاتية ‪ ،‬و يأتي تصنيفنا هذا من أن ما‬
‫هو ذاتي بالضرورة يختلف عن ما هو موضوعي في أن الذاتي يعيش في مخيلة صاحبه فقط و ال يوجد في الواقع)‪ 2‬و لهذا فإن فإنني‬
‫‪3‬‬
‫ألجأ إلى القول بأن هؤالء الذين يطبقون نظريات مستوردة على واقع مفارق إنما كانوا يمددون هذا الواقع على سرير بروتوكوس‪.‬‬
‫أما سوء النية فقد كان في إستغالل البنية السياسية (الدولة‪ -‬األحزاب) من أجل تحقيق مشروع المركز أي إستخدام جهاز الدولة‬
‫إقصائياً لصالح هيمنة المركز اإلسالموعروبي على حساب الكيانات اإلجتماعية و الثقافية األخرى‪ ،‬بالتهميش و إعادة اإلنتاج واإلقصاء‬
‫و اإللغاء و القمع‪ ،‬ما أريد التأكيد عليه هنا أن ما يربط التركيبة (الثقافية‪ /‬اإلقتصادية‪ /‬السياسية‪ /‬اإلجتماعية) عبارة عن خيوط‬
‫مترابطة تؤثر و تتأثر كل منها ببعضها البعض سلباً و إيجاباً‪ ،‬أي أننا نتعامل معها كبنية واحدة و ليس كما يذهب ماركس إلى القول‬
‫ببنية فوقية و بنية تحتية‪.‬‬
‫فالتخلف الثقافي‪/‬اإلجتماعي ينتج الفشل السياسي و األخير يتمظهر في الفشل اإلقتصادي و الحروب األهلية‪ ،‬و هكذا تكون النتائج‬
‫مشاكل ال حصر لها فمن التخلف اإلجتماعي و النسيج اإلجتماعي المتفكك الذاخر بسلبياته‪ :‬التمركز حول البنية األبوية البطرياركية و‬
‫التركيبة العشائرية القبلية‪ ،‬اإلستعالء الديني و العرقي و النوعي (ذكر‪/‬أنثى)‪ ،‬التطرف الديني‪ ،‬إشكاليات قبول اآلخر‪ ،‬إنعدام السالم‬
‫اإلجتماعي‪ ،‬إنتشار األمية‪ ،‬إنعدام التنمية إرتفاع معدالت الفقر و التضخم و البطالة‪ ،‬التدهور في مجاالت الخدمات األساسية‪ ،‬إرتفاع‬
‫معدالت الدعارة و الجريمة و الفساد المالي‪ ،‬الحروب األهلية و الفقر و الجهل و المرض‪ ...‬ليس من الممكن بحال من األحوال الفصل‬
‫بين هذه النتائج بإعتبار أنها ليست ناتج التخلف الثقافي و اإلجتماعي فالبنية األبوية‪ /‬العشائرية تتالزم مع عقلية الوصاية و األوامر‬
‫الصادرة من أب‪ /‬رئيس‪ /‬أعلى‪...‬إلخ و تتالزم أيضاً مع إقتصاد الريع و الخراج و تتناقض جوهرياً بهذا مع مفاهيم الديمقراطية و الحرية‬
‫و مع العدالة اإلجتماعية و حقوق اإلنسان و كرامته‪ .‬فمن لم تتحقق إستقالليته المفاهيمية على مستوى بنيته الذهنية‪/‬الثقافية و من ثم‬
‫اإلجتماعية لن تتحقق على مستوى بنيته اإلقتصادية و السياسية و غني عن القول أن الدولة على رأس هذه البني‪.‬‬
‫اليمين و اليسار‪...‬قراءة مغايرة‪:‬‬
‫بحسب محمد جالل أحمد هاشم فإن التصنيف إلى يميني و يساري ليس صالحاً وفق التصنيف القديم بإعتبارات الوضعية‬
‫التاريخية‪/‬السياسية‪/‬اإلجتماعية للدولة السودانية عندما نحيلها إلى مفهوم مركز إسالموعروبي مقابل هامش‪ ،‬حيث أن مفهوم اليمين‬
‫ينطلق من أن هم اليمين هو المحافظة على الوضعية القائم بغض النظر عن ماهية هذه الوضعية القائمة و أن مفهوم اليسار هو مفهوم‬
‫راديكالي يحاول أن يطيح بهذه الوضعية‪ ،‬لذا فهو يطرح مفهوما مغاي اًر بأن فهمنا لليمين و اليسار بصورتهما الشائعة إنما هو يمين‬
‫كالسيكي و يسار كالسيكي و أن التصنيف إلى يمين و يسار يجب أن يعاد النظر فيه على النحو التالي‪:‬‬
‫‪ / 1‬التيار اليميني‪ :‬وهو الذي يستند على أيديولوجيا األسلمة واالستعراب والنظام السائد‪ ،‬ومن ثم كل العوامل التي أدت إلى ظهور‬
‫انتهاء بالدولة الوطنية وأنظمة ما بعد االستقالل التي‬
‫ً‬ ‫بدء بالفونج‪ ،‬فالتركية‪ ،‬ثم المهدية‪ ،‬إلى الحكم اإلنكليزي‪،‬‬
‫الدولة السودانية الحديثة ً‬
‫تسارعت وتائر فشلها في متوالية عددية أوصلتنا إلى ما نحن فيه‪ .‬ضمن هذا التيار يدخل العروبيون واإلسالميون بما في ذلك القوميون‬
‫العرب وغالبية الماركسيين السودانيين‪.‬‬

‫‪ 2‬سامي صالح‪ ،‬العقلية المستقلة‪ ،‬نحو معايير جديدة لواقع أفضل‪ ،‬بحري حلة حمد‪ ،‬أغسطس ‪2004‬م‪.‬‬
‫‪ 3‬بروتوكوس قاطع طريق أوروبي من القرون الوسطى كان يمدد ضحاياه على سرير ذي أبعاد معينة‪ ،‬فكان يقطع األطراف التي تزيد على طول السرير بالنسبة‬
‫ألولئك الطوال القامة‪ ،‬أما القصار فإنه كان يمطهم حتى يصيروا بذات طول السرير‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪ / 2‬التيار اليساري‪ :‬وهو الذي يقوم على الجهوية دونما إطار قومي‪ ،‬مثلما كان يشهد بذلك الحال في الماضي القريب (حركة‬
‫انفصال جنوب السودان بمختلف مسمياتها التنظيمية‪ ،‬نهضة دارفور‪ ،‬مؤتمر البجا‪ ،‬اتحاد جبال النوبة…إلخ)‪ .‬إن هذه الحركات الجهوية‬
‫في حال اضطرادها المنطقي ُيفترض بها أن تنتهي بالدعوة إلى االنفصال ـ دون التعرض الستعصاء فنياته‪ .‬وألنها تمثل بذلك رفضاً‬
‫مبدئياً للدولة السودانية القومية‪ ،‬جاز لنا أن يتم تصنيفها كيسار سوداني‪ .‬بالطبع تن ّكب أغلب هذه الحركات أو كلّها هذا الطريق الجهوي‬
‫ثم استعصموا بعرى القومية فيما نشهد اآلن من مآالت‪.‬‬ ‫االنفصالي‪ ،‬ومن ّ‬
‫‪ /3‬تيار الوسط‪ :‬هذا التيار يقوم على أيديولوجيا القومية السودانية أو التكامل القومي‪ ،‬والتي تستند بدورها على الحقوق الثقافية‬
‫المتكافئة والمتوازنة بين األقوام السودانية شرقاً وغرباً‪ ،‬جنوباً وشماالً‪ ،‬ثم وسطاً‪ .‬كما تقوم على ضرورة إلغاء واقع الهيمنة والقهر الثقافي‬
‫بكل تجلياته السياسية‪ ،‬االقتصادية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬والدولية (نسبة إلى مؤسسة الدولة)‪ .‬وألن هذا التيار يتوازن أيديولوجياً ما بين القطبين‬
‫السابقين‪ ،‬لهذا جاز لنا تصنيفه كوسط‪ .‬إن هذا التيار ليس تصالحياً‪ ،‬لمجرد كونه متوازناً‪ .‬وفي هذا نقصد بالتصالح كل التيارات الفكرية‬
‫التي تسعى لالنعتاق من أسر الثقافة القاهرة عبر التصالح معها ـ مثل اآلفروعروبية‪.4‬‬

‫العلمانية في السودان ‪ /‬قراءة منهجية‪:‬‬


‫لم يشهد الخطاب السياسي لقوى السودان القديم بما فيها اليسار الكالسيكي أي محاوالت جادة من أجل التأسيس لخطاب علماني‬
‫أن هذه الخطابات ظلت تراوح مكانها ما بين‪:‬‬ ‫حقيقي يبني نفسه على‪/‬و يستند إلى حقائق الواقع السوداني‪ ،‬ذلك ّ‬
‫‪ .1‬اليمين الكالسيكي (الطائفي و االسالموسياسي) المتاجر الذي يقحم الدين في لغته السياسية محاوالً إضفاء المشروعية الدينية‬
‫ثم يتوهم أنه يمتلك حق الوصاية على الناس بشرعية يستمدها من‬
‫على خطابه السياسي و بالتالي إكسابه هالة من القداسة و من ّ‬
‫المطلق مستخدماً إياها في صراعه مع اآلخر السياسي (داخل الحقل السياسي النسبي) الذي هو بشري في كل حاالته و‬
‫تحوالته‪.‬واليسار الكالسيكي (الماركسي و القومي العروبي) الذي يحاول إصطناع علمانية متصالحة مع الدين‪ ،‬أي علمانية متدينة تجد‬
‫لها أساساً دينياً في بنيتها النظرية أو بشكل آخر تجد أنها تنطلق في تبريرها للعلمانية من مبررات مستمدة من النص الديني وهي بهذا‬
‫إنما تنحو منحى الخطاب اليميني الكالسيكي في متاجرتها بالدين تبري اًر للخطاب العلماني و هي بذلك تقدم أكبر تناقض يدل على‬
‫إزدواجيتها الفكرية التي كما قلت م ار اًر إنما هي نتيجة متوقعة لـمفارقة الواقع بدون أدنى إعتبار إلشكاليات هذا الواقع نفسه‪.‬‬
‫غير أن األمر األخطر من ذلك هو أن هذه الخطابات العلمانية بصورتها المشوهة هذه ظلت عاجزة تماماً أمام الخطاب اليميني‬
‫الكالسيكي الذي ما فتئ يمارس الضغط عليها حاص اًر إياها ما بين مطرقة التكفير و سندان البنية اإلجتماعية التي تستند عليها و التي‬
‫تنفر من الخطاب العلماني بصورته التي يروج لها الخطاب اليميني الكالسيكي الذي مارس ضد العلمانية الدعاية و إستغالل مشاعر‬
‫معنى مبتذالً مرادفاً للكفر و أقصى أمانيه هي إشاعة الفسوق و فتح البارات و‬ ‫الناس الدينية بقدر كبير من التشويه مما جعل العلمانية‬
‫ً‬
‫ممارسة الدعارة!!!‪.‬‬
‫األمر الذي جعل هذه المجموعات ترتجف هلعاً و رعباً من أدنى مواجهة علنية ما بينها و ما بين منظومات اليمين الكالسيكي‬
‫حول موضوع العلمانية‪ ،‬فمواجهة مثل هذه كفيلة بان تقضي عليها في وسطها اإلجتماعي و السياسي‪ ،‬و هكذا ظلت محاصرة مختنقة‬
‫تحاول إثبات حسن إسالمها‪ ،‬و عن د مجاهرتها بالعلمانية تؤكد بالضرورة أنها متوافقة مع صحيح الدين في الكليات و المقاصد و عندما‬
‫تتقدم خطوة إلى األمام (بعد أن صار اإلعتراف بقضايا التنوع و التعدد أم اًر ال مفر منه) أخذت تتاجر بقضايا التنوع و التعدد كمبرر و‬
‫مسوغ لموضوع العلمانية ذاهلة عن أنه حتى و إن كانت الدولة منسجمة عرقياً و دينياً بل و حتى و لو كانت متجانسة مذهبياً و حتى‬
‫إن إحتكمت إلى مرجع ديني واحد مثل بابا الفاتيكان أو المرجع الشيعي األعلى أو األزهر يفسر لها ما إستشكل عليها من أمور دينها و‬

‫‪ 4‬محمد جالل أحمد هاشم‪ ،‬السودانوعروبية أو تحالف الهاربين‪ ،‬المشروع الثقافي لعبد هللا علي إبراهيم‪،‬قدم هذا البحث في مؤتمر السودان‪ :‬الثقافة والتنمية‬
‫الشاملة‪ :‬نحو إستراتيجية ثقافية‪ -‬مهداة للروائـي الطيب صالح"‪ ،‬مركز الدراسات السودانية‪ ،‬القاهـرة‪ ،‬دار األوبرا المصرية‪ -‬الجزيـرة‪ ،‬األربعاء ‪ 4‬أغسطس‪-‬‬
‫السبت ‪ 7‬أغسطس ‪ .1999‬و أنظر كذلك كتاب منهج التحليل الثقافي‪:‬ظاهرة الثورة و الديمقراطية في الثقافة السودانية‪ ،‬لنفس الكاتب‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫دنياها‪ ،‬فإن هذا ال ينقض علمانية الدولة التي ندعو إليها كما أنه ال يضع مشروعيةً لدينيتها‪،‬ألن لكل من الدين و الدولة طبيعته‬
‫المنطقية الخاصة به كما سوف نرى فيما بعد‪.‬‬
‫على كل مهما كانت الحيثيات التي يترافع بها خطاب السودان القديم في مواجهة بعضه بعضاً (يميناً أو يسا اًر) فإنها تفرض نفسها‬
‫كجزء من اإلرث السياسي الذي ظ ّل مسيط اًر على المشهد السياسي لذاكرة الدولة‪ ،‬أي أنه و إن كان نقيضاً أيديولوجيا لنا هنا إال أنه‬
‫يفرض نفسه بإسقاطاته الثقيلة التي ظلّت ترهق كاهل هذا البلد طوال تاريخه في حلقة سوء إدارة أزمات الدولة التي تتوافق بالضرورة مع‬
‫مشروعنا هذا‪.‬‬
‫الدين و الدولة ‪ /‬تفكيك المفاهيم‪:‬‬
‫الدين‪:‬‬
‫يرى فراس السواح أن" المعتقد الديني يقوم على اإلحساس بانقسام الوجود إلى مستويين أو مجالين‪ ،‬المستوى الطبيعاني و هو‬
‫عالم الظواهر المحسوسة الذي يعاينه و يتحرك ضمنه اإلنسان‪ ،‬و المستوى القدسي‪ ،‬وهو الغيب الذي صدرت عنه هذه الظواهر‬
‫المحسوسة بما فيها اإلنسان و أشكال الحياة األخرى‪ .‬يتصل المستوى القدسي بالكون من خالل حالة فعالية هي قوته السارية التي‬
‫تجمع بين المستويين في دارة واحدة‪ ،‬باطنها األلوهة و ظاهرها ما ال يحصى من الظواهر الحية و الجامدة"‪ ،5‬و من هذا التأسيس فهو‬
‫يرى أن"الدين ليس وهما و المؤمن ليس واهما في إحساسه بوجود قوة أعظم منه تضم الوجود إلى وحدة متكاملة‪،‬ألن الخبرة الدينية قد‬
‫ارتكزت عبر األزمان على تجربة حقيقية صلبة و على شرط معطى للوجود اإلنساني‪ .‬من هنا فإن األديان كلها تقف على قدم المساواة‬
‫و تتمتع بدرجة واحدة من المشروعية‪ ،‬حيث ال وجود ألدي ان حقيقية و أخرى زائفة‪ ،‬ألديان راقية و أخرى منحطة‪ ،‬ألنها جميعها نتاج‬
‫تلك التجربة الحقيقية الصلبة‪ ،‬و الشرط المعطى للوجود اإلنساني"‪.‬‬
‫‪6‬‬

‫الدولة‪:‬‬
‫بحسب ماكس فيبر "الدولة هي هيئة بشرية تطالب بنجاح باحتكار االستخدام الشرعي للعنف الفيزيائي في أرض محددة‪...‬‬
‫]وهي بحسب بورديو[ شيء مجهول (‪( )X‬للتحديد) تطالب بنجاح باحتكار االستخدام الشرعي للعنف الفيزيائي والرمزي على أرض‬
‫محددة وعلى مجمل المجموعة السكانية المرتبطة بها"‪] .‬ومن تطبيقاتها لهذا المعنى في الحقل الثقافي أنها[ "تحاول توحيد السوق الثقافية‬
‫واللغوية‪ ،‬وجعل الثقافة المهيمنة ثقافة وطنية مشتركة وشرعية وشاملة ورفض اللغات والثقافات األخرى كلغات وثقافات محلية‪ ...‬وفرض‬
‫مبادئ الرؤية والتحليل أو التصنيف التي تتوافق مع مصالحها الخاصة (عن طريق المدرسة والتربية ومادة التاريخ تحديدا وتنشر أسس‬
‫(الدين المدني) والمفترضات المسبقة األساسية للصورة (الوطنية) عن الذات" وهناك تعريفات أخرى كثيرة‪7.‬الدين و الدولة‪ /‬رؤية نقدية‪:‬‬
‫حسب رأيي أن عالقة الدين بالدولة ليست عالقة بالضرورة عالقة تالزمية أي أن بنية كل منهما قائمة على حدة بخصائصها و‬
‫مميزاتها و مجالها و مخاطبيها و شرعيتها‪،‬و لتوضيح وجهة نظري فإنني أرى أن المحك األساسي في عالقة الدين بالدولة هي هذه‬
‫األسس المنطقية و الموضوعية المذكورة التي يمكن أن تجعلنا أن نقول بأن هنالك عالقة بين الدين و الدولة‪ ،‬أو أنه ال توجد عالقة‬
‫بينهما‪.‬‬
‫فمع أن الدين و الدولة خطابان تجريديان موجهان للبشر إال أن الدين يخاطب مجموع المؤمنين به المتواجدين على نطاق ال‬
‫يرتبط بالضرورة بكونهم مواطنين من دولة أو أخرى‪ ،‬عكس الدولة التي هي خطاب لمواطنيها فقط بغض النظر عن كونهم موجودين‬
‫داخل الدولة أو خارجها‪.‬يعني هذا بالضبط أن الدولة الواحدة قد تضم مجموعة من المواطنين الذين ال ينتمون إلى دين واحد‪ ،‬على‬
‫عكس ذلك فان الدين يبدو متجاو اًز لكون شرط مواطنيه يجب أن يكون حاملين لجنسية معينة‪ .‬الفرق األساسي أن الدين يكتسب طبيعته‬
‫من ما و ارء الطبيعة‪/‬عالم الغيب‪/‬الميتافيزيقيا بينما نجد أن الدولة تكتسبها ما يتعلق بالطبيعة‪/‬عالم الشهادة‪/‬الفيزياء‪.‬هذا يعني أن الدين‬

‫‪ 5‬فراس السواح‪،‬دين اإلنسان بحث في ماهية الدين و منشأ الدافع الديني‪،‬منشورات دار عالء الدين دمشق‪،‬الطبعة الثانية ‪1996‬م‪ ،‬ص‪.312‬‬
‫‪ 6‬نفسه‪ ،‬ص ‪.327‬‬
‫قراءة نقدية لخطاب المهدية الجديدة الصادق المهدي في آخر تجلياته‪ ،‬أبكر آدم إسماعيل‬

‫‪4‬‬
‫ٍ‬
‫متعال على الذهن اإلنساني غير قابل من ناحية نصوصه للتعديل‪ ،‬فأي تغير ال يمس الدين في هيكله أو‬ ‫بما هو خطاب ميتافيزيقي‬
‫جوهره بل يمكن أن يتغير من ناحية التفسير و التأويل لكن وفق تغير األحوال على األرض على األقل ‪ ،‬أي من ناحية فهم النصوص‬
‫و إعادة شرحها وفق مزاج‪/‬أيديولوجيا المفسر‪،‬بينما الدولة تتغير وفقاً للنظام السياسي الذي يتحكم فيها ليس من ناحية طريقة حكمها‬
‫فقط‪ ،‬بل حتى في طريقة هيكلتها و مؤسساتها و نظامها األساسي الدستوري الذي يحكم عالقاتها و قيمها‪ ،‬هذا اإلختالف ناتج من‬
‫طبيعة الدين و الدولة نفسهما‪ ،‬و بالتحديد من مصدرهما الجوهري الذي ينطلقان منه‪.‬‬
‫فالدين هو خطاب ميتافيزيقي يتعلق بتفسير الوجود في بعديه النسبي‪/‬الجزئي و المطلق‪/‬الكلي‪ ،‬هذا المطلق الذي هو بحسب‬
‫الدين يتحكم في النسبي ومن هنا تشرع النصوص في شرح هذه العالقات‪ ،‬و الطبيعي أنها هنا تقدم حلوالً جاهزة أي أنها تقدم إجابة‬
‫قبلية عن ما يمكن أن نواجهه‪ ،‬ال يعنيني هنا صحة هذه اإلجابة أو ال‪ ،‬و ال فيما إذا كان العقل البشري الذي تخاطبه هذه النصوص‬
‫عاجز عن حل مشاكله بنفسه األمر الذي‬
‫ٌ‬ ‫قاد اًر على إستنباط هذه اإلجابات أم ال‪ ،‬و لكن المهم هو أن هذا يعني أن العقل البشري‬
‫يفضي باإلنسان إلى اإلغتراب عن العالم ‪.‬‬
‫و لكن الدولة بحسب ماكس فيبر " هي هيئة بشرية تطالب بنجاح باحتكار االستخدام الشرعي للعنف الفيزيائي في أرض‬
‫محددة‪ .‬الدولة إذن هي هيئة بشرية و بشريتها تنبع من كونها عقد إجتماعي حيث يتنازل كل فرد عن جزء من ماله و حريته و إرادته‬
‫لصالح الجماعة التي يوجد بداخلها و التي بدورها تفوض هذه السلطة لصالح مجموعة أفراد يقودونها و يخططون لها‪ ،‬هؤالء األفراد هم‬
‫الهيئة البشرية التي تمارس سلطتها على هؤالء األفراد الذين فوضوها وفق إرادتهم التي فوضت هذه السلطة‪ ،‬و الدولة بوضعها التعاقدي‬
‫هذا تصبح على درجة من اإلستقالل عن األفراد و عن كل الجماعات داخلها و أن وظيفتها حراسة حقوق األفراد و الجماعات و ذلك‬
‫بـ‪-:‬‬
‫‪ .1‬توزيع الفرص بين األفراد و بين الجماعات من جهة أخرى بعدالة و مساواة‪.‬‬
‫‪ .2‬حراسة التعايش السلمي و اإلرادة العامة و منع التعديات التي تمنع تعدي الفرد على الفرد أو جماعة أخرى وفقاً‬
‫‪8‬‬
‫للحقوق المذكورة أعاله‪.‬‬
‫فالدولة هي عقد إجتماعي يكونها اإلجتماع البشري الكائن في زمان ما و مكان ما‪ ،‬يفوض السلطة بحسب ما يعتقد انه يحقق مصالح‬
‫هذا اإلجتماع البشري‪ ،‬و بالتالي فالدولة هي صيرورة بشرية في حالة تشكل و إعادة تشكل مستمرين‪ ،‬سواءاً من حيث بنيتها الجغرافية‬
‫(الحدود التي تحددها) أو البشرية (التكوينات اإلجتماعية التي تنتمي إليها) أو المؤسسية (القوانين و اللوائح و النظم و المؤسسات‬
‫الحاكمة أي السلطة المفوضة)أي الدولة معرضة للتغير في مكوناتها الثالثة‪ :‬األرض و الشعب و السلطة الحاكمة‪ .‬هذا التشكل و‬
‫إعادة التشكل المستمرين هما رهينين بالحراك البشري الموجود و بمصالح اإلجتماع اإلنساني و بالتالي فهو يكتسب مشروعيته من‬
‫اإلجماع اإلنساني و ليس من أي شئ آخر بالتحديد المشروعية الدينية‪ ،‬و هذا ينفي عنها أي قدسية إلهية يمكن أن تنأى بها عن الخطأ‬
‫أو الزلل‪ ،‬فإكساب الدولة أي شرعية إلهية من شأنه مطلقة النسبي‪ :‬أي إلباس الدولة لباس القداسة و من ثم تتعالى على النقد و التقويم‬
‫برغم أنها يمكن أن تمتلئ بالتناقضات‪ 0‬البشرية التي تتحرك في داخلها‪ ،‬فإذا كان حكم البشر يمكن النضال ضده بإسم البشر أي في‬
‫إطار حكومة و معارضة دستورية تتداول السلطة سلمياً‪ ،‬فإن خطورة تحكم مجموعة بإسم الدين على الدولة يمكن أن يجعل هذه‬
‫فإن أي معارضة لها هي معارضة ضد حكم الدين‪ ،‬و بالتالي فهي كفر و‬ ‫المجموعة أن تدعي بأنها تحكم الناس بإسم الدين و بالتالي ّ‬
‫هرطقة يجب القضاء عليها‪ ،‬أي أنه يتم التخلص من الوسيط البشري الذي يحكم هنا و إدماجه في مفهوم الدين‪.‬‬
‫هذا التخلص يتم بمهارة ففي حين أن العقل البشري يقوم بقراءة النص الديني المطلق وفق قدراته النسبية القابلة للصواب‪/‬الخطأ حسب‬
‫المخطط التالي‪:‬‬

‫‪8‬‬
‫برنامج الثورة السودانية (البرنامج السياسي لمؤتمر الطالب المستقلين‪ -‬القطاع الطالبي لحزب المؤتمر السوداني)‬

‫‪5‬‬
‫تفسير (مخرجات)‬ ‫قراءة النص(تشغيل)‬ ‫نص مقدس (مدخالت)‬
‫‪Input‬‬ ‫‪Processing‬‬ ‫‪Output‬‬

‫من البديهي القول بأن عملية قراءة النص ترتبط بحالة الكاتب النفسية و المعرفية و المصلحية و األيديولوجية و الحضارية(أي النقطة‬
‫الزمانية و المكانية التي يقف فيها) ما يحدث هنا هو أن الذي يقوم بعملية التفسير يلغي إجرائياً نفسه من المخطط أعاله‪ ،‬ثم يقوم بدمج‬
‫التفسير (المخرج) في النص (المدخل ) فيبدو أن المخرج هو المدخل نفسه!! و بالتالي إضفاء القداسة عليه‪،‬مع أن هذا النص يمكن أن‬
‫يكتسب تفسي اًر مغاي اًر عند مفسر آخر أو عند نفس المفسر بطبيعة الحال‪ ،‬بالتالي فإن تعرية هذا الخطاب من أدواته تظل واجبة و ذلك‬
‫بموضعة الدين بإعتباره إختيا اًر شخصياً معني به الفرد الذي يعتنقه في المقام األول و من ثم المجموع الديني الذي ينتمي إليه‪ ،‬هذه‬
‫الموضعة هي التي توهم بأن للدين عالقة بالدولة مع أنهما كما سلف متباينان من حيث الخطاب و مصدره و الموجه إليه و طبيعته و‬
‫شرعيته‪.‬‬

‫‪6‬‬

You might also like