Professional Documents
Culture Documents
D-6 ظاهرة الثورة والديمقراطية
D-6 ظاهرة الثورة والديمقراطية
و
ظاهرة الثورة والديمقراطية في الثق افة السودانية
مقدمة:
سنعمد في هذا المنهج إلي معالجة إشكالية التراث والهوية و االيدولوجيا .وسيكون اإلطار المرجعي
والنظري لكالمنا هو الثقافة .ونقصد بالثقافة ذلك الكل المركب الذي يشتمل علي نشاطات المجتمع
من عادات وتقاليد ومعتقدات ،وفنون ،وممارسات ومؤسسات بما في ذلك وسائل كسب العيش.
إن المنظور الذي من خالله سنعالج هذه المسائل نسميه (منهج التحليل الثقافي) ،وهو ينظر إلي
الثقافة علي أنها عملية جدلية ،أي هي عملية صراع واصطراع .أننا نؤسس بذلك لخطاب ثقافي
يتيح لنا مقاربة موضوعية وعلمية ومفهومية لمفاهيم طغي الحديث عنها ببالدنا في العقود األخيرة
من القرن العشرين .مثال ذلك الهوية واالنتماء ،القبيلة و القومية ،الذاتية والشخصية السودانية
،الصراع الثقافي ،القهر واالضطهاد الثقافي والسياسي ،الديمقراطية والدكتاتورية ...الخ.
إننا إذ نفعل ذلك ال نعبر عن وجهة نظرنا في قضايانا القومية فحسب ،بل أكثر من ذلك تضرب
مثال حياً في كيفية تناول قضايا الثقافة والتراث – التي نشطت في السنوات األخيرة كما ذكرنا –
من خالل رؤي فكرية واضحة وممنهجة.
لقد عاني السودان الكثير من ضروب التخبط السياسي والفشل اإلداري.فإن تكون األحزاب تتحمل
وزر ذلك ،إال أن أس المشكلة كان األزمة الفكرية والعقم الفكري ،وما نجم عنها من آفات الرأي
وسقيم الكالم .وعلي هذا إنعدمت المصداقية في المواقف فأصبحت السياسية كالماً بال صدق.
المنهج الثق افي ومفهوم السلطة
الثق افة وصراع اإلنسان حول السلطة:
كان صراع اإلنسان في هذه الدنيا دائماً حول السلطة .فقد كان منذ فجر التاريخ يصارع الطبيعة
بحيواناتها كيما يخضعها لسلطته .وفيما بعد دخل اإلنسان في صراع دام ضد أخيه اإلنسان ،وما
ذلك إال في سبيل أن يفرض أحدهما سلطته علي األخر .فقوي البيئة والطبيعة واجهته – ومازالت
– مهددة إياه بالفناء ،فسعي اإلنسان حثيثاً كيما يكون له النفوذ عليها .وقد كان له ذلك ،واال لما
كنا نحن اليوم.
لقد كان هذا الصراع حول السلطة لتأمين حياته ،فاإلنسان ما خل صراع ضد أخيه اإلنسان إال
عندما هدد أحدهما حياة األخر .وهكذا ظل اإلنسان يمارس السلطة علي البيئة المحيطة به ،حية
1
كانت أم جماداً ،عاقلة .وما انداحت دائرة السلطات التي احتازها اإلنسان ،إال وكان من تجلياتها
الخبرات المادية التي يتنعم بها ،ومن ثم المصالح المادية والمعنوية التي اكتسبها وتراكمت لديه،
عبر األيام .وما ناتج كل هذا إال القوة ،وما القوة إال السلطة.
القوالب السلوكية وصراع السلطة:
ال لواله لما احتاز اإلنسان قد اًر
لقد استخدم اإلنسان في ممارسته للسلطة وصراعه حولها سالحاً فعا ً
من السلطة يصارع بها الطبيعة والبيئة بذكر ذلك السالح هو العقل ،فلوال العقل لما استطاع
اإلنسان أن يدرك أبعاد اإلشكاليات الحياتية اليومية التي ظلت الطبيعة ال تني طرحها في تهديدها
إياه ،ومن ثم استشراف الحلول لها .أي – بمعني آخر – التمكن من فرض النفوذ عليها وبالتالي
ممارسة السلطة.
أن هذه القوالب السلوكية – كوحدات بسيطة قياساً – تتفاعل ديناميكياً داخل الثقافة "الكل المركب"
وهذا التفاعل يتم في ذاكرة المجتمع اال وعية الثقافي .وهذا الوعي ننظر إليه علي أنه:
-1الوعي المباشر :وهو عملية التفكير التي تتم في العقل الواعي لدي الفرد ،وتناط بهذا الوعي
عملية اإلقناع واإلقتناع من خالل عدة وسائل منها المقروءة والمسموعة والمرئية .أو قل هو
الطريقة التي تحل بها مسألة في الرياضيات ،ونفهم األخرين كيف كان الحل.
– 2الوعي غير المباشر :هو الطريقة التي نتبادل بها المفاهيم دون وعي مباشر بذلك إذ تنتشر
ثقافياً من خالل اإلنتشار الشفاهي العفوي ومن خالل الكلمة الملفوظة .أنها الكيفية الديناميكية
التي تنتشر بها النكتة ،أو أغنية بعينها ،من كسال إلي نياال في ظرف أيام دون أن تتكفل جهة ما
بمسألة نشرها ،أنها نفس الطريقة التي تتم بها المثاقفة أو التنشئة اإلجتماعية في مجتمع بعينه .أن
محددات الوعي غير المباشر -.وهي ثقافية حسب رؤيتنا هذي – هي التي تخرج لنا سلوكيات
أبناء مجتمع ما علي شاكلة بعينها ،ينمازون بها عن تلك التي يتصف بها أبناء مجتمع آخر.
إن الوعي الثقافي – بشقيه – ومن خالل التفاعل والتالفح الديناميكي داخل الثقافة هو الذي يفتق
لنا العبقرية في مجتمع دون آخر ،وجيل دون جيل نزوالً إلي مستوي الفرد .وما كل ذلك إال لتمكين
اإلنسان من اكتساب النفوذ وممارسة السلطة كما بينا من أهداف من قبل.
األصالة والمعاصرة:
إن القوالب السلوكية هي أنظمة في غاية التعقيد .فهي قد نشأت وتشكلت في مواجهة ظرف بعينه،
وألداء وظيفة بعينها أيضاً .ولكن ما أن يأخذ القالب السلوكي شكله وتبلوره اللذين يرسمان له أبعاده
2
وحدوده حتي يتحول إلي نظام له القدرة علي تجاوز عوامل تشكله األولي .ولربما انتفت وظائفه
والحوجة إليها ،ولكنه يظل عالقاً في حياة الناس كعادة ،ولربما يتحول إلي عادة ضارة أو مفيدة.
ولكن هنالك من القوالب السلوكية ما ال يمكن أن تنتفي له وظيفة وال باس هنا من أن نستشهد
بالزي كقالب سلوكي ال تنتفي وظيفته مع المحافظة علي ذات حدوده المعرفة لشكله .لذلك فهو
قالب سلوكي أصيل ،أي أن أصالته تكرست عبر التاريخ ،وثبت للذين تشكل لدسهم هذا القالب –
أو ورثوه – أنه ال غني لهم عنه من حيث انتفاء الحاجة إليه.
ولكن هل يتزي الناس بكل ما لديهم من أزياء لمجرد أتقاء البرد والحر؟ بالطبع ال ! فمن الناس من
يغير مالبسه – من نوع الخر – لدواعي النظافة فحسب ،وهذه قيمة تختلف عن الوظيفة األولية.
ومن الناس من يغير مالبسه من الجالبية إلي البنطلون والقميص ،أو العكس ،لدواعي األناقة
ال .وفي الصيف في جو السودان القائظ ،فقد تجد أحدهم وهو يلبس بدلة كاملة – ولربما كانت
مث ً
صوفاً – ال لشيء إال ألن البروتوكوالت حكمت عليه أن يلبس هذا متي كانت هناك مناسبة ما،
ال .ثم من الناس من ال يري في الزي غاية بخالف االحتشام وستر
كضيف رسمي أو زائر مث ً
العورة ،وهذه قيمة مغايرة.
إذن فإن القوالب السلوكية ،من خالل أداء وظائفها تلك تكون قد حققت أصالتها من حيث أن
اإلنسان لم يطق عنها عتاءاً ولذلك فهي أصيلة .وبما أنها لم تكتف بذلك فحسب ،بل أصبح في
مقدورها التعبير عن قيم أخري استجدت مع تعاقب األيام ومن ثم إشباعها لنهم اإلنسان جمالياً ،
فإنها – أي القوالب السلوكية – تكون قد حققت معاصرتها .وما هذا إال ألن القالب السلوكي قد
تمكن من المحافظة علي شكله وأبعاده الحدية األساسية – وهي عتيقة – ومع ذلك تمكن من
التعبير عن قيم حادثة معاصرة.
ال من واقع حياتنا السودانية .ولنأخذ "التوب" السوداني مثالً ،إذ
ولنضرب األن – دونما إطالة – مث ً
ال يغيب عن الناظر المتأمل أنه كقالب سلوكي له أبعاده الحدية األساسية التي حافظ عليها جراء
أصالته ،وهو في نفس الوقت قادر علي التعبير عن فيم جمالية تمت إلي عصرنا هذا ،قيم ربما
– قطعاً – لم تعرفها (حبوباتنا) ،ومع هذا فهو قادر علي التعبير عنها جراء معاصرته.
نختم هذا الجزء فنقول :أن مناط االحتكام في مسألة األصالة والمعاصرة ،فيما يختص بالقوالب
السلوكية ،هو الثابت والمتحول من حيث الشكل والوظائف والقيم.
3
االستق اللية والسيادة:
ذكرنا أن القوالب السلوكية تكتسب أصالتها عندما ال تنتفي الحاجة إلي وظائفها ،فتحافظ بالتالي
علي أبعادها الحدية األساسية.
فالواحد منا إذا ما اضطجع مختليا في نهارنا القائظ قد يتحرر من جميع مالبسه ،ولكنه ال يملك
إال أن يلبسها جميع ًا ،علي سخونة الجو ،إذا ما طرق الباب طارق .أنه يلبس ست اًر لعورته حتي
يبدو بما هو الئق .وهذه قيم جمالية جديدة تجاوزت الوظائف األساسية .إن اإلنسان يحقق إنسانيته
أكثر ،عندما يمارس ذات السلوك بذات القالب اشباعاً لقيم جمالية تولدت عبر التاريخ جراء النظام
القيمي في ثقافته .أي عندما يتجاوز القالب السلوكي وظائثه األولية إشباعاً لقيم استنها اإلنسان.
واذا رجعنا لمثال "التوب" السوداني ،وجدنا أن بناتنا ونساءنا ال يلبسنه اتقاء حر أو برد.
لكن يلبسنه إشباعاً لقيم جمالية من قبيل االحتشام أو الموضة.
أن تجاوز القوالب السلوكية لبواعثها الوظيفية األولية ،أن هو إال استقالل عنها ،ومن هنا ندخل
إلي مفهوم االستقاللية .إذ أنها فعل الوعي المباشر ،وذلك عندما نعمد إلي قوالبنا السلوكية فنسقل
بها عن قيم بعينها محققين أصالتنا ،واشباعا لقيم ناهضة حادثة محققين بذلك معاصرتنا .أن
االستقاللية ليست هي األصالة فحسب ،بل هي أكثر من ذلك ،أنها التأصيل وهنا يكمن دور
الوعي المباشر في استلهام تراثنا (فولكلورنا) وثقافتنا.
إن صراع اإلنسان ضد بيئته وقوي الطبيعة قد أدي إلي تفتق القوالب السلوكية ذات الجدوي ،
والتي مكنت اإلنسان بدوره من اكتساب النفوذ ،ومن ثم ممارسة السلطة .ثم إن تفاعل هذه القوالب
السلوكية وتالقحها في حياة المجتمع يفضي إلي تأصيلها ..أي إلي األصالة .وهذا بدوره يؤدي إلي
تراكم السلطات وتكريسها جراء التماسك االجتماعي الذي ينجم عن حالة األصالة .وما تكريس
السلطات إال استشعار المجتمع ألمر سيادته علي بيئته المحيطة به .وما من مجتمع استشعر
سيادته علي ما عداه إال وسعي إلي تأمينها والتمسك بها ،ثم إلي بسطها .وكل ذلك في سبيل حياة
تليق بإحساسه بنفسه ،أي بوعيه بنفسه ..بعزته ...بكرامته ... ،الخ.
عليه ،فإن االستقاللية – كمفهوم – ال تنكفيء عند حد إستقالل القوالب السلوكية عن بواعثها
الوظيفية األولية ،فهذه استقاللية بسيطة ،بل إنها تعني أن يحقق اإلنسان ذات نفسه سيكولوجيا،
واجتماعيا ،و ثقافياً ،وسياسياً ،أي حضارياً إنها تعني إال يعيش الفرد أي حالة من حاالت
االغتراب واالستالب .أن االستقاللية هي تحقيق الذات ،بينما االغتراب هو نفي الذات ،إن اغتراب
الفرد ينتج عن ،كما يفضي إلي ،حالة اغتراب ثقافية .بينما استقاللية الفرد تعني عضواً فاعالً
4
وناشيطاً بطريقة بناءة .أن هذا األمر من شأنه أن يقضي بالمجتمع إلي أن يستقل في مجموع
عملية ممارسته للسلطة .كيف يحدث هذا؟ مثالً بدال من أن يكون المجتمع تابعاً للطبيعة وقواها
تشكله كيما تصادف لها أن تفعل ذلك ،يتطور اإلنسان حتي يجعل الطبيعة تابعة له ،يشكلها هو.
فبدالً من أن يتبع الطبيعة مكتفي ًا بعطائها له (الزراعة المطرية مثالً) فإنه هو يشكل عطاءها له
كما وكيفاً (الزراعة المروية).
بهذا تكون صلة االستقاللية – عبر تشكالتها – بالسلطة قد وضحت .كما تكون عالقة كل ذلك
بأمر السيادة واستشعارها قد وضحت أيضاً .وعما قليل ستتضح لنا أيضاً الداللة العميقة لمقولة
:أمة مستقلة ذات سيادة ،وذلك عندما يتحدث عن السلطة وتشكلها في الثقافة ،الثقافة ودورها في
تشكيل األمة ،ثم تشكل الدولة.
نخلص من كل ذلك إل ي أن النفوذ ،السلطة والسيادة ،أن هي إال عملية مركبة مستبطنة في بنية
الثقافة ،وبالتالي ال يمكن – كما نري – فصلها منها والنظر إليها ،بغية تقويمها ،بمعزل عن
الثقافة .كما نخلص إلي أن جميع ممارسات اإلنسان في حياته اليومية إن هي إال شكل من أشكال
عملية توليد السلطة التي يمارسها في سبيل فرض نفوذه علي قوي البيئة والطبيعة .حتي وهو يغني
،فهو إنما يروح عن نفسه لالحتفاظ بالتواؤم والتوازن ،األمر الذي يؤهله بدوره لمجابهة الطبيعة
وقواها.
التفويض وتبلور السلطة:
إذن فكل ممارسات اإلنسان في حياته اليومية إن هي إال شكل من أشكال ممارسته للسلطة
وانتاجها .فإذا ما جاء علي اإلنسان حين من الدهر تبلورت فيه السلطة في جسم محدد األبعاد
ال) فما ذلك إال النهر الذي تجمع من انصباب روافده في مجري عام.
(الحكومة مث ً
إذن فالحكومة تمارس السلطة ،وعامة الناس في مجالس أنسهم وفي مواقع عملهم يكدون في الحياة
وفي كل مناحي نشاطاتهم اليومية ،يمارسون السلطة سواء بسواء .فما الفرق إذن؟ إن ما عليه حال
الناس هو ممارسة السلطة في المستوي القاعدي ،وما عليه حال الحكومة هو ممارسة السلطة في
المستوي السياسي .وما السلطة في المستوي السياسي إال بنت تلك القاعدية .إذ أنها ظلت ترتقي
ويتم تفويضها – مؤسسيا – عبر التاريخ إلي أن بلغت المستوي السياسي .وهذه هي قصة النهر
وروافده.
إال أنه قد طال العهد وبعدت الشقة منذ أن كان اإلنسان يمارس السلطة علي المستوي القاعدة قبل
البدء في تفويضها ،ذلك التفويض الذي أدخلها في طور التركيب والتعقيد والمؤسسات .وهذا هو
5
األمر الذي جعل الوهم يركب الكثيرين ،بل الغالبية منا ،فقصروا مفهوم "السلطة" علي الحكومة
وحدها واصبحت بهذا كلمة "سلطة" لفظة مرادفة للحكومة ،وكأنما هي حق إلهي مقدس لها
،ذاهلين عن حقيقة أنها هي سلطتهم التي يمارسونها من خالل حياتهم اليومية مقوضة إلي
المستوي السياسي – بكل ما يصحب ذلك من مؤسسية – وممارسة من قبل البنية السياسية.
ولكن ما هي البنية السياسية؟
هي الحكومة وأكثر من ذلك .علي وجه التحقيق هي لقوي التنظيمية التي تصطرع علي ممارسة
السلطة في المستوي السياسي ،فهي األحزاب ،حكومة ومعارضة .وبهذا تفهم أنها تنقسم إلي
شقين :شق يمارس السلطة في المستوي السياسي مباشرة ،وهو الحكومة ،وشق آخر يمارس
السلطة بطريقة غير مباشرة وهو المعارضة .واذا شئنا أن نصدق مزاعم الكثير من األنظمة
الشمولية التي تصرح بأنه التوجد لديها معارضة من أصلها ،فإنه تبقي الفرضية الرياضية بوجود
المعارضة .وحتي إذا استشهدنا بمجتمعنا القبلي ،فإن المتمعن داخل تالفيف المجتمع القبلي يمكنه
تمييز عدة بيوتات تشكل معارضة منظمة – وان لم يكن معترفاً بها – تجاه البيت الذي فيه مشيخة
أو نظارة القبيلة .وما هذا في واقع األمر إال سلطة يمارسها أفراد القبيلة في المستوي القاعدي ،ثم
تفوض إلي المستوي السياسي كيما تمارس من قبل بنية سياسية ذات شقين :حكومة ومعارضة.
االقتصاد كسلطة ...وموقعه في الثق افة:
االقتصاد مفهوم مركب يعني وسائل وعالقات اإلنتاج التي عبرها يكسب اإلنسان معاشه ومن ثم
يسهم في بناء حضارته .ويخطيء من يظن أن االقتصاد يقف بعيداً عن الثقافة ،مثله في ذلك
كمثل الدين ،اللغة ،العرق ،األرض ،التاريخ ،الفولكلور . ..الخ .وألن الصراع الثقافي جدلي في
جوهره لذلك يسعي كل محرك للسيطرة علي باقي المحركات ومن ثم توجيه الثقافة وجهته ،إال أن
التوازن الثقافي هو الذي ينجم عن جدلية الصراع نفسه.
يمارس االقتصاد كسلوك فردي يستهدف كسب العيش ،وبعفوية دونما ربط بينه وبين مسألة
تفويض السلطة .وهكذا يظل يمارس كسلطة في المستوي القاعدي صعوداً إلي المستوي السياسي،
وذلك في تجلياته الرأسمالية الواضحة .ولهذا تأتي احتماالت االنحراف غالباً عبر تركيز االقتصاد
كسلطة في المستوي السياسي .ففي الرأسمالية يملك األفراد فيرتفع بهم االقتصاد إلي أن يصبحوا
في مصاف الدولة ،يشكلوناها حسبما اتيح لهم .كما قد يصبحون حكومة داخل حكومة ،كما قد
يكون لهم غير تكريس مصالحهم الذاتية والفردية ..أو الطبقية في أحسن الفروض .وهذا هو
أساس اإلنحراف باالقتصاد كسلطة في النظام الرأسمالي .أما االشتراكية الشمولية فإن الدولة هي
6
التي تملك .والدولة إال المؤسسة التي عبرها تمارس السلطة في المستوي السياسي ،وهذا هو قمة
تركيز االقتصاد كسلطة في في المستوي السياسي ،وبذلك تكون إحتماالت اإلنحراف السياسي
باإلقتصاد أكبر .فالدولة في الواقع هي الحكومة ،وما الحكومة إال الحزب الواحد الذي يحكم،
والذي بدوره ال يمثل عادة إال شريحة من المجتمع أو طبقة .بهذا نجد أن اإلقتصاد يمارس في
المستوي السياسي لتكريس مصالح شريحة بعينها أو طبقة ..أو حزب .وهذا هو نفس ما عليه
الحال في الرأسمالية ،إن لم يكن أسوأ.
في سبيل الحد من اإلنحراف باإلقتصاد كسلطة في المستوي السياسي ،هناك العديد من اإلجراءات
اإلدارية والقانونية،فضال عما يصاحب ذلك من تطور في الرؤي الفلسفية .من حق األفراد أن
يملكوا ،كما هو من حقهم ان يرتفعوا باإلقتصاد كسلطة إلي مستوي السياسي.
كذلك من حق الدولة أن تملك طالما كان هناك ما يسوغ ذلك ،دون نفي حق االفراد في
الملكية.لكن ماذا عن الجماهير العريضة التي ال تملك؟ وهنا ياتي ما نريد قوله :أنه البد من إتاحة
الفرصة للجماهير العريضة في أن تملك وسائل اإلنتاج ،وأن تكون ضالعة في عملية عالقات
اإلنتاج .وليس من سبيل لذلك غير نظام االقتصاد التعاوني بدءا من تجارة السلع االستهالكية كما
هو الحال في التعاونيات الصغيرة ،وصوال إلي المشاريع اإلنتاجية الكبيرة ،فضال عن الصناعات
المتقدمة والدقيقة .أنها ليست دعوة إللغاء ملكيةالدولة ،كما هي ليست دعوة إللغاء الملكية الفردية
،بل مجرد دعوة لفتح الباب علي مصرعيه لنوع ثالث من الملكية وهوالملكية الجماهيرية والقطاعات
المنتجة نفسها.
أن هذا – وفق منهج التحليل الثقافي – يعني ممارسة اإلقتصاد كسلطة في المستوي القاعدي،
حتي إذا ما صعد نحو المس توي السياسي ،فإنه يصعد في جماهيريته ،وليس فردانيته كما في
الرأسمالية ،أو مركزيته كما في ملكية الدولة .إن هذا من شأنه أن يحول دون اإلنحراف باإلقتصاد
كسلطة .ففي طور التجارة اإلستهالكية يحمي اإلقتصاد التعاوني الفقراء والعمال والمزارعين
وصغار الموظفين من غول السوق الرأسمالية الفردانية ،مثلما يحمي في طور المشاريع اإلنتاجية
والصناعات الكبيرة الصناعات الكبيرة القطاعات المجتمعية والمنتجة من سيطرة الرأسمالية الفردانية
والدولة علي حد سواء.
جدلية الهوية ،االنتماء ،صراع السلطة:
إن الصر رراع الثق ررافي م ررا ه ررو إال صر رراع ج رردلي ،ف رري معن رري أن رره عن رردما تص ررطرع ثقافت رران ال تنتص ررر
إحداهما علري األخرري ،واال مرا كران الصرراع جردليا .ولكرن الصرراع – عنردما يبلرذ ذروتره ينبثرق عرن
7
خصررائص ثقافيررة مشررتركة بينهمررا تتطررور فتسررمح بالتعررايش السررلمي بررين الثقررافتين المصررطرعتين ،أو
تؤسس لذلك علي أقل تقدير.
هذا يقودنا إلي القول بأن الثقافة إذا ما تالقحت مرع ثقافرة – أو ثقافرات – أخرري فإنهرا تثرري نفسرها.
وبالمثل فإن الثقافة إذا ما انغلقت علي نفسها وانكفأت فإنهرا تتحلرل ،وربمرا تمروت أو تحتروي وتبتلرع
من قبل ثقافة – أو ثقافات – أخري .إذ أن اصالة الثقافات ذات صلة وشريجة بعمليرة توليرد السرلطة
،ومرن ثررم الرردفع بأبنائهررا الستشررعار السريادة والعمررل علرري بسررطها علرري مرا عررداهم .وكررل ذلررك يتجلرري
في عدة قيم منها الكرامة ،العزة ...الخ.
أن هررذا الصرراع ربمررا نجررم عنرره صرردام دمرروي كمررا هررو الحررال بررين مجموعررة مررن قبائلنررا فرري السررودان
لرردي نقرراط التمرراس واإلحتكرراك القبلرري .بيررد أن هررذا الصررراع ثقررافي ألنرره يرردور حررول النفرروذ ،السررلطة
والسيادة .ثم أنه سيمهد إلي تالقح ثقافي ،األمر الذي سيغني ويثري كال الثقافتين معاً .ومرا كرل هرذا
إال ألن طبيعة الصراع الثقرافي فري السرودان جدليرة ،لرن تنتصرر فيره ثقافرة علري أخرري .كمرا سرتنبثق
عررن كررل هررذا قواسررم مشررتركة تجعررل مررن الثقاف رات المصررطرعة أكثررر أصررالة .ولكررن أيررن هرري الثقافررة
الثالثررة المتولرردة جرردلياً ،والترري يفترررض فيهررا أنهررا سررتدفع بالثقررافتين المتصررارعتين إلرري التعررايش بررال
تناقض؟
هنا نقطة البد من إجالئها!
ترتقي الثقافة باإلنسان ،وفي مضمار هرذا الترقري تتولرد المجرردات مرن المحسوسرات ،ثرم تتبلرور هرذه
المجردات في مجموعة مرن القريم الثقافيرة .هرذه القريم – رغرم كرون البشررية قرد تواضرعت عليهرا – إال
أن كرل مجتمرع ينمراز فيهررا ،جرراء تلوينهرا – ماديررا ومعنويرا – بلونيرة يتصررف بهرا دون انخررين .كمررا
إن السررلطة الممارسررة بأنواعهررا داخررل هررذا المجتمررع تت روازن فرري عمليررة االجت ررار الثقررافي لهررذه القرريم،
األمررر الررذي تنررتج عنرره درجررة ملحوظررة مررن التماسررك الثقررافي ،وهررذا برردوره يررؤدي إلرري إحسرراس الفرررد
بانتمائرره إلرري هررذا المجتمررع دون المجتمعررات األخررري .هررذا اإلنتمرراء – وان يكررن ثقافيررا -إال أنرره يررتم
إسقاطه علي األرض والعرق – أي اللون ،أي علي المحسوسات.
وهنا تكمن النقطرة التري وددنرا إجالءهرا :أن الثقافرة بهرذه الكيفيرة ،تخرتط لهرا حردودا معنويةرر ،تردعمها
ب ررأخري مادي ررة تكم ررن ف رري اللغ ررة ،الل ررون ،ال ررزي ،األرض ....ال ررخ .وانم ررا م ررن خ ررالل ه ررذه الح رردود
Boundariesيحس اإلنسان باإلنتماء.
أن هذه العمليرة تسرمي :األيردولوجيا .وهرذا مصرطلح يسرتحق منرا قلريالً مرن الشررح حتري يتطرابق مرع
ما قدمنا من آراء.
8
األيدولوجيا ،والهوية واإلنتماء:
يفهم الكثيرون كلمة (أيدولوجيا) علي انها تعني المرذاهب الفكريرة الفلسرفية .إال ان هرذه الكلمرة تعنري
في واقع الحال أكثر من ذلك .إنها تعني جملة التصورات الجماعية التي من خاللهرا تؤكرد مجموعرة
بعينهررا تفردهررا وتميزهررا عررن غيرهررا .عليرره ،فهرري تؤسررس إلتحرراد المجموعررة عبررر أبنائهررا ،كمررا تخلررق
مررن وعرريهم بأنفسررهم تعاضرردا ،وتيسررر قنروات التواصررل بيررنهم .كمررا تؤسررس أيضراً لالخررتالف ،ومررن ثررم
تشرريع الصرراع ضررد الجماعررات األخررري .إن اإلنتمرراء إلرري مجموعررة بعينهررا هررو فرري الواقررع أمررتالك،
ومررن ثررم التحرررك وفررق أيرردولوجيتها .أن أخطررر وظررائف األيرردولوجيا هررو أنهررا تعبررر لنررا عررن الواقررع،
وتلون لنا رغباتنا وحاجتنا ،وتشكل لنرا طموحتنرا ومصرالحنا .أنهرا تضرفي الموضروعية والواقعيرة علري
رغباتنررا الذاتيررة ،كمررا تسررمي وتعلرري مررن أهرردافنا الترري ربمررا تكررون متعارضررة تمام راً مررع المنطررق ....
وحتي ربما مع اإلنسرانية .ومرا جراءت المرذاهب الفلسرفية ك الفكريرة إال تنظير اًر واعيراً لكرل هرذا .ومرن
هنا سميت مجا اًز "أيدولوجيا".
علي الصعيد الثقافي نجد أن األيدولوجيا من حيث هي مجموعة األفكار األساسية التي تشكل نظررة
مجتمع بعينه إلري نفسره والري العرالم مرن حولره ،أو مرن حيرث هري الموقرف األساسري الرذي يعبرر بره
المجتمع المعني عن إتجاهاته في الحاضر وأمانيه في المستقبل ،نجردها تسرتبطن داخلهرا كرل آليرات
الض رربط اإلجتمر رراعي والثق ررافي بر رردءاً م ررن مسر ررتوي الحير رراة اليومي ررة والقاعدير ررة ص ررعوداً إلر رري المسر ررتوي
السياس رري والس رريادي .به ررذا يمك ررن أن نتص ررور دور األي رردولوجيا ف رري العملي ررة الثقافي ررة ،بل ررورة المواق ررف
اإلجتماعية سلباً وايجاباً.
ل ررذلك ت ررؤدي ح رراالت الصر رراع الثق ررافي إل رري م ررا يمك ررن أن نس ررميه ب "ف رررز الكيم رران" وه ررو م ررا يع رررف
باالس ررتقطاب األي رردولوجي .عن رردها ي ررتم إختر رزال األي رردولوجيا ف رري جم ررل وكلم ررات بس رريطة ،ف رري ش رركل
شررعارات ...هتافررات ....الررخ ،وهنررا عررادة مررا تكررون الفرررص مواتيررة مررن نرراحي األيرردولوجيا السررائدة
لبروز ما يعرف بالهوس األيدولوجي ،وذلك عنردما يأخرذ عامرة النراس تلرك الشرعارات علري أنهرا جرزء
مررن منظومررة معتقررداتهم ،دون محاكمتهررا بعقالنيررة .فرري هررذا الحررد يكررون الرروعي غيررر المباشررر لرردي
العامررة قررد تمررت برمجترره أيرردولوجيا ،ومررا تلررك الشررعارات إال مفرراتيح أتوماتيكيررة للبرمجررة .أن الهرروس
األيدولوجي يمكن أن يتجلري بوصرفه شركال مرن أشركال الغوغائيرة .تفهرم الغوغائيرة علري أنهرا التحررك
الجماهيري المشحون بالعاطفة واإلندفاع ،والذي يتصف بالنزعرة نحرو التردمير المؤسسرات والمنشر ت
واألفرراد ،لكنهررا عنرردنا غيررر ذلررك .الغوغائيررة هرري اإلكتفرراء بالشررعارات ،ومررن ثررم التعامررل بهررا بوصررفها
مقدمات منطقية في إدارة النقاش ،والذي غالباً ما ينتهي في هذه الحالة بالسباب والشتائم.
9
إن األيررديولوجيا بلغ ررة المررنهج الثق ررافي هرري المح ررددات السررلوكية المنبثق ررة مررن ال رروعي غيررر المباش ررر
،والخاصة بعملية ممارسة السلطة وفرض النفوذ.
ولنررا أن نتصررور وضررعا كالسررودان يررذخر بالتعرردد الثقررافي واإلثنرري ،وكررل مجموعررة فيرره تقررف علرري
أيدويولوجيا متعارضة مع المجموعات األخري.........
إذن ألبد من مخرج نظري ،ألن هذه المجتمعات ،ورغما عن التعدد الثقافي ومرا قرد يبردو علري أنره
تضاد أيديولوجي ،قرد تمكنرت عمليرا مرن التعرايش والرتالقح والتفاعرل .أي أن هنالرك أيرديولوجيا كبرري
تجمعهم جميعاً.
ومررع ذلررك – عررودا لمسررألة جدليررة الثقافررة – فإنرره عنرردما يررتم التفاعررل والررتالقح الجرردلي بررين ثقررافتين،
ويبردأ بالفعررل التشركل الجنينرري الجردلي فرري شرركل ثقافرة – يمكررن وصرفها بأنهررا ثالثرة إتباعراً لالسررتطراد
المنطقي لنظرية الجدل – فإن ذلك ال يعني تذويب الحدود الثقافية بين الثقافتين.
لماذا؟
أن ه ررذه الح رردود م ررن حي ررث كونه ررا أص رربحت وعي ررا باإلنتم رراء تك ررون ق ررد اس ررتقلت – أي تأص ررلت ف رري
مكانيزمررات الرروعي باإلنتمرراء .واذا أردت أن تستشررهد بواقعنررا الثقررافي مررا عليررك إال أن تتحررري مسررألة
الحدود الثقافية .رغم إنتظام التالقح ،فيما هو عليره حرال الجعليرين والشرايقية .فهرم ينتمرون إلري ثقافرة
وأحدة أصال ،ولكن رغم ذلرك أختطروا لهرم حردوداً تميرزهم عرن بعضرهم الربعض .ومرن خرالل كرل هرذا
يتجلي تجانس أنماط السلوك الثقافي في مؤداها من حيث الفعل والتفاعرل واإلنفعرال .ويرتم استشرعار
هررذا التجررانس فرري مسررتوي الرروعي المباشررر ،وهررذا برردوره مسررتمد مررن الرروعي غيررر المباشررر ،أي تلررك
المحددات الثقافية الضابطة والمشكلة للسلوك والتري ينشرا بهرا الفررد أثنراء عمليرة التنشرئة اإلجتماعيرة
وتقبع في الالشعور.
أذن ،لكرل هررذا جرراء وصرفنا لررذلك المتولررد الجردلي علرري أنرره قواسرم مشررتركة .وهرري – إذن – سررتلعب
دورها في كال الثقافتين لخلرق وتكرريس ذلرك التجرانس والتماسرك ،ومرن ثرم اإلحسراس باإلنتمراء .كمرا
أن هذا سوف يتجلي من خالل أجيال جديدة صاعدة في كال الكيانين المتصارعين ثقافياً.
ماذا يعني كل هذا؟
أنه يعني أن جيالً جديداً من الثقافة (أ) ،يوازيه جيل جديد مرن الثقافرة (ب) يكونران قرد تشرربا برالقيم
الثقافية المشتركة (ج) مع تلوين كل واحد لها بلونيتره الخاصرة ،األمرر الرذي ينبغري أن تخلرق فيهمرا
هذه العملية درجة من التماسرك والتجرانس ،ومرن ثرم اإلنتمراء لبعضرهما الربعض ،دون أن يعنري هرذا
تذويب أحدهما لآلخر ،أو حتي دون إلغاء الحدود الثقافية الفارقة بينها بالضرورة.
10
تشكل المواقف النفسية السلبية:
إذا من لوازم الصراع الثقافي الوعي بالفروقات التي أوضحناها – والتي غالبا ما يتم إسقاطها عرقيا
– فإنه ينشأ جراء مباشرة الصراع موقف نفسي ال يتصف باإليجابية .بممعني آخرر ،أن الثقافرة (أ)
عنردما إصررطرعت وتالقحررت مررع الثقافرة (ب) ،لررم يكررن ذلررك عمليرة وديررة وحبيررة .أن الرردماء لتسررفك،
وان األرواح لتزه ررق جر رراء مباشر ررة الصر رراع .وربم ررا يباش ررر الصر رراع بتحري ررك م ررن المواق ررف النفس ررية
السالبة.
ولنضرررب أمثلررة حيررة مررن واقررع حلبررة الصرراع الثقررافي فرري السررودان ،فنجررد هررذه المواقررف النفسررية فرري
أدق صورها بين من هو شايقي ،جعلي ،أو رباطابي من قصص ونكات يطلقها الواحرد علري االخرر
همزا ،ولمزا ،بالرغم من أن ثقافتهم في الواقع ما هي إال ثقافرة واحردة .أمرا إذا أردنرا أن نضررب مرثال
للصرورة فري أغلرظ حاالتهررا فردوننا المواقرف النفسررية المشركلة تجراه الصرراع الثقررافي الردائر برين البقررارة
العرررب والرردينكا ،رغمررا عررن أن القواسررم المشررتركة "المتولرردة جرردليا" بيررنهم كبي ررة للدرجررة الترري تجعلهررم
حقيقة ينتمون لبعضهم البعض ،بل يستشعرون امر انتمرائهم هرذا – لكرن خرارج حلبرة الصرراع .وفري
هذا حديث سيأتي الحقا.
إشكالية الوعي والمواقف النفسية:
إذا كانت ثقافة الدينكا والميسيرية الحمر ،مثال ،تجتمعران علري قواسرم مشرتركة ،ولهرا يعرود الفضرل
في صياغة شخصية الفرد في كال الكيرانين ،فهرذا يعنري أن ينبغري أن يكرون الرود مشرهوداً بره عنردما
يتقابل الدينكاوي مع الميسري علي ضفاف أبيري .ولكرن مرا هرو مشرهود بره – علري العكرس مرن ذلرك
– أن الررود بينهمررا مفقررود .أن حررل هررذه المعضررلة بسرريط هررو ان اإلحسرراس بانتمائهمررا إلرري بعضررهما
الرربعض يقبررع فرري أعمرراق تالفيررف الرروعي غيررر المباشررر .هررذا بينمررا حيررز الرروعي المباشررر (التفكيررر
العرادي) ؟؟ مشررغول بررالمواقف النفسررية التري تشرركلت جرراء مباشررة الصرراع كمرا ؟؟؟؟؟ ويمكررن شرررح
المواقررف النفسررية علرري انهررا مجمررل اإلحسرراس غيررر ؟؟؟؟ الترري يحررس بهررا الرردينكاوي تجرراه السرريري –
وكذلك العكس – إذ أنره يرري فيره قتلرة أخوتره وبراقي أفرراد اهلره وعشريرته الرذين فقردهم فري ؟؟ القبيلرة
التي جرت بينهم .
نخلرص مرن هرذا إلري أن المواقرف النفسرية السرالبة تظرل تشرغل حيرز الروعي المباشرر فري الفررد ،بينمررا
الثقافة المتولردة جردلياً وكنتيجرة حتميرة ؟؟؟؟؟؟؟؟ الثقرافي ،والتري تجمرع الثقرافتين برال تنراقض ،ويكرون
لها القدح المعلي فري صرياغة شخصرية األجيرال الصراعدة فري كرال الكيرانين ،فرإن علقتهرا تتخلرق فري
أعمرراق الرروعي غيررر المباشررر .فمررن خررالل تعاقررب األجيررال واسررتم اررية الص رراع والررتالقح يررتم تشرررب
11
السررمات ذات األصررالة فرري كررال الكيرراين .كررل هررذا يررتم فرري مسررتوي الرروعي غيررر المباشررر .وبررذا تبرردأ
الثقافرة الثالثرة فري التشركل حاملررة فري داخلهرا عوامرل تناقضرها الخاصررة بهرا .وهكرذا دواليرك فري حلقررة
جدلية من التطور المستمر.
خطوة إلي األمام ..التمم والتسام::
مررع تعاقررب األجيررال ،وتأصررل القرريم فرري الثقافررات المصررطرعة تتحرررك جرثومررة اإلنتمرراء المركررب الترري
تشركلت فرري عمررق الرروعي ،جاهرردة كيمررا ترزيح المواقررف النفسررية المشرركلة ،حترري تسررتأثر بحيررز الرروعي
المباشررر ،ومررا ذلررك بهررين .ويتجلرري أول مررا يتجلرري هررذا التيررار فرري سررلوك قررائم علرري تحمررل األخ ررين
(الررذين ينتمررون إلرري الكيرران األخررر) .ثررم إن التحمررل هررذا ال يقررف عنررد هررذا فحسررب ،بررل يتبلررور فرري
سلوك قائم علي التسرامح كسرلوك ثقرافي تجراه الثقافرات األخرري ،وذلرك فري مواجهرة الرروح العدوانيرة
لدي األجيال السابقة.
أن السلوك التسامحي في ثقافة السرودانيين بكرل مرا عررف عرنهم مرن غلظرة وشردة فري اإلبراء ورفرض
الضرريم ،ال نجررد لرره مرجع راً نعررزوه لرره عبررر هررذه الخصوصررية الناجمررة عررن جدليررة الص رراع والررتالقح
الثقافي.
اإلنتماء :بسيط ومركب:
اإلنتمرراء البسرريط هررو أن يعتررز الفرررد بسررودانيته مررن خررالل إعت ر اززه بقبيلترره ،أي أن يختررزل السررودان
"الكرل المركرب" فري قبيلترره "الوحردة البسرريطة" ،وبرذلك يصرربح السرودان هررو قبيلتره ،وتصرربح قبيلتره هرري
السودان ،وكل شخص ال ينتمي لقبيلتره فهرو ال ينتمري للسرودان ،وبالترالي فرإن أبنراء البلرد الحقيقيرين
هررم أبنرراء قبيلترره .إن إشرركالية الهويررة واإلنتمرراء فرري السررودان تكمررن فرري أن هررذا الررنمط مررن اإلنتمرراء
البسرريط ،مررع اخررتالف درجاترره مررن جيررل لجيررل ،ومررن فرررد إلرري آخررر ،هررو الررذي يشرركل حيررز الرروعي
المباشر .وما نري مفهوم "القبيلة" البغيض إال نابعا من هذا في سبيل اإلدانة والررفض .أمرا اإلنتمراء
المركب فهو ان يعترز الفررد منرا بإنتمائره البسريط (القبيلرة) مرن خرالل إعتر اززه بإنتمائره للسرودان ككرل،
أي اعت ر اززه بررالتنوع الثقررافي الررذي ينررتظم الخريطررة اإلجتماعيررة للسررودان .إننررا إذ نعتررز بشخصررياتنا ،
علينرا أن نرردرك أن هررذه الصرياغة الفريرردة للشخصررية السرودانية ككررل ،إنمررا يعرود الفضررل فيهررا للتنرروع
الثقررافي الررذي أترراح لنررا الررتالقح الثقررافي والتفاعررل ،وهررذا برردوره أنررتج لنررا قيم راً رفيعررة تتسررم باألصررالة
والرقي.
علينا أن نشير هنا إلري أن عمليرة اإلنتمراء المركرب ال تسرتدعي برالمرء التبررؤ مرن القبيلرة ،ومرا هرذا
إال ألن "القبيلررة " فرري منظورنررا إن هرري إال منظومررة ثقافيررة مررن واجررب كررل منررا أن يحررافظ عليهررا وأن
12
يعتز بها .إن ما نستشرفه هو أن يأتي اإلعتزاز بها علي إنها جزء من لوحة تشركيلية رائعرة ال تتجر أز
هي السودان.
نخررتم حررديثنا هنررا بقولنررا إن اإلنتمرراء المركررب يشررغل حيررز الرروعي غيررر المباشررر -أي الالشررعور –
ويجاهد كيما يرتفع إلي مستوي الوعي المباشر.
كمررا نضرريف بررأن المواقررف النفسررية المشرركلة تجرراه الصرراع هرري الترري تكرررس اإلنتمرراء البسرريط وتشررغل
معرره حيررز الرروعي المباشررر ،كمررا إنهررا تمثررل أكبررر عررائق أمررام مسرريرة اإلنتمرراء المركررب مررن الالشررعور
إلي الشعور.
الذاتية السودانية :ف ارس خارج الملبة:
يالح ررظ الكثي رررون أن ال رردينكا (نق رروق) – أي دينك ررا أبي رري – والمس رريرية إذا م ررا التقر روا خ ررارج أوط ررانهم
القبليررة – إذا مررا التقروا فرري الخرطرروم مررثال – يجلسررون سررويا بررل ويطمئنررون إلرري بعضررهم ويستشررعرون
القواسررم المشررتركة .كمررا يالحررظ أن نفررس هرؤالء األشررخاص مررن الكيررانين (الررذين التقروا فرري العاصررمة)
إذا ما عادوا إلي مواطنهم والتقوا هناك – في أبيي مرثال – فرإن البغضراء والشرحناء سررعان مرا يشرتد
أوارها بينهم ،وربما اقتتلوا.
فكيف نفهم هذا؟
المسألة بسيطة من حيث شرحها ،مركبة من حيث تكوينها.
أن أبيرري جغرافيررا هرري حلبررة الص رراع الثقررافي الررذي ينررتظم الكيررانين .ونتيجررة لمباش ررة الص رراع تشررتد
المواقف النفسية التي أفضنا في أمرها ،ولكن الخرطوم – فري المقابرل – ليسرت حلبرة صرراع .عليره
فإن الكيانين ال يباشرون صراعهما الثقافي في الخرطوم .ولهرذا فرإن المواقرف النفسرية يضرعف أثرهرا
وقررد تنتفرري .بررالطبع يصرردر السررلوك التسررامحي برردءاً فرري أطررر فرديررة ضرريقة .إذ يمكررن أن نالحررظ أن
الكيانين إذا ما تجراوروا فري مدينرة كوسرتي .لكرن أهرم مرا فري األمرر هرو ان السرلوك التسرامحي عبرارة
عن دائرة مستمرة اإلندياح.
وماذا يعني هذا؟
أنه يعني أن حيز الوعي المباشر – الذي كانت تشغله المواقف النفسية – قد أصبح شاغ اًر .وعليره
فررإن الطريررق تكررون سررالكة لجرثومررة الرروعي باإلنتمرراء المركررب – الترري ذكرنررا أنهررا تقبررع فرري أعمرراق
الالشعور (الوعي غير المباشر) وتجاهد كيما تحتل حيرز الروعي المباشرر – كيمرا تفررض نفسرها فري
مستوي الوعي والشعور المباشرين.
13
إن هررذه النقلررة لررم يحررس بهررا أنرراس كمررا أحررس بهررا المغتربررون مررن أبنرراء السررودان الررذين سرراحوا فرري
األرض يبتغررون الرررزق .فمررن المعررروف عررنهم أنهررم متماسرركون كسررودانيين بصرررف النظررر عررن اللررون
أو القبيلة .أن تماسكهم هذا وتعاضدهم خارج السودان (حلبة الصراع الثقافي) ،وشرعورهم بانتمرائهم
لبعضهم البعض ،يتحقق بصرف النظر عرن كرون الواحرد مرنهم مرن الجنروب أو مرن الشرمال ...مرن
الغرررب أو مررن الشرررق أو الوسررط ....بصرررف النظررر عررن كررون الواحررد مررنهم مررن الشررلك أو الشررايقية
.......الفور أو النوبة .إن كل هذا ال يمكن أن يفهم إال من خرالل النظرر إلريهم علري انهرم اكتشرفوا
ذواتهم علي حقيقتها ،أي أنهم يشكلون هويرة واحردة رغرم تبراين السرحنات ،وتعردد اللغرات والثقافرات.
ولذلك أحسوا بأنهم أهل وأسرة واحدة.
هررذه هرري الذاتيررة السررودانية .أنهررا جرثومررة شررعور اإلنسرران السرروداني بإنتمائرره لآلخ ررين الررذين يحررس
باختالفهم عنه ،وعردم إنتمرائهم إليره فري حلبرة الصرراع .ولرذلك ينبثرق الروعي بالذاتيرة السرودانية دائمرا
خارج حلبة الصراع .وال يظنن أحد أننا نرمي إلي القول بالذاتيرة السرودانية مرتبطرة بخرارج السرودان،
بل كل ما نريد قوله هو أن الوعي بها ينبثق دائماً خارج سياق contextالثقافة محليرا وخرارج حلبرة
إصطراعها الطبيعي .بهذا نظن أن رؤيتنا للقومية السودانية تكون قد اتضحت.
القومية السودانية :فارس داخل الحلبة:
هرري – بإختصررار – استشررعار اإلنتمرراء للكررل المركررب وتجرراوز ذلررك البسرريط ،داخررل حلبررة الص رراع
الثقافي ..أي داخل السودان (بالنسبة للمغتربين) ،وداخل مدينة أبيري (بالنسربة للردينكا والميسررية) .
هرري أن يعتررز المرررء مررن بسررودانيته مررن خررالل إعتر اززه بررالتنوع الثقررافي ،واإلحسرراس بفضررل هررذا التنرروع
في صياغة شخصياتنا بالكيفية التي هي عليهرا األن .....وهري صرياغة نعترز بهرا أيمرا إعترزاز .أن
هذا صبح ،وان تنفس إال أنا لم نستشررف بعرد شمسره بعرد .فررواد القوميرة السرودانية مرازالوا فري أطرر
فئويررة ضرريقة .لررذلك فررإن القوميررة السررودانية – وفررق مفهومنررا هررذا – لررم تتحررول بعررد إلرري حركررة ثقافيررة
إجتماعية طاغية .وان كان هذا ما ندفع إليه بمثل كتاباتنا هرذي ،بيرد أنرا يجرب إال نرذهل عرن حقيقرة
أن قروانين الصرراع الثقرافي فري بالدنرا هري المحررك األسرراي الرذي يردفع بنرا نحرو ذلرك طوعراً أو كرهررا
...فمن ذلك الخاسر الذي يريد أن يسبح عكس التيار؟!
إن القومية السودانية – بمفهومنا هذا – أن هي إال ارتفاع من دركات العرقية إلي درجرات الحضرارة
الناجمرة عررن الررتالقح الثقرافي .إن المنظررور الفكررري الرذي يررتم برره التعبيرر عررن مفهرروم القوميرة هررذا فرري
الفكررر السرروداني السررائد هررو "الوحرردة فرري التنرروع" وال مررن مأخررذ عليرره سرروي أنرره كرران يعرروزه التأسرريس
التنظيري الفلسفي ،األمر الذي عرضه لالستهالك السياسي إلي حد اإلبتذال.
14
أن هررذا يعنرري أن اإلنصررهار لرريس مررن لروازم الوحرردة ،كمررا ان اإلخررتالف والتنرروع لرريس مررن نواقضررها.
واألن فرري أخريررات القرررن العشررين تطرررح لنررا أوروبررا مثرراالً جرردير باإلعتبررار فرري هررذا الشررأن ،أال وهررو
"الوحدة األوروبية" التي لم تقم علي تذويب دولة ألخري ،او ترجيح لغة علي حساب لغة أخري.
هل القومية هي تذويب للقبيلة؟
ذكرنا من قبل أن اإلنكفاء واإلنغالق في اإلنتماء البسيط (اإلنتماء للقبيلة ) ومن ثم اختزال السرودان
كله في هذا اإلنتماء ،يفضي بنا إلي عدم تحمل األخرين (أبناء القبائرل األخرري) والنظرر إلريهم علري
أنهررم دوننررا مسررتوي ،وبالتررالي التحامررل علرريهم مترري مررا احتككنررا بهررم .ونوهنررا أن مفهرروم القبيلررة إنمررا
يعنرري هررذا .والواقررع أن غالبيررة المثقفررين السررودانيين إنمررا كررانوا يعنررون هررذا عنرردما عمل روا فرري محاربررة
اإلنتماء القبلي .ولكن هذا التيار اشتط عندما حارب القبيلة من حيث هي كينونة ثقافية .وعلري كرل
فإن غالبية المثقفين الذين اشتطوا في محاربة القبيلة علي انها أقوي عوامل الفرقة ،عادوا مررة أخرري
– فيما ظنوه هم انفسهم ،وان لم يعترفوا بره ،وظنره أخررون إنتكاسرة – عرادوا إلري االعتصرام بقبرائلهم
يستمدون منها احساسهم بالهوية واإلنتمراء .وأصربح فري حكرم العرادي أن ترري الشراب وهرو فري سرورة
شرربابه ،يثررور علرري القبيلررة حترري إذا مررا تقرردمت برره الحيرراة عرراد مستعصررما بقلعتهررا .وقررد نجررم عررن كررل
هذا مفهوم خاطيء مؤداه أن القومية ضد القبيلة ،كما أن طريق القبيلة ال يفضي إلي القومية.
ولكننا نري غير ذلك.
أننرا نرزعم أن اإلعترزاز بالقبيلرة – علري أنهرا منظومررة ثقافيرة ،ومرن التمسرك بكرل الممارسرات الثقافيررة
الخاصررة بهررا والمنحصررة داخررل حرردودها – ال يتعررارض البتررة مررع استشررعار اإلنتمرراء للسررودان ككررل.
أي أنرره بلغررة بحثنررا هررذا – ال تعررارض بررين اإلنتمرراء البسرريط (القبيلررة) واإلنتمرراء المركررب (السررودان
ككل) .إذ أن اإلنتماء المركب ما هرو إال نراتج تفراعالت مجمروع اإلنتمراءات البسريطة .ونزيرد فنقرول:
إن مرن يحرارب القبيلرة ال يمكررن أن يكرون برالمرة قوميراً ألنرره فري واقرع األمرر إنمررا يحرارب القوميرة فرري
مدخالت إنتاجها.
ولكن أين تكمن المشكلة؟
إنها تكمرن فري أولئرك الرذين ينكفئرون فري إنتمرائهم البسريط (القبيلرة) ويكتفرون برذلك ،ومرن ثرم يختزلرون
السودان كله في قبيلتهم .إن العالقة بين اإلنتماء البسريط والمركرب ،هري عالقرة تجراوز .بمعنري أنرك
عندما ترتفع من إنتمائك البسيط إلي اإلنتماء المركب ،ال تفعل ذلك تبرؤاً من قبيلترك وتخليراً عنهرا،
ولكنررك إنمررا تفعررل ذلررك ألن اإلنتمرراء البسرريط فرري داخلرره دونمررا تنرراقض ،ذلررك بررأن يررتم النظررر إل رري
السودان علري أنره لوحرة تشركيلية رائعرة ،كرل منرا شرارك فيهرا بفرشراته .عليره ،عنردما يقرف الواحرد منرا
15
أمام هذه اللوحة معجباً ومعت اًز باسهامه ،ال يفعل ذلك إال من خالل إعت اززه الكبير باللوحة ككرل .إن
اإلعتزاز باللوحة ككل يستبطن في داخل اإلعترزاز بمسراهمات انخررين جميعرا دون فررز .وهرذه هري
القومية السودانية ،وهكذا يتم اإلعتزاز بالقبيلة ال محاربتها أو تذويبها.
ولكن كيف يتم هذا التذويب؟
هذا هو الجانب انخر من المشكلة .إن القومية السودانية إن هي إال نهر كبير ،ومرا هرذه الثقافرات
إال روافررده .ثررم إن الي مررن هررذه الروافررد لونيترره الخاصررة برره .كمررا إنهررا ليسررت فرري حالررة صرراع دائررم،
كل منها يسعي إلي تشكيل انخر بلونيتره إن النيرل األبريض يسرعي جاهرداً كيمرا يشركل النيرل األزرق
بلونيته البيضاء حتي لو عاد به القهقري إلي منبعه ببحيرة تانا – ولكن هيهات .ومع ذلك فمرا النيرل
الكبير إال جامع لونيهما.
فررإذا نظرنررا إلرري الثقافررة مررن خررالل هررذا المنظررار النيلرري ،لتبررين لنررا أن كررل ثقافررة ( ارفررد) تسررعي كيمررا
تشرركل الثقافررات األخررري بلونيتهررا هرري .ومررا هرري لونيتهررا؟ إنهررا العررادات والتقاليررد ،األغرراني ،األمثررال
الشعبية ،الحكايات واألساطير المعتقدات ،طريقة اللبس والمسركن .....واللغرة ....الرخ .إذن فهرذا
هو الصراع الثقافي ...كما إن هذا كله يحدث في السودان .وهو مرن قبيرل "الصرراع حرول السرلطة"
وهررو شرريء صررحي .إذن فمررا هررو الشرريء غيررر الصررحي؟ هررو أن تسررخر الدولررة – كررأرقي مؤسسررة
تبلررورت ج رراء الص رراع حررول السررلطة – لنص ررة ارفررد علرري آخررر .أنرره القهررر ..القهررر الثقررافي .وهررذا
أيضررا موجررود فرري السررودان .مررثال ...عنرردما يررتم قهررر الهدنرردوي ثقافيررا ،فهررذا يعنرري أن يررتم تررذويب
ثقافترره فرري ثقافررة أخررري .كيررف؟ ...بررأن يتخلرري عررن الطريقررة الترري يلرربس بهررا مالبسرره ،ويمشررط بهررا
شررعره ...والترري يسرركن بهررا ،والطريقررة الترري يعرريش بهررا عامررة ....ثررم أن تخلرري عررن اللغررة الترري يررتكلم
به ررا .وأن يتخل رري ع ررن األغ رراني الش ررعبية واألمث ررال الخاص ررة بثقاف ررة الهدن رردوة ...كم ررا يتخل رري ع ررن
الحكايات واألساطير الشعبية التي كانت حبوبته تحكيها له في صغره ...وأال يحكيهرا ألطفالره ....
الخ.
إذا كران سرريتخلي عررن كررل ذلررك ،فإنرره بررالطبع سرروف يسررتبدل كررل ذلررك بمررا يوازيرره فرري الثقافررة األخررري
الت ري قهرترره وأذابترره فيهررا .بمعنرري آخررر ،إذا كرران قررد تخلرري عررن لغترره فإنرره لررن يتواصررل مررع النرراس
باإلشررارة ،ولكررن بلغررة بديلررة هرري بررالطبع لغررة الثقافررة الترري قهرترره .بعررد هررذا نسررتطيع أن نتحرردث عررن
كيفية تذويب القبيلة من خالل تزييف القومية.
القومية السودانية الزائفة:
16
إنه ررا ال رردعوة إل رري توحي ررد جمي ررع الس ررودانيين وا ازل ررة ك ررل الفروق ررات واإلختالف ررات الناجم ررة ع ررن التع رردد
الثقافي ،من خالل إعادة إنتاجهم ثقافيا مرة أخرري .بمعنري آخرر ،هرو ان يرتم تغليرب لونيرة ارفرد علري
جميع الروافد الخري – بمعني آخر أيضا ،هرو أال يكرون النيرل الكبيرر هرو جرامع األزرق واألبريض،
بررل يكررون هررو األبرريض وال شرريء س رواه ،ولكررن هيهررات .ان المنظررور الفكررري الشررائع الررذي يررتم برره
التعبيررر عررن هررذا اإلتجرراه هررو مررا يعرررف بمنظررور "بوتقررة اإلنصررهار" ونسررميه نحررن ميكانيزمررات إعررادة
إنتاج ثقافات الهامش داخل المركز ،انها انلية التي انتظمت السودان منذ تكوين دولرة الفرونج ،ولرذا
جاز أن يطلق عليها "نموذج إنسان سنار".
إن اإلنصهار أو ما يمكن أن يؤخذ علري أنره إنسرجام وعردم تبراين أو تعردد ثقرافي ،لريس مرن شرروط
الوحدة القومية التي تقوم علي أساساً علي قيم و حقوق المواطنة .ولنأخذ من الصومال مثراالً لرذلك،
فهو شعب واحد ،وتاريخ واحد ،ولريس بره أي شركل مرن أشركال التعردد والتبراين الثقرافي كالرذي عليره
الحررال بالسررودان .ولكررن ،كررل هررذا لررم يحررل دون اإلحترراب وتفكررك الوحرردة الوطنيررة والسياسررية لدرجررة
إنهيار مؤسسة الدولة .Collapse of State
إن عمليررة إعررادة افنترراج هررذه ليسررت عفويررة ،وان تبرردو كررذلك .إنهررا الص رراع حررول السررلطة ،وذلررك
عندما تتحول المواقف الثقافية – من لغة وعادات ....الخ – إلي مواقف أيديولوجيرة ....ومرن ثرم
أسلحة يحسم بها الصراع حول السلطة ،وسوف نفصل في هذا الحقاً.
احادية اللغة أم تعددية اللغات:
اللغات ليست مجرد عالمات صوتية للتواصل ،بل هي أكثرر مرن ذلرك ،إنهرا قوالرب للتفكيرر .عنردما
بدأنا تعلم اللغة اإلنكليزية ،كان المعلمون يطلبون من أن نفكر باإلنكليزي حتي نجود تحدثنا بها.
عليرره كلمررا تعررددت وتنوعررت قوالررب وأطررر التفكيررر ،كلمررا كرران ثرراء وغنرري الفكررر .وقررد حبررا ا األمررة
السودانية بأكثر من 400لغة ولهجة .ولكن ،نتيجة للمركزية الثقافيرة – أن لرم نقرل القهرر الثقرافي –
ونتيجررة لتسررخير مؤسسررة الدولررة لنص ررة ارفررد ثقررافي بعينرره ،أصرربحت هررذه اللغررات تتعرررض للتالشرري
والزوال ،دون أن تستشعر الدولة أدني مسرئولية إزاء المتحردثين بهرذه اللغرات ،مرع انهرم مرن دافعري
الض ررائب الترري تنفقهررا فرري قهرررهم وتررذويب هررويتهم .ويتخررذ القهررر اللغرروي عرردة وسررائل .أول هررذه
الطرق عندما نطلق عليها لفظة (رطانة) وما الرطانة إال لغة الطير.
ثانياً :عندما نجانب العلمية ونخالف جميع أبجديات علم اللسانيات ،فنستكثر عليهرا لفظرة (لغرات)
،ال لشريء إال ألنهرا التكترب .وهنررا تتبردي عمليرة العنجهررة .إن اللغرة تصربح لغررة مرن خرالل تراكيبهررا
الداخليررة النحويررة والصرررفية والنطقيررة ،بصرررف النظررر عمررا إذا كانررت مكتوبررة أم ال .فاللغررة العربيررة
17
نفسها بالنسبة للرشايدي األمي لغة غير مكتوبة .أما اللهجة فهي تحوالت غير أساسية داخل اللغرة
نفسها ،مثل اللهجة المصرية ،الشامية ،الخليجية داخل جسم اللغة العربية.
ويتبرردي القهررر الثقررافي أكثررر عنرردما يررتم تعريررب التعلرريم ،بحجررة ان اللغررة العربيررة هرري تحقيررق ألصررالة
الس ررودانيين أوال ،وألن التعل رريم باللغ ررة األم م ررن ش ررأنه أن ي ررؤدي إل رري تجوي ررد التحص رريل العلم رري ثانير راً.
فالحج ررة األول رري تخت ررزل ك ررل الس ررودانيين ف رري الوس ررط اإلس ررالموعربي ،متناس ررية أن جمي ررع األطر رراف
السودانية غير عربيرة .أمرا الحجرة الثانيرة فتكشرف التنراقض المنهجري فيمرا يقردم مرن مسروغات .أن
الكثيررر مررن أطفررال السررودان يتعلمررون اللغررة العربيررة فرري المدرسررة كمررا يتعلمررون اللغررة اإلنكليزيررة .ومررا
ذلررك إال ألنهررم يتحرردثون أصررال بلغرراتهم األم ،الترري هرري قطع راً غيررر اللغررة العربيررة وغيررر اإلنكليزيررة .
فمن منا يأتري ال يعلم ذلك؟ إذا كان هذا كهذا فإنه يصح من الردعي لللترزام بالحجرة الثانيرة أن يرتم
تعلرريم هرؤالء األطفررال بلغرراتهم األم بغيررة تجويررد تحصرريلهم األكرراديمي .فرري الرررد علرري هررذا يررأتي دعرراة
القهررر اللغرروي بحجررة غريبررة مفادهررا أنرره لرريس فرري مقرردور الدولررة أن تطبررع المقررررات بجميررع اللغررات
السررودانية الترري يعجررز اللغويررون عررن حصرررها .حسررناً إذن فهررذا سررببه اإلمكانررات فقررط .هنررا يرراتي الرررد
بسرريطا :لررم شرررعت الدولررة فرري تعريررب التعلرريم الجررامعي دون أن تملررك اإلمكانررات لررذلك مررن حيررث
ترجمعة المقررات .هذا فضال عن أن الترجمرة ليسرت تأصريال البترة ،فالتأصريل هرو أن تنرتج المعرفرة
ال ان تترجمهررا مترري فرررغ انخرررون مررن إنتاجهررا .أننررا إذا ركبنررا الترجمررة فسرريظل قطررار التقرردم دوم راً
أمامنا نطارده دون أن نلحق به أبدا.
علرري الدولررة أن تعترررف بواجبهررا إزاء اللغررات السررودانية األخررري وحمايتهررا وتطويرهررا ،كمررا عليهررا أن
تعترررف بررالحقوق الثقافيررة للمجوعررات السررودانية دون تحيررز .وأوجررب هررذا الحقرروق هررو حررق التحرردث
والتعلم باللغة األم.
ففي بلد يرذخر بهرذا الثرراء العرريض مرن اللغرات ،مرا الضررر فري أن يتخررج كرل طالرب جامعرب وهرو
يحمررل معرره دبلومررا خاصررا باحرردي اللغررات السررودانية؟ إننررا ننظررر إلرري العاميررة العربيررة بوصررفها إحرردي
اللغات السودانية ،فضال عن كونها لغرة التخاطرب المشرتركة .كمرا ننظرر إلري اللغرة اإلنكليزيرة علري
أنها لغة التعليم العالي ،وذلك حتي تتمكن األجيال السودانية الصراعدة مرن تعراطي المعرفرة العالميرة
مباشرة ودون ترجمان .فاللغة اإلنكليزية أصبحت هي لغة العلم علي مستوي العالم أجمع.
إذا كنررا نرردعوا إلرري تخصرريص اللغررات السررودانية كمررادة إجباريررة فرري التعلرريم العررالي .فررال أقررل مررن أن
يصربح الفولكلرور مرادة مرن مرواد الشرهادة السرودانية .أن التحامرل الثقرافي واللغروي هرو أشربه مرا يكررون
بجدار الجليد،
18
أي حر ر اررة كفيل ررة بتذويب رره .إن معرف ررة الس ررودانيين بعض ررهم ب رربعض ه رري الش ررمس الت رري س ررتذيب جب ررال
الجليررد وجد ارنرره الترري تفصررل بيررنهم .وعبررر الفولكلررور سرريتعرف ناشررئة السررودان علرري مكررامن الحكمررة
والع رزة والحضررارة فرري مختلررف ثقافررات السررودان ،وبررذلك يتكرررس اإلحسرراس باإلنتمرراء للكررل المركررب.
بهذا يكون الطالبك أو الطالبةك مهيئاً عندما يأتي إلي الجامعة علري اإلقبرال لد ارسرة اللغرة السرودانية
التي يختارها.
إن هذا يقتضي بالضرورة أن تتحرر أجهزة اإلعالم – أنواعره – مرن أسرر سياسرة األحاديرة الثقافيرة،
لتضرخ موادهرا بجميرع اللغرات السرودانية .بهرذا تكرون هنراك قنروات تلفزيونيرة واذاعيرة بالعديرد مرن هررذا
اللغر ررات ،كمر ررا تكر ررون هنالر ررك العدير ررد مر ررن اإلصر رردارات الصر ررحفية ،الكتابير ررة عامر ررة ،خر ررالف العربير ررة
واإلنكليزيررة .إن هررذا األمررر مررن شررأنه أن يثررري الحركررة الثقافيررة والفكريررة السررودانية ،إذ سيشررارك فيهررا
جميررع السررودانيين بمختلررف مشرراربهم الثقافيررة وفئرراتهم العمريررة .حترري انن ظلررت هررذه المشرراركة وقفررا
علر رري الطبقر ررة المثقفر ررة دون س ر رائر طبقر ررات المجتمر ررع ،وعبر ررر ارفر ررد ثقر ررافي وأحر ررد هر ررو ثقافر ررة الوسر ررط
اإلسررالموعربي ،دون برراقي الروافررد الثقافيررة السررودانية .أن الحررديث عررن الالمركزيررة والحكررم اإلقليمرري
والفيدرالية يكون فارغ المحتوي إذا نهض علي أرضية المركزية الثقافيرة .كمرا ال معنري لكرل مقروالت
التنمي ررة المتوازن ررة وك أو المتوازي ررة واالقتس ررام الع ررادل للث ررروة ،طالم ررا ج رراءت ف رري ظ ررل واق ررع المركزي ررة
الثقافية .إن تشريع التعددية الثقافية هو في الواقع تشريع للديمقراطية التعددية ،وهي نفسها ثقافيرة ..
كما سيجيء .ال حقاً.
األساس الموضوعي للقومية السودانية:
ونعنرري بررذلك موضرروعية المشررتركة الثقافيررة الترري تجمررع الكيانررات السررودانية ،أو مررا قررد يبرردو علرري أنرره
شررتيت مررن األق روام واألقومررة .هررل هنرراك حقيقررة مررا يجمعهررا علرري أسرراس موضرروعي ،أم أن القوميررة
عنرردنا إن هرري إال أمنيررة تهدهرردنا أضررغاثها؟ هنررا يحررق للكثي ررين أن يعرب روا عررن الدهشررة و المفاجررأة
عنر رردما يعلم ر روا أن لغر ررات البجر ررا ،فاديجر ررا – محر ررس ،الدنقالوير ررة ،الكنزير ررة (بر ررين مصر ررر والسر ررودان) ،
الميدوب ،البرقد ،النيمرانق ،الغلفران ،الردلنج ،األنقسرنا ،الردينكا ،النروير ،الشرلك ،المنرداري ،الالتوكرا،
الباريررا ،واألشررولي (بررين السررودان ويوغنرردا) ،الماسرري بررين (يوغنرردا و كينيررا) ،وحترري المادينقررا بررين
(كينيررا وتنزانيرا) ،ثررم اللغررة النوبيررة القديمررة ،ثررم اللغررة المرويررة الترري لررم تفررك طالسررمها حترري انن ....
عنرردما يعلم روا أن جميررع هررذه اللغررات الترري تمتررد شرررقاص وغرب راً ،شررماالً وجنوب راً ...ووسررطا ،إنمررا
تنتمي إلي مجموعرة لغويرة واحردة تعررف باسرم المجموعرة السرودانية – الشررقية .فمرثال فري سربيل فرك
طالسررم اللغررة المرويررة ،يسررتعان بالعديررد مررن هررذه اللغررات وذلررك لمررا بينهررا مررن صررلة ق اربررة .مررن ذلررك
19
اسررتعانة العلمرراء باللغررة النوبيررة القديمررة الترري كانررت تسررتخدم إبرران الممالررك النوبيررة المسرريحية ،هررذا
فضررال عررن متفرعاتهررا الحاليررة مثررل الفاديجررا – محررس ،الدنقالويررة – الكنزيررة ،الميرردوب ،النيمررانق ،
الدلنج .كما يستعان أيضاً بلغات البجا .لكن المهم أيضا هو إستعانتهم ببعض اللغات مرن الجنروب،
مررن ذلررك لغررة الباريررا .هررذا عررن المجموعررة السررودانية الشرررقية ،والترري هرري نفسررها إحرردي متفرعررات
المجموع ررة الكب ررري المس ررماة النيلي ررة الص ررحراوية،حيث تنض ررم إلين ررا لغ ررات س ررودانية أص ررلية مث ررل لغ ررة
الفور .وهكذا أن شبكة المشتركات تصبح أكثر تعقيدا كلما توسعنا.
إذن يمكررن أن نخلررص إلرري أن هنرراك حرربالً سررياً يرربط بررين جميررع أقروام الهررامش شرررقاً وغربراً ،شررماال
وجنوبراً .بهررذا يتبقرري المركررز اإلسررالمو عربرري .لكررن المفأجرراة ال ترزال قائمررة .أن هررذا المركررز مررا هررو
إال اله ر ررامش مع ر رراد إنتاج ر رره .فم ر ررثال قبائ ر ررل الجعلي ر ررين الكب ر ررري (الجعلي ر ررين ،الميرف ر رراب ،المناص ر ررير،
الرباطاب ،والشايقية ..الرخ) – كمرا تكشرف برذلك أجنراس ثقرافتهم فيمرا توصرل إليره علمراء الد ارسرات
السودانية – هم النوبيون الذين استعربوا في القرون األولي التي سبقت قيام سلطنة الفونج.
أما إذا جئنا إلي قبائل البقارة ،فلنا أن نتساءل :من أين للعرب بالبقر؟
لقررد اسررتبدل هرؤالء العرررب جمررالهم بأبقررار الرردينكا و مررا يتبررع ذلررك مررن تمثررل ثقررافي حترري عرفروا بأسررم
البقارة .هذا فضال عن اللون األفريقي األسود الرذي اكتسربوه بتصراهرهم مرع الردينكا األفارقرة السرود ،
والذين بدورهم أخذوا أيضا الكثير من العرب الوافدين.
إذن إن دعرروي القوميررة السررودانية لهررا أساسررها الموضرروعي ال رواقعي ،وهررو األمررر الررذي تسررتند عليرره
جدلية الصراع الثقافي .إن مرا يؤسرف لره أن تظرل تفاصريل هرذا الحقرائق خافيرة علري عامرة ومتعلمرة
السودان ،كأنما هو تابو تتحاماه مقررات مناهجنا التعليمية.
ظاهرة الثورة والديمقراطية في الثقافة السودانية
الثررورة نقصررد به ررا الص رراع ح ررول السررلطة ف رري أعنررف صرروره ،وهن ررا يجرريء ربطه ررا بالثقافررة .كم ررا إن
الديمقراطيررة يجرريء حررديثنا عنهررا علرري أنهررا سررلوك ثقررافي يبرردأ مررن البسرريط متجهررا نحررو التركيررب ،أي
المؤسس ررية .كم ررا أن ررا نزي ررد فن ررزعم أن الديمقراطي ررة – م ررن ه ررذا المنظ ررور – ليس ررت بش رريء واف ررد عل رري
السررودان ،بررل هرري سررلوك اركررز ومتجررذر فرري ثقافتنررا .أمررا تكنيكررات التركيررب الالزمررة لكررون الشرريء
جسماًَ مؤسسيا فهي ناتج االنفتاح علي التراث اإلنساسي ،وهذه مزية.
ذكرنرا أن الكيانرات اإلجتماعيرة ذات الثقافررة اإلجتماعيرة األصرلية تستشرعر بررأمر سريادتها علري البيئررة
المحيطررة بهررا ،ومررن ثررم تسررعي إلرري بسررط هررذه السرريادة علرري مررا عررداها .كمررا ذكرنررا إن هررذا األمررر قررد
يؤدي إلي صدامات ربما كانرت دمويرة ،واستشرهدنا بأمثلرة علري ذلرك .وخلصرنا إلري ان كرل ذلرك مرا
20
هو إال صراع حول السرلطة مرن خرالل عمليرة الثقافرة ،ومرن ثرم اإلحسراس باإلنتمراء مردعوماً برالوعي
بالتمايز واإلسقاط العرقي له،.
هذا األمر يتجلي في سلوك الكيان اإلجتماعي ككل ،وفي سلوك االفرراد كوحردات اجتماعيرة ،وهرو
فرري الواقررع سررلوك ينررزع فرري مرحلترره البسرريط نحررو أن يبسررط كيرران اجتمرراعي مررا نفرروذه وسرريادته علرري
كيان اجتماعي آخر .وتبيان ذلك أن األفراد في الكيان األول يستشعرون بالفوقيرة وعلرو المكانرة إزاء
األفراد في الكيان انخر .أما في مضمار تطور هذا السلوك نحرو التركيرب فإننرا نرزعم بانره سريتطور
ويتعقررد كيمررا يجسررد الدكتاتوريررة .أي أنرره سررلوك ثقررافي نررازع نحررو الديكتاتوريررة ،وانمررا هررذه هرري علررة
الدكتاتوري ررة المؤسس ررية ،بمعن رري أنه ررا تج رريء دائمر راً كاس ررتجابة اجتماعي ررة تن ررتظم الثقاف ررة عب ررر أف ر رراد
المجتمع .نزيد فنزعم بأن هذا السرلوك الثقرافي النرازع نحرو الدكتاتوريرة كران هرو الوقرود المحررك دائمرا
– متي ما نشط – ألي دكتاتورية حلت بنا ،كما سيقودنا لذلك تحليلنا وفق هذا المنهج الثقافي.
وذكرنا أيضرا أن الرتالقح الثقرافي برين الكيانرات االجتمعيرة المتصرارعة ،وتشركل الثقافرة الناتجرة جردلياً
والترري تنتمرري لهررا األجيررال الصرراعدة مررن هررذه الكيانررات ،ثررم استشررعار ذلررك فرري مسررتوي الرروعي غيررر
المباشررر ارتفاعراً إلرري الرروعي المباشررر ،سرريؤدي إلرري أن يتجلرري ذلررك فرري التسررامح كسررلوك ثقررافي بررين
الكيانات االجتماعية بعضها البعض ،كل هذا بدال عن السلوك العدواني النابذ لدي األجيرال القديمرة
فرري هررذه الكيانررات .وقررد أرجعنررا جرثومررة التسررامح فرري السررلوك السررودانيين إلرري ذلررك .عليرره ،سرريحل
التحمل الثقافي مكان التحامرل الثقرافي .هرذا سريؤدي حتمرا – كمرا هرو الحرال فري سرودان اليروم ،وفري
أطر ضيقة – إلي اإلرتضاء واالعتراف بوجود انخر وان كان االختالف الثقافي ناشباً.
هرذا السررلوك الثقرافي البسرريط مقرردور عليره أن يتطررور ويرتقرري فري مضررمار التعقيررد والتركيرب ليبلررذ بنررا
مشررارف الديمقراطيررة ،تقليديررة كانررت أم حديثررة ،شررعبية كانررت أم مؤسسررية .إذن فهررو سررلوك ثقررافي
نازع نحو الديمقراطية في مؤداه البعيد ،ثم إنه قديم متجذر في بنية الثقافة السودانية.
إذن فل رردينا تي ررار ثق ررافي ن ررازع نح ررو الدكتاتوري ررة ،وآخ ررر ن ررازع نح ررو الديمقراطي ررة ،وق ررد نش ررب الصر رراع
والتفاعل بينهما في كيمياء الثقافة السودانية ،فلعبا أدوا ار جسيمة في تشكيل فترات من تاريخنا .وهنرا
سنعمد إلري تتبرع أشركال وم ارحرل الصرراع برين هرذين التيرارين عبرر تاريخنرا المعاصرر ،مسرتجلين فري
ذلك مضامير رقي الوعي من مستواه غير المباشر إلري مسرتواه المباشرر فري ثقافتنرا السرودانية .وهنرا
سرنركز علرري م ارحرل بعينهررا مررن تاريخنرا للسررتدالل بهررا .هرذه الم ارحررل سررتكون الثرورات الشررعبية الترري
فجرها شعبنا ،وما هذا إال ألن الثورات تعكس الصراع حول السلطة في أعنف صوره.
21
سررنبدأ بررالثورة المهديررة ،مررن ثررم نعرررض إلرري ثررورة أكترروبر لنخررتم بثررورة أبريررل ،والررذي سيفضرري بنررا
الحديث عنها إلي تحليل واقعنا السياسري الحرالي سرعياً ال بتنراء رؤيرة مسرتقبلية نتبرين بهرا خطانرا فري
الغد وما يمكن أن يؤول إليه أمرنا.
الثورة المهدية:
هي كانت ثرورة شرعبية بيرد انهرا لرم تكرن ثرورة فكريرة ،بمعنري أنهرا تفجررت وعوامرل الروعي بهرا ال ترزال
تقبع في مستوي الوعي غير المباشر.
فبررالرغم مررن دعرروي لمهديررة ،إال أن المهرردي لررم يررتح لرره الوقررت لتأسرريس فكررر مدرسرري منهجرري ،فرري
معني أن يتأسس الفكر في مستوي التنظير ،ثم يسعي لتطبيقه علي الواقع .ففكررة (المهديرة) مرأخوذة
من الفكر الشيعي الصوفي ،وقد زرعها المهردي فري الفكرر السرني دونمرا فرصرة لصرهر البنراءين فري
رؤيررة سررنية جامعررة ةذلررك لوفاترره البرراكرة .ثررم انرره – بعيرردا عمررا أنتهرري غليرره واقررع األمررر – لررم يكررن
المهدي المنتظر في نظر الكثير من القطاعرات الشرعبية السرودانية التري مرات ريراح الثرورة أشررعتها
،دونمررا إيمرران بمسررألة المهديررة .لكررل هررذا لررم يمررا المهرردي األرض عرردال كمررا ملئررت جررو اًر ،وال ت رزال
مظررالم المهديررة خب ر ار مسرركوتاً عنرره يتحاشرراه مؤرخونررا لتجميررل الصررورة ،وتستشررهد برره حبوباتنررا مررثالً
سارياً.
ومررن أجرره المعالجررة السياسررية غيررر الفكريررة ،إلغرراء المهرردي للطرررق الصرروفية والمررذاهب اإلسررالمية
بإصرردار قررار بررذلك .وفرري الواقررع لررم يكررن قر ارره ذلرك غيررر تبرئررة لذمترره مررن التقيررد بمحكوميتهررا ،وهررو
أشبه ما يكون بإلغاء األنظمة الدكتاتورية وحلهرا لاحرزاب السياسرية .كمرا يؤخرذ علري الفكرر المهردوي
ذهولرره عررن الواقررع وأحكامرره ،واالسررتغراق فرري الرومانسررية الدينيررة ،وهررو مررا دفررع المهرردي إلرري محاولررة
إعادة سيناريو التاريخ اإلسالمي ،ال في مضامينه ومقاصده ،بل في عين مالبساته واحداثياته.
فقررد عررين لرره خلفرراء أربعراً علرري غررار خلفرراء الرسررول (ص) األربررع ،يحملررون أسررماءهم أيضررا .فكانمررا
المسلمون محكروم علريهم فري حصرتهم مرن الحكرم ال ارشرد برأربع خلفراء فقرط كيفمرا تطرور بهرم التراريخ.
ثررم هررو ينتقرري مررن أبنرراء عمومترره صربياً (الخليفررة ش رريف) ليجلسرره علرري كرسرري علرري بررن أبرري طالررب
(رضرري) ،ويتررزوج مررن أم رراة اسررمها عائشررة ،ويجعلهررا أثي ررة لديرره ،حترري أنرره ليطلررب عنرردما توافيرره
المنية أن يدفن في حجرتها.
وبالرغم من ان المهدي قد ألغي الطرق الصوفية إال أننرا نجرده يلترزم بهرا علري شركل آخرر ،دون أن
يكررون قاص ررداً .فعم رردة التسررليك الترب رروي ل رردي المهرردي (ال ارت ررب) م ررأخوذاً بنرراءاً م ررن الص رروفية ،رغ ررم
التحرررر م ررن محتواه ررا الفك ررري ،وه ررو ال ررذي تح ررول فيمررا بع ررد بحرك ررة األنص ررار لتص رربح مج رررد طائف ررة
22
كالختميررة تحكمهررا أس ررة المهرردي .ومررا الطائفيررة إال التشرركل الثقررافي اإلجتمرراعي للفكررر الصرروفي فرري
حال تنزالته الدنيوية التي عادة ما تنتهي به إلي أن يصبح ترساً في ماكينة األيدولوجيا السائدة.
لكررل هررذا ال يرزال األنصررار حترري يومنررا هررذا ال يجرردون مررا يميررزهم فكريراً ،ولررذا يرردورون فرري خطررابهم
الفكررري حررول فلررك الحركررات الترري تنفعررل باإلسررالم نفعرراال رومانسررياً .حيررث تصرربح الرردعوة لرره مج ررد
شرعارات ترنفخ الصردر حماسرا دونمرا انشرغال بالكيفيرات الفكريرة المؤديرة إلري تحقيرق هرذه الشررعارات ،
والترري تمثررل م رربط الفرررس والمقبررة الترري يقررف عنرردها حمررار الشرريخ .وهررذا هررو عررين مررا يفررتح أمررامهم
المجال واسعا لالنحراف مرع حركرات الهروس الرديني .وهنرا ال عبررة للطرابع الرديني للثرورة المهديرة ،إذ
انها تتفق مع نمط الثورات واالنتفاضات التقليديرة فري أفريقيرا حيرث يمثرل الردين محرو ار لهرا ،وقرد كران
اإلسالم المهدوي هو محرور األيرديولوجيا السرائدة فري الوسرط اإلسرالمو عربري بالسرودان .وهرذا هرو
نفسرره مررا جعررل دولررة المهديررة تنتمرري أيرردويولوجيا إلرري ثقافررة المركررز وتررذويب الهررامش فيرره وذلررك عبررر
نموذج إنسان سنار .لقد كانت الثورة قومية ،بينما جاءت الدولة جهوية ،مركزية.
عليرره ،المهديررة كانررت ثررورة شررعبية فجرهررا الشررعب السرروداني ،وشررارك فيهررا جميررع السررودانيين ،حترري
أهرل الجنرروب مررع عرردم اسررالمهم .ثررم إن الثررورات الشررعبية ال تصررنعها الزعامررات بررل هرري الترري تصررنع
زعاماتها .فالمهدي لم يكن صانع الثورة بل كان صنيعة الثورة .وهذا دون أن نغمطه شررف قيادتهرا،
وفي هذا لنا حديث.
الثورات الشعبية عاطفة وهدف يجمعهما وعي تمخض عرن فعرل بغيرة التغييرر .ثرم أن العاطفرة هرذي
موزعة علي أفراد الشعب ،وكيما تفعرل فعلهرا ال برد لهرا ان تلترف حرول محرور ،واال فرال تماسرك .ثرم
إن محررور التماسررك هررذا يمكررن أن يكررون المبرردأ فرري تجريررده ،وهررذا يسررتلزم درجررة مررن الرروعي عاليررة
(الوعي المباشر) .فإذا لم يتوفر هذا الوعي ،فإن الشعب سيعمد إلي أن يتماسرك عاطفيراً فري ثورتره
علي عدة مستويات أدناه مستوي التجسيد ،وذلك بأن يجسد محور التماسك العراطفي .وقرديما عنردما
عجز الناس عن أن يسرتوعبوا وجرود الرذات اإللهيرة فري مسرتوي التجريرد ،عمردوا إلري التجسريد فكانرت
األصنام لتقربهم إلي ا زلفي.
اإلمررام المهرردي كرران محررور التماسررك العرراطفي مجسررداً ،إذ ان الرروعي لررم يكررن قررد تعرراظم لرردي عامررة
الشرعب حترري يجعلروا مرن المبرردأ فرري تجريررده محرور تماسررك عرراطفي لثررورتهم ،وقرد جرراءت أهليترره لهررذا
من كونه – كما نري – أبناً للقومية السودانية سابقاً ألوانه .فهرو قرد جراء مرن الشرمال النروبي متشرربا
بثقافررة متمي رزة .ليعاشررر أهررل الوسررط ،ثررم أهررل اقصرري جنرروب الوسررط ،ثررم الغرررب ،فتشرررب بثقافررات
متعددة .ونسبة لطبيعته الفذة فقد تجاوز مرحلرة المخراض التري انتظمرت شرعبنا – وال ترزال – السرنين
23
الطوال ،فتجاوز انتماءه البسيط (القبيلة) ليستشعر انتماءه للكل المركب (السرودان) محكومرا فري كرل
ذلك بعوامرل وعيره الموضروعية والظرفيرة ،فرأحس – برهافرة حسره – بمعانراة جميرع السرودانيين .وقرد
اجتاز امتحانا عسي ار في ذلك عنردما ردع عشريرته إبران حصرار األبريض ،إذ مارسرت عليره ضرغوطاً
شتي ليختزل القومية السودانية في إنتمائه البسيط (القبيلة والعشريرة ) .ولكنره ،رحمره ا ،كران قرد
تجاوز تلك المرحلة.
عليرره فقررد تاهررل المهرردي لزعامررة الثررورة الشررعبية ،والترري عنرردما تجررد محرور تماسرركها العرراطفي وتصررنع
زعاماتهررا ،تفعررل ذلررك لتررؤمن انتصررارها .وهررذا مررا فعلرره لهررا اإلمررام المهرردي ،إذ ضررمن لهررا انتصررارها
وزال بذلك حكم المستعمر.
وبعررد مرراذا عررن الص رراع الناشررب بررين التيررارين ،ذلررك النررازع نحررو الدكتاتوريررة وانخررر النررازع نحررو
الديمقراطيررة؟ إن الحكررم التركرري بوص رفه اسررتعما ار ،مررا ه رواال فرررض النفرروذ والسرريادة األجنبيررة .وهررو
بهذا يكون قد كسر شوكة التيار الثقافي النازع نحو الدكتاتورية والذي هو عبارة عرن إمترداد متطررف
غيررر إيجررابي لرغبررة افنسرران الطبيعيررة وسررعيه لبسررط هيمنترره ،والترري هرري برردورها منرراط فرررض النفرروذ
والسرريادة .هنررا لررم يكررن أم رام السررودانيين غررال ان يستشررعروا جسررامة الكارثررة الترري حلررت بهررم ،فقررد تررم
كسرر شرروكة اإلحسراس بررالنفوذ والسرريادة ،بمختلرف كيانرراتهم افجتماعيررة .أي أن عرامال خارجيررا عامراً
قررد أصرربح يجمعهررم ،المررر الررذي هيررأهم الستشررعار العوامررل الثقافيررة المشررتركة ،ومررن ثررم افحسرراس
باإلنتم رراء لبعض ررهم ال رربعض ،فالمص ررائب يجمع ررن المص ررابينا .فك رران أن أزدادوا قربر راً م ررن بعض ررهم ،
وضعف بالتالي أثر المواقف النفسية المشكلة جراء مباشرة الصراع الثقافي.
بطريقة أخري ،اشتد اثر التيار النازع نحو الديمقراطية ،فكان أن تهيأ الشعب السوداني للتعاضد.
ولكن ،كيما يزيرل السرودانيون – بمختلرف مشراربهم – السريادة األجنبيرة ،كران البرد مرن ان يسرتحثوا
المحركررات الثقافيررة الترري ينرراط بهررا بسررط النفرروذ والسرريادة ،واال فمررا كرران أن يشررتعل فتيلهررا .وبالفعررل،
هذا ما تم ،وانتصرت.
نخل ررص غل رري ان التي ررارين الثق ررافين ،الن ررازع نح ررو الديمقراطي ررة واألخ ررر الن ررازع نح ررو الدكتاتوري ررة ،قر رد
اصررطلحا فرري الثررورة المهديررة .كمررا ان محررور التماسررك العرراطفي ،نسرربة لترردني الرروعي المباشررر لرردي
عامرة الشررعب ،لرم يكررن قرد أرتفررع عرن مسررتوي التجسرريد .برذا كرران اإلمرام المهرردي هرو محررور التماسررك
العاطفي مجسداً ،وقد جاءت أهليته لهذا من كونه أبناً للقومية السودانية سابقا ألوانه.
ثورة أكتوبر:
24
ذكرن ررا أن ك ررل م ررا يمارس رره الن رراس ف رري حي رراتهم اليومي ررة ،م ررا ه ررو إال تجلي ررات للس ررلطة ف رري المس ررتوي
القاعرردي .ثررم ان هررذه السررلطة ترتقرري إلرري أن تبلررذ المسررتوي السياسرري .وكيمررا تمررارس السررلطة فرري
المسررتوي السياسرري البررد مررن بنيررة سياسررية ذات شررقين (حكومررة ومعارضررة) .أو قررل تحقيقررا :األحرزاب
ونضيف إلي أنه البد من كيفية سياسة ،هي نوع الحكرم :ديمق ارطري ،تعرددي ،ليب ارلري ،أم شرمولي
،أو دكتاتوري ...الخ.
عندما نال السودان استقالله كانت البنية السياسية تتمثل في تلك األحزاب التري تكالبرت علري الحكرم
(وه رري ف رري رأين ررا بني ررة سياس ررية منحرف ررة وال تخ رردم ه ررذا الش ررعب ،ب ررل تس ررتثمر ح رراالت إنع رردام ال رروعي
المباشر فيه) .كما إن الكيفية السياسية كانرت هري الديمقراطيرة (وهري فري رأينرا كيفيرة سياسرية معافراة
ال غبار عليها).
فماذا حدث؟
لقررد مارسررت البنيررة السياسررية ،بطبيعررة تكوينهررا غيررر المعررافي ،فسررادها فرري الحيرراة العامررة والم ارفررق ،
وذلررك فرري ظررل الكيفيررة السياسررية المعافرراة (الديمقراطيررة) .وهنررا البررد لنررا أن نمررايز بررين فسرراد األولرري
ومعافرراة الثانيررة .إذ أن البنيررة السياسررية متغيررر ،وبالتررالي يمكررن لحررزب بعينرره أن يضررمحل ويتالشرري
ليظهر في موقعه حزب آخر جديد ،وكل ذلك في ظل الديمقراطيرة .وهرذا يعنري أن الكيفيرة السياسرية
(هن ررا الديمقراطي ررة) ه رري الثاب ررت .علي رره ،فل رريس م ررن العق ررل ف رري ش رريء أن نس ررقط ك ررل س ررلبيات البني ررة
السياسررية (غيررر المعافرراة) علرري الكيفيررة السياسررية (المعافرراة) .ذلررك ألن فسرراد المتغيررر ال يجرروز أن
يقدح في صالحية الثابت.
نقول هذا ألنه عرين مرا حردث فري ظرل الديمقراطيرة األولري بعرد مرا حردث فري ظرل الديمقراطيرة الرولي
بعد االستقالل ( ، )1958 – 1956ومصدر العلة كان تدني مستويات الروعي المباشرر لردي عامرة
الشررعب .فمررا أن تنحرررف األحرزاب "المتغيررر" ،حترري تثررور ثررائرة الشررعب علرري الديمقراطيررة "الثابررت" ،
هذا بدالً من ان يوجه سخطه لموضوع العلة ،وهو البنية السياسية غير المعافاة .لقرد كران الشرعب،
جراء تدني وعيه المباشر ،يرفض البنية والكيفية معاً وذلك عندما يدمجهما في مفهوم الحزبية.
فعنردما يررردد أبنرراء الشررعب (فري األنديررة ،الحررارات ،األسرواق ،السرينما ،المكاتررب ،المركبررات العامررة
ومؤسس ررات التعل رريم ...ال ررخ) مقر روالت مث ررل "الديمقراطي ررة م ررا بتنف ررع ! الش ررعب ده مس ررتواه م ررا مس ررتوي
ديمقراطيررة ....عررايزين دكترراتور عررادل ...الررخ" ،ال يكررون أثررر هررذا إال إضررعافا للتيررار النررازع نحررو
الديمقراطية .وهكذا نجد في المقابل أن التيار النازع نحو الدكتاتورية قرد قروي وأشرتد أثرره .ثرم إن هرذه
القناع ررات – الت رري انبعث ررت فردير راً – تن ررتظم غالبي ررة قطاع ررات الش ررعب م ررن خ ررالل االنتش ررار الش ررفاهي
25
العفوي ،تسندها وتدعمها الممارسات المنحرفرة للبنيرة السياسرية .وتسرتمر هرذه النغمرة إلري أن يرددهرا
من كان يقاومها ويسعي لدحضها أول مرة ..وهكذا ما هي إال فترة قصيرة من الزمن حتري تسرتحوذ
علرري تفكيررر الغالبيررة مررن أبنرراء الشررعب لتصربح فورميروال Fomulaيطلقونهررا مترري مررا واجهروا انح ارفررا
في البنية السياسية.
لكل هذا يضمحل التيار النازع نحو الديمقراطيرة .بينمرا يشرتد ويقروي األخرر النرازع نحرو الدكتاتوريرة ،
األمر الذي يحتم ان يكون البديل منسجما مع هذا التيار األخيرر ،وبالفعرل تنرازل عبرد ا خليرل عرن
مقاليد الحكم للعسكر في عملية تسليم وتسرلم .وهنرا ينبغري أن نتجراوز األسرباب والمالبسرات الظرفيرة
التي أكتشفت الحدث في تحليلنا له ،لنغوص في أعماق العوامل الموضوعية .فمن التبسريط المخرل
أن نلقرري اللرروم كلرره علرري السرريد عبررد ا خليررل ،بينمررا الشررارع آنررذاك يخفررق وجدانرره ترقبررا ل ردكتاتور
عررادل ،ويتشرروفه فجررر كررل صررباح .أقرررب مررن كررل ذلررك أن نررنظم إلرري الرجررل علرري أنرره كرران نافررذة
البصرريرة وواقعيررا ،استشررف الواقررع وأدرك أن الدكتاتوريررة قادمررة ال محالررة ،فسررعي إلرري تجنيررب الرربالد
مغبررة أن يسررتلم السررلطة صررغار الضررباط ،فعمررد إلرري كبررارهم .ولعررل هررذا هررم السررر فرري أن عسرركرية
عبود كانرت ألرين عريكرة مرن عسركرية مرايو وبعردها يونيرو – هرذا دون أن نضرع فري االعتبرار عامرل
االس ررتقطاب األي رردويولوجي ال ررذي ك رران هادئ ررا نس رربيا ليبل ررذ ذروت رره انن .وعموم ررا ف ررإن ال ررذي يفجر ررأه
السلطان ،سرهل تخليره عنره ،ولعرل هرذا أيضرا السرر وراء عرزوف المجلرس العسركري عرن حكرم فري
أبريل ،فإن من كان يرتجف إبان اشتعال الثورة خوفاً من محاسربة رئيسره عنردما يعرود ،أو رعبراً مرن
المقصلة ،حري به أن ينفض يده عن (دوشة) الحكم متظاه ار بانه عازف عنه.
وأيررا كرران ،فقررد جرراءت عسرركرية عبررود ،ومررا كرران للشررعب الررذي انتررزع اسررتقالله حررديثا مررن مخالررب
اإلسررتعمار أن يرضرري بررأي شركل مررن أشرركال العبوديررة .إذن فقررد تبرردت الدكتاتوريررة بقهرهررا وقباحاتهررا
الشنيعة .وما كان فري مقردور مرن كران يتحردث فري أيرام الديمقراطيرة عرن أن الديمقراطيرة ال تنفرع مرع
هذا الشعب ،وأن السودان يحتاج لدكتاتور عادل ...الخ ،مرا كران فري مقردور هرذا الشرخص – او
األشخاص – أن يتشدق بمقوالته تلك وأمام ناظريره الدكتاتوريرة تفسرد الحيراة العامرة ،وتكمرم األفرواه ،
وتسلب اإلنسان السوداني كرامته .في المقابل بدا الناس يحنون إلي عهد حرية الكلمة والتعبيرر وكرل
منر رراحي أنمر رراط السر ررلوك العر ررام الر ررديمقراطي ،أي أنهر ررم أصر رربحوا يحنر ررون إلر رري الديمقراطير ررة – ولر رريس
بالضرورة إلي تلك األحزاب.
عليرره نسررتطيع أن نقررول إن أثررر التيررار النررازع نحررو الديكتاتوريررة قررد برردا يضررمحل ويخفررت فرري الثقافررة
السياسية للشارع السوداني ،بينما بدأ التيار الثقافي النازع نحو الديمقراطيرة يشرتد ويقروي مهيئرا برذلك
26
ومحفر از نفسررية الشررارع السرروداني للثررورة .فقررد كرران انتعرراش التيررار الثقررافي النررازع نحررو الديمقراطيررة هررو
الوقود المحرك للثورة ،األمر الذي حتم أن يكون الحكم البرديل (الكيفيرة) متفقرا مرع طبيعرة هرذا التيرار
(الديمقراطية).
ل ررذلك عن رردما تمخض ررت ث ررورة أكت رروبر ع ررن الديمقراطي ررة ككيفي ررة سياس ررية ،ل ررم يك ررن ذل ررك – كم ررا يظ ررن
الكثيرررون – نتيجررة للموازنررات ف ري جبهررة الهيئررات ،فقررد كرران حتمررا للديمقراطيررة ان تجرريء ،إذ انهررا
كانت الوقود العاطفي للثورة.
وقامت ثورة أكتوبر :ولكن ماذا عن محور التماسك العاطفي لها؟
لقد ارتفع الوعي المباشر لدي عامة الشعب السوداني عما كان عليره الحرال فري الثرورة المهديرة التري
لزم فيها الوعي مستوي (التجسيد) .ولكن ،إن يكن الوعي في أكتوبر قد أرتفع عن مسرتوي التجسريد
،فهو لم يرتفع إلي مستوي التجريد (المبدأ) ،برل كران فري المرحلرة برين المررحلتين .لقرد كران الشرهيد
القرشرري هررو محررور التماسررك العرراطفي لثررورة أكترروبر ،ومررا اسررتحق هررذا الشرررف إال لكونرره اول شررهيد
أهريقررت دمرراؤه مضررمخة الت رراب الطرراهر .القرشرري لررم يكررن فكررة مجررردة ،كالمبرردأ ،ولكنرره كرران رم ر از
لجوهر الفعل الثوري .أنه رمز لفكرة اإلستشهاد الثوري القابعة في أعماق تالفيف الروعي لردي الرذين
يخرج ررون متظ رراهرين ض ررد أنظم ررة الحك ررم االس ررتبدادية .فف رري ظ ررل تق رراعس ال رروعي المباش ررر ،يص رربح
االسرتعداد لاستشرهاد واإلقبرال علري التضرحية درجرة مرن الروعي يقرع عليهرا منراط التغييرر .هنرا علينررا
أن نالحررظ أنرره فرري مسررتوي إحررداثيات الظرررف .لررم يكررن القرشرري مررن المتظرراهرين حقررا رغررم كونرره أول
شررهيد .أن الترفيررع والترميررز هنررا هررو الررذي ألقرري بظاللرره علرري الشررهداء المتظرراهرين مررن أمثررال بررابكر
عبر ررد الحف ر ريظ و لر ررورنس ديمتر ررري تكر ررال وبر رراقي الكوكبر ررة الر ررذين سر ررقطوا أمر ررام القصر ررر ،تغمر رردهم ا
برضوانه.
عليه ،فقد ارتفع الوعي الثقافي في ثرورة أكتروبر إلري مسرتوي الرمزيرة ،متجراو از مسرتوي التجسريد الرذي
كران عليرره فرري المهديررة ،ومقصر ار عرن أن يبلررذ مسررتوي التجريررد .وانمررا لهرذا يعررود السرربب فرري التغنرري
باألناشيد الوطنية التي حظيت بها ثورة أكتروبر ،وحظري بهرا علري وجره الخصروص الشرهيد األوحرد.
والسبب هو نفسه الذي تعود إليه تلك القشعريرة التي تعتري أجسادنا عندما يررد اسرم الشرهيد القرشري
ضمن اناشيد أكتوبر – علي وجه الخصوص إبان العهرود االسرتبدادية ،مرايو ونظرام يونيرو الحرالي.
وما كل ذلك إال ألن القرشي يرمز إلي الشهيد الذي يمكن أن نكونره نحرن فري أي لحظرة تخررج فيهرا
متظاهرين من أجل حرية وكرامة الشعب السوداني.
27
هكررذا جرراءت الديمقراطيررة الثانيررة ،وعررادت معهررا تلررك المعادلررة المختلررة :بنيررة سياسررية منحرفررة ،فرري
ظررل كيفيررة سياسررية معافرراة .ونتيجررة لترردني الرروعي المباشررر يقرروم النرراس بإسررقاط أخطرراء الررولي علرري
الثانية .ومن ثم يتهيئون للفظهما معاً .وال نحتاج إلي أن نعيد القول مررة أخرري ولكرن ألبراس بجملرة
تلخيصية.
بدأ أثر التيار النازع نحو الديمقراطية في الضعف واالضمحالل ،بينما في المقابرل اشرتد أثرر التيرار
األخررر ،األمررر الررذي حررتم أن يكررون نرروع الحكررم القررادم متفقررا مررع هررذا التيررار الرردكتاتوري الررذي تمتررد
كقناعررة علرري مسررتوي قطاعررات عريضررة مررن الشررعب السرروداني ،وكرران أن جرراءت دكتاتوريررة مررايو .
أن الضرباط الرذين قراموا براإلنقالب قررد تلمسروا أثرر ذلرك التيرار المرحررب بقردومهم .وكيفمرا كران فهمهررم
له .إال أنه ال يخرج عن كونه التيار الثقافي النازع نحرو الديكتاتورية.لقرد أدركروا أن انقالبهرم سريجيء
اسررتجابة لحركررة وعرري قررد انتظمررت الشررارع السياسرري السرروداني ،بيررد أنهررا قاصررة .ومررن تجليررات هررذه
االستجابة ذلك التهليل الداوي النقالب عبود ،ومرن بعردهما وبدرجرة بالغرة الضرعف النقرالب يونيرو.
وكيفمررا كرران الحررال فررإن القطاعررات الترري هللررت النقررالب مررايو ،هرري نفررس القطاعررات – مررع برراقي
قطاعات الشعب – التي ستتقرح حناجرها في الهتاف والثورة ضرد مرايو ،وذلرك عنردما يرتفرع وعريهم
جراء العوامل الموضوعية.
ثورة أبريل:
تبرردت مررايو بكررل بشرراعة دكتاتوريتهررا ،وترأذي منهررا الشررعب السرروداني أيمررا تررأذ .فضررعف لررذلك أثررر
التيررار الثقررافي النررازع نحررو الدكتاتوريررة .وهكررذا لررم يعررد ممكنراً للكثيررر مررن القطاعررات الشررعبية أن تقررر
بررالمقوالت الترري كانررت ترددهررا دعم راً ألنظمررة الحكررم الشررمولي (دكترراتوري) ورفضررا ألنظمررة الحكررم
التعررددي (ديمق ارطرري) ،فأضررمحل أثررر تيررار الدكتاتوريررة ،لينشررط ويقرروي فرري المقابررل التيررار الثقررافي
النررازع نحررو الديمقراطيررة .وأصرربح هررذا الرروعي الررديمقراطي يررزداد اضررطرادا بازديرراد النقمررة علرري نظررام
مايو .لقد كان هذا التيرار هرو النربض والغرذاء الروحري للثرورة التري كانرت قرد بردات تعرتلج فري أحشراء
الشعب تتأكلها الرغبة والترقب للطلق والمخاض.
هررب الشررعب فرري ثررورة أبريررل وقررد ترقرري وعيرره درجررات متجرراو از مسررتويات التجسرريد والرمزيررة ،فهررو لررم
يجعل من شخص حي يدب بين الناس محور تماسك عاطفي لثورته ،كما إنه لم يتخرذ مرن شرهدائه
رم ر از يلتررف حولرره عاطفي راً .لقررد كرران المبرردأ فرري تجريررده (الديمقراطيررة) ه رو محررور التماسررك العرراطفي
لثورته .فقد هب الناس في ثورة أبريل والديمقراطية كهردف تقرف نصرب أعيرنهم .وقرد تسراقط الشرهداء
28
– أسرركنهم ا فسرريح جناترره – إال أن الشررعب لررم يجعررل أحررداً مررنهم محررور تماسررك عرراطفي للثررورة.
فالوعي قد أرتفع للدرجة التي يجعل فيها المبدأ في تجريده محو اًر للتماسك.
ولكن ،هل هذه هري أقصري مرا نبغيره مرن الروعي ؟ فري هرذا لنرا حرديث سرنجيء إليره بعرد أن ننراقش
هل ما تم في أبريل ثورة أم انتفاضة؟
ثورة أم انتفاضة؟
تعريفنرا للثررورة الشررعبية وفررق منظورنررا هررذا هررو :الثررورة الشررعبية هرري التغييررر االنقالبرري (غيررر ترردريجي)
في الكيفية السياسية (من النظام الشمولي مثال إلي الديمقراطية) من خالل حركة الشرارع (الشرعب).
أما تعريفا لالتفاضة فيجيء كما يلري :األنتفاضرة الشرعبية هري حركرة شرعبية تنرتظم الشرارع السياسري
ألحداث التغيير االنقالبي في الكيفية السياسية ،ولكنها تقصر دون بلوغ مبتغاها ذلك.
وبعد ،ما الذي تم في أبريل؟ أنها حركة شعبية اجتاحت الشارع السياسري السروداني ثرم إنهرا نجحرت
في إحداث التغيير اإلنقالبي في الكيفية السياسية .عليه ،فهي ثورة وليست انتفاضة!
ولكن من أين جاءت لفظة االنتفاضة هذه؟
لق ررد تسر رربت ه ررذه اللفظ ررة م ررن األدب السياس رري لق رروي اليس ررار الكالس رريكي (ش رريوعيون ،ماركس رريون
وقوميررون عرررب) ،إذ أن اليسررار – عمومررا – ال يعترررف بررالثورة كثررورة إال إذا حققررت اهدافرره وجرراءت
وفررق تصرروره وبرامجرره .ومررا نررزول اليسررار عررن هررذا برراالعتراف بثررورة أكترروبر – فرري خطررابهم – اال
ألنهم لم يكونوا ،آنذاك قد اكتسبوا النضج السياسي الذي شهد لهم في أخريات الستينات.
ولكن ما بال قوي اليمين الكالسيكي (طائفية وأحزاب دينية) تلوك هذا المصطلح أيضرا فري خطرابهم
عررن أبريررل رغررم اخررتالفهم البررين عررن قرروي اليسررار؟ يكمررن الجرواب فرري ان اليمررين لررم يبلررذ مررن النضررج
الفكري المدرسي أدني مراحله .وهذه هي أزمته الفكرية .فالذي ال فكر له تأخذ األلفاظ لديه مدلوالت
حدية اصطالحية .فهي بالنسبة لهم ثورة رجب ،إال أنهم يحتفلون بها في أبريرل دون ان يحسروا فري
أنفسهم حرجاً لذلك .فاللغة في أدب يميننا سائبة ،مانعة ،خالية من مدلوالت حدية قاطعة يمكرن أن
تخدم أغراض االصطالح الذي ينماز به كل أدب فكري عن انداب األخري.
التجريد ..هل هو خاتمة المطاف؟
لقرد ارتفرع وعري الشرعب السروداني فري ثررورة أبريرل درجرة التجريرد متجراو از مسرتويات التجسريد والرمزيررة
التري كران عليهرا فري ثررورتي المهديرة واكتروبر .فمحرور التماسرك العرراطفي لثرورة أبريرل لرم يكرن مجسرردا
في شخص كالمهدي في المهدية ،ولم يكرن رمر اًز كالقرشري فري أكتروبر ،برل كران المبردأ فري تجريرده
(الديمقراطية) .فهل هذا قمة ما نبتغيه من مستويات الروعي ؟ برالطبع ال .فمضرمار الروعي النهرائي.
29
فالشررعب وان كرران قررد بلررذ هررذه الدرجررة مررن الرروعي ،إال أن وعيرره فرري مرحلررة مررا بعررد أبريررل لررم يرتفررع
إلرري مس ررتوي أن يعررزل أع ررداء المبرردأ .والع ررزل هنررا نعن رري برره تحدي رردا العررزل الفك ررري .فاعررداه المب رردأ
(الديمقراطيررة التعدديررة) رأينرراهم رأي العررين يتحلبررون لبرران الديمقراطيررة ريثمررا تقرروي أع روادهم فينقض روا
عليها ويولموا عشاءهم منها.
فررإذا برردأنا باليسررار الكالسرريكي نجررد ان الديمقراطيررة التعدديررة لررم تكررن يومراً خيررارهم السياسرري ،ودونمررا
الواقررع والترراريخ القريررب يحكرري لنررا عررن أنظمررة الحكررم الترري اختطوهررا فرري الرربالد الترري حكموهررا .عليرره،
فهررم أعررداء الديمقراطيررة التعدديررة مررن حيررث المبرردأ حرك روا هررذا العررداء ليرردخل مرحلررة الفعررل المضرراد
المباشر أم لم يفعلوا .وقد رأينا إبران ديمقراطيرة مرا بعرد أبريرل كيرف نشرطت قروي اليسرار فري ممارسرة
الحقروق التري كفلتهرا لهررا الديمقراطيرة التعدديرة ،هررذا وان كران يقرع علريهم الرروزر األكبرر فري المجرريء
بدكتاتور مايو .إذن فالشعب لم يرتفع وعيه للدرجة التي يتمكن معها أن يعزل هؤالء فكريا.
إذا رجعنررا لقرروي اليمررين الكالسرريكي بعررد هررذا وجرردناها تتحمررل الرروزر األكبررر فرري إضررعاف أثررر التيررار
الثقررافي النررازع نحررو الديمقراطيررة ،األمررر الررذي يررؤدي دومررا إلرري تنشرريط وتقويررة التيررار الثقررافي النررازع
نحررو الدكتاتوريررة فرري ثقافررة الشررارع السياسرري السرروداني ،وبالتررالي مجرريء الحكررم الرردكتاتوري كنتيجررة
موضرروعية لررذلك .لقررد ظررل هررذا هررو حررال اليمررين فرري كررل ديمقراطيررة عشررناه منررذ االسررتقالل .لقررد ظررل
اليمين يسمم الديمقراطية – ومن خاللها – سلوكا وممارسة ،األمر الذي يفضح عداءه لها.
وننظر هنا للتيارات الدينية الصاعدة علي أنها الطائفية في ثوب شربابي جديرد ،فهري نتيجرة طبيعيرة
لعجز بعض التنظيمات الطائفية القديمة عن أن تلعب دورها بحنكرة سياسرية .فلرو أمعنرا النظرر مرثال
فرري الرردوائر الجغرافيررة الترري فررازت فيهررا الجبهررة اإلسررالمية فرري إنتخابررات 1986م ،لوجرردناها فررازت
علري أكتراف الصروفية فري وحرل الطائفيرة حتري الرركبتين .وقرد رأينرا الجبهرة تمرارس الحقروق السياسرية
الترري كفلتهررا لهررا الديمقراطيررة ،ال بتغرراءا لمرضرراة ا ومصررلحة الرروطن ،ولكررن تسررميماً للديمقراطيررة
نفسها بغية اإلجهاز عليهرا .فرإذا كران هرؤالء – أعرداء الديمقراطيرة بيميرنهم ويسرارهم مرن حيرث المبردأ
– ه ررم ال ررذين يش ررغلون البني ررة السياسر ررية ف رري غالبه ررا ،فق ررد كن ررا محقر ررين عن رردما نظرن ررا ،ومن ررذ بر رردء
ديمقراطيررة أبريررل ،إلرري عررودة الدكتاتوريررة علرري أنهررا كانررت أم ر ار محتومررا ،مقرردو ار .وبالفعررل هررذا مررا
حدث.
إن حرب الجنوب بريئة من وزر إفشال الديمقراطية ،والذين يرفعون هذا اإلتهام يعلمون ذلك.
حرب الجنوب ...أم هي المرب األهلية:
30
إن اإلجابة علي هذا السؤال ،تكشف المنطلقرات األيديولوجيرة فري النظرر للحررب الردائرة فري بالدنرا.
إذا نظرررت إلرري االسررتقطاب األيرردويولوجي الناشررب فرري السررودان علرري أنرره بررين الشررمال العربرري فرري
مواجهة الجنوب األفريقي – المسريحي والروثني – عنردها يحروز لرك ان تنظرر إلري المسرألة علري أنهرا
حرب الجنوب .أما إذا كنت تنظر إلي االستقطاب علي أنه بين المركرز ذي الثقافرة السرودانو عربيرة
فرري مواجهررة األط رراف والهررامش ذات الثقافررة السررودانو أفريقيررة ،عنرردما يجرروز لررك أن ترررفض مسررمي
"حرررب الجنرروب" باعتبارهررا أنهررا حرررب مجموعررات الهررامش المغبونررة ثقافيررا واجتماعيررا وسياسرريا – أي
سلطويا – في مواجهة المركز المستحوذ علي الثروة والسلطة ،فضال عن مؤسسرة الدولرة .إن الفررق
برين هرذين المنظررورين هرو أن األول عبرارة عررن اسرتقطاب خطري ( Linerشررمال فري مواجهرة جنرروب
يفصررل بينهمررا خررط طررولي) ،بينمررا المنظررور الثرراني يمثررل اسررتقطابا دائريررا Circularتام راً (أط رراف
وهررامش ترردور مطوقررة المركررز) .إن المتأمررل فرري ظرراهرة الحرررب األهليررة فرري السررودان يالحررظ انترري:
الجنرروب عمومررا هرري المنطقررة األكثررر تعرضررا للقهررر الررذي اشررتط حترري بلررذ حررد اإلضررطهاد والتمييررز
العرقي وما تبع ذلك من اضطهاد سياسي .ثم تليه في الدرجة جبال النوبة واالنقسنا .بعرد ذلرك ترأتي
دارفور ،يليها الشرق بقبائل البجا.
أخي ار يأتي النوبيون شماال في شريطهم النيلي .أن هذا هو نفس الترتيب الذي اتبعته الحرب األهليرة
من حيث تواتر إشتعال فتيلها.
لق ررد تخلق ررت جرثوم ررة ه ررذا التمفص ررل األي ررديولوجي م ررع ب ررروز دول ررة الف ررونج واعتم رراد عملي ررة األس ررلمة
واإلس ررتعراب عل رري ميك ررانيزم إع ررادة إنت رراج األطر رراف و اله ررامش داخ ررل المرك ررز مم ررثال ف رري الم ارك ررز
الحضررية عمومرا .عنردما جراء الحكررم التركري لرم يغيرر مررن هرذا الواقرع ،برل بنرري عليره .وهرذا عرين مررا
فعله اإلستعمار اإلنكليزي ،إذ لم يكن فري صرالحه أن يفكرك أرضرية إسرتق اررية .جراهزة حتري ولرو لرم
تكن قائمة علي العدل ألنه لرم يكرن عرادالً .ولكرن بمجريء الحكرم الروطني بعرد اإلسرتقالل أتريح لثقافرة
المركز السودانو عربية أن تباشر تفعيل ميكانيزم اإلسرتعراب (إعرادة إنتراج األطرراف والهرامش داخرل
المركررز) بررالقوة القصرروي الترري برردأت تتضرراعف نظررام حكررم اثررر آخررر فرري متواليررة عدديررة .لقررد اشررتعل
فتيل الحرب األهلية بمجيء الحكم الوطني ،وهو أمر يصعب فهمه إال فري سرياق مواجهرة الهرامش
للمركررز .عليرره لرريس مررن المنطررق أن نتوقررع حررال جررذريا للحرررب األهليررة طالمررا طلررت تركيبررة التفاعررل
الثقافي في السودان ،وما قد يستصحب ذلك من صراع ،قائمة علي مركز يعيد إنتراج األطرراف و
الهررامش داخلرره .وتمثررل فتررات الحكررم الرروطني فشررال وترردهو اًر مسررتم اًر بلررذ حررد انهيررار البنيررات التحتيررة
للدولة .فنظام عبود كران أفشرل مرن الديمقراطيرة األولري .والديمقراطيرة الثانيرة كانرت أفشرل مرن نظرام
31
عبررود .ثررم جرراء نظررام مررايو فكرران أفشررل مررن الديمقراطيررة الثانيررة .بعرردها جرراءت فت ررة س روار الرردهب
اإلنتقاليررة فكانررت أسروأ مررن مررايو .ثررم جرراءت الديمقراطيررة الثالثررة ،فكانررت أفشررل مررن جميررع سررابقاتها.
وانن النظام الحالي هو األفشل مقارنة ،ولريس األفشرل مطلقراً إذا اسرتمرت التركيبرة الخاطئرة إياهرا.
إن هررذا األفشررل مقارنررة ثقررافي .لقررد كانررت تلررك األحرزاب وهررذه األنظمررة فاشررلة فشررال ذاتيراً ،ضررمن
فشررل موضرروعي آخررر هررو فشررل الثقافررة اإلسررالمو عربيررة فرري إدارة أزمررات السررودان أنرره فشررل مشررروع
االحادية الثقافية في إدارة أزمات بلد متعدد الثقافات .لقد كانت جميعها – موضوعيا – حزبا واحردا
ونظر ررام حكر ررم واحر ررد يت ر رراوح ديمقراطير ررا و ديكتاتورير ررا .تفشر ررل أح ر رزاب المركر ررز فر رري إنفر رراذ أيديولوجيتر رره
ديمقراطيرا ،فيهررب جريش المركررز إلنقاذهررا مرن ورطتهررا ودفرع فرراتورة فشررلها .تفشرل األنظمررة العسرركرية
في إنفاذ أيديولوجيا المركرز ديكتاتوريرا ،لتعرود نفرس األحرزاب – بعرد أن يهرب الشرعب ثرائ اًر – إلنفراذ
نفس البرنامج ومعفية نفسها من دفع فاتورة فشلها السابق.
نخلص من كل هذا إلي القول بأن حل مشكلة الحرب الهلية ليس مرهونا بسياسات حكوميرة فحسرب
،بل هو مرهون في المقام األول بتغيير التركيبة الخاطئة التي فصلنا في أمرها .لهذا لم يكرن غريبراً
أن كررل نظررام حكررم كرران يزيررد مررن تعقيرردات الحرررب األهليررة .فمررثال تشررغيل الرردين كسررالح أيررديولوجي
حاسم بدأ من قبل اإلستقالل ممثال في األحزاب الطائفية و األخوان المسلمين والوهابية .أمرا تشرغيل
الوعي العروبي فقد بدأ قديماً ،وتبلور في دعوي القومية العربية ولهرذه دعاتهرا الحزبيرون .المحصرلة
النهائية حتي األن هي هذا النظام الحالي الذي نشط واشتط في كليهما .حتي مسألة الردفاع الشرعبي
وتجيرريش المرردنيين نجرردهما قررد برردأت فرري عهررد الديمقراطيررة الثالثررة ليسررتخدمها النظررام الحررالي لدرجررة
خشرري معهررا الرربعض مررن أن تكررون مرردخال نحررو فكفكررة الجرريش ،ثررم تف رريخ الحرررب األهليررة شررماليا
بالتش ررغيل المكث ررف نلي ررات األي ررديولوجيا االس ررالمو عروبي ررة ،فك رران أن ت ررردي الس ررودان ف رري هاوي ررة
الشعوذة والهوس الديني واأليديولوجي .ورجعنا القهقري رفإذا بدولرة الخلفيرة عبرد ا فري حرال هوسرها
وشعوذتها األيديولوجية يعاد إحياؤها علي مشارف القرن الواحد والعشرين.
المركز ..ذلك الق اهر المقهور:
يشير كالمنا في ظاهره علي كشف إنماط قهر المركرز لاطرراف و اسرتتباعها .ومرن ثرم اسرتيعابها.
بهررذا تظهررر صررورة المركررز فرري شرركل الظررالم المطلررق .إال إن األمررر لرريس كررذلك .إن القهررر الثقررافي
سررالح ذو حرردين ،فكيمررا أمررارس عليررك القهررر الثقررافي .ينبغرري عررل يتطبيقرره علرري ذات نفسرري أوال إن
أقصي ما يمكن أن يبلغه القهر الثقافي هو تجفيف الحياة العامة من اإلبرداع ،وبالترالي العجرز عرن
صررنع الحيرراة نفسررها .هررذا بررالطبع يررتم عبررر أيررديولوجيا بعينهررا ،مررع التشررغيل المكثررف لكررل محركاتهررا
32
وآلياتهررا .ومررن أقرروي آليررات التشررغيل الحاليررة فرري السررودان نجررد المؤسسررات القيميررة الترري يرردفع شررغلها
نحو الكبح والكف والتحريم ،وذلك عبر ثقافرة "العيرب" وقرد ترم تشرغيل كرل هرذه انليرات عبرر محررك
الدين اإلسالمي ،وذلك منذ نشوء دولة الفونج.
لقرد كران المعمرل الرذي ترم فيره ذلرك هرو المركرز عمومراً .ثرم الم اركرز الحضررية خاصرة .وقرد نرتج عررن
ذل ررك وض ررع مقل رروب .فم ررن المع ررروف أن الري ررف أكث ررر محافظ ررة م ررن المدين ررة ،إال أن الوض ررع ف رري
السودان هو عكس ذلك .أن المررأة – مرثال – نجردها فري الريرف أكثرر تحرر ار مرن المررأة فري المدينرة.
هذا بمعايير المركز .أما إذا ما قارنا ذلك بما عليه الحال فري منراطق الهرامش ،فرإن المقارنرة تكرون
حادة وظراهرة .ذلرك ألن منراطق الهرامش تسرتمد قيمهرا – بروعي أو بردون وعري – علري ترراث النظرام
األمررومي ،بينمررا المركررز يكشررف وعيرره بالنظررام األبرروي وذلررك عبررر وعيرره االسررتعرابي .فمرراذا كانررت
النتيجررة ؟! لقررد كرران الغنرراء والطرررب – وال يرزال فرري بعررض منرراطق المركررز – عيبراً .وفرري أوائررل هررذا
القرن ،أصربحت المررأة فري المدينرة سرجينة الحجررات ،بينمرا أختهرا فري الريرف تخروض غمرار الحيراة
دون حجاب.
بمعنرري آخررر ،لقررد قهررر المركررز نفسرره اوالً ،وذلررك حترري يسررتقيم لرره أيررديولوجيا أن يقهررر الهررامش .إن
نظ ررة س رريعة لطقرروس وم ارسررم اإلحتفررال و اإلبتهرراج الثقررافي اإلجتمرراعي يمكررن أن توضررح الصررورة.
تحتفل كل مناطق الهامش عبر الموسيقي ،والغنراء ،اإليقراع والررقص الجمراعي المخرتلط ،وهرذا هرو
سمة الحقل في أفريقيا ،وهو ترراث ضرارب فري القردم ويعكرس العمرق التراريخي والحضراري لثقافرات
الهامش .اما المركز فتعوزه هذه األشياء .فالغناء عنده كران محرمرا ،ثرم عنردما اكتسرب المشرروعية
اإلجتماعيررة ،ل ررم يج ررد المرك ررز غي ررر أن يعم ررد إل رري العدي ررد م ررن الطق رروس التعبيري ررة (ولنأخ ررذ ال رررقص
كمثررال) الترري تكتسررب إتباعررا وتشرربها ،و لرريس أصررالة .إن سررياق "الحفلررة" فرري المركررز يشررتمل علرري
كم هائل من التسطيح الثقافي والتمثيل الذي يدخل في دائرة النفاق الثقافي ك االجتماعي.
فمرراذا كانررت النتيجررة؟ لقررد كانررت إنسررانا مقهررو ار فرري اعماقرره ،أي إنسررانا مغتربررا ومسررتلبا .فهررو يعرريش
فرري مجتمررع يررؤمن بكررل قرريم الررذكورة و سرريطرة الرجررل علرري الم ررأة ،بينمررا ت ارثرره األمررومي األفريقرري –
بحكم أنه أبن الهامش معاد إنتاجه – يجعل المرأة حقيقة تمسك بكل أزمرة أمروره وذلرك بإتبراع تكتيرك
بسرريط يكمررن فرري إرضرراء غررروره بضررخ كررل قرريم الررذكورة األبويررة فرري مسررتوي الرروعي المباشررر .أنرره
مجتمع يريد أن يرقص ويغني ،لكن تكبلره قريم ثقافرة "العيرب" والتحرريم القراهرة .إزاء كرل هرذا ال يجرد
بدا من أن يرقص – لكن بطريقة اسالمية .حتي عندما يرقص ،فهو ال يملك إرثا خاصا بره .لكرل
ه ررذا نج ررد "الحفل ررة" ف رري من رراطق المرك ررز الحضر ررية عب ررارة ع ررن جمه ررور يج رريء للفرج ررة والمش رراهدة –
33
والمراقب ررة كم ررا ه ررو الح ررال عن ررد النس رراء كبير ررات الس ررن – والمف رراخرة وعر ررض جم رريالت العائل ررة ،ث ررم
مجموعررة مررن الشررباب الررذين يتحرررون أنماط راً بعينهررا مررن السررلوك التمثيلرري النفرراقي شرربيه بمررا كانررت
تعكسره الطبقرة االرسرتقراطية قبرل قررون .ثرم هنالرك فنران ،ثرم رقرص ال يمكرن تتبرع عمقره فري الثقافررة
السودانية ألكثر من عشر سنوات إلي الخلف .باختصار إنه مرا يمكرن أن نسرميه بنمروذج "إنسران أم
درمان".
لكن أين تكمن المشكلة؟
إنها تكمن في أن المركز المستلب هو الذي يعيد إنتاج الهامش و األطراف .ليس هذا فحسرب ،برل
تحولت المراكز الحضرية (المدينة) داخل هذا المركز إلي قياسات ثقافية تقهرر هامشرها الرداخلي أوال
وبصررورة بشررعة ،حترري أمكررن القررول بأنرره قررد تررم تجفيررف ثقافررات منرراطق بأكملهررا مررن اإلبررداع أيررا كرران
شكله ،خاصة في بعض مناطق الجزيرة ،فضال عن أطراف المركز.
لك ررل ه ررذا ي ررأتي قولن ررا ب ررأن المرك ررز نفس رره مقه ررور ومس ررتلب مغت رررب .لق ررد اكتس رربت كيان ررات اله ررامش
واألطرراف وعيررا بمشرركلة الهويررة عنرردها ،لكررن بقرري المركررز ممسرركا بالحيررل وشررادا برره ،دون أن يرردري
أن الحبررل برردءا ملتررف حررول رقبترره .إن تحرررر المركررز يسررتدعي مررن أبنائرره شررفافية قبررل ان يسررتدعي
األمر التحلي بالشجاعة.
اليمين ..اليسار ..الوسط :إعادة نظر:
قبررل مررا يزيررد علرري المئتررين عامراً انقسررم أعضرراء الجمعيررة الوطنيررة الفرنسررية (أي البرلمرران) برين مؤيررد
للنظررام ،وأخررر معررارض .داخررل القاعررة تكتررل المؤيرردون علرري يمررين المنصررة ،بينمررا تكتررل المعارضررون
يس ررارها .م ررن ه ررذا الح رردث البس رريط ت ررم إش ررتقاق مف رراهيم اليم ررين واليس ررار .وعن رردما ظه رررت الحرك ررات
الماركسرية خرالل هرذا القرررن بوصرفها معارضرة جرراهزة ألنظمرة الحكرم ،أطلررق عليهرا مصرطلح اليسررار
تعميمراً ،بينمررا أطلررق مصررطلح اليمررين علرري القرروي الداعيررة للمحافظررة علرري األوضرراع القائمررة .ثررم رد
التعميم المجازي أكثر ،فأصبح اليسار هو دعاة اإلشتراكية ،بينما اليمين هو دعاة الرأسمالية.
لكررن المشرركلة انن هرري أن الحركررة اإلشررتراكية قررد تضعضررعت وأصرربحت إلرري زوال .فهررل سرريذيب
معهررا مفهرروم اليسررار؟ هررذا فضررال عررن عرردم تطررابق المفهررومين مررع األوضرراع فرري السررودان أصررال،
باعتباره بلدا قبل رأسمالي – هذا إذا أخذ المصطلحان بالمفهوم الغربي لهما.
إذن اإلحالة الموضوعية لمفاهيم اليمين ،اليسار الوسط نسبية في أساسرها ،ذلرك ألنهرا تسرتند علري
األيديولوجيا كمتغير .أي أنها دالة أيديولوجية .هذا ما يدفعنا غلي إعادة رسم الخريطرة فري السرودان
من منظور التمفصل األيديولوجي المتعين.
34
هنالررك ثررالث إتجاهررات رئيسررية ظررل السررلوك الشخصرري والعررام للسررودانيين ينرردرج تحررت إحررداهما ،
بوعي أو بردون وعري .وهنرا ترأتي ضررورة ترفيرع درجرة الروعي األيرديولوجي حتري يعلرم كرل واحرد منرا
موقرع قدميرره ،بردال مررن التحرررك وفرق حررس أيررديولوجي عرام ال يسررنده أي وعرري مباشرر .إن ترفيررع هررذا
ال ر رروعي م ر ررن ش ر ررأنه أن يكش ر ررف للعدي ر ررد م ر ررن الس ر ررودانيين زي ر ررف مر ر رواقفهم ،وم ر ررن ث ر ررم تناقض ر رراتها م ر ررع
أيديولوجياتهم الحقيقية.
أما اإلتجاهات الثالثة فهي:
/1أيديولوجيا الهيمنة :
وهي التي تتبناها القوي المنتمية إلي المركز ذي الثقافرة اإلسرالموعربية ،حيرث يتحرول اإلسرالم إلري
سررالح أيررديولوجي لحسررم قضررايا سياسررية – دنيويررة ،كمررا يتحررول الرروعي العروبرري فرري كررل المواقررف
المحكية إلي معيار عرقي يسعي للتبرؤ من كل ما هو أسود ،أي كل ما هو أفريقي .هذا هرو التيرار
اليميني في تصنيفنا له ،وفيه تندرج العديد من القروي اإلجتماعيرة ،والسياسرية ،حتري الشريء نتسرمي
بمسررميات اليسررار مثررل دعرراة القوميررة العربيررة ،وحترري الماركسرريين السررودانيين ،ولهررذا يجرريء حررديثنا
عنهم باعتبارهم يسا ار كالسيكيا.
/2أيديولوجيا الجهوية:
وتمثلها الوحدات والكيانات الثقافية السودانية المفردة من بين شريط الهامش والتي يئست مرن جردوي
النضال عبرر منظرور الوحردة فري التنروع ،فنزعرت بالترالي إلري "فررز" نفسرها ،ومرن ثرم خروض نضرال
جهوي متطرف ينتهي إضطراده المنطقي إلي اإلنفصال .وهذا هو التيار اليساري في مفهومنا.
/3أيديولوجيا القومية السودانية:
وتمثلهررا القرروي الترري تعمررل مررن أجررل سررودان مؤحررد قررائم علرري الحريررة والعرردل والسررالم ،وذلررك وفررق
منظررور الوحرردة فرري التنرروع دون هيمنررة ثقافررة علرري أخررري ،والغرراء لميكررانيزم إعررادة إنترراج األط رراف
والهامش داخل المركز ،وذلك حتي يتسني لكل فرد أن يوطن ثقافته قوميرا محققرا برذلك إسرتقالليته و
إنتماءه دونما إغتراب او إستالب .وهذا هو ما نطلق عليه تيار الوسط.
35
فكيمررا تمررارس السررلطة فرري المسررتوي السياسرري تحترراج إلرري أحرزاب (حكومررة ومعارضررة) ،وتحترراج إلرري
رئاسة ،وبرلمان ،وقضاء ،ومجلرس وزراء ..الرخ .هرذا هرو مرا يعررف بمؤسسرة الدولرة .أمرا إذا جئنرا
إلي مفهوم "دينية الدولرة" فإنهرا ال تترأتي لمجررد أن حزبنرا ذا أفكرار دينيرة قرد اسرتلم السرلطة ،أو حتري
اصبح يشرع القوانين وفق المعيارية األخالقية في دينه .أن كل هذا ال يجعرل مؤسسرة الدولرة "دينيرة"
ألنها كيما تصبح دينية تحتاج إلي مؤسسة أخري .إنها تحتاج إلي مؤسسرة دينيرة .وهنرا البرد مرن أن
نكررون واضررحين .ان المؤسسررة الدينيررة هرري عبررارة عررن منظومررة اجتماعيررة ثقافيررة ذات قررانون داخلرري
خرراص بهررا .مثررل ذلررك الطرررق الصرروفية ،لكررن حترري هررذه الطرررق متعررددة ومختلفررة .إذن ،لتقريررب
الصررورة ،يمكررن أن نررذكر الطريقررة الميرغنيررة ،فمررن المعررروف أن نظامهررا الررداخلي المؤسسرري ،إذ ال
يمكررن أن تنضررم إلرري الطريقررة الميرغنيررة كمررا تنضررم غلرري حررزب سياسرري ،ولنقررل الحررزب اإلتحررادي
الررديمقراطي لتكتمررل الصررورة .إن الدولررة تصرربح دينيررة عنرردما تقرروم الطريقررة الميرغنيررة – فرضررا ( -
بوصررفها مؤسسررة دينيررة ) يشررغل دوالب الدولررة و مؤسسرراتها ،وذلررك وفقررا لهيكليررة المؤسسررة الدينيررة،
عليرره ،فرري سرربيل إقامررة دولررة دينيررة حقيقيررة البررد مررن تروافر مؤسسررة دينيررة مسررتقلة بهيئاتهررا وتكويناتهررا
الهرمية عن مؤسسات الدولة ،كما كان الحال في الكنيسة الكاثوليكية في أوروبرا ،أو كمرا هرو الحرال
ف رري اير رران ،إذ أن المؤسس ررة الش رريعية هن رراك هرمي ررة متكامل ررة ،إن ديني ررة الدول ررة تتمث ررل ف رري أن تق رروم
مؤسسررة كهررذه بشررغل دوالبهررا كمررا قلنررا .بخررالف ذلررك تكررون الدولررة علمانيررة مهمررا تمسررحت بالمسرروح
الدينية.
إن المفارقررة تكمررن فرري أنرره ال مجررال لقيررام دولررة دينيررة فرري هررذا العصررر ،حترري لررو وجرردت المؤسسررة
الدينية .وانما لهذا عجز الشيعة في إيران عن إقامة دولرة دينيرة ،مرع إمرتالكهم للمؤسسرة الدينيرة .إن
الدول ررة ف رري إير رران علماني ررة ديمقراطي ررة قائم ررة عل رري المؤسس ررات وفص ررل الس ررلطات ال ررثالث ب ررالمفهوم
العلماني الحديث ،مع فارق واحد هو إنحصارها دستورياً علي الشيعة مع تمثيل األقليات .كذلك فري
إسرائيل الدولة علمانية ديمقراطية ،رغم إنحصارها علي اليهود وتمثل األقليات العربية.
أما إذا ما جئنا إلي السودان حيث المذاهب اإلسرالمية السرنية هري السرائدة ،فرال توجرد مؤسسرة دينيرة
مرن أصرلها حتري تسررتوفي شرروط إقامرة الدولررة الدينيرة .عليره ،ال منراص مررن علمانيرة الدولرة – كمررا
هررو عليرره الحرراالألن – مهمررا تمسررح الحكررام بالمسرروح اإلسررالمية ،هررذا طبعررا دون أن نركررب موجررة
المهرراجمين بالمفارقررة الص رريحة لررروح اإلسررالم وروح األمررة السررودانية .إن نظررام حكررم اإلنقرراذ ،فرري
ح ررال دكتاتوريت رره المتزمت رره أو إنف ارج رره السياس رري ،ه ررو ف رري الواق ررع نظ ررام حك ررم علم رراني ،مثل رره كمث ررل
الديكتاتوريات الشيوعية المنهارة ،وهري كانرت علمانيرة طبعرا .لكرل هرذا إن رفرع األحرزاب لشرارة الردين
36
ال يعنرري بررالمرة عرردم علمانيتهررا ،فهلمرروت كررول مستشررار ألمانيررا األسرربق كرران يررأس الحررزب المسرريحي
الديمقراطي دون أن يقدح ذلرك فري علمانيرة الحرزب .المهرم فري األمرر هرو العلمانيرة الديمقراطيرة ،أي
أن ال يحمررل الحررزب فكر ار وبرنامجررا معاديررا فرري جرروهره للديمقراطيررة ،النرره فرري هررذه الحالررة ال يحررق لرره
التمتع بالديمقراطية .وهنا تجي ضرورة عزل أعداء المبدأ فكريا.
إن معظررم األح رزاب السررودانية ذات الفكررر اإلسررالمي هرري فرري حقيقتهررا علمانيررة ،براقماتيررة ،ذرائعيررة
بحتة .وهذا ليس عيبا في ذاته.
"العيرب" هرو أنهررا ديكتاتوريرة الفكررر والتوجره .وحترري هرذا لرريس خطر ار فرري حرد ذاترره ،إذ يمكرن مواجهترره
باستنهاض اإلرث الثوري الشيعي السوداني .إن مكمن الخطرورة هرو تصرويرها وتخريجهرا لكرل رؤاهرا
ومواقفه ررا وأه رردافها عل رري أن ذل ررك ه ررو اإلس ررالم .وانم ررا ه ررذا ه ررو من رراط إتهامه ررا بالمت رراجرة فر ري ال رردين
والمزايدة عليه إرهابا وابت اززا .إنها في ذلرك تسرتفيد مرن أمررين ،أولهمرا تخلرف الفهرم الرديني اإلسرالمي
عنررد عامررة المسررلمبن بالسررودان .أمررا ثانيهمررا فهررو أيررديولوجيا الهيمنررة والقهررر اإلسررالموعربية .وفرري
الحقيقررة إن العامررل الثرراني هررو النبررع .ومررا عررداه فجداولرره وان القرروة الترري تبرردو عليهررا هررذه األح رزاب
تع ر ررزي إل ر رري ان ري ر رراح أي ر ررديولوجيا الهيمن ر ررة تم ر ررال أش ر رررعتها ،وذل ر ررك تكثيف ر ررا لالستش ر ررعار إزاء احت ر ررداد
االستقطاب األيديولوجي الجاري انن بالسودان .إن أيديولوجيا الهيمنة يحيق بها خطر داهرم يتمثرل
في إشتداد هبوب رياح التغيير القومية العاتية.
فرري مجررال الفكررر تعرراني األحرزاب الدينيررة اإلسررالمية عمومررا مررن بررؤس فكررري مريررع ،إذ لررم يشررهد لهررا
بر ررأي تنظير ررر فكر ررري عمير ررق مر ررن شر ررأنه أن يقر رردم طرحر ررا إسر ررالمية معاص ر ررا .وهنر ررا تتجلر رري ذرائعيتهر ررا
البراقماتية ،فهي تعد الجماهير برؤية إسالمية سلفية متكاملة دون أن يفصحوا عرن تفاصريلها .ولكرن
عنرردما يصررلون للحكررم نجرردهم يتبنررون جميررع منرراهج مؤسسررات الحكررم العلمرراني الحررديث .ذلررك مثلمررا
تبن رري نظ ررام اإلنق رراذ م ررنهج اللج رران الثوري ررة م ررن الق ررذافي العلم رراني .حت رري األحك ررام الحدي ررة للشر رريعة
اإلسالمية التي ضمنها نظام مايو في قوانين سبتمبر ،تحاشري هرذا النظرام تطبيقهرا ،ال لمرا جوبره بره
مررن ضررغط دولرري ،بررل لطبيعترره العلمانيررة البحترره واد اركرره لمفارقررة السررياق مررا بررين المجتمررع العربرري
األول ،وبررين مجتمعاتنررا الحاليررة وكررل تجررارب الحكررم المعاصررة .ومررع هررذا نشررط فرري المقابررل ،وغررالي
فرري تطبيررق عقوبررات الجلررد التعزيريررة إذالالً وامتهانررا ،وذلررك تحررت العديررد مررن المبررررات والمسرروغات
التري تربرأ الدولرة فري العصررر الحرديث عرن أن أبترذل حتري أنتهرري إلري "طرحرة" مطروحرة علري الررأس
كيفما تأتي الباقي .وهنا يتكشف البعد األيديولوجي غير القيمي للموضوع.
37
نخررتم فنقررول إن أي فكررر إسررالمي ناصررع المعاص ررة ال يمكررن أن يتررأتي مررا لررم يحقررق إسررتقالليته عررن
األيررديولوجيا العربيررة الملتبسررة باإلسررالم منررذ عهرروده األولرري ،فضررال عررن تنزيهرره عررن أي أيررديولوجيا
إجتماعية تتسم بالنزوع للهيمنة والقهر.
دكتاتورية ما بعد أبري :
كرران حتمررا مقضرريا علرري هررذه الدكتاتوريررة ان تجرريء فالبنيررة السياسررية بإنحرافهررا الررذي ال تخطئرره عررين
(تفاقم األزمات ،انفصال عن القواعد ،تجلي البطر بالحكم ،والتكالب عليه ،عدم االستقرار السياسري
والحرررب األهليررة ...الررخ ).فقررد دفعررت الشررعب دفعررا – محكومررا ب ليررات وعيرره – إلرري إسررقاط كررل هررذا
الفش ررل عل رري الكيفي ررة السياس ررية (الديمقراطي ررة) األم ررر ال ررذي ن ررتج عن رره تهي ررؤ الش ررعب ألي ب ررديل آخ ررر
(الدكتاتورية بالطبع) يريحهم من (دوشة) األحزاب .عندها أصبح النراس يررددون بصروت واحرد جلري
جهير أال نفع للهذه الديمقراطية مع هذا الشعب.
وهك ررذا أص رربح أث ررر التي ررار الثق ررافي الن ررازع نح ررو الديمقراطي ررة يض ررمحل ف رري وع رري الش ررارع السياس رري
السوداني ،فقد أصبحنا نسمع – بصوت عال – أن السودان "دايرر دكتراتور عرادل" .وهرذا يعنري أن
أثر التيار الثقافي النازع نحو الدكتاتورية قد أصبح ينتعش في ثقافة الشارع السياسي السوداني.
عليه ،كان من الطبيعي أن تجيء الدكتاتورية كاستجابة موضوعية لكل هذا.
كنرا قرد بينرا – إبرران الديمقراطيرة السرابقة لرردي إصردارتنا الثانيرة لهرذا الكتيررب فري عرام 1988م – بررأن
الدكتاتوريررة القادمررة (دكتاتوريررة يونيررو الحاليررة) لررن تكررون عسرركرية ،فالمؤسسررة العسرركرية قررد أنهكهررا
نظررام مررايو المبرراد .هررذا وان كانررت قطاعررات عريضررة مررن الشررعب السرروداني تحملهررا وزر مررا حرردث،
وهي منه وبرراء .وكنرا قرد قردمنا أقروي االحتمراالت فري أن تكرون الدكتاتوريرة القادمرة يمينيرة – طائفيرة
تتخررذ مررن الجرريش مطيررة لهررا .الحررت تباشررير هررذا المخطررط عنرردما تأسررس مررا عرررف بحكومررة الوفرراق
1988م وقررد تلخررص ذلررك السررناريو بررأن تمتلررك طائفررة األنصررار السررالح (أي الجرريش) ثررم ترردخل فرري
حلفهررا مررع مررن يمتلكررون السرروق (الجبهررة اإلسررالمية) .تقرراعس حررزب المررة عررن أداء دوره ،ذلررك لررن
أش رررعته تتجاذبه ررا تي ررارات متناقض ررة م ررن ن ازع ررات ديمقراطي ررة وأخ ررري ديكتاتوري ررة ،فك رران أن إنف ررردت
الجبهررة اإلسررالمية باللعبررة وحرردها .وعلرري أي ،إن هررذه اإلختالفررات فرري إحررداثيات الظرررف ال تخررل
بالتحليل الموضوعي لظاهرة الديمقراطية و الديكتاتورية في سياقها العام.
اإلنمراف السياسي المالي:
بخررالف الحكررم التركرري ،لررم يحرردث أن بلررذ اإلنحرراف السياسرري مررا بلغرره فرري ظررل النظررام الحررالي .لقررد
مرررت علرري البش ررية حقررب طويلررة ،ظلررت تفرروض فيهررا السررلطة مررن مسررتواها القاعرردي إلرري المسررتوي
38
السياسرري ،األمررر الررذي نج ررم .عنرره تشرركل مؤسس ررة الدولررة .إن الدولررة ه رري أخطررر مؤسسررة أنتجته ررا
البش ررية ،ومررا ذلررك إال ألن البش ررية قررد فوضررتها حترري ممارسررة القرروة الماديررة القس ررية .فالدولررة ،عبررر
مؤسسرراتها العدليررة والقانونيررة ،يمكررن أن تنتررزع فررردا مررا مررن بررين ظه ارنرري أهلرره وعشرريرته ،لتحاكمرره ثررم
تنفذ فيه حكم اإلعدام ،دون أن يحس أهلره وذووه برالغبن إ ازهرا ،وتحرديا إزاء القاضري الرذي أصردر
الحكم.
لم تفعل البشرية ذلك منة منها بمؤسسة الدولة ،بل ألنها ألزمتهرا بمجموعرة مرن الواجبرات والمهرام ،
تقرروم بهررا وتؤديهررا للمجتمررع .فالعقررد اإلجتمرراعي بررين المجتمررع ومؤسسررة الدولررة يقضرري بررأن يتخل ر
األول عن قردر معلروم مرن كسربه ومعاشره فري شركل ضررائب يردفعها للدولرة ،لتقروم األخيررة بإعادتهرا
لرره فرري شرركل خرردمات معيشررية ( ،صررحية ،تعليميررة ،بنيررات تحتيررة ،تنميررة ..إلررخ ) .بهررذا تصرربح
الدولة ( أو الحكومة التي تشغل مؤسسرة الدولرة ) بمثابرة المعيرل للمجتمرع .أي بمثابرة الوالرد ألبنائره
.ألجل هذا يتخل كل فرد في المجتمع عن قدر كبير من حريته ،ويحجرم طائعر عرن ممارسرة القروة
المادية الشخصية المتاحة له ،لتفوض في مجملها اإلجتماعي لمؤسسة الدولة .
فمررا الررذي حرردث لهررذا العقررد اإلجتمرراعي فرري عهررد النظررام الحررالي ؟! لقررد قررام النظررام بوصررفه الحكومررة
التي تشغل مؤسسة الدولرة ،باإلحتفراظ بكرل الصرالحيات والسرلطات واإلمتيرازات التري منحهرا العقرد
اإلجتمرراعي لرره ،ا م كرران أن تصرررف بطريقررة تشررير أنرره – كدولررة – غيررر مسررؤل تجلرره المجتمررع فرري
ملبسرره ومأكلرره وتعليمرره وأمررر تنميترره ورفاهيترره العامررة .إذن مررن الطبيعرري أن يتخل ر المجتمررع عررن
القيررام بواجبرره إزاء الدولررة ،طالمررا كانررت هرري البادئررة بررنقض العقررد اإلجتمرراعي بينهمررا .أي –بمعنر
آخر -أن يتوقف المجتمع عن دفع الضرائب ويستعيد بالتالي سرلطاته المفوضرة لهرا .هرذا تصروير
نظري بالطبع لكنه – عملي – يعني نقض عقد الوالية .فما الي حدث ؟
إستمسرركت المجموعررة الحاكمررة بكررل أزمررة السررلطة الماديررة القس ررية الخاصررة بالدولررة ،وذلررك لقهررر
المجتمع ،وحمله عل اإلذعان واإلستكانة لهم .
بهذا أصبح المجتمع هو الذي يعول الدولة ،بدن من أن تعول الدولة المجتمع .بمعنر آخرر ،
أصبح المجتمع يعول ( الحزب الحاكم ) والذي كشف عن شرره مرادي دنيروي ،وتكالرب شرركي علري
المال والجاه الزائل ،فبطر كما لم يبطر أحرد ،وتمررغ فري وحرل السرلطة والمرال العرام كمرا لرم يتمررغ
أحررد .وأصرربح ال مثيررل لهررذا العهررد فرري ترراريخ السررودان إال التركيررة السررابقة مررن حيررث تسررخير الدولررة
39
للسلطة والثروة بما يتنراقض ومصرلحة الشرعب .بهرذا يكرون افنحرراف السياسري قرد بلرذ أقصري درجرة
لرره حترري االن.فررإن كانررت ديكتاتوريررة مررا بعررد أبريررل قررد تحققررت كمررا جرراء اسررتقراؤنا المنهجرري لواقعنررا
المعاصر ،فإن الثورة أيضا قادمة الريب فيها .إنها ثورة الشعب السوداني الرابعة ،التي سيرتفع فيهرا
الرروعي إلرري مسررتوي أن يجعررل المبرردأ (الديمقراطيررة) فرري تجريررده محررور التماسررك العرراطفي لثورترره .ثررم
يسررمو الرروعي عررن ذلررك فرري حررال كررونهم برنامجررا لاحاديررة والمركزيررة الثقافيررة ،أو متعينررين كررأحزاب
سياسية.
عندما ستتمخض الثورة عن الديمقراطية كخيار حضاري لهذا الشرعب ،وكجرزء مرن مورثاتره المتجرذرة
ال اركرزة فرري تركيبرره ثقافترره .ولينظررر بعررد ذلررك أولئررك الررذين ال تمثررل الديمقراطيررة التعدديررة خيررا اًر مبرردئياً
لهم أي منقلب ينقلبون.
حلقة مفرغة أو متوالية:
إن مسألة الديمقراطية والدكتاتورية وتبادل األدوار بينها في مسرحنا السياسي تجري علي نسرق أشربه
ما يكون بذلك الذي تجري عليره المتواليرة العدديرة .فالديمقراطيرة األولري اسرتمرت لعرامين (– 1956
1958م) ،فأعقبتهر ر ررا دكتاتورير ر ررة اسر ر ررتمرت سر ر ررتة أع ر ر روام (حكر ر ررم عبر ر ررود) ( .)1964 – 1958أمر ر ررا
الديمقراطيررة الثانيررة فقررد اسررتمرت لخمسررة أع روام (1969 – 1964م) ،فأعقبتهررا دكتاتوريررة اسررتمرت
ستة عشر عاما (نظام مايو) (1985 – 1969م).
عنرردما جرراءت الديمقراطيررة الثالثررة (1989 – 1985م) كنررا فرري حواراتنررا مررع القرروي السياسررية ،نررردد
الس رؤال التررالي :كررم يرراتري مررن األع روام الدكتاتوريررة سرريكلفنا العررام الواحررد فرري ديمقراطيتنررا هررذي؟ كنررا
نطرح ذلك السؤال كيما يتهيا السودانيون لما هرو أسروأ ،فيتجنبروا االستسرالم لاحسراس بخيبرة األمرل
،وهو ما كان عليه حال اليسار الكالسيكي آنذاك .وحتري عنردما جراءت دكتاتوريرة مرا بعرد أبريرل ،
أوهمت القوي السياسية نفسها بأن النظام اإلنقالبري سريؤول سرريعا ،وقراموا بتشربيهه برغروة الصرابون.
لقد ارتكبوا برأيهم ذلك خطئية الغ اررة والسذاجة مرتين – وهي خطئية ال تغتفرر فري مجرال السياسرة .
المرة األولري كانرت عنردما توهمروا برأن الديمقراطيرة هري عمليرة ميكانيكيرة ،وكرذلك أمرر الحفراظ عليهرا
يقضي بالتنفيذ الميكانيكي لعصيان مدني رسموا صورته في أذهانهم .أما في المررة الثانيرة ،فقرد جراء
ترروهمهم تفتيتررا فرري عضررد النضررال الشررعبي وذلررك بخلررق حالررة مررن التواكررل ثررم التقرراعس النضررالي فرري
مواجهة نظام لم يختبر في قوته حتي انن من حيرث صرموده ألي معارضرة جماهيريرة قاعديرة .ومرا
كان هذا التخبط إال ألن القوي السياسية ال تملرك أي رؤي مفهوميرة لظراهرة الديمقراطيرة والدكتاتوريرة
في واقعنا السوداني المعاصر.
40
وها نحن اليوم نعيش أيام ديكتاتورية ما بعد أبريل وقرد أمترد بهرا العمرر ليقرارب العقرد مرن الزمران ...
وكفي!
الديمقراطية ..الخيار الموضوعي:
بما أن الصراع بين التيار الثقافي النازع نحو الديمقراطيرة ،وذلرك النرازع نحرو الديكتاتوريرة قرد انرتظم
،تاريخيررا ،وتتابعررت نتيجررة لرره أنظمررة ديمقراطيررة ،أعقبتهررا أنظمررة ديكتاتوريررة ،فقررد يتسرراءل المرررء:
لم ر رراذا ال نض ر ررع احتم ر ررال أن تنتص ر ررر الديكتاتوري ر ررة؟ وب ر ررذلك يختلر ر رف معن ر ررا ف ر رري ترجيحن ر ررا ألنتص ر ررار
الديمقراطية.
موضوعية انتصار الديمقراطية التعددية تزداد وضوحا عندما نلمظ اآلتي:
عندما جاءت ديكتاتورية عبود كاستجابة طبيعية النتعراش أثرر التيرار الثقرافي النرازع نحرو الدكتاتوريرة
،كرران العامررل المباشررر لتحقيقهررا هررو فعررل قامررت برره فئررة قليلررة (عبررود وكبررار الضررباط) .أمررا عنرردما
جرراءت الديمقراطيررة الثانيررة بعررد أكترروبر كاسررتجابة طبيعيررة النتعرراش أثررر التيررار الثقررافي النررازع نحررو
الديمقراطيررة ،كرران العامررل المباشررر لتحقيقهررا هررو فعررل الشررعب ،فكانررت ثررورة أكترروبر .وكررذلك عنرردما
جرراءت ديكتاتوريررة مررايو ،فقررد تحققررت بفعررل فئررة قليلررة (نميررري وصررغار الضررباط) .امررا عنرردما جرراءت
الديمقراطيررة الثالثررة فقررد تحققررت أيضررا بفعررل الشررعب (ثررورة أبريررل) .وكررذلك الحررال فرري حركررة يونيررو
1989م اإلنقالبية ،وما سيعقب من ثورة شعبية عارمة.
غنرري عررن القررول – بعررد هررذا – إن مررا تصرربوا لرره الجمرراهير وتثررور مررن أجلرره سينتصررر فرري النهايررة ،
بينما سينهزم ذلك الذي تسعي إليه الفئات الشللية.
ليبرالية أم تعددية؟
إن الديمقراطيررة الترري عشررناها ،والترري نبشررر بهررا ،ليسررت ليبراليررة إن الليبراليررة ليسررت أحررد مكونررات
صر ررلب الديمقراطير ررة ،بر ررل هر رري إحر رردي خصر ررائص ثقافر ررات المجتمعر ررات الغربير ررة .فمنر رراط االحتجر رراج
واإلرتكرراز فرري مفهرروم الليبراليررة هررو الفرديررة أو الفردانيررة .لررذلك عنرردما نشررأ الفكررر الليب ارلرري فرري الغرررب
توجه بكلياته للدفاع عن حقوق الفرد إزاء سلطة الدولة .لقد كان الهم األكبر هو كيفية تأمين الحريرة
الفردية .لذلك قام فهمهم لليبرالية في جوهره علي حرية الفرد.إذن فاللبيرالية خصيصة من خصائص
الثقافر ررة الغربير ررة ،ولر ررذلك عمر رردت إلر رري تشر رركيل ديمقراطيتهر ررا بمر ررا يخر رردم واقعهر ررا االجتمر رراعيك الثقر ررافي
،وبالت ررالي ه رري ليس ررت م ررن لر روازم الديمقراطي ررة إذا م ررا إنبثق ررت وتول رردت ف رري مجتمع ررات أخ ررري خ ررالف
المجتمعات الغربية.
41
إن الديمقراطيررة فرري جوهرهررا الثقرراغي البسرريط تعنرري إحت ررام سررلوك انخ ررين بشررتي ضررروبه ،طالمررا
كان في حدود حرريتهم الشخصرية ..وهرذا هرو بيرت القصريد .فردائرة الحريرة هرذه تنرداح وترتخلص تبعراً
لنظام اإللتزام القيمي وما يطرحه من محرددات سرلوكية فري نظرام اإللترزام القيمري للمجتمعرات الغربيرة
يقروم علري الفردانيرة بينمررا الفررد فري السررودان لريس حر اًر فري أن يفعررل مرا يريرد خاصرة مرا قرد يتعررارض
مع المعايير المجتمعية .والمجتمع نفسه كينونة إجتماعية نسبية فأنت قد تثور علي مجتمرع العمرل،
دون أن تقرردر علرري ذلررك إذاء مجتمررع الحرري ،أو مجتمررع قبيلتررك .المهررم فرري األمررر إن منرراط الحيرراة
اإلجتماعي ررة ف رري الس ررودان ه ررو كيفي ررة تر رواؤم الف رررد م ررع المع ررايير األخالقي ررة الض ررابطة للس ررلوك داخ ررل
اإلطار المجتمعي المحيط به ،أو ذلك الذي ينتمي إليه ...إلخ
نخلررص لنقررول إن الديمقراطيررة الترري عليهررا واقررع حالنررا ليسررت لبراليررة وهيهررات أن تكررون كررذلك حترري
لو جاهدنا من أجل ذلك .إذاً ماهو نوعها ؟ إنها الديمقراطية التعددية .ولفظ التعدديرة ال تعنري بهرا
تعرردد األح رزاب ،بررل نعنرري بهررا التعرردد الثقررافي .إنهررا ديمقراطيررة تخررتص بخصائصررنا الثقافيررة وعلرري
رأسها التعددية الثقافية .إن المركزية الثقافية وسياسات األحادية الثقافية .تصب جميعها فري مجرري
التيررار النررازع نحررو الدكتاتوريررة .إن جميررع فت ررات الديمقراطيررة الترري عشررناها – إن ل رم نقررل :والترري
سوف نعيشرها – منرذ اإلسرتقالل كانرت مسرممة بالديكتاتوريرة ممثلرة فري سياسرات المركزيرو واألحاديرة
الثقافية .وفي واقع األمر ،فقد ظلت ثقافة الوسط اإلسالموعروبي كمرا ذكرنرا هري التري تسريطر علر
جميع ديناميكيات ومكنيزمات الحكم في بالدنا منرذ عهرود طويلرة ،ومنرذ االسرتقالل تخصيصراً .وكمرا
علمنا فإن أوضاع السودان قد ظلرت تتردهور يومراً بعرد يروم ،ونظرام حكرم اثرر آخرر فري فشرل مسرتمر
منررذ اإلسررتقالق وحتر اليرروم .لدرجررة أن كررل نظررام حكررم ( ديمق ارطرري أو ديكترراتوري ) كرران أسروأ مررن
سررابقه ...كمررا فصررلنا ذلررك ولخصررناه بررالقول :إن تجربررة فرري سررودان مررا بعررد اإلسررتقالل تمثررل فشررل
األحادية والمركزيو الثقافية في بلد متعدد الثقافات .وعليه ينبغي للديمقراطية في بلرد كهرذا أن تكرون
تعددية في معن أنها تعبير عن التعدد الثقافي.
إن الررذين يقولررون أن ديمقراطيررة ويستمنسررتر ال تصررلح فرري السررودان محقررون إذا مررا قصرردوا فرري ذلررك
مفهوم روح الليبرالية ،مخطئون إذا مرا قصردوا الحكرم النيرابي القرائم علر اإلنتاخابرات الحررة ،ومبردأ
فصررل السررلطات .إن ديمقراطيررة ويسمنسررتر هرري الليبراليررة عينهررا ،وهرري ال عالقررة لهررا بمررا عليرره واقررع
الحررال عنرردنا ...كمررا بينررا ،هررذا صررحيح ولكررن ينبغرري للررذين برفضررون الديمقراطيررة جسررماً ومعن ر –
ليبراليررة كمررا فرري ويستمنسررتر ،أم تعدديررة كمررا هرري عنرردنا – أن يكونروا شررجعاناً ويعلنررون ذلررك .إنهررم
42
يقولررون غررن الليبراليررة ال تصررلح فرري السررودان ويقصرردون فرري الواقررع الديمقراطيررة إجمرراالً ،والتعدديررة
تحديداً.
فالديمقراطيررة فرري جوهرهررا تقرروم عل ر مبررادر هرري :حريررة التعبيررر ،حريررة التنظرريم ،حريررة االعتقرراد،
الح ررق ف رري التشر رريع واالنتخ رراب ،والمس رراواة وع رردم التميي ررز ...ث ررم مب رردأ فص ررل الس ررلطات ال ررثالث :
التشريعية ،والتنفيذية والقضاء .إن هذه المبادر ال تختص بها ثقافة دون اخرر ،،برل هري تعرود إلر
وحدة جوهر النفس اإلنسانية ،أم المبردا األخيرر ( فصرل السرلطات ) فهرذه سرنة تطرور أنتظمرة الحكرم
البشررري ممثلررة فرري عرردم جرواز إنفرراد أي فرررد أو جهررة بالسررلطات الررثالث ،فمررثالً عنرردما برردأت الدولررة
اإلسرالمية كانرت هرذه السرلطات الررثالث متمركرزة فري رأس الدولرة ،برردءاً مرن النبري (ص) .ثرم مررا إن
برردات الدولررة تترردرج فرري مرردارج المؤسسررية والتركيررب حتر نزعررت هررذه السررلطات إلر اإلسررتقالل عررن
التمركررز .ثررم عررن بعضررها الرربعض .ولكررن تقرراعس المسررلمين عررن المواصررلة فرري ركررب الحضررارة حررال
دون التأمسس التام ،فكان أن أتمت المهمة شعوب أخر ،نهردت لامرر مرن حيرث توقرف المسرلمون.
وانن لرريس أمررا المسررلمين مررن سرربيل غيررر اإلنضررمام إلر قطررار الحضررارة مررن أي محطررة يصررادفونه
فيها ،وليس من اول محطة بدأ مها المسير .
نختم هذا الجزء فنقول :إن المبادر – مطلقاً – تتشكل بالثقافة التري تتنرزل عليهرا تطبيقراً .فرإذا تنرزلن
مبرادر وقريم الديمقراطيرة فري ثقافرة الغررب ،اصرطبغت بالحريرة الفرديرة كمناطاحتجراج للحريرة مطلقراً
فأصبحت ليبرالية .اما إذا تنزلت في السودان ،أصبحت تعددية احتكاماً بالتعدد الثقافي عندنا .
43