You are on page 1of 43

‫القومية السودانية‬

‫و‬
‫ظاهرة الثورة والديمقراطية في الثق افة السودانية‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫سنعمد في هذا المنهج إلي معالجة إشكالية التراث والهوية و االيدولوجيا‪ .‬وسيكون اإلطار المرجعي‬
‫والنظري لكالمنا هو الثقافة‪ .‬ونقصد بالثقافة ذلك الكل المركب الذي يشتمل علي نشاطات المجتمع‬
‫من عادات وتقاليد ومعتقدات ‪ ،‬وفنون ‪ ،‬وممارسات ومؤسسات بما في ذلك وسائل كسب العيش‪.‬‬
‫إن المنظور الذي من خالله سنعالج هذه المسائل نسميه (منهج التحليل الثقافي)‪ ،‬وهو ينظر إلي‬
‫الثقافة علي أنها عملية جدلية ‪ ،‬أي هي عملية صراع واصطراع‪ .‬أننا نؤسس بذلك لخطاب ثقافي‬
‫يتيح لنا مقاربة موضوعية وعلمية ومفهومية لمفاهيم طغي الحديث عنها ببالدنا في العقود األخيرة‬
‫من القرن العشرين‪ .‬مثال ذلك الهوية واالنتماء ‪،‬القبيلة و القومية‪ ،‬الذاتية والشخصية السودانية‬
‫‪،‬الصراع الثقافي ‪،‬القهر واالضطهاد الثقافي والسياسي‪ ،‬الديمقراطية والدكتاتورية ‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫إننا إذ نفعل ذلك ال نعبر عن وجهة نظرنا في قضايانا القومية فحسب ‪ ،‬بل أكثر من ذلك تضرب‬
‫مثال حياً في كيفية تناول قضايا الثقافة والتراث – التي نشطت في السنوات األخيرة كما ذكرنا –‬
‫من خالل رؤي فكرية واضحة وممنهجة‪.‬‬
‫لقد عاني السودان الكثير من ضروب التخبط السياسي والفشل اإلداري‪.‬فإن تكون األحزاب تتحمل‬
‫وزر ذلك ‪ ،‬إال أن أس المشكلة كان األزمة الفكرية والعقم الفكري ‪ ،‬وما نجم عنها من آفات الرأي‬
‫وسقيم الكالم‪ .‬وعلي هذا إنعدمت المصداقية في المواقف فأصبحت السياسية كالماً بال صدق‪.‬‬
‫المنهج الثق افي ومفهوم السلطة‬
‫الثق افة وصراع اإلنسان حول السلطة‪:‬‬
‫كان صراع اإلنسان في هذه الدنيا دائماً حول السلطة‪ .‬فقد كان منذ فجر التاريخ يصارع الطبيعة‬
‫بحيواناتها كيما يخضعها لسلطته‪ .‬وفيما بعد دخل اإلنسان في صراع دام ضد أخيه اإلنسان‪ ،‬وما‬
‫ذلك إال في سبيل أن يفرض أحدهما سلطته علي األخر‪ .‬فقوي البيئة والطبيعة واجهته – ومازالت‬
‫– مهددة إياه بالفناء‪ ،‬فسعي اإلنسان حثيثاً كيما يكون له النفوذ عليها‪ .‬وقد كان له ذلك ‪ ،‬واال لما‬
‫كنا نحن اليوم‪.‬‬
‫لقد كان هذا الصراع حول السلطة لتأمين حياته ‪،‬فاإلنسان ما خل صراع ضد أخيه اإلنسان إال‬
‫عندما هدد أحدهما حياة األخر‪ .‬وهكذا ظل اإلنسان يمارس السلطة علي البيئة المحيطة به‪ ،‬حية‬

‫‪1‬‬
‫كانت أم جماداً ‪،‬عاقلة ‪ .‬وما انداحت دائرة السلطات التي احتازها اإلنسان ‪،‬إال وكان من تجلياتها‬
‫الخبرات المادية التي يتنعم بها‪ ،‬ومن ثم المصالح المادية والمعنوية التي اكتسبها وتراكمت لديه‪،‬‬
‫عبر األيام ‪.‬وما ناتج كل هذا إال القوة ‪ ،‬وما القوة إال السلطة‪.‬‬
‫القوالب السلوكية وصراع السلطة‪:‬‬
‫ال لواله لما احتاز اإلنسان قد اًر‬
‫لقد استخدم اإلنسان في ممارسته للسلطة وصراعه حولها سالحاً فعا ً‬
‫من السلطة يصارع بها الطبيعة والبيئة بذكر ذلك السالح هو العقل‪ ،‬فلوال العقل لما استطاع‬
‫اإلنسان أن يدرك أبعاد اإلشكاليات الحياتية اليومية التي ظلت الطبيعة ال تني طرحها في تهديدها‬
‫إياه ‪،‬ومن ثم استشراف الحلول لها‪ .‬أي – بمعني آخر – التمكن من فرض النفوذ عليها وبالتالي‬
‫ممارسة السلطة‪.‬‬
‫أن هذه القوالب السلوكية – كوحدات بسيطة قياساً – تتفاعل ديناميكياً داخل الثقافة "الكل المركب"‬
‫وهذا التفاعل يتم في ذاكرة المجتمع اال وعية الثقافي‪ .‬وهذا الوعي ننظر إليه علي أنه‪:‬‬
‫‪ -1‬الوعي المباشر‪ :‬وهو عملية التفكير التي تتم في العقل الواعي لدي الفرد‪ ،‬وتناط بهذا الوعي‬
‫عملية اإلقناع واإلقتناع من خالل عدة وسائل منها المقروءة والمسموعة والمرئية‪ .‬أو قل هو‬
‫الطريقة التي تحل بها مسألة في الرياضيات ‪ ،‬ونفهم األخرين كيف كان الحل‪.‬‬
‫‪ – 2‬الوعي غير المباشر‪ :‬هو الطريقة التي نتبادل بها المفاهيم دون وعي مباشر بذلك إذ تنتشر‬
‫ثقافياً من خالل اإلنتشار الشفاهي العفوي ومن خالل الكلمة الملفوظة ‪ .‬أنها الكيفية الديناميكية‬
‫التي تنتشر بها النكتة ‪ ،‬أو أغنية بعينها‪ ،‬من كسال إلي نياال في ظرف أيام دون أن تتكفل جهة ما‬
‫بمسألة نشرها‪ ،‬أنها نفس الطريقة التي تتم بها المثاقفة أو التنشئة اإلجتماعية في مجتمع بعينه ‪.‬أن‬
‫محددات الوعي غير المباشر‪ -.‬وهي ثقافية حسب رؤيتنا هذي – هي التي تخرج لنا سلوكيات‬
‫أبناء مجتمع ما علي شاكلة بعينها ‪،‬ينمازون بها عن تلك التي يتصف بها أبناء مجتمع آخر‪.‬‬
‫إن الوعي الثقافي – بشقيه – ومن خالل التفاعل والتالفح الديناميكي داخل الثقافة هو الذي يفتق‬
‫لنا العبقرية في مجتمع دون آخر ‪،‬وجيل دون جيل نزوالً إلي مستوي الفرد‪ .‬وما كل ذلك إال لتمكين‬
‫اإلنسان من اكتساب النفوذ وممارسة السلطة كما بينا من أهداف من قبل‪.‬‬
‫األصالة والمعاصرة‪:‬‬
‫إن القوالب السلوكية هي أنظمة في غاية التعقيد‪ .‬فهي قد نشأت وتشكلت في مواجهة ظرف بعينه‪،‬‬
‫وألداء وظيفة بعينها أيضاً‪ .‬ولكن ما أن يأخذ القالب السلوكي شكله وتبلوره اللذين يرسمان له أبعاده‬

‫‪2‬‬
‫وحدوده حتي يتحول إلي نظام له القدرة علي تجاوز عوامل تشكله األولي‪ .‬ولربما انتفت وظائفه‬
‫والحوجة إليها‪ ،‬ولكنه يظل عالقاً في حياة الناس كعادة‪ ،‬ولربما يتحول إلي عادة ضارة أو مفيدة‪.‬‬
‫ولكن هنالك من القوالب السلوكية ما ال يمكن أن تنتفي له وظيفة وال باس هنا من أن نستشهد‬
‫بالزي كقالب سلوكي ال تنتفي وظيفته مع المحافظة علي ذات حدوده المعرفة لشكله‪ .‬لذلك فهو‬
‫قالب سلوكي أصيل ‪،‬أي أن أصالته تكرست عبر التاريخ ‪،‬وثبت للذين تشكل لدسهم هذا القالب –‬
‫أو ورثوه – أنه ال غني لهم عنه من حيث انتفاء الحاجة إليه‪.‬‬
‫ولكن هل يتزي الناس بكل ما لديهم من أزياء لمجرد أتقاء البرد والحر؟ بالطبع ال ! فمن الناس من‬
‫يغير مالبسه – من نوع الخر – لدواعي النظافة فحسب ‪ ،‬وهذه قيمة تختلف عن الوظيفة األولية‪.‬‬
‫ومن الناس من يغير مالبسه من الجالبية إلي البنطلون والقميص ‪ ،‬أو العكس ‪،‬لدواعي األناقة‬
‫ال ‪ .‬وفي الصيف في جو السودان القائظ ‪،‬فقد تجد أحدهم وهو يلبس بدلة كاملة – ولربما كانت‬
‫مث ً‬
‫صوفاً – ال لشيء إال ألن البروتوكوالت حكمت عليه أن يلبس هذا متي كانت هناك مناسبة ما‪،‬‬
‫ال‪ .‬ثم من الناس من ال يري في الزي غاية بخالف االحتشام وستر‬
‫كضيف رسمي أو زائر مث ً‬
‫العورة ‪،‬وهذه قيمة مغايرة‪.‬‬
‫إذن فإن القوالب السلوكية ‪،‬من خالل أداء وظائفها تلك تكون قد حققت أصالتها من حيث أن‬
‫اإلنسان لم يطق عنها عتاءاً ولذلك فهي أصيلة‪ .‬وبما أنها لم تكتف بذلك فحسب ‪،‬بل أصبح في‬
‫مقدورها التعبير عن قيم أخري استجدت مع تعاقب األيام ومن ثم إشباعها لنهم اإلنسان جمالياً ‪،‬‬
‫فإنها – أي القوالب السلوكية – تكون قد حققت معاصرتها‪ .‬وما هذا إال ألن القالب السلوكي قد‬
‫تمكن من المحافظة علي شكله وأبعاده الحدية األساسية – وهي عتيقة – ومع ذلك تمكن من‬
‫التعبير عن قيم حادثة معاصرة‪.‬‬
‫ال من واقع حياتنا السودانية‪ .‬ولنأخذ "التوب" السوداني مثالً‪ ،‬إذ‬
‫ولنضرب األن – دونما إطالة – مث ً‬
‫ال يغيب عن الناظر المتأمل أنه كقالب سلوكي له أبعاده الحدية األساسية التي حافظ عليها جراء‬
‫أصالته ‪ ،‬وهو في نفس الوقت قادر علي التعبير عن فيم جمالية تمت إلي عصرنا هذا‪ ،‬قيم ربما‬
‫– قطعاً – لم تعرفها (حبوباتنا) ‪،‬ومع هذا فهو قادر علي التعبير عنها جراء معاصرته‪.‬‬
‫نختم هذا الجزء فنقول ‪:‬أن مناط االحتكام في مسألة األصالة والمعاصرة ‪،‬فيما يختص بالقوالب‬
‫السلوكية ‪،‬هو الثابت والمتحول من حيث الشكل والوظائف والقيم‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫االستق اللية والسيادة‪:‬‬
‫ذكرنا أن القوالب السلوكية تكتسب أصالتها عندما ال تنتفي الحاجة إلي وظائفها ‪،‬فتحافظ بالتالي‬
‫علي أبعادها الحدية األساسية‪.‬‬
‫فالواحد منا إذا ما اضطجع مختليا في نهارنا القائظ قد يتحرر من جميع مالبسه ‪ ،‬ولكنه ال يملك‬
‫إال أن يلبسها جميع ًا ‪ ،‬علي سخونة الجو‪ ،‬إذا ما طرق الباب طارق‪ .‬أنه يلبس ست اًر لعورته حتي‬
‫يبدو بما هو الئق‪ .‬وهذه قيم جمالية جديدة تجاوزت الوظائف األساسية‪ .‬إن اإلنسان يحقق إنسانيته‬
‫أكثر ‪،‬عندما يمارس ذات السلوك بذات القالب اشباعاً لقيم جمالية تولدت عبر التاريخ جراء النظام‬
‫القيمي في ثقافته‪ .‬أي عندما يتجاوز القالب السلوكي وظائثه األولية إشباعاً لقيم استنها اإلنسان‪.‬‬
‫واذا رجعنا لمثال "التوب" السوداني ‪،‬وجدنا أن بناتنا ونساءنا ال يلبسنه اتقاء حر أو برد‪.‬‬
‫لكن يلبسنه إشباعاً لقيم جمالية من قبيل االحتشام أو الموضة‪.‬‬
‫أن تجاوز القوالب السلوكية لبواعثها الوظيفية األولية‪ ،‬أن هو إال استقالل عنها‪ ،‬ومن هنا ندخل‬
‫إلي مفهوم االستقاللية‪ .‬إذ أنها فعل الوعي المباشر ‪،‬وذلك عندما نعمد إلي قوالبنا السلوكية فنسقل‬
‫بها عن قيم بعينها محققين أصالتنا ‪ ،‬واشباعا لقيم ناهضة حادثة محققين بذلك معاصرتنا‪ .‬أن‬
‫االستقاللية ليست هي األصالة فحسب ‪،‬بل هي أكثر من ذلك ‪ ،‬أنها التأصيل وهنا يكمن دور‬
‫الوعي المباشر في استلهام تراثنا (فولكلورنا) وثقافتنا‪.‬‬
‫إن صراع اإلنسان ضد بيئته وقوي الطبيعة قد أدي إلي تفتق القوالب السلوكية ذات الجدوي ‪،‬‬
‫والتي مكنت اإلنسان بدوره من اكتساب النفوذ ‪،‬ومن ثم ممارسة السلطة‪ .‬ثم إن تفاعل هذه القوالب‬
‫السلوكية وتالقحها في حياة المجتمع يفضي إلي تأصيلها ‪..‬أي إلي األصالة‪ .‬وهذا بدوره يؤدي إلي‬
‫تراكم السلطات وتكريسها جراء التماسك االجتماعي الذي ينجم عن حالة األصالة‪ .‬وما تكريس‬
‫السلطات إال استشعار المجتمع ألمر سيادته علي بيئته المحيطة به‪ .‬وما من مجتمع استشعر‬
‫سيادته علي ما عداه إال وسعي إلي تأمينها والتمسك بها‪ ،‬ثم إلي بسطها‪ .‬وكل ذلك في سبيل حياة‬
‫تليق بإحساسه بنفسه ‪،‬أي بوعيه بنفسه‪ ..‬بعزته‪ ...‬بكرامته‪ ... ،‬الخ‪.‬‬
‫عليه ‪ ،‬فإن االستقاللية – كمفهوم – ال تنكفيء عند حد إستقالل القوالب السلوكية عن بواعثها‬
‫الوظيفية األولية‪ ،‬فهذه استقاللية بسيطة ‪،‬بل إنها تعني أن يحقق اإلنسان ذات نفسه سيكولوجيا‪،‬‬
‫واجتماعيا ‪،‬و ثقافياً ‪،‬وسياسياً ‪ ،‬أي حضارياً إنها تعني إال يعيش الفرد أي حالة من حاالت‬
‫االغتراب واالستالب‪ .‬أن االستقاللية هي تحقيق الذات ‪،‬بينما االغتراب هو نفي الذات‪ ،‬إن اغتراب‬
‫الفرد ينتج عن ‪،‬كما يفضي إلي‪ ،‬حالة اغتراب ثقافية‪ .‬بينما استقاللية الفرد تعني عضواً فاعالً‬

‫‪4‬‬
‫وناشيطاً بطريقة بناءة ‪.‬أن هذا األمر من شأنه أن يقضي بالمجتمع إلي أن يستقل في مجموع‬
‫عملية ممارسته للسلطة‪ .‬كيف يحدث هذا؟ مثالً بدال من أن يكون المجتمع تابعاً للطبيعة وقواها‬
‫تشكله كيما تصادف لها أن تفعل ذلك ‪،‬يتطور اإلنسان حتي يجعل الطبيعة تابعة له‪ ،‬يشكلها هو‪.‬‬
‫فبدالً من أن يتبع الطبيعة مكتفي ًا بعطائها له (الزراعة المطرية مثالً) فإنه هو يشكل عطاءها له‬
‫كما وكيفاً (الزراعة المروية)‪.‬‬
‫بهذا تكون صلة االستقاللية – عبر تشكالتها – بالسلطة قد وضحت‪ .‬كما تكون عالقة كل ذلك‬
‫بأمر السيادة واستشعارها قد وضحت أيضاً‪ .‬وعما قليل ستتضح لنا أيضاً الداللة العميقة لمقولة‬
‫‪:‬أمة مستقلة ذات سيادة‪ ،‬وذلك عندما يتحدث عن السلطة وتشكلها في الثقافة ‪،‬الثقافة ودورها في‬
‫تشكيل األمة ‪،‬ثم تشكل الدولة‪.‬‬
‫نخلص من كل ذلك إل ي أن النفوذ ‪،‬السلطة والسيادة ‪،‬أن هي إال عملية مركبة مستبطنة في بنية‬
‫الثقافة ‪،‬وبالتالي ال يمكن – كما نري – فصلها منها والنظر إليها‪ ،‬بغية تقويمها ‪،‬بمعزل عن‬
‫الثقافة‪ .‬كما نخلص إلي أن جميع ممارسات اإلنسان في حياته اليومية إن هي إال شكل من أشكال‬
‫عملية توليد السلطة التي يمارسها في سبيل فرض نفوذه علي قوي البيئة والطبيعة‪ .‬حتي وهو يغني‬
‫‪،‬فهو إنما يروح عن نفسه لالحتفاظ بالتواؤم والتوازن‪ ،‬األمر الذي يؤهله بدوره لمجابهة الطبيعة‬
‫وقواها‪.‬‬
‫التفويض وتبلور السلطة‪:‬‬
‫إذن فكل ممارسات اإلنسان في حياته اليومية إن هي إال شكل من أشكال ممارسته للسلطة‬
‫وانتاجها ‪ .‬فإذا ما جاء علي اإلنسان حين من الدهر تبلورت فيه السلطة في جسم محدد األبعاد‬
‫ال) فما ذلك إال النهر الذي تجمع من انصباب روافده في مجري عام‪.‬‬
‫(الحكومة مث ً‬
‫إذن فالحكومة تمارس السلطة‪ ،‬وعامة الناس في مجالس أنسهم وفي مواقع عملهم يكدون في الحياة‬
‫وفي كل مناحي نشاطاتهم اليومية‪ ،‬يمارسون السلطة سواء بسواء‪ .‬فما الفرق إذن؟ إن ما عليه حال‬
‫الناس هو ممارسة السلطة في المستوي القاعدي‪ ،‬وما عليه حال الحكومة هو ممارسة السلطة في‬
‫المستوي السياسي‪ .‬وما السلطة في المستوي السياسي إال بنت تلك القاعدية‪ .‬إذ أنها ظلت ترتقي‬
‫ويتم تفويضها – مؤسسيا – عبر التاريخ إلي أن بلغت المستوي السياسي‪ .‬وهذه هي قصة النهر‬
‫وروافده‪.‬‬
‫إال أنه قد طال العهد وبعدت الشقة منذ أن كان اإلنسان يمارس السلطة علي المستوي القاعدة قبل‬
‫البدء في تفويضها‪ ،‬ذلك التفويض الذي أدخلها في طور التركيب والتعقيد والمؤسسات‪ .‬وهذا هو‬

‫‪5‬‬
‫األمر الذي جعل الوهم يركب الكثيرين ‪،‬بل الغالبية منا‪ ،‬فقصروا مفهوم "السلطة" علي الحكومة‬
‫وحدها واصبحت بهذا كلمة "سلطة" لفظة مرادفة للحكومة ‪ ،‬وكأنما هي حق إلهي مقدس لها‬
‫‪،‬ذاهلين عن حقيقة أنها هي سلطتهم التي يمارسونها من خالل حياتهم اليومية مقوضة إلي‬
‫المستوي السياسي – بكل ما يصحب ذلك من مؤسسية – وممارسة من قبل البنية السياسية‪.‬‬
‫ولكن ما هي البنية السياسية؟‬
‫هي الحكومة وأكثر من ذلك‪ .‬علي وجه التحقيق هي لقوي التنظيمية التي تصطرع علي ممارسة‬
‫السلطة في المستوي السياسي‪ ،‬فهي األحزاب ‪ ،‬حكومة ومعارضة‪ .‬وبهذا تفهم أنها تنقسم إلي‬
‫شقين‪ :‬شق يمارس السلطة في المستوي السياسي مباشرة ‪،‬وهو الحكومة ‪،‬وشق آخر يمارس‬
‫السلطة بطريقة غير مباشرة وهو المعارضة‪ .‬واذا شئنا أن نصدق مزاعم الكثير من األنظمة‬
‫الشمولية التي تصرح بأنه التوجد لديها معارضة من أصلها‪ ،‬فإنه تبقي الفرضية الرياضية بوجود‬
‫المعارضة‪ .‬وحتي إذا استشهدنا بمجتمعنا القبلي ‪،‬فإن المتمعن داخل تالفيف المجتمع القبلي يمكنه‬
‫تمييز عدة بيوتات تشكل معارضة منظمة – وان لم يكن معترفاً بها – تجاه البيت الذي فيه مشيخة‬
‫أو نظارة القبيلة‪ .‬وما هذا في واقع األمر إال سلطة يمارسها أفراد القبيلة في المستوي القاعدي‪ ،‬ثم‬
‫تفوض إلي المستوي السياسي كيما تمارس من قبل بنية سياسية ذات شقين‪ :‬حكومة ومعارضة‪.‬‬
‫االقتصاد كسلطة‪ ...‬وموقعه في الثق افة‪:‬‬
‫االقتصاد مفهوم مركب يعني وسائل وعالقات اإلنتاج التي عبرها يكسب اإلنسان معاشه ومن ثم‬
‫يسهم في بناء حضارته‪ .‬ويخطيء من يظن أن االقتصاد يقف بعيداً عن الثقافة ‪،‬مثله في ذلك‬
‫كمثل الدين‪ ،‬اللغة ‪،‬العرق‪ ،‬األرض‪ ،‬التاريخ‪ ،‬الفولكلور ‪ . ..‬الخ‪ .‬وألن الصراع الثقافي جدلي في‬
‫جوهره لذلك يسعي كل محرك للسيطرة علي باقي المحركات ومن ثم توجيه الثقافة وجهته‪ ،‬إال أن‬
‫التوازن الثقافي هو الذي ينجم عن جدلية الصراع نفسه‪.‬‬
‫يمارس االقتصاد كسلوك فردي يستهدف كسب العيش ‪ ،‬وبعفوية دونما ربط بينه وبين مسألة‬
‫تفويض السلطة‪ .‬وهكذا يظل يمارس كسلطة في المستوي القاعدي صعوداً إلي المستوي السياسي‪،‬‬
‫وذلك في تجلياته الرأسمالية الواضحة‪ .‬ولهذا تأتي احتماالت االنحراف غالباً عبر تركيز االقتصاد‬
‫كسلطة في المستوي السياسي‪ .‬ففي الرأسمالية يملك األفراد فيرتفع بهم االقتصاد إلي أن يصبحوا‬
‫في مصاف الدولة ‪،‬يشكلوناها حسبما اتيح لهم‪ .‬كما قد يصبحون حكومة داخل حكومة‪ ،‬كما قد‬
‫يكون لهم غير تكريس مصالحهم الذاتية والفردية ‪ ..‬أو الطبقية في أحسن الفروض‪ .‬وهذا هو‬
‫أساس اإلنحراف باالقتصاد كسلطة في النظام الرأسمالي ‪ .‬أما االشتراكية الشمولية فإن الدولة هي‬

‫‪6‬‬
‫التي تملك‪ .‬والدولة إال المؤسسة التي عبرها تمارس السلطة في المستوي السياسي‪ ،‬وهذا هو قمة‬
‫تركيز االقتصاد كسلطة في في المستوي السياسي‪ ،‬وبذلك تكون إحتماالت اإلنحراف السياسي‬
‫باإلقتصاد أكبر‪ .‬فالدولة في الواقع هي الحكومة ‪ ،‬وما الحكومة إال الحزب الواحد الذي يحكم‪،‬‬
‫والذي بدوره ال يمثل عادة إال شريحة من المجتمع أو طبقة‪ .‬بهذا نجد أن اإلقتصاد يمارس في‬
‫المستوي السياسي لتكريس مصالح شريحة بعينها أو طبقة ‪ ..‬أو حزب‪ .‬وهذا هو نفس ما عليه‬
‫الحال في الرأسمالية ‪ ،‬إن لم يكن أسوأ‪.‬‬
‫في سبيل الحد من اإلنحراف باإلقتصاد كسلطة في المستوي السياسي‪ ،‬هناك العديد من اإلجراءات‬
‫اإلدارية والقانونية‪،‬فضال عما يصاحب ذلك من تطور في الرؤي الفلسفية‪ .‬من حق األفراد أن‬
‫يملكوا ‪ ،‬كما هو من حقهم ان يرتفعوا باإلقتصاد كسلطة إلي مستوي السياسي‪.‬‬
‫كذلك من حق الدولة أن تملك طالما كان هناك ما يسوغ ذلك ‪،‬دون نفي حق االفراد في‬
‫الملكية‪.‬لكن ماذا عن الجماهير العريضة التي ال تملك؟ وهنا ياتي ما نريد قوله‪ :‬أنه البد من إتاحة‬
‫الفرصة للجماهير العريضة في أن تملك وسائل اإلنتاج ‪ ،‬وأن تكون ضالعة في عملية عالقات‬
‫اإلنتاج‪ .‬وليس من سبيل لذلك غير نظام االقتصاد التعاوني بدءا من تجارة السلع االستهالكية كما‬
‫هو الحال في التعاونيات الصغيرة‪ ،‬وصوال إلي المشاريع اإلنتاجية الكبيرة‪ ،‬فضال عن الصناعات‬
‫المتقدمة والدقيقة‪ .‬أنها ليست دعوة إللغاء ملكيةالدولة ‪ ،‬كما هي ليست دعوة إللغاء الملكية الفردية‬
‫‪،‬بل مجرد دعوة لفتح الباب علي مصرعيه لنوع ثالث من الملكية وهوالملكية الجماهيرية والقطاعات‬
‫المنتجة نفسها‪.‬‬
‫أن هذا – وفق منهج التحليل الثقافي – يعني ممارسة اإلقتصاد كسلطة في المستوي القاعدي‪،‬‬
‫حتي إذا ما صعد نحو المس توي السياسي‪ ،‬فإنه يصعد في جماهيريته‪ ،‬وليس فردانيته كما في‬
‫الرأسمالية ‪ ،‬أو مركزيته كما في ملكية الدولة‪ .‬إن هذا من شأنه أن يحول دون اإلنحراف باإلقتصاد‬
‫كسلطة‪ .‬ففي طور التجارة اإلستهالكية يحمي اإلقتصاد التعاوني الفقراء والعمال والمزارعين‬
‫وصغار الموظفين من غول السوق الرأسمالية الفردانية‪ ،‬مثلما يحمي في طور المشاريع اإلنتاجية‬
‫والصناعات الكبيرة الصناعات الكبيرة القطاعات المجتمعية والمنتجة من سيطرة الرأسمالية الفردانية‬
‫والدولة علي حد سواء‪.‬‬
‫جدلية الهوية ‪ ،‬االنتماء ‪ ،‬صراع السلطة‪:‬‬
‫إن الصر رراع الثق ررافي م ررا ه ررو إال صر رراع ج رردلي‪ ،‬ف رري معن رري أن رره عن رردما تص ررطرع ثقافت رران ال تنتص ررر‬
‫إحداهما علري األخرري‪ ،‬واال مرا كران الصرراع جردليا‪ .‬ولكرن الصرراع – عنردما يبلرذ ذروتره ينبثرق عرن‬

‫‪7‬‬
‫خصررائص ثقافيررة مشررتركة بينهمررا تتطررور فتسررمح بالتعررايش السررلمي بررين الثقررافتين المصررطرعتين‪ ،‬أو‬
‫تؤسس لذلك علي أقل تقدير‪.‬‬
‫هذا يقودنا إلي القول بأن الثقافة إذا ما تالقحت مرع ثقافرة – أو ثقافرات – أخرري فإنهرا تثرري نفسرها‪.‬‬
‫وبالمثل فإن الثقافة إذا ما انغلقت علي نفسها وانكفأت فإنهرا تتحلرل ‪ ،‬وربمرا تمروت أو تحتروي وتبتلرع‬
‫من قبل ثقافة – أو ثقافات – أخري‪ .‬إذ أن اصالة الثقافات ذات صلة وشريجة بعمليرة توليرد السرلطة‬
‫‪ ،‬ومرن ثررم الرردفع بأبنائهررا الستشررعار السريادة والعمررل علرري بسررطها علرري مرا عررداهم‪ .‬وكررل ذلررك يتجلرري‬
‫في عدة قيم منها الكرامة ‪،‬العزة ‪...‬الخ‪.‬‬
‫أن هررذا الصرراع ربمررا نجررم عنرره صرردام دمرروي كمررا هررو الحررال بررين مجموعررة مررن قبائلنررا فرري السررودان‬
‫لرردي نقرراط التمرراس واإلحتكرراك القبلرري‪ .‬بيررد أن هررذا الصررراع ثقررافي ألنرره يرردور حررول النفرروذ‪ ،‬السررلطة‬
‫والسيادة‪ .‬ثم أنه سيمهد إلي تالقح ثقافي‪ ،‬األمر الذي سيغني ويثري كال الثقافتين معاً‪ .‬ومرا كرل هرذا‬
‫إال ألن طبيعة الصراع الثقرافي فري السرودان جدليرة‪ ،‬لرن تنتصرر فيره ثقافرة علري أخرري‪ .‬كمرا سرتنبثق‬
‫عررن كررل هررذا قواسررم مشررتركة تجعررل مررن الثقاف رات المصررطرعة أكثررر أصررالة‪ .‬ولكررن أيررن هرري الثقافررة‬
‫الثالثررة المتولرردة جرردلياً ‪،‬والترري يفترررض فيهررا أنهررا سررتدفع بالثقررافتين المتصررارعتين إلرري التعررايش بررال‬
‫تناقض؟‬
‫هنا نقطة البد من إجالئها!‬
‫ترتقي الثقافة باإلنسان ‪،‬وفي مضمار هرذا الترقري تتولرد المجرردات مرن المحسوسرات‪ ،‬ثرم تتبلرور هرذه‬
‫المجردات في مجموعة مرن القريم الثقافيرة‪ .‬هرذه القريم – رغرم كرون البشررية قرد تواضرعت عليهرا – إال‬
‫أن كرل مجتمرع ينمراز فيهررا‪ ،‬جرراء تلوينهرا – ماديررا ومعنويرا – بلونيرة يتصررف بهرا دون انخررين‪ .‬كمررا‬
‫إن السررلطة الممارسررة بأنواعهررا داخررل هررذا المجتمررع تت روازن فرري عمليررة االجت ررار الثقررافي لهررذه القرريم‪،‬‬
‫األمررر الررذي تنررتج عنرره درجررة ملحوظررة مررن التماسررك الثقررافي ‪ ،‬وهررذا برردوره يررؤدي إلرري إحسرراس الفرررد‬
‫بانتمائرره إلرري هررذا المجتمررع دون المجتمعررات األخررري‪ .‬هررذا اإلنتمرراء – وان يكررن ثقافيررا‪ -‬إال أنرره يررتم‬
‫إسقاطه علي األرض والعرق – أي اللون ‪ ،‬أي علي المحسوسات‪.‬‬
‫وهنا تكمن النقطرة التري وددنرا إجالءهرا‪ :‬أن الثقافرة بهرذه الكيفيرة‪ ،‬تخرتط لهرا حردودا معنويةرر‪ ،‬تردعمها‬
‫ب ررأخري مادي ررة تكم ررن ف رري اللغ ررة‪ ،‬الل ررون‪ ،‬ال ررزي ‪ ،‬األرض‪ ....‬ال ررخ‪ .‬وانم ررا م ررن خ ررالل ه ررذه الح رردود‬
‫‪ Boundaries‬يحس اإلنسان باإلنتماء‪.‬‬
‫أن هذه العمليرة تسرمي ‪ :‬األيردولوجيا‪ .‬وهرذا مصرطلح يسرتحق منرا قلريالً مرن الشررح حتري يتطرابق مرع‬
‫ما قدمنا من آراء‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫األيدولوجيا‪ ،‬والهوية واإلنتماء‪:‬‬
‫يفهم الكثيرون كلمة (أيدولوجيا) علي انها تعني المرذاهب الفكريرة الفلسرفية‪ .‬إال ان هرذه الكلمرة تعنري‬
‫في واقع الحال أكثر من ذلك‪ .‬إنها تعني جملة التصورات الجماعية التي من خاللهرا تؤكرد مجموعرة‬
‫بعينهررا تفردهررا وتميزهررا عررن غيرهررا‪ .‬عليرره ‪ ،‬فهرري تؤسررس إلتحرراد المجموعررة عبررر أبنائهررا‪ ،‬كمررا تخلررق‬
‫مررن وعرريهم بأنفسررهم تعاضرردا ‪،‬وتيسررر قنروات التواصررل بيررنهم‪ .‬كمررا تؤسررس أيضراً لالخررتالف‪ ،‬ومررن ثررم‬
‫تشرريع الصرراع ضررد الجماعررات األخررري‪ .‬إن اإلنتمرراء إلرري مجموعررة بعينهررا هررو فرري الواقررع أمررتالك‪،‬‬
‫ومررن ثررم التحرررك وفررق أيرردولوجيتها‪ .‬أن أخطررر وظررائف األيرردولوجيا هررو أنهررا تعبررر لنررا عررن الواقررع‪،‬‬
‫وتلون لنا رغباتنا وحاجتنا‪ ،‬وتشكل لنرا طموحتنرا ومصرالحنا‪ .‬أنهرا تضرفي الموضروعية والواقعيرة علري‬
‫رغباتنررا الذاتيررة‪ ،‬كمررا تسررمي وتعلرري مررن أهرردافنا الترري ربمررا تكررون متعارضررة تمام راً مررع المنطررق ‪....‬‬
‫وحتي ربما مع اإلنسرانية‪ .‬ومرا جراءت المرذاهب الفلسرفية ك الفكريرة إال تنظير اًر واعيراً لكرل هرذا‪ .‬ومرن‬
‫هنا سميت مجا اًز "أيدولوجيا"‪.‬‬
‫علي الصعيد الثقافي نجد أن األيدولوجيا من حيث هي مجموعة األفكار األساسية التي تشكل نظررة‬
‫مجتمع بعينه إلري نفسره والري العرالم مرن حولره ‪ ،‬أو مرن حيرث هري الموقرف األساسري الرذي يعبرر بره‬
‫المجتمع المعني عن إتجاهاته في الحاضر وأمانيه في المستقبل‪ ،‬نجردها تسرتبطن داخلهرا كرل آليرات‬
‫الض رربط اإلجتمر رراعي والثق ررافي بر رردءاً م ررن مسر ررتوي الحير رراة اليومي ررة والقاعدير ررة ص ررعوداً إلر رري المسر ررتوي‬
‫السياس رري والس رريادي‪ .‬به ررذا يمك ررن أن نتص ررور دور األي رردولوجيا ف رري العملي ررة الثقافي ررة‪ ،‬بل ررورة المواق ررف‬
‫اإلجتماعية سلباً وايجاباً‪.‬‬
‫ل ررذلك ت ررؤدي ح رراالت الصر رراع الثق ررافي إل رري م ررا يمك ررن أن نس ررميه ب "ف رررز الكيم رران" وه ررو م ررا يع رررف‬
‫باالس ررتقطاب األي رردولوجي‪ .‬عن رردها ي ررتم إختر رزال األي رردولوجيا ف رري جم ررل وكلم ررات بس رريطة‪ ،‬ف رري ش رركل‬
‫شررعارات ‪ ...‬هتافررات ‪ ....‬الررخ‪ ،‬وهنررا عررادة مررا تكررون الفرررص مواتيررة مررن نرراحي األيرردولوجيا السررائدة‬
‫لبروز ما يعرف بالهوس األيدولوجي ‪،‬وذلك عنردما يأخرذ عامرة النراس تلرك الشرعارات علري أنهرا جرزء‬
‫مررن منظومررة معتقررداتهم‪ ،‬دون محاكمتهررا بعقالنيررة‪ .‬فرري هررذا الحررد يكررون الرروعي غيررر المباشررر لرردي‬
‫العامررة قررد تمررت برمجترره أيرردولوجيا‪ ،‬ومررا تلررك الشررعارات إال مفرراتيح أتوماتيكيررة للبرمجررة‪ .‬أن الهرروس‬
‫األيدولوجي يمكن أن يتجلري بوصرفه شركال مرن أشركال الغوغائيرة‪ .‬تفهرم الغوغائيرة علري أنهرا التحررك‬
‫الجماهيري المشحون بالعاطفة واإلندفاع ‪،‬والذي يتصف بالنزعرة نحرو التردمير المؤسسرات والمنشر ت‬
‫واألفرراد‪ ،‬لكنهررا عنرردنا غيررر ذلررك‪ .‬الغوغائيررة هرري اإلكتفرراء بالشررعارات ‪،‬ومررن ثررم التعامررل بهررا بوصررفها‬
‫مقدمات منطقية في إدارة النقاش‪ ،‬والذي غالباً ما ينتهي في هذه الحالة بالسباب والشتائم‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫إن األيررديولوجيا بلغ ررة المررنهج الثق ررافي هرري المح ررددات السررلوكية المنبثق ررة مررن ال رروعي غيررر المباش ررر‬
‫‪،‬والخاصة بعملية ممارسة السلطة وفرض النفوذ‪.‬‬
‫ولنررا أن نتصررور وضررعا كالسررودان يررذخر بالتعرردد الثقررافي واإلثنرري ‪ ،‬وكررل مجموعررة فيرره تقررف علرري‬
‫أيدويولوجيا متعارضة مع المجموعات األخري‪.........‬‬
‫إذن ألبد من مخرج نظري ‪ ،‬ألن هذه المجتمعات ‪ ،‬ورغما عن التعدد الثقافي ومرا قرد يبردو علري أنره‬
‫تضاد أيديولوجي ‪،‬قرد تمكنرت عمليرا مرن التعرايش والرتالقح والتفاعرل‪ .‬أي أن هنالرك أيرديولوجيا كبرري‬
‫تجمعهم جميعاً‪.‬‬
‫ومررع ذلررك – عررودا لمسررألة جدليررة الثقافررة – فإنرره عنرردما يررتم التفاعررل والررتالقح الجرردلي بررين ثقررافتين‪،‬‬
‫ويبردأ بالفعررل التشركل الجنينرري الجردلي فرري شرركل ثقافرة – يمكررن وصرفها بأنهررا ثالثرة إتباعراً لالسررتطراد‬
‫المنطقي لنظرية الجدل – فإن ذلك ال يعني تذويب الحدود الثقافية بين الثقافتين‪.‬‬
‫لماذا؟‬
‫أن ه ررذه الح رردود م ررن حي ررث كونه ررا أص رربحت وعي ررا باإلنتم رراء تك ررون ق ررد اس ررتقلت – أي تأص ررلت ف رري‬
‫مكانيزمررات الرروعي باإلنتمرراء‪ .‬واذا أردت أن تستشررهد بواقعنررا الثقررافي مررا عليررك إال أن تتحررري مسررألة‬
‫الحدود الثقافية‪ .‬رغم إنتظام التالقح‪ ،‬فيما هو عليره حرال الجعليرين والشرايقية‪ .‬فهرم ينتمرون إلري ثقافرة‬
‫وأحدة أصال‪ ،‬ولكن رغم ذلرك أختطروا لهرم حردوداً تميرزهم عرن بعضرهم الربعض ‪.‬ومرن خرالل كرل هرذا‬
‫يتجلي تجانس أنماط السلوك الثقافي في مؤداها من حيث الفعل والتفاعرل واإلنفعرال‪ .‬ويرتم استشرعار‬
‫هررذا التجررانس فرري مسررتوي الرروعي المباشررر‪ ،‬وهررذا برردوره مسررتمد مررن الرروعي غيررر المباشررر‪ ،‬أي تلررك‬
‫المحددات الثقافية الضابطة والمشكلة للسلوك والتري ينشرا بهرا الفررد أثنراء عمليرة التنشرئة اإلجتماعيرة‬
‫وتقبع في الالشعور‪.‬‬
‫أذن ‪ ،‬لكرل هررذا جرراء وصرفنا لررذلك المتولررد الجردلي علرري أنرره قواسرم مشررتركة‪ .‬وهرري – إذن – سررتلعب‬
‫دورها في كال الثقافتين لخلرق وتكرريس ذلرك التجرانس والتماسرك ‪ ،‬ومرن ثرم اإلحسراس باإلنتمراء‪ .‬كمرا‬
‫أن هذا سوف يتجلي من خالل أجيال جديدة صاعدة في كال الكيانين المتصارعين ثقافياً‪.‬‬
‫ماذا يعني كل هذا؟‬
‫أنه يعني أن جيالً جديداً من الثقافة (أ) ‪ ،‬يوازيه جيل جديد مرن الثقافرة (ب) يكونران قرد تشرربا برالقيم‬
‫الثقافية المشتركة (ج) مع تلوين كل واحد لها بلونيتره الخاصرة ‪ ،‬األمرر الرذي ينبغري أن تخلرق فيهمرا‬
‫هذه العملية درجة من التماسرك والتجرانس ‪ ،‬ومرن ثرم اإلنتمراء لبعضرهما الربعض‪ ،‬دون أن يعنري هرذا‬
‫تذويب أحدهما لآلخر ‪ ،‬أو حتي دون إلغاء الحدود الثقافية الفارقة بينها بالضرورة‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫تشكل المواقف النفسية السلبية‪:‬‬
‫إذا من لوازم الصراع الثقافي الوعي بالفروقات التي أوضحناها – والتي غالبا ما يتم إسقاطها عرقيا‬
‫– فإنه ينشأ جراء مباشرة الصراع موقف نفسي ال يتصف باإليجابية‪ .‬بممعني آخرر ‪ ،‬أن الثقافرة (أ)‬
‫عنردما إصررطرعت وتالقحررت مررع الثقافرة (ب) ‪ ،‬لررم يكررن ذلررك عمليرة وديررة وحبيررة‪ .‬أن الرردماء لتسررفك‪،‬‬
‫وان األرواح لتزه ررق جر رراء مباشر ررة الصر رراع‪ .‬وربم ررا يباش ررر الصر رراع بتحري ررك م ررن المواق ررف النفس ررية‬
‫السالبة‪.‬‬
‫ولنضرررب أمثلررة حيررة مررن واقررع حلبررة الصرراع الثقررافي فرري السررودان‪ ،‬فنجررد هررذه المواقررف النفسررية فرري‬
‫أدق صورها بين من هو شايقي‪ ،‬جعلي‪ ،‬أو رباطابي من قصص ونكات يطلقها الواحرد علري االخرر‬
‫همزا‪ ،‬ولمزا‪ ،‬بالرغم من أن ثقافتهم في الواقع ما هي إال ثقافرة واحردة‪ .‬أمرا إذا أردنرا أن نضررب مرثال‬
‫للصرورة فري أغلرظ حاالتهررا فردوننا المواقرف النفسررية المشركلة تجراه الصرراع الثقررافي الردائر برين البقررارة‬
‫العرررب والرردينكا‪ ،‬رغمررا عررن أن القواسررم المشررتركة "المتولرردة جرردليا" بيررنهم كبي ررة للدرجررة الترري تجعلهررم‬
‫حقيقة ينتمون لبعضهم البعض‪ ،‬بل يستشعرون امر انتمرائهم هرذا – لكرن خرارج حلبرة الصرراع‪ .‬وفري‬
‫هذا حديث سيأتي الحقا‪.‬‬
‫إشكالية الوعي والمواقف النفسية‪:‬‬
‫إذا كانت ثقافة الدينكا والميسيرية الحمر ‪ ،‬مثال‪ ،‬تجتمعران علري قواسرم مشرتركة ‪ ،‬ولهرا يعرود الفضرل‬
‫في صياغة شخصية الفرد في كال الكيرانين‪ ،‬فهرذا يعنري أن ينبغري أن يكرون الرود مشرهوداً بره عنردما‬
‫يتقابل الدينكاوي مع الميسري علي ضفاف أبيري‪ .‬ولكرن مرا هرو مشرهود بره – علري العكرس مرن ذلرك‬
‫– أن الررود بينهمررا مفقررود‪ .‬أن حررل هررذه المعضررلة بسرريط هررو ان اإلحسرراس بانتمائهمررا إلرري بعضررهما‬
‫الرربعض يقبررع فرري أعمرراق تالفيررف الرروعي غيررر المباشررر‪ .‬هررذا بينمررا حيررز الرروعي المباشررر (التفكيررر‬
‫العرادي) ؟؟ مشررغول بررالمواقف النفسررية التري تشرركلت جرراء مباشررة الصرراع كمرا ؟؟؟؟؟ ويمكررن شرررح‬
‫المواقررف النفسررية علرري انهررا مجمررل اإلحسرراس غيررر ؟؟؟؟ الترري يحررس بهررا الرردينكاوي تجرراه السرريري –‬
‫وكذلك العكس – إذ أنره يرري فيره قتلرة أخوتره وبراقي أفرراد اهلره وعشريرته الرذين فقردهم فري ؟؟ القبيلرة‬
‫التي جرت بينهم ‪.‬‬
‫نخلرص مرن هرذا إلري أن المواقرف النفسرية السرالبة تظرل تشرغل حيرز الروعي المباشرر فري الفررد‪ ،‬بينمررا‬
‫الثقافة المتولردة جردلياً وكنتيجرة حتميرة ؟؟؟؟؟؟؟؟ الثقرافي‪ ،‬والتري تجمرع الثقرافتين برال تنراقض‪ ،‬ويكرون‬
‫لها القدح المعلي فري صرياغة شخصرية األجيرال الصراعدة فري كرال الكيرانين‪ ،‬فرإن علقتهرا تتخلرق فري‬
‫أعمرراق الرروعي غيررر المباشررر‪ .‬فمررن خررالل تعاقررب األجيررال واسررتم اررية الص رراع والررتالقح يررتم تشرررب‬

‫‪11‬‬
‫السررمات ذات األصررالة فرري كررال الكيرراين‪ .‬كررل هررذا يررتم فرري مسررتوي الرروعي غيررر المباشررر‪ .‬وبررذا تبرردأ‬
‫الثقافرة الثالثرة فري التشركل حاملررة فري داخلهرا عوامرل تناقضرها الخاصررة بهرا‪ .‬وهكرذا دواليرك فري حلقررة‬
‫جدلية من التطور المستمر‪.‬‬
‫خطوة إلي األمام ‪ ..‬التمم والتسام‪::‬‬
‫مررع تعاقررب األجيررال ‪،‬وتأصررل القرريم فرري الثقافررات المصررطرعة تتحرررك جرثومررة اإلنتمرراء المركررب الترري‬
‫تشركلت فرري عمررق الرروعي‪ ،‬جاهرردة كيمررا ترزيح المواقررف النفسررية المشرركلة‪ ،‬حترري تسررتأثر بحيررز الرروعي‬
‫المباشررر‪ ،‬ومررا ذلررك بهررين‪ .‬ويتجلرري أول مررا يتجلرري هررذا التيررار فرري سررلوك قررائم علرري تحمررل األخ ررين‬
‫(الررذين ينتمررون إلرري الكيرران األخررر)‪ .‬ثررم إن التحمررل هررذا ال يقررف عنررد هررذا فحسررب ‪ ،‬بررل يتبلررور فرري‬
‫سلوك قائم علي التسرامح كسرلوك ثقرافي تجراه الثقافرات األخرري ‪ ،‬وذلرك فري مواجهرة الرروح العدوانيرة‬
‫لدي األجيال السابقة‪.‬‬
‫أن السلوك التسامحي في ثقافة السرودانيين بكرل مرا عررف عرنهم مرن غلظرة وشردة فري اإلبراء ورفرض‬
‫الضرريم‪ ،‬ال نجررد لرره مرجع راً نعررزوه لرره عبررر هررذه الخصوصررية الناجمررة عررن جدليررة الص رراع والررتالقح‬
‫الثقافي‪.‬‬
‫اإلنتماء ‪:‬بسيط ومركب‪:‬‬
‫اإلنتمرراء البسرريط هررو أن يعتررز الفرررد بسررودانيته مررن خررالل إعت ر اززه بقبيلترره‪ ،‬أي أن يختررزل السررودان‬
‫"الكرل المركرب" فري قبيلترره "الوحردة البسرريطة"‪ ،‬وبرذلك يصرربح السرودان هررو قبيلتره‪ ،‬وتصرربح قبيلتره هرري‬
‫السودان‪ ،‬وكل شخص ال ينتمي لقبيلتره فهرو ال ينتمري للسرودان ‪ ،‬وبالترالي فرإن أبنراء البلرد الحقيقيرين‬
‫هررم أبنرراء قبيلترره‪ .‬إن إشرركالية الهويررة واإلنتمرراء فرري السررودان تكمررن فرري أن هررذا الررنمط مررن اإلنتمرراء‬
‫البسرريط ‪،‬مررع اخررتالف درجاترره مررن جيررل لجيررل ‪ ،‬ومررن فرررد إلرري آخررر‪ ،‬هررو الررذي يشرركل حيررز الرروعي‬
‫المباشر‪ .‬وما نري مفهوم "القبيلة" البغيض إال نابعا من هذا في سبيل اإلدانة والررفض‪ .‬أمرا اإلنتمراء‬
‫المركب فهو ان يعترز الفررد منرا بإنتمائره البسريط (القبيلرة) مرن خرالل إعتر اززه بإنتمائره للسرودان ككرل‪،‬‬
‫أي اعت ر اززه بررالتنوع الثقررافي الررذي ينررتظم الخريطررة اإلجتماعيررة للسررودان‪ .‬إننررا إذ نعتررز بشخصررياتنا ‪،‬‬
‫علينرا أن نرردرك أن هررذه الصرياغة الفريرردة للشخصررية السرودانية ككررل ‪ ،‬إنمررا يعرود الفضررل فيهررا للتنرروع‬
‫الثقررافي الررذي أترراح لنررا الررتالقح الثقررافي والتفاعررل‪ ،‬وهررذا برردوره أنررتج لنررا قيم راً رفيعررة تتسررم باألصررالة‬
‫والرقي‪.‬‬
‫علينا أن نشير هنا إلري أن عمليرة اإلنتمراء المركرب ال تسرتدعي برالمرء التبررؤ مرن القبيلرة ‪ ،‬ومرا هرذا‬
‫إال ألن "القبيلررة " فرري منظورنررا إن هرري إال منظومررة ثقافيررة مررن واجررب كررل منررا أن يحررافظ عليهررا وأن‬

‫‪12‬‬
‫يعتز بها‪ .‬إن ما نستشرفه هو أن يأتي اإلعتزاز بها علي إنها جزء من لوحة تشركيلية رائعرة ال تتجر أز‬
‫هي السودان‪.‬‬
‫نخررتم حررديثنا هنررا بقولنررا إن اإلنتمرراء المركررب يشررغل حيررز الرروعي غيررر المباشررر‪ -‬أي الالشررعور –‬
‫ويجاهد كيما يرتفع إلي مستوي الوعي المباشر‪.‬‬
‫كمررا نضرريف بررأن المواقررف النفسررية المشرركلة تجرراه الصرراع هرري الترري تكرررس اإلنتمرراء البسرريط وتشررغل‬
‫معرره حيررز الرروعي المباشررر‪ ،‬كمررا إنهررا تمثررل أكبررر عررائق أمررام مسرريرة اإلنتمرراء المركررب مررن الالشررعور‬
‫إلي الشعور‪.‬‬
‫الذاتية السودانية‪ :‬ف ارس خارج الملبة‪:‬‬
‫يالح ررظ الكثي رررون أن ال رردينكا (نق رروق) – أي دينك ررا أبي رري – والمس رريرية إذا م ررا التقر روا خ ررارج أوط ررانهم‬
‫القبليررة – إذا مررا التقروا فرري الخرطرروم مررثال – يجلسررون سررويا بررل ويطمئنررون إلرري بعضررهم ويستشررعرون‬
‫القواسررم المشررتركة‪ .‬كمررا يالحررظ أن نفررس هرؤالء األشررخاص مررن الكيررانين (الررذين التقروا فرري العاصررمة)‬
‫إذا ما عادوا إلي مواطنهم والتقوا هناك – في أبيي مرثال – فرإن البغضراء والشرحناء سررعان مرا يشرتد‬
‫أوارها بينهم ‪ ،‬وربما اقتتلوا‪.‬‬
‫فكيف نفهم هذا؟‬
‫المسألة بسيطة من حيث شرحها‪ ،‬مركبة من حيث تكوينها‪.‬‬
‫أن أبيرري جغرافيررا هرري حلبررة الص رراع الثقررافي الررذي ينررتظم الكيررانين‪ .‬ونتيجررة لمباش ررة الص رراع تشررتد‬
‫المواقف النفسية التي أفضنا في أمرها ‪ ،‬ولكن الخرطوم – فري المقابرل – ليسرت حلبرة صرراع‪ .‬عليره‬
‫فإن الكيانين ال يباشرون صراعهما الثقافي في الخرطوم‪ .‬ولهرذا فرإن المواقرف النفسرية يضرعف أثرهرا‬
‫وقررد تنتفرري‪ .‬بررالطبع يصرردر السررلوك التسررامحي برردءاً فرري أطررر فرديررة ضرريقة‪ .‬إذ يمكررن أن نالحررظ أن‬
‫الكيانين إذا ما تجراوروا فري مدينرة كوسرتي‪ .‬لكرن أهرم مرا فري األمرر هرو ان السرلوك التسرامحي عبرارة‬
‫عن دائرة مستمرة اإلندياح‪.‬‬
‫وماذا يعني هذا؟‬
‫أنه يعني أن حيز الوعي المباشر – الذي كانت تشغله المواقف النفسية – قد أصبح شاغ اًر ‪ .‬وعليره‬
‫فررإن الطريررق تكررون سررالكة لجرثومررة الرروعي باإلنتمرراء المركررب – الترري ذكرنررا أنهررا تقبررع فرري أعمرراق‬
‫الالشعور (الوعي غير المباشر) وتجاهد كيما تحتل حيرز الروعي المباشرر – كيمرا تفررض نفسرها فري‬
‫مستوي الوعي والشعور المباشرين‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫إن هررذه النقلررة لررم يحررس بهررا أنرراس كمررا أحررس بهررا المغتربررون مررن أبنرراء السررودان الررذين سرراحوا فرري‬
‫األرض يبتغررون الرررزق‪ .‬فمررن المعررروف عررنهم أنهررم متماسرركون كسررودانيين بصرررف النظررر عررن اللررون‬
‫أو القبيلة ‪ .‬أن تماسكهم هذا وتعاضدهم خارج السودان (حلبة الصراع الثقافي)‪ ،‬وشرعورهم بانتمرائهم‬
‫لبعضهم البعض‪ ،‬يتحقق بصرف النظر عرن كرون الواحرد مرنهم مرن الجنروب أو مرن الشرمال ‪ ...‬مرن‬
‫الغرررب أو مررن الشرررق أو الوسررط ‪ ....‬بصرررف النظررر عررن كررون الواحررد مررنهم مررن الشررلك أو الشررايقية‬
‫‪ .......‬الفور أو النوبة‪ .‬إن كل هذا ال يمكن أن يفهم إال من خرالل النظرر إلريهم علري انهرم اكتشرفوا‬
‫ذواتهم علي حقيقتها ‪ ،‬أي أنهم يشكلون هويرة واحردة رغرم تبراين السرحنات ‪،‬وتعردد اللغرات والثقافرات‪.‬‬
‫ولذلك أحسوا بأنهم أهل وأسرة واحدة‪.‬‬
‫هررذه هرري الذاتيررة السررودانية‪ .‬أنهررا جرثومررة شررعور اإلنسرران السرروداني بإنتمائرره لآلخ ررين الررذين يحررس‬
‫باختالفهم عنه‪ ،‬وعردم إنتمرائهم إليره فري حلبرة الصرراع‪ .‬ولرذلك ينبثرق الروعي بالذاتيرة السرودانية دائمرا‬
‫خارج حلبة الصراع‪ .‬وال يظنن أحد أننا نرمي إلي القول بالذاتيرة السرودانية مرتبطرة بخرارج السرودان‪،‬‬
‫بل كل ما نريد قوله هو أن الوعي بها ينبثق دائماً خارج سياق ‪ context‬الثقافة محليرا وخرارج حلبرة‬
‫إصطراعها الطبيعي‪ .‬بهذا نظن أن رؤيتنا للقومية السودانية تكون قد اتضحت‪.‬‬
‫القومية السودانية ‪:‬فارس داخل الحلبة‪:‬‬
‫هرري – بإختصررار – استشررعار اإلنتمرراء للكررل المركررب وتجرراوز ذلررك البسرريط‪ ،‬داخررل حلبررة الص رراع‬
‫الثقافي‪ ..‬أي داخل السودان (بالنسبة للمغتربين) ‪ ،‬وداخل مدينة أبيري (بالنسربة للردينكا والميسررية) ‪.‬‬
‫هرري أن يعتررز المرررء مررن بسررودانيته مررن خررالل إعتر اززه بررالتنوع الثقررافي‪ ،‬واإلحسرراس بفضررل هررذا التنرروع‬
‫في صياغة شخصياتنا بالكيفية التي هي عليهرا األن ‪ .....‬وهري صرياغة نعترز بهرا أيمرا إعترزاز‪ .‬أن‬
‫هذا صبح‪ ،‬وان تنفس إال أنا لم نستشررف بعرد شمسره بعرد‪ .‬فررواد القوميرة السرودانية مرازالوا فري أطرر‬
‫فئويررة ضرريقة‪ .‬لررذلك فررإن القوميررة السررودانية – وفررق مفهومنررا هررذا – لررم تتحررول بعررد إلرري حركررة ثقافيررة‬
‫إجتماعية طاغية‪ .‬وان كان هذا ما ندفع إليه بمثل كتاباتنا هرذي‪ ،‬بيرد أنرا يجرب إال نرذهل عرن حقيقرة‬
‫أن قروانين الصرراع الثقرافي فري بالدنرا هري المحررك األسرراي الرذي يردفع بنرا نحرو ذلرك طوعراً أو كرهررا‬
‫‪ ...‬فمن ذلك الخاسر الذي يريد أن يسبح عكس التيار؟!‬
‫إن القومية السودانية – بمفهومنا هذا – أن هي إال ارتفاع من دركات العرقية إلي درجرات الحضرارة‬
‫الناجمرة عررن الررتالقح الثقرافي‪ .‬إن المنظررور الفكررري الرذي يررتم برره التعبيرر عررن مفهرروم القوميرة هررذا فرري‬
‫الفكررر السرروداني السررائد هررو "الوحرردة فرري التنرروع" وال مررن مأخررذ عليرره سرروي أنرره كرران يعرروزه التأسرريس‬
‫التنظيري الفلسفي‪ ،‬األمر الذي عرضه لالستهالك السياسي إلي حد اإلبتذال‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫أن هررذا يعنرري أن اإلنصررهار لرريس مررن لروازم الوحرردة‪ ،‬كمررا ان اإلخررتالف والتنرروع لرريس مررن نواقضررها‪.‬‬
‫واألن فرري أخريررات القرررن العشررين تطرررح لنررا أوروبررا مثرراالً جرردير باإلعتبررار فرري هررذا الشررأن‪ ،‬أال وهررو‬
‫"الوحدة األوروبية" التي لم تقم علي تذويب دولة ألخري ‪ ،‬او ترجيح لغة علي حساب لغة أخري‪.‬‬
‫هل القومية هي تذويب للقبيلة؟‬
‫ذكرنا من قبل أن اإلنكفاء واإلنغالق في اإلنتماء البسيط (اإلنتماء للقبيلة ) ومن ثم اختزال السرودان‬
‫كله في هذا اإلنتماء‪ ،‬يفضي بنا إلي عدم تحمل األخرين (أبناء القبائرل األخرري) والنظرر إلريهم علري‬
‫أنهررم دوننررا مسررتوي ‪ ،‬وبالتررالي التحامررل علرريهم مترري مررا احتككنررا بهررم‪ .‬ونوهنررا أن مفهرروم القبيلررة إنمررا‬
‫يعنرري هررذا‪ .‬والواقررع أن غالبيررة المثقفررين السررودانيين إنمررا كررانوا يعنررون هررذا عنرردما عمل روا فرري محاربررة‬
‫اإلنتماء القبلي‪ .‬ولكن هذا التيار اشتط عندما حارب القبيلة من حيث هي كينونة ثقافية ‪ .‬وعلري كرل‬
‫فإن غالبية المثقفين الذين اشتطوا في محاربة القبيلة علي انها أقوي عوامل الفرقة‪ ،‬عادوا مررة أخرري‬
‫– فيما ظنوه هم انفسهم‪ ،‬وان لم يعترفوا بره‪ ،‬وظنره أخررون إنتكاسرة – عرادوا إلري االعتصرام بقبرائلهم‬
‫يستمدون منها احساسهم بالهوية واإلنتمراء‪ .‬وأصربح فري حكرم العرادي أن ترري الشراب وهرو فري سرورة‬
‫شرربابه‪ ،‬يثررور علرري القبيلررة حترري إذا مررا تقرردمت برره الحيرراة عرراد مستعصررما بقلعتهررا‪ .‬وقررد نجررم عررن كررل‬
‫هذا مفهوم خاطيء مؤداه أن القومية ضد القبيلة ‪ ،‬كما أن طريق القبيلة ال يفضي إلي القومية‪.‬‬
‫ولكننا نري غير ذلك‪.‬‬
‫أننرا نرزعم أن اإلعترزاز بالقبيلرة – علري أنهرا منظومررة ثقافيرة ‪ ،‬ومرن التمسرك بكرل الممارسرات الثقافيررة‬
‫الخاصررة بهررا والمنحصررة داخررل حرردودها – ال يتعررارض البتررة مررع استشررعار اإلنتمرراء للسررودان ككررل‪.‬‬
‫أي أنرره بلغررة بحثنررا هررذا – ال تعررارض بررين اإلنتمرراء البسرريط (القبيلررة) واإلنتمرراء المركررب (السررودان‬
‫ككل)‪ .‬إذ أن اإلنتماء المركب ما هرو إال نراتج تفراعالت مجمروع اإلنتمراءات البسريطة‪ .‬ونزيرد فنقرول‪:‬‬
‫إن مرن يحرارب القبيلرة ال يمكررن أن يكرون برالمرة قوميراً ألنرره فري واقرع األمرر إنمررا يحرارب القوميرة فرري‬
‫مدخالت إنتاجها‪.‬‬
‫ولكن أين تكمن المشكلة؟‬
‫إنها تكمرن فري أولئرك الرذين ينكفئرون فري إنتمرائهم البسريط (القبيلرة) ويكتفرون برذلك‪ ،‬ومرن ثرم يختزلرون‬
‫السودان كله في قبيلتهم‪ .‬إن العالقة بين اإلنتماء البسريط والمركرب‪ ،‬هري عالقرة تجراوز‪ .‬بمعنري أنرك‬
‫عندما ترتفع من إنتمائك البسيط إلي اإلنتماء المركب ‪،‬ال تفعل ذلك تبرؤاً من قبيلترك وتخليراً عنهرا‪،‬‬
‫ولكنررك إنمررا تفعررل ذلررك ألن اإلنتمرراء البسرريط فرري داخلرره دونمررا تنرراقض‪ ،‬ذلررك بررأن يررتم النظررر إل رري‬
‫السودان علري أنره لوحرة تشركيلية رائعرة‪ ،‬كرل منرا شرارك فيهرا بفرشراته‪ .‬عليره‪ ،‬عنردما يقرف الواحرد منرا‬

‫‪15‬‬
‫أمام هذه اللوحة معجباً ومعت اًز باسهامه‪ ،‬ال يفعل ذلك إال من خالل إعت اززه الكبير باللوحة ككرل‪ .‬إن‬
‫اإلعتزاز باللوحة ككل يستبطن في داخل اإلعترزاز بمسراهمات انخررين جميعرا دون فررز‪ .‬وهرذه هري‬
‫القومية السودانية ‪ ،‬وهكذا يتم اإلعتزاز بالقبيلة ال محاربتها أو تذويبها‪.‬‬
‫ولكن كيف يتم هذا التذويب؟‬
‫هذا هو الجانب انخر من المشكلة‪ .‬إن القومية السودانية إن هي إال نهر كبير ‪ ،‬ومرا هرذه الثقافرات‬
‫إال روافررده‪ .‬ثررم إن الي مررن هررذه الروافررد لونيترره الخاصررة برره‪ .‬كمررا إنهررا ليسررت فرري حالررة صرراع دائررم‪،‬‬
‫كل منها يسعي إلي تشكيل انخر بلونيتره إن النيرل األبريض يسرعي جاهرداً كيمرا يشركل النيرل األزرق‬
‫بلونيته البيضاء حتي لو عاد به القهقري إلي منبعه ببحيرة تانا – ولكن هيهات‪ .‬ومع ذلك فمرا النيرل‬
‫الكبير إال جامع لونيهما‪.‬‬
‫فررإذا نظرنررا إلرري الثقافررة مررن خررالل هررذا المنظررار النيلرري‪ ،‬لتبررين لنررا أن كررل ثقافررة ( ارفررد) تسررعي كيمررا‬
‫تشرركل الثقافررات األخررري بلونيتهررا هرري‪ .‬ومررا هرري لونيتهررا؟ إنهررا العررادات والتقاليررد ‪ ،‬األغرراني ‪ ،‬األمثررال‬
‫الشعبية ‪ ،‬الحكايات واألساطير المعتقدات‪ ،‬طريقة اللبس والمسركن ‪ .....‬واللغرة ‪ ....‬الرخ‪ .‬إذن فهرذا‬
‫هو الصراع الثقافي ‪ ...‬كما إن هذا كله يحدث في السودان‪ .‬وهو مرن قبيرل "الصرراع حرول السرلطة"‬
‫وهررو شرريء صررحي ‪ .‬إذن فمررا هررو الشرريء غيررر الصررحي؟ هررو أن تسررخر الدولررة – كررأرقي مؤسسررة‬
‫تبلررورت ج رراء الص رراع حررول السررلطة – لنص ررة ارفررد علرري آخررر‪ .‬أنرره القهررر ‪ ..‬القهررر الثقررافي‪ .‬وهررذا‬
‫أيضررا موجررود فرري السررودان‪ .‬مررثال ‪ ...‬عنرردما يررتم قهررر الهدنرردوي ثقافيررا‪ ،‬فهررذا يعنرري أن يررتم تررذويب‬
‫ثقافترره فرري ثقافررة أخررري‪ .‬كيررف؟ ‪ ...‬بررأن يتخلرري عررن الطريقررة الترري يلرربس بهررا مالبسرره ‪ ،‬ويمشررط بهررا‬
‫شررعره‪ ...‬والترري يسرركن بهررا‪ ،‬والطريقررة الترري يعرريش بهررا عامررة ‪ ....‬ثررم أن تخلرري عررن اللغررة الترري يررتكلم‬
‫به ررا ‪ .‬وأن يتخل رري ع ررن األغ رراني الش ررعبية واألمث ررال الخاص ررة بثقاف ررة الهدن رردوة ‪ ...‬كم ررا يتخل رري ع ررن‬
‫الحكايات واألساطير الشعبية التي كانت حبوبته تحكيها له في صغره ‪ ...‬وأال يحكيهرا ألطفالره ‪....‬‬
‫الخ‪.‬‬
‫إذا كران سرريتخلي عررن كررل ذلررك ‪،‬فإنرره بررالطبع سرروف يسررتبدل كررل ذلررك بمررا يوازيرره فرري الثقافررة األخررري‬
‫الت ري قهرترره وأذابترره فيهررا‪ .‬بمعنرري آخررر ‪ ،‬إذا كرران قررد تخلرري عررن لغترره فإنرره لررن يتواصررل مررع النرراس‬
‫باإلشررارة ‪ ،‬ولكررن بلغررة بديلررة هرري بررالطبع لغررة الثقافررة الترري قهرترره‪ .‬بعررد هررذا نسررتطيع أن نتحرردث عررن‬
‫كيفية تذويب القبيلة من خالل تزييف القومية‪.‬‬
‫القومية السودانية الزائفة‪:‬‬

‫‪16‬‬
‫إنه ررا ال رردعوة إل رري توحي ررد جمي ررع الس ررودانيين وا ازل ررة ك ررل الفروق ررات واإلختالف ررات الناجم ررة ع ررن التع رردد‬
‫الثقافي‪ ،‬من خالل إعادة إنتاجهم ثقافيا مرة أخرري‪ .‬بمعنري آخرر‪ ،‬هرو ان يرتم تغليرب لونيرة ارفرد علري‬
‫جميع الروافد الخري – بمعني آخر أيضا ‪ ،‬هرو أال يكرون النيرل الكبيرر هرو جرامع األزرق واألبريض‪،‬‬
‫بررل يكررون هررو األبرريض وال شرريء س رواه ‪ ،‬ولكررن هيهررات‪ .‬ان المنظررور الفكررري الشررائع الررذي يررتم برره‬
‫التعبيررر عررن هررذا اإلتجرراه هررو مررا يعرررف بمنظررور "بوتقررة اإلنصررهار" ونسررميه نحررن ميكانيزمررات إعررادة‬
‫إنتاج ثقافات الهامش داخل المركز‪ ،‬انها انلية التي انتظمت السودان منذ تكوين دولرة الفرونج‪ ،‬ولرذا‬
‫جاز أن يطلق عليها "نموذج إنسان سنار"‪.‬‬
‫إن اإلنصهار أو ما يمكن أن يؤخذ علري أنره إنسرجام وعردم تبراين أو تعردد ثقرافي ‪ ،‬لريس مرن شرروط‬
‫الوحدة القومية التي تقوم علي أساساً علي قيم و حقوق المواطنة‪ .‬ولنأخذ من الصومال مثراالً لرذلك‪،‬‬
‫فهو شعب واحد ‪ ،‬وتاريخ واحد‪ ،‬ولريس بره أي شركل مرن أشركال التعردد والتبراين الثقرافي كالرذي عليره‬
‫الحررال بالسررودان‪ .‬ولكررن ‪ ،‬كررل هررذا لررم يحررل دون اإلحترراب وتفكررك الوحرردة الوطنيررة والسياسررية لدرجررة‬
‫إنهيار مؤسسة الدولة ‪.Collapse of State‬‬
‫إن عمليررة إعررادة افنترراج هررذه ليسررت عفويررة ‪ ،‬وان تبرردو كررذلك‪ .‬إنهررا الص رراع حررول السررلطة ‪ ،‬وذلررك‬
‫عندما تتحول المواقف الثقافية – من لغة وعادات ‪ ....‬الخ – إلي مواقف أيديولوجيرة ‪ ....‬ومرن ثرم‬
‫أسلحة يحسم بها الصراع حول السلطة ‪ ،‬وسوف نفصل في هذا الحقاً‪.‬‬
‫احادية اللغة أم تعددية اللغات‪:‬‬
‫اللغات ليست مجرد عالمات صوتية للتواصل ‪،‬بل هي أكثرر مرن ذلرك ‪ ،‬إنهرا قوالرب للتفكيرر‪ .‬عنردما‬
‫بدأنا تعلم اللغة اإلنكليزية ‪ ،‬كان المعلمون يطلبون من أن نفكر باإلنكليزي حتي نجود تحدثنا بها‪.‬‬
‫عليرره كلمررا تعررددت وتنوعررت قوالررب وأطررر التفكيررر ‪ ،‬كلمررا كرران ثرراء وغنرري الفكررر‪ .‬وقررد حبررا ا األمررة‬
‫السودانية بأكثر من ‪ 400‬لغة ولهجة‪ .‬ولكن‪ ،‬نتيجة للمركزية الثقافيرة – أن لرم نقرل القهرر الثقرافي –‬
‫ونتيجررة لتسررخير مؤسسررة الدولررة لنص ررة ارفررد ثقررافي بعينرره‪ ،‬أصرربحت هررذه اللغررات تتعرررض للتالشرري‬
‫والزوال ‪ ،‬دون أن تستشعر الدولة أدني مسرئولية إزاء المتحردثين بهرذه اللغرات ‪ ،‬مرع انهرم مرن دافعري‬
‫الض ررائب الترري تنفقهررا فرري قهرررهم وتررذويب هررويتهم ‪ .‬ويتخررذ القهررر اللغرروي عرردة وسررائل ‪ .‬أول هررذه‬
‫الطرق عندما نطلق عليها لفظة (رطانة) وما الرطانة إال لغة الطير‪.‬‬
‫ثانياً ‪ :‬عندما نجانب العلمية ونخالف جميع أبجديات علم اللسانيات ‪ ،‬فنستكثر عليهرا لفظرة (لغرات)‬
‫‪ ،‬ال لشريء إال ألنهرا التكترب‪ .‬وهنررا تتبردي عمليرة العنجهررة‪ .‬إن اللغرة تصربح لغررة مرن خرالل تراكيبهررا‬
‫الداخليررة النحويررة والصرررفية والنطقيررة‪ ،‬بصرررف النظررر عمررا إذا كانررت مكتوبررة أم ال‪ .‬فاللغررة العربيررة‬

‫‪17‬‬
‫نفسها بالنسبة للرشايدي األمي لغة غير مكتوبة ‪ .‬أما اللهجة فهي تحوالت غير أساسية داخل اللغرة‬
‫نفسها‪ ،‬مثل اللهجة المصرية‪ ،‬الشامية‪ ،‬الخليجية داخل جسم اللغة العربية‪.‬‬
‫ويتبرردي القهررر الثقررافي أكثررر عنرردما يررتم تعريررب التعلرريم‪ ،‬بحجررة ان اللغررة العربيررة هرري تحقيررق ألصررالة‬
‫الس ررودانيين أوال‪ ،‬وألن التعل رريم باللغ ررة األم م ررن ش ررأنه أن ي ررؤدي إل رري تجوي ررد التحص رريل العلم رري ثانير راً‪.‬‬
‫فالحج ررة األول رري تخت ررزل ك ررل الس ررودانيين ف رري الوس ررط اإلس ررالموعربي‪ ،‬متناس ررية أن جمي ررع األطر رراف‬
‫السودانية غير عربيرة ‪ .‬أمرا الحجرة الثانيرة فتكشرف التنراقض المنهجري فيمرا يقردم مرن مسروغات ‪ .‬أن‬
‫الكثيررر مررن أطفررال السررودان يتعلمررون اللغررة العربيررة فرري المدرسررة كمررا يتعلمررون اللغررة اإلنكليزيررة‪ .‬ومررا‬
‫ذلررك إال ألنهررم يتحرردثون أصررال بلغرراتهم األم‪ ،‬الترري هرري قطع راً غيررر اللغررة العربيررة وغيررر اإلنكليزيررة ‪.‬‬
‫فمن منا يأتري ال يعلم ذلك؟ إذا كان هذا كهذا فإنه يصح من الردعي لللترزام بالحجرة الثانيرة أن يرتم‬
‫تعلرريم هرؤالء األطفررال بلغرراتهم األم بغيررة تجويررد تحصرريلهم األكرراديمي‪ .‬فرري الرررد علرري هررذا يررأتي دعرراة‬
‫القهررر اللغرروي بحجررة غريبررة مفادهررا أنرره لرريس فرري مقرردور الدولررة أن تطبررع المقررررات بجميررع اللغررات‬
‫السررودانية الترري يعجررز اللغويررون عررن حصرررها‪ .‬حسررناً إذن فهررذا سررببه اإلمكانررات فقررط‪ .‬هنررا يرراتي الرررد‬
‫بسرريطا‪ :‬لررم شرررعت الدولررة فرري تعريررب التعلرريم الجررامعي دون أن تملررك اإلمكانررات لررذلك مررن حيررث‬
‫ترجمعة المقررات‪ .‬هذا فضال عن أن الترجمرة ليسرت تأصريال البترة‪ ،‬فالتأصريل هرو أن تنرتج المعرفرة‬
‫ال ان تترجمهررا مترري فرررغ انخرررون مررن إنتاجهررا‪ .‬أننررا إذا ركبنررا الترجمررة فسرريظل قطررار التقرردم دوم راً‬
‫أمامنا نطارده دون أن نلحق به أبدا‪.‬‬
‫علرري الدولررة أن تعترررف بواجبهررا إزاء اللغررات السررودانية األخررري وحمايتهررا وتطويرهررا‪ ،‬كمررا عليهررا أن‬
‫تعترررف بررالحقوق الثقافيررة للمجوعررات السررودانية دون تحيررز‪ .‬وأوجررب هررذا الحقرروق هررو حررق التحرردث‬
‫والتعلم باللغة األم‪.‬‬
‫ففي بلد يرذخر بهرذا الثرراء العرريض مرن اللغرات‪ ،‬مرا الضررر فري أن يتخررج كرل طالرب جامعرب وهرو‬
‫يحمررل معرره دبلومررا خاصررا باحرردي اللغررات السررودانية؟ إننررا ننظررر إلرري العاميررة العربيررة بوصررفها إحرردي‬
‫اللغات السودانية ‪ ،‬فضال عن كونها لغرة التخاطرب المشرتركة‪ .‬كمرا ننظرر إلري اللغرة اإلنكليزيرة علري‬
‫أنها لغة التعليم العالي‪ ،‬وذلك حتي تتمكن األجيال السودانية الصراعدة مرن تعراطي المعرفرة العالميرة‬
‫مباشرة ودون ترجمان‪ .‬فاللغة اإلنكليزية أصبحت هي لغة العلم علي مستوي العالم أجمع‪.‬‬
‫إذا كنررا نرردعوا إلرري تخصرريص اللغررات السررودانية كمررادة إجباريررة فرري التعلرريم العررالي‪ .‬فررال أقررل مررن أن‬
‫يصربح الفولكلرور مرادة مرن مرواد الشرهادة السرودانية‪ .‬أن التحامرل الثقرافي واللغروي هرو أشربه مرا يكررون‬
‫بجدار الجليد‪،‬‬

‫‪18‬‬
‫أي حر ر اررة كفيل ررة بتذويب رره‪ .‬إن معرف ررة الس ررودانيين بعض ررهم ب رربعض ه رري الش ررمس الت رري س ررتذيب جب ررال‬
‫الجليررد وجد ارنرره الترري تفصررل بيررنهم‪ .‬وعبررر الفولكلررور سرريتعرف ناشررئة السررودان علرري مكررامن الحكمررة‬
‫والع رزة والحضررارة فرري مختلررف ثقافررات السررودان‪ ،‬وبررذلك يتكرررس اإلحسرراس باإلنتمرراء للكررل المركررب‪.‬‬
‫بهذا يكون الطالبك أو الطالبةك مهيئاً عندما يأتي إلي الجامعة علري اإلقبرال لد ارسرة اللغرة السرودانية‬
‫التي يختارها‪.‬‬
‫إن هذا يقتضي بالضرورة أن تتحرر أجهزة اإلعالم – أنواعره – مرن أسرر سياسرة األحاديرة الثقافيرة‪،‬‬
‫لتضرخ موادهرا بجميرع اللغرات السرودانية‪ .‬بهرذا تكرون هنراك قنروات تلفزيونيرة واذاعيرة بالعديرد مرن هررذا‬
‫اللغر ررات‪ ،‬كمر ررا تكر ررون هنالر ررك العدير ررد مر ررن اإلصر رردارات الصر ررحفية ‪،‬الكتابير ررة عامر ررة‪ ،‬خر ررالف العربير ررة‬
‫واإلنكليزيررة‪ .‬إن هررذا األمررر مررن شررأنه أن يثررري الحركررة الثقافيررة والفكريررة السررودانية‪ ،‬إذ سيشررارك فيهررا‬
‫جميررع السررودانيين بمختلررف مشرراربهم الثقافيررة وفئرراتهم العمريررة‪ .‬حترري انن ظلررت هررذه المشرراركة وقفررا‬
‫علر رري الطبقر ررة المثقفر ررة دون س ر رائر طبقر ررات المجتمر ررع‪ ،‬وعبر ررر ارفر ررد ثقر ررافي وأحر ررد هر ررو ثقافر ررة الوسر ررط‬
‫اإلسررالموعربي‪ ،‬دون برراقي الروافررد الثقافيررة السررودانية‪ .‬أن الحررديث عررن الالمركزيررة والحكررم اإلقليمرري‬
‫والفيدرالية يكون فارغ المحتوي إذا نهض علي أرضية المركزية الثقافيرة‪ .‬كمرا ال معنري لكرل مقروالت‬
‫التنمي ررة المتوازن ررة وك أو المتوازي ررة واالقتس ررام الع ررادل للث ررروة‪ ،‬طالم ررا ج رراءت ف رري ظ ررل واق ررع المركزي ررة‬
‫الثقافية‪ .‬إن تشريع التعددية الثقافية هو في الواقع تشريع للديمقراطية التعددية‪ ،‬وهي نفسها ثقافيرة ‪..‬‬
‫كما سيجيء‪ .‬ال حقاً‪.‬‬
‫األساس الموضوعي للقومية السودانية‪:‬‬
‫ونعنرري بررذلك موضرروعية المشررتركة الثقافيررة الترري تجمررع الكيانررات السررودانية‪ ،‬أو مررا قررد يبرردو علرري أنرره‬
‫شررتيت مررن األق روام واألقومررة‪ .‬هررل هنرراك حقيقررة مررا يجمعهررا علرري أسرراس موضرروعي‪ ،‬أم أن القوميررة‬
‫عنرردنا إن هرري إال أمنيررة تهدهرردنا أضررغاثها؟ هنررا يحررق للكثي ررين أن يعرب روا عررن الدهشررة و المفاجررأة‬
‫عنر رردما يعلم ر روا أن لغر ررات البجر ررا‪ ،‬فاديجر ررا – محر ررس‪ ،‬الدنقالوير ررة‪ ،‬الكنزير ررة (بر ررين مصر ررر والسر ررودان) ‪،‬‬
‫الميدوب‪ ،‬البرقد‪ ،‬النيمرانق‪ ،‬الغلفران‪ ،‬الردلنج‪ ،‬األنقسرنا ‪ ،‬الردينكا‪ ،‬النروير‪ ،‬الشرلك ‪،‬المنرداري‪ ،‬الالتوكرا‪،‬‬
‫الباريررا‪ ،‬واألشررولي (بررين السررودان ويوغنرردا) ‪ ،‬الماسرري بررين (يوغنرردا و كينيررا) ‪ ،‬وحترري المادينقررا بررين‬
‫(كينيررا وتنزانيرا) ‪،‬ثررم اللغررة النوبيررة القديمررة‪ ،‬ثررم اللغررة المرويررة الترري لررم تفررك طالسررمها حترري انن ‪....‬‬
‫عنرردما يعلم روا أن جميررع هررذه اللغررات الترري تمتررد شرررقاص وغرب راً ‪ ،‬شررماالً وجنوب راً ‪ ...‬ووسررطا ‪ ،‬إنمررا‬
‫تنتمي إلي مجموعرة لغويرة واحردة تعررف باسرم المجموعرة السرودانية – الشررقية‪ .‬فمرثال فري سربيل فرك‬
‫طالسررم اللغررة المرويررة ‪،‬يسررتعان بالعديررد مررن هررذه اللغررات وذلررك لمررا بينهررا مررن صررلة ق اربررة‪ .‬مررن ذلررك‬

‫‪19‬‬
‫اسررتعانة العلمرراء باللغررة النوبيررة القديمررة الترري كانررت تسررتخدم إبرران الممالررك النوبيررة المسرريحية ‪ ،‬هررذا‬
‫فضررال عررن متفرعاتهررا الحاليررة مثررل الفاديجررا – محررس‪ ،‬الدنقالويررة – الكنزيررة ‪ ،‬الميرردوب‪ ،‬النيمررانق ‪،‬‬
‫الدلنج‪ .‬كما يستعان أيضاً بلغات البجا‪ .‬لكن المهم أيضا هو إستعانتهم ببعض اللغات مرن الجنروب‪،‬‬
‫مررن ذلررك لغررة الباريررا‪ .‬هررذا عررن المجموعررة السررودانية الشرررقية‪ ،‬والترري هرري نفسررها إحرردي متفرعررات‬
‫المجموع ررة الكب ررري المس ررماة النيلي ررة الص ررحراوية‪،‬حيث تنض ررم إلين ررا لغ ررات س ررودانية أص ررلية مث ررل لغ ررة‬
‫الفور‪ .‬وهكذا أن شبكة المشتركات تصبح أكثر تعقيدا كلما توسعنا‪.‬‬
‫إذن يمكررن أن نخلررص إلرري أن هنرراك حرربالً سررياً يرربط بررين جميررع أقروام الهررامش شرررقاً وغربراً‪ ،‬شررماال‬
‫وجنوبراً‪ .‬بهررذا يتبقرري المركررز اإلسررالمو عربرري ‪ .‬لكررن المفأجرراة ال ترزال قائمررة‪ .‬أن هررذا المركررز مررا هررو‬
‫إال اله ر ررامش مع ر رراد إنتاج ر رره‪ .‬فم ر ررثال قبائ ر ررل الجعلي ر ررين الكب ر ررري (الجعلي ر ررين ‪ ،‬الميرف ر رراب‪ ،‬المناص ر ررير‪،‬‬
‫الرباطاب‪ ،‬والشايقية ‪ ..‬الرخ) – كمرا تكشرف برذلك أجنراس ثقرافتهم فيمرا توصرل إليره علمراء الد ارسرات‬
‫السودانية – هم النوبيون الذين استعربوا في القرون األولي التي سبقت قيام سلطنة الفونج‪.‬‬
‫أما إذا جئنا إلي قبائل البقارة‪ ،‬فلنا أن نتساءل‪ :‬من أين للعرب بالبقر؟‬
‫لقررد اسررتبدل هرؤالء العرررب جمررالهم بأبقررار الرردينكا و مررا يتبررع ذلررك مررن تمثررل ثقررافي حترري عرفروا بأسررم‬
‫البقارة‪ .‬هذا فضال عن اللون األفريقي األسود الرذي اكتسربوه بتصراهرهم مرع الردينكا األفارقرة السرود ‪،‬‬
‫والذين بدورهم أخذوا أيضا الكثير من العرب الوافدين‪.‬‬
‫إذن إن دعرروي القوميررة السررودانية لهررا أساسررها الموضرروعي ال رواقعي‪ ،‬وهررو األمررر الررذي تسررتند عليرره‬
‫جدلية الصراع الثقافي‪ .‬إن مرا يؤسرف لره أن تظرل تفاصريل هرذا الحقرائق خافيرة علري عامرة ومتعلمرة‬
‫السودان‪ ،‬كأنما هو تابو تتحاماه مقررات مناهجنا التعليمية‪.‬‬
‫ظاهرة الثورة والديمقراطية في الثقافة السودانية‬
‫الثررورة نقصررد به ررا الص رراع ح ررول السررلطة ف رري أعنررف صرروره‪ ،‬وهن ررا يجرريء ربطه ررا بالثقافررة‪ .‬كم ررا إن‬
‫الديمقراطيررة يجرريء حررديثنا عنهررا علرري أنهررا سررلوك ثقررافي يبرردأ مررن البسرريط متجهررا نحررو التركيررب‪ ،‬أي‬
‫المؤسس ررية‪ .‬كم ررا أن ررا نزي ررد فن ررزعم أن الديمقراطي ررة – م ررن ه ررذا المنظ ررور – ليس ررت بش رريء واف ررد عل رري‬
‫السررودان‪ ،‬بررل هرري سررلوك اركررز ومتجررذر فرري ثقافتنررا‪ .‬أمررا تكنيكررات التركيررب الالزمررة لكررون الشرريء‬
‫جسماًَ مؤسسيا فهي ناتج االنفتاح علي التراث اإلنساسي‪ ،‬وهذه مزية‪.‬‬
‫ذكرنرا أن الكيانرات اإلجتماعيرة ذات الثقافررة اإلجتماعيرة األصرلية تستشرعر بررأمر سريادتها علري البيئررة‬
‫المحيطررة بهررا‪ ،‬ومررن ثررم تسررعي إلرري بسررط هررذه السرريادة علرري مررا عررداها‪ .‬كمررا ذكرنررا إن هررذا األمررر قررد‬
‫يؤدي إلي صدامات ربما كانرت دمويرة ‪ ،‬واستشرهدنا بأمثلرة علري ذلرك‪ .‬وخلصرنا إلري ان كرل ذلرك مرا‬

‫‪20‬‬
‫هو إال صراع حول السرلطة مرن خرالل عمليرة الثقافرة‪ ،‬ومرن ثرم اإلحسراس باإلنتمراء مردعوماً برالوعي‬
‫بالتمايز واإلسقاط العرقي له‪،.‬‬
‫هذا األمر يتجلي في سلوك الكيان اإلجتماعي ككل ‪،‬وفي سلوك االفرراد كوحردات اجتماعيرة ‪ ،‬وهرو‬
‫فرري الواقررع سررلوك ينررزع فرري مرحلترره البسرريط نحررو أن يبسررط كيرران اجتمرراعي مررا نفرروذه وسرريادته علرري‬
‫كيان اجتماعي آخر‪ .‬وتبيان ذلك أن األفراد في الكيان األول يستشعرون بالفوقيرة وعلرو المكانرة إزاء‬
‫األفراد في الكيان انخر‪ .‬أما في مضمار تطور هذا السلوك نحرو التركيرب فإننرا نرزعم بانره سريتطور‬
‫ويتعقررد كيمررا يجسررد الدكتاتوريررة‪ .‬أي أنرره سررلوك ثقررافي نررازع نحررو الديكتاتوريررة ‪ ،‬وانمررا هررذه هرري علررة‬
‫الدكتاتوري ررة المؤسس ررية‪ ،‬بمعن رري أنه ررا تج رريء دائمر راً كاس ررتجابة اجتماعي ررة تن ررتظم الثقاف ررة عب ررر أف ر رراد‬
‫المجتمع‪ .‬نزيد فنزعم بأن هذا السرلوك الثقرافي النرازع نحرو الدكتاتوريرة كران هرو الوقرود المحررك دائمرا‬
‫– متي ما نشط – ألي دكتاتورية حلت بنا‪ ،‬كما سيقودنا لذلك تحليلنا وفق هذا المنهج الثقافي‪.‬‬
‫وذكرنا أيضرا أن الرتالقح الثقرافي برين الكيانرات االجتمعيرة المتصرارعة‪ ،‬وتشركل الثقافرة الناتجرة جردلياً‬
‫والترري تنتمرري لهررا األجيررال الصرراعدة مررن هررذه الكيانررات ‪ ،‬ثررم استشررعار ذلررك فرري مسررتوي الرروعي غيررر‬
‫المباشررر ارتفاعراً إلرري الرروعي المباشررر‪ ،‬سرريؤدي إلرري أن يتجلرري ذلررك فرري التسررامح كسررلوك ثقررافي بررين‬
‫الكيانات االجتماعية بعضها البعض‪ ،‬كل هذا بدال عن السلوك العدواني النابذ لدي األجيرال القديمرة‬
‫فرري هررذه الكيانررات‪ .‬وقررد أرجعنررا جرثومررة التسررامح فرري السررلوك السررودانيين إلرري ذلررك‪ .‬عليرره ‪ ،‬سرريحل‬
‫التحمل الثقافي مكان التحامرل الثقرافي‪ .‬هرذا سريؤدي حتمرا – كمرا هرو الحرال فري سرودان اليروم‪ ،‬وفري‬
‫أطر ضيقة – إلي اإلرتضاء واالعتراف بوجود انخر وان كان االختالف الثقافي ناشباً‪.‬‬
‫هرذا السررلوك الثقرافي البسرريط مقرردور عليره أن يتطررور ويرتقرري فري مضررمار التعقيررد والتركيرب ليبلررذ بنررا‬
‫مشررارف الديمقراطيررة ‪ ،‬تقليديررة كانررت أم حديثررة ‪ ،‬شررعبية كانررت أم مؤسسررية‪ .‬إذن فهررو سررلوك ثقررافي‬
‫نازع نحو الديمقراطية في مؤداه البعيد‪ ،‬ثم إنه قديم متجذر في بنية الثقافة السودانية‪.‬‬
‫إذن فل رردينا تي ررار ثق ررافي ن ررازع نح ررو الدكتاتوري ررة‪ ،‬وآخ ررر ن ررازع نح ررو الديمقراطي ررة‪ ،‬وق ررد نش ررب الصر رراع‬
‫والتفاعل بينهما في كيمياء الثقافة السودانية‪ ،‬فلعبا أدوا ار جسيمة في تشكيل فترات من تاريخنا‪ .‬وهنرا‬
‫سنعمد إلري تتبرع أشركال وم ارحرل الصرراع برين هرذين التيرارين عبرر تاريخنرا المعاصرر‪ ،‬مسرتجلين فري‬
‫ذلك مضامير رقي الوعي من مستواه غير المباشر إلري مسرتواه المباشرر فري ثقافتنرا السرودانية‪ .‬وهنرا‬
‫سرنركز علرري م ارحرل بعينهررا مررن تاريخنرا للسررتدالل بهررا‪ .‬هرذه الم ارحررل سررتكون الثرورات الشررعبية الترري‬
‫فجرها شعبنا‪ ،‬وما هذا إال ألن الثورات تعكس الصراع حول السلطة في أعنف صوره‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫سررنبدأ بررالثورة المهديررة ‪ ،‬مررن ثررم نعرررض إلرري ثررورة أكترروبر لنخررتم بثررورة أبريررل ‪ ،‬والررذي سيفضرري بنررا‬
‫الحديث عنها إلي تحليل واقعنا السياسري الحرالي سرعياً ال بتنراء رؤيرة مسرتقبلية نتبرين بهرا خطانرا فري‬
‫الغد وما يمكن أن يؤول إليه أمرنا‪.‬‬
‫الثورة المهدية‪:‬‬
‫هي كانت ثرورة شرعبية بيرد انهرا لرم تكرن ثرورة فكريرة‪ ،‬بمعنري أنهرا تفجررت وعوامرل الروعي بهرا ال ترزال‬
‫تقبع في مستوي الوعي غير المباشر‪.‬‬
‫فبررالرغم مررن دعرروي لمهديررة‪ ،‬إال أن المهرردي لررم يررتح لرره الوقررت لتأسرريس فكررر مدرسرري منهجرري ‪،‬فرري‬
‫معني أن يتأسس الفكر في مستوي التنظير‪ ،‬ثم يسعي لتطبيقه علي الواقع‪ .‬ففكررة (المهديرة) مرأخوذة‬
‫من الفكر الشيعي الصوفي‪ ،‬وقد زرعها المهردي فري الفكرر السرني دونمرا فرصرة لصرهر البنراءين فري‬
‫رؤيررة سررنية جامعررة ةذلررك لوفاترره البرراكرة‪ .‬ثررم انرره – بعيرردا عمررا أنتهرري غليرره واقررع األمررر – لررم يكررن‬
‫المهدي المنتظر في نظر الكثير من القطاعرات الشرعبية السرودانية التري مرات ريراح الثرورة أشررعتها‬
‫‪ ،‬دونمررا إيمرران بمسررألة المهديررة‪ .‬لكررل هررذا لررم يمررا المهرردي األرض عرردال كمررا ملئررت جررو اًر‪ ،‬وال ت رزال‬
‫مظررالم المهديررة خب ر ار مسرركوتاً عنرره يتحاشرراه مؤرخونررا لتجميررل الصررورة‪ ،‬وتستشررهد برره حبوباتنررا مررثالً‬
‫سارياً‪.‬‬
‫ومررن أجرره المعالجررة السياسررية غيررر الفكريررة‪ ،‬إلغرراء المهرردي للطرررق الصرروفية والمررذاهب اإلسررالمية‬
‫بإصرردار قررار بررذلك‪ .‬وفرري الواقررع لررم يكررن قر ارره ذلرك غيررر تبرئررة لذمترره مررن التقيررد بمحكوميتهررا ‪ ،‬وهررو‬
‫أشبه ما يكون بإلغاء األنظمة الدكتاتورية وحلهرا لاحرزاب السياسرية‪ .‬كمرا يؤخرذ علري الفكرر المهردوي‬
‫ذهولرره عررن الواقررع وأحكامرره‪ ،‬واالسررتغراق فرري الرومانسررية الدينيررة‪ ،‬وهررو مررا دفررع المهرردي إلرري محاولررة‬
‫إعادة سيناريو التاريخ اإلسالمي ‪ ،‬ال في مضامينه ومقاصده‪ ،‬بل في عين مالبساته واحداثياته‪.‬‬
‫فقررد عررين لرره خلفرراء أربعراً علرري غررار خلفرراء الرسررول (ص) األربررع‪ ،‬يحملررون أسررماءهم أيضررا‪ .‬فكانمررا‬
‫المسلمون محكروم علريهم فري حصرتهم مرن الحكرم ال ارشرد برأربع خلفراء فقرط كيفمرا تطرور بهرم التراريخ‪.‬‬
‫ثررم هررو ينتقرري مررن أبنرراء عمومترره صربياً (الخليفررة ش رريف) ليجلسرره علرري كرسرري علرري بررن أبرري طالررب‬
‫(رضرري) ‪ ،‬ويتررزوج مررن أم رراة اسررمها عائشررة ‪ ،‬ويجعلهررا أثي ررة لديرره‪ ،‬حترري أنرره ليطلررب عنرردما توافيرره‬
‫المنية أن يدفن في حجرتها‪.‬‬
‫وبالرغم من ان المهدي قد ألغي الطرق الصوفية إال أننرا نجرده يلترزم بهرا علري شركل آخرر ‪ ،‬دون أن‬
‫يكررون قاص ررداً‪ .‬فعم رردة التسررليك الترب رروي ل رردي المهرردي (ال ارت ررب) م ررأخوذاً بنرراءاً م ررن الص رروفية ‪ ،‬رغ ررم‬
‫التحرررر م ررن محتواه ررا الفك ررري‪ ،‬وه ررو ال ررذي تح ررول فيمررا بع ررد بحرك ررة األنص ررار لتص رربح مج رررد طائف ررة‬

‫‪22‬‬
‫كالختميررة تحكمهررا أس ررة المهرردي‪ .‬ومررا الطائفيررة إال التشرركل الثقررافي اإلجتمرراعي للفكررر الصرروفي فرري‬
‫حال تنزالته الدنيوية التي عادة ما تنتهي به إلي أن يصبح ترساً في ماكينة األيدولوجيا السائدة‪.‬‬
‫لكررل هررذا ال يرزال األنصررار حترري يومنررا هررذا ال يجرردون مررا يميررزهم فكريراً ‪ ،‬ولررذا يرردورون فرري خطررابهم‬
‫الفكررري حررول فلررك الحركررات الترري تنفعررل باإلسررالم نفعرراال رومانسررياً‪ .‬حيررث تصرربح الرردعوة لرره مج ررد‬
‫شرعارات ترنفخ الصردر حماسرا دونمرا انشرغال بالكيفيرات الفكريرة المؤديرة إلري تحقيرق هرذه الشررعارات ‪،‬‬
‫والترري تمثررل م رربط الفرررس والمقبررة الترري يقررف عنرردها حمررار الشرريخ‪ .‬وهررذا هررو عررين مررا يفررتح أمررامهم‬
‫المجال واسعا لالنحراف مرع حركرات الهروس الرديني‪ .‬وهنرا ال عبررة للطرابع الرديني للثرورة المهديرة‪ ،‬إذ‬
‫انها تتفق مع نمط الثورات واالنتفاضات التقليديرة فري أفريقيرا حيرث يمثرل الردين محرو ار لهرا‪ ،‬وقرد كران‬
‫اإلسالم المهدوي هو محرور األيرديولوجيا السرائدة فري الوسرط اإلسرالمو عربري بالسرودان ‪ .‬وهرذا هرو‬
‫نفسرره مررا جعررل دولررة المهديررة تنتمرري أيرردويولوجيا إلرري ثقافررة المركررز وتررذويب الهررامش فيرره وذلررك عبررر‬
‫نموذج إنسان سنار‪ .‬لقد كانت الثورة قومية ‪ ،‬بينما جاءت الدولة جهوية‪ ،‬مركزية‪.‬‬
‫عليرره ‪ ،‬المهديررة كانررت ثررورة شررعبية فجرهررا الشررعب السرروداني‪ ،‬وشررارك فيهررا جميررع السررودانيين ‪ ،‬حترري‬
‫أهرل الجنرروب مررع عرردم اسررالمهم‪ .‬ثررم إن الثررورات الشررعبية ال تصررنعها الزعامررات بررل هرري الترري تصررنع‬
‫زعاماتها‪ .‬فالمهدي لم يكن صانع الثورة بل كان صنيعة الثورة‪ .‬وهذا دون أن نغمطه شررف قيادتهرا‪،‬‬
‫وفي هذا لنا حديث‪.‬‬
‫الثورات الشعبية عاطفة وهدف يجمعهما وعي تمخض عرن فعرل بغيرة التغييرر‪ .‬ثرم أن العاطفرة هرذي‬
‫موزعة علي أفراد الشعب ‪ ،‬وكيما تفعرل فعلهرا ال برد لهرا ان تلترف حرول محرور‪ ،‬واال فرال تماسرك‪ .‬ثرم‬
‫إن محررور التماسررك هررذا يمكررن أن يكررون المبرردأ فرري تجريررده‪ ،‬وهررذا يسررتلزم درجررة مررن الرروعي عاليررة‬
‫(الوعي المباشر)‪ .‬فإذا لم يتوفر هذا الوعي ‪ ،‬فإن الشعب سيعمد إلي أن يتماسرك عاطفيراً فري ثورتره‬
‫علي عدة مستويات أدناه مستوي التجسيد‪ ،‬وذلك بأن يجسد محور التماسك العراطفي‪ .‬وقرديما عنردما‬
‫عجز الناس عن أن يسرتوعبوا وجرود الرذات اإللهيرة فري مسرتوي التجريرد‪ ،‬عمردوا إلري التجسريد فكانرت‬
‫األصنام لتقربهم إلي ا زلفي‪.‬‬
‫اإلمررام المهرردي كرران محررور التماسررك العرراطفي مجسررداً ‪ ،‬إذ ان الرروعي لررم يكررن قررد تعرراظم لرردي عامررة‬
‫الشرعب حترري يجعلروا مرن المبرردأ فرري تجريررده محرور تماسررك عرراطفي لثررورتهم‪ ،‬وقرد جرراءت أهليترره لهررذا‬
‫من كونه – كما نري – أبناً للقومية السودانية سابقاً ألوانه‪ .‬فهرو قرد جراء مرن الشرمال النروبي متشرربا‬
‫بثقافررة متمي رزة‪ .‬ليعاشررر أهررل الوسررط ‪ ،‬ثررم أهررل اقصرري جنرروب الوسررط‪ ،‬ثررم الغرررب ‪ ،‬فتشرررب بثقافررات‬
‫متعددة‪ .‬ونسبة لطبيعته الفذة فقد تجاوز مرحلرة المخراض التري انتظمرت شرعبنا – وال ترزال – السرنين‬

‫‪23‬‬
‫الطوال‪ ،‬فتجاوز انتماءه البسيط (القبيلة) ليستشعر انتماءه للكل المركب (السرودان) محكومرا فري كرل‬
‫ذلك بعوامرل وعيره الموضروعية والظرفيرة‪ ،‬فرأحس – برهافرة حسره – بمعانراة جميرع السرودانيين‪ .‬وقرد‬
‫اجتاز امتحانا عسي ار في ذلك عنردما ردع عشريرته إبران حصرار األبريض‪ ،‬إذ مارسرت عليره ضرغوطاً‬
‫شتي ليختزل القومية السودانية في إنتمائه البسيط (القبيلة والعشريرة ) ‪ .‬ولكنره ‪ ،‬رحمره ا ‪ ،‬كران قرد‬
‫تجاوز تلك المرحلة‪.‬‬
‫عليرره فقررد تاهررل المهرردي لزعامررة الثررورة الشررعبية‪ ،‬والترري عنرردما تجررد محرور تماسرركها العرراطفي وتصررنع‬
‫زعاماتهررا‪ ،‬تفعررل ذلررك لتررؤمن انتصررارها‪ .‬وهررذا مررا فعلرره لهررا اإلمررام المهرردي ‪ ،‬إذ ضررمن لهررا انتصررارها‬
‫وزال بذلك حكم المستعمر‪.‬‬
‫وبعررد مرراذا عررن الص رراع الناشررب بررين التيررارين ‪ ،‬ذلررك النررازع نحررو الدكتاتوريررة وانخررر النررازع نحررو‬
‫الديمقراطيررة؟ إن الحكررم التركرري بوص رفه اسررتعما ار ‪ ،‬مررا ه رواال فرررض النفرروذ والسرريادة األجنبيررة‪ .‬وهررو‬
‫بهذا يكون قد كسر شوكة التيار الثقافي النازع نحو الدكتاتورية والذي هو عبارة عرن إمترداد متطررف‬
‫غيررر إيجررابي لرغبررة افنسرران الطبيعيررة وسررعيه لبسررط هيمنترره‪ ،‬والترري هرري برردورها منرراط فرررض النفرروذ‬
‫والسرريادة‪ .‬هنررا لررم يكررن أم رام السررودانيين غررال ان يستشررعروا جسررامة الكارثررة الترري حلررت بهررم‪ ،‬فقررد تررم‬
‫كسرر شرروكة اإلحسراس بررالنفوذ والسرريادة ‪ ،‬بمختلرف كيانرراتهم افجتماعيررة‪ .‬أي أن عرامال خارجيررا عامراً‬
‫قررد أصرربح يجمعهررم ‪ ،‬المررر الررذي هيررأهم الستشررعار العوامررل الثقافيررة المشررتركة‪ ،‬ومررن ثررم افحسرراس‬
‫باإلنتم رراء لبعض ررهم ال رربعض‪ ،‬فالمص ررائب يجمع ررن المص ررابينا‪ .‬فك رران أن أزدادوا قربر راً م ررن بعض ررهم ‪،‬‬
‫وضعف بالتالي أثر المواقف النفسية المشكلة جراء مباشرة الصراع الثقافي‪.‬‬
‫بطريقة أخري ‪ ،‬اشتد اثر التيار النازع نحو الديمقراطية ‪ ،‬فكان أن تهيأ الشعب السوداني للتعاضد‪.‬‬
‫ولكن ‪ ،‬كيما يزيرل السرودانيون – بمختلرف مشراربهم – السريادة األجنبيرة ‪ ،‬كران البرد مرن ان يسرتحثوا‬
‫المحركررات الثقافيررة الترري ينرراط بهررا بسررط النفرروذ والسرريادة ‪ ،‬واال فمررا كرران أن يشررتعل فتيلهررا‪ .‬وبالفعررل‪،‬‬
‫هذا ما تم‪ ،‬وانتصرت‪.‬‬
‫نخل ررص غل رري ان التي ررارين الثق ررافين‪ ،‬الن ررازع نح ررو الديمقراطي ررة واألخ ررر الن ررازع نح ررو الدكتاتوري ررة‪ ،‬قر رد‬
‫اصررطلحا فرري الثررورة المهديررة‪ .‬كمررا ان محررور التماسررك العرراطفي‪ ،‬نسرربة لترردني الرروعي المباشررر لرردي‬
‫عامرة الشررعب‪ ،‬لرم يكررن قرد أرتفررع عرن مسررتوي التجسرريد‪ .‬برذا كرران اإلمرام المهرردي هرو محررور التماسررك‬
‫العاطفي مجسداً ‪ ،‬وقد جاءت أهليته لهذا من كونه أبناً للقومية السودانية سابقا ألوانه‪.‬‬
‫ثورة أكتوبر‪:‬‬

‫‪24‬‬
‫ذكرن ررا أن ك ررل م ررا يمارس رره الن رراس ف رري حي رراتهم اليومي ررة ‪ ،‬م ررا ه ررو إال تجلي ررات للس ررلطة ف رري المس ررتوي‬
‫القاعرردي‪ .‬ثررم ان هررذه السررلطة ترتقرري إلرري أن تبلررذ المسررتوي السياسرري‪ .‬وكيمررا تمررارس السررلطة فرري‬
‫المسررتوي السياسرري البررد مررن بنيررة سياسررية ذات شررقين (حكومررة ومعارضررة)‪ .‬أو قررل تحقيقررا‪ :‬األحرزاب‬
‫ونضيف إلي أنه البد من كيفية سياسة‪ ،‬هي نوع الحكرم‪ :‬ديمق ارطري ‪ ،‬تعرددي ‪ ،‬ليب ارلري ‪ ،‬أم شرمولي‬
‫‪ ،‬أو دكتاتوري ‪ ...‬الخ‪.‬‬
‫عندما نال السودان استقالله كانت البنية السياسية تتمثل في تلك األحزاب التري تكالبرت علري الحكرم‬
‫(وه رري ف رري رأين ررا بني ررة سياس ررية منحرف ررة وال تخ رردم ه ررذا الش ررعب‪ ،‬ب ررل تس ررتثمر ح رراالت إنع رردام ال رروعي‬
‫المباشر فيه)‪ .‬كما إن الكيفية السياسية كانرت هري الديمقراطيرة (وهري فري رأينرا كيفيرة سياسرية معافراة‬
‫ال غبار عليها)‪.‬‬
‫فماذا حدث؟‬
‫لقررد مارسررت البنيررة السياسررية‪ ،‬بطبيعررة تكوينهررا غيررر المعررافي‪ ،‬فسررادها فرري الحيرراة العامررة والم ارفررق ‪،‬‬
‫وذلررك فرري ظررل الكيفيررة السياسررية المعافرراة (الديمقراطيررة)‪ .‬وهنررا البررد لنررا أن نمررايز بررين فسرراد األولرري‬
‫ومعافرراة الثانيررة‪ .‬إذ أن البنيررة السياسررية متغيررر‪ ،‬وبالتررالي يمكررن لحررزب بعينرره أن يضررمحل ويتالشرري‬
‫ليظهر في موقعه حزب آخر جديد‪ ،‬وكل ذلك في ظل الديمقراطيرة‪ .‬وهرذا يعنري أن الكيفيرة السياسرية‬
‫(هن ررا الديمقراطي ررة) ه رري الثاب ررت‪ .‬علي رره‪ ،‬فل رريس م ررن العق ررل ف رري ش رريء أن نس ررقط ك ررل س ررلبيات البني ررة‬
‫السياسررية (غيررر المعافرراة) علرري الكيفيررة السياسررية (المعافرراة)‪ .‬ذلررك ألن فسرراد المتغيررر ال يجرروز أن‬
‫يقدح في صالحية الثابت‪.‬‬
‫نقول هذا ألنه عرين مرا حردث فري ظرل الديمقراطيرة األولري بعرد مرا حردث فري ظرل الديمقراطيرة الرولي‬
‫بعد االستقالل (‪ ، )1958 – 1956‬ومصدر العلة كان تدني مستويات الروعي المباشرر لردي عامرة‬
‫الشررعب‪ .‬فمررا أن تنحرررف األحرزاب "المتغيررر" ‪ ،‬حترري تثررور ثررائرة الشررعب علرري الديمقراطيررة "الثابررت" ‪،‬‬
‫هذا بدالً من ان يوجه سخطه لموضوع العلة ‪ ،‬وهو البنية السياسية غير المعافاة‪ .‬لقرد كران الشرعب‪،‬‬
‫جراء تدني وعيه المباشر‪ ،‬يرفض البنية والكيفية معاً وذلك عندما يدمجهما في مفهوم الحزبية‪.‬‬
‫فعنردما يررردد أبنرراء الشررعب (فري األنديررة ‪ ،‬الحررارات‪ ،‬األسرواق ‪ ،‬السرينما ‪ ،‬المكاتررب‪ ،‬المركبررات العامررة‬
‫ومؤسس ررات التعل رريم ‪ ...‬ال ررخ) مقر روالت مث ررل "الديمقراطي ررة م ررا بتنف ررع ! الش ررعب ده مس ررتواه م ررا مس ررتوي‬
‫ديمقراطيررة ‪ ....‬عررايزين دكترراتور عررادل ‪ ...‬الررخ" ‪ ،‬ال يكررون أثررر هررذا إال إضررعافا للتيررار النررازع نحررو‬
‫الديمقراطية‪ .‬وهكذا نجد في المقابل أن التيار النازع نحو الدكتاتورية قرد قروي وأشرتد أثرره‪ .‬ثرم إن هرذه‬
‫القناع ررات – الت رري انبعث ررت فردير راً – تن ررتظم غالبي ررة قطاع ررات الش ررعب م ررن خ ررالل االنتش ررار الش ررفاهي‬

‫‪25‬‬
‫العفوي‪ ،‬تسندها وتدعمها الممارسات المنحرفرة للبنيرة السياسرية‪ .‬وتسرتمر هرذه النغمرة إلري أن يرددهرا‬
‫من كان يقاومها ويسعي لدحضها أول مرة ‪ ..‬وهكذا ما هي إال فترة قصيرة من الزمن حتري تسرتحوذ‬
‫علرري تفكيررر الغالبيررة مررن أبنرراء الشررعب لتصربح فورميروال ‪ Fomula‬يطلقونهررا مترري مررا واجهروا انح ارفررا‬
‫في البنية السياسية‪.‬‬
‫لكل هذا يضمحل التيار النازع نحو الديمقراطيرة‪ .‬بينمرا يشرتد ويقروي األخرر النرازع نحرو الدكتاتوريرة ‪،‬‬
‫األمر الذي يحتم ان يكون البديل منسجما مع هذا التيار األخيرر‪ ،‬وبالفعرل تنرازل عبرد ا خليرل عرن‬
‫مقاليد الحكم للعسكر في عملية تسليم وتسرلم‪ .‬وهنرا ينبغري أن نتجراوز األسرباب والمالبسرات الظرفيرة‬
‫التي أكتشفت الحدث في تحليلنا له ‪ ،‬لنغوص في أعماق العوامل الموضوعية‪ .‬فمن التبسريط المخرل‬
‫أن نلقرري اللرروم كلرره علرري السرريد عبررد ا خليررل ‪ ،‬بينمررا الشررارع آنررذاك يخفررق وجدانرره ترقبررا ل ردكتاتور‬
‫عررادل‪ ،‬ويتشرروفه فجررر كررل صررباح ‪ .‬أقرررب مررن كررل ذلررك أن نررنظم إلرري الرجررل علرري أنرره كرران نافررذة‬
‫البصرريرة وواقعيررا‪ ،‬استشررف الواقررع وأدرك أن الدكتاتوريررة قادمررة ال محالررة‪ ،‬فسررعي إلرري تجنيررب الرربالد‬
‫مغبررة أن يسررتلم السررلطة صررغار الضررباط ‪ ،‬فعمررد إلرري كبررارهم‪ .‬ولعررل هررذا هررم السررر فرري أن عسرركرية‬
‫عبود كانرت ألرين عريكرة مرن عسركرية مرايو وبعردها يونيرو – هرذا دون أن نضرع فري االعتبرار عامرل‬
‫االس ررتقطاب األي رردويولوجي ال ررذي ك رران هادئ ررا نس رربيا ليبل ررذ ذروت رره انن‪ .‬وعموم ررا ف ررإن ال ررذي يفجر ررأه‬
‫السلطان ‪ ،‬سرهل تخليره عنره ‪ ،‬ولعرل هرذا أيضرا السرر وراء عرزوف المجلرس العسركري عرن حكرم فري‬
‫أبريل ‪ ،‬فإن من كان يرتجف إبان اشتعال الثورة خوفاً من محاسربة رئيسره عنردما يعرود‪ ،‬أو رعبراً مرن‬
‫المقصلة‪ ،‬حري به أن ينفض يده عن (دوشة) الحكم متظاه ار بانه عازف عنه‪.‬‬
‫وأيررا كرران ‪ ،‬فقررد جرراءت عسرركرية عبررود ‪ ،‬ومررا كرران للشررعب الررذي انتررزع اسررتقالله حررديثا مررن مخالررب‬
‫اإلسررتعمار أن يرضرري بررأي شركل مررن أشرركال العبوديررة‪ .‬إذن فقررد تبرردت الدكتاتوريررة بقهرهررا وقباحاتهررا‬
‫الشنيعة‪ .‬وما كان فري مقردور مرن كران يتحردث فري أيرام الديمقراطيرة عرن أن الديمقراطيرة ال تنفرع مرع‬
‫هذا الشعب ‪ ،‬وأن السودان يحتاج لدكتاتور عادل ‪ ...‬الخ ‪ ،‬مرا كران فري مقردور هرذا الشرخص – او‬
‫األشخاص – أن يتشدق بمقوالته تلك وأمام ناظريره الدكتاتوريرة تفسرد الحيراة العامرة‪ ،‬وتكمرم األفرواه ‪،‬‬
‫وتسلب اإلنسان السوداني كرامته‪ .‬في المقابل بدا الناس يحنون إلي عهد حرية الكلمة والتعبيرر وكرل‬
‫منر رراحي أنمر رراط السر ررلوك العر ررام الر ررديمقراطي ‪ ،‬أي أنهر ررم أصر رربحوا يحنر ررون إلر رري الديمقراطير ررة – ولر رريس‬
‫بالضرورة إلي تلك األحزاب‪.‬‬
‫عليرره نسررتطيع أن نقررول إن أثررر التيررار النررازع نحررو الديكتاتوريررة قررد برردا يضررمحل ويخفررت فرري الثقافررة‬
‫السياسية للشارع السوداني ‪ ،‬بينما بدأ التيار الثقافي النازع نحو الديمقراطيرة يشرتد ويقروي مهيئرا برذلك‬

‫‪26‬‬
‫ومحفر از نفسررية الشررارع السرروداني للثررورة‪ .‬فقررد كرران انتعرراش التيررار الثقررافي النررازع نحررو الديمقراطيررة هررو‬
‫الوقود المحرك للثورة‪ ،‬األمر الذي حتم أن يكون الحكم البرديل (الكيفيرة) متفقرا مرع طبيعرة هرذا التيرار‬
‫(الديمقراطية)‪.‬‬
‫ل ررذلك عن رردما تمخض ررت ث ررورة أكت رروبر ع ررن الديمقراطي ررة ككيفي ررة سياس ررية‪ ،‬ل ررم يك ررن ذل ررك – كم ررا يظ ررن‬
‫الكثيرررون – نتيجررة للموازنررات ف ري جبهررة الهيئررات ‪ ،‬فقررد كرران حتمررا للديمقراطيررة ان تجرريء ‪ ،‬إذ انهررا‬
‫كانت الوقود العاطفي للثورة‪.‬‬
‫وقامت ثورة أكتوبر ‪ :‬ولكن ماذا عن محور التماسك العاطفي لها؟‬
‫لقد ارتفع الوعي المباشر لدي عامة الشعب السوداني عما كان عليره الحرال فري الثرورة المهديرة التري‬
‫لزم فيها الوعي مستوي (التجسيد)‪ .‬ولكن ‪ ،‬إن يكن الوعي في أكتوبر قد أرتفع عن مسرتوي التجسريد‬
‫‪ ،‬فهو لم يرتفع إلي مستوي التجريد (المبدأ) ‪ ،‬برل كران فري المرحلرة برين المررحلتين‪ .‬لقرد كران الشرهيد‬
‫القرشرري هررو محررور التماسررك العرراطفي لثررورة أكترروبر‪ ،‬ومررا اسررتحق هررذا الشرررف إال لكونرره اول شررهيد‬
‫أهريقررت دمرراؤه مضررمخة الت رراب الطرراهر‪ .‬القرشرري لررم يكررن فكررة مجررردة ‪ ،‬كالمبرردأ ‪ ،‬ولكنرره كرران رم ر از‬
‫لجوهر الفعل الثوري‪ .‬أنه رمز لفكرة اإلستشهاد الثوري القابعة في أعماق تالفيف الروعي لردي الرذين‬
‫يخرج ررون متظ رراهرين ض ررد أنظم ررة الحك ررم االس ررتبدادية‪ .‬فف رري ظ ررل تق رراعس ال رروعي المباش ررر ‪ ،‬يص رربح‬
‫االسرتعداد لاستشرهاد واإلقبرال علري التضرحية درجرة مرن الروعي يقرع عليهرا منراط التغييرر‪ .‬هنرا علينررا‬
‫أن نالحررظ أنرره فرري مسررتوي إحررداثيات الظرررف‪ .‬لررم يكررن القرشرري مررن المتظرراهرين حقررا رغررم كونرره أول‬
‫شررهيد‪ .‬أن الترفيررع والترميررز هنررا هررو الررذي ألقرري بظاللرره علرري الشررهداء المتظرراهرين مررن أمثررال بررابكر‬
‫عبر ررد الحف ر ريظ و لر ررورنس ديمتر ررري تكر ررال وبر رراقي الكوكبر ررة الر ررذين سر ررقطوا أمر ررام القصر ررر ‪ ،‬تغمر رردهم ا‬
‫برضوانه‪.‬‬
‫عليه ‪،‬فقد ارتفع الوعي الثقافي في ثرورة أكتروبر إلري مسرتوي الرمزيرة‪ ،‬متجراو از مسرتوي التجسريد الرذي‬
‫كران عليرره فرري المهديررة ‪ ،‬ومقصر ار عرن أن يبلررذ مسررتوي التجريررد‪ .‬وانمررا لهرذا يعررود السرربب فرري التغنرري‬
‫باألناشيد الوطنية التي حظيت بها ثورة أكتروبر ‪ ،‬وحظري بهرا علري وجره الخصروص الشرهيد األوحرد‪.‬‬
‫والسبب هو نفسه الذي تعود إليه تلك القشعريرة التي تعتري أجسادنا عندما يررد اسرم الشرهيد القرشري‬
‫ضمن اناشيد أكتوبر – علي وجه الخصوص إبان العهرود االسرتبدادية ‪ ،‬مرايو ونظرام يونيرو الحرالي‪.‬‬
‫وما كل ذلك إال ألن القرشي يرمز إلي الشهيد الذي يمكن أن نكونره نحرن فري أي لحظرة تخررج فيهرا‬
‫متظاهرين من أجل حرية وكرامة الشعب السوداني‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫هكررذا جرراءت الديمقراطيررة الثانيررة ‪ ،‬وعررادت معهررا تلررك المعادلررة المختلررة‪ :‬بنيررة سياسررية منحرفررة ‪ ،‬فرري‬
‫ظررل كيفيررة سياسررية معافرراة ‪ .‬ونتيجررة لترردني الرروعي المباشررر يقرروم النرراس بإسررقاط أخطرراء الررولي علرري‬
‫الثانية‪ .‬ومن ثم يتهيئون للفظهما معاً ‪ .‬وال نحتاج إلي أن نعيد القول مررة أخرري ولكرن ألبراس بجملرة‬
‫تلخيصية‪.‬‬
‫بدأ أثر التيار النازع نحو الديمقراطية في الضعف واالضمحالل ‪ ،‬بينما في المقابرل اشرتد أثرر التيرار‬
‫األخررر ‪ ،‬األمررر الررذي حررتم أن يكررون نرروع الحكررم القررادم متفقررا مررع هررذا التيررار الرردكتاتوري الررذي تمتررد‬
‫كقناعررة علرري مسررتوي قطاعررات عريضررة مررن الشررعب السرروداني ‪ ،‬وكرران أن جرراءت دكتاتوريررة مررايو ‪.‬‬
‫أن الضرباط الرذين قراموا براإلنقالب قررد تلمسروا أثرر ذلرك التيرار المرحررب بقردومهم‪ .‬وكيفمرا كران فهمهررم‬
‫له‪ .‬إال أنه ال يخرج عن كونه التيار الثقافي النازع نحرو الديكتاتورية‪.‬لقرد أدركروا أن انقالبهرم سريجيء‬
‫اسررتجابة لحركررة وعرري قررد انتظمررت الشررارع السياسرري السرروداني ‪ ،‬بيررد أنهررا قاصررة‪ .‬ومررن تجليررات هررذه‬
‫االستجابة ذلك التهليل الداوي النقالب عبود ‪ ،‬ومرن بعردهما وبدرجرة بالغرة الضرعف النقرالب يونيرو‪.‬‬
‫وكيفمررا كرران الحررال فررإن القطاعررات الترري هللررت النقررالب مررايو ‪ ،‬هرري نفررس القطاعررات – مررع برراقي‬
‫قطاعات الشعب – التي ستتقرح حناجرها في الهتاف والثورة ضرد مرايو ‪ ،‬وذلرك عنردما يرتفرع وعريهم‬
‫جراء العوامل الموضوعية‪.‬‬
‫ثورة أبريل‪:‬‬
‫تبرردت مررايو بكررل بشرراعة دكتاتوريتهررا ‪ ،‬وترأذي منهررا الشررعب السرروداني أيمررا تررأذ ‪ .‬فضررعف لررذلك أثررر‬
‫التيررار الثقررافي النررازع نحررو الدكتاتوريررة‪ .‬وهكررذا لررم يعررد ممكنراً للكثيررر مررن القطاعررات الشررعبية أن تقررر‬
‫بررالمقوالت الترري كانررت ترددهررا دعم راً ألنظمررة الحكررم الشررمولي (دكترراتوري) ورفضررا ألنظمررة الحكررم‬
‫التعررددي (ديمق ارطرري) ‪ ،‬فأضررمحل أثررر تيررار الدكتاتوريررة ‪ ،‬لينشررط ويقرروي فرري المقابررل التيررار الثقررافي‬
‫النررازع نحررو الديمقراطيررة‪ .‬وأصرربح هررذا الرروعي الررديمقراطي يررزداد اضررطرادا بازديرراد النقمررة علرري نظررام‬
‫مايو‪ .‬لقد كان هذا التيرار هرو النربض والغرذاء الروحري للثرورة التري كانرت قرد بردات تعرتلج فري أحشراء‬
‫الشعب تتأكلها الرغبة والترقب للطلق والمخاض‪.‬‬
‫هررب الشررعب فرري ثررورة أبريررل وقررد ترقرري وعيرره درجررات متجرراو از مسررتويات التجسرريد والرمزيررة ‪ ،‬فهررو لررم‬
‫يجعل من شخص حي يدب بين الناس محور تماسك عاطفي لثورته ‪ ،‬كما إنه لم يتخرذ مرن شرهدائه‬
‫رم ر از يلتررف حولرره عاطفي راً‪ .‬لقررد كرران المبرردأ فرري تجريررده (الديمقراطيررة) ه رو محررور التماسررك العرراطفي‬
‫لثورته‪ .‬فقد هب الناس في ثورة أبريل والديمقراطية كهردف تقرف نصرب أعيرنهم‪ .‬وقرد تسراقط الشرهداء‬

‫‪28‬‬
‫– أسرركنهم ا فسرريح جناترره – إال أن الشررعب لررم يجعررل أحررداً مررنهم محررور تماسررك عرراطفي للثررورة‪.‬‬
‫فالوعي قد أرتفع للدرجة التي يجعل فيها المبدأ في تجريده محو اًر للتماسك‪.‬‬
‫ولكن ‪ ،‬هل هذه هري أقصري مرا نبغيره مرن الروعي ؟ فري هرذا لنرا حرديث سرنجيء إليره بعرد أن ننراقش‬
‫هل ما تم في أبريل ثورة أم انتفاضة؟‬
‫ثورة أم انتفاضة؟‬
‫تعريفنرا للثررورة الشررعبية وفررق منظورنررا هررذا هررو‪ :‬الثررورة الشررعبية هرري التغييررر االنقالبرري (غيررر ترردريجي)‬
‫في الكيفية السياسية (من النظام الشمولي مثال إلي الديمقراطية) من خالل حركة الشرارع (الشرعب)‪.‬‬
‫أما تعريفا لالتفاضة فيجيء كما يلري‪ :‬األنتفاضرة الشرعبية هري حركرة شرعبية تنرتظم الشرارع السياسري‬
‫ألحداث التغيير االنقالبي في الكيفية السياسية ‪ ،‬ولكنها تقصر دون بلوغ مبتغاها ذلك‪.‬‬
‫وبعد ‪ ،‬ما الذي تم في أبريل؟ أنها حركة شعبية اجتاحت الشارع السياسري السروداني ثرم إنهرا نجحرت‬
‫في إحداث التغيير اإلنقالبي في الكيفية السياسية‪ .‬عليه ‪ ،‬فهي ثورة وليست انتفاضة!‬
‫ولكن من أين جاءت لفظة االنتفاضة هذه؟‬
‫لق ررد تسر رربت ه ررذه اللفظ ررة م ررن األدب السياس رري لق رروي اليس ررار الكالس رريكي (ش رريوعيون ‪ ،‬ماركس رريون‬
‫وقوميررون عرررب) ‪ ،‬إذ أن اليسررار – عمومررا – ال يعترررف بررالثورة كثررورة إال إذا حققررت اهدافرره وجرراءت‬
‫وفررق تصرروره وبرامجرره‪ .‬ومررا نررزول اليسررار عررن هررذا برراالعتراف بثررورة أكترروبر – فرري خطررابهم – اال‬
‫ألنهم لم يكونوا ‪ ،‬آنذاك قد اكتسبوا النضج السياسي الذي شهد لهم في أخريات الستينات‪.‬‬
‫ولكن ما بال قوي اليمين الكالسيكي (طائفية وأحزاب دينية) تلوك هذا المصطلح أيضرا فري خطرابهم‬
‫عررن أبريررل رغررم اخررتالفهم البررين عررن قرروي اليسررار؟ يكمررن الجرواب فرري ان اليمررين لررم يبلررذ مررن النضررج‬
‫الفكري المدرسي أدني مراحله‪ .‬وهذه هي أزمته الفكرية‪ .‬فالذي ال فكر له تأخذ األلفاظ لديه مدلوالت‬
‫حدية اصطالحية‪ .‬فهي بالنسبة لهم ثورة رجب ‪ ،‬إال أنهم يحتفلون بها في أبريرل دون ان يحسروا فري‬
‫أنفسهم حرجاً لذلك‪ .‬فاللغة في أدب يميننا سائبة ‪ ،‬مانعة ‪،‬خالية من مدلوالت حدية قاطعة يمكرن أن‬
‫تخدم أغراض االصطالح الذي ينماز به كل أدب فكري عن انداب األخري‪.‬‬
‫التجريد ‪ ..‬هل هو خاتمة المطاف؟‬
‫لقرد ارتفرع وعري الشرعب السروداني فري ثررورة أبريرل درجرة التجريرد متجراو از مسرتويات التجسريد والرمزيررة‬
‫التري كران عليهرا فري ثررورتي المهديرة واكتروبر‪ .‬فمحرور التماسرك العرراطفي لثرورة أبريرل لرم يكرن مجسرردا‬
‫في شخص كالمهدي في المهدية ‪ ،‬ولم يكرن رمر اًز كالقرشري فري أكتروبر ‪ ،‬برل كران المبردأ فري تجريرده‬
‫(الديمقراطية)‪ .‬فهل هذا قمة ما نبتغيه من مستويات الروعي ؟ برالطبع ال‪ .‬فمضرمار الروعي النهرائي‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫فالشررعب وان كرران قررد بلررذ هررذه الدرجررة مررن الرروعي ‪ ،‬إال أن وعيرره فرري مرحلررة مررا بعررد أبريررل لررم يرتفررع‬
‫إلرري مس ررتوي أن يعررزل أع ررداء المبرردأ ‪ .‬والع ررزل هنررا نعن رري برره تحدي رردا العررزل الفك ررري‪ .‬فاعررداه المب رردأ‬
‫(الديمقراطيررة التعدديررة) رأينرراهم رأي العررين يتحلبررون لبرران الديمقراطيررة ريثمررا تقرروي أع روادهم فينقض روا‬
‫عليها ويولموا عشاءهم منها‪.‬‬
‫فررإذا برردأنا باليسررار الكالسرريكي نجررد ان الديمقراطيررة التعدديررة لررم تكررن يومراً خيررارهم السياسرري‪ ،‬ودونمررا‬
‫الواقررع والترراريخ القريررب يحكرري لنررا عررن أنظمررة الحكررم الترري اختطوهررا فرري الرربالد الترري حكموهررا‪ .‬عليرره‪،‬‬
‫فهررم أعررداء الديمقراطيررة التعدديررة مررن حيررث المبرردأ حرك روا هررذا العررداء ليرردخل مرحلررة الفعررل المضرراد‬
‫المباشر أم لم يفعلوا‪ .‬وقد رأينا إبران ديمقراطيرة مرا بعرد أبريرل كيرف نشرطت قروي اليسرار فري ممارسرة‬
‫الحقروق التري كفلتهرا لهررا الديمقراطيرة التعدديرة ‪ ،‬هررذا وان كران يقرع علريهم الرروزر األكبرر فري المجرريء‬
‫بدكتاتور مايو‪ .‬إذن فالشعب لم يرتفع وعيه للدرجة التي يتمكن معها أن يعزل هؤالء فكريا‪.‬‬
‫إذا رجعنررا لقرروي اليمررين الكالسرريكي بعررد هررذا وجرردناها تتحمررل الرروزر األكبررر فرري إضررعاف أثررر التيررار‬
‫الثقررافي النررازع نحررو الديمقراطيررة ‪ ،‬األمررر الررذي يررؤدي دومررا إلرري تنشرريط وتقويررة التيررار الثقررافي النررازع‬
‫نحررو الدكتاتوريررة فرري ثقافررة الشررارع السياسرري السرروداني‪ ،‬وبالتررالي مجرريء الحكررم الرردكتاتوري كنتيجررة‬
‫موضرروعية لررذلك‪ .‬لقررد ظررل هررذا هررو حررال اليمررين فرري كررل ديمقراطيررة عشررناه منررذ االسررتقالل‪ .‬لقررد ظررل‬
‫اليمين يسمم الديمقراطية – ومن خاللها – سلوكا وممارسة ‪ ،‬األمر الذي يفضح عداءه لها‪.‬‬
‫وننظر هنا للتيارات الدينية الصاعدة علي أنها الطائفية في ثوب شربابي جديرد ‪ ،‬فهري نتيجرة طبيعيرة‬
‫لعجز بعض التنظيمات الطائفية القديمة عن أن تلعب دورها بحنكرة سياسرية‪ .‬فلرو أمعنرا النظرر مرثال‬
‫فرري الرردوائر الجغرافيررة الترري فررازت فيهررا الجبهررة اإلسررالمية فرري إنتخابررات ‪1986‬م ‪ ،‬لوجرردناها فررازت‬
‫علري أكتراف الصروفية فري وحرل الطائفيرة حتري الرركبتين‪ .‬وقرد رأينرا الجبهرة تمرارس الحقروق السياسرية‬
‫الترري كفلتهررا لهررا الديمقراطيررة‪ ،‬ال بتغرراءا لمرضرراة ا ومصررلحة الرروطن ‪ ،‬ولكررن تسررميماً للديمقراطيررة‬
‫نفسها بغية اإلجهاز عليهرا‪ .‬فرإذا كران هرؤالء – أعرداء الديمقراطيرة بيميرنهم ويسرارهم مرن حيرث المبردأ‬
‫– ه ررم ال ررذين يش ررغلون البني ررة السياسر ررية ف رري غالبه ررا ‪ ،‬فق ررد كن ررا محقر ررين عن رردما نظرن ررا ‪ ،‬ومن ررذ بر رردء‬
‫ديمقراطيررة أبريررل‪ ،‬إلرري عررودة الدكتاتوريررة علرري أنهررا كانررت أم ر ار محتومررا ‪ ،‬مقرردو ار ‪.‬وبالفعررل هررذا مررا‬
‫حدث‪.‬‬
‫إن حرب الجنوب بريئة من وزر إفشال الديمقراطية ‪ ،‬والذين يرفعون هذا اإلتهام يعلمون ذلك‪.‬‬
‫حرب الجنوب ‪ ...‬أم هي المرب األهلية‪:‬‬

‫‪30‬‬
‫إن اإلجابة علي هذا السؤال ‪ ،‬تكشف المنطلقرات األيديولوجيرة فري النظرر للحررب الردائرة فري بالدنرا‪.‬‬
‫إذا نظرررت إلرري االسررتقطاب األيرردويولوجي الناشررب فرري السررودان علرري أنرره بررين الشررمال العربرري فرري‬
‫مواجهة الجنوب األفريقي – المسريحي والروثني – عنردها يحروز لرك ان تنظرر إلري المسرألة علري أنهرا‬
‫حرب الجنوب‪ .‬أما إذا كنت تنظر إلي االستقطاب علي أنه بين المركرز ذي الثقافرة السرودانو عربيرة‬
‫فرري مواجهررة األط رراف والهررامش ذات الثقافررة السررودانو أفريقيررة ‪،‬عنرردما يجرروز لررك أن ترررفض مسررمي‬
‫"حرررب الجنرروب" باعتبارهررا أنهررا حرررب مجموعررات الهررامش المغبونررة ثقافيررا واجتماعيررا وسياسرريا – أي‬
‫سلطويا – في مواجهة المركز المستحوذ علي الثروة والسلطة‪ ،‬فضال عن مؤسسرة الدولرة‪ .‬إن الفررق‬
‫برين هرذين المنظررورين هرو أن األول عبرارة عررن اسرتقطاب خطري ‪( Liner‬شررمال فري مواجهرة جنرروب‬
‫يفصررل بينهمررا خررط طررولي) ‪ ،‬بينمررا المنظررور الثرراني يمثررل اسررتقطابا دائريررا ‪ Circular‬تام راً (أط رراف‬
‫وهررامش ترردور مطوقررة المركررز)‪ .‬إن المتأمررل فرري ظرراهرة الحرررب األهليررة فرري السررودان يالحررظ انترري‪:‬‬
‫الجنرروب عمومررا هرري المنطقررة األكثررر تعرضررا للقهررر الررذي اشررتط حترري بلررذ حررد اإلضررطهاد والتمييررز‬
‫العرقي وما تبع ذلك من اضطهاد سياسي‪ .‬ثم تليه في الدرجة جبال النوبة واالنقسنا‪ .‬بعرد ذلرك ترأتي‬
‫دارفور ‪ ،‬يليها الشرق بقبائل البجا‪.‬‬
‫أخي ار يأتي النوبيون شماال في شريطهم النيلي‪ .‬أن هذا هو نفس الترتيب الذي اتبعته الحرب األهليرة‬
‫من حيث تواتر إشتعال فتيلها‪.‬‬
‫لق ررد تخلق ررت جرثوم ررة ه ررذا التمفص ررل األي ررديولوجي م ررع ب ررروز دول ررة الف ررونج واعتم رراد عملي ررة األس ررلمة‬
‫واإلس ررتعراب عل رري ميك ررانيزم إع ررادة إنت رراج األطر رراف و اله ررامش داخ ررل المرك ررز مم ررثال ف رري الم ارك ررز‬
‫الحضررية عمومرا‪ .‬عنردما جراء الحكررم التركري لرم يغيرر مررن هرذا الواقرع‪ ،‬برل بنرري عليره‪ .‬وهرذا عرين مررا‬
‫فعله اإلستعمار اإلنكليزي ‪ ،‬إذ لم يكن فري صرالحه أن يفكرك أرضرية إسرتق اررية‪ .‬جراهزة حتري ولرو لرم‬
‫تكن قائمة علي العدل ألنه لرم يكرن عرادالً‪ .‬ولكرن بمجريء الحكرم الروطني بعرد اإلسرتقالل أتريح لثقافرة‬
‫المركز السودانو عربية أن تباشر تفعيل ميكانيزم اإلسرتعراب (إعرادة إنتراج األطرراف والهرامش داخرل‬
‫المركررز) بررالقوة القصرروي الترري برردأت تتضرراعف نظررام حكررم اثررر آخررر فرري متواليررة عدديررة‪ .‬لقررد اشررتعل‬
‫فتيل الحرب األهلية بمجيء الحكم الوطني ‪ ،‬وهو أمر يصعب فهمه إال فري سرياق مواجهرة الهرامش‬
‫للمركررز‪ .‬عليرره لرريس مررن المنطررق أن نتوقررع حررال جررذريا للحرررب األهليررة طالمررا طلررت تركيبررة التفاعررل‬
‫الثقافي في السودان ‪ ،‬وما قد يستصحب ذلك من صراع ‪ ،‬قائمة علي مركز يعيد إنتراج األطرراف و‬
‫الهررامش داخلرره‪ .‬وتمثررل فتررات الحكررم الرروطني فشررال وترردهو اًر مسررتم اًر بلررذ حررد انهيررار البنيررات التحتيررة‬
‫للدولة‪ .‬فنظام عبود كران أفشرل مرن الديمقراطيرة األولري ‪ .‬والديمقراطيرة الثانيرة كانرت أفشرل مرن نظرام‬

‫‪31‬‬
‫عبررود‪ .‬ثررم جرراء نظررام مررايو فكرران أفشررل مررن الديمقراطيررة الثانيررة‪ .‬بعرردها جرراءت فت ررة س روار الرردهب‬
‫اإلنتقاليررة فكانررت أسروأ مررن مررايو‪ .‬ثررم جرراءت الديمقراطيررة الثالثررة ‪ ،‬فكانررت أفشررل مررن جميررع سررابقاتها‪.‬‬
‫وانن النظام الحالي هو األفشل مقارنة ‪ ،‬ولريس األفشرل مطلقراً إذا اسرتمرت التركيبرة الخاطئرة إياهرا‪.‬‬
‫إن هررذا األفشررل مقارنررة ثقررافي ‪ .‬لقررد كانررت تلررك األحرزاب وهررذه األنظمررة فاشررلة فشررال ذاتيراً ‪ ،‬ضررمن‬
‫فشررل موضرروعي آخررر هررو فشررل الثقافررة اإلسررالمو عربيررة فرري إدارة أزمررات السررودان أنرره فشررل مشررروع‬
‫االحادية الثقافية في إدارة أزمات بلد متعدد الثقافات‪ .‬لقد كانت جميعها – موضوعيا – حزبا واحردا‬
‫ونظر ررام حكر ررم واحر ررد يت ر رراوح ديمقراطير ررا و ديكتاتورير ررا‪ .‬تفشر ررل أح ر رزاب المركر ررز فر رري إنفر رراذ أيديولوجيتر رره‬
‫ديمقراطيرا‪ ،‬فيهررب جريش المركررز إلنقاذهررا مرن ورطتهررا ودفرع فرراتورة فشررلها‪ .‬تفشرل األنظمررة العسرركرية‬
‫في إنفاذ أيديولوجيا المركرز ديكتاتوريرا ‪ ،‬لتعرود نفرس األحرزاب – بعرد أن يهرب الشرعب ثرائ اًر – إلنفراذ‬
‫نفس البرنامج ومعفية نفسها من دفع فاتورة فشلها السابق‪.‬‬
‫نخلص من كل هذا إلي القول بأن حل مشكلة الحرب الهلية ليس مرهونا بسياسات حكوميرة فحسرب‬
‫‪ ،‬بل هو مرهون في المقام األول بتغيير التركيبة الخاطئة التي فصلنا في أمرها‪ .‬لهذا لم يكرن غريبراً‬
‫أن كررل نظررام حكررم كرران يزيررد مررن تعقيرردات الحرررب األهليررة‪ .‬فمررثال تشررغيل الرردين كسررالح أيررديولوجي‬
‫حاسم بدأ من قبل اإلستقالل ممثال في األحزاب الطائفية و األخوان المسلمين والوهابية‪ .‬أمرا تشرغيل‬
‫الوعي العروبي فقد بدأ قديماً ‪ ،‬وتبلور في دعوي القومية العربية ولهرذه دعاتهرا الحزبيرون‪ .‬المحصرلة‬
‫النهائية حتي األن هي هذا النظام الحالي الذي نشط واشتط في كليهما‪ .‬حتي مسألة الردفاع الشرعبي‬
‫وتجيرريش المرردنيين نجرردهما قررد برردأت فرري عهررد الديمقراطيررة الثالثررة ليسررتخدمها النظررام الحررالي لدرجررة‬
‫خشرري معهررا الرربعض مررن أن تكررون مرردخال نحررو فكفكررة الجرريش‪ ،‬ثررم تف رريخ الحرررب األهليررة شررماليا‬
‫بالتش ررغيل المكث ررف نلي ررات األي ررديولوجيا االس ررالمو عروبي ررة ‪ ،‬فك رران أن ت ررردي الس ررودان ف رري هاوي ررة‬
‫الشعوذة والهوس الديني واأليديولوجي‪ .‬ورجعنا القهقري رفإذا بدولرة الخلفيرة عبرد ا فري حرال هوسرها‬
‫وشعوذتها األيديولوجية يعاد إحياؤها علي مشارف القرن الواحد والعشرين‪.‬‬
‫المركز ‪ ..‬ذلك الق اهر المقهور‪:‬‬
‫يشير كالمنا في ظاهره علي كشف إنماط قهر المركرز لاطرراف و اسرتتباعها ‪ .‬ومرن ثرم اسرتيعابها‪.‬‬
‫بهررذا تظهررر صررورة المركررز فرري شرركل الظررالم المطلررق‪ .‬إال إن األمررر لرريس كررذلك‪ .‬إن القهررر الثقررافي‬
‫سررالح ذو حرردين ‪ ،‬فكيمررا أمررارس عليررك القهررر الثقررافي‪ .‬ينبغرري عررل يتطبيقرره علرري ذات نفسرري أوال إن‬
‫أقصي ما يمكن أن يبلغه القهر الثقافي هو تجفيف الحياة العامة من اإلبرداع ‪ ،‬وبالترالي العجرز عرن‬
‫صررنع الحيرراة نفسررها‪ .‬هررذا بررالطبع يررتم عبررر أيررديولوجيا بعينهررا ‪ ،‬مررع التشررغيل المكثررف لكررل محركاتهررا‬

‫‪32‬‬
‫وآلياتهررا‪ .‬ومررن أقرروي آليررات التشررغيل الحاليررة فرري السررودان نجررد المؤسسررات القيميررة الترري يرردفع شررغلها‬
‫نحو الكبح والكف والتحريم ‪ ،‬وذلك عبر ثقافرة "العيرب" وقرد ترم تشرغيل كرل هرذه انليرات عبرر محررك‬
‫الدين اإلسالمي ‪ ،‬وذلك منذ نشوء دولة الفونج‪.‬‬
‫لقرد كران المعمرل الرذي ترم فيره ذلرك هرو المركرز عمومراً‪ .‬ثرم الم اركرز الحضررية خاصرة‪ .‬وقرد نرتج عررن‬
‫ذل ررك وض ررع مقل رروب‪ .‬فم ررن المع ررروف أن الري ررف أكث ررر محافظ ررة م ررن المدين ررة ‪ ،‬إال أن الوض ررع ف رري‬
‫السودان هو عكس ذلك‪ .‬أن المررأة – مرثال – نجردها فري الريرف أكثرر تحرر ار مرن المررأة فري المدينرة‪.‬‬
‫هذا بمعايير المركز‪ .‬أما إذا ما قارنا ذلك بما عليه الحال فري منراطق الهرامش ‪ ،‬فرإن المقارنرة تكرون‬
‫حادة وظراهرة‪ .‬ذلرك ألن منراطق الهرامش تسرتمد قيمهرا – بروعي أو بردون وعري – علري ترراث النظرام‬
‫األمررومي ‪ ،‬بينمررا المركررز يكشررف وعيرره بالنظررام األبرروي وذلررك عبررر وعيرره االسررتعرابي‪ .‬فمرراذا كانررت‬
‫النتيجررة ؟! لقررد كرران الغنرراء والطرررب – وال يرزال فرري بعررض منرراطق المركررز – عيبراً‪ .‬وفرري أوائررل هررذا‬
‫القرن ‪ ،‬أصربحت المررأة فري المدينرة سرجينة الحجررات‪ ،‬بينمرا أختهرا فري الريرف تخروض غمرار الحيراة‬
‫دون حجاب‪.‬‬
‫بمعنرري آخررر ‪ ،‬لقررد قهررر المركررز نفسرره اوالً ‪ ،‬وذلررك حترري يسررتقيم لرره أيررديولوجيا أن يقهررر الهررامش‪ .‬إن‬
‫نظ ررة س رريعة لطقرروس وم ارسررم اإلحتفررال و اإلبتهرراج الثقررافي اإلجتمرراعي يمكررن أن توضررح الصررورة‪.‬‬
‫تحتفل كل مناطق الهامش عبر الموسيقي‪ ،‬والغنراء ‪ ،‬اإليقراع والررقص الجمراعي المخرتلط‪ ،‬وهرذا هرو‬
‫سمة الحقل في أفريقيا ‪ ،‬وهو ترراث ضرارب فري القردم ويعكرس العمرق التراريخي والحضراري لثقافرات‬
‫الهامش ‪ .‬اما المركز فتعوزه هذه األشياء‪ .‬فالغناء عنده كران محرمرا ‪ ،‬ثرم عنردما اكتسرب المشرروعية‬
‫اإلجتماعيررة ‪ ،‬ل ررم يج ررد المرك ررز غي ررر أن يعم ررد إل رري العدي ررد م ررن الطق رروس التعبيري ررة (ولنأخ ررذ ال رررقص‬
‫كمثررال) الترري تكتسررب إتباعررا وتشرربها ‪ ،‬و لرريس أصررالة ‪ .‬إن سررياق "الحفلررة" فرري المركررز يشررتمل علرري‬
‫كم هائل من التسطيح الثقافي والتمثيل الذي يدخل في دائرة النفاق الثقافي ك االجتماعي‪.‬‬
‫فمرراذا كانررت النتيجررة؟ لقررد كانررت إنسررانا مقهررو ار فرري اعماقرره ‪ ،‬أي إنسررانا مغتربررا ومسررتلبا‪ .‬فهررو يعرريش‬
‫فرري مجتمررع يررؤمن بكررل قرريم الررذكورة و سرريطرة الرجررل علرري الم ررأة‪ ،‬بينمررا ت ارثرره األمررومي األفريقرري –‬
‫بحكم أنه أبن الهامش معاد إنتاجه – يجعل المرأة حقيقة تمسك بكل أزمرة أمروره وذلرك بإتبراع تكتيرك‬
‫بسرريط يكمررن فرري إرضرراء غررروره بضررخ كررل قرريم الررذكورة األبويررة فرري مسررتوي الرروعي المباشررر‪ .‬أنرره‬
‫مجتمع يريد أن يرقص ويغني ‪ ،‬لكن تكبلره قريم ثقافرة "العيرب" والتحرريم القراهرة‪ .‬إزاء كرل هرذا ال يجرد‬
‫بدا من أن يرقص – لكن بطريقة اسالمية ‪ .‬حتي عندما يرقص ‪ ،‬فهو ال يملك إرثا خاصا بره‪ .‬لكرل‬
‫ه ررذا نج ررد "الحفل ررة" ف رري من رراطق المرك ررز الحضر ررية عب ررارة ع ررن جمه ررور يج رريء للفرج ررة والمش رراهدة –‬

‫‪33‬‬
‫والمراقب ررة كم ررا ه ررو الح ررال عن ررد النس رراء كبير ررات الس ررن – والمف رراخرة وعر ررض جم رريالت العائل ررة ‪ ،‬ث ررم‬
‫مجموعررة مررن الشررباب الررذين يتحرررون أنماط راً بعينهررا مررن السررلوك التمثيلرري النفرراقي شرربيه بمررا كانررت‬
‫تعكسره الطبقرة االرسرتقراطية قبرل قررون‪ .‬ثرم هنالرك فنران ‪ ،‬ثرم رقرص ال يمكرن تتبرع عمقره فري الثقافررة‬
‫السودانية ألكثر من عشر سنوات إلي الخلف‪ .‬باختصار إنه مرا يمكرن أن نسرميه بنمروذج "إنسران أم‬
‫درمان"‪.‬‬
‫لكن أين تكمن المشكلة؟‬
‫إنها تكمن في أن المركز المستلب هو الذي يعيد إنتاج الهامش و األطراف‪ .‬ليس هذا فحسرب ‪ ،‬برل‬
‫تحولت المراكز الحضرية (المدينة) داخل هذا المركز إلي قياسات ثقافية تقهرر هامشرها الرداخلي أوال‬
‫وبصررورة بشررعة‪ ،‬حترري أمكررن القررول بأنرره قررد تررم تجفيررف ثقافررات منرراطق بأكملهررا مررن اإلبررداع أيررا كرران‬
‫شكله‪ ،‬خاصة في بعض مناطق الجزيرة ‪ ،‬فضال عن أطراف المركز‪.‬‬
‫لك ررل ه ررذا ي ررأتي قولن ررا ب ررأن المرك ررز نفس رره مقه ررور ومس ررتلب مغت رررب‪ .‬لق ررد اكتس رربت كيان ررات اله ررامش‬
‫واألطرراف وعيررا بمشرركلة الهويررة عنرردها‪ ،‬لكررن بقرري المركررز ممسرركا بالحيررل وشررادا برره ‪ ،‬دون أن يرردري‬
‫أن الحبررل برردءا ملتررف حررول رقبترره‪ .‬إن تحرررر المركررز يسررتدعي مررن أبنائرره شررفافية قبررل ان يسررتدعي‬
‫األمر التحلي بالشجاعة‪.‬‬
‫اليمين ‪ ..‬اليسار ‪ ..‬الوسط ‪ :‬إعادة نظر‪:‬‬
‫قبررل مررا يزيررد علرري المئتررين عامراً انقسررم أعضرراء الجمعيررة الوطنيررة الفرنسررية (أي البرلمرران) برين مؤيررد‬
‫للنظررام‪ ،‬وأخررر معررارض‪ .‬داخررل القاعررة تكتررل المؤيرردون علرري يمررين المنصررة‪ ،‬بينمررا تكتررل المعارضررون‬
‫يس ررارها ‪ .‬م ررن ه ررذا الح رردث البس رريط ت ررم إش ررتقاق مف رراهيم اليم ررين واليس ررار‪ .‬وعن رردما ظه رررت الحرك ررات‬
‫الماركسرية خرالل هرذا القرررن بوصرفها معارضرة جرراهزة ألنظمرة الحكرم‪ ،‬أطلررق عليهرا مصرطلح اليسررار‬
‫تعميمراً ‪،‬بينمررا أطلررق مصررطلح اليمررين علرري القرروي الداعيررة للمحافظررة علرري األوضرراع القائمررة‪ .‬ثررم رد‬
‫التعميم المجازي أكثر ‪ ،‬فأصبح اليسار هو دعاة اإلشتراكية‪ ،‬بينما اليمين هو دعاة الرأسمالية‪.‬‬
‫لكررن المشرركلة انن هرري أن الحركررة اإلشررتراكية قررد تضعضررعت وأصرربحت إلرري زوال‪ .‬فهررل سرريذيب‬
‫معهررا مفهرروم اليسررار؟ هررذا فضررال عررن عرردم تطررابق المفهررومين مررع األوضرراع فرري السررودان أصررال‪،‬‬
‫باعتباره بلدا قبل رأسمالي – هذا إذا أخذ المصطلحان بالمفهوم الغربي لهما‪.‬‬
‫إذن اإلحالة الموضوعية لمفاهيم اليمين ‪ ،‬اليسار الوسط نسبية في أساسرها ‪ ،‬ذلرك ألنهرا تسرتند علري‬
‫األيديولوجيا كمتغير‪ .‬أي أنها دالة أيديولوجية‪ .‬هذا ما يدفعنا غلي إعادة رسم الخريطرة فري السرودان‬
‫من منظور التمفصل األيديولوجي المتعين‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫هنالررك ثررالث إتجاهررات رئيسررية ظررل السررلوك الشخصرري والعررام للسررودانيين ينرردرج تحررت إحررداهما ‪،‬‬
‫بوعي أو بردون وعري ‪ .‬وهنرا ترأتي ضررورة ترفيرع درجرة الروعي األيرديولوجي حتري يعلرم كرل واحرد منرا‬
‫موقرع قدميرره‪ ،‬بردال مررن التحرررك وفرق حررس أيررديولوجي عرام ال يسررنده أي وعرري مباشرر‪ .‬إن ترفيررع هررذا‬
‫ال ر رروعي م ر ررن ش ر ررأنه أن يكش ر ررف للعدي ر ررد م ر ررن الس ر ررودانيين زي ر ررف مر ر رواقفهم ‪،‬وم ر ررن ث ر ررم تناقض ر رراتها م ر ررع‬
‫أيديولوجياتهم الحقيقية‪.‬‬
‫أما اإلتجاهات الثالثة فهي‪:‬‬
‫‪ /1‬أيديولوجيا الهيمنة ‪:‬‬
‫وهي التي تتبناها القوي المنتمية إلي المركز ذي الثقافرة اإلسرالموعربية ‪ ،‬حيرث يتحرول اإلسرالم إلري‬
‫سررالح أيررديولوجي لحسررم قضررايا سياسررية – دنيويررة‪ ،‬كمررا يتحررول الرروعي العروبرري فرري كررل المواقررف‬
‫المحكية إلي معيار عرقي يسعي للتبرؤ من كل ما هو أسود‪ ،‬أي كل ما هو أفريقي‪ .‬هذا هرو التيرار‬
‫اليميني في تصنيفنا له‪ ،‬وفيه تندرج العديد من القروي اإلجتماعيرة ‪ ،‬والسياسرية ‪،‬حتري الشريء نتسرمي‬
‫بمسررميات اليسررار مثررل دعرراة القوميررة العربيررة ‪،‬وحترري الماركسرريين السررودانيين‪ ،‬ولهررذا يجرريء حررديثنا‬
‫عنهم باعتبارهم يسا ار كالسيكيا‪.‬‬
‫‪ /2‬أيديولوجيا الجهوية‪:‬‬
‫وتمثلها الوحدات والكيانات الثقافية السودانية المفردة من بين شريط الهامش والتي يئست مرن جردوي‬
‫النضال عبرر منظرور الوحردة فري التنروع‪ ،‬فنزعرت بالترالي إلري "فررز" نفسرها ‪ ،‬ومرن ثرم خروض نضرال‬
‫جهوي متطرف ينتهي إضطراده المنطقي إلي اإلنفصال‪ .‬وهذا هو التيار اليساري في مفهومنا‪.‬‬
‫‪ /3‬أيديولوجيا القومية السودانية‪:‬‬
‫وتمثلهررا القرروي الترري تعمررل مررن أجررل سررودان مؤحررد قررائم علرري الحريررة والعرردل والسررالم‪ ،‬وذلررك وفررق‬
‫منظررور الوحرردة فرري التنرروع دون هيمنررة ثقافررة علرري أخررري ‪ ،‬والغرراء لميكررانيزم إعررادة إنترراج األط رراف‬
‫والهامش داخل المركز‪ ،‬وذلك حتي يتسني لكل فرد أن يوطن ثقافته قوميرا محققرا برذلك إسرتقالليته و‬
‫إنتماءه دونما إغتراب او إستالب‪ .‬وهذا هو ما نطلق عليه تيار الوسط‪.‬‬

‫ثم كلمة عن العلمانية والدولة الدينية‪:‬‬


‫أخر نموذج للدولة الدينية هو ما كان عليه الحال في أوروبا قبرل برزوغ شرمس الدولرة القوميرة‪ .‬فمراذا‬
‫يررا تررري تعنرري "الدولررة الدينيررة" ؟ لالجابررة علر ري هررذا الس رؤال علينررا أن نررذكر بكالمنررا عررن "مؤسس ررة‬
‫الدولررة"‪ ،‬أي تحديرردا تلررك المؤسسررات الترري تبلررورت ج رراء تفررويض السررلطة مررن المسررتوي السياسرري‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫فكيمررا تمررارس السررلطة فرري المسررتوي السياسرري تحترراج إلرري أحرزاب (حكومررة ومعارضررة) ‪،‬وتحترراج إلرري‬
‫رئاسة ‪ ،‬وبرلمان‪ ،‬وقضاء ‪،‬ومجلرس وزراء ‪ ..‬الرخ‪ .‬هرذا هرو مرا يعررف بمؤسسرة الدولرة‪ .‬أمرا إذا جئنرا‬
‫إلي مفهوم "دينية الدولرة" فإنهرا ال تترأتي لمجررد أن حزبنرا ذا أفكرار دينيرة قرد اسرتلم السرلطة‪ ،‬أو حتري‬
‫اصبح يشرع القوانين وفق المعيارية األخالقية في دينه‪ .‬أن كل هذا ال يجعرل مؤسسرة الدولرة "دينيرة"‬
‫ألنها كيما تصبح دينية تحتاج إلي مؤسسة أخري‪ .‬إنها تحتاج إلي مؤسسرة دينيرة‪ .‬وهنرا البرد مرن أن‬
‫نكررون واضررحين‪ .‬ان المؤسسررة الدينيررة هرري عبررارة عررن منظومررة اجتماعيررة ثقافيررة ذات قررانون داخلرري‬
‫خرراص بهررا‪ .‬مثررل ذلررك الطرررق الصرروفية ‪ ،‬لكررن حترري هررذه الطرررق متعررددة ومختلفررة ‪.‬إذن ‪ ،‬لتقريررب‬
‫الصررورة‪ ،‬يمكررن أن نررذكر الطريقررة الميرغنيررة ‪،‬فمررن المعررروف أن نظامهررا الررداخلي المؤسسرري‪ ،‬إذ ال‬
‫يمكررن أن تنضررم إلرري الطريقررة الميرغنيررة كمررا تنضررم غلرري حررزب سياسرري‪ ،‬ولنقررل الحررزب اإلتحررادي‬
‫الررديمقراطي لتكتمررل الصررورة‪ .‬إن الدولررة تصرربح دينيررة عنرردما تقرروم الطريقررة الميرغنيررة – فرضررا ‪( -‬‬
‫بوصررفها مؤسسررة دينيررة ) يشررغل دوالب الدولررة و مؤسسرراتها ‪،‬وذلررك وفقررا لهيكليررة المؤسسررة الدينيررة‪،‬‬
‫عليرره‪ ،‬فرري سرربيل إقامررة دولررة دينيررة حقيقيررة البررد مررن تروافر مؤسسررة دينيررة مسررتقلة بهيئاتهررا وتكويناتهررا‬
‫الهرمية عن مؤسسات الدولة‪ ،‬كما كان الحال في الكنيسة الكاثوليكية في أوروبرا‪ ،‬أو كمرا هرو الحرال‬
‫ف رري اير رران‪ ،‬إذ أن المؤسس ررة الش رريعية هن رراك هرمي ررة متكامل ررة‪ ،‬إن ديني ررة الدول ررة تتمث ررل ف رري أن تق رروم‬
‫مؤسسررة كهررذه بشررغل دوالبهررا كمررا قلنررا‪ .‬بخررالف ذلررك تكررون الدولررة علمانيررة مهمررا تمسررحت بالمسرروح‬
‫الدينية‪.‬‬
‫إن المفارقررة تكمررن فرري أنرره ال مجررال لقيررام دولررة دينيررة فرري هررذا العصررر‪ ،‬حترري لررو وجرردت المؤسسررة‬
‫الدينية‪ .‬وانما لهذا عجز الشيعة في إيران عن إقامة دولرة دينيرة‪ ،‬مرع إمرتالكهم للمؤسسرة الدينيرة‪ .‬إن‬
‫الدول ررة ف رري إير رران علماني ررة ديمقراطي ررة قائم ررة عل رري المؤسس ررات وفص ررل الس ررلطات ال ررثالث ب ررالمفهوم‬
‫العلماني الحديث‪ ،‬مع فارق واحد هو إنحصارها دستورياً علي الشيعة مع تمثيل األقليات‪ .‬كذلك فري‬
‫إسرائيل الدولة علمانية ديمقراطية ‪ ،‬رغم إنحصارها علي اليهود وتمثل األقليات العربية‪.‬‬
‫أما إذا ما جئنا إلي السودان حيث المذاهب اإلسرالمية السرنية هري السرائدة ‪،‬فرال توجرد مؤسسرة دينيرة‬
‫مرن أصرلها حتري تسررتوفي شرروط إقامرة الدولررة الدينيرة‪ .‬عليره ‪ ،‬ال منراص مررن علمانيرة الدولرة – كمررا‬
‫هررو عليرره الحرراالألن – مهمررا تمسررح الحكررام بالمسرروح اإلسررالمية‪ ،‬هررذا طبعررا دون أن نركررب موجررة‬
‫المهرراجمين بالمفارقررة الص رريحة لررروح اإلسررالم وروح األمررة السررودانية‪ .‬إن نظررام حكررم اإلنقرراذ ‪ ،‬فرري‬
‫ح ررال دكتاتوريت رره المتزمت رره أو إنف ارج رره السياس رري‪ ،‬ه ررو ف رري الواق ررع نظ ررام حك ررم علم رراني‪ ،‬مثل رره كمث ررل‬
‫الديكتاتوريات الشيوعية المنهارة ‪،‬وهري كانرت علمانيرة طبعرا‪ .‬لكرل هرذا إن رفرع األحرزاب لشرارة الردين‬

‫‪36‬‬
‫ال يعنرري بررالمرة عرردم علمانيتهررا‪ ،‬فهلمرروت كررول مستشررار ألمانيررا األسرربق كرران يررأس الحررزب المسرريحي‬
‫الديمقراطي دون أن يقدح ذلرك فري علمانيرة الحرزب‪ .‬المهرم فري األمرر هرو العلمانيرة الديمقراطيرة‪ ،‬أي‬
‫أن ال يحمررل الحررزب فكر ار وبرنامجررا معاديررا فرري جرروهره للديمقراطيررة‪ ،‬النرره فرري هررذه الحالررة ال يحررق لرره‬
‫التمتع بالديمقراطية‪ .‬وهنا تجي ضرورة عزل أعداء المبدأ فكريا‪.‬‬
‫إن معظررم األح رزاب السررودانية ذات الفكررر اإلسررالمي هرري فرري حقيقتهررا علمانيررة‪ ،‬براقماتيررة ‪،‬ذرائعيررة‬
‫بحتة‪ .‬وهذا ليس عيبا في ذاته‪.‬‬
‫"العيرب" هرو أنهررا ديكتاتوريرة الفكررر والتوجره‪ .‬وحترري هرذا لرريس خطر ار فرري حرد ذاترره‪ ،‬إذ يمكرن مواجهترره‬
‫باستنهاض اإلرث الثوري الشيعي السوداني‪ .‬إن مكمن الخطرورة هرو تصرويرها وتخريجهرا لكرل رؤاهرا‬
‫ومواقفه ررا وأه رردافها عل رري أن ذل ررك ه ررو اإلس ررالم‪ .‬وانم ررا ه ررذا ه ررو من رراط إتهامه ررا بالمت رراجرة فر ري ال رردين‬
‫والمزايدة عليه إرهابا وابت اززا‪ .‬إنها في ذلرك تسرتفيد مرن أمررين‪ ،‬أولهمرا تخلرف الفهرم الرديني اإلسرالمي‬
‫عنررد عامررة المسررلمبن بالسررودان‪ .‬أمررا ثانيهمررا فهررو أيررديولوجيا الهيمنررة والقهررر اإلسررالموعربية ‪ .‬وفرري‬
‫الحقيقررة إن العامررل الثرراني هررو النبررع‪ .‬ومررا عررداه فجداولرره وان القرروة الترري تبرردو عليهررا هررذه األح رزاب‬
‫تع ر ررزي إل ر رري ان ري ر رراح أي ر ررديولوجيا الهيمن ر ررة تم ر ررال أش ر رررعتها‪ ،‬وذل ر ررك تكثيف ر ررا لالستش ر ررعار إزاء احت ر ررداد‬
‫االستقطاب األيديولوجي الجاري انن بالسودان ‪ .‬إن أيديولوجيا الهيمنة يحيق بها خطر داهرم يتمثرل‬
‫في إشتداد هبوب رياح التغيير القومية العاتية‪.‬‬
‫فرري مجررال الفكررر تعرراني األحرزاب الدينيررة اإلسررالمية عمومررا مررن بررؤس فكررري مريررع ‪ ،‬إذ لررم يشررهد لهررا‬
‫بر ررأي تنظير ررر فكر ررري عمير ررق مر ررن شر ررأنه أن يقر رردم طرحر ررا إسر ررالمية معاص ر ررا‪ .‬وهنر ررا تتجلر رري ذرائعيتهر ررا‬
‫البراقماتية‪ ،‬فهي تعد الجماهير برؤية إسالمية سلفية متكاملة دون أن يفصحوا عرن تفاصريلها‪ .‬ولكرن‬
‫عنرردما يصررلون للحكررم نجرردهم يتبنررون جميررع منرراهج مؤسسررات الحكررم العلمرراني الحررديث‪ .‬ذلررك مثلمررا‬
‫تبن رري نظ ررام اإلنق رراذ م ررنهج اللج رران الثوري ررة م ررن الق ررذافي العلم رراني‪ .‬حت رري األحك ررام الحدي ررة للشر رريعة‬
‫اإلسالمية التي ضمنها نظام مايو في قوانين سبتمبر ‪،‬تحاشري هرذا النظرام تطبيقهرا‪ ،‬ال لمرا جوبره بره‬
‫مررن ضررغط دولرري ‪،‬بررل لطبيعترره العلمانيررة البحترره واد اركرره لمفارقررة السررياق مررا بررين المجتمررع العربرري‬
‫األول‪ ،‬وبررين مجتمعاتنررا الحاليررة وكررل تجررارب الحكررم المعاصررة‪ .‬ومررع هررذا نشررط فرري المقابررل‪ ،‬وغررالي‬
‫فرري تطبيررق عقوبررات الجلررد التعزيريررة إذالالً وامتهانررا‪ ،‬وذلررك تحررت العديررد مررن المبررررات والمسرروغات‬
‫التري تربرأ الدولرة فري العصررر الحرديث عرن أن أبترذل حتري أنتهرري إلري "طرحرة" مطروحرة علري الررأس‬
‫كيفما تأتي الباقي‪ .‬وهنا يتكشف البعد األيديولوجي غير القيمي للموضوع‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫نخررتم فنقررول إن أي فكررر إسررالمي ناصررع المعاص ررة ال يمكررن أن يتررأتي مررا لررم يحقررق إسررتقالليته عررن‬
‫األيررديولوجيا العربيررة الملتبسررة باإلسررالم منررذ عهرروده األولرري‪ ،‬فضررال عررن تنزيهرره عررن أي أيررديولوجيا‬
‫إجتماعية تتسم بالنزوع للهيمنة والقهر‪.‬‬
‫دكتاتورية ما بعد أبري ‪:‬‬
‫كرران حتمررا مقضرريا علرري هررذه الدكتاتوريررة ان تجرريء فالبنيررة السياسررية بإنحرافهررا الررذي ال تخطئرره عررين‬
‫(تفاقم األزمات ‪،‬انفصال عن القواعد ‪،‬تجلي البطر بالحكم‪ ،‬والتكالب عليه‪ ،‬عدم االستقرار السياسري‬
‫والحرررب األهليررة ‪ ...‬الررخ‪ ).‬فقررد دفعررت الشررعب دفعررا – محكومررا ب ليررات وعيرره – إلرري إسررقاط كررل هررذا‬
‫الفش ررل عل رري الكيفي ررة السياس ررية (الديمقراطي ررة) األم ررر ال ررذي ن ررتج عن رره تهي ررؤ الش ررعب ألي ب ررديل آخ ررر‬
‫(الدكتاتورية بالطبع) يريحهم من (دوشة) األحزاب‪ .‬عندها أصبح النراس يررددون بصروت واحرد جلري‬
‫جهير أال نفع للهذه الديمقراطية مع هذا الشعب‪.‬‬
‫وهك ررذا أص رربح أث ررر التي ررار الثق ررافي الن ررازع نح ررو الديمقراطي ررة يض ررمحل ف رري وع رري الش ررارع السياس رري‬
‫السوداني ‪ ،‬فقد أصبحنا نسمع – بصوت عال – أن السودان "دايرر دكتراتور عرادل"‪ .‬وهرذا يعنري أن‬
‫أثر التيار الثقافي النازع نحو الدكتاتورية قد أصبح ينتعش في ثقافة الشارع السياسي السوداني‪.‬‬
‫عليه ‪ ،‬كان من الطبيعي أن تجيء الدكتاتورية كاستجابة موضوعية لكل هذا‪.‬‬
‫كنرا قرد بينرا – إبرران الديمقراطيرة السرابقة لرردي إصردارتنا الثانيرة لهرذا الكتيررب فري عرام ‪1988‬م – بررأن‬
‫الدكتاتوريررة القادمررة (دكتاتوريررة يونيررو الحاليررة) لررن تكررون عسرركرية ‪ ،‬فالمؤسسررة العسرركرية قررد أنهكهررا‬
‫نظررام مررايو المبرراد‪ .‬هررذا وان كانررت قطاعررات عريضررة مررن الشررعب السرروداني تحملهررا وزر مررا حرردث‪،‬‬
‫وهي منه وبرراء‪ .‬وكنرا قرد قردمنا أقروي االحتمراالت فري أن تكرون الدكتاتوريرة القادمرة يمينيرة – طائفيرة‬
‫تتخررذ مررن الجرريش مطيررة لهررا‪ .‬الحررت تباشررير هررذا المخطررط عنرردما تأسررس مررا عرررف بحكومررة الوفرراق‬
‫‪1988‬م وقررد تلخررص ذلررك السررناريو بررأن تمتلررك طائفررة األنصررار السررالح (أي الجرريش) ثررم ترردخل فرري‬
‫حلفهررا مررع مررن يمتلكررون السرروق (الجبهررة اإلسررالمية)‪ .‬تقرراعس حررزب المررة عررن أداء دوره‪ ،‬ذلررك لررن‬
‫أش رررعته تتجاذبه ررا تي ررارات متناقض ررة م ررن ن ازع ررات ديمقراطي ررة وأخ ررري ديكتاتوري ررة ‪،‬فك رران أن إنف ررردت‬
‫الجبهررة اإلسررالمية باللعبررة وحرردها‪ .‬وعلرري أي ‪ ،‬إن هررذه اإلختالفررات فرري إحررداثيات الظرررف ال تخررل‬
‫بالتحليل الموضوعي لظاهرة الديمقراطية و الديكتاتورية في سياقها العام‪.‬‬
‫اإلنمراف السياسي المالي‪:‬‬
‫بخررالف الحكررم التركرري‪ ،‬لررم يحرردث أن بلررذ اإلنحرراف السياسرري مررا بلغرره فرري ظررل النظررام الحررالي‪ .‬لقررد‬
‫مرررت علرري البش ررية حقررب طويلررة‪ ،‬ظلررت تفرروض فيهررا السررلطة مررن مسررتواها القاعرردي إلرري المسررتوي‬

‫‪38‬‬
‫السياسرري‪ ،‬األمررر الررذي نج ررم‪ .‬عنرره تشرركل مؤسس ررة الدولررة‪ .‬إن الدولررة ه رري أخطررر مؤسسررة أنتجته ررا‬
‫البش ررية‪ ،‬ومررا ذلررك إال ألن البش ررية قررد فوضررتها حترري ممارسررة القرروة الماديررة القس ررية‪ .‬فالدولررة‪ ،‬عبررر‬
‫مؤسسرراتها العدليررة والقانونيررة‪ ،‬يمكررن أن تنتررزع فررردا مررا مررن بررين ظه ارنرري أهلرره وعشرريرته‪ ،‬لتحاكمرره ثررم‬
‫تنفذ فيه حكم اإلعدام ‪ ،‬دون أن يحس أهلره وذووه برالغبن إ ازهرا ‪ ،‬وتحرديا إزاء القاضري الرذي أصردر‬
‫الحكم‪.‬‬

‫لم تفعل البشرية ذلك منة منها بمؤسسة الدولة ‪ ،‬بل ألنها ألزمتهرا بمجموعرة مرن الواجبرات والمهرام ‪،‬‬
‫تقرروم بهررا وتؤديهررا للمجتمررع ‪ .‬فالعقررد اإلجتمرراعي بررين المجتمررع ومؤسسررة الدولررة يقضرري بررأن يتخل ر‬
‫األول عن قردر معلروم مرن كسربه ومعاشره فري شركل ضررائب يردفعها للدولرة ‪ ،‬لتقروم األخيررة بإعادتهرا‬
‫لرره فرري شرركل خرردمات معيشررية ‪ ( ،‬صررحية ‪ ،‬تعليميررة ‪ ،‬بنيررات تحتيررة ‪ ،‬تنميررة ‪..‬إلررخ ) ‪ .‬بهررذا تصرربح‬
‫الدولة ( أو الحكومة التي تشغل مؤسسرة الدولرة ) بمثابرة المعيرل للمجتمرع ‪ .‬أي بمثابرة الوالرد ألبنائره‬
‫‪.‬ألجل هذا يتخل كل فرد في المجتمع عن قدر كبير من حريته ‪ ،‬ويحجرم طائعر عرن ممارسرة القروة‬
‫المادية الشخصية المتاحة له ‪ ،‬لتفوض في مجملها اإلجتماعي لمؤسسة الدولة ‪.‬‬

‫فمررا الررذي حرردث لهررذا العقررد اإلجتمرراعي فرري عهررد النظررام الحررالي ؟! لقررد قررام النظررام بوصررفه الحكومررة‬
‫التي تشغل مؤسسة الدولرة ‪ ،‬باإلحتفراظ بكرل الصرالحيات والسرلطات واإلمتيرازات التري منحهرا العقرد‬
‫اإلجتمرراعي لرره ‪،‬ا م كرران أن تصرررف بطريقررة تشررير أنرره – كدولررة – غيررر مسررؤل تجلرره المجتمررع فرري‬
‫ملبسرره ومأكلرره وتعليمرره وأمررر تنميترره ورفاهيترره العامررة ‪ .‬إذن مررن الطبيعرري أن يتخل ر المجتمررع عررن‬
‫القيررام بواجبرره إزاء الدولررة ‪ ،‬طالمررا كانررت هرري البادئررة بررنقض العقررد اإلجتمرراعي بينهمررا ‪ .‬أي –بمعنر‬
‫آخر‪ -‬أن يتوقف المجتمع عن دفع الضرائب ويستعيد بالتالي سرلطاته المفوضرة لهرا ‪ .‬هرذا تصروير‬
‫نظري بالطبع لكنه – عملي – يعني نقض عقد الوالية‪ .‬فما الي حدث ؟‬
‫إستمسرركت المجموعررة الحاكمررة بكررل أزمررة السررلطة الماديررة القس ررية الخاصررة بالدولررة ‪ ،‬وذلررك لقهررر‬
‫المجتمع ‪ ،‬وحمله عل اإلذعان واإلستكانة لهم ‪.‬‬
‫بهذا أصبح المجتمع هو الذي يعول الدولة ‪،‬بدن من أن تعول الدولة المجتمع ‪ .‬بمعنر آخرر ‪،‬‬
‫أصبح المجتمع يعول ( الحزب الحاكم ) والذي كشف عن شرره مرادي دنيروي ‪ ،‬وتكالرب شرركي علري‬
‫المال والجاه الزائل ‪ ،‬فبطر كما لم يبطر أحرد ‪ ،‬وتمررغ فري وحرل السرلطة والمرال العرام كمرا لرم يتمررغ‬
‫أحررد ‪ .‬وأصرربح ال مثيررل لهررذا العهررد فرري ترراريخ السررودان إال التركيررة السررابقة مررن حيررث تسررخير الدولررة‬

‫‪39‬‬
‫للسلطة والثروة بما يتنراقض ومصرلحة الشرعب ‪ .‬بهرذا يكرون افنحرراف السياسري قرد بلرذ أقصري درجرة‬
‫لرره حترري االن‪.‬فررإن كانررت ديكتاتوريررة مررا بعررد أبريررل قررد تحققررت كمررا جرراء اسررتقراؤنا المنهجرري لواقعنررا‬
‫المعاصر ‪،‬فإن الثورة أيضا قادمة الريب فيها‪ .‬إنها ثورة الشعب السوداني الرابعة‪ ،‬التي سيرتفع فيهرا‬
‫الرروعي إلرري مسررتوي أن يجعررل المبرردأ (الديمقراطيررة) فرري تجريررده محررور التماسررك العرراطفي لثورترره‪ .‬ثررم‬
‫يسررمو الرروعي عررن ذلررك فرري حررال كررونهم برنامجررا لاحاديررة والمركزيررة الثقافيررة ‪ ،‬أو متعينررين كررأحزاب‬
‫سياسية‪.‬‬
‫عندما ستتمخض الثورة عن الديمقراطية كخيار حضاري لهذا الشرعب‪ ،‬وكجرزء مرن مورثاتره المتجرذرة‬
‫ال اركرزة فرري تركيبرره ثقافترره‪ .‬ولينظررر بعررد ذلررك أولئررك الررذين ال تمثررل الديمقراطيررة التعدديررة خيررا اًر مبرردئياً‬
‫لهم أي منقلب ينقلبون‪.‬‬
‫حلقة مفرغة أو متوالية‪:‬‬
‫إن مسألة الديمقراطية والدكتاتورية وتبادل األدوار بينها في مسرحنا السياسي تجري علي نسرق أشربه‬
‫ما يكون بذلك الذي تجري عليره المتواليرة العدديرة‪ .‬فالديمقراطيرة األولري اسرتمرت لعرامين (‪– 1956‬‬
‫‪1958‬م) ‪ ،‬فأعقبتهر ر ررا دكتاتورير ر ررة اسر ر ررتمرت سر ر ررتة أع ر ر روام (حكر ر ررم عبر ر ررود) (‪ .)1964 – 1958‬أمر ر ررا‬
‫الديمقراطيررة الثانيررة فقررد اسررتمرت لخمسررة أع روام (‪1969 – 1964‬م) ‪ ،‬فأعقبتهررا دكتاتوريررة اسررتمرت‬
‫ستة عشر عاما (نظام مايو) (‪1985 – 1969‬م)‪.‬‬
‫عنرردما جرراءت الديمقراطيررة الثالثررة (‪1989 – 1985‬م) كنررا فرري حواراتنررا مررع القرروي السياسررية ‪،‬نررردد‬
‫الس رؤال التررالي‪ :‬كررم يرراتري مررن األع روام الدكتاتوريررة سرريكلفنا العررام الواحررد فرري ديمقراطيتنررا هررذي؟ كنررا‬
‫نطرح ذلك السؤال كيما يتهيا السودانيون لما هرو أسروأ ‪ ،‬فيتجنبروا االستسرالم لاحسراس بخيبرة األمرل‬
‫‪ ،‬وهو ما كان عليه حال اليسار الكالسيكي آنذاك ‪ .‬وحتري عنردما جراءت دكتاتوريرة مرا بعرد أبريرل ‪،‬‬
‫أوهمت القوي السياسية نفسها بأن النظام اإلنقالبري سريؤول سرريعا ‪،‬وقراموا بتشربيهه برغروة الصرابون‪.‬‬
‫لقد ارتكبوا برأيهم ذلك خطئية الغ اررة والسذاجة مرتين – وهي خطئية ال تغتفرر فري مجرال السياسرة ‪.‬‬
‫المرة األولري كانرت عنردما توهمروا برأن الديمقراطيرة هري عمليرة ميكانيكيرة‪ ،‬وكرذلك أمرر الحفراظ عليهرا‬
‫يقضي بالتنفيذ الميكانيكي لعصيان مدني رسموا صورته في أذهانهم‪ .‬أما في المررة الثانيرة‪ ،‬فقرد جراء‬
‫ترروهمهم تفتيتررا فرري عضررد النضررال الشررعبي وذلررك بخلررق حالررة مررن التواكررل ثررم التقرراعس النضررالي فرري‬
‫مواجهة نظام لم يختبر في قوته حتي انن من حيرث صرموده ألي معارضرة جماهيريرة قاعديرة‪ .‬ومرا‬
‫كان هذا التخبط إال ألن القوي السياسية ال تملرك أي رؤي مفهوميرة لظراهرة الديمقراطيرة والدكتاتوريرة‬
‫في واقعنا السوداني المعاصر‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫وها نحن اليوم نعيش أيام ديكتاتورية ما بعد أبريل وقرد أمترد بهرا العمرر ليقرارب العقرد مرن الزمران ‪...‬‬
‫وكفي!‬
‫الديمقراطية ‪ ..‬الخيار الموضوعي‪:‬‬
‫بما أن الصراع بين التيار الثقافي النازع نحو الديمقراطيرة ‪ ،‬وذلرك النرازع نحرو الديكتاتوريرة قرد انرتظم‬
‫‪ ،‬تاريخيررا ‪ ،‬وتتابعررت نتيجررة لرره أنظمررة ديمقراطيررة ‪ ،‬أعقبتهررا أنظمررة ديكتاتوريررة‪ ،‬فقررد يتسرراءل المرررء‪:‬‬
‫لم ر رراذا ال نض ر ررع احتم ر ررال أن تنتص ر ررر الديكتاتوري ر ررة؟ وب ر ررذلك يختلر ر رف معن ر ررا ف ر رري ترجيحن ر ررا ألنتص ر ررار‬
‫الديمقراطية‪.‬‬
‫موضوعية انتصار الديمقراطية التعددية تزداد وضوحا عندما نلمظ اآلتي‪:‬‬
‫عندما جاءت ديكتاتورية عبود كاستجابة طبيعية النتعراش أثرر التيرار الثقرافي النرازع نحرو الدكتاتوريرة‬
‫‪،‬كرران العامررل المباشررر لتحقيقهررا هررو فعررل قامررت برره فئررة قليلررة (عبررود وكبررار الضررباط)‪ .‬أمررا عنرردما‬
‫جرراءت الديمقراطيررة الثانيررة بعررد أكترروبر كاسررتجابة طبيعيررة النتعرراش أثررر التيررار الثقررافي النررازع نحررو‬
‫الديمقراطيررة ‪ ،‬كرران العامررل المباشررر لتحقيقهررا هررو فعررل الشررعب‪ ،‬فكانررت ثررورة أكترروبر‪ .‬وكررذلك عنرردما‬
‫جرراءت ديكتاتوريررة مررايو‪ ،‬فقررد تحققررت بفعررل فئررة قليلررة (نميررري وصررغار الضررباط)‪ .‬امررا عنرردما جرراءت‬
‫الديمقراطيررة الثالثررة فقررد تحققررت أيضررا بفعررل الشررعب (ثررورة أبريررل)‪ .‬وكررذلك الحررال فرري حركررة يونيررو‬
‫‪1989‬م اإلنقالبية‪ ،‬وما سيعقب من ثورة شعبية عارمة‪.‬‬
‫غنرري عررن القررول – بعررد هررذا – إن مررا تصرربوا لرره الجمرراهير وتثررور مررن أجلرره سينتصررر فرري النهايررة ‪،‬‬
‫بينما سينهزم ذلك الذي تسعي إليه الفئات الشللية‪.‬‬
‫ليبرالية أم تعددية؟‬
‫إن الديمقراطيررة الترري عشررناها‪ ،‬والترري نبشررر بهررا ‪ ،‬ليسررت ليبراليررة إن الليبراليررة ليسررت أحررد مكونررات‬
‫صر ررلب الديمقراطير ررة ‪،‬بر ررل هر رري إحر رردي خصر ررائص ثقافر ررات المجتمعر ررات الغربير ررة‪ .‬فمنر رراط االحتجر رراج‬
‫واإلرتكرراز فرري مفهرروم الليبراليررة هررو الفرديررة أو الفردانيررة‪ .‬لررذلك عنرردما نشررأ الفكررر الليب ارلرري فرري الغرررب‬
‫توجه بكلياته للدفاع عن حقوق الفرد إزاء سلطة الدولة‪ .‬لقد كان الهم األكبر هو كيفية تأمين الحريرة‬
‫الفردية‪ .‬لذلك قام فهمهم لليبرالية في جوهره علي حرية الفرد‪.‬إذن فاللبيرالية خصيصة من خصائص‬
‫الثقافر ررة الغربير ررة‪ ،‬ولر ررذلك عمر رردت إلر رري تشر رركيل ديمقراطيتهر ررا بمر ررا يخر رردم واقعهر ررا االجتمر رراعيك الثقر ررافي‬
‫‪،‬وبالت ررالي ه رري ليس ررت م ررن لر روازم الديمقراطي ررة إذا م ررا إنبثق ررت وتول رردت ف رري مجتمع ررات أخ ررري خ ررالف‬
‫المجتمعات الغربية‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫إن الديمقراطيررة فرري جوهرهررا الثقرراغي البسرريط تعنرري إحت ررام سررلوك انخ ررين بشررتي ضررروبه ‪،‬طالمررا‬
‫كان في حدود حرريتهم الشخصرية ‪..‬وهرذا هرو بيرت القصريد ‪.‬فردائرة الحريرة هرذه تنرداح وترتخلص تبعراً‬
‫لنظام اإللتزام القيمي وما يطرحه من محرددات سرلوكية فري نظرام اإللترزام القيمري للمجتمعرات الغربيرة‬
‫يقروم علري الفردانيرة بينمررا الفررد فري السررودان لريس حر اًر فري أن يفعررل مرا يريرد خاصرة مرا قرد يتعررارض‬
‫مع المعايير المجتمعية ‪ .‬والمجتمع نفسه كينونة إجتماعية نسبية فأنت قد تثور علي مجتمرع العمرل‪،‬‬
‫دون أن تقرردر علرري ذلررك إذاء مجتمررع الحرري ‪،‬أو مجتمررع قبيلتررك‪ .‬المهررم فرري األمررر إن منرراط الحيرراة‬
‫اإلجتماعي ررة ف رري الس ررودان ه ررو كيفي ررة تر رواؤم الف رررد م ررع المع ررايير األخالقي ررة الض ررابطة للس ررلوك داخ ررل‬
‫اإلطار المجتمعي المحيط به ‪،‬أو ذلك الذي ينتمي إليه ‪...‬إلخ‬
‫نخلررص لنقررول إن الديمقراطيررة الترري عليهررا واقررع حالنررا ليسررت لبراليررة وهيهررات أن تكررون كررذلك حترري‬
‫لو جاهدنا من أجل ذلك ‪ .‬إذاً ماهو نوعها ؟ إنها الديمقراطية التعددية ‪ .‬ولفظ التعدديرة ال تعنري بهرا‬
‫تعرردد األح رزاب‪ ،‬بررل نعنرري بهررا التعرردد الثقررافي ‪ .‬إنهررا ديمقراطيررة تخررتص بخصائصررنا الثقافيررة وعلرري‬
‫رأسها التعددية الثقافية ‪.‬إن المركزية الثقافية وسياسات األحادية الثقافية ‪ .‬تصب جميعها فري مجرري‬
‫التيررار النررازع نحررو الدكتاتوريررة ‪ .‬إن جميررع فت ررات الديمقراطيررة الترري عشررناها – إن ل رم نقررل ‪ :‬والترري‬
‫سوف نعيشرها – منرذ اإلسرتقالل كانرت مسرممة بالديكتاتوريرة ممثلرة فري سياسرات المركزيرو واألحاديرة‬
‫الثقافية‪ .‬وفي واقع األمر‪ ،‬فقد ظلت ثقافة الوسط اإلسالموعروبي كمرا ذكرنرا هري التري تسريطر علر‬
‫جميع ديناميكيات ومكنيزمات الحكم في بالدنا منرذ عهرود طويلرة‪ ،‬ومنرذ االسرتقالل تخصيصراً‪ .‬وكمرا‬
‫علمنا فإن أوضاع السودان قد ظلرت تتردهور يومراً بعرد يروم‪ ،‬ونظرام حكرم اثرر آخرر فري فشرل مسرتمر‬
‫منررذ اإلسررتقالق وحتر اليرروم ‪ .‬لدرجررة أن كررل نظررام حكررم ( ديمق ارطرري أو ديكترراتوري ) كرران أسروأ مررن‬
‫سررابقه ‪ ...‬كمررا فصررلنا ذلررك ولخصررناه بررالقول‪ :‬إن تجربررة فرري سررودان مررا بعررد اإلسررتقالل تمثررل فشررل‬
‫األحادية والمركزيو الثقافية في بلد متعدد الثقافات ‪ .‬وعليه ينبغي للديمقراطية في بلرد كهرذا أن تكرون‬
‫تعددية في معن أنها تعبير عن التعدد الثقافي‪.‬‬
‫إن الررذين يقولررون أن ديمقراطيررة ويستمنسررتر ال تصررلح فرري السررودان محقررون إذا مررا قصرردوا فرري ذلررك‬
‫مفهوم روح الليبرالية ‪ ،‬مخطئون إذا مرا قصردوا الحكرم النيرابي القرائم علر اإلنتاخابرات الحررة‪ ،‬ومبردأ‬
‫فصررل السررلطات‪ .‬إن ديمقراطيررة ويسمنسررتر هرري الليبراليررة عينهررا‪ ،‬وهرري ال عالقررة لهررا بمررا عليرره واقررع‬
‫الحررال عنرردنا ‪ ...‬كمررا بينررا‪ ،‬هررذا صررحيح ولكررن ينبغرري للررذين برفضررون الديمقراطيررة جسررماً ومعن ر –‬
‫ليبراليررة كمررا فرري ويستمنسررتر ‪ ،‬أم تعدديررة كمررا هرري عنرردنا – أن يكونروا شررجعاناً ويعلنررون ذلررك ‪ .‬إنهررم‬

‫‪42‬‬
‫يقولررون غررن الليبراليررة ال تصررلح فرري السررودان ويقصرردون فرري الواقررع الديمقراطيررة إجمرراالً ‪ ،‬والتعدديررة‬
‫تحديداً‪.‬‬
‫فالديمقراطيررة فرري جوهرهررا تقرروم عل ر مبررادر هرري ‪ :‬حريررة التعبيررر‪ ،‬حريررة التنظرريم‪ ،‬حريررة االعتقرراد‪،‬‬
‫الح ررق ف رري التشر رريع واالنتخ رراب‪ ،‬والمس رراواة وع رردم التميي ررز ‪ ...‬ث ررم مب رردأ فص ررل الس ررلطات ال ررثالث ‪:‬‬
‫التشريعية ‪ ،‬والتنفيذية والقضاء‪ .‬إن هذه المبادر ال تختص بها ثقافة دون اخرر‪ ،،‬برل هري تعرود إلر‬
‫وحدة جوهر النفس اإلنسانية‪ ،‬أم المبردا األخيرر ( فصرل السرلطات ) فهرذه سرنة تطرور أنتظمرة الحكرم‬
‫البشررري ممثلررة فرري عرردم جرواز إنفرراد أي فرررد أو جهررة بالسررلطات الررثالث‪ ،‬فمررثالً عنرردما برردأت الدولررة‬
‫اإلسرالمية كانرت هرذه السرلطات الررثالث متمركرزة فري رأس الدولرة‪ ،‬برردءاً مرن النبري (ص) ‪ .‬ثرم مررا إن‬
‫برردات الدولررة تترردرج فرري مرردارج المؤسسررية والتركيررب حتر نزعررت هررذه السررلطات إلر اإلسررتقالل عررن‬
‫التمركررز‪ .‬ثررم عررن بعضررها الرربعض‪ .‬ولكررن تقرراعس المسررلمين عررن المواصررلة فرري ركررب الحضررارة حررال‬
‫دون التأمسس التام‪ ،‬فكان أن أتمت المهمة شعوب أخر‪ ،‬نهردت لامرر مرن حيرث توقرف المسرلمون‪.‬‬
‫وانن لرريس أمررا المسررلمين مررن سرربيل غيررر اإلنضررمام إلر قطررار الحضررارة مررن أي محطررة يصررادفونه‬
‫فيها‪ ،‬وليس من اول محطة بدأ مها المسير ‪.‬‬
‫نختم هذا الجزء فنقول‪ :‬إن المبادر – مطلقاً – تتشكل بالثقافة التري تتنرزل عليهرا تطبيقراً‪ .‬فرإذا تنرزلن‬
‫مبرادر وقريم الديمقراطيرة فري ثقافرة الغررب‪ ،‬اصرطبغت بالحريرة الفرديرة كمناطاحتجراج للحريرة مطلقراً‬
‫فأصبحت ليبرالية ‪ .‬اما إذا تنزلت في السودان‪ ،‬أصبحت تعددية احتكاماً بالتعدد الثقافي عندنا ‪.‬‬

‫‪43‬‬

You might also like