Professional Documents
Culture Documents
دولة اللادين
دولة اللادين
ف اإللحاد كتوجه فكري يتجلى بـِ (عدم اتخاذ موقف ِمن كيفيّة وجود الكون) منذ القدم.
ع ِر َ
ُ
فاإللحاد بوصفه إيمانًا بعدم وجود إله صانعًا وراعيًا للكون ،مفهوم قد ظهر مذ ظهرت فكرة
وجود إله نفسها
لكن انبثاقه كمصطلح وكمدرسة فكرية لها أعالمها ِمن مفكرين وعلماء وفالسفة ،يُعتبر من
ُمفرزات عصر النهضة والتنوير األوربي ،ال سيما في منتصف القرن التاسع عشر ،على يد
الباحث األلماني ماكس مولر
هذا ِمن ناحية التاريخ ،أما من ناحية توجهات الناس المعتنقين لهذه الفكرة ،فإن غالبيتهم كان
حوت العديد من األسماء ،ولع َل أبرزهم شخصيات معروفة كـ :آرثر من النخبة ،النخبة التي َ
ابن سينا ،ابن المقفع ،شوبينهار ،فريدرش نيتشه ،جان بول سارتر ،بيرتراند راسل،
وغيرهم كثر من الطبقات الفكرية الفذة الرازي المعري،
عا ما ،كما أن
أما اآلن فالوضع يختلف ،إذ أن توجهات اإللحاد الجديد أصبحت ضحلة نو ً
هناك الكثير من المميزات المشتركة لملحدي اليوم ،لن نتكلم عن الطبقات المفكرة من نمط
كريستوفر هيتشنز ،سام هاريس أو دانيال دينيت ،بل سيكون حديثنا عن الناس العاديين ،ال
سيما أنهم أصبحوا مشهورين أكثر من الملحدين المفكرين اآلن
يمر اإللحاد الجديد المعاصر في أزمة حقيقية ،وإن كانت هناك سمات ُمشتركة يمكن
ّ
تل ّمسها ،فهي ما سنذكر تاليًا
تجاوز مرحلة الالأدرية
آمنت بها دفعة واحدة ،وبعد أن تفتح عينيك على شمس َ تخر جمي ُع المقدسات التي
بعد أن ّ
الحقيقة المؤلمة بعيدًا عن جميع البالغيات والعواطف التي أجادت األديان في اللعب عليها
واستغاللها ،ال ب َّد من الدخول منطقيًا في مرحلة من الضياع ،مرحلة تتميّز بتكافؤ األدلة
وعدم رجحان أي منها ،مرحلة تسمى بالالأدرية
Agnosticism
تكمن أزمة اإللحاد الجديد في كونه استقطابي إلى حد بعيد ،إلحاد إما موجب أو سالب ،إما
كثيرا عن األديان ،إلحاد انتقل فجأة من مرحلة االعتقاد
معنا أو ضدنا ،إلحاد ال يختلف ً
بشيء إلى مرحلة نفيه ،دون المرور على منصة وسطى بينهم تتكافأ فيها األدلة أو تتساوى
الترتيب الصحيح هو أن يكون االعتقاد بشيء ،ومن بعده اهتزاز هذا االعتقاد وعدم األدرية
بصحته أم خطأه ،ومن ث ّم زوال االعتقاد من أصله إن كان عليه أن يزول .الذي يحدث في
الجديد من اإللحاد ،أنه يقفز مباشرة من االعتقاد إلى عدمه
ال يتفق الجميع على هذه الرؤية ،إذ يرى بعضهم أن الالأدرية موقف كسول أكثر من كونه
مرحلة أساسية َوجب المرور عليها ،فهي محطة يتخذها اإلنسان خوفًا من الوصول لإللحاد
الصريح ،ال سيما بعد اإليمان لمدة طويلة ،فيحاول حينها أن يترك الباب مواربًا لكيال يصل
إلى مكان ال رجعة فيه ،فيعلق حينها ضمن الالأدرية
أيًا كان الطرح األصح ،تبقى أزمة اإللحاد الجديد أنه استقطابي سريع الحدوث ،دون األخذ
بعين االعتبار ألية مراحل مهمة يجب المرور عليها ،أو على األقل وضعها في الحسبان،
مما يدعو بعضهم للقول إنه انفعالي قائم على مواقف أكثر من كونه فكري ُمستند إلى بحث
وتأ ّمل
اإليمان باألبراج
لم يكن ُملحدًا عاديًا ،كان ُملحدًا يؤمن باألبراج! دليل االستقطاب السريع لألفكار الدينية /
الالدينية السائدة حاليًا هو أنها ُمترافقة مع عدم تشغيل لعجلة المخ الموجودة بين األكتاف،
ونتيجةً لذلك ستجد ُملحدًا يدّعي التفكير العلمي المنطقي ال ُممنهج إال أنه بنفس الوقت يؤمن
باألبراج! يؤمن بتحركات األرض والزهرة والمريخ وعالقتها بمصائر البشر وكيف أنهم
سيعيشون أيامهم
تقتضي هذه الحزمة نسف كل الخرافات ) (One Packageيأتي اإللحاد كحزمة واحدة
واألفكار والتوجهات غير ال ُمثبتة والمخالفة للمنطق أو لتلك التي تصطدم بالعلم وأحيانًا
بالعقل .لكن وجود إلحاد مع إيمان بأبراج هو شيء مثير للضحك حقًا
أعتقد لو رأى هذا الكالم بيرتراند راسل أو نيتشه ليئسوا على حال الملحدين اليوم ،وعلى
كل الجهد الذي بذلوه في أعمالهم وكتبهم لرسم طريق تنويري يختلف كليًا عما يحدث اآلن
في سياق ظهور اإللحاد الصاعد الجديد
وكما اعتاد المتدينون على القول لنفي التهمة عنهم بأن أولئك األشرار هم مؤمنون ال يمثلون
األديان ،يجب على الملحدين الواعيين أن يقولوا ّ
إن هؤالء الملحدين المعاتيه هم ملحدون ال
يمثلون اإللحاد
إلحاد يؤمن باألبراج..
شيء مؤسف حقًا
قطع الصلة مع التاريخ بأكمله
يكمن اإللحاد ببساطة في عدم اتخاذ موقف من كيفية ظهور الوجود ،وبالتالي يكون هو
اإليمان بعدم وجود إله صانع وخالق للكون .هذا هو اإللحاد كفكرة وتوجه .مشكلة اإللحاد
ليس نافيًا لمسألة وجود إله فقط ،بل
الجديد هو أنه يصح تسميته باإللحاد التدميري ،إلحاد َ
ضا
نافيًا لألديان وتاريخها وتاريخ تلك الشخصيات التي عاشت أي ً
إلحاد قاطع للصلة التاريخية باألرض التي نشأ فيها الدين من جذورها
ِمن أخطاء الملحدين الجدد أنهم ينسفون التاريخ بأكملهُ ،مسقطين بذلك فكرة عدم اإليمان
باإلله على سيرورة التاريخ كلها ،فيصبح عدم اإليمان باإلله متالز ًما مع عدم اإليمان بتاريخ
األديان وال بالقيم التي رافقتها ،وقد يصل األمر إلى عدم اإليمان بحقيقة وجود بعض
ضا
الشخصيات المركزية في تاريخ األديان أي ً
أي باحث منصف سيذكر في كالمه – على الرغم من عدم إيمانه – أن لألديان أهمية
مرحلية ال بد من وجودها ،إذ يقول ماكس مولر مؤسس علم األديان“ :إن التعبد شيء فطري
في اإلنسان منذ لحظة نشوئه” .لذلك اإللحاد الحقيقي في ضوء المنهج العلمي البعيد عن
صا أنها استطاعت
إلحاد األبراج يعترف بالدين كغريزة موجودة وأصلية في اإلنسان ،خصو ً
في فترات محددة أن تحقق نجا ًحا على عدّة أصعدة ،إال أن الفشل غالبًا ما كان يواجهها
بسبب االنغالقية من جهة ،واالصطدام مع الحداثة من جهة أخرى
هذا ما يقوله أصحاب المناهج العلمية المنصفة ،أما ملحدو اليوم فلديهم اإلله والتاريخ،
وشخصيات التاريخ ،وتطور الدين عبر الزمن ،كلها غير موجودة .وهذا أسوء ما يمكن
ليس كقناعة أرادوا لها أن تكون ال دينية فأصبحت أسوء من الدينية نفسها! بل الوصول إليهَ ،
كتوجه مبني على منهج غير سليم أبدًا
اإللحاد يعني اإليمان بعدم وجود إله ،وليس قطع الصلة مع التاريخ ونسف كل شيء
االنحصار في سياج التقدمية
مع تصاعد موجة الالدينيّة ،نالحظ ارتفاعا ً واضحا ً في عدد الرافضين لهذه الموجة
صا أن البيئة العربية تصنّف كمثال نشيط عن االنغالقية لمثل هذه والناقدين لها ،خصو ً
األفكار التي تُعتبر غريبة عنها إلى ح ّد كبير
ولع ّل أبرز أسباب الحشد ضد هذا اإللحاد الجديد ،هو أنه إلحاد مصحوب بموجة كبيرة من
الحشو التقدمي ،الحشو الذي يقتضي أن يكون نفي التو ّجه الديني مترافقًا مع (اإليمان
)بالمثلية وتشريعاتها – رفع صوت النسوية إلى أقصى حد – المساواة والتعددية الثقافية
ضا لهذا النمط من اإللحاد ،لكن يجب اإلقرار بأن المجتمع العربي يُعتبَر مجتمعًا
ليس رف ً
َ
طرق عليه بمطرقة اإللحاد التقدمي أمر غير صائب ،ال سيما أنها ستُعتبر محاف ً
ظا ،لذلك ال َ
طرقة ُمضاعفة إليقاظ مجتمع نائم عن هذه األفكار منذ وقت طويل َ
على األقل يلزمه في البداية نوع من اإللحاد المحافظ ،إلحاد يؤمن بعدم وجود إله إال أنّه ال
يقتضي اإليمان بمثلية تخالف قوانين الطبيعة قبل مخالفة األديان! أو نسوية لم تعد تطالب
بحقوق المرأة بل بحرق الذكور عن بكرة أبيهم
أزمة اإللحاد الجديد في أنه يحاول استيراد التقدمية الغربية ووضعها كقبعة على الجسد
تطور
ليس عملية ذاتية طبيعية ناتجة عن ّ العربي المحافظ ،وبالتالي يكون الالإيمان هنا َ
وحراك المجتمع العربي وانفتاحه ،بل استجالب لسلعة خارجية ال تتعدى كونها استيراد
لألزياء وغيرها من الماركات العالمية التي يتمنى الجميع اقتناءها
كبيرا اآلن
.وربما لهذا السبب بالتحديد ،يكون التجييش الشعبي ضد جميع مفاهيم الالدينية ً
طا على اإللحاد أن يوافق التقدمية ،هناك توجهات كثيرة أخرى .من الطبيعي جدًا ليس شر ً
َ
ي يستنكر المثلية ،أو الأدري ال يؤمن بالتعددية الثقافية
أن يكون هناك ملحد محافظ ،أو ربوب ّ
ويرى العرق السويسري فقط هو الشريان األبهر لهذا العالم ،من الطبيعي جدًا أن تجد ذلك،
لكن لألسف االستيراد التقدمي الغربي هو فقط الموجود على ساحتنا اآلن
اإللحاد الجديد :دين الال دين
من األشياء المثيرة للتناقض في بيئتنا الحالية ،أنّه كلما أصبح هناك فرجة صغيرة للتفكير
واألمل بمستقبل تنويري أفضل لهذه البالد ،يتالشى سريعًا! لنتفاجأ على وقع أن الذين
حتىوكأن على هذه األرض فيروسا ً
ّ صنعوا تلك الفرجة هم أسوأ من أولئك الذين كانوا قبلهم
يحول أي فكرة تنويرية إلى فكرة خبيثة بمجرد أنها دخلت في هذه المناطق المغضوب وبائيا ً ّ
عليها
أزمة اإللحاد الجديد أنه دين الال دين! قلنا في المقدمة إن الالدينية بشكل دقيق هي عدم اتخاذ
موقف من كيفية وجود الكون ،وبالتالي اإليمان بعدم وجود إله صانع ،بينما يرى المؤمن أن
األدلة اكتملت لديه ،ويسلّم بوجود اإلله الصانع ،وأنه هو من فعل ذلك .فيكون الملحد
باختصار هو الذي لم تكتمل لديه األدلة على ذلك
هذا هو اإللحاد ،عدم اتخاذ موقف من الوجود ،لكن اآلن تراه أشبه بالمنظومات الدينية،
كأطر األديان تما ًما
ِ فأصبح له أ ُ ٌ
طر
اإللحاد ال يعني تقديس كتب علمية! وال الشتم الصباحي النهاري لشخصيات دينية! وال نسفا ً
لتاريخ األديان وفترة نشوئها وللمنطقة بأكملها بسبب أن الدين نشأ بها! أصبح بعضهم اآلن
يتنصل من العروبة فقط ألن الدين يرتبط معها ،وهو ال يريد أن يراه العالم بأنه إنسان متدين
محسوب على العرب الذين تضج بهم أخبار الميديا العالمية
سوري ملحد أصله فينيقي آرامي ،ملحد مصري فرعوني ،ملحد لبناني كنعاني ،ملحد
ليس
مغربي أمازيغي ،وكأن أهم شيء في هذا العالم أال تكون عربيًا! .صديقي العزيزَ ،
الفتى من قال كان أبي ،إن الفتى من قال ها أنا ذا
ليس بما ُولد عليه! دعني أقول لك شيئًا كوني إنسان
حياة كل إنسان مرهونة بما يفعله هوَ ،
قرأ في التاريخ ومازال يفعل .كل مجتمع لديه تاريخ لو أراد أن ينظر بتمعّن فيه لوج َد أشياء
تدعو للقيء .أي منطقة جغرافيّة نشأت فيها حضارة ما لديها تاريخ قائم على الدماء
والمصالح والخيانات والكذب والخداع ،هذا شيء متفق عليه لدى جميع الباحثين الحقيقين
صلب تكوين اإلنسان ،اإلنسان وفقًا
األهم من هذا كله هو أنه أمر غير ُمشين ألنه يقبع في ُ
لوصف جميع األديان كائن حقير مخادع مختال فخور هلوع محبّ للسلطة وساعٍ نحو
المراتب العليا فيها ،لذلك نشأت منظومات عديدة الستيعاب كل هذا الكم من الغرائز المنفلتة
لديه ،ولع َل كان أبرز تلك المنظومات هي األديان
اإللحاد شيء وتاريخك شيء آخر ،كل أمة لديها من المقابح التاريخية ما يكفيها ،لذلك ال أحد
يتبجح بتاريخه أمام اآلخر سوى المعتوه ،ألن التاريخ إما أن يكون غير منصف أو مؤدل ًجا
أو كتبه المنتصر ،وفي حال كان صادقًا سيحوي ك ّما ً كبيرا ً من األشياء التي تدل وفقًا
لمصطلح الكاتب السوري ممدوح عدوان ،تدل على حيونة اإلنسان
لذلك أن تكون ملحدًا شيء ،وأن تتنصل من تاريخك شيء آخر! هذه المنطقة لم يبقَ لها
مخز كما تعلمون ،وبفضل هؤالء سوى بضعة صفحات مضيئة في تاريخها ألن الواقع ٍ
الجدد حتى التاريخ قاموا باالنسحاب منه
صا
كان من الممكن لإللحاد الجديد أن يقدّم رؤية تنويرية أكثر من هذه السائدة حاليًا ،خصو ً
مع صعود مواقع التواصل االجتماعي واليوتيوب وإمكانية الكالم عن أي شيء فيه ،لكن
لألسف سرعان ما تبدّدت هذه الرؤية التنويرية ولم يبقَ سوى بعض من الفارغين الذين
يتخذون من االستفزاز طريقًا لصنع المحتوى الذي يقدموه
اإليمان باألبراج ،بالرغم من أن عقلية اإللحاد يجب أن تتبنى الموقف المنطقي لكل شيء
غير مثبت! تجاوز الالأدرية وعدم المرور على هذه المرحلة التي تعتبر مفصلية للذين
يعبرون من اإليمان لإللحاد بعكس الذين يولدون ملحدين! باإلضافة للتوجه التقدمي الذي
يناسب المجتمع الغربي ال العربي ،والذي تم استيراده في مكان يبدو أنه غير مالئم له
ربما المجتمع المحافظ هنا يتساهل مع أن يكون اإلنسان ملحدًا ،إال أنه ال يتساهل إن قلت
أنك مثلي! تذ ّكر أن قوانين القبيلة هنا تسبق قوانين الدين أحياناً ،وتذ ّكر أن العرف والتقليد
في كثير من األحيان يتغلب على الشرائع السماوية ،فال تحاول أن تخطئ ،فاألمر يتم
بالتدريج
وبعد كل هذا نرى أن اإللحاد تحول إلى دين الال دين! فأصبح منظومة ظالمية نابت عن
منظومة أكثر ظالميةً منها ،وال نرى إال تغير األسماء والشعارات واأللقاب في حين أن
المحتوى نفسه سوا ًء كانوا ملحدين أو مؤمنين ،فسيادة متالزمة (التعصب للرأي /عدم تقبل
اآلخر) ال تزال عند الجميع
غير مهم أن تكون مؤمنًا أو ملحدًا ،المهم أن كل شيء يحصل في هذه المنطقة يتحول إلى
مثيرا للسخرية ،وأنا هنا داء مثير للضحك ،يأتي أحدهم ليكتب عنه ً
مقاال كونه أصبح ً
بدوري أفعل هذا
لكن إلى إشعار آخر ،وإلى وجود بصيص أمل في أن يخرج الجميع من تعصباتهم
وتحيّزاتهم المسبقة الصنع ،يبقى اإللحاد الصاعد في أزمة ،وفي رؤية غير ناضجة ،على
األقل من منظور اإللحاد كمدرسة قديمة نشأت على يد عقول فذة لربما لن تتكرر.