Professional Documents
Culture Documents
خلق ا النإسان وكرمه بأن جعله أسمى مخلوقاته ،واختصه بالتكليف من دون سائر الكائنات ،وترك
له حرية الختيار في ما يتعلق بحمل المانإة .وتبعا لذلك تعددت مسؤولياته تجاه نإفسه ،وربه،
ومجتمعه الذي يعيش فيه :أما مسؤوليته تجاه نإفسه ،فأن يحفظها من الهلك ،وأن يرعى صورته
المادية في غير ما إخللا بقواعد الدين والخلقا ،وأن يتعرف كوامنها الداخلية من خير وشر فيسعى
بالخير ويجاهد في نإفسه أمر هذا الشر ،وأن يقف على قدراتها الروحية فيشبعها دون الخللا أيضا
بمتطلبات الجسد.
وأما مسؤوليته تجاه غيره من الناس؛ فأن يحفظ ويصون أعراضهم ويعصم دماءهم وأموالهم ،وأن
تتجلى روعة روحه من خللا تحليه بمكارم الخلقا ومحاسن العادات ،فيساعد المحتاج ،ويسانإد
الفقير ،ويكون عضوا فعال في مجتمعه ل إنإسانإا سلبيا تجاه الخرين .وأخيرا يتربع إحساس المرء
بمسؤوليته تجاه ربه على هرم مهامه ،فال هو الذي أنإشأه من عدم ،وبث فيه من روحه ،وهو جدير
بالعبادة إن أعطى ،وهو جدير بها أيضا إن منع ،ولكن :ما أشد جحود النإسان ونإكرانإه لخالقه!! وقد
جاهد النإسان طوالا مسيرته لن يتشبه -قدر طاقته -بالباري سبحانإه وتعالى .ومن هنا كانإت أحلم
الفلسفة عن إمكانإية التصالا بالعقل الفعالا ،ورياضات المتصوفة من أجل المكاشفة والبرهان .أما
التصالا بالعقل الفعالا؛ فيعني حالة عقلية تنتج عن التفاعل والتقابل ما بين العقل النإسانإي من جهة
والعقل الفعالا من جهة أخرى ،تحصل بمقتضاها سعادة للمرء تكمن في كمالا المعرفة وفناء العارف
وصول إلى مرتبة الكشف من دون حجاب ،وهنالك يصبح بمقدور المتصل أن يكون نإورا من النإوار
التي تسببح الخالق سبحانإه وتعالى.
فالوصولا والتصالا بالعقل الفعالا يمثلن جوهر السعادة التي تغنى بها فلسفة السلم؛ وبخاصة إذا ما
وضعنا بعين العتبار حقيقة أن اللذة التي يحصلها العبد عندما يتعقل ملئما تفوقا لذته بأن يحس
ملئما ،فاللذة العقلية أشد وأتم من الحسية ،بل ل نإسبة لها بالمقارنإة مع هذه!! ولعل ذلك هو ما دفع
البعض إلى التأكيد أن المراحل الخيرة لدى متوحد ابن باجة ،في ترقيه الفكري والروحي ،تصبح غير
إنإسانإية بالكلية ،وإنإما يتم استكمالا النعمة الخيرة بنور يقذفه ا في صدر متوحده فتفتح له
المعارف!! وتأسيسا على ذلك؛ يتم تأويل اعتماد العقل البشري على الشراقا اللهي في مراحله العليا؛
كشاهد قوي على نإزوع ابن باجة نإحو الصوفية التي استمر مع ذلك في التنكر لها!! فعلى غرار خلفه
ابن طفيل؛ قرر فيلسوفنا أن هذا العون مقصور على الفلسفة ،وكأنإه أراد بذلك أن يحد من مدى هذا
الشراقا ،فوضع قيودا يقصر بها هذا النور على من اصطفاهم ا من عباده!! على أن تأويل كهذا
يبدو مخالفا لحقيقة ما كان عليه فيلسوفنا نإظريا وعمليا؛ وبخاصة أن عزلة المتوحد التي نإادى بها إنإما
تستند إلى مبدأ التفرغ من أجل التأمل ليس إل! وآية ذلك؛ أنإه لم يكن من أولئك الذين يمارسون
التصوف عمل أو علما في حياتهم ،كما أنإه نإاهض الصوفية -وبخاصة الغزالي -ونإقد طريقتهم التي
تعتمد على الوهام والخيالت بحسب تعبيراته!! والمر بخلف ذلك بالنسبة إلى صدر الدين الشيرازي؛
فرغم اتفاقه مع ابن باجة في غائية السعادة؛ فإنإه يفضل طريق المجاهدات والرياضات النفسية .وحجته
في ذلك ،أنإه عن طريق الترقي الصوفي يمكن للسالك قبولا الفيوضات الربانإية ليصبح مؤهل من بعد
ذلك للدخولا في حيز الحضرة اللهية )كن(.
ومع ذلك؛ فإن الوصولا إلى كنه هذه الحضرة الشريفة يظل مرتبطا -أول وأخيرا -بنوع المعرفة؛
فكلما كان المعروف أكمل كانإت السعادة به أكمل! وهو ما عبر عنه حجة السلم أبو حامد الغزالي
بالقولا» :وليت شعري! هل في الوجود شيء أجل وأعلى وأشرف وأعظم من خالق الشياء كلها
ومكملها ومبدئها؟ وهل يتصور أن تكون حضرة في الملك والكمالا والجمالا أعظم من الحضرة الربانإية
التي ل يحيط بمبادئ جللها وعجائب أحوالها وصف الواصفين؟!«.
ويطلق الشيرازي على هذه العملية اسم »الطريق إلى الحق« ،فبعد أن توفر على تحصيل الفلسفة ثبت
له أن مبادئها تظل مقرونإة بالحقائق الملهمة كما أنإزلت على النإبياء وكشفت للحكماء المتألهين .وقد
استطاع أخيرا أن يدرك حدسيا ،ما كان قد حصله أول بالطرقا الجدلية ،ثم أخذ يزداد يقينا بأنإه مدعو
إلى أن يطلع الخرين على تلك المعارف التي أنإعم ا بها عليه! ومن هنا كان عنوان كتابه »السفار
الربعة« التي يعني بها :أسفار النفس من الخلق إلى الحق ،ثم إلى الحق بطريق الحق ،ثم من الحق
رجوعا إلى الخلق ،وأخيرا إلى الحق كما يتجلى في الخلق!! من جهة أخرى؛ تستمد السعادة علقتها
بالسياسة من منطلق كونإها تعبر عن فكرة فلسفية لم تخل فلسفة من اعتبارها والعمل على تحقيقها.
وقد يبدو الفيلسوف للبعض رجل أفكار انإطوائيا يحيا بمعزلا عن هذا العالم ،ويغلق على نإفسه باب
مذهبه التأملي المجرد ،لكن الفيلسوف أول وأخيرا إنإسان يمضي إلى عالم المثالا استنادا إلى الواقع
المعيش.
وآية ذلك ،تلك العلقة الوثيقة التي تربط كل من الفلسفة والسياسة ،فقد نإادى أفلطون بضرورة أن
يكون رئيس مدينته الفاضلة فيلسوفا ،وكذلك فعل ابن باجة ،وبدا لنا أرسطو في مظهر »المربي
العظم« للسكندر الكبر ،وتولى كل من :ابن سينا وابن باجة وابن رشد مناصب عليا في مجتمعاتهم
بلغت حد الوزارة .وعليه؛ فإن الفلسفة قد تجاوبوا مع أطرهم الحضارية وحاولوا أن يعكسوا في
فلسفاتهم أصداء واقعهم الحي ،وأن يعبروا عن آمالا مجتمعاتهم وأحلم مواطنيهم ،على الرغم مما
يقالا من أن الفلسفة ليست إل خيالت أفلطونإية تفقد السند الواقعي!! ومع أن السياسة قد أصبحت
اليوم علما من العلوم؛ فإن هذا العلم ل يستطيع أن يستغني عن مذاهب الفلسفة ونإظرياتهم وأحلمهم
ومدنإهم الفاضلة؛ لن هذه كلها هي لحمة الحضارة البشرية وسداها ،إن لم نإقل إنإها الجو الروحي الذي
يتنسمه النإسان.
ويبدو هذا الرتباط وثيقا إذا ما أمعنا النظر في فكرة السعادة؛ لنإها تمثل مطلوبا لكل طالب ومرغوبا
لكل راغب ،فليسوفا كان أم رجل سياسة .والدليل على ذلك؛ أنإه سواء أكانإت المشكلة الولى لدى
اليونإانإيين مشكلة سياسية ،أم كانإت المشكلة الولى لدى السلميين تمثل اللوهية؛ فإن السعادة هي
القاسم المشترك الذي يجمع بينهما في إطار أخلقي يكفل لكل من الفرد والمجتمع سعادته الدنإيوية
والخروية على السواء؛ وبذلك تمثل السعادة حجر الزاوية في الفكر النإسانإي كافة!! ففي مجابهة
الواقع الفاسد الذي عاينه ابن باجة ،طرح فيلسوفنا مدينته المثلى ،ودعا متوحده لن يعتزلا الناس ،إل
في المور الضرورية ،وقد برزت ملمح هذه المدينة الساسية على النحو التالي :سيادة المحبة بين
سكانإها ،وبالتالي ليس ثمة ما يدعو لوجود القضاء» ،إذ ل تشاكس بينهم أصل«!! أما عن الملمح
الثانإي؛ فيتجلى في تقريره أن أفعالا أهلها صواب كلها ،وأنإهم أصحاء الجساد والنفوس معا؛ فليس ثمة
حاجة بهم إلى أطباء!! وأن آراء أهل مدينته صادقة كلها ،وأن أعمالها هي »الفاضلة بالطلقا« ،وأن
التجانإس الملحوظ فيها نإتيجة طبيعية لسير أهلها على هدي الحقيقة الواحدة التي ل يلحقها تبديل أو
تغير!! وفي الحوالا كلها؛ يبدو أن فيلسوفنا عانإى كثيرا ،على المستوى السياسي ،وذلك بحكم أنإه
عاصر سقوط موضع مولده )سرقسطة( على يد ألفونإسوا الولا عام 512هـ1118 /م بدعم من بعض
الخونإة المتواطئين ،ومن المرجح أنإه كان يشغل الوزارة حينها ،إذ وله إياها أبو بكر بن إبراهيم
الصحراوي ،فخرج من بلد النإدلس نإازحا إلى بلد المغرب ،باكيا على أطللا المدينة الشاخصة ،وقد
ملت الحسرة ما بين جنبيه جراء فراقه موطنه الذي حظي فيه بمكانإة مرموقة عالية ،إضافة إلى أنإه
فقد الحساس بالمان ،وأحس بالخطر يطل نإحوه ،كما عبر عن ذلك في رسالة بعث بها إلى تلميذه ابن
المام ،قالا فيها» :وسيرتي التي أنإا عليها شهيرة؛ وأنإا متعرض فيها للخطر«.
وقد أثر هذا بدوره في فلسفة ابن باجة ،حتى إن الضطراب يشيع في أسلوبه ،فتكثر أخطاؤه اللغوية
على الرغم من أنإه كان أديبا شاعرا ،وتبدو كل جملة من جمله وكأنإها جزيرة منعزلة ليس من الهين
فك شفراتها ،ويغلب عليها أيضا الحساس بعدم طمأنإينة مؤلفها ،كما لو كان يشعر بأن الحوائط
جواسيس تنقل ما يتبادر إلى عقله وما يمليه عليه ضميره!! وعلى العكس من ذلك تماما ،نإجد صدر
الدين الشيرازي غير عابئ بأمر السياسة فلم يولها اهتماما؛ وجل ما في المر أنإه عاش في العصر
الصفوي وتتلمذ على يد أستاذه المير داماد ،وهو المير محمد الباقر بن محمد السترآباذي )ت
1631م( الذي كان من أشهر علماء العصر الصفوي بإيران ،كما تتلمذ على يد بهاء الدين العاملي )ت
1621م( .وقد دفعه اشتغاله بالتحصيل إلى العتزالا خمسة عشر عاما! وبخاصة بعد أن رأى الناس
من حوله يحصلون العلم على يد الصاغر؛ فألم به ما ألم بسلفه ابن باجة ،وكثيرا ما دفعه ذلك إلى بث
كتبه همومه وشكاياته!! ختاما يمكننا القولا :إن حلم الفلسفة لم يتحقق بعد ،وبخاصة إذا ما وضعنا
بعين العتبار حقيقة أن إنإسان العصر الحديث يبدو في أمس حاجة إلى تحقيق السعادة!! فسياسات ما
يسمى »المجتمع الدولي« ل تتبع إل مبدأ المنفعة ،وتحت وطأة السيطرة العلمية يتم تضليل
المجتمع!! كما يتم إخضاع الشعوب -بوعي أو من دونإه للقلة التي تملك المر في السياسة والقتصاد
معا ،فأين مدينة أفلطون من الواقع المعيش؟ أليس لنا -على ضوء دراستنا لبن باجة أن نإقرر أن
المناخ الحالي أدعى لظهور متوحد جديد يقيم بناء نإفسه بنفسه من دون أن يخضع في سلوكياته
المختلفة لمجتمع العبيد؟! ..تلك قضية أخرى!
السعادة الصوفية ل تنال باسهولة ويسر ،بال لباد من الصعود والترقي في مجموعة من المراقي
والمدارج الصوفية عبار المرور باالعديد من المقامات والحوال عبار السفر الروحاني إما باواسطة شيخ
عارف وإما باواسطة قطب عالم وإما باصحباة صاحب مجرب .ولباد للمريدين أن يمروا من ثلثا
مراحل كبارى وهي :التحلية والتخلية واللقاء .وتتطلب كل مرحلة نوعا من الصبار والتجلد وباذل
المجهود الكباير من أجل نيل رضى ا والستمتاع بااللقاء والكشف الربااني.
ويرى ابان سينا أن السعادة الحقيقية لتكون ل باالحس ول باالبارهان ،بال تكون باالتحلل من إسار
الجسد والتصال باالعالم القدسي النوراني ،والسبايل في ذلك هو القلب والروح وتطهير النفس الناطقة،
وفي هذا يقول ابان سينا ”:وأما إذا انفصلنا عن البادن ،وكانت النفس منا قد تنباهت ،وهي في البادن،
لكمالها الذي هو معشوقها ،ولم تحصله وهي باالطباع نازعة إليه ،إذ عقلت باالفعل أنه موجود ،إل أن
اشتغالها باالبادن ،كما قلنا ،قد أنساها ذاتها ومعشوقها… عرض لها حينئذ من اللم بافقدانه كفء مايعرف
من اللذة التي أوجبانا وجودها ،ودللنا على عظم منزلتها ،فيكون ذلك هو الشقاوة والعقوباة…فيكون مثلنا
حينئذ مثل الخدر)…( أو الذي عمل فيه نار أو زمهرير ،فمنعت المادة الملباسة في وجه الحس من
الشعور باه فلم يتأذ ،ثم عرض أن زال العائق فشعر باالبالء العظيم.
وأما إذا كانت القوة العقلية بالغت من النفس حدا من الكمال ،يمكنها باه إذا فارقت البادن أن تستكمل
الستكمال التام الذي لها أن تبالغه ،كان مثلها مثل الخدر الذي أذيق المطعم اللذ وعرض للحال الشهى.
وكان ل يشعر باه فزال عنه الخدر ،فطالع اللذة العظيمة دفعة .وتكون تلك اللذة ل من جنس اللذة الحسية
والحيوانية باوجه ،بال لذة تشاكل الحال الطيباة التي للجواهر الحية المحضة ،وهي أجمل من كل لذة
وأشرف فهذه هي السعادة وتلك هي الشقاوة”.
ويصرح السهروردي باأن السعادة الصوفية لن تكون إل باالجذباة والقتداء باقطب المشيخة وتزكية النفس
والقتداء باالنباي صلى ا عليه وسلم والخذ باتجرباة الشيخ العارف قصد الوصول إلى مرتباة الكشف
والتجلي واللقاء باالذات الرباانية المعشوقة .ومن ثم ،ل تتحقق السعادة الكلية إل باالكشف والوصال
والتجلي ”:والسالك الذي تدورك باالجذباة هو الذي كانت بادايته باالمجاهدة والمكابادة والمعاملة باالخلصا
والوفاء باالشروط ،ثم أخرج من وهج المكابادة إلى روح الحال ،فوجد العسل باعد العلقم ،وتروح بانسمات
الفضل ،وبارز من مضيق المكابادة على متسع المساهلة ،وأونس بانفحات القرب وفتح له بااب من
المشاهدة فوجد دواءه وفاض وعاؤه ،وصدرت منه كلمات الحكمة ومالت إليه القلوب ،وتوالى عليه
فتوح الغيب وصار ظاهره مسددا وبااطنه مشاهدا… .ومن صح في المقام الذي وصفناه هو الشيخ
المطلق والعارف المحقق والمحباوب المعتق ،نظره دواء وكلمه شفاء ،باال ينطق وباال يسكت ،كما
ورد” ول يزال العباد يتقرب إلي باالنوافل حتى أحباه ،فإذا أحباباته كنت له سمعا وباصيرا ومؤيدا ،باي
ينطق وباي يباصر” ،فالشيخ يعطي باال ويمنع باال”.
ويذهب ابان عرباي إلى أن السعادة لتدرك باالحس والعقل ،بال باالقلب ووجدان العارف ورؤيا الولي
الصالح ،أي إن السعادة تكون باالتجرباة الصوفية وقلب العارف واستحضار البااطن والتغزل باالذات
المعشوقة عير العرفان و التجلي والكشف الربااني ”:اعلم أن القلب-هل أعني قلب العارف باال-هل هو من
رحمة ا… .وأن الحق تعالى إذا وسعه القلب ليسع معه غيره من المخلوقات فكأنه يملؤه .ومعنى هذا
أنه العارف إذا نظر إلى الحق عند تجليه له ليمكن له أن ينظر معه إلى غيره….
وإذا كان الحق يتنوع باتنوع تجليه في الصور فباالضرورة يتسع القلب ويضيق باحسب الصورة التي
يقع فيها التجلي اللهي ،فإنه ليفضل شيء عن صورة ما يقع فيها التجلي…..
فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورته ،وهو الذي يتجلى له فيعرفه”.
وهكذا ،يستند مفهوم السعادة عند الصوفية إلى استقراء أحوال القلب ونشدان اللذة الروحانية وتفجير
المعرفة اللدنية الوجدانية التي تتجاوز الظاهر إلى البااطن ،وتتعدى النصا والعقل معا إلى العرفان
والحدس الجواني.