Professional Documents
Culture Documents
قامت الدولة البويهية الشيعية في الجزء الغربي من إيران وفي العراق ،وأسستها أسرة بني بويه .وأشهر رجال أسرة بني بويه
الحاكمة ثالثة هم :علي والحسن وأحمد أبناء بويه .وتعود أصول هذه األسرة إلى الفرس ،وكان والدهم (بويه) يتعيش من صيد
األسماك.
وكان علو شأنها على يد األخ األكبر علي بن بويه؛ فقد واله مرداويج الزياري بالد الك ََرج ،فاستطاع بفضل مقدرته العسكرية
واإلدارية وحسن معاملته ألتباعه من بناء جيش قوي انتزع به معظم بالد فارس في خالل فترة قصيرة ،واتخذ مدينة شيراز
قاعدة لحكمه .وبعد مقتل مرداويج سيطر البويهيون على أصفهان والري وهمذان والكرج وكرمان واألهواز.
كانت الحالة في العراق مضطربة ،كما كانت الخالفة واقعة تحت نفوذ األتراك ،وظهر عجزها في إقرار األمور في العراق،
فشعر الناس بهذا الفراغ السياسي؛ نتيجة لذلك تطلع الناس إلى هذه القوة الجديدة التي ظهرت بالقرب منهم لتنشلهم من
الفوضى ،ومن ثَم كاتب القواد في بغداد أحمد بن بويه ،وطلبوا منه المسير لالستيالء على بغداد ،استجاب أحمد لهذا الطلب
فدخل بغداد في عام 334هـ945 /م بعدما خرج األتراك منها ،واستقبله الخليفة المستكفي باهلل واحتفى به ،وخلع عليه وعينه
أميرا لألمراء ،ولقبه ُم ِعز الدولة ،ولقب أخاه عليًّا عماد الدولة ،كما لقب أخاه حسن ركن الدولة.
ً
لقد كان أهل بغداد قبل الدولة البويهية على مذهب أهل السُّنة والجماعة ،فلما جاءت هذه الدولة -وهي متشيعة غالية -نما
مذهب الشيعة ببغداد.
وقد أصيب نفوذ البويهيين بضعف شديد في أواخر القرن الرابع وأوائل القرن الخامس الهجريين بسبب ضعف سالطينهم،
وتنازع األمراء فيما بينهم ،وقد ازداد نفوذ الجند األتراك ،وتدخلوا في تولية وعزل سالطين بني بويه ،وحملوهم على طاعتهم.
وعندما ظهر السالجقة على مسرح األحداث كان نجم البويهيين يأخذ في األفول ،فلم يجد السالجقة صعوبة في دخول بغداد
عام 447هـ1055 /م ،وإسقاط دولة بني بويه.
ظهر بنو بويه على مسرح األحداث في أوائل القرن الرابع الهجري ،وأسسوا دوالً انفصالية في فارس واألهواز وكرمان
والري ِ وأصفهان وهمذان ،وبسطوا هيمنة فعلية على العراق ،فشاركوا الخالفة العباسية في حكمه ،وعظم نفوذ هذه األسرة
سمي باسمها عصر من عصور الخالفة العباسية ،هو العصر العباسي الثالث[].1 حتى ِ
وتمتد هذه المرحلة من (447 -334هـ1055 -946 /م) أي مدة ثالث عشرة ومائة سنة ،وتعاقب في هذه المدة أربعة خلفاء
من بني العباس هم :المطيع هلل ،والطائع هلل ،والقادر باهلل ،والقائم بأمر هللا.
وامتازت هذه المرحلة بسيطرة آل بويه الذين يعودون في أصولهم إلى الفرس ،وسكنت هذه األسرة بالد الد ْيلَم فعُرفوا كأنهم
منهم ،وكانوا من الرعية العاديين ،وأول من برز منهم أبو شجاع بويه ،وكان من صيادي السمك في بحر الخزر ،وكان له
ثالثة أوالد هم :علي وحسن وأحمد[].2
وقد اشتهرت هذه األسرة على يد األخ األكبر من اإلخوة البويهيين الثالثة ،وهو علي بن شجاع بن بويه الذي واله مرداويج
الزياري[ ]3بالد الك ََرج[].4
ويبدو أن عليًّا كانت تراوده نزعات تتعدى االستقاللية إلى التوسع على حساب جيرانه ،إضافةً إلى الطموح السياسي الذي
تحقق له سري ًعا ،حيث ما لبث أن أصبح صاحب شوكة في هذه النواحي ،واستمال الناس بحسن سياسته ،وتمكن بفضل مقدرته
العسكرية واإلدارية وكرمه وحسن معاملته ألتباعه من بناء جيش قوي انتزع به معظم بالد فارس في خالل فترة قصيرة،
واتخذ مدينة شيراز قاعدة لحكمه[].5
وبعد مقتل مرداويج سيطر البويهيون على أصفهان والري وهمذان والكرج وكرمان واألهواز.
لم تقف الخالفة العباسية مكتوفة اليدين إزاء هذه التطورات السياسية والعسكرية؛ لذلك انتهزت فرصة الصراع البويهي -
ميسورا ،فراحوا
ً أمرا
الزياري ،وحاولت استعادة األهواز ،ولكنها لم تستطع ذلك ،وأضحى نزولهم من األهواز إلى العراق ً
يراقبون األحداث في عاصمة الخالفة حتى تسنح لهم الفرصة لدخولها.
كانت الحالة في العراق مضطربة ،كما كانت الخالفة واقعة تحت نفوذ األتراك ،وظهر عجزها في إقرار األمور في العراق،
فشعر الناس بهذا الفراغ السياسي.
نتيجة لذلك تطلع الناس إلى هذه القوة الجديدة التي ظهرت بالقرب منهم لتنشلهم من الفوضى ،كما تطلع بعض القادة المغلوب
وأخيرا
ً على أمرهم إلى قوة البويهيين النامية ،آملين أن يحصلوا بواستطها على االمتيازات التي ُح ِرموا منها أو أبعدوا عنها.
مال الخليفة المتقي هلل لطلب المساعدة من البويهيين ،فدعا الخليفة أحمد بن بويه وطلب منه دخول بغداد ،كما كاتبه بعض القادة
للغاية نفسها ،فسار إليها في عام 332هـ944 /م ،ودخلها في عام 334هـ945 /م بعدما خرج األتراك منها ،واستقبله الخليفة
أميرا لألمراء ،ولقبه ُم ِعز الدولة ،ولقب أخاه عليًّا عماد الدولة ،كما لقب أخاه
المستكفي باهلل واحتفى به ،وخلع عليه وعينه ً
حسن ركن الدولة[].6
وهكذا أسس البويهيون في فارس والعراق واألهواز وكرمان والري ِ وهمذان وأصفهان إمارات وراثية دامت حتى عام
447هـ1055 /م ،وقد أدى نظام الوراثة هذا إلى إيجاد نوع من االستقرار السياسي في دولة الخالفة العباسية ،سيطر
البويهيون أثناءها على مقاليد األمور ،وتصرفوا بشكل مطلق ،لكن هذا االستقرار كانت تشوبه بعض االضطرابات الناتجة عن
النزاعات المذهبية بفعل تشيُّع األسرة البويهية[].7
شجرة الحكام
(338 -320هـ949 -932 /م). 1-عماد الدين أبو الحسن علي بن بويه
(447 -440هـ1055 -1048 /م). 8 -الملك الرحيم أبو نصر خسرو فيروز
10-الملك الرحيم أبو نصر خسرو فيروز (447 -440هـ1055 -1048 /م).
4-شمس الدولة أبو طاهر (في همذان فقط) (412 -387هـ1021 -997 /م) -5 .مجد الدولة أبو طالب رستم (في الري فقط)
(420 -387هـ1029 -997 /م) -6 .سماء الدولة أبو الحسن (في همذان فقط) (414 -412هـ1023 -1021 /م)[].8
أبو الحسين أحمد بن بويان (ت 344هـ) ،ومحمد بن الحسن بن محمد بن زياد بن هارون الموصلي البغدادي النقاش (ت
351هـ) الذي صنف كتابًا في القراءات ،وعبد الغفار بن عبيد هللا السري الكوفي (ت 367هـ) ،وعمر بن إبراهيم بن أحمد بن
كثير البغدادي (ت 390هـ) ،وعبد الغفار بن عبد هللا بن السري أبو الطيب الكوفي (ت 390هـ) ،وإبراهيم بن أحمد الطبري
المالكي البغدادي (ت 393هـ) صاحب كتاب (االستبصار) ،وأبو إسحاق إبراهيم بن أحمد الطبري (ت 393هـ) ،ومحمد بن
أحمد بن علي البغدادي (ت 399هـ) ،وعبد الملك بن بكران أبو الفرج النهرواني (ت 404هـ)[].9
أبو محمد دعلج بن أحمد السجستاني البغدادي (ت 351هـ)[ ،]16ومحمد بن محمد بن يعقوب بن إسماعيل بن الحجاج أبو
الحسين المعروف بالحجاجي (ت 368هـ)[ ،]17ومحمد بن العباس بن أحمد بن عصم أبو عُصم أبو عبد هللا ويعرف بالعصمي
(ت 378هـ)[ ،]18ومحمد بن المظفر بن موسى بن عيسى أبو الحسين البزاز (ت 379هـ)[ ،]19ومحمد بن علي بن الحسين
بن الحسن العلوي يُ ْكنَى أبا الحسن (ت 395هـ)[].20
والحافظ أبو علي سعيد بن السكن البغدادي (ت 353هـ)[ ،]21واإلمام الحافظ علي بن عمر الدارقطني (ت 385هـ)[،]22
والحافظ أبو بكر أحمد بن سليمان بن الحسن بن إسرائيل البغدادي (ت 348هـ)[ ،]23وأبو بكر محمد بن الحسين بن عبد هللا
اآلجري (ت 360هـ)[ ،]24والحافظ أبو الحسين أحمد بن عبيد بن إسماعيل البصري الصفار (ت 340هـ) ،وأبو محمد دعلج
بن أحمد السجستاني البغدادي (ت 351هـ)[ ،]25وأبو بكر محمد بن عبد هللا بن إبراهيم بن عبد ربه البغدادي البزاز (ت
354هـ)[].26
أبو الحسن الكرخي (ت 340هـ)[ ،]27وأبو بكر أحمد بن علي الرازي (ت 370هـ)[ ،]28والحسن بن القاسم الطبري الشافعي
أبو علي (ت 350هـ)[ ،]29وأبو الفرج ال ُمعَافَى بن زكريا بن يحيى بن حميد بن حماد بن داود المعروف بابن طراف
الجريري النهرواني القاضي (ت 390هـ)[ ،]30والحسن بن حامد بن علي بن مروان أبو عبد هللا الوراق الحنبلي (ت
403هـ)[ ،]31وأحمد بن محمد بن أحمد أبو حامد الفقيه اإلسفراييني (ت 406هـ)[].32
ابن جني (ت 392هـ)[ ،]33وأبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد (ت 345هـ)[ ،]34وأبو علي القالي البغدادي (ت
356هـ)[ ،]35وأبو بكر محمد بن الحسن بن مقسم (ت 354هـ)[ ،]36وأبو الحسن األسدي بن الكوفي (ت 378هـ)[ ،]37وأبو
سعيد الحسن بن عبد هللا بن المرزبان السيرافي (ت 368هـ)[].38
أبو القاسم علي بن إسحاق بن خلف الزاهي (ت 360هـ)[ ،]42وأبو الحسن محمد بن محمد بن لنكك البصري (ت
360هـ)[ ،]43وأبو الحسن عقيل بن محمد األحنف العكبري (ت 385هـ)[ ،]44وأبو الحسن محمد بن عبد هللا بن محمد
ضي (ت 406هـ)[].46 القرشي المخزومي السالَ ِمي (ت 393هـ)[ ،]45وأبو الحسن محمد بن الحسين الملقب بالشريف الر ِ
علي بن الحسين بن علي الهذلي البغدادي المؤرخ المسعودي (ت 346هـ)[ ،]47وأبو الفرج قدامة بن جعفر (ت
337هـ)[].48
أبو إسحاق إبراهيم بن محمد اإلصطخري (ت 346هـ)[ ،]49وأبو القاسم محمد بن حوقل البغدادي الموصلي (عاش في
النصف الثاني من القرن الرابع الهجري )[ ،]50وأبو الحسن علي بن الحسين المسعودي (ت 346هـ)[].51
أبو الحسن علي بن إبراهيم الحصري (ت 371هـ)[ ،]53وأبو طالب محمد بن علي بن عطية الحارثي (ت 386هـ)[].54
أبو جعفر أحمد بن محمد بن أبي األشعث (تُوفِي في 360ونيف)[ ،]55وأبو الحسن ثابت بن سنان بن ثابت بن قرة (ت
363هـ)[ ،]56وثابت بن إبراهيم بن زهرون الحراني أبو الحسن (ت 395هـ)[ ،]57وعلي بن العباس المجوسي (ت
384هـ)[].58
و -علم الصيدلة والكيمياء في الدولة البويهية:
أبو الوفاء محمد بن محمد بن يحيى بن إسماعيل بن العباس البوزجاني (ت 338هـ) ،وعلي بن أحمد العمراني الموصلي (ت
344هـ) ،وأبو حامد أحمد بن محمد الصاغاني (ت 379هـ)
1-معز الدولة أبو الحسين أحمد بن بويه (356 -320هـ967 -932 /م):
كان سلطان معز الدولة بالعراق مبدأ خرابه بعد أن كان َجنة الدنيا ،فإنه لما استقرت قدمه فيه شغب الجند عليه وأسمعوه
تمض سنة
ِ المكروه ،فضمن لهم أرزاقهم في مدة ذكرها لهم ،فاضطر إلى ضبط الناس وأخذ األموال من غير وجوهها ،ولم
حتى اشتد الغالء ببغداد ،فأكل الناس الميتة والسنَانير والكالب ،وأكل الناس خروب الشوك ،فقد كانوا يسلقون َحبه ويأكلونه؛
فلحق الناس أمراض وأورام في أحشائهم ،وكثر فيهم الموت حتى عجز الناس عن دفن الموتى ،فكانت الكالب تأكل لحومهم،
وانحدر كثير من أهل بغداد إلى البصرة ،فمات أكثرهم في الطريق ،وبيعت الدور والعقارات بالخبز
كان أهل بغداد قبل الدولة البويهية على مذهب أهل السُّنة والجماعة ،فلما جاءت هذه الدولة وهي متشيعة غالية؛ نما مذهب
أنصارا ،فقد ُك ِتب على مساجد بغداد سنة 351هـ ما صورته( :لعن هللا معاوية بن أبي
ً الشيعة ببغداد ،ووجد له من قوة الحكومة
سفيان ،ولعن من غصب فاطمة فَ َد ًكا ،ومن منع من أن يُدفن الحسن عند قبر َجدِه صلى هللا عليه وسلم ،ومن نفى أبا ذر
الغفاري ،ومن أخرج العباس من الشورى) .فأما الخليفة فكان محكو ًما عليه ،ال يقدر على المنع ،وأما معز الدولة فبأمره كان
ذلك.
ي:
بعض الناس ،فأراد معز الدولة إعادته ،وأشار عليه الوزير أبو محمد المهلبي بأن يكتب مكان ما ُم ِح َ
ُ فلما كان الليل َحكه
لعن هللا الظالمين آلل رسول هللا صلى هللا عليه وسلم .وال يذكر أحدًا في اللعن إال معاوية ،ففعل ذلك
وفي عاشر المحرم سنة 352هـ أمر معز الدولة الناس أن يغلقوا دكاكينهم ،ويبطلوا األسواق والبيع والشراء ،وأن يُظ ِهروا
النِياحة ،ويلبسوا قبابًا عملوها بالمسوح ،وأن يخرج النساء منشرات الشعور ،مسودات الوجوه ،قد شققن ثيابهن ،يدرن في البلد
بالنوائح ،ويلطمن وجوههن على الحسين بن علي رضي هللا عنهما .ففعل الناس ذلك ،ولم يكن ألهل السُّنة قدرة على المنع
لكثرة الشيعة؛ وألن السلطان معهم
لقد ساهم البويهيون في تقدم وازدهار بالد العراق وفارس التي خضعت لحكمهم ،وخاصةً في عهد عضد الدولة بن الحسن بن
عزها ومجدها؛ إذ نجح هذا الملك في التفوق على
بويه (372 -338هـ982 -949 /م) الذي وصلت الدولة في عهده إلى أوج ِ
إخوته وأبناء عمومته وتوحيد فارس والعراق تحت سلطته ،كما وطد عالقته بالخليفة العباسي الطائع هلل (381 -363هـ/
991 -973م) إذ تزوج الخليفة الطائع ابنته ،وتزوج هو ابنة الخليفة.
وبالرغم من ذلك فقد حرص عضد الدولة البويهي على توثيق الروابط بينه وبين الخليفة الفاطمي العزيز باهلل في مصر ،وقد
الودِية المتبادلة بين العاهلين في سنة 369هـ979 /م
أشار ابن ت َغري َب ْردِي إلى الرسائل ُ
وقد اعترف الملك البويهي في خطابه للعزيز بإمامة الفاطميين ،وبفضل أهل البيتُ ،مظ ِه ًرا طاعته ومحبته له ،ورد العزيز
باهلل على عضد الدولة برسالة كلها شكر وتقدير وامتنان للملك البويهي.
والجدير ذكره في هذا المجال هو أن رسالة الخليفة الفاطمي قُ ِرئت في حضرة الخليفة العباسي ،كما أرسلت رسالة عضد
الدولة إلى مصر بعلم الخليفة ،فإن دل ذلك على شيء إنما يدل على مدى ضعف الخلفاء العباسيين زمن سيطرة البويهيين ،فقد
ً
رمزا ال حول لهم وال قوة كانوا
ومن أعماله العمرانية أيضًا المشهد العظيم الذي شيده على قبر اإلمام علي بن أبي طالب رضي هللا عنه بمدينة النجف،
والمارستان العضدي الذي بناه في الجانب الغربي من بغداد لعالج المرضى ،وفرغ من بنائه سنة ثمان وستين وثالثمائة،
وأنفق عليه ماالً عظي ًما ،يقول عنه ابن خلكان" :وليس في الدنيا مثل ترتيبه ...،وأعد له من اآلالت ما يقصر الشرح عن
وصفه"
كما اهتم عضد الدولة بترميم بغداد وإعادة بناء ما تهدم من مساجدها وأسواقها ،ووزع األموال على األئمة والمؤذنين والعلماء
والقُراء والغرباء والضعفاء الذين يأوون إلى المساجد ،وأنشأ الحدائق والمنتزهات ،وأمر بتنظيف مجاري األنهار ،وبناء
الجسور ،وحفر الترع واألخاديد ،وأقام المسنيات (آالت لتوجيه المياه) ،وفتح أقنية جديدة فسال الماء يروي األرض؛ لكي يمنع
الناس من االستبداد باألقنية والمياه ،ووضع عليها الحراس بحيث ال يعتدي أحد على حق غيره .كذلك اهتم بإقامة العدل بين
الناس والفالحين ،فأبطل الضرائب المزيدة على الفالحين ورفع الظالمات ،وأجاب شكوى المشتكين ،ولم يراعِ بذلك الجند ،بل
طلب منهم تأدية ما عليهم .ثم إنه نظر في حال المزارعين ،فوجد أنهم ال يستطيعون تأدية الضرائب في المواعيد المحددة؛ ألن
المحصول كان يأتي بعد هذه المواعيد؛ فأخرها إلى ميعاد سماه (النيروز العضدي) ،وهو يأتي في وقت يكون محصول
األرض فيه قد ظهر وبان.
قصورا له ،منها قصر في شيراز فيه ثالثمائة غرفة ،وهو قصر عظيم ،وفيه خزائن كتب هائلة مفتوحة للعلماء.
ً كما أقام
وأصلح الطرقات وبخاصة طريق العراق -مكة ،وأذن لوزيره النصراني نصر بن هارون في بناء وترميم الكنائس واألديرة،
وإطالق األموال لفقرائهم
والحضاري ص .155 ،154د /يوسف العش :تاريخ عصر الخالفة العباسية ص.195
كبيرا ،ومما يدل على ذلك أن عضد الدولة أمر بتوزيع الجرايات
ازدهارا ً
ً ازدهرت الحياة العلمية واألدبية في عهد بني بويه
على الفقهاء والمحدِثين والمتكلمين والمفسرين والنحاة والشعراء والنسابين واألطباء والحساب والمهندسين
كما بالغ في إكرام العلماء واإلنعام عليهم حتى تضاعفت في أيامه المصنفات الرائعة في مختلف العلوم ،مثل :كتاب الحجة في
القراءات السبع ألبي علي الحسن بن أحمد الفارسي النحوي ،والكناش العضدي في الطب لعلي بن العباس المجوسي ،وكتاب
التاجي في أخبار بني بويه ألبي إسحاق إبراهيم الصابي الذي لم يجد في تاريخ الديالمة من المفاخر واألمجاد ما يرضي كبرياء
بني بويه؛ فعمد إلى التلفيق واصطناع األخبار المزيفة ليرضي عضد الدولة ،وكان هذا من أسباب غضب السلطان عضد
الدولة عليه فيما بعد وسجنه .وصنف له الشيخ أبو علي الفارسي كتاب اإليضاح والتكملة في النحو ،كما عمل له العالم الفلكي
أبو الحسين بن عمر الرازي كرة تمثِل السماء بما فيها من أجرام ونجوم.
وكان عضد الدولة فاضالً محبًّا للعلماء؛ فقصده فحول الشعراء في عصره ،ومدحوه بأحسن المدائح ،منهم أبو الطيب المتنبي،
َو َرد عليه وهو بشيراز في جمادى األولى سنة أربع وخمسين وثالثمائة ،وفيه يقول من جملة قصيدته المشهورة الهائية:
وعمل الوزراء في دولة بني بويه على تشجيع الحركة العلمية في البالد ،ومن هؤالء الوزراء أبو الفضل بن العميد (ت
360هـ970 /م) ،فقد َوزَ ر ابن العميد للملك ركن الدولة صاحب الري ِ وهمذان وأصفهان ،فأشرف على تربية وتعليم ولده
عضد الدولة ،الذي لقبه األخير باألستاذ الرئيس
والوزير الصاحب بن عباد الذي ترك رسائل منشورة ،وكذلك له كتاب في األعياد وفضائل النوروز ،وقد مدحه شعراء العرب
واألعاجم بحسب قوله هو نفسه" :مدحتُ -والعلم عند هللا -بمائة ألف قصيدة شعر عربية وفارسية"
أميرا على البصرة باسم معز الدولة ،ولكن نفسه كانت تطمح إلى االستقالل
كان أبو القاسم عبد هللا بن أبي عبد هللا البريدي ً
بها ،فكان ال يرسل إلى معز الدولة خرا ًجا
وفي سنة 335هـ اختلف معز الدولة بن بويه وأبو القاسم البريدي والي البصرة ،فأرسل معز الدولة جي ً
شا إلى واسط ،فسير
شا من البصرة في الماء ،وعلى الظهر ،فالتقوا واقتتلوا ،فانهزم أصحاب البريدي ،وأُسر من أعيانهم جماعة
إليهم البريدي جي ً
كثيرة.
وفي سنة 336هـ سار معز الدولة ومعه المطيع هلل إلى البصرة الستنقاذها من يد أبي القاسم البريدي ،وسلكوا البرية إليها،
فأرسل القرامطة من َه َجر إلى معز الدولة ينكرون عليه مسيره إلى البرية بغير أمرهم ،وهي لهم ،فلم يجبهم عن كتابهم ،وقال
للرسول :قل لهم من أنتم حتى تُستأمروا؟! وليس قصدي من أخذ البصرة غيركم ،وستعلمون ما تلقون مني.
ولما وصل معز الدولة إلى الدرهمية استأمن إليه عساكر أبي القاسم البريدي ،وهرب أبو القاسم إلى َه َجر ،والتجأ إلى
القرامطة ،وملك معز الدولة البصرة
كما كان معز الدولة وناصر الدولة بن حمدان يتنازعان السلطان ،وكل يريد اإلغارة على ما بيد اآلخر؛ ففي سنة 337هـ سار
معز الدولة من بغداد إلى الموصل قاصدًا االستيالء عليها ،فلما سمع ناصر الدولة بذلك سار عن الموصل إلى نصيبين،
ووصل معز الدولة فملك الموصل في شهر رمضان ،وظلم أهلها وعسفهم ،وأخذ أموال الرعايا ،فكثر الدعاء عليه.
وأراد معز الدولة أن يملك جميع بالد ناصر الدولة ،فأتاه الخبر من أخيه ركن الدولة أن عساكر خراسان قد قصدت جرجان
الرسل بينهما في ذلك ،واستقر الصلح
والري ،ويستمده ويطلب منه العساكر؛ فاضطر إلى مصالحة ناصر الدولة ،فترددت ُّ
بينهما على أن يؤدِي ناصر الدولة عن الموصل وديار الجزيرة كلها والشام كل سنة ثمانية آالف ألف درهم ،ويخطب في بالده
لعماد الدولة ،وركن الدولة ،ومعز الدولة بني بويه ،فلما استقر الصلح عاد معز الدولة إلى بغداد
كما حدثت قوة جديدة زادت من متاعب معز الدولة ومشاغله ،وهي قوة عمران بن شاهين (369 -329هـ) الذي كان في أول
األمر جابيًا؛ فقد َج َبى جبايات ثم هرب إلى ال َب ِطيحة ،وهي أرض واسعة بين واسط والبصرة ،جاء إليها عمران بن شاهين
خوفًا من السلطان فتحصن بها ،ثم صار يقطع الطريق على من يسلك البطيحة ،واجتمع إليه جماعة من الصيادين واللصوص،
ْمري ،فانتصر أبو
شا بقيادة وزيره أبي جعفر الصي ِفقَ ِوي بهم وحمى جانبه من السلطان .فلما اشتد أمره سير معز الدولة إليه جي ً
باهرا ،وكاد يأخذ عمران لوال أن شغل معز الدولة بوفاة أخيه األكبر عماد الدولة ،فاضطر إلى أن
ً انتصارا
ً جعفر على عمران
سا لعمران الذي زادت قوته ،ولم تستطع جيوش معز يأمر وزيره بقصد شيراز إلصالحها ،ففارق البطيحة ،وكان ذلك متنف ً
الدولة بعد ذلك االنتصار عليه.
واضطر معز الدولة إلى مصالحته ،ثم قلده البطائح ،فقوي واستفحل أمره ،وقد استمر ملك عمران بن شاهين بالبطيحة من سنة
ش ًجا في َح ْلق بني بويه ،ال يقدرون منه على شيء ،وانتقل الملك منه إلى أعقابه
(329هـ369 -هـ) ،أي أربعين سنة ،كان فيها َ
ومواليهم إلى سنة 408هـ
يرى اإلمام السيوطي أن الدولة البويهية ظهرت فيها بعض األفكار الهدامة ،التي تبعد كل البُعد عن الدين اإلسالمي ،ويتضح
ذلك أثناء حديثه عن التناسخية حيث يقول" :وفي سنة 341هـ ظهر قوم من التناسخية فيهم شاب يزعم أن روح علي انتقلت
إليه ،وامرأته تزعم أن روح فاطمة انتقلت إليها ،وآخر يد ِعي أنه جبريل؛ فض ُِربوا فتعززوا باالنتماء إلى أهل البيت ،فأمر معز
الدولة بإطالقهم لميله إلى أهل البيت ،فكان هذا من أفعاله الملعونة"
ويرى األستاذ محمود شاكر أن الدولة البويهية الشيعية لم تكن دولة إسالمية بالمعنى الصحيح ،فهي تخالف عقائد وفكر أهل
السُّنة مخالفة واضحة؛ فلذلك بدرت منها أفعال منكرة تتنافى مع تعاليم الدين اإلسالمي الصحيح ،ويتضح ذلك من قوله" :لقد
كانت أسرة آل بويه شيعية ،فبدرت منهم أعمال منكرة"
أما الدكتور طقوش فيقول" :كان من المتوقع أن يعيد البويهيون االستقرار والوحدة إلى أقاليم الخالفة بفرض سيطرتهم عليها،
وكبح جماح جندهم ،وإفساح المجال أمام الخالفة كي تضطلع بمسئولياتها ،وتجنب إثارة الفتن المذهبية إال أن ذلك لم يتحقق؛
ألنهم دخلوا بغداد يحملون روح العداء للخلفاء العباسيين المخالفين لهم في المذهب ،وقد فكر معز الدولة بعد دخوله بغداد
وسيطرته على مقاليد األمور فيها ،في إلغاء الخالفة العباسية وإقامة خالفة شيعية على أنقاضها ،وتنصيب أحد الزعماء الشيعة
سيعرض العالم اإلسالمي
ِ الزيدية ،وكان بإمكانه تحقيق ذلك ،إال أنه أحجم بعد استشارة أصحابه؛ ألن مثل هذا التغيير كان
لهزات عنيفة ،إضافةً إلى زعزعة الحكم البويهي.
وبالتالي فإن شيعة العراق الذين حاول معز الدولة استمالتهم إليه كانوا على مذهب اإلمامية ،وهذا يدل على أن تنصيب خليفة
زيدي سيكون مماثالً في نظرهم ،بالمقارنة مع الخليفة العباسي؛ لهذا أدرك معز الدولة من خالل فكرته السياسية الثاقبة بأن
البقاء على الخالفة العباسية أجدر متب ًعا للمبدأ الزيدي القائل" :بجواز إمامة المفضول مع وجود األفضل" .وأجاز على هذا
سنِي ،إال أنه اتبع سياسة ترمي إلى
األساس الذي أقره المبدأ الزيدي ،وعلى أساس المصلحة السياسية أن يدين بالوالء لخليفة ُ
الحد من سلطته مقابل تقوية نفوذه
ِ
ويرى كثير من المؤرخين بأن بني بويه أذلوا الخلفاء العباسيين وسلبوهم سلطانهم ،ولم يتورعوا عن التعدي على أشخاصهم
ً
رمزا دينيًّا ليس له من أحيانًا ،وأن الخالفة فقدت هيبتها وضعف شأنها في عهدهم ،وأن الخليفة أضحى ألعوبة في أيديهمِ ،
يمثل
األمر شيء سوى االسم فقط ،أما السلطة الفعلية في الدولة فكانت في يد األمير البويهي
أما الدكتور يوسف العش فيقول عن عصر بني بويه" :إن بالد فارس كانت على حال أحسن من العراق ،ومهما يكن من أمر
فوسائل الحضارة في العصر البويهي لم تكن قليلة ،والنهضة التي أحدثها عضد الدولة -ولو أن مدة حكمه قصيرة -خلفت
كبيرا ،فنشط العلم ونشطت الفلسفة ونشط البحث الديني فازدهرت الحضارة ،إال أن األحوال االقتصادية والسياسية
أثرا ًً
والمالية السيئة كان لها بعض األثر في نمو الحضارة وتقدمها .ويمكن أن نقول :إن هذه الحضارة قامت بتأثير أفكار عباقرة،
قدموا مجهودهم للمجتمع الذي كانوا يعيشون فيه ،وكان للحكام أثر كبير في تشجيعهم ورعايتهم"
ويقول الدكتور عبد الرحمن الحجي" :مرت في العالم اإلسالمي بعض المشكالت الداخلية التي أربكت وضع الخالفة
واستقرارها ،وكان منها الدور الذي قام به البويهيون إلضعاف الخالفة العباسية ،بينما السالجقة حموا العالم اإلسالمي،
ونعرف معركة (مالذكرد) وكيف كانوا يُقبِلون على الموت ،وقد أنقذوا الخالفة العباسية ،وأعادوا لها هيبتها ،وتخلصوا من
البويهيين الذين أثاروا في عاصمة الخالفة الفتنة الطائفية ،ومنذ أن ظهرت في العالم اإلسالمي الطائفية ونحن نعاني منها حتى
اآلن ،وشر البلية ما يأتي من الداخل"
أما المستشرق آدم متز ،فيقول" :لم يكن للشيعة في القرن الرابع مذهب كالمي خاص بهم ،فنجد مثالً أن عضد الدولة -وهو
من األمراء المتشيعين -يعمل على حسب مذهب المعتزلة ،ولم يكن هناك مذهب شيعي إال للفاطميين"
ثم يستطرد في حديثه قائالً" :في عام 341هـ952 /م ظفر الوزير المهلبي بقوم من التناسخية ،فيهم شاب يزعم أن روح علي
بن أبي طالب رضي هللا عنه انتقلت إليه ،وفيهم امرأة تزعم أن روح فاطمة رضي هللا عنها انتقلت إليها ،وفيهم آخر يزعم أنه
جبريل ،فض ُِربوا فالتجئوا ألهل البيت ،فأمر معز الدولة بإطالقهم لتشيُّع كان فيه"
سب بعض
مصو ًرا تعصب الشيعة ضد أهل السنة" :وكان أشد ما يؤلم نفوس أهل السنة ،ما أولع به الشيعة من ِ
ِ ويقول أيضًا
الصحابة"
دولة السالجقة
الدولة السلجوقية هي إحدى الدول السُّنِية القوية التي قامت في إيران والعراق وسوريا وآسيا الصغرى .وتُنسب هذه الدولة إلى
سلجوق زعيم عشائر الغُز التركمانية ،التي هاجرت واستقرت في بُخارى.
ط ْغ ُرلبك) على إقليم خراسان سنة 429هـ1037 /م .ولما ضعف البويهيون في بغداد وكان قد استولى أحد أحفاد سلجوق وهو ( ُ
اشتد ظلمهم للخلفاء ،استنجد الخليفة العباسي القائم بأمر هللا بالسلطان السلجوقي طغرلبك إلنقاذه من البويهيين؛ فانتهز السلطان
هذه الفرصة ،وسار بجيوشه إلى بغداد ،ودخلها في عام 447هـ1055 /م ،واعترف الخليفة به سلطانًا على جميع المناطق التي
تحت يده ،وأمر بأن يُذكر اسمه في الخطبة.
واستطاع طغرلبك أن يقضي على تمرد أخيه (إبراهيم ينال) ،وثورة البساسيري الشيعي ،وأن يعيد األمن واالستقرار إلى بالد
الرافدين.
ظلت العالقة الطيبة قائمة بين الخالفة العباسية والسلطنة السلجوقية ما يقارب ثمانية عشر عا ًما ،لكن سرعان ما نشب الخالف
بين الطرفين؛ بسبب محاولة طغرلبك االستئثار بجميع السلطات في العراق حتى تلك المتعلقة بالخليفة ،إضافةً إلى أنه حمل
موارد العراق المالية إلى الخزانة السلجوقية.
وبعد وفاة طغرلبك استطاع خليفته ألب أرسالن أن يوسع نفوذه على حساب الدولة الفاطمية ،فانتزع منها حلب ثم مكة
شطرا من بالدهم في آسيا الصغرى.
ً والمدينة ،وتقدم إلى بالد الروم وانتصر عليهم في معركة مالذكرد ،وضم إليه
وقد حافظ ملكشاه على ما تركه أبوه ألب أرسالن ،واستطاع القضاء على الثورات التي حدثت في بداية عهده ،ونشر العدل
واألمن والطمأنينة في البالد .وكان مما يميز ملكشاه أنه كان مول ًعا بالفلك ،وشجع دراسة العلوم الدينية والعقلية بمعونة وزيره
المشهور (نظام الملك) الذي أسس المدرستين العظميتين اللتين تعرفان باسمه في بغداد ونيسابور.
وبعد وفاة السلطان ملكشاه سنة 485هـ1092 /م ،تفككت الدولة السلجوقية وبدأت عوامل الضعف واالنهيار تدب في أوصالها؛
وذلك لتنافس األمراء على عرش السلطنة ،فضعفت بالتالي سيطرة الدولة على مختلف أقاليمها ،مما جعلها عاجزةً عن
التصدي للحمالت الصليبية .هذا إضافةً إلى الحركة الباطنية التي أعاقت جهاد السالجقة ،وعملت على التصفية المستمرة
باغتيال سالطين السالجقة وزعمائهم وقادتهم.
كان من مآثر السالجقة تمسكهم الشديد باإلسالم ،وميلهم القوي إلى أهل السُّنة والجماعة .ووصل المسلمون في عهدهم إلى
درجة عظيمة من التقدم في كثير من علوم الحضارة ،وازدهرت في عهدهم الفنون بجميع أنواعها.
ينتسب السالجقة إلى جدهم دقاق الذي كان وأفراد قبيلته في خدمة أحد ملوك الترك يعرف باسم بيغو ،وكان دقاق في هذه
المرحلة من تاريخ السالجقة مقدم األتراك ،وكان سلجوق بن دقاق في خدمة بيغو كما كان والده من قبل حيث كان يشغل
وظيفة مقدم الجيش ،في هذا الوقت كانت مظاهر التقدم وعالمات القيادة بدت واضحة عليه ،حتى أن زوجة الملك أخذت تثير
مخاوف زوجها منه لما رأت من حب الناس له وانصياعهم إليه ،إلى الحد الذي أغرته بقتله ،وما أن عرف سلجوق بذلك حتى
أخذ أتباعه ومن أطاعه وتوجه إلى دار اإلسالم وأقام بنواحي جند -قريبًا من نهر سيحون -وفيها أعلن سلجوق إسالمه وأخذ
يشن غاراته على الكفار الترك.
بعد وفاة سلجوق في جند ،خلف عددًا من األوالد ساروا على سياسة والدهم في شن الغارات على الترك الوثنين وبذلوا جهودًا
كبيرة في حماية السكان المسلمين ،فازدادت قواتهم وتوسعت أراضيهم وقد أكسبهم ذلك كله احترام الحكام المسلمين المجاورين
لهم ،فقد غزا ميكائيل بن سلجوق بعض بالد الكفار من الترك فقاتل حتى استشهد في سبيل هللا[.]2
ترك ميكائيل من األوالد بيغو ،وطغرلبك ،وشغري بك داود ،فدانت لهم عشائرهم بالطاعة ،ثم يمموا شطر بخارى ،فخشى
أميرها خطرهم ،فأساء جوارهم وأراد اإليقاع بهم ،فالتجئوا إلى بعراخان ملك تركستان واحتموا به ،واستقر األمر بين
طغرلبك وأخيه داود على أال يجتمعا عند بغراخان حتى ال يحيط مكره السيئ بهم ،وقد برهنت األيام على بعد نظر السالجقة
فقد حال بغراخان دون اجتماع هذين األخوين عنده فلم يوفق ،فاحتال على أسر طغرلبك وتم له ما أراد ،فثارت ثائرة داود
وقصد بغراخان في عشائره ليخلص أخاه وأحل الهزيمة بجنده ،وأطلق أخاه وعاد إلى جند وبقوا هنالك حتى زالت الدولة
السامانية[.]3
ولما ملك إيلك خان بخارى عظم نفوذ أرسالن بن سلجوق – عم داود وطغرلبك – الذي سار إلى أذربيجان ،ولكنه لم يلبث أن
أسر وحبس ،وقد دارت بين السالجقة والغزنويين في عهد مسعود – ابن يمين الدولة محمود الغرنوي -معارك طاحنة في
عهد مسعود ،انتهت بإقطاع دهستان لداود ،ونسا لطغرلبك ،وفراوة لبيغو ،ولقب كل منهم بلقب دهقان ،وبعث إليهم بالخلع،
ولكن هؤالء األخوة من عشيرة السالجقة لم يطمئنوا إلى دعوة السلطان مسعود ،وأخذوا يخادعونه بإظهار الطاعة له ،وطلبوا
إليه أن يطلق عمهم أرسالن (بن سلجوق) ولكن هذا الصلح لم يتم وأنشغل مسعود ببالد الهند[.]4
طغرل بك
هو السلطان أبو طالب محمد بن ميكائيل بن سلجوق التركي الملقب بطغرلبك ،ذلك الرجل الذي أنقذ هللا عز وجل به الخالفة
العباسية من السقوط لألبد وأنقذ هللا به أهل السنة من الضياع في براثن التشيع ,وأنشأ دولة هي أعظم الدول التي ظهرت في
اإلسالم هذه الدولة سيطرت على معظم أمالك المسلمين وكانت دولة سنية تحب الحق وإظهار العدل والشرع ,هذه قصة رجل
أعاد لمقام الخالفة هيبتها ومكانتها بعد أن ضاعت على يد المفسدين وملوك دولة بني بويه الشيعية.
كان طغرلبك كري ًما إلى حد كبير فقد روى المؤرخون أن أخاه إبراهيم ينال أسر بعض ملوك الروم فافتدى نفسه بأربعمائة ألف
دينار ،فأبى إبراهيم وحمله إلى السلطان طغرلبك ،فأرسل إمبراطور الروم إلى األمير نصر الدولة بن مروان يطلب وساطته
عند طغرلبك في إطالق سراحه ،فما كان من طغرلبك إال أن قام وأطلق سراح هذا الرومي وأرسله دون أن يأخذ منه فداء،
وقد قدر اإلمبراطور هذا الصنيع وعبر عن إعجابه به وتقديره إياه ،ورد مع رسوله إلى طغرلبك الكثير من الهدايا[.]5
بعد ذلك وفي سنة 429هـ1037 /م استولى طغرلبك على مرو حاضرة خراسان وذكر اسمه في خطبة الجمعة بلقب ملك
انتصارا
ً الملوك ،وفي شهر شعبان سنة 429هـ التقى جيش طغرلبك بجيش الغزنوبيين عند باب مدينة سرخس وانتصر عليهم
حاس ًما وشتت شملهم وطاردهم في كل مكان وغنم أموالهم ،فكانت هذه الموقعة كما يقول ابن األثير" :هي التي ملك
السلجوقيون بعدها خراسان ودخلوا قصبات البالد" وفي هذا الشهر استولى طغرلبك على نيسابور وأقيمت له الخطبة على
منابرها وذكر اسمه مقرونًا بلقب السلطان األعظم ،واستقر بدار اإلمارة وجلس للمظالم يومين في األسبوع على ما جرت به
العادة في هذه البالد[.]6
وفي سنة 433هـ 1042-1041 /م استولى السالجقة بقيادة طغرلبك عل بالد الديلم وكرمان ،وانتقل السالجقة في فتوحهم من
نصر إلى نصر حتى جاءت سنة 438هـ التي حاصر فيها طغرلبك مدينة أصبهان وصالحه صاحبه على مال يؤديه إليه وعلى
أن يقيم له الخطبة بأصبهان ،وفي السنة التالية عقد الصلح بين أبي كاليجار البويهي والسلطان طغرلبك السلجوقي وحدث بينهم
مصاهره[.]7
هكذا قامت دولة السالجقة العظام في خراسان وفارس ،وأضحت جيوشهم على أهبة االستعداد لدخول العراق وذلك إلنقاذ
الخالفة العباسية من سيطرة البويهين الشيعة.
كان الوضع الداخلي في بغداد مزعزعًا تشوبه حالة من الفوضى وعدم االستقرار مما ساعد على تعبيد الطريق أمام مهمة
دخول السالجقة إليها وضم العراق إلى دولتهم التي أسسوها في خراسان وإيران ،وذلك بفعل الخالفات األسرية داخل البيت
البويهي ،إذ قامت النزاعات والتنافسات بين األمراء البويهيين من جهة وبينهم وبين الجند من جهة أخرى ،كما انتشرت الفتن
بين الجند ،باإلضافة إلى رغبة السالجقة في إنقاذ الدولة العباسية السنية.
ففي عام 424هـ1033 /م ظهر التنافس واض ًحا بين جالل الدولة البيويهي وبين ابن أخيه أبي كاليجار ،وخطب لهذا األخير في
بغداد ،وغدت المدينة مسر ًحا للشغب والمنازعات المذهبية واألسرية.
ولما توفى جالل الدولة في عام 435هـ1044/م لم يتمكن ابنه الملك العزيز من االحتفاظ بالحكم طويالً ،مما دفع أبو كاليجار
إلى تثبيت أقدامه في الحكم ،واستقر في بغداد في عام 436هـ1045 /م.
نتيجة لهذا التنافس األسري ،وبفعل ثورات الجند المستمرة فقد األمن في بغداد ،وقد شعر الخليفة العباسي بهذا التفكك
واالنحالل ،ورأى أن الدولة البويهية عاجزة عن إقرار األمور في العراق[.]9
أما خطره على الخالفة العباسية فقد تجلى في عام 446هـ1054 /م ،حين نشب الخالف بينه وبين الخليفة القائم مما دفعه
لالتجاه نحو الفاطميين ،أما خطره على الدولة البويهية فقد تجلى في الخالف الذي نشأ بينه وبين الملك الرحيم البويهي مما هدد
النفوذ البويهي في العراق بعد ضياع أمالك البويهيين في إيران على يد السالجقة.
في هذا الجو المضطرب استنجد الخليفة بالسلطان السلجوقي طغرلبك طالبًا مساعدته ضد البساسيري ،انتهز السلطان هذه
الفرصة ،وسار بجيوشه إلى بغداد ،ودخلها في عام 447هـ1055 /م ،واعترف الخليفة به سلطانًا على جميع المناطق التي
تحت يده وأمر بأن يذكر اسمه في الخطبة ،وهكذا دخل العراق ضمن دائرة نفوذ السالجقة العظام[.]10
تمرد البساسيري:
في غمرة هذه االنتصارات التي حققها طغرلبك ،قام البساسيري ،من مقره الجديد – الرحبة – بعدة حركات ارتدادية عسكرية،
بهدف إخراج السالجقة من بغداد.
فعلى الصعيد العسكري ،نجح في االستيالء على الموصل ،بعد أن هزم السالجقة قرب سنجار في عام 448هـ1056 /م ،وأخذ
يستعد لدخول بغداد ،وعلى الصعيد السياسي أعلن انضمامه إلى الفاطميين وخطب للخليفة الفاطمي الذي أرسل إليه الخلع ،مما
أحدث اضطرابات مذهبية عنيفة.
في هذا الوقت عانى طغرلبك من عدة صعوبات داخلية ،اضطرته للخروج من بغداد في عام 449هـ1057 /م ،وسار إلى
الموصل لوضع حد للمشاكل التي أثارها البساسيري ضده ،فبسط نفوذه على ديار بكر ،ثم عاد إلى بغداد حيث استقبله الخليفة
بالترحاب ولقبه (ملك المشرق والمغرب) ويدل هذا التلقيب على أن هذا الخليفة ،اعترف لطغرلبك بما أضحى تحت يده من
البالد في المشرق ،وأذن له باستخالص المغرب من الفاطميين[.]12
وبعد أن دخل طغرلبك بغداد دعا الخليفة للعودة إلى عاصمته واستقبله في النهروان ،وأبدى اغتباطه بعودته ،وبذلك استتب
األمر للسالجقة في العراق وأصبحوا يمثلون ظاهرة جديدة في حياة دولة الخالفة العباسية ،فقد اختلف موقفهم تجاه الخالفة عن
موقف البويهيين بشكل عام فكانوا يحترمون الخلفاء تدينًا ينبع من عقيدتهم ونشأتهم السنية.
ومن جهة أخرى استطاع السالجقة أن يوحدوا المشرق اإلسالمي من جديد تحت رايتهم ويمدوا رقعته في غربي آسيا إلى
حدود البوسفور عن طريق جهاد الدولة البيزنطية ،ويستولوا على معظم بالد الشام من الفاطميين.
ظلت العالقة الطيبة قائمة بين الخالفة العباسية والسلطنة السلجوقية ما يقارب ثمانية عشر عا ًما منذ أن أعلن طغرلبك قيام
صا أنهم كانوا يحترمون الخالفة العباسية ويقدرونها.
دولته في خراسان ،خصو ً
لكن سرعان ما نشب الخالف بين الطرفين ،بسبب محاولة طغرلبك االستئثار بجميع السلطات في العراق ،حتى تلك المتعلقة
بالخليفة ،باإلضافة إال أنه حمل موارد العراق المالية إلى الخزانة السلجوقية ،فقد أناب عنه في حكم بغداد ،قبل أن يعود إلى
عاصمته الري ،موظفًا سلجوقيًا أطلق عليه اسم (العميد) كما عين موظفًا آخر لحفظ األمن يعرف بـ ( الشحنة ) يأتمر بأمره،
ويتمتع بنفوذ كبير حتى على الخليفة ،وترك في بغداد حامية عسكرية ،وضمن بعض المدن لخواصه[.]13
ً
متجاوزا بذلك تقاليد ومما زاد األمور تفاق ًما ،محاولة السلطان ربط البيتين العباسي والسلجوقي بالمصاهرة ،فخطب ابنة الخليفة
الخالفة العباسية ،وهذا مطمح لم يسع إليه أحد من قبل ،ويبدو أن إقدامه على هذه الخطوة ،كان وسيلة لتدعيم نفوذه السياسي
برابطة أدبية قوية مع الخالفة العباسية ،لكن الراجح أن السالجقة طمعوا في منصب الخالفة ،إال أنهم افتقروا إلى شروط
النسب باعتبارهم أعاجم ،وهدى التفكير طغرلبك إلى الزواج من ابنة الخليفة أمالً في أن يلد منها ولدًا يكون له من شرعية
النسب وقوة السالجقة ما يوصله إلى سدة الخالفة.
كانت ردة الفعل سلبية ،فقد انزعج الخليفة القائم من ذلك واستعفى السلطان فلم يعفه ،واضطر إلى قبول طلبه وزوجه ابنته في
عام 455هـ1063 /م[.]14
وفاته:
وتوفى السلطان طغرلبك رمضان 455هـ 10 /سبتمبر 1063م
"وكان وزير صدق يكرم العلماء والفقراء ،ولما عصى الملك شهاب الدولة قتلمش وخرج عن الطاعة ،وطمع في أخذ الملك
من ألب أرسالن وكان من بني عم طغرلبك ،فجمع وحشد واحتفل له ألب أرسالن فقال له الوزير :أيها الملك ال تخف ،فإني قد
استخدمت لك جندًا ليليًا يدعون لك وينصرونك بالتوجه في صلواتهم وخلواتهم ،وهم العلماء والصلحاء ،فطابت نفسه
بذلك"[.]17
-المدارس النظامية
وقال بعض المؤرخون أنها أنشئت في عهد نظام الملك وقال البعض األخر أنها أنشئت قبل ذلك بكثير ،المهم أن هذه المدارس
بدورا ها ًما في تاريخ السالجقة حيث عملت هذه المدارس على إعداد اإلنسان الصالح ،والمصلح لغيره وأعتبر هذا ً قامت
الهدف مه ًما لبناء األمة الصالحة[.]18
وكان عهد ألب أرسالن رغم قصره ( 465/455هـ ) حافالً بجالئل األعمال ،ففي السنة األولى من حكمه أخضع ختالن
وهراة وصغانيان في الشمال الشرقي ،وكان أًصحابها قد شقوا عصا الطاعة ،ورد البيزنطيين في أسيا الصغرى على أعقابهم
كثيرا من قالعهم وغنم غنائم ال تحصى وأسلم كثير من أهل هذه البالد ،وقد أشترك ملكشاه بن ألب أرسالن بعد أن فتح ً
والوزير نظام الملك في هذه الحروب سنة 456هـ ،وبعد قليل أخضع ألب أرسالن جند حيث دفن جده األكبر سلجوق مما جعل
لها أهمية خاصة في نظره ،وقمع الثورة التي قامت في فارس وكرمان ،وفي سنة 457هـ أخذ في بناء المدرسة النظامية
ببغداد ،وفي السنة التالية ولى عهده ابنه ملكشاه ،فبايعه أمراء دولته ،وذكر اسمه في الخطبة في جميع البالد التي دانت
لسلطانه ،وأقطع بالده أفراد البيت السلجوقي.
كذلك أقطع ألب أرسالن من بالد خصومة الفاطميين حلب ومكة والمدينة ،وأقيمت الخطبة بحلب للخليفة العباسي القائم
وللسلطان ألب أرسالن[.]19
موقعة مالذكرد
قام ألب أرسالن بحملة كبيرة ضد األقاليم النصرانية المجاورة لحدود دولته ،وقاد جيشه نحو جنوب أذربيجان واتجه غربًا لفتح
بالد الكرج والمناطق المطلة على بالد البيزنطيين ،وكان سكان الكرج يكثرون من اإلغارة على أذربيجان فأصبحوا مصدر
قلق لسكان المنطقة ،وانضم إليه وهو في مدينة مرند في أذربيجان أحد أمراء التركمان ويدعى طغتكين ،وكان دائم اإلغارة
على تلك المنطقة عارفًا بمسالكها.
بعد ذلك أجتاز الجيش السلجوقي نهر الرس –نهر يخرج من قاليقال ويمر بأران -في طريقة إلى بالد الكرج مما أضطر ملك
الكرج أن يهادن ألب أرسالن وصالحه على دفع الجزية ،بعد ذلك أصبح الطريق مفتو ًحا أمام السالجقة للعبور إلى األناضول
بعد السيطرة بعد أن سيطروا على قلب أرمينية ،كان ذلك تحديًا لبيزنطة وأدرك أن ألب أرسالن يصبغ غزوه للبالد بصبغة
أمرا ال مفر منه[.]20
الجهاد الديني وأن الحرب بين المسلمين والبيزنطيين ً
الخروج للقتال
خرج روماونس ملك الروم في جمع كثير من الروم والروس والكرج والفرنجة وغيرهم من الشعوب النصرانية ،حتى قدر
هذا الجمع بثالثمائة ألف جندي ،أعدهم اإلمبراطور لمالقاة السلطان السلجوقي ،الذي ما إن علم باقتراب الروم ومن معهم حتى
استعد لألمر ،وكان في قلة من أصحابه ال تقارن بعدد الروم ومن معهم من الجنود ،وكان الجيش السلجوقي يبلغ عدده قرابة
خمسة عشر ألفًا ،ولم يكن لديه وقت الستدعاء مدد من المناطق التابعة له ،وقال ألب أرسالن قولته المشهورة" :أنا أحتسب عند
هللا نفسي ،وإن سعدت بالشهادة ففي حواصل الطيور الخضر من حواصل الطيور الغبر رمسي ،وإن نصرت فما أسعدني وأنا
أمسي ويومي خير من أمسي"
هجم السلطان السلجوقي بمن معه على مقدمة األعداء وكان فيها عشرون ألفًا معظمهم من الروس ،فأحرز المسلمون عليهم
انتصارا عظي ًما وتمكنوا من أسر معظم قوادهم.
ً
اندالع المعركة:
أعد المسلمون العدة للمعركة الفاصلة واجتمع الجيشين يوم الخميس الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 463هـ فلما كان
وقت الصالة يوم الجمعة صلى السلطان بالعسكر ودعا هللا تعالى وقال :نجن مع القوم تحت الناقص -يقصد قلة العدد -وأريد
أن أطرح نفسي عليهم في هذه الساعة يدعى فيها لنا والمسلمين على المنابر ،فإما أن أبلغ الغرض وإما أن أمضي شهيدًا إلى
الجنة ،فمن أحب أن يتبعني منكم فليتبعني ،ومن أحب أن ينصرف فليمض مصاحبًا فما هاهنا سلطان يأمر وال عسكر يؤمر
فإنما أنا اليوم واحد منكم ،وغاز معكم ،فمن تبعني ووهب نفسه هلل تعالى فله الجنة أو الغنيمة ،ومن مضى حقت عليه النار
والفضيحة ،فقالوا :مهما فعلت تبعناك وأعناك عليه ،فبادر ولبس البياض وتحنط استعدادًا للموت وقال :إن قتلت فهذا كفني ،ثم
وقع الزحف بين الطرفين ،وحمل المسلمون على األعداء ،ونصر هللا المسلمين عليهم ،فقتلوا منهم مقتله عظيمة وأسروا منهم
جموعًا كبيرة ،كان على رأسهم ملك الروم نفسه[.]22
أخبر ألب أرسالن بنبأ أسر اإلمبراطور فأمر بإحضاره ،فلما أحضر ضربه السلطان ثالث مقارع بيده وقال له :ألم أرسل إليك
في الهدنة فأبيت؟ فقال :دعني من التوبيخ وأفعل ما تريد ،فقال السلطان :ما عزمت أن تفعل بي إن أسرتني؟ قال :أفعل القبيح،
قال السلطان :ما تظن أنني أفعل بك؟ قال :إما أن تقتلني وإما أن تشهرني في بالد اإلسالم ،واألخيرة بعيدة وهي العفو وقبول
األموال واصطناعي نائبًا عنك ،قال :ما عزمت على غير هذا ،ففداه السلطان بألف ألف دينار وخمسمائة ألف دينار ،وأن
يرسل إليه عساكر الروم في أي وقت يطلبها ،وأن يطلق كل أسير في بالد الروم[.]24
أما الروم فبادروا وملكوا آخر ،فلما قرب أرمانوس شعر بزوال ملكه ،فلبس الصوف وتصوف ،وترهب ثم جمع ما وصلت
يده إليه نحو ثالثمائة ألف دينار ،وبعث بها واعتذر وقيل :إنه غلب على ثغور األرمن[.]25
أما أهم الدروس المستفادة من هذه الموقعة هو اإلخالص هلل تعالى واالستعداد للموت في سبيله فرغم الفرق الكبير بين عدد
المسلمين والبيزنطيين إال أن المسلمين استطاعوا االنتصار على البيزنطيين وليس األمر عدد وال عتاد ولكنه نصر من هللا عز
وجل عندما كانت النية خالصة هلل عز وجل.
ومن األمور التي يجب اإلشارة إليها في هذه الموقعة هو دور العلماء في تثبيت القادة والجنود وتذكيرهم باهلل واليوم اآلخر،
فعندما يصلح حال العلماء يصلح أحوال الرعية وبالتالي يصلح حال األمة كلها.
ولهذا نجد أن موقعة مالذكرد كان له ا أثر بالغ فقد انتشر السالجقة في آسيا الصغرى وضموا إلى ديار اإلسالم مساحة تزيد
عن 400ألف كيلومتر ،كما تعتبر هذه الموقعة نقطة تحول في التاريخ اإلسالمي فألول مرة يقع اإلمبراطور نفسه أسير في
أيدي المسلمين ،وتعد هذه الموقعة أكبر نكسة في تاريخ اإلمبراطورية البيزنطية إذ أصبحت األراضي البيزنطية تحت رحمة
السالجقة ولذلك يسميها بعض المؤرخين باسم الملحمة الكبرى[.]26
خلف ألب أرسالن ابنه ملكشاه وتولى الحكم وهو في السابعة عشر أو الثامنة عشر من حكمه ،وقد حدثت في بداية عهده عدة
ثورات ولكنه استطاع القضاء عليها ،وكان مما يميز ملكشاه أنه كان مولعًا بالفلك وشجع دراسة العلوم الدينية والعقلية بمعونة
وزيره المشهور نظام الملك الذي أسس المدرستين العظميتين اللتين تعرفان باسمه في بغداد ونيسابور ،وتعرف كل منهما باسم
المدرسة النظامية كما أسس المدرسة الحنفية ببغداد[.]30
مناصرته للمظلومين:
إن انتشار العدل من األمور الهامة فبدونه تنهار األمم ،وقد انتبه ملوك السالجقة لهذا األمر
وجعلوه أساس دولتهم ،ومثال على ذلك ما فعله ملكشاه عندما اشتكى إليه فالح أن غلمانَا له أخذوا له حمل بطيخ هو رأس
ماله ،فقال :اليوم أرد عليك حملك ،وبالفعل قام وأعطى الرجل حمله[.]31
وأيضًا من األمور التي تشير إلى عدله أنه أسقط مره بعض المكوس ،فقال له رجل من المستوفين :يا سلطان العالم إن هذا
يعدل ستمائة ألف دينار وأكثر ،فقال" :ويحك إن المال مال هللا والعباد عبيده والبالد بالده وإنما يبقى هذا لي عند هللا ومن
نازعني في هذا ضربت عنقه"[.]32
وقد دب الضعف في أوصال دولة السالجقة ففي عام ( 536هـ1141 /م ) انهزم السلطان سنجر ،آخر السالطين السالجقة
العظام أمام القراخطائيين ،كما تجددت الخالفات السلجوقية األسرية في كل مكان من خراسان والعراق في عام ( 541هـ/
1146م).
ولما توفى السلطان مسعود في عام ( 547هـ1152 /م ) فقدت الدولة السلجوقية في العراق ركنًا ً
كبيرا ،فأصابها الوهن
وأخذت بالتداعي وعمتها االضطرابات ،مما أدى إلى تقلص النفوذ السلجوقي في العرق شيئًا فشيئًا حتى زال في النهاية.
زالت دولة السالجقة العظام في عام ( 552هـ1157 /م) بمقتل السلطان سنجر على أيدي الغز في حين زالت دولة سالجقة
العراق في عام ( 590هـ1194/م ) بمقتل السلطان طغرل الثالث على يد عالء الدين تكش خوارزمشاه[.]36
وعند الحديث عن تلك الفترة التي شهدت تدهور أوضاع السالجقة البد أن نشير إال أن السالجقة انقسموا إلى عدة فروع
رئيسية وهي:
-1السالجقة العظام:
ويطلق على طغرلبك ،وألب أرسالن ،وملكشاه ،وهم الجديرين بهذا اللقب وهناك ثالثة آخرون يضعهم البعض في هذا
التصنيف وهم ركن الدين أبو المظفر بركياروق ،وغياث الدين أبو شجاع محمد ،ومعز الدين سنجر أحمد إال أن هؤالء الثالثة
كثيرا من الحروب ضد أبناء بيتهم وعانت الدولة في عهدهم من عوامل الفرقة والتمزق[.]37
خاضوا ً
-2سالجقة العراق:
ويطلق على أمراء السالجقة الذين سيطروا على العراق والري وهمذان وكردستان وأستمر نفوذهم من سنة 511هـ 1117 /م
إلى سنة 590هـ 1194/م حيث تمكن الخوارزميون من القضاء عليهم.
-3سالجقة كرمان:
وقد بدأ نفوذهم في الجنوب الشرقي لفارس وفي بعض مناطق الوسط سنة 433هـ 1042/م واستمر حتى سنة 583هـ1187 /م
حين قضى التركمان على سلطانهم هناك.
-4سالجقة الشام:
وكان نفوذهم في المناطق التي استولى عليها السالجقة من الفاطميين أو الروم في الجزيرة والشام وانتهى نفوذهم سنة 511هـ/
1117م على أيدي أتابكة الشام والجزيرة.
-5سالجقة الروم:
كان نفوذهم في األراضي التي استطاع السالجقة االستيالء عليها من الروم في آسيا الصغرى وأستمر نفوذهم حتى سنة
700هـ1301 /م حين استطاع األتراك العثمانيون القضاء عليهم[.]38
فقد أكتسح الصليبيون قوات سالجقة الروم في آسيا الصغرى فاتجهوا إلى نيقية لالستيالء عليها ،وكان قلج أرسالن متغيبًا عن
المدينة ،وفرض الصليبيون الحصار على المدينة واضطرت الحامية إلى االستسالم بعد أن عقدت صل ًحا سريًا مع البيزنطيين
المشتركين مع الصليبيين في الحصار على أن تسليم المدينة مقابل أال يتعرض أحد للسلب والنهب وذلك في 491هـ1097 /م.
بعد ذلك تقدم الصليبين إلى أنطاكية وحاصروها حتى استسلمت وفر أميرها السلجوقي باغي سيان ،ثم ساروا إلى معرة النعمان
–ينتسب إليها الشاعر أبو العالء المعري– فحاصروها حتى استسلم أهلها فقتلوا منهم الكثير ،ثم حدثت مذبحة بيت المقدس
التي راح ضحيتها سبعين ألفًا من سكان المدينة.
وقد وقف السالجقة عاجزين أمام طوفان الصليبيين ،فقد كانت أوضاع دولتهم تنتقل من سيء إلى أسوأ ،وكانت الخالفة
العباسية جس ًما بال روح ،ولم يكن وضع الفاطميين في مصر بأفضل حاالً.
وظل األمر كذلك حتى ولى السلطان محمود بن محمد بن ملكشاه ،عماد الدين زنكي إمارة الموصل والبالد التابعة لها ،فكان
ذلك فاتحة خير للمسلمين ،حيث استطاع عماد الدين مد نفوذه إلى الجزيرة والشام ،وكان أعظم إنجاز حققه هو استرداد مدينة
الرها من أيدي الصليبيين 539هـ1114 /م[.]41
مواقف مهمة
-الباطنية والسالجقة:
سا لفهم أمور الدين وتلجأ إلى تأويل النصوص ،وتضم هذه الفرقة القرامطة والخرمية ً أسا الباطل جعلت الباطنية هي فرقة
واإلسماعلية والحشاشين ،واشتهرت هذه الفرقة بالعديد من محاوالت االغتياالت على مر التاريخ.
وقد ظهرت حركة الباطنية في العصر السلجوقي بصورة أقلقت سالطين السالجقة ،فقد استطاع زعيمهم الحسن بن الصباح
االستيالء على قالع حصينة في فارس ،أشهرها قلعة (أَلَموت) بنواحي قزوين التي ظلت معقل الحركة الباطنية لما يقرب
قرنين من الزمان.
وقد حاول نظام الملك أن يضع حدًا لنفوذ الباطنية وأمر بمطاردتهم في كل مكان ،وأرسل جي ً
شا لالستيالء على ألموت ولكنه
قتل في رمضان سنة 485هـ /أكتوبر 1092م ورجح المؤرخون قيام الباطنية بقتله[.]42
وقد قام السالجقة بمحاوالت متتالية لتصفية قواعد الباطنية ومحاصرة نشاطهم و نجحت بعض تلك المحاوالت وواجه بعضها
الفشل.
وكان السلطان ملكشاه أول سالطين السالجقة الذين حاولوا مواجهة خطر الباطنية فأرسل إليهم جي ً
شا بقيادة أرسالن طاسن
ولكنه هزم هزيمة منكرة.
وتعتبر الجهود التي قام بها السلطان غياث الدين محمد بن ملكشاه ضد الباطنية أخطر ما واجهته هذه الحركة في عهد
السالجقة ،ففي سنة 500هـ1107 /م توجه السلطان محمود بنفسه إلى أصبهان لحرب الباطنية الذين كانوا يعتصمون بقلعة
(شاهدز) المنيعة بزعامة أحمد بن عبد الملك بن عطاش وقد نجح السلطان محمد في االستيالء على هذه القلعة وقتل زعيمها
وكثيرا من الباطنية في ذي القعدة 500هـ /يونيو 1107م.
ً ابن عطاش
وفي عهد السلطان معز الدين سنجر ( )1117-1157 /511-552قتل الباطنية وزيره معين الملك أبا نصر أحمد بن الفضل
سنة (521هـ1127/م) وأدرك السلطان مدى خطورتهم ،فاتبع معم سياسة المهادنة[.]43
ورغم وفاة زعيم الباطنية الحسن بن الصباح سنة 518هـ1124 /م فإن السالجقة لم يستطيعوا استرداد قلعة ألموت منهم،
فظلت تحت سيطرتهم حتى استولى عليها المغول سنة 654هـ1256/م ،ولم ينحصر نشاط اإلسماعيلية الباطنية في عهد
السالجقة في بالد فارس بل امتد إلى الشام وكانت له أثاره المدمرة ،وأتسع نشاطهم في حلب في عهد أميرها السلجوقي
رضوان بن تتش بن ألب أرسالن (1095-1131/488-507م) وحينما تصدى لهم أمير دمشق تاج الملوك بوري بن طغتكين
متأثرا
ً سنة (523هـ1129/م) وقتل منهم آالفًا تربصوا به وهاجموه سنة (525هـ1131 /م) وجرحوه جراحات خطيرة توفي
بها في العام التالي.
وقد أثرت المتاعب التي أثارها الباطنية في وجه السالجقة في قدرتهم على القيام بدور أكثر إيجابية في التعامل مع
الصليبيين[.]44
وقال:
وقال:
ولو أني جعلت أمير جيش *** لما قاتلت إال بالسؤال
وقد امتدحه الشعراء في حياته ،ومنهم عاصم بن الحسن حيث قال فيه:
إذا كان الفتى ضخم المعاني *** فليس يضيره الجسم النحيل[]45
-اإلمام الغزالي:
من أشهر علماء المدارس النظامية وكان له العديد من المؤلفات منها على سبيل المثال ال الحصر:
-الوجيز
-مآخذ الخالف
-ميزان العقل
-تهافت الفالسفة
-المنقذ من الضالل
ما هو في العقيدة:
-كتاب النفس
-مدارك العقول
-مختصر النهاية
-إذكاء نار الفتنة بين الحكام السالجقة من قبل بعض األمراء والوزراء واألتابك.
-ضعف الخلفاء العباسيين أمام القوة العسكرية السلجوقية ،فلم يتورعوا عن االعتراف بشرعية كل من يجلس على عرش
السلطنة السلجوقية والخطبة لكل منتصر قوي.
-عجز الدولة السلجوقية عن توحيد بالد الشام ومصر والعراق تحت راية الخالفة العباسية.
-االنقسام الداخلي بين السالجقة والذي وصل إلى الصدام العسكري مما أنهك قوة السالجقة حتى انهارت سلطتهم في العراق.
-المكر الباطني الخبيث بالدولة السلجوقية ،وتمثل في حمالت التصفية المستمرة الغتيال سالطين السالجقة وزعمائهم
وقادتهم.
-الغزو الصليبي القادم من وراء البحار وصراع الدولة السلجوقية مع هذه الجحافل القادمة من أوربا[.]48