You are on page 1of 42

‫علم المكي والمدني‬

‫في عيون المستشرقين‬


‫عرض ونقد‬

‫بقلم‬

‫األستاذ الدكتور‬
‫زيد عمر عبد الله العيص‬

‫المقدمة‬
‫احلمد هلل منزل الكتاب‪ ،‬وهازم األحزاب‪ ،‬والصالة والسالم على النيب‬
‫حممد‪ ،‬واآلل والصحب الكرام‪ ،‬أما بعد‪:‬‬
‫فقد نبتت نابتة يف ميدان الدراسات الشرقية بعامة والدراسات القرآنية‬
‫خباصة عرفت باملستشرقني‪.‬‬
‫سودوا‬‫كان القرآن الكرمي بنصوصه وعلومه حمور دراسة غالبية هؤالء‪ ،‬وقد َّ‬
‫يف هذا اجملال عشرات اآلالف من الصفحات أتوا فيها بالعجب العجاب‪ ،‬وكان‬
‫اخلطأ فيها هو األصل‪ ،‬وتوارى يف ثناياها النَّزر اليسري مما فيها من صواب‪.‬‬
‫أسهمت عوامل عدة ـ أكثرها مصطنع ـ يف الرتويج لنتاج املستشرقني منها‬
‫تسرتهم خلف املنهجية العلمية وظهورهم مبظهر الباحث عن احلقيقة املتجرد‬ ‫ر‬
‫هلا‪ ،‬وقد مكن أكثرهم من كراسي البحث العلمي يف اجلامعات‪ ،‬ويف اجملامع‬
‫العلمية واللغوية‪ .‬فاختذوها منابر لبث أفكارهم‪ .‬وإذا كان اهلل تعاىل قد قال يف‬
‫ُ ُ َّ َ ٗ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬
‫شأن املنافقني يف عهد النبوة‪  :‬لو خ َر ُجوا فِيكم َّما َزادوكم إِّل خ َباّل‬
‫ّلل َعل ُ‬‫ون ل َ ُهم َوٱ َّ ُ‬
‫َ َ َ ُ َ َّ َٰ ُ َ‬ ‫ُ َ ُ‬ ‫َ َ ُ‬ ‫ََ َ‬
‫ِيم‬ ‫َوَلوض ُعوا خِلَٰلكم َيبغونك ُم ٱل ِفتنة وفِيكم سمع‬
‫َّ‬
‫لظَٰلِم َ‬
‫ي ‪[٤٧‬التوبة‪ ،] ٧٤ :‬فإننا نقر بكل أسف أن فينا سَّاعني للمستشرقني‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ب ِٱ‬
‫نرى ـ يف ضوء ما ذكر ـ ضرورة أن يلتفت إىل هذا النتاج‪ ،‬بأن يعرض له‬
‫أصحاب االختصاص‪ ،‬كل يف جماله لبيان ما فيه من اعوجاج‪ ،‬والكشف عن‬
‫أهنم أصحاب جلاج‪ .‬وهو ما هتدف إليه هذه الندوة اليت تنظمها وزارة الشؤون‬
‫اإلسالمية واألوقاف والدعوة واإلرشاد ممثلة يف جممع امللك فهد لطباعة‬
‫املصحف الشريف باملدينة املنورة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫سوف تعىن هذه الدراسة بعلم املكي واملدين‪ ،‬فهو واحد من علوم قرآنية‬
‫شىت سعى املستشرقون أن يتخذوا منها وسيلة للرتويج لفرية كربى‪ ،‬تواصى هبا‬
‫عامتهم وهي إنكار الوحي‪ ،‬والقول ببشرية القرآن الكرمي‪.‬‬
‫تعرض الدراسة بإجياز ملفهوم املكي واملدين‪ ،‬وخلصاص األسلوب‬
‫واملضمون‪ ،‬اليت ميزت كالًّ منهما؛ بغية أن توضع يف نصاهبا‪ ،‬وتعطى حجمها‬
‫الطبيعي للحيلولة دون استغالهلا من قبل املستشرقني الذين رأوا يف هذه‬
‫اخلصاص مدخالً مثيناً حني جعلوا كل ميزة شبهة‪.‬‬
‫لقد استخدم املستشرقون يف دراستهم مناهج حبث تساعدهم‪ ،‬مثل‬
‫املنهج الذايت واملنهج العفوي التلقاصي‪ ،‬وأعرضوا عن مبادئ البحث العلمي وهو‬
‫ما سيظهر جلياً يف هذه الدراسة املوجزة‪.‬‬
‫وتصدى هلا باحثون جا ردون‪ ،‬وهو ما س َّهل‬ ‫َّ‬ ‫لقد درست شبه هؤالء‪،‬‬
‫املهمة علينا‪ ،‬فأردنا أن نضرب بسهم يف هذا اجملال؛ لتكون هذه الدراسة لبنة‬
‫تضاف إىل لبنات تدعو احلاجة إىل كثري منها؛ بغية كشف هذه الشبهات‬
‫والتحذير منها وبيان زيف هذه الفئة‪.‬‬
‫*****‬

‫‪2‬‬
‫كلمة في التعريف بالمكي والمدني وذكر خصائص ك ّل‬
‫منهما‪:‬‬
‫حيسن بنا أن نعرض ابتداءً ملفهوم املكي واملدين وبعض مساصل تتصل به؛‬
‫ليكون متهيداً لدراستنا هذه‪.‬‬
‫تباينت وجهات نظر أهل الشأن يف مفهوم املكي واملدين‪ ،‬فنظر إليه‬
‫بعضهم من زاوية املكان‪ ،‬فقال‪ :‬ما نزل من القرآن الكرمي يف مكة فهو مكي‪،‬‬
‫وما نزل منه يف املدينة فهو مدين (‪.)1‬‬
‫حمل نظر عند أهل التحقيق؛ ألنه يفضي إىل خروج آيات‬ ‫وهذا التو رجه ر‬
‫عدة من هذين الوصفني‪ ،‬فقد صح أن مثة آيات نزلت يف غري مكة واملدينة‪،‬‬
‫يبا‬‫فقد نزل يف تبوك على سبيل املثال قول اهلل تعاىل‪  :‬لَو ََك َن َع َر ٗضا قَر ٗ‬
‫ِ‬
‫ُ َ‬ ‫ُّ َّ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ ٗ َ ٗ َّ َّ ُ َ َ‬
‫كن َب ُع َدت َعلي ِه ُم ٱلشقة َو َس َيحل ِفون‬ ‫اصدا ّلت َبعوك َول َٰ ِ‬‫وسفرا ق ِ‬
‫ّلل َيعلَ ُم إ َّنهمُ‬ ‫َ َ َ ََ َ َ َ َ ُ ُ ُ َ َ ُ‬
‫نف َس ُهم َوٱ َّ ُ‬ ‫َّ َ‬
‫ِ‬ ‫ب ِٱّللِ لوِ ٱستطعنا َلرجنا معكم يهل ِكون أ‬
‫َ‬
‫ون ‪[ ٤٢‬التوبة‪ ،] ٧٤ :‬وقوله تعاىل‪َ  :‬ولَئن َسأۡلَ ُهم ََلَ ُقولُ َّن إ َّنماَ‬ ‫َ َ َٰ ُ َ‬
‫لكذِب‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ ُ َ َ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َٰ‬ ‫ُ َّ َ ُ ُ َ َ َ ُ ُ َ َّ َ َ َ‬
‫ولِۦ كنتم تسته ِزءون‬ ‫كنا َنوض ونلعب قل أب ِٱّللِ وءايتِهِۦ ورس ِ‬
‫‪[ ٦٥‬التوبة‪ ،] ٥٦ :‬وغري هذا ليس بالقليل‪.‬‬
‫إن هذا التعريف غري جامع‪ ،‬ويـفضي إىل القول بأن يف القرآن ما ليس‬
‫مكياً وال مدنياً‪ ،‬وهو ما رأيناه يف تقسيم ابن النقيب (‪ ،)٤‬حني قال‪(( :‬ومنه ما‬

‫(‪ )1‬انظر‪ :‬اإلتقان يف علوم القرآن‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪ ،9‬مناهل العرفان‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪.18٥‬‬
‫(‪ )٤‬اإلتقان‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪.9‬‬

‫‪3‬‬
‫ليس مبكي وال مدين‪ ،‬أجلأ إليه اعتبار املكان))‪ ،‬وهو تعريف لن تتحقق يف ضوصه‬
‫األغراض املرجوة من هذا املوضوع‪.‬‬
‫مثة فريق نظر إىل املكي واملدين يف ضوء خطابه لإلنسان‪ ،‬فما كان خطاباً‬
‫َ َ‬ ‫ي َأ ُّي َها ٱنلَّ ُ‬
‫يأ ُّي َها ٱ ََّّلِينَ‬ ‫اس‪ ‬فهو مكي‪ ،‬وما كان خطاباً ‪َٰٓ ‬‬ ‫‪َٰٓ َ ‬‬
‫َء َام ُنوا‪ ‬فهو مدين (‪)1‬؛ ألن الكفر كان غالباً على أهل مكة‪ ،‬واإلميان كان‬
‫الغالب على أهل املدينة‪.‬‬
‫ينسبون يف هذا املقام لعبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه قوله‪(( :‬كل شيء يف‬
‫َ َ‬ ‫ي َأ ُّي َها ٱنلَّ ُ‬
‫يأ ُّي َها ٱ ََّّلِينَ‬
‫اس‪ ‬أنزل مبكة‪ ،‬وكل شيء يف القرآن ‪َٰٓ ‬‬ ‫القرآن ‪َٰٓ َ ‬‬
‫َء َام ُنوا‪ ‬أنزل باملدينة ))(‪.)٤‬‬
‫إن صح هذا عنه رضي اهلل عنه‪ ،‬فقد قاله من باب التغليب‪ ،‬وإالَّ فقد‬
‫ي َأ ُّيهاَ‬‫صح أن يف سورة البقرة _ وهي مدنية باتفاق _ قولـه تعاىل‪َٰٓ َ  :‬‬
‫ُ َ َّ ُ‬
‫ِين مِن قبل ِكم ل َعلكم‬
‫َ‬ ‫كم َوٱ ََّّل َ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫ُ َّ‬ ‫ٱنلَّ ُ‬
‫اس ٱع ُب ُدوا َر َّبك ُم ٱَّلِي خلق‬
‫َ ُ َ‬
‫ت َّتقون ‪[ ٢١‬البقرة‪ ] ٤1 :‬وغريها كذلك‪ ،‬كما صح أن سورة النساء مدنية‬
‫َّ ُ َّ ُ َ َّ ُ ُ َّ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ َ‬
‫يأيها ٱنلاس ٱتقوا ربكم ٱَّلِي‬ ‫باتفاق‪ ،‬وفيها قولـه تعاىل‪َٰٓ  :‬‬
‫ٗ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ََ ُ‬
‫خلقكم مِن نفس َوَٰح َِدة َوخل َق مِن َها َزو َج َها َو َبث مِن ُه َما رِ َجاّل‬

‫(‪ )1‬مناهل العرفان‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪ ،191‬حماضرات يف علوم القرآن‪ ،‬ص ‪.٤9‬‬
‫(‪ )٤‬أخرج قول ابن مسعود هذا‪ :‬البزار يف مسنده (‪ )33٥/٧‬واحلاكم يف املستدرك (‪ )18/3‬ومن طريقه البيهقي‬
‫يف دالصل النبوة (‪ .)1٧٧/٤‬وأخرجه ابن أيب شيبة يف املصنف (‪ )٤٦1/11‬وأبو عبيد يف فضاصله‬
‫وصحح الدارقطين أنه‬
‫(‪ ،)٤1٤/٤‬وابن الضريس يف الفضاصل أيضاً (ص‪ ،)٤9‬ثالثتهم عن علقمة مرسالً‪ّ ،‬‬
‫أيضا‪.‬‬
‫مرسل عن علقمة (العلل ‪ ،)1٥9-1٥8/٦‬وأشار إىل ذلك البزار ً‬

‫‪4‬‬
‫َ َ َ َ َّ َّ َ َ َ‬ ‫َ ٓ ُ َ‬ ‫َّ َ َّ‬ ‫ٓ َّ ُ‬ ‫َكث ِ ٗ‬
‫ّلل ٱَّلِي ت َسا َءلون ب ِهِۦ وٱَلرحام إِن ٱّلل َكن‬ ‫ريا َون َِسا ٗء َوٱتقوا ٱ‬
‫كم َرق ٗ‬ ‫ََ ُ‬
‫ِيبا ‪[ ١‬النساء‪.]1 :‬‬ ‫علي‬
‫مث إن املسألة أوسع بكثري من أن تصر يف مصطلحات وردت يف قلة من‬
‫اآليات يكون املعول عليها يف تديد سور بأكملها أهي مكية أم مدنية؟‬
‫وخباصة أن كثرياً من السور ختلو منها‪.‬‬
‫ظ له من النظر‪ ،‬وهلذا أعرض عنهما‬ ‫إن هذا القول كسابقه ال ح َّ‬
‫وعرضوا مبن َّروج هلما‪.‬‬
‫احملققون‪َّ ،‬‬
‫مثة قول ثالث عليه أهل التحقيق ينظر إىل املكي واملدين باعتبار الزمان‪ ،‬فقالوا‪:‬‬
‫ما نزل قبل اهلجرة فهو مكي‪ ،‬وما نزل من القرآن بعد اهلجرة فهو مدين (‪.)1‬‬
‫ظهر هذا املفهوم يف وقت مبكر‪ ،‬ومال إليه اجلمهور من العلماء‪ ،‬فهذا‬
‫حيىي بن سالم البصري (ت ‪٤11‬ه) يقول‪(( :‬ما نزل مبكة وما نزل بطريق املدينة‬
‫قبل أن يبلغ النيب املدينة فهو مكي‪ ،‬وما نزل على النيب يف أسفاره بعدما قدم‬
‫املدينة فهو مدين))(‪.)٤‬‬
‫هذا مفهوم تطمئن النفس إليه‪ ،‬وميكن االعتماد عليه؛ ألنه جامع مانع‪،‬‬
‫وميكن أن تظهر آثاره ومثاره عند تل رمس املساصل املتصلة باملكي واملدين كالنسخ‬
‫والتدرج يف األحكام‪ ،‬والكشف عن مراحل الدعوة وساهتا‪.‬‬
‫ليس خيفى على أهل الشأن أن ال أثر لتاريخ النرـزول يف ترتيب اآليات يف‬
‫سورها بـله السور يف القرآن‪ ،‬فـث َّمة اعتبارات أخرى مصدرها الوحي كانت وراء‬
‫هذا الرتتيب املعجز‪.‬‬

‫(‪ )1‬مناهل العرفان‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪ ،18٤1‬القرآن ونصوصه‪ ،‬ص ‪.1٤٤‬‬


‫(‪ )٤‬البيان يف عد آي القرآن‪ ،‬ص ‪.13٤‬‬

‫‪5‬‬
‫ال أثر يذكر كذلك لتاريخ النرـزول يف الكشف عن معاين غالبية اآليات‬
‫القرآنية‪ ،‬وإن توهم بعض املعاصرين (‪ )1‬غري هذا وسعى إىل إغراء الباحثني‬
‫باالشتغال هبذا الرتتيب والقيام به‪.‬‬
‫إذا كان األمر كذلك فإنه يفسر لنا عدم ورود شيء عن الرسول صلى‬
‫اهلل عليه وسلم يف شأن تديد زمن النرـزول أو بعبارة أخرى عدم اإلشارة إىل‬
‫املكي واملدين من القرآن الكرمي‪.‬‬
‫نلحظ هذا الفهم عند عامة العلماء‪ ،‬مما ورد عنهم من إشارات‪ ،‬أو‬
‫نطقت به بعض املقاالت‪ ،‬فهذا أبو بكر الباقالين يقول‪(( :‬مل يرد عن النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم يف ذلك قول؛ ألنه مل يؤمر به‪ ،‬ومل جيعل اهلل ذلك من فراصض‬
‫األمة‪ ،‬وإن وجب يف بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ واملنسوخ‪ ،‬فقد‬
‫يعرف ذلك بغري ن الرسول))(‪.)٤‬‬
‫بدا للعلماء أن معرفة املتقدم يف النرـزول من القرآن من املتأخر‪ ،‬أو بعبارة‬
‫أخرى ـ يف ضوء التعريف املختار ـ معرفة املكي واملدين ال خيلو من فواصد‬
‫تستدعي احلاجة الوقوف عليها يف مواطن عدة‪ ،‬وخباصة األحكام منها‪ ،‬وما‬
‫وعرب عن‬
‫يتصل بالناسخ واملنسوخ‪ ،‬وهو ما كان حاضراً لدى أهل االختصاص‪َّ ،‬‬
‫ذلك النحاس بقوله‪(( :‬إمنا نذكر ما أنزل مبكة ألن فيه أعظم الفاصدة يف الناسخ‬
‫واملنسوخ‪ ،‬ألن اآلية إذا كانت مكية‪ ،‬وكان فيها حكم‪ ،‬وكان يف غريها حكم‬
‫غريه نزل باملدينة علم أن املدنية نسخت املكية)) (‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬أمني اخلويل يف كتابه ((التفسري معامل حياته ومنهجه اليوم))‪ ،‬ص ‪.3٥‬‬
‫(‪ )٤‬اإلتقان يف علوم القرآن‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪.1٤‬‬
‫(‪ )3‬الناسخ واملنسوخ‪ ،‬للنحاس‪ ،‬ص ‪.٤1٧‬‬

‫‪6‬‬
‫إن من يعىن كذلك بتتبع مراحل الدعوة‪ ،‬والكشف عن خصاصصها‪ ،‬البد‬
‫أن يستحضر املكي واملدين‪ ،‬ألنه الكاشف يف هذا املقام‪ ،‬وكذا من يعرض‬
‫لقضية التدرج يف التشريعات‪ ،‬اليت كانت من سات هذا الدين‪ ،‬ال يستغين عن‬
‫معرفة املكي‪ ،‬واملدين‪.‬‬
‫ميكن القول ـ على هدي مما سبق ـ‪ :‬إن يف معرفة املكي من املدين فواصد ال‬
‫ختفى‪ ،‬وملا مل يكن بني أيدينا نصوص شرعية تدد لنا ما كان مكياً‪ ،‬وما كان‬
‫تلمس العلماء سبالً موصلة هلذا الغرض‪ ،‬فكان أن رأوا وسيلتني مها‪:‬‬ ‫مدنياً‪َّ ،‬‬
‫طريق السماع‪ ،‬وطريق القياس (‪.)1‬‬
‫نعين بطريق السماع‪ :‬تلك الروايات الواردة عن الصحابة الكرام الذين‬
‫عاصروا التَّـنزيل‪ ،‬وحضروا املشاهد‪ ،‬وعايشوا األحداث‪ ،‬فهم أعرف الناس بنـزول‬
‫القرآن زماناً ومكاناً‪.‬‬
‫فهذا عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه يقول فيما يرويه عنه البخاري‪:‬‬
‫((والذي نفسي بيده ما من آية إالَّ وأنا أعلم أين نزلت وفيما نزلت)) (‪ )٤‬وما هو‬
‫إال أمنوذج للصحب الكرام يف هذا املقام‪.‬‬
‫ليس يتعذر على الباحث أن يظفر بروايات عن الصحابة الكرام تن‬
‫على أن سورة كذا نزلت يف املدينة‪ ،‬أو أن آيات بعينها نزلت يف موضع كذا‪.‬‬
‫حسبنا دليالً على هذا ما رواه مسلم يف ((صحيحه)) عن عبد اهلل بن‬
‫مسعود رضي اهلل عنه قال‪(( :‬بينما أنا مع النيب صلى اهلل عليه وسلم يف حرث‬
‫وهو متكئ على عسيب إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض‪ :‬سلوه عن الروح‪،‬‬
‫فسألوه‪ ،‬فأمسك النيب صلى اهلل عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئاً فعلمت أنه‬

‫(‪ )1‬اإلتقان يف علوم القرآن‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪.1٤‬‬


‫(‪ )٤‬رواه البخاري‪ ،‬فضاصل القرآن‪ ،‬برقم ‪.٦11٤‬‬

‫‪7‬‬
‫ََ َُ‬
‫سلونَ َ َع ِن ٱ ُّلر ِ‬
‫وح‬ ‫يوحى إليه فقمت مقامي‪ ،‬فلما نزل الوحي قال‪  :‬وي‬
‫َّ َ ٗ‬
‫عل ِم إِّل قل ِيل ‪[ ٨٥‬اإلسراء‪8٦ :‬‬ ‫ل‬ ‫ٱ‬ ‫َ‬
‫ِن‬‫م‬ ‫م‬ ‫وح مِن أَمر َرب َو َما ٓ أُوت ُ‬
‫ِيت‬ ‫قُل ٱ ُّلر ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫(‪)1‬‬
‫] ‪.‬‬
‫كانت الوسيلة الثانية يف معرفة املكي واملدين‪ ،‬قياسية‪ ،‬وهي تقوم على‬
‫استحضار جمموعة من اخلصاص ‪ ،‬أمكن ألهل الشأن مجعها‪ ،‬من خالل النظر‬
‫يف كل من املكي واملدين‪ ،‬فبدا هلم بعد طول نظر‪ ،‬ومزيد تأمل‪ ،‬أن مثة‬
‫خصاص تكاد تصاحب كالًّ من املكي واملدين ميكن عند استحضارها‬
‫واعتبارها التفريق بينهما‪ ،‬ومعرفة السور املكية من املدنية‪.‬‬
‫شجع أهل االختصاص على اعتمادها‪ ،‬واألخذ هبا‪ ،‬جميء شيء منها‬ ‫َّ‬
‫عن الصحب الكرام‪ ،‬كالقول املتقدم عن ابن مسعود رضي اهلل عنه يف اعتبار‬
‫ٓ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُّ‬ ‫َ َ‬
‫َٰٓ‬
‫يأيها ٱنلاس‪ ‬مكياً‪ ،‬و ‪ ‬يأيها ٱَّلِين ءامنوا‪ ‬مدنياً‪ ،‬وكقول‬ ‫‪َٰٓ ‬‬
‫عروة بن الزبري‪(( :‬ما كان من حد أو فريضة أنزهلا اهلل عز وجل يف املدينة‪ ،‬وما‬
‫كان من ذكر األمم والقرون أنزل مبكة))(‪.)٤‬‬
‫نشط أهل االختصاص يف استخالص هذه امليزات للمكي‪ ،‬واملدين‪،‬‬
‫سواء ما كان منها ذا صلة باملعاين‪ ،‬أو باملباين‪ ،‬ونعين هنا األسلوب واملضمون‪،‬‬
‫بغية االستعانة هبا يف تديد املكي واملدين‪ ،‬كلما دعت حاجة‪ ،‬أو استدعى‬
‫موقف‪.‬‬
‫ويمكننا أن نوجز ما سبق بما يلي‪:‬‬

‫(‪ )1‬رواه مسلم يف سؤال اليهود النيب برقم ‪.٤1٦9‬‬


‫(‪ )٤‬فهم القرآن‪ ،‬ص ‪ ،39٧‬احلارث احملاسيب‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫‪ .1‬السور واآليات املكية كانت بعامتها قصرية‪ ،‬شديدة يف األسلوب‪ ،‬خبالف‬
‫اآليات‪ ،‬والسور املدنية‪ ،‬فكانت طويلة ذات أسلوب لني‪.‬‬
‫‪ .٤‬تضمنت السور املكية الوعد‪ ،‬والوعيد‪ ،‬والتوبيخ‪ ،‬وهلذا كان اخلطاب فيها بيا‬
‫أيها الناس‪ ،‬حىت كثر ورود كلمة " كال " اليت هي للردع والزجر يف السور املكية‪،‬‬
‫ومل ترد يف السور املدنية‪ ،‬فصارت عالمة على التفريق بني املكي واملدين‪ ،‬يف‬
‫حني امتازت السور املدنية باحلديث عن التشريعات يف كافة اجملاالت‪ ،‬وكان‬
‫اخلطاب فيها بيا أيها الذين آمنوا‪.‬‬
‫‪ .3‬كثر احلديث يف السور املكية‪ ،‬عن األمم السابقة‪ ،‬وأحواهلا مع أنبياصها‪ ،‬يف‬
‫حني كثر احلديث يف السور املدنية‪ ،‬عن حماجة أهل الكتاب‪ ،‬واملنافقني‪.‬‬
‫‪ .٧‬برزت يف السور املكية ظاهرة القسم‪ ،‬والتكرير‪ ،‬وضرب األمثلة احلسية‪،‬‬
‫والتشبيه‪ ،‬والفاصلة القرآنية اليت تشبه السجع‪ ،‬يف حني ندر يف القرآن املدين‪،‬‬
‫وجود هذه املظاهر (‪.)1‬‬
‫هذا جممل ما أورده العلماء‪ ،‬يف بيان الفروق بني املكي واملدين‪ ،‬حرصت‬
‫على دجمه‪ ،‬واختصاره ليناسب املقال املقام‪ ،‬وهي فروق ـ كما أكد العلماء ـ‬
‫نسبية‪ ،‬غالبة حىت إنه مل ينفرد قسم بواحد منها‪ ،‬دون القسم اآلخر كما سنرى‪.‬‬
‫لقد َّأدت هذه الفروق ـ على أية حال ـ األغراض اليت سيقت من أجلها‬
‫يف جمال التشريع‪ ،‬وتتبرع مراحل الدعوة‪ ،‬ويف جمال االحتكام إليها يف تديد‬
‫السور اليت مل يرد دليل خارجي من قول مأثور‪ ،‬أو سبب نزول حيدد أمكية هي‬
‫أم مدنية؟‬

‫(‪ )1‬انظر ملزيد بيان وتوسع‪ :‬مكي القرآن ومدنيه ص ‪ ،31٤ -31٥‬مناهل العرفان‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪،191 -191‬‬
‫حماضرات يف علوم القرآن‪ ،‬ص ‪.٤8‬‬

‫‪9‬‬
‫لقد وضع العلماء هذه الفروق بعد مالحظة واستقراء‪ ،‬ومل يكن يرد يف‬
‫خلدهم أن مثة طاصفة قادمة تت جنح الظالم‪ ،‬تسلك منهجاً‪ ،‬ال خطام له‪،‬‬
‫وال زمام‪ ،‬تسعى لتوظيف هذه الفروق إلثبات مقرر سابق‪ ،‬والرتويج ألفكار‬
‫الحظ هلا من الصحة وال اعتبار‪ ،‬إهنم املستشرقون‪.‬‬
‫تتجه جهود املستشرقني يف جمال الدراسات القرآنية‪ ،‬إىل إثبات أن القرآن‬
‫الكرمي من وضع النيب‪ ،‬حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأنه ال صلة له بالوحي‬
‫ويتعذر على الباحث احملقق أن يستثين أحداً من املستشرقني من هذا‬ ‫إطالقاً‪َّ ،‬‬
‫املعتقد‪ ،‬وخباصة الرموز منهم‪ ،‬وال يدخل من أسلم منهم يف حديثنا هذا‪ .‬ويف‬
‫هذا يقول د‪ .‬السباعي‪(( :‬مجهور املستشرقني على إنكار الوحي))(‪.)1‬‬
‫ال جيد الباحث صعوبة يف إيراد عشرات األساء‪ ،‬للمستشرقني الذين‬
‫يعتقدون هذا املعتقد‪ ،‬وجعلوه مقرراً سابقاً‪ ،‬بنيت عليه دراساهتم من أمثال‬
‫الفرنسي هنري المانس (ت ‪193٤‬م)‪ ،‬واألملاين كارل بروكلمان (ت‬
‫‪19٤٤‬م)‪ ،‬والفرنسي راميوند شارل‪ ،‬واألمريكي غوستاف فون (ت ‪19٤٤‬م)‪،‬‬
‫والفرنسي أندري ميكال‪ ،‬والفرنسي كازانوفا (ت ‪19٤٥‬م)‪ ،‬والفرنسي لويس‬
‫ماسينيون (ت ‪19٥٤‬م)‪ ،‬وغري هؤالء كثري ميكن الوقوف على آراصهم ومقوالهتم‬
‫يف مظاهنا (‪.)٤‬‬
‫تعددت مسالك املستشرقني‪ ،‬يف الرتويج ألفكارهم‪ ،‬وخباصة تلك املتصلة‬
‫مبصدر القرآن الكرمي كما أشرنا‪ ،‬وكان من بني األبواب اليت وجلها املستشرقون‪،‬‬
‫باب املكي‪ ،‬واملدين‪ ،‬وهو ما ميلي علينا أن نستحضر أن حديثهم عن املكي‬

‫(‪ )1‬االستشراق واملستشرقون‪ ،‬ص ‪.٤٤‬‬


‫(‪ )٤‬ملزيد من التوسع انظر‪ :‬نبوة حممد يف الفكر االستشراقي املعاصر‪ ،‬ص ‪ ،٤٤1‬فما بعدها‪ ،‬ص ‪ ٤٦9‬فما‬
‫بعدها‪ ،‬املستشرقون‪ ،‬ج ‪ 3‬ص ‪ ٤91‬فما بعدها‪ ،‬آراء املستشرقني حول القرآن الكرمي وتفسريه‪ ،‬ص ‪٤39‬‬
‫فما بعدها‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫واملدين‪ ،‬كان حلقة يف سلسلة هدفت إىل النيل من القرآن الكرمي‪ .‬فجاء عرضهم‬
‫له كأنه وسيلة لغاية‪.‬‬
‫أقر‬
‫أغرى املستشرقني يف هذا اجملال وجود دراسات يف الرتاث اإلسالمي َّ‬
‫فيها أهلها أن مثة خصاص وميزات لكل من املكي واملدين ـ سبق ذكرها ـ ترقى‬
‫ألن تصبح فروقاً قاصمة برأسها‪.‬‬
‫سعى املستشرقون إىل توظيفها‪ ،‬إلثبات مقررات سابقة‪ ،‬واعتمد أكثرهم‬
‫املنهج الذايت‪ ،‬وهو يقوم على استحضار املستشرق النتماءاته سواء أكانت‬
‫دينية‪ ،‬أم علمية أم تارخيية‪ ،‬عند دراستهم ملباحث العلوم اإلسالمية‪ ،‬حبيث جاء‬
‫نتاجهم وبدرجات متفاوتة‪ ،‬مستجيباً لثقافاهتم‪ ،‬ال ملا تفرضه الدراسة العلمية‬
‫للمصادر اإلسالمية من نظريات ورؤى (‪.)1‬‬
‫حيسن بنا وحنن نعرض لشبهات املستشرقني‪ ،‬حول املكي واملدين‪ ،‬أن‬
‫نضع هذه الفروق واخلصاص يف نصاهبا احلقيقي‪ ،‬من خالل دراستها وتقوميها‬
‫بغية بيان ما هلا من آثار ومثار‪ ،‬رغبةً يف احليلولة دون تضخيمها‪ ،‬واستثمارها من‬
‫قبل املستشرقني عسى أن نأيت هبذا املسلك على نظرياهتم وافرتاضاهتم‪ ،‬وهو ما‬
‫ميلي علينا الدمج بني هذه الفروق يف أثناء عرض ونقض شبه املستشرقني‪ ،‬ولعل‬
‫هذا أوىل من الفصل بينها‪.‬‬
‫بيد أين أبيح لنفسي‪ ،‬أن أسجل هنا ملحوظة عامة‪ ،‬بغية استحضارها يف‬
‫أثناء دراستنا هذه‪ ،‬وهي أن الفروق اليت ذكرت بني املكي واملدين‪ ،‬مل تسلم من‬
‫جناية املبالغة فيها‪ ،‬حىت من قبل أهل االختصاص كما سيأيت بيانه‪.‬‬
‫وال يتسم منها فرق بالكلية بل باألغلبية النسبية‪ ،‬حىت ذاك الفرق الذي‬
‫ردده كل من كتب يف هذا املوضوع وهو كلمة (كالّ)‪ ،‬فقد أطبقوا أهنا مل ترد يف‬

‫(‪ )1‬نبوة حممد يف الفكر االستشراقي املعاصر‪ ،‬ص ‪ ،٤1٦‬خلضر شايب‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫سورة مدنية قط‪ ،‬بوصفها كلمة ردع وزجر‪ ،‬وهو أسلوب خلت منه السور‬
‫املدنية‪.‬‬
‫ويف هذا يقول السيوطي يف اإلتقان نقالً عن الديريين‪:‬‬
‫وما نزلت كالّ بيثرب فاعلمن ومل تأت يف القرآن يف نصفه األعلى‬
‫قال‪(( :‬وحكمة ذلك أن نصفه األخري‪ ،‬نزل أكثره مبكة‪ ،‬وأكثرها جبابرة‬
‫فتكررت فيه على وجه التهديد والتعنيف هلم‪ ،‬واإلنكار عليهم‪ ،‬خبالف النصف‬
‫األول منه‪ .‬وما نزل منه يف اليهود مل حيتج إىل إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم))(‪،)1‬‬
‫وعلى الرغم من متابعة كل من جاء بعد السيوطي(‪ )٤‬له فيما ذهب إليه إالَّ أنه‬
‫ال يسلم هلم على إطالقه‪.‬‬
‫سيمر بنا يف صفحة تالية أن سورة التكاثر مدنية على الراجح‪ ،‬ويشهد‬
‫هلذا أدلة ذات شأن‪ ،‬وقد وردت فيها (كال) مرتني‪ ،‬وهبذا تنخرم هذه اخلصيصة‬
‫وتصبح أغلبية كغريها من اخلصاص ‪.‬‬
‫بين تأثير القرآن وتأثره‪:‬‬
‫أما األمر اآلخر الذي أود أن أسجله هنا هو ما حدث من خلط‬
‫املستشرقني بني أمرين الفرق بينهما واضح‪ ،‬معتمدين على املنهج الذايت يف تفسري‬
‫الظواهر‪ ،‬ومستحضرين املنهج العفوي التلقاصي بغية التدليس على القارئ‪.‬‬
‫هذان األمران أوهلما حق ظاهر‪ ،‬وهو تأثري القرآن الكرمي يف البيئة اليت نزل‬
‫فيها‪ ،‬وثانيهما باطل‪ ،‬وهو تأثر القرآن هبذه البيئة وإفادته منها‪ ،‬وظهور آثار هذا‬
‫يف مضامينه وأسلوبه‪.‬‬

‫(‪ )1‬اإلتقان‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪.18 -1٤‬‬


‫(‪ )٤‬مثل الزرقاين يف مناهل العرفان‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪ ،189‬حممد كريدان يف‪ :‬مكي القرآن ومدنيه‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫وحيسن بنا أن نعرض هلذين األمرين بشيء من اإلجياز جتنباً للتكرير‪،‬‬
‫وسوف يأيت مزيد تفصيل وبيان يف ثنايا هذه الدراسة‪.‬‬
‫األول‪ :‬تأثير القرآن في البيئة‪.‬‬
‫كان القرآن الكرمي يعىن إبان نزوله بقضايا الناس‪ ،‬يف العهدين املكي واملدين‪،‬‬
‫فقد أنزل اهلل تعاىل القرآن الكرمي ليخرج الناس من الظلمات إىل النور‪ ،‬قال تعاىل‬
‫َ‬
‫َٰ‬ ‫َ‬ ‫ٓ َ َ َ َ ُ َ َ ُ َ َّ َ َ ُّ ُ‬
‫ت إِل‬ ‫خماطباً رسوله‪  :‬الر كِتَٰب أنزلنَٰه إَِل ۡلِ خ ِرج ٱنلاس مِن ٱلظلم ِ‬
‫د ‪[ ١‬إبراهيم‪.]1 :‬‬ ‫ص َر َٰ ِط ٱل َعزيز ٱ َ‬
‫ۡل ِمي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٱنلُّور بِإِذ ِن َرب ِهم إ ِ َ َٰ‬
‫ل‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ملا كان األمر كذلك‪ ،‬فقد تضمن القرآن الكرمي وصفاً دقيقاً ملا كان عليه‬
‫أهل مكة من جهالة يف أمورهم الدينية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬واألخالقية‪ ،‬فعرض هلا‬
‫وشنَّع على أهلها بسببها‪ ،‬مث قدَّم هلم البديل‪ ،‬ودعاهم إىل سواء السبيل‪.‬‬
‫سلك القرآن الكرمي يف تقيق هذه األغراض وساصل متعددة‪ ،‬سواءً يف‬
‫أسلوب العرض‪ ،‬أو يف طبيعة املضمون‪ ،‬وكان الوحي قريباً من الناس‪ ،‬رقيباً‬
‫عليهم‪ ،‬جاهزاً لدفع شبه تطرح‪ ،‬أو اإلجابة عن سؤال يرد‪ ،‬ولقد وعد اهلل تعاىل‬
‫ۡلق َوأَح َس َن َتفسِرياً‬ ‫جئ َنَٰ َ بٱ َ‬ ‫َ َ َ ُ َ َ َ َ َّ‬
‫ِ ِ‬ ‫رسوله هبذا‪  :‬وّل يأتون بِمثل إِّل ِ‬
‫[الفرقان‪.]33 :‬‬ ‫‪٣٣‬‬
‫فكان هذا املنهج ميد الرسول صلى اهلل عليه وسلم بالقوة‪ ،‬وهو يواجه‬
‫خصوم الدعوة‪ ،‬ويبعث يف نفسه الثقة املطلقة مبا هو عليه‪ ،‬ويدعو إليه‪.‬‬
‫وكان هلذا املنهج كذلك أثره البالغ يف نفوس الناس آنذاك‪ ،‬إذ كان املؤمن‬
‫يشعر أنه يف كنف اهلل الداصم‪ ،‬وأن رعاية اهلل تعاىل توطه من كل جانب‪ ،‬كما‬
‫كان يشعر الكافر واملنافق أنه تت النظر‪ ،‬وأن اهلل له باملرصاد يقول اهلل تعاىل‬

‫‪13‬‬
‫َ َ ُ ُ َ ُ َ َ ُ َ َّ َ َ َ‬
‫يف وصف بعض أحوال املنافقني‪َ  :‬يذر ٱلمنَٰفِقون أن تَنل علي ِهم‬
‫َ َ َ‬ ‫َ ُ ٓ َّ َّ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُُ‬ ‫ُ َ َُ‬
‫ّلل ُم ِرج َّما َتذ ُرون‬ ‫ورة تنب ِ ُئ ُهم ب ِ َما ِف قلوب ِ ِهم ق ِل ٱسته ِزءوا إِن ٱ‬‫س‬
‫‪[ ٦٤‬التوبة‪.]٥٧ :‬‬

‫ونزل مثل هذا يف شأن اليهود‪ ،‬حني تومهوا أهنم خدعوا رسول اهلل صلى‬
‫ب ٱ ََّّلِينَ‬
‫اهلل عليه وسلم بإجابتهم له‪ ،‬فقال اهلل تعاىل فيهم‪َّ  :‬ل ََت َس َ َّ‬
‫ون أَن َُي َم ُدوا ب َما لَم َيف َعلُوا فَ َل ََت َسبَ َّنهمُ‬
‫َ َ ُ َ َ ٓ َ َ َّ ُ ُّ َ‬
‫حب‬‫يفرحون بِما أتوا وي ِ‬
‫ِ‬
‫َ َُ َ َ َ‬ ‫ََ َ َ َ َ‬
‫اب ولهم عذاب أ َِلم ‪[ ١٨٨‬آل عمران‪.]188 :‬‬ ‫بِمفازة مِن ٱلعذ ِ‬
‫سجل‬
‫لقد كان القرآن الكرمي مرآة ناصعة البياض لعصره‪ ،‬تامة الصفاء‪ ،‬حني َّ‬
‫اعوجاجا يف‬
‫ً‬ ‫وقوم‬
‫األحداث‪ ،‬ورصد تصرفات الناس‪ ،‬وقدم حلوالً وصحح مفاهيم‪َّ ،‬‬
‫مناحي احلياة كلها‪ ،‬ودونك اآليات القرآنية‪ ،‬مكيها ومدنيها فهي شاهدة بدالالهتا‬
‫وهداياهتا‪ ،‬وما صاحبها من أسباب نزول‪ ،‬على كل ما عرضنا له‪.‬‬
‫جاء الواقع شاهداً آخر حني استجاب الناس لرب العاملني‪ ،‬وتفاعلوا مع‬
‫كتابه املبني‪ ،‬واتبعوا رسوله األمني‪.‬‬
‫األمر الثاني‪ :‬تأثر القرآن بأحداث العصر‪ ،‬وبثقافة أهله‬
‫وافادته من هذا كله‪ ،‬مما يعين أنه كان متأثراً بالبيئة‪ ،‬ال مؤثراً فيها‪ ،‬وهو ما‬
‫تومهه املستشرقون _ عامة املستشرقني _ وزعموه‪ ،‬أمثال‪ :‬نولدكه‪ ،‬وجولدتسيهر‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وبالشري‪ ،‬والمنز‪ ،‬وكازانوفا‪.‬‬
‫هذه املقولة اليت ساقها هؤالء تؤكد جبالء أن أهل مكة حني كفرهم كانوا‬
‫يدعون العلم واملوضوعية‪.‬‬‫أكثر احرتاماً ألنفسهم‪ ،‬من هؤالء الذين َّ‬
‫مل نسمع أن أحداً من كفار مكة قال هذه املقولة‪ ،‬مع أهنم كانوا يف‬
‫بداية أمرهم‪ ،‬يقولون ما يقوله اليوم املستشرقون بأن القرآن الكرمي ليس وحياً‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫إن كفار مكة مل يروا يف القرآن اضطراباً يف األسلوب‪ ،‬وال تناقضاً يف‬
‫املضمون‪ ،‬وقد كانوا يشعرون أن القرآن قادم إليهم بقوة وثبات‪ ،‬ليغري واقعاً بكل‬
‫ما فيه‪ ،‬وينشئ واقعاً جديداً‪ ،‬وهم ال حول هلم وال قوة‪.‬‬
‫يتعذر على منصف‪ ،‬أن يضع األمور يف نصاهبا‪ ،‬وأن مييز بني ما هو‬ ‫ليس َّ‬
‫تفسري مقنع لألحداث‪ ،‬وبني ما هو تفسري متعسف هلا بغية الرتويج ملقررات‬
‫سابقة‪ ،‬أو التشكيك يف الثوابت‪.‬‬
‫حيار املرء يف تصور طروحات املستشرقني‪ ،‬وهو يرى القرآن الكرمي خيوض‬
‫معارك ضارية مع كفار قريش‪ ،‬على اجلهات كلها العقدية‪ ،‬واالجتماعية‪،‬‬
‫واالقتصادية‪ ،‬حىت مل يبق صاحب نفوذ‪ ،‬أو مصلحة إالَّ ناله من القرآن الكرمي‬
‫جراء معتقد فاسد‪ ،‬أو مسلك مشني أو تصور منحرف‪.‬‬ ‫ما ناله‪َّ ،‬‬
‫وتكررت املشاهد يف املدينة‪ ،‬فما إن استقر الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فيها‪ ،‬حىت خاض معركة حامية الوطيس مع اليهود‪ ،‬وقد كانوا أصحاب نفوذ‬
‫وتأثري‪.‬‬
‫نزل القرآن الكرمي يف املدينة أول ما نزل يشنع على اليهود‪ ،‬ويكشف‬
‫احنرافاهتم‪ ،‬ويدعو إىل خمالفتهم مبا سيأيت مزيد بيان له‪ ،‬فكيف يسوغ مع هذا‬
‫القول بأن القرآن الكرمي تأثر هبذه البيئات؟!‬
‫عول املستشرقون كثرياً على الفروق بني املكي واملدين‪ ،‬حىت قالوا إهنا تدل‬ ‫َّ‬
‫على وجود قرآن مكي‪ ،‬وآخر مدين تنقطع الصلة بينهما‪ ،‬من حيث األسلوب‬
‫واملضمون‪ ،‬وهو ما رّوج له بالشري يف كتابه ((املدخل إىل القرآن))(‪ ،)1‬وهو ما‬
‫يعين عندهم تأثر القرآن الكرمي بالبيئتني املكية واملدنية‪ ،‬وما بينهما من تفاوت‬

‫(‪ )1‬نبوة حممد يف الفكر االستشراقي املعاصر‪ ،‬ص ‪ ،31٧‬خلضر شايب‪ ،‬االستشراق واخللفية الفكرية‪ ،‬د‪ .‬حممد‬
‫محدي زقزوق‪ ،‬ص‪.9٧‬‬

‫‪15‬‬
‫ظاهر (‪ ،)1‬األمر الذي يدل بزعمهم على بشرية القرآن‪ ،‬وهي الفرية اليت ما فتئ‬
‫املستشرقون حوهلا يدندنون‪.‬‬
‫األسلوب خصائص وشبه‪:‬‬
‫يرى املستشرقون أن البيئة املكية كانت بيئة أمية‪ ،‬مغلقة‪ ،‬فناسب أن تأيت‬
‫السور قصرية‪ ،‬وكذا اآليات‪ ،‬يف حني أن املدينة كانت متحضرة بسبب وجود‬
‫اليهود فناسب أن تأيت السور املدنية طويلة وكذا آياهتا (‪.)٤‬‬
‫هذا الطرح حمل نظر من حيث الدليل واملدلول‪ ،‬أما الدليل فإنه ال يسلَّم‬
‫هلم على إطالقه‪ ،‬فإنا ال ننكر وجود سور مكية قصرية‪ ،‬مثل قريش‪ ،‬والفيل‪،‬‬
‫والكافرون‪ ،‬واملسد‪ ،‬والعصر‪ ،‬كما نقر بوجود سور مدنية طويلة‪ ،‬وكذا آياهتا مثل‬
‫البقرة‪ ،‬وآل عمران‪ ،‬والنساء‪ ،‬واملاصدة‪ ،‬واألنفال‪.‬‬
‫لكنا نثبت يف مقابل هذا أن مثة سوراً قصرية‪ ،‬وآياهتا كذلك قصرية‪ ،‬وهي‬
‫مدنية‪ :‬إما باتفاق كالزلزلة والنصر‪ ،‬وإما أهنا مدنية على التحقيق _ كما بدا يل‬
‫_ مثل سورة الكوثر وهي أقصر سورة يف القرآن‪ ،‬فالراجح أهنا مدنية(‪ ،)3‬ويشهد‬
‫هلذا ما ورد يف ((صحيح مسلم)) عن أنس بن مالك قال‪(( :‬بـيـنا رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ذات يوم بني أظهرنا‪ ،‬إذ أغفى إغفاءة‪ ،‬مث رفع رأسه متبسماً‪،‬‬
‫علي آنفاً سورة فقرأ‪ :‬بسم اهلل‬
‫فقلنا‪ :‬ما أضحكك يا رسول اهلل؟ قال‪ :‬أنزلت َّ‬
‫الرمحن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر‪ )٧( ))...‬وأنس مدين‪ ،‬أسلم بعد اهلجرة‪،‬‬

‫(‪ )1‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪ ،٦٧٦‬تاريخ الشعوب اإلسالمية‪ ،‬ص ‪.3٤‬‬


‫(‪ )٤‬قضايا قرآنية يف املوسوعة الربيطانية‪ ،‬ص ‪.٧3‬‬
‫(‪ )3‬اإلتقان يف علوم القرآن‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪ ،1٧‬التحرير والتنوير‪ ،‬ج ‪ 31‬ص ‪.٦٤1‬‬
‫(‪ )٧‬رواه مسلم يف كتاب الصالة‪ ،‬برقم ‪.89٧‬‬

‫‪16‬‬
‫والن صريح وال يدفع بالقول‪ :‬إهنا نزلت مرتني‪ ،‬فهي حجة ضعيفة‪ ،‬وخباصة‬
‫أن سياق احلديث يأباها‪.‬‬
‫ومثلها سورة العاديات‪ ،‬فقد ورد عن أنس بن مالك‪ ،‬وابن عباس وقتادة‬
‫أهنا مدنية‪ ،‬وقال احملقق ابن عاشور‪ :‬وهو الراجح‪ ،‬استناداً إىل حديث ورد‬
‫بسبب نزوهلا(‪.)1‬‬
‫وكذا املعوذتان‪ ،‬فاملختار عند أهل التحقيق‪ ،‬أهنما مدنيتان‪ ،‬ألهنما نزلتا‬
‫يف قصة سحر لبيد بن األعصم اليهودي (‪.)٤‬‬
‫ومثل هذا كذلك سورة التكاثر‪ ،‬فإنه وإن كان املشهور أهنا مكية‬
‫كسابقاهتا‪ ،‬إال أن املختار أهنا مدنية‪ ،‬ملا يف ((صحيح البخاري)) عن أيب بن‬
‫كعب ـ املدين األنصاري ـ قال‪ :‬كنا نرى هذا من القرآن حىت نزلت‬
‫ُ‬ ‫َ َ َٰ ُ ُ َّ َ ُ‬
‫‪ ‬ألهىكم ٱۡلَكثر ‪ ١‬يعين‪(( :‬لو أن البن آدم وادياً من ذهب)) ‪،‬‬
‫(‪)3‬‬
‫َّ‬
‫وساق السيوطي أدلة أخرى تؤكد أهنا مدنية(‪.)٧‬‬
‫لست يف هذا املقام بصدد تقيق القول يف هذه املسألة‪ ،‬فإهنا تستحق‬
‫طويل حبث‪ ،‬ومزيد تأمل‪ ،‬ولكن حسيب إضاءات ترشد إىل أن سوراً عدة اشتهر‬
‫أهنا مكية‪ ،‬وتبني بعد التأمل والبحث أهنا مدنية‪ ،‬وكثري من املكي مما مل نذكره‬
‫اختلف فيه اختالفاً معترباً (‪.)٦‬‬

‫(‪ )1‬التحرير والتنوير‪ ،‬ج ‪ 31‬ص ‪.٧9٤‬‬


‫(‪ )٤‬تفسري ابن كثري‪ ،‬ص ‪ ،٤1٦1‬اإلتقان‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪.1٧‬‬
‫(‪ )3‬رواه البخاري يف كتاب الرقاق‪ ،‬برقم ‪.٥٧٧1‬‬
‫(‪ )٧‬تفسري ابن كثري ‪ ،٤1٤٥‬اإلتقان‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪.1٧‬‬
‫(‪ )٦‬انظر على سبيل املثال‪ :‬التحرير والتنوير‪ ،‬ج‪ 31‬ص ‪.٥11 ،٦٤٤ ،٧٦٤‬‬

‫‪17‬‬
‫أما الشق اآلخر‪ ،‬املتعلق بطول السور املدنية‪ ،‬فإنه يزامحه جبدارة‪ ،‬وجود سور‬
‫مكية طويلة‪ ،‬مثل‪ :‬األنعام‪ ،‬واألعراف‪ ،‬ويونس‪ ،‬واإلسراء‪ ،‬وغريها كثري‪.‬‬
‫ولست أنكر أن ظاهرة اآليات القصرية‪ ،‬غلبت على السور املكية مثل‪:‬‬
‫احلاقة‪ ،‬والفجر‪ ،‬والنازعات‪ ،‬ولكن هذا ال يعكر علينا صفو قولنا‪ :‬إن هناك‬
‫آيات قصرية مدنية‪ ،‬كتلك اليت وردت يف السور اليت تقدم ذكرها‪ ،‬ومثل سورة‬
‫املطففني‪ ،‬واليت تـع رد على التحقيق مدنية‪.‬‬
‫كما أن وصف القصر ال يصح أن يالزم اآليات املكية‪ ،‬فهناك سور‬
‫مكية باتفاق آياهتا طويلة مثل‪ :‬يوسف‪ ،‬واإلسراء‪ ،‬والكهف‪ ،‬وغريها كثري‪.‬‬
‫إذا كان هذا يف شأن الدليل‪ ،‬الذي مل يسلم ألصحابه على اهليئة اليت‬
‫يريدوهنا‪ ،‬فإن املدلول كذلك‪ ،‬إذ ال خيفى على منصف أن القصر والطول يف‬
‫اآليات والسور‪ ،‬منوط باملوضوعات اليت تعرضها‪.‬‬
‫إن احلديث عن اجلنة والنار‪ ،‬والزجر عن الشرك يناسبه قصر اآليات‪،‬‬
‫والقصر النسيب للسور‪ ،‬يف حني أن احلديث عن التشريعات والغزوات وحماجة‬
‫أهل الكتاب‪ ،‬يناسبه الطول يف اآليات والسور‪ ،‬وهي مسألة أوضح من أن‬
‫يستدل هلا عند من ضبط نفسه مبنهجية علمية‪.‬‬
‫وكان مما قاله املستشرقون‪ :‬إن السور املكية فيها عنف‪ ،‬وشدة وسباب‪،‬‬
‫وتقريع ألهل مكة‪ ،‬وهذا يدل على تأثر النيب صلى اهلل عليه وسلم بالبيئة املكية‪،‬‬
‫وتكيَّف حديثه مع ما ميتاز به أهل مكة من غلظة وجهل وعناد (‪.)1‬‬
‫يرى املستشرقون أن هذا األسلوب‪ ،‬اختفى من السور املدنية‪ ،‬ألهنا نزلت‬
‫يف بيئة متحضرة‪ ،‬بسبب وجود اليهود يف املدينة‪ ،‬فاختفت الشدة والسباب‪،‬‬

‫(‪ )1‬كتاب القرآن‪ ،81 ،‬املستشرق بالشري‪ ،‬مناهل العرفان‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪ ،٤1٤‬املدخل لدراسة القرآن الكرمي‪ ،‬ص‬
‫‪.٤3٥‬‬

‫‪18‬‬
‫وحل حملَّها اهلدوء واملهادنة‪ ،‬وصار اخلطاب للعقل باألدلة والرباهني‪ ،‬بدالً من‬
‫العاطفة واخلطابة (‪.)1‬‬
‫سعى املستشرقون إىل تضخيم هذه اخلصاص ‪ ،‬وإىل توظيفها بطريقة سيئة‬
‫بتفسريها يف ضوء املنهج الذايت الذي سيطر على دراستهم‪ ،‬فجاء كالمهم‬
‫متضمناً عدداً من املغالطات نعرض هلا بإجياز ونبني هتافتها‪.‬‬
‫فقد ذكروا أن السور املكية تضمنت سباباً‪ ،‬وشدة وتقريعاً‪ ،‬ليس خيفى أن‬
‫أسلوب القرآن املكي كان يتسم بالقوة والتقريع‪ ،‬ألجل أن يكون املقال مناسباً‬
‫للمقام‪ ،‬وهذا عني البالغة‪ ،‬فاملخاطبون جاحدون‪ ،‬معاندون‪ ،‬مع علم كثري منهم‬
‫بصدق النيب‪ ،‬فكان البد من هذا األسلوب الرتبوي‪.‬‬
‫لقد وصف كفار قريش ـ كفراً وجهالً ـ النيب صلى اهلل عليه وسلم بأنه‬
‫كذاب أشر‪ ،‬وساحر وجمنون وشاعر‪ ،‬فكان البد واحلالة هذه من تقريعهم‬
‫وختويفهم‪ ،‬وهذا يتحقق باآليات القصرية‪ ،‬ذات الفاصلة الواحدة‪ ،‬يتمثل فيها‬
‫اإلعجاز باإلجياز‪ ،‬فتهتز مشاعرهم وجتربهم على مراجعة أنفسهم‪ ،‬وهو ما شهد‬
‫له الواقع‪.‬‬
‫جند هذا يف كثري من السور املكية منها على سبيل املثال‬
‫سورة القمر‪ ،‬ففيها تتمثل هذه األجواء يقول اهلل تعاىل‪ :‬‬
‫ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ٗ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ ُ‬ ‫ٱق َ َ‬
‫اعة َوٱنش َّق ٱلق َم ُر ‪ِ ١‬إَون يَ َروا َءايَة ُيع ِرضوا َو َيقولوا‬ ‫ت ٱلس‬ ‫َت َب ِ‬
‫َََ‬ ‫َ َ َّ ُ َ َّ َ ُ َ ٓ ُ َ ُ ُّ َ‬
‫سِحر ُّمستَ ِمر ‪ ٢‬وكذبوا وٱتبع ٓوا أه َوا َءهم وك أمر مستقِر ‪ ٣‬ولقد‬
‫َ‬ ‫ُّ‬
‫َجا ٓ َء ُهم م َِن ٱَلَ َ‬
‫ۢنبآءِ َما فِيهِ ُمز َد َ‬
‫جر ‪ ٤‬حِك َمُۢة َبَٰل َِغة َف َما ُتغن ٱنلُّ ُذرُ‬
‫ِ‬

‫(‪ )1‬مكي القرآن ومدنيه‪ ،‬ص ‪ ،311‬حممد اهلادي كريدان‪ ،‬نبوة حممد يف الفكر االستشراقي‪ ،‬ص ‪.3٥9‬‬

‫‪19‬‬
‫ُ َّ ً َ َ َٰ ُ ُ‬ ‫ُّ ُ‬ ‫َ َ‬
‫ع ٱ َّدل ِ‬ ‫َ َ َ َّ َ ُ َ َ َ ُ‬
‫اع إ ِ َٰل َشء نكر ‪ ٦‬خشعا أبصرهم‬ ‫‪ ٥‬فتول عنهم يوم يد‬
‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َ َّ‬ ‫ون م َِن ٱَلَج َ‬
‫َ ُ ُ َ‬
‫ي إِل ٱ َّدل ِ‬
‫اع‬ ‫اث كأن ُهم َج َراد ُّمنت ِش ‪ُّ ٧‬مه ِط ِع‬ ‫ِ‬ ‫د‬ ‫َيرج‬
‫َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ‬
‫َيقول ٱلكَٰفِ ُرون هَٰذا يَوم َع ِس ‪[ ٨‬القمر‪ ] 8 - 1 :‬فإن الرتبية تكون‬
‫بالشدة أحياناً‪ ،‬ولكن هذه اآليات ختلو كليةً من السباب‪.‬‬
‫بيد أن السور املكية‪ ،‬مل تقتصر على هذا األسلوب فقط‪ ،‬فقد كان فيها‬
‫كالم لني ودعوة إىل الصفح‪ ،‬وهبذا يتساوى طرفا الرتبية بالرتهيب والرتغيب‪،‬‬
‫وبالوعد والوعيد‪.‬‬
‫َ ُ َ‬ ‫َ َ‬
‫ۡل َس َنة َوّل‬ ‫إننا نقرأ يف السور املكية قوله تعاىل‪َ  :‬وّل تس َتوِي ٱ‬
‫ه أَح َس ُن فَإ َذا ٱ ََّّلِي بَي َن َ َو َبي َن ُهۥ َع َد َٰ َوة َك َأنَّهۥُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ت‬
‫َّ‬ ‫َّ َ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ٱلسيِئة ٱدفع ب ِٱ ِ‬
‫ل‬
‫ل ََحِيم ‪[٣٤‬فصلت‪ ،] 3٧ :‬وقوله تعاىل‪َ  :‬و َما َخلَق َنا ٱ َّ َ َ‬ ‫َو ي‬
‫ت‬ ‫لسمَٰو َٰ ِ‬ ‫ِ‬
‫اع َة ٓأَلت َِية فَٱص َفحِ ٱ َّ‬ ‫لس َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ٓ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫لصف َح‬ ‫ِإَون ٱ َّ‬ ‫ۡرض َو َما بَي َن ُه َما إِّل بٱ َ‬
‫ۡل ِق‬ ‫َوٱَل‬
‫ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ۡل ِميل ‪[ ٨٥‬احلجر‪ ،] 8٦ :‬وقوله تعاىل‪  :‬فٱصفح عن ُهم َوقل َسلَٰم‬ ‫ٱ‬
‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬
‫ف َسوف َيعل ُمون ‪[ ٨٩‬الزخرف‪ ،]89 :‬وقوله تعاىل‪  :‬خ ِذ ٱل َعف َو َوأ ُمر‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ََ‬
‫ب ِٱل ُعر ِف وأع ِرض ع ِن ٱلج ِهل ِي ‪١٩٩‬ا [األعراف‪ ،] 199 :‬ومثل هذا كثري‪.‬‬
‫َٰ‬
‫إن مما يدل على ختبرط املستشرقني‪ ،‬أن بعض من روج هلذه الفرية‪َّ ،‬روج‬ ‫َّ‬
‫يف موطن آخر لفرية أخرى‪ ،‬مناقضة هلا‪ ،‬حني زعم (بروكلمان)(‪ )1‬أن الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬كان يف بداية أمره مهادناً ألهل مكة وجمامالً هلم‪،‬‬
‫وحريصاً على إرضاصهم‪ ،‬واستدل على ما ذهب إليه بقصة الغرانيق املكذوبة‪.‬‬

‫(‪ )1‬تاريخ الشعوب اإلسالمية‪ ،‬ص ‪.3٧‬‬

‫‪21‬‬
‫وترتب على زعم املستشرقني املتقدم أن القرآن عبارة عن خطاب عاطفي‪،‬‬
‫وسباب‪ ،‬قوهلم‪ :‬إنه خيلو من الرباهني العقلية‪ ،‬وأرجعوا ذلك إىل مستوى أهل مكة‬
‫املتدين‪.‬‬
‫المضمون خصائص وشبه‪:‬‬
‫إن املتأمل يف آيات السور املكية ـ وهو يستحضر هذا القول ـ ليجزم قطعاً‬
‫أنه أمام فئة على احلقاصق متحاملة‪ ،‬فإن القرآن يف سوره املكية‪ ،‬زاخر باآليات‬
‫اليت ختاطب العقل‪ ،‬وتتضمن الرباهني العقلية الدامغة‪ ،‬وحسبنا هذه اآليات فإهنا‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ّلل مِن َودل َو َما َكن َم َع ُهۥ مِن إِلَٰه‬ ‫ناطقة هبذا‪ ،‬يقول تعاىل‪َ  :‬ما ٱ ََّّتَ َذ ٱ َّ ُ‬
‫ُ َ َٰ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َٰ‬ ‫ٗ َّ َ َ َ ُ ُّ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ َ َ‬
‫إِذا َّلهب ك إِلَٰه بِما خلق ولعل بعضهم َع بعض سبحن ٱّللِ‬
‫َ‬ ‫َ ُ ُ‬ ‫َ َّ َ ُ َ‬
‫ري‬
‫عما ي ِصفون ‪[ ٩١‬املؤمنون‪ ،] 91 :‬ويقول تعاىل‪  :‬أم خل ِقوا مِن غ ِ‬
‫ون ‪[ ٣٥‬الطور‪ ،] 3٦ :‬وبقوله تعاىل‪َ  :‬و َما ُك َ‬ ‫َ ُ ُ َ َٰ ُ َ‬ ‫َ‬
‫نت‬ ‫َشء أم هم ٱلخل ِق‬
‫اب‬‫َتتلُوا مِن َقبلِهِۦ مِن ك َِتَٰب َو َّل ََّتُ ُّط ُهۥ بيَ ِمين ِ َ إ ٗذا َّّلرتَ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ َ‬
‫ٱل ُمب ِطلون ‪[ ٤٨‬العنكبوت‪ .]٧8 :‬وال أدل على هذا من أهنا تركت آثاراً إجيابية‬
‫ووجدت آذاناً صاغية فبادر العقالء إىل اإلسالم‪.‬‬
‫يف القرآن الكرمي تسع عشرة سورة مكية‪ ،‬افتتحت بالقسم باألشياء‬
‫احملسوسة واملنظورة ألهل قريش‪ ،‬وهي دعوة صرحية مفتوحة للتفكر‪ ،‬يف هذه‬
‫األشياء املقسم هبا‪ ،‬بغية أن تربط باملقسم عليه‪ ،‬فقد أقسم بالشمس‪ ،‬والقمر‪،‬‬
‫والليل‪ ،‬والنهار‪ ،‬والضحى‪ ،‬والنجوم‪ ،‬على أمور الوحدانية والنبوة واليوم اآلخر‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫إهنا مظاهر بارزة‪ ،‬تبدو فيها الدعوة إىل التفكر والتأمل جلية‪ ،‬بغية ربط‬
‫احملسوس‪ ،‬بغري احملسوس‪ ،‬وإعمال العقل للوصول إىل اإلميان املنشود‪ ،‬وهو ما‬
‫كان‪ ،‬وشهد له واقع الصحب الكرام‪.‬‬
‫ما كان للسور املدنية أن ختلو من هذه السمات اليت رأيناها يف السور‬
‫املكية‪ ،‬إذا دعت احلاجة إليها‪ ،‬ففي السور املدنية‪ ،‬تشنيع على اليهود‪ ،‬الذين‬
‫ضلوا عن علم‪ ،‬وأضلوا غريهم‪ ،‬ومل ينتفعوا مبا آتاهم اهلل تعاىل فاستحقوا قول اهلل‬
‫وها َك َم َثل ٱۡل َ‬ ‫َّ َ َٰ َ ُ َّ َ َ ُ َ‬ ‫َ َ ُ َّ َ ُ ُ‬
‫ِ‬ ‫ار‬ ‫ِم‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫َي‬ ‫م‬ ‫ل‬ ‫م‬‫ث‬ ‫ة‬ ‫ى‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫ۡل‬ ‫ٱ‬ ‫وا‬ ‫فيهم‪  :‬مثل ٱَّلِين َحِل‬
‫َّ َ َّ ُ َ‬
‫َٰ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ َ َ َّ‬
‫ِ‬ ‫َ ََُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ َ‬
‫ّلل ّل‬ ‫ت ٱّللِ وٱ‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫أَ‍ِب‬ ‫وا‬ ‫ب‬‫ذ‬ ‫ك‬ ‫ِين‬ ‫َّل‬ ‫ٱ‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ق‬ ‫ل‬ ‫ٱ‬ ‫ل‬ ‫ث‬‫م‬ ‫س‬ ‫ئ‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ا‬ ‫ار‬ ‫ف‬ ‫َي ِمل أس‬
‫َ َ َّ‬
‫لظَٰلِم َ‬
‫ي ‪[ ٥‬اجلمعة‪ ،] ٦ :‬وحذر منهم فقال تعاىل‪ :‬‬ ‫ِ‬ ‫َيهدِي ٱلقوم ٱ‬
‫ود َوٱ ََّّل َ‬ ‫َُ َ‬ ‫اس َع َد َٰ َو ٗة ل ََِّّل َ‬ ‫َ َ َّ َ َ‬
‫ِين‬ ‫ِين َء َام ُنوا ٱَله‬ ‫ج َدن أش َّد ٱنلَّ ِ‬ ‫۞ۡل ِ‬
‫َ َُ‬
‫أۡشكوا‪[‬املاصدة‪.]8٤ :‬‬
‫َ َ‬
‫وقال اهلل عز وجل يف وصف املنافقني إخوان اليهود‪ِ۞  :‬إَوذا َرأي َت ُهم‬
‫ام ُهم ِإَون َي ُقولُوا تَس َمع ل َِقولِهم َك َأ َّن ُهم ُخ ُشب ُّم َس َّندةَ‬ ‫ُتعج ُب َ أَج َس ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ ُ ََّ‬
‫حة َعلَي ِهم ُه ُم ٱل َع ُد ُّو فَٱح َذر ُهم َق َٰ َتلَ ُه ُم ٱّلل أ َٰ‬
‫ّن‬ ‫ك َصي َ‬ ‫َ َ ُ َ ُ َّ‬
‫َيسبون‬
‫َ ُ َ‬
‫يُؤفكون ‪[ ٤‬املنافقون‪ ،] ٧ :‬وغري هذا كثري حبق الطواصف اليت كانت تناكف‬
‫اجلماعة املسلمة يف املدينة‪ ،‬فأين املهادنة واملالينة اليت زعمها املستشرقون‪ ،‬واليت‬
‫فرضتها البيئة املتحضرة على الرسول يف املدينة؟‬

‫‪22‬‬
‫لسنا نعين خلو السور املدنية من اللني واحلوار اهلادئ‪ ،‬بيد أنا نورد هذا‬
‫بإزاء القول‪ :‬إن القرآن املدين تأثر بالبيئة املتحضرة‪ ،‬وكان جيامل اليهود‬
‫ويهادهنم‪ ،‬على عكس موقف الرسول من أهل مكة‪.‬‬
‫لقد استمر أسلوب الرتهيب والرتغيب يف السور املدنية‪ ،‬فإن احلاجة‬
‫تدعو إليه يف مواقف كثرية‪ ،‬فالزجر والتهديد والوعيد صاحب كثرياً من‬
‫التشريعات؛ ألن من منهج القرآن الكرمي املزاوجة بني مسألتني‪ ،‬توهم كثريون أنه‬
‫فرق بينهما‪ ،‬ومها اجلمع بني التشريعات‪ ،‬ومساصل العقيدة‪ ،‬وكذا العكس‪ ،‬فكان‬
‫يأيت التشريع يف سياق عقدي إمياين‪ ،‬وتأيت مساصل العقيدة يف بعض مظاهر‬
‫التشريعات‪ ،‬وحسبنا دليل واحد وهو قوله تعاىل يف سورة مدنية على الراجح‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َّ َ َ‬
‫ِين إِذا ٱك َتالوا‬ ‫ي ‪ ١‬ٱَّل‬‫وهي سورة املطففني حني قال‪َ  :‬ويل ل ِل ُم َطفف َ‬
‫ِِ‬
‫ََ‬ ‫َ َ ُ ُ َ َّ َ ُ ُ ُ ُ َ‬ ‫َ َ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ََ‬
‫اس يستوفون ‪ِ ٢‬إَوذا َكلوهم أو وزنوهم َي ِسون ‪ ٣‬أّل‬ ‫َع ٱنل ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َ ُ ُّ ُ َ َٰٓ َ َّ ُ َّ ُ ُ َ‬
‫َ‬
‫يظن أولئ ِ أنهم مبعوثون ‪َِ ٤‬لوم ع ِظيم ‪[٥‬املطففني‪.]٦ – 1 :‬‬
‫كان من متطلبات املرحلة املدنية‪ ،‬جميء التشريعات اليت تنظم شؤون‬
‫اجملتمع والدولة‪ ،‬بعد أن صار للمسلمني جمتمعهم ودولتهم‪ ،‬وهو ما مل يكن يف‬
‫املرحلة املكية‪.‬‬
‫جعل العلماء وجود التشريعات يف جماالهتا املتعددة عالمةً على أن السور‬
‫اليت وردت فيها مدنية‪ ،‬والسور اليت ختلو من التشريعات مكية‪ .‬لقد كانت‬
‫اجلماعة املسلمة يف مكة حباجة إىل توجيه خمصوص‪ ،‬مث ملا استقرت هذه‬
‫اجلماعة يف املدينة‪ ،‬تنوعت احتياجاهتا‪ ،‬ويصف سيد قطب متطلبات هاتني‬
‫املرحلتني‪ ،‬بقوله‪(( :‬لقد عاشت الدعوة اإلسالمية ـ أوالً ـ املرحلة املكية حيث القلة‬

‫‪23‬‬
‫والضعف‪ ،‬والشدة‪ ،‬واإليذاء‪ ،‬والكيد‪ ..‬مع األمر باهلجر اجلميل والصفح‪ ،‬وكف‬
‫األيدي‪ ..‬والصدع باحلق‪.‬‬
‫مث عاشت الدعوة املرحلة املدنية‪ ..‬فكان األمر بالقتال‪ ،‬وكان النصر‪،‬‬
‫وكانت اهلزمية‪ ،‬وكان الكيد الداخلي اخلفي املتمثل يف النفاق‪ ،‬وكان الكيد‬
‫اخلارجي اجللي املتمثل يف تأليب اليهود وحماوالت املشركني يف القضاء على‬
‫املسلمني‪ .‬وكانت صور من البناء النفسي الراصع يف نفوس الصحابة‪ ،‬إىل جانب‬
‫نفوس يغلب عليها الضعف مرة‪ ،‬واهلوى مرة‪ ،‬وتقعد هبا رغاصب األرض‪،‬‬
‫وتشدها إليها مرة أخرى‪.‬‬
‫والقرآن الكرمي ينزل يف مكة ينافح عن تلك اجلماعة الناشئة‪ ،‬فيزيح من‬
‫طريقها العقبات واألشواك والشكوك‪ ...‬وميدها بأسباب اإلميان واالعتقاد‪ ،‬حىت‬
‫دارت اآليات املكية ـ عموماً ـ حول إنشاء العقيدة‪ ..‬يف اهلل‪ ،‬ويف الوحي‪ ،‬ويف‬
‫اليوم اآلخر‪ ،‬وحول إنشاء التصور املنبثق من هذه العقيدة هلذا الوجود‪ ،‬وعالقته‬
‫خبالقه‪..‬‬
‫ونزل القرآن الكرمي يف املدينة يعاجل تطبيق تلك العقيدة‪ ،‬وذاك التصور يف‬
‫احلياة الواقعية‪ ،‬ومحل النفوس على االضطالع بأمانة العقيدة والشريعة يف معرتك‬
‫احلياة))(‪.)1‬‬
‫تلقَّف املستشرقون أمثال‪ :‬جولد تسيهر‪ ،‬وفلهلهم رودلف‪ ،‬هذا بشغف‪،‬‬
‫ليكون دليالً هلم على زعم استقر يف أذهاهنم‪ ،‬وهو تأثر الرسول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم باليهود يف املدينة‪ ،‬وإفادته من تلك البيئة مبا فيها من أحكام وتشريعات‬

‫(‪ )1‬يف ظالل القرآن‪ ،‬ج‪ ٤‬ص ‪.٤9‬‬

‫‪24‬‬
‫كانت بني يدي اليهود‪ ،‬وهو ما كان يفتقده يف مكة اليت كان أهلها جهلة‬
‫أميني (‪.)1‬‬
‫إن ادعاءً كهذا ال يقوى على الصمود أمام حقاصق دامغة‪ ،‬يعرفها‬
‫املستشرقون‪ ،‬لكنه التجاهل‪ ،‬قصد التحامل باستخدام املنهج اإلسقاطي‪.‬‬
‫ال ننكر أن املرحلة املكية كان هلا طابعها املميز‪ ،‬فقد كان أهلها كفاراً‪ ،‬ال‬
‫يؤمنون باليوم اآلخر‪ ،‬ويشركون مع اهلل آهلة أخرى‪ ،‬ويكذبون رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬فكانت احلاجة ـ واحلالة هذه ـ تدعو إىل مواجهة هذه العقاصد‬
‫بادئ األمر بأساليب شىت وهو ما كان فعالً‪.‬‬
‫ال يعقل حبال من األحوال أن تنزل التشريعات يف بيئة هذه أوصافها‪ ،‬وقد‬
‫عربت عن هذا عاصشة رضي اهلل عنها بقوهلا‪(( :‬لو نزل أول شيء ال تشربوا‬
‫اخلمر لقالوا‪ :‬ال ندع اخلمر أبداً‪ ،‬ولو نزل‪ :‬ال تزنوا‪ ،‬لقالوا‪ :‬ال ندع الزىن أبداً‪،‬‬
‫ُ‬ ‫َّ َ ُ‬
‫اعة َموع ُِدهم‬ ‫لقد نزل مبكة على حممد صلى اهلل عليه وسلم‪  :‬بَ ِل ٱلس‬
‫َ َّ َ ُ َ َ َ‬
‫ه َوأ َم ُّر ‪[٤٦‬القمر‪ ،] ٧٥ :‬وما نزلت سورة البقرة والنساء إالَّ وأنا‬
‫وٱلساعة أد َٰ‬
‫عنده)) (‪ ،)٤‬إنه كالم غاية يف الدقة‪ ،‬والعمق والوضوح؛ ذلك أن املال عزيز على‬
‫النفس‪ ،‬واجلهاد مكروه لديها‪ ،‬ويف اخلمر لذة ومنافع‪ ،‬ويف النفس ميول للهروب‬
‫من الضبط واملسؤولية فكان البد أن تتقدم التخلية على التحلية‪ ،‬والتأسيس‬
‫على البناء وهو ما كان‪.‬‬
‫لقد اجتهت جهود النيب صلى اهلل عليه وسلم يف مكة إىل وضع القواعد‬
‫واألسس‪ ،‬متهيداً ملرحلة قادمة ينشأ فيها جمتمع‪ ،‬وتقام فيها دولة‪ ،‬ومتلك فيها‬
‫أرض‪ ،‬ويكون فيها سيادة‪ ،‬وهي مظاهر ومعامل‪ ،‬افتقدها املسلمون يف مكة‪.‬‬

‫(‪ )1‬انظر العقيدة والشريعة يف اإلسالم‪ ،‬ص ‪ ،1٤‬صلة القرآن باليهودية والنصرانية‪ ،‬ص ‪.9٥‬‬
‫(‪ )٤‬رواه البخاري‪ ،‬يف كتاب فضاصل القرآن‪ ،‬باب تأليف القرآن‪ ،‬برقم ‪.٧993‬‬

‫‪25‬‬
‫بيد أن هذا ال يعين أن السور املكية خلت مما له صلة باألحكام‬
‫والتشريعات‪ ،‬إن هذا مل يكن حبال بل إن املتأمل يف هذه السور جيد أصوالً كثرية‬
‫لألحكام اليت فصلت يف السور املدنية‪.‬‬
‫لقد وضعت السور املكية أصل تشريع الزكاة يف آيات كثرية‪ ،‬منها ما كان‬
‫يتحدث عن اإلنفاق العام‪ ،‬ومنها ما ن على الزكاة خباصة‪ ،‬كقولـه تعاىل يف‬
‫ُ ُ ُ َ َٰٓ َ َّ َ َّ َ ٓ‬ ‫ُ َّ َ ٓ َ َ َ َ‬
‫سورة فصلت املكية‪  :‬قل إِنما أنا بش مِثلكم يوح إِل أنما‬
‫ِي ‪٦‬‬ ‫يم ٓوا إ ََلهِ َوٱس َتغف ُروهُ َو َويل ل ِل ُمشك َ‬
‫كم إ َلَٰه َوَٰحِد فَٱس َتقِ ُ‬
‫َ َٰ ُ ُ‬
‫إِله‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َٰ ُ َ‬ ‫َِ ُ‬ ‫َّ َ َ ُ ُ َ َّ َ َٰ َ َ ُ‬
‫ٱَّلِين ّل يؤتون ٱلزكوة وهم ب ِٱٓأۡلخِرة هم كفِرون ‪[٧‬فصلت‪،] ٤ - ٥ :‬‬

‫مث فصلت مقاديرها يف السور املدنية‪.‬‬


‫وتدثت السور املكية عن الشورى قبل قيام الدولة فقال اهلل تعاىل يف‬
‫َّ َ َٰ َ َ َ ُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َََ‬ ‫سورة الشورى املكية‪َ  :‬وٱ ََّّل َ‬
‫ِين ٱس َت َ‬
‫جابُوا ل َِرب ِ ِهم وأقاموا ٱلصلوة وأمرهم‬
‫ُ َ َٰ َ َ ُ َ َّ َ َ َ ُ ُ ُ َ‬
‫ى بينهم ومِما رزقنَٰهم ينفِقون ‪[٣٨‬الشورى‪.]38 :‬‬ ‫شور‬
‫بل إننا جند يف السور املكية إشارات إىل اجلهاد ومباركة له حىت قبل أن‬
‫يشرع‪ ،‬وذلك يف سورة املزمل املكية (‪ )1‬يف قولـه تعاىل وهو خيفف على املسلمني‬
‫َٰ‬ ‫َّ َ َّ َ َ َ ُ َ َّ َ َ ُ ُ َ َ‬
‫من قيام الليل فقال سبحانه‪۞  :‬إِن رب يعلم أن تقوم أدّن مِن‬
‫َّ َ‬ ‫َ َّ َ َ َ َ َ َّ ُ َ‬ ‫ٓ َ‬ ‫َُُ‬ ‫َ‬ ‫ُ ُ َ َّ‬
‫ّلل ُيقد ُِر ٱَلل‬ ‫ث ٱَل ِل َون ِصف ُهۥ َوثلث ُهۥ َو َطائِفة مِن ٱَّلِين مع وٱ‬
‫ثل ِ‬
‫س مِنَ‬ ‫َ َّ َ َ َ َ َ َّ ُ ُ ُ َ َ َ َ َ ُ‬
‫كم فَٱق َر ُءوا َما تَيَ َّ َ‬ ‫وٱنلهار عل ِم أن لن َتصوه فتاب علي‬

‫(‪ )1‬روي عن ابن عباس وعطاء وابن يسار ومقاتل أهنم استثنوا اآلية األخرية من السورة وقالوا‪ :‬إهنا نزلت‬
‫باملدينة‪ ،‬انظر‪ :‬البيان يف ع ّد آي القرآن (‪ ،)٤٦٤‬وزاد املسري (‪.)38٤/8‬‬

‫‪26‬‬
‫ُ َّ َ َٰ َ َ َ ُ َ َ ُ َ‬ ‫َ َ َ َ َ ُ ُ‬ ‫ُ َ‬
‫ۡضبون ِف‬ ‫ان عل ِم أن سيكون مِنكم مرض وءاخرون ي ِ‬ ‫ٱلقرء ِ‬
‫َّ‬ ‫ون ف َ‬ ‫َّ َ َ َ ُ َ ُ َ َٰ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َُ َ‬ ‫َ‬
‫يل ٱّللِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب‬ ‫س‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ت‬ ‫ق‬ ‫ي‬ ‫ون‬ ‫ر‬ ‫اخ‬ ‫ء‬ ‫و‬ ‫ِ‬ ‫ّلل‬‫ٱ‬ ‫ل‬
‫ِ‬ ‫ض‬ ‫ف‬ ‫ِن‬ ‫م‬ ‫ون‬ ‫غ‬ ‫ت‬‫ب‬ ‫ي‬ ‫ۡرض‬‫ِ‬ ‫ٱَل‬
‫لصلَ َٰوةَ َو َءاتُوا ٱ َّلز َك َٰوةَ َوأَقر ُضوا ٱ َّّللَ‬‫ِيموا ٱ َّ‬‫س مِن ُه َوأَق ُ‬ ‫فَٱق َر ُءوا َما تَيَ َّ َ‬
‫ِ‬
‫ِند ٱ َّّللِ ُهوَ‬ ‫ِكم مِن َخري ََت ُدوهُ ع َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ‬ ‫َُ‬ ‫َ ً‬
‫ِ‬ ‫قرضا َح َس ٗنا َو َما تقد ُِموا َِلنفس‬
‫َّ‬ ‫َّ َ َّ َّ َ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٗ‬ ‫َ ٗ ََ َ َ َ‬
‫ُ‬
‫خريا وأعظم أجرا وٱستغفِروا ٱّلل إِن ٱّلل غفور رحِيم ‪[ ٢٠‬املزمل‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪.]٤1‬‬
‫يطول بنا احلديث لو طفقنا نتتبع مثل هذا يف السور املكية فهو جد‬
‫كبري‪.‬‬
‫ال يفوتنا هنا أن ننبه أن هذه اإلشارة إىل اجلهاد ال تعين ما زعمه‬
‫املستشرقون من أن السور املكية تضمنت شدة وقسوة‪ ،‬فإن الطابع العام للسور‬
‫املكية يف هذا املقام هو ((خل روها خلواً تاماً من تشريع القتال واجلهاد واملخاشنة‪،‬‬
‫كما خلت أيامه كلها يف مكة على طوهلا من مقاتلة القوم مبثل ما يأتون من‬
‫التنكيل واملصاولة))(‪.)1‬‬
‫إن قول املستشرقني أمثال تسدال‪ ،‬وماسيه‪ ،‬ونولدكه‪ ،‬والمنز (‪ :)٤‬إن النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم أفاد من اليهود يف األحكام والتشريعات‪ ،‬قول خلف‪ ،‬ال‬
‫خطام له وال زمام‪ ،‬تررده أدلة وبراهني ال ختفى على منصف‪ ،‬ولن يغره اتفاق‬
‫القرآن مع التوراة يف أصل بعض األخبار‪ ،‬كقصة آدم‪ ،‬وإبراهيم‪ ،‬فإن مصدرمها‬
‫واحد وهو اهلل‪.‬‬

‫(‪ )1‬مناهل العرفان‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪.٤1٥‬‬


‫(‪ )٤‬تاريخ القرآن‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪ ،٥‬آراء املستشرقني حول القرآن الكرمي‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪.33٦‬‬

‫‪27‬‬
‫لقد بدأ التشريع يف املدينة فور وصول النيب صلى اهلل عليه وسلم إليها‪،‬‬
‫فإن سورة البقرة كانت أول السور نزوالً يف املدينة وهي حافلة باألحكام‬
‫والتشريعات‪ ،‬حىت قال ابن العريب نقالً عن بعض شيوخه‪(( :‬إن يف سورة البقرة‬
‫ألف أمر‪ ،‬وألف حكم‪ ،‬وألف هني))(‪ )1‬فهل يعقل أن يكون الرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم قد تأثر هبذه السرعة مع البيئة ومن فيها‪ ،‬وأفاد من اليهود هبذه‬
‫السرعة القياسية؟‬
‫ذلك أن تفاعل اإلنسان مع اجملتمع والبيئة اجلديدة ال يتم بسرعة بني ليلة‬
‫وضحاها‪ ،‬وخباصة ما يرتبط بتطور قدراته الذاتية‪ ،‬وتفاعله مع ثقافة اجملتمع‬
‫اجلديد‪ ،‬الذي يعيشه‪ ،‬ويكفينا لتأكيد هذه احلقيقة أن نلقي نظرة على‬
‫اجلماعات املهاجرة يف البلدان األخرى‪ ،‬واملعاناة اليت يعانوهنا بسبب عدم قدرهتم‬
‫على التفاعل مع جمتمعات هذه البلدان‪ ،‬حىت إن هذه املعاناة قد متتد إىل‬
‫أجياهلم الالحقة (‪.)٤‬‬
‫إن يهود املدينة أنفسهم _ على ما فيهم من حقد على الرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم واإلسالم _ مل يصدر مثل هذا القول عن أحد منهم‪ ،‬لكنه بقي‬
‫قوالً مقبوراً‪ ،‬حىت بعثه هؤالء املستشرقون يف عصرنا‪.‬‬
‫إننا نبيح ألنفسنا أن نتنزل مع هذا اخلصم‪ ،‬ونفرض أن رغبة كهذه كانت‬
‫لدى الرسول صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فهل كانت الرغبة نفسها لدى اليهود‪ ،‬لقد‬
‫جاور اليهود العرب يف جزيرة العرب بعامة‪ ،‬ويف املدينة خباصة عشرات السنني‪،‬‬
‫ومل ينقل لنا قط أهنم تركوا أثراً فيمن حوهلم من العرب‪.‬‬
‫كيف يتصور _ واحلالة هذه _ أن ينتقل أثرهم إىل الساحة اإلسالمية‬
‫هبذه السرعة‪ ،‬وخباصة أنه لدى الرسول صلى اهلل عليه وسلم وحي حمفوظ ولدى‬

‫(‪ )1‬أحكام القرآن‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪.٤٤‬‬


‫(‪ )٤‬دروس منهجية يف علوم القرآن‪ ،‬على الشبكة العنكبوتية‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫اليهود عداوة سابقة للرسول صلى اهلل عليه وسلم مقدَّماً‪ ،‬وضن مبا بني أيديهم‬
‫على ما فيه من سوء وتريف‪ ،‬ويف هذا يقول اهلل تعاىل يف شأهنم‪:‬‬
‫َ‬ ‫َٰ‬ ‫َ َ َ َ ُ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٓ‬ ‫َ َ ُ َّ َ َ َ ُ َ ُ‬
‫‪ِ ‬إَوذا لقوا ٱَّلِين ءامنوا قالوا ءامنا ِإَوذا خل بعضهم إِل بعض‬
‫َ َ ُ‬ ‫َ ُ ٓ َ ُ َ ُ َ ُ َ َ َ َ َّ ُ َ َ ُ ُ َ ٓ ُّ ُ‬
‫قالوا أَتدِثونهم بِما فتح ٱّلل عليكم َِلحاجوكم بِهِۦ عِند ربِكم‬
‫َََ َ ُ َ‬
‫أفل تعقِلون ‪[٧٦‬البقرة‪.]٤٥ :‬‬

‫إن املرء ليعجب من تغافل هؤالء املستشرقني ‪ -‬وهم يقولون ما يقولون ‪-‬‬
‫شرف املدينة هبجرته إليها‬ ‫كيف جتاهلوا أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم منذ َّ‬
‫نزل عليه قرآن ينعى على اليهود تريفهم للتوراة‪ ،‬ويشنع عليهم بسبب تالعبهم‬
‫يف أحكام اهلل تعاىل؟!‬
‫لقد كان من أول ما نزل على الرسول صلى اهلل عليه وسلم يف املدينة‬
‫َ َ َ‬
‫ُ َّ َ ُ ُ َ‬ ‫َ‬
‫ِين يَك ُت ُبون ٱلكِتَٰب بِأيدِي ِهم ثم يقولون‬ ‫قول اهلل تعاىل‪  :‬فَ َويل ل ََِّّل َ‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ ٗ َ‬ ‫َ‬ ‫َهَٰ َذا مِن عِن ِد ٱ َّّللِ ل ِيَش َ ُ‬
‫َتوا بِهِۦ ث َم ٗنا قل ِيل ف َويل ل ُهم م َِّما ك َت َبت‬
‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َّ‬ ‫َ‬
‫هم وويل لهم مِما يكسِبون ‪[ ٧٩‬البقرة‪.]٤9 :‬‬ ‫أيدِي ِ‬
‫إن أمة ضالة هذه حاهلا مع كتاهبا‪ ،‬ليست أهالً ألن تكون حمل ثقة أحد‪،‬‬
‫وحري بكل ناصح ألمته أن حيذر منهم‪ ،‬ومن تراثهم‪ ،‬وهو ما رأيناه من النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم حني رأى بيد عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه ورقات من‬
‫التوراة‪ ،‬ينظر فيها من باب حب االستطالع‪ ،‬فعن جابر بن عبداهلل‪ ،‬أن عمر بن‬
‫اخلطاب أتى النيب صلى اهلل عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب‬
‫فقرأه على النيب صلى اهلل عليه وسلم فغضب فقال‪ :‬أمتهوكون فيها يا بن‬
‫اخلطاب‪ ...‬والذي نفسي بيده‪ ،‬لو أن موسى كان حياً ما وسعه إالَّ أن يتبعين‬

‫‪29‬‬
‫(‪ ،)1‬أفيعقل بعد هذا أن حيفل الرسول صلى اهلل عليه وسلم مبا عند اليهود ويفيد‬
‫منه؟!‬
‫إن نظرة موازنة بني األحكام اليت جاء هبا النيب صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫وبني ما بقى بني أيدي اليهود من أحكام‪ ،‬تؤكد وجود اختالف جوهري يف‬
‫أكثر األحكام بني األمتني‪ ،‬ولقد كان الرسول صلى اهلل عليه وسلم حريصاً على‬
‫تأصيل هذه املخالفة حىت غاظهم هذا وقالوا‪ :‬ما يدع هذا الرجل شيئاً إال‬
‫خالفنا فيه (‪ ،)٤‬ولسنا بصدد إيراد أمثلة هلذا التباين ألن املقام ال يتسع له‪.‬‬
‫ومما حيسن إيراده يف هذا املقام أن بعض املستشرقني كان يرى أن يهود‬
‫املدينة كانوا عرباً هتودوا‪ ،‬وكانت تغلب عليهم البداوة وقلة العلم بالتوراة‪ ،‬فكيف‬
‫ينسجم هذا مع مقوالهتم السابقة؟!‬
‫سبقت اإلشارة إىل وجود بعض الظواهر األسلوبية‪ ،‬اليت ترى يف السور‬
‫املكية أكثر منها يف السور املدنية‪ .‬ومنها‪ :‬التكرير يف بعض الكلمات واآليات‪،‬‬
‫وقصر السور واآليات‪ ،‬وكثرة الفواصل‪ ،‬وظاهرة التوكيد‪ ،‬وصور التشبيه‪ ،‬واليت‬
‫ميكن القول إهنا مل تكن كثرية يف السور املدنية‪.‬‬
‫يقول د‪ .‬عدنان زرزور‪(( :‬رمبا زينت هذه الفروق األسلوبية للبعض أو‬
‫دفعته إىل الظن بأن القرآن الكرمي قد خضع يف تأليفه لظروف البيئة اليت‬
‫اختلفت بني مكة واملدينة‪ ،‬واليت انعكس أثرها على النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فاختلف أسلوبه تبعاً لذلك‪ ،‬وهذه هي النتيجة اليت يريد أن يصل إليها امللبس‬
‫على الناس)) (‪.)3‬‬

‫(‪ )1‬أخرجه أمحد يف مسنده (‪ )3٧9/٤3‬برقم ‪ ،1٦1٦٥‬وقال فيه األلباين‪(( :‬حسن)) إرواء الغليل ج‪ ٥‬ص‪.3٧‬‬
‫(‪ )٤‬أخرجه مسلم يف ((صحيحه)) برقم (‪ )31٤‬واإلمام أمحد يف مسنده (‪ )3٦٥/19‬برقم ‪.1٤3٦٧‬‬
‫(‪ )3‬القرآن ونصوصه‪ ،‬ص ‪.13٤‬‬

‫‪31‬‬
‫وأهبم صاحب العبارة فقال "البعض" ومل يصرح باسم املستشرقني أهو من‬
‫باب التجاهل هلم؟ أم إنه يريد غريهم من بين جلدتنا الذين ورد عنهم هذا‬
‫الكالم وعلى رأسهم د‪ .‬طه حسني‪ ،‬الذي قال‪ :‬إن هناك قرآناً مكياً له أسلوب‬
‫وقرآناً مدنياً له أسلوب آخر‪ ،‬وهو القول الذي يردده املستشرقون ويف مقدمتهم‬
‫مرجليوث يف كتابه ((مقدمة الشعر اجلاهلي)) الذي ترمجه د‪ .‬طه حسني ونسبه‬
‫لنفسه تت عنوان ((يف الشعر اجلاهلي))‪ ،‬والذي رد عليه كثري من العلماء‪.‬‬
‫لقد كان كفار قريش وهم على كفرهم‪ ،‬وعنادهم‪ ،‬وأميتهم‪ ،‬أكثر احرتاماً‬
‫ألنفسهم من هؤالء املستشرقني الذين حفلت هبم اجلامعات‪ ،‬واجملامع العلمية‬
‫وظنوا أهنم على شيء‪.‬‬
‫مل جيرؤ أحد من كفار قريش أن ينال من أسلوب القرآن الكرمي‪ ،‬ومل‬
‫يتقدم أحد منهم للتحدي الذي ورد يف السور املكية على مراحل‪ ،‬ففي سورة‬
‫ُ َ ُّ َ َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ َّ‬
‫َع أن‬ ‫ۡلن َٰٓ‬ ‫ت ٱ ِۡلنس وٱ ِ‬ ‫اإلسراء املكية قوله تعاىل‪  :‬قل لئ ِ ِن ٱجت َمع ِ‬
‫ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ َٰ َ ُ َ َ ُ َ‬ ‫َ ُ‬
‫ان ّل يَأتون ب ِ ِمثلِهِۦ َولو َكن َبعض ُهم ِلِ َعض‬ ‫يأتوا ب ِ ِمث ِل هذا ٱلقرء ِ‬
‫هريا ‪[٨٨‬اإلسراء‪.]88 :‬‬
‫َظ ٗ‬
‫ِ‬
‫مث تكرر هذا التحدي مرة أخرى يف أول سورة مدنية‪ ،‬فقد جاء يف سورة‬
‫َّ َ َّ َ َ َ َٰ َ َ َ ُ‬ ‫البقرة قولـه تعاىل‪ِ  :‬إَون ُك ُ‬
‫َع عبدِنا فأتوا‬ ‫نتم ِف َريب مِما نزنلا‬
‫نتم‬‫كم مِن ُدون ٱ َّّللِ إن ُك ُ‬ ‫َ ُ ُ َ ََٓ ُ‬
‫ورة مِن مِثلِهِۦ وٱدعوا شهداء‬ ‫ب ُس َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ ُ َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫ِي ‪ ٢٣‬فَإن لم َتف َعلوا َولن َتف َعلوا فَٱ َّت ُقوا ٱنلَّ َ‬ ‫َص َٰ ِدق َ‬
‫ار ٱل ِت َوقودها‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َّ ُ َ َ َ ُ ُ‬
‫رين ‪[ ٢٤‬البقرة‪.]٤٧ – ٤3 :‬‬ ‫َٰ‬
‫ٱنلاس وٱۡل ِجارة أعِدت ل ِلكفِ ِ‬

‫‪31‬‬
‫ويف جميء هذا التحدي يف سورة مدنية دليل قاطع على أن األسلوب ما‬
‫زال هو األسلوب‪ ،‬واإلعجاز ما زال هو اإلعجاز‪ ،‬والتحدي ما زال قاصماً يف‬
‫مكة واملدينة على حد سواء‪.‬‬
‫وهذا واحد من ردود كثرية على من زعم من املستشرقني (‪ )1‬أن أسلوب‬
‫القرآن يف املدينة نزل عما كان عليه يف مكة‪ .‬إن اختالف أساليب النظم القرآين‬
‫إمنا هي منوطة باملوضوعات اليت تـعرض هلا السور؛ فإن السور اليت كانت هتدف‬
‫إىل بيان نذارة‪ ،‬أو ذكر بشارة‪ ،‬فإنه يناسبها السورة القصرية واآليات املوجزة‪،‬‬
‫وهو ما رأيناه يف سورة املسد املكية‪ ،‬وسورة العصر املكية وما فيهما من نذارة‪.‬‬
‫وهو ما رأيناه كذلك يف سورة النصر املدنية وما فيها من بشارة‪ ،‬وكذا سورة‬
‫الكوثر املدنية القصرية وما فيها من بشارة كذلك‪.‬‬
‫ويقال األمر نفسه إذا كان املوضوع يف جمال طرح التشريعات والتوجيهات‬
‫الربانية‪ ،‬واحلديث عن مكارم األخالق‪ ،‬فإنه يناسب هذه املوضوعات اآليات‬
‫الطويلة والسور الطويلة كذلك‪ ،‬وهو ما رأيناه يف سورة اإلسراء املكية‪ ،‬فإهنا‬
‫طويلة وكذلك آياهتا؛ ألهنا عرضت يف جانب منها إىل الوصايا الربانية (‪،)٤‬‬
‫وكذلك سورة الفرقان؛ ألهنا عرضت إىل بعض التوجيهات والوصايا (‪.)3‬‬
‫ورأينا الشيء نفسه‪ ،‬يف السور املدنية‪ ،‬كالبقرة‪ ،‬وآل عمران‪ ،‬والنساء‪ ،‬فإن‬
‫ما فيها من تشريعات وأحكام ناسبها أن تكون طويلة واآليات كذلك‪.‬‬

‫(‪ )1‬كتاب القرآن‪ ،‬ص ‪ ،81‬بالشري‪.‬‬


‫(‪ )٤‬انظر سورة اإلسراء‪ ،‬اآليات من ‪.39 – ٤3‬‬
‫(‪ )3‬انظر سورة الفرقان‪ ،‬اآليات من ‪.٤٤ – ٥1‬‬

‫‪32‬‬
‫إن هذه النظرة العجلى ملا سبق توضح جبالء‪ ،‬أن القصر ليس مرتبطاً‬
‫مبكة أو باملرحلة اليت سبقت اهلجرة‪ ،‬والطول كذلك ليس مرتبطاً باملدينة أو‬
‫باملرحلة اليت تلت اهلجرة‪.‬‬
‫وأحسب أن دراسة استقراصية للسور املدنية واملكية يف القرآن الكرمي سوف‬
‫تؤدي إىل هذه النتيجة اليت أشرنا إليها‪ ،‬وهي دعوة للباحثني _ وخباصة طالب‬
‫الدراسات العليا _ للتصدي ملثل هذه الدراسات‪.‬‬
‫إن أسلوب اإلجياز والتكرير‪ ،‬ووحدة الفاصلة القرآنية‪ ،‬أو ما يسمى‬
‫بالسجع‪ ،‬كلها أساليب تناسب املعاندين‪ ،‬وهم حي َّذرون من الكفر واإلعراض‪،‬‬
‫وخي َّوفون من النار‪ ،‬ويتوعدون بالبعث حىت تلتقي املعاين مع األساليب يف تريك‬
‫الوجدان‪ ،‬وإثارة الشعور‪ ،‬وقرع القلوب املقفلة‪ ،‬والنفوس الغافلة‪.‬‬
‫لقد أسلم أكثر هؤالء الذين كانوا يف مكة‪ ،‬وهاجروا إىل املدينة فانضموا‬
‫وتكون منهم جمتمع إسالمي متميز‪.‬‬ ‫إىل إخواهنم األنصار العرب‪َّ ،‬‬
‫لقد نزل القرآن الكرمي يف املدينة من أجل أن يعمل على تطبيق العقيدة‬
‫ترسخت يف املرحلة املكية‪ ،‬وذلك من خالل التشريعات‬ ‫بكل أبعادها واليت َّ‬
‫واألحكام اليت جتعل من اإلسالم واقع حياة‪ ،‬وكان هذا األمر حيتاج إىل خطاب‬
‫هادئ‪ ،‬وإىل أمة مؤمنة ملتزمة بشرع اهلل‪ ،‬تنتظر أحكامه سبحانه وتشريعاته‪.‬‬
‫وميكن يف هذا املقام أن يستعان ببعض اخلصاص اليت تلقي الضوء على‬
‫ما ذكرنا‪ ،‬فإن النداء بيا أيها الناس كثر يف مكة‪ ،‬وكان قليالً يف املدينة؛ ألنه حل‬
‫ٓ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُّ َ َّ‬
‫يأيها ٱَّلِين ءامنوا‪‬؛ ألهنا مناسبة لألوامر والنواهي‬ ‫حملها النداء بـ ‪َٰٓ ‬‬
‫والتشريعات‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫إن هذا التوجه الذي ذكرناه يغين عن التفسري الذي أورده الشيخ الزرقاين‬
‫وزل فيه قلمه‪ ،‬وهو يفسر جميء السور املكية موجزة والسور‬ ‫_ عفا اهلل عنه _ َّ‬
‫املدنية طويلة‪ ،‬وفيها إطناب وإسهاب؛ وذلك ألن أهل املدينة مل يكونوا‬
‫يضاهئون أهل مكة يف الذكاء واألملعية‪ ،‬وطول الباع يف باحات الفصاحة‪ ،‬والبيان‪،‬‬
‫فيناسبهم الشرح واإليضاح‪ ،‬وذلك يستتبع كثرياً من البسط واإلسهاب‪ ،‬ألن دستور‬
‫البالغة ال يقوم إال على رعاية مقتضيات األحوال وخطاب األغبياء بغري ما خياطب‬
‫به األذكياء(‪.)1‬‬
‫لقد غاب عن الشيخ الزرقاين _ وهو الفهيم _ أن الذين خاطبهم اهلل‬
‫تعاىل بالسور يف مكة هاجروا إىل املدينة‪ ،‬وغاب عنه أيضاً أن عرب املدينة كانوا‬
‫عرباً خلَّصاً كذلك‪ .‬وعلى هدى من هذا ال يسلم له ما ذهب إليه‪.‬‬
‫وحيسن بنا وحنن نستدرك على الزرقاين يف مقولته أن ننبه لضرورة احلذر‬
‫حني التصدي لطروحات املستشرقني‪ ،‬فإن الباحث يف غمرة االنشغال بالشبه‬
‫والرد عليها قد يغفل فيقع يف حمظور‪ ،‬فيزل يف طرح أو يسيء يف تعبري‪ ،‬أو خيطئ‬
‫يف تفسري‪ ،‬فيزيد اجلناية سراية‪.‬‬
‫إننا نتساءل يف هذا املقام‪ ،‬فنقول‪ :‬إذا كان احلال ما زعمه املستشرقون‪،‬‬
‫من أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم منت قدراته‪ ،‬وتأثر ببيئته اجلديدة يف املدينة‬
‫فظهرت الفروق بني السور املكية واملدنية‪ ،‬فلم مل نلحظ هذا الفرق يف احلديث‬
‫النبوي ما دام املصدر واحداً عندهم؟ فلم يظهر ما يدعو إىل وجود حديث‬
‫مكي وحديث مدين‪.‬‬

‫(‪ )1‬مناهل العرفان‪ ،‬ج ‪ 1‬ص ‪.19٤‬‬

‫‪34‬‬
‫إن التأثر بالبيئة ينعكس ال حمالة على األسلوب‪ ،‬فيورثه تبايناً واضطراباً‪،‬‬
‫وهو ما مل يلحظ البتة يف أسلوب القرآن الكرمي‪ ،‬فلو كان هناك تدن يف مستوى‬
‫القرآن املدين ـ كما زعموا ـ ملا تكرر التحدي باإلتيان مبثله يف املدينة كما سبقت‬
‫اإلشارة‪.‬‬
‫إن الباحث‪ ،‬وهو يتتبع هذه الشبه ليخشى أن جيعل هلا قيمة‪ ،‬حني يظن‬
‫ظان‪ ،‬أن جمرد العـرض هلا‪ ،‬يعـين أن هلا حظاً من النظـر‪ ،‬واحلق ما قاله أبو احلسن‬
‫احلصار‪:‬‬
‫َّ‬
‫فليس كل خالف جاء معترباً إالَّ خالف له حظ من النظــر‬
‫ولسنا نرغب يف التوسع وخباصة أننا أتينا على أبرز شبههم يف هذا املقام‪،‬‬
‫واليت نقلها الالحق عن السابق‪.‬‬

‫*****‬

‫‪35‬‬
‫الخاتمة‬
‫حيسن بنا وحنن يف خامتة هذه الدراسة أن جنمع ما تناثر فيها من قضايا‬
‫ومساصل‪ ،‬ففي مل شعثها ما يعني على تقدمي تصور كامل للموضوع الذي‬
‫عرضت له‪ ،‬كشفت هذه الدراسة ـ على وجازهتا ـ أن مثة أمراً دبر بليل‪ ،‬على‬
‫أيدي املستشرقني‪ ،‬وتواصوا به‪ ،‬وهو القول ببشرية القرآن الكرمي‪ ،‬الذي مل يكد‬
‫يسلم منه أحد منهم‪ ،‬إما مبقاله أو بلسان حاله‪.‬‬
‫كان ميدان الدراسات القرآنية أبرز امليادين اليت عبث فيها هؤالء‪ ،‬فقد‬
‫قاموا بدراساهتم‪ ،‬وهم حيملون مقررات سابقة‪ ،‬ونتاصج جاهزة‪ ،‬وقد أغرهتم‬
‫وغرهتم دراسات سابقة هلم يف التوراة واإلجنيل‪ ،‬أوقفتهم على خلط وتناقض‬
‫وأخطاء فيها‪ ،‬فنالوا من القرآن الكرمي‪.‬‬
‫كان إنكار الوحي منطلق الغالبية منهم يف هذه الدراسات‪ ،‬فأثاروا‬
‫الشبهات حول كثري من املوضوعات اليت كان منها املكي واملدين‪.‬‬
‫كتب املستشرقون هلذا الغرض كتباً مستقلة‪ ،‬مثل ((مقدمة القرآن)) لريتشارد‬
‫بل‪ ،‬و((كتاب القرآن)) لبالشري‪ ،‬و((مصادر اإلسالم)) لتسدال‪ ،‬و((تاريخ الن‬
‫القرآين)) لنولدكه‪ ،‬إضافة إىل عشرات الكتب اليت ذكرت هذه املوضوعات عرضاً‪.‬‬
‫يلحظ الباحث وهو يتتبع رحلة االستشراق‪ ،‬أهنم يتابع بعضهم بعضاً‪،‬‬
‫فهم ناقلون مقلدون‪ ،‬أكثر من كوهنم باحثني ناقدين‪ .‬فإن عامة املستشرقني‬
‫تابعوا كرباءهم‪ ،‬أمثال‪ :‬جولد تسيهر‪ ،‬وكازانوفا‪ ،‬ونولدكه‪ ،‬وبالشري‪.‬‬
‫عين علماء األمة باملكي واملدين‪ ،‬منذ وقت مبكر‪ ،‬فح ّدد مفهومه‪،‬‬
‫وضبطت طرق معرفته‪ ،‬واتضحت خصاصصه‪ ،‬وظهرت فواصده‪ ،‬حني أحسن‬
‫العلماء توظيفه‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫درست فئة هذا العلم‪ ،‬وهم املستشرقون‪ ،‬الذين استرتوا خلف البحث‬
‫العلمي‪ ،‬فنسجوا منه شبهاً‪ ،‬يف ضوء مناهج حبث مضطربة‪ ،‬يسهل توجيهها‪،‬‬
‫كاملنهج الذايت‪ ،‬واملنهج العفوي التلقاصي‪.‬‬
‫فحولت خصاص املكي واملدين‪ ،‬على أيديهم‪ ،‬ويف عيوهنم‪ ،‬شبهاً‬
‫ونقاص ‪ .‬سواء ما كان منها ذا صلة باألسلوب‪ ،‬أو باملضمون‪.‬‬
‫لقد كشفت دراسة املستشرقني لعلم املكي واملدين‪ ،‬والنتاصج اليت خرجوا‬
‫هبا‪ ،‬أهنم يعملون لصاحل جهات مشبوهة‪ ،‬وليسوا بعلماء‪.‬‬
‫لقد أتت دراستهم الحظ هلا من النظر‪ ،‬حني زعموا أن القرآن الكرمي‬
‫كان يف مكة خطابياً‪ ،‬خيلو من احلجج‪ ،‬يف حني أنه ال ختلو سورة منه من‬
‫الرباهني العقلية‪ ،‬واألدلة املنطقية‪.‬‬
‫كذلك بان ضعف قوهلم إن القرآن الكرمي أمهل التشريعات يف مكة‪،‬‬
‫وعين هبا يف املدينة‪ ،‬وقد ثبت لنا أن هذا مل يسلم هلم من حيث الدليل‬
‫واملدلول‪.‬‬
‫ظهر لنا أن حماولة املستشرقني توظيف قصر السور واآليات‪ ،‬وطوهلا‪ ،‬كان‬
‫عبثياً حني جهلوا‪ ،‬أو جتاهلوا‪ ،‬أن األمر كله‪ ،‬منوط باملوضوعات اليت كانت من‬
‫متطلبات املرحلة‪.‬‬
‫وتطاول املستشرقون املستعربون‪ ،‬على أسلوب القرآن الكرمي ونظمه‪ ،‬حني‬
‫حاولوا التفريق بني األسلوب املكي واملدين‪ ،‬خدمة ألغراضهم‪ ،‬فجاء كالمهم‬
‫جناية عليهم‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫المراجع‬
‫‪ .1‬اإلتقان يف علوم القرآن‪ ،‬جالل الدين السيوطي‪ ،‬دار عامل الكتب‪ ،‬بريوت‬
‫د‪ .‬ت‪.‬‬
‫‪ .٤‬آراء املستشرقني حول القرآن الكرمي وتفسريه دراسة ونقد‪ ،‬د‪ .‬عمر إبراهيم‬
‫رضوان‪ ،‬دار طيبة‪ ،‬الرياض ط‪.1‬‬
‫‪ .3‬االستشراق واملستشرقون ماهلم وما عليهم‪ ،‬د‪ .‬مصطفى السباعي‪ ،‬املكتب‬
‫اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪1399 ،٤‬ه‪.‬‬
‫‪ .٧‬البيان يف عد آي القرآن‪ ،‬عثمان بن سعيد الداين‪ ،‬الكويت‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪199٧‬م‪.‬‬
‫‪ .٦‬تاريخ الشعوب اإلسالمية‪ ،‬بروكلمان‪ ،‬ترمجة نبيه فارس ومنري البعلبكي‪ ،‬دار‬
‫العلم للماليني‪ ،‬بريوت‪ ،‬ط‪19٤٤ ،٤‬م‪.‬‬
‫‪ .٥‬التحرير والتنوير‪ ،‬الطاهر بن عاشور‪ ،‬بدون معلومات‪.‬‬
‫‪ .٤‬صحيح البخاري‪ ،‬البخاري‪ ،‬دار السالم للنشر والتوزيع‪ ،‬الرياض‪ ،‬ط‪،٤‬‬
‫‪1٧٤1‬ه‪.‬‬
‫‪ .8‬صحيح مسلم‪ ،‬مسلم بن احلجاج‪ ،‬دار السالم للنشر والتوزيع‪ ،‬الرياض‬
‫ط‪1٧٤1 ،٤‬ه‪.‬‬
‫‪ .9‬العقيدة والشريعة يف اإلسالم‪ ،‬جولد تسيهر‪ ،‬ترمجة حممد يوسف‪ ،‬دار الراصد‬
‫العريب‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ .11‬القرآن ونصوصه‪ ،‬د‪ .‬عدنان زرزور‪ ،‬منشورات جامعة دمشق‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪1٧11‬ه‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫‪ .11‬قضايا قرآنية يف املوسوعة الربيطانية‪ ،‬د‪ .‬فضل حسن عباس‪ ،‬دار‬
‫البشري‪ ،‬عمان‪ ،‬ط‪.1‬‬
‫‪ .1٤‬كتاب القرآن‪ ،‬بالشري‪ ،‬ترمجة رضا سعادة‪ ،‬دار الكتاب اللبناين‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬ط‪19٤٧ ،1‬م‪.‬‬
‫‪ .13‬حماضرات يف علوم القرآن‪ ،‬د‪ .‬غامن قدوري احلمد‪ ،‬دار عمار‪ ،‬عمان‪،‬‬
‫ط ‪1٧٤3‬ه‪.‬‬
‫‪ .1٧‬مسند اإلمام أمحد‪ ،‬تقيق شعيب وزمالصه‪ ،‬مؤسسة الرسالة‪ ،‬ط‪،1/‬‬
‫‪1٧19‬ه‪.‬‬
‫‪ .1٦‬مكي القرآن ومدنيه‪ ،‬حممد اهلادي كريدان‪ ،‬املنشأة العامة للنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬طرابلس ط‪198٧ ،1‬م‪.‬‬
‫‪ .1٥‬مناهل العرفان يف علوم القرآن‪ ،‬عبد العظيم الزرقاين‪ ،‬دار إحياء الثراث‬
‫العريب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬د‪ .‬ت‪.‬‬
‫‪ .1٤‬الناسخ واملنسوخ‪ ،‬أمحد بن حممد النحاس‪ ،‬القاهرة‪ ،‬د‪ .‬ط‪.‬‬
‫‪ .18‬نبوة حممد يف الفكر االستشراقي املعاصر‪ ،‬د‪.‬خلضر شايب‪ ،‬الناشر‬
‫مكتبة العبيكان‪ ،‬الرياض ط‪1٧٤٤ ،1‬ه‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫الفهرست‬

‫المقدمة‪1 .........................................................‬‬
‫كلمة في التعريف بالمكي والمدني وذكر خصائص ك ّل منهما‪3 . :‬‬
‫ويمكننا أن نوجز ما سبق بما يلي‪8 ............................‬‬
‫بين تأثير القرآن وتأثره‪21..................................... :‬‬
‫األول‪ :‬تأثير القرآن في البيئة‪23................................‬‬
‫األمر الثاني‪ :‬تأثر القرآن بأحداث العصر‪ ،‬وبثقافة أهله وافادته‬
‫من هذا كله‪21.................................................‬‬
‫األسلوب خصائص وشبه‪21...................................:‬‬
‫المضمون خصائص وشبه‪12................................. :‬‬
‫الخاتمة‪36 ........................................................‬‬
‫المراجع‪38 ........................................................‬‬
‫الفهرست ‪41 ......................................................‬‬

‫‪41‬‬

You might also like