Professional Documents
Culture Documents
Ar Elm Almakky Wal Madany PDF
Ar Elm Almakky Wal Madany PDF
بقلم
األستاذ الدكتور
زيد عمر عبد الله العيص
المقدمة
احلمد هلل منزل الكتاب ،وهازم األحزاب ،والصالة والسالم على النيب
حممد ،واآلل والصحب الكرام ،أما بعد:
فقد نبتت نابتة يف ميدان الدراسات الشرقية بعامة والدراسات القرآنية
خباصة عرفت باملستشرقني.
سودواكان القرآن الكرمي بنصوصه وعلومه حمور دراسة غالبية هؤالء ،وقد َّ
يف هذا اجملال عشرات اآلالف من الصفحات أتوا فيها بالعجب العجاب ،وكان
اخلطأ فيها هو األصل ،وتوارى يف ثناياها النَّزر اليسري مما فيها من صواب.
أسهمت عوامل عدة ـ أكثرها مصطنع ـ يف الرتويج لنتاج املستشرقني منها
تسرتهم خلف املنهجية العلمية وظهورهم مبظهر الباحث عن احلقيقة املتجرد ر
هلا ،وقد مكن أكثرهم من كراسي البحث العلمي يف اجلامعات ،ويف اجملامع
العلمية واللغوية .فاختذوها منابر لبث أفكارهم .وإذا كان اهلل تعاىل قد قال يف
ُ ُ َّ َ ٗ ُ َ َ
شأن املنافقني يف عهد النبوة :لو خ َر ُجوا فِيكم َّما َزادوكم إِّل خ َباّل
ّلل َعل ُون ل َ ُهم َوٱ َّ ُ
َ َ َ ُ َ َّ َٰ ُ َ ُ َ ُ َ َ ُ ََ َ
ِيم َوَلوض ُعوا خِلَٰلكم َيبغونك ُم ٱل ِفتنة وفِيكم سمع
َّ
لظَٰلِم َ
ي [٤٧التوبة ،] ٧٤ :فإننا نقر بكل أسف أن فينا سَّاعني للمستشرقني. ِ ب ِٱ
نرى ـ يف ضوء ما ذكر ـ ضرورة أن يلتفت إىل هذا النتاج ،بأن يعرض له
أصحاب االختصاص ،كل يف جماله لبيان ما فيه من اعوجاج ،والكشف عن
أهنم أصحاب جلاج .وهو ما هتدف إليه هذه الندوة اليت تنظمها وزارة الشؤون
اإلسالمية واألوقاف والدعوة واإلرشاد ممثلة يف جممع امللك فهد لطباعة
املصحف الشريف باملدينة املنورة.
1
سوف تعىن هذه الدراسة بعلم املكي واملدين ،فهو واحد من علوم قرآنية
شىت سعى املستشرقون أن يتخذوا منها وسيلة للرتويج لفرية كربى ،تواصى هبا
عامتهم وهي إنكار الوحي ،والقول ببشرية القرآن الكرمي.
تعرض الدراسة بإجياز ملفهوم املكي واملدين ،وخلصاص األسلوب
واملضمون ،اليت ميزت كالًّ منهما؛ بغية أن توضع يف نصاهبا ،وتعطى حجمها
الطبيعي للحيلولة دون استغالهلا من قبل املستشرقني الذين رأوا يف هذه
اخلصاص مدخالً مثيناً حني جعلوا كل ميزة شبهة.
لقد استخدم املستشرقون يف دراستهم مناهج حبث تساعدهم ،مثل
املنهج الذايت واملنهج العفوي التلقاصي ،وأعرضوا عن مبادئ البحث العلمي وهو
ما سيظهر جلياً يف هذه الدراسة املوجزة.
وتصدى هلا باحثون جا ردون ،وهو ما س َّهل َّ لقد درست شبه هؤالء،
املهمة علينا ،فأردنا أن نضرب بسهم يف هذا اجملال؛ لتكون هذه الدراسة لبنة
تضاف إىل لبنات تدعو احلاجة إىل كثري منها؛ بغية كشف هذه الشبهات
والتحذير منها وبيان زيف هذه الفئة.
*****
2
كلمة في التعريف بالمكي والمدني وذكر خصائص ك ّل
منهما:
حيسن بنا أن نعرض ابتداءً ملفهوم املكي واملدين وبعض مساصل تتصل به؛
ليكون متهيداً لدراستنا هذه.
تباينت وجهات نظر أهل الشأن يف مفهوم املكي واملدين ،فنظر إليه
بعضهم من زاوية املكان ،فقال :ما نزل من القرآن الكرمي يف مكة فهو مكي،
وما نزل منه يف املدينة فهو مدين (.)1
حمل نظر عند أهل التحقيق؛ ألنه يفضي إىل خروج آيات وهذا التو رجه ر
عدة من هذين الوصفني ،فقد صح أن مثة آيات نزلت يف غري مكة واملدينة،
يبافقد نزل يف تبوك على سبيل املثال قول اهلل تعاىل :لَو ََك َن َع َر ٗضا قَر ٗ
ِ
ُ َ ُّ َّ ُ َ َ َ َ ٗ َ ٗ َّ َّ ُ َ َ
كن َب ُع َدت َعلي ِه ُم ٱلشقة َو َس َيحل ِفون اصدا ّلت َبعوك َول َٰ ِوسفرا ق ِ
ّلل َيعلَ ُم إ َّنهمُ َ َ َ ََ َ َ َ َ ُ ُ ُ َ َ ُ
نف َس ُهم َوٱ َّ ُ َّ َ
ِ ب ِٱّللِ لوِ ٱستطعنا َلرجنا معكم يهل ِكون أ
َ
ون [ ٤٢التوبة ،] ٧٤ :وقوله تعاىلَ :ولَئن َسأۡلَ ُهم ََلَ ُقولُ َّن إ َّنماَ َ َ َٰ ُ َ
لكذِب
ِ ِ
ُ ُ َ َ ُ َ ُ َ َ َٰ ُ َّ َ ُ ُ َ َ َ ُ ُ َ َّ َ َ َ
ولِۦ كنتم تسته ِزءون كنا َنوض ونلعب قل أب ِٱّللِ وءايتِهِۦ ورس ِ
[ ٦٥التوبة ،] ٥٦ :وغري هذا ليس بالقليل.
إن هذا التعريف غري جامع ،ويـفضي إىل القول بأن يف القرآن ما ليس
مكياً وال مدنياً ،وهو ما رأيناه يف تقسيم ابن النقيب ( ،)٤حني قال(( :ومنه ما
( )1انظر :اإلتقان يف علوم القرآن ،ج 1ص ،9مناهل العرفان ،ج 1ص .18٥
( )٤اإلتقان ،ج 1ص .9
3
ليس مبكي وال مدين ،أجلأ إليه اعتبار املكان)) ،وهو تعريف لن تتحقق يف ضوصه
األغراض املرجوة من هذا املوضوع.
مثة فريق نظر إىل املكي واملدين يف ضوء خطابه لإلنسان ،فما كان خطاباً
َ َ ي َأ ُّي َها ٱنلَّ ُ
يأ ُّي َها ٱ ََّّلِينَ اس فهو مكي ،وما كان خطاباً َٰٓ َٰٓ َ
َء َام ُنوا فهو مدين ()1؛ ألن الكفر كان غالباً على أهل مكة ،واإلميان كان
الغالب على أهل املدينة.
ينسبون يف هذا املقام لعبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه قوله(( :كل شيء يف
َ َ ي َأ ُّي َها ٱنلَّ ُ
يأ ُّي َها ٱ ََّّلِينَ
اس أنزل مبكة ،وكل شيء يف القرآن َٰٓ القرآن َٰٓ َ
َء َام ُنوا أنزل باملدينة ))(.)٤
إن صح هذا عنه رضي اهلل عنه ،فقد قاله من باب التغليب ،وإالَّ فقد
ي َأ ُّيهاَصح أن يف سورة البقرة _ وهي مدنية باتفاق _ قولـه تعاىلَٰٓ َ :
ُ َ َّ ُ
ِين مِن قبل ِكم ل َعلكم
َ كم َوٱ ََّّل َ َ ََ ُ ُ َّ ٱنلَّ ُ
اس ٱع ُب ُدوا َر َّبك ُم ٱَّلِي خلق
َ ُ َ
ت َّتقون [ ٢١البقرة ] ٤1 :وغريها كذلك ،كما صح أن سورة النساء مدنية
َّ ُ َّ ُ َ َّ ُ ُ َّ َ ُّ َ َ
يأيها ٱنلاس ٱتقوا ربكم ٱَّلِي باتفاق ،وفيها قولـه تعاىلَٰٓ :
ٗ َّ َ َ َّ َ ََ ُ
خلقكم مِن نفس َوَٰح َِدة َوخل َق مِن َها َزو َج َها َو َبث مِن ُه َما رِ َجاّل
( )1مناهل العرفان ،ج 1ص ،191حماضرات يف علوم القرآن ،ص .٤9
( )٤أخرج قول ابن مسعود هذا :البزار يف مسنده ( )33٥/٧واحلاكم يف املستدرك ( )18/3ومن طريقه البيهقي
يف دالصل النبوة ( .)1٧٧/٤وأخرجه ابن أيب شيبة يف املصنف ( )٤٦1/11وأبو عبيد يف فضاصله
وصحح الدارقطين أنه
( ،)٤1٤/٤وابن الضريس يف الفضاصل أيضاً (ص ،)٤9ثالثتهم عن علقمة مرسالًّ ،
أيضا.
مرسل عن علقمة (العلل ،)1٥9-1٥8/٦وأشار إىل ذلك البزار ً
4
َ َ َ َ َّ َّ َ َ َ َ ٓ ُ َ َّ َ َّ ٓ َّ ُ َكث ِ ٗ
ّلل ٱَّلِي ت َسا َءلون ب ِهِۦ وٱَلرحام إِن ٱّلل َكن ريا َون َِسا ٗء َوٱتقوا ٱ
كم َرق ٗ ََ ُ
ِيبا [ ١النساء.]1 : علي
مث إن املسألة أوسع بكثري من أن تصر يف مصطلحات وردت يف قلة من
اآليات يكون املعول عليها يف تديد سور بأكملها أهي مكية أم مدنية؟
وخباصة أن كثرياً من السور ختلو منها.
ظ له من النظر ،وهلذا أعرض عنهما إن هذا القول كسابقه ال ح َّ
وعرضوا مبن َّروج هلما.
احملققونَّ ،
مثة قول ثالث عليه أهل التحقيق ينظر إىل املكي واملدين باعتبار الزمان ،فقالوا:
ما نزل قبل اهلجرة فهو مكي ،وما نزل من القرآن بعد اهلجرة فهو مدين (.)1
ظهر هذا املفهوم يف وقت مبكر ،ومال إليه اجلمهور من العلماء ،فهذا
حيىي بن سالم البصري (ت ٤11ه) يقول(( :ما نزل مبكة وما نزل بطريق املدينة
قبل أن يبلغ النيب املدينة فهو مكي ،وما نزل على النيب يف أسفاره بعدما قدم
املدينة فهو مدين))(.)٤
هذا مفهوم تطمئن النفس إليه ،وميكن االعتماد عليه؛ ألنه جامع مانع،
وميكن أن تظهر آثاره ومثاره عند تل رمس املساصل املتصلة باملكي واملدين كالنسخ
والتدرج يف األحكام ،والكشف عن مراحل الدعوة وساهتا.
ليس خيفى على أهل الشأن أن ال أثر لتاريخ النرـزول يف ترتيب اآليات يف
سورها بـله السور يف القرآن ،فـث َّمة اعتبارات أخرى مصدرها الوحي كانت وراء
هذا الرتتيب املعجز.
5
ال أثر يذكر كذلك لتاريخ النرـزول يف الكشف عن معاين غالبية اآليات
القرآنية ،وإن توهم بعض املعاصرين ( )1غري هذا وسعى إىل إغراء الباحثني
باالشتغال هبذا الرتتيب والقيام به.
إذا كان األمر كذلك فإنه يفسر لنا عدم ورود شيء عن الرسول صلى
اهلل عليه وسلم يف شأن تديد زمن النرـزول أو بعبارة أخرى عدم اإلشارة إىل
املكي واملدين من القرآن الكرمي.
نلحظ هذا الفهم عند عامة العلماء ،مما ورد عنهم من إشارات ،أو
نطقت به بعض املقاالت ،فهذا أبو بكر الباقالين يقول(( :مل يرد عن النيب صلى
اهلل عليه وسلم يف ذلك قول؛ ألنه مل يؤمر به ،ومل جيعل اهلل ذلك من فراصض
األمة ،وإن وجب يف بعضه على أهل العلم معرفة تاريخ الناسخ واملنسوخ ،فقد
يعرف ذلك بغري ن الرسول))(.)٤
بدا للعلماء أن معرفة املتقدم يف النرـزول من القرآن من املتأخر ،أو بعبارة
أخرى ـ يف ضوء التعريف املختار ـ معرفة املكي واملدين ال خيلو من فواصد
تستدعي احلاجة الوقوف عليها يف مواطن عدة ،وخباصة األحكام منها ،وما
وعرب عن
يتصل بالناسخ واملنسوخ ،وهو ما كان حاضراً لدى أهل االختصاصَّ ،
ذلك النحاس بقوله(( :إمنا نذكر ما أنزل مبكة ألن فيه أعظم الفاصدة يف الناسخ
واملنسوخ ،ألن اآلية إذا كانت مكية ،وكان فيها حكم ،وكان يف غريها حكم
غريه نزل باملدينة علم أن املدنية نسخت املكية)) (.)3
( )1أمني اخلويل يف كتابه ((التفسري معامل حياته ومنهجه اليوم)) ،ص .3٥
( )٤اإلتقان يف علوم القرآن ،ج 1ص .1٤
( )3الناسخ واملنسوخ ،للنحاس ،ص .٤1٧
6
إن من يعىن كذلك بتتبع مراحل الدعوة ،والكشف عن خصاصصها ،البد
أن يستحضر املكي واملدين ،ألنه الكاشف يف هذا املقام ،وكذا من يعرض
لقضية التدرج يف التشريعات ،اليت كانت من سات هذا الدين ،ال يستغين عن
معرفة املكي ،واملدين.
ميكن القول ـ على هدي مما سبق ـ :إن يف معرفة املكي من املدين فواصد ال
ختفى ،وملا مل يكن بني أيدينا نصوص شرعية تدد لنا ما كان مكياً ،وما كان
تلمس العلماء سبالً موصلة هلذا الغرض ،فكان أن رأوا وسيلتني مها: مدنياًَّ ،
طريق السماع ،وطريق القياس (.)1
نعين بطريق السماع :تلك الروايات الواردة عن الصحابة الكرام الذين
عاصروا التَّـنزيل ،وحضروا املشاهد ،وعايشوا األحداث ،فهم أعرف الناس بنـزول
القرآن زماناً ومكاناً.
فهذا عبد اهلل بن مسعود رضي اهلل عنه يقول فيما يرويه عنه البخاري:
((والذي نفسي بيده ما من آية إالَّ وأنا أعلم أين نزلت وفيما نزلت)) ( )٤وما هو
إال أمنوذج للصحب الكرام يف هذا املقام.
ليس يتعذر على الباحث أن يظفر بروايات عن الصحابة الكرام تن
على أن سورة كذا نزلت يف املدينة ،أو أن آيات بعينها نزلت يف موضع كذا.
حسبنا دليالً على هذا ما رواه مسلم يف ((صحيحه)) عن عبد اهلل بن
مسعود رضي اهلل عنه قال(( :بينما أنا مع النيب صلى اهلل عليه وسلم يف حرث
وهو متكئ على عسيب إذ مر اليهود فقال بعضهم لبعض :سلوه عن الروح،
فسألوه ،فأمسك النيب صلى اهلل عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئاً فعلمت أنه
7
ََ َُ
سلونَ َ َع ِن ٱ ُّلر ِ
وح يوحى إليه فقمت مقامي ،فلما نزل الوحي قال :وي
َّ َ ٗ
عل ِم إِّل قل ِيل [ ٨٥اإلسراء8٦ : ل ٱ َ
ِنم م وح مِن أَمر َرب َو َما ٓ أُوت ُ
ِيت قُل ٱ ُّلر ُ
ِ ِ ِ ِ
()1
] .
كانت الوسيلة الثانية يف معرفة املكي واملدين ،قياسية ،وهي تقوم على
استحضار جمموعة من اخلصاص ،أمكن ألهل الشأن مجعها ،من خالل النظر
يف كل من املكي واملدين ،فبدا هلم بعد طول نظر ،ومزيد تأمل ،أن مثة
خصاص تكاد تصاحب كالًّ من املكي واملدين ميكن عند استحضارها
واعتبارها التفريق بينهما ،ومعرفة السور املكية من املدنية.
شجع أهل االختصاص على اعتمادها ،واألخذ هبا ،جميء شيء منها َّ
عن الصحب الكرام ،كالقول املتقدم عن ابن مسعود رضي اهلل عنه يف اعتبار
ٓ ُ َ َ َ َ َ ُّ َ َّ ُ َّ َ ُّ َ َ
َٰٓ
يأيها ٱنلاس مكياً ،و يأيها ٱَّلِين ءامنوا مدنياً ،وكقول َٰٓ
عروة بن الزبري(( :ما كان من حد أو فريضة أنزهلا اهلل عز وجل يف املدينة ،وما
كان من ذكر األمم والقرون أنزل مبكة))(.)٤
نشط أهل االختصاص يف استخالص هذه امليزات للمكي ،واملدين،
سواء ما كان منها ذا صلة باملعاين ،أو باملباين ،ونعين هنا األسلوب واملضمون،
بغية االستعانة هبا يف تديد املكي واملدين ،كلما دعت حاجة ،أو استدعى
موقف.
ويمكننا أن نوجز ما سبق بما يلي:
8
.1السور واآليات املكية كانت بعامتها قصرية ،شديدة يف األسلوب ،خبالف
اآليات ،والسور املدنية ،فكانت طويلة ذات أسلوب لني.
.٤تضمنت السور املكية الوعد ،والوعيد ،والتوبيخ ،وهلذا كان اخلطاب فيها بيا
أيها الناس ،حىت كثر ورود كلمة " كال " اليت هي للردع والزجر يف السور املكية،
ومل ترد يف السور املدنية ،فصارت عالمة على التفريق بني املكي واملدين ،يف
حني امتازت السور املدنية باحلديث عن التشريعات يف كافة اجملاالت ،وكان
اخلطاب فيها بيا أيها الذين آمنوا.
.3كثر احلديث يف السور املكية ،عن األمم السابقة ،وأحواهلا مع أنبياصها ،يف
حني كثر احلديث يف السور املدنية ،عن حماجة أهل الكتاب ،واملنافقني.
.٧برزت يف السور املكية ظاهرة القسم ،والتكرير ،وضرب األمثلة احلسية،
والتشبيه ،والفاصلة القرآنية اليت تشبه السجع ،يف حني ندر يف القرآن املدين،
وجود هذه املظاهر (.)1
هذا جممل ما أورده العلماء ،يف بيان الفروق بني املكي واملدين ،حرصت
على دجمه ،واختصاره ليناسب املقال املقام ،وهي فروق ـ كما أكد العلماء ـ
نسبية ،غالبة حىت إنه مل ينفرد قسم بواحد منها ،دون القسم اآلخر كما سنرى.
لقد َّأدت هذه الفروق ـ على أية حال ـ األغراض اليت سيقت من أجلها
يف جمال التشريع ،وتتبرع مراحل الدعوة ،ويف جمال االحتكام إليها يف تديد
السور اليت مل يرد دليل خارجي من قول مأثور ،أو سبب نزول حيدد أمكية هي
أم مدنية؟
( )1انظر ملزيد بيان وتوسع :مكي القرآن ومدنيه ص ،31٤ -31٥مناهل العرفان ،ج 1ص ،191 -191
حماضرات يف علوم القرآن ،ص .٤8
9
لقد وضع العلماء هذه الفروق بعد مالحظة واستقراء ،ومل يكن يرد يف
خلدهم أن مثة طاصفة قادمة تت جنح الظالم ،تسلك منهجاً ،ال خطام له،
وال زمام ،تسعى لتوظيف هذه الفروق إلثبات مقرر سابق ،والرتويج ألفكار
الحظ هلا من الصحة وال اعتبار ،إهنم املستشرقون.
تتجه جهود املستشرقني يف جمال الدراسات القرآنية ،إىل إثبات أن القرآن
الكرمي من وضع النيب ،حممد صلى اهلل عليه وسلم ،وأنه ال صلة له بالوحي
ويتعذر على الباحث احملقق أن يستثين أحداً من املستشرقني من هذا إطالقاًَّ ،
املعتقد ،وخباصة الرموز منهم ،وال يدخل من أسلم منهم يف حديثنا هذا .ويف
هذا يقول د .السباعي(( :مجهور املستشرقني على إنكار الوحي))(.)1
ال جيد الباحث صعوبة يف إيراد عشرات األساء ،للمستشرقني الذين
يعتقدون هذا املعتقد ،وجعلوه مقرراً سابقاً ،بنيت عليه دراساهتم من أمثال
الفرنسي هنري المانس (ت 193٤م) ،واألملاين كارل بروكلمان (ت
19٤٤م) ،والفرنسي راميوند شارل ،واألمريكي غوستاف فون (ت 19٤٤م)،
والفرنسي أندري ميكال ،والفرنسي كازانوفا (ت 19٤٥م) ،والفرنسي لويس
ماسينيون (ت 19٥٤م) ،وغري هؤالء كثري ميكن الوقوف على آراصهم ومقوالهتم
يف مظاهنا (.)٤
تعددت مسالك املستشرقني ،يف الرتويج ألفكارهم ،وخباصة تلك املتصلة
مبصدر القرآن الكرمي كما أشرنا ،وكان من بني األبواب اليت وجلها املستشرقون،
باب املكي ،واملدين ،وهو ما ميلي علينا أن نستحضر أن حديثهم عن املكي
11
واملدين ،كان حلقة يف سلسلة هدفت إىل النيل من القرآن الكرمي .فجاء عرضهم
له كأنه وسيلة لغاية.
أقر
أغرى املستشرقني يف هذا اجملال وجود دراسات يف الرتاث اإلسالمي َّ
فيها أهلها أن مثة خصاص وميزات لكل من املكي واملدين ـ سبق ذكرها ـ ترقى
ألن تصبح فروقاً قاصمة برأسها.
سعى املستشرقون إىل توظيفها ،إلثبات مقررات سابقة ،واعتمد أكثرهم
املنهج الذايت ،وهو يقوم على استحضار املستشرق النتماءاته سواء أكانت
دينية ،أم علمية أم تارخيية ،عند دراستهم ملباحث العلوم اإلسالمية ،حبيث جاء
نتاجهم وبدرجات متفاوتة ،مستجيباً لثقافاهتم ،ال ملا تفرضه الدراسة العلمية
للمصادر اإلسالمية من نظريات ورؤى (.)1
حيسن بنا وحنن نعرض لشبهات املستشرقني ،حول املكي واملدين ،أن
نضع هذه الفروق واخلصاص يف نصاهبا احلقيقي ،من خالل دراستها وتقوميها
بغية بيان ما هلا من آثار ومثار ،رغبةً يف احليلولة دون تضخيمها ،واستثمارها من
قبل املستشرقني عسى أن نأيت هبذا املسلك على نظرياهتم وافرتاضاهتم ،وهو ما
ميلي علينا الدمج بني هذه الفروق يف أثناء عرض ونقض شبه املستشرقني ،ولعل
هذا أوىل من الفصل بينها.
بيد أين أبيح لنفسي ،أن أسجل هنا ملحوظة عامة ،بغية استحضارها يف
أثناء دراستنا هذه ،وهي أن الفروق اليت ذكرت بني املكي واملدين ،مل تسلم من
جناية املبالغة فيها ،حىت من قبل أهل االختصاص كما سيأيت بيانه.
وال يتسم منها فرق بالكلية بل باألغلبية النسبية ،حىت ذاك الفرق الذي
ردده كل من كتب يف هذا املوضوع وهو كلمة (كالّ) ،فقد أطبقوا أهنا مل ترد يف
11
سورة مدنية قط ،بوصفها كلمة ردع وزجر ،وهو أسلوب خلت منه السور
املدنية.
ويف هذا يقول السيوطي يف اإلتقان نقالً عن الديريين:
وما نزلت كالّ بيثرب فاعلمن ومل تأت يف القرآن يف نصفه األعلى
قال(( :وحكمة ذلك أن نصفه األخري ،نزل أكثره مبكة ،وأكثرها جبابرة
فتكررت فيه على وجه التهديد والتعنيف هلم ،واإلنكار عليهم ،خبالف النصف
األول منه .وما نزل منه يف اليهود مل حيتج إىل إيرادها فيه لذلتهم وضعفهم))(،)1
وعلى الرغم من متابعة كل من جاء بعد السيوطي( )٤له فيما ذهب إليه إالَّ أنه
ال يسلم هلم على إطالقه.
سيمر بنا يف صفحة تالية أن سورة التكاثر مدنية على الراجح ،ويشهد
هلذا أدلة ذات شأن ،وقد وردت فيها (كال) مرتني ،وهبذا تنخرم هذه اخلصيصة
وتصبح أغلبية كغريها من اخلصاص .
بين تأثير القرآن وتأثره:
أما األمر اآلخر الذي أود أن أسجله هنا هو ما حدث من خلط
املستشرقني بني أمرين الفرق بينهما واضح ،معتمدين على املنهج الذايت يف تفسري
الظواهر ،ومستحضرين املنهج العفوي التلقاصي بغية التدليس على القارئ.
هذان األمران أوهلما حق ظاهر ،وهو تأثري القرآن الكرمي يف البيئة اليت نزل
فيها ،وثانيهما باطل ،وهو تأثر القرآن هبذه البيئة وإفادته منها ،وظهور آثار هذا
يف مضامينه وأسلوبه.
12
وحيسن بنا أن نعرض هلذين األمرين بشيء من اإلجياز جتنباً للتكرير،
وسوف يأيت مزيد تفصيل وبيان يف ثنايا هذه الدراسة.
األول :تأثير القرآن في البيئة.
كان القرآن الكرمي يعىن إبان نزوله بقضايا الناس ،يف العهدين املكي واملدين،
فقد أنزل اهلل تعاىل القرآن الكرمي ليخرج الناس من الظلمات إىل النور ،قال تعاىل
َ
َٰ َ ٓ َ َ َ َ ُ َ َ ُ َ َّ َ َ ُّ ُ
ت إِل خماطباً رسوله :الر كِتَٰب أنزلنَٰه إَِل ۡلِ خ ِرج ٱنلاس مِن ٱلظلم ِ
د [ ١إبراهيم.]1 : ص َر َٰ ِط ٱل َعزيز ٱ َ
ۡل ِمي ِ ِ ٱنلُّور بِإِذ ِن َرب ِهم إ ِ َ َٰ
ل
ِ ِ ِ ِ
ملا كان األمر كذلك ،فقد تضمن القرآن الكرمي وصفاً دقيقاً ملا كان عليه
أهل مكة من جهالة يف أمورهم الدينية ،واالجتماعية ،واألخالقية ،فعرض هلا
وشنَّع على أهلها بسببها ،مث قدَّم هلم البديل ،ودعاهم إىل سواء السبيل.
سلك القرآن الكرمي يف تقيق هذه األغراض وساصل متعددة ،سواءً يف
أسلوب العرض ،أو يف طبيعة املضمون ،وكان الوحي قريباً من الناس ،رقيباً
عليهم ،جاهزاً لدفع شبه تطرح ،أو اإلجابة عن سؤال يرد ،ولقد وعد اهلل تعاىل
ۡلق َوأَح َس َن َتفسِرياً جئ َنَٰ َ بٱ َ َ َ َ ُ َ َ َ َ َّ
ِ ِ رسوله هبذا :وّل يأتون بِمثل إِّل ِ
[الفرقان.]33 : ٣٣
فكان هذا املنهج ميد الرسول صلى اهلل عليه وسلم بالقوة ،وهو يواجه
خصوم الدعوة ،ويبعث يف نفسه الثقة املطلقة مبا هو عليه ،ويدعو إليه.
وكان هلذا املنهج كذلك أثره البالغ يف نفوس الناس آنذاك ،إذ كان املؤمن
يشعر أنه يف كنف اهلل الداصم ،وأن رعاية اهلل تعاىل توطه من كل جانب ،كما
كان يشعر الكافر واملنافق أنه تت النظر ،وأن اهلل له باملرصاد يقول اهلل تعاىل
13
َ َ ُ ُ َ ُ َ َ ُ َ َّ َ َ َ
يف وصف بعض أحوال املنافقنيَ :يذر ٱلمنَٰفِقون أن تَنل علي ِهم
َ َ َ َ ُ ٓ َّ َّ َ ُ ُ ُُ ُ َ َُ
ّلل ُم ِرج َّما َتذ ُرون ورة تنب ِ ُئ ُهم ب ِ َما ِف قلوب ِ ِهم ق ِل ٱسته ِزءوا إِن ٱس
[ ٦٤التوبة.]٥٧ :
ونزل مثل هذا يف شأن اليهود ،حني تومهوا أهنم خدعوا رسول اهلل صلى
ب ٱ ََّّلِينَ
اهلل عليه وسلم بإجابتهم له ،فقال اهلل تعاىل فيهمَّ :ل ََت َس َ َّ
ون أَن َُي َم ُدوا ب َما لَم َيف َعلُوا فَ َل ََت َسبَ َّنهمُ
َ َ ُ َ َ ٓ َ َ َّ ُ ُّ َ
حبيفرحون بِما أتوا وي ِ
ِ
َ َُ َ َ َ ََ َ َ َ َ
اب ولهم عذاب أ َِلم [ ١٨٨آل عمران.]188 : بِمفازة مِن ٱلعذ ِ
سجل
لقد كان القرآن الكرمي مرآة ناصعة البياض لعصره ،تامة الصفاء ،حني َّ
اعوجاجا يف
ً وقوم
األحداث ،ورصد تصرفات الناس ،وقدم حلوالً وصحح مفاهيمَّ ،
مناحي احلياة كلها ،ودونك اآليات القرآنية ،مكيها ومدنيها فهي شاهدة بدالالهتا
وهداياهتا ،وما صاحبها من أسباب نزول ،على كل ما عرضنا له.
جاء الواقع شاهداً آخر حني استجاب الناس لرب العاملني ،وتفاعلوا مع
كتابه املبني ،واتبعوا رسوله األمني.
األمر الثاني :تأثر القرآن بأحداث العصر ،وبثقافة أهله
وافادته من هذا كله ،مما يعين أنه كان متأثراً بالبيئة ،ال مؤثراً فيها ،وهو ما
تومهه املستشرقون _ عامة املستشرقني _ وزعموه ،أمثال :نولدكه ،وجولدتسيهر، َّ
وبالشري ،والمنز ،وكازانوفا.
هذه املقولة اليت ساقها هؤالء تؤكد جبالء أن أهل مكة حني كفرهم كانوا
يدعون العلم واملوضوعية.أكثر احرتاماً ألنفسهم ،من هؤالء الذين َّ
مل نسمع أن أحداً من كفار مكة قال هذه املقولة ،مع أهنم كانوا يف
بداية أمرهم ،يقولون ما يقوله اليوم املستشرقون بأن القرآن الكرمي ليس وحياً.
14
إن كفار مكة مل يروا يف القرآن اضطراباً يف األسلوب ،وال تناقضاً يف
املضمون ،وقد كانوا يشعرون أن القرآن قادم إليهم بقوة وثبات ،ليغري واقعاً بكل
ما فيه ،وينشئ واقعاً جديداً ،وهم ال حول هلم وال قوة.
يتعذر على منصف ،أن يضع األمور يف نصاهبا ،وأن مييز بني ما هو ليس َّ
تفسري مقنع لألحداث ،وبني ما هو تفسري متعسف هلا بغية الرتويج ملقررات
سابقة ،أو التشكيك يف الثوابت.
حيار املرء يف تصور طروحات املستشرقني ،وهو يرى القرآن الكرمي خيوض
معارك ضارية مع كفار قريش ،على اجلهات كلها العقدية ،واالجتماعية،
واالقتصادية ،حىت مل يبق صاحب نفوذ ،أو مصلحة إالَّ ناله من القرآن الكرمي
جراء معتقد فاسد ،أو مسلك مشني أو تصور منحرف. ما نالهَّ ،
وتكررت املشاهد يف املدينة ،فما إن استقر الرسول صلى اهلل عليه وسلم
فيها ،حىت خاض معركة حامية الوطيس مع اليهود ،وقد كانوا أصحاب نفوذ
وتأثري.
نزل القرآن الكرمي يف املدينة أول ما نزل يشنع على اليهود ،ويكشف
احنرافاهتم ،ويدعو إىل خمالفتهم مبا سيأيت مزيد بيان له ،فكيف يسوغ مع هذا
القول بأن القرآن الكرمي تأثر هبذه البيئات؟!
عول املستشرقون كثرياً على الفروق بني املكي واملدين ،حىت قالوا إهنا تدل َّ
على وجود قرآن مكي ،وآخر مدين تنقطع الصلة بينهما ،من حيث األسلوب
واملضمون ،وهو ما رّوج له بالشري يف كتابه ((املدخل إىل القرآن))( ،)1وهو ما
يعين عندهم تأثر القرآن الكرمي بالبيئتني املكية واملدنية ،وما بينهما من تفاوت
( )1نبوة حممد يف الفكر االستشراقي املعاصر ،ص ،31٧خلضر شايب ،االستشراق واخللفية الفكرية ،د .حممد
محدي زقزوق ،ص.9٧
15
ظاهر ( ،)1األمر الذي يدل بزعمهم على بشرية القرآن ،وهي الفرية اليت ما فتئ
املستشرقون حوهلا يدندنون.
األسلوب خصائص وشبه:
يرى املستشرقون أن البيئة املكية كانت بيئة أمية ،مغلقة ،فناسب أن تأيت
السور قصرية ،وكذا اآليات ،يف حني أن املدينة كانت متحضرة بسبب وجود
اليهود فناسب أن تأيت السور املدنية طويلة وكذا آياهتا (.)٤
هذا الطرح حمل نظر من حيث الدليل واملدلول ،أما الدليل فإنه ال يسلَّم
هلم على إطالقه ،فإنا ال ننكر وجود سور مكية قصرية ،مثل قريش ،والفيل،
والكافرون ،واملسد ،والعصر ،كما نقر بوجود سور مدنية طويلة ،وكذا آياهتا مثل
البقرة ،وآل عمران ،والنساء ،واملاصدة ،واألنفال.
لكنا نثبت يف مقابل هذا أن مثة سوراً قصرية ،وآياهتا كذلك قصرية ،وهي
مدنية :إما باتفاق كالزلزلة والنصر ،وإما أهنا مدنية على التحقيق _ كما بدا يل
_ مثل سورة الكوثر وهي أقصر سورة يف القرآن ،فالراجح أهنا مدنية( ،)3ويشهد
هلذا ما ورد يف ((صحيح مسلم)) عن أنس بن مالك قال(( :بـيـنا رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم ذات يوم بني أظهرنا ،إذ أغفى إغفاءة ،مث رفع رأسه متبسماً،
علي آنفاً سورة فقرأ :بسم اهلل
فقلنا :ما أضحكك يا رسول اهلل؟ قال :أنزلت َّ
الرمحن الرحيم إنا أعطيناك الكوثر )٧( ))...وأنس مدين ،أسلم بعد اهلجرة،
16
والن صريح وال يدفع بالقول :إهنا نزلت مرتني ،فهي حجة ضعيفة ،وخباصة
أن سياق احلديث يأباها.
ومثلها سورة العاديات ،فقد ورد عن أنس بن مالك ،وابن عباس وقتادة
أهنا مدنية ،وقال احملقق ابن عاشور :وهو الراجح ،استناداً إىل حديث ورد
بسبب نزوهلا(.)1
وكذا املعوذتان ،فاملختار عند أهل التحقيق ،أهنما مدنيتان ،ألهنما نزلتا
يف قصة سحر لبيد بن األعصم اليهودي (.)٤
ومثل هذا كذلك سورة التكاثر ،فإنه وإن كان املشهور أهنا مكية
كسابقاهتا ،إال أن املختار أهنا مدنية ،ملا يف ((صحيح البخاري)) عن أيب بن
كعب ـ املدين األنصاري ـ قال :كنا نرى هذا من القرآن حىت نزلت
ُ َ َ َٰ ُ ُ َّ َ ُ
ألهىكم ٱۡلَكثر ١يعين(( :لو أن البن آدم وادياً من ذهب)) ،
()3
َّ
وساق السيوطي أدلة أخرى تؤكد أهنا مدنية(.)٧
لست يف هذا املقام بصدد تقيق القول يف هذه املسألة ،فإهنا تستحق
طويل حبث ،ومزيد تأمل ،ولكن حسيب إضاءات ترشد إىل أن سوراً عدة اشتهر
أهنا مكية ،وتبني بعد التأمل والبحث أهنا مدنية ،وكثري من املكي مما مل نذكره
اختلف فيه اختالفاً معترباً (.)٦
17
أما الشق اآلخر ،املتعلق بطول السور املدنية ،فإنه يزامحه جبدارة ،وجود سور
مكية طويلة ،مثل :األنعام ،واألعراف ،ويونس ،واإلسراء ،وغريها كثري.
ولست أنكر أن ظاهرة اآليات القصرية ،غلبت على السور املكية مثل:
احلاقة ،والفجر ،والنازعات ،ولكن هذا ال يعكر علينا صفو قولنا :إن هناك
آيات قصرية مدنية ،كتلك اليت وردت يف السور اليت تقدم ذكرها ،ومثل سورة
املطففني ،واليت تـع رد على التحقيق مدنية.
كما أن وصف القصر ال يصح أن يالزم اآليات املكية ،فهناك سور
مكية باتفاق آياهتا طويلة مثل :يوسف ،واإلسراء ،والكهف ،وغريها كثري.
إذا كان هذا يف شأن الدليل ،الذي مل يسلم ألصحابه على اهليئة اليت
يريدوهنا ،فإن املدلول كذلك ،إذ ال خيفى على منصف أن القصر والطول يف
اآليات والسور ،منوط باملوضوعات اليت تعرضها.
إن احلديث عن اجلنة والنار ،والزجر عن الشرك يناسبه قصر اآليات،
والقصر النسيب للسور ،يف حني أن احلديث عن التشريعات والغزوات وحماجة
أهل الكتاب ،يناسبه الطول يف اآليات والسور ،وهي مسألة أوضح من أن
يستدل هلا عند من ضبط نفسه مبنهجية علمية.
وكان مما قاله املستشرقون :إن السور املكية فيها عنف ،وشدة وسباب،
وتقريع ألهل مكة ،وهذا يدل على تأثر النيب صلى اهلل عليه وسلم بالبيئة املكية،
وتكيَّف حديثه مع ما ميتاز به أهل مكة من غلظة وجهل وعناد (.)1
يرى املستشرقون أن هذا األسلوب ،اختفى من السور املدنية ،ألهنا نزلت
يف بيئة متحضرة ،بسبب وجود اليهود يف املدينة ،فاختفت الشدة والسباب،
( )1كتاب القرآن ،81 ،املستشرق بالشري ،مناهل العرفان ،ج 1ص ،٤1٤املدخل لدراسة القرآن الكرمي ،ص
.٤3٥
18
وحل حملَّها اهلدوء واملهادنة ،وصار اخلطاب للعقل باألدلة والرباهني ،بدالً من
العاطفة واخلطابة (.)1
سعى املستشرقون إىل تضخيم هذه اخلصاص ،وإىل توظيفها بطريقة سيئة
بتفسريها يف ضوء املنهج الذايت الذي سيطر على دراستهم ،فجاء كالمهم
متضمناً عدداً من املغالطات نعرض هلا بإجياز ونبني هتافتها.
فقد ذكروا أن السور املكية تضمنت سباباً ،وشدة وتقريعاً ،ليس خيفى أن
أسلوب القرآن املكي كان يتسم بالقوة والتقريع ،ألجل أن يكون املقال مناسباً
للمقام ،وهذا عني البالغة ،فاملخاطبون جاحدون ،معاندون ،مع علم كثري منهم
بصدق النيب ،فكان البد من هذا األسلوب الرتبوي.
لقد وصف كفار قريش ـ كفراً وجهالً ـ النيب صلى اهلل عليه وسلم بأنه
كذاب أشر ،وساحر وجمنون وشاعر ،فكان البد واحلالة هذه من تقريعهم
وختويفهم ،وهذا يتحقق باآليات القصرية ،ذات الفاصلة الواحدة ،يتمثل فيها
اإلعجاز باإلجياز ،فتهتز مشاعرهم وجتربهم على مراجعة أنفسهم ،وهو ما شهد
له الواقع.
جند هذا يف كثري من السور املكية منها على سبيل املثال
سورة القمر ،ففيها تتمثل هذه األجواء يقول اهلل تعاىل :
ُ ُ ُ ٗ َ َ َّ َ ُ ٱق َ َ
اعة َوٱنش َّق ٱلق َم ُر ِ ١إَون يَ َروا َءايَة ُيع ِرضوا َو َيقولوا ت ٱلس َت َب ِ
َََ َ َ َّ ُ َ َّ َ ُ َ ٓ ُ َ ُ ُّ َ
سِحر ُّمستَ ِمر ٢وكذبوا وٱتبع ٓوا أه َوا َءهم وك أمر مستقِر ٣ولقد
َ ُّ
َجا ٓ َء ُهم م َِن ٱَلَ َ
ۢنبآءِ َما فِيهِ ُمز َد َ
جر ٤حِك َمُۢة َبَٰل َِغة َف َما ُتغن ٱنلُّ ُذرُ
ِ
( )1مكي القرآن ومدنيه ،ص ،311حممد اهلادي كريدان ،نبوة حممد يف الفكر االستشراقي ،ص .3٥9
19
ُ َّ ً َ َ َٰ ُ ُ ُّ ُ َ َ
ع ٱ َّدل ِ َ َ َ َّ َ ُ َ َ َ ُ
اع إ ِ َٰل َشء نكر ٦خشعا أبصرهم ٥فتول عنهم يوم يد
َ َ َ َ
َ َّ ون م َِن ٱَلَج َ
َ ُ ُ َ
ي إِل ٱ َّدل ِ
اع اث كأن ُهم َج َراد ُّمنت ِش ُّ ٧مه ِط ِع ِ د َيرج
َ َ َ َ ُ ُ
َيقول ٱلكَٰفِ ُرون هَٰذا يَوم َع ِس [ ٨القمر ] 8 - 1 :فإن الرتبية تكون
بالشدة أحياناً ،ولكن هذه اآليات ختلو كليةً من السباب.
بيد أن السور املكية ،مل تقتصر على هذا األسلوب فقط ،فقد كان فيها
كالم لني ودعوة إىل الصفح ،وهبذا يتساوى طرفا الرتبية بالرتهيب والرتغيب،
وبالوعد والوعيد.
َ ُ َ َ َ
ۡل َس َنة َوّل إننا نقرأ يف السور املكية قوله تعاىلَ :وّل تس َتوِي ٱ
ه أَح َس ُن فَإ َذا ٱ ََّّلِي بَي َن َ َو َبي َن ُهۥ َع َد َٰ َوة َك َأنَّهۥُ َ ِ ت
َّ َّ َ ُ َ
ِ ٱلسيِئة ٱدفع ب ِٱ ِ
ل
ل ََحِيم [٣٤فصلت ،] 3٧ :وقوله تعاىلَ :و َما َخلَق َنا ٱ َّ َ َ َو ي
ت لسمَٰو َٰ ِ ِ
اع َة ٓأَلت َِية فَٱص َفحِ ٱ َّ لس َ َّ َّ ٓ َ َ
لصف َح ِإَون ٱ َّ ۡرض َو َما بَي َن ُه َما إِّل بٱ َ
ۡل ِق َوٱَل
ِ
َ ُ َ َ َ َ َ
ۡل ِميل [ ٨٥احلجر ،] 8٦ :وقوله تعاىل :فٱصفح عن ُهم َوقل َسلَٰم ٱ
ُ َ َ َ َ
ف َسوف َيعل ُمون [ ٨٩الزخرف ،]89 :وقوله تعاىل :خ ِذ ٱل َعف َو َوأ ُمر
َ َ َ ََ
ب ِٱل ُعر ِف وأع ِرض ع ِن ٱلج ِهل ِي ١٩٩ا [األعراف ،] 199 :ومثل هذا كثري.
َٰ
إن مما يدل على ختبرط املستشرقني ،أن بعض من روج هلذه الفريةَّ ،روج َّ
يف موطن آخر لفرية أخرى ،مناقضة هلا ،حني زعم (بروكلمان)( )1أن الرسول
صلى اهلل عليه وسلم ،كان يف بداية أمره مهادناً ألهل مكة وجمامالً هلم،
وحريصاً على إرضاصهم ،واستدل على ما ذهب إليه بقصة الغرانيق املكذوبة.
21
وترتب على زعم املستشرقني املتقدم أن القرآن عبارة عن خطاب عاطفي،
وسباب ،قوهلم :إنه خيلو من الرباهني العقلية ،وأرجعوا ذلك إىل مستوى أهل مكة
املتدين.
المضمون خصائص وشبه:
إن املتأمل يف آيات السور املكية ـ وهو يستحضر هذا القول ـ ليجزم قطعاً
أنه أمام فئة على احلقاصق متحاملة ،فإن القرآن يف سوره املكية ،زاخر باآليات
اليت ختاطب العقل ،وتتضمن الرباهني العقلية الدامغة ،وحسبنا هذه اآليات فإهنا
َ َ َ َ
ّلل مِن َودل َو َما َكن َم َع ُهۥ مِن إِلَٰه ناطقة هبذا ،يقول تعاىلَ :ما ٱ ََّّتَ َذ ٱ َّ ُ
ُ َ َٰ َ َّ َ َٰ ٗ َّ َ َ َ ُ ُّ َ َ َ َ َ َ َ َ َ َ ُ ُ َ َ
إِذا َّلهب ك إِلَٰه بِما خلق ولعل بعضهم َع بعض سبحن ٱّللِ
َ َ ُ ُ َ َّ َ ُ َ
ري
عما ي ِصفون [ ٩١املؤمنون ،] 91 :ويقول تعاىل :أم خل ِقوا مِن غ ِ
ون [ ٣٥الطور ،] 3٦ :وبقوله تعاىلَ :و َما ُك َ َ ُ ُ َ َٰ ُ َ َ
نت َشء أم هم ٱلخل ِق
ابَتتلُوا مِن َقبلِهِۦ مِن ك َِتَٰب َو َّل ََّتُ ُّط ُهۥ بيَ ِمين ِ َ إ ٗذا َّّلرتَ َ
ِ ِ
ُ َ
ٱل ُمب ِطلون [ ٤٨العنكبوت .]٧8 :وال أدل على هذا من أهنا تركت آثاراً إجيابية
ووجدت آذاناً صاغية فبادر العقالء إىل اإلسالم.
يف القرآن الكرمي تسع عشرة سورة مكية ،افتتحت بالقسم باألشياء
احملسوسة واملنظورة ألهل قريش ،وهي دعوة صرحية مفتوحة للتفكر ،يف هذه
األشياء املقسم هبا ،بغية أن تربط باملقسم عليه ،فقد أقسم بالشمس ،والقمر،
والليل ،والنهار ،والضحى ،والنجوم ،على أمور الوحدانية والنبوة واليوم اآلخر.
21
إهنا مظاهر بارزة ،تبدو فيها الدعوة إىل التفكر والتأمل جلية ،بغية ربط
احملسوس ،بغري احملسوس ،وإعمال العقل للوصول إىل اإلميان املنشود ،وهو ما
كان ،وشهد له واقع الصحب الكرام.
ما كان للسور املدنية أن ختلو من هذه السمات اليت رأيناها يف السور
املكية ،إذا دعت احلاجة إليها ،ففي السور املدنية ،تشنيع على اليهود ،الذين
ضلوا عن علم ،وأضلوا غريهم ،ومل ينتفعوا مبا آتاهم اهلل تعاىل فاستحقوا قول اهلل
وها َك َم َثل ٱۡل َ َّ َ َٰ َ ُ َّ َ َ ُ َ َ َ ُ َّ َ ُ ُ
ِ ار ِم ِ ل م
ِ َي م ل مث ة ى ر و ۡل ٱ وا فيهم :مثل ٱَّلِين َحِل
َّ َ َّ ُ َ
َٰ َ ُ َّ َ َ َّ
ِ َ ََُ َ َ َ ُ َ َ
ّلل ّل ت ٱّللِ وٱ ِ ي أَِب وا بذ ك ِين َّل ٱ م و ق ل ٱ ل ثم س ئ ِ ب ا ار ف َي ِمل أس
َ َ َّ
لظَٰلِم َ
ي [ ٥اجلمعة ،] ٦ :وحذر منهم فقال تعاىل : ِ َيهدِي ٱلقوم ٱ
ود َوٱ ََّّل َ َُ َ اس َع َد َٰ َو ٗة ل ََِّّل َ َ َ َّ َ َ
ِين ِين َء َام ُنوا ٱَله ج َدن أش َّد ٱنلَّ ِ ۞ۡل ِ
َ َُ
أۡشكوا[املاصدة.]8٤ :
َ َ
وقال اهلل عز وجل يف وصف املنافقني إخوان اليهودِ۞ :إَوذا َرأي َت ُهم
ام ُهم ِإَون َي ُقولُوا تَس َمع ل َِقولِهم َك َأ َّن ُهم ُخ ُشب ُّم َس َّندةَ ُتعج ُب َ أَج َس ُ
ِ ِ
َّ ُ ََّ
حة َعلَي ِهم ُه ُم ٱل َع ُد ُّو فَٱح َذر ُهم َق َٰ َتلَ ُه ُم ٱّلل أ َٰ
ّن ك َصي َ َ َ ُ َ ُ َّ
َيسبون
َ ُ َ
يُؤفكون [ ٤املنافقون ،] ٧ :وغري هذا كثري حبق الطواصف اليت كانت تناكف
اجلماعة املسلمة يف املدينة ،فأين املهادنة واملالينة اليت زعمها املستشرقون ،واليت
فرضتها البيئة املتحضرة على الرسول يف املدينة؟
22
لسنا نعين خلو السور املدنية من اللني واحلوار اهلادئ ،بيد أنا نورد هذا
بإزاء القول :إن القرآن املدين تأثر بالبيئة املتحضرة ،وكان جيامل اليهود
ويهادهنم ،على عكس موقف الرسول من أهل مكة.
لقد استمر أسلوب الرتهيب والرتغيب يف السور املدنية ،فإن احلاجة
تدعو إليه يف مواقف كثرية ،فالزجر والتهديد والوعيد صاحب كثرياً من
التشريعات؛ ألن من منهج القرآن الكرمي املزاوجة بني مسألتني ،توهم كثريون أنه
فرق بينهما ،ومها اجلمع بني التشريعات ،ومساصل العقيدة ،وكذا العكس ،فكان
يأيت التشريع يف سياق عقدي إمياين ،وتأيت مساصل العقيدة يف بعض مظاهر
التشريعات ،وحسبنا دليل واحد وهو قوله تعاىل يف سورة مدنية على الراجح،
ُ َّ َ َ
ِين إِذا ٱك َتالوا ي ١ٱَّلوهي سورة املطففني حني قالَ :ويل ل ِل ُم َطفف َ
ِِ
ََ َ َ ُ ُ َ َّ َ ُ ُ ُ ُ َ َ َ ُ َ َّ ََ
اس يستوفون ِ ٢إَوذا َكلوهم أو وزنوهم َي ِسون ٣أّل َع ٱنل ِ
َ َ
َ ُ ُّ ُ َ َٰٓ َ َّ ُ َّ ُ ُ َ
َ
يظن أولئ ِ أنهم مبعوثون َِ ٤لوم ع ِظيم [٥املطففني.]٦ – 1 :
كان من متطلبات املرحلة املدنية ،جميء التشريعات اليت تنظم شؤون
اجملتمع والدولة ،بعد أن صار للمسلمني جمتمعهم ودولتهم ،وهو ما مل يكن يف
املرحلة املكية.
جعل العلماء وجود التشريعات يف جماالهتا املتعددة عالمةً على أن السور
اليت وردت فيها مدنية ،والسور اليت ختلو من التشريعات مكية .لقد كانت
اجلماعة املسلمة يف مكة حباجة إىل توجيه خمصوص ،مث ملا استقرت هذه
اجلماعة يف املدينة ،تنوعت احتياجاهتا ،ويصف سيد قطب متطلبات هاتني
املرحلتني ،بقوله(( :لقد عاشت الدعوة اإلسالمية ـ أوالً ـ املرحلة املكية حيث القلة
23
والضعف ،والشدة ،واإليذاء ،والكيد ..مع األمر باهلجر اجلميل والصفح ،وكف
األيدي ..والصدع باحلق.
مث عاشت الدعوة املرحلة املدنية ..فكان األمر بالقتال ،وكان النصر،
وكانت اهلزمية ،وكان الكيد الداخلي اخلفي املتمثل يف النفاق ،وكان الكيد
اخلارجي اجللي املتمثل يف تأليب اليهود وحماوالت املشركني يف القضاء على
املسلمني .وكانت صور من البناء النفسي الراصع يف نفوس الصحابة ،إىل جانب
نفوس يغلب عليها الضعف مرة ،واهلوى مرة ،وتقعد هبا رغاصب األرض،
وتشدها إليها مرة أخرى.
والقرآن الكرمي ينزل يف مكة ينافح عن تلك اجلماعة الناشئة ،فيزيح من
طريقها العقبات واألشواك والشكوك ...وميدها بأسباب اإلميان واالعتقاد ،حىت
دارت اآليات املكية ـ عموماً ـ حول إنشاء العقيدة ..يف اهلل ،ويف الوحي ،ويف
اليوم اآلخر ،وحول إنشاء التصور املنبثق من هذه العقيدة هلذا الوجود ،وعالقته
خبالقه..
ونزل القرآن الكرمي يف املدينة يعاجل تطبيق تلك العقيدة ،وذاك التصور يف
احلياة الواقعية ،ومحل النفوس على االضطالع بأمانة العقيدة والشريعة يف معرتك
احلياة))(.)1
تلقَّف املستشرقون أمثال :جولد تسيهر ،وفلهلهم رودلف ،هذا بشغف،
ليكون دليالً هلم على زعم استقر يف أذهاهنم ،وهو تأثر الرسول صلى اهلل عليه
وسلم باليهود يف املدينة ،وإفادته من تلك البيئة مبا فيها من أحكام وتشريعات
24
كانت بني يدي اليهود ،وهو ما كان يفتقده يف مكة اليت كان أهلها جهلة
أميني (.)1
إن ادعاءً كهذا ال يقوى على الصمود أمام حقاصق دامغة ،يعرفها
املستشرقون ،لكنه التجاهل ،قصد التحامل باستخدام املنهج اإلسقاطي.
ال ننكر أن املرحلة املكية كان هلا طابعها املميز ،فقد كان أهلها كفاراً ،ال
يؤمنون باليوم اآلخر ،ويشركون مع اهلل آهلة أخرى ،ويكذبون رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم ،فكانت احلاجة ـ واحلالة هذه ـ تدعو إىل مواجهة هذه العقاصد
بادئ األمر بأساليب شىت وهو ما كان فعالً.
ال يعقل حبال من األحوال أن تنزل التشريعات يف بيئة هذه أوصافها ،وقد
عربت عن هذا عاصشة رضي اهلل عنها بقوهلا(( :لو نزل أول شيء ال تشربوا
اخلمر لقالوا :ال ندع اخلمر أبداً ،ولو نزل :ال تزنوا ،لقالوا :ال ندع الزىن أبداً،
ُ َّ َ ُ
اعة َموع ُِدهم لقد نزل مبكة على حممد صلى اهلل عليه وسلم :بَ ِل ٱلس
َ َّ َ ُ َ َ َ
ه َوأ َم ُّر [٤٦القمر ،] ٧٥ :وما نزلت سورة البقرة والنساء إالَّ وأنا
وٱلساعة أد َٰ
عنده)) ( ،)٤إنه كالم غاية يف الدقة ،والعمق والوضوح؛ ذلك أن املال عزيز على
النفس ،واجلهاد مكروه لديها ،ويف اخلمر لذة ومنافع ،ويف النفس ميول للهروب
من الضبط واملسؤولية فكان البد أن تتقدم التخلية على التحلية ،والتأسيس
على البناء وهو ما كان.
لقد اجتهت جهود النيب صلى اهلل عليه وسلم يف مكة إىل وضع القواعد
واألسس ،متهيداً ملرحلة قادمة ينشأ فيها جمتمع ،وتقام فيها دولة ،ومتلك فيها
أرض ،ويكون فيها سيادة ،وهي مظاهر ومعامل ،افتقدها املسلمون يف مكة.
( )1انظر العقيدة والشريعة يف اإلسالم ،ص ،1٤صلة القرآن باليهودية والنصرانية ،ص .9٥
( )٤رواه البخاري ،يف كتاب فضاصل القرآن ،باب تأليف القرآن ،برقم .٧993
25
بيد أن هذا ال يعين أن السور املكية خلت مما له صلة باألحكام
والتشريعات ،إن هذا مل يكن حبال بل إن املتأمل يف هذه السور جيد أصوالً كثرية
لألحكام اليت فصلت يف السور املدنية.
لقد وضعت السور املكية أصل تشريع الزكاة يف آيات كثرية ،منها ما كان
يتحدث عن اإلنفاق العام ،ومنها ما ن على الزكاة خباصة ،كقولـه تعاىل يف
ُ ُ ُ َ َٰٓ َ َّ َ َّ َ ٓ ُ َّ َ ٓ َ َ َ َ
سورة فصلت املكية :قل إِنما أنا بش مِثلكم يوح إِل أنما
ِي ٦ يم ٓوا إ ََلهِ َوٱس َتغف ُروهُ َو َويل ل ِل ُمشك َ
كم إ َلَٰه َوَٰحِد فَٱس َتقِ ُ
َ َٰ ُ ُ
إِله
ِ ِ ِ ِ
َ َٰ ُ َ َِ ُ َّ َ َ ُ ُ َ َّ َ َٰ َ َ ُ
ٱَّلِين ّل يؤتون ٱلزكوة وهم ب ِٱٓأۡلخِرة هم كفِرون [٧فصلت،] ٤ - ٥ :
( )1روي عن ابن عباس وعطاء وابن يسار ومقاتل أهنم استثنوا اآلية األخرية من السورة وقالوا :إهنا نزلت
باملدينة ،انظر :البيان يف ع ّد آي القرآن ( ،)٤٦٤وزاد املسري (.)38٤/8
26
ُ َّ َ َٰ َ َ َ ُ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ ُ ُ ُ َ
ۡضبون ِف ان عل ِم أن سيكون مِنكم مرض وءاخرون ي ِ ٱلقرء ِ
َّ ون ف َ َّ َ َ َ ُ َ ُ َ َٰ ُ َ َ َ َُ َ َ
يل ٱّللِ ِ ِ ب س ِ ل ِ ت ق ي ون ر اخ ء و ِ ّللٱ ل
ِ ض ف ِن م ون غ تب ي ۡرضِ ٱَل
لصلَ َٰوةَ َو َءاتُوا ٱ َّلز َك َٰوةَ َوأَقر ُضوا ٱ َّّللَِيموا ٱ َّس مِن ُه َوأَق ُ فَٱق َر ُءوا َما تَيَ َّ َ
ِ
ِند ٱ َّّللِ ُهوَ ِكم مِن َخري ََت ُدوهُ ع َ ُ َ ُ َُ َ ً
ِ قرضا َح َس ٗنا َو َما تقد ُِموا َِلنفس
َّ َّ َ َّ َّ َ َ ُ َ َ ٗ َ ٗ ََ َ َ َ
ُ
خريا وأعظم أجرا وٱستغفِروا ٱّلل إِن ٱّلل غفور رحِيم [ ٢٠املزمل:
ُ
.]٤1
يطول بنا احلديث لو طفقنا نتتبع مثل هذا يف السور املكية فهو جد
كبري.
ال يفوتنا هنا أن ننبه أن هذه اإلشارة إىل اجلهاد ال تعين ما زعمه
املستشرقون من أن السور املكية تضمنت شدة وقسوة ،فإن الطابع العام للسور
املكية يف هذا املقام هو ((خل روها خلواً تاماً من تشريع القتال واجلهاد واملخاشنة،
كما خلت أيامه كلها يف مكة على طوهلا من مقاتلة القوم مبثل ما يأتون من
التنكيل واملصاولة))(.)1
إن قول املستشرقني أمثال تسدال ،وماسيه ،ونولدكه ،والمنز ( :)٤إن النيب
صلى اهلل عليه وسلم أفاد من اليهود يف األحكام والتشريعات ،قول خلف ،ال
خطام له وال زمام ،تررده أدلة وبراهني ال ختفى على منصف ،ولن يغره اتفاق
القرآن مع التوراة يف أصل بعض األخبار ،كقصة آدم ،وإبراهيم ،فإن مصدرمها
واحد وهو اهلل.
27
لقد بدأ التشريع يف املدينة فور وصول النيب صلى اهلل عليه وسلم إليها،
فإن سورة البقرة كانت أول السور نزوالً يف املدينة وهي حافلة باألحكام
والتشريعات ،حىت قال ابن العريب نقالً عن بعض شيوخه(( :إن يف سورة البقرة
ألف أمر ،وألف حكم ،وألف هني))( )1فهل يعقل أن يكون الرسول صلى اهلل
عليه وسلم قد تأثر هبذه السرعة مع البيئة ومن فيها ،وأفاد من اليهود هبذه
السرعة القياسية؟
ذلك أن تفاعل اإلنسان مع اجملتمع والبيئة اجلديدة ال يتم بسرعة بني ليلة
وضحاها ،وخباصة ما يرتبط بتطور قدراته الذاتية ،وتفاعله مع ثقافة اجملتمع
اجلديد ،الذي يعيشه ،ويكفينا لتأكيد هذه احلقيقة أن نلقي نظرة على
اجلماعات املهاجرة يف البلدان األخرى ،واملعاناة اليت يعانوهنا بسبب عدم قدرهتم
على التفاعل مع جمتمعات هذه البلدان ،حىت إن هذه املعاناة قد متتد إىل
أجياهلم الالحقة (.)٤
إن يهود املدينة أنفسهم _ على ما فيهم من حقد على الرسول صلى اهلل
عليه وسلم واإلسالم _ مل يصدر مثل هذا القول عن أحد منهم ،لكنه بقي
قوالً مقبوراً ،حىت بعثه هؤالء املستشرقون يف عصرنا.
إننا نبيح ألنفسنا أن نتنزل مع هذا اخلصم ،ونفرض أن رغبة كهذه كانت
لدى الرسول صلى اهلل عليه وسلم ،فهل كانت الرغبة نفسها لدى اليهود ،لقد
جاور اليهود العرب يف جزيرة العرب بعامة ،ويف املدينة خباصة عشرات السنني،
ومل ينقل لنا قط أهنم تركوا أثراً فيمن حوهلم من العرب.
كيف يتصور _ واحلالة هذه _ أن ينتقل أثرهم إىل الساحة اإلسالمية
هبذه السرعة ،وخباصة أنه لدى الرسول صلى اهلل عليه وسلم وحي حمفوظ ولدى
28
اليهود عداوة سابقة للرسول صلى اهلل عليه وسلم مقدَّماً ،وضن مبا بني أيديهم
على ما فيه من سوء وتريف ،ويف هذا يقول اهلل تعاىل يف شأهنم:
َ َٰ َ َ َ َ ُ ُ َ َّ َ َ ٓ َ َ ُ َّ َ َ َ ُ َ ُ
ِ إَوذا لقوا ٱَّلِين ءامنوا قالوا ءامنا ِإَوذا خل بعضهم إِل بعض
َ َ ُ َ ُ ٓ َ ُ َ ُ َ ُ َ َ َ َ َّ ُ َ َ ُ ُ َ ٓ ُّ ُ
قالوا أَتدِثونهم بِما فتح ٱّلل عليكم َِلحاجوكم بِهِۦ عِند ربِكم
َََ َ ُ َ
أفل تعقِلون [٧٦البقرة.]٤٥ :
إن املرء ليعجب من تغافل هؤالء املستشرقني -وهم يقولون ما يقولون -
شرف املدينة هبجرته إليها كيف جتاهلوا أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم منذ َّ
نزل عليه قرآن ينعى على اليهود تريفهم للتوراة ،ويشنع عليهم بسبب تالعبهم
يف أحكام اهلل تعاىل؟!
لقد كان من أول ما نزل على الرسول صلى اهلل عليه وسلم يف املدينة
َ َ َ
ُ َّ َ ُ ُ َ َ
ِين يَك ُت ُبون ٱلكِتَٰب بِأيدِي ِهم ثم يقولون قول اهلل تعاىل :فَ َويل ل ََِّّل َ
َ َّ َ ٗ َ َ َهَٰ َذا مِن عِن ِد ٱ َّّللِ ل ِيَش َ ُ
َتوا بِهِۦ ث َم ٗنا قل ِيل ف َويل ل ُهم م َِّما ك َت َبت
ُ َ َ َّ ُ َ َ َّ َ
هم وويل لهم مِما يكسِبون [ ٧٩البقرة.]٤9 : أيدِي ِ
إن أمة ضالة هذه حاهلا مع كتاهبا ،ليست أهالً ألن تكون حمل ثقة أحد،
وحري بكل ناصح ألمته أن حيذر منهم ،ومن تراثهم ،وهو ما رأيناه من النيب
صلى اهلل عليه وسلم حني رأى بيد عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه ورقات من
التوراة ،ينظر فيها من باب حب االستطالع ،فعن جابر بن عبداهلل ،أن عمر بن
اخلطاب أتى النيب صلى اهلل عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب
فقرأه على النيب صلى اهلل عليه وسلم فغضب فقال :أمتهوكون فيها يا بن
اخلطاب ...والذي نفسي بيده ،لو أن موسى كان حياً ما وسعه إالَّ أن يتبعين
29
( ،)1أفيعقل بعد هذا أن حيفل الرسول صلى اهلل عليه وسلم مبا عند اليهود ويفيد
منه؟!
إن نظرة موازنة بني األحكام اليت جاء هبا النيب صلى اهلل عليه وسلم،
وبني ما بقى بني أيدي اليهود من أحكام ،تؤكد وجود اختالف جوهري يف
أكثر األحكام بني األمتني ،ولقد كان الرسول صلى اهلل عليه وسلم حريصاً على
تأصيل هذه املخالفة حىت غاظهم هذا وقالوا :ما يدع هذا الرجل شيئاً إال
خالفنا فيه ( ،)٤ولسنا بصدد إيراد أمثلة هلذا التباين ألن املقام ال يتسع له.
ومما حيسن إيراده يف هذا املقام أن بعض املستشرقني كان يرى أن يهود
املدينة كانوا عرباً هتودوا ،وكانت تغلب عليهم البداوة وقلة العلم بالتوراة ،فكيف
ينسجم هذا مع مقوالهتم السابقة؟!
سبقت اإلشارة إىل وجود بعض الظواهر األسلوبية ،اليت ترى يف السور
املكية أكثر منها يف السور املدنية .ومنها :التكرير يف بعض الكلمات واآليات،
وقصر السور واآليات ،وكثرة الفواصل ،وظاهرة التوكيد ،وصور التشبيه ،واليت
ميكن القول إهنا مل تكن كثرية يف السور املدنية.
يقول د .عدنان زرزور(( :رمبا زينت هذه الفروق األسلوبية للبعض أو
دفعته إىل الظن بأن القرآن الكرمي قد خضع يف تأليفه لظروف البيئة اليت
اختلفت بني مكة واملدينة ،واليت انعكس أثرها على النيب صلى اهلل عليه وسلم
فاختلف أسلوبه تبعاً لذلك ،وهذه هي النتيجة اليت يريد أن يصل إليها امللبس
على الناس)) (.)3
( )1أخرجه أمحد يف مسنده ( )3٧9/٤3برقم ،1٦1٦٥وقال فيه األلباين(( :حسن)) إرواء الغليل ج ٥ص.3٧
( )٤أخرجه مسلم يف ((صحيحه)) برقم ( )31٤واإلمام أمحد يف مسنده ( )3٦٥/19برقم .1٤3٦٧
( )3القرآن ونصوصه ،ص .13٤
31
وأهبم صاحب العبارة فقال "البعض" ومل يصرح باسم املستشرقني أهو من
باب التجاهل هلم؟ أم إنه يريد غريهم من بين جلدتنا الذين ورد عنهم هذا
الكالم وعلى رأسهم د .طه حسني ،الذي قال :إن هناك قرآناً مكياً له أسلوب
وقرآناً مدنياً له أسلوب آخر ،وهو القول الذي يردده املستشرقون ويف مقدمتهم
مرجليوث يف كتابه ((مقدمة الشعر اجلاهلي)) الذي ترمجه د .طه حسني ونسبه
لنفسه تت عنوان ((يف الشعر اجلاهلي)) ،والذي رد عليه كثري من العلماء.
لقد كان كفار قريش وهم على كفرهم ،وعنادهم ،وأميتهم ،أكثر احرتاماً
ألنفسهم من هؤالء املستشرقني الذين حفلت هبم اجلامعات ،واجملامع العلمية
وظنوا أهنم على شيء.
مل جيرؤ أحد من كفار قريش أن ينال من أسلوب القرآن الكرمي ،ومل
يتقدم أحد منهم للتحدي الذي ورد يف السور املكية على مراحل ،ففي سورة
ُ َ ُّ َ َ َ َ َ ُ َّ
َع أن ۡلن َٰٓ ت ٱ ِۡلنس وٱ ِ اإلسراء املكية قوله تعاىل :قل لئ ِ ِن ٱجت َمع ِ
ُ َ َ َ َ َٰ َ ُ َ َ ُ َ َ ُ
ان ّل يَأتون ب ِ ِمثلِهِۦ َولو َكن َبعض ُهم ِلِ َعض يأتوا ب ِ ِمث ِل هذا ٱلقرء ِ
هريا [٨٨اإلسراء.]88 :
َظ ٗ
ِ
مث تكرر هذا التحدي مرة أخرى يف أول سورة مدنية ،فقد جاء يف سورة
َّ َ َّ َ َ َ َٰ َ َ َ ُ البقرة قولـه تعاىلِ :إَون ُك ُ
َع عبدِنا فأتوا نتم ِف َريب مِما نزنلا
نتمكم مِن ُدون ٱ َّّللِ إن ُك ُ َ ُ ُ َ ََٓ ُ
ورة مِن مِثلِهِۦ وٱدعوا شهداء ب ُس َ
ِ ِ ِ
ُ ُ َ َّ ُ َ ُ َّ
ِي ٢٣فَإن لم َتف َعلوا َولن َتف َعلوا فَٱ َّت ُقوا ٱنلَّ َ َص َٰ ِدق َ
ار ٱل ِت َوقودها ِ
َ َ َّ َّ ُ َ َ َ ُ ُ
رين [ ٢٤البقرة.]٤٧ – ٤3 : َٰ
ٱنلاس وٱۡل ِجارة أعِدت ل ِلكفِ ِ
31
ويف جميء هذا التحدي يف سورة مدنية دليل قاطع على أن األسلوب ما
زال هو األسلوب ،واإلعجاز ما زال هو اإلعجاز ،والتحدي ما زال قاصماً يف
مكة واملدينة على حد سواء.
وهذا واحد من ردود كثرية على من زعم من املستشرقني ( )1أن أسلوب
القرآن يف املدينة نزل عما كان عليه يف مكة .إن اختالف أساليب النظم القرآين
إمنا هي منوطة باملوضوعات اليت تـعرض هلا السور؛ فإن السور اليت كانت هتدف
إىل بيان نذارة ،أو ذكر بشارة ،فإنه يناسبها السورة القصرية واآليات املوجزة،
وهو ما رأيناه يف سورة املسد املكية ،وسورة العصر املكية وما فيهما من نذارة.
وهو ما رأيناه كذلك يف سورة النصر املدنية وما فيها من بشارة ،وكذا سورة
الكوثر املدنية القصرية وما فيها من بشارة كذلك.
ويقال األمر نفسه إذا كان املوضوع يف جمال طرح التشريعات والتوجيهات
الربانية ،واحلديث عن مكارم األخالق ،فإنه يناسب هذه املوضوعات اآليات
الطويلة والسور الطويلة كذلك ،وهو ما رأيناه يف سورة اإلسراء املكية ،فإهنا
طويلة وكذلك آياهتا؛ ألهنا عرضت يف جانب منها إىل الوصايا الربانية (،)٤
وكذلك سورة الفرقان؛ ألهنا عرضت إىل بعض التوجيهات والوصايا (.)3
ورأينا الشيء نفسه ،يف السور املدنية ،كالبقرة ،وآل عمران ،والنساء ،فإن
ما فيها من تشريعات وأحكام ناسبها أن تكون طويلة واآليات كذلك.
32
إن هذه النظرة العجلى ملا سبق توضح جبالء ،أن القصر ليس مرتبطاً
مبكة أو باملرحلة اليت سبقت اهلجرة ،والطول كذلك ليس مرتبطاً باملدينة أو
باملرحلة اليت تلت اهلجرة.
وأحسب أن دراسة استقراصية للسور املدنية واملكية يف القرآن الكرمي سوف
تؤدي إىل هذه النتيجة اليت أشرنا إليها ،وهي دعوة للباحثني _ وخباصة طالب
الدراسات العليا _ للتصدي ملثل هذه الدراسات.
إن أسلوب اإلجياز والتكرير ،ووحدة الفاصلة القرآنية ،أو ما يسمى
بالسجع ،كلها أساليب تناسب املعاندين ،وهم حي َّذرون من الكفر واإلعراض،
وخي َّوفون من النار ،ويتوعدون بالبعث حىت تلتقي املعاين مع األساليب يف تريك
الوجدان ،وإثارة الشعور ،وقرع القلوب املقفلة ،والنفوس الغافلة.
لقد أسلم أكثر هؤالء الذين كانوا يف مكة ،وهاجروا إىل املدينة فانضموا
وتكون منهم جمتمع إسالمي متميز. إىل إخواهنم األنصار العربَّ ،
لقد نزل القرآن الكرمي يف املدينة من أجل أن يعمل على تطبيق العقيدة
ترسخت يف املرحلة املكية ،وذلك من خالل التشريعات بكل أبعادها واليت َّ
واألحكام اليت جتعل من اإلسالم واقع حياة ،وكان هذا األمر حيتاج إىل خطاب
هادئ ،وإىل أمة مؤمنة ملتزمة بشرع اهلل ،تنتظر أحكامه سبحانه وتشريعاته.
وميكن يف هذا املقام أن يستعان ببعض اخلصاص اليت تلقي الضوء على
ما ذكرنا ،فإن النداء بيا أيها الناس كثر يف مكة ،وكان قليالً يف املدينة؛ ألنه حل
ٓ ُ َ َ َ َ َ ُّ َ َّ
يأيها ٱَّلِين ءامنوا؛ ألهنا مناسبة لألوامر والنواهي حملها النداء بـ َٰٓ
والتشريعات.
33
إن هذا التوجه الذي ذكرناه يغين عن التفسري الذي أورده الشيخ الزرقاين
وزل فيه قلمه ،وهو يفسر جميء السور املكية موجزة والسور _ عفا اهلل عنه _ َّ
املدنية طويلة ،وفيها إطناب وإسهاب؛ وذلك ألن أهل املدينة مل يكونوا
يضاهئون أهل مكة يف الذكاء واألملعية ،وطول الباع يف باحات الفصاحة ،والبيان،
فيناسبهم الشرح واإليضاح ،وذلك يستتبع كثرياً من البسط واإلسهاب ،ألن دستور
البالغة ال يقوم إال على رعاية مقتضيات األحوال وخطاب األغبياء بغري ما خياطب
به األذكياء(.)1
لقد غاب عن الشيخ الزرقاين _ وهو الفهيم _ أن الذين خاطبهم اهلل
تعاىل بالسور يف مكة هاجروا إىل املدينة ،وغاب عنه أيضاً أن عرب املدينة كانوا
عرباً خلَّصاً كذلك .وعلى هدى من هذا ال يسلم له ما ذهب إليه.
وحيسن بنا وحنن نستدرك على الزرقاين يف مقولته أن ننبه لضرورة احلذر
حني التصدي لطروحات املستشرقني ،فإن الباحث يف غمرة االنشغال بالشبه
والرد عليها قد يغفل فيقع يف حمظور ،فيزل يف طرح أو يسيء يف تعبري ،أو خيطئ
يف تفسري ،فيزيد اجلناية سراية.
إننا نتساءل يف هذا املقام ،فنقول :إذا كان احلال ما زعمه املستشرقون،
من أن الرسول صلى اهلل عليه وسلم منت قدراته ،وتأثر ببيئته اجلديدة يف املدينة
فظهرت الفروق بني السور املكية واملدنية ،فلم مل نلحظ هذا الفرق يف احلديث
النبوي ما دام املصدر واحداً عندهم؟ فلم يظهر ما يدعو إىل وجود حديث
مكي وحديث مدين.
34
إن التأثر بالبيئة ينعكس ال حمالة على األسلوب ،فيورثه تبايناً واضطراباً،
وهو ما مل يلحظ البتة يف أسلوب القرآن الكرمي ،فلو كان هناك تدن يف مستوى
القرآن املدين ـ كما زعموا ـ ملا تكرر التحدي باإلتيان مبثله يف املدينة كما سبقت
اإلشارة.
إن الباحث ،وهو يتتبع هذه الشبه ليخشى أن جيعل هلا قيمة ،حني يظن
ظان ،أن جمرد العـرض هلا ،يعـين أن هلا حظاً من النظـر ،واحلق ما قاله أبو احلسن
احلصار:
َّ
فليس كل خالف جاء معترباً إالَّ خالف له حظ من النظــر
ولسنا نرغب يف التوسع وخباصة أننا أتينا على أبرز شبههم يف هذا املقام،
واليت نقلها الالحق عن السابق.
*****
35
الخاتمة
حيسن بنا وحنن يف خامتة هذه الدراسة أن جنمع ما تناثر فيها من قضايا
ومساصل ،ففي مل شعثها ما يعني على تقدمي تصور كامل للموضوع الذي
عرضت له ،كشفت هذه الدراسة ـ على وجازهتا ـ أن مثة أمراً دبر بليل ،على
أيدي املستشرقني ،وتواصوا به ،وهو القول ببشرية القرآن الكرمي ،الذي مل يكد
يسلم منه أحد منهم ،إما مبقاله أو بلسان حاله.
كان ميدان الدراسات القرآنية أبرز امليادين اليت عبث فيها هؤالء ،فقد
قاموا بدراساهتم ،وهم حيملون مقررات سابقة ،ونتاصج جاهزة ،وقد أغرهتم
وغرهتم دراسات سابقة هلم يف التوراة واإلجنيل ،أوقفتهم على خلط وتناقض
وأخطاء فيها ،فنالوا من القرآن الكرمي.
كان إنكار الوحي منطلق الغالبية منهم يف هذه الدراسات ،فأثاروا
الشبهات حول كثري من املوضوعات اليت كان منها املكي واملدين.
كتب املستشرقون هلذا الغرض كتباً مستقلة ،مثل ((مقدمة القرآن)) لريتشارد
بل ،و((كتاب القرآن)) لبالشري ،و((مصادر اإلسالم)) لتسدال ،و((تاريخ الن
القرآين)) لنولدكه ،إضافة إىل عشرات الكتب اليت ذكرت هذه املوضوعات عرضاً.
يلحظ الباحث وهو يتتبع رحلة االستشراق ،أهنم يتابع بعضهم بعضاً،
فهم ناقلون مقلدون ،أكثر من كوهنم باحثني ناقدين .فإن عامة املستشرقني
تابعوا كرباءهم ،أمثال :جولد تسيهر ،وكازانوفا ،ونولدكه ،وبالشري.
عين علماء األمة باملكي واملدين ،منذ وقت مبكر ،فح ّدد مفهومه،
وضبطت طرق معرفته ،واتضحت خصاصصه ،وظهرت فواصده ،حني أحسن
العلماء توظيفه.
36
درست فئة هذا العلم ،وهم املستشرقون ،الذين استرتوا خلف البحث
العلمي ،فنسجوا منه شبهاً ،يف ضوء مناهج حبث مضطربة ،يسهل توجيهها،
كاملنهج الذايت ،واملنهج العفوي التلقاصي.
فحولت خصاص املكي واملدين ،على أيديهم ،ويف عيوهنم ،شبهاً
ونقاص .سواء ما كان منها ذا صلة باألسلوب ،أو باملضمون.
لقد كشفت دراسة املستشرقني لعلم املكي واملدين ،والنتاصج اليت خرجوا
هبا ،أهنم يعملون لصاحل جهات مشبوهة ،وليسوا بعلماء.
لقد أتت دراستهم الحظ هلا من النظر ،حني زعموا أن القرآن الكرمي
كان يف مكة خطابياً ،خيلو من احلجج ،يف حني أنه ال ختلو سورة منه من
الرباهني العقلية ،واألدلة املنطقية.
كذلك بان ضعف قوهلم إن القرآن الكرمي أمهل التشريعات يف مكة،
وعين هبا يف املدينة ،وقد ثبت لنا أن هذا مل يسلم هلم من حيث الدليل
واملدلول.
ظهر لنا أن حماولة املستشرقني توظيف قصر السور واآليات ،وطوهلا ،كان
عبثياً حني جهلوا ،أو جتاهلوا ،أن األمر كله ،منوط باملوضوعات اليت كانت من
متطلبات املرحلة.
وتطاول املستشرقون املستعربون ،على أسلوب القرآن الكرمي ونظمه ،حني
حاولوا التفريق بني األسلوب املكي واملدين ،خدمة ألغراضهم ،فجاء كالمهم
جناية عليهم.
37
المراجع
.1اإلتقان يف علوم القرآن ،جالل الدين السيوطي ،دار عامل الكتب ،بريوت
د .ت.
.٤آراء املستشرقني حول القرآن الكرمي وتفسريه دراسة ونقد ،د .عمر إبراهيم
رضوان ،دار طيبة ،الرياض ط.1
.3االستشراق واملستشرقون ماهلم وما عليهم ،د .مصطفى السباعي ،املكتب
اإلسالمي ،بريوت ،ط1399 ،٤ه.
.٧البيان يف عد آي القرآن ،عثمان بن سعيد الداين ،الكويت ،ط،1
199٧م.
.٦تاريخ الشعوب اإلسالمية ،بروكلمان ،ترمجة نبيه فارس ومنري البعلبكي ،دار
العلم للماليني ،بريوت ،ط19٤٤ ،٤م.
.٥التحرير والتنوير ،الطاهر بن عاشور ،بدون معلومات.
.٤صحيح البخاري ،البخاري ،دار السالم للنشر والتوزيع ،الرياض ،ط،٤
1٧٤1ه.
.8صحيح مسلم ،مسلم بن احلجاج ،دار السالم للنشر والتوزيع ،الرياض
ط1٧٤1 ،٤ه.
.9العقيدة والشريعة يف اإلسالم ،جولد تسيهر ،ترمجة حممد يوسف ،دار الراصد
العريب ،بريوت.
.11القرآن ونصوصه ،د .عدنان زرزور ،منشورات جامعة دمشق ،ط،1
1٧11ه.
38
.11قضايا قرآنية يف املوسوعة الربيطانية ،د .فضل حسن عباس ،دار
البشري ،عمان ،ط.1
.1٤كتاب القرآن ،بالشري ،ترمجة رضا سعادة ،دار الكتاب اللبناين،
بريوت ،ط19٤٧ ،1م.
.13حماضرات يف علوم القرآن ،د .غامن قدوري احلمد ،دار عمار ،عمان،
ط 1٧٤3ه.
.1٧مسند اإلمام أمحد ،تقيق شعيب وزمالصه ،مؤسسة الرسالة ،ط،1/
1٧19ه.
.1٦مكي القرآن ومدنيه ،حممد اهلادي كريدان ،املنشأة العامة للنشر
والتوزيع ،طرابلس ط198٧ ،1م.
.1٥مناهل العرفان يف علوم القرآن ،عبد العظيم الزرقاين ،دار إحياء الثراث
العريب ،القاهرة ،د .ت.
.1٤الناسخ واملنسوخ ،أمحد بن حممد النحاس ،القاهرة ،د .ط.
.18نبوة حممد يف الفكر االستشراقي املعاصر ،د.خلضر شايب ،الناشر
مكتبة العبيكان ،الرياض ط1٧٤٤ ،1ه.
39
الفهرست
المقدمة1 .........................................................
كلمة في التعريف بالمكي والمدني وذكر خصائص ك ّل منهما3 . :
ويمكننا أن نوجز ما سبق بما يلي8 ............................
بين تأثير القرآن وتأثره21..................................... :
األول :تأثير القرآن في البيئة23................................
األمر الثاني :تأثر القرآن بأحداث العصر ،وبثقافة أهله وافادته
من هذا كله21.................................................
األسلوب خصائص وشبه21...................................:
المضمون خصائص وشبه12................................. :
الخاتمة36 ........................................................
المراجع38 ........................................................
الفهرست 41 ......................................................
41