4

You might also like

You are on page 1of 3

‫ليالي أمشير‬

‫يسمع أصوات خافتة‪ ،‬تقترب رويدا رويدا حتى يجد نفسه صار مدعوا في موسم تقام مراسمه كل ليلة‪،‬‬
‫‪ ...‬أطلق عليه اسم الراقص في المقبرة ‪ ،‬بدايته ذكرى و ألم و نهايته ندم و بكاء‬

‫يجد نفسه يجالس ذكرياته التي تتزين بأثواب الموتى األحياء‪ ،‬يعيد أشرطة الماضي من بداياتها فيتذكر‬
‫االبتسامة مرسومة على شفتيه لتزين وجهه الصغير البريء‪ ،‬خيبة أمل تليها أخرى‪ ،‬صدمة تلو األخرى‪،‬‬
‫تفقده براءته‪ ،‬ابتسامته‪ ،‬مشاعره الجميلة تجاه الناس‪ ،‬حتى أحالمه باتت باهتة‪ ،‬أحيانا يصرخ في صمت‬
‫متسائال إلى متى سيعيش هذا األلم‪ ،‬تعب من فقدان األشخاص من حوله‪ ،‬فمنهم من خطفه قطار الموت‪ ،‬و‬
‫منهم من أخذته أشغال الدنيا‪ ،‬و منهم من تساقط عنه القناع ليظهر معدنه الحقيقي‪ ،‬يريد البكاء لكن ليس بعد‬
‫فالموسم ال زال في بدايته و الليلة ال زالت تتزين بألوان السواد و الحداد‪ ،‬يلقي نظرة على الساعة فيجد أن‬
‫الوقت يمشي بخطى متثاقلة‪ ،‬الثانية ليال ألحان الغضب و الهدوء‪ ،‬السكينة و األلم‪ ،‬االبتسامة و البكاء‪ ،‬الحلم‬
‫‪،‬و الواقع‪ ،‬األحياء و األموات ‪ ...‬كلها متناقضات تجتمع لتصنع له سيمفونية يراقص فيها ذكرياته اللعينة‬

‫الساعة الثانية و النصف‪ ،‬و كله أمل أن يخطفه النوم لكن بدون جدوى‪ ..‬تصل الساعة الثالثة‪ ،‬يلبس ماضيه‬
‫ثوب رجل غلبه القهر فٱآتى إلى حانة يشرب إلى حد الثمالة‪ ،‬و مستقبله يلبس ثوب فتاة فاتنة تاهت بها‬
‫الدنيا فألقت بها في أحضان مدينة شبيهة بالمقبرة‪ ،‬وجوه سكانها شاحبة‪ ،‬عيونهم ال تنبئ بخير‪ ،‬جهل الفتاة‬
‫جعل منها فريسة سهلة المنال‪ ،‬الساعة الرابعة ‪ ،‬تدخل الفتاة إلى الحانة‪ ،‬تجد الرجل يجالس نفسه‪ ،‬يرمقها‬
‫بعينيه من حين آلخر محاوال أن يتعرف إليها أو يكتشفها‪ ،‬تمر الدقائق تلو األخرى‪ ،‬تبادره النظرات‬
‫‪.‬بدورها‪ ،‬صمت رهيب يخيم على المكان يوقظ في القلب أوجاعا تراكمت و ظلت حبيسة‬
‫يناديها إليه‪ ،‬تتقدم إليه بخطى متثاقلة‪ ،‬الخوف يهز كيانها‪ ،‬فالرجل بلحيته المنتشرة على وجهه و الغموض‬
‫الواضح على مالمح وجهه يبث الرعب في من يراه‪ ،‬يطلب منها الجلوس‪ ،‬لم تطرح أي سؤال‪ ،‬تلبي‬
‫رغبته‪ ،‬ينزع عنها ثيابها بنظراته و الصمت ال يزال سيد الموقف‪ ،‬تنادي النادل إليها لتطلب منه كأس نبيذ‬
‫فتكسرالهدوء بتساؤلها عن سبب شربه إلى حد الثمالة و سهره إلى طلوع الفجر‪ ،‬الرجل و كأنه كان يشتهي‬
‫البوح لذلك الذي ال يتطفل عنه و يكثر األسئلة‪ ،‬يحتاج أن يتكلم بكل عفوية و تلقائية ألذن صاغية تنصت‬
‫إليه بكل ود و تمتص منه ما ال يطيق‪ .‬يخبرها أن له من القصص ما يصيبها من الضجر منه و يجعلها‬
‫تلعن قدرها الذي جعلها رفيقته‪ .‬الفتاة كأنها أعجبت بعينيه الذابلتين من األلم و شربت من كأس الحب و‬
‫الغرام ‪ ،‬فتخبره أن يبدأ بدون توقف‪ ،‬يطلب منها مصاحبته إلى منزله و إكمال الحديث بينهما‪ ،‬تبتسم له و‬
‫‪ ...‬توافق على طلبه‬
‫غابة ضخمة‪ ،‬مليئة باألشجار‪ ،‬صمت رهيب يخيم على المكان‪ ،‬يصالن إلى منزله‪ .‬منزل قديم‪ ،‬رائحة‬
‫العود تفوح منه‪ .‬يطلب منها بلباقة أن تتفضل بالدخول‪ ،‬كل حائط إال و تجد صورة معلقة عليه‪ ،‬جرائد و‬
‫صحف في الزاوية اليمنى‪ ،‬مكتبة مليئة بالقصص و الكتب‪ ،‬كل شيء مرتب‪ ،‬تعجبت لكثرة المرايا في كل‬
‫‪.‬مكان‪ ،‬و أعجبت بإبداعه الجميل في االهتمام بكل أركان البيت‬
‫يقطع عنها صمت الدهشة و اإلعجاب‪ ،‬و يخبرها أن تخلد للنوم‪ ،‬فمظاهر التعب تتجلى في عينيها‪ ،‬لم تنوي‬
‫في خاطرها أن ترفض له طلب‪ ،‬فتجيبه بالقبول‪ .‬يترك لها سريره لتنام عليه‪ ،‬يريها كل ما قد تحتاج إليه‪،‬‬
‫‪.‬الفتاة وثقت به إلى حدود الالعودة‬
‫مع طلوع أول شعاع للشمس‪ ،‬يكسر صوت الصمت على إيقاع زقزقة العصافير‪ ،‬فتتزين األجواء بخضرة‬
‫‪.‬غير منقطعة النظير‪ .‬تستيقظ الفتاة و قد أزيل عنها تعب األمس‪ ، ،‬صباح يبث في روحها أمل يتجدد‬
‫‪.‬يبادرها الرجل بتحية الصباح‪ ،‬يناديها لتناول قطع الكعك المحالة و شرب قهوة يفوح عطرها من بعيد‬
‫بينما يتناوالن الفطور‪ ،‬تقرأ الفتاة على جانب من الحائط الخشبي‪" :‬و هل كل الفراق سواء ؟»‪ ،‬الرجل كان‬
‫قد كتب كل شيء في مذكراته‪ ،‬يقدمها إلى الفتاة لتبدأ رحلة استكشاف خباياه و أسراره‪ ،‬تقرأ بصوت‬
‫‪:‬مرتفع‬

‫أقف وقفة أتأمل فيها الناس ك ٌل يعانق غائبه العائد إال أنا ‪ ..‬فقط أرى الوجوه المبتسمة فأهنئها ‪ ،‬وبعد"‬
‫أن تنقضي قواف ُل العائدين والمرحبين أتهادى وحيدًا أسأل نفسي سؤال اليائس ال المستفهم ‪ ..‬مالي أرى‬
‫"الناس يعودون وال تعود أنت ؟‬

‫تسأله عن الغائب ؟ يخبرها عن كل من غطاه التراب‪ ،‬أو خانتهم األقدار ليكملوا حياتهم و يحققوا‬
‫أحالما رسموها جميعا‪ ،‬أو عن أشخاص اختاروا الخيانة بدال عن الصدق و الوفاء‪ .‬ترى الحزن‬
‫يتسرب إلى عينيه فتقرر أن تكمل القراءة إلى اخرها‬

‫حاولت أن تقف عند كل وقفة له لكنها خافت أن تزيد أعماق جراحه فقررت أن تكشف ألغاز‬
‫‪.‬السطور بنفسها‬
‫حكاية تليها حكاية‪ ،‬يأس تعوضه خيبة أمل‪ ،‬حزن يعوضه ألم فراق‪ ،‬أصابها ما كان يخيفه يوم‬
‫لقائهما‪ ،‬كان قد أخبرها أنها قد تضجر منه‪ ،‬و سيصيبها من الملل ما تمقت به أيامها و تلعن به‬
‫‪.‬قدرها الذي جمعهما‪ .‬صارت تقطع الحديث عنه‪ ،‬ال تهتم لتفاصيله الصغيرة‬

‫بالهة المبررات و برود الحضور أثار غيظه من العالم أجمع‪ .‬كوب قهوة و قطعة حلوى فيها‬
‫‪ ‬مخدر‪ .‬يقف على سطح مبنى‪ .‬هل يودعها الوداع األخير ؟‬

‫ال لن ينتحر‪ ...‬هو ال يفعل مثل هذه األشياء‪ .‬هو صلب للغاية و لكنه يريد أن يحيط بسواد العالم كما‬
‫‪.‬أحاط به‬

‫ت ردده الصدى ‪ :‬اللعنة عليك‬


‫صاح بصو ٍ‬

‫جاءت حبيبته بخصرها الهزيل‪ .‬جسد ال يملك الكثير من األنوثة و لما رآها تخطو إليه و الخوف‬
‫يهيمن على مالمح وجهها أحب أن يستغل هذه اللحظة في التنفيس عن غضبه الشديد على من له‬
‫‪. .‬مقدرة عليه‬

‫رمى كوب القهوة على األرض حتى انكسر إلى عشرة أجزاء إال جزء كعدد خطاياه كانت عدد‬
‫القطع المكسورة من الكوب‪ .‬ارتعدت الفتاة و رغم ذلك أمسكت بيده بشدة و قالت ‪ :‬توقف‬

‫لم يعجبه كالمها‪ ،‬رمقها بنظرة احتقار رغم ما تحمله من انكسار‪ .‬حن صوتها رغم أنه يرتجف و‬
‫‪ :‬قالت بصوت أرق‬
‫توقف يا حبيبي‪ .‬سأظل أحبك رغم ذلك‬

‫سأقوم بقتلك إن لم تبتعدي عني‬

‫أعرف أنك‪  ‬ترى نفسك شخصا ً سيئا ً و لكنني الزلت أحبك‬

‫أنت لم تحبيني قط‪ .‬أنت مجرد نزوة كاذبة و خطيئة‬

‫و هل الحب خطيئة ؟‬

‫بل الشهوة و الرذيلة ‪ ....‬دعيني قلت لك و إال فإن هذا فرا ٌ‬


‫ق بيني و بينك‬

‫ً لن أتركك إذا‪ ،‬و ماذا بعد؟‬

‫سأقتلك‬

‫أنت محق‪ .‬هذا العالم مظل ٌم جداً‪ .‬تتعاط مسكنات و دعني أقل لك أنك ضعيف و هش‪ .‬أنا غبية‬
‫ألنني أحببت مثلك‬
‫أضحكتني و من كان سيرغب بفتاة مثلك تشبه غصنا ً ضعيفا ً محروقا ً‬

‫هل نسيت كيف تجليت لك في الليلة األولى ؟‬

‫نعم كنت حورية و ذلك ألنك شيطانة حرباء‪ ،‬هذه حقيقتك‬

‫الزلت أحبك رغم دعواك الباطلة‬

‫أنت تحبين جري إلى الجحيم ال أكثر‬

‫قم بقتلي إذاً‬

‫كل شي ٍء صرخ في أعماقه بأن يدق عنقها و يطرحها أرضاً‪ ،‬تدارك نفسه‪ ،‬نظر إلى يده فلم يجد‪ ‬‬
‫‪ ...‬كوب قهوة و لم يجد حلواه المخدرة‪ ،‬نظر أمامه فلم يجدها‬

‫‪ ‬لم أعد أنا ‪ " ! ...‬هتف في أعماق نفسه‪ ،‬و بكى بحرقة "‬

You might also like