You are on page 1of 5

‫دراسات قرآنية‬

‫وجوه اإلعجاز عند الباقالني‬

‫المقالة التي أكتبها أو يكتبها غيري حول هؤالء العلماء‬


‫واحدا‪ ،‬وهو أنها ُتغري‬
‫ً‬ ‫األعالم ليس المقصود منها إال شي ًئا‬
‫القارئ بمراجعة هؤالء األعالم؛ ألن علمهم ش��يء‪ ،‬والكالم‬
‫عن علمهم شيء آخر‪.‬‬
‫أ‪ .‬د‪ /‬محمد محمد أبو موسى *‬
‫( )‬

‫مم��ا ُيع ِّلم العقل كالذي يفوته م��ا في الكتاب مما‬ ‫ول��و كنت أتوقع أن تكون مقالتي عن الباقالني‬
‫يع ّل��م العلم؛ ألنن��ا ال نتعلم علم العلماء ْ‬
‫مغ ُس��ولاً‬ ‫ُت ْغني الق��ارئ عن مراجعة الباقالني ما كتبت حرفًا‬
‫م��ن عقولهم‪ ،‬س��واء كانت هذه العق��ول هي التي‬ ‫واح��دا؛ ألن صرف الجيل عن عل��م هؤالء األعالم‬ ‫ً‬
‫أنتج��ت ه��ذا العل��م‪ ،‬إذا كان م��ا ف��ي الكتاب من‬ ‫واكتف��اءه بما نكتبه عنهم خطيئ��ة في حق الجيل‬
‫نت��اج عقولهم‪ ،‬مثل الكتب التي ُكتبت في القرون‬ ‫أك��ره أن ألق��ى اهلل وهي في عنق��ي‪ ،‬وإنما أحب أن‬
‫الثالث��ة المفضل��ة‪ ،‬كت��راث األئمة األربع��ة وأئمة‬ ‫أغريت أبناء ه��ذه األمة بقراءة كتب‬
‫ُ‬ ‫ألق��ى اهلل وقد‬
‫النح��و‪ ،‬أو كان الذي في كتبه��م من علم غيرهم‪،‬‬ ‫أكاب��ر علمائه��ا‪ ،‬الذي��ن ه��م أكابر وكب��ار بحق‪،‬‬
‫وحر ُرو ُه وناقشوه‪.‬‬
‫وإنما َع َر ُضوه َّ‬ ‫جي��دا؛ ألن��ي أعرف ما‬
‫ً‬ ‫والس��بب في ذل��ك أعرفه‬
‫أق��ول‪ :‬ال نتع ّل��م عل��م العلم��اء مغس��ولاً م��ن‬ ‫الذي في كتبهم وما ال��ذي أكتبه عنهم‪ ،‬وأن الذي‬
‫عب��ق َبعب��ق هذه‬
‫عقوله��م‪ ،‬وإنم��ا نتعلم��ه وه��و َي ُ‬ ‫ُيكتب عن هؤالء الكرام الكبار إنما هو اختصارات‬
‫ح��ي ُي ْلقي‬ ‫مختزل��ة لما ف��ي كتبهم؛ ألن كتب هؤالء ليس��ت‬
‫العق��ول‪ ،‬ويطيب بطيبه��ا‪ ،‬وكل َعقل ّ‬
‫رداءه عل��ى العلم الذي يتكلم فيه‪ ،‬وكاتب المقالة‬ ‫مقصورة على المعلومات التي ُنقَدّ مها‪ ،‬وإنما فيها‬
‫ال يمكن��ه مهما بلغ أن َي ْنقُل لك عتيق علم العالم‪،‬‬ ‫وتكون‪.‬‬
‫ّ‬ ‫جوانب أخرى كثيرة‪ ،‬كلها تفيد‬
‫وال أن ُيلقي بين يديك رداءه الذي ألقاه على علمه؛‬ ‫فكت��اب الباقالني الذي أكتب عنه فيه آراؤه في‬
‫ألن ه��ذا مرتبط بأنف��اس الكاتب التي ال مكان لها‬ ‫اإلعجاز‪ .‬وهذا هو علمه في هذا الباب الذي ُنع ّلم ُه‬
‫إال لغت��ه‪ ،‬ول��ن يتكون عق��ل الجي��ل بالمعلومات‬ ‫للجيل‪ ،‬ثم إنه كما يع ّلم العلم ُيع ّلم العقل بطريقة‬
‫فحس��ــب‪ ،‬وإنم��ا ال ب��د أن يت��ذوق معه��ا طرائق‬ ‫تفكي��ره‪ ،‬وطريق��ة اس��تخراجه‪ ،‬وطريق��ة تأ ّمله‪،‬‬
‫التفكير‪ ،‬وطرائق النظر‪ ،‬وطرائق االستنباط‪.‬‬ ‫وطريق��ة تحليل��ه‪ ،‬وال��ذي يفوت��ه ما ف��ي الكتاب‬

‫(*) عضو هيئة كبار العلماء‪ ،‬وأستاذ البالغة بكلية اللغة العربية بجامعة األزهر ‪ -‬القاهرة‪ ،‬ويلقب بشيخ البالغيين‪.‬‬

‫‪magazine.azhar.eg‬‬
‫‪1559‬‬
‫دراسات قرآنية‬
‫فحول��ة فك��ره‪ ،‬وجزالة لغت��ه‪ ،‬وقوة بيان��ه‪ ،‬وقوة‬ ‫وكان ش��يوخنا ‪-‬رحمه��م اهلل‪ -‬يوصونن��ا‬
‫البي��ان غير المصطنع��ة هي قوة ف��ي العقل‪ ،‬وقوة‬ ‫بمتابع��ة فكر المؤل��ف‪ ،‬ومصاحبت��ه‪ ،‬وأنت تقرأ‬
‫في الفك��ر‪ ،‬وقوة ف��ي تعامل العقل م��ع المعرفة‪،‬‬ ‫كتابه‪ ،‬حتى كأنك أحييت ُه وجا َلس��ت ُه واس��تمعت‬
‫ول��م ُتجمع ألمة على الق��ول بأنه العالم الذي َبعث ُه‬ ‫هم��ك فقط أن تلتقط المعلومات‪،‬‬ ‫إليه‪ ،‬وال يكن ّ‬
‫اهلل عل��ى رأس المئة الرابع��ة ُليجدد لألمة دينها إال‬ ‫وإن كان ه��ذا م��ن األهمي��ة بم��كان‪ ،‬وإنما يجب‬
‫لشدة تميزه‪ ،‬وظهور تفوقه‪ ،‬وكان من الواجب أن‬ ‫هم��ك مصاحبة ه��ذا العقل؛ ألن‬ ‫أيض��ا أن يك��ون ُّ‬
‫ً‬
‫تقوم دراسة علمية دقيقة حول فكر هؤالء األعالم‬ ‫تحصي��ل العل��م يمأل ذاكرت��ك بالمعرف��ة‪ ،‬وهذا‬
‫الذين ج��دَّ ُدوا لألمة دينها على رأس كل مئة س��نة‬ ‫جي��د‪ ،‬ومتابعة العقل تروض عقل��ك على الطريق‬
‫رب من كنه هذه العقليات‪ ،‬وكنه هذا التميز‪،‬‬ ‫لتقْ َت َ‬ ‫ال��ذي س��لكه المؤلف‪ ،‬وتضع قدم��ك على مدب‬
‫وإنما شُ ��غلنا بما شُ ��غلنا به وبالذي لم ينتج لنا إال‬ ‫أقدامه‪ ،‬و َمن َف َعل ذلك وأحس��ن وأتقن أوش��ك أن‬
‫التخلف المزري الذي نحن فيه‪.‬‬ ‫يكون من العلماء‪ ،‬وبالدن��ا في حاجة إلى العلماء‬
‫بع��ة والضجيج‪ ،‬وأنا لم‬ ‫الب ْع َ‬
‫أكث��ر من حاجتها إلى َ‬
‫وكان��ت للباقالن��ي ِح َك��م نبيلة تتس��اقط في‬
‫أتكل��م ع��ن لغة العلم م��ع أن علماءنا قال��وا لنا إن‬
‫وخصوصا‬
‫ً‬ ‫كالم��ه‪ ،‬وهي باقي��ة فين��ا ومتوهج��ة‪،‬‬
‫تع ّل��م لغة العلم جزء من تع ّلم العلم‪ ،‬وإنه ال يكفي‬
‫ما ي��دور منها حول طريقة الق��راءة؛ ألن أفضل ما‬
‫أن ْتع َل��م المس��ألة‪ ،‬وإنم��ا ال ب��د أن تك��ون ً‬
‫قادرا‬
‫يقول��ه الس��ابق لمن بع��ده هو كيف يق��رأ القراءة‬ ‫على الحديث عنه��ا ونقلها من عقلك وقلبك إلى‬
‫الت��ي تثري م��ا يقرؤه وتث��ري عقله وتث��ري عقل‬ ‫عق��ول اآلخرين وقلوبه��م؛ ألن العل��م ال يقبل أن‬
‫َم��ن يع ِّلمه��م م��ن أجيال األم��ة‪ ،‬وم��ن كلماته في‬ ‫مخ ُزو ًنا في العقول والصدور‪ ،‬ومن طبيعته‬ ‫يك��ون ْ‬
‫ذلك قول��ه‪« :‬وجه الوقوف على ش��رف الكالم أن‬ ‫وذات��ه وكنه��ه أن ينتقل من عقل وقل��ب إلى عقل‬
‫تتأمل»‪ ،‬وقوله ف��ي بيان حالة التأمل‪ ،‬وأنها تكون‬ ‫وقل��ب؛ ألنه ن��ور‪ ،‬والنور ال ُي ْحب��س‪ ،‬وإنما ال بد‬
‫بسكون طائر وخفض جناح‪ ،‬وهذه الكلمات التي‬ ‫أن يض��يء النفس بعد النفس‪ ،‬حتى تس��تضيء به‬
‫إذا غاب��ت غ��اب بغيابها الش��يء الكثير هي بنت‬ ‫حياة الجماعة‪ ،‬وتشرق األرض بنوره‪ ،‬فال ترى في‬
‫وبنت محاوالت��ه‪ ،‬وإذا وفق اهلل‬
‫ُ‬ ‫تج��ارب الباقالني‬ ‫حياة الناس خفافيش الظالم‪ ،‬وخفافيش الفس��اد‪،‬‬
‫وأعان سنب ّين ذلك إن شاء اهلل‪.‬‬ ‫وخفافي��ش القه��ر‪ ،‬والظل��م والقت��ل‪ ،‬وخفافيش‬
‫صنف الباقالني وجوه اإلعجاز تصنيفًا مختلفًا‬ ‫الخيانة وال َغ ْدر‪ .‬العلم هو الطهور لحياة الناس من‬
‫يس��يرا ع��ن الذين كانوا معه ف��ي زمانه‪،‬‬
‫ً‬ ‫اختالفً��ا‬ ‫ذل��ك كله‪ ،‬والكتاب الذي أنزله اهلل ليخرج الناس‬
‫والذين س��بقوه‪ ،‬وذلك أنهم ذكروا وجوه اإلعجاز‬ ‫م��ن الظلمات إلى النور أول كلمة نزلت منه كلمة‬
‫في اإلخب��ار عن المس��تقبل‪ ،‬والصرفة‪ ،‬والبالغة‪،‬‬ ‫«اقرأ» لإلش��ارة إلى أن مخارج الناس من الظلمات‬
‫وجها من وجوه‬‫وأس��قط هو الصرفة ولم يجعله��ا ً‬ ‫التي هي القهر والفقر والجهل والتخلف ال طريق‬
‫اإلعج��از‪ ،‬وإن كان ع��رض له��ا ف��ي س��ياق آخ��ر‬ ‫لها إال العلم المشار إليه بكلمة «اقرأ»‪.‬‬
‫ونقضها‪ ،‬ثم ُعني بما في الكتاب العزيز من أخبار‬ ‫جدا‪َ ،‬د َفعني إلى كتابته‬
‫جدا من كثير ً‬
‫هذا قليل ً‬
‫األم��م الماضية‪ ،‬والذين يقرءون الكتاب يرون أنه‬ ‫��ل مختصر في كتاب الباقالني‪ ،‬ولم أتكلم عن‬ ‫تأ ّم ُ‬

‫‪1560‬‬
‫شعبان ‪ 1438‬هـ ‪ -‬مايو ‪ 2017‬م‬
‫وجوه اإلعجاز عند الباقالني‬

‫فحس��ب؛ ألن تحصيل العلم م��ع أهميته القصوى‬ ‫ص الحكايات األساس��ية في تاريخ اإلنسان على‬ ‫َق ّ‬
‫يتض��اءل أم��ام رؤية عق��ول ُت ِص ّر عل��ى أن تضيف‬ ‫ه��ذا الكوكب من ي��وم أن خل��ق اهلل آدم إلى مبعث‬
‫وتأب��ى وتأن��ف أن تك��ون كأس��راب الطي��ر يتب��ع‬ ‫رس��ول اهلل ﷺ‪ ،‬وذك��ر الق��رآن الكري��م تفاصيل‬
‫بعضا‪.‬‬
‫بعضها ً‬ ‫دقيق��ة في ه��ذا التاريخ الطويل مم��ا كان ال يمكن‬
‫أم��ا إخب��ار الق��رآن عن وقائع س��تقع‪ ،‬ث��م تقع‬ ‫تحصيل��ه إال م��ن الذي يعي��ش في ه��ذه األحداث‬
‫كم��ا وصف ُفيش��ي ُِر الباقالني إل��ى أن هذا جاء في‬ ‫ويكون مع أصحابها كما أشار قوله تعالى‪:‬‬
‫آي��ات كثيرة‪ ،‬وكانت اآلية األكثر جريا ًنا في كتب‬ ‫﴿ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ ﯣ ﯤ ﯥ‬
‫العلم��اء ه��ي آي��ة ال��روم‪ ﴿ :‬ﮭ ﮮ ﮯ ﮰ‬ ‫ﯦ ﯧ﴾ (آل عمران‪.)44 :‬‬
‫ﮱﯓﯔﯕﯖ ﯗﯘ‬ ‫﴿ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ‬
‫ﯙ ﯚ ﯛ ﯜﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﯡ ﯢ‬ ‫ﭙ﴾ (القصص‪)44 :‬‬
‫ﯣﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ‬
‫إل��ى آخر م��ا في الكت��اب من هذا الب��اب الذي‬
‫ﯪ﴾(الروم‪.)5 - 2 :‬‬
‫س��نعرض له إن ش��اء اهلل في موضعه‪ ،‬ثم ذكر وجه‬
‫دلت اآلية على أن هؤالء المغلوبين المكسورين‬ ‫اإلعج��از البالغي وطال كالمه في��ه كما طال كالم‬
‫ويتفوق��ون ويغلبون‪ ،‬ث��م أضافت إلى‬
‫ّ‬ ‫س��ينهضون‬ ‫كل َم��ن س��بقوه في هذا الوجه‪ ،‬وم��ن إكرام اهلل لنا‬
‫ثانيا هو أن ذلك سيكون في بضع‬ ‫خبرا ً‬‫هذا الخبر ً‬ ‫به��م وبعلمهم أن كل واحد ل��ه طريق في الحديث‬
‫س��نين‪ ،‬وأن الروم ستجبر كس��رها وتصلح شأنها‬ ‫التنوع فيه فائدة‬
‫عن هذه البالغة المعجزة‪ ،‬وه��ذا ّ‬
‫وتواجه عدوها وتنتصر عليه‪ ،‬وأن الهزيمة ليست‬ ‫ضعت بين يديك ما قاله الخطابي‬ ‫جليلة لنا‪ ،‬وإذا َو ْ‬
‫نهاية المطاف وليس��ت في حاجة إلى زمن طويل‪،‬‬ ‫ف��ي الوجه البالغ��ي المعجز ف��ي الكت��اب العزيز‬
‫وإنما هي في حاجة إلى عزيمة وإرادة وإصرار‪ ،‬وأن‬ ‫وم��ا قال��ه الرمان��ي‪ ،‬وم��ا قال��ه الباقالني وم��ا قاله‬
‫الشعوب الحية تسارع في تضميد جراحها وإعداد‬ ‫واحدا ه��و البالغة‬
‫ً‬ ‫موضوعا‬
‫ً‬ ‫عب��د القاهر فس��تجد‬
‫نفس��ها بقيادات ح ّية زكية مخلصة تجعل ش��عبها‬ ‫ش��ديدا في ه��ذه البالغة‬ ‫ً‬ ‫تنوعا‬
‫المعج��زة‪ ،‬وتج��د ً‬
‫ي��دا واح��دة ال تض��رب ْبع َض��ه ببعض كم��ا يفعل‬
‫ً‬ ‫فه��ي عن��د الخطابي بالغ��ة خاصة بالق��رآن‪ ،‬وهي‬
‫األغبياء‪ ،‬وبهذا تعود الكرامة ويعود النصر‪ ،‬وهذا‬ ‫عن��د الرماني فنون البالغة‪ ،‬من تش��بيه واس��تعارة‬
‫متضمن في قوله س��بحانه‪﴿ :‬ﯚ ﯛ‬ ‫ّ‬ ‫وأكث��ر منه‬ ‫وإيج��از‪ ،‬وه��ي عن��د الباقالني مختلف��ة اختالفًا ال‬
‫خبرا ثال ًثا وهو انتصار‬
‫ﯜ﴾ ثم أضافت اآلية ً‬ ‫تصف��ه عبارة مختصرة كهذه العب��ارة التي َو َصفْ ُت‬
‫المس��لمين على قريش الوثنية يومئذ‪ ،‬قلت‪ :‬اهتم‬ ‫بها بالغة الخطابي والرماني‪ ،‬وإنما س��تحتاج إلى‬
‫العلم��اء به��ذا اإلخبار عن الغيب لش��دة وضوحه‪،‬‬ ‫أكث��ر من مقالة ألبين عنها‪ ،‬وكذلك الكش��ف عن‬
‫ولف��ت الباقالن��ي إل��ى آي��ات آخ��رى‪ ،‬منه��ا قوله‬ ‫وجه البالغة المعجزة عن��د عبد القاهر‪ ،‬ولن تجد‬
‫تعال��ى‪﴿ :‬ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ‬ ‫ف��ي العلم بين يدي��ك أفضل من ه��ذه العقول التي‬
‫ﭦﭧﭨﭩﭪ ﭫﭬﭭ‬ ‫تتوارد على شيء واحد ثم تراه و ُتح ّل ُله و َت ْدرسه من‬
‫ﭮ﴾(التوبة‪.)33 :‬‬ ‫جهات ش��تى‪ ،‬فكل هذا النظ��ر ليس تحصيل علم‬

‫‪magazine.azhar.eg‬‬
‫‪1561‬‬
‫دراسات قرآنية‬
‫اعتق��اد قل��ب ال يجوز اإلك��راه في��ه؛ ألن القلوب‬ ‫واآلي��ة صريح��ة وقاطع��ة ف��ي غَ لبة ه��ذا الدين‬
‫ك��ره بح��دِّ الس��يف‪ ،‬وإنما هو اله��دى والحق‬
‫ال ُت َ‬ ‫وظه��وره عل��ى كل َم��ن يعارض��ه‪ ،‬وأن الش��عوب‬
‫اللذان هما جوهر الفطرة‪ ،‬التي هي جوهر إنسانية‬ ‫القائمة علي��ه والداعين إلي��ه بالحكمة والموعظة‬
‫اإلنسان‪.‬‬ ‫الحسنة سيغلبون ال محالة‪ ،‬وفي اآلية إشارة جليلة‬
‫ج��دا ال تخف��ى على مث��ل الباقالني‪ ،‬وه��ي أن هذا‬ ‫ً‬
‫وذكر الباقالني أن أصحاب رسول اهلل ﷺ كانوا‬
‫الهدى‬
‫الدين يظه��ر وينتصر بالذي ُبعث ب��ه وهو َ‬
‫ُيش�� ّيعون الخارجين للجهاد بهذه اآليات المبشرة‬
‫ودي��ن الح��ق‪ ،‬وأنه لن ينتصر ولن يظهر بالس��يف‬
‫بالنص��ر‪ ،‬وإنما كانوا يخرجون إلزالة العوائق التي‬
‫والرع��ب والتخريب والتدمي��ر‪ ،‬وراجع‬ ‫والقت��ل‪ّ ،‬‬
‫تحول بين الناس وبين االختيار‪ ،‬فإذا كس��روا هذه‬
‫اآلي��ة‪ ،‬راج��ع قول��ه جل ش��أنه ﴿ﭥ ﭦ‬
‫العوائق تركوا الناس وما يختارون‪ ،‬من شاء فليؤمن‬
‫ﭧ ﭨ﴾‪ ،‬تعل��م أن إظهاره ه��و بما جاء به‬
‫وس ِّميت فتوحات؛ ألنها فتحت‬ ‫ومن شاء فليكفر‪ُ ،‬‬ ‫من الهداي��ة الجامعة لكل خير في الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫للن��اس األب��واب المغلقة التي كان��ت َت ُصدُّ هم عن‬
‫والحق الذي هو أصل خالفة اهلل في األرض‪ ،‬والذي‬
‫الهدى ودين الحق‪ ،‬وهذا الوعد بظهور الدين على‬
‫خل��ق له الناس‪ ،‬يعني أن ال��ذي َي ْظ َه ُر به هذا الدين‬
‫الدين كله قائم إلى يوم القيامة‪ ،‬ومثله قوله تعالى‪:‬‬
‫هو الفطرة التي فطر اهلل الناس عليها‪ ،‬وأنه انتصار‬
‫﴿ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ‬ ‫إل ْنسان ّية اإلنسان‪.‬‬
‫ﭺ﴾ (آل عم��ران‪ .)12 :‬والقائل��ون للذين‬ ‫وأن��ه ال ش��أن ل��ه بالقت��ل والخ��راب والرع��ب‬
‫كف��روا هم الذي��ن نص��روا اهلل فنصره��م؛ ألن اهلل‬ ‫والتدمي��ر‪ ،‬كل ه��ذا مخالف مخالف��ة قاطعة للذي‬
‫ُ‬
‫فش��رط نصر اهلل‬ ‫س��بحانه وع��د بنصر َمن ينصره‪،‬‬ ‫أرسل اهلل رس��وله به؛ ألنه س��بحانه أرسله بالهدى‬
‫ألهل الحق أن ينصروا اهلل‪ ،‬ومعنى ُن ْصرة اهلل ُن ْصرة‬ ‫ال��ذي هو عكس الضالل‪ ،‬وبالحق الذي هو عكس‬
‫الح��ق‪ ،‬ونصرة الحق غرس��ه ف��ي األرض‪ ،‬والدفاع‬ ‫الباط��ل‪ ،‬وه��ذا جم��اع الدي��ن وجم��اع الفط��رة‪،‬‬
‫عن��ه‪ ،‬ومواجه��ة الظل��م والغطرس��ة والبط��ش‪،‬‬ ‫وجم��اع إنس��انية اإلنس��ان‪ ،‬وهذا ه��و المنتصر‪،‬‬
‫والتسلط‪ ،‬وإحقاق الحق في كل موقع‪ ،‬ثم االلتزام‬ ‫وه��ذا ه��و الذي يظه��ر اهلل دينه ب��ه‪ ،‬والحظ فاعل‬
‫الكام��ل بما أم��ر اهلل به من اإلتقان في كل ش��يء‪،‬‬ ‫﴿ﭨ﴾؛ ألن الضمير يعود على الذي أرس��ل‬
‫واإلحس��ان ف��ي كل ش��يء واألمانة في كل ش��يء‪،‬‬ ‫رس��وله جل وتقدّ س‪ ،‬ولن تُظهِ ُروه أنتم‪ ،‬ال بلسان‬
‫واالجتهاد في كل شيء‪ ،‬االجتهاد في خالفة اهلل في‬ ‫وال بسنان‪ ،‬وإنما يظهره اهلل ألنه الفطرة التي فطر‬
‫األرض بإعمارها بالعدل والعلم‪ ،‬والخير والتقدم‪،‬‬ ‫اهلل الناس عليها‪ ،‬ولم يحمل واحد من المس��لمين‬
‫ورفاهي��ة اإلنس��ان‪ ،‬وم��ن العجي��ب أنك تس��مع‬ ‫الس��يف ليدخ��ل الن��اس ف��ي دي��ن اهلل؛ ألن اهلل ال‬
‫المالئك��ة وه��م يراجع��ون ربهم َّلما ق��ال لهم إني‬ ‫الم ْك َره‪ ،‬وقوله تعالى‪﴿ :‬ﯿ ﰀ ﰁ‬ ‫يقبل إس�لام ُ‬
‫جاعل في األرض خليفة‪ ،‬وهم يقولون له سبحانه‪:‬‬ ‫ﰂ﴾‪ ،‬جمل��ة موجه��ة إلينا؛ يعن��ي‪ :‬ال تكرهوا‬
‫﴿ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ﴾‬ ‫أح��دا على الدخول فيه‪ ،‬وتأم��ل الجملة لترى أنها‬‫ً‬
‫(البقرة‪.)30 :‬‬ ‫تق��ول الدي��ن اعتقاد قل��ب‪ ،‬وم��ا كان مرجعه إلى‬

‫‪1562‬‬
‫شعبان ‪ 1438‬هـ ‪ -‬مايو ‪ 2017‬م‬
‫وجوه اإلعجاز عند الباقالني‬

‫وإنما فقط بالحوار واإلقناع‪ُ ،‬يع ّلمنا ربنا‪ ،‬بخطاب‬ ‫ثم يجيبهم جل شأنه بقوله‪﴿ :‬ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ‬
‫مالئكته كيف نحيا متفاهمين متشاورين‪ ،‬وكيف‬ ‫ﭮ﴾(البقرة‪.)30 :‬‬
‫يس��مع كبيرنا من صغيرن��ا‪ ،‬وكيف يكون اإلقناع‬
‫ولم يكفهم عن الحوار وال عن الس��ؤال‪ ،‬وإنما‬
‫هو س��بيل الحوار‪ ،‬والحظ أن المالئكة ال يعصون‬
‫أيضا أن‬
‫أقنعه��م بأنه يعلم ما ال يعلمون‪ ،‬وعجيب ً‬
‫اهلل م��ا أمرهم ويفعل��ون ما يؤم��رون وأنهم ال علم‬
‫يفاتحه��م ربنا جل وتق��دّ س في ال��ذي يريده وهو‬
‫له��م إال ما علمهم اهلل س��بحانه‪ ،‬وأنه��م لما قالوا‬
‫لربن��ا‪ ﴿ :‬ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ﴾‪ ،‬وأن��زل‬ ‫جعل��ه في األرض خليف��ة‪ ،‬واألرض أرض��ه والخلق‬
‫ثمة‬
‫اهلل س��بحانه ه��ذا إلينا ف��ي كتابه كان في��ه أن ّ‬ ‫خلقه وله األمر كله‪ ،‬وكان يمكن أن يخلق آدم من‬
‫عدوي��ن لعمارة الحياة واألرض والش��عوب‪ ،‬وهما‬ ‫غير هذه المفاتحة‪ ،‬ولكنه سبحانه لما أراد وجود‬
‫وسفك الدماء‪ ،‬وأنك حيث تراهما فال بد‬ ‫اإل ْفساد َ‬ ‫ه��ذا الجنس البش��ري ب��دأ أمره بالح��وار والكالم‬
‫أن تتأك��د أنه ال عم��ار وال خالف��ة‪ ،‬وال تقدم‪ ،‬هذا‬ ‫لإلشارة إلى أن خالفة اإلنسان في األرض لن تكون‬
‫واهلل أعلم‪.‬‬ ‫البتة باالس��تبداد وتكميم األفواه والقمع والقهر‪،‬‬

‫❀❀❀‬

‫‪magazine.azhar.eg‬‬
‫‪1563‬‬

You might also like