You are on page 1of 102

‫الديمقراطية والثقافة‬

‫بين الممارسات ونقدها‬


2
‫الديمقراطية والثقافة بين الممارسات ونقدها‬

‫فعاليات المؤتمر العلمي الدولي الثاني‬


‫&‬
‫تقرير أنشطة الدورة الثانية من‬
‫"المهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة"‬
‫بالشمال الغربي‬

‫تحت إشراف‬
‫خالد عبيدة ووفاء عبيدة‬

‫‪3‬‬
‫اللجنة العلمية التي تولت تقويم المداخالت‬

‫كزافييه لومبار‪ :‬أستاذ بجامعة تولوز جان جوراس‪ ،‬فرنسا‬ ‫‪-‬‬


‫جان النكري‪ :‬أستاذ متميز بجامعة باريس ‪ ،I‬فرنسا‬ ‫‪-‬‬
‫ام الزين بن شيخة‪ :‬أستاذة متميزة بجامعة تونس‪ ،I‬تونس‬ ‫‪-‬‬
‫خالد عبيدة‪ :‬أستاذ محاضر بجامعة سوسة‪ ،‬تونس‬ ‫‪-‬‬

‫المداخالت باللغة العربية‬


‫‪4‬‬
‫د‪ .‬رشيدة التريكي‬
‫توطئة‪..................................................................................................................‬ص‪7.‬‬
‫د‪ .‬خالد عبيدة و د‪ .‬وفاء عبيدة‬
‫تقديم‪....................................................................................................................‬ص‪9.‬‬
‫د‪ .‬علي الفريوي‬
‫أسئلة الفن ومآالت الديمقراطية في منعطف األزمة‪ :‬قراءة في السياسات الثقافية المعاصرة‪..........‬ص‪11.‬‬

‫د‪ .‬رضا الجوادي‬

‫ثقافة الفن لدى نيتشه‪ :‬من ديمقراطيّة المساواة إلى أرستقراطيّة العدالة‪....................................‬ص‪39.‬‬

‫د‪ .‬أكرم بو جناح‬

‫المثقف العربي والرهان الديمقراطي‪............................................................................‬ص‪45.‬‬


‫د‪ .‬سيف الغابري‬

‫التربية على المواطنة والرهان الديمقراطي‪....................................................................‬ص‪53.‬‬

‫د‪ .‬مريم خير الدين غابري‬

‫التنمية الثقافية والديمقراطية المحلية في الوسط الريفي‪ :‬تنمية الثقافة أم ثقاف ة التنمي ة‪......................‬ص‪.‬‬
‫‪83‬‬

‫د‪ .‬عرفات جبلون‬

‫رموز تتالقح وش عوب تتفاع ل وتتم اهى‪..........................................................................‬ص‪.‬‬


‫‪93‬‬

‫ملحق أنشطة الدورة الثانية من "المهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة" بالش مال الغ ربي‪.......‬ص‪.‬‬
‫‪99‬‬

‫‪5‬‬
6
‫توطئة‬

‫يُخفي االستهالك الثقافي ال ُمشاع خطر حرم ان الش خص من تف رّد تجربت ه الجمالي ة‪ ،‬ومن رغبات ه؛‬
‫وح تى من اس تقالل ذائقت ه‪ .‬إن ه يف رض رقاب ة ذكي ة تعبّ ر عن نفس ها في ش كل لي برالي وتحت س تار‬
‫التعددية‪ ‬والتحرر‪ .‬وفي حين ت َّدعي الديمقراطية االستهالكية للصناعة الثقافية شكليا بأنها تق وم على اقص اء‬
‫النخبوية من أجل المساواة في التلقي والتذوق‪ ،‬فإنها توحّد في الواقع بين الس لوكيات لدرج ة يض عف معه ا‬
‫الشعور بالوجود‪ ،‬الذي يستمد قوته من تمل ّ‬
‫ك الخيال والرغبة‪.‬‬
‫وعندما تتخذ شخصنة المواطنين اشكاال أكثر فأكثر محافظة‪ ،‬تغذيها بكثاف ة وس ائل االعالم‪ ،‬يص بح‬
‫السؤال الراهن‪ ،‬الذي يفرض على المبدعين والفاعلين الثقافيين طرحه في تونس‪ ،‬متعلقا بسلطة الفن ون في‬
‫سياق التحول الديمقراطي‪ .‬ما ه و ال دور ال ذي يمكن للفن ون والثقاف ة أن تلعب ه في بيئ ة اجتماعي ة سياس ية‬
‫جديدة؟‬
‫وتدعونا الفعاليات الفنية في سياق تحول ديمقراطي إلى إع ادة التفك ر في الحركي ة الداخلي ة لمفه وم‬
‫الثقافة‪ .‬إنها تسمح لنا بمراجعته على ضوء متغيرات الفضاء ال ديمقراطي للحي اة‪ ،‬وال ذي نتع اطى مع ه في‬
‫بعده االنشائي؛ أي كمسار ابداعي مفتوح ومعنّى بالمعارضات وتأسيس القيم؛ مشغول بالعود وتجاوزه‪.‬‬
‫وتتصرف االبداعات الفني ة والفعالي ات الثقافي ة‪ ،‬هك ذا‪ ،‬كق وة إنت اج لرغب ة الحي اة المختلف ة‪ ،‬ع بر‬
‫تحوي ل الرغب ة إلى إرادة حي اة تخ ترق ر ّدات الفع ل المحافظ ة والخاض عة للس لطة الش بحية للض وابط‬
‫االجتماعية‪ .‬انها تث ّمن في الحقل الثقافي وظيفتي االختالف الحيوية واالختراقات‪ .‬انها تس مح ع بر تج اوز‬
‫التجربة العادية بالتحرّر من القناعات وفتح رؤية نقدية للتمثالت وصيغ تحديد الهوية المتفق عليها ثقافيا‪.‬‬
‫وتعتبر هذه الديناميكية في المجال الفني بمثابة مسار مواطن ة اجتماعي ة مبتك رة تنهض على التن وع‬
‫المالزم لظاهرة االبداع والتلقي ذاتها‪ .‬وفضاء االبداعات الثقافي ة ه و في نفس ال وقت فض اء للتع ايش‪ .‬ان ه‬
‫يفترض مسبقا المشاركة واالع تراف باس تقاللية ك ل ف رد‪ .‬وله ذا الس بب‪ ،‬أص بح الي وم للف اعلين الثق افيين‬
‫والفنانين في تونس وعي بمساهمتهم في المسار الديمقراطي والحياة االجتماعي ة باعتب ارهم س لطة مض ادة‬
‫لالستبداد المتربص بكل دولة‪ .‬وأمام تجريدية القيم المؤسساتية للحرية والعدالة‪ ،‬أضحوا يطالبون بتحررهم‬
‫الحقيقي؛ اين تتحقق اصالة كل مبدع عبر كفاءته اإلبداعية في التواص ل والتأس يس لقيم جدي دة‪ .‬وعلى ه ذا‬
‫النحو‪ ،‬يتحول الموقف النقدي الموصول بالفن إلى تأسيس ذاتي للفعل االبداعي‪.‬‬
‫ويتطرق هذا الكتاب إلشكالية الممكن بين الثقافي واالبداعي والتعايش الديمقراطي من خالل تجمي ع‬
‫نص وص م داخالت الم ؤتمر العلمي ال دولي الث اني للمهرج ان ال دولي للفن والش باب والمدين ة بالش مال‬
‫الغربي؛ "الديمقراطية والثقافة بين الممارسات ونقدها"‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫أ‪ .‬رشيدة التريكي‬

‫‪8‬‬
‫فعاليات المؤتمر الدولي الثاني "الديمقراطية والثقافة بين الممارسات ونقدها"‬

‫تقديم‬

‫إن طرح سؤال الثقافة‪ ،‬أو المسألة الثقافية‪ ،‬يفترض تحويل هذه المسائلة من المجال األنطولوجي إلى‬
‫حقل السياسات التي كانت قد حددتها وال تزال تصوغ تمثالتها المباشرة أو الضمنية أو االنفعالية‪ .‬وعادة ما‬
‫تعكس سياسات التنمية الثقافية توجهات الحوكمة الشاملة التي تعم ل على ض مان وح دة اجتماعي ة متس قة؛‬
‫أحادية الشكل وقابلة للرقابة‪.‬‬
‫وباعتبار أن سؤال الثقافة يشكل في حد ذاته نقطة التقاء بين رهانات وتصورات وخيارات سياس ية‪،‬‬
‫كما أنه ذي طابع ومؤسساتي واجتماعي في ذات الحين‪ ،‬فإن طرحه يفترض ضرورة تدقيقا مفاهيمي ا ي بين‬
‫التمايز بين "ثقافة العامة" و"التصور الشعبي للثقافة" و"الثقافة البديلة"‪...‬‬
‫أما فيما يخص العالقة بين مفهومي "الثقافة" و"الديمقراطية"‪ ،‬فإنه المدخل الذي سيسمح لن ا بتحدي د‬
‫مواقع القول المنفصلة والمتصلة في موضوع تف ّكرنا في إطار هذا المؤتمر‪.‬‬
‫لقد تعرضت سياسة "دمقرطة الثقافة" إلى الكثير من االنتق ادات والعراقي ل من ذ س نة ‪ ،1972‬وذل ك‬
‫نظرا لطابعها النخبوي والشمولي‪ .‬وجاء أنموذج "الديمقراطية الثقافي ة" لمعارض ة ه ذه السياس ة؛ مقترح ا‬
‫بديال يسمح بحيّز أوسع لتعدد الثقافات والمبادرات الذاتية‪ .‬ولم ينأى ه ذا األنم وذج األخ ير ب دوره أن يث ير‬
‫العديد من السجاالت والجدل‪.‬‬
‫فالفعل السياسي اليوم في تونس يتصف بكونه "مسارا ديمقراطي ا"‪ ،‬ونحن ال ن ود في س ياق تطرقن ا‬
‫إلى المسألة الثقافية في صلب هذا المسار أن نتداول حول السياسات الثقافية بقدر ما نشاء التنبيه إلى م ا في‬
‫"الثقافة" من فرادة وذاتية‪ .‬وننطلق هنا من اعتبار تعدد الثقافات مس لمةً داخ ل نفس البل د‪ ،‬مم ا يجع ل دور‬
‫الخصوص يات المحلي ة محوري ا في ك ل فع ل ثق افي‪ .‬فه ل يمكن الح ديث عن ثقاف ة محلي ة خ ارج نط اق‬
‫الفولكلور؟ كيف يمكننا تعريف "المحلي" في عالم معولم؟ إلى أي م دى يمكن توظي ف "المحلي" باعتب اره‬
‫قيمة غير ارتدادية وسلفية؟ كيف نفكر في وظيفة الثقافة بصفتنا فنانين ومدرسي فن ون وب احثين ومش تغلين‬
‫في الحقل الثقافي؟ هل يكون ذلك عبر التعليم وتوعية الناس؟ ما دور الفن في مثل ه ذا المس ار؟ ه ل يع ني‬
‫التثقيف إطالق العنان للفعل التعبيري حتى يحرر الشعوب داخليا أم أنه تب ني ألنم وذج سياس ي بعين ه دون‬
‫النظر إلى الخصوصيات االجتماعي ة واالقتص ادية؟ ه ل أن الثقاف ة أنم وذج ُم ْملى أم أنه ا ض امن االنفت اح‬
‫المستديم للبشر على ممارسات وأفكار العالم؟‬
‫إن هذا المؤتمر الدولي الذي نظمته جمعي ة رقش للثقاف ة والفن ون والتص ميم ه و في الحقيق ة فض اء‬
‫مفتوح للمبادالت والنقاشات حول كل المسائل السالف طرحها‪ ،‬وهو ينخرط بدوره ض من فعالي ات ال دورة‬
‫‪9‬‬
‫الثانية من "المهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة" بالشمال الغربي والتي س عينا فيه ا إلى توس يع رقع ة‬
‫فعلنا الثقافي ليمتد على واليات الشمال الغربي األربع‪ :‬سليانة‪ ،‬الكاف‪ ،‬جندوبة وباجة‪.‬‬
‫وش ّكلت إدارة فعاليات هذا المهرجان الممتد في الواليات األرب ع تح ديا لوجس تيا ض خما نظ را للم د‬
‫العارم لطلبة الفنون واألطفال والراقصين الشباب والباحثين والفنانين القادمين من العدي د من بل دان الع الم‪.‬‬
‫وقد شاءت جمعية رقش خوض هذه التجربة لتتف ّحص ميدانيا واقع العالقة الممكنة بين الثقافة والديمقراطية‬
‫والذي طرحته للمداولة في مؤتمرها الدولي‪.‬‬
‫ولم تتوانى وزارة التعليم العالي وديوان الخدمات الجامعية للشمال على دعم هذه المب ادرة الجريئ ة‪،‬‬
‫حيث فتح لنا الديوان مبيتاته ومطاعمه الجامعية في عطلة الربيع‪ ،‬والتي أثثت المندوبيات الجهوية للش ؤون‬
‫الثقافية في منطقة الشمال الغربي سهرات المهرجان أثنائها عبر عروض مسرحية وموسيقية‪.‬‬
‫إذن‪ ،‬لقد ك انت جمعي ة رقش للثقاف ة والفن والتص ميم مس نودة رس ميا ح تى تتمكن من خ وض ه ذه‬
‫التجربة الفريدة في "دمقرطة الثقافة" التي جرت في ذات يوم في منطق ة الش مال الغ ربي التونس ي بفض ل‬
‫الخيارات الثقافية اإلستراتيجية "للمهرجان الدولي للفن والشباب والمدين ة"‪ .‬لق د ك ان وزي ر التعليم الع الي‬
‫مقتنعا بالسعة االستراتيجية لهذه المبادرة لدرج ة جعلت ه ال ي تردد في دع وة زمالئ ه لحض ور حف ل اختت ام‬
‫الدورة الثانية من مهرجان رقش‪.‬‬
‫وختام ا نن وه ب أن طموح ات لجن ة تنظيم ه ذه ال دورة الثاني ة من المهرج ان ال دولي للفن والش باب‬
‫والمدينة تطورت لترنو إلى معانقة "دمقرطة" هذه التجرب ة الثقافي ة في رب وع الش مال الغ ربي‪ .‬إن اإلرادة‬
‫السياسية هي‪ ،‬حينئذ‪ ،‬الشرط المبدئي لكل سعي نح و "ديمقراطي ة ثقافي ة"‪ .‬إنه ا مش روع حكوم ة مجتمع ة‬
‫باألساس حول نفس الهدف وليست مشروع وزارة واحدة!‬

‫د‪ .‬خالد عبيدة و د‪ .‬وفاء عبيدة‬

‫لجنة االشراف على المؤتمر‬

‫أسئلة الفن ومآالت الديمقراطية في منعطف األزمة‪:‬‬


‫‪10‬‬
‫قراءة في السياسات الثقافية المعاصرة‬

‫د‪ .‬علي الفريوي‪ ،‬جامعة صفاقس‪ ،‬تونس‬

‫ثمة سؤال جذري يطرح بصيغ مختلفة عن مهمة الفنان في المجتمع الديمقراطي‪ :‬لم اذا يط رح مث ل‬
‫هذا السؤال اليوم ولم يطرح باالمس؟ "لماذا يصبح هذا السؤال سؤاال مهما ولم يكن باالمس ك ذلك؟"‪ .1‬ه ل‬
‫ثمة ما يصل هذه االسئلة بوضع الفنان من جهة ما يتقاطع في الفن بين السياسي واالديولوجي؟‬

‫تحدث لوك ف يري عن ديمقراطي ة الطليع ة واس تقرأ فيه ا األزم ة ال تي التقت ب الفن‪ ،‬وح وّلت أزم ة‬
‫المجتمع إلى أزمة إبداعية مسّت بطبيعة الحياة المدنية والديمقراطية في الغ رب‪ ،‬بع د أن أص بحت "الثقاف ة‬
‫السائدة ثقافة السوق والتسليع"‪ .2‬م ا يع ني أن مس الة الديمقراطي ة ال تتص ل بالسياس ي‪ ،‬إنم ا هي موض وع‬
‫ثورة فنية تأتي على كل المؤسسات التقليدية لتفكك اإلرث الميتافيزيقي الذي يفصل الفني عن الديمقراطي ة‪،‬‬
‫ويلحقها بمجال األيديولوجي والسياسي‪ .‬يعتقد آالن تورين في مؤلفه "نقد الحداثة" أن الحديث عن‬
‫الديمقراطية في الغرب اقترن بالحداثة وبمأزق الذاتية والتمركز‪" .‬وهكذا فان فك رة الديمقراطي ة المتماهي ة‬
‫أوال بفكرة المجتمع اقتربت تدريجيا من فكرة الذات التي تتجه ألن تكون تعبيرها السياسي‪ ،‬وذلك يفس ر أن‬
‫تحليلي للذات في المجتمع الحديث ينتهي بتفكير في الديمقراطية"‪.3‬‬

‫توج د مس احة مركب ة من مس طحات مختلف ة‪ ،‬ه دفها الجم ع بين الديمقراطي ة والفن‪ ،‬وفتح ط رق‬
‫ومسارب مشتركة‪ ،‬يؤمنها الفنان ويستفيد منها المجتمع‪ .‬تلك هي قصدية اإلبداع الف ني عن د كاندنس كي؛ أن‬
‫يكون الفنان صوت المجتم ع ون داء األرض وص وت نب وءة للخالص من س لطة التطوي ع الم ادي‪" .‬ينبغي‬
‫على الفنان أن يكون أعمى تجاه الشكل المعروف أو غير المعروف‪ ،‬أص م تج اه تع اليم عص ره ورغبات ه‪.‬‬
‫ينبغي أن تتجه عينه إلى حياته الداخلية‪ ،‬وينبغي أن تنص ت أذن ه إلى ص وت الض رورة الداخلي ة"‪ .4‬توج د‬
‫ه ّمة عند الفنان تجمع بين الفن والسياسي بعد دمقرطة الفن‪ ،‬دون أن ننفي التحفظ على اقتدار الفن في نش ر‬
‫الروح الديمقراطية بعد أن يصبح هو ذاته فنا ديمقراطيا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪.Frédérick Gravel, Le rôle de l’artiste dans la société démocratique, Mémoire présenté comme exigence‬‬
‫‪partielle de la maitrise en dance, Université du Québec à Montréal, 2010, p 32.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪. Luc Ferry, Le Sens du Beau aux origines de la culture contemporaine, Eds Grasset, Paris, 1990, p 200.‬‬
‫‪ . 3‬آالن تورين‪ " ،‬نقد الحداثة‪ ،‬والدة الذات "‪ ،‬القسم الثاني‪ ،‬ترجمة صالح الجهيم‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة السورية‪ ،‬دمشق‪،‬‬
‫‪ ،1998‬ص ‪.155‬‬
‫‪4‬‬
‫‪. Kandinsky, Le spirituel dans l'art et dans la peinture en particulier, Eds Denoël, Paris, 1989, p 95.‬‬
‫‪11‬‬
‫يعتقد جان ماري شيفر أن الح ديث عن دمقرط ة الفن يس تدعي تش كيل "مس طح سياس ي يجم ع بين‬
‫الفنان والجمهور"‪ .5‬ويحتاج لقاء الفن ان ب الجمهور إلى وج ود فض اء ديمق راطي‪ ،‬وإلى مجتم ع مؤسس اتي‬
‫يقوم على الحوار وعلى الضيافة المتبادلة لطرح المشترك‪ ،‬وفتح األف ق على الف رق والتع دد "واالع تراف‬
‫باآلخر"‪ .6‬ويبقى ذلك مسعى قائما ومطلبا شرعيا إذا استطاع الفن ان أن يلتحم بأس ئلة الجمه ور‪ ،‬من جه ة‪،‬‬
‫وأن يساهم في انتشار الفنون‪ ،‬من جهة ثانية‪ ،‬بعد التحرر من تلك األزمة التي افتعلتها النخب الثقافي ة‪ ،‬حين‬
‫روجت لطبقي ة الفن‪ .‬ذل ك م ا فتح المج ال للح ديث عن أزم ة ثق ة بين الفن ان والجمه ور‪ ،‬وهيمن ة م نزع‬
‫اديولوجي روج له رأسمال الحر‪ ،‬بعد أن اختلق توقعات متصارعة وتناقضات صارخة ماس ت بين ط رفي‬
‫العملية الديمقراطية‪" :‬الفنان من جهة وأسئلة المجتمع المصيرية من جهة اخرى"‪ .7‬وتضاعفت األزم ة من‬
‫غياب النقد لألزمة ذاتها ومجاوزتها نح و ديمقراطي ة هادئ ة‪ ،‬يك ون الفن أساس ها والفن ان المق اوم رس ولها‬
‫والمجمع الديمقراطي فضاؤها السياسي‪ .‬ويتحول الفنان هك ذا إلى مواج ه عني د إلس قاطات الحداث ة الفني ة‪،‬‬
‫لكنه يرغم بفعل هيمنة االديولوجي وصناعة الثقافة إلى االنخراط والطاعة‪ .‬فبع د "ان ك ان يظن ان ه ينج و‬
‫بنفسه من هذا اإلشكال الذي ظهر منذ هلت الحداثة سرعان ما وقع في الهاوية"‪.8‬‬

‫تلك هي أسئلة هذه الورقة ورهاناتها‪ ،‬أن تبحث في طرفي األزمة‪ ،‬وأن تس تجلي مهم ة الفن ان ودور‬
‫الجمهور في تخطيها وجعل اإلبداع الف ني روح الديمقراطي ة المنش ودة ال تي تس مح بممارس ة النق د وطلب‬
‫المجاوزة‪ .‬ويمكن أن نستعير من جمالية كانط السياسية م ا يع بر عن ه ذا المش هد الك ارثي في المجتمع ات‬
‫المعاصرة‪ ،‬حتى ندرك الصراع الحاد حول سؤال الديمقراطية داخ ل الحلب ة الجدلي ة ال تي تنتهي بانتص ار‬
‫أحد طرفي الصراع‪" .‬لهذا فان األبط ال الن بيهين‪ ،‬س واء ص ارعوا من اج ل القض ية العادل ة أو الخاطئ ة‪،‬‬
‫يكونون متأكدين من ربح تاج االنتصار‪ ،‬إذا هم استطاعوا تدبير ربح الهجمة األخيرة"‪.9‬‬

‫وتكشف األزمة عن هيمنة األنظمة الكلياني ة والتع دي على روح الق انون ومطلب الس لم االجتم اعي‬
‫ال ذي يتطلب ه الح وار ال ديمقراطي في الفض اء المش ترك‪ ،‬بوص فه "المه د للديمقراطي ة"‪ .10‬يبقى مطلب‬
‫الديمقراطية رهانا فنيا وحضاريا يطلبه الفنان للتغلب على أزمة الحداثة التي بلغت غايتها القصوى‪" .‬حيث‬
‫لم يعد يرى سوى عالمين‪ :‬عالم الحساب االقتصادي وعالم الهوية الثقافية"‪.11‬‬

‫‪5‬‬
‫‪. Schaeffer Jean Marie, L’art de l’âge moderne, Eds Gallimard, Paris, 1992, p 444.‬‬
‫‪6‬‬
‫‪. Clair Jean, La responsabilité de l'artiste, Eds Gallimard, Paris, 1997, p 142.‬‬
‫‪7‬‬
‫‪. Ardenne Paul, L’art dans son moment politique, Eds La lettre Volée, Bruxelles, 1999, p 402.‬‬
‫‪ .8‬تيودور ادرنو‪" ،‬نظرية استطيقية"‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬منشورات دار الجمل‪ ،‬بغداد‪ ،2017 ،‬ص ‪.51‬‬
‫‪ .9‬ايمانويل كنط‪" ،‬نقد العقل المحض"‪ ،‬ترجمة موسى وهبة‪ ،‬مركز اإلنماء القومي‪ ،‬بيروت‪ ،1988 ،‬ص ‪.329‬‬
‫‪ .10‬غيورغ سورنسن‪" ،‬الديمقراطية والتحول الديمقراطي"‪ ،‬ترجمة عفاف البطاينة‪ ،‬المركز العربي لألبحاث ودراسة‬
‫السياسات‪ ،‬الدوحة ‪ ،2008،‬ص ‪.117‬‬
‫‪ .11‬آالن تورين‪" ،‬نقد الحداثة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.175‬‬
‫‪12‬‬
‫رهانات الفن وتفعيل ديمقراطية الحوار‪:‬‬

‫ألجل تفعيل عالقة الفن بالديمقراطية في مجتمعات معاصرة‪ ،‬فككتها االديولوجيات والرؤى الكليانية‬
‫المتمركزة حول ذاتها دون االعتراف باألخر السياسي‪ ،‬يفترض من الفنان أن يرتفع عن ذاتيته‪ ،‬وان يك ون‬
‫كائنا متوازنا يجعل من "والدة العمل الفني مثل والدة الكون‪ ...‬إبداع عمل فني ه و إب داع الع الم"‪ .12‬يطلب‬
‫منه أن يجعل أعماله الفنية في متناول الجميع‪ ،‬وان تعالج أسئلة اإلنسانية‪ .‬أن تصبح فاعلية الفن هي فاعلي ة‬
‫المجتمع ونشاطه اإلبداعي‪ ،‬وان يصبح في متناول الجمي ع ح تى تتج ذر روح المواطن ة والتع اون‪ .‬ي ذهب‬
‫جون ديوي إلى أن الفن قادر على لعب دور المواطن الديمقراطي في مجتمع ديمقراطي‪ ،‬باعتب اره الرؤي ة‬
‫األكثر فاعلية على إدراك الحراك الثوري في المجتع ات‪ ،‬بع د أن تجتاحه ا "أس ئلة التغي ير وتس كنها روح‬
‫الديمقراطية"‪.13‬‬

‫وقد ساهمت عدة مقاربات تربوية في جعل العمل الفني أكثر ديمقراطية‪ ،‬عندما دعت ع بر برامجه ا‬
‫إلى إدماج التربية الفنية في البرامج المدرسية‪ ،‬وإقامة المعاه د واألكاديمي ات الفني ة ح تى يك ون الفن أك ثر‬
‫قربا وفاعلية في تغيير ال وعي‪ ،‬والمس اهمة في إنض اج الخ برة الجمالي ة ال تي ته يئ الفن ان لتحم ل رس الة‬
‫التغيير الثوري‪ ،‬ومقاومة معيقات قيام مجتمع ديمقراطي يقبل باالختالف وبالحوار‪ .‬إن إعادة ط رح مس الة‬
‫ديمقراطية الفن‪ ،‬ومدى دوره في تشكيل وعي ديمقراطي‪ ،‬يجنب الشعوب الكوارث هو نتيجة الوعي بأزمة‬
‫أنطولوجية وفكرية عميقة‪ ،‬خلفتها عقالنية العقل الحداثي‪ ،‬نتيجة اعتماد عقل أداتي ونسيان سؤال المص ير‪.‬‬
‫تم ّر اإلنسانية بأزمة روحية وبمرحلة مساءلة لنتائج "براديغم" الحداثة المعطوبة‪.‬‬

‫توجد أزمة في شرعية الفن المعاصر‪ .‬كانت "مبولة" ديشان سنة ‪ 1917‬بداي ة التعب ير الرس مي عن‬
‫عمقها‪ ،‬ما أحدث انفجارا في األوساط الفنية‪ ،‬وكرّس الفوض ى والبلبل ة في ص فوف الفن انين والنق د الف ني‪،‬‬
‫وهي عصية على أي مسعى لتفكيكها‪" ،‬وتتوصل أحيانا إلى تغييب الفنان لصالح العمل المعروض"‪ .14‬فق د‬
‫الفن شرعية منطلقاته النظرية والتشكيلية وأثر سلبا على طبيعة الحياة الديمقراطية‪.‬‬

‫وي ذهب ميش و إلى إن أزم ة الفن هي أزم ة قط بين متص ارعين من اج ل توجيه ه والتحكم بحرك ة‬
‫اإلب داع والثقاف ة‪ :‬قطب ي دافع عن منج زات الحداث ة الفني ة وقطب آخ ر ين ادي باإلنه اء والمج اوزة‪ .‬ثم ة‬
‫مفارقات تعكس الصراع السياسي واألي ديولوجي الس ائد‪ ،‬وتنتص ر ألس ئلة فن مف اهيمي تض اعفت نتائج ه‬
‫الفنية والجمالية "داخل رسم أمثولة مقدسة للفن المعاصر بروح مبدعي ه ومروجي ه وممولي ه وناش ريه"‪.15‬‬

‫‪12‬‬
‫‪. Philippe Sers, Comprendre Kandinsky, Collection archigraphy poche, Paris, 2009, p 87.‬‬
‫‪ .13‬حسن الببالوي‪" ،‬رباعية الديمقراطية عند مراد وهبة ومضمونها في التربية "‪ ،‬ضمن كتاب مشروع مراد وهبة شروط‬
‫التفكير ضد األصوليات‪ ،‬إصدارات ملتقى الفالسفة العرب‪ ،‬القاهرة‪ ،2016 ،‬ص‪.37‬‬
‫‪ . 14‬مارك جيمينيز‪" ،‬ما الجمالية؟"‪ ،‬ترجمة شربل داغر‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،2009 ،‬ص ‪.325‬‬
‫‪15‬‬
‫‪. Michaud Yves, La crise de l'art contemporain, Eds PUF, Paris, 1999, p 22.‬‬
‫‪13‬‬
‫ثمة أزمة عميقة بين فن مضى وفن جدي د س يأتي في المس تقبل‪ ،‬رغم إن طبيع ة الفن األنطولوجي ة ال تقب ل‬
‫بوجود قطيعة ابستمولوجية‪ ،‬وال بوجود "تاريخ للفن لكونه صيرورة"‪ .16‬ثمة أزمة تعود في نظر ميشو إلى‬
‫أزمة تَمثُلنا للفن وليست أزمة في الفن ذاته‪ .‬شكلت دمقرطة الفن غزوا للفن وتع ديا على أنطولوجيت ه‪ ،‬بع د‬
‫أن تحول إلى صناعة ثقافية‪ ،‬والى غزو ذوقي جماهيري‪ .‬يع ني أن الديمقراطي ة س اهمت س لبيا في نمذج ة‬
‫"الذوق الفني وفرضه على اآلخرين"‪.17‬‬

‫يتك رر الس ؤال ذات ه ال ذي يطرح ه ميش و لش دة التباس ه وغموض ه‪ ،‬في مس توى التقاطع ات ال تي‬
‫يطرحها‪ :‬هل يستطيع الفن أن يكون ديمقراطيا وفاعال؟‬

‫إذا كان منعطف الفئة الثالثة قد ش ّكل رؤية ملتبسة تغ ير فيه ا الع الم واس تبدت ب ه جغرافي ات "تنفي‬
‫األخر وتجرم إرادته في التغيير"‪ ،18‬لم يعد الحلم ممكنا في أن نتح دث عن دمقرط ة حقيقي ة للفن إذا لم يكن‬
‫هناك فنان ديمق راطي مل تزم بأس ئلة اإلنس ان‪ ،‬وق ادر بالفع ل المق اوم والممارس ة النض الية أن يتغلب على‬
‫سلطة السياسي‪ ،‬ويتجاوز خط ر األي ديولوجي ال ذي يس عى إلى تك ريس فن خ ارج ط وره الث وري‪ .‬يعتق د‬
‫هربرت ماركوز أن الروح الثورية في الفن ال تتجسد في تغيير الع الم‪ ،‬ولكن في إس هامه "في تغي ير وعي‬
‫الرجال والنساء الذين يمكنهم تغيير العالم"‪.19‬‬

‫ربما األخطر في هذا كله‪ ،‬هو الطبيعة التسويقية التي أصبح عليها الفن المعاصر‪ ،‬إلى درجة أصبح‬
‫فيها العم ل الف ني منتوج ا اس تهالكيا مكمال ل روح المجتمع ات االس تهالكية ال تي يحكمه ا ق انون الع رض‬
‫والطلب‪ .‬تحول الفن إلى سوق نشيطة ع ابرة للمك ان والزم ان ت وزع أعمال ه ع بر وس ائط تقني ة ووس ائل‬
‫مختلفة‪ .‬تصبح الديمقراطية في الفن خ ارج طوره ا‪ .‬ت َ‬
‫َنش ُد إلى البحث عن س وق وفض اءات تجع ل العم ل‬
‫الفني في متناول السياسي‪ ،‬الذي سعى إلى بعث شركات كبرى ومهرجان ات عالمي ة وملتقي ات تس وّق للفن‬
‫وفق اديولوجيات معينة‪ ،‬تلغي الديمقراطية الحوارية وتقاومها‪ .‬يتجاوب هذا الوضع م ع رأي االن ت ورين‪،‬‬
‫أن "ال ديمقراطية حيث يسود المال والفئوية وروح التملق وعصابات الفساد واألشرار"‪.20‬‬

‫يصبح تدخل السياسي في التحكم بحركة اإلبداع الفني‪ ،‬وفي نشر الفن ودمقرطت ه من األس باب ال تي‬
‫ضاعفت من أزمة الفن المعاصر‪ ،‬وساهمت في تستطيع ال وعي الجم اهيري‪ ،‬بع د أن عج ز ه ذا الفن على‬
‫مقاومة اليومي‪ ،‬والتصدي للذوق القبيح الذي ساد وأفسد الخبرة الجمالية‪ .‬يصل ميشو األزم ة الفني ة بأزم ة‬

‫‪ . 16‬هانس بلتينغ‪" ،‬تاريخ الفن "‪ ،‬ترجمة العونلي وادريس الشوك‪ ،‬المركز الوطني للترجمة‪ ،‬دار سيناترا‪ ،‬تونس‪،2012 ،‬‬
‫ص ‪.212‬‬
‫‪17‬‬
‫‪. Luc Ferry, Le Sens du Beau, Op .Cit, p 232.‬‬
‫‪18‬‬
‫‪. Michaud Yves, La crise de l'art contemporain, Op .Cit, p 305.‬‬
‫‪ . 19‬هربرت ماركوز‪" ،‬البعد الجمالي"‪ ،‬ترجمة جورج طرابيشي‪ ،‬دار االداب‪ ،‬بيروت‪ ،1970 ،‬ص ‪.165‬‬
‫‪ . 20‬آالن تورين‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.183‬‬
‫‪14‬‬
‫السوق بعد دمقرطة الفن وسلعنته‪ .‬إن تدخل أجهزة الدولة في توجي ه الفن المعاص ر بطريق ة ديمقراطي ة ال‬
‫يخدم اإلبداع الفني وال جمالية التلقي‪ .‬وجهته الدولة توجيها ذاتيا خدمة لمص الحها األيدولوجي ة وللتحكم في‬
‫الذوق العام والسيطرة على الفضاء المشترك‪ .‬ويرى ميشو في نم وذج "االتح اد الس وفياتي"‪ 21‬س ابقا دول ة‬
‫كليانية‪ ،‬عمقت من أزمة الفن‪ ،‬لما اتخذت منه منطلقا "أيديولوجيا يخدم أفكارها االشتراكية والش يوعية"‪.22‬‬
‫وهو ما أثر سلبا على الرؤية اإلبداعية للفنان‪.‬‬

‫إن دمقرطة الفن ليس في انتشاره بين الجمه ور وترويج ه خ ارج المرك ز‪ .‬يش ير بني امين في نص ه‬
‫الرائ ع "العم ل الف ني في عص ر االستنس اخ اآللي" إلى أن ه ذا االنتش ار لم يلب الحاج ة الجمالي ة والفني ة‬
‫للجماهير‪ .‬أصبح العم ل الف ني بفع ل االستنس اخ اآللي الس ريع‪ ،‬والتقني ة الرقمي ة ال تي س هلت تحويل ه إلى‬
‫صناعة ثقافية متطورة عابرا للقارات‪ ،‬ومتسيدا على السوق الثقافية‪ .‬أملت العولمة على الع الم لغ ة موح دة‬
‫هي لغة الجمال السياسي؛ ألنه "العروة الوثقى األسمى بين الحضارات"‪ .23‬تكمن دمقرطة الفن الحقيقية في‬
‫فاعليته وفي قدرة أسئلته على تغيير الواقع‪ ،‬وفي توجي ه المجتم ع إلى أس ئلته المص يرية‪ ،‬أن يك ون ح افزا‬
‫على تربي ة اإلنس ان تربي ة جمالي ة تنتهي‪ ،‬بحس ب كان ط‪ ،‬إلى تش كيل "دول ة جمالي ة"‪ ،24‬ينتفي فيه ا القبح‬
‫والروح الذئبية‪ .‬تلك هي الروح الكانطية التي تحلم بان يكون الجمال ه و الجس ر ال ذي يم ّكن اإلنس انية من‬
‫العبور إلى مصيرها التاريخي السلمي والديمقراطي‪.‬‬

‫وأظه رت عالم ة االجتم اع نتلي هي نيش الص راع الح اد بين أس ئلة الفن المعاص ر وبين طموح ات‬
‫المجتمعات ذات الرؤية الرأسمالية للعالم‪ .‬أشارت إلى عم ق الش روخ واله زات ال تي "لم تس تطع السياس ة‬
‫اإلجابة عنها وتوفير الحلول"‪ .25‬لم يستطع الفن التدخل إلنقاذ اإلنس ان من الكارث ة‪ ،‬بع د أن ت بين استس الم‬
‫الفنان وعدم جاهزيته الفكرية واإلبداعية للمقاومة‪ ،‬والتغلب على جمالية التدمير الذاتي التي حيّنتها السياسة‬
‫المعولمة الغتصاب حقوق الجماهير في الحوار والتواص ل المتك افئ‪" ،‬بجع ل السياس ة جمالي ة تنتهي إلى‬
‫نهاية واحدة‪ :‬الحرب"‪.26‬‬
‫‪ . 21‬االتحاد السوفياتي هو مجموعة جمهوريات اتحادية اشتراكية‪ .‬تأسست اث ر الث ورة االش تراكية البلوريتاري ة ال تي قاده ا‬
‫لينين وأثمرت قوة عالمية‪ ،‬قادت حلف فارسوفيا ضد الحلف األطلسي بقيادة الواليات المتحدة األمريكية في حربهما الب اردة‪.‬‬
‫إال أن عدة أزمات داخلية شجعت غورباتشوف أخر رؤساء ه ذه الق وة على إعالن إع ادة البن اء في كتاب ه "البروس ترويكا"‪،‬‬
‫وتفكيك االتحاد السوفياتي‪ ،‬معلنا تفكيك المعسكر الشرقي برمته ونهاية الص راع بين المعس كر الش رقي والمعس كر الغ ربي‪،‬‬
‫وبداية العالم ذي البعد الواحد الذي رسمت سياسته العولمة األمريكية‪.‬‬
‫‪22‬‬
‫‪. Michaud Yves, La crise de l'art contemporain, Op .Cit, p 48.‬‬
‫‪ . 23‬ريجيس دوبري‪" ،‬حياة الصورة وموتها"‪ ،‬ترجمة فريد الزاهي‪ ،‬إفريقيا للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،2002 ،‬ص ‪.200‬‬
‫‪ . 24‬غادامر‪" ،‬مقدمة كتاب هيدغر أصل العمل الفني"‪ ،‬ترجمة أبو العيد دودو‪ ،‬منشورات الجمل‪ ،‬كولونيا‪ ،2003 ،‬ص ‪.39‬‬
‫‪25‬‬
‫‪ juin 2001, p15.‬ـ‪. Heinich Nathalie, « Sociologie de l'art », in « Manière de voir » n 57, mai‬‬
‫‪ . 26‬فالتر بنيامين‪" ،‬العمل الفني في عصر االستنساخ اآللي"‪ ،‬ترجمة احمد حسان‪ ،‬دار ميريت‪ ،‬القاهرة‪ ،2010 ،‬ص ‪.179‬‬
‫يصبح تسييس الفن ضربا من الديمقراطية الجمالية‪ ،‬دون احتساب نتائجه الكارثية على اإلنسان‪ ،‬بعد أن تتحول هذه الجمالي ة‬
‫إلى حرب‪ ،‬يتقاتل فيها اإلنسان مع اإلنسان‪ .‬فبع د أن ك ان الطليعي ون يناهض ون الح رب؛ ألنه ا ض د الفن والجم ال‪ ،‬يص در‬
‫مارينيتي بيانا يقدس فيه جمالية الح رب‪ .‬يق دم نص ا بليغ ا ي رثي في ه مص ير اإلنس ان في زمن الح رب واالديولوجي ا والقبح‬
‫السياسي‪ ،‬وفي غياب الجمال الفني‪ ،‬بعد أن تعطلت حركة اإلبداع‪" .‬إننا نقر أن الحرب جميلة؛ ألنها ترس ي س يطرة اإلنس ان‬
‫‪15‬‬
‫يطرح لوك فري في كتابه "معنى الجميل‪ :‬في منابع الثقافة المعاصرة" "أهمية الجميل في‬
‫المجتمعات الديمقراطية المعاصرة"‪ .27‬يس أل أس ئلة مهم ة‪ :‬ه ل يمكن للجمي ل أن يلتقي بالديمقراطي ة على‬
‫مسطح مشترك؟ أن يتحايثا ألجل بناء مجتمع ديمقراطي يتجاوز أزماته ويتغلب على كوارثه‪ ،‬ويتح رر من‬
‫حقائقه المطلقة التي مازالت تشده إلى الوراء؟ هل يستطيع الفن المعاصر أن يؤس س لرؤي ة جمالي ة جدي دة‬
‫يك ون الفن ان ه و المنظوري ة األساس ية للديمقراطي ة؟ منح نيتش ه الفن ان االقت دار اإلب داعي ليك ون وح ده‬
‫منظورية العمل الفني‪ .‬وجب في جينيالوجيته الهدام ة أن "يفهم الفن انطالق ا من منظوري ة الفن ان"‪ .28‬ك ان‬
‫طموح نيتشه االنقالبي دعوة إلى الرفع من مقام "الفن ح تى ال تميتن ا الحقيق ة"‪ .29‬اس تلهم هي دغر من ه ذه‬
‫الروح الديونوزوسية رؤية تأويلية النطولوجيا فنية تحرر اإلنسان من ميتافيزيقا التقني ة واديولوجي ة العلم‪،‬‬
‫بعد أن تبين أن الرؤية الفنية بإمكانها أن تحقق المج اوزة واإلنه اء لعص ر من الص راعات المخجل ة‪ ،‬ال تي‬
‫باتت تهدد المصير وتعصف بالوجود في هاوية السقوط‪ ،‬بع د "غي اب الطري ق ال ذي يمنح اإلنس ان س الما‬
‫عالميا"‪.30‬‬

‫سعى جان بول سارتر‪ ،‬وهو ي ؤمن ب الفن المل تزم ض رورة إنس انية‪ ،‬إلى النض ال والمقاوم ة لقي ام‬
‫مجتمع إنساني ديمقراطي‪ ،‬تنتفي منه مظاهر العنف واالغتراب‪ ،‬و"يسوده النقد والموق ف"‪ ،31‬متح ررا من‬
‫الشجع الرأسمالي الذي شكل عائقا أم ام تفاع ل الفن ان م ع دوره االجتم اعي واإلنس اني في تفعي ل الح وار‬
‫الديمقراطي وهو ذات الموقف الذي يتخذه آالن تورين؛ "الن السوق ال تضمن تكافؤ الفرص للجميع‪ ...‬وال‬
‫النضال ضد االستعباد"‪ .32‬يذهب جوال زاسك في كتابه "الفن والديمقراطية" إلى أن عالقة الديمقراطية‬
‫والفن تتأسس إيجابا في العودة إلى تقييم مدى عالقة الفنان بالمواطنة‪ .‬عندما يفك ر الفن ان بأهمي ة المواطن ة‬
‫تتحد عالقة الديمقراطية بالفن في ضوء تلك األفكار واألسئلة التي تفتح ب اب الس ؤال الح واري والض يافة‪،‬‬
‫والبحث عن المش ترك في عمق ه الجم الي‪ .‬ثم ة قراب ة بين العم ل الف ني والمواطن ة فهم ا ال ينفص الن عن‬
‫بعضهما البعض‪ ،‬وال يوجد احد منهما بذاته دون وجود األخ ر‪ ،‬فهم ا وجه ان مختلف ان لوج ه الديمقراطي ة‬

‫على اآلالت الخاضعة له‪ ،‬عن طريق أقنعة الغاز ومكبرات الص وت المفزع ة وقاذف ات اللهب وال دبابات الص غيرة‪ .‬الح رب‬
‫جميلة؛ ألنها تستهل معدنة الجسم اإلنساني التي طال الحلم بها‪ .‬الحرب جميل ة؛ ألنه ا ت ثري الم رعى المزه ر باالوركي دات‬
‫النارية للبنادق اآللية‪ .‬الحرب جميلة؛ ألنها تؤالف بين نيران البنادق وطلق ات الم دافع ووق ف إطالق الن ار وال روائح وعطن‬
‫التعفن في سيمفونية‪ .‬الحرب جميلة؛ ألنها تخلق معمارا جديدا مثل معمار الدبابات الضخمة والغ ازات الجوي ة ذات التش كيل‬
‫الهندسي‪ ،‬وحلقات الدخان المتصاعدة من القرى المحترقة وكثير غيرها‪...‬يا شعراء وفن اني المس تقبلية ت ذكروا ه ذه المب ادئ‬
‫لجماليات الحرب حتى يستنير بها نضالكم من اجل أدب جديد وفن تخطيطي جديد"‪ .‬راجع المرجع نفسه‪ ،‬ص‪.189 .‬‬
‫‪27‬‬
‫‪. Luc Ferry, Le Sens du Beau, Op .Cit, p 212.‬‬
‫‪28‬‬
‫‪. Heidegger, Nietzsche I, Gallimard, Eds Paris, 1972, p 77.‬‬
‫‪ . 29‬فوزية ضيف هللا‪ " ،‬كلمات نيتشه األساسية ضمن القراءة الهيدغرية"‪ ،‬منشورات االختالف‪ ،‬الجزائر‪ ،‬دار االمان‪،‬‬
‫الرباط‪ ،‬منشورات ضفاف‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار كلمة‪ ،‬بيروت‪ ،2015 ،‬ص ‪.102‬‬
‫‪. Heidegger, Dépassement de la métaphysique, in Essais et conférences, Eds Gallimard, Paris, 1986, p 107.‬‬
‫‪30‬‬

‫‪. Jean Bourgault, « Tours et retours ; Sartre et l'action politique », in Lectures de Sartre, sous la direction de‬‬
‫‪31‬‬

‫‪Philippe Cabestan et Jean Pierre Zarader, Eds Ellipse Marketing S. A, Paris, 2011, p213.‬‬
‫‪ . 32‬آالن تورين‪" ،‬نقد الحداثة"‪ ،‬ترجمة صياح الجهيم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.157‬‬
‫‪16‬‬
‫الحواري ة‪ .‬يك ون الفن ان أول من يض ع العم ل الف ني أم ام المتلقي ليتحق ق ب ذلك الح وار والنق اش ح ول‬
‫المشترك‪" ،‬بالقدر نفسه الذي اظهر فيه الفنان العمل الفني‪ ،‬ش ّكل العمل الفني المتلقي"‪.33‬‬

‫ويمكن الحديث عن المجتم ع ال ديمقراطي في مفهوم ه المرك زي‪ ،‬وفي س يادته الدائري ة والحواري ة‬
‫والتداولية في المجتمع األمريكي الذي ش ّكل نموذج المجتمع المنفتح على األلفي ة الثالث ة متمثال بديمقراطي ة‬
‫تأدية األدوار الجماعية وأداء الواجب تج اه األخ ر‪ .‬م ا يجع ل مهم ة الفن ان متجاوب ة م ع أس ئلته ورؤيت ه‪،‬‬
‫ومتفاعلة مع مهمة الفن في التفاعل مع دور الفنون في مقاومة س لطة السياس ي‪ .‬يص بح الش عب ديمقراطي ا‬
‫بطبيعته؛ ألنه "علة كل األشياء وغايتها؛ منه ينبع كل شيء واليه يعود"‪.34‬‬

‫يقول آالن تورين‪" :‬إن الحديث عن دمقرطة الفن بديال عن دمقرطة اللعبة السياسية ليس أمرا سهال‪،‬‬
‫خاصة في تلك المجتمعات الرأسمالية التي أملت على النخب الثقافية وعلى الفنانين قيودا وإغ راءات قص د‬
‫امتالكها وتطويعها‪ .‬رغم أن ذلك ال ينفي وجود أصوات عضوية رفض ت الس قوط في برك ة االديولوجي ا‪،‬‬
‫وجعلت من ص وتها ص وتا ديمقراطي ا ألج ل الديمقراطي ة المدني ة‪ ،‬وألج ل حمايته ا من جش ع السياس ي‬
‫واالديولوجي‪ .‬قليلون هم الذين يجرؤون على الدفاع عن المفهوم االجتم اعي والش عبي للديمقراطي ة‪ ،‬ال ذي‬
‫طالما كان غطاء ألنظمة تسلطية قمعية"‪ .35‬وفي ظل هذا الصراع األب دي بين الفردي ة الذاتي ة والعم ومي‪،‬‬
‫تبقى الديمقراطية من المفاهيم المؤجلة تحققها تحقيقا مطلقا على الدوام‪.‬‬

‫ال تستطيع األدبيات أن تمنحها مع نى مح ددا وممارس ة مقنن ة‪ ،‬طالم ا أنه ا تتص ل بطبيع ة اإلنس ان‬
‫وبرؤيته للحياة‪ .‬فقد تكون الديمقراطية أخر المطالب وليس أولها‪ ،‬وق د تتش ابه في ق دومها وفي تحققه ا م ع‬
‫"طائر المينيرفا" أو الفلسفة المحلقة‪ .‬ال تأتي إال أخر الليل أو بعد ما يكتمل نصاب التفكير‪ .‬ثم ة س ؤال مهم‬
‫يجمع الديمقراطية باإلنسان‪ ،‬او بتلك الطبيعة األولى التي هبطت إلى األرض هبوطا اضطراريا‪ ،‬ما يجع ل‬
‫وجود اإلنسان في األرض وجودا غير ديمقراطيا‪ .‬فنزول اإلنس ان إلى األرض ك ان نت اج المش يئة اإللهي ة‬
‫العليا التي تتحكم تحكم ا ض روريا بوج وده وبمس تطاعه اإلرادي والفك ري في تس طير مص يره‪ ،‬وه و م ا‬
‫يجعل هذا المفهوم موضع "نظر ورفض وتحفظ"‪ .36‬لهذا األم ر تبقى الديمقراطي ة المدني ة خ ارج طوره ا‬
‫العملي‪ ،‬متصلة بحاكمية فعل مطلق‪" .‬كن فيكون"‪ .37‬إن ما يكتب حولها من كتابات وما يؤس س حوله ا من‬

‫‪33‬‬
‫‪. Joelle Zask, Art et démocratie peuple de l'art, Eds PUF, Paris, 2003, p 13.‬‬
‫‪ . 34‬توكفيل‪" ،‬الديمقراطية في امريكا"‪ ،‬فالماريون‪ ،‬باريس‪ ،1981 ،‬ص ‪.120‬‬
‫راجع‪ :‬غيورغ سورنسن‪" ،‬الديمقراطية والتحول الديمقراطي"‪ ،‬ترجمة عفاف البطاينة‪ ،‬منشورات المركز العربي لألبحاث‬
‫ودراسة السياسات‪ ،‬قطر‪.2015 ،‬‬
‫‪ . 35‬آالن تورين‪" ،‬نقد الحداثة"‪ ،‬ترجمة صياح الجهيم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.157‬‬
‫‪ . 36‬محمد االحمري‪" ،‬الديمقراطية الجذور واشكالية التطبيق"‪ ،‬الشبكة العربية لالبحاث والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،2012 ،‬ص‬
‫‪.241‬‬
‫‪ . 37‬الصادق جالل العظم‪ " ،‬نقد الفكر الديني"‪ ،‬ط‪ ،6‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪ 1988، ،‬ص ‪.231‬‬
‫‪17‬‬
‫نظريات قد تضاعف من التباسها ومن غموضها األبدي‪ ،‬ما يبقي ذلك تنظيريا مفهوميا في خانة "السياس ي‬
‫واالديولوجي اليوتيوبي"‪.38‬‬

‫توجد عوامل خفية وأخرى ظاهرة تساهم في تأجي ل تحق ق الديمقراطي ة‪ ،‬كم ا يفك ر في أطروحاته ا‬
‫أصحاب الشأن العمومي‪ ،‬وبخاصة الفنانون الذين ينظرون إليها وهبا انطولوجيا‪ ،‬باستطاعة الفن أن يحققها‬
‫وان يحفظها من التدخل االديولوجي العنيف‪ .‬ثمة شروط أولية ال يستطيع السياسي االنتب اه إليه ا‪ ،‬لكون ه ال‬
‫يح وز رؤي ة جمالي ة ديمقراطي ة لألش ياء‪ ،‬فه و س جين ذاتي ة ورغب ة في التطوي ع والس يطرة والنظ ر إلى‬
‫األعمال الفنية؛ نظرة مادية‪ ،‬تجردها من قيمتها االنطولوجية‪ ،‬لـ"تجد نفسها منس وبة إلى قيم ة الت داول‪ ،‬م ا‬
‫يجعل األعمال قابلة للمفاوضة مثل أي سلعة استهالكية"‪ .39‬يؤمن السياسي المتمركز حول ذاته البراغماتية‬
‫أن الرأسمالية والس وق ومجتم ع الرف اه مقوم ات أساس ية لقي ام مجتم ع ديمق راطي‪ ،‬وه و م ا ع برت عن ه‬
‫أطروحة سيمور ليبست في تأكيده على "انه كلما ك انت األم ة في رخ اء وس عة عيش عظمت فرص ها في‬
‫الحفاظ على الديمقراطية"‪.40‬‬

‫ويعدد ايف ميشو في كتابات ه ح ول الديمقراطي ة الليبرالي ة‪ ،‬وح ول عالقته ا ب الفن المعاص ر‪ ،‬ك ثرة‬
‫المطبات والمتاهات والنهايات الكارثية‪ .‬في ظل هذه األزم ات الس ائدة‪ ،‬تب دو أزم ة الع الم المعاص ر أزم ة‬
‫انطولوجية متدثرة بم نزع تي و ـ سياس ي‪ ،‬عبّ رت عنه ا أزم ة الفن ودوره في توجي ه اإلنس ان إلى أس ئلته‬
‫المصيرية‪ .‬يأتي ميشو في كتابه " ازمة الفن المعاص ر" على خريط ة الص راعات الناتئ ة على مس طحات‬
‫الفن المعاص ر‪ ،‬موجه ا نق ده إلى الص راع الح اد بين س لطة الفن الكالس يكي وانعط اف الفن الطليعي إلى‬
‫التحرر من منظوريّته الفكرية والتقنية‪ ،‬مما أحدث هوة في العالقات‪ ،‬وفتح ب ؤرة ته دد بكارث ة الس قوط في‬
‫الهاوية‪ .‬يصبح الفن غير قادر على القيام برسالته وبمقاوم ة الم د السياس ي واالديول وجي‪ ،‬وتش كيل فض اء‬
‫للحوار تتأسس فيه "الديمقراطية في عمق األعمال الفنية"‪.41‬‬

‫كما ينطلق والتر بنيامين من اإلشكالية ذاتها ال تي توق ف عن دها ميش و‪ ،‬رغم أنهم ا لم يتعاص را ولم‬
‫يلتقيا على مس طح الح وار والنق اش ح ول المش ترك‪ .‬يبحث في دراس ته العميق ة "العم ل الف ني في عص ر‬
‫االستنساخ اآللي" عن أهمية دمقرطة العمل الفني عن طريق االستنساخ‪ ،‬ونشره خارج المح ور األوروبي‬

‫‪ . 38‬حنان مصطفى عبد الرحيم‪" ،‬الفن والسياسة في فلسفة هربرت ماركوز"‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بيروت‪ ،2010 ،‬ص ‪.211‬‬
‫‪ . 39‬مارك جيمنيز‪" ،‬ما الجمالية؟"‪ ،‬ترجمة شربل داغر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.367‬‬
‫‪ . 40‬غيورغ سورنسن‪" ،‬الديمقراطية والتحول الديمقراطي"‪ ،‬ترجمة عفاف البطاينة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.52‬‬
‫"ي ّو لد التحديث والثورة عوامل مواتية للديمقراطية مثل ارتفاع معدالت الق راءة والتعليم والتم دن والتحض ر ووج ود وس ائل‬
‫اإلعالم‪ .‬إضافة إلى ذلك ثروة المواد الالزمة للح د من الت وترات الناجم ة عن الص راع السياس ي‪ .‬وق د ن زع ع دد كب ير من‬
‫التحليالت التجريبية التي ألهمتها فرضية ليبست إلى مساندة ه ذا ال رأي‪ ،‬وعلي ه فق د اعت بر روب رت دال ع ام ‪ 1971‬ال رأي‬
‫القائل بأنه كلما ارتفع المستوى االجتماعي االقتصادي للبلد رجحت احتماالت كونه ديمقراطيا مسالة ال جدال فيها"‪.‬‬
‫راجع المرجع نفسه ص ‪.52‬‬
‫‪41‬‬
‫‪. Michaud Yves, L'artiste et les commissaires, Eds Jacqueline Chambon, Paris, 1989, p 246.‬‬
‫‪18‬‬
‫المتمرك ز ح ول خيالئ ه الذاتي ة‪ ،‬ليص بح أك ثر أنش ارا وديمقراطي ة في الظ اهر‪ .‬ويحق ق الفن في ش كله‬
‫االستنساخي رسالته الثورية في مقاومة أسباب الوعي الشقي‪ ،‬ليصبح االستنس اخ ض ربا من دمقرط ة الفن‬
‫والنضال من اجل مجتمعات ديمقراطية متحررة من المثالية‪ ،‬ومتشبعة بجمالية أصيلة نابعة من عالم العمل‬
‫الفني‪.‬‬

‫وتتحقق هذه الديمقراطي ة الموهوم ة في الفن في رغب ة الجم اهير المعاص رة لجع ل األش ياء أق رب‬
‫مكانيا وإنسانيا‪ ،‬وهي "رغبة جياشة بقدر نزوع هذه الجماهير إلى التغلب على تف رد ك ل واق ع عن طري ق‬
‫قبول مستنسخ"‪ .42‬إن االستنساخ اآللي للعمل الفني قد ال يحقق المطلوب‪ ،‬وقد يضاعف من مركزية العم ل‬
‫الفني؛ الن ما سوف يصل إلى الجمهور ليس هو العمل الف ني ذات ه‪ .‬ان ه نس خة وش بح‪ .‬ويفق د العم ل هالت ه‬
‫وبريقه االنفعالي واإلدراكي‪ ،‬وال يحقق رسالته الجمالية الثورية‪ .‬ويتساءل بنيامين ما إذا كان "أمر إص دار‬
‫نسخ عديدة عن العمل الف ني لتق ديمها في ال وقت عين ه ألع داد من الجمه ور ي ؤثر أو ال ي ؤثر على العم ل‬
‫األصلي؟"‪.43‬‬

‫يدين بنيامين االستنساخ اآللي للعمل الف ني؛ ألن ه ج اء ص نيع العق ل الح داثي ومس اوئ المجتمع ات‬
‫االستهالكية ذات المنزع المادي واالستبداد السياس ي‪ .‬كم ا أظه ر االستنس اخ تعب يرا عميق ا عن أزم ة الفن‬
‫المعاصر‪ ،‬وعدم قدرته على طرح أسئلة المصير والتفك ير في المس تقبل‪ .‬وش ّكل ه ذا الموق ف في إخ راج‬
‫الفن عن طوره االنطولوجي والثوري مدخال فينومينولوجيا‪ ،‬انطلق منه هيدغر للتص دي لميتافيزيق ا العق ل‬
‫السياسي التقني الذي لم يراع إنسانية اإلنسان‪.‬‬

‫لقد وجد هيدغر في العمل الفني كشفا عن حقيقة الوجود اإلنساني في العالم‪ ،‬وعن عمق المعاناة التي‬
‫يعيشها في ظل الكليانية السياس ية ال تي تتالعب بعق ول البش ر‪ ،‬وتعبث بمش اعرهم وك رامتهم تحت غط اء‬
‫التسخير والمردودية‪ ،‬واستنفاذ مقدرات األرض‪ ،‬على حساب حريتهم التي وقع سلبها‪ ،‬عندما وقعت س لعنة‬
‫اإلنسان‪" ،‬وجعله أرخص السلع"‪ .44‬وتحول العمل الفني إلى معلقة إشهارية وإلى بطاقة بريدية‪ ،‬مم ا جع ل‬
‫الفن وسيلة من وسائل االستهالك الترفيهي‪ ،‬وصورة رخوة تعبر عن غرائز المجتم ع االس تهالكي‪ .‬لم يكن‬
‫االستنس اخ للعم ل الف ني خدم ة لالنس ان ولنش ر ال وعي والعدال ة الجمالي ة‪ ،‬اس تعدادا لتأس يس ديمقراطي ة‬
‫حوارية‪ ،‬تلغي العنف وتفتح طرق الحوار والضيافة والمشترك‪.‬‬

‫‪ . 42‬فالتر بنيامين‪ " ،‬العمل الفني في عصر االستنساخ الميكانيكي "‪ ،‬مقاالت مختارة‪ ،‬ترجمة احمد حسان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬
‫‪.171‬‬
‫‪ . 43‬مارك جيمينيز‪" ،‬ما الجمالية؟"‪ ،‬ترجمة شربل داغر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.366‬‬
‫‪ . 44‬مارتن هيدغر‪" ،‬السؤال عن التقنية "‪ ،‬ترجمة اسماعيل المصدق‪ ،‬كتابات أساسية‪ ،‬منشورات المجلس األعلى للثقافة‪،‬‬
‫القاهرة ‪ ،2003،‬ص ‪.154‬‬
‫‪19‬‬
‫كان استنساخ العم ل الف ني اس تجابة لطم ع الس وق والنحط اط ال وعي الجم الي تحت ت أثير القح ط‬
‫اإلبداعي والتقنيات الحديثة‪ .‬فقد العمل الفني عمقه االنطولوجي‪ ،‬وتح ول الفن إلى س لعة يتحكم به ا الس وق‬
‫ورأس المال‪ .‬إن ما يعنى به هذا المنزع المادي في الفن هو اإلبقاء على الحال كم ا ه و‪ ،‬والتص دي لمهم ة‬
‫الفن النضالية‪ ،‬بعد أن أدرك الرأسماليون والسياس يون خط ر دمقرط ة الفن وتحري ره من منزع ه الم ادي‪،‬‬
‫الذي سوف "يحرر الفنانين من طغيان سوق الفن ومن الط ابع التج اري لإلعم ال الفني ة"‪ .45‬إن الدمقرط ة‬
‫الفعلية للفن سوف تكون وباال حاقّا على ديمقراطيتهم المزعومة‪ ،‬وقدرة على المقاوم ة وعلى نش ر ال وعي‬
‫الجم الي ال ديمقراطي المتص ل بهال ة العم ل الف ني‪ .‬ويفس ر بني امين تغ ييب ه ذه الظ اهرة ال تي ش كلتها‬
‫الديمقراطية الليبرالية تفسيرا يجعل استعادتها أمرا مهما يحمي الفن من المهاوي‪ .‬فـ"الغي اب الحتمي للهال ة‬
‫يؤدي إلى إفقار التجارب الجمالية المبنية على التقاليد‪ ،‬ويقابل انقالبا ثقافيا ال مثيل له"‪.46‬‬

‫تصبح دمقرطة العم ل الف ني في جانبه ا الس لبي ق وة للتغلب على ق وى النض ال والمقاوم ة‪ .‬ولحش د‬
‫الجماهير حول فكرة الديمقراطية الهشة‪ ،‬عمل استنساخ العمل الفني ‪ -‬وخاص ة في الس ينما ‪ -‬على تك ريس‬
‫ثقافة جمالية تفسد الوعي‪ ،‬وتحشد الجموع حول فكرة االنتم اء إلى السياس ي‪ ،‬بع د م ا ط وّعت التكنولوجي ا‬
‫والوس ائط الرقمي ة ك ل مق دراتها الثقافي ة واالس تهالكية لفص ل الفن عن المش ترك‪ ،‬بوص فه "جم وع من‬
‫الفرديات"‪ ،47‬يساهم في التحرر وفي تفعيل الحوار الديمقراطي‪.‬‬

‫يرفض الفن الثوري القبول بنت ائج ه ذه الديمقراطي ة الم دمرة وبتبريراته ا االيديولوجي ة ال تي تنفي‬
‫عنها جرائمها الكارثي ة على اإلنس انية‪ .‬إنه ا تس عى إلى التص دي للفن المق اوم واس تبداله بجمالي ة الح رب‬
‫والقبح‪ .‬فالزيادة في هذه األدوات ودمقرطتها بين الجموع سوف يش كل ض غطا قوي ا على المتلقي من اج ل‬
‫استخدامها في غير محلها‪ ،‬وهذا ما تقدمه تبريرات الحرب‪ ،‬وما يرافقها من حمالت إعالمية تروج لتحرير‬
‫العالم من الديكتاتوريات واالستبداد‪" ،‬ونشر الديمقراطية الحوارية على النموذج األمريكي"‪ .‬ي رى بني امين‬
‫أن تدميرية الحرب تقدم "برهانا على أن المجتم ع لم يص بح بع د ناض جا بم ا يكفي الس تيعاب التكنولوجي ا‬
‫باعتبارها عضوا من أعضائه"‪.48‬‬

‫تتصل مهمة الفن في طوره الحداثي بالتصدي للمنزع التقني الذي هدد مصير اإلنسانية ومازال يهدد‬
‫مستقبلها‪ .‬ويذهب هيدغر في قراءته لالزمة األوروبية إلى أن "هيمنة التقني ة وع دم فهم ماهيته ا ق د ض يّع‬

‫‪ . 45‬آن كوكالن‪" ،‬معاشرة الالماديات"‪ ،‬ترجمة صالح الداودي‪ ،‬ضمن كتاب اطالالت على الجماليات بالعالم العربي‪،‬‬
‫مختارات معربة‪ ،‬إشراف وتنسيق رشيدة التريكي‪ ،‬المجمع التونس ي للعل وم واالداب والفن ون بيت الحكم ة‪ ،‬ت ونس‪،2010 ،‬‬
‫ص ‪.519‬‬
‫‪ . 46‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.367‬‬
‫‪47‬‬
‫‪. Negri, Art et multitude, Eds Mille et une nuit, Paris, 2009, p 117.‬‬
‫‪ .48‬فالتر بنيامين‪" ،‬العمل الفني في عصر االستنساخ الميكانيكي"‪ ،‬ضمن مقاالت مختارة‪ ،‬ترجمة احمد حسان‪ ،‬مرجع سابق‪،‬‬
‫ص ‪.190‬‬
‫‪20‬‬
‫أمام أوروبا فرصة تذكر مصيرها‪ ،‬واالنفتاح على مستقبل أفضل لو أخذت بالعمل الفني رؤي ة انطولوجي ة‬
‫لكشف حقيقة الوجود اإلنس اني في الع الم‪ .‬إن العم ل الف ني ه و الض مانة لفهم ماهي ة التقني ة باعتباره ا في‬
‫أصلها اإلغريقي أداة كش ف الحقيق ة‪ ،‬وليس ت دمير الع الم‪ .‬يبقى اإلنس ان في خط ر من ك وارث السياس ات‬
‫العسكرية‪ ،‬طالما لم يح دد الض مانة‪ .‬فالح ديث عن نهاي ة العص ر الن ووي ليس ض مانة كافي ة ل درء خط ر‬
‫المصير‪ ،‬طالما لم تتوفر الشروط الستمرارية هذه الضمانة"‪.49‬‬

‫تص بح الض مانة عن د هي دغر ض مانة انطولوجي ة يكفله ا العم ل الف ني‪ ،‬عن دما يتح رر من س لطة‬
‫الديمقراطية الهشة التي تصطنعها القوى المعادية لإلنسان‪ .‬ويعتق د ج اك داري دا أن الديمقراطي ة الحواري ة‬
‫يسبقها فعل التفكيك كخيار ديمقراطي‪ ،‬يمنح مع نى جمالي ا للض يافة واالحتف اء ب األخر على مائ دة الح وار‬
‫الديمقراطي‪ ،‬بوص فه فعال ثوري ا يه دم س لطة الخط اب االديول وجي‪ ،‬ويم زق التمرك ز ح ول ال ذات‪" .‬إن‬
‫التفكيك الذي مارسته ك ان دوم ا غريب ا عن الخطابوي ة ال تي ‪ -‬مثلم ا ينص على ذل ك اس مها ‪ -‬بوس عها أن‬
‫تستحيل إلى شكل آخر من مركزية اللوغوس"‪.50‬‬

‫تتحول مهم ة الفن ان ورهانات ه‪ ،‬في المجتمع ات ال تي تق وم ديمقراطياته ا على مس طحات اقتص ادية‬
‫وسياسية‪ ،‬إلى مقاومة الهيمنة والتصدي لقوى التسخير السياسي‪ ،‬التي تدعمها النخب الم أجورة والمس لوبة‬
‫من حسها النقدي والثوري‪ ،‬والتي تجعل منها التبعية أصواتا دعائية لديمقراطية مؤدلجة ومتذوتة‪ ،‬تتج اوب‬
‫مع مصالحها ومع مصالح االديولوجيا السياسية‪ .‬تساهم في التصدى لك ل ديمقراطي ة ثوري ة ناش ئة يقوده ا‬
‫الفنان العضوي الذي ال يقبل برشاوي واستقطاب أصحاب القرار السياسي‪ .‬يفص ح غي ورغ سورنس ن عن‬
‫تقاطع المصالح بين المثقف والسياسي‪ ،‬ويكشف عن ازم ة "الديمقراطي ة ال تي ت دعمها النخب على أس اس‬
‫المصلحة الذاتية‪ .‬لذلك تكون الديمقراطية هشة ومشروطة في آن"‪.51‬‬

‫وشهد الفن في بعض أطواره وانعطافاته التاريخية قيام حركات طليعية ثورية‪ ،‬حيث ثمة من ال وعي‬
‫م ا ي دعو إلى النق د والمقاوم ة‪ ،‬وه و م ا احتاج ه الفن المعاص ر للتغلب على ك وارث الحداث ة ومخلفاته ا‪،‬‬
‫ولكشف المفزع "وفضح الهيمنة‪ ،‬فهو في الحقيقة الشاهد الوحيد على ما هو مسكوت عنه ومبعد من طرف‬
‫هذه الهيمنة"‪.52‬‬

‫عندما تطرح الديمقراطية طرحا جماليا وفنيا تتحرك القوى المضادة لإلجهاض على مشروعها‪ .‬ثمة‬
‫خوف من الرؤية الفنية التي تطرح المشترك بديال عن القطيع‪ ،‬وتجعل من الديمقراطي ة س ؤالها األساس ي‪.‬‬

‫‪ . 49‬هيدغر‪ ،‬نص الحوار الذي اجري معه مع قناة تلفزيونية المانية‪ ،‬ترجمة فريق الترجم ة‪ ،‬مجل ة الع رب والفك ر الع المي‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬لبنان‪.1988 ،‬‬
‫‪50‬‬
‫‪. Derrida, Limited Inc, Eds Galilée, Paris, 1990, p 244.‬‬
‫‪ . 51‬غيورغ سورنسن‪" ،‬الديمقراطية والتحول الديمقراطي"‪ ،‬ترجمة عفاف البطاينة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.60‬‬
‫‪ . 52‬ادرنو‪" ،‬نظرية استطيقية"‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.95‬‬
‫‪21‬‬
‫وقد أوجد غادامر تسويغا مشتركا بين الفن والديمقراطية يقوم على الحوار وعلى الضيافة ويعتقد إن العم ل‬
‫الفني هو اللغة المشتركة التي تفتح من أفق الحوار الديمقراطي الذي "يخاطبن ا بش كل مباش ر كم ا ل و ك ان‬
‫يرينا أنفسنا"‪.53‬‬

‫إن التاريخي هو الجمالي في الفن‪ ،‬يتجاوز المحلي ويرسم مسطحات المشترك‪ ،‬ويجعل من اللغة أفقا‬
‫للحوار الديمقراطي‪ .‬ثمة رؤية غادامرية تجمع اللغة بالديمقراطية‪ ،‬من جهة اللغة الفنية التي تتملك االقتدار‬
‫على التوسع واالنتشار ضمانة انطولوجية للتعايش الس لمي والح وار المش ترك‪ ،‬خ ارج ب راديغم التواص ل‬
‫الذي تطرحه النظرية "التواصلية في الفضاء العمومي"‪.54‬‬

‫الفن والديمقراطية في الفضاء المشترك‪:‬‬

‫يط رح س ؤال الفض اء المش ترك الت داخل بين الممارس ات الفني ة كعملي ة إبداعي ة وبين الممارس ة‬
‫الديمقراطية كنشاط سياسي‪ .‬يبحث عن إمكان منعطف يحرر الديمقراطية من الل وث االديول وجي‪ ،‬ويجع ل‬
‫منها غنما جماليا وثوريا في تفاعل يضمن تحرر الفضاء المشترك من الهيمن ة‪ .‬يحت اج المش ترك اإلنس اني‬
‫إلى الفن والجمالية قبل حاجته إلى السياسي والديمقراطية؛ ألنه انطولوجي قبل أن يكون ايتيقي‪ .‬ف إن "وق ع‬
‫تجاوز السوق باالقتدار‪ ،‬ووقع تجاوز ما بعد الحداثة باإلتيقا‪ ،‬فالفن هو اقتدار وايتيقا معا"‪ ،55‬لكون ه ال يهتم‬
‫بتشريع القيم بقدر ما يستدعي سؤال الوجود في بدوه الصبيحي "السابق على كل نظام"‪.56‬‬

‫لم يع د ممكن ا فهم الديمقراطي ة خ ارج الفض اء المش ترك ال ذي يؤسس ه الفن وينش طه الفن ان ب روح‬
‫ثوري ة‪ .‬فبحس ب أنطوني و نيغ ري‪ ،‬الثوري ون وح دهم هم أنبي اء اإلنس انية؛ ألنهم باس تطاعتهم التص دي‬
‫للحركات الرجعية‪ ،‬وإعادة تشكيل العالم تشكيال جماليا‪ .‬نحتاج إلى "ثوريين ق ادرين على نق د الع الم؛ ألنهم‬
‫على عالقة حقة مع الوجود"‪ .57‬يستدعي الفن الديمقراطية ويفعلها‪ ،‬ويعمل على حفظ عهدها‪ .‬وق د س اهمت‬
‫الثورات الفنية منذ القديم في تحرير "الفضاء المشترك" من المراقبة والمعاقبة‪ .‬حولت ثورة ‪ 1968‬بفرنسا‬
‫الفضاء االديولوجي المغلق إلى فضاء مفتوح استعاده اإلبداع الفني اس تعادة حواري ة وديمقراطي ة‪ ،‬بع د أن‬

‫‪ 53‬عبد العزيز بو الشعير‪" ،‬غ ادمر من الفهم إلى الوجود إلى فهم الفهم "‪ ،‬منشورات االختالف‪ ،‬الجزائر‪ ،‬دار األمان‪،‬‬
‫الرباط‪ ،2011 ،‬ص ‪.176‬‬
‫‪54‬‬
‫‪. Habermas, L'espace public : Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société‬‬
‫‪Bourgeoise, Eds Payot, Paris, 1976, p 285.‬‬

‫‪55‬‬
‫‪. Negri, Art et multitude, Op .Cit, p 50.‬‬
‫‪ .56‬بول كلي‪" ،‬نظرية التشكيل"‪ ،‬ترجمة عادل السيوي‪ ،‬منشورات ميريت‪ ،‬القاهرة‪ ،2003 ،‬ص ‪.50‬‬
‫‪57‬‬
‫‪. Negri, Art et multitude, Op .Cit, p 41.‬‬
‫‪22‬‬
‫جمع بين الفنان والمتلقي والناقد‪ ،‬في لحظة تاريخية فارقة في تاريخ أوروب ا‪ ،‬ح ول مائ دة س ؤال المواطن ة‬
‫والحرية والتشاركية في "مجتمع ديمقراطي"‪.58‬‬

‫في ضوء التحول الثوري ونشوء الديمقراطيات الوليدة في أفق فني وجمالي‪ ،‬كان الس عي إلى البحث‬
‫عن المشترك امرا مهما قصد التنحي عن براديغم السياسي‪ ،‬وتبني براديغم الحوار الديمقراطي‪ .‬يعني ذل ك‬
‫أن يتوجه الم د الث وري إلى إلغ اء التم اس االديول وجي بين الفض اء المش ترك واإلب داع الف ني‪ ،‬أن يتح ول‬
‫الفضاء إلى مسطحات تتقاطع وتتداخل فيها األعمال الفنية بالرؤية الديمقراطية‪ ،‬التي تس عى إلى نش ر القيم‬
‫والعدالة والحرية كتمرين ديمقراطي على المواطنة التشاركية والحوار النق دي‪ .‬وق د س محت لوح ة الفن ان‬
‫دي الكروا "الحرية تقود الشعب" بطرح سؤال الحرية والديمقراطية‪ ،‬بعد "أن ك ان ص احبها ثوري ا وأح د‬
‫دعاة التحرر في العالم"‪ .59‬ما يعني أن الفن والديمقراطية وجهان لوجه مشترك هو سؤال الحري ة وتم رين‬
‫المواطنة والحوار الديمقراطي‪ ،‬ألخذ القرار المصيري‪ ،‬بعيدا عن غوغائية الدعاي ة السياس ية للديمقراطي ة‬
‫المارقة التي تروج لبهرجها غير المريح‪" :‬الثقافة الغربية الضحلة"‪.60‬‬

‫يجعل غادمر من الحوار مطلبا جماليا وفنيا قصد االرتق اء باإلنس اني إلى الديمقراطي ة الهادئ ة ال تي‬
‫يضمنها الفن‪ .‬يجعل الفن من تراثه الثوري مركبا جديدة ومسطحا لغويا يقوم على فتح األفاق؛ ألن ه األق در‬
‫على إدارة الح وار ح ول المش ترك‪ ،‬وتحري ره من الض مأ االديول وجي‪ .‬ي رى غ ادمر في الح وار جمالي ة‬
‫تضمن الحرية وتفتح العوالم المختلف ة على النق اش ال ديمقراطي‪ ،‬ال ذي يتجلى على نح و واقعي "ش يئا من‬
‫أس اس التض امن"‪ .61‬يمنح الح وار ال ديمقراطي مف اتيح الت ذوات واالع تراف ب األخر‪ ،‬طرف ا في إنش اء‬
‫ديمقراطية جمالي ة نتعلم منه ا فن اإلنص ات إلى اآلخ ر واإلص غاء إلي ه‪ ،‬وه و يتج اوب معن ا ح ول أس ئلة‬
‫الفضاء المشترك‪ ،‬ال ذي ال يبتع د كث يرا عن مع نى الفض اء العم ومي عن د هابرم اس‪ ،‬من جه ة التواص ل‬
‫الحواري القائم على االختالف في اآلراء وفي األسئلة‪ ،‬دون أن يكون الفن وحده لغة الحوار‪ .‬ه ذا النم وذج‬
‫الحواري الديمقراطي في نظر هابرماس "ال يستطيع أن يتأسس إال إذا ارتبط بالمناقشات العمومية"‪.62‬‬

‫عندما نتحدث عن عالقة الفني والثقافي بالديمقراطية‪ ،‬وجب أن نتحدث أيض ا عن مب دعين يفك رون‬
‫من خارج سلطة الفن وديكتاتوي ة الثقاف ة‪ ،‬بع د أن تح ول الفن إلى ثقاف ة س لعية رخيص ة يتحكم به ا منط ق‬
‫السوق‪ .‬قاطعها ادرنو؛ ألنها "ت ّدعي التعبير عن مضمون سياسي محدد وتغرق في الدعاي ة الترويجي ة"‪.63‬‬

‫‪. David Alcaud, « Sociologie des arts et de la culture et politique culturelle », in « Sociologie des arts et de la‬‬
‫‪58‬‬

‫‪culture», sous la direction de Sylvia Girel, Eds L’Harmattan, Paris, 2006, p 62.‬‬
‫‪ . 59‬عبد العزيز احمد جودة‪" ،‬قراءات في الفن الحديث"‪ ،‬ارت هاوس للطباعة‪ ،‬القاهرة‪ ،2008 ،‬ص ‪.92‬‬
‫‪60‬‬
‫‪. Luc Ferry, Le Sens du Beau, Op.Cit, p297.‬‬
‫‪ . 61‬غادمر‪" ،‬الحقيقة والمنهج "‪ ،‬ترجة حسن ناظم علي‪ ،‬حاكم صالح‪ ،‬دار أويا‪ ،‬طرابلس‪ ،‬ليبيا‪ ،2007 ،‬ص ‪.298‬‬
‫‪ . 62‬ابو النور حمدي ابو النور حسن‪" ،‬يورجين هابرماس األخالق والتواصل"‪ ،‬دار االنوار‪ ،‬بيروت‪ ،2012 ،‬ص ‪.255‬‬
‫‪ . 63‬مارك جيمينيز‪" ،‬ما الجمالية؟"‪ ،‬ترجمة شربل داغر‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.398‬‬
‫‪23‬‬
‫أدانها بنيامين لكونها تعبيرا فعليا عن االديولوجية السياسية المعادية للنشاط الفني الثوري والمقاوم‪ .‬فـ"ه ذا‬
‫هو وضع السياسة التي تجعلها الفاشية جمالية أما الشيوعية ف ترد بتس ييس الفن"‪ 64‬لكونه ا ثقاف ة تق وم على‬
‫التواطئ مع االديول وجي والسياس ي‪ .‬ففي ظاهره ا ت دافع عن الفض اء المش ترك‪ ،‬وتحمي الكي ان وتط رح‬
‫الديمقراطية أفقا للح وار وللتع ايش الس لمي بين مختل ف الثقاف ات‪ .‬أم ا في عمقه ا االديول وجي‪ ،‬فهي ثقاف ة‬
‫تطويع وسلطان وإنت اج مع رفي "للمراقب ة والمعاقب ة"‪ .65‬تح ول الفن إلى ص ناعة ثقافي ة تخض ع للع رض‬
‫والطلب‪ ،‬مم ا جع ل من الديمقراطي ة ص ناعة سياس ية تخض ع لمنط ق الس وق‪ .‬غ دا الفن بض اعة ع ابرة‬
‫للقارات‪ ،‬وتحول إلى ثقافة إشباع جسدي وإيروسي‪ .‬تداخل الفني والثقافي والسياسي واالقتصادي في جس د‬
‫إشهاري ودعائي طيع ورخوي‪ .‬يروج لـ"أسطوريات الثقافة الغربية االستهالكية"‪.66‬‬

‫يتحول الفض اء المش ترك إلى عم ل ف ني يؤس س لح وار ديمق راطي‪ .‬يس وغ إمك ان الس ؤال وتعق ل‬
‫الديمقراطية التي تحمي الحوار وترعى األسئلة وتضاعف من الخبرة‪ .‬ووجّه غادامر اهتمامات ه إلى تأوي ل‬
‫األعمال الفنية ووجد فيها اللغة الخاصة بمحاورة عصره على أرض ية حواري ة ديمقراطي ة‪" .‬لق د نمت في‬
‫الفن لغ ة مش تركة تالئم المض مون المش ترك لمعرفتن ا بأنفس نا"‪ .67‬ويحت اج العص ر ال ذري إلى الح وار‬
‫الديمقراطي في الفن أك ثر من حاجات ه إلى الق رارات السياس ية‪ ،‬فه و في نظ ر ب ول ريك ور تحقيق ا ف اعال‬
‫"للديمقراطية الهادئة"‪ .68‬ويصل هابرماس الحوار ال ديمقراطي بمص ير اإلنس انية؛ يحرره ا من التخ اطب‬
‫غير المتكافئ الذي تفرضه االثنيّات السياسية والعرقية على األخر وت راهن على تغ ييب الح وار وتس ييس‬
‫الديمقراطية‪ ،‬وتربطها بالمصالح الذاتية‪" .‬إن الديمقراطية ترتبط بنظرية المناقشة والحوار ال تي ال تنفص ل‬
‫في حد ذاتها عن التواصل والفعل التواصلي"‪.69‬‬

‫ويقترح هربرت ماركوز وجه ة نظ ر تح رر اإلنس انية من عبوديته ا‪ ،‬ومن دمقرط ة انته اك حقيق ة‬
‫الوجود اإلنساني‪ .‬كما يعتقد أن الحضارة المادية "هي المسؤولة عن جعل اإلنسان المعاص ر يائس ا؛ فال ب د‬
‫أن تكون المعالجة بنفس الوسيلة‪ ،‬أي‪ ،‬حضارة بديلة"‪ .70‬إن م ا تحتاج ه اإلنس انية في ض وء انس داد األف ق‬
‫وأزمة الفضاء المشترك هو ديمقراطية يؤسس ها الفن وتمارس ها رؤي ة جمالي ة للع الم‪ ،‬بع د أن ب ات الع الم‬
‫عالما منغلقا ورخوا وشبحيا انعدم فيه طرح األس ئلة المص يرية وأدخ ل اإلنس انية في ط رق مس دودة وفي‬
‫متاهات المعنى‪ .‬ويحوّل ليوتار الفن إلى البحث في الل اـ إنساني‪ ،‬بعد أن تحول كل شيء ضد اإلنسان‪ ،‬بأن‬
‫‪ . 64‬فالتر بنيامين‪" ،‬العمل الفني في عصر االستنساخ اآللي"‪ ،‬ضمن مقاالت مختارة‪ ،‬ترجمة احمد حسان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬
‫‪.190‬‬
‫‪" . 65‬المثقفون والسلطة‪ ،‬حوار بين ميشال فوكو وجيل ديلوز"‪ ،‬ترجمة الزواوي بغورة‪ ،‬ضمن كتاب " جيل ديلوز سياسات‬
‫الرغبة"‪ ،‬تحرير احمد عبد الحليم عطية‪ ،‬دار الفارابي‪ ،‬بيروت ‪ ،2011‬ص ‪.176‬‬
‫‪ . 66‬روالن بارط‪" ،‬أسطوريات"‪ ،‬ترجمة قاسم المقداد‪ ،‬مركز اإلنماء الحضاري‪ ،‬الالذقية‪ ،‬سوريا‪ ،1996 ،‬ص ‪.143‬‬
‫‪ . 67‬غادمر‪" ،‬تجلي الجميل"‪ ،‬ترجمة سعيد توفيق‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬القاهرة‪ ،1997 ،‬ص‪.67‬‬
‫‪ . 68‬بول ريكور‪ "،‬من النص إلى الفعل" ترجمة محمد برادة حسان بورقية‪ ،‬دار األمان‪ ،‬الرباط‪ 2004 ،‬ص ‪.269‬‬
‫‪69‬‬
‫‪. Habermas, Théorie de L’agir communicationnel, Eds Payot, Paris, 1987, p89.‬‬
‫‪ . 70‬حنان مصطفى عبد الرحيم‪" ،‬الفن والسياسة في فلسفة هربرت ماركوز"‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بيروت‪ ،2010 ،‬ص ‪.146‬‬
‫‪24‬‬
‫يتناول العمل الف ني ك ل م ا يع رّي النزع ة اإلنس انية ألن م ا بقي للفن "بم ا ه و سياس ة غ ير مقاوم ة الالـ‬
‫إنساني"‪.71‬‬

‫إن التشريع لثقافة الطموح السياسي والعس كري ه و تش ريع ميت افيزيقي‪ ،‬هدف ه تغ ييب الديمقراطي ة‬
‫وتجفيف منابع اإلبداع الفني‪ ،‬من مدخل ض يق ومكش وف يق وم على توزي ع الديمقراطي ة النموذجي ة‪ ،‬دون‬
‫االع تراف بخصوص ية الثقاف ات وتم يز طقوس ها الفني ة واإلبداعي ة‪ .‬وش ّكل الح ديث عن الديمقراطي ة في‬
‫األطراف موضوعا مهما دون الحديث عن المثق ف ال ديمقراطي في ش خص الفن ان والمب دع‪ ،‬وعن تأهيل ه‬
‫وتحريره من الهيمنة والتطويع‪ .‬إن التطرق إلى العدالة ال يطرح السياسي "العادل" بلغة بول ريك ور‪ .‬تل ك‬
‫هي نعومة االمبريالية الثقافية التي تروج لثقافة المركز ولديمقراطيته الهشة‪ ،‬وتقرنها بمش روع ديمق راطي‬
‫يبقى طوباويا؛ ألنه ال يراعي الخصوصية الثقافي ة‪ ،‬وال يعتم د على المب دعين والفن انين‪ .‬يحت اج الع الم إلى‬
‫ثقافة مبدعة وإلى نهض ة فني ة تق وم على أص وات المب دعين والفن انين‪ ،‬كم ا يحت اج الع الم إلى ديمقراطي ة‬
‫حوارية تمارس ها نخب ديمقراطي ة يناقش ون أس ئلة المص ير‪ ،‬ويتدارس ون مس تقبل الش عوب داخ ل فض اء‬
‫مشترك‪ ،‬يكفل حرية "النقاش ويفتح اآلفاق"‪.72‬‬

‫سمحت السياسات الدولية المتمركزة حول المصالح الذاتية من التعدي على قداس ة الح وار المتم دن‪،‬‬
‫وعلى قدرة الضيافة الفنية في تحرير الفضاء المشترك من االديولوجي والثق افي‪ .‬فرض ت التف اوض ال ذي‬
‫يفرض قوتين غير متكافئتين في الق وة المادي ة والثقافي ة ب ديال عن الح وار‪ ،‬ال ذي يش كل مقوم ات الفض اء‬
‫المشترك‪ ،‬ويفتح مداخل العالم للجميع على قاع دة ح وار ديمق راطي‪ ،‬ينمي المس اءلة والتج ارب والس ؤال‪.‬‬
‫وي ذهب ميخائي ل ب اختين إلى أن الح وار ال ديمقراطي "يس عى إلى تحري ر الع الم من ك ل م ا ه و م رعب‬
‫ومواجهة سلطة القمع األحادي الخطاب"‪ .73‬ويصبح الح وار في الفن مطلب ا لتفعي ل أس ئلة الديمقراطي ة في‬
‫الفضاء المشترك‪ ،‬والنظر إليها جماليا للتفكير باإلنساني خارج الكدمات والشروخ‪ ،‬ال تي فرض ها الخط اب‬
‫السياسي وس ّخرتها "إدارة العالقات الدولية"‪.74‬‬

‫وال تقف الديمقراطية الحوارية عند الح وار م ع اآلخ ر‪ ،‬ب ل تنفتح على ح وار األجي ال وعلى تالحم‬
‫اآلفاق على المستقبل‪ .‬ويحتاج تأمين المستقبل إلى الحوار الديمقراطي حول المشترك لعبور ص نمية العق ل‬
‫السياسي األداتي‪ .‬يصبح الفن حينئذ أفقا للحوار الديمقراطي في زمن ن ووي ك ارثي‪ ،‬ف رض عقال أداتي ا ال‬
‫يفكر‪ ،‬أمات الحقيقة وعبث باإلنسان‪ .‬ح ّمله أدرنو مسؤولية تجفيف الفضاء المشترك من الحوار‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫‪. Lyotard.J.F, L'inhumain, Eds Galilée, Paris, 1988, p 15.‬‬
‫‪ . 72‬غادمر‪" ،‬الحقيقة والمنهج"‪ ،‬ترجة حسن ناظم علي‪ ،‬حاكم صالح‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.341‬‬
‫‪ . 73‬تزفيتان تودوروف‪" ،‬ميخائيل باختين المبدأ الحواري"‪ ،‬ترجمة فخري الصالح‪ ،‬المؤسسة العربية للدراسات والنشر‪،‬‬
‫بيروت‪ ،1996 ،‬ص ‪.135‬‬
‫‪ . 74‬غيورغ سورنسن‪"،‬الديمقراطية والتحول الديمقراطي"‪ ،‬ترجمة عفاف البطاينة‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.209‬‬
‫‪25‬‬
‫ويعتقد الفيلسوف بأن الديمقراطية مطلب يتصل بجمالية مقاومة للصراعات االديولوجية األص ولية‪،‬‬
‫التي تغذي تهميش الحوار‪ ،‬وأماتة تقوى التفكير في المشترك‪ ،‬في مجتمعات مات فيها الفن وتبخرت قدرته‬
‫على التصدي للضمأ االنطولوجي‪ ،‬بعد أن أحاقت باإلنسانية كارث ة نس يان المن ابع‪ ،‬نتيج ة التح والت ال تي‬
‫شهدها الفن في منعطف األلفية الثالثة‪ ،‬والذي تفاع ل كث يرا م ع التح والت العميق ة ال تي أح دثتها دمقرط ة‬
‫الصورة‪ ،‬من خالل دمقرطة التلفزيون‪ .‬تحول التلفزيون في نظر ريجيس دوبري إلى ق وة ض غط وتقليص‬
‫للتعددية والديمقراطية‪ .‬والن "التلفزيون متعلق باالستطالل الشعبي المستمر‪ ،‬فهو يدعو إلى إخالء الفض اء‬
‫العمومي‪ ،‬كما لو كان األمر يتعلق بإقامة إجبارية مقنعة"‪.75‬‬

‫أمام تنافذ الفن مع الفضاء المشترك قصد اختراق الديمقراطية الهش ة‪ ،‬يص بح الفن ديمقراطي ا؛ ألن ه‬
‫أصبح قادرا على تغيير الوعي السائد‪ ،‬وإفراز وعي متصل بالخبرة الجمالية "نستطيع أن نتعرف في ه على‬
‫أنفسنا"‪ .76‬وتتحول الديمقراطية الجمالية إلى رؤية لعالم متغير ومفتوح على الحوار المتكافئ عه دا ووع دا‬
‫مص يريا‪ ،‬وإلى فن ج ذري يم ارس في الفض اء المش ترك‪ :‬يلغي فن حكم المجتمع ات‪ ،‬بع د أن يص بح الفن‬
‫الث وري منبع ا للحري ة‪ .‬تتح ول الديمقراطي ة الهادئ ة إلى ح وار يجس د انطولوجي ا الفن في رس م مس تقبل‬
‫المجتمعات وفي الدفاع عن مصيرها‪ .‬لكن هذا ال يع ني أن بإمك ان الفن وح ده أن يجس د ه ذه الديمقراطي ة‬
‫الحواري ة في فض اء إنس اني مش ترك‪ .‬ثم ة ق وى هيمن ة جدي دة تتج اوز مس تطاع الفن في نحت رؤي ة‬
‫ديمقراطية‪.‬‬

‫فرضت العولم ة الثقافي ة رؤيته ا على الع الم المعاص ر‪ .‬تج اوزت مهم ة الفن ان الث وري‪ .‬ح ل الفن‬
‫التكنولوجي محل اإلبداع‪ ،‬وغير العالقات التي تجمع الفنان بالجماهير‪ .‬تحول الفضاء المش ترك إلى فض اء‬
‫تفاعلي وإلى شبكة ال يمكن التحكم فيها‪ .‬ما يعني أن كل األطروحات ال تي ق دمها أدرن و وهابرم اس ح ول‬
‫الديمقراطية‪ ،‬وما اقترحه غادمر حول جمالي ة الح وار نظري ات مطلوب ة إلى النق د والمراجع ة‪ ،‬بع د أن تم‬
‫"اقتراح الفن وحده حال سحريا لكل مشكالت البشر‪" .‬ويظل التساؤل قائما عن مدى مصداقية هذه الصورة‬
‫في ظل التحديات القاسية التي يلقاها إنسان هذا العصر"‪.77‬‬

‫إن من المخ اطر الك برى على اإلنس انية ال تي تنش رها العولم ة أن يتح الف ال ديمقراطي والثق افي‪،‬‬
‫ويلتقي االديولوجي بالمبدع قصد تفعيل قوى الهيمن ة والتطوي ع‪ .‬ظه ر في منعط ف األلفي ة الثالث ة ص راع‬
‫جدي د للس يطرة على الع الم‪ ،‬وإع ادة رس م خرائط ه الجغرافي ة والثقافي ة‪ .‬ثم ة دع اوي تس وّق للص دام‬
‫الحضاري والثقافي ولديمقراطية النموذج‪ .‬تلك دعاوي صامويل هنغنتون في كتابه "صراع الحضارات"‪.‬‬

‫‪ .75‬ريجيس دوبري‪" ،‬حياة الصورة وموتها"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.275‬‬


‫‪ .76‬غادمر‪" ،‬تجلي"‪ ،‬ترجمة سعيد توفيق‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.187‬‬
‫‪ .77‬حنان مصطفى عبد الرحيم‪"،‬الفن والسياسة في فلسفة هربرت ماركوز"‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بيروت ‪ ،2010،‬ص ‪.226‬‬
‫‪26‬‬
‫ترى أن الثقافة وحدها قادرة على تغيير وجه الع الم؛ ألنه ا وح دها ق ادرة أن تك ون ق وة فاعل ة في التغي ير‬
‫ومعرفة اآلخر‪ .‬فـ" إذا كانت ثقافة واديولوجية دولة ما لها جاذبية س يكون اآلخ رون أك ثر اس تعدادا إلتب اع‬
‫قيادتها"‪ .78‬تلك المخاطر الكارثية يورده ا نيغ ري في كتاب ه "الفن والجم وع"‪ .‬يبحث في الفن الث وري عن‬
‫اإلمكانيات التي تح رر اإلنس انية من القح ط األنطول وجي‪ ،‬ومن ج روح وش روخ س لطة الس وق وجاذبي ة‬
‫اإلشهار والتسويق على المش ترك‪ .‬يعتق د أن الديمقراطي ة والفن هم ا فع ل جم اعي‪ ،‬وأنن ا مط البين بتمل ك‬
‫المشترك الذي خسرنا فيه وقتا‪ ،‬وأضعنا فيه جهدا دون تملك ه‪" .‬لق د قض ينا وقت ا وه درنا زمن ا ط ويال في‬
‫البحث عن المشترك‪ ،‬وفي اعتقادنا أن الجموع بإمكانها بعثه‪" ،‬أما اآلن‪ ،‬ف ان ال وعي المش ترك يس بقنا‪ .‬في‬
‫عصرنا هذا ليس هناك حركات فنية طالئعية‪ .‬ما هناك فقط هو فائض وجود علينا تملكه"‪.79‬‬

‫أسئلة الديمقراطية ورهان الفن في الثقافة العربية‪:‬‬

‫يصبح سؤال الديمقراطية مطلبا ضروريا وجب إعادة طرحه‪ ،‬في ظل التحوالت التي يشهدها العالم‪.‬‬
‫فبعد ظهور األصوليات الدينية المتطرف ة‪ ،‬وره ان الغ رب على االس تفادة من عبثيته ا‪ ،‬لزرعه ا في من ابع‬
‫الثقافة العربية اإلسالمية‪ ،‬مما يجعل منه ا خط را يه دد الكي ان الت اريخي ويب دد روح الهوي ة وخصوص ية‬
‫االنتماء‪ ،‬تراهن النخب العربية على الديمقراطية قصد التحرر من الس لطة السياس ية في ال داخل‪ ،‬ومقاوم ة‬
‫المد األصولي الذي تدعمه قوى خارجية‪ ،‬ترفض مص الحها أن يك ون الع رب ديمقراط يين‪ .‬ت بين في ظ ل‬
‫خطورة عولمة الفضاء وتفكيك الهويات الثقافية وطمس معالمها اإلبداعية والفنية‪ ،‬إن من ح ق المجتمع ات‬
‫أن تقرر طبيعة فضائها الخاص‪ ،‬وأن تكتشف هويتها وانتمائها التاريخي‪ .‬ولئن كان الرهان على الثقافة في‬
‫بداية األمر لتفعيل مشروع قومي ديمقراطي‪ ،‬فإن هناك وجهة أخرى ت رى في الفن إمكان ا طبيعي ا للح ديث‬
‫عن ديمقراطية حوارية‪ ،‬تقبل بالحوار والتع دد في التعب ير واإلب داع الفك ري والف ني‪ ،‬وه و م ا يتن افى م ع‬
‫مبادئ الديمقراطية الغربية التي تعمل على تشتيت األطراف وتصنيع ديمقراطيات هشة في الهوامش قص د‬
‫تمزيقها‪ .‬رغم أن أحمد برقاوي يبين أن الديمقراطية الغربية م ازالت ديمقراطي ة ذات س لطانية ال يمكن أن‬
‫تكون النموذج‪ .‬كل ما فعلته أنها لم تعد نظام حكم فقط‪ ،‬بل نظام حياة أيضا‪" ،‬ونزعت عن الذات الس لطانية‬
‫قدرتها على احتكار القوة وما يتولد عنها"‪.80‬‬

‫يب دو أن الدول ة العربي ة على امت داد تاريخه ا لم توف ق في الجم ع بين اإلب داع الثق افي والف ني وبين‬
‫الديمقراطية الحوارية‪ .‬كانت الدولة في نظر محمد عابد الجابري دول ة مل وك "األم ير ه و الدول ة والدول ة‬
‫‪ .78‬صامويل هنغنتون‪" ،‬صدام الحضارات"‪ ،‬ترجمة طلعت الشايب‪ ،‬دار سطور‪ ،‬بيروت‪ ،1998 ،‬ص ‪.128‬‬
‫‪79‬‬
‫‪. Negri, Art et multitude, Op. Cit, p 126.‬‬
‫‪ .80‬احمد برقاوي‪" ،‬انطولوجيا الذات"‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬منشورات مؤمنون بال حدود‪ ،‬الرباط‪ ،2014 ،‬ص‬
‫‪.144‬‬
‫‪27‬‬
‫هي األمير"‪ .81‬فإذا أخذنا حوض البحر األبيض المتوسط كتجربة "اقتصادية ثقافية وسياسية" كما يص وره‬
‫بروديل‪ ،82‬نالح ظ أن هن اك ض فتين متعارض تين‪ ،‬يحمالن مش روعين ثق افيين متب اينين من حيث األس ئلة‬
‫والرهان ات والوس ائل‪ .‬نجح أح دها في الض فة الش مالية إب داعيا وديمقراطي ا‪ ،‬وفش ل الث اني في الض فة‬
‫الجنوبية‪ ،‬ألسباب مختلفة منها‪ :‬غياب من يضمن التواص ل الح واري بين النخب الثقافي ة والفني ة والدول ة‪،‬‬
‫وتغييب دور الفضاء المشترك في تفعيل النقاش وإدارة الحوار المتس ائل‪ .‬فوج ود نظ ام سياس ي ال يض من‬
‫الديمقراطية الحوارية وال يلتزم بمشروع فني وثقافي يشرع ل ه نخب ة من الفن انين والمفك رين يعت بر عائق ا‬
‫يب دد الجه ود ويث ني الطم وح ويس تنزف الطاق ات‪ .‬ينتهج آالن ت ورين ه ذا التمش ي في تحدي د العالق ة‬
‫الديمقراطية بين المجتم ع والنظ ام السياس ي‪" .‬تع رف الديمقراطي ة بالنس بة إلى الكث يرين بالمش اركة‪ ،‬أم ا‬
‫بالنسبة لي‪ ،‬فهي تعرف بالحرية وبالقدرة اإلبداعية لدى األفراد والجماعات"‪.83‬‬

‫ضمن هذه الخيارات لمواجهة خطر العولمة السياسية واإلبداعية‪ ،‬يعتقد هابرماس أن العولمة الثقافية‬
‫مثلت خطرا على الديمقراطية‪ .‬تمكنت من اجتياح الفضاء الع ام وتس خيره للتعب ير عن مق دراتها اإلبداعي ة‬
‫والفنية وفرض سياسة الهيمنة وتطويع الهوامش الثقافية‪ .‬س وّقت لثقافته ا الكوني ة وإمالئه ا بواس طة ش بكة‬
‫اتصالية متطورة‪ .‬أصبحت المجتمعات الطرفية غير ق ادرة على المقاوم ة‪ ،‬ح تى المجتمع ات ذات ال تراث‬
‫الديمقراطي لم تعد قادرة على التصدي لكوارث العولمة‪ ،‬ال تي س خرت ك ل طاقاته ا لنش ر ثقاف ة بص رية‪،‬‬
‫تؤسس لمجتمع مشهدي غ ابت في ه فاعلي ة اإلب داع الف ني والفك ري‪ .‬ش ّكلت العولم ة في اله وامش والءات‬
‫ثقافية وفنية تسوّق لثقافتها السلعية واالستهالكية وتستقطب األخ ر وتطمس خصوص يته‪ .‬وي ذهب هرب رت‬
‫م اركوز إلى أن ه ذه السياس ات الثقافي ة ح ولت الفن إلى ص ناعة ثقافي ة للترفي ه‪ ،‬قص د تطوي ع الرغب ات‬
‫وتسليعها والهيمنة على األجساد واستهالك مقدراتها اإلبداعية‪" .‬إن التسليع قد أضحى اليوم صناعة جمالية‬
‫حيث باتت السلعة موضوعا لالستهالك الجمالي"‪.84‬‬

‫وتظل المجتمعات العربية من المجتمعات الهامشية المتض ررة من س ياحة الثقاف ة المش هدية اللزج ة‬
‫والمسطحة‪ .‬فقد المجتمع االقتدار على التحكم في فضائه المشترك وتطويع منجزاته الفني ة والثقافي ة لخدم ة‬
‫مشروعه الديمقراطي‪ .‬انفتح الفضاء لثقافة العولمة وللثقافة األصولية التي تنشر ديمقراطية الموت‪ ،‬وتشجع‬
‫على تفكي ك النس يج الثق افي وتأجي ل الديمقراطي ة الحواري ة‪ .‬إن الح ديث عن قي ام فض اء مش ترك يحت اج‬
‫بالضرورة إلى مشروع ثقافي‪ ،‬والى رؤية فنية للعالم‪ ،‬تساهم في بلورة أس س الديمقراطي ة الحواري ة‪ ،‬على‬
‫أن تكون نخبة من الفنانين والمفكرين تقدم المشروع ال ديمقراطي تق ديما متوازن ا‪ ،‬يجم ع بين ك ل مكون ات‬
‫‪ .81‬محمد عابد الجابري‪"،‬الخطاب العربي المعاصر"‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،1994 ،‬ص ‪.15‬‬
‫‪ .82‬قرنان بروديل‪" ،‬المتوسط والعالم المتوسطي "‪ ،‬ترجمة مروان أبي سمرا‪ ،‬دار المنتخب العربي‪ ،‬بيروت‪ ،1993 ،‬ص‬
‫‪.63‬‬
‫‪ . 83‬آالن توفرين‪" ،‬نقد الحداثة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.176‬‬
‫‪ . 84‬هربرت ماركوز‪" ،‬الحب والحضارة"‪ ،‬ترجمة مطاع الصفدي‪ ،‬دار االداب‪ ،‬بيروت‪ ،2007،‬ص ‪.103‬‬
‫‪28‬‬
‫النسيج االجتماعي والثقافي‪ .‬ويقترح ادوارد سعيد رؤية إبداعية للثقافة تُجذرها في عمق الزمان الت اريخي؛‬
‫"ألنه ال يمكن أن تعاين كحقيقة مباشرة فورية‪ ،‬بل يجب أن تعاين من منظور األبدية"‪.85‬‬

‫عن دما نتح دث عن ت أخر المش روع ال ديمقراطي‪ ،‬فنحن نتح دث عن ت أخر المش روع اإلب داعي‬
‫والثقافي‪ ،‬وعن هيمنة نظم سياسية أصولية ووصولية تسهر على تطبيق مش اريع فني ة وثقافي ة متداخل ة‪ .‬ال‬
‫تميز فيها بين الثقافي والفني‪ ،‬وال تمنح الفن األهمية القص وى في تط وير ال وعي اإلنس اني بالع الم‪ .‬إن من‬
‫أسباب فشل الثقافي والفني وتعثر الديمقراطي أننا ال نميز بين مهمة الفن ومهم ة الثقاف ة‪ ،‬ح تى أن المس الة‬
‫الفنية واإلبداعية وقع إخضاعها للسياسي وللثقافي‪" ،‬رغم أن االختالف بينهما مسالة محورية"‪ .86‬إن تدخل‬
‫السياسي في بناء الفضاء المشترك قد يغيّب اإلبداع ويؤجل ديمقراطية الحوار‪.‬‬

‫داخل هذا التوتر المري ع في المش هد اإلب داعي والسياس ي ح دث ص دام خط ير بين مش روع الدول ة‬
‫االتباعي ة وأس ئلة النخب الثقافي ة واإلبداعي ة‪ ،‬س رعان م ا انتهى بهيمن ة السياس ي على الثق افي وحوص ر‬
‫اإلبداع بكل مضامينه‪ ،‬وتفكك الفضاء المشترك مم ا س اهم في ظه ور خالي ا تس لطية وقهري ة‪ ،‬تتكلم باس م‬
‫ثقافة المركزية الغربية‪ ،‬وتدين الفن واإلبداع‪ ،‬وهو ما ح رّض احم د برق اوي على مجابه ة األزم ة بط رح‬
‫سؤال مهم‪" :‬كيف يمكن مواجهة المركزية الغربية بمركزية الذات‪ ،‬بذات هامشية؟ كيف يمكن لوجود فق ير‬
‫‪87‬‬
‫أن يواجه وجودا ثريا ممتلئا باالعتزاز بوجوده؟"‬

‫أم ام ص عود التي ارات األص ولية إلى المش هد الثق افي‪ ،‬ومحاص رة اإلب داع الف ني وتكف ير الفن انين‬
‫والمفكرين‪ ،‬لم يعد ممكن ا التمي يز بين مهم ة الفن ووظيف ة الثقاف ة‪ .‬أص بح ال ترويج لثقاف ة اإلره اب‪ ،‬ونفي‬
‫الفرق واالختالف‪ ،‬وتجسيد الفرقة ونش ر القح ط من مهم ات الثقاف ة الجدي دة‪ .‬وق ع إمات ة اإلب داع وتح ريم‬
‫الفنون بكل صنوفها‪ .‬تعمدت هذه األصوليات "نشر ثقافة الموت"‪ ،88‬والتش جيع على التش تيت‪ .‬عم دت إلى‬
‫إعادة رسم األقاليم الفكرية والثقافية‪ .‬تصدت لكل رؤية إبداعية وفني ة تس يح لغ ة الح وار المتم دن‪ ،‬وترس م‬
‫جغرافية فضاء مشترك يتقدم فيه المبدع والفنان‪ ،‬ويتراجع فيه دور السياسي الذي ال يميز بين االديول وجي‬
‫والثق افي‪ ،‬وال يم يز بينهم ا‪ ،‬ب ل يجعلهم ا متط ابقين دون اختالف‪ .‬يبّين الف رق بين االديول وجي والثق افي‪،‬‬
‫عندما يعرف لويس التوسير "االيدولوجيا تمث ل العالق ة المتخيل ة لإلف راد لظ روف وج ودهم"‪ ،89‬ويع رف‬
‫كلود ليفي ستراوس الثقافة في كتابه "االنتربولوجيا البنيوية" تعريفا بنيويا‪ ،‬بما هي "مجموع العالمات‬

‫‪ . 85‬فخري صالح‪" ،‬ادوارد سعيد‪ :‬دراسة وترجمات"‪ ،‬الدار العربية للعلوم ناشرون‪ ،‬بيروت‪ ،2009 ،‬ص ‪.149‬‬
‫‪ distinctions », sous la direction de Sylvia Girel,‬ـ‪. Bruno Péquignot, « des arts de la culture : Distinction et in‬‬
‫‪86‬‬

‫‪Op. Cit, Eds L'Harmattan, Paris, 2006, p 13.‬‬


‫‪ .87‬احمد برقاوي‪" ،‬انطولوجيا الذات"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.148‬‬
‫‪ . 88‬جيوفانا بورادوري‪ " ،‬الفلسفة في زمن اإلرهاب‪ :‬حوارات مع يورغن هابرماس وجاك داريدا "‪ ،‬ترجمة خلدون‬
‫النبواني‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.158‬‬
‫‪89‬‬
‫‪. Althusser Louis, Idéologie et appareils idéologiques d'Etat, Eds Sociales, Paris, 1976, p 101.‬‬
‫‪29‬‬
‫االنتربولوجية التي تمثل من مجموعة إلى أخرى وجهات نظر مختلفة وفروقات داللية" ‪ .90‬لقد مثل التداخل‬
‫بين الثقافي واالديولوجي التباسا في الفك ر الع ربي‪ ،‬وعطال ة فكري ة وإبداعي ة س اهم في تأجي ل المش روع‬
‫الديمقراطي‪.‬‬

‫إن غياب ثقافة الحوار وتراجع الفن الثوري على المقاومة‪ ،‬واستبداد تصحر إب داعي وف راغ ثق افي‪،‬‬
‫قد يكون عائقا أمام قيام مشروع ديمقراطي جمالي‪ ،‬يتوطن الفضاء المشترك‪ ،‬ويوفر شروط الح وار‪ .‬ل ذلك‬
‫يعتق د هابرم اس أن الديمقراطي ة في ظ ل ه ذه الظ روف تفق د إش عاعها "كج وهر ثق افي للتض امن بين‬
‫المواط نين"‪ .91‬ويحلّ ل ميش و أزم ة الديمقراطي ة والفن على الس واء ويعتق د أن اله وة الس حيقة بين الفن ان‬
‫والمجتمع قد ضاعفت من تدخل قوى التسليع والهيمنة الثقافية‪.‬‬

‫في ظل غياب الفضاء المشترك‪ ،‬فقد الفن ثوريت ه والفن ان مقاومت ه‪ .‬تح ولت الديمقراطي ة إلى فاش ية‬
‫تتالعب بأحاسيس ورغبات الجم اهير‪ ،‬بع د أن كرس ها الف اعلون في الس وق واإلش هار لخدم ة مص الحهم‬
‫الخاصة‪ .‬فمع تأخر اإلدراك‪ ،‬تبدو األزمة مضحكة إلى حد الس خرية وخط يرة‪" ،‬فهي تكش ف أنه ا متص لة‬
‫بأزمة تمثالننا التقليدية للفن وبوظائفها‪ ،‬عندما تكون متمرسة بثقاف ة ديمقراطي ة وتجاري ة مفتت ة"‪ .92‬ي ذهب‬
‫هذا التحليل إلى أن التحول من دمقرطة الثقافة إلى الديمقراطية الثقافي ة ق د أح دث خلال في عالقتن ا ب الفن‪،‬‬
‫وفي عالقة الفن بالديمقراطية‪ .‬وتبيّنت حقيقة الثقافة الغربي ة‪ ،‬عن دما كش فت "عن م دى قص ورها الت ام في‬
‫تحقيق التطلعات المفرطة"‪.93‬‬

‫تبقى الديمقراطية الحوارية مشروعا مؤجال في غياب األرضية اإلبداعية التي تغذي التن وع الثق افي‬
‫وتحمي الحرية في الفضاء المشترك‪ .‬ويعتقد جاك داريدا في كتابه "مارقون" أن الثقافة اإلسالمية في‬
‫طورها األصولي الراهن هي "الثقافة الديني ة الالهوتي ة ال تي يمكنه ا‪ ،‬في الواق ع وفي الح ق‪ ،‬اإلعالن عن‬
‫مقاومة الديمقراطية"‪ .94‬تتحول الديمقراطية إلى قوة سالبة تؤجج الصراعات األص ولية واالديولوجي ة‪ ،‬في‬
‫ظل امبريالية ثقافية محلية غير قادرة ان تحمي منابعها اإلبداعية‪ ،‬وترفع من مقام المبدعين‪ ،‬وتقاوم الغ زو‬
‫بكل صنوفه‪.‬‬

‫وينب ه ادوارد س عيد إلى خط ورة "اإلمبراطوري ات الثقافي ة"‪ 95‬في إمات ة ال روح اإلبداعي ة‪ ،‬وفي‬
‫محاصرة الفن والثقافة‪ .‬وهي تشرّع ألنظمة أصولية باسم اإلب داع‪ ،‬وت دوّل اإلطاح ة بأنظم ة سياس ية باس م‬
‫‪90‬‬
‫‪. Levis Strauss Claude, Anthropologie structurale, Eds Plon, Paris, 1958.‬‬
‫‪91‬‬
‫‪. Habermas, L'espace public, Eds Payot, Paris, 2006, p16.‬‬
‫‪92‬‬
‫‪. Michaud Yves, La crise de l'art contemporain, Eds PUF, Paris, 1999, p 71.‬‬
‫‪ . 93‬هانس بلتينغ‪" ،‬نهاية تاريخ الفن"‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.75‬‬
‫‪ . 94‬محمد شوقي الزين‪" ،‬سؤال العقل في سياسة التفكيك"‪ ،‬ضمن كتاب "جاك داريدا ما اآلن؟ ماذا عن غد؟"‪ ،‬إشراف محمد‬
‫شوقي الزين‪ ،‬منشورات الفارابي‪ ،‬بيروت‪ ،‬منشورات االختالف‪ ،‬الجزائر ‪ ،2011،‬ص ‪.326‬‬
‫‪ . 95‬فخري صالح‪" ،‬ادوارد سعيد‪ :‬دراسة وترجمات"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.190‬‬
‫‪30‬‬
‫الديمقراطية‪ .‬وتلك مداخل ماكرة تنتهجها اإلمبراطوريات الك برى للس يطرة والتطوي ع والهيمن ة‪ ،‬من ب اب‬
‫اإلب داع الف ني والثق افي والح وار ال ديمقراطي‪ .‬ك انت فرنس ا الديمقراطي ة وب اريس عاص مة الفن خ ارج‬
‫الممارس ة الديمقراطي ة‪ ،‬حين منعت حري ة التعب ير‪ ،‬ورفض ت ح ق التظ اهر عن األخ ر‪" ،‬لم ا تظ اهر‬
‫الجزائريون في قلعة الديمقراطية الفرنسية"‪.96‬‬

‫وتناول انطونيو غرامشي في كتابه " رسائل سجنيّة" أمالءات الهيمنة الثقافية على الشعوب‬
‫الهامشية وبيّن التالزم المصيري بين اإلبداعي والديمقراطي‪ .‬ومنحت رؤية غرامشي للثقافة مفهوما جدي دا‬
‫للمثقف‪ .‬لم تع د الثقاف ة عب ارة عن مف اهيم مج ردة ونظري ات فوقي ة ال تتص ل ب الحراك المجتمعي‪ .‬أص بح‬
‫"المثقف العضوي" مقاوما وملتزما بقضايا المصير‪ ،‬متخذا من اإلبداع بمختلف صنوفه أداة إلنشاء فض اء‬
‫مجتمعي‪ ،‬تمارس فيه الديمقراطية الحوارية‪ ،‬وتناقش فيه أسئلة المستقبل‪ .‬لم يكن محمد عابد الجابري بعي دا‬
‫عن غرامشي‪ ،‬لما حدد مفهوم الثقافة ودور المثقف في تشكيل الفضاء الديمقراطي الح ر‪ .‬ويعتق د الج ابري‬
‫أن الثقافة المبدعة والمثقف العضوي كان غائبا في المش هد ال ذي هيمنت علي ه نزع ات أص ولية وسياس ية‬
‫تظهر المثقف "مثقفا مأمورا ومثقفا مأجورا ومثقفا مقهورا"‪ .97‬وه و م ا ك ان ينبّ ه إلي ه ميش ال فوك و حين‬
‫ّ‬
‫حذر في حواره مع جيل ديلوز من أن المثقف يظل وجه من وجوه السلطة والتسلط؛ ألنه "ينتمي إلى سلطة‬
‫في شبكة المجتمع بشكل عميق وحاذق ودقيق‪ ،‬والمثقفون أنفسهم يشكلون جزءا من نظام هذه السلطة"‪.98‬‬

‫ثم ة مفارق ة في وص ل الديمقراطي ة بالسياس ي‪ ،‬والتنك ر ل دور الفن والثقاف ة في تفعيله ا وحفظه ا‬
‫وممارستها الفاعلة في الفضاء المشترك‪ .‬مثّل ذلك أمرا مفزعا لم يتنبه إليه الفاعلون الديمقراطيون‪ ،‬ونع ني‬
‫بذلك النخب الفنية والثقافية والفكرية‪ .‬فطبيعة الديمقراطية أن تنم و في فض اء من التواف ق المجتمعي‪ ،‬ومن‬
‫الحرية في التعبير والنقاش‪ ،‬وهذا في نظر هابرماس‪ ،‬مهندس الفضاء العمومي المعاصر‪ ،‬ما يتيح لمجتم ع‬

‫‪ . 96‬محمد االحمري‪" ،‬الديمقراطية الجذور واشكالية التطبيق"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.233‬‬
‫يوجد تناقض بين أن تكون باريس عاصمة الديمقراطية وحق وق اإلنس ان من جه ة‪ ،‬وعاص مة الفن من جه ة أخ رى‪ .‬فبعض‬
‫األحداث تكشف أن باريس‪ ،‬وان كانت عاصمة الفن‪ ،‬فهي ليست عاصمة الديمقراطية‪ .‬فالجمهورية الديمقراطي ة الفرنس ية لم‬
‫تر مانعا أن تكون ديمقراطية‪ ،‬ولما تظاهر الجزائريون في قلع ة الديمقراطي ة الفرنس ية ب اريس‪ ،‬آم ر الجن ود الفرنس يون أن‬
‫يطلقوا النار على المدنيين المحتجين‪ ،‬وقت ل ثالثمائ ة جزائ ري لمج رد مظ اهرة‪ ،‬وق ذفت جثثهم في نه ر الس ين أي ام الث ورة‬
‫الجزائرية"‪ .‬راجع‪ :‬المرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.233‬‬
‫في هذه العاصمة التي تم فيها وأد الديمقراطية‪ ،‬تن ال ش رف عاص مة عالمي ة للفن والجم ال‪ ،‬بع د أن وص فها وال تر بني امين‬
‫عاصمة القرن التاسع عشر‪ .‬يمكن أن تنعكس الثورة الحداثية الفنية والجمالية فيما تحقق من مظاهر الفن والموضة والعمارة‪.‬‬
‫من عمق باريس‪ ،‬انطلقت شرارة التجديد في أشكال البناء والعمارة والهندسة وفي فضائها صيغت أك ثر الطرائ ق تم ردا في‬
‫الفن والرسم والنحت وفي كل الفنون البصرية وبين أحضانها تبلورت أحدث األساليب وأكثرها ج رأة وجس ارة في الموض ة‬
‫واللباس والديكور‪ ،‬وفي أحيائها الشهيرة نشأت وترعرعت أكبر التيارات الطليعية في الفن في القرن العش رين من انطباعي ة‬
‫ووحشية وتكعيبية وما فوق واقعية وفي أروقة صالوناتها ومعارضها دارت رحى مع ارك فني ة وجمالي ة ونش بت مواجه ات‬
‫مصيرية بين الفن األكاديمي المحافظ والفن المتمرد‪ .‬وفي رحابها صيغت أشهر البيانات الفنية"‪.‬‬
‫راجع‪ :‬عبد العالي معزوز‪" ،‬فلسفة الصورة"‪ ،‬إفريقيا للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،2014 ،‬ص ‪.101‬‬
‫‪ . 97‬محمد عابد الجابري‪" ،‬نقد العقل السياسي"‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‪ ،1992 ،‬ص‪.43‬‬
‫‪" . 98‬المثقفون والسلطة‪ ،‬حوار بين ميشال فوكو وجيل ديلوز"‪ ،‬ترجمة الزواري بغورة‪ ،‬كتاب " جيل ديلوز‪ ،‬سياسات‬
‫الرغبة"‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.175‬‬
‫‪31‬‬
‫المواطنة "أن يكون عبر تجمعات مص لحية غ ير حكومي ة ومن مب ادرات مدني ة "‪ .99‬إن تحق ق المش روع‬
‫الديمقراطي الحواري هو لبنة الحوار والنقاش داخل فضاء مشترك‪ ،‬يق وم على اإلب داع‪ ،‬وينش طه ف اعلون‬
‫عضويون من الفنانين والمفكرين الديمقراطيين‪.‬‬

‫وثمة نبوءة غربية حملها صامويل هنغنتون وهي أن الغ رب ال يش جع على الديمقراطي ة الحواري ة‪،‬‬
‫وال على وج ود نخب من الفن انين والمفك رين ال ديمقراطيين؛ الن ذل ك يتع ارض م ع المص لحة القومي ة‬
‫للغرب‪ .‬معنى ذلك أن الغرب يدرك خطر اإلبداع الفني والثقافة الوطنية والحوار الديمقراطي على مستقبله‬
‫االستعماري في األطراف والهوامش‪ .‬ويبين كتاب "صدام الحضارات" أن "تبني التقاليد الديمقراطية‬
‫الغربية يشجع ويفتح الطريق نحو السلطة أمام الحركات السياسية والقومية المعادية للغرب"‪.100‬‬

‫رغم أن العمل الفني في الراهن الرقمي أصبح أكثر انتشارا ووصوال إلى المتلقي من خالل الوسائط‬
‫االفتراض ية‪ ،‬إال أن دمقرطت ه المش بوهة غلّبت الممارس ات الفني ة العرض ية على اإلب داع الف ني الث وري‬
‫والفنان المقاوم‪ .‬كرّست نزعة إنسانوية هتكت اإلنس اني وأفس دت بهج ة الع الم وجماليت ه البدوي ة‪ .‬ويخ رج‬
‫ج ان فرانس وا ليوت ار عن الس رب الح داثي‪ ،‬وعن نزعت ه اإلنس انية‪ ،‬ليح ول الفن إلى االش تغال على الالـ‬
‫إنساني‪ ،‬بعد أن فقد العصر إنسانيته‪" .‬صارت فيه األعمال الثورية عاطلة عن العمل"‪ .101‬يرى ميشو وه و‬
‫يعاين أزمة الفن المعاصر‪ ،‬وينتقد الديمقراطيات الغربية‪ ،‬أن تحول الثقافة إلى صناعة استهالكية واتصالها‬
‫المباشر بالعولمة وباالفتراضي وجنون الرؤية وبالمجتمع المشهدي‪ ،‬قد ساهم في "أزمة الفن المعاصر إلى‬
‫درج ة ال ذوبان والتبخ ر"‪ .102‬ذل ك م ا يحلل ه ريجيس دوب ري "بعم ق وبعين بص رية تنف ذ إلى األزم ة‬
‫الديمقراطية "‪.103‬‬

‫إن التداخل بين السياسي والفني الذي فرضته طبيعة السوق وكرس ته العولم ة‪ ،‬ق د س اهم في تحوي ل‬
‫الفن إلى بضاعة والى سلعة استهالكية‪ ،‬أفقدته هالته وضاعفت من أزماته في ظل هيمنة ديمقراطي ة هش ة‪،‬‬
‫تخدم السوق وتتابع حرك ة رأس الم ال الع ابر للق ارات‪ ،‬حيث أص بح ممكن ا ألي ك ان أن يم ارس النش اط‬
‫الفني‪ ،‬بعد أن تسلعن العم ل الف ني داخ ل س وق كوني ة معولم ة‪" .‬س اهمت في اختف اء القيم الروحي ة لع الم‬
‫متالش"‪ .104‬وحتى نستطيع مج اوزة األزم ة وتفعي ل ال روح الديمقراطي ة للفن‪ ،‬ت ذهب آن ك وكالن إلى أن‬

‫‪99‬‬
‫‪. Habermas, L'espace public : Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société‬‬
‫‪Bourgeoise, Eds Payot, Paris, 1976. P 148.‬‬

‫‪ .100‬صامويل هنغنتون‪"،‬صدام الحضارات"‪ ،‬ترجمة طلعت الشايب‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.274‬‬
‫‪101‬‬
‫‪. Lyotard J.F, L’inhumain, Op.Cit, p 13.‬‬
‫‪102‬‬
‫‪. Michaud Yves, L’art à l'état gazeux, Eds Stock, Paris, 2003, p 53.‬‬
‫‪ .103‬ريجيس دوبري‪ ،‬حياة الصورة وموتها‪ ،‬ترجمة فريد الزاهي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.329‬‬
‫‪104‬‬
‫‪. Michaud Yves, La crise de l,art contemporain, op. cit, p 57.‬‬
‫‪32‬‬
‫ن زع المادي ة الفج ة عن الفن‪ ،‬ال يك ون إال بش رط‪ :‬ه و "إعط اء ن زع المادي ة مع نى رفض مؤسس ة الفن‬
‫وواقعها السوقي الذي تجسده المتاحف واألروقة"‪.105‬‬

‫قائمة المراجع‬

‫المراجع باللغة العربية‪:‬‬

‫احمد عبد الحليم عطية‪" ،‬جيل ديلوز سياسات الرغبة"‪ ،‬دار الفارابي‪ ،‬بيروت‪.2011 ،‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪. Anne Cauquelin, Fréquenter les incorporels Contributions à une théorie de l,art contemporain, Ligne d,art,‬‬
‫‪105‬‬

‫‪puf, Paris, 2006, p 276.‬‬


‫‪33‬‬
‫غادمر‪" ،‬الحقيقة والمنهج"‪ ،‬ترجة حسن ناظم علي حاكم صالح‪ ،‬دارأويا‪ ،‬طرابلس‪ ،‬ليبيا‪.2007 ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫ابو النور حمدي ابو النور‪" ،‬يورجين هابرماس االخالق والتواصل"‪ ،‬دار االنوار‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪.2012‬‬
‫ميشال فوكو‪" ،‬المراقبة والمعاقبة"‪ ،‬ترجمة علي مقلد‪ ،‬مركز اإلنماء القومي‪ ،‬بيروت‪1990 ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫بورجين هابرماس‪" ،‬الحداثة وخطابها السياسي"‪ ،‬ترجمة جورج ثامر‪ ،‬دار النهار للنشر‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪.2002‬‬
‫روالن بارط‪" ،‬أسطوريات"‪ ،‬ترجمة قاسم المقداد‪ ،‬مركز اإلنماء الحضاري‪ ،‬الالذقية‪ ،‬سوريا‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪.1996‬‬
‫ريجيس دوبري‪" ،‬حياة الصورة وموتها"‪ ،‬ترجمة فريد الزاهي‪ ،‬إفريقيا للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪.2002‬‬
‫ام الزين بنشيخة‪" ،‬الفن يخرج عن طوره"‪ ،‬دار المعرفة للنشر‪ ،‬تونس‪.2010 ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫فالتر بنيامين‪" ،‬العمل الفني في عصر االستنساخ اآللي"‪ ،‬ترجمة احمد حسان‪ ،‬دار ميريت‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫القاهرة‪.2010 ،‬‬
‫غيورغ سورنسن‪" ،‬الديمقراطية والتحول الديمقراطي"‪ ،‬ترجمة عفاف البطاينة‪ ،‬منشورات‬ ‫‪-‬‬
‫المركز العربي لالبحاث ودراسة السياسات‪ ،‬قطر‪.2015 ،‬‬
‫محمد االحمري‪" ،‬الديمقراطية الجذور وإشكالية التطبيق"‪ ،‬الشبكة العربية لألبحاث والنشر‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت‪.2012 ،‬‬
‫الصادق جالل العظم‪" ،‬نقد الفكر الديني"‪ ،‬ط‪ ،6‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪.1988 ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫عبد العزيز بو الشعير‪" ،‬غادمر من الفهم إلى الوجود إلى فهم الفهم "‪ ،‬منشورات االختالف‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫الجزائر‪ ،‬دار األمان‪ ،‬الرباط‪.2011 ،‬‬
‫مارك جيمينيز‪" ،‬ما الجمالية؟"‪ ،‬ترجمة شربل داغر‪ ،‬مركز دراسات الوحدة الربية‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪.2009‬‬
‫هانس بلتينغ‪" ،‬تاريخ الفن"‪ ،‬ترجمة العونلي وادريس الشوك‪ ،‬المركز الوطني للترجمة‪ ،‬دار‬ ‫‪-‬‬
‫سيناترا‪ ،‬تونس ‪.2012،‬‬
‫هيدغر‪ ،‬نص الحوار الذي اجري معه في قناة تلفزيونية‪ ،‬ترجمة فريق الترجمة‪" ،‬مجلة العرب‬ ‫‪-‬‬
‫والفكر العالمي"‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان ‪.1988‬‬
‫آن ك وكالن‪" ،‬معاش رة الالمادي ات"‪ ،‬ترجم ة ص الح ال داودي‪ ،‬ض من كت اب "إطالالت على‬ ‫‪-‬‬
‫الجماليات بالعالم العربي"‪ ،‬مختارات معربة‪ ،‬إشراف وتنسيق رشيدة التريكي‪ ،‬المجمع التونسي‬
‫للعلوم واآلداب والفنون‪ ،‬بيت الحكمة‪ ،‬تونس‪.2010 ،‬‬
‫‪34‬‬
‫آالن سورين‪" ،‬نقد الحداثة والدة الذات"‪ ،‬القسم الثاني‪ ،‬ترجمة صياح الجهيم‪ ،‬منشورات وزارة‬ ‫‪-‬‬
‫الثقافة السورية‪ ،‬دمشق‪.1998 ،‬‬
‫تيودور ادرنو‪" ،‬نظرية استطيقية"‪ ،‬ترجمة ناجي العونلي‪ ،‬منشورات دار الجمل‪ ،‬بغداد‪.2017 ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫كنط‪" ،‬نقد العقل المحض"‪ ،‬ترجمة موسى وهبة‪ ،‬مركز اإلنماء القومي‪ ،‬بيروت‪.1988 ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫هربرت ماركوز‪" ،‬البعد الجمالي"‪ ،‬ترجمة جورج طرابيشي‪ ،‬دار اآلداب‪ ،‬بيروت‪.1970 ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫فوزية ضيف هللا ‪"،‬كلمات نيتشه األساسية ضمن القراءة الهيدغرية"‪ ،‬منشورات االختالف‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫الجزائر‪ ،‬دار األمان‪ ،‬الرباط منشورات ضفاف‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار كلمة‪ ،‬بيروت‪.2017،‬‬
‫العزيز احمد جودة‪" ،‬قراءات في الفن الحديث"‪ ،‬أرت هاوس للطباعة‪ ،‬القاهرة‪.2008 ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫تزفيتان تودوروف‪" ،‬ميخائيل باختين‪ ،‬المبدأ الحواري "‪ ،‬ترجمة فخري الصالح‪ ،‬المؤسسة العربية‬ ‫‪-‬‬
‫للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪.1996 ،‬‬
‫غادمر‪" ،‬تجلي الجميل"‪ ،‬ترجمة سعيد توفيق‪ ،‬المجلس األعلى للثقافة‪ ،‬القاهرة ‪.1997‬‬ ‫‪-‬‬
‫غادمر‪" ،‬المنهج والحقيقة"‪ ،‬ترجمة حسن ناظم علي حاكم صالح‪ ،‬دار أويا‪ ،‬طرابلس‪ ،‬ليبيا‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪.2007‬‬
‫بول ريكور‪" ،‬من النص إلى الفعل"‪ ،‬ترجمة محمد برادة حسان بورقية‪ ،‬دار األمان‪ ،‬الرباط‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪.2004‬‬
‫أبوالنور حمدي ابو النور‪" ،‬يورجين هابرماس االخالق والتواصل"‪ ،‬دار األنوار‪ ،‬بيروت‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪.2012‬‬
‫صامويل هنغنتون‪"،‬صدام الحضارات"‪ ،‬ترجمة طلعت الشايب‪ ،‬دار سطور‪ ،‬بيروت‪.1998 ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫احمد برقاوي‪" ،‬انطولوجيا الذات"‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬منشورات مؤمنون بال‬ ‫‪-‬‬
‫حدود‪ ،‬الرباط‪.2014 ،‬‬
‫فخري صالح‪" ،‬ادوارد سعيد دراسة وترجمات"‪ ،‬الدار العربية للعلوم ناشرون‪ ،‬بيروت‪.2009 ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫حسن الببالوي‪" ،‬رباعية الديمقراطية عند مراد وهبة ومضمونها في التربية "‪ ،‬ضمن كتاب‬ ‫‪-‬‬
‫مشروع مراد وهبة‪ :‬شروط التفكير ضد األصوليات‪ ،‬إصدارات ملتقى الفالسفة الع رب‪ ،‬الق اهرة‪،‬‬
‫‪.2016‬‬
‫علي الحبيب الفري وي‪" ،‬الفن في الفض اء العم ومي‪ :‬من النق د إلى المقاوم ة إلى الكوني ة"‪ ،‬ض من‬ ‫‪-‬‬
‫كتاب "الفن والفضاء العمومي"‪ ،‬فعاليات المؤتمر الدولي للمهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة‬
‫بالشمال الغربي‪ ،‬منشورات مركز النشر الجامعي وجمعية رقش للثقاف ة والفن والتص ميم‪ ،‬ت ونس‪،‬‬
‫‪.2017‬‬

‫‪35‬‬
،‫ بيروت‬،‫ مركز دراسات الوحدة العربية‬،"‫ "الخطاب العربي المعاصر‬،‫محمد عابد الجابري‬ -
.1994
،‫ دار المنتخب العربي‬،‫ ترجمة مروان أبي سمرا‬،"‫ "المتوسط والعالم المتوسطي‬،‫قرنان بروديل‬ -
.1993 ،‫بيروت‬
،‫ بيروت‬،‫ دار التنوير‬،"‫ "الفن والسياسة في فلسفة هربرت ماركوز‬،‫حنان مصطفى عبد الرحيم‬ -
.2010
‫ منشورات‬،‫ إشراف محمد شوقي الزين‬،"‫ "جاك داريدا ما اآلن؟ ماذا عن غد؟‬،‫محمد شوقي الزين‬ -
.2011 ،‫ الجزائر‬،‫ منشورات االختالف‬،‫ بيروت‬،‫الفارابي‬
.2007 ،‫ بيروت‬،‫ دار اآلداب‬،‫ ترجمة مطاع الصفدي‬،"‫ "الحب والحضارة‬،‫هربرت ماركوز‬ -

:‫المراجع باللغة الفرنسية‬

- Althusser Louis، Idéologie et appareils idéologiques d’Etat، Eds Sociales، Paris, 1976.
-Habermas، L’espace public: Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la
société Bourgeoise، Eds Payot، Paris, 1976.
- Michaud Yves, La crise de l’art contemporain, Eds PUF, Paris, 1999.
- Heinich Nathalie, « Sociologie de l’art », in Manière de voir, n 57, mai‫ ـ‬juin 200
- Heidegger, Nietzsche I, Eds Gallimard, Paris, 1972.
- Heidegger، «Dépassement de la métaphysique»، in Essais et conférences، Eds Gallimard،
Paris, 1986.

- David Alcaud, « Sociologie des arts et de la culture et politique culturelle », in Sociologie


dés arts et de la culture, sous la direction de Sylvia Girel, Eds L’Harmattan, Paris, 2006.
- Habermas, J. Théorie de l’agir communicationnel, Eds Payat, Paris, 1987.
- Joelle Zask, Art et démocratie, peuple de l’art, Eds PUF, Paris, 2003.
- Jean Bourgault, « Tours et retours Sartre et l’action politique », in Lectures de Sartre, sous
la direction de Philippe Cabestan et Jean Pierre Zarader, Ellipse Eds Marketing S. A, Paris,
2011.
- Frédérick Gravel, Le rôle de l’artiste dans la société démocratique : Mémoire présenté
comme exigence partielle de la maitrise en danse, Université du Québec à Montreal, 2010.

36
- Luc Ferry, Le Sens du Beau aux origines de la culture contemporaine, Eds Grasset, Paris,
1990.
- Kandinsky, Le spirituel dans l’art et dans la peinture en particulier, Eds Denoël, Paris,
1989.
- Schaeffer Jean Marie, L’art de l’âge moderne, Eds Gallimard, Paris, 1992.
- Clair Jean, La responsabilité de l’artiste, Eds Gallimard, Paris, 1997.
- Ardenne Paul, L’art dans son moment politique, Eds La lettre Volée, Bruxelles, 1999.
- Lyotard J.F, L’inhumain, Eds Galilée, Paris, 1988.
- Negri, Art et multitude, Eds Mille et une nuit, Paris, 2009.

‫ من ديمقراطيّة المساواة إلى أرستقراطيّة العدالة‬:‫ثقافة الفن لدى نيتشه‬

‫ تونس‬،‫ جامعة سوسة‬،‫ رضا الجوادي‬.‫د‬

37
‫من خالل هذه المداخلة سنحاول رصد اللحظة الفنيّة التي تس كن عم ق النص النيتش وي لن بيّن كي ف‬
‫ارتبطت بديونيزوس األرستقراطي ال ذي ال يحف ل إال ب براءة الص يرورة ودوام الع ود األب دي على خالف‬
‫أبولين وس‪ ،‬اإلل ه ال ذي ج اء من الش رق ليعلّم الن اس النظ ام واإلعت دال والح دود الوس طى وال ذي ّ‬
‫يبش ر‬
‫بديمقراطيّة ته ّدد األخالق األرستقراطية‪ .‬إن هذه األخالق هي فن يكافح ض د ثقاف ة الم وت والتحني ط وهي‬
‫كذلك ممارسة ترتبط بالجسد وباألرض‪ .‬فلطالما تح ّدث نيتشه بإزدراء في كتابه "أفول األصنام" عن‬
‫ض رب من "المص رانيّة" (‪ )Egypticisme‬مس تعيرا من التقلي د الفرع وني عب ارة التحني ط أو المومي اء‬
‫ليبني تصوّرا للفن وللثقافة يكون لصيق الحياة بما هي إرادة وقوّة‪ .‬وهذا التصوّر إنما يتص ّدى ب ذلك لل برود‬
‫والموت ويفضح كل المفاهيم الخاويّة مثل المساواة والرحمة واألخوة‪.‬‬

‫الفن شأن أرستقراطي وغير مو ّزع بالمساواة بين القرائح‪ ،‬فهو يأبى أن يكون ديمقراطيّا ألنّ ه ل و‬
‫إن ّ‬ ‫ّ‬
‫كان كذلك لكان ك ّل النّاس فنّانين‪ .‬هذه هي المصادرة التي نروم تحليلها هنا‪ .‬فإذا قمنا بتبويب هذه المصادرة‬
‫إن ال ّديمقراطيّ ة والمس اواة س يرتبطان بالج انب ّ‬
‫الض عيف وال واهن فين ا‪،‬‬ ‫تحت الجهاز المفهومي لنيتش ه ف ّ‬
‫وسيصبح كالهما يترجم عجز اإلنسان عن مواجهة الحياة والهروب منها نح و المف اهيم الس ديميّة واألك ثر‬
‫شحوبا واصفرار وعنكبوتيّة (والعبارات لنيتشه)‪ .‬إن ال ّديمقراطيّة والمساواة نيتش ويّا هم ا ش كل من أش كال‬
‫التمويه الذي تجسّده الحقيقة المجرّدة والتي تسكن نسيج العنكبوت صحبة فيلسوف أص فر ش احب خ ال من‬
‫ال ّدم يشبه الموت على حد تعبير نيتشه‪ .‬إنّها " مصرانيّة " «‪ »égypticisme‬تحيل إلى التحنيط والمومي اء‬
‫وهي تخنّث مشاعر األقوياء األرستقراطيّين‪.‬‬

‫الفن عند نيتشه هو بديل "السيّدة الوقورة حقيقة"‪ ،‬ومقابل خواء عمقه ا المزع وم ينهض ّ‬
‫الفن كثقاف ة‬ ‫ّ‬
‫إن الحقيقة تتعرّى أمام المطارق التأويليّة لنيتشه وتتب ّدى جذورها‬
‫لعمق بديل وهو عمق السّطح الذي يطفو‪ّ .‬‬
‫المنغرسة في وهم األصل ال ذي ه و أص ل ال وهم‪ .‬فمن منط ق التغنّي بقيم األرس تقراطي‪ ،‬وال ذي فعل ه ّ‬
‫فن‬
‫وأخالقه إبداع‪ ،‬تُفضح الحقيقة التي تلقي بظاللها على ديمقراطيّة المساواة‪ّ .‬‬
‫إن المساواة في ك ّل شيء يجع ل‬
‫السيّد األرستقراطي عبدا ضعيفا ويرتقي بالعبد إلى السّيادة‪ ،‬وهي جدليّة مغلوطة وال تصح ّإالّ داخل مثاليّ ة‬
‫هيقل‪ .‬أ ّما نسابيّة نيتشه فهي جينيالوجيا تفضح ك ّل ضروب الوهم وأصوله ال ّزائفة‪ .‬فإذا كان أصل المس اواة‬
‫هي ال ّديمقراطيّة فأصل الديمقراطيّة هو العقل اللّعوب والذي من فرط خش يته من إرادة الق وّة وق وّة اإلرادة‬
‫نراه يؤسّس إلرادة ينسجها من نفس نسيج خيوطه التي تشبه في الوهن خيوط عنكبوت ينتظر فريسته‪ .‬ول ّما‬
‫إن الجس د ال ّدعام ة ه و واق ع وح ّ‬
‫ق وه و ملك ة‬ ‫فإن المساواة والديمقراطيّة هما وهم الوهم‪ّ .‬‬
‫كان العقل وهم ّ‬
‫إبداع لثقافة ال تخدم العبيد في شيء‪ .‬لذلك ومقاب ل اإلب داع ول د االبت داع؛ ابت داع ّ‬
‫الض عفاء لمف اهيم األخ وّة‬
‫والتّراحم والصّبر والطّيب والشرّير وما إلى ذلك من منظومة أخالق ارتكاس يّة تس تبطن ّ‬
‫الض عف فيتح وّل‬
‫إلى حقد ومنه إلى وعي شقّي لينتهي إلى ضمير متعب‪.‬‬
‫‪38‬‬
‫ّ‬
‫بالض رورة فتص بح واقع ا يص عب زحزحت ه‪ .‬فه ؤالء‬ ‫ّ‬
‫إن العبيد يبتدعون مفاهيم جوفاء ويحيطونه ا‬
‫يرتعبون من األرستقراطي الخالّق كما ترتعب الحمالن الوديعة من النّسور الضّارية‪ ،‬لذلك يبتدعون الحيل‬
‫قصد التّعايش مع األقوياء‪ .‬وفي مسته ّل كتابه "جينيالوجيا األخالق" يقول الفيلسوف األلماني فريديريك‬
‫نيتشه ‪" :‬إني مناهض للتخنيث المخجل الذي يجري اليوم لألحاسيس "‪ .106‬إذن‪ ،‬إزاء هذا التخ نيث يط رح‬
‫نيتشه البديل‪ .‬هذا البديل هو البربريّة‪ .‬نعم‪ ،‬البربريّة بإعتبارها الوجه اآلخر لألرستقراطية‪ .‬ففي مؤلفه "ما‬
‫بعد الخير والشر"‪ ،‬يفرد نيتشه الجزء التاسع لإلجابة عن سؤال " من هو األرستقراط ّي؟" ويقول معرفا‬
‫األرستقراطيّة‪:‬‬

‫"إن الملة األرستقراطية كانت قبل كل شيء ملة البربر‪ .‬وتفوّقها ال يتمث ل في قوته ا ولكن في قوته ا‬
‫الروحية‪ .‬لق د ك انوا بالكام ل رج اال‪ ،‬أع ني وبك ل المع ايير الفيزيائي ة ك انوا خام ا" ‪ .107‬إن دع اة المس اواة‬
‫وال ّديمقراطيّة هم مرضى يتض رّعون بالمس اواة خش ية الحي اة ومن ف رط خ وفهم من إرادة الق وّة ال تي هي‬
‫جوهر هذا األرستقراطي الخالّق‪ .‬كما ّ‬
‫أن عداء نيتشه للديمقراطيّة نستكشفه من عدائ ه للمس يحيّة ولكهنته ا‪.‬‬
‫إن الكاهن يحاول تجسيد نواميس السّماء لتتحقّق المساواة وال ّديمقراطيّة والحال أنّه بهذا يفس د ص حّة النّفس‬
‫ّ‬
‫ّ‬
‫والذوق ويسيء إلى معنى األرض أي إلى معاني القوّة واإلرادة‪.‬‬

‫إن ال ّديمقراطيّة وحكم األغلبيّة والمساواة هي المظهر األكثر فس ادا في األرض ولألرض ولإلنس ان‬
‫ّ‬
‫األرقى‪ .‬فال ّدساتير التي منها يولد حكم القطيع الغالب بسواده هي دساتير كتبت بكتابة ارتكاسيّة ض عيفة وال‬
‫تعكس الحقيقة التي يفترض أن تكتب بال ّدم على حد عبارة نيتشه‪ّ .‬‬
‫إن الغالبيّ ة في األنظم ة الديمقراطيّ ة هي‬
‫إن سندها الوحيد هو أنّه ا تنط وي على متع ة أق دم من‬
‫في نظره قطعان مريضة وهي فاقدة لك ّل شرعيّة بل ّ‬
‫ّ‬
‫وألن الوعي الجيّد كان يس ّمى بالقطيع‪ .‬لكن ما الديمقراطية أوّال؟‬ ‫متعة األنا‬

‫إن الديمقراطيّة تمنح السّيادة إلى ال ّشعب وتق ّر بمبدأ حكم األغلبيّة‪ ،‬فهي نظام سياسي من خالل ه تمنح‬
‫ّ‬
‫ممارسة السلطة إلى ال ّشعب (مبدأ السيادة) دون وجود تفريق بينهم من حيث الوالدة أو اللّ ون أو الع رق أو‬
‫الغنى والفق ر أو المق درة‪ .‬وه ذا م ا يس ّمى بمب دأ المس اواة‪ ،‬وفي القاع دة العا ّم ة‪ ،‬فال ّديمقراطيّ ة هي س لطة‬
‫ال ّشعب الغير المباشرة باعتبار تفويضهم لمجلس أو لحكومة تقوم مقامهم في ممارسة ّ‬
‫الس لطة‪ .‬فهي تم اهي‬
‫بين المواط نين دون تمي يز في والدتهم‪ ،‬أو في ث رواتهم أو في ق دراتهم‪ .‬فال ّديمقراطيّ ة تعتم د على مب دأ‬
‫المساواة بين أفراد المجتمع بقط ع النّظ ر عن فروق اتهم في الع رق أو اللّ ون أو الغ نى أو الق درة‪ ...‬ويمكن‬

‫‪ .106‬نيتشه‪ ،‬مق ّدمة "جينيالوجيا األخالق"‪ ،‬دار سيرأس للنشر‪ ،‬ص‪.9.‬‬


‫‪. Nietzsche, Par-delà bien et mal, Gallimard 1971, p. 181. « La caste aristocratique fut toujours d’abord, la‬‬
‫‪107‬‬

‫‪caste des barbares ; sa supériorité ne résidait pas avant tout dans sa force physique, mais dans sa force‬‬
‫‪spirituelle ; ils étaient plus complètement des hommes (c’est-à-dire aussi, et à tous les niveaux plus‬‬
‫‪complètement des brutes) ».‬‬
‫‪39‬‬
‫للفعل ال ّديمقراطي أن يكون منض ويا تحت غط اء ال ّديمقراطيّ ة والمس اواة‪ ،‬أ ّم ا الفع ل الفنّي فيجعل ه نيتش ه‬
‫حكرا على فئة تتنصّل عن الوعي القطيعي الذي يع ّم سائر األفراد والمجموعات بدافع ال ّديمقراطيّة‪.‬‬

‫إن نيتشه يعادي ال ّديمقراطيّة ألنّها الوجه اآلخر للمسيحيّة‪ ،‬ويقول في إحدى نصوص ه‪ّ :‬‬
‫"إن الحرك ة‬ ‫ّ‬
‫ال ّديمقراطيّة هي وريثة المسيحيّة"‪ .‬إنّه يستهجن ال ّشخص الذي يعتن ق ال ّديمقراطيّ ة ألنّ ه ع ديم الق درة على‬
‫التسامي فوق الوعي القطيعي المهيمن والمهين‪ .‬فمعاداة نيتشه لل ّديمقراطيّة هي من معاداة المسيحيّة الغربيّة‬
‫ألن األس اس ال ّذي تق وم علي ه ه و المس اواة العدديّ ة؛ أي أنّه ا ال ت راعي الج دارة والكف اءة والتّراتبيّ ة في‬
‫ّ‬
‫القدرات‪ .‬وإذ يتص ّدى نيتشه لفكرة المساواة فهو بذلك يل ّخص معضلة التّع ارض بين ال ّديمقراطيّ ة والنزع ة‬
‫األرستقراطيّة لدى القدماء‪ .‬فالفهم القديم للنّزعة األرستقراطيّة كان فهما إيجابيّا يحيل إلى المعرفة والحكم ة‬
‫والقدرة والتعقّل في مواجهة األهواء ورغبات العوا ّم التي تجد متنفّسا كبيرا داخل ال ّديمقراطيّة الشعبيّة التي‬
‫تقصي الحكمة والحكماء في مقابل سيادة الرّعاع وغرائز االرتجال في السّياسة‪.‬‬

‫فال ّديمقراطيّة تمنح السّيادة للغوغ اء ب دون وج ه ح ّ‬


‫ق‪ .‬وهي س يادة تفتق ر إلى أ ّ‬
‫ي أس اس ع دا ت أويج‬
‫إن الديمقراطيّ ة ب المفهوم ّ‬
‫الش عبوي تض ع البالد‬ ‫الميول التناحريّة واإلنشقاقات الداخليّة والحروب األهليّ ة‪ّ .‬‬
‫عرضة لالنهيار والتّدمير‪ .‬فمع المساواة المفرطة يتآكل القانون وتتوارى ّ‬
‫الس لطة ويش يع ع دم االس تقرار‪.‬‬
‫أن هذا النّوع من ال ّديمقراطيّة يزيل التراتبيّات والفوارق الثقافيّ ة واالجتماعيّ ة عمال بمب دأ‬
‫يضاف إلى ذلك ّ‬
‫المساواة‪ ،‬م ّما يعني صعود استبداد ال ّدهماء ّ‬
‫الذين يش ّكلون أغلبيّ ة في ال ّديمقراطيّ ة ال تي تفتق د إلى أي حسّ‬
‫أرستقراطي‪ .‬فإذا نظرنا إلى هذه المسألة من زاوية تداخل الديمقراطيّة مع الثّقافة سنتبيّن سبب ال ّدوافع التي‬
‫تولّد الحساسيّات النخبويّة األرستقراطيّة الح ا ّدة بخص وص النزع ات الجمهوريّ ة ال تي تحي ل إلى األغلبيّ ة‬
‫الشعبيّة؛ أي إلى سيادة سطوة جماعات غارقة في الخرافة والجهل والوهن‪.‬‬

‫إذن ما االرستقراطيّة؟ ث ّم ماالعدال ة؟ وإلى أ ّ‬


‫ي م دى يفي كالهم ا بالمقاص د النيتش ويّة؟ ورد تعري ف‬
‫األرستقراطيّة في معجم المصطلحات التقنية والفلسفيّة ألندري الالند كما يلي‪ " :‬أرس طقراطيا" ه و الحكم‬
‫الذي تمارسه طبقة إجتماعية واحدة أقل عددا من سائر القوم وذلك دالل ة على تفوقه ا وتعت بر وراثي ة"‪.108‬‬
‫ومن ناحية أخرى يمكننا التوصّل إلى هذا التّعيين المفهومي لألرستقراطيّة من خالل تحليل اش تقاقي بس يط‬
‫للكلمة‪ .‬فاألرستقراطيّة كلمة قائمة من جهة المعنى على تركيب عبارتين يونانيّتين وتعني‪:‬‬

‫السّلطة أو القوّة ‪ἄριστος / aristos‬‬ ‫‪-‬‬


‫الجيّد أو الفاضل‪κράτος / kratos .‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪108‬‬
‫‪. André Lalande, Vocabulaire technique et critique de la philosophie, T1, PUF, p. 79. "ἀριστοκρατία‬‬
‫‪gouvernement exercé par une seule classe sociale، moins nombreuse que le reste de la nation، mais réputée‬‬
‫‪supérieure en lumières et en vertus، et généralement héréditaires".‬‬
‫‪40‬‬
‫فاألرستقراطيّة بهذا المعنى تفيد في مدلولها األصلي "حكم األفضلين" أو "حكم أفض ل المواط نين"‬
‫إن ه ذه ال ّدالل ة هي ال تي نع ثر عليه ا ل دى أفالط ون وتحدي دا في الكت اب الثّ امن من‬ ‫لفائدة جميع ّ‬
‫الش عب‪ّ .‬‬
‫الجمهوريّة كما استخدمها أرسطو من بعده في كتاب السّياسة على ّ‬
‫أن الحكومات األرستقراطيّة هي أفض ل‬
‫أنواع الحكومات وأكثرها عدالة‪ .‬غير ّ‬
‫أن أفالطون يحذر من انزالق األرستقراطيّة إلى األوليغارش يّة (حكم‬
‫القلّة) وهذا على ح ّد عبارته إثم عظيم (أي إيثار ال ثروة على ّ‬
‫الش رف)‪ ،‬وه و م ا أ ّك ده أرس طو ه و اآلخ ر‬
‫أن األوليغارشيّة هي الفساد الطّبيعي لألرستقراطيّة‪ّ .‬‬
‫إن قيام نظام أرس تقراطي في بل د م ا ه و‬ ‫عندما اعتبر ّ‬
‫استتباع ال للمساواة وإنّما للعدالة‪ ،‬فمن العدالة أن يكون الحكم لألفضل والمتفوّق أخالقيّ ا وجس ديّا‪ .‬فلطالم ا‬
‫تغنّي نيتشه بهذا التفوّق واعتبره جوهر اإلنسان األرقى‪ .‬أ ّما ثقافة اإلنسان األرقى فهي ّ‬
‫الفن باعتباره الوجه‬
‫المخصوص للثّقافة وهو خاصّة الخاصّة‪ ،‬لقد أ ّكد نيتشه مرارا ّ‬
‫أن صديقه الموسيقار "ريش ارد ف اغنر" ه و‬
‫التجسيد الح ّي للرّوح األرستقراطيّة"‪.109‬‬

‫وترتكز األرستقراطيّة على المساواة التي تجري وفق مبدأ العدالة‪ ،‬فما العدالة؟‬

‫ّ‬
‫إن العدال ة تختل ف عن المس اواة‪ ،‬فالعدال ة تقتض ي ب أن يقن ع الم رء بقس مته وبمناب ه دون زي ادة أو‬
‫نقصان‪ ،‬وهكذا تأخذ العدالة معنى أخالقي وهو االعتدال أو الح ّد األوسط باعتب اره فض يلة‪ .‬ففض يلة الم رء‬
‫أن يكون على ما هو عليه وهو ما نبّه إليه نيتشه ومن قبله ك ّل من كاليكالس وأفالطون وأرسطو م ّمن أيّدوا‬
‫هذا المبدأ‪.‬‬

‫ّ‬
‫الخاص ة‬ ‫فبعد أن ميّز أرسطو بين العدالة كمبدأ كوني وبين العدالة الخاصّة نج ده يس تم ّد من العدال ة‬
‫ض ربين من العدال ة وهم ا العدال ة التوزيعيّ ة والعدال ة التص حيحيّة‪ .110‬إذ فإقام ة الع دل في األنظم ة‬
‫األرستقراطيّة يستوجب العمل بمبدأ الح ّد األوسط كفضيلة‪ .‬هذا األمر هو ما تعتم د علي ه العدال ة التوزيعيّ ة‬
‫التي تشمل توزيع الخبرات وال ّشرف والمناصب أو أ ّ‬
‫ي شيء يمكن توزيعه على أفراد جماع ة إنس انيّة م ا‪.‬‬
‫وهذا التوزيع يت ّم بما يتناسب مع ما يس تحقّه ك ّل ط رف ومعي ار االس تحقاق في األنظم ة الديمقراطيّ ة ه و‬
‫ّ‬
‫وألن‬ ‫معيار الحريّة‪ .‬أ ّما في األنظمة األوليغارشيّة فهو ال ثروة‪ ،‬وه و الفض يلة في األنظم ة األرس تقراطيّة‪.‬‬
‫األرستقراطيّة هي حكم األفضلين فإنّها تق ّر بمبدأ إقامة العدل في صلب المجتمعات ال تي يحكمه ا األفاض ل‬
‫وهن ا يك ون الع دل وفق ا لمب دأ التناس ب الهندس ي ال ذي ق ام أرس طو بتحليل ه في كتاب ه" األخالق إلى‬
‫نيخوماخوس"‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫‪. Magazine littéraire, Nietzsche, hors-série Numéro 3, p. 12.‬‬
‫‪ . 110‬أنظر كتاب أرسطو‪" ،‬األخالق إلى نيخوماخوس" وتحديدا القسم الخامس‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫أن في األنظمة األرستقراطيّة تتح ّدد المساواة بين المواط نين وفق ا لمب دأ التّناس ب‬
‫وهكذا يمكن القول ّ‬
‫ألن توزيع الحقوق في هذا النّظام يت ّم بالعودة إلى استحقاقات األفراد أ ّما في األنظمة الديمقراطيّ ة‬
‫الهندسي‪ّ ،‬‬
‫فيتح ّدد مفهوم المساواة وفقا لمبدأ التّناسب الحسابي ما دام ك ّل مواطن ح ّر يتمتّع بنفس الحقوق والواجبات‪.‬‬

‫ق وهي ثابت ة في ح ال إض افتها إلى الحق وق الطبيعيّ ة ولكنّه ا ق د تص بح‬


‫إن العدال ة هي الحكم ب الح ّ‬
‫ّ‬
‫متح ّولة في حال قياسها على الحقوق المكتسبة الموضوعة من قبل اإلنسان‪ .‬إذن ول ّما ك انت األرس تقراطيّة‬
‫هي سلطة خواص النّاس من ال ّشرفاء واألفاضل الذين ك انوا ض ّد الملكيّ ة في الق رون الوس طى‪ ،‬ك ان ه ذا‬
‫الفن شأن ديمقراطي يو ّزع بالمساواة بين عم وم النّ اس‬
‫أن ّ‬ ‫النّظام بمنزلة التّجسيد الفعلي للعدالة‪ .‬حينئذ‪ ،‬هل ّ‬
‫أم هو شأن أرستقراطي تحتكره خاصّة من النّاس؟‬

‫يمكن للثّقافة أن تكون شأنا ديمقراطيّا باعتبارها تشمل األساطير والخرافة كأنظمة رمزيّ ة‪ ،‬أ ّم ا ّ‬
‫الفن‬
‫فال يمكن أن يكون مو ّزعا بالمس اواة بين عم وم النّ اس‪ ،‬وإالّ لتح ول ك ّل النّ اس إلى فنّ انين‪ّ .‬‬
‫إن اإلب داع ال‬
‫يكون في نظر نيتشه إالّ ارستقراطيّا يرتبط بالجسد القو ّ‬
‫ي وبإرادة الحياة والق ّوة‪ .‬لقد اقترن ّ‬
‫الفن لديه بالرّوح‬
‫األرستقراطيّة لذلك كان يعتبر صديقه ريتشارد فاقنر تجسيدا حيا لألرستقراطية ألنه فنان‪ .‬لق د حس م نيتش ه‬
‫الفن في مصنّفه األخير " إرادة القوّة " عندما أظهر أنه يتمم الوجود ويجعله مالء وكماال وتأكيدا‬
‫موقفه من ّ‬
‫وتألها‪.‬‬

‫الفن هو حال ة ت أويج الق وّة والمالء للفنّ ان المب دع‪ .‬ه ذه‬
‫فما هو ريادي في العمليّة اإلنتاجيّة إلنشائيّة ّ‬
‫الحالة يتغنى بها نيتشه في مصنّفه " إرادة القوّة "‪ .‬ك ّل ما يراه الفنّان هو فيض ق ّوة‪ ،‬إلى درجة تصبح معها‬
‫ّ‬
‫فالفن ه و الق وّة المتس اميّة‬ ‫مواضيعه مرآة عاكسة لسلطته ولكماله‪ ،‬وهذا التحوّل إلى الكمال هو نفسه ّ‬
‫الفن‪.‬‬
‫"إن الفنّان‬
‫للنشاط اإلنساني‪ .‬يقول نيتشه ‪ " :‬إن العالم أثر فني يمنح الوالدة لنفسه"‪ .‬ويقول في موضع آخر‪ّ :‬‬
‫ي يحوّل حيات ه إلى أث ر فنّي"‪" .‬أن تك ون فنّان ا" يق ول نيتش ه "ه و‬
‫هو نموذج اإلنسان األرقى‪ ،‬أي ذاك الذ ّ‬
‫ضرب من الحياة على ّ‬
‫أن الحياة هي ما ضمنها يتمظهر ك ّل كائن في الوجود"‪ .‬ويضيف في كتابه "أ فول‬
‫األصنام"‪ّ " :‬‬
‫الفن لدى اإلنسان هو منتهى الكمال"‪.‬‬

‫ويمكن القول في الختام ّ‬


‫بأن الحقيقة الجماليّة في تقدير نيتشه هي حقيقة ميتافيزيقيّة أكثر منه جماليّ ة‪.‬‬
‫الفن ال يتعلّق بمجرّد إعادة تمثّل لمشهد الواقع أو مجرّد تنظيم لألشكال والمواضيع بل هو كشف‬
‫فاألمر في ّ‬
‫وجودي أنطولوجي لدوافع الحياة‪ .‬ففي كتابه "مولد التراجيديا" يذكر نيتشه الغريزتين األساسيّتين للحياة‬
‫الفن متألّها‪ ،‬وهما‪" :‬أبولينوس" و"ديونيزوس" وكالهم ا يعبّ ر عن وج ود فنّي مخص وص‬
‫واللّتان تجعالن ّ‬
‫وعن حالة فيزيولوجيّة مختلفة ‪ :‬أبولين وس ه و مص در ّ‬
‫الفن التش كيلي والحلم واالعت دال وديون يزوس إل ه‬

‫‪42‬‬
ّ
‫والفن‬ ‫ إنّه ا حي اة األرس تقراطي‬،‫للفن ال حد لن وابض الحي اة فيه ا‬
ّ ‫ ومنه تقوم أنطولوجيا‬،‫النشوة والموسيقى‬
.‫قيمته واإلبداع أخالقه‬

:‫قائمة المراجع‬

.‫ بدون تاريخ‬،‫ منشورات فاخرية الرياض‬،‫ ترجمة لطفي السيد‬،"‫ " كتاب السياسة‬،‫ أرسطو‬-

.‫ بدون تاريخ‬،‫ دار سيرأس للنشر‬،"‫ "جينيالوجيا األخالق‬،‫ نيتشه‬-

-André Lalande، Vocabulaire technique et critique de la philosophie، PUF, 2ème édition,


1992.

-Aristote، Ethique à Nicomaque, Flammarion, Paris, 1965.

- Nietzsche, Ainsi parlait Zarathoustra, trad. De Condillac, Gallimard, 1971.

- Nietzsche, Crépuscule des idoles, Gallimard, 1984.

- Nietzsche, Œuvres posthumes, éd. d’Alfred Kröner.

- Nietzsche, Par-delà le bien et le mal, Gallimard 1971.

- Platon, La République, trad., R. Baceau, éd. Flammarion, Paris 1966.

-Platon، œuvres complètes، éditions Les belles lettres، Paris 1963.

- Le Magazine littéraire, Dos. « Platon », n° 447, Novembre 2005.

- Le Magazine littéraire, hors-série Numéro 3, Dos. « Nietzsche », 4°trimestre 2001.

‫المثقف العربي والرهان الديمقراطي‬

‫ تونس‬،‫ جامعة المنستير‬،‫ أكرم بو جناح‬.‫د‬

43
‫في ظ ل التح وّالت الك برى ال تي تعص ف بمنطقتِن ا العربي ة في ظروفه ا الراهن ة‪ ،‬من‬
‫ثورات‪ ‬ومؤامرات وفوضى قوّضت السلم اإلجتماعي في بعض األقطار وه ّددت وحدتها الوطنية‪ ،‬أض حى‬
‫من الضروري التساؤل عن أسباب فشل نخبنا في تحقيق التحوّالت الديمقراطي ة والتأس يس للدول ة المدني ة‬
‫الضامنة لحقوق األفراد والحريات والمكرّسة لعلوية القوانين‪ .‬وإن كانت األسباب متع ّددة‪ ،‬بعضها خ ارجي‬
‫ّ‬
‫المغذي ة للتش تت والفتن بأنواعها‪ ،‬ف إن األس باب الداخلي ة ب دورها تع ّد مركزي ة‬ ‫مرتبط بالتد ّخالت األجنبية‬
‫ي للمخطّط ات الخارجي ة في حال ة وج ود منظم ات ونخب وطني ة ص لبة‪.‬‬
‫نظرا ألنه كان باإلمك ان التص د ّ‬
‫وكان باإلمكان كذلك أن تلعب هذه النخب دورا تاريخيا في تحصين المس ارات االنتقالي ة وتف ادي الفوض ى‬
‫الحاصلة في ج ّل المستويات‪ .‬وهو ما يدفعنا‪ ،‬في ه ذا اإلط ار‪ ،‬لمراجع ة تمثّلن ا لص ورة المثق ف أو المفك ِر‬
‫عامة في مجالنا العربي والبحث في عالقته بالممارسة السياس ية والس لطة‪ ،‬لت بين األدوار المناط ة بعهدت ه‬
‫وإزال ة بعض من االوه ام ال تي علِقت ب ه‪ 111،‬ألنن ا على يقين لك ون المثقّ ف ل ه دور رئيس ي وأساس ي في‬
‫نهوض المجتمعات وتطوّرها على كافة المجاالت‪.‬‬
‫ومن أجل معالجة هذه المس ألة‪ ،‬قمن ا ببن اء ه ذه المداخل ة حس ب ثالث ة مح اور‪ :‬األول وس مناه "في‬
‫تعريف المثقف"‪ ،‬والثاني "عالق ة المثق ف بالس لطة"‪ ،‬والث الث‪" :‬رهان ات المثق ف الع ربي"‪ .‬وحاولن ا من‬
‫خالل العنصر األخير‪ ،‬طرح تمثلنا لمثقف اليوم ذو الحس النقدي ودوره في إشاعة الثقاف ة الديمقراطي ة في‬
‫المجتمع دون التورّط في تالبيب السلط القائمة‪.‬‬

‫في تعريف المثقف‪:‬‬

‫تختلف الرؤى حول تعريف المثقف‪ ،‬فالبعض يعرّفه على أنّه المتعلّم الحاص ل على ش هادة جامعي ة‪.‬‬
‫والبعض اآلخر يعرّفه بأنه المفكر المرتبط بقضايا عامة تتجاوز‪ ‬ح دود‪ ‬تخصّص ه‪ .‬وآخ رون يقول ون‪ ،‬بأن ه‬
‫المبدع في مجاالت األدب والفنون والعلوم‪ .‬وهناك‪ ‬من يرى في المثقف واح دا من ص فوة أو نخب ة متعلم ة‬
‫ذات فعالية على المستوى االجتماعي العام‪ ،‬أو أن ه ص احب الرؤي ة النقدي ة للمجتم ع وينتمي لطبق ة مالك ة‬
‫لرأسمال رمزي‪ -‬ثقافي‪ ‬ومعرفي‪.‬‬
‫في ه ذا الص دد‪ ،‬تعت بر إس هامات المفك ر اإليط الي أنطوني و‪ ‬غرامش ي (‪ )1937-1891‬ذات قيم ة‬
‫محورية حيث يقول في محاولة تمييزه بين المثقفين وغيرهم "إن كل الناس مفكرون‪ ،‬لكن وظيفة المثقف أو‬
‫المفكر في المجتمع ال يقوم بها كل الناس"‪ .112‬واعتمد "غرامشي" لتحديد المثقف معايير جدي دة تق وم على‬
‫‪ .111‬بالرغم من تص ّد ع النظريات الشاملة في قراءة العالم التي بينت فشلها‪ ،‬وانهيار المشاريع األيديولوجية وتهاوي المقوالت‬
‫الكبرى‪ ،‬فإنه ولألسف نراها ال تزال محطّ تطلّعات أغلب المثقّفين العرب ومجسّدة ألطروحاتهم الفكرية‪.‬‬

‫والسلطة‪ ،‬ترجمة مح ّمد عناني‪ ،‬رؤية للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪.32‬‬
‫"‬ ‫‪ .112‬إدوارد سعيد‪"،‬المثقف‬
‫‪44‬‬
‫الوظيفة والمكانة االجتماعية التي يشغلها ويقوم‪ ‬به ا‪ ‬المثقف ون في البني ة االجتماعي ة‪ .‬فميّ ز بين ن وعين من‬
‫المثقفين الصنف األوّل المثقف التقليدي كالمعلمين ورجال ال دين واإلداريين ال ذين يواص لون القي ام بنفس‬
‫المهام جيل بعد جيل‪.‬‬
‫وفي المقابل نجد المثقف العض وي المرتب ط مباش رة بالطبق ات االجتماعي ة؛ يق وم بوظيف ة تمثيله ا‪،‬‬
‫يرتبط‪ ‬بها‪ ‬عضويا اًو ينشر وعيه ا وتص وّرها عن الع الم‪ .‬وه و ك ذلك مرتب طٌ بالمؤسس ات التجاري ة ال تي‬
‫تس تخدمه قص د إح راز س لطة أو مص الح أك ثر‪ .‬إذ يق ول في حديث ه عن المثق ف العض وي "إن المق اول‬
‫الرأسمالي يخلق إلى جانب ه التق ني الص ناعي والمتخص ص في االقتص اد السياس ي ومنظمي ثقاف ة جدي دة‬
‫لنظام قانوني جديد وغيرهم"‪ .‬بالمعنى القرامشي يصبح كل من يشتغل في مج ال يتص ل بإنت اج أو ت رويج‬
‫المعرفة مثقفا‪.‬‬
‫وفي تصوّر مغاير‪ ،‬نبّه إدوارد سعيد من خطر اعتبار المثقف كتقني معرفة‪ ،‬مجرّد مه ني أو عض و‬
‫كفؤ يقوم بعمله ويؤدي مهمة تقنية؛ حيث يرى أن المثقف ه و ف رد يتمت ع بموهب ة خاص ة تمكن ه من حم ل‬
‫حرج ة‬
‫رسالة ما‪ ،‬وتمثيل وجهة نظر أو موقف أو فلسفة ما‪ ،‬واإلفصاح بها‪ .‬وه و ال ذي يط رح األس ئلة ال ُم ِ‬
‫علنا ويكون صعب الاس تقطاب من الحكوم ات أو الش ركات‪ ،‬ألن ه نص ير القض ايا العادل ة ال تي مص يرها‬
‫التجاهل أو اإلخفاء مستندا على المبادئ العامة الكوني ة ال تي تق ّر الحري ات والعدال ة لجمي ع البش ر‪ .‬ل ذلك‬
‫يتص ّور إدوارد سعيد المثقف على كونه المف ّكر الالمنتمي أو الهاوي الذي يع ّكر صفو الحالة الراهنة‪.‬‬
‫وفي كتابه " المثقفون في الحضارة العربية" سعى محمد عابر الجابري إلى "تبيئة" مفهوم المثقف‬
‫ورأى كون مصطلح المثقف اليزال في السياق العربي غير واضح المع الم وال يش ير إلى ش يء دقي ق ألن‬
‫المفهوم ال يزال يشوبه الغموض والضبابية‪ ،‬إذ يقول "لقد الحظنا أن مفه وم "المثق ف" مفه وم ض بابي في‬
‫الخطاب العربي المعاصر‪ ،‬على رغم رواجه الواسع‪ ،‬إذ هو ال يشير إلى شيء محدد وال يحيل إلى نم وذج‬
‫معين وال يرتبط بمرجعية واضحة في الثقافة العربية الماضية والحاضرة"‪.113‬‬
‫ودخل المصطلح إلى لغتنا ليح ّل محل ألفاظ عديدة نجدها في التراث العربي‪ ،‬مث ل الفقي ه‪ ،‬واإلم ام‪،‬‬
‫والعالّمة‪ ،‬والفيلسوف‪ .‬وربط ب دايات ب روز المثقفين بظه ور علم اء الكالم‪ ،‬لم ا تف اقم الخالف في اإلمام ة‬
‫واألص ول‪ ،114‬وص نّفهم كفئ ة من أه ل العلم والمعرف ة واألدب مرتبط ون بالسياس ة رغم الص يغ العقدي ة‬
‫لخطابهم‪ .‬ومن ثم بيّن أن ظهور المثقف في الفترة العربية الحديث ة ج اء م ع‪ ‬ب وادر النهض ة إث ر االتص ال‬
‫بأوروبا وانتشار التعليم الحديث‪ .‬فشاع استخدام‪ ‬لفظ‪" ‬المثق ف" ليش مل معظم المتعلمين ويرتس م المص طلح‬

‫رشد ‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪،‬‬‫‪ .113‬محمد عابد الجابري‪"،‬المثقفون في الحضارة العربية محنة أبن حنبل ونكبة ابن "‬
‫الطبعة الثانية ‪ ،2000‬بيروت‪ ،‬ص‪.14‬‬
‫ُ‬
‫‪ .114‬يقول في هذا الصدد‪ " :‬كان الص حابة أم را ًء وعلم ا ًء في ال وقت نفس ه‪ ،‬يحكم ون‪ ‬بالش رع‪ ‬ويش رّعون للحكم‪ .‬ثم حص ل‬
‫وحص ل اس تبدا ٌد‪ ‬بـ(األم ر) أدى إلى اس تقالل ال رأي‪.‬‬
‫ُ‬ ‫الحكم‪ ،‬فاستأثر األمرا ُء بالسلطة وتمسك العلما ُء ب الرأي‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ٌ‬
‫خالف حول‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫فانفصل العل ُم والثقافة عن السياسة وبدأت فئة المثقفين األوائ ِل في اإلسالم بالظهور"‪ .‬المصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.39‬‬
‫‪45‬‬
‫كمقولة عصرية تدل على المشتغلين بفكرهم ‪-‬ال بسواعدهم‪ -‬في فرع من فروع المعرف ة‪ ،‬وال ذين يحمل ون‬
‫آراء خاصة بهم حول اإلنسان والمجتمع‪ ،‬ويقفون موق ف االحتج اج والتندي د إزاء م ا يتع رض ل ه األف راد‬
‫‪115‬‬
‫والجماعات من ظلم وعسف من طرف السلطات‪ ،‬أيا كانت‪ ،‬سياسية أو دينية‪.‬‬
‫تجدر اإلشارة في المقابل‪ ،‬أنه يعزى شياع استخدام مصطلح المثق ف في فرنس ا في الف ترة الحديث ة‪،‬‬
‫لقضية "ألفريد دريفوس" الضابط اليهودي الذي حوكم بتهمة تجسّسه أللمانيا س نة ‪ .1894‬ك انت من نت ائج‬
‫هذه الحادثة إضفاء صفة الشرعية على وجود المثقفين في المجتمع ال ذين ي دلون ب دلوهم في قض ايا الش أن‬
‫‪116‬‬
‫العام‪ .‬كما استمد مفهوم المثقف معناه السياسي القوي المرتبط بالدور الذي يلعبه في مجابهة السلطة‪.‬‬
‫بهذا المع نى‪ ،‬كم ا رأين ا عن د إدوارد س عيد والج ابري ومن خالل قض ية دريف وس‪ ،‬يتح ّدد مفه وم‬
‫المثقف بنوع العالقة المتينة التي تربطه بالفكر والثقافة‪ ،‬إضافة للدور الذي يق وم ب ه في المجتم ع والفض اء‬
‫الع ام كص احب موق ف ورأي وقض ية‪ ...‬وه ذا ال دور الموك ول على المثق ف في اإلفص اح عن أرائ ه‬
‫وتصوّراته للمسائل المجتمعي ة والقض ايا العام ة من ش أنه أن يكس به س لطة ويجعل ه‪ ،‬ب ذلك‪ ،‬متموقع ا في‬
‫منطقة حساسة في مقابل السلط القائمة التي تنحو دائما نحو الهيمنة واإلخضاع‪ ...‬وهو م ا يجعلن ا نتس اءل‪،‬‬
‫في ما يلي‪ ،‬حول العالقات الممكنة التي تنشأ بينهما ‪.‬‬

‫المثقف والسلطة‪:‬‬

‫تس عى األنظم ة السياس ية إلى ض بط وتوزي ع األدوار االجتماعي ة لألف راد والمجموع ات حس ب‬
‫استراتيجيا تخ ّول لها سهولة مراقبتها واحتواءها بما يناسب استقرارها واستمراريتها‪ .‬لذلك نراها تستدعي‬
‫خ براء ومع ارف ق ادرة على تزوي دها ب األدوات األساس ية لإلقن اع والهيمن ة‪ ،‬عالوة على وس ائل الرقاب ة‬
‫والضبط‪.‬‬
‫وللترويج لخطابها اإليديولوجي وخياراتها‪ ،‬تراهن األنظمة على ضبط سياس ة عام ة للثقاف ة تم ّكنه ا‬
‫من تثبيت نظامها وتعميق شرعيتها‪ .‬فتلتجأ للمثق ف لتحدي د أط ر الثقاف ة الرس مية ولتك ريس سياس ة عام ة‬
‫للحقيقة تحافظ بها على سلطتها الرمزية المعرفية وبالتالي على ديمومتها في الواقع‪.‬‬
‫يقول بيير بورديو في هذا اإلطار‪" :‬إن المنظومات الرمزية‪ ،‬بما هي أدوات تواصل ومعرف ة تش ّكل‬
‫بنيات‪ ،‬تخضع العالم لبنيات‪ ،‬تؤدي وظيفتها السياسية من حيث هي أدوات لفرض الس يادة وإعطائه ا ص فة‬
‫المشروعية التي تساهم في ضمان هيمنة طبق ة على أخ رى (العن ف الرم زي)‪ ،‬وذل ك عن دما تف د لنج دتها‬
‫وتطعيم عالق ات الق وة والغلب ة ال تي تؤسس ها مس اهمة ب ذلك‪ ‬في‪" ‬مؤالف ة المس ودين"‪ ،‬على ح ّد تعب ير‬

‫‪ .115‬المصدر نفسه‪ ،‬ص‪.24.‬‬


‫‪ .116‬على إثر هذه القضية‪ ،‬كتب إميل زوال مقاال تحت عنوان "أدين" ‪ j’accuse‬وس اهم ص حبة مفك رين أخ رين في كتاب ة‬
‫مقال بعنوان " بيان المثقفين" نشر في جريدة لورور الفرنسية في ‪14‬جانفي ‪.1898‬‬
‫‪46‬‬
‫فيبير"‪ .117‬ومن هذا المدخل‪ ،‬تنشأ العالقة بين السلطة والمثق ف المتع اون ال ذي اخت ار االنحي از لمص الحه‬
‫الشخصية على حس اب مص الح ش عبه ومطامح ه في العيش في رفاهي ة وفي من اخ من الحري ات والتق ّدم‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس‪ ،‬تتواشج سلطة السياسي ب العلمي والثق افي وتت داخل متو ّح دة بتعقي داتها‪ ،‬مولّ دة ث الوث‬
‫"النظام والسلطة والمعرفة"‪.‬‬
‫ومع تو ّزع السلطة‪ ،‬في مفهومها العام‪ ،‬داخل المجتمع‪ ،‬في شبكة عالئقية مر ّكبة ومعقّدة تجت اح ج ّل‬
‫الميادين الحياتية مضفية على األنشطة اإلنسانية أبعادا سلطوية‪ ،‬كما بين ذلك ميشال فوكو‪ ،118‬نج د المثق ف‬
‫المنتج للمعرفة والحامل لرأسمال رمزي في عالقة وثيقة بالسلطة خاصة وأن المعرفة في ح ّد ذاته ا مك وّن‬
‫أساسي من مكوناتها‪ .‬كما أن الخطاب الذي ينتجه مؤسس بدوره للس لطة‪ .‬يق ول فوك و‪" :‬إن ه لمن الخط اب‬
‫تتمفصل السلطة والمعرفة"‪ .‬وهذا القول ّ‬
‫يفس ر رغب ة األنظم ة السياس ية وخاص ة الديكتاتوري ة االس تحواذ‬
‫ّ‬
‫ويفس ر ك ذلك خش ية‬ ‫المطلق على الخطاب ونفي وتهميش بقية الخطابات المناوئة أو المختلفة مع خطابه ا‪.‬‬
‫األنظمة من المثقفين والمفكرين ألن الخطاب الذي يصدر عنهم يحم ل س لطة ق ادرة على مجابه ة س لطتها‬
‫‪119‬‬
‫وخطابها التضليلي‪.‬‬
‫وبالرغم من وجاهة التصوّر الذي يض ع المثقفين في مح ور الس لطة كمنتجين وممارس ين له ا‬
‫عبر انتاجاتهم العلمية وتصوراتهم المجتمعية التي تتبلور في خطاباتهم‪ ،‬فإنه علين ا‪ ،‬في المقاب ل‪ ،‬الت وجّس‬
‫من ه ذا التعميم التس طيحي للمس ألة‪ ،‬والتش ديد على ك ون المثقفين عليهم التموق ع خ ارج دواليب الس لط‬
‫الكبرى؛ سلط الدولة السياسية واالمني ة والقض ائية وغيره ا‪ ...‬وعليهم ب األخص الس عي لكش ف انح راف‬
‫ممارساتها وميكانيزماتها السلطوية والتص ريح بأفك ارهم ونق ودهم علن ا في المجتم ع‪ .‬ونظ را لم ؤهالتهم‬
‫العلمي ة والفكري ة ال تي تخ ول لهم التحلي ل العمي ق والنف اد لج وهر األش ياء وتحلي ل الظ واهر المركب ة‬
‫وتفكيكه ا‪ ،‬ك ل حس ب مج ال تخصص ه العلمي والبح ثي‪ ،‬يص بح المثق ف ق ادرا على لعب دور تن ويري‬
‫‪120‬‬
‫وكشف مؤامرات السلط الصغرى الخفية في محاولتها للرقابة والتوجيه‪.‬‬
‫على ضوء هذه التحديات التي أتينا على ذكرها‪ ،‬يصبح خضوع المثقف للسلطة السياسية أكبر خط ر‬
‫يه ّدد الحياة الفكري ة والثقافي ة‪ .‬فنج اح دور المثقفين يقتض ي اس تقالليتهم في ال رأي والفك ر‪ ،‬وع دم تبعيتهم‬
‫والسلطة‪ ،‬ترجمة عبد السالم بنعبد العالي‪ ،‬دار توبقال للنشر‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬الدار البيصاء‪.2007،‬‬
‫"‬ ‫‪ .117‬بيير بورديو‪"،‬الرمز‬
‫‪ " . 118‬السلطة ال تقوم خارج أنواع العالقات ألنها محايثة لها كما أنها ليست مؤسسة وال هيكال وليس ت ش يئا من الق وة يتمتّ ع‬
‫بها البعض‪ :‬إنها االسم الذي تس ّمى به حالة استراتيجية معقّدة في مجتمع معين"ذكر في"ميشال فوكو تكنولوجيا الخطاب‪،‬‬
‫تكنولوجيا السلطة‪ ،‬تكنولوجيا السيطرة على الجسد"‪ ،‬محمد علي الكبسي‪ ،‬دار سراس للنشر‪ ،‬تونس‪ ،1993،‬ص‪.47‬‬
‫‪" .119‬إن الخطابات والنش رات والكتب واإلعالن ات التلفزيوني ة والتص ريحات الص حفية والمق االت ال تي ثنش رها المجالت‬
‫وعددا غير محدود تقريبا من أشكال وسائل اإلقناع وغرس المعتقدات متوافرة أمام الجمي ع‪ .‬وهي جميعه ا مظ اهر عص رية‬
‫السلطة‪ ،‬ترجمة عباس حكيم‪ ،‬مطبوعات مؤسسة كورجي‪ ،‬الطبعة الثانية‪،1994 ،‬‬ ‫"‬ ‫للسلطة"‪ ،‬جون كينيث جالبريث‪"،‬تشريح‬
‫ص‪.225‬‬
‫والمعاقبة ‪ Surveiller et punir‬بالتفريق بين الماكرو ـ سلطة‪ ،‬كالسلطة السياسية‬
‫"‬ ‫‪ .120‬لقد قام ميشال فوكو في كتابه"المراقبة‬
‫والقضائية وغيرها‪ ،‬وبين الميكروـ سلطة‪ ،‬كسلطة اإلعالم والخطاب السياسي والسلط الرمزية المحيطة باإلنس ان دون وعي‬
‫منه بها‪ .‬وبين مدى نفوذها عليه وكيفية مراقبتها لحياة األفراد في جمي ع الفض اءات وعلى كاف ة المس تويات وآلياته ا العقابي ة‬
‫التي تسلّطها خفية‪.‬‬
‫‪47‬‬
‫ّ‬
‫التمس ك به ا‪.‬‬ ‫لسياسات السلطة الظرفية التي تتع ارض م ع الث وابت والمب ادئ الكوني ة العادل ة ال تي عليهم‬
‫ويقول إدوارد سعيد في هذا اإلطار "إنني أعارض التحوّل إلى عبادة أي رب سياس ي أو اإليم ان ب ه مهم ا‬
‫يكن ن وع ه ذا ال رب‪ .‬فأن ا أعت بر أن ه ذا وذاك يمثالن س لوكا ال يلي ق ب المف ّكر"‪ .121‬ويض يف " إن المث ل‬
‫األعلى للمثقف أو المفكر هو أن يمثّل التح ّرر والتنوير‪ ،‬ولكن دون أن يصبح هذان مطلقا من المجردات أو‬
‫‪122‬‬
‫من األرباب النائية ذات اللون الشاحب التي تعبد وحسب‪".‬‬
‫وبناء على هذه القراءات السالفة‪ ،‬يكمن براديغم المثقف في تصوري بكونه منتجا للمعرفة ومهتم ا‬
‫بالشأن العام‪ ،‬ومتموقعا في مقابل السلط الحاكمة‪ .‬ونطرح فيما يلي التس اؤل ح ول المثق ف الع ربي لت بين‬
‫بعض من سماته واألدوار التي لعبها في تاريخنا الحديث ونحاول تبيّن األوهام التي تشبّث بها‪ ،‬مم ا ي تيح‬
‫لنا بسط المهام المطروحة في عاتقة اليوم‪.‬‬

‫رهانات المثقف العربي‪:‬‬


‫تش ّكلت في النصف الثاني من القرن التاسع عشر نخب ثقافية في أوطاننا العربي ة‪ ،‬ك ان له ا ال دور‬
‫القيادي في المجال الفكري والسياسي‪ .‬حيث لعبت دورا مركزيا في مرحلة التحرّر من االس تعمار والث ورة‬
‫على الطبقات المالكة الحاكمة‪ ،‬وانخرطت في بناء الدول ة الوطني ة عقيب اإلس تقالل‪ .‬فتح الفت ه ذه النخب‬
‫المثقفة مع السلط السياسية الجديدة قصد تطبيق مش اريعها وتص وّراتها‪ ،‬م ا أ ّدى إلى تراج ع الحسّ النق دي‬
‫لديها خاصة وأنها كانت حاملة لمشروع جماعي يعكس نس بيا‪ ،‬هم وم الجم اهير والنخب‪ .‬إال أن أم ال ه ذه‬
‫النخب قد انهارت‪ ،‬في الستينات والس بعينات من الق رن العش رين‪ ،‬م ع اكتش افها لحقيق ة اس تنفاذها سياس يا‬
‫لحظة تجلّي فشلها في بناء الدولة الحديثة وتحقيق التطوّر المأمول‪ .‬وظهر جليّا أن مشاريعها ب نيت بمع زل‬
‫عن الواقع‪ .‬ويرى الطاهر ل بيب أن المثق ف العض وي في تل ك الف ترة ق د ته اوى ونف ذ دوره عن دما انطفئ‬
‫الحس النقدي في تحليله وخطابه‪ .‬كما أل ّمت تشوهات متراكمة في هذا المثقف حوّلته إلى "شاعر القبيلة" أو‬
‫‪123‬‬
‫إلى داعية تبشيري حسب تعبيرة عبد اإلله بلقزيز‪.‬‬

‫انفصلت هذه النخب عن واقعها االجتماعي في السبعينات وبقي جزء منها متشبثا بأوهام ه واعتق اده‬
‫في امتالك الحقيقة والحلول المطلقة للمشاكل واإلشكاليات المطروحة‪ .‬وشق آخر انزوى في ميدان ه العلمي‬
‫وتقوقع وانسحب من المشهد العام‪ .‬فيما واص ل ش ق ث الث التح الف م ع الس لطة وتح وّل لمثق ف "مق اول"‬
‫يعرض بضاعته المعرفية منساقا وراء الربح الم ادي ومص الحه الشخص ية دون االك تراث بانعك اس ه ذه‬
‫الممارسة الوصولية وخطورتها في الواقع‪.‬‬

‫‪ .121‬إدوارد سعيد‪ ،‬المصدر سابق‪ ،‬ص‪.181‬‬


‫‪ .122‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪.186‬‬
‫‪ . 123‬والداعية هو الطوباوي الموهوم بالترويج إليديولوجيا معينة يرى فيها الحل السحري لكل معضالت العالم والوجود وهو‬
‫عادة ما يكون مثقف عقائدي تقوده الدعوة إليديولوجيته أكانت ماركسية أو قومية أو ليبرالية أو دينية‪.‬‬
‫‪48‬‬
‫يرى عبد اإلله بلقزيز أن فكرة ماركس ‪ -‬بك ون المثق ف موك ول علي ه تغي ير الع الم ال تفس يره ‪ -‬ق د‬
‫ّ‬
‫المبش ر‬ ‫كانت لها تداعيات سلبية على مثقفينا الذين حملوا أوهاما ك برى جعلت منهم يلعب ون أدوار الداعي ة‬
‫بالحقائق الخالصية والهداية‪ .‬لذلك ينادي بضرورة ال تزام المثق ف في ح دود المج ال الثق افي‪ ،‬ال ان يت وهّم‬
‫دورا أكبر منه‪ ،‬ويحاول تغيير الواقع عبر االنزالق إلى الفعل السياس ي ومقارع ة س لطة السياس ة سياس يا‪.‬‬
‫وبالرغم من تأ ّزم صورة المثقف فهو يرى أنه ال يزال له دورا يلعبه في حدود مجاله العلمي أو الثقافي‪.‬‬
‫وان كنا ال نشاطر بلقزبز في انحصار دور المثقف في المجال الثقافي إال اننا نرى انّه بات من المل ّح‬
‫مراجع ة مقول ة "ال تزام المثق ف" والتس اؤل في حيثي ات ه ذه المقول ة والتص وّر ال ذي تطرح ه في دور‬
‫المثقفين‪ .‬فمن تحديات المثقف اليوم نبذ التمترس اإلي ديولوجي واالنغالق الس كتري‪ ،‬ح تى ال يتح وّل ع الم‬
‫الفكر إلى "معسكرات إيديولوجية"‪ ،‬وإزالة أوهامه الدعوية التبشيرية ورؤية الواقع كما ه و لفهم ه وإدراك‬
‫أبعاده‪ .‬فهذا الفهم بدوره شرط التغيير وأح د مقومات ه‪ ،‬وعلي ه أن يق وم" بنق د ص ارم لك ل م ا ه و موج ود‪،‬‬
‫‪124‬‬
‫صرامة تحول دون تراجع النقد‪ ،‬ال أمام النتائج التي يقود إليها وال أمام الصراع مع الس لطة أي ا ك انت"‬
‫وهو ما يقتضي قرارا استراتيجيا يقول بالتجاوز‪ ،‬ويعم ل على ص ياغة خط اب يعان د ويتغ اير م ع الس ائد‪.‬‬
‫وعليه أن "يتخلى عن أحالمه اإلمبراطورية في أن يكون "نبيا" جديدا يحمل رسالة جديدة للع المين‪ ،‬أو أن‬
‫يكون قائدا عظيما يهدي الشعب واألمة إلى مستقبل مفروش بالورود‪ ،‬أو في أن يكون زعيم ا سياس يا تنق اد‬
‫لرأيه الجموع‪ )...( ،‬وباختصار في أن يكون ما ليس ممكنا له أن يكون!"‪.125‬‬

‫يستوجب واقعنا العربي اليوم لحظة تأ ّمل وتفك ير في أس باب الت أ ّزم لتش خيص الوض ع والبحث عن‬
‫حلول للخروج من هذا النكوص والتقهقر‪ .‬ومن األس باب الرئيس ية ال تي كرّس ت تخلّفن ا ه و تخلّ ف الش أن‬
‫السياسي وغياب المناخ الديمقراطي الذي يشجّع على التع ّددي ة وحري ة التفك ير والض مير ويض من العدال ة‬
‫المنشودة‪ .‬لذلك تعتبر الديمقراطية مدخال أساسيا للحداثة الحقيقية التي بقيت في أوطانن ا مش روعا مجهض ا‬
‫وغير مكتمل بالرغم من عملي ات التح ديث ال تي ش هدتها دولن ا على أص عدة ع ّدة‪ .‬والديمقراطب ة هي في‬
‫الحقيقة‪ ،‬مطمح كل مثقف ألنها تتيح ل ه من اخ من التفك ير الالمش روط بعي دا عن الرقاب ة للنش اط المع رفي‬
‫واإلب داعي‪ .‬فالديمقراطي ة كنظ ام للحكم وإدارة الش أن الع ام هي ثقاف ة قب ل ك ل ش يء مبني ة على مفه وم‬
‫المواطنة والمس اواة ام ام الق انون‪ .‬م ا يع ني عض وية الف رد الفعلي ة في المجتم ع كم واطن ومش اركته في‬
‫الخيارات السياسية واالستراتيجية للدولة‪.‬‬

‫‪ .124‬كارل ماركس‪ ،‬ذكر في مرجع سابق لمحمد عابد الجابري‪ ،‬ص ‪.25-24‬‬
‫المثقفين‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬الشبكة العربية لألبحاث والنشر‪،‬‬
‫"‬ ‫‪ . 125‬عبد اإلله بلقزيز‪"،‬نهاية الداعية‪ ،‬الممكن والممتنع في أدوار‬
‫الدار البيضاء‪ ،2000 ،‬ص‪.175‬‬
‫‪49‬‬
‫يقتضي المشروع ال ديمقراطي من المثق ف خ وض معرك ة نش ر الثقاف ة الديمقراطي ة في المجتم ع‪،‬‬
‫ومراكمة الحس النق دي وال دفاع على حري ة البحث والتفك ير وحري ة التعب ير‪ .‬ل ذلك علي ه مقارع ة الق وى‬
‫المختلفة التي تنظّم الصمت وتفرض على الثقافة التقوقع في الزوايا الضيقة‪ .‬على المثقف االنخراط بفعالي ة‬
‫في تحقيق أرائه وتطلعاته والتعبير عنها في الفضاء العام من خالل المجتمع المدني المستقل ‪126‬عن السلطة‬
‫السياسية القائمة وإن تقاطعت أحيانا البرامج واألهداف‪.‬‬

‫عبر المجتمع المدني يص بح المثق ف ق ادرا على مراكم ة ال وعي الن وعي والمحافظ ة على المس افة‬
‫الضرورية بين الشأن الثقافي والسياسي‪ ،‬خاص ة وأن ه ق ادر على لعب دور الرقاب ة كس لطة مض ادة تق اوم‬
‫السلط في انحرافاتها وتكشف أدوات التح ّكم والتوجيه ذات البعد الواح د‪ .‬ومن خالل المجتم ع الم دني يمكن‬
‫كذلك للمثقف المحافظة على رأسماله الرم زي ومراكم ة إنتاج ه المع رفي والمس اهمة الفعّال ة في القض ايا‬
‫المطروحة باختالفها‪ 127.‬فالره ان الي وم ه و ره ان ثق افي حض اري تق دمي يؤس س لمدني ة الدول ة ويكف ل‬
‫الحريات والتعددية الثقافية وضمان العيش المشترك عبر التشبّث بالقيم الكونية‪.‬‬

‫قائمة المراجع‪:‬‬

‫إدوارد سعيد‪" ،‬المثقف والسلطة"‪ ،‬ترجمة مح ّمد عناني‪ ،‬رؤية للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫القاهرة‪.‬‬
‫محمد عابد الجابري‪" :‬المثقفون في الحضارة العربية محنة أبن حنبل ونكبة ابن رشد"‪ ،‬مركز‬ ‫‪-‬‬
‫دراسات الوحدة العربية‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،2000‬بيروت‪.‬‬
‫جريدة لورور الفرنسية في ‪14‬جانفي ‪.1898‬‬ ‫‪-‬‬
‫ميشال فوكو‪" ،‬تكنولوجيا الخطاب‪ ،‬تكنولوجيا السلطة‪ ،‬تكنولوجيا السيطرة على الجسد"‪ ،‬محمد‬ ‫‪-‬‬
‫علي الكبسي‪ ،‬دار سراس للنشر‪ ،‬تونس‪.1993،‬‬
‫عبد اإلله بلقزيز‪" ،‬نهاية الداعية‪ ،‬الممكن والممتنع في أدوار المثقفين"‪ ،‬الطبعة األولى‪ ،‬الشبكة‬ ‫‪-‬‬
‫العربية لألبحاث والنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪.2000 ،‬‬

‫‪ . 126‬ال نريد من خالل هذا القول السعي لمعاداة األحزاب أو مقاطعتها ألننا نعلم ضرورتها المركزية في العملية الديمقراطية‪،‬‬
‫إالّ أننا نش ّد د على فكرة مفادها ضرورة حفاظ المثقف على استقالليته‪ .‬ألن الخطاب السياس ي مختل ف جوهري ا عن الخط اب‬
‫الثق افي ف األوّل يهتم ب اآلني والم رحلي ومرتب ط بالحس ابات التكتيكي ة السياس ية وم ا ي ترّتب عنه ا من تبع ات على التنظيم‬
‫السياس ي‪ .‬أ ّم ا المثق ف فيص يغ أفك اره بموض وعية بمع زل عن الحس ابات الض يقة أو المص لحية النفعي ة‪ .‬وفي إط ار ه ذه‬
‫االستقاللية‪ ،‬يمكن للمثقف أن يمد يد العون لألحزاب التي تتقاطع أهدافها مع تصوّراته‪.‬‬
‫‪ . 127‬إن كان على مستوى الحريات؛ كمناهضة التعذيب أو مقاومة التمييز العنصري أو ذاك المسلّط على المرأة‪ ...‬أو في‬
‫كملف البيئة ومقامة التل ّوث‪ ...‬أو على مستوى الثقافي والعلمي من خالل جمعيات تحفّز على البحث‬
‫ّ‬ ‫مستوى اإلكولوجي‬
‫والفنّي‪ .‬وغيرها من المحاور‪.‬‬
‫‪50‬‬
‫التربية على المواطنة والرهان الديمقراطي‬

‫د‪.‬سيف غابري‪ ،‬جامعة تونس‪ ،‬تونس‬

‫يُعت بر مفه وم المواطن ة من المف اهيم ال تي أث ارت وال ت زال ج دال واس عا في األوس اط الفكريّ ة‬
‫واألكاديمية‪ ،‬بحيث اقترن المفهوم في سياقه التاريخي ب إقرار وترس يخ مب دأ المس اواة الكامل ة في الحق وق‬
‫والواجبات السياسيّة والقانونيّة واالقتصاديّة واالجتماعيّة للمواطن‪ .‬ويتساءل أوليفييه روبول في هذا الصدد‬
‫" "هل نربي الطفل من أجل نفسه أم من أجل المجتمع؟ ربّما يتعلّق األمر هن ا بب ديل مغل وط بحيث ّ‬
‫أن ك ّل‬
‫لفظ ال يكتسي أهميته إالّ بإبراز أخطاء اآلخر‪ ...‬ألن بين الف رد والمجتم ع يوج د لف ظ ث الث ه و اإلنس انية‪.‬‬
‫فغاية التربية ليست االهتمام بالفرد عبر طمس المجتمع أو االهتمام بالمجتمع عبر قت ل الف رد‪ ،‬وإنّم ا هن اك‬
‫‪51‬‬
‫غاية أسمى وأعظم شأنا هي المواطنة اإلنسانيّة‪ .‬فنحن ال نربي الطفل من أج ل أن يظ ّل طفال وال من أج ل‬
‫أن نجعل منه عامال أو مواطنا‪ ...‬إنّما نربيه من أجل أن نجعل منه رجال‪ ،‬أي شخصا ق ادرا على التواص ل‬
‫واالتحاد باآلثار واألعالم اإلنسانية‪ .‬ألنه وراء كل الثقافات توج د الثقاف ة‪ ،‬وال تي تتجلى قب ل ك ّل ش يء في‬
‫جعل تلك الثقافات قادرة على التواصل فيما بينها"‪.128‬‬

‫وقبل التطرّق إلى التعريف االص طالحي للفظ ة مواطن ة‪ ،‬نج د من الض روري اإلش ارة إلى أص لها‬
‫اللغ وي حيث اختلفت دالالت ه ب اختالف اللغ ات؛ ففي حين اس تعملت اللفظ ة في اللغ ة الالّتيني ة واليونانيّ ة‬
‫لإلشارة فقط لألف راد ال ذين يعيش ون في الدول ة المدني ة وفي اللغ ة الفارس يّة نلتمس نفس الص لة بين كلم ة‬
‫مواطنة والعيش في المدن حيث تطلق كلمة "شهروند" فقط على المواطنين الموجودين داخ ل الم دن‪ .‬وفي‬
‫ق لفظ ‪ citoyenneté‬من كلمة ‪ sifatis‬الالّتينية التي ت رادف كلم ة ‪ lolis‬اليوناني ة وتع ني‬
‫اللغة الفرنسية اشتُ ّ‬
‫المدينة ‪. 129‬أما في اللغة العربية فإن المواطنة مشتقة من وطن والوطن في اللغة العربي ة ه و مح ل الس كن‬
‫أو المكان الذي يقيم فيه اإلنسان وال عالقة له بالمدينة‪ .‬أما في الجانب االص طالحي للمواطن ة‪ ،‬فإنن ا نك ون‬
‫أمام تخمة من التعاريف ال تحصى وال تع ّد يبقى أهمها‪:‬‬

‫"المواطنة هي عالقة بين الفرد والدولة كما يح ّددها قانون تلك الدول ة‪ ،‬ولم ا تتض منه تل ك العالق ة من‬ ‫‪-‬‬
‫واجبات وحقوق في تلك الدولة" ‪ ،130‬وذلك حسب دائرة المعارف البريطانيّة‪.‬‬
‫أ ّما موسوعة الكتاب الدولي فتعرّف المواطنة بم ا هي "عض وّية كامل ة في دول ة أو في بعض وح دات‬ ‫‪-‬‬
‫الحكم (‪ )...‬فالمواطنون لديهم بعض الحقوق مثل حث التصويت وحق تولّي المناصب العام ة‪ ،‬وك ذلك‬
‫عليهم بعض الواجبات مثل واجب دفع الضرائب والدفاع عن بلدهم" ‪.131‬‬
‫"المواطن ة هي أك ثر أش كال العض ويّة في جماع ة سياس ية اكتم اال" ‪ ،132‬وذل ك نقال عن الموس وعة‬ ‫‪-‬‬
‫األمريكية‪.‬‬

‫لو أمعنّا النظر في التعاريف السابقة‪ ،‬فإننا نجدها أقرب إلى تعريف الجنسية بما هي "رابطة قانونيّ ة‬
‫وسياس يّة بين الف رد والدول ة ت ترتب عليه ا بعض االلتزام ات تك ون في ص ورة حق وق سياس يّة ومدني ة‬
‫وواجبات قانونية مثل دفع الض رائب والتجني د العس كري" ‪  .133‬ومن هن ا فإننّ ا ننح از إلى التع اريف ال تي‬
‫تعطي المواطنة معنى أوسع وأشمل؛ فهي ال تقتصر على حق الفرد في عضويّة المجتمع أو وعيه باالنتماء‬

‫‪.Reboul (Olivier), La philosophie de l’éducation, PUF, 2ème édition, Paris, 1989, p.24 .128‬‬
‫‪ .129‬شريف (أمين فرج)‪" ،‬المواطنة ودورها في تكامل المجتمعات التع ّدديّة "‪ ،‬دار الكتب القانونية‪ ،‬مصر‪-‬اإلمارات‪،2012 ،‬‬
‫ص ‪.28‬‬
‫‪ .130‬الكواري (خليفة) وآخرون‪" ،‬المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية"‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت ‪ ،2001‬ص ‪.30‬‬
‫‪ . 131‬نفس المرجع‪ ،‬ص‪.31-30‬‬
‫‪ . 132‬نفس المرجع‪ ،‬ص‪.30‬‬
‫‪ .133‬ويكيبيديا‪ ،‬بتاريخ ‪ 24/2/2016‬على الساعة ‪ 10‬و‪17‬دق ‪http://www.wikipedia.org‬‬
‫‪52‬‬
‫أن االنتم اء ال يتح ّدد بمج رّد ال والدة في رقع ة جغرافيّ ة م ا أو من خالل الجنس يّة‬
‫إلى جماع ة م ا‪ ،‬ح تى ّ‬
‫"فالمواطنة تش ّكل البنية األساسيّة للنسيج االجتماعي المتكامل بغض النظر عن اختالف األفراد‪/‬المواط نين‬
‫الطبقيّة والثقافيّة واالجتماعيّة واالقتصاديّة والعقائديّة والدينيّة"‪.134‬‬

‫ويمكن‪ ،‬كبداية‪ ،‬أن نسوق تعريفا معتدال للمواطن ة مف اده أنه ا "انتم اء إحساس ي وإدراكي إلى هويّ ة‬
‫اجتماعيّة داخل الفضاء الشاسع لإلنسانيّة‪ ،‬نوع من الرباط الروحي والفكري الذي يجعل من الف رد يتج اوز‬
‫أنانيته الفطريّة ويعترف لآلخرين بنفس ما له من حقوق وعليه من واجبات تجاه المجموع ة‪ .‬غ ير أنه ا في‬
‫اآلن نفسه تمييزيّة‪ ،‬ألنها ترتبط بأ ّمة بدولة‪ :‬فأنا مواطن بالنظر إلى دولة ما تمثّل لي ش رط ذل ك" ‪ .135‬ومن‬
‫هنا يمكن أن نؤكد ّ‬
‫أن المواطنة مفهوم ضارب في القدم يحمل معاني حديثة وقديمة على حد الس واء‪ ،‬ولع ّل‬
‫أهم معانيه القديمة "االنخ راط في المجموع ة البش رية انخراط ا وظيفي ا" ‪ .136‬ومن ه ذا المنطل ق يمكن أن‬
‫نكشف اللثام عن العالقة العريقة بين التربية والمواطنة حيث هدفت أقدم المشاريع التربويّة في الت اريخ إلى‬
‫تحقيق االندماج االجتماعي الوظيفي لألفراد بالدرجة األولى‪ .‬حيث يشير ‪ّ Olivier Reboul‬‬
‫أن األفالطونيّة‬
‫انتبهت منذ البداية إلى العالقة بين التربية والمواطنة‪ ،‬حيث عكس النص الشهير "الجمهوريّة" "الرغبة في‬
‫جعل التربية وسيلة لخلق النموذج االجتماعي العادل والمتناغم‪ :‬والتربية األفالطونية المتدرّجة بالطفل س نّا‬
‫وقدرة ُوفقت إلى ح ّد كبير في المالئمة باستمرار بين الغاية وهي الم واطن في ك ّل مرتب ة اجتماعيّ ة‪ ،‬وبين‬
‫الوسيلة التي يتم اعتمادها لتحقيق تلك الغاية" ‪.137‬‬

‫باتت مسألة الحريّات وحقوق اإلنسان موضوعا حيويّا يمسّ حياة ك ّل الشعوب وال دول‪ .‬وهي مس ألة‬
‫ترتبط أيما ارتباط بحياة كل إنسان بوصفه فردا في المجتمع بحكم طبيعته وتكوينه‪" .‬فالمواطن ة ال يمكن أن‬
‫تُفهم إالّ بوصفها آليّة ووسيلة لتأكيد حقوق اإلنسان وحريّاته"‪ .138‬والمواطن ة في ص ورتها المتكامل ة تع ني‬
‫ضمان ممارسة اإلنسان لكاف ة حقوق ه وحريات ه األساس يّة ال تي أك دتها األدي ان ‪-‬الس ماويّة منه ا واإلثنيّ ة‪-‬‬
‫ونظمتها المواثيق والمعاهدات الدوليّة وناضلت ألجلها البشريّة منذ العصور الغابرة‪.‬‬

‫كما خصّص الدستور التونسي الجديد‪ ،‬أو دستور الجمهوريّة الثانية‪ ،‬باب ا ك امال للحق وق والحري ات‬
‫(الباب الثاني) ‪ 28‬فصال بالتم ام والكم ال (من الفص ل ‪ 21‬إلى الفص ل ‪ ،)49‬مؤك دا فيه ا ّ‬
‫أن "المواطن ون‬
‫والمواطنات متس اوون في الحق وق والواجب ات وهم س واء أم ا الق انون من غ ير تمي يز" (الفص ل ‪ 21‬من‬
‫الدستور) حيث يُعتبر مبدأ المساواة المبدأ األساس الذي تس تند إلي ه جمي ع الحق وق والحري ات في عص رنا‬
‫‪ .134‬أ مين فرج شريف‪" ،‬المواطنة ودورها في تكامل المجتمعات التعدديّة"‪ ،‬دار الكتب القانونيّة‪ ،‬القاهرة ‪ ،2012‬ص‪.11‬‬
‫‪ . 135‬الحجالوي (لطفي)‪" ،‬فلسفة التربية‪ :‬اإلشكاليات الراهنة "‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬بيروت‪ ،2009 ،‬ص‬
‫‪.104‬‬
‫‪ . 136‬الحجالوي (لطفي)‪ ،‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪.105‬‬
‫‪ .137‬الحجالوي (لطفي)‪ ،‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪.106-105‬‬
‫‪ .138‬أمين فرج شريف‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.245‬‬
‫‪53‬‬
‫الراهن‪ ،‬والذي يعني عدم التمييز بين المواطنين في الدولة في الحقوق والواجب ات مهم ا اختلفت األس باب‪.‬‬
‫والتسليم بهذا الشرط الزم لقيام نظام قائم على أساس المواطنة "وعلي ه تض من الدول ة للمواط نين الحق وق‬
‫والحريات الفرديّة والعامة‪ ،‬وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم" (الفصل ‪ 21‬من الدس تور)‪ .‬ومن ناف ل الق ول‬
‫ّ‬
‫أن المواطنة تقوم على عنصرين أساسيين‪:‬‬

‫‪ -‬المساواة بين الناس باعتبارهم بشرا‪ ،‬وما يترتب علي ه من ٍ‬


‫نفي للعبوديّ ة حيث ورد في الفص ل ‪23‬‬
‫من الدستور "تحمي الدولة كرامة الذات البش ريّة وحرم ة الجس د وتمن ع التع ذيب الم ادي والمعن وي" أ ّم ا‬
‫الفصل ‪ 24‬من نفس المادة فإنّه يؤ ّكد أن "تحمي الدولة الحياة الخاصة وحرمة المسكن وس ريّة المراس الت‬
‫واالتصاالت والمعطيات الشخصيّة‪ ...‬لك ّل مواطن الحرية في اختيار مقر إقامت ه وفي التنق ل داخ ل ال وطن‬
‫وله حق مغادرته"‪.‬‬
‫‪ -‬إقرار مبدأ المواطنة باعتبار "المواطنة مصدر الحقوق ومناط الواجبات والحجر األساس في نظ ام‬
‫الحكم الديمقراطي"‪.139‬‬

‫وفي هذا السياق نفهم تأكيد الدساتير المختلفة زمنيا وجغرافي ا على مس اواة المواط نين أم ام الق انون‬
‫بعيدا عن ك ّل تمييز جنسي أو عرقي أو قومي أو طائفي أو ديني أو مذهبي وال باختالف اآلراء والمعتقدات‬
‫واألوضاع االقتصادية واالجتماعيّة لألفراد‪ .‬إالّ أنه وجب اإلشارة هنا إلى تلك الحقيقة ‪-‬التي يح اول العض‬
‫تغييبه ا‪ -‬ال تي تقض ي ّ‬
‫أن مج رّد التنص يص على جمل ة الحق وق والحريّ ات في دس اتير ال دول وقوانينه ا‬
‫كاف وال يع ني بالض رورة تحقّ ق الغ رض المنش ود واله دف المرس وم‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫والمعاهدات الدوليّة المختلفة غير‬
‫حيث يقتضي الواقع المعيش ضمانات داخليّة (قانونيّة ومؤسساتيّة واقتصاديّة وثقافيّ ة) وض مانات سياس يّة‬
‫وإستراتيجية تسمح بتكريس هذه الحقوق والحري ات داخ ل المجتم ع‪ ،‬ومن بين ه ذه الض مانات ن ذكر على‬
‫سبيل الذكر ال الحصر‪:‬‬

‫‪ -‬الفصل بين السلطات‪ :‬حيث يعتبر مبدأ مفصليا وأساسيا في النظ ام ال ديمقراطي ورك يزة هام ة من‬
‫ركائز الدولة القانونيّة‪ .‬وهو يعني توزيع سلطة الدولة أفقيا بين ثالث ة هيئ ات مس تقلة ومتوازن ة ومتكامل ة‪.‬‬
‫وق د أش ار دس تور ‪ 2014‬إلى ه ذه النقط ة في توطئت ه "في إط ار دول ة مدنيّ ة‪ ...‬وعلى مب دأ الفص ل بين‬
‫السلطات والتوازن بينها"‪.‬‬
‫ودور مرك زي للف رد والمجتم ع‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫‪ -‬استقالليّة الس لطة القض ائيّة‪ :‬نظ ير م ا للقض اء من أهمي ة بالغ ة‬
‫الس يّما دوره الكب ير في حماي ة الحق وق الحري ات وض بط الواجب ات ولم ا ي وفرّه من ض مان االس تقرار‬
‫وشرعيّة النظم السياسيّة القائم ة‪ .‬واس تقالليّة القض اء ال تع ني طغي ان الس لطة القض ائية على ب اقي الس لط‬
‫المحورية في نظام الدول‪ ،‬بقدر ما يع ني حمايت ه من الم ؤثرات والض غوطات الشخص يّة منه ا والسياس يّة‬
‫‪ .139‬الكواري (خليفة) وآخرون‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.34‬‬
‫‪54‬‬
‫والخارجية‪ .‬وهذا مبدأ نصّت عليه ك ّل الدساتير الحديثة والمواثيق الدوليّ ة حيث ُذك ر في ق رارات الجمعيّ ة‬
‫العامة لألمم المتحدة رقم ‪ 40/32‬لسنة ‪ 1985‬و‪ 40/146‬لسنة ‪ 1985‬أيضا‪.‬‬
‫‪ -‬التداول السلمي للس لطة من خالل انتخاب ات ح رة نزيه ة وش فافة‪ :‬حيث أن ه يُعت بر من الض مانات‬
‫األساسيّة لصيانة حقوق اإلنسان وحرياته األساسيّة في أي مجتمع "فاالختالف فطرة فطر هللا البشر عليها‪،‬‬
‫وتع ّدد القوى الفاعلة خاصيّة من خصائص المجتمعات المعاصرة‪ ،‬والمجتمع الديمقراطي يتميّ ز عن غ يره‬
‫بأنّ ه مجتم ع واقعي ال يكبت ب القوة مظ اهر االختالف وال ينك ر ح ق التع ّدد‪ ،‬ب ل ّ‬
‫إن النظ ام ال ديمقراطي‬
‫يحرص على تجنّب االحتقان االجتماعي‪-‬السياسي الذي يؤدي في بعض الح االت إلى ص راعات عنيف ة أو‬
‫دمويّة مسلّحة" ‪ .140‬ومن هذا المنطلق نصّ دستور ‪ 26‬جانفي ‪ 2014‬في توطئته على ما يلي "‪ ...‬وتأسيس ا‬
‫لنظ ام جمه وري تش اركي‪ ،‬في إط ار دول ة مدنيّ ة الس يادة فيه ا للش عب ع بر الت داول الس لمي على الحكم‬
‫بواسطة االنتخابات الحرّة"‪ .‬إذ ّ‬
‫أن سيطرة الرأي الواحد أو التصوّر األوحد تكتنز جملة من اآلفات لع ّل في‬
‫مقدمتها وأكثرها خطورة‪ :‬قتل اإلبداع‪ ،‬التوقف عن مواكبة العصر‪.‬‬

‫إن الس بيل األمث ل للتعب ير الس ليم عن التع ّدديّ ة في مجتم ع م ا‪ ،‬ينطل ق أوال‬
‫ك في ه‪ ،‬ف ّ‬
‫وم ّم ا ال ش ّ‬
‫ب االعتراف بوجوده ا وفتح س بل العم ل المش روع أمامه ا‪ .‬وه ذا االع تراف القاض ي بوج ود المعارض ة‬
‫المشروعة للسلطة القائمة صاحبة الشرعيّة المقنّنة‪ ،‬من شأنه أن يحوّله ا إلى س لطة أن اس أح رار يع برون‬
‫دون إك راه عن رأيهم‪ .‬فيص بح ب ذلك الخض وع للس لطة ض ربا من ض روب الحريّ ة أو نوع ا من التواف ق‬
‫اإلرادي مع النظام القائم‪ .‬فالتع ّددية هي‪ ،‬أوال وقبل ك ّل شيء‪ ،‬مجال اجتم اعي وفك ري يم ارس في ه الن اس‬
‫حروبهم وصراعاتهم من خالل السياسية أي بواسطة الحوار والنقد واالعتراف واألخذ والعط اء‪ ،‬وبالت الي‬
‫التعايش في إطار السلم القائم على الحلول الوسط المتناوب ة‪ ،‬وه و م ا يتطلّب ع دم احتك ار الس لطة‪ ،‬وإنّم ا‬
‫تداولها بين االتجاهات السياسيّة المنظّمة ممثلة في األحزاب والحركات السياسيّة؛ "حريّة تكوين األح زاب‬
‫والنقابات والجمعيات مضمونة" وفقا لما ورد في الفصل ‪ 35‬من الدستور‪.‬‬

‫‪ -‬تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني‪ :‬إذا ما ك انت المؤسس ات الحكوميّ ة هي مح ور التن افس بين‬
‫القوى السياسيّة المختلفة ّ‬
‫فإن مؤسسات المجتمع المدني هي القنوات التي يجري من خالله ا التن افس األم ر‬
‫الذي يجعل وجودها بمثابة العمود الفقري لعمليّة صنع واتخاذ القرارات السياس يّة‪ .‬وم ا يجب التأكي د علي ه‬
‫أن مجرّد وجود مؤسسات المجتمع المدني في أي مجتمع ال يعني ضرورة تجاوز األزمات وحلّها‪ .‬بل‬
‫هنا‪ّ ،‬‬
‫إنّه الب ّد من تفعيل دور تلكم المؤسسات حتى ت ؤدي دوره ا المطل وب على أكم ل وج ه نظ ير ق درتها على‬
‫التأثير في المجتمع‪ .‬وعليه نؤ ّكد على إيجاد وتطوير آلي ات تفعي ل مؤسس ات المجتم ع الم دني ح تى تك ون‬

‫‪.140‬الكواري (خليفة) وآخرون‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.54‬‬


‫‪55‬‬
‫قادرة على التأثير الفاعل في قرارات النظام السياسي‪ .‬وهو ما لم يغب عن بال المشرع التونسي حيث نص‬
‫عليه في الفصل ‪.35‬‬
‫‪ -‬نشر ثقافة الديمقراطيّة داخل المجتمع‪ :‬تعتبر الوسائل الثقافيّة من أهم الوسائل واآلليات االجتماعيّ ة‬
‫التي تساهم في تسهيل عمليّة التح ّول الديمقراطي في أي بلد‪ ،‬حيث تتخذ من هذه الوسائل توطئ ة ض روريّة‬
‫ومقدمة الزمة لسريان وفعالية الوسائل األخرى‪.‬‬

‫ومن خالل هذه النظرة يبرز التغيير الثقافي كمقدمة ضروريّة لتحقيق عمليّة التحوّل‪ ،‬كونه ا ال تق وم‬
‫فقط على توفير الضمانات الدس تورية في جوانبه ا القانوني ة والسياس ية واالقتص اديّة‪ ،‬ب ل الب ّد من وج ود‬
‫الفرد الذي يبدعها ويديرها ويعتني بها‪ ،‬فبواسطته يتم تغيير أسلوب التفكير التقليدي السائد‪ ،‬وجع ل العق ول‬
‫والنفوس أكثر استعدادا لتقبّل التغيير‪ ،‬وعليه اعتبر الباحثون تغيير القيم من أهم شروط نجاح عمليّة التحوّل‬
‫الديمقراطي‪.‬‬

‫ومن هنا الب ّد أن نشير إلى موض وع الثقاف ة السياس يّة وعالقته ا بعمليّ ة التح وّل ال ديمقراطي‪ ،‬حيث‬
‫يشير ‪ G.Almond‬و‪ S.Verba‬في دراستهما حول الثقافة السياسيّة إلى ّضرورة توفر القيم والثقافة السياسيّة‬
‫كعام ل رئيس ي يس تبق عمليّ ة االنتق ال ال ديمقراطي‪ ،‬ويؤ ّك د على ّ‬
‫أن الثقاف ة السياس يّة مرتبط ة ب القيم‬
‫الديمقراطيّة وأنها شرط أساسي يستبق الدعوة الديمقراطيّة" ‪.141‬‬

‫التربية على المواطنة وحقوق اإلنسان بما هما جوهر المواطنة‪:‬‬

‫بما ّ‬
‫أن التربية على المواطنة هي تربي ة تنويريّ ة وحديث ة تس عى نح و تأس يس نس ق قيمي وس لوكي‬
‫يجنح إلى تحويل األفكار إلى قيم وسلوكات ق ادرة على إدماجه ا داخ ل المجموع ة من خالل ترس يخ ثقاف ة‬
‫الحق والواجب والديمقراطيّة‪ ،‬يجد سؤال سبل إدماج جمل ة ه ذه القيم ض من الممارس ة البيداغوجيّ ة داخ ل‬
‫المؤسس ة التربويّ ة ومؤسس ات التنش ئة االجتماعيّ ة‪ :‬ف أي أس لوب يمكن اعتم اده في الت دريس لتلتح ق قيم‬
‫التمدن وحقوق اإلنسان والديمقراطية ضمن بنية المواد التعليميّة؟ وأيّة تقني ة بيداغوجيّ ة من ش أنها أن تفتح‬
‫فكر المتعلّم وسلوكه على قيم الكرامة والمساواة والحريّة والمواطنة واالختالف كمق ّدمة أساس يّة نح و بن اء‬
‫مجتمع ديمقراطي؟‬

‫في مفهوم التم ّدن‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪ .141‬أالن نورين‪" ،‬ماهي الديمقراطيّة‪ :‬حكم األكثريّة أم ضمانات األقليّة"‪ ،‬ترجمة حسن قبيسي‪ ،‬ط‪ ،2‬دار الساقي‪ ،‬بيروت‬
‫‪ ،2001‬ص ‪.101‬‬
‫‪56‬‬
‫"التم ّدن" مفهوم يجد جذوره في التاريخ السياسي االجتماعي الفرنسي حيث ارتبط بظهور المواطن ة‬
‫والمؤسسات االجتماعيّة ومؤسسات التنشئة الخاضعة للمص لحة العام ة الموحَّدة‪ .‬حيث يق وم التم ّدن "على‬
‫القيمة التي تش ّكل السلوك وهي من خاصيّات الفرد‪ ،‬لكنها ملزمة للمجموع ة فتف رز س لوكا خاض عا للقيم‪...‬‬
‫هذا التراب ط بين الخ اص والع ام يمثّ ل ج وهر التنظيم ح ول المواطن ة وألنم اط ممارس تها‪ ،‬وب ذلك يعطي‬
‫التمدن قيمة للمصلحة العامة فيمنح لألفراد القدرة على المشاركة والتفاوض والتبادل فيما بينهم"‪.142‬‬

‫في مفهوم المجتمع المدني‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫المجتمع المدني هو أ ّول دعائم التمدن وأساسها‪ ،‬فهو مجمع مستق ّل بشكل يكاد يكون تا ّما عن إشراف‬
‫الدولة المباشر ويتميّ ز ب التنظيم التلق ائي وروح المب ادرة الفرديّ ة والجماعيّ ة والعم ل التط وّعي في س بيل‬
‫المصلحة العام ة المش تركة‪" .‬وعلى ه ذا األس اس ارتب ط مفه وم المجتم ع الم دني بمنظوم ة قيميّ ة ش املة‬
‫تتض ّمن مفاهيم الفردانيّة‪ ،‬المواطنة‪ ،‬حقوق اإلنسان‪ ،‬المشاركة السياسيّة والشرعيّة الدستوريّة"‪.143‬‬

‫بهذا المعنى يصبح المجتمع المدني والتم ّدن واحدًا منص هرًا‪ ،‬يتمثّ ل في جمل ة من القيم ال تي تو ّج ه‬
‫وألن الديمقراطيّة ممارسةٌ وسلو ٌ‬
‫ك‪ ،‬قد تب دو في‬ ‫ّ‬ ‫سلوكات األفراد والجماعات تحت لواء مجتمع ديمقراطي‪.‬‬
‫ظاهرها جماعيّة إالّ أنها في واقع األمر فرديّ ة تفاعليّ ة‪ ،‬فهي تحت اج إلى التربي ة والت دريب على مث ل ه ذه‬
‫الممارسات التي قد ترتقي لدرجة القيم اإلنسانيّة كحريّة التعبير والتفكير وال رأي والكتاب ة والتنظّم الح زبي‬
‫والعمل النقابي وغيرها‪...‬‬

‫وفي هذا اإلطار تتن ّزل التربية على التم ّدن‪ ،‬فهي ال تي تع ّد الف رد ليص بح ف اعال اجتماعي ا مس تقالّ‪،‬‬
‫وكائنا له كامل الحقوق‪ ،‬وواعيا بواجباته‪ ،‬وفاعال في مشهديّة العالقات االجتماعيّة السائدة‪ .‬تلكم هي سمات‬
‫مواطن الغد‪ .‬فالمواطنة بهذا المعنى له ا ط ابع ترب وي يس عى إلى ترس يخ ال ُمث ل الديمقراطيّ ة حيث ال تفي‬
‫القوانين وحدها بضمان الممارسة الديمقراطيّة‪ ...‬وال يتم ذلك إالّ من خالل تحقيق غايات كبرى‪:‬‬

‫التربية على حقوق اإلنسان‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫وهي تربي ة الف رد على قيم تخ دم الك ائن البش ري من خالل ش رح القواع د االجتماعيّ ة والسياس يّة‬
‫وإكساب الناشئة المبادئ والقيم التي تؤسس وتنظّم الديمقراطيّة‪ .‬فالتربي ة على حق وق اإلنس ان هي المق ّدم ة‬
‫البديهيّة لك ّل عمل يه دف إلى تنمي ة العنص ر البش ري وإكس ابه جمل ة القيم والس لوكات الض روريّة لتنمي ة‬
‫المجتمع وحداثته‪" .‬فالتالميذ ال يريدون أن يتعلّموا حقوق اإلنسان وإنّما أن يعيشوها في تعليمهم حتى تكون‬

‫العربي‪ ،‬مركز الدراسات والبحوث االقتصادية‬


‫"‬ ‫‪ .142‬حفيظ (عبد الوهاب)‪ ،‬الجزيري (مشيرة)‪"،‬التربية والمواطنة في العالم‬
‫واالجتماعية‪ ،‬تونس‪ ،2005 ،‬ص ‪.206‬‬
‫‪. 143‬حفيظ (عبد الوهاب)‪ ،‬الجزيري (مشيرة)‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.206‬‬
‫‪57‬‬
‫لها أكبر فائدة عمليّة بالنس بة إليهم"‪ .144‬فالتربي ة على مب ادئ حق وق اإلنس ان تس تهدف باألس اس شخص يّة‬
‫الطفل المتلقي فتؤسس نظرته إلى الحياة وك ّل ما ارتبط بالممارسات االجتماعيّة والعالقات بين األف راد من‬
‫مشاعر الثقة والتسامح االجتماعي‪" .‬وبالتالي التربية على حقوق اإلنسان يٌصد منها تربية النش ء على تفهّم‬
‫الحقوق والواجبات بغيّة تطبيق حقوق اإلنسان على أكمل نظام في وجودنا البشري"‪.145‬‬

‫التربية على المواطنة‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫وهي ترس يخ االعتق اد واإليم ان بش رعيّة المؤسس ات السياس يّة الض امنة للحري ات والمس اواة بين‬
‫األفراد واحترام حقوقهم‪ .‬فالتربي ة على المواطن ة تس عى إلى تك وين الم واطن المتش بّع ب القيم الديمقراطيّ ة‬
‫ومبادئ حقوق اإلنس ان‪ ،‬وتدريب ه على تلكم الممارس ات في س لوكاته اليوميّ ة‪ .‬فالتربي ة على المواطن ة إذا‬
‫"ذات منحى إنساني باعتبارها تربي ة تنش يئيّة ذات نزع ة إنس انيّة موجه ة إلى بن اء قيم اإلنس ان وس لوكاته‬
‫بتوعيته بحقوقه التي تش ّكل الماهيّة الحقيقيّة واألصليّة في اإلنسان‪ ،‬فهي تربية من أجل اإلنسان" ‪.146‬‬

‫التربية على الفكر النقدي‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫وهي التربي ة على الخط اب العقالني المرتك ز أساس ا على مف اهيم ال ذات والعق ل والحريّ ة‬
‫والتسامح واالختالف والكرام ة والمس اواة والديمقراطيّ ة‪ .‬ولتحقي ق ه ذه األه داف تس عى المؤسس ات‬
‫التربوية نحو بلورة شخصيّة المتعلم المواطن منفتحة ب وعي على محيطه ا المحلي واإلقليمي وال دولي‬
‫وتتفاعل إيجابيا مع هذا المحيط المتحرّك‪ .‬فالتربية على التم ّدن تربية ذات بع د قيمي أساس ا تس عى إلى‬
‫إكساب الفرد سلوكات تقوم على قيم إنسانيّة حقوقيّة باعتبارها تخ اطب اإلنس ان باعتب اره كائن ا مف ّك را‬
‫يتخذ مواقف ويمارس سلوكات‪.‬‬

‫بيداغوجيا القيم والمواقف‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫ر ّكزت البيداغوجيا التقليديّة على ماهيّة المعلوم ات ال تي س تنقلها عملي ة التربي ة أك ثر من تركيزه ا‬
‫على آليات وطرق نقلها‪ ،‬وبالتالي توجّه المدرسون نحو التعامل مع ظاهرة االنفجار المعرفي والمعلوم اتي‬
‫على أساس تكديس المعلومات التي تُق ّدم للطفل حول السلم واألمن والعدالة والمساواة وح ق االختالف‪ ،‬في‬
‫مقابل إغفال سبل وكيفيّة الحصول على المعرفة وبالتالي إتقان أدوات التعامل معها‪ .‬فالغايات الرئيسيّة التي‬
‫ال ب ّد أن تفي بها التربية في ك ّل عصر ‪ -‬على ما بلغن ا ‪ -‬هي "تعلّم لتع رف‪ ،‬تعلّم لتعم ل‪ ،‬تعلّم لتك ون‪ ،‬تعلّم‬
‫لتش ارك اآلخ رين"‪ .‬فالمعرف ة ال تتوق ف بمج رّد اإللم ام به ا‪ ،‬ب ل يجب أن تم ّر إلى ط ور االس تيعاب‬

‫‪ .144‬األمم المتحدة‪ ،‬نيويورك‪" ،‬مبادئ تدريس حقوق اإلنسان"‪ ،1989 ،‬ص‪.7‬‬


‫‪ .145‬األمم المتحدة‪ ،‬نيويورك‪ ،‬نفس المرجع‪ ،‬ص‪.9‬‬
‫‪ .146‬حفيظ (عبد الوهاب)‪ ،‬الجزيري (مشيرة)‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.208‬‬
‫‪58‬‬
‫والتوظيف‪" .‬فممارسة التعليم يع ني أن نعلّم الف رد كي ف يتعلّم ذاتي ا وه ذا يتطلّب تغي يرا ج ذريا في عالق ة‬
‫اإلنسان بالمعرفة في دورتها الكاملة إلمام واس تيعابا وتوظيف ا وإنتاج ا‪ .‬وبالت الي يجب أن ننتق ل من وس يلة‬
‫استقبال المعرفة إلى إيجابيّة البحث واالستكشاف ومتابعة تطبيق المعرف ة واقعي ا خصوص ا في م ادة تق وم‬
‫‪147‬‬
‫على بناء القيم والسلوكات"‪.‬‬

‫إالّ ّ‬
‫أن التربية على تبنّي قيم ومواقف تُترجم فيما بعد إلى سلوكات‪ ،‬تستوجب اعتماد بي داغوجيا ت دفع‬
‫المتعلّم إلى حس ن اس تغالل الم وارد المعرفيّ ة بغيّ ة تنمي ة قدرات ه الذهنيّ ة وص يانتها‪ .‬ولع ّل في ترك يز‬
‫البيداغوجيا السائدة على مبدأ "نتعلّم لنعرف" جعلن ا ن ولي األولويّ ة للمعلوم ة في ممارس ة الفع ل ال تربوي‬
‫أكثر من اهتمامنا بتنمية المهارات الذهنية وما زاد الطين بلّة البرامج التربوية الرسمية التي تش هدا تكديس ا‬
‫للمادة التعليمية دونها عن األنش طة التعليمي ة‪ .‬وه و م ا من ش أنه أن يحص ر اكتس اب المعرف ة عن د ح دود‬
‫اإللمام بها دون توظيفها فيجعلها قابل ة للض ياع والتب ّدد‪ .‬فالنتيج ة البديهي ة والمنطقيّ ة والمنتظ رة ألس لوب‬
‫الحفظ والتلقين هو ضياع المعلومة وتبددها نظير صعوبة المرور إلى توظيف المكتسبات‪ .‬حيث يأتي‪ ،‬هنا‪،‬‬
‫دور تنمية المهارات الذهنية كالتحليل واالستقراء واالستنتاج ومهارات التواص ل والح وار والحج اج وهي‬
‫بمثابة البنية التحتيّة التي تنبني على أسسها البنى المعرفيّة‪ .‬ويمكن أن تتجاوز العملية التربوية هذا‪ ،‬فتضفي‬
‫عليها طابعا شخصيا –إن ص ّح التعبير‪ -‬فتجعل المتعلّم محور العملية التربويّ ة ف تر ّكز أساس ا على حاج ات‬
‫المتلقي مع مراعاة الخلفيّة المعرفيّة لديه وما تتضمنه من مفاهيم وتصورات ص ائبة ك انت أم خاطئ ة وه و‬
‫ما "سيغيّر بالض رورة العالق ة التعليميّ ة بين المعلّم والمتعلّم والمعرف ة‪ ،‬وهي عالق ة تتج اوب م ع مط الب‬
‫المتعلّم وقدراته" ‪ .148‬فالطرق التلقينيّة المباشرة وغير المباشرة تساهم في إنتاج إنسان س لبي غ ير متع اون‬
‫يتهرّب من تح ّم ل المس ؤوليّة‪ ،‬ف إذا م ا تن ازل المعلّم عن س لطة احتك ار المعرف ة ليش ارك التلمي ذ إنتاجه ا‬
‫ويوجه ه ويرش ده إلى مص در المعلوم ة "فمن يتعلّم ويق در على التعب ير عن رأي ه يدفع ه ذل ك إلى بل ورة‬
‫تفكيره"‪.149‬‬

‫التربية على المواطنة والباراديغم السوسيو‪ -‬بنائي‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫إن القول ّ‬
‫بأن "التربية تهدف إلى إنتاج مواطنين" ليس بالبداهة ال تي نتص وّر‪ ،‬إذ يع ود ه ذا اإلق رار‬ ‫ّ‬
‫ليعبّر عن اتجاه بيداغوجي وتمشي منهجي قاصرين ومحدودين‪ ،‬وبلغ ة أك ثر مباش رة ووض وحا وجب ّ‬
‫أن‬
‫نق ّر باألطروحة التي يدافع عنها االتجاه الوظيفي ال ذي يب ني تص وّره للتربي ة وللوس ائل البيداغوجيّ ة على‬
‫جمل ة من األه داف المح ّددة س لفا يبقى في مق ّدمتها أن التربي ة هي عمليّ ة ته دف إلى تحقي ق االن دماج‬
‫االجتم اعي للمتعلمين‪ .‬ه ذا التو ّج ه تبل ور في المجتمع ات الالئكي ة الحديث ة والمجتمع ات ال تي تق وم على‬
‫‪ .147‬حفيظ (عبد الوهاب)‪ ،‬الجزيري (مشيرة)‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.209‬‬
‫‪ .148‬حفيظ (عبد الوهاب)‪ ،‬الجزيري (مشيرة)‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.210‬‬
‫‪149‬‬
‫‪. Cardinet (A), Pratiquer la médiation en pédagogie, Dunot, Paris 1995, P. 106.‬‬
‫‪59‬‬
‫األنظم ة التعاقديّ ة‪ ،‬وه ذا ال يع ني البت ة ّ‬
‫أن الغاي ة الوحي دة للتربي ة هي االنخ راط االجتم اعي أو تحقي ق‬
‫االنسجام االجتماعي‪.‬‬

‫ولعلّه من نافل القول اإلشارة إلى محدوديّة الطرق البيداغوجيّ ة التقليديّ ة ال تي اعتم دت أس اس على‬
‫عمليّة التلقين معتبرة المعلّم أو المدرّس مصدرًا وحيدا للمعرفة مقاب ل اقتص ار دور المتعلّم على االس تقبال‬
‫السلبي للمعرفة والتسليم به ا دون أي دور يُ ذكر للتربي ة الذهني ة‪.‬ه ذا "الص نف ال تربوي"‪ ،‬اتف ق جمه ور‬
‫العلماء على عدم فاعليّته كاستراتيجيا تربوية تساهم في ترس يخ قيم المواطن ة وبل وغ أهم أه دافها القاض ية‬
‫بتطوير القدرة على العيش المشترك‪ ،‬وتطوير الكفاية االجتماعية‪.‬‬

‫ولئن رجحت العدي د من الدراس ات الب اراديغم التعلّمي بغيّ ة تحقي ق مقاص د برن امج التربي ة على‬
‫المواطنة من قبيل تطوير شخصيّة الطفل المتعلّم‪ ،‬تنمية قابليّته للتفاعل اإليجابي مع اآلخر‪ ،‬إالّ أن النظريّ ة‬
‫السوسيو‪-‬بنائية تبقى في نظرنا األهم على اإلطالق في هذا المبحث من حيث كالئمتها ألهداف التربية على‬
‫المواطنة خاصة فيما تعلّق بتطوير الكفايات االجتماعيّة عن د المتعلمين‪ .‬وتح ّد الب اراديغم السوس يو‪ -‬بن ائي‬
‫ثالثة أبعاد متشابكة مترابطة بعضها ببعض‪ ،‬هي‪ :‬البعد البنائي‪ ،‬البعد االجتماعي‪ ،‬البعد التفاعلي‪.‬‬

‫أ ّما البعد البنائي فيع ود على المتعلّم نفس ه حيث لم يع د دوره س لبيا مقتص را على اس تقبال المعلوم ة‬
‫فقط‪ ،‬بل إنه أصبح يضطلع بدور محوري في بنائها‪ .‬حيث أص بحت مع ارف الطف ل وتص وراته وتمثالت ه‬
‫منطلقا لكل نشاط تربوي فالطفل حسب ‪ Rousseau‬مخل وق ب دائي نبي ل ل ه معرف ة لم ا ه و طيّب وم ا ه و‬
‫خبيث وأن ما يفرضه مجتمع الكبار على الطفل من قيود وتحريم ات إنّم ا تعرقل ه وتُض طرّه إلى أن يك ون‬
‫شخصا أقل نبالة‪ .‬وتحص ل عمليّ ة التعلّم من خالل تنظيم المتعلّم لذات ه ع بر عملي ات التكيّ ف واالس تيعاب‬
‫والتالؤم بالمعنى المحدد من لدن ‪ .150Piaget‬وأ ّما البعد االجتماعي‪ ،‬فقد ارتبط بجملة الف اعلين االجتم اعيين‬
‫المعن يين بعملي ة التربي ة من تالمي ذ ومؤسس ة األس رة والمؤسس ة المدرس ية والنظم الديني ة واالقتص ادية‬
‫والسياسية والثقافية السائدة باعتبارهم وسائل أساسيّة في عمليّ ة التربي ة‪ ،‬وتس عى ه ذه الش بكة االجتماعيّ ة‬
‫جاهدة لتهيئة فضاء للح وار والتفاع ل فيم ا بينه ا‪ .‬والبع د الث الث في الب اراديغم السوس يو‪-‬بن ائي ه و البع د‬
‫التفاعلي والذي يتح ّدد من خالل التفاعالت بين الفاعلين التربويين فالفكرة والخبرة والسلوك اإلنساني نت اج‬
‫مجتمع على حد تعبير ‪ .George Herbert Mead‬فالكائنات البشريّة‪ ،‬في واقع األمر‪ ،‬تتفاعل فيما بينه ا من‬
‫خالل الرموز (رسوم‪ ،‬لغة‪ ،‬حروف‪ )...‬التي يبتكرها اإلنسان والتي ال تشير بالضرورة إلى طبيعة األش ياء‬
‫أو األحداث وإنما إلى طريقة إدراك اإلنسان لها "فلكي يحيا اإلنسان الب ّد له أن يشيّد ويعيش داخل عالم من‬
‫الرم وز"‪ .151‬كم ا يع ّد مفه وم الص راع السوس يو‪ -‬مع رفي مفتاح ا مركزي ا في فهم س يرورة عملي ة بن اء‬

‫‪ .150‬توبي (لحسن)‪" ،‬الحجاج والمواطنة"‪ ،‬رؤية للنشر والتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،2014 ،‬ص‪.197‬‬
‫‪ .151‬أحمد (عطية أحمد)‪ ،‬مناهج البحث في التربية وعلم النفس‪ ،‬الدار المصريّة اللبنانية‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة‪ ،199 ،‬ص ‪.102‬‬
‫‪60‬‬
‫المعارف الجديد خاص ة م ع تغ ير توزي ع األدوار في عملي ة التربي ة فيص بح الص راع السوس يو‪ -‬مع رفي‬
‫"كدينامية تفاعليّة تتسم بتعاون نشيط م ع مراع اة ج واب اآلخ ر أو وجه ة نظ ره والبحث داخ ل المواجه ة‬
‫المعرفيّة عن تجاوز الخالفات والتناقضات للتوصل إلى إجابة موحدة"‪.152‬‬

‫وبن اء على م ا تق ّدم نس تنتج أن ع دم األخ ذ باألس باب ال تي ت ؤدي إلى ترس يخ قيم المواطن ة‪ ،‬رغم‬
‫اإلعالن عن اس تهدافها في ال برامج الرس مية المعلن ة‪ ،‬يمكن أن ينش أ عن ه تفش ي النزع ة االنطوائي ة ل دى‬
‫األف راد وتن امي الخطاب ات الدوغمائية‪ 153‬وانتش ار الم ذاهب اإلقص ائيّة ال تي تخ تزل المخ الف لل رأي في‬
‫مقوالت تنأى عن كينونة اإلنسان‪ .‬ولتج اوز ه ذه العل ل‪ ،‬ال يختل ف ع اقالن في ال دور المح وري لمؤسس ة‬
‫المدرس ة فهي األق در على ترس يخ قيم المواطن ة اإليجابي ة‪ .‬وه ذا ال يع ني تق زيم دور ب اقي المؤسس ات‬
‫االجتماعيّة كاألس رة ووس ائل اإلعالم ودور الثقاف ة والتنش يط ومؤسس ات رعاي ة الطفول ة القب ل مدرس يّة‬
‫ومؤسسات المجتمع الم دني‪ ،‬بق در اإلق رار بال دور المح وري والرئيس ي للمدرس ة ع بر الت اريخ في بن اء‬
‫اإلنس ان والمجتم ع وزرع ب دور القيم الديمقراطيّ ة نظ ير الف ترة الزمني ة الطويل ة ال تي من المف روض أن‬
‫يقضيها المتعلّم في فضائها‪.‬‬

‫ولع ّل أكبر تح ّد تواجهه المدرس ة الي وم ه و الس عي إلى تك وين مواط نين يس تنكفون من ك ّل أش كال‬
‫التقصير تجاه الدولة والمجتمع‪ ،‬فيصرفون عنايتهم بالحياة العامة ويشاركون في صنع الق رارات السياس يّة‬
‫ويتفاعلون بشكل إيجابي مع مكونات المجتمع المدني ويساهمون في تعبئة ال رأي الع ام‪ .‬ولغاي ة بل وغ ه ذا‬
‫إن على المدرس ة أن تح وّل فص ولها وقاع ات ال درس إلى نخت بر مص ّغر للحي اة‬
‫اله دف‪ ،‬المواطن ة‪ ،‬ف ّ‬
‫الديمقراطيّة حيث يتعلّم التلميذ أفض ال التعدديّ ة وس بل ت دبير االختالف والط رق العقالني ة ال تي نلجأإليه ا‬
‫لالعتراض عن الرأي المخالف‪ .‬كم ا يجب االستعاض ة عن المدرس ة ال تي تحص ر ص ورة التلمي ذ "تمثّ ل‬
‫محتوى دراس ي قص د امتحان ه"‪ .‬ب ل ّ‬
‫إن المطل وب ه و المس اهمة في إكس اب الناش ئة كفاي ات تت واءم م ع‬
‫خصوصيات المرحلة قد تش ّكل له سندا في نسج عالقات اجتماعيّة إيجابيّة‪ .‬كفاي ة تواص ليّة بمعناه ا الع ام‪،‬‬
‫تتضمن مجموعة من القدرات المركبة والمتمفصلة‪ :‬حجاجية‪ ،‬عالئقيّة معرفيّة‪.‬‬

‫إنّن ا ال نتج ه في ه ذا المق ال إلى تغليب المقارب ة السوس يولوجية لدول ة المجتم ع الم دني أو الدول ة‬
‫الشريك ‪ :L’état partenaire‬فدور الدولة لم يعد ذاته في سبعينات القرن الماضي‪ ،‬ولم يع د باإلمك ان تق ديم‬
‫المواطنة باعتبارها الوعاء الذي يستوعب ك ّل الوالءات‪ .‬بل ّ‬
‫إن مقاربتي ت روم أن تك ون جامع ة وتطوريّ ة‬
‫لتتسع دائرتها من البعد التربوي إلى االجتماعي والثقافي والمدني والسياسي وغيرها أتناول فيه ا المواطن ة‬
‫‪152‬‬
‫‪. Raynal. F et Rieunier. A, Pédagogie : Dictionnaires des concepts clés, ESF, Paris, 1998, P. 85.‬‬
‫‪ .153‬نقول الدوغمائية أو الجزميّة وهي التعصب لفكرة معينة دون قبول النقاش فيها أو تق ديم أي دلي ل يناقض ها أو يدحض ها‪.‬‬
‫وهند اإلغريق تع ني الجم ود الفك ري‪ ...‬وهي إلى ه ذا وذاك تعص ب دي ني أو إي ديولوجي أو موض وع غ ير قاب ل للش ك أو‬
‫النقاش‪.‬‬
‫‪61‬‬
‫بما هي "تعبير عن حركة المواطنين في اتجاه إثبات وجودهم في إطار جماعة بعينه ا‪ ،‬بحيث تتج اوز ه ذه‬
‫الحركة االنتماءات األضيق إلى االنتماءات األرحب‪ ،‬أي أنه ا تتج اوز االنتم اء لألش كال األوليّ ة للمجتم ع‬
‫البشري‪ :‬الطائفة‪ ،‬القبيلة‪ ،‬العشيرة‪ ،‬إلى الجماعة الوطنية‪ .‬وعليه‪ ،‬تص بح المص لحة المش تركة هي المعي ار‬
‫الرئيسي الذي يحكم حركة المواطنين‪ ،‬فيحدث ما يس ّمى باالندماج الوطني"‪.‬‬

‫تحيا الديمقراطية من الصراع‪:‬‬

‫منذ مطلع القرن العشرين‪ ،‬وبعد تجربته المريرة مع األنظمة الشموليّة ‪ ،Totalitaires‬أدرك اإلنس ان‬
‫أهميّة إقامة أنظم ة سياس يّة اجتماعيّ ة تق ولب في اآلن نفس ه عالق ة األف راد فيم ا بينهم من جه ة وعالقتهم‬
‫بالدولة من جهة أخرى انطالقا من قيم المساواة بين المواطنين وضمان حق وقهم الفردي ة منه ا والجماعيّ ة‪.‬‬
‫غ ير ّ‬
‫أن مختل ف النظم الديمقراطيّ ة تبقى‪ ،‬حس ب تص وّر ‪ Edgar Morin‬خاض عة لخاص يّة الهشاش ة ‪la‬‬

‫‪ fragilité‬ألنها تتغذى من الصراعات التي يمكن أن تكون سببا في القضاء عليها‪.‬‬

‫وإن كانت األنظمة الديمقراطيّة تشترط في وجودها التعددية واالختالف وما يمكن أن يترتب عنهم ا‬
‫من أوضاع نزاعيّة‪ ،‬فإنه وجب التمييز هنا بين نمطين للصراع‪:‬‬

‫ص راع دم وي‪ ،‬تجنح في ه األط راف المتص ارعة إلى العن ف الم ادي وإلغ اء اآلخ ر‪ .‬وتوص ف‬ ‫‪-‬‬
‫المجتمعات التي تشجعه بالمنغلقة فيكون أطرافها عرضة للتطرّف وممارسة لعبة اإلقصاء‪ ،‬وتنتشر‬
‫فيه ا مظ اهر الدوغمائيّ ة الم دمرة‪ ،‬يبقى أخطره ا االعتق اد ب امتالك الحقيق ة غ ير القابل ة للتفني د‪،‬‬
‫وغصب حقوق المخالفين للرأي في االع تراض واالختالف‪ .‬ه ذه المجتمع ات‪ ،‬إ ًذا‪ ،‬تج رّد اإلنس ان‬
‫من طبيعته الجوهريّة من حيث أنه فاعل اجتماعي‪.‬‬
‫نزاع تع اوني‪ ،‬تغلّب في ه أط راف العمليّ ة التواص ليّة الح وار العقالني المتّ زن‪ ،‬ال ذي ي ؤمن بح ق‬ ‫‪-‬‬
‫االختالف وإمكانيّ ة ت دبيره فتُن اقش القيم المتعارض ة به دف تقليص المس افات الفاص لة بين‬
‫المتصارعين‪ .‬ويقترن وجوده بالمجتمعات المفتوحة التي تزدهر فيها المعرفة الخص بة حيث يت وفّر‬
‫المناخ المؤسساتي والتربوي الض امن لح ق االختالف باعتب اره مطلب ا أساس يا للحي اة الديمقراطيّ ة‬
‫وأقوى سبل التفاهم اإلنساني‪.‬‬

‫وفي ه ذا الس ياق يخبرن ا االجتم اعي الفرنس ي ‪ّ Michel Grosier‬‬


‫أن العالق ات االجتماعيّ ة تتحق ق‬
‫بطريقة أكثر استقامة في شكل نزاع تعاوني‪ .‬فالدفع بالنزاع إلى مرتبة التعاون إنّم ا ي تيح لل ديمقراطيات أن‬
‫تعيش صراعا غير مذموم‪ .‬ولعل اكتساب آلي ات ه ذا ال نزاع (التع اوني) المحم ود ه و هم زة الوص ل إلى‬
‫‪62‬‬
‫المواطنة ألن على هديه يختبر األفراد تعدد اآلراء واحترام الرأي المخالف والتسليم بنسبية ال رأي وقابليّت ه‬
‫للدحض‪ .‬وال يخفى أن النجاح في تكوين أفراد وفق هذا النمط يعكس‪ ،‬بالدرجة األولى‪ ،‬قدرة المدرس ة على‬
‫إرس اء أس س المواطن ة الحقيقي ة‪ .‬حيث تعت بر المدرس ة من أهم المؤسس ات االجتماعي ة ال تي تهتم بإع داد‬
‫النشء إعداد ثقافيا وقيمي ا واجتماعي ا ونفس يا من خالل مختل ف ال برامج والعل وم والمع ارف ال تي تق ّدمها‬
‫للمتعلمين‪.‬‬

‫فمن خالل المدرسة يمكن تعزيز مبادئ الديمقراطية وغرس البديل الموضوعي للسلوكات المنحرفة‬
‫وتداعيات العنف المتعاظمة‪ .‬وهو ما يستوجب مراجعة المدرسة ألهدافها التربويّ ة واس تحداث أو اس تنباط‬
‫آليات جديدة تهدف إلى تفعيل حقيقي لقيم المواطنة‪ .‬ومن خالل استقراء واقع المدرسة في تونس‪ ،‬يتضح أن‬
‫هناك ضعفا واضحا في معظم األنشطة المتعلّقة بالتربية على المواطنة يُضاف إليها قص ور ال غب ار علي ه‬
‫في تحقيق األدوار التربويّة‪ .‬وقد يعود ذلك إلى نقطتين أساسيتين‪:‬‬

‫ق دم ال برامج التربوي ة الرس مية وع دم مواكبته ا لحاجي ات ومتطلب ات المجتم ع المحلي واإلنس اني‬ ‫‪-‬‬
‫المعولم‪.‬‬
‫قصور الوعي‪ ،‬سهوا أو تع ّم دا‪ ،‬بال دور ال تربوي للمدرس ة حيث يك اد يقتص ر دور ه ذه المؤسس ة‬ ‫‪-‬‬
‫األساسية والمحورية في عملية التنشئة االجتماعيّة على التعليم دونه عن التربية‪.‬‬

‫وعلى الرغم من الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسة التربوية في تعزي ز قيم المواطن ة وفي احت واء‬
‫النشء وغ رس ثقاف ة الديمقراطي ة‪ ،‬إالّ ّ‬
‫أن الواق ع ال ذي يعايش ه الب احثون لمؤسس ة المدرس ة على النقيض‬
‫تماما؛ إذ تؤ ّكد عديد الدراسات التربوية أنها ساهمت في تأص يل االغ تراب الفك ري والثق افي ل دى النش ء‬
‫أضف إلى ذلك اقتصارها على ممارسة أنشطة جامدة غير هادفة ال تواكب مواجه ة تح ديات العولم ة‪ .‬من‬
‫هنا‪ ،‬من هذا المنطلق بالذات‪ ،‬تجد ضرورة مراجعة البرامج والمناهج المدرسية مش روعيتها س عيا لت دعيم‬
‫مهم ة المدرس ة ورس التها في غ رس وتعزي ز قيم الديمقراطي ة والعيش المش ترك وإكس اب التلمي ذ جمل ة‬
‫المعارف التي تغطي حاجاته المعاصرة وتلبي انتظاراته‪.‬‬

‫إن الواقع المعيش الذي يشغل األوساط السياسية والثقافية اإلعالمي ة والجماهيريّ ة يش ير إلى تح ّد‬
‫ّ‬
‫واضح متجدد فيما تعلّق بمبادئ المواطنة ومفاهيمها خاصة في الوطن الع ربي وفي ه ذه الحقب ة التاريخي ة‬
‫بالذات ال تي تم يزت ب الحراك االجتم اعي واالنتفاض ات المتع ددة لع ّل أك بر تجلياته ا م ا يُع رف ب الربيع‬
‫العربي‪ .‬وقد تعددت العوامل المغذية لهذا الهاجس فمنها الفكري والثقافي والسياس ي واالجتم اعي تبل ورت‬
‫كلّها في إطار ظرف عالمي خاصيّته الكبرى قوة االستقطاب األحادي أو القوة العالمية الواحدة وسعيها إلى‬

‫‪63‬‬
‫ترويج مفه وم جدي د يس تجيب في المق ام األول واألخ ير إلى مص الحها وه و المواطن ة متع ّددة األبع اد أو‬
‫المواطنة العالمية‪ ،‬في زمن عرفت فيه وسائل االتصال واإلعالم ازدهارا منقطع النظير‪ .‬مما أدى‪ ،‬متكاتف ا‬
‫في ذلك مع تشوهات بنية ال وعي الع ربي‪ ،‬إلى خل ل في الرؤي ة والخي ارات في مج االت الفك ر والمف اهيم‬
‫السياسية والثقافية‪.‬‬

‫أليس بمقدور المدرسة أن تصبح مختبرا للحياة الديمقراطيّة؟‬

‫أضحى في حكم المؤ ّكد الي وم‪ ،‬أن مؤسس ة المدرس ة م دعوّة إلى المس اهمة في تك وين م واطن يعي‬
‫دوره في الحي اة العام ة‪ ،‬وه و م ا لن يت أتى إالّ ب زرع القيم الديمقراطي ة في المتعلّم وباستض ماره مع ارف‬
‫وقدرات كافية‪ ،‬تسمو به إلى مستوى الفاعل االجتماعي الواعي بما يقع في محيطه‪.‬‬

‫ولطالما مثّلت المدرس ة الفض اء األمث ل للمتعلم الكتس اب تج ارب اجتماعيّ ة‪ ،‬كونه ا تحت ل المرك ز‬
‫الثاني بعد الجماعة األوليّة األسرة‪ ،‬حيث تسمح بإغناء البعد العالئقي للمتعلمين وهو ما من ش انه أن يوج ه‬
‫النشء نحو تصورات وسلوكات حول الحياة االجتماعيّة‪ .‬والحديث عن الحياة المدرسية يحيلنا على ك ّل م ا‬
‫يجري في فضاء المؤسسة مختلف العالقات التفاعلية التي تحدث في إطارها سواء بين المتعلمين فيما بينهم‬
‫أو في عالقتهم مع األطر التربوية واإلدارية‪ ،‬ه ذا دون التغاف ل عن قواع د الحي اة المش تركة ‪Les Règles‬‬

‫‪ .communes de vie‬والفصل الدراسي هو أهم مكان ت دور في ه أط وار وأح داث الحي اة المدرس ية‪ :‬حيث‬
‫تخضع جماعة الفصل إلى ضوابط شكلية أو قانونية أو عرفيّة (كإيقاع األنشطة‪ ،‬الزمن المدرس ي‪ ،‬أه داف‬
‫الجماع ة في عالقته ا بالبرن امج الرس مي‪ ،‬النظ ام ال داخلي للفص ل‪ )...‬كم ا تخض ع الجماع ة لمح ددات‬
‫بيداغوجية من أساليب التدريس والبرامج الرسمية وغيرها‪ .‬وه ذا ال يع ني أن الحي اة المدرس ية له ا إط ار‬
‫مك اني دقي ق ومح دد حيث إنه ا تتع دى فض اء الفص ل الدراس ي إلى فض اء األنش طة الرياض يّة وقاع ات‬
‫األنشطة الثقافيّة وس احة ومم رات المدرس ة والمطعم المدرس ي فض ال عن فض اءات الحض انة المدرس ية‬
‫ونوادي األطفال ودور الثقافة‪.‬‬

‫ّ‬
‫إن الحياة المدرسية تضطلع بدور مركزي في التكوين على المواطنة أو الحياة المدنية‪ ،‬في مس تويين‬
‫على األقل‪:‬‬

‫المستوى األول‪ ،‬تق ّدم فيه وسائل الدراسة واالشتغال التي تخ ّول التفكير في العالقات مع اآلخرين‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪64‬‬
‫المس توى الث اني‪ ،‬مف اده أنّ ه من ال وارد ج دا خض وع ه ذه التجرب ة لتنظيم محكم يس مح للمتعلمين‬ ‫‪-‬‬
‫اكتساب تجارب لها صلة باألدوار التي تنتظرهم في الحياة العامة من قبيل تح ّمل المسؤولية‪ ،‬ت دبير‬
‫االختالف‪ ،‬الحوار العقالني‪...‬‬

‫فدور الحياة المدرسية في التربية على المواطن ة يمكن تبس يطه في الس ماح للمتعلّم باإلحاط ة بكيفي ة‬
‫اشتغال المدرسة وسلوكات مختلف الفاعلين في الفضاء المدرسي والتي يجب أن تتناغم م ع جمل ة المب ادئ‬
‫والقيم التي نصبو إلى ترسيخها‪ .‬فاله دف هن ا تمثُّل القواع د الجماعي ة وه و م ا يس توجب اض طالع جمي ع‬
‫الفاعلين (مدرسون‪ ،‬إداريون‪ )...‬باألدوار المنوطة بهم‪.‬‬

‫إن الحياة المدرسية مناس بةٌ ذهبي ة وفرص ة لترس يخ قواع د الح وار في إط ار مراع اة مب دأ الت درّج‬
‫ّ‬
‫واالنطالق في البداية إلى ت دريب التالمي ذ على اإلص غاء مم ا ق د يُكس ب الكالم مش روعية داخ ل الفض اء‬
‫ّ‬
‫الباث وه و م ا يحيلن ا إلى مرحل ة ثاني ة من الت دريب وهي أخ ذ المب ادرة‬ ‫المدرسي بغض النظر عن هوية‬
‫الكالمية‪ .‬هذه األهداف تستوجب نفس ا ط ويال فهي ليس ت أه دافا آني ة ب ل تت ن ّزل في منزل ة كفاي ة تقتض ي‬
‫التعويل على إرساء مجموعة من التعلّمات بصفة تدريجية (مع ارف‪ ،‬مه ارات‪ ،‬مواق ف) خالل العدي د من‬
‫الحصص‪.‬‬

‫أليس الحجاج أنجع وسيلة تكوينية من شأنها تطوير معرفة الكينونة من السلوكات المنسجمة مع قيم‬
‫ومبادئ المواطنة الديمقراطيّة؟‬

‫نقضي جزءا كبيرا من حياتنا ونحن نحاجج بعضنا البعض‪ ،‬نستمع آلراء اآلخرين‪ ،‬نعبّر عن مواقفنا‬
‫منها قد نتفق معهم وقد نخالفهم وربما نع ّدل مواقفهم أو مواقفنا‪ ،‬نؤثر فيهم ونتأثر بهم‪ ...‬وفي المحصلة نحن‬
‫ننتج خطاب ات حجاجيّ ة تتن وّع بتن وّع المقاص د والوض عيات التواص ليّة‪ .‬لن نج د تجرب ة أهم من الحي اة‬
‫المدرسية في سبيل تأهيل النشء لتح ّمل المسؤوليّة وأخذ القرارات عند االنخ راط في مش اريع معين ة وهي‬
‫المكان الذي يواجه فيه الناشئ األحداث غير المتوقعة سواء كانت إيجابية أو سلبية ‪ ...‬ولعل التفكير في هذه‬
‫اللحظات برؤية متبصرة من شأنها المساهمة في التربية على المواطنة وغرس قيم الديمقراطيّة‪.‬‬

‫المواطنة والكفاية التواصليّة‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫إذا كان المقصود بالكفاية التواصلية مختلف المعارف والمهارات والمواقف التي يختبره ا الف رد من‬
‫أجل ح ّل وضعية‪-‬مشكلة‪ّ ،‬‬
‫فإن التربية على المواطن ة تقتض ي إع داد الف رد ألخ ذ المب ادرات التواص ليّة في‬
‫‪65‬‬
‫مختل ف الوض عيات كالت دليل على رأي ه ب الحجج أو االع تراض على اآلراء المخالف ة لموقف ه ب الحجج‬
‫المضادة‪ ...‬وهو ما من شانه أن يضمن حصول تف اهم إنس اني خالل لحظ ات الص راع‪ .‬ه ذه الق درات هي‬
‫جزء من كفاية تواصلية عامة ومركبة‪ ،‬تتشك ّل من‪:‬‬

‫معارف لغوية‪ :‬معرفة بالروابط الحجاجية‪ ،‬ومعارف معجمية‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫معارف غير لغوية‪ :‬قوانين‪ ،‬تاريخ‪...‬‬ ‫‪-‬‬

‫مهارات الفعل‪ :‬من قبيل إنتاج أفعال كالمي ة تتن وع ب اختالف المقام ات التواص لية (الطلب‪ ،‬النفي‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫اإلخبار‪ ،‬االعتراض‪ ،‬التعليل‪)...‬‬
‫معرفة المواقف‪ :‬كاحترام الرأي اآلخر‪ ،‬تدبير المشاعر عند لحظة النزاع‪ ،‬احترام آداب الحوار‪...‬‬ ‫‪-‬‬

‫ولعل العمل على هذه الموارد في إطار هندسة دقيقة لبرامج تعليمية تراعي جملة المبادئ والكفاي ات‬
‫المستهدفة‪ ،‬يمكن أن تعود بفوائد كثيرة يبقى أهمها تمكين المتعلّم من تفعيل وتعبئ ة مختل ف التعلم ات ال تي‬
‫اكتسبها بشكل تدريجي ومج ّزأ في وضعيات مختلفة‪ .‬وبلوغ هذا المقص د ال يتم بمع زل عن مراع اة النس ق‬
‫الرمزي أي اللغ ة‪ ،‬فهي أداة الرب ط م ع الع الم المحي ط وهم زة الوص ل الرامي ة إلى تحقي ق لحظ ة التف اهم‬
‫اإلنساني داخل النسيج المجتمعي‪ .‬فانتحال دور المواطن يحتم على الفرد تملّك األداة المسخرة للتف اهم ع بر‬
‫النسقين المكتوب والشفهي وإحكام المراوحة بينها ب اختالف الوض عيات التواص ليّة‪ .‬والمالح ظ في الواق ع‬
‫اليومي ّ‬
‫أن الكفاية التواصليّة لدى فئ ة كب يرة من المواط نين في ض مور مس تمر حيث يعج ز الكث يرين عن‬
‫استخدام اللغة العربية وظيفيّا فتتداخل الكثير من األنس اق اللغويّ ة في الرس الة القص يرة الواح دة (العامي ة‪،‬‬
‫اللغ ة األجنبيّ ة‪ ،‬العربي ة الفص حى)‪ .‬ومن مظ اهر ض عف الكفاي ة التواص لية أيض ا ض عف الق درة على‬
‫االستدالل واالعتراض والتفطن لمظ اهر المغالط ة في الخط اب وأس اليب التموي ه خاص ة في الوض عيات‬
‫النزاعية كالتفاوض والمناظرة‪ .‬حتى أن البعض اعتبر أن عدم إتقان اللغة الرسمية للبالد ول و نس بيا يعت بر‬
‫مسا بحق المواطنة الذي يكفله الدستور لجميع األفراد‪.‬‬

‫فضال عن كل هذا‪ ،‬إذا كان التواصل السياسي قائم على نظ ام العالم ات‪ ،‬ف إن واقعن ا اللغ وي يش هد‬
‫أزم ة تعكس مش كال ثقافي ا يلقي بض اللها على ج وانب عدي دة يبقى أهمه ا س لبية الم واطن في المش اركة‬
‫السياسية وصنع القرارات لتي تعود بالنفع على المجتمع‪.‬‬

‫في مثل هذه الظروف واالعتبارات‪ ،‬تبدو المدرسة مطالبة بأن تتحول إلى مختبر للديمقراطية فتم ّكن‬
‫المتعلم من كفاية تواصلية عامة ألنه ال يمكن ب أي ح ال من األح وال الج زم بش كل قطعي بحص ول حري ة‬

‫‪66‬‬
‫التعب ير في مجتم ع ال يق رأ وال يعي م ا يس مع وال ينتب ه إلى المض مر في الرس ائل وال يع الج المعلوم ات‬
‫السياسية معالجة نقدية‪ .‬وفي ه ذا الس ياق‪ ،‬توص لت بعض الدراس ات في الوالي ات المتح دة األمريكي ة إلى‬
‫وجود ارتباط قوي ودال بين القدرة على التعبير بحرية وبين طبيعة الثقافة التعليمية الس ائدة‪ .‬فطبيع ة الج و‬
‫التعليمي السائد في السياق المدرسي له بالغ التأثير في إكساب المتعلم قيم الديمقراطية‪.‬‬

‫وال يفوتني اإلشارة أيضا إلى ّ‬


‫أن المواطنة في ع الم الي وم‪ ،‬تقتض ي رقمن ة المدرس ة‪ ،‬ألن التواص ل‬
‫اللغوي الذي درجنا عليه اتسع مجاله‪ ،‬وتغيّرت طبيعة العالق ة ال تي تجم ع بين األط راف المتح اورة حيث‬
‫ارتبط بالنظم المعلوماتية فظهر التواصل عن بعد وأض حى الح ديث عن وس يط إلك تروني واس ع االنتش ار‬
‫وغدا التواص ل السياس ي ي راهن على ه ذا الوس يط في الكث ير من البل دان لتمري ر القناع ات اإليديولوجي ة‬
‫لألحزاب والتواصل مع األحزاب‪.‬‬

‫ّ‬
‫إن تطوير الكفاية التواص ليّة ل دى المتعلمين يس هم دون أدنى ش ك في تمكينهم من األدوات المعتم دة‬
‫في تأطير الرأي العام وفهم رسائل الحمالت االنتخابية والوعي بمظاهر المغالطة في الخط اب‪ ...‬ك ّل ه ذه‬
‫االعتبارات تبرر في نظري تصنيف الكفاية التواصلية كهدف أساسي في العملية التربويّة‪.‬‬

‫البالغة‪ ،‬المواطنة والكفاية الحجاجيّة‪:‬‬ ‫‪-‬‬

‫قد يبدو من الوهلة األولى أننا نروم إقامة ترابط وثيق بين مفاهيم ال ص لة بينه ا‪ ،‬بم ا أننّ ا نجم ع بين‬
‫مصطلحات يحيل بعضها إلى الحقل السياسي والبعض اآلخر يحي ل إلى بالغ ة الحج اج‪ .‬وفي واق ع األم ر‬
‫هذا التعالق العنيد يستمد مشروعيته من زاويتين‪:‬‬

‫األولى تاريخية‪ ،‬حيث كانت الص لة الجامع ة بين السياس ي والبالغي وطي دة ع بر العص ور‪ ،‬فمن ذ‬ ‫‪-‬‬
‫العهد اليوناني القديم تفطّن الفاعل السياسي إلى ضرورة التعويل على خطاب يراعي شروط بالغية‬
‫مخصوصة تهدف إلى إنشاء خطاب يتماشى مع مقتضيات الحياة العامة‪.‬‬
‫الثانية آنية‪ ،‬تقر بأن ارتب اط المفه ومين أض حى ش رطا للحي اة الديمقراطي ة المعاص رة‪ ،‬مم ا ي برر‬ ‫‪-‬‬
‫رهان ترسيخ قيم الديمقراطية في فصول المدرسة وقد يكون ذلك مثال بتدريب المتعلمين على حي اة‬
‫المواطنة كاالنتخاب وتوزيع األدوار وحق االختالف ونبذ العنف‪...‬‬

‫من هذا المنطلق‪ ،‬يتبيّن أن إرس اء وتوطي د دع ائم الدول ة الديمقراطي ة ره ان يقتض ي التعوي ل على‬
‫المنظومة التربوية فهي األقدر على إرساء ثقافة المواطنة اإليجابية والفاعلة‪ .‬وإيمانا بأهمية هذه الثقاف ة في‬

‫‪67‬‬
‫عالم اليوم‪ ،‬سعى الخطاب التربوي الديمقراطي إلى البحث عن ط رق ممارس ة القيم الديمقراطي ة م دركين‬
‫ّ‬
‫أن اكتساب آلية الحجاج لبنة مهمة إلرساء دعائم المجتمع الديمقراطي‪.‬‬

‫يدفعنا هذا الكالم إلى القول بأن أخذ المب ادرة للتعب ير عن اآلراء بحريّ ة وص ياغة ق رار سياس ي أو‬
‫غير سياسي في مستوى المس ؤولية واح ترام الح ق في االختالف وترس يخ قيم التس امح يس تدعي قب ل ك ّل‬
‫شيء االستعانة ببالغة الحجاج‪ ،‬وهو مظهر من مظاهر الكفاية التواصليّة العامة تضمن حق ال رأي اآلخ ر‬
‫بشكل عقالني وتقرب المسافة بين المختلفين في الرأي‪ .‬فهي س ترة النج اة ال تي تم ّكن المجتم ع من تج اوز‬
‫مرحلة التناقضات الحرجة بأخف األضرار‪.‬‬

‫من هذا المنظور تقتضي التربية على المواطنة جعل الفرد يكتسب آليات بالغية تدرك قيم ة العالق ة‬
‫اإلنسانية وتصونها من خالل بث جو قيمي يؤمن باالختالف ويتدبره بأدوات بالغية عقالنية‪ .‬هذا التص وّر‬
‫للبالغة نجده حاضرا في تعريف ‪ Ehninger‬حيث حددها على أنها المجال الذي ي درس جمي ع الممارس ات‬
‫اإلنس انية‪ ،‬ال تي ت ؤثر بش كل متب ادل في س لوكهم وأفك ارهم من خالل االس تخدام االس تراتيجي للغ ة‪ .‬ه ذا‬
‫التعريف ينسجم مع طبيعة المجتمعات المفتوح ة الق ادرة على ت دبير االختالف بحيث ينجح ك ّل ط رف في‬
‫تغيير سلوك اآلخ ر أو اعتق اده أو تع ديل تص وره بم وجب إتقان ه االس تخدام االس تراتيجي للغ ة‪ .‬فاألفك ار‬
‫واآلراء تُقاد بناء على قوة الكلمة وقوة الحجة‪.‬‬

‫إن ما يزكي أهمية اكتساب المتعلم بالغة حجاجية‪ ،‬ال تكمن في كونها تتماشى ومستلزمات المواطنة‬
‫الحديثة أو تتصل بمقتضيات الحياة السوسيو اقتصادية والسياسية‪ ،‬بل ألن نت ائج البح وث التجريبي ة أق رّت‬
‫أن المدارك السياسية للمتعلم تبدأ في التشكل في ّ‬
‫سن ‪ 15‬سنة‪ ،‬وتتجه قدراته إلى ربط بعض الموض وعات‬
‫بالخط اإلي ديولوجي لألح زاب السياس ية‪ .‬فخصوص ية ه ذه المرحل ة تس توجب التس لح بالكفاي ة الحجاجي ة‬
‫الالزمة‪ ،‬بما يحيلنا إلى الدور المركزي للتعلميّة ‪ didatactique‬بالغة الحج اج في تط وير شخص ية المتعلم‬
‫من خالل تنمية استعداده ألخذ المبادرات الكالميّة للتعب ير عن رأي ه وفك ره وتس اعده في تس جيل تحفظات ه‬
‫ونصب اعتراضاته على الرأي اآلخر دون الجنوح إلى العنف المادي‪.‬‬

‫قائمة المراجع‪:‬‬

‫المراجع العربية‪:‬‬

‫‪68‬‬
‫"الديمقراطية والتربية في الوطن العربي"‪ ،‬أعمال المؤتمر العلمي الثالث لقسم أصول التربية في‬ ‫‪-‬‬
‫كلية التربية جامعة الكويت‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬بيروت‪.2001 ،‬‬
‫الكواري (خليفة) وآخرون‪ "،‬المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية"‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت‪.2001 ،‬‬ ‫‪-‬‬

‫أمين فرج شريف‪" ،‬المواطنة ودورها في تكامل المجتمعات التعدديّة"‪ ،‬دار الكتب القانونيّة‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫القاهرة‪.2012 ،‬‬
‫إهرنبرغ (جون)‪" ،‬المجتمع المدني‪ :‬التاريخ النقدي للفكرة"‪ ،‬ترجمة علي حاكم صالح وحسن‬ ‫‪-‬‬
‫ناظم‪ ،‬المنظمة العربية للترجمة – مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت‪.2008 ،‬‬
‫بشارة (عزمي)‪" ،‬المجتمع المدني‪ :‬دراسة نقدية"‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬ط‪ ،2‬بيروت‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪.2000‬‬
‫تورين (أالن)‪" ،‬ما هي الديمقراطيّة‪ :‬حكم األكثريّة أم ضمانات األقليّة"‪ ،‬ترجمة حسن قبيسي‪ ،‬ط‬ ‫‪-‬‬
‫‪ ،2‬دار الساقي‪ ،‬بيروت‪.2001 ،‬‬
‫حفيظ (عبد الوهاب)‪ ،‬الجزيري (مشيرة)‪" ،‬التربية والمواطنة في العالم العربي"‪ ،‬مركز الدراسات‬ ‫‪-‬‬
‫والبحوث االقتصادية واالجتماعيّة‪ ،‬تونس‪.2005 ،‬‬
‫شريف (أمين فرج)‪" ،‬المواطنة ودورها في تكامل المجتمعات التع ّدديّة"‪ ،‬دار الكتب القانونية‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫مصر‪-‬اإلمارات‪.2012 ،‬‬
‫غالّب (عبد الكريم)‪" ،‬أزمة المفاهيم وانحراف التفكير"‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬سلسلة‬ ‫‪-‬‬
‫الثقافة القومية‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت‪.1998 ،‬‬
‫كوثراني (وجيه)‪" ،‬السلطة والمجتمع والعمل السياسي "‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ ،‬سلسلة‬ ‫‪-‬‬
‫أطروحات الدكتوراه‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت‪.1988 ،‬‬
‫الحجالوي (لطفي)‪" ،‬فلسفة التربية‪ :‬اإلشكاليات الراهنة"‪ ،‬دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫ط‪ ،1‬بيروت‪.2009 ،‬‬
‫هيتر (ديريك)‪" ،‬تاريخ موجز للمواطنيّة"‪ ،‬ترجمة آصف ناصر ومكرم خليل‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬ك‪،1‬‬ ‫‪-‬‬
‫بيروت ‪.2007‬‬

‫‪:‬المراجع الفرنسية‬

‫‪69‬‬
‫‪- Cardinet (A), Pratiquer la médiation en pédagogie, Dunot, Paris 1995.‬‬

‫‪- Raynal. F et Rieunier. A, Pédagogie : Dictionnaires des concepts clés, ESF,‬‬


‫‪Paris, 1998.‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪Reboul (Olivier), La philosophie de l’éducation, PUF, 2ème édition, Paris, 1989.‬‬

‫التنمية الثقافية والديمقراطية المحلية في الوسط الريفي ‪ :‬تنمية الثقافة أم ثقافة التنمية‬

‫د‪ .‬مريم خيرالدين غابري‪ ،‬جامعة قرطاج‪ ،‬تونس‬

‫الثقافة هي الكلمة المفتاح بال منازع لطرح مسائل التنمي ة الثقافي ة والديمقراطي ة وم ا يح ف به ا من‬
‫نقاشات وتداعيات‪ .‬وهي في سياق حديثنا تأخذ معنى سوسيو ان ثروبولوجي‪ ،‬فهي الكيفي ات واآللي ات ال تي‬
‫تبدعها المجموعة للتأقلم م ع محيطه ا وس ياق وجوده ا وتش مل الق وانين وقواع د الس لوك ومعين الرم وز‬
‫والتمثالت المعبرة عن روحها وهويتها والتي تنقلها من جيل الى جيل‪ .‬أما التأقلم مع المحيط فه و مش روط‬
‫بالتحيين الدؤوب اعتبارا ألن المحيط ليس محددا وال ثابتا وال متجانسا فه و داخلي وخ ارجي وه و مج الي‬
‫متحرك‪ ،‬فبين الريفي والمحوضر نجد الهجين الذي لم يحوضر حسب النماذج المتعارفة ولكنه لم يبق ريف ا‬
‫في صورته النمطية وكثيرة هي وضعيات البين بين أو "الشبه كذا"‪ ...‬وديدن التغير ابتداع واستنباط آلي ات‬
‫التأقلم وموائمتها من أج ل تحقي ق االكتف اء والرخ اء الم ادي والمعن وي وتك ريس مكان ة األف راد مواط نين‬
‫وتنمية المجتمع‬

‫‪70‬‬
‫ومن البديهي أن ين درج الح ديث عن التنمي ة الثقافي ة في س ياق التنمي ة الش املة‪ .‬وه و ط رح يحيلن ا‬
‫ضرورة الى تحديد طبيع ة الس ياق السياس ي ال ذي ينج ز ض منه مش روع التنمي ة ه ذا وال ذي يح دد م دى‬
‫نجاحها‪ .‬ويبدو أنه ا ال يمكن أن تثم ر بالق در المؤم ل في من اخ اس تبدادي وض من ق رار تس لطي‪ .‬فللتنمي ة‬
‫شروط سياسية ضرورية‪ ،‬أولها الحرية‪ .‬فهي التي تستطيع أن تحرر اإلنسان من التخل ف والجه ل والفق ر‪.‬‬
‫أما بدونها فيكون مفهوم التنمية تهيئة الناس ليكونوا أدوات مسالمة مطيعة ال ألن يكونوا مواطنين في دول ة‬
‫‪.154‬‬

‫لقد اعتبرت تنمية المجتمعات الريفية من المسائل الثابتة في اهتم ام الف اعلين السياس يين وإن اختلفت‬
‫رؤاهم حولها وهي كذلك في أوساط الباحثين بمختلف اختصاصاتهم‪ .‬وضمن هذا السياق يندرج الالحق من‬
‫هذه الورقة ليسهم في الجدل ح ول حوكم ة تنمي ة ه ذه المجموع ات خاص ة م ا تعل ق بالتنمي ة الثقافي ة م ع‬
‫مراعاة خصوصياتها وضمان نجاعة أكبر للسياسات والبرامج الرامي ة لتحقي ق تنمي ة منص فة للمجتمع ات‬
‫المحلية المتدنية الحظوظ والتي يسيطر عليها اإلحساس بالغبن واالنسحاب وفي أحيان كثيرة بالقهر‪.‬‬

‫لعل أهم ما يرتبط بهذه المسألة العالقة بين المركز واألطراف‪ ،‬بين المدينة والريف بم ا يعتريه ا من‬
‫تعقيدات ورهانات ممتدة في تاريخ كل المجتمعات‪ ،‬تراوحت بين التبعية في فترات والوص اية المطلق ة في‬
‫فترات أخرى والمؤدية للتفاعل السلبي مع برامج التنمية المسقطة والمفروضة يتجاذبها ال رفض والتعطي ل‬
‫من قبل الريفيين‪ ،‬واإلمعان في الالمباالة والتعالي من قبل المركز مدنا وسلطة‪.‬‬

‫وال يمكنن ا أن ن ذهب بعي دا في تحلي ل ه ذه الص ورة النمطي ة إذ تم التخلي عنه ا أو اإليح اء ب ذلك‬
‫وتغ يرت السياس ات على األق ل على المس توى التش ريعي والخي ارات الك برى في مخطط ات التنمي ة‪.‬‬
‫وأصبحت الرهانات االجتماعية للسياسات التنموية المعلنة اعتماد الديمقراطية المحلية في بعدها التش اركي‬
‫وتوطين آليات التنمي ة واالبتع اد عن المش اريع العمودي ة‪ .‬وه و توج ه ال يعفي ه بريق ه من محاكم ة النواي ا‬
‫المستترة خلفه‪ .‬فقد تميز التنظيم القديم‪ ،‬كما أسلفنا‪ ،‬بهيمنة الدولة المتمركزة على ذاتها على التسيير ووضع‬
‫السياسات وتنفيذها باالعتماد أساسا على هياكلها المركزي ة ال تي تبقى المتحكم الرئيس ي في م وارد الدول ة‬
‫باسم سيادة الدولة‪ .‬إال أنه ومنذ نهاية القرن الماضي ومع تفاقم الفوارق الجهوية والفئوية وما ظهر من آثار‬
‫العولمة على االقتصاديات الوطنية خاصة الهشة منها كما هو الحال بالنسبة لتونس‪ ،‬برز التوجه نحو تغيير‬
‫ش به ج ذري للبحث عن سياس ات بديل ة تق وم على أس س مختلف ة للتص رف قص د ح ل معض الت التنمي ة‬
‫المستعصية وتصدر الحديث عن الفاعلين المحليين والمجتمع المدني والتسيير ال ذاتي كش عارات للمرحل ة‪.‬‬
‫"الديمقراطية التش اركية " ال تي تمث ل الش عار األب رز في ت ونس الي وم‬ ‫اختزلت في‬

‫‪ .154‬صن أمارتيا (جائزة نوبل لالقتصاد)‪" ،‬التنمية حرية"‪ ،‬ترجمة شوقي جالل‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة والفنون‪ ،‬الكويت‪،‬‬
‫‪ ،2004‬ص‪.80‬‬
‫‪71‬‬
‫وتعبر عن التوج ه المعلن لسياس ة الدول ة‪ .‬غ ير أن ه ذا األم ر ال يخفي بعض الت وجس من ص دق ال دافع‪،‬‬
‫فالمتتبع لألحداث السياسية واالقتصادية واالجتماعية التي تعتمل في تونس منذ ما يزيد عن العشرية يالحظ‬
‫ما يغذي الرأي بأن هذا التوجه ليس سوى غاللة ستر عورة السياس ة المركزي ة ال تي فش لت في االس تجابة‬
‫لتطلعات المجتمع بكل فئاته وبيئاته إلى التنمية‪ ،‬فرمت بوزرها على الفاعلين المحليين شريكا أو بديال دون‬
‫اعتبار للشروط الموضوعية الواجب توفرها في ولهؤالء لالضطالع بهذه المهمة الصعبة‪ .‬وقد يصل األمر‬
‫حد الشك في أنه توجه مملى من الجهات المتحكم ة في اقتص اديات العولم ة وال تي ت دعو إلى التقليص من‬
‫االستثمار المباشر والدعم االجتماعي‪.‬‬

‫أما تجلياتها فكانت وضع سياسات ترتكز على تقليل سيطرة المرك ز لص الح األط راف فيم ا يع رف‬
‫بالالمركزية والتي هدفت إلحداث إص الحات هيكلي ة ووظيفي ة إداري ة خاص ة لرف ع مردودي ة القطاع ات‬
‫االقتصادية واالجتماعي ة وبش كل تكميلي القط اع الثق افي‪ .‬إذا غلب على مس ألة الالمركزي ة البع د اإلداري‬
‫والهيكلي وم ا يرافقهم ا من مراجع ة لألط ر القانوني ة واإلداري ة‪ .‬غ ير أنه ا أبع د م دى و أعم ق أث را في‬
‫ارتباطها بالفكر السياسي والذي يربطها بدوره بفكرة بن اء نظ ام سياس ي على أس اس منهجي ة الالمركزي ة‬
‫التي تكرس دمقرطة الممارسة السياسية و تشريك أوسع ألف راد المجتم ع‪ ،‬باعتب ارهم مواط نين متس اوين‪،‬‬
‫في التصور والتفعيل والتقييم والتنظيم دفاعا على حظوظهم و إبداع حلول معضالت حي اتهم المحلي ة‪ .‬وق د‬
‫ورد هذا صريحا في دستور ‪.1552014‬‬

‫دمقرطة الثقافة أم الديمقراطية الثقافية؟‬

‫بهذا نلج باب الخوض في مسألة الديمقراطية وعالقتها تخصيصا بالديمقراطية الثقافي ة وال تي ش اع‬
‫تعريفها على أنها توجه ذي طابع سياسي ظهر بعيد الحرب العالمية الثاني ة ويق وم على معادل ة ته دف الى‬
‫تأهيل األفراد لالختيار الواعي و المسؤول ضمن سياق ديمقراطي يمر عبر حصولهم على ق در من التعليم‬
‫والمع ارف ‪,‬إذا ع بر الثقاف ة ‪.‬و رغم بريقه ا فإنه ا ال تح وز اإلجم اع وت زرع الريب ة في أوس اط المهتمين‬
‫بمالحظتها ودراسة تداعيات تطبيقها في الواقع ومن طريف الق ول فيه ا م ا ج اء على لس ان هابرم اس في‬
‫قوله أن نزع السحر عن الحق وعن السياسة الذي تعلقت به العلوم االجتماعي ة يتأس س على مب دأ الحيادي ة‬
‫الذي تزعم أنها التزمته منذ فيبر والذي يقود إلى رفض القبول الف وري باألي دولوجيا الديمقراطي ة دون أن‬

‫‪ " . 155‬تقوم السلطة المحلية على أساس الالمركزية‪ .‬تتجسد الالمركزية في الجماعات المحلية على أساس الالمركزية‪ .‬تتجسد‬
‫الالمركزية في جماعات محلية تتكون من بلديات وجهات وأقاليم‪ ،‬يغطي كل صنف منها كامل تراب الجمهورية وف ق تقس يم‬
‫يضبطه القانون‪( .‬دستور الجمهورية التونسية الفقرة ‪.)132‬‬
‫‪72‬‬
‫يقلل هذا طبعا من الحدث االجتماعي الهام الذي يشكله فهم الذات تلقائيا للفاعلين حيث يب دو أن "مواط نين‬
‫‪156‬‬
‫عقالنيين ال يملكون مطلقا أسبابا الحترام قواعد اللعبة الديمقراطية"‪.‬‬

‫ولعل هذا الرأي يحيلنا إلى مفارقة أن يرتبط ثراء الحقل الداللي لدمقرطة الثقافة بعدم وض وح اللف ظ‬
‫وكثافة الجدل حوله غير أنها تلتقي في اعتبار المساواة هدفا ال يمكن تحقيقه إال ببذل جهد هام وج اد لتمكين‬
‫األفراد والمجموعات الغير مؤهلة من الوصول إلى المعارف واإلبداعات الثقافية‪ .‬أما الديمقراطي ة الثقافي ة‬
‫فهي أوسع أفقا من حيث تعويلها على الذكاء الموزع بين الجميع‪ ،‬متع دد التجلي ات بم ا فيه ا ال ذكاء العملي‬
‫الذي تح دث عن ه بوردي و‪ .‬حيث أن لك ل األف راد إمكاني ات تخ ول لهم خل ق وس ائلهم الذاتي ة للفهم والحكم‬
‫والتذوق ضمن مساراتهم الشخصية‪ .‬وهي فلس فة التربي ة الش عبية وال تي ال تق وم فق ط على التعلم وال تزود‬
‫بالمعارف لنكون مثقفين وإنما تعتمد التعريف األنثروبولوجي للثقافة خلفية وتعت بر أن لألف راد ح ق وأهلي ة‬
‫توظيف مخزونهم الثقافي بهذا المعنى وإجراء عمليات المقارنة واالنتقاء واالستثمار لكل مكون ات المحي ط‬
‫المتاحة إلنتاج المعنى و بلورة الذوق الذاتي وإثراءه واختزاال أن يعيشوا "الديمقراطية ثقافة"‪.‬‬

‫لق د ارتأين ا مغ ادرة مرب ع الت داعي في مقارن ة اللفظين فقابلن ا بينهم ا تلخيص ا وتكثيف ا ب العودة الى‬
‫تعريفهما في المعجم الفرنسي وفي األدبيات المتعلقة بمناقشتهما‪:‬‬

‫دمقرطة الثقافة‬ ‫ديمقراطية الثقافة‬


‫ترتكز على اإلبداعات المصنفة معياري ا وعلى‬ ‫إرادة إدراج السياس ة الثقافي ة في السياس ة ‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫تق ييم المحت وى أو الثقاف ة الش رعية وت ربي‬ ‫العامة للتنمية وفيها الص حة والس كن والتربي ة‬
‫الجمهور لتذوقها‪ ‬واستهالكها‪.‬‬ ‫واألمن‪...‬‬
‫ترتك ز على المجتم ع‪/‬تهتم باإلب داع الف ردي‬ ‫‪-‬‬
‫والجماعي‪/‬تتيح ممارس ة المواطن ة‪/‬تق وم على‬
‫التعلم المتواصل‪.‬‬
‫تأخ ذ الثقاف ة مع نى الثقاف ة العالم ة أو النقي ة‬ ‫تأخذ الثقافة معنى أن ثروبولوجي يش مل أنم اط ‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫وتعتمد التصنيف المعياري وتنفتح على الثقاف ة‬ ‫الحي اة والممارس ات المم يزة لألف راد‬
‫اإلنسانية‪.‬‬ ‫والمجموع ات واعتب ار الممارس ات الهاوي ة‬
‫والثقاف ات الفرعي ة ووس ائل االتص ال‬
‫الجماهيرية‪.‬‬
‫تيس ير البث الثق افي وتقليص التف اوت في‬ ‫ترتك ز عملي ا على التجه يزات المتاح ة محلي ا ‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫الوص ول إلى اإلب داعات الثقافي ة باعتم اد‬ ‫دد‬ ‫وار وعلى تع‬ ‫د على الج‬ ‫وتعتم‬
‫استراتيجيات تسويقية وغلبة مفهوم الجمهور‪.‬‬ ‫االختصاصات والتطوع‪.‬‬
‫‪ .156‬ستيفان هابر‪ ،‬ترجمة محمد حديدي‪" ،‬هابرماس والسوسيولوجيا"‪ ،‬الرباط‪ ،‬دار األمان‪ ،2012 ،‬ص ‪.63‬‬
‫‪73‬‬
‫تنطلق من فكرة التوجه إلى أفراد غير مهي ئين‬ ‫الفعل الثقافي يتنزل في إطار مجموع ة أو حي ‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫لإلبداع الثقافي لتهيئتهم ليكونوا جمهورا للثقافة‬ ‫أو تجمع‬
‫التركيز على سلعنة المنتجات الفني ة وجمه ور‬ ‫‪-‬‬ ‫االعتراف بالتنوع والتعدد الثقافي‬ ‫‪-‬‬
‫المستهلكين‬
‫تحي ل إلى تنمي ة ت داول المنتج ات الفني ة‬ ‫تحيل إلى التنمي ة في معناه ا الش امل وتنطل ق ‪-‬‬ ‫‪-‬‬
‫وازدهار السوق الفنية وأحيانا تنميط الذوق‬ ‫من المجتمع وتعود إليه‬

‫إذا‪ ،‬تحيل هذه الثنائية التقابلية الى نمطين للفعل الثقافي‪:‬‬

‫فالدمقرطة تنطلق من ثقافة النخبة أو الثقاف ة الش رعية بتعب ير بوردي و لتمكين الجمه ور الع ريض من‬ ‫‪-‬‬
‫ولوجها واالستفادة بها وتربية ذوقه‪.‬فهي مشروع فوقي يعمل على تيسير الوصول الى الرصد الثقافية‬
‫الشرعية و التي هي أصال غير عادلة التوزيع وصعبة المنال‪.‬‬
‫أما الديمقراطية الثقافية فتنطلق من القاعدة وتنتمي للمجموعة وتنمي المواطنة وتضمن التنوع الثق افي‬ ‫‪-‬‬
‫ويكون هدف السياسة الثقافية فيها ليس ثقافيا في معناه المثقف وإنما تنمية المجتمع في أبعاده المتع ددة‬
‫والفعل بالثقافة وفيها من أجل التنمية الشاملة والمستديمة‪.‬‬

‫المجال الريفي‪ :‬مسارات التحول‬

‫لقد عاشت تونس وبدرجات متفاوتة توازنا بين الريف وهو المج ال القبلي في الغ الب و الم دن ال تي‬
‫تحتكر التبادل التجاري واألنشطة الحرفية وهي وضعية شهدت انقالبا مع سياسة الحماية التي ميزت المدن‬
‫الساحلية والحاضرة و قصرت دور الريف على اإلنتاج الفالحي في مستعمرات فالحيه ي ديرها المعم رون‬
‫أو األعيان‪ .‬وقد ورثت دولة االستقالل منظومة سياسية مركزية‪ .‬أما المنظومة اإلدارية فعمودي ة متمرك زة‬
‫في العاصمة وبدرج ة أق ل في مراك ز الوالي ات‪ .‬منظوم ة ش ديدة المركزي ة أف رزت تفاوت ا مادي ا وقيمي ا‪.‬‬
‫وطبعت العالقات الثقافية بين المجال الريفي والمجال الحض ري‪ .‬ورغم م ا ق د يب دو من امت داد الحوض رة‬
‫إلى المجاالت الريفية فإنها لم ترتق إلى مستوى المساواة في الحظوظ واإلمكانيات الموظفة للتنمي ة‪ .‬ب ل إن‬
‫فيها الكثير من فرض نماذج قد ال تتالءم في كل األحوال مع خصوصيات المجموعات والمجاالت‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫إن أهم المستجدات في المجتمع التونسي بعد االستقالل ما حص ل من تغ ير عمي ق انطالق ا من س نة‬
‫‪ 2011‬عانق فيه الحراك االجتماعي الثورة‪ .‬وانتفضت الهويات الفرعية وبرز على الس طح معطى التن وع‬
‫والح ق في الفع ل واالختي ار لألف راد والمجموع ات‪ .‬دون أن يخفى حجم التف اوت والحي ف بين الري ف‬
‫والمدينة‪ ،‬وهو من الثوابت تقريب ا‪ ،‬وبين الجه ات واألق اليم وه و نتيج ة السياس ات المتبع ة من ذ االس تقالل‬
‫والتي فقرت الريف وأفرغته خاصة من موارده البشرية وهو معطى فارق في بناء مؤسس ات الديمقراطي ة‬
‫المحلية التي تصطدم حتما بنقص الموارد البشرية‪.‬‬

‫وق د تجلى ذل ك خاص ة في االس تبعاد السياس ي ال ذي يق وم على التهميش اإلجب اري والحرم ان من‬
‫المشاركة إال وفق معايير السلطة‪ 157‬بما يؤدي إلى االستبعاد االجتماعي وما له من ت داعيات نفس ية وقيمي ة‬
‫سلبية تترجم إلى الالمباالة والتواكل وعدم التفاعل مع المش اريع التنموي ة المفروض ة واالغ تراب‪ .‬فابتع اد‬
‫الناس عن السياسة ييسر خلو الساحة إال من أوعزت السلطة بوجوده إمعانا في المغالطة أو أقلية من ال ذين‬
‫يصرون على طلب التغيير العادل والذين يعيشون تض ييقا ال يق ل س وءا على التهميش‪ .‬وال ب د من التأكي د‬
‫على نفس ية الجم اهير بخصائص ها ه ذه ال تختص بش عب معين وإنم ا هي حال ة يمكن اعتباره ا مرض ية‬
‫وتتلخص في أن األف راد حين يعيش ون تحت نظ ام يش عرهم بامتي از اآلخ رين عليهم يص بحون مكتئ بين‬
‫وعاجزين وتسهل قيادتهم‪ .‬وهو ما الحظ ه رش يد الح اج ص الح في مؤلف ه ح ول "الوج ه السياس ي للثقاف ة‬
‫العربية المعاصرة" والذي يقر فيه أن النظام السياسي العربي ‪ -‬ونحن منه‪ -‬يقسم المجتمع إلى قس مين‪ :‬أول‬
‫متكيف مع ثقافة الهيمنة وم دافع عنه ا ومتمت ع بمزاياه ا وث ان غ ير متكي ف ورافض ومت ذمر‪ ،‬يع اني من‬
‫التهميش واألنكى أنه يحشر في دائرة المشكوك بهم و ال بد من مراقبتهم‪.158‬‬

‫إن ما نهتم به هنا هو "الثقافة في بعدها المجالي"‪ ،159‬وتخصيص ا في المج ال ال ريفي وال ذي يتم يز‬
‫باستمرار األنماط االجتماعية القديمة‪ ،‬والتعبيرات والخصائص الثقافية المميزة وال ذي يع بر عن ه اخ تزاال‬
‫بالثقافة الشعبية‪ .‬فكما هو معلوم فإن الفئات تنتج قيما وتصنيفات وأفك ار نمطي ة عن نفس ها وعن اآلخ رين‪،‬‬
‫تضمنها رؤيتها للحياة وقناعاتها في مختل ف المس ائل االجتماعي ة واالقتص ادية والتربوي ة والديني ة وتع بر‬
‫‪160‬‬
‫عنها وتتناقلها في العادات واألعراف والفنون والتصورات‪.‬‬

‫‪ .157‬جاكوبي راسل‪" ،‬نهاية اليوتوبيا‪ :‬السياسة والثقافة في زمن الالمباالت"‪ ،‬ترجمة فاروق عبد القادر‪ ،‬الكويت‪ ،‬المجلس‬
‫الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪ ،2001 ،‬ص ‪ 77‬و‪.78‬‬
‫‪ . 158‬رشيد الحاج صالح‪ ،‬الوجه السياسي للثقافة العربية المعاصرة‪ ،‬الدار العربية للعلوم ناشرون ‪ ،2012،‬ص‪.79‬‬
‫‪. Pierre Mouliner. La dimension territoriale de la démocratisation culturelle:La notion de territoire correspond‬‬
‫‪159‬‬

‫‪à une évolution de la réalité économique (l’organisation de plus en plus territorialisée de la production qui‬‬
‫‪accompagne le processus de mondialisation) autant qu’à une évolution épistémologique en économie « qui fait‬‬
‫‪avancer l’idée qu’il existe des modes d’organisation de la vie sociale et de la production qui sont ancrés‬‬
‫‪territorialement, c’est-à-dire pour lesquels le contexte socioculturel et historique - la spécificité des‬‬
‫‪territoires - importe »  http://chmcc.hypotheses.org/389. [mis en ligne le 5 mai 2014].‬‬
‫‪ .160‬دنيش كوش‪" ،‬مفهوم الثقافة في العلوم االجتماعية"‪ ،‬ترجمة منير السعيداني‪ ،‬المؤسسة العربية للترجمة‪ ،‬ص ‪.125‬‬
‫‪75‬‬
‫تميز الثقافة الشعبية المجال الريفي خاصة وتتميز بكونها" تابعة ومنقادة ومتكيفة" وهي ثقافة الفئات‬
‫االجتماعية األكثر هشاشة واألقل حظا وبوجودها في معادل ة هيمن ة‪ ،‬تمي ل إلى التكي ف واالن دماج فيس هل‬
‫على الثقافات المهيمنة احتوائها وإعادة توجيهها وحتى استغاللها‪ .‬وهي ضمن هذا السياق حسب قول دنيس‬
‫كوش أقرب إلى تطوير طرائق للتالؤم‪ ،‬منها الستراتيجيات مقاومة‪ .‬وتك ون اس تجابتها في ص يغ اله روب‬
‫والتكيف والمواربة والتماهي والوالء التلقائي للفئات المسيطرة‪ 161.‬ويصل بها األمر حد تبرير ذلك وتلبيسه‬
‫للبنى الخصوصية القائم ة معنوي ا‪ .‬ف إدارات المهرجان ات المحلي ة والجهوي ة‪ ،‬مثال‪ ،‬تس ند في الغ الب على‬
‫أساس الوجاهة والتوازنات المحلي ة‪ .‬وأحيان ا بالتن اوب بين ممثلي المجموع ات المتنافس ة تجنب ا للت وترات‬
‫وعلى ش اكلتها الجماع ات المحلي ة وح تى الجمعي ات الرياض ية‪ .‬إذ يتم يز التص رف في الش أن المحلي‬
‫بوضعية "البين بين" بمعنى أنه ال يقطع مع البنى التقليدية والخصائص الثقافية المحلي ة بم ا ييس ر ت دجينها‬
‫من قبل المجموعات المهيمنة ويعبر عن طرائق للتالؤم الس الف ال ذكر ك أن تس تزرع فوقه ا أنم اط جدي دة‬
‫ويتم توجيهه ا من خالله ا واس تغاللها للتغلغ ل في المجتم ع المحلي ع بر تعبيرات ه الثقافي ة وق د تغ يرت‬
‫مضامينها وتم احتوائها وتدجينها كأن تتحول "الزردة" مهرجانا واألديب في المغنى الشعبي عكاظيا يسوق‬
‫لسياسات ورموز ال عالقة لها بهذا النمط من التعبير الفني الشعبي‪.‬‬

‫ويحيلن ا ه ذا إلى الطوبولوجي ا االجتماعي ة لبي ار بوردي و وال تي تكش ف التم ايز الق وي للفض اء‬
‫االجتماعي الحديث والمعبر عن اندماج عوالم صغرى مستقلة‪ 162.‬وم ا يحكم ه من منط ق الحق ل وتراتبي ة‬
‫المنافع حيث يعتبر أن تمييز المواضيع المالئمة القائمة تعمل كخلفية لممارسة الفاعلين فهي تشكل المضمر‬
‫في كل أعمالهم وفي كل الصراعات وعدم االتف اق‪ .‬فه و ج دل مع بر إذن عن ص راع اجتم اعي وإن ك ان‬
‫مضمرا وعن استراتيجيات إلدارته ال يحتكرها أي طرف وإن اختلفت طرق التعبير والتعاطي‪.‬‬

‫تت نزل فرض يتنا في س ياق الت دبير المحلي للش أن الثق افي لنس اءل الواق ع ح ول الحاج ة إلى الفع ل‬
‫الجماعي لضمان نجاعة مشروع التنمية الثقافية المحلية وحاجة هذا الفعل ألن يكون في معنى الديمقراطي ة‬
‫أو في معنى الدمقرطة لبلوغ المقصد‪.‬‬

‫إن تناول الحوكمة المحلي ة للش أن الع ام بم ا في ه الش أن الثق افي ال تكتم ل إال ب الخوض في المس ألة‬
‫التاريخية لتحوالت الهويات المحلية المرتبطة بالمجال والعالق ة بالدول ة والس لطة أي بم ا هي ش كل ثق افي‬
‫للعالقات االجتماعية وصيغ جمالية للتعبير عنها وعم ا يعتريه ا من تغ ير في الممارس ات والتمثالت‪ .‬وق د‬
‫سلف أن بينا أن المجال الريفي بمقدراته االقتصادية والبشرية وبرص ده الثقافي ة المادي ة والالمادي ة اعت بر‬
‫عمق ا ومعين ا للدول ة المركزي ة ومجتم ع الحواض ر والمثقفين الرس ميين‪ .‬حيث اس تغل أو اس تثمر ك ل من‬

‫‪ . 161‬نفس المرجع‪ ،‬ص ‪.126‬‬


‫‪ . 162‬ستيفان شوفالييه وكريستيلن شوفيري‪ ،‬معجم بورديو‪ ،‬ترجمة الزهرة إبراهيم‪ ،‬دار الجزائر للنشر‪ ،2013 ،‬ص ‪.147‬‬
‫‪76‬‬
‫هؤالء بحسب حاجته وموقعه هذه الرصد‪ .‬وقد أثرت ه ذه الوض عيات على طبيع ة تمث ل الريف يين لثق افتهم‬
‫وكيفيات استثمار رأسمالهم الرمزي باعتبار تغير سياقات وجودهم‪ .‬وأساسا كيفيات التنظم حسب الس ياقات‬
‫الجديدة لتدارك الحيف الذي لحقهم في السابق‪.‬‬

‫الديمقراطية التشاركية وحوكمة الشأن المحلي‪ :‬حدود اإلمكان‬

‫تقتضي المشاركة في حوكمة الش أن المحلي تربي ة وتعلم ا ودرب ة فهي اكتس اب لش روط المواطن ة‪.‬‬
‫وتق ديرنا أن المجتمع ات المحلي ة الريفي ة تحت اج بش كل ملح لدمقرط ة ه ذه الكفاي ات ح تى تك ون مؤهل ة‬
‫لالضطالع بدور الفاعل المستنير وتفرز نخبها وتدافع عن رؤاها ومصالحها خارج دائرة االحتج اج العقيم‬
‫أو الوقوع في شرك التعبئة الحزبية حيث تترك زمام المبادرة م رة أخ رى لف اعلين ال يحمل ون بالض رورة‬
‫مشروعها فال يكونون محور العمل التنموي ومؤداه‪.‬‬

‫أما كيفية تحقق دمقرطة مقومات المواطنة فإن مالحظة تراكم وتنوع الممارسة في السنوات األخيرة‬
‫يبين األهمية الحيوية للمجتم ع الم دني في التربي ة على المواطن ة والت دريب على الديمقراطي ة التش اركية‪.‬‬
‫فتضاعف عدد الجمعيات وانتشارها في ك ل الجه ات واالنخ راط الط وعي لألف راد فيه ا يؤهله ا ألن تق وم‬
‫بتكوين الموارد البشرية المحلية لمشروع الحوكمة المحلي ة واالض طالع بالفع ل ض من تمش ي ديمق راطي‬
‫تشاركي‪ .‬غير أن هذا ال يجب أن يحجب عنا ما يح ف به ا من مخ اطر التموي ل غ ير الواض ح األغ راض‬
‫واالنتماء المبطن لألحزاب السياسية‪.‬‬

‫إن الديمقراطي ة التش اركية أو الحوكم ة المجالي ة تقتض ي االش تراك بين الجه از الرس مي للدول ة‬
‫والفاعل المحلي في إطار التشاور والتكامل لوضع خطط وبرامج خاصة للتنمية المحلية تأخذ الخصوصي‬
‫بعين االعتبار وتكون مندمجة في التنمية الشاملة والمستدامة التي ترنو إلى تحقيق المس اواة وج ودة الحي اة‬
‫والمحافظة على حق األجيال القادمة في محيطها‪.‬‬

‫وبالنظر إلى المشاريع الثقافية في بعدها المحلي والريفي فإنها وخالف ا لقطاع ات أخ رى لم تخ ل من‬
‫مبادرات تستثمر الخصائص والرصد الثقافية المحلية والتقليدية لخلق ح راك ثق افي كالمهرجان ات المحلي ة‬
‫الكثيرة والمتنوعة التي تقوم على قاعدة احتفاالت تقليدية محلي ة أو خاص ية ثقافي ة أو بيئي ة‪ .‬وك ذلك األم ر‬
‫بالنسبة للمجموعات الفنية التراثية والتي هي بمثاب ة المش اريع الص غرى ألص حابها ولكنه ا في اآلن نفس ه‬
‫مشروع ثقافي محلي يساهم في المحافظة على التراث واستثمار ثقافي بقيمة مضافة‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫هكذا يبدو دور المحليين في فعل التنمية الثقافية هاما ويستحق النقد والتقييم ولكن ما يبقى مح ل ش ك‬
‫هو دور الفاعل المركزي الرسمي الذي يكتفي باإلشراف اإلداري الرسمي والتوظيف السياس ي‪ .‬إن ه غالب ا‬
‫ما يتفصى مما يحمل عليه لترسيخ هذه المبادرات والمشاريع‪ ،‬والذي يتمثل في حقها في التموي ل العم ومي‬
‫الذي تلفه الضبابية وغياب المقاييس واالستراتيجيا‪ .‬إضافة إلى ما يحسه الفاعلون المحليون من غبن ج راء‬
‫المقارن ة بين حظ وظهم ومثيالته ا لس كان الحواض ر‪ .‬فض حالة البني ة التحتي ة للعم ل الثق افي في الجه ات‬
‫الداخلية وتخصيصا في المناطق الريفية تحول دون إثراء الحياة الثقافية فيها وتفعيل حق األفراد في الثقاف ة‬
‫والترفيه والذي هو أحد حقوق اإلنسان األساسية حيث نعتق د أن تض افره م ع واجب حماي ة التن وع الثق افي‬
‫وتنمية الثقافات المحلية الذي أقرته المنظمة األممية من شأنه أن يمثل رافعة لتنمي ة ثقافي ة محلي ة مس تديمة‬
‫قوامها الديمقراطية التشاركية‪.‬‬

‫ولعله من الالفت أن يبدو مسار المقاربة محكوم بالعود إلى مربع البدء أي اختزال صيرورة التحول‬
‫ومالحظة ترسب البنى البالية في قاعدة أفعالنا ال تي ت دعي الحداث ة‪ .‬فال زالت مقول ة الم واطن الف رد وه و‬
‫قوام العملية الديمقراطية شعارا يصعب تحويله إلى ثقافة ممارسة‪ ،‬في حين ت برز أح داث اجتماعي ة كث يرة‬
‫أن هذه البنى أو ترسباتها الثقافي ة فين ا ال زالت فاعل ة ومعيق ة للتح ول الثق افي المؤم ل واألمثل ة على ذل ك‬
‫كثيرة لعل منها ما نسجله من حل مسائل إجرائية قانونية متعلقة باالنت داب في وظ ائف عمومي ة أو برمج ة‬
‫إلنجاز مرافق‪ ...‬تحل على قاعدة موازين القوة بين المجموعات المحلية بتزكية أو تسليم من الدول ة وتحت‬
‫شعارات الحق والديمقراطية وتكافؤ الفرص‪.‬‬

‫ته دف التنمي ة الثقافي ة إلى بن اء الف رد الم واطن في ك ل أبع اده وتأهيل ه ليض طلع ب دوره في تنمي ة‬
‫المجتمع في سياق جدلي‪ .‬غير أن تراكم وتعقد مالبساتها تعسر والدة هذا األم ل وإن ك انت ال تمنع ه‪ .‬ومن‬
‫الالفت لالنتباه أن نصل في نهاية التحليل إلى إعادة ط رح اإلش كالية بص ورة مغ ايرة تأخ ذ بع دا مفاهيمي ا‬
‫صرفا تقريبا‪ .‬فالتحليل السالف يحيلنا إلى التساؤل عن العالقة بين "التنمية الثقافية "و"ثقافة التنمية" خاصة‬
‫مع تقدم المقاربات التنموية في الربط بين حدي هذه المعادلة أي بين الثقافة والتنمية في معناه ا االقتص ادي‬
‫وتحيل إلى تحدي منهجي يتعلق بصعوبة وضع مؤشرات ثقافية لقياس التنمية وتكميمه ا ولع ل ه ذا من أهم‬
‫عوامل استبعادها أحيانا في مقاربة عمليات التنمية‪.‬‬

‫قائمة المراجع‪:‬‬

‫األب باسم الراعي‪" ،‬المجتمع والدولة‪ :‬أشكالها وتحوالتها"‪ ،‬بيروت‪ ،‬دار الفارابي‪.2011 ،‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪78‬‬
‫ستيفان شوفالييه وكريستيلن شوفيري‪" ،‬معجم بورديو"‪ ،‬ترجمة الزهرة إبراهيم‪ ،‬دار الجزائر للنشر‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪.2013‬‬
‫جاكوبي راسل‪" ،‬نهاية اليوتوبيا‪ :‬السياسة والثقافة في زمن الالمباالت"‪ ،‬ترجمة فاروق عبد القادر‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫الكويت‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب‪.2001 ،‬‬
‫رشيد الحاج صالح‪" ،‬الوجه السياسي للثقافة العربية المعاصرة"‪ ،‬الدار العربية للعلوم ناشرون‪،‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪.2012‬‬
‫دنيش كوش‪" ،‬مفهوم الثقافة في العلوم االجتماعية"‪ ،‬ترجمة منير السعيداني‪ ،‬المؤسسة العربية‬ ‫‪-‬‬
‫للترجمة‪.‬‬
‫صن أمارتيا (جائزة نوبل لالقتصاد)‪" ،‬التنمية حرية"‪ ،‬ترجمة شوقي جالل‪ ،‬المجلس الوطني للثقافة‬ ‫‪-‬‬
‫والفنون‪ ،‬الكويت‪.2004 ،‬‬

‫‪79‬‬
‫رموز تتالقح وشعوب تتفاعل وتتماهى‬

‫د‪ .‬عرفات جبلون‪ ،‬جامعة قابس‪ ،‬تونس‬

‫تتن ّزل هذه المداخل ة ض من إش كالية " الث ورة‪ ،‬الثقاف ة البديل ة والديمقراطي ة " المقترح ة من بين‬
‫إشكاليات المؤتمر الدولي " الديمقراطية والثقافة بين الممارس ات ونق دها "‪ ،‬وذل ك فيم ا يخص ح وض‬
‫البحر البيض المتوسط‪ .‬وينبني ح وار الحض ارات في ه ذه المنطق ة على م دى ت أثُّر ال ذاكرة الجماعيّ ة‬
‫بالموروث السسيوثقافي والجيوسياسي‪ ،‬فينفرد المتوسِّط بعراقة بعده التّثاقفي و تماهي مراجع ه العلميّ ة‬
‫والسياسيّة والثقافيّة وببروز رموز نضاليّة تَأثَّرت ببعضها وأثَّرت في تاريخ اإلنس انيّة‪ .‬لكن ه ذا التف رّد‬
‫ال يلغي التّباعد في المواقف السِّياسيّة لل دول ال تي تُ ْب نى على المص الح االقتص ادية؛ إذ تس تبطن طيّات ه‬
‫الحياكة العموديّة للمواثي ق ال ُّدولي ة ال تي تتع ّم ُد الت ُّ‬
‫دخل في السياس ات البديل ة دون مراع اة الخص ائص‬
‫االجتماعية والثقافية واالقتصادية للدول الناشئة‪.‬‬

‫المتوس طية مقارب ات تتبنّى مفه وم‬


‫ِّ‬ ‫فُ رض به ذا التق ارب والتالقح والتباع د بين ثقاف ات ال ّدول‬
‫"تأهيل اآلخر" لضمان وحدة اجتماعية متجانسة وديانات متعايشة وثقافات متفاعل ة يمكن توجيهه ا عن‬
‫بعد‪ .‬وبتبنِّي هذا المفهوم‪ ،‬أصبحنا نتح ّدث عن ديمقراطيات عريقة أو قديم ة كنم وذج لص ياغة مش روع‬
‫مجتمع متحضِّر وأخرى ناشئة قابلة للتأهيل‪.‬‬

‫أصبحنا نستبصر المعنى الحقيقي لكلمة "الديمقراطية"‪ ،‬فنستحض ر التجرب ة الديمقراطي ة ألثين ا‬
‫المدينة الدولة سنة ‪ 508‬ق‪.‬م ونناقش الحكمة وراء رضاء األقليّ ة بحكم األغلبي ة ونس تدرك مقارن ة م ع‬
‫الثّورة الفرنسية وما أفرزته من جمهوريات متواترة‪ ،‬لنحطَّ الرِّ حال أخ يرا بين أغص ان ث ورات الربي ع‬
‫العربي وما أفرزته من استراتيجيات بديلة‪ ،‬سياس ية ك انت أو اقتص ادية أو ثقافي ة‪ّ ،‬‬
‫ظن مبتكروه ا ذوي‬
‫التجربة السّياسيّة المحدودة زمنيًّا أن فاعليتها تستوجب اقتباس تجارب عريقة أو تحويرها جزئيًّا بم ا أن‬
‫‪80‬‬
‫ضغط الشارع ال يترك مكانا لمخطَّط ات بعي دة الم دى‪ ،‬فاص طدموا بالتش ابك الثق افي للمجتم ع وبتثبّت ه‬
‫ضرة ونزوعه إلى الحريّة والمثاليّة‪ ،‬فكان ّ‬
‫الش ارع مس رحا لتف اعالت ثقافيّ ة واجتماعي ة‬ ‫بالنماذج المتح ِّ‬
‫وسياسيّة تأثرت بالتيّارات تحرّرية للثقافات األخرى‪.‬‬

‫ويطرح هذا الموض وع اإلش كالية التالي ة‪ :‬حض ور الثقاف ات وتأثيره ا على الفن والمجتم ع زمن‬
‫االنتق ال ال ديمقراطي‪ .‬وتتف رع ه ذه اإلش كالية إلى األس ئلة التالي ة‪ :‬م ا م دى اس تنطاق رم وز ال ذاكرة‬
‫الحضاريّة فترة الثورات؟ ما هي الجدلية القائمة بين الثقافة الشعبّية والثقافة النخبويّة؟ هل يكرِّ س مفهوم‬
‫"التأهيل" بعد الثورة مبدأ "استنساخ تجرب ة اآلخ ر" ويبقي على التبعيّ ة أو ي دعم التالقح والتث اقف بين‬
‫الشعوب؟ هل تكون الثقافة عند الديمقراطيّات الناشئة إمال ًء نموذجيّا أو بنا ًء لقيم ترقى باإلنسان؟‬

‫رموز الذاكرة الحضاريّة فترة الثورات‪:‬‬

‫ولَّدت الثورات عبر التاريخ نماذج ورموز ومرجعيّات توارثته ا األجي ال وانطبعت في ال ذاكرة‬
‫الجماعيّة‪ .‬فمن األسطورة إلى الواقع‪ ،‬بقيت الم رأة مثال رم زا للحرّي ة واالنعت اق‪ .‬ه ذا م ا ي ّ‬
‫ُفس ر‪ ،‬على‬
‫سبيل المثال‪ ،‬استحضار الفنّ ان الفرنس ي "أوجين دوالك روا" ل ذكرى انتص ار "س اموثراس" اليونانيّ ة‬
‫و"ماريان" آلهة الحرية عند الرومان القدامى في لوحته "الحريّة ُموجِّهه للش عب" ال تي ّ‬
‫جس دت الث ورة‬
‫الفرنسية الثانية‪ ،‬فكانت المرأة رمزا للحريّة‪.‬‬

‫وكما يقول الكاتب زكريّ ا إب راهيم " اإلنس ان ه و الموج ود ال ّزم اني"‪ ،163‬ورم وز الحاض ر هي‬
‫ّ‬
‫المتوس ط‪ ،‬ق اومت االس تعمار‬ ‫امتداد لرموز الماضي‪ ،‬تستحضر ّ‬
‫الذاكرة رم وز نس ائيّة ُول دت من رحم‬
‫وتاقت إلى التحّرر من الرّجعيّة‪ .‬ففي التاريخ الحديث للوطن الع ربي‪ ،‬ن ذكر الفدائيّ ة الجزائريّ ة فض يلة‬
‫س عدان والناش طة س عيدة منبحي في الحرك ة المغربيّ ة "إلى األم ام"‪ ،‬الماركس يّة اللينينيّ ة‪ ،‬والناش طة‬
‫المصريّة هدى ش عراوي ال تي ك انت من رواد الحرك ة النس ائية المص رية والعربي ة‪ .‬في ت ونس ن ذكر‬
‫المناضلة والنّاشطة السّياسيّة راضية الح ّداد ومنوبيّة الورتاني‪ ،‬أوّل ام رأة تونس ية تج رّأت على كش ف‬
‫النقاب سنة ‪ ،1924‬وحبيبة المنش اري ال تي أدانت تع ّدد ال ّزوج ات أفي اجتم اع ش عبي بالعاص مة س نة‬
‫‪ ،1929‬وص وال إلى نس اء ت ونس زمن ث ورة الحريّ ة والكرام ة الالتي ن ذكر منهن المناض لة أم زي اد‬
‫والمغنّية آمال المثلوثي والمدونة ألفة الرياحي‪ ،‬وأخريات أثّرن على إيمان المجتمع بقيمة "حرية التعبير‬
‫والفكر والمعتقد"‪.‬‬

‫‪ . 163‬زكريّا إبراهيم‪" ،‬مشكلة الحياة"‪ ،‬سلسلة مشكالت فلسفيّة‪ ،‬مكتبة مصر‪.1970 ،‬‬
‫‪81‬‬
‫الجدلية القائمة بين الثقافة الشعبّية والثقافة النخبويّة‪:‬‬

‫بعد ثورات الربيع الع ربي‪ ،‬أوج د االنتق ال من دمقرط ة الثقاف ة إلى الديمقراطي ة الثقافي ة فض ا ًء‬
‫لتنوع الثقافات وتفردها‪ .‬كما كرّس هذا الفضاء مبدأ المحليّة‪ ،‬فاستفاقت لغته وتفاعلت م ع ثقاف ة م ا بع د‬
‫الثورة بغية إرساء ثقافة بديلة‪ .‬فأصبحنا نشهد ثقاف ات تُحي ا من جدي د على محام ل معاص رة‪ ،‬كالجرائ د‬
‫اإللكترونية المكتوبة باللغ ة األمازيغيّة‪ ،‬وحرك ات مذهبيّ ة وس طيّة وأخ رى متش دِّدة‪ ،‬وع ادات وتقالي د‬
‫مدفونة تُشرَّع من جديد داخل أقليات مجتمعة تحت راية التّف رُّ د‪ ،‬فتنع ِزل عن البع د ال ديمقراطي للثقاف ة‬
‫الذي أوجدها وعن الهويّة الجماعيّة التي صقلت لعق ود ثقاف ات تقليديّ ة متعايش ة‪" ،‬فيف رغ مع نى الفِ ْع ل‬
‫الثّقاف ّي التّقليديّ‪ ،‬كما يقول ال دكتور ج وهر الجموس ي‪ ،‬في ظ ّل تَفتُّت الهُويّ ات االجتماعيّ ة‪ ،‬وانس حاب‬
‫األفراد إلى هُويّاتهم"‪ .164‬فال ينبِّئ هذا الفكر المرت ِّد عن فضائِه إال بانفصاالت ثقافيّة قد تمت ُّد إلى أخ رى‬
‫سياسيّة‪ ،‬إقليميّة‪ ،‬فنشهد إعادة تشكيل الخارطة الجغرافية لل دول ذات ال ديمقراطيات الناش ئة تحت راي ة‬
‫''حريّ ة األقليّ ة في تقري ر مص يرها'' أو ن واكب نم وذج ثق افي ديمق راطي ينبؤ بنفس ه عن التّط احن‬
‫ويؤس س لخارط ة هويّاتي ة متفاعل ة ومتالقح ة‬
‫ِّ‬ ‫واإلمالءات النموذجية الفوقية‪ ،‬ويش ِّكل ن واةً للح وار‪،‬‬
‫وممتدة في الزمان والمكان‪.‬‬

‫اوجد التقارب الثقافي واللغوي والديني في المتوسِّط فضا ًء تشاركيا امتد من جغرافيا األرض إلى‬
‫والمنوعات التلفزيّة‪ ،‬فأصبحنا نتعاطف ونتماهى م ع ثقاف ات أخ رى ونس توعب تقالي د‬
‫ِّ‬ ‫جغرافيا اإلعالم‬
‫دون إدراك مصادرها ونتشارك في طمس أخالقيات بَن ْ‬
‫َت لفترة طويلة العرف الجماع ّي‪ .‬وأ ّدى بنا الحال‬
‫إلى تقبُّل موض وع االستنس اخ المتك رِّر ألعم ال فني ة وب رامج ُّ‬
‫تبث على الفض ائيّات ويتن ّك ر أص حابها‬
‫لحقوق التأليف علنًا‪.‬‬

‫ل ذلك تبنّت الديمقراطي ة الثقافي ة فلس فة جدي دة للثقاف ة ال تي ترتك ز على "التوعي ة" و"التأهي ل"‬
‫و"التّث اقف"‪ ،‬وه دفها جع ل حري ة التعب ير ممكن ة من قب ل الش عوب لتتح رّر من ال داخل فتنس حب من‬
‫المواقف الرمادية التي تترجم التبعية الفكرية والسياسية لثقافات مج اورة ال مح اورة‪ .‬وأمكنه ا ذل ك من‬
‫امتصاص صفة النخبوية من الثقافة وإن كان نس بيًّا‪ .‬فت واتر العملي ات االنتخابي ة في ت ونس مثال أمكنت‬
‫المواطن الناخب‪ ،‬كمتدخل مباشر في السياسة الثقافية للدولة‪ ،‬من تنسيب النخبوية وف رض تقالي د جدي دة‬
‫باستقطاب تعابير فنية من حياة الشارع تستبطن رموزا تترجم حياة مجتمع باهتمامات ه وتناقض اته‪ .‬وق د‬
‫ُوصف بالنموذج مقارنةً بمجتمعات مجاورة مازالت تتخبّط في حوار إيديولوجي تبيّن عقمه‪.‬‬
‫‪ . 164‬د‪ .‬ج وهر الج ّموس ي‪" ،‬الاله ُِويَّةُ والالق انون في الع الم االفتراض ي"‪[ ،‬وثيق ة إليكترونيّ ة]‪ ،‬ت اريخ اإلطِّالع [‪20‬م ارس‬
‫‪ ]2015‬على الرابط ‪/https://carjj.org/sites/default/files/events‬‬
‫‪82‬‬
‫الثقافة عند الديمقراطيّات الناشئة‪ :‬إمالء وبناء‪:‬‬

‫ال ننكر أن مبدأ التشارك في المحتويات أضفى إيجابيّات في المش هد الف ني واإلعالمي‪ ،‬فأض حى‬
‫فن ّ‬
‫الش ارع مقطوع ة موس يقية يتغنّى به ا الجمي ع‪ ،‬ف امتزجت س ينوغرافيا المق اهي وموس يقى ال رّاب‬
‫وج داريَّات فن الش ارع‪ ،‬وك وّنت ه ذه الحرك ات الفنيّ ة ثقاف ة ش عبية متكامل ة‪ .‬وبتض اعف متتبِّعيه ا‬
‫اعي واحتالله ا مكان ا داخ ل المنظوم ة الثقافي ة‪ ،‬تذب ذبت‬
‫وجمهورها وبِتأثيرها على الفكر والذوق الجم ِ‬
‫السياس ات الثقافي ة ذات التص ُّور النخب وي للثقاف ة‪ .‬ويتع اظم أث ر التّش بيك والتّش ارك في المحتوي ات‬
‫والمضامين مع تنامي استخدامات مواقع التّواصل االجتماعي واالستنكار العل ني لحق وق المؤلّ ف حتّى‬
‫تغيّرت معايير تقييم األعمال الفنية‪ ،‬وخاصة األغاني‪ ،‬فيقاس نجاحه ا بع دد متتبِّعيه ا على "اليوت وب"ن‬
‫على عكس الموسيقى التقليدية التي عجزت عن ترجمة النَّفَس الثوري وتحريك التعبئة الش عبية وت ركت‬
‫مكانها لموسيقى "الرَّاب" التي تمثّل الطاقة و العاطفة والحركة‪ ،‬وهو شكل من أش كال التعب ير المباش ر‬
‫عن مجتم ع ق ابع تحت قم ع النظ ام والفس اد والبطال ة‪ ،‬فك ان من األدوات األساس يّة إلس قاط األنظم ة‬
‫الدكتاتوريّة‪.‬‬

‫وتعتبر السياسة واألخالق والدين والثقافة والتقاليد واألوضاع االجتماعية المادة األساس يّة لمغنّي‬
‫الرّاب و ّ‬
‫لرس امي الجرافي تي‪ .‬فاعتم دت بعض حرك ات الرس م الجرافي تي مث ل حرك ة "زواوال" على‬
‫ش عارات مث ل‪" :‬ح ق التعب ير واجب‪ ،‬ح ق ال زواّلي واجب" أو "ال علم اني ال إس المي ثورتن ا ث ورة‬
‫مؤس س الحرك ة‪" :‬لق د جعلن ا ه ذه الحرك ة من الكتاب ة‬
‫ِّ‬ ‫زوّالي" أو "الشعب يريد حق الزوّلي"‪ .‬ويقول‬
‫على الجدران ألن ال أحد يتحدث عنا‪ ،‬مشاكلنا من البطالة والفقر والتهميش‪ .‬لذلك قررنا أن نتح دث عن‬
‫أنفسنا‪ .‬لماذا الكتاب ة على الج دران؟ ألن الكتاب ة على الج دران هي أك ثر س هولة للتونس يين ال ذين ليس‬
‫لديهم الفيسبوك‪ ،‬على سبيل المثال"‪ .165‬رسّامي الجرافيتي مثل "مين وان" وكيم فاجو" و "س يكا وان"‬
‫امتهنوا الرسم وأتقنوا الخ طّ الع ربي والالّتي ني‪ ،‬فتمكن وا ع بر جمالي ة ج دارياتهم وم واقفهم ّ‬
‫الص ادمة‬
‫ومواضيعهم الحسّاسة من اكتساح الفضاء العام وإعادة تأثيثه‪.‬‬

‫وال تلغي فاعليّة الرسم الجرافيتي في استعطاف المجتمع بعض "االنحرافات" التي تنص رف إلى‬
‫رسائل عنصريّة وأخرى محرِّض ة على الكراهيّ ة‪ .‬وتس تبطن بعض الت دوينات المرافق ة لج داريّات فن‬
‫الجرافيتي اس تعارات ومواق ف تعكس النفس الثّ وري‪ .‬وه ذا م ا يتجلّى في تدوين ة ال ُم ِّ‬
‫دون الص ادق بن‬

‫مؤس س حرك ة ال زواوال‪ ،‬ث ورة القرافي تي‪[ ،‬وثيق ة إليكترونيّ ة]‪ ،‬ت اريخ التدوين ة [‪ 27‬م ارس ‪ ،]2013‬ت اريخ‬
‫ّ‬ ‫‪ . 165‬أسامة‪،‬‬
‫اإلطِّالع [‪ 17‬فيف ري ‪ ]2015‬الرابط ‪http://coutoentrelesdents.over-blog.net/article-tunisie-zwewla-le-graffiti-se-‬‬
‫‪revolte-116575236.html‬‬
‫‪83‬‬
‫ّ‬
‫"لتكن مختلف ات‪ :‬لون ا ورائح ة وش كال‪ ...‬وليس ر الن اس‪ ،‬الش باب الغاض بون‪،‬‬ ‫مهنِّي ال تي يق ول فيه ا‬
‫الثائرون‪ ،‬المنافحون لقدرهم على دربهم قبل ‪ 14‬جانفي ‪ 2011‬بأشهر‪ ،‬بل ب أعوام‪ ،‬و لينتش روا ألوان ا‪،‬‬
‫قصائدن شعرا‪ ،‬أغاني‪ ،‬رسوما‪ ،‬هتافات‪ ،‬تناديا‪ ،‬مسرحيات‪ ،‬غزال ال يخشى الهواء ‪ ،‬أفالما تهتك الس تر‬
‫‪ ...‬وليرسم الرسامون وغير الرسامين على المحامل التي ألفناها وعلى محامل يبتدعونها‪ ،‬يفت ّكونه ا‪،‬‬
‫يحرّرونها‪ ،‬و ال يكترثون وهم يج ّملونها بغضبهم‪ ،‬آمالهم‪ ،‬تعريتهم"‪.166‬‬

‫كما كانت موس يقى ال رَّاب‪ ،‬دائم ا‪ ،‬موض وعا مث يرا للج دل عن د الص حفيّين والمف ِّكرين وعلم اء‬
‫االجتم اع‪ ،‬فتح َّولت من ظ اهرة ش بابيّة أمريكيّ ة إلى ثقاف ة اكتس حت من ذ أوائ ل التِّس عينات من الق رن‬
‫العشرين البلدان األوروبية‪ .‬ونذكر مغنيي ال رَّاب الفرنس يّين مث ل "دي امس" و"س فينكلس" واإليط اليّين‬
‫المتوس ط‬
‫ِّ‬ ‫"كمرّاكاش" و"فابري فابرا" الذين مثَّلوا حريّة التعبير بأشكالها المتع دِّدة‪ ،‬ثم كام ل الح وض‬
‫عن طريق وسائل التواصل اإلجتماعي‪ ،‬وهذا ما أهدى لمغنّي الرّاب التونس يّين مث ل "دي دجي كوس تا"‬
‫و"الجينرال" و"كركدن" و"بلطي" أدوات تعبيرّية تفاعلوا معها دون استنساخها‪ ،‬ف امتزجت ّ‬
‫الش عارات‬
‫المنادية بحريّة السّفر و التنقّل بين الدول و تدارك أزمات الهجرة السريّة ال تي تعكس سياس ات التهميش‬
‫الممنهج و ُكتبت بك ل اللغ ات؛ اإلنقليزيّ ة والفرنس يّة واإليطاليّ ة والعربيّ ة وتواص لت األفك ار وتالقحت‬
‫رؤى شعوب أيقنت أخيرا ّ‬
‫أن الوعي بقيمة "حرية التعبير والفكر و المعتق د" ال يمكن استنس اخه‪ ،‬وإنم ا‬
‫ُّ‬
‫تلتف وراء الهويّة الجماعيّة واستبص ار مخرجات ه في‬ ‫استنطاق أدواته التعبيرية و تركيز مدخالته التي‬
‫المشهد االجتماع ّي‪.‬‬

‫قائمة المراجع‪:‬‬

‫زكريّا إبراهيم‪ ،‬مشكلة الحياة‪ ،‬سلسلة مشكالت فلسفيّة‪ ،‬مكتبة مصر‪1970 ،‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪- DURKHEIM Emile, L’éducation Morale, 4ème leçon, Paris, Edition‬‬
‫‪P.U.F, 2012.‬‬
‫‪- Karim Bouzouita, « L’inderground tunisien fait son chemin », GPLC, 11‬‬
‫‪Mars 2006.‬‬
‫‪- Monia Ghanmi, « Retour sur scène pour les rappeurs tunisiens‬‬
‫‪interdits », Magharebia, 8 février 2011.‬‬

‫‪ . 166‬الصادق بن مهنِّي‪ ،‬الحرية ل"زواولة" و لك ّل المبدعين و لجميع المعبّ رين! [وثيق ة إليكترونيّ ة]‪ ،‬ت اريخ اإلطِّالع [‪13‬‬
‫فيفري ‪ ]2015‬الرابط ‪http://atunisiangirl.blogspot.com/2012/11/blog-post_21.htm l‬‬
‫‪84‬‬
- Neil Curry, « Tunisia's rappers provide soundtrack to a revolution », CNN, 2
mars 2011.
- Souad Bakalti, La femme tunisienne au temps de la colonisation française,
1881-1956, Edition l’Harmattan, Collection Histoires et perspectives
méditerranéennes, 2000.
- Thameur Mekki, « Tunisie : Les rappeurs ont-ils (vraiment) participé à la
Révolution ? », Tekiano, 30 juin 2011.
- Thomas Blondeau, « En Tunisie, le rap rythme la révolution », Les Inrocks,
24 janvier 2011.

85
86
‫ملحق أنشطة الدورة الثانية من‬
‫"المهرجان الدولي للفن والشمال والمدينة"‬
‫بالشمال الغربي‬

‫‪87‬‬
‫‪ -1‬لماذا هذا االمتداد اإلقليمي للمهرجان؟‬

‫لم يكن مبدأ توسعة الرقعة الجغرافية للمهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة‪ ،‬ليشمل كامل والي ات‬
‫الشمال الغربي باألمر العرضي أو الطارئ‪ ،‬ب ل اتى نتيج ة طبيعي ة للتف اعالت الحيوي ة ال تي س جلناها في‬
‫دورته االولى بين الطلبة والشباب والطفال والمواطنين وضيوف المهرجان المبدعين بوالية سليانة‪.‬‬

‫إن آهلي هذه األرجاء الغربية من بالدنا التونسية متعطشون عض ويا للثقاف ة‪ ،‬تعطش هم لرغ د العيش‬
‫الكريم‪ .‬وما توافدهم الغفير على فعاليات المهرجان في دورته االولى إال تعبيرا ص ادقا وص ارخا عن ه ذه‬
‫الحاجة الماسة والملحة للتنمية الثقافي ة الج ادة والملتزم ة بقض ايا التنش ئة الس ليمة ألجيالن ا الص اعدة ح تى‬
‫نتمكن من تحصينهم من كبوات الزمن الغادر‪ .‬وكلنا يعلم اليوم بأنن ا لم نع د ن ربي طلبتن ا وش بابنا واطفالن ا‬
‫بمفردنا‪ .‬بل غدت العدي د من األط راف األجنبي ة األخ رى متدخل ة فيه ا دون اس تئذان مس بق‪ .‬فه ل س نظل‬
‫مكتوفي االيادي كمربين وأولياء وف اعلين في الش أن الثق افي أم ام ه ذه الظ اهرة االس تالبية؟ ه ل س نمكث‬
‫مراقبين في صمت لهجرة أبنائنا التدريجية للمواقع األصيلة في ثقافتهم؟ ما الذي ق دمناه ترياق ا لهم إزاء كم‬
‫الصور االعالمية النافذة في مجالهم الحي وي؟ على أي ش كل سيص قل عقلهم ومخي الهم إذا م ا نحن توانين ا‬
‫عن تقديم البديل عن هذا ال زخم المبث وث من ك ل ح دب وص وب؛ إذا م ا نحن تركن ا المج ال واس عا له ذه‬
‫الصور الرمادية حتى تعصف على هواها بعقولهم وأرواحهم؟‬

‫ولكي نعيد نظارة األلوان لعيون هذا الشباب حتى تتوائم ثقافيا رؤيته لواقعه برُؤي اه لموقع ه من ه من‬
‫خالل تفعيل حساسيته المرهفة واالحاطة بها‪ ،‬ارتأينا في هذه الدورة الثانية أن نوسع في مج ال ت دخلنا ليعم‬
‫المهرجان واليات الكاف وجندوبة وباجة وسليانة‪ ...‬مهده األول‪.‬‬

‫ولم يتيسر لنا هذا األمر إال ع بر القناع ة الجازم ة ل وزارة التعليم الع الي والبحث العلمي ب أن طلب ة‬
‫اليوم كانوا أطفاال باألمس وبأن االستثمار الثقافي في كليهما هو ضمان لجودة المردودية العلمية واالبداعية‬
‫لمواطن الغ د‪ .‬ولم ت تردد وزارتن ا للحظ ة واح دة على مس اعدتنا ودعمن ا لتحقي ق ه ذا االمت داد الجغ رافي‬
‫"للمهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة" على واليات الش مال الغ ربي األربع ة‪ .‬ولم يتيس ر له ا ذل ك إال‬
‫عبر إيمان ديوان الخدمات الجامعية للشمال بحيوية التنشئة الثقافية الجديّة لطلبة الشمال الغربي‪ .‬كما أن ه لم‬
‫تتس نى لل وزارة أن تنفتح فني ا وعلمي ا على محيطه ا االجتم اعي ل وال تحالفه ا المثم ر م ع وزارة الثقاف ة‬
‫والمحافظة على التراث ووزارة الشباب والرياضة التي مثلتها الجامعة التونسية للدراجات‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫وبفضل كل هذه األطراف متدخلة ومجتمعة حول نجاعة التنمية الثقافية في رف ع التح ديات التنموي ة‬
‫للبالد والعباد‪ ،‬سيتحول الشمال الغ ربي في عطل ة الربي ع من ه ذه الس نة إلى مهرج ان لألل وان واألحج ام‬
‫والرقص المعاصر والمسرح والسينما والبحث العلمي ليتنافس المشاركون فيه إبداعيا‪.‬‬

‫وبعون هللا ومشيئته‪ ،‬ستتضافر كل الجه ود لتع ود األل وان لعي ون أبنائن ا‪ .‬وجزي ل الش كر واالمتن ان‬
‫موجه لكل الهامات العالية التي تظافرت جهودها من أجل تكريس ديمقراطية ثقافية ناشئة في هذه الرب وع؛‬
‫مما دعانا إلى انتقاء عنوان الدورة الثانية "للمهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة"‪ :‬الثقافة والديمقراطية‪.‬‬

‫خالد عبيدة‬
‫مدير المهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة بالشمال الغربي‬

‫‪89‬‬
‫تقرير التظاهرة‪:‬‬ ‫‪-2‬‬

‫التقديم المادي للتظاهرة‪:‬‬ ‫‪‬‬


‫المجال‪ :‬ثقافي‪/‬علمي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫النوع‪ :‬مهرجان دولي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الموضوع‪ :‬المهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة بالشمال الغربي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المنظم االساسي‪ :‬وزارة التعليم العالي والبحث العلمي ‪ +‬وزارة الشؤون الثقافية ‪ +‬وزارة الشباب‬ ‫‪-‬‬
‫والرياضة بتنسيق وإشراف جمعية رقش للثقافة والفن والتصميم‪.‬‬
‫التاريخ‪ :‬من‪ 19‬إلى ‪31‬مارس ‪.2016‬‬ ‫‪-‬‬
‫المكان‪ :‬سليانة ‪ -‬الكاف ‪ -‬باجة ‪ -‬جندوبة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المناسبة‪ :‬الدورة الثانية للمهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة‬ ‫‪-‬‬
‫المنتفعون‪ :‬كل آهلي الشمال الغربي من أطفال وأولياء وشباب وطلبة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تلخيص وجيز لفعاليات المهرجان‪:‬‬ ‫‪‬‬
‫" المهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة بالشمال الغربي" هو تظاهرة ثقافية وشبابية وعلمي ة‬
‫تهدف إلى التنمية االبداعي ة القائم ة بين ث الوث’ الفن’ و’الش باب’ و’المدين ة’ وتوطي د أواص ر الخل ق‬
‫واالبتكار بداخله‪ .‬وال يُعْنى هذا المهرجان بنشاط فني بعينه كبقية المهرجانات التي اعتدنا عليها س ابقا‪،‬‬
‫بل إنه يستدعي في فعالياته كل أنواع الفن ون إلحي اء الم دن األرب ع بالش مال الغ ربي ويتوج ه إلى فئ ة‬
‫الطلبة بالخصوص‪ ،‬والذين هم شباب قبل كل شيء‪ ،‬ثم األطفال والكهول وكل آهلي المدينة‪ .‬كما يعت بر‬
‫المهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة بالش مال الغ ربي تجرب ة ثقافي ة إقليمي ة فري دة من نوعه ا في‬
‫الشمال الغربي في مجال الشراكة بين المجتمع المدني ووزارات ثالث هي على التوالي‪ :‬وزارة التعليم‬
‫العالي والبحث العلمي ووزارة الشؤون الثقافة ووزارة الشباب والرياضة‪.‬‬
‫وترتكز هذه التظاهرة الدولية على مسابقات طالبية وشبابية وفق رات أخ رى ذي طبيع ة علمي ة‬
‫وفنية وتنشيطية للمدينة‪ ،‬وهي على التوالي‪:‬‬

‫المسابقات‪:‬‬ ‫أ‪-‬‬
‫مسابقة المسرح الطالبي بالكاف‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مسابقة الطلبة الشعراء بباجة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫مسابقة الشريط الوثائقي بالشمال الغربي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫المسابقة الجهوية للرقص العصري بسليانة‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪90‬‬
‫الجائزة الكبرى لسباق الدراجات بباجة والكاف وجندوبة وسليانة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الفعاليات العلمية‪:‬‬ ‫ب‪-‬‬
‫الحلقة التكوينية في "منهجية البحث" الموجهة لطلبة المرحلة الثالثة بم دارس الفن ون التونس ية وال تي‬ ‫‪-‬‬
‫يُؤمنها األستاذ المتميز جان النكري بالمعهد العالي للفنون والحرف بسليانة‪.‬‬
‫المؤتمر الدولي "الديمقراطية والثقافة بين الممارسات ونقدها" بالمركب الثقافي بسليانة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الورشات اإلبداعية في الفنون البصرية‪:‬‬ ‫ج‪-‬‬
‫ورشات النحت المحترفة بالمعهد العالي للفنون والحرف بسليانة والتي يشارك فيها الطلبة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ورشات الرسم المحترفة بالمعهد العالي للفنون والحرف بسليانة والتي يشارك فيها الطلبة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ورشات االبداع الحرفي في الفسيفساء والمصوغ والخزف بالمعهد والتي ينشطها الطلبة باألساس‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫معارض تشكيلية في كل من الكاف وسليانة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫الفعاليات التنشيطية للمدينة‪:‬‬ ‫ح‪-‬‬
‫عروض الماجورات والدمى العمالقة في حفلي افتتاح واختتام المهرجان‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ورش ات ع رائس الطين الموجه ة لألطف ال ي وم افتت اح المهرج ان بك ل من باج ة وس ليانة والك اف‬ ‫‪-‬‬
‫وجندوبة‪.‬‬
‫كوروغرافيا ’‪ 3000‬سنة من التاريخ’ لباليه سهام بالخوجة تم عرضها بالمركب الثق افي بس ليانة ي وم‬ ‫‪-‬‬
‫االفتتاح‪.‬‬
‫عروض مسرحية ’سلفي’ إلكرام عزوز بالمركب الثقافي بسليانة‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫عرض بالمركب الثقافي بسليانة لمسرحية "ش مس الس كورتيين" من رواي ة ل وران غودي ه للمخ رج‬ ‫‪-‬‬
‫الفرنسي سيباستيان امبالر مع طلبة المسرح بتونس‪.‬‬
‫ع روض س ينمائية ونقاش ات م ع المخ رجين عب د اللطي ف بن عم ار وم روان الطرابلس ي وأحم د‬ ‫‪-‬‬
‫الجالصي‪.‬‬
‫عروض موسيقية وسهرات راقصة بالكاف‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أمسية الشعر الشعبي من الجنوب التونسي بالمركب الثقافي بسليانة‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪91‬‬
‫ملحق صور فعاليات المهرجان والتعليق عليها‪: ‬‬ ‫‪-3‬‬

‫المسابقات ‪A- Les compétitions:‬‬ ‫أ‪-‬‬

‫مسابقة المسرح الطالبي بالكاف بالمركز الوطني للفنون الدرامية من ‪ 20‬إلى ‪ 22‬مارس ‪2016‬‬
‫‪Compétition du théâtre estudiantin au Kef au Centre National des Arts dramatiques du‬‬
‫‪20 au 22 Mars 2016‬‬
‫‪92‬‬
‫ م ارس‬29 ‫ إلى‬28 ‫مس ابقة الطلب ة الش عراء ب المركز الج امعي للتنش يط الثق افي والرياض ي بباج ة من‬
2016
La compétition des étudiants poètes au Centre Universitaire de l’animation Culturelle et
Sportive à Beja du 28 au 29 Mars 2016

93
‫ في باج ة والك اف وجندوب ة‬2016 ‫ م ارس‬30 ‫ إلى‬21 ‫مس ابقة الش ريط الوث ائقي بالش مال الغ ربي من‬
‫وسليانة‬
La compétition du film documentaire sur le Nord-Ouest du 21 au 30 Mars 2016 à Beja,
le kef, Jendouba et Siliana

94
2016 ‫مارس‬21 ‫المسابقة الجهوية للرقص العصري بالمركب الثقافي بسليانة يوم‬
La compétition régionale de la dance contemporaine au Complexe Culturel de
Siliana le 21 Mars 2016

95
‫الجائزة الكبرى لسباق الدراجات في باجة والكاف وجندوبة وسليانة‬
Le grand prix de la course des cyclistes à Beja, le Kef, Jendouba et Siliana

.
B- Les actes scientifiques: ‫الفعاليات العلمية‬ -‫ب‬
96
‫الحلقة التكوينية في "منهجية البحث" مع األس تاذ المتم يز ج ان النك ري بالمعه د الع الي للفن ون والح رف‬
‫بسليانة‬
Séminaire de « Méthodologie de la recherche » avec le professeur émérite Jean Lancri à
l’institut Supérieur des Arts et Métiers de Siliana

97
‫المؤتمر الدولي "الديمقراطية والثقافة بين الممارسات ونقدها" بالمركب الثقافي بسليانة‬
Le colloque international « Culture et Démocratie entre pratiques et critiques » au
Complexe Culturel de Siliana

98
C- Les ateliers de création en Arts Visuels: ‫الورشات اإلبداعية في الفنون البصرية‬ -‫ج‬

‫ورشة النحت المحترف بالمعهد العالي للفنون والحرف يسليانة‬


L’atelier de la sculpture professionnelle à l’Institut Supérieur des Arts et Métiers
de Siliana

99
‫ورشات التصوير المحترفة بالمعهد العالي للفنون والحرف بسليانة وخارجه‬
Les ateliers de la peinture professionnelle à l’Institut Supérieur des Arts et Métiers
de Siliana et en dehors

100
‫للطلبة وتأثيث المدينة بمنجزاتها‬ ‫ورشات االبداع الحرفي‬
Les ateliers de la création artisanal pour les étudiants et l’aménagement de la ville
avec leurs productions

101
.‫معرض الرسوم اآللية المكبرة للرسام الفرنسي كزافييه لومبار ببازيليك الكاف‬

Exposition des dessins automatiques agrandis du dessinateur français


Xavier Lambert à la basilique du Kef

102

You might also like