Professional Documents
Culture Documents
النصوص العربية
النصوص العربية
تحت إشراف
خالد عبيدة ووفاء عبيدة
3
اللجنة العلمية التي تولت تقويم المداخالت
ثقافة الفن لدى نيتشه :من ديمقراطيّة المساواة إلى أرستقراطيّة العدالة....................................ص39.
التنمية الثقافية والديمقراطية المحلية في الوسط الريفي :تنمية الثقافة أم ثقاف ة التنمي ة......................ص.
83
ملحق أنشطة الدورة الثانية من "المهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة" بالش مال الغ ربي.......ص.
99
5
6
توطئة
يُخفي االستهالك الثقافي ال ُمشاع خطر حرم ان الش خص من تف رّد تجربت ه الجمالي ة ،ومن رغبات ه؛
وح تى من اس تقالل ذائقت ه .إن ه يف رض رقاب ة ذكي ة تعبّ ر عن نفس ها في ش كل لي برالي وتحت س تار
التعددية والتحرر .وفي حين ت َّدعي الديمقراطية االستهالكية للصناعة الثقافية شكليا بأنها تق وم على اقص اء
النخبوية من أجل المساواة في التلقي والتذوق ،فإنها توحّد في الواقع بين الس لوكيات لدرج ة يض عف معه ا
الشعور بالوجود ،الذي يستمد قوته من تمل ّ
ك الخيال والرغبة.
وعندما تتخذ شخصنة المواطنين اشكاال أكثر فأكثر محافظة ،تغذيها بكثاف ة وس ائل االعالم ،يص بح
السؤال الراهن ،الذي يفرض على المبدعين والفاعلين الثقافيين طرحه في تونس ،متعلقا بسلطة الفن ون في
سياق التحول الديمقراطي .ما ه و ال دور ال ذي يمكن للفن ون والثقاف ة أن تلعب ه في بيئ ة اجتماعي ة سياس ية
جديدة؟
وتدعونا الفعاليات الفنية في سياق تحول ديمقراطي إلى إع ادة التفك ر في الحركي ة الداخلي ة لمفه وم
الثقافة .إنها تسمح لنا بمراجعته على ضوء متغيرات الفضاء ال ديمقراطي للحي اة ،وال ذي نتع اطى مع ه في
بعده االنشائي؛ أي كمسار ابداعي مفتوح ومعنّى بالمعارضات وتأسيس القيم؛ مشغول بالعود وتجاوزه.
وتتصرف االبداعات الفني ة والفعالي ات الثقافي ة ،هك ذا ،كق وة إنت اج لرغب ة الحي اة المختلف ة ،ع بر
تحوي ل الرغب ة إلى إرادة حي اة تخ ترق ر ّدات الفع ل المحافظ ة والخاض عة للس لطة الش بحية للض وابط
االجتماعية .انها تث ّمن في الحقل الثقافي وظيفتي االختالف الحيوية واالختراقات .انها تس مح ع بر تج اوز
التجربة العادية بالتحرّر من القناعات وفتح رؤية نقدية للتمثالت وصيغ تحديد الهوية المتفق عليها ثقافيا.
وتعتبر هذه الديناميكية في المجال الفني بمثابة مسار مواطن ة اجتماعي ة مبتك رة تنهض على التن وع
المالزم لظاهرة االبداع والتلقي ذاتها .وفضاء االبداعات الثقافي ة ه و في نفس ال وقت فض اء للتع ايش .ان ه
يفترض مسبقا المشاركة واالع تراف باس تقاللية ك ل ف رد .وله ذا الس بب ،أص بح الي وم للف اعلين الثق افيين
والفنانين في تونس وعي بمساهمتهم في المسار الديمقراطي والحياة االجتماعي ة باعتب ارهم س لطة مض ادة
لالستبداد المتربص بكل دولة .وأمام تجريدية القيم المؤسساتية للحرية والعدالة ،أضحوا يطالبون بتحررهم
الحقيقي؛ اين تتحقق اصالة كل مبدع عبر كفاءته اإلبداعية في التواص ل والتأس يس لقيم جدي دة .وعلى ه ذا
النحو ،يتحول الموقف النقدي الموصول بالفن إلى تأسيس ذاتي للفعل االبداعي.
ويتطرق هذا الكتاب إلشكالية الممكن بين الثقافي واالبداعي والتعايش الديمقراطي من خالل تجمي ع
نص وص م داخالت الم ؤتمر العلمي ال دولي الث اني للمهرج ان ال دولي للفن والش باب والمدين ة بالش مال
الغربي؛ "الديمقراطية والثقافة بين الممارسات ونقدها".
7
أ .رشيدة التريكي
8
فعاليات المؤتمر الدولي الثاني "الديمقراطية والثقافة بين الممارسات ونقدها"
تقديم
إن طرح سؤال الثقافة ،أو المسألة الثقافية ،يفترض تحويل هذه المسائلة من المجال األنطولوجي إلى
حقل السياسات التي كانت قد حددتها وال تزال تصوغ تمثالتها المباشرة أو الضمنية أو االنفعالية .وعادة ما
تعكس سياسات التنمية الثقافية توجهات الحوكمة الشاملة التي تعم ل على ض مان وح دة اجتماعي ة متس قة؛
أحادية الشكل وقابلة للرقابة.
وباعتبار أن سؤال الثقافة يشكل في حد ذاته نقطة التقاء بين رهانات وتصورات وخيارات سياس ية،
كما أنه ذي طابع ومؤسساتي واجتماعي في ذات الحين ،فإن طرحه يفترض ضرورة تدقيقا مفاهيمي ا ي بين
التمايز بين "ثقافة العامة" و"التصور الشعبي للثقافة" و"الثقافة البديلة"...
أما فيما يخص العالقة بين مفهومي "الثقافة" و"الديمقراطية" ،فإنه المدخل الذي سيسمح لن ا بتحدي د
مواقع القول المنفصلة والمتصلة في موضوع تف ّكرنا في إطار هذا المؤتمر.
لقد تعرضت سياسة "دمقرطة الثقافة" إلى الكثير من االنتق ادات والعراقي ل من ذ س نة ،1972وذل ك
نظرا لطابعها النخبوي والشمولي .وجاء أنموذج "الديمقراطية الثقافي ة" لمعارض ة ه ذه السياس ة؛ مقترح ا
بديال يسمح بحيّز أوسع لتعدد الثقافات والمبادرات الذاتية .ولم ينأى ه ذا األنم وذج األخ ير ب دوره أن يث ير
العديد من السجاالت والجدل.
فالفعل السياسي اليوم في تونس يتصف بكونه "مسارا ديمقراطي ا" ،ونحن ال ن ود في س ياق تطرقن ا
إلى المسألة الثقافية في صلب هذا المسار أن نتداول حول السياسات الثقافية بقدر ما نشاء التنبيه إلى م ا في
"الثقافة" من فرادة وذاتية .وننطلق هنا من اعتبار تعدد الثقافات مس لمةً داخ ل نفس البل د ،مم ا يجع ل دور
الخصوص يات المحلي ة محوري ا في ك ل فع ل ثق افي .فه ل يمكن الح ديث عن ثقاف ة محلي ة خ ارج نط اق
الفولكلور؟ كيف يمكننا تعريف "المحلي" في عالم معولم؟ إلى أي م دى يمكن توظي ف "المحلي" باعتب اره
قيمة غير ارتدادية وسلفية؟ كيف نفكر في وظيفة الثقافة بصفتنا فنانين ومدرسي فن ون وب احثين ومش تغلين
في الحقل الثقافي؟ هل يكون ذلك عبر التعليم وتوعية الناس؟ ما دور الفن في مثل ه ذا المس ار؟ ه ل يع ني
التثقيف إطالق العنان للفعل التعبيري حتى يحرر الشعوب داخليا أم أنه تب ني ألنم وذج سياس ي بعين ه دون
النظر إلى الخصوصيات االجتماعي ة واالقتص ادية؟ ه ل أن الثقاف ة أنم وذج ُم ْملى أم أنه ا ض امن االنفت اح
المستديم للبشر على ممارسات وأفكار العالم؟
إن هذا المؤتمر الدولي الذي نظمته جمعي ة رقش للثقاف ة والفن ون والتص ميم ه و في الحقيق ة فض اء
مفتوح للمبادالت والنقاشات حول كل المسائل السالف طرحها ،وهو ينخرط بدوره ض من فعالي ات ال دورة
9
الثانية من "المهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة" بالشمال الغربي والتي س عينا فيه ا إلى توس يع رقع ة
فعلنا الثقافي ليمتد على واليات الشمال الغربي األربع :سليانة ،الكاف ،جندوبة وباجة.
وش ّكلت إدارة فعاليات هذا المهرجان الممتد في الواليات األرب ع تح ديا لوجس تيا ض خما نظ را للم د
العارم لطلبة الفنون واألطفال والراقصين الشباب والباحثين والفنانين القادمين من العدي د من بل دان الع الم.
وقد شاءت جمعية رقش خوض هذه التجربة لتتف ّحص ميدانيا واقع العالقة الممكنة بين الثقافة والديمقراطية
والذي طرحته للمداولة في مؤتمرها الدولي.
ولم تتوانى وزارة التعليم العالي وديوان الخدمات الجامعية للشمال على دعم هذه المب ادرة الجريئ ة،
حيث فتح لنا الديوان مبيتاته ومطاعمه الجامعية في عطلة الربيع ،والتي أثثت المندوبيات الجهوية للش ؤون
الثقافية في منطقة الشمال الغربي سهرات المهرجان أثنائها عبر عروض مسرحية وموسيقية.
إذن ،لقد ك انت جمعي ة رقش للثقاف ة والفن والتص ميم مس نودة رس ميا ح تى تتمكن من خ وض ه ذه
التجربة الفريدة في "دمقرطة الثقافة" التي جرت في ذات يوم في منطق ة الش مال الغ ربي التونس ي بفض ل
الخيارات الثقافية اإلستراتيجية "للمهرجان الدولي للفن والشباب والمدين ة" .لق د ك ان وزي ر التعليم الع الي
مقتنعا بالسعة االستراتيجية لهذه المبادرة لدرج ة جعلت ه ال ي تردد في دع وة زمالئ ه لحض ور حف ل اختت ام
الدورة الثانية من مهرجان رقش.
وختام ا نن وه ب أن طموح ات لجن ة تنظيم ه ذه ال دورة الثاني ة من المهرج ان ال دولي للفن والش باب
والمدينة تطورت لترنو إلى معانقة "دمقرطة" هذه التجرب ة الثقافي ة في رب وع الش مال الغ ربي .إن اإلرادة
السياسية هي ،حينئذ ،الشرط المبدئي لكل سعي نح و "ديمقراطي ة ثقافي ة" .إنه ا مش روع حكوم ة مجتمع ة
باألساس حول نفس الهدف وليست مشروع وزارة واحدة!
ثمة سؤال جذري يطرح بصيغ مختلفة عن مهمة الفنان في المجتمع الديمقراطي :لم اذا يط رح مث ل
هذا السؤال اليوم ولم يطرح باالمس؟ "لماذا يصبح هذا السؤال سؤاال مهما ولم يكن باالمس ك ذلك؟" .1ه ل
ثمة ما يصل هذه االسئلة بوضع الفنان من جهة ما يتقاطع في الفن بين السياسي واالديولوجي؟
تحدث لوك ف يري عن ديمقراطي ة الطليع ة واس تقرأ فيه ا األزم ة ال تي التقت ب الفن ،وح وّلت أزم ة
المجتمع إلى أزمة إبداعية مسّت بطبيعة الحياة المدنية والديمقراطية في الغ رب ،بع د أن أص بحت "الثقاف ة
السائدة ثقافة السوق والتسليع" .2م ا يع ني أن مس الة الديمقراطي ة ال تتص ل بالسياس ي ،إنم ا هي موض وع
ثورة فنية تأتي على كل المؤسسات التقليدية لتفكك اإلرث الميتافيزيقي الذي يفصل الفني عن الديمقراطي ة،
ويلحقها بمجال األيديولوجي والسياسي .يعتقد آالن تورين في مؤلفه "نقد الحداثة" أن الحديث عن
الديمقراطية في الغرب اقترن بالحداثة وبمأزق الذاتية والتمركز" .وهكذا فان فك رة الديمقراطي ة المتماهي ة
أوال بفكرة المجتمع اقتربت تدريجيا من فكرة الذات التي تتجه ألن تكون تعبيرها السياسي ،وذلك يفس ر أن
تحليلي للذات في المجتمع الحديث ينتهي بتفكير في الديمقراطية".3
توج د مس احة مركب ة من مس طحات مختلف ة ،ه دفها الجم ع بين الديمقراطي ة والفن ،وفتح ط رق
ومسارب مشتركة ،يؤمنها الفنان ويستفيد منها المجتمع .تلك هي قصدية اإلبداع الف ني عن د كاندنس كي؛ أن
يكون الفنان صوت المجتم ع ون داء األرض وص وت نب وءة للخالص من س لطة التطوي ع الم ادي" .ينبغي
على الفنان أن يكون أعمى تجاه الشكل المعروف أو غير المعروف ،أص م تج اه تع اليم عص ره ورغبات ه.
ينبغي أن تتجه عينه إلى حياته الداخلية ،وينبغي أن تنص ت أذن ه إلى ص وت الض رورة الداخلي ة" .4توج د
ه ّمة عند الفنان تجمع بين الفن والسياسي بعد دمقرطة الفن ،دون أن ننفي التحفظ على اقتدار الفن في نش ر
الروح الديمقراطية بعد أن يصبح هو ذاته فنا ديمقراطيا.
1
.Frédérick Gravel, Le rôle de l’artiste dans la société démocratique, Mémoire présenté comme exigence
partielle de la maitrise en dance, Université du Québec à Montréal, 2010, p 32.
2
. Luc Ferry, Le Sens du Beau aux origines de la culture contemporaine, Eds Grasset, Paris, 1990, p 200.
. 3آالن تورين " ،نقد الحداثة ،والدة الذات " ،القسم الثاني ،ترجمة صالح الجهيم ،منشورات وزارة الثقافة السورية ،دمشق،
،1998ص .155
4
. Kandinsky, Le spirituel dans l'art et dans la peinture en particulier, Eds Denoël, Paris, 1989, p 95.
11
يعتقد جان ماري شيفر أن الح ديث عن دمقرط ة الفن يس تدعي تش كيل "مس طح سياس ي يجم ع بين
الفنان والجمهور" .5ويحتاج لقاء الفن ان ب الجمهور إلى وج ود فض اء ديمق راطي ،وإلى مجتم ع مؤسس اتي
يقوم على الحوار وعلى الضيافة المتبادلة لطرح المشترك ،وفتح األف ق على الف رق والتع دد "واالع تراف
باآلخر" .6ويبقى ذلك مسعى قائما ومطلبا شرعيا إذا استطاع الفن ان أن يلتحم بأس ئلة الجمه ور ،من جه ة،
وأن يساهم في انتشار الفنون ،من جهة ثانية ،بعد التحرر من تلك األزمة التي افتعلتها النخب الثقافي ة ،حين
روجت لطبقي ة الفن .ذل ك م ا فتح المج ال للح ديث عن أزم ة ثق ة بين الفن ان والجمه ور ،وهيمن ة م نزع
اديولوجي روج له رأسمال الحر ،بعد أن اختلق توقعات متصارعة وتناقضات صارخة ماس ت بين ط رفي
العملية الديمقراطية" :الفنان من جهة وأسئلة المجتمع المصيرية من جهة اخرى" .7وتضاعفت األزم ة من
غياب النقد لألزمة ذاتها ومجاوزتها نح و ديمقراطي ة هادئ ة ،يك ون الفن أساس ها والفن ان المق اوم رس ولها
والمجمع الديمقراطي فضاؤها السياسي .ويتحول الفنان هك ذا إلى مواج ه عني د إلس قاطات الحداث ة الفني ة،
لكنه يرغم بفعل هيمنة االديولوجي وصناعة الثقافة إلى االنخراط والطاعة .فبع د "ان ك ان يظن ان ه ينج و
بنفسه من هذا اإلشكال الذي ظهر منذ هلت الحداثة سرعان ما وقع في الهاوية".8
تلك هي أسئلة هذه الورقة ورهاناتها ،أن تبحث في طرفي األزمة ،وأن تس تجلي مهم ة الفن ان ودور
الجمهور في تخطيها وجعل اإلبداع الف ني روح الديمقراطي ة المنش ودة ال تي تس مح بممارس ة النق د وطلب
المجاوزة .ويمكن أن نستعير من جمالية كانط السياسية م ا يع بر عن ه ذا المش هد الك ارثي في المجتمع ات
المعاصرة ،حتى ندرك الصراع الحاد حول سؤال الديمقراطية داخ ل الحلب ة الجدلي ة ال تي تنتهي بانتص ار
أحد طرفي الصراع" .لهذا فان األبط ال الن بيهين ،س واء ص ارعوا من اج ل القض ية العادل ة أو الخاطئ ة،
يكونون متأكدين من ربح تاج االنتصار ،إذا هم استطاعوا تدبير ربح الهجمة األخيرة".9
وتكشف األزمة عن هيمنة األنظمة الكلياني ة والتع دي على روح الق انون ومطلب الس لم االجتم اعي
ال ذي يتطلب ه الح وار ال ديمقراطي في الفض اء المش ترك ،بوص فه "المه د للديمقراطي ة" .10يبقى مطلب
الديمقراطية رهانا فنيا وحضاريا يطلبه الفنان للتغلب على أزمة الحداثة التي بلغت غايتها القصوى" .حيث
لم يعد يرى سوى عالمين :عالم الحساب االقتصادي وعالم الهوية الثقافية".11
5
. Schaeffer Jean Marie, L’art de l’âge moderne, Eds Gallimard, Paris, 1992, p 444.
6
. Clair Jean, La responsabilité de l'artiste, Eds Gallimard, Paris, 1997, p 142.
7
. Ardenne Paul, L’art dans son moment politique, Eds La lettre Volée, Bruxelles, 1999, p 402.
.8تيودور ادرنو" ،نظرية استطيقية" ،ترجمة ناجي العونلي ،منشورات دار الجمل ،بغداد ،2017 ،ص .51
.9ايمانويل كنط" ،نقد العقل المحض" ،ترجمة موسى وهبة ،مركز اإلنماء القومي ،بيروت ،1988 ،ص .329
.10غيورغ سورنسن" ،الديمقراطية والتحول الديمقراطي" ،ترجمة عفاف البطاينة ،المركز العربي لألبحاث ودراسة
السياسات ،الدوحة ،2008،ص .117
.11آالن تورين" ،نقد الحداثة" ،مرجع سابق ،ص .175
12
رهانات الفن وتفعيل ديمقراطية الحوار:
ألجل تفعيل عالقة الفن بالديمقراطية في مجتمعات معاصرة ،فككتها االديولوجيات والرؤى الكليانية
المتمركزة حول ذاتها دون االعتراف باألخر السياسي ،يفترض من الفنان أن يرتفع عن ذاتيته ،وان يك ون
كائنا متوازنا يجعل من "والدة العمل الفني مثل والدة الكون ...إبداع عمل فني ه و إب داع الع الم" .12يطلب
منه أن يجعل أعماله الفنية في متناول الجميع ،وان تعالج أسئلة اإلنسانية .أن تصبح فاعلية الفن هي فاعلي ة
المجتمع ونشاطه اإلبداعي ،وان يصبح في متناول الجمي ع ح تى تتج ذر روح المواطن ة والتع اون .ي ذهب
جون ديوي إلى أن الفن قادر على لعب دور المواطن الديمقراطي في مجتمع ديمقراطي ،باعتب اره الرؤي ة
األكثر فاعلية على إدراك الحراك الثوري في المجتع ات ،بع د أن تجتاحه ا "أس ئلة التغي ير وتس كنها روح
الديمقراطية".13
وقد ساهمت عدة مقاربات تربوية في جعل العمل الفني أكثر ديمقراطية ،عندما دعت ع بر برامجه ا
إلى إدماج التربية الفنية في البرامج المدرسية ،وإقامة المعاه د واألكاديمي ات الفني ة ح تى يك ون الفن أك ثر
قربا وفاعلية في تغيير ال وعي ،والمس اهمة في إنض اج الخ برة الجمالي ة ال تي ته يئ الفن ان لتحم ل رس الة
التغيير الثوري ،ومقاومة معيقات قيام مجتمع ديمقراطي يقبل باالختالف وبالحوار .إن إعادة ط رح مس الة
ديمقراطية الفن ،ومدى دوره في تشكيل وعي ديمقراطي ،يجنب الشعوب الكوارث هو نتيجة الوعي بأزمة
أنطولوجية وفكرية عميقة ،خلفتها عقالنية العقل الحداثي ،نتيجة اعتماد عقل أداتي ونسيان سؤال المص ير.
تم ّر اإلنسانية بأزمة روحية وبمرحلة مساءلة لنتائج "براديغم" الحداثة المعطوبة.
توجد أزمة في شرعية الفن المعاصر .كانت "مبولة" ديشان سنة 1917بداي ة التعب ير الرس مي عن
عمقها ،ما أحدث انفجارا في األوساط الفنية ،وكرّس الفوض ى والبلبل ة في ص فوف الفن انين والنق د الف ني،
وهي عصية على أي مسعى لتفكيكها" ،وتتوصل أحيانا إلى تغييب الفنان لصالح العمل المعروض" .14فق د
الفن شرعية منطلقاته النظرية والتشكيلية وأثر سلبا على طبيعة الحياة الديمقراطية.
وي ذهب ميش و إلى إن أزم ة الفن هي أزم ة قط بين متص ارعين من اج ل توجيه ه والتحكم بحرك ة
اإلب داع والثقاف ة :قطب ي دافع عن منج زات الحداث ة الفني ة وقطب آخ ر ين ادي باإلنه اء والمج اوزة .ثم ة
مفارقات تعكس الصراع السياسي واألي ديولوجي الس ائد ،وتنتص ر ألس ئلة فن مف اهيمي تض اعفت نتائج ه
الفنية والجمالية "داخل رسم أمثولة مقدسة للفن المعاصر بروح مبدعي ه ومروجي ه وممولي ه وناش ريه".15
12
. Philippe Sers, Comprendre Kandinsky, Collection archigraphy poche, Paris, 2009, p 87.
.13حسن الببالوي" ،رباعية الديمقراطية عند مراد وهبة ومضمونها في التربية " ،ضمن كتاب مشروع مراد وهبة شروط
التفكير ضد األصوليات ،إصدارات ملتقى الفالسفة العرب ،القاهرة ،2016 ،ص.37
. 14مارك جيمينيز" ،ما الجمالية؟" ،ترجمة شربل داغر ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت ،2009 ،ص .325
15
. Michaud Yves, La crise de l'art contemporain, Eds PUF, Paris, 1999, p 22.
13
ثمة أزمة عميقة بين فن مضى وفن جدي د س يأتي في المس تقبل ،رغم إن طبيع ة الفن األنطولوجي ة ال تقب ل
بوجود قطيعة ابستمولوجية ،وال بوجود "تاريخ للفن لكونه صيرورة" .16ثمة أزمة تعود في نظر ميشو إلى
أزمة تَمثُلنا للفن وليست أزمة في الفن ذاته .شكلت دمقرطة الفن غزوا للفن وتع ديا على أنطولوجيت ه ،بع د
أن تحول إلى صناعة ثقافية ،والى غزو ذوقي جماهيري .يع ني أن الديمقراطي ة س اهمت س لبيا في نمذج ة
"الذوق الفني وفرضه على اآلخرين".17
يتك رر الس ؤال ذات ه ال ذي يطرح ه ميش و لش دة التباس ه وغموض ه ،في مس توى التقاطع ات ال تي
يطرحها :هل يستطيع الفن أن يكون ديمقراطيا وفاعال؟
إذا كان منعطف الفئة الثالثة قد ش ّكل رؤية ملتبسة تغ ير فيه ا الع الم واس تبدت ب ه جغرافي ات "تنفي
األخر وتجرم إرادته في التغيير" ،18لم يعد الحلم ممكنا في أن نتح دث عن دمقرط ة حقيقي ة للفن إذا لم يكن
هناك فنان ديمق راطي مل تزم بأس ئلة اإلنس ان ،وق ادر بالفع ل المق اوم والممارس ة النض الية أن يتغلب على
سلطة السياسي ،ويتجاوز خط ر األي ديولوجي ال ذي يس عى إلى تك ريس فن خ ارج ط وره الث وري .يعتق د
هربرت ماركوز أن الروح الثورية في الفن ال تتجسد في تغيير الع الم ،ولكن في إس هامه "في تغي ير وعي
الرجال والنساء الذين يمكنهم تغيير العالم".19
ربما األخطر في هذا كله ،هو الطبيعة التسويقية التي أصبح عليها الفن المعاصر ،إلى درجة أصبح
فيها العم ل الف ني منتوج ا اس تهالكيا مكمال ل روح المجتمع ات االس تهالكية ال تي يحكمه ا ق انون الع رض
والطلب .تحول الفن إلى سوق نشيطة ع ابرة للمك ان والزم ان ت وزع أعمال ه ع بر وس ائط تقني ة ووس ائل
مختلفة .تصبح الديمقراطية في الفن خ ارج طوره ا .ت َ
َنش ُد إلى البحث عن س وق وفض اءات تجع ل العم ل
الفني في متناول السياسي ،الذي سعى إلى بعث شركات كبرى ومهرجان ات عالمي ة وملتقي ات تس وّق للفن
وفق اديولوجيات معينة ،تلغي الديمقراطية الحوارية وتقاومها .يتجاوب هذا الوضع م ع رأي االن ت ورين،
أن "ال ديمقراطية حيث يسود المال والفئوية وروح التملق وعصابات الفساد واألشرار".20
يصبح تدخل السياسي في التحكم بحركة اإلبداع الفني ،وفي نشر الفن ودمقرطت ه من األس باب ال تي
ضاعفت من أزمة الفن المعاصر ،وساهمت في تستطيع ال وعي الجم اهيري ،بع د أن عج ز ه ذا الفن على
مقاومة اليومي ،والتصدي للذوق القبيح الذي ساد وأفسد الخبرة الجمالية .يصل ميشو األزم ة الفني ة بأزم ة
. 16هانس بلتينغ" ،تاريخ الفن " ،ترجمة العونلي وادريس الشوك ،المركز الوطني للترجمة ،دار سيناترا ،تونس،2012 ،
ص .212
17
. Luc Ferry, Le Sens du Beau, Op .Cit, p 232.
18
. Michaud Yves, La crise de l'art contemporain, Op .Cit, p 305.
. 19هربرت ماركوز" ،البعد الجمالي" ،ترجمة جورج طرابيشي ،دار االداب ،بيروت ،1970 ،ص .165
. 20آالن تورين ،مرجع سابق ،ص .183
14
السوق بعد دمقرطة الفن وسلعنته .إن تدخل أجهزة الدولة في توجي ه الفن المعاص ر بطريق ة ديمقراطي ة ال
يخدم اإلبداع الفني وال جمالية التلقي .وجهته الدولة توجيها ذاتيا خدمة لمص الحها األيدولوجي ة وللتحكم في
الذوق العام والسيطرة على الفضاء المشترك .ويرى ميشو في نم وذج "االتح اد الس وفياتي" 21س ابقا دول ة
كليانية ،عمقت من أزمة الفن ،لما اتخذت منه منطلقا "أيديولوجيا يخدم أفكارها االشتراكية والش يوعية".22
وهو ما أثر سلبا على الرؤية اإلبداعية للفنان.
إن دمقرطة الفن ليس في انتشاره بين الجمه ور وترويج ه خ ارج المرك ز .يش ير بني امين في نص ه
الرائ ع "العم ل الف ني في عص ر االستنس اخ اآللي" إلى أن ه ذا االنتش ار لم يلب الحاج ة الجمالي ة والفني ة
للجماهير .أصبح العم ل الف ني بفع ل االستنس اخ اآللي الس ريع ،والتقني ة الرقمي ة ال تي س هلت تحويل ه إلى
صناعة ثقافية متطورة عابرا للقارات ،ومتسيدا على السوق الثقافية .أملت العولمة على الع الم لغ ة موح دة
هي لغة الجمال السياسي؛ ألنه "العروة الوثقى األسمى بين الحضارات" .23تكمن دمقرطة الفن الحقيقية في
فاعليته وفي قدرة أسئلته على تغيير الواقع ،وفي توجي ه المجتم ع إلى أس ئلته المص يرية ،أن يك ون ح افزا
على تربي ة اإلنس ان تربي ة جمالي ة تنتهي ،بحس ب كان ط ،إلى تش كيل "دول ة جمالي ة" ،24ينتفي فيه ا القبح
والروح الذئبية .تلك هي الروح الكانطية التي تحلم بان يكون الجمال ه و الجس ر ال ذي يم ّكن اإلنس انية من
العبور إلى مصيرها التاريخي السلمي والديمقراطي.
وأظه رت عالم ة االجتم اع نتلي هي نيش الص راع الح اد بين أس ئلة الفن المعاص ر وبين طموح ات
المجتمعات ذات الرؤية الرأسمالية للعالم .أشارت إلى عم ق الش روخ واله زات ال تي "لم تس تطع السياس ة
اإلجابة عنها وتوفير الحلول" .25لم يستطع الفن التدخل إلنقاذ اإلنس ان من الكارث ة ،بع د أن ت بين استس الم
الفنان وعدم جاهزيته الفكرية واإلبداعية للمقاومة ،والتغلب على جمالية التدمير الذاتي التي حيّنتها السياسة
المعولمة الغتصاب حقوق الجماهير في الحوار والتواص ل المتك افئ" ،بجع ل السياس ة جمالي ة تنتهي إلى
نهاية واحدة :الحرب".26
. 21االتحاد السوفياتي هو مجموعة جمهوريات اتحادية اشتراكية .تأسست اث ر الث ورة االش تراكية البلوريتاري ة ال تي قاده ا
لينين وأثمرت قوة عالمية ،قادت حلف فارسوفيا ضد الحلف األطلسي بقيادة الواليات المتحدة األمريكية في حربهما الب اردة.
إال أن عدة أزمات داخلية شجعت غورباتشوف أخر رؤساء ه ذه الق وة على إعالن إع ادة البن اء في كتاب ه "البروس ترويكا"،
وتفكيك االتحاد السوفياتي ،معلنا تفكيك المعسكر الشرقي برمته ونهاية الص راع بين المعس كر الش رقي والمعس كر الغ ربي،
وبداية العالم ذي البعد الواحد الذي رسمت سياسته العولمة األمريكية.
22
. Michaud Yves, La crise de l'art contemporain, Op .Cit, p 48.
. 23ريجيس دوبري" ،حياة الصورة وموتها" ،ترجمة فريد الزاهي ،إفريقيا للنشر ،الدار البيضاء ،2002 ،ص .200
. 24غادامر" ،مقدمة كتاب هيدغر أصل العمل الفني" ،ترجمة أبو العيد دودو ،منشورات الجمل ،كولونيا ،2003 ،ص .39
25
juin 2001, p15.ـ. Heinich Nathalie, « Sociologie de l'art », in « Manière de voir » n 57, mai
. 26فالتر بنيامين" ،العمل الفني في عصر االستنساخ اآللي" ،ترجمة احمد حسان ،دار ميريت ،القاهرة ،2010 ،ص .179
يصبح تسييس الفن ضربا من الديمقراطية الجمالية ،دون احتساب نتائجه الكارثية على اإلنسان ،بعد أن تتحول هذه الجمالي ة
إلى حرب ،يتقاتل فيها اإلنسان مع اإلنسان .فبع د أن ك ان الطليعي ون يناهض ون الح رب؛ ألنه ا ض د الفن والجم ال ،يص در
مارينيتي بيانا يقدس فيه جمالية الح رب .يق دم نص ا بليغ ا ي رثي في ه مص ير اإلنس ان في زمن الح رب واالديولوجي ا والقبح
السياسي ،وفي غياب الجمال الفني ،بعد أن تعطلت حركة اإلبداع" .إننا نقر أن الحرب جميلة؛ ألنها ترس ي س يطرة اإلنس ان
15
يطرح لوك فري في كتابه "معنى الجميل :في منابع الثقافة المعاصرة" "أهمية الجميل في
المجتمعات الديمقراطية المعاصرة" .27يس أل أس ئلة مهم ة :ه ل يمكن للجمي ل أن يلتقي بالديمقراطي ة على
مسطح مشترك؟ أن يتحايثا ألجل بناء مجتمع ديمقراطي يتجاوز أزماته ويتغلب على كوارثه ،ويتح رر من
حقائقه المطلقة التي مازالت تشده إلى الوراء؟ هل يستطيع الفن المعاصر أن يؤس س لرؤي ة جمالي ة جدي دة
يك ون الفن ان ه و المنظوري ة األساس ية للديمقراطي ة؟ منح نيتش ه الفن ان االقت دار اإلب داعي ليك ون وح ده
منظورية العمل الفني .وجب في جينيالوجيته الهدام ة أن "يفهم الفن انطالق ا من منظوري ة الفن ان" .28ك ان
طموح نيتشه االنقالبي دعوة إلى الرفع من مقام "الفن ح تى ال تميتن ا الحقيق ة" .29اس تلهم هي دغر من ه ذه
الروح الديونوزوسية رؤية تأويلية النطولوجيا فنية تحرر اإلنسان من ميتافيزيقا التقني ة واديولوجي ة العلم،
بعد أن تبين أن الرؤية الفنية بإمكانها أن تحقق المج اوزة واإلنه اء لعص ر من الص راعات المخجل ة ،ال تي
باتت تهدد المصير وتعصف بالوجود في هاوية السقوط ،بع د "غي اب الطري ق ال ذي يمنح اإلنس ان س الما
عالميا".30
سعى جان بول سارتر ،وهو ي ؤمن ب الفن المل تزم ض رورة إنس انية ،إلى النض ال والمقاوم ة لقي ام
مجتمع إنساني ديمقراطي ،تنتفي منه مظاهر العنف واالغتراب ،و"يسوده النقد والموق ف" ،31متح ررا من
الشجع الرأسمالي الذي شكل عائقا أم ام تفاع ل الفن ان م ع دوره االجتم اعي واإلنس اني في تفعي ل الح وار
الديمقراطي وهو ذات الموقف الذي يتخذه آالن تورين؛ "الن السوق ال تضمن تكافؤ الفرص للجميع ...وال
النضال ضد االستعباد" .32يذهب جوال زاسك في كتابه "الفن والديمقراطية" إلى أن عالقة الديمقراطية
والفن تتأسس إيجابا في العودة إلى تقييم مدى عالقة الفنان بالمواطنة .عندما يفك ر الفن ان بأهمي ة المواطن ة
تتحد عالقة الديمقراطية بالفن في ضوء تلك األفكار واألسئلة التي تفتح ب اب الس ؤال الح واري والض يافة،
والبحث عن المش ترك في عمق ه الجم الي .ثم ة قراب ة بين العم ل الف ني والمواطن ة فهم ا ال ينفص الن عن
بعضهما البعض ،وال يوجد احد منهما بذاته دون وجود األخ ر ،فهم ا وجه ان مختلف ان لوج ه الديمقراطي ة
على اآلالت الخاضعة له ،عن طريق أقنعة الغاز ومكبرات الص وت المفزع ة وقاذف ات اللهب وال دبابات الص غيرة .الح رب
جميلة؛ ألنها تستهل معدنة الجسم اإلنساني التي طال الحلم بها .الحرب جميل ة؛ ألنه ا ت ثري الم رعى المزه ر باالوركي دات
النارية للبنادق اآللية .الحرب جميلة؛ ألنها تؤالف بين نيران البنادق وطلق ات الم دافع ووق ف إطالق الن ار وال روائح وعطن
التعفن في سيمفونية .الحرب جميلة؛ ألنها تخلق معمارا جديدا مثل معمار الدبابات الضخمة والغ ازات الجوي ة ذات التش كيل
الهندسي ،وحلقات الدخان المتصاعدة من القرى المحترقة وكثير غيرها...يا شعراء وفن اني المس تقبلية ت ذكروا ه ذه المب ادئ
لجماليات الحرب حتى يستنير بها نضالكم من اجل أدب جديد وفن تخطيطي جديد" .راجع المرجع نفسه ،ص.189 .
27
. Luc Ferry, Le Sens du Beau, Op .Cit, p 212.
28
. Heidegger, Nietzsche I, Gallimard, Eds Paris, 1972, p 77.
. 29فوزية ضيف هللا " ،كلمات نيتشه األساسية ضمن القراءة الهيدغرية" ،منشورات االختالف ،الجزائر ،دار االمان،
الرباط ،منشورات ضفاف ،بيروت ،دار كلمة ،بيروت ،2015 ،ص .102
. Heidegger, Dépassement de la métaphysique, in Essais et conférences, Eds Gallimard, Paris, 1986, p 107.
30
. Jean Bourgault, « Tours et retours ; Sartre et l'action politique », in Lectures de Sartre, sous la direction de
31
Philippe Cabestan et Jean Pierre Zarader, Eds Ellipse Marketing S. A, Paris, 2011, p213.
. 32آالن تورين" ،نقد الحداثة" ،ترجمة صياح الجهيم ،مرجع سابق ،ص .157
16
الحواري ة .يك ون الفن ان أول من يض ع العم ل الف ني أم ام المتلقي ليتحق ق ب ذلك الح وار والنق اش ح ول
المشترك" ،بالقدر نفسه الذي اظهر فيه الفنان العمل الفني ،ش ّكل العمل الفني المتلقي".33
ويمكن الحديث عن المجتم ع ال ديمقراطي في مفهوم ه المرك زي ،وفي س يادته الدائري ة والحواري ة
والتداولية في المجتمع األمريكي الذي ش ّكل نموذج المجتمع المنفتح على األلفي ة الثالث ة متمثال بديمقراطي ة
تأدية األدوار الجماعية وأداء الواجب تج اه األخ ر .م ا يجع ل مهم ة الفن ان متجاوب ة م ع أس ئلته ورؤيت ه،
ومتفاعلة مع مهمة الفن في التفاعل مع دور الفنون في مقاومة س لطة السياس ي .يص بح الش عب ديمقراطي ا
بطبيعته؛ ألنه "علة كل األشياء وغايتها؛ منه ينبع كل شيء واليه يعود".34
يقول آالن تورين" :إن الحديث عن دمقرطة الفن بديال عن دمقرطة اللعبة السياسية ليس أمرا سهال،
خاصة في تلك المجتمعات الرأسمالية التي أملت على النخب الثقافية وعلى الفنانين قيودا وإغ راءات قص د
امتالكها وتطويعها .رغم أن ذلك ال ينفي وجود أصوات عضوية رفض ت الس قوط في برك ة االديولوجي ا،
وجعلت من ص وتها ص وتا ديمقراطي ا ألج ل الديمقراطي ة المدني ة ،وألج ل حمايته ا من جش ع السياس ي
واالديولوجي .قليلون هم الذين يجرؤون على الدفاع عن المفهوم االجتم اعي والش عبي للديمقراطي ة ،ال ذي
طالما كان غطاء ألنظمة تسلطية قمعية" .35وفي ظل هذا الصراع األب دي بين الفردي ة الذاتي ة والعم ومي،
تبقى الديمقراطية من المفاهيم المؤجلة تحققها تحقيقا مطلقا على الدوام.
ال تستطيع األدبيات أن تمنحها مع نى مح ددا وممارس ة مقنن ة ،طالم ا أنه ا تتص ل بطبيع ة اإلنس ان
وبرؤيته للحياة .فقد تكون الديمقراطية أخر المطالب وليس أولها ،وق د تتش ابه في ق دومها وفي تحققه ا م ع
"طائر المينيرفا" أو الفلسفة المحلقة .ال تأتي إال أخر الليل أو بعد ما يكتمل نصاب التفكير .ثم ة س ؤال مهم
يجمع الديمقراطية باإلنسان ،او بتلك الطبيعة األولى التي هبطت إلى األرض هبوطا اضطراريا ،ما يجع ل
وجود اإلنسان في األرض وجودا غير ديمقراطيا .فنزول اإلنس ان إلى األرض ك ان نت اج المش يئة اإللهي ة
العليا التي تتحكم تحكم ا ض روريا بوج وده وبمس تطاعه اإلرادي والفك ري في تس طير مص يره ،وه و م ا
يجعل هذا المفهوم موضع "نظر ورفض وتحفظ" .36لهذا األم ر تبقى الديمقراطي ة المدني ة خ ارج طوره ا
العملي ،متصلة بحاكمية فعل مطلق" .كن فيكون" .37إن ما يكتب حولها من كتابات وما يؤس س حوله ا من
33
. Joelle Zask, Art et démocratie peuple de l'art, Eds PUF, Paris, 2003, p 13.
. 34توكفيل" ،الديمقراطية في امريكا" ،فالماريون ،باريس ،1981 ،ص .120
راجع :غيورغ سورنسن" ،الديمقراطية والتحول الديمقراطي" ،ترجمة عفاف البطاينة ،منشورات المركز العربي لألبحاث
ودراسة السياسات ،قطر.2015 ،
. 35آالن تورين" ،نقد الحداثة" ،ترجمة صياح الجهيم ،مرجع سابق ،ص .157
. 36محمد االحمري" ،الديمقراطية الجذور واشكالية التطبيق" ،الشبكة العربية لالبحاث والنشر ،بيروت ،2012 ،ص
.241
. 37الصادق جالل العظم " ،نقد الفكر الديني" ،ط ،6دار الطليعة ،بيروت 1988، ،ص .231
17
نظريات قد تضاعف من التباسها ومن غموضها األبدي ،ما يبقي ذلك تنظيريا مفهوميا في خانة "السياس ي
واالديولوجي اليوتيوبي".38
توجد عوامل خفية وأخرى ظاهرة تساهم في تأجي ل تحق ق الديمقراطي ة ،كم ا يفك ر في أطروحاته ا
أصحاب الشأن العمومي ،وبخاصة الفنانون الذين ينظرون إليها وهبا انطولوجيا ،باستطاعة الفن أن يحققها
وان يحفظها من التدخل االديولوجي العنيف .ثمة شروط أولية ال يستطيع السياسي االنتب اه إليه ا ،لكون ه ال
يح وز رؤي ة جمالي ة ديمقراطي ة لألش ياء ،فه و س جين ذاتي ة ورغب ة في التطوي ع والس يطرة والنظ ر إلى
األعمال الفنية؛ نظرة مادية ،تجردها من قيمتها االنطولوجية ،لـ"تجد نفسها منس وبة إلى قيم ة الت داول ،م ا
يجعل األعمال قابلة للمفاوضة مثل أي سلعة استهالكية" .39يؤمن السياسي المتمركز حول ذاته البراغماتية
أن الرأسمالية والس وق ومجتم ع الرف اه مقوم ات أساس ية لقي ام مجتم ع ديمق راطي ،وه و م ا ع برت عن ه
أطروحة سيمور ليبست في تأكيده على "انه كلما ك انت األم ة في رخ اء وس عة عيش عظمت فرص ها في
الحفاظ على الديمقراطية".40
ويعدد ايف ميشو في كتابات ه ح ول الديمقراطي ة الليبرالي ة ،وح ول عالقته ا ب الفن المعاص ر ،ك ثرة
المطبات والمتاهات والنهايات الكارثية .في ظل هذه األزم ات الس ائدة ،تب دو أزم ة الع الم المعاص ر أزم ة
انطولوجية متدثرة بم نزع تي و ـ سياس ي ،عبّ رت عنه ا أزم ة الفن ودوره في توجي ه اإلنس ان إلى أس ئلته
المصيرية .يأتي ميشو في كتابه " ازمة الفن المعاص ر" على خريط ة الص راعات الناتئ ة على مس طحات
الفن المعاص ر ،موجه ا نق ده إلى الص راع الح اد بين س لطة الفن الكالس يكي وانعط اف الفن الطليعي إلى
التحرر من منظوريّته الفكرية والتقنية ،مما أحدث هوة في العالقات ،وفتح ب ؤرة ته دد بكارث ة الس قوط في
الهاوية .يصبح الفن غير قادر على القيام برسالته وبمقاوم ة الم د السياس ي واالديول وجي ،وتش كيل فض اء
للحوار تتأسس فيه "الديمقراطية في عمق األعمال الفنية".41
كما ينطلق والتر بنيامين من اإلشكالية ذاتها ال تي توق ف عن دها ميش و ،رغم أنهم ا لم يتعاص را ولم
يلتقيا على مس طح الح وار والنق اش ح ول المش ترك .يبحث في دراس ته العميق ة "العم ل الف ني في عص ر
االستنساخ اآللي" عن أهمية دمقرطة العمل الفني عن طريق االستنساخ ،ونشره خارج المح ور األوروبي
. 38حنان مصطفى عبد الرحيم" ،الفن والسياسة في فلسفة هربرت ماركوز" ،دار التنوير ،بيروت ،2010 ،ص .211
. 39مارك جيمنيز" ،ما الجمالية؟" ،ترجمة شربل داغر ،مرجع سابق ،ص .367
. 40غيورغ سورنسن" ،الديمقراطية والتحول الديمقراطي" ،ترجمة عفاف البطاينة ،مرجع سابق ،ص .52
"ي ّو لد التحديث والثورة عوامل مواتية للديمقراطية مثل ارتفاع معدالت الق راءة والتعليم والتم دن والتحض ر ووج ود وس ائل
اإلعالم .إضافة إلى ذلك ثروة المواد الالزمة للح د من الت وترات الناجم ة عن الص راع السياس ي .وق د ن زع ع دد كب ير من
التحليالت التجريبية التي ألهمتها فرضية ليبست إلى مساندة ه ذا ال رأي ،وعلي ه فق د اعت بر روب رت دال ع ام 1971ال رأي
القائل بأنه كلما ارتفع المستوى االجتماعي االقتصادي للبلد رجحت احتماالت كونه ديمقراطيا مسالة ال جدال فيها".
راجع المرجع نفسه ص .52
41
. Michaud Yves, L'artiste et les commissaires, Eds Jacqueline Chambon, Paris, 1989, p 246.
18
المتمرك ز ح ول خيالئ ه الذاتي ة ،ليص بح أك ثر أنش ارا وديمقراطي ة في الظ اهر .ويحق ق الفن في ش كله
االستنساخي رسالته الثورية في مقاومة أسباب الوعي الشقي ،ليصبح االستنس اخ ض ربا من دمقرط ة الفن
والنضال من اجل مجتمعات ديمقراطية متحررة من المثالية ،ومتشبعة بجمالية أصيلة نابعة من عالم العمل
الفني.
وتتحقق هذه الديمقراطي ة الموهوم ة في الفن في رغب ة الجم اهير المعاص رة لجع ل األش ياء أق رب
مكانيا وإنسانيا ،وهي "رغبة جياشة بقدر نزوع هذه الجماهير إلى التغلب على تف رد ك ل واق ع عن طري ق
قبول مستنسخ" .42إن االستنساخ اآللي للعمل الفني قد ال يحقق المطلوب ،وقد يضاعف من مركزية العم ل
الفني؛ الن ما سوف يصل إلى الجمهور ليس هو العمل الف ني ذات ه .ان ه نس خة وش بح .ويفق د العم ل هالت ه
وبريقه االنفعالي واإلدراكي ،وال يحقق رسالته الجمالية الثورية .ويتساءل بنيامين ما إذا كان "أمر إص دار
نسخ عديدة عن العمل الف ني لتق ديمها في ال وقت عين ه ألع داد من الجمه ور ي ؤثر أو ال ي ؤثر على العم ل
األصلي؟".43
يدين بنيامين االستنساخ اآللي للعمل الف ني؛ ألن ه ج اء ص نيع العق ل الح داثي ومس اوئ المجتمع ات
االستهالكية ذات المنزع المادي واالستبداد السياس ي .كم ا أظه ر االستنس اخ تعب يرا عميق ا عن أزم ة الفن
المعاصر ،وعدم قدرته على طرح أسئلة المصير والتفك ير في المس تقبل .وش ّكل ه ذا الموق ف في إخ راج
الفن عن طوره االنطولوجي والثوري مدخال فينومينولوجيا ،انطلق منه هيدغر للتص دي لميتافيزيق ا العق ل
السياسي التقني الذي لم يراع إنسانية اإلنسان.
لقد وجد هيدغر في العمل الفني كشفا عن حقيقة الوجود اإلنساني في العالم ،وعن عمق المعاناة التي
يعيشها في ظل الكليانية السياس ية ال تي تتالعب بعق ول البش ر ،وتعبث بمش اعرهم وك رامتهم تحت غط اء
التسخير والمردودية ،واستنفاذ مقدرات األرض ،على حساب حريتهم التي وقع سلبها ،عندما وقعت س لعنة
اإلنسان" ،وجعله أرخص السلع" .44وتحول العمل الفني إلى معلقة إشهارية وإلى بطاقة بريدية ،مم ا جع ل
الفن وسيلة من وسائل االستهالك الترفيهي ،وصورة رخوة تعبر عن غرائز المجتم ع االس تهالكي .لم يكن
االستنس اخ للعم ل الف ني خدم ة لالنس ان ولنش ر ال وعي والعدال ة الجمالي ة ،اس تعدادا لتأس يس ديمقراطي ة
حوارية ،تلغي العنف وتفتح طرق الحوار والضيافة والمشترك.
. 42فالتر بنيامين " ،العمل الفني في عصر االستنساخ الميكانيكي " ،مقاالت مختارة ،ترجمة احمد حسان ،مرجع سابق ،ص
.171
. 43مارك جيمينيز" ،ما الجمالية؟" ،ترجمة شربل داغر ،مرجع سابق ،ص .366
. 44مارتن هيدغر" ،السؤال عن التقنية " ،ترجمة اسماعيل المصدق ،كتابات أساسية ،منشورات المجلس األعلى للثقافة،
القاهرة ،2003،ص .154
19
كان استنساخ العم ل الف ني اس تجابة لطم ع الس وق والنحط اط ال وعي الجم الي تحت ت أثير القح ط
اإلبداعي والتقنيات الحديثة .فقد العمل الفني عمقه االنطولوجي ،وتح ول الفن إلى س لعة يتحكم به ا الس وق
ورأس المال .إن ما يعنى به هذا المنزع المادي في الفن هو اإلبقاء على الحال كم ا ه و ،والتص دي لمهم ة
الفن النضالية ،بعد أن أدرك الرأسماليون والسياس يون خط ر دمقرط ة الفن وتحري ره من منزع ه الم ادي،
الذي سوف "يحرر الفنانين من طغيان سوق الفن ومن الط ابع التج اري لإلعم ال الفني ة" .45إن الدمقرط ة
الفعلية للفن سوف تكون وباال حاقّا على ديمقراطيتهم المزعومة ،وقدرة على المقاوم ة وعلى نش ر ال وعي
الجم الي ال ديمقراطي المتص ل بهال ة العم ل الف ني .ويفس ر بني امين تغ ييب ه ذه الظ اهرة ال تي ش كلتها
الديمقراطية الليبرالية تفسيرا يجعل استعادتها أمرا مهما يحمي الفن من المهاوي .فـ"الغي اب الحتمي للهال ة
يؤدي إلى إفقار التجارب الجمالية المبنية على التقاليد ،ويقابل انقالبا ثقافيا ال مثيل له".46
تصبح دمقرطة العم ل الف ني في جانبه ا الس لبي ق وة للتغلب على ق وى النض ال والمقاوم ة .ولحش د
الجماهير حول فكرة الديمقراطية الهشة ،عمل استنساخ العمل الفني -وخاص ة في الس ينما -على تك ريس
ثقافة جمالية تفسد الوعي ،وتحشد الجموع حول فكرة االنتم اء إلى السياس ي ،بع د م ا ط وّعت التكنولوجي ا
والوس ائط الرقمي ة ك ل مق دراتها الثقافي ة واالس تهالكية لفص ل الفن عن المش ترك ،بوص فه "جم وع من
الفرديات" ،47يساهم في التحرر وفي تفعيل الحوار الديمقراطي.
يرفض الفن الثوري القبول بنت ائج ه ذه الديمقراطي ة الم دمرة وبتبريراته ا االيديولوجي ة ال تي تنفي
عنها جرائمها الكارثي ة على اإلنس انية .إنه ا تس عى إلى التص دي للفن المق اوم واس تبداله بجمالي ة الح رب
والقبح .فالزيادة في هذه األدوات ودمقرطتها بين الجموع سوف يش كل ض غطا قوي ا على المتلقي من اج ل
استخدامها في غير محلها ،وهذا ما تقدمه تبريرات الحرب ،وما يرافقها من حمالت إعالمية تروج لتحرير
العالم من الديكتاتوريات واالستبداد" ،ونشر الديمقراطية الحوارية على النموذج األمريكي" .ي رى بني امين
أن تدميرية الحرب تقدم "برهانا على أن المجتم ع لم يص بح بع د ناض جا بم ا يكفي الس تيعاب التكنولوجي ا
باعتبارها عضوا من أعضائه".48
تتصل مهمة الفن في طوره الحداثي بالتصدي للمنزع التقني الذي هدد مصير اإلنسانية ومازال يهدد
مستقبلها .ويذهب هيدغر في قراءته لالزمة األوروبية إلى أن "هيمنة التقني ة وع دم فهم ماهيته ا ق د ض يّع
. 45آن كوكالن" ،معاشرة الالماديات" ،ترجمة صالح الداودي ،ضمن كتاب اطالالت على الجماليات بالعالم العربي،
مختارات معربة ،إشراف وتنسيق رشيدة التريكي ،المجمع التونس ي للعل وم واالداب والفن ون بيت الحكم ة ،ت ونس،2010 ،
ص .519
. 46المرجع نفسه ،ص .367
47
. Negri, Art et multitude, Eds Mille et une nuit, Paris, 2009, p 117.
.48فالتر بنيامين" ،العمل الفني في عصر االستنساخ الميكانيكي" ،ضمن مقاالت مختارة ،ترجمة احمد حسان ،مرجع سابق،
ص .190
20
أمام أوروبا فرصة تذكر مصيرها ،واالنفتاح على مستقبل أفضل لو أخذت بالعمل الفني رؤي ة انطولوجي ة
لكشف حقيقة الوجود اإلنس اني في الع الم .إن العم ل الف ني ه و الض مانة لفهم ماهي ة التقني ة باعتباره ا في
أصلها اإلغريقي أداة كش ف الحقيق ة ،وليس ت دمير الع الم .يبقى اإلنس ان في خط ر من ك وارث السياس ات
العسكرية ،طالما لم يح دد الض مانة .فالح ديث عن نهاي ة العص ر الن ووي ليس ض مانة كافي ة ل درء خط ر
المصير ،طالما لم تتوفر الشروط الستمرارية هذه الضمانة".49
تص بح الض مانة عن د هي دغر ض مانة انطولوجي ة يكفله ا العم ل الف ني ،عن دما يتح رر من س لطة
الديمقراطية الهشة التي تصطنعها القوى المعادية لإلنسان .ويعتق د ج اك داري دا أن الديمقراطي ة الحواري ة
يسبقها فعل التفكيك كخيار ديمقراطي ،يمنح مع نى جمالي ا للض يافة واالحتف اء ب األخر على مائ دة الح وار
الديمقراطي ،بوص فه فعال ثوري ا يه دم س لطة الخط اب االديول وجي ،ويم زق التمرك ز ح ول ال ذات" .إن
التفكيك الذي مارسته ك ان دوم ا غريب ا عن الخطابوي ة ال تي -مثلم ا ينص على ذل ك اس مها -بوس عها أن
تستحيل إلى شكل آخر من مركزية اللوغوس".50
تتحول مهم ة الفن ان ورهانات ه ،في المجتمع ات ال تي تق وم ديمقراطياته ا على مس طحات اقتص ادية
وسياسية ،إلى مقاومة الهيمنة والتصدي لقوى التسخير السياسي ،التي تدعمها النخب الم أجورة والمس لوبة
من حسها النقدي والثوري ،والتي تجعل منها التبعية أصواتا دعائية لديمقراطية مؤدلجة ومتذوتة ،تتج اوب
مع مصالحها ومع مصالح االديولوجيا السياسية .تساهم في التصدى لك ل ديمقراطي ة ثوري ة ناش ئة يقوده ا
الفنان العضوي الذي ال يقبل برشاوي واستقطاب أصحاب القرار السياسي .يفص ح غي ورغ سورنس ن عن
تقاطع المصالح بين المثقف والسياسي ،ويكشف عن ازم ة "الديمقراطي ة ال تي ت دعمها النخب على أس اس
المصلحة الذاتية .لذلك تكون الديمقراطية هشة ومشروطة في آن".51
وشهد الفن في بعض أطواره وانعطافاته التاريخية قيام حركات طليعية ثورية ،حيث ثمة من ال وعي
م ا ي دعو إلى النق د والمقاوم ة ،وه و م ا احتاج ه الفن المعاص ر للتغلب على ك وارث الحداث ة ومخلفاته ا،
ولكشف المفزع "وفضح الهيمنة ،فهو في الحقيقة الشاهد الوحيد على ما هو مسكوت عنه ومبعد من طرف
هذه الهيمنة".52
عندما تطرح الديمقراطية طرحا جماليا وفنيا تتحرك القوى المضادة لإلجهاض على مشروعها .ثمة
خوف من الرؤية الفنية التي تطرح المشترك بديال عن القطيع ،وتجعل من الديمقراطي ة س ؤالها األساس ي.
. 49هيدغر ،نص الحوار الذي اجري معه مع قناة تلفزيونية المانية ،ترجمة فريق الترجم ة ،مجل ة الع رب والفك ر الع المي،
بيروت ،لبنان.1988 ،
50
. Derrida, Limited Inc, Eds Galilée, Paris, 1990, p 244.
. 51غيورغ سورنسن" ،الديمقراطية والتحول الديمقراطي" ،ترجمة عفاف البطاينة ،مرجع سابق ،ص .60
. 52ادرنو" ،نظرية استطيقية" ،ترجمة ناجي العونلي ،مرجع سابق ،ص .95
21
وقد أوجد غادامر تسويغا مشتركا بين الفن والديمقراطية يقوم على الحوار وعلى الضيافة ويعتقد إن العم ل
الفني هو اللغة المشتركة التي تفتح من أفق الحوار الديمقراطي الذي "يخاطبن ا بش كل مباش ر كم ا ل و ك ان
يرينا أنفسنا".53
إن التاريخي هو الجمالي في الفن ،يتجاوز المحلي ويرسم مسطحات المشترك ،ويجعل من اللغة أفقا
للحوار الديمقراطي .ثمة رؤية غادامرية تجمع اللغة بالديمقراطية ،من جهة اللغة الفنية التي تتملك االقتدار
على التوسع واالنتشار ضمانة انطولوجية للتعايش الس لمي والح وار المش ترك ،خ ارج ب راديغم التواص ل
الذي تطرحه النظرية "التواصلية في الفضاء العمومي".54
يط رح س ؤال الفض اء المش ترك الت داخل بين الممارس ات الفني ة كعملي ة إبداعي ة وبين الممارس ة
الديمقراطية كنشاط سياسي .يبحث عن إمكان منعطف يحرر الديمقراطية من الل وث االديول وجي ،ويجع ل
منها غنما جماليا وثوريا في تفاعل يضمن تحرر الفضاء المشترك من الهيمن ة .يحت اج المش ترك اإلنس اني
إلى الفن والجمالية قبل حاجته إلى السياسي والديمقراطية؛ ألنه انطولوجي قبل أن يكون ايتيقي .ف إن "وق ع
تجاوز السوق باالقتدار ،ووقع تجاوز ما بعد الحداثة باإلتيقا ،فالفن هو اقتدار وايتيقا معا" ،55لكون ه ال يهتم
بتشريع القيم بقدر ما يستدعي سؤال الوجود في بدوه الصبيحي "السابق على كل نظام".56
لم يع د ممكن ا فهم الديمقراطي ة خ ارج الفض اء المش ترك ال ذي يؤسس ه الفن وينش طه الفن ان ب روح
ثوري ة .فبحس ب أنطوني و نيغ ري ،الثوري ون وح دهم هم أنبي اء اإلنس انية؛ ألنهم باس تطاعتهم التص دي
للحركات الرجعية ،وإعادة تشكيل العالم تشكيال جماليا .نحتاج إلى "ثوريين ق ادرين على نق د الع الم؛ ألنهم
على عالقة حقة مع الوجود" .57يستدعي الفن الديمقراطية ويفعلها ،ويعمل على حفظ عهدها .وق د س اهمت
الثورات الفنية منذ القديم في تحرير "الفضاء المشترك" من المراقبة والمعاقبة .حولت ثورة 1968بفرنسا
الفضاء االديولوجي المغلق إلى فضاء مفتوح استعاده اإلبداع الفني اس تعادة حواري ة وديمقراطي ة ،بع د أن
53عبد العزيز بو الشعير" ،غ ادمر من الفهم إلى الوجود إلى فهم الفهم " ،منشورات االختالف ،الجزائر ،دار األمان،
الرباط ،2011 ،ص .176
54
. Habermas, L'espace public : Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société
Bourgeoise, Eds Payot, Paris, 1976, p 285.
55
. Negri, Art et multitude, Op .Cit, p 50.
.56بول كلي" ،نظرية التشكيل" ،ترجمة عادل السيوي ،منشورات ميريت ،القاهرة ،2003 ،ص .50
57
. Negri, Art et multitude, Op .Cit, p 41.
22
جمع بين الفنان والمتلقي والناقد ،في لحظة تاريخية فارقة في تاريخ أوروب ا ،ح ول مائ دة س ؤال المواطن ة
والحرية والتشاركية في "مجتمع ديمقراطي".58
في ضوء التحول الثوري ونشوء الديمقراطيات الوليدة في أفق فني وجمالي ،كان الس عي إلى البحث
عن المشترك امرا مهما قصد التنحي عن براديغم السياسي ،وتبني براديغم الحوار الديمقراطي .يعني ذل ك
أن يتوجه الم د الث وري إلى إلغ اء التم اس االديول وجي بين الفض اء المش ترك واإلب داع الف ني ،أن يتح ول
الفضاء إلى مسطحات تتقاطع وتتداخل فيها األعمال الفنية بالرؤية الديمقراطية ،التي تس عى إلى نش ر القيم
والعدالة والحرية كتمرين ديمقراطي على المواطنة التشاركية والحوار النق دي .وق د س محت لوح ة الفن ان
دي الكروا "الحرية تقود الشعب" بطرح سؤال الحرية والديمقراطية ،بعد "أن ك ان ص احبها ثوري ا وأح د
دعاة التحرر في العالم" .59ما يعني أن الفن والديمقراطية وجهان لوجه مشترك هو سؤال الحري ة وتم رين
المواطنة والحوار الديمقراطي ،ألخذ القرار المصيري ،بعيدا عن غوغائية الدعاي ة السياس ية للديمقراطي ة
المارقة التي تروج لبهرجها غير المريح" :الثقافة الغربية الضحلة".60
يجعل غادمر من الحوار مطلبا جماليا وفنيا قصد االرتق اء باإلنس اني إلى الديمقراطي ة الهادئ ة ال تي
يضمنها الفن .يجعل الفن من تراثه الثوري مركبا جديدة ومسطحا لغويا يقوم على فتح األفاق؛ ألن ه األق در
على إدارة الح وار ح ول المش ترك ،وتحري ره من الض مأ االديول وجي .ي رى غ ادمر في الح وار جمالي ة
تضمن الحرية وتفتح العوالم المختلف ة على النق اش ال ديمقراطي ،ال ذي يتجلى على نح و واقعي "ش يئا من
أس اس التض امن" .61يمنح الح وار ال ديمقراطي مف اتيح الت ذوات واالع تراف ب األخر ،طرف ا في إنش اء
ديمقراطية جمالي ة نتعلم منه ا فن اإلنص ات إلى اآلخ ر واإلص غاء إلي ه ،وه و يتج اوب معن ا ح ول أس ئلة
الفضاء المشترك ،ال ذي ال يبتع د كث يرا عن مع نى الفض اء العم ومي عن د هابرم اس ،من جه ة التواص ل
الحواري القائم على االختالف في اآلراء وفي األسئلة ،دون أن يكون الفن وحده لغة الحوار .ه ذا النم وذج
الحواري الديمقراطي في نظر هابرماس "ال يستطيع أن يتأسس إال إذا ارتبط بالمناقشات العمومية".62
عندما نتحدث عن عالقة الفني والثقافي بالديمقراطية ،وجب أن نتحدث أيض ا عن مب دعين يفك رون
من خارج سلطة الفن وديكتاتوي ة الثقاف ة ،بع د أن تح ول الفن إلى ثقاف ة س لعية رخيص ة يتحكم به ا منط ق
السوق .قاطعها ادرنو؛ ألنها "ت ّدعي التعبير عن مضمون سياسي محدد وتغرق في الدعاي ة الترويجي ة".63
. David Alcaud, « Sociologie des arts et de la culture et politique culturelle », in « Sociologie des arts et de la
58
culture», sous la direction de Sylvia Girel, Eds L’Harmattan, Paris, 2006, p 62.
. 59عبد العزيز احمد جودة" ،قراءات في الفن الحديث" ،ارت هاوس للطباعة ،القاهرة ،2008 ،ص .92
60
. Luc Ferry, Le Sens du Beau, Op.Cit, p297.
. 61غادمر" ،الحقيقة والمنهج " ،ترجة حسن ناظم علي ،حاكم صالح ،دار أويا ،طرابلس ،ليبيا ،2007 ،ص .298
. 62ابو النور حمدي ابو النور حسن" ،يورجين هابرماس األخالق والتواصل" ،دار االنوار ،بيروت ،2012 ،ص .255
. 63مارك جيمينيز" ،ما الجمالية؟" ،ترجمة شربل داغر ،مرجع سابق ،ص .398
23
أدانها بنيامين لكونها تعبيرا فعليا عن االديولوجية السياسية المعادية للنشاط الفني الثوري والمقاوم .فـ"ه ذا
هو وضع السياسة التي تجعلها الفاشية جمالية أما الشيوعية ف ترد بتس ييس الفن" 64لكونه ا ثقاف ة تق وم على
التواطئ مع االديول وجي والسياس ي .ففي ظاهره ا ت دافع عن الفض اء المش ترك ،وتحمي الكي ان وتط رح
الديمقراطية أفقا للح وار وللتع ايش الس لمي بين مختل ف الثقاف ات .أم ا في عمقه ا االديول وجي ،فهي ثقاف ة
تطويع وسلطان وإنت اج مع رفي "للمراقب ة والمعاقب ة" .65تح ول الفن إلى ص ناعة ثقافي ة تخض ع للع رض
والطلب ،مم ا جع ل من الديمقراطي ة ص ناعة سياس ية تخض ع لمنط ق الس وق .غ دا الفن بض اعة ع ابرة
للقارات ،وتحول إلى ثقافة إشباع جسدي وإيروسي .تداخل الفني والثقافي والسياسي واالقتصادي في جس د
إشهاري ودعائي طيع ورخوي .يروج لـ"أسطوريات الثقافة الغربية االستهالكية".66
يتحول الفض اء المش ترك إلى عم ل ف ني يؤس س لح وار ديمق راطي .يس وغ إمك ان الس ؤال وتعق ل
الديمقراطية التي تحمي الحوار وترعى األسئلة وتضاعف من الخبرة .ووجّه غادامر اهتمامات ه إلى تأوي ل
األعمال الفنية ووجد فيها اللغة الخاصة بمحاورة عصره على أرض ية حواري ة ديمقراطي ة" .لق د نمت في
الفن لغ ة مش تركة تالئم المض مون المش ترك لمعرفتن ا بأنفس نا" .67ويحت اج العص ر ال ذري إلى الح وار
الديمقراطي في الفن أك ثر من حاجات ه إلى الق رارات السياس ية ،فه و في نظ ر ب ول ريك ور تحقيق ا ف اعال
"للديمقراطية الهادئة" .68ويصل هابرماس الحوار ال ديمقراطي بمص ير اإلنس انية؛ يحرره ا من التخ اطب
غير المتكافئ الذي تفرضه االثنيّات السياسية والعرقية على األخر وت راهن على تغ ييب الح وار وتس ييس
الديمقراطية ،وتربطها بالمصالح الذاتية" .إن الديمقراطية ترتبط بنظرية المناقشة والحوار ال تي ال تنفص ل
في حد ذاتها عن التواصل والفعل التواصلي".69
ويقترح هربرت ماركوز وجه ة نظ ر تح رر اإلنس انية من عبوديته ا ،ومن دمقرط ة انته اك حقيق ة
الوجود اإلنساني .كما يعتقد أن الحضارة المادية "هي المسؤولة عن جعل اإلنسان المعاص ر يائس ا؛ فال ب د
أن تكون المعالجة بنفس الوسيلة ،أي ،حضارة بديلة" .70إن م ا تحتاج ه اإلنس انية في ض وء انس داد األف ق
وأزمة الفضاء المشترك هو ديمقراطية يؤسس ها الفن وتمارس ها رؤي ة جمالي ة للع الم ،بع د أن ب ات الع الم
عالما منغلقا ورخوا وشبحيا انعدم فيه طرح األس ئلة المص يرية وأدخ ل اإلنس انية في ط رق مس دودة وفي
متاهات المعنى .ويحوّل ليوتار الفن إلى البحث في الل اـ إنساني ،بعد أن تحول كل شيء ضد اإلنسان ،بأن
. 64فالتر بنيامين" ،العمل الفني في عصر االستنساخ اآللي" ،ضمن مقاالت مختارة ،ترجمة احمد حسان ،مرجع سابق ،ص
.190
" . 65المثقفون والسلطة ،حوار بين ميشال فوكو وجيل ديلوز" ،ترجمة الزواوي بغورة ،ضمن كتاب " جيل ديلوز سياسات
الرغبة" ،تحرير احمد عبد الحليم عطية ،دار الفارابي ،بيروت ،2011ص .176
. 66روالن بارط" ،أسطوريات" ،ترجمة قاسم المقداد ،مركز اإلنماء الحضاري ،الالذقية ،سوريا ،1996 ،ص .143
. 67غادمر" ،تجلي الجميل" ،ترجمة سعيد توفيق ،المجلس األعلى للثقافة ،القاهرة ،1997 ،ص.67
. 68بول ريكور "،من النص إلى الفعل" ترجمة محمد برادة حسان بورقية ،دار األمان ،الرباط 2004 ،ص .269
69
. Habermas, Théorie de L’agir communicationnel, Eds Payot, Paris, 1987, p89.
. 70حنان مصطفى عبد الرحيم" ،الفن والسياسة في فلسفة هربرت ماركوز" ،دار التنوير ،بيروت ،2010 ،ص .146
24
يتناول العمل الف ني ك ل م ا يع رّي النزع ة اإلنس انية ألن م ا بقي للفن "بم ا ه و سياس ة غ ير مقاوم ة الالـ
إنساني".71
إن التشريع لثقافة الطموح السياسي والعس كري ه و تش ريع ميت افيزيقي ،هدف ه تغ ييب الديمقراطي ة
وتجفيف منابع اإلبداع الفني ،من مدخل ض يق ومكش وف يق وم على توزي ع الديمقراطي ة النموذجي ة ،دون
االع تراف بخصوص ية الثقاف ات وتم يز طقوس ها الفني ة واإلبداعي ة .وش ّكل الح ديث عن الديمقراطي ة في
األطراف موضوعا مهما دون الحديث عن المثق ف ال ديمقراطي في ش خص الفن ان والمب دع ،وعن تأهيل ه
وتحريره من الهيمنة والتطويع .إن التطرق إلى العدالة ال يطرح السياسي "العادل" بلغة بول ريك ور .تل ك
هي نعومة االمبريالية الثقافية التي تروج لثقافة المركز ولديمقراطيته الهشة ،وتقرنها بمش روع ديمق راطي
يبقى طوباويا؛ ألنه ال يراعي الخصوصية الثقافي ة ،وال يعتم د على المب دعين والفن انين .يحت اج الع الم إلى
ثقافة مبدعة وإلى نهض ة فني ة تق وم على أص وات المب دعين والفن انين ،كم ا يحت اج الع الم إلى ديمقراطي ة
حوارية تمارس ها نخب ديمقراطي ة يناقش ون أس ئلة المص ير ،ويتدارس ون مس تقبل الش عوب داخ ل فض اء
مشترك ،يكفل حرية "النقاش ويفتح اآلفاق".72
سمحت السياسات الدولية المتمركزة حول المصالح الذاتية من التعدي على قداس ة الح وار المتم دن،
وعلى قدرة الضيافة الفنية في تحرير الفضاء المشترك من االديولوجي والثق افي .فرض ت التف اوض ال ذي
يفرض قوتين غير متكافئتين في الق وة المادي ة والثقافي ة ب ديال عن الح وار ،ال ذي يش كل مقوم ات الفض اء
المشترك ،ويفتح مداخل العالم للجميع على قاع دة ح وار ديمق راطي ،ينمي المس اءلة والتج ارب والس ؤال.
وي ذهب ميخائي ل ب اختين إلى أن الح وار ال ديمقراطي "يس عى إلى تحري ر الع الم من ك ل م ا ه و م رعب
ومواجهة سلطة القمع األحادي الخطاب" .73ويصبح الح وار في الفن مطلب ا لتفعي ل أس ئلة الديمقراطي ة في
الفضاء المشترك ،والنظر إليها جماليا للتفكير باإلنساني خارج الكدمات والشروخ ،ال تي فرض ها الخط اب
السياسي وس ّخرتها "إدارة العالقات الدولية".74
وال تقف الديمقراطية الحوارية عند الح وار م ع اآلخ ر ،ب ل تنفتح على ح وار األجي ال وعلى تالحم
اآلفاق على المستقبل .ويحتاج تأمين المستقبل إلى الحوار الديمقراطي حول المشترك لعبور ص نمية العق ل
السياسي األداتي .يصبح الفن حينئذ أفقا للحوار الديمقراطي في زمن ن ووي ك ارثي ،ف رض عقال أداتي ا ال
يفكر ،أمات الحقيقة وعبث باإلنسان .ح ّمله أدرنو مسؤولية تجفيف الفضاء المشترك من الحوار.
71
. Lyotard.J.F, L'inhumain, Eds Galilée, Paris, 1988, p 15.
. 72غادمر" ،الحقيقة والمنهج" ،ترجة حسن ناظم علي ،حاكم صالح ،مرجع سابق ،ص .341
. 73تزفيتان تودوروف" ،ميخائيل باختين المبدأ الحواري" ،ترجمة فخري الصالح ،المؤسسة العربية للدراسات والنشر،
بيروت ،1996 ،ص .135
. 74غيورغ سورنسن"،الديمقراطية والتحول الديمقراطي" ،ترجمة عفاف البطاينة ،مرجع سابق ،ص .209
25
ويعتقد الفيلسوف بأن الديمقراطية مطلب يتصل بجمالية مقاومة للصراعات االديولوجية األص ولية،
التي تغذي تهميش الحوار ،وأماتة تقوى التفكير في المشترك ،في مجتمعات مات فيها الفن وتبخرت قدرته
على التصدي للضمأ االنطولوجي ،بعد أن أحاقت باإلنسانية كارث ة نس يان المن ابع ،نتيج ة التح والت ال تي
شهدها الفن في منعطف األلفية الثالثة ،والذي تفاع ل كث يرا م ع التح والت العميق ة ال تي أح دثتها دمقرط ة
الصورة ،من خالل دمقرطة التلفزيون .تحول التلفزيون في نظر ريجيس دوبري إلى ق وة ض غط وتقليص
للتعددية والديمقراطية .والن "التلفزيون متعلق باالستطالل الشعبي المستمر ،فهو يدعو إلى إخالء الفض اء
العمومي ،كما لو كان األمر يتعلق بإقامة إجبارية مقنعة".75
أمام تنافذ الفن مع الفضاء المشترك قصد اختراق الديمقراطية الهش ة ،يص بح الفن ديمقراطي ا؛ ألن ه
أصبح قادرا على تغيير الوعي السائد ،وإفراز وعي متصل بالخبرة الجمالية "نستطيع أن نتعرف في ه على
أنفسنا" .76وتتحول الديمقراطية الجمالية إلى رؤية لعالم متغير ومفتوح على الحوار المتكافئ عه دا ووع دا
مص يريا ،وإلى فن ج ذري يم ارس في الفض اء المش ترك :يلغي فن حكم المجتمع ات ،بع د أن يص بح الفن
الث وري منبع ا للحري ة .تتح ول الديمقراطي ة الهادئ ة إلى ح وار يجس د انطولوجي ا الفن في رس م مس تقبل
المجتمعات وفي الدفاع عن مصيرها .لكن هذا ال يع ني أن بإمك ان الفن وح ده أن يجس د ه ذه الديمقراطي ة
الحواري ة في فض اء إنس اني مش ترك .ثم ة ق وى هيمن ة جدي دة تتج اوز مس تطاع الفن في نحت رؤي ة
ديمقراطية.
فرضت العولم ة الثقافي ة رؤيته ا على الع الم المعاص ر .تج اوزت مهم ة الفن ان الث وري .ح ل الفن
التكنولوجي محل اإلبداع ،وغير العالقات التي تجمع الفنان بالجماهير .تحول الفضاء المش ترك إلى فض اء
تفاعلي وإلى شبكة ال يمكن التحكم فيها .ما يعني أن كل األطروحات ال تي ق دمها أدرن و وهابرم اس ح ول
الديمقراطية ،وما اقترحه غادمر حول جمالي ة الح وار نظري ات مطلوب ة إلى النق د والمراجع ة ،بع د أن تم
"اقتراح الفن وحده حال سحريا لكل مشكالت البشر" .ويظل التساؤل قائما عن مدى مصداقية هذه الصورة
في ظل التحديات القاسية التي يلقاها إنسان هذا العصر".77
إن من المخ اطر الك برى على اإلنس انية ال تي تنش رها العولم ة أن يتح الف ال ديمقراطي والثق افي،
ويلتقي االديولوجي بالمبدع قصد تفعيل قوى الهيمن ة والتطوي ع .ظه ر في منعط ف األلفي ة الثالث ة ص راع
جدي د للس يطرة على الع الم ،وإع ادة رس م خرائط ه الجغرافي ة والثقافي ة .ثم ة دع اوي تس وّق للص دام
الحضاري والثقافي ولديمقراطية النموذج .تلك دعاوي صامويل هنغنتون في كتابه "صراع الحضارات".
يصبح سؤال الديمقراطية مطلبا ضروريا وجب إعادة طرحه ،في ظل التحوالت التي يشهدها العالم.
فبعد ظهور األصوليات الدينية المتطرف ة ،وره ان الغ رب على االس تفادة من عبثيته ا ،لزرعه ا في من ابع
الثقافة العربية اإلسالمية ،مما يجعل منه ا خط را يه دد الكي ان الت اريخي ويب دد روح الهوي ة وخصوص ية
االنتماء ،تراهن النخب العربية على الديمقراطية قصد التحرر من الس لطة السياس ية في ال داخل ،ومقاوم ة
المد األصولي الذي تدعمه قوى خارجية ،ترفض مص الحها أن يك ون الع رب ديمقراط يين .ت بين في ظ ل
خطورة عولمة الفضاء وتفكيك الهويات الثقافية وطمس معالمها اإلبداعية والفنية ،إن من ح ق المجتمع ات
أن تقرر طبيعة فضائها الخاص ،وأن تكتشف هويتها وانتمائها التاريخي .ولئن كان الرهان على الثقافة في
بداية األمر لتفعيل مشروع قومي ديمقراطي ،فإن هناك وجهة أخرى ت رى في الفن إمكان ا طبيعي ا للح ديث
عن ديمقراطية حوارية ،تقبل بالحوار والتع دد في التعب ير واإلب داع الفك ري والف ني ،وه و م ا يتن افى م ع
مبادئ الديمقراطية الغربية التي تعمل على تشتيت األطراف وتصنيع ديمقراطيات هشة في الهوامش قص د
تمزيقها .رغم أن أحمد برقاوي يبين أن الديمقراطية الغربية م ازالت ديمقراطي ة ذات س لطانية ال يمكن أن
تكون النموذج .كل ما فعلته أنها لم تعد نظام حكم فقط ،بل نظام حياة أيضا" ،ونزعت عن الذات الس لطانية
قدرتها على احتكار القوة وما يتولد عنها".80
يب دو أن الدول ة العربي ة على امت داد تاريخه ا لم توف ق في الجم ع بين اإلب داع الثق افي والف ني وبين
الديمقراطية الحوارية .كانت الدولة في نظر محمد عابد الجابري دول ة مل وك "األم ير ه و الدول ة والدول ة
.78صامويل هنغنتون" ،صدام الحضارات" ،ترجمة طلعت الشايب ،دار سطور ،بيروت ،1998 ،ص .128
79
. Negri, Art et multitude, Op. Cit, p 126.
.80احمد برقاوي" ،انطولوجيا الذات" ،المركز الثقافي العربي ،بيروت ،منشورات مؤمنون بال حدود ،الرباط ،2014 ،ص
.144
27
هي األمير" .81فإذا أخذنا حوض البحر األبيض المتوسط كتجربة "اقتصادية ثقافية وسياسية" كما يص وره
بروديل ،82نالح ظ أن هن اك ض فتين متعارض تين ،يحمالن مش روعين ثق افيين متب اينين من حيث األس ئلة
والرهان ات والوس ائل .نجح أح دها في الض فة الش مالية إب داعيا وديمقراطي ا ،وفش ل الث اني في الض فة
الجنوبية ،ألسباب مختلفة منها :غياب من يضمن التواص ل الح واري بين النخب الثقافي ة والفني ة والدول ة،
وتغييب دور الفضاء المشترك في تفعيل النقاش وإدارة الحوار المتس ائل .فوج ود نظ ام سياس ي ال يض من
الديمقراطية الحوارية وال يلتزم بمشروع فني وثقافي يشرع ل ه نخب ة من الفن انين والمفك رين يعت بر عائق ا
يب دد الجه ود ويث ني الطم وح ويس تنزف الطاق ات .ينتهج آالن ت ورين ه ذا التمش ي في تحدي د العالق ة
الديمقراطية بين المجتم ع والنظ ام السياس ي" .تع رف الديمقراطي ة بالنس بة إلى الكث يرين بالمش اركة ،أم ا
بالنسبة لي ،فهي تعرف بالحرية وبالقدرة اإلبداعية لدى األفراد والجماعات".83
ضمن هذه الخيارات لمواجهة خطر العولمة السياسية واإلبداعية ،يعتقد هابرماس أن العولمة الثقافية
مثلت خطرا على الديمقراطية .تمكنت من اجتياح الفضاء الع ام وتس خيره للتعب ير عن مق دراتها اإلبداعي ة
والفنية وفرض سياسة الهيمنة وتطويع الهوامش الثقافية .س وّقت لثقافته ا الكوني ة وإمالئه ا بواس طة ش بكة
اتصالية متطورة .أصبحت المجتمعات الطرفية غير ق ادرة على المقاوم ة ،ح تى المجتمع ات ذات ال تراث
الديمقراطي لم تعد قادرة على التصدي لكوارث العولمة ،ال تي س خرت ك ل طاقاته ا لنش ر ثقاف ة بص رية،
تؤسس لمجتمع مشهدي غ ابت في ه فاعلي ة اإلب داع الف ني والفك ري .ش ّكلت العولم ة في اله وامش والءات
ثقافية وفنية تسوّق لثقافتها السلعية واالستهالكية وتستقطب األخ ر وتطمس خصوص يته .وي ذهب هرب رت
م اركوز إلى أن ه ذه السياس ات الثقافي ة ح ولت الفن إلى ص ناعة ثقافي ة للترفي ه ،قص د تطوي ع الرغب ات
وتسليعها والهيمنة على األجساد واستهالك مقدراتها اإلبداعية" .إن التسليع قد أضحى اليوم صناعة جمالية
حيث باتت السلعة موضوعا لالستهالك الجمالي".84
وتظل المجتمعات العربية من المجتمعات الهامشية المتض ررة من س ياحة الثقاف ة المش هدية اللزج ة
والمسطحة .فقد المجتمع االقتدار على التحكم في فضائه المشترك وتطويع منجزاته الفني ة والثقافي ة لخدم ة
مشروعه الديمقراطي .انفتح الفضاء لثقافة العولمة وللثقافة األصولية التي تنشر ديمقراطية الموت ،وتشجع
على تفكي ك النس يج الثق افي وتأجي ل الديمقراطي ة الحواري ة .إن الح ديث عن قي ام فض اء مش ترك يحت اج
بالضرورة إلى مشروع ثقافي ،والى رؤية فنية للعالم ،تساهم في بلورة أس س الديمقراطي ة الحواري ة ،على
أن تكون نخبة من الفنانين والمفكرين تقدم المشروع ال ديمقراطي تق ديما متوازن ا ،يجم ع بين ك ل مكون ات
.81محمد عابد الجابري"،الخطاب العربي المعاصر" ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت ،1994 ،ص .15
.82قرنان بروديل" ،المتوسط والعالم المتوسطي " ،ترجمة مروان أبي سمرا ،دار المنتخب العربي ،بيروت ،1993 ،ص
.63
. 83آالن توفرين" ،نقد الحداثة" ،مرجع سابق ،ص .176
. 84هربرت ماركوز" ،الحب والحضارة" ،ترجمة مطاع الصفدي ،دار االداب ،بيروت ،2007،ص .103
28
النسيج االجتماعي والثقافي .ويقترح ادوارد سعيد رؤية إبداعية للثقافة تُجذرها في عمق الزمان الت اريخي؛
"ألنه ال يمكن أن تعاين كحقيقة مباشرة فورية ،بل يجب أن تعاين من منظور األبدية".85
عن دما نتح دث عن ت أخر المش روع ال ديمقراطي ،فنحن نتح دث عن ت أخر المش روع اإلب داعي
والثقافي ،وعن هيمنة نظم سياسية أصولية ووصولية تسهر على تطبيق مش اريع فني ة وثقافي ة متداخل ة .ال
تميز فيها بين الثقافي والفني ،وال تمنح الفن األهمية القص وى في تط وير ال وعي اإلنس اني بالع الم .إن من
أسباب فشل الثقافي والفني وتعثر الديمقراطي أننا ال نميز بين مهمة الفن ومهم ة الثقاف ة ،ح تى أن المس الة
الفنية واإلبداعية وقع إخضاعها للسياسي وللثقافي" ،رغم أن االختالف بينهما مسالة محورية" .86إن تدخل
السياسي في بناء الفضاء المشترك قد يغيّب اإلبداع ويؤجل ديمقراطية الحوار.
داخل هذا التوتر المري ع في المش هد اإلب داعي والسياس ي ح دث ص دام خط ير بين مش روع الدول ة
االتباعي ة وأس ئلة النخب الثقافي ة واإلبداعي ة ،س رعان م ا انتهى بهيمن ة السياس ي على الثق افي وحوص ر
اإلبداع بكل مضامينه ،وتفكك الفضاء المشترك مم ا س اهم في ظه ور خالي ا تس لطية وقهري ة ،تتكلم باس م
ثقافة المركزية الغربية ،وتدين الفن واإلبداع ،وهو ما ح رّض احم د برق اوي على مجابه ة األزم ة بط رح
سؤال مهم" :كيف يمكن مواجهة المركزية الغربية بمركزية الذات ،بذات هامشية؟ كيف يمكن لوجود فق ير
87
أن يواجه وجودا ثريا ممتلئا باالعتزاز بوجوده؟"
أم ام ص عود التي ارات األص ولية إلى المش هد الثق افي ،ومحاص رة اإلب داع الف ني وتكف ير الفن انين
والمفكرين ،لم يعد ممكن ا التمي يز بين مهم ة الفن ووظيف ة الثقاف ة .أص بح ال ترويج لثقاف ة اإلره اب ،ونفي
الفرق واالختالف ،وتجسيد الفرقة ونش ر القح ط من مهم ات الثقاف ة الجدي دة .وق ع إمات ة اإلب داع وتح ريم
الفنون بكل صنوفها .تعمدت هذه األصوليات "نشر ثقافة الموت" ،88والتش جيع على التش تيت .عم دت إلى
إعادة رسم األقاليم الفكرية والثقافية .تصدت لكل رؤية إبداعية وفني ة تس يح لغ ة الح وار المتم دن ،وترس م
جغرافية فضاء مشترك يتقدم فيه المبدع والفنان ،ويتراجع فيه دور السياسي الذي ال يميز بين االديول وجي
والثق افي ،وال يم يز بينهم ا ،ب ل يجعلهم ا متط ابقين دون اختالف .يبّين الف رق بين االديول وجي والثق افي،
عندما يعرف لويس التوسير "االيدولوجيا تمث ل العالق ة المتخيل ة لإلف راد لظ روف وج ودهم" ،89ويع رف
كلود ليفي ستراوس الثقافة في كتابه "االنتربولوجيا البنيوية" تعريفا بنيويا ،بما هي "مجموع العالمات
. 85فخري صالح" ،ادوارد سعيد :دراسة وترجمات" ،الدار العربية للعلوم ناشرون ،بيروت ،2009 ،ص .149
distinctions », sous la direction de Sylvia Girel,ـ. Bruno Péquignot, « des arts de la culture : Distinction et in
86
إن غياب ثقافة الحوار وتراجع الفن الثوري على المقاومة ،واستبداد تصحر إب داعي وف راغ ثق افي،
قد يكون عائقا أمام قيام مشروع ديمقراطي جمالي ،يتوطن الفضاء المشترك ،ويوفر شروط الح وار .ل ذلك
يعتق د هابرم اس أن الديمقراطي ة في ظ ل ه ذه الظ روف تفق د إش عاعها "كج وهر ثق افي للتض امن بين
المواط نين" .91ويحلّ ل ميش و أزم ة الديمقراطي ة والفن على الس واء ويعتق د أن اله وة الس حيقة بين الفن ان
والمجتمع قد ضاعفت من تدخل قوى التسليع والهيمنة الثقافية.
في ظل غياب الفضاء المشترك ،فقد الفن ثوريت ه والفن ان مقاومت ه .تح ولت الديمقراطي ة إلى فاش ية
تتالعب بأحاسيس ورغبات الجم اهير ،بع د أن كرس ها الف اعلون في الس وق واإلش هار لخدم ة مص الحهم
الخاصة .فمع تأخر اإلدراك ،تبدو األزمة مضحكة إلى حد الس خرية وخط يرة" ،فهي تكش ف أنه ا متص لة
بأزمة تمثالننا التقليدية للفن وبوظائفها ،عندما تكون متمرسة بثقاف ة ديمقراطي ة وتجاري ة مفتت ة" .92ي ذهب
هذا التحليل إلى أن التحول من دمقرطة الثقافة إلى الديمقراطية الثقافي ة ق د أح دث خلال في عالقتن ا ب الفن،
وفي عالقة الفن بالديمقراطية .وتبيّنت حقيقة الثقافة الغربي ة ،عن دما كش فت "عن م دى قص ورها الت ام في
تحقيق التطلعات المفرطة".93
تبقى الديمقراطية الحوارية مشروعا مؤجال في غياب األرضية اإلبداعية التي تغذي التن وع الثق افي
وتحمي الحرية في الفضاء المشترك .ويعتقد جاك داريدا في كتابه "مارقون" أن الثقافة اإلسالمية في
طورها األصولي الراهن هي "الثقافة الديني ة الالهوتي ة ال تي يمكنه ا ،في الواق ع وفي الح ق ،اإلعالن عن
مقاومة الديمقراطية" .94تتحول الديمقراطية إلى قوة سالبة تؤجج الصراعات األص ولية واالديولوجي ة ،في
ظل امبريالية ثقافية محلية غير قادرة ان تحمي منابعها اإلبداعية ،وترفع من مقام المبدعين ،وتقاوم الغ زو
بكل صنوفه.
وينب ه ادوارد س عيد إلى خط ورة "اإلمبراطوري ات الثقافي ة" 95في إمات ة ال روح اإلبداعي ة ،وفي
محاصرة الفن والثقافة .وهي تشرّع ألنظمة أصولية باسم اإلب داع ،وت دوّل اإلطاح ة بأنظم ة سياس ية باس م
90
. Levis Strauss Claude, Anthropologie structurale, Eds Plon, Paris, 1958.
91
. Habermas, L'espace public, Eds Payot, Paris, 2006, p16.
92
. Michaud Yves, La crise de l'art contemporain, Eds PUF, Paris, 1999, p 71.
. 93هانس بلتينغ" ،نهاية تاريخ الفن" ،ترجمة ناجي العونلي ،مرجع سابق ،ص .75
. 94محمد شوقي الزين" ،سؤال العقل في سياسة التفكيك" ،ضمن كتاب "جاك داريدا ما اآلن؟ ماذا عن غد؟" ،إشراف محمد
شوقي الزين ،منشورات الفارابي ،بيروت ،منشورات االختالف ،الجزائر ،2011،ص .326
. 95فخري صالح" ،ادوارد سعيد :دراسة وترجمات" ،مرجع سابق ،ص .190
30
الديمقراطية .وتلك مداخل ماكرة تنتهجها اإلمبراطوريات الك برى للس يطرة والتطوي ع والهيمن ة ،من ب اب
اإلب داع الف ني والثق افي والح وار ال ديمقراطي .ك انت فرنس ا الديمقراطي ة وب اريس عاص مة الفن خ ارج
الممارس ة الديمقراطي ة ،حين منعت حري ة التعب ير ،ورفض ت ح ق التظ اهر عن األخ ر" ،لم ا تظ اهر
الجزائريون في قلعة الديمقراطية الفرنسية".96
وتناول انطونيو غرامشي في كتابه " رسائل سجنيّة" أمالءات الهيمنة الثقافية على الشعوب
الهامشية وبيّن التالزم المصيري بين اإلبداعي والديمقراطي .ومنحت رؤية غرامشي للثقافة مفهوما جدي دا
للمثقف .لم تع د الثقاف ة عب ارة عن مف اهيم مج ردة ونظري ات فوقي ة ال تتص ل ب الحراك المجتمعي .أص بح
"المثقف العضوي" مقاوما وملتزما بقضايا المصير ،متخذا من اإلبداع بمختلف صنوفه أداة إلنشاء فض اء
مجتمعي ،تمارس فيه الديمقراطية الحوارية ،وتناقش فيه أسئلة المستقبل .لم يكن محمد عابد الجابري بعي دا
عن غرامشي ،لما حدد مفهوم الثقافة ودور المثقف في تشكيل الفضاء الديمقراطي الح ر .ويعتق د الج ابري
أن الثقافة المبدعة والمثقف العضوي كان غائبا في المش هد ال ذي هيمنت علي ه نزع ات أص ولية وسياس ية
تظهر المثقف "مثقفا مأمورا ومثقفا مأجورا ومثقفا مقهورا" .97وه و م ا ك ان ينبّ ه إلي ه ميش ال فوك و حين
ّ
حذر في حواره مع جيل ديلوز من أن المثقف يظل وجه من وجوه السلطة والتسلط؛ ألنه "ينتمي إلى سلطة
في شبكة المجتمع بشكل عميق وحاذق ودقيق ،والمثقفون أنفسهم يشكلون جزءا من نظام هذه السلطة".98
ثم ة مفارق ة في وص ل الديمقراطي ة بالسياس ي ،والتنك ر ل دور الفن والثقاف ة في تفعيله ا وحفظه ا
وممارستها الفاعلة في الفضاء المشترك .مثّل ذلك أمرا مفزعا لم يتنبه إليه الفاعلون الديمقراطيون ،ونع ني
بذلك النخب الفنية والثقافية والفكرية .فطبيعة الديمقراطية أن تنم و في فض اء من التواف ق المجتمعي ،ومن
الحرية في التعبير والنقاش ،وهذا في نظر هابرماس ،مهندس الفضاء العمومي المعاصر ،ما يتيح لمجتم ع
. 96محمد االحمري" ،الديمقراطية الجذور واشكالية التطبيق" ،مرجع سابق ،ص .233
يوجد تناقض بين أن تكون باريس عاصمة الديمقراطية وحق وق اإلنس ان من جه ة ،وعاص مة الفن من جه ة أخ رى .فبعض
األحداث تكشف أن باريس ،وان كانت عاصمة الفن ،فهي ليست عاصمة الديمقراطية .فالجمهورية الديمقراطي ة الفرنس ية لم
تر مانعا أن تكون ديمقراطية ،ولما تظاهر الجزائريون في قلع ة الديمقراطي ة الفرنس ية ب اريس ،آم ر الجن ود الفرنس يون أن
يطلقوا النار على المدنيين المحتجين ،وقت ل ثالثمائ ة جزائ ري لمج رد مظ اهرة ،وق ذفت جثثهم في نه ر الس ين أي ام الث ورة
الجزائرية" .راجع :المرجع نفسه ،ص .233
في هذه العاصمة التي تم فيها وأد الديمقراطية ،تن ال ش رف عاص مة عالمي ة للفن والجم ال ،بع د أن وص فها وال تر بني امين
عاصمة القرن التاسع عشر .يمكن أن تنعكس الثورة الحداثية الفنية والجمالية فيما تحقق من مظاهر الفن والموضة والعمارة.
من عمق باريس ،انطلقت شرارة التجديد في أشكال البناء والعمارة والهندسة وفي فضائها صيغت أك ثر الطرائ ق تم ردا في
الفن والرسم والنحت وفي كل الفنون البصرية وبين أحضانها تبلورت أحدث األساليب وأكثرها ج رأة وجس ارة في الموض ة
واللباس والديكور ،وفي أحيائها الشهيرة نشأت وترعرعت أكبر التيارات الطليعية في الفن في القرن العش رين من انطباعي ة
ووحشية وتكعيبية وما فوق واقعية وفي أروقة صالوناتها ومعارضها دارت رحى مع ارك فني ة وجمالي ة ونش بت مواجه ات
مصيرية بين الفن األكاديمي المحافظ والفن المتمرد .وفي رحابها صيغت أشهر البيانات الفنية".
راجع :عبد العالي معزوز" ،فلسفة الصورة" ،إفريقيا للنشر ،الدار البيضاء ،2014 ،ص .101
. 97محمد عابد الجابري" ،نقد العقل السياسي" ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت ،1992 ،ص.43
" . 98المثقفون والسلطة ،حوار بين ميشال فوكو وجيل ديلوز" ،ترجمة الزواري بغورة ،كتاب " جيل ديلوز ،سياسات
الرغبة" ،مرجع سابق ،ص .175
31
المواطنة "أن يكون عبر تجمعات مص لحية غ ير حكومي ة ومن مب ادرات مدني ة " .99إن تحق ق المش روع
الديمقراطي الحواري هو لبنة الحوار والنقاش داخل فضاء مشترك ،يق وم على اإلب داع ،وينش طه ف اعلون
عضويون من الفنانين والمفكرين الديمقراطيين.
وثمة نبوءة غربية حملها صامويل هنغنتون وهي أن الغ رب ال يش جع على الديمقراطي ة الحواري ة،
وال على وج ود نخب من الفن انين والمفك رين ال ديمقراطيين؛ الن ذل ك يتع ارض م ع المص لحة القومي ة
للغرب .معنى ذلك أن الغرب يدرك خطر اإلبداع الفني والثقافة الوطنية والحوار الديمقراطي على مستقبله
االستعماري في األطراف والهوامش .ويبين كتاب "صدام الحضارات" أن "تبني التقاليد الديمقراطية
الغربية يشجع ويفتح الطريق نحو السلطة أمام الحركات السياسية والقومية المعادية للغرب".100
رغم أن العمل الفني في الراهن الرقمي أصبح أكثر انتشارا ووصوال إلى المتلقي من خالل الوسائط
االفتراض ية ،إال أن دمقرطت ه المش بوهة غلّبت الممارس ات الفني ة العرض ية على اإلب داع الف ني الث وري
والفنان المقاوم .كرّست نزعة إنسانوية هتكت اإلنس اني وأفس دت بهج ة الع الم وجماليت ه البدوي ة .ويخ رج
ج ان فرانس وا ليوت ار عن الس رب الح داثي ،وعن نزعت ه اإلنس انية ،ليح ول الفن إلى االش تغال على الالـ
إنساني ،بعد أن فقد العصر إنسانيته" .صارت فيه األعمال الثورية عاطلة عن العمل" .101يرى ميشو وه و
يعاين أزمة الفن المعاصر ،وينتقد الديمقراطيات الغربية ،أن تحول الثقافة إلى صناعة استهالكية واتصالها
المباشر بالعولمة وباالفتراضي وجنون الرؤية وبالمجتمع المشهدي ،قد ساهم في "أزمة الفن المعاصر إلى
درج ة ال ذوبان والتبخ ر" .102ذل ك م ا يحلل ه ريجيس دوب ري "بعم ق وبعين بص رية تنف ذ إلى األزم ة
الديمقراطية ".103
إن التداخل بين السياسي والفني الذي فرضته طبيعة السوق وكرس ته العولم ة ،ق د س اهم في تحوي ل
الفن إلى بضاعة والى سلعة استهالكية ،أفقدته هالته وضاعفت من أزماته في ظل هيمنة ديمقراطي ة هش ة،
تخدم السوق وتتابع حرك ة رأس الم ال الع ابر للق ارات ،حيث أص بح ممكن ا ألي ك ان أن يم ارس النش اط
الفني ،بعد أن تسلعن العم ل الف ني داخ ل س وق كوني ة معولم ة" .س اهمت في اختف اء القيم الروحي ة لع الم
متالش" .104وحتى نستطيع مج اوزة األزم ة وتفعي ل ال روح الديمقراطي ة للفن ،ت ذهب آن ك وكالن إلى أن
99
. Habermas, L'espace public : Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la société
Bourgeoise, Eds Payot, Paris, 1976. P 148.
.100صامويل هنغنتون"،صدام الحضارات" ،ترجمة طلعت الشايب ،مرجع سابق ،ص .274
101
. Lyotard J.F, L’inhumain, Op.Cit, p 13.
102
. Michaud Yves, L’art à l'état gazeux, Eds Stock, Paris, 2003, p 53.
.103ريجيس دوبري ،حياة الصورة وموتها ،ترجمة فريد الزاهي ،مرجع سابق ،ص .329
104
. Michaud Yves, La crise de l,art contemporain, op. cit, p 57.
32
ن زع المادي ة الفج ة عن الفن ،ال يك ون إال بش رط :ه و "إعط اء ن زع المادي ة مع نى رفض مؤسس ة الفن
وواقعها السوقي الذي تجسده المتاحف واألروقة".105
قائمة المراجع
احمد عبد الحليم عطية" ،جيل ديلوز سياسات الرغبة" ،دار الفارابي ،بيروت.2011 ، -
. Anne Cauquelin, Fréquenter les incorporels Contributions à une théorie de l,art contemporain, Ligne d,art,
105
35
، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية،" "الخطاب العربي المعاصر،محمد عابد الجابري -
.1994
، دار المنتخب العربي، ترجمة مروان أبي سمرا،" "المتوسط والعالم المتوسطي،قرنان بروديل -
.1993 ،بيروت
، بيروت، دار التنوير،" "الفن والسياسة في فلسفة هربرت ماركوز،حنان مصطفى عبد الرحيم -
.2010
منشورات، إشراف محمد شوقي الزين،" "جاك داريدا ما اآلن؟ ماذا عن غد؟،محمد شوقي الزين -
.2011 ، الجزائر، منشورات االختالف، بيروت،الفارابي
.2007 ، بيروت، دار اآلداب، ترجمة مطاع الصفدي،" "الحب والحضارة،هربرت ماركوز -
- Althusser Louis، Idéologie et appareils idéologiques d’Etat، Eds Sociales، Paris, 1976.
-Habermas، L’espace public: Archéologie de la publicité comme dimension constitutive de la
société Bourgeoise، Eds Payot، Paris, 1976.
- Michaud Yves, La crise de l’art contemporain, Eds PUF, Paris, 1999.
- Heinich Nathalie, « Sociologie de l’art », in Manière de voir, n 57, mai ـjuin 200
- Heidegger, Nietzsche I, Eds Gallimard, Paris, 1972.
- Heidegger، «Dépassement de la métaphysique»، in Essais et conférences، Eds Gallimard،
Paris, 1986.
36
- Luc Ferry, Le Sens du Beau aux origines de la culture contemporaine, Eds Grasset, Paris,
1990.
- Kandinsky, Le spirituel dans l’art et dans la peinture en particulier, Eds Denoël, Paris,
1989.
- Schaeffer Jean Marie, L’art de l’âge moderne, Eds Gallimard, Paris, 1992.
- Clair Jean, La responsabilité de l’artiste, Eds Gallimard, Paris, 1997.
- Ardenne Paul, L’art dans son moment politique, Eds La lettre Volée, Bruxelles, 1999.
- Lyotard J.F, L’inhumain, Eds Galilée, Paris, 1988.
- Negri, Art et multitude, Eds Mille et une nuit, Paris, 2009.
37
من خالل هذه المداخلة سنحاول رصد اللحظة الفنيّة التي تس كن عم ق النص النيتش وي لن بيّن كي ف
ارتبطت بديونيزوس األرستقراطي ال ذي ال يحف ل إال ب براءة الص يرورة ودوام الع ود األب دي على خالف
أبولين وس ،اإلل ه ال ذي ج اء من الش رق ليعلّم الن اس النظ ام واإلعت دال والح دود الوس طى وال ذي ّ
يبش ر
بديمقراطيّة ته ّدد األخالق األرستقراطية .إن هذه األخالق هي فن يكافح ض د ثقاف ة الم وت والتحني ط وهي
كذلك ممارسة ترتبط بالجسد وباألرض .فلطالما تح ّدث نيتشه بإزدراء في كتابه "أفول األصنام" عن
ض رب من "المص رانيّة" ( )Egypticismeمس تعيرا من التقلي د الفرع وني عب ارة التحني ط أو المومي اء
ليبني تصوّرا للفن وللثقافة يكون لصيق الحياة بما هي إرادة وقوّة .وهذا التصوّر إنما يتص ّدى ب ذلك لل برود
والموت ويفضح كل المفاهيم الخاويّة مثل المساواة والرحمة واألخوة.
الفن شأن أرستقراطي وغير مو ّزع بالمساواة بين القرائح ،فهو يأبى أن يكون ديمقراطيّا ألنّ ه ل و
إن ّ ّ
كان كذلك لكان ك ّل النّاس فنّانين .هذه هي المصادرة التي نروم تحليلها هنا .فإذا قمنا بتبويب هذه المصادرة
إن ال ّديمقراطيّ ة والمس اواة س يرتبطان بالج انب ّ
الض عيف وال واهن فين ا، تحت الجهاز المفهومي لنيتش ه ف ّ
وسيصبح كالهما يترجم عجز اإلنسان عن مواجهة الحياة والهروب منها نح و المف اهيم الس ديميّة واألك ثر
شحوبا واصفرار وعنكبوتيّة (والعبارات لنيتشه) .إن ال ّديمقراطيّة والمساواة نيتش ويّا هم ا ش كل من أش كال
التمويه الذي تجسّده الحقيقة المجرّدة والتي تسكن نسيج العنكبوت صحبة فيلسوف أص فر ش احب خ ال من
ال ّدم يشبه الموت على حد تعبير نيتشه .إنّها " مصرانيّة " « »égypticismeتحيل إلى التحنيط والمومي اء
وهي تخنّث مشاعر األقوياء األرستقراطيّين.
الفن عند نيتشه هو بديل "السيّدة الوقورة حقيقة" ،ومقابل خواء عمقه ا المزع وم ينهض ّ
الفن كثقاف ة ّ
إن الحقيقة تتعرّى أمام المطارق التأويليّة لنيتشه وتتب ّدى جذورها
لعمق بديل وهو عمق السّطح الذي يطفوّ .
المنغرسة في وهم األصل ال ذي ه و أص ل ال وهم .فمن منط ق التغنّي بقيم األرس تقراطي ،وال ذي فعل ه ّ
فن
وأخالقه إبداع ،تُفضح الحقيقة التي تلقي بظاللها على ديمقراطيّة المساواةّ .
إن المساواة في ك ّل شيء يجع ل
السيّد األرستقراطي عبدا ضعيفا ويرتقي بالعبد إلى السّيادة ،وهي جدليّة مغلوطة وال تصح ّإالّ داخل مثاليّ ة
هيقل .أ ّما نسابيّة نيتشه فهي جينيالوجيا تفضح ك ّل ضروب الوهم وأصوله ال ّزائفة .فإذا كان أصل المس اواة
هي ال ّديمقراطيّة فأصل الديمقراطيّة هو العقل اللّعوب والذي من فرط خش يته من إرادة الق وّة وق وّة اإلرادة
نراه يؤسّس إلرادة ينسجها من نفس نسيج خيوطه التي تشبه في الوهن خيوط عنكبوت ينتظر فريسته .ول ّما
إن الجس د ال ّدعام ة ه و واق ع وح ّ
ق وه و ملك ة فإن المساواة والديمقراطيّة هما وهم الوهمّ .
كان العقل وهم ّ
إبداع لثقافة ال تخدم العبيد في شيء .لذلك ومقاب ل اإلب داع ول د االبت داع؛ ابت داع ّ
الض عفاء لمف اهيم األخ وّة
والتّراحم والصّبر والطّيب والشرّير وما إلى ذلك من منظومة أخالق ارتكاس يّة تس تبطن ّ
الض عف فيتح وّل
إلى حقد ومنه إلى وعي شقّي لينتهي إلى ضمير متعب.
38
ّ
بالض رورة فتص بح واقع ا يص عب زحزحت ه .فه ؤالء ّ
إن العبيد يبتدعون مفاهيم جوفاء ويحيطونه ا
يرتعبون من األرستقراطي الخالّق كما ترتعب الحمالن الوديعة من النّسور الضّارية ،لذلك يبتدعون الحيل
قصد التّعايش مع األقوياء .وفي مسته ّل كتابه "جينيالوجيا األخالق" يقول الفيلسوف األلماني فريديريك
نيتشه " :إني مناهض للتخنيث المخجل الذي يجري اليوم لألحاسيس " .106إذن ،إزاء هذا التخ نيث يط رح
نيتشه البديل .هذا البديل هو البربريّة .نعم ،البربريّة بإعتبارها الوجه اآلخر لألرستقراطية .ففي مؤلفه "ما
بعد الخير والشر" ،يفرد نيتشه الجزء التاسع لإلجابة عن سؤال " من هو األرستقراط ّي؟" ويقول معرفا
األرستقراطيّة:
"إن الملة األرستقراطية كانت قبل كل شيء ملة البربر .وتفوّقها ال يتمث ل في قوته ا ولكن في قوته ا
الروحية .لق د ك انوا بالكام ل رج اال ،أع ني وبك ل المع ايير الفيزيائي ة ك انوا خام ا" .107إن دع اة المس اواة
وال ّديمقراطيّة هم مرضى يتض رّعون بالمس اواة خش ية الحي اة ومن ف رط خ وفهم من إرادة الق وّة ال تي هي
جوهر هذا األرستقراطي الخالّق .كما ّ
أن عداء نيتشه للديمقراطيّة نستكشفه من عدائ ه للمس يحيّة ولكهنته ا.
إن الكاهن يحاول تجسيد نواميس السّماء لتتحقّق المساواة وال ّديمقراطيّة والحال أنّه بهذا يفس د ص حّة النّفس
ّ
ّ
والذوق ويسيء إلى معنى األرض أي إلى معاني القوّة واإلرادة.
إن ال ّديمقراطيّة وحكم األغلبيّة والمساواة هي المظهر األكثر فس ادا في األرض ولألرض ولإلنس ان
ّ
األرقى .فال ّدساتير التي منها يولد حكم القطيع الغالب بسواده هي دساتير كتبت بكتابة ارتكاسيّة ض عيفة وال
تعكس الحقيقة التي يفترض أن تكتب بال ّدم على حد عبارة نيتشهّ .
إن الغالبيّ ة في األنظم ة الديمقراطيّ ة هي
إن سندها الوحيد هو أنّه ا تنط وي على متع ة أق دم من
في نظره قطعان مريضة وهي فاقدة لك ّل شرعيّة بل ّ
ّ
وألن الوعي الجيّد كان يس ّمى بالقطيع .لكن ما الديمقراطية أوّال؟ متعة األنا
إن الديمقراطيّة تمنح السّيادة إلى ال ّشعب وتق ّر بمبدأ حكم األغلبيّة ،فهي نظام سياسي من خالل ه تمنح
ّ
ممارسة السلطة إلى ال ّشعب (مبدأ السيادة) دون وجود تفريق بينهم من حيث الوالدة أو اللّ ون أو الع رق أو
الغنى والفق ر أو المق درة .وه ذا م ا يس ّمى بمب دأ المس اواة ،وفي القاع دة العا ّم ة ،فال ّديمقراطيّ ة هي س لطة
ال ّشعب الغير المباشرة باعتبار تفويضهم لمجلس أو لحكومة تقوم مقامهم في ممارسة ّ
الس لطة .فهي تم اهي
بين المواط نين دون تمي يز في والدتهم ،أو في ث رواتهم أو في ق دراتهم .فال ّديمقراطيّ ة تعتم د على مب دأ
المساواة بين أفراد المجتمع بقط ع النّظ ر عن فروق اتهم في الع رق أو اللّ ون أو الغ نى أو الق درة ...ويمكن
caste des barbares ; sa supériorité ne résidait pas avant tout dans sa force physique, mais dans sa force
spirituelle ; ils étaient plus complètement des hommes (c’est-à-dire aussi, et à tous les niveaux plus
complètement des brutes) ».
39
للفعل ال ّديمقراطي أن يكون منض ويا تحت غط اء ال ّديمقراطيّ ة والمس اواة ،أ ّم ا الفع ل الفنّي فيجعل ه نيتش ه
حكرا على فئة تتنصّل عن الوعي القطيعي الذي يع ّم سائر األفراد والمجموعات بدافع ال ّديمقراطيّة.
إن نيتشه يعادي ال ّديمقراطيّة ألنّها الوجه اآلخر للمسيحيّة ،ويقول في إحدى نصوص هّ :
"إن الحرك ة ّ
ال ّديمقراطيّة هي وريثة المسيحيّة" .إنّه يستهجن ال ّشخص الذي يعتن ق ال ّديمقراطيّ ة ألنّ ه ع ديم الق درة على
التسامي فوق الوعي القطيعي المهيمن والمهين .فمعاداة نيتشه لل ّديمقراطيّة هي من معاداة المسيحيّة الغربيّة
ألن األس اس ال ّذي تق وم علي ه ه و المس اواة العدديّ ة؛ أي أنّه ا ال ت راعي الج دارة والكف اءة والتّراتبيّ ة في
ّ
القدرات .وإذ يتص ّدى نيتشه لفكرة المساواة فهو بذلك يل ّخص معضلة التّع ارض بين ال ّديمقراطيّ ة والنزع ة
األرستقراطيّة لدى القدماء .فالفهم القديم للنّزعة األرستقراطيّة كان فهما إيجابيّا يحيل إلى المعرفة والحكم ة
والقدرة والتعقّل في مواجهة األهواء ورغبات العوا ّم التي تجد متنفّسا كبيرا داخل ال ّديمقراطيّة الشعبيّة التي
تقصي الحكمة والحكماء في مقابل سيادة الرّعاع وغرائز االرتجال في السّياسة.
108
. André Lalande, Vocabulaire technique et critique de la philosophie, T1, PUF, p. 79. "ἀριστοκρατία
gouvernement exercé par une seule classe sociale، moins nombreuse que le reste de la nation، mais réputée
supérieure en lumières et en vertus، et généralement héréditaires".
40
فاألرستقراطيّة بهذا المعنى تفيد في مدلولها األصلي "حكم األفضلين" أو "حكم أفض ل المواط نين"
إن ه ذه ال ّدالل ة هي ال تي نع ثر عليه ا ل دى أفالط ون وتحدي دا في الكت اب الثّ امن من لفائدة جميع ّ
الش عبّ .
الجمهوريّة كما استخدمها أرسطو من بعده في كتاب السّياسة على ّ
أن الحكومات األرستقراطيّة هي أفض ل
أنواع الحكومات وأكثرها عدالة .غير ّ
أن أفالطون يحذر من انزالق األرستقراطيّة إلى األوليغارش يّة (حكم
القلّة) وهذا على ح ّد عبارته إثم عظيم (أي إيثار ال ثروة على ّ
الش رف) ،وه و م ا أ ّك ده أرس طو ه و اآلخ ر
أن األوليغارشيّة هي الفساد الطّبيعي لألرستقراطيّةّ .
إن قيام نظام أرس تقراطي في بل د م ا ه و عندما اعتبر ّ
استتباع ال للمساواة وإنّما للعدالة ،فمن العدالة أن يكون الحكم لألفضل والمتفوّق أخالقيّ ا وجس ديّا .فلطالم ا
تغنّي نيتشه بهذا التفوّق واعتبره جوهر اإلنسان األرقى .أ ّما ثقافة اإلنسان األرقى فهي ّ
الفن باعتباره الوجه
المخصوص للثّقافة وهو خاصّة الخاصّة ،لقد أ ّكد نيتشه مرارا ّ
أن صديقه الموسيقار "ريش ارد ف اغنر" ه و
التجسيد الح ّي للرّوح األرستقراطيّة".109
وترتكز األرستقراطيّة على المساواة التي تجري وفق مبدأ العدالة ،فما العدالة؟
ّ
إن العدال ة تختل ف عن المس اواة ،فالعدال ة تقتض ي ب أن يقن ع الم رء بقس مته وبمناب ه دون زي ادة أو
نقصان ،وهكذا تأخذ العدالة معنى أخالقي وهو االعتدال أو الح ّد األوسط باعتب اره فض يلة .ففض يلة الم رء
أن يكون على ما هو عليه وهو ما نبّه إليه نيتشه ومن قبله ك ّل من كاليكالس وأفالطون وأرسطو م ّمن أيّدوا
هذا المبدأ.
ّ
الخاص ة فبعد أن ميّز أرسطو بين العدالة كمبدأ كوني وبين العدالة الخاصّة نج ده يس تم ّد من العدال ة
ض ربين من العدال ة وهم ا العدال ة التوزيعيّ ة والعدال ة التص حيحيّة .110إذ فإقام ة الع دل في األنظم ة
األرستقراطيّة يستوجب العمل بمبدأ الح ّد األوسط كفضيلة .هذا األمر هو ما تعتم د علي ه العدال ة التوزيعيّ ة
التي تشمل توزيع الخبرات وال ّشرف والمناصب أو أ ّ
ي شيء يمكن توزيعه على أفراد جماع ة إنس انيّة م ا.
وهذا التوزيع يت ّم بما يتناسب مع ما يس تحقّه ك ّل ط رف ومعي ار االس تحقاق في األنظم ة الديمقراطيّ ة ه و
ّ
وألن معيار الحريّة .أ ّما في األنظمة األوليغارشيّة فهو ال ثروة ،وه و الفض يلة في األنظم ة األرس تقراطيّة.
األرستقراطيّة هي حكم األفضلين فإنّها تق ّر بمبدأ إقامة العدل في صلب المجتمعات ال تي يحكمه ا األفاض ل
وهن ا يك ون الع دل وفق ا لمب دأ التناس ب الهندس ي ال ذي ق ام أرس طو بتحليل ه في كتاب ه" األخالق إلى
نيخوماخوس".
109
. Magazine littéraire, Nietzsche, hors-série Numéro 3, p. 12.
. 110أنظر كتاب أرسطو" ،األخالق إلى نيخوماخوس" وتحديدا القسم الخامس.
41
أن في األنظمة األرستقراطيّة تتح ّدد المساواة بين المواط نين وفق ا لمب دأ التّناس ب
وهكذا يمكن القول ّ
ألن توزيع الحقوق في هذا النّظام يت ّم بالعودة إلى استحقاقات األفراد أ ّما في األنظمة الديمقراطيّ ة
الهندسيّ ،
فيتح ّدد مفهوم المساواة وفقا لمبدأ التّناسب الحسابي ما دام ك ّل مواطن ح ّر يتمتّع بنفس الحقوق والواجبات.
يمكن للثّقافة أن تكون شأنا ديمقراطيّا باعتبارها تشمل األساطير والخرافة كأنظمة رمزيّ ة ،أ ّم ا ّ
الفن
فال يمكن أن يكون مو ّزعا بالمس اواة بين عم وم النّ اس ،وإالّ لتح ول ك ّل النّ اس إلى فنّ انينّ .
إن اإلب داع ال
يكون في نظر نيتشه إالّ ارستقراطيّا يرتبط بالجسد القو ّ
ي وبإرادة الحياة والق ّوة .لقد اقترن ّ
الفن لديه بالرّوح
األرستقراطيّة لذلك كان يعتبر صديقه ريتشارد فاقنر تجسيدا حيا لألرستقراطية ألنه فنان .لق د حس م نيتش ه
الفن في مصنّفه األخير " إرادة القوّة " عندما أظهر أنه يتمم الوجود ويجعله مالء وكماال وتأكيدا
موقفه من ّ
وتألها.
الفن هو حال ة ت أويج الق وّة والمالء للفنّ ان المب دع .ه ذه
فما هو ريادي في العمليّة اإلنتاجيّة إلنشائيّة ّ
الحالة يتغنى بها نيتشه في مصنّفه " إرادة القوّة " .ك ّل ما يراه الفنّان هو فيض ق ّوة ،إلى درجة تصبح معها
ّ
فالفن ه و الق وّة المتس اميّة مواضيعه مرآة عاكسة لسلطته ولكماله ،وهذا التحوّل إلى الكمال هو نفسه ّ
الفن.
"إن الفنّان
للنشاط اإلنساني .يقول نيتشه " :إن العالم أثر فني يمنح الوالدة لنفسه" .ويقول في موضع آخرّ :
ي يحوّل حيات ه إلى أث ر فنّي"" .أن تك ون فنّان ا" يق ول نيتش ه "ه و
هو نموذج اإلنسان األرقى ،أي ذاك الذ ّ
ضرب من الحياة على ّ
أن الحياة هي ما ضمنها يتمظهر ك ّل كائن في الوجود" .ويضيف في كتابه "أ فول
األصنام"ّ " :
الفن لدى اإلنسان هو منتهى الكمال".
42
ّ
والفن إنّه ا حي اة األرس تقراطي،للفن ال حد لن وابض الحي اة فيه ا
ّ ومنه تقوم أنطولوجيا،النشوة والموسيقى
.قيمته واإلبداع أخالقه
:قائمة المراجع
. بدون تاريخ، منشورات فاخرية الرياض، ترجمة لطفي السيد،" " كتاب السياسة، أرسطو-
43
في ظ ل التح وّالت الك برى ال تي تعص ف بمنطقتِن ا العربي ة في ظروفه ا الراهن ة ،من
ثورات ومؤامرات وفوضى قوّضت السلم اإلجتماعي في بعض األقطار وه ّددت وحدتها الوطنية ،أض حى
من الضروري التساؤل عن أسباب فشل نخبنا في تحقيق التحوّالت الديمقراطي ة والتأس يس للدول ة المدني ة
الضامنة لحقوق األفراد والحريات والمكرّسة لعلوية القوانين .وإن كانت األسباب متع ّددة ،بعضها خ ارجي
ّ
المغذي ة للتش تت والفتن بأنواعها ،ف إن األس باب الداخلي ة ب دورها تع ّد مركزي ة مرتبط بالتد ّخالت األجنبية
ي للمخطّط ات الخارجي ة في حال ة وج ود منظم ات ونخب وطني ة ص لبة.
نظرا ألنه كان باإلمك ان التص د ّ
وكان باإلمكان كذلك أن تلعب هذه النخب دورا تاريخيا في تحصين المس ارات االنتقالي ة وتف ادي الفوض ى
الحاصلة في ج ّل المستويات .وهو ما يدفعنا ،في ه ذا اإلط ار ،لمراجع ة تمثّلن ا لص ورة المثق ف أو المفك ِر
عامة في مجالنا العربي والبحث في عالقته بالممارسة السياس ية والس لطة ،لت بين األدوار المناط ة بعهدت ه
وإزال ة بعض من االوه ام ال تي علِقت ب ه 111،ألنن ا على يقين لك ون المثقّ ف ل ه دور رئيس ي وأساس ي في
نهوض المجتمعات وتطوّرها على كافة المجاالت.
ومن أجل معالجة هذه المس ألة ،قمن ا ببن اء ه ذه المداخل ة حس ب ثالث ة مح اور :األول وس مناه "في
تعريف المثقف" ،والثاني "عالق ة المثق ف بالس لطة" ،والث الث" :رهان ات المثق ف الع ربي" .وحاولن ا من
خالل العنصر األخير ،طرح تمثلنا لمثقف اليوم ذو الحس النقدي ودوره في إشاعة الثقاف ة الديمقراطي ة في
المجتمع دون التورّط في تالبيب السلط القائمة.
تختلف الرؤى حول تعريف المثقف ،فالبعض يعرّفه على أنّه المتعلّم الحاص ل على ش هادة جامعي ة.
والبعض اآلخر يعرّفه بأنه المفكر المرتبط بقضايا عامة تتجاوز ح دود تخصّص ه .وآخ رون يقول ون ،بأن ه
المبدع في مجاالت األدب والفنون والعلوم .وهناك من يرى في المثقف واح دا من ص فوة أو نخب ة متعلم ة
ذات فعالية على المستوى االجتماعي العام ،أو أن ه ص احب الرؤي ة النقدي ة للمجتم ع وينتمي لطبق ة مالك ة
لرأسمال رمزي -ثقافي ومعرفي.
في ه ذا الص دد ،تعت بر إس هامات المفك ر اإليط الي أنطوني و غرامش ي ( )1937-1891ذات قيم ة
محورية حيث يقول في محاولة تمييزه بين المثقفين وغيرهم "إن كل الناس مفكرون ،لكن وظيفة المثقف أو
المفكر في المجتمع ال يقوم بها كل الناس" .112واعتمد "غرامشي" لتحديد المثقف معايير جدي دة تق وم على
.111بالرغم من تص ّد ع النظريات الشاملة في قراءة العالم التي بينت فشلها ،وانهيار المشاريع األيديولوجية وتهاوي المقوالت
الكبرى ،فإنه ولألسف نراها ال تزال محطّ تطلّعات أغلب المثقّفين العرب ومجسّدة ألطروحاتهم الفكرية.
والسلطة ،ترجمة مح ّمد عناني ،رؤية للنشر والتوزيع ،الطبعة األولى ،القاهرة ،ص.32
" .112إدوارد سعيد"،المثقف
44
الوظيفة والمكانة االجتماعية التي يشغلها ويقوم به ا المثقف ون في البني ة االجتماعي ة .فميّ ز بين ن وعين من
المثقفين الصنف األوّل المثقف التقليدي كالمعلمين ورجال ال دين واإلداريين ال ذين يواص لون القي ام بنفس
المهام جيل بعد جيل.
وفي المقابل نجد المثقف العض وي المرتب ط مباش رة بالطبق ات االجتماعي ة؛ يق وم بوظيف ة تمثيله ا،
يرتبط بها عضويا اًو ينشر وعيه ا وتص وّرها عن الع الم .وه و ك ذلك مرتب طٌ بالمؤسس ات التجاري ة ال تي
تس تخدمه قص د إح راز س لطة أو مص الح أك ثر .إذ يق ول في حديث ه عن المثق ف العض وي "إن المق اول
الرأسمالي يخلق إلى جانب ه التق ني الص ناعي والمتخص ص في االقتص اد السياس ي ومنظمي ثقاف ة جدي دة
لنظام قانوني جديد وغيرهم" .بالمعنى القرامشي يصبح كل من يشتغل في مج ال يتص ل بإنت اج أو ت رويج
المعرفة مثقفا.
وفي تصوّر مغاير ،نبّه إدوارد سعيد من خطر اعتبار المثقف كتقني معرفة ،مجرّد مه ني أو عض و
كفؤ يقوم بعمله ويؤدي مهمة تقنية؛ حيث يرى أن المثقف ه و ف رد يتمت ع بموهب ة خاص ة تمكن ه من حم ل
حرج ة
رسالة ما ،وتمثيل وجهة نظر أو موقف أو فلسفة ما ،واإلفصاح بها .وه و ال ذي يط رح األس ئلة ال ُم ِ
علنا ويكون صعب الاس تقطاب من الحكوم ات أو الش ركات ،ألن ه نص ير القض ايا العادل ة ال تي مص يرها
التجاهل أو اإلخفاء مستندا على المبادئ العامة الكوني ة ال تي تق ّر الحري ات والعدال ة لجمي ع البش ر .ل ذلك
يتص ّور إدوارد سعيد المثقف على كونه المف ّكر الالمنتمي أو الهاوي الذي يع ّكر صفو الحالة الراهنة.
وفي كتابه " المثقفون في الحضارة العربية" سعى محمد عابر الجابري إلى "تبيئة" مفهوم المثقف
ورأى كون مصطلح المثقف اليزال في السياق العربي غير واضح المع الم وال يش ير إلى ش يء دقي ق ألن
المفهوم ال يزال يشوبه الغموض والضبابية ،إذ يقول "لقد الحظنا أن مفه وم "المثق ف" مفه وم ض بابي في
الخطاب العربي المعاصر ،على رغم رواجه الواسع ،إذ هو ال يشير إلى شيء محدد وال يحيل إلى نم وذج
معين وال يرتبط بمرجعية واضحة في الثقافة العربية الماضية والحاضرة".113
ودخل المصطلح إلى لغتنا ليح ّل محل ألفاظ عديدة نجدها في التراث العربي ،مث ل الفقي ه ،واإلم ام،
والعالّمة ،والفيلسوف .وربط ب دايات ب روز المثقفين بظه ور علم اء الكالم ،لم ا تف اقم الخالف في اإلمام ة
واألص ول ،114وص نّفهم كفئ ة من أه ل العلم والمعرف ة واألدب مرتبط ون بالسياس ة رغم الص يغ العقدي ة
لخطابهم .ومن ثم بيّن أن ظهور المثقف في الفترة العربية الحديث ة ج اء م ع ب وادر النهض ة إث ر االتص ال
بأوروبا وانتشار التعليم الحديث .فشاع استخدام لفظ" المثق ف" ليش مل معظم المتعلمين ويرتس م المص طلح
رشد ،مركز دراسات الوحدة العربية، .113محمد عابد الجابري"،المثقفون في الحضارة العربية محنة أبن حنبل ونكبة ابن "
الطبعة الثانية ،2000بيروت ،ص.14
ُ
.114يقول في هذا الصدد " :كان الص حابة أم را ًء وعلم ا ًء في ال وقت نفس ه ،يحكم ون بالش رع ويش رّعون للحكم .ثم حص ل
وحص ل اس تبدا ٌد بـ(األم ر) أدى إلى اس تقالل ال رأي.
ُ الحكم ،فاستأثر األمرا ُء بالسلطة وتمسك العلما ُء ب الرأي،
ِ ٌ
خالف حول
ُ ُ
فانفصل العل ُم والثقافة عن السياسة وبدأت فئة المثقفين األوائ ِل في اإلسالم بالظهور" .المصدر نفسه ،ص .39
45
كمقولة عصرية تدل على المشتغلين بفكرهم -ال بسواعدهم -في فرع من فروع المعرف ة ،وال ذين يحمل ون
آراء خاصة بهم حول اإلنسان والمجتمع ،ويقفون موق ف االحتج اج والتندي د إزاء م ا يتع رض ل ه األف راد
115
والجماعات من ظلم وعسف من طرف السلطات ،أيا كانت ،سياسية أو دينية.
تجدر اإلشارة في المقابل ،أنه يعزى شياع استخدام مصطلح المثق ف في فرنس ا في الف ترة الحديث ة،
لقضية "ألفريد دريفوس" الضابط اليهودي الذي حوكم بتهمة تجسّسه أللمانيا س نة .1894ك انت من نت ائج
هذه الحادثة إضفاء صفة الشرعية على وجود المثقفين في المجتمع ال ذين ي دلون ب دلوهم في قض ايا الش أن
116
العام .كما استمد مفهوم المثقف معناه السياسي القوي المرتبط بالدور الذي يلعبه في مجابهة السلطة.
بهذا المع نى ،كم ا رأين ا عن د إدوارد س عيد والج ابري ومن خالل قض ية دريف وس ،يتح ّدد مفه وم
المثقف بنوع العالقة المتينة التي تربطه بالفكر والثقافة ،إضافة للدور الذي يق وم ب ه في المجتم ع والفض اء
الع ام كص احب موق ف ورأي وقض ية ...وه ذا ال دور الموك ول على المثق ف في اإلفص اح عن أرائ ه
وتصوّراته للمسائل المجتمعي ة والقض ايا العام ة من ش أنه أن يكس به س لطة ويجعل ه ،ب ذلك ،متموقع ا في
منطقة حساسة في مقابل السلط القائمة التي تنحو دائما نحو الهيمنة واإلخضاع ...وهو م ا يجعلن ا نتس اءل،
في ما يلي ،حول العالقات الممكنة التي تنشأ بينهما .
المثقف والسلطة:
تس عى األنظم ة السياس ية إلى ض بط وتوزي ع األدوار االجتماعي ة لألف راد والمجموع ات حس ب
استراتيجيا تخ ّول لها سهولة مراقبتها واحتواءها بما يناسب استقرارها واستمراريتها .لذلك نراها تستدعي
خ براء ومع ارف ق ادرة على تزوي دها ب األدوات األساس ية لإلقن اع والهيمن ة ،عالوة على وس ائل الرقاب ة
والضبط.
وللترويج لخطابها اإليديولوجي وخياراتها ،تراهن األنظمة على ضبط سياس ة عام ة للثقاف ة تم ّكنه ا
من تثبيت نظامها وتعميق شرعيتها .فتلتجأ للمثق ف لتحدي د أط ر الثقاف ة الرس مية ولتك ريس سياس ة عام ة
للحقيقة تحافظ بها على سلطتها الرمزية المعرفية وبالتالي على ديمومتها في الواقع.
يقول بيير بورديو في هذا اإلطار" :إن المنظومات الرمزية ،بما هي أدوات تواصل ومعرف ة تش ّكل
بنيات ،تخضع العالم لبنيات ،تؤدي وظيفتها السياسية من حيث هي أدوات لفرض الس يادة وإعطائه ا ص فة
المشروعية التي تساهم في ضمان هيمنة طبق ة على أخ رى (العن ف الرم زي) ،وذل ك عن دما تف د لنج دتها
وتطعيم عالق ات الق وة والغلب ة ال تي تؤسس ها مس اهمة ب ذلك في" مؤالف ة المس ودين" ،على ح ّد تعب ير
انفصلت هذه النخب عن واقعها االجتماعي في السبعينات وبقي جزء منها متشبثا بأوهام ه واعتق اده
في امتالك الحقيقة والحلول المطلقة للمشاكل واإلشكاليات المطروحة .وشق آخر انزوى في ميدان ه العلمي
وتقوقع وانسحب من المشهد العام .فيما واص ل ش ق ث الث التح الف م ع الس لطة وتح وّل لمثق ف "مق اول"
يعرض بضاعته المعرفية منساقا وراء الربح الم ادي ومص الحه الشخص ية دون االك تراث بانعك اس ه ذه
الممارسة الوصولية وخطورتها في الواقع.
يستوجب واقعنا العربي اليوم لحظة تأ ّمل وتفك ير في أس باب الت أ ّزم لتش خيص الوض ع والبحث عن
حلول للخروج من هذا النكوص والتقهقر .ومن األس باب الرئيس ية ال تي كرّس ت تخلّفن ا ه و تخلّ ف الش أن
السياسي وغياب المناخ الديمقراطي الذي يشجّع على التع ّددي ة وحري ة التفك ير والض مير ويض من العدال ة
المنشودة .لذلك تعتبر الديمقراطية مدخال أساسيا للحداثة الحقيقية التي بقيت في أوطانن ا مش روعا مجهض ا
وغير مكتمل بالرغم من عملي ات التح ديث ال تي ش هدتها دولن ا على أص عدة ع ّدة .والديمقراطب ة هي في
الحقيقة ،مطمح كل مثقف ألنها تتيح ل ه من اخ من التفك ير الالمش روط بعي دا عن الرقاب ة للنش اط المع رفي
واإلب داعي .فالديمقراطي ة كنظ ام للحكم وإدارة الش أن الع ام هي ثقاف ة قب ل ك ل ش يء مبني ة على مفه وم
المواطنة والمس اواة ام ام الق انون .م ا يع ني عض وية الف رد الفعلي ة في المجتم ع كم واطن ومش اركته في
الخيارات السياسية واالستراتيجية للدولة.
.124كارل ماركس ،ذكر في مرجع سابق لمحمد عابد الجابري ،ص .25-24
المثقفين ،الطبعة األولى ،الشبكة العربية لألبحاث والنشر،
" . 125عبد اإلله بلقزيز"،نهاية الداعية ،الممكن والممتنع في أدوار
الدار البيضاء ،2000 ،ص.175
49
يقتضي المشروع ال ديمقراطي من المثق ف خ وض معرك ة نش ر الثقاف ة الديمقراطي ة في المجتم ع،
ومراكمة الحس النق دي وال دفاع على حري ة البحث والتفك ير وحري ة التعب ير .ل ذلك علي ه مقارع ة الق وى
المختلفة التي تنظّم الصمت وتفرض على الثقافة التقوقع في الزوايا الضيقة .على المثقف االنخراط بفعالي ة
في تحقيق أرائه وتطلعاته والتعبير عنها في الفضاء العام من خالل المجتمع المدني المستقل 126عن السلطة
السياسية القائمة وإن تقاطعت أحيانا البرامج واألهداف.
عبر المجتمع المدني يص بح المثق ف ق ادرا على مراكم ة ال وعي الن وعي والمحافظ ة على المس افة
الضرورية بين الشأن الثقافي والسياسي ،خاص ة وأن ه ق ادر على لعب دور الرقاب ة كس لطة مض ادة تق اوم
السلط في انحرافاتها وتكشف أدوات التح ّكم والتوجيه ذات البعد الواح د .ومن خالل المجتم ع الم دني يمكن
كذلك للمثقف المحافظة على رأسماله الرم زي ومراكم ة إنتاج ه المع رفي والمس اهمة الفعّال ة في القض ايا
المطروحة باختالفها 127.فالره ان الي وم ه و ره ان ثق افي حض اري تق دمي يؤس س لمدني ة الدول ة ويكف ل
الحريات والتعددية الثقافية وضمان العيش المشترك عبر التشبّث بالقيم الكونية.
قائمة المراجع:
إدوارد سعيد" ،المثقف والسلطة" ،ترجمة مح ّمد عناني ،رؤية للنشر والتوزيع ،الطبعة األولى، -
القاهرة.
محمد عابد الجابري" :المثقفون في الحضارة العربية محنة أبن حنبل ونكبة ابن رشد" ،مركز -
دراسات الوحدة العربية ،الطبعة الثانية ،2000بيروت.
جريدة لورور الفرنسية في 14جانفي .1898 -
ميشال فوكو" ،تكنولوجيا الخطاب ،تكنولوجيا السلطة ،تكنولوجيا السيطرة على الجسد" ،محمد -
علي الكبسي ،دار سراس للنشر ،تونس.1993،
عبد اإلله بلقزيز" ،نهاية الداعية ،الممكن والممتنع في أدوار المثقفين" ،الطبعة األولى ،الشبكة -
العربية لألبحاث والنشر ،الدار البيضاء.2000 ،
. 126ال نريد من خالل هذا القول السعي لمعاداة األحزاب أو مقاطعتها ألننا نعلم ضرورتها المركزية في العملية الديمقراطية،
إالّ أننا نش ّد د على فكرة مفادها ضرورة حفاظ المثقف على استقالليته .ألن الخطاب السياس ي مختل ف جوهري ا عن الخط اب
الثق افي ف األوّل يهتم ب اآلني والم رحلي ومرتب ط بالحس ابات التكتيكي ة السياس ية وم ا ي ترّتب عنه ا من تبع ات على التنظيم
السياس ي .أ ّم ا المثق ف فيص يغ أفك اره بموض وعية بمع زل عن الحس ابات الض يقة أو المص لحية النفعي ة .وفي إط ار ه ذه
االستقاللية ،يمكن للمثقف أن يمد يد العون لألحزاب التي تتقاطع أهدافها مع تصوّراته.
. 127إن كان على مستوى الحريات؛ كمناهضة التعذيب أو مقاومة التمييز العنصري أو ذاك المسلّط على المرأة ...أو في
كملف البيئة ومقامة التل ّوث ...أو على مستوى الثقافي والعلمي من خالل جمعيات تحفّز على البحث
ّ مستوى اإلكولوجي
والفنّي .وغيرها من المحاور.
50
التربية على المواطنة والرهان الديمقراطي
يُعت بر مفه وم المواطن ة من المف اهيم ال تي أث ارت وال ت زال ج دال واس عا في األوس اط الفكريّ ة
واألكاديمية ،بحيث اقترن المفهوم في سياقه التاريخي ب إقرار وترس يخ مب دأ المس اواة الكامل ة في الحق وق
والواجبات السياسيّة والقانونيّة واالقتصاديّة واالجتماعيّة للمواطن .ويتساءل أوليفييه روبول في هذا الصدد
" "هل نربي الطفل من أجل نفسه أم من أجل المجتمع؟ ربّما يتعلّق األمر هن ا بب ديل مغل وط بحيث ّ
أن ك ّل
لفظ ال يكتسي أهميته إالّ بإبراز أخطاء اآلخر ...ألن بين الف رد والمجتم ع يوج د لف ظ ث الث ه و اإلنس انية.
فغاية التربية ليست االهتمام بالفرد عبر طمس المجتمع أو االهتمام بالمجتمع عبر قت ل الف رد ،وإنّم ا هن اك
51
غاية أسمى وأعظم شأنا هي المواطنة اإلنسانيّة .فنحن ال نربي الطفل من أج ل أن يظ ّل طفال وال من أج ل
أن نجعل منه عامال أو مواطنا ...إنّما نربيه من أجل أن نجعل منه رجال ،أي شخصا ق ادرا على التواص ل
واالتحاد باآلثار واألعالم اإلنسانية .ألنه وراء كل الثقافات توج د الثقاف ة ،وال تي تتجلى قب ل ك ّل ش يء في
جعل تلك الثقافات قادرة على التواصل فيما بينها".128
وقبل التطرّق إلى التعريف االص طالحي للفظ ة مواطن ة ،نج د من الض روري اإلش ارة إلى أص لها
اللغ وي حيث اختلفت دالالت ه ب اختالف اللغ ات؛ ففي حين اس تعملت اللفظ ة في اللغ ة الالّتيني ة واليونانيّ ة
لإلشارة فقط لألف راد ال ذين يعيش ون في الدول ة المدني ة وفي اللغ ة الفارس يّة نلتمس نفس الص لة بين كلم ة
مواطنة والعيش في المدن حيث تطلق كلمة "شهروند" فقط على المواطنين الموجودين داخ ل الم دن .وفي
ق لفظ citoyennetéمن كلمة sifatisالالّتينية التي ت رادف كلم ة lolisاليوناني ة وتع ني
اللغة الفرنسية اشتُ ّ
المدينة . 129أما في اللغة العربية فإن المواطنة مشتقة من وطن والوطن في اللغة العربي ة ه و مح ل الس كن
أو المكان الذي يقيم فيه اإلنسان وال عالقة له بالمدينة .أما في الجانب االص طالحي للمواطن ة ،فإنن ا نك ون
أمام تخمة من التعاريف ال تحصى وال تع ّد يبقى أهمها:
"المواطنة هي عالقة بين الفرد والدولة كما يح ّددها قانون تلك الدول ة ،ولم ا تتض منه تل ك العالق ة من -
واجبات وحقوق في تلك الدولة" ،130وذلك حسب دائرة المعارف البريطانيّة.
أ ّما موسوعة الكتاب الدولي فتعرّف المواطنة بم ا هي "عض وّية كامل ة في دول ة أو في بعض وح دات -
الحكم ( )...فالمواطنون لديهم بعض الحقوق مثل حث التصويت وحق تولّي المناصب العام ة ،وك ذلك
عليهم بعض الواجبات مثل واجب دفع الضرائب والدفاع عن بلدهم" .131
"المواطن ة هي أك ثر أش كال العض ويّة في جماع ة سياس ية اكتم اال" ،132وذل ك نقال عن الموس وعة -
األمريكية.
لو أمعنّا النظر في التعاريف السابقة ،فإننا نجدها أقرب إلى تعريف الجنسية بما هي "رابطة قانونيّ ة
وسياس يّة بين الف رد والدول ة ت ترتب عليه ا بعض االلتزام ات تك ون في ص ورة حق وق سياس يّة ومدني ة
وواجبات قانونية مثل دفع الض رائب والتجني د العس كري" .133ومن هن ا فإننّ ا ننح از إلى التع اريف ال تي
تعطي المواطنة معنى أوسع وأشمل؛ فهي ال تقتصر على حق الفرد في عضويّة المجتمع أو وعيه باالنتماء
.Reboul (Olivier), La philosophie de l’éducation, PUF, 2ème édition, Paris, 1989, p.24 .128
.129شريف (أمين فرج)" ،المواطنة ودورها في تكامل المجتمعات التع ّدديّة " ،دار الكتب القانونية ،مصر-اإلمارات،2012 ،
ص .28
.130الكواري (خليفة) وآخرون" ،المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية" ،ط ،1بيروت ،2001ص .30
. 131نفس المرجع ،ص.31-30
. 132نفس المرجع ،ص.30
.133ويكيبيديا ،بتاريخ 24/2/2016على الساعة 10و17دق http://www.wikipedia.org
52
أن االنتم اء ال يتح ّدد بمج رّد ال والدة في رقع ة جغرافيّ ة م ا أو من خالل الجنس يّة
إلى جماع ة م ا ،ح تى ّ
"فالمواطنة تش ّكل البنية األساسيّة للنسيج االجتماعي المتكامل بغض النظر عن اختالف األفراد/المواط نين
الطبقيّة والثقافيّة واالجتماعيّة واالقتصاديّة والعقائديّة والدينيّة".134
ويمكن ،كبداية ،أن نسوق تعريفا معتدال للمواطن ة مف اده أنه ا "انتم اء إحساس ي وإدراكي إلى هويّ ة
اجتماعيّة داخل الفضاء الشاسع لإلنسانيّة ،نوع من الرباط الروحي والفكري الذي يجعل من الف رد يتج اوز
أنانيته الفطريّة ويعترف لآلخرين بنفس ما له من حقوق وعليه من واجبات تجاه المجموع ة .غ ير أنه ا في
اآلن نفسه تمييزيّة ،ألنها ترتبط بأ ّمة بدولة :فأنا مواطن بالنظر إلى دولة ما تمثّل لي ش رط ذل ك" .135ومن
هنا يمكن أن نؤكد ّ
أن المواطنة مفهوم ضارب في القدم يحمل معاني حديثة وقديمة على حد الس واء ،ولع ّل
أهم معانيه القديمة "االنخ راط في المجموع ة البش رية انخراط ا وظيفي ا" .136ومن ه ذا المنطل ق يمكن أن
نكشف اللثام عن العالقة العريقة بين التربية والمواطنة حيث هدفت أقدم المشاريع التربويّة في الت اريخ إلى
تحقيق االندماج االجتماعي الوظيفي لألفراد بالدرجة األولى .حيث يشير ّ Olivier Reboul
أن األفالطونيّة
انتبهت منذ البداية إلى العالقة بين التربية والمواطنة ،حيث عكس النص الشهير "الجمهوريّة" "الرغبة في
جعل التربية وسيلة لخلق النموذج االجتماعي العادل والمتناغم :والتربية األفالطونية المتدرّجة بالطفل س نّا
وقدرة ُوفقت إلى ح ّد كبير في المالئمة باستمرار بين الغاية وهي الم واطن في ك ّل مرتب ة اجتماعيّ ة ،وبين
الوسيلة التي يتم اعتمادها لتحقيق تلك الغاية" .137
باتت مسألة الحريّات وحقوق اإلنسان موضوعا حيويّا يمسّ حياة ك ّل الشعوب وال دول .وهي مس ألة
ترتبط أيما ارتباط بحياة كل إنسان بوصفه فردا في المجتمع بحكم طبيعته وتكوينه" .فالمواطن ة ال يمكن أن
تُفهم إالّ بوصفها آليّة ووسيلة لتأكيد حقوق اإلنسان وحريّاته" .138والمواطن ة في ص ورتها المتكامل ة تع ني
ضمان ممارسة اإلنسان لكاف ة حقوق ه وحريات ه األساس يّة ال تي أك دتها األدي ان -الس ماويّة منه ا واإلثنيّ ة-
ونظمتها المواثيق والمعاهدات الدوليّة وناضلت ألجلها البشريّة منذ العصور الغابرة.
كما خصّص الدستور التونسي الجديد ،أو دستور الجمهوريّة الثانية ،باب ا ك امال للحق وق والحري ات
(الباب الثاني) 28فصال بالتم ام والكم ال (من الفص ل 21إلى الفص ل ،)49مؤك دا فيه ا ّ
أن "المواطن ون
والمواطنات متس اوون في الحق وق والواجب ات وهم س واء أم ا الق انون من غ ير تمي يز" (الفص ل 21من
الدستور) حيث يُعتبر مبدأ المساواة المبدأ األساس الذي تس تند إلي ه جمي ع الحق وق والحري ات في عص رنا
.134أ مين فرج شريف" ،المواطنة ودورها في تكامل المجتمعات التعدديّة" ،دار الكتب القانونيّة ،القاهرة ،2012ص.11
. 135الحجالوي (لطفي)" ،فلسفة التربية :اإلشكاليات الراهنة " ،دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع ،بيروت ،2009 ،ص
.104
. 136الحجالوي (لطفي) ،نفس المرجع ،ص .105
.137الحجالوي (لطفي) ،نفس المرجع ،ص .106-105
.138أمين فرج شريف ،مرجع سابق ،ص.245
53
الراهن ،والذي يعني عدم التمييز بين المواطنين في الدولة في الحقوق والواجب ات مهم ا اختلفت األس باب.
والتسليم بهذا الشرط الزم لقيام نظام قائم على أساس المواطنة "وعلي ه تض من الدول ة للمواط نين الحق وق
والحريات الفرديّة والعامة ،وتهيئ لهم أسباب العيش الكريم" (الفصل 21من الدس تور) .ومن ناف ل الق ول
ّ
أن المواطنة تقوم على عنصرين أساسيين:
وفي هذا السياق نفهم تأكيد الدساتير المختلفة زمنيا وجغرافي ا على مس اواة المواط نين أم ام الق انون
بعيدا عن ك ّل تمييز جنسي أو عرقي أو قومي أو طائفي أو ديني أو مذهبي وال باختالف اآلراء والمعتقدات
واألوضاع االقتصادية واالجتماعيّة لألفراد .إالّ أنه وجب اإلشارة هنا إلى تلك الحقيقة -التي يح اول العض
تغييبه ا -ال تي تقض ي ّ
أن مج رّد التنص يص على جمل ة الحق وق والحريّ ات في دس اتير ال دول وقوانينه ا
كاف وال يع ني بالض رورة تحقّ ق الغ رض المنش ود واله دف المرس وم،
ٍ والمعاهدات الدوليّة المختلفة غير
حيث يقتضي الواقع المعيش ضمانات داخليّة (قانونيّة ومؤسساتيّة واقتصاديّة وثقافيّ ة) وض مانات سياس يّة
وإستراتيجية تسمح بتكريس هذه الحقوق والحري ات داخ ل المجتم ع ،ومن بين ه ذه الض مانات ن ذكر على
سبيل الذكر ال الحصر:
-الفصل بين السلطات :حيث يعتبر مبدأ مفصليا وأساسيا في النظ ام ال ديمقراطي ورك يزة هام ة من
ركائز الدولة القانونيّة .وهو يعني توزيع سلطة الدولة أفقيا بين ثالث ة هيئ ات مس تقلة ومتوازن ة ومتكامل ة.
وق د أش ار دس تور 2014إلى ه ذه النقط ة في توطئت ه "في إط ار دول ة مدنيّ ة ...وعلى مب دأ الفص ل بين
السلطات والتوازن بينها".
ودور مرك زي للف رد والمجتم ع،
ٍ -استقالليّة الس لطة القض ائيّة :نظ ير م ا للقض اء من أهمي ة بالغ ة
الس يّما دوره الكب ير في حماي ة الحق وق الحري ات وض بط الواجب ات ولم ا ي وفرّه من ض مان االس تقرار
وشرعيّة النظم السياسيّة القائم ة .واس تقالليّة القض اء ال تع ني طغي ان الس لطة القض ائية على ب اقي الس لط
المحورية في نظام الدول ،بقدر ما يع ني حمايت ه من الم ؤثرات والض غوطات الشخص يّة منه ا والسياس يّة
.139الكواري (خليفة) وآخرون ،مرجع سابق ،ص.34
54
والخارجية .وهذا مبدأ نصّت عليه ك ّل الدساتير الحديثة والمواثيق الدوليّ ة حيث ُذك ر في ق رارات الجمعيّ ة
العامة لألمم المتحدة رقم 40/32لسنة 1985و 40/146لسنة 1985أيضا.
-التداول السلمي للس لطة من خالل انتخاب ات ح رة نزيه ة وش فافة :حيث أن ه يُعت بر من الض مانات
األساسيّة لصيانة حقوق اإلنسان وحرياته األساسيّة في أي مجتمع "فاالختالف فطرة فطر هللا البشر عليها،
وتع ّدد القوى الفاعلة خاصيّة من خصائص المجتمعات المعاصرة ،والمجتمع الديمقراطي يتميّ ز عن غ يره
بأنّ ه مجتم ع واقعي ال يكبت ب القوة مظ اهر االختالف وال ينك ر ح ق التع ّدد ،ب ل ّ
إن النظ ام ال ديمقراطي
يحرص على تجنّب االحتقان االجتماعي-السياسي الذي يؤدي في بعض الح االت إلى ص راعات عنيف ة أو
دمويّة مسلّحة" .140ومن هذا المنطلق نصّ دستور 26جانفي 2014في توطئته على ما يلي " ...وتأسيس ا
لنظ ام جمه وري تش اركي ،في إط ار دول ة مدنيّ ة الس يادة فيه ا للش عب ع بر الت داول الس لمي على الحكم
بواسطة االنتخابات الحرّة" .إذ ّ
أن سيطرة الرأي الواحد أو التصوّر األوحد تكتنز جملة من اآلفات لع ّل في
مقدمتها وأكثرها خطورة :قتل اإلبداع ،التوقف عن مواكبة العصر.
إن الس بيل األمث ل للتعب ير الس ليم عن التع ّدديّ ة في مجتم ع م ا ،ينطل ق أوال
ك في ه ،ف ّ
وم ّم ا ال ش ّ
ب االعتراف بوجوده ا وفتح س بل العم ل المش روع أمامه ا .وه ذا االع تراف القاض ي بوج ود المعارض ة
المشروعة للسلطة القائمة صاحبة الشرعيّة المقنّنة ،من شأنه أن يحوّله ا إلى س لطة أن اس أح رار يع برون
دون إك راه عن رأيهم .فيص بح ب ذلك الخض وع للس لطة ض ربا من ض روب الحريّ ة أو نوع ا من التواف ق
اإلرادي مع النظام القائم .فالتع ّددية هي ،أوال وقبل ك ّل شيء ،مجال اجتم اعي وفك ري يم ارس في ه الن اس
حروبهم وصراعاتهم من خالل السياسية أي بواسطة الحوار والنقد واالعتراف واألخذ والعط اء ،وبالت الي
التعايش في إطار السلم القائم على الحلول الوسط المتناوب ة ،وه و م ا يتطلّب ع دم احتك ار الس لطة ،وإنّم ا
تداولها بين االتجاهات السياسيّة المنظّمة ممثلة في األحزاب والحركات السياسيّة؛ "حريّة تكوين األح زاب
والنقابات والجمعيات مضمونة" وفقا لما ورد في الفصل 35من الدستور.
-تفعيل دور مؤسسات المجتمع المدني :إذا ما ك انت المؤسس ات الحكوميّ ة هي مح ور التن افس بين
القوى السياسيّة المختلفة ّ
فإن مؤسسات المجتمع المدني هي القنوات التي يجري من خالله ا التن افس األم ر
الذي يجعل وجودها بمثابة العمود الفقري لعمليّة صنع واتخاذ القرارات السياس يّة .وم ا يجب التأكي د علي ه
أن مجرّد وجود مؤسسات المجتمع المدني في أي مجتمع ال يعني ضرورة تجاوز األزمات وحلّها .بل
هناّ ،
إنّه الب ّد من تفعيل دور تلكم المؤسسات حتى ت ؤدي دوره ا المطل وب على أكم ل وج ه نظ ير ق درتها على
التأثير في المجتمع .وعليه نؤ ّكد على إيجاد وتطوير آلي ات تفعي ل مؤسس ات المجتم ع الم دني ح تى تك ون
ومن خالل هذه النظرة يبرز التغيير الثقافي كمقدمة ضروريّة لتحقيق عمليّة التحوّل ،كونه ا ال تق وم
فقط على توفير الضمانات الدس تورية في جوانبه ا القانوني ة والسياس ية واالقتص اديّة ،ب ل الب ّد من وج ود
الفرد الذي يبدعها ويديرها ويعتني بها ،فبواسطته يتم تغيير أسلوب التفكير التقليدي السائد ،وجع ل العق ول
والنفوس أكثر استعدادا لتقبّل التغيير ،وعليه اعتبر الباحثون تغيير القيم من أهم شروط نجاح عمليّة التحوّل
الديمقراطي.
ومن هنا الب ّد أن نشير إلى موض وع الثقاف ة السياس يّة وعالقته ا بعمليّ ة التح وّل ال ديمقراطي ،حيث
يشير G.Almondو S.Verbaفي دراستهما حول الثقافة السياسيّة إلى ّضرورة توفر القيم والثقافة السياسيّة
كعام ل رئيس ي يس تبق عمليّ ة االنتق ال ال ديمقراطي ،ويؤ ّك د على ّ
أن الثقاف ة السياس يّة مرتبط ة ب القيم
الديمقراطيّة وأنها شرط أساسي يستبق الدعوة الديمقراطيّة" .141
بما ّ
أن التربية على المواطنة هي تربي ة تنويريّ ة وحديث ة تس عى نح و تأس يس نس ق قيمي وس لوكي
يجنح إلى تحويل األفكار إلى قيم وسلوكات ق ادرة على إدماجه ا داخ ل المجموع ة من خالل ترس يخ ثقاف ة
الحق والواجب والديمقراطيّة ،يجد سؤال سبل إدماج جمل ة ه ذه القيم ض من الممارس ة البيداغوجيّ ة داخ ل
المؤسس ة التربويّ ة ومؤسس ات التنش ئة االجتماعيّ ة :ف أي أس لوب يمكن اعتم اده في الت دريس لتلتح ق قيم
التمدن وحقوق اإلنسان والديمقراطية ضمن بنية المواد التعليميّة؟ وأيّة تقني ة بيداغوجيّ ة من ش أنها أن تفتح
فكر المتعلّم وسلوكه على قيم الكرامة والمساواة والحريّة والمواطنة واالختالف كمق ّدمة أساس يّة نح و بن اء
مجتمع ديمقراطي؟
.141أالن نورين" ،ماهي الديمقراطيّة :حكم األكثريّة أم ضمانات األقليّة" ،ترجمة حسن قبيسي ،ط ،2دار الساقي ،بيروت
،2001ص .101
56
"التم ّدن" مفهوم يجد جذوره في التاريخ السياسي االجتماعي الفرنسي حيث ارتبط بظهور المواطن ة
والمؤسسات االجتماعيّة ومؤسسات التنشئة الخاضعة للمص لحة العام ة الموحَّدة .حيث يق وم التم ّدن "على
القيمة التي تش ّكل السلوك وهي من خاصيّات الفرد ،لكنها ملزمة للمجموع ة فتف رز س لوكا خاض عا للقيم...
هذا التراب ط بين الخ اص والع ام يمثّ ل ج وهر التنظيم ح ول المواطن ة وألنم اط ممارس تها ،وب ذلك يعطي
التمدن قيمة للمصلحة العامة فيمنح لألفراد القدرة على المشاركة والتفاوض والتبادل فيما بينهم".142
المجتمع المدني هو أ ّول دعائم التمدن وأساسها ،فهو مجمع مستق ّل بشكل يكاد يكون تا ّما عن إشراف
الدولة المباشر ويتميّ ز ب التنظيم التلق ائي وروح المب ادرة الفرديّ ة والجماعيّ ة والعم ل التط وّعي في س بيل
المصلحة العام ة المش تركة" .وعلى ه ذا األس اس ارتب ط مفه وم المجتم ع الم دني بمنظوم ة قيميّ ة ش املة
تتض ّمن مفاهيم الفردانيّة ،المواطنة ،حقوق اإلنسان ،المشاركة السياسيّة والشرعيّة الدستوريّة".143
بهذا المعنى يصبح المجتمع المدني والتم ّدن واحدًا منص هرًا ،يتمثّ ل في جمل ة من القيم ال تي تو ّج ه
وألن الديمقراطيّة ممارسةٌ وسلو ٌ
ك ،قد تب دو في ّ سلوكات األفراد والجماعات تحت لواء مجتمع ديمقراطي.
ظاهرها جماعيّة إالّ أنها في واقع األمر فرديّ ة تفاعليّ ة ،فهي تحت اج إلى التربي ة والت دريب على مث ل ه ذه
الممارسات التي قد ترتقي لدرجة القيم اإلنسانيّة كحريّة التعبير والتفكير وال رأي والكتاب ة والتنظّم الح زبي
والعمل النقابي وغيرها...
وفي هذا اإلطار تتن ّزل التربية على التم ّدن ،فهي ال تي تع ّد الف رد ليص بح ف اعال اجتماعي ا مس تقالّ،
وكائنا له كامل الحقوق ،وواعيا بواجباته ،وفاعال في مشهديّة العالقات االجتماعيّة السائدة .تلكم هي سمات
مواطن الغد .فالمواطنة بهذا المعنى له ا ط ابع ترب وي يس عى إلى ترس يخ ال ُمث ل الديمقراطيّ ة حيث ال تفي
القوانين وحدها بضمان الممارسة الديمقراطيّة ...وال يتم ذلك إالّ من خالل تحقيق غايات كبرى:
وهي تربي ة الف رد على قيم تخ دم الك ائن البش ري من خالل ش رح القواع د االجتماعيّ ة والسياس يّة
وإكساب الناشئة المبادئ والقيم التي تؤسس وتنظّم الديمقراطيّة .فالتربي ة على حق وق اإلنس ان هي المق ّدم ة
البديهيّة لك ّل عمل يه دف إلى تنمي ة العنص ر البش ري وإكس ابه جمل ة القيم والس لوكات الض روريّة لتنمي ة
المجتمع وحداثته" .فالتالميذ ال يريدون أن يتعلّموا حقوق اإلنسان وإنّما أن يعيشوها في تعليمهم حتى تكون
وهي ترس يخ االعتق اد واإليم ان بش رعيّة المؤسس ات السياس يّة الض امنة للحري ات والمس اواة بين
األفراد واحترام حقوقهم .فالتربي ة على المواطن ة تس عى إلى تك وين الم واطن المتش بّع ب القيم الديمقراطيّ ة
ومبادئ حقوق اإلنس ان ،وتدريب ه على تلكم الممارس ات في س لوكاته اليوميّ ة .فالتربي ة على المواطن ة إذا
"ذات منحى إنساني باعتبارها تربي ة تنش يئيّة ذات نزع ة إنس انيّة موجه ة إلى بن اء قيم اإلنس ان وس لوكاته
بتوعيته بحقوقه التي تش ّكل الماهيّة الحقيقيّة واألصليّة في اإلنسان ،فهي تربية من أجل اإلنسان" .146
وهي التربي ة على الخط اب العقالني المرتك ز أساس ا على مف اهيم ال ذات والعق ل والحريّ ة
والتسامح واالختالف والكرام ة والمس اواة والديمقراطيّ ة .ولتحقي ق ه ذه األه داف تس عى المؤسس ات
التربوية نحو بلورة شخصيّة المتعلم المواطن منفتحة ب وعي على محيطه ا المحلي واإلقليمي وال دولي
وتتفاعل إيجابيا مع هذا المحيط المتحرّك .فالتربية على التم ّدن تربية ذات بع د قيمي أساس ا تس عى إلى
إكساب الفرد سلوكات تقوم على قيم إنسانيّة حقوقيّة باعتبارها تخ اطب اإلنس ان باعتب اره كائن ا مف ّك را
يتخذ مواقف ويمارس سلوكات.
ر ّكزت البيداغوجيا التقليديّة على ماهيّة المعلوم ات ال تي س تنقلها عملي ة التربي ة أك ثر من تركيزه ا
على آليات وطرق نقلها ،وبالتالي توجّه المدرسون نحو التعامل مع ظاهرة االنفجار المعرفي والمعلوم اتي
على أساس تكديس المعلومات التي تُق ّدم للطفل حول السلم واألمن والعدالة والمساواة وح ق االختالف ،في
مقابل إغفال سبل وكيفيّة الحصول على المعرفة وبالتالي إتقان أدوات التعامل معها .فالغايات الرئيسيّة التي
ال ب ّد أن تفي بها التربية في ك ّل عصر -على ما بلغن ا -هي "تعلّم لتع رف ،تعلّم لتعم ل ،تعلّم لتك ون ،تعلّم
لتش ارك اآلخ رين" .فالمعرف ة ال تتوق ف بمج رّد اإللم ام به ا ،ب ل يجب أن تم ّر إلى ط ور االس تيعاب
إالّ ّ
أن التربية على تبنّي قيم ومواقف تُترجم فيما بعد إلى سلوكات ،تستوجب اعتماد بي داغوجيا ت دفع
المتعلّم إلى حس ن اس تغالل الم وارد المعرفيّ ة بغيّ ة تنمي ة قدرات ه الذهنيّ ة وص يانتها .ولع ّل في ترك يز
البيداغوجيا السائدة على مبدأ "نتعلّم لنعرف" جعلن ا ن ولي األولويّ ة للمعلوم ة في ممارس ة الفع ل ال تربوي
أكثر من اهتمامنا بتنمية المهارات الذهنية وما زاد الطين بلّة البرامج التربوية الرسمية التي تش هدا تكديس ا
للمادة التعليمية دونها عن األنش طة التعليمي ة .وه و م ا من ش أنه أن يحص ر اكتس اب المعرف ة عن د ح دود
اإللمام بها دون توظيفها فيجعلها قابل ة للض ياع والتب ّدد .فالنتيج ة البديهي ة والمنطقيّ ة والمنتظ رة ألس لوب
الحفظ والتلقين هو ضياع المعلومة وتبددها نظير صعوبة المرور إلى توظيف المكتسبات .حيث يأتي ،هنا،
دور تنمية المهارات الذهنية كالتحليل واالستقراء واالستنتاج ومهارات التواص ل والح وار والحج اج وهي
بمثابة البنية التحتيّة التي تنبني على أسسها البنى المعرفيّة .ويمكن أن تتجاوز العملية التربوية هذا ،فتضفي
عليها طابعا شخصيا –إن ص ّح التعبير -فتجعل المتعلّم محور العملية التربويّ ة ف تر ّكز أساس ا على حاج ات
المتلقي مع مراعاة الخلفيّة المعرفيّة لديه وما تتضمنه من مفاهيم وتصورات ص ائبة ك انت أم خاطئ ة وه و
ما "سيغيّر بالض رورة العالق ة التعليميّ ة بين المعلّم والمتعلّم والمعرف ة ،وهي عالق ة تتج اوب م ع مط الب
المتعلّم وقدراته" .148فالطرق التلقينيّة المباشرة وغير المباشرة تساهم في إنتاج إنسان س لبي غ ير متع اون
يتهرّب من تح ّم ل المس ؤوليّة ،ف إذا م ا تن ازل المعلّم عن س لطة احتك ار المعرف ة ليش ارك التلمي ذ إنتاجه ا
ويوجه ه ويرش ده إلى مص در المعلوم ة "فمن يتعلّم ويق در على التعب ير عن رأي ه يدفع ه ذل ك إلى بل ورة
تفكيره".149
إن القول ّ
بأن "التربية تهدف إلى إنتاج مواطنين" ليس بالبداهة ال تي نتص وّر ،إذ يع ود ه ذا اإلق رار ّ
ليعبّر عن اتجاه بيداغوجي وتمشي منهجي قاصرين ومحدودين ،وبلغ ة أك ثر مباش رة ووض وحا وجب ّ
أن
نق ّر باألطروحة التي يدافع عنها االتجاه الوظيفي ال ذي يب ني تص وّره للتربي ة وللوس ائل البيداغوجيّ ة على
جمل ة من األه داف المح ّددة س لفا يبقى في مق ّدمتها أن التربي ة هي عمليّ ة ته دف إلى تحقي ق االن دماج
االجتم اعي للمتعلمين .ه ذا التو ّج ه تبل ور في المجتمع ات الالئكي ة الحديث ة والمجتمع ات ال تي تق وم على
.147حفيظ (عبد الوهاب) ،الجزيري (مشيرة) ،مرجع سابق ،ص .209
.148حفيظ (عبد الوهاب) ،الجزيري (مشيرة) ،مرجع سابق ،ص .210
149
. Cardinet (A), Pratiquer la médiation en pédagogie, Dunot, Paris 1995, P. 106.
59
األنظم ة التعاقديّ ة ،وه ذا ال يع ني البت ة ّ
أن الغاي ة الوحي دة للتربي ة هي االنخ راط االجتم اعي أو تحقي ق
االنسجام االجتماعي.
ولعلّه من نافل القول اإلشارة إلى محدوديّة الطرق البيداغوجيّ ة التقليديّ ة ال تي اعتم دت أس اس على
عمليّة التلقين معتبرة المعلّم أو المدرّس مصدرًا وحيدا للمعرفة مقاب ل اقتص ار دور المتعلّم على االس تقبال
السلبي للمعرفة والتسليم به ا دون أي دور يُ ذكر للتربي ة الذهني ة.ه ذا "الص نف ال تربوي" ،اتف ق جمه ور
العلماء على عدم فاعليّته كاستراتيجيا تربوية تساهم في ترس يخ قيم المواطن ة وبل وغ أهم أه دافها القاض ية
بتطوير القدرة على العيش المشترك ،وتطوير الكفاية االجتماعية.
ولئن رجحت العدي د من الدراس ات الب اراديغم التعلّمي بغيّ ة تحقي ق مقاص د برن امج التربي ة على
المواطنة من قبيل تطوير شخصيّة الطفل المتعلّم ،تنمية قابليّته للتفاعل اإليجابي مع اآلخر ،إالّ أن النظريّ ة
السوسيو-بنائية تبقى في نظرنا األهم على اإلطالق في هذا المبحث من حيث كالئمتها ألهداف التربية على
المواطنة خاصة فيما تعلّق بتطوير الكفايات االجتماعيّة عن د المتعلمين .وتح ّد الب اراديغم السوس يو -بن ائي
ثالثة أبعاد متشابكة مترابطة بعضها ببعض ،هي :البعد البنائي ،البعد االجتماعي ،البعد التفاعلي.
أ ّما البعد البنائي فيع ود على المتعلّم نفس ه حيث لم يع د دوره س لبيا مقتص را على اس تقبال المعلوم ة
فقط ،بل إنه أصبح يضطلع بدور محوري في بنائها .حيث أص بحت مع ارف الطف ل وتص وراته وتمثالت ه
منطلقا لكل نشاط تربوي فالطفل حسب Rousseauمخل وق ب دائي نبي ل ل ه معرف ة لم ا ه و طيّب وم ا ه و
خبيث وأن ما يفرضه مجتمع الكبار على الطفل من قيود وتحريم ات إنّم ا تعرقل ه وتُض طرّه إلى أن يك ون
شخصا أقل نبالة .وتحص ل عمليّ ة التعلّم من خالل تنظيم المتعلّم لذات ه ع بر عملي ات التكيّ ف واالس تيعاب
والتالؤم بالمعنى المحدد من لدن .150Piagetوأ ّما البعد االجتماعي ،فقد ارتبط بجملة الف اعلين االجتم اعيين
المعن يين بعملي ة التربي ة من تالمي ذ ومؤسس ة األس رة والمؤسس ة المدرس ية والنظم الديني ة واالقتص ادية
والسياسية والثقافية السائدة باعتبارهم وسائل أساسيّة في عمليّ ة التربي ة ،وتس عى ه ذه الش بكة االجتماعيّ ة
جاهدة لتهيئة فضاء للح وار والتفاع ل فيم ا بينه ا .والبع د الث الث في الب اراديغم السوس يو-بن ائي ه و البع د
التفاعلي والذي يتح ّدد من خالل التفاعالت بين الفاعلين التربويين فالفكرة والخبرة والسلوك اإلنساني نت اج
مجتمع على حد تعبير .George Herbert Meadفالكائنات البشريّة ،في واقع األمر ،تتفاعل فيما بينه ا من
خالل الرموز (رسوم ،لغة ،حروف )...التي يبتكرها اإلنسان والتي ال تشير بالضرورة إلى طبيعة األش ياء
أو األحداث وإنما إلى طريقة إدراك اإلنسان لها "فلكي يحيا اإلنسان الب ّد له أن يشيّد ويعيش داخل عالم من
الرم وز" .151كم ا يع ّد مفه وم الص راع السوس يو -مع رفي مفتاح ا مركزي ا في فهم س يرورة عملي ة بن اء
.150توبي (لحسن)" ،الحجاج والمواطنة" ،رؤية للنشر والتوزيع ،القاهرة ،2014 ،ص.197
.151أحمد (عطية أحمد) ،مناهج البحث في التربية وعلم النفس ،الدار المصريّة اللبنانية ،ط ،1القاهرة ،199 ،ص .102
60
المعارف الجديد خاص ة م ع تغ ير توزي ع األدوار في عملي ة التربي ة فيص بح الص راع السوس يو -مع رفي
"كدينامية تفاعليّة تتسم بتعاون نشيط م ع مراع اة ج واب اآلخ ر أو وجه ة نظ ره والبحث داخ ل المواجه ة
المعرفيّة عن تجاوز الخالفات والتناقضات للتوصل إلى إجابة موحدة".152
وبن اء على م ا تق ّدم نس تنتج أن ع دم األخ ذ باألس باب ال تي ت ؤدي إلى ترس يخ قيم المواطن ة ،رغم
اإلعالن عن اس تهدافها في ال برامج الرس مية المعلن ة ،يمكن أن ينش أ عن ه تفش ي النزع ة االنطوائي ة ل دى
األف راد وتن امي الخطاب ات الدوغمائية 153وانتش ار الم ذاهب اإلقص ائيّة ال تي تخ تزل المخ الف لل رأي في
مقوالت تنأى عن كينونة اإلنسان .ولتج اوز ه ذه العل ل ،ال يختل ف ع اقالن في ال دور المح وري لمؤسس ة
المدرس ة فهي األق در على ترس يخ قيم المواطن ة اإليجابي ة .وه ذا ال يع ني تق زيم دور ب اقي المؤسس ات
االجتماعيّة كاألس رة ووس ائل اإلعالم ودور الثقاف ة والتنش يط ومؤسس ات رعاي ة الطفول ة القب ل مدرس يّة
ومؤسسات المجتمع الم دني ،بق در اإلق رار بال دور المح وري والرئيس ي للمدرس ة ع بر الت اريخ في بن اء
اإلنس ان والمجتم ع وزرع ب دور القيم الديمقراطيّ ة نظ ير الف ترة الزمني ة الطويل ة ال تي من المف روض أن
يقضيها المتعلّم في فضائها.
ولع ّل أكبر تح ّد تواجهه المدرس ة الي وم ه و الس عي إلى تك وين مواط نين يس تنكفون من ك ّل أش كال
التقصير تجاه الدولة والمجتمع ،فيصرفون عنايتهم بالحياة العامة ويشاركون في صنع الق رارات السياس يّة
ويتفاعلون بشكل إيجابي مع مكونات المجتمع المدني ويساهمون في تعبئة ال رأي الع ام .ولغاي ة بل وغ ه ذا
إن على المدرس ة أن تح وّل فص ولها وقاع ات ال درس إلى نخت بر مص ّغر للحي اة
اله دف ،المواطن ة ،ف ّ
الديمقراطيّة حيث يتعلّم التلميذ أفض ال التعدديّ ة وس بل ت دبير االختالف والط رق العقالني ة ال تي نلجأإليه ا
لالعتراض عن الرأي المخالف .كم ا يجب االستعاض ة عن المدرس ة ال تي تحص ر ص ورة التلمي ذ "تمثّ ل
محتوى دراس ي قص د امتحان ه" .ب ل ّ
إن المطل وب ه و المس اهمة في إكس اب الناش ئة كفاي ات تت واءم م ع
خصوصيات المرحلة قد تش ّكل له سندا في نسج عالقات اجتماعيّة إيجابيّة .كفاي ة تواص ليّة بمعناه ا الع ام،
تتضمن مجموعة من القدرات المركبة والمتمفصلة :حجاجية ،عالئقيّة معرفيّة.
إنّن ا ال نتج ه في ه ذا المق ال إلى تغليب المقارب ة السوس يولوجية لدول ة المجتم ع الم دني أو الدول ة
الشريك :L’état partenaireفدور الدولة لم يعد ذاته في سبعينات القرن الماضي ،ولم يع د باإلمك ان تق ديم
المواطنة باعتبارها الوعاء الذي يستوعب ك ّل الوالءات .بل ّ
إن مقاربتي ت روم أن تك ون جامع ة وتطوريّ ة
لتتسع دائرتها من البعد التربوي إلى االجتماعي والثقافي والمدني والسياسي وغيرها أتناول فيه ا المواطن ة
152
. Raynal. F et Rieunier. A, Pédagogie : Dictionnaires des concepts clés, ESF, Paris, 1998, P. 85.
.153نقول الدوغمائية أو الجزميّة وهي التعصب لفكرة معينة دون قبول النقاش فيها أو تق ديم أي دلي ل يناقض ها أو يدحض ها.
وهند اإلغريق تع ني الجم ود الفك ري ...وهي إلى ه ذا وذاك تعص ب دي ني أو إي ديولوجي أو موض وع غ ير قاب ل للش ك أو
النقاش.
61
بما هي "تعبير عن حركة المواطنين في اتجاه إثبات وجودهم في إطار جماعة بعينه ا ،بحيث تتج اوز ه ذه
الحركة االنتماءات األضيق إلى االنتماءات األرحب ،أي أنه ا تتج اوز االنتم اء لألش كال األوليّ ة للمجتم ع
البشري :الطائفة ،القبيلة ،العشيرة ،إلى الجماعة الوطنية .وعليه ،تص بح المص لحة المش تركة هي المعي ار
الرئيسي الذي يحكم حركة المواطنين ،فيحدث ما يس ّمى باالندماج الوطني".
منذ مطلع القرن العشرين ،وبعد تجربته المريرة مع األنظمة الشموليّة ،Totalitairesأدرك اإلنس ان
أهميّة إقامة أنظم ة سياس يّة اجتماعيّ ة تق ولب في اآلن نفس ه عالق ة األف راد فيم ا بينهم من جه ة وعالقتهم
بالدولة من جهة أخرى انطالقا من قيم المساواة بين المواطنين وضمان حق وقهم الفردي ة منه ا والجماعيّ ة.
غ ير ّ
أن مختل ف النظم الديمقراطيّ ة تبقى ،حس ب تص وّر Edgar Morinخاض عة لخاص يّة الهشاش ة la
وإن كانت األنظمة الديمقراطيّة تشترط في وجودها التعددية واالختالف وما يمكن أن يترتب عنهم ا
من أوضاع نزاعيّة ،فإنه وجب التمييز هنا بين نمطين للصراع:
ص راع دم وي ،تجنح في ه األط راف المتص ارعة إلى العن ف الم ادي وإلغ اء اآلخ ر .وتوص ف -
المجتمعات التي تشجعه بالمنغلقة فيكون أطرافها عرضة للتطرّف وممارسة لعبة اإلقصاء ،وتنتشر
فيه ا مظ اهر الدوغمائيّ ة الم دمرة ،يبقى أخطره ا االعتق اد ب امتالك الحقيق ة غ ير القابل ة للتفني د،
وغصب حقوق المخالفين للرأي في االع تراض واالختالف .ه ذه المجتمع ات ،إ ًذا ،تج رّد اإلنس ان
من طبيعته الجوهريّة من حيث أنه فاعل اجتماعي.
نزاع تع اوني ،تغلّب في ه أط راف العمليّ ة التواص ليّة الح وار العقالني المتّ زن ،ال ذي ي ؤمن بح ق -
االختالف وإمكانيّ ة ت دبيره فتُن اقش القيم المتعارض ة به دف تقليص المس افات الفاص لة بين
المتصارعين .ويقترن وجوده بالمجتمعات المفتوحة التي تزدهر فيها المعرفة الخص بة حيث يت وفّر
المناخ المؤسساتي والتربوي الض امن لح ق االختالف باعتب اره مطلب ا أساس يا للحي اة الديمقراطيّ ة
وأقوى سبل التفاهم اإلنساني.
فمن خالل المدرسة يمكن تعزيز مبادئ الديمقراطية وغرس البديل الموضوعي للسلوكات المنحرفة
وتداعيات العنف المتعاظمة .وهو ما يستوجب مراجعة المدرسة ألهدافها التربويّ ة واس تحداث أو اس تنباط
آليات جديدة تهدف إلى تفعيل حقيقي لقيم المواطنة .ومن خالل استقراء واقع المدرسة في تونس ،يتضح أن
هناك ضعفا واضحا في معظم األنشطة المتعلّقة بالتربية على المواطنة يُضاف إليها قص ور ال غب ار علي ه
في تحقيق األدوار التربويّة .وقد يعود ذلك إلى نقطتين أساسيتين:
ق دم ال برامج التربوي ة الرس مية وع دم مواكبته ا لحاجي ات ومتطلب ات المجتم ع المحلي واإلنس اني -
المعولم.
قصور الوعي ،سهوا أو تع ّم دا ،بال دور ال تربوي للمدرس ة حيث يك اد يقتص ر دور ه ذه المؤسس ة -
األساسية والمحورية في عملية التنشئة االجتماعيّة على التعليم دونه عن التربية.
وعلى الرغم من الدور الذي يمكن أن تلعبه المؤسسة التربوية في تعزي ز قيم المواطن ة وفي احت واء
النشء وغ رس ثقاف ة الديمقراطي ة ،إالّ ّ
أن الواق ع ال ذي يعايش ه الب احثون لمؤسس ة المدرس ة على النقيض
تماما؛ إذ تؤ ّكد عديد الدراسات التربوية أنها ساهمت في تأص يل االغ تراب الفك ري والثق افي ل دى النش ء
أضف إلى ذلك اقتصارها على ممارسة أنشطة جامدة غير هادفة ال تواكب مواجه ة تح ديات العولم ة .من
هنا ،من هذا المنطلق بالذات ،تجد ضرورة مراجعة البرامج والمناهج المدرسية مش روعيتها س عيا لت دعيم
مهم ة المدرس ة ورس التها في غ رس وتعزي ز قيم الديمقراطي ة والعيش المش ترك وإكس اب التلمي ذ جمل ة
المعارف التي تغطي حاجاته المعاصرة وتلبي انتظاراته.
إن الواقع المعيش الذي يشغل األوساط السياسية والثقافية اإلعالمي ة والجماهيريّ ة يش ير إلى تح ّد
ّ
واضح متجدد فيما تعلّق بمبادئ المواطنة ومفاهيمها خاصة في الوطن الع ربي وفي ه ذه الحقب ة التاريخي ة
بالذات ال تي تم يزت ب الحراك االجتم اعي واالنتفاض ات المتع ددة لع ّل أك بر تجلياته ا م ا يُع رف ب الربيع
العربي .وقد تعددت العوامل المغذية لهذا الهاجس فمنها الفكري والثقافي والسياس ي واالجتم اعي تبل ورت
كلّها في إطار ظرف عالمي خاصيّته الكبرى قوة االستقطاب األحادي أو القوة العالمية الواحدة وسعيها إلى
63
ترويج مفه وم جدي د يس تجيب في المق ام األول واألخ ير إلى مص الحها وه و المواطن ة متع ّددة األبع اد أو
المواطنة العالمية ،في زمن عرفت فيه وسائل االتصال واإلعالم ازدهارا منقطع النظير .مما أدى ،متكاتف ا
في ذلك مع تشوهات بنية ال وعي الع ربي ،إلى خل ل في الرؤي ة والخي ارات في مج االت الفك ر والمف اهيم
السياسية والثقافية.
أضحى في حكم المؤ ّكد الي وم ،أن مؤسس ة المدرس ة م دعوّة إلى المس اهمة في تك وين م واطن يعي
دوره في الحي اة العام ة ،وه و م ا لن يت أتى إالّ ب زرع القيم الديمقراطي ة في المتعلّم وباستض ماره مع ارف
وقدرات كافية ،تسمو به إلى مستوى الفاعل االجتماعي الواعي بما يقع في محيطه.
ولطالما مثّلت المدرس ة الفض اء األمث ل للمتعلم الكتس اب تج ارب اجتماعيّ ة ،كونه ا تحت ل المرك ز
الثاني بعد الجماعة األوليّة األسرة ،حيث تسمح بإغناء البعد العالئقي للمتعلمين وهو ما من ش انه أن يوج ه
النشء نحو تصورات وسلوكات حول الحياة االجتماعيّة .والحديث عن الحياة المدرسية يحيلنا على ك ّل م ا
يجري في فضاء المؤسسة مختلف العالقات التفاعلية التي تحدث في إطارها سواء بين المتعلمين فيما بينهم
أو في عالقتهم مع األطر التربوية واإلدارية ،ه ذا دون التغاف ل عن قواع د الحي اة المش تركة Les Règles
.communes de vieوالفصل الدراسي هو أهم مكان ت دور في ه أط وار وأح داث الحي اة المدرس ية :حيث
تخضع جماعة الفصل إلى ضوابط شكلية أو قانونية أو عرفيّة (كإيقاع األنشطة ،الزمن المدرس ي ،أه داف
الجماع ة في عالقته ا بالبرن امج الرس مي ،النظ ام ال داخلي للفص ل )...كم ا تخض ع الجماع ة لمح ددات
بيداغوجية من أساليب التدريس والبرامج الرسمية وغيرها .وه ذا ال يع ني أن الحي اة المدرس ية له ا إط ار
مك اني دقي ق ومح دد حيث إنه ا تتع دى فض اء الفص ل الدراس ي إلى فض اء األنش طة الرياض يّة وقاع ات
األنشطة الثقافيّة وس احة ومم رات المدرس ة والمطعم المدرس ي فض ال عن فض اءات الحض انة المدرس ية
ونوادي األطفال ودور الثقافة.
ّ
إن الحياة المدرسية تضطلع بدور مركزي في التكوين على المواطنة أو الحياة المدنية ،في مس تويين
على األقل:
المستوى األول ،تق ّدم فيه وسائل الدراسة واالشتغال التي تخ ّول التفكير في العالقات مع اآلخرين. -
64
المس توى الث اني ،مف اده أنّ ه من ال وارد ج دا خض وع ه ذه التجرب ة لتنظيم محكم يس مح للمتعلمين -
اكتساب تجارب لها صلة باألدوار التي تنتظرهم في الحياة العامة من قبيل تح ّمل المسؤولية ،ت دبير
االختالف ،الحوار العقالني...
فدور الحياة المدرسية في التربية على المواطن ة يمكن تبس يطه في الس ماح للمتعلّم باإلحاط ة بكيفي ة
اشتغال المدرسة وسلوكات مختلف الفاعلين في الفضاء المدرسي والتي يجب أن تتناغم م ع جمل ة المب ادئ
والقيم التي نصبو إلى ترسيخها .فاله دف هن ا تمثُّل القواع د الجماعي ة وه و م ا يس توجب اض طالع جمي ع
الفاعلين (مدرسون ،إداريون )...باألدوار المنوطة بهم.
إن الحياة المدرسية مناس بةٌ ذهبي ة وفرص ة لترس يخ قواع د الح وار في إط ار مراع اة مب دأ الت درّج
ّ
واالنطالق في البداية إلى ت دريب التالمي ذ على اإلص غاء مم ا ق د يُكس ب الكالم مش روعية داخ ل الفض اء
ّ
الباث وه و م ا يحيلن ا إلى مرحل ة ثاني ة من الت دريب وهي أخ ذ المب ادرة المدرسي بغض النظر عن هوية
الكالمية .هذه األهداف تستوجب نفس ا ط ويال فهي ليس ت أه دافا آني ة ب ل تت ن ّزل في منزل ة كفاي ة تقتض ي
التعويل على إرساء مجموعة من التعلّمات بصفة تدريجية (مع ارف ،مه ارات ،مواق ف) خالل العدي د من
الحصص.
أليس الحجاج أنجع وسيلة تكوينية من شأنها تطوير معرفة الكينونة من السلوكات المنسجمة مع قيم
ومبادئ المواطنة الديمقراطيّة؟
نقضي جزءا كبيرا من حياتنا ونحن نحاجج بعضنا البعض ،نستمع آلراء اآلخرين ،نعبّر عن مواقفنا
منها قد نتفق معهم وقد نخالفهم وربما نع ّدل مواقفهم أو مواقفنا ،نؤثر فيهم ونتأثر بهم ...وفي المحصلة نحن
ننتج خطاب ات حجاجيّ ة تتن وّع بتن وّع المقاص د والوض عيات التواص ليّة .لن نج د تجرب ة أهم من الحي اة
المدرسية في سبيل تأهيل النشء لتح ّمل المسؤوليّة وأخذ القرارات عند االنخ راط في مش اريع معين ة وهي
المكان الذي يواجه فيه الناشئ األحداث غير المتوقعة سواء كانت إيجابية أو سلبية ...ولعل التفكير في هذه
اللحظات برؤية متبصرة من شأنها المساهمة في التربية على المواطنة وغرس قيم الديمقراطيّة.
إذا كان المقصود بالكفاية التواصلية مختلف المعارف والمهارات والمواقف التي يختبره ا الف رد من
أجل ح ّل وضعية-مشكلةّ ،
فإن التربية على المواطن ة تقتض ي إع داد الف رد ألخ ذ المب ادرات التواص ليّة في
65
مختل ف الوض عيات كالت دليل على رأي ه ب الحجج أو االع تراض على اآلراء المخالف ة لموقف ه ب الحجج
المضادة ...وهو ما من شانه أن يضمن حصول تف اهم إنس اني خالل لحظ ات الص راع .ه ذه الق درات هي
جزء من كفاية تواصلية عامة ومركبة ،تتشك ّل من:
مهارات الفعل :من قبيل إنتاج أفعال كالمي ة تتن وع ب اختالف المقام ات التواص لية (الطلب ،النفي، -
اإلخبار ،االعتراض ،التعليل)...
معرفة المواقف :كاحترام الرأي اآلخر ،تدبير المشاعر عند لحظة النزاع ،احترام آداب الحوار... -
ولعل العمل على هذه الموارد في إطار هندسة دقيقة لبرامج تعليمية تراعي جملة المبادئ والكفاي ات
المستهدفة ،يمكن أن تعود بفوائد كثيرة يبقى أهمها تمكين المتعلّم من تفعيل وتعبئ ة مختل ف التعلم ات ال تي
اكتسبها بشكل تدريجي ومج ّزأ في وضعيات مختلفة .وبلوغ هذا المقص د ال يتم بمع زل عن مراع اة النس ق
الرمزي أي اللغ ة ،فهي أداة الرب ط م ع الع الم المحي ط وهم زة الوص ل الرامي ة إلى تحقي ق لحظ ة التف اهم
اإلنساني داخل النسيج المجتمعي .فانتحال دور المواطن يحتم على الفرد تملّك األداة المسخرة للتف اهم ع بر
النسقين المكتوب والشفهي وإحكام المراوحة بينها ب اختالف الوض عيات التواص ليّة .والمالح ظ في الواق ع
اليومي ّ
أن الكفاية التواصليّة لدى فئ ة كب يرة من المواط نين في ض مور مس تمر حيث يعج ز الكث يرين عن
استخدام اللغة العربية وظيفيّا فتتداخل الكثير من األنس اق اللغويّ ة في الرس الة القص يرة الواح دة (العامي ة،
اللغ ة األجنبيّ ة ،العربي ة الفص حى) .ومن مظ اهر ض عف الكفاي ة التواص لية أيض ا ض عف الق درة على
االستدالل واالعتراض والتفطن لمظ اهر المغالط ة في الخط اب وأس اليب التموي ه خاص ة في الوض عيات
النزاعية كالتفاوض والمناظرة .حتى أن البعض اعتبر أن عدم إتقان اللغة الرسمية للبالد ول و نس بيا يعت بر
مسا بحق المواطنة الذي يكفله الدستور لجميع األفراد.
فضال عن كل هذا ،إذا كان التواصل السياسي قائم على نظ ام العالم ات ،ف إن واقعن ا اللغ وي يش هد
أزم ة تعكس مش كال ثقافي ا يلقي بض اللها على ج وانب عدي دة يبقى أهمه ا س لبية الم واطن في المش اركة
السياسية وصنع القرارات لتي تعود بالنفع على المجتمع.
في مثل هذه الظروف واالعتبارات ،تبدو المدرسة مطالبة بأن تتحول إلى مختبر للديمقراطية فتم ّكن
المتعلم من كفاية تواصلية عامة ألنه ال يمكن ب أي ح ال من األح وال الج زم بش كل قطعي بحص ول حري ة
66
التعب ير في مجتم ع ال يق رأ وال يعي م ا يس مع وال ينتب ه إلى المض مر في الرس ائل وال يع الج المعلوم ات
السياسية معالجة نقدية .وفي ه ذا الس ياق ،توص لت بعض الدراس ات في الوالي ات المتح دة األمريكي ة إلى
وجود ارتباط قوي ودال بين القدرة على التعبير بحرية وبين طبيعة الثقافة التعليمية الس ائدة .فطبيع ة الج و
التعليمي السائد في السياق المدرسي له بالغ التأثير في إكساب المتعلم قيم الديمقراطية.
ّ
إن تطوير الكفاية التواص ليّة ل دى المتعلمين يس هم دون أدنى ش ك في تمكينهم من األدوات المعتم دة
في تأطير الرأي العام وفهم رسائل الحمالت االنتخابية والوعي بمظاهر المغالطة في الخط اب ...ك ّل ه ذه
االعتبارات تبرر في نظري تصنيف الكفاية التواصلية كهدف أساسي في العملية التربويّة.
قد يبدو من الوهلة األولى أننا نروم إقامة ترابط وثيق بين مفاهيم ال ص لة بينه ا ،بم ا أننّ ا نجم ع بين
مصطلحات يحيل بعضها إلى الحقل السياسي والبعض اآلخر يحي ل إلى بالغ ة الحج اج .وفي واق ع األم ر
هذا التعالق العنيد يستمد مشروعيته من زاويتين:
األولى تاريخية ،حيث كانت الص لة الجامع ة بين السياس ي والبالغي وطي دة ع بر العص ور ،فمن ذ -
العهد اليوناني القديم تفطّن الفاعل السياسي إلى ضرورة التعويل على خطاب يراعي شروط بالغية
مخصوصة تهدف إلى إنشاء خطاب يتماشى مع مقتضيات الحياة العامة.
الثانية آنية ،تقر بأن ارتب اط المفه ومين أض حى ش رطا للحي اة الديمقراطي ة المعاص رة ،مم ا ي برر -
رهان ترسيخ قيم الديمقراطية في فصول المدرسة وقد يكون ذلك مثال بتدريب المتعلمين على حي اة
المواطنة كاالنتخاب وتوزيع األدوار وحق االختالف ونبذ العنف...
من هذا المنطلق ،يتبيّن أن إرس اء وتوطي د دع ائم الدول ة الديمقراطي ة ره ان يقتض ي التعوي ل على
المنظومة التربوية فهي األقدر على إرساء ثقافة المواطنة اإليجابية والفاعلة .وإيمانا بأهمية هذه الثقاف ة في
67
عالم اليوم ،سعى الخطاب التربوي الديمقراطي إلى البحث عن ط رق ممارس ة القيم الديمقراطي ة م دركين
ّ
أن اكتساب آلية الحجاج لبنة مهمة إلرساء دعائم المجتمع الديمقراطي.
يدفعنا هذا الكالم إلى القول بأن أخذ المب ادرة للتعب ير عن اآلراء بحريّ ة وص ياغة ق رار سياس ي أو
غير سياسي في مستوى المس ؤولية واح ترام الح ق في االختالف وترس يخ قيم التس امح يس تدعي قب ل ك ّل
شيء االستعانة ببالغة الحجاج ،وهو مظهر من مظاهر الكفاية التواصليّة العامة تضمن حق ال رأي اآلخ ر
بشكل عقالني وتقرب المسافة بين المختلفين في الرأي .فهي س ترة النج اة ال تي تم ّكن المجتم ع من تج اوز
مرحلة التناقضات الحرجة بأخف األضرار.
من هذا المنظور تقتضي التربية على المواطنة جعل الفرد يكتسب آليات بالغية تدرك قيم ة العالق ة
اإلنسانية وتصونها من خالل بث جو قيمي يؤمن باالختالف ويتدبره بأدوات بالغية عقالنية .هذا التص وّر
للبالغة نجده حاضرا في تعريف Ehningerحيث حددها على أنها المجال الذي ي درس جمي ع الممارس ات
اإلنس انية ،ال تي ت ؤثر بش كل متب ادل في س لوكهم وأفك ارهم من خالل االس تخدام االس تراتيجي للغ ة .ه ذا
التعريف ينسجم مع طبيعة المجتمعات المفتوح ة الق ادرة على ت دبير االختالف بحيث ينجح ك ّل ط رف في
تغيير سلوك اآلخ ر أو اعتق اده أو تع ديل تص وره بم وجب إتقان ه االس تخدام االس تراتيجي للغ ة .فاألفك ار
واآلراء تُقاد بناء على قوة الكلمة وقوة الحجة.
إن ما يزكي أهمية اكتساب المتعلم بالغة حجاجية ،ال تكمن في كونها تتماشى ومستلزمات المواطنة
الحديثة أو تتصل بمقتضيات الحياة السوسيو اقتصادية والسياسية ،بل ألن نت ائج البح وث التجريبي ة أق رّت
أن المدارك السياسية للمتعلم تبدأ في التشكل في ّ
سن 15سنة ،وتتجه قدراته إلى ربط بعض الموض وعات
بالخط اإلي ديولوجي لألح زاب السياس ية .فخصوص ية ه ذه المرحل ة تس توجب التس لح بالكفاي ة الحجاجي ة
الالزمة ،بما يحيلنا إلى الدور المركزي للتعلميّة didatactiqueبالغة الحج اج في تط وير شخص ية المتعلم
من خالل تنمية استعداده ألخذ المبادرات الكالميّة للتعب ير عن رأي ه وفك ره وتس اعده في تس جيل تحفظات ه
ونصب اعتراضاته على الرأي اآلخر دون الجنوح إلى العنف المادي.
قائمة المراجع:
المراجع العربية:
68
"الديمقراطية والتربية في الوطن العربي" ،أعمال المؤتمر العلمي الثالث لقسم أصول التربية في -
كلية التربية جامعة الكويت ،مركز دراسات الوحدة العربية ،بيروت.2001 ،
الكواري (خليفة) وآخرون "،المواطنة والديمقراطية في البلدان العربية" ،ط ،1بيروت.2001 ، -
أمين فرج شريف" ،المواطنة ودورها في تكامل المجتمعات التعدديّة" ،دار الكتب القانونيّة، -
القاهرة.2012 ،
إهرنبرغ (جون)" ،المجتمع المدني :التاريخ النقدي للفكرة" ،ترجمة علي حاكم صالح وحسن -
ناظم ،المنظمة العربية للترجمة – مركز دراسات الوحدة العربية ،ط ،1بيروت.2008 ،
بشارة (عزمي)" ،المجتمع المدني :دراسة نقدية" ،مركز دراسات الوحدة العربية ،ط ،2بيروت، -
.2000
تورين (أالن)" ،ما هي الديمقراطيّة :حكم األكثريّة أم ضمانات األقليّة" ،ترجمة حسن قبيسي ،ط -
،2دار الساقي ،بيروت.2001 ،
حفيظ (عبد الوهاب) ،الجزيري (مشيرة)" ،التربية والمواطنة في العالم العربي" ،مركز الدراسات -
والبحوث االقتصادية واالجتماعيّة ،تونس.2005 ،
شريف (أمين فرج)" ،المواطنة ودورها في تكامل المجتمعات التع ّدديّة" ،دار الكتب القانونية، -
مصر-اإلمارات.2012 ،
غالّب (عبد الكريم)" ،أزمة المفاهيم وانحراف التفكير" ،مركز دراسات الوحدة العربية ،سلسلة -
الثقافة القومية ،ط ،1بيروت.1998 ،
كوثراني (وجيه)" ،السلطة والمجتمع والعمل السياسي " ،مركز دراسات الوحدة العربية ،سلسلة -
أطروحات الدكتوراه ،ط ،1بيروت.1988 ،
الحجالوي (لطفي)" ،فلسفة التربية :اإلشكاليات الراهنة" ،دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع، -
ط ،1بيروت.2009 ،
هيتر (ديريك)" ،تاريخ موجز للمواطنيّة" ،ترجمة آصف ناصر ومكرم خليل ،دار الساقي ،ك،1 -
بيروت .2007
:المراجع الفرنسية
69
- Cardinet (A), Pratiquer la médiation en pédagogie, Dunot, Paris 1995.
التنمية الثقافية والديمقراطية المحلية في الوسط الريفي :تنمية الثقافة أم ثقافة التنمية
الثقافة هي الكلمة المفتاح بال منازع لطرح مسائل التنمي ة الثقافي ة والديمقراطي ة وم ا يح ف به ا من
نقاشات وتداعيات .وهي في سياق حديثنا تأخذ معنى سوسيو ان ثروبولوجي ،فهي الكيفي ات واآللي ات ال تي
تبدعها المجموعة للتأقلم م ع محيطه ا وس ياق وجوده ا وتش مل الق وانين وقواع د الس لوك ومعين الرم وز
والتمثالت المعبرة عن روحها وهويتها والتي تنقلها من جيل الى جيل .أما التأقلم مع المحيط فه و مش روط
بالتحيين الدؤوب اعتبارا ألن المحيط ليس محددا وال ثابتا وال متجانسا فه و داخلي وخ ارجي وه و مج الي
متحرك ،فبين الريفي والمحوضر نجد الهجين الذي لم يحوضر حسب النماذج المتعارفة ولكنه لم يبق ريف ا
في صورته النمطية وكثيرة هي وضعيات البين بين أو "الشبه كذا" ...وديدن التغير ابتداع واستنباط آلي ات
التأقلم وموائمتها من أج ل تحقي ق االكتف اء والرخ اء الم ادي والمعن وي وتك ريس مكان ة األف راد مواط نين
وتنمية المجتمع
70
ومن البديهي أن ين درج الح ديث عن التنمي ة الثقافي ة في س ياق التنمي ة الش املة .وه و ط رح يحيلن ا
ضرورة الى تحديد طبيع ة الس ياق السياس ي ال ذي ينج ز ض منه مش روع التنمي ة ه ذا وال ذي يح دد م دى
نجاحها .ويبدو أنه ا ال يمكن أن تثم ر بالق در المؤم ل في من اخ اس تبدادي وض من ق رار تس لطي .فللتنمي ة
شروط سياسية ضرورية ،أولها الحرية .فهي التي تستطيع أن تحرر اإلنسان من التخل ف والجه ل والفق ر.
أما بدونها فيكون مفهوم التنمية تهيئة الناس ليكونوا أدوات مسالمة مطيعة ال ألن يكونوا مواطنين في دول ة
.154
لقد اعتبرت تنمية المجتمعات الريفية من المسائل الثابتة في اهتم ام الف اعلين السياس يين وإن اختلفت
رؤاهم حولها وهي كذلك في أوساط الباحثين بمختلف اختصاصاتهم .وضمن هذا السياق يندرج الالحق من
هذه الورقة ليسهم في الجدل ح ول حوكم ة تنمي ة ه ذه المجموع ات خاص ة م ا تعل ق بالتنمي ة الثقافي ة م ع
مراعاة خصوصياتها وضمان نجاعة أكبر للسياسات والبرامج الرامي ة لتحقي ق تنمي ة منص فة للمجتمع ات
المحلية المتدنية الحظوظ والتي يسيطر عليها اإلحساس بالغبن واالنسحاب وفي أحيان كثيرة بالقهر.
لعل أهم ما يرتبط بهذه المسألة العالقة بين المركز واألطراف ،بين المدينة والريف بم ا يعتريه ا من
تعقيدات ورهانات ممتدة في تاريخ كل المجتمعات ،تراوحت بين التبعية في فترات والوص اية المطلق ة في
فترات أخرى والمؤدية للتفاعل السلبي مع برامج التنمية المسقطة والمفروضة يتجاذبها ال رفض والتعطي ل
من قبل الريفيين ،واإلمعان في الالمباالة والتعالي من قبل المركز مدنا وسلطة.
وال يمكنن ا أن ن ذهب بعي دا في تحلي ل ه ذه الص ورة النمطي ة إذ تم التخلي عنه ا أو اإليح اء ب ذلك
وتغ يرت السياس ات على األق ل على المس توى التش ريعي والخي ارات الك برى في مخطط ات التنمي ة.
وأصبحت الرهانات االجتماعية للسياسات التنموية المعلنة اعتماد الديمقراطية المحلية في بعدها التش اركي
وتوطين آليات التنمي ة واالبتع اد عن المش اريع العمودي ة .وه و توج ه ال يعفي ه بريق ه من محاكم ة النواي ا
المستترة خلفه .فقد تميز التنظيم القديم ،كما أسلفنا ،بهيمنة الدولة المتمركزة على ذاتها على التسيير ووضع
السياسات وتنفيذها باالعتماد أساسا على هياكلها المركزي ة ال تي تبقى المتحكم الرئيس ي في م وارد الدول ة
باسم سيادة الدولة .إال أنه ومنذ نهاية القرن الماضي ومع تفاقم الفوارق الجهوية والفئوية وما ظهر من آثار
العولمة على االقتصاديات الوطنية خاصة الهشة منها كما هو الحال بالنسبة لتونس ،برز التوجه نحو تغيير
ش به ج ذري للبحث عن سياس ات بديل ة تق وم على أس س مختلف ة للتص رف قص د ح ل معض الت التنمي ة
المستعصية وتصدر الحديث عن الفاعلين المحليين والمجتمع المدني والتسيير ال ذاتي كش عارات للمرحل ة.
"الديمقراطية التش اركية " ال تي تمث ل الش عار األب رز في ت ونس الي وم اختزلت في
.154صن أمارتيا (جائزة نوبل لالقتصاد)" ،التنمية حرية" ،ترجمة شوقي جالل ،المجلس الوطني للثقافة والفنون ،الكويت،
،2004ص.80
71
وتعبر عن التوج ه المعلن لسياس ة الدول ة .غ ير أن ه ذا األم ر ال يخفي بعض الت وجس من ص دق ال دافع،
فالمتتبع لألحداث السياسية واالقتصادية واالجتماعية التي تعتمل في تونس منذ ما يزيد عن العشرية يالحظ
ما يغذي الرأي بأن هذا التوجه ليس سوى غاللة ستر عورة السياس ة المركزي ة ال تي فش لت في االس تجابة
لتطلعات المجتمع بكل فئاته وبيئاته إلى التنمية ،فرمت بوزرها على الفاعلين المحليين شريكا أو بديال دون
اعتبار للشروط الموضوعية الواجب توفرها في ولهؤالء لالضطالع بهذه المهمة الصعبة .وقد يصل األمر
حد الشك في أنه توجه مملى من الجهات المتحكم ة في اقتص اديات العولم ة وال تي ت دعو إلى التقليص من
االستثمار المباشر والدعم االجتماعي.
أما تجلياتها فكانت وضع سياسات ترتكز على تقليل سيطرة المرك ز لص الح األط راف فيم ا يع رف
بالالمركزية والتي هدفت إلحداث إص الحات هيكلي ة ووظيفي ة إداري ة خاص ة لرف ع مردودي ة القطاع ات
االقتصادية واالجتماعي ة وبش كل تكميلي القط اع الثق افي .إذا غلب على مس ألة الالمركزي ة البع د اإلداري
والهيكلي وم ا يرافقهم ا من مراجع ة لألط ر القانوني ة واإلداري ة .غ ير أنه ا أبع د م دى و أعم ق أث را في
ارتباطها بالفكر السياسي والذي يربطها بدوره بفكرة بن اء نظ ام سياس ي على أس اس منهجي ة الالمركزي ة
التي تكرس دمقرطة الممارسة السياسية و تشريك أوسع ألف راد المجتم ع ،باعتب ارهم مواط نين متس اوين،
في التصور والتفعيل والتقييم والتنظيم دفاعا على حظوظهم و إبداع حلول معضالت حي اتهم المحلي ة .وق د
ورد هذا صريحا في دستور .1552014
بهذا نلج باب الخوض في مسألة الديمقراطية وعالقتها تخصيصا بالديمقراطية الثقافي ة وال تي ش اع
تعريفها على أنها توجه ذي طابع سياسي ظهر بعيد الحرب العالمية الثاني ة ويق وم على معادل ة ته دف الى
تأهيل األفراد لالختيار الواعي و المسؤول ضمن سياق ديمقراطي يمر عبر حصولهم على ق در من التعليم
والمع ارف ,إذا ع بر الثقاف ة .و رغم بريقه ا فإنه ا ال تح وز اإلجم اع وت زرع الريب ة في أوس اط المهتمين
بمالحظتها ودراسة تداعيات تطبيقها في الواقع ومن طريف الق ول فيه ا م ا ج اء على لس ان هابرم اس في
قوله أن نزع السحر عن الحق وعن السياسة الذي تعلقت به العلوم االجتماعي ة يتأس س على مب دأ الحيادي ة
الذي تزعم أنها التزمته منذ فيبر والذي يقود إلى رفض القبول الف وري باألي دولوجيا الديمقراطي ة دون أن
" . 155تقوم السلطة المحلية على أساس الالمركزية .تتجسد الالمركزية في الجماعات المحلية على أساس الالمركزية .تتجسد
الالمركزية في جماعات محلية تتكون من بلديات وجهات وأقاليم ،يغطي كل صنف منها كامل تراب الجمهورية وف ق تقس يم
يضبطه القانون( .دستور الجمهورية التونسية الفقرة .)132
72
يقلل هذا طبعا من الحدث االجتماعي الهام الذي يشكله فهم الذات تلقائيا للفاعلين حيث يب دو أن "مواط نين
156
عقالنيين ال يملكون مطلقا أسبابا الحترام قواعد اللعبة الديمقراطية".
ولعل هذا الرأي يحيلنا إلى مفارقة أن يرتبط ثراء الحقل الداللي لدمقرطة الثقافة بعدم وض وح اللف ظ
وكثافة الجدل حوله غير أنها تلتقي في اعتبار المساواة هدفا ال يمكن تحقيقه إال ببذل جهد هام وج اد لتمكين
األفراد والمجموعات الغير مؤهلة من الوصول إلى المعارف واإلبداعات الثقافية .أما الديمقراطي ة الثقافي ة
فهي أوسع أفقا من حيث تعويلها على الذكاء الموزع بين الجميع ،متع دد التجلي ات بم ا فيه ا ال ذكاء العملي
الذي تح دث عن ه بوردي و .حيث أن لك ل األف راد إمكاني ات تخ ول لهم خل ق وس ائلهم الذاتي ة للفهم والحكم
والتذوق ضمن مساراتهم الشخصية .وهي فلس فة التربي ة الش عبية وال تي ال تق وم فق ط على التعلم وال تزود
بالمعارف لنكون مثقفين وإنما تعتمد التعريف األنثروبولوجي للثقافة خلفية وتعت بر أن لألف راد ح ق وأهلي ة
توظيف مخزونهم الثقافي بهذا المعنى وإجراء عمليات المقارنة واالنتقاء واالستثمار لكل مكون ات المحي ط
المتاحة إلنتاج المعنى و بلورة الذوق الذاتي وإثراءه واختزاال أن يعيشوا "الديمقراطية ثقافة".
لق د ارتأين ا مغ ادرة مرب ع الت داعي في مقارن ة اللفظين فقابلن ا بينهم ا تلخيص ا وتكثيف ا ب العودة الى
تعريفهما في المعجم الفرنسي وفي األدبيات المتعلقة بمناقشتهما:
فالدمقرطة تنطلق من ثقافة النخبة أو الثقاف ة الش رعية بتعب ير بوردي و لتمكين الجمه ور الع ريض من -
ولوجها واالستفادة بها وتربية ذوقه.فهي مشروع فوقي يعمل على تيسير الوصول الى الرصد الثقافية
الشرعية و التي هي أصال غير عادلة التوزيع وصعبة المنال.
أما الديمقراطية الثقافية فتنطلق من القاعدة وتنتمي للمجموعة وتنمي المواطنة وتضمن التنوع الثق افي -
ويكون هدف السياسة الثقافية فيها ليس ثقافيا في معناه المثقف وإنما تنمية المجتمع في أبعاده المتع ددة
والفعل بالثقافة وفيها من أجل التنمية الشاملة والمستديمة.
لقد عاشت تونس وبدرجات متفاوتة توازنا بين الريف وهو المج ال القبلي في الغ الب و الم دن ال تي
تحتكر التبادل التجاري واألنشطة الحرفية وهي وضعية شهدت انقالبا مع سياسة الحماية التي ميزت المدن
الساحلية والحاضرة و قصرت دور الريف على اإلنتاج الفالحي في مستعمرات فالحيه ي ديرها المعم رون
أو األعيان .وقد ورثت دولة االستقالل منظومة سياسية مركزية .أما المنظومة اإلدارية فعمودي ة متمرك زة
في العاصمة وبدرج ة أق ل في مراك ز الوالي ات .منظوم ة ش ديدة المركزي ة أف رزت تفاوت ا مادي ا وقيمي ا.
وطبعت العالقات الثقافية بين المجال الريفي والمجال الحض ري .ورغم م ا ق د يب دو من امت داد الحوض رة
إلى المجاالت الريفية فإنها لم ترتق إلى مستوى المساواة في الحظوظ واإلمكانيات الموظفة للتنمي ة .ب ل إن
فيها الكثير من فرض نماذج قد ال تتالءم في كل األحوال مع خصوصيات المجموعات والمجاالت.
74
إن أهم المستجدات في المجتمع التونسي بعد االستقالل ما حص ل من تغ ير عمي ق انطالق ا من س نة
2011عانق فيه الحراك االجتماعي الثورة .وانتفضت الهويات الفرعية وبرز على الس طح معطى التن وع
والح ق في الفع ل واالختي ار لألف راد والمجموع ات .دون أن يخفى حجم التف اوت والحي ف بين الري ف
والمدينة ،وهو من الثوابت تقريب ا ،وبين الجه ات واألق اليم وه و نتيج ة السياس ات المتبع ة من ذ االس تقالل
والتي فقرت الريف وأفرغته خاصة من موارده البشرية وهو معطى فارق في بناء مؤسس ات الديمقراطي ة
المحلية التي تصطدم حتما بنقص الموارد البشرية.
وق د تجلى ذل ك خاص ة في االس تبعاد السياس ي ال ذي يق وم على التهميش اإلجب اري والحرم ان من
المشاركة إال وفق معايير السلطة 157بما يؤدي إلى االستبعاد االجتماعي وما له من ت داعيات نفس ية وقيمي ة
سلبية تترجم إلى الالمباالة والتواكل وعدم التفاعل مع المش اريع التنموي ة المفروض ة واالغ تراب .فابتع اد
الناس عن السياسة ييسر خلو الساحة إال من أوعزت السلطة بوجوده إمعانا في المغالطة أو أقلية من ال ذين
يصرون على طلب التغيير العادل والذين يعيشون تض ييقا ال يق ل س وءا على التهميش .وال ب د من التأكي د
على نفس ية الجم اهير بخصائص ها ه ذه ال تختص بش عب معين وإنم ا هي حال ة يمكن اعتباره ا مرض ية
وتتلخص في أن األف راد حين يعيش ون تحت نظ ام يش عرهم بامتي از اآلخ رين عليهم يص بحون مكتئ بين
وعاجزين وتسهل قيادتهم .وهو ما الحظ ه رش يد الح اج ص الح في مؤلف ه ح ول "الوج ه السياس ي للثقاف ة
العربية المعاصرة" والذي يقر فيه أن النظام السياسي العربي -ونحن منه -يقسم المجتمع إلى قس مين :أول
متكيف مع ثقافة الهيمنة وم دافع عنه ا ومتمت ع بمزاياه ا وث ان غ ير متكي ف ورافض ومت ذمر ،يع اني من
التهميش واألنكى أنه يحشر في دائرة المشكوك بهم و ال بد من مراقبتهم.158
إن ما نهتم به هنا هو "الثقافة في بعدها المجالي" ،159وتخصيص ا في المج ال ال ريفي وال ذي يتم يز
باستمرار األنماط االجتماعية القديمة ،والتعبيرات والخصائص الثقافية المميزة وال ذي يع بر عن ه اخ تزاال
بالثقافة الشعبية .فكما هو معلوم فإن الفئات تنتج قيما وتصنيفات وأفك ار نمطي ة عن نفس ها وعن اآلخ رين،
تضمنها رؤيتها للحياة وقناعاتها في مختل ف المس ائل االجتماعي ة واالقتص ادية والتربوي ة والديني ة وتع بر
160
عنها وتتناقلها في العادات واألعراف والفنون والتصورات.
.157جاكوبي راسل" ،نهاية اليوتوبيا :السياسة والثقافة في زمن الالمباالت" ،ترجمة فاروق عبد القادر ،الكويت ،المجلس
الوطني للثقافة والفنون واآلداب ،2001 ،ص 77و.78
. 158رشيد الحاج صالح ،الوجه السياسي للثقافة العربية المعاصرة ،الدار العربية للعلوم ناشرون ،2012،ص.79
. Pierre Mouliner. La dimension territoriale de la démocratisation culturelle:La notion de territoire correspond
159
à une évolution de la réalité économique (l’organisation de plus en plus territorialisée de la production qui
accompagne le processus de mondialisation) autant qu’à une évolution épistémologique en économie « qui fait
avancer l’idée qu’il existe des modes d’organisation de la vie sociale et de la production qui sont ancrés
territorialement, c’est-à-dire pour lesquels le contexte socioculturel et historique - la spécificité des
territoires - importe » http://chmcc.hypotheses.org/389. [mis en ligne le 5 mai 2014].
.160دنيش كوش" ،مفهوم الثقافة في العلوم االجتماعية" ،ترجمة منير السعيداني ،المؤسسة العربية للترجمة ،ص .125
75
تميز الثقافة الشعبية المجال الريفي خاصة وتتميز بكونها" تابعة ومنقادة ومتكيفة" وهي ثقافة الفئات
االجتماعية األكثر هشاشة واألقل حظا وبوجودها في معادل ة هيمن ة ،تمي ل إلى التكي ف واالن دماج فيس هل
على الثقافات المهيمنة احتوائها وإعادة توجيهها وحتى استغاللها .وهي ضمن هذا السياق حسب قول دنيس
كوش أقرب إلى تطوير طرائق للتالؤم ،منها الستراتيجيات مقاومة .وتك ون اس تجابتها في ص يغ اله روب
والتكيف والمواربة والتماهي والوالء التلقائي للفئات المسيطرة 161.ويصل بها األمر حد تبرير ذلك وتلبيسه
للبنى الخصوصية القائم ة معنوي ا .ف إدارات المهرجان ات المحلي ة والجهوي ة ،مثال ،تس ند في الغ الب على
أساس الوجاهة والتوازنات المحلي ة .وأحيان ا بالتن اوب بين ممثلي المجموع ات المتنافس ة تجنب ا للت وترات
وعلى ش اكلتها الجماع ات المحلي ة وح تى الجمعي ات الرياض ية .إذ يتم يز التص رف في الش أن المحلي
بوضعية "البين بين" بمعنى أنه ال يقطع مع البنى التقليدية والخصائص الثقافية المحلي ة بم ا ييس ر ت دجينها
من قبل المجموعات المهيمنة ويعبر عن طرائق للتالؤم الس الف ال ذكر ك أن تس تزرع فوقه ا أنم اط جدي دة
ويتم توجيهه ا من خالله ا واس تغاللها للتغلغ ل في المجتم ع المحلي ع بر تعبيرات ه الثقافي ة وق د تغ يرت
مضامينها وتم احتوائها وتدجينها كأن تتحول "الزردة" مهرجانا واألديب في المغنى الشعبي عكاظيا يسوق
لسياسات ورموز ال عالقة لها بهذا النمط من التعبير الفني الشعبي.
ويحيلن ا ه ذا إلى الطوبولوجي ا االجتماعي ة لبي ار بوردي و وال تي تكش ف التم ايز الق وي للفض اء
االجتماعي الحديث والمعبر عن اندماج عوالم صغرى مستقلة 162.وم ا يحكم ه من منط ق الحق ل وتراتبي ة
المنافع حيث يعتبر أن تمييز المواضيع المالئمة القائمة تعمل كخلفية لممارسة الفاعلين فهي تشكل المضمر
في كل أعمالهم وفي كل الصراعات وعدم االتف اق .فه و ج دل مع بر إذن عن ص راع اجتم اعي وإن ك ان
مضمرا وعن استراتيجيات إلدارته ال يحتكرها أي طرف وإن اختلفت طرق التعبير والتعاطي.
تت نزل فرض يتنا في س ياق الت دبير المحلي للش أن الثق افي لنس اءل الواق ع ح ول الحاج ة إلى الفع ل
الجماعي لضمان نجاعة مشروع التنمية الثقافية المحلية وحاجة هذا الفعل ألن يكون في معنى الديمقراطي ة
أو في معنى الدمقرطة لبلوغ المقصد.
إن تناول الحوكمة المحلي ة للش أن الع ام بم ا في ه الش أن الثق افي ال تكتم ل إال ب الخوض في المس ألة
التاريخية لتحوالت الهويات المحلية المرتبطة بالمجال والعالق ة بالدول ة والس لطة أي بم ا هي ش كل ثق افي
للعالقات االجتماعية وصيغ جمالية للتعبير عنها وعم ا يعتريه ا من تغ ير في الممارس ات والتمثالت .وق د
سلف أن بينا أن المجال الريفي بمقدراته االقتصادية والبشرية وبرص ده الثقافي ة المادي ة والالمادي ة اعت بر
عمق ا ومعين ا للدول ة المركزي ة ومجتم ع الحواض ر والمثقفين الرس ميين .حيث اس تغل أو اس تثمر ك ل من
تقتضي المشاركة في حوكمة الش أن المحلي تربي ة وتعلم ا ودرب ة فهي اكتس اب لش روط المواطن ة.
وتق ديرنا أن المجتمع ات المحلي ة الريفي ة تحت اج بش كل ملح لدمقرط ة ه ذه الكفاي ات ح تى تك ون مؤهل ة
لالضطالع بدور الفاعل المستنير وتفرز نخبها وتدافع عن رؤاها ومصالحها خارج دائرة االحتج اج العقيم
أو الوقوع في شرك التعبئة الحزبية حيث تترك زمام المبادرة م رة أخ رى لف اعلين ال يحمل ون بالض رورة
مشروعها فال يكونون محور العمل التنموي ومؤداه.
أما كيفية تحقق دمقرطة مقومات المواطنة فإن مالحظة تراكم وتنوع الممارسة في السنوات األخيرة
يبين األهمية الحيوية للمجتم ع الم دني في التربي ة على المواطن ة والت دريب على الديمقراطي ة التش اركية.
فتضاعف عدد الجمعيات وانتشارها في ك ل الجه ات واالنخ راط الط وعي لألف راد فيه ا يؤهله ا ألن تق وم
بتكوين الموارد البشرية المحلية لمشروع الحوكمة المحلي ة واالض طالع بالفع ل ض من تمش ي ديمق راطي
تشاركي .غير أن هذا ال يجب أن يحجب عنا ما يح ف به ا من مخ اطر التموي ل غ ير الواض ح األغ راض
واالنتماء المبطن لألحزاب السياسية.
إن الديمقراطي ة التش اركية أو الحوكم ة المجالي ة تقتض ي االش تراك بين الجه از الرس مي للدول ة
والفاعل المحلي في إطار التشاور والتكامل لوضع خطط وبرامج خاصة للتنمية المحلية تأخذ الخصوصي
بعين االعتبار وتكون مندمجة في التنمية الشاملة والمستدامة التي ترنو إلى تحقيق المس اواة وج ودة الحي اة
والمحافظة على حق األجيال القادمة في محيطها.
وبالنظر إلى المشاريع الثقافية في بعدها المحلي والريفي فإنها وخالف ا لقطاع ات أخ رى لم تخ ل من
مبادرات تستثمر الخصائص والرصد الثقافية المحلية والتقليدية لخلق ح راك ثق افي كالمهرجان ات المحلي ة
الكثيرة والمتنوعة التي تقوم على قاعدة احتفاالت تقليدية محلي ة أو خاص ية ثقافي ة أو بيئي ة .وك ذلك األم ر
بالنسبة للمجموعات الفنية التراثية والتي هي بمثاب ة المش اريع الص غرى ألص حابها ولكنه ا في اآلن نفس ه
مشروع ثقافي محلي يساهم في المحافظة على التراث واستثمار ثقافي بقيمة مضافة.
77
هكذا يبدو دور المحليين في فعل التنمية الثقافية هاما ويستحق النقد والتقييم ولكن ما يبقى مح ل ش ك
هو دور الفاعل المركزي الرسمي الذي يكتفي باإلشراف اإلداري الرسمي والتوظيف السياس ي .إن ه غالب ا
ما يتفصى مما يحمل عليه لترسيخ هذه المبادرات والمشاريع ،والذي يتمثل في حقها في التموي ل العم ومي
الذي تلفه الضبابية وغياب المقاييس واالستراتيجيا .إضافة إلى ما يحسه الفاعلون المحليون من غبن ج راء
المقارن ة بين حظ وظهم ومثيالته ا لس كان الحواض ر .فض حالة البني ة التحتي ة للعم ل الثق افي في الجه ات
الداخلية وتخصيصا في المناطق الريفية تحول دون إثراء الحياة الثقافية فيها وتفعيل حق األفراد في الثقاف ة
والترفيه والذي هو أحد حقوق اإلنسان األساسية حيث نعتق د أن تض افره م ع واجب حماي ة التن وع الثق افي
وتنمية الثقافات المحلية الذي أقرته المنظمة األممية من شأنه أن يمثل رافعة لتنمي ة ثقافي ة محلي ة مس تديمة
قوامها الديمقراطية التشاركية.
ولعله من الالفت أن يبدو مسار المقاربة محكوم بالعود إلى مربع البدء أي اختزال صيرورة التحول
ومالحظة ترسب البنى البالية في قاعدة أفعالنا ال تي ت دعي الحداث ة .فال زالت مقول ة الم واطن الف رد وه و
قوام العملية الديمقراطية شعارا يصعب تحويله إلى ثقافة ممارسة ،في حين ت برز أح داث اجتماعي ة كث يرة
أن هذه البنى أو ترسباتها الثقافي ة فين ا ال زالت فاعل ة ومعيق ة للتح ول الثق افي المؤم ل واألمثل ة على ذل ك
كثيرة لعل منها ما نسجله من حل مسائل إجرائية قانونية متعلقة باالنت داب في وظ ائف عمومي ة أو برمج ة
إلنجاز مرافق ...تحل على قاعدة موازين القوة بين المجموعات المحلية بتزكية أو تسليم من الدول ة وتحت
شعارات الحق والديمقراطية وتكافؤ الفرص.
ته دف التنمي ة الثقافي ة إلى بن اء الف رد الم واطن في ك ل أبع اده وتأهيل ه ليض طلع ب دوره في تنمي ة
المجتمع في سياق جدلي .غير أن تراكم وتعقد مالبساتها تعسر والدة هذا األم ل وإن ك انت ال تمنع ه .ومن
الالفت لالنتباه أن نصل في نهاية التحليل إلى إعادة ط رح اإلش كالية بص ورة مغ ايرة تأخ ذ بع دا مفاهيمي ا
صرفا تقريبا .فالتحليل السالف يحيلنا إلى التساؤل عن العالقة بين "التنمية الثقافية "و"ثقافة التنمية" خاصة
مع تقدم المقاربات التنموية في الربط بين حدي هذه المعادلة أي بين الثقافة والتنمية في معناه ا االقتص ادي
وتحيل إلى تحدي منهجي يتعلق بصعوبة وضع مؤشرات ثقافية لقياس التنمية وتكميمه ا ولع ل ه ذا من أهم
عوامل استبعادها أحيانا في مقاربة عمليات التنمية.
قائمة المراجع:
األب باسم الراعي" ،المجتمع والدولة :أشكالها وتحوالتها" ،بيروت ،دار الفارابي.2011 ، -
78
ستيفان شوفالييه وكريستيلن شوفيري" ،معجم بورديو" ،ترجمة الزهرة إبراهيم ،دار الجزائر للنشر، -
.2013
جاكوبي راسل" ،نهاية اليوتوبيا :السياسة والثقافة في زمن الالمباالت" ،ترجمة فاروق عبد القادر، -
الكويت ،المجلس الوطني للثقافة والفنون واآلداب.2001 ،
رشيد الحاج صالح" ،الوجه السياسي للثقافة العربية المعاصرة" ،الدار العربية للعلوم ناشرون، -
.2012
دنيش كوش" ،مفهوم الثقافة في العلوم االجتماعية" ،ترجمة منير السعيداني ،المؤسسة العربية -
للترجمة.
صن أمارتيا (جائزة نوبل لالقتصاد)" ،التنمية حرية" ،ترجمة شوقي جالل ،المجلس الوطني للثقافة -
والفنون ،الكويت.2004 ،
79
رموز تتالقح وشعوب تتفاعل وتتماهى
تتن ّزل هذه المداخل ة ض من إش كالية " الث ورة ،الثقاف ة البديل ة والديمقراطي ة " المقترح ة من بين
إشكاليات المؤتمر الدولي " الديمقراطية والثقافة بين الممارس ات ونق دها " ،وذل ك فيم ا يخص ح وض
البحر البيض المتوسط .وينبني ح وار الحض ارات في ه ذه المنطق ة على م دى ت أثُّر ال ذاكرة الجماعيّ ة
بالموروث السسيوثقافي والجيوسياسي ،فينفرد المتوسِّط بعراقة بعده التّثاقفي و تماهي مراجع ه العلميّ ة
والسياسيّة والثقافيّة وببروز رموز نضاليّة تَأثَّرت ببعضها وأثَّرت في تاريخ اإلنس انيّة .لكن ه ذا التف رّد
ال يلغي التّباعد في المواقف السِّياسيّة لل دول ال تي تُ ْب نى على المص الح االقتص ادية؛ إذ تس تبطن طيّات ه
الحياكة العموديّة للمواثي ق ال ُّدولي ة ال تي تتع ّم ُد الت ُّ
دخل في السياس ات البديل ة دون مراع اة الخص ائص
االجتماعية والثقافية واالقتصادية للدول الناشئة.
أصبحنا نستبصر المعنى الحقيقي لكلمة "الديمقراطية" ،فنستحض ر التجرب ة الديمقراطي ة ألثين ا
المدينة الدولة سنة 508ق.م ونناقش الحكمة وراء رضاء األقليّ ة بحكم األغلبي ة ونس تدرك مقارن ة م ع
الثّورة الفرنسية وما أفرزته من جمهوريات متواترة ،لنحطَّ الرِّ حال أخ يرا بين أغص ان ث ورات الربي ع
العربي وما أفرزته من استراتيجيات بديلة ،سياس ية ك انت أو اقتص ادية أو ثقافي ةّ ،
ظن مبتكروه ا ذوي
التجربة السّياسيّة المحدودة زمنيًّا أن فاعليتها تستوجب اقتباس تجارب عريقة أو تحويرها جزئيًّا بم ا أن
80
ضغط الشارع ال يترك مكانا لمخطَّط ات بعي دة الم دى ،فاص طدموا بالتش ابك الثق افي للمجتم ع وبتثبّت ه
ضرة ونزوعه إلى الحريّة والمثاليّة ،فكان ّ
الش ارع مس رحا لتف اعالت ثقافيّ ة واجتماعي ة بالنماذج المتح ِّ
وسياسيّة تأثرت بالتيّارات تحرّرية للثقافات األخرى.
ويطرح هذا الموض وع اإلش كالية التالي ة :حض ور الثقاف ات وتأثيره ا على الفن والمجتم ع زمن
االنتق ال ال ديمقراطي .وتتف رع ه ذه اإلش كالية إلى األس ئلة التالي ة :م ا م دى اس تنطاق رم وز ال ذاكرة
الحضاريّة فترة الثورات؟ ما هي الجدلية القائمة بين الثقافة الشعبّية والثقافة النخبويّة؟ هل يكرِّ س مفهوم
"التأهيل" بعد الثورة مبدأ "استنساخ تجرب ة اآلخ ر" ويبقي على التبعيّ ة أو ي دعم التالقح والتث اقف بين
الشعوب؟ هل تكون الثقافة عند الديمقراطيّات الناشئة إمال ًء نموذجيّا أو بنا ًء لقيم ترقى باإلنسان؟
ولَّدت الثورات عبر التاريخ نماذج ورموز ومرجعيّات توارثته ا األجي ال وانطبعت في ال ذاكرة
الجماعيّة .فمن األسطورة إلى الواقع ،بقيت الم رأة مثال رم زا للحرّي ة واالنعت اق .ه ذا م ا ي ّ
ُفس ر ،على
سبيل المثال ،استحضار الفنّ ان الفرنس ي "أوجين دوالك روا" ل ذكرى انتص ار "س اموثراس" اليونانيّ ة
و"ماريان" آلهة الحرية عند الرومان القدامى في لوحته "الحريّة ُموجِّهه للش عب" ال تي ّ
جس دت الث ورة
الفرنسية الثانية ،فكانت المرأة رمزا للحريّة.
وكما يقول الكاتب زكريّ ا إب راهيم " اإلنس ان ه و الموج ود ال ّزم اني" ،163ورم وز الحاض ر هي
ّ
المتوس ط ،ق اومت االس تعمار امتداد لرموز الماضي ،تستحضر ّ
الذاكرة رم وز نس ائيّة ُول دت من رحم
وتاقت إلى التحّرر من الرّجعيّة .ففي التاريخ الحديث للوطن الع ربي ،ن ذكر الفدائيّ ة الجزائريّ ة فض يلة
س عدان والناش طة س عيدة منبحي في الحرك ة المغربيّ ة "إلى األم ام" ،الماركس يّة اللينينيّ ة ،والناش طة
المصريّة هدى ش عراوي ال تي ك انت من رواد الحرك ة النس ائية المص رية والعربي ة .في ت ونس ن ذكر
المناضلة والنّاشطة السّياسيّة راضية الح ّداد ومنوبيّة الورتاني ،أوّل ام رأة تونس ية تج رّأت على كش ف
النقاب سنة ،1924وحبيبة المنش اري ال تي أدانت تع ّدد ال ّزوج ات أفي اجتم اع ش عبي بالعاص مة س نة
،1929وص وال إلى نس اء ت ونس زمن ث ورة الحريّ ة والكرام ة الالتي ن ذكر منهن المناض لة أم زي اد
والمغنّية آمال المثلوثي والمدونة ألفة الرياحي ،وأخريات أثّرن على إيمان المجتمع بقيمة "حرية التعبير
والفكر والمعتقد".
. 163زكريّا إبراهيم" ،مشكلة الحياة" ،سلسلة مشكالت فلسفيّة ،مكتبة مصر.1970 ،
81
الجدلية القائمة بين الثقافة الشعبّية والثقافة النخبويّة:
بعد ثورات الربيع الع ربي ،أوج د االنتق ال من دمقرط ة الثقاف ة إلى الديمقراطي ة الثقافي ة فض ا ًء
لتنوع الثقافات وتفردها .كما كرّس هذا الفضاء مبدأ المحليّة ،فاستفاقت لغته وتفاعلت م ع ثقاف ة م ا بع د
الثورة بغية إرساء ثقافة بديلة .فأصبحنا نشهد ثقاف ات تُحي ا من جدي د على محام ل معاص رة ،كالجرائ د
اإللكترونية المكتوبة باللغ ة األمازيغيّة ،وحرك ات مذهبيّ ة وس طيّة وأخ رى متش دِّدة ،وع ادات وتقالي د
مدفونة تُشرَّع من جديد داخل أقليات مجتمعة تحت راية التّف رُّ د ،فتنع ِزل عن البع د ال ديمقراطي للثقاف ة
الذي أوجدها وعن الهويّة الجماعيّة التي صقلت لعق ود ثقاف ات تقليديّ ة متعايش ة" ،فيف رغ مع نى الفِ ْع ل
الثّقاف ّي التّقليديّ ،كما يقول ال دكتور ج وهر الجموس ي ،في ظ ّل تَفتُّت الهُويّ ات االجتماعيّ ة ،وانس حاب
األفراد إلى هُويّاتهم" .164فال ينبِّئ هذا الفكر المرت ِّد عن فضائِه إال بانفصاالت ثقافيّة قد تمت ُّد إلى أخ رى
سياسيّة ،إقليميّة ،فنشهد إعادة تشكيل الخارطة الجغرافية لل دول ذات ال ديمقراطيات الناش ئة تحت راي ة
''حريّ ة األقليّ ة في تقري ر مص يرها'' أو ن واكب نم وذج ثق افي ديمق راطي ينبؤ بنفس ه عن التّط احن
ويؤس س لخارط ة هويّاتي ة متفاعل ة ومتالقح ة
ِّ واإلمالءات النموذجية الفوقية ،ويش ِّكل ن واةً للح وار،
وممتدة في الزمان والمكان.
اوجد التقارب الثقافي واللغوي والديني في المتوسِّط فضا ًء تشاركيا امتد من جغرافيا األرض إلى
والمنوعات التلفزيّة ،فأصبحنا نتعاطف ونتماهى م ع ثقاف ات أخ رى ونس توعب تقالي د
ِّ جغرافيا اإلعالم
دون إدراك مصادرها ونتشارك في طمس أخالقيات بَن ْ
َت لفترة طويلة العرف الجماع ّي .وأ ّدى بنا الحال
إلى تقبُّل موض وع االستنس اخ المتك رِّر ألعم ال فني ة وب رامج ُّ
تبث على الفض ائيّات ويتن ّك ر أص حابها
لحقوق التأليف علنًا.
ل ذلك تبنّت الديمقراطي ة الثقافي ة فلس فة جدي دة للثقاف ة ال تي ترتك ز على "التوعي ة" و"التأهي ل"
و"التّث اقف" ،وه دفها جع ل حري ة التعب ير ممكن ة من قب ل الش عوب لتتح رّر من ال داخل فتنس حب من
المواقف الرمادية التي تترجم التبعية الفكرية والسياسية لثقافات مج اورة ال مح اورة .وأمكنه ا ذل ك من
امتصاص صفة النخبوية من الثقافة وإن كان نس بيًّا .فت واتر العملي ات االنتخابي ة في ت ونس مثال أمكنت
المواطن الناخب ،كمتدخل مباشر في السياسة الثقافية للدولة ،من تنسيب النخبوية وف رض تقالي د جدي دة
باستقطاب تعابير فنية من حياة الشارع تستبطن رموزا تترجم حياة مجتمع باهتمامات ه وتناقض اته .وق د
ُوصف بالنموذج مقارنةً بمجتمعات مجاورة مازالت تتخبّط في حوار إيديولوجي تبيّن عقمه.
. 164د .ج وهر الج ّموس ي" ،الاله ُِويَّةُ والالق انون في الع الم االفتراض ي"[ ،وثيق ة إليكترونيّ ة] ،ت اريخ اإلطِّالع [20م ارس
]2015على الرابط /https://carjj.org/sites/default/files/events
82
الثقافة عند الديمقراطيّات الناشئة :إمالء وبناء:
ال ننكر أن مبدأ التشارك في المحتويات أضفى إيجابيّات في المش هد الف ني واإلعالمي ،فأض حى
فن ّ
الش ارع مقطوع ة موس يقية يتغنّى به ا الجمي ع ،ف امتزجت س ينوغرافيا المق اهي وموس يقى ال رّاب
وج داريَّات فن الش ارع ،وك وّنت ه ذه الحرك ات الفنيّ ة ثقاف ة ش عبية متكامل ة .وبتض اعف متتبِّعيه ا
اعي واحتالله ا مكان ا داخ ل المنظوم ة الثقافي ة ،تذب ذبت
وجمهورها وبِتأثيرها على الفكر والذوق الجم ِ
السياس ات الثقافي ة ذات التص ُّور النخب وي للثقاف ة .ويتع اظم أث ر التّش بيك والتّش ارك في المحتوي ات
والمضامين مع تنامي استخدامات مواقع التّواصل االجتماعي واالستنكار العل ني لحق وق المؤلّ ف حتّى
تغيّرت معايير تقييم األعمال الفنية ،وخاصة األغاني ،فيقاس نجاحه ا بع دد متتبِّعيه ا على "اليوت وب"ن
على عكس الموسيقى التقليدية التي عجزت عن ترجمة النَّفَس الثوري وتحريك التعبئة الش عبية وت ركت
مكانها لموسيقى "الرَّاب" التي تمثّل الطاقة و العاطفة والحركة ،وهو شكل من أش كال التعب ير المباش ر
عن مجتم ع ق ابع تحت قم ع النظ ام والفس اد والبطال ة ،فك ان من األدوات األساس يّة إلس قاط األنظم ة
الدكتاتوريّة.
وتعتبر السياسة واألخالق والدين والثقافة والتقاليد واألوضاع االجتماعية المادة األساس يّة لمغنّي
الرّاب و ّ
لرس امي الجرافي تي .فاعتم دت بعض حرك ات الرس م الجرافي تي مث ل حرك ة "زواوال" على
ش عارات مث ل" :ح ق التعب ير واجب ،ح ق ال زواّلي واجب" أو "ال علم اني ال إس المي ثورتن ا ث ورة
مؤس س الحرك ة" :لق د جعلن ا ه ذه الحرك ة من الكتاب ة
ِّ زوّالي" أو "الشعب يريد حق الزوّلي" .ويقول
على الجدران ألن ال أحد يتحدث عنا ،مشاكلنا من البطالة والفقر والتهميش .لذلك قررنا أن نتح دث عن
أنفسنا .لماذا الكتاب ة على الج دران؟ ألن الكتاب ة على الج دران هي أك ثر س هولة للتونس يين ال ذين ليس
لديهم الفيسبوك ،على سبيل المثال" .165رسّامي الجرافيتي مثل "مين وان" وكيم فاجو" و "س يكا وان"
امتهنوا الرسم وأتقنوا الخ طّ الع ربي والالّتي ني ،فتمكن وا ع بر جمالي ة ج دارياتهم وم واقفهم ّ
الص ادمة
ومواضيعهم الحسّاسة من اكتساح الفضاء العام وإعادة تأثيثه.
وال تلغي فاعليّة الرسم الجرافيتي في استعطاف المجتمع بعض "االنحرافات" التي تنص رف إلى
رسائل عنصريّة وأخرى محرِّض ة على الكراهيّ ة .وتس تبطن بعض الت دوينات المرافق ة لج داريّات فن
الجرافيتي اس تعارات ومواق ف تعكس النفس الثّ وري .وه ذا م ا يتجلّى في تدوين ة ال ُم ِّ
دون الص ادق بن
مؤس س حرك ة ال زواوال ،ث ورة القرافي تي[ ،وثيق ة إليكترونيّ ة] ،ت اريخ التدوين ة [ 27م ارس ،]2013ت اريخ
ّ . 165أسامة،
اإلطِّالع [ 17فيف ري ]2015الرابط http://coutoentrelesdents.over-blog.net/article-tunisie-zwewla-le-graffiti-se-
revolte-116575236.html
83
ّ
"لتكن مختلف ات :لون ا ورائح ة وش كال ...وليس ر الن اس ،الش باب الغاض بون، مهنِّي ال تي يق ول فيه ا
الثائرون ،المنافحون لقدرهم على دربهم قبل 14جانفي 2011بأشهر ،بل ب أعوام ،و لينتش روا ألوان ا،
قصائدن شعرا ،أغاني ،رسوما ،هتافات ،تناديا ،مسرحيات ،غزال ال يخشى الهواء ،أفالما تهتك الس تر
...وليرسم الرسامون وغير الرسامين على المحامل التي ألفناها وعلى محامل يبتدعونها ،يفت ّكونه ا،
يحرّرونها ،و ال يكترثون وهم يج ّملونها بغضبهم ،آمالهم ،تعريتهم".166
كما كانت موس يقى ال رَّاب ،دائم ا ،موض وعا مث يرا للج دل عن د الص حفيّين والمف ِّكرين وعلم اء
االجتم اع ،فتح َّولت من ظ اهرة ش بابيّة أمريكيّ ة إلى ثقاف ة اكتس حت من ذ أوائ ل التِّس عينات من الق رن
العشرين البلدان األوروبية .ونذكر مغنيي ال رَّاب الفرنس يّين مث ل "دي امس" و"س فينكلس" واإليط اليّين
المتوس ط
ِّ "كمرّاكاش" و"فابري فابرا" الذين مثَّلوا حريّة التعبير بأشكالها المتع دِّدة ،ثم كام ل الح وض
عن طريق وسائل التواصل اإلجتماعي ،وهذا ما أهدى لمغنّي الرّاب التونس يّين مث ل "دي دجي كوس تا"
و"الجينرال" و"كركدن" و"بلطي" أدوات تعبيرّية تفاعلوا معها دون استنساخها ،ف امتزجت ّ
الش عارات
المنادية بحريّة السّفر و التنقّل بين الدول و تدارك أزمات الهجرة السريّة ال تي تعكس سياس ات التهميش
الممنهج و ُكتبت بك ل اللغ ات؛ اإلنقليزيّ ة والفرنس يّة واإليطاليّ ة والعربيّ ة وتواص لت األفك ار وتالقحت
رؤى شعوب أيقنت أخيرا ّ
أن الوعي بقيمة "حرية التعبير والفكر و المعتق د" ال يمكن استنس اخه ،وإنم ا
ُّ
تلتف وراء الهويّة الجماعيّة واستبص ار مخرجات ه في استنطاق أدواته التعبيرية و تركيز مدخالته التي
المشهد االجتماع ّي.
قائمة المراجع:
زكريّا إبراهيم ،مشكلة الحياة ،سلسلة مشكالت فلسفيّة ،مكتبة مصر1970 ، -
- DURKHEIM Emile, L’éducation Morale, 4ème leçon, Paris, Edition
P.U.F, 2012.
- Karim Bouzouita, « L’inderground tunisien fait son chemin », GPLC, 11
Mars 2006.
- Monia Ghanmi, « Retour sur scène pour les rappeurs tunisiens
interdits », Magharebia, 8 février 2011.
. 166الصادق بن مهنِّي ،الحرية ل"زواولة" و لك ّل المبدعين و لجميع المعبّ رين! [وثيق ة إليكترونيّ ة] ،ت اريخ اإلطِّالع [13
فيفري ]2015الرابط http://atunisiangirl.blogspot.com/2012/11/blog-post_21.htm l
84
- Neil Curry, « Tunisia's rappers provide soundtrack to a revolution », CNN, 2
mars 2011.
- Souad Bakalti, La femme tunisienne au temps de la colonisation française,
1881-1956, Edition l’Harmattan, Collection Histoires et perspectives
méditerranéennes, 2000.
- Thameur Mekki, « Tunisie : Les rappeurs ont-ils (vraiment) participé à la
Révolution ? », Tekiano, 30 juin 2011.
- Thomas Blondeau, « En Tunisie, le rap rythme la révolution », Les Inrocks,
24 janvier 2011.
85
86
ملحق أنشطة الدورة الثانية من
"المهرجان الدولي للفن والشمال والمدينة"
بالشمال الغربي
87
-1لماذا هذا االمتداد اإلقليمي للمهرجان؟
لم يكن مبدأ توسعة الرقعة الجغرافية للمهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة ،ليشمل كامل والي ات
الشمال الغربي باألمر العرضي أو الطارئ ،ب ل اتى نتيج ة طبيعي ة للتف اعالت الحيوي ة ال تي س جلناها في
دورته االولى بين الطلبة والشباب والطفال والمواطنين وضيوف المهرجان المبدعين بوالية سليانة.
إن آهلي هذه األرجاء الغربية من بالدنا التونسية متعطشون عض ويا للثقاف ة ،تعطش هم لرغ د العيش
الكريم .وما توافدهم الغفير على فعاليات المهرجان في دورته االولى إال تعبيرا ص ادقا وص ارخا عن ه ذه
الحاجة الماسة والملحة للتنمية الثقافي ة الج ادة والملتزم ة بقض ايا التنش ئة الس ليمة ألجيالن ا الص اعدة ح تى
نتمكن من تحصينهم من كبوات الزمن الغادر .وكلنا يعلم اليوم بأنن ا لم نع د ن ربي طلبتن ا وش بابنا واطفالن ا
بمفردنا .بل غدت العدي د من األط راف األجنبي ة األخ رى متدخل ة فيه ا دون اس تئذان مس بق .فه ل س نظل
مكتوفي االيادي كمربين وأولياء وف اعلين في الش أن الثق افي أم ام ه ذه الظ اهرة االس تالبية؟ ه ل س نمكث
مراقبين في صمت لهجرة أبنائنا التدريجية للمواقع األصيلة في ثقافتهم؟ ما الذي ق دمناه ترياق ا لهم إزاء كم
الصور االعالمية النافذة في مجالهم الحي وي؟ على أي ش كل سيص قل عقلهم ومخي الهم إذا م ا نحن توانين ا
عن تقديم البديل عن هذا ال زخم المبث وث من ك ل ح دب وص وب؛ إذا م ا نحن تركن ا المج ال واس عا له ذه
الصور الرمادية حتى تعصف على هواها بعقولهم وأرواحهم؟
ولكي نعيد نظارة األلوان لعيون هذا الشباب حتى تتوائم ثقافيا رؤيته لواقعه برُؤي اه لموقع ه من ه من
خالل تفعيل حساسيته المرهفة واالحاطة بها ،ارتأينا في هذه الدورة الثانية أن نوسع في مج ال ت دخلنا ليعم
المهرجان واليات الكاف وجندوبة وباجة وسليانة ...مهده األول.
ولم يتيسر لنا هذا األمر إال ع بر القناع ة الجازم ة ل وزارة التعليم الع الي والبحث العلمي ب أن طلب ة
اليوم كانوا أطفاال باألمس وبأن االستثمار الثقافي في كليهما هو ضمان لجودة المردودية العلمية واالبداعية
لمواطن الغ د .ولم ت تردد وزارتن ا للحظ ة واح دة على مس اعدتنا ودعمن ا لتحقي ق ه ذا االمت داد الجغ رافي
"للمهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة" على واليات الش مال الغ ربي األربع ة .ولم يتيس ر له ا ذل ك إال
عبر إيمان ديوان الخدمات الجامعية للشمال بحيوية التنشئة الثقافية الجديّة لطلبة الشمال الغربي .كما أن ه لم
تتس نى لل وزارة أن تنفتح فني ا وعلمي ا على محيطه ا االجتم اعي ل وال تحالفه ا المثم ر م ع وزارة الثقاف ة
والمحافظة على التراث ووزارة الشباب والرياضة التي مثلتها الجامعة التونسية للدراجات.
88
وبفضل كل هذه األطراف متدخلة ومجتمعة حول نجاعة التنمية الثقافية في رف ع التح ديات التنموي ة
للبالد والعباد ،سيتحول الشمال الغ ربي في عطل ة الربي ع من ه ذه الس نة إلى مهرج ان لألل وان واألحج ام
والرقص المعاصر والمسرح والسينما والبحث العلمي ليتنافس المشاركون فيه إبداعيا.
وبعون هللا ومشيئته ،ستتضافر كل الجه ود لتع ود األل وان لعي ون أبنائن ا .وجزي ل الش كر واالمتن ان
موجه لكل الهامات العالية التي تظافرت جهودها من أجل تكريس ديمقراطية ثقافية ناشئة في هذه الرب وع؛
مما دعانا إلى انتقاء عنوان الدورة الثانية "للمهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة" :الثقافة والديمقراطية.
خالد عبيدة
مدير المهرجان الدولي للفن والشباب والمدينة بالشمال الغربي
89
تقرير التظاهرة: -2
المسابقات: أ-
مسابقة المسرح الطالبي بالكاف. -
مسابقة الطلبة الشعراء بباجة. -
مسابقة الشريط الوثائقي بالشمال الغربي. -
المسابقة الجهوية للرقص العصري بسليانة. -
90
الجائزة الكبرى لسباق الدراجات بباجة والكاف وجندوبة وسليانة. -
الفعاليات العلمية: ب-
الحلقة التكوينية في "منهجية البحث" الموجهة لطلبة المرحلة الثالثة بم دارس الفن ون التونس ية وال تي -
يُؤمنها األستاذ المتميز جان النكري بالمعهد العالي للفنون والحرف بسليانة.
المؤتمر الدولي "الديمقراطية والثقافة بين الممارسات ونقدها" بالمركب الثقافي بسليانة. -
الورشات اإلبداعية في الفنون البصرية: ج-
ورشات النحت المحترفة بالمعهد العالي للفنون والحرف بسليانة والتي يشارك فيها الطلبة. -
ورشات الرسم المحترفة بالمعهد العالي للفنون والحرف بسليانة والتي يشارك فيها الطلبة. -
ورشات االبداع الحرفي في الفسيفساء والمصوغ والخزف بالمعهد والتي ينشطها الطلبة باألساس. -
معارض تشكيلية في كل من الكاف وسليانة. -
الفعاليات التنشيطية للمدينة: ح-
عروض الماجورات والدمى العمالقة في حفلي افتتاح واختتام المهرجان. -
ورش ات ع رائس الطين الموجه ة لألطف ال ي وم افتت اح المهرج ان بك ل من باج ة وس ليانة والك اف -
وجندوبة.
كوروغرافيا ’ 3000سنة من التاريخ’ لباليه سهام بالخوجة تم عرضها بالمركب الثق افي بس ليانة ي وم -
االفتتاح.
عروض مسرحية ’سلفي’ إلكرام عزوز بالمركب الثقافي بسليانة. -
عرض بالمركب الثقافي بسليانة لمسرحية "ش مس الس كورتيين" من رواي ة ل وران غودي ه للمخ رج -
الفرنسي سيباستيان امبالر مع طلبة المسرح بتونس.
ع روض س ينمائية ونقاش ات م ع المخ رجين عب د اللطي ف بن عم ار وم روان الطرابلس ي وأحم د -
الجالصي.
عروض موسيقية وسهرات راقصة بالكاف. -
أمسية الشعر الشعبي من الجنوب التونسي بالمركب الثقافي بسليانة. -
91
ملحق صور فعاليات المهرجان والتعليق عليها: -3
مسابقة المسرح الطالبي بالكاف بالمركز الوطني للفنون الدرامية من 20إلى 22مارس 2016
Compétition du théâtre estudiantin au Kef au Centre National des Arts dramatiques du
20 au 22 Mars 2016
92
م ارس29 إلى28 مس ابقة الطلب ة الش عراء ب المركز الج امعي للتنش يط الثق افي والرياض ي بباج ة من
2016
La compétition des étudiants poètes au Centre Universitaire de l’animation Culturelle et
Sportive à Beja du 28 au 29 Mars 2016
93
في باج ة والك اف وجندوب ة2016 م ارس30 إلى21 مس ابقة الش ريط الوث ائقي بالش مال الغ ربي من
وسليانة
La compétition du film documentaire sur le Nord-Ouest du 21 au 30 Mars 2016 à Beja,
le kef, Jendouba et Siliana
94
2016 مارس21 المسابقة الجهوية للرقص العصري بالمركب الثقافي بسليانة يوم
La compétition régionale de la dance contemporaine au Complexe Culturel de
Siliana le 21 Mars 2016
95
الجائزة الكبرى لسباق الدراجات في باجة والكاف وجندوبة وسليانة
Le grand prix de la course des cyclistes à Beja, le Kef, Jendouba et Siliana
.
B- Les actes scientifiques: الفعاليات العلمية -ب
96
الحلقة التكوينية في "منهجية البحث" مع األس تاذ المتم يز ج ان النك ري بالمعه د الع الي للفن ون والح رف
بسليانة
Séminaire de « Méthodologie de la recherche » avec le professeur émérite Jean Lancri à
l’institut Supérieur des Arts et Métiers de Siliana
97
المؤتمر الدولي "الديمقراطية والثقافة بين الممارسات ونقدها" بالمركب الثقافي بسليانة
Le colloque international « Culture et Démocratie entre pratiques et critiques » au
Complexe Culturel de Siliana
98
C- Les ateliers de création en Arts Visuels: الورشات اإلبداعية في الفنون البصرية -ج
99
ورشات التصوير المحترفة بالمعهد العالي للفنون والحرف بسليانة وخارجه
Les ateliers de la peinture professionnelle à l’Institut Supérieur des Arts et Métiers
de Siliana et en dehors
100
للطلبة وتأثيث المدينة بمنجزاتها ورشات االبداع الحرفي
Les ateliers de la création artisanal pour les étudiants et l’aménagement de la ville
avec leurs productions
101
.معرض الرسوم اآللية المكبرة للرسام الفرنسي كزافييه لومبار ببازيليك الكاف
102