Professional Documents
Culture Documents
إلى المنزل مباشرة ،ما تعرفه أمّه أنه يكون في طريقه لحصّة إضافية من درس الفيزياء
عقب نهاية اليوم الدراس���ي ،أمّا الحقيقة -التي ال تعلمها أمّه -أنه في هذا اليوم يكون -مع
ُنتهزا فرصة امتالء صديق���ه األثير عُمر -في طريقه لمكتبة عتيقة تقع قُرب المدرس���ة م ً
جيبه بالنقود .
في ُكل مرّ ة يُريدان الذهاب فيها ،يقطعا معًا الش���ارع المجاور للمدرس���ة؛ طويل ،هادئ،
مرص���وف ،العمارات فيه أنيقة وعالية ،تح ّفه من على جانبيه أش���جار قصيرة ،أوراقها
ُهذبةَ ،مغروسة وسط حدائق صغيرة ،افترشت معظم مساحة األرصفة كبساط مهرجانات م ّ
أخضر مس���دول ،في زوايا أطرافها األربع حنفي���ات الري بالتنقيط مفتوحة دائمًا ،ودائمًا
زخاتها المُنعشة وهما يُطالعان الس ّكان المترفين بأزيائهم األنيقة من ما تطالهما بعضًا من ّ
خلفهم أبنائهم (القمامير) يس���يرون في الشارع بابتس���امة أوسع من ابتسامة فانديتا فتتف ّتح
مس���امهما للحياة في ترحاب .قبل نهاية الش���ارع بأمتار قليلة ينحرفان يس���ارً ا إلى زقاق
صغير يقع بين عمارتين كبيرتين؛ نصف مُنحدِر ،نصف َمجهول ،نصف مسدود ،بعد أن
يزكما أنفيهما عليهما أن يعبرا فوق أقفاص الخوص الم ّتسخة َ
بـ(س َبل) الفراخ وفوق أكوام
بقايا الطعام وح ّفاضات األطفال و َكسْ ���ر السيراميك التي تسدُّه ليقودهما الزقاق إلى الجزء
القديم من بلدتهما والذي ال يرتاده تقريبًا أحد إالّ س��� ّكانه ،م���ن خلفهما العمارات الكبيرة
العريض���ة ،لم يعبأ أصحابها بدهان وال ب َمحارة ظهورها وتركوها في مواجهة أهل جُزء
البلدة القديم على الطوب األحمر بعكس حال الواجهات المزخرفة ذات التش���طيب السوبر
لوكس ،لم تنل الحداثة من هذا الجزء بعد فبقي على حاله مُحاف ًِظا على الكثير من س���ماته
القديمة؛ الكثير من العادات البالية وطقوس الس��� ّكان المليئة بالخرافات ومستوى الخدمات
طرُز البيوت المعمارية التي تجاوزها الزمن. الصحية والمُجتمعية شبه المُنعدم وح ّتى ُ
البيوت متالصقة فيما بينها كأصابع يد مضمومة ،قصيرة ال يزيد ارتفاع الواحد منها عن
دورين ،مبنية من الطوب اللبن ،العريض ،المدعّم بعروق خشبية غليظة ،الشوارع ضيّقة
مغطاة ببالط رصاصي منقوش ،نوافذ البيوت دائمًا مفتوحة ال ّ كعنق زجاج���ة ،أرضيتها
سرا فيكون لزامًا على أي عابر سبيل أن تمتلئ أذنيه بكوكتيل خالّق من تحفظ ألصحابها ًّ
األصوات؛ مش���اجرة رجل مع جاره ،صياح أ ّم البنتها الفاشلة التي عجّ نت األرز ،شهقة
ش���ة بطاطس محمّرة ،زئير مُحرّ ك مكنسة كهربائية ،ضحكة مائعة من زوجة ملوخيّا ،ت ّ
ف المزاج بزوجها مُبكرً ا . شَغَ َ
أمام باب ُكل بيت غطاء اس���منتي سميك يرتفع عن مستوى الشارع ببضعة سنتيمترات،
يس ُّد فوهة (الترانش) الذي يؤوي إفرازات البيت من مياه الصرف الصحّ ي ،الترانش هنا
هو الج ّد الشرعي لمواسير المجاري العمالقة التي استحال عليها أن تجد لنفسها مكا ًنا في
شارع س��� ّكانه بال صوت فلم يستح ّقوا ال َتعب ،ال يزيد عرضه عن ربع متر ،جميع بيوته
مختلّة األس���اس قد ينهار الواحد منها إن خضّه أحدهم وداعبه بنكزة في جنبه على فجأة
وهو يصيح جوار أذنه “ار َكب الهوااااااااااا” ،ما أجبر الجميع على قبول هذه (التصريفة)
بديالً عتي ًقا وغير مُكلّف ،على أن تأتي عربة مياه فارغة من مجلس الحيّ ُكل ثالث شهور
تزيح الغطاء وتدلّي خرطوهما في عُمق الفتحة تشفط ما فيها من خيرات كناموسة جائعة
كبئر مهجورة على وع ٍد بلقا ٍء قريب إن شاء هللا . ٍ وتتركه بعدها جا ًفا
فوق ُكل غطاء عاد ًة ما تجلس معظم سيّدات البيوت -الغير مشغوالت بالمطبخ وال ببناتهن
الحمقاوات وال بأزواجهن الش���هوانيين وال بأي ش���ئ آخرُ -كل واحدة أمام مدخل بيتها،
منهمكات دائمًا في تنقية األرز أو تقميع البامية أو إلقاء بقايا مياه المسح على المارة ،ما إن
ترى الواحدة منهن غريبًا َج َس َر على اختراق ال ُحجُب ود ّنس حُرمة المكان ح ّتى ُتحملق فيه
باستغراب رضيع يُطالع التليفزيون ألول مرّ ة وب َقرف محمد هنيدي وهو يأكل صرصارً ا
في (فول الصين العظيم).
فوق أس���وار بعض األسطح قد يُالحظا مس���يرة د َكر ديك رومي يتمخطر برشاقة بهلوان
سيرك وخيالء فارس بال جواد ،صدره منفوخ للسماء كالبالون ولغده األحمر الشبيه بلُغد
ف من سقوط، عمرو موس���ى يتوهّج تحت أشعة الشمس ،يسير فوق حافة السور بال خو ٍ
في بعض األحيان ُتط ُّل َعبْر فجوات السور رقبة سامقة كرقبة نفرتيتي ل ِِو ّزة لعوب تتر ّقب
المارة بمنقارها األصفر وعينيها الدقيقتين بشغف.
كصنبور حنفية بال ِجلدة ،تنس��� ُّل على األرض قطرات مياه عكرة بتمهّل وبال انقطاع من
فوهة مزراب طويل يخرج -مائالً -من الزاوية األمامية ألسطح كثير من البيوت ،مُخلّفة
ِبركة بُنية صغيرة ال تجفّ أب ًدا ،عليهما الحذر من الس���ير أس���فله وإالّ لتلقيّا حمّامًا مريعًا
فوق رأسيهما.
ق���د يصطدم بهما -رغمًا ع���ن إرادتهما -طف ٌل أو أكثر ،يندفع الواحد منهم فجأة من باب
عار كيوم وُ لِد ،يعدو بال تمييز ،في غاية االس���تعداد لالرتطام بأي ش���ئ يُوضع في بيتهٍ ،
طريق���ه هربًا من أمّه التي عاد ًة ما تبرز خلفه م���ن الداخل بثوب منزلي ،رخيص ،مب ّقع
وبش���عر منكوش معقود للخلف بأستك تدكيك ،تلوّ ح له بفردة شبشب ز ّنوبة وهي تصرخ ٍ
فيه وتالحقه بش���تائم مقذعة تخ ُّل بشرفها ،يدفن رأسه الصغيرة المتعرّ قة في البنطلون ثم
يمسح (بربروه) فيه قبل أن يُعاود العدو ح ّتى يغيب في آخر الشارع .على حمزة وعُمر
أن يمرّ ا ب ُكل هذا خالل شبكة شوارع قديمة كمناخير أبو الهول ،رفيعة ومتشابكة كاألمعاء
الغليظة ح ّتى يلوح لهما مرادهما من بعيد؛ صغيرً ا ،هاد ًئا ،بال يافطة ،أبوابه خشبية َق َ
ض َم
السوس أجزا ًء منها ،فُتحت األبواب على مصراعيها لتكشف عن فتارين فارغة زجاجها
مشوب بمسحة صفراء تشي بعراقة المكان ،مكتبة ع ّم أمين .
أطاوعك وآجي..نفسي أفهم انتَ بتحبّ الراجل ده على إيه ؟! َ قال عُمر :أنا إيه خالّني
-وانا نفسي افهم انتَ بتكرهه ليه ؟!
-ده راجل مجنون ياع ّمُ ..كل حاجة فيه ملخبطة وغريبة..كفاية إنه فاتح مكتبة !!
-هوّ ا اللي يفتح مكتبة في البلد دي تبقى حاجة غريبة اليومين دول ؟!!
-مكتبة في منطقة مبتقراش عاملة زي حنفية وسط نيل..عِ والة ملهاش لزوم
-وليه متقولش حنفية وسط صحرا ؟! وبعدين هتجيب منين مكتبة زي دي فيها كتب مش
موجودة عند حد وبأسعار منحلمش بيها..الراجل بيرضى بأي حاجة نديهاله
-طيب تقدر تقولّي هوّ ا فاتح في الح ّتة العجيبة دي بالذات ليه ؟! بيبيع لمين؟!! أنا عُمري
ما ش���فت حد عنده إالّ احّ نا بجوّ المكتبة العفاريتي بتاعه ده ..ح ّتى هوّ ا نفسه شكله مبهدل
ومخنفس في بعضه عامل زي القوطاية المعصورة
-عليك تشبيهات ملهاش حل
-بصراحة بقى المنطقة دي كلها بتلبّش ج ّتتي طول ما أنا فيها..ال ّناس هنا شكلها يخوّ ف..
لوال إ ّني مش عاوزك تيجي هنا لوحدك مكنتش ع ّتبتها تاني..أقطع دراعي لو مكانش ع ّم
أمين ده مخاوي
ليسمعك..الراجل واقف قدّام المكتبةَ بقى ك َ
ت صو وطي -طب ّ
-ش���وف بيعمل إيه !! واقف يرش ميّة كأنه فاتح محل حِالقة أو فاتح نصبة ش���اي تحت
كوبري والّ العفريتة اللي البس���هالنا دي..شبه الراجل اللي كان طالع في أستاذ َحمام نحن
الزغاليل
-هشششششششششششششت
-ماشي يا أخويا َه ْشت ْ
ِت
وسط األرضية المبلولة وقف ع ّم أمين أمام مكتبته ،جواره جردالً بالستيك ًّيا مملوءًا ح ّتى
كوزا راح ينثر محتواه على األرض من حوله بامتداد ذراعه، ف ً منتصفه بالماء ،منه غَ َر َ
لطف أجواء الخنقة التي ُتحيط بهما ،ما أن الحظهما ُناخا رطبًا ّ منحتهما األرض المبتلّة م ً
ح ّتى تو ّقف عن َه ْدر المياهَ ،ر َس َم على شفتيه ابتسامته المرحّ بة المُعتادة
-ازيكوا يا أوالد ؟ اتأخرتوا شوية عن ميعادكوا ال ّنهاردة مش كده ؟
-معلش بقى ياع ّم أمين..أصلنا خارجين من المدرس���ة تعبانين وطول السِ ��� ّكة ماش���يين
براحتنا
ل���م يخبره حمزة أن القدوم إليه يقتضي التوغل في منطقة يتطلّب الس���ير فيها انتباه رجل
كوماندوز وحِيطة ن ّقاش فوق س��� ّقالة وحِرص مستكشف أدغال ،أجابه ع ّم أمين ببشاشة :
وماله..فيه شوية كتب جديدة وصلت امبارح..ادخلوا شوفوا عاوزين إيه وانا مست ّنيكوا هنا
تجاوزه ال َف َتيان بعد أن ودّعه عُمر بنظرة قرف م ّتجهين نحو الداخل ،اس���توقف ع ّم أمين
عُمر قائالً وابتس���امة وجهه ال ُتفارقه :على فكرة يا حبيبي..دي مس���مهاش عفريتة دي
شغل المكتبة وس���هل عليّا في اللبس والقلع..حُكم السِ ن بقى اسمها س���لوبت ومريح ج ًّدا ل ُ
انتَ عارف
حدّق فيه عُمر باستغراب وهو يسأل :انتَ سمعتني ّ
إزاي ؟!
اتسعت ابتسامة الرجل في غموض قبل أن يُشير بسبابته نحو داخل مكتبته قائالً :صاح َبك
َ
عاوزك جوّ ا
وع َبر هو نحو المدخل، َ مياهه رشّ ليستكمل الرجل ترك آثر أنه ّ ال إ ُمر ع ل اإلجابة تروق لم
أرضية المكتبة منخفضة ج ًّدا بالنسبة لمستوى الشارع يتطلّب الوصول إليها هبوط بضعة
درجات خشبية أقامها -بال احتراف -نجّ ار برُتبة كفتجي فصار اهتزازها كأنها على وشك
مغطاة بأرفف خش���بية ّ االنهيارهدي���ة منها ل ُكل صاعد أو هابط ،جدران المكتبة بالكامل
مُتخمة بعش���رات الكتب القديمة التي لم يجدوا لها مثيالً ف���ي أي مكتبة أخرى ،اإلضاءة
جيّدة تأتي من ثالث لمّبات نيون مُعلّقة في الس���قف بتوزيع هندس���ي دقيق ،ما أن وطئ
عُمر األرضية بقدمه ح ّتى وجدَ حمزة عن يمينه جوار السلّم الخشبي ،الثقيل ،الغافي على
األرض ،يقب���ض عليه بقبضتيه ويحاول زحزحته من مكان���ه ،قال له وهو يلهث :تعالى
شيل ال ُتهمة ده معايا يا عُمر
وح َماله معًا ناحية جدار أراده حمزة ،أسندوا عليه السلّم مائالً قبل أن يُسرع أسرع نحوه َ
حمزة بامتطائه كي يتم ّك���ن من تص ّفح بعض عناوين ال ُكتب المرصوصة فوق رفٍّ عال
مُالصق للسقف ،قال عُمر والدهشة لم ُتفارقه بعد :انتَ عرفت المكتبة دي منين؟
ابتس���م حمزة وكأنه يسترجع ذكرى ما سعيدة ،أجابه دون أن يستدير ودون أن يكفَّ عن
تمعُّن ال ّنظر في كعوب ال ُكتب :أنا عرفت ع ّم أمين قبل ما أعرف المكتبة نفسها
لم ُتشبع اإلجابة فضول عُمر فعاود السؤال :يعني إيه ؟!!
-يعني ده مش وقت أس���ئلة يا عُمر عاوزين نجيب الكتابين اللي جايين علش���انهم ونلحق
نروّ ح من غير ما نتقفش
للمرّ ة الثانية ال تروق اإلجابة لعُمر وعقله يؤ ّكد له أن داء هذه المكتبة اللعينة يسري على
الجمي���ع؛ على صاحبها وعلى جميع مريديها ،وعليه اآلن أن يخاف على نفس���ه قبل أن
يصي���ر واح ًدا كهذين المخبولين ذات يوم ،ابتعد تار ًكا صديقه لر ّفه ولكتبه ،بدأ في تص ّفح
باقي جنبات المكتبة بنظرات عابرة ،الوضع على حاله كما كان يراه دائمًا في ُكل زيارة؛
مكتبة مليئة بالكتب ،فارغة من ال ّناس ،المختلف هذه المرّ ة أنه الحظ كرتونتين عمالقتين،
لم تكونا موجودتين في زيارته األخيرة ،موضوعتين في ركن بعيد ومرسوم عليهما هيكل
معدني دعائي لثالّجة صغيرة مع (لوجو) تجاري أزرق لطاووس منفوش الريش أس���فله
اس���م العربي بالبُنط العريض ،شعار شركة توشيبا العربي .أقبل عليهما ليجدهما ممتلئتين
تمامًا بالكتب ،بال اهتمام راح يتفحّ ص محتوياتهما بأطراف أصابعه ،اصطدمت يده صُدفة
بكعب كتاب برز وسط باقي الكتب عاليًا كوتد خيمة ،له لون برّ اق مميز ش َّد انتباهه فجذبه
من وسطهم ليتم ّكن من رؤيته على انفراد ،كان كتابًا رفيعًا من القطع المتوسط له غالف
سميك له سمت الكتب الدينية التقليدي الذي رآه مرارً ا في مكتبات المساجد التي ال يرتادها
ّ
بخط ف ِّني أحد ،حدَّق فيما ُكتب على الغالف من العنوان واس���م المؤلّف وتفاصيل أخرى
جميل ،دون أن تفارق عينيه الكتاب هتف :يا حمزااااااااااااااااا
أتاه الصوت المتأ ّفف من خلفه :إيه يا عُمر؟!! قولتلك مش فاضي..عاوز أخلّص
-تعالى بسرعة..عاوز أورّ يك حاجة مهمّة
سمع عُمر صوت أقدام حمزة هي تهبط من على درجات السلّم قبل أن يُقبل صاحبها عليه، َ
وقف خلفه وهو يقول في سأم :فيه إيه ؟!!
-بُص كِده
قالها عُمر وهو يستدير ويناول الكتاب لصديقه الذي رفعه ألعلى لينظر له مل ًّيا على ضوء
لمّبة السقف ،سأل عُمر :مين أحمد متاريك ده..تعرفه ؟!
-وال عُمري سمعت ع ّنه
أزاح الغالف ثم تص ّفحه سريعًا ،قبل أن يقول :أنا هاخد الكتاب ده..شكله حلو
****
بداية من ناصية ش���ارع مدرس���تهً عاد ًة ما ينام حمزة خالل المدّة التي يقطعها األتوبيس
وح ّتى يصل لناصية شارع منزله ،إالّ أنه هذه المرّ ة ونتيجة للفضول العارم الذي اعتراه
بخصوص الكتاب ،فإنه ما أن استقرَّ على مقعده ح ّتى قرّ ر أن يبدأ فورً ا في قراءته ،ألقى
نظ���رة أخيرة على عُم���ر الذي جلس جواره بوعي غائب وعينين مس���هّمتين مُنهم ًكا في
سماع األغاني َعبْر وصلة الهيدفون الم ّتصلة بموبايله السامسونج المستقرّ في قاع جيبه،
عدّل حمزة من جلسته طمعًا في وضعية أكثر راحة يستند فيها الكتاب فوق ركبتيه ثم ما َل
بعينيه ألسفل قليالً و بدأ في القراءة ..
السيرة الذاتية للكاتب
ّ
(البظة اليتيمة) -واضع نظرية (ال ُغ َرز) و
في مجال األدب .
-صاحب مؤلّفات متعدّدة ُترجمت إلى العديد من اللغات وأش���اد بها كبار
الن ّقاد كشريف جالل ومحمد محسن وغيرهم
س + 87
عاد ًة ما أُنكر تلك التصنيفات الحمقاء التي كانت ُتقام لنا قبيل مش���اهدة األفالم؛ هذا الفيلم
ل َمن هُم فوق الـ 18عامًا ،وهذا الفيلم ل َمن هُم فوق الـ 21عامًا ،وهذا الفيلم يُنصح به ولكن
عينيك وقت اللزومُ .كل هذا بدعوى الحرص على َ مع إرش���اد عائلة تعرف متى ُتغلق َ
لك
مالئمة النضوج العقلي للمُحتوى ،وأكبر أكذوبة عاش���تها البش���رية هي الربط المزعوم
شيوخا بأحالم عصافير وشبابًا عقولهم تزن أجياالً ً لرجاحة العقل بالسِ ن فما أكثر ما رأينا
كاملة ،لذا فإن المعيار المنطقي الوحيد الذي يظ ّنه عقلي المتواضع لتصنيف مدى مالئمة
أي شئ لهذا أو لذاك هو العقل وحده ومدى سِ عة أفقه مهما كان عُمر صاحبه..هذا الكتاب
لمثل هذه النوعية..فقط .
هذا الكتاب ال يُنصح به إالّ ل َمن هُم فوق الـ 87س���نة (عقل ًّيا)..لذا فنرجوا من الصِ غار أن
يمتنعوا..والنبي :D
أحمد متاريك
تمهيد
كان آخر ش���ئ أتصوّ ر القيام به هو كتابة أي شئ أثناء ركوبي سيّارة سواء أكانت رواية
أو مقالة صغيرة أو ح ّتى استاتيو على الفيس مكوّ نة من سطر واحد ،نظرً ا لطبيعة الهدوء
لك هذاالقاتل التي تتطلّبها طبائعي المتقلّبة دومًا قبل كتابة أي ش���ئ ،لذا مُس���تغربًا أقدّم َ
كتبت هيكله الرئيس كامالً على متن الميكروباص خالل رحلة المرواح من ُ الكت���اب الذي
مدينة القاهرة الكئيبة بلد األلف طابور إلى مدينة الزرقا الحبيبة بلد األلف قِطعة مش���بّك،
بالطب���ع كانت لديّ الفكرة منذ زمن إالّ أن أف���كاري كالوالدة البد وأن أصبر عليها كثيرً ا
ح ّتى تت ّم فإن تمّت وآن وقت خروجها ال تعبأ ال بالمكان وال بالزمان و( َت ْن َظ ِرب) إلى الدنيا
من فورها ،وها أنا ذا جالس جوار السائق (في الكابينة) تحت ضوء أصفر شاحب مُتعِب
أخط هذه الكلمات. للعينين وفوق مقعد تتالعب به المطبّات وكسور الطريق التي ال تنتهي ُّ
ل��� ُكل كاتب (عاق���ل) هدف وغاية من أي حرف يكتبه ،وغاية ه���ذا الكتاب القصوى هي
ْ
صمصت من حياة التوثي���ق لي���س إالّ ،أزعم أنني أتعرّ ض فيه لمش���كلة بالغة التعقي���د َم
الكثيرين وال أزعم أب ًدا أنني بهذا الكتاب وال بعش���رات أخرى غيره س���أكون قادرً ا على
التعبي���ر عنه���ا كاملة من جميع جوانبها ،وال ح ّتى عن ادع���اء القُدرة على امتالك حلوالً
زلت أتذ ّكر ذهول أبي حينما شاهد فيلم (أوقات فراغ) للمرّ ة ُ جذرية أو غير جذرية لها ،ال
األولى وراح يردّد بعدها اس���تحالة أن يكون هذا واقعًا وأن الحال بالتأكيد غير الحال وأن
المُخ���رج والمؤلّف قد وقعا في ف ِّخ التضخيم بالري���ب ،أخبر ُته حينها أن الحال فعالً غير
الحال ،ألنه أس���وأ بكثير مما رآه في الفيلم فت ّنح في وجهي لثوان ثم تركني بعدها وغادر
الغرفة دون تعقيب .
لت مس���ودّة الميكروباص ذات الخط المُرتعش المتراقص لك أقدّم هذا الكتاب بعد أن حوّ ُ َ
حول الس���طور كرس���م إلكتروني لقلب يموج بالحياة إلى مل���فّ وورد فخيم قابل للقراءة
اآلدمية ثم إلى مل���فّ بي دي إف أنيق قابل للطرح اإلنترنتي..هللا وحده أعلم فربّما يمكن
أن ُتقدّم أنت لنا حالًّ لهذه المشكلة ذات يوم أو يُمكن أن يُغيّر َ
فيك الكتاب شي ًئا ما ويُحدِث
في نفسِ ���ك أمرً ا ويمكن أيضًا أن تتهمني بالوقوع في ف ِّخ التضخيم وتجد كالمي كلّه هُراء
لك وحدَ ك في نهاية األمر.
وال تعبأ به..األمر برمته َ
ولكي يس���تكمل هذا الكتاب غرائبه معي فإن صورته النهائية التي َخ َر َج عليها لم أستطع
أن أجد لها توصي ًفا دقي ًقا قياسًا على ما قرأته من ُكتب طول حياتي..هل هو رواية شديدة
ست كافة القواعد التقليدية التي قرأناها وتعلّمنا عليها دون تقسيم مُعتاد لفصول الصِ غر َه َر ْ
ُسهب لل َمش���اهد بال ديباجة مُعتادة لرقم المشهد
ِ م ٍ
ف بوص قصير س���يناريو هو وأبواب أم
واسم المكان وعالقته بالليل أو بالنهار..أم أنه كليهما معًا؟!..صِ د ًقا ال أدري وفي هذا األمر
لك وحدَ ك..رواية عرجاء كان أو سيناريو متن ّكر كان أو ح ّتى لو اتضح أيضًا سأدع األمر َ
لك في النهاية أنه ورق بفرة بيس���تهبل..المه ّم عندي أن تقرأه وأن تحاول أن ُتصدّقه وأن َ
لك كامل الحُرية في أن تقبله أو ترفضه ..هذا الكتاب ماهو إالّ تتفاه���م معه وف���ي ال ّنهاية َ
صرخة احتجاج وتحذير ولكن من نوع خاص ج ًّدا.
بديهي أن جميع أحداث هذا الكتاب غير حقيقية -وإن كانت كلّها من رحم الواقعية -وكلّها
ً
خطوطا درامية ال يُنكر فضلها إالّ وليدة خيال الكاتب وس���وّ اق الميكروباص الذي منحه
جاحد .
آه نسيتَ ....نص هذا الكتاب يحتوي على بعض األلفاظ اقتضتها الضرورة والتي لن تستقيم
فكرة الكتاب أب ًدا من دونها ،قد يعتبرها البعض خادش���ة للحياء والذي م ّنه..ياريت أي حد
من أعزائي س��� ّكان الكوكب الداجن إياهم ميطلعش ي ّتهمن���ي بإثارة الفُحش العام والموت
الزؤام والحاجات الجامدة دي..آدينا بنقول من األول أهو..اللي بيتكسف ميقراش:D
إهداء
إلى س���ائق الميكروباص الذي ال أعرفه وال يعرفني..وجدني جالسً���ا جواره مُنهم ًكا في
الكتابة داخل الكش���كول كالمحموم فس���ألني بقلق“بتعمل إيه يا أس���تاذ؟!” فلمّا أجبته بألّف
ُ
ّم..فوجئت به يُشعل لمّبة إضافية فوقي ً
س���خرية أو على األقل عدم تفه رواية متوقعًا منه
قبل أن يس���تدير للخلف ويُصيح في الر ّكاب بلهجة هتلرية ال ُتنا َقش “مش عاوزين دوشة
يا جماعة علشان خاطر األستاذ يعرف يكتب!!”
أحمد
ت عمرها ما اتو ِّ
ض ْ الضافر الوسخ أكبر دليل على إيد ُ
****
في الغرفة المجاورة تمامًا لغرفة الحاج صادق ،رقد ابنه أحمد الـ(محترم ومن تسعة بيبقى
في س���ريره) مُكلف ًتا جسده الممتلئ بكوفرتة خفيفة من رأسه ح ّتى قدميه كالكفن ،متص ّنعًا
النوم بينما هو من أس���فلها يُجري مباحثات أمن قومي هامس���ة بالمحمول وعيناه تراقبان
ً
حراسة للموقِف ،وهو الباب المُغلق من خالل ثقب استراتيجي أقامه بين طبقات الكوفرتة
ت خافت :يعني خالص ده آخر كالم ؟!..بُكرة يا روان أخيرً ا..ماش���ي أربعة يتكلّم بصو ٍ
إزاي؟..ما أنا عارف إ ّني شايف الصورة بالميللي هكون عندِك..است ّني اس���ت ّني..هعرفِك ّ
بس بردو ماهو أنا مش همش���ي أبحلق في وشوش ال ّناس..تمام..أحمر على بينك..اتفقنا..
عند السينما ؟ جميل..نعم ؟!! أصحاب إيه اللي هتجيبيهم معاكِ ؟!! احّ نا مش متفقين نبقى
لوحدنا؟!...ي���ادي النيلة على التح ّكمات الخايبة..حاضر يا س��� ّتي وهللا فاهم..هجيب اتنين
صحابك اللي طلعولنا على غفل���ة دول..وهللا وال كأننا طالعين دريم
ِ معايا عش���ان خاطر
بارك..ماشي يا س ّتي..ماشي..لمّا نشوف آخرتها..سالم
****
صباح اليوم التالي
جلس ايميل -صديق أحمد -أمام كمبيوتره الخاص داخل غرفته ذات الباب الموارب ،تأ ّكد
من خفض صوت السمّاعات للحد األدنى الذي تستوضحه بالكاد أذناه ،عينيه مثبّتتان على
الشاش���ة شبه جاحظتينِ ،ن ِّني عينيه يتن ّقالن يمي ًنا ويس���ارً ا كالبندول بين شاشة الكمبيوتر
وبين فتحة الباب تحسُّ���بًا ألي كبسة عائلية مفاجئة ،أعصاب جسده منتصبة كغابة بوص،
ً
مأخوذا ح ّتى مس���ام جسده تنفث حرارة تكفي لكيّ بدلة مكرمشة ،شبه منفصل عمّا حوله،
آخ���ر بهروز من بهاريز عظمه بما يُطالعه على الشاش���ة؛ مقاطع صغيرة ال تزيد مدّتها
عن بضع دقائق ولكنها كافية ج ًّدا إلش���عال جذوته وتحويل أعماقه لبركان يقذف بالحِمم،
ريقه الهارب من فمه يجري لمرأى األجس���اد العارية المتالحمة على بعد سنتيمترات منه
شطت بعقله ،خياله يحشره عنوة داخل المسرحية الماجنة الكائنة أمامه، بأوضاع وزوايا ّ
يدق داخل صدره كخبط يتوهّم أنه أحد هؤالء األبطال فيحضن ويقبّل ويفعّص وينال ،قلبه ُّ
ربّة منزل متحمّس���ة بيد هون أثناء َع َمل اللحمة المفرومة ،أذنه مشرأبة كذئب في وضع
االستعداد لمهاجمة غزالة شريدة!!
عزيزي جيمس كاميرون مخرج أفاتار لِم َلم تصنع لنا فيلم سكس ثري دي..وقتها ستكون
أس���ديتَ للبش���رية خدمة ال ُتنس���ى أفضل من أفالم الكوارث التي تتحفنا بها ليل نهار!!
لم يش���عر بالوقت الذي م���رَّ عليه كقطار طلقة ياباني ،وهو يتن ّق���ل من فيديو آلخر ومن
بطلة ألخرى ومن وهم آلخر ،لينال خالل س���اعة واحدة من ش���قراء وش���امية وزنجية
وحيييييييح..راح عقله يتس���ائل ع���ن ذلك العبقري مُبتكِر فيلم الس���كس األول ؟ لماذا َلم
يُقلّدوه جائزة نوبل للس�ل�ام ؟!! الحمقى ال يعرفون حقيقة دور هذا الرجل في التقارب بين
الشعوب!! ،أخذ موبايله في الرنين فجأة ما ع ّكر عليه مزاجه الرايق وقعدته الحلوة ،بنظرة
لشاشته َعلِ َم أن أحمد صديقه يهاتفه اآلن وأنه قد هاتفه مُسب ًقا ثالث مرّ ات لم يسمعها وقت
أن كان غائصً���ا في عالمه اآلخر ،زفر في ضيق وهو يُحدّث نفس���ه :يلعن أمّك يا أحمد
الزفت..مش وق َتك خااالص دلوقت
كنس���ل عليه وه َّم بمعاودة الفرجة ،ولكن ر ّنات أحمد اللعينة عادت تالحقه من جديد ،هذه
المرّ ة رفع الموبايل ألذنه وهو يهتف بحنق :إيييييه يا ابن البتاعة..عاوز إيه ع الصُبح ؟!
-عندي ليك مصلحة عِ نب..هقابل روان ال ّنهاردة
-أهالً وسهالً..بتبيع إيه دي ؟!!
-بتبي���ع يا ابن الـ( )....هوّ ا أنا بكلّ َمك على واحدة س���ارحة في عربية مترو؟!!
روان يا متخلّف اللي كلّم َتك عليها
-أهاااااااا..رواااااااااان..طيب ما تروح أنا أعمل أله َلك إيه ؟
-ماهي مش هتعرف تنزل من البيت إالّ ومعاها اتنين من صاحباتها
-إي���ه جو أفالم عبد الحليم ده ؟!..عمومًا أنا مش فاضي أ( )...عليك..أنا ورايا
مذاكرة
-مذاكرااااااا..متأ ّكد ؟!
-آه طبعًا متأ ّكد..والكتاب في إيدي أهو
-يعني متأ ّكد إن اللي في إيدَ ك دلوقتي كتاب مش فخدة بنت الحاج جوهانس���ون
هللا يرحمه ويبشبش الطوبة اللي تحت راسه
مصعو ًقا ،رفع إيميل عينيه ناحية الشاشة ليتأ ّكد مما هو متأ ّكد منه ،أمامه مُحرك
اليوتيوب يعرض له آخر فيديو تو ّقف عنده بسبب المكالمة بعنوان
“”scarlet johanson sex scene
مرّ ت عليه ثوان من الذهول ،قطعها صوت أحمد الساخر الشامت :المذاكرة حلوة مفيش
تنسى..البت دي عليها جسم يو ّقف ( )...تمثال رمسيس
ِ كالم..عمومًا ليك ّ
حق
-انتَ عرفت منين ؟!!
-تاني مرّ ة يا لطخ لمّا تيجي تش���وف سكس على اليوتيوب متبقاش تنسى األول
بتاعك والّ أل ؟!! بروفاي َلك المحروس
تتأ ّكد إذا كان مرب���وط بأكاونت الفيس َ
بقاله س���اعة بيعرض ُكل الفيديوهات اللي بتتف���رّ ج عليها وزمان مصر كلّها
عرفت إ ّنك نس���وانجي وسخ كييف سكس أفالم أجنبي..ده انتَ لو كنت ّ
نزلتها
إعالن ُنص صفحة في األهرام مكانتش اتعرفت كده
-أحه !!..يا سنة سوخة يا أوالد ..يعني ُكل ده طلع ع الفيس ؟!!
-مش كلّه يا وليد P:
-يا ابن القرعة
نطقها ايميل بغيظ ،وهو حائر ال يدري كيف يتصرّ ف في هذه الكارثة القومية التي ألمّت
به على غفلة كقضاء حمامة لحاجتها فوق كتفه لحظة خروجه من منزله مرتديًا أفخر ثيابه
-المه ّم..هتيجي ؟!
-أداري الفضيحة دي األول وبعدين نشوف..عمومًا نتقابل في الجامعة..سالم
-سالم
*****
“طاب والمصحف يا هند ما شربت حاجة”
وق���ف محمّد -صديق أحم���د وايميل -األنتيم في غرفته بمالبس���ه الداخلية ،أمام الدوالب َ
وضعَ المفت���وح ينتقي من صفّ المالبس المعلّقة في الش���مّاعات ز ًّيا مالئمً���ا ،في أذنيه
سمّاعتي الموبايل يُحادث ُحبّه األوّ لي وجارته هند التي فرغت للتو من عريضتها اليومية
التي تشجيه وترثيه بها ُكل يوم على الريق؛ تتهمه فيها بالتقصير والتطنيش والعين الزايغة
مع غيره���ا وأنه لم يعد يحبّها كما كان..تكرّ رها يوم ًّيا من أول يوم عرفها فيه لدرجة أنه
تساءل يومًا مع نفسه متى كان يحبّها كما كان ؟! متى كان رائعًا ،جميالً ،مستقيمًا ،يحبّها
بجنون وال يفعل كوارث تستحق التوبيخ ُكل صباح؟!
-طيب بالذم���ة كده يعني ده عقل ؟!..بيرة إيه اللي هش���ربها في البلكونة؟!!..
ش���وفتيني إيه بس؟!!!..يا هند ش��� ّقتكوا فوقينا بت�ل�ات أدوار بحالهم..ده غير
مناخيرك..مبتش���وفيش أصالً ِ نضّ���ارة الربع متر كعب اللي راش���قاها فوق
بال ّنهار يبقى هتش���وفيني من تالت دور وكمان بالليل ؟!!...ماش���ي يا س��� ّتي
ت عايزة بس وقت ما أكون أنا فيها عش���ان تعالي وف ّتش���ي أودتي زي ما ان ِ
كنت عاوز أصالحِك ببوسة الحق عليّا ُّ أفرّ جك عليها كويس..أنا قليل األدب ؟!
بريئة..اش���تمي اش���تمي..لمّا نش���وف آخرتها معاكِ إيه..اوعي تكوني ناوية
ش���بة كده بعد الجواز..كمان شتايم ؟! ماااشي ماااااااااااشي..آه أنا تفضلي مخ ّ
كمان هنزل عندي سكش���ن في ال ُكلي���ة..ال وهللا ما أنا خارج ال مع محمّد وال
مع إيميل..بقول سكش���ن مفيش أوضح من العربي يا خلق هووو..آه صحيح
ف ّكرتيني لو هتنزلي متعمليش ربطة الطرحة بتاعت امبارح عش���ان ش���عرك
بيبان منها..وأنا مالي أنا شعرتين والّ مش شعرتين قولت أل يعني أل..شاطرة
يا بطوطتي..سالم
أنهى المكالمة ،اس���تمر في مطالعة ثيابه المرصوص���ة أمامه بالعرض لثوان قبل أن يم َّد
ش���ط المنطقة بعينيه يده ليختار أحد األطقم ،بعد دقائق خرج من غرفته متس���لالً بعد أن م ّ
وتأ ّك���د من خلو الصالة من المتلصصين والمتلصصات ،على أطراف قدميه َع َبر الصالة
بحذر ح ّتى دخل المطبخ ،فتح الثالّجة ،أخرج منها زجاجة سِ ���فن أب س���كب محتوياتها
كاملة في الحوض ،أخرج من أسفل قميصه زجاجة بيرة نصف ممتلئة ،أدنى فوهتها من
باحثا عنفوهة زجاجة السِ فن الفارغة ليمأل األولى بمحتوى األخيرة ،ما َل ناحية الثالّجة ً
موضع آمن ،أخفى الزجاجة نائمة على جنبها خلف علبة بالس���تيكية كبيرة ش��� ّفافة مليئة
بق َِطع الجبن األبيض .
م���ن المطبخ خرج بصورة طبيعية واثقة ،ليجد ش���قيقته أميرة بانتظاره ،ما إن رآها ح ّتى
انتفض ُذعرً ا
-إيه يا أخويا..شوفت عفريت ؟!
-يخربيتِك..طالعالي كده زي العمل الرضي
-انتَ رايح فين ؟
-الكلية
-وكنت في المطبخ بتعمل إيه ؟
-بشرب..ممنوع يا شاويش عطية ؟!
-ال يا س���يدي مش ممن���وع بس هند كلّمتني وقالتلي إنها ع���اوزة تعدّي عليّا..
شكلك عملت مصيبة
-وال مصيب���ة وال حاجة..تعدّي يا أختي وتقعد براحتها..بس ِخ ّفوا على فروتي
شوية
-موعدكش
-ماشي يا أختي..ه ِّتكِل أنا عشان ورايا جامعة
قالها منهيًا الحديث قبل أن يتجه في خطوات رشيقة ناحية الباب ،فتحه وه َّم بغلقه إالّ أنها
أوقفته قائلة بحنو :مكتبتش حاجة جديدة تورّ يهالي ؟
بدا عليه الضيق ،قال دون أن ينظر لها :فُ ِّكك
قطع ال ِقصّة بتاع َتك..هوّ ا كان قاعد يقراها زي قالت بسرعة :يا محمّد بابا مش هوّ ا اللي ّ
ّ
متقطعة م ّني م���ا انتَ طلب م ّنه وبعدين قام ير ّد عل���ى تليفون..أنا جيت وبقلّب فيها قامت
غصب ع ّني
ت ِن َمر أصحابه على ضهرها ؟! ِ كتب اللي بردو ت
ِ وان حزينة: بسخرية ً ال قائ استدار إليها
بدا عليها االرتباك ال تدري ما تقول ،استكم َل هو بانفعاله الساخر المرير :أبوكِ المُحترم
رم���ى ال ِقصّة جنبه من غير ما يقرا منها س���طر واحد..ولمّا ع���از يكتب على حاجة قام
قاطعها حِتت وكتب عليها ِن َمر صحابه وسابها وراه فتافيت..ده ح ّتى مهمّوش يخبّي الورق
المتقطع ومعملش حسابه إ ّني ممكن أشوفه..عادي خالص ّ
ظ َّل االرتباك مُسيطرً ا عليها ،أجبرت وجهها على االبتسام وهي ُتغير د ّفة هذا الموضوع
اآلسن :عملت إيه في المسرحية اللي قولتلي عليها ؟
حق وال باطل..بس -بتوع الشئون عالم والد س ّتين كلب مش عاوزين يدّوني ال ّ
فيه واحدة هناك بنت حالل وعدتني خير..المفروض هتر ّد عليّا آخر األسبوع
-إن شاء هللا هتتعرض..روّ ق بقى وابقى احلق دق َنك دي شك َلك فيها ِوحِش
ابتسم إليها في امتنان وهو يقول :أنا مروّ ق أهو..همشي أنا بقى سالم
َع َبر فتحة الباب ثم أغلقه من خلفه برفق .
****
ما أن خرج إيميل من ش��� ّقته وأغلق خلفه بابها ح ّتى فوجئ بجاره عِ ز يفتح ش���رّ اعة باب
الش��� ّقة المجاورة ،يراقبه بنظرة مُخبر أبله من الفئة (أ ّم بدلة صيفي ُنص ك ّم وشنب مس ّقط
وجرن���ان فيه خرمين) ،قال هاز ًئا :بقى يجي َل���ك قلب يا يهودي تتفرّ ج على ( )---أنجيلينا
جولي بعدما شالتهم..يعني البنية قاعدة حزينة عشان محرومة منهم وانتَ قاعد هنا تـكيّش
برايز بيهم؟!..عامل زي الطور الهايج مش عاتق
بطلت تقعد متذ ّنب بالس���اعتين قدّام الموفي تشانيل في ضيق صاح إيميل :يعني انتَ اللي ّ
عشان تشوف َلك في اآلخر لقطتين تالتة من إياهم..انتَ يا عِ ز بقيت بتتكلّم؟!!..هللا يرحم لمّا
قعدت زي الكلب ش���هرين تتحايل عليّا عشان أدّيك فيلم محل الموبايالت وأنا مرضتش..
ده انتَ متعرفش الفرق بين الفيس والياهو
-ال طبعًا عارفه..الفيس أزرق والياهو أحمر
-أحمر بردو ؟!!..حمرا يا عِ ز
تجاهله واتجه نحو السلّم إالّ أن عِ ز عاد ليستوقفه
-بس وهللا انتَ طلعت كويس..ساعة بحالها تتفرّ جَ ..ن َفسك طِ لِع طويل يا واد مع
إنه مش باين عليك..مصيبة لتكون مخلّص بدري بدري من أول ثانيتين وباقي
السّاعة قاعدها حالوة روح
عل���ى الفور انحنى إيميل على قدمه ،التقف منها فردة حذائه ثم قذفها ب ُكل قوته نحوه وهو
يهتف فيه :يا ابن ال َمرة
انحنى عِ ز بحركة ال إرادية من خلف الباب وك ّفه تغلق زجاج الشرّ اعة بسرعة ،اصطدم
الح���ذاء بالقضبان المعدنية للباب وأحدث ضجّ ���ة محدودة على دويّها ط َّل على إيميل من
فوق من فتحة الدرابزين جارتيه اللدودتين ش���يماء ونسرين وهو نصف حافي واقف أمام
باب ش��� ّقة عِ ز منحني على األرض يلتقط حذائه ويحاول انتعاله ،قالت نسرين في خبث:
ما َلك يا إيميل متضايق ليه ع الصبح ؟
أجابتها ش���يماء بدالً منه على نفس موجتها األريبة :معلش بقى يا نس���رين بيقولِّك الواحد
بعدم���ا بيخلّص فرجة على الحاج���ات دي بيبقى عامل زي ع���ود القصب الممصوص
ومبيبقاش طايق حد .
ت ليكِ عين ِ ان : بهما ص���اح نارية، نظرات بضعة منحهما ناحيتهما، لوى إيمي���ل رقبته
شيماء..صورك معمولة باك جراوند على ُكلِ يا صور ليكِ عندي أنا شيماء..ده تتكلّمي يا
كمبيوترات الح ّتة يا شيمااااء..هللا يرحم قميص النوم األصفااااااااار
يب���دو اإلحراج عل���ى وجه الفتاتين ،تتبادال النظرات قبل أن تنس���حبا بس���رعة من فوق
الدرابزي���ن ،يظ ُّل يُح���دق لألعلى ِبغِل في الفراغ الذي خلّفتاه لث���وان قليلة ،قبل أن يُقرر
استكمال مسيرته للخارج ويهبط َعبْر درجات الساللم ،من بوّ ابة العمارة خرج وهو يتمتم
:عالم والد وسخة ميجوش إالّ بالتهزيق والشرشحة
لمح البوّ اب وه���و ينهض عن أريكته ،يركض نحوه وينادي عليه :يا آيميل بيييييييه...يا َ
آيميل بيييييييييه
تو ّقف واستدار ناحيته قائالً في سأم :انجز يا عبمجيد عشان مستعجل
-أنا كنت ع���اوز من حضر َتك خدمة صغيرة..الواد ابن���ي عنده ِحصّة ألعاب
بُكرة وكنت عاوزك تسلّفه التي شيرت األتيتاس اللي بتلعب بيه ويّا زماي َلك..
النمرة َع َّشة بتاع ّ
ميزي
وميزك؟!! انتَ مخارج الحروف بتاع َتك بتطلع من أنهي عضو ّ -أتيتاس وع َّشة
ّ
؟!..بطل جنان يا عبمجيد التي شيرت ده أغلى من عيلتكوا في جس َمك بالظبط
كلّها شنب شنب
-براح َت���ك يا بيه..أصل الواد ابني يعني كان قاعد ع الكمبيوتر اس���م هللا على
مقا َمك ودخل على اس���مه إيه النِت ده بالوصلة وشاف بالصدفة شوية حاجات
بالصدفة كده يعني..أفتكر لو البيه الكبير عرفها مش هيبقى مبسوط
-بتهددني يا عبمجيد ؟!!
-العفو يا بيه..أنا ّ
ببتزك
-عمومً���ا ي���ا حبيبي..الحاجات اللي اب َنك قاعد يش���وفها صدفة دي أنا خالص
مسحتها ومش هتعرف تعمل بيها حاجة
-ماهو يا بيه ابني بالصدفة بردو أخدها برنيطة في الس ّكين
-برنيطة إيه ؟!! آآآه..يكونش قصدَ ك برينت سكرين؟!!..يا حالو َتك يا عبمجيد
بتاعك اتحسّ���ن ييجي
على صُدفك الل���ي بتيجي ورا بعضها ..ال االنجليزي َ
م ّنك..عمومًا ماش���ي يا عبمجيد هجيب َلك التي شيرت بس افتكرها..حاجة تانية
تستغل بيها الموقف ؟
-متشكرين يا بيه..احّ نا منحبّش نيجي ع الواليا
منحه إيميل نظرة غضب أخيرة قبل أن يغادر بعدها بخطوات سريعة
****
جلس أحمد أمام الالب توب الخاص به ،يتص ّفح آخر مخرجات برنامج التجس���س الشهير
key loggerالخاص بتس���جيل جميع نش���اطات الكمبيوتر الموض���وع فيه والذي ثبّته
خِلس���ة داخل كمبيوتر والده بعد أن أضاف إليه خاصية إرسال ُكل هذه المخرجات يوم ًّيا
إل���ى إيميله .منذ أن نصّب أحمد هذا البرنامج على كمبيوت���ر والده وهو معتاد أن يُطالع
هذه التفريغات ُكل صباح؛ أحاديثه َعبْر الكاميرا ،ورس���ائله الش���خصية على الفيس بوك
واإليميل ،كلّها تؤ ّكد سلو ًكا منحر ًفا برع والده في إخفاؤهُ ،كل مطالعة من هذا النوع كانت
تهدم داخله شي ًئا وتبني شي ًئا آخر ،حرّ رته سلوكيات والده الخفية من عُقدة الذنب التي كان
يُعاني منها ساب ًقا كلّما اقترف ذنبًا يعلم أنه سيُغضب عليه والده الحبيب الورع ،فكان أحد
أهم عوامل انحالل حبائله على الرابع .
لحظة ما قفش فيها والده أثن���اء محادثة إلكترونية ماجنة رأى فيها قدوته ً حي���ن أتت عليه
رمز التضحية والتدين وااللتزام في ش���كل لم يعرفه أب ًدا ،من يومها قرَّ ر أن يضعه تحت
رقابة دقيقة باستخدام برنامج متطوّ ر يسجّ ل ُكل همسة يقوم بها على الكمبيوتر؛ محادثات
بالساعات مع عاهرات يتعرين مقابل رصيد موبايل ،محاوالت إغواء لفتيات َعبْر الفيس
بوك ،أفالم سكس طويلة يعلمها أحمد جي ًدا ألنه َس َبق وأن شاهدها مرارً ا وهكذا .
هذا اليوم جلس أحمد يتابع بعض رسائل والده األخيرة لبعض فتيات يسعى للتعارف معهن
“هاي...ممكن نتعرف ؟!”
ت كاسفاني”“أنا بعتلِك إضافة..ووهللا ما ان ِ
“أنا سمحت لنفسي أشوف صورتك..وعجبتني ج ًّدا..وهبقى سعيد قوي لو عرفتِك”
ت يا بؤبؤ عيني “أنا حزين ووحيد ومحتاج اللي ياخد باله م ّني ويدلّعني..ممكن تكون ان ِ
الحزين؟!”
هم���س أحمد لنفس���ه بضيق :أحّ ه !! بؤبؤ عينه الحزين ووحي���د محتاج حد يدلّعه وكمان َ
بطلت ممكن نتعرّ ف ..إيه الهباب ده يا بابا ؟!! الراجل ده اتهفّ في عقله والّ إيه ؟! ده أنا ّ
الحركات دي من أولى ثانوي .
بطرق على الباب ،يُفتح الباب ويظهر من خلفه والده في جلبابه الزيتوني الفاخر فُوج���ئ َ
شاة بخطوط الذهب؛ قصير القامة ،ش���عر رأسه خفيف وله لحية وعباءته الس���وداء المو ّ
بيضاء أنيقة نِصف مُح ّناة ،على وجهه ارتس���مت ابتس���امة عريض���ة وهو يقول :صباح
الخير يا حبيبي
أغلق أحمد صفحة اإليميل بس���رعة وهو يستدير ناحية والده قائالً :صباح الخير يا بابا..
شغل ؟ إيه نازل ال ُ
-أيوة يا أبو حميد..عاوز حاجة ؟
-شكرً ا يا بابا..أنا كمان شوية ونازل ع الكلية
-بقولّك يا أحمد..أنا كنت عاوز أكلّمك في موضوع
-خير ؟!
-انتَ مبتصلّيش لي���ه يا أحمد..أنا مالحظ إنك مبتصلّي���ش خالص..ليه كده يا
حبيبي ؟!
ينظر له أحمد بشئ من الدهشة دون أن يجيب ،تابع األبّ متق ّمصًا دور الواعظ الشهير
-يعن���ي دلوقتي ربّنا اختارك دو ًنا عن خلق هللا وبيقولّك يا أحمد.يا أحمد تعالى
أن���ا عاوزك تزورني تيجي انتَ تقولّه أل..بق���ى ده يص ّح ؟!..يص ّح اللي انتَ
بتعمله ده والّ ميصحّ ش ؟
-ال ميصحّ ش أب ًدا اللي أنا بعمله !!
-تس���لم يا حبيبي..أنا عاوزك تصلّي بانتظام يا أحمد عشان ربّنا يرضى ع ّنا..
انتَ مبقتش صغير
-ماشي يا بابا..إن شاء هللا
-أنا همشي أنا بقى..سالم
خ���رج الحاج صادق من الغرفة وأغلق الباب خلفه ،بينما أحمد يعاود فتح صفحة اإليميل َ
على الالب ،يتطلّع إليها وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة..قوي .
****
وقف إيميل وأحمد أمام البوّ ابة الرئيس���ية لجامع���ة القاهرة ،يُتابعان االزدحام من حولهما
بد ّقة ،قال أحمد :انتَ متأ ّكد إ ّنه جاي ؟
-أيوة ياع ّم..أنا كلّمته وقولتله يقابلنا هنا
اتأخر ليـ..أهو جه أهو -أمّال ّ
برز لهما من وسط الحشود صديقهما محمّد الذي لوّ ح لهما بك ّفه وهو يُقبل عليهما ،ما أن
وقف في حضرتهما ح ّتى قال في مرح :آرجّ الة..عاملين إيه يا وحوش ؟!
-محتاجي َنك في خدمة إنسانية
-مش معايا والّ ملّيم
-فلوس إيه يا كحيان ؟!..عاوزي َنك في حاجة تانية
-خيييييييير ؟
ك السلوفانة بتاعتها إنها ّ تف عش���ان ش���ارطة بس ّعةم متل مكنة مع -عندنا ميعاد
يبق���ى معاها َو َنس اتنين غزالن صاحباتها..همّا هيبقوا تالتة واحّ نا الزم نبقى
تالتة عشان الليلة متفرطش م ّننا وتبور
لوّ ح لهما بيده معترضًا
-انتوا تنس���وا الحوار ده خااااااااالص..أنا لسّه معمولّي دلوقت محكمة ثورية
عشان خاطر بُق بيرة..تيجي تقولّي َم َكن وغزالن ؟!!
-هي ساعة زمن..نرفع العلم وت ِّننا راجعين
-انسووووو..ورايا سكشن مه ّم الزم أحضره
لم يبدو أن أحمد قد اس���تمع إليه ،فقط قال :ممكن أعمل تليفون من معاك يا محمّد..عاوز
أكلّم أبويا وموبايلي مفهوش رصيد
أخرج موبايله من جيبه ثم ناوله إيّاه قائالً :بس متاخدش راح َتك قوي يا أخويا
التقط منه الموبايل وابتعد به بعي ًدا ،قال إيميل :خلّيك حلو يا محمّد ومتبوّ ظش الليلة
-متو ّقعنيش في المش���اكل يا إيمي���ل وحياة أبوك..أنا وهللا م���ا أنا ناقص..هند
مضيّقة الخِناق عليّا على اآلخر
-خايف منها يا دكر؟!
-ال خايف على زعلها
-خالص..اتجوّ زوا وخلّصونا بقى
-إن شاء هللا..أوّ ل ما أحوّ ش َت َمن الش ّقة..قدّا َمك كده لغاية كاس العالم بتاع َق َطر
-بس يا محمّـ..
-خالص يا إيميل سيبه براحته
دخل أحمد في الحوار بغتة بعد أن أنهى مكالمتهَ ،م َن َح الموبايل لمحمّد وينظر له ويقول في
هدوء :مدام سكشن مه ّم يبقى خالص مينفعش يتفوّ ت..انتَ عاوز تضيّع مستقبل الواد ؟!
التق���ط منه الموبايل وهو يقول في إحراج :معلش بقى يا ش���باب..وهللا لو كان ينفع كنت
جيت
-وال يهمّك يا بطل
تابعاه من ظهره وهو يغادر يلتحق بطوابير الطلبة التي تدلف َعبْر البوّ ابة الرئيس���ية ،قال
أحمد إليميل :ربع ساعة بالكتير وهتالقيه جاي يدوّ ر علينا
نظر له باستغراب فأتبع في غموض :يالّ بينا على أفندينا
****
جلس محمّد ينصت باهتمام للمعيدة الشابة التي َ في سكش���ن محاس���بة المنش���ئات المالية
وقفت أمام الس���بّورة الفرومايكا تكتب عليها بالقلم معادالت وقيود محاسبية وهي تشرحها
باستفاضة ومن خلفها هو يسجّ ل بضعة مالحظات من كالمها في كشكوله وفجأة..
“األنترلوب واقف يا هبة !!”
ع َّم الس���كون المكان من فرط الصدمة ،لو أُلقيت إبرة على األرض لر ّنت كصاجات بين
بحثا عن مصدر ذلك أنامل راقصة نشيطة ،ال ُكل يتبادلون النظرات المستغربة فيما بينهم ً
الصوت اإللكتروني الذي صاح من وس���طهم بتلك العبارة البذيئة الش���هيرة ،مع إضاءة
موبايله وانبعاثات الصوت من س���مّاعته ،كان محمّد هو الوحيد الذي فه َم ُكل ش���ئ ،هذه
العبارة وغيرها ضمن جزء من مكالمة س���كس أشهر من صباع محمد مرسي ُثبتت على
موبايله كنغمة رنين تستقبل أي اتصال من أحدهم باألنترلوب الواقف !!
ل���م يدر كي���ف يتصرّ ف ،فقط م َّد إصبع���ه المرتجف يكنس���ل دون أن يعرف ح ّتى هوية
الم ّتصل ،ورأس���ه عاجزة عن اإللمام بتفس���ير منطقي لما يحدث ،فقط كان الـ“...هيفرتك
البنطلون ي���ا حبيبة قلبي” ينتظره مع هذه الر ّنات المتتالي���ة التي راحت تتصاعد بإلحاح
البث ،أحاطت أدرك ال ُكل أ ّنه هو مصدر ّ َ ش���حّ ات رخم ،مع تتالي المرّ ات فُضح محمّ���د،
هرب محمّدَ فقط لحظتها سوق، وس���ط عارية ب وصوب كامرأة به النظرات من ُكل حد ٍ
شاشة ،مع نفسه بأنظاره من أنظارهم فطالع للحظة هوية الم ّتصل واسمه الذي لعلع على ال ّ
تمت َم :آه يا ابن القحبة !!
ض َح بحُمرة الخجل :إيه اللي انتَ مش ّغله ده َ َ
ن ٍ
ه بوج المعيدة صراخ من أمام الس���بّورة أتاه
يا حيوااااااان !!
بحركة ال إرادية انطلقت أنامله تعاود الكنس���لة عل���ى المرّ ات المتعاقبة التي راح متصله
يزنُّ عليه فيها كاتمًا النغمة األبيحة وس���ط تواصل صيح���ات المعيدة واصفة إيّاه بجميع
الحيوانات التي خلقها ربّنا من أول فرس النهر وح ّتى السنونو وهكذا..
“األنترلوب واقف يا هبة”..
“األنترلوب وا”..
“األنترلو”..
“األنتـ”....
البطارية عن جس���م الموبايل وهو هذه المرّ ة هداه تفكيره -متأخرً ا -إلى ح ّل نهائي؛ َن َز َع ّ
أخيرً ا ير ّد على المعيدة ،بارتباك قال :وهللا ما أنا..ده هوّ ا اللي كـ..
-اطلع برّ ه يا حيوان ..وتعمل حس���ا َبك إن أعمال السنة بتاعتك التيرم ده صفر
وكمان الدكتور الزم هياخد خبر باللي انتَ عملته ده
-والخاتمة ما أنا يا أستاذة..ده واحد تاني هوّ ا اللي عمـ..
-براااااااااااااااا..قولت اطلع براااااااااااااا
كظ���م محمّد غيظه ولمل َم حاجياته في عصبية ثم غادر المكان ،تالحقه العيون الس���اخرة
والهازئة والمندهش���ة ،تابعته المعيدة إلى أنا غادر ،بدا عليه���ا أنها تبذل مجهو ًدا ضخمًا
إلعادة الهدوء لنفس���ها ،بعصبية أخرجت قلمًا من حقيبتها ثم مالت ناحية إحدى األوراق
خرج عاليًا برغمها:
َ تالموضوعة على مكتبها ،اكتش���فت أنها ال تعلم اسمه فسألت بصو ٍ
اسمه إيه البني آدم ده ؟!
-محمّد..محمّد عِ ز الدين يا أستاذة هبة !!
****
ف���ي مصنع الحاج صادق ألزياء المحجّ بات ،تعالى هدير ماكينات التفصيل التي شَ���غَ لت
القاعة الوحيدة التي تش���مل الدور األرضي بأكمله؛ ش���ديدة االتساع في حجم ملعب كرة
ق���دم ،بداخلها تراصت خطوط منتظم���ة من الماكينات ،على ُكل ماكينة جلس���ت عاملة
ظهرها محني لألمام منهمكة في أداء وظيفتها ،بين ُكل عاملة وأخرى تن ّقل رئيس العمّال
ُالحظ���ا وموجهًا ومثنيًا وزاج���رً ا ،من غرفته العلوية وقف صادق يتابع س���ير العمل، ً م
الغرفة بالكامل جدرانها من زجاج ش��� ّفاف يسمح بالرؤية من اتجاهين ويكشف محتوياتها
بخط كوفي ّ البس���يطة؛ مكتب أرابيس���ك صغير من خلفه تابلوه أخضر قطيفة ُكتب عليها
مذهّب“وقُل اعملوا فس���يرى هللا عملكم” حُفظت خل���ف لوح زجاجي وأنتريه جلدي وثير
َي ْشغَ ل باقي المساحة في زاويته ثالّجة ماء كهربائية ذات قبّة سماوية ش ّفافة نصف ممتلئة،
تتصل الغرفة بالقاعة بس���لّم حديدي رفيع ،يهبط مائالً من عتبة الباب ح ّتى يلتحم بأرضية
القاعة ،تالقت عيناه بعينا رئيس ُعمّاله عوض العوّ فأشار إليه بيده أن يأتيه ،ترك الرجل
العاملة التي كان يتحدّث معها واتجه نحو الس���لّم ،صعده بصعوبة بس���بب كرشه الضخم
ح ّتى دخل عليه الغرفة
-خير يا حاج صادق ؟
شغل ده مش كان مفروض يخلص أول امبارح ؟! المتأخرة ياعوّ ..ال ُ
ّ -الطلبيات
-يا حاج آديك شايف..البنات ش ّغالين بإيديهم وسنانهم بدل الوردية تالتة ومفيش
شغل خلصان وال واحدة منهم مقصّرة..إن شاء هللا بُكرة بالكتير هيكون ال ُ
-بُكرة ياعوّ آخر كالم..متجيش بُكرة تقولّي كاني وماني
-عنيّا يا حاج
رنَّ موبايل الحاج ،تابع شاشته ثم رفعه ألذنه قائالً في لهفة :أيوة يا سيادة اللوا..نحمده يا
س���يادة اللوا..وانتَ أكتر يا س���يادة اللوا وهللا..بجد وهللا ؟! تشرّ ف وتنوّ ر..طبعًا هست ّناك..
المه ّم هتلبس إيه جنا َبك ؟..ياريت البدلة السودا معاليك بيبقى شك َلك َق َمر فيها..حالو َتك يا
باشا..في االنتظار..بالسالمة..بالسالمة يا أحلى لوا في الدنيا
أنه���ى المكالمة ،هبطت يديه بالموبايل جانبًا ثم عاد إلى عوض المتابع المحادثة باندهاش
مكتوم
-ك ّنا بنقول إيه ؟!
-بخصوص الطلبية كنت بقول لسيـ..
-ال ال ..طلبية إيه وبت���اع إيه..أنا عاوزك تجبلي علبة الدوا اللي قولتلي عليها
م���ن عند قريبك الصيدلي..انتَ عارف طبعًا إ ّني مش بتاع الحاجات دي..دي
لواحد صاحبي
-آه..آه..لصحا َبك ..وماله يا باشا..أجبها َلك من عنيّا
-طيب يالّ مست ّني إيه ؟!
دلوقت..ع َش���ر دقاي���ق ويكون باعتهالن���ا مع الواد
َ -حاضر يا باش���ا..هكلّمه
بالموتوسيكل
-كويس..يكون البنات لحقوا مشوا
-بنات مين اللي يمشوا ؟!
-بنات المصنع
-ليه ؟!!
-ال ّنهاردة أجازة
-أجازة ؟!!..أجازة إيه ؟!
-عيد العمّال
-عمّال إيه يا حاج..ده احّ نا في ديسمبر
-يالّ بقى يا عوّ متبقاش خنيق
ابتعد عنه واتجه نحو الباب وهو يقول بعدم اقتناع :اللي تشوفه يا حاج
أوقفه صادق على عتبة الباب قائالً :متنس���اش يا عوّ تكلّم قري َبك على الحاجات اللي مش
ليّا..هه؟..اللي هي لصاحبي
ابتسم عوض في خبث ،قبل أن يقول وهو يهبط السلّم :مش هنسى يا باشا
ت جهوري اخترق اس���تمر عوض في الهبوط ح ّتى وقف في منتصف السلّم فصاح بصو ٍ
ضجيج العمل :يا بنااااااااااااااااااات
رفعت ُكل واحدة منهن رأس���ها ألعلى ناحيته ،صل َب���ن ظهورهن وهن يتطلّعون إليه في
ترقب ،أتبع :بقية اليوم ال ّنهاردة أجازة..تقدروا تروّ حوا
تبادل���ن معًا نظرات االس���تغراب ولكن ل���م تتفوه أ ًّيا منهن بكلم���ة ،ال تعترض أب ًدا على
يمنحك إجازة بال داعي ،في آلية م���دّت ُكل واحدة يدها على مكبس الطاقة َ مدي���رك وهو
َ
تغلق���ه وتنهض بعدها مُغادِرة ،لينخفض الهدي���ر تدريج ًّيا إلى أن عال الصمت تمامًا ،من
فوق تابعهن الحاج صادق وهن يغادرن مع رئيس���هن ح ّتى خال المكان تمامًا ،ا ّتجه نحو
األنتريه ،التقط من بين ثناياه س���جّ ادة ص�ل�اة فردها أمام مكتبه وجهه في مواجهة اللوحة
القطيفة مباش���رة ،رفع ك ّفيه إلى جوار أذنيه وهو يقول في خش���وع :الله ّم إ ّني نويت أداء
ركعتي قضاء حاجة !!..هللا أكبررررررررررر
****
وقفت هند أمام باب ش��� ّقة محمّد تطرقه برفق ،فتحت لها ش���قيقته أميرة بإسدال الصالة،
ْ
منحتها ابتسامة صغيرة وهي تقول :إيه يا بنتي مش قولتي هتيجي بُكرة..ادخلي تعالي
ما إن دخلت هند ح ّتى أغلقت الباب من خلفها ،دارت بعينيها في الش ّقة وهي تسأل بصوت
خافت :أخوكِ هنا ؟
-ال نزل..بيقول رايح الجامعة
ك دبابيس طرحتها وتنزعها عن شعرها وهي تقول :كويس.. مدّت هند يدها إلى رأسها تف ّ
علشان نعرف نتكلّم براحتنا
أودعت الطرحة فوق رخامة الكنصول المجاور للباب قبل أن تتجه ناحية الصالة ،أوقفتها
أميرة بمسكة رؤوف لذراعها قائلة :في المطبخ بقى عشان بعمل فطار
سارت الفتاتان معًا ودخلتا المطبخ لتش َّم هند رائحة بيض مقلي متصاعدة ،أسرعت أميرة
ناحية البوتجاز وبطرف عصا خشبية مفلطح راحت ُتقلّب في جنبات البيض كيال يحترق،
طرح عريضة ؟! قالت :من إمتى بقيتي بتلبسي ُ
اس���تندت هند بردفها على منضدة المطبخ ذات الس���طح المُسر َمك وهي تجيبها :علشان
خاطر البيه أخوكِ ميوجعليش دماغي..وياريته يطمر
ت لسّه مصمّمة إ ّنه شرب بيرة ؟! ابتسمت أميرة وهي تقول :ان ِ
وضعت هند طرفي سبابتيها أسفل عينيها وهي تقول :يعني أكدّب عيني واصدّقه هوّ ا !!
-يا بنتي ده ِحلِف باهلل
-بقولّك شايفاااااه..أخوكِ مش هيضيعه غير أصحابه يا أميرة..شلّة الصيّع دي
معاهم ال هيش���وف مذاكرته وال هيفتح كتاب وش���كله هيبلّط في رابعة لتالت
مرّ ة السنة دي كمان
الطاس���ة وأطفأت عليها ال ّنار ،فتحت ب���اب الثالّجة المجاورة ،مرّ ت بعينيها تركت أميرة ّ
على محتوياتها بس���رعة وهي تقول :بصّي..هللا أعلم إذا كان اللي شوفتيه معاه فعالً بيرة
والّ أل بس اللي أنا متأ ّكدة م ّنه إنه فعالً بيحبّك وإنه غيّر حاجات كتيرة في حياته علشانِك..
ح ّت���ى أصحابه مع���ادش بيخرج معاهم زي األول وبعدين متنس���يش إن عالقته ببابا زي
الزف���ت والزم يبقى فيه حد قريّب م ّنه يفهمه ويف ّكر زيه يفضفضله..فيه حاجات عُمره ما
هيعرف يشرحهالنا ويتكلّم معانا فيها
-ما أنا متنيلة موجودة أهو
-الفضفض���ة من ولد لول���د بتفرق كتير يا هند..وهوّ ا فع�ل�اً محتاج ده اليومين
دول..أعملّك سندوتش جبنة ؟
هزت رأسها نفيًا وهي تقول :ال..أكلت قبل ما أنزل ّ
جذبت أميرة علبة الجبن ناحيتها لتظهر لها من خلفها زجاجة السفن (المِش سفن) ،قبضت
عليها وجذبتها نحوها ،لوّ حت بها لهند قائلة :طيب..صبّيلنا كوبايتين
****
يدخنون الشيشة ويحتسون ثالث دفعة من الكابتشينو، على قهوة أفندينا ،جلس إيميل وأحمد ّ
ق���ال أحمد بلهجة كونفوشيوس���ية نهلت من نبع الحكمة ح ّتى تكرّ عت :ليه تتعِب نفس���ك
وتضيّ���ع وق َتك في محاوالت إقناع ماله���اش أي تالتين الزمة إنه ييجي معانا..انتَ تزنقه
في خانة اليكّ..بعدها هيجي َلك أس���يرً ا مرغمًا زي أس���رى صالح الدين في موقعة قصر
االتحادية !!
ظهر فجأة على أبواب القهوة محمّد ،قلّب في الروّ اد بنظرة غضب س���اطعة ،قال إيميل :
صل الحق..أسد الدين محمّدوه َو َ
لمحهم محمّد فأقبل عليهم بس���رعة ،لوّ ح له أحمد بموبايله -الممتلئ بالكريديت -إلغاظته،
استقبله ساخرً ا :إيه يا محمّد يا حبيبي..السكشن خلص بدري ليه كده ؟!
صاح محمّد :يعني بتس���تهبل يا ابن الوس���خة ؟!!..منتاش عارف انتَ عملت إيه ؟!!!..
وتحطني في الموقف الخرة ده..دي المعيدة حالفة ترفدني ّ تغيّرلي النغمة
-وماله يا حبيبي يعني همّا اللي اتعلّموا أخدوا إيه ؟
-يا ابن الغبية المعيدة طلع اسمها هبة وافتكرت الكالم عليها
-أحه !! قول والمصحف ؟!
قالها إيميل وهو يتبادل النظرات الس���اخرة م���ع أحمد قبل أن ينفجر كالهما في الضحك،
جلس محمّد في استسالم على مقعد مجاور ،التقط لي الشيشة من بين أنامل أحمد ،جذب
منه َن َفسً���ا عمي ًقا أخرجه من فتحتي مناخيره بتم ّكن ،قبل أن يقول في هدوء :انتوا هتقابلوا
البت دي السّاعة كام ؟
-الساعة أربعة
-ما لسّه بدري أهو..مطلَّ ِع ِّني من السكشن ليه بقى ؟!!!
-هنقعد شوية في بُرج المراقبة
****
أمام مكتبه وقف الحاج صادق (يزلط) حبّاية مسدّس���ة األضالع برش���فة عميقة من كوب
ماء حين س���مع صليل كعبي حذاء حريمي يد ُّقان أرض صالة اإلنتاج ،أسرع بإخفاء علبة
الدواء أسفل بعض المل ّفات ثم استدار ونظر لألسفل من خالل زجاج الغرفة ،ليرى سيادة
(أحلى لوا في الدنيا) باالنتظار ،وقفت في منتصف الصالة بقوامها الفارع المخفي أس���فل
ّ
الملطخة باألصباغ كمهرّ ج جلباب فيّاض مُحتش���م وخمار واسع تناقضا بشدّة مع سحنتها
ت عال ،عاد كعبيها ير ّنان فوق األرض سيرك واللبانة التي أخذت ُتش ِّت ُئها (تلوكها) بصو ٍ
ّ
ّوقة..إزيك ؟بتقدّمها نحوه خطوتين ،رفعت وجهها ناحيته وهي تقول في دالل :صد
وقف يتأمّلها مل ًّيا قبل أن يقول :فُل يا حبيبتي إيه رأيك في المصنع ؟
أدارت عينيها في المكان بالمباالة ثم قالت :مش ّ
بطال
-ما تطلعي
-ال يا أخويا انزل انتَ
-هتفضلي بالخمار كده ؟
عضّت شفتها السفلى في غِ نج وهي تمنحه نظرة حيية ذات مغزى ،بحركة تعمّدتها بطيئة،
رفعت الخمارعنها قبل أن تفتح سوس���تة جلبابها الخلفية لتدعه يس���قط أرضًا عند قدميها،
خلّصتهما من الجلباب برش���اقة ،وهي تعاود النظر إلى عينيه مباشرة ،اتسعت عيناه عن
صاح فيها بانبهار :يا ما تحت الخِمار..دماااار..اطلعي..اطلعي
َ آخرهما يلتهمانها التهامًا،
بسرعااا
****
افت���رش الثالثة ب���رج المراقبة؛ الرصيف الموا ِجه لكافيتري���ا أفندينا الواقعة في منتصف
���رم الجامعيُ ،تط ُّل الكافيتريا على موقع اس���تراتيجي يضمن رص��� ًدا مؤك ًدا لفاتنات الح َ َ
الجامع���ة األنيقات دائمً���ا وأب ًدا يصطبحون عليه���ن اصطباحً ا ملي ًئ���ا بالبناطيل الفيزون
وربطات االس���بانيش الفوشيا وخصالت الشعر الناعمة المتهدّلة على الجباه بحنيّة ودَ َلع،
يختارون هذا الرصيف وال يخت���ارون القعدة على أي ترابيزة بالداخل كي يكونوا أقرب
ما يُمكن لموقع الحدث ،ال تفوتهم ش���اردة وال واردة ،بميزان من دهب وبحسٍّ ثعباني ال
يخيب يُقيِّمون جميع المارات
«دي حلوة بس هتتخن بعد الجواز»
«دي قصيرة قوي مش هتنفع»
«جوز الكابلز دول مش اليقين على بعض..أكيد هيفشكلوا قريب»
«جوز الكابلز دول اليقين على بعض..وإن شاء هللا هيفشكلوا قريب»
«البت دي عليها ِح ّتة ( ).....فظيعة»
«دي محترمة ياع ّم..مالناش دعوة بيها»
«دي ييجي منها لو اتالغت..عندها استعداد تنحرف بس مش القية فُرصتها»
«البت اللي مظبّطة مع لؤي ماشية مع الفردة بتاعت الواد سراج» ّ
عل���ى أن يزوّ دهم مختار صب���ي الكافيتريا ب ُكل ما يحتاجونه من مأكوالت ومش���روبات
يُغمّس���ون بها زنا عيونهم التي ال ترحم وال تعتق ،الحظ إيميل ثنائي قادم عليهم ،تابعهما
ف) كتفي البنت أس���فل ذراعه الطويل ب ِد ّق���ة من بعي���د ح ّتى مَرَّ ا من أمامهم؛ الول���د ( َل َح َ
المفتول ،بينما هي دفنت رأسها تحت باطه في هيام ،يسيران الهوينى كحمام سالم زاجل
وقت الغروب ،تجاوزاهم واس���تكمال مسيرتهما ح ّتى وصال لحديقة جانبية مُه َملة تالهت
عنها أعين إدارة الجامعة بعد أن هدمت المبنى المجاور لها لكلية علوم ونقلته لمكان آخر
فتحوّ لت لغابة صغيرة مملوءة باألش���جار القديمة العمالقة واألعشاب الطويلة فائقة النمو
وبقايا الهدم والكس���ر وصارت مرتعًا لجميع حبّيبة الجامع���ة الطامعين في بعض ال ُخلوة
واتفق الطلبة بال تصويت على تس���مية هذه المنطقة بال ُخن ،ظلّوا يتابعونهما ح ّتى بعد أن
َع َبرا األشجار وغابا عنهم خلفها ،صاح إيميل :أقطع دراعي لو مكانوش هيـ( ).....جوّ ه
-ال ياع ّم مش للدرجة دي
-ده منظر ناس ناوية تبوس بس ؟!!
-الصراحة..أل
طل طلّة -طب ما تيجوا نقوم ُن ُ
بطل هبل بقى..نقوم إيه وبتاع إيه..مالناش دعوة يا ع ّم ّ -
تدخل فيما ال يعنيه َس َم َع ما اليرضيه حقَ ..من ّ -عندَ ك ّ
****
على أطراف أقدامهم تسلّلوا من بين أشجار الحديقة الصغيرة ،ظهورهم لبعضهم صانعين
من أنفس���هم مثلّث أفتك من مثلّث طِ عمة ميلك ،رؤوسهم تدور في جميع األرجاء كرجال
آلية وعيونهم تبحث بشغف عن صيدهم الثمين ،استمرّ وا في السير لدقائق ح ّتى تناهى إلى
شم تبعها أ ّنة أنثوية خافتة ،استداروا جميعًا مسامعهم حفيف بضعة أوراق شجر عجوز تته ّ
ناحية المصدر يعتصرون أعينهم طمعًا في مزيد من وضوح الرؤية ،وبخطوات مرتعشة
تقدّموا ح ّتى بدأ ي ّتضح لهم المشهد ،أسفل شجرة عمالقة تكوّ م الولد والبنت فوق بعضيهما،
الولد أخذ البنت بين ذراعيه ككمّاش���ة تنتزع مسمارً ا عص ًّيا وأصابعه تنهال عليها تقفي ًشا
بينما البنت مس���تكينة بين ذراعيه تضمّه إليها في ترحاب ومن فوقهما و َقف غراب فوق
وقف الثالثة َ ُغصن سميك كان أول الحاضرين يتابع المباراة من المقصورة .لدقيقة كاملة
���عر
َ َ
ش ى ّ
ت ح مذبهلّين وكأن على رؤوس���هم غِ يّة َح َمام بال حركة وال كلمة وال ح ّتى َن َفس
إيميل بوخزة في س���اعده أتبعها احتكاك شي ًئا ما مُنتصِ ب بجانب فخذه ،آس ًفا َه َبط ببصره
ليجد أحمد بال وعي ش���به ملتصق به وأصابع يده متصلّبة ومغروسة بقوة في لحم ساعده
تجذب���ه للخلف نحو أحمد برفق ،انتفض إيميل وهو يُبعد س���اعده عنه وهو يقول بصو ٍ
ت
خافت :يلّه يا وسخ..ابعد ع ّني يله
أجابه أحمد ساخرً ا :وال مؤاخذة يا إيميل الواحد ريقه جري..انتَ فاهم بقى أنا شاب وليّا
احتياجاتي
-وجايلي أنا عشان أريّحك والّ إيه ؟!!..أحه !!
يتدخل في الحوار قائالً :هللا يخربيتكوا.. في س���أم تحرّ ك محمّد ليقف عازالً بينهما وه���و ّ
هيسمعنا
في حركته لم ينتبه محمّد لغصن الش���جرة الواقع أس���فله وال���ذي ضغط عليه ًّتوا بطرف
ض الصمت الذي خيّم على المكان ،سمعه حذائه الثقيل فكس���ره لنصفين وأحدث صو ًتا َن َق َ
الجمي���ع ح ّتى الغراب الذي حرّ ك جناحيه بق���وّ ة وطار بعي ًدا وهو يزعق باحتجاج بعد أن
أفس���دوا عليه مش���هده بينما الولد ذو األذرع الطويلة المفتولة يرفع عينيه عن فتاته التي
أخفت وجهها بحركة ال إرادية بين ك ّفيها ،توجّ ه بنظره إلى ما حس���به مبعث الصوت فلم
ضبًا ولم يملك إالّ أن يلمح إالّ ثالث ظهور لثالث شبّان يعدون بسرعة ،احمرّ ت وجنتيه غَ َ
يبحث بعينيه في األرض بعصبية ثم م َّد يده والتقط من بين أوراق الشجر المصفرّ ة طوبة
أسمنتية كبيرة َق َذ َفها ناحيتهم وهو يهتف :يالّ يا أوالد الـ( ).......من هنا
بعد ثوان أتاه صوت تأوه من أحدهم إالّ أن صوت التو ّقف عن الركض لم يأتيه أب ًدا
****
-آآآآآآآه..آآآآآآه..حاسِ ب يا َخ َرة بتوجع
ترتصُّ المطبخ لجدار ًا
م تما ُالصقة
م صغيرة زاوية بداخل أعمق بقعة في كافيتريا أفندينا؛
فيها عُلب المعسّ���ل وزجاجات الش���يش الفارغة وصناديق زجاجات البيبس البالستيكية،
انتق���وا أحد الصناديق قلبوه وأجلس���وا محمّ���د فوقه قبل أن يجثوا عل���ى رُكبهم من خلفه
يُضمّدون له جُرح رأس���ه الخلفي بش���اش مُبلّل من صحن ماء صغير مِنحة من صديقهم
األثير مختار ،قال إيميل :اصبر بس يا محمّد..متتحرّ كش عشان تلزق كويس
-هي إيه دي اللي تلزق ؟! انتوا بتعملوا إيه من ورايا يا أوالد الـ( )....؟!!
شاشة يا أهبل -ال ّ
أطرق محمّد برأسه لألمام قليالً وكأنه في مح ّل حِالقة وهو يشعر بأنامل ما تتلمّس جُرحه،
تغضّن وجهه في ألم وهو يقول :قولتلكوا بالش..بالش..وال ح ّد فيكوا سمعلي كِلمة
تبادل إيميل وأحمد النظرات الضاحكة ،قال األول س���اخرً ا :بس الواد َر َز َعك واحدة في
السليم..أكيد الواد ده بيلعب رجبي
-ما كله بسببكوا انتوا..يارب تتحرقوا في نار جهنم يا أوالد المب ّقعة
-ونكون صُحبة إن شاء هللا
-كانت صُحبة منيلة بنيلة على ستين نيل
ع���اد إيميل وأحمد لتبادل النظرات قب���ل أن ينفجرا ضاحكين ما أثار غضب محمّد فاحت َّد
عليهما :بقى بتتريقوا عليّا يا ِجزم..آآآآه..أي..خِف إيدَ ك شوية انتَ راخر
غالب الفتيان رغبتهما الشديدة في الضحك وهما يحاوالن تهدئة روعه
-طيب..طيب..اثبت بس عشان الجرح ميتحرّ كش..يادو َبك هربطها أهو
-هي إيه دي اللي هتربطها ؟!! وله أنا مش مستريحلكوا من أول اليوم
شاشة يا حبيبي..خلّي عندَ ك شوية ثِقة فينا يا كابتشن شاشة يا بابا..ال ّ
-يادي النيلة..ال ّ
-آخر مرّ ة وثقت فيكوا فيها لقيت موبايلي بيرقع أباحة
-ال ال..الموضوع المرّ ة دي مختلف تمامًا
شاش���ة حول جبهته لتس���تر و َتجبُر جرحه ،فوجئ بفتى قالها إيميل بينما هو يعقد لمحمّد ال ّ
يأت���ي من بعيد ،يعبر مدخل الكافيتريا ومن حوله رهط فتيات يحلُّون حبل المش���نقة ذاته
من على نفس���ه ،الفتى بالغ القِصر ،ذو ش���ارب أحمق خفيف نما فوق ش���فته العُليا رفيعًا
ك حمادة إمام ،يرتدي تي شيرت أحمر واسع أدخله في بنطلون قماشي أخضر فأكسبه لو ّ
بالغ الضيق ،شعره انكفئ على الجنب بعد أن أغرقه بربع علبة فازلين ،يرتدي في قدميه
بطة ذو واجهة مزخرفة كجدران كنيس���ة ،بانتباه إيميل انتبهوا له ،في غيظ فردتي حذاء ّ
راقب���وه وهو يدلف إلى المكان بما ملكت أيمانه من أجم���ل جميالت الجامعة ،ي ّتخذ بهن
مكا ًنا قص ًّيا ،يجلس باس���ترخاء وهو يوزعهن من حول���ه قبل أن يفرد ذراعيه بأقصاهما
حولهن ليضمن للجميع مكا ًنا في حضنه ،يتبادل معهن الكلمات وهن (يتمرقعن) من حوله
وضحكاتهن تص ُّم اآلذان وتش���عل غيرة ُكل َمن في المكان ،من تحت ضرسه قال إيميل :
هموت وأعرف هوّ ا بيجيبهم منين ؟!..ابن الـ(ُ ).....كل يوم مع أربع بنات َشكل
-أنا اللي نفسي أعرف همّا بيحبّوه على إيه ؟!..ده شبه زينات صدقي !!
أمامهم تو ّقف مختار وهو يُهتف للشاب الواقف بداخل المطبخ أمام الحوض :خمسة شاي
لترابيزة األستاذ شفيق يا عصام
غادر نحو ترابيزة أخرى ليستعلم عن طلباتها ،دقائق ووضع الشاب فوق رخامة َ قالها ثم
المطبخ صينية اس���تانلس المعة ذات مقبضين مُذهّبي���ن رُصّ فوقها أقداح خزفية مملوءة
بالشاي وبونبونيرة صغيرة مملوءة بأكياس الس��� ّكر وزجاجة مياه معدنية مشبّرة ،لمحها
أحمد بطرف عينيه ،نقل بصره بين هذا الش���فيق بجلسته الهارون رشيدية وبين الصينية
بأقداحه���ا التي فرغت فاها أمامه بإغراء ،تحرّ ك بخ ّفة على الرغم من س���منته ح ّتى َبلغ
َ
التقط ري ًقا عمي ًقا الرخامة ،تأ ّكد من أن شاب المطبخ يوليه ظهره وأن مختار ال يالحظه،
موزعًا ريقه بعدل مأل به فمه قبل أن يمي���ل ناحية الصينية ويبصق داخل أقداحها جميعًا ِّ
على الجميع ثم قلّبها جميعًا بالمعلقة بإحكام لتبدو وكأنها مجرّ د رغوة بريئة و..
-بتعمل إيه يا أستاذ أحمد ؟!
تمالك بعدها نفسه جي ًداَ ،ر َف َع الصينية
َ للحظة أحمد قالها مختار من خلفه في دهشة ،ارتبك
اتأخرت ليه يا راااجل ؟!!..افتكر َتك نس���يتها وقولت أجبها َلك
من مقبضيها إليه قائال :انتَ ّ
قبل ما تبرد
هز مختار رأسه شاكرً ا وهو يلتقط منه الصينية ويقول :تسلم يا أستاذ أحمد..ألف شكر.. َّ
يا ترى األستاذ محمّد بقى كويس ؟
تابع أحمد األخ شفيق من بعيد وهو يقول بابتسامة خافتة :كويس..كويس قوي
****
في طريقهم للخروج من البوّ ابة الرئيسية للجامعة غرق الثالثة في الضحك حد الهيستيريا،
قال إيميل :الواحد يس���مع عن شاي بالنعناع..ش���اي بالحبّهان..شاي بالياسمين ح ّتى إنما
شاي بالتفافة دي اللي جديدة بصراحة
أض���اف أحمد وهو يمرُّ بك ّفه على عنقه بفخ���ر :مُص ّفى آلخر قطرة ومُضاف إليه أفخر
أنواع البلغم..يستاهل ابن الصرمة..عيل فرفور ابن امبارح بيكي بيكي
���خص محمّد ببصره دون أن يُجيب ،فقط وقف يُتابع حركة ال ّناس والسيّارات من خلف َ َش
سور الجامعة لثوان قال بعدها في جدّية مباغتة :أنا خايف من ربّنا قوي
بدا عليهما أنهما لم يس���توعبا الجدية التي تخلّلت صوته فاستمرّ ا بعدها في ضحكهم لثوان
قليلة قبل أن تبدأ ضحكاتهم في الخمول تدريج ًّيا إلى أن صمتوا تمامًا لدقيقة كاملة ،بتردّد
قال إيميل :قصدَ ك إيه ؟
-انتَ عارف
-احّ نا مبنضرّ ش ح ّد
-وبردو مش بنفيد حد..هوّ ا احّ نا الزمتنا إيه في الدنيا دي ؟! بنعمل فيها إيه ؟!!
نسوان وسجاير وأفالم سكس طب وبعدين ؟!!!..هنفضل كده لح ّد إمتى ؟!!!!
ونوزع أكياس لحم���ة على الفقراّ -ناق���ص تقولّي ن���روح نتطوّ ع في رس���الة
ش���غل القُطاقيط ده ؟!..انتَ
ونس���معلنا ش���ريطين عمرو خالد ونتحجّ ب..إيه ُ
نافوخك والّ إيه ؟!!
َ الطوبة ّأثرت في
-على األقل مش عايشين في نجاسة ليل نهار
-بس احّ نا مش متعوّ دين على كِده
-نتعوّ د
-احّ ن���ا أول ما بنطلع من هنا مش بنقابل حد ورا الس���ور ده إالّ وبيكون عاوز
يسرقنا
-هناخد بالنا من َم َحافظنا
-ياريت السِ رقة في البلد دي على ق ّد ال َمحافِظ بس
-مش هنخسر حاجة..نجرّ بها ولو يوم واحد ونشوف..يوم واحد من غير بنات
وال سجاير وال أي حاجة تانية
تدخل أحمد في الحوار ألول مرّ ة قائالً :أحّ ه !! يعني انتَ جاي تتهدى ال ّنهاردة؟!..يوم ما ّ
نفسك يا أخويا
َ مع شهر؟!! كام بقالي فيها ّط ب بظ اللي ّ
البت أقابل رايح أنا
قال إيميل في خفوت :على فكرة محمّد بيتكلّم ص ّح
حدّجه أحمد بنظرة دهشة قال بعدها بحزم :يبقى مع نفسكوا انتوا الجوز..أنا رايح رايح
هتف فيه محمّد :بسَ ثم أدار ظهره وفارق مسارهما مُسرّ عًا ُخطاه نحو االتجاه المعاكس،
احّ نا عُمرنا ما عملنا أي حاجة إالّ مع بعض..الزم تيجي معانا
أجابه أحمد دون أن يلتفت إليه :أوعدَ ك هف ّكر أتوب..بس بُكرة..أقابلها األول
تابعاه من ظهره وهو يبتعد ح ّتى اختفى وسط الزحام ،قال محمّد وهو يلتفت ناحية إيميل:
ناوي تعمل إيه ؟ متقولّيش ناوي تروح تلعب كورة ؟
-ال ياع ّم..كورة مين ؟ إيجارات مالع���ب النوادي بقت غالية قوي وآخر مرّ ة
جينا نلعب فيها في حوش مدرسة..الفرّ اش طلع يجري ورانا ب ُملّة سرير وكان
هيلبّسنا قضية سرقة حنفيات !!
-أمّال هتعمل إيه ؟!
-هروح مؤتمر الدكتور علي العلي..بيقولوا عامل مؤتمر حاشد ال ّنهاردة جنب
الجامعة
-على العلي..بتاع حزب مصر المفترية ؟
أومأ إيميل برأسه باإليجاب قبل أن يسأل :وانتَ ؟
-هروح أحضر محاضرة الش���يخ ن َِعم الحنبلي..متعلّق إعالنات إنه هيحاضر ال ّنهاردة في
جامع كلية حقوق
ابتسم إيميل وهو يفرد ك ّفه في الهواء وهو يقول :الموت للنسوان
بادله محمّد االبتسام وهو يُصافح الكفّ الممدودة بك ّفه وهو ير ّد :الموت للنسوان
حظه في طريقه الجديد ،لع ّل دون كلم���ة زائدة أدار ُكل واحد ظهره لآلخ���رُ ،ك ٌّل يُجرّ ب ّ
وعسى ُتخطئ الحدأة يومًا و ُتلقي لل ّناس كتاكيت !!
****
ج���وار الجامعة تمامً���ا ُنصب صوا ًنا عمال ًق���ا ،امتأل فيما بين د ّفتيه بمئ���ات من المقاعد
الخش���بية ،في مقدمته ارتفعت منصّة خشبية مزدحمة؛ عدد الجلوس فوقها أكثر من عدد
حاضرين المؤتمر ،لُ ّفت المنصّة بيافطة قماش���ية ُكتب عليه���ا بالبنط العريض “المؤتمر
الجماهيري الحاش���د لس���ماع مطالب الش���عب الوافد..من القلب للقلب نحن معكم برعاية
حزب مصر المفترية”
م���ا إن دلف إيمي���ل للمكان ح ّتى فوج���ئ بالصوان خاليًا على عروش���ه كثالّجة في حي
الفق���راء ،إالّ من نثرات متفرّ قة من أناس ال يزيد عددهم عن العش���ر أنفار انتش���روا في
المكان بترتيب هندس���ي مثير لإلعجاب ما يكفل َش ْغل فراغه بالتصفيق المستمر للمتحدّث
القصير ذو الخدود الملظلظة المحمرّ ة دائمًا بانفعال بس���بب ومن غير س���بب؛ علي العلي
أس���تاذ الجامعة الشهير ،ذو الصوت العالي القادر على رتق خرم األوزون ،أستاذ العلوم
علم ما ال يدري عنه السياس���ية في جامعة (مش عارف إيه) والحاصل على الدكتورة في ٍ
ث ما كان يخشاه إيميل فما أن تو ّغل أحد أي شئ والضيف الدائم على شاشات التلفازَ ،حدَ َ
داخل الصوان ح ّت���ى أتته صيحة حنجورية خرجت م���ن الميكروفونات مدوّ ية ،صعقته
وألقت به أرضًا
ش���غل الش���اااااااااااغل لنا فنحن لهم ونحن “الفقراااااااااء..الفقرااااااااااء يا إخواني..هُم ال ُ
بهم..إيد واحدااااااااا..إيد واحداااااااااا..الفقرااااااااااااء”
من رقدته على األرض تش���بّث إيميل بأحد المقاعد ،اس���تند عليه للنهوض قبل أن يجلس
جوار أحد الروّ اد المنهمك في التصقيف؛ رجل بالغ النحول ،أس���مر وذو ش���عر مشعث،
ذقنه نصف نامية ويبتس���م ببالهة دون تو ّقف ،حاول إيميل جرّ الكالم معه فقال :األس���تاذ
علي صوته عالي قوي قوي..ماشاء هللا عليه سحبة في األلف فظيعة بس مش عارف ليه
بتقلب م ّنه على عين في اآلخر .
بآذان
ٍ علي األس���تاذ لخطبة االس���تماع يواصل وهو عليه تجاهل���ه الرجل تمامًا ولم ير ّد
(مطرطأة) وهو يتكلّم عن أهمية ترسيخ الديمقراطية في البيئة المصرية وضرورة جعلها
ثقافة عامة تحكم وتقرّ ر وتأمر .عاد إيميل يميل على أذن الرجل وهو يسأله هامسًا :هوّ ا
مش األس���تاذ علي ده ماسك رياس���ة الحزب بتاعه بقاله 15سنة ؟!!..ديمقراطية إيه اللي
بيتكلّم عنها
للمرّ ة الثانية ال يُعيره الرجل أدنى اهتمام وهو ينهض عن مقعده مضاع ًفا من حدّة تصفيقه
وهو يُصيح بفمه األهتم :هللا أكبرررررررر..العلم نوووووعر يا اخوا ّنااااااااع..يسلم فمّك
يا دكتووووووووووعر
نظر إليه إيميل باس���تغراب وهو يتمتم مع نفسه :الظاهر إن مرض العين ده منتشر عند
ُكل ال ّناس هنا
ق���رّ ر إيميل أن يتجاه���ل الرجل ودكتوره لير ّكز على المنصّ���ة حيث وجه الدكتور علي
(المِتظرظر) بشدّة وكأنه يعاني ألمًا ما في بواسيره ،من فمه خرجت بعض قطرات لُعاب
حماسية أغرقت المقاعد الفارغة أمامه
“الشبااااااااااااااااااااعب..الشباااااااااااااااع ع عب...تمكييييييين الشبااااااااااع عب..شباب
الثورااااااااااااع..هُم وقودها وقودهااااااااااااااع ألجلهم نحيا ونموووووووعت ح ّتى ينالوا
كافة فُرصهم في العمل وفي الزواج وفي الحيااااااااااااااااااع”
د ّقق إيميل النظر في َمن هُم جوار الدكتور فوق المنصّة عن اليمين وعن اليس���ار؛ جميعهم
عواجيز كس���اهم البياض و َكر َم َشهم الزمن و َكر َكب مالمحهم ،بعضهم جلس مُستن ًدا على
جاهزا بكرس���يه المتحرّ ك وبعضهم جلس يله���ث وفوق أنفه قناع ً عص���ا وبعضه���م أتى
بالس���تيكي ش ّفاف يستجلب األكس���جين له من إنبوبة كبيرة ،طويلة ،كأنابيب محال الفول
والطعمية ،وقفت خلفه في شموخ ،لو حسبنا أعمارهم جميعًا لن تق ّل بأي حال من األحوال
عن 1000سنة..يعني أقدم من السعودية وأقدم من صباح !!
****
اكتظ مس���جد كلية الحقوق على آخره بالطلبةَّ على النقيض تمامًا من الصوان االنتخابي،
ح ّتى ضاقَ على الراغبين في س���ماع ال ُخطبة ،فافترشوا الساللم وال ُحصُر المفرودة حول
المس���جد (داير ما ي���دور) ،جوار المنبر وقف الخطيب الش���اب بجلبابه األبيض القصير
ت زاعق جلس محمّ���د مُرتك ًنا بظهره على عامود ،بصو ٍَ ولحيته الطويلة ،أمامه مباش���رة
راح الش���يخ يتكلّم في خطبة طويلة عريضة عن حُرمة القصص والروايات ومدى جُرم
مُطالعة األفالم والمسلس�ل�ات ألنها تنطوي على عناص���ر المجون والخالعة واالطالع
على عورات النس���اء باإلضافة إلى عنصر الكذب لكون جميع ش���خوصها غير حقيقيون
وأن أحداثهم كلّها مفتعلة وأن الك ّتاب معظمهم ملحدين يقرأون للغرب الكافر المتآمر على
اإلس�ل�ام ولنجيب محفوظ الفاسق مُجسّ���د األنبياء ولنوال السعداوي الشمطاء آكلة اللحوم
المس���مومة ،مت ّنحً ا استمع محمّد ل ُكل هذا بمعدة تتوق للترجيع إلى أن انتهى العذاب بإنهاء
الخطيب ل ُخطبته المروّ عة قبل أن يفتح باب األسئلة ،فتتالت عليه وجيهة ،عميقة ،معبّرة
هل كان اإلمام علي مخاصم ستنا عائشة ؟
الخطاب أصلع الرأس أم خفيف الشعر ؟ ّ هل كان عُمر ابن
هل يجوز استعمال الوجوه التعبيرية على الياهو ؟
ما حُكم لعب الفيفا 2013؟
ما حُكم الزواج من فتاة أتاحت خاصية الفولورز للوالد والبنات َعبْر حس���ابها على الفيس
بوك ؟
هل يجوز قتل غير المسلمين ؟
مع الس���ؤال األخير ابتس���م الرجل في سماحة وم ّد ك ّفه تمس���ح على لحيته قبل أن يقول
ف���ي هدوء :احّ نا نتفق مع الش���يخ بن الدن في الفكرة ولكننا قد نختلف في األس���لوب..
لذا فبخصوص السؤال فإننا نجيز قتلهم ولكن بشويييييش ألن الرسول أوصانا عليهم !!
إزاي يعني ؟!!..أحطلهم بودرة تلك قبل ما أدبّحهم ؟! قال محمّد مع نفسه :أحّ ه !!..بشويش ّ
على الفور م ّد يده ناحية جيبه وأخرج منه الموبايل وضغط على أزراره .
****
جلس أحمد فوق د ّكة خشبية يُطلق من بين شفتيه صفيرً ا وبك ّفه يُطبّل
َ في موقف السيّارات
ش���ئ ما ،تابع الظلّين اللذين
ٍ عن ا ً
بحث األفق يراقب وهو باستمتاع، الضخم على كرش���ه
أقبال عليه واحد من اليمين وآخر من اليس���ار ،أخذا يقتربان منه بشدّة ح ّتى تجاورا أمامه
فأشار لهما بسبابته في تشفّ وهو يقول باستهزاء :الزم نحاول نبعد عن النسوان شوية يا
شباب..الزم يبقى لينا الزمة ونكون إيجابيين ونشارك في البتنجان المخلل قبل ما نحمض
من ّكس���ي الرؤوس جلسا جواره خائبي األمل دون تعقيب ،ربّت على ركبتيهما وهو يقول
في مواساة :فُرض عليكم السكس وهو كرهٌ لكم...قولتلكم مفيش فايدة مسمعتوش كالمي
ق���ال إيميل ف���ي غضب :يعني احّ نا انكتب علينا يا نضيّع وقتنا مع ناس مالهاش الزمة يا
نبقى كده طول عمرنا ؟!
-ينف���ع رئيس تحرير جورنال ف���ي البلد دي ميبق���اش دلدول..ينفع جرّ اح ُم ّخ
ميبقاش بارد وسقعان..ينفع مُصمم أزياء حريمي ميبقاش خول ؟!!
-ال
-يبقى احّ نا كمان مينفعش لينا إالّ كده
ل���م ير ّد عليه أحد ،فقط حدّق كالهما ف���ي األرض بخواء ودون رغبة في مواصلة تقليب
لمح أحمد س���يارة ميكروباص أقبلت عليهم من بعيد فنهض قائالً :يالّ المواجع ،بعد حين َ
يا موكوس م ّنك ليه..العربية جت..المشوار ده هوّ ا اللي هينسّيكم خيبتكم .
****
رزا على انطلق الميكروباص العتيق ينهب الطريق اإلسفلتي نهبًا ،ببراعة يسوّ ي السائق ُغ ً
الضيّق بين الس���يّارات وبعضها وهو يتقافز فوق مقعده على أغنام أغنية (قولّووووووه)،
في الكنبة األخيرة حُش���ر الثالثة معًا ،قال محمّد بتأ ّفف بسبب الزحمة والحرّ :انتَ أ ّكدت
عليها يا ابني ؟!
-طبعًا..كلّمتها قبل ما أنزل على طول
-يعني انتَ ملقتش ح ّتة غير الس���ينما..دي فركة كعب من مصنع أبوك ؟!!..ده
لو بصّ من شبّاك أودته هيشوفنا
-أهو اللي حصل بقى
-بُص يله ..واحدة بش���عر..قالها إيميل فانفضّوا عن حوارهم فورً ا ليسألوه في
لهفة :فين دي؟!!
-أهي..هناك أهي
استدارت أعناق الثالثة يُتابعون َعبْر نافذة إيميل نصف المفتوحة فتاة ترتدي زي مدرسة
ثانوي وتحتضن كشكول سلك بين ذراعيها ،لنصف دقيقة كاملة راحوا يتابعون كافة ثنايها
وهي تتغندَر فوق الرصيف
قال إيميل :صحيح صغيرة..بس قدّامها مستقبل كبير
قال أحمد :يا بخت الكشكول !!
قال محمّد :فيها شبه من شارون ستون
عرجت الفتاة يمي ًنا لتبتعد روي ًدا روي ًدا عن نظراتهم اآلس���فة ،عادوا بأنظارهم إلى داخل
السيّارة بسائقها ال ُم َت َن ِّطط على بعضه ،قال إيميل :مش لدرجة شارون ستون يعني
هز محمّد رأس���ه في هيام قائالً بلهجة مليئة بالعاطفة واالنتماء :ش���اروون..هللا يمسّ���يهاَّ
بالخير دي مربّية أجيال..تفتكروا هي األفتك والّ مونيكا بيلوتشي ؟
-مونيكا ؟!..هوّ ا أنا عندي زي مونيكا؟! بنت الحرام عليها جس���م زي ح ّتة الش���يكوالتة
الكادبوري
في الكنبة أمامهم مباشرة جلس رجل قصير القامة ،مكتكت البنيان ،ذو قفا عريض وشعر
شرة،رأس مجدور ب َم َكنة قصّ حشائش صنعت تصفيفة شعر حوّ لت رأسه إلى قلقاساية مق ّ
وجدوه يس���تدير ناحيتهم ويقول بابتسامة طفولية ن ّفخت خدوده :تفتكروا يا كباتن المشهد
بتاعها لمّا قلعت َملط وقعدت تعصر على جس���مها لمون ؟..أنا ضيّعت أربعة مليون طفل
على اللقطة دي لوحدها .
تبادل الثالثة نظرات االس���تغراب على ذلك الس���مج الذي انحش���ر في حشرتهم فزادها
َح ْشرة!!
ابتس���موا له ابتس���امة صفراء ومنحه أحمد نظرة (خلّيك في حا َلك يا ابن الوسخة) لم يبدو
محافظا على ابتسامته لثوان قبل أن يعتدل مرّ ة أخرى مُصدّرً ا لهم ً على الرجل الفهم فظ ّل
قفاه العريض المغري بش���دّة للصفع وهُم على ِحسَّه يتذ ّكرون مقولة سعيد صالح الشهيرة
في مسرحية العيال كبرت “الراجل ُكل أمّا آجي أضربه في ح ّتة تيجي في قفاه” ،بعد فترة
صم���ت قال إيميل ألحمد :فاكر لمّا قعدت أتحايل علي���ك تجيبلي أفالم مونيكا اللي عندَ ك
ومرضتش ؟
-ب�ل�اش انتَ وحي���اة أبوك..بأمارة فيلم الخيارة اللي قعد عندَ ك ش���هر محدّش
عِ ِرف يشمّه
ِس ْك ِر ُته علينا؟
َ م و ُدفة
ص بال ك َ
ل موباي على لقيته اللي -وفيلم الكنبة
-ألنك أصـ..
ثانية استدار الرجل إليهم مُستكمالً سلسلة نصائحه :ماهو ُكل واحد فيكوا الزم يشيل أخوه
وإالّ متبقوش أصحاب كفاءة..زمان واحّ نا في س��� ّنكوا ك ّنا بنس���لّف بعض شرايط الفيديو
والمجالّت..صحي���ح ك ّنا بنتعب على ما نالقيها بس بصراح���ة اللي قال إن المعاناة ُنص
حق..طبعًا متوعووش انتوا على الحاجات دي..انتوا لسّه قطاقيط المُتعة كان عنده ّ
تبادل الثالثة نظرات الدهشة ،وللمرّ ة الثانية تجاهلوه تمامًا ح ّتى غادرهم بابتسامته الدسمة
البلهاء ،تمتم أحمد في خفوت :قال قطاقيط قال..ده أنا الوحيد في مصر اللي عارف عادل
إمام قال لمشيرة إسماعيل إيه بعد ّ
البطيخة
إمام..يحظه المفتري معتقش ممثلة فيكِ يا مصر إالّ وهراها ّ س���معه محمّد فع ّقب :عادل
بوس..ده باس يُسرا أكتر ما اجوازها نفسهم باسوها
شغالنة عظيمة -أحلى حاجة في التمثيل إنك بتحضن وبتبوس وكمان تاخد فلوس ُ
-السينما جت أهي
-انتوا رايحين السينما ؟!..افتكرتكوا رايحين الجمعية معايا
وكما يتجاهل زنّ الذبابة رفع أحمد رقبته وصاح في السائق دون أن يمنح للرجل الحشري
صاحب آخر تعليق أي حيثية اهتمام :أيوة معاك هنا يا أسطاااااا
م���ا إن خرج الثالثة من الميكروباص ح ّتى م ّد أحمد ي���ده نحو المقبض كي يُغلق الباب،
أوقفه ذو القفا العريض ،أمال رقبته ناحيته وس���أله :كابتن..كابتن..هوّ ا كان قالّها إيه بعد
البطيخة ؟
هذه المرّ ة رفع أحمد أرنبة أنفه ألعلى ووسّع عينيه قليالً كي يمنحه نظرة (يلعن أبو البطن
اللي جاب َتك) ثم أغلق الباب في وجهه دون أن يجيب.
****
بحثا عن ّ
المزة ورفيقاتها، وقف الثالثة أمام السينما يتطلّعون فيمن حولهم ً َ في تمام الرابعة
قال إيميل :عارف يا أحمد لو بعد ده كلّه البت طلعت وحشة..أنا هعمل فيك إيه ؟
-وهوّ ا انتَ فاكرني ابن امبارح يله..أنا شوفت صورتها يا ابني ومقولّكش بقى
..طلقة..طلقة إيه ؟! دي وابور حرت
-كلّمتها كاميرا ؟
-ال..مبترضاش ..أصل أهلها صعبين قوي
-آه..ماهو باين..ربّنا يُستر
-هووووس���ت بقى..ش���ايف اللي جاية من بعيد دي ؟..البسة جيبة جينز حمرا
وبادي بينك والّ بيتهيألي ؟
-أيوة..أهي جاية علينا
تناولت أنظارهم الثالثي وهن قادمات من آخر الشارع ،الشمس من وراء ظهورهن ُتبين
فق���ط تفاصيل أجس���ادهن مع حجب لمالمح الوجوه ،لدقيقة أو تزيد اس���تمرّ ت البنات في
مشيهن المتهادي نحوهم ح ّتى اقتربن منهم كثيرً ا وصار التعرف عليهن أمرً ا ممك ًنا ،همس
إيميل :أحه..دي طلقة؟! دي شبه مجدي طلبة !!
تمت َم محمّد مع نفسه :دي وابور حرت ؟!! دي وابور جاز !!
عال رؤوس الفتية الطير وهم يس���تقبلون حسناوات السينما (الفاك َِسات) بوجوه مصدومة،
وجّ ���ه كال من إيميل ومحمّد نظ���رات قاتلة ناحية أحمد الذي بدا ف���ي قمّة االرتباك وهو
يسألهن بصوت مرتعش :مين فيكوا روان ؟
هزت الواقفة على اليسار في مواجهة محمّد رأسها في اعتراض :اخص عليك يا أحمد.. ّ
كده متعرفنيش
نظر لها باس���تغراب وهو يقارن بينها وما بين قد رآه من قبل من صور س���ابقة علّه يجد
ُنقطة تش���ابه واحدة بال جدوى ،نبرات الصوت كانت مألوفةَ ،م َن َح رفيقيه نظرة اعتذار،
ت متأ ّكدة ؟! عاود سؤالها :ان ِ
-ما َلك يا أحمد ؟!
-أصل شكلِك متغير خالص عن الصور اللي وريتيهالي
شر ساعتها شي مق ّ -عشان كنت القطاهم في مارينا وكان و ّ
شر ؟!! -مق ّ
قالها الثالثة معًا في اس���تنكار ،عال الصمت بعدها لثوان قطعته روان بأن أشارت لرأس
لراسك
َ محمّد قائلة :سالم َتك..إيه اللي جرا
-هللا يسلِّمك..ده أنا كنت ماشي وخبطت في حيطة من غير ما أشوف
-انتَ كنت ماشي لورا ؟!!
تدخل أحمد في الكالم وهو يقول في قرف :هوّ ا عادته كده لمّا يحبّ يمشي بيمشي بقفاه.. ّ
ت مالِك ؟!!ِ ّيتن..ان ب ح شموخ عنده أصله
-شموخ!!..ما علينا..المه ّم..مش هندخل السينما والّ إيه ؟
تطلّع أحمد في قهر للسِ ت تذاكر الكائنة بين أنامله ،مُسترخصًا الـ 75التي دفعها والمجهود
الذي بذله سعيًا لالختالء بهؤالء العِرر ،قال :هندخل أهو..مش يالّ يا جماعة ؟
-يالّ يا أخويا..يالّ..هو يوم ِن ِجس من أوّ له
اتجهوا جميعًا ناحية المدخل ،صعدوا الس���لّم الرخامي معًا ،منح أحمد التذاكر لرجل أمن
ومنح أحمد النصف اآلخر الذي ما أن َ البوّ ابة الذي قطعها لنصفين احتفظ لنفس���ه بأحدهما
َع َب َر بوّ ابة كش���ف المفرقعات فوجئ بروان تستدير للخلف وتميل بوجهها ناحية الشارع
قبل أن تصيح فيهم :يالهوي..أخويااااااا !!
فركتهم رعدة خوف ش���لّت تفكيرهم جميعًا لثوان ،هتف محمّد في هيس���تريا :أخوكِ ؟!!
أخوكِ إيه؟!!!.أخوكِ ّ
إزاي ؟!!!
الجثة ،يركضان مالوا جميعًا ناحية الش���ارع ليُطالعون في آخره ش���خصين ،ضخم���ي ّ
نحوهم ،في يد كل واحد منهما سيف ذو نصل حاد يصلح لسلخ ديناصور
-وله..ال���دراع المنفوخ اللي هالل علينا ده مش غري���ب عليّا..الواد اللي على
دخل الحاجات في المحتاجات ؟! اليمين ده هوّ ا اللي في بالي والّ الرعب ّ
قطعنا عليه وهو بيق ّفش في ال ُخن ال ّنهاردة -هوّ ا يا أخويا..هوّ ا..الواد اللي ّ
-أن���ا قولت م���ن األول دي عيلة وس���خة..الواد بيق ّفش الصب���ح وأخته بتقابل
المغرب..ماشاء هللا عالم مبتحبّش تضيّع وقتها
-ياترى لو مس���كونا هيعملوا فينا إيه ؟!..قالها محمّد بخوف وهو يتلمّس بأنامله
موضع الضمادة مسترجعًا ذكريات بطحة الماضي القريب ،أجابه أحمد على
الفور :اللي كنت ناوي تعمله في إخواتهم جوّ ا !!
-طب والمصحف ما كنت هلمس واحدة منهم..دي أشكال أصالً؟!!
-حاول تقنعهم بكده بقى
-أقنع مين يا آبا..اجروا يا عيااااااااااااال
م���ا إن همّوا بالهرب ح ّتى فوجئوا بروان تمس���ك في تالبيب أحم���د وهي تقول بخوف:
است ّنوا..اوعوا تمشوا وتسيبوناااا
ش���رة عش���ان دفعها أحمد جانبًا بعنف وهو يصيح بها :يالّ يا خميرة يا وش الفقر..قال مق ّ
ش���رة ده!!..ده شكل واحدة مسلوخة ومتر ّكبلها جلد متصوّ رة في مارينا قال..ده ش���كل مق ّ
كبيرك تصيّفي في ترعة السالم وإن شاء هللا أي ِ تمعزة..أش���كالِك دي تدخل مارينا ؟! ان ِ
ح ّد معدّي هناك يفجّ ِرك بالغلط .
أزاحها عنه بعنف وهو ينطلق مع رفاقه ركضًا نحو الميدان الواس���ع الذي يلوح لهما من
بعيد .
****
افترش صادق وفتاته أرضية الغرفة الزجاجية ،دسّ���ها بي���ن ذراعيه وانهمك في إغراق
وجهها وعنقها الطويل بالقبالت بينما أنامله تسري فوق جسدها بجشع ،تصاعد في األسفل
صوت أقدام غليظة ر ّنت فوق أرضية الصالة وأصحابها يسيرون بين الماكينات ويرفعون
أنظاره���م لألعلى ،دون أن ينتبه أمالت هي رقبته���ا بحركة جانبية طفيفة لمحت فيها من
خالل جدار الغرفة الزجاجية ثلّة من الرجال دلفوا إلى المكان ،همست بصوت مبحوح :
دخلوا..شوف اللي دخلوا
أجابها صادق الجاثم فوقها المغيب عن الواقع بارتشاف قدور العسل :دخلوا إيه بس ؟!..
هوّ ا احّ نا لسّه عملنا حاجة؟!!
تحطم جزء من زجاج جدار الغرفة على أثر طوبة كبيرة قُذفت عليهم من أس���فل، ّ هوب
اخترق���ت الجدار بعد أن صنعت به ثقبً���ا صغيرً ا بحجمها وعبرت هواء الغرفة وأصابت
زجاج التابلوه مباش���رة ،كان الزجاج من النوع (الملدّن) كزجاج الس���يّارات األمامي فلم
ش���روخا نحيلة ،طويلة ،مألت جُل سطحه قبل أن تسقط ً تكس���ره الطوبة ولكن خلّفت فيه
أرضًا وتتدحرج تحت المكتب ،ابتعد صادق عن الفتاة في ذعر ،ش���عر بألم في س���اعده
َن َت َج عن انغراس بعض ش���ظايا الزجاج في ساعده ،تجاهله ليهتف في انزعاج شديد :فيه
إيه؟!..مين دول ؟!!
-دول اخواتي الصبيان !!
اتس���عت عيناه في ذعر على وس���عهما وهو يتابع الرجال وهم يصعدون السلّم ناحيتهما
وأحدهم يصرخ في شراسة :جايييينلك يا فاجراااااااا
****
كصواريخ باليستية بال منصّة انطلق أحمد ومحمّد وإيميل خو ًفا من َح َملة السكاكين اللذين
انطلقا بدورهما في أعقابهم يطاردوهم بإصرار أس���طوري ،بلغَ الثالثة الميدان المستدير
بحثا عن أي تجمّع بش���ري يصلح بحث محمّد بعينيه في ُكل المباني من حوله ً َ الواس���ع،
الحتواؤهم واالختباء فيه ،وجد كتلة بشرية ضخمة محتشدة على الرصيف جوار الجامع
ركض برفاقه نحوها واندسّوا داخلها بال تفكير ،وكما يحدث ألي فرد َ الرئيس مباش���رة،
داخل كتلة بش���رية متراصة؛ تضيع فيها ش���خصيته ويفقد اتجاهات���ه الذاتية وينكفئ على
نفس���ه مجرّ د جزء من ُكل يأخذه حسب ما يش���اؤه من اتجاهات يمي ًنا أو يسارً ا ح ّتى ولو
كانت هذه االتجاهات على غير رغبة باقي األجزاء و ُكل َمن يس���تق ّل المترو وأتوبيسات
الحكومة وق���ت الذروة يعلم هذه القاعدة الفيزيائية جي ًدا ،بُنا ًء على ما َس��� َبقَ وجدَ الثالثة
أنفسهم داخل الجامع ،ال يعرفون ل َم جاؤوا وكيف دخلوا وال أين أهم بالتحديد وال ح ّتى ما
س���بب هذا التجمّع في المس���جد بغير أوقات الصالة ،ال يعرفون إالّ أن عليهم أالّ يخرجوا
لمح إيميل يافطة بالس���تيكية، وإالّ لفتك ثنائي أضواء المس���رح بهم ،بعد أن انتهى التدافع َ
مكتوبة على الكمبيوتر ،معلّقة بين عامودين ُكتب فيها “يدعوكم األس���تاذ محمد سعد الدين
لحضور حفل بناء ابنه عمرو على كريمة الحاج نادر الس���عيد اآلنس���ة ..Nبارك هللا لهما
وج َم َع بينهما في خير”
َ
بدأوا يلتقطون أنفاسهم ويفهمون حقيقة األمر ،فرح (إسالمي) إن جاز التعبير ،من حولهم
احتش���د روّ اده من ذوي الجالليب البيضاء واللحى الطويلة ،جميعهم جلس���وا القرفصاء
ناظرين لألمام ناحية القِبلة التي أقام أحدهم أمامها منضدة صغيرة وُ ضع فوقها ميكروفون
أس���ود صغير ،وُ ّزعت عليهم أكواب بالستيكية مملوءة بعصير برتقال (تانك) وبواسطة
(ع َرق باط) شنيعة ُطرت أياديهم بمِس���ك ذو رائحة َ زجاجة صغيرة تنتهي ِب َب َكرة مدوّ رة ع ّ
صحن القِبلة وقف ش���خصٌ ما هيئته ال تختلف كثيرً ا عن باقي ّ
اش���مأزت لها أنوفهم ،في َ
الحضور ،أمسك الميكروفون ثم بدأ في الخطابة؛ رحّ ب بالحضور المُبارك ثم ه ّنأ العريس
المقرفص أمام���ه والعروس الموجودة بالدور العلوي ثم ب���دأ يتكلّم عن قيمة الزواج في
اإلس�ل�ام وراح يضرب أمثلة من معاملة الصحابة لزوجاتهم ويستشهد ببعض األحاديث
النبوية التي تحضُّ على الزواج وحُس���ن معاملة ال ّنس���اء ،قبل أن يُشير إلى أحد الحضور
ويقول :ودلوقتي عاوزين نسمع شوية تواشيح ِت َبارك على عروسينا ليلتهما
نهض المُشار إليه ،انض ّم للمُحاضِ ر أمام المنضدة ،كان قصير القامة ذو لحية خفيفة مألت
أماكن متفرّ قة من وجهه ،عرّ فه المُحاضِ ر قائالً :هنس���مع نشيد من أخونا إبراهيم المنجي
بارك هللا فيه وبارك له في صوته .
أغمض عينيه سعيًا وراء االندماج قبل َ فمه، أمام ووضعه التقط منه إبراهيم الميكروفون
ت شاجي أن يبدأ في الشدو بصو ٍ
“يا عمرو هقولّك كلمتيييييييين
تحية ليك من اخوا َتك المسلمييييييين
يباركك هللا..ظفرتَ بذات الدِين
ادخل عليها بالحالااال
يرزقك ربّك منها أجمل عيااااال
من غير القرآن وال ُس ّنة تربيتهم شئ مُحااااااال
وادخل عليها بالحالاااااااااال ”
أثناء اإللقاء ،ما َل أحمد على أذن محمّد ليسأله في همس :هوّ ا الفرح هيبقى كده بس ؟!
-فاكر يوم خطوبة أختي أميرة ساعة لمّا شوشو صاحبتها طلعت ترقص على الترابيزات
-هللا يمسّ���يها بالخير دي كان عليها ( )---تدخل بيهم التاريخ..تفتكر لو دخلت علينا هنا
هيحصل إيه ؟
-هيقيموا عليها الحد
-أو يجروا عليها كلّهم
-اللي غايظني إن أختي بتقول إن شوشو ُتعتبر معملتش حاجة من اللي كانت ناوية تعملها
ألنها كانت محرجة من باباها !!
ُ -كل الل���ي عملت���ه ده ومحرجة!!..أمّ���ال لو مكانتش محرجة كان���ت عملت إيه ..كانت
اتشعلقت في النجف ؟!!هي متحرجتش غير لمّا انتَ زع ّقت ألختك أمّا جت ترقص جنبها
-انتَ عاوز أختي ترقص معاها وتقصّع في لحمها قدّام ال ّناس..قالو َلك عليّا رائد فضاء ؟!
-أمّال انتَ قمت رقصت معاها ليه ؟
-ال ال..ده اختالف استراتيجي في المواقف..دي نقرة ودي نقرة
-يا متناقض
-أيوة يا ع ّم أنا متناقض وبقول الحاجة وبعمل عكس���ها ورجعي وشايف البنت مش زي
الولد وإنها كِمالة عدد ..ليك شوق في حاجة ؟
غيرك يقعد يقول ألوالده صلّ���وا وهوّ ا مبيركعهاش..يقولّك -يعني هيّ���ا جت عليك..فيه َ
متشربش خمرة وهو بيبرقعها ليل نهار..يقولّك ابعد عن الحريم وهوّ ا ش ّغال هللا ينوّ ر
قالها أحمد بلهجة ساخرة مريرة دخلت على صوته فجأة استعجب لها رفيقاه ولم يجدا لها
ُبر ًّرا ،تبادل إيميل ومحمّد النظرات قبل أن يقول األول :قصدك على مين ؟ م ِ
-وال حاجة
قالها غامضة مقتضبة ما أ ّكد لهما عدم رغبته في التوضيح ،أش���اح بوجهه ناحية المنشد
الذي راح يُكرّ ر تلك المقطوعة مرّ ة تلو أخرى ،أحيا ًنا يس���تبدل كلمة النهاية بأخرى على
فهز رأس���ه في س في أذنه ببعض كلمات ّ نفس وزن القافية ،إلى أن دنى منه أحدهمَ ،ه َم َ
تفهّم ،ختم إنش���اده بـ :نقوم للص�ل�اة دلوقتي يا إخوانا أثابنا وأثابكم هللا..نس���ألكم الدعاء
للعروس���ين بالفالح والسعادة وإن يكون دخول العريس على عروسه بداية لذرية صالحة
تنفع دينها وتطيع ربّها..قوموا إلى صالتكم يرحمنا ويرحمكم هللا
نهض الجميع وب���دأوا في التراص صفو ًفا جوار بعضهم ،نه���ض أحمد وه ّم باالنضمام
إليهم ،الحظ أن محمّد وإيميل لم يتحرّ كا من مكانهما وحيرة شديدة تبدو عليهما فقال لهما:
إيه يا جماعة..ما تقوموا
-نقوم إيه ياع ّم انتَ ؟!
-العال���م دي لو عرف���وا إننا مش تبعهم هيخلّوا العريس يدخ���ل علينا احّ نا بدل
العروسة
ظ َّل إيميل صام ًتا في ذعر بينما قال محمّد :أنا مش هينفع يا أحمد
-طب اللي جن َبك وعارفين س���ببه..إنما انتَ مش���كلتك إيه ؟! لو مش متوضّي
اتوضّى وخلّصنا
-لألسف مشكلتي مينفعش معاها الوضوء..لألسف ملهاش حل إالّ الحُما
-يخربي َتك..ه���وّ ا انتااااا..أها..صحيح..ما انتَ مقضّيها طول النهار فرجة على
األفالم
-المه ّم..هنعمل إيه دلوقتي ؟
-ندخل نصلّي بقى وخالص
-نصلّي إيه ..انتَ غبي ؟!! هنضحك على ربّنا ؟!!!
-ال..هنضحك عليهم همّا وربّك غفور رحيم..نبقى نستغفرله بعدين
-ال ياع ّم أنا مش موا..
اقترب منهم وهو يقول َ البدأ، على أوشكت التي الجماعة الحظ أحد الحضور تقوقعهم عن
بابتسامة خافتة :إيه يا أخوة..واقفين كده ليه ؟..يالّ عشان تصلّوا مع الـ..
بتر عبارته بغتة وعينيه تتر ّكزان على الصليب األس���ود ،الصغير ،المطبوع على معصم
بظت من محاجرها، إيميل من الداخل فوق عروقه النافرة من الخوف ،جحظت عيناه ح ّتى ّ
فورً ا أدار رأسه للخلف وهو يصيح :نصارااااااااااااااااااااااااااااا
****
****
على أكتاف صديقيه تع ّكز أحمد م ّتجهًا نح���و بوّ ابة مركز (العربي)الطبّي الخيري
القريب من موقع األحداث ،وجدوا البوّ ابة مس���دودة بعربة إسعاف وصلت للتو من
حيث ال ي���درون وأغلقت الباب أمامهم ،هتف محمّد :أس���طى..عجلة ورا والنبي
علشان معانا حالة مستعجلة ومش قادر يقف على رجله
هز السائق رأسه في تفهّم وتراجع للخلف قليالً مُفسحً ا لهم المجال للمرورَ ،ع َبرا به سريعًا
َّ
إلى حيث قابلتهم ممرّ ضة االستقبال ،قالت :خير..بيشتكي من إيه ؟
-النار مسكت في رجله
-ال بسيطة إن شاء هللا..آخر أودة في الممر ده شمال
أطاعوها ودخلوا به إلى حيث أشارت ليجدوا بداخلها ممرّ ضة أخرى كشفت له عن جرحه
وبدأت فورً ا في تنظيفه وتضميده ،قال إيميل وهو يُربّت فوق كتف أحمد بفخر :إنما سبكت
الدور عليهم ص ّح في الجمعية يا واد..ش���وية كم���ان والراجل أبو بدلة كان اتب ّناك..تمثيل
تمثيل يعني وال كأ ّنك فاتن حمامة..ده أحلى تمثيل شفته في حياتي
ابتسم أحمد وهو يقول في غموض :أنا شفت تمثيل أحلى من كده بكتيييير
للمرّ ة الثانية يُقول عبارات غامضة بال معنى مفهوم تستعصي عليهما ،إالّ أنه تجاهل هذا
التعبير المرسوم على وجهيهما وهو يقول بألم :ناولني تليفوني يا محمّد..عاوز أكلّم بابا
أخرج محمّد التليفون من جيب أحمد ثم منحه إيّاه قائالً :ماهو فيه رصيد أهو
ابتسم أحمد في شحوب وهو يقول :انتَ لسّه فاكر :D
قال إيميل محذرً ا :اوعى تقولّه حاجة من اللي حصلت ؟
-ياعم متخافش..هبعتله حاجة تانية
كتب
أمال الشاش���ة ناحيته ،انتقى نمرة والده ثم فعّل خاصية إرس���ال الرسائل النصّية لهَ ،
في مربّع الكتابة الذي ظهر له “على فكرة يا بابا..أنا عارف بموضوع البنت اللي هتجي َلك
ال ّنه���اردة المصنع والبنات التانيين اللي بتكلّمه���م كاميرا طول الليل..بقولّك يا بابا ياريت
معدتش تسألني تاني أنا مبصلّيش ليه..أفتكر دلوقتي انتَ عرفت ليه”
ما إن ضغط زر اإلرس���ال ح ّتى ظهرت له عالمة فش���ل االس���تقبال ( )receivedلدى
ُرس���ل إليه ،تمت َم أحمد بانده���اش :غريبة..بابا عُمره في حياته ما قفل
الجهاز اآلخر الم َ
تليفونه !!
لو عاو تعرف ال ّنهاية روح ورا العربية..يا حمزة !!
<<
مبهورً ا رفع حمزة عينيه عن آخر صفحة مكتوبة في الكتاب بعد ما تأ ّكد -بتص ُّفح س���ريع
مله���وف -أن باقي الصفحات فارغة ح ّتى وصل للنهاية فأغلقه وأودعه فوق ركبتيه ،راح
يتأمّل غالفه العجيب للمرّ ة الثانية وهو يتلمّس تفاصيله المذهّبة بأناملهَ ،ن َظ َر إلى س���اعته
ليكتشف أنه اس���تغرق في قراءته نصف ساعة كاملة لم يشعر خاللها بنفسه ،اقتحم أذنيه
فجأة صوت س���ارينة عربة إسعاف ،التفت ناحية مصدره ليجدها واقفة عن يمينه ،يخرج
من فتحتها الخلفية رجلي إسعاف يحمالن على المح ّفة رجل في أواخر الخمسينيات يرتدي
شاة بالذهب ،رفع حمزة عينيه إلى يافطة المبنى ليجدها جلباب زيتوني وعباءة سوداء مو ّ
مضاءة بلمبّات نيون زرقاء
(مركز العربي للخدمات الطبّية)
جوار االسم شعار أزرق ش���بيه بلقطة جانبية لطاوس منفوش الريش..نفس الشعار الذي
كان مطبوعًا على كرتونة ال ُكتب التي َو َجدَ الكتاب بداخلها في مكتبة ع ّم أمين!!
تأمّل الرجل المطروح على المح ّفة مل ًّيا بشعر رأسه القليل وذقنه البيضاء ،الخفيفة ،نصف
المح ّناة..أيقن أن َمن يُشاهده اآلن هو الحاج صادق والد أحمد !!
شاة قلّدته تاج (الحجوجية) النسوانجي ،المُسن ،المُتصابي ،المُتمسّح زورً ا بعباءة مو ّ
في ذهول قال حمزة :الكتاب مش بيحكي حاجة حصلت..الكتاب بيحكي حاجة بتحصل !!
انتبه عُمر إليه ،رفع عن أذنيه السمّاعة وهو يقول :بتقول حاجة يا حمزة ؟!
-الكتاب مش بيحكي حاجة حصلت..الكتاب بيحكي حاجة بتحصل !!
دون أن يفارقه ذهوله كرّ ر حمزة وهو يتابع بقايا مشهد مستشفى العربي الصغير ورجلي
اإلس���عاف في طريقهما نحو البوّ ابة وحركة األتوبيس تتجاوزه وتبتعد به ،انتقلت الدهشة
إلى عُمر الذي اعتدل وهو ينزع السمّاعات عن أذنيه وهو يقول :ما َلك يا حمزة ؟!
ّ
لم ير ّد عليه وإنما نهض فجأة عن مقعده واندفع ناحية الس���ائق وهو يصيح فيه :وقف..
و ّقف أنا نازل هناااااااا
زعقَ عُمر :يا حمزاااااا..يا حمزااااااااا..رايح فييييين ؟!!
همس فيها
َ لم يُعيره صديقه أي انتباه وكأن أذنيه قد ُثقبتا ،وص َل للس���ائق ثم مال على أذنه
ببع���ض كلمات انحرف بعدها الرجل لليمين قليالً ليرك���ن بمحاذاة الرصيف ،تابعه عُمر
قفزا من ب���اب األتوبيس قبل أن يعود للخلف راكضًا م���ن خالل زجاج النافذة وهو يهبط ً
نحو المستشفى .
****
أس���رعت ممرّ ضة االس���تقبال ناحية المح ّفة التي رقد فوقها الحاج صادق يأنُّ ويهتف في
ضي���ن اللذين يقلاّ نه بكالم لم يفهم���ه أحد :عملوا عليّ���ا ربّااااااااطية والد الهرمة
الممرَّ َ
وس���رقوا م ّني الس���اعة والموبايل..أيييي..أنا الزم أعمل محضر دلوقتي..الزم البوليس
شرطااااااااااااايجيبلي والد النصّابة دووووووول..يا ُ
ُ
تابعت الممرّ ضة إصاباته بارتياع بالدماء التي تغرق وجهه وذراعيه وتنس���كب قطرات
منها على سيراميك األرضية ،صاحت فيهما :آخر أودة في الممر ده يمين
أطاعه���ا الرجلين فورً ا في صمت ،من خلفهما دخ َل حمزة ،ل���م تالحظه الممرّ ضة التي
انهمكت في تدوين بعض البيانات ،تتبّع حمزة رجلي اإلسعاف ودخل ورائهما إلى الممر
قبل أن يقف أمام باب غرفة الحاج صادق حيث أرقدوه على الفراش لتبدأ ممرّ ضة الغرفة
في تطهير جروحه بينما عينيه ال تس���تطيعان منع نفس���يهما من اختالس بضعة نظرات
لصدرها المكتنز أس���فل رداء مالئكة الرحمة ناصع البياض ،من الغرفة المواجهة تمامًا
خرج ش���اب ،طويل ،بلحية نصف نامية ،وبضمادة لُ َّفت حول رأسه ،يتحدّث في الموبايل َ
بانفع���ال :أيوة ي���ا أميرة..مبتردّيش عليّا ليه من الصبح ؟ وهن���د كمان فين مبتردّش ليه
هي كمان؟!..إيه ؟!!!..ش���ربتوا من إزازة السِ فن اللي في التالّجة ؟!! أحييييييه..أميرة إيه
ت فين ؟!!..بترقصي فوق س���قف عربية في الدوش���ة اللي حواليكِ دي ؟!! إيه بتقولي ان ِ
ش���ارع جامعة الدول ؟!!!..يا نهار مدوحس..وهن���د ؟!!! هند فين يا أميرة؟!..واقفة جنب
عمود نور بتالغي رجّ الة وبيولّعولها س���جاير؟!!..أحااااااااا..أنا جايلكم دلوقت..أنا جاي
حاالً
ّ ُ
كأنه أبّ يرى ابنه ألول مرّ ة بعد س���نوات غربة في الخليج وقف حمزة يتابع محمّد حتى
أنهى المكالمة قبل أن يندفع راكضًا نحو الخارج ،ربّما لو انتظر قليالً لعانقه وذرف فوق
كتفيه دموع ّ
التأثر .
أعاد حمزة لألحداث صوت الحاج صادق من فوق فراش���ه :لو س���محت ممكن تسلّفني
أطمِّن على ابنيموباي َلك دقيقة أعمل مكالمة..عاوز َّ
نق َل حمزة نظراته بين الرجل وبين مدخل الغرفة المواجهة (اليُسرى) قبل أن يدخل الغرفة
ويمنحه موبايله قائالً :اتفضّل
التقط الرجل الموبايل منه ،ضرب أرقامه بتأن ثم رفعه ألذنيه ،تراجع حمزة للخلف قليالً
كي يتس��� ّنى له متابعة ما يحدث في الغرفة األخرى ،لمح أحمد يفرد أمامه س���اقه اليُمنى
ومغطاة بالضمادات ،رفع الموباي���ل ألذنه لير ّد على والده :أيوة يا بابا.. ّ عاري���ة محمرّ ة
موباي َلك مقفول ليه ؟!!
-معلش يا حبيبي..أصله وقع م ّني ومش القيه..انتَ في البيت ؟
-ال..أنا..أنا..أنا في سكشن كده هخلّص وهروّ ح إن شاء هللا
شغل هاردة..هتأخر شوية في ال ُ
ّ الع َشا ال ّن
-ماشي يا حبيبي..متست ّنانيش على َ
-ماشي يا بابا..مع السالمة
-سالم
شكر يا ابني بعد أن أنهى المُكالمة َف َردَ الرجل يده بالموبايل ناحية حمزة قائالً :ألف ُ
في طريقه اللتق���اط الموبايل ،اصطدم حمزة بالممرّ ضة التي كانت في طريقها للخروج،
نظ���رت له في احتجاج فاعتذر لها ثم غادرته غاضبة ،م ّتجهة ناحية غرفة اليس���ار ،قال
الحاج ص���ادق :اوعى تكون خبطت فيها قاصد..انتَ لسّ���ه صغير على الحاجات دي..
أنصحك..كلّه إالّ النسوان..مبيجيش من وراهم إالّ وجع القلب داهية َ انتَ زي ابني والزم
تقضي عليهم كلّهم
التقط منه حمزة الموبايل وهو يبتس���م في مجامل���ة دون أن يردّ ،لم يقتنع بنصيحة الحاج
وظ��� َّل يتابع الممرّ ضة بطرف عينيه وهي في غرفة الش���باب تنحن���ي على جُرح أحمد
تس���ببت في ألمًا ما ألحمد ال���ذي صاح فيها: ْ وتس���كب من زجاج ٍة ما فوق���ه ،يبدو أنها
أييييييييييي..حاسبي هللا يكرمِك..بتحرق قوي
كان الصوت عاليًا بدرجة كافية ليسمعه الحاج صادق الذي ابتسم ثم عاد ليكلّم حمزة :مش
قولتل���ك مبيجيش من وراهم غير الوجع ؟!..الصوت ده ش���به صوت ابني قوي..لوال إنه
مستحيل يكون هنا كنت قولت أكيد هوّ ا..أصله محترم قوي ومن تسعة بيبقى في سريره
أجابه حمزة برقبة ملووحة تتابع مراحل تضميد أحمد الـ(محترم قوي ومن تس���عة بيبقى
ت هازئ :يخلق من الشبه أربعين .. في سريره) من بعيد ،قائالً بصو ٍ