You are on page 1of 51

‫كعادته ُكل يوم خميس موعد مصروفه اإلس���بوعي‪ ،‬ال يخرج حمزة من مدرسته الثانوية‬

‫إلى المنزل مباشرة‪ ،‬ما تعرفه أمّه أنه يكون في طريقه لحصّة إضافية من درس الفيزياء‬
‫عقب نهاية اليوم الدراس���ي‪ ،‬أمّا الحقيقة ‪-‬التي ال تعلمها أمّه‪ -‬أنه في هذا اليوم يكون ‪-‬مع‬
‫ُنتهزا فرصة امتالء‬ ‫صديق���ه األثير عُمر‪ -‬في طريقه لمكتبة عتيقة تقع قُرب المدرس���ة م ً‬
‫جيبه بالنقود ‪.‬‬
‫في ُكل مرّ ة يُريدان الذهاب فيها‪ ،‬يقطعا معًا الش���ارع المجاور للمدرس���ة؛ طويل‪ ،‬هادئ‪،‬‬
‫مرص���وف‪ ،‬العمارات فيه أنيقة وعالية‪ ،‬تح ّفه من على جانبيه أش���جار قصيرة‪ ،‬أوراقها‬
‫ُهذبة‪َ ،‬مغروسة وسط حدائق صغيرة‪ ،‬افترشت معظم مساحة األرصفة كبساط مهرجانات‬ ‫م ّ‬
‫أخضر مس���دول‪ ،‬في زوايا أطرافها األربع حنفي���ات الري بالتنقيط مفتوحة دائمًا‪ ،‬ودائمًا‬
‫زخاتها المُنعشة وهما يُطالعان الس ّكان المترفين بأزيائهم األنيقة من‬ ‫ما تطالهما بعضًا من ّ‬
‫خلفهم أبنائهم (القمامير) يس���يرون في الشارع بابتس���امة أوسع من ابتسامة فانديتا فتتف ّتح‬
‫مس���امهما للحياة في ترحاب‪ .‬قبل نهاية الش���ارع بأمتار قليلة ينحرفان يس���ارً ا إلى زقاق‬
‫صغير يقع بين عمارتين كبيرتين؛ نصف مُنحدِر‪ ،‬نصف َمجهول‪ ،‬نصف مسدود‪ ،‬بعد أن‬
‫يزكما أنفيهما عليهما أن يعبرا فوق أقفاص الخوص الم ّتسخة َ‬
‫بـ(س َبل) الفراخ وفوق أكوام‬
‫بقايا الطعام وح ّفاضات األطفال و َكسْ ���ر السيراميك التي تسدُّه ليقودهما الزقاق إلى الجزء‬
‫القديم من بلدتهما والذي ال يرتاده تقريبًا أحد إالّ س��� ّكانه‪ ،‬م���ن خلفهما العمارات الكبيرة‬
‫العريض���ة‪ ،‬لم يعبأ أصحابها بدهان وال ب َمحارة ظهورها وتركوها في مواجهة أهل جُزء‬
‫البلدة القديم على الطوب األحمر بعكس حال الواجهات المزخرفة ذات التش���طيب السوبر‬
‫لوكس‪ ،‬لم تنل الحداثة من هذا الجزء بعد فبقي على حاله مُحاف ًِظا على الكثير من س���ماته‬
‫القديمة؛ الكثير من العادات البالية وطقوس الس��� ّكان المليئة بالخرافات ومستوى الخدمات‬
‫طرُز البيوت المعمارية التي تجاوزها الزمن‪.‬‬ ‫الصحية والمُجتمعية شبه المُنعدم وح ّتى ُ‬
‫البيوت متالصقة فيما بينها كأصابع يد مضمومة‪ ،‬قصيرة ال يزيد ارتفاع الواحد منها عن‬
‫دورين‪ ،‬مبنية من الطوب اللبن‪ ،‬العريض‪ ،‬المدعّم بعروق خشبية غليظة‪ ،‬الشوارع ضيّقة‬
‫مغطاة ببالط رصاصي منقوش‪ ،‬نوافذ البيوت دائمًا مفتوحة ال‬ ‫ّ‬ ‫كعنق زجاج���ة‪ ،‬أرضيتها‬
‫سرا فيكون لزامًا على أي عابر سبيل أن تمتلئ أذنيه بكوكتيل خالّق من‬ ‫تحفظ ألصحابها ًّ‬
‫األصوات؛ مش���اجرة رجل مع جاره‪ ،‬صياح أ ّم البنتها الفاشلة التي عجّ نت األرز‪ ،‬شهقة‬
‫ش���ة بطاطس محمّرة‪ ،‬زئير مُحرّ ك مكنسة كهربائية‪ ،‬ضحكة مائعة من زوجة‬ ‫ملوخيّا‪ ،‬ت ّ‬
‫ف المزاج بزوجها مُبكرً ا ‪.‬‬ ‫شَغَ َ‬
‫أمام باب ُكل بيت غطاء اس���منتي سميك يرتفع عن مستوى الشارع ببضعة سنتيمترات‪،‬‬
‫يس ُّد فوهة (الترانش) الذي يؤوي إفرازات البيت من مياه الصرف الصحّ ي‪ ،‬الترانش هنا‬
‫هو الج ّد الشرعي لمواسير المجاري العمالقة التي استحال عليها أن تجد لنفسها مكا ًنا في‬
‫شارع س��� ّكانه بال صوت فلم يستح ّقوا ال َتعب‪ ،‬ال يزيد عرضه عن ربع متر‪ ،‬جميع بيوته‬
‫مختلّة األس���اس قد ينهار الواحد منها إن خضّه أحدهم وداعبه بنكزة في جنبه على فجأة‬
‫وهو يصيح جوار أذنه “ار َكب الهوااااااااااا”‪ ،‬ما أجبر الجميع على قبول هذه (التصريفة)‬
‫بديالً عتي ًقا وغير مُكلّف‪ ،‬على أن تأتي عربة مياه فارغة من مجلس الحيّ ُكل ثالث شهور‬
‫تزيح الغطاء وتدلّي خرطوهما في عُمق الفتحة تشفط ما فيها من خيرات كناموسة جائعة‬
‫كبئر مهجورة على وع ٍد بلقا ٍء قريب إن شاء هللا ‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وتتركه بعدها جا ًفا‬
‫فوق ُكل غطاء عاد ًة ما تجلس معظم سيّدات البيوت ‪-‬الغير مشغوالت بالمطبخ وال ببناتهن‬
‫الحمقاوات وال بأزواجهن الش���هوانيين وال بأي ش���ئ آخر‪ُ -‬كل واحدة أمام مدخل بيتها‪،‬‬
‫منهمكات دائمًا في تنقية األرز أو تقميع البامية أو إلقاء بقايا مياه المسح على المارة‪ ،‬ما إن‬
‫ترى الواحدة منهن غريبًا َج َس َر على اختراق ال ُحجُب ود ّنس حُرمة المكان ح ّتى ُتحملق فيه‬
‫باستغراب رضيع يُطالع التليفزيون ألول مرّ ة وب َقرف محمد هنيدي وهو يأكل صرصارً ا‬
‫في (فول الصين العظيم)‪.‬‬
‫فوق أس���وار بعض األسطح قد يُالحظا مس���يرة د َكر ديك رومي يتمخطر برشاقة بهلوان‬
‫سيرك وخيالء فارس بال جواد‪ ،‬صدره منفوخ للسماء كالبالون ولغده األحمر الشبيه بلُغد‬
‫ف من سقوط‪،‬‬ ‫عمرو موس���ى يتوهّج تحت أشعة الشمس‪ ،‬يسير فوق حافة السور بال خو ٍ‬
‫في بعض األحيان ُتط ُّل َعبْر فجوات السور رقبة سامقة كرقبة نفرتيتي ل ِِو ّزة لعوب تتر ّقب‬
‫المارة بمنقارها األصفر وعينيها الدقيقتين بشغف‪.‬‬
‫كصنبور حنفية بال ِجلدة‪ ،‬تنس��� ُّل على األرض قطرات مياه عكرة بتمهّل وبال انقطاع من‬
‫فوهة مزراب طويل يخرج ‪-‬مائالً‪ -‬من الزاوية األمامية ألسطح كثير من البيوت‪ ،‬مُخلّفة‬
‫ِبركة بُنية صغيرة ال تجفّ أب ًدا‪ ،‬عليهما الحذر من الس���ير أس���فله وإالّ لتلقيّا حمّامًا مريعًا‬
‫فوق رأسيهما‪.‬‬
‫ق���د يصطدم بهما ‪ -‬رغمًا ع���ن إرادتهما ‪ -‬طف ٌل أو أكثر‪ ،‬يندفع الواحد منهم فجأة من باب‬
‫عار كيوم وُ لِد‪ ،‬يعدو بال تمييز‪ ،‬في غاية االس���تعداد لالرتطام بأي ش���ئ يُوضع في‬ ‫بيته‪ٍ ،‬‬
‫طريق���ه هربًا من أمّه التي عاد ًة ما تبرز خلفه م���ن الداخل بثوب منزلي‪ ،‬رخيص‪ ،‬مب ّقع‬
‫وبش���عر منكوش معقود للخلف بأستك تدكيك‪ ،‬تلوّ ح له بفردة شبشب ز ّنوبة وهي تصرخ‬ ‫ٍ‬
‫فيه وتالحقه بش���تائم مقذعة تخ ُّل بشرفها‪ ،‬يدفن رأسه الصغيرة المتعرّ قة في البنطلون ثم‬
‫يمسح (بربروه) فيه قبل أن يُعاود العدو ح ّتى يغيب في آخر الشارع ‪ .‬على حمزة وعُمر‬
‫أن يمرّ ا ب ُكل هذا خالل شبكة شوارع قديمة كمناخير أبو الهول‪ ،‬رفيعة ومتشابكة كاألمعاء‬
‫الغليظة ح ّتى يلوح لهما مرادهما من بعيد؛ صغيرً ا‪ ،‬هاد ًئا‪ ،‬بال يافطة‪ ،‬أبوابه خشبية َق َ‬
‫ض َم‬
‫السوس أجزا ًء منها‪ ،‬فُتحت األبواب على مصراعيها لتكشف عن فتارين فارغة زجاجها‬
‫مشوب بمسحة صفراء تشي بعراقة المكان‪ ،‬مكتبة ع ّم أمين ‪.‬‬
‫أطاوعك وآجي‪..‬نفسي أفهم انتَ بتحبّ الراجل ده على إيه ؟!‬ ‫َ‬ ‫قال عُمر ‪:‬أنا إيه خالّني‬
‫‪ -‬وانا نفسي افهم انتَ بتكرهه ليه ؟!‬
‫‪ -‬ده راجل مجنون ياع ّم‪ُ ..‬كل حاجة فيه ملخبطة وغريبة‪..‬كفاية إنه فاتح مكتبة !!‬
‫‪ -‬هوّ ا اللي يفتح مكتبة في البلد دي تبقى حاجة غريبة اليومين دول ؟!!‬
‫‪ -‬مكتبة في منطقة مبتقراش عاملة زي حنفية وسط نيل‪..‬عِ والة ملهاش لزوم‬
‫‪ -‬وليه متقولش حنفية وسط صحرا ؟! وبعدين هتجيب منين مكتبة زي دي فيها كتب مش‬
‫موجودة عند حد وبأسعار منحلمش بيها‪..‬الراجل بيرضى بأي حاجة نديهاله‬
‫‪ -‬طيب تقدر تقولّي هوّ ا فاتح في الح ّتة العجيبة دي بالذات ليه ؟! بيبيع لمين؟!! أنا عُمري‬
‫ما ش���فت حد عنده إالّ احّ نا بجوّ المكتبة العفاريتي بتاعه ده‪ ..‬ح ّتى هوّ ا نفسه شكله مبهدل‬
‫ومخنفس في بعضه عامل زي القوطاية المعصورة‬
‫‪ -‬عليك تشبيهات ملهاش حل‬
‫‪ -‬بصراحة بقى المنطقة دي كلها بتلبّش ج ّتتي طول ما أنا فيها‪..‬ال ّناس هنا شكلها يخوّ ف‪..‬‬
‫لوال إ ّني مش عاوزك تيجي هنا لوحدك مكنتش ع ّتبتها تاني‪..‬أقطع دراعي لو مكانش ع ّم‬
‫أمين ده مخاوي‬
‫ليسمعك‪..‬الراجل واقف قدّام المكتبة‬‫َ‬ ‫بقى‬ ‫ك‬ ‫َ‬
‫ت‬ ‫صو‬ ‫وطي‬ ‫‪ -‬طب ّ‬
‫‪ -‬ش���وف بيعمل إيه !! واقف يرش ميّة كأنه فاتح محل حِالقة أو فاتح نصبة ش���اي تحت‬
‫كوبري والّ العفريتة اللي البس���هالنا دي‪..‬شبه الراجل اللي كان طالع في أستاذ َحمام نحن‬
‫الزغاليل‬
‫‪ -‬هشششششششششششششت‬
‫‪ -‬ماشي يا أخويا َه ْشت ْ‬
‫ِت‬
‫وسط األرضية المبلولة وقف ع ّم أمين أمام مكتبته‪ ،‬جواره جردالً بالستيك ًّيا مملوءًا ح ّتى‬
‫كوزا راح ينثر محتواه على األرض من حوله بامتداد ذراعه‪،‬‬ ‫ف ً‬ ‫منتصفه بالماء‪ ،‬منه غَ َر َ‬
‫لطف أجواء الخنقة التي ُتحيط بهما‪ ،‬ما أن الحظهما‬ ‫ُناخا رطبًا ّ‬ ‫منحتهما األرض المبتلّة م ً‬
‫ح ّتى تو ّقف عن َه ْدر المياه‪َ ،‬ر َس َم على شفتيه ابتسامته المرحّ بة المُعتادة‬
‫‪ -‬ازيكوا يا أوالد ؟ اتأخرتوا شوية عن ميعادكوا ال ّنهاردة مش كده ؟‬
‫‪ -‬معلش بقى ياع ّم أمين‪..‬أصلنا خارجين من المدرس���ة تعبانين وطول السِ ��� ّكة ماش���يين‬
‫براحتنا‬
‫ل���م يخبره حمزة أن القدوم إليه يقتضي التوغل في منطقة يتطلّب الس���ير فيها انتباه رجل‬
‫كوماندوز وحِيطة ن ّقاش فوق س��� ّقالة وحِرص مستكشف أدغال‪ ،‬أجابه ع ّم أمين ببشاشة ‪:‬‬
‫وماله‪..‬فيه شوية كتب جديدة وصلت امبارح‪..‬ادخلوا شوفوا عاوزين إيه وانا مست ّنيكوا هنا‬
‫تجاوزه ال َف َتيان بعد أن ودّعه عُمر بنظرة قرف م ّتجهين نحو الداخل‪ ،‬اس���توقف ع ّم أمين‬
‫عُمر قائالً وابتس���امة وجهه ال ُتفارقه ‪ :‬على فكرة يا حبيبي‪..‬دي مس���مهاش عفريتة دي‬
‫شغل المكتبة وس���هل عليّا في اللبس والقلع‪..‬حُكم السِ ن بقى‬ ‫اسمها س���لوبت ومريح ج ًّدا ل ُ‬
‫انتَ عارف‬
‫حدّق فيه عُمر باستغراب وهو يسأل‪ :‬انتَ سمعتني ّ‬
‫إزاي ؟!‬
‫اتسعت ابتسامة الرجل في غموض قبل أن يُشير بسبابته نحو داخل مكتبته قائالً ‪ :‬صاح َبك‬
‫َ‬
‫عاوزك جوّ ا‬
‫وع َبر هو نحو المدخل‪،‬‬ ‫َ‬ ‫مياهه‬ ‫رشّ‬ ‫ليستكمل‬ ‫الرجل‬ ‫ترك‬ ‫آثر‬ ‫أنه‬ ‫ّ‬ ‫ال‬ ‫إ‬ ‫ُمر‬ ‫ع‬ ‫ل‬ ‫اإلجابة‬ ‫تروق‬ ‫لم‬
‫أرضية المكتبة منخفضة ج ًّدا بالنسبة لمستوى الشارع يتطلّب الوصول إليها هبوط بضعة‬
‫درجات خشبية أقامها ‪ -‬بال احتراف‪ -‬نجّ ار برُتبة كفتجي فصار اهتزازها كأنها على وشك‬
‫مغطاة بأرفف خش���بية‬ ‫ّ‬ ‫االنهيارهدي���ة منها ل ُكل صاعد أو هابط‪ ،‬جدران المكتبة بالكامل‬
‫مُتخمة بعش���رات الكتب القديمة التي لم يجدوا لها مثيالً ف���ي أي مكتبة أخرى‪ ،‬اإلضاءة‬
‫جيّدة تأتي من ثالث لمّبات نيون مُعلّقة في الس���قف بتوزيع هندس���ي دقيق‪ ،‬ما أن وطئ‬
‫عُمر األرضية بقدمه ح ّتى وجدَ حمزة عن يمينه جوار السلّم الخشبي‪ ،‬الثقيل‪ ،‬الغافي على‬
‫األرض‪ ،‬يقب���ض عليه بقبضتيه ويحاول زحزحته من مكان���ه‪ ،‬قال له وهو يلهث‪ :‬تعالى‬
‫شيل ال ُتهمة ده معايا يا عُمر‬
‫وح َماله معًا ناحية جدار أراده حمزة‪ ،‬أسندوا عليه السلّم مائالً قبل أن يُسرع‬ ‫أسرع نحوه َ‬
‫حمزة بامتطائه كي يتم ّك���ن من تص ّفح بعض عناوين ال ُكتب المرصوصة فوق رفٍّ عال‬
‫مُالصق للسقف‪ ،‬قال عُمر والدهشة لم ُتفارقه بعد‪ :‬انتَ عرفت المكتبة دي منين؟‬
‫ابتس���م حمزة وكأنه يسترجع ذكرى ما سعيدة‪ ،‬أجابه دون أن يستدير ودون أن يكفَّ عن‬
‫تمعُّن ال ّنظر في كعوب ال ُكتب‪ :‬أنا عرفت ع ّم أمين قبل ما أعرف المكتبة نفسها‬
‫لم ُتشبع اإلجابة فضول عُمر فعاود السؤال ‪ :‬يعني إيه ؟!!‬
‫‪ -‬يعني ده مش وقت أس���ئلة يا عُمر عاوزين نجيب الكتابين اللي جايين علش���انهم ونلحق‬
‫نروّ ح من غير ما نتقفش‬
‫للمرّ ة الثانية ال تروق اإلجابة لعُمر وعقله يؤ ّكد له أن داء هذه المكتبة اللعينة يسري على‬
‫الجمي���ع؛ على صاحبها وعلى جميع مريديها‪ ،‬وعليه اآلن أن يخاف على نفس���ه قبل أن‬
‫يصي���ر واح ًدا كهذين المخبولين ذات يوم‪ ،‬ابتعد تار ًكا صديقه لر ّفه ولكتبه‪ ،‬بدأ في تص ّفح‬
‫باقي جنبات المكتبة بنظرات عابرة‪ ،‬الوضع على حاله كما كان يراه دائمًا في ُكل زيارة؛‬
‫مكتبة مليئة بالكتب‪ ،‬فارغة من ال ّناس‪ ،‬المختلف هذه المرّ ة أنه الحظ كرتونتين عمالقتين‪،‬‬
‫لم تكونا موجودتين في زيارته األخيرة‪ ،‬موضوعتين في ركن بعيد ومرسوم عليهما هيكل‬
‫معدني دعائي لثالّجة صغيرة مع (لوجو) تجاري أزرق لطاووس منفوش الريش أس���فله‬
‫اس���م العربي بالبُنط العريض‪ ،‬شعار شركة توشيبا العربي‪ .‬أقبل عليهما ليجدهما ممتلئتين‬
‫تمامًا بالكتب‪ ،‬بال اهتمام راح يتفحّ ص محتوياتهما بأطراف أصابعه‪ ،‬اصطدمت يده صُدفة‬
‫بكعب كتاب برز وسط باقي الكتب عاليًا كوتد خيمة‪ ،‬له لون برّ اق مميز ش َّد انتباهه فجذبه‬
‫من وسطهم ليتم ّكن من رؤيته على انفراد‪ ،‬كان كتابًا رفيعًا من القطع المتوسط له غالف‬
‫سميك له سمت الكتب الدينية التقليدي الذي رآه مرارً ا في مكتبات المساجد التي ال يرتادها‬
‫ّ‬
‫بخط ف ِّني‬ ‫أحد‪ ،‬حدَّق فيما ُكتب على الغالف من العنوان واس���م المؤلّف وتفاصيل أخرى‬
‫جميل‪ ،‬دون أن تفارق عينيه الكتاب هتف ‪ :‬يا حمزااااااااااااااااا‬
‫أتاه الصوت المتأ ّفف من خلفه ‪ :‬إيه يا عُمر؟!! قولتلك مش فاضي‪..‬عاوز أخلّص‬
‫‪ -‬تعالى بسرعة‪..‬عاوز أورّ يك حاجة مهمّة‬
‫سمع عُمر صوت أقدام حمزة هي تهبط من على درجات السلّم قبل أن يُقبل صاحبها عليه‪،‬‬ ‫َ‬
‫وقف خلفه وهو يقول في سأم ‪ :‬فيه إيه ؟!!‬
‫‪ -‬بُص كِده‬
‫قالها عُمر وهو يستدير ويناول الكتاب لصديقه الذي رفعه ألعلى لينظر له مل ًّيا على ضوء‬
‫لمّبة السقف‪ ،‬سأل عُمر‪ :‬مين أحمد متاريك ده‪..‬تعرفه ؟!‬
‫‪ -‬وال عُمري سمعت ع ّنه‬
‫أزاح الغالف ثم تص ّفحه سريعًا‪ ،‬قبل أن يقول ‪ :‬أنا هاخد الكتاب ده‪..‬شكله حلو‬

‫****‬
‫بداية من ناصية ش���ارع مدرس���ته‬‫ً‬ ‫عاد ًة ما ينام حمزة خالل المدّة التي يقطعها األتوبيس‬
‫وح ّتى يصل لناصية شارع منزله‪ ،‬إالّ أنه هذه المرّ ة ونتيجة للفضول العارم الذي اعتراه‬
‫بخصوص الكتاب‪ ،‬فإنه ما أن استقرَّ على مقعده ح ّتى قرّ ر أن يبدأ فورً ا في قراءته‪ ،‬ألقى‬
‫نظ���رة أخيرة على عُم���ر الذي جلس جواره بوعي غائب وعينين مس���هّمتين مُنهم ًكا في‬
‫سماع األغاني َعبْر وصلة الهيدفون الم ّتصلة بموبايله السامسونج المستقرّ في قاع جيبه‪،‬‬
‫عدّل حمزة من جلسته طمعًا في وضعية أكثر راحة يستند فيها الكتاب فوق ركبتيه ثم ما َل‬
‫بعينيه ألسفل قليالً و بدأ في القراءة ‪..‬‬
‫السيرة الذاتية للكاتب‬

‫‪ -‬أديب مصري عمالق من مواليد محافظة دمياط‬


‫عام ‪ ،1988‬خريج كلية التجارة قس���م محاسبة‪،‬‬
‫حققت روايته األولى صدى واس���ع في األسواق‬
‫رغم أنه لم ينشرها بعد ‪.‬‬

‫‪ -‬رئيس مجلس إدارة جمعية المخطوفين‬


‫ذهن ًّيا ‪.‬‬

‫‪ -‬صاحب نظريتي (البوز بيز) و (السفنجة)‬


‫في مجال علم ال ّنفس االجتماعي التقدّمي ‪.‬‬

‫ّ‬
‫(البظة اليتيمة)‬ ‫‪ -‬واضع نظرية (ال ُغ َرز) و‬
‫في مجال األدب ‪.‬‬

‫‪ -‬صاحب مؤلّفات متعدّدة ُترجمت إلى العديد من اللغات وأش���اد بها كبار‬
‫الن ّقاد كشريف جالل ومحمد محسن وغيرهم‬
‫س ‪+ 87‬‬

‫عاد ًة ما أُنكر تلك التصنيفات الحمقاء التي كانت ُتقام لنا قبيل مش���اهدة األفالم؛ هذا الفيلم‬
‫ل َمن هُم فوق الـ‪ 18‬عامًا‪ ،‬وهذا الفيلم ل َمن هُم فوق الـ‪ 21‬عامًا‪ ،‬وهذا الفيلم يُنصح به ولكن‬
‫عينيك وقت اللزوم‪ُ .‬كل هذا بدعوى الحرص على‬ ‫َ‬ ‫مع إرش���اد عائلة تعرف متى ُتغلق َ‬
‫لك‬
‫مالئمة النضوج العقلي للمُحتوى‪ ،‬وأكبر أكذوبة عاش���تها البش���رية هي الربط المزعوم‬
‫شيوخا بأحالم عصافير وشبابًا عقولهم تزن أجياالً‬ ‫ً‬ ‫لرجاحة العقل بالسِ ن فما أكثر ما رأينا‬
‫كاملة‪ ،‬لذا فإن المعيار المنطقي الوحيد الذي يظ ّنه عقلي المتواضع لتصنيف مدى مالئمة‬
‫أي شئ لهذا أو لذاك هو العقل وحده ومدى سِ عة أفقه مهما كان عُمر صاحبه‪..‬هذا الكتاب‬
‫لمثل هذه النوعية‪..‬فقط ‪.‬‬
‫هذا الكتاب ال يُنصح به إالّ ل َمن هُم فوق الـ‪ 87‬س���نة (عقل ًّيا)‪..‬لذا فنرجوا من الصِ غار أن‬
‫يمتنعوا‪..‬والنبي ‪:D‬‬

‫أحمد متاريك‬
‫تمهيد‬

‫كان آخر ش���ئ أتصوّ ر القيام به هو كتابة أي شئ أثناء ركوبي سيّارة سواء أكانت رواية‬
‫أو مقالة صغيرة أو ح ّتى استاتيو على الفيس مكوّ نة من سطر واحد‪ ،‬نظرً ا لطبيعة الهدوء‬
‫لك هذا‬‫القاتل التي تتطلّبها طبائعي المتقلّبة دومًا قبل كتابة أي ش���ئ‪ ،‬لذا مُس���تغربًا أقدّم َ‬
‫كتبت هيكله الرئيس كامالً على متن الميكروباص خالل رحلة المرواح من‬ ‫ُ‬ ‫الكت���اب الذي‬
‫مدينة القاهرة الكئيبة بلد األلف طابور إلى مدينة الزرقا الحبيبة بلد األلف قِطعة مش���بّك‪،‬‬
‫بالطب���ع كانت لديّ الفكرة منذ زمن إالّ أن أف���كاري كالوالدة البد وأن أصبر عليها كثيرً ا‬
‫ح ّتى تت ّم فإن تمّت وآن وقت خروجها ال تعبأ ال بالمكان وال بالزمان و( َت ْن َظ ِرب) إلى الدنيا‬
‫من فورها‪ ،‬وها أنا ذا جالس جوار السائق (في الكابينة) تحت ضوء أصفر شاحب مُتعِب‬
‫أخط هذه الكلمات‪.‬‬ ‫للعينين وفوق مقعد تتالعب به المطبّات وكسور الطريق التي ال تنتهي ُّ‬

‫ل��� ُكل كاتب (عاق���ل) هدف وغاية من أي حرف يكتبه‪ ،‬وغاية ه���ذا الكتاب القصوى هي‬
‫ْ‬
‫صمصت من حياة‬ ‫التوثي���ق لي���س إالّ‪ ،‬أزعم أنني أتعرّ ض فيه لمش���كلة بالغة التعقي���د َم‬
‫الكثيرين وال أزعم أب ًدا أنني بهذا الكتاب وال بعش���رات أخرى غيره س���أكون قادرً ا على‬
‫التعبي���ر عنه���ا كاملة من جميع جوانبها‪ ،‬وال ح ّتى عن ادع���اء القُدرة على امتالك حلوالً‬
‫زلت أتذ ّكر ذهول أبي حينما شاهد فيلم (أوقات فراغ) للمرّ ة‬ ‫ُ‬ ‫جذرية أو غير جذرية لها‪ ،‬ال‬
‫األولى وراح يردّد بعدها اس���تحالة أن يكون هذا واقعًا وأن الحال بالتأكيد غير الحال وأن‬
‫المُخ���رج والمؤلّف قد وقعا في ف ِّخ التضخيم بالري���ب‪ ،‬أخبر ُته حينها أن الحال فعالً غير‬
‫الحال‪ ،‬ألنه أس���وأ بكثير مما رآه في الفيلم فت ّنح في وجهي لثوان ثم تركني بعدها وغادر‬
‫الغرفة دون تعقيب ‪.‬‬

‫لت مس���ودّة الميكروباص ذات الخط المُرتعش المتراقص‬ ‫لك أقدّم هذا الكتاب بعد أن حوّ ُ‬ ‫َ‬
‫حول الس���طور كرس���م إلكتروني لقلب يموج بالحياة إلى مل���فّ وورد فخيم قابل للقراءة‬
‫اآلدمية ثم إلى مل���فّ بي دي إف أنيق قابل للطرح اإلنترنتي‪..‬هللا وحده أعلم فربّما يمكن‬
‫أن ُتقدّم أنت لنا حالًّ لهذه المشكلة ذات يوم أو يُمكن أن يُغيّر َ‬
‫فيك الكتاب شي ًئا ما ويُحدِث‬
‫في نفسِ ���ك أمرً ا ويمكن أيضًا أن تتهمني بالوقوع في ف ِّخ التضخيم وتجد كالمي كلّه هُراء‬
‫لك وحدَ ك في نهاية األمر‪.‬‬
‫وال تعبأ به‪..‬األمر برمته َ‬

‫ولكي يس���تكمل هذا الكتاب غرائبه معي فإن صورته النهائية التي َخ َر َج عليها لم أستطع‬
‫أن أجد لها توصي ًفا دقي ًقا قياسًا على ما قرأته من ُكتب طول حياتي‪..‬هل هو رواية شديدة‬
‫ست كافة القواعد التقليدية التي قرأناها وتعلّمنا عليها دون تقسيم مُعتاد لفصول‬ ‫الصِ غر َه َر ْ‬
‫ُسهب لل َمش���اهد بال ديباجة مُعتادة لرقم المشهد‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫ٍ‬
‫ف‬ ‫بوص‬ ‫قصير‬ ‫س���يناريو‬ ‫هو‬ ‫وأبواب أم‬
‫واسم المكان وعالقته بالليل أو بالنهار‪..‬أم أنه كليهما معًا؟!‪..‬صِ د ًقا ال أدري وفي هذا األمر‬
‫لك وحدَ ك‪..‬رواية عرجاء كان أو سيناريو متن ّكر كان أو ح ّتى لو اتضح‬ ‫أيضًا سأدع األمر َ‬
‫لك في النهاية أنه ورق بفرة بيس���تهبل‪..‬المه ّم عندي أن تقرأه وأن تحاول أن ُتصدّقه وأن‬ ‫َ‬
‫لك كامل الحُرية في أن تقبله أو ترفضه‪ ..‬هذا الكتاب ماهو إالّ‬ ‫تتفاه���م معه وف���ي ال ّنهاية َ‬
‫صرخة احتجاج وتحذير ولكن من نوع خاص ج ًّدا‪.‬‬

‫بديهي أن جميع أحداث هذا الكتاب غير حقيقية ‪-‬وإن كانت كلّها من رحم الواقعية‪ -‬وكلّها‬
‫ً‬
‫خطوطا درامية ال يُنكر فضلها إالّ‬ ‫وليدة خيال الكاتب وس���وّ اق الميكروباص الذي منحه‬
‫جاحد ‪.‬‬

‫آه نسيت‪َ ....‬نص هذا الكتاب يحتوي على بعض األلفاظ اقتضتها الضرورة والتي لن تستقيم‬
‫فكرة الكتاب أب ًدا من دونها‪ ،‬قد يعتبرها البعض خادش���ة للحياء والذي م ّنه‪..‬ياريت أي حد‬
‫من أعزائي س��� ّكان الكوكب الداجن إياهم ميطلعش ي ّتهمن���ي بإثارة الفُحش العام والموت‬
‫الزؤام والحاجات الجامدة دي‪..‬آدينا بنقول من األول أهو‪..‬اللي بيتكسف ميقراش‪:D‬‬
‫إهداء‬

‫إلى س���ائق الميكروباص الذي ال أعرفه وال يعرفني‪..‬وجدني جالسً���ا جواره مُنهم ًكا في‬
‫الكتابة داخل الكش���كول كالمحموم فس���ألني بقلق“بتعمل إيه يا أس���تاذ؟!” فلمّا أجبته بألّف‬
‫ُ‬
‫ّم‪..‬فوجئت به يُشعل لمّبة إضافية فوقي‬ ‫ً‬
‫س���خرية أو على األقل عدم تفه‬ ‫رواية متوقعًا منه‬
‫قبل أن يس���تدير للخلف ويُصيح في الر ّكاب بلهجة هتلرية ال ُتنا َقش “مش عاوزين دوشة‬
‫يا جماعة علشان خاطر األستاذ يعرف يكتب!!”‬

‫أحمد‬
‫ت‬ ‫عمرها ما اتو ِّ‬
‫ض ْ‬ ‫الضافر الوسخ أكبر دليل على إيد ُ‬

‫جُملة مكتوبة على ضهر ُتك ُتك‬


‫“يخربيت جمالهم يا بت‪..‬إيه العظمة دي‪..‬صدرين دول والّ أ ّتايتين”‬
‫جلس الحاج صادق عبد الواحد؛ رجل األعمال ذو الثمانية وخمس���ين عامًا‪،‬‬ ‫َ‬ ‫في فراش���ه‪،‬‬
‫مرتد ًّيا بوكس���ره األحمر وفانلته الداخلية الحمّاالت‪ ،‬بين أنامل يده اليسرى استقرّ سيجار‬
‫دخاني رفيع‪ ،‬بينما أنامل يده اليُمنى ف���وق لوحة المفاتيح تكبّر‬ ‫ضخ���م تصاعد من���ه خيط ّ‬
‫صورة صديقته التي أتته َعبْر الكاميرا من غرفة نومها بقميص نوم أسود شاسع الفتحات‬
‫يكشف مدى وعورة تضاريسها ‪.‬‬
‫برغم بعض التشوش الذي يشوب مثل هذا النوع من التواصل‪ ،‬إالّ أن ُكل شئ بدا لصادق‬
‫مثال ًّيا وهو يُبلّع ُكل نظرة ثاقبة منه لجس���دها ِب َن َفس عميق من سيجاره الفاخر ح ّتى فوجئ‬
‫بها تلتقط شاالً من جوارها وتفرده على كتفيها ل ُتخفي به فتحة صدرها‪ ،‬رفع يده معترضًا‪،‬‬
‫ثم قال ‪ :‬هللا ؟!!‪..‬ده اسموا إيه ده بقى ؟! بتخبّي ليه ما ك ّنا حلوين‬
‫طبعت قُبلة على سبابتها الطرية ثم لوحّ ت بها إليه ثم تكلّمت في الميكروفون ليأتيه صوتها‬
‫(ال ِنغِش) َعبْر سمّاعة الالب‬
‫ ‪-‬ما خالص يا حبيبي‪..‬تايم آوت‪..‬احّ نا م ّتفقين على َع َشر دقايق بكارت خمسين‬
‫وأهم خلصوا‬
‫ت إيه عروس���ة بزمبلك أول ما الشحن يخلص تقفي ؟! إيه قِلة األصل‬ ‫ ‪-‬هوّ ا ان ِ‬
‫دي يا بطاطس‪..‬أمّال لو مكنتش زبونِك؟! يعني المفروض أتك ِِرم أكتر من كده‬
‫وخصوصي إنك محسبتيش الوقت الضايع‬
‫شغل يا صدّووقة‪..‬متضغطش عليّا بقى انتَ عارف إن قلبي كبير‬ ‫شغل ُ‬ ‫ ‪-‬ال ُ‬
‫ ‪-‬مش هوّ ا لوحده اللي كبير صدّقيني‬
‫هزا وأشعلت الد َّم في‬ ‫فهزت جسدها ًّ‬ ‫خرجت من بين شفتيها ضحكة رقيعة حاولت قمعها ّ‬
‫عروقه المُتكلّس���ة فاعتدل واقترب أقرب ما يمكن من الالب‪ ،‬يتم ّنى لو يم ّد رقبته يخترق‬
‫شاش���ة برأسه ويخرج من الناحية األخرى فوق مخدع حسنائه ذات األسود ليصنع منها‬ ‫ال ّ‬
‫سندوت ًشا يلتهمه على مرّ ة واحدة دون حاجة لفواتح شهية‪ ،‬ت ًّبا ل ُكل َمن لم يخترع ح ّتى اآلن‬
‫وسيلة لنقل البشر َعبْر النِت شأنهم شأن الصور والمل ّفات رغم الضجيج اليومي عن مدى‬
‫االنبه���ارات العلمية والتكنولوجية التي تم�ل�أ العالم إالّ أن التجربة دائمًا ما ُتثبت أن حالة‬
‫النمو الدائم في تطلُّعات اإلنسان لن تتو ّقف‪..‬صحيح اإلنسان دَعيف ‪(:‬‬
‫هتبطل قلِة أدب بقى يا‬ ‫ّ‬ ‫خ���ر َم أذنه صوتها اللول���ي المتد ّفق غِ نجً ا ودالالً حين قالت ‪ :‬مش‬
‫صدّووقة‬
‫إزاي ؟!‬ ‫ ‪-‬وأنا لو مكنتش قليل األدب كنت هعرفِك ّ‬
‫ ‪-‬نفسي أعرف‪..‬انتَ طالع كده لمين ؟‬
‫ش���غله مع النسوان‪ُ ..‬كنت‬ ‫ ‪-‬أبويا هللا يرحمه يا روحي‪..‬كان ترزي حريمي ُكل ُ‬
‫ُكل أمّ���ا أدخل عليه المحِل أالقيه حاضن واحدة‪..‬ق���ال إيه بياخدلها المقاس‪..‬‬
‫عمركيش حد أخدلِك مقاسِ ك يا بطاطس ؟!!‬
‫ ‪-‬عيب بقى يا صدّووقة‪..‬ميصحِّ ش كده‪..‬هللا‪..‬بتكزف‬
‫فصاح بها‬
‫َ‬ ‫قالته���ا باحتجاج حنين‪ ،‬متدلّع‪ ،‬يدعوه بطريقة غير مباش���رة للمزي���د ما أثاره‬
‫ت سايقة الشرف‪..‬امتى أشوفِك بقى يا بطاطس؟!‬ ‫وهو يُص ّفق بك ّفيه في حماس‪ :‬أحبِّك وان ِ‬
‫هنفضل مقضّينها كده ع ال ّناش���ف ؟!! عاوزك تزوريني في المصنع تتفرّ جي عليه‪..‬مش‬
‫ت ملكيش في الحاجات دي ؟!‬ ‫طرح أو إسداالت والّ ان ِ‬ ‫محتاجة عبايات خليجي أو ُ‬
‫ ‪-‬متحرجنيش بقى‬
‫ت هتدفع���ي حاجة؟!!‪..‬يادو َبك تيجي المصنع ب ُكل احترام وأدب‬ ‫ ‪-‬يا بت هوّ ا ان ِ‬
‫تتقاس���ي ب ُكل احترام وأدب وبعدها تاخدي حاجتِك ب��� ُكل احترام وأدب وفي‬
‫اآلخر تروّ حي مزا ِجك عِ نب‬
‫ ‪-‬ب ُكل احترام وأدب بردو ؟‬
‫ ‪-‬هوّ ا احّ نا لينا غيرهم‬
‫مصنعك‪..‬هتقاس بس ؟‬‫َ‬ ‫ك‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫جيت‬ ‫لو‬ ‫ ‪-‬عايز تفهّمني إ ّني‬
‫أشار ناحية ثوبها الـ(من غير هدوم) وهو يقول ‪ :‬وغالوة الغالي ده هتتقاسي بس‬ ‫َ‬
‫ ‪-‬يا راجل هوّ ا انتَ ليل نهار متبف ّكرش غير في حاجة واحدة‬
‫وجّ ه س���بابته إلى ماهو مخفي تحت الشال وهو يقول ‪ :‬بصراحة‪ ..‬مش حاجة واحدة همّا‬
‫حاجتين‬
‫لم تتمالك نفس���ها هذه المرّ ة‪ ،‬أفلت���ت منها ضحكة عميقة مجلجل���ة هيّجت فضاء غرفته‬
‫كبيض يُسلق على نار هادئة‬
‫ٍ‬ ‫وجعلت شعر رأسه الخفيف يفرفر‬
‫وطي صو َتك شوية‪..‬اب َنك يسمعنا يا راجل‬ ‫ ‪ّ -‬‬
‫ ‪-‬ابني مين اللي يس���معنا ؟!! زمانه دلوقتي في سابع نومة‪..‬أصله محترم قوي‬
‫ومن تسعة بيبقى في سريره‬

‫****‬

‫في الغرفة المجاورة تمامًا لغرفة الحاج صادق‪ ،‬رقد ابنه أحمد الـ(محترم ومن تسعة بيبقى‬
‫في س���ريره) مُكلف ًتا جسده الممتلئ بكوفرتة خفيفة من رأسه ح ّتى قدميه كالكفن‪ ،‬متص ّنعًا‬
‫النوم بينما هو من أس���فلها يُجري مباحثات أمن قومي هامس���ة بالمحمول وعيناه تراقبان‬
‫ً‬
‫حراسة للموقِف‪ ،‬وهو‬ ‫الباب المُغلق من خالل ثقب استراتيجي أقامه بين طبقات الكوفرتة‬
‫ت خافت ‪ :‬يعني خالص ده آخر كالم ؟!‪..‬بُكرة يا روان أخيرً ا‪..‬ماش���ي أربعة‬ ‫يتكلّم بصو ٍ‬
‫إزاي؟‪..‬ما أنا عارف إ ّني شايف الصورة‬ ‫بالميللي هكون عندِك‪..‬است ّني اس���ت ّني‪..‬هعرفِك ّ‬
‫بس بردو ماهو أنا مش همش���ي أبحلق في وشوش ال ّناس‪..‬تمام‪..‬أحمر على بينك‪..‬اتفقنا‪..‬‬
‫عند السينما ؟ جميل‪..‬نعم ؟!! أصحاب إيه اللي هتجيبيهم معاكِ ؟!! احّ نا مش متفقين نبقى‬
‫لوحدنا؟!‪...‬ي���ادي النيلة على التح ّكمات الخايبة‪..‬حاضر يا س��� ّتي وهللا فاهم‪..‬هجيب اتنين‬
‫صحابك اللي طلعولنا على غفل���ة دول‪..‬وهللا وال كأننا طالعين دريم‬
‫ِ‬ ‫معايا عش���ان خاطر‬
‫بارك‪..‬ماشي يا س ّتي‪..‬ماشي‪..‬لمّا نشوف آخرتها‪..‬سالم‬

‫****‬
‫صباح اليوم التالي‬
‫جلس ايميل ‪-‬صديق أحمد‪ -‬أمام كمبيوتره الخاص داخل غرفته ذات الباب الموارب‪ ،‬تأ ّكد‬
‫من خفض صوت السمّاعات للحد األدنى الذي تستوضحه بالكاد أذناه‪ ،‬عينيه مثبّتتان على‬
‫الشاش���ة شبه جاحظتين‪ِ ،‬ن ِّني عينيه يتن ّقالن يمي ًنا ويس���ارً ا كالبندول بين شاشة الكمبيوتر‬
‫وبين فتحة الباب تحسُّ���بًا ألي كبسة عائلية مفاجئة‪ ،‬أعصاب جسده منتصبة كغابة بوص‪،‬‬
‫ً‬
‫مأخوذا ح ّتى‬ ‫مس���ام جسده تنفث حرارة تكفي لكيّ بدلة مكرمشة‪ ،‬شبه منفصل عمّا حوله‪،‬‬
‫آخ���ر بهروز من بهاريز عظمه بما يُطالعه على الشاش���ة؛ مقاطع صغيرة ال تزيد مدّتها‬
‫عن بضع دقائق ولكنها كافية ج ًّدا إلش���عال جذوته وتحويل أعماقه لبركان يقذف بالحِمم‪،‬‬
‫ريقه الهارب من فمه يجري لمرأى األجس���اد العارية المتالحمة على بعد سنتيمترات منه‬
‫شطت بعقله‪ ،‬خياله يحشره عنوة داخل المسرحية الماجنة الكائنة أمامه‪،‬‬ ‫بأوضاع وزوايا ّ‬
‫يدق داخل صدره كخبط‬ ‫يتوهّم أنه أحد هؤالء األبطال فيحضن ويقبّل ويفعّص وينال‪ ،‬قلبه ُّ‬
‫ربّة منزل متحمّس���ة بيد هون أثناء َع َمل اللحمة المفرومة‪ ،‬أذنه مشرأبة كذئب في وضع‬
‫االستعداد لمهاجمة غزالة شريدة!!‬
‫عزيزي جيمس كاميرون مخرج أفاتار لِم َلم تصنع لنا فيلم سكس ثري دي‪..‬وقتها ستكون‬
‫أس���ديتَ للبش���رية خدمة ال ُتنس���ى أفضل من أفالم الكوارث التي تتحفنا بها ليل نهار!!‬
‫لم يش���عر بالوقت الذي م���رَّ عليه كقطار طلقة ياباني‪ ،‬وهو يتن ّق���ل من فيديو آلخر ومن‬
‫بطلة ألخرى ومن وهم آلخر‪ ،‬لينال خالل س���اعة واحدة من ش���قراء وش���امية وزنجية‬
‫وحيييييييح‪..‬راح عقله يتس���ائل ع���ن ذلك العبقري مُبتكِر فيلم الس���كس األول ؟ لماذا َلم‬
‫يُقلّدوه جائزة نوبل للس�ل�ام ؟!! الحمقى ال يعرفون حقيقة دور هذا الرجل في التقارب بين‬
‫الشعوب!!‪ ،‬أخذ موبايله في الرنين فجأة ما ع ّكر عليه مزاجه الرايق وقعدته الحلوة‪ ،‬بنظرة‬
‫لشاشته َعلِ َم أن أحمد صديقه يهاتفه اآلن وأنه قد هاتفه مُسب ًقا ثالث مرّ ات لم يسمعها وقت‬
‫أن كان غائصً���ا في عالمه اآلخر‪ ،‬زفر في ضيق وهو يُحدّث نفس���ه ‪:‬يلعن أمّك يا أحمد‬
‫الزفت‪..‬مش وق َتك خااالص دلوقت‬
‫كنس���ل عليه وه َّم بمعاودة الفرجة‪ ،‬ولكن ر ّنات أحمد اللعينة عادت تالحقه من جديد‪ ،‬هذه‬
‫المرّ ة رفع الموبايل ألذنه وهو يهتف بحنق ‪ :‬إيييييه يا ابن البتاعة‪..‬عاوز إيه ع الصُبح ؟!‬
‫ ‪-‬عندي ليك مصلحة عِ نب‪..‬هقابل روان ال ّنهاردة‬
‫ ‪-‬أهالً وسهالً‪..‬بتبيع إيه دي ؟!!‬
‫ ‪-‬بتبي���ع يا ابن الـ(‪ )....‬هوّ ا أنا بكلّ َمك على واحدة س���ارحة في عربية مترو؟!!‬
‫روان يا متخلّف اللي كلّم َتك عليها‬
‫ ‪-‬أهاااااااا‪..‬رواااااااااان‪..‬طيب ما تروح أنا أعمل أله َلك إيه ؟‬
‫ ‪-‬ماهي مش هتعرف تنزل من البيت إالّ ومعاها اتنين من صاحباتها‬
‫ ‪-‬إي���ه جو أفالم عبد الحليم ده ؟!‪..‬عمومًا أنا مش فاضي أ(‪ )...‬عليك‪..‬أنا ورايا‬
‫مذاكرة‬
‫ ‪-‬مذاكرااااااا‪..‬متأ ّكد ؟!‬
‫ ‪-‬آه طبعًا متأ ّكد‪..‬والكتاب في إيدي أهو‬
‫ ‪-‬يعني متأ ّكد إن اللي في إيدَ ك دلوقتي كتاب مش فخدة بنت الحاج جوهانس���ون‬
‫هللا يرحمه ويبشبش الطوبة اللي تحت راسه‬
‫مصعو ًقا‪ ،‬رفع إيميل عينيه ناحية الشاشة ليتأ ّكد مما هو متأ ّكد منه‪ ،‬أمامه مُحرك‬
‫اليوتيوب يعرض له آخر فيديو تو ّقف عنده بسبب المكالمة بعنوان‬
‫“‪”scarlet johanson sex scene‬‬
‫مرّ ت عليه ثوان من الذهول‪ ،‬قطعها صوت أحمد الساخر الشامت ‪ :‬المذاكرة حلوة مفيش‬
‫تنسى‪..‬البت دي عليها جسم يو ّقف (‪ )...‬تمثال رمسيس‬
‫ِ‬ ‫كالم‪..‬عمومًا ليك ّ‬
‫حق‬
‫ ‪-‬انتَ عرفت منين ؟!!‬
‫ ‪-‬تاني مرّ ة يا لطخ لمّا تيجي تش���وف سكس على اليوتيوب متبقاش تنسى األول‬
‫بتاعك والّ أل ؟!! بروفاي َلك المحروس‬
‫تتأ ّكد إذا كان مرب���وط بأكاونت الفيس َ‬
‫بقاله س���اعة بيعرض ُكل الفيديوهات اللي بتتف���رّ ج عليها وزمان مصر كلّها‬
‫عرفت إ ّنك نس���وانجي وسخ كييف سكس أفالم أجنبي‪..‬ده انتَ لو كنت ّ‬
‫نزلتها‬
‫إعالن ُنص صفحة في األهرام مكانتش اتعرفت كده‬
‫ ‪-‬أحه !!‪..‬يا سنة سوخة يا أوالد ‪..‬يعني ُكل ده طلع ع الفيس ؟!!‬
‫ ‪-‬مش كلّه يا وليد ‪P:‬‬
‫ ‪-‬يا ابن القرعة‬
‫نطقها ايميل بغيظ‪ ،‬وهو حائر ال يدري كيف يتصرّ ف في هذه الكارثة القومية التي ألمّت‬
‫به على غفلة كقضاء حمامة لحاجتها فوق كتفه لحظة خروجه من منزله مرتديًا أفخر ثيابه‬
‫ ‪-‬المه ّم‪..‬هتيجي ؟!‬
‫ ‪-‬أداري الفضيحة دي األول وبعدين نشوف‪..‬عمومًا نتقابل في الجامعة‪..‬سالم‬
‫ ‪-‬سالم‬

‫*****‬
‫“طاب والمصحف يا هند ما شربت حاجة”‬
‫وق���ف محمّد ‪-‬صديق أحم���د وايميل‪ -‬األنتيم في غرفته بمالبس���ه الداخلية‪ ،‬أمام الدوالب‬ ‫َ‬
‫وضع‬‫َ‬ ‫المفت���وح ينتقي من صفّ المالبس المعلّقة في الش���مّاعات ز ًّيا مالئمً���ا‪ ،‬في أذنيه‬
‫سمّاعتي الموبايل يُحادث ُحبّه األوّ لي وجارته هند التي فرغت للتو من عريضتها اليومية‬
‫التي تشجيه وترثيه بها ُكل يوم على الريق؛ تتهمه فيها بالتقصير والتطنيش والعين الزايغة‬
‫مع غيره���ا وأنه لم يعد يحبّها كما كان‪..‬تكرّ رها يوم ًّيا من أول يوم عرفها فيه لدرجة أنه‬
‫تساءل يومًا مع نفسه متى كان يحبّها كما كان ؟! متى كان رائعًا‪ ،‬جميالً‪ ،‬مستقيمًا‪ ،‬يحبّها‬
‫بجنون وال يفعل كوارث تستحق التوبيخ ُكل صباح؟!‬
‫ ‪-‬طيب بالذم���ة كده يعني ده عقل ؟!‪..‬بيرة إيه اللي هش���ربها في البلكونة؟!!‪..‬‬
‫ش���وفتيني إيه بس؟!!!‪..‬يا هند ش��� ّقتكوا فوقينا بت�ل�ات أدوار بحالهم‪..‬ده غير‬
‫مناخيرك‪..‬مبتش���وفيش أصالً‬ ‫ِ‬ ‫نضّ���ارة الربع متر كعب اللي راش���قاها فوق‬
‫بال ّنهار يبقى هتش���وفيني من تالت دور وكمان بالليل ؟!!‪...‬ماش���ي يا س��� ّتي‬
‫ت عايزة بس وقت ما أكون أنا فيها عش���ان‬ ‫تعالي وف ّتش���ي أودتي زي ما ان ِ‬
‫كنت عاوز أصالحِك ببوسة‬ ‫الحق عليّا ُ‬‫ّ‬ ‫أفرّ جك عليها كويس‪..‬أنا قليل األدب ؟!‬
‫بريئة‪..‬اش���تمي اش���تمي‪..‬لمّا نش���وف آخرتها معاكِ إيه‪..‬اوعي تكوني ناوية‬
‫ش���بة كده بعد الجواز‪..‬كمان شتايم ؟! ماااشي ماااااااااااشي‪..‬آه أنا‬ ‫تفضلي مخ ّ‬
‫كمان هنزل عندي سكش���ن في ال ُكلي���ة‪..‬ال وهللا ما أنا خارج ال مع محمّد وال‬
‫مع إيميل‪..‬بقول سكش���ن مفيش أوضح من العربي يا خلق هووو‪..‬آه صحيح‬
‫ف ّكرتيني لو هتنزلي متعمليش ربطة الطرحة بتاعت امبارح عش���ان ش���عرك‬
‫بيبان منها‪..‬وأنا مالي أنا شعرتين والّ مش شعرتين قولت أل يعني أل‪..‬شاطرة‬
‫يا بطوطتي‪..‬سالم‬
‫أنهى المكالمة‪ ،‬اس���تمر في مطالعة ثيابه المرصوص���ة أمامه بالعرض لثوان قبل أن يم َّد‬
‫ش���ط المنطقة بعينيه‬ ‫يده ليختار أحد األطقم‪ ،‬بعد دقائق خرج من غرفته متس���لالً بعد أن م ّ‬
‫وتأ ّك���د من خلو الصالة من المتلصصين والمتلصصات‪ ،‬على أطراف قدميه َع َبر الصالة‬
‫بحذر ح ّتى دخل المطبخ‪ ،‬فتح الثالّجة‪ ،‬أخرج منها زجاجة سِ ���فن أب س���كب محتوياتها‬
‫كاملة في الحوض‪ ،‬أخرج من أسفل قميصه زجاجة بيرة نصف ممتلئة‪ ،‬أدنى فوهتها من‬
‫باحثا عن‬‫فوهة زجاجة السِ فن الفارغة ليمأل األولى بمحتوى األخيرة‪ ،‬ما َل ناحية الثالّجة ً‬
‫موضع آمن‪ ،‬أخفى الزجاجة نائمة على جنبها خلف علبة بالس���تيكية كبيرة ش��� ّفافة مليئة‬
‫بق َِطع الجبن األبيض ‪.‬‬
‫م���ن المطبخ خرج بصورة طبيعية واثقة‪ ،‬ليجد ش���قيقته أميرة بانتظاره‪ ،‬ما إن رآها ح ّتى‬
‫انتفض ُذعرً ا‬
‫ ‪-‬إيه يا أخويا‪..‬شوفت عفريت ؟!‬
‫ ‪-‬يخربيتِك‪..‬طالعالي كده زي العمل الرضي‬
‫ ‪-‬انتَ رايح فين ؟‬
‫ ‪-‬الكلية‬
‫ ‪-‬وكنت في المطبخ بتعمل إيه ؟‬
‫ ‪-‬بشرب‪..‬ممنوع يا شاويش عطية ؟!‬
‫ ‪-‬ال يا س���يدي مش ممن���وع بس هند كلّمتني وقالتلي إنها ع���اوزة تعدّي عليّا‪..‬‬
‫شكلك عملت مصيبة‬
‫ ‪-‬وال مصيب���ة وال حاجة‪..‬تعدّي يا أختي وتقعد براحتها‪..‬بس ِخ ّفوا على فروتي‬
‫شوية‬
‫ ‪-‬موعدكش‬
‫ ‪-‬ماشي يا أختي‪..‬ه ِّتكِل أنا عشان ورايا جامعة‬
‫قالها منهيًا الحديث قبل أن يتجه في خطوات رشيقة ناحية الباب‪ ،‬فتحه وه َّم بغلقه إالّ أنها‬
‫أوقفته قائلة بحنو ‪ :‬مكتبتش حاجة جديدة تورّ يهالي ؟‬
‫بدا عليه الضيق‪ ،‬قال دون أن ينظر لها ‪ :‬فُ ِّكك‬
‫قطع ال ِقصّة بتاع َتك‪..‬هوّ ا كان قاعد يقراها زي‬ ‫قالت بسرعة ‪ :‬يا محمّد بابا مش هوّ ا اللي ّ‬
‫ّ‬
‫متقطعة م ّني‬ ‫م���ا انتَ طلب م ّنه وبعدين قام ير ّد عل���ى تليفون‪..‬أنا جيت وبقلّب فيها قامت‬
‫غصب ع ّني‬
‫ت ِن َمر أصحابه على ضهرها ؟!‬ ‫ِ‬ ‫كتب‬ ‫اللي‬ ‫بردو‬ ‫ت‬
‫ِ‬ ‫وان‬ ‫حزينة‪:‬‬ ‫بسخرية‬ ‫ً‬ ‫ال‬ ‫قائ‬ ‫استدار إليها‬
‫بدا عليها االرتباك ال تدري ما تقول‪ ،‬استكم َل هو بانفعاله الساخر المرير ‪ :‬أبوكِ المُحترم‬
‫رم���ى ال ِقصّة جنبه من غير ما يقرا منها س���طر واحد‪..‬ولمّا ع���از يكتب على حاجة قام‬
‫قاطعها حِتت وكتب عليها ِن َمر صحابه وسابها وراه فتافيت‪..‬ده ح ّتى مهمّوش يخبّي الورق‬
‫المتقطع ومعملش حسابه إ ّني ممكن أشوفه‪..‬عادي خالص‬ ‫ّ‬
‫ظ َّل االرتباك مُسيطرً ا عليها‪ ،‬أجبرت وجهها على االبتسام وهي ُتغير د ّفة هذا الموضوع‬
‫اآلسن ‪ :‬عملت إيه في المسرحية اللي قولتلي عليها ؟‬
‫حق وال باطل‪..‬بس‬ ‫ ‪-‬بتوع الشئون عالم والد س ّتين كلب مش عاوزين يدّوني ال ّ‬
‫فيه واحدة هناك بنت حالل وعدتني خير‪..‬المفروض هتر ّد عليّا آخر األسبوع‬
‫ ‪-‬إن شاء هللا هتتعرض‪..‬روّ ق بقى وابقى احلق دق َنك دي شك َلك فيها ِوحِش‬
‫ابتسم إليها في امتنان وهو يقول ‪ :‬أنا مروّ ق أهو‪..‬همشي أنا بقى سالم‬
‫َع َبر فتحة الباب ثم أغلقه من خلفه برفق ‪.‬‬

‫****‬
‫ما أن خرج إيميل من ش��� ّقته وأغلق خلفه بابها ح ّتى فوجئ بجاره عِ ز يفتح ش���رّ اعة باب‬
‫الش��� ّقة المجاورة‪ ،‬يراقبه بنظرة مُخبر أبله من الفئة (أ ّم بدلة صيفي ُنص ك ّم وشنب مس ّقط‬
‫وجرن���ان فيه خرمين)‪ ،‬قال هاز ًئا ‪:‬بقى يجي َل���ك قلب يا يهودي تتفرّ ج على (‪ )---‬أنجيلينا‬
‫جولي بعدما شالتهم‪..‬يعني البنية قاعدة حزينة عشان محرومة منهم وانتَ قاعد هنا تـكيّش‬
‫برايز بيهم؟!‪..‬عامل زي الطور الهايج مش عاتق‬
‫بطلت تقعد متذ ّنب بالس���اعتين قدّام الموفي تشانيل‬ ‫في ضيق صاح إيميل ‪ :‬يعني انتَ اللي ّ‬
‫عشان تشوف َلك في اآلخر لقطتين تالتة من إياهم‪..‬انتَ يا عِ ز بقيت بتتكلّم؟!!‪..‬هللا يرحم لمّا‬
‫قعدت زي الكلب ش���هرين تتحايل عليّا عشان أدّيك فيلم محل الموبايالت وأنا مرضتش‪..‬‬
‫ده انتَ متعرفش الفرق بين الفيس والياهو‬
‫ ‪-‬ال طبعًا عارفه‪..‬الفيس أزرق والياهو أحمر‬
‫ ‪-‬أحمر بردو ؟!!‪..‬حمرا يا عِ ز‬
‫تجاهله واتجه نحو السلّم إالّ أن عِ ز عاد ليستوقفه‬
‫ ‪-‬بس وهللا انتَ طلعت كويس‪..‬ساعة بحالها تتفرّ ج‪َ ..‬ن َفسك طِ لِع طويل يا واد مع‬
‫إنه مش باين عليك‪..‬مصيبة لتكون مخلّص بدري بدري من أول ثانيتين وباقي‬
‫السّاعة قاعدها حالوة روح‬
‫عل���ى الفور انحنى إيميل على قدمه‪ ،‬التقف منها فردة حذائه ثم قذفها ب ُكل قوته نحوه وهو‬
‫يهتف فيه ‪ :‬يا ابن ال َمرة‬
‫انحنى عِ ز بحركة ال إرادية من خلف الباب وك ّفه تغلق زجاج الشرّ اعة بسرعة‪ ،‬اصطدم‬
‫الح���ذاء بالقضبان المعدنية للباب وأحدث ضجّ ���ة محدودة على دويّها ط َّل على إيميل من‬
‫فوق من فتحة الدرابزين جارتيه اللدودتين ش���يماء ونسرين وهو نصف حافي واقف أمام‬
‫باب ش��� ّقة عِ ز منحني على األرض يلتقط حذائه ويحاول انتعاله‪ ،‬قالت نسرين في خبث‪:‬‬
‫ما َلك يا إيميل متضايق ليه ع الصبح ؟‬
‫أجابتها ش���يماء بدالً منه على نفس موجتها األريبة ‪:‬معلش بقى يا نس���رين بيقولِّك الواحد‬
‫بعدم���ا بيخلّص فرجة على الحاج���ات دي بيبقى عامل زي ع���ود القصب الممصوص‬
‫ومبيبقاش طايق حد ‪.‬‬
‫ت ليكِ عين‬ ‫ِ‬ ‫ان‬ ‫‪:‬‬ ‫بهما‬ ‫ص���اح‬ ‫نارية‪،‬‬ ‫نظرات‬ ‫بضعة‬ ‫منحهما‬ ‫ناحيتهما‪،‬‬ ‫لوى إيمي���ل رقبته‬
‫شيماء‪..‬صورك معمولة باك جراوند على ُكل‬‫ِ‬ ‫يا‬ ‫صور‬ ‫ليكِ‬ ‫عندي‬ ‫أنا‬ ‫شيماء‪..‬ده‬ ‫تتكلّمي يا‬
‫كمبيوترات الح ّتة يا شيمااااء‪..‬هللا يرحم قميص النوم األصفااااااااار‬
‫يب���دو اإلحراج عل���ى وجه الفتاتين‪ ،‬تتبادال النظرات قبل أن تنس���حبا بس���رعة من فوق‬
‫الدرابزي���ن‪ ،‬يظ ُّل يُح���دق لألعلى ِبغِل في الفراغ الذي خلّفتاه لث���وان قليلة‪ ،‬قبل أن يُقرر‬
‫استكمال مسيرته للخارج ويهبط َعبْر درجات الساللم‪ ،‬من بوّ ابة العمارة خرج وهو يتمتم‬
‫‪ :‬عالم والد وسخة ميجوش إالّ بالتهزيق والشرشحة‬
‫لمح البوّ اب وه���و ينهض عن أريكته‪ ،‬يركض نحوه وينادي عليه ‪ :‬يا آيميل بيييييييه‪...‬يا‬ ‫َ‬
‫آيميل بيييييييييه‬
‫تو ّقف واستدار ناحيته قائالً في سأم ‪ :‬انجز يا عبمجيد عشان مستعجل‬
‫ ‪-‬أنا كنت ع���اوز من حضر َتك خدمة صغيرة‪..‬الواد ابن���ي عنده ِحصّة ألعاب‬
‫بُكرة وكنت عاوزك تسلّفه التي شيرت األتيتاس اللي بتلعب بيه ويّا زماي َلك‪..‬‬
‫النمرة َع َّشة بتاع ّ‬
‫ميزي‬
‫وميزك؟!! انتَ مخارج الحروف بتاع َتك بتطلع من أنهي عضو‬ ‫ّ‬ ‫ ‪-‬أتيتاس وع َّشة‬
‫ّ‬
‫؟!‪..‬بطل جنان يا عبمجيد التي شيرت ده أغلى من عيلتكوا‬ ‫في جس َمك بالظبط‬
‫كلّها شنب شنب‬
‫ ‪-‬براح َت���ك يا بيه‪..‬أصل الواد ابني يعني كان قاعد ع الكمبيوتر اس���م هللا على‬
‫مقا َمك ودخل على اس���مه إيه النِت ده بالوصلة وشاف بالصدفة شوية حاجات‬
‫بالصدفة كده يعني‪..‬أفتكر لو البيه الكبير عرفها مش هيبقى مبسوط‬
‫ ‪-‬بتهددني يا عبمجيد ؟!!‬
‫ ‪-‬العفو يا بيه‪..‬أنا ّ‬
‫ببتزك‬
‫ ‪-‬عمومً���ا ي���ا حبيبي‪..‬الحاجات اللي اب َنك قاعد يش���وفها صدفة دي أنا خالص‬
‫مسحتها ومش هتعرف تعمل بيها حاجة‬
‫ ‪-‬ماهو يا بيه ابني بالصدفة بردو أخدها برنيطة في الس ّكين‬
‫ ‪-‬برنيطة إيه ؟!! آآآه‪..‬يكونش قصدَ ك برينت سكرين؟!!‪..‬يا حالو َتك يا عبمجيد‬
‫بتاعك اتحسّ���ن ييجي‬
‫على صُدفك الل���ي بتيجي ورا بعضها‪ ..‬ال االنجليزي َ‬
‫م ّنك‪..‬عمومًا ماش���ي يا عبمجيد هجيب َلك التي شيرت بس افتكرها‪..‬حاجة تانية‬
‫تستغل بيها الموقف ؟‬
‫ ‪-‬متشكرين يا بيه‪..‬احّ نا منحبّش نيجي ع الواليا‬
‫منحه إيميل نظرة غضب أخيرة قبل أن يغادر بعدها بخطوات سريعة‬

‫****‬

‫جلس أحمد أمام الالب توب الخاص به‪ ،‬يتص ّفح آخر مخرجات برنامج التجس���س الشهير‬
‫‪ key logger‬الخاص بتس���جيل جميع نش���اطات الكمبيوتر الموض���وع فيه والذي ثبّته‬
‫خِلس���ة داخل كمبيوتر والده بعد أن أضاف إليه خاصية إرسال ُكل هذه المخرجات يوم ًّيا‬
‫إل���ى إيميله‪ .‬منذ أن نصّب أحمد هذا البرنامج على كمبيوت���ر والده وهو معتاد أن يُطالع‬
‫هذه التفريغات ُكل صباح؛ أحاديثه َعبْر الكاميرا‪ ،‬ورس���ائله الش���خصية على الفيس بوك‬
‫واإليميل‪ ،‬كلّها تؤ ّكد سلو ًكا منحر ًفا برع والده في إخفاؤه‪ُ ،‬كل مطالعة من هذا النوع كانت‬
‫تهدم داخله شي ًئا وتبني شي ًئا آخر‪ ،‬حرّ رته سلوكيات والده الخفية من عُقدة الذنب التي كان‬
‫يُعاني منها ساب ًقا كلّما اقترف ذنبًا يعلم أنه سيُغضب عليه والده الحبيب الورع‪ ،‬فكان أحد‬
‫أهم عوامل انحالل حبائله على الرابع ‪.‬‬
‫لحظة ما قفش فيها والده أثن���اء محادثة إلكترونية ماجنة رأى فيها قدوته‬ ‫ً‬ ‫حي���ن أتت عليه‬
‫رمز التضحية والتدين وااللتزام في ش���كل لم يعرفه أب ًدا‪ ،‬من يومها قرَّ ر أن يضعه تحت‬
‫رقابة دقيقة باستخدام برنامج متطوّ ر يسجّ ل ُكل همسة يقوم بها على الكمبيوتر؛ محادثات‬
‫بالساعات مع عاهرات يتعرين مقابل رصيد موبايل‪ ،‬محاوالت إغواء لفتيات َعبْر الفيس‬
‫بوك‪ ،‬أفالم سكس طويلة يعلمها أحمد جي ًدا ألنه َس َبق وأن شاهدها مرارً ا وهكذا ‪.‬‬
‫هذا اليوم جلس أحمد يتابع بعض رسائل والده األخيرة لبعض فتيات يسعى للتعارف معهن‬
‫“هاي‪...‬ممكن نتعرف ؟!”‬
‫ت كاسفاني”‬‫“أنا بعتلِك إضافة‪..‬ووهللا ما ان ِ‬
‫“أنا سمحت لنفسي أشوف صورتك‪..‬وعجبتني ج ًّدا‪..‬وهبقى سعيد قوي لو عرفتِك”‬
‫ت يا بؤبؤ عيني‬ ‫“أنا حزين ووحيد ومحتاج اللي ياخد باله م ّني ويدلّعني‪..‬ممكن تكون ان ِ‬
‫الحزين؟!”‬
‫هم���س أحمد لنفس���ه بضيق ‪ :‬أحّ ه !! بؤبؤ عينه الحزين ووحي���د محتاج حد يدلّعه وكمان‬ ‫َ‬
‫بطلت‬ ‫ممكن نتعرّ ف‪ ..‬إيه الهباب ده يا بابا ؟!! الراجل ده اتهفّ في عقله والّ إيه ؟! ده أنا ّ‬
‫الحركات دي من أولى ثانوي ‪.‬‬
‫بطرق على الباب‪ ،‬يُفتح الباب ويظهر من خلفه والده في جلبابه الزيتوني الفاخر‬ ‫فُوج���ئ َ‬
‫شاة بخطوط الذهب؛ قصير القامة‪ ،‬ش���عر رأسه خفيف وله لحية‬ ‫وعباءته الس���وداء المو ّ‬
‫بيضاء أنيقة نِصف مُح ّناة‪ ،‬على وجهه ارتس���مت ابتس���امة عريض���ة وهو يقول ‪:‬صباح‬
‫الخير يا حبيبي‬
‫أغلق أحمد صفحة اإليميل بس���رعة وهو يستدير ناحية والده قائالً‪ :‬صباح الخير يا بابا‪..‬‬
‫شغل ؟‬ ‫إيه نازل ال ُ‬
‫ ‪-‬أيوة يا أبو حميد‪..‬عاوز حاجة ؟‬
‫ ‪-‬شكرً ا يا بابا‪..‬أنا كمان شوية ونازل ع الكلية‬
‫ ‪-‬بقولّك يا أحمد‪..‬أنا كنت عاوز أكلّمك في موضوع‬
‫ ‪-‬خير ؟!‬
‫ ‪-‬انتَ مبتصلّيش لي���ه يا أحمد‪..‬أنا مالحظ إنك مبتصلّي���ش خالص‪..‬ليه كده يا‬
‫حبيبي ؟!‬
‫ينظر له أحمد بشئ من الدهشة دون أن يجيب‪ ،‬تابع األبّ متق ّمصًا دور الواعظ الشهير‬
‫ ‪-‬يعن���ي دلوقتي ربّنا اختارك دو ًنا عن خلق هللا وبيقولّك يا أحمد‪.‬يا أحمد تعالى‬
‫أن���ا عاوزك تزورني تيجي انتَ تقولّه أل‪..‬بق���ى ده يص ّح ؟!‪..‬يص ّح اللي انتَ‬
‫بتعمله ده والّ ميصحّ ش ؟‬
‫ ‪-‬ال ميصحّ ش أب ًدا اللي أنا بعمله !!‬
‫ ‪-‬تس���لم يا حبيبي‪..‬أنا عاوزك تصلّي بانتظام يا أحمد عشان ربّنا يرضى ع ّنا‪..‬‬
‫انتَ مبقتش صغير‬
‫ ‪-‬ماشي يا بابا‪..‬إن شاء هللا‬
‫ ‪-‬أنا همشي أنا بقى‪..‬سالم‬
‫خ���رج الحاج صادق من الغرفة وأغلق الباب خلفه‪ ،‬بينما أحمد يعاود فتح صفحة اإليميل‬ ‫َ‬
‫على الالب‪ ،‬يتطلّع إليها وعلى شفتيه ابتسامة ساخرة‪..‬قوي ‪.‬‬

‫****‬

‫وقف إيميل وأحمد أمام البوّ ابة الرئيس���ية لجامع���ة القاهرة‪ ،‬يُتابعان االزدحام من حولهما‬
‫بد ّقة‪ ،‬قال أحمد ‪ :‬انتَ متأ ّكد إ ّنه جاي ؟‬
‫ ‪-‬أيوة ياع ّم‪..‬أنا كلّمته وقولتله يقابلنا هنا‬
‫اتأخر ليـ‪..‬أهو جه أهو‬ ‫ ‪-‬أمّال ّ‬
‫برز لهما من وسط الحشود صديقهما محمّد الذي لوّ ح لهما بك ّفه وهو يُقبل عليهما‪ ،‬ما أن‬
‫وقف في حضرتهما ح ّتى قال في مرح ‪ :‬آرجّ الة‪..‬عاملين إيه يا وحوش ؟!‬
‫ ‪-‬محتاجي َنك في خدمة إنسانية‬
‫ ‪-‬مش معايا والّ ملّيم‬
‫ ‪-‬فلوس إيه يا كحيان ؟!‪..‬عاوزي َنك في حاجة تانية‬
‫ ‪-‬خيييييييير ؟‬
‫ك السلوفانة بتاعتها إنها‬ ‫ّ‬ ‫تف‬ ‫عش���ان‬ ‫ش���ارطة‬ ‫بس‬ ‫ّعة‬‫م‬ ‫متل‬ ‫مكنة‬ ‫مع‬ ‫ ‪-‬عندنا ميعاد‬
‫يبق���ى معاها َو َنس اتنين غزالن صاحباتها‪..‬همّا هيبقوا تالتة واحّ نا الزم نبقى‬
‫تالتة عشان الليلة متفرطش م ّننا وتبور‬
‫لوّ ح لهما بيده معترضًا‬
‫ ‪ -‬انتوا تنس���وا الحوار ده خااااااااالص‪..‬أنا لسّه معمولّي دلوقت محكمة ثورية‬
‫عشان خاطر بُق بيرة‪..‬تيجي تقولّي َم َكن وغزالن ؟!!‬
‫ ‪-‬هي ساعة زمن‪..‬نرفع العلم وت ِّننا راجعين‬
‫ ‪-‬انسووووو‪..‬ورايا سكشن مه ّم الزم أحضره‬
‫لم يبدو أن أحمد قد اس���تمع إليه‪ ،‬فقط قال ‪ :‬ممكن أعمل تليفون من معاك يا محمّد‪..‬عاوز‬
‫أكلّم أبويا وموبايلي مفهوش رصيد‬
‫أخرج موبايله من جيبه ثم ناوله إيّاه قائالً ‪ :‬بس متاخدش راح َتك قوي يا أخويا‬
‫التقط منه الموبايل وابتعد به بعي ًدا‪ ،‬قال إيميل ‪ :‬خلّيك حلو يا محمّد ومتبوّ ظش الليلة‬
‫ ‪-‬متو ّقعنيش في المش���اكل يا إيمي���ل وحياة أبوك‪..‬أنا وهللا م���ا أنا ناقص‪..‬هند‬
‫مضيّقة الخِناق عليّا على اآلخر‬
‫ ‪-‬خايف منها يا دكر؟!‬
‫ ‪-‬ال خايف على زعلها‬
‫ ‪-‬خالص‪..‬اتجوّ زوا وخلّصونا بقى‬
‫ ‪-‬إن شاء هللا‪..‬أوّ ل ما أحوّ ش َت َمن الش ّقة‪..‬قدّا َمك كده لغاية كاس العالم بتاع َق َطر‬
‫ ‪-‬بس يا محمّـ‪..‬‬
‫ ‪-‬خالص يا إيميل سيبه براحته‬
‫دخل أحمد في الحوار بغتة بعد أن أنهى مكالمته‪َ ،‬م َن َح الموبايل لمحمّد وينظر له ويقول في‬
‫هدوء ‪ :‬مدام سكشن مه ّم يبقى خالص مينفعش يتفوّ ت‪..‬انتَ عاوز تضيّع مستقبل الواد ؟!‬
‫التق���ط منه الموبايل وهو يقول في إحراج ‪ :‬معلش بقى يا ش���باب‪..‬وهللا لو كان ينفع كنت‬
‫جيت‬
‫ ‪-‬وال يهمّك يا بطل‬
‫تابعاه من ظهره وهو يغادر يلتحق بطوابير الطلبة التي تدلف َعبْر البوّ ابة الرئيس���ية‪ ،‬قال‬
‫أحمد إليميل ‪ :‬ربع ساعة بالكتير وهتالقيه جاي يدوّ ر علينا‬
‫نظر له باستغراب فأتبع في غموض‪ :‬يالّ بينا على أفندينا‬

‫****‬
‫جلس محمّد ينصت باهتمام للمعيدة الشابة التي‬ ‫َ‬ ‫في سكش���ن محاس���بة المنش���ئات المالية‬
‫وقفت أمام الس���بّورة الفرومايكا تكتب عليها بالقلم معادالت وقيود محاسبية وهي تشرحها‬
‫باستفاضة ومن خلفها هو يسجّ ل بضعة مالحظات من كالمها في كشكوله وفجأة‪..‬‬
‫“األنترلوب واقف يا هبة !!”‬
‫ع َّم الس���كون المكان من فرط الصدمة‪ ،‬لو أُلقيت إبرة على األرض لر ّنت كصاجات بين‬
‫بحثا عن مصدر ذلك‬ ‫أنامل راقصة نشيطة‪ ،‬ال ُكل يتبادلون النظرات المستغربة فيما بينهم ً‬
‫الصوت اإللكتروني الذي صاح من وس���طهم بتلك العبارة البذيئة الش���هيرة‪ ،‬مع إضاءة‬
‫موبايله وانبعاثات الصوت من س���مّاعته‪ ،‬كان محمّد هو الوحيد الذي فه َم ُكل ش���ئ‪ ،‬هذه‬
‫العبارة وغيرها ضمن جزء من مكالمة س���كس أشهر من صباع محمد مرسي ُثبتت على‬
‫موبايله كنغمة رنين تستقبل أي اتصال من أحدهم باألنترلوب الواقف !!‬
‫ل���م يدر كي���ف يتصرّ ف‪ ،‬فقط م َّد إصبع���ه المرتجف يكنس���ل دون أن يعرف ح ّتى هوية‬
‫الم ّتصل‪ ،‬ورأس���ه عاجزة عن اإللمام بتفس���ير منطقي لما يحدث‪ ،‬فقط كان الـ‪“...‬هيفرتك‬
‫البنطلون ي���ا حبيبة قلبي” ينتظره مع هذه الر ّنات المتتالي���ة التي راحت تتصاعد بإلحاح‬
‫البث‪ ،‬أحاطت‬ ‫أدرك ال ُكل أ ّنه هو مصدر ّ‬ ‫َ‬ ‫ش���حّ ات رخم‪ ،‬مع تتالي المرّ ات فُضح محمّ���د‪،‬‬
‫هرب محمّد‬‫َ‬ ‫فقط‬ ‫لحظتها‬ ‫سوق‪،‬‬ ‫وس���ط‬ ‫عارية‬ ‫ب وصوب كامرأة‬ ‫به النظرات من ُكل حد ٍ‬
‫شاشة‪ ،‬مع نفسه‬ ‫بأنظاره من أنظارهم فطالع للحظة هوية الم ّتصل واسمه الذي لعلع على ال ّ‬
‫تمت َم ‪ :‬آه يا ابن القحبة !!‬
‫ض َح بحُمرة الخجل ‪ :‬إيه اللي انتَ مش ّغله ده‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ن‬ ‫ٍ‬
‫ه‬ ‫بوج‬ ‫المعيدة‬ ‫صراخ‬ ‫من أمام الس���بّورة أتاه‬
‫يا حيوااااااان !!‬
‫بحركة ال إرادية انطلقت أنامله تعاود الكنس���لة عل���ى المرّ ات المتعاقبة التي راح متصله‬
‫يزنُّ عليه فيها كاتمًا النغمة األبيحة وس���ط تواصل صيح���ات المعيدة واصفة إيّاه بجميع‬
‫الحيوانات التي خلقها ربّنا من أول فرس النهر وح ّتى السنونو وهكذا‪..‬‬
‫“األنترلوب واقف يا هبة‪”..‬‬
‫“األنترلوب وا‪”..‬‬
‫“األنترلو‪”..‬‬
‫“األنتـ‪”....‬‬
‫البطارية عن جس���م الموبايل وهو‬ ‫هذه المرّ ة هداه تفكيره ‪-‬متأخرً ا‪ -‬إلى ح ّل نهائي؛ َن َز َع ّ‬
‫أخيرً ا ير ّد على المعيدة‪ ،‬بارتباك قال ‪ :‬وهللا ما أنا‪..‬ده هوّ ا اللي كـ‪..‬‬
‫ ‪-‬اطلع برّ ه يا حيوان ‪..‬وتعمل حس���ا َبك إن أعمال السنة بتاعتك التيرم ده صفر‬
‫وكمان الدكتور الزم هياخد خبر باللي انتَ عملته ده‬
‫ ‪-‬والخاتمة ما أنا يا أستاذة‪..‬ده واحد تاني هوّ ا اللي عمـ‪..‬‬
‫ ‪-‬براااااااااااااااا‪..‬قولت اطلع براااااااااااااا‬
‫كظ���م محمّد غيظه ولمل َم حاجياته في عصبية ثم غادر المكان‪ ،‬تالحقه العيون الس���اخرة‬
‫والهازئة والمندهش���ة‪ ،‬تابعته المعيدة إلى أنا غادر‪ ،‬بدا عليه���ا أنها تبذل مجهو ًدا ضخمًا‬
‫إلعادة الهدوء لنفس���ها‪ ،‬بعصبية أخرجت قلمًا من حقيبتها ثم مالت ناحية إحدى األوراق‬
‫خرج عاليًا برغمها‪:‬‬
‫َ‬ ‫ت‬‫الموضوعة على مكتبها‪ ،‬اكتش���فت أنها ال تعلم اسمه فسألت بصو ٍ‬
‫اسمه إيه البني آدم ده ؟!‬
‫ ‪-‬محمّد‪..‬محمّد عِ ز الدين يا أستاذة هبة !!‬

‫****‬

‫ف���ي مصنع الحاج صادق ألزياء المحجّ بات‪ ،‬تعالى هدير ماكينات التفصيل التي شَ���غَ لت‬
‫القاعة الوحيدة التي تش���مل الدور األرضي بأكمله؛ ش���ديدة االتساع في حجم ملعب كرة‬
‫ق���دم‪ ،‬بداخلها تراصت خطوط منتظم���ة من الماكينات‪ ،‬على ُكل ماكينة جلس���ت عاملة‬
‫ظهرها محني لألمام منهمكة في أداء وظيفتها‪ ،‬بين ُكل عاملة وأخرى تن ّقل رئيس العمّال‬
‫ُالحظ���ا وموجهًا ومثنيًا وزاج���رً ا‪ ،‬من غرفته العلوية وقف صادق يتابع س���ير العمل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫م‬
‫الغرفة بالكامل جدرانها من زجاج ش��� ّفاف يسمح بالرؤية من اتجاهين ويكشف محتوياتها‬
‫بخط كوفي‬ ‫ّ‬ ‫البس���يطة؛ مكتب أرابيس���ك صغير من خلفه تابلوه أخضر قطيفة ُكتب عليها‬
‫مذهّب“وقُل اعملوا فس���يرى هللا عملكم” حُفظت خل���ف لوح زجاجي وأنتريه جلدي وثير‬
‫َي ْشغَ ل باقي المساحة في زاويته ثالّجة ماء كهربائية ذات قبّة سماوية ش ّفافة نصف ممتلئة‪،‬‬
‫تتصل الغرفة بالقاعة بس���لّم حديدي رفيع‪ ،‬يهبط مائالً من عتبة الباب ح ّتى يلتحم بأرضية‬
‫القاعة‪ ،‬تالقت عيناه بعينا رئيس ُعمّاله عوض العوّ فأشار إليه بيده أن يأتيه‪ ،‬ترك الرجل‬
‫العاملة التي كان يتحدّث معها واتجه نحو الس���لّم‪ ،‬صعده بصعوبة بس���بب كرشه الضخم‬
‫ح ّتى دخل عليه الغرفة‬
‫ ‪-‬خير يا حاج صادق ؟‬
‫شغل ده مش كان مفروض يخلص أول امبارح ؟!‬ ‫المتأخرة ياعوّ ‪..‬ال ُ‬
‫ّ‬ ‫ ‪-‬الطلبيات‬
‫ ‪-‬يا حاج آديك شايف‪..‬البنات ش ّغالين بإيديهم وسنانهم بدل الوردية تالتة ومفيش‬
‫شغل خلصان‬ ‫وال واحدة منهم مقصّرة‪..‬إن شاء هللا بُكرة بالكتير هيكون ال ُ‬
‫ ‪-‬بُكرة ياعوّ آخر كالم‪..‬متجيش بُكرة تقولّي كاني وماني‬
‫ ‪-‬عنيّا يا حاج‬
‫رنَّ موبايل الحاج‪ ،‬تابع شاشته ثم رفعه ألذنه قائالً في لهفة‪ :‬أيوة يا سيادة اللوا‪..‬نحمده يا‬
‫س���يادة اللوا‪..‬وانتَ أكتر يا س���يادة اللوا وهللا‪..‬بجد وهللا ؟! تشرّ ف وتنوّ ر‪..‬طبعًا هست ّناك‪..‬‬
‫المه ّم هتلبس إيه جنا َبك ؟‪..‬ياريت البدلة السودا معاليك بيبقى شك َلك َق َمر فيها‪..‬حالو َتك يا‬
‫باشا‪..‬في االنتظار‪..‬بالسالمة‪..‬بالسالمة يا أحلى لوا في الدنيا‬
‫أنه���ى المكالمة‪ ،‬هبطت يديه بالموبايل جانبًا ثم عاد إلى عوض المتابع المحادثة باندهاش‬
‫مكتوم‬
‫ ‪-‬ك ّنا بنقول إيه ؟!‬
‫ ‪-‬بخصوص الطلبية كنت بقول لسيـ‪..‬‬
‫ ‪-‬ال ال ‪..‬طلبية إيه وبت���اع إيه‪..‬أنا عاوزك تجبلي علبة الدوا اللي قولتلي عليها‬
‫م���ن عند قريبك الصيدلي‪..‬انتَ عارف طبعًا إ ّني مش بتاع الحاجات دي‪..‬دي‬
‫لواحد صاحبي‬
‫ ‪-‬آه‪..‬آه‪..‬لصحا َبك‪ ..‬وماله يا باشا‪..‬أجبها َلك من عنيّا‬
‫ ‪-‬طيب يالّ مست ّني إيه ؟!‬
‫دلوقت‪..‬ع َش���ر دقاي���ق ويكون باعتهالن���ا مع الواد‬
‫َ‬ ‫ ‪-‬حاضر يا باش���ا‪..‬هكلّمه‬
‫بالموتوسيكل‬
‫ ‪-‬كويس‪..‬يكون البنات لحقوا مشوا‬
‫ ‪-‬بنات مين اللي يمشوا ؟!‬
‫ ‪-‬بنات المصنع‬
‫ ‪-‬ليه ؟!!‬
‫ ‪-‬ال ّنهاردة أجازة‬
‫ ‪-‬أجازة ؟!!‪..‬أجازة إيه ؟!‬
‫ ‪-‬عيد العمّال‬
‫ ‪-‬عمّال إيه يا حاج‪..‬ده احّ نا في ديسمبر‬
‫ ‪-‬يالّ بقى يا عوّ متبقاش خنيق‬
‫ابتعد عنه واتجه نحو الباب وهو يقول بعدم اقتناع‪ :‬اللي تشوفه يا حاج‬
‫أوقفه صادق على عتبة الباب قائالً ‪:‬متنس���اش يا عوّ تكلّم قري َبك على الحاجات اللي مش‬
‫ليّا‪..‬هه؟‪..‬اللي هي لصاحبي‬
‫ابتسم عوض في خبث‪ ،‬قبل أن يقول وهو يهبط السلّم ‪ :‬مش هنسى يا باشا‬
‫ت جهوري اخترق‬ ‫اس���تمر عوض في الهبوط ح ّتى وقف في منتصف السلّم فصاح بصو ٍ‬
‫ضجيج العمل ‪ :‬يا بنااااااااااااااااااات‬
‫رفعت ُكل واحدة منهن رأس���ها ألعلى ناحيته‪ ،‬صل َب���ن ظهورهن وهن يتطلّعون إليه في‬
‫ترقب‪ ،‬أتبع ‪ :‬بقية اليوم ال ّنهاردة أجازة‪..‬تقدروا تروّ حوا‬
‫تبادل���ن معًا نظرات االس���تغراب ولكن ل���م تتفوه أ ًّيا منهن بكلم���ة‪ ،‬ال تعترض أب ًدا على‬
‫يمنحك إجازة بال داعي‪ ،‬في آلية م���دّت ُكل واحدة يدها على مكبس الطاقة‬ ‫َ‬ ‫مدي���رك وهو‬
‫َ‬
‫تغلق���ه وتنهض بعدها مُغادِرة‪ ،‬لينخفض الهدي���ر تدريج ًّيا إلى أن عال الصمت تمامًا‪ ،‬من‬
‫فوق تابعهن الحاج صادق وهن يغادرن مع رئيس���هن ح ّتى خال المكان تمامًا‪ ،‬ا ّتجه نحو‬
‫األنتريه‪ ،‬التقط من بين ثناياه س���جّ ادة ص�ل�اة فردها أمام مكتبه وجهه في مواجهة اللوحة‬
‫القطيفة مباش���رة‪ ،‬رفع ك ّفيه إلى جوار أذنيه وهو يقول في خش���وع‪ :‬الله ّم إ ّني نويت أداء‬
‫ركعتي قضاء حاجة !!‪..‬هللا أكبررررررررررر‬

‫****‬

‫وقفت هند أمام باب ش��� ّقة محمّد تطرقه برفق‪ ،‬فتحت لها ش���قيقته أميرة بإسدال الصالة‪،‬‬
‫ْ‬
‫منحتها ابتسامة صغيرة وهي تقول ‪ :‬إيه يا بنتي مش قولتي هتيجي بُكرة‪..‬ادخلي تعالي‬
‫ما إن دخلت هند ح ّتى أغلقت الباب من خلفها‪ ،‬دارت بعينيها في الش ّقة وهي تسأل بصوت‬
‫خافت ‪ :‬أخوكِ هنا ؟‬
‫ ‪-‬ال نزل‪..‬بيقول رايح الجامعة‬
‫ك دبابيس طرحتها وتنزعها عن شعرها وهي تقول ‪ :‬كويس‪..‬‬ ‫مدّت هند يدها إلى رأسها تف ّ‬
‫علشان نعرف نتكلّم براحتنا‬
‫أودعت الطرحة فوق رخامة الكنصول المجاور للباب قبل أن تتجه ناحية الصالة‪ ،‬أوقفتها‬
‫أميرة بمسكة رؤوف لذراعها قائلة ‪ :‬في المطبخ بقى عشان بعمل فطار‬
‫سارت الفتاتان معًا ودخلتا المطبخ لتش َّم هند رائحة بيض مقلي متصاعدة‪ ،‬أسرعت أميرة‬
‫ناحية البوتجاز وبطرف عصا خشبية مفلطح راحت ُتقلّب في جنبات البيض كيال يحترق‪،‬‬
‫طرح عريضة ؟!‬ ‫قالت ‪ :‬من إمتى بقيتي بتلبسي ُ‬
‫اس���تندت هند بردفها على منضدة المطبخ ذات الس���طح المُسر َمك وهي تجيبها ‪ :‬علشان‬
‫خاطر البيه أخوكِ ميوجعليش دماغي‪..‬وياريته يطمر‬
‫ت لسّه مصمّمة إ ّنه شرب بيرة ؟!‬ ‫ابتسمت أميرة وهي تقول ‪ :‬ان ِ‬
‫وضعت هند طرفي سبابتيها أسفل عينيها وهي تقول ‪ :‬يعني أكدّب عيني واصدّقه هوّ ا !!‬
‫ ‪-‬يا بنتي ده ِحلِف باهلل‬
‫ ‪-‬بقولّك شايفاااااه‪..‬أخوكِ مش هيضيعه غير أصحابه يا أميرة‪..‬شلّة الصيّع دي‬
‫معاهم ال هيش���وف مذاكرته وال هيفتح كتاب وش���كله هيبلّط في رابعة لتالت‬
‫مرّ ة السنة دي كمان‬
‫الطاس���ة وأطفأت عليها ال ّنار‪ ،‬فتحت ب���اب الثالّجة المجاورة‪ ،‬مرّ ت بعينيها‬ ‫تركت أميرة ّ‬
‫على محتوياتها بس���رعة وهي تقول ‪ :‬بصّي‪..‬هللا أعلم إذا كان اللي شوفتيه معاه فعالً بيرة‬
‫والّ أل بس اللي أنا متأ ّكدة م ّنه إنه فعالً بيحبّك وإنه غيّر حاجات كتيرة في حياته علشانِك‪..‬‬
‫ح ّت���ى أصحابه مع���ادش بيخرج معاهم زي األول وبعدين متنس���يش إن عالقته ببابا زي‬
‫الزف���ت والزم يبقى فيه حد قريّب م ّنه يفهمه ويف ّكر زيه يفضفضله‪..‬فيه حاجات عُمره ما‬
‫هيعرف يشرحهالنا ويتكلّم معانا فيها‬
‫ ‪-‬ما أنا متنيلة موجودة أهو‬
‫ ‪-‬الفضفض���ة من ولد لول���د بتفرق كتير يا هند‪..‬وهوّ ا فع�ل�اً محتاج ده اليومين‬
‫دول‪..‬أعملّك سندوتش جبنة ؟‬
‫هزت رأسها نفيًا وهي تقول ‪ :‬ال‪..‬أكلت قبل ما أنزل‬ ‫ّ‬
‫جذبت أميرة علبة الجبن ناحيتها لتظهر لها من خلفها زجاجة السفن (المِش سفن)‪ ،‬قبضت‬
‫عليها وجذبتها نحوها‪ ،‬لوّ حت بها لهند قائلة ‪ :‬طيب‪..‬صبّيلنا كوبايتين‬

‫****‬

‫يدخنون الشيشة ويحتسون ثالث دفعة من الكابتشينو‪،‬‬ ‫على قهوة أفندينا‪ ،‬جلس إيميل وأحمد ّ‬
‫ق���ال أحمد بلهجة كونفوشيوس���ية نهلت من نبع الحكمة ح ّتى تكرّ عت ‪ :‬ليه تتعِب نفس���ك‬
‫وتضيّ���ع وق َتك في محاوالت إقناع ماله���اش أي تالتين الزمة إنه ييجي معانا‪..‬انتَ تزنقه‬
‫في خانة اليكّ‪..‬بعدها هيجي َلك أس���يرً ا مرغمًا زي أس���رى صالح الدين في موقعة قصر‬
‫االتحادية !!‬
‫ظهر فجأة على أبواب القهوة محمّد‪ ،‬قلّب في الروّ اد بنظرة غضب س���اطعة‪ ،‬قال إيميل ‪:‬‬
‫صل‬ ‫الحق‪..‬أسد الدين محمّدوه َو َ‬
‫لمحهم محمّد فأقبل عليهم بس���رعة‪ ،‬لوّ ح له أحمد بموبايله ‪-‬الممتلئ بالكريديت‪ -‬إلغاظته‪،‬‬
‫استقبله ساخرً ا ‪ :‬إيه يا محمّد يا حبيبي‪..‬السكشن خلص بدري ليه كده ؟!‬
‫صاح محمّد ‪ :‬يعني بتس���تهبل يا ابن الوس���خة ؟!!‪..‬منتاش عارف انتَ عملت إيه ؟!!!‪..‬‬
‫وتحطني في الموقف الخرة ده‪..‬دي المعيدة حالفة ترفدني‬ ‫ّ‬ ‫تغيّرلي النغمة‬
‫ ‪-‬وماله يا حبيبي يعني همّا اللي اتعلّموا أخدوا إيه ؟‬
‫ ‪-‬يا ابن الغبية المعيدة طلع اسمها هبة وافتكرت الكالم عليها‬
‫ ‪-‬أحه !! قول والمصحف ؟!‬
‫قالها إيميل وهو يتبادل النظرات الس���اخرة م���ع أحمد قبل أن ينفجر كالهما في الضحك‪،‬‬
‫جلس محمّد في استسالم على مقعد مجاور‪ ،‬التقط لي الشيشة من بين أنامل أحمد‪ ،‬جذب‬
‫منه َن َفسً���ا عمي ًقا أخرجه من فتحتي مناخيره بتم ّكن‪ ،‬قبل أن يقول في هدوء‪ :‬انتوا هتقابلوا‬
‫البت دي السّاعة كام ؟‬
‫ ‪-‬الساعة أربعة‬
‫ ‪-‬ما لسّه بدري أهو‪..‬مطلَّ ِع ِّني من السكشن ليه بقى ؟!!!‬
‫ ‪-‬هنقعد شوية في بُرج المراقبة‬

‫****‬

‫أمام مكتبه وقف الحاج صادق (يزلط) حبّاية مسدّس���ة األضالع برش���فة عميقة من كوب‬
‫ماء حين س���مع صليل كعبي حذاء حريمي يد ُّقان أرض صالة اإلنتاج‪ ،‬أسرع بإخفاء علبة‬
‫الدواء أسفل بعض المل ّفات ثم استدار ونظر لألسفل من خالل زجاج الغرفة‪ ،‬ليرى سيادة‬
‫(أحلى لوا في الدنيا) باالنتظار‪ ،‬وقفت في منتصف الصالة بقوامها الفارع المخفي أس���فل‬
‫ّ‬
‫الملطخة باألصباغ كمهرّ ج‬ ‫جلباب فيّاض مُحتش���م وخمار واسع تناقضا بشدّة مع سحنتها‬
‫ت عال‪ ،‬عاد كعبيها ير ّنان فوق األرض‬ ‫سيرك واللبانة التي أخذت ُتش ِّت ُئها (تلوكها) بصو ٍ‬
‫ّ‬
‫ّوقة‪..‬إزيك ؟‬‫بتقدّمها نحوه خطوتين‪ ،‬رفعت وجهها ناحيته وهي تقول في دالل ‪ :‬صد‬
‫وقف يتأمّلها مل ًّيا قبل أن يقول ‪ :‬فُل يا حبيبتي إيه رأيك في المصنع ؟‬
‫أدارت عينيها في المكان بالمباالة ثم قالت ‪ :‬مش ّ‬
‫بطال‬
‫‪ -‬ما تطلعي‬
‫‪ -‬ال يا أخويا انزل انتَ‬
‫‪ -‬هتفضلي بالخمار كده ؟‬
‫عضّت شفتها السفلى في غِ نج وهي تمنحه نظرة حيية ذات مغزى‪ ،‬بحركة تعمّدتها بطيئة‪،‬‬
‫رفعت الخمارعنها قبل أن تفتح سوس���تة جلبابها الخلفية لتدعه يس���قط أرضًا عند قدميها‪،‬‬
‫خلّصتهما من الجلباب برش���اقة‪ ،‬وهي تعاود النظر إلى عينيه مباشرة‪ ،‬اتسعت عيناه عن‬
‫صاح فيها بانبهار ‪ :‬يا ما تحت الخِمار‪..‬دماااار‪..‬اطلعي‪..‬اطلعي‬
‫َ‬ ‫آخرهما يلتهمانها التهامًا‪،‬‬
‫بسرعااا‬

‫****‬
‫افت���رش الثالثة ب���رج المراقبة؛ الرصيف الموا ِجه لكافيتري���ا أفندينا الواقعة في منتصف‬
‫���رم الجامعي‪ُ ،‬تط ُّل الكافيتريا على موقع اس���تراتيجي يضمن رص��� ًدا مؤك ًدا لفاتنات‬ ‫الح َ‬ ‫َ‬
‫الجامع���ة األنيقات دائمً���ا وأب ًدا يصطبحون عليه���ن اصطباحً ا ملي ًئ���ا بالبناطيل الفيزون‬
‫وربطات االس���بانيش الفوشيا وخصالت الشعر الناعمة المتهدّلة على الجباه بحنيّة ودَ َلع‪،‬‬
‫يختارون هذا الرصيف وال يخت���ارون القعدة على أي ترابيزة بالداخل كي يكونوا أقرب‬
‫ما يُمكن لموقع الحدث‪ ،‬ال تفوتهم ش���اردة وال واردة‪ ،‬بميزان من دهب وبحسٍّ ثعباني ال‬
‫يخيب يُقيِّمون جميع المارات‬
‫«دي حلوة بس هتتخن بعد الجواز»‬
‫«دي قصيرة قوي مش هتنفع»‬
‫«جوز الكابلز دول مش اليقين على بعض‪..‬أكيد هيفشكلوا قريب»‬
‫«جوز الكابلز دول اليقين على بعض‪..‬وإن شاء هللا هيفشكلوا قريب»‬
‫«البت دي عليها ِح ّتة (‪ ).....‬فظيعة»‬
‫«دي محترمة ياع ّم‪..‬مالناش دعوة بيها»‬
‫«دي ييجي منها لو اتالغت‪..‬عندها استعداد تنحرف بس مش القية فُرصتها»‬
‫«البت اللي مظبّطة مع لؤي ماشية مع الفردة بتاعت الواد سراج»‬ ‫ّ‬
‫عل���ى أن يزوّ دهم مختار صب���ي الكافيتريا ب ُكل ما يحتاجونه من مأكوالت ومش���روبات‬
‫يُغمّس���ون بها زنا عيونهم التي ال ترحم وال تعتق‪ ،‬الحظ إيميل ثنائي قادم عليهم‪ ،‬تابعهما‬
‫ف) كتفي البنت أس���فل ذراعه الطويل‬ ‫ب ِد ّق���ة من بعي���د ح ّتى مَرَّ ا من أمامهم؛ الول���د ( َل َح َ‬
‫المفتول‪ ،‬بينما هي دفنت رأسها تحت باطه في هيام‪ ،‬يسيران الهوينى كحمام سالم زاجل‬
‫وقت الغروب‪ ،‬تجاوزاهم واس���تكمال مسيرتهما ح ّتى وصال لحديقة جانبية مُه َملة تالهت‬
‫عنها أعين إدارة الجامعة بعد أن هدمت المبنى المجاور لها لكلية علوم ونقلته لمكان آخر‬
‫فتحوّ لت لغابة صغيرة مملوءة باألش���جار القديمة العمالقة واألعشاب الطويلة فائقة النمو‬
‫وبقايا الهدم والكس���ر وصارت مرتعًا لجميع حبّيبة الجامع���ة الطامعين في بعض ال ُخلوة‬
‫واتفق الطلبة بال تصويت على تس���مية هذه المنطقة بال ُخن‪ ،‬ظلّوا يتابعونهما ح ّتى بعد أن‬
‫َع َبرا األشجار وغابا عنهم خلفها‪ ،‬صاح إيميل ‪ :‬أقطع دراعي لو مكانوش هيـ(‪ ).....‬جوّ ه‬
‫ ‪-‬ال ياع ّم مش للدرجة دي‬
‫ ‪-‬ده منظر ناس ناوية تبوس بس ؟!!‬
‫ ‪-‬الصراحة‪..‬أل‬
‫طل طلّة‬‫ ‪-‬طب ما تيجوا نقوم ُن ُ‬
‫بطل هبل بقى‪..‬نقوم إيه وبتاع إيه‪..‬مالناش دعوة يا ع ّم‬ ‫ ‪ّ -‬‬
‫تدخل فيما ال يعنيه َس َم َع ما اليرضيه‬ ‫حق‪َ ..‬من ّ‬‫ ‪-‬عندَ ك ّ‬

‫****‬
‫على أطراف أقدامهم تسلّلوا من بين أشجار الحديقة الصغيرة‪ ،‬ظهورهم لبعضهم صانعين‬
‫من أنفس���هم مثلّث أفتك من مثلّث طِ عمة ميلك‪ ،‬رؤوسهم تدور في جميع األرجاء كرجال‬
‫آلية وعيونهم تبحث بشغف عن صيدهم الثمين‪ ،‬استمرّ وا في السير لدقائق ح ّتى تناهى إلى‬
‫شم تبعها أ ّنة أنثوية خافتة‪ ،‬استداروا جميعًا‬ ‫مسامعهم حفيف بضعة أوراق شجر عجوز تته ّ‬
‫ناحية المصدر يعتصرون أعينهم طمعًا في مزيد من وضوح الرؤية‪ ،‬وبخطوات مرتعشة‬
‫تقدّموا ح ّتى بدأ ي ّتضح لهم المشهد‪ ،‬أسفل شجرة عمالقة تكوّ م الولد والبنت فوق بعضيهما‪،‬‬
‫الولد أخذ البنت بين ذراعيه ككمّاش���ة تنتزع مسمارً ا عص ًّيا وأصابعه تنهال عليها تقفي ًشا‬
‫بينما البنت مس���تكينة بين ذراعيه تضمّه إليها في ترحاب ومن فوقهما و َقف غراب فوق‬
‫وقف الثالثة‬ ‫َ‬ ‫ُغصن سميك كان أول الحاضرين يتابع المباراة من المقصورة‪ .‬لدقيقة كاملة‬
‫���عر‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ش‬ ‫ى‬ ‫ّ‬
‫ت‬ ‫ح‬ ‫مذبهلّين وكأن على رؤوس���هم غِ يّة َح َمام بال حركة وال كلمة وال ح ّتى َن َفس‬
‫إيميل بوخزة في س���اعده أتبعها احتكاك شي ًئا ما مُنتصِ ب بجانب فخذه‪ ،‬آس ًفا َه َبط ببصره‬
‫ليجد أحمد بال وعي ش���به ملتصق به وأصابع يده متصلّبة ومغروسة بقوة في لحم ساعده‬
‫تجذب���ه للخلف نحو أحمد برفق‪ ،‬انتفض إيميل وهو يُبعد س���اعده عنه وهو يقول بصو ٍ‬
‫ت‬
‫خافت ‪ :‬يلّه يا وسخ‪..‬ابعد ع ّني يله‬
‫أجابه أحمد ساخرً ا ‪ :‬وال مؤاخذة يا إيميل الواحد ريقه جري‪..‬انتَ فاهم بقى أنا شاب وليّا‬
‫احتياجاتي‬
‫ ‪-‬وجايلي أنا عشان أريّحك والّ إيه ؟!!‪..‬أحه !!‬
‫يتدخل في الحوار قائالً ‪:‬هللا يخربيتكوا‪..‬‬ ‫في س���أم تحرّ ك محمّد ليقف عازالً بينهما وه���و ّ‬
‫هيسمعنا‬
‫في حركته لم ينتبه محمّد لغصن الش���جرة الواقع أس���فله وال���ذي ضغط عليه ًّتوا بطرف‬
‫ض الصمت الذي خيّم على المكان‪ ،‬سمعه‬ ‫حذائه الثقيل فكس���ره لنصفين وأحدث صو ًتا َن َق َ‬
‫الجمي���ع ح ّتى الغراب الذي حرّ ك جناحيه بق���وّ ة وطار بعي ًدا وهو يزعق باحتجاج بعد أن‬
‫أفس���دوا عليه مش���هده بينما الولد ذو األذرع الطويلة المفتولة يرفع عينيه عن فتاته التي‬
‫أخفت وجهها بحركة ال إرادية بين ك ّفيها‪ ،‬توجّ ه بنظره إلى ما حس���به مبعث الصوت فلم‬
‫ضبًا ولم يملك إالّ أن‬ ‫يلمح إالّ ثالث ظهور لثالث شبّان يعدون بسرعة‪ ،‬احمرّ ت وجنتيه غَ َ‬
‫يبحث بعينيه في األرض بعصبية ثم م َّد يده والتقط من بين أوراق الشجر المصفرّ ة طوبة‬
‫أسمنتية كبيرة َق َذ َفها ناحيتهم وهو يهتف ‪ :‬يالّ يا أوالد الـ(‪ ).......‬من هنا‬
‫بعد ثوان أتاه صوت تأوه من أحدهم إالّ أن صوت التو ّقف عن الركض لم يأتيه أب ًدا‬

‫****‬
‫‪ -‬آآآآآآآه‪..‬آآآآآآه‪..‬حاسِ ب يا َخ َرة بتوجع‬
‫ترتصُّ‬ ‫المطبخ‬ ‫لجدار‬ ‫ًا‬
‫م‬ ‫تما‬ ‫ُالصقة‬
‫م‬ ‫صغيرة‬ ‫زاوية‬ ‫بداخل أعمق بقعة في كافيتريا أفندينا؛‬
‫فيها عُلب المعسّ���ل وزجاجات الش���يش الفارغة وصناديق زجاجات البيبس البالستيكية‪،‬‬
‫انتق���وا أحد الصناديق قلبوه وأجلس���وا محمّ���د فوقه قبل أن يجثوا عل���ى رُكبهم من خلفه‬
‫يُضمّدون له جُرح رأس���ه الخلفي بش���اش مُبلّل من صحن ماء صغير مِنحة من صديقهم‬
‫األثير مختار‪ ،‬قال إيميل ‪ :‬اصبر بس يا محمّد‪..‬متتحرّ كش عشان تلزق كويس‬
‫ ‪-‬هي إيه دي اللي تلزق ؟! انتوا بتعملوا إيه من ورايا يا أوالد الـ(‪ )....‬؟!!‬
‫شاشة يا أهبل‬ ‫ ‪-‬ال ّ‬
‫أطرق محمّد برأسه لألمام قليالً وكأنه في مح ّل حِالقة وهو يشعر بأنامل ما تتلمّس جُرحه‪،‬‬
‫تغضّن وجهه في ألم وهو يقول ‪ :‬قولتلكوا بالش‪..‬بالش‪..‬وال ح ّد فيكوا سمعلي كِلمة‬
‫تبادل إيميل وأحمد النظرات الضاحكة‪ ،‬قال األول س���اخرً ا ‪ :‬بس الواد َر َز َعك واحدة في‬
‫السليم‪..‬أكيد الواد ده بيلعب رجبي‬
‫ ‪-‬ما كله بسببكوا انتوا‪..‬يارب تتحرقوا في نار جهنم يا أوالد المب ّقعة‬
‫ ‪-‬ونكون صُحبة إن شاء هللا‬
‫ ‪-‬كانت صُحبة منيلة بنيلة على ستين نيل‬
‫ع���اد إيميل وأحمد لتبادل النظرات قب���ل أن ينفجرا ضاحكين ما أثار غضب محمّد فاحت َّد‬
‫عليهما ‪ :‬بقى بتتريقوا عليّا يا ِجزم‪..‬آآآآه‪..‬أي‪..‬خِف إيدَ ك شوية انتَ راخر‬
‫غالب الفتيان رغبتهما الشديدة في الضحك وهما يحاوالن تهدئة روعه‬
‫‪ -‬طيب‪..‬طيب‪..‬اثبت بس عشان الجرح ميتحرّ كش‪..‬يادو َبك هربطها أهو‬
‫‪ -‬هي إيه دي اللي هتربطها ؟!! وله أنا مش مستريحلكوا من أول اليوم‬
‫شاشة يا حبيبي‪..‬خلّي عندَ ك شوية ثِقة فينا يا كابتشن‬ ‫شاشة يا بابا‪..‬ال ّ‬
‫‪ -‬يادي النيلة‪..‬ال ّ‬
‫‪ -‬آخر مرّ ة وثقت فيكوا فيها لقيت موبايلي بيرقع أباحة‬
‫‪ -‬ال ال‪..‬الموضوع المرّ ة دي مختلف تمامًا‬
‫شاش���ة حول جبهته لتس���تر و َتجبُر جرحه‪ ،‬فوجئ بفتى‬ ‫قالها إيميل بينما هو يعقد لمحمّد ال ّ‬
‫يأت���ي من بعيد‪ ،‬يعبر مدخل الكافيتريا ومن حوله رهط فتيات يحلُّون حبل المش���نقة ذاته‬
‫من على نفس���ه‪ ،‬الفتى بالغ القِصر‪ ،‬ذو ش���ارب أحمق خفيف نما فوق ش���فته العُليا رفيعًا‬
‫ك حمادة إمام‪ ،‬يرتدي تي شيرت أحمر واسع أدخله في بنطلون قماشي أخضر‬ ‫فأكسبه لو ّ‬
‫بالغ الضيق‪ ،‬شعره انكفئ على الجنب بعد أن أغرقه بربع علبة فازلين‪ ،‬يرتدي في قدميه‬
‫بطة ذو واجهة مزخرفة كجدران كنيس���ة‪ ،‬بانتباه إيميل انتبهوا له‪ ،‬في غيظ‬ ‫فردتي حذاء ّ‬
‫راقب���وه وهو يدلف إلى المكان بما ملكت أيمانه من أجم���ل جميالت الجامعة‪ ،‬ي ّتخذ بهن‬
‫مكا ًنا قص ًّيا‪ ،‬يجلس باس���ترخاء وهو يوزعهن من حول���ه قبل أن يفرد ذراعيه بأقصاهما‬
‫حولهن ليضمن للجميع مكا ًنا في حضنه‪ ،‬يتبادل معهن الكلمات وهن (يتمرقعن) من حوله‬
‫وضحكاتهن تص ُّم اآلذان وتش���عل غيرة ُكل َمن في المكان‪ ،‬من تحت ضرسه قال إيميل ‪:‬‬
‫هموت وأعرف هوّ ا بيجيبهم منين ؟!‪..‬ابن الـ(‪ُ ).....‬كل يوم مع أربع بنات َشكل‬
‫ ‪-‬أنا اللي نفسي أعرف همّا بيحبّوه على إيه ؟!‪..‬ده شبه زينات صدقي !!‬
‫أمامهم تو ّقف مختار وهو يُهتف للشاب الواقف بداخل المطبخ أمام الحوض ‪ :‬خمسة شاي‬
‫لترابيزة األستاذ شفيق يا عصام‬
‫غادر نحو ترابيزة أخرى ليستعلم عن طلباتها‪ ،‬دقائق ووضع الشاب فوق رخامة‬ ‫َ‬ ‫قالها ثم‬
‫المطبخ صينية اس���تانلس المعة ذات مقبضين مُذهّبي���ن رُصّ فوقها أقداح خزفية مملوءة‬
‫بالشاي وبونبونيرة صغيرة مملوءة بأكياس الس��� ّكر وزجاجة مياه معدنية مشبّرة‪ ،‬لمحها‬
‫أحمد بطرف عينيه‪ ،‬نقل بصره بين هذا الش���فيق بجلسته الهارون رشيدية وبين الصينية‬
‫بأقداحه���ا التي فرغت فاها أمامه بإغراء‪ ،‬تحرّ ك بخ ّفة على الرغم من س���منته ح ّتى َبلغ‬
‫َ‬
‫التقط ري ًقا عمي ًقا‬ ‫الرخامة‪ ،‬تأ ّكد من أن شاب المطبخ يوليه ظهره وأن مختار ال يالحظه‪،‬‬
‫موزعًا ريقه بعدل‬ ‫مأل به فمه قبل أن يمي���ل ناحية الصينية ويبصق داخل أقداحها جميعًا ِّ‬
‫على الجميع ثم قلّبها جميعًا بالمعلقة بإحكام لتبدو وكأنها مجرّ د رغوة بريئة و‪..‬‬
‫ ‪-‬بتعمل إيه يا أستاذ أحمد ؟!‬
‫تمالك بعدها نفسه جي ًدا‪َ ،‬ر َف َع الصينية‬
‫َ‬ ‫للحظة‬ ‫أحمد‬ ‫قالها مختار من خلفه في دهشة‪ ،‬ارتبك‬
‫اتأخرت ليه يا راااجل ؟!!‪..‬افتكر َتك نس���يتها وقولت أجبها َلك‬
‫من مقبضيها إليه قائال‪ :‬انتَ ّ‬
‫قبل ما تبرد‬
‫هز مختار رأسه شاكرً ا وهو يلتقط منه الصينية ويقول ‪ :‬تسلم يا أستاذ أحمد‪..‬ألف شكر‪..‬‬ ‫َّ‬
‫يا ترى األستاذ محمّد بقى كويس ؟‬
‫تابع أحمد األخ شفيق من بعيد وهو يقول بابتسامة خافتة ‪ :‬كويس‪..‬كويس قوي‬

‫****‬

‫في طريقهم للخروج من البوّ ابة الرئيسية للجامعة غرق الثالثة في الضحك حد الهيستيريا‪،‬‬
‫قال إيميل ‪ :‬الواحد يس���مع عن شاي بالنعناع‪..‬ش���اي بالحبّهان‪..‬شاي بالياسمين ح ّتى إنما‬
‫شاي بالتفافة دي اللي جديدة بصراحة‬
‫أض���اف أحمد وهو يمرُّ بك ّفه على عنقه بفخ���ر ‪ :‬مُص ّفى آلخر قطرة ومُضاف إليه أفخر‬
‫أنواع البلغم‪..‬يستاهل ابن الصرمة‪..‬عيل فرفور ابن امبارح بيكي بيكي‬
‫���خص محمّد ببصره دون أن يُجيب‪ ،‬فقط وقف يُتابع حركة ال ّناس والسيّارات من خلف‬ ‫َ‬ ‫َش‬
‫سور الجامعة لثوان قال بعدها في جدّية مباغتة ‪ :‬أنا خايف من ربّنا قوي‬
‫بدا عليهما أنهما لم يس���توعبا الجدية التي تخلّلت صوته فاستمرّ ا بعدها في ضحكهم لثوان‬
‫قليلة قبل أن تبدأ ضحكاتهم في الخمول تدريج ًّيا إلى أن صمتوا تمامًا لدقيقة كاملة‪ ،‬بتردّد‬
‫قال إيميل ‪ :‬قصدَ ك إيه ؟‬
‫ ‪-‬انتَ عارف‬
‫ ‪-‬احّ نا مبنضرّ ش ح ّد‬
‫ ‪-‬وبردو مش بنفيد حد‪..‬هوّ ا احّ نا الزمتنا إيه في الدنيا دي ؟! بنعمل فيها إيه ؟!!‬
‫نسوان وسجاير وأفالم سكس طب وبعدين ؟!!!‪..‬هنفضل كده لح ّد إمتى ؟!!!!‬
‫ونوزع أكياس لحم���ة على الفقرا‬‫ّ‬ ‫ ‪-‬ناق���ص تقولّي ن���روح نتطوّ ع في رس���الة‬
‫ش���غل القُطاقيط ده ؟!‪..‬انتَ‬
‫ونس���معلنا ش���ريطين عمرو خالد ونتحجّ ب‪..‬إيه ُ‬
‫نافوخك والّ إيه ؟!!‬
‫َ‬ ‫الطوبة ّأثرت في‬
‫ ‪-‬على األقل مش عايشين في نجاسة ليل نهار‬
‫ ‪-‬بس احّ نا مش متعوّ دين على كِده‬
‫ ‪ -‬نتعوّ د‬
‫ ‪-‬احّ ن���ا أول ما بنطلع من هنا مش بنقابل حد ورا الس���ور ده إالّ وبيكون عاوز‬
‫يسرقنا‬
‫ ‪-‬هناخد بالنا من َم َحافظنا‬
‫ ‪-‬ياريت السِ رقة في البلد دي على ق ّد ال َمحافِظ بس‬
‫ ‪-‬مش هنخسر حاجة‪..‬نجرّ بها ولو يوم واحد ونشوف‪..‬يوم واحد من غير بنات‬
‫وال سجاير وال أي حاجة تانية‬
‫تدخل أحمد في الحوار ألول مرّ ة قائالً ‪ :‬أحّ ه !! يعني انتَ جاي تتهدى ال ّنهاردة؟!‪..‬يوم ما‬ ‫ّ‬
‫نفسك يا أخويا‬
‫َ‬ ‫مع‬ ‫شهر؟!!‬ ‫كام‬ ‫بقالي‬ ‫فيها‬ ‫ّط‬ ‫ب‬ ‫بظ‬ ‫اللي‬ ‫ّ‬
‫البت‬ ‫أقابل‬ ‫رايح‬ ‫أنا‬
‫قال إيميل في خفوت ‪ :‬على فكرة محمّد بيتكلّم ص ّح‬
‫حدّجه أحمد بنظرة دهشة قال بعدها بحزم ‪ :‬يبقى مع نفسكوا انتوا الجوز‪..‬أنا رايح رايح‬
‫هتف فيه محمّد ‪ :‬بس‬‫َ‬ ‫ثم أدار ظهره وفارق مسارهما مُسرّ عًا ُخطاه نحو االتجاه المعاكس‪،‬‬
‫احّ نا عُمرنا ما عملنا أي حاجة إالّ مع بعض‪..‬الزم تيجي معانا‬
‫أجابه أحمد دون أن يلتفت إليه ‪ :‬أوعدَ ك هف ّكر أتوب‪..‬بس بُكرة‪..‬أقابلها األول‬
‫تابعاه من ظهره وهو يبتعد ح ّتى اختفى وسط الزحام‪ ،‬قال محمّد وهو يلتفت ناحية إيميل‪:‬‬
‫ناوي تعمل إيه ؟ متقولّيش ناوي تروح تلعب كورة ؟‬
‫ ‪-‬ال ياع ّم‪..‬كورة مين ؟ إيجارات مالع���ب النوادي بقت غالية قوي وآخر مرّ ة‬
‫جينا نلعب فيها في حوش مدرسة‪..‬الفرّ اش طلع يجري ورانا ب ُملّة سرير وكان‬
‫هيلبّسنا قضية سرقة حنفيات !!‬
‫ ‪-‬أمّال هتعمل إيه ؟!‬
‫ ‪-‬هروح مؤتمر الدكتور علي العلي‪..‬بيقولوا عامل مؤتمر حاشد ال ّنهاردة جنب‬
‫الجامعة‬
‫ ‪-‬على العلي‪..‬بتاع حزب مصر المفترية ؟‬
‫أومأ إيميل برأسه باإليجاب قبل أن يسأل ‪ :‬وانتَ ؟‬
‫‪ -‬هروح أحضر محاضرة الش���يخ ن َِعم الحنبلي‪..‬متعلّق إعالنات إنه هيحاضر ال ّنهاردة في‬
‫جامع كلية حقوق‬
‫ابتسم إيميل وهو يفرد ك ّفه في الهواء وهو يقول ‪ :‬الموت للنسوان‬
‫بادله محمّد االبتسام وهو يُصافح الكفّ الممدودة بك ّفه وهو ير ّد ‪ :‬الموت للنسوان‬
‫حظه في طريقه الجديد‪ ،‬لع ّل‬ ‫دون كلم���ة زائدة أدار ُكل واحد ظهره لآلخ���ر‪ُ ،‬ك ٌّل يُجرّ ب ّ‬
‫وعسى ُتخطئ الحدأة يومًا و ُتلقي لل ّناس كتاكيت !!‬

‫****‬

‫ج���وار الجامعة تمامً���ا ُنصب صوا ًنا عمال ًق���ا‪ ،‬امتأل فيما بين د ّفتيه بمئ���ات من المقاعد‬
‫الخش���بية‪ ،‬في مقدمته ارتفعت منصّة خشبية مزدحمة؛ عدد الجلوس فوقها أكثر من عدد‬
‫حاضرين المؤتمر‪ ،‬لُ ّفت المنصّة بيافطة قماش���ية ُكتب عليه���ا بالبنط العريض “المؤتمر‬
‫الجماهيري الحاش���د لس���ماع مطالب الش���عب الوافد‪..‬من القلب للقلب نحن معكم برعاية‬
‫حزب مصر المفترية”‬
‫م���ا إن دلف إيمي���ل للمكان ح ّتى فوج���ئ بالصوان خاليًا على عروش���ه كثالّجة في حي‬
‫الفق���راء‪ ،‬إالّ من نثرات متفرّ قة من أناس ال يزيد عددهم عن العش���ر أنفار انتش���روا في‬
‫المكان بترتيب هندس���ي مثير لإلعجاب ما يكفل َش ْغل فراغه بالتصفيق المستمر للمتحدّث‬
‫القصير ذو الخدود الملظلظة المحمرّ ة دائمًا بانفعال بس���بب ومن غير س���بب؛ علي العلي‬
‫أس���تاذ الجامعة الشهير‪ ،‬ذو الصوت العالي القادر على رتق خرم األوزون‪ ،‬أستاذ العلوم‬
‫علم ما ال يدري عنه‬ ‫السياس���ية في جامعة (مش عارف إيه) والحاصل على الدكتورة في ٍ‬
‫ث ما كان يخشاه إيميل فما أن تو ّغل‬ ‫أحد أي شئ والضيف الدائم على شاشات التلفاز‪َ ،‬حدَ َ‬
‫داخل الصوان ح ّت���ى أتته صيحة حنجورية خرجت م���ن الميكروفونات مدوّ ية‪ ،‬صعقته‬
‫وألقت به أرضًا‬
‫ش���غل الش���اااااااااااغل لنا فنحن لهم ونحن‬ ‫“الفقراااااااااء‪..‬الفقرااااااااااء يا إخواني‪..‬هُم ال ُ‬
‫بهم‪..‬إيد واحدااااااااا‪..‬إيد واحداااااااااا‪..‬الفقرااااااااااااء”‬
‫من رقدته على األرض تش���بّث إيميل بأحد المقاعد‪ ،‬اس���تند عليه للنهوض قبل أن يجلس‬
‫جوار أحد الروّ اد المنهمك في التصقيف؛ رجل بالغ النحول‪ ،‬أس���مر وذو ش���عر مشعث‪،‬‬
‫ذقنه نصف نامية ويبتس���م ببالهة دون تو ّقف‪ ،‬حاول إيميل جرّ الكالم معه فقال‪ :‬األس���تاذ‬
‫علي صوته عالي قوي قوي‪..‬ماشاء هللا عليه سحبة في األلف فظيعة بس مش عارف ليه‬
‫بتقلب م ّنه على عين في اآلخر ‪.‬‬
‫بآذان‬
‫ٍ‬ ‫علي‬ ‫األس���تاذ‬ ‫لخطبة‬ ‫االس���تماع‬ ‫يواصل‬ ‫وهو‬ ‫عليه‬ ‫تجاهل���ه الرجل تمامًا ولم ير ّد‬
‫(مطرطأة) وهو يتكلّم عن أهمية ترسيخ الديمقراطية في البيئة المصرية وضرورة جعلها‬
‫ثقافة عامة تحكم وتقرّ ر وتأمر‪ .‬عاد إيميل يميل على أذن الرجل وهو يسأله هامسًا ‪ :‬هوّ ا‬
‫مش األس���تاذ علي ده ماسك رياس���ة الحزب بتاعه بقاله ‪ 15‬سنة ؟!!‪..‬ديمقراطية إيه اللي‬
‫بيتكلّم عنها‬
‫للمرّ ة الثانية ال يُعيره الرجل أدنى اهتمام وهو ينهض عن مقعده مضاع ًفا من حدّة تصفيقه‬
‫وهو يُصيح بفمه األهتم‪ :‬هللا أكبرررررررر‪..‬العلم نوووووعر يا اخوا ّنااااااااع‪..‬يسلم فمّك‬
‫يا دكتووووووووووعر‬
‫نظر إليه إيميل باس���تغراب وهو يتمتم مع نفسه ‪ :‬الظاهر إن مرض العين ده منتشر عند‬
‫ُكل ال ّناس هنا‬
‫ق���رّ ر إيميل أن يتجاه���ل الرجل ودكتوره لير ّكز على المنصّ���ة حيث وجه الدكتور علي‬
‫(المِتظرظر) بشدّة وكأنه يعاني ألمًا ما في بواسيره‪ ،‬من فمه خرجت بعض قطرات لُعاب‬
‫حماسية أغرقت المقاعد الفارغة أمامه‬
‫“الشبااااااااااااااااااااعب‪..‬الشباااااااااااااااع ع عب‪...‬تمكييييييين الشبااااااااااع عب‪..‬شباب‬
‫الثورااااااااااااع‪..‬هُم وقودها وقودهااااااااااااااع ألجلهم نحيا ونموووووووعت ح ّتى ينالوا‬
‫كافة فُرصهم في العمل وفي الزواج وفي الحيااااااااااااااااااع”‬
‫د ّقق إيميل النظر في َمن هُم جوار الدكتور فوق المنصّة عن اليمين وعن اليس���ار؛ جميعهم‬
‫عواجيز كس���اهم البياض و َكر َم َشهم الزمن و َكر َكب مالمحهم‪ ،‬بعضهم جلس مُستن ًدا على‬
‫جاهزا بكرس���يه المتحرّ ك وبعضهم جلس يله���ث وفوق أنفه قناع‬ ‫ً‬ ‫عص���ا وبعضه���م أتى‬
‫بالس���تيكي ش ّفاف يستجلب األكس���جين له من إنبوبة كبيرة‪ ،‬طويلة‪ ،‬كأنابيب محال الفول‬
‫والطعمية‪ ،‬وقفت خلفه في شموخ‪ ،‬لو حسبنا أعمارهم جميعًا لن تق ّل بأي حال من األحوال‬
‫عن ‪ 1000‬سنة‪..‬يعني أقدم من السعودية وأقدم من صباح !!‬

‫****‬
‫اكتظ مس���جد كلية الحقوق على آخره بالطلبة‬‫َّ‬ ‫على النقيض تمامًا من الصوان االنتخابي‪،‬‬
‫ح ّتى ضاقَ على الراغبين في س���ماع ال ُخطبة‪ ،‬فافترشوا الساللم وال ُحصُر المفرودة حول‬
‫المس���جد (داير ما ي���دور)‪ ،‬جوار المنبر وقف الخطيب الش���اب بجلبابه األبيض القصير‬
‫ت زاعق‬ ‫جلس محمّ���د مُرتك ًنا بظهره على عامود‪ ،‬بصو ٍ‬‫َ‬ ‫ولحيته الطويلة‪ ،‬أمامه مباش���رة‬
‫راح الش���يخ يتكلّم في خطبة طويلة عريضة عن حُرمة القصص والروايات ومدى جُرم‬
‫مُطالعة األفالم والمسلس�ل�ات ألنها تنطوي على عناص���ر المجون والخالعة واالطالع‬
‫على عورات النس���اء باإلضافة إلى عنصر الكذب لكون جميع ش���خوصها غير حقيقيون‬
‫وأن أحداثهم كلّها مفتعلة وأن الك ّتاب معظمهم ملحدين يقرأون للغرب الكافر المتآمر على‬
‫اإلس�ل�ام ولنجيب محفوظ الفاسق مُجسّ���د األنبياء ولنوال السعداوي الشمطاء آكلة اللحوم‬
‫المس���مومة‪ ،‬مت ّنحً ا استمع محمّد ل ُكل هذا بمعدة تتوق للترجيع إلى أن انتهى العذاب بإنهاء‬
‫الخطيب ل ُخطبته المروّ عة قبل أن يفتح باب األسئلة‪ ،‬فتتالت عليه وجيهة‪ ،‬عميقة‪ ،‬معبّرة‬
‫هل كان اإلمام علي مخاصم ستنا عائشة ؟‬
‫الخطاب أصلع الرأس أم خفيف الشعر ؟‬ ‫ّ‬ ‫هل كان عُمر ابن‬
‫هل يجوز استعمال الوجوه التعبيرية على الياهو ؟‬
‫ما حُكم لعب الفيفا ‪ 2013‬؟‬
‫ما حُكم الزواج من فتاة أتاحت خاصية الفولورز للوالد والبنات َعبْر حس���ابها على الفيس‬
‫بوك ؟‬
‫هل يجوز قتل غير المسلمين ؟‬
‫مع الس���ؤال األخير ابتس���م الرجل في سماحة وم ّد ك ّفه تمس���ح على لحيته قبل أن يقول‬
‫ف���ي هدوء ‪ :‬احّ نا نتفق مع الش���يخ بن الدن في الفكرة ولكننا قد نختلف في األس���لوب‪..‬‬
‫لذا فبخصوص السؤال فإننا نجيز قتلهم ولكن بشويييييش ألن الرسول أوصانا عليهم !!‬
‫إزاي يعني ؟!!‪..‬أحطلهم بودرة تلك قبل ما أدبّحهم ؟!‬ ‫قال محمّد مع نفسه ‪ :‬أحّ ه !!‪..‬بشويش ّ‬
‫على الفور م ّد يده ناحية جيبه وأخرج منه الموبايل وضغط على أزراره ‪.‬‬

‫****‬

‫جلس أحمد فوق د ّكة خشبية يُطلق من بين شفتيه صفيرً ا وبك ّفه يُطبّل‬
‫َ‬ ‫في موقف السيّارات‬
‫ش���ئ ما‪ ،‬تابع الظلّين اللذين‬
‫ٍ‬ ‫عن‬ ‫ا‬ ‫ً‬
‫بحث‬ ‫األفق‬ ‫يراقب‬ ‫وهو‬ ‫باستمتاع‪،‬‬ ‫الضخم‬ ‫على كرش���ه‬
‫أقبال عليه واحد من اليمين وآخر من اليس���ار‪ ،‬أخذا يقتربان منه بشدّة ح ّتى تجاورا أمامه‬
‫فأشار لهما بسبابته في تشفّ وهو يقول باستهزاء ‪ :‬الزم نحاول نبعد عن النسوان شوية يا‬
‫شباب‪..‬الزم يبقى لينا الزمة ونكون إيجابيين ونشارك في البتنجان المخلل قبل ما نحمض‬
‫من ّكس���ي الرؤوس جلسا جواره خائبي األمل دون تعقيب‪ ،‬ربّت على ركبتيهما وهو يقول‬
‫في مواساة‪ :‬فُرض عليكم السكس وهو كرهٌ لكم‪...‬قولتلكم مفيش فايدة مسمعتوش كالمي‬
‫ق���ال إيميل ف���ي غضب ‪ :‬يعني احّ نا انكتب علينا يا نضيّع وقتنا مع ناس مالهاش الزمة يا‬
‫نبقى كده طول عمرنا ؟!‬
‫ ‪-‬ينف���ع رئيس تحرير جورنال ف���ي البلد دي ميبق���اش دلدول‪..‬ينفع جرّ اح ُم ّخ‬
‫ميبقاش بارد وسقعان‪..‬ينفع مُصمم أزياء حريمي ميبقاش خول ؟!!‬
‫ ‪-‬ال‬
‫ ‪-‬يبقى احّ نا كمان مينفعش لينا إالّ كده‬
‫ل���م ير ّد عليه أحد‪ ،‬فقط حدّق كالهما ف���ي األرض بخواء ودون رغبة في مواصلة تقليب‬
‫لمح أحمد س���يارة ميكروباص أقبلت عليهم من بعيد فنهض قائالً ‪ :‬يالّ‬ ‫المواجع‪ ،‬بعد حين َ‬
‫يا موكوس م ّنك ليه‪..‬العربية جت‪..‬المشوار ده هوّ ا اللي هينسّيكم خيبتكم ‪.‬‬

‫****‬

‫رزا على‬ ‫انطلق الميكروباص العتيق ينهب الطريق اإلسفلتي نهبًا‪ ،‬ببراعة يسوّ ي السائق ُغ ً‬
‫الضيّق بين الس���يّارات وبعضها وهو يتقافز فوق مقعده على أغنام أغنية (قولّووووووه)‪،‬‬
‫في الكنبة األخيرة حُش���ر الثالثة معًا‪ ،‬قال محمّد بتأ ّفف بسبب الزحمة والحرّ ‪ :‬انتَ أ ّكدت‬
‫عليها يا ابني ؟!‬
‫ ‪-‬طبعًا‪..‬كلّمتها قبل ما أنزل على طول‬
‫ ‪-‬يعني انتَ ملقتش ح ّتة غير الس���ينما‪..‬دي فركة كعب من مصنع أبوك ؟!!‪..‬ده‬
‫لو بصّ من شبّاك أودته هيشوفنا‬
‫ ‪-‬أهو اللي حصل بقى‬
‫ ‪-‬بُص يله‪ ..‬واحدة بش���عر‪..‬قالها إيميل فانفضّوا عن حوارهم فورً ا ليسألوه في‬
‫لهفة ‪ :‬فين دي؟!!‬
‫ ‪-‬أهي‪..‬هناك أهي‬
‫استدارت أعناق الثالثة يُتابعون َعبْر نافذة إيميل نصف المفتوحة فتاة ترتدي زي مدرسة‬
‫ثانوي وتحتضن كشكول سلك بين ذراعيها‪ ،‬لنصف دقيقة كاملة راحوا يتابعون كافة ثنايها‬
‫وهي تتغندَر فوق الرصيف‬
‫قال إيميل ‪ :‬صحيح صغيرة‪..‬بس قدّامها مستقبل كبير‬
‫قال أحمد ‪ :‬يا بخت الكشكول !!‬
‫قال محمّد ‪ :‬فيها شبه من شارون ستون‬
‫عرجت الفتاة يمي ًنا لتبتعد روي ًدا روي ًدا عن نظراتهم اآلس���فة‪ ،‬عادوا بأنظارهم إلى داخل‬
‫السيّارة بسائقها ال ُم َت َن ِّطط على بعضه‪ ،‬قال إيميل ‪ :‬مش لدرجة شارون ستون يعني‬
‫هز محمّد رأس���ه في هيام قائالً بلهجة مليئة بالعاطفة واالنتماء‪ :‬ش���اروون‪..‬هللا يمسّ���يها‬‫َّ‬
‫بالخير دي مربّية أجيال‪..‬تفتكروا هي األفتك والّ مونيكا بيلوتشي ؟‬
‫‪ -‬مونيكا ؟!‪..‬هوّ ا أنا عندي زي مونيكا؟! بنت الحرام عليها جس���م زي ح ّتة الش���يكوالتة‬
‫الكادبوري‬
‫في الكنبة أمامهم مباشرة جلس رجل قصير القامة‪ ،‬مكتكت البنيان‪ ،‬ذو قفا عريض وشعر‬
‫شرة‪،‬‬‫رأس مجدور ب َم َكنة قصّ حشائش صنعت تصفيفة شعر حوّ لت رأسه إلى قلقاساية مق ّ‬
‫وجدوه يس���تدير ناحيتهم ويقول بابتسامة طفولية ن ّفخت خدوده ‪ :‬تفتكروا يا كباتن المشهد‬
‫بتاعها لمّا قلعت َملط وقعدت تعصر على جس���مها لمون ؟‪..‬أنا ضيّعت أربعة مليون طفل‬
‫على اللقطة دي لوحدها ‪.‬‬
‫تبادل الثالثة نظرات االس���تغراب على ذلك الس���مج الذي انحش���ر في حشرتهم فزادها‬
‫َح ْشرة!!‬
‫ابتس���موا له ابتس���امة صفراء ومنحه أحمد نظرة (خلّيك في حا َلك يا ابن الوسخة) لم يبدو‬
‫محافظا على ابتسامته لثوان قبل أن يعتدل مرّ ة أخرى مُصدّرً ا لهم‬ ‫ً‬ ‫على الرجل الفهم فظ ّل‬
‫قفاه العريض المغري بش���دّة للصفع وهُم على ِحسَّه يتذ ّكرون مقولة سعيد صالح الشهيرة‬
‫في مسرحية العيال كبرت “الراجل ُكل أمّا آجي أضربه في ح ّتة تيجي في قفاه”‪ ،‬بعد فترة‬
‫صم���ت قال إيميل ألحمد‪ :‬فاكر لمّا قعدت أتحايل علي���ك تجيبلي أفالم مونيكا اللي عندَ ك‬
‫ومرضتش ؟‬
‫ ‪-‬ب�ل�اش انتَ وحي���اة أبوك‪..‬بأمارة فيلم الخيارة اللي قعد عندَ ك ش���هر محدّش‬
‫عِ ِرف يشمّه‬
‫ِس ْك ِر ُته علينا؟‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫ُدفة‬
‫ص‬ ‫بال‬ ‫ك‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫موباي‬ ‫على‬ ‫لقيته‬ ‫اللي‬ ‫ ‪-‬وفيلم الكنبة‬
‫ ‪-‬ألنك أصـ‪..‬‬
‫ثانية استدار الرجل إليهم مُستكمالً سلسلة نصائحه‪ :‬ماهو ُكل واحد فيكوا الزم يشيل أخوه‬
‫وإالّ متبقوش أصحاب كفاءة‪..‬زمان واحّ نا في س��� ّنكوا ك ّنا بنس���لّف بعض شرايط الفيديو‬
‫والمجالّت‪..‬صحي���ح ك ّنا بنتعب على ما نالقيها بس بصراح���ة اللي قال إن المعاناة ُنص‬
‫حق‪..‬طبعًا متوعووش انتوا على الحاجات دي‪..‬انتوا لسّه قطاقيط‬ ‫المُتعة كان عنده ّ‬
‫تبادل الثالثة نظرات الدهشة‪ ،‬وللمرّ ة الثانية تجاهلوه تمامًا ح ّتى غادرهم بابتسامته الدسمة‬
‫البلهاء‪ ،‬تمتم أحمد في خفوت ‪ :‬قال قطاقيط قال‪..‬ده أنا الوحيد في مصر اللي عارف عادل‬
‫إمام قال لمشيرة إسماعيل إيه بعد ّ‬
‫البطيخة‬
‫إمام‪..‬يحظه المفتري معتقش ممثلة فيكِ يا مصر إالّ وهراها‬ ‫ّ‬ ‫س���معه محمّد فع ّقب ‪ :‬عادل‬
‫بوس‪..‬ده باس يُسرا أكتر ما اجوازها نفسهم باسوها‬
‫شغالنة عظيمة‬ ‫ ‪-‬أحلى حاجة في التمثيل إنك بتحضن وبتبوس وكمان تاخد فلوس ُ‬
‫ ‪-‬السينما جت أهي‬
‫ ‪-‬انتوا رايحين السينما ؟!‪..‬افتكرتكوا رايحين الجمعية معايا‬
‫وكما يتجاهل زنّ الذبابة رفع أحمد رقبته وصاح في السائق دون أن يمنح للرجل الحشري‬
‫صاحب آخر تعليق أي حيثية اهتمام‪ :‬أيوة معاك هنا يا أسطاااااا‬
‫م���ا إن خرج الثالثة من الميكروباص ح ّتى م ّد أحمد ي���ده نحو المقبض كي يُغلق الباب‪،‬‬
‫أوقفه ذو القفا العريض‪ ،‬أمال رقبته ناحيته وس���أله ‪ :‬كابتن‪..‬كابتن‪..‬هوّ ا كان قالّها إيه بعد‬
‫البطيخة ؟‬
‫هذه المرّ ة رفع أحمد أرنبة أنفه ألعلى ووسّع عينيه قليالً كي يمنحه نظرة (يلعن أبو البطن‬
‫اللي جاب َتك) ثم أغلق الباب في وجهه دون أن يجيب‪.‬‬

‫****‬
‫بحثا عن ّ‬
‫المزة ورفيقاتها‪،‬‬ ‫وقف الثالثة أمام السينما يتطلّعون فيمن حولهم ً‬ ‫َ‬ ‫في تمام الرابعة‬
‫قال إيميل ‪ :‬عارف يا أحمد لو بعد ده كلّه البت طلعت وحشة‪..‬أنا هعمل فيك إيه ؟‬
‫ ‪-‬وهوّ ا انتَ فاكرني ابن امبارح يله‪..‬أنا شوفت صورتها يا ابني ومقولّكش بقى‬
‫‪..‬طلقة‪..‬طلقة إيه ؟! دي وابور حرت‬
‫ ‪-‬كلّمتها كاميرا ؟‬
‫ ‪-‬ال‪..‬مبترضاش ‪..‬أصل أهلها صعبين قوي‬
‫ ‪-‬آه‪..‬ماهو باين‪..‬ربّنا يُستر‬
‫ ‪-‬هووووس���ت بقى‪..‬ش���ايف اللي جاية من بعيد دي ؟‪..‬البسة جيبة جينز حمرا‬
‫وبادي بينك والّ بيتهيألي ؟‬
‫ ‪-‬أيوة‪..‬أهي جاية علينا‬
‫تناولت أنظارهم الثالثي وهن قادمات من آخر الشارع‪ ،‬الشمس من وراء ظهورهن ُتبين‬
‫فق���ط تفاصيل أجس���ادهن مع حجب لمالمح الوجوه‪ ،‬لدقيقة أو تزيد اس���تمرّ ت البنات في‬
‫مشيهن المتهادي نحوهم ح ّتى اقتربن منهم كثيرً ا وصار التعرف عليهن أمرً ا ممك ًنا‪ ،‬همس‬
‫إيميل ‪ :‬أحه‪..‬دي طلقة؟! دي شبه مجدي طلبة !!‬
‫تمت َم محمّد مع نفسه ‪ :‬دي وابور حرت ؟!! دي وابور جاز !!‬
‫عال رؤوس الفتية الطير وهم يس���تقبلون حسناوات السينما (الفاك َِسات) بوجوه مصدومة‪،‬‬
‫وجّ ���ه كال من إيميل ومحمّد نظ���رات قاتلة ناحية أحمد الذي بدا ف���ي قمّة االرتباك وهو‬
‫يسألهن بصوت مرتعش ‪ :‬مين فيكوا روان ؟‬
‫هزت الواقفة على اليسار في مواجهة محمّد رأسها في اعتراض ‪ :‬اخص عليك يا أحمد‪..‬‬ ‫ّ‬
‫كده متعرفنيش‬
‫نظر لها باس���تغراب وهو يقارن بينها وما بين قد رآه من قبل من صور س���ابقة علّه يجد‬
‫ُنقطة تش���ابه واحدة بال جدوى‪ ،‬نبرات الصوت كانت مألوفة‪َ ،‬م َن َح رفيقيه نظرة اعتذار‪،‬‬
‫ت متأ ّكدة ؟!‬ ‫عاود سؤالها ‪ :‬ان ِ‬
‫ ‪-‬ما َلك يا أحمد ؟!‬
‫ ‪-‬أصل شكلِك متغير خالص عن الصور اللي وريتيهالي‬
‫شر ساعتها‬ ‫شي مق ّ‬‫ ‪-‬عشان كنت القطاهم في مارينا وكان و ّ‬
‫شر ؟!!‬ ‫ ‪-‬مق ّ‬
‫قالها الثالثة معًا في اس���تنكار‪ ،‬عال الصمت بعدها لثوان قطعته روان بأن أشارت لرأس‬
‫لراسك‬
‫َ‬ ‫محمّد قائلة ‪ :‬سالم َتك‪..‬إيه اللي جرا‬
‫‪ -‬هللا يسلِّمك‪..‬ده أنا كنت ماشي وخبطت في حيطة من غير ما أشوف‬
‫‪ -‬انتَ كنت ماشي لورا ؟!!‬
‫تدخل أحمد في الكالم وهو يقول في قرف ‪ :‬هوّ ا عادته كده لمّا يحبّ يمشي بيمشي بقفاه‪..‬‬ ‫ّ‬
‫ت مالِك ؟!!‬‫ِ‬ ‫ّيتن‪..‬ان‬ ‫ب‬ ‫ح‬ ‫شموخ‬ ‫عنده‬ ‫أصله‬
‫‪ -‬شموخ!!‪..‬ما علينا‪..‬المه ّم‪..‬مش هندخل السينما والّ إيه ؟‬
‫تطلّع أحمد في قهر للسِ ت تذاكر الكائنة بين أنامله‪ ،‬مُسترخصًا الـ‪ 75‬التي دفعها والمجهود‬
‫الذي بذله سعيًا لالختالء بهؤالء العِرر‪ ،‬قال ‪ :‬هندخل أهو‪..‬مش يالّ يا جماعة ؟‬
‫ ‪-‬يالّ يا أخويا‪..‬يالّ‪..‬هو يوم ِن ِجس من أوّ له‬
‫اتجهوا جميعًا ناحية المدخل‪ ،‬صعدوا الس���لّم الرخامي معًا‪ ،‬منح أحمد التذاكر لرجل أمن‬
‫ومنح أحمد النصف اآلخر الذي ما أن‬ ‫َ‬ ‫البوّ ابة الذي قطعها لنصفين احتفظ لنفس���ه بأحدهما‬
‫َع َب َر بوّ ابة كش���ف المفرقعات فوجئ بروان تستدير للخلف وتميل بوجهها ناحية الشارع‬
‫قبل أن تصيح فيهم ‪ :‬يالهوي‪..‬أخويااااااا !!‬
‫فركتهم رعدة خوف ش���لّت تفكيرهم جميعًا لثوان‪ ،‬هتف محمّد في هيس���تريا ‪ :‬أخوكِ ؟!!‬
‫أخوكِ إيه؟!!!‪.‬أخوكِ ّ‬
‫إزاي ؟!!!‬
‫الجثة‪ ،‬يركضان‬ ‫مالوا جميعًا ناحية الش���ارع ليُطالعون في آخره ش���خصين‪ ،‬ضخم���ي ّ‬
‫نحوهم‪ ،‬في يد كل واحد منهما سيف ذو نصل حاد يصلح لسلخ ديناصور‬
‫ ‪-‬وله‪..‬ال���دراع المنفوخ اللي هالل علينا ده مش غري���ب عليّا‪..‬الواد اللي على‬
‫دخل الحاجات في المحتاجات ؟!‬ ‫اليمين ده هوّ ا اللي في بالي والّ الرعب ّ‬
‫قطعنا عليه وهو بيق ّفش في ال ُخن ال ّنهاردة‬ ‫ ‪-‬هوّ ا يا أخويا‪..‬هوّ ا‪..‬الواد اللي ّ‬
‫ ‪-‬أن���ا قولت م���ن األول دي عيلة وس���خة‪..‬الواد بيق ّفش الصب���ح وأخته بتقابل‬
‫المغرب‪..‬ماشاء هللا عالم مبتحبّش تضيّع وقتها‬
‫ ‪-‬ياترى لو مس���كونا هيعملوا فينا إيه ؟!‪..‬قالها محمّد بخوف وهو يتلمّس بأنامله‬
‫موضع الضمادة مسترجعًا ذكريات بطحة الماضي القريب‪ ،‬أجابه أحمد على‬
‫الفور‪ :‬اللي كنت ناوي تعمله في إخواتهم جوّ ا !!‬
‫ ‪-‬طب والمصحف ما كنت هلمس واحدة منهم‪..‬دي أشكال أصالً؟!!‬
‫ ‪-‬حاول تقنعهم بكده بقى‬
‫ ‪-‬أقنع مين يا آبا‪..‬اجروا يا عيااااااااااااال‬
‫م���ا إن همّوا بالهرب ح ّتى فوجئوا بروان تمس���ك في تالبيب أحم���د وهي تقول بخوف‪:‬‬
‫است ّنوا‪..‬اوعوا تمشوا وتسيبوناااا‬
‫ش���رة عش���ان‬ ‫دفعها أحمد جانبًا بعنف وهو يصيح بها ‪ :‬يالّ يا خميرة يا وش الفقر‪..‬قال مق ّ‬
‫ش���رة ده!!‪..‬ده شكل واحدة مسلوخة ومتر ّكبلها جلد‬ ‫متصوّ رة في مارينا قال‪..‬ده ش���كل مق ّ‬
‫كبيرك تصيّفي في ترعة السالم وإن شاء هللا أي‬ ‫ِ‬ ‫ت‬‫معزة‪..‬أش���كالِك دي تدخل مارينا ؟! ان ِ‬
‫ح ّد معدّي هناك يفجّ ِرك بالغلط ‪.‬‬
‫أزاحها عنه بعنف وهو ينطلق مع رفاقه ركضًا نحو الميدان الواس���ع الذي يلوح لهما من‬
‫بعيد ‪.‬‬
‫****‬

‫افترش صادق وفتاته أرضية الغرفة الزجاجية‪ ،‬دسّ���ها بي���ن ذراعيه وانهمك في إغراق‬
‫وجهها وعنقها الطويل بالقبالت بينما أنامله تسري فوق جسدها بجشع‪ ،‬تصاعد في األسفل‬
‫صوت أقدام غليظة ر ّنت فوق أرضية الصالة وأصحابها يسيرون بين الماكينات ويرفعون‬
‫أنظاره���م لألعلى‪ ،‬دون أن ينتبه أمالت هي رقبته���ا بحركة جانبية طفيفة لمحت فيها من‬
‫خالل جدار الغرفة الزجاجية ثلّة من الرجال دلفوا إلى المكان‪ ،‬همست بصوت مبحوح ‪:‬‬
‫دخلوا‪..‬شوف اللي دخلوا‬
‫أجابها صادق الجاثم فوقها المغيب عن الواقع بارتشاف قدور العسل ‪ :‬دخلوا إيه بس ؟!‪..‬‬
‫هوّ ا احّ نا لسّه عملنا حاجة؟!!‬
‫تحطم جزء من زجاج جدار الغرفة على أثر طوبة كبيرة قُذفت عليهم من أس���فل‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫هوب‬
‫اخترق���ت الجدار بعد أن صنعت به ثقبً���ا صغيرً ا بحجمها وعبرت هواء الغرفة وأصابت‬
‫زجاج التابلوه مباش���رة‪ ،‬كان الزجاج من النوع (الملدّن) كزجاج الس���يّارات األمامي فلم‬
‫ش���روخا نحيلة‪ ،‬طويلة‪ ،‬مألت جُل سطحه قبل أن تسقط‬ ‫ً‬ ‫تكس���ره الطوبة ولكن خلّفت فيه‬
‫أرضًا وتتدحرج تحت المكتب‪ ،‬ابتعد صادق عن الفتاة في ذعر‪ ،‬ش���عر بألم في س���اعده‬
‫َن َت َج عن انغراس بعض ش���ظايا الزجاج في ساعده‪ ،‬تجاهله ليهتف في انزعاج شديد ‪ :‬فيه‬
‫إيه؟!‪..‬مين دول ؟!!‬
‫ ‪-‬دول اخواتي الصبيان !!‬
‫اتس���عت عيناه في ذعر على وس���عهما وهو يتابع الرجال وهم يصعدون السلّم ناحيتهما‬
‫وأحدهم يصرخ في شراسة‪ :‬جايييينلك يا فاجراااااااا‬

‫****‬

‫كصواريخ باليستية بال منصّة انطلق أحمد ومحمّد وإيميل خو ًفا من َح َملة السكاكين اللذين‬
‫انطلقا بدورهما في أعقابهم يطاردوهم بإصرار أس���طوري‪ ،‬بلغَ الثالثة الميدان المستدير‬
‫بحثا عن أي تجمّع بش���ري يصلح‬ ‫بحث محمّد بعينيه في ُكل المباني من حوله ً‬ ‫َ‬ ‫الواس���ع‪،‬‬
‫الحتواؤهم واالختباء فيه‪ ،‬وجد كتلة بشرية ضخمة محتشدة على الرصيف جوار الجامع‬
‫ركض برفاقه نحوها واندسّوا داخلها بال تفكير‪ ،‬وكما يحدث ألي فرد‬ ‫َ‬ ‫الرئيس مباش���رة‪،‬‬
‫داخل كتلة بش���رية متراصة؛ تضيع فيها ش���خصيته ويفقد اتجاهات���ه الذاتية وينكفئ على‬
‫نفس���ه مجرّ د جزء من ُكل يأخذه حسب ما يش���اؤه من اتجاهات يمي ًنا أو يسارً ا ح ّتى ولو‬
‫كانت هذه االتجاهات على غير رغبة باقي األجزاء و ُكل َمن يس���تق ّل المترو وأتوبيسات‬
‫الحكومة وق���ت الذروة يعلم هذه القاعدة الفيزيائية جي ًدا‪ ،‬بُنا ًء على ما َس��� َبقَ وجدَ الثالثة‬
‫أنفسهم داخل الجامع‪ ،‬ال يعرفون ل َم جاؤوا وكيف دخلوا وال أين أهم بالتحديد وال ح ّتى ما‬
‫س���بب هذا التجمّع في المس���جد بغير أوقات الصالة‪ ،‬ال يعرفون إالّ أن عليهم أالّ يخرجوا‬
‫لمح إيميل يافطة بالس���تيكية‪،‬‬ ‫وإالّ لفتك ثنائي أضواء المس���رح بهم‪ ،‬بعد أن انتهى التدافع َ‬
‫مكتوبة على الكمبيوتر‪ ،‬معلّقة بين عامودين ُكتب فيها “يدعوكم األس���تاذ محمد سعد الدين‬
‫لحضور حفل بناء ابنه عمرو على كريمة الحاج نادر الس���عيد اآلنس���ة ‪..N‬بارك هللا لهما‬
‫وج َم َع بينهما في خير”‬
‫َ‬
‫بدأوا يلتقطون أنفاسهم ويفهمون حقيقة األمر‪ ،‬فرح (إسالمي) إن جاز التعبير‪ ،‬من حولهم‬
‫احتش���د روّ اده من ذوي الجالليب البيضاء واللحى الطويلة‪ ،‬جميعهم جلس���وا القرفصاء‬
‫ناظرين لألمام ناحية القِبلة التي أقام أحدهم أمامها منضدة صغيرة وُ ضع فوقها ميكروفون‬
‫أس���ود صغير‪ ،‬وُ ّزعت عليهم أكواب بالستيكية مملوءة بعصير برتقال (تانك) وبواسطة‬
‫(ع َرق باط) شنيعة‬ ‫ُطرت أياديهم بمِس���ك ذو رائحة َ‬ ‫زجاجة صغيرة تنتهي ِب َب َكرة مدوّ رة ع ّ‬
‫صحن القِبلة وقف ش���خصٌ ما هيئته ال تختلف كثيرً ا عن باقي‬ ‫ّ‬
‫اش���مأزت لها أنوفهم‪ ،‬في َ‬
‫الحضور‪ ،‬أمسك الميكروفون ثم بدأ في الخطابة؛ رحّ ب بالحضور المُبارك ثم ه ّنأ العريس‬
‫المقرفص أمام���ه والعروس الموجودة بالدور العلوي ثم ب���دأ يتكلّم عن قيمة الزواج في‬
‫اإلس�ل�ام وراح يضرب أمثلة من معاملة الصحابة لزوجاتهم ويستشهد ببعض األحاديث‬
‫النبوية التي تحضُّ على الزواج وحُس���ن معاملة ال ّنس���اء‪ ،‬قبل أن يُشير إلى أحد الحضور‬
‫ويقول ‪ :‬ودلوقتي عاوزين نسمع شوية تواشيح ِت َبارك على عروسينا ليلتهما‬
‫نهض المُشار إليه‪ ،‬انض ّم للمُحاضِ ر أمام المنضدة‪ ،‬كان قصير القامة ذو لحية خفيفة مألت‬
‫أماكن متفرّ قة من وجهه‪ ،‬عرّ فه المُحاضِ ر قائالً ‪ :‬هنس���مع نشيد من أخونا إبراهيم المنجي‬
‫بارك هللا فيه وبارك له في صوته ‪.‬‬
‫أغمض عينيه سعيًا وراء االندماج قبل‬ ‫َ‬ ‫فمه‪،‬‬ ‫أمام‬ ‫ووضعه‬ ‫التقط منه إبراهيم الميكروفون‬
‫ت شاجي‬ ‫أن يبدأ في الشدو بصو ٍ‬
‫“يا عمرو هقولّك كلمتيييييييين‬
‫تحية ليك من اخوا َتك المسلمييييييين‬
‫يباركك هللا‪..‬ظفرتَ بذات الدِين‬
‫ادخل عليها بالحالااال‬
‫يرزقك ربّك منها أجمل عيااااال‬
‫من غير القرآن وال ُس ّنة تربيتهم شئ مُحااااااال‬
‫وادخل عليها بالحالاااااااااال ”‬
‫أثناء اإللقاء‪ ،‬ما َل أحمد على أذن محمّد ليسأله في همس ‪ :‬هوّ ا الفرح هيبقى كده بس ؟!‬
‫‪ -‬فاكر يوم خطوبة أختي أميرة ساعة لمّا شوشو صاحبتها طلعت ترقص على الترابيزات‬
‫‪ -‬هللا يمسّ���يها بالخير دي كان عليها (‪ )---‬تدخل بيهم التاريخ‪..‬تفتكر لو دخلت علينا هنا‬
‫هيحصل إيه ؟‬
‫‪ -‬هيقيموا عليها الحد‬
‫‪ -‬أو يجروا عليها كلّهم‬
‫‪ -‬اللي غايظني إن أختي بتقول إن شوشو ُتعتبر معملتش حاجة من اللي كانت ناوية تعملها‬
‫ألنها كانت محرجة من باباها !!‬
‫‪ُ -‬كل الل���ي عملت���ه ده ومحرجة!!‪..‬أمّ���ال لو مكانتش محرجة كان���ت عملت إيه‪ ..‬كانت‬
‫اتشعلقت في النجف ؟!!هي متحرجتش غير لمّا انتَ زع ّقت ألختك أمّا جت ترقص جنبها‬
‫‪ -‬انتَ عاوز أختي ترقص معاها وتقصّع في لحمها قدّام ال ّناس‪..‬قالو َلك عليّا رائد فضاء ؟!‬
‫‪ -‬أمّال انتَ قمت رقصت معاها ليه ؟‬
‫‪ -‬ال ال‪..‬ده اختالف استراتيجي في المواقف‪..‬دي نقرة ودي نقرة‬
‫‪ -‬يا متناقض‬
‫‪ -‬أيوة يا ع ّم أنا متناقض وبقول الحاجة وبعمل عكس���ها ورجعي وشايف البنت مش زي‬
‫الولد وإنها كِمالة عدد‪ ..‬ليك شوق في حاجة ؟‬
‫غيرك يقعد يقول ألوالده صلّ���وا وهوّ ا مبيركعهاش‪..‬يقولّك‬ ‫‪ -‬يعني هيّ���ا جت عليك‪..‬فيه َ‬
‫متشربش خمرة وهو بيبرقعها ليل نهار‪..‬يقولّك ابعد عن الحريم وهوّ ا ش ّغال هللا ينوّ ر‬
‫قالها أحمد بلهجة ساخرة مريرة دخلت على صوته فجأة استعجب لها رفيقاه ولم يجدا لها‬
‫ُبر ًّرا‪ ،‬تبادل إيميل ومحمّد النظرات قبل أن يقول األول‪ :‬قصدك على مين ؟‬ ‫م ِ‬
‫‪ -‬وال حاجة‬
‫قالها غامضة مقتضبة ما أ ّكد لهما عدم رغبته في التوضيح‪ ،‬أش���اح بوجهه ناحية المنشد‬
‫الذي راح يُكرّ ر تلك المقطوعة مرّ ة تلو أخرى‪ ،‬أحيا ًنا يس���تبدل كلمة النهاية بأخرى على‬
‫فهز رأس���ه في‬ ‫س في أذنه ببعض كلمات ّ‬ ‫نفس وزن القافية‪ ،‬إلى أن دنى منه أحدهم‪َ ،‬ه َم َ‬
‫تفهّم‪ ،‬ختم إنش���اده بـ ‪ :‬نقوم للص�ل�اة دلوقتي يا إخوانا أثابنا وأثابكم هللا‪..‬نس���ألكم الدعاء‬
‫للعروس���ين بالفالح والسعادة وإن يكون دخول العريس على عروسه بداية لذرية صالحة‬
‫تنفع دينها وتطيع ربّها‪..‬قوموا إلى صالتكم يرحمنا ويرحمكم هللا‬
‫نهض الجميع وب���دأوا في التراص صفو ًفا جوار بعضهم‪ ،‬نه���ض أحمد وه ّم باالنضمام‬
‫إليهم‪ ،‬الحظ أن محمّد وإيميل لم يتحرّ كا من مكانهما وحيرة شديدة تبدو عليهما فقال لهما‪:‬‬
‫إيه يا جماعة‪..‬ما تقوموا‬
‫ ‪-‬نقوم إيه ياع ّم انتَ ؟!‬
‫ ‪-‬العال���م دي لو عرف���وا إننا مش تبعهم هيخلّوا العريس يدخ���ل علينا احّ نا بدل‬
‫العروسة‬
‫ظ َّل إيميل صام ًتا في ذعر بينما قال محمّد ‪ :‬أنا مش هينفع يا أحمد‬
‫ ‪-‬طب اللي جن َبك وعارفين س���ببه‪..‬إنما انتَ مش���كلتك إيه ؟! لو مش متوضّي‬
‫اتوضّى وخلّصنا‬
‫ ‪-‬لألسف مشكلتي مينفعش معاها الوضوء‪..‬لألسف ملهاش حل إالّ الحُما‬
‫ ‪-‬يخربي َتك‪..‬ه���وّ ا انتااااا‪..‬أها‪..‬صحيح‪..‬ما انتَ مقضّيها طول النهار فرجة على‬
‫األفالم‬
‫ ‪-‬المه ّم‪..‬هنعمل إيه دلوقتي ؟‬
‫ ‪-‬ندخل نصلّي بقى وخالص‬
‫ ‪-‬نصلّي إيه ‪..‬انتَ غبي ؟!! هنضحك على ربّنا ؟!!!‬
‫ ‪-‬ال‪..‬هنضحك عليهم همّا وربّك غفور رحيم‪..‬نبقى نستغفرله بعدين‬
‫ ‪-‬ال ياع ّم أنا مش موا‪..‬‬
‫اقترب منهم وهو يقول‬ ‫َ‬ ‫البدأ‪،‬‬ ‫على‬ ‫أوشكت‬ ‫التي‬ ‫الجماعة‬ ‫الحظ أحد الحضور تقوقعهم عن‬
‫بابتسامة خافتة ‪ :‬إيه يا أخوة‪..‬واقفين كده ليه ؟‪..‬يالّ عشان تصلّوا مع الـ‪..‬‬
‫بتر عبارته بغتة وعينيه تتر ّكزان على الصليب األس���ود‪ ،‬الصغير‪ ،‬المطبوع على معصم‬
‫بظت من محاجرها‪،‬‬ ‫إيميل من الداخل فوق عروقه النافرة من الخوف‪ ،‬جحظت عيناه ح ّتى ّ‬
‫فورً ا أدار رأسه للخلف وهو يصيح ‪ :‬نصارااااااااااااااااااااااااااااا‬

‫****‬

‫جوار الجام���ع تمامًا وفي مقرّ “ الجمعي���ة المصرية الوطنية ل ُنصرة َ‬


‫الحق والمُس���تحق‬
‫ورعاية المخطوفين ذهن ًّيا ”‬
‫جلس بعض أعضاء الجمعية ال يزيد عددهم عن ‪ 15‬فر ًدا سو ًّيا على مقاعد جلدية ُرصّت‬
‫في ش���كل دائرة مترابطة معظمها مش���غول و ُتركت بقية المقاعد فارغة‪ ،‬تكلّمت إحداهم‪،‬‬
‫تجلس في المنتصف تمامًا‪ ،‬امرأة كبيرة‪ ،‬دون الخمسين‪ ،‬شعرها أشقر مُصفف على شكل‬
‫راس أباجورة منفوشة‪ ،‬قالت ‪ :‬ال ّنهاردة احّ نا جايين نتكلّم عن ضحايا الخطف الذهني اللي‬
‫انتش���ر في مجتمعنا بشدّة الفترة األخيرة‪..‬كلّنا الزم نقاوم اللي بيحصل ده ألن مصر دولة‬
‫عظيمة وال يمكن أب ًدا هتبقى أس���يرة لشوية حمقى أعلنوا الحرب على المجتمع المصري‬
‫ب ُكل صوره و‪...‬‬
‫قاطعها فجأة دخول ثالث ش���باب للقاعة ذات الباب المفتوح على الش���ارع‪ ،‬يلهثون كأنهم‬
‫ُالحق‪ ،‬مبهدلين كعشرة جنيه عاضضها‬ ‫شال َم َحافِظ م َ‬‫فرغوا للتو من ماراثون‪ ،‬متوترين كن ّ‬
‫كلب‪َ ،‬ن َظ َر الجميع لهم باس���تغراب‪ ،‬رفع أحد الشباب يده وهو يتل ّفت خلفه في خوف وهو‬
‫يقول ‪ :‬أ ًّيا كان الموضوع اللي بتناقشوه فاحّ نا عاوزين نتكلّم فيه معاكوا ج ًّدا خالص على‬
‫اآلخر ‪.‬‬
‫‪ -‬انتوا مه ّتمين بالخطف الذهني ؟!‬
‫أجابه���ا أحمد دونما تردّد وبلهجة َح َش���ر فيها أقصى ما يُمكنه م���ن اهتمام وحماس‪ :‬إالّ‬
‫مهتمّين‪..‬ده احّ نا موراناش غيره من أول اليوم‬
‫خ�ل�ال دقيقتين كان أحمد وإيميل ومحمّد جالس���ين ضمن المجموع���ة بعد أن تأ ّكدوا من‬
‫إغالق الباب خلفهم جي ًدا‪ ،‬قبل أن يقرّ ر أحمد أن يبدأ في ال َف ْتي‪ ،‬رفع رأس���ه للحظة يتأمّل‬
‫الموجودي���ن ليجد في مواجهته رجل الميكروباص ذو القف���ا العريض والخدود المكلبظة‬
‫ظفر وينظر له نظرة (أنا عارف مِن األول إ ّنكوا تبع الجمعية) فر ّد عليه فورً ا‬ ‫يبتسم له في ُ‬
‫بحثا عن تقمّص الدور‬ ‫ب منه بعينيه ً‬ ‫ر‬
‫َ َ َ‬‫ه‬ ‫ثم‬ ‫الوس���خة)‬ ‫ابن‬ ‫يا‬ ‫ك‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫حا‬ ‫في‬ ‫يك‬‫ّ‬ ‫ل‬ ‫خ‬ ‫بنظرة (بردو‬
‫فرعّش من نبرات صوته وأطرق برأس���ه ألسفل في حُزن‪ ،‬بدأ في الكالم ‪ :‬أنا أبويا كان‬
‫بيخطفني وانا صغير من ورا أمّي‬
‫برق���ت جميع األعين في دهش���ة مع هذا المحتوى الغريب المفاج���ئ ح ّتى بما فيها أعين‬
‫صديقيه‪ ،‬مع نفس���ه تمتم إيميل ‪ :‬هللا يخربيت���ك‪..‬دي جمعية خطف ذهني‪..‬مش خطف في‬
‫المواسير‬
‫أكمل أحم���د متص ّنعًا عدم مالحظة القلبان الذي أحدثه ف���ي القعدة ‪ :‬كان بيقعد يغتصبني‬
‫يغتصبني لغاية ما جه يوم خالص معدتش قادر فيه فقولتله كفاية بقى عيب كده يا بابا‪..‬قام‬
‫ليلتها َحب بينتقم م ّني فجاب أصحابه وحاوطوني من كل ناحية و ُكل واحد فيهم قعد يلعلبي‬
‫في ش���نبه ويبصّولي نظرات مريبة كده من إياهم وصاحب أبويا األنتيم قرّ ب م ّني وقالّي‬
‫بزعيق اقلع يله وقعدوا يغتصبوا فيّا يغتصبوا فيّا يغتصبوا فيّا يغتصبوا فيّـ‪..‬‬
‫ ‪-‬خالص يا ابني المعنى وصل‪ُ ..‬خش في اللي بعده‬
‫ ‪-‬لغاية ما أمّي صحيت‬
‫ِت إيه معاهم؟‬ ‫اعتدلت المرأة ذات رأس األباجورة في اهتمام وهي تسأل ‪ :‬وبعدين َع َمل ْ‬
‫ ‪-‬ز َّعقِت فيهم قوي‬
‫ ‪-‬طيب الحمد هلل إن ربّنا نجّ اك‬
‫ ‪-‬قالتله���م أنا عن���دي ماتش تنس بُك���رة الصبح بدري ومش عارف���ة أنام من‬
‫دوشتكوا‪..‬كمّلوا من غير صوت !!‬
‫ ‪-‬من غير صوت !! إيه أمّك دي ؟!! وإيه أبوك ده ؟!!! إيه العيلة الـ(‪ )----‬دي‪..‬‬
‫انتَ متأ ّكد إنهم أهلك الحقيقيين ؟‬
‫ ‪-‬مش عارف‪..‬أنا من زمان وانا ش���اكك إن أبويا مش أبويا الحقيقي ألنه عنده‬
‫ش���عر كتير في صدره وأنا معنديش وال ش���عراية وكمان هو عنده شعر أكتر‬
‫في الـ‪..‬‬
‫ ‪-‬خالاااص يا حبيبي‪..‬كمّل‬
‫ِت لقيتهم رجعوا يتلمّوا حواليّا تاني وعاوزين يـ‪..‬يـ‪..‬‬ ‫ ‪-‬أول ما أمّي سابتني ودَ َخل ْ‬
‫يـ‪..‬قمت هربت منهم وجيت على هنا‪..‬أعااااااااااااااااااااااااا‬
‫اصطن���ع التأثر الجيّاش وهوى بوجهه بين ك ّفيه‪ ،‬قبل‬ ‫َ‬ ‫بل���غَ أحمد بهذه العبارة ذروة أدائه؛‬
‫ت عال‪ ،‬تبادل الحضور النظرات ما بين غير مصدّق‬ ‫أن يبدأ في البكاء والش���حتفة بصو ٍ‬
‫ومذه���ول ومُتعاط���ف‪ ،‬نهض أحدهم نحو أحمد‪ ،‬ربّت على كتف���ه قائالً في رفق ‪ :‬تما َلك‬
‫نفسك‪..‬متخافش‪..‬انتَ هنا في أمان‬ ‫َ‬
‫دفن أحمد وجهه في كتف جاكتة الرجل وهو يقول ‪ :‬ال ال ال‪..‬أنا خايف يغتصبوني تاني‪..‬‬
‫كفاية بقى حرام عليكوااااا أنا اتهريت‬
‫نظر الرجل في تأ ّفف لكتفه الذي والشك سيكون موضعًا للبلل بسبب دموع وبرابير أحمد‬
‫الس���ائحة في َكدَر‪ ،‬قال في لهجة حاول إكسابها قدرً ا كبيرً ا من التعاطف ‪ :‬خالص يا ابني‬
‫بقى‪..‬قولتلك متخافش‬
‫ ‪-‬أنا م���ش عاوز بس غير حد يوصّلنا المعادي عند عمتي هناك علش���ان أبعد‬
‫ع ّن���ه خالص وعن أصحابه المقرفين بس أن���ا خايف يكونوا قاطري ّني يقوموا‬
‫يخطفوني ويـ‪..‬ويـ‪..‬ويـ‪..‬أعاااااااااااااااا‬
‫ ‪-‬يادي النيلة‪..‬الجاكت هيبوظ كده‪..‬حاضر متقلقش‪..‬أنا هوصّلك بنفس���ي على‬
‫راسك بقى‬ ‫هناك‪..‬بس شيل َ‬
‫أبعد أحمد رأس���ه عن الرجل الذي هالته البقعة الكبيرة الم َُخلَّفة فوق كِتف الجاكت‪ ،‬أشار‬
‫أحمد إلى رفيقيه وهو يقول ‪ :‬ودول أخواتي الزمن آخدهم معايا‬
‫ ‪-‬همّا بردوا أ‪...‬‬
‫ ‪-‬ال‪..‬أصل أبوي���ا واصحابه ملهمش غير في الس���مين‪..‬بس الزم آخدهم معايا‬
‫عشان ميشوفوش اللي أنا شفته‪..‬أعاااا‪..‬أعاااااااااا‪..‬أعـ‪..‬‬
‫ ‪-‬هناخدهم يا سيدي‪..‬هناخدهم‪..‬بس خلّيك بعيد‬
‫ينه���ض الثالثة ومعه���م الرجل الكريم في طريقهم لمغادرة الم���كان وأحمد ال يزال ّ‬
‫يمثل‬
‫الفرف���رة من هول طغيان الواقع األليم على وعيه الب���رئ‪ ،‬ما أن فتح الرجل الباب ح ّتى‬
‫لمح أحدهما الشباب من خلف الرجل‬ ‫ش���طان الش���ارع‪َ ،‬‬ ‫وجد أخوي روان بالقرب منه يم ّ‬
‫فهتف في أخيه ‪ :‬أهممممم‬
‫َ‬
‫من خلفهما بمس���افة بس���يطة كان جمع اإلخوة ‪-‬معازيم فرح اآلنس���ة ‪ -N‬ال يزال على‬
‫الرصيف ما أن رأوهم َعبْر فُرجة الباب المفتوحة ح ّتى صاحوا ‪ :‬أهمممممممممم‬
‫أمّا أصحابنا فكعادتهم ذكاءهم َيفهم المصيبة باكرً ا‪ ،‬أطلقوا لس���يقانهم العنان فور سماعهم‬
‫حرف األلف في أول أهمممممم‬
‫ ‪-‬اجري يالاااااا‪..‬لو وقعنا في إيد أي حد فيهم هيفشخونااااااااااا‬
‫حظهم أن قاعة الجمعية دور أرضي واسع يط ُّل على الشارع مباشرة‪ ،‬صحيح‬ ‫من حُسن ّ‬
‫ُحاصر إالّ أنهم تم ّكنوا من إيجاد منفذ؛ مقعد خش���بي استطاعوا‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫واحد‬ ‫مخرج‬ ‫أن للغرفة‬
‫االرتق���اء فوقه والوصول إلحدى النوافذ والخروج َعبْرها من القاعة ليرتكنوا فوق جهاز‬
‫تكيي���ف ضخم ُثبِّتَ أس���فل النافذة بقليل يُط ُّل على زقاق ضيّ���ق يُفضي في آخره للميدان‬
‫الرئي���س‪ ،‬فعلها إيميل وفعلها محمّد ولكن ما أن أتى ال���دور على أحمد لم يحتمل الجهاز‬
‫جس���ده الممتلئ فأخذه وهوي به على األرض‪ ،‬لم تكن المس���افة طويلة فلم يحدث له أي‬
‫إصابات عدا بعض الخدوش السطحية في جبهته وراحتي ك ّفيه‪ ،‬من جواره سقط التكييف‬
‫دخان رمادي خفي���ف وخرجت منها بعض‬ ‫فانبعج���ت مقدّمت���ه وتصاعد من المروح���ة ّ‬
‫الحش���رجات وكأ ّنها (بتطلّع في الروح)‪ ،‬من فتحتها انطلقت بعض الش���رارات الكهربية‬
‫الصغيرة‪ ،‬منها واحدة ش���بكت في قدم س���روال أحمد أش���علت فيه ال ّنار على الفور‪ ،‬ما‬
‫يهز قدم���ه في عصبية وهو يصرخ بجنون ‪:‬أنا بتحرق‪..‬أنا بتحرق‪..‬‬ ‫أصابه بالهلع فراح ُّ‬
‫أححححححح‪..‬ال ّنار سخنة قوي قوي‪..‬سخنااااااااااااا‬
‫بحثا عن أي شئ يصلح لإلطفاء بال جدوى‪،‬‬ ‫في ارتباك ش���ديد قلّب محمّد وإيميل المكان ً‬
‫صاح محمد ‪ :‬الزم نالقي أي ميّة حاالً‬
‫َ‬
‫ ‪-‬احّ نا لسّه هندوّ ر‪..‬محمّد افتح سوستة البنطلون‬
‫ابتعد عنه بضعة سنتيمترات للخلف وهو يقول في قلق ‪ :‬وله‪..‬انتَ عاوز إيه بالظبط ؟!‬
‫ ‪-‬ماهو احّ نا الزم نط ّفيه بأي طريقة‬
‫وهك���ذا وبينم���ا رقد أحمد على األرض يتلوّ ى من األلم فوج���ئ بصديقيه يقفان من حوله‬
‫بتنسيق هندسي دقيق‪ ،‬قال إيميل ‪ :‬سامحنا يا أحمد‪..‬مفيش قدّامنا غير كده‬
‫َس َم َع سحبة سوستة البنطلونات وهي ُتفتح‪ ،‬قبل أن يبدئا في التبول على قدمه‬
‫ ‪-‬ال ال ال‪..‬انتوا بتعملوا إيه يا أوالد الوسـ‪..‬آآآآآآآآه‬

‫****‬

‫على أكتاف صديقيه تع ّكز أحمد م ّتجهًا نح���و بوّ ابة مركز (العربي)الطبّي الخيري‬
‫القريب من موقع األحداث‪ ،‬وجدوا البوّ ابة مس���دودة بعربة إسعاف وصلت للتو من‬
‫حيث ال ي���درون وأغلقت الباب أمامهم‪ ،‬هتف محمّد ‪ :‬أس���طى‪..‬عجلة ورا والنبي‬
‫علشان معانا حالة مستعجلة ومش قادر يقف على رجله‬
‫هز السائق رأسه في تفهّم وتراجع للخلف قليالً مُفسحً ا لهم المجال للمرور‪َ ،‬ع َبرا به سريعًا‬
‫َّ‬
‫إلى حيث قابلتهم ممرّ ضة االستقبال‪ ،‬قالت ‪ :‬خير‪..‬بيشتكي من إيه ؟‬
‫ ‪-‬النار مسكت في رجله‬
‫ ‪-‬ال بسيطة إن شاء هللا‪..‬آخر أودة في الممر ده شمال‬
‫أطاعوها ودخلوا به إلى حيث أشارت ليجدوا بداخلها ممرّ ضة أخرى كشفت له عن جرحه‬
‫وبدأت فورً ا في تنظيفه وتضميده‪ ،‬قال إيميل وهو يُربّت فوق كتف أحمد بفخر‪ :‬إنما سبكت‬
‫الدور عليهم ص ّح في الجمعية يا واد‪..‬ش���وية كم���ان والراجل أبو بدلة كان اتب ّناك‪..‬تمثيل‬
‫تمثيل يعني وال كأ ّنك فاتن حمامة‪..‬ده أحلى تمثيل شفته في حياتي‬
‫ابتسم أحمد وهو يقول في غموض ‪ :‬أنا شفت تمثيل أحلى من كده بكتيييير‬
‫للمرّ ة الثانية يُقول عبارات غامضة بال معنى مفهوم تستعصي عليهما‪ ،‬إالّ أنه تجاهل هذا‬
‫التعبير المرسوم على وجهيهما وهو يقول بألم ‪ :‬ناولني تليفوني يا محمّد‪..‬عاوز أكلّم بابا‬
‫أخرج محمّد التليفون من جيب أحمد ثم منحه إيّاه قائالً ‪ :‬ماهو فيه رصيد أهو‬
‫ابتسم أحمد في شحوب وهو يقول ‪ :‬انتَ لسّه فاكر ‪:D‬‬
‫قال إيميل محذرً ا ‪ :‬اوعى تقولّه حاجة من اللي حصلت ؟‬
‫ ‪-‬ياعم متخافش‪..‬هبعتله حاجة تانية‬
‫كتب‬
‫أمال الشاش���ة ناحيته‪ ،‬انتقى نمرة والده ثم فعّل خاصية إرس���ال الرسائل النصّية له‪َ ،‬‬
‫في مربّع الكتابة الذي ظهر له “على فكرة يا بابا‪..‬أنا عارف بموضوع البنت اللي هتجي َلك‬
‫ال ّنه���اردة المصنع والبنات التانيين اللي بتكلّمه���م كاميرا طول الليل‪..‬بقولّك يا بابا ياريت‬
‫معدتش تسألني تاني أنا مبصلّيش ليه‪..‬أفتكر دلوقتي انتَ عرفت ليه”‬
‫ما إن ضغط زر اإلرس���ال ح ّتى ظهرت له عالمة فش���ل االس���تقبال (‪ )received‬لدى‬
‫ُرس���ل إليه‪ ،‬تمت َم أحمد بانده���اش ‪ :‬غريبة‪..‬بابا عُمره في حياته ما قفل‬
‫الجهاز اآلخر الم َ‬
‫تليفونه !!‬
‫لو عاو تعرف ال ّنهاية روح ورا العربية‪..‬يا حمزة !!‬

‫<<‬

‫مبهورً ا رفع حمزة عينيه عن آخر صفحة مكتوبة في الكتاب بعد ما تأ ّكد ‪-‬بتص ُّفح س���ريع‬
‫مله���وف‪ -‬أن باقي الصفحات فارغة ح ّتى وصل للنهاية فأغلقه وأودعه فوق ركبتيه‪ ،‬راح‬
‫يتأمّل غالفه العجيب للمرّ ة الثانية وهو يتلمّس تفاصيله المذهّبة بأنامله‪َ ،‬ن َظ َر إلى س���اعته‬
‫ليكتشف أنه اس���تغرق في قراءته نصف ساعة كاملة لم يشعر خاللها بنفسه‪ ،‬اقتحم أذنيه‬
‫فجأة صوت س���ارينة عربة إسعاف‪ ،‬التفت ناحية مصدره ليجدها واقفة عن يمينه‪ ،‬يخرج‬
‫من فتحتها الخلفية رجلي إسعاف يحمالن على المح ّفة رجل في أواخر الخمسينيات يرتدي‬
‫شاة بالذهب‪ ،‬رفع حمزة عينيه إلى يافطة المبنى ليجدها‬ ‫جلباب زيتوني وعباءة سوداء مو ّ‬
‫مضاءة بلمبّات نيون زرقاء‬
‫(مركز العربي للخدمات الطبّية)‬
‫جوار االسم شعار أزرق ش���بيه بلقطة جانبية لطاوس منفوش الريش‪..‬نفس الشعار الذي‬
‫كان مطبوعًا على كرتونة ال ُكتب التي َو َجدَ الكتاب بداخلها في مكتبة ع ّم أمين!!‬
‫تأمّل الرجل المطروح على المح ّفة مل ًّيا بشعر رأسه القليل وذقنه البيضاء‪ ،‬الخفيفة‪ ،‬نصف‬
‫المح ّناة‪..‬أيقن أن َمن يُشاهده اآلن هو الحاج صادق والد أحمد !!‬
‫شاة قلّدته تاج (الحجوجية)‬ ‫النسوانجي‪ ،‬المُسن‪ ،‬المُتصابي‪ ،‬المُتمسّح زورً ا بعباءة مو ّ‬
‫في ذهول قال حمزة ‪ :‬الكتاب مش بيحكي حاجة حصلت‪..‬الكتاب بيحكي حاجة بتحصل !!‬
‫انتبه عُمر إليه‪ ،‬رفع عن أذنيه السمّاعة وهو يقول ‪ :‬بتقول حاجة يا حمزة ؟!‬
‫‪ -‬الكتاب مش بيحكي حاجة حصلت‪..‬الكتاب بيحكي حاجة بتحصل !!‬
‫دون أن يفارقه ذهوله كرّ ر حمزة وهو يتابع بقايا مشهد مستشفى العربي الصغير ورجلي‬
‫اإلس���عاف في طريقهما نحو البوّ ابة وحركة األتوبيس تتجاوزه وتبتعد به‪ ،‬انتقلت الدهشة‬
‫إلى عُمر الذي اعتدل وهو ينزع السمّاعات عن أذنيه وهو يقول ‪ :‬ما َلك يا حمزة ؟!‬
‫ّ‬
‫لم ير ّد عليه وإنما نهض فجأة عن مقعده واندفع ناحية الس���ائق وهو يصيح فيه ‪ :‬وقف‪..‬‬
‫و ّقف أنا نازل هناااااااا‬
‫زعقَ عُمر ‪ :‬يا حمزاااااا‪..‬يا حمزااااااااا‪..‬رايح فييييين ؟!!‬
‫همس فيها‬
‫َ‬ ‫لم يُعيره صديقه أي انتباه وكأن أذنيه قد ُثقبتا‪ ،‬وص َل للس���ائق ثم مال على أذنه‬
‫ببع���ض كلمات انحرف بعدها الرجل لليمين قليالً ليرك���ن بمحاذاة الرصيف‪ ،‬تابعه عُمر‬
‫قفزا من ب���اب األتوبيس قبل أن يعود للخلف راكضًا‬ ‫م���ن خالل زجاج النافذة وهو يهبط ً‬
‫نحو المستشفى ‪.‬‬

‫****‬

‫أس���رعت ممرّ ضة االس���تقبال ناحية المح ّفة التي رقد فوقها الحاج صادق يأنُّ ويهتف في‬
‫ضي���ن اللذين يقلاّ نه بكالم لم يفهم���ه أحد ‪ :‬عملوا عليّ���ا ربّااااااااطية والد الهرمة‬
‫الممرَّ َ‬
‫وس���رقوا م ّني الس���اعة والموبايل‪..‬أيييي‪..‬أنا الزم أعمل محضر دلوقتي‪..‬الزم البوليس‬
‫شرطااااااااااااا‬‫يجيبلي والد النصّابة دووووووول‪..‬يا ُ‬
‫ُ‬
‫تابعت الممرّ ضة إصاباته بارتياع بالدماء التي تغرق وجهه وذراعيه وتنس���كب قطرات‬
‫منها على سيراميك األرضية‪ ،‬صاحت فيهما ‪:‬آخر أودة في الممر ده يمين‬
‫أطاعه���ا الرجلين فورً ا في صمت‪ ،‬من خلفهما دخ َل حمزة‪ ،‬ل���م تالحظه الممرّ ضة التي‬
‫انهمكت في تدوين بعض البيانات‪ ،‬تتبّع حمزة رجلي اإلسعاف ودخل ورائهما إلى الممر‬
‫قبل أن يقف أمام باب غرفة الحاج صادق حيث أرقدوه على الفراش لتبدأ ممرّ ضة الغرفة‬
‫في تطهير جروحه بينما عينيه ال تس���تطيعان منع نفس���يهما من اختالس بضعة نظرات‬
‫لصدرها المكتنز أس���فل رداء مالئكة الرحمة ناصع البياض‪ ،‬من الغرفة المواجهة تمامًا‬
‫خرج ش���اب‪ ،‬طويل‪ ،‬بلحية نصف نامية‪ ،‬وبضمادة لُ َّفت حول رأسه‪ ،‬يتحدّث في الموبايل‬ ‫َ‬
‫بانفع���ال ‪ :‬أيوة ي���ا أميرة‪..‬مبتردّيش عليّا ليه من الصبح ؟ وهن���د كمان فين مبتردّش ليه‬
‫هي كمان؟!‪..‬إيه ؟!!!‪..‬ش���ربتوا من إزازة السِ فن اللي في التالّجة ؟!! أحييييييه‪..‬أميرة إيه‬
‫ت فين ؟!!‪..‬بترقصي فوق س���قف عربية في‬ ‫الدوش���ة اللي حواليكِ دي ؟!! إيه بتقولي ان ِ‬
‫ش���ارع جامعة الدول ؟!!!‪..‬يا نهار مدوحس‪..‬وهن���د ؟!!! هند فين يا أميرة؟!‪..‬واقفة جنب‬
‫عمود نور بتالغي رجّ الة وبيولّعولها س���جاير؟!!‪..‬أحااااااااا‪..‬أنا جايلكم دلوقت‪..‬أنا جاي‬
‫حاالً‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫كأنه أبّ يرى ابنه ألول مرّ ة بعد س���نوات غربة في الخليج وقف حمزة يتابع محمّد حتى‬
‫أنهى المكالمة قبل أن يندفع راكضًا نحو الخارج‪ ،‬ربّما لو انتظر قليالً لعانقه وذرف فوق‬
‫كتفيه دموع ّ‬
‫التأثر ‪.‬‬
‫أعاد حمزة لألحداث صوت الحاج صادق من فوق فراش���ه ‪ :‬لو س���محت ممكن تسلّفني‬
‫أطمِّن على ابني‬‫موباي َلك دقيقة أعمل مكالمة‪..‬عاوز َّ‬
‫نق َل حمزة نظراته بين الرجل وبين مدخل الغرفة المواجهة (اليُسرى) قبل أن يدخل الغرفة‬
‫ويمنحه موبايله قائالً‪ :‬اتفضّل‬
‫التقط الرجل الموبايل منه‪ ،‬ضرب أرقامه بتأن ثم رفعه ألذنيه‪ ،‬تراجع حمزة للخلف قليالً‬
‫كي يتس��� ّنى له متابعة ما يحدث في الغرفة األخرى‪ ،‬لمح أحمد يفرد أمامه س���اقه اليُمنى‬
‫ومغطاة بالضمادات‪ ،‬رفع الموباي���ل ألذنه لير ّد على والده ‪ :‬أيوة يا بابا‪..‬‬ ‫ّ‬ ‫عاري���ة محمرّ ة‬
‫موباي َلك مقفول ليه ؟!!‬
‫ ‪-‬معلش يا حبيبي‪..‬أصله وقع م ّني ومش القيه‪..‬انتَ في البيت ؟‬
‫ ‪-‬ال‪..‬أنا‪..‬أنا‪..‬أنا في سكشن كده هخلّص وهروّ ح إن شاء هللا‬
‫شغل‬ ‫هاردة‪..‬هتأخر شوية في ال ُ‬
‫ّ‬ ‫الع َشا ال ّن‬
‫ ‪-‬ماشي يا حبيبي‪..‬متست ّنانيش على َ‬
‫ ‪-‬ماشي يا بابا‪..‬مع السالمة‬
‫ ‪-‬سالم‬
‫شكر يا ابني‬ ‫بعد أن أنهى المُكالمة َف َردَ الرجل يده بالموبايل ناحية حمزة قائالً ‪ :‬ألف ُ‬
‫في طريقه اللتق���اط الموبايل‪ ،‬اصطدم حمزة بالممرّ ضة التي كانت في طريقها للخروج‪،‬‬
‫نظ���رت له في احتجاج فاعتذر لها ثم غادرته غاضبة‪ ،‬م ّتجهة ناحية غرفة اليس���ار‪ ،‬قال‬
‫الحاج ص���ادق ‪ :‬اوعى تكون خبطت فيها قاصد‪..‬انتَ لسّ���ه صغير على الحاجات دي‪..‬‬
‫أنصحك‪..‬كلّه إالّ النسوان‪..‬مبيجيش من وراهم إالّ وجع القلب داهية‬ ‫َ‬ ‫انتَ زي ابني والزم‬
‫تقضي عليهم كلّهم‬
‫التقط منه حمزة الموبايل وهو يبتس���م في مجامل���ة دون أن يردّ‪ ،‬لم يقتنع بنصيحة الحاج‬
‫وظ��� َّل يتابع الممرّ ضة بطرف عينيه وهي في غرفة الش���باب تنحن���ي على جُرح أحمد‬
‫تس���ببت في ألمًا ما ألحمد ال���ذي صاح فيها‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫وتس���كب من زجاج ٍة ما فوق���ه‪ ،‬يبدو أنها‬
‫أييييييييييي‪..‬حاسبي هللا يكرمِك‪..‬بتحرق قوي‬
‫كان الصوت عاليًا بدرجة كافية ليسمعه الحاج صادق الذي ابتسم ثم عاد ليكلّم حمزة ‪ :‬مش‬
‫قولتل���ك مبيجيش من وراهم غير الوجع ؟!‪..‬الصوت ده ش���به صوت ابني قوي‪..‬لوال إنه‬
‫مستحيل يكون هنا كنت قولت أكيد هوّ ا‪..‬أصله محترم قوي ومن تسعة بيبقى في سريره‬
‫أجابه حمزة برقبة ملووحة تتابع مراحل تضميد أحمد الـ(محترم قوي ومن تس���عة بيبقى‬
‫ت هازئ‪ :‬يخلق من الشبه أربعين ‪..‬‬ ‫في سريره) من بعيد‪ ،‬قائالً بصو ٍ‬

‫ت ّمت بحمد هللا‬


‫كتبها ‪ /‬أحمد متاريك‬
‫صفحة الكاتب على الفيس بوك‬

‫صفحة الكتاب على اجلودريدز‬

You might also like