You are on page 1of 13

‫اكتشاف النغم‬

‫‪2013-07-12 | 21:01‬‬

‫‪  ‬ما إن انطلقت والدة الشيخ سيد لتوزيع {الشربات} على الحي بأكمله‪ ،‬احتفاال ً بحفظ‬
‫ابنها القرآن الكريم‪ ،‬حتى عم المكان الس‪..‬كون فج‪..‬أة‪ ،‬وراحت اإلذاع‪.‬ة‪ .‬المص‪..‬رية‪ .‬الرس‪..‬مية‬
‫واإلذاعات الخاصة تبث آيات من الذكر الحكيم‪ ،‬فقد مات مل‪..‬ك البالد أحم‪..‬د ف‪..‬ؤاد ‪ .‬لم يلبث‬
‫األخير كثيراً‪ .‬بعد وزارة توفيق نس‪.‬يم ح‪.‬تى ت‪.‬دهورت حالت‪.‬ه الص‪.‬حية ووافت‪..‬ه المني‪..‬ة في ‪28‬‬
‫أبريل عام ‪ ،1936‬وخلفه على العرش ابنه‪ .‬الوحيد فاروق من زوجته نازلي‪.‬‬
‫والحقيقة التي ال جدال فيها أن الشعب المصري ك‪..‬ره المل‪..‬ك أحم‪..‬د ف‪..‬ؤاد آن‪..‬ذاك‪ ،‬وك‪..‬ان‬
‫بالنسبة إليه رمزا ً للتسلط والدكتاتورية وعدوا ً للدستور والحياة النيابية الديمقراطي‪..‬ة وأح‪..‬د‬
‫أذناب االحتالل البريطاني الذي ال يريد لمصر استقالال ً وال حرية‪ ،‬وعلى رغم ذلك فقد ك‪..‬انت‬
‫له رؤية لتحديث مصر على المستويات األخرى ‪ .‬في عهده ظه‪..‬رت مش‪..‬اريع ك‪..‬ان له‪..‬ا أك‪..‬بر‬
‫األثر في تطور مصر االقتصادي والثقافي‪ ،‬منها إنشاء بنك مصر‪ ،‬وبنك التس‪..‬ليف ال‪..‬زراعي‪،‬‬
‫ومصر للطيران‪ ،‬واإلذاعة المصرية‪ ،‬ومعه‪..‬د الفن والتمثي‪..‬ل‪ ،‬فه‪..‬و ال‪..‬ذي وق‪..‬ع على مرس‪..‬وم‬
‫إنشاء بنك مصر‪ ،‬وعلى رغم معرفته‪ .‬أن فرض المشروع محاربة نف‪..‬وذ اإلنكل‪..‬يز االقتص‪..‬ادي‪.‬‬
‫في المحروسة‪.‬‬

‫ذلك كله لم يشفع له لدى المصريين‪ ،‬فعمت السعادة البالد‪ ،‬ما جعل وال‪.‬دة الش‪.‬يخ س‪.‬يد‬
‫تصر على توزيع {الشربات} حتى لو كلفها ذلك حياتها‪.‬‬

‫تفاؤل شعبي‬

‫تٌوفي الملك أحمد فؤاد في ‪ 28‬أبريل ‪ ،1936‬وكان ابنه ف‪..‬اروق في ذل‪..‬ك ال‪..‬وقت خ‪..‬ارج‬
‫مصر يتلقى تعليمه في إنكلترا‪ ،‬فما لبث أن عاد االبن ليخلف أباه على عرش مصر‪ ،‬ويكون‬
‫أول حاكم يحكم مصر منذ محمد علي بناء على الدستور المصري وليس بن‪..‬اء على فرم‪..‬ان‬
‫عثماني أو قرار بريطاني‪ .‬لكن هذا ال يعني أن ما نص عليه الدستور لم يتم باالتفاق مع دار‬
‫المندوب السامي البريطاني‪ .‬في مصر‪.‬‬

‫لم يمكث فاروق في إنكلترا إال ستة أشهر‪ ،‬فلم تتح له الفرصة إلكمال تعليمه س‪..‬واء في‬
‫إنكلترا أو في مصر‪ ،‬ليعود‪ ‬إلى مص‪..‬ر في ‪ 6‬م‪..‬ايو ‪ 1936‬وي‪..‬نزل في قص‪..‬ر رأس ال‪..‬تين‪ ،‬ثم‬
‫يستقل القطار إلى القاهرة‪.‬‬

‫كان شعب مصر في قمة التفاؤل والفرحة لتولي فاروق عرش مصر وزوال حكم المل‪..‬ك‬
‫فؤاد الدكتاتوري الم‪.‬والي لإلنكل‪.‬يز‪ ،‬والمن‪.‬اهض لك‪.‬ل الحكوم‪.‬ات الش‪.‬عبية ال‪.‬تي ج‪.‬اءت في‬
‫عهده عن طريق االنتخاب مثل حكومة سعد زغلول وحكومة مصطفى النحاس‪.‬‬

‫تفاءل شعب مصر خيرا ً بتولي الملك الشاب عرش مصر‪ ،‬واصطفت الجماهير تصفق له‬
‫وترحب به على طول الطريق من اإلسكندرية إلى القاهرة‪ ،‬لدرجة أنهم أقاموا االحتف‪..‬االت‬
‫وعلقوا الزينات وأطلقوا األغاني ع‪..‬بر الميكروفون‪..‬ات على ط‪..‬ول الطري‪..‬ق من اإلس‪..‬كندرية‪.‬‬
‫إلى القاهرة‪ ،‬وفي األحياء الشعبية‪ ،‬خصوصا ً حي عابدين الذي يوجد فيه قص‪..‬ر الحكم‪ ،‬حيث‬
‫تجمع أهالي عابدين كبيرهم وصغيرهم‪ ،‬وبينهم سيد مكاوي ووالده وأشقاؤه ليغ‪..‬ني الجمي‪..‬ع‬
‫أغنية {سالمة يا سالمة}التي كتبها بديع خيري بالعامية المصرية‪ ،‬ولحنها وغناها خالد الذكر‬
‫الشيخ سيد درويش‪:‬‬

‫سالمة يا سالمة رحنا وجينا بالسالمة‬

‫صفر يا وابور واربط عندك‪ ..‬نزلني في البلد دي‬

‫بال أميركا بال أوربا مافي شيء أحسن من بلدي‬

‫دي المركب اللي بتجيب‪ .‬أحسن من اللي بتودي‬

‫يا أسطى بشندي‪ ..‬سالمة يا سالمة‬

‫سلطة ما سلطة كله مكسب حوشنا مال وجينا‬

‫شفنا الحرب وشفنا الضرب وشفنا الديناميت بعنينا‬

‫ربك واحد عمرك واحد‪..‬أدي إحنا رحنا وجينا‬

‫إيه خس علينا‪ ..‬سالمة يا سالمة‬

‫صالة النبي ع الشخص منا فرصة ميه بال قافية‬


‫اللي ف جيبه يفنجر به والبركة في العين والعافية‬

‫ح تاخد أيه م الدنيا غير الستر يا شيخ خليها ماشية‬

‫دنيا فانية سالمة يا سالمة‬

‫دي الغربة ياما بتوري بتخلي الصنايعي بيرطن‬

‫مطرح‪ .‬ما يروح المصري برضه طول عمره ذو تفنن‬

‫وحياة ربنا المعبود “وي آر فري جود” يا أسطى محمود‬

‫قدها وقدود‪ ..‬وسالمة يا سالمة‬

‫لم يعد سيد مكاوي يذهب إلى {الكتاب} بعد ذلك اليوم الذي أعلن فيه شيخه أنه أص‪..‬بح‬
‫شيخا ً ما يعد وقتها بمثابة شهادة تخرج في الكتَّاب‪ ،‬غير أنه كان علي‪..‬ه أن ي‪..‬ذهب يوم‪..‬ا ً ك‪..‬ل‬
‫أسبوع يعيد عليه بعض أجزاء‪ .‬القرآن كي ال ينسى‪ ،‬غير أنه في الوقت نفسه أيضا ً ال ينس‪..‬ى‬
‫أن يلعب ويستمتع‪.‬‬

‫تحدي اإلعاقة‬

‫لم يستطع كف البصر أن يحرم سيد من اس‪..‬تمتاعه بالحي‪..‬اة كطف‪..‬ل‪ ،‬والخ‪..‬وض مع‪..‬ه في‬
‫ألعابهم‪ ،‬بما في ذلك األلعاب التي يمكن‪ .‬أن يطلق عليها «ألعاب خطرة» ليس فق‪..‬ط علي‪..‬ه‬
‫كطفل غير مبصر‪ ،‬بل على من هم في مثل عمره بشكل عام‪ ،‬مثل ركوب ما يطلق عليه‪..‬ا‬
‫«الفوريره» أو «البيسكلته» عندما فاجأ أصدقاءه بهذا الطلب‪:‬‬
‫= أنت يا ابني مجنون أزاي بس‪.‬‬

‫* زيك أنت وهو وهو وهو‪ ...‬هي دي عايزه مفهومية‪.‬‬

‫= ال يا سيد مش عايزه مفهومية‪ . ..‬بس عايزه عنين مفتحة‪.‬‬

‫* طب ما أنا عنيه مفتحه ع اآلخر أهو يا قفل‪ .‬أفتحها أكتر من كدا‪ .‬دا حتى يبقى حرام‪.‬‬

‫= ياعم دي مفتوحة ع الفاضي‪.‬‬

‫* ال يا ناصح دي مفتوحة ع البحري‪.‬‬

‫= يا سيد دا أنت بتبقى ماشي على رجلك وعايز حد ياخد باله منك‪ ...‬صحيح أنت حاف‪..‬ظ‬
‫الحارة حته حته‪ ..‬بس برضه ما ينفعش‪.‬‬

‫* ال ينفع‬

‫= طب إزاي؟‬

‫* شوفوا بقى‪ ..‬أنتوا‪ .‬هاتجيبوا‪« .‬الف‪..‬وريرة» وتطلعوه‪..‬الي برض‪..‬ه ع الش‪..‬ارع الكب‪..‬ير‪ . .‬بس‬
‫بعيد عن «التروماي»‪ ..‬أحسن أنا سامع أن هزاره تقيل وأنا ماحبش اله‪.‬زار اللي من الن‪.‬وع‬
‫دا‪.‬‬
‫= أيوه يا بني ودا بيهزر مرة واحدة بس بعدها تالقي نفسك في التربة ‪.‬‬

‫* أعوذ بالله منك يا أخي‪ ..‬اسمع بس‪ ..‬هاتحطوا العجلة جنب حجر كبير كدا على جنب‪..‬‬
‫وتقف أنت على يميني‪ .،‬والواد حسن على شمالي وجمعه يجري قدامي يبعد أي ح‪..‬د ممكن‬
‫ييجي في سكتي‪.‬‬

‫رسم لهم سيد الخطة‪ ،‬ونفذها أصدقاؤه بإحكام كما وضعها‪ ،‬وانطلق سيد يس‪..‬بق ال‪..‬ريح‪،‬‬
‫صديقه إبراهيم عن يمينه‪ .‬وحسن عن يساره‪ ،‬وجمعة يجري‪ .‬أمامه‪ ،‬فيما سيد يشعر بأن‪..‬ه‪ ،‬ال‬
‫يسير فوق األرض‪ ،‬بل يطير فوق السحاب‪.‬‬

‫لم يقتنع سيد مكاوي منذ طفولته بأنه كفيف‪ ،‬بل إنه إنسان طبيعي مثله مثل أقرانه‪ .،‬ب‪..‬ل‬
‫ربما يتفوق عليهم بطموحه‪ .‬وتفكيره‪ ،‬فلم يحرم‪ .‬نفسه من االستمتاع ب‪..‬اللعب‪ ،‬غ‪..‬ير أن ج‪..‬ل‬
‫وقته كان يمضيه إلى جوار «عم مسعود» بين س‪.‬ماع أغ‪.‬اني كب‪.‬ار المط‪.‬ربين والمطرب‪.‬ات‪،‬‬
‫وسماع قصص ونضال بعضهم‪ ،‬ودهشته‪ .‬من إصرارهم على المضي في طري‪..‬ق الموس‪..‬يقى‬
‫والغناء‪ ،‬على رغم معاناتهم من هذا االختيار‪ ،‬وما يس‪.‬ببه لهم من ج‪.‬وع وفق‪.‬ر وع‪.‬وز‪ ،‬وليس‬
‫أدل على ذلك ما حدث للموسيقار والمبدع الكب‪..‬ير كام‪..‬ل الخلعي‪ ،‬وكي‪..‬ف انتهت ب‪..‬ه الح‪..‬ال‬
‫إلى الموت جوعا ً واضطراره إلى أن يعمل «ماسح أحذية»‪ .‬في أخريات حيات‪..‬ه ليأك‪..‬ل‪ ،‬قب‪.‬ل‬
‫أن يتنكر‪ .‬له تالمذته ويتهمه‪ .‬كل من حوله بالجنون‪.‬‬

‫بينما يستمع سيد إلى ج‪.‬زء من حي‪.‬اة كام‪.‬ل الخلعي‪ ،‬ج‪.‬اء ص‪.‬وت الم‪.‬ذياع معلن‪.‬ا ً عن بث‬
‫موشح له‪:‬‬

‫نستمع إلى «موشح يا راعي الظبا» تلحين‪ .‬كامل الخلعي‪ ،‬مقام حجاز‪ ،‬ميزان دارج‪.:‬‬

‫يا راعي الظبا‪ ...‬في حيك غزال‬

‫خلته في قبا‪ ...‬مذ بنا وصال‬

‫قال لي خذ جبا‪ ...‬وأشربها حالل‬


‫ناديت مرحبا‪ ...‬يا بدر الكمال‬

‫قل لي يا مصون‪ ...‬ما هذا الدالل‬

‫يا حلو المجون‪ ...‬ما آن الوصال‬

‫زادت بي شجون‪ ...‬سلوني محال‬

‫وحالي أبى‪ ...‬عن غيرك ومال‬

‫فكر سيد مكاوي في كل ما سمعه من كام‪..‬ل الخلعي وعن‪..‬ه‪ ،‬وعن س‪..‬ير ه‪..‬ؤالء العظ‪..‬ام‪،‬‬
‫ولم تثنه‪ .‬هذه الحكايات المخيفة عن مصائر أهل الفن والموسيقى‪ ،‬ب‪.‬ل إنه‪.‬ا زادت‪..‬ه إص‪..‬رارا ً‬
‫وعزيمة‪ .‬على أن ينهل من هذه المنابع بكثرة االستماع وملء الذاكرة وتغذيتها‪ ،‬ظنا منه أن‪..‬ه‬
‫سيتفرغ لذلك ليتخذ لنفسه مسلكا ً في هذا الطريق المليء باألشواك‪ ،‬وليس لديه ما يمنع‪،‬‬
‫خصوصا ً بعدما سمع من عم مسعود أن كثيرين‪ .‬ممن حملوا لقب {شيخ} مش‪..‬وا في نفس‬
‫الطريق من قبل‪ ،‬لكنه لم يكن يعلم ما تخبئه له األقدار‪.‬‬

‫رب األسرة‬

‫كان سيد مكاوي يخطو‪ .‬خطواته األولى في عامه الحادي عشر‪ ،‬عندما شق صراخ والدته‬
‫صمت أذنيه‪ .‬معلنة رحيل والده‪ ...‬توفي محم‪..‬د س‪..‬يد مك‪..‬اوي‪ ،‬رح‪..‬ل من دون أن يص‪..‬ل إلى‬
‫سن الكهولة‪ ،‬تاركا خلفه ستة أطفال في عمر الزهور‪ ،‬كبيرهم كفيف في حاجة لمن يعين‪..‬ه‬
‫على مصاعب الحياة‪ ،‬وال يملك أي منهم حرفة‪ .‬أو صنعة‪ ،‬وزوجة لم يكن لديها سالح من أي‬
‫ن‪..‬وع يمكن‪ .‬أن تواج‪..‬ه ب‪..‬ه ال‪..‬دنيا‪ ،‬رح‪..‬ل دون أن ي‪..‬ترك لهم م‪..‬ا يعينهم على قس‪..‬وة الحي‪..‬اة‬
‫ووحشتها‪ ،‬فماذا هم فاعلون‪:‬‬

‫* أنت فين يا أمي؟‬


‫= أنا هنا يا سيد تعالى أقعد‪.‬‬

‫* قاعدة ساكته ليه يا أمي‪.‬‬

‫= هقول إيه بس يا سيد‪.‬‬

‫* ال إله إال الله‪.‬‬

‫= محمد رسول الله‪ ...‬تعرف أني مش شايلة هم حد في أخواتك‪ .‬زي‪..‬ك ي‪..‬ا س‪..‬يد‪ ...‬ح‪..‬تى‬
‫أخواتك البنات مش خايفه عليهم زيك‪.‬‬

‫* ليه يا أمي انت مستألياني أوى كدا‪ ..‬علشان يعني أنا‪...‬‬

‫= ال يا نظري‪ ...‬ما تقولش كدا‪ .‬انت أد الدنيا‪ ...‬وطول ما أنا عايشة مش ممكن‪ .‬هاخليك‬
‫تحتاج حاجة‪ .‬ال انت وال أخواتك‪.‬‬

‫* كنت فاكر أنك معتبراني راجل‪.‬‬

‫= وسيد الرجالة كمان‪ .‬دلوقت انت راجلي وسندي‪.‬‬

‫* أمال ليه معتبراني‪ .‬عيل وعايزه أنت اللي تشتغلي‪ ...‬أنا اللي الزم اشتغل وأكون مكان‬
‫أبويا الله يرحمه ‪.‬‬
‫= أيوا يا ابني بس هاتشتغل إيه وأنت بحالتك دي‪.‬‬

‫* هشتغل زي كل اللي في حالتي ما بيشتغلوا ‪.‬‬

‫اتخذ‪ .‬س‪..‬يد مك‪..‬اوي ق‪..‬راره ب‪..‬أن يعم‪..‬ل مقرئ‪..‬ا‪ ،‬يق‪..‬وم بق‪..‬راءة الق‪..‬رآن الك‪..‬ريم في الم‪..‬آتم‬
‫والليالي االحتفالية التي تقام احتفاال بنجاح‪ .‬أو «ختان» أو ترقية‪ ،‬حيث جرت العادة في مثل‬
‫هذه االحتفاالت أن يتم استدعاء منشد وقارئ للقرآن الكريم‪.‬‬

‫يبدو أن أهالي الحي بأكمله قرروا أن يساندوا الش‪..‬يخ س‪..‬يد وبش‪..‬كل غ‪..‬ير معلن‪ ،‬فم‪..‬ا إن‬
‫تحدث مناسبة في الحي تستدعي وجود مقرئ للق‪..‬رآن‪ ،‬ح‪..‬تى يتم االس‪..‬تعانة بالش‪..‬يخ س‪..‬يد‬
‫على الفور‪ ،‬حيث بدأ االستعانة به أوال من باب المساعدة‪ ،‬لعلمهم بأن‪..‬ه ه‪..‬و العائ‪..‬ل الوحي‪..‬د‬
‫لوالدته وأشقائه الخمسة‪ ،‬لكن سرعان ما تحولت هذه المساعدة إلى طلب حقيقي للشيخ‬
‫سيد‪ ،‬وتهافت من أهالي الحي على الفوز بوجوده‪ ،‬بع‪..‬د أن أدهش الجمي‪..‬ع بص‪..‬وته ال‪..‬رخيم‪،‬‬
‫وترتيله وتجويده القرآن‪.‬‬

‫اهتمام سمعي‬

‫وسط انشغاالته الكثيرة‪ ،‬وزي‪..‬ادة الطلب علي‪..‬ه‪ ،‬لم ينس الش‪..‬يخ س‪..‬يد مك‪..‬اوي زي‪..‬ارة عم‬
‫مسعود بشكل يومي‪ ،‬ليس لشراء الحلوى‪ ،‬بل للجلوس إلى جواره واالستماع إلى األغ‪..‬اني‬
‫الصادرة من الجرامفون‪ .‬أو المذياع‪ ،‬ألنه‪ .‬يخجل‪ .‬من أن يجلس في المقهى مثل بقية زبائنه‪،‬‬
‫أوال لحداثة سنه‪ ،‬األمر الثاني وهو األهم أنه أصبح قارئا ً للقرآن الكريم‪ ،‬وال يص‪..‬ح أن يجلس‬
‫في المقهى‪.‬‬

‫ما إن جلس سيد إلى ج‪..‬وار عم مس‪..‬عود وقب‪..‬ل أن يب‪..‬دأ في ط‪..‬رح أس‪..‬ئلته أو البحث عن‬
‫التفاصيل التي يحرص عليها معرفتها‪ ،‬جاء صوت المذياع‪  :‬‬

‫من أش‪..‬عار «الكميت بن زي‪..‬د األس‪..‬دي» نس‪..‬تمع إلى الش‪..‬يخ إس‪..‬ماعيل س‪..‬كر في ه‪..‬ذه‬
‫الوصلة‪:‬‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫ب‬
‫طر ُ‬
‫يض أ َ‬ ‫طَرِ ُ‬
‫بت وما شَ وقا إلى الب ِ ِ‬

‫ب‬ ‫وال َ لَعِبَا ً منى وذ ُو الشَّ ِ‬


‫يب يَلعَ ُ‬

‫ل‬
‫منزِ ٍ‬
‫م َ‬
‫دار وال َرس ُ‬
‫ولم يُلهِنِي ٌ‬

‫ب‬
‫ض ُ‬
‫خ َّ‬
‫م َ‬ ‫ولم يَتَط َ َّربنِي‪ .‬بَنا ٌ‬
‫ن ُ‬

‫ل والنُّهَى‬
‫ضائ ِ ِ‬
‫أهل الفَ َ‬
‫ِ‬ ‫وَلكِن إِلى‬

‫َير يُطل َ ُ‬
‫ب‬ ‫حوَّاءَ والخ ُ‬
‫وَخَيرِ بَنِي َ‬

‫حبِّهم‬
‫ين ب ِ ُ‬
‫البيض الذ ِ َ‬
‫ِ‬ ‫إلى النَّفَرِ‬

‫ب‬
‫ما نَابَنِي أتَق ََّر ُ‬
‫إلى الله فِي َ‬

‫هذه المرة كان الشيخ سيد ق‪..‬د ب‪..‬دأ يفهم مع‪..‬اني كلم‪..‬ات األغ‪..‬اني والم‪..‬ديح النب‪..‬وي‪ ،‬ولم‬
‫يرهق نفسه أو عم مسعود في تفسير معاني كثير من الكلمات‪ ،‬بل ذهب إلى م‪..‬ا ه‪..‬و أبع‪..‬د‬
‫من ذلك‪ ،‬ذهب إلى السؤال حول الربط بين قراء‪ .‬القرآن الكريم‪ ،‬وتجويده وترتيله‪ ،‬واتج‪..‬اه‬
‫أغلبهم في الوقت نفسه‪ ،‬إلى العمل بالموسيقى والغناء‪ ،‬سواء في ش‪..‬كل الم‪..‬دائح‪ .‬النبوي‪..‬ة‬
‫واإلنشاد الديني‪ ،‬أو الغناء الدنيوي الصريح‪ ،‬فقد كان ترتيل‪ .‬القرآن الكريم‪  ‬وتنوع األس‪..‬اليب‬
‫التي شاعت على أي‪..‬دي رواده فيم‪..‬ا ع‪..‬رف بالتجوي‪..‬د أو الق‪..‬راءات‪ ،‬وال‪..‬ذي أص‪..‬بح علم‪..‬ا ً ل‪..‬ه‬
‫قواعده وأص‪..‬وله‪ ،‬بداي‪.‬ة‪ .‬لنش‪..‬وء م‪..‬دارس اإلنش‪..‬اد‪ .‬ال‪..‬ديني‪ ،‬ثم راف‪..‬د من رواف‪..‬د الموس‪..‬يقى‬
‫العربية أم‪..‬د الع‪..‬الم االس‪..‬المي في جمي‪..‬ع العص‪..‬ور بنواب‪.‬غ‪ .‬الموس‪..‬يقى العربي‪..‬ة في فروعه‪..‬ا‬
‫المختلفة في التأليف والتلحين والغناء‪ ،‬فبالغة القرآن الكريم وجم‪..‬ال لفظ‪..‬ه وإيق‪..‬اع جمل‪..‬ه‬
‫معجزة‪ ،‬وقف أساطين العرب أمامه‪..‬ا ع‪..‬اجزين مندهش‪..‬ين‪ ،‬ب‪..‬ل اعت‪..‬بروا أن ترتي‪..‬ل الق‪..‬رآن‬
‫وتجويده ن‪..‬وع من اإللق‪..‬اء الغن‪..‬ائي‪ ،‬ومن يس‪..‬تمع إلى الم‪..‬رتلين المجي‪..‬دين يكتش‪..‬ف تفهمهم‬
‫للمقامات الموسيقية واستعانتهم بها في أدائهم‪ ،‬مؤك‪..‬دين أن في الق‪..‬رآن إيقاع‪..‬ا ً موس‪..‬يقيا ً‬
‫متعدد األنواع‪ ،‬يتناسق مع الجو‪ ،‬ويؤدي وظيفة أساس‪..‬ية في البي‪..‬ان‪ ،‬إض‪..‬افة إلى جمع‪..‬ه بين‬
‫مزايا النثر والشعر من هذه الناحية‪ ،‬وق‪..‬د أعفى التعب‪..‬ير من قي‪..‬ود القافي‪..‬ة الموح‪..‬دة‪ ،‬فن‪..‬ال‬
‫بذلك حرية التعبير الكاملة‪ ،‬حيث أكد خبراء اللغ‪..‬ة وكب‪..‬ار المق‪..‬رئين والمنش‪..‬دين‪ .‬أن الق‪..‬رآن‬
‫الك‪..‬ريم في‪..‬ه ن‪..‬وع من الموس‪..‬يقى الداخلي‪..‬ة يلح‪..‬ظ وال يش‪..‬رح‪ ،‬واض‪..‬ح في نس‪..‬يج اللفظ‪..‬ة‬
‫المفردة‪ ،‬وتركيب الجملة الواحدة‪ ،‬ويدرك بحاسة خفية وهبة إلهية‪.‬‬

‫فقد كانت المدرسة التقليدية لتعليم الموس‪..‬يقى في مص‪..‬ر هي مدرس‪..‬ة المش‪..‬ايخ ال‪..‬ذين‬
‫يتلون القرآن‪ ،‬ومنها يتعلمون المقامات‪ ،‬ومنها أيضا ً يتعلم‪..‬ون إلق‪..‬اء القص‪..‬ائد والموش‪..‬حات‬
‫وارتجال المواويل الدينية الخاصة بالمدائح‪ .‬النبوية‪ ،‬ويعود ذلك إلى النشأة الدينية ال‪..‬تي تع‪..‬د‬
‫العام‪..‬ل األساس‪..‬ي وراء تمت‪..‬ع المغ‪..‬نين من الجنس‪..‬ين باإلج‪..‬ادة في نط‪..‬ق اللغ‪..‬ة العربي‪..‬ة أو‬
‫التلوين الصوتي‪ ،‬ومن أشهر من ظهر من هؤالء المشايخ في الق‪..‬رن التاس‪..‬ع عش‪..‬ر الش‪..‬يخ‬
‫إسماعيل سكر‪ ،‬الشيخ حسن جابر‪ ،‬الشيخ أبو العال محمد‪ ،‬الشيخ إب‪..‬راهيم‪ .‬الف‪..‬ران‪ ،‬الش‪..‬يخ‬
‫علي محمود‪ .،‬الشيخ يوسف المنيالوي‪ ،‬الذي تٌوفي في العام ‪.1901‬‬

‫لم يكتف الشيخ المنيالوي بأداء األغاني الدينية‪ ،‬بل أخذ يغني أغاني عاطفي‪.‬ة اختاره‪.‬ا من‬
‫بعض قصائد الغزل المعروفة في الشعر العربي القديم‪ ...‬وظل ح‪..‬تى آخ‪..‬ر ي‪..‬وم في حيات‪..‬ه‬
‫يرتدي زي المشايخ‪ ،‬فيما يعتبر مولد المسرح الغنائي الع‪..‬ربي الحقيقي في مص‪..‬ر على ي‪..‬د‬
‫الشيخ أحمد أبو خليل القباني الدمشقي‪ ،‬الشاعر والموسيقي واألديب‪ .‬والممثل‪ ،‬أيض‪..‬ا ً ثم‪..‬ة‬
‫الظاهرة المهمة‪ .‬في تاريخ الغناء العربي المتمثلة‪ .‬في الشيخ س‪..‬يد درويش ال‪..‬ذي ظه‪..‬ر في‬
‫بداية القرن العشرين‪ .‬شيخا‪ ،‬حيث راح يقل‪..‬د الش‪..‬يخ الس‪..‬كندري الش‪..‬هير الش‪..‬يخ إس‪..‬ماعيل‬
‫سكر والذي سلك قبله أيضا طريق اإلنشاد‪ .‬ال‪..‬ديني والغن‪..‬اء‪ ،‬وه‪..‬و م‪..‬ا ق‪..‬ام ب‪..‬ه الش‪..‬يخ س‪..‬يد‬
‫درويش‪ ،‬حيث تحول من الغناء ال‪..‬ديني إلى الغن‪..‬اء ال‪..‬دنيوي‪ ،‬غ‪..‬ير أن‪..‬ه ظ‪..‬ل ملتزم‪..‬ا بأص‪..‬ول‬
‫التجويد وأحكام اللغة العربية من مد مقاطعها وقص‪..‬رها‪ ،‬وفي الض‪..‬غط واللين على بعض‪..‬ها‪،‬‬
‫مع االهتمام‪ .‬بمخارج األلفاظ بأحرفها الحلقية والمفخمة ‪.‬‬

‫كذلك الرائد الشيخ سالمة حجازي الذي تربع على عرش الغناء بعد وفاة عبده الحامولي‬
‫في العام ‪ ،1901‬حيث شارك الشيخ سالمة مع المق‪..‬رئين والمنش‪..‬دين في األذك‪.‬ار‪  ،‬وك‪.‬ان‬
‫دوره مساندة المنشدين‪ .‬في أداء‪ .‬اآلهات الممتدة أو أداء‪ .‬بعض األصوات الح‪..‬ادة‪ .‬ح‪..‬تى إن‪..‬ه‬
‫عندما بلغ الحادية عشرة من عمره أسند إلي‪.‬ه افتت‪.‬اح حلق‪.‬ات ال‪.‬ذكر بتالوة بعض آي‪.‬ات من‬
‫القرآن الكريم‪ ،‬ثم عمل مؤذنا ً في مسجد األباص‪..‬يري‪ ‬وك‪..‬ان الن‪..‬اس ي‪..‬ترقبون‪ .‬س‪..‬اعة اآلذان‬
‫ليستمعوا الى هذا الصوت الساحر‪.‬‬

‫تنصيب شعبي‬

‫هذا ما حدث تقريباً‪ ،‬وبتطابق كبير مع الشيخ س‪..‬يد مك‪..‬اوي‪ ،‬فم‪..‬ا إن ذاع ص‪..‬يته في الحي‬
‫من خالل تالوته للقرآن الكريم‪ ،‬حتى اجتمع كبار الحي واتخذوا‪ .‬قرارهم‪:‬‬
‫‪ -‬أنت تستحق ذلك يا شيخ سيد‪ ...‬هذه ليست مجاملة‪.‬‬

‫= شوف يا شيخ سيد‪ ...‬أهالي الحي اختاروك أنك تكون واحد من قارئي القرآن الك‪..‬ريم‬
‫وخدامه في مسجدنا اللي هنا في الشارع مسجد «أبو طبل»‪ ...‬وكمان أحد الذين يرفع‪..‬ون‬
‫اآلذان في المسجد‪.‬‬

‫* أنا!!‪ ..‬يا أسيادي أزاي بس؟!!‬

‫‪ -‬أدها وأدود يا شيخ سيد‪.‬‬

‫علي‪ ...‬خصوص‪..‬ا ً أن المس‪..‬جد ب‪..‬ه مش‪..‬ايخي‬


‫ّ‬ ‫* الله يب‪..‬ارك في‪..‬ك ي‪..‬ا س‪..‬يدنا‪ ...‬بس دا كت‪..‬ير‬
‫وأسيادي‪.‬‬

‫= وماله يا شيخ سيد‪ ...‬زيادة الخير اتنين وتالته‪ ...‬والطمع في كالم الل‪..‬ه خ‪..‬ير‪ ..‬وبع‪..‬دين‬
‫أهالي الحي هم اللي طلبوا كدا‪    .‬‬

‫* أيوا‪ .‬بس أنا‪ ...‬أنا‪.‬‬

‫‪ -‬بالش بسبسه‪ ...‬أنت بمشيئة‪ .‬الله س‪..‬ترفع آذان الفج‪..‬ر وآذان‪ .‬العش‪..‬اء‪ ،‬وتقيم الش‪..‬عائر‪،‬‬
‫فضال عن قراءة قرآن ليلة االثنين ‪ .‬وخيرات الله في المسجد كثيرة‪ ..‬وس‪..‬يكون ل‪..‬ك نص‪..‬يب‬
‫منها إن شاء الله‪ ...‬قلت إيه يا شيخ؟‬

‫* وهل بعد قولكم كالم؟ هذا شرف أتمنى‪ .‬أن أستحقه‪ ...‬وأكون عند حسن ظنكم‪.‬‬

‫البقية في الحلقة المقبلة‬

You might also like