Professional Documents
Culture Documents
03 PDF
03 PDF
َُ
والمفارقة ! الحدسُ
قراء ٌة وصفي ٌة ..
(*)
سلطان البنوي
ُملخصٌ:
ـوم الحـ ِ
ـدس ـات مفهـ ِـح املقال ـ ُة َعالقـ ِ
تُوضِّ ـ ُ
باملفارقــات يف اللغــات الطبيعيــة ،الِ
كــا حاولــت اللغــة الرياضيــة التعامــل
معــه كأزمــة ينبغــي تفاديهــا ،والتخلــص
منهــا؛ إذ مبربهنــة املنطقــي كــورت
غــودل عــن عــدم االكتــال ت ـ َّم إدخــال
مفهــوم املفارقــة يف املنظومــة العلميــة،
وكذلــك فــإ َّن أحــ َد مطالــب املقالــة:
االعــر ُاف مبفهــوم الحــدس داخــل
املنظومــات املعرفيــة ،و ِمــن أهــ ِّم َمــن
مســتخدمني الحــ َّد الســقراطي املاهــوي إذن :مبــا أنَّ مفهــوم الذاتيــة يــؤول
لضبــط التعــدد الهائــل للفلســفات إىل العــدم -إذا لـــم يســتطع االنتقال
السفسطائية. منــه إىل اإلمــكان ،فضـ ًـا عــن االنتقال
إىل الوجــود الخارجــي-؛ فإنَّــه
لقــد اختلــف التفلســف الـــادي عــن حتــا.
ً يـــؤول إىل الجهــل املطلــق
التفلســف املثــايل يف تعاملــه مــع مفهــوم
الذاتيــة اإلنســانية؛ إذ حينــا كان فيصــر ممك ًنــا بذلــك ،وميكــن مــن ث َــ َّم
الفيلســوف املثــايل يتصـ َّور الجـــزيئ؛ فإنَّــه معرفتــه وإدراكــه؛ ولذلــك فــإ َّن املفهــوم
يســتدعيه عــر املتعــايل ،أو ينتهــي إليــه، الــذايت الــذي تـــرفعه الفلســفات املثاليــة
بينــا نجــد الفيلســوف الـــادي يــدرك ملرتبــة الوجــوب وتبتــدئ منــه نظرياتهــا
املحسوســات كأمــر أ َّويل ،ثــم يُشــكِّل وأنســاقها هــو يف حقيقتــه عدمــي ممتنع؛
مــن خــال تداعــي األفــكار يف النفــس أو إذ خاصيــة االنعــكاس عــى الــذات
تجــاور األشــياء يف الخــارج انطبا ًعــا عنهــا، تُوجــب التوقــف عنــد مفهــوم جوهــري
بغــض النظــر عــن موافقتــه أو مطابقتــه يســتبعد الــدور والتسلســل ،لكــن افتقــار
مــع الخــارج ،وكــا يقــول الفيلســوف الــذات املثاليــة لذلــك املفهــوم الجوهــري
اإلســكتلندي التجريبــي ديفيــد هيــوم: -المتنــاع عمليــة االنعــكاس مــن دون
«التعــ ُّود هــو املرشــد األكــر للحيــاة ســابق معرفــة -يعــود بهــا إىل تفســر مــا
البرشيــة. هــو عدمــي عــى أنَّــه أمــر حقيقــي،
والعدمــي املمتنــع ليــس مفهو ًمــا إدراكيًّــا
إنَّــه املبــدأ الوحيــد الــذي يجعــل الخـــرة حتــى ميكــن فهمــه والحديــث عنــه،
نافعــة لنــا ،وهــو وحــده الــذي يجعلنــا وبذلــك تقــع الفلســفات املثاليــة يف مــا
نـــتوقع ،يف املســتقبل سلســلة مــن تحــاول الــرد عليــه تاريخ ًّيــا؛ إذ حيثيــات
الحــوادث املشــابهة لتلــك التــي ظهــرت تشــكُّل النظــام النســقي للفلســفة يف
يف املــايض .ومــن دون تأثــر التع ُّود ســوف التاريــخ اليونــاين ابتــدئ حينــا حــاور
نجهــل متا ًمــا كل مســألة واقعيــة خــارج أفالطــون وأرســطو السفســطائيني
العدد 1
خريف عام 2016م
تـتاميـــز عنهــا بوصفهــا صــو ًرا انـــفعالية مــا هــو ماثــل مبــارشة للذاكــرة والحــواس،
ضـعيـــفة نابـــعة عــن االنطبــاع الحــي ولــن نعــرف البتــة كيــف نُوفِّـــق املســائل
الــذي ســـبقها -فالتاميـــز عنـــده إذن يف يف ســبيل الغايــات ،وال كيــف نســتعمل
املستـــوى ال يف النــوع ،-وإلنــكاره كذلــك قُ َوانَــا الطبيعيــة إلحــداث أثــر مــن اآلثــار،
للتقســيم املثــايل للجـــواهر واألعـــراض، وســيكون ذلــك نهايــة فـــورية لــكل فعــل
ثــم إ َّن إرجــاع املعرفة عنـــده إىل انفـــعال وملعظــم النظــر»(((.
الــذات اإلنســانية باملحسوســات ،وتعــدد
أوجــه االنفعــاالت بتنــوع الــذوات لقــد مثَّــل الفيلســوف اإلســكتلندي
املدركــة يســتلزم حــر نظــام هــذه ديفيــد هيــوم مســا ًرا فريـــ ًدا داخــل
مم يلـــزم األشــياء يف الباطــن دون الخارج َّ الفلســفة الـــادية ،فاملعرفــة عنــده
انكفــاء كل ذات بنفســها ،بينــا أنَّنا نـــرى تُـشتـــق مــن خــال االنفعــال بهــا عــر
أ َّن فكــرة التنظيــم والتعالـــق بــن األشــياء التجربــة والخـــرة الفرديــة؛ إذ التجــارب
الـــأخوذة مــن فكـــرة املقارنـــة تحتــاج تـــتن َّوع وتتع ـ َّدد ،فليــس هنــاك انضبــاط
لفاعــل يُـــنشئها ،واالحتيــاج للفاعل يلـــزم كيل وتنســيق مطلــق إذا كانــت الــذات
منــه إثبــات قــدرة عقليــة معينــة لــه اإلنســانية بالنســبة إليــه تـــتموج حســب
تُ ِّك ُنــه مــن إصــدار األحــكام ،فمــن دونــه تداعــي األفــكار يف الذهــن ،وتجـــاور
ميتنــع إدراك العلـي َّـــة بــن االنطباعــات، األشــياء يف الطبيعــة ،وكذلــك لــن تبقــى
وإل لَــ َـا
والعلـ ّي َـــة حكــم يفتقــر لحاكــم َّ املعرفــة حينهــا محـاولـــة إلدراك ماهيــات
اســتطاع الذهــن الحكــم بتنظيــم أمـ ٍر مــا ثابـتـــة ومستـــقرة يف الخــارج ،ثــم
أو االســتفادة منــه ،واســتخدامه يف ســبيل مطابقتهــا مــع مــا يف األذهــان كالقائلــن
غاياتـــه؛ إذ مــا أدراه مبوافقــة تنظيمــه بالجـــوهر الـــادي؛ إذ الذهــن عند هيوم
الباطنــي للتنظيــم الخارجــي عنــه ،فــا حزمـــة انفعاليــة كاألفــكار غــر أنَّهــا
بُـ َّد مــن وجــود قَــد ٍر مــن التشــابه بينهــا
يجعــل للفاعــل إمكانيــة االســتفادة منــه ((( ديفيــد هيــوم ،ترجمــة مــوىس وهبــة« ،مبحــث
يف غاياتــه ،وإحــداث آثــار عليهــا ،ثــم إ َّن يف الفاهمــة البرشيــة» ،بــروت ،دار الفــارايب
(2008م)( ،ص.)73 /
تـــتشكل وتـــتطور عرب االســتبطان التأميل، تفســر الــذات بأنَّهــا مجــرد ُحـ َزم انفعالية
حتــى تصطنــع لنفســها جوهـ ًرا ذاتيًّــا ،غري يســتلزم فقــدان الثقــة يف أحكامهــا،
أنَّهــا أيضً ــا يشــركان يف القــول بفردانيتها وتــايش املعيــار يف قيـــاساتها ،واضمحــال
واســتقالليتها عــن الــذوات اإلنســانية القواعــد يف أنظمتهــا؛ إذ االنفعــاالت
مــا يســتلزم امتنــاع التواصــل األخــرىَّ ، تـــتغري وتـــتبدل ،ومــن ث َ ـ َّم؛ فــإ َّن ِســمة
بــن هــذه العوالِـــم الذاتيــة النقطــاع كل املعرفــة يف عمومـ ـ َّيتها اإلجرائيــة تتحلــل
ذات عــن غريهــا ،وانكفــاء كل وعــي عــى وتنحــل ،فاالنفعــال واالنطبــاع الحــي
نفســه. ليــس ضابطًــا معرف ًّيــا حتــى يســتطيع
ربــط الجـــزئيات الحســية ببعضهــا ،ومــن
مــن خــال هــذا الــرد املختــزل لكيفيــة ث َــ َّم؛ فــإ َّن مفهــوم الذاتيــة اإلنســانية
بنــاء مفهــوم الــذات البرشيــة يف مســاري يســتحيل إىل ذرات انفعاليــة فارغــة مــن
الفلســفة املثاليــة والفلســفة املاديــة املعنــى وفاقــدة للمحتــوى.
نالحــظ أنَّهــا تنتهيــان إىل إســقاط ذلــك
البنــاء برمتــه ،فبينــا يســعى املســار ــر ديفيــد هيــوم أحــد أهــم لقــد اعتُ ِ
املثــايل لتشــكيلها عــر املطلــق؛ فإنَّــه مطــوري الفلســفة التجريبيــة التــي بــدأ
يدفــع بهــا إىل أن تكــون ذاتًــا ميتافيزيقيــة بتـــنسيقها وتدشــينها داخــل الفلســفة
تتلقــى الكليــات يف محايثـــتها للوجــود ،أو الحديـــثة الفيلســوف اإلنجليــزي جــون
تـتـــذكر الـ ُمثـــل يف محاكاتهــا للواقــع ،أو لــوك ،وإن كانَــا يشتـــركان يف رفضهــا
متتنــع عــن الفعــل والنظــر حتــى تتــاس للقبليــات والـ ُمثـــل املتعاليــة عــن الخــرة
قبلياتهــا مــع الخــرة ،وكــا أرشنــا؛ فــإ َّن غــر أنَّهــا يختلفــان عــن بعضهــا يف
هــذا املســار ينتهــي إىل التسلســل أو تفســر مفهــوم الذاتيــة؛ فهــي عنــد لــوك
الــدور القبــي ،فيســقط قبــل أن يقــوم، موجــودة ُمـــدرِكة ،وقــوة عاقلــة ميتنــع
ونــرى اإلشــكالية نفســها يف املســار -عنــده -مامرســة الشـ ِّـك أو التأ ُّمــل مــن
املــادي ،فمفهــوم الــذات فيــه ينتهــي إىل دونهــا؛ بينــا نــرى أ َّن الــذات عنــد هيــوم
االنشــطار واالنقســام؛ إذ إرجــاع الــذات مجــرد ُحـــزمة انفعاليــة؛ فإنَّهــا عنــد لــوك
العدد 1
خريف عام 2016م
الذهــن) ،والتصديــق (إدراك النســبة بــن لل ُحـــزم االنفعاليــة يفقدهــا االنضبــاط
مفهومــن) ،وذهبــوا إىل االعتقــاد بوجــود واالتســاق ،وهــا يحتاجــان لقــوة عقليــة
منهجــن لبلــوغ هذيــن اإلدراكــن»(((، حتــى يتــم إدراك اتســاق املحسوســات
وم َّيــز الـــاديون بــن مفهــوم التصديــق مــن عدمهــا ،وإرجــاع الــذات يف تكوينهــا
ومفهــوم الجــزيئ املحســوس ،فــرأوا أنَّــه إىل التأمــل االســتبطاين عــر مدخــات
ميكــن إدراك الجزئيــات مســتقلة عــن كل الحــواس يف النفــس يســتلزم انكفاءهــا
نســبة تقيــده بغــره ،وهــذا غــر ســليم؛ عــى ذاتهــا ،وانقطاعهــا عــن عوالِـــم
إذ «صفــات املوصــوف قامئــة بــه ميتنــع الــذوات األخــرى؛ وبذلــك :فــإ َّن املتأمــل
أن تكــون مق َّدمــة عليــه يف الخــارج»(((، يخلــص إىل اســتبعاد كِ َل املســارين؛
وكذلــك فــإ َّن مــن «املعلــوم أ َّن الحقائــق فــاألول يعــود إىل العــدم املمتنــع ،والثــاين
الخارجيــة املســتغنية ع َّنــا ال تكــون يـــؤول إىل التشــظي والنســبوية العدميــة.
تابعــة لتصوراتنــا ،فليــس إذا فرضنــا
هــذا مقد ًمــا ،وهــذا مؤخـ ًرا ،يكــون هــذا يرتبــط مفهــوم الحــدس باملفهــوم الــذايت
يف الخــارج كذلــك»(((؛ وعليــه :فــإ َّن كِلَ ِــا يف تكوينــهرا ُمه ًّ
يف أنَّــه ُيثِّــل عنــ ً
املســارين خلطَــا مــا يف األذهــان مــع ما يف وبنائــه ،وال يلــزم مــن ذلــك انفصــال هــذا
الخــارج؛ ولذلــك :نفهــم أ َّن بــن مفهومــي التكويــن والبنــاء عــن ســياقات الــذوات
التصديــق والتصــور دو ًرا اقرتان ًيــا رشط ًيــا، األخــرى؛ فالــذات تعــي نفســها عــر غريها
وهكــذا ،ومحاولــة بنــاء نســق خــارج عــن
((( محمــد محمــد عــي يونــس« ،علــم التخاطــب ذلــك يرجــع بــه إىل التهافــت ،ويقــع يف
اإلســامي» ،دراســة لســانية ملناهــج علــاء اإلشــكالية التــي وقــع فيهــا كِ َل املســارين
األصــول يف فهــم النــص ،بــروت ،دار املــدى
اإلســامي (2006م)( ،ص ،)128 /بتــرف. املثــايل واملــادي يف عــدم فهمهــا لعالقــة
((( ابن تيمية« ،الرد عىل املنطقيني» ،بريوت ،مؤسسـة مفهومــي التصــور والتصديــق اإلدراكيــن
الريـان للطباعـة والتوزيـع (1426هــ2005/م)، يف تكويــن الــذات اإلنســانية؛ «إذ م َّيــز
(ص.)114 / املثاليــون بــن نوعــن مــن اإلدراك
((( ابــن تيميــة« ،مجمــوع الفتــاوى» ،بــروت، املعــريف :التصــور (إدراك املفاهيــم يف
مؤسســة الرســالة (1423هـــ2002/م).)99 /9( ،
فيتعامــل معهــا وفقًــا لذلــك ،ســوى أ َّن تتدخــل اللغــة الطبيعيــة يف تكوينــه
«التســمية متهيــد للوصــف»((( ،وليســت وتفعيلــه داخــل الــذات اإلنســانية ،وأدى
ُمســتقلَّ ًة عنــه ،بــل مالزمــة. إهدارهــم ألهميــة الســياق يف تكويــن
الــذات إىل اســتحالة بنــاء عالـــم الوعــي
إ َّن الحــدس داخــل الوعــي اإلنســاين مســتقل ومنفــر ًدا عــن عوالـــم الوعــي ً
يتشــكل عــر ســياقات الــذوات األخــرى، األخــرى؛ إذ وعــي اإلنســان بنفســه
فهــو ينفــذ عــر البـيـــذاتيات االجتامعيــة، باإلضافــة الفتقــاره إىل ســياق وخطاطــة
حتــى يســتقر يف كيــان تقــوم اللغــة مناذجيــة؛ فإنَّــه يفتقــر أيضً ــا إىل أداة
ببنائــه يف معامرهــا الســياقي ،والحــدس اللغــة التــي تربــط وتقيــم هــذا الســياق
بهــذا الوصــف مرتبــط بالوعــي الــذايت النموذجــي؛ ولذلــك« :فــإ َّن كل مــا ُيكــن
مــن حيــث إنَّــه يف أول مســتوياته وأدناها عــزوه إىل الكليــاتُ ،يكــن عــزوه إىل
«راجــع إىل قيــاس التمثيــل»((( أو كــا الجمــل ،وكل مــا نعــزوه إىل الجزئيــات،
يصفــه روبــر بالنــي (الحــدس مــا قبــل ُيكــن عــزوه إىل القــوالت ،ومــن ثَـ َّم :فــإ َّن
الصــوري) ،وعلــة اعتبــاره أدىن مســتوياته تفريــق اللســانيني امل ُح َدثــن بــن الجمــل
رغــم أهميتــه يف إعــادة فهم رقــي الحدس والقــوالت مفي ـ ٌد ج ـ ًّدا لتحديــد مــا هــو
واندفاعــه يف فــرض وابتــكار املفاهيــم كيل ومــا هــو جزيئ يف بنيــة اللغــة ،ولبيان
والســياقات راجعــة إىل أ َّن حــر مفهــوم كيــف ميكــن ربــط التصــورات الوجوديــة
الحــدس يف القيــاس التمثيــي فقــط واملعرفيــة بالنظريــة الســياقية»((( ،ولعـ َّـل
تســتلزم إغــاق النســق وتكميمــه ،وهــو مــن إشــكاليات توهــم هــذا التباعــد بــن
مــا يعــود بنــا إىل إشــكالية الــد ْور القبــي الــذوات اإلنســانية وافرتاض قيــام كل ذات
بنفســها هــي أ َّن التحليــل اللغــوي يفــرض
((( لودفيــج فتجنشــتني ،ترجمــة عبــد الــرزاق ب ّنــور، تســميات للمفــردات يظ ـ ُّن العقــل أنَّهــا
«تحقيقــات فلســفية» ،بــروت ،املنظمــة العربيــة مســتقل ٌة ومنعزلــة بذاتهــا عــن ســياقاتها،
للرتجمــة (2007م)( ،ص.)159 /
((( ابــن تيميــة« ،مجمــوع الفتــاوى» ،مرجــع ســابق، ((( محمــد محمــد عــي يونــس« ،علــم التخاطــب
(.)14 /10 اإلســامي» ،مرجــع ســابق( ،ص ،)131 /بتــرف.
العدد 1
خريف عام 2016م
كخــرة إنســانية مــن تدخلــه يف األنســاق إليــه زمانيــة ،بــل فئويــة ،ولقــد أوحــى
الرياضيــة ،وهــذا مــا يجعــل كتــاب الريــايض األلـــاين جــورج كانتــور لفريغــه
ألفريــد وايتهيــد وبرترانــد راســل «مبــادئ بهــذا اإلرجــاع ملفهــوم العــدد إىل مفهــوم
الرياضيــات» ،أو «برنكيبيــا ماتيامتيــكا» الفئــة« .إذ أ َّدى مواصلــة كانتــور وتحليلــه
غايــة يف األهميــة؛ ألنَّــه محاولــة تطبيقيــة إىل رد فكــرة العــدد إىل فكــرة أعــ ِّم
إلعــادة تنســيق الرياضيــات وفقًــا منهــا ،وهــي فكــرة املجموعــة ،فاألعــداد
للمنطــق الصــوري ،ال وف ًقــا للحــدس كــا الصحيحــة ليســت َّإل فئــة صغــرة
يــرى الريــايض الفرنــي هــري بوانكاريــه، الــا
يف مجموعــة األعــداد األساســية َّ
فكتابهــا بذلــك ُيثِّــل فاصـ ًـا مرحل ًّيــا يف متناهيــة .ولقــد أوحــى التقــارب الواضــح
تأريــخ املنطــق الريــايض ،ولقــد أ َّدى هــذا بــن فكــريت املجموعــة يف الرياضيــات
باإلضافــة إلهــال معظــم الرياضيــن يف والفئــة يف املنطــق بــر ِّد علــم الحســاب إىل
ذلــك الوقــت للنـــزعة الحدســية التي كان علــم أكــر منــه عموميــة هــو املنطــق»(((.
يدعــو لهــا بوانكاريــه وكورنكــر إىل النظــر
اللنهائيــة التــي يف نظريــة املجموعــات َّ إذن؛ مــع قيــام النـــزعة اللوجيســتيقية
َّأســس عليهــا فريجــه معــاره الفلســفي التــي تــرى أ َّن «البحــث يف الرياضيــات
اللنهــايئ فيهــا موجــود عــى أ َّن مفهــوم َّ وأصولهــا يتمثَّــل يف محاولــة الوصــول
خارجــي. أقــل عــد ٍد ممكــن مــن األفــكار إىل ِّ
والتعاريــف األساســية التــي تُـــعترب مبثابــة
ولقــد كان الهتــام املنطقــي اإلنجليــزي أصــول االشــتقاق ،وبحيــث تســمح لنــا
برترانــد راســل مبؤلفــات فريغــه ورؤيتــه باشــتقاق أو اســتنباط الرياضيــات بأرسهــا
لفرادتهــا املنطقيــة رغــم صعوبــة نســقها منهــا»((( ،واســتبعاد مفهــوم الحــدس
الهنــديس ودراســته لهــا تأثــر عليــه،
فاســتفاد منهــا حتــى كشــف راســل بعــد ((( املرجع السابق( ،ص.)203 /
ذلــك عــن «أول هــذه الصعوبــات... ((( ماهــر عبــد القــادر« ،فلســفة العلــوم»( ،املنطــق
والتــي ُســـ ِّميت فيــا بعــد (متناقضــة الريــايض) ،بــروت ،دار النهضــة العربيــة للطباعــة
والنــر1405( ،هـــ1985/م).)52 / 3( ،
العدد 1
خريف عام 2016م
مــن حلهــا هــو أنَّهــا كانــت تتعامــل معهــا فــر عــى أنَّــه أزمــةعنــد املناطقــة يُ َّ
وف ًقــا للمنطــق املاصدقــي الــذي يجعــل ومشــكلة تعــاين منهــا هــذه النظريــات
املفارقــة أمــ ًرا خار ًجــا عــن نســقها ال أو األنســاق ت ُــؤ ِّدي بهــا إىل االنهيــار
داخــا فيهــا ،وهــذا أحــ ُد األوجــه التــي
ً التــام ألفكارهــا ومفاهميهــا ،مـ َّـا جعــل
خالفتهــا فيــه مربهنــة كــورت غــودل يف املناطقــة قدميًــا يعتربونهــا مجــرد
عــدم االكتــال ،فهــو تعامــل مــع مفهــوم مغالطــات وتالعبــات لفظيــة ال ارتبــاط
املفارقــة بإدخالهــا للمجــال التعريفــي لهــا بالتكويــن النســقي للمعرفــة ،ومــن
للفكــر ال املجــال املاصدقــي الخارجــي أو ث َــ َّم تركــوا معالجتهــا والتعاطــي معهــا
االتســاق الداخــي. حتــى جــاء برترانــد راســل مبفارقتــه يف
بنيــة النســق املنطقــي ،ولفتــت أنظــار
«فنحــن بالنســبة ملربهنــة عــدم االكتــال الرياضيــن واملناطقــة للتوقــف عــن
أمــام قضيــة تقــر بعــدم قابليتهــا اعتبــار املفارقــات مجــرد لعــب لفظــي
للربهنــة ،األمــر الــذي يجعلهــا متاثــل فقــط ،فانتقــل االهتــام لحلهــا وإيجــاد
مفارقــة الكــذاب مــع اختالفهــا مــن نظريــة معينــة خاصــة بهــا كــا حــاول
جهــة التعريــف عــوض الصــدق ،فنحــن راســل يف نظريتــه عــن األمنــاط وتراتبيتهــا
نجــد أنفســنا أمــام قضيــة تثبــت بنفســها ومفهــوم الفئــة الفارغــة عنــده غــر أنَّــه
عــدم اشــتقاقها» مــن خاصيــة التضمــن يف وقــع يف نفــس مــا حــاول الفــرار منــه،
املنطــق الرمــزي ،أو مــن قبليــات ســابقة فانفتــاح األمنــاط أ َّدى لتسلســلها الــذي
عــى الخــرة ،وكذلــك أ َّدى انتقــال مفهــوم يتعــارض مــع مفهــوم اإلغــاق النســقي
املفارقــة مــن التعامــل والتعاطــي معــه يف النـــزعة اللوجيســتيقية الــذي يلتــزم
وفقًــا للصــدق املنطقــي إىل التعريــف مببــدأ الثالــث املرفــوع ،وأيضً ــا تُــؤ ِّدي
الــذايت للفكــر أن تــم إدخــال مفهــوم جدليــة التــام النســقي والتسلســل
(الحــدس مــا بعــد الصــوري) يف الكشــف النمطــي إىل تناقــض واضــح ،وهكــذا
عــن حــدود الصورنــة املنطقيــة للمعرفــة ســنعود للمفارقــة نفســها! مــا جعــل
وتجاوزهــا ،ومــن ثَـ َّم «نجــد أنفســنا أمــام بــدل
نظريــة األمنــاط تنتهــي للمفارقــة ً
العدد 1
خريف عام 2016م
وكـــيفية تأثــر اللغــات الطبيعيــة يف ازدواجيــة تتمثــل مــن جهــة يف صعوبــة
ذواتنــا. االســتغناء الــكيل عــن الحــدس ،ومــن
جهــة أخــرى أمــام التنــايف بــن مــا هــو
-لقــد أ َّدت محــاوالت املنطــق الريــايض صــوري ومــا هــو حــديس»(((.
الصطنــاع لغــة فوقيــة تامــة وواصفــة
لكافــة مجــاالت املعرفــة لتشــعب -مــن األســباب التــي أ َّدت ألزمــة األســس
وتع ُّمــق نظريــة املجاميــع الكانتوريــة الرياضيــة عــدم ربــط مفهــوم الحــدس
مــا جعــل
يف عمــوم النســق الصــوري َّ مبفهــوم الـ َّـا نهــايئ عنــد جــورج كانتــور،
أزمــة املفارقــات تنفــذ إىل كافــة النســق فقــد حــاول الكانتوريــون تكميــم مفهــوم
مــن جهــة ،ومــن جهــة أخــرى :إىل خلــق اللنهــايئ داخــل لغــة صوريــة متعاليــة َّ
االزدواجيــة بــن مــا هــو صــوري ومــا خاليــة مــن الخــرة والتجــارب اإلنســانية
هــو حــديس؛ ولذلــك :كان الفيلســوف املتعــددة التــي تبتكــر أنوا ًعــا مختلفــة
ومتنوعــة مــن الحــدوس؛ إذ «العقــل
لقــد أ َّدت محــاوالت املنطق الريايض ليــس كون ًّيــا أو كل ًّيــا باملعنــى املتعــايل،
الصطنــاع لغــة فوقيــة تامــة وواصفة مبعنــى أنَّــه ليــس جــز ًءا مــن بنيــة الكــون.
لكافــة مجــاالت املعرفــة لتشــعب وكل؛ إذ إنَّــه عبــارة عــن غــر أنَّــه كــوين ِّ
وتع ُّمــق نظريــة املجاميــع الكانتورية مقــدرة تشــرك فيهــا بصــورة كليــة ك ُُّل
يف عمــوم النســق الصــوري. قتســمةالكائنــات البرشيــة ،ومــا يجعلها ُم َ
بــن البــر هــو تلــك املشــركات التــي
تجســد أذهاننــا»(((،تكمــن يف كيفيــة ُّ
النمســاوي لودفيــج فتجنشــتني يُعــارض
((( حســان الباهــي« ،اللغــة واملنطــق»( ،بحــث يف
اللغــة الصوريــة يف كتابــه «تحقيقــات املفارقــات) ،مرجــع ســابق( ،ص.)215 /
فلســفية»؛ إذ رأى أ َّن اللغــات الطبيعيــة ((( جــورج اليكــوف ،ومــارك جونســون ،ترجمــة عبــد
بقدرتهــا عــى احتــواء املفارقات وتشــكيل الحميــد جحفــة« ،الفلســفة يف الجســد»( ،الذهــن
الــذات الواعيــة عــر الســياق اللغــوي املتجســد وتحديــه للفكــر الغــريب) ،بــروت ،دار
الكتــاب الجديــد2016( ،م)( ،ص.)39 /
اإليجــاب والســلب يف نهايــة تحليلهــم االجتامعــي ،مـ َّـا يجعــل الحــدس بوصفــه
لهــا ،واإليجــاب والســلب يرجــع بــدوره وعيًــا -ســواء كان مــا قبــل صــوري أو مــا
إىل كونهــا تحصيــل حاصــل ،ال تخــر عــن بعــده -يُكـ ِّون نشــاطًا اجتامع ًّيــا ،أو شــكل
يشء كــا بـ َّـن ذلــك فتجنشــتني؛ ولذلــك: حيــاة كــا يعــر فتجنشــتني؛ ولذلــك:
نفهــم اطِّـ َراد منهــج بوانكاريــه الحديس يف اكتفــى بالوصــف عــن التقعيــد ،غــر أ َّن
معارضتــه ملبــدأ الثالــث املرفــوع ،وانتقــال هــذا الفهــم يكشــف عــن تســاؤل مه ـ ٍّم؛
االهتــام عنــد فتجنشــتني مــن اللغــة وهــو :إذا كان املعنــى ســياق ًّيا داخــل
الصوريــة إىل اللغــات الطبيعيــة« ،فــإذا لعبــة لغويــة مــا والحــدس خــرة إنســانية
كنــا نحــدد التناقــض يف كونــه إثبــات معينــة أال يلــزم مــن هــذا بــأن ينحــر
خاصيتــن متناقضتــن ملوضــوع واحــد؛ املعنــى يف تأمــل اســتبطاين داخــي ،وهــو
فهــذا ينطبــق عــى التناقــض الصــوري، مــا يــرد عليــه فتجنشــتني يف فلســفته
وليــس عــى التناقــض الطبيعــي ،فبعــض الثانيــة؟ ســنجيب عــن هــذا اإلشــكال
القضايــا التــي نســلم بتناقضهــا منطق ًّيــا الحـ ـقًا بــإذن اللــه.
تبــدو غــر ذلــك عــى مســتوى الخطــاب
الطبيعــي ،بــل إ َّن بعــض العبــارات -ذكرنــا أ َّن دراســة املناطقــة والرياضيــن
املتناقضــة يف املنطــق تبــدو مفيــدة يف ملفهــوم املفارقــة تاريخ ًّيــا تعــود إىل
ســياق الخطــاب الطبيعــي ،وهــو مــا حرصهــم للمفارقــات يف تحققهــا
اســتنتجه بعــض الذيــن دعــوا إىل اســتبعاد املاصدقي ،ســواء كان يف الوجــود الذهني،
التناقــض مبفهومــه الكالســييك»((( ،فمبــدأ أو الوجــود الخارجــي؛ ولذلــك :التزمــوا
عــدم التناقــض وفهمــه عــر مبــدأ الثالــث مبفهــوم االتســاق؛ أل َّن مفهــوم املاصــدق
املرفــوع يحــر مفهــوم الحــدس ،وال يف املنطــق الصــوري يفرضــه عليهــم
يجعلــه يرتقَّــى ويتطــور يف ســياقات مــن جهــة أ َّن املاصــدق مرتبــط مببــدأ
الخــرة اإلنســانية. الثالــث املرفــوع املشــتق مــن مبــدأ عــدم
التناقــض الــذي يلزمهــم باتســاق القضايــا
((( حســان الباهــي« ،اللغــة واملنطــق»( ،بحــث يف يف اللغــة الصوريــة ،فليــس فيهــا غــر
املفارقــات) ،مرجــع ســابق( ،ص.)219 /
العدد 1
خريف عام 2016م
تعاملــوا مــع الفكــر اإلنســاين بالنســق -مــن األســباب التــي دفعــت لتشــعب
املعجمــي الــذي يرجــع القضايــا إىل املـفـارقـــات يف الـعـقـالنـيـة الـريـاضـيـة
مفــردات ُمنـتـــزعة مــن الخطاب اللســاين الصوريــة هــو اعتامدهــا يف بنيتهــا
بــدلً مــن التعامــل مــع خطــاب لغــوي العميقــة -باإلضافــة للمبــادئ املنطقيــة
طبيعــي ،فالتعامــل مــع الفكــر اإلنســاين الثالثــة املعروفــة -عــى تشــكيل عقــل
عــى أنَّــه مفــردات معجميــة يوهــم كيل مطلــق تخضــع لــه العقــول األخــرى،
الذهــن مبقابلــة بعضهــا لبعــض ال كــا ووقــوع املفارقــات يف العقالنيــة الصوريــة
هــي يف الحقيقــة متســاوقة ومتســايرة الواحديــة يدفعهــم للخــروج عنهــا؛ إذ
داخــل ســياقات ورسديــات تحــي الخــرة مفهــوم املفارقــة يُن ِّبــئ عــن تقاطــع
اإلنســانية يف ســعيها للضبــط واإلحــكام مــا
عوالـــم العقــول األخــرى فيهــا َّ
مــن جهــة ،وتتجاوزهــا وتتخطاهــا مــن يســتلزم مــن املنطقــي لــرى ويفهــم
جهــة أخــرى ،وهــذا كفعــل مفهــوم هــذه التقاطعــات املعرفيــة والفــروق
الحــدس يف املعرفــة البرشيــة؛ إذ يدفعهــا العقليــة يف كافــة األنســاق والنظريــات أن
لفــرض صــور ذهنيــة مــن جهــة ،ومــن يخــرج مــن ردائــه الصــارم منطق ًّيــا ،وهــو
جهــة أخــرى يُعتــق املفاهيــم من األســوار مــا يهــدم عليــه نســقه الصــوري الواحدي،
واألبنيــة الرياضيــة التــي تعصــم العقــل بيــد أنَّنــا بإدخــال مفهــوم الحــدس يف
عــن فعلــه! املعرفــة البرشيــة -كــا فعــل غــودل مــن
خــال مربهنــة عــدم االكتــال واعرتافــه
لقــد اســتطردنا مــع مفهــوم املفارقــة باملفارقــة داخــل املنظومــة العلميــة-
وارتباطهــا مــع املدخــل املنطقــي نكشــف عــن الحــدود الفكريــة واألطــر
ُبــن أ َّن بنيــة مفهــوم الريــايض حتــى ن ِّ النظريــة ،وتجــاوز مــا ميكــن تجــاوزه،
الحــدس تكمــن يف املفارقــات التــي والصمــت عــن مــا ال ميكــن تجــاوزه.
حــاول املناطقــة والرياضيــون اســتبعادها،
فبهــا -أي :املفارقــات -نســتطيع مقاربتــه -مــن العلــل التــي أ َّدت إىل تشــعب
وتحليلــه؛ إذ مبفهــوم الـ َّـا نهــايئ نُبـ ِّـن فعل املفارقــات يف املنطــق الصــوري :أنَّهــم
يشء مــا مــن بعيــد؛ فــإ َّن هــذا الوصــف أنَّهــا آف ـ ٌة وأزم ـ ٌة ينبغــي التخلــص منهــا
لــن يصبــح أدق إن أرشت إىل مــا ميكــن ال كــا تتعامــل معهــا نظريــة اللعــب
رؤيتــه يف ذلــك الــيء عندمــا ننظــر إليــه اللغــوي« ،ويســتنتج فتجنشــتني أ َّن القائل
عــن كثــب»(((. باألنــا وحديــة ليــس هــو الــذي اكتشــف
حقيقــة جديــدة عــن الواقــع والعقــل،
ال يســعى مفهــوم الحــدس لســكب وإنَّ ــا هــو الشــخص الــذي أغــري إغ ـراء
األلفــاظ وتدقيــق التعابــر يف أنســاق ال ســبيل إىل مقاومتــه باســتعامل صيغــة
إكســيومتكية ،أو تحديــد املرجعيــة معينــة للتعبــر.
املاصدقيــة يف الخــارج أو إحالــة القضايــا
الذريــة إىل الوقائــع ،وبهــذا نفهــم علَّــة ويظهــر هذا اإلغـراء؛ أل َّن طرائقنــا العادية
اكتفــاء فتجنشــتني يف كتابــه «تحقيقــات يف الــكالم متســك العقــل عــى نحــو صــارم
فلســفية» بالوصــف اللغــوي لألنشــطة يف وضــع واحــد ،ونشــعر أحيانًــا أنَّنــا يف
املعرفيــة واألنظمــة الســميائية ،فللوصــف ضيــق مــن التفكــر بســبب هــذا القيــد(((؛
إمكانيــة اســتيعاب التعــدد الهائــل ولذلــك :فــإ َّن الحــدس خالفًــا لِ َ
ـــا كان
للمعــارف والخــرات ،وإدراك الفروقــات عليــه مفهومــه القديــم يف أنَّــه إلهــام
والتناظــرات عــر التشــابه األرسي نــوراين إرشاقــي ال تــازم فيــه مــع أشــكال
لأللعــاب اللغويــة ،ومــن يقــرأ كتــاب الحيــاة البرشيــة وتجلياتهــا ،بــل هــو يف
«التحقيقــات» يالحــظ تعــدد األصــوات حقيقتــه شــكل متجــدد لحيــاة اإلنســان،
داخــل فقراتــه وبــن ســطوره ،فهنــاك أكرث وتفــ ُّر ٌع مــن جــذور اللعــب اللغــوي
مــن فتجنشــتني صوت ًّيــا وعقل ًّيــا ،فتعــدد املتشــعب يف الســياقات الســميائية داخــل
األصــوات يُنبِّــئ عــن تعــدد األمنــاط املجتمعــات؛ ولذلــك يقــول فتجنشــتني:
العقليــة ،ومــا يجعلــه يتنقــل عــر هــذه
األمنــاط الفكريــة والســياقات املختلفــة ي أن أصــف كيــف يبــدو يل
«إن كان عــ َّ
((( لودفيــج فتجنشــتني« ،تحقيقيــات فلســفية»، ((( هانــس ســلوجا« ،فتجنشــتني» ،مرجــع ســابق،
مرجــع ســابق( ،ص.)230 / (ص.)131 /
العدد 1
خريف عام 2016م
عــى أساســه العنــر املتحقــق .ويُعــ ُّد هــو -أ َّو ًل وقبــل كل يشء -اعرتافــه
هــذا الفعــل مــن زاويــة الســميوز ،عــاد ًة مبفهومــي املفارقــات والحــدوس ،فهــي
داخــل اإلنســان ،وقانونًــا داخــل املجتمــع، تر ّحــل الفكــر بــن عقليــات متاميــزة،
وبعبــارة أخــرى :إ َّن األمــر يتعلــق بالنظــر لكــن لجعــل هــذه العقــول تُــؤ ِّدي نتا ًجــا
إىل الداللــة باعتبارهــا فعـ ًـا ينجــز داخــل فكريًّــا ذا معنــى فــا ب ـ َّد مــن إجرائيتهــا،
ســرورة ،ال معطــى جاهـ ًزا يوجــد بشــكل وإل انفصم وأل تـــؤول إىل ذاتيــة حقيقيةَّ ، َّ
كثــر
ســابق عــى املعرفــة»((( ،ويخلــط ٌ العقــل وتشـظَّى الحدس إىل مفــردات غري
مــن ال ُق ـ َّراء بــن النهائيــة الــدالالت عنــد ذات معنــى ومحتــوى ،والتعــدد الصــويت
الفيلســوف الفرنــي جــاك دريــدا مــع الزم عــريض إلدخــال مفهــوم الوصــف يف
مفهــوم الســميوز عنــد شــارل بــورس، املنظومــة العلميــة ،كــا نحــاول هنــا يف
ويكمــن الفــرق بينهــا يف إدخــال مفهــوم الحــدس يف املنظومــة
املعرفيــة؛ إذ كالهــا يلتقــي بعقليــات
يخلــط كثــ ٌر مــن القُــ َّراء بــن وذوات إجرائيــة ،فريقــى بهــا ويتســع يف
النهائيــة الــدالالت عنــد الفيلســوف عواملهــا؛ ولذلــك:
الفرنــي جــاك دريــدا مــع مفهــوم
الســميوز عنــد شــارل بــورس. نــدرك أ َّن وصفنــا ملفهوم الحــدس كفعالية
وســرورة تقــرب أيضً ــا مــن إنتاجيــة
أ َّن دريــدا يتعامــل مــع األلفــاظ بفكــر مفهــوم الســميوز عنــد الفيلســوف
معجمــي ال ســياقي ،كــا يفعلــه مفهــوم األمريــي شــارل س .بــورس مــن حيــث إ َّن
الســميوز« ،فلــم يكــن بــورس يتصــ َّور «الســميوز يف معناهــا العــادي واملبــارش
إمكانيــة تحــول هــذه الفكــرة إىل عقيــدة ســرورة متحركــة إلنتــاج الداللــة وتداولها
واســتهالكها ،ســرورة ســتنتهي إىل
((( ســعيد بنكــراد« ،الســميائيات والتأويــل»، الذوبــان يف فعــل يتقمــص مظهــر العــادة
(مدخــل لســميائيات ش.س .بــورس) ،املركــز والقيــم والتقاليــد وكل أشــكال الســلوك
الثقــايف العــريب ،الــدار البيضــاء2005( ،م)( ،ص/ التــي تتحــول مــع الزمــن إىل معيــار يبنــى
.)173
عوالـــم الوعــي والــذوات اإلجرائيــة تجعــل مــن كل التأويــات أم ـ ًرا ممك ًنــا،
البتــكار معــان أخــرى ،وأيضً ــا لكشــف ذلــك أنَّــه هــو نفســه كان يتحــدث وهــو
أحــدى خــواص مفهــوم الحــدس وهــي يربهــن عــى ال نهائيــة اإلحــاالت عــن
(الخاصيــة االســتعارية) ،ففيــه منهــا إمكانيــة وضــع حـ ٍّد لهــذه الســرورة مــن
-كــا رأينــا أعــاه -انســيابيتها يف األلعــاب خــال اإلشــارة إىل فعــل تــداويل ينتجــه
اللغويــة ،واندفاعهــا يف املفارقــات، الســياق وتقبــل بــه الــذات املـــؤ ّولة»(((،
ورشــاقتها يف التنقــل بــن العقــول، وكذلــك الحــدس ميكــن اســتخالص معنــاه
وتق ُّنعهــا يف أوجــه متكــرة لـ ُـري للناظــر فعــا ونشــاطًا إنســان ًّيا
ومــراده بوصفــه ً
فاعليتهــا وآثارهــا ،إ َّن الحــدس كاســتعارة داخــل مجــال تــداويل؛ إذ لــو ت ـ َّم حــر
يســتدعي األلفــاظ« ،واأللفــاظ تســتدعي الحــدس يف ال نهائيــة إحاليــة باملفهــوم
صــورة ،والصــورة تــأيت ُمح َّملــة مبعرفــة، التفكيــي لـــم يكــن لــه معنــى مــراد،
واالســتعارات التواضُ عيــة ت َنســخ األج ـزاء ومــن ليــس لــه مطلــوب يريــده امتنــع
املالمئــة مــن هــذه املعرفــة يف املجــال- عــن بنــاء ســياق ،فللحــدس حيــاة يُقيمها.
الهــدف ،والحصيلــة هي معنى املسـكُوك؛
وعليــه :فــإ َّن املس ـكُوك االســتعاري ليــس خالصات استعارية:
مجـ َّرد تعبــر لغــوي عــن نســخ اســتعاري.
إنَّــه التعبــر اللُّغــوي عــن صــورة ،إضافــة -لقــد اســتعرنا عــر الــرد الســابق
إىل معرفــة حــول هــذه الصــورة»(((. بعــض املفاهيــم الفلســفية واملصطلحــات
املعرفيــة مــن فــروع علميــة متنوعــة
-ذكرنــا ســابقًا فاعليــة الحــدس يف اخرتاقه ملقاربــة مفهــوم الحــدس ووصفــه،
للضبــط الصــوري ،وتوغلــه يف املفارقــات، والكشــف عــن إمكانياتــه وقدرتــه ،وب َّي َّنــا
واخرتاعــه ملعــان ودالالت عــر خاصيــة أ َّن الحــدس ســرورة إنســانية تندمــج
يف الوعــي اإلنســاين مــن خــال اللعــب
((( جــورج اليكــوف ،ومــارك جونســون« ،الفلســفة اللغــوي ،وإمكانيتــه عــى التنقــل بــن
يف الجســد»( ،الذهــن املتجســد وتحديــه للفكــر
الغــريب) ،مرجــع ســابق( ،ص.)118 / ((( املرجع السابق( ،ص.)130 /
العدد 1
خريف عام 2016م
فــإ َّن االســتعارة مــن مجــال تــداويل إىل اللعــب اللغــوي فيــه ،فهــو ال يكتفــي
آخــر تكثــف الســياق املعــريف والصــور بالوصــول إىل مفــردة معينــة حتــى يدفــع
اإلدراكيــة يف حكايــة لفظيــة وحديــث بــه فعلــه إىل أخــرى بتكامــل ســياقي؛
لغــوي ينطلــق الحــدس منــه إىل تــازم أساســا
وعليــه :فإنَّنــا «نستشــهد هنــا ً
املعــاين والــدالالت حتــى يشــكل حيــاة باالســتعارة التــي تظهــر ُســبل تجــاوز
باملفهــوم الفتجنشــتيني« ،ويف التــازم املنطــق التقليــدي ،فوضعهــا وخصوصيتها
معنــى التفاعــل ،فتــازم طرفــن يجعــل يســمحان بخــرق املبــادئ الثالثــة التــي
َّ
نســتدل بــك ٍُّل منهــا مــن املمكــن أن قــام عليهــا املنطــق التقليدي .فبواســطتها
عــى اآلخــر ،فيســتدل املســتدل مبــا علمــه ميكــن خــرق مبــدأ الهويــة؛ حيــث نســند
منهــا عــى اآلخــر الــذي ال يعلمــه»(((، لأللفــاظ معنــى يختلــف عــن املعنــى
فالحــدس بوصفــه اســتعارة يجـ ِّـي اللــوازم الــذي وضعــت لــه يف االصطــاح.
بــن ال َحيَــوات اإلنســانية ،ويُظهــر املعــاين
املســترتة ،فاالســتعارة تزيــح ِســتار املعنى. كــا تخــرق مبــدأ عــدم التناقــض يف حالــة
تصورنــا لعالـــم غري متســق ،عالـــم يصدق
-قــد يظــ ُّن بعــض القــراء أ َّن فاعليــة فيــه القــول ونقيضه.
ســليم
ً الحــدس اعتباطيــة ،وهــذا ليــس
البتــة؛ أل َّن -كــا رشحنــا أعــاه -يف تحليلنــا وأخــ ًرا :تخــرق مبــدأ الثالــث املرفــوع
إلشــكالية املســار املثــايل واملســار املــادي بتصورنــا لعالـــم غــر تــام ،حيــث يأخــذ
ذكرنــا أ َّن مفهومــي التصــور والتصديــق بقضيــة ال تصــدق وال تكــذب فيــه»(((.
يف حقيقــة عالقتهــا د ْور اقـراين رشطــي، -للخاصيــة االســتعارية يف مفهــوم الحدس
فــإذا كان الحــدس كذلــك باإلضافــة لك ْونه كثافــة يصعــب ضبطهــا وصورنتهــا،
وعيًــا بيذاتيًــا وتالز ًمــا اســتعاريًا ،المتنعــت فالتكثيــف يف اإلعــارة يُولِّــد الــدالالت عــر
التــداول اللغــوي وتالزمــه؛ وعليــه:
((( توفيــق فائــزي« ،االســتعارة والنــص الفلســفي»،
دار الكتــاب الجديــد املتحــدة ،بــروت2016( ،م)، ((( حســان الباهــي« ،اللغــة واملنطــق»( ،بحــث يف
(ص.)250 / املفارقــات) ،مرجــع ســابق( ،ص.)220 /
ال ميكــن فهمــه إلَّ كحفــر وتجـ ٍّـل لحــارض اجتامعيــة للعالمــات ،وألنَّنــا أيضً ــا
املعرفــة والفكــر ،وللحــدس أيضً ــا إمكانيــة ســندرك -كغرينــا -أ َّن كل وصــف ملفهــوم
ي يُنظِّــر يف النظــم خلــق عقــلٍ عمــ ٍّ مــا ،يســتلزم منــه وصــف مفهــوم آخــر،
القيميــة والرتاتبيــات االجتامعيــة؛ إذ تتجــى
َّ وعــر هــذه املقاربــة الوصفيــة
مفهــوم الحــدس ليــس وج ًهــا نظريًّــا هــذه اللــوازم داخــل ســياقات ومســارات،
خالصــا ال ارتبــاط لــه ب َح َيــوات النــاس
ً فريقــى الوعــي الحــديس باســتعامالتها
العمليــة ،أو األخالقيــة أو الدينيــة؛ إذ وتقنياتهــا.
حضــور املفارقــات يف هــذه ال ُّنظــم
واألنســاق يعنــي تدخـ ًـا ألمــر يتجاوزهــا، وهكــذا ُيكــن للفكــر اإلنســاين أن يبتكــر
والحــدس بوصفــه مفارقــة يقــارب ذلــك. مناهــج وأدوات علميــة تســاعده وتقربــه
مــن حقائــق الحيــاة و ِع َبهــا ،وال ينحــر
الوعــي فعــل ،والحــدس فاعليــة ،وكالهــا الحــدس يف كشــف مــا يجعــل العلــوم
إنســاين ،وال معنــى للقــول بأنَّــه يتعلَّــق واملعــارف عــى مــا هــي عليــه ،بــل إنَّــه
ـح ذلــك،بالذهــن بغــر فعــل؛ إذ لــو صـ َّ ينقدهــا ويُق ِّيمهــا ويعيــد تركيبهــا حتــى
لــكان بدرجــة العقــول العــرة العرفانيــة، يُرجــع لهــا حياتهــا ،وينبــض فيها الدهشــة
والعرفــان يف بنيتــه الفلســفية جمــود كأن لـــم تكــن مــن قبــل ،ويتجــاوز بهــا
فكــري ،وكســل عقــي؛ ألنَّــه يلــزم مــن العوائــق العلميــة والعقبــات املعرفيــة،
الناظــر عــدم النظــر ،وهــذا توهــم للفصل أسســا أكــر عم ًقــا وأوســع
ويبعــث فيهــا ً
بــن أمريــن هــا يف الحقيقــة يشء واحــد، رؤيــة.
وألنَّــه أيضً ــا يدعــو إىل التســليم بأفــكار ال
عالقــة للحيــاة البرشيــة بهــا ،إ َّن الوعــي وللحــدس إمكانيــة التنبــؤ وإعــادة فهــم
والحــدس أفعــال؛ أل َّن كل مــا يتــاس الــروط املمكنــة لنظــام معــريف مــا؛ إذ
مــع اإلنســان ،يحولــه مبــارشة إىل قــدرات ظهــور تناقــض يف املعايــر أو النــاذج
وقــوى تُ ِّك ُنــه مــن ابتــكار ســياقات، يســتدعي ويسـتـوجـــب اسـتـحـضـــاره
واصطنــاع منــاذج ،وخلــق حيــاة. لـلـتـجـــاوز والتغيــر ،واســتحضار الحدس