You are on page 1of 23

‫العدد ‪1‬‬

‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫َُ‬
‫والمفارقة !‬ ‫الحدسُ‬
‫قراء ٌة وصفي ٌة ‪..‬‬

‫(*)‬
‫سلطان البنوي‬

‫ُملخصٌ‪:‬‬

‫ـوم الحـ ِ‬
‫ـدس‬ ‫ـات مفهـ ِ‬‫ـح املقال ـ ُة َعالقـ ِ‬
‫تُوضِّ ـ ُ‬
‫باملفارقــات يف اللغــات الطبيعيــة‪ ،‬ال‬‫ِ‬
‫كــا حاولــت اللغــة الرياضيــة التعامــل‬
‫معــه كأزمــة ينبغــي تفاديهــا‪ ،‬والتخلــص‬
‫منهــا؛ إذ مبربهنــة املنطقــي كــورت‬
‫غــودل عــن عــدم االكتــال ت ـ َّم إدخــال‬
‫مفهــوم املفارقــة يف املنظومــة العلميــة‪،‬‬
‫وكذلــك فــإ َّن أحــ َد مطالــب املقالــة‪:‬‬
‫االعــر ُاف مبفهــوم الحــدس داخــل‬
‫املنظومــات املعرفيــة‪ ،‬و ِمــن أهــ ِّم َمــن‬

‫(*) ســلطان البنــوي‪ :‬كاتــب وباحــث يف الفلســفة‬


‫واللســانيات‪،‬جــدة‪،‬اململكــةالعربيــةالســعودية‪.‬‬
‫(‪.)sas-a8@hotmail.com‬‬

‫‪63‬‬ ‫‪| 63‬‬


‫‪62‬‬
‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫بغيتــه‪ ،‬واالنعــكاس عــى الــذات ومــا‬ ‫ابتكــر اســتعامالت لهــذا االعــراف‬


‫يتعلــق بهــا وســيلته لذلــك‪ ،‬والكــال‬ ‫املعــريف‪ :‬الفيلســوف النمســاوي لودفيــج‬
‫هــو الوجــه اآلخــر لليقــن الــذي كانــت‬ ‫فبــن كيفيــة تشــكُّل ذوات‬
‫فتجنشــتني‪َّ ،‬‬
‫الفلســفات املثاليــة عمو ًمــا تفــرق‬ ‫وعقــول تكشــف عــن الخـرات اإلنســانية‬
‫فيــه مــع الفلســفات املاديــة؛ إذ عمــوم‬ ‫املتعــددة‪ ،‬عــر االعــراف باملفارقــات‬
‫الفلســفة املثاليــة تشــرك يف تثبيــت ذات‬ ‫والحــدوس يف اللغــات الطبيعيــة‪ ،‬وال‬
‫أو ذوات يبتــدئ منهــا تفرعهــا إىل أنســاق‬ ‫تســعى املقالــة لتأطــر املفهــوم داخــل‬
‫ونظريــات متعــددة‪ ،‬والذاتيــة هنــا‬ ‫حــ ِّد وتعريــف ماهــوي؛ لذلــك‪ :‬فهــي‬
‫باملعنــى الجوهــري املتعــايل الســابق عــى‬ ‫تقاربــه عــر الوصــف والســياقات‬
‫التجربــة‪ ،‬فاملثــل األفالطونيــة تكتســب‬ ‫اإلنســانية‪.‬‬
‫الســمة الذاتيــة عــر تعاليهــا‪ ،‬ومحاولــة‬
‫القــوة العقليــة لتذكــر تلــك املثــل أو‬ ‫كان الجــدل النظــري يف الفلســفة تاريخيًّــا‬
‫التشــبه بهــا‪ ،‬غــر أنَّهــا ت ُســلِّم ابتــدا ًء‬ ‫يــدور يف أحــد متظهراتــه بــن (التيــار‬
‫بوجــود تلــك الــذوات املتعاليــة‪ ،‬وكذلــك‬ ‫املثــايل‪ ،‬والتيــار املــادي) يف محاولــة ك ُِّل‬
‫نـــرى يف الكُليــات األرســطية التــي تحايث‬ ‫طــرف منهــا لفهــم وتفســر طبيعــة‬ ‫ٍ‬
‫الوجــود وتقســمه ألصنــاف وأجنــاس‬ ‫املعرفــة‪ ،‬وكيفيــة اكتســابها‪ ،‬والبحــث عــن‬
‫وأنــواع‪ ،‬ثــم تــدرك الوجــود عربهــا‪ ،‬ومــن‬ ‫الجــذر األ َّويل الــذي تُبنــى عليــه األنســاق‬
‫خاللهــا‪ ،‬فتخلــط مــا يف األذهــان مــع‬ ‫والنظريــات‪.‬‬
‫مــا يف الخــارج عــى الحقيقــة‪ ،‬ومحايثــة‬
‫الــكيل األرســطي للمتعينــات الخارجيــة‬ ‫غــر أ َّن التفلســف بطبيعتــه يستشــكل‬
‫تعكــس صــورة الجـــزيئ عــى الــذات‪،‬‬ ‫ويفحــص‪ ،‬وهــذا راجــع للخاصيــة‬
‫فيكتســب الــكيل األرســطي ذاتيتــه عــر‬ ‫االنعكاســية فيــه؛ إذ الفكــر الفلســفي‬
‫القــوة التصوريــة فيهــا؛ إذ التصديــق‬ ‫يف أصلــه محاولــة للكــال‪ ،‬وللوصــول‬
‫الحــق عــى‬
‫ٌ‬ ‫املتعــن للجزئيــات أمــر‬
‫ِّ‬ ‫لهــذه الغايــة؛ فإنَّــه يُـــلزِم نفســه بســر‬
‫تصورهــا‪ ،‬وكذلــك نالحــظ الســمة الذاتيــة‬ ‫آفاقــه والنظــر يف تعرجاتــه‪ ،‬حتــى يصــل‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫حقيقــي‪ ،‬واملعرفــة حاويــة بطبيعتهــا‪،‬‬ ‫يف الفلســفة الكانطيــة يف القبليــات‬


‫ُـــرت الــذات بوصفهــا اعتباريــة‬ ‫وإذا ف ِّ‬ ‫العقليــة‪ ،‬واملفاهيــم التحليليــة؛ إذ لو لـــم‬
‫ذهنيــة؛ فــإ َّن انتقالهــا مــن العــدم إىل‬ ‫تكــن هنــاك ذات جوهريــة تحــوي تلــك‬
‫اإلمــكان يُوجــب عليهــا اإلق ـرار بأســبقية‬ ‫لســلب‬ ‫القبليــات واملفاهيــم التحليليــة ُ‬
‫التصديــق عــى التصــور‪ ،‬وهــو مــا متتنــع‬ ‫منهــا خاصيــة القبــي يف أســبقيته عــى‬
‫أغلــب الفلســفات املثاليــة اإلقــرار‬ ‫التجربــة‪ ،‬والخاصيــة الالزمنيــة للمفاهيــم‬
‫بأســبقيته‪ ،‬والتصديــق فعــل بعــدي‪،‬‬ ‫التحليليــة كذلــك‪ ،‬وسيلـــزم مــن ذلــك‬
‫وليــس قبل ًيــا البتــة؛ إذ إدراك املوجــود‬ ‫نقــض الســمة املثاليــة للفلســفة‬
‫املتعــن يف الخــارج يستلـــزم إدراكــه يف‬ ‫ِّ‬ ‫الكانطيــة‪ ،‬واملتمعــن يف كافــة األنســاق‬
‫شــبكة مــن العالقــات واالرتباطــات‪ ،‬بينــا‬ ‫الفلســفية املثاليــة يــدرك مــدى أهميــة‬
‫تقــر الفلســفة املثاليــة أ َّن االرتباطــات‬ ‫مفهــوم الذاتيــة((( بالنســبة إليهــا‪ ،‬فبــه‬
‫والعالقــات تــأيت داخــل الوجــود الخارجــي‬ ‫يتشــكَّل مفهــوم املثــايل‪ ،‬وبهــذا املثــايل‬
‫ال املتعــايل؛ فليــس للمتعــايل عالـــم‬ ‫تكتســب الــذات اإلنســانية أصالتهــا‪،‬‬
‫وجــودي ترتبــط فيــه امل ُثــل أو الكُليــات أو‬ ‫وتتعــاىل عــر انعكاســها عــى نفســها‪،‬‬
‫القبليــات واملفاهيــم التحليليــة؛ ولذلــك‬ ‫لك َّننــا حــن التأ ُّمــل الفاحــص نـــرى يف‬
‫قالــوا يف الفلســفة اليونانيــة قد ًميــا‪:‬‬ ‫ثنايــا هــذا التشــكل املتعــايل للــذات‬
‫«الواحــد ال يصــدر منــه إلَّ واحــد»‪ ،‬فهــي‬ ‫اإلنســانية مســلمة يفتقــر إليهــا‪ ،‬وهــي‬
‫إذن‪ :‬كالنجــوم املتباعــدة عــن بعضهــا‪.‬‬ ‫أســبقية املعرفــة عــى فعــل التشــكُّل‬
‫الــذايت‪ ،‬فحتــى تكــون هنــاك ذاتيــة‬
‫إذن‪ :‬مبــا أ َّن مفهــوم الذاتيــة يــؤول إىل‬ ‫وإل‬
‫يجــب أن تكــون هنــاك معرفــة بهــا؛ َّ‬
‫العــدم ‪-‬إذا لـــم يســتطع االنتقــال منه إىل‬ ‫امتنعــت خاصيــة االنعــكاس عــى الــذات‪،‬‬
‫اإلمــكان‪ ،‬فضـ ًـا عــن االنتقــال إىل الوجــود‬ ‫فاألمــر الــذي ال يحــوي شــيئًا ليــس بــيء‬
‫الخارجــي‪-‬؛ فإنَّــه يـــؤول إىل الجهــل‬
‫حتــا؛ أل َّن املعــدوم يتعلَّــق‬
‫ً‬ ‫املطلــق‬ ‫((( الذاتيــة هنــا باختــاف دالالتهــا مــن أرســطو‬
‫بالذهــن حينــا يتعلــق بالتصديــق‪،‬‬ ‫وأفالطــون إىل ديــكارت وكانــط ‪ ...‬هــي مشــرك‬
‫باالســم ال باملعنــى‪.‬‬

‫‪65‬‬ ‫‪| 64‬‬


‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫مســتخدمني الحــ َّد الســقراطي املاهــوي‬ ‫إذن‪ :‬مبــا أنَّ مفهــوم الذاتيــة يــؤول‬
‫لضبــط التعــدد الهائــل للفلســفات‬ ‫إىل العــدم ‪-‬إذا لـــم يســتطع االنتقال‬
‫السفسطائية‪.‬‬ ‫منــه إىل اإلمــكان‪ ،‬فضـ ًـا عــن االنتقال‬
‫إىل الوجــود الخارجــي‪-‬؛ فإنَّــه‬
‫لقــد اختلــف التفلســف الـــادي عــن‬ ‫حتــا‪.‬‬
‫ً‬ ‫يـــؤول إىل الجهــل املطلــق‬
‫التفلســف املثــايل يف تعاملــه مــع مفهــوم‬
‫الذاتيــة اإلنســانية؛ إذ حينــا كان‬ ‫فيصــر ممك ًنــا بذلــك‪ ،‬وميكــن مــن ث َــ َّم‬
‫الفيلســوف املثــايل يتصـ َّور الجـــزيئ؛ فإنَّــه‬ ‫معرفتــه وإدراكــه؛ ولذلــك فــإ َّن املفهــوم‬
‫يســتدعيه عــر املتعــايل‪ ،‬أو ينتهــي إليــه‪،‬‬ ‫الــذايت الــذي تـــرفعه الفلســفات املثاليــة‬
‫بينــا نجــد الفيلســوف الـــادي يــدرك‬ ‫ملرتبــة الوجــوب وتبتــدئ منــه نظرياتهــا‬
‫املحسوســات كأمــر أ َّويل‪ ،‬ثــم يُشــكِّل‬ ‫وأنســاقها هــو يف حقيقتــه عدمــي ممتنع؛‬
‫مــن خــال تداعــي األفــكار يف النفــس أو‬ ‫إذ خاصيــة االنعــكاس عــى الــذات‬
‫تجــاور األشــياء يف الخــارج انطبا ًعــا عنهــا‪،‬‬ ‫تُوجــب التوقــف عنــد مفهــوم جوهــري‬
‫بغــض النظــر عــن موافقتــه أو مطابقتــه‬ ‫يســتبعد الــدور والتسلســل‪ ،‬لكــن افتقــار‬
‫مــع الخــارج‪ ،‬وكــا يقــول الفيلســوف‬ ‫الــذات املثاليــة لذلــك املفهــوم الجوهــري‬
‫اإلســكتلندي التجريبــي ديفيــد هيــوم‪:‬‬ ‫‪-‬المتنــاع عمليــة االنعــكاس مــن دون‬
‫«التعــ ُّود هــو املرشــد األكــر للحيــاة‬ ‫ســابق معرفــة‪ -‬يعــود بهــا إىل تفســر مــا‬
‫البرشيــة‪.‬‬ ‫هــو عدمــي عــى أنَّــه أمــر حقيقــي‪،‬‬
‫والعدمــي املمتنــع ليــس مفهو ًمــا إدراكيًّــا‬
‫إنَّــه املبــدأ الوحيــد الــذي يجعــل الخـــرة‬ ‫حتــى ميكــن فهمــه والحديــث عنــه‪،‬‬
‫نافعــة لنــا‪ ،‬وهــو وحــده الــذي يجعلنــا‬ ‫وبذلــك تقــع الفلســفات املثاليــة يف مــا‬
‫نـــتوقع‪ ،‬يف املســتقبل سلســلة مــن‬ ‫تحــاول الــرد عليــه تاريخ ًّيــا؛ إذ حيثيــات‬
‫الحــوادث املشــابهة لتلــك التــي ظهــرت‬ ‫تشــكُّل النظــام النســقي للفلســفة يف‬
‫يف املــايض‪ .‬ومــن دون تأثــر التع ُّود ســوف‬ ‫التاريــخ اليونــاين ابتــدئ حينــا حــاور‬
‫نجهــل متا ًمــا كل مســألة واقعيــة خــارج‬ ‫أفالطــون وأرســطو السفســطائيني‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫تـتاميـــز عنهــا بوصفهــا صــو ًرا انـــفعالية‬ ‫مــا هــو ماثــل مبــارشة للذاكــرة والحــواس‪،‬‬
‫ضـعيـــفة نابـــعة عــن االنطبــاع الحــي‬ ‫ولــن نعــرف البتــة كيــف نُوفِّـــق املســائل‬
‫الــذي ســـبقها ‪-‬فالتاميـــز عنـــده إذن يف‬ ‫يف ســبيل الغايــات‪ ،‬وال كيــف نســتعمل‬
‫املستـــوى ال يف النــوع‪ ،-‬وإلنــكاره كذلــك‬ ‫قُ َوانَــا الطبيعيــة إلحــداث أثــر مــن اآلثــار‪،‬‬
‫للتقســيم املثــايل للجـــواهر واألعـــراض‪،‬‬ ‫وســيكون ذلــك نهايــة فـــورية لــكل فعــل‬
‫ثــم إ َّن إرجــاع املعرفة عنـــده إىل انفـــعال‬ ‫وملعظــم النظــر»(((‪.‬‬
‫الــذات اإلنســانية باملحسوســات‪ ،‬وتعــدد‬
‫أوجــه االنفعــاالت بتنــوع الــذوات‬ ‫لقــد مثَّــل الفيلســوف اإلســكتلندي‬
‫املدركــة يســتلزم حــر نظــام هــذه‬ ‫ديفيــد هيــوم مســا ًرا فريـــ ًدا داخــل‬
‫مم يلـــزم‬ ‫األشــياء يف الباطــن دون الخارج َّ‬ ‫الفلســفة الـــادية‪ ،‬فاملعرفــة عنــده‬
‫انكفــاء كل ذات بنفســها‪ ،‬بينــا أنَّنا نـــرى‬ ‫تُـشتـــق مــن خــال االنفعــال بهــا عــر‬
‫أ َّن فكــرة التنظيــم والتعالـــق بــن األشــياء‬ ‫التجربــة والخـــرة الفرديــة؛ إذ التجــارب‬
‫الـــأخوذة مــن فكـــرة املقارنـــة تحتــاج‬ ‫تـــتن َّوع وتتع ـ َّدد‪ ،‬فليــس هنــاك انضبــاط‬
‫لفاعــل يُـــنشئها‪ ،‬واالحتيــاج للفاعل يلـــزم‬ ‫كيل وتنســيق مطلــق إذا كانــت الــذات‬
‫منــه إثبــات قــدرة عقليــة معينــة لــه‬ ‫اإلنســانية بالنســبة إليــه تـــتموج حســب‬
‫تُ ِّك ُنــه مــن إصــدار األحــكام‪ ،‬فمــن دونــه‬ ‫تداعــي األفــكار يف الذهــن‪ ،‬وتجـــاور‬
‫ميتنــع إدراك العلـي َّـــة بــن االنطباعــات‪،‬‬ ‫األشــياء يف الطبيعــة‪ ،‬وكذلــك لــن تبقــى‬
‫وإل لَــ َـا‬
‫والعلـ ّي َـــة حكــم يفتقــر لحاكــم َّ‬ ‫املعرفــة حينهــا محـاولـــة إلدراك ماهيــات‬
‫اســتطاع الذهــن الحكــم بتنظيــم أمـ ٍر مــا‬ ‫ثابـتـــة ومستـــقرة يف الخــارج‪ ،‬ثــم‬
‫أو االســتفادة منــه‪ ،‬واســتخدامه يف ســبيل‬ ‫مطابقتهــا مــع مــا يف األذهــان كالقائلــن‬
‫غاياتـــه؛ إذ مــا أدراه مبوافقــة تنظيمــه‬ ‫بالجـــوهر الـــادي؛ إذ الذهــن عند هيوم‬
‫الباطنــي للتنظيــم الخارجــي عنــه‪ ،‬فــا‬ ‫حزمـــة انفعاليــة كاألفــكار غــر أنَّهــا‬
‫بُـ َّد مــن وجــود قَــد ٍر مــن التشــابه بينهــا‬
‫يجعــل للفاعــل إمكانيــة االســتفادة منــه‬ ‫((( ديفيــد هيــوم‪ ،‬ترجمــة مــوىس وهبــة‪« ،‬مبحــث‬
‫يف غاياتــه‪ ،‬وإحــداث آثــار عليهــا‪ ،‬ثــم إ َّن‬ ‫يف الفاهمــة البرشيــة»‪ ،‬بــروت‪ ،‬دار الفــارايب‬
‫(‪2008‬م)‪( ،‬ص‪.)73 /‬‬

‫‪67‬‬ ‫‪| 66‬‬


‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫تـــتشكل وتـــتطور عرب االســتبطان التأميل‪،‬‬ ‫تفســر الــذات بأنَّهــا مجــرد ُحـ َزم انفعالية‬
‫حتــى تصطنــع لنفســها جوهـ ًرا ذاتيًّــا‪ ،‬غري‬ ‫يســتلزم فقــدان الثقــة يف أحكامهــا‪،‬‬
‫أنَّهــا أيضً ــا يشــركان يف القــول بفردانيتها‬ ‫وتــايش املعيــار يف قيـــاساتها‪ ،‬واضمحــال‬
‫واســتقالليتها عــن الــذوات اإلنســانية‬ ‫القواعــد يف أنظمتهــا؛ إذ االنفعــاالت‬
‫مــا يســتلزم امتنــاع التواصــل‬ ‫األخــرى‪َّ ،‬‬ ‫تـــتغري وتـــتبدل‪ ،‬ومــن ث َ ـ َّم؛ فــإ َّن ِســمة‬
‫بــن هــذه العوالِـــم الذاتيــة النقطــاع كل‬ ‫املعرفــة يف عمومـ ـ َّيتها اإلجرائيــة تتحلــل‬
‫ذات عــن غريهــا‪ ،‬وانكفــاء كل وعــي عــى‬ ‫وتنحــل‪ ،‬فاالنفعــال واالنطبــاع الحــي‬
‫نفســه‪.‬‬ ‫ليــس ضابطًــا معرف ًّيــا حتــى يســتطيع‬
‫ربــط الجـــزئيات الحســية ببعضهــا‪ ،‬ومــن‬
‫مــن خــال هــذا الــرد املختــزل لكيفيــة‬ ‫ث َــ َّم؛ فــإ َّن مفهــوم الذاتيــة اإلنســانية‬
‫بنــاء مفهــوم الــذات البرشيــة يف مســاري‬ ‫يســتحيل إىل ذرات انفعاليــة فارغــة مــن‬
‫الفلســفة املثاليــة والفلســفة املاديــة‬ ‫املعنــى وفاقــدة للمحتــوى‪.‬‬
‫نالحــظ أنَّهــا تنتهيــان إىل إســقاط ذلــك‬
‫البنــاء برمتــه‪ ،‬فبينــا يســعى املســار‬ ‫ــر ديفيــد هيــوم أحــد أهــم‬ ‫لقــد اعتُ ِ‬
‫املثــايل لتشــكيلها عــر املطلــق؛ فإنَّــه‬ ‫مطــوري الفلســفة التجريبيــة التــي بــدأ‬
‫يدفــع بهــا إىل أن تكــون ذاتًــا ميتافيزيقيــة‬ ‫بتـــنسيقها وتدشــينها داخــل الفلســفة‬
‫تتلقــى الكليــات يف محايثـــتها للوجــود‪ ،‬أو‬ ‫الحديـــثة الفيلســوف اإلنجليــزي جــون‬
‫تـتـــذكر الـ ُمثـــل يف محاكاتهــا للواقــع‪ ،‬أو‬ ‫لــوك‪ ،‬وإن كانَــا يشتـــركان يف رفضهــا‬
‫متتنــع عــن الفعــل والنظــر حتــى تتــاس‬ ‫للقبليــات والـ ُمثـــل املتعاليــة عــن الخــرة‬
‫قبلياتهــا مــع الخــرة‪ ،‬وكــا أرشنــا؛ فــإ َّن‬ ‫غــر أنَّهــا يختلفــان عــن بعضهــا يف‬
‫هــذا املســار ينتهــي إىل التسلســل أو‬ ‫تفســر مفهــوم الذاتيــة؛ فهــي عنــد لــوك‬
‫الــدور القبــي‪ ،‬فيســقط قبــل أن يقــوم‪،‬‬ ‫موجــودة ُمـــدرِكة‪ ،‬وقــوة عاقلــة ميتنــع‬
‫ونــرى اإلشــكالية نفســها يف املســار‬ ‫‪-‬عنــده‪ -‬مامرســة الشـ ِّـك أو التأ ُّمــل مــن‬
‫املــادي‪ ،‬فمفهــوم الــذات فيــه ينتهــي إىل‬ ‫دونهــا؛ بينــا نــرى أ َّن الــذات عنــد هيــوم‬
‫االنشــطار واالنقســام؛ إذ إرجــاع الــذات‬ ‫مجــرد ُحـــزمة انفعاليــة؛ فإنَّهــا عنــد لــوك‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫الذهــن)‪ ،‬والتصديــق (إدراك النســبة بــن‬ ‫لل ُحـــزم االنفعاليــة يفقدهــا االنضبــاط‬
‫مفهومــن)‪ ،‬وذهبــوا إىل االعتقــاد بوجــود‬ ‫واالتســاق‪ ،‬وهــا يحتاجــان لقــوة عقليــة‬
‫منهجــن لبلــوغ هذيــن اإلدراكــن»(((‪،‬‬ ‫حتــى يتــم إدراك اتســاق املحسوســات‬
‫وم َّيــز الـــاديون بــن مفهــوم التصديــق‬ ‫مــن عدمهــا‪ ،‬وإرجــاع الــذات يف تكوينهــا‬
‫ومفهــوم الجــزيئ املحســوس‪ ،‬فــرأوا أنَّــه‬ ‫إىل التأمــل االســتبطاين عــر مدخــات‬
‫ميكــن إدراك الجزئيــات مســتقلة عــن كل‬ ‫الحــواس يف النفــس يســتلزم انكفاءهــا‬
‫نســبة تقيــده بغــره‪ ،‬وهــذا غــر ســليم؛‬ ‫عــى ذاتهــا‪ ،‬وانقطاعهــا عــن عوالِـــم‬
‫إذ «صفــات املوصــوف قامئــة بــه ميتنــع‬ ‫الــذوات األخــرى؛ وبذلــك‪ :‬فــإ َّن املتأمــل‬
‫أن تكــون مق َّدمــة عليــه يف الخــارج»(((‪،‬‬ ‫يخلــص إىل اســتبعاد كِ َل املســارين؛‬
‫وكذلــك فــإ َّن مــن «املعلــوم أ َّن الحقائــق‬ ‫فــاألول يعــود إىل العــدم املمتنــع‪ ،‬والثــاين‬
‫الخارجيــة املســتغنية ع َّنــا ال تكــون‬ ‫يـــؤول إىل التشــظي والنســبوية العدميــة‪.‬‬
‫تابعــة لتصوراتنــا‪ ،‬فليــس إذا فرضنــا‬
‫هــذا مقد ًمــا‪ ،‬وهــذا مؤخـ ًرا‪ ،‬يكــون هــذا‬ ‫يرتبــط مفهــوم الحــدس باملفهــوم الــذايت‬
‫يف الخــارج كذلــك»(((؛ وعليــه‪ :‬فــإ َّن كِلَ‬ ‫ِــا يف تكوينــه‬‫را ُمه ًّ‬
‫يف أنَّــه ُيثِّــل عنــ ً‬
‫املســارين خلطَــا مــا يف األذهــان مــع ما يف‬ ‫وبنائــه‪ ،‬وال يلــزم مــن ذلــك انفصــال هــذا‬
‫الخــارج؛ ولذلــك‪ :‬نفهــم أ َّن بــن مفهومــي‬ ‫التكويــن والبنــاء عــن ســياقات الــذوات‬
‫التصديــق والتصــور دو ًرا اقرتان ًيــا رشط ًيــا‪،‬‬ ‫األخــرى؛ فالــذات تعــي نفســها عــر غريها‬
‫وهكــذا‪ ،‬ومحاولــة بنــاء نســق خــارج عــن‬
‫((( محمــد محمــد عــي يونــس‪« ،‬علــم التخاطــب‬ ‫ذلــك يرجــع بــه إىل التهافــت‪ ،‬ويقــع يف‬
‫اإلســامي»‪ ،‬دراســة لســانية ملناهــج علــاء‬ ‫اإلشــكالية التــي وقــع فيهــا كِ َل املســارين‬
‫األصــول يف فهــم النــص‪ ،‬بــروت‪ ،‬دار املــدى‬
‫اإلســامي (‪2006‬م)‪( ،‬ص‪ ،)128 /‬بتــرف‪.‬‬ ‫املثــايل واملــادي يف عــدم فهمهــا لعالقــة‬
‫((( ابن تيمية‪« ،‬الرد عىل املنطقيني»‪ ،‬بريوت‪ ،‬مؤسسـة‬ ‫مفهومــي التصــور والتصديــق اإلدراكيــن‬
‫الريـان للطباعـة والتوزيـع (‪1426‬هــ‪2005/‬م)‪،‬‬ ‫يف تكويــن الــذات اإلنســانية؛ «إذ م َّيــز‬
‫(ص‪.)114 /‬‬ ‫املثاليــون بــن نوعــن مــن اإلدراك‬
‫((( ابــن تيميــة‪« ،‬مجمــوع الفتــاوى»‪ ،‬بــروت‪،‬‬ ‫املعــريف‪ :‬التصــور (إدراك املفاهيــم يف‬
‫مؤسســة الرســالة (‪1423‬هـــ‪2002/‬م)‪.)99 /9( ،‬‬

‫‪69‬‬ ‫‪| 68‬‬


‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫فيتعامــل معهــا وفقًــا لذلــك‪ ،‬ســوى أ َّن‬ ‫تتدخــل اللغــة الطبيعيــة يف تكوينــه‬
‫«التســمية متهيــد للوصــف»(((‪ ،‬وليســت‬ ‫وتفعيلــه داخــل الــذات اإلنســانية‪ ،‬وأدى‬
‫ُمســتقلَّ ًة عنــه‪ ،‬بــل مالزمــة‪.‬‬ ‫إهدارهــم ألهميــة الســياق يف تكويــن‬
‫الــذات إىل اســتحالة بنــاء عالـــم الوعــي‬
‫إ َّن الحــدس داخــل الوعــي اإلنســاين‬ ‫مســتقل ومنفــر ًدا عــن عوالـــم الوعــي‬ ‫ً‬
‫يتشــكل عــر ســياقات الــذوات األخــرى‪،‬‬ ‫األخــرى؛ إذ وعــي اإلنســان بنفســه‬
‫فهــو ينفــذ عــر البـيـــذاتيات االجتامعيــة‪،‬‬ ‫باإلضافــة الفتقــاره إىل ســياق وخطاطــة‬
‫حتــى يســتقر يف كيــان تقــوم اللغــة‬ ‫مناذجيــة؛ فإنَّــه يفتقــر أيضً ــا إىل أداة‬
‫ببنائــه يف معامرهــا الســياقي‪ ،‬والحــدس‬ ‫اللغــة التــي تربــط وتقيــم هــذا الســياق‬
‫بهــذا الوصــف مرتبــط بالوعــي الــذايت‬ ‫النموذجــي؛ ولذلــك‪« :‬فــإ َّن كل مــا ُيكــن‬
‫مــن حيــث إنَّــه يف أول مســتوياته وأدناها‬ ‫عــزوه إىل الكليــات‪ُ ،‬يكــن عــزوه إىل‬
‫«راجــع إىل قيــاس التمثيــل»((( أو كــا‬ ‫الجمــل‪ ،‬وكل مــا نعــزوه إىل الجزئيــات‪،‬‬
‫يصفــه روبــر بالنــي (الحــدس مــا قبــل‬ ‫ُيكــن عــزوه إىل القــوالت‪ ،‬ومــن ثَـ َّم‪ :‬فــإ َّن‬
‫الصــوري)‪ ،‬وعلــة اعتبــاره أدىن مســتوياته‬ ‫تفريــق اللســانيني امل ُح َدثــن بــن الجمــل‬
‫رغــم أهميتــه يف إعــادة فهم رقــي الحدس‬ ‫والقــوالت مفي ـ ٌد ج ـ ًّدا لتحديــد مــا هــو‬
‫واندفاعــه يف فــرض وابتــكار املفاهيــم‬ ‫كيل ومــا هــو جزيئ يف بنيــة اللغــة‪ ،‬ولبيان‬
‫والســياقات راجعــة إىل أ َّن حــر مفهــوم‬ ‫كيــف ميكــن ربــط التصــورات الوجوديــة‬
‫الحــدس يف القيــاس التمثيــي فقــط‬ ‫واملعرفيــة بالنظريــة الســياقية»(((‪ ،‬ولعـ َّـل‬
‫تســتلزم إغــاق النســق وتكميمــه‪ ،‬وهــو‬ ‫مــن إشــكاليات توهــم هــذا التباعــد بــن‬
‫مــا يعــود بنــا إىل إشــكالية الــد ْور القبــي‬ ‫الــذوات اإلنســانية وافرتاض قيــام كل ذات‬
‫بنفســها هــي أ َّن التحليــل اللغــوي يفــرض‬
‫((( لودفيــج فتجنشــتني‪ ،‬ترجمــة عبــد الــرزاق ب ّنــور‪،‬‬ ‫تســميات للمفــردات يظ ـ ُّن العقــل أنَّهــا‬
‫«تحقيقــات فلســفية»‪ ،‬بــروت‪ ،‬املنظمــة العربيــة‬ ‫مســتقل ٌة ومنعزلــة بذاتهــا عــن ســياقاتها‪،‬‬
‫للرتجمــة (‪2007‬م)‪( ،‬ص‪.)159 /‬‬
‫((( ابــن تيميــة‪« ،‬مجمــوع الفتــاوى»‪ ،‬مرجــع ســابق‪،‬‬ ‫((( محمــد محمــد عــي يونــس‪« ،‬علــم التخاطــب‬
‫(‪.)14 /10‬‬ ‫اإلســامي»‪ ،‬مرجــع ســابق‪( ،‬ص‪ ،)131 /‬بتــرف‪.‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫إلَّ يف الـعـرص الـحديـث»((( مـع بـدايـات‬ ‫والتسلســل‪ ،‬فخاصيــة التضمــن يف قيــاس‬


‫القــرن العرشيــن‪.‬‬ ‫التمثيــل ليســت كافيــة لتفريــع القضايــا‬
‫عــن بعضهــا‪ ،‬فالــرورة البنائيــة للوعــي‬
‫لقــد بــدأ املنطقــي األلـــاين جوتلــوب‬ ‫تســتلزم منــه خروجــه عنــه‪ ،‬واالرتقــاء بــه‬
‫فريغــه تدشــن الفلســفة املعــارصة‬ ‫يف مجــاالت املعرفــة والخــرة اإلنســانية‪.‬‬
‫للرياضيــات عــر محاولتــه إرجــاع‬
‫ـــا كان‬ ‫الرياضيــات إىل املنطــق خالفًــا لِ َ‬ ‫الحدس وأزمة األسس الرياضية‪:‬‬
‫ُمقـ َّر ًرا بعــد الفيلســوف األلـــاين إميانويل‬
‫كانــط الــذي أســس رياضياته عــى مفهوم‬ ‫لقــد كانــت الرياضيــات منوذ ًجــا ســام ًيا‬
‫الزمــن‪ ،‬ومقولــة الزمــن متثّـِــل إطــا ًرا أ َّول ًّيــا‬ ‫للعلــم العقــاين الــذي يريــد وضــع‬
‫قبليًّــا عنــد كانــط‪ ،‬فهــو يســتخرج الســمة‬ ‫أســس املعرفــة البرشيــة داخــل نســق‬
‫الرتكيبيــة للرياضيــات مــن مفهــوم‬ ‫إكســيوميتيك ريــايض وفقًــا ملبــدأي‬
‫الزمانيــة؛ إذ العــدد يف فلســفته مجــرد‬ ‫التــام‪ ،‬وعــدم التناقــض‪ ،‬ويتم َّيـــز املدخل‬
‫إضافــات متعاقبــة للوحــدات يف الزمــن‪،‬‬ ‫الريــايض لســر إشــكالية مفهــوم الحــدس‬
‫وبذلــك تكــون الرياضيــات عنــده تحليلية‬ ‫بأنَّــه أقــى املحــاوالت العلميــة لصورنــة‬
‫مــا يجعلهــا ســابقة عــى‬ ‫تركيبيــة‪َّ ،‬‬ ‫العقــل‪ ،‬واســتبعاد الحــدس بوصفــه‬
‫التجربــة‪ ،‬وتخــر عنهــا أيضً ــا‪ ،‬ولقــد خالفه‬ ‫خربة إنسـانـيـــة ت ُــكـتســـب مـــن خـارج‬
‫فريغــه مبحاولتــه التأسيســية للرياضيــات؛‬ ‫مم يُعيــد إىل األذهان‬ ‫الـعـقـــل الصــوري‪َّ ،‬‬
‫إذ تقــوم رياضياتــه عــى مفهــوم العــدد‬ ‫مشــكلة الكليــات وكيفيــة إدراكهــا‪ ،‬و«إذا‬
‫الــذي يقــوم بــدوره عــى مفهــوم الفئــة‪،‬‬ ‫كانــت طبيعــة املوجــودات الرياضيــة قـــد‬
‫وليســت الوحــدات املتعاقبــة بالنســبة‬ ‫طُرحــت كمشــكلة يف الوقــت نفســه‬
‫تقري ًبــا الــذي شُ ـيـــدت فـيـــه الـريـاضـــة‬
‫((( روبــر بالنــي‪ ،‬ترجمــة حســن عبــد الحميــد‪،‬‬ ‫كـعـــلم عـقـــاين عـنـــد الـيـونـــان؛ فـــإ َّن‬
‫«نظريــة املعرفــة العلميــة» (اإلبســتمولوجيا)‪،‬‬ ‫مـشـكلـة أســـاس الـريـاضـة لــم تـطـرح‬
‫القاهــرة‪ ،‬رؤيــة للنــر والتوزيــع‪2014( ،‬م)‪( ،‬ص‪/‬‬
‫‪ ،)202‬بتــرف‪.‬‬

‫‪71‬‬ ‫‪| 70‬‬


‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫كخــرة إنســانية مــن تدخلــه يف األنســاق‬ ‫إليــه زمانيــة‪ ،‬بــل فئويــة‪ ،‬ولقــد أوحــى‬
‫الرياضيــة‪ ،‬وهــذا مــا يجعــل كتــاب‬ ‫الريــايض األلـــاين جــورج كانتــور لفريغــه‬
‫ألفريــد وايتهيــد وبرترانــد راســل «مبــادئ‬ ‫بهــذا اإلرجــاع ملفهــوم العــدد إىل مفهــوم‬
‫الرياضيــات»‪ ،‬أو «برنكيبيــا ماتيامتيــكا»‬ ‫الفئــة‪« .‬إذ أ َّدى مواصلــة كانتــور وتحليلــه‬
‫غايــة يف األهميــة؛ ألنَّــه محاولــة تطبيقيــة‬ ‫إىل رد فكــرة العــدد إىل فكــرة أعــ ِّم‬
‫إلعــادة تنســيق الرياضيــات وفقًــا‬ ‫منهــا‪ ،‬وهــي فكــرة املجموعــة‪ ،‬فاألعــداد‬
‫للمنطــق الصــوري‪ ،‬ال وف ًقــا للحــدس كــا‬ ‫الصحيحــة ليســت َّإل فئــة صغــرة‬
‫يــرى الريــايض الفرنــي هــري بوانكاريــه‪،‬‬ ‫الــا‬
‫يف مجموعــة األعــداد األساســية َّ‬
‫فكتابهــا بذلــك ُيثِّــل فاصـ ًـا مرحل ًّيــا يف‬ ‫متناهيــة‪ .‬ولقــد أوحــى التقــارب الواضــح‬
‫تأريــخ املنطــق الريــايض‪ ،‬ولقــد أ َّدى هــذا‬ ‫بــن فكــريت املجموعــة يف الرياضيــات‬
‫باإلضافــة إلهــال معظــم الرياضيــن يف‬ ‫والفئــة يف املنطــق بــر ِّد علــم الحســاب إىل‬
‫ذلــك الوقــت للنـــزعة الحدســية التي كان‬ ‫علــم أكــر منــه عموميــة هــو املنطــق»(((‪.‬‬
‫يدعــو لهــا بوانكاريــه وكورنكــر إىل النظــر‬
‫اللنهائيــة التــي‬ ‫يف نظريــة املجموعــات َّ‬ ‫إذن؛ مــع قيــام النـــزعة اللوجيســتيقية‬
‫َّأســس عليهــا فريجــه معــاره الفلســفي‬ ‫التــي تــرى أ َّن «البحــث يف الرياضيــات‬
‫اللنهــايئ فيهــا موجــود‬ ‫عــى أ َّن مفهــوم َّ‬ ‫وأصولهــا يتمثَّــل يف محاولــة الوصــول‬
‫خارجــي‪.‬‬ ‫أقــل عــد ٍد ممكــن مــن األفــكار‬ ‫إىل ِّ‬
‫والتعاريــف األساســية التــي تُـــعترب مبثابــة‬
‫ولقــد كان الهتــام املنطقــي اإلنجليــزي‬ ‫أصــول االشــتقاق‪ ،‬وبحيــث تســمح لنــا‬
‫برترانــد راســل مبؤلفــات فريغــه ورؤيتــه‬ ‫باشــتقاق أو اســتنباط الرياضيــات بأرسهــا‬
‫لفرادتهــا املنطقيــة رغــم صعوبــة نســقها‬ ‫منهــا»(((‪ ،‬واســتبعاد مفهــوم الحــدس‬
‫الهنــديس ودراســته لهــا تأثــر عليــه‪،‬‬
‫فاســتفاد منهــا حتــى كشــف راســل بعــد‬ ‫((( املرجع السابق‪( ،‬ص‪.)203 /‬‬
‫ذلــك عــن «أول هــذه الصعوبــات‪...‬‬ ‫((( ماهــر عبــد القــادر‪« ،‬فلســفة العلــوم»‪( ،‬املنطــق‬
‫والتــي ُســـ ِّميت فيــا بعــد (متناقضــة‬ ‫الريــايض)‪ ،‬بــروت‪ ،‬دار النهضــة العربيــة للطباعــة‬
‫والنــر‪1405( ،‬هـــ‪1985/‬م)‪.)52 / 3( ،‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫هــذا مــا نقــل راســل لفلســفته التحليليــة‬ ‫تخــص مشــكلة الفئــة‬


‫ُّ‬ ‫راســل)‪ ،‬وهــي‬
‫اللغويــة الذريــة الح ًقــا‪ ،‬فالتحليــل عنــده‬ ‫التــي ليســت عضــ ًوا يف ذاتهــا» ‪.‬‬
‫(((‬

‫لصورنــة اللغــة (فلــكل رمــز داللــة واحدة‬


‫فقط)‪.‬‬ ‫مثلــت هــذه املفارقــة هــ َّزة عنيفــة‬
‫لرائــد املنطــق الحديــث جوتلــوب‬
‫«ولقــد حــاول البعــض أمــام هــذه النتيجة‬ ‫فريغــه وللمنطــق الريــايض املؤســس‬
‫املخيبــة لآلمــال أن يرجعــوا ســبب هــذا‬ ‫عــى نظريــة كانتــور الخاصــة باملجاميــع‪،‬‬
‫التناقــض إىل أصلــه الكامــن يف مبــادئ‬ ‫وهــذه املفارقــة نشــأت عــن الخاصيــة‬
‫نظريــة املجاميــع نفســها‪ ،‬وأن يرفضــوا‬ ‫االنعكاســية (إشــارة القضيــة العامــة‬
‫بالتــايل هــذه النظريــة يف جملتهــا طالـــا‬ ‫لذاتهــا)‪ ،‬ويــرى راســل أ َّن هــذه املفارقــة‬
‫أنَّهــا تقودنــا إىل نتائــج تتنــاىف مــع مبــادئ‬ ‫مجــال أو منطًــا دالليًّــا إضافيًّــا‬
‫ً‬ ‫تســتلزم‬
‫ـر هــري بوانكاريــه ســبب‬ ‫املنطــق‪ .‬ويُفـ ِّ‬ ‫هــو (الفئــة الفارغــة)‪ ،‬والــذي أنتــج‬
‫وقــوع الكانتوريــن يف التناقــض بإرجاعــه‬ ‫الـ َّـا معنــى كقيمــة منطقيــة فيــا بعــد‪،‬‬
‫اللمتناهــي الحــايل‬ ‫إىل أنَّهــم نســوا أ َّن َّ‬ ‫ويــرى أيضً ــا أ َّن هــذه املفارقــة لــن تظهــر‬
‫غــر موجــود»(((‪.‬‬ ‫يف اللغــة الصوريــة التامــة‪ ،‬فهــي ســمة‬
‫للغــات الطبيعيــة فقــط؛ أل َّن املفارقــات‬
‫ترجع مشكلة أزمة األسس في‬ ‫تــرز يف اللغــة ناقصــة الرتكيــب حســب‬
‫الرياضيات لعدة اعتبارات‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫رصح بــأ َّن املفارقــات ليســت‬ ‫رؤيتــه؛ «إذ َّ‬
‫قضايــا حقيقيــة؛ لكونهــا غــر ســليمة‬
‫‪ -‬تـاريـخـــيًّا‪ ،‬كـــان وجــود املفارقــات يف‬ ‫ولعــل‬
‫َّ‬ ‫الرتكيــب وتقــوم عــى الــد ْور»(((‪،‬‬
‫النظريــات الفلســفية واألنســاق املعرفيــة‬
‫((( جــال حمــود‪« ،‬املنعطــف اللغــوي يف‬
‫الفلســفة املعــارصة»‪( ،‬برترانــد راســل منوذ ًجــا)‪،‬‬
‫األمــان‪ ،‬منشــورات االختــاف‪1436( ،‬هـــ‪2015/‬م)‪،‬‬ ‫الربــاط‪ ،‬منشــورات االختــاف‪ ،‬دار األمــان‪،‬‬
‫(ص‪.)160 /‬‬ ‫(‪1432‬هـــ‪2011/‬م)‪( ،‬ص‪.)22 /‬‬
‫((( روبــر بالنــي‪« ،‬نظريــة املعرفــة العلميــة»‪،‬‬ ‫((( حســان الباهــي‪« ،‬اللغــة واملنطــق»‪( ،‬بحــث‬
‫(اإلبســتمولوجيا)‪ ،‬مرجــع ســابق‪( ،‬ص‪.)205 /‬‬ ‫يف املفارقــات) بــروت‪ ،‬منشــورات ضفــاف‪ ،‬دار‬

‫‪73‬‬ ‫‪| 72‬‬


‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫مــن حلهــا هــو أنَّهــا كانــت تتعامــل معهــا‬ ‫فــر عــى أنَّــه أزمــة‬‫عنــد املناطقــة يُ َّ‬
‫وف ًقــا للمنطــق املاصدقــي الــذي يجعــل‬ ‫ومشــكلة تعــاين منهــا هــذه النظريــات‬
‫املفارقــة أمــ ًرا خار ًجــا عــن نســقها ال‬ ‫أو األنســاق ت ُــؤ ِّدي بهــا إىل االنهيــار‬
‫داخــا فيهــا‪ ،‬وهــذا أحــ ُد األوجــه التــي‬
‫ً‬ ‫التــام ألفكارهــا ومفاهميهــا‪ ،‬مـ َّـا جعــل‬
‫خالفتهــا فيــه مربهنــة كــورت غــودل يف‬ ‫املناطقــة قدميًــا يعتربونهــا مجــرد‬
‫عــدم االكتــال‪ ،‬فهــو تعامــل مــع مفهــوم‬ ‫مغالطــات وتالعبــات لفظيــة ال ارتبــاط‬
‫املفارقــة بإدخالهــا للمجــال التعريفــي‬ ‫لهــا بالتكويــن النســقي للمعرفــة‪ ،‬ومــن‬
‫للفكــر ال املجــال املاصدقــي الخارجــي أو‬ ‫ث َــ َّم تركــوا معالجتهــا والتعاطــي معهــا‬
‫االتســاق الداخــي‪.‬‬ ‫حتــى جــاء برترانــد راســل مبفارقتــه يف‬
‫بنيــة النســق املنطقــي‪ ،‬ولفتــت أنظــار‬
‫«فنحــن بالنســبة ملربهنــة عــدم االكتــال‬ ‫الرياضيــن واملناطقــة للتوقــف عــن‬
‫أمــام قضيــة تقــر بعــدم قابليتهــا‬ ‫اعتبــار املفارقــات مجــرد لعــب لفظــي‬
‫للربهنــة‪ ،‬األمــر الــذي يجعلهــا متاثــل‬ ‫فقــط‪ ،‬فانتقــل االهتــام لحلهــا وإيجــاد‬
‫مفارقــة الكــذاب مــع اختالفهــا مــن‬ ‫نظريــة معينــة خاصــة بهــا كــا حــاول‬
‫جهــة التعريــف عــوض الصــدق‪ ،‬فنحــن‬ ‫راســل يف نظريتــه عــن األمنــاط وتراتبيتهــا‬
‫نجــد أنفســنا أمــام قضيــة تثبــت بنفســها‬ ‫ومفهــوم الفئــة الفارغــة عنــده غــر أنَّــه‬
‫عــدم اشــتقاقها» مــن خاصيــة التضمــن يف‬ ‫وقــع يف نفــس مــا حــاول الفــرار منــه‪،‬‬
‫املنطــق الرمــزي‪ ،‬أو مــن قبليــات ســابقة‬ ‫فانفتــاح األمنــاط أ َّدى لتسلســلها الــذي‬
‫عــى الخــرة‪ ،‬وكذلــك أ َّدى انتقــال مفهــوم‬ ‫يتعــارض مــع مفهــوم اإلغــاق النســقي‬
‫املفارقــة مــن التعامــل والتعاطــي معــه‬ ‫يف النـــزعة اللوجيســتيقية الــذي يلتــزم‬
‫وفقًــا للصــدق املنطقــي إىل التعريــف‬ ‫مببــدأ الثالــث املرفــوع‪ ،‬وأيضً ــا تُــؤ ِّدي‬
‫الــذايت للفكــر أن تــم إدخــال مفهــوم‬ ‫جدليــة التــام النســقي والتسلســل‬
‫(الحــدس مــا بعــد الصــوري) يف الكشــف‬ ‫النمطــي إىل تناقــض واضــح‪ ،‬وهكــذا‬
‫عــن حــدود الصورنــة املنطقيــة للمعرفــة‬ ‫ســنعود للمفارقــة نفســها! مــا جعــل‬
‫وتجاوزهــا‪ ،‬ومــن ثَـ َّم «نجــد أنفســنا أمــام‬ ‫بــدل‬
‫نظريــة األمنــاط تنتهــي للمفارقــة ً‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫وكـــيفية تأثــر اللغــات الطبيعيــة يف‬ ‫ازدواجيــة تتمثــل مــن جهــة يف صعوبــة‬
‫ذواتنــا‪.‬‬ ‫االســتغناء الــكيل عــن الحــدس‪ ،‬ومــن‬
‫جهــة أخــرى أمــام التنــايف بــن مــا هــو‬
‫‪ -‬لقــد أ َّدت محــاوالت املنطــق الريــايض‬ ‫صــوري ومــا هــو حــديس»(((‪.‬‬
‫الصطنــاع لغــة فوقيــة تامــة وواصفــة‬
‫لكافــة مجــاالت املعرفــة لتشــعب‬ ‫‪ -‬مــن األســباب التــي أ َّدت ألزمــة األســس‬
‫وتع ُّمــق نظريــة املجاميــع الكانتوريــة‬ ‫الرياضيــة عــدم ربــط مفهــوم الحــدس‬
‫مــا جعــل‬
‫يف عمــوم النســق الصــوري َّ‬ ‫مبفهــوم الـ َّـا نهــايئ عنــد جــورج كانتــور‪،‬‬
‫أزمــة املفارقــات تنفــذ إىل كافــة النســق‬ ‫فقــد حــاول الكانتوريــون تكميــم مفهــوم‬
‫مــن جهــة‪ ،‬ومــن جهــة أخــرى‪ :‬إىل خلــق‬ ‫اللنهــايئ داخــل لغــة صوريــة متعاليــة‬ ‫َّ‬
‫االزدواجيــة بــن مــا هــو صــوري ومــا‬ ‫خاليــة مــن الخــرة والتجــارب اإلنســانية‬
‫هــو حــديس؛ ولذلــك‪ :‬كان الفيلســوف‬ ‫املتعــددة التــي تبتكــر أنوا ًعــا مختلفــة‬
‫ومتنوعــة مــن الحــدوس؛ إذ «العقــل‬
‫لقــد أ َّدت محــاوالت املنطق الريايض‬ ‫ليــس كون ًّيــا أو كل ًّيــا باملعنــى املتعــايل‪،‬‬
‫الصطنــاع لغــة فوقيــة تامــة وواصفة‬ ‫مبعنــى أنَّــه ليــس جــز ًءا مــن بنيــة الكــون‪.‬‬
‫لكافــة مجــاالت املعرفــة لتشــعب‬ ‫وكل؛ إذ إنَّــه عبــارة عــن‬ ‫غــر أنَّــه كــوين ِّ‬
‫وتع ُّمــق نظريــة املجاميــع الكانتورية‬ ‫مقــدرة تشــرك فيهــا بصــورة كليــة ك ُُّل‬
‫يف عمــوم النســق الصــوري‪.‬‬ ‫قتســمة‬‫الكائنــات البرشيــة‪ ،‬ومــا يجعلها ُم َ‬
‫بــن البــر هــو تلــك املشــركات التــي‬
‫تجســد أذهاننــا»(((‪،‬‬‫تكمــن يف كيفيــة ُّ‬
‫النمســاوي لودفيــج فتجنشــتني يُعــارض‬
‫((( حســان الباهــي‪« ،‬اللغــة واملنطــق»‪( ،‬بحــث يف‬
‫اللغــة الصوريــة يف كتابــه «تحقيقــات‬ ‫املفارقــات)‪ ،‬مرجــع ســابق‪( ،‬ص‪.)215 /‬‬
‫فلســفية»؛ إذ رأى أ َّن اللغــات الطبيعيــة‬ ‫((( جــورج اليكــوف‪ ،‬ومــارك جونســون‪ ،‬ترجمــة عبــد‬
‫بقدرتهــا عــى احتــواء املفارقات وتشــكيل‬ ‫الحميــد جحفــة‪« ،‬الفلســفة يف الجســد»‪( ،‬الذهــن‬
‫الــذات الواعيــة عــر الســياق اللغــوي‬ ‫املتجســد وتحديــه للفكــر الغــريب)‪ ،‬بــروت‪ ،‬دار‬
‫الكتــاب الجديــد‪2016( ،‬م)‪( ،‬ص‪.)39 /‬‬

‫‪75‬‬ ‫‪| 74‬‬


‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫اإليجــاب والســلب يف نهايــة تحليلهــم‬ ‫االجتامعــي‪ ،‬مـ َّـا يجعــل الحــدس بوصفــه‬
‫لهــا‪ ،‬واإليجــاب والســلب يرجــع بــدوره‬ ‫وعيًــا ‪-‬ســواء كان مــا قبــل صــوري أو مــا‬
‫إىل كونهــا تحصيــل حاصــل‪ ،‬ال تخــر عــن‬ ‫بعــده‪ -‬يُكـ ِّون نشــاطًا اجتامع ًّيــا‪ ،‬أو شــكل‬
‫يشء كــا بـ َّـن ذلــك فتجنشــتني؛ ولذلــك‪:‬‬ ‫حيــاة كــا يعــر فتجنشــتني؛ ولذلــك‪:‬‬
‫نفهــم اطِّـ َراد منهــج بوانكاريــه الحديس يف‬ ‫اكتفــى بالوصــف عــن التقعيــد‪ ،‬غــر أ َّن‬
‫معارضتــه ملبــدأ الثالــث املرفــوع‪ ،‬وانتقــال‬ ‫هــذا الفهــم يكشــف عــن تســاؤل مه ـ ٍّم؛‬
‫االهتــام عنــد فتجنشــتني مــن اللغــة‬ ‫وهــو‪ :‬إذا كان املعنــى ســياق ًّيا داخــل‬
‫الصوريــة إىل اللغــات الطبيعيــة‪« ،‬فــإذا‬ ‫لعبــة لغويــة مــا والحــدس خــرة إنســانية‬
‫كنــا نحــدد التناقــض يف كونــه إثبــات‬ ‫معينــة أال يلــزم مــن هــذا بــأن ينحــر‬
‫خاصيتــن متناقضتــن ملوضــوع واحــد؛‬ ‫املعنــى يف تأمــل اســتبطاين داخــي‪ ،‬وهــو‬
‫فهــذا ينطبــق عــى التناقــض الصــوري‪،‬‬ ‫مــا يــرد عليــه فتجنشــتني يف فلســفته‬
‫وليــس عــى التناقــض الطبيعــي‪ ،‬فبعــض‬ ‫الثانيــة؟ ســنجيب عــن هــذا اإلشــكال‬
‫القضايــا التــي نســلم بتناقضهــا منطق ًّيــا‬ ‫الحـ ـقًا بــإذن اللــه‪.‬‬
‫تبــدو غــر ذلــك عــى مســتوى الخطــاب‬
‫الطبيعــي‪ ،‬بــل إ َّن بعــض العبــارات‬ ‫‪ -‬ذكرنــا أ َّن دراســة املناطقــة والرياضيــن‬
‫املتناقضــة يف املنطــق تبــدو مفيــدة يف‬ ‫ملفهــوم املفارقــة تاريخ ًّيــا تعــود إىل‬
‫ســياق الخطــاب الطبيعــي‪ ،‬وهــو مــا‬ ‫حرصهــم للمفارقــات يف تحققهــا‬
‫اســتنتجه بعــض الذيــن دعــوا إىل اســتبعاد‬ ‫املاصدقي‪ ،‬ســواء كان يف الوجــود الذهني‪،‬‬
‫التناقــض مبفهومــه الكالســييك»(((‪ ،‬فمبــدأ‬ ‫أو الوجــود الخارجــي؛ ولذلــك‪ :‬التزمــوا‬
‫عــدم التناقــض وفهمــه عــر مبــدأ الثالــث‬ ‫مبفهــوم االتســاق؛ أل َّن مفهــوم املاصــدق‬
‫املرفــوع يحــر مفهــوم الحــدس‪ ،‬وال‬ ‫يف املنطــق الصــوري يفرضــه عليهــم‬
‫يجعلــه يرتقَّــى ويتطــور يف ســياقات‬ ‫مــن جهــة أ َّن املاصــدق مرتبــط مببــدأ‬
‫الخــرة اإلنســانية‪.‬‬ ‫الثالــث املرفــوع املشــتق مــن مبــدأ عــدم‬
‫التناقــض الــذي يلزمهــم باتســاق القضايــا‬
‫((( حســان الباهــي‪« ،‬اللغــة واملنطــق»‪( ،‬بحــث يف‬ ‫يف اللغــة الصوريــة‪ ،‬فليــس فيهــا غــر‬
‫املفارقــات)‪ ،‬مرجــع ســابق‪( ،‬ص‪.)219 /‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫تعاملــوا مــع الفكــر اإلنســاين بالنســق‬ ‫‪ -‬مــن األســباب التــي دفعــت لتشــعب‬
‫املعجمــي الــذي يرجــع القضايــا إىل‬ ‫املـفـارقـــات يف الـعـقـالنـيـة الـريـاضـيـة‬
‫مفــردات ُمنـتـــزعة مــن الخطاب اللســاين‬ ‫الصوريــة هــو اعتامدهــا يف بنيتهــا‬
‫بــدلً مــن التعامــل مــع خطــاب لغــوي‬ ‫العميقــة ‪-‬باإلضافــة للمبــادئ املنطقيــة‬
‫طبيعــي‪ ،‬فالتعامــل مــع الفكــر اإلنســاين‬ ‫الثالثــة املعروفــة‪ -‬عــى تشــكيل عقــل‬
‫عــى أنَّــه مفــردات معجميــة يوهــم‬ ‫كيل مطلــق تخضــع لــه العقــول األخــرى‪،‬‬
‫الذهــن مبقابلــة بعضهــا لبعــض ال كــا‬ ‫ووقــوع املفارقــات يف العقالنيــة الصوريــة‬
‫هــي يف الحقيقــة متســاوقة ومتســايرة‬ ‫الواحديــة يدفعهــم للخــروج عنهــا؛ إذ‬
‫داخــل ســياقات ورسديــات تحــي الخــرة‬ ‫مفهــوم املفارقــة يُن ِّبــئ عــن تقاطــع‬
‫اإلنســانية يف ســعيها للضبــط واإلحــكام‬ ‫مــا‬
‫عوالـــم العقــول األخــرى فيهــا َّ‬
‫مــن جهــة‪ ،‬وتتجاوزهــا وتتخطاهــا مــن‬ ‫يســتلزم مــن املنطقــي لــرى ويفهــم‬
‫جهــة أخــرى‪ ،‬وهــذا كفعــل مفهــوم‬ ‫هــذه التقاطعــات املعرفيــة والفــروق‬
‫الحــدس يف املعرفــة البرشيــة؛ إذ يدفعهــا‬ ‫العقليــة يف كافــة األنســاق والنظريــات أن‬
‫لفــرض صــور ذهنيــة مــن جهــة‪ ،‬ومــن‬ ‫يخــرج مــن ردائــه الصــارم منطق ًّيــا‪ ،‬وهــو‬
‫جهــة أخــرى يُعتــق املفاهيــم من األســوار‬ ‫مــا يهــدم عليــه نســقه الصــوري الواحدي‪،‬‬
‫واألبنيــة الرياضيــة التــي تعصــم العقــل‬ ‫بيــد أنَّنــا بإدخــال مفهــوم الحــدس يف‬
‫عــن فعلــه!‬ ‫املعرفــة البرشيــة ‪-‬كــا فعــل غــودل مــن‬
‫خــال مربهنــة عــدم االكتــال واعرتافــه‬
‫لقــد اســتطردنا مــع مفهــوم املفارقــة‬ ‫باملفارقــة داخــل املنظومــة العلميــة‪-‬‬
‫وارتباطهــا مــع املدخــل املنطقــي‬ ‫نكشــف عــن الحــدود الفكريــة واألطــر‬
‫ُبــن أ َّن بنيــة مفهــوم‬ ‫الريــايض حتــى ن ِّ‬ ‫النظريــة‪ ،‬وتجــاوز مــا ميكــن تجــاوزه‪،‬‬
‫الحــدس تكمــن يف املفارقــات التــي‬ ‫والصمــت عــن مــا ال ميكــن تجــاوزه‪.‬‬
‫حــاول املناطقــة والرياضيــون اســتبعادها‪،‬‬
‫فبهــا ‪-‬أي‪ :‬املفارقــات‪ -‬نســتطيع مقاربتــه‬ ‫‪ -‬مــن العلــل التــي أ َّدت إىل تشــعب‬
‫وتحليلــه؛ إذ مبفهــوم الـ َّـا نهــايئ نُبـ ِّـن فعل‬ ‫املفارقــات يف املنطــق الصــوري‪ :‬أنَّهــم‬

‫‪77‬‬ ‫‪| 76‬‬


‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫«ميتــاز مصطلــح (لعبــة اللغــة) بالنســبة‬ ‫املفارقــة يف املعرفــة وأثرهــا‪ ،‬وباملفارقــة‬


‫لفتجنشــتني مبيزتــن عــى مصطلــح‬ ‫نصــف الحــدس كفعــل تجــاوزي فيهــا‪،‬‬
‫أول وقبــل كل يشء يوحــي‬ ‫(النســق)‪ً ،‬‬ ‫ومــن األمــور التــي يتوافــق فيهــا مفهــوم‬
‫مصطلــح «لعبــة اللغــة» أ َّن اللغــة يجــب‬ ‫املفارقــة مــع مفهــوم الحــدس أنَّهــا‬
‫فهمهــا عــى أنَّهــا فاعليــة‪ ،‬ويكتــب فيــا‬ ‫ال يرضخــان ملاهيــة ضبطيــة‪ ،‬كــا هــو‬
‫بعــد‪ :‬تتألــف ألعــاب اللغــة مــن أفعــال‬ ‫األمــر يف النســق املعجمــي‪ ،‬أو املنطــق‬
‫متواتــرة للعــب عــر الزمــان‪ ،‬ومــن حيــث‬ ‫الــذري‪ ،‬فالتجــاوز والتخطــي للضَّ بــط‬
‫هــي كذلــك؛ فهــي ديناميــة وتتغــر عــى‬ ‫والحـ ِّد فعلهــا‪ ،‬والتفاعــل مــع املتغـرات‬
‫األرجــح عــى طــول الزمــان‪...‬‬ ‫عملهــا‪ ،‬فالخــرة واملعرفــة اإلنســانية‬
‫ليســت حبيســة نســق معــن أو منهــج‬
‫ويُوحــي مصطلــح «لعبــة اللغــة» أيضً ــا‬ ‫حــدي‪ ،‬فــا نحــاول مقاربتــه وفهمــه‬ ‫ٍّ‬
‫بــأ َّن هــذه الفاعليــات‪ ،‬مثــل األلعــاب‬ ‫أنَّــه ليــس ملفهــوم الحــدس تعريــف‪،‬‬
‫ـص مــا‬‫األخــرى‪ ،‬تحكمهــا قواعــد وأن أخـ َّ‬ ‫بــل وصــف‪ ،‬فتعريــف الحــدس وإدخالــه‬
‫متتــاز بــه ألعــاب اللغــة هــو قواعدهــا‬ ‫يف حــ ٍّد مفهومــي أو صــوري يُفــرغ‬
‫الخاصــة‪ ،‬وهــذا ال يعنــي أ َّن القواعــد‬ ‫منــه حقيقتــه وكُنهــه؛ ولذلــك نقــارب‬
‫تعمــل بالطريقــة نفســها يف كل ألعــاب‬ ‫الحــدس بوصــف مفهــوم املفارقــة‪ ،‬كــا‬
‫اللغــة»(((‪.‬‬ ‫حــاول الفيلســوف النمســاوي لودفيــج‬
‫فتجنشــتني يف مقاربتــه ملفهــوم (األلعــاب‬
‫إ َّن املتأمــل يــرى كثــ ًرا مــن التشــابهات‬ ‫اللغويــة) عــن طريــق مفارقــة كومــة‬
‫والتقاطعــات بــن مفهــوم (الحــدس)‬ ‫الرمــل‪ ،‬فليــس لأللعــاب اللغويــة عنــده‬
‫ومفهــوم (اللعــب اللغــوي)‪ ،‬فالحــدس‬ ‫واضــح‪ ،‬فهــي‬
‫ٌ‬ ‫تعريــف‬
‫ٌ‬ ‫ماهــوي أو‬
‫ٌّ‬ ‫حــ ٌّد‬
‫يكــ ِّون صــورة ذهنيــة عــر قــراءة‬ ‫ال تتموضــع يف قالــب واحــد‪ ،‬أو موقــع‬
‫ُمعـ َّـن‪ ،‬بــل تتنــوع ويتشــابه بعضهــا مــع‬
‫((( هانــس ســلوجا‪ ،‬ترجمــة صــاح إســاعيل‪،‬‬ ‫بعــض يف أوصــاف‪ ،‬وتفــرق يف أوصــاف‬
‫فتجنشــتني‪« ،‬سلســلة عقــول عظيمــة»‪ ،‬القاهــرة‪،‬‬ ‫أخــرى‪ ،‬يقــول هانــس ســلوجا عــن ذلــك‪:‬‬
‫املركــز القومــي للرتجمــة‪2014( ،‬م)‪( ،‬ص‪.)127 /‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫وهكــذا‪ ،‬ومفهــوم الوصــف تعبــر بيــذايت‪،‬‬ ‫العالمــات والرمــوز داخــل اللعــب‬


‫ينبــت مــن داخــل لعبــة اللغــة‬
‫ُ‬ ‫وفعــل‬ ‫اللغــوي والســياق الســيميايئ؛ ألنَّــه يُــؤ َّدى‬
‫التواصليــة؛ إذ نشــوء لعبــة لغويــة يفتقــر‬ ‫داخــل منــط مــا لدفــع املفاهيــم خارجــه‪،‬‬
‫إىل الغــر وتفاعلــه‪ ،‬ونجيــب هنــا كذلــك‬ ‫ـدل‬‫بخــاف االســتنباط الصــوري الــذي تـ ُّ‬
‫عــن اإلشــكال الســابق الــذي أوردنــاه‬ ‫فيــه املفــردة عــن غريهــا عــر مفهــوم‬
‫أعــاه الرتبــاط تلــك اإلشــكالية بهــذا‬ ‫التضمــن‪ ،‬لكــن الحــدس يدخــل مرحلــة‬
‫املوضــع أكــر‪ ،‬وهــو بصيغــة أخــرى‪ :‬إذا‬ ‫أعمــق حينــا يكشــف عــن مفارقــة‬
‫كان املعنــى الــذي يكشــفه الحــدس مــن‬ ‫تنســاب يف اللغــة الطبيعيــة وترميزاتهــا‬
‫نفــوذه يف لعبــة لغويــة ســياق ًّيا‪ ،‬وهــو‬ ‫االجتامعيــة‪ ،‬فاملفارقــة تُش ـكِّل لقــا ًء بــن‬
‫خــرة إنســانية متعينــة‪َ ،‬أل يلــزم مــن هذا‬ ‫عاملــن لغويــن متعايشــن داخــل لعبــة‬
‫بــأن ينحــر املعنــى يف تأمــل اســتبطاين‬ ‫لغويــة‪ ،‬ومــا يفعلــه الحــدس هــو النفــوذ‬
‫داخــي‪ ،‬وهــذا مــا يتعــارض مــع مفهــوم‬ ‫عــر هــذه املفارقــة يف اللعبــة اللغويــة؛‬
‫األلعــاب اللغويــة يف فلســفة فتجنشــتني‬ ‫لتشــكيل لعبــة لغويــة أخــرى فنمــوذج‬
‫الثانيــة؟‬ ‫فكــري جديــد‪ ،‬لك َّنــه حتــى يســتطيع‬
‫النفــوذ يحتــاج لتســمية بعــض مـ َّـا يـراه‬
‫فسنــا‬
‫يَ ـ ِر ُد هــذا اإلشــكال يف الذهــنِ إذا َّ‬ ‫يف ذلــك العالـــم‪ ،‬فيدنــو منــه وينكشــف‬
‫اكتســاب اللغــة الطبيعيــة التــي تحــوي‬ ‫لــه؛ إذ «التســمية متهيــد للوصــف»(((‪،‬‬
‫املفارقــات والحــدوس بالتأمل االســتبطاين‪،‬‬ ‫لك َّننــا نقــول هنــا كــا قلنــا يف إشــكالية‬
‫كــا حــاول فتجنشــتني يف فلســفته األوىل‬ ‫مفهومــي التصــور والتصديــق أعــاه إ َّن‬
‫تفســر اكتســابها عــر (األنــا وحديــة)‪،‬‬ ‫بــن مفهومــي التســمية والوصــف دو ًرا‬
‫لكــن ارتبــاط الحــدس باملفارقــة يتعــارض‬ ‫اقرتانيًــا رشطيًــا أيضً ــا‪ ،‬فيســتحيل تســمية‬
‫را يف (أنــا‬ ‫مــع كــ ْون املعنــى منحــ ً‬ ‫يشء مــا لـــم ندركــه‪ ،‬وحتــى نــدرك‬
‫وحديــة) تســتبطن املعــاين واملفاهيــم؛‬ ‫ذلــك الــيء املجهــول؛ فإنَّنــا نصفــه‬
‫ألنَّــه بذلــك يفــرض نسـقًا فكريًّــا ال يقبــل‬
‫املفارقــات فيــه‪ ،‬ويتعامــل معهــا عــى‬ ‫((( لودفيــج فتجنشــتني‪« ،‬تحقيقــات فلســفية»‪،‬‬
‫مرجــع ســابق‪( ،‬ص‪.)159 /‬‬

‫‪79‬‬ ‫‪| 78‬‬


‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫يشء مــا مــن بعيــد؛ فــإ َّن هــذا الوصــف‬ ‫أنَّهــا آف ـ ٌة وأزم ـ ٌة ينبغــي التخلــص منهــا‬
‫لــن يصبــح أدق إن أرشت إىل مــا ميكــن‬ ‫ال كــا تتعامــل معهــا نظريــة اللعــب‬
‫رؤيتــه يف ذلــك الــيء عندمــا ننظــر إليــه‬ ‫اللغــوي‪« ،‬ويســتنتج فتجنشــتني أ َّن القائل‬
‫عــن كثــب»(((‪.‬‬ ‫باألنــا وحديــة ليــس هــو الــذي اكتشــف‬
‫حقيقــة جديــدة عــن الواقــع والعقــل‪،‬‬
‫ال يســعى مفهــوم الحــدس لســكب‬ ‫وإنَّ ــا هــو الشــخص الــذي أغــري إغ ـراء‬
‫األلفــاظ وتدقيــق التعابــر يف أنســاق‬ ‫ال ســبيل إىل مقاومتــه باســتعامل صيغــة‬
‫إكســيومتكية‪ ،‬أو تحديــد املرجعيــة‬ ‫معينــة للتعبــر‪.‬‬
‫املاصدقيــة يف الخــارج أو إحالــة القضايــا‬
‫الذريــة إىل الوقائــع‪ ،‬وبهــذا نفهــم علَّــة‬ ‫ويظهــر هذا اإلغـراء؛ أل َّن طرائقنــا العادية‬
‫اكتفــاء فتجنشــتني يف كتابــه «تحقيقــات‬ ‫يف الــكالم متســك العقــل عــى نحــو صــارم‬
‫فلســفية» بالوصــف اللغــوي لألنشــطة‬ ‫يف وضــع واحــد‪ ،‬ونشــعر أحيانًــا أنَّنــا يف‬
‫املعرفيــة واألنظمــة الســميائية‪ ،‬فللوصــف‬ ‫ضيــق مــن التفكــر بســبب هــذا القيــد(((؛‬
‫إمكانيــة اســتيعاب التعــدد الهائــل‬ ‫ولذلــك‪ :‬فــإ َّن الحــدس خالفًــا لِ َ‬
‫ـــا كان‬
‫للمعــارف والخــرات‪ ،‬وإدراك الفروقــات‬ ‫عليــه مفهومــه القديــم يف أنَّــه إلهــام‬
‫والتناظــرات عــر التشــابه األرسي‬ ‫نــوراين إرشاقــي ال تــازم فيــه مــع أشــكال‬
‫لأللعــاب اللغويــة‪ ،‬ومــن يقــرأ كتــاب‬ ‫الحيــاة البرشيــة وتجلياتهــا‪ ،‬بــل هــو يف‬
‫«التحقيقــات» يالحــظ تعــدد األصــوات‬ ‫حقيقتــه شــكل متجــدد لحيــاة اإلنســان‪،‬‬
‫داخــل فقراتــه وبــن ســطوره‪ ،‬فهنــاك أكرث‬ ‫وتفــ ُّر ٌع مــن جــذور اللعــب اللغــوي‬
‫مــن فتجنشــتني صوت ًّيــا وعقل ًّيــا‪ ،‬فتعــدد‬ ‫املتشــعب يف الســياقات الســميائية داخــل‬
‫األصــوات يُنبِّــئ عــن تعــدد األمنــاط‬ ‫املجتمعــات؛ ولذلــك يقــول فتجنشــتني‪:‬‬
‫العقليــة‪ ،‬ومــا يجعلــه يتنقــل عــر هــذه‬
‫األمنــاط الفكريــة والســياقات املختلفــة‬ ‫ي أن أصــف كيــف يبــدو يل‬
‫«إن كان عــ َّ‬
‫((( لودفيــج فتجنشــتني‪« ،‬تحقيقيــات فلســفية»‪،‬‬ ‫((( هانــس ســلوجا‪« ،‬فتجنشــتني»‪ ،‬مرجــع ســابق‪،‬‬
‫مرجــع ســابق‪( ،‬ص‪.)230 /‬‬ ‫(ص‪.)131 /‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫عــى أساســه العنــر املتحقــق‪ .‬ويُعــ ُّد‬ ‫هــو ‪-‬أ َّو ًل وقبــل كل يشء‪ -‬اعرتافــه‬
‫هــذا الفعــل مــن زاويــة الســميوز‪ ،‬عــاد ًة‬ ‫مبفهومــي املفارقــات والحــدوس‪ ،‬فهــي‬
‫داخــل اإلنســان‪ ،‬وقانونًــا داخــل املجتمــع‪،‬‬ ‫تر ّحــل الفكــر بــن عقليــات متاميــزة‪،‬‬
‫وبعبــارة أخــرى‪ :‬إ َّن األمــر يتعلــق بالنظــر‬ ‫لكــن لجعــل هــذه العقــول تُــؤ ِّدي نتا ًجــا‬
‫إىل الداللــة باعتبارهــا فعـ ًـا ينجــز داخــل‬ ‫فكريًّــا ذا معنــى فــا ب ـ َّد مــن إجرائيتهــا‪،‬‬
‫ســرورة‪ ،‬ال معطــى جاهـ ًزا يوجــد بشــكل‬ ‫وإل انفصم‬ ‫وأل تـــؤول إىل ذاتيــة حقيقية‪َّ ،‬‬ ‫َّ‬
‫كثــر‬
‫ســابق عــى املعرفــة»(((‪ ،‬ويخلــط ٌ‬ ‫العقــل وتشـظَّى الحدس إىل مفــردات غري‬
‫مــن ال ُق ـ َّراء بــن النهائيــة الــدالالت عنــد‬ ‫ذات معنــى ومحتــوى‪ ،‬والتعــدد الصــويت‬
‫الفيلســوف الفرنــي جــاك دريــدا مــع‬ ‫الزم عــريض إلدخــال مفهــوم الوصــف يف‬
‫مفهــوم الســميوز عنــد شــارل بــورس‪،‬‬ ‫املنظومــة العلميــة‪ ،‬كــا نحــاول هنــا يف‬
‫ويكمــن الفــرق بينهــا يف‬ ‫إدخــال مفهــوم الحــدس يف املنظومــة‬
‫املعرفيــة؛ إذ كالهــا يلتقــي بعقليــات‬
‫يخلــط كثــ ٌر مــن القُــ َّراء بــن‬ ‫وذوات إجرائيــة‪ ،‬فريقــى بهــا ويتســع يف‬
‫النهائيــة الــدالالت عنــد الفيلســوف‬ ‫عواملهــا؛ ولذلــك‪:‬‬
‫الفرنــي جــاك دريــدا مــع مفهــوم‬
‫الســميوز عنــد شــارل بــورس‪.‬‬ ‫نــدرك أ َّن وصفنــا ملفهوم الحــدس كفعالية‬
‫وســرورة تقــرب أيضً ــا مــن إنتاجيــة‬
‫أ َّن دريــدا يتعامــل مــع األلفــاظ بفكــر‬ ‫مفهــوم الســميوز عنــد الفيلســوف‬
‫معجمــي ال ســياقي‪ ،‬كــا يفعلــه مفهــوم‬ ‫األمريــي شــارل س‪ .‬بــورس مــن حيــث إ َّن‬
‫الســميوز‪« ،‬فلــم يكــن بــورس يتصــ َّور‬ ‫«الســميوز يف معناهــا العــادي واملبــارش‬
‫إمكانيــة تحــول هــذه الفكــرة إىل عقيــدة‬ ‫ســرورة متحركــة إلنتــاج الداللــة وتداولها‬
‫واســتهالكها‪ ،‬ســرورة ســتنتهي إىل‬
‫((( ســعيد بنكــراد‪« ،‬الســميائيات والتأويــل»‪،‬‬ ‫الذوبــان يف فعــل يتقمــص مظهــر العــادة‬
‫(مدخــل لســميائيات ش‪.‬س‪ .‬بــورس)‪ ،‬املركــز‬ ‫والقيــم والتقاليــد وكل أشــكال الســلوك‬
‫الثقــايف العــريب‪ ،‬الــدار البيضــاء‪2005( ،‬م)‪( ،‬ص‪/‬‬ ‫التــي تتحــول مــع الزمــن إىل معيــار يبنــى‬
‫‪.)173‬‬

‫‪81‬‬ ‫‪| 80‬‬


‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫عوالـــم الوعــي والــذوات اإلجرائيــة‬ ‫تجعــل مــن كل التأويــات أم ـ ًرا ممك ًنــا‪،‬‬
‫البتــكار معــان أخــرى‪ ،‬وأيضً ــا لكشــف‬ ‫ذلــك أنَّــه هــو نفســه كان يتحــدث وهــو‬
‫أحــدى خــواص مفهــوم الحــدس وهــي‬ ‫يربهــن عــى ال نهائيــة اإلحــاالت عــن‬
‫(الخاصيــة االســتعارية)‪ ،‬ففيــه منهــا‬ ‫إمكانيــة وضــع حـ ٍّد لهــذه الســرورة مــن‬
‫‪-‬كــا رأينــا أعــاه‪ -‬انســيابيتها يف األلعــاب‬ ‫خــال اإلشــارة إىل فعــل تــداويل ينتجــه‬
‫اللغويــة‪ ،‬واندفاعهــا يف املفارقــات‪،‬‬ ‫الســياق وتقبــل بــه الــذات املـــؤ ّولة»(((‪،‬‬
‫ورشــاقتها يف التنقــل بــن العقــول‪،‬‬ ‫وكذلــك الحــدس ميكــن اســتخالص معنــاه‬
‫وتق ُّنعهــا يف أوجــه متكــرة لـ ُـري للناظــر‬ ‫فعــا ونشــاطًا إنســان ًّيا‬
‫ومــراده بوصفــه ً‬
‫فاعليتهــا وآثارهــا‪ ،‬إ َّن الحــدس كاســتعارة‬ ‫داخــل مجــال تــداويل؛ إذ لــو ت ـ َّم حــر‬
‫يســتدعي األلفــاظ‪« ،‬واأللفــاظ تســتدعي‬ ‫الحــدس يف ال نهائيــة إحاليــة باملفهــوم‬
‫صــورة‪ ،‬والصــورة تــأيت ُمح َّملــة مبعرفــة‪،‬‬ ‫التفكيــي لـــم يكــن لــه معنــى مــراد‪،‬‬
‫واالســتعارات التواضُ عيــة ت َنســخ األج ـزاء‬ ‫ومــن ليــس لــه مطلــوب يريــده امتنــع‬
‫املالمئــة مــن هــذه املعرفــة يف املجــال‪-‬‬ ‫عــن بنــاء ســياق‪ ،‬فللحــدس حيــاة يُقيمها‪.‬‬
‫الهــدف‪ ،‬والحصيلــة هي معنى املسـكُوك؛‬
‫وعليــه‪ :‬فــإ َّن املس ـكُوك االســتعاري ليــس‬ ‫خالصات استعارية‪:‬‬
‫مجـ َّرد تعبــر لغــوي عــن نســخ اســتعاري‪.‬‬
‫إنَّــه التعبــر اللُّغــوي عــن صــورة‪ ،‬إضافــة‬ ‫‪ -‬لقــد اســتعرنا عــر الــرد الســابق‬
‫إىل معرفــة حــول هــذه الصــورة»(((‪.‬‬ ‫بعــض املفاهيــم الفلســفية واملصطلحــات‬
‫املعرفيــة مــن فــروع علميــة متنوعــة‬
‫‪ -‬ذكرنــا ســابقًا فاعليــة الحــدس يف اخرتاقه‬ ‫ملقاربــة مفهــوم الحــدس ووصفــه‪،‬‬
‫للضبــط الصــوري‪ ،‬وتوغلــه يف املفارقــات‪،‬‬ ‫والكشــف عــن إمكانياتــه وقدرتــه‪ ،‬وب َّي َّنــا‬
‫واخرتاعــه ملعــان ودالالت عــر خاصيــة‬ ‫أ َّن الحــدس ســرورة إنســانية تندمــج‬
‫يف الوعــي اإلنســاين مــن خــال اللعــب‬
‫((( جــورج اليكــوف‪ ،‬ومــارك جونســون‪« ،‬الفلســفة‬ ‫اللغــوي‪ ،‬وإمكانيتــه عــى التنقــل بــن‬
‫يف الجســد»‪( ،‬الذهــن املتجســد وتحديــه للفكــر‬
‫الغــريب)‪ ،‬مرجــع ســابق‪( ،‬ص‪.)118 /‬‬ ‫((( املرجع السابق‪( ،‬ص‪.)130 /‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫فــإ َّن االســتعارة مــن مجــال تــداويل إىل‬ ‫اللعــب اللغــوي فيــه‪ ،‬فهــو ال يكتفــي‬
‫آخــر تكثــف الســياق املعــريف والصــور‬ ‫بالوصــول إىل مفــردة معينــة حتــى يدفــع‬
‫اإلدراكيــة يف حكايــة لفظيــة وحديــث‬ ‫بــه فعلــه إىل أخــرى بتكامــل ســياقي؛‬
‫لغــوي ينطلــق الحــدس منــه إىل تــازم‬ ‫أساســا‬
‫وعليــه‪ :‬فإنَّنــا «نستشــهد هنــا ً‬
‫املعــاين والــدالالت حتــى يشــكل حيــاة‬ ‫باالســتعارة التــي تظهــر ُســبل تجــاوز‬
‫باملفهــوم الفتجنشــتيني‪« ،‬ويف التــازم‬ ‫املنطــق التقليــدي‪ ،‬فوضعهــا وخصوصيتها‬
‫معنــى التفاعــل‪ ،‬فتــازم طرفــن يجعــل‬ ‫يســمحان بخــرق املبــادئ الثالثــة التــي‬
‫َّ‬
‫نســتدل بــك ٍُّل منهــا‬ ‫مــن املمكــن أن‬ ‫قــام عليهــا املنطــق التقليدي‪ .‬فبواســطتها‬
‫عــى اآلخــر‪ ،‬فيســتدل املســتدل مبــا علمــه‬ ‫ميكــن خــرق مبــدأ الهويــة؛ حيــث نســند‬
‫منهــا عــى اآلخــر الــذي ال يعلمــه»(((‪،‬‬ ‫لأللفــاظ معنــى يختلــف عــن املعنــى‬
‫فالحــدس بوصفــه اســتعارة يجـ ِّـي اللــوازم‬ ‫الــذي وضعــت لــه يف االصطــاح‪.‬‬
‫بــن ال َحيَــوات اإلنســانية‪ ،‬ويُظهــر املعــاين‬
‫املســترتة‪ ،‬فاالســتعارة تزيــح ِســتار املعنى‪.‬‬ ‫كــا تخــرق مبــدأ عــدم التناقــض يف حالــة‬
‫تصورنــا لعالـــم غري متســق‪ ،‬عالـــم يصدق‬
‫‪ -‬قــد يظــ ُّن بعــض القــراء أ َّن فاعليــة‬ ‫فيــه القــول ونقيضه‪.‬‬
‫ســليم‬
‫ً‬ ‫الحــدس اعتباطيــة‪ ،‬وهــذا ليــس‬
‫البتــة؛ أل َّن ‪-‬كــا رشحنــا أعــاه‪ -‬يف تحليلنــا‬ ‫وأخــ ًرا‪ :‬تخــرق مبــدأ الثالــث املرفــوع‬
‫إلشــكالية املســار املثــايل واملســار املــادي‬ ‫بتصورنــا لعالـــم غــر تــام‪ ،‬حيــث يأخــذ‬
‫ذكرنــا أ َّن مفهومــي التصــور والتصديــق‬ ‫بقضيــة ال تصــدق وال تكــذب فيــه»(((‪.‬‬
‫يف حقيقــة عالقتهــا د ْور اقـراين رشطــي‪،‬‬ ‫‪ -‬للخاصيــة االســتعارية يف مفهــوم الحدس‬
‫فــإذا كان الحــدس كذلــك باإلضافــة لك ْونه‬ ‫كثافــة يصعــب ضبطهــا وصورنتهــا‪،‬‬
‫وعيًــا بيذاتيًــا وتالز ًمــا اســتعاريًا‪ ،‬المتنعــت‬ ‫فالتكثيــف يف اإلعــارة يُولِّــد الــدالالت عــر‬
‫التــداول اللغــوي وتالزمــه؛ وعليــه‪:‬‬
‫((( توفيــق فائــزي‪« ،‬االســتعارة والنــص الفلســفي»‪،‬‬
‫دار الكتــاب الجديــد املتحــدة‪ ،‬بــروت‪2016( ،‬م)‪،‬‬ ‫((( حســان الباهــي‪« ،‬اللغــة واملنطــق»‪( ،‬بحــث يف‬
‫(ص‪.)250 /‬‬ ‫املفارقــات)‪ ،‬مرجــع ســابق‪( ،‬ص‪.)220 /‬‬

‫‪83‬‬ ‫‪| 82‬‬


‫دورية نماء لعلوم الوحي والدراسات اإلنسانية‬

‫ختام ًا ‪:‬‬ ‫اعتباطيتــه؛ إذ ليســت لالعتباطيــة‬


‫بــن املفاهيــم تــازم وإعــارات‪ ،‬ثــم إ َّن‬
‫نقــول‪ :‬إ َّن وصــف مفهــوم الحــدس‬ ‫االعتبــاط عشــوايئ؛ والحــدس كشــكل‬
‫ولوازمــه ومــا تعلــق بــه مــن مفاهيــم‬ ‫حيــاة ســياقي‪ ،‬واجتامعهــا ممتنــع لِــ َـا‬
‫امليــر أو الــيء‬‫َّ‬ ‫ورؤى ليــس باألمــر‬ ‫بينهــا مــن تضــاد‪.‬‬
‫الهــن‪ ،‬فالوصــف يأخذنــا إىل كشــوف‬ ‫ِّ‬
‫وتطلعــات لـــم تكــن أذهاننــا تــرى‬ ‫‪ -‬ال يهتــم مفهــوم الحــدس بالتكافــؤ‬
‫وضوحهــا وأهميتهــا‪ ،‬والحــدس كالوصــف‪،‬‬ ‫اللغــوي بــن املصطلحــات واملعــاين‬
‫يتقــرب ويتفاعــل مــع نفســه‪ ،‬حتــى‬ ‫كالفعــل االســتعاري متا ًمــا‪ ،‬فالتكافــؤ‬
‫ينكشــف لذاتــه بخاصيــة االنعــكاس عــى‬ ‫يســتلزم منــه فصــل مفهــوم التســمية‬
‫اآلخــر ال باالنعــكاس عــى األنــا الذاتيــة‬ ‫عــن مفهــوم الوصــف‪ ،‬وهــذا غــر دقيــق؛‬
‫الواحديــة‪ ،‬فهــي تكســب وحدتهــا مــن‬ ‫أل َّن «انحصــار دراســة االســتعارة يف فضــاء‬
‫غريهــا‪ ،‬ومتيــز فرادتهــا بتناظرهــا مــع‬ ‫التســمية ال تَلقــى مجــال اتِّســاعها ‪...‬‬
‫اآلخريــن‪ ،‬وتتفاهــم وتتفاعــل عربهــا ومن‬
‫خاللهــا‪ ،‬وليــس كــا كانــت املذاهــب‬ ‫ويف الحقيقــة؛ فــإ َّن الكثري مــن االقرتاضات‬
‫الفلســفية القدميــة‪ ،‬فهنــاك ‪-‬دامئًــا‪-‬‬ ‫التــي تُف ِّعلهــا االســتعارة تســمح بإرجاعهــا‬
‫مــا نتطلــع ملعرفتــه وإدراكــه وتجليــة‬ ‫إىل األصنــاف الكــرى التــي تنســجم‬
‫غموضــه‪ ،‬وإذا كان يف الــرد املعــريف‬ ‫مــع الرتابطــات األكــر منطيــة‪ ،‬أي األكــر‬
‫والوصــف الفكــري أعــاه بعــض الغمــوض‬ ‫اســتعاملً ‪ ،‬ليــس مــن معنــى إىل معنــى‪،‬‬
‫واإلربــاك؛ فهــذا ليــس ألنَّنــا أردنــا وص ًفــا‬ ‫بــل مــن مجــال معنــى مــن قبيــل الجســد‬
‫خالصــا كمســعى الصوريــة املنطقيــة أو‬ ‫ً‬ ‫(مثــا)‪ ،‬إىل مجــال معنــى‬ ‫ً‬ ‫اإلنســاين‬
‫منوذ ًجــا مثاليًّــا‪ ،‬فهــذا الــدرب والطريــق‬ ‫آخــر»(((‪.‬‬
‫يُضلِّلنــا إىل درجــة ال نــرى فيــه مفهــوم‬ ‫((( بـول ريكـور‪ ،‬ترجمـة محمـد الـويل‪ ،‬مراجعـة‬
‫الحــدس كفاعليــة تداوليــة للمعــاين‬ ‫وتقديـم جـورج زينـايت‪« ،‬االسـتعارة الحيـة»‪ ،‬دار‬
‫وســرورة إنتاجيــة للرمــوز وســميائية‬ ‫الكتـاب الجديـد املتحدة‪ ،‬بيروت‪2016( ،‬م)‪( ،‬ص‪/‬‬
‫‪.)210‬‬
‫العدد ‪1‬‬
‫خريف عام ‪ 2016‬م‬

‫ال ميكــن فهمــه إلَّ كحفــر وتجـ ٍّـل لحــارض‬ ‫اجتامعيــة للعالمــات‪ ،‬وألنَّنــا أيضً ــا‬
‫املعرفــة والفكــر‪ ،‬وللحــدس أيضً ــا إمكانيــة‬ ‫ســندرك ‪-‬كغرينــا‪ -‬أ َّن كل وصــف ملفهــوم‬
‫ي يُنظِّــر يف النظــم‬ ‫خلــق عقــلٍ عمــ ٍّ‬ ‫مــا‪ ،‬يســتلزم منــه وصــف مفهــوم آخــر‪،‬‬
‫القيميــة والرتاتبيــات االجتامعيــة؛ إذ‬ ‫تتجــى‬
‫َّ‬ ‫وعــر هــذه املقاربــة الوصفيــة‬
‫مفهــوم الحــدس ليــس وج ًهــا نظريًّــا‬ ‫هــذه اللــوازم داخــل ســياقات ومســارات‪،‬‬
‫خالصــا ال ارتبــاط لــه ب َح َيــوات النــاس‬
‫ً‬ ‫فريقــى الوعــي الحــديس باســتعامالتها‬
‫العمليــة‪ ،‬أو األخالقيــة أو الدينيــة؛ إذ‬ ‫وتقنياتهــا‪.‬‬
‫حضــور املفارقــات يف هــذه ال ُّنظــم‬
‫واألنســاق يعنــي تدخـ ًـا ألمــر يتجاوزهــا‪،‬‬ ‫وهكــذا ُيكــن للفكــر اإلنســاين أن يبتكــر‬
‫والحــدس بوصفــه مفارقــة يقــارب ذلــك‪.‬‬ ‫مناهــج وأدوات علميــة تســاعده وتقربــه‬
‫مــن حقائــق الحيــاة و ِع َبهــا‪ ،‬وال ينحــر‬
‫الوعــي فعــل‪ ،‬والحــدس فاعليــة‪ ،‬وكالهــا‬ ‫الحــدس يف كشــف مــا يجعــل العلــوم‬
‫إنســاين‪ ،‬وال معنــى للقــول بأنَّــه يتعلَّــق‬ ‫واملعــارف عــى مــا هــي عليــه‪ ،‬بــل إنَّــه‬
‫ـح ذلــك‪،‬‬‫بالذهــن بغــر فعــل؛ إذ لــو صـ َّ‬ ‫ينقدهــا ويُق ِّيمهــا ويعيــد تركيبهــا حتــى‬
‫لــكان بدرجــة العقــول العــرة العرفانيــة‪،‬‬ ‫يُرجــع لهــا حياتهــا‪ ،‬وينبــض فيها الدهشــة‬
‫والعرفــان يف بنيتــه الفلســفية جمــود‬ ‫كأن لـــم تكــن مــن قبــل‪ ،‬ويتجــاوز بهــا‬
‫فكــري‪ ،‬وكســل عقــي؛ ألنَّــه يلــزم مــن‬ ‫العوائــق العلميــة والعقبــات املعرفيــة‪،‬‬
‫الناظــر عــدم النظــر‪ ،‬وهــذا توهــم للفصل‬ ‫أسســا أكــر عم ًقــا وأوســع‬
‫ويبعــث فيهــا ً‬
‫بــن أمريــن هــا يف الحقيقــة يشء واحــد‪،‬‬ ‫رؤيــة‪.‬‬
‫وألنَّــه أيضً ــا يدعــو إىل التســليم بأفــكار ال‬
‫عالقــة للحيــاة البرشيــة بهــا‪ ،‬إ َّن الوعــي‬ ‫وللحــدس إمكانيــة التنبــؤ وإعــادة فهــم‬
‫والحــدس أفعــال؛ أل َّن كل مــا يتــاس‬ ‫الــروط املمكنــة لنظــام معــريف مــا؛ إذ‬
‫مــع اإلنســان‪ ،‬يحولــه مبــارشة إىل قــدرات‬ ‫ظهــور تناقــض يف املعايــر أو النــاذج‬
‫وقــوى تُ ِّك ُنــه مــن ابتــكار ســياقات‪،‬‬ ‫يســتدعي ويسـتـوجـــب اسـتـحـضـــاره‬
‫واصطنــاع منــاذج‪ ،‬وخلــق حيــاة‪.‬‬ ‫لـلـتـجـــاوز والتغيــر‪ ،‬واســتحضار الحدس‬

‫‪85‬‬ ‫‪| 84‬‬

You might also like