You are on page 1of 138

‫الشباب وحضارة الغرب‬

‫املؤلف‪:‬السيد حمسن املدريس‬


‫الطبعة‪ :‬األوىل‪.‬‬
‫النارش‪ :‬دار البصائر للثقافة والنرش‪ /‬العراق‬
‫سنة النرش‪1440 :‬هـ‪.‬ق ‪ 2019 /‬م‬
‫سلسلة ندوات جامعية (‪)3‬‬

‫الشباب‬
‫وحضارة الغرب‬

‫املدريس‬
‫حمسن ِّ‬
‫‪Mohsen almodarresi‬‬
‫التمهيد‬
‫الز ُبو ِر ِم ْن َب ْع ِد ِّ‬
‫الذكْ رِ‪:‬‬ ‫َو َل َق ْد َك َت ْبنا ِف َّ‬
‫ض َي ِرثُها ِع ِ‬
‫باد َي‬ ‫َأ َّن ْ َ‬
‫ال ْر َ‬
‫الون‬ ‫الص ِ ُ‬
‫َّ‬
‫‏ (األنبياء‪)105/‬‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬


‫احلمد هلل رب العاملني والصالة والسالم عىل‬
‫خري خلقه حممد و عىل اهل بيته الطاهرين‪.‬‬
‫قلت له‪ :‬هل يمكن ان ُتربين بمنشأ هذا الدواء؟‬
‫ُ‬
‫قرأ ‪-‬صديقي الصيدالين‪ُ -‬علبة الدواء وقال‪:‬‬
‫املانيا‪.‬‬
‫ٌ‬
‫بسيط جداً‪ ،‬فلامذا‬ ‫قلت له مستغرب ًا‪ :‬هذا الدواء‬
‫ٍ‬
‫بعيدة ع ّنا‪..‬كاملانيا؟‬ ‫نحتاج اىل استرياده من ٍ‬
‫دولة‬
‫فنظر ا ّيل مستغرب ًا‪ ،‬وقال‪ :‬ألنا متخلفون‪ ،‬فمتى‬
‫نتقدم ونصبح مثلهم؟‬
‫قلت له‪ :‬قريب ًا ان شاء اهلل‪.‬‬
‫قال يل‪ :‬كيف وقد تأخرنا عن ركب احلضارة‬
‫عرشات السنني الضوئية؟‬
‫قلت‪ :‬هل تعلم ربام قبل مائتني او ثالثامئة‬
‫سنة‪ ،‬ربام حادث الرجل يف املانيا زميله‪ ..‬وقال‬
‫له‪ :‬ملاذا هذا التخلّف؟ متى نلحق باملسلمني يف‬
‫حضارهتم؟! ألنا كنا حينئذ السابقني فاصبحنا‬

‫‪9‬‬
‫ٍ‬
‫كسيارة سبقت اخواهتا حين ًا لكنها‬ ‫مسبوقني‪..‬‬
‫تباطئت و توفقت حتى سبقها االخرون‪.‬‬
‫اجابني‪ :‬ومل توفقنا؟ وملاذا علينا ان نتقدم اصال؟‬
‫او ما يكفينا ان ننزل من هذه السيارة‪ ،‬و نركب مع‬
‫يشء‬
‫االخرين يف سيارهتم؟ حتى وان تطلّب ذلك ٌ‬
‫من الذلة واملهانة؟ حتى لو اردنا الت ّقدم فكيف‬
‫يكون ذلك؟‬
‫قلت له‪ :‬احلديث يف ذلك طويل‪ ،‬ال يسع ان‬
‫رجل صيدالين تفتتح‬ ‫نتناقش فيه طوي ً‬
‫ال هنا‪ ،‬فأنت ٌ‬
‫ربام‬
‫املحل لكسب الرزق‪ ،‬ال للنقاش الفكري‪ّ ..‬‬
‫نتناقش يف ذلك الحقا‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كدليل عىل القبول‪..‬‬ ‫فاومئ برسه‬
‫ثم تركته ومضيت‪..‬‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫(‪)2‬‬
‫تقدم اآلخرون وختلّفنا؟‬
‫ملاذا ّ‬
‫اين املشكلة؟ وما هو احلل؟‬
‫مل اجد ‪-‬شخصي ًا‪ -‬شاب ًا واعي ًا اال وشغله هذا‬
‫مرحلة من مراحل حياته‪ .‬هل املشكلة‬ ‫ٍ‬ ‫البحث يف‬
‫يصوره البعض؟ هل املشكلة يف‬ ‫ّ‬ ‫يف (الدين) كام‬
‫(الثقافة)؟ هل القضية مؤامرة اجنبية عىل بلداننا؟‬
‫كيف ال نتساءل ونحن نرى ‪-‬عرب االنفتاح عىل‬
‫‪10‬‬
‫كثري من ابناء البلدان املتطورة‬
‫العامل‪ -‬كيف يعيش ٌ‬
‫حياتم يف ظل التقدم التقني والصناعي‪ ،‬وال زلنا‬
‫َ‬
‫نعايش مشاكل قضوا هم عليها قبل عرشات‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫السنني‪.‬‬
‫كل آن‪..‬‬‫بريق احلضارة َّ‬
‫كيف ال؟ و ُيعمي عيوننا ُ‬
‫التطور يف َ‬
‫العال و االكتشافات‬ ‫ّ‬ ‫حيث نرى رسعة‬
‫اجلديدة يوم ًا بعد يوم‪ ،‬حتى صار الكثري منا فقد‬
‫بصيص األمل يف االلتحاق بركب احلضارة يوم ًا‪.‬‬
‫اليس اهلل خلق االنسان واعطى له مهمة (عامرة‬
‫االرض) و جعل الصالح منه خليفته عىل وجه‬
‫البسيطة؟‬
‫دواب‬
‫ِّ‬ ‫يوم القيامة عن‬
‫اليس اهلل سيسأل االنسان َ‬
‫وهوامها((( حتى؟‬
‫ِّ‬ ‫األرض‬
‫ثم اليس الدين جاء لسعادة البرشية؟ و‬
‫احلضارة ‪-‬يف صورها الصحيحة‪ -‬ترعى السعادة‬
‫جلميع ابنائها؟ فمن حق شبابنا اليوم املتسمك‬
‫بدينه‪ ،‬املحب للتطور والتقدم‪ ،‬ان يبحث عن تلك‬
‫(النسخة)((( من االسالم الذي ينتج له حضارة‬
‫وتطور‪.‬‬

‫(((  كام يف حديث امري املؤمنني (ع)‬


‫(((  اقول ذلك‪ ،‬ألن االسالم اصبح ُن ً‬
‫سخا متعددة‪،‬‬
‫حياول كل واحد ان يقدم نموذجه عىل انّه االسالم االصيل‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫(التطور) جزء ال يتجزء من‬
‫ّ‬ ‫فلذا فاحلديث عن‬
‫حياتنا‪.‬‬
‫ولكن هل يمكن البحث عن احللول دون ان‬
‫نشخص اجلذور؟‬
‫ّ‬
‫ظن البعض ان املشكلة يف املظاهر‪ ،‬فاستوردوا‬
‫املظاهر و قلّدوها وحذوها حذوها حذو النعل‬
‫بالنعل‪ِ ،‬‬
‫والقذّ ة بالقذة‪ ،‬ولكنهم فشلوا‪ ،‬اذ جعلوا‬
‫ٍ‬
‫عاصمة غربية‪..‬‬ ‫عواصم بلداهنم نسخ ًة مقلد ًة من‬
‫ولكن مل يورثوا يف ذلك اال مزيد ًا من التخلّف!‬
‫اطلقوا اقامر ًا صناعيةً‪ ،‬ولك ّنهم اذ اطلقوها‬
‫فرحني مستبرشين‪ ،‬تغافلوا ان القمر الصناعي‬
‫هذا‪..‬‬
‫غريهم‪..‬‬
‫صنعه ُ‬
‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫غريهم‪..‬‬
‫و شغلّه ُ‬
‫غريهم‪..‬‬
‫و اطلقه اىل الفضاء ُ‬
‫غريهم‪..‬‬ ‫ِ‬
‫وبقي يراق ُبه ُ‬
‫وعلم‬
‫ٍ‬ ‫نصيب اال يف مالٍ دفعوه‬
‫ٌ‬ ‫ومل يكن له‬
‫نقشوه عىل صورة القمر!‬
‫فاحلديث البد ان يكون عن (اجلذر)‪.‬‬
‫فاين اخللل؟‪..‬‬

‫‪12‬‬
‫ٍ‬
‫بجانب‬ ‫اقول‪ :‬اخللل يف التخلّف الذي ال خيتص‬
‫معني‪ ،‬بل هو (ختلّف حضاري) شامل األبعاد‪.‬‬
‫فالبد إذن ان نتحدث عن (احلضارة)‪.‬‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫(‪)3‬‬
‫احلديث والكتابة عن موضو ٍع كاحلضارة‪ ،‬عمل‬
‫آن واحد‪ ،‬فلم مل يكن ابد ًا اخلوض‬‫وشاق يف ٍ‬
‫ٌ‬ ‫شيق‬
‫ّ‬
‫يف قضايا فكرية ضخمة مورد ًا سهالً‪ ،‬ذلك ألهنا‬
‫وتركز عىل‬
‫ّ‬ ‫البد ان تستجمع كثري ًا من البحوث‬
‫ارتباطاهتا ببعضها ودور كل واحدة منها يف رسم‬
‫صورة كلية وخارطة طريق واسعة لتلك القضايا‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫امليالون اىل الفكر الفلسفي‬ ‫خوض يرغب به ّ‬ ‫ٌ‬
‫الكل وا ُملطلق اكثر من املولعني‬
‫الراغب يف بحث ّ‬
‫بالدقة العلمية‪.‬‬
‫وربام ال نجد قضي ًة ضخمة حتتاج اىل اختزال‬
‫مئات البحوث من فرو ٍع خمتلفة يف ٍ‬
‫آن واحد اكثر‬
‫من مبحث «احلضارة»‪.‬‬
‫كيف ال وهي اختصار جهود االف املاليني من‬
‫البرش‪ ،‬وحماولة بحث التاريخ البرشي بصعوده‬
‫وهبوطه‪ ،‬بسلمه وحروبه‪ ،‬بانجازاته و مآسيه‪ ..‬كل‬
‫ٍ‬
‫صفحات حمدودة‪ ،‬حماولة بحث التاريخ ال‬ ‫ذلك يف‬
‫ٍ‬ ‫اساس مي ٍ‬
‫جامد بل تقريب التاريخ كله اىل‬ ‫ت‬ ‫ٍ ّ‬ ‫عىل‬
‫الواقع وكأننا نعيش فصوله‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫وحرك حبي‬‫ّ‬ ‫وهذا البحث استهواين قديامً‪،‬‬
‫لالستطالع يف حماولة فهم ذلك «اإلكسري» الذي‬
‫تراجعت عن ذلك‬
‫ُ‬ ‫ُينتج حضار ًة او هيدمها‪ .‬ولك ّني‬
‫مرار ًا كلام بدأت باملرشوع‪ ،‬ألن الزمان بحركته‬
‫الرسيعة كشف يل كل مرة عن ُبعد جديد كنت‬
‫اجهله‪ ،‬فاعرف مقدار تقصريي عن البحث يف هذا‬
‫املوضوع الصعب‪.‬‬
‫صممت اخري ًا أن اكتب ما استطيع‪ ،‬ثم‬
‫ُ‬ ‫ولكن‬
‫كنت‬
‫اكمله بمرور الزمن‪ ،‬ألين عرفت أين «لو ُ‬
‫فرغت من كتايب إىل األبد» كام قال‬
‫ُ‬ ‫انتظر الكامل‪ ،‬ملا‬
‫احدهم‪.‬‬
‫وزادين ارصار ًا معرفتي بأن كثري ًا من األزمات‬
‫التي نعايشها‪ ،‬ليست اال «نتيجة» ألزمة عميقة‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫جدا يف صميم هذه األمة‪ ،‬وهي «ازمة حضارة»‪..‬‬
‫فاحلضارة االسالمية التي نتغنى بأجمادها مل تعد‬
‫ايام‬
‫ال نستذكره كام تستذكر العجوزة َ‬ ‫اال ُحل ًام مجي ً‬
‫شباهبا‪ ،‬وما يوم حليمة برس!‬
‫فالصدمة احلضارية التي ايقضت سبات امتنا‪،‬‬
‫حينام رأت دو ً‬
‫ال تقسم خرياهتا‪ ،‬كام يتقاسم األطفال‬
‫قطع احللوى‪ ،‬وذلك يف اتفاقية «سايكس بيكو»‬
‫عام ‪ ،1916‬انتجت ّتيارين‪ّ :‬تي ٌار هنضوي حاول‬
‫ٍ‬
‫قرون‬ ‫انتشال االمة من سباهتا‪ ،‬لك ّنه وجد انقاض‬
‫طويلة من التخلف والسبات ‪ -‬وهو ما سنتحدث‬
‫‪14‬‬
‫طيات البحث‪ -‬و اآلخر ّتي ٌار ذُ هل باحلضارة‬
‫عنه يف ّ‬
‫الغربية و وجدها هناية التاريخ و مل يعرف كيف‬
‫يتعامل معها‪.‬‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫و يظل «نموذج التواصل» مع العامل موضوع‬


‫نقاش طويل بني شعوبنا‪ ،‬خصوص ًا يف ظل‬
‫االنفجار التقني يف العرشة األخرية و تواصل كل‬
‫َ‬
‫بالعال كلّه‪..‬‬ ‫واحد من ابناءنا‬
‫ويومي ًا اجد عرشات النقاشات الساخنة او‬
‫الفاترة التي يعود جوهرها اىل صدام معسكرين‬
‫فكريني‪ ،‬حياول أحدهم تأصيل اهلوية الفكرية عرب‬
‫خارج عن االطار ويدعو اىل احلامئية‬
‫ٌ‬ ‫نبذ كل ما هو‬
‫واالنغالق عىل الذات للحفاظ عىل ما هو موجود‪،‬‬
‫وآخر حياول االبتعاد عن اجلمود والتخلّف الذي‬
‫اصاب بلداننا فيظنه يف االنفتاح املطلق عىل كل ما‬
‫عال ٌي و حديث‪..‬‬‫هو َ‬
‫وهذا دعاين اىل بحث صورة هذا التعامل مع‬
‫احلضارة االنسانية اليوم‪ ،‬صورة حتافظ عىل اهلوية‬
‫و تستفيد من مكتسبات تلك احلضارة‪ ..‬صورة‬
‫حتاول ان متسك العصا من وسطها وتوازن بني‬
‫مجيع املتطلبات‪.‬‬
‫ومن هنا كان هذا الكتاب‪ ..‬حماولة لبيان‬
‫ذلك «النموذج» واألسس السليمة التي جتعلنا‬

‫‪15‬‬
‫نتخشب‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫العال املحيط بنا‪ ،‬فال‬ ‫نجيد التعامل مع‬
‫نتحرك لنبني تلك‬
‫ّ‬ ‫عىل انفسنا وال نذوب فيهم‪ ،‬و‬
‫احلضارة االسالمية املنشودة‪.‬‬
‫واراحني اخري ًا اطالعي عىل مسودة كتاب‬
‫عن املوضوع نفسه (احلضارة) للعم آية اهلل السيد‬
‫ِ‬
‫كامء‬ ‫هادي املدريس حفظه اهلل‪ ،‬فكانت بحوثه‬
‫عذب‬‫ِ‬ ‫فاسرتحت اىل‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫وضوء ُيبطل تراب تيممي‪،‬‬
‫ال‬‫واستفدت من بعضها يف كتايب هذا‪ -‬آم ً‬
‫ُ‬ ‫بحوثه ‪-‬‬
‫ان ُيكمل القارئ قراءة الكتاب ذلك فيتحقق هديف‬
‫من كتايب هذا‪.‬‬
‫وكسائر كتب هذه السلسلة‪ ،‬ان هذا البحث هو‬
‫موضوع ندوة فكرية طرحتها يف بعض اجلامعات‬
‫ال‬ ‫العراقية‪ ،‬عىل الطلبة االعزاء فالقت قبو ً‬
‫ال وتفاع ً‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫جيداً‪ ،‬فقررت اخلوض فيه اكثر وامتامه ونرشه لتعم‬
‫الفائدة‪.‬‬
‫ولكن مع حماولتي اجلادة يف أن اكتب كتايب‬
‫اوفق يف ذلك يف‬
‫بلغة سهلة سلسلة‪ ،‬لكني ربام مل ّ‬ ‫ٍ‬
‫بعض بحوث هذا الكتاب‪ ،‬والسبب واضح‪ ،‬ألن‬
‫متشعبة يف‬
‫ِّ‬ ‫صعب حيتاج اىل بحوث‬
‫ٌ‬ ‫اصل املوضوع‬
‫اساسها‪ ،‬فاسال اهلل أن يستفيد من يقرأ هذه االسطر‬
‫استفاد ًة كاملة‪ ،‬فهو من وراء القصد‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫بحوث تمهيدية‬
‫ٌ‬
‫عن الحضارة‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫املقدمة األوىل‪ :‬ما هي احلضارة(((؟‬

‫يعرف‬ ‫ٍ‬
‫يقع النقاش كثري ًا يف اجياد تعريف دقيق ّ‬
‫حقيقة احلضارة وماهيتها‪ ،‬حتى انك جتد االختالف‬
‫يف التعريف جوهري ًا بني خمتلف املفكرين‪ .‬وال حيتاج‬
‫البحث اىل الدخول اليه من زاوية البحث اللغوي‪،‬‬
‫وذلك ألن لفظ احلضارة حيمل معنى اصطالحي ًا‬
‫جديد ًا اكثر من جمرد املعنى ا ُملعجمي‪ ،‬فاللفظ مل‬
‫يستخدم لالشارة اىل التجمعات االنسانية اال يف‬
‫العصور املتأخرة(((‪.‬‬

‫(((  موضوع ندوات القيت يف كلية اهلندسة‪ ،‬وكلية‬


‫العلوم االنسانية يف جامعة واسط‪ ،‬وكذا يف املعهد التقني‬
‫يف واسط‪ ،‬وذلك بتاريخ ‪2018/12/27‬‬
‫ٍ‬
‫مقال بعنوان (احلضارة‪،‬‬ ‫(((   ُيثبت لوسيان فيبفري يف‬
‫الكلمة والفكرة) عدم وجود اي استعامل هلذا املصطلح‬
‫قبل عام ‪ 1766‬يف أي نص فرنيس‪ - .‬انظر احلضارة‬
‫ومضامينها ص‪ -22‬ومع ان اللفظ استخدمه ابن خلدون‬
‫قدي ًام يف مقدمته‪ ،‬اال انّه استخدمه يف قبال (البداوة) كام‬
‫سيأيت‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫فام هي احلضارة؟‬
‫هناك الكثري من التعاريف التي ُوضعت بازاء‬
‫لفظ احلضارة‪ ،‬ختتلف يف مضموهنا واجتاهها‪:‬‬
‫فهل احلضارة (ا ُملدنية يف قبال البداوة)(((؟‪،‬‬
‫(نظام اجتامعي)(((؟‪ ،‬أو(جمموعة مواصفات‬‫ٌ‬ ‫أوهي‬
‫ثقافية)(((؟‪ ،‬او (كيانات ثقافية)؟‪ ،‬او هي (عامرة‬

‫(((  كام يف رؤية ابن خلدون‪ ،‬و كذا يف املفردة‬


‫االنجليزية‪ ،‬حيث ان لفظ (‪ )Civilization‬مأخوذ من‬
‫(‪ )Civil‬بمعنى املدنية‪ ..‬وهذا املعنى هو ما يوافق اصل‬
‫تطوره يف القرن التاسع عرش من قبل‬ ‫ّ‬ ‫نشوء املصطلح و‬
‫مفكرين فرنسيني‪ ،‬حيث ظهر هذا املصطلح كنقيض‬
‫كرس‬‫ملفهوم (الرببرية) او التوحش والبداوة‪ .‬و قد ّ‬
‫االوروبيون الكثري من اجلهد الفكري والدبلومايس‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫والسيايس لرشح املعيار الذي يمكن عىل اساسه احلكم‬
‫عىل املجتمعات األوروبية‪ ،‬ان كانت متحرضة بام يكفي‬
‫حتى يمكن قبول عضويتها يف النظام العاملي الذي تسيطر‬
‫عليه اوروبا!‪ .‬للمزيد انظر رصاع احلضارات ص‪75-65‬‬
‫(((  كام عند دويرانت حيث يقول‪( :‬احلضارة نظام‬
‫اجتامعي يعني اإلنسان عىل الزيادة من انتاجه الثقايف)‪،‬‬
‫انظر قصة احلضارة ج‪،1‬ص‪.18‬‬
‫(((  كام عند برودل‪ ،‬و يؤكد كل من «دوركهايم» و‬
‫«ماوس» و «شپلنجر» عىل تعريف شبيه يتضمن تعريف‬
‫احلضارة بالثقافة‪ ،‬حيث يقول «شپلنجر»‪ :‬احلضارة هي‬
‫املصري احلتمي للثقافة‪.‬‬
‫‪20‬‬
‫النفوس واألرض واحلياة)(((؟‪ ،‬ام أهنا (حضور‬
‫اإلنسان عند اإلنسان‪ ،‬وتعاونه وتفاعله معه‬
‫جهد يقوم‬ ‫ٍ‬ ‫مادي ًا ومعنوي ًا)((( او هي ( ثمرة كل‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫به اإلنسان لتحسني رضوف حياته)(((؟ او (ا ُمل ُثل‬


‫السائدة يف املجتمع‪ ،‬والتي جتمع بني افراده كله يف‬
‫وحدة معنوية واحدة)((( ؟‪..‬‬
‫تعريف دقيق للفظ احلضارة‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫وتظهر صعوبة اجياد‬
‫ذلك التعريف الذي جيمع بني النامذج املختلفة جد ًا‬
‫من التجارب احلضارية يف التاريخ البرشي‪ ،‬فام هو‬
‫اجلامع بني النموذج الذي قدمه (السومريون) يف‬
‫بالد ما بني النهرين‪ ،‬مع (املرصيني) عند مصب‬
‫النيل؟ ثم قارن بينهام و بني احلضارة االسالمية‬
‫املرتامية االطراف و حضارة اليونان والفُ رس‬
‫قبلها‪ ،‬والروم بعد ذلك‪ ،‬واحلضارة البرشية اليوم‪..‬‬
‫عند ذلك ستجد االختالف الكبري يف النامذج‪ ،‬ذلك‬
‫االختالف الذي جيعل اجياد اجلامع املشرتك بينها‬

‫(((  كام يرى اية اهلل السيد هادي املدريس‪ ،‬انظر (كتاب‬
‫احلضارة‪ ،‬ص‪)13‬‬
‫(((   كام عند السيد املرجع الوالد‪ ،‬انظر‪( :‬احلضارة‬
‫االسالمية افاق وتطلعات‪ ،‬ص‪)31‬‬
‫(((  كام عند حسني مؤنس‪ ،‬انظر (احلضارة ص‪)13‬‬
‫(((  اول من ُعرف هبذا الرأي‪ ،‬الفيلسوف االملاين‬
‫كانت‪ ،‬انظر اإلنسان واحلضارة‪ ،‬ص‪13‬‬
‫‪21‬‬
‫صعب ًا‪.‬‬
‫اعرف (احلضارة) تعريف ًا‬ ‫ً‬
‫وشخصيا اميل اىل ان ّ‬
‫مركبا ال بسيط ًا! فليست احلضارة شيئ ًا بسيط ًا حتى‬
‫ّ‬
‫(جوهر) و‬
‫ٌ‬ ‫للحضارة‬ ‫بل‬ ‫كذلك‪..‬‬ ‫تعريفها‬ ‫يقع‬
‫و(روح) و (ثمرة)‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫(حقيقةٌ )‬
‫ما هي احلضارة؟‬
‫احلضارة (نظام اجتامعي) يف جوهرها‪ ،‬تتمثل‬
‫يف (حضور اإلنسان عند اإلنسان)‪ ،‬ولكن هذا‬
‫احلضور بحاجة اىل ِق َيم حتى يكون احلضور اجيابي ًا‬
‫هدام ًا‪ ..‬وهذه القيم الصحيحة‬ ‫ال سلبي ًا‪ ،‬ب ّن ًاء ال ّ‬
‫كقيمة (احلرية) و (الكرامة) و (التعاون) و‬
‫(التنظيم) حقيقة هذا احلضور‪ ،‬أما (الرفاهية‪،‬‬
‫واألمن و اإلعامر) فثمرهتا و نتاجها‪.‬‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫وصف‬
‫ٌ‬ ‫وهذا ليس تعريف ًا بمقدار ما هو‬
‫للحضارة‪ ،‬وهو ما استفد ُته ‪ -‬بعد البحث‬
‫والتنقيب يف الكتب املختلفة‪ -‬من السيد املرجع‬
‫أن اصل‬‫الوالد (حفظه اهلل)‪ ،‬حيث يؤكد عىل ّ‬
‫احلضارة هو (العهد او العقد االجتامعي) (((‪.‬‬

‫(((  حمارضة يف تفسري سورة االنسان‪ ،‬ومن خالل‬


‫هذا التعريف ِّ‬
‫يوضح كيف يمكننا فهم (بيعة الغدير) من‬
‫خالل املفهوم احلضاري هلا‪ ،‬اذ يمثل مفهوم (الوالية)‬
‫يفس‬
‫العقد احلضاري املركزي لالمة االسالمية‪ .‬وهذا ّ‬
‫‪22‬‬
‫مىت تقوم احلضارة؟‬
‫تقوم احلضارة حني ترتسخ يف داخل االنسان‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫روح (التحدي)‪ ..‬تلك الروح التي هبا يستطيل‬


‫عىل املؤثرات اخلارجية‪ ،‬البرشية منها و الطبيعية‬
‫الرضاء) فيتحدى الظروف الطبيعية‬ ‫ّ‬ ‫(البأساء و‬
‫القاهرة و االعداء اخلارجني‪ ،‬عرب تنظيم نفسه و‬
‫استخراج مكامن قوته و‪ُ ..‬فينشئ نواة احلضارة‪.‬‬
‫و هذه الروح‪ ،‬هي التي تبني احلضارات‪،‬‬
‫وبانعدامها تنعدم احلضارات‪..‬‬
‫وهبذا يمكن فهم نشأة احلضارات البرشية‬
‫حتدت اجلامعات‬
‫االوىل‪ ،‬كاحلضارة املرصية‪ ،‬حيث ّ‬
‫البرشية‪ ،‬عوامل الطبيعة املتمثلة بفيضان النيل‪..‬‬
‫وغيت جمرى النيل‬‫فحررت نفسها من سيطرهتا‪ّ ،‬‬
‫فكان ذلك بداية احلضارة املرصية ‪.‬‬
‫(((‬

‫وما مقولة (احلرب ِقطار احلضارة) إال ألن‬

‫بوضوح اىل سبب ذكر هذه البيعة يف سورة (املائدة)‪،‬‬


‫تلك السورة التي تتمحور حول احلضارة ورشوطها‪.‬‬
‫(((  تعترب نظرية ارنولد توينبي يف نشوء احلضارات‬
‫املعروفة بـ(التحدي واالستجابة) اشهر نظرية يف هذا‬
‫املعنى‪ ،‬ويوافق السيد املرجع الوالد (حفظه اهلل) هذه‬
‫ٍ‬
‫بصورة ُمملة مع بعض املالحظات‪ .‬انظر‪ :‬املنطق‬ ‫النظرية‬
‫االسالمي‪ ،‬بحث‪ :‬فلسفة التاريخ‬
‫‪23‬‬
‫احلروب متثل حالة التحدي بني االمم‪ ،‬فإما‬
‫تطور بذلك احلياة واما ان تنتهي و‬ ‫أن تتطور و ّ‬
‫تنمحي‪ .‬فلذا فلم تكن كل احلروب سبب ًا لتطور‬
‫ٍ‬
‫فرتات طويلة‬ ‫البرش‪ ،‬بل ان كثري ًا من االمم عاشت‬
‫ٍ‬
‫حروب دامية مل تتطور فيه قيد انملة‪ .‬‬ ‫يف‬
‫و يمكن كذلك فهم دور األديان االهلية يف‬
‫ٍ‬
‫كشمعة‬ ‫النهضات احلضارية الكربى التي ُولدت‬
‫يف ظال ٍم دامس‪.‬‬
‫فام الذي قام به الرسول (ص) يف اجلزيرة‬
‫العربية؟ هل قام بانشاء املراكز العلمية والبحثية‬
‫وزع فيه السلطات‬‫فيها؟ ام ا ّنه انشأ نظام ًا سياسي ًا ّ‬
‫الثالث؟ او أنه قام بحركة ثقافية فكرية رفع‬
‫املستوى املعريف هلم؟‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫كال‪..‬‬
‫ببث روح التحدي‪ ،‬تلك الروح التي‬ ‫بل قام ِّ‬
‫احس بأن اهلل خل َقه‬
‫ّ‬ ‫انسانيته‪..‬‬
‫َّ‬ ‫احس هبا اإلنسان‬
‫احس بأ ّنه‬
‫ّ‬ ‫سي َد الكائنات وخليفته يف األرض‪..‬‬ ‫ِّ‬
‫اقوى من الصخر‪ ،‬فـ(تزول اجلبال وال تزول)‪..‬‬
‫رفيع اهلِ َّمة‪ ..‬يرتفع ويرتفع حتى يكون‬
‫يل القدر‪َ ،‬‬ ‫ع َّ‬
‫صدق عند‬‫ٍ‬ ‫الرب يف مقعد‬
‫ّ‬ ‫جليس‬
‫َ‬ ‫‪-‬يوم القيامة‪-‬‬
‫ٍ‬
‫مليك مقتدر‪.‬‬
‫تلك الروح التي محلها املسلمون بني جنبيهم‬
‫‪24‬‬
‫العباد قبل فتح بالدهم‪ .‬تلك الروح‬ ‫قلوب ِ‬
‫َ‬ ‫ففتحوا‬
‫تفيض منهم افاض َة املاء من‬
‫ُ‬ ‫احلضارية التي كانت‬
‫ٍ‬
‫حاجة‬ ‫ني صافية‪ ..‬فيتأثر القريب والبعيد هبا دون‬ ‫ع ٍ‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫اال اىل رصا ٍع بسيط‪ ..‬فمن يقرأ التاريخ بانصاف‬


‫جيد كيف دخلت مجوع النصارى يف بالد الشام و‬
‫رشق افريقيا‪ ،‬اىل االسالم‪ ..‬اولئك الذين حتملوا‬
‫االضطهاد العقيدي لالمرباطورية الرومانية قرون ًا‬
‫طويلة‪ ،‬لكنهم حافظوا عىل ايامهنم‪ ..‬واذا هبم‬
‫يدخلون يف دين اهلل افواجا‪ ،‬ألهنم وجدوا االسالم‬
‫حضار ًة اهلية صافية(((‪.‬‬
‫ُترى‪ ..‬هل عرف التاريخ ‪ -‬من اول يومه اىل‬
‫اخره‪ -‬عملية تغي ٍ‬
‫ري فكرية وثقافية و حضارية‪ ..‬كام‬
‫احدثها املسلمون يف عاملهم؟‬
‫كيف تنازل املاليني من خمتلف الديانات‬
‫يشكل هويتهم‬‫والقوميات والثقافات‪ ،‬عن كل ما ِّ‬
‫لكي ال يكونوا مسلمني فحسب‪ ،‬بل عرب ًا ايضا!؟‬
‫(التك) و (الزنج)‬
‫انظر‪ ،‬كيف تب ّنى (الفُ رس) و ُ‬
‫تبنوا لغ َته‬
‫فكر االسالم و عقيدته فحسب‪ ،‬بل ّ‬ ‫و‪ ..‬ال َ‬
‫(العربية) ايض ًا‪ ..‬بيد أ ّنه مل يكن للدولة االسالمية‬
‫(((  يمكن مراجعة كتاب (الدعوة اىل االسالم)‬
‫للمسترشق الربيطاين (‪ )Sir Tomas W. Arnold‬ملعرفة كيفية‬
‫انتشار االسالم يف ارجاء املعمورة ال بحد السيف ‪ -‬كام‬
‫يروج لذلك االعداء‪ -‬وانام بروحه احلضارية الكبرية‪..‬‬
‫ّ‬
‫‪25‬‬
‫ري يف ذلك اصال! فلم ُتنشئ مؤسسة لتعليم‬‫اي تأث ٍ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬
‫قرارات بتصدير ثقافتها‪ ..‬بل‬ ‫(اللغة) وال اصدرت‬
‫شعت من‬ ‫نابع من الروح احلضارية التي ّ‬
‫كان ذلك ٌ‬
‫االسالم عىل سائر االمم‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬ال يمكن غض الطرف عن التأثريات‬
‫الثقافية و ما هلا من دور من قيام احلضارات او‬
‫سقوطها‪ ،‬ألن الثقافة متثل قواعد عامة للسلوك‬
‫إن فسدت‪ ،‬اصبحت قيود ًا و اغال ً‬
‫ال متنع االنسان‬
‫من تفجري طاقته‪ ،‬ومن هنا كانت الثقافة االسالمية‬
‫وعاء حلضارة االسالم‪ ،‬لكن ثقافةٌ بال ايامن‪ ،‬كجسد‬
‫ً‬
‫بال روح‪ ..‬ال تستطيع ان تقدم االمة خطوة واحدة‪.‬‬
‫وهنا البد من تسجيل عدة مالحظات هامة‪:‬‬
‫او ًال‪:‬‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫ال تقوم احلضارات او تسقط‪ ،‬اال بتداخل‬


‫املزيد من العوامل املختلفة‪ ،‬وما يقوم املؤرخون‬
‫عامل دون آخر‪ ،‬ال يكون اال تبسيط ًا‬
‫ٍ‬ ‫من تضخيم‬
‫خيل بالفهم العلمي‬
‫للحقيقة‪ ،‬ذلك التبسيط الذي ّ‬
‫الصحيح‪.‬‬
‫ثانياً‪:‬‬
‫احلديث عن احلضارة‪ ،‬هو احلديث عن املجتمع‬
‫الذي محل مشعلها‪ ،‬فليس املقصود من احلضارة‬
‫االسالمية‪ ،‬تلك االحجار الذي نجدها اليوم‬
‫‪26‬‬
‫شاهد ًة عىل ازدهار حضارتنا يوم ًا‪ ..‬فال نقصد‬
‫(قالع بعلبك) و ال (مساجد األندلس) و ال ُ‬
‫الطرق‬
‫والبساتني و‪..‬‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫وانام احلديث عن تلك األمة((( التي محلت‬


‫ضت)‬ ‫و(ح َ َ‬
‫القيم احلضارية‪ ،‬و امتألت بروحها‪َ ،‬‬
‫عند بعضها و تفاعلت اجيابي ًا (عرب تلك ال ُن ُظم)‬
‫فانتجت تقدم ًا وازدهارا‪.‬‬
‫ثالثا‪:‬‬
‫ال تنشئ احلضارة بني ٍ‬
‫ليلة وضحاها‪ ،‬بل هي‬
‫تراكم جهود اجيالٍ متعاقبة عىل بعضها‪ ،‬تنمو‬
‫فتنمو حلني توفر البيئة الصاحلة لنموها‪.‬‬
‫ومن هنا ال يمكن ان ننسب التقدم العلمي‬
‫ٍ‬
‫عرق‬ ‫ٍ‬
‫مجاعة او فئة او‬ ‫والتقني يف ايامنا هذه‪ ،‬اىل‬
‫واحد‪ ،‬بل هي ما انتجته جهود البرشية عىل مدى‬
‫قرون متطاولة‪ ،‬تراكمت حتى انتجت هذا الواقع‬ ‫ٍ‬
‫اجلديد‪.‬‬
‫وهناك ُبعدان يف احلضارة ال ينتج اال برتاكم‬
‫جهود البرشية واالستفادة من بعضها البعض‪،‬‬
‫وبالتايل ال يمكن ان ُتنسب ‪-‬بصورة كلية‪ -‬اىل‬

‫ تعرف األمة عىل اهنا اجلامعة التي تعمل هلدف حمدد‬


‫ّ‬ ‫(((‬
‫وتتعاون فيام بينها‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫ٍ‬
‫مجاعة دون اخرى‪ :‬ال ُن ُظم والعلوم (((‪.‬‬
‫ومن يبحث عن مظهر (احلضارة البرشية)‬
‫بحقيقتها‪ ،‬فال يبحثها يف ناطحات سحاب طويلة‬
‫ذرة عمالقة‪ ..‬بل جيدها يف (مكتبة‬ ‫او مفاعل ٍ‬
‫الكونغرس االمريكي)‪ ،‬التي يصطف عىل روفوفها‬
‫ذات (‪ )856‬كيلومرتاً! اكثر من ‪ 130‬مليون كتاب‬
‫و بحث و وثيقة موزعة عىل اكثر من‪ 460‬لغة!‬
‫أي ان مئات املاليني من البرش‪ ،‬خمتلفي ِ‬
‫الفكر‪،‬‬
‫و الثقافة‪ ،‬والعقيدة‪ِ ،‬‬
‫والعرق‪ ،‬والقومية‪ ..‬خملتفني‬
‫تقدم البرشية خطو ًة‬
‫يف الزمان واملكان‪ ..‬سامهوا يف ّ‬
‫فخطوة‪ ..‬يف شتى جماالت احلياة‪.‬‬
‫وهذا ينفي ِملكية احلضارة و نتاجاهتا لطائفة‬
‫برشية دون اخرى‪ ..‬بل هي حضارة اإلنسان!‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫فاحلضارة ‪ -‬يف ُبعدي العلوم وال ُن ُظم‪ -‬نبتةٌ‬


‫صاحلة يسيطر عليها يف كل زمنٍ اكثر املسامهني يف‬
‫تطويرها والعمل ب ُن ُظمها‪.‬‬
‫البعدين‪،‬‬
‫فاحلضارات املختلفة تشرتك يف هذين ُ‬
‫و تتنافس يف ُبعد الفنون‪ ،‬وتتصارع فيام بينها يف‬
‫ُبعدي الثقافة ونمط العيش‪.‬‬

‫(((  سيأيت احلديث عن االبعاد املختلفة للحضارة يف‬


‫الصفحات القادمة‪.‬‬
‫‪28‬‬
‫فمثالً‪ ..‬تعتمد احلضارة كثري ًا يف تقدمها عىل‬
‫(العلم)‪ ،‬وهذا العلم ال يكون ملكا ألحد‪.‬‬
‫يقول السيد املرجع الوالد حفظه اهلل‪( :‬فالعلم‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫ال أب له وال أم‪ ،‬وال حدود‪ ،‬وال زمن‪ ،‬وال مكان‪،‬‬


‫الذرة‬
‫ّ‬ ‫انه فوقاحلدود والقيود‪ .‬وال يمكن لعالِ‬
‫االمريكي أو الرويس ان يدعي أنه قد وصل هذا‬
‫روسي ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫امريكي ًا أو‬
‫ّ‬ ‫املستوى بمفرده‪ ،‬أو ألنه كان‬
‫بل الصحيح انه بلغ هذا املستوى عرب تكامل‬
‫العقل البرشي منذ آالف السنني‪ ،‬فلقد تكاملت‬
‫النظريات الفلسفية اليونانية واحلساب اهلندي‬
‫واملنطق الصيني والنظريات العربية وتفاعلت‬
‫حتى وصلت أوجها عند هذا العالِ ‪ ،‬فالعلم ال‬
‫يملك جنسية روسية أو امريكية‪)(((..‬‬
‫يتبجح بالتطور‬
‫والغريب أن الغرب حياول أن ّ‬
‫العلمي والتقني وبال ُن ُظم احلديثة ‪-‬والتي يكون‬
‫مشا ِرك ًا فيهام مع احلضارات االخرى‪ ،-‬يفعل ذلك‬
‫ويستدل به عىل احقيته يف اجلانب (الثقايف)!‪.‬‬
‫ّ‬
‫وهذه املقدمة سنعود اليها عند احلديث عن‬
‫عالقتنا ‪ -‬كمسلمني ‪ -‬مع احلضارة البرشية‪ ،‬غربية‬
‫املالمح والصبغة يف عرصنا هذا‪.‬‬
‫رابعاً‪:‬‬

‫(((  البعث االسالمي ص‪123‬‬


‫‪29‬‬
‫بناء عىل املقدمة السابقة‪ ،‬فإننا ال يمكن ان نجد‬
‫ً‬
‫حضارة مل تتأثر باخرياهتا ‪ -‬اال يف حضارة السامء‪،-‬‬
‫فاحلضارات ُولدت ‪ -‬يف اغلب حاالهتا‪ -‬من‬
‫َر ِحم احلضارات االخرى‪ ..‬فاحلضارة اليونانية‬
‫ُولدت من داخل احلضارة املرصية‪ ،‬ومنها ولدت‬
‫الرومانية‪ ..‬واحلضارة الفارسية تأثرت كثري ًا‬
‫باحلضارة اهلندية‪..‬‬
‫هذا التأثر الذي جعل بعض املفكرين يؤرخ‬
‫ٍ‬
‫كحضارة واحدة يف حقيقتها(((‪،‬‬ ‫تاريخ البرش‪،‬‬
‫ويشبه الفيلسوف األملاين الشهري (هيجل) البرش‬
‫كافراد ينقلون شعلة احلضارة من ٍ‬
‫بقعة اىل اخرى‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫وهذه القاعدة ترسي يف مجيع احلضارات‬
‫املؤرخة ‪-‬تقريب ًا‪ -‬اال حضارات السامء!‬
‫البرشية َّ‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫أي تلك احلضارات التي نشأت بفعل األنبياء‬
‫كربق خاطف‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫مرة واحدة‬
‫انفسهم‪ ..‬نشأت ّ‬
‫كإنفجار بركان‪ ..‬مل ترتاكم فيها عوامل النهضة‬
‫واحلضارة شيئ ًا فشيئ ًا‪ ،‬بل ظهرت فُجأ ًة‪.‬‬
‫خري مثالٍ لذلك‪..‬‬
‫وحضارة االسالم ُ‬
‫فلنقرأ مع ًا خطبة امري املؤمنني عيل (عليه‬
‫قرأتا ‪ -‬وقرأها‬
‫السالم)‪ ،‬تلك اخلطبة التي طاملا ُ‬
‫كثريون‪ -‬من منظا ٍر تارخيي ‪ /‬اعتقادي‪ ..‬دون‬
‫(((  انظر‪ :‬ويل ديورانت‪ ،‬قصة حضارة‬
‫‪30‬‬
‫كتأريخ حضاري لالسالم‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫االلتفات اىل قيمتها‬
‫ول َه ْج َع ٍة‬‫َت ٍة ِم َن الر ُسلِ ‪َ ،‬و ُط ِ‬
‫ُّ‬ ‫( َأ ْر َس َل ُه َع َل ِح ِ‬
‫ني ف ْ َ‬
‫ال ُم ِ‬ ‫ال َم ِم‪َ ،‬و ْاعتِ َزا ٍم ِم َن ال ِْف َتنِ ‪َ ،‬و ا ْنتِ َشا ٍر ِم َن ْ ُ‬
‫ِم َن ْ ُ‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫ور‪،‬‬
‫وب‪..‬‬ ‫ال ُر ِ‬ ‫َو َت َل ٍّظ ِم َن ْ ُ‬
‫اس َف ُة ال ُّنو ِر‪َ ،‬ظ ِ‬
‫اه َر ُة ال ُْغ ُرو ِر‪..‬‬ ‫الد ْنيا كَ ِ‬
‫‪َ ..‬و ُّ َ‬
‫اس ِم ْن‬ ‫اص ِف َرا ٍر ِم ْن َو َر ِق َها‪َ ،‬و إ َِي ٍ‬‫ني ْ‬ ‫‪َ ..‬ع َل ِح ِ‬
‫ال َدى‬‫ث ََمر َِها‪َ ،‬و ْاغو َِرا ٍر ِم ْن َمائِ َها‪ ،‬ق َْد َد َر َس ْت َم َن ُار ْ ُ‬
‫َ‬
‫الر َدى‪..‬‬ ‫َو َظ َه َر ْت أ ْع َل ُم َّ‬
‫‪َ ..‬ف ِه َي ُم َت َج ِّه َمةٌ ِ َل ْه ِل َها‪َ ،‬عابِ َسةٌ ِف َو ْج ِه َطالِبِ َها‪،‬‬
‫ال ْو ُف‪،‬‬ ‫َة‪َ ،‬و ِش َع ُار َها ْ َ‬ ‫ث ََم ُر َها ال ِْف ْت َنةُ‪َ ،‬و َط َع ُام َها ْ ِ‬
‫اليف ُ‬
‫الس ْي ُف((()‬ ‫َار َها َّ‬ ‫َو ِدث ُ‬
‫فاالمام عليه السالم يؤرخ بصورة واضحة‬
‫أن شعلة االسالم احلضارية مل تكن نتيجة تراكم‬
‫العوامل االجيابية يف املجتمع اجلاهيل‪ ،‬بل كانت‬
‫املجتمعات البرشية ‪-‬بام فيها غري العربية‪ -‬يف اسوء‬
‫حاالهتا‪..‬‬
‫يقول املؤرخ هـ‪.‬دينيسون‪ ،‬يف وصفه حلالة‬
‫احلضارة البرشية قُبيل بزوغ نور االسالم‪:‬‬
‫(كان يبدوا آنذاك‪ ،‬أن احلضارة العظيمة التي‬

‫(((  هنج البالغة خطبة ‪81‬‬


‫‪31‬‬
‫استغرق بناؤها أربعة آالف عام‪ ،‬قد أرشفت عىل‬
‫التفسخ واإلهنيار‪ ،‬وأن اجلنس البرشي ربام عاد اىل‬
‫حالة الرببرية اهلمجية‪ ،‬حيث كل قبيلة وطائفة ضد‬
‫اخرى‪ ،‬وحيث ال ُيعرف قانون أو نظام)(((‪.‬‬
‫فجاءت رسالة االسالم م ّنة حضارية من اهلل اىل‬
‫البرشية‪.‬‬
‫خامساً‪:‬‬
‫مل يستخدم الوحي لفظ (احلضارة) بمعناها‬
‫االصطالحي‪ ،‬اذ ان ظهور املعنى هذا ‪-‬كام‬
‫سبق ذكره‪ -‬يرتبط بتقسيم البرشية اىل (متحرض‬
‫ٍ‬
‫كدعامة‬ ‫‪ /‬مهجي)‪ ،‬واستخدم هذا التعريف‬
‫لالستعامر الغريب يف القرنني الثامن عرش والتاسع‬
‫عرش امليالديني‪ .‬بل ارسى البعض ارتباط احلضارة‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫بالعرق‪ ،‬فآمن بأن هناك ٌ‬
‫عرق متحرض‬ ‫والتحض ِ‬‫ّ‬
‫واخر متخلف‪ .‬حتى قال (غوستاف لوبون)‪:‬‬
‫ي َعلَ من الزنجي أوالياباين‬
‫«ومن السهل أن ُ ْ‬
‫حامل لشهادة البكالوريا‪ ،‬بيد أن ذلك‬ ‫ً‬ ‫حماميا أو‬
‫ً‬
‫ال يعطيه سوى ِطالء سطحي غري مؤثر يف مزاجه‬
‫النفيس‪ ،‬وإنام الذي يعجز التعليم عن منحه إياه هو‬
‫ما يتصف به الغربيون من وجوه تفكري ومنطق‪،‬‬

‫(((  (‪ ،)Emotion as the Basis of Civilization‬ص‪-267‬‬


‫‪268‬‬
‫‪32‬‬
‫ومن أخالق عىل اخلصوص؛ لصدوره عن الوراثة‬
‫ي َمع ذلك الزنجي أو الياباين مجيع‬ ‫وحدها‪ ،‬وقد َ ْ‬
‫الشهادات املمكنة‪ ،‬ولكنه ال يرتقي إىل مستوى‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫األوريب العادي مطل ًقا‪ ،‬ومن السهل أن ُي َل َّق َن‬


‫الزنجي يف عرش سنني مثل ما ُي َل َّق ُنه اإلنكليزي‬ ‫ُّ‬
‫احلسن الثقافة‪ ،‬ولكن قد ال تكفي عدة قرون ألن‬
‫إنكليزيا(((»‬
‫ٍّ‬ ‫جتعل منه‬
‫فهل من املعقول ان يستخدم االسالم الذي‬
‫ارسى قاعدة تساوي البرش يف ا َ‬
‫خللق قائالً‪:‬‬
‫ى َو‬ ‫اس إِ َّنا َخ َل ْقناكُ ْم ِم ْن ذَكَ ٍر َو ُأ ْنث ‏‬‫«يا َأ ُّ َيا ال َّن ُ‬
‫عارفُوا إ َِّن َأكْ َر َم ُك ْم ِع ْن َد‬
‫َج َعلْناكُ ْم ُش ُعوب ًا َو قَبائِ َل لِ َت َ‬
‫ليم َخبري»‬ ‫الل َع ٌ‬ ‫اللِ َأ ْتقاكُ ْم إ َِّن َّ َ‬
‫َّ‬
‫اقول‪ :‬هل من املعقول ان حيمل االسالم نظرية‬
‫الغرب يف التقسيم الثنائي فيستخدم لفظ احلضارة‬
‫بضالهلا السيئة؟!‬
‫ومع ان القرآن الكريم‪ ،‬مل يستخدم هذا اللفظ‬
‫حتدث كثري ًا عن‬‫أي (احلضارة) ابداً‪ ..‬اال ا ّنه ّ‬
‫احلضارة‪ ،‬ولك ّنه استخدم لفظ ًا اخر ًا للحديث عن‬
‫(احلضارة) و (املدنية)‪ ..‬و هو لفظ (القرية)‬
‫فمع أن لفظ (القرية) ُيستعمل اليوم ويراد به ما‬

‫(((  السنن النفسية لتطور األمم ص‪39‬‬


‫‪33‬‬
‫يقابل (املدينة)‪ ،‬اال ان االستخدام القراين ُيقارب‬
‫مفهومنا عن (ا ُملدنية) و(احلضارة) بغري نظ ٍر اىل‬
‫كوهنا صاحل ًة ام فاسدة‪.‬‬
‫ومن امثلة االستعامل ذلك‪:‬‬
‫‪ -1‬احلديث عن قوم النبي يونس (ع)‪:‬‬

‫« َف َل ْو ال كا َن ْت ق َْر َيةٌ َآم َن ْت َف َنف ََعها ُ‬


‫إيامنا إِ َّال ق َْو َم‬
‫ال ِ‬
‫ياة‬ ‫ال ْز ِي ِف ْ َ‬‫ذاب ْ ِ‬
‫س َلَّا َآم ُنوا كَ َش ْفنا َع ْن ُه ْم َع َ‬ ‫ُيو ُن َ‬
‫ىل حني» (يونس‪)98/‬‬ ‫ناه ْم إِ ‏‬
‫الد ْنيا َو َم َّت ْع ُ‬
‫ُّ‬
‫«و‬
‫وما يدل عىل ّأنا كانت حضارة قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫زيدون‏» (صافات‪.)147/‬‬ ‫ىل ِما َئ ِة َأل ٍ‬
‫ْف َأ ْو َي ُ‬ ‫َأ ْر َسل ُ‬
‫ْناه إِ ‏‬
‫‏‪ -2‬احلديث عن حضارة مرص ‪ -‬الذي‬
‫«و ْس َئلِ‬
‫تزامنت مع احداث النبي يوسف (ع)‪َ :-‬‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫عب‬‫ا ْلق َْر َي َة الَّتي‏ كُ َّنا فيها» (يوسف‪ ،)82/‬حيث ّ‬
‫عن حضارة مرص بلفظ القرية‪..‬‬
‫املدمرة‬
‫ّ‬ ‫ومد ُنيتهم‬
‫‪ -3‬احلديث عن بني ارسائيل ُ‬
‫النص‪:‬‬ ‫عىل يد بخت ّ‬
‫( َأ ْو كَ الَّذي َم َّر َعىل‏ ق َْر َي ٍة َو ِه َي خا ِو َيةٌ َعىل‏‬
‫وشها) (البقرة‪.)259/‬‬ ‫ُعر ِ‬
‫ُ‬
‫وهذه القضية ‪ -‬كام يف كتب التفسري‪ -‬مرتبطة‬
‫باخراج بني ارسائيل من العراق عىل يد الطاغية‬
‫النص)‪ ،‬والعراق بلد احلضارة‪ ..‬ثم أن لفظ‬ ‫(بخت ّ‬
‫‪34‬‬
‫«العرش» لغة ُيطلق عىل املكان املرتفع‪ ،‬ويدل عىل‬
‫َ‬
‫البنيان املرتفع الذي هو من خصائص احلضارات‪.‬‬
‫‪ -4‬بل‪ ،‬واحلديث عن قُرى لوط وهي حضارة‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫امليت‪ ،‬لكن يقول عنها‬ ‫تقع اثارها اليوم عند البحر ّ‬


‫ناه ِم َن‬
‫ناه ُحكْ ًام َو ِع ْل ًام َو َن َّج ْي ُ‬‫«و ُلوط ًا آ َت ْي ُ‬‫القران‪َ :‬‬
‫البائِث‏» (األنبياء‪)74/‬‬ ‫ا ْلق َْر َي ِة الَّتي‏ كا َن ْت َت ْع َم ُل ْ َ‬
‫واالمثلة كثرية يف هذا املجال‪.‬‬
‫بل احلديث عن قواعد عامة عن قيام احلضارات‬
‫و سقوطها‪ ،‬والسنن احلاكمة فيها‪ ،‬والتي بدأت‬
‫البرشية البحث عنها حديث ًا ضمن مباحث (فلسفة‬
‫التاريخ)‪ ،‬هذا احلديث يتكرر يف عرشات املواضع‬
‫يف القرآن‪ ..‬فلندقق يف هذه اآليات من منظار‬
‫البحث احلضاري ال احلاالت اخلاصة‪:‬‬
‫• « َو إِذا َأ َر ْدنا َأ ْن ُ ْن ِل َك ق َْر َي ًة ‪ -‬بسبب اخطاءها‬
‫تفيها ‪ -‬اي امرهم اهلل‬ ‫و تراكم سلبياهتا‪َ -‬أ َم ْرنا ُم ْ َ‬
‫باالصالح عن طريق االنبياء‪ ،‬لكنهم ‪َ -‬فف ََس ُقوا‬
‫فيها ف ََح َّق َع َل ْي َها ا ْلق َْو ُل ‪-‬بسبب امتام احلجة عليهم‬
‫بعد االنذار‪ -‬ف ََد َّم ْرناها َت ْدمريا»(اإلرساء ‪)16/‬‬
‫• «ف ََك َأ ِّي ْن ِم ْن قَر َي ٍة َأ ْه َلكْ ناها َو ِهي ِ‬
‫ظالَةٌ َف ِه َي‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫َص َمشيد»‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬
‫وشها َو بِ ْئ ٍر ُم َعطَّ لة َو ق ْ ٍ‬ ‫خا ِو َيةٌ َعىل‏ ُعر ِ‬
‫ُ‬
‫(احلج‪)45/‬‬
‫«و َل ْو َأ َّن َأ ْه َل ال ُْقرى‏ َآم ُنوا َو ا َّتق َْوا َل َف َت ْحنا‬
‫َ‬ ‫• ‬
‫‪35‬‬
‫ض َو ِ‬
‫لك ْن كَ ذَّ ُبوا‬ ‫امء َو ْ َ‬
‫ال ْر ِ‬ ‫كات ِم َن الس ِ‬
‫َع َلي ِهم َبر ٍ‬
‫َّ‬ ‫ْ ْ َ‬
‫ِ‬
‫ناه ْم بام كا ُنوا َيكْ س ُبون‏» (األعراف ‪)98/‬‬ ‫ِ‬ ‫ف ََأ َخذْ ُ‬
‫ى َأ ْه َلكْ ُ‬
‫ناه ْم َلَّا َظ َل ُموا َو‬ ‫• « َو تِل َ‬
‫ْك ال ُْقر ‏‬
‫َج َعلْنا ِلَ ْه ِل ِك ِه ْم َم ْو ِعداً» (القصص ‪)59‬‬
‫مفصل‬
‫فهذه بعض االمثلة فحسب‪ ،‬فاحلديث ّ‬
‫ٍ‬
‫دراسة مفصلة‪.‬‬ ‫يف القران عن هذا املورد حيتاج اىل‬
‫وربام يستشكل القارئ هذه االنتقالة يف لفظة‬
‫ٍ‬
‫حديث‬ ‫القرية من املعنى الدارج اىل مصطلح‬
‫ان املعنى اللغوي يعضد هذا‬ ‫َ‬
‫كاحلضارة‪ ..‬اال ّ‬
‫الرأي‪ .‬فاجلذر اللغوي (ق ََر َي) يدل عىل (مجع من‬
‫تشكل وانتظام‪ ،‬فيقال‪ :‬ق ََرى الضيف إذا اداره‬‫ّ‬
‫ٍ‬
‫أفراد أو عامرات مع‬ ‫وتك ّفل اموره‪ ،‬وال َقري‪ :‬مجع‬
‫اجياد تشكّ ل وانتظام((()‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫فاللفظ حيمل يف ذاته‪ ،‬التشكّ ل واالنتظام‪،‬‬


‫والذي ال يكون اال بحضور االنسان عند االنسان‬
‫والتفاعل االجيايب معه‪.‬‬
‫سادساً‪:‬‬
‫نقسم‬‫حني احلديث عن احلضارة البد ان ّ‬
‫احلديث اىل اقسا ٍم شتى ‪ -‬سنفصل فيها الحق ًا‪-‬‬
‫ٍ‬
‫فصل تام‪:‬‬ ‫ولكن هناك ُبعدين اساسيني بحاجة اىل‬

‫(((  التحقيق يف كلامت القران الكريم‪ ،‬ج‪،9‬ص‪280‬‬


‫‪36‬‬
‫علم وفنٍ‬
‫البعد األول‪ُ :‬منتجات احلضارة من ٍ‬ ‫ُ‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫و تقنيات مادية‪ ..‬هي التي تكون ُملكا للبرشية‬
‫ٍ‬
‫طائفة‬ ‫ٍ‬
‫ديانية او‬ ‫ٍ‬
‫لقومية او‬ ‫كلها‪ ،‬ال يمكن نسبتها‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫دون اخرى‪ ..‬بل هي نتيجمة تراكامت اجلهود‬


‫البعد ال تتصارع احلضارات‬ ‫البرشية كلها‪ .‬ويف هذا ُ‬
‫بل تتنافس من اجل الوصول اىل احدث التقنيات‬
‫والفنون والعلوم‪.‬‬
‫فالفن الروماين ‪ -‬مثالً‪ -‬خيتلف يف تفصيله‬
‫عن الفن االيراين‪ ،‬اال أنه ال يدخل يف رصا ٍع معه‬
‫اللغاءه‪ ،‬بل يتنافس معه يف جانبه‪ .‬وكذا يف التقنيات‬
‫و العلوم املختلفة‪.‬‬
‫البعد الثاين‪ :‬احلضارة نفسها‪ ،‬جوهرها و‬ ‫ُ‬
‫روحها‪ ..‬أي تلك (الثقافات) و (الرؤى) و‬
‫ِ‬
‫(الق َيم) التي ُتبنى عليها احلضارة‪.‬‬
‫ويف هذا اجلانب‪ ،‬ال يمكن ان جتتمع احلضارات‬
‫و تتحاور‪ ،‬بل تتصارع فيام بينها تصارع ًا عنيف ًا من‬
‫نظمها و ثقافتها و‬ ‫اجل تغليب كل واحد منها‪َ ،‬‬
‫قيمها و منطلقاهتا عىل األخرى‪ ،‬فمن املمكن ان‬
‫تستفيد حضارة مما هو موجود عند اآلخرى ولكنها‬
‫يف األغلب تتصارع مع بعضها‪.‬‬
‫وهنا نفهم ان احلضارة االسالمية ‪ -‬وان‬
‫كانت تتقاطع مع احلضارات االخرى يف العلوم‬

‫‪37‬‬
‫والفنون والتقنيات‪ -‬اال اهنا تتامئز عنها يف‬
‫األسس واجلوهر والروح! وال يمكن بأي حالٍ‬
‫حل وسطي بينهام‪ ،‬اذ ان ذلك‬ ‫من االحوال اجياد ٍ‬
‫يعني الغاء ذلك اجلوهر الذي تقوم عليها احلضارة‬
‫نفسها‪ ،‬ومن هنا فإن الدعوات التي قامت من‬
‫اجل (حوار احلضارات) يف بداية األلفية الثالثة‬
‫دعوات فارغة ان كانت تستهدف احلوار يف تلك‬
‫النظم والثقافات‪ ..‬والدعوات التي قامت ‪ -‬من‬
‫جهة اخرى‪ -‬عىل حتمية (تصادم احلضارات) و‬
‫رصاعها ايض ًا تكون فارغ ًة ان استهدفت تصادم‬
‫العلوم والتقنيات والفنون‪.‬‬
‫يقول السيد املرجع الوالد‪( :‬ليس هناك قاسم‬
‫مشرتك حقيقي واصيل جيمع بني احلضارتني‪،‬‬
‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫اإلسالمية وما يسمى باحلضارة احلديثة‪ ،‬ولذلك‬
‫كان البون شاسع ًا يف اجلوهر بني هاتني احلضارتني‪،‬‬
‫فقد يبدو ألول وهلة أن هناك مظاهر مشرتكة‬
‫شتان بني سبيلني‪،‬‬
‫قد تكون واحدة بينها‪ ،‬ولكن ّ‬
‫أحدمها يسري بنا اىل اجل ّنة والنعيم‪ ،‬واآلخر اىل‬
‫(((‬
‫جه ّنم واجلحيم‪)..‬‬
‫يل من الكالم السابق‪ ،‬االختالف‬ ‫وكام هو ج ّ‬
‫يف (اجلوهر)‪ ،‬وهو (الثقافة) و (الفكر) و(الرؤى)‬

‫(((  التمدن االسالمي أسسه ومبادئه‪ ،‬ص‪283‬‬


‫‪38‬‬
‫و (القيم)‪ ..‬اما املظاهر فيمكن التشابه والتداخل‬
‫بينهام‪.‬‬
‫ٍ‬
‫فلسفة وفك ٍر‬ ‫فاحلضارة الغربية مث ً‬
‫ال تقوم عىل‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫ٍ‬
‫تضاد مع الفكر االسالمي‪.‬‬ ‫ماديني‪ ،‬وذلك يف‬
‫ويف هذا نفهم اخلطأ الذي وقع فيه بعض‬
‫ظن ان احلضارة وحد ٌة واحدة‪،‬‬ ‫املفكرين‪ ،‬حني ّ‬
‫ال يقول د‪.‬‬‫اما ان تؤخذ مع ًا او ترتك مع ًا‪ ..‬فمث ً‬
‫حجازي‪:‬‬
‫(فاملعادلة التي يدعو كثري من «اإلصالحيني‬
‫املعتدلني» اىل األخذ هبا‪ ،‬وهي اإلبقاء عىل جمتمعاتنا‬
‫بأنساق القيم واساليب السلوك الشائعة فيها‪،‬‬
‫واألخذ من الرتاث العاملي بام ال يتعارض مع هذه‬
‫األنساق‪ ،‬معادلة مستحيلة!‪ ..‬وذلك ألن الرتاث‬
‫كل متكامل‬ ‫املتقدم وسياقه اإلجتامعي احلضاري ّ‬
‫بدرجة ما‪ ،‬إما أن نقلبهام مع ًا او نرفضهام مع ًا‪،‬‬
‫ونبحث عن بديل عن طريق ثورة حتديث ذاتية((()‪.‬‬
‫وهذا االشكال يتفتت تلقائي ًا اذا فهمنا املقدمة‬
‫هذه‪.‬‬
‫واكتفي هبذا املقدار من البحوث عن احلضارة‪،‬‬
‫طويل وعميق شغل طائفة كبرية‬ ‫ٌ‬ ‫فمع ان البحث‬
‫من املفكرين يف َ‬
‫العال‪ ،‬اال اننا ال نحتاج اكثر من هذا‬
‫(((  الشباب العريب ومشكالته‪ ،‬ص‪58‬‬
‫‪39‬‬
‫لبيان البحوث القادمة والتي هي اساس البحث‬
‫يف هذا الكتاب‪ ،‬و من اراد االستزادة فيمكن ان‬
‫يراجع الكتب املفصلة التي كُ تبت يف هذا املوضوع‪.‬‬

‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫‪40‬‬
‫لماذا الحديث عن‬
‫الحضارة؟‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫ملاذا يشغلنا هذا البحث اصال؟ اليس ذلك ترف ًا‬


‫فكري ًا ال نحتاجه اليوم؟‬
‫قد يقول قائل‪ :‬اذا ك ّنا وال زلنا يف بلداننا نفتقر‬
‫مقومات العيش الرغيد‪ ،‬ونواجه‬ ‫ري من ّ‬ ‫اىل كث ٍ‬
‫حتديات اجتامعية وسياسية وثقافية وجودية‪ ،‬فإن‬ ‫ّ‬
‫حديث عن (احلضارة) يبقى حديث ًا فائض ًا‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬‫َّ‬
‫ٍ‬
‫ماض او‬ ‫ٍ‬
‫تراث‬ ‫وحماول ًة للهروب من الواقع اىل‬
‫حلم بعيد‪ ،‬او هو امنية افالطونية ال اكثر هترب من‬ ‫ٍ‬
‫بحث فكري عميق!‬ ‫ٍ‬ ‫الواقع العميل اىل‬
‫وقد يزيد عن هذا الكالم اخر‪ ،‬فيقول‪ :‬ال نحتاج‬
‫البعد اطالقا‪ ،‬ألننا ال يمكننا ابد ًا ‪-‬ويكرر‪:‬‬ ‫اىل هذا ُ‬
‫حضارة ومدنية خاصة بنا‪ ..‬ألننا‬‫ٍ‬ ‫ابداً‪ -‬صناعة‬
‫‪-‬كام يقول الغربيون ع ّنا‪ -‬متخلّفون بطبعنا وجيري‬
‫التخلف يف عروقنا‪ ،‬فال نحتاج اال اىل ِ‬
‫جلد الذات‬
‫التقدم منهم علّهم يم ّنون‬
‫ولعن احلياة‪ ،‬واستجداء ّ‬
‫علينا بفُ تاة َت َق ّدمهم َم ّن ًا وتفضال‪.‬‬
‫ولك ّني ارى أن احلديث عن «احلضارة»‬
‫حديث يسبق كل يشء‪ ،‬ذلك‬
‫ٌ‬ ‫ومفرداهتا و مقوماهتا‬

‫‪43‬‬
‫ألن احلضارة مت ّثل (اهلدف) الذي تتحرك من اجله‬
‫األمم‪ ،‬و (التطلع) الذي يستهدفونه‪ ،‬ا ّنه اهلدف‬
‫العايل الذي جيعلهم يستخرجون كوامن طاقاهتم‬
‫احلية‪ ،‬كيف تشبك ليلها‬‫من اجله‪ ،‬اال ترى األمم ّ‬
‫ٍ‬
‫اهداف ُعليا آمنت هبا‪..‬‬ ‫بنهارها لتطبيق‬
‫ٍ‬
‫بحياة هانئة سعيدة‪،‬‬ ‫ومن ِمن البرشية ال يرغب‬ ‫َ‬
‫يف أمنٍ وسالم؟‪ ..‬لكل البرشية وعىل مجيع‬
‫العصور؟‬
‫فاحلديث عن احلضارة يبلور تلك الرؤية البعيدة‬
‫ٍ‬
‫واضحة للوصول‬ ‫ٍ‬
‫طريق‬ ‫لتضع الشعوب خارطة‬
‫اليه‪ ،‬ولو بعد حني‪.‬‬
‫هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة اخرى فإن احلديث‬
‫مغفول عنه‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫عد (ديني)‬
‫عن احلضارة ُله ُب ٌ‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫وهو أن الرساالت الساموية‪ ،‬ومن جاء هبا من‬


‫األنبياء‪ ،‬انام جاؤوا لسعادة البرش يف الدارين‪ :‬يف‬
‫الدنيا واالخرة‪ .‬ومت ّثلت تلك السعادة يف الدنيا‬ ‫ُ‬
‫يف بناء تلك ا ُمل ُدنية الفاضلة وتلك احلضارة التي‬
‫تتمحور حول سعادة االنسان والنفع له‪ .‬فاهلل‬
‫سبحانه مل جيعل االنسان خليفته يف األرض اال و‬
‫جعل من مهامه (استعامر األرض)‪ ،‬اي عامرهتا‪..‬‬
‫اوليس القائل‪( :‬هو الذي انشاكم من األرض‪،‬‬
‫واستعمركم فيها)؟ ثم اليست احلضارة – يف ٍ‬
‫جزء‬ ‫َ‬

‫‪44‬‬
‫منها‪-‬عامرة االرض؟‬
‫فحينام نتمعن يف النصوص الرشعية‪ ،‬ونتدارس‬
‫احكام االديان‪ ،‬نجد أهنا جاءت لتكامل البرشية يف‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫ثالثة اجتاهات‪:‬‬
‫‪ -‬االجتاه الفردي‪ :‬ويتمثل يف تربية اإلنسان‬
‫الصالح‬
‫‪-‬االجتاه االجتامعي‪ :‬اي بناء املجتمع الصالح‬
‫‪-‬اإلجتاه احلضاري‪ :‬أي بناء احلضارة االنسانية‬
‫ا ُملثىل‬
‫ولذلك فإن األدوار احلضارية لألنبياء عليهم‬
‫السالم مما ال ُيمكن التغايض عنه‪ ،‬بل أن اهلل سبحانه‬
‫وتعاىل ال يكتب التاريخ اال و تتمحور احداثه‬
‫حول (األنبياء)‪ !..‬أال ترى كيف يكرر املؤرخون‬
‫احلديث يف كتبهم عن دور امللوك والسالطني‪،‬‬
‫فيكتبون ‪ -‬يف التاريخ القديم مثال‪ -‬عن الفرعون‬
‫املرصي و نمرود البابيل‪ ،‬واالسكندر املقدوين‪ ،‬و‬
‫كوروش الفاريس‪ ،‬و سيزار الرومي وغريهم‪..‬‬
‫بينام احلديث يف النص الديني ا ُملنزل من قبل اهلل‪،‬‬
‫يدور حول األنبياء‪ ..‬ألن حركة التأريخ احلقيقية‬
‫كانت عىل ايدهيم‪ .‬فأصل التاريخ بِع َثةُ األنبياء‬
‫والباقي تفاصيل!‬

‫‪45‬‬
‫انظر ‪ -‬وفكّ ر مليا‪ -‬يف اربع ٍ‬
‫ايات قصار‪ ،‬تكاد‬ ‫ّ‬
‫تلخص‬ ‫تبلغ بمجموعها سطر ًا او سطرين‪ ..‬لك ّنها ّ‬
‫تاريخ احلضارات البرشية‪ :‬قيامها‪ ،‬استمراريتها‬
‫وسقوطها‪:‬‬
‫ال َّولِنيَ *‬
‫« َو َلق َْد َضلَّ قَب َل ُهم َأكْ َثر ْ َ‬
‫ْ ْ ُ‬
‫ين ‪ -‬أي انبياء و‬ ‫َو َلق َْد َأ ْر َس ْل َنا ِفي ِه ْم ُم ْن ِذ ِر َ‬
‫اوصياء‪*-‬‬
‫ين ‪-‬أي األمم‪* -‬‬ ‫ان َع ِ‬
‫اق َب ُة الْ ُ ْن َذ ِر َ‬ ‫فَا ْن ُظ ْر كَ ْي َف كَ َ‬
‫ني» (الصافات ‪)74-71‬‬ ‫إ َِّل ِع َبا َد َّ‬
‫اللِ الْ ُ ْخ َل ِص َ‬
‫فتوصيف السامء حلركة اهل األرض‪ ،‬خيترص يف‬
‫نذرين‪ ،‬وا ُمل ِ‬
‫نذرين‪.‬‬ ‫ُمفردتني‪ :‬ا ُمل َ‬
‫واذا أردت املزيد من االستدالل فيحتاج اىل‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫ابينه باجياز شديد‪ :‬البحث عن‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مفصل ّ‬ ‫بحث‬
‫الدورات احلضارية‪..‬‬
‫متر احلضارات يف قيامها وسقوطها‪ ،‬بمراحل‬
‫خمتلفة‪ ..‬منهم من جعلها اربع ومنهم من جعلها‬
‫سبع او تسع‪ ..‬لكن تضل ابسطها تلك التي ّبينها‬
‫شبه حياة‬‫قدي ًام ابن خلدون يف مقدمته‪ ،‬حيث ّ‬
‫احلضارات بدورة حياة كائنٍ حي‪ ،‬اذ جعل هلا‬
‫مرحلة طفولة ونمو‪ ،‬ثم شباب وقوة‪ ،‬ثم مرحلة‬
‫ال اىل السقوط و‬ ‫ضعف و انحطاط‪ ..‬وصو ً‬‫ٍ‬

‫‪46‬‬
‫(املوت)‪.‬‬
‫ولكن هذه الدورة ‪ -‬يف نظر االسالم‪ -‬ليس‬
‫قانون ًا عام ًا‪ ،‬اذ يغفل عاملني اساسيني‪ :‬اإلرادة‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫البرشية‪ ،‬واإلرادة االهلية‪.‬‬


‫فدراسة رسيعة يف احلضارات ‪ -‬حسب كالم‬
‫ٍ‬
‫حضارات رجعت من بعد‬ ‫يبي‬
‫املؤرخني اليوم‪ّ -‬‬
‫عز‬
‫ضعفها قوي ًة مرة اخرى‪ ،‬واخرى سقطت يف ّ‬
‫قوهتا ‪ -‬كحضارة الفراعنة‪.-‬‬
‫فالنظرية الصحيحة يف الدورة احلضارية التي‬
‫ال تغفل دور األنبياء وبعثتهم وفق الرؤية القرآنية‬
‫هي‪:‬‬
‫تقوم احلضارة بفعل تراكم النقاط االجيابية‬
‫تفوقها‪ ،‬فتبدأ بالبناء دون اهلدم‪،‬‬
‫(الصالح) و ّ‬
‫وباالنتاج دون االستهالك‪ ..‬وهكذا تنتقل من‬
‫مرحلة (الطفولة) اىل (الشباب)‪..‬‬
‫لكن تنمو احلضارة وتنمو معها عوامل‬
‫سقوطها‪ ..‬فيبدأ فيها (الرتف) و (الظلم) و‬
‫(االستبداد) و (الفساد)‪ ..‬ويصبح الفساد حالة‬
‫عامة بعد ان كانت موار َد معدودة‪..‬‬
‫عندئذ‪ ..‬تبدأ احلضارة لإلنحدار‪..‬‬
‫يف هذه اللحظة احلساسة‪ ..‬يبعث ا ُ‬
‫هلل األنبياء‪،‬‬

‫‪47‬‬
‫ُلينذروا ويصحح املسري‪..‬‬
‫فان استجابوا ‪ -‬كقوم يونس ‪ -‬ينفعهم ايامهنم‪،‬‬
‫ويتمعون اىل حني‪ ..‬واال اخذهم اهلل‬‫فيبقون فرت ًة ّ‬
‫وظلمهم بعد االنذار واالبالغ‪ -‬ككثري‬‫‪ -‬بفَسادهم ُ‬
‫ٍ‬
‫وثمود و اصحاب الرس‪..‬‬ ‫من االمم الغابرة‪ٍ ،‬‬
‫عاد‬
‫ٍ‬
‫حضارات‬ ‫بل ان اهلل سبحانه وتعاىل انجى‬
‫ٍ‬
‫بانبياء منه‪ ..‬فهذا النبي يوسف (ع) ُينجي‬ ‫برشية‬
‫بالكفر‪..‬‬ ‫ِ‬
‫واهلالك ُ‬ ‫حضارة مرص من اهلالك بال َقحط‬
‫وهذا داوود و ذاك سليامن وذاك موسى و غريهم‬
‫من األنبياء‪.‬‬
‫فاألنبياء عليهم السالم كانوا ُبنا ًة للحضارة‬
‫ورعا ًة هلا‪.‬‬
‫ُ‬
‫فاحلديث عن احلضارة يبقى حديث ًا يف صميم‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫برتف فكري‪ ،‬بل هو‬ ‫ٍ‬ ‫الفكر الديني‪ ،‬وال يرتبط‬


‫ٍ‬
‫شائق يتمنى) نتمنى لو استطعنا تطبيقه و بناء‬ ‫(امنيةُ‬
‫احلضارة االسالمية املثىل عىل وجه هذه البسيطة‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫الشباب‬
‫وحضارة الغرب‪:‬‬
‫قطيعة او ذوبان؟‬
‫ٌ‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫بعد مقدمة طويلة ‪-‬البد منها‪ -‬استوضحنا‬


‫املقصود من احلضارة وتلك البحوث املرتبطة‬
‫هبا‪ ،‬نصل اىل السؤال االسايس‪ :‬كيف نتعامل‬
‫اليوم كمسلمني مع نتاج احلضارة البرشية؟ هل‬
‫نحن بحاجة اىل االنغالق عىل انفسنا ُبغية صناعة‬
‫ٍ‬
‫حضارة خاصة بنا؟ ام البد من االنفتاح؟ وما هي‬
‫االجيابيات واملضار التي سنتحملها يف كل ٍ‬
‫حالة من‬
‫احلاالت؟‬
‫لالجابة اقول‪ :‬يتفق اجلميع أ ّنه البد من وجود‬
‫(مقدار) من االنفتاح والتواصل مع احلضارة‬
‫البرشية اليوم‪ ،‬و يتفق اجلميع ايض ًا ان هذا االنفتاح‬
‫(مطلقا) بل البد ان حيدد‬ ‫ال يمكن ان يكون ُ‬
‫بحدود‪.‬‬
‫ٍ‬
‫مقدمة ماضية‪ -‬ليس‬ ‫واحلديث ‪ -‬كام اسلفنا يف‬
‫يف جانب ( ُن ُظم) احلضارة و (قيمها)‪ ،‬بمقدار ما هو‬
‫يف نتاجاهتا العلمية والتقنية والفنية‪.‬‬
‫ولكن حيتاج هذا املجمل اىل تفصيل‪.‬‬
‫ملاذا االنفتاح اساس ًا؟‬

‫‪51‬‬
‫ال اىل التواصل مع العامل ك ِّله؟ وما‬
‫ما احلاجة اص ً‬
‫الذي سنجنيه منه؟‬
‫ال‪ :‬نتساءل‪ :‬هل ُيمكن لنا عملي ًا يف عرص‬‫او ً‬
‫مادي و‬
‫ٍ‬ ‫نسور بلداننا بسو ٍر‬
‫الثورة الرقمية‪ ،‬أن ِّ‬
‫رقمي سميك‪ ،‬نفصله عن العامل ك ِّله‪ ،‬سور يكون‬
‫كسد «ذي القرنني» عصي ًا عىل االخرتاق؟‬
‫هل يمكن ان نتصور حياتنا اليوم منقطعة عن‬
‫العامل كله؟‬
‫ال و واقع ًا‪ ،‬يعني‬
‫كال‪ ..‬اذ مع استحالة ذلك عق ً‬
‫ذلك أن نمنع عن انفسنا نتاجات العقل البرشي‪،‬‬
‫يف جمال التقنية والعلم‪ ،‬فنمنع عن انفسنا وعن‬
‫االجيال نعمة التكنولوجيا و قدرهتا‪ ..‬و أن نبدأ‬
‫(من الصفر) نكتشف ُصنع النار والفخار! ونحاول‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫ان ننتقل بأنفسنا من العرص احلجري اىل الربونزي‬
‫وصو ً‬
‫ال اىل ما وصلت اليه البرشية اليوم‪ ..‬ولو بعد‬
‫الف عام!‬
‫لتسهل حياة البرش‪ ،‬وتو ّفر‬
‫ثم ان العلوم جاءت ّ‬
‫جلهد لالنسان‪ .‬فهل يرتك ذلك‬‫املزيد من الوقت وا ُ‬
‫العاقل ويعود اىل حياة التعب والنصب؟!‬
‫احلكم عىل‬ ‫ثاني ًا‪:‬من جهة اخرى‪ ،‬ال يمكن ُ‬
‫نتاج العقل البرشي كلّه عىل انه خطأ و باطل‪ ..‬بل‬
‫بحث العقل البرشي يف كث ٍ‬
‫ري من حماوالته عن تلك‬
‫‪52‬‬
‫الكون عليها‪ ،‬وعرب فهمها‬
‫َ‬ ‫احلقائق التي خلق اهلل‬
‫انتج ما انتج و بلغ ما بلغ‪.‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬ثم أال يعني انفصالنا عن نتاجات العلم‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫رفض لواقع سامهنا ‪ٍ -‬‬


‫كأمة اسالمية‪ -‬فيه‬ ‫احلديث‪ٌ ،‬‬
‫ٍ‬
‫فرتات‬ ‫رواد العلم يف‬
‫مسامه ًة كبرية‪ ،‬حتى اصبحنا ّ‬
‫ٍ‬
‫فرتات طويلة يف‬ ‫ماضية؟ اوليس املسلمون نبغوا‬
‫البحوث العلمية والتجريبية‪ ،‬تلك البحوث التي‬
‫اصبح كثري ًا منها ماد َة التقدم التقني اليوم؟ فمن‬
‫(احليان) مل يستطع (الفوازييه) اثبات‬
‫ّ‬ ‫دون بحوث‬
‫ابوته للكيامء احلديثة(((! ومل تعرف ُنظم احلساب‬ ‫ّ‬
‫املعقدة طريقها اال عرب بحوث (اخلوارزمي)‪..‬‬
‫اما ابن البيطار واملجريطي و ابن اهليثم و غريهم‬
‫ٍ‬
‫موسوعات مطولة‪.‬‬ ‫فيحتاج احلديث عنهم اىل‬
‫فكيف نرفض ما انتجناه نحن يف عصو ٍر‬
‫ماضية؟‬
‫ومل تتقدم احلضارات اال بتفاعلها مع بعضها‬
‫البعض‪ ،‬فاملؤرخ الربيطاين الشهري «ويل ديورانت»‬

‫(((   تل ّقب الكثري من املصادر احلديثة‪ ،‬الكيميائي‬


‫الفرنيس (انطوان الفوازييه) عىل أنه اب الكيمياء احلديثة‪،‬‬
‫اال أن املصادر القديمة تعترب (جابر بن حيان) هو األب‬
‫العلم من حماوالت‬ ‫احلقيقي هلذا العلم‪ ،‬حيث أخرج ِ‬
‫صناعة الذهب اىل تقسيم املواد و صناعة اجهزة القياس‬
‫واالختبار له‪.‬‬
‫‪53‬‬
‫يؤكد عىل هذه احلقيقة قائالً‪«( :‬إن قصتنا تبدأ‬
‫بالرشق‪ ،‬ال ألن آسيا كانت مرسح ًا ألقدم‬
‫مدنية معروفة لنا فحسب‪ ،‬بل كذلك ألن تلك‬ ‫ّ‬
‫املدنيات كونت البطانة واألساس للثقافة اليونانية‬
‫والرومانية التي ظن «سري هنري مني» خطأ أهنا‬
‫املصدر الوحيد الذي استقى منه العقل احلديث‪،‬‬
‫فسيدهشنا أن نعلم كم خمرتع ًا من ألزم خمرتعاتنا‬
‫حلياتنا‪ ،‬وكم من نظامنا االقتصادي والسيايس ومما‬
‫لدينا من علوم وآداب‪ ،‬وما لنا من فلسفة ودين‪،‬‬
‫يرتد إىل مرص والرشق‪»(((.‬‬
‫ُّ‬
‫وهذا يؤكد ما اسلفناه من احلديث عن ان‬
‫ٍ‬
‫ألحد او ُملك ًا له‪.‬‬ ‫احلضارة وعلومها ليست ِحكر ًا‬
‫رفض لذلك الرتاث ‪-‬‬ ‫فاالنغالق عىل الذات يعني ُ‬
‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫اي مسامهة املسلمني ‪ -‬نفسه‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬نؤمن كمسلمني بمبدأ (عاملية الدين)‪،‬‬
‫أي ا ّنه جاء لسعادة البرشية كلها‪ ،‬ومن هنا محل‬
‫املسلمون الدعوة اىل دينهم اىل اقىص بقاع العامل‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬اذا قطع اإلسالم خطوط تواصله مع حميطه‬
‫العال به؟ فهل يتلخص َ‬
‫العال‬ ‫البرشي فكيف يتأثر َ‬
‫يف مكة و مدينة وكربالء وقم والنجف؟ ام يف‬
‫بغداد وطهران ودمشق ورياض و انقرة واسالم‬

‫(((  قصة احلضارة‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪6‬‬


‫‪54‬‬
‫اباد وكابل و القاهرة و صنعاء؟‪ ..‬ام ان هناك عا ٌمل‬
‫رحب فسيح يقطنه‪ -‬من غري املسلمني‪ -‬ستة االف‬
‫مليون برش‪ ..‬سيدخلون ‪ -‬ان شاء اهلل ‪ -‬يف االسالم‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫يوما‪.‬‬
‫لكن كيف يتم دعوهتم حني يطالب البعض‬
‫باالنغالق التام عن العامل؟‬
‫ولذا خياطب القرآن الكريم كثري ًا اهايل‬
‫الديانات االخرى‪ ،‬و يوضع طبيعة العالقة بينهم‬
‫وبني املسلمني‪ ،‬ومع ان اخلطاب القرآين قد يستفاد‬
‫منه اجلانب الفقهي ‪ /‬العقائدي يف الوهلة األوىل‪،‬‬
‫اال انه قد يشمل االبعاد احلضارية ايضا‪.‬‬
‫تاب َتعا َل ْوا إِىل كَ ِل َم ٍة‬ ‫فيقول مثالً‪« :‬قُلْ يا َأ ْه َل ال ِْك ِ‬
‫الل َو ال ُن ْش َِك بِ ِه‬ ‫َس ٍ‬
‫واء َبي َننا َو َبي َن ُكم َأ َّال َن ْع ُب َد إِ َّال َّ َ‬
‫ْ ْ‬ ‫ْ‬
‫اللِ َفإ ِْن‬ ‫َش ْيئ ًا َو ال َي َّت ِخ َذ َب ْع ُضنا َب ْعض ًا َأ ْرباب ًا ِم ْن ُد ِ‬
‫ون َّ‬
‫ون»‬‫اش َه ُدوا بِ َأ َّنا ُم ْس ِل ُم َ‬‫َت َول َّْوا ف َُقو ُلوا ْ‬
‫لعالقة اجيابية مع‬ ‫ٍ‬ ‫فاخلطاب القرآين يؤسس‬
‫سائر االديان‪ ،‬تلك العالقة التي ال تقوم عىل اساس‬
‫التأثر بدينهم ومعتقدهم‪ ،‬بل عىل اساس التواصل‬
‫والتفاعل االجيايب معهم‪.‬‬
‫خامساً‪ :‬او تعرفون معنى االنقطاع عن التواصل‬
‫‪ -‬وبالتايل التفاعل‪ -‬مع َ‬
‫العال؟‬

‫‪55‬‬
‫ا ّنه يعني‪ :‬حضارة (املايا) أو (اإلنكا)! تلك‬
‫احلضارات التي نشأت مفصولة عن سائر‬
‫احلضارات فص ً‬
‫ال كامالً‪ ،‬بسبب موقعها اجلغرايف‬
‫يف شامل القارة األمريكية اجلنوبية حاليا‪ ..‬فنمت‬
‫مئات السنني وعاشت ضمن نظا ٍم حضاري متني‪..‬‬
‫لك ّنها و نتيجة هذا االنفصال تأخر نموها عرشات‬
‫القرون من الزمن!‬
‫فلم يكن يصل مستواها احلضاري حني‬
‫سقوطها عام ‪ 1532‬م‪ ،‬اال اىل ما وصل اليه‬
‫حضارة الفراعنة حوايل ‪ 2500‬ق‪.‬م‪ ،‬أي تأخرت‬
‫عن البرشية (‪ 4000‬سنة!)‬
‫وهلذا مل حيتاج (فرانشيكو بيفادو) القائد‬
‫ال فقط‬‫‪-‬واملجرم‪ -‬اإلسباين‪ ،‬اال اىل (‪ )180‬رج ً‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫إلسقاط تلك احلضارة املرتامية األطراف‪ ،‬وذبح‬
‫شعبها و تدمري آثارها‪.‬‬
‫اهلوة بيننا وبني العامل و يزيدنا‬
‫فاالنغالق يزيد ّ‬
‫تأخراً‪.‬‬
‫فهذه االدلة ‪ -‬وغريها كثري‪ -‬تدلنا عىل عدم‬
‫صحة القطيعة مع العامل‪ ،‬قطيع ًة تامة‪ ..‬وشخصي ًا‬
‫‪ -‬وبحسن ظن‪ -‬انسب كثري ًا من هذه الدعوات‬
‫املتطرفة اىل ردود ٍ‬
‫فعل عنيفة عىل املؤامرات الغربية‬
‫يف بلداننا العربية واالسالمية‪ ،‬تلك املؤامرات التي‬

‫‪56‬‬
‫غريب‬
‫ٌ‬ ‫و ّلدت رفض ًا قاطع ًا عند البعض لكل ما هو‬
‫او رشقي‪.‬‬
‫ملاذا القطيعة؟‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫اذا كان للتواصل مع احلضارات البرشية اليوم‬


‫‪ -‬بنسخته الغربية او الرشقية‪ -‬حيوي هذا القدر‬
‫من الفوائد‪ ،‬فلامذا ال (نذوب) يف احلضارة البرشية‪،‬‬
‫ونحاول ان نجعل بلداننا نسخ ًة مقلّدة طبق األصل‬
‫منها؟‬
‫يمنعنا عن ذلك عدة اسباب‪:‬‬
‫او ًال‪ :‬ما ّبينا ان التواصل والتفاعل‪ ،‬ال يمكن ان‬
‫يكون يف احلضارة و اساسها‪ ،‬بل يكون يف نتاجاهتا‬
‫من العلوم (الطبيعية منها واالنسانية) و التقنيات‬
‫والفنون‪ ،‬وهذا يرسم خط ًا يمنع الذوبان وحيافظ‬
‫عىل هوية االسالم‪.‬‬
‫ثانياً‪ :‬من منظو ٍر ديني‪ ،‬يفرض الدين علينا‬
‫احكام ًا خاصة و رؤية عن (الصحيح) و (اخلطأ)‪.‬‬
‫تلك الرؤية التي ترتجم اىل احكام يكون يف انكارها‬
‫خروج ًا من الدين نفسه‪ .‬واحلضارة البرشية قد‬
‫اختذت سبي ً‬
‫ال مغاير ًا يف بعض هذه القوانني‪ ،‬سواء‬
‫تلك املرتبطة باالحوال الشخصية وحدود احلريات‬
‫الشخصية واملدنية‪ ،‬او تلك املرتبطة باصل الدين‬
‫وموقعيته يف احلياة االجتامعية والسياسية‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫العال ‪ -‬وبفعل منظامت خاصة‬ ‫َ‬ ‫يتجه‬
‫ال ّ‬‫فمث ً‬
‫وضغط اعالمي مشبوه‪ -‬اىل ترويج (املثلية)‪ ،‬ذلك‬‫ٍ‬
‫الشذوذ اجلنيس الذي حياربه الدين حمارب ًة كاملة‪،‬‬
‫ويتخذ اشد انواع العقوبات واحلدود قبال مرتكبه‪،‬‬
‫وير ّتب عليه احكام ًا وضعية خمتلفة‪ .‬بل وال يفتأ‬
‫القران الكريم التذكري بقصة قوم النبي لوط (ع)‬
‫دمر اهلل‬
‫حني ابتلوا هبذا الفعل القبيح وكيف ّ‬
‫حضارهتم واخذهم (اخذ ًة رابية)‪.‬‬
‫فكيف يمكن اجلمع بني االثنني؟‬
‫ولعمري‪ ..‬إ ّنه من املضحك ا ُملبكي يف ٍ‬
‫آن‬
‫ٍ‬
‫تفسريات بعيدة‬ ‫واحد‪ ،‬حماوالت البعض اجياد‬
‫لبعض االحكام الرشعية للجمع بينها و بني الرؤية‬
‫البرشية السائدة اليوم‪.‬‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫َ‬
‫العال اليوم ونتيجة لقضايا‬ ‫وكمثال آخر‪ ،‬فإن‬
‫تارخيية خاصة يف القرون الوسطى يف اوروبا‪،‬‬
‫انتهج نحو هتميش دور الدين االهلي و حذفه ال‬
‫من معادالت السياسة فحسب‪ ،‬بل من احلياة كلّه‪..‬‬
‫وهذه الرؤية تكاد تكون من اسس احلضارة املادية‬
‫اليوم‪ ،‬بينام يتعارض ذلك من اصل حاكمية اهلل ‪-‬‬
‫وبالتايل دينه‪ -‬يف جمال الترشيع والقضاء ُ‬
‫واحلكم‬
‫مع ًا‪.‬‬
‫ثالثاً‪ :‬من منظو ٍر عقالئي‪ ،‬فإن كثري ًا من‬

‫‪58‬‬
‫التفاصيل احلضارية ال تكون اال حلو ً‬
‫ال ملشاكل‬
‫تلك األمة او ذلك املجتمع الذي نشأت فيه‪ ،‬فهل‬
‫حني ال توجد‬
‫من العقل أن تستورد تلك احللول َ‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫املشكلة اصال؟!‬
‫وهذا استدالل اخر عىل عدم احلاجة اىل استرياد‬
‫الثقافة وبعض ال ُن ُظم احلضارية‪.‬‬
‫لكن املشكلة‪ ،‬أن احلضارة تأيت عاد ًة جمموع ًة‬
‫واحدة‪ :‬علوم وتقنيات ‪ +‬ثقافة و نمط العيش (‪Life‬‬
‫‪ُ + )style‬ن ُظم وافكار وقوانني‪ .‬ال يستطيع املجتمع‬
‫‪ -‬يف بداية األمر‪ -‬تفكيكها عن بعضها و اخذ ما‬
‫حيتاجه فقط‪.‬‬
‫ال ظهرت يف الدول الغربية نتيجة حلالة‬ ‫فمث ً‬
‫املجتمع الصناعي وما يرافق ذلك من حماوالت‬
‫تكديس الثروة‪ ،‬و التنافس الشديد يف االقتصاد‬
‫الرأساميل‪ ..‬ظهرت مشاكل ترتبط باستغالل‬
‫الطبقة العاملة‪ ،‬بل وظهرت تيارات فكرية (كالتيار‬
‫املاركيس) و مصطلحات كالبوليتارية كرد فعل‬
‫عىل حالة النظام االقتصادي آنذاك‪.‬‬
‫ولكن االسترياد احلضاري كمجموعة‬
‫واحدة‪ ،‬فرضت عىل كث ٍ‬
‫ري من رجاالتنا أن حياولوا‬
‫تقليد الغرب يف تلك ال ُن ُظم والقوانني‪ ،‬بل تلك‬
‫الرصاعات الفكرية بني الرأساملية واملاركسية‪ ،‬تم‬

‫‪59‬‬
‫استريادها اىل بلداننا‪ ..‬حيث ال وجود للمصانع‬
‫وال الطبقة الكادحة وال تراكم رأس املال اصال!‬
‫وصار مثلنا كمثل من يصدر لوائح قانونية‬
‫مفصلة عن (قوانني املرور) يف ٍ‬
‫بلد ال يملك سيار ًة‬
‫واحدة!‬
‫وكمثال اخر‪ ،‬تكتب األمم املتحدة نامذج‬
‫للتنمية يف خمتلف االجتاهات يف احلياة‪ ،‬فتكتب‬
‫ال عن حلولٍ للتفكك األرسي يف تقاري ٍر‬ ‫مث ً‬
‫سنوية‪ ،‬لكننا نتجاهل أن التفكك األرسي ظاهرة‬
‫تعاين منها البلدان غري االسالمية‪ ،‬املتطورة منها‬
‫وغري املتطورة (((‪ ،‬فهل من املعقول أن نطبق تلك‬
‫(ال ُنسخ) اجلاهزة يف البلدان االسالمية‪ ،‬حيث‬
‫النظام األرسي والعشائري املتني؟‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫من جهة اخرى تظهر مشكلة استرياد نمط‬
‫شعب خصوصياته‬ ‫ٍ‬ ‫العيش (‪ ..)Life style‬فلكل‬
‫فيام يرتبط بطريقة عيشه‪ ،‬تلك اخلصائص املرتبطة‬
‫بخصائص ثقافية‪ ،‬واخرى بيئية و فسلجية‪.‬‬

‫(((  اظهر تقرير صادم لالمم املتحدة عام ‪ ،2017‬أن‬


‫حوايل ‪ %75‬من املواليد اجلدد يف بعض دول األمريكا‬
‫أب وا ٍم ال يربط‬ ‫ً‬
‫طبعا)‪ ،‬يولدون من ٍ‬ ‫الالتينية (املتخلفة‬
‫ٍ‬
‫محاية من‬ ‫بينهام عالقة رشعية او قانونية‪ ،‬أي يولدون بال‬
‫ارسة‪..‬‬
‫‪60‬‬
‫فطعام املناطق الباردة‪ ،‬خيتلف عنه يف املناطق‬
‫ُ‬
‫احلارة‪ ،‬و املناطق اجلافة عن املناطق االستوائية‬
‫املرطوبة‪ ،‬و حماولة خلق نمط عيش واحد للبرشية‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫كلها يف الطعام يتجاهل تلك اخلصائص بصورة‬


‫كاملة‪.‬‬
‫يتوفر‬
‫ّ‬ ‫شعب يتناسب مع ما‬ ‫ٍ‬ ‫ثم ان طعام أي‬
‫يف بلداهنم من مواد غذائية اساسية‪ ،‬لتشكل امن ًا‬
‫واستقالال غذائي ًا هلذا الشعب‪ .‬ففي بلداننا مثالً‪،‬‬
‫يكثر االعتامد عىل احلبوب الغذائية (كالقمح و‬
‫الشعري واحلمص والعدس و‪ )..‬يف الوجبات‬
‫الرئيسية وكذا اخلضار (كالبطاط والباذنجان و‬
‫لتوفرها وسهولة‬‫ّ‬ ‫البصل و‪ )..‬يف اكالته‪ ،‬نظر ًا‬
‫زراعتها واالستفادة منها‪ ،‬هذا االمر الذي خيتلف‬
‫كليا يف بعض البلدان كاسرتاليا ونيوزيلندا و بعض‬ ‫ّ‬
‫البلدان االوروبية ذات املناخ البارد جدا‪ ،‬حيث‬
‫يكثر االعتامد عىل (اللحوم) يف الوجبات الغذائية‬
‫ويقل استخدام احلبوب واخلضار نتيجة صعوبة‬
‫زراعتها او التكلفة العالية هلا‪ .‬حتى يصل احلال يف‬
‫بعض البلدان ان تصل سعر (الباذنجان) الواحد‪،‬‬
‫ذلك اخلضار الذي ُيعترب يف بلداننا طعام ًا للفقراء‪،‬‬
‫يصل قيمته اىل (‪ )$5‬للـ(باذنجان) الواحد‬
‫فحسب‪ ،‬اما اللحوم ‪ -‬يف تلك البلدان‪ -‬فهي طعام‬
‫الفقراء‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫لكن فرضت (العوملة) عىل الشعوب نمط ٍ‬
‫عيش‬
‫معني و طعام ًا معينا‪ ..‬فانترشت يف كثري من البلدان‬
‫مطاعم االكالت اجلاهزة (‪ )Fast food‬وصار عنوان‬
‫حتض البلدان والشعوب‪ ،‬متى استجابتها هلذا‬ ‫ّ‬
‫النمط‪ ،‬فالبيتزا و اهلامربغر و السويش صارت‬
‫عنوان حترض الشعوب‪.‬‬
‫فيا عجبي! لو حتو ّلت احلضارة اىل الصني‬
‫(وهو املتوقع يف القرن القادم)‪ ،‬فهل ُيصبح اكل‬
‫(الضفادع) و (الديدان) عنوان احلضارة! ام ُتصبح‬
‫مقدار احلضارة يف القدرة عىل اكل (الفلفل) حني‬
‫انتقاهلا اىل اهلند؟!‬
‫ثم هناك مسألة اختالف األذواق‪ .‬فاهلل سبحانه‬
‫ٍ‬
‫ونمط واحد‪ .‬يقول‬ ‫ٍ‬
‫بشكل واحد‬ ‫مل خيلق البرشية‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫ُ‬
‫(واختالف السنتكم والوانكم)‬ ‫اهلل سبحانه وتعاىل‪:‬‬
‫شخص ذوقَه اخلاص فيام يرتبط بكث ٍ‬
‫ري‬ ‫ٍ‬ ‫(((‪ ،‬فلكل‬
‫من القضايا التي يتعامل معها‪ .‬فالرسمة اجلميلة يف‬
‫يسء‬
‫والطعام اللذيد عندي ٌ‬
‫ُ‬ ‫نظري قبيحة عندك‪..‬‬
‫عندك‪ ..‬و الزهرة اجلميلة يف رأيي قبيحة عندك‪..‬‬
‫وهكذا‪.‬‬

‫(((  يرى السيد املرجع الوالد حفظه اهلل‪ ،‬أن اختالف‬


‫األلوان املقصود يف االية‪ ،‬يشمل اضاف ًة اىل معناه الظاهري‪،‬‬
‫اختالف االذواق ايضا‪.‬‬
‫‪62‬‬
‫التنوع ا ُملدهش‬
‫و لو ال ذلك‪ ،‬ملا وجدنا هذا ّ‬
‫واملمتع يف عامل البرشية‪..‬‬
‫هل تعلم ‪ -‬مثالً‪ -‬عدد اطباق الطعام املعد يف‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫العامل؟!‬
‫ال اعلم!‬
‫بعمل بسيط ‪-‬‬‫ٍ‬ ‫ولكن بعض الباحثني مجعوا‬
‫ٍ‬
‫باستقراء تام‪ -‬اكثر من ‪ 7500‬وصف ًة خمتلفة‬ ‫ال‬
‫للطعام! ويبالغ بعض الباحثني ‪ -‬نظري ًا‪ -‬حتى‬
‫ِ‬
‫يوصل ذلك اىل مئات االلوف من الوصفات‪.‬‬
‫كل هذه‬
‫فهل أنت ‪ -‬أهيا القارئ‪ -‬س ُتحب َّ‬
‫االطعمة؟!‬
‫بالقطع واليقني‪ ..‬ال‪..‬‬
‫ولكن هناك يف هذا العامل الرحب‪ ،‬ستجد من‬
‫يتناسب ذوقُه مع طعا ٍم قد نشمئز منه‪.‬‬
‫وكام جيري ذلك يف الطعام‪ ،‬جيري يف امللبس‬
‫واملسكن و الظاهر اخلارجي و الفن و‪ ..‬حتى قيل‬
‫لبارت‬
‫عن هذا االختالف (لوال اختالف األذواق َ‬
‫ِ‬
‫الس َلع)‪.‬‬
‫عال ًا يأكل كل البرش فيه‬
‫وهل يمكن ان تتصور َ‬
‫طعام ًا واحداً‪ ،‬ويلبسون زي ًا واحداً‪ ،‬و يتكلمون‬
‫ٍ‬
‫بطريقة واحدة‪ ،‬و يركبون سيارة من نو ٍع واحد و‬

‫‪63‬‬
‫يسكنون بيوت ًا من طرا ٍز واحد؟‪..‬‬
‫ما اقبحه من َ‬
‫عال!‬
‫أمتنى أن أموت‪ ..‬وال ادركه!‬
‫مصنع‬
‫ٍ‬ ‫آالت متشاهبة‪ُ ،‬صنِ َعت يف‬
‫ٍ‬ ‫فليس البرش‬
‫كائنات ُمبدعة تتغذى ارواحها عىل‬‫ٍ‬ ‫واحد‪ .‬بل‬
‫تنوع احلياة‪.‬‬
‫مجالية ّ‬
‫ٍ‬
‫رشكات‬ ‫ولكن فرضت (العوملة) و ما خلفها من‬
‫العال ذوق ًا واحدا‪ .‬فحاولت‬
‫جتارية ومصالح‪ ،‬عىل َ‬
‫لتقدم بضاعتها ذات‬‫ان تتدخل يف هذا (الذوق) ّ‬
‫النمط الواحد‪.‬‬
‫فخذ مثا ً‬
‫ال عىل معيار (اجلامل) يف املرأة‪ ،‬ذلك‬
‫املعيار الذي خيتار كثري ًا من شبابنا نصفَهم اآلخر‬
‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫بناء عليه‪ ،‬فالسؤال‪ :‬من هي (اجلميلة)؟‬
‫ً‬
‫نابع للذوق ايض ًا‪ .‬فاألذواق‬
‫يف احلقيقة‪ ..‬اجلامل ٌ‬
‫خمتلفة واالراء متباينة‪ ،‬ولوال ذلك ملا لبس فُتسان‬
‫الزفاف اال قليل من النساء‪.‬‬
‫غي هذا‬ ‫ولكن القصف االعالمي اهلائل‪ّ ،‬‬
‫الذوق وحاول توحيده‪ ،‬عرب الربامج االعالمية‪،‬‬
‫وعرب مسابقات (ملكة اجلامل) ذات املعايري‬
‫فعرفوا للبرشية نموذج‬
‫اخلاصة يف اختيار اجلامل‪ّ ..‬‬
‫الـ(باريب)‪ ،‬تلك املرأة النحيلة ذات املواصفات‬

‫‪64‬‬
‫اجلسدية املعينة‪.‬‬
‫العال يبحثون عن هذه‬‫فصار كثري من شباب َ‬
‫املواصفة اخلاصة‪ ،‬الغريبة عن ذوقهم األصيل‪..‬‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫فال جيدونه اال يف القليل من بنات بلدهتم‪ .‬بل‬


‫هم كثري من الفتيات أن يدخلن يف ِحيات‬ ‫وصار ّ‬
‫غذائية ورياضات بدنية معقدة للوصول اىل هذا‬
‫(القالب)‪ ،‬و صارت الواحدة منها ال خترج اال بعد‬
‫ِ‬
‫الزينة‬ ‫ٍ‬
‫اطنان! من‬ ‫ان ُتفي مالحمها احلقيقية خلف‬
‫الفاضحة‪..‬‬
‫قد تقول‪ :‬اليس هذا النموذج األمجل؟‬
‫اقول‪ :‬ربام نعم‪ ..‬وربام ال‪ .‬فاجلامل ‪ -‬كام‬
‫ذكرت‪ -‬مسألة شخصية تابعةٌ للذوق‪.‬‬
‫هل تعلم‪ :‬أن يف بعض البلدان االفريقية‪ ،‬يعترب‬
‫اجلامل عند املرأة يف درجة (سامر البرشة) و (الوزن‬
‫كلم كانت املرأة اكثر وزن ًا واكثر سواد ًا‬
‫الزائد)! أي ّ‬
‫كلام كثر ُط ّلهبا من الرجال‪.‬‬
‫وربام نستهزء به‪ ..‬ولكن‬
‫قد نستغرب من ذلك‪ّ ،‬‬
‫معيار البرش كلّهم! فقد يستغربون‬
‫َ‬ ‫ال ننسى أننا لسنا‬
‫(هم) ايض ًا مما نبحث عنه (نحن) يف املرأة ومجاهلا‪.‬‬
‫صحيح ان هناك معايري يشرتك فيها البرش‬
‫كلّهم‪ ..‬لكن ما خيتلفون عن بعضهم البعض ايض ًا‬
‫كثري‪ ،‬واي حماوالت يف طمس هذا االختالف‬
‫‪65‬‬
‫لنمط معني او ٍ‬
‫انامط حمدودة انام هو طمس‬ ‫ٍ‬ ‫وترويج‬
‫للهوية االنسانية نفسها‪.‬‬
‫اطلت الكالم يف هذا اجلانب‪ ،‬لنرى‬
‫ُ‬ ‫عموم ًا‬
‫حجم التأثري الذي تضعه احلضارة البرشية علينا‪،‬‬
‫فصارت تتدخل حتى يف طريقة تفكرينا و يف‬
‫نعب عن‬‫اختياراتنا‪ ..‬تلك االختيارات التي قد ّ‬
‫هويتنا االنسانية من خالهلا وال نسمح الحد ان‬
‫يتدخل فيها‪.‬‬
‫وبدل ان اطيل اكثر‪ ..‬اطلب منك ‪ -‬عزيزي‬
‫القارئ‪ -‬أن تتوقف حلظة‪ .‬و تستذكر بنفسك‬
‫عرشات االمثلة التي حتاول الرشكات الكربى يف‬
‫تغي فيها من ذوقك و طريقة نظرتك‬ ‫العامل‪ ،‬أن ّ‬
‫لرتوج لك بضاع ًة‬ ‫ٍ‬
‫‪-‬كانسان ال كآلة‪ -‬اىل االمور‪ّ ،‬‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫معينة بتصنيع معني‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬ليست احلضارة االسالمية يف صدا ٍم‬
‫مع احلضارة االنسانية‪ ،‬ما دامت ال تتصادم هي‬
‫معها‪ .‬فالدعوات القائمة عىل (التواصل التام) او‬
‫باألحرى (الذوبان) يف بطن احلضارة االنسانية‪،‬‬
‫هي دعوات ساذجة مل تعرف طبيعة التفكري الغريب‬
‫اليوم بالنسبة اىل بلداننا‪.‬‬
‫إ ّنه تفكري السيد عن عبيده! تفكري الرجل‬
‫األبيض املتحرض عن الرجل الرببري اهلمجي‪،‬‬

‫‪66‬‬
‫وهذا ما يناقشه املفكر البلغاري الفرنيس تزدفان‬
‫تودوروف يف كتابه (اخلوف من الربابرة‪ :‬ما وراء‬
‫يبي طبيعة نظرة الغرب‬ ‫صدام احلضارات) حيث ّ‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫اىل غريه وباخلصوص اىل العامل االسالمي‪.‬‬


‫فاحلضارة التي تنظر اىل تطور اآلخرين عىل‬
‫أ ّنه خطر جيب القضاء عليه(((‪ ،‬حضارة ال يمكن‬
‫ٍ‬
‫جانب‬ ‫التواصل الكيل معها‪ ..‬اذ ان ذلك يعني ‪ -‬يف‬
‫منه‪ -‬تواصل الذئب مع فريسته‪ ،‬فهو ال يتواصل‬
‫قوته بل لكي يأخذ ما حيتاج‬‫لكي يعطي للفريسة ّ‬
‫منها‪ ،‬حتى ولو كان يف ذلك زهاق روحها‪.‬‬
‫إذاً‪..‬‬
‫عرفنا حتى االن‪ ..‬اننا ‪ -‬كامة اسالمية‪ -‬البد‬
‫ان يكون لنا مقدار ًا من التواصل و مقدار ًا من‬
‫القطيعة‪ ..‬مع احلضارة البرشية اليوم‪ .‬وأي افراط‬
‫وتفريط يف ذلك خطأ و جريمة نرتكبها بحق‬
‫انفسنا‪.‬‬
‫احب األرقام؟!‬
‫ولكن السؤال يف األرقام‪ -‬وكم ّ‬
‫‪ -‬أي‪ :‬هل تكون ‪ %10‬تواصل‪ ،‬و ‪ %90‬قطيعة؟ او‬
‫العكس؟ او تتساوى النسب عند ‪%50‬؟‬

‫(ارهايب حمتمل)‬
‫ٌ‬ ‫مسلم‬
‫ٍ‬ ‫(((  اذا كان الغرب يرى يف كل‬
‫كام قال الرئيس االمريكي السابق‪ ،‬فكيف يمكن اال يكون‬
‫تصادما للحضارتني ً‬
‫يوما؟‬
‫‪67‬‬
‫ام أن هناك معايري عىل اساسها نختار النسبة‬
‫واملكان املناسب للتواصل ونقطع يف املكان‬
‫املناسب؟‬
‫فام هي هذه املعايري؟‬
‫اطبقها (أنا) يف شخصيتي ويف حيايت‬
‫وكيف ّ‬
‫اخلاصة ويف تفاعيل مع َ‬
‫العال؟‬
‫هذا البحث اوكله اىل الفصل القادم باذن اهلل‪.‬‬

‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫‪68‬‬
‫مع حضارة الغرب‪:‬‬
‫معايير التواصل‬
‫والقطيعة‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫مطلوب وحسن‬
‫ٌ‬ ‫كيف يمكن لنا ان نحدد ما هو‬
‫مرض وقبيح فنجتنبه‪.‬‬
‫فنستفيد منه وما هو ٌ‬
‫اقول‪ :‬مجالية الدين‪ ،‬يف أ ّنه ال يتحدث عن‬
‫املثاليات الفلسفية و املًطلقات العامة‪ ،‬بل يو ّفر‬
‫لنا (املعايري) ا ُملبتنية عىل (القيم) و (احلكم) ثم‬
‫ينقل مسؤولية تطبيق تلك املعايري عىل الواقع‪ ،‬اىل‬
‫(العقل)‪.‬‬
‫فمن هنا ومن اجل الوصول اىل (الرقم)‬
‫املجهول‪ ،‬ومكان اخليط الفاصل بني التواصل‬
‫والقطيعة‪ ،‬البد لنا من فهم تلك املعايري‪.‬‬
‫اوالً‪ :‬األصالة‬
‫يف أي عملية انفتاح تبقى احلاجة اىل احلفاظ عىل‬
‫أصيل وثابت يف اهلوية(((‪ ،‬فإذا كان االنفتاح‬
‫ٌ‬ ‫ما هو‬
‫ُيلغي هذه اهلوية ويستبدهلا‪ ،‬فإن الفوائد القريبة‬
‫منه وان عظمت‪ ،‬تبقى ضئيلة امام االرضار بعيدة‬
‫املدى التي سيخلفها عىل املجتمع واألمة‪.‬‬
‫ومن هنا اذا كان االنفتاح مع احلفاظ عىل‬

‫بحثت يف كتاب (الشباب وازمة اهلوية) اجتاهات‬


‫ُ‬ ‫(((  ‬
‫اهلوية و تعامل الدين مع املوروث االجتامعي‪.‬‬
‫‪71‬‬
‫األصالة‪ ،‬فيستطيع بناء نموذج خاص للحضارة‬
‫االسالمية‪ .‬فاالنفتاح البد ان هيدف اىل االستفادة‬
‫من نتاجات العقل البرشي يف سبيل تطوير نموذج‬
‫حضاري متناسب مع القيم واملبادئ التي نؤمن‬
‫هبا‪ .‬أي (حضارة اسالمية) ليس يف اسمها بل‬
‫يف حمتواها‪ ،‬تلك احلضارة التي تستفيد من اخر‬
‫االكتشافات العلمية‪ ،‬بل وتساهم فيها‪ ..‬لكنها مع‬
‫ذلك تنطلق من خلفيات وحيانية ومن رؤية اهلية‬
‫يف ذلك(((‪.‬‬
‫واذا اردت مثا ً‬
‫ال‪ ،‬انظر اىل حال (اليابان)(((‪،‬‬
‫فمع أهنم مل يقوموا بصناعة حضارة حتى االن‪،‬‬
‫بل ذابوا يف احلضارة الغربية من حيث (ال ُن ُظم) و‬
‫حضاري مهم‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫جانب‬ ‫ِ‬
‫(الفكر) اال اهنم حافظوا عىل‬
‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫(الثقافة)‪ .‬فهم حافظوا عىل ثقافتهم وهويتهم حني‬
‫هنوضهم و نموهم‪.‬‬

‫(((   يناقش السيد املرجع الوالد حفظه اهلل أن احلضارة‬


‫االسالمية ختتلف عن احلضارات املادية يف نقطة جوهرية‬
‫وهي أهنا تستهدف سعادة االنسان‪ ،‬وال جتعل املادة هدفها‪،‬‬
‫للمزيد راجع‪ :‬التحدي االسالمي‬
‫(((  تنتمي اليابان اىل (احلضارة البوذية) حسب التقسيم‬
‫الذي وضعه دويرانت و تبعه اخرون‪ ،‬ولكنها اليوم اقرب‬
‫اىل كوهنا جزء من حضارة الغرب‪ ،‬ودولة تدور يف فلك‬
‫الغرب‪.‬‬
‫‪72‬‬
‫ثانيًا‪ :‬احلاجة‬
‫البد من حتديد ما نحتاجه (االن) عند التواصل‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫مع احلضارة البرشية‪ .‬فام نحتاجه حيدد لنا نوعية‬


‫علم‬
‫ومقدار التواصل‪ ،‬فإذا كان هو (العلم) فأي ٍ‬
‫و بأي مقدار؟‬
‫هل نحن بحاجة اىل العلوم الطبيعية؟ وملاذا؟ و‬
‫بأي مقدار؟‬
‫هل نحن بحاجة اىل العلوم االنسانية؟ وملاذا؟‬
‫وبأي مقدار؟‬
‫هل نحاول ان نستنتخ جتارب االخرين حرفي ًا؟‬
‫ام نحاول ان ننقدها نقد ًا موضوعي ًا؟ فنأخذ‬
‫ما نحتاجه نحن و نضيف عليه بام يتناسب مع‬
‫حاجاتنا و ثقافتنا و بيئتنا‪.‬‬
‫توصل اليه َ‬
‫العال‬ ‫فمن املهم جد ًا أن ال نعترب ما ّ‬
‫علم عليم)‪ ،‬ولوال‬
‫كل ذي ٍ‬ ‫العلم‪ ،‬بل (وفوق ّ‬ ‫هناية ِ‬
‫ذلك جلمد العلم قبل مئات السنني عىل ما وصل‬
‫اليه يف وقته‪.‬‬
‫فليس اهلدف من التواصل‪ ،‬هو التواصل ذاته‪،‬‬
‫بل هيدف اىل نقل التجارب و العلوم‪ ،‬فاذا مل حيدد‬
‫سلف ًا نوعية هذه التجارب والعلوم‪ ،‬فسيكون‬
‫االنفتاح والتواصل عبثي ًا‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫ثالثًا‪ :‬التمييز بني اجلوانب املختلفة من‬
‫احلضارة‬
‫ابعاد خمتلفة‪ ..‬اذا استطعنا تفكيكها‬
‫ٌ‬ ‫للحضارة‬
‫نستطيع ان نقف موقف ًا علمي ًا من كل ب ٍ‬
‫عد منها‪:‬‬ ‫ُ‬
‫وهي مخسة‪:‬‬
‫‪ /1‬القيم واملبادئ‬
‫‪ /2‬ال ُنظم واآلليات‬
‫‪ /3‬الفكر والثقافة‬
‫‪ /4‬العادات والسلوكيات‬
‫‪ /5‬العلوم والتقنيات‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫اوالً‪ :‬القيم واملبادئ‬

‫روح احلضارة قيمها التي تقوم عليها‪ ،‬ومن‬


‫دوهنا تفقد احلضارة قيمتها اصال‪ ،‬فام قيمة جتمع‬
‫برشي ال يسعى لتحقيق يشء اصال!؟‬
‫البعد‪ :‬ال نحتاج أن نستفيد من جتارب‬ ‫ويف هذا ُ‬
‫االخرين‪ ..‬ألن اهلل سبحانه وتعاىل اودع هذه القيم‬
‫(كالعدل واحلرية والكرامة) يف عقول البرش‪،‬‬
‫وذكر هبا يف كلامت الوحي‪ .‬ومن هنا ك ّنا بحاجة‬‫ّ‬
‫املتنور بالوحي) الستجالء تلك القيم‬
‫اىل (العقل ّ‬
‫واستيضاحها‪.‬‬
‫وحينام نقول ال نحتاج‪ ،‬ال يعني ان احلضارة‬
‫االنسانية اليوم خالية من القيم‪ .‬فهذه احلضارة ‪-‬كام‬
‫يثبت ذلك املفكرون‪ -‬ال زالت حتتفظ ببعض القيم‬
‫املسيحية (كالصدق و العدل و‪ )..‬او عىل األقل‬
‫ببعض درجاهتا‪ ،‬ولوال ذلك الهنارت وتالشت‬
‫قبل ٍ‬
‫امد طويل‪.‬‬
‫ولذلك فا ّنك ترى يف خطابات رؤساء الدول‬
‫‪75‬‬
‫الرباقة‪ ،‬التي وان كانت‬
‫الكربى‪ ،‬تلك الشعارات ّ‬
‫زائفة يف تطبيقها‪ ،‬اال ان حمتواها يدل عىل تلك‬
‫املبادئ احلقيقية التي ترنو هلا القلوب الطاهرة‬
‫والنفوس السليمة‪.‬‬

‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫‪76‬‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫ثانيًا‪ :‬الُن ُظم‬

‫ال يمكن ان تقوم حضارة اال بوجود ُن ُظ ٍم‬


‫متطورة جتعل حضور البرش عند بعضهم حضور ًا‬
‫اجيابي ًا فعا ً‬
‫ال‪.‬‬
‫وهذه النظم واآلليات ُتبنى للوصول اىل القيم‬
‫احلضارية نفسها‪ .‬فالتعاون قيمة حضارية‪ ،‬ولكن‬
‫تطبق هذه القيمة عىل ارض الواقع؟ ومن‬ ‫كيف ّ‬
‫يقوم به؟ وما هي احلقوق والواجبات يف جمموعة‬
‫متعاونة؟ وما هي عقوبة املتخلف عنه؟‬
‫فالتعاون‪ ،‬هو الذي يؤطر جهود ماليني البرش‪،‬‬
‫و يوجهها يف ٍ‬
‫اجتاه واحد‪ .‬فمن دون (اطر التعاون)‬
‫كيف يستطيع مئات االالف من البرش خمتلفي‬
‫التوجه و امليول‪ ،‬اىل تراكم جهودهم ليكتبوا‬
‫(املوسوعة الربيطانية العلمية)‪ ،‬او ليصنعوا اول‬
‫مركبة فضائية مأهولة‪ ،‬و هكذا‪.‬‬
‫و (العدل) ‪-‬كذلك‪ -‬قيمة حضارية‪ ،‬بل هي أم‬
‫كمة‬ ‫ِ‬
‫القيم واساسها‪ ،‬حيث أن اهلل سبحانه جيعل ح َ‬
‫‪77‬‬
‫بعثة االنبياء وارسال (الكتاب) و (امليزان) (َ لِ َي ُق َ‬
‫وم‬
‫اس بِال ِْق ْسط) (احلديد‪ )25/‬أي اقامة العدل‪.‬‬ ‫ال َّن ُ‬
‫تطبق هذه العدالة؟ وكيف يضمن‬ ‫ولكن كيف ّ‬
‫حق ح ّقه‪ ،‬وعدم بخس الناس‬ ‫اعطاء كل ذي ٍّ‬
‫اشياءهم؟‬
‫هل ُتنشئ املحاكم من اجل ذلك؟ وكيف يقوم‬
‫النظام القضائي؟ و‪..‬؟‬
‫كذا (احلرية) قيمةٌ حضارية‪ ،‬ولكن كيف تؤطَّ ر‬
‫حتى ُتعطي ثامرها احلقيقية‪ ،‬فال تأكل َنفسها و‬
‫تتحول اىل (الفوىض)؟ كيف حتدد اخليوط الفاصلة‬
‫احلريات املتضاربة؟ من يرعى احلرية؟ كيف‬
‫ّ‬ ‫بني‬
‫ُيعاقب ا ُملعتدي عليها؟ و‪...‬‬
‫جانب تطبيقي لتلك القيم‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫وهذه ال ُن ُظم هي‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫كذلك نجد يف االسالم‪ ،‬أنه يعتمد (الشورى)‬


‫كقيمة يف تطبيق (العدل)‪.‬‬
‫فلكل شخص يف هذا الوجود (تطلعات) و‬
‫احد ان‬
‫(االم) و (خماوف)‪ ،‬ال يستطيع ٌ‬
‫(اهداف)‪ٌ ..‬‬
‫يعب هو‪.‬‬
‫يعب عنها بأفضل مما ّ‬
‫ّ‬
‫ثم لكل شخص (رأي) خيتلف يف بعض جزئياته‬
‫عن غريه‪ ،‬فكيف يتم توظيف هذا االختالف؟‬
‫هنا يعتمد االسالم نظام (الشورى) كنظا ٍم‬

‫‪78‬‬
‫نظام حضاري‪-‬‬‫عرفنا احلضارة‪ٌ :‬‬‫اجتامعي ‪ -‬او كام ّ‬
‫لتوظيف هذا االختالف نحو الوصول اىل الرأي‬
‫األصوب واألقرب للواقع‪ ،‬و كذا لتحقيق اكرب‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫قد ٍر من التوازن بني املصالح املتضاربة واعطاء كل‬


‫حق حقه‪ ،‬أي (العدل)‪.‬‬ ‫ذي ٍ‬
‫وال خيتلف بعد ذلك ان يكون هذا النظام‬
‫الختاذ قرا ٍر يف احلياة األرسية‪ ،‬او يف ادارة البالد‪.‬‬
‫فهذا االمام الكاظم‪ ،‬موسى بن جعفر (ع) يف سبيل‬
‫اقل الناس منزلة‬
‫الوصول اىل اجود اآلراء‪ ،‬يستشري ّ‬
‫‪-‬حسب فهم العامة‪-‬‬
‫فمع عقله الراجح‪ ،‬والذي ال توزن به عقول‬
‫بعض عبيده وغلامنه‬
‫الرجال((( ‪ ،‬إال انه كان يستشري َ‬
‫يعب البعض عن استغراهبم‬ ‫السود‪ ،‬وحني كان ّ‬
‫«إن‬
‫يرد قائالً‪ّ :‬‬
‫‪-‬وربام استهجاهنم‪ -‬يف ذلك‪ ،‬كان ّ‬
‫ربام فتح عىل لسانه» بل وكان‬
‫اهلل تبارك وتعاىل‪ّ ،‬‬
‫االمام (ع) يأخذ برأهيم ويطبقه يف بعض االمور(((‪.‬‬
‫جمتمع من املجتمعات‪-‬‬
‫ٍ‬ ‫ولكن كيف يتحقق ‪ -‬يف‬
‫هذا النظام؟‬
‫ال اعرف!‬
‫ربام يكون النظام الربملاين اصلح األشكال يف‬
‫(((  كام يقول عنه االمام الرضا عليه السالم‪،‬‬
‫(((  انظر اىل الرواية يف وسائل الشيعة‪ ،‬ج‪ ،12‬ص‪44‬‬
‫‪79‬‬
‫جمتمع ‪ -‬كام يف النظام الربيطاين‪ -‬أو يكون النظام‬
‫ٍ‬
‫الرئايس ‪ -‬كام يف النظام االمريكي‪ -‬او هج ٍ‬
‫ني‬
‫شكل اخر‪ ..‬فالشكل ال هيم بمقدار ما‬‫ٍ‬ ‫بينهام‪ ،‬او‬
‫حيقق من تطبيق تلك القيمة احلضارية‪.‬‬
‫قيم‬
‫ويمكن ان نرضب امثلة اخرى عىل ٍ‬
‫ِ‬
‫كالصدق والتعاون و غريها‪.‬‬
‫فاإلدارة والقيادة ونظم التخطيط و األنظمة‬
‫الداخلية ‪..‬كلها من جوهر احلضارة نفسها‪ ،‬ألهنا‬
‫توجه الطاقات البرشية يف االجتاه‬
‫بمثابة قنوات ّ‬
‫الصحيح‪.‬‬
‫تقدم كثري ًا فيام يرتبط هبذه النظم‪،‬‬
‫فعامل اليوم ّ‬
‫يشء خاضع ًا لنظا ٍم وقانون‪ .‬فحتى‬‫ٍ‬ ‫كل‬
‫وجعلوا َّ‬
‫العلم واالنتاج العلمي خيضع لنظا ٍم دقيق يوجهه‪.‬‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫ففي هذا االجتاه‪ ،‬نحتاج اىل ان نتعامل مع النظم‬


‫(((‬
‫املعمولة يف احلضارة االنسانية‪ ،‬تعامل (الرقيب)‬
‫فندرسها دراس ًة متأنية‪ ،‬فال نحارهبا كلّها ألهنا مت ّثل‬
‫(((‬
‫علم مستأنف)‬ ‫جتارب البرشية‪ ،‬و (يف التجارب ٌ‬
‫كام يقول امري املؤمنني (ع)‪ ،‬وال نقلّدها تقليد ًا‬
‫اعمى‪.‬‬

‫(((   كام يقول اية اهلل السيد هادي املدريس‪ ،‬انظر (عن‬
‫احلضارة)‬
‫(((   الكايف‪ ،‬ج‪،8‬ص‪22‬‬
‫‪80‬‬
‫آن واحد‪ ،‬و‬ ‫بل جيب التعلّم منها و َنقدها يف ٍ‬
‫يكون ذلك بأخذ ما يتالءم مع طباعنا و عاداتنا‬
‫وتقاليدنا وتراثنا‪ ،‬وكذا مع ديننا‪ ،‬وترك ما خيالف‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫احلمر أي (حدود اهلل)‪ .‬وال خيتلف عندئذ‬ ‫اخلطوط ُ‬


‫استفادتنا من االنظمة السياسية واالقتصادية‬
‫واالجتامعية وغريها‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫ثالثًا‪ :‬الثقافة وال ِفكر‬
‫الق َيم التي يؤمن‬‫املوصل بني ِ‬ ‫ِ‬ ‫مت ّثل الثقافة اخلط‬
‫هبا الفرد‪ ،‬وبني السلوك‪ ،‬فهي تلك األفكار التي‬
‫تؤثر يف سلوكيات االنسان(((‪.‬‬
‫ويف هذا االجتاه‪ ،‬فإن يف ثقافة الوحي ِغنى عن‬
‫كل ثقافة اخرى‪ ،‬بل ان هناك تباين ًا كلّي ًا بني ثقافة‬
‫ري من‬‫الوحي‪ ،‬وثقافة احلضارة االنسانية يف كث ٍ‬
‫مفرداهتا‪ .‬ولذا فأي حماولة لدمج هاتني الثقافتني‬
‫ني ناقص اخللقة‪ ،‬تكثر فيه‬ ‫مشوه ًا كجن ٍ‬
‫خيلق كائن ًا َّ‬
‫األمراض واالسقام‪.‬‬
‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫فاحلضارة االنسانية‪ ،‬تنطلق اليوم من خلفية‬
‫فكرية وثقافية مادية ‪ /‬مصلحية‪ ،‬ال ُتعطي لإلنسان‬
‫قيم ًة اال بمقدار قيمته املادية‪ ،‬ومعادلة النفع ‪/‬‬
‫ٍ‬
‫تضاد من اخللفية الروحية‬ ‫اخلسارة‪ ،‬وهذا يقع يف‬
‫االهلية للحضارة االسالمية‪ ،‬التي هي حضارة (من‬
‫اجل اإلنسان)‪.‬‬

‫(((  يعترب لفظ (الثقافة) من املصطلحات املختلف‬


‫يف تعريفها اشد اختالف‪ ،‬واخرتنا هذا التعريف من بني‬
‫لت احلديث عنه يف كتاب (الشباب‬ ‫فص ُ‬
‫عرشاته‪ .‬وقد ّ‬
‫وازمة اهلوية)‬
‫‪82‬‬
‫نسميه (ثقافة‬
‫ّ‬ ‫ولكن يبنغي املالحظة‪ ،‬أن ما‬
‫االسالم) ختتلف بصورة كبرية عن (ثقافة‬
‫املسلمني)‪ .‬بل ربام محلت االمم املختلفة بعض ًا من‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫الثقافة الصحيحة‪ ،‬اي تلك التي جاء هبا االسالم‪،‬‬


‫وتناساها املسلمون انفسهم‪.‬‬
‫يروج يف اعالمه‬
‫ومما يؤسف أن اإلعالم الغريب‪ّ ،‬‬
‫البعد الثقايف‪ ،‬وما حيمله من رؤى و افكار‬
‫كثري ًا عىل ُ‬
‫وانامط عيش‪ ،‬دون ان يشري اىل اجلانب ِ‬
‫القيمي او‬
‫السلوكيات‪.‬‬
‫تقدم الشعب األمريكي ‪-‬مثالً‪ -‬عىل‬ ‫فهل ّ‬
‫االورويب ألنه يرقص (السالسا) او (التانغو)‪ ،‬أم‬
‫ٍ‬
‫ساعات يوميا؟‬ ‫ألنه جيتهد يف عمله ويعمل عرش‬
‫ولكن‪ ،‬هل ترى يف األفالم واملسلسات املقدار‬
‫الذي يبذله العلامء من اجلهد يف االكتشافات‬
‫واالخرتاعات؟ ‪ ..‬او ما جيري يف اروقة الرشكات‬
‫الكربى‪ ،‬والضغوط التي يتحملها الفرد من اجل‬
‫الريادة دائام؟‬
‫كال‪..‬‬
‫احلب الرخيص‬
‫ِّ‬ ‫بل ُيسلّط الضوء عىل قصص‬
‫(الزناة)‬
‫(مدمني اخلمر) و ُ‬
‫(الساق) و ُ‬
‫ويتم تصوير ُ ّ‬
‫عىل َّأنم االبطال املنشودين‪.‬‬
‫ويف هذا االجتاه ال نحتاج اىل استرياد تلك‬
‫‪83‬‬
‫الثقافة اصال‪ ،‬بل ونؤمن برضورة (تصدير) ثقافتنا‬
‫العال كله‪ ،‬حيث جعل الدين وسيلة‬ ‫و فكرنا اىل َ‬
‫دعوة َ‬
‫العال اىل االيامن باالسالم نفسه‪.‬‬
‫السنا نقرأ احلديث املروي عن االمام الرضا (ع)‪:‬‬
‫اس َن كَ َل ِم َنا َل َّت َب ُعو َنا»(((‪،‬‬
‫اس َلو َع ِل ُموا َ َم ِ‬
‫َ« َفإ َِّن ال َّن َ ْ‬
‫فحينام نتأمل يف كالمهم عليهم السالم نجده‬
‫اضافة اىل بيان االحكام الرشعية وتفسري القران‪،‬‬
‫يبي الرؤية السليمة اىل احلياة واىل االنسان واىل‬ ‫ّ‬
‫املجتمع‪ ..‬اي يدخل يف اطار (الفكر) و(الثقافة)‪.‬‬
‫ففي هذ النص دعوة واضحة اىل تصدير‬
‫(حماسن كالمهم) اىل اآلخرين‪ ،‬ليكون ذلك طريق ًا‬
‫اىل هدايتهم‪.‬‬
‫توضح ان الدين‬ ‫بل وهناك نصوص واضحة ّ‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫ال حيتاج اىل غريه يف هذا االجتاه‪ ،‬منها االية القرانية‬
‫الدالة عىل كامل الدين بقوله‪:‬‬
‫َّذين كَ ف َُروا ِم ْن دينِ ُك ْم فَال َ ْت َش ْو ُه ْم‬
‫س ال َ‬ ‫ِ‬
‫«ال َْي ْو َم َيئ َ‬
‫ْت َل ُك ْم دي َن ُك ْم َو َأ ْت َْم ُت َع َل ْي ُك ْم‬
‫اخ َش ْو ِن ال َْي ْو َم َأكْ َمل ُ‬
‫َو ْ‬
‫الم ديناً» (املائدة‪)3/‬‬ ‫ضيت َل ُك ُم ْال ِْس َ‬‫نِ ْع َمتي‏ َو َر ُ‬
‫او النهي الوارد عن النبي (ص) اىل بعض‬
‫الصحابة حينام رآهم يأخذون األفكار من غريهم‬
‫من اليهود والنصارى‪ ،‬فغصب رسول اهلل وقال‪:‬‬
‫(((  عيون اخبار الرضا‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪307‬‬
‫‪84‬‬
‫ارى‬ ‫ود َو ال َّن َص َ‬ ‫ون كَ َم َ َتوكَ ِ‬
‫ت ال َْي ُه ُ‬ ‫َّ‬ ‫َال َأ ُم َت َه ِّوكُ َ‬
‫« َفق َ‬
‫وسى َح ّي ًا َما‬‫ان ُم َ‬‫َلق َْد ِج ْئ ُت ُك ْم ِ َبا َب ْي َض َاء َن ِق َّي ًة َو َل ْو كَ َ‬
‫(((‬
‫اعي»‬ ‫َو ِس َع ُه إ َِّل ا ِّتب ِ‬
‫َ‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫واألكثر من ذلك‪ ،‬حينام يصف االمام الصادق‬


‫(ع) اولئك (العلامء) الذين حياولون اخللط‪،‬‬
‫واالستفادة من الفكر اليهودي والنرصاين يف تعزيز‬
‫فكرهم‪ ،‬يصفهم بأهنم يف الدرك اخلامس من النار!‬
‫فيقول‪:‬‬
‫يث الْي ُه ِ‬ ‫َ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ود َو‬ ‫« َو م َن ال ُْع َل َمء َم ْن َيطْ ُل ُب أ َحاد َ َ‬
‫الد ْر ِك‬
‫اك ِف َّ‬ ‫ارى لِ ُي ْغز َِر بِ ِه َو ُيكْ ثِ َر بِ ِه َح ِدي َث ُه ف ََذ َ‬
‫ال َّن َص َ‬
‫(((‬
‫امس ِ ِم َن ال َّنار‏»‬ ‫ال ِ‬
‫َْ‬
‫يدعي الدين‪ ،‬وقد‬ ‫ولعمري! ما اعجب من ّ‬
‫امتزجت الرؤى املادية يف فكره وثقافته مزج ًا ال‬
‫يمكن فصلها ابدا‪ .‬ثم يتساءل‪ :‬كيف ال يؤثر الدين‬
‫يف حياته الشخصية او االجتامعية؟‬
‫اليس قد حذف جزء ًا كبري ًا من الدين من حياته‬
‫الشخصية؟‬

‫(((  معاين األخبار‪ ،‬ص‪282‬‬


‫(((  اخلصال‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪354‬‬
‫‪85‬‬
‫رابعًا‪ :‬العادات والسلوكيات‬
‫ال يكفي ان تكون الثقافة السليمة‪ ،‬بل البد ان‬
‫ترتجم تلك الثقافة اىل (سلوكيات)‪ ،‬أي اىل عادات‬
‫تعتاد عليها املجتمع‪ ،‬فإن كانت تلك العادات‪،‬‬
‫عادات حضارية انتجت حضارة والعكس‬
‫بالعكس‪.‬‬
‫وهنا البد أن نرجع اىل اجلذور‪ ،‬لنجد تلك‬
‫السلوكيات التي امرنا هبا الدين احلنيف‪ ،‬تلك التي‬
‫ربام تناسيناها و اخذ هبا املجتمعات االخرى‪ ،‬حتى‬
‫ّ‬
‫ُع ّدت من صفاهتم ال صفاتنا‪.‬‬
‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫ال (الوفاء بالعهد) و (الصدق) صفتان‬ ‫فمث ً‬
‫طاملا اكدت عليها الروايات‪ ،‬تلك الصفات التي‬
‫اصبحت اساس نجاح الرشكات الكربى يف العامل‪،‬‬
‫فتحو ّلت اىل لوائح و قوانني و سلوكيات عندهم يف‬
‫كسب (ثقة) الناس‪ ،‬حتى صار الناس يتسابقون اىل‬
‫رشاء احدث منتجات تلك الرشكات او يستثمرون‬
‫يف اسهمها اعتامد ًا عىل هذه الثقة املفرطة‪.‬‬
‫لكننا تركنا تلك الصفات واصبح جتارنا‬
‫أن (اليمني الكاذبة‬
‫يتسابقون عىل خمالفتها‪ ،‬متناسني َّ‬

‫‪86‬‬
‫كام قال االمام‬ ‫(((‬
‫تدع الديار بالقع من اهلها)‬
‫الصادق (ع)‪.‬‬
‫ٌ‬
‫سلوك حضاري‪ ،‬وهو ترمجان‬ ‫فهذا السلوك هو‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫للثقافة الصحيحة‪.‬‬
‫ويف هذا االجتاه‪ ،‬يقارن (ساموئل هنغتنتون)‬
‫يف كتابه (امهية الثقافة) بني نموذجني‪ :‬كوريا‬
‫اجلنوبية و غينيا‪ .‬ففي حني كانت االحصاءات‬
‫تشري اىل تقارن الدولتني من الناحية االقتصادية‬
‫قبل حوايل ‪ 60‬عام ًا‪ ،‬اال ان االوىل حتو ّلت اليوم اىل‬
‫قوة اقتصادية كربى تبهر العامل بتقدمها الصناعي‬
‫والتقني‪ ،‬يف حني راوحت غينيا يف هذه الفرتة يف‬
‫ويرجع الكاتب هذا االختالف الكبري اىل‬ ‫مكاهنا‪ُ .‬‬
‫عوامل خمتلفة‪ ،‬اال انه يقول ان العامل االكرب هو‬
‫االختالف الثقايف بني االثنني‪ :‬فثقافة كوريا اجلنوبية‬
‫تبنى عىل امهية الرتشيد‪ ،‬االستثامر‪ ،‬العمل واجلهد‪،‬‬
‫التعليم و العمل املؤسسايت‪ ،‬يف حني ال توجد هذه‬
‫الثقافة عند اهايل غينيا(((‪.‬‬

‫(((  من ال حيرضه الفقيه‪ ،‬ج‪ ،3‬ص ‪367‬‬


‫(((   ‪Culture Matters: How Values Shape Human‬‬
‫‪ ،Progress‬ص ‪ ،33-27‬فمع ان الكاتب استخدم لفظ‬
‫الثقافة‪ ،‬اال ان نظرته اىل كلمة الثقافة‪ ،‬اقرب اىل (العادات)‬
‫فلذا ادرجته يف القسم الرابع دون الثالث‪.‬‬
‫‪87‬‬
‫ففي اجتاه السلوكيات ال نحتاج اىل (تعلّم)‬
‫السلوكيات‪ ،‬بمقدار ما بحاجة اىل (استذكار) تلك‬
‫السلوكيات من مصادر الدين احلنيفة‪ .‬فالصدق‬
‫وااللتزام بالوعد و الدقة‪ ،‬واالجتهاد‪ ،‬و الوحدة و‬
‫االقتصاد‪ ،‬والزهد و‪ ..‬كلّها سلوكيات يف صميم‬
‫سلوكيات االنسان املؤمن‪.‬‬
‫فالبد أن نبحث عن األخالق و السلوكيات‬
‫احلضارية فنطبقها‪ ،‬فالنظافة سلوك حضاري‪ ،‬و‬
‫التعاون سمة حضارية‪ ،‬وكذا التنافس السليم‪،‬‬
‫حسن اخللق‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫والصدق‪ ،‬واإليثار‪ ،‬و‬ ‫واالجتهاد‪،‬‬
‫ٍ‬
‫رجل‬ ‫واإلحسان و‪ ..‬كلّها صفات لو تو ّفرت يف‬
‫طريق النجاح‪ ،‬اما لو غلبت تلك‬
‫َ‬ ‫واحد سلكت به‬
‫الصفات عىل امة ستو ّفر هلا تقدما حضاريا و تصنع‬
‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫احلضارة ولو يف جبال تورابورا‪.‬‬
‫ويمكن لنا ان نجعل األمم االخرى شاهد ًة عىل‬
‫هذه السلوكيات‪ ،‬لنتأكد امكانية تطبيقها و نرى‬
‫ثامر تطبيقها امامنا‪ ،‬فنتشجع اكثر لتطبيقها‪.‬‬
‫وخالصة‪:‬‬
‫البد أن تتحول (القيم) عرب (الثقافة) اىل‬
‫(سلوك)‪..‬‬
‫يتحول اىل (ثقافة)‬ ‫فمث ً‬
‫ال (التعاون) قيمة البد ان ّ‬
‫و من ثم اىل (سلوك)‪..‬‬
‫‪88‬‬
‫يتحول اىل (ثقافة)‪ ..‬أي يعترب‬
‫ّ‬ ‫(العمل) البد ان‬
‫املجتمع (العمل) قيم ًة للفرد‪ ،‬ويذم املجتمع من ال‬
‫عمل له‪ ،‬ومن ثم يتحول اىل (سلوك)‪.‬‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫(العلم) قيمة البد ان يتحول اىل (ثقافة)‪..‬‬


‫اي يصري طلب العلم ثقافة يف املجتمع‪ ،‬فال ترى‬
‫ويصبح القارئ‬ ‫الشخص اال ِ‬
‫عال ًا او متعلامً‪ُ ..‬‬
‫ممدوح ًا و برامج املطالعة والقراءة وطلب العلم‬
‫كثرية و متو ّفرة‪.‬‬
‫فحينام نجد يف الروايات (فضل العالِ عىل‬
‫اجلاهل) او نرى (ان املالئكة لتضع اجنحتها حتت‬
‫رجل طالب العلم)‪ ..‬هذه كلها تؤسس لثقافة‬
‫العلم واحرتام العامل‪ ..‬و طبيعي ًا هذا املجتمع يف‬
‫(سلوكه) يتحول اىل جمتمع متعلم‪.‬‬
‫(احرتام الوقت) البد ان يتحول اىل ثقافة‪ ..‬ثم‬
‫اىل (سلوك)‪..‬‬
‫(الرجل املناسب يف املكان املناسب) البد ان‬
‫يتحول اىل ثقافة‪ ..‬ثم اىل سلوك‪.‬‬
‫وهكذا‪..‬‬
‫وهذه السلوكيات‪ ،‬ان تو ّفرت يف شخص‬
‫ٍ‬
‫مجاعة‬ ‫والتفوق‪ ..‬وان تو ّفرت يف‬ ‫انتجت له النجاح‬
‫ّ‬
‫والتفوق‪.‬‬
‫ّ‬ ‫سببت هلا ‪ -‬كذلك‪ -‬النجاح‬
‫و امة ّ‬

‫‪89‬‬
‫خامسًا‪ :‬العلوم والتقنيات‬
‫اذا كان العلم هو (اكتشاف السنن االهلية)‬
‫وبعبارة اخرى القوانني الطبيعية‪ ،‬فال فرق عند‬
‫مؤمن او‬
‫ٌ‬ ‫غريب او رشقي‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫ذلك ان يكون مكتشفه‬
‫كافر‪.‬‬
‫فال ُيضيف االنسان من نفسه و من فكره او‬
‫هواه اىل العلم‪ ،‬بل مهمته هو تسليط الضوء عىل‬
‫البقع املظلمة من الكون‪.‬‬
‫ُ‬
‫من هنا فليس هناك ِ‬
‫(عداء) بيننا و بني ما‬
‫توصلت اليه البرشية من علوم وتقنيات‪ .‬بل‬ ‫ّ‬
‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫البد أن نحاول أن نستفيد من (احدث) التقنيات‬
‫خري‬
‫واآلالت‪ ،‬فهي ليست اال (الة) تستخدم ملا فيه ٌ‬
‫او رش‪.‬‬
‫ولكننا طاملا وجدنا اُناس ًا جاهليني قرشيني‪،‬‬
‫ادعو الدين والتدين وهو منهم براء‪ ،‬اختذوا موقف ًا‬
‫سلبي ًا عن احدث نتاجات احلضارة‪ .‬واالسالم ابتىل‬
‫أن كل ما هو جديد‬ ‫كثري ًا بالنظرة السلفية اجلاهلية ّ‬
‫بدعةٌ وكل بدعة ضاللة وكل ضاللة يف النار!‬
‫مرة‬
‫ذات ّ‬
‫أن جمموعة من هؤالء اقتحموا َ‬ ‫حتى ّ‬
‫حمطة اإلذاعة‪ ،‬و ّ‬
‫احلوا كثري ًا عىل املوظف هناك أن‬
‫‪90‬‬
‫ُيرهيم املكان الذي خيتبئ فيه (الشيطان!) فيسمعون‬
‫منهم صوته! ولكن سأهلم املوظف ‪-‬وكان عىل‬
‫هاء و فطنة‪ :-‬هل يمكن ان يقرأ الشيطان ِ‬
‫ايات‬ ‫ُد ٍ‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫صوت قراءة‬
‫َ‬ ‫اهلل؟ فقالوا‪ :‬ال‪ .‬فجعل املوظف‬
‫القران يف املذياع‪ ،‬فاقتنعوا ورجعوا عن جهلهم‪.‬‬
‫وينقل لنا كذلك (الع ّقاد) حوار ًا مجي ً‬
‫ال بينه و‬
‫رجل ينتظر العذاب اإلهلي‪ ،‬ألن البرش اطلقوا‬ ‫ٍ‬ ‫بني‬
‫سامءه! ‪-‬كام يظن‪.-‬‬ ‫(قمر ًا صناعي ًا) ُينازعون به ا َ‬
‫هلل َ‬
‫فاالستفادة من احدث االجهزة لتسهيل احلياة‪،‬‬
‫هو املطلوب‪ .‬وال اكتب ما اكتب االن‪ ،‬اال عرب‬
‫ٍ‬
‫حاسبة حممولة‪ ،‬ومل اعتمد يف‬ ‫كتابتي عىل لوحة‬
‫قرأت‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫كتاب ورقي واحد! بل‬ ‫كتايب هذا عىل قراءة‬
‫كل ذلك يف هذا اجلهاز بعد احلصول عىل نسخ‬ ‫َّ‬
‫الكتب من صفحات (النت)‪.‬‬
‫فاحلضارة البرشية راكمت جهود ًا مشكور ًة‬
‫يف حملّها‪ ،‬ينبغي االستفادة منها‪ ،‬ال هدمها واعادة‬
‫بناءها‪.‬‬
‫ال حتتفظ املجموعة االستشارية للبحوث‬ ‫فمث ً‬
‫الزراعية الدولية (‪ )CGIAR‬يف قب ٍو ُمكم وهو قبو‬
‫سفالبارد العاملي للبذور‪ ،‬حتتفظ ببنك بذو ٍر آمن‬
‫للمحاصيل الزراعية املختلفة التي يعتمد عليها‬
‫البرشية يف غذائهم‪ .‬حيث قاموا بتجميع اكثر من‬

‫‪91‬‬
‫عينة بذرة هلذا الغرض يف هذا القبو‬
‫‪ 4.5‬مليون ّ‬
‫الذي ُبني بعيد ًا عن تأثريات احلروب يف جزيرة‬
‫نائية يف القطب الشاميل النائي‪.‬‬
‫فكيف نتعامل نحن املسلمون مع هذا ا ُ‬
‫جلهد؟‬
‫باجيابية طبعا‪.‬‬
‫وهكذا بالنسبة اىل امو ٍر مشاهبة جتلب السعادة و‬
‫الراحة لالنسان يف هذه الدنيا‪.‬‬
‫ولكن يبنغي املالحظة‪ :‬أن قيمة (العلم) عند‬
‫االسالم‪ ،‬هو بمقدار ما جيلب السعادة والراحة‬
‫ٍ‬
‫اكتشاف علمي‬ ‫للبرشية‪ ،‬وال قيمة ذاتية له‪ .‬فام قيمة‬
‫ال يستخدم اال لشقاء االنسان نفسه؟‬
‫وقد اجاد د‪ .‬مؤنس يف مقدمة كتابه عن احلضارة‬
‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫يف التذكري هبذه احلقيقة قائالً‪:‬‬
‫«أن احلضارة ال تتمثل فحسب يف عظام املنشآت‬
‫كاألهرام أو قصور فرساي أو العامئر الشاهقة التي‬
‫تصعد يف اجلو‪ ،‬كأهنا تنطح السحاب يف نيويورك‪،‬‬
‫بل هي تتمثل يف صورة أوضح وأصدق يف صغار‬
‫االكتشافات التي تقوم عليها حياة البرش‪ .‬فرغيف‬
‫اخلبز مثال أنفع للبرش من الوصول إىل القمر‪،‬‬
‫وبالفعل أنفقت اإلنسانية عرشات األلوف من‬
‫السنني حتى وفقت إىل صنع رغيف اخلبز أو إناء‬
‫من الفخار‪ ،‬وانتقلت نتيجة لذلك من حقبة من‬
‫‪92‬‬
‫التاريخ إىل حقبة أخرى جديدة‪.‬‬
‫والعربة يف منجزات البرش بام ينفع أكرب عدد‬
‫من الناس وييرس هلم أسباب االستقرار واألمن‪،‬‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫ال بام يبهر العيون ويرد اإلنسان إىل الشعور بالقلق‬


‫وانعدام األمن‪ ،‬ألن الذين ينفقون املاليني ليهبطوا‬
‫عىل سطح القمر قصدوا أول ما قصدوا إىل إظهار‬
‫امتيازهم عىل غريهم وسبقهم لبقية الناس يف ميدان‬
‫التقدم‪ ،‬وهذا زهو وغرور ينطويان عىل رش‪ ،‬فهام يف‬
‫احلقيقة هتديد لآلخرين‪ ،‬إذ إن الصاروخ الذي دفع‬
‫مركبة القمر يف الفضاء يقوم عىل النظرية نفسها‬
‫التي يقوم عليها الصاروخ الذي يعرب القارات‬
‫ليخرب املدن ويقيض عىل ألوف الناس‪.‬‬
‫فرغيف اخلبز وإناء الفخار مقياسان أصدق‬
‫للتقدم احلق من الوصول إىل القمر والعودة بقطع‬
‫من حجارته‪ ،‬ألن رغيف اخلبز نعمة ال يأيت منها إال‬
‫خري‪ ،‬وإناء الفخار اخرتاع أدخل عىل حياة اإلنسان‬
‫تيسريا بعيد املدى‪ ،‬وكالمها نقطة حتول يف تاريخ‬
‫اإلنسان» ((((((‪..‬‬

‫(((  احلضارة‪،‬ص‪9‬‬
‫أن كثري ًا من االخرتاعات البرشية خرجت‬
‫(((  صحيح ّ‬
‫من رحم احلروب والرصاعات البرشية‪ ،‬إال ان اجلهود‬
‫التي ُبذلت يف سبيلها لو َبذلت يف سبيل االنسان نفسه‬
‫ٍ‬
‫بحال افضل من حاهلا اليوم‪.‬‬ ‫لكانت البرشية‬
‫‪93‬‬
‫وهبذا املعنى البد من االستفادة من اخر العلوم‬
‫البرشية‪ ،‬لكن مع االحتفاظ بمالحظة (حمورية‬
‫االنسان)‪.‬‬
‫وحينام نقول حمورية االنسان‪ ،‬حتى ال جتلب‬
‫ال‬ ‫ٍ‬
‫لطائفة من البرشية‪ ،‬و تكون َوبا ً‬ ‫العلوم السعاد َة‬
‫ٍ‬
‫طائفة اخرى‪.‬‬ ‫عىل‬
‫ويصور الشاعر العراقي (نائل املظفر) هذه‬
‫ّ‬
‫االزدواجية يف قصيدة من قصائد الشعر الشعبي‬
‫قائالً‪:‬‬
‫‪..‬‬
‫ِعملوا االف التجارب والبحوث‪..‬‬
‫حتى تدخل انظمة ويندوز كل احلاسبات!‬
‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫بلكت عدكم حاسبة بأحدث نظام‪ ..‬حتسبلكم‬
‫تعود يبات!‬
‫چم عراقي بال عشه ّ‬
‫وترضب بنود احلصار وتطرح ا َهل ِّم العلينه‪..‬‬
‫وتقسم ضهور الطغاة‬
‫انا ضد هذا التطور ياطغاة!‬
‫‪..‬‬
‫ِسحبوا بليزر رصاصة‪ ..‬يعني نِ َ‬
‫قذ ْو ُروح‬
‫واحد‪ ..‬بالسويد‬

‫‪94‬‬
‫و ِضبوا بليزر الف ملجئ عراقي‪ ..‬وذابت‬
‫وية احلديد!‬
‫عظام البرش‪ّ ..‬‬
‫انا مو ضد التطّ ور!‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫التطور ما اريد»‬
‫ّ‬ ‫انا من هذا‬
‫‪..‬‬
‫وهناك مالحظة اخرى‪ ،‬وهي أننا البد ان ال‬
‫نبقى اىل األبد ُمستهلكني ملنتجات العلم‪ ،‬بل البد‬
‫ان نبحث عن العلم الذي يؤهلنا لصناعة تلك‬
‫املنتجات وتطويرها‪.‬‬
‫ري منا‪ ،‬هو أننا استوردنا احدث‬ ‫فمشكلة كث ٍ‬
‫علم بكيفية عملها او طرق‬
‫التقنيات احلديثة دون ٍ‬
‫متحضين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫انتاجها‪ ..‬ثم ظننا اننا اصبحنا‬
‫ففي نفس اليوم الذي تطرح فيه رشكة ابل‬
‫كثري منا اىل‬
‫ال احدث اجهزهتا يف بلدها‪ ،‬يتسابق ٌ‬ ‫مث ً‬
‫اقتناءه‪ ،‬لنوهم انفسنا بأننا رصنا نتساوى معهم!‪.‬‬
‫بد أن يفهم أصوهلا‪،‬‬
‫«فمن أراد احلضارة فال ّ‬
‫يتم قيام احلضارات‪ ،‬وكيف‬‫وأن يدرس كيف ّ‬
‫حيدث سقوطها‪.‬‬
‫فمن أراد استرياد بستان من مكان إىل مكان‬
‫فلن يتم له ذلك عن طريق استرياد الورود والثامر‪،‬‬
‫بل باسترياد البذور والنبات‪ّ ،‬أما الرتبة فهي عادة‬

‫‪95‬‬
‫إن الذي يستورد الثمرة‪ ،‬ويظن‬‫ما تكون صاحلة‪ّ .‬‬
‫أ ّنه قد استورد البستان فهو خمطئ‪ ،‬ومن يستورد‬
‫ويظن أ ّنه استورد‬
‫ّ‬ ‫السيارة ويشرتي الطائرة‪،‬‬
‫ّ‬
‫احلضارة فهو خمطئ أيضا‪ً.‬‬
‫استوردت السيارات املصنعة اجلاهزة‬
‫َ‬ ‫فكلّام‬
‫مثالً‪ ،‬وجتنبت التفكري يف عملية إنتاجها يف أرضك‬
‫أخرت قيام حضارتك‪ ،‬أل ّنك نقلت املال الذي هو‬ ‫ّ‬
‫من أسس البناء احلضاري‪ ،‬نقلته من أرضك إىل‬ ‫ُ‬
‫أرض غريك‪ ،‬وعطلت العقول‪ ،‬وحولت الناس إىل‬
‫مستهلكني بدل أن يكونوا منتجني‪.‬‬
‫إن احلضارات قابلة للتصدير بأصوهلا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وجذورها‪ ،‬فمن أراد استرياد احلضارة فليتعلّم‬
‫القوة‪ ،‬بام يف ذلك املال‬
‫العلم‪ ،‬وليمتلك عنارص ّ‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫والرجال‪ ،‬والتنظيم الدقيق للحياة والعلوم وما‬
‫أشبه»(((‪.‬‬
‫ولكن املشكلة أن البرشية اليوم ‪-‬وباخلصوص‬
‫العامل الغريب‪ -‬حياول ان حيتكر العلم لذاته‪ ،‬فيمنع‬
‫ذروته عن سائر الشعوب ليتنسى له السيطرة‬
‫عليها‪ ..‬او ال ترى كيف حتتكر رشكات االدوية‬
‫تلك الرتكيبات الكيميائية الثمنية‪ ،‬ليتنسى هلم‬
‫التحكم باسعارها وبيعها باسعا ٍر نجومية ال‬

‫(((  عن احلضارة‪ ،‬ص‪114‬‬


‫‪96‬‬
‫تتناسب مع كلفة تصنيعها‪ .‬وقد بلغ جشع بعضهم‬
‫مرض نادر‪ ،‬تلك‬ ‫ٍ‬ ‫سعر (ابرة) واحدة لعالج‬‫أن ّ‬
‫اإلبرة التي ال يعرف احد كيفية صناعة حمتوياهتا‪..‬‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫ان اوصل سعرها اىل (‪ 2.5‬مليون دوالر)!‪..‬‬


‫وهذا ينطبق عىل سائر الصناعات من صناعة‬
‫السيارات اىل الطائرات اىل االجهزة االلكرتونية‬
‫اىل‪ ..‬صحيح ان االحتكار موجود حالي ًا‪ ،‬يف حال مل‬
‫سائر االمم‬
‫يمنع املسلمون حني بزوغ حضارهتم‪َ ،‬‬
‫ارسار علومهم‪.‬‬
‫َ‬
‫وخالصة‪ :‬جيب تقسيم احلضارة اىل اجلهات‬
‫اخلمس‪ ،‬ومن ثم نتعامل مع كل جهة بصورة‬
‫منفصلة وبطريقة خمتلفة عن االخرى‪.‬‬
‫هبذا الطريق وحده نستفيد من اجيابيات‬
‫احلضارة دون التأثر بسلبياهتا‪ ..‬من دون ذلك ربام‬
‫انقلب االمر عندنا‪:‬‬
‫نتأثر بسلبيات احلضارة الغربية دون االستفادة‬
‫من اجيابياهتا!‬
‫والرسم التوضيحي يف الصفحة القادمة‬
‫يلّخص كيفية تعاملنا مع احلضارة الغربية حسب‬
‫تم بيانه‪  .‬‬
‫ما ّ‬

‫‪97‬‬
‫حضارة اإلسالم‪..‬‬
‫لماذا؟‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫يف كتاب (حفارو قبور‪ :‬كيف حتفر احلضارة‬


‫الغربية قرب البرشية) ُيناقش املفكر الفرنيس (روجه‬
‫ضيع البرشية اليوم بوصلة‬ ‫ّ‬ ‫غارودي) كيف‬
‫توجههم يف حضارهتم املنشودة‪ ،‬فبدل ان جتلب‬
‫للبرشية التقدم‪ ،‬جلبت ألكثرهم الشقاء‪ ،‬وصارت‬
‫تسري بالبرشية اىل اهلاوية‪ ،‬فكأهنا حتفر هلا قربها‪.‬‬
‫وهنا اتساءل‪ :‬ترى كيف كان حال البرشية لو‬
‫رصفت امكانياهتا يف االجتاه الصحيح؟‬
‫ما الذي سيحدث لو تو ّقف العامل عن رصف‬
‫االف الباليني من الدوالرات‪ ،‬يف تطوير اجهزة و‬
‫وسائل ال حيتاج اليها كثرياً‪ ،‬بينام يمتنع عن البحث‬
‫عن حلول ملشاكل تعاين منها األغلبية الساحقة من‬
‫البرش؟‬
‫اتساءل‪ :‬لو توق ّفت رشكات كربى‪ ،‬كـ(‪)Apple‬‬
‫االمريكية و (‪ )Samsung‬الكورية و (‪)Hawavi‬‬
‫الصينية‪ ،‬سنة واحدة عن رصف املال يف صناعة‬
‫وتطوير هواتف جديدة‪ ،‬ال ختتلف اال يف شكلها‬
‫اخلارجي و زيادة يف بعض قواها‪ ..‬ما الذي‬
‫سيحدث َ‬
‫للعال؟‬
‫‪101‬‬
‫ال يشء‪..‬‬
‫ما الذي سيحدت لو توقفت رشكات السيارات‬
‫عن تطوير وحتديث موديالت سياراهتم و طرحها‬
‫يف االسواق عام ًا واحداً؟‬
‫ال يشء‪..‬‬
‫لكن‪ ..‬يا ترى‪ ،‬لو ُصفت تلك امليزانيات‬
‫الضخمة التي ترصف يف (البحث‪ ،‬التصنيع‪،‬‬
‫االعالن‪ ،‬التوزيع‪ )..‬يف اهلواتف والسيارات و‪..‬‬
‫لو ُصفت بدل ذلك يف اجياد ٍ‬
‫حل حقيقي ألزمة‬
‫(الغذاء يف العامل)‪ ،‬لكي ال يموت ‪ 21‬الف شخص‬
‫من اجلوع‪ ،‬يومي ًا‪ ..‬نعم يومي ًا‪ ..‬ولكي ال يضطر‬
‫(‪ )66‬مليون طفل للذهاب جوعى اىل املدرسة‬
‫يومي ًا‪..‬‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫اولئك االطفال الذي ال حيتاجون اال اىل ‪3.2‬‬


‫مليار دوالر فقط لعل اج جوعهم (((‪.‬‬
‫ُترى لو ُصفت ميزانية التسلح البالغة اكثر من‬
‫‪ 1822‬مليار دوالر سنوي ًا((( ‪ ،‬لو ترك َ‬
‫العال التسلح‬
‫(((  هذه االرقام مبنية عىل احصائيات برنامج األغذية‬
‫العاملي لعام ‪ ،2018‬انظر املوقع الرسمي للربنامج عىل‬
‫النت‪.‬‬
‫(((  هذه متثل االحصائية املعلنة للدول‪ ،‬وما ترصفه‬
‫الدول عىل اجلوانب احلربية اكرب من هذا الرقم بكثري‬
‫‪102‬‬
‫حلل مشكلة التصحر‪ ،‬و اجياد عالج لالمراض‬
‫َ‬
‫فالعال‬ ‫املستعصية كالرسطان وااليدز و غريها‪..‬‬
‫من اجل ذلك ال حيتاج اال اىل ترك سباق التسلح‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫(يوم ًا ونصف ) فقط!‪ ..‬ترى كيف كان حال العامل؟‬


‫ُترى لو ُصفت االموال التي ترصف عىل‬
‫صناعة االفالم واأللعاب االلكرتونية‪ ،‬او تلك‬
‫التي تنظم هبا البطوالت الرياضية و‪ ..‬كلها لو‬
‫ُصفت عىل حترير (‪ )40.3‬مليون شخص ‪%80‬‬
‫منهم من النساء واألطفال من العبودية احلديثة(((‪،‬‬
‫من العمل الصعب يف مناجم الذهب االفريقية اىل‬
‫ٍ‬
‫جتارة عرفها البرشية‪ :‬جتارة اجلنس‪ ..،‬كيف‬ ‫اقذر‬
‫كان حالنا اليوم؟‬
‫حلظة‪ ..‬ماذا اقول‪ ..‬هيس!‬
‫ما هذه الرومانسية الشاعرية؟‪..‬ما هذه‬
‫األحالم؟ هل تعلم أي عامل ٍ نعيش فيه؟!‪..‬‬
‫فلنقرأ تاريخ البرش‪ ..‬قدي ًام كنت استغرب حني‬
‫ارى الرؤية التشاؤمية ملؤرخي التاريخ حني الكتابة‬
‫عن (االنسان)‪ .‬استغرب من امثال (ديورانت) و‬

‫((( العبودية املعارصة أو (‪)Contemporary slavery‬‬


‫مصطلح يمثل العبودية املؤسسية التي ال تزال موجودة‬
‫يف جمتمعنا احلارض‪ .‬ترتاوح تقديرات عدد العبيد اليوم بني‬
‫حوايل ‪ 21‬مليون إىل ‪ 70‬مليون‪.‬‬
‫‪103‬‬
‫(شبلنجر) و (كروتشة) مدى سوداويتهم يف النظرة‬
‫اىل مستقبل البرشية‪.‬‬
‫قرأت معهم تاريخ (االنسان)‪ ،‬ألتعرف‬
‫ُ‬ ‫لكن‬
‫عىل هذا (الوحش الكارس)‪ ..‬إذ رأيت تاريخ‬
‫مكتوب بالدم!‬
‫ٌ‬ ‫البرشية‬
‫رأيت اجلرائم‪ ..‬املآيس‪ ..‬املؤامرات‪ ..‬اخليانة‪..‬‬
‫ُ‬
‫الغش‪..‬‬
‫والغريب ان هذا (اإلنسان) يشتق اسمه من‬
‫انس احده باآلخر‪ ..‬ولي َته مل يأنس‬
‫(األنس)‪ ،‬أي َ‬
‫وحش فتك بقرينه كام االنسان‬ ‫ٌ‬ ‫به! فهل هناك‬
‫بمثيله؟!‬
‫رصت أقرأ عن احداث التاريخ الذي صنعه‬
‫هذا (اإلنسان)‪ ..‬ال عن ذلك االنسان اهلمجي‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫املوغل بالتخلف يف اعامق التاريخ ‪ -‬حسب‬


‫تعريف احلضارة اليوم‪ ،-‬بل عن االنسان يف‬
‫التاريخ احلديث‪ ،‬عن (اإلنسان العاقل) احلضارة‬
‫احلديثة يف اوج عقالنيتها و ختلصها من اخلرافات‪..‬‬
‫ماذا رأيت؟‬
‫الثورة الشيوعية‪ ..‬ماوتيس تونغ‪ ..‬الثورة‬
‫الثقافية‪ ..‬ستالني‪..‬هتلر‪ ..‬بول بوت‪..‬‬
‫حرب عاملية اوىل‪ِ ..‬حصار‪ ..‬جتويع‪ ..‬خيانة‪..‬‬

‫‪104‬‬
‫تركيع‪ ..‬تدمري (درسدن) مع ‪ 200‬الف نسمة‬
‫يف ليلة واحدة‪ ..‬الكيميائي‪ ..‬الدمار واللهب‪..‬‬
‫جماعات‪ ..‬من اجل ماذا؟‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫من اجل نزوات حكّ ام جشعني‪.‬‬


‫حرب عاملية ثانية‪ ..‬حصار‪ ..‬جتويع‪ ..‬خيانة‪..‬‬
‫تركيع‪ ..‬هريوشيميا‪ ..‬ناكازاكي‪ ..‬نورماندي‪..‬‬
‫لينينغراد‪ ..‬مآيس‪ ..‬جماعات‪..‬‬
‫من اجل ماذا؟‬
‫نظا ٍم عاملي جديد‪ ..‬ظامل!‬
‫قرأت كل ذلك‪..‬‬
‫ُ‬
‫وتي ّقنت مرة بعد األخرى أن ال حل اال بحضارة‬
‫السامء مرة اخرى‪..‬‬
‫حضارة االسالم (((‪.‬‬

‫(((  ليس احلديث عن (احلضارة االسالمية) هو‬


‫الغاء للحضارة البرشية‪ ..‬وانام احلديث عن أن احلضارة‬
‫االسالمية تأخذ نقاط قوة احلضارة االنسانية اليوم وتبني‬
‫نفسها وتتكامل‪ .‬لكن اذا نظر الغرب عىل أنّه ال سبيل‬
‫لبقاء حضارته اال باستمرار ختلف سائر البرشية‪ ،‬ونظر‬
‫اىل االسالم عىل انه عدو جيب منعه من التقدم ليستمر‬
‫االستعامر فعند ذلك يكون التصادم‪.‬‬
‫ونظرية الرصاع احلضاري الذي انترشت بفعل كتابات‬
‫هنغتنتون يف هنايات القرن املايض‪ ،‬هي مأخوذة من املؤرخ‬
‫‪105‬‬
‫حضارة حتمل الروح و ِ‬
‫الق َيم‪ ..‬تريد اخلري‬
‫للبرشية كلها‪..‬‬
‫ترى البرشية كلهم سواسي ًة كأسنان املشط‪..‬‬
‫فقري‬
‫تتمحور حول (احلق) و (العدل)‪ ،‬ال جيوع هبا ٌ‬
‫متع به غني‪ ..‬ال تنهب امةٌ خريات ٍ‬
‫امة فتزيدها‬ ‫بام ّ‬
‫وشقاء‪ .‬حضارة (اإلنسان)‪ .‬حق ًا ما احوج‬
‫ً‬ ‫بؤس ًا‬
‫البرشية اليها؟!‬
‫لكن من الذي يقوم بذلك؟‬
‫هناك نظريتان‪:‬‬
‫او ً‬
‫ال‪ :‬ان هذه احلضارة ال تقوم اال بتدخل اهلي‬
‫مبارش‪ ..‬كام كان يف البدء‪( ..‬عىل حني ٍ‬
‫فرتة من‬
‫ٍ‬
‫هجعة من األمم)‪..‬‬ ‫الرسل‪ ،‬وطول‬
‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫أي حضارة االسالم واالنسان النهائية‪ ..‬يسود‬
‫فيها العدل والسلم واملحبة حتى قيام القيامة‪..‬‬
‫حضارة (املهدي) من آل حممد عجل اهلل فرجه‬
‫وسهل خمرجه‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ :‬هناك من يرى بأن وجود احلضارة النهائية‬
‫التي متثل (هناية التاريخ) وهي حضارة املهدي‬
‫(عج)‪ ..‬وجودها ال يعني عدم وجود حماوالت‬
‫االملاين شبلنجر الذي امن بفكرة الدورات احلضارية‬
‫املغلقة‪ ،‬فال تقوم حضارة اال عىل انقاض احلضارة‬
‫االخرى‪ ،‬ولكنها ليست سليمة‪.‬‬
‫‪106‬‬
‫السلم واحلق والعدل‬‫قبلها‪ ..‬افال حيتاج البرشية اىل ِ‬
‫(اليوم)؟ اولسنا نحتاج اىل دعوة البرشية كلها اىل‬
‫االسالم؟ السنا نحتاج اىل نموذج صالح نقدمه‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫للبرشية حتى يطمئنون اىل االسالم و حضارته؟‬


‫فلذا تقع هذه املسؤولية عىل عاتقنا اليوم‪.‬‬
‫فليس واجبنا اليوم أن نضع رج ً‬
‫ال عىل اخرى‪،‬‬
‫خريف‬
‫ٌ‬ ‫و نرى هتاوي البرش كأوراق شج ٍر ادركها‬
‫عاصف!‬
‫متفرجني عىل (الظلم) يف هذا‬
‫ال يمكن ان نقف ّ‬
‫العامل الوحيش الذي يأكل فيه البرش القوي اآلخر‬
‫الضعيف‪ ..‬ليس عىل مستوى اشخاص بل عىل‬
‫مستوى امم ايضا‪.‬‬
‫نفس (اإلنتظار) بمفهومه السلبي‬‫ال يمكن ان ِّ‬
‫نفسه بمفهومه االجيايب احلركي‪..‬‬ ‫اجلامد‪ ،‬بل ّ‬
‫فاالنتظار هو االستعداد والتهيئة‪.‬‬
‫ربام يقول قائل‪ :‬ان ذلك من مسؤوليات‬
‫احلكومات‪ ،‬ويبدأ احلديث (السيايس) عن‬
‫احلكومات املتعاقبة عىل بلداننا‪ ،‬فاسد ًة كانت او‬
‫ظامل ًة او فاشلة!‪.‬‬
‫ولكن ذلك خطأ كبري!‬
‫ملاذا؟‬

‫‪107‬‬
‫ألن احلضارة مل تكن يوم ًا من االيام‪ ،‬وليدة‬
‫احلكومات‪ ..‬بل كانت نتاج األمة‪ .‬وهذه النقطة‬
‫التي ربام ال يلتف اليها الكثريون‪.‬‬
‫فبفعل من ازدهرت حضارة اإلسالم؟!‬
‫بخطط مخسية و مخسينية من (معاوية) او‬ ‫هل ُ‬
‫(يزيد)؟ ام بامثال (املنصور) الدوانيقي و (هارون)‬
‫و(مأمون)؟‬
‫كال‪..‬‬
‫بل احلضارة كانت وليدة األمة‪ ..‬ألن األمة‬
‫كانت ناهض ًة فاعلة‪..‬‬
‫قدم عجلة التاريخ اىل األمام؟‬
‫من الذي ّ‬
‫ٍ‬
‫جامعة كان ينتمي (جابر بن حيان)‬ ‫فإىل أي‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫حني أرسى اسس الكيمياء احلديثة؟ و للحصول‬
‫ٍ‬
‫درجة علمية‪ ،‬كتب (ابن اهليثم) مقالته يف‬ ‫عىل أي‬
‫البرصيات؟ و ترأس (ابن بطوطة) أي مؤسسة‬
‫بحث‪ ،‬ليقوم برحالته املكوكية؟!‬
‫مل يكونوا كذلك‪..‬‬
‫إن اكرب انجا ٍز يف تاريخ بني امية وبني‬‫بل َّ‬
‫العباس‪ ،‬وسائر احلكومات املتالحقة‪ّ ..‬أنا مل‬
‫تستطع ان تقف امام تقدم األمة نفسها!‬
‫نعم ال ننكر الرضر الكبري هلذه احلكومات‬
‫‪108‬‬
‫عىل املسرية احلضارية‪ ،‬ولوالهم لكان العامل اليوم‬
‫يف طو ٍر غري طوره‪ ..‬فلوال جرائمهم ملا تقهقر‬
‫اإلسالم‪ ،‬ولوال مؤامراهتم النترش نور االسالم يف‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫كل بقاع االرض‪ ،‬منذ اكثر من الف عام‪ ..‬ولكن‬


‫تيار االمة الناهضة كان تيار ًا قوي ًا‪.‬‬
‫وال انكر مشاكل االمة نفسها يف حقل الفكر‬
‫والثقافة والعمل‪ ،‬ولكن املحصلة كانت موجبة‪.‬‬
‫وال يمكن كذلك ان نغفل عن دور ائمة اهل‬
‫البيت عليهم السالم يف بناء األمة‪ ،‬حيث كان التيار‬
‫الرسايل و الثوري‪ ،‬الذي بناه االئمة عليهم السالم‬
‫نابض لالمة‪ ،‬ولكن تفصيل‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫كقلب‬ ‫يف تلك الفرتة‬
‫ذلك يف موضع اخر‪.‬‬
‫فلذا فإن احلل احلقيقي هو يف (اهناض األمة)‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كأفراد او كجامعات‪.‬‬ ‫سواء‬
‫فاحلضارة االسالمية ُتبنى حني تتحرك األمة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫واحد منا يف داخله‪ ،‬القيم احلضارية‪،‬‬ ‫و يو ّفر كل‬
‫كالتعاون و املسؤولية و التضحية و غريها‪ ..‬ثم‬
‫يقوم ابناءنا الواحد بعد اآلخر بالبناء واإلنتاج‪ ،‬يف‬
‫شتى املجاالت و يف احسن صوره‪.‬‬
‫ألن احلضارة تتشكل من تراكم االنتاج‪..‬‬
‫فاذا زاد االنتاج احلضاري عىل خمتلف‬
‫املستويات‪ ،‬فإما ان تصطبغ احلضارة االنسانية‬
‫‪109‬‬
‫احلالية بصبغة االسالم و تصلح مسريهتا وينتقل‬
‫ثقلها حيث املسلمني‪ ،‬و اما ان تنشأ حضارة جديدة‬
‫متام ًا تنافس احلضارة احلالية وربام تتصادم معها‪.‬‬
‫فجزء من املشكلة احلضارية اننا ال ننتج اال‬
‫القليل‪.‬‬
‫يف اجلانب العلمي مثالً‪ ،‬وحسب االحصاء‬
‫عن (ديانات الفائزين بجائزة نوبل) العاملية‪ ،‬منذ‬
‫تأسيسها يف عام ‪ 1901‬حتى عام ‪2000‬م‪ ،‬فإن‬
‫نسبة املسلمني فيها مل تتجاوز ‪ ،%0.8‬يف حني بلغ‬
‫املسيحيون فيها ‪!%65.4‬‬
‫ونادر ًا ما يصادف الدارسون يف العلوم‬
‫االكاديمية يف فرعيها الطبيعي واالنساين‪ ،‬اسامء‬
‫ٍ‬
‫شخصيات اسالمية او وطنية اثْ َرت ‪-‬يف القرن‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫االخري‪ -‬الساحة العلمية ببحوثها‪.‬‬
‫ال نظرة احصائية رسيعة للفرتة ما بني‬ ‫فمث ً‬
‫(‪ )2018-1996‬امليالدية نجد أن عدد البحوث‬
‫التي نرشهتا البلدان ذات األغلبية االسالمية هي‬
‫(‪ )2.029.315‬بحث ًا علميا‪ ،‬ومع ان هذا الرقم‬
‫يبدو يف الوهلة األوىل كبري ًا اال انه صغري جد ًا‬
‫باملقارنة مع حجم البحوث العلمية الكلية البالغة‬
‫(‪ )54.222.037‬بحث ًا‪ .‬أي ان املسلمني الذي‬
‫يشكلّون حوايل (‪ )%24‬من سكان املعمورة‪ ،‬ال‬

‫‪110‬‬
‫يسامهون اال يف (‪ )%3.7‬من البحوث العلمية!‬
‫يف حني‪ ،‬نجد ان البحوث العلمية املنشورة يف‬
‫الواليات املتحدة االمريكية وحدها ضمن الفرتة‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫نفسها‪ ،‬هي (‪ )12.070.144‬بحث‪ ،‬اي حوال‬


‫(‪ )6‬اضعاف مجيع البلدان االسالمية‪.‬‬
‫اما البلدان الغربية جمتمعة فتشكل اكثر من‬
‫(‪ %)60‬من البحوث العلمية(((‪.‬‬
‫تصور ُجزئي‬
‫يف ستة ارقام فحسب‪ ،‬اصبح لنا ّ‬
‫عن موقعنا اليوم يف هذا العامل الرحيب‪.‬‬
‫ولذا اقول‪ :‬كلّام سامهنا يف دفع عجلة احلضارة‬
‫اىل االمام اكثر‪ ،‬كلام استطعنا ان نصبغها بالصبغة‬
‫املناسبة لنا ونعجنها بالطريقة التي نرتضيها‪.‬‬
‫ولكن بحاجة اىل ان ال نستبق النتائج‪.‬‬
‫فام اقل صربنا!‬
‫فاذا اردنا احلضارة البد ان نتعلم الصرب‪ .‬ان‬
‫بناءنا عىل‬
‫ُنراكم اجلهود و االمكانيات‪ ،‬ويزيد ُ‬
‫ٍ‬
‫فرتات طويلة ثم‬ ‫هدمنا‪ ،‬وانتاجنا عىل استهالكنا‬

‫(((  هذه االحصائيات مبنية عىل تصنيف (‪The‬‬


‫‪ ،)SCImago Journal & Country Rank‬وهو تصنيف ُيعنى‬
‫بتصنيف البلدان واملجالت العلمية عىل اساس بحوثها‬
‫العلمية‪ ،‬للمزيد راجع ‪www.scimagojr.com‬‬
‫‪111‬‬
‫نبحث بعد ذلك عن الرفاهية‪.‬‬
‫ولكننا بدل ذلك نقفز مبارشة اىل مظاهر‬
‫الرفاهية واالستهالك‪ ،‬ونريد ان نعيش كام يعيشه‬
‫االنسان الغريب‪ ،‬وهل يمكن املقارنة‪.‬‬
‫كال‪..‬‬
‫راكم الثروة‬
‫َ‬ ‫ففي ظل نظا ٍم اقتصادي مستقر‪،‬‬
‫عرشات السنني‪ ..‬انتج رفاهية جعل الفرد والدولة‬
‫قادر ًة عىل التوجه نحو الرفاهية‪ ،‬وانشاء قطاع‬
‫(اللذة)‪.‬‬
‫فمث ً‬
‫ال تم وضع نموذج جتاري تابع هلذا القطاع‪،‬‬
‫كالفرق الرياضية بمختلف اصنافها‪ ،‬حيث يقوم‬
‫ناد من النوادي‪ ،‬ويكسب النادي‬ ‫الفرد بتشجيع ٍ‬
‫من مشجعيه و من الدعايات و‪ ..‬االموال الكافية‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫ٍ‬
‫بمباراة واحدة كل اسبوع يتفرج مجهوره‬ ‫ليقوم‬
‫عليها و يتفاعل معها‪.‬‬
‫هناك هذا النموذج مرتبط بالرفاهية واللذة‪،‬‬
‫ويمثل عالقة متبادلة بني الفريق ومجهوره‪ .‬فالفريق‬
‫يستفيد من مجهوره مالي ًا يف قبال ان يو ّفر له (متعة‬
‫كروية) ملدة ‪ 90‬دقيقة يف االسبوع‪.‬‬
‫متام ًا كعالقة الشخص مع املمثل يف املرسح او‬
‫السينام‪ ..‬حيث يو ّفر له املتعة فرتة من الزمن يف قبال‬
‫املال‪.‬‬
‫‪112‬‬
‫ولكن ما حال بلداننا؟‬
‫ٍ‬
‫نقص يف البنى‬ ‫تلك البلدان التي تعاين من‬
‫التحتية‪ٍ ،‬‬
‫نقص يف املصانع و املزارع‪ ..‬بل تكاد تفتقر‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫اىل مدارس تعليمية تليق بالطلبة‪..‬‬


‫هذه البلدان ‪ -‬ومن اجل تقليد الدول املتطورة‪-‬‬
‫تقوم يف الوهلة االوىل‪ :‬ببناء املالعب!‬
‫ملعب‬
‫ٌ‬ ‫وما اغرب احلالة يف بعض البلدان‪:‬‬
‫ضخم يستوعب مئات االلوف‪ ،‬يف ظل ٍ‬
‫نقص يف‬
‫يعب احد املفكرين الغربيني‬
‫اخلدمات االساسية‪ ،‬و ّ‬
‫عن هذا التناقض قائالً‪ :‬استغرب من البلدان‬
‫النامية‪ُ ،‬نعطيهم ِم َنح ًا فيبنون هبا بدل املستشفيات‬
‫واملصانع مالعب!‬
‫ال نقول‪ :‬ان جمتمعنا ‪ -‬خصوص ًا الشباب‪ -‬ال‬
‫حيتاجون اىل الرتفيه واللذة‪ .‬بل نقول‪ :‬البد ان‬
‫يكون ذلك يف حملّه و بعد ان نتقدم خطوات يف‬
‫السلّم احلضاري‪ ،‬وحتى حينئذ ان يكون بالقدر‬
‫املطلوب ال اكثر‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫المسلمون والحضارة‪:‬‬
‫تقهقر ام انطالقة‬
‫ٌ‬
‫ليس كل ٍ‬
‫ذهب ‪ ..‬يلمع ‪..‬‬
‫سائح ‪ ..‬تائه‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫ليس كل‬
‫القديم الذي هو قوي‪ ..‬ال يذبل‪..‬‬
‫اجلذور العميقة ‪ ..‬ال يصلها اجلليد‬
‫من الرماد ‪ ..‬ستسيقظ النار‬
‫من ِ‬
‫الظالل ‪ ..‬سينبعث النور‬
‫سيعاد جتديده‬
‫السيف املكسور ‪ُ ..‬‬
‫سيصبح الرجل بال تاج‪..‬‬ ‫مرة اخرى ‪ُ ..‬‬
‫َم ِلك ًا‬
‫ج‪.‬ر‪ .‬تالكني‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫ما اشبه حلظة اخللود اىل النوم اىل اليقظة منه؟!‪،‬‬


‫فمالمح االنسان فيهام متشاهبة‪ ،‬حالته مشاهبة‪..‬‬
‫ٌ‬
‫وارهاق و ُنعاس‪..‬‬ ‫تعب‪،‬‬
‫ٌ‬
‫لكن ما ابعدمها عن بعضهام؟! فاألوىل يسبقها‬
‫النشاط و يعقبها اهلدوء والسكون و املوت! اما‬
‫الثانية فيسبقها راحةٌ جتتمع فيها القوى و تتحول‬
‫فجأة اىل هنضة وحتدي‪.‬‬
‫كام يف االنسان كذا يف احلضارات‪..‬‬
‫فللحضارة‪ -‬كام مر‪ -‬طفولة و شيخوخة‪ ..‬حالة‬
‫احلضارة فيهام واحدة (الضعف)‪ ،‬ولكن شتان بني‬
‫ٍ‬
‫ضعف يعقبه قو ًة واخر يعقبه ضعف مثله‪.‬‬
‫فالسؤال هنا‪ :‬اذا كان الكالم هذا صادق ًا؟ ففي‬
‫أي طو ٍر نعيش اليوم؟ هل نعيش الضعف الذي‬
‫يؤدي اىل املوت‪ ،‬ام الضعف يعقبه احلياة؟‬
‫هناك من يقول‪ :‬ان املسلمني ‪-‬بل البرشية كلها‪-‬‬
‫فخري‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫تسافل مستمر‪،‬‬ ‫‪ ،‬منذ بعثة رسول اهلل (ص) يف‬
‫الناس اصحاب رسول اهلل (ص) بعدهم التابعني‬
‫هلم ثم تنازلوا و تنازلوا‪..‬‬

‫‪117‬‬
‫وشعاره يف ذلك قول الشاعر‪:‬‬
‫من ُه‬ ‫بكيت‬
‫ُ‬ ‫يو ٍم‬
‫ورب‬
‫ّ‬
‫رصت يف غريه بكيت عليه‬
‫ُ‬ ‫و ملا‬
‫وهذه النظرة مما تزخر يف كتابات الفكر السلفي‪.‬‬
‫ولكن احلقيقة ان األمر ليس كذلك‪ ،‬ولست يف‬
‫صدد النقاش املفصل يف هذا االجتاه‪ ،‬اال اين اقول‪:‬‬
‫ان املسلمني اليوم يف حالة هنوض حضاري‪ ،‬و‬
‫يف حالة تقدم‪ ..‬وها قد الح يف األفق ارهاصات‬
‫النهضة والصحوة‪ ،‬وما الصعوبات واملشاكل التي‬
‫تكثر اال دليل ذلك‪.‬‬
‫قد ّيتهمني الكثري بالتفاؤل املبا َلغ به يف كالمي‬
‫هذا‪ ،‬كيف ال وهم يرون حجم التحديات الكبرية‬
‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫ويساعدهم‬ ‫التي نواجهها واملشاكل التي نجدها‪ُ ،‬‬
‫يضخم لنا مشاكلنا‬
‫يف ذلك االعالم االجنبي الذي ِّ‬
‫و يغض الطرف عن االنجازات‪.‬‬
‫ولك ّني استدل باملشاكل نفسها عىل أننا يف حالة‬
‫هنوض!‬
‫تقول‪ :‬كيف؟‬
‫اقول‪:‬هناك نوعان من املشاكل‪ :‬مشاكل تأيت‬
‫عىل املرء من سكونه‪ ،‬واخرى تأيت من حركته و‬
‫ُ‬
‫الشوك يد ًا ال جتني الورد‬ ‫حتديه للحياة‪ ..‬فال جيرح‬
‫ّ‬
‫‪118‬‬
‫النحل شخص ًا ال يريد الشهد‪ ،‬وهكذا‪..‬‬
‫ُ‬ ‫وال يؤمل‬
‫ٍ‬
‫قرون طويلة‬ ‫فاألمة االسالمية كانت وعىل مدى‬
‫تغط يف س ٍ‬
‫بات عميق‪ ،‬يسيطر األعداء عىل مقدراهتا‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫ُ‬
‫و يتحكم بثرواهتا‪ .‬ولكن وألسباب كثرية‪،‬‬
‫بدء املسلمون باالستيقاظ من نومهم‪ ،‬وصاروا‬
‫يتحسسون هذا التخلف‪ ،‬وارادوا النهضة(((‪،‬‬
‫ولكن هل تركهم اعداءهم عىل حاهلم؟ كال‪..‬‬
‫فمتى َعرف املسلمون الفتنة الطائفية؟ أليس‬
‫حينام حاولوا بناء دولة مستقلة بناء عىل اساس‬
‫اسالمي؟‬
‫كثري من بلداننا من املغضوب‬
‫صارت ٌ‬
‫َ‬ ‫ومتى‬
‫عليها؟ اليس حينام رفضت ُحكم نظام قمعي‬
‫ٍ‬
‫عميل للغرب‪ ،‬فصارت تبحث عن استقالهلا؟‬
‫اليس حينذاك انتبه الغرب بني ليلة وضحاها‬
‫لقضايا حقوق االنسان و احليوان والنبات و اهلواء‬
‫والفضاء! ورصنا من املغضوب عليهم والضا ّلني‬
‫معا؟‪..‬‬

‫(((   ربام بدأت النهضة يف البلدان االسالمية غري‬


‫الشيعية‪ ،‬بعد اهنيار اخلالفة العثامنية يف هناية احلرب العاملية‬
‫االوىل‪ ،‬ولكن باكورة حركات النهضة عند الشيعة االمامية‬
‫سبقت ذلك بحركة مجال الدين االفغاين يف هنايات القرن‬
‫التاسع عرش‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫جاءت بسبب‬
‫وهكذا فإن كثري ًا من املشاكل َ‬
‫حماوالت النهضة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫كرجل نائم استغل‬ ‫يشبه البعض‪-‬‬
‫فحالنا ‪ -‬كام ِّ‬
‫متاعه‪ ،‬وحينام بدأ باالستيقاظ‬
‫اعداؤه نومه‪ ،‬فنهبوا َ‬
‫«عد اىل ِ‬
‫نومك‪ ..‬ال حتتاج‬ ‫بدؤوا يضغطون عليه‪ُ :‬‬
‫اىل اليقظة‪ ..‬نحن هنا حلاميتك!»‬
‫وكام قال الشاعر ‪ُ -‬م ِّ‬
‫تهكامً‪:-‬‬
‫ناموا وال تستيقظوا‬
‫ما فاز إ ّال ال ُن َّو ُم!‬
‫شأن‬
‫ٌ‬ ‫فإين عىل يقني عىل أن تكون لبلداننا‬
‫مهم عىل املستوى (احلضاري)‪ ،‬ال اقصد يف هناية‬
‫التاريخ‪ ،‬بل اقصد يف املستقبل القريب باذن اهلل‪.‬‬
‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫السبات احلضاري‪،‬‬ ‫فاليوم ال نعيش مرحلة ُ‬
‫بل نعيش مرحلة (النهضة) احلضارية‪ ..‬النهضة‬
‫التي حتاول ان تنهض باألمة مرة اخرى‪ ..‬تنهض‬
‫برجاهلا‪ ..‬تنهض ببث تلك (الروح) املتمثلة يف‬
‫(الكلمة) التي ُبنيت احلضارة االوىل للمسلمني‬
‫عليها‪.‬‬
‫ولكن كأي عملية بناء‪ ،‬نحن بحاجة اىل‬
‫دفع (الثمن)‪ ..‬فالثمن هو (اجلهاد)‪ ،‬الثمن هو‬
‫(التضحية)‪ ،‬الثمن هو (املشاكل)‪ ..‬الثمن هو‬

‫‪120‬‬
‫(االنجاز) و (السهر)‪ ..‬وذلك لسببني‪ :‬او ً‬
‫ال‪ ،‬ألن‬
‫سني التخلف راكمت مشاكل عصية عمرها مئات‬ ‫ِّ‬
‫السنني‪ ،‬وحلّها حيتاج اىل ارادة قوية‪..‬‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫ٍ‬
‫كبيت ُترك فرتة طويلة‪ ،‬فرتاكمت‬ ‫فحالنا‬
‫عليه ذرات الغبار مع االوساخ‪ ،‬وعشعشت فيه‬
‫الوحوش الكارسة‪ ..‬كم حيتاج اىل جهد حتى‬
‫ُيرجعه اىل حاله االصيل؟‬
‫وثاني ًا‪ :‬ألن َ‬
‫العال ال يريد حضار ًة للمسلمني‪،‬‬
‫أل ّنه ال يريد ان ينافسه احد‪ ..‬و ال يريد ان ينافسه‬
‫املسلمون‪ ..‬فاحلضارة االسالمية يعني انتهاء‬
‫السيطرة االمربيالية عىل العامل‪ ..‬سيطرة قطاع اللذة‬
‫و قطاع اهلوى عىل العامل‪..‬‬
‫روح حضارية كاملة‪ ..‬يعني‬‫إ ّنه يعني ابتعاث ٍ‬
‫تقدم البرشية اىل مستوى ال يكون ِ‬
‫العلم احلايل اال‬
‫ٍ‬
‫حرف منه(((‪..‬‬ ‫حرف ًا يف سبعني‬
‫اخلالصة‪ :‬نحن االن نعيش يف عرص النهضة‪..‬‬
‫السبات‪.‬‬
‫هنضة االمة‪ ..‬اليقظة من ُ‬
‫اردت دلي ً‬
‫ال اخر‪..‬‬ ‫َ‬ ‫واذا‬

‫(((  كام د ّلت عىل ذلك الروايات يف وصف دولة العدل‬


‫االهلي‪.‬‬
‫‪121‬‬
‫فانظر اىل (ثقافة املسلمني((() املنترشة‪ ،‬تلك‬
‫(الثقافة) التي ب ّثها األدب العريب يف هذه الفرتة‪.‬‬
‫فبعد ان كان شعراء العرب مجيع ًا يتغنون بادب‬
‫الغزل و الكالم الفارغ‪ ..‬صار ادب بعضهم مادة‬
‫االستنهاض‪ :‬استنهاض اإلنسان‪..‬‬
‫فهذا (حممد اقبال) ُيطلق من باكستان قصيدته‬
‫املعروفة‪( :‬الشكوى)‬
‫من ذا الذي رفع السيوف لريفع‬
‫اسـمك فوق هامات النجوم منارا‬
‫وربام‬ ‫اجلبال‬ ‫يف‬ ‫جباال‬ ‫كنا‬
‫رسنا علـى مـوج البحار بحارا‬
‫أذاننا‬ ‫كان‬ ‫اإلفرنج‬ ‫بمعابد‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫قبل الكتائب يفتـح األمصارا‬


‫مل تنس إفرقيا وال صحراؤها‬
‫سجداتنا واألرض تقذف نارا‬
‫َ‬
‫وكأن ظل السيف ظـل حديقـة‬
‫خرضاء تنبت حولنا األزهار‬
‫**‬

‫(((  بي ّنا امهية الثقافة يف التأثري عىل سلوك املجتمعات‪.‬‬


‫‪122‬‬
‫َمن غرينا هدم التامثيل التي‬
‫هاالت الورى؟‬
‫ُ‬ ‫كانت ت ِّقدسها َج‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫حتى هوت ُصور املعابد ُس َّجدا‬


‫ّ‬
‫وصورا‬
‫ّ‬ ‫جلاللِ من خلق الوجود‬
‫حلوا بعزم اكفِّهم‬ ‫ومنِ األىل َ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫غزوة َخيربا؟‬ ‫يوم‬
‫َ‬ ‫باب املدينة‬
‫نار املجوس فأطفئت‬ ‫ّأمن رمى َ‬
‫أبلج ِّنيا؟‬
‫َ‬ ‫احلق‬
‫ِّ‬ ‫و أبان وج َه‬
‫ومنِ الذي بذل احلياة رخيصة‬
‫(((‬ ‫ٍ‬
‫يشء فاشرتى؟‬ ‫أعز‬ ‫َ‬
‫رضاك َّ‬ ‫ورأى‬

‫ومن العراق‪ ،‬يستنهض معروف الرصايف اهلِ َمم‬


‫ٍ‬
‫بقصيدة بليغة قائالً‪:‬‬
‫حمر ُم‬
‫الكالم َّ‬‫َ‬ ‫يا قو ِم ال تتكّ لموا إن‬
‫ال ال ُن َّو ُم‬‫ناموا وال تستيقظوا ما فاز إ ّ‬
‫تتقدموا‬
‫ّ‬ ‫وتأخروا عن كل ما َيقيض بأن‬ ‫ّ‬
‫التفهم جانب ًا فاخلري أن ال َتفهموا‬
‫ُّ‬ ‫و َد ُعوا‬

‫(((  صلصلة اجلرس‪ ،‬قصيدة شكوى‪ ،‬والقصيدة‬


‫ُن ّظمت بلغة (االردو)‪.‬‬
‫‪123‬‬
‫فالرش أن تتع َلموا‬
‫ّ‬ ‫و َت ّث ُّبتوا يف جهلكم‬
‫أما السياسة فاتركوا أبد ًا وإ ّ‬
‫ال تندموا‬
‫طلس ُم‬
‫رسها لو تعلمون ُم َ‬ ‫إن السياسة ّ‬
‫كر ُم‬
‫من شاء منكم أن يعيش اليوم وهو ُم َّ‬
‫فم‬‫لديه وال ُ‬ ‫برص‬
‫سمع وال ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َلي ِ‬
‫مس ال‬ ‫ف ُ‬
‫علقم‬
‫ُ‬ ‫فقولوا‬ ‫إن قيل هذا شهدكم ُم ٌّر‬
‫ظلم‬
‫ليل فقولوا ُم ُ‬ ‫أو قيل إن هناركم ٌ‬
‫فع ُم‬
‫يل فقولوا ُم َ‬‫أو قيل إن ثِامدكم((( َس ٌ‬
‫قس ُم‬
‫أو قيل إن بال َدكم يا قو ِم سوف ُت َّ‬
‫(((‬
‫فتحمدوا وتشكّ روا وتر ّنحوا وتر ّنموا!‬
‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫وهذا ابو القاسم الشايب ينادي من تونس‪:‬‬


‫فَال‬ ‫الشعب يوم ًا أرا َد ْ َ‬
‫ال َيـا َة‬ ‫إذا ّ ْ ُ َ ْ َ َ‬
‫ـدر‬
‫ال َق َ‬ ‫َي ْس َت ِج َ‬
‫يب‬ ‫أن‬
‫ْ‬ ‫ُب َّد‬
‫َوال‬ ‫أن َينْ َج ِلــي‬ ‫َّيـ ِل ْ‬ ‫ـد لِل‬
‫َوال ُب َّ‬
‫ْ‬
‫َيـنْ َك ِسـر‬ ‫َأ ْن‬ ‫لل َقيْ ِد‬ ‫ُب َّد‬

‫(((  الثامد‪ ،‬مجع ثمد بالتحريك‪ ،‬وهو املاء القليل‬


‫(((  من قصيدة‪ ،‬احلرية يف سياسة املستعمرين‪ ،‬ديوان‬
‫معروف الرصايف‪ ،‬ص‪ ،649‬وقد نقلناها باختصار‪.‬‬
‫‪124‬‬
‫الي ِ‬
‫ـاة‬ ‫َْ‬ ‫َش ْو ُق‬ ‫ُي َعانِ ْق ُه‬ ‫َلْ‬ ‫َو َم ْن‬
‫َ‬
‫َوانْ َدثَـر‬ ‫َج ِّو َهـا‬ ‫يف‬ ‫ـر‬
‫َت َب َّخ َ‬
‫ِم ْن‬ ‫ـه ْ َ‬
‫ال َيا ُة‬ ‫ف ََويْ ٌل ِلَ ْن َلْ َت ُش ْق ُ‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫ا ُملنْ َت ِص‬ ‫ـدم‬‫الع َ‬ ‫َص ْفع ِ‬


‫ـة‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫وهذا البارودي املرصي ‪:‬‬

‫ت‬ ‫ت‪ ،‬كا َن ْ‬ ‫َخو َف الْ َو ِ‬ ‫َم ْن ذ ََّل‬


‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ض َع َليْ ِه ِم ْن ِحا ٍم َي ُؤ ُّد ُه‬ ‫َأ َ َّ‬ ‫َح َيا ُت ُ ه‬

‫ي‬‫ال َْع ْ ِ‬
‫ُ‬ ‫ُر ْؤ َية‬ ‫َد ٍاء‬ ‫َو َأ ْق َت ُل‬
‫ح ُد ُه‬ ‫َو ُيتْ َل يف املَ َح ِاف ِل َ ْ‬ ‫َظ ِال ً ا ُي ِس ُء‪،‬‬

‫الده ِر‬
‫َّ‬ ‫ىف‬
‫املرء‬
‫ُ‬ ‫يعيش‬
‫ُ‬ ‫عالم‬
‫َ‬
‫يعد ُه؟‬
‫الدنيا بيو ٍم ُّ‬
‫أيفرح ىف ُّ‬
‫ُ‬ ‫خام ً‬
‫ال ؟‬

‫ف ََي ْل َتذُّ‬ ‫َي ْغ َش ُاه‬ ‫الضيْ َم‬


‫َّ‬ ‫َي َرى‬
‫ب ي ْل َتذُّ ْ َ‬
‫بال ِّك ِج ْل ُد ُه‬ ‫ِ‬
‫َو ْق َع ُه كَ ذي َج َر ٍ َ‬
‫وغريها من القصائد كثرية‪.‬‬
‫وحتى يف اجلانب العلمي‪ ،‬فهناك تزايد ًا مطّ ردا‬
‫يف االنتاج العلمي ويف االخرتاعات واالكتشفات‪،‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬املسامهة يف احلضارة البرشية‪ ،‬وبلغ هذا‬
‫التعجيل حوايل ‪ 70‬ضعف ًا خالل ‪ 22‬سنة يف بعض‬
‫البلدان االسالمية‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫ولكن ال يمكن الوصول اىل ذلك اال بالتمسك‬
‫متسك‪ ،‬واال فال يتم‬‫باهلوية االسالمية وثقافتها َّأيام ُّ‬
‫دعم احلضارة الغربية نفسها ال اكثر!‬ ‫اال َ‬
‫اما واقعنا اليوم فتتمثل يف حتديات حضارية‬
‫منها ما هي داخلية ومنها ما هي خارجية‪ ..‬ولكن‬
‫مهام كانت التحديات كبرية اال اذا استطعنا ان نبني‬
‫التجمع الصالح‪ ،‬الذي يمتلك مقومات الصالح‪،‬‬
‫فإ ّنه سيتغلب عىل املجتمع الكبري الطالح‪ ،‬مهام كان‬
‫ٍ‬
‫صغرية تصارع‬ ‫ٍ‬
‫كنبتة‬ ‫االول صغري ًا واالخر كبريا‪..‬‬
‫غاب ًة ميتة‪ ..‬ستتغلب عليها يف هناية املطاف‪..‬‬
‫واألمنية أن يرجع املسلمون يف تطوير ذاهتم و‬
‫طاقاهتم‪ ،‬ليحتلوا جزء ًا كبري ًا من عملية االنتاج‬
‫احلضاري و يضيفوا اهلوية االسالمية والفكر‬ ‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬
‫االسالمي االنساين ليس يف العلوم االنسانية‬
‫فحسب ‪-‬وهي اكثر املباحث الدينية‪ -‬وانام يف‬
‫عملية انتاج العلم‪ ،‬وانتاج النظم والعمل هبا حتى‬
‫يف العلوم الطبيعية ايض ًا‪..‬‬
‫اما اذا انشغلنا بنتائج احلضارة‪ ..‬ورصفنا‬
‫وقتنا يف مشاهدة (االفالم) التي ينتجوهنا و لعب‬
‫ٍ‬
‫مكان ابد ًا‬ ‫(االلعاب) التي ينتجوهنا فال نصل اىل‬
‫وكام قال الشاعر نزار قباين‪:‬‬
‫القضي ْه‬
‫ّ‬ ‫خالصةُ‬
‫‪126‬‬
‫عباره‬
‫ْ‬ ‫يف‬ ‫توجز‬
‫ُ‬
‫احلضاره‬
‫ْ‬ ‫لقد لبسنا قرش َة‬
‫جاهلي ْه‬ ‫والروح‬
‫الشــباب و ازمــة الحضــارة‬

‫ّ‬ ‫ُ‬
‫فنأمل يف يوم نجد مسامهات االسالم واملسلمني‬
‫يف احلضارة البرشية‪ ،‬هي املسامهة االكرب‪ ..‬هم‬
‫اصحاب األفكار والنظريات‪ ..‬هم اصحاب‬
‫القوانني واالنظمة‪ ..‬هم اصحاب االخرتاعات‬
‫واالكتشافات‪ ..‬عند ذلك‪ ،‬وعند ذلك وحده‪..‬‬
‫يمكننا احلديث عن احلضارة‪.‬‬
‫ملاذا؟‬
‫ألن ذلك معنى الصالح‪ ..‬وقد قال تعاىل‪:‬‬
‫ض‬
‫ال ْر َ‬ ‫الز ُبو ِر ِم ْن َب ْع ِد ِّ‬
‫الذكْ ِر َأ َّن ْ َ‬ ‫«و َلق َْد كَ َت ْبنا ِف َّ‬
‫َ‬
‫ُ‬
‫الصالون‏»‬‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َي ِرثُها عباد َي َّ‬
‫فاالصل يف الكون و سنته هو الصالح و‬
‫سريث األرض (مادي ًا ومعنوي ًا) األصلح‪ّ ..‬‬
‫فكلم‬
‫راكمنا عوامل الصالح يف امتنا ك ّنا األقرب لوراثة‬
‫األرض‪.‬‬
‫نسأل اهلل ان جيعل ذلك قريب ًا و أن يكون ذلك‬
‫متهيد ًا حلضارة االنسان الكربى‪ ،‬حضارة السامء‪،‬‬
‫حضارة اخلري و السعادة‪ ..‬دولة العدل االهلية‬
‫بظهور االمام املهدي (عج)‪ ،‬حضارة خ ٍ‬
‫ري بال رش‪..‬‬

‫‪127‬‬
‫حضارة عدلٍ بال ظلم‪ ..‬حضارة ٍ‬
‫علم بال جهل‪..‬‬
‫حضارة يعرف االنسان مرة اخرة معنى (االنسانية)‬
‫حقا‪.‬‬
‫اليك يف ٍ‬
‫دولة كريمة‪..‬‬ ‫نرغب َ‬
‫ُ‬ ‫اللهم انا‬

‫الشــباب و ازمــة الهويــة‬

‫‪128‬‬
‫صفوة القول‬

‫كثري من األزمات التي نعايشها‬


‫‪ -1‬ترجع ٌ‬
‫وتعصف بنا‪ ،‬اىل جذ ٍر واحد‪ :‬التخلّف‬
‫احلضاري‪ ،‬فالتخلف احلضاري يذكرنا‬
‫باألزمات‪ ،‬واألزمات بالتخلف‪ ،‬فهام قرينان ال‬
‫ينفكّ ان وصنوان ال يفرتقان‪.‬‬
‫‪ -2‬اذا كان الدين يريد منا ان نكون‬
‫متقدمني يف الدنيا قبل اآلخرة‪ ،‬فكيف يو ّفر لنا‬
‫التطور والتقدم يف الصعيد احلضاري؟ وما هي‬
‫التعاليم الدينية يف هذا املجال؟ وهل يمكن ان‬
‫فهم البعض بعض تعاليمه بصورة معكوسة‬
‫فانتجوا بدل التطور التخلف؟ وكيف يمكن‬
‫لنا ان ننطلق عرب متسكنا باالسالم اىل التقدم‬
‫والرفاه؟‬
‫‪ -3‬اختلفت التعاريف عن (احلضارة)‬
‫اشد اختالف‪ ،‬لكني ارى ان احلضارة يف‬
‫(عقد ونظام اجتامعي)‪ ،‬وتتمثل القيم‬
‫ٌ‬ ‫جوهرها‬
‫واملبادئ حقيقتها‪ ،‬و الرفاهية واألمن واإلعامر‬
‫ثمرهتا‪ .‬وتقوم حني ترتسخ يف داخل االنسان‬
‫روح التحدي التي هبا يستطيل عىل املؤثرات‬
‫اخلارجية‪ ،‬ويتجاوز مصاحله الذاتيه‪.‬‬
‫حديث عن‬
‫ٌ‬ ‫‪ -4‬احلديث عن (احلضارة)‬
‫الدين نفسه‪ ،‬ذلك ألن الدين جاء لتكامل‬
‫البرشية سواء عىل املستوى (الفردي) او‬
‫(االجتامعي) او (احلضاري)‪ .‬واحلديث عن‬
‫حديث عن اهلدف الذي تتمنى‬ ‫ٌ‬ ‫(احلضارة)‬
‫املجتمعات – ومنها جمتمعاتنا‪ -‬الوصول اليها‪.‬‬
‫‪ -5‬كيف البد لنا ان نتواصل مع احلضارة‬
‫الغربية او الرشقية يف يومنا هذا؟ انقسم الناس‬
‫يف هذا االجتاه اىل ثالثة اصناف‪ :‬فمنهم من رأى‬
‫جمسدة للرش والباطل‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الغرب والرشق صورة‬
‫فرفض كل ما جاء به وحاول االنغالق عىل‬
‫ذاته‪ .‬ومنهم من رأى الغرب او الرشق هناية‬
‫التاريخ و اخر ما يمكن ان تصل اليه البرشية‬
‫تقدمها فذاب فيها‪ ،‬ومنهم من حاول ان‬
‫فبهره ّ‬
‫يستفيد من اخر التطورات ولكن مع احلفاظ‬
‫عىل هويته‪.‬‬
‫‪ -6‬ال يمكن قبول الدعوات الداعية اىل‬
‫االنغالق التام دون احلضارة البرشية‪ ،‬ويعود‬
‫ذلك اضافة اىل استحالته يف عرص التكنلوجيا‬
‫اليوم‪ ،‬أ‪ .‬ال يمكننا ان نحكم عىل نتاجات العقل‬
‫البرشي باخلطأ بصيغة مطلقة‪ ،‬ب‪ .‬يعني ذلك‬
‫السباقني‬
‫رفض لواقع علمي كان املسلمون من ّ‬
‫اليه يف املايض‪ .‬ج‪ .‬االنغالق من َ‬
‫العال يؤدي اىل‬
‫االنقطاع عنه‪ ،‬ويفقدنا قدرة التواصل معه ُبغية‬
‫تبليغ الدين والدعوة اليه‪ .‬د‪ .‬يسبب االنقطاع‬
‫اهلوة بيننا وبني العامل و زيادة الفاصلة‬
‫تعميق ّ‬
‫ويزيدنا تأخراً‪.‬‬
‫‪ -7‬من جهة اخرى ال يمكن قبول‬
‫الدعوات الداعية اىل الذوبان يف احلضارة‬
‫البرشية‪ ،‬و يعود ذلك اىل اسباب منها‪ :‬أ‪.‬‬
‫التواصل ال يمكن ان يكون يف احلضارة بل يف‬
‫منجاهتا من علو ٍم وانظمة‪ .‬ب‪ .‬ال تتناسب كثري‬
‫ٍ‬
‫صورة حتاول احلضارة‬ ‫من الرؤى االسالمية مع‬
‫تروج هلا‪ ،‬فالذوبان يعني طمس‬ ‫البرشية ان ّ‬
‫اهلوية االسالمية واالنسالخ من قيمها‪ .‬ج‪ .‬هذه‬
‫الدعوات مل تتعرف عىل طبيعة الفكر الغريب يف‬
‫التعامل مع بلداننا‪ ،‬فحينام ال يرى َ‬
‫فيك اال لقمة‬
‫طيعا‪ ،‬كيف يمكن ان تذوب فيه‬ ‫سائغة او عبد ًا ّ‬
‫وتسلّم مقاليد امورك اليه؟‬
‫‪ -8‬البد من اي تواصل ان يالحظ فيه‬
‫يميز بني‬
‫معايري ثالثة‪ :‬األصالة‪ ،‬واحلاجة‪ ،‬وان ّ‬
‫اجلوانب املختلفة يف احلضارة‪.‬‬
‫‪ -9‬البد من تقسيم احلضارة اىل مخسة‬
‫جوانب خمتلفة و يتم التعامل مع كل جانب‬
‫بطريقة ختتلف عن اجلوانب االخرى‪:‬‬
‫أ‌‪ .‬القيم واملبادئ‪ ،‬وهي روح احلضارة‪،‬‬
‫ويف هذا االجتاه ال نحتاج اىل ان نستوردها‪ ،‬ألن‬
‫القيم قد اودعها اهلل يف العقول وقد اُثريت عرب‬
‫كلامت الوحي‪.‬‬
‫ب‌‪ .‬ال ُن ُظم‪ ،‬فنحتاج ان نتعامل مع ال ُن ُظم‬
‫يف احلضارة البرشية‪ ،‬تعامل الرقيب‪ ،‬فندرسها‬
‫دراسة متأنية‪ ،‬فال نحارهبا كلها وال نقلّدها‬
‫تقليد ًا اعمى‪.‬‬
‫ت‌‪ .‬الثقافة والفكر‪ ،‬ويف هذا االجتاه ال يمكن‬
‫االخذ واالستفادة من احلضارة البرشية‪ ،‬ألن‬
‫هناك تباين ًا كلي ًا بينها وبني احلضارة االسالمية‪،‬‬
‫بل جيب االقتصار عىل الثقافة االسالمية‬
‫االصيلة بل و تصديرها اىل احلضارة البرشية‬
‫نفسها‪.‬‬
‫ث‌‪ .‬العادات والسلوكيات‪ ،‬جيب ان نستذكر‬
‫عرب تعاملنا مع احلضارة البرشية ما نسيناه من‬
‫العادات احلضارية‪ ،‬ونحوهلا اىل سلوكيات‬
‫يومية‪.‬‬
‫ج‌‪ .‬العلوم والتقنيات‪ ،‬جيب ان نستفيد من‬
‫اخر ما توصل اليه العامل من علوم‪ ،‬مع مالحظة‬
‫تعلّم العلوم نفسها دون االكتفاء باسترياد‬
‫منتجاهتا‪.‬‬
‫يعيش املسلمون اليوم حالة‬ ‫‪ -10‬‬
‫وهنضة حقيقية تلوح يف‬ ‫ٍ‬ ‫انطالقة حضارية‪،‬‬
‫االفق‪ ،‬ولكن ال يمكن ذلك اال بتجاوز الكثري‬
‫من التحديات التي نتجت من مئات السنني‬
‫من التخلف واجلمود‪ ،‬ولكن اذا قاموا بتوفري‬
‫مقومات الصالح يف انفسهم و اجتهدوا‪ ،‬فان‬
‫املستقبل سيكون مرشقا باذن اهلل‪.‬‬
‫قائمة المصادر‬
‫‪1 .1‬القرآن الكريم‬
‫‪ 2 .2‬هنج البالغة‬
‫‪ 3 .3‬اصول الكايف‬
‫‪4 .4‬احلر العاميل؛ حممد بن احلسن‪ ،‬وسائل الشيعة‬
‫اىل حتصيل مسائل الرشيعة‪ ،‬موسوعة االعلمي‬
‫للمطبوعات‪2007،‬‬
‫‪5 .5‬الصدوق؛ حممد بن عيل‪ ،‬عيون اخبار الرضا ‪،‬‬
‫انتشارات الرشيف الريض‪ ،‬قم‪ ،‬ايران‪1995 ،‬‬
‫‪6 .6‬املرجع الديني اية اهلل العظمى السيد حممد تقي‬
‫املدريس‪ ،‬املنطق االسالمي اصوله ومناهجه‪،‬‬
‫دار اجليل‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪1992 ،‬‬
‫‪7 .7‬املرجع الديني اية اهلل العظمى السيد حممد‬
‫تقي املدريس‪ ،‬البعث اإلسالمي‪ ،‬دار املحجة‬
‫البيضاء‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪،‬ط اخلامسة‪2019 ،‬‬
‫‪8 .8‬املرجع الديني اية اهلل العظمى السيد حممد تقي‬
‫املدريس‪ ،‬احلضارة االسالمية افاق وتطلعات‪،‬‬
‫دار حمبني احلسني‪ ،‬طهران‪ ،‬ايران‪2001 ،‬‬
‫‪9 .9‬املرجع الديني اية اهلل العظمى السيد حممد‬
‫تقي املدريس‪ ،‬التمدن االسالمي‪ ،‬دار املحجة‬
‫البيضاء‪ ،‬بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬الطبعة الثامنة ‪2018‬‬
‫‪1010‬آية اهلل السيد هادي املدريس‪ ،‬كتاب احلضارة‪،‬‬
‫كتاب غري مطبوع‪.‬‬
‫‪1111‬الرصايف؛ معروف‪ ،‬ديوان معروف الرصايف‪،‬‬
‫مؤسسة اهلنداوي للتعليم والثقافة‪ ،‬القاهرة‪،‬‬
‫مرص‪2014 ،‬‬
‫عزت‪ ،‬الشباب العريب ومشكالته‪،‬‬‫‪1212‬حجازي؛ ّ‬
‫املجلس الوطني للثقافة والفنون و اآلداب‪،‬‬
‫الكويت‪ ،‬الكويت‪1978 ،‬‬
‫‪1313‬دنيسون؛ جون هوبكينز‪Emotion as the ،‬‬
‫‪2013 ،Basis of Civilization‬‬
‫‪1414‬ديورانت؛ ويل‪ ،‬قصة احلضارة‪ :‬نشأة احلضارة‪،‬‬
‫ترمجة‪ :‬زكي نجيب حممود‪ ،‬دار اجليل‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫لبنان‪1935 ،‬‬
‫‪1515‬زكريا؛ فؤاد‪ ،‬اإلنسان واحلضارة يف العرص‬
‫الصناعي‪ ،‬مركز كتب الرشق األوسط‪،‬‬
‫القاهرة‪ ،‬مرص‪1957 ،‬‬
‫‪1616‬لوبون‪ ،‬غوستاف‪ ،‬السنن النفسية لتطور‬
‫األمم‪ ،‬ترمجة‪ :‬عادل زعيرت‪ ،‬مؤسسة هنداوي‬
‫للتعليم والثقافة‪ ،‬القاهر‪ ،‬مرص‪2014 ،‬‬
‫‪1717‬مازيلش؛ بروس‪ ،‬احلضارة ومضامينها‪،‬‬
‫ترمجة‪:‬عبد النور خرايف‪ ،‬املجلس الوطني‬
‫للثقافة و الفنون واآلداب‪ ،‬الكويت‪2004 ،‬‬
‫‪1818‬مصطفوي؛ حسن‪ ،‬التحقيق يف كلامت القران‬
‫الكريم‪ ،‬دار الكتب العلمية‪2009،‬‬
‫‪1919‬مؤنس؛ حسني‪ ،‬احلضارة‪ :‬دراسة يف أصول‬
‫وعوامل قيامها وتطورها‪ ،‬عامل املعرفة‪1978 ،‬‬
‫‪2020‬هنغتنتون؛ ساموئل واخرون‪Culture ،‬‬
‫‪Matters: How Values Shape Human‬‬
‫‪2001 ،Progress‬‬
‫الفهرس‬

‫التمهيد‪5......................................‬‬
‫بحوث متهيدية عن احلضارة‪15..................‬‬ ‫ٌ‬
‫ما هي احلضارة؟‪20.............................‬‬
‫متى تقوم احلضارة؟‪21..........................‬‬
‫ملاذا احلديث عن احلضارة؟‪39...................‬‬
‫الشباب وحضارة الغرب‪ :‬قطيعةٌ او ذوبان؟‪47...‬‬
‫ملاذا االنفتاح؟ ‪50...............................‬‬
‫ملاذا القطيعة؟‪55................................‬‬
‫مع حضارة الغرب‪ :‬معايري التواصل والقطيعة‪67.‬‬
‫ال‪ :‬األصالة‪69................................‬‬ ‫او ً‬
‫ثاني ًا‪ :‬احلاجة ‪70.................................‬‬
‫ثالث ًا‪ :‬التمييز بني اجلوانب املختلفة ‪71............‬‬
‫أ‪ .‬القيم واملبادئ‪73..........................‬‬
‫ب‪ .‬ال ُن ُظم‪75................................‬‬
‫ج‪ .‬الثقافة ِ‬
‫والفكر ‪79........................‬‬
‫د‪ .‬العادات والسلوكيات ‪83.................‬‬
‫هـ‪.‬العلوم والتقنيات‪87......................‬‬
‫حضارة اإلسالم‪ ..‬ملاذا؟‪97......................‬‬
‫تقهقر ام انطالقة‪113.........‬‬
‫ٌ‬ ‫املسلمون واحلضارة‪:‬‬
‫صفوة القول‪125..................................‬‬
‫قائمة املصادر‪130.................................‬‬
‫فهرس املحتويات‪133............................‬‬

You might also like