You are on page 1of 133

‫كيف نحب اهلل‬

‫ونشتاق إليه؟‬

‫جمـ ـ ـ ــدي اهلـ ـ ـ ــاليل‬


‫‪www.alemanawalan.com‬‬
‫مجيع احلقوق حمفوظة‬
‫الطبعة األوىل‬
‫‪1428‬هـ ‪2007 -‬م‬

‫رقم اإليداع‪25121/2006 :‬‬


‫الرتقيم الدويل‪I.S.B.N :‬‬
‫‪2 – 009 – 441 – 977‬‬

‫مركز السالم للتجهيز‬


‫عبد الفني‬
‫الحميد عمر‬
‫‪010696‬‬
‫‪2647‬‬

‫مؤسسة اقرأ‬
‫للنشر والتوزيع والرتمجة‬
‫‪ 10‬ش أمحد عمارة ‪ -‬جبوار حديقة الفسطاط‬
‫حممول‪0101175447 -0102327302:‬‬ ‫القاهرة ت‪5326610 :‬‬
‫‪www.iqraakotob.com‬‬
‫‪Email:info@iqraakotob.com‬‬
‫المقدمـــــــــــــة‬

‫المقدمة‬
‫باهلل أستعين‬
‫كثريا طيبًا مبار ًك ا فيه كما حيب ربنا ويرضى‪ ،‬والصالة والسالم على احلبيب املصطفى‬
‫محدا ً‬
‫احلمد هلل ً‬
‫حممد وعلى آله وصحبه أمجعني‪.‬‬

‫وبعد‪..‬‬
‫احلب – كما نعلم – جزء أصيل من مشاعر اإلنسان‪ ،‬وهو معاملة قلبية يشعر من خالهلا املرء مبيله‬
‫واجنذابه إىل اآلخر‪.‬‬

‫والواقع املشاهد خيربنا بأنه عندما يتمكن احلب يف القلبـ بني شخصني فإننا جند آثار هذا احلب بادية‬
‫دوما إىل رؤيته‪ ،‬ويرغب يف‬
‫يف تعامل أحدمها مع اآلخر‪ ،‬فتجد كالً منهما يكثر من ذكر حمبوبه‪ ،‬ويشتاق ً‬
‫قرب من حيبه حمبوبه‪ ،‬ويُبعد من يبعده‪ ,‬يطيع‬
‫اخللوة به‪ ،‬ويأنس بقربه‪ ،‬ويغضب من أجله‪ ،‬ويغار عليه‪ ..‬يُ َّ‬
‫أوامره بسعادة وحبور‪ ،‬ويضحي من أجله‪ ،‬ويفرح هبداياه مهما صغرت‪.‬‬

‫فهذه وغريها بعض آثار احلب عندما يتمكن من قلوب البشر جتاه بعضهم البعض‪.‬‬
‫فكيف ينبغي أن تكون هذه اآلثار عندما يصبح احملبوب هو احملبوب األعظم؟!‬
‫كيف يكون حال من يتمكن حب اهلل من قلبه؟!‬
‫دوما يكثر من‬
‫آثار ا عظيمة ستظهر على هذا احملب الصادق ملواله سبحانه وتعاىل‪ ,‬سرتاه ً‬
‫بال شك أن ً‬
‫دوما على‬
‫ذكره ويأنس بقربه‪ ،‬ويستوحش مما سواه‪ ،‬وحيب اخللوة به ومناجاته‪ ,‬يسارع يف طاعته ويعمل ً‬
‫دوما عليها‪ ,‬يضحي بالغايل والرخيص‬
‫رضاه‪ ,‬يغار على حمارمه‪ ،‬ويغضب من أجله‪ ,‬يفرح بعطاياه ويشكره ً‬
‫دوما إىل رؤيته‪.‬‬
‫من أجله‪ ،‬يرضى بكل ما يقضيه له‪ ،‬ويبذل غاية جهده يف خدمته‪ ،‬ويشتاق ً‬
‫ولكننا حنب اهلل !‬
‫فإن قال قائل‪ :‬ولكننا حنب اهلل ومع ذلك ال نشعر بكل هذه العالمات‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬يف القلوبـ حب هلل عز وجل‪ ،‬ولكنه يف الغالب مل يصل للدرجة اليت هتمني وتسيطر على املشاعر‬

‫‪3‬‬
‫وحتتل اجلزء األكرب منها‪ ،‬فمع وجود قدر من حب اهلل يف القلب إال أن هناك حماب أخرى تشوش عليه‪،‬‬
‫وتنازعه املكان مثل حب املال والزوجة واألوالد والنفس و‪...‬‬

‫وليس معىن هذا أن املطلوب هو جتريد مشاعر احلب من هذه األمور‪ ،‬بل املطلوب أن يكون حب اهلل أكرب‬
‫منها مجيعا كما قال تعاىل‪ :‬والَّ ِذين آمنُوا‪ %‬أَ َش ُّد حبًّا ِ‬
‫هلل‪[ ‬البقرة‪ ]165 :‬فإن مل حيدث هذا فلن تظهر تلك‬ ‫ُ‬ ‫َ َ َ‬ ‫ً‬
‫العالمات‪ ،‬وهذا ما أكده صلى اهلل عليه وسلم بقوله‪« :‬ثالث من كن فيه وجد حالوة اإليمان‪ :‬أن يكون اهلل‬
‫ورسوله أحب إليه مما سواهما»(‪ ..)1‬احلديث‪.‬‬

‫فلكي جيد املؤمن حالوة اإلميان ال بد أن تكون مساحة حب اهلل يف قلبه أكرب من مساحة حبه ملا سواه‬
‫من احملاب األخرى جمتمعة‪.‬‬

‫المعرفة طريق المحبة‬


‫احملبة ما هي إال صورة من صور املعاملة اليت ينبغي أن يعامل هبا العبد ربه‪ ،‬وأكرب عامل يؤثر وحيدد‬
‫درجة املعاملة هو املعرفة‪.‬‬

‫فكلما ازدادت املعرفة باهلل حتسنت درجة معاملة العبد له‪ ،‬وازداد له حبًا وإجالال وهيبة وخشية‪ ،‬ويف‬
‫املقابل عندما جيهل اإلنسان ربه‪ ،‬وال يعرف قدره فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إىل أن يعامله معاملةـ ال تليق‬
‫جبالله وكماله‪ ،‬فيخشى الناس أكثر مما خيشاه‪ ،‬وحيب نفسه وماله وعقاراته أكثر مما حيب ربه‪ ،‬وجيتهد يف‬
‫التزيُّن لآلخرين دون أن يبايل بربه‪.‬‬

‫فالسبب األول إلعراض الناس عن اهلل‪ ،‬واستهانتهم بأوامره هو جهلهم بقدره سبحانه‪َ  ..‬و َما ُك ْنتُ ْم‬
‫َن اهللَ الَ َي ْعلَ ُم َكثِ ًيرا ِّم َّما‬ ‫تَستَتِرو َن أَن ي ْشه َد َعلَي ُكم سمع ُكم والَ أَبصار ُكم والَ جلُو ُد ُكم ول ِ‬
‫َكن ظََن ْنتُ ْم أ َّ‬ ‫َْ‬ ‫َ َ ْ ْ َُْ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ُ‬ ‫ْ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬
‫ين‪[ ‬فصلت‪.]22،23 :‬‬ ‫َصبَ ْحتُم ِّم َن الْ َخاس ِر َ‬
‫َت ْع َملُو َن ‪َ ‬وذَل ُك ْم ظَنُّ ُك ُم الذي ظََن ْنتُ ْم ب َربِّ ُك ْم أ َْر َدا ُك ْم فَأ ْ‬
‫ويؤكد احلافظ ابن رجب على أن املعاملة على قدر املعرفة بقوله‪:‬‬
‫ال قوت للقلبـ والروح‪ ،‬وال غذاء هلما سوى معرفة اهلل تعاىل‪ ،‬ومعرفة عظمته وجالله وكربيائه‪.‬‬
‫فيرتتب على هذه املعرفة‪ :‬خشيته‪ ،‬وتعظيمه‪ ،‬وإجالله‪ ،‬واألنس به‪ ،‬واحملبة له‪ ،‬والشوق إىل لقائه‪ ،‬والرضا‬

‫‪1‬‬
‫() متفق عليه‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫بقضائه(‪.)1‬‬
‫المعرفة النافعة‬
‫املعرفة املؤثرة النافعة ليست تلك اليت ختاطب العقلـ فقط‪ ،‬فالكثري من الناس يتحدث عن اهلل حديثًا‬
‫بعيدا عن قوله فال خشية وال تقوى وال مهابة وال إجالل‬ ‫ومبهرا‪ ،‬فإذا ما نظرت لواقعه وجدت فعله ً‬ ‫مجيال ً‬
‫ت‬‫صار ومن يُّ ْخرِج الْح َّي ِمن الْميِّ ِ‬
‫ُ َ َ َ‬ ‫الس ْم َع َواألَبْ َ َ َ َ‬ ‫ك َّ‬ ‫الس َم ِاء َواأل َْر ِ‬
‫ض أ ََّمن يَ ْملِ ُ‬ ‫هلل ‪‬قُ ْل َمن َي ْر ُزقُ ُكم ِّم َن َّ‬
‫سَي ُقولُو َن اهللُ َف ُق ْل أَفَالَ َتَّت ُقو َن‪[ ‬يونس‪.]31 :‬‬ ‫وي ْخرِج الْميِّ َ ِ‬
‫األم َر فَ َ‬
‫ْح ِّي َو َمن يُّ َد ِّب ُر ْ‬
‫ت م َن ال َ‬ ‫َُ ُ َ‬
‫معا‪ ،‬وأن تستمر تلك املخاطبة‬ ‫فإن أردنا معرفة تؤثر يف املعاملة فال بد أن يتم خماطبة العقل والقلبـ ً‬
‫مستقرا يف القلب يظهر أثره يف سلوك‬ ‫ً‬ ‫مقاما إميانيًا‬
‫حىت يستقر مدلوهلا يف قلب ومشاعر اإلنسان فتُشكل ً‬
‫ِ‬
‫وب ُه ْم‪[ ‬احلج‪.]54 :‬‬ ‫ك َف ُي ْؤ ِمنُوا بِ ِه َفتُ ْخبِ َ‬
‫ت لَهُ ُقلُ ُ‬ ‫ْح ُّق ِمن َّربِّ َ‬
‫ْم أَنَّهُ ال َ‬
‫ِ‬
‫ين أُوتُوا الْعل َ‬
‫َّ ِ‬
‫العبد وأعماله ‪َ ‬ولَي ْعلَ َم الذ َ‬
‫‪ ..‬معىن ذلك أن الطريق األساسي لرحلة احملبة يبدأ من بوابة املعرفة احلقة باهلل عز وجل‪ ،‬على أن‬
‫ختاطب تلك املعرفة‪ :‬الفكر والوجدان‪.‬‬

‫يقول ابن تيمية‪ :‬وأصل احملبة هو معرفة اهلل سبحانه وتعاىل(‪.)2‬‬

‫استقرارا وهيمنةً‬
‫ً‬ ‫ومع هذه املعرفة‪ ،‬ال بد من القيام بأعمال تؤكد وترسخ مدلول احلب يف قلوبنا فيزداد‬
‫وعظُو َن بِ ِه لَ َكا َن َخ ْي ًرا لَّ ُه ْم َوأَ َش َّد َتثْبِيتًا‪[ ‬النساء‪.]66 :‬‬
‫على مشاعرنا‪َ  :‬ول َْو أ ََّن ُه ْم َف َعلُوا َما يُ َ‬
‫ويف الصفحات القادمة سيكون احلديث مبشيئة اهلل عن أمهية احملبة ومثارها ونقطة البداية لرحلة احملبة مع‬
‫دما يف طريق حب اهلل عز وجل‪ ،‬لعلنا نستنشق‬ ‫ذكر بعض الوسائل العملية اليت من شأهنا أن تسري بنا قُ ً‬
‫نسيم األنس به يف الدنيا‪ ،‬فتزداد قلوبنا شوقًا إليه سبحانه‪ ،‬لتكون أسعد حلظاتنا تلك اللحظاتـ اليت ت ُقبض‬
‫فيها أرواحنا ونبشر من املالئكة بلقاء احلبيب جل وعال وهو راض عنا‪.‬‬

‫***‬

‫‪1‬‬
‫() جمموعة رسائل ابن رجب ‪.2/467‬‬
‫‪2‬‬
‫() التحفة العراقية يف األعمال القلبية البن تيمية ‪.61/‬‬
‫تمهيد البد منه‬

‫حول عالقة احملبة بالعبودية‬


‫والتحذير من الرتكيز عليها‬
‫دون غريها من ألوان العبودية‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬

‫تكامل‪ %‬العبودية‪%‬‬
‫العبودية احلقة هلل عز وجل تعين يف حقيقتها اجتاه اجلزء األكرب من مشاعر العبد حنوه سبحانه‪ ،‬حىت‬
‫ينعكس ذلك على معاملته له مبقتضى احلال اليت يعيشها واألحداث اليت مير هبا‪ ،‬ليتمثل فيه قوله صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪« :‬عجبًا ألمر المؤمن‪ ،‬إن أمره كله له خير‪ ،‬وليس ذلك ألحد إال للمؤمن‪ ،‬إن أصابته سراء‬
‫خيرا له»(‪.)1‬‬
‫خيرا له‪ ،‬وإن أصابته ضراء صبر فكان ً‬ ‫شكر فكان ً‬
‫هذه هي العبودية احلقة من املؤمن هلل عز وجل‪ ,‬أن يعبده سبحانه‪ ،‬وتتجه مشاعره حنوه حسب احلالة‬
‫اليت مير هبا‪ ،‬فتجده يتقلب بني اخلوف والرجاء والرضا والفرح واالنكسار و ‪...‬‬

‫أما العبودية الناقصة فهي تتمثل يف الرتكيز على جانب أو جوانب بعينها وترك أخرى‪ ،‬فهذا األمر له‬
‫أضرار كثرية‪ ،‬ومنزلقات خطرية‪.‬‬

‫يقول ابن رجب‪ :‬وقد عُلم أن العبادة إمنا تنبين على ثالثة أصول‪ :‬اخلوف والرجاء واحملبة‪ ،‬وكل منها‬
‫فرض الزم‪ ،‬واجلمع بني الثالثة حتم واجب‪ ،‬فلهذا كان السلف يذمون من تعبد بواحد منها وأمهل‬
‫اآلخرين‪.‬‬
‫َ‬
‫فإن بدع اخلوارج ومن أشبههم إمنا حدثت من التشديد يف اخلوف واإلعراض عن احملبة والرجاء‪.‬‬
‫وبدع املرجئة نشأت من التعلق بالرجاء وحده‪ ،‬واإلعراض عن اخلوف‪ .‬وبدع كثري من أهل اإلباحة‬
‫واحللول – ممن ينسب إىل التعبد – نشأت من إفراد احملبة واإلعراض عن اخلوف والرجاء(‪.)2‬‬
‫سياج المحبة‬
‫معىن ذلك أن عبادة اهلل باحملبة فقط هلا خماطرها ومنزلقاهتا‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية‪ :‬احلب اجملرد تتبسط النفوس به حىت تتسع يف أهوائها إذا مل يزعها وازع اخلشية هلل‪ ،‬حىت‬
‫اهلل َوأ َِحبَّا ُؤهُ‪[ ‬املائدة‪.)3( ]18 :‬‬
‫قالت اليهود والنصاري ‪‬نَ ْحن أ َْبنَاء ِ‬
‫ُ ُ‬

‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() استنشاق نسيم األنس البن رجب‪.21 -18 /‬‬
‫‪3‬‬
‫() التحفة العراقية يف األعمال القلبية البن تيمية ‪.59‬‬

‫‪7‬‬
‫لذلك كان مقياس احملبة الصادقة هلل عز وجل هو ظهور عالماهتا اليت بينها اهلل يف كتابه‪ ،‬وبينها رسوله‬
‫يف سنته واليت سيأيت بياهنا بشيء من التفصيل يف الصفحاتـ القادمة‪.‬‬

‫يقول ابن تيمية‪:‬‬


‫فاتباع سنة الرسول صلى اهلل عليه وسلم واتباع شريعته هي موجب حمبة اهلل‪ ،‬كما أن اجلهاد يف‬
‫سبيله‪ ،‬ومواالة أوليائه‪ ،‬ومعاداة أعدائه هو حقيقتها‪ ،‬كما يف احلديث «أوثق عرى اإليمان الحب في اهلل‬
‫والبغض في اهلل»(‪.)1‬‬

‫وكثري ممن َّ‬


‫يد عي احملبة هو أبعد من غريه عن اتباع السنة‪ ،‬وعن األمر باملعروف‪ ،‬وعن النهي‬
‫عن املنكر‪ ،‬واجلهاد يف سبيل اهلل‪َّ ،‬‬
‫ويد عي مع هذا أن ذلك أكمل لطريق احملبة من غريه‪ ،‬لزعمه أن‬
‫طريق احملبة هلل ليس فيه غرية‪ ،‬وال غضب هلل‪ ،‬وهذا خالف ما دل عليه الكتاب والسنة‪ ،‬وهلذا يف‬
‫احلديث املأثور‪« :‬يقول اهلل تعالى يوم القيامة‪ :‬أين المتحابون بجاللي‪ ،‬اليوم أظلهم في ظلي‬
‫يوم ال ظل إال ظلي»(‪.)2‬‬

‫فقوله‪ :‬أين املتحابون جبالل اهلل‪ ،‬تنبيه على ما يف قلوهبم من إجالل اهلل وتعظيمه والتحاب فيه‪ ،‬وبذلك‬
‫يكونون حافظني حلدود اهلل‪ ،‬دون الذين ال حيفظون حدوده لضعف اإلميان يف قلوهبم(‪.)3‬‬

‫ضرورة التوازن‬
‫ال بد إذن من التوازن بني ألوان العبودية‪ ،‬وأن نقرأ األحاديث واألخبار الواردة يف كل باب من أبواب‬
‫العبودية هلل فنضعه يف حجمه املناسب‪ ،‬وأال جنعل جانبًا يطغى على اآلخر‪.‬‬

‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬لو تعلمون قدر رحمة اهلل التكلتم وما عملتم من عمل‪ ،‬ولو علمتم‬
‫قدر غضبه ما نفعكم شيء»(‪.)4‬‬

‫‪1‬‬
‫() حسن‪ ،‬حسنه األلباين يف السلسلة الصحيحة (‪.)998‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه مسلم (‪.)2566‬‬
‫‪3‬‬
‫() النحفة العراقية ‪.60/‬‬
‫‪4‬‬
‫() أورده اهليثمي يف جممع الزوائد ‪.10/384‬‬

‫‪8‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬

‫فكما أنه ينبغي للمسلمـ أن يفتح لقلبه بابًا حلب اهلل والرجاء فيه‪ ،‬فعليه كذلك أن يفتح بابًا للخوف‬
‫منه سبحانه وخشيته‪.‬‬
‫ال بد من فتح هذين البابني لكي حنقق مراد اهلل يف قوله تعاىل‪ :‬فَِف ُّروا إِلَى ِ‬
‫اهلل‪[ ‬الذاريات‪.]50:‬‬
‫فمن رجا شيئًا طلبه‪ ،‬ومن خاف شيئًا هرب منه‪ ,‬فعلينا أن نطلب رضا اهلل وحمبته والقرب منه‪ ،‬ونفر‬
‫من كل ما يغضبه فنحققـ بذلك حقيقة الفرار إىل اهلل‪.‬‬

‫أما إذا فتحنا باب اخلوف فقط فسيكون الفرار من اهلل ال إليه‪ ،‬ويف املقابل فإن العكس خيدع النفس‬
‫ويدفعها للغرور‪.‬‬

‫قال أبو سليمان‪ :‬من َح ُسن ظنه باهلل عز وجل مث ال خياف اهلل فهو خمدوع(‪.)1‬‬
‫وهذا أحد السلف وهو عبد الواحدـ بن زيد يسأل زياد النمريي‪ :‬ما منتهى اخلوف؟‍‬
‫قال‪ :‬إجالل اهلل عن مقام السيئات‪.‬‬
‫فقال‪ :‬ما منتهى الرجاء؟‬
‫قال‪ :‬تأمل اهلل على كل احلاالت(‪.)2‬‬
‫رحلة المحبة‬
‫وألننا يف هذه الصفحاتـ نتناول عبودية احملبة‪ ،‬وكيف ننميَّها يف قلوبنا‪ ،‬فإن احلديث سيكون مبشيئة اهلل‬
‫وعونه منصبًا على كل ما يستثري مشاعر احلب هلل عز وجل والرجاء فيه‪ ،‬لذلك أطلب منك ومن نفسي –‬
‫أخي القارئ – أال تنسى هذه الكلمات اليت مت ذكرها يف هذا التمهيد وأنت تقرأ الصفحاتـ القادمة‪،‬‬
‫ونفس األمر سنطلبه منك مبشيئة اهلل عندما نتحدث عن عبودية اخلوف واخلشية هلل عز وجل يف موضع‬
‫آخر‪.‬‬

‫كيف نفتح باب المحبة؟!‬

‫‪1‬‬
‫() حسن الظن باهلل البن أىب الدنيا ‪.27/‬‬
‫‪2‬‬
‫() املصدر السابق‪.77 /‬‬

‫‪9‬‬
‫يقول ابن عطاء يف حكمه‪:‬‬
‫إذا أردت أن ينفتح لك باب الرجاء فاشهد ما منه إليك‪ ،‬وإذا أردت أن ينفتح لك باب اخلوف‬
‫فاشهد ما منك إليه‪.‬‬

‫وحنن هنا يف هذه الصفحات نريد – بعون اهلل وكرمه – أن ينفتح لنا باب احلب والرجاء يف اهلل‪،‬‬
‫لذلك سيكون غالب احلديث يف التعرف على اهلل الودود‪ ،‬ومظاهر معاملته احلانية لنا‪.‬‬

‫***‬

‫‪10‬‬
‫الفصل األول‬

‫أهمية المحبة الصادقة‬


‫من العبد لربه‬
‫الثمار الحلوة‬
‫كلما تعرف العبد على مظاهر حب ربه له‪ ،‬وسيطرت هذه املعرفة على مشاعره انعكس ذلك على‬
‫عالقته به سبحانه فيزداد له حبًا وشوقًا‪.‬‬

‫وعندما ميأل هذا احلب القلبـ ستكون له بال شك مثار عظيمة تظهر يف سلوك العبد وأعماله‪ ،‬هذه‬
‫الثمار من الصعب احلصول عليها من أي شجرة أخرى غري شجرة احلب‪ ،‬فاحلب خُي رج من القلبـ معانٍ‬
‫للعبودية ال خيرجها غريه‪.‬‬

‫يقول ابن تيمية‪ :‬فمن ال حيب الشيء ال ميكن أن حيب التقرب إليه‪ ،‬إذ التقرب إليه وسيلة‪ ،‬وحمبة‬
‫الوسيلة تبع حملبة املقصود(‪.)1‬‬

‫وإذا كانت احملبة أصل كل عمل ديين‪ ،‬فاخلوف والرجاء وغريمها يستلزم احملبة ويرجع إليها‪ ،‬فإن‬
‫ين‬ ‫الراجي الطامع إمنا يطمع فيما حيبه ال فيما يبغضه‪ ،‬واخلائف يفر من املخوف لينال احملبة ‪‬أُولَئِ َ َّ ِ‬
‫ك الذ َ‬
‫ِ‬
‫يَ ْدعُو َن َي ْبَتغُو َن إِلَى َربِّ ِه ُم ال َْوسيلَةَ أ َُّي ُه ْم أَق َْر ُ‬
‫ب َو َي ْر ُجو َن َر ْح َمتَهُ َويَ َخافُو َن َع َذابَهُ‪[ ‬اإلسراء‪.)2( ]57 :‬‬

‫وهلذا اتفقت األُمتان من قبلنا على ما عندهم من مأثور وحكم عن موسى وعيسى أن أعظم الوصايا‪:‬‬
‫أن حتب اهلل بقلبك وعقلك وقصدك‪ ،‬وهذه هي حقيقة احلنيفية ملة إبراهيم اليت هي أصل شريعة التوراة‬
‫واإلجنيل والقرآن(‪.)3‬‬

‫لذلك أدعو نفسي‪ ،‬وأدعوك أخي القارئ إىل االهتمام بغرس بذور حمبة اهلل يف القلب‪ ،‬وتعهدها باألعمال‬
‫آمنُوا أَ َش ُّد ُحبًّا ِهلل‪[ ‬البقرة‪ .]165 :‬عند ذلك‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َ‬
‫الصاحلة حىت يصري اهلل عز وجل أحب إلينا من كل شيء ‪َ ‬والذ َ‬
‫سنجد الثمار احللوة أمامنا دون عناء أو مشقة‪.‬‬

‫ومن هذه الثمار المتوقعة‪:‬‬


‫أوالً‪ :‬الرضا بالقضاء‬

‫‪1‬‬
‫() التحفة العراقية ‪.51/‬‬
‫‪2‬‬
‫() املصدر السابق‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() املصدر السابق‪.54/‬‬

‫‪12‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫دوما‬
‫عندما يتعرف الواحد منا على مدى حب ربه له وحرصه عليه فإن هذا من شأنه أن يدفعه ً‬
‫للرضى بقضائه‪ ،‬وكيف ال وقد أيقن أن ربه ال يريد له إالّ اخلري‪ ,‬وأنه ما خلقه ليعذبه‪ ،‬بل خلقه بيده‪،‬‬
‫وكرمه على سائر خلقه ليدخله اجلنة‪ ،‬دار النعيم األبدي‪ ،‬ومن مثَّ فإن كل قضاء يقضيه له ما هو إال خطوة‬
‫ميهد له من خالهلا طريقه إىل تلك الدار‪ ،‬فاألقدار املؤملة والباليا ما هي إال أدوات تذكري يُذ ِّكر اهلل هبا عباده‬
‫حبقيقة وجودهم يف الدنيا وأهنا ليست دار مقام بل دار امتحان‪ ،‬وأن عليهم الرجوع إليه قبل فوات األوان‬
‫ِ‬
‫اب األ ْدنَى ُدو َن ال َْع َذ ِ‬
‫اب‬ ‫اب ل ََعلَّ ُه ْم َي ْر ِجعُو َن‪[ ‬الزخرف‪َ  ،]48 :‬ولَنُذي َقن ُ‬
‫َّهم ِّم َن ال َْع َذ ِ‬ ‫اهم بِال َْع َذ ِ‬
‫َخ ْذنَ ُ‬
‫‪َ ‬وأ َ‬
‫األ ْكبَ ِر ل ََعلَّ ُه ْم َي ْر ِجعُو َن‪[ ‬السجدة‪.]21 :‬‬

‫وهي كذلك أدوات تطهري من أثر الذنوب والغفالت اليت يقع فيها العبد «ما يصيب المسلم من‬
‫نصب‪ ،‬وال وصب‪ ،‬وال هم‪ ،‬وال حزن‪ ،‬وال أذى‪ ،‬وال غم‪ ،‬حتى الشوكة يشاكها‪ ،‬إال كفر اهلل بها من‬
‫خطاياه»(‪.)1‬‬

‫فجميع األقدار اليت يُقدَّرها اهلل عز وجل لعباده حتمل يف طياهتا اخلري احلقيقي هلم وإن بدت غري ذلك‪.‬‬
‫فعلى سبيل املثال‪ :‬الرزق‪ ،‬فاهلل عز وجل يبسط الرزق للبعض ويضيقه على البعض لعلمه سبحانه مبا‬
‫ض ول ِ‬
‫َكن ُيَن ِّز ُل بَِق َد ٍر َّما يَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ط اهلل ِّ ِ ِ ِ ِ‬
‫شاءُ‬ ‫الر ْز َق لعبَاده لََبغَ ْوا في األ َْر ِ َ‬ ‫سَ ُ‬
‫يصلح عباده‪ ,‬أمل يقل سبحانه ‪َ ‬ول َْو بَ َ‬
‫ص ٌير‪[ ‬الشورى‪.]27 :‬‬ ‫اد ِه َخبِير ب ِ‬
‫إِنَّهُ بِ ِعب ِ‬
‫ٌَ‬ ‫َ‬
‫فمنعه الرزق الوفري عن بعض الناس ما هو إال صورة من صور رمحته‪ ،‬وشفقته هبم‪ .‬قال صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪« :‬إن اهلل تعالى ليحمي عبده المؤمن من الدنيا‪ ،‬وهو يحبه‪ ،‬كما تحمون مريضكم الطعام‬
‫والشراب تخافون عليه» (‪.)2‬‬

‫هذه املعاين العظيمة ال ميكن تذكرها واستحضارها بصورة دائمة‪ ،‬وممارسة مقتضاها يف احلياة العملية‬
‫ضوا َع ْنهُ‪ ‬هو‪ :‬يُ ِحُّب ُه ْم‬ ‫إال إذا متكن حب اهلل من القلبـ وهيمن عليه‪ ،‬فمفتاح‪َّ  :‬ر ِ‬
‫ض َي اهللُ َع ْن ُه ْم َو َر ُ‬
‫َويُ ِحبُّونَهُ‪[ ‬املائدة‪.]54 :‬‬

‫إيل حبيب‪ ،‬ما ضركم ما فاتكم من الدنيا إذا كنت‬


‫جاء يف األثر أن اهلل تعاىل يقول‪« :‬معشرـ املتوجهني َّ‬

‫‪1‬‬
‫() متفق عليه‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() صحيح‪ ،‬أخرجه اإلمام يف املسند‪ ،‬واحلاكم عن أيب سعيد‪ ،‬وصححه األلباين يف صحيح اجلامع (‪.)1814‬‬

‫‪13‬‬
‫سلما»(‪.)1‬‬
‫لكم حظًا‪ ،‬وما ضركم من عاداكم إذا كنت لكم ً‬
‫علي كل مصيبة‪ ،‬ورضاين بكل قضية‪ ،‬فما أبايل‬
‫وكان عامر بن عبد قيس يقول‪ :‬أحببت اهلل حبًا سهل َّ‬
‫مع حيب إياه ما أصبحت عليه وما أمسيت(‪.)2‬‬

‫نعم‪ ،‬أخي فإننا إن أحببنا اهلل حبًا صادقًا أحببنا كل ما يرد علينا منه سبحانه‪.‬‬
‫ف بصره‪ ،‬جاءه الناس يهرعون إليه‪ ,‬كل واحد يسأله‬ ‫ملا قدم سعد بن أيب وقاص إىل مكة‪ ،‬وقد كان ُك َّ‬
‫أن يدعو له‪ ،‬فيدعو هلذا وهلذا‪ ،‬وكان جماب الدعوة‪ ،‬فأتاه عبداهلل بن أيب السائب فقال له‪ :‬يا عم‪ ،‬أنت‬
‫بين‪ ،‬قضاء اهلل سبحانه عندي‬
‫تدعو للناس فلو دعوت لنفسك‪ ،‬فرد اهلل عليك بصرك؟‍ فتبسم وقال‪ :‬يا َّ‬
‫أحسن من بصري‪.‬‬

‫وكان عمران بن احلصني قد استسقى بطنه‪ ،‬فبقي ملقى على ظهره ثالثني سنة ال يقوم وال يقعد‪ ،‬قد نقب‬
‫له يف سرير من جريد كان عليه موضع لقضاء حاجته‪ ،‬فدخل عليه مطّرف وأخوه العالء‪ ،‬فجعل يبكي ملا يراه‬
‫إيل(‪.)3‬‬
‫أحبَّه إىل اهلل أحبه ّ‬
‫من حاله‪ ،‬فقال‪ :‬مل تبكي؟ قال‪ :‬ألين أراك على هذه احلالة العظيمة قال‪ :‬ال تبك‪ ،‬فإن َ‬
‫ثانيًا‪ :‬التلذذ بالعبادة وسرعة المبادرة إليها‬
‫كلما ازداد حب العبد لربه ازدادت مبادرته لطاعته واستمتاعه بذكره‪ ،‬وكان هذا احلب سببًا يف‬
‫استخراج معاين األنس والشوق إىل حمبوبه األعظم‪ ،‬والتعبري عنها من خالل ذكره ومناجاته‪.‬‬
‫هذه املعاين ما كانت لتخرج إال إذا فُتح هلا باب احلب‪ ،‬فاحملب يقبل على حمبوبه بسعادة‪ ،‬ويطيع‬
‫أوامره برضى‪ ،‬ال حتركه لتلك الطاعة سياط اخلوف من عقوبة عدم أدائه للعمل‪ ،‬بل حيركه ما حرك موسى‬
‫ضى‪[ ‬طه‪ ]84 :‬وكذلك ما جعل رسولنا صلى اهلل‬ ‫ب لَِت ْر َ‬ ‫عليه السالم عندما قال لربه ‪َ ‬و َع ِجل ُ‬
‫ْت إِل َْي َ‬
‫ك َر ِّ‬
‫عليه وسلم يقول لبالل‪« :‬أرحنا بها يا بالل»‪.‬‬
‫إن هناك بالفعلـ سعادة حقيقية ومتعة وشعور باللذة والنعيم جيدها احملب يف مناجاته وذكره وخلوته‬
‫بربه‪ ،‬وهذا ما يُطلق عليه‪« :‬جنة الدنيا»‪ ,‬هذه اجلنة من الصعب علينا أن ندخلها من غري باب احملبة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() احملبة هلل سبحانه لإلمام اجلنيد‪ -60/‬دار املكتيب‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() استنشاق نسيم األنس البن رجب‪.36 /‬‬
‫‪3‬‬
‫() صالح األمة يف علو اهلمة ‪.4/516‬‬

‫‪14‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫قال أحد الصاحلني‪ :‬مساكني أهل الدنيا‪ ،‬خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها‪ ،‬قيل‪ :‬وما أطيب ما‬
‫فيها؟ قال‪ :‬حمبة اهلل تعاىل ومعرفته وذكره‪.‬‬
‫وقال آخر‪ :‬إنه لتمر يب أوقات أقول‪ :‬إن كان أهل اجلنة يف مثل هذا إهنم لفي عيش طيب(‪.)1‬‬
‫ثالثًا‪ :‬الشوق إلى اهلل‬
‫حريصا على اغتنام أية فرصة‬
‫ً‬ ‫دوما‬
‫عندما يتمكن حب اهلل من قلبـ العبد‪ ،‬فإن هذا من شانه أن جيعله ً‬
‫تتاح له فيها اخللوة به سبحانه وبذكره ومناجاته‪ ،‬ومجع قلبه معه‪ ،‬وشيئًا فشيئًا تستثار كوامن الشوق إليه‬
‫سبحانه‪ ،‬وتستبد بالقلب‪ ،‬وتلح عليه يف طلب رؤيته‪ ،‬ليأيت العِلم فيخربه بأنه ال رؤية وال لقاء هلل يف احلياة‬
‫الدنيا‪ ،‬بل بعد املوت‪ ،‬فيزداد الشوق إىل هذا اللقاء‪ ،‬وأي لقاء‪:‬‬
‫لقاء المحبوب األعظم الذي ناجاه لسنوات طويلة‪ ،‬وسكب الدمع في محرابه‪.‬‬
‫لقاء من دعاه في أوقات عصيبة فوجده منه قريبًا‪ ،‬ولدعائه مجيبًا‪.‬‬
‫لقاء من كفاه وحماه وأعانه على نفسه وعدوه‪.‬‬
‫لقاء من أعطاه وأكرمه وحفظه ورعاه وبكل بالء حسن أباله‪.‬‬
‫يقول احلسن البصري‪ :‬إن أحباء اهلل هم الذين ورثوا احلياة الطيبة وذاقوا نعيمها مبا وصلوا إليه من مناجاة‬
‫حبيبهم‪ ،‬ومبا وجدوا من حالوة يف قلوهبم‪ ،‬السيما إذا خطر على باهلم ذكر مشافهته وكشف ستور احلجب عنه يف‬
‫املقام األمني والسرور‪ ،‬وأراهم جالله وأمسعهم لذة كالمه ورد عليهم جواب ما ناجوه به أيام حياهتم(‪.)2‬‬

‫فالشوق إىل اهلل – إذن – مثرة من مثار متكن حبه يف قلب العبد‪ ،‬ويؤكد ابن رجب على ذلك بقوله‪:‬‬
‫الشوق إىل اهلل درجة عالية رفيعة تنشأ من قوة حمبة اهلل عز وجل‪ ،‬وقد كان صلى اهلل عليه وسلم يسأل‬
‫اهلل هذه الدرجة(‪.)3‬‬

‫ففي دعائه صلى اهلل عليه وسلم «اللهم إني أسألك الرضى بعد القضاء‪ ،‬وبرد العيش بعد الموت‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫() الوابل الصيب ص‪.97‬‬
‫‪2‬‬
‫() شرح حديث لبيك اللهم لبيك البن رجب ص ‪ – 89‬دار عامل الفوائد‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() استنشاق نسيم األنس ‪.93/‬‬

‫‪15‬‬
‫ولذة النظر إلى وجهك‪ ،‬والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة وال فتنة مضلة» (‪ )1‬فهو صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يسأل ربه الشوق إىل لقائه دون وجود أسباب ضاغطة عليه تدعوه لذلك مثل‪ :‬ضراء الدنيا وأقدارها‬
‫املؤملة‪ ،‬أو الفنت يف الدين املضلة‪ ،‬أو مبعىن آخر أن يكون الشوق إىل اهلل ناشئًا عن حمض احملبة‪.‬‬
‫جاء يف األثر أن اهلل تبارك وتعاىل يقول‪:‬‬
‫إلي إال بفضل‬
‫أال قد طال شوق األبرار إلى لقائي‪ ،‬وإني إليهم ألشد شوقًا‪ ،‬وما شوق المشتاقين َّ‬
‫علي فلم أقبل‬
‫شوقي إليهم‪ .‬أال من طلبني وجدني‪ ،‬ومن طلب غيري لم يجدني‪ ،‬من ذا الذي أقبل َّ‬
‫عليه؟ ومن ذا الذي دعاني فلم أجبه؟ ومن ذا الذي سألني فلم أعطه(‪.)2‬‬
‫رابعا‪ :‬التضحية من أجله والجهاد في سبيله‬
‫ً‬
‫احملبة الصادقة هلل عز وجل تدفع صاحبها لبذل كل ما ميلكه من أجل نيل رضا حمبوبه‪ ،‬وليس ذلك‬
‫فحسبـ بل إنه يفعل ذلك بسعادة‪ ،‬وكل ما يتمناه أن حتوز هذه التضحية على رضاه‪.‬‬
‫تأمل معي ما حدث من عبد اهلل بن جحش ليلة غزوة أحد عندما قال لسعد بن أيب وقاص‪ :‬أال تأيت‬
‫شديدا بأسه‪،‬‬
‫غدا َفلَقِّين رجالً ً‬
‫ندعو اهلل تعاىل‪ ،‬فَ َخلَوا يف ناحية‪ ،‬فدعا سعد‪ ،‬فقال‪ :‬يا رب إذا لقينا العدو ً‬
‫فأمن عبد اهلل‪ ،‬مث قال‪ :‬اللهم‬
‫شديد ا حرده‪ ،‬أقاتله ويقاتلين‪ ،‬مث ارزقين الظفر عليه حىت أقتله فآخذ سلبه َّ‬
‫ً‬
‫شديد ا حرده‪ ،‬أقاتله ويقاتلين‪ ،‬مث يأخذين‪ ،‬فيجدع أنفي وأذين‪ ،‬فإذا لقيتك‬
‫شديدا بأسه‪ً ،‬‬ ‫غدا رجالً ً‬ ‫ارزقين ً‬
‫غدا قلتـ يل‪ :‬يا عبد اهلل فيم ُجدع أنفك وأذنك؟ فأقول‪ :‬فيك ويف رسولك‪ ،‬فتقول‪ :‬صدقت‪.‬‬ ‫ً‬
‫خريا من دعويت‪ ،‬فلقد رأيته آخر النهار‪ ،‬وإن أنفه وأذنه ملعلق يف خيط(‪.)3‬‬
‫قال سعد‪ :‬كانت دعوته ً‬
‫ويف يوم من األيام رأى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مصعبـ بن عمري ميشي وعليه إهاب كبش قد‬
‫متنطق به‪ ،‬فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نور اهلل قلبه‪ ،‬ولقد رأيته‬
‫بين أبوين يغذيانه بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب اهلل ورسوله إلى ما ترون»(‪.)4‬‬

‫فالتضحية واجلهاد من أعظم دالئل احملبة‪.‬‬


‫‪1‬‬
‫() أخرجه الطرباين‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() احملبة هلل سبحانه للجنيد ‪.111/‬‬
‫‪3‬‬
‫() سري أعالم النبالء للذهيب ‪.1/112‬‬
‫‪4‬‬
‫() رواه أبو نعيم يف احللية‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫خامسا‪ :‬الرجاء والطمع فيما عند اهلل‬
‫ً‬
‫فكلما اشتد احلب اشتد الرجاء يف اهلل وحسن الظن فيه أال يلقي حبيبه يف النار‪ ،‬فاحملب ال يعذب‬
‫اهلل وأ ِ‬
‫َحبَّا ُؤهُ قُ ْل فَلِ َم ُي َع ِّذبُ ُكم بِ ُذنُوبِ ُكم‪‬‬ ‫ِ‬
‫حبيبه كما جاء الرد اإلهلي على اليهود عندما قالوا‪ :‬نَ ْح ُن أ َْبنَاءُ َ‬
‫[املائدة‪.]18 :‬‬

‫ويف احلديث أنه صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬واهلل‪ ،‬ال يلقي اهلل حبيبه في النار» (‪.)1‬‬
‫مرض أعرايب فقيل له‪ :‬إنك متوت‪ .‬قال‪ :‬وأين أذهب؟ قالوا‪ :‬إىل اهلل‪ .‬قال‪ :‬فما كراهتى أن أذهب إىل‬
‫من ال أرى اخلري إال منه(‪.)2‬‬

‫والدي‪ ،‬ريب خري يل من والدي(‪.)3‬‬


‫َّ‬ ‫وكان سفيان الثوري يقول‪ :‬ما أُحب أن حسايب جعل إىل‬
‫وقال ابن املبارك‪ :‬أتيت سفيان الثوري عشية عرفة وهو جاث على ركبته وعيناه هتمالن فبكيت‪،‬‬
‫فالتفت إىل فقال‪ :‬ما شأنك؟ فقلت‪ :‬من أسوأ أهل اجلمع حاال؟ قال‪ :‬الذي يظن أن اهلل ال يغفر له(‪.)4‬‬

‫سادسا‪ :‬الحياء من اهلل‬


‫ً‬
‫فاحملب الصادق يف حبه هلل عز وجل يستحي أن يراه حبيبه يف وضع مشني‪ ،‬أو مكان ال حيب أن يراه‬
‫فيه‪ ،‬فإذا ما وقع يف معصية أو تقصري سارع باالعتذار إليه واسرتضائه بشىت الطرق‪.‬‬

‫بل إن أي بالء يتعرض إليه جيعله قل ًق ا بأن يكون هذا البالء مظهر من مظاهر لوم اهلل له وغضبه عليه‪،‬‬
‫حينئذ يهرع إىل مواله يسرتضيه ويتذلل إليه ويستغفره‪ ،‬ويطلب منه العفو والصفح‪.‬‬ ‫لذلك جتده ٍ‬

‫جيد ا يف دعاء رسولنا صلى اهلل عليه وسلم بعد أحداث الطائف وما تعرض فيها من‬
‫ويتجلى هذا األمر ً‬
‫استهزاء وتضيق وإيذاء‪ ،‬فكان مما قاله لربه «‪...‬إن لم يكن بك غضب علي فال أبالي‪ ،‬لكن عافيتك هي‬
‫أوسع لي‪ ،‬أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات‪ ،‬وصلح عليه أمر الدنيا واآلخرة‪ :‬أن ينزل بي‬

‫‪1‬‬
‫() صحيح اجلامع (‪.)7095‬‬
‫‪2‬‬
‫() حسن الظن باهلل البن أيب الدنيا برقم (‪.)40‬‬
‫‪3‬‬
‫() املصدر السابق برقم (‪.)27‬‬
‫‪4‬‬
‫() املصدر السابق برقم (‪.)77‬‬

‫‪17‬‬
‫على سخطك‪ ،‬لك العتبي(‪ )1‬حتى ترضى وال حول وال قوة إال بك»‪.‬‬
‫غضبك أو يحل ّ‬
‫ويف هذا املعىن يقول ابن رجب‪ :‬إن حمبة اهلل إذا صدقت أوجبت حمبة طاعته وامتثاهلا‪ ،‬وبغض معصيته‬
‫واجتناهبا‪ ،‬وقد يقع احملب أحيانًا يف تفريط يف بعض املأمورات‪ ،‬وارتكاب بعض احملظورات‪ ،‬مث يرجع إىل‬
‫نفسه باملالمة‪ ،‬وينزع عن ذلك‪ ،‬ويتداركه بالتوبة(‪.)2‬‬

‫سابعا‪ :‬الشفقة‪ %‬على الخلق‬


‫ً‬
‫مجيعا خباصة العصاة‬ ‫من الثمار العظيمة للحب الصادق تلك الشفقة اليت جيدها احملب يف قلبه جتاه الناس ً‬
‫كرمه اهلل هبا على سائر خلقه‪،‬‬ ‫منهم‪ ،‬وكيف ال وقد علم أنه ما من أحد من البشر إال وفيه نفخة علوية َّ‬
‫وأن الذي يرضيه – سبحانه – هو عودة اجلميع إليه ودخوهلم اجلنة‪ ،‬لذلك جتد هذا احملب شفي ًقا على‬
‫ِ‬
‫اف َعلَْي ُك ْم‬ ‫حريصا على دعوهتم لسان حاله يقول‪ :‬يَا َق ْوم ا ْعبُ ُدوا اهللَ َما لَ ُكم ِّم ْن إِل ٍَه غَْي ُرهُ إِنِّي أ َ‬
‫َخ ُ‬ ‫ً‬ ‫اخللق‪،‬‬
‫اب َي ْوٍم َع ِظ ٍيم‪[ ‬األعراف‪.]59 :‬‬
‫َع َذ َ‬
‫‪ ..‬يستخدم يف ذلك كل الطرق والوسائل املمكنة‪ ،‬وال يرتاح له بال حىت يُعيد الشاردين إىل حظرية‬
‫العبودية لرهبم‪.‬‬

‫ومن األمثلة العظيمة اليت تبني تلك الشفقةـ على العصاة ما فعله مؤمن آل فرعون مع قومه‪ ,‬تأمل أقواله‬
‫ِ‬ ‫الر َش ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫اف‬
‫َخ ُ‬‫اد‪[ ‬غافر‪ .]38:‬يَا َق ْوم إِنِّي أ َ‬ ‫الذي جاء ذكرها يف سورة غافر ‪‬يَا َق ْوم اتَّبعُون أ َْهد ُك ْم َسب َ‬
‫يل َّ‬
‫اب‪[ ‬غافر‪ ,]30:‬ويا َقوِم ما لِي أَ ْدعُو ُكم إِلَى النَّج ِ‬
‫اة َوتَ ْدعُونَنِي إِلَى النَّا ِر‪[ ‬غافر‪:‬‬ ‫َح َز ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ََ ْ َ‬ ‫َعلَْي ُكم ِّمثْ َل َي ْوم األ ْ‬
‫‪َ  .]41‬وأَنَا أَ ْدعُو ُك ْم إِلَى ال َْع ِزي ِز الْغََّفا ِر‪[ ‬غافر‪.]42:‬‬

‫هذه الثمرة العظيمة من مثار احملبة من شأهنا أن جتعلنا نقوم بتعديل خطابنا الدعوي‪ ،‬فنستوعب اجلميع‬
‫ونبشرهم ونطمئنهم جتاه رهبم قبل ختويفهم وترهيبهم‪.‬‬

‫ثامنًا‪ :‬الغيرة هلل‬


‫عندما يستبد حب اهلل يف قلب العبد فإن هذا من شأنه أن جيعله يغار ملواله‪ ،‬وعلى حمارمه أن تنتهك‪،‬‬
‫وحدوده أن تُتجاوز‪ ،‬وأوامره أن ختالف‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() لك أن تعاتبين حىت ترضى‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() استنشاق نسيم األنس البن رجب ‪.37 /‬‬

‫‪18‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫فمع شفقته على العصاة‪ ،‬إالّ أن هذا ال مينعه من بغضه لتصرفاهتم اليت تغضب ربه‪ ،‬ولو كانت من‬
‫ين َم َعهُ إِ ْذ قَالُوا لَِق ْو ِم ِه ْم إِنَّا ُب َر َءاءُ ِم ْن ُك ْم‬ ‫ت لَ ُكم أُسوةٌ حسنَةٌ فِي إِبر ِاه َّ ِ‬
‫يم َوالذ َ‬
‫َْ َ‬ ‫أقرب الناس إليه ‪‬قَ ْد َكانَ ْ ْ ْ َ َ َ‬
‫ضاء أَب ًدا حتَّى ُت ْؤ ِمنُوا بِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اهلل‬ ‫َوم َّما َت ْعبُ ُدو َن م ْن ُدون اهلل َك َف ْرنَا بِ ُك ْم َوبَ َدا َب ْيَننَا َو َب ْينَ ُك ُم ال َْع َد َاوةُ َوالَْبغْ َ ُ َ َ‬
‫َو ْح َدهُ‪[ ‬املمتحنة‪.]4 :‬‬

‫لقد علم احملب الصادق أن حمبوبه األعظمـ حيب عباده‪ ،‬وحيب من حيببهم فيه‪ ،‬ويعيدهم إليه‪ ،‬ويف نفس‬
‫الوقت فإنه سبحانه ال حيب تصرفاهتم املخالفة ألوامره‪ ،‬املنافية لصفة العبودية اليت ينبغي أن يتصفوا هبا ‪َ ‬والَ‬
‫اد ِه الْ ُك ْف َر‪[ ‬الزمر‪ ]7 :‬فهو ال حيب الكفر‪ ،‬وال حيب الظلم‪ ،‬وال الطغيان‪ ،‬وال الكرب‪ ،‬وال الفسق‪،‬‬
‫ضى لِ ِعب ِ‬
‫َي ْر َ َ‬
‫لذلك ترى احملب هلل جيمع بني األمرين‪ :‬الشفقة على اخللق‪ ،‬وحب اخلري هلم من جانب‪ ،‬وبغضه لتصرفاهتم‬
‫اليت ال ترضى مواله‪ ،‬وهنيهم عنها‪ ،‬بل وحماربتهم عليها إن تطلب األمر من جانب آخر‪.‬‬
‫ومن لوازم هذه الغرية‪ :‬الغرية على رسوله‪ ،‬وكيف ال وهو أحب اخللق إىل اهلل‪ ,‬فلو كانت احملبة هلل صادقة‬
‫جيدا‪ ،‬ولعل ما حدث خلبيب بن‬ ‫لتبعتهاـ والزمتها حمبة رسوله والغرية عليه‪ ،‬ولقد متثل هذا األمر يف الصحابة ً‬
‫وصلب لكي يُقتل‪ ،‬وقبل قتله قال املشركون له‪ :‬أحتب أن‬ ‫عدي ما يؤكد ذلك‪ ،‬فقد مت أسره يف يوم الرجيع‪ُ ،‬‬
‫حممدا مكانك؟ فقال‪ :‬ال واهلل العظيم‪ .‬ما أحب أن يفديين بشوكة يُشاكها يف قدمه ‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ً‬
‫تاسعا‪ :‬الغنى باهلل‬
‫ً‬
‫ومع كل الثمار السابقة تأيت أهم مثرة للمحبة أال وهي االستغناء باهلل سبحانه وتعاىل‪ ،‬واالكتفاء به‬
‫‪َ ‬واهللُ َخ ْي ٌر َوأ َْب َقى‪[ ‬طه‪.]73 :‬‬

‫فينعكس ذلك على تعامالت العبد مع األحداث اليت متر به‪ ،‬فإن ادهلمت اخلطوب استشعر معية اهلل له‬
‫‪‬الَ تَ ْح َز ْن إِ َّن اهللَ َم َعنَا‪[‬التوبة‪ ،]40 :‬وإن تشابكت أمامه األمور تذكر فردد ىف نفسه ‪‬إِ َّن َم ِع َي َربِّي َسَي ْه ِدي ِن‬
‫‪[ ‬الشعراء‪.]62 :‬‬

‫اهلل َوكِيالً‪[ ‬النساء‪.]132 :‬‬


‫‪ ..‬شعاره الدائم ‪‬و َك َفى بِ ِ‬
‫َ‬
‫يتغنى بمثل قول الشاعر‪:‬‬
‫وليتك ترضى واألنام غضاب‬ ‫فليتك حتلو واحلياة مريرة‬

‫‪1‬‬
‫() حياة الصحابة للكاندهلوي ‪.1/400‬‬

‫‪19‬‬
‫وبني وبني العاملني خراب‬ ‫وليت الذي بيين وبينك عامر‬
‫وكل الذي فوق الرتاب تراب‬ ‫إذا صح منك الود فالكل هني‬

‫قال اجلنيد‪ :‬قد أوجب اهلل ألهل حمبته الصنع والتوفيق يف مجيع أحواهلم‪ ،‬فأورثهم الغىن‪ ،‬وس ّد عنهم‬
‫ونزه أنفسهم‬
‫طلب احلاجات إىل اخللق‪ ،‬تأتيهم ألطاف من اهلل من حيث ال حيتسبون‪ ،‬وقام هلم مبا يكتفون‪َّ ،‬‬
‫إكرام ا هلم عن فضول الدنيا‪ ،‬وطهارة لقلوهبم من كل دنس‪ ،‬وأمشاهم يف طرقات الدنيا‬ ‫عما سوى ذلك‪ً ،‬‬
‫طيبني‪ ،‬وقد رفع أبصار قلوهبم إليه‪ ،‬فهم ينظرون إليه بتلك القلوب غري حمجوبة عنه(‪.)1‬‬

‫***‬

‫‪1‬‬
‫() احملبة هلل سبحانه ‪.84/‬‬

‫‪20‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬

‫الفصل الثاني‬

‫لماذا يحب اهلل عباده؟‬

‫‪21‬‬
22
‫تمهيــــــــــــدـ‬

‫النفخة العلوية‬
‫العالقة بني اهلل عز وجل وبني عباده من بىن آدم ختتلف عن عالقته سبحانه جبميع خلقه‪ ،‬وكيف ال‬
‫ك لِل َْمالَئِ َك ِة إِنِّي َخالِ ٌق بَ َ‬
‫ش ًرا ِّمن‬ ‫وما من خملوق من البشر إالَّ وفيه نفخة علوية من روح اهلل ‪‬إِ ْذ قَ َ‬
‫ال َربُّ َ‬
‫ين‪[ ‬ص‪.]72 ،71 :‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِطي ٍن ‪ ‬فَِإ َذا س َّويته و َن َف ْخ ُ ِ ِ ِ‬
‫ت فيه من ُّروحي َف َقعُوا لَهُ َساجد َ‬ ‫َ ُُْ َ‬
‫نعم‪ ،‬هذه النفخة ليست جزءًا من ذات اهلل – كما ادعت النصارى – بل هي من ملكه(‪ )1‬وأمره‪،‬‬
‫اختص هبا سبحانه اإلنسان وميزه عن سائر خملوقاته‪ ،‬وجعلها مرحلة هامة وأساسية ومميزة يف خلقه ‪‬فَِإذَا‬
‫ت فِ ِيه ِمن ُّر ِ‬
‫وحي‪[ ‬احلجر‪ ]29:‬بينما مل يُذكر ذلك يف حق أي خملوق آخر‪.‬‬ ‫َس َّو ْيتُهُ َو َن َف ْخ ُ‬
‫ي‪[ ‬ص‪.]75 :‬‬ ‫ك أَن تَ ْس ُج َد لِ َما َخلَ ْق ُ‬
‫ت بِيَ َد َّ‬ ‫ومما يؤكد هذا األمر قوله تعاىل إلبليس ‪َ ‬ما َمَن َع َ‬
‫ويف هذا املعىن يقول سيد قطب‪ :‬وألن اهلل عز وجل خالق كل شيء‪ ،‬فال بد أن تكون هناك‬
‫خصوصية يف خلق هذا اإلنسان تستحق هذا التنويه‪ ،‬هي خصوصية العناية الربانية هبذا الكائن‪ ،‬وإيداعه‬
‫نفخة من روح اهلل داللة على هذه العناية(‪.)2‬‬
‫ويقول رمحه اهلل‪ :‬وما كان هذا الكائن الصغري احلجم‪ ،‬احملدود القوة‪ ،‬القصري األجل‪ ،‬احملدود املعرفة‪ ،‬ما‬
‫كان له أن ينال شيئًا من هذه الكرامة لوال تلك اللطيفة الربانية الكرمية‪ ,‬وإال فماذا يبلغ هذا اإلنسان‬
‫لتسجد له مالئكة الرمحن‪ ،‬إال هبذا السر اللطيف العظيم؟! (‪.)3‬‬

‫تكريم اإلنسان‬
‫وليس أدل على خصوصية العناية الربانية باإلنسان من هذا التكرمي الذي مشله منذ بدء خلق أبيه آدم‬
‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س َج ُدوا إالَّ إبْل َ‬
‫يس‪[ ‬البقرة‪ً .]34 :‬‬
‫مرورا بالصورة‬ ‫وسجود املالئكة له ‪َ ‬وإِ ْذ ُقلْنَا لل َْمالَئِ َكة ْ‬
‫اس ُج ُدوا آل ََد َم فَ َ‬
‫س ِن َت ْق ِو ٍيم‪[ ‬التني‪.]4 :‬‬ ‫احلسنة اليت خلق عليها ‪‬لََق ْد َخلَ ْقنَا ا ِإلنْ ِ‬
‫َح َ‬‫سا َن في أ ْ‬‫َ‬ ‫ُ‬

‫‪1‬‬
‫() يقول ع بد الرمحن حسن حبنكه امليداين‪ :‬واإلضافة يف (روحي) ليست على معىن أهنا جزء من روح ذات اهلل سبحانه‬
‫وتعاىل‪ ،‬بل هي على معىن امللك‪،‬كما أن كل شيء يف السماوات واألرض‪ ،‬وما بينهما ملك هلل‪ ،‬فلله ما يف السماوات‬
‫واألرض‪ ،‬وهذا التعبري نظري التعبري يف (مسائي‪ ،‬وأرضي‪ ،‬وجنيت‪ ،‬وناري) أو على معىن االختصاص بأمر من أموري‪ ،‬مثل‬
‫«وطهر بييت للطائفني» وبسبب الفهم اخلطأ يف هذه اإلضافة سقط النصاري يف توهم أن عيسى عليه السالم جزء من ذات‬
‫اهلل‪ ،‬سبحانه وتعاىل عما يصفون‪ ،‬انظر تفسري معارج التفكر ودقائق التدبر اجلزء الثالث ص (‪.)267‬‬
‫‪2‬‬
‫() يف ظالل القرآن ‪.5/3028‬‬
‫‪3‬‬
‫() يف ظالل القرآن ‪.5/3129‬‬

‫‪23‬‬
‫ومتيزه بنعمة العقل الذي يُعد مبثابة وعاء للعلمـ واإلدراك والتمييز بني اخلري والشر والنافع والضار‪.‬‬
‫قال احلسن البصري‪ :‬ملا خلق اهلل عز وجل العقل‪ ،‬قال له‪ :‬أقبل‪ ،‬فأقبل‪ ،‬مث قال له‪ :‬أدبر‪ ،‬فأدبر‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫إىل منك‪ ،‬إين بك أُعبد‪ ،‬وبك أُعرف‪ ،‬وبك آخذ‪ ،‬وبك أُعطي(‪.)1‬‬ ‫ما خلقت خل ًقا هو أحب َّ‬
‫ات َو َما فِي‬
‫السماو ِ‬ ‫ِ‬
‫َّر لَ ُكم َّما في َّ َ َ‬
‫ومن مظاهر هذا التكرمي كذلك‪ :‬تسخري الكون كله خلدمته ‪َ ‬و َسخ َ‬
‫ض َج ِم ًيعا ِّم ْنهُ‪[ ‬اجلاثية‪.]13 :‬‬
‫األ َْر ِ‬

‫هذا التكرمي يشمل مجيع بين آدم دون تفرقة بني لون أو جنس أو عرق ‪َ ‬ولََق ْد َك َّر ْمنَا بَنِي َ‬
‫آد َم‬
‫اهم َعلَى َكثِي ٍر ِّم َّمن َخلَ ْقنَا َت ْف ِ‬ ‫اهم ِّمن الطَّيِّب ِ‬ ‫وحملْنَ ِ‬
‫ضيالً‪[ ‬اإلسراء‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫ات َوفَ َّ‬
‫ضلْنَ ُ ْ‬ ‫اه ْم في الَْب ِّر َوالْبَ ْح ِر َو َر َزقْنَ ُ َ َ‬
‫َ ََ ُ‬
‫‪.]70‬‬
‫نفسا؟!‬
‫أليست ً‬
‫موضعا للتكرمي ولو كان من الكافرين‪.‬‬
‫ً‬ ‫دوما‬
‫إن النفخة العلوية اليت حيملها اإلنسان جتعله ً‬
‫مجيعا هذا املعىن‪:‬‬
‫وإليك – أخي القارئ‪ -‬هذا اخلرب الصحيح الذي يؤكد لنا ً‬
‫كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد رضي اهلل عنهما قاعدين بالقادسية فمروا عليهما جبنازة فقاما‪،‬‬
‫فقيل هلما‪ :‬إهنا من أهل األرض‪ ،‬أي من أهل الذمة‪ ،‬فقاال‪« :‬إن النيب صلى اهلل عليه وسلم مرت به جنازة‬
‫نفسا؟» (‪.)2‬‬
‫فقام‪ ،‬فقيل له‪ :‬إهنا جنازة يهودي‪ ،‬فقال‪ :‬أليست ً‬
‫وليس هذا فحسبـ بل إننا جند الشريعة اإلسالمية توجه املسلمني إىل ُحسن التعامل مع مجيع الناس يف‬
‫أمريا‬
‫السلمـ واحلرب‪ ،‬ومن ذلك النهي عن التمثيل بالقتلى يف احلرب‪ ،‬وكان عليه الصالة والسالم إذا َّأمر ً‬
‫على جيش أو سرية يوصيه‪ ،‬فكان مما يقول له‪« :‬ال تمثلون»(‪ )3‬ويف احلديث القدسي‪« :‬ال تمثلوا‬
‫بعبادي»(‪.)4‬‬

‫ين ُي َقاتِلُونَ ُك ْم َوالَ َت ْعتَ ُدوا‪ %‬إِ َّن اهللَ الَ‬ ‫وكذلك حصر القتل فيمن يقاتل دون غريه ‪‬وقَاتِلُوا ِفي سبِ ِ ِ َّ ِ‬
‫يل اهلل الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫‪1‬‬
‫() شعب اإلميان للبيهقي (‪ )4/154‬برقم (‪.)4632‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه البخاري (‪.)1250‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه مسلم (‪.)3261‬‬
‫‪4‬‬
‫() رواه أمحد (‪.)16899‬‬

‫‪24‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫ين‪[ ‬البقرة‪ . ]190 :‬فال قتل المرأة أو صيب أو أجري أو راهب يف صومعته‪ ،‬فإن انتهت احلرب وكان‬ ‫ِ‬ ‫يُ ِح ُّ‬
‫ب ال ُْم ْعتَد َ‬
‫هناك أسرى فال إهانة وال إذالل بل احرتام إلنسانيتهم ‪َ ‬ويُط ِْع ُمو َن الطَّ َع َام َعلَى ُحبِّ ِه ِم ْس ِكينًا َويَتِ ًيما َوأ َِس ًيرا‪‬‬
‫[اإلنسان‪.]8 :‬‬

‫وعندما أسر املسلمون من املشركني يوم بدر‪ ،‬كانت وصية الرسول صلى اهلل عليه وسلم هبم كبرية‪،‬‬
‫خيرا»(‪.)1‬‬
‫فقال ألصحابه‪« :‬استوصوا بهم ً‬
‫تقرب المالئكة إلى اهلل بالدعاء للبشر‬
‫لقد اختص اهلل عز وجل اإلنسان لنفسه من بني سائر خملوقات كما جاء يف األثر‪ :‬يا ابن آدم خلقت‬
‫كل شيء لك وخلقتك لنفسي‪ ،‬فال تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له‪.‬‬

‫اختصه ليقوم مبهمة عظيمة أال وهي عبادته سبحانه بالغيب يف ظل متتعه خباصية حرية االختيار‪،‬‬
‫ووجود نفس أمارة بالسوء‪ ،‬وشيطان يوسوس‪ ،‬ودنيا تتزين‪.‬‬

‫وإن كانت العالقة بني األب وأبنائه تتسم باحلب واحلنان والرمحة واحلرص الدائم على مصلحتهم‪ ،‬فإن‬
‫عالقته سبحانه بالبشر أمسى وأمسى‪ ,‬إهنا عالقة الرب بعباده الذين أوجدهم من العدم ونفخ فيهم من روحه‪.‬‬

‫عالقة اخلالق باملخلوق الذي اختصه لنفسه فهو حيبه ويريد له اخلري‪ ،‬والنجاح يف مهمته العظيمة‪.‬‬
‫ومن عجب أن املالئكة األطهار الكرام ملا علمت مبنزلة البشر عند اهلل جعلت جزءًا من عبادهتا دعاءها‬
‫سبِّ ُحو َن بِ َح ْم ِد َربِّ ِه ْم‬ ‫ِ‬
‫هلم وهي بذلك تريد التقرب إليه سبحانه وتطمع يف نيل رضاه ‪َ ‬وال َْمالَئ َكةُ يُ َ‬
‫َويَ ْسَت ْغ ِف ُرو َن لِ َم ْن ِفي األ َْر ِ‬
‫ض‪[ ‬الشورى‪.]5 :‬‬

‫ين‬ ‫َّ ِ‬
‫ويزداد تقرهبم وتوددهم إليه سبحانه بكثرة الدعاء ملن هلم حب خاص ووالية خاصة عنده ‪‬الذ َ‬
‫آمنُوا َر َّبنَا َو ِس ْع َ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ت‬ ‫ين َ‬‫سبِّ ُحو َن ب َح ْمد َربِّ ِه ْم َو ُي ْؤمنُو َن به َويَ ْسَتغْف ُرو َن للَّذ َ‬ ‫يَ ْح ِملُو َن ال َْع ْر َ‬
‫ش َو َم ْن َح ْولَهُ يُ َ‬
‫ك وقِ ِهم َع َذاب الْج ِح ِيم ‪ ‬ر َّبنَا وأَ ْد ِخل ُْهم جن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َِّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َّات‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ين تَابُوا َو َّاتَبعُوا َسبيلَ َ َ ْ‬ ‫ُك َّل َش ْيء َّر ْح َمةً َوعل ًْما فَا ْغف ْر للذ َ‬
‫يم ‪َ ‬وقِ ِه ُم‬ ‫َنت الْع ِزيز ال ِ‬ ‫َع ْد ٍن الَّتِي و َع ْدَّت ُهم ومن صلَح ِمن آبائِ ِهم وأَ ْزو ِ‬
‫اج ِه ْم َوذُ ِّريَّاتِ ِه ْم إِنَّ َ‬
‫ْحك ُ‬‫كأ َ َ ُ َ‬ ‫ْ ََ َ َ ْ َ ْ َ َ‬ ‫َ‬
‫يم‪[ ‬غافر‪.]9 -7 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ات َو َمن تَ ِق َّ‬ ‫السيِّئَ ِ‬
‫ك ُه َو الْ َف ْو ُز ال َْعظ ُ‬ ‫السيِّئَات َي ْو َمئذ َف َق ْد َرح ْمتَهُ َوذَل َ‬ ‫َّ‬

‫‪1‬‬
‫() انظر جملة الوعي اإلسالمي عدد ‪ 494‬مقاال بعنوان (حفظ اإلسالم للكرامة اإلنسانية) د‪ .‬إبراهيم أمحد مهنا‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫صلُّو َن َعلَى النَّبِ ِّي‪[ ‬األحزاب‪.]56 :‬‬ ‫ِ‬
‫ويزداد ويزداد ألحب اخللق إليه ‪‬إِ َّن اهللَ َو َمالَئ َكتَهُ يُ َ‬
‫مباهاته بعباده‬
‫ومما يؤكد عالقته – سبحانه – اخلاصة بعباده البشر املوحدين له‪ :‬مباهاته هبم املالئكة عند قيامهم‬
‫بطاعته‪.‬‬

‫يوما على حلقة من أصحابه فقال‪« :‬ما أجلسكم؟»ـ قالوا‪ :‬جلسنا نذكر‬ ‫خرج صلى اهلل عليه وسلم ً‬
‫ومن به علينا‪ .‬قال‪« :‬آهلل ما أجلسكم إال ذاك؟» قالوا‪ :‬واهلل ما‬
‫اهلل‪ ،‬وحنمده على ما هدانا لإلسالم‪َّ ،‬‬
‫أجلسنا إال ذاك قال‪« :‬أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم‪ ،‬ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن اهلل يباهي بكم‬
‫المالئكة»(‪.)1‬‬

‫وانظر إليه صلى اهلل عليه وسلم وهو حيدث أصحابه عن صورة أخرى من صور هذه املباهاة فيقول‪:‬‬
‫غبرا»(‪.)2‬‬
‫«إن اهلل يباهي بأهل عرفات أهل السماء‪ ،‬فيقول لهم‪ :‬انظروا إلى عبادي جاءوني شعثًا ً‬
‫مع أنه سبحانه ‪-‬يقينًا‪ -‬ال تنفعه طاعة الطائعني مهما بلغت‪ ،‬وال تضره معصية العاصني مهما عظمت‪،‬‬
‫وما مباهاته وفرحه بطاعات عباده إال ألنه حيبهم ويريد هلم اخلري‪.‬‬

‫وما إخبارهم بتلك املباهاة يف أكثر من موضع على لسان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إال رسالة‬
‫حب منه هلم لعلها تزيدهم إقباال عليه وحبًا له وشوقًا إىل لقائه‪.‬‬

‫ضحكه سبحانه‬
‫ومن مظاهر العالقة املميَّزة بني اهلل تعاىل وعباده وخباصة الطائعني منهم‪ :‬ضحكه سبحانه عندما يرى‬
‫عباده خيلصون أعماهلم له‪ ،‬ويضحون من أجله‪.‬‬

‫عن أيب الدرداء رضي اهلل عنه عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬ثالثة يحبهم اهلل‪ ،‬ويضحك‬
‫إليهم‪ ،‬ويستبشر بهم‪ :‬الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه‪ %‬هلل عز وجل‪ ،‬فإما أن يُقتل وإما أن‬
‫ينصره اهلل ويكفيه‪ ،‬فيقول‪ :‬انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه؟‪ ,‬والذي له امرأة حسنة‬
‫وفراش لين حسن‪ ،‬فيقوم من الليل‪ ،‬فيقول‪ :‬يذر شهوته ويذكرني‪ ،‬ولو شاء رقد‪ ،‬والذي كان في‬
‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم (‪. )2701‬‬
‫‪2‬‬
‫() صحيح‪ ،‬رواه ابن حبان واحلاكم وصححه األلباين يف ص‪ .‬ج (‪.)1867‬‬

‫‪26‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫سفر‪ ،‬وكان معه‪ %‬ركب‪ ،‬فسهروا‪ ،‬ثم هجعوا‪ ،‬فقام من السحر في ضراء وسراء» ‪.‬‬
‫(‪) 1‬‬

‫ومما يؤكد هذا املعىن قوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬يعجب ربك من راعي غنم‪ ،‬في رأس شظية‬
‫بجبل‪ ،‬يؤذن للصالة‪ ،‬ويصلي‪ ،‬فيقول اهلل عز وجل‪ :‬انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصالة‪،‬‬
‫يخاف مني‪ ،‬قد غفرت لعبدي‪ ،‬وأدخلته الجنة»(‪.)2‬‬

‫قدر المؤمن عند اهلل‬


‫إن اجلسد الذي خلقه اهلل عز وجل ونفخ فيه نفخة علوية له حرمة عظيمة عنده سبحانه ويكفيك يف‬
‫َّاس َج ِم ًيعا َو َم ْن‬ ‫اد فِي األ َْر ِ‬
‫ض فَ َكأَنَّ َما َقتَ َل الن َ‬
‫س أَو فَس ٍ‬ ‫ذلك قوله تعاىل‪ :‬أَنَّهُ َمن َقتَل َن ْف ِ‬
‫سا بغَْي ِر َن ْف ٍ ْ َ‬
‫َ ً‬
‫َّاس َج ِم ًيعا‪[ ‬املائدة‪.]32 :‬‬
‫َحيَا الن َ‬‫اها فَ َكأَنَّ َما أ ْ‬
‫َحيَ َ‬
‫أْ‬
‫وهذا يؤكد مكانة اإلنسان اخلاصة عند اهلل عز وجل‪ ،‬وتزداد هذه املكانة كلما كان اإلنسان أطوع هلل‬
‫عز وجل‪ ,‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬لزوال الدنيا أهون على اهلل من قتل مؤمن بغير حق»(‪.)3‬‬

‫يكره سبحانه مساءة عبده املؤمن‬


‫تأمل معي أخي القارئ قول اهلل عز وجل يف احلديث القدسي‪:‬‬
‫« وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن‪ ،‬يكره الموت وأنا أكره‬
‫مساءته‪ ،‬وال بد له منه»(‪.)4‬‬

‫يعلق ابن تيمية على ذلك فيقول‪ :‬فبنَّي سبحانه أنه يرتدد (عن قبض نفس عبده املؤمن) ألن الرتدد تعارض‬
‫إرادتني‪ ،‬وهو سبحانه حيب ما حيبه عبده‪ ،‬ويكره ما يكرهه‪ ،‬وهو يكره املوت فهو يكرهه كما قال (وأنا أكره‬
‫ترددا‪ ،‬مث بني أنه البد من وقوع‬
‫مساءته) وهو سبحانه قد قضى باملوت‪ ،‬فهو يريد له أن ميوت‪ ،‬فسمى ذلك ً‬
‫ذلك(‪.)5‬‬

‫‪1‬‬
‫() حسن‪ ،‬رواه الطرباين يف الكبري وقال إسناده حسن وقال عنه اهليثمي‪ :‬رجاله ثقات‪ ،‬وحسنه‪ ،‬األلباين يف صحيح الرتغيب‬
‫والرتهيب (‪.)624‬‬
‫‪2‬‬
‫() صحيح اجلامع الصغري (‪.)8102‬‬
‫‪3‬‬
‫() صحيح اجلامع (‪.)5077‬‬
‫‪4‬‬
‫() رواه البخاري (‪.)6502‬‬
‫‪5‬‬
‫() التحفة العراقية‪.43 /‬‬

‫‪27‬‬
‫فرحه – سبحانه – بتوبة العاصين‬
‫بعيدا عن أبيه‪ ،‬وسار يف طريق الفساد‪ ،‬مث عاد إىل رشده وارمتى يف حضن‬
‫أرأيت لو أن ابنًا قد شرد ً‬
‫أبيه‪ ,‬أي فرحة يكون عليها األب يف هذا الوقت؟!‬

‫هذه الفرحة ال تساوي شيئًا جبوار فرحته سبحانه بتوبة عبد من عباده مهما أسرف يف ذنبه وجلَّ يف‬
‫طغيانه‪.‬‬

‫تأمل معي احلديث الذي يؤكد فيه صلى اهلل عليه وسلم هذا املعىن بقوله‪:‬‬
‫فرحا بتوبة عبده من رجل كان في سفر‪ ،‬في فالة من األرض فأوى إلى ظل‬ ‫«واهلل‪ ،‬هلل أشد ً‬
‫شجرة فنام تحتها‪ ،‬واستيقظ فلم يجد راحلته‪ ،‬فأتى شرفًا فصعد عليه‪ ،‬فلم ير شيئًا‪ ،‬ثم أتى آخر‪،‬‬
‫فأشرف فلم ير شيئًا‪ ،‬فقال‪ :‬أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه‪ ،‬فأكون فيه حتى أموت‪ ،‬فذهب‪ ،‬فإذا‬
‫فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته»(‪.)1‬‬
‫براحلته تجر خطامها‪ ،‬فاهلل أشد ً‬
‫مراده أن تدخل الجنة‬
‫عندما يقرأ املرء األخبار السابقة‪ ،‬وخباصة ما يتعلقـ بفرح اهلل عز وجل العظيم بتوبة عبد من عباده فمن‬
‫املتوقع أن تقفز إىل الذهن بعض التساؤالت عن أسباب هذا الفرح فاهلل عز وجل ال تنفعه هذه التوبة‬
‫بشيء‪ ،‬فهو الغىن احلميد‪ ,‬فلماذا هذه الفرحة إذن؟‬
‫من السهل علينا أن ندرك سر هذا الفرح عندما نتذكر أن اهلل عز وجل اختص اإلنسان لنفسه دون‬
‫مجيعا‪ ،‬وأنه يريد منه أن ينجح يف امتحان العبودية ليُدخله اجلنة‪ ,‬فمراده سبحانه من مجيع البشر‬ ‫خلقه ً‬
‫ْجن َِّة َوال َْم ْغ ِف َر ِة بِِإ ْذنِِه‪[ ‬البقرة‪.]221 :‬‬
‫دخول جنته ‪َ ‬واهللُ يَ ْدعُو إِلَى ال َ‬
‫خصيصا هلم‪ ،‬وجعل لكل منهم فيها جزءًا‬ ‫ً‬ ‫مراده أن يعود اجلميع إليه ليكرمهم وينعمهم يف دار أعدها‬
‫مقسوم ا‪ ،‬وهو سبحانه يريد لكل منهم أن ينال نصيبه يف تلك الدار‪ ،‬ويتبوأ منزله فيها ‪َ ‬واهللُ يَ ْدعُو إِلَى َدا ِر‬
‫ً‬
‫ادهِ‬
‫ضى لِ ِعب ِ‬ ‫السالَِم‪[ ‬يونس‪ ]25 :‬ويف نفس الوقت فهو ال يريد أن يُدخل ً‬
‫أحدا من عباده النار ‪َ ‬والَ َي ْر َ َ‬ ‫َّ‬
‫الْ ُك ْف َر‪[ ‬الزمر‪.]7 :‬‬
‫هذا األمر ينطبق على مجيع البشر يف مشارق األرض ومغارهبا‪ ،‬ويف كل العصور واألزمان‪ ..‬عباد‬
‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫الصليب‪ ..‬عباد البقر‪ ..‬امللحدين والوثنيني‪ ..‬كل هؤالء يريد اهلل منهم أن يدخلوا اجلنة‪ ،‬ويكفيك يف هذا‬
‫أنه سبحانه وتعاىل ميهل هؤالء وغريهم من الكافرين‪ ،‬ويعطيهم الفرصة تلو الفرصة‪ ,‬مع قدرته املطلقةـ‬
‫عليهم وإحاطته التامة هبم‪ ،‬فلو شاء أن يهلكم ألي ذنب يفعلونه ألهلكهم‪ ،‬لكنه ال يفعل‪ ،‬بل حيلم ويصرب‬
‫وميهل لعلهم ينتبهون من غفلتهم‪.‬‬
‫معىن ذلك أنه ما من واحد يدخل النار إال ألنه يأىب ويصر على أال يدخل اجلنة كما قال صلى اهلل‬
‫ْجنَّة إالَّ َم ْن أَبَى»(‪.)1‬‬ ‫ِ‬
‫عليه وسلم‪ُ « :‬ك ُّل أ َُّمتي يَ ْد ُخلُو َن ال َ‬
‫نعم‪ ،‬هذه هي احلقيقة اليت يغفل عنها البشر « كلكم يدخل الجنة إال من شرد على اهلل شراد البعير‬
‫على أهله»(‪.)2‬‬
‫ومثال ذلك ما حدث ألصحاب القرية اليت كذبت الرسل فأصاهبم العذاب بعد طول إمهال ليأيت‬
‫التعقيب القرآين ليؤكد أهنم هم الذين أبوا إال العذاب ‪‬يا حسر ًة َعلَى ال ِْعب ِ‬
‫اد َما يَأْتِي ِهم ِّمن َّر ُس ٍ‬
‫ول إِالَّ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َْ‬
‫َكانُوا بِ ِه يَ ْسَت ْه ِزئُو َ‬
‫ن‪[‬يس‪.]30:‬‬

‫أحب العباد إلى اهلل‬


‫وأهم صور اإلباء واإلصرار على عدم دخول اجلنة عدم االعرتاف باهلل‪ ،‬ربًا وخال ُقا ورازقًا‪ ،‬وإهلًا‬
‫معبودا‪ ،‬أو إشراك أحد معه يف ذلك‪.‬‬
‫ً‬
‫فالشرك أ و الكفر ظلم عظيم يظلم فيه العبد احلقيقة العظيمة‪ ،‬حقيقة التوحيد اليت قامت عليها‬
‫عظيما‪ ،‬فريتد إىل أسفل السافلني‪ ،‬ومع ذلك يظل الباب‬
‫السماوات واألرض‪ ،‬ومن َّثم يهون على اهلل هوانًا ً‬
‫مفتوح ا للجميع للتوبة والعودة إليه سبحانه قبل فوات األوان‪ ،‬بل إنه سبحانه وتعاىل جعل أحب خلقه إليه‬
‫ً‬
‫من حُي بب الناس فيه‪ ،‬ويدعوهم للعودة إليه وإىل طاعته كي يدخلهم اجلنة‪.‬‬

‫ناسا ما هم بأنبياء وال شهداء يغبطهم األنبياء والشهداء‬


‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إني ألعرف ً‬
‫بمنزلتهم عند اهلل سبحانه يوم القيامة‪ ،‬الذين يحبون اهلل ويحببونه إلى خلقه‪ ،‬يأمرونهم بطاعة اهلل فإذا‬
‫أطاعوا اهلل أحبهم اهلل» (‪.)3‬‬

‫‪1‬‬
‫() صحيح البخاري ج (‪.)6737‬‬
‫‪2‬‬
‫() صحيح اجلامع (‪.)4570‬‬
‫‪3‬‬
‫() أورده اهليثمي يف جممع الزوائد ‪.1/126‬‬

‫‪29‬‬
‫فاهلل عز وجل يبغض الشرك والكفر الذي تلبَّس باملشركني الكفار‪ ،‬ولكنه سبحانه يريد أن يتوب‬
‫عليهم‪ ،‬ويدخلهم اجلنة بينما هم يأبون‪ ،‬لذلك فإنه سبحانه َّ‬
‫رغب عباده املؤمنني بدعوة هؤالء وحتبيبهم فيه‬
‫علَّهم يفيقون من غفلتهم‪ ،‬ويعودون إىل رهبم‪.‬‬
‫ِِ‬
‫ف‪‬‬ ‫تأمل قوله تعاىل الذي يتفجر إشفاقًا ورمحة‪ :‬قُل للَّذ َ‬
‫ين َك َف ُروا إِن يَ َنت ُهوا ُيغََف ْر ل َُه ْم َّما قَ ْد َسلَ َ‬
‫َجرهُ حتَّى يسمع َكالَم ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اهلل ثُ َّم‬ ‫استَ َج َار َك فَأ ْ َ َ ْ َ َ َ‬ ‫ين ْ‬ ‫[األنفال‪ .]38 :‬وتأمل كذلك قوله‪َ  :‬وإِ ْن أ َ‬
‫َح ٌد ِّم َن ال ُْم ْش ِرك َ‬
‫أَبْلِ ْغهُ َمأ َْمنَهُ َذلِ َ‬
‫ك بِأ ََّن ُه ْم َق ْو ٌم الَّ َي ْعلَ ُمو َن‪[ ‬التوبة‪.]6 :‬‬

‫أشد ما يغضبه‪:‬‬
‫ومع فرحه سبحانه بتوبة عبد من عباده الضالني‪ ،‬ومع حبه اخلاص ملن حيبب الناس فيه‪ ،‬فإنه سبحانه‬
‫يغضب أشد الغضبـ ملن يُيئس الناس من بلوغ رمحته ويُنذرهم بانقطاع األمل‪ ،‬وبأنه ال مآل هلم إال النار‪.‬‬

‫وما إمهال اهلل لعباده املقصرين واملسرفني على أنفسهم‪ ،‬بل والكفار واملشركني – كما أسلفنا‪ -‬إال‬
‫ألنه سبحانه يهيئ هلم من األمور‪ ،‬ويرسل هلم من الرسائل ما قد يوقظهم من سباهتم‪ ،‬ويذكرهم برهبم‪.‬‬

‫فإذا ما جاء شخص ما وأشعر هؤالء بأن اهلل لن يغفر هلم‪ ،‬وأهنم مغضوب عليهم‪ ،‬وال أمل أمامهم‪،‬‬
‫فسيؤدي ذلك إىل قنوطهم ويأسهم من رمحة اهلل‪ ،‬ومن مثّ زيادة متاديهم يف الطغيان‪ ،‬واحنرافهم‪ ،‬وابتعادهم‬
‫عن طريق اهلدى‪ ،‬لتكون هنايتهم النار‪.‬‬

‫فإن كنت‪ -‬أخي القارئ‪ -‬يف شك من هذا فاقرأ هذا احلديث‪:‬‬


‫عن أىب قتادة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬قال اهلل تبارك وتعالى للمالئكة‪ :‬أال أخبركم‬
‫عن عبدين من بني إسرائيل أما أحدهما فيرى بنو إسرائيل أنه أفضلهما في الدين والعلم والخلق‪،‬‬
‫واآلخر يَرى أنه مسرف‪ ،‬ف ُذكر عند صاحبه‪ ،‬فقال‪ :‬لن يغفر اهلل له‪ ،‬فقال‪ :‬ألم يعلم بأني أرحم‬
‫الراحمين؟ ألم يعلم أن رحمتي سبقت غضبي؟ وإني قد أوجبت لهذا الرحمة وأوجبت لهذا العذاب‪،‬‬
‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬فال تألوا على اهلل عز وجل»(‪.)1‬‬

‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫وعن ضمضم بن َج ْوس قال‪ :‬دخلت مسجد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف طلب صاحب يل فإذا‬
‫رجل أدعج العني‪ ،‬براق الثنايا‪ ،‬فقال يل‪ :‬يا هتامي ال تقولن ألحد ال يغفر اهلل لك‪ ،‬وال يدخلك اجلنة‪ ،‬قلت‪:‬‬
‫من أنت يرمحك اهلل؟ قال‪ :‬أنا أبو هريرة‪ .‬قلت‪ :‬قد هنيتين عن شيء كنت أقوله إذا غضبت على أهل بييت‬
‫وحشمي‪ ،‬قال‪ :‬فال تفعل فإين مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪« :‬كان رجالن من بني‬
‫إسرائيل فكان أحدهما به رهق‪ ،‬واآلخر عاب ًدا‪ ،‬فكان ال يزال يقول له‪ :‬أال تكف‪ ،‬أال تقصر‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫يوما فإذا هو على كبيرة‪ ،‬فقال‪ :‬واهلل ال يغفر اهلل لك‪ ،‬واهلل‬
‫ما لي ولك دعني وربي‪ .‬قال‪ :‬فهجم عليه ً‬
‫ال يدخلك الجنة‪ ،‬فبعث اهلل إليهما مل ًكا فقبض أرواحهما‪ ،‬فلما قدما بهما على اهلل عز وجل قال‬
‫قادرا على ما تحت‬
‫للمذنب‪ :‬ادخل الجنة برحمتي‪ ،‬وقال للعابد‪ :‬حظرت على عبدي رحمتي‪ ،‬أكنت ً‬
‫يدي؟ انطلقوا به إلى النار»‪.‬‬

‫قال أبو هريرة‪ :‬والذي نفسي بيده لقد تكلم كلمة أوبقت دنياه وآخرته(‪.)1‬‬
‫المرحلة األخيرة‬
‫فرصا عظيمة للتوبة والرجوع إليه وذلك طيلة‬‫وألنه سبحانه يريد من عباده دخول اجلنة‪ ،‬فقد أتاح هلم ً‬
‫حياهتم يف الدنيا‪ ،‬وال يقتصر األمر على ذلك‪ ،‬بل وعند مماهتم كذلك طاملا أهنم مل يهتكوا السرت بالكفر أو‬
‫الشرك ‪ ،‬فقد أعطى عباده املوحدين أشياء تساعدهم على حمو السيئات وزيادة احلسنات‪.‬‬

‫ومن ذلك أنه تصدق عليهم بثلث أمواهلم اليت يرتكوهنا كوصية يتصرفون فيها كيفما شاءوا‪ ،‬فإن كان‬
‫املال الذي حبوزهتم سيئول إىل ورثتهم‪ ،‬إال أن هلم أن يوصوا بثلثه فيما يريدونه من أبواب اخلري‪.‬‬

‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن اهلل تعالى تصدق عليكم عند وفاتكم بثُلث أموالكم‪ ،‬وجعل ذلك‬
‫زيادة لكم في أعمالكم»(‪.)2‬‬

‫وحث سبحانه عباده املسلمني – على لسان رسوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ -‬الصالة على امليت ليكون‬
‫دعاؤهم سببًا من أسباب تكفري سيئاته‪ ،‬ورفع درجاته وإنزال الرمحة عليه‪.‬‬

‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من تبع الجنازة وصلى عليها‪ ،‬فله قيراط‪ ،‬ومن تبعها حتى يُفرغ منها‬

‫‪1‬‬
‫() رواه أبو داود (‪.)4901‬‬
‫‪2‬‬
‫() حسن صحيح اجلامع (‪.)1733‬‬

‫‪31‬‬
‫فله قيراطان‪ ,‬أصغرهما مثل أحد‪ ،‬أو أحدهما مثل أحد»(‪.)1‬‬
‫وحثهم على الدعاء له بالتثبيت عند دفنه «ادعوا ألخيكم فإنه اآلن يسأل»(‪.)2‬‬
‫وليس هذا فحسب‪ ،‬بل جعل هناك أعماال جيري على املسلم ثواهبا بعد موته كدعاء الولد الصاحل‪،‬‬
‫وكالعلم النافع‪ ،‬وكالصدقة اجلارية‪.‬‬

‫علما نشره‪،‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته‪ ،‬بعد موته‪ً ،‬‬
‫نهرا أجراه‪ ،‬أو‬
‫ورثه‪ ،‬أو مسج ًدا بناه‪ ،‬أو بيتًا البن السبيل بناه‪ ،‬أو ً‬
‫صالحا تركه‪ ،‬ومصح ًفا َّ‬
‫ً‬ ‫وول ًدا‬
‫صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته‪ ،‬تلحقه بعد موته»(‪.)3‬‬

‫أهل المظالم‪:‬‬
‫وإن أردت أن تتأكد – أخي القارئ – أكثر وأكثر بأن مراد اهلل عز وجل هو دخول مجيع عباده‬
‫املوحدين اجلنة فاقرأ هذا احلديث‪:‬‬

‫جالسا إذ رأيناه ضحك حىت بدت نواجذه‬


‫عن أنس بن مالك قال‪ :‬بينما النيب صلى اهلل عليه وسلم ً‬
‫فقال عمر‪ :‬ما أضحكك يا رسول اهلل بأيب أنت وأمي؟‬

‫قال‪« :‬رجالن من أمتي جثيا بين يدي رب العزة‪ ،‬فقال أحدهما‪ :‬يا رب خذ لي مظلمتي من أخي‪،‬‬
‫قال اهلل‪ :‬أعط أخاك مظلمته‪ ،‬فيقول‪ :‬يا رب لم يبق من حسناتي‪ ،‬قال‪ :‬يا رب فليحمل عني من‬
‫أوزاري‪ ،‬ففاضت عني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالبكاء مث قال‪ :‬إن ذلك اليوم عظيم يوم يحتاج‬
‫الناس فيه إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم‪ ،‬فيقول اهلل عز وجل للمطالب‪ :‬ارفع رأسك فانظر إلى‬
‫وقصورا من ذهب مكلل باللؤلؤ‪ ،‬ألي نبي هذا؟‬
‫ً‬ ‫الجنان فرفع رأسه فقال‪ :‬يا رب أرى مدائن من فضة‬
‫ألي صدِّ يق هذا؟ ألي شهيد هذا؟ قال اهلل عز وجل‪ :‬هذا لمن أعطاني الثمن‪ .‬قال‪ :‬يا رب فمن يملك‬
‫ذلك؟ قال‪ :‬أنت تملكه‪ .‬قال‪ :‬بماذا يا رب؟ قال بعفوك عن أخيك‪ .‬قال‪ :‬يا رب قد عفوت عنه‪ .‬قال‪:‬‬
‫خذ أخاك فأدخله الجنة‪ ،‬مث قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬اتقوا اهلل وأصلحوا ذات بينكم فإن اهلل‬

‫‪1‬‬
‫() سنن أبو داود ح (‪.)2755‬‬
‫‪2‬‬
‫() سنن أبو داود ح (‪.)2804‬‬
‫‪3‬‬
‫() صحيح اجلامع (‪.)2231‬‬

‫‪32‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫يصلح بين المؤمنين يوم القيامة(‪.)1‬‬
‫فهذا يا أخي هو ربنا الذي حيبنا ويفرح بتوبتنا ويريد أن يدخلنا اجلنة‪.‬‬
‫الرحمن َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫[البقرة‪:‬‬ ‫يم‪‬‬
‫الرح ُ‬ ‫عرفنا بنفسه فقال‪َ  :‬وإِل َُه ُك ْم إِلَهٌ َواح ٌد الَّ إِلَهَ إِالَّ ُه َو َّ ْ َ ُ‬
‫هذا هو ربنا الذي َّ‬
‫‪.]163‬‬

‫***‬

‫‪1‬‬
‫() أورده اهليثمي يف جممع الزوائد ‪.354 ،10/353‬‬

‫‪33‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫مظاهر حب اهلل تعالى لعباده‬

‫‪34‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬

‫تمهي ـ ـ ـد‪:‬‬
‫كأين بك أخي القارئ تتساءل عن الدليل العملي هلذه العالقة املميزة بني اهلل سبحانه وتعاىل وبني‬
‫عباده البشر‪ ،‬بل وبينك أنت على وجه اخلصوص‪.‬‬

‫واحدا‪ ،‬بل اطلب ما شئت من األدلة فهي – بفضل اهلل – أكثر‬ ‫ال أريدك أخي احلبيب أن تطلب دليال ً‬
‫من أن حتصى‪ ،‬فمظاهر حب اهلل لعباده كثرية كثرية‪ ،‬تنتظر منا أن ننتبه إليها لنستدل من خالهلا على الرب‬
‫الودود سبحانه وتعاىل‪.‬‬

‫كل ما هو مطلوبـ أن نـُعطي عقولنا الفرصة لكي تقوم باملهمة اليت ُخلقت من أجلها‪ ..‬مهمة التعرف‬
‫على اهلل‪.‬‬

‫فبالتفكري يف مظاهر حب اهلل لعباده‪ ،‬مع االجتهاد يف جتاوب املشاعر مع هذا التفكر ستزداد املعرفة‬
‫باهلل الودود‪ ،‬وستستويل هذه املعرفة – بإذن اهلل – على اجلزء األكرب من مشاعر احلب يف القلب‪ ،‬لتظهر‬
‫الثمار الطيبة هلذا احلب بصورة تلقائية ودون تكلف‪.‬‬

‫جوانب المعرفة‬
‫ويف الصفحات القادمة سيتم احلديث بعون اهلل عن بعض مظاهر حب اهلل لعباده‪ ،‬واملطلوب منا أن‬
‫جيد ا‪ ،‬ونعيش معها بعقولنا ومشاعرنا‪ ،‬لعلها تساهم يف إشعال جذوة حب املوىل سبحانه وتعاىل‬
‫نتفكر فيها ً‬
‫يف قلوبنا‪.‬‬

‫وستلحظ أخي القارئ أننا يف أغلبها نتوجه إليك باخلطاب ليكون ذلك أدعى الستشعار معانيها‬
‫بصورة أقرب إىل احلقيقة والواقع‪.‬‬

‫***‬

‫‪35‬‬
‫أواًل ‪ :‬من مظاهر حبه‪:‬‬
‫َس ْبق فضله عليك قب ـ ـ ــل وجودك‬
‫واملقصد من سبق الفضل‪ :‬أن فضل اهلل عز وجل علينا‪ ،‬وحبه لنا سبق وجودنا على األرض‪.‬‬
‫هذا اجلانب من أهم اجلوانب اليت من شأهنا أن تؤجج مشاعر احلب داخل القلب‪ ،‬وكيف ال ومن خالله‬
‫يكتشف الواحد منا مدى حب ربه له دون أي سبب منه‪.‬‬

‫فهيا بنا أخي القارئ نعيش يف أجواء هذ املظهر‪:‬‬


‫سبق الفضل في التكريم‬
‫شاء اهلل عز وجل أن خيلق خملوقات من العدم‪ ,‬كنت أنت من خملوقاته‪.‬‬
‫واختار من هذه املخلوقات اليت ال تعد وال حتصى خملوقًا ليختصه بنعمة العقل‪ ،‬وينفخ فيه من روحه‪,‬‬
‫آدم وحملْنَ ِ‬
‫نلت أنت هذا الشرف‪ ,‬شرف التكرمي ‪َ ‬ولََق ْد َك َّر ْمنَا بَنِي َ َ َ َ َ ُ‬
‫اه ْم في الَْب ِّر َوالْبَ ْح ِر َو َر َزقْنَ ُ‬
‫اهم ِّم َن‬
‫ضيالً‪[ ‬اإلسراء‪.]70 :‬‬ ‫اهم َعلَى َكثِي ٍر ِّم َّمن َخلَ ْقنَا َت ْف ِ‬ ‫الطَّيِّب ِ‬
‫ات َوفَ َّ‬
‫ْ‬ ‫ضلْنَ ُ ْ‬ ‫َ‬
‫عصفورا‪ ،‬أو شجرة‪ ،‬أو حبة‬
‫ً‬ ‫حجرا‪ ،‬أو‬
‫كان من املمكن أن تكون خملوقًا آخر غري اإلنسان كأن تكون ً‬
‫رمل‪ ،‬أو ‪...‬‬

‫وكرمك عليهم‪.‬‬
‫ولكنه الفضل العظيم من اهلل عز وجل الذي اجتباك على كثري من خملوقاته‪َّ ،‬‬
‫المشهد العظيم‬
‫حمددا من الذرية هتبط إىل األرض لتؤدي اختبار‬ ‫عددا ً‬ ‫قدَّر اهلل عز وجل ألبينا آدم – عليه السالم – ً‬
‫واحدا منهم ‪ ،‬وشهدت املشهد العظيم الذي أخذ اهلل فيه العهد من مجيع ذرية آدم على‬ ‫العبودية‪ ,‬كنت أنت ً‬
‫ت بَِربِّ ُك ْم قَالُوا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك ِمن بنِي َ ِ‬ ‫عبادته ‪َ ‬وإِ ْذ أ َ‬
‫آد َم من ظُ ُهو ِره ْم ذُ ِّر َّيَت ُه ْم َوأَ ْش َه َد ُه ْم َعلَى أَْن ُفس ِه ْم أَل ْ‬
‫َس ُ‬ ‫َخ َذ َربُّ َ َ‬
‫َبلَى َش ِه ْدنَا‪[‬األعراف‪.]172 :‬‬

‫‪36‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫هذا العدد الكبري الذي قدَّره اهلل لذرية آدم – عليه السالم – مل يشأ سبحانه أن يُهبطه إىل األرض‬
‫دفعة واحدة‪ ،‬بل جمموعة تلو األخرى‪ ,‬كل جمموعة تؤدي االمتحان مث ترتك األرض بعد نزع أرواحها‪،‬‬
‫انتظارا لنهاية امتحان اجلميع‪ ،‬ليتم بعدها احلساب واجلزاء‪.‬‬
‫وتبقى يف القبور ً‬
‫مل خيرت أحد من البشر املكان‪ ،‬أو الزمان‪ ،‬أو البيئة‪ ،‬أو األبوين‪ ،‬أو الشكل الذي ستحل روحه فيه‪،‬‬
‫أحدا من الناس‪ ،‬فبالعقل‬
‫ويؤدي من خالله االمتحان‪ ،‬مع األخذ يف االعتبار بأن اهلل عز وجل مل يظلم ً‬
‫والفطرة يستطيع املرء يف أي زمان ومكان االستدالل على وحدانية اهلل‪ ،‬وكذلك فإن الرسل والكتب‬
‫السماوية اليت أنزهلا اهلل عز وجل تبني للناس املطلوب منهم‪ ،‬ولكن بال شك أن نزولك إىل األرض يف هذا‬
‫الزمان وهذا املكان الذي حنيا فيه له مميزات ضخمة تدل على سبق ٍ‬
‫فضل واجتباء عظيم من اهلل لك‪.‬‬

‫سبق فضل الزمان‬


‫هيا بنا نُطلق خليالنا العنان‪ ،‬وليتخيل كل منا أنه قد ولد يف زمان آخر غري الزمان الذي ُولد فيه‪.‬‬
‫ختيل أنك قد ُولدت يف زمان قوم لوط‪ ،‬لتجد نفسك – عافاك اهلل – من أبناء أسرة تقرتف أسوأ‬
‫أنواع الفاحشة والعياذ باهلل ‪ ..‬ماذا كنت ستفعل؟!‬
‫أال توافقين أنه اختبار ٍ‬
‫قاس كان عليكـ اجتيازه‪ ،‬وأن نسبة جناحك فيه ال شك ضعيفة؟!‬
‫ختيل لو أنك وجدت نفسك ابنًا من أبناء قوم فرعون أو عاد أو مثود‪ ،‬أو من أبناء القرامطة أو أحد‬
‫الفرق الضالة اليت ظهرت يف فرتة من فرتات التاريخ اإلسالمي‪.‬‬

‫ختيل أنك قد ولدت يف زمن التتار‪ ،‬أو حماكم التفتيش ماذا كنت ستفعل؟!‬
‫أال ترى يف جتنيبك كل ذلك عظيم حب ربك لك‪ ،‬وسبق فضله عليك أن أوجدك يف هذا الزمان‪.‬‬
‫تيسر الحياة‬
‫تيسر احلياة‪ ،‬فلو كنت قد ُولدت منذ بضع قرون يف نفس‬‫ومما يلحقـ بنعم سبق الفضلـ يف الزمان‪ُّ :‬‬
‫املكان الذي حتيا فيه اآلن‪ ..‬ختيل مدى صعوبة احلياة يف ذلك الوقت ‪ ..‬ال كهرباء ‪ ..‬ال دورات مياه ‪ ..‬ال‬
‫سيارات ‪ ..‬أو طائرات‪ ..‬ال وسائل اتصال ‪ ..‬ال عمليات جراحية ‪.‬‬

‫ختيل أنك يف هذا الزمان أصبت بضعف يف النظر ماذا كنت ستفعل؟ـ أتدري حجم الصعوبات اليت‬

‫‪37‬‬
‫كنت ستواجهها بنظرك الضعيف؟‬
‫ختيل أماكن قضاء احلاجة اليت كانت تبعد عن مساكنـ الناس ‪ ..‬وختيل حجم اجلهد والوقت واملخاطر‬
‫اليت تواجه من يريد قضاء حاجته خباصة يف ليايل الشتاء الباردة واألجواء املتقلبة‪.‬‬

‫ختيل نفسك تريد السفر إىل مكة أو املدينة ‪ ..‬كم من األيام كنت ستقضيها على ظهر بعريك لتصل‬
‫إىل مقصودك؟! ختيل ‪ ..‬ختيل‪.‬‬

‫سبق فضل المكان‬


‫هذا بالنسبة لنعم سبق الفضلـ يف الزمان‪ ،‬ولكن هب أنك قد ولدت يف هذا الزمان بالفعل‪ ،‬ولكن يف‬
‫مكان آخر غريالذي حتيا فيه اآلن‪ ،‬ختيل أنك ُولدت يف أدغال أفريقيا‪ ،‬أو يف اإلسكيمو‪ ،‬أو يف أماكن‬
‫الفيضانات أو الزالزل‪ ،‬أو األعاصري‪ ،‬أو الرباكني‪.‬‬

‫ختيل أنك قد ولدت يف أماكن الفنت واالضطهاد للمسلمني كرتكستان وكشمري والفلبني وبورما‪..‬‬
‫ماذا عساك أن تفعل؟!‬

‫إن هؤالء املضطهدين شاء اهلل عز وجل هلم أن يكونوا يف هذه األماكن ليؤدوا امتحان عبوديتهم هلل‬
‫َج َر ُه ْم بِغَْي ِر‬
‫الصابُِرو َن أ ْ‬
‫خباصة يف مادة الصرب‪ ،‬وجزاؤهم عظيم إذا اجتازوا هذا االمتحان ‪‬إِنَّ َما ُي َوفَّى َّ‬
‫اب‪[ ‬الزمر‪ ]10 :‬ولكنه بال شك امتحان ٍ‬
‫قاس عصمكـ اهلل منه‪.‬‬ ‫ِحس ٍ‬
‫َ‬
‫الوالدان‬
‫ختيل أنك ولدت يف هذا الزمان‪ ،‬ولكن ألبوين نصرانيني أو يهوديني أو بوذيني أو ملحدينـ أو‬
‫شيوعيني أو هندوسيني‪ ..‬ماذا كنت ستفعل؟!‬

‫ماذا كنت ستفعل عندما ترى أبويك يسجدان للبقرة‪ ،‬أو للصليب؟! أكنت ستُعمل عقلكـ وتستنفر‬
‫سليم فطرتك كما أمرك اهلل‪ ،‬وكما حدث من القليل منهم‪ ،‬أم كنت ستسري على خطى األغلبية؟!‬

‫امتحان رهيب عصمكـ اهلل منه‪ ،‬بأن خلقك ألبوين مسلمني ‪ ..‬أليس كذلك؟!‬
‫مث ختيل أنك كما أنت ُولدت يف هذا الزمان واملكان والديانة ولكنك وجدت أباك يعمل يف مهنة خملة‬

‫‪38‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫جبارا من اجلبابرة؟!‬
‫بالشرف‪ ..‬أو وجدته ً‬
‫ختيل أنك ُولدت يف بيئة فجور أو أسرة مرتفة ‪ ..‬ماذا كنت ستفعل؟!‬
‫إهنا امتحانات صعبة عصمك اهلل منها دون سبب منك أو اجتهاد‪.‬‬
‫اللسان العربي‬
‫ولكن هب أنك قد ُخلقتـ من أبوين مسلمني لكنهما يتحدثان غري العربية كاللغة الفارسية أو األردية‬
‫أو اهلندية أو الصينية أو اإلجنليزية ‪ ..‬ماذا كنت ستفعل لكي تفهم القرآن وتتأثر بآياته وهو أمر واجب‬
‫عليك وليس اختياريًا؟!‬

‫نعم‪ ،‬هؤالء عليهم تعلم العربية ليفهموا القرآن ويتأثروا به‪ ،‬ولكن أال ترى يف ذلك عظيم فضلـ اهلل‬
‫عليك أن أوجدك يف بيئة تتحدث العربية‪ ،‬فال حتتاج إىل جهد عظيم لكي تفهم كتابه وسنة نبيه؟! (‪.)1‬‬

‫سبق الفضل في العافية‪:‬‬


‫تفكر مث تفكر يف مدى حب ربك لك‪ ،‬وسبق فضله عليكـ قبل أن تولد وذلك فيما سبق من جوانب‪،‬‬
‫مث تفكر يف جانب عظيم من جوانب سبق الفضل اإلهلي لك‪ ,‬أال وهو سبق الفضل يف العافية‪.‬‬

‫فلقد َّ‬
‫قد ر اهلل عز وجل أن يولد عدد من الناس وهبم عيوب خلقية يف القلب‪ ،‬أو قصور يف املخ‪ ،‬أو‬
‫خلل يف األطراف كامتحان هلم من ناحية‪ ،‬وإلظهار نعمته على املعافني من ناحية أخرى‪ ،‬ومع ذلك‪ ,‬مل‬
‫تكن أنت – بفضل اهلل – منهم‪.‬‬

‫بال شك أن هذا النقص الذي ابتُلى به هؤالء حيتاج منهم إىل صرب واحتساب لينجحوا يف اختبارهم‪،‬‬
‫ولكن أال ترى عظيم فضلـ ربك عليك أن اختارك فألبسك ثوب العافية ترفل فيه؟!‬

‫كلمة ال بد منها‪:‬‬
‫ليس معىن وجود نقص عند إنسان يف أحد األمور اليت ذكرت أو غريها دليل على عدم حب اهلل عز‬

‫‪1‬‬
‫() اعلم أخي احلبيب أنه كلما زادت النعم على العبد زاد املطلوب من الشكر‪ ،‬وجوهر الشكر هو الشعور باالمتنان جتاه اهلل‬
‫عز وجل بالقلب‪ ،‬واالعرتاف بفضله وكثرة محده باللسان‪ ،‬واستخدام هذه النعمة يف طاعته والتواضع هبا خللقه باجلوارح‪،‬‬
‫فالذي جيد نفسه حماطا مبا سبق ذكره من نعم مث ال يشكر ربه عليها انقلبت النعمة يف حقه نقمة‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫دارا للجزاء والنعيم كي‬
‫مجيعا أن الدنيا ليست ً‬‫وجل له‪ ،‬بل هو عني احلب ولكن من جانب آخر‪ ،‬ولنعلم ً‬
‫يظن البعض هذا الظن‪ ،‬ولو يدري أهل العافية ما أعده اهلل ألهل البالء الصابرين يف اآلخرة لتمنوا أهنم‬
‫كانوا مثلهم‪.‬‬

‫إن النقص والبالء الذي يصيب املرء ليس إهانة بل امتحان على صاحبه أن جيتازه‪ ،‬وكذلك فإن العطاء‬
‫أيضا‪ ،‬فإن ظن املرء أن العطاء تفضيل ذايت لشخصه دون مقابل فإن هذا‬
‫والفضل ليس كرامة بل امتحان ً‬
‫العطاء يصبح وباال عليه كما حدث مع فرعون وقارون وصاحب اجلنتني‪.‬‬

‫أحدا منهم‬
‫مجيعا ويريد هلم اخلري‪ ،‬فإن اختص ً‬
‫واحلقيقة اليت ال مرية فيها أن اهلل عز وجل حيب عباده ً‬
‫بشيء فهو سبحانه يريد من وراء ذلك أن يشكره عليها‪ ،‬وأن ينفع عباده به كما جاء يف احلديث‪« :‬إن هلل‬
‫أقوام ا يختصهم بالنعم لمنافع العباد‪ ،‬ويقرهم فيها ما بذلوها‪ ،‬فإذا منعوها نزعها منهم فحولها‬
‫تعالى ً‬
‫إلى غيرهم»(‪.)1‬‬

‫***‬

‫‪1‬‬
‫() صحيح اجلامع الصغري‬

‫‪40‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬

‫ثانيًا‪ :‬من مظاهر حب اهلل لك‪:‬‬


‫هدايته وعصمته ودوام عافيت ـ ــه‬
‫خلصنا مما سبق أنه قبل أن تولد وخترج إىل الدنيا اختارك اهلل عز وجل لتكون من خملوقاته‪ ،‬وأكرمك‬
‫واحدا من بين آدم‪ ،‬واختارك هلذا الزمان ابنًا ألبوين مسلمني ناطقني بالعربية‪.‬‬
‫أكثر وأكثر فجعلكـ ً‬
‫أحل روحك يف شكل مناسب‪ ،‬وعافاك من كثري من األمراض اخلِلقية قبل أن تبدأ رحلتك على‬
‫َّ‬
‫األرض‪.‬‬

‫واستمر فضله عليك حىت يومك هذا‪...‬‬


‫استمر فضله يف نعمة العافية‪ ،‬فقد حفظك طيلة سنوات عمرك املاضية من اإلصابة بأمراض كثرية‪ ،‬وإذا‬
‫ما أردت أن تعرف حجم هذا احلفظ‪ ،‬فتأمل كل صاحب مرض قد عافاك اهلل منه‪.‬‬

‫مئات بل آالف األمراض اليت تصيب أجهزة اجلسم وأعضاءه املختلفة قد عافاك اهلل منها‪.‬‬
‫أمراضا‬
‫ً‬ ‫لو علمت عدد الفريوسات والكائنات الدقيقة ومسببات األمراض اليت حتيط بنا‪ ،‬وتسبب‬
‫شاكرا هلل عز وجل على‬
‫خطرية‪ ،‬واليت ال مينعها من مهامجتنا إال اهلل عز وجل‪ ،‬هلرعت إىل السجود الطويل ً‬
‫حفظه لك طيلة هذه السنني‪ ،‬ولسألته دوام ومتام العافية‪.‬‬
‫هدايته لك‬
‫أخي القارئ‪ ,‬يا من أكرمك اهلل عز وجل باإلميان‪.‬‬
‫أتدري ما الذي حدث معك لتكون من أهل املساجد‪ ،‬بل من أهل الصالة أصال‪ ،‬ومن أهل الصيام‬
‫والذكر والصدقة وفعل اخلري؟!‬

‫لقد حبب اهلل إىل قلبك اإلميان‪ ،‬وشرح له صدرك‪ ،‬وكره إليك طريق الضالل والغي‪ ،‬ولو أردت أن‬
‫تدرك حجم هذه النعمة العظيمة فتأمل أقرانك وجريانك‪ ،‬وزمالء دراستك‪.‬‬

‫كم واحد منهم مثلك يف تدينك والتزامك؟!‬


‫ض ُل‬
‫من اهلل به عليك ‪َ ‬ول َْوالَ فَ ْ‬
‫يدا يف ذلك؟! ال واهلل‪ ،‬بل هو حمض الفضل اإلهلي الذي َّ‬
‫أتظن أن لك ً‬
‫‪41‬‬
‫اهلل َعلَي ُكم ورحمتُهُ ما َز َكا ِمن ُكم ِّمن أَح ٍد أَب ًدا ول ِ‬
‫َك َّن اهللَ ُي َز ِّكي َمن يَ َ‬
‫شاءُ‪[ ‬النور‪.]21 :‬‬ ‫ِ‬
‫ْ َ َ َ‬ ‫ْ ْ ََ َْ َ‬
‫إن كل صالة صليتها كان اهلل سبحانه سببًا يف أدائك إياها‪.‬‬
‫فقد كان من املمكن أال جتد يف نفسك مهة وال عزمية للقيام هبا‪ ،‬بل فتور وتكاسل‪.‬‬
‫كان من املمكن أن يصيبك شيء يقعدك‪ ،‬ويعيقك عن أدائها‪.‬‬
‫كان من املمكن أن يأتيك من يشغلك عنها‪ ,‬يأتيك اتصال هاتفي طويل‪ ،‬أو حتدث مشكلة تتدخل‬
‫حللها أو ‪...‬‬

‫كان من املمكن أن تذهب إىل أدائها فال يطاوعك لسانك على الذكر‪ ،‬وال أعضاؤك على احلركة‪.‬‬
‫هذه هي احلقيقة‪ ،‬فالذي مكنك من هذا كله وأزال عنك العوائق وشرح صدرك ألدائها هو ربك‬
‫الودود‪ ،‬فليس بينك وبني ترك الصالة إال أن يرتكك اهلل عز وجل لنفسكـ وحبها الدائم للراحة وكرهها‬
‫املعهود للتكليف‪.‬‬

‫وكن على يقني بأن الفضلـ اإلهلي حيدث مع كل صالة تصليها‪ ،‬وكل صوم تصومه‪ ،‬وكل صدقة‬
‫ت فَبِما ي ِ‬ ‫ِ‬
‫وحي إِل َّ‬
‫َي َربِّي‪[ ‬سبأ‪.]50 :‬‬ ‫تتصدق هبا‪ ،‬وكل تسبيحة تسبحها ‪َ ‬وإِن ْاهتَ َديْ ُ َ ُ‬
‫العصمة‬
‫أما عن مظاهر حب ربك لك يف جانب العصمة من الفجور والكفر فمن الصعبـ إدراك أبعادها‪،‬‬
‫ويكفيك يف ذلك أن كل معصية حتدث على وجه األرض من كفر واستهزاء بالدين‪ ،‬وإحلاد‪ ،‬وسرقة‪ ،‬وزنا‪،‬‬
‫و تعامل بالربا‪ ،‬وأكل أموال الناس بالباطل‪ ،‬وغش‪ ،‬وخداع‪ ،‬ورشوة‪ ،‬وعقوق للوالدين‪ ،‬و‪....‬‬

‫كرهكـ فيها‪ ،‬وصرف ذهنك عنها‪،‬‬


‫كل هذه املعاصي وغريها ال مينعك من القيام هبا سوى ربك الذي َّ‬
‫وأبعدك عن طريقها‪ ،‬وأبعدها عن طريقك‪.‬‬

‫فإن قلت‪ :‬وهل من املمكن أن أفعلـ ذلك وأنا مل أقرتف شيئًا منها طيلة حيايت‪ ،‬ومل أفكر فيها؟‬
‫نعم أخي‪ ،‬من املمكن أن يفعلها أي واحد منَّا لو تركه اهلل عز وجل ومل يعصمه منها‪ ،‬فال يوجد يف‬
‫البشر من يستعصي على فعل املعصية – صغرية أو كبرية – وذلك لطبيعة النفس البشرية األمارة بالسوء‬

‫‪42‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫ووجود الشيطان الذي يوسوس ويزين للنفس فعل املعاصي‪.‬‬
‫اجنُْبنِي َوبَنِ َّي أَن َّن ْعبُ َد‬
‫فإن كنت يف شك من هذا فتأمل معي دعاء إبراهيم عليه السالم لربه ‪َ ‬و ْ‬
‫ام‪[ ‬إبراهيم‪ . ]35 :‬وكذلك يوسف الصديق عليه السالم عندما استجار بربه ليصرف عنه فعل السوء‬ ‫األصنَ َ‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‪[ ‬يوسف‪.]33 :‬‬
‫ْجاهل َ‬‫ب إِل َْي ِه َّن َوأَ ُكن ِّم َن ال َ‬
‫َص ُ‬
‫ف َعنِّي َك ْي َد ُه َّن أ ْ‬ ‫‪َ ‬وإِالَّ تَ ْ‬
‫ص ِر ْ‬

‫فماذا تقول لربك بعد ذلك؟!‬


‫ماذا تقول ملن عصمكـ من الكفر والفسوق والعصيان؟!‬
‫ماذا تقول ملن اجتباك وهداك إىل صراطه املستقيم؟!‬
‫أال ينبغي لنا أن نردد – بيقني – ما كان يقوله رسولنا صلى اهلل عليه وسلم لربه يف صباح كل يوم‪ :‬وإنك‬
‫إن تكلني إلى نفسي تكلني إلى ضعف‪ ،‬وعورة‪ ،‬وذنب وخطيئة‪ ،‬وإني ال أثق إال برحمتك(‪ .)1‬ونقول‪:‬‬
‫ْح ْم ُد ِهلل الَّ ِذي َه َدانَا لِ َه َذا َو َما ُكنَّا لَِن ْهتَ ِد َي ل َْوالَ أَ ْن َه َدانَا اهللُ‪[ ‬األعراف‪.]43 :‬‬
‫‪‬ال َ‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() حسن‪ ،‬رواه أمحد والطرباين واحلاكم‪ ،‬وقال صحيح اإلسناد‪ ،‬وحسنه األلباين يف صحيح الرتغيب والرتهيب ح (‪.)657‬‬

‫‪43‬‬
‫ثالثًا‪ :‬من مظاهر حب اهلل لك‪:‬‬

‫قيامه على شئونك‬


‫شخص ا ما يقوم برعايتك باستمرار‪ ،‬ويدير كل شئونك‪ ..‬يأتيك بالطعام والشراب‬
‫ً‬ ‫ختيل معي لو أن‬
‫وسائر ما حتتاج‪.‬‬

‫تريد املاء فتجده يسارع بإحضاره‪ ،‬وسقايته لك‪.‬‬


‫تريد الطعام فيشرتيه ويطهيه ويناولك إياه‪ ،‬بل يطعمك بنفسه‪.‬‬
‫حيمل عنك أغراضك‪ ،‬ويقضي لك حوائجك‪.‬‬
‫ساهرا جبوارك‪ ،‬حيرسك وحيميك‪ ،‬ويطمئن عليك‪.‬‬
‫تنام فيظل ً‬
‫شخصا يفعل معكـ ذلك كل يوم وبدون مقابل‪ ..‬ماذا ستكون مشاعرك حنوه؟!‬
‫ً‬ ‫ختيل لو أن‬
‫أليست مشاعر االمتنان واحلب هي اليت ستغمرك جتاهه؟!‬
‫فإن كان من الطبيعي أن تتملكك هذه املشاعر جتاه من يتوىل رعايتك يف بعض جوانب حياتك‪ ،‬فماذا‬
‫ينبغي أن تكون مشاعرك جتاه من يتوىل القيام على مجيع شئونك منذ أن ولدت وحىت يومنا هذا‪ ..‬وحىت‬
‫حلظتك هذه؟!‬

‫ال حول وال قوة إال باهلل‬


‫لقد خلقنا اهلل عز وجل من العدمـ وجعل لنا السمع واألبصار واألفئدة واألطراف واألجهزة املختلفة‬
‫كأسباب تتيسر لنا من خالهلا احلياة بال منغصات‪.‬‬

‫هذه األسباب ال متلك يف نفسها القدرة الذاتية على القيام بوظائفها املختلفة‪ ،‬فالعضالت‪ -‬مثال‪-‬‬
‫خلقها اهلل عز وجل ولديها القابلية لالنقباض واالنبساط‪ ،‬لكن الذي ميدها بالفاعلية والقدرة على ذلك هو‬
‫اهلل سبحانه وتعاىل‪ .‬يف كل حلظة وطرفة عني ميدها سبحانه مبا يكفل هلا القيام بوظيفتها ولو ختلى عنها‬
‫طرفة عني ملا انقبضت‪ ،‬وال انبسطت‪ ،‬فإذا أردت الضحك ال تطاوعك عضالت فمك فيما تريد ألهنا بدون‬

‫‪44‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫ك َوأَبْ َكى‪[ ‬النجم‪.]43 :‬‬ ‫املدد اإلهلي تبقي عاجزة ‪َ ‬وأَنَّهُ ُه َو أَ ْ‬
‫ض َح َ‬
‫حرك َّ‬
‫وسكن‪.‬‬ ‫هذه هي احلقيقة فهو سبحانه الذي أضحك وأبكى‪ ،‬وهو الذي أقام وأقعد‪ ،‬وهو الذي َّ‬
‫نعم‪ -‬أخي القارئ‪ -‬ال قيمة ألحد منا بدون اهلل‪ ،‬وكيف ال وكل خلية تعمل يف جسمك فإن ربك‬
‫هو القائم عليها‪ ،‬وعلى تدبري شئوهنا‪.‬‬

‫القلب يتعاهده وحيفظه ويتوىل ضبط سرعة ضخه للدم‪.‬‬


‫اللقمة اليت تأكلها يف فمك يتوىل سبحانه وتعاىل عملية تسيريها وهضمها وامتصاص النافع منها‪،‬‬
‫وإخراج ما ينبغي إخراجه‪.‬‬

‫الن َف س الذي تتنفسه يتوىل سبحانه عملية دخوله إىل الرئتني وأخذ مادة األكسجني منه وإخراجه حممال‬
‫َ‬
‫بثاين أكسيد الكربون‪.‬‬

‫مجيعا ويتوىل أمر حفظهم وإمدادهم بالقدرة‬


‫ال ُكلية يعمل هبا حوايل مليون جهاز ترشيح يقوم عليهم ً‬
‫على تنقية الدم والسوائل مرات ومرات يف اليوم الواحد‪.‬‬

‫يقوم سبحانه على اجلهاز العصيب واإلحساس‪ ,‬وعلى اجلهاز املناعي‪ ،‬وعلى الغدد وما تفرزه من‬
‫دوما إىل ضبط نسبها الدقيقة يف الدم‪.‬‬
‫هرمونات حتتاج ً‬
‫قائم على الدم‪ ،‬وضبط درجة سيولته يف كل حلظة‪ ،‬فلو زادت حلدث النزيف ولو نقصت لكانت‬
‫اجللطاتـ والعياذ باهلل‪.‬‬

‫يتوىل سبحانه أمر إبصارك بالعني‪ ،‬ومساعك باألذن‪ ،‬ونطقك باللسان‪.‬‬


‫الس َم ِاء‬
‫اح ل ََواقِ َح فَأَْن َزلْنَا ِم َن َّ‬
‫الريَ َ‬
‫ميدك باملاء وميكنك من شربه‪ ،‬وميده بالقدرة على إروائك ‪َ ‬وأ َْر َسلْنَا ِّ‬
‫ِ ِ‬
‫َس َق ْينَا ُك ُموهُ َو َما أَْنتُ ْم لَهُ ب َخا ِزن َ‬
‫ين‪[ ‬احلجر‪.]22 :‬‬ ‫اء فَأ ْ‬
‫َم ً‬
‫سا ُن إِلَى طَ َع ِام ِه ‪ ‬أَنَّا‬ ‫يتوىل أمر إمثار الطعام بأنواعه لتجده أمامك يف أي وقت تشاء ‪َ ‬فلْيَنظُ ِر ا ِإلنْ َ‬
‫خالً ‪‬‬ ‫ضبًا ‪َ ‬و َز ْيتُونًا َونَ ْ‬ ‫يها َحبًّا ‪َ ‬و ِعنَبًا َوقَ ْ‬ ‫ِ‬
‫ض َش ًّقا ‪ ‬فَأَْنبَْتنَا ف َ‬ ‫صبًّا ‪ ‬ثُ َّم َش َق ْقنَا األ َْر َ‬
‫اء َ‬
‫صبَْبنَا ال َْم َ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫اعا ل ُك ْم َوألَْن َعام ُك ْم‪[ ‬عبس‪.]32 -24 :‬‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َح َدائ َق غُلْبًا ‪َ ‬وفَاك َهةً َوأَبًّا ‪َ ‬متَ ً‬
‫يوحي إليك فعل اخلريات وحيببها إليك‪ ،‬ويصرف عنك فعل املنكرات ويكرهك فيها‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫جيعلك تنام لرتتاح‪ ،‬ويتوىل حفظك وأنت نائم‪ ،‬مث هو الذي يوقظك ويرد إليك روحك‪.‬‬
‫قريب منك‪ ..‬أقربـ مما تتخيل‪ ،‬جييب دعاءك إذا ناديته بصدق وطلبت منه حاجتك‪.‬‬
‫َّاع إِذَا َد َع ِ‬ ‫َك ِعب ِ‬
‫ادي َعنِّي فَِإنِّي قَ ِر ِ‬
‫ان‪[ ‬البقرة‪.]186 :‬‬ ‫يب َد ْع َوةَ الد ِ‬
‫يب أُج ُ‬
‫ٌ‬ ‫‪َ ‬وإِذَا َسأَل َ َ‬
‫ِ‬ ‫استَ ِع ْذ بِ ِ‬
‫اهلل إِنَّهُ ُهو َّ ِ‬ ‫َّك ِمن َّ ِ‬
‫يم‬
‫يع ال َْعل ُ‬
‫السم ُ‬ ‫َ‬ ‫الش ْيطَان َن ْزغٌ فَ ْ‬ ‫حيميك من نفسكـ ومن عدوك ‪َ ‬وإِ َّما َي ْن َزغَن َ َ‬
‫‪[ ‬فصلت‪.]36 :‬‬

‫حيفظ لك أوالدك وأهلك «اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في األهل»‪.‬‬


‫فماذا تقول ملن يفعل معك كل هذه األمور وغريها كل يوم ومنذ أن ولدت؟!‬
‫ماذا تقول ملن يطعمك ويسقيكـ وإذا مرضت فهو الذي يشفيك؟!‬
‫من علينا فهدانا‪ ،‬وأطعمنا‬‫طعم‪َّ ،‬‬ ‫فلرتدد معي قوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬الحمد هلل الذي يطُ ِ‬
‫عم وال يُ َ‬
‫مودع ربي‪ ،‬وال مكافأ وال مكفور وال مستغني عنه‪،‬‬ ‫وسقانا‪ ،‬وكل بالء حسن أبالنا‪ ،‬الحمد هلل غير ّ‬
‫صر‬‫الحمد هلل الذي أطعم من الطعام‪ ،‬وسقى من الشراب‪ ،‬وكسا من العُري‪ ،‬وهدى من الضاللة‪ ،‬وبَ َّ‬
‫ضل على كثير ممن خلق تفضيال‪ ،‬الحمد هلل رب العالمين»(‪.)1‬‬ ‫العمي‪ ،‬وف ّ‬
‫من َ‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() أخرجه النسائي وابن السين واحلاكم وابن حبان‪ ،‬وقال احلاكم‪ :‬صحيح على شرط مسلم‪ ،‬ووافقه الذهيب‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬

‫رابعا‪ :‬من مظاهر حبه لك‪:‬‬


‫ً‬
‫تسخي ــر الكون‪ %‬لك‬
‫مسخرا خلدمته‪ ،‬يعمل‬
‫عبد ا له‪ ،‬وسيدا ملا سواه‪ ،‬فلقد جعل الكون احمليط به ً‬ ‫اهلل عز وجل خلق اإلنسان ليكون ً‬
‫ض َع َها لِألنَ ِام‪[‬الرمحن ‪.]10 :‬‬ ‫من أجل راحته ‪ُ ‬ه َو الَّ ِذي َخلَ َق لَ ُكم َّما فِي األ َْر ِ‬
‫ض َج ِم ًيعا‪[ ‬البقرة‪َ  ]29 :‬واأل َْر َ‬
‫ض َو َ‬
‫انظر‪ -‬مثال‪ -‬إىل السماء فستجد الشمس تتحرك حركة دائبة كل يوم من املشرق إىل املغرب‪ ،‬مل ختلد‬
‫يوم ا إىل الراحة‪ ،‬وكيف تفعل ذلك وتغيب عنا وهي مأمورة بإمدادنا بالضياء والطاقة؟‬
‫ً‬
‫والقمر كذلك يتحرك حركة دائبة من أول يوم يف الشهر العريب يكون فيه هالالً يكرب يوما بعد يوم‬
‫بدر ا يضيء السماء مث يعود كما كان يف هناية الشهر فيساعدنا بذلك على معرفة األيام والشهور‬ ‫فيكون ً‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫السم ِاء ماء فَأَ ْخر ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫السماو ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ج به م َن الث ََّم َرات ِر ْزقًا ل ُك ْم َو َسخ َ‬
‫َّر‬ ‫ض َوأَْن َز َل م َن َّ َ َ ً َ َ‬ ‫ات َواأل َْر َ‬ ‫‪‬اهللُ الذي َخلَ َق َّ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ْك لِتَج ِر ِ‬
‫َّر‬
‫ين َو َسخ َ‬
‫س َوالْ َق َم َر َدائبَ َ‬ ‫َّر لَ ُك ُم َّ‬
‫الش ْم َ‬ ‫ي في الْبَ ْح ِر بأ َْم ِره َو َسخ َ‬
‫َّر لَ ُك ُم األ ْن َه َار ‪َ ‬و َسخ َ‬ ‫لَ ُك ُم الْ ُفل َ ْ َ‬
‫َّه َار‪[ ‬إبراهيم‪.]33 -32 :‬‬ ‫لَ ُك ُم اللَّْي َل َوالن َ‬
‫أنت القائد‬
‫أنت قائد هذا الكون أيها اإلنسان‪ ،‬فكل ما فيه مسخر خلدمتك‪..‬‬
‫سخرة لرتى‬
‫انظر إىل جسمك وتأمل ما فيه من جوانب التسخري واخلدمة لك أيها املكرم‪ ..‬فعينك ُم َّ‬
‫هبا ما حولك‪ ،‬ولسانك ما هو إال خادم لك لتعرِّب من خالله عما تريده‪ ،‬ويدك للبطش والكتابة‪ ،‬والتسبيح‪،‬‬
‫ورجلك للحركة والذهاب إىل‬
‫حيث تشاء‪.‬‬

‫كل هذا يتم دون اعرتاض أو متنُّع‪ ،‬بل استسالم تام وانقياد تام ألوامرك‪.‬‬
‫يوم ا يف الطعام الذي تأكله كيف تتم رحلته داخل جسمك فيحدث من خالهلا اهلضم‬
‫هل فكرت ً‬
‫واالمتصاص وإخراج الفضالت‪.‬‬

‫إن األجهزة الداخلية تعمل داخلك ليل هنار لتقوم على راحتك‪ ،‬فال جتهد ذهنك يف التفكري عن كيفية‬

‫‪47‬‬
‫عملها وماذا حيدث يف داخل الرئتني أو القلبـ أو الكبد أو‪....‬‬
‫ال تفكر يف كيفية التئام جرح من اجلروح فهناك من يقوم بذلك‪.‬‬
‫أرح نفسك من هذا كله فهناك خدم كثريون ال حيصى عددهم يقومون على خدمتك‪.‬‬
‫أيها المدلل‬
‫انظر إىل طعامك وختيل أن هذه اخلضروات والفواكه لن تكون موجودة هبذه السهولة‪ ،‬وأن املطلوب‬
‫منك هو أن تقوم بنفسك على عملية استخراجها من مكوناهتا األصلية‪.‬‬

‫كم من الوقت واجلهد ستبذله للحصولـ على بعض مثار اخليار مثال‪ ،‬بل على مثرة واحدة؟!‬
‫أيها املدلل‪...‬‬
‫أتدري أن هناك مصانع ال تعد وال حتصى موجودة حتت األرض وفوقها تعمل ليل هنار‪ -‬بإذن رهبا‪-‬‬
‫من أجل أن توفر لك شىت أنواع األطعمة وما عليك إال أن جتمع إنتاجها‪ ،‬وختتار منه ما يروق لك؟!‬

‫تخيل ثم تخيل‬
‫ختيل‪ -‬أخي القارئ‪ -‬أن الدابة اليت تستخدمها يف تنقالتك من مكان آلخر‪ ،‬قد أنطقها اهلل عز وجل‪،‬‬
‫فإذا هي تسألك قبل حتركها بك عن وجهتك‪ ،‬وملاذا تذهب إىل هذا املكان‪ ،‬وكم من الوقت ستستغرقه فيه‬
‫و‪.....‬‬
‫ختيل أن املاء الذي تريد شربه ال يتحرك يف فمك‪ ،‬بل يسألك ملاذا تشرب اآلن؟ أمل تشرب منذ قليل؟!‬
‫ختيل أنك تريد الكتابة فال تتحرك معك يدك بل توخبك على كثرة استخدامها وعدم إعطائها راحتها‪.‬‬
‫ختيل ذلك وختيل أن كل من حولك من املخلوقات يتكلم‪ ،‬ويناقش قبل قيامه بتنفيذ األوامر‪ ..‬مث اسأل‬
‫نفسك كيف ستكون احلياة هبذا الشكل؟!‬
‫ال تستغرب – أخي‪ -‬هذا الكالم‪ ،‬فبالفعل قد أنطق اهلل بقرة يف عصر من العصور السابقة لتكون آية‬
‫للناس تشعرهم حبجم نعمة التسخري‪ ،‬ونعمة صمت الكائنات من حولنا‪.‬‬
‫فعن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬صلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صالة الصبح‪ ،‬مث أقبل على‬
‫الناس‪ ،‬فقال‪« :‬بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها‪ ،‬فقالت‪ :‬إنَّا لم نخلق لهذا‪ ،‬إنما خلقنا للحرث‪،‬‬

‫‪48‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫(‪) 1‬‬
‫فقال الناس‪ :‬سبحان اهلل‪ ،‬بقرة تتكلم؟ فقال‪ :‬فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر‪.»...‬‬
‫سل نفسك‬
‫وبعد أن ختيلت ما ختيلت‪ ،‬سل نفسك‪:‬‬
‫هل يرفض املاء إرواءك‪ ،‬والطعام إشباعك؟!‬
‫هل ترفض الدواب محلك إىل املكان الذي تريد ولو كان ال يرضي اهلل عز وجل؟!‬
‫هل امتنعت النار عن اإلحراق واملاء عن الغليان؟!‬
‫يوما عن اإلشراق‪ ،‬والليل عن اإلظالم؟!‬
‫هل امتنعت الشمس ً‬
‫تأمل مث تأمل هذا اللون العجيب من نعم التسخري والتكرمي لك أيها اإلنسان واسأل نفسك‪ -‬مرة‬
‫أخرى‪ -‬ملاذا ميزك اهلل عن سائر خملوقاته؟!‬

‫وملاذا هيأ الكون كله خلدمتك‪ ،‬وجعلك قائده وسيده؟!‬


‫هل هناك جواب آخر غري أنه حيبك ويريد لك النجاح يف املهمة اليت ُخلقت ألجلها‪ ،‬ومن مَّث دخول‬
‫اجلنة والتمتع بنعيمها األبدي؟!‬

‫جاء يف األثر‪ « :‬يا ابن آدم خلقت كل شيء لك‪ ،‬وخلقتك لنفسي‪ ،‬فال تشتغل بما خلقته لك عما‬
‫خلقتك له»‪.‬‬

‫***‬

‫‪1‬‬
‫() رواه البخاري (‪.)3471‬‬

‫‪49‬‬
‫خامسا‪ :‬من مظاهر حبه لك‬
‫ً‬
‫كرمه البالغ وهداياه المتنوعة‪ %‬إليك‬
‫إن ميزان العدل يقول إن من عمل حسنة كان جزاؤه حسنة‪ ،‬ومن عمل سيئة كانت عليه سيئة‪،‬‬
‫سنَةً نَّ ِز ْد لَهُ فِ َيها ُح ْسنًا‪[ ‬الشورى‪.]23 :‬‬ ‫ولكن ميزان الكرم والفضل اإلهلي له رأي آخر ‪َ ‬و َمن َي ْقتَ ِر ْ‬
‫ف َح َ‬
‫كرما منه سبحانه وتعاىل‪ ،‬وحبًا لعباده‪ ،‬ورغبة يف‬ ‫فميزان احلسنات خيتلف عن ميزان السيئات‪ً ,‬‬
‫السيِّئَ ِة فَالَ يُ ْج َزى إِالَّ ِم ْثلَ َها َو ُه ْم الَ‬
‫اء بِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫دخوهلم اجلنة ‪‬من جاء بِالْح ِ‬
‫سنَة َفلَهُ َع ْش ُر أ َْمثَال َها َو َمن َج َ‬
‫َ ََ ََ‬
‫يُظْلَ ُمو َن‪[ ‬األنعام‪.]160 :‬‬

‫هم بحسنة فلم يعملها كتبها اهلل عنده حسنة‬‫تأمل أخي القارئ قوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬فمن َّ‬
‫هم بها فعملها كتبها اهلل له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف‬ ‫كاملة‪ ،‬فإن هو َّ‬
‫هم بها فعملها كتبها اهلل له‬
‫هم بسيئة فلم يعملها كتبها اهلل له عنده حسنة كاملة‪ ،‬فإن هو َّ‬
‫كثيرة‪ ،‬ومن َّ‬
‫(‪)1‬‬
‫سيئة واحدة»‪.‬‬

‫فإن كنت يف شك من جوده وكرمه فماذا تقول يف قوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من قال سبحان اهلل‬
‫(‪) 2‬‬
‫وبحمده في يوم مائة مرة ُحطت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر»‪.‬‬

‫وماذا تقول يف قوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬من قال‪ :‬ال إله إال اهلل وحده ال شريك له‪ ،‬له الملك‪،‬‬
‫(‪) 3‬‬
‫عشرا‪ ،‬كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل»‪.‬‬
‫وله الحمد‪ ،‬وهو على كل شيء قدير‪ً ،‬‬
‫وغري ذلك من األعمال املتاحة للجميع يف أي وقت‪ ،‬واليت رتب اهلل على أدائها عظيم الثواب‪.‬‬
‫من األمير؟‬
‫جعل اهلل عز وجل لكل عبد من عباده ملكان حيصيان عليه أعماله‪َ ,‬ملَكـ على اليمني يكتب احلسنات‪،‬‬
‫‪1‬‬
‫() رواه البخاري ح (‪.)6010‬‬
‫‪2‬‬
‫() متفق عليه‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() متفق عليه‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫وملك على الشمال يكتب السيئات‪ ،‬فمن هو األمري الذي له الكلمة على اآلخر؟!‬
‫يقول صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال‪ ،‬فإذا عمل عبد حسنة‬
‫كتبها بعشر أمثالها‪ ،‬فإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين‪ :‬أمسك‪،‬‬
‫فيمسك ست ساعات‪ ،‬فإن استغفر منها لم يكتب عليه شيئًا‪ ،‬وإن لم يستغفر ُكتبت عليه سيئة‬
‫(‪) 1‬‬
‫واحدة»‪.‬‬

‫أأدركت أخي قدر املعاملة الكرمية اليت يعاملنا اهلل هبا؟!‬


‫كريم في عطاياه‬
‫فحدث وال حرج‪ ..‬انظر معي إىل أصناف‬ ‫هذا من ناحية الكرم يف اجلزاء‪ ،‬أما الكرم يف العطاء والرزق ِّ‬
‫يدخالن السرور علينا‪ ،‬ونتمتع بلذيذ طعمها؟! ولكنه الكرم‬‫الفواكه مثال‪ ،‬أمل يكن يكفينا صنف أو صنفان ُ‬
‫اإلهلي الغري حمدود الذي أتاح لنا هذه األنواع الكثرية كي نتمتع هبا‪ ،‬بل إن الصنف الواحد له عدة صور‪،‬‬
‫وقل مثل هذا على اخلضروات والطيور واألمساك‪ ..‬هذا مع العلم بأننا مل نعرف بعد كل أنواع هذه‬
‫املأكوالت‪.‬‬

‫بل العجيب أن هناك خملوقات خلقها اهلل عز وجل إلشاعة البهجة يف نفوسنا عند رؤيتها ‪َ ‬وأَْن َز َل لَ ُكم‬
‫ات َب ْه َج ٍة‪[ ‬النمل‪.]60 :‬‬
‫اء فَأَْنبَْتنَا بِ ِه َح َدائِ َق ذَ َ‬ ‫ِّمن َّ ِ‬
‫الس َماء َم ً‬ ‫َ‬
‫الهدايا المتنوعة‬
‫لقد وصانا نبينا صلى اهلل عليه وسلم بالتهادي فيما بيننا ليزداد احلب‪ ،‬فاهلدية هلا تأثري عجيب يف‬
‫(‪) 2‬‬
‫استمالة القلوب جتاه ُمعطيها؛ قال صلى اهلل عليه وسلم «تهادوا تحابوا»‪.‬‬

‫هذه الوسيلة العظيمة ذات األثر اجملرب يف تنمية احلب يفعلها معنا ربنا باستمرار‪ ،‬فهداياه ال تنقطع عنا‬
‫رغم إعراضنا الشديد عنه‪ ,‬يتحبب هبا إلينا حىت نزداد له حبًا‪ ،‬وهو من هو‪ ..‬هو اإلله العظيم الذي‬
‫خضعت له السماوات واألرض واجلبال والبحار وكل شيء يف هذا الكون‪ ..‬هو اهلل الذي له ملكوت كل‬
‫شيء‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() ضعيف‪ ،‬أورده األلباين‪ ،‬يف السلسلة الضعيفة ح (‪.)2237‬‬
‫‪2‬‬
‫() حسن‪ ،‬رواه أبو يعلي يف مسنده‪ ،‬وحسنه األلباين يف صحيح اجلامع (‪.)3004‬‬

‫‪51‬‬
‫هو الرب الغين الذي ال ينتظر من عباده طاعة تنفعه‪ ،‬وال خيشى منهم معصية تضره‪ -‬حاشاه‪ -‬هذا‬
‫اإلله جبالله وكماله وملكه العظيم يتودد ويتحبب إلينا بإرسال حتفه وهداياه كل حني‪ ,‬قال صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪« :‬إن لربكم في أيام دهركم نفحات‪ %‬فتعرضوا لها‪ ،‬لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة ال يشقى‬
‫(‪) 1‬‬
‫بعدها أب ًدا»‪.‬‬

‫ومن هذه النفحاتـ واهلدايا‪ :‬يوم عرفة‪ ..‬فإن صمته أخي القارئ غُفر لك ذنوب عامني‪ ,‬عام سابق‬
‫وعام الحق‪ ،‬وإن استطعتـ أن تكون يف أرض عرفة يف هذا اليوم تستغفر ربك غُفرت كل ذنوبك‪،‬‬
‫وأصبحت كيوم ولدتك أمك‪ ..‬بال ذنوب وال خطايا‪.‬‬

‫وكذلك يوم عاشوراء فمن صامه غُفرت له ذنوب عام كامل‪.‬‬


‫واجلمعة إىل اجلمعة كفارة ملا بينهما إذا ما اجتنبت الكبائر‪.‬‬
‫ويف شهر رمضان‪ :‬الفريضة فيه بسبعني فريضة‪ ،‬والعبادة يف ليلة القدر خري من عبادة ألف شهر‪.‬‬
‫فماذا تقول ملن يهديك كل هذه اهلدايا بال مقابل ينتظره؟!‬
‫« يا عبادي لو أن أولكم وأخركم وأنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك‬
‫في ملكي شيئًا»‪.‬‬
‫الع َجب من فقري يتودد‪ ،‬وإمنا العجب من غين يتحبب‪.‬‬
‫قال بعضهم‪ :‬ليس َ‬
‫شكرا‬
‫يرضى باحلمد ً‬
‫إن احلقيقة اليت ال مرية فيها أن هلل عز وجل هو الذي يطعمنا ويسقينا ويتوىل مجيع شئوننا باإلمداد‬
‫والرعاية ولواله ما كانت حياة‪.‬‬
‫واملفرتض أن يكون املقابل الذي نؤديه هلل عز وجل كشكر له على نعمه وإمداده املتواصل لنا‪ :‬هو‬
‫سبِّ ُحو َن اللَّْي َل َوالن َ‬
‫َّه َار الَ‬ ‫السجود املتواصل‪ ،‬والتسبيح املطلق كحال الكون كله وما فيه من خملوقات ‪‬يُ َ‬
‫َي ْف ُت ُرو َن‪[ ‬األنبياء‪.]20 :‬‬
‫معتربا‪،‬‬
‫ولكنه‪ -‬سبحانه وتعاىل‪ -‬مل يطلب منا ذلك‪ ،‬بل طلب أعماال يسرية ال تستغرق منا وقتًا ً‬
‫ويكفيك يف هذا قوهلصلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن اهلل تعالى ليرضى عن العبد أن يأكل األكلة‪ ،‬أو يشرب‬
‫‪1‬‬
‫() رواه الطرباين يف األوسط والكبري‪ ،‬وأورده اهليثمي يف جممع الفوائد ‪.230 /10‬‬

‫‪52‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫(‪) 1‬‬
‫الشربة‪ ،‬فيحمد اهلل عليها»‪.‬‬
‫بل إنه سبحانه وتعاىل يعلي من شأن هذا احلمد كما قال صلى اهلل عليه وسلم «ما أنعم اهلل على عبد‬
‫(‪)2‬‬
‫نعمة‪ ،‬فحمد اهلل عليها‪ ،‬إال كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة»‪.‬‬
‫رب شكور‬
‫بال شك أن اهلل عز وجل هو الذي حيبب إلينا فعل اخلري‪ ،‬ويعيننا على القيام به‪ ،‬ويصرف عنا‬
‫ي ل َْوالَ أَ ْن‬ ‫ِ ِ‬
‫الشواغل‪ ،‬ويزيل العوائق‪ ،‬فلواله سبحانه ما اهتدينا وال تصدقنا وال صلينا ‪َ ‬و َما ُكنَّا لَن ْهتَد َ‬
‫َه َدانَا اهللُ‪[ ‬األعراف‪.]43 :‬‬

‫ومع ذلك فإننا جنده سبحانه يُعظِّم أعمالنا ويكربها‪ ،‬ويشعرنا بأننا قد فعلنا شيئًا ً‬
‫عظيما‪ ..‬تأمل قوله‬
‫ْجنَّةَ بِ َما ُك ْنتُ ْم َت ْع َملُو َن‪[ ‬النحل‪.]32 :‬‬
‫ألهل اجلنة ‪‬ا ْد ُخلُوا ال َ‬
‫أهذه األعمال القليلة تستحق هذا اجلزاء العظيم لو افرتضنا أن أصحاهبا بالفعلـ قد قاموا هبا دون إعانة‬
‫من أحد؟ فما بالك واألمر غري ذلك‪ ،‬فاهلل عز وجل هو الذي وفقهم وأعاهنم للقيام هبا‪ ,‬مث يقول هلم بعد‬
‫ورا‪‬‬ ‫ذلك وهم يتقلبون يف صور النعيم يف جنات اخللود‪ :‬إِ َّن َه َذا َكا َن لَ ُك ْم َج َز ً‬
‫اء َو َكا َن َس ْعيُ ُكم َّم ْش ُك ً‬
‫[اإلنسان‪.]22 :‬‬

‫كثريا ويريد أن يساعده دون أن جيرح‬


‫ختيل لو أن رجال غنيًا‪ -‬واسع الثراء‪ -‬له صديق فقري حيبه ً‬
‫مشاعره‪ ،‬فهداه تفكريه إىل أن يطلب منه القيام ببعض األعمال البسيطة اخلاصة به‪ ،‬فلما قام هبا أعطاه مقابل‬
‫كبري ا‪ ،‬ومل يكتف بذلك بل أشعره بأن ما قام به من أعمال قد عادت عليه بنفع كبري‪ ،‬وأنه‬
‫ذلك عطاء ً‬
‫مهما أعطاه فلن يستطيع أن يوفيه حقه‪ ،‬و‪...‬‬

‫كل هذا ليقبل صديقه الفقري أعطيته بنفس راضية‪ ،‬على الرغم من أن هذا الفقري يعلم يف قرارة نفسه‬
‫أن هذا املقابل ال يتناسب بأي حال من األحوال مع ما قام به من أعمال‪.‬‬

‫َّات َع ْد ٍن‬
‫هذا تشبيه‪ -‬مع الفارق‪ -‬ملا يستشعره أهل اجلنة عندما يفاجئون بنعيم ال ميكن ختيله ‪َ ‬جن ُ‬
‫اس ُه ْم فِ َيها َح ِر ٌير‪[ ‬فاطر‪.]33 :‬‬ ‫ِ‬ ‫َسا ِو َر ِمن ذَ َه ٍ‬ ‫ِ ِ‬
‫ب َول ُْؤل ًُؤا َولبَ ُ‬ ‫يَ ْد ُخلُو َن َها يُ َحلَّ ْو َن ف َيها م ْن أ َ‬

‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() صحيح اجلامع الصغري (‪.)5562‬‬

‫‪53‬‬
‫فماذا يقولون بعد ذلك؟!‬
‫ي ل َْوالَ أَ ْن َه َدانَا اهللُ‪[ ‬األعراف‪ ]43 :‬فإذا هبم‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ْح ْم ُد هلل الذي َه َدانَا ل َه َذا َو َما ُكنَّا لَن ْهتَد َ‬
‫‪َ ‬وقَالُوا ال َ‬
‫وها بِ َما ُك ْنتُ ْم‬
‫ْجنَّةُ أُو ِر ْثتُ ُم َ‬ ‫ِ‬
‫ودوا أَن ت ْل ُك ُم ال َ‬
‫يفاجئون بنداء يقول هلم‪ :‬بل هذا حقكم وجزاء أعمالكم ‪َ ‬ونُ ُ‬
‫َت ْع َملُو َن‪[ ‬األعراف‪.]43 :‬‬

‫كرم عجيب‬
‫تأمل معي أخي القارئ هذا احلديث الشريف الذي خيربنا عن حوار دار بني آخر رجل يدخل اجلنة‪،‬‬
‫وبني اهلل عز وجل‪ ،‬فعن ابن مسعود رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إني ألعلم‬
‫حبوا‪ ،‬فيقول اهلل‬
‫خروجا منها‪ ،‬وآخر أهل الجنة دخوال الجنة‪ .‬رجل يخرج من النار ً‬ ‫ً‬ ‫آخر أهل النار‬
‫عز وجل له‪ :‬اذهب فادخل الجنة‪ ،‬فيأتيها‪ ،‬فيخيل إليه أنها مألى‪ ،‬فيرجع فيقول‪ :‬يا رب وجدتها‬
‫مألى! فيقول اهلل عز وجل له‪ :‬اذهب فادخل الجنة‪ ،‬فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو أن لك مثل‬
‫عشرة أمثال الدنيا‪ ،‬فيقول‪ :‬أتسخر بي‪ ،‬أو تضحك بي وأنت الملك» قال‪ :‬فلقدـ رأيت رسول اهلل ×‬
‫(‪)1‬‬
‫ضحك حىت بدت نواجذه‪ ،‬فكان يقول‪« :‬ذلك أدنى أهل الجنة منزلة»‪.‬‬

‫ويف هناية احلديث عن مظاهر الكرم اإلهلي أتركك‪ -‬أخي‪ -‬تتأمل قول رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫خيرا»(‪.)2‬‬
‫حي‪ ،‬كريم‪ ،‬يستحي من عبده أن يرفع يديه ثم ال يضع فيهما ً‬ ‫وسلم‪« :‬إن اهلل رحيم‪ٌّ ،‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() متفق عليه‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() صحيح اجلامع الصغري (‪.)1768‬‬

‫‪54‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬

‫سادسا‪ :‬من مظاهر حب اهلل لك‪:‬‬


‫ً‬
‫رحمته ورأفته بك وشفقته وحنانه عليك‬
‫يف يوم من األيام وبينما كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بني صحابته إذ جاءه سَيْب ‪،‬‬
‫السيْب امرأة تسعى ملهوفة مضطربة‪ -‬فقد ضاع منها صبيها‪ -‬واستمرت على ذلك احلال الشديد‬ ‫ويف هذا َ‬
‫حىت وجدته‪ ،‬فأخذته وضمته إىل صدرها بشدة‪ ،‬مث أرضعته‪.‬‬

‫منظر مؤثر دفع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألن يعلق عليه ويقول ألصحابه‪« :‬أترون هذه طارحة‬
‫(‪) 1‬‬
‫ولدها في النار»؟! قالوا‪ :‬ال واهلل‪ .‬قال «اهلل أرحم بعباده من هذه على ولدها»‪.‬‬

‫ويف بعض مغازيه صلى اهلل عليه وسلم وبينما كان يسري مع أصحابه‪ ،‬إذ أخذ بعضهم فرخ طري‪ ،‬فأقبل‬
‫أحد أبويه حىت سقط يف أيدي الذي أخذه‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أال تعجبون لهذا‬
‫(‪) 2‬‬
‫الطير أُخذ فرخه فأقبل حتى سقط في أيديهم‪ ،‬واهلل هلل أرحم بخلقه من هذا الطير بفرخه»‪.‬‬

‫نعم‪ ،‬أخي القارئ‪ ،‬اهلل عز وجل أرحم بنا من أمهاتنا‪ ،‬ومن آبائنا‪ ،‬وأبنائنا وأزواجنا‪ .‬يقول عبد اهلل بن‬
‫مسعود‪ :‬هلل أرحم بعبده يوم يأتيه‪ ،‬أو يوم يلقاه‪ ،‬من أم واحد فرشت له بأرض ّقر‪ ،‬مث قالت (نامت)‬
‫(‪)3‬‬
‫فلمست فراشه بيدها‪ ،‬فإن كان به شوكة كانت قبله‪ ،‬وإن كانت لدغة كانت هبا قبله‪.‬‬

‫ال وجه للمقارنة‬


‫علي وعلى استقاميت‪،‬‬ ‫حرصا منهما َّ‬ ‫والدي ال يفتآن يدعوان يل بالصالح والفالح ً‬ ‫َّ‬ ‫فإن قلت إن‬
‫ات إِلَى النُّو ِر َو َكا َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ذكرناك بقوله تعاىل ‪ُ ‬هو الَّذي يصلِّي َعلَْي ُكم ومالَئِ َكتُهُ لي ْخ ِرج ُكم ِّمن الظُّلُم ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ْ ََ‬ ‫َُ‬ ‫َ‬
‫يما‪[ ‬األحزاب‪.]43 :‬‬ ‫بِالْم ْؤ ِمنِ ِ‬
‫ين َرح ً‬
‫ُ َ‬
‫وإن قلت فإن والدي يعتصرمها األمل والشفقة إذا ما أصابين مكروه من مرض وحنوه‪ ،‬بشرناك بأن اهلل‬
‫عز وجل يشملك وقت مرضك‪ -‬عافاك اهلل من كل مكروه‪ -‬برعاية ومعية ال ميكن تصورها‪ ،‬ويكفيك يف‬

‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم (‪ )2754‬والبخاري (‪.)5999‬‬
‫‪2‬‬
‫() أورده اهليثمي يف جممع الزوائد ‪ ، 383 /10‬وقال‪ :‬رواه البزار من طريقني ورجال أحدمها رجال الصحيح‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() حسن الظن باهلل البن أيب الدنيا برقم (‪.)21‬‬

‫‪55‬‬
‫ذلك هذا احلديث القدسي الذي خيربنا بأن اهلل عز وجل يقول يوم القيامة‪« :‬يا ابن آدم مرضت فلم‬
‫تعدني قال‪ :‬يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال‪ :‬أما علمت أن عبدي فالنا مرض فلم‬
‫تعده؟! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده»‪ ...‬احلديث(‪.)1‬‬

‫رغب عباده يف عيادة املريض‪ ،‬ووعدهم على ذلك بعظيم‬‫وليس هذا فحسبـ بل إنه سبحانه وتعاىل قد َّ‬
‫اجلزاء لتكون الزيارة سببًا يف رفع معنويات املريض‪ ،‬وختفي ًفا عنه‪ ،‬وتسرية له‪.‬‬

‫مسلما غُ ْد َوة إال صلى عليه سبعون ألف ملك حتى‬


‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ما من مسلم يعود ً‬
‫(‪)2‬‬
‫يمسي‪ ،‬وإن عادة عشيّة صلى عليه سبعون ألف ملك حتى يصبح‪ ،‬وكان له خريف في الجنة»‪.‬‬

‫وليس ذلك للمريض فحسب‪ ،‬بل لكل أصحاب احلاالت اخلاصة والضعفاء كأهل البالء واألرامل‬
‫واأليتام‪.‬‬

‫تبعا لذلك وصاياه لنا برعايتهم مع وعده –‬


‫فهؤالء تزداد الرمحة والشفقة اإلهلية عليهم‪ ،‬وتزداد ً‬
‫سبحانه‪ -‬بعظيم اجلزاء الذي يفوق ويفوق ثواب الكثري من العبادات‪.‬‬

‫ففي احلديث الذي رواه أبو هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬الساعي على األرملة‬
‫والمسكين كالمجاهد في سبيل اهلل» وأحسبه قال‪« :‬وكالقائم الذي ال يَفتُر‪ ،‬وكالصائم الذي ال‬
‫يُفطر»(‪.)3‬‬

‫وخيربنا عليه الصالة والسالم مبلغًا عن ربه بأن «من عال جاريتين حتى يبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو‬
‫كهاتين» وضم أصابعه (‪.)4‬‬

‫أما عن اليتيم فال تسل عن فضلـ كفالته‪ ..‬يكفي أن كافله سيكون جار رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم يف اجلنة‪.‬‬
‫َّ ِ‬
‫وليس هذا فحسب‪ ،‬بل كان الرتهيب الشديد من تضييع أمواله ‪‬إِ َّن الذ َ‬
‫ين يَأْ ُكلُو َن أ َْم َو َ‬
‫ال الْيَتَ َامى‬
‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم (‪.)2569‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه الرتمذي (‪ )969‬وأبو داود (‪ )3098‬وابن ماجه (‪ )1442‬وهو حديث صحيح‪ ،‬واخلريف‪ :‬أي الثمر اجملتين‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() متفق عليه البخاري ‪ ،366 /10‬ومسلم (‪.)2982‬‬
‫‪4‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫صلَ ْو َن َس ِع ًيرا‪[ ‬النساء‪.]10 :‬‬ ‫ِ‬
‫ظُل ًْما إِنَّ َما يَأْ ُكلُو َن في بُطُونِ ِه ْم نَ ًارا َو َسيَ ْ‬
‫ولماذا االبتالء؟!‬
‫قد يقول قائل‪ :‬وملاذا هذه األقدار املؤملة‪ ،‬واالبتالءات الشديدة اليت تتناىف‬
‫‪-‬ظاهرا‪ -‬مع مظاهر الرمحة اإلهلية بالناس؟‍!‬
‫ً‬
‫نعم‪ ،‬قد يكون هلذا السؤال وجاهته إن كانت الدنيا هي دار النعيم األبدي واملستقر النهائي‪ ،‬ولكن‬
‫الدنيا ليست كذلك‪ ،‬فهي دار اختبار‪ ،‬يؤدي كل من عليها امتحانًا يف مدى عبوديته لربه ‪‬إِنَّا َج َعلْنَا َما‬
‫ِ‬
‫س ُن َع َمالً‪[ ‬الكهف‪.]7 :‬‬ ‫ض ِزينَةً لَّ َها لنَْبلُ َو ُه ْم أ َُّي ُهم أ ْ‬
‫َح َ‬ ‫َعلَى األ َْر ِ‬

‫هذا االمتحان مكون من تكاليف يقوم هبا الفرد‪ ،‬وأدوات عليه أن حُي سن التعامل معها‪ ،‬فالتكاليف هي‬
‫األوامر والنواهي‪ ،‬واألدوات هي العطاء واملنع‪.‬‬

‫أما العطاء فهو كل ما يرد على العبد من النعم‪ ،‬واملطلوب منه أن يشكر اهلل عليها‪.‬‬
‫واملنع هو كل ما مينع اهلل منه العبد من صحة أو مال أو‪ ،....‬واملطلوب أن يصرب على ذلك ابتغاء وجه‬
‫اهلل‪.‬‬

‫فالعطاء ليس دليل كرامة من اهلل للعبد‪ ،‬واملنع ليس دليل إهانة‪ ،‬بل كالمها مواد اختبار ‪‬فَأ ََّما ا ِإلنْ َ‬
‫سا ُن‬
‫ول َربِّي‬‫ول َربِّي أَ ْك َر َم ِن ‪َ ‬وأ ََّما إِ َذا َما ْابتَالَهُ َف َق َد َر َعلَْي ِه ِر ْزقَهُ َفَي ُق ُ‬
‫إِ َذا َما ْابتَالَهُ َربُّهُ فَأَ ْك َر َمهُ َو َن َّع َمهُ َفَي ُق ُ‬
‫أ ََهانَ ِن ‪َ ‬كالَّ‪[ ‬الفجر‪.]17 -15 :‬‬

‫مجيعا يف مادة العطاء؟‬


‫فإن قلت‪ :‬وملاذا ال ميتحن الناس ً‬
‫لو كان اجلميع يف صحة وعافية ورزق وفري ما استشعر الناس قيمة هذه النعم‪ ،‬وملا انكشف املتواضع‬
‫من املتكرب‪ ،‬وال الشاكر من اجلاحد‪ ،‬وال الصابر من الشاكي ربه‪ ..‬أمل يقل سبحانه‪َ  :‬ولَنَْبلُ َونَّ ُك ْم َحتَّى‬
‫اه ِدين ِم ْن ُكم و َّ ِ‬
‫ِ‬
‫الصاب ِر َ‬
‫ين َو َن ْبلُ َو أَ ْخبَ َار ُك ْم‪[ ‬حممد‪.]31 :‬‬ ‫َن ْعلَ َم ال ُْم َج َ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫وقال‪َ  :‬و ُه َو الَّ ِذي َج َعلَ ُك ْم َخالَئِ َ‬
‫ض َد َر َجات لِّيَْبلُ َو ُك ْم ف َ‬
‫يما‬ ‫ض ُك ْم َف ْو َق َب ْع ٍ‬ ‫ف األ َْر ِ‬
‫ض َو َرفَ َع َب ْع َ‬
‫اب وإِنَّه لَغَ ُف ِ‬ ‫ك س ِر ِ‬
‫يم‪[ ‬األنعام‪.]165 :‬‬ ‫ور َّرح ٌ‬‫يع الْع َق ِ َ ُ ٌ‬ ‫آتَا ُك ْم إِ َّن َربَّ َ َ ُ‬
‫هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإن اهلل عز وجل يبسط الرزق أو مينعه عن عباده حسب ما‬

‫‪57‬‬
‫اد ِه‬
‫شاء وي ْق ِدر إِنَّهُ َكا َن بِ ِعب ِ‬
‫َ‬
‫ط ِّ ِ‬
‫الر ْز َق ل َمن يَّ َ ُ َ َ ُ‬ ‫سُ‬ ‫يصلحهم‪ ،‬وحبسب حالتهم اليت ال يعلمها سواه ‪‬إِ َّن َربَّ َ‬
‫ك َي ْب ُ‬
‫َخبِيرا ب ِ‬
‫ص ًيرا‪[ ‬اإلسراء‪.]30 :‬‬ ‫ً َ‬
‫لذلك جاء يف احلديث القدسي يقول اهلل عز وجل‪« :‬إن من عبادي من ال يُصلح إيمانه إال الغني‬
‫ولو أفقرته ألفسده ذلك‪ ،‬وإن من عبادي من ال يُصلح إيمانه إال الفقر ولو أغنيته ألفسده ذلك‪ ،‬وإن‬
‫من عبادي من ال يُصلح إيمانه إال الصحة‪ ،‬ولو أسقمته ألفسده ذلك‪ ،‬وإن من عبادي من ال يصلح‬
‫(‪)1‬‬
‫حاله إال السقم ولو أصححته ألفسده ذلك‪.»...‬‬

‫وما يؤكد هذا املعىن قوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن اهلل تعالى ليحمي عبده المؤمن من الدنيا‪ ،‬وهو‬
‫(‪)2‬‬
‫يحبه‪ ،‬كما تحمون مريضكم الطعام والشراب‪ ،‬تخافون عليه»‪.‬‬

‫من فوائد االبتالء‬


‫اهم بِال َْع َذ ِ‬
‫اب‬ ‫َخ ْذنَ ُ‬
‫ليذكرهم به‪ ،‬وبضرورة العودة إليه قبل فوات األوان ‪َ ‬وأ َ‬ ‫اهلل عز وجل يبتلي عباده ِّ‬
‫ل ََعلَّ ُه ْم َي ْر ِجعُو َن‪[ ‬الزخرف‪ ]48 :‬فهو إذن مظهر عظيم من مظاهر رمحة اهلل بالعصاة ‪َ ‬ولََق ْد أ َْر َسلْنَا إِلَى أ َُم ٍم‬
‫َّر ِاء ل ََعلَّ ُه ْم َيتَ َ‬
‫ض َّرعُو َن‪[ ‬األنعام‪.]42 :‬‬ ‫ْس ِاء َوالض َّ‬
‫اه ْم بِالْبَأ َ‬
‫َخ ْذنَ ُ‬ ‫ِّمن َق ْبلِ َ‬
‫ك فَأ َ‬
‫ويبتلي سبحانه عباده كذلك ليطهرهم من ذنوهبم يف الدنيا قبل أن ال يصبح أمامهم طريقة للتخلصـ‬
‫منها إال بالنار‪.‬‬

‫أيهما أهون علينا‪ -‬أخي القارئ‪ -‬التطهري يف الدنيا أم التطهري يف اآلخرة بالنار والعياذ باهلل‪.‬‬
‫أمل يقل صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ما يُصيب المسلم من نصب‪ ،‬وال وصب‪ ،‬وال هم‪ ،‬وال حزن‪ ،‬وال‬
‫(‪) 3‬‬
‫أذى‪ ،‬وال غم‪ ،‬حتى الشوكة يشاكها‪ ،‬إال كفر اهلل بها من خطاياه»‪.‬‬

‫وقال‪ « :‬ما يزال البالء بالمؤمن والمؤمنة‪ ،‬في نفسه وولده وماله‪ ،‬حتى يلقى اهلل وما عليه من‬
‫خطيئة»(‪.)4‬‬

‫‪1‬‬
‫مرفوعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫() رواه أبو نعيم يف احللية عن أنس‬
‫‪2‬‬
‫() صحيح اجلامع الصغري ح (‪.)1418‬‬
‫‪3‬‬
‫() متفق عليه‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫() رواه الرتمذي عن أيب هريرة‪ ،‬وصححه األلباين يف صحيح اجلامع (‪.)5815‬‬

‫‪58‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫وهناك طائفة أخرى من العباد الطائعني لرهبم‪ ،‬يريد سبحانه أن يكافئهم برفع درجاهتم يف اجلنة‪ ،‬ولكن‬
‫أعماهلم ال ميكنها أن ترقى هبم إىل هذه الدرجات فكان االبتالء وسيلة يستخرج اهلل عز وجل من قلوب‬
‫هؤالء ألوانًا من العبودية من ذل وانكسار وفقر واضطرار ما كانت لتخرج من قلوهبم إال من خالل هذا‬
‫االبتالء‪.‬‬

‫ويؤكد على هذا املعىن القاضي عياض يف كتاب «الشفا بتعريف حقوق املصطفى صلى اهلل عليه وسلم»‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬فإن قيل‪ :‬فما احلكمة يف إجراء األمراض وش ّدهتا عليه صلى اهلل عليه وسلموعلى غريه من األنبياء على‬
‫امتحنوا به‪ ،‬كأيوب‪ ،‬ويعقوب‪ ،‬ودانيال‪،‬‬
‫مجيعهم السالم؟ وما الوجه فيما ابتالهم اهلل به من البالء‪ ،‬وامتحاهنم مبا ُ‬
‫وحييي‪ ،‬وزكريا‪ ،‬وإبراهيم‪ ،‬ويوسف‪ ،‬وغريهم‪ ،‬صلوات اهلل عليهم‪ ،‬وهم خريته من خلقه وأحباؤه وأصفياؤه؟‬

‫فاعلم‪ -‬وفقنا اهلل وإياك‪ -‬أن أفعال اهلل تعاىل كلها عدل‪ ،‬وكلماته مجيعها صدق‪ ،‬ال مبدل لكلماته‪،‬‬
‫يبتلي عباده كما قال تعاىل هلم ‪‬لِنَنظَُر َك ْي َ‬
‫ف َت ْع َملُو َن‪[ ‬يونس‪ .]14 :‬فامتحانه إياهم بضروب احملن زيادة يف‬
‫مكانتهم‪ ،‬ورفعة يف درجاهتم‪ ،‬وأسباب الستخراج حاالت الصرب والرضا‪ ،‬والشكر والتسليم‪ ،‬والتوكل‪،‬‬
‫والتفويض‪ ،‬والدعاء‪ ،‬والتضرع منهم‪ ،‬وتأكيد لبصائرهم يف رمحة املمتحنني‪ ،‬والشفقة على املبتلني‪ ،‬وتذكرة‬
‫ليتأس وا يف البالء هبم‪ ،‬فيتسلوا يف احملن مبا جرى عليهم‪ ،‬ويقتدوا هبم يف الصرب‪،‬‬ ‫لغريهم‪ ،‬وموعظة لسواهم َّ‬
‫َّات فرطت منهم‪ ،‬أو غفالت سلفت هلم‪ ،‬ليلقوا اهلل طيبني ُمه ّذبني‪ ،‬وليكون أجرهم أكمل‪ ،‬وثواهبم‬ ‫وحمو هلن ٍ‬
‫ٌ َ‬
‫(‪)1‬‬
‫َجزل‪.‬‬
‫أوفر وأ ْ‬
‫(‪)2‬‬
‫تضرعه إليه‪.‬‬
‫جاء يف األثر‪ :‬إن اهلل تعاىل ليصيب العبد باألمر‪ ،‬وإنه ليحبه‪ ،‬لينظر كيف كان ُّ‬
‫‪ ‬أخي ‪..‬‬
‫إن بعض الناس ال يرغب يف نزول املطر ألنه يراه عائ ًقا أمام حركة السري‪ ،‬وسببًا لبعض احلوادث‪.‬‬
‫أج ّل صور الرمحة اإلهلية بالناس‪ ،‬فيه ينبت الزرع وحتيا احلياة‪ ،‬وترتوي‬
‫ولكن املطر‪ -‬يف حقيقته‪ -‬من َ‬
‫املخلوقات‪ ،‬وليس معىن عدم استشعار البعض هلذه احلقيقة أن يتوقف نزول املطر‪ -‬رمحة هبم على حد‬
‫زعمهم‪ -‬بل إن الرب الرحيم يرى املصلحة العامة لعباده فُيقدِّر األقدار‪ ،‬وحيرك األحداث من أجل حتقيقها‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() الشفا للقاضي عياض ‪.178 /2‬‬
‫‪2‬‬
‫() احملبة للجنيد‪.73 /‬‬

‫‪59‬‬
‫سى أَن تَك َْر ُهوا‬
‫فاالبتالء وإن كان يف ظاهره الضيق والعنت إال أنه حيمل يف طياته رمحات كثرية ‪َ ‬ف َع َ‬
‫َش ْيئًا َويَ ْج َع َل اهللُ ِف ِيه َخ ْي ًرا َكثِ ًيرا‪[ ‬النساء‪.]19 :‬‬

‫الشفقة اإللهية‬
‫بعض ا من أبعاد الشفقة والرأفة اإلهلية بعباده واليت تزداد وتزداد عند‬
‫مث تأمل معي هذا احلديث لتدرك ً‬
‫ابتالئهم‪.‬‬

‫عن أيب موسى األشعري رضي اهلل عنه‪ ،‬أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال‪« :‬إذا مات ولد العبد‬
‫قال تعالى لمالئكته‪ :‬قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون‪ :‬نعم‪ ،‬فيقول‪ ،‬قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون‪ :‬نعم‪،‬‬
‫فيقول‪ :‬ماذا قال عبدي؟ فيقولون‪ :‬حمدك واسترجع‪ ،‬فيقول اهلل تعالى‪ :‬ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة‪،‬‬
‫(‪)1‬‬
‫وسموه بيت الحمد»‪.‬‬

‫أما يوم القيامة فالتكرمي اخلاص ينتظر أهل البالء الذين جنحوا يف مادة الصرب‪ .‬يقول صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪« :‬يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطي أهل البالء الثواب لو أن جلودهم كانت ُق ِّرضت في‬
‫(‪)2‬‬
‫الدنيا بالمقاريض»‪.‬‬

‫االبتالء بالذنب والحرمان من الطاعة‬


‫ومن املظاهر العجيبة للرمحة اإلهلية ابتالؤه لعباده بالذنب‪ ،‬واحلرمان من الطاعة‪ ،‬برتكهم ألنفسهم‬
‫وعدم إعانتهم وتوفيقهم للقيام بالطاعة واإلقالع عن الذنب‪ ،‬فيستشعروا وقتها مدة فضل رهبم عليهم‪،‬‬
‫وأهنم به ال بأنفسهم‪ ،‬وأنه لو ختلى عنهم طرفة عني هللكوا‪ ،‬ولضلوا‪ ،‬ولوقعوا يف أشد املعاصي‪.‬‬
‫ويف املقابل لو استمر إمدادهم بالتوفيق واإلعانة الالزمة للقيام بالطاعة‪ ،‬وترك املعصية‪ ،‬فمن املتوقع أن‬
‫يتسرب إىل نفوسهم داء العُجب‪ ،‬فيعجبوا بأعماهلم‪ ،‬وبصالحهم‪ ،‬ويغرتون بذلك‪ ،‬ويظنون أن هلم مكانة‬
‫خاصة عند اهلل هبذا الصالح وهذه األعمال‪ ،‬وحيتقرون غريهم من املقصرين‪ ،‬فتكون هذه الطاعات سببًا‬
‫الرتدائهم رداء الكرب‪ ،‬ومن مثَّ استدعائهم لغضب اهلل وعقابه املستحق للمتكربين‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪1‬‬
‫() رواه الرتمذي (‪.)1021‬‬
‫‪2‬‬
‫() حسن‪ ،‬أخرجه الرتمذي وأورده األلباين يف صحيح اجلامع ح (‪.)8177‬‬

‫‪60‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫لذلك كان االبتالء بالذنب‪ ،‬واحلرمان من الطاعة من لطف اهلل اخلفي بعبده‪ ،‬بل من دالئل حبه له‬
‫أحيانًا‪.‬‬
‫جاء يف احلديث‪« :‬يقول اهلل عز وجل‪ :‬وإن من عبادي من يطلب بابًا من العبادة فأكفه عنه كيال‬
‫يدخله العجب‪ ،‬إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم‪ ،‬إني عليم خبير»(‪.)1‬‬
‫ولعلنا بذلك ندرك مغزى قوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬لو لم تكونوا تذنبون‪ ،‬لخفت عليكم ما هو‬
‫(‪)2‬‬
‫أكبر من ذلك العُجب العُ ْجب»‪.‬‬
‫ومما يؤكد هذا املعىن ما قاله صلى اهلل عليه وسلم للصحابة «لو أنكم تكونون على كل حال على‬
‫الحالة التي أنتم عليها عندي لصافحتكم المالئكة بأكفهم‪ ،‬ولزارتكم في بيوتكم‪ ،‬ولو لم تذنبوا‪ ،‬لجاء‬
‫(‪)3‬‬
‫اهلل بقوم يذنبون كي يغفر لهم»‪.‬‬

‫الرحمة الواسعة‬
‫إن رمحة اهلل بعباده ولطفه اخلفي هبم ليس له حدود وال ميكن للعقل البشري أن يدرك أبعاده‪ ،‬ويكفي‬
‫أنه سبحانه وتعاىل كتب على نفسه الرمحة‪ ،‬ففي احلديث «إن اهلل حين خلق الخلق كتب بيده على نفسه‬
‫(‪)4‬‬
‫أن رحمتي تغلب غضبي»‪.‬‬

‫وجاء يف األثر أن بين إسرائيل قالت ملوسى ‪« :‬هل يصلي ربك؟ قال موسى‪ :‬اتقوا اهلل يا بني‬
‫إسرائيل‪ .‬فقال اهلل يا موسى‪ :‬ماذا قالت لك قومك؟ قال‪ :‬يا رب قد علمت‪ ،‬قالوا‪ :‬هل يصلي ربك؟‬
‫(‪)5‬‬
‫قال‪ :‬فأخبرهم أن صالتي على عبادي أن تسبق رحمتي غضبي‪ ,‬لوال ذلك ألهلكتهم»‪.‬‬

‫ومن أعظم األدلة اليت تؤكد هذا املعىن‪ :‬رمحته سبحانه بالعصاة له والكافرين به‪ ،‬فهو سبحانه مل مينع عنهم‬
‫رزقه رغم عصياهنم وابتعادهم عن طريقه‪ ،‬ومل يُعجل هنايتهم فلعلهم يعودون إليه يف حلظة من اللحظات ‪‬إِ َّن اهللَ‬
‫َّاس لَر ُؤ ٌ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم‪[ ‬البقرة‪.]143 :‬‬
‫وف َّرح ٌ‬ ‫بالن ِ َ‬
‫‪1‬‬
‫مرفوعا‪.‬‬
‫ً‬ ‫() أخرجه أبو نعيم يف احللية عن أنس‬
‫‪2‬‬
‫() صحيح اجلامع الصغري (‪.)5303‬‬
‫‪3‬‬
‫() صحيح‪ ،‬رواه اإلمام أمحد والرتمذي وصححه األلباين يف صحيح اجلامع (‪.)5253‬‬
‫‪4‬‬
‫() صحيح‪ ،‬رواه الرتمذي وصححه األلباين يف صحيح اجلامع (‪.)1755‬‬
‫‪5‬‬
‫() كنز العمال رقم ‪.10399‬‬

‫‪61‬‬
‫ويكفينا يف ذلك ما حدث من فرعون من طغيان فاق احلدود‪ ،‬ومع ذلك أمهله اهلل عز وجل وأرسل‬
‫إليه موسى وهارون عليهما السالم ‪‬ا ْذ َهبَا إِلَى فِ ْر َع ْو َن إِنَّهُ طَغَى ‪َ ‬ف ُقوالَ لَهُ َق ْوالً لَِّّينًا لَّ َعلَّهُ َيتَ َذ َّك ُر أ َْو‬
‫شى‪[ ‬طه‪ ]44 ،43 :‬فظال حياورانه ويثُبتان له باألدلة الدامغة ألوهية اهلل وربوبيته على خلقه‪ ،‬ولكنه أىب‬ ‫يَ ْخ َ‬
‫واستكرب‪ ..‬وكان ما كان من تتبعه ملوسى يف البحر إىل أن أغرقه اهلل عز وجل‪ ..‬يف هذه اللحظات‪-‬‬
‫ت بِ ِه َبنُو‬
‫آمنَ ْ‬ ‫ِ‬
‫نت أَنَّهُ الَ إِلَهَ إِالَّ الَّذي َ‬
‫آم ُ‬
‫حلظات النهاية‪ ،‬وبعد أن أصبح الغيب عنده كالشهادة قال ‪َ ‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يل َوأَنَا م َن ال ُْم ْسلم َ‬
‫ين‪[ ‬يونس‪.]90 :‬‬ ‫إ ْس َرائ َ‬
‫شهادة ال تنفع يف هذا الوقت‪ ،‬وقت الغرغرة ونزع الروح‪ ،‬ورؤية املالئكة‪ ،‬ومع ذلك فإن جربيل ‪‬‬
‫كان له موقف عجيب انطلق من إدراكه ملدى سعة الرمحة اإلهلية‪ ،‬وانطلق كذلك من بغضه الشديد‬
‫لفرعون وأفعاله الطاغية‪ ،‬وكربه وإصراره على الكفر رغم ما رأى من آيات مبصرة‪.‬‬

‫يقول صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬لما أغرق اهلل فرعون‪ ،‬قال‪ :‬آمنت أنه ال إله إال الذي آمنت به بنو‬
‫إسرائيل‪ ،‬قال جبريل‪ :‬يا محمد! فلو رأيتني وأنا آخذ من ماء البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه‬
‫(‪)1‬‬
‫الرحمة»‪.‬‬

‫رب رءوف‪:‬‬
‫‪ ‬أخي القارئ‪ ,‬لعلك قد ملست مدى شفقة أمك عليكـ وهي ِّ‬
‫ترغبك يف تناول وجبة اإلفطار قبل‬
‫ذهابك ملدرستك أو عملك خوفًا عليك من أن يدامهك التعب واإلرهاق‪.‬‬

‫وأين هي رمحة أمك وعطفها‪-‬مهما بلغا‪ -‬من رمحة ورأفة الرءوف الرحيم‪ ،‬الذي يعاملكـ ويعاملنا‬
‫مجيعا بشفقة تفوق وتفوق شفقة أمك بك‪.‬‬
‫ً‬
‫فمع أنه‪ -‬عز وجل‪ -‬يكلفنا بأداء العبادات ليجزينا عليها اجلنة‪ ،‬إال أنه ال يريد لنا أن نقع يف مشقة أو حرج‬
‫من أدائها ‪َ ‬و َما َج َع َل َعلَْي ُك ْم ِفي الدِّي ِن ِم ْن َح َر ٍج‪[ ‬احلج‪.]78 :‬‬

‫يطالبنا بالصوم‪ ،‬مث يرغبنا يف التعجيل بالفطر‪ ،‬فيكفي الصيام حىت املغرب‪ ،‬وال داعي للتأخري أكثر من‬
‫إلي أعجلهم‬
‫ذلك حىت ال يزداد اإلرهاق‪ ،‬ففي احلديث القدسي‪ :‬قال اهلل عز وجل‪« :‬أحب عبادي َّ‬

‫‪1‬‬
‫() صحيح‪ ،‬أورده اإلمام أمحد‪ ،‬والرتمذي‪ ،‬وصححه األلباين يف صحيح اجلامع (‪.)5206‬‬

‫‪62‬‬
‫فطرا»‪.‬‬
‫(‪)1‬‬
‫ً‬
‫وحيثنا كذلك على السحور‪ ،‬وعلى تأخريه قدر املستطاع لينشط به الصائم ويقوى‪ ،‬ويهون عليه صيام‬
‫يومه‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬تسحروا فإن في السحور بركة»‪.‬‬
‫ربك‪ -‬أخي‪ -‬علمنا على لسان نبيه صلى اهلل عليه وسلم كلمات نقوهلا حىت ال يصيبنا مكروه‪ ،‬ففي‬
‫احلديث‪« :‬ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة‪ :‬بسم اهلل الذي ال يضر مع اسمه شيء‬
‫(‪)3‬‬
‫في األرض وال في السماء وهو السميع العليم‪ -‬ثالث مرات‪ -‬فيضره شيء»‪.‬‬

‫وعند اخلروج من املنزل ومواجهة أحداث احلياة أوصاك أن تقول‪« :‬بسم اهلل‪ ،‬توكلت على اهلل وال‬
‫(‪)4‬‬
‫وهديت‪ ،‬وتنحى عنك الشيطان»‪.‬؟‬
‫حول وال قوة إال باهلل‪ .‬فيقال لك‪ُ :‬كفيت ووقيت ُ‬
‫وتأمل معي هذه الوصية النبوية اليت تقطر شفقة ورمحة إهلية‪:‬‬
‫مخرجا‪ ،‬ورزقه من حيث ال‬
‫ً‬ ‫فرجا‪ ،‬ومن كل ضيق‬
‫«من لزم االستغفار جعل اهلل له من كل هم ً‬
‫(‪)5‬‬
‫يحتسب»‪.‬‬

‫ربك أوصاك على لسان نبيه بأن متيط األذى عن الطريق كيال يتسبب وجوده يف إيذاء الناس؛ شفقة‬
‫عليهم ورمحة هبم‪.‬‬

‫ولكي يشجعنا على تنفيذ هذا األمر أعد مكافأة خاصة ملن يقوم بذلك‪ ,‬قال صلى اهلل عليه وسلم‬
‫(‪)6‬‬
‫«كان على الطريق غصن شجرة يؤذي الناس فأماطها رجل فأُدخل الجنة»‬

‫فأي شفقة ورمحة تلك اليت يغمرنا اهلل هبا؟!‬


‫‪1‬‬
‫() رواه الرتمذي (‪ )700‬وقال حديث حسن‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() متفق عليه‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫() صحيح‪ ،‬رواه الرتمذي وأبو داود وابن حبان وصححه األلباين يف صحيح اجلامع (‪.)5621‬‬
‫‪4‬‬
‫() انظر صحيح اجلامع ح (‪.)6295‬‬
‫‪5‬‬
‫() رواه أبو داود (‪.)1518‬‬
‫‪6‬‬
‫() رواه ابن ماجة (‪ )3682‬وصححه األلباين‪.‬‬
‫رفع الح ـ ـ ــرج‬
‫ومن مظاهر رمحة اهلل وشفقته بعباده رفع احلرج عنهم من خالل ختفيف العبادات عند مظنة وقوعهم‬
‫يف مشقة‪.‬‬

‫فالصلوات اخلمس اليت ال يستغرق أداؤها وقتا طويال‪ ،‬واليت نستفيد حنن منها لتسكب داخلنا‬
‫الطمأنينة‪ ،‬والسالم الداخلي‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬ففي وقت السفر‪ ،‬ومظنة التعب‪ ،‬فإنه سبحانه خيفف عن املسافرين‬
‫عدد ركعات الصلوات الرباعية ليجعلها ركعتني‪ ،‬ويسمح هلم كذلك باجلمع بني الصلوات ختفي ًفا عليهم‪،‬‬
‫ورفعا للحرج عنهم‪ ،‬مع العلم بأنه ليست كل األسفار تسبب تعبًا ومشقة ولكنها الرمحة اإلهلية اليت تغمر‬ ‫ً‬
‫اجلميع ‪‬يُ ِري ُد اهللُ بِ ُك ُم الْيُ ْس َر َوالَ يُ ِري ُد بِ ُك ُم الْعُ ْس َر‪[ ‬البقرة‪.]185 :‬‬

‫ولعلمه سبحانه بأن البعض قد يتحامل على نفسه وال يأخذ هبذه الرخص فلقد أخربنا على لسان نبيه‬
‫(‪)1‬‬
‫بأنه‪ -‬سبحانه‪ -‬حيب أن تؤتى رخصه كما حيب أن تؤتى عزائمه‪.‬‬

‫ومن مظاهر رفع احلرج قوله صلى اهلل عليه وسلم‪ُ « :‬وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا‬
‫(‪)2‬‬
‫عليه»‪.‬‬

‫ومنها كذلك‪ :‬عدم حماسبتنا عما حندث به أنفسنا من خمالفات‪ -‬وما أكثرها‪ -‬يقول صلى اهلل عليه‬
‫(‪)3‬‬
‫وسلم‪« :‬إن اهلل تعالى تجاوز ألمتي عما حدثت به نفسها‪ ،‬ما لم تتكلم به‪ ،‬أو تعمل به»‪.‬‬

‫أيض ا مراعاته سبحانه للحاجات الفطرية للناس وحاالت الضعف البشري اليت‬ ‫ومن مظاهر رفع احلرج ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ث إِلَى نِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اس لَّ ُك ْم َوأَْنتُ ْم لبَ ٌ‬
‫اس‬ ‫سائ ُك ْم ُه َّن لبَ ٌ‬
‫َ‬ ‫الصيَ ِام َّ‬
‫الرفَ ُ‬ ‫تعرتيهم ومن ذلك قوله تعاىل‪ :‬أُح َّل لَ ُك ْم ل َْيلَةَ ِّ‬
‫لَّ ُه َّن‪[ ‬البقرة‪.]187 :‬‬

‫اح‬
‫س َعلَْي ُك ْم ُجنَ ٌ‬
‫ومنها السماح للناس وهم يف رحلة احلج أن يبيعوا ويشرتوا ويتزودوا مبا يريدونه ‪‬ل َْي َ‬
‫ضالً ِّمن َّربِّ ُك ْم‪[ ‬البقرة‪.]198 :‬‬
‫أَن َت ْبَتغُوا فَ ْ‬
‫ال تنس أنك عبد‬
‫‪1‬‬
‫() صحيح اجلامع ح (‪.)1885‬‬
‫‪2‬‬
‫() صحيح اجلامع ح (‪.)711‬‬
‫‪3‬‬
‫() صحيح اجلامع ح (‪.)1730‬‬
‫إن العبد‪ -‬أي عبد‪ -‬من املفرتض عليه أن يقوم بالتكاليف اليت يطلبها منه سيده جملرد أنه عبد‪ ،‬وأن هذا‬
‫أجرا عليه‪ ،‬ألنه خيدمه‬
‫أيضا أن يسأل عن سبب تكليف سيده له بذلك‪ ،‬وال أن ينتظر ً‬ ‫سيده‪ ،‬وليس له ً‬
‫مبوجب أنه عبد عنده‪.‬‬

‫أي أننا وإن افرتض اهلل علينا ما شاء من عبادات فهذا ما تقتضيه عبوديتنا له سبحانه‪ ،‬ويقتضيه كونه‬
‫مستح ًقاـ للعبادة‪ ،‬وعندما نراه‪ -‬جل شأنه‪ -‬خيفف عنا بعض التكاليف‪ ،‬ويرفع بعضها يف أوقات معينة‪،‬‬
‫مراعاة لظروف البعض‪ ،‬فهذا منتهى الرمحة والرأفة من الرب بعبيده املكلفني يف األصل بطاعته وعبادته‪.‬‬

‫شريعته كلها رحمة‬


‫ومما يؤكد هذا املعىن أن أحكام الشريعة اليت أمرنا اهلل أن نتحاكم إليها ونتعامل هبا ما هي إال مظهر‬
‫اك إِالَّ‬
‫عظيم من مظاهر رمحته بعباده‪ ،‬أمل يقل سبحانه لرسوله حممد صلى اهلل عليه وسلم‪َ  :‬و َما أ َْر َسلْنَ َ‬
‫ِ‬
‫جيدا لوجدناها مبثابة السور الشائك‬ ‫ين‪[ ‬األنبياء‪ ]107:‬فاحلدود على سبيل املثال لو تأملناها ً‬ ‫َر ْح َمةً لِّل َْعالَم َ‬
‫الذي حيمي بناء اجملتمع املسلم‪ ،‬والذي ال بد من وجوده وإال ضاع األمن واألمان والثقة واالستقرار ‪َ ‬ولَ ُك ْم‬
‫اص َحيَاةٌ يَا أُولِي األلْبَ ِ‬
‫اب ل ََعلَّ ُك ْم َتَّت ُقو َن‪[ ‬البقرة‪.]179 :‬‬ ‫ص ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫في الْق َ‬
‫واجلهاد يف سبيل اهلل ما هو إال مظهر عظيم من مظاهر الرمحة بعموم الناس‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬كيف يكون القتل والدماء رمحة بالناس؟!‬
‫يكون رمحة بالناس ألن من خالله يزيل املسلمون العوائق اليت حتول بينهم وبني دعوة الناس الذين ال‬
‫يعلمون شيئًا عن اإلسالم‪ ،‬فطغاهتم يشكلون حائال حيول بينهم وبني وصول الدعوة إليهم ‪َ ‬وقَاتِلُ ُ‬
‫وه ْم َحتَّى‬
‫ِِ‬ ‫الَ تَ ُكو َن فِ ْتنَةٌ وي ُكو َن الد ِ ِ‬
‫ِّين هلل فَِإن ا ْنَت َهوا فَالَ عُ ْد َوا َن إِالَّ َعلَى الظَّالم َ‬
‫ين‪[ ‬البقرة‪.]193 :‬‬ ‫ُ‬ ‫ََ‬
‫تقليل األعمال في أعيننا‬
‫ومن مظاهر رمحة اهلل بعباده أنه سبحانه يريد منهم أن يؤدوا ما أمرهم به كي يدخلهم اجلنة‪ ،‬وألنه‬
‫يعلم كراهية نفوسنا للتكليف وحبها للراحة‪ ،‬فإنك جتده يقلل األعمال املطلوبة يف أعيننا ليسهل علينا‬
‫ين ِمن َق ْبلِ ُك ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫ب َعلَى الذ َ‬
‫ِ‬
‫ام َك َما ُكت َ‬ ‫الصيَ ُ‬
‫ب َعلَْي ُك ُم ِّ‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا ُكت َ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫أداءها‪ ،‬فيقول لنا عن الصيام ‪‬يَا أ َُّي َها الذ َ‬
‫ات‪ ‬وما فيها من معان‬ ‫ود ٍ‬‫ات‪[ ‬البقرة‪ ]184 ،183 :‬تأمل عبارة‪ :‬أَيَّ ًاما َّم ْع ُد َ‬ ‫ود ٍ‬
‫ل ََعلَّ ُك ْم َتَّت ُقو َن ‪ ‬أَيَّ ًاما َّم ْع ُد َ‬
‫االستدراج وتيسري العبادة‪.‬‬
‫ونفس األمر بالنسبة للحج‪َ  :‬واذْ ُك ُروا اهللَ ِفي أَيَّ ٍام َّم ْع ُد َ‬
‫ود ٍ‬
‫ات‪[ ‬البقرة‪.]203 :‬‬
‫أما بالنسبة للمحرمات فهو سبحانه خيربنا بأن كل األطعمة واألشربة مباحة لنا إال بعض األصناف‬
‫ْخ ْن ِزي ِر َو َما أ ُِه َّل لِغَْي ِر‬
‫اليسرية‪ ،‬ولو اضطررنا لتناوهلا فال إمث علينا ‪‬إِنَّما ح َّرم َعلَي ُكم الْميتَةَ والدَّم ولَحم ال ِ‬
‫َ َ َ ْ ُ َْ َ َ َ ْ َ‬
‫يم‪[ ‬النحل‪.]115 :‬‬ ‫اد فَِإ َّن اهلل غَ ُف ِ‬
‫اغ والَ َع ٍ‬ ‫اهلل بِ ِه فَ َم ِن ا ْ‬
‫ِ‬
‫ور َّرح ٌ‬‫َ ٌ‬ ‫ضطَُّر غَْي َر بَ ٍ َ‬
‫الرحمة المدَّخرة‬
‫ب‬
‫إن احلديث عن مظاهر الرمحة اإلهلية ال ينتهي‪ ،‬وكيف له أن ينتهي وقد أخربنا سبحانه بأنه ‪َ ‬كتَ َ‬
‫ت ُك َّل َش ْي ٍء‪‬‬
‫الر ْح َمةَ‪[ ‬األنعام‪ ]12 :‬فرمحته سبحانه قد مشلت كل شيء ‪َ ‬و َر ْح َمتِي َو ِس َع ْ‬
‫َعلَى َن ْف ِس ِه َّ‬
‫[األعراف‪.]156 :‬‬

‫ولعل أفضل ما خنتم به احلديث عن هذا املظهر العظيم من مظاهر حب اهلل تعاىل هذه البشرى اليت‬
‫محلها إلينا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عندما أخربنا بأن اهلل عز وجل قد خلق مائة رمحة جعل جزءًا‬
‫واحد ا منها للدنيا يرتاحم هبا الناس فيما بينهم‪ ،‬أما بقية املئة (التسعة وتسعون جزءًا) فقد ادخرها‪-‬‬
‫ً‬
‫سبحانه‪ -‬ليوم أحوج ما نكون فيه إىل الرمحة‪ ,‬ليوم القيامة‪.‬‬

‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن اهلل تعالى خلق يوم خلق السماوات واألرض مائة رحمة‪ ،‬كل رحمة‬

‫طباق بين السماء واألرض‪ ،‬فجعل منها في الدنيا رحمة‪ ،‬فبها تعطف الوالدة على ولدها‪ ،‬والوحش‬
‫تسعا وتسعين‪ ،‬فإذا كان يوم القيامة أكملها‬
‫والطير بعضها على بعض‪ ،‬وأخَّر ً‬
‫بهذه الرحمة» (‪.)1‬‬

‫وكذلك قوله صلى اهلل عليه وسلم‪:‬ـ « والذي نفسي بيده ليغفرن اهلل يوم القيامة مغفرة ما خطرت على قلب‬
‫بشر‪ ،‬والذي نفسي بيده ليغفرن اهلل يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه»؟(‪. )2‬‬

‫***‬

‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه الطرباين‪ ..‬انظر كنز العمال (‪.) 10359‬‬
‫سابعا‪ :‬من مظاهر حب اهلل لك‪:‬‬ ‫ً‬
‫تيسير طريقك إلى التوبة‬
‫والرجـ ـ ـ ـ ــوع إلي ـ ـ ــه‬
‫كان رجل يف بين إسرائيل امسه «الكفل»‪ ،‬وكان معروفًا بني الناس بفحشه وإجرامه‪ ،‬وذات ليلة وبينما‬
‫هو يف منزله إذ مسع طرقًا على بابه‪ ،‬فقام ليفتحه فإذا بامرأة يقطر منها احلياء وقد جاءته لتطلبـ منه أن‬
‫يقرضها مبلغً ا من املال حلاجتها الضرورية إليه‪ ،‬فيوافق على إقراضها بشرط أن متكنه من نفسها‪ ،‬فتضطر‬
‫املرأة للموافقة‪ ،‬وعندما يقرتب منها إذ هبا ترتعد‪ ،‬فيسأهلا عن السبب‪ ،‬فتجيبه بأهنا مل تفعل هذا من قبل‪،‬‬
‫وإهنا ختاف من غضب اهلل عليها‪.‬‬

‫هنا توقف الكفل عما كان ينوي فعله‪ ،‬وقال هلا‪ :‬من الذي ينبغي له أن خياف من غضب اهلل‪ :‬أنا أم‬
‫أنت؟ مث أعطاها ما تريد من مال‪ ،‬وتركها تنصرف‪ ،‬والندم يعتصر قلبه على آثامه اليت اقرتفها‪ ،‬وعلى‬
‫استخفافه بأوامر ربه‪ ،‬مث توجه إىل اهلل هبذا القلبـ املنكسر يسأله العفو والصفح والتوبة‪.‬‬

‫هل انتهت القصة على هذا الوضع؟!‬


‫ال‪ ،‬فقد حدث أن جاءه املوت وهو يف هذه احلالة‪ ،‬فلما أشرقت الشمس وجاء الصباح‪ ،‬فوجئ الناس‪,‬‬
‫مجيعا بأن باب داره مكتوب‬
‫جريانه ومعارفه الذين تركوه بالليل‪ ,‬وهم يعلمون عنه ما يعلمون‪ ,‬فوجئوا ً‬
‫عليه «إن اهلل قد غفر للكفل»‪.‬‬

‫مل يصدقوا ما قرءوه‪ ،‬فهرعوا إىل نبيهم‪ ،‬فأوحى اهلل إليه مبا حدث‪ ،‬فأخربهم خربه‪ ،‬فتلقوه فاغرين‬
‫أفواههم‪ ،‬غري مصدقني ما حدث‪.‬‬

‫دروسا كثرية حتملها هذه القصة‪ ،‬لعل من أمهها أن اهلل عز وجل‬


‫بال شك‪ -‬أخي القارئ‪ -‬أن هناك ً‬
‫عندما وجد من الكفل هذه التوبة الصادقة‪ ،‬وهذا الندم‪ ،‬أمر ملك املوت بأن يأخذه على هذا احلال لُينهي‬
‫حياته هناية سعيدة‪ ،‬فرمبا‪ -‬كما يف علم اهلل‪ -‬أنه إذا ما استمرت حياته لعاد مرة أخرى لغيه وعصيانه‪.‬‬

‫ومن هذه الدروس كذلك معرفة مدى حب اهلل العظيم لعباده فكتابة العبارة على الباب ما هي إال‬
‫مجيع ا بأن رمحة اهلل واسعة‪ ..‬تسع اجلميع‪ ،‬فال ينبغي ملذنب مهما كان ُجرمه أن ييأس أو يقنط‬
‫رسالة للناس ً‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫فر له‪ ..‬إهنا رسالة تقول لكل فرد‪ :‬أقبل وال ختف‪ ،‬فربك ينتظرك‪.‬‬
‫من بلوغها‪ ،‬والدليل أن الكفل قد غُ َ‬
‫مجيعا‪ ،‬ويريد هلم اخلري‪ ،‬ودخول اجلنة‪،‬‬
‫وكيف ال يكون األمر كذلك‪ ،‬واهلل عز وجل حيب عباده ً‬
‫وينتظر من أي منهم التفاتة صادقة إليه ليقبل عليه‪ ،‬ويعفو عما مضى منه‪.‬‬

‫ومما يؤكد هذا املعىن ما حدث لقاتل املئة نفس‪:‬‬


‫نفسا‪ ،‬فسأل عن أعلم‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬كان فيمن كان قبلكم رجل قتل تسعة‪ %‬وتسعين ً‬
‫نفسا‪ ،‬فهل له من توبة؟ فقال‪ :‬ال‪.‬‬ ‫َّ‬
‫أهل األرض‪ ،‬فَ ُدل على راهب‪ ،‬فأتاه فقال إنه قتل تسعة وتسعين ً‬
‫فكمل به مئَة‪ ،‬ثم سأل عن أعلم أهل األرض‪ ،‬فَ ُد َّل على رجل عالم‪ ،‬فقال‪ :‬إنه قَتل مئة نفس فهل‬
‫فقتله َّ‬
‫له من توبة؟‬

‫ُناسا يعبدون اهلل‬


‫فقال‪ :‬نعم‪ ،‬ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا‪ ،‬فإن بها أ ً‬
‫صف الطريق أتاه الموت‪،‬‬ ‫فاعبد اهلل معهم‪ ،‬وال ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء‪ ،‬فانطلق حتى إذا نَ َ‬
‫فاختصمت فيه مالئكة‪ %‬الرحمة ومالئكة العذاب‪ ،‬فقالت مالئكة الرحمة‪ :‬جاء تائبًا مقبالً بقلبه إلى اهلل‬
‫خيرا قط‪ ،‬فأتاهم ملك في صورة آدمي فجعلوه بينهم‪-‬‬ ‫تعالى‪ ،‬وقالت مالئكة العذاب‪ :‬إنه لم يفعل ً‬
‫حكما‪ -‬فقال‪ :‬قيسوا ما بين األرضين فإلى أيتهما كان أدنى فهو له‪ ،‬فقاسوا فوجدوه أدنى إلى‬ ‫أي ً‬
‫األرض التي أراد‪ ،‬فقبضته مالئكة الرحمة»(‪.)1‬‬

‫تقريب‪ ،‬وقال‪ :‬قيسوا ما بينهما‪،‬‬


‫ويف رواية‪« :‬فأوحي اهلل تعاىل إىل هذه أن تباعدي‪ ،‬وإىل هذه أن َّ‬
‫فوجدوه إىل هذه أقرب بشرب فغفر له»‪.‬‬

‫ال يحوجنا إلى المشي الكثير‬


‫نعم‪ ،‬أخي القارئ‪ ،‬إن ربك ينتظر منك أي بادرة صادقة يف العودة إليه‪ ،‬ليقرتب منك ويقرتب‪ ،‬وال‬
‫ذراعا‪ ،‬ومن‬
‫شبرا‪ ،‬تقربت منه ً‬
‫حيوجك إىل املشي الكثري‪ ،‬كما يف احلديث القدسي‪ ..« :‬ومن تقرب مني ً‬
‫باعا‪ ،‬ومن أتاني يمشي أتيته هرولة‪.)2(»... ،‬‬
‫ذراعا تقربت منه ً‬
‫تقرب مني ً‬

‫‪1‬‬
‫() متفق عليه‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه مسلم من حديث أيب ذر‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫يعلق اإلمام النووي على هذا احلديث فيقول‪:‬‬
‫أي من تقرب إىل بطاعيت تقربت إليه برمحيت‪ ،‬وإن زاد عبدي زدت‪ ،‬فإن أتاين ميشي وأسرع يف طاعيت‬
‫أتيته هرولة أي صببت عليه الرمحة‪ ،‬وسبقته هبا‪ ،‬ومل أحوجه إىل املشي الكثري يف الوصول إىل املقصود (‪.)1‬‬

‫فهل توافقىن ‪-‬أخى‪ -‬أن هذا احلديث وغريه مما سبق ذكره يدل على شدة شوقه سبحانه لعودة عبادة‬
‫إليه‪ ،‬وأنه أشد شوقا هلذه العودة من العبادة أنفسهم؟!‬

‫ولو ُكشفت احلُ ُجب‪ ،‬وتأكد الشاردون عن اهلل من هذه احلقيقة ملاتوا خجال منه سبحانه‪.‬‬
‫بابه مفتوح للجميع‪:‬‬
‫‪ ‬أخي ‪ ..‬ما تعليقك على قوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن اهلل تعالى يبسط يده بالليل ليتوب‬
‫مسيء النهار‪ ،‬ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها»(‪)2‬؟‬

‫مفتوحا أمامك ليل هنار‪ ،‬وبدون وجود حاجب وال‬


‫ً‬ ‫أال يكفيك دليال على حب ربك لك أن جعل بابه‬
‫واسطة‪ ،‬فمىت شئت‪ ،‬ومىت رغبت يف الدخول عليه دخلت؟!‬

‫أمل يكن من املمكن أن يكون الدخول على اهلل ودعاؤه يف وقت حمدد بالليل أو بالنهار‪ ،‬وعلى من‬
‫يريد أن جياب طلبه أن جيتهد يف حتري هذا الوقت كما حيدث مع كل صاحب سلطان‪.‬‬

‫أبدا يف وجه أحد مهما كان ُجرمه‪.‬‬


‫ولكنه سبحانه وتعاىل مل يشأ أن يفعل ذلك‪ ،‬فلم يغلق بابه ً‬
‫نعم‪ ،‬مهما كان ُجرمه‪.‬‬
‫وليس ذلك للمسلمني فحسبـ بل جلميع عباده من يهود ونصاري وملحدين وبوذيني‪ ,‬ومن منافقني‪،‬‬
‫وفاجرين‪ ،‬وقطاع طرق‪ ،‬وجمرمني‪.‬‬

‫أليس كل واحد من هؤالء له مكان يف اجلنة يريد اهلل له أن يشغله‪ ،‬وال يرتكه؟!‬
‫ِِ‬
‫فإن كنت تشك يف هذه احلقيقة فتأمل معي توجيهه لرسوله الكرمي‪ :‬قُل للَّذ َ‬
‫ين َك َف ُروا إِن يَ َنت ُهوا‬
‫ف‪[ ‬األنفال‪ ]38 :‬هكذا بكل بساطة‪.‬‬
‫ُيغََف ْر ل َُه ْم َّما قَ ْد َسلَ َ‬
‫‪1‬‬
‫() صحيح مسلم بشرح النووي‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫وتأمل خطابه للمنافقني‪ ،‬فبعد أن حذرهم وخوفهم من مآل أفعاهلم عاد فلم ييئسهم من رمحته بل جعل‬
‫األس َف ِل ِمن النَّا ِر ولَن تَ ِج َد ل َُهم نَ ِ‬
‫ص ًيرا‪ ‬إِالَّ‬ ‫ممهدا للتوبة والعودة إليه ‪‬إِ َّن الْمنَافِ ِقين فِي الد ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّرك ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ َ‬ ‫الطريق أمامهم ً‬
‫ِِ‬ ‫ين وسو َ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫اهلل وأَ ْخلَصوا ِد َين ُهم ِ‬
‫هلل فَأُولَئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين‬
‫ف ُي ْؤت اهللُ ال ُْم ْؤمن َ‬ ‫ك َم َع ال ُْم ْؤمن َ‪ْ َ َ %‬‬ ‫ْ‬ ‫ص ُموا بِ َ ُ‬ ‫َصلَ ُحوا َوا ْعتَ َ‬
‫ين تَابُوا َوأ ْ‬
‫ا لذ َ‬
‫يما‪[ ‬النساء‪.]146 ،145 :‬‬ ‫ِ‬
‫َج ًرا َعظ ً‬‫أْ‬
‫أحدا من خلقه ‪َ ‬ما َي ْف َع ُل اهللُ بِ َع َذابِ ُك ْم‬
‫وبعد ذلك يأيت التأكيد على أن اهلل عز وجل ال يريد أن يعذب ً‬
‫ِ ِ‬
‫يما‪[ ‬النساء‪.]147 :‬‬ ‫إِن َش َك ْرتُ ْم َو َ‬
‫آم ْنتُ ْم َو َكا َن اهللُ َشاك ًرا َعل ً‬
‫وتأمل كذلك – أخي القارئ – خطابه للذين يعذبون الناس‪ ,‬الطواغيت الظلمة‪ ,‬هؤالء لو تابوا لتاب‬
‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ْح ِر ِيق‪‬‬
‫اب ال َ‬
‫َّم َول َُه ْم َع َذ ُ‬
‫اب َج َهن َ‬
‫َم َيتُوبُوا َفلَ ُه ْم َع َذ ُ‬
‫ين َوال ُْم ْؤمنَات ثُ َّم ل ْ‬ ‫عليهم ‪‬إِ َّن الذ َ‬
‫ين َفَتنُوا ال ُْم ْؤمن َ‬
‫[الربوج‪.]10 :‬‬
‫َّ ِ‬
‫والذين يروعون اآلمنني ويقطعون الطريق حدد الشرع جزاءهم ‪‬إِنَّ َما َج َزاءُ الذ َ‬
‫ين يُ َحا ِربُو َن اهللَ‬
‫ادا أَن ي َقَّتلُوا أَو يصلَّبوا أَو ُت َقطَّع أَي ِدي ِهم وأَرجلُهم ِّمن ِخالَ ٍ‬
‫ف أ َْو يُن َف ْوا‬ ‫َو َر ُسولَهُ َويَ ْس َع ْو َن فِي األ َْر ِ‬
‫َ ْ َْ ُْ ُ ْ‬ ‫ْ َُُ ْ‬ ‫سً ُ‬ ‫ض فَ َ‬
‫يم‪[ ‬املائدة‪ .]33 :‬ولكن لو تاب هؤالء‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي فِي ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ض ذَلِ َ‬ ‫ِم َن األ َْر ِ‬
‫اب َعظ ٌ‬
‫الد ْنيَا َول َُه ْم في اآلَخ َرة َع َذ ٌ‬ ‫ك ل َُه ْم خ ْز ٌ‬
‫اللصوص القتلة لتاب اهلل عليهم كما جاء يف اآلية اليت تليها‪:‬‬
‫َن اهلل غَ ُف ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫يم‪[ ‬املائدة‪.]34 :‬‬
‫ور َّرح ٌ‬ ‫‪‬إِالَّ الذ َ‬
‫ين تَابُوا من َق ْب ِل أَن َت ْقد ُروا َعلَْي ِه ْم فَا ْعلَ ُموا أ َّ َ ٌ‬
‫ات َوال ُْه َدى ِمن‬ ‫وكذلك الذين يكتمون ما أنزل اهلل من اهلدى ‪‬إِ َّن الَّ ِذين يكْتُمو َن ما أَْنزلْنَا ِمن الْبِّينَ ِ‬
‫ََ ُ َ َ َ َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اب أُولَئِ َ‬ ‫َّاس ِفي ال ِ‬ ‫َب ْع ِد َما َبَّينَّاهُ لِلن ِ‬
‫َصلَ ُحوا َو َبَّينُوا‬ ‫لع ُن ُه ُم اهللُ َو َيل َْع ُن ُه ُم الالَّعنُو َن ‪ ‬إِالَّ الذ َ‬
‫ين تَابُوا َوأ ْ‬ ‫ك يَ َ‬ ‫ْكتَ ِ‬
‫َّواب َّ ِ‬ ‫فَأُولَئِ َ‬
‫يم‪[ ‬البقرة‪.]160 ،159 :‬‬ ‫الرح ُ‬ ‫وب َعلَْي ِه ْم َوأَنَا الت َّ ُ‬
‫ك أَتُ ُ‬
‫أقبل وال تخف‬

‫‪ ‬أخي‪ ,‬إن ربك ينتظرك – وينتظرنا ً‬


‫مجيعا – يناديك‪ :‬أقبل وال ختف‪ ..‬مىت جئتين قبلتك‪ ،‬وعلى أي‬
‫حال تكون فيها «يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك وال أبالي‪ ،‬يا ابن‬
‫آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء‪ ،‬ثم استغفرتني غفرت لك‪ ،‬يا ابن آدم لو أتيتني بقراب األرض‬
‫خطايا‪ ،‬ثم لقيتني ال تشرك بي شيئًا‪ ،‬ألتيتك بقرابها مغفرة»(‪.)1‬‬
‫‪1‬‬
‫() رواه الرتمذي (‪ )3534‬وقال حديث حسن‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫نعم يا أخي إن مغفرته سبحانه تسع كل ذنوبك‪ ،‬وكل ذنوبنا‪ ،‬كل ما هو مطلوبـ منك أن تُقبل عليه‬
‫بصدق‪ ,‬أن تعتذر له عما مضى من ذنوب وتقصري‪.‬‬

‫فإن قلت ولكن ذنيب كبري ‪ ..‬أكرب مما يتخيله أحد‪.‬‬


‫ال يا أخي‪ ،‬ال تقل هذا‪ ،‬فماذا فعلت؟!‬
‫هل سرقت‪ ،‬هل زنيت‪ ،‬هل أشركت‪ ،‬هل‪...‬‬
‫مهما فعلتـ فبابه مفتوح لك ‪ ..‬أتدري ملاذا؟‬

‫ألنه يريد أن يتوب عليك ‪َ ‬واهللُ يُ ِري ُد أَن َيتُ َ‬


‫وب َعلَْي ُك ْم‪[ ‬النساء‪.]27 :‬‬
‫وملاذا يريد أن يتوب عليك؟‬
‫[البقرة‪:‬‬ ‫ْجن َِّة َوال َْم ْغ ِف َر ِة بِِإ ْذنِِه‪‬‬
‫ليدخلك اجلنة‪ ،‬دار أبيك‪ ،‬واليت فيها جزء خمصص لك ‪َ ‬واهللُ يَ ْدعُو إِلَى ال َ‬
‫‪.]221‬‬
‫وليس أدل على ذلك من فرحته سبحانه الشديدة عندما يتوب عبد من عباده ولو كان من أشد‬
‫املعاندين له‪.‬‬
‫فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان‬
‫تأمل معي قوله صلى اهلل عليه وسلم «هلل أشد ً‬
‫على راحلته بأرض فالة‪ ،‬فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه‪ ،‬فأيس منها‪ ،‬فأتى شجرة فاضطجع في‬
‫ظلها‪ ،‬وقد أيس من راحلته‪ ،‬فبينما هو كذلك إذا هو بها‪ ،‬قائمة عنده‪ ،‬فأخذ بخطامها ثم قال من شدة‬
‫الفرح‪ :‬اللهم أنت عبدي وأنا ربك‪ .‬أخطأ من شدة الفرح»(‪.)1‬‬
‫فرحا بتوبة عبده من العقيم‬
‫وإليك كذلك هذا احلديث العجيب‪ ,‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬هلل أشد ً‬
‫الوالد‪ ،‬ومن الضال الواجد‪ ،‬ومن الظمآن الوارد»(‪.)2‬‬
‫يعلمنا ما نقوله لنتوب‬
‫شديدا‪ ،‬ولكنه مل يعرف كيف يعرب عن ندمه‬
‫ندما ً‬
‫ملا عصا آدم – عليه السالم – ربه‪ ،‬ندم ً‬
‫‪1‬‬
‫() رواه البخاري ومسلم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه ابن عساكر يف أماليه عن أىب هريرة ‪ ...‬وأورده اهلندي يف كنز العمال (‪.)10165‬‬

‫‪72‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫واعتذاره لربه‪ ,‬فرأى منه اهلل هذه احلال فدلَّه – الرحيم – على ما يقوله له‪ ،‬ليختصر عليه الطريق‬
‫َّواب َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪َ ‬فَتلَ َّقى َ ِ ِ ِ ٍ‬
‫يم‪[ ‬البقرة‪.]37 :‬‬
‫الرح ُ‬ ‫اب َعلَْيه إِنَّهُ ُه َو الت َّ ُ‬
‫آد ُم من َّربِّه َكل َمات َفتَ َ‬
‫وكذلك ما حدث مع بين إسرائيل‪ ،‬فبعد أن ارتكبوا كبائر الذنوب‪ ،‬وعبدوا العجل‪ ،‬وقالوا لنبيهم‪ :‬أرنا‬
‫اهلل جهرة و‪ ..‬أراد اهلل أن يتوب عليهم فدهلم على وسيلة ذلك واأللفاظ اليت يقولوهنا ‪َ ‬وإِ ْذ ُقلْنَا ا ْد ُخلُوا َه ِذ ِه‬
‫اب ُس َّج ًدا َوقُولُوا ِحطَّةٌ َّنغْ ِف ْر لَ ُك ْم َخطَايَا ُك ْم َو َسنَ ِزي ُد‬ ‫الْ َقريةَ فَ ُكلُوا ِم ْنها حي ُ ِ‬
‫ث ش ْئتُ ْم َرغَ ًدا َوا ْد ُخلُوا الْبَ َ‬ ‫َ َْ‬ ‫َْ‬
‫ين‪[ ‬البقرة‪.]58 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال ُْم ْحسن َ‬
‫فأي رب غفور رحيم هو ربنا!‬
‫يعلمنا كلمات نقوهلا‪ ،‬وأدعية ندعوه هبا حتمل معان عظيمة‪ ،‬مث خيربنا بأننا لو قلناها بصدق غفر لنا‬
‫ذنوبنا وأعطانا مرادنا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ًرا َك َما َح َملْتَهُ‬‫ومن ذلك قوله تعاىل‪َ  :‬ر َّبنَا الَ ُت َؤاخ ْذنَا إِن نَّسينَا أ َْو أَ ْخطَأْنَا َر َّبنَا َوالَ تَ ْح ِم ْل َعلَْينَا إِ ْ‬
‫ف َعنَّا َوا ْغ ِف ْر لَنَا َو ْار َح ْمنَا أ َ‬
‫َنت َم ْوالَنَا‬ ‫ين ِمن َق ْبلِنَا َر َّبنَا َوالَ تُ َح ِّملْنَا َما الَ طَاقَةَ لَنَا بِ ِه َوا ْع ُ‬ ‫َّ ِ‬
‫َعلَى الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين‪[ ‬البقرة‪.]286 :‬‬ ‫ص ْرنَا َعلَى الْ َق ْوم الْ َكاف ِر َ‬‫فَانْ ُ‬
‫هذه الكلمات النورانية لو أردنا نُعرَّب عما حتمله من معان بكلمات من عندنا فكم عبارة سنقوهلا؟ وهل‬
‫سرتقى تلك العبارات فتليق ببالغة اآليات؟!‬

‫مث إن هذه اآليات وغريها من األدعية مما ورد على لسان املؤمنني‪ ,‬من الذي أنزهلا؟!‬
‫أليس هو اهلل عز وجل؟!‬
‫ومن هم هؤالء املؤمنني الذي يقولوهنا؟!‬
‫أشخاص ا بعينهم‪ ،‬ولكنها منوذج يقدمه اهلل لنا لكي خيتصر علينا طريق اختيار الكلمات‬
‫ً‬ ‫إهنم ليسوا‬
‫والعبارات اليت تنال رضاه‪ ،‬وتستفتح باب فضله وكرمه‪ ،‬فيجيب علينا – حني نرددها – بفتح خزائن عفوه‬
‫وفضله ورزقه‪.‬‬
‫وقد ورد أن العبد حني يقرأ‪ :‬ر َّبنا الَ ُت َؤ ِ‬
‫اخ ْذنَا إِن نَّ ِسينَا أ َْو أَ ْخطَأْنَا‪ ‬جييب سبحانه‪« :‬قد فعلت»‪،‬‬ ‫ََ‬

‫‪73‬‬
‫ين ِمن َق ْبلِنَا‪ ‬جييب اهلل‪« :‬قد فعلت»‬ ‫َّ ِ‬
‫فإذا قال‪َ  :‬ر َّبنَا َوالَ تَ ْح ِم ْل َعلَْينَا إِ ْ‬
‫ص ًرا َك َما َح َملْتَهُ َعلَى الذ َ‬
‫وهكذا(‪.)1‬‬

‫فانظر إىل مدى حب اهلل لنا‪ ,‬يعلمنا ما نقول‪ ،‬ليجيبنا بعد القول‪ :‬قد فعلت!‪.‬‬
‫عدم االستقصاء‬
‫أرأيت لو أن زميال لك قد أساء إليك إساءات بالغة‪ ،‬وارتكب يف حقك خمالفات جسيمة‪ ،‬مث جاءك‬
‫بعد أن أفسد وأفسد ليعتذر لك عما فعله‪ ,‬أليس أدىن ما يتوقع منك ساعتها أن جتلس معه وتعاتبه‪ ،‬وتطلب‬
‫منه إصالح ما أفسده قبل قبول اعتذاره‪ ،‬وأن تأخذ منه املواثيق على ذلك؟!‬
‫ولكن اهلل عز وجل ال يفعل معنا ذلك‪ ،‬فهو يقبل منا االعتذار – مهما كان حجم جرائمنا يف حقه –‬
‫دون استقصاء‪ ،‬كما حدث مع موسى – عليه السالم – فبعد أن قتل القبطي‪ ،‬وقبيل هروبه من مصر قال‪:‬‬
‫ت َن ْف ِسي فَا ْغ ِف ْر لِي‪ ‬فبماذا أجاب اهلل؟ ‪َ ‬فغََف َر لَهُ‪ ‬ملاذا املغفرة بكل هذه السهولة‬
‫ب إِنِّي ظَلَ ْم ُ‬
‫ال َر ِّ‬
‫‪‬قَ َ‬
‫يم‪[ ‬القصص‪.]16 :‬‬ ‫‪‬إِنَّه هو الْغَ ُفور َّ ِ‬
‫الرح ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ َُ‬
‫أحد ا بإصالح ما أفسده إال إذا كان يف حقوق الناس – رمحة هبم – أما ما كان يف حقه‬
‫ال يطالب ً‬
‫سبحانه‪ ،‬فهو يتجاوز عنه ‪ ..‬ملاذا؟!‬

‫ألنه ال يريد أن يضع أي عقبات أمام طريق التوبة‪.‬‬


‫ميسرا للجميع دون استثناء‪.‬‬
‫يريد أن جيعل الطريق سهال ً‬
‫يكفي أن يندم املرء على ما فعل‪ ،‬ويستغفر اهلل بصدق ويتوب إليه‪.‬‬
‫يكفي ذلك‪ ،‬فليس املطلوب منه تقدمي كشف باملخالفات اليت ارتكبها‪ ،‬وكيف سيصلحها ‪..‬تأمل معي‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫سهُ ثُ َّم يَ ْسَتغْف ِر اهللَ‪ ‬ما الذي سيحدث إن فعلـ ذلك؟ ‪‬يَجد اهللَ‬
‫وء أ َْو يَظْل ْم َن ْف َ‬
‫قوله تعاىل‪َ  :‬و َمن َي ْع َم ْل ُس ً‬
‫ِ‬
‫فرحا بتوبته‪ ،‬ألنه حيبه‪ ،‬وينتظر منه‬
‫جبارا‪ .‬بل جيده ً‬
‫منتقما وال جيده ً‬ ‫يما‪[ ‬النساء‪ .]110 :‬ال جيده ً‬ ‫ورا َّرح ً‬
‫غَ ُف ً‬
‫ين‪[ ‬البقرة‪.]222 :‬‬ ‫ب الت َّ ِ‬
‫َّواب َ‬ ‫هذه التوبة ‪‬إِ َّن اهللَ يُ ِح ُّ‬
‫يسهل علينا طريق التوبة‬

‫‪1‬‬
‫() انظر صحيح مسلم (‪.)126‬‬

‫‪74‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫وألنه سبحانه حيبنا ويريد لنا اجلنة‪ ،‬لذلك فهو يسهل علينا طريق التوبة من كل جانب‪.‬‬
‫َس َرفُوا‬ ‫اد َّ ِ‬‫ِ ِ‬
‫ين أ ْ‬
‫ي الذ َ‬ ‫يطمئننا بأنه سيغفر لنا مجيع ذنوبنا – مهما بلغت – وذلك مبجرد توبتنا ‪‬قُ ْل يَا عبَ َ‬
‫الذنُوب ج ِميعا إِنَّه هو الْغَ ُفور َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم‪[ ‬الزمر‪.]53 :‬‬‫الرح ُ‬ ‫ُ‬ ‫َعلَى أَ ْن ُفس ِه ْم الَ َت ْقنَطُوا من َّر ْح َمة اهلل إِ َّن اهللَ َي ْغف ُر ُّ َ َ ً ُ ُ َ‬
‫ويؤكد لنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على هذا املعىن فيقول‪« :‬إن عب ًدا أصاب ذنبًا فقال‪ :‬رب‬
‫أذنبت‪ ،‬فاغفره‪ ،‬فقال ربه‪ :‬أعلم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي‪ ،‬ثم مكث ما‬
‫رب أذنبت آخر‪ ،‬فاغفر لي‪ .‬قال‪ :‬أعلم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب‬ ‫شاء اهلل‪ ،‬ثم أصاب ذنبًا‪ ،‬فقال‪َّ :‬‬
‫رب أذنبت آخر‪ ،‬فاغفر لي‪ ،‬قال‪ :‬أعلم عبدي أن له‬ ‫ويأخذ به؟ غفرت لعبدي‪ ،‬ثم أصاب ذنبًا‪ ،‬فقال‪َّ :‬‬
‫ربًا يغفر الذنب ويأخذ به؟ قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء»(‪.)1‬‬

‫يعين‪ -‬كما يقول ابن رجب – ما دام على هذا احلال كلما أذنب استغفر(‪.)2‬‬
‫شديدا؟‬
‫أتدري ما الذي يغضب ربك غضبًا ً‬
‫جاء رجل إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يسأله عن سعة رمحة اهلل‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫«جئت تسألني عن سعة رحمة اهلل؟ وأخبرك أن اهلل تعالى يقول‪ :‬ما غضبت على أحد غضبي على‬
‫عبد أتى معصية فتعاظمها في جنب عفوي‪ ،‬فلو كنت معُ َّجال أو كانت العجلة من شأني لعجلت‬
‫للقانطين من رحمتي»(‪.)3‬‬

‫مل تعلموا قدري لذلك أخطأمت يف حقي‬


‫ختيل أن ابنًا من األبناء قد أخطأ يف حق أبيه‪ ،‬ويريد أبوه منه أن يعتذر ليساحمه على خطئه‪ ،‬فرتاه يسهل‬
‫عليه طريق االعتذار‪ ،‬فيقول له لعلك مل تدرك أن ما فعلته كان خطأ‪ ،‬ولعلك قد أخذتك الغفلة حينها‬
‫مندفعا إىل االعتذار بعد أن شعر باألمان من جانب والده‪.‬‬
‫ولعلك ‪ ،....‬فيجد االبن نفسه ً‬
‫وء بِ َج َهال ٍَة ثُ َّم تَابُوا ِمن َب ْع ِد‬ ‫ين َع ِملُوا ُّ‬
‫الس َ‬
‫أكثر من هذا يفعله اهلل معنا‪ ,‬تأمل قوله تعاىل‪ :‬ثُ َّم إِ َّن ربَّ َ ِ ِ‬
‫ك للَّذ َ‬ ‫َ‬

‫‪1‬‬
‫() متفق عليه‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() شرح احلديث لبيك اللهم لبيك البن رجب ‪.136/‬‬
‫‪3‬‬
‫() كنز العمال (‪.)5901‬‬

‫‪75‬‬
‫ك ِمن بع ِدها لَغَ ُف ِ‬ ‫ذَلِ َ‬
‫يم‪[ ‬النحل‪.]119 :‬‬
‫ور َّرح ٌ‬
‫ٌ‬ ‫َصلَ ُحوا إِ َّن َربَّ َ َ ْ َ‬
‫ك َوأ ْ‬
‫َصلَ َح‬ ‫الرحمةَ أَنَّه من َع ِمل ِم ْن ُكم سوء بِجهال ٍَة ثُ َّم تَ ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫اب من َب ْعده َوأ ْ‬
‫َ‬ ‫َ ْ ُ ً ََ‬ ‫ب َربُّ ُك ْم َعلَى َن ْفس ‪%‬ه َّ ْ َ ُ َ‬
‫وقوله‪َ  :‬كتَ َ‬
‫يم‪[ ‬األنعام‪.]54 :‬‬ ‫فَأَنَّه غَ ُف ِ‬
‫ور َّرح ٌ‬
‫ُ ٌ‬
‫إهنا رسالة تطمني وترغيب تقول لنا‪ :‬لقد أخطأمت واقرتفتم السيئات ألنكم كنتم غافلني عين‪ ،‬جاهلني‬
‫بقدري‪ ،‬فما عليكم إال أن تستغفروين ألغفرـ لكم وأتوب عليكم‪.‬‬
‫لننتهز الفرصة‬
‫‪ ‬أخي القارئ‪:‬‬
‫ويف هناية احلديث عن هذا املظهر العظيم من مظاهر حب ربك لك‪ ،‬ولسائر عباده‪ ،‬تبق كلمة ال بد‬
‫أن تُذكر يف هذا املقام وهي أن كل ما قيل يف الصفحات السابقة عن ترغيب اهلل لعباده يف التوبة وتيسريه‬
‫لطريقها‪ ،‬ما هو إال استدراج منه سبحانه هلم لكي يسارعوا بالفرار والعودة إليه‪ ،‬ومن مثَّ يرزقهم احلياة‬
‫ور‪[ ‬سبأ‪.]15 :‬‬
‫ب غَ ُف ٌ‬
‫الطيبة يف الدنيا‪ ،‬واجلنة يف اآلخرة ‪َ‬ب ْل َدةٌ طَيِّبَةٌ َو َر ٌّ‬
‫ولكن هب أن البعض مل يستفد من هذه الفرصة العظيمة اليت أتاحها اهلل له‪ ،‬ومل يتب إليه أو يقبل عليه‪،‬‬
‫وظل يف غفلته مييَّن نفسه أنه سيفعل ذلك بعد حني ‪ ..‬بعد أن حيج‪ ،‬أو يزوج األوالد‪ ،‬أو خيرج على املعاش‪...‬‬
‫يوما بعد يوم دون أن يشعروا‪ ،‬مث يفاجئوا مبلك‬‫بال شك أن هؤالء سيندمون أشد الندم عندما تتسرب أعمارهم ً‬
‫املوت أمامهم قد جاءهم ليقبض أرواحهم‪ ،‬ومن مثَّ ينغلق باب التوبة أمامهم‪.‬‬
‫كثريا من ذلك املوقف كي ال نقع فيه ‪َ ‬وأَنِيبُوا إِلَى َربِّ ُك ْم‬ ‫ومن عجب أن الرب الرحيم حذرنا ً‬
‫ِ‬
‫س َن َما أُنْ ِز َل إل َْي ُكم ِّمن َّربِّ ُكم ِّمن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وأ ِ‬
‫ص ُرو َن ‪َ ‬واتَّبعُوا أ ْ‬
‫َح َ‬ ‫َسل ُموا لَهُ من َق ْب ِل أَن يَأْتيَ ُك ُم ال َْع َذ ُ‬
‫اب ثُ َّم الَ ُت ْن َ‬ ‫َ ْ‬
‫ِ‬
‫اب َب ْغتَةً َوأَْنتُ ْم الَ تَ ْشعُ ُرو َن‪[ ‬الزمر‪.]55 ،54 :‬‬ ‫َق ْب ِل أَن يَأْتيَ ُك ُم ال َْع َذ ُ‬
‫فلننتهز الفرصة‪ ،‬ولنستجب لنصائح ربنا‪ ،‬ولنبادر باالستغفار والتوبة‪ ،‬واالستفادة من مثارها يف الدنيا‬
‫ت ُك َّل ِذي‬
‫اعا حسنًا إِلَى أَج ٍل ُّمس ًّمى وي ْؤ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َ َُ‬ ‫اسَتغْف ُروا َربَّ ُك ْم ثُ َّم تُوبُوا إِل َْيه يُ َمت ْ‬
‫ِّع ُكم َّمتَ ً َ َ‬ ‫قبل اآلخرة ‪َ ‬وأَن ْ‬
‫ض ٍل فَ ْ‬
‫ضلَهُ‪[ ‬هود‪.]3 :‬‬ ‫فَ ْ‬
‫وخنتم احلديث عن هذا املظهر العظيم من مظاهر حب اهلل لعباده بقوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن‬

‫‪76‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب ال يُغلق حتى تطلع الشمس من‬
‫ُ‬ ‫للتوبة بابًا‬
‫مغربها» ‪.‬‬
‫(‪) 1‬‬

‫‪1‬‬
‫() حسن‪ ،‬رواه الطرباين‪ ،‬وحسنه األلباين يف صحيح اجلامع ح (‪.)2177‬‬

‫‪77‬‬
‫ثامنًا‪ :‬من مظاهر حب اهلل لك‪:‬‬
‫حلمه وصبره وستره لك‬
‫‪ ‬أخي‪.‬‬
‫مجيعا ال ختتلط عليه اللغات‪ ،‬وال‬
‫مجيع ا أن اهلل عز وجل حي قيوم ال يغفل وال ينام‪ ,‬أحاط بالناس ً‬
‫نعلم ً‬
‫يتوارى عليه شيء ولو كان يف قعر اجلبال أو قاع البحار‪.‬‬

‫مجيع ا‪ ،‬يرى مكاننا‪ ،‬ويسمع كالمنا‪ ،‬ويعلم ما توسوس به أنفسنا ‪َ ‬ولََق ْد َخلَ ْقنَا ا ِإلنْ َسا َن َوَن ْعلَ ُم َما‬ ‫قريب منا ً‬
‫ُتوس ِوس بِ ِه َن ْفسهُ ونَحن أَقْرب إِلَي ِه ِمن حب ِل الْو ِر ِ‬
‫يد‪[ ‬ق‪.]16 :‬‬ ‫ُ َ ْ ُ َ ُ ْ ْ َْ َ‬ ‫َْ ُ‬
‫ك‬
‫ب َعن َّربِّ َ‬‫علما ‪َ ‬و َما َي ْع ُز ُ‬
‫ال حيدث شيء يف أي مكان من األرض إال ويعرفه سبحانه‪ ،‬وحييط به ً‬
‫اب ُّمبِي ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َصغََر ِمن َذلِ َ‬
‫ك َوالَ أَ ْكَبر إِالَّ في كتَ ٍ‬ ‫ض والَ ِفي َّ ِ‬ ‫ِ ٍِ‬ ‫ِ‬
‫ن‪[ ‬يونس‪:‬‬ ‫َ‬ ‫الس َماء َوالَ أ ْ‬ ‫من ِّم ْث َقال َذ َّرة في األ َْر ِ َ‬
‫‪.]61‬‬

‫ال يغيب عنه – سبحانه – سقوط ورقة يابسة من شجرة وارفة يف ليلة مظلمة داخل غابة من الغابات‬
‫ط ِمن َو َرقَ ٍة إِالَّ‬ ‫الكثيفة ‪َ ‬و ِع ْن َدهُ َم َفاتِ ُح الْغَْي ِ‬
‫ب الَ َي ْعلَ ُم َها إِالَّ ُه َو َو َي ْعلَ ُم َما فِي الَْب ِّر َوالْبَ ْح ِر َو َما تَ ْس ُق ُ‬
‫اب ُّمبِي ٍن‪[ ‬األنعام‪.]59 :‬‬ ‫س إِالَّ فِي كِتَ ٍ‬ ‫ْب َوالَ يَابِ ٍ‬ ‫ض َوالَ َرط ٍ‬ ‫ي ْعلَم َها والَ حبَّ ٍة فِي ظُلُم ِ‬
‫ات األ َْر ِ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ َ َ‬
‫ومع هذا العلم وهذه اإلحاطة فإنه سبحانه قادر مقتدر‪ ،‬ال يعجزه شيء أن يفعله إذا اراد أن يفعله ‪‬إِنَّ َما‬
‫َق ْولُنَا لِ َش ْي ٍء إِذَا أ ََر ْدنَاهُ أَن َّن ُق َ‬
‫ول لَهُ ُك ْن َفيَ ُكو ُن‪[ ‬النحل‪.]40 :‬‬
‫كان معنا‬
‫يقينًا‪ -‬أخي – أن اهلل عز وجل مل يغب عنا ولو للحظةـ من حلظات حياتنا ‪َ ‬و َما تَ ُكو ُن فِي َشأ ٍْن َو َما‬
‫ضو َن فِ ِيه‪[ ‬يونس‪.]61 :‬‬ ‫آن َوالَ َت ْع َملُو َن ِم ْن َع َم ٍل إِالَّ ُكنَّا َعلَْي ُك ْم ُش ُه ً‬
‫ودا إِ ْذ تُِفي ُ‬ ‫َت ْتلُو ِم ْنهُ ِمن ُقر ٍ‬
‫ْ‬
‫معىن ذلك أنه كان معي ومعك حني عصيناه‪.‬‬
‫كان معك حني أطلت النظر إىل غري حمارمك من النساء‪.‬‬
‫كان معك وقت أن مسعتـ مؤذن الفجر ينادي للصالة‪ ،‬فلم جتب النداء بل تكاسلت وجتاهلت‪،‬‬

‫‪78‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫وأخلدت إىل النوم‪.‬‬
‫كان معك وأنت جتتهد يف إقناع اآلخرين بشيء تعلم يف قرارة نفسك أنه غري حقيقي‪ ،‬وأنك تكذب‬
‫عليهم‪.‬‬

‫كان معي ومعك وقت كل معصية عصيناها‪ ،‬وكل تقصري قصرناه‪ ،‬وكان يقدر – سبحانه – على أن‬
‫يأخذ الواحد منا على احلال اليت كان عليها‪.‬‬

‫كان يقدر أن يأخذه وهو يكذب‪ ..‬وهو يطلق بصره‪ ..‬وهو حيسد غريه‪ ..‬يأخذه يف حلظات شهادة‬
‫الزور أو حلظات تطاوله على والديه أو ‪....‬‬

‫اه ْم َعلَى‬
‫س ْخنَ ُ‬
‫شاءُ ل ََم َ‬
‫كان من السهل واليسري عليه سبحانه أن يأخذنا يف هذه األوضاع املشينة ‪َ ‬ول َْو نَ َ‬
‫ضيًّا َوالَ َي ْر ِجعُو َن‪[ ‬يس‪.]67 :‬‬
‫استَطَاعُوا م ِ‬
‫ُ‬ ‫َم َكانَتِ ِه ْم فَ َما ْ‬
‫ولكنه مل يفعل‪ ،‬بل تركنا نعصاه‪ ،‬ونقصر يف حقه أكثر وأكثر‪.‬‬
‫ولكن ملاذا مل يفعل ذلك وهو القادر املقتدر؟!‬
‫اإلجابة واضحة؛ ألنه حيب عباده ويريد هلم أن يُنهوا حياهتم هناية سعيدة لذلك فهو حيلم ويصرب عليهم‬
‫ك لَ ُذو َم ْغ ِف َر ٍة لِّلن ِ‬
‫َّاس‬ ‫لعل حلظة تأيت عليهم يفيقون فيها من غفلتهم‪ ،‬ويتوبون إليه فيتوب عليهم ‪َ ‬وإِ َّن َربَّ َ‬
‫َعلَى ظُل ِْم ِه ْم‪[ ‬الرعد‪.]6 :‬‬
‫ِ‬ ‫ات أَن يَ ْخ ِس َ‬
‫السيِّئَ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫اب‬
‫ض أ َْو يَأْتَي ُه ُم ال َْع َذ ُ‬‫ف اهللُ بِ ِه ُم األ َْر َ‬ ‫ين َم َك ُروا َّ‬ ‫تأمل معي قوله تعاىل‪ :‬أَفَأَم َن الذ َ‬
‫ف‪[ ‬النحل‪-45 :‬‬ ‫ْخ َذهم َعلَى تَ َخ ُّو ٍ‬
‫ين ‪ ‬أ َْو يَأ ُ ُ ْ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْخ َذ ُه ْم في َت َقلُّب ِه ْم فَ َما ُهم ب ُم ْعج ِز َ‬ ‫ِم ْن َح ْي ُ‬
‫ث الَ يَ ْشعُ ُرو َن ‪ ‬أ َْو يَأ ُ‬
‫‪.]47‬‬

‫يم" [النحل‪.]47 :‬‬ ‫لكنه مل يفعل‪ ،‬ألنه كما جاء يف ختام اآلية األخرية "فَِإ َّن ربَّ ُكم لَر ُؤ ٌ ِ‬
‫وف َّرح ٌ‬ ‫َ ْ َ‬
‫نعم أخي القارئ‪ ،‬فربنا رب حليم‪ ،‬صبور‪ ،‬ال يؤاخذ عباده بأفعاهلم السيئة ولو فعلـ ملا تنعم متنعم‬
‫سبُوا ل ََع َّج َل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ك الْغَ ُفور ذُو َّ ِ‬
‫الر ْح َمة ل َْو ُي َؤاخ ُذ ُهم ب َما َك َ‬ ‫ُ‬ ‫ولتذوق اجلميع العذاب األليم ‪َ ‬و َربُّ َ‬
‫بيومه أو ليله َّ‬
‫اب‪[ ‬الكهف‪.]58 :‬‬
‫ل َُه ُم ال َْع َذ َ‬
‫جاء يف األثر‪ :‬ما من ليلة اختلط ظالمها‪ ،‬وأرخى الليل سربال سرتها‪ ،‬إال نادى اجلليل جل جالله‪َ :‬من‬

‫‪79‬‬
‫جود ا واخلالئق يل عاصون وأنا هلم مراقب‪ ،‬أكلؤهم يف مضاجعهم كأهنم مل يعصوين‪ ،‬وأتوىل‬
‫أعظم مين ً‬
‫حفظهم كأهنم مل يذنبوا فيما بيين وبينهم‪ ،‬أجود بالفضل على العاصي‪ ،‬وأتفضل على املسيء‪.‬‬

‫من ذا الذي دعاين فلم أُلبَّه‪ ،‬أم من ذا الذي سألين فلم أعطه‪ ،‬من ذا الذي أناخ ببايب فنحيته(‪.)1‬‬
‫وكان ابن السماك يقول يف مناجاته‪:‬‬
‫تباركت يا عظيم ‪ ..‬لو كانت املعاصي اليت عصيتها طاعة أطعت فيها ما زاد على النعماء اليت تبتليها‪.‬‬
‫وإنك لتزيد يف اإلحسان إلينا كأن الذي أتيناه من اإلساءة إحسان‪.‬‬
‫فال أنت بكثرة اإلساءة منا تدع اإلحسان‪ ،‬وال حنن بكثرة اإلحسان منك إلينا عن اإلساءة نقلع‪.‬‬
‫أبيت إال إحسانًا وأبينا إال إساءة واجرتاء‪.‬‬
‫(‪) 2‬‬
‫فمن ذا الذي حيصي نعمك ويقوم بإحسانك وبأداء شكرك إال بتوفيقك ونعمك؟!‬
‫غضبة الكون‬
‫‪ ‬أخي القارئ‪.‬‬
‫واهلل مث واهلل لو قُدَّر ألحدنا أن يرى ما حيدث يف األرض كما يراه املأل األعلىـ الستشاط غضبًا‪ ،‬وألحل‬
‫مجيعا‪.‬‬
‫على اهلل بتعجيل عقوبته ألهل األرض ً‬
‫أناسا يعيشون يف ملكـ اهلل‪.‬‬
‫ختيل أنك ترى ً‬
‫ويأكلون من رزقه‪.‬‬
‫وينامون آمنني يف حفظه‪.‬‬
‫مسخرة لديهم ومأمترة بأوامرهم‪.‬‬
‫واخلدم حتيط هبم من كل جانب ‪َّ ..‬‬
‫مث بعد ذلك كله ال يذكرون من أكرمهم هبذا كله‪ ,‬ال يشكرونه‪ ،‬وال يعبدونه‪ ،‬بل يعصون أوامره‪،‬‬
‫ولدا‪ ،‬ومن قائل إن له‬
‫ويدعون عليه االدعاءات‪ ,‬فمن قائل إن له ً‬
‫وجيحدون نعمه‪ ،‬ويبارزونه باملعاصي‪َّ ،‬‬
‫شري ًكا‪ ،‬ومن قائل إن هناك إهلًا غريه‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() شرح حديث لبيك اللهم لبيك البن رجب ص ‪.138‬‬
‫‪2‬‬
‫() حسن الظن باهلل البن أىب الدنيا ص ‪.63‬‬

‫‪80‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫ختيل أن هذا حيدث كل يوم‪ ،‬بل يف كل وقت‪ ،‬وختيل أنك ترى هذا كله‪ ،‬فماذا سيكون رد فعلك؟!‬
‫سيكون بال شك رد الفعل الطبيعي الذي تعيشه كل املخلوقات اليت تشاهد ما يفعله اإلنسان من‬
‫جحود وعصيان‪ ،‬وجترؤ على ربه‪.‬‬

‫ولدا ‪َ ‬وقَالُوا اتَّ َخ َذ‬


‫سيكون مثل رد فعل السماوات واألرض واجلبال حينما يردد بعض الضالني أن هلل ً‬
‫هدًّا ‪‬‬‫ال َ‬‫ْجبَ ُ‬‫ض وتَ ِخ ُّر ال ِ‬ ‫ات َيَت َفطَّْر َن ِم ْنهُ َوتَن َ‬
‫ش ُّق األ َْر ُ َ‬ ‫الس َم َاو ُ‬ ‫الر ْح َم ُن َولَ ًدا ‪ ‬لََق ْد ِج ْئتُ ْم َش ْيئًا إِدًّا ‪ ‬تَ َك ُ‬
‫اد َّ‬ ‫َّ‬
‫لر ْح َم ِن َولَ ًدا‪[ ‬مرمي‪.]91 ،88 :‬‬ ‫أَن َد َع ْوا لِ َّ‬

‫سيكون رد فعلكـ كالبحر الذي يستأذن كل يوم أن يغرق ابن آدم لكثرة معاصيه‪ ،‬وجرأته على ربه‪.‬‬

‫ض أَ ْن َت ُزوالَ َولَئِ ْن َزالَتَا إِ ْن‬ ‫السماو ِ‬


‫ات َواأل َْر َ‬ ‫ك َّ َ َ‬ ‫ولكن احلليم ال يسمح بذلك ‪‬إِ َّن اهللَ يُ ْم ِس ُ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫أَمس َكهما ِمن أ ٍ‬
‫ورا‪[ ‬فاطر‪.]41 :‬‬ ‫َحد ِّمن َب ْعده إِنَّهُ َكا َن َحل ً‬
‫يما غَ ُف ً‬ ‫ْ َ َُ ْ َ‬
‫الخليل يرى الملكوت‬
‫ِ ِ‬ ‫لقد حدث – أخي القارئ – إلبراهيم عليه السالم ما كنا نتخيله منذ قليل " َو َك َذلِ َ‬
‫ك نُ ِري إ ْب َراه َ‬
‫يم‬
‫ين" [األنعام‪ ]75 :‬فلقد ُرفع إىل ملكوت السماوات‪ ،‬ونظر‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ات واألَر ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َوليَ ُكو َن م َن ال ُْموقن َ‬ ‫الس َم َاو َ ْ‬ ‫وت َّ‬ ‫َملَ ُك َ‬
‫إىل أهل األرض‪ ،‬ورأى منهم ما رأى من معاص وفجور فماذا كان رد فعله وهو كما وصفه اهلل عز وجل‬
‫يب‪[ ‬هود‪.]75 :‬‬ ‫ِ‬ ‫‪‬إِ َّن إِبر ِاهيم ل ِ‬
‫يم أ ََّواهٌ ُّمن ٌ‬
‫َحل ٌ‬
‫َْ َ َ‬
‫فعن سلمان الفارسي قال‪ :‬ملا رأى إبراهيم ملكوت السماوات واألرض رأى رجال على فاحشة فدعا‬
‫عليه فهلك‪ ،‬مث رأى آخر على فاحشة فدعا عليه فهلك‪ ،‬مث رأى آخر على فاحشة فدعا عليه‪ ،‬فأوحى اهلل‬
‫إليه‪ :‬أن يا إبراهيم مهال فإنك رجل مستجابـ لك‪ ،‬وإين من عبدي على ثالث خصال‪ :‬إما أن يتوب قبل‬
‫املوت فأتوب عليه‪ ،‬وإما أن أُخرج من صلبه ذرية يذكروين‪ ،‬وإما أن يتوىل فجهنم من ورائه»(‪.)1‬‬

‫الستري‬
‫ومع حلمه العظيم وصربه سبحانه على عباده‪ ،‬فإنه كذلك ستري‪ ،‬يسرتهم وال يفضحهم رغم إساءاهتم‬
‫البالغة‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() أخرجه سعيد بن منصور وابن أىب شيبة وابن املنذر وأبو الشيخ كما يف الدر املنثور للسيوطي ‪.3/45‬‬

‫‪81‬‬
‫ختيل – أخي القارئ‪ -‬أن صديقك الذي حيبك وحتبه‪ ،‬قد علم أنك قد حسدته على اخلري الذي أتاه‪..‬‬
‫ماذا ستكون مشاعره جتاهك؟!‬
‫ولو علم من اغتبته مبا ذكرته عنه‪ ..‬بأي وجه سيلقاك بعد ذلك؟!‬
‫ولو علم الناس حقيقة أمري وأمرك ومدى تقصرينا يف جنب اهلل‪ ،‬وجرأتنا على معاصيه أتراهم يُقبلون‬
‫علينا ويبتسمون يف وجوهنا؟ وهل سيلقون علينا السالم أصال؟!‬
‫َج ّل رمحات اهلل بعباده سرته هلم‪ ،‬وعدم انكشاف هذا السرت أمام بعضهم البعض‪ ،‬وإال ملا استطاعوا‬
‫إن من أ َ‬
‫أن يتعايشوا فيما بينهم‪ ،‬أو يتوادوا‪ ،‬أو يرتامحوا‪ ،‬وملا أقدم بعضهم على مساعدة البعض‪ ،‬ومن مثَّ يصبح اجلميع‬
‫فريسة سهلة للشيطان‪.‬‬
‫بل إنه سبحانه يستحثنا على سرت بعضنا البعض‪ ،‬ووعد بعظيم اجلزاء ملن سرت أخاه‪.‬‬
‫يقول صلى اهلل عليه وسلم «ال يستر عبد عب ًدا في الدنيا إال ستره اهلل يوم القيامة»(‪.)1‬‬
‫هذه يف الدنيا‪ ,‬أما يف اآلخرة فيستمر السرت لعباده املؤمنني‪.‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن اهلل تعالى يُدني المؤمن‪ ،‬فيضع عليه كنفه‪ ،‬وستره من الناس‪،‬‬
‫ويقرره بذنوبه‪ ،‬فيقول‪ :‬أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول‪ :‬نعم أي رب‪ ،‬حتى إذا قرره‬
‫بذنوبه‪ ،‬ورأى في نفسه أنه قد هلك‪ ،‬قال‪ :‬فإني قد سترتها عليك في الدنيا‪ ،‬وأنا أغفرها لك اليوم‪ ،‬ثم‬
‫يُعطى كتاب حسناته بيمينه»(‪.)2‬‬

‫وإليك هذه القصة‪:‬‬


‫و خنتم احلديث عن هذا املظهر العظيم من مظاهر حب اهلل لعباده هبذه القصة اليت وقعت أحداثها يف‬
‫زمن موسى – عليه السالم – إذ أصاب قومه القحط‪ ،‬فاجتمع الناس إليه‪ ،‬فقالوا‪ :‬يا كليم اهلل‪ ,‬ادع لنا‬
‫ربك أن يسقينا الغيث‪ ،‬فقام معهم‪ ،‬وخرجوا إىل الصحراء وهم سبعون أل ًفا أو يزيدون‪ .‬فقال موسى عليه‬
‫الرتع‪ ،‬واملشايخ الركع‪،‬‬‫الرضَّع‪ ،‬والبهائم ُ‬
‫السالم‪ :‬إهلي‪ ,‬اسقنا غيثك‪ ،‬وانشر علينا رمحتك‪ ،‬وارمحنا باألطفال ُ‬
‫إن فيكم عبد يبارزين منذ أربعني سنة‬ ‫ُّعا‪ ،‬والشمس إال حرارة وأوحى اهلل إليه َّ‬
‫فما زادت السماء إال تقش ً‬

‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() صحيح اجلامع الصغري ح (‪.)1894‬‬

‫‪82‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫باملعاصي‪ ،‬فناد يف الناس حىت خيرج من بني أظهركم‪ ،‬فبه منعتكم‪.‬‬
‫فقام مناديًا وقال‪ :‬أيها العبد العاصي الذي يبارز اهلل منذ أربعني سنة‪ ,‬أخرج من بني أظهرنا‪ ،‬فبك‬
‫ُمنعنا املطر‪.‬‬

‫أحدا خرج‪ ،‬فعلم أنه املطلوب‪ ،‬فقال يف‬


‫فقام العبد العاصي‪ ،‬فنظر ذات اليمني وذات الشمال‪ ،‬فلم ير ً‬
‫نفسه‪ :‬إن أنا خرجت من بني هذا اخللق افُتضحت على رءوس بين إسرائيل‪ ،‬وإن قعدتـ معهم منُعوا‬
‫نادما على فعاله‪ ،‬وقال‪ :‬إهلي وسيدي‪ ,‬عصيتك أربعني سنة وأمهلتين وقد‬
‫ألجلي‪ ،‬فأدخل رأسه يف ثيابه ً‬
‫القَرب‪ ،‬فقال موسى‪:‬‬‫أتيتك طائعا فاقبلين‪ ،‬فلم يستتم الكالم حىت ارتفعت سحابة بيضاء فأمطرتـ كأفواه ِ‬
‫ً‬
‫إهلي وسيدي‪ ,‬مباذا ُسقينا وما خرج من بني أظهرنا أحد؟ فقال‪ :‬يا موسى‪ ,‬سقيتكم بالذي به منعتكم‪.‬‬

‫إهلي أرين هذا العبد الطائع‪ .‬فقال‪ :‬يا موسى إيّن مل أفضحه وهو يعصيين‪ ،‬أأفضحه وهو‬
‫فقال(‪)1‬موسى‪ّ :‬‬
‫يطيعين؟! ‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() كتاب التوابني البن قدامة املقدسي ‪.70 ،69‬‬

‫‪83‬‬
‫تاسعا‪ :‬خطاب ـ ـ ــه الودود‬
‫ً‬
‫الذي يخاطب ــك به‬
‫ْك‬ ‫اهلل عز وجل ميلك كل شيء يف هذه األرض اليت نسكنها‪ ،‬والسماء اليت تراها أعيننا ‪ِ ‬‬
‫هلل ُمل ُ‬
‫ض َو َما ِفي ِه َّن َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير‪[ ‬املائدة‪.]120 :‬‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َواأل َْر ِ‬ ‫َّ َ َ‬
‫وكل املخلوقاتـ اليت نراها من جبال وأهنار وحبار وأشجار ورمال وأحجار ودواب و‪...‬‬
‫ض طَو ًعا و َكرها ِ‬ ‫ِ‬ ‫هلل يَ ْس ُج ُد َمن فِي َّ‬
‫كل هذا خاضع هلل عز وجل ‪‬و ِ‬
‫وظالل ُُهم‬ ‫ًْ‬ ‫الس َم َاوات َواأل َْر ِ ْ‬ ‫َ‬
‫َص ِ‬
‫ال‪[ ‬الرعد‪.]15 :‬‬ ‫بِالْغُ ُد ِّو َواآل َ‬
‫وخضوع الكون كله هلل عز وجل خضوع سرمدي يغلّفه احلمد إلتاحته سبحانه الفرصة للوجود من العدم‪،‬‬
‫الر ْع ُد بِ َح ْم ِد ِه‬
‫واستمرار بقائه وحفظه‪ ،‬ويغلِّف ه كذلك اإلجالل لعظمته‪ ،‬والرهبة من جربوته وسلطانه ‪َ ‬ويُ َسبِّ ُح َّ‬
‫َوال َْمالَئِ َكةُ ِم ْن ِخي َفتِ ِه‪[ ‬الرعد‪.]13 :‬‬

‫ومن مظاهر اإلجالل والرهبة واخلضوع هلل عز وجل عبودية املالئكة له سبحانه‪ ،‬فهناك بعضهم يف حالة من‬
‫الركوع منذ أن خلقه اهلل عز وجل‪ ،‬ومنهم من هو يف حالة السجود له سبحانه منذ أن خلقهم ‪َ ‬ولَهُ َمن فِي‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫السماو ِ‬
‫ض َو َم ْن ع ْن َدهُ الَ يَ ْستَ ْكبِ ُرو َن َع ْن عبَ َادتِه َوالَ يَ ْستَ ْحس ُرو َن ‪ ‬يُ َسبِّ ُحو َن اللَّْي َل َوالن َ‬
‫َّه َار الَ‬ ‫ات َواأل َْر ِ‬ ‫َّ َ َ‬
‫َي ْفُت ُرو َ‪%‬ن‪[ ‬األنبياء‪.]20 ،19 :‬‬

‫قياما إلى يوم القيامة ترعد فرائصهم من‬


‫يقول صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إن هلل مالئكة في السماء ً‬
‫مخافته‪ ،‬ما منهم ملك تقطر من عينيه دمعة إال وقعت على ملك يسبح‪ ،‬وهلل مالئكة سجدوا منذ خلق‬
‫اهلل السماوات واألرض لم يرفعوا رءوسهم‪ ،‬وال يرفعونها إلى يوم القيامة‪ ،‬وصفوفًا لم يتفرقوا عن‬
‫مقامهم‪ %‬إلى يوم القيامة‪ ،‬فإذا كان يوم القيامة تجلى لهم ربهم عز وجل‪ ،‬فينظرون إليه تبارك وتعالى‪،‬‬
‫فقالوا‪ :‬سبحانك ما عبدناك كما ينبغي لك»(‪.)1‬‬

‫من أنت؟‬
‫هذا اإلله العظيم بعظمته وجربوته‪ ,‬جبالله وكماله‪ ,‬بعزه وسلطانه كيف خياطبك أنت؟! ومن أنت؟!‬
‫‪1‬‬
‫() رواه البيهقي يف السنن واخلطيب وابن عساكر‪ ،‬انظر كنز العمال (‪.)29836‬‬

‫‪84‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫أنت ذرة يسرية يف ملكه ال تساوي شيئًا جبوار جبل من اجلبال أو حبر من البحار‪ ،‬بل إن األرض كلها مبن‬
‫عليها بالنسبة ململكته ال تساوي مقدار حبة رمل من صحراء شاسعة ال حدود هلا‪.‬‬

‫وباإلضافة إىل ذلك فال تنس أن ربك هو الذي أوجدك من العدم‪ ،‬فقبل شهور من والدتك مل تكن‬
‫مذكورا‪.‬‬
‫ً‬ ‫شيئًا‬

‫وتذكر أن حياتك كلها متوقفة على إمداداته‪ ،‬ولو توقفت تلك اإلمدادات النتهت حياتك‪.‬‬
‫ما املتوقع أن يكون خطاب العزيز للذليل‪ ،‬والغين للفقري‪،‬ـ والقوي للضعيف‪ ،‬والعظيم للحقري‪ ،‬والكبري‬
‫للصغري‪،‬ـ واملعطي لآلخذ‪ ،‬والقادر للعاجز‪.‬‬

‫أليس من املتوقع أن يكون اخلطاب املوجه إلينا يتناسب مع صفاته سبحانه وصفاتنا؟‬
‫أليس من املتوقع من إله عظيم له هذا امللك واجلالل والكمال أن يكون خطابه عبارة عن تعريف‬
‫مبهمتنا مع بيان باألوامر املطلوبة منا وكفى؟!‬

‫ولكنه ليس كذلك‪.‬‬


‫إنه خطاب عجيب يقطر ودا وحبًا‪.‬‬
‫الرحمن َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم‪[ ‬البقرة‪.]163 :‬‬
‫الرح ُ‬ ‫خطاب عنوانه ‪َ ‬وإِل َُه ُك ْم إِلَهٌ َواح ٌد الَّ إِلَهَ إِالَّ ُه َو َّ ْ َ ُ‬
‫خطاب يطمئن مستمعه‬
‫لو تفكرنا فقط يف خطاب اهلل لعباده – مؤمنهم وكافرهم – لتأكدنا من حبه سبحانه هلم‪ ،‬وحرصه‬
‫عليهم‪.‬‬

‫إنه خطاب يطمئن من يسمعه ويدفعه ويستدرجه للفرار يف اجتاه قائله‪ ..‬الفرار إىل اهلل‪ ،‬ال الفرار منه‪.‬‬
‫ولنبدأ بصيغة النداء‪:‬‬
‫تأمل نداءه سبحانه للعصاة واجملرمني الذي حيادونه‪ ،‬وجياهرون بارتكاب كل ما يغضبه‪ ،‬ويصرون على‬
‫َس َرفُوا َعلَى أَ ْن ُف ِس ِه ْم الَ َت ْقنَطُوا ِمن‬
‫ين أ ْ‬
‫اد َّ ِ‬
‫ي الذ َ‬
‫ِ ِ‬
‫ذلك‪ ،‬بل ويستهزئون باملؤمنني‪ ..‬مباذا يناديهم‪ :‬يَا عبَ َ‬
‫الذنُوب ج ِميعا إِنَّه هو الْغَ ُفور َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يم‪[ ‬الزمر‪.]53 :‬‬‫الرح ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّر ْح َمة اهلل إِ َّن اهللَ َي ْغف ُر ُّ َ َ ً ُ ُ َ‬

‫‪85‬‬
‫إنه يناديهم بـ‪ :‬يا عبادي‪ ،‬بكل ما حيمله هذا النداء من ود‪ ،‬وتلطف‪ ،‬وحنان‪ .‬مث انظر إىل ندائه للبشر‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫الد ْنيَا َوالَ َيغَُّرنَّ ُك ْم باهلل الْغَ ُر ُ‬
‫ور‪[ ‬فاطر‪.]5 :‬‬ ‫َّاس إِ َّن َو ْع َد اهلل َح ٌّق فَالَ َتغَُّرنَّ ُك ُم ال َ‬
‫ْحيَاةُ ُّ‬ ‫مجيعا‪ :‬يَا أ َُّي َها الن ُ‬
‫ً‬
‫ولدا وزوجة – حاشاه‪ -‬يناديهم بقوله‪ :‬يا‬ ‫زورا وهبتانًا أن له ً‬
‫وتأمل نداءه للنصارى الذين ادعوا عليه ً‬
‫أهل الكتاب‪ ،‬فيشعرهمـ بأن هناك صلة قوية بينهم وبينه‪ ،‬وأهنم ليسوا ببعيدين عنه‪.‬‬

‫مث تأمل وتأمل نداءه لليهود الذين ارتكبوا من اآلثام‪ ،‬ومظاهر العلو واالستكبار ما ارتكبوا ‪ ..‬قتلوا‬
‫األنبياء‪ ،‬وعبدوا العجل‪ ،‬وحاربوا املسيح – عليه السالم – وكذبوا مبحمد صلى اهلل عليه وسلم و ‪ ...‬ومع‬
‫ذلك يناديهم فيقول هلم «يا بين إسرائيل» ‪..‬يا أبناء النيب إسرائيل ‪ ..‬نداء لطيف رقيق من املفرتض أن‬
‫يستثري مشاعرهم‪ ،‬ويستدرجهم إلصغاء مسعهم ملا يتضمنه اخلطاب اإلهلي‪.‬‬

‫خطاب يقول لك‪ :‬أقبل وال تخف‬


‫مجيعا خطاب مطمئن‪ ،‬يؤكد هلم فيه أن بابه مفتوح‬
‫نعم‪ ،‬أخي القارئ‪ ،‬إن خطاب اهلل عز وجل للبشر ً‬
‫للجميع «يا ابن آدم إنك إن دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك وال أبالي»‪.‬‬

‫جميعا فاستغفروني أغفر لكم» إنه‬ ‫«يا عبادي إنك تخطئون باليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ً‬
‫خطاب عجيب يناشدنا فيه اهلل عز وجل أن نستغفره ليغفر لنا‪ ...‬أن نستفيد بالفرصة املتاحة أمامنا قبل أن‬
‫حيل بنا األجل‪.‬‬

‫ففي كل ليلة وباألخص ثلثها األخري يوجِّه اهلل عز وجل نداءه لعباده ويقول هلم‪ :‬من يدعوين‬
‫فأستجيب له؟ من يسألين فأعطيه؟ من يستغفرين فأغفر له؟! (‪.)1‬‬

‫فماذا تقول بعد ذلك؟!‬


‫مجيعا فيقول‪« :‬يا عبادي كلكم ضال إال من هديته فاستهدوني‬
‫ماذا تقول ملن يناديك وينادي عباده ً‬
‫أهدكم‪ .‬يا عبادي كلكم جائع إال من أطعمته فاستطعموني أطعمكم‪ .‬يا عبادي كلكم عار إال من‬
‫كسوته فاستكسوني أكسكم» (‪.)2‬‬

‫‪1‬‬
‫() رواه البخاري‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫دوما أن حتسن به الظن فهو لن يضيعك‪ ،‬ولن يرتكك‪ ،‬فمراده دخولك‬
‫ماذا تقول ملن يطلب منك ً‬
‫اجلنة‪ .‬قال صلى اهلل عليه وسلم «ال يموتن أحد منكم إال وهو يحسن الظن باهلل تعالى» ‪.‬‬
‫(‪) 1‬‬

‫خطاب يستثير الهمم‬


‫ومن مسات خطابه سبحانه لعباده أنه يستثري مهتهم لفعل اخلري‪ ،‬وذلك من خالل قوة طرقه على مشاعرـ‬
‫الرغبة‪ ،‬واستجاشته للعاطفة‪ ،‬والرتكيز على اجلزاء العظيم املرتتب على الفعل الذي يريد منهم فعله‪.‬‬

‫فعلى سبيل املثال‪ :‬اإلنفاق يف سبيل اهلل عمل عظيم يطهر نفس صاحبه من الشح‪ ،‬ويسمو هبا إىل‬
‫السماء‪ ،‬وخيلصها من جواذب األرض‪ ،‬ومن مث يصبح من اليسري عليها العمل لآلخرة والزهد يف الدنيا‬
‫مبفهومه الصحيح‪.‬‬

‫هذا العالج الناجع للنفس البشرية يريد اهلل عز وجل أن جيعلنا نتناوله بكثرة حىت ننتفع به‪ ،‬لذلك فهو‬
‫حيببه لنا‪ ،‬ويرغبنا يف القيام به بأساليب شىت‪ ،‬من أمهها رصد اجلوائز الكبرية واملغرية ملن ينفق من ماله يف‬
‫ضا حسنا َفي َ ِ‬ ‫ِ‬
‫َج ٌر َك ِر ٌ‬
‫يم‪‬‬ ‫ضاع َفهُ‪ %‬لَهُ َولَهُ أ ْ‬ ‫سبيل مرضاته كما قال عز من قائل‪َ  :‬من َذا الَّذي ُي ْق ِر ُ‬
‫ض اهللَ َق ْر ً َ َ ً ُ‬
‫[احلديد‪.]11 :‬‬

‫كثريا يف القرآن‪َ  :‬و َسا ِرعُوا إِلَى َمغْ ِف َر ٍة ِّمن َّربِّ ُك ْم‬ ‫ويتكرر هذا النوع من اخلطاب الذي يستثري اهلمم ً‬
‫ين‪ ‬من هم؟!‬ ‫ِّت لِل ِ‬ ‫ات واألَر ِ‬ ‫َو َجن ٍَّة َع ْر ُ‬
‫ْمتَّق َ‬‫ض أُعد ْ ُ‬ ‫الس َم َاو ُ َ ْ ُ‬ ‫ض َها َّ‬
‫سنِين ‪‬‬ ‫ِ‬ ‫َّاس َواهللُ يُ ِح ُّ‬
‫ين َع ِن الن ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫‪‬الَّ ِذين ي ْن ِف ُقو َن فِي َّ ِ‬
‫ب ال ُْم ْح َ‬ ‫ين الْغَْي َظ َوال َْعاف َ‬ ‫الس َّراء َوالض ََّّراء َوالْ َكاظم َ‬ ‫َُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫َّ‬
‫وب إال اهللُ َول َْم‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬
‫اسَتغْ َف ُروا ل ُذنُوبه ْم َو َمن َيغْف ُر الذنُ َ‬ ‫ين إِذَا َف َعلُوا فَاح َشةً أ َْو ظَلَ ُموا أَْن ُف َس ُه ْم ذَ َك ُروا اهللَ فَ ْ‬ ‫َوالذ َ‬
‫َّات تَ ْج ِري ِمن تَ ْحتِ َها األ ْن َه ُار‬
‫ك َج َزا ُؤ ُهم َّم ْغ ِف َرةٌ ِّمن َّربِّ ِه ْم َو َجن ٌ‬
‫ص ُّروا َعلَى َما َف َعلُوا َو ُه ْم َي ْعلَ ُمو َن ‪ ‬أُولَئِ َ‬ ‫يِ‬
‫ُ‬
‫ِِ‬ ‫َخالِ ِد ِ‬
‫ين‪[ ‬آل عمران‪.]136 ،133 :‬‬ ‫َج ُر ال َْعامل َ‬ ‫ين ف َيها َونِ ْع َم أ ْ‬
‫َ‬
‫النصائح الغالية‬
‫أتَ ْذكر كم من املرات مسعت فيها نصائح غالية من أبويك ومها يوجهانك من خالهلا حنو املعايل‪،‬‬
‫وحيذرانك من العقبات اليت قد تعرتض طريقك؟‬

‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫هذه النصائح ما انطلقتـ من ألسنتهما إال بدافع احلب والشفقة واحلرص على أن تكون يف أحسن‬
‫حال‪.‬‬

‫وكذلك يفعل اهلل مع عباده مع الفارق الكبري بني نصائحه ونصائحهم‪ ،‬وبني حبه وحبهم‪ ،‬وبني علمه‬
‫وإحاطته مبا يصلحك وبني علمهم‪.‬‬

‫مجيعا والذي يقول‬ ‫فإن كنت تريد دليال على ذلك فتأمل معي هذا اخلطاب الناصح منه سبحانه للناس ً‬
‫ور ‪ ‬إِ َّن َّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫الش ْيطَا َن‬ ‫الد ْنيَا َوالَ َيغَُّرنَّ ُك ْم باهلل الْغَ ُر ُ‬ ‫َّاس إِ َّن َو ْع َد اهلل َح ٌّق فَالَ َتغَُّرنَّ ُك ُم ال َ‬
‫ْحيَاةُ ُّ‬ ‫فيه ‪‬يَا أ َُّي َها الن ُ‬
‫الس ِعي ِر‪[ ‬فاطر‪.]6 ،5 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب َّ‬ ‫َص َح ِ‪%‬‬ ‫لَ ُك ْم َع ُد ٌّو فَاتَّخ ُذوهُ َع ُد ًّوا إِنَّ َما يَ ْدعُو ح ْزبَهُ ليَ ُكونُوا م ْن أ ْ‬
‫[النساء‪:‬‬ ‫ْح ِّق ِمن َّربِّ ُك ْم فَ ِآمنُوا َخ ْي ًرا لَّ ُك ْم‪‬‬
‫ول بِال َ‬
‫الر ُس ُ‬
‫اء ُك ُم َّ‬
‫َّاس قَ ْد َج َ‬
‫وكذلك قوله هلم‪ :‬يَا أ َُّي َها الن ُ‬
‫‪.]170‬‬

‫وانظر إىل اخلطاب املوجه ألهل الكتاب وما حيمل يف طياته من نصائح غالية هلم على الرغم مما فعلوه‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬ ‫من كفر وعصيان‪ :‬يا أ َْهل ال ِ‬
‫ْح َّق إِنَّ َما ال َْمس ُ‬
‫يح‬ ‫اب الَ َت ْغلُوا في دين ُك ْم َوالَ َت ُقولُوا َعلَى اهلل إِالَّ ال َ‬ ‫ْكتَ ِ‬
‫َ َ‬
‫اها إِلَى مريم وروح ِّم ْنهُ فَ ِآمنُوا بِ ِ‬
‫اهلل َو ُر ُسلِ ِه َوالَ َت ُقولُوا ثَالَثَةٌ‬ ‫ول ِ ِ‬
‫اهلل َو َكل َمتُهُ أَلْ َق َ‬ ‫يسى ابْ ُن َم ْريَ َم َر ُس ُ‬ ‫ِ‬
‫َْ ََ َ ُ ٌ‬ ‫ع َ‬
‫ا ْنَت ُهوا َخ ْي ًرا لَّ ُك ْم‪[ ‬النساء‪.]171 :‬‬

‫ت َعلَْي ُك ْم َوأ َْوفُوا‬‫يل اذْ ُك ُروا نِ ْع َمتِ َي الَّتِي أَْن َع ْم ُ‬‫ِ ِ ِ‬


‫وتأمل كذلك خطابه الناصح لليهود‪ :‬يَا بَني إ ْس َرائ َ‬
‫ص ِّدقًا لِّ َما َم َع ُك ْم َوالَ تَ ُكونُوا أ ََّو َل َكافِ ٍر بِ ِه‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ْت ُم َ‬ ‫اي فَ ْار َهبُون ‪َ ‬وآمنُوا بِ َما أ َ‬
‫َنزل ُ‬ ‫ب َع ْهدي أُوف ب َع ْهد ُك ْم َوإِيَّ َ‬
‫ون‪[ ‬البقرة‪.]41 ،40 :‬‬ ‫والَ تَ ْشَتروا بِآياتِي ثَمنًا قَلِيالً وإِيَّاي فَ َّات ُق ِ‬
‫َ َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َ‬
‫آمنُوا الَ ُت ْل ِه ُك ْم أ َْم َوالُ ُك ْم َوالَ أ َْوالَ ُد ُك ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫ين َ‬‫أما املؤمنني فوصاياه هلم كثرية منها قوله تعاىل‪ :‬يَا أ َُّي َها الذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اهلل َو َمن َّي ْف َع ْل َذلِ َ‬
‫ك فَأُولَئِ َ‬ ‫َعن ِذ ْك ِر ِ‬
‫ك ُه ُم الْ َخاس ُرو َن ‪َ ‬وأَنف ُقوا من َّما َر َزقْنَا ُكم ِّمن َق ْب ِل أَن يَأْت َي أ َ‬
‫َح َد ُك ُم‬ ‫ْ‬
‫ين‪[ ‬املنافقون‪.]10 ،9 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّق َوأَ ُكن ِّم َن َّ‬ ‫ٍ‬
‫َج ٍل قَ ِريب فَأ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصالح َ‬ ‫َصد َ‬ ‫ب ل َْوالَ أَخ َّْرتَني إلَى أ َ‬ ‫ول َر ِّ‬
‫ت َفَي ُق َ‬
‫ال َْم ْو ُ‬
‫جامعا بني هلجة النصح وهلجة اإلشفاق واحلنو‪ ،‬اليت يُشعر اهلل فيها عباده املؤمنني‬ ‫وأحيانًا جند اخلطاب ً‬
‫ش ْوا َي ْو ًما الَّ يَ ْج ِزي‬
‫َّاس َّات ُقوا َربَّ ُك ْم َوا ْخ َ‬
‫مبدى حبه هلم‪ ،‬وخوفه عليهم من احلساب يف اآلخرة‪ :‬يَا أ َُّي َها الن ُ‬
‫ِ‬ ‫ِِِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫َوال ٌد َعن َولَده َوالَ َم ْولُو ٌد ُه َو َجا ٍز َعن َوالده َش ْيئًا إِ َّن َو ْع َد اهلل َح ٌّق فَالَ َتغَُّرنَّ ُك ُم ال َ‬
‫ْحيَاةُ ُّ‬
‫الد ْنيَا َوالَ‬
‫ِ ِ‬
‫ور‪[ ‬لقمان‪.]33 :‬‬ ‫َيغَُّرنَّ ُك ْم باهلل الْغَ ُر ُ‬

‫‪88‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫ْجٍأ َي ْو َمئِ ٍذ َو َما لَ ُكم ِّمن‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ِ ِ ‬‬
‫استَجيبُوا ل َربِّ ُكم ِّمن َق ْب ِل أَن يَأْت َي َي ْو ٌم الَّ َم َر َّد لَهُ م َن اهلل َما لَ ُكم ِّمن َّمل َ‬
‫ْ‬
‫نَّ ِكي ٍر‪[ ‬الشورى‪.]47 :‬‬

‫التوجيه غير المباشر‬


‫ولعلمه سبحانه بطبيعة نفوسنا‪ ،‬وصعوبة قبوهلا النقد والتوجيه املباشر‪ ،‬كانت توجيهاته سبحانه غاية يف‬
‫التلطف والتوجيه الغري مباشر‪ ،‬وإن أردت أن تتأكد من ذلك بنفسك – أخي القارئ‪ -‬فما عليك إال أن تقوم‬
‫بإحصاء أوامره املباشرة يف القرآن فستفاجأ أهنا ال تتجاوز أصابع اليد الواحدة‪ ،‬ويف املقابل جتد أن اهلل عز وجل‬
‫ال‬
‫كثري ا ما يعرض لك أمرين ويبني مسات كل واحد منهما مث يرتك لك حرية االختيار مثل قوله تعاىل‪ :‬ال َْم ُ‬ ‫ً‬
‫ك َث َوابًا َو َخ ْي ٌر أ ََمالً‪[ ‬الكهف‪ ]46 :‬وقوله‪َ  :‬من‬ ‫ِ‬
‫ات َخ ْي ٌر ع ْن َد َربِّ َ‬ ‫ِ‬
‫الصال َح ُ‬
‫ات َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْحيَاة ُّ‬
‫الد ْنيَا َوالْبَاقيَ ُ‬ ‫ِ‬
‫َوالَْبنُو َن زينَةُ ال َ‬
‫الد ْنيَا ُن ْؤتِِه ِم ْن َها َو َما لَهُ ِفي اآل َِخ َر ِة ِمن‬
‫ث ُّ‬ ‫ث اآل َِخ َر ِة نَ ِز ْد لَهُ ِفي َح ْرثِِه َو َمن َكا َن يُ ِري ُد َح ْر َ‬
‫َكا َن يُ ِري ُد َح ْر َ‬
‫يب‪[ ‬الشورى‪.]20 :‬‬ ‫ص ٍ‬ ‫نَّ ِ‬

‫وك قَائِما قُل ما ِع ْن َد ِ‬


‫اهلل َخ ْي ٌر ِّم َن اللَّ ْه ِو‬ ‫ِ‬
‫وقوله تعاىل‪َ  :‬وإِ َذا َرأ َْوا ت َج َار ًة أ َْو ل َْه ًوا ا ْن َفضُّوا إِل َْي َها َوَت َر ُك َ ً ْ َ‬
‫و ِمن التِّجار ِة واهلل َخير َّ ِ‬
‫ين‪[ ‬اجلمعة‪.]11 :‬‬ ‫الرا ِزق َ‬ ‫َ َ َ َ َ ُ ُْ‬
‫مراعاة النفسية البشرية‬
‫ومن أبرز صور مراعاة اخلطاب اإلهلي لطبيعة النفس البشرية عدم اإلكثار من قوله «أنا» عند سرده‬
‫لنعمه على عباده‪ ،‬وفضله الذي ال حدود له‪.‬‬

‫فالنفس ال حتب مساع هذه الكلمة بكثرة من الطرف الذي خياطبها‪ ،‬ومع أن اهلل عز وجل هو الذي‬
‫خلقنا من العدم‪ ،‬وأعطانا من النعم ما ال يُعد وال حُي صى‪ ،‬وأن من حقه أن حيدثنا بضمري املتكلم «أنا» وهو‬
‫يعرفنا بنفسه وبنعمه وبقيوميته وقدرته و‪...‬‬

‫إال أنه سبحانه ال يفعل ذلك‪ ،‬بل يتحدث عن نفسه – يف غالب القرآن – بضمري الغائب «هو» ‪ُ ‬ه َو‬
‫سِّي ُر ُك ْم فِي الَْب ِّر َوالْبَ ْح ِر‪[ ‬يونس‪.]22 :‬‬ ‫َّ ِ‬
‫الذي يُ َ‬
‫‪ُ ‬ه َو الَّ ِذي يُ ِري ُك ْم آيَاتِِه‪[ ‬غافر‪.]13 :‬‬
‫ِ‬ ‫ضياء والْ َقمر نُورا وقَدَّرهُ منَا ِز َل لَِت ْعلَموا َع َد َد ِّ ِ‬
‫الشم ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اب‪[ ‬يونس‪:‬‬‫س َ‪%‬‬
‫ين َوالْح َ‬
‫السن َ‬ ‫ُ‬ ‫س َ ً َ ََ ً َ َ َ‬ ‫‪ُ ‬ه َو الذي َج َع َل َّ ْ َ‬

‫‪89‬‬
‫‪.]5‬‬
‫فأي رب رءوف ودود حي كرمي هو ربنا‪.‬‬
‫ما بال أقوام؟!‬
‫ومن صور مراعاته سبحانه لطبيعة النفس البشرية توجيهه الغري مباشر لعباده يف خطابه هلم‪ ،‬فحني يريد‬
‫حتذير املؤمنني من القيام بفعل ما‪ ،‬فإنه ال يتوجه مباشرة بذلك – يف غالب األحيان – بل حيدثهم عن أناس‬
‫ويشهدهم عليهم‪ ،‬وجيعلهم يستنكرون أفعاهلم‪ ،‬مع أهنم قد يكونون هم املعنيني‬ ‫آخرين – بصيغة النكرة – َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وها‪[ "%‬إبراهيم‪ ]34 :‬اخلطاب هنا موجه لنا‬
‫ص َ‬‫هبذا التحذير‪ ،‬ومن ذلك قوله تعاىل‪َ " :‬وإِن َتعُدُّوا ن ْع َمةَ اهلل الَ تُ ْح ُ‬
‫بأن علينا أن جنتهد يف إحصاء نعم اهلل كصورة من صور الشكر‪ ،‬ومن املفرتض أن يكون التحذير الذي‬
‫تتضمنه اآلية بعد ذلك من مغبة عدم ذكر النعم حىت ال نقع يف دائرة الظلم والكفر موجه لنا كذلك‪ ،‬فهل‬
‫جاء اخلطاب حيمل هذا املعىن املباشر‪.‬‬

‫وها إِ َّن‬
‫ص َ‬ ‫ال‪ ،‬مل حيدث ذلك‪ ،‬بل جاء وكأنه خياطب شخصا آخر‪ :‬وإِن َتعدُّوا نِ ْعم َ ِ‬
‫ت اهلل الَ تُ ْح ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ً‬
‫وم َك َّف ٌ‬
‫ار‪[ ‬إبراهيم‪.]34 :‬‬ ‫ا ِإلنْ َ‬
‫سا َن لَظَلُ ٌ‬
‫اخلطاب موجه لإلنسان‪ ,‬وكأنه شخص آخر بعيد ال نعرفه‪ ،‬مع أن اخلطاب يف بدايته موجه لنا‪ ،‬ومما ال‬
‫شك فيه أن هذا التلطف العجيب يف التوجيه والنصح له دور كبري يف استقبال النصيحة بنفس هادئة‪.‬‬

‫لماذا العقاب؟‪%‬‬
‫قوما يف‬
‫فردا أو ً‬‫دوما السبب الذي من أجله عاقب ً‬ ‫ومن مظاهر خطابه املطمئن لعباده أنه يذكر هلم ً‬
‫املاضي‪ ،‬مع أنه اإلله العظيم ملك امللوك الذي ال ينبغي أن يُسأل عما يفعل‪ ،‬لكنه يف نفس الوقت الرب‬
‫فص ِل يف األسباب‬
‫الودود الذي حيب عباده ويريد منهم أن يفروا إليه‪ ،‬ال أن يفروا منه‪ ،‬لذلك تراه سبحانه يُ َّ‬
‫اليت أدت إىل عقوبة العصاة‪ ،‬وأنه قد صرب عليهم وأمهلهم وأعطاهم الفرصة تلو الفرصة‪ ،‬ولكنهم هم الذين‬
‫أبوا العودة إليه‪ ،‬وأصروا على طغياهنم‪ ،‬واستكربوا عليه سبحانه‪ ،‬وحاربوا عباده‪ ،‬فاستدعوا بأفعاهلم الكثرية‬
‫الظاملة غضب احلليم عليهم ‪َ ‬و َما ُكنَّا ُم ْهلِ ِكي الْ ُق َرى إِالَّ َوأ َْهلُ َها ظَالِ ُمو َن‪[ ‬القصص‪.]59 :‬‬

‫ومع العقاب املستحق للظاملني‪ ،‬والذي يقع بعد طول إمهال‪ ،‬جند التعقيب القرآين‪ :‬يَا َح ْس َرةً َعلَى‬

‫‪90‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫ول إِالَّ َكانُوا بِ ِه يَ ْسَت ْه ِزئُو َن‪[ ‬يس‪ .]30 :‬فاهلل عز وجل ال يرضى لعباده هذا املصري‪،‬‬ ‫ال ِْعب ِ‬
‫اد َما يَأْتِي ِهم ِّمن َّر ُس ٍ‬‫َ‬
‫وأهنم هم الذين أبوا أو استكربوا إال أن يسريوا إليه‪ ،‬ولو تأملنا القرآن لوجدنا أن هذا األمر واضح فيه متام‬
‫دوما أسباب العقوبة اليت يعاقب‬
‫الوضوح‪ ،‬وأن اهلل عز وجل ال يظلم أحدا‪ ،‬لذلك جنده سبحانه يذكر لنا ً‬
‫هبا الناس‪.‬‬

‫ال ُكلُوا ِمن ِّر ْز ِق‬ ‫تأمل معي قوله تعاىل‪ :‬لََق ْد َكا َن لِسبٍأ ِفي مس َكنِ ِهم آيةٌ جنَّتَ ِ‬
‫ان َعن يَ ِمي ٍن و ِشم ٍ‬
‫َ َ‬ ‫َْ ْ َ َ‬ ‫ََ‬
‫ور‪.‬‬ ‫ب غَ ُف ٌ‬
‫َربِّ ُك ْم َوا ْش ُك ُروا لَهُ َب ْل َدةٌ طَيِّبَةٌ َو َر ٌّ‬

‫فماذا فعل أهل سبأ؟ هل شكروا هذه النعم العظيمة؟ مل يفعلوا ذلك‪ ،‬بل أكلوا من رزق رهبم ومل‬
‫ضوا فَأ َْر َسلْنَا َعلَْي ِه ْم َس ْي َل‬‫يشكروا له؟ وتبطروا على نعمه‪ ،‬فاستدعوا العقابـ من اهلل عز وجل هلم ‪‬فَأَ ْع َر ُ‬
‫اه ْم بِ َجنََّت ْي ِه ْم َجنََّت ْي ِن َذ َواتَ ْي أُ ُك ٍل َخ ْم ٍط َوأَثْ ٍل َو َش ْي ٍء ِّمن ِس ْد ٍر قَلِ ٍ‬ ‫ِ‬
‫يل‪ ‬مث تأيت حيثيات هذه‬ ‫ال َْع ِرم َوبَ َّدلْنَ ُ‬
‫ور‪[ ‬سبأ‪.]17 -15 :‬‬ ‫اه ْم ب َما َك َف ُروا‪ ‬ويتلوها اخلطاب املطمئن ‪َ ‬و َه ْل نُ َجا ِزي إِالَّ الْ َك ُف َ‬
‫ك َج َز ْينَ ُ ِ‬ ‫العقوبة ‪‬ذَلِ َ‬
‫وتأمل قوله تعاىل وهو حيدثنا عن اليهود وملاذا عاقبهم مبا عاقبهم‪ ،‬وكيف أنه صرب عليهم طويال‪،‬‬
‫الس َم ِاء َف َق ْد‬
‫اب أَن ُتَن ِّز َل َعلَْي ِه ْم كِتَابًا ِّم َن َّ‬
‫ْكتَ ِ‬ ‫ُك أ َْهل ال ِ‬
‫ولكنهم هم الذين أصروا على طغياهنم ‪‬يَ ْسأَل َ ُ‬
‫اع َقةُ بِظُل ِْم ِه ْم ثُ َّم اتَّ َخ ُذوا ال ِْع ْج َل ِمن َب ْع ِد‬
‫الص ِ‬
‫َخ َذ ْت ُه ُم َّ‬ ‫وسى أَ ْكَب َر ِمن ذَلِ َ‬
‫ك َف َقالُوا أَ ِرنَا ِ‬
‫اهلل َج ْه َرةً فَأ َ‬ ‫َسأَلُوا ُم َ‬
‫ك‪.‬‬ ‫وسى ُس ْلطَانًا ُّمبِينًا‪ ‬تأمل قوله‪َ  :‬ف َع َف ْونَا َعن ذَلِ َ‬ ‫ك َوآَت ْينَا ُم َ‬ ‫ات َف َع َف ْونَا َعن ذَلِ َ‬
‫اء ْت ُه ُم الَْبِّينَ ُ‬
‫َما َج َ‬

‫ومتضي اآليات تعدد مظاهر حلم اهلل عليهم وتعدد كذلك مظاهر طغياهنم ‪َ ‬و َر َف ْعنَا َف ْو َق ُه ُم الطُّ َ‬
‫ور‬
‫هم ِّميثَاقًا غَلِيظًا ‪‬‬ ‫ت وأ َ ِ‬ ‫بِ ِميثَاقِ ِهم و ُقلْنَا ل َُهم ا ْد ُخلُوا الْباب س َّج ًدا و ُقلْنَا ل َُهم الَ َت ْع ُدوا فِي َّ ِ‬
‫َخ ْذنَا م ْن ُ‬ ‫الس ْب َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ْف بَ ْل طَبَ َع اهللُ‬
‫وبنَا غُل ٌ‬ ‫اء بِغَْي ِر َح ٍّق َو َق ْول ِه ْم ُقلُ ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فَب َما َن ْقض ِهم ِّميثَا َق ُه ْم َو ُك ْف ِرهم بآيَات اهلل َو َق ْتل ِه ُم األَنْبيَ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يما‪[ ‬النساء‪.]156 -154 :‬‬ ‫َعلَْي َها ب ُك ْف ِره ْم فَالَ ُي ْؤمنُو َن إِالَّ قَليالً ‪َ ‬وب ُك ْف ِره ْم َو َق ْول ِه ْم َعلَى َم ْريَ َم ُب ْهتَانًا َعظ ً‬
‫وكأنه يطلب منك الشهادة على الناس‪:‬‬
‫ويف بعض األحيان نستشعر بأن اخلطاب املتوجه إلينا يطلب منا الشهادة على فعل من األفعال املشينة‪،‬‬
‫ن‪[ ‬يونس‪:‬‬ ‫س ُه ْم يَظْلِ ُمو َ‬
‫َّاس أَْن ُف َ‬
‫ِ‬
‫َّاس َش ْيئًا َولَك َّن الن َ‬
‫ِ‬
‫كل ذلك لتزداد اطمئنانًا بأن اهلل عز وجل ‪‬الَ يَظْل ُم الن َ‬
‫صدِّي َقةٌ َكانَا‬‫الرسل وأ ُُّمهُ ِ‬ ‫ول قَ ْد َخلَ ْ ِ ِ ِ‬ ‫يح ابْ ُن َم ْريَ َم إِالَّ َر ُس ٌ‬ ‫ِ‬
‫ت من َق ْبله ُّ ُ ُ َ‬ ‫‪ ]44‬ومن ذلك قوله تعاىل‪َ  :‬ما ال َْمس ُ‬
‫ف ُنبيِّن ل َُهم اآلَي ِ‬ ‫ِ‬
‫ات ثُ َّم انْظُْر أَنَّى ُي ْؤفَ ُكو َن‪[ ‬املائدة‪ .]75 :‬وقوله‪َ  :‬و َما َو َج ْدنَا‬ ‫يَأْ ُكالَن الطَّ َع َام انْظُْر َك ْي َ َ ُ ُ َ‬

‫‪91‬‬
‫ِِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫أل ْكثَ ِرهم ِّم ْن َع ْهد َوإِن َو َج ْدنَا أَ ْك َث َر ُه ْم لََفاسق َ‬
‫ين‪[ ‬األعراف‪.]102 :‬‬
‫مواساته للمبتلين‬
‫ومن عجيب خطابه سبحانه وتعاىل لعباده مواساته هلم عندما حيدث هلم مكروه بسبب ذنوهبم أو‬
‫تقصريهم‪.‬‬

‫فعلى سبيل املثال‪ :‬عندما خالف الرماة أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وحدثت اهلزمية جند أن اخلطاب‬
‫مؤزرا ولكنهم‬ ‫نصرا ً‬ ‫القرآين خيفف عن الصحابة آثار ما حدث هلم‪ ،‬ويبني األسباب‪ ،‬وأن رهبم نصرهم يف البداية ً‬
‫ص َدقَ ُك ُم اهللُ َو ْع َدهُ إِ ْذ تَ ُح ُّسو َن ُه ْم بِِإ ْذنِِه َحتَّى إِ َذا‬
‫هم الذين اختلفوا وخالفوا أمر رسوهلم فكان ما كان‪َ  :‬ولََق ْد َ‬
‫الد ْنيَا َو ِم ْن ُكم َّمن يُ ِري ُد‬‫ص ْيتُم ِّمن َب ْع ِد َما أ ََرا ُكم َّما تُ ِحبُّو َن ِم ْن ُكم َّمن يُ ِري ُد ُّ‬ ‫األم ِر َو َع َ‬
‫ِ‬
‫فَشلْتُ ْم َوَتنَ َاز ْعتُ ْم في ْ‬
‫ِ‬
‫ين‪[ ‬آل عمران‪.]152 :‬‬ ‫ض ٍل َعلَى ال ُْم ْؤ ِمنِ َ‪%‬‬ ‫ص َرفَ ُك ْم َع ْن ُه ْم لِيَْبتَلِيَ ُك ْم َولََق ْد َع َفا َع ْن ُك ْم َواهللُ ذُو فَ ْ‬ ‫ِ‬
‫اآلَخ َر َة ثُ َّم َ‬
‫ومع بيانه سبحانه ألسباب هزمية املؤمنني وأهنم هم الذين تسببوا يف ذلك إال أنه يواسيهم‪ ،‬ويضمد جراحهم‬
‫ين ‪ ‬إِن يَ ْم َس ْس ُك ْم َق ْر ٌح َف َق ْد‬ ‫ِِ‬
‫بكالم يقطر حنانًا وشفقة‪َ  :‬والَ تَ ِهنُوا‪َ %‬والَ تَ ْح َزنُوا َوأَْنتُ ُم األَ ْعلَ ْو َن إِ ْن ُك ْنتُم ُّم ْؤمن َ‬
‫َّاس ولِيعلَم اهلل الَّ ِذين آمنُوا ويت ِ‬
‫َّخ َذ ِم ْن ُك ْم ُش َه َد َاء َواهللُ الَ‬ ‫س الْ َق ْو َم َق ْر ٌح ِّم ْثلُهُ َوتِل َ‬
‫ْك األيَّ ُام نُ َدا ِول َُها َب ْي َن الن ِ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ‬ ‫َم َّ‬
‫ي ِح ُّ ِ ِ‬
‫ين‪[ ‬آل عمران‪.]10 ،139 :‬‬ ‫ب الظَّالم َ‬ ‫ُ‬
‫يل ِ‬
‫اهلل‬ ‫ين قُتِلُوا فِي َسبِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫سبَ َّن الذ َ‬ ‫ويطمئنهم على إخواهنم الشهداء بأهنم يف أحسن حال‪َ  :‬والَ تَ ْح َ‬
‫ْح ُقوا‬ ‫ِ َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫أَمواتًا بل أَحياء ِع ْن َد ربِّ ِهم ير َزقُو َن ‪ ‬فَ ِر ِحين بِما آتَاهم اهلل ِمن فَ ْ ِ ِ‬
‫َم َيل َ‬
‫ين ل ْ‬‫ضله َويَ ْستَْبش ُرو َن بالذ َ‬ ‫َ َ ُُ ُ‬ ‫َ ْ ُْ‬ ‫َْ َ ْ َْ ٌ‬
‫يع‬ ‫ِ‬ ‫ض ٍل َوأ َّ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بِ ِهم ِّم ْن َخل ِْف ِه ْم أَالَّ َخ ْو ٌ‬
‫ف َعلَْي ِه ْم َوالَ ُه ْم يَ ْح َزنُو َن ‪ ‬يَ ْستَْبش ُرو َن بِن ْع َمة ِّم َن اهلل َوفَ ْ‬
‫َن اهللَ الَ يُض ُ‬
‫ين‪[ ‬آل عمران‪.]171 -169 :‬‬ ‫ِِ‬
‫َج َر ال ُْم ْؤمن َ‬
‫أْ‬
‫وفي النهاية‪:‬‬
‫ويف هناية احلديث عن هذا املظهر العظيم من مظاهر حب اهلل لنا ولعباده أمجعني أتركك أخي القارئ‬
‫مع هذا احلديث القدسي لكي تقرأه وتعيش معه بعقلكـ ومشاعرك‪:‬‬

‫أخلق ويُعبد غيري‪ ،‬وأُرز ُق ويُشكر سواي‪ ,‬خيري إلى العباد‬


‫«إني والجن واإلنس في نبأ عظيم‪ُ :‬‬
‫إلي بالمعاصي‪ ،‬وهم أفقر‬
‫إلي صاعد‪ .‬أتحبب إليهم بنعمي‪ ،‬وأنا الغني عنهم‪ ،‬ويتبغضون َّ‬
‫نازل وشرهم َّ‬

‫‪92‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫إلي‪.‬‬
‫شيء َّ‬
‫إلي تلقيته من بعيد‪ .‬ومن أعرض عني ناديته من قريب‪ .‬ومن ترك ألجلي أعطيته فوق‬
‫من أقبل َّ‬
‫المزيد‪ .‬ومن أراد رضاي أردت ما يريد‪ .‬ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد‪.‬‬

‫أهل ذكري أهل مجالستي‪ ،‬وأهل شكري أهل زيادتي‪ ،‬وأهل طاعتي أهل كرامتي‪ ،‬وأهل معصيتي‬
‫إلي‬
‫ال أُقنَّطهم من رحمتي‪ ،‬إن تابوا فأنا حبيبهم‪ ،‬فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين‪ ،‬وإن لم يتوبوا َّ‬
‫فأنا طبيبهم‪ .‬أبتليهم بالمصائب‪ ،‬ألطهرهم من المعايب‪.»...‬‬

‫***‬

‫‪93‬‬
‫عاشرا‪ :‬من مظاهر حب اهلل لك‪:‬‬
‫ً‬
‫ترغيبــك وترهيبك‬
‫ليس ٍ‬
‫خباف على أحد أن النفس البشرية إذا ما ُر َّغبت يف فعل شيء ما‪ ،‬وعلمت مبا ينتظرها من جزاء‬
‫حسن نظري قيامها هبذا الفعل فإهنا تتشجع‪ ،‬وتقدم عليه بقدر ما تستثار فيها مشاعر الرغبة‪.‬‬

‫مكروها سيصيبها إذا ما فعلته‪ ،‬فإهنا‬


‫ً‬ ‫ور َّهبت من القيام بفعل ما‪ ،‬وأن‬
‫ويف املقابل فإهنا إذا ما ُخ َّوفت‪ُ ،‬‬
‫حُت جم عن القيام به بقدر ما ينسكب داخلها من خوف ورهبة‪.‬‬

‫هذه خاصية أصيلة من خصائص النفس البشرية‪ ,‬هذه اخلاصية هلا دور كبري يف إقدامـ املرء على أداء‬
‫العمل أو إحجامه عنه‪ ،‬ففي احلديث «من خاف أدلج‪ ،‬ومن أدلج بلغ المنزل‪ ،‬أال إن سلعة اهلل غالية‪ ،‬إال‬
‫إن سلعة اهلل الجنة»(‪.)1‬‬

‫ويعلقـ املناوي يف فيض القدير على هذا احلديث فيقول‪:‬‬


‫فكل من خاف الردى أو َف ْوت ما يتمىن ال يركن إىل الراحة وال ينتظر الصباح‪ ،‬بل يبادر إىل احلركة‬
‫والسفر ولو كان بالليل(‪.)2‬‬

‫التربية الربانية‬
‫وألنه سبحانه هو الذي خلق فينا هذه اخلاصية‪ ،‬فإنه يستخدم أسلوب الرتغيب والرتهيب يف تربيتنا‬
‫وتوجيهنا حنو املبادرة لفعلـ اخلري واجتناب فعل الشر‪.‬‬
‫تأمل معي قوله تعاىل‪ :‬وما نُر ِسل بِاآلَي ِ‬
‫ات إِالَّ تَ ْخ ِوي ًفا‪[ ‬اإلسراء‪.]59 :‬‬‫ََ ْ ُ َ‬
‫فاآلية تدل داللة واضحة على أن اهلل سبحانه وتعاىل خيوفنا لنخاف ونرتك طريق الضالل ونتجه حنو‬
‫صراطه املستقيم فندخل اجلنة‪.‬‬

‫ف اهللُ بِ ِه‬ ‫انظر مثال إىل قوله تعاىل‪ :‬ل َُهم ِّمن َف ْوقِ ِه ْم ظُلَ ٌل ِّم َن النَّا ِر َو ِمن تَ ْحتِ ِه ْم ظُلَ ٌل ذَلِ َ‬
‫ك يُ َخ ِّو ُ‬
‫‪1‬‬
‫() صيح‪ ،‬صحيح األلباين يف صحيح اجلامع ح (‪.)6232‬‬
‫‪2‬‬
‫() فيض القدير ‪.6/159‬‬

‫‪94‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫ادهُ يا ِعب ِ‬
‫اد فَ َّات ُق ِ‬
‫ون‪[ ‬الزمر‪.]16 :‬‬ ‫ِ‬
‫عبَ َ َ َ‬
‫أرأيت صيغة اخلطاب‪ :‬ذلك الذي خيوف اهلل به عباده ‪ ..‬يا عباد فاتقون‪.‬‬
‫فمع أن اآلية تتحدث عن النار وما فيها من عذاب‪ ،‬إال أهنا حتمل يف طياهتا دالالت عظيمة عن حب‬
‫اهلل لعباده‪ ،‬وكيف ال وحنن نلمح فيها مناشدة من اهلل عز وجل لعباده بأن خيافوا‪ ،‬وحيذروا عقابه ألنه ال‬
‫يريد هلم أن يدخلوا هذه النار‪.‬‬

‫هل قامت القيامة؟!‬


‫مث إن مثة أسئلة قد تقفز إىل أذهان البعض وهي‪:‬‬
‫هل قامت القيامة أم مل تقم؟‬
‫هل بالفعل دخل بعض الناس اجلنة والبعض اآلخر النار؟!‬
‫اإلجابة معروفة للجميع‪ ,‬بأنه إىل اآلن مل تقم القيامة ومل يتوزع الناس بني اجلنة والنار‪.‬‬
‫إذن فلماذا يقص القرآن هذه الصور التفصيلية عن القيامة‪ ،‬واجلنة والنار‪ ،‬وكأن األمر قد انقضى‪،‬‬
‫ضوا َعلَْينَا‬ ‫ْجن َِّة أَ ْن أَفِي ُ‬‫اب ال َ‬
‫َص َح َ‪%‬‬ ‫اب النَّا ِر أ ْ‬
‫َص َح ُ‪%‬‬‫ادى أ ْ‬ ‫واألمور قد ُحسمت مثل ما جاء يف قوله تعاىل‪َ  :‬ونَ َ‬
‫ين اتَّ َخ ُذوا ِد َين ُه ْم ل َْه ًوا َول َِعبًا‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ‪ ‬الذ َ‬ ‫م َن ال َْماء أ َْو م َّما َر َزقَ ُك ُم اهللُ قَالُوا إِ َّن اهللَ َح َّر َم ُه َما َعلَى الْ َكاف ِر َ‬
‫ن‪[ ‬األعراف‪:‬‬ ‫اء َي ْو ِم ِه ْم َه َذا َو َما َكانُوا بِآيَاتِنَا يَ ْج َح ُدو َ‬ ‫الد ْنيا فَالْيوم نَنساهم َكما نَ ِ‬
‫سوا ل َق َ‬ ‫ْحيَاةُ ُّ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ ُ‬ ‫َوغَ َّر ْت ُه ُم ال َ‬
‫‪.]51 ،50‬‬

‫هذا احلوار بني أهل النار وأهل اجلنة مل يتم حىت اآلن‪ ،‬فلماذا يعرضه اهلل لنا ويسرده هبذا التفصيل؟!‬
‫ملاذا حيتل احلديث عن القيامة واجلنة والنار هذه املساحة الواسعة من القرآن؟!‬
‫أال توافقين ‪-‬أخي القارئ‪ -‬أن هذا التفصيل يف عرض اجلنة وكأننا نراها رأي العني‪ ،‬وكأن أهلها قد‬
‫سكنوها وبدءوا يف التمتع مبا فيها من نعيم‪ ,‬أال توافقين أن الغرض من ذلك هو استثارة رغبتنا لدخوهلا ومن‬
‫مثَّ الوفاء حبقها والسباق حنوها؟!‬

‫وكذلك عرض النار هبذه الصورة البشعة الكريهة‪ ،‬املنفرة لنخاف منها وجنتهد يف االبتعاد عنها؟!‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫وتأكيدا على هذا املعىن أتركك مع هذه اآليات لتقرأها وتتدبر معانيها‪.‬‬
‫ً‬
‫وم ‪َ ‬فواكِهُ و ُهم ُّمكْرمو َن ‪ ‬فِي جن ِ‬
‫َّات الن َِّع ِيم‬ ‫ين ‪ ‬أُولَئِ َ‬ ‫ِ‬ ‫‪‬إِالَّ ِعب َ ِ‬
‫‪‬‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫ك ل َُه ْم ِر ْز ٌق َّم ْعلُ ٌ َ َ‬ ‫اد اهلل ال ُْم ْخلَص َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ٍ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ‪ ‬الَ ف َيها غَ ْو ٌل َوالَ ُه ْم َع ْن َها‬ ‫لشا ِرب َ‬ ‫اء لَذة ل َّ‬ ‫ضَ‬ ‫ْس ِّمن َّمعي ٍن ‪َ ‬ب ْي َ‬ ‫اف َعلَْيه ْم ب َكأ ٍ‬ ‫ين ‪ ‬يُطَ ُ‬ ‫َعلَى ُس ُر ٍر ُّمَت َقابل َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ي ْنزفُو َن ‪ ‬و ِعن َد ُهم قَ ِ‬
‫اءلُو َن‬ ‫سَ‬ ‫ض َيتَ َ‬ ‫ض ُه ْم َعلَى َب ْع ٍ‬ ‫ض َّمكْنُو ٌن ‪ ‬فَأَقْبَ َل َب ْع ُ‬ ‫ات الطَّْرف ع ٌ‬
‫ين ‪َ ‬كأ ََّن ُه َّن َب ْي ٌ‬ ‫اص َر ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين ‪ ‬أَإِ َذا م ْتنَا َو ُكنَّا ُت َرابًا َوعظَ ًاما أَإِنَّا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ول أَإِنَّ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫صدِّق َ‬ ‫ك لَم َن ال ُْم َ‬ ‫ين ‪َ ‬ي ُق ُ‬‫ال قَائ ٌل ِّم ْن ُه ْم إِنِّي َكا َن لي قَ ِر ٌ‬ ‫‪ ‬قَ َ‬
‫دت ل َُت ْر ِدي ِن ‪َ ‬ول َْوالَ‬ ‫اهلل إِن كِ َّ‬ ‫ال تَ ِ‬ ‫ْج ِح ِيم ‪ ‬قَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ل ََم ِدينُو َن ‪ ‬قَ َ‬
‫ال َه ْل أَْنتُم ُّمطَّلعُو َن ‪ ‬فَاطَّلَ َع َف َرآهُ في َس َواء ال َ‬
‫ين‪ ‬إِ َّن َه َذا ل َُه َو‬ ‫ِ ِ‬
‫ين ‪ ‬إِالَّ َم ْوَتَتنَا األُولَى َو َما نَ ْح ُن ب ُم َع َّذب َ‬
‫ِ ِ‬
‫ين ‪ ‬أَفَ َما نَ ْح ُن ب َميِّت َ‬ ‫نت ِم َن ال ُْم ْح َ‬
‫ض ِر َ‬ ‫نِ ْع َمةُ َربِّي لَ ُك ُ‬
‫الْ َفوز الْع ِظيم ‪ ‬لِ ِمث ِل ه َذا َفلْيعم ِل الْع ِاملُون ‪ ‬أَ َذلِك خير ُّنزال أَم شجرةُ َّ ِ‬
‫اها ِف ْتنَةً‬
‫الزقُّوم ‪ ‬إِنَّا َج َعلْنَ َ‬ ‫َ ٌَْ ُ ً ْ َ ََ‬ ‫ََْ َ َ‬ ‫ُْ َ ُ ْ َ‬
‫اطي ِن ‪ ‬فَِإ َّن ُه ْم آلَكِلُو َن ِم ْن َها‬ ‫الشي ِ‬
‫وس َّ َ‬ ‫ْجح ِيم ‪ ‬طَلْعُ َها َكأَنَّهُ ُر ُؤ ُ‬
‫لِّلظَّالِ ِمين ‪ ‬إَِّنها َشجرةٌ تَ ْخرج فِي أَص ِل ال ِ‬
‫ْ َ‬ ‫َ َ ََ ُ ُ‬
‫ْج ِح ِ‬ ‫ِ‬ ‫فَمالِئُو َن ِم ْن َها الْبطُو َن ‪ ‬ثُ َّم إِ َّن ل َُهم َعلَْي َها لَ َ ِ ِ‬
‫يم‪[ ‬الصافات‪،40 :‬‬ ‫ش ْوبًا م ْن َحم ٍيم ‪ ‬ثُ َّم إِ َّن َم ْرج َع ُه ْم ِإللَى ال َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫‪.]68‬‬

‫معىن ذلك أن التوسع يف احلديث عن أحداث اليوم اآلخر وما فيها من ترغيب وترهيب ما هو إال‬
‫مظهر عظيم من مظاهر حب اهلل لعباده‪.‬‬

‫وإليك هذا الدليل‪:‬‬


‫ت ِمن س ٍ‬
‫وء َت َو ُّد ل َْو أ َّ‬
‫َن َب ْيَن َها‬ ‫ت ِم ْن َخ ْي ٍر ُّم ْح َ‬
‫ض ًرا َو َما َع ِملَ ْ‬ ‫يقول تعاىل‪َ  :‬ي ْو َم تَ ِج ُد ُك ُّل َن ْف ٍ‬
‫س َّما َع ِملَ ْ‬
‫ُ‬
‫وف بِال ِْعب ِ‬ ‫ِ‬
‫اد‪[ ‬آل عمران‪.]30 :‬‬ ‫سهُ َواهللُ َر ُؤ ٌ َ‬ ‫َو َب ْينَهُ أ ََم ًدا بَعي ًدا َويُ َح ِّذ ُر ُك ُم اهللُ َن ْف َ‬
‫أرأيت ما حتمله اآلية من حتذير وختويف؟ ورأيت مباذا انتهت؟!‪.‬‬
‫خيوفنا َّ‬
‫وحيذرنا رمحةً ورأفةً بنا لكي نرتدع ونبتعد عما‬ ‫فاآلية تدل داللة قاطعة على أن اهلل عز وجل َّ‬
‫هنانا عنه‪.‬‬

‫فإن قلت وما الداعي لوجود النار من األصل يف ظل وجود هذه الرأفة والرمحة اإلهلية؟!‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ين َكال ُْم ْج ِرم َ‬
‫ين ‪َ ‬ما‬ ‫هذا السؤال أجاب عنه القرآن يف عدة مواضع منها قوله تعاىل‪ :‬أَ َفنَ ْج َع ُل ال ُْم ْسلم َ‬

‫‪96‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫ف تَ ْح ُك ُمو َن‪[ ‬القلم‪.]36 ،35 :‬‬
‫لَ ُك ْم َك ْي َ‬
‫اء‬ ‫ات أَن نَّ ْجعلَ ُهم َكالَّ ِذين آمنُوا و َع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫السيِّئَ ِ‬ ‫وقوله‪ :‬أَم ح ِس َّ ِ‬
‫الصال َحات َس َو ً‬ ‫َ َ َ‬ ‫َ ْ‬ ‫اجَت َر ُحوا َّ‬
‫ين ْ‬ ‫ب الذ َ‬ ‫ْ َ َ‬
‫اء َما يَ ْح ُك ُمو َن‪[ ‬اجلاثية‪.]21 :‬‬
‫اه ْ‪%‬م َو َم َما ُت ُه ْم َس َ‬
‫َّم ْحيَ ُ‬
‫ال ميكن أن يستوي – بأي حال من األحوال – اجملد اجملتهد الذي ألزم نفسه االستقامة على أمر اهلل‬
‫فسادا‪.‬‬
‫مع من أسرف على نفسه‪ ،‬ومل يبال بأوامر ربه واستهان هبا‪ ،‬وعاث يف األرض ً‬
‫إن من دواعي العدلـ والرمحة اإلهلية أال يستوي هذا مع ذاك ‪‬أَفَمن َكا َن م ْؤ ِمنًا َكمن َكا َن فَ ِ‬
‫اس ًقا الَّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬
‫يَ ْسَت ُوو َن‪[ ‬السجدة‪.]18 :‬‬

‫اللص والسجن‬
‫لصا قد اقتحم قرية من القرى‪ ،‬واختبأ يف بعض نواحيها‪،‬وظل يُغري كل ليلة على منزل من‬
‫هب أن ً‬
‫منازهلا فيهدد أهله‪ ،‬ويسرق ما فيه‪.‬‬

‫تُرى على أي حال سيكون أهل هذه القرية اليت كانت قبل جميء هذا اللص آمنة مطمئنة؟!‬
‫وهلعا‪ ،‬وكيف ال وكل واحد منهم يتوقع كل ليلة‬ ‫فزعا‪ ،‬وطمأنينتهم رعبًا ً‬ ‫بال شك سيتبدل أمنهم ً‬
‫هجوم اللص على داره‪ ...‬اليعرف النوم إىل عينه طري ًقا‪ ،‬بل ينخلع قلبه من الفزع إذا ما مسع صوتًا غريبًا‬
‫حول داره‪.‬‬

‫هل من املناسب يف ظل هذا الوضع املأساوي أن يُرتك اللص هكذا دون العمل علىالقبض عليه‬
‫والقصاص منه حتت مسمى الرمحة‪.‬‬

‫إن الرمحة تقتضي سرعة اإلمساك به وحبسه لتعود السكينة للناس‪ ،‬ويعود إليهم أمنهم‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬أخي القارئ‪ ،‬ال بد من عقاب املخطئ الذي أساء األدب مع ربه وخالف أوامره‪ ،‬واستخدم ما‬
‫سخره له من النعم الكثرية يف معصيته‪.‬‬

‫حمادة اهلل وعصيانه واستحالل حمارمه‪ ،‬استخدم‬ ‫استخدم يده ورجله وعقله وعينيه ولسانه وشفتيه يف َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫رغما عنها‪َ -‬ي ْو َم تَ ْش َه ُد َعلَْي ِه ْم أَلْسنَُت ُه ْم َوأَيْدي ِه ْم َوأ َْر ُجلُ ُه ْم بِ َما َكانُوا‬
‫كل هذه األشياء وغريها ‪ً -‬‬

‫‪97‬‬
‫َي ْع َملُو َن‪[ ‬النور‪.]24 :‬‬
‫ومع هذا كله فاهلل عز وجل الرءوف الرحيم حيذر العصاة والكافرين‪ ,‬يستحثهم على التوبة ويرغبهم‬
‫يف اجلنة وخيوفهم من النار لعلهم يعودون إليه قبل فوات األوان ‪.‬‬

‫ف اهللُ بِ ِه ُم‬‫ات أَن يَ ْخ ِس َ‬‫السيِّئَ ِ‬ ‫ِ َّ ِ‬


‫ين َم َك ُروا َّ‬ ‫تأمل معي هذه اآليات اليت تؤكد هذا املعىن‪ :‬أَفَأَم َن الذ َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْخ َذ ُه ْم في َت َقلُّب ِه ْم فَ َما ُهم ب ُم ْعج ِز َ‬
‫ين ‪ ‬أ َْو‬ ‫اب ِم ْن َح ْي ُ‬
‫ث الَ يَ ْشعُ ُرو َن ‪ ‬أ َْو يَأ ُ‬ ‫ِ‬
‫ض أ َْو يَأْتَي ُه ُم ال َْع َذ ُ‬
‫األ َْر َ‬
‫يم‪[ ‬النحل‪.]47-45 :‬‬ ‫ف فَِإ َّن ربَّ ُكم لَر ُؤ ٌ ِ‬ ‫ْخ َذهم َعلَى تَ َخ ُّو ٍ‬
‫وف َّرح ٌ‬ ‫َ ْ َ‬ ‫يَأ ُ ُ ْ‬
‫شديدا للعصاة ‪‬فَِإ َّن َربَّ ُك ْم‬
‫حتذيرا ً‬
‫هل رأيت أخي القارئ مباذا اختتمت هذه اآليات اليت حتمل ً‬
‫يم‪. ‬‬ ‫لَر ُؤ ٌ ِ‬
‫وف َّرح ٌ‬ ‫َ‬
‫نعم‪ ,‬إن ربنا لرءوف رحيم‪ ،‬وما عاقب إنسانًا إال ألنه هو الذي استدعى واستحق العقوبة بأفعاله‬
‫الكثرية املخالفة ألوامر ربه واملستهينة به‪.‬‬

‫ولو كان اهلل عز وجل يريد بالفعلـ أن يعاقب كل خمطئ على خطئه‪ ،‬وأن يقيم ميزان العدل على‬
‫اجلميع ما خوفنا كل هذا التخويف‪ ,‬يكفي أن يقول لنا بأن هناك حساب للمخطئـ على خطئه‪ ،‬وأن النار‬
‫يف انتظاره‪ ،‬ولكنه‪-‬سبحانه – مل يفعل ذلك‪ ،‬بل حذرنا وحذرنا بأساليب شىت‪ ،‬وقص علينا ما سيحدث يف‬
‫ظيم ‪‬‬ ‫ِ‬ ‫الس َ ِ‬
‫َّاس َّات ُقوا َربَّ ُك ْم إِ َّن َزل َْزلَةَ َّ‬
‫اع ‪%‬ة َش ْيءٌ َع ٌ‬ ‫يوم القيامة حىت صرنا وكأننا نراه رأي العني ‪‬يَا أ َُّي َها الن ُ‬
‫َّاس ُس َك َارى َو َما‬ ‫ِ‬
‫ض ُع ُك ُّل َذات َح ْم ٍل َح ْملَ َها َوَت َرى الن َ‬ ‫ت َوتَ َ‬ ‫ض َع ٍ‪%‬ة َع َّما أ َْر َ‬
‫ض َع ْ‬ ‫يوم َترو َن َها تَ ْذ َهل ُك ُّل مر ِ‬
‫ُ ُْ‬ ‫َْ َ َ ْ‬
‫ِ‬
‫اب اهلل َشدي ٌد‪[ ‬احلج‪.]2 ،1 :‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س َك َارى َولَك َّن َع َذ َ‬ ‫ُهم ب ُ‬
‫َّاس لَر ُؤ ٌ ِ‬ ‫ِ‬ ‫كل ذلك مبعثه الشفقة والرمحة بالناس ً ِ‬
‫يم‪[ ‬البقرة‪.]143 :‬‬
‫وف َّرح ٌ‬ ‫مجيعا ‪‬إ َّن اهللَ بالن ِ َ‬
‫شمول الترغيب والترهيب‬
‫أمورا كثرية‬
‫وال يكفي أسلوب الرتغيب والرتهيب بذكر اليوم اآلخر واجلنة والنار‪ ،‬بل يتسع وميتد ليشمل ً‬
‫يف حياة الفرد واجلماعة‪ ،‬وليتناول املاضي واحلاضر واملستقبل‪ ،‬كل ذلك ليحقق املقصود من استخدامه أال وهو‬
‫االستقامة على أمر اهلل‪.‬‬

‫ضا من التفصيل في هذا األمر‪:‬‬


‫وإليك أخي القارئ بع ً‬

‫‪98‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫جميعا‬
‫الناس ً‬
‫مجيعا بتوجيهاته ما بني الرتغيب‬ ‫ألن اهلل عز وجل حيب عباده ويريد هلم اخلري فإنه سبحانه قد مشلهم ً‬
‫ِ‬‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يل اذْ ُك ُروا ن ْع َمت َي التي‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫والرتهيب‪ ،‬فرتاه – على سبيل املثال‪ -‬يرغب اليهود فيقول هلم‪ :‬يَا بَني إ ْس َرائ َ‬
‫ِ‬
‫ين‪ ‬مث تراه خيوفهم فيقول هلم‪َ  :‬و َّات ُقوا َي ْو ًما الَّ تَ ْج ِزي َن ْف ٌ‬
‫س‬ ‫ضلْتُ ُك ْم َعلَى ال َْعالَم َ‬ ‫ت َعلَْي ُك ْم َوأَنِّي فَ َّ‬‫أَْن َع ْم ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َعن َّن ْف ٍ‬
‫ص ُرو َن‪[ ‬البقرة‪.]123 ،122 :‬‬ ‫اعةٌ َوالَ ُي ْؤ َخ ُذ م ْن َها َع ْد ٌل َوالَ ُه ْم ُي ْن َ‬ ‫س َش ْيئًا َوالَ ُي ْقبَ ُل م ْن َها َش َف َ‬
‫ْكت ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اب آمنُوا بِ َما َن َّزلْنَا ُم َ‬
‫ص ِّدقًا لِّ َما َم َع ُكم ِّمن‬ ‫ين أُوتُوا ال َ َ‬ ‫وأهل الكتاب خيوفهم بقوله‪ :‬يَا أ َُّي َها الذ َ‬
‫ت و َكا َن أ َْمر ِ‬ ‫َصحاب َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫اهلل َم ْفعُوالً‪%‬‬ ‫ُ‬ ‫الس ْب َ‬ ‫َّها َعلَى أَ ْدبَا ِر َها أ َْو َنل َْعَن ُه ْم َك َما ل ََعنَّا أ ْ َ َ‬
‫وها َفَن ُرد َ‬‫س ُو ُج ً‬ ‫َق ْب ِل أَن نَّطْم َ‬
‫‪[ ‬النساء‪.]47 :‬‬
‫َّات الن َِّع ِيم‬
‫اهم جن ِ‬ ‫ِ‬ ‫َن أ َْهل ال ِ‬
‫ْكتَ ِ‬
‫آمنُوا َو َّات َق ْوا لَ َك َّف ْرنَا َع ْن ُه ْم َسيِّئَات ِه ْم َوأل ْد َخلْنَ ُ ْ َ‬
‫اب َ‬ ‫ويرغبهم بقوله ‪َ ‬ول َْو أ َّ َ‬
‫‪[ ‬املائدة‪.]65 :‬‬
‫شاء ومن يُّ ْش ِر ْك بِ ِ‬
‫اهلل‬ ‫واملشركني يقول هلم‪ :‬إِ َّن اهلل الَ ي ْغ ِفر أَن ي ْشر َك بِ ِه وي ْغ ِفر ما ُدو َن َذلِ َ ِ‬
‫ك ل َمن يَّ َ ُ َ َ‬ ‫ََ ُ َ‬ ‫َ َ ُ ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يما‪[ ‬النساء‪.]48 :‬‬ ‫َف َقد ا ْفَت َرى إِثْ ًما َعظ ً‬
‫ين َو َمن َي ْف َع ْل َذلِ َ‬ ‫ِِ‬ ‫َّخ ِذ الْم ْؤ ِمنو َن الْ َكافِ ِرين أَولِي ِ‬
‫س‬‫ك َفلَْي َ‬
‫ِ‬
‫اء من ُدون ال ُْم ْؤمن َ‬‫َ ََْ‬ ‫بل وحىت املؤمنني‪ :‬الَ َيت ِ ُ ُ‬
‫ِ‬ ‫ٍِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫سهُ‪[ ‬آل عمران‪.]28 :‬‬ ‫م َن اهلل في َش ْيء إالَّ أَن َتَّت ُقوا م ْن ُه ْم ُت َقاةً َويُ َح ِّذ ُر ُك ُم اهللُ َن ْف َ‬
‫الترهيب والترغيب في قصص السابقين‬
‫ومع مشول أسلوب الرتهيب والرتغيب جلميع الناس فإنه ميتد ليشمل الزمن كله ماضيه وحاضره‬
‫ومستقبله‪.‬‬
‫فاهلل عز وجل يدعونا يف كتابه لالستفادة مما حدث مع السابقني يف األزمنة املاضية‪ ،‬فريغبنا يف‬
‫االحتذاء بالنماذج الصاحلة‪ ،‬وخيوفنا من النماذج الطاحلة‪.‬‬
‫فنجد أن اهلل سبحانه قد قدم إبراهيم – عليه السالم – يف القرآن‪ ،‬ويف أكثر من موضع كنموذج‬
‫صحيح ملا ينبغي أن يكون عليه املؤمن‪ ،‬لذلك فقد عرضه القرآن بطريقة ترغب القارئ وحتفزه على االقتداء‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫هلل حنِي ًفا ولَم ي ُ ِ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫اجتَبَاهُ َو َه َداهُ إِلَى‬‫ين ‪َ ‬شاك ًرا أل ْنعُ ِمه ْ‬
‫ك م َن ال ُْم ْش ِرك َ‬ ‫يم َكا َن أ َُّمةً قَانتًا َ َ ْ َ‬ ‫به ‪‬إ َّن إ ْب َراه َ‬
‫ك أِ‬
‫َن اتَّبِ ْع‬ ‫ين ‪ ‬ثُ َّم أ َْو َح ْينَا إِل َْي َ‬ ‫ِ‬
‫َخر ِة ل َِمن َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫اط ُّم ْستَ ِق ٍيم ‪َ ‬وآَت ْينَاهُ فِي ُّ‬‫صر ٍ‬ ‫ِ‬
‫الصالح َ‬ ‫سنَةً َوإِنَّهُ في اآل َ َ‬ ‫الد ْنيَا َح َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِملَّةَ إِ ْبر ِاه ِ‬
‫ين‪[ ‬النحل‪.]123 -120 :‬‬ ‫يم َحني ًفا َو َما َكا َن م َن ال ُْم ْش ِرك َ‬
‫َ َ‬

‫‪99‬‬
‫فاسدا لعبد آبق اغرت مباله وتوهم أن له مكانة أعلى من سائر البشر‪ ،‬وكذلك‬ ‫منوذجا ً‬
‫أما قارون‪ ،‬فكان ً‬
‫فرعون الذي طغى وتكرب‪ ،‬وقوم عاد ومثود وغريهم من مناذج الظاملني املتكربين‪ ,‬هذه النماذج أفاض القرآن‬
‫يف ذكرها‪ ،‬واملآل الذي صار إليه أصحاهبا ترهيبًا وختوي ًفا لنا كي نجتنب ما فعلوه‪ :‬لََق ْد َكا َن فِي‬
‫اب‪[ ‬يوسف‪.]111 :‬‬‫ص ِه ْم ِع ْبرةٌ ألُولِي األلْبَ ِ‬
‫قَص ِ‬
‫َ‬
‫َ‬
‫الرسائل اإللهية‬
‫هذا يف املاضي‪ ،‬أما يف احلاضر فيظهر أسلوب الرتغيب والرتهيب من خالل الرسائل اإلهلية اليت يُرسلها‬
‫اهلل لعباده متشابكة مع أحداث حياهتم‪ ،‬فالربق رسالة ترغيب وطمع يف رمحة اهلل ملا يبشر به من نزول‬
‫املطر‪ ،‬وهو كذلك ترهيب ملن يراه حني يضيء السماء‪ ،‬ويشق السحب ‪َ ‬و ِم ْن آيَاتِِه يُ ِري ُك ُم الَْب ْر َق َخ ْوفًا‬
‫َوطَ َم ًعا‪[ ‬الروم‪.]24 :‬‬

‫والزالزل والرباكني واألعاصري‪ ،‬وكسوف الشمس‪ ،‬وخسوف القمر ‪ ..‬كل هذه رسائل ختويف‪،‬‬
‫خيوف اهلل هبا عباده‪ ،‬لعلهم يقدروه حق قدره فيعبدوه حق عبادته فيدخلوا اجلنة‪ :‬وما ُنر ِسل بِاآلَي ِ‬
‫ات إِالَّ‬ ‫ََ ْ ُ َ‬
‫تَ ْخ ِوي ًفا‪[ ‬اإلسراء‪.]59 :‬‬

‫المستقبل والترغيب والترهيب‬


‫وأما ما خيص املستقبل فنرى القرآن والسنة قد امتآل باآليات واألحاديث اليت حتدثنا عن اليوم اآلخر واجلنة‬
‫والنار – كما أسلفنا – بأسلوب مثري‪ ،‬يستجيش عواطف الرغبة والرهبة‪ ,‬تأمل معي – على سبيل املثال – هذه‬
‫آس ٍن َوأَْن َه ٌار‬‫اآلية وما حتمله من خطاب يستثري العاطفة‪ :‬مثَل الْجن َِّة الَّتِي و ِع َد الْمَّت ُقو َ‪%‬ن ِفيها أَْنهار ِّمن َّم ٍاء غَي ِر ِ‬
‫ْ‬ ‫َ ٌَ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُ َ‬
‫ص ًّفى َول َُه ْم ِف َيها ِمن ُك ِّل الث ََّم َر ِ‪%‬‬
‫ات‬ ‫ِّمن لَّبَ ٍن لَّ ْم َيَتغََّي ْر طَ ْع ُمهُ َوأَْن َه ٌار ِّم ْن َخ ْم ٍر لَّ َّذ ٍة لِّ َّ‬
‫لشا ِربِ َ‬
‫ين َوأَْن َه ٌار ِّم ْن َع َس ٍل ُّم َ‬
‫وم ْغ ِفرةٌ ِّمن َّربِّ ِهم َكمن ُهو َخالِ ٌد ِفي النَّا ِر وس ُقوا م ِ‬
‫اء ُه ْم‪[ ‬حممد‪.]15 :‬‬ ‫يما َف َقطَّ َع أ َْم َع َ‬
‫اء َحم ً‬‫َُ ًَ‬ ‫ْ َْ َ‬ ‫ََ َ‬
‫الترغيب والترهيب في أفعال العباد‪:‬‬
‫ومع مشول أسلوب الرتغيب جلميع الناس وامتداده عرب الزمان كله‪ ،‬فإنه كذلك يتناول الكثري من أفعال‬
‫رهب من اإلتيان بأعمال الفسق والفجور والعصيان‪.‬‬ ‫العباد‪ ,‬فريغب يف اإلتيان باألعمال الصاحلة‪ ،‬ويُ َّ‬
‫فعلى سبيل المثال‪:‬‬

‫‪100‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬
‫الترغيب في اإلنفاق في سبيل اهلل ‪:‬‬
‫اهلل عز وجل أعطى لإلنسان حرية االختيار واختاذ القرار ‪ ،‬فهو ال جيربه على فعلـ شيء ال يريده‪ ،‬ومع‬
‫مجيع ا دخول جنته‪ ،‬لذلك جنده سبحانه يف خطابه إلينا يرغبنا يف كل ما يقربنا‬‫ذلك فهو سبحانه يريد للبشر ً‬
‫من جنته‪ ،‬ويبعدنا من ناره ‪ ...‬يستثري رغبتنا الختاذ القرار بفعل اخلريات وترك املنكرات‪.‬‬
‫وألنه سبحانه قد أسكننا األرض ويعلم أن من أشد ما حيول بيننا وبني دخول اجلنة‪ :‬التعلقـ بزينة احلياة‬
‫الدنيا‪ ،‬وأن أهم رمز للدنيا هو املال‪ ،‬لذلك فقد أخربنا بأن من أهم العقبات اليت تقف يف طريق اجلنة هي‬
‫ك َر َقبَ ٍة‪[ ‬البلد‪.]13 -11 :‬‬
‫اك َما ال َْع َقبَةُ ‪ ‬فَ ُّ‬
‫التعلقـ باملال‪ :‬فَالَ اقْتَ َح َم ال َْع َقبَةَ ‪َ ‬و َما أَ ْد َر َ‬
‫والتغلبـ على هذه العقبة إمنا يكون بدوام اإلنفاق‪.‬‬
‫س ُّ‬
‫الش َّح‪‬‬ ‫فاإلنفاق إذًا طريق سهل لدخول اجلنة‪ ,‬ولكن النفس ال حتب اإلنفاق ‪‬وأ ْ ِ ِ‬
‫ُحض َرت األ ْن ُف ُ‬ ‫َ‬
‫[النساء‪.]128 :‬‬

‫من هنا جند تنوع أساليب احلث عليه‪ ،‬وإنشاء الرغبة فيه‪ ,‬كل ذلك ليتغلبـ املرء على شح نفسه‬
‫وخوفها من الفقر‪ ،‬ومن مث اجتيازها للعقبة‪ ,‬ومن هذه األساليب‪ :‬التذكري بأمهيتها وأهنا من أبواب اجلهاد يف‬
‫اهلل َو َر ُسولِ ِه‬
‫اب أَلِ ٍيم ‪ُ ‬ت ْؤ ِمنُو َن بِ ِ‬
‫كم َعلَى تِ َج َار ٍة ُت ْن ِجي ُكم ِّم ْن َع َذ ٍ‬
‫آمنُوا َه ْل أ َُّدلُّ ْ‬ ‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫سبيل اهلل‪ :‬يَا أ َُّي َها الذ َ‬
‫اهلل بِأ َْم َوالِ ُك ْم َوأَ ْن ُف ِس ُك ْم ذَلِ ُك ْم َخ ْي ٌر لَّ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم َت ْعلَ ُمو َن‪[ ‬الصف‪.]11 ،10 :‬‬
‫يل ِ‬ ‫اه ُدو َن ِفي َسبِ ِ‬ ‫وتُج ِ‬
‫َ َ‬
‫ومنها‪ :‬التذكري بأن اإلنفاق يرضي اهلل عز وجل ويقرب صاحبه منه سبحانه‪ :‬فَ ِ‬
‫آت َذا الْ ُق ْربَى َح َّقهُ‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن‪[ ‬الروم‪.]38 :‬‬ ‫ك َخ ْير لِّلَّ ِذين ي ِري ُدو َن و ْجهَ ِ‬
‫اهلل َوأُولَئِ َ‬ ‫َ‬ ‫َُ‬ ‫يل ذَل َ ٌ‬
‫السبِ ِ ِ‬
‫ين َوابْ َن َّ‬ ‫ِ ِ‬
‫َوالْم ْسك َ‬
‫اهلل َك َمثَ ِل َحبَّ ٍة‬
‫يل ِ‬ ‫ين ُي ْن ِف ُقو َن أ َْم َوال َُه ْم فِي َسبِ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ومنها‪ :‬التذكري بفضل العمل ومثاره املتوقعة‪َ  :‬مثَ ُل الذ َ‬
‫يم‪[ ‬البقرة‪.]261 :‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ف لِ َمن يَّ َ‬ ‫ضِ‬ ‫ت َس ْب َع َسنَابِ َل ِفي ُك ِّل ُس ُنبلَ ٍة ِّمائَةُ َحبَّ ٍة َواهللُ يُ َ‬
‫شاءُ َواهللُ َواس ٌع َعل ٌ‬ ‫اع ُ‬ ‫أَنبَتَ ْ‬
‫وأن من هذه الثمار ما جيدها صاحبها يف الدنيا‪َ  :‬و َما أَْن َف ْقتُم ِّمن َش ْي ٍء َف ُه َو يُ ْخلِ ُفهُ َو ُه َو َخ ْي ُر‬
‫َّ ِ‬
‫الرا ِزق َ‬
‫ين‪[ ‬سبأ‪.]39 :‬‬
‫ص َدقَةً تُطَ ِّه ُر ُه ْم َو ُت َز ِّكي ِه ْم بِ َها‪‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫والتذكري بأن املستفيد األول من اإلنفاق هو املنفق‪ُ  :‬خ ْذ م ْن أ َْم َوال ِه ْم َ‬
‫[التوبة‪.]103 :‬‬

‫آمنُوا أَنِْف ُقوا ِم َّما َر َزقْنَا ُكم ِّمن َق ْب ِل أَن يَأْتِ َي َي ْو ٌم الَّ َب ْي ٌع فِ ِيه َوالَ‬
‫ين َ‬
‫َّ ِ‬
‫والرتهيب من تركها‪ :‬يَا أ َُّي َها الذ َ‬

‫‪101‬‬
‫ُخلَّةٌ َوالَ َش َف َ‬
‫اعةٌ‪[ ‬البقرة‪.]254 :‬‬
‫ويطمئنناـ بأن الذي يأخذها هو اهلل‪ ،‬ومن مثَّ فلن تضيع على صاحبها‪ :‬أَل َْم َي ْعلَ ُموا أ َّ‬
‫َن اهللَ ُه َو َي ْقبَ ُل الت َّْوبَةَ‪%‬‬
‫يم‪[ ‬التوبة‪.]104 :‬‬ ‫اب َّ ِ‬ ‫الص َدقَ ِ‬
‫ات َوأ َّ‬ ‫َع ْن ِعبَ ِاد ِه َويَأ ُ‬
‫الرح ُ‬ ‫َن اهللَ ُه َو الت ََّّو ُ‪%‬‬ ‫ْخ ُذ َّ‬
‫كثريا ما جندها تتكرر يف القرآن بأساليب خمتلفة‪.‬‬
‫هذه املعاين العظيمة وغريها ً‬
‫وهكذا يصبح استخدام أسلوب الرتغيب والرتهيب من أعظم مظاهر حب اهلل لعباده‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫تمهيــــــــــــدـ‬

‫كلمة أخيرة عن مظاهر حب اهلل لنا‬


‫مجيعا ليبقى سؤال أوجهه‬
‫بعضا من مظاهر احلب اإلهلي لنا ً‬
‫عشنا سويًا يف ظالل شجرة احملبة‪ ،‬ورأينا ً‬
‫إىل نفسي وإليك أخي القارئ وهو‪:‬‬

‫وأنسا‬
‫أما آن يل ولك أن نبدأ مع اهلل عز وجل صفحة جديدة من احلب الصادق الذي يثمر طاعة له‪ً ،‬‬
‫به وشوقًا إىل لقائه؟!‬

‫أال يستحق هذه اإلله الودود الكرمي أن نعامله معاملة تليق جبالله وتتناسب مع ما يعاملنا به؟!‬
‫فلنبدأ إذن من اآلن‪ ،‬وقبل أن تذهب تلك احلالة الشعورية اليت صاحبتنا وحنن نتعرف على مظاهر حب‬
‫اهلل لنا‪.‬‬

‫لنبدأ بدعائه سبحانه دعاء فيه إحلاح وتضرع ونسأله فيه أن يرزقنا حبه‪ ،‬وأن يهيمن هذا احلب على‬
‫مشاعرنا حىت يصري حبه سبحانه األحب إلينا من كل شيء‪ ،‬وندعو كذلك بدعاء النيب عليه الصالة‬
‫والسالم‪ « :‬اللهم إني أسالك حبك‪ ،‬وحب من يحبك‪ ،‬وحب عمل يقربني إلى حبك‪ ,‬اهلل ما رزقتني ما‬
‫أحب فاجعله قوة لي فيما تحب‪ ،‬وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغًا فيما تحب‪ ،‬اللهم اجعل‬
‫حبك أحب إلى من أهلي ومالي‪ ،‬ومن الماء البارد على الظمأ‪ ،‬اللهم حببني إليك وإلى مالئكتك‬
‫وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين‪ ،‬واجعلني ممن يحبك ويحب مالئكتك وأنبياءك ورسلك‬
‫وعبادك الصالحين‪ ،‬اللهم أحيي قلبي بحبك واجعلني لك كما تحب‪ ،‬اللهم اجعلني أحبك بقلبي كله‪،‬‬
‫وأرضيك بجسدي كله‪ ،‬اللهم اجعل حبي كله لك‪ ،‬وسعيي كل في مرضاتك»(‪.)1‬‬

‫ولننتقل اآلن إلى الوسائل العملية التي تمكن لحب اهلل في قلوبنا‬

‫‪1‬‬
‫() رواه الرتمذي‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫الوسائل العملية لتمكين حب اهلل‬


‫في القلب‬
‫أمران البد منهما‪:‬‬
‫إن كانت المعرفة هي طريق المحبة الصادقة هلل عز وجل – كما أسلفنا في المقدمة‪ -‬فإن هذه‬
‫دوما إلى تذكير يتجاوب معه الفكر والعاطفة‪ ,‬هذا التذكير‬
‫المعرفة‪ ،‬التي عشنا في أجوائها‪ ،‬تحتاج ً‬
‫الدائم من شأنه أن يبذر بذور المحبة في القلب‪ ،‬ويشكل قاعدته في المشاعر والوجدان‪.‬‬

‫ومع أهمية التذكير الدائم تأتي األعمال الصالحة ذات الصلة بموضوع المحبة لتكون بمثابة‬
‫الماء الذي يسقي بذور المعرفة باهلل الودود‪ ،‬فتنمو شجرتها ويرتفع بنيانها‪ ،‬لتكون النتيجة هي‬
‫وعظُو َن بِ ِه‬
‫استحواذ حب اهلل على أكبر قدر من مشاعر الحب داخل القلب ‪َ ‬ول َْو أ ََّن ُه ْم َف َعلُوا َما يُ َ‬
‫لَ َكا َن َخ ْي ًرا لَّ ُه ْم َوأَ َش َّد َتثْبِيتًا‪[ ‬النساء‪.]66 :‬‬

‫وسائل التذكير بمعارف المحبة‬


‫ووسائل التذكري مبعارف احملبة‪ ،‬ومظاهرها ترتكز يف أمرين عظيمني‪ :‬كتاب اهلل املقروء‪ ،‬وكتاب اهلل‬
‫املنظور‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬القرآن ودوره في إنشاء اإليمان‪ %‬والتذكير بمعارف المحبة‪%:‬‬


‫القرآن هو أفضلـ وسيلة للتعريف باهلل عز وجل والتذكري الدائم مبظاهر حبه لنا‪ ،‬وأفضل وسيلة كذلك‬
‫لتحويل هذه املعرفة إىل إميان يستحوذ على مشاعر احلب داخل القلب ويوجهها للموىل سبحانه‪ ،‬قال صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪« :‬من سره أن يحب اهلل ورسوله‪ ،‬فليقرأ في المصحف»(‪.)1‬‬

‫السنة واليت تعترب شارحة‬


‫نعم‪ ،‬هناك وسائل أخرى تقوم بالتذكري هبذه املظاهر‪ ،‬تقف على رأسها ُ‬
‫للقرآن مؤكدة ملا فيه‪ ،‬ومع ذلك يبقى القرآن الوسيلة العظيمة لدوام التذكري‪ ،‬وتقرير احلقائق‪ ،‬وإنشاء‬
‫اإلميان‪ ،‬فهو دائم التعريف باهلل عز وجل وبأمسائه وصفاته ومظاهر حبه لعباده‪.‬‬

‫ومع هذا التعريف جند التكرار للمعىن الواحد بأساليب خمتلفة لريسخ مدلوله يف العقل الباطن لإلنسان‬
‫آن لِيَ َّذ َّك ُروا‪[ ‬اإلسراء‪.]41 :‬‬
‫فيشكل جزءا من يقينه‪‬ولََق ْد ص َّر ْفنَا فِي َه َذا الْ ُقر ِ‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫حيول احلقائق‬
‫ويف عرضه للمعاين جند أن العرض خياطب العقل فيقنعه واملشاعر فيستثريها‪ ،‬مما َّ‬

‫‪1‬‬
‫() حسن‪ ،‬رواه أبو نعيم يف احللية‪ ،‬والبيهقي يف شعب اإلميان‪ ،‬وحسنه األلباين يف صحيح اجلامع (‪.)6289‬‬

‫‪105‬‬
‫والقناعات الفكرية إىل إميان راسخ يف القلب‪.‬ـ‬
‫ومما يساعد القارئ على انتفاعه بالقرآن هو التزامه مبا أمره اهلل به من تدبر وتفهم ملا يقرؤه من آيات‪،‬‬
‫وكذلك ترتيله هلا‪ ,‬فالفهم والتدبر خياطبان العقل فيقتنع‪ ،‬والرتتيل يهز املشاعر‪ ،‬فيمتزج بذلك الفكر مع‬
‫َم‬
‫العاطفة ليثمر يقينًا يف العقل‪،‬ـ وإميانًا يف القلب‪ ،‬وهذا ال يتوافر يف أي كتاب آخر على وجه األرض ‪‬أ ََو ل ْ‬
‫اب ُي ْتلَى َعلَْي ِه ْم‪[ ‬العنكبوت‪.]51 :‬‬ ‫ْف ِهم أَنَّا أَْنزلْنَا َعلَي َ ِ‬
‫ِ‬
‫ك الْكتَ َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫يَك ْ‬
‫يقول ابن رجب‪ :‬مساع القرآن ينبت القرآن يف القلبـ كما ينبت املاء البقل‪.‬‬
‫تعرف على ربك‬
‫القرآن‪ -‬أخي القارئ‪ -‬هو أفضل وسيلة لغرس حمبة اهلل يف القلب‪ ،‬ولقد مت احلديث بشيء من‬
‫التفصيل حول هذا املوضوع يف أكثر من موضع سابق(‪ ،)1‬وال داعي لتكرار ما قيل‪ ،‬ولكن نُ َذكر بأمر هام‬
‫وهو‪:‬أن إنشاء اإلميان يف القلبـ من خالل القرآن لن يتم إال إذا كان هدفنا حني نقرؤه أن نفهم ما نقرؤه –‬
‫ولو بصورة إمجالية – وأن جنتهد يف التأثر به من خالل الرتتيل والتباكي مع القراءة‪ .‬مع عدم إغفال أمر‬
‫أيضا وهو كثرة قراءته‪ ،‬وإعطاؤه األولوية األوىل يف حياتنا‪.‬‬
‫مهم ً‬
‫قال حذيفة بن اليمان‪ :‬اقرأوا القرآن حبُزن‪ ،‬وال جتفوا عنه‪ ،‬وتعاهدوه ورتلوه ترتيال(‪.)2‬‬
‫وباإلضافة إلىذلك علينا وحنن نعيش يف أجواء حمبة اهلل عز وجل‪ ،‬وبعد أن تعرفنا على كثري من‬
‫مظاهرها أن نتتبع هذه املظاهر وحنن نقرأ القرآن‪ ،‬فإن هذا من شأنه – إذا ما داومنا عليه‪ -‬أن يؤكد‬
‫ويرسخ مدلوهلا يف اليقني‪ ،‬ويزيد اإلميان يف القلبـ وحيوله إىل مقام ثابت‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬علينا أال نقف عند كل آية لنستخرجـ منها ما يدل على حب اهلل لعباده حىت ال تتحول القراءة‬
‫إىل عملية عقلية فكرية فقط‪ ،‬فاملطلوب‪ -‬كما قيل سال ًفا – هو مزج الفكر بالعاطفة‪ ،‬وجتاوب العقلـ مع‬
‫القلب‪ ،‬وهذا يستدعى استمرارية وانسيابية القراءة ليتسرب تأثريها شيئًا فشيئًا إىل املشاعر حىت تصل فى‬
‫النهاية ملرحلة االنفعال والتأثر‪.‬‬
‫معىن ذلك أنه من املناسب أن نبحث عن مظاهر احملبة يف القرآن بصورة إمجالية‪ ،‬ال تؤثر بالسلبـ على‬
‫تدبرنا العام لآليات‪ ،‬والجتعلنا نقف عند كل كلمة‪ ،‬ولعل ما قيل يف الصفحات السابقة من شأنه أن‬

‫‪1‬‬
‫() مثل ما تضمنته كتب‪ :‬العودة إىل القرآن –بناء اإلميان من خالل القرآن ‪-‬كيف نغري ما بأنفسنا‪ -‬حقيقة العبودية‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() حملات األنوار للغافقي(‪.)566‬‬

‫‪106‬‬
‫يستثري مشاعرنا‪ ،‬وينشئ داخلنا حالة شعورية حملبة اهلل عز وجل‪ ،‬فإذا ما استثمرنا وجود هذه احلالة‪ ،‬ودخلنا‬
‫هبا إىل القرآن فسنجدـ ما يؤكدها من آيات‪ ،‬وسنفاجأ وكأن حمور القرآن الرئيس يدور حول هذا‬
‫املوضوع‪.‬‬
‫‪ ‬أخي القارئ‪:‬‬
‫إن القرآن هو أفضل وسيلة لتنمية حب اهلل يف القلبـ والوصول ملرحلة األنس به والشوق إليه سبحانه‪،‬‬
‫لذلك أنصح نفسي وإياك أن نكثر من تالوته بفهم وترتيل وتباك‪ ،‬وأن نتعرف على اهلل الودود من خالل‬
‫هذا الكتاب وحبذا لو خصصنا ختمة أو أكثر هلذا البحث العظيم‪.‬‬

‫يقول ابن رجب‪ :‬ومما يستجلب احملبة‪ :‬تالوة القرآن بالتدبر والتفكر ال سيما اآليات املتضمنة لألمساء‬
‫والصفات واألفعال الباهرات‪ ،‬وحمبة ذلك يستوجب به العبد حمبة اهلل‪ ،‬وحمبة اهلل له(‪)1‬فتتحقق ‪‬يُ ِحُّب ُه ْم‬
‫َويُ ِحبُّونَهُ‪.‬‬

‫ومما يؤكد هذا املعىن قوله صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أال من اشتاق إلى اهلل فليستمع كالم اهلل فإن مثل‬
‫القرآن كمثل جراب مسك أي وقت فتحه فاح ريحه»(‪.)2‬‬

‫كالما أحب إليه من‬ ‫وقوله‪« :‬ما من كالم أعظم عند اهلل من كالمه‪ ،‬وما َّ‬
‫رد العباد إلى اهلل ً‬
‫كالمه»(‪.)3‬‬

‫فاألمر واضح‪ ،‬والطريق معبد لتنمية حب اهلل يف القلب‪ ،‬وكيف ال والقرآن بني أيدينا وال يوجد أي‬
‫شيء حيول بيننا وبينه‪ ،‬فكلما اهتاجت لدينا مشاعرـ الشوق إىل اهلل‪ ،‬وأردنا أن نسكنها‪ ,‬وكلما أردنا أن‬
‫نأنس باهلل‪ ،‬ونزداد حبًا له‪ ،‬وتعل ًق ا به فلنهرع إىل املصحف‪ ,‬نناجيه ونتحدث إليه – سبحانه‪ -‬من خالل‬
‫قراءتنا وجتاوبنا مع خطابه لنا‪ ,‬قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬إذا أحب أحدكم أن يحدث ربه فليقرأ في‬
‫المصحف»(‪.)4‬‬

‫كثريا !‬
‫على ً‬‫فإن قلت‪ :‬ولكن مشاعر الشوق إىل اهلل ال هتتاج َّ‬

‫‪1‬‬
‫() استنشاق نسيم األنس البن رجب ‪.55/‬‬
‫‪2‬‬
‫() رواه الديلمي عن أىب هريرة‪ ،‬كذا يف كنز العمال (‪.)2472‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه الدارمي (‪.)3354‬‬
‫‪4‬‬
‫() كنز العمال ‪.2366‬‬

‫‪107‬‬
‫أيض ا يف مداومة قراءة القرآن آناء الليل وأطراف النهار‪ ،‬لتزداد مساحة حب اهلل يف قلوبنا شيئًا‬ ‫احلل ً‬
‫مستمر ا إليه جيعل صاحبه يف عجلة دائمة لالتصال باهلل من خالل قراءة القرآن يف‬ ‫ً‬ ‫فشيئًا‪ ،‬فيثمر ذلك شوقًا‬
‫ضى‪[ ‬طه‪.]84 :‬‬ ‫ب لَِت ْر َ‬
‫ك َر ِّ‬ ‫َع ِجل ُ‬
‫ْت إِل َْي َ‬ ‫الصالة وخارج الصالة وكذلك يف الدعاء والذكر واملناجاة ‪‬و َ‬

‫وخالصة القول‪:‬‬
‫إن أفضلـ شيء وأحب شيء نتقرب به إىل اهلل‪ :‬قراءة القرآن بالتدبر والتفهم والرتتيل والصوت احلزين‬
‫(التباكي) قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬ما تقرب العباد إلى اهلل بشيء أحب إليه مما خرج منه»(‪.)1‬‬

‫وكلما ازداد حب املرء لربه‪ ،‬ازداد حبًا لكتابه ولكثرة قراءته‪.‬‬


‫قال أبو سعيد اخلراز‪ :‬من أحب اهلل أحب كالم اهلل‪ ،‬ومل يشبع من تالوته(‪.)2‬‬

‫ثانيًا‪ :‬التفكر‪ %‬في الكون وأحداث الحياة‬


‫اإلميان باحلقائق واملعارف اليت مت ذكرها حيتاج إىل تذكرة دائمة تستثري املشاعر‪ ،‬وتُنشئ اإلميان‬
‫وترسخه يف القلب‪ ،‬والقرآن – كما أسلفنا – هو املدخل األساسي لذلك مبا فيه من آيات ودالئل تدل‬
‫على اهلل عز وجل وتعرفنا مبظاهر حبه لعباده ومدى رأفته وشفقته وبره هبم‪.‬‬

‫ومع اآليات املقروءة يف القرآن تأيت اآليات املرئية واملنظورة يف الكون وأحداث احلياة‪.‬‬
‫[فصلت‪:‬‬ ‫ك أَنَّهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِهي ٌد‪‬‬ ‫ذكر به ‪‬أَولَم يك ِ‬
‫ْف بَِربِّ َ‬ ‫َ َْ‬ ‫فكل ما يف الكون يدل على اهلل ويُ ِّ‬
‫‪.]53‬‬

‫ولقد حثنا – سبحانه – على أن نتفكر يف آياته املبثوثة يف كونه‪ ،‬وفيما مير بنا من أحداث يف حياتنا‬
‫لتكون وسيلة للتذكرة الدائمة به‪ ،‬ومن مثَّ الوصول إىل معرفته‪ ،‬وحبه‪ ،‬والتعلق التام به‪.‬‬

‫‪‬‬ ‫َّاها َو َما ل ََها ِمن ُف ُر ٍ‬


‫وج‬ ‫اها َو َز َّين َ‬ ‫الس َم ِاء َف ْو َق ُه ْم َك ْي َ‬
‫ف َبَن ْينَ َ‬ ‫تأمل قوله تعاىل‪ :‬أَ َفلَ ْم َي ْنظُُروا إِلَى َّ‬
‫ص َرةً َو ِذ ْك َرى لِ ُك ِّل َع ْب ٍد ُّمنِ ٍ‬
‫يب‬ ‫يج ‪َ ‬ت ْب ِ‬‫اس َي َوأَ ْنبَْتنا فِ َيها ِمن ُك ِّل َز ْو ٍج بَ ِه ٍ‬
‫واألَرض م َد ْدنَاها وأَلْ َقينَا فِيها رو ِ‬
‫َ ْ َ َ َ َ ْ َ ََ‬

‫‪1‬‬
‫() كنز العمال ‪.2257‬‬
‫‪2‬‬
‫() جمموعة رسائل احلافظ ابن رجب ‪.2/47‬‬

‫‪108‬‬
‫‪[ ‬ق‪.]8 -6 :‬‬
‫ومما يلفت االنتباه أن اهلل عز وجل يُصرف اآليات الكونية ويكررها بأشكال خمتلفة‪ ،‬كما يكرر‬
‫رسوخا يف القلب‬
‫ً‬ ‫اآليات بأساليب خمتلفة يف القرآن ليتم من خالهلا التذكرة والتبصرة‪ ،‬ومن مث يزداد اإلميان‬
‫ف اآلَي ِ‬
‫ات ل ََعلَّ ُه ْم َي ْف َق ُهو َن‪[ ‬األنعام‪.]65 :‬‬‫ص ِّر ُ َ‬
‫ف نُ َ‬
‫‪‬انْظُْر َك ْي َ‬
‫ومثال ذلك‪ :‬احلر الشديد أو الربد الشديد‪ ،‬أو العواصف‪ ،‬أو ‪ ...‬كل ذلك آيات تذكر باهلل عز وجل‪.‬‬
‫وكما أن اهلل عز وجل قد ذم من يعرض عن تدبر القرآن وفهم املراد من آياته‪ ،‬فإنه كذلك قد ذم من‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ف َع ْن َها‪‬‬ ‫ب بِآيَات اهلل َو َ‬
‫ص َد َ‬ ‫يعرض عن التدبر والتفكر يف آياته املبثوثة يف كونه ‪‬فَ َم ْن أَظْلَ ُم م َّمن َك َّذ َ‬
‫ن‪[ ‬يوسف‪:‬‬ ‫ضو َ‬‫ض يَ ُم ُّرو َن َعلَْي َها َو ُه ْم َع ْن َها ُم ْع ِر ُ‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َواأل َْر ِ‬ ‫ٍِ‬
‫[األنعام‪َ  .]157 :‬و َكأَيِّن ِّمن آيَة في َّ َ َ‬
‫‪.]105‬‬

‫ال بديل عن التفكر‬


‫ال بد إذا من التفكر يف آيات اهلل املبثوثة يف كونه املنظور والذي يشمل املخلوقاتـ اليت تراها أعيننا‬
‫كالسماء واجلبال واألشجار‪ ،‬ويشمل كذلك أحداث احلياة املختلفة اليت متر بكل إنسان‪.‬‬

‫سى أَن يَّ ُكو َن قَ ِد‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫السماو ِ‬


‫ات َواأل َْر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض َو َما َخلَ َق اهللُ من َش ْيء َوأَ ْن َع َ‬ ‫َم َي ْنظُُروا في َملَ ُكوت َّ َ َ‬
‫‪‬أ ََو ل ْ‬
‫َجلُ ُه ْم‪[ ‬األعراف‪.]185 :‬‬‫بأَ‬ ‫اقَْت َر َ‬
‫فيستدل املرء من خالهلا على اهلل عز وجل فيزداد به معرفة‪ ،‬فإذا ما جتاوب القلب مع هذه املعرفة‬
‫ازدادت مساحة اإلميان فيه‪ ،‬واجنلتـ بصريته‪ ،‬وشيئًا فشيئًا يتنور القلب فريى هبذا النور صفات ربه تتجلي‬
‫من وراء كل شيء تراه عيناه‪ ،‬فيوحده التوحيد احلقيقي‪ ،‬ويربط حياته كلها به‪.‬‬

‫لذلك كان التفكر من أفضل العبادات سواء كان هذا التفكر يف آيات القرآن‪ ،‬أو آيات الكون‪.‬‬
‫وصدق من قال‪:‬‬
‫إذا املرء كانت له فكرة *** ففي كل شيء له عربة‬
‫يقول ابن رجب‪ :‬كان السلف يفضلون التفكر عن نوافل العبادة‪ ،‬وكان أكثر عمل أيب الدرداء‬
‫االعتبار والتفكر(‪.)1‬‬
‫‪1‬‬
‫() استنشاق نسيم األنس ‪.49/‬‬

‫‪109‬‬
‫تفكر يقود إلى المحبة‬
‫وألننا يف هذه الصفحاتـ نتحدث عن حمبة اهلل وكيفية غرس شجرهتا يف قلوبنا‪ ،‬لذلك فنحن نريد أن‬
‫نتجه بعقولنا ومشاعرنا حنو التفكر يف مظاهر حب اهلل لعباده اليت حتدثنا سل ًفا عن عشرة جوانب منها‪.‬‬

‫وحميط التفكر يف هذه اجملاالت يشمل أحداث احلياة اليت متر بنا‪ ،‬واملشاهدات اليت نشاهدها‪ ،‬واألخبار اليت‬
‫تصل إىل مسامعنا‪ ،‬فنربط ما ميكن ربطه منها باهلل الودود‪.‬‬

‫فعلى سبيل المثال‪:‬‬


‫سبق فضله وحبه سبحانه لعباده قبل أن يولدوا‪ ،‬فهذا اجلانب العظيم من جوانب احملبة اإلهلية لنا‪ ،‬ميكننا‬
‫إدراكه من خالل ما نسمع وما نشاهد وما نقرأ عن الكفار وامللحدينـ والوثنيني واملشركني وكل من ابتعد‬
‫عن اإلسالم‪ ،‬فن تذكر من خالل هذه املشاهد والقراءات مدى سبق فضل اهلل علينا أن مل جيعلنا منهم‪.‬‬

‫أيض ا‪ :‬رؤية املخلوقات األخرى اليت نشاهدها طيلة ساعات يومنا من مجادات‬
‫ومما يلحقـ هبذا اجلانب ً‬
‫أو حيوانات أو نباتات فنستشعر نعمة التكرمي اإلهلي لنا واليت سبقت وجودنا يف هذه األرض‪.‬‬

‫أما بالنسبة جلانب العافية وما فيه من عظيم فضلـ اهلل علينا فيمكن استشعاره من خالل رؤية أهل‬
‫البالء والنقص يف العافية‪ ،‬فما من مرض يصيب إنسانًا وعوفيت أنت منه إال ويُذكرك مبدى فضل اهلل‬
‫عليك‪.‬‬
‫ونفس األمر بالنسبة جلانب العصمة‪ :‬فما من معصية حتدث أمامكـ أو تصل إىل مسامعكـ ومل تفعل‬
‫وكرهك فيها‪ ،‬سواء صغرت‬
‫مثلها إال دليل على حب اهلل بأن عصمك من ارتكاهبا وصرف رغبتك عنها‪َّ ،‬‬
‫تلك املعصية أو كربت‪.‬‬
‫وكل طاعة نؤديها علينا أن نرى من خالهلا حب اهلل لنا أن وفقنا وأعاننا على القيام هبا‪.‬‬
‫أما جانب القيومية فما أسهل رؤيته من خالل ما قد حيدث لنا من منع وقيت إلمداداتـ ربانية اعتدنا‬
‫أن تتواىل علينا ليل هنار مثل‪ :‬اختالل توازن اجلسم‪ ،‬خفقان القلب‪ ،‬أمل مفاجئ يف الرأس ‪...‬‬
‫كل ذلك وغريه علينا أن نرى من خالله قيومية اهلل لنا يف حفظه ألجسادنا ليل هنار‪.‬‬
‫وبالنسبة جلانب التسخري‪ :‬علينا أن ننظر بعني االعتبار إىل كل األشياء اليت نتعامل معها‪ ،‬ونتفكر يف مظاهر‬
‫تسخريها لنا‪ ،‬وكيف ستكون احلياة بدون ذلك التسخري‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫وهكذا ىف بقية اجلوانب العشرة ميكننا أن نتعرف عليها ونربطها باهلل الودود من خالل إعمال عقولنا‬
‫يف شريط أحداث احلياة الذي مير أمام أعيننا دون توقف‪.‬‬
‫والذي يساعد الواحد منا على ُحسن التفكر فيما يسمع ويشاهد‪ :‬املداومة على قراءة القرآن والتفكر‬
‫يف آياته اليت تتحدث باستفاضة عن اهلل الودود‪ ،‬فإذا ما أغلقـ مصحفهـ وانطلق إىل احلياة شاهد بعينه ما قد‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫تعرف عليه يف القرآن ‪َ ‬سنُ ِري ِه ْم آيَاتنَا في اآلَفَاق َوفي أَ ْن ُفس ِه ْم َحتَّى َيتََبيَّ َن ل َُه ْم أَنَّهُ ال َ‬
‫ْح ُّق‪[ ‬فصلت‪.]53 :‬‬
‫وهبذا حيدث االنسجام بني ما يقرؤه وما يشاهده‪ ،‬مما يكون له أكرب األثر على عالقته بربه فتزداد‬
‫معرفته به‪ ،‬ومن مث حبه وأنسه وشوقه إليه‪.‬‬
‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪« :‬أعطوا أعينكم حظها من العبادة» فقالوا يا رسول اهلل‪ :‬وما حظها من‬
‫العبادة؟ قال‪« :‬النظر في المصحف والتفكر فيه واالعتبار عند عجائبه»(‪.)1‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() أخرجه ابن أىب الدنيا بإسناد ضعيف‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫األعمال الصالحة المقترح القيام بها‬

‫ومع أمهية وضرورة التفكر يف القرآن والكون والتعرف من خالهلما على اهلل الودود إلنشاء وترسيخ‬
‫قاعدة احملبة‪ ،‬إال أن هذا وحده ال يكفي لتمكني هذه احملبة من القلب‪ ،‬فال بد – كما أسلفنا – من القيام‬
‫بأعمال تثبَّت القواعد وترفع وتدعم البنيان‪.‬‬

‫وعظُو َن بِ ِه لَ َكا َن َخ ْي ًرا لَّ ُه ْم َوأَ َش َّد َتثْبِيتًا‪‬‬


‫تأمل معي قوله تعاىل ‪َ ‬ول َْو أ ََّن ُه ْم َف َعلُوا َما يُ َ‬
‫[النساء‪.]66 :‬‬
‫فالقيام باألعمال الصاحلة أمر الزم لتنمية اإلميان باهلل الودود وتثبيته يف القلب مع األخذ يف االعتبار أنه‬
‫كلما كان العمل الصاحل له عالقة هبذا املوضوع كان تأثريه أشد وأشد من غريه‪.‬‬

‫وهناك أعمال صاحلة هلا ارتباط وثيق مبوضوع احملبة علينا أن نكثر من القيام هبا حىت تنمو شجرهتا‬
‫وتأيت بثمارها الطيبة‪.‬‬

‫ومن هذه األعمال‪:‬‬


‫‪ -1‬ذكر النعم‪.‬‬
‫‪ -2‬رحالت االعتبار‪.‬‬
‫‪ -3‬كثرة محد اهلل باللسان‪.‬‬
‫‪ -4‬مناجاة اهلل بالنعم (خاصة يف جوف الليل)‬
‫‪ -5‬حتبيب الناس يف اهلل عز وجل‪.‬‬
‫‪ -6‬اإلحلاح على اهلل بأن يرزقنا حمبته‪.‬‬
‫ضا من التفصيل حول هذه األعمال‪:‬‬
‫وإليك أخي القارئ بع ً‬
‫‪ ‬أوال‪ :‬ذكر النعم‬
‫من طبيعة اإلنسان أن مشاعر احلب داخله تتوجه ملن يُعطيه وحُي سن إليه‪ ،‬وكلما ازداد العطاء ازداد‬
‫احلب خاصة إذا ما كان العطاء بال مقابل‪ ،‬وصدق من قال‪ :‬اإلنسان عبد اإلحسان‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫وحتكي لنا كتب السرية عن أحد املشركني وهو صفوان بن أمية‪ ،‬وكيف كانت مشاعره جتاه الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫متاما حىت صار رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫هذه املشاعر اليت كان يسيطر عليها البغض والكره‪ ،‬تبدلت ً‬
‫وسلم من أحب الناس إليه بسبب عطائه املتواصل له من غنائم حنني والطائف‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬ولكننا ال نستشعر ذلك بشكل ٍ‬
‫كاف جتاه اهلل عز وجل مع ما أسبغ علنيا من نعم ال تُعد‬
‫وال حُت صى‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬حنن نعيش يف هذه احلالة – حالة اجلحود للرب املنعم الودود – ألننا غرقى يف نعمه‪ ،‬ويف الوقت‬
‫نفسه ال نسمح لعقولنا بتذكرها‪ ،‬وال ألعيننا برؤيتها‪ ،‬ألننا قد ألفنا تواصلها علينا حىت نسيناها‪.‬‬
‫لقد انشغلنا جبمع النعم‪ ،‬ومل نلتفت إىل من أنعم هبا علينا فخفتت مشاعر احلب جتاهه سبحانه‪.‬‬
‫من هنا نقول‪ :‬إن أهم عمل صاحل يورث احملبة وينميها هو ذكر النعم وربطها باملنعم ‪‬فَاذْ ُك ُروا آالَ َء‬
‫اهلل ل ََعلَّ ُك ْم ُت ْفلِ ُحو َن‪[ ‬األعراف‪.]69 :‬‬
‫ِ‬

‫قال صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أحبوا اهلل لما يغذوكم به من نعمة ‪ .....‬احلديث(‪.)1‬‬
‫العبادة المهجورة‬
‫األمر الالفت لالنتباه أن هناك العديد من اآليات القرآنية اليت حتثنا على القيام هبذا العملـ العظيم ‪‬يَا‬
‫الس َم ِاء َواأل َْر ِ‬
‫ض‪[ ‬فاطر‪]3 :‬‬ ‫اهلل َعلَْي ُكم َهل ِمن َخالِ ٍق غَْير ِ‬
‫اهلل َي ْر ُزقُ ُك ْم ِّم َن َّ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ْ ْ‬
‫ت ِ‬ ‫َّاس اذْ ُك ُروا نِ ْع َم َ‬
‫أ َُّي َها الن ُ‬
‫ِِ ِ‬
‫ين‪[‬البقرة‪.]198 :‬‬ ‫‪َ ‬واذْ ُك ُروهُ َك َما َه َدا ُك ْم َوإِن ُك ْنتُ ْم ِّمن َق ْبله لَم َن الضَّالِّ َ‬
‫إن التفكر يف النعم اليت حتيط بنا من كل جانب وربطها باملنعم له دور كبري يف استثارة العقل‪ ،‬وتأجيج‬
‫مشاعر االمتنان هلل عز وجل ومن مث اخلروج من حالة الغفلةـ إىل اليقظة واالنتباه‪ ،‬لذلك كان ذكر النعم من‬
‫أفضلـ العبادات‪.‬‬

‫ويف هذا املعىن يقول أبو سليمان الواسطي‪ :‬ذكر النعم يُورث احلب هلل عز وجل‪.‬‬
‫ويقول اجلنيد‪ :‬إن الرضا يُنال بالتفويض‪ ،‬والتفويض يُنال باحملبة‪ ،‬واحملبة تنال باشتغال القلبـ بالذكر يف‬

‫‪1‬‬
‫() رواه الرتمذي (‪ )3878‬وقال حديث حسن غريب‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫نعم اهلل عز وجل(‪.)1‬‬
‫ويؤكد عمر بن عبد العزيز على أمهية هذه العبادة فيقول‪ :‬التفكر يف نعم اهلل أفضل العبادة(‪.)2‬‬
‫ويكفينا يف بيان أمهيتها وفضلها ما جاء يف حديث املالئكة السيارة اليت تلتمس مواضع الذكر فإذا‬
‫واحدا منها بعثت برائدهم إىل اهلل تبارك وتعاىل فيقولون‪« :‬ربنا أتينا على عباد من عبادك‪،‬‬
‫وجدت ً‬
‫يُعظمون آالءك‪ ،‬ويتلون كتابك‪ ،‬ويُصلُّون على نبيك محمد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ويسألونك آلخرتهم‬
‫غشوهم رحمتي»(‪.)3‬‬ ‫ودنياهم‪ ،‬فيقول تبارك وتعالى‪ُّ :‬‬

‫كيفية ذكر النعم‬


‫وذكر النعم يكون بالعمل على إحصائها‪ -‬قدر املستطاع – من خالل اجلوانب املختلفة اليت مت‬
‫احلديث عنها‪:‬‬

‫(نعم سبق الفضل – نعم اهلداية والعصمة‪ -‬نعم العافية – نعم التسخري – نعم القيومية واحلفظ – نعم‬
‫اإلمهال والسرت‪ -‬نعم اللطف والرمحة‪.)...-‬‬

‫فمن خالل توجيه الفكر إىل جانب من هذه اجلوانب ميكن للواحد منا أن يُعمل عقله يف تذكر ما أنعم‬
‫اهلل به عليه يف هذا اجلانب‪ ،‬حبذا لو قام بتسجيل هذه النعم كتابة حىت يسهل عليه الرجوع إليها يف أي‬
‫وقت شاءه وقراءهتا وهذا من شأنه أن يستثري مشاعر احلب هلل عز وجل داخله‪.‬‬

‫ومع قيام املرء بالتفكر يف نعم اهلل عليه واالجتهاد يف إحصائها مع نفسه‪ ،‬فعليه كذلك أن تكون له‬
‫جمالس مع أهله وأصدقائه يتذاكرون فيها نعم اهلل عليهم‪.‬‬

‫ولقد كان الصحابة والسلف جيلسون مثل تلك اجملالس اليت تُذكرهم بفضل اهلل عليهم وتزيدهم حبًا‬
‫له‪.‬‬

‫فعن معاوية رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ومن به علينا‪ ،‬قال‪« :‬آهلل ما‬
‫«ما أجلسكم»؟ قالوا‪ :‬جلسنا نذكر اهلل وحنمده على ما هدانا لإلسالم َّ‬

‫‪1‬‬
‫() احملبة هلل سبحانه للجنيد‪ – 75 /‬دار املكتيب – سوريا‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() استنشاق نسيم األنس ‪.49/‬‬
‫‪3‬‬
‫() رواه البزار بإسناد حسن‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫أجلسكم إال ذاك؟» قالوا‪ :‬آهلل ما أجلسنا إال ذاك‪ .‬قال‪« :‬أما إني لم أستحلفكم تُهمة لكم‪ ،‬ولكنه أتاني‬
‫جبريل فأخبرني أن اهلل عز وجل يباهي بكم المالئكة»(‪.)1‬‬

‫وجلس الفضيلـ بن عياض وسفيان بن عيينه ليلة إىل الصباح يتذاكرون النعم‪ ،‬فجعلـ سفيان يقول‪:‬‬
‫أنعم اهلل علينا يف كذا‪ ،‬أنعم اهلل علينا يف كذا‪ ،‬أنعم اهلل علينا يف كذا‪ ،‬فعل بنا كذا‪ ،‬فعل بنا كذا(‪.)2‬‬

‫فلنجلس مثل هذه اجملالس املباركة وخباصة مع األهل واألوالد لنزداد حبًا هلل عز وجل‪ ،‬وحبذا لو‬
‫كانت هذه اجملالس بعد النعم الكبرية اليت متر باألسرة كنجاح وتفوق األوالد‪ ،‬وصيام رمضان وقيامه‪ ،‬و‪...‬‬

‫القرآن يعلمنا‬
‫وحنن هبذه الطريقة نتعلم ونقتدي بالقرآن حيث كان يتنزل على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد‬
‫وشكرا‪ ،‬فبعد بدر‬ ‫ً‬ ‫النعم اإلهلية الكبرية ليذ ّكره وأصحابه هبا‪ ،‬ومبا أنعم اهلل عليهم من خالهلا فيزدادوا له حبًا‬
‫وما كان فيها من نصر مبني نزلت سورة األنفال تُذ ّكر بنعم اهلل العظيمة اليت صاحبت هذا النصر‪ :‬إِ ْذ‬
‫ين ‪َ ‬و َما َج َعلَهُ اهللُ إِالَّ بُ ْش َرى‬ ‫ِ ِ ِِ‬ ‫ِ ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب لَ ُك ْم أَنِّي ُمم ُّد ُك ْم بأَلْف ِّم َن ال َْمالئ َكة ُم ْردف َ‬‫استَ َج َ‬‫تَ ْستَغيثُو َن َربَّ ُك ْم فَ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اس أ ََمنَةً ِّم ْنهُ‬
‫ُّع َ‬
‫شي ُك ُم الن َ‬‫يم ‪ ‬إِ ْذ ُيغَ ِّ‬ ‫َولتَط َْمئِ َّن بِه ُقلُوبُ ُك ْم َو َما الن ْ‬
‫َّص ُر إِالَّ م ْن ع ْند اهلل إِ َّن اهللَ َع ِز ٌيز َحك ٌ‬
‫ان َولَِي ْربِ َ‬‫الش ْيطَ ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫وين ِّز ُل علَي ُكم ِّمن َّ ِ‬
‫ط َعلَى ُقلُوبِ ُك ْم َو ُيثَبِّ َ‬
‫ت‬ ‫ب َعن ُك ْم ِر ْج َز َّ‬ ‫اء لِّيُطَ ِّه َر ُك ْم به َويُ ْذه َ‬
‫الس َماء َم ً‬ ‫َ َُ َ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آمنُوا َسأُلْقي في ُقلُ ِ َّ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بِ ِه األقْ َد َام ‪ ‬إِ ْذ يُوحي َربُّ َ‬
‫ين َك َف ُروا‬ ‫وب الذ َ‬ ‫ك إِلَى ال َْمالئ َكة أَنِّي َم َع ُك ْم َفثَبِّتُوا الذ َ‬
‫ين َ‬
‫ض ِربوا ِم ْن ُهم ُك َّل بنَ ٍ‬ ‫ِ‬
‫ان‪[ ‬األنفال‪.]12 -9 :‬‬ ‫ْ َ‬ ‫ض ِربُوا َف ْو َق األ ْعنَاق َوا ْ ُ‬ ‫ب فَا ْ‬ ‫الر ْع َ‬
‫ُّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫يحا‬‫آمنُوا ا ْذ ُك ُروا ن ْع َمةَ اهلل َعلَْي ُك ْم إِ ْذ َج َاءتْ ُك ْم ُجنُو ٌد فَأ َْر َسلْنَا َعلَْي ِه ْم ِر ً‬
‫ين َ‬
‫وبعد غزوة األحزاب‪ :‬يَا أَُّي َها الذ َ‬
‫ودا لَّم َتروها و َكا َن اهلل بِما َتعملُو َن ب ِصيرا ‪ ‬إِ ْذ جاءو ُكم ِّمن َفوقِ ُكم و ِمن أ ِ‬
‫َس َف َل م ْن ُك ْم َوإِ ْذ َزاغَ ِت األبْ َ‬
‫ص ُار‬ ‫ْ َْ ْ ْ‬ ‫َُ‬ ‫ُ َ َْ َ ً‬ ‫َو ُجنُ ً ْ َ ْ َ َ‬
‫اهلل الظُّنُونَا‪[ ‬األحزاب‪.]10 ،9 :‬‬ ‫وبلَغَ ِت الْ ُقلُوب الْحنَ ِاجر وتَظُنُّو َن بِ ِ‬
‫ُ َ ََ‬ ‫ََ‬
‫‪ ‬ثانيًا‪ %:‬رحالت االعتبار‬
‫واملقصد من رحالت االعتبار هو الذهاب إىل األماكن اليت يتواجد فيها أهل البالء كاملستشفيات‬
‫واملالجئ‪ ،‬ودور األيتام وأصحاب االحتياجات اخلاصة‪ ،‬فهذه الرحالت هلا دور كبري يف إدراك حجم النعم‬
‫العظيمة اليت أمدنا اهلل هبا وأغرقنا فيها‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫() رواه مسلم (‪ )2701‬كتاب الذكر والدعاء‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() الشكر البن أىب الدنيا‪.50/‬‬

‫‪115‬‬
‫وحبذا لو اصطحبنا يف هذه الرحالت أهلنا وأوالدنا ليدركوا معنا عظيم فضل اهلل‪.‬‬
‫يوما لتعرف قيمة نعمة احلرية‪.‬‬
‫‪ ‬أخي ‪ ,‬زر السجن ً‬
‫زر أقسام احلروق والكسور وأصحاب احلاالت احلرجة لتدرك قيمة نعمة العافية‪.‬‬
‫أغمض عينيك وتفكر يف صعوبة احلياة بدون أبصار‪.‬‬
‫ختيل نفسك‪ ،‬وأنت تشاهد األخبار‪ ،‬مكان أصحاب اجملاعات والزالزل واحلروب والنكبات مث ردد‪ :‬يا‬
‫رب لك احلمد كما ينبغي جلالل وجهك وعظيم سلطانك‪.‬‬

‫وال تنس أن تقــول عنــد رؤيــة أهــل البالء‪ :‬احلمــد هلل الــذي عافــاين مما ابتالكم بــه وفضــلين على كثــري ممن‬
‫خلق تفضيال‪.‬‬

‫‪ ‬ثالثًا‪ %:‬كثرة الحمد‪%‬‬


‫محد اهلل باللسان عمل صاحل حيبه اهلل عز وجل‪ ،‬فعلينا أن نكثر منه‪.‬‬
‫ولكي يؤيت هذا الذكر مثاره املرجوة يف تنمية احملبة هلل يف القلب‪ ،‬علينا أن جنتهد يف مواطأة القلبـ‬
‫اللسان وقت الذكر‪ ،‬أو بعبارة أخرى جتاوب املشاعر مع اللسان‪ ،‬والطريقة امليسرة لذلك أن نستفيد من‬
‫األوقات اليت تستثار فيها مشاعر احلب هلل عز وجل كوقت تذكر نعمه املختلفة‪ ،‬وجوانب رمحته ولطفه‬
‫وشفقته بعباده‪ ،‬و عند رؤية أهل البالء والنقص‪.‬‬

‫وتأثرا ملظهر من مظاهر حب اهلل لعباده‪ ،‬علينا أن نسارع حبمده سبحانه‪،‬‬


‫فعندما جند انفعاال وجدانيًا ً‬
‫فيواطئ اللسان القلب‪ ،‬فيزداد التأثري واالنفعال‪ ،‬ومن مث تزداد احملبة أكثر وأكثر‪.‬‬

‫وصيغ احلمد كثرية علينا أن خنتار منها ما يناسب حالتنا الشعورية‪.‬‬


‫نافعا هي أن جنتهد قبل الذكر يف استثارة مشاعر احلب‬
‫والطريقة الثانية اليت من شأهنا أن جتعل الذكر ً‬
‫من خالل التفكر يف جوانب حب اهلل لعباده‪ ،‬فإذا ما جتاوب القلب‪ ،‬وانفعلت املشاعر بدأنا الذكر‪.‬‬

‫يقول الحسن‪ %‬البصري‪:‬‬


‫إن أهل العقل مل يزالوا يعودون بالذكر على الفكر‪ ،‬وبالفكر على الذكر حىت استنطقوا القلوب‬

‫‪116‬‬
‫فنطقتـ باحلكمة(‪.)1‬‬

‫رابعا‪ %:‬مناجاة اهلل بالنعم‬


‫‪ً ‬‬
‫من األعمال الصاحلة اليت تورث احملبة والقرب من اهلل‪ :‬مناجاته سبحانه بذكر نعمه اليت أنعم هبا علينا‬
‫ِ ِ ِ‬ ‫هلل الَّ ِذي وه ِ‬
‫كما فعل إبراهيم – عليه السالم – يف مناجاته لربه‪" :‬الْحم ُد ِ‬
‫ب لي َعلَى الْكبَ ِر إ ْس َماع َ‬
‫يل‬ ‫ََ َ‬ ‫َْ‬
‫ُّع ِاء" [إبراهيم‪.]39 :‬‬
‫يع الد َ‬ ‫اق إِ َّن ربِّي ل ِ‬
‫َسم ُ‬
‫َوإ ْس َح َ َ َ‬
‫ِ‬

‫فبعد إحصاء النعم‪ ،‬وبعد رحالت االعتبار‪ ،‬ويف أوقات اخللوة به سبحانه علينا أن نناجيه ونتحدث إليه‬
‫وحنمده على ما أنعم به علينا‪ ،‬وحبذا لو تضمنت هذه املناجاة النعم بصورة تفصيلية‪ ،‬وقد أحسن من قال‬
‫يف مناجاته‪:‬‬

‫أنت الذي صورتين وخلقتين وهديتين لشرائع اإلميان‬


‫أنت الذي علمتين ورمحتين وجعلت صدري واعي القرآن‬
‫يد وال دكان‬ ‫أنت الذي أطعمتين وسقيتين بغري كسب ٍ‬
‫وجربتين وسرتتين ونصرتين وغمرتين بالفضلـ واإلحسان‬
‫أنت الذي آويتين وحبوتين وهديتين من حرية اخلذالن‬
‫وزرعت يل بني القلوب مودة والعطف منك برمحة وحنان‬
‫ونشرت يل يف العاملني حماسنا وسرتت عن أبصارهم عصياين‬
‫شائعا حىت جعلت مجيعهم إخواين‬ ‫وجعلت ذكري يف الربية ً‬
‫علي من يلقاين‬
‫واهلل لو علموا قبيح سريريت ألىب السالم َّ‬
‫وألعرضوا عين وملوا صحبيت ولذقت بعد كرامة هبواين‬
‫لكن سرتت معاييب ومثاليب وحلمت عن سقطي وعن طغياين‬
‫فلكـ احملامد واملدائح كلها خبواطري وجوارحي ولساين‬
‫رب بأنعم ما يل بشكر أقلهن يدان‬
‫علي َّ‬
‫ولقد مننت ّ‬

‫‪1‬‬
‫() إحياء علوم الدين ‪.5/6‬‬

‫‪117‬‬
‫من صور المناجاة‪:‬‬
‫عن أىب هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬دعا رجل من األنصار من أهل قباء النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فلما‬
‫طَعِم وغسل يده – أو قال يديه – قال‪« :‬الحمد هلل الذي يُ ِ‬
‫طعم وال يُطعَم‪ ،‬من َّ علينا فهدانا‪ ،‬وأطعمنا‬
‫مودع ربي‪ ،‬وال مكافأ وال مكفور وال مستغنى عنه‪،‬‬ ‫وسقانا‪ ،‬وكل بالء حسن أبالنا‪ ،‬الحمد هلل غير ّ‬
‫صر‬‫الحمد هلل الذي أطعم من الطعام‪ ،‬وسقى من الشراب‪ ،‬وكسا من العُري‪ ،‬وهدى من الضاللة‪ ،‬وبَ َّ‬
‫ضل على كثير ممن خلق تفضيال‪ ،‬الحمد هلل رب العالمين»(‪.)1‬‬ ‫العمى‪ ،‬وف ّ‬
‫من َ‬
‫فلتكن – أخي – مناجاتنا هلل بالثناء عليه ومدحه‪ ،‬واالعرتاف بنعمه‪ ،‬ولنداوم على ذلك حىت نذوق‬
‫حالوة حبه فنصل من خالل املناجاة إىل استشعار قربه منا وكأننا نراه فنكلمه على احلضور‪.‬‬

‫أفضل أوقات المناجاة‪:‬‬


‫حاضرا معه‪ ،‬ومشاعره‬
‫ً‬ ‫ومن أفضل أوقات املناجاة على اإلطالق ذلك الوقت الذي جيد فيه املرء قلبه‬
‫متأججة ومتجهة حنو ربه‪.‬‬

‫أما أفضل األوقات بالنسبة لساعات الليل والنهار‪ ،‬فمما ال شك فيه أن املناجاة بالليل خاصة يف جوفه‬
‫اشئَةَ اللَّْي ِل ِه َي أَ َش ُّد‬
‫ونصفه األخري هلا تأثري عجيب على القلب‪ ،‬وكيف ال وقد وصفها اهلل بذلك‪ :‬إِ َّن نَ ِ‬
‫َوطئًا َوأَق َْو ُم قِيالً‪[ ‬املزمل‪.]6 :‬‬

‫فأفضل األوقات اليت ميكن أن حيدث فيها مواطأة بني القلب واللسان هي ساعات الليل‪ ،‬قال صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪« :‬أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل اآلخر»(‪.)2‬‬

‫ويف هذا املعىن يقول اإلمام حسن البنا – رمحه اهلل ‪ :-‬يا أخي لعل أطيب أوقات املناجاة أن ختلو بربك‬
‫والناس نيام‪ ،‬واخلَليُّون هجع‪ ،‬قد سكن الليل كله‪ ،‬وأرخى سدوله‪ ،‬وغابت النجوم‪ ،‬فتستحضر قلبك‪،‬‬
‫وتتذكر ربك‪ ،‬وتتمثل ضعفك وعظمة موالك فتأنس حبضرته‪ ،‬ويطمئن قلبك بذكره‪ ،‬وتفرح بفضله‬
‫ورمحته(‪.)3‬‬

‫وروى أبو نعيم بإسناده عن حسني بن زياد قال‪ :‬أخذ فضيل بن عياض بيدي فقال‪ :‬يا حسني ينزل‬
‫‪1‬‬
‫() أخرجه النسائي‪ ،‬وابن السين‪ ،‬واحلاكم‪ ،‬وابن حبان‪ ،‬وقال احلاكم‪ :‬صحيح على شرط مسلم‪ ،‬ووافقه الذهيب‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() صحيح‪ ،‬أخرجه الرتمذي وغريه من حديث عمرو بن عبسة‪ ،‬وصححه األلباين يف صحيح اجلامع ح (‪.)1173‬‬
‫‪3‬‬
‫() رسالة املناجاة حلسن البنا‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫اهلل تعاىل كل ليلة إىل مساء الدنيا فيقول‪ :‬كذب من ادعى حمبيت‪ ،‬فإذا جنه الليل نام عين‪ ،‬أليس كل حبيب‬
‫حيب اخللوة حببيبه‪ ،‬ها أنذا مطلع على أحبايب إذا جنهم الليل مثلت نفسي بني أعينهم فخاطبوين على‬
‫غدا أقر أعني أحبايب يف جنايت»(‪.)1‬‬
‫املشاهدة‪ ،‬وكلموين على الحضور‪ً ،‬‬
‫وعن عنبسة بن األزهر قال‪ :‬كان حمارب بن ِدثار‪ ،‬قاضي أهل الكوفة‪ ،‬قريب اجلوار مين‪ ،‬فرمبا مسعته‬
‫يف بعض الليل يقول وهو يرفع صوته‪:‬‬

‫«أنا الصغري الذي ربيته فلك احلمد‪ ،‬وأنا الضعف الذي قويته فلك احلمد‪ ،‬وأنا الفقري الذي أغنيته فلك‬
‫العزب الذي‬
‫احلمد‪ ،‬وأنا الغريب الذي وصلته فلك احلمد‪ ،‬وأنا الصعلوك الذي َم َّولته فكل احلمد‪ ،‬وأنا َ‬
‫اغب الذي أشبعته فلكـ احلمد‪ ،‬وأنا العاري الذي كسوته فلك احلمد‪ ،‬وأنا‬ ‫الس ُ‬
‫زوجته فلكـ احلمد‪ ،‬وأنا َّ‬
‫املسافر الذي صاحبته فلك احلمد‪ ،‬وأنا الغائب الذي َّأديته فلك احلمد‪ ،‬وأنا الراجل الذي محلته فلك احلمد‪،‬‬
‫وأنا املريض الذي شفيته فلكـ احلمد‪ ،‬وأنا السائل الذي أعطيته فلكـ احلمد‪ ،‬وأنا الداعي الذي أجبته فلكـ‬
‫احلمد‪ ،‬فلك احلمد ربنا محدا كثريا على ٍ‬
‫محد لك»(‪.)2‬‬ ‫ً ً‬
‫سجود الشكر‬
‫ومن أفضل أوقات املناجاة والثناء على اهلل بنعمه‪ :‬أثناء سجود الشكر ‪ ..‬ففي هذا السجود يكون‬
‫اإلنسان يف حالة من التأثر‪ ،‬والتأجج املشاعري ملا يرى من إحسان ربه عليه‪ ،‬لذلك علينا أن نستثمر هذا‬
‫الوقت مبناجاة اهلل وذكر نعمه‪ ،‬ليزداد احلب‪ ،‬والشعور باالمتنان جتاهه سبحانه‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬حتبيب الناس يف اهلل عز وجل‬


‫ً‬ ‫‪‬‬
‫ومن األعمال الصاحلة اليت تسقي شجرة احملبة‪ :‬حتبيب الناس يف اهلل عز وجل وذلك باحلديث معهم عن‬
‫نعمه سبحانه ومدى حبه هلم ورأفته وشفقته ولطفه هبم‪.‬‬

‫فهذه الوسيلة هلا أكثر من فائدة‪ :‬منها أهنا تذكر املتحدث مبا قد يكون غفل عنه‪ ،‬فتجعلهـ يف حالة‬
‫دائمة من التذكر واالنتباه‪.‬‬

‫ومن فوائدها كذلك أهنا تدفعه إىل العمل مبا يقول حىت ال يدخل يف دائرة من يقول وال يفعل‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() استنشاق نسيم األنس ‪.87/‬‬
‫‪2‬‬
‫() الشكر البن أىب الدنيا ‪.75/‬‬

‫‪119‬‬
‫ومنها كذلك أهنا من أفضل األعمال اليت حيبها اهلل عز وجل‪ ،‬ومن مثَّ فإهنا تعرض صاحبها لنفحات‬
‫احملبة اإلهلية‪.‬‬

‫عن أيب أمامة الباهلي أنه كان يقول‪ :‬حببوا اهلل إىل الناس حيببكم اهلل(‪.)1‬‬
‫وجاء يف األثر أن اهلل عز وجل أوحى إىل داود عليه السالم‪:‬‬
‫يا داود أحبين‪ ،‬وأحب من حيبين‪ ،‬وحببين إىل خلقي‪ .‬قال‪ :‬يا رب‪ ،‬هذا أحبك وأحب من حيبك‪،‬‬
‫فكيف أحببك إىل خلقك؟ قال‪ :‬ذكرهم بآالئي فإهنم ال يذكرون مين إال خريا(‪.)2‬‬

‫وعن كعب قال‪ :‬أوحى اهلل عز وجل إىل موسى عليه السالم‪ :‬أحتب أن حتبك جنيت ومالئكيت‪ ،‬وما‬
‫ذرأت من اجلن واإلنس؟ قال‪ :‬نعم يا رب‪ ،‬قال‪ :‬حببين إىل خلقي‪ ،‬قال‪ :‬كيف أحببك إىل خلقك؟ قال‪:‬‬
‫ذكرهم آالئي ونعمائي‪ ،‬فإهنم ال يذكرون مين إال كل حسنة»(‪.)3‬‬

‫وكان أبو الدرداء يقول‪ :‬إن أحب عباد اهلل إىل اهلل عز وجل الذين حيبون اهلل وحيببون اهلل إىل الناس‪ ،‬والذين‬
‫يراعون الشمس والقمر واألظلة لذكر اهلل عز وجل(‪.)4‬‬

‫نموذج عملي‪:‬‬
‫وإذا أردت أخي القارئ تطبي ًقا عمليًا هلذه الوسيلة فانظر إىل قوله تعاىل وهو خياطب فيه نبيه‪،‬‬
‫َّ ِ‬
‫ين‬
‫اء َك الذ َ‬ ‫ويعلمه طريقة الدعوة وما ينبغي أن يتضمنه خطاهبا من حتبيب الناس يف رهبم‪َ  :‬وإِذَا َج َ‬
‫وء بِ َج َهال ٍَة‬ ‫ِ ِ‬ ‫ب َربُّ ُك ْم َعلَى َن ْف ِس ِه َّ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫الر ْح َمةَ أَنَّهُ َمن َعم َل م ْن ُك ْم ُس ً‬ ‫ُي ْؤمنُو َن بآيَاتنَا َف ُق ْل َسالَ ٌم َعلَْي ُك ْم َكتَ َ‬
‫يم‪[ ‬األنعام‪.]54 :‬‬ ‫ثُ َّم تَاب ِمن بع ِد ِه وأَصلَح فَأَنَّه غَ ُف ِ‬
‫ور َّرح ٌ‬ ‫َ َْ َ ْ َ ُ ٌ‬
‫سنًا إِلَى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اعا َح َ‬ ‫اسَت ْغف ُروا َربَّ ُك ْم ثُ َّم تُوبُوا إِل َْيه يُ َمت ْ‬
‫ِّع ُكم َّمتَ ً‬ ‫وهذا كثري يف القرآن تأمل قوله تعاىل‪َ  :‬وأَن ْ‬
‫اب َي ْوٍم َكبِي ٍر‪[ ‬هود‪.]3 :‬‬‫اف َعلَْي ُك ْم َع َذ َ‬ ‫َخ ُ‬ ‫ضلَهُ َوإِن َت َولَّ ْوا فَِإنِّي أ َ‬ ‫ت ُك َّل ِذي فَ ْ‬
‫ض ٍل فَ ْ‬ ‫أَج ٍل ُّمس ًّمى وي ْؤ ِ‬
‫َ َ َُ‬
‫ولقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مثاال كامال للداعية الذي حيبب الناس يف اهلل عز وجل‪،‬‬
‫ويدفعهم للفرار إليه مهما ارتكبوا من آثام‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() احملبة هلل سبحانه للجنيد‪.57 /‬‬
‫‪2‬‬
‫() املصدر السابق‪.63 /‬‬
‫‪3‬‬
‫() استنشاق نسيم األنس‪.46 ،45 /‬‬
‫‪4‬‬
‫() املصدر السابق‪.75 /‬‬

‫‪120‬‬
‫يوم ا من األيام شيخ كبري وهو يستند على عصاه‪ ،‬فقال‪ :‬يا نيب اهلل إن يل غدرات وفجرات فهل‬ ‫أتاه ً‬
‫يغفر اهلل يل؟ فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬تشهد أن ال إله إال اهلل وأن محم ًدا رسول اهلل؟ قال‪ :‬بلى يا‬
‫رسول اهلل‪ .‬قال‪ :‬فإن اهلل قد غفر لك غدراتك وفجراتك‪ .‬فانطلق وهو يقول‪ :‬اهلل أكرب اهلل أكرب(‪.)1‬‬
‫شاعرا يقذف النساء‪،‬‬
‫وكذلك كان صحابته‪ :‬فهذا أبو هريرة رضي اهلل عنه يلقى الفرزدق وقد كان ً‬
‫وكانت الناس تكره فيه ذلك‪ ،‬فماذا قال له أبو هريرة عندما لقيه؟‬
‫يقول الفرزدق‪ :‬قال يل أبو هريرة‪ :‬أنت الفرزدق؟ قلت‪ :‬نعم‪ .‬فقال‪ :‬أنت الشاعر؟ قلت‪ :‬نعم‪ .‬فقال‪:‬‬
‫قوما يقولون ال توبة لك‪ ،‬فإياك أن تقطع رجاءك من رمحة اهلل(‪.)2‬‬
‫أما إنك إن بقيت لقيت ً‬
‫علي بن احلسني فقال له‪ :‬إن من وراء ابنك ثالث خالل‪:‬‬ ‫ومات لرجل ابن مسرف على نفسه‪ ،‬فلقيه ّ‬
‫أما أوهلا فشهادة أن ال إله إال اهلل‪ ،‬وأما الثانية فشفاعة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وأما الثالثة فرمحة اهلل‬
‫عز وجل اليت وسعت كل شيء(‪.)3‬‬

‫سادسا‪ :‬اإلحلاح على اهلل بأن يرزقناـ حبه‬


‫ً‬ ‫‪‬‬
‫علينا أن نسأل اهلل عز وجل ونلح عليه بأن يرزقنا حبه‪ ،‬مثل ما كان يفعل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫فمن دعائه قوله‪« :‬اللهم إني اسألك حبك‪ ،‬وحب من أحبك‪ ،‬وحب عمل يقربني إلى حبك‪ .‬اللهم اجعل‬
‫إلي من نفسي ومالي وأهلي ومن الماء البارد على الظمأ»‪.‬‬ ‫حبك أحب َّ‬
‫إلي‪ ،‬وخشيتك أخوف األشياء عندي‪ ،‬واقطع عني حاجات الدنيا‬ ‫وقوله‪« :‬اللهم اجعل حبك أحب األشياء َّ‬
‫بالشوق إلى لقائك‪ ،‬وإذا أقررت أعين أهل الدنيا من دنياهم فأقرر عيني في عبادتك»‪.‬‬
‫واعلم أخي أن اهلل عز وجل ال يرد سائال عن بابه‪ ،‬فلو رأى منا صدقًا يف طلب حمبته لرزقنا إياها‪،‬‬
‫وفتح لنا باب األنس به والشوق إليه‪.‬‬
‫وخنتم احلديث بأثر رواه اجلنيد بإسناده عن صاحل بن مسمار قال‪ :‬بلغنا أن اهلل عز وجل أرسل إىل‬
‫سليمان بن داود عليه السالم بعد موت أبيه داود مل ًكا من املالئكة فقال له امللك‪ :‬إن ريب عز وجل أرسلين‬
‫إليك لتسأله حاجة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫() أورده اهليثمي يف جممع الزوائد ‪ ،10/83‬ونسبه أليب يعلى والبزار والطرباين يف الصغري ورجاهلم ثقات‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫() حسن الظن باهلل البن أيب الدنيا ص ‪.69‬‬
‫‪3‬‬
‫() املصدر السابق‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫قال سليمان‪ :‬فإين أسال ريب أن جيعل قليب حيبه كما كان قلب أيب داود حيبه‪ ،‬وأسال اهلل أن جيعل قليب‬
‫خيشاه كما كان قلب أيب داود خيشاه‪.‬‬
‫إلي أن أجعل قلبه يحبني‪،‬‬
‫فقال الرب تبارك وتعاىل‪« :‬أرسلت إلى عبدي ليسألني حاجة فكانت حاجته َّ‬
‫وأجعل قلبه يخشاني‪ ،‬وعزتي ألكرمنه‪ .‬فوهب له مل ًكا ال ينبغي ألحد من بعده(‪.»)1‬‬
‫***‬

‫‪1‬‬
‫() احملبة هلل سبحانه للجنيد خرب رقم (‪.)79‬‬

‫‪122‬‬
‫كلمة أخيرة‬
‫حول الطريق‪ %‬إلى محبة اهلل‬
‫وخالصة القول أ ن الطريق إىل حمبة اهلل عز وجل – حمبة صادقة مثمرة – يبدأ بكثرة قراءة القرآن بفهم‬
‫وتأثر‪ ،‬وكذلك بالتفكر اليومي يف أحداث احلياة اليت متر بنا وحتمل يف طياهتا مظاهر احلب اإلهلي لنا من‬
‫لطف ورمحة وقيومية وتذكري وتسخري‪.‬‬

‫ومع هاتني الوسيلتني العظيمتني اللتني من شأهنما إنشاء احملبة يف القلب وغرس بذرهتا وتأسيس‬
‫قاعدهتا‪ ،‬تأيت األعمال الصاحلة بعد ذلك لرتفع البنيان وتسقي البذرة فال ترتكها إال بعد أن تصبح شجرة‬
‫وارفة مثمرة تؤيت أكلها كل حني بإذن رهبا‪.‬‬

‫وهذه األعمال هي ذكر النعم‪ ،‬ورحالت االعتبار‪ ،‬وكثرة احلمد باللسان‪ ،‬ومناجاة اهلل بالنعم‪ ،‬وحتبيب‬
‫وأخريا اإلحلاح على اهلل عز وجل بأن يرزقنا حمبته‪.‬‬
‫ً‬ ‫الناس يف اهلل عز وجل‬

‫نسأل اهلل عز وجل أن جيعل حبه يهيمن على قلوبنا وأن يفتح لنا باب األنس به والشوق إليه وأن‬
‫ضوا َع ْنهُ‪[ ‬املائدة‪.]119:‬‬ ‫جيعلنا ممن قال يف شأهنم ‪‬ي ِحُّب ُهم وي ِحبُّونَهُ‪[ ‬املائدة‪ ]54:‬و‪َّ ‬ر ِ‬
‫ض َي اهللُ َع ْن ُه ْم َو َر ُ‬ ‫ُ ْ َُ‬
‫وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم‪.‬‬
‫َّ‬
‫والحمد هلل الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لوال أن هدانا اهلل‬

‫وللتواصل‪:‬‬
‫‪.www. Alemanawalan.Com‬‬
‫***‬

‫‪123‬‬
‫الفهـ ـ ـ ــرس‬

‫املوضوع‬
‫املقدمة ‪...............................................................‬‬
‫ولكننا حنب اهلل ! ‪......................................................‬‬
‫املعرفة طريق احملبة ‪.....................................................‬‬
‫املعرفة النافعة ‪..........................................................‬‬

‫متهيد البد منه‬


‫تكامل العبودية ‪........................................................‬‬
‫سياج احملبة ‪............................................................‬‬
‫ضرورة التوازن ‪........................................................‬‬
‫رحلة احملبة ‪............................................................‬‬
‫كيف نفتح باب احملبة؟! ‪................................................‬‬

‫الفصل األول‬
‫أمهية احملبة الصادقة من العبد لربه‬
‫الثمار احللوة ‪..........................................................‬‬
‫أوالً‪ :‬الرضا بالقضاء ‪...................................................‬‬
‫ثانيًا‪ :‬التلذذ بالعبادة وسرعة املبادرة إليها ‪.................................‬‬
‫ثالثًا‪ :‬الشوق إىل اهلل ‪...................................................‬‬
‫رابعا‪ :‬التضحية من أجله واجلهاد يف سبيله ‪...............................‬‬ ‫ً‬
‫خامسا‪ :‬الرجاء والطمع فيما عند اهلل ‪....................................‬‬‫ً‬
‫سادسا‪ :‬احلياء من اهلل ‪..................................................‬‬
‫ً‬
‫سابعا‪ :‬الشفقة على اخللق ‪..............................................‬‬ ‫ً‬

‫‪124‬‬
‫الفهــــــــــرسـ‬

‫املوضوع‬
‫ثامنًا‪ :‬الغرية هلل ‪........................................................‬‬
‫تاسعا‪ :‬الغىن باهلل ‪......................................................‬‬
‫ً‬
‫الفصل الثاين‬
‫ملاذا حيب اهلل عباده؟‬
‫النفخة العلوية ‪.........................................................‬‬
‫تكرمي اإلنسان ‪.........................................................‬‬
‫نفسا؟! ‪........................................................‬‬ ‫أليست ً‬
‫تقرب املالئكة إىل اهلل بالدعاء للبشر ‪.....................................‬‬
‫مباهاته بعباده ‪.........................................................‬‬
‫ضحكه سبحانه ‪.......................................................‬‬
‫قدر املؤمن عند اهلل ‪....................................................‬‬
‫يكره سبحانه مساءة عبده املؤمن ‪........................................‬‬
‫فرحه – سبحانه – بتوبة العاصني ‪......................................‬‬
‫مراده أن تدخل اجلنة ‪...................................................‬‬
‫أحب العباد إىل اهلل ‪....................................................‬‬
‫أشد ما يغضبه ‪.........................................................‬‬
‫املرحلة األخرية ‪........................................................‬‬
‫أهل املظامل ‪............................................................‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫مظاهر حب اهلل تعاىل لعباده‬
‫متهيد‪................................................................ .‬‬
‫جوانب املعرفة‪....................................................... .‬‬

‫‪125‬‬
‫املوضوع‬
‫أوال‪ :‬سبق فضله عليك قبل أن توجد‪................................... .‬‬
‫سبق الفضلـ يف التكرمي ‪.................................................‬‬
‫املشهد العظيم ‪.........................................................‬‬
‫سبق فضلـ الزمان ‪......................................................‬‬
‫تيسر احلياة ‪............................................................‬‬
‫سبق فضلـ املكان ‪......................................................‬‬
‫الوالدان ‪..............................................................‬‬
‫اللسان العريب ‪.........................................................‬‬
‫سبق الفضلـ يف العافية ‪..................................................‬‬
‫كلمة ال بد منها ‪.......................................................‬‬
‫ثانيًا‪ :‬هدايته وعصمته ودوام عافيته‪..................................... .‬‬
‫هدايته لك ‪............................................................‬‬
‫العصمة ‪...............................................................‬‬
‫ثالثًا‪ :‬قيامه على شئونك‪............................................... .‬‬
‫ال حول وال قوة إال باهلل‪.............................................. .‬‬
‫رابعا‪ :‬تسخري الكون لك‪.............................................. .‬‬‫ً‬
‫أنت القائد ‪............................................................‬‬
‫أيها املدلل ‪............................................................‬‬
‫ختيل مث ختيل ‪..........................................................‬‬
‫سل نفسك ‪...........................................................‬‬
‫خامسا‪ :‬كرمه البالغ‪ ،‬وهداياه املتنوعة إليك‪..............................‬‬
‫ً‬
‫من األمري؟ ‪............................................................‬‬
‫كرمي يف عطاياه ‪.......................................................‬‬

‫‪126‬‬
‫الفهــــــــــرسـ‬

‫املوضوع‬
‫اهلدايا املتنوعة ‪.........................................................‬‬
‫شكرا ‪...................................................‬‬
‫يرضى باحلمد ً‬
‫رب شكور ‪...........................................................‬‬
‫كرم عجيب ‪..........................................................‬‬
‫سادسا‪ :‬رمحته ورأفته بك‪ ،‬وشفقته وحنانه عليك‪.........................‬‬ ‫ً‬
‫ال وجه للمقارنة ‪.......................................................‬‬
‫وملاذا االبتالء؟! ‪.......................................................‬‬
‫من فوائد االبتالء ‪......................................................‬‬
‫الشفقة اإلهلية ‪.........................................................‬‬
‫االبتالء بالذنب واحلرمان من الطاعة ‪.....................................‬‬
‫الرمحة الواسعة ‪.........................................................‬‬
‫رب رءوف ‪...........................................................‬‬
‫رفع احلرج ‪............................................................‬‬
‫ال تنس أنك عبد ‪......................................................‬‬
‫شريعته كلها رمحة ‪.....................................................‬‬
‫تقليل األعمال يف أعيننا ‪................................................‬‬
‫الرمحة املدَّخرة ‪.........................................................‬‬
‫سابعا‪ :‬تيسري طريقك إىل التوبة والرجوع إليه‪............................‬‬‫ً‬
‫ال حيوجنا إىل املشي الكثري ‪..............................................‬‬
‫بابه مفتوح للجميع ‪....................................................‬‬
‫أقبل وال ختف ‪.........................................................‬‬
‫يعلمنا ما نقوله لنتوب ‪..................................................‬‬
‫عدم االستقصاء ‪.......................................................‬‬

‫‪127‬‬
‫املوضوع‬
‫يسهل علينا طريق التوبة ‪................................................‬‬
‫لننتهز الفرصة ‪.........................................................‬‬
‫ثامنًا‪ :‬حلمه وصربه وسرته لك‪......................................... .‬‬
‫كان معنا ‪.............................................................‬‬
‫غضبة الكون ‪..........................................................‬‬
‫اخلليل يرى امللكوت ‪...................................................‬‬
‫الستري ‪................................................................‬‬
‫تاسعا‪ :‬خطابه الودود الذي خياطبك به‪................................. .‬‬‫ً‬
‫من أنت؟ ‪.............................................................‬‬
‫خطاب يطمئن مستمعه ‪................................................‬‬
‫ولنبدأ بصيغة النداء ‪....................................................‬‬
‫خطاب يقول لك‪ :‬أقبل وال ختف ‪.......................................‬‬
‫خطاب يستثري اهلمم ‪...................................................‬‬
‫النصائح الغالية ‪........................................................‬‬
‫التوجيه غري املباشر ‪.....................................................‬‬
‫مراعاة النفسية البشرية ‪.................................................‬‬
‫ما بال أقوام؟! ‪.........................................................‬‬
‫ملاذا العقاب؟ ‪..........................................................‬‬
‫مواساته للمبتلني ‪.......................................................‬‬
‫ويف النهاية ‪............................................................‬‬
‫عاشرا‪ :‬ترغيبك وترهيبك ‪..............................................‬‬‫ً‬
‫الرتبية الربانية ‪.........................................................‬‬
‫هل قامت القيامة؟! ‪....................................................‬‬

‫‪128‬‬
‫الفهــــــــــرسـ‬

‫املوضوع‬
‫اللص والسجن ‪........................................................‬‬
‫مشول الرتغيب والرتهيب ‪...............................................‬‬
‫مجيعا ‪...........................................................‬‬
‫الناس ً‬
‫الرتهيب والرتغيب يف قصص السابقني ‪...................................‬‬
‫الرسائل اإلهلية ‪........................................................‬‬
‫املستقبل والرتغيب والرتهيب ‪...........................................‬‬
‫الرتغيب والرتهيب يف أفعال العباد ‪.......................................‬‬
‫الفصل الرابع‬
‫الوسائل العملية لتمكني حب اهلل يف القلبـ‬
‫أمران البد منهما ‪......................................................‬‬
‫وسائل التذكري مبعارف احملبة ‪............................................‬‬
‫أوال‪ :‬القرآن ودوره يف إنشاء اإلميان والتذكري مبعارف احملبة‪................‬‬
‫ثانيًا‪ :‬التفكر يف الكون وأحداث احلياة ‪...................................‬‬
‫ال بديل عن التفكر ‪....................................................‬‬
‫تفكر يقود إىل احملبة ‪....................................................‬‬
‫األعمال الصاحلة املقرتح القيام هبا ‪.......................................‬‬
‫أوال‪ :‬ذكر النعم ‪.......................................................‬‬
‫العبادة املهجورة ‪.......................................................‬‬
‫كيفية ذكر النعم ‪......................................................‬‬
‫القرآن يعلمنا ‪..........................................................‬‬
‫ثانيًا‪ :‬رحالت االعتبار ‪.................................................‬‬
‫ثالثًا‪ :‬كثرة احلمد ‪......................................................‬‬
‫رابعا‪ :‬مناجاة اهلل بالنعم ‪................................................‬‬
‫ً‬

‫‪129‬‬
‫املوضوع‬
‫من صور املناجاة ‪......................................................‬‬
‫أفضل أوقات املناجاة ‪..................................................‬‬
‫سجود الشكر ‪........................................................‬‬
‫خامسا‪ :‬حتبيب الناس يف اهلل عز وجل ‪...................................‬‬
‫ً‬
‫سادسا‪ :‬اإلحلاح على اهلل بأن يرزقنا حبه ‪.................................‬‬
‫ً‬
‫كلمة أخرية حول الطريق إىل حمبة اهلل ‪....................................‬‬
‫الفهرس ‪...............................................................‬‬

‫‪130‬‬
‫الفهــــــــــرسـ‬

‫‪131‬‬
132
‫الفهــــــــــرسـ‬

‫***‬

‫‪133‬‬

You might also like