Professional Documents
Culture Documents
كيف نحب الله ونشتاق اليه
كيف نحب الله ونشتاق اليه
ونشتاق إليه؟
مؤسسة اقرأ
للنشر والتوزيع والرتمجة
10ش أمحد عمارة -جبوار حديقة الفسطاط
حممول0101175447 -0102327302: القاهرة ت5326610 :
www.iqraakotob.com
Email:info@iqraakotob.com
المقدمـــــــــــــة
المقدمة
باهلل أستعين
كثريا طيبًا مبار ًك ا فيه كما حيب ربنا ويرضى ،والصالة والسالم على احلبيب املصطفى
محدا ً
احلمد هلل ً
حممد وعلى آله وصحبه أمجعني.
وبعد..
احلب – كما نعلم – جزء أصيل من مشاعر اإلنسان ،وهو معاملة قلبية يشعر من خالهلا املرء مبيله
واجنذابه إىل اآلخر.
والواقع املشاهد خيربنا بأنه عندما يتمكن احلب يف القلبـ بني شخصني فإننا جند آثار هذا احلب بادية
دوما إىل رؤيته ،ويرغب يف
يف تعامل أحدمها مع اآلخر ،فتجد كالً منهما يكثر من ذكر حمبوبه ،ويشتاق ً
قرب من حيبه حمبوبه ،ويُبعد من يبعده ,يطيع
اخللوة به ،ويأنس بقربه ،ويغضب من أجله ،ويغار عليه ..يُ َّ
أوامره بسعادة وحبور ،ويضحي من أجله ،ويفرح هبداياه مهما صغرت.
فهذه وغريها بعض آثار احلب عندما يتمكن من قلوب البشر جتاه بعضهم البعض.
فكيف ينبغي أن تكون هذه اآلثار عندما يصبح احملبوب هو احملبوب األعظم؟!
كيف يكون حال من يتمكن حب اهلل من قلبه؟!
دوما يكثر من
آثار ا عظيمة ستظهر على هذا احملب الصادق ملواله سبحانه وتعاىل ,سرتاه ً
بال شك أن ً
دوما على
ذكره ويأنس بقربه ،ويستوحش مما سواه ،وحيب اخللوة به ومناجاته ,يسارع يف طاعته ويعمل ً
دوما عليها ,يضحي بالغايل والرخيص
رضاه ,يغار على حمارمه ،ويغضب من أجله ,يفرح بعطاياه ويشكره ً
دوما إىل رؤيته.
من أجله ،يرضى بكل ما يقضيه له ،ويبذل غاية جهده يف خدمته ،ويشتاق ً
ولكننا حنب اهلل !
فإن قال قائل :ولكننا حنب اهلل ومع ذلك ال نشعر بكل هذه العالمات.
نعم ،يف القلوبـ حب هلل عز وجل ،ولكنه يف الغالب مل يصل للدرجة اليت هتمني وتسيطر على املشاعر
3
وحتتل اجلزء األكرب منها ،فمع وجود قدر من حب اهلل يف القلب إال أن هناك حماب أخرى تشوش عليه،
وتنازعه املكان مثل حب املال والزوجة واألوالد والنفس و...
وليس معىن هذا أن املطلوب هو جتريد مشاعر احلب من هذه األمور ،بل املطلوب أن يكون حب اهلل أكرب
منها مجيعا كما قال تعاىل :والَّ ِذين آمنُوا %أَ َش ُّد حبًّا ِ
هلل[ البقرة ]165 :فإن مل حيدث هذا فلن تظهر تلك ُ َ َ َ ً
العالمات ،وهذا ما أكده صلى اهلل عليه وسلم بقوله« :ثالث من كن فيه وجد حالوة اإليمان :أن يكون اهلل
ورسوله أحب إليه مما سواهما»( ..)1احلديث.
فلكي جيد املؤمن حالوة اإلميان ال بد أن تكون مساحة حب اهلل يف قلبه أكرب من مساحة حبه ملا سواه
من احملاب األخرى جمتمعة.
فكلما ازدادت املعرفة باهلل حتسنت درجة معاملة العبد له ،وازداد له حبًا وإجالال وهيبة وخشية ،ويف
املقابل عندما جيهل اإلنسان ربه ،وال يعرف قدره فإن ذلك من شأنه أن يؤدي إىل أن يعامله معاملةـ ال تليق
جبالله وكماله ،فيخشى الناس أكثر مما خيشاه ،وحيب نفسه وماله وعقاراته أكثر مما حيب ربه ،وجيتهد يف
التزيُّن لآلخرين دون أن يبايل بربه.
فالسبب األول إلعراض الناس عن اهلل ،واستهانتهم بأوامره هو جهلهم بقدره سبحانهَ ..و َما ُك ْنتُ ْم
َن اهللَ الَ َي ْعلَ ُم َكثِ ًيرا ِّم َّما تَستَتِرو َن أَن ي ْشه َد َعلَي ُكم سمع ُكم والَ أَبصار ُكم والَ جلُو ُد ُكم ول ِ
َكن ظََن ْنتُ ْم أ َّ َْ َ َ ْ ْ َُْ ْ َ ْ َ ُ ْ َ ُ ْ ُ
ِ ِ ِ َّ ِ
ين[ فصلت.]22،23 : َصبَ ْحتُم ِّم َن الْ َخاس ِر َ
َت ْع َملُو َن َ وذَل ُك ْم ظَنُّ ُك ُم الذي ظََن ْنتُ ْم ب َربِّ ُك ْم أ َْر َدا ُك ْم فَأ ْ
ويؤكد احلافظ ابن رجب على أن املعاملة على قدر املعرفة بقوله:
ال قوت للقلبـ والروح ،وال غذاء هلما سوى معرفة اهلل تعاىل ،ومعرفة عظمته وجالله وكربيائه.
فيرتتب على هذه املعرفة :خشيته ،وتعظيمه ،وإجالله ،واألنس به ،واحملبة له ،والشوق إىل لقائه ،والرضا
1
() متفق عليه.
4
بقضائه(.)1
المعرفة النافعة
املعرفة املؤثرة النافعة ليست تلك اليت ختاطب العقلـ فقط ،فالكثري من الناس يتحدث عن اهلل حديثًا
بعيدا عن قوله فال خشية وال تقوى وال مهابة وال إجالل ومبهرا ،فإذا ما نظرت لواقعه وجدت فعله ً مجيال ً
تصار ومن يُّ ْخرِج الْح َّي ِمن الْميِّ ِ
ُ َ َ َ الس ْم َع َواألَبْ َ َ َ َ ك َّ الس َم ِاء َواأل َْر ِ
ض أ ََّمن يَ ْملِ ُ هلل قُ ْل َمن َي ْر ُزقُ ُكم ِّم َن َّ
سَي ُقولُو َن اهللُ َف ُق ْل أَفَالَ َتَّت ُقو َن[ يونس.]31 : وي ْخرِج الْميِّ َ ِ
األم َر فَ َ
ْح ِّي َو َمن يُّ َد ِّب ُر ْ
ت م َن ال َ َُ ُ َ
معا ،وأن تستمر تلك املخاطبة فإن أردنا معرفة تؤثر يف املعاملة فال بد أن يتم خماطبة العقل والقلبـ ً
مستقرا يف القلب يظهر أثره يف سلوك ً مقاما إميانيًا
حىت يستقر مدلوهلا يف قلب ومشاعر اإلنسان فتُشكل ً
ِ
وب ُه ْم[ احلج.]54 : ك َف ُي ْؤ ِمنُوا بِ ِه َفتُ ْخبِ َ
ت لَهُ ُقلُ ُ ْح ُّق ِمن َّربِّ َ
ْم أَنَّهُ ال َ
ِ
ين أُوتُوا الْعل َ
َّ ِ
العبد وأعماله َ ولَي ْعلَ َم الذ َ
..معىن ذلك أن الطريق األساسي لرحلة احملبة يبدأ من بوابة املعرفة احلقة باهلل عز وجل ،على أن
ختاطب تلك املعرفة :الفكر والوجدان.
استقرارا وهيمنةً
ً ومع هذه املعرفة ،ال بد من القيام بأعمال تؤكد وترسخ مدلول احلب يف قلوبنا فيزداد
وعظُو َن بِ ِه لَ َكا َن َخ ْي ًرا لَّ ُه ْم َوأَ َش َّد َتثْبِيتًا[ النساء.]66 :
على مشاعرناَ :ول َْو أ ََّن ُه ْم َف َعلُوا َما يُ َ
ويف الصفحات القادمة سيكون احلديث مبشيئة اهلل عن أمهية احملبة ومثارها ونقطة البداية لرحلة احملبة مع
دما يف طريق حب اهلل عز وجل ،لعلنا نستنشق ذكر بعض الوسائل العملية اليت من شأهنا أن تسري بنا قُ ً
نسيم األنس به يف الدنيا ،فتزداد قلوبنا شوقًا إليه سبحانه ،لتكون أسعد حلظاتنا تلك اللحظاتـ اليت ت ُقبض
فيها أرواحنا ونبشر من املالئكة بلقاء احلبيب جل وعال وهو راض عنا.
***
1
() جمموعة رسائل ابن رجب .2/467
2
() التحفة العراقية يف األعمال القلبية البن تيمية .61/
تمهيد البد منه
تكامل %العبودية%
العبودية احلقة هلل عز وجل تعين يف حقيقتها اجتاه اجلزء األكرب من مشاعر العبد حنوه سبحانه ،حىت
ينعكس ذلك على معاملته له مبقتضى احلال اليت يعيشها واألحداث اليت مير هبا ،ليتمثل فيه قوله صلى اهلل
عليه وسلم« :عجبًا ألمر المؤمن ،إن أمره كله له خير ،وليس ذلك ألحد إال للمؤمن ،إن أصابته سراء
خيرا له»(.)1
خيرا له ،وإن أصابته ضراء صبر فكان ً شكر فكان ً
هذه هي العبودية احلقة من املؤمن هلل عز وجل ,أن يعبده سبحانه ،وتتجه مشاعره حنوه حسب احلالة
اليت مير هبا ،فتجده يتقلب بني اخلوف والرجاء والرضا والفرح واالنكسار و ...
أما العبودية الناقصة فهي تتمثل يف الرتكيز على جانب أو جوانب بعينها وترك أخرى ،فهذا األمر له
أضرار كثرية ،ومنزلقات خطرية.
يقول ابن رجب :وقد عُلم أن العبادة إمنا تنبين على ثالثة أصول :اخلوف والرجاء واحملبة ،وكل منها
فرض الزم ،واجلمع بني الثالثة حتم واجب ،فلهذا كان السلف يذمون من تعبد بواحد منها وأمهل
اآلخرين.
َ
فإن بدع اخلوارج ومن أشبههم إمنا حدثت من التشديد يف اخلوف واإلعراض عن احملبة والرجاء.
وبدع املرجئة نشأت من التعلق بالرجاء وحده ،واإلعراض عن اخلوف .وبدع كثري من أهل اإلباحة
واحللول – ممن ينسب إىل التعبد – نشأت من إفراد احملبة واإلعراض عن اخلوف والرجاء(.)2
سياج المحبة
معىن ذلك أن عبادة اهلل باحملبة فقط هلا خماطرها ومنزلقاهتا.
يقول ابن تيمية :احلب اجملرد تتبسط النفوس به حىت تتسع يف أهوائها إذا مل يزعها وازع اخلشية هلل ،حىت
اهلل َوأ َِحبَّا ُؤهُ[ املائدة.)3( ]18 :
قالت اليهود والنصاري نَ ْحن أ َْبنَاء ِ
ُ ُ
1
() رواه مسلم.
2
() استنشاق نسيم األنس البن رجب.21 -18 /
3
() التحفة العراقية يف األعمال القلبية البن تيمية .59
7
لذلك كان مقياس احملبة الصادقة هلل عز وجل هو ظهور عالماهتا اليت بينها اهلل يف كتابه ،وبينها رسوله
يف سنته واليت سيأيت بياهنا بشيء من التفصيل يف الصفحاتـ القادمة.
فقوله :أين املتحابون جبالل اهلل ،تنبيه على ما يف قلوهبم من إجالل اهلل وتعظيمه والتحاب فيه ،وبذلك
يكونون حافظني حلدود اهلل ،دون الذين ال حيفظون حدوده لضعف اإلميان يف قلوهبم(.)3
ضرورة التوازن
ال بد إذن من التوازن بني ألوان العبودية ،وأن نقرأ األحاديث واألخبار الواردة يف كل باب من أبواب
العبودية هلل فنضعه يف حجمه املناسب ،وأال جنعل جانبًا يطغى على اآلخر.
قال صلى اهلل عليه وسلم« :لو تعلمون قدر رحمة اهلل التكلتم وما عملتم من عمل ،ولو علمتم
قدر غضبه ما نفعكم شيء»(.)4
1
() حسن ،حسنه األلباين يف السلسلة الصحيحة (.)998
2
() رواه مسلم (.)2566
3
() النحفة العراقية .60/
4
() أورده اهليثمي يف جممع الزوائد .10/384
8
تمهيــــــــــــدـ
فكما أنه ينبغي للمسلمـ أن يفتح لقلبه بابًا حلب اهلل والرجاء فيه ،فعليه كذلك أن يفتح بابًا للخوف
منه سبحانه وخشيته.
ال بد من فتح هذين البابني لكي حنقق مراد اهلل يف قوله تعاىل :فَِف ُّروا إِلَى ِ
اهلل[ الذاريات.]50:
فمن رجا شيئًا طلبه ،ومن خاف شيئًا هرب منه ,فعلينا أن نطلب رضا اهلل وحمبته والقرب منه ،ونفر
من كل ما يغضبه فنحققـ بذلك حقيقة الفرار إىل اهلل.
أما إذا فتحنا باب اخلوف فقط فسيكون الفرار من اهلل ال إليه ،ويف املقابل فإن العكس خيدع النفس
ويدفعها للغرور.
قال أبو سليمان :من َح ُسن ظنه باهلل عز وجل مث ال خياف اهلل فهو خمدوع(.)1
وهذا أحد السلف وهو عبد الواحدـ بن زيد يسأل زياد النمريي :ما منتهى اخلوف؟
قال :إجالل اهلل عن مقام السيئات.
فقال :ما منتهى الرجاء؟
قال :تأمل اهلل على كل احلاالت(.)2
رحلة المحبة
وألننا يف هذه الصفحاتـ نتناول عبودية احملبة ،وكيف ننميَّها يف قلوبنا ،فإن احلديث سيكون مبشيئة اهلل
وعونه منصبًا على كل ما يستثري مشاعر احلب هلل عز وجل والرجاء فيه ،لذلك أطلب منك ومن نفسي –
أخي القارئ – أال تنسى هذه الكلمات اليت مت ذكرها يف هذا التمهيد وأنت تقرأ الصفحاتـ القادمة،
ونفس األمر سنطلبه منك مبشيئة اهلل عندما نتحدث عن عبودية اخلوف واخلشية هلل عز وجل يف موضع
آخر.
1
() حسن الظن باهلل البن أىب الدنيا .27/
2
() املصدر السابق.77 /
9
يقول ابن عطاء يف حكمه:
إذا أردت أن ينفتح لك باب الرجاء فاشهد ما منه إليك ،وإذا أردت أن ينفتح لك باب اخلوف
فاشهد ما منك إليه.
وحنن هنا يف هذه الصفحات نريد – بعون اهلل وكرمه – أن ينفتح لنا باب احلب والرجاء يف اهلل،
لذلك سيكون غالب احلديث يف التعرف على اهلل الودود ،ومظاهر معاملته احلانية لنا.
***
10
الفصل األول
وعندما ميأل هذا احلب القلبـ ستكون له بال شك مثار عظيمة تظهر يف سلوك العبد وأعماله ،هذه
الثمار من الصعب احلصول عليها من أي شجرة أخرى غري شجرة احلب ،فاحلب خُي رج من القلبـ معانٍ
للعبودية ال خيرجها غريه.
يقول ابن تيمية :فمن ال حيب الشيء ال ميكن أن حيب التقرب إليه ،إذ التقرب إليه وسيلة ،وحمبة
الوسيلة تبع حملبة املقصود(.)1
وإذا كانت احملبة أصل كل عمل ديين ،فاخلوف والرجاء وغريمها يستلزم احملبة ويرجع إليها ،فإن
ين الراجي الطامع إمنا يطمع فيما حيبه ال فيما يبغضه ،واخلائف يفر من املخوف لينال احملبة أُولَئِ َ َّ ِ
ك الذ َ
ِ
يَ ْدعُو َن َي ْبَتغُو َن إِلَى َربِّ ِه ُم ال َْوسيلَةَ أ َُّي ُه ْم أَق َْر ُ
ب َو َي ْر ُجو َن َر ْح َمتَهُ َويَ َخافُو َن َع َذابَهُ[ اإلسراء.)2( ]57 :
وهلذا اتفقت األُمتان من قبلنا على ما عندهم من مأثور وحكم عن موسى وعيسى أن أعظم الوصايا:
أن حتب اهلل بقلبك وعقلك وقصدك ،وهذه هي حقيقة احلنيفية ملة إبراهيم اليت هي أصل شريعة التوراة
واإلجنيل والقرآن(.)3
لذلك أدعو نفسي ،وأدعوك أخي القارئ إىل االهتمام بغرس بذور حمبة اهلل يف القلب ،وتعهدها باألعمال
آمنُوا أَ َش ُّد ُحبًّا ِهلل[ البقرة .]165 :عند ذلك َّ ِ
ين َ
الصاحلة حىت يصري اهلل عز وجل أحب إلينا من كل شيء َ والذ َ
سنجد الثمار احللوة أمامنا دون عناء أو مشقة.
1
() التحفة العراقية .51/
2
() املصدر السابق.
3
() املصدر السابق.54/
12
تمهيــــــــــــدـ
دوما
عندما يتعرف الواحد منا على مدى حب ربه له وحرصه عليه فإن هذا من شأنه أن يدفعه ً
للرضى بقضائه ،وكيف ال وقد أيقن أن ربه ال يريد له إالّ اخلري ,وأنه ما خلقه ليعذبه ،بل خلقه بيده،
وكرمه على سائر خلقه ليدخله اجلنة ،دار النعيم األبدي ،ومن مثَّ فإن كل قضاء يقضيه له ما هو إال خطوة
ميهد له من خالهلا طريقه إىل تلك الدار ،فاألقدار املؤملة والباليا ما هي إال أدوات تذكري يُذ ِّكر اهلل هبا عباده
حبقيقة وجودهم يف الدنيا وأهنا ليست دار مقام بل دار امتحان ،وأن عليهم الرجوع إليه قبل فوات األوان
ِ
اب األ ْدنَى ُدو َن ال َْع َذ ِ
اب اب ل ََعلَّ ُه ْم َي ْر ِجعُو َن[ الزخرفَ ،]48 :ولَنُذي َقن ُ
َّهم ِّم َن ال َْع َذ ِ اهم بِال َْع َذ ِ
َخ ْذنَ ُ
َ وأ َ
األ ْكبَ ِر ل ََعلَّ ُه ْم َي ْر ِجعُو َن[ السجدة.]21 :
وهي كذلك أدوات تطهري من أثر الذنوب والغفالت اليت يقع فيها العبد «ما يصيب المسلم من
نصب ،وال وصب ،وال هم ،وال حزن ،وال أذى ،وال غم ،حتى الشوكة يشاكها ،إال كفر اهلل بها من
خطاياه»(.)1
فجميع األقدار اليت يُقدَّرها اهلل عز وجل لعباده حتمل يف طياهتا اخلري احلقيقي هلم وإن بدت غري ذلك.
فعلى سبيل املثال :الرزق ،فاهلل عز وجل يبسط الرزق للبعض ويضيقه على البعض لعلمه سبحانه مبا
ض ول ِ
َكن ُيَن ِّز ُل بَِق َد ٍر َّما يَ َ ِ ط اهلل ِّ ِ ِ ِ ِ
شاءُ الر ْز َق لعبَاده لََبغَ ْوا في األ َْر ِ َ سَ ُ
يصلح عباده ,أمل يقل سبحانه َ ول َْو بَ َ
ص ٌير[ الشورى.]27 : اد ِه َخبِير ب ِ
إِنَّهُ بِ ِعب ِ
ٌَ َ
فمنعه الرزق الوفري عن بعض الناس ما هو إال صورة من صور رمحته ،وشفقته هبم .قال صلى اهلل عليه
وسلم« :إن اهلل تعالى ليحمي عبده المؤمن من الدنيا ،وهو يحبه ،كما تحمون مريضكم الطعام
والشراب تخافون عليه» (.)2
هذه املعاين العظيمة ال ميكن تذكرها واستحضارها بصورة دائمة ،وممارسة مقتضاها يف احلياة العملية
ضوا َع ْنهُ هو :يُ ِحُّب ُه ْم إال إذا متكن حب اهلل من القلبـ وهيمن عليه ،فمفتاحَّ :ر ِ
ض َي اهللُ َع ْن ُه ْم َو َر ُ
َويُ ِحبُّونَهُ[ املائدة.]54 :
1
() متفق عليه.
2
() صحيح ،أخرجه اإلمام يف املسند ،واحلاكم عن أيب سعيد ،وصححه األلباين يف صحيح اجلامع (.)1814
13
سلما»(.)1
لكم حظًا ،وما ضركم من عاداكم إذا كنت لكم ً
علي كل مصيبة ،ورضاين بكل قضية ،فما أبايل
وكان عامر بن عبد قيس يقول :أحببت اهلل حبًا سهل َّ
مع حيب إياه ما أصبحت عليه وما أمسيت(.)2
نعم ،أخي فإننا إن أحببنا اهلل حبًا صادقًا أحببنا كل ما يرد علينا منه سبحانه.
ف بصره ،جاءه الناس يهرعون إليه ,كل واحد يسأله ملا قدم سعد بن أيب وقاص إىل مكة ،وقد كان ُك َّ
أن يدعو له ،فيدعو هلذا وهلذا ،وكان جماب الدعوة ،فأتاه عبداهلل بن أيب السائب فقال له :يا عم ،أنت
بين ،قضاء اهلل سبحانه عندي
تدعو للناس فلو دعوت لنفسك ،فرد اهلل عليك بصرك؟ فتبسم وقال :يا َّ
أحسن من بصري.
وكان عمران بن احلصني قد استسقى بطنه ،فبقي ملقى على ظهره ثالثني سنة ال يقوم وال يقعد ،قد نقب
له يف سرير من جريد كان عليه موضع لقضاء حاجته ،فدخل عليه مطّرف وأخوه العالء ،فجعل يبكي ملا يراه
إيل(.)3
أحبَّه إىل اهلل أحبه ّ
من حاله ،فقال :مل تبكي؟ قال :ألين أراك على هذه احلالة العظيمة قال :ال تبك ،فإن َ
ثانيًا :التلذذ بالعبادة وسرعة المبادرة إليها
كلما ازداد حب العبد لربه ازدادت مبادرته لطاعته واستمتاعه بذكره ،وكان هذا احلب سببًا يف
استخراج معاين األنس والشوق إىل حمبوبه األعظم ،والتعبري عنها من خالل ذكره ومناجاته.
هذه املعاين ما كانت لتخرج إال إذا فُتح هلا باب احلب ،فاحملب يقبل على حمبوبه بسعادة ،ويطيع
أوامره برضى ،ال حتركه لتلك الطاعة سياط اخلوف من عقوبة عدم أدائه للعمل ،بل حيركه ما حرك موسى
ضى[ طه ]84 :وكذلك ما جعل رسولنا صلى اهلل ب لَِت ْر َ عليه السالم عندما قال لربه َ و َع ِجل ُ
ْت إِل َْي َ
ك َر ِّ
عليه وسلم يقول لبالل« :أرحنا بها يا بالل».
إن هناك بالفعلـ سعادة حقيقية ومتعة وشعور باللذة والنعيم جيدها احملب يف مناجاته وذكره وخلوته
بربه ،وهذا ما يُطلق عليه« :جنة الدنيا» ,هذه اجلنة من الصعب علينا أن ندخلها من غري باب احملبة.
1
() احملبة هلل سبحانه لإلمام اجلنيد -60/دار املكتيب.
2
() استنشاق نسيم األنس البن رجب.36 /
3
() صالح األمة يف علو اهلمة .4/516
14
تمهيــــــــــــدـ
قال أحد الصاحلني :مساكني أهل الدنيا ،خرجوا منها وما ذاقوا أطيب ما فيها ،قيل :وما أطيب ما
فيها؟ قال :حمبة اهلل تعاىل ومعرفته وذكره.
وقال آخر :إنه لتمر يب أوقات أقول :إن كان أهل اجلنة يف مثل هذا إهنم لفي عيش طيب(.)1
ثالثًا :الشوق إلى اهلل
حريصا على اغتنام أية فرصة
ً دوما
عندما يتمكن حب اهلل من قلبـ العبد ،فإن هذا من شانه أن جيعله ً
تتاح له فيها اخللوة به سبحانه وبذكره ومناجاته ،ومجع قلبه معه ،وشيئًا فشيئًا تستثار كوامن الشوق إليه
سبحانه ،وتستبد بالقلب ،وتلح عليه يف طلب رؤيته ،ليأيت العِلم فيخربه بأنه ال رؤية وال لقاء هلل يف احلياة
الدنيا ،بل بعد املوت ،فيزداد الشوق إىل هذا اللقاء ،وأي لقاء:
لقاء المحبوب األعظم الذي ناجاه لسنوات طويلة ،وسكب الدمع في محرابه.
لقاء من دعاه في أوقات عصيبة فوجده منه قريبًا ،ولدعائه مجيبًا.
لقاء من كفاه وحماه وأعانه على نفسه وعدوه.
لقاء من أعطاه وأكرمه وحفظه ورعاه وبكل بالء حسن أباله.
يقول احلسن البصري :إن أحباء اهلل هم الذين ورثوا احلياة الطيبة وذاقوا نعيمها مبا وصلوا إليه من مناجاة
حبيبهم ،ومبا وجدوا من حالوة يف قلوهبم ،السيما إذا خطر على باهلم ذكر مشافهته وكشف ستور احلجب عنه يف
املقام األمني والسرور ،وأراهم جالله وأمسعهم لذة كالمه ورد عليهم جواب ما ناجوه به أيام حياهتم(.)2
فالشوق إىل اهلل – إذن – مثرة من مثار متكن حبه يف قلب العبد ،ويؤكد ابن رجب على ذلك بقوله:
الشوق إىل اهلل درجة عالية رفيعة تنشأ من قوة حمبة اهلل عز وجل ،وقد كان صلى اهلل عليه وسلم يسأل
اهلل هذه الدرجة(.)3
ففي دعائه صلى اهلل عليه وسلم «اللهم إني أسألك الرضى بعد القضاء ،وبرد العيش بعد الموت،
1
() الوابل الصيب ص.97
2
() شرح حديث لبيك اللهم لبيك البن رجب ص – 89دار عامل الفوائد.
3
() استنشاق نسيم األنس .93/
15
ولذة النظر إلى وجهك ،والشوق إلى لقائك من غير ضراء مضرة وال فتنة مضلة» ( )1فهو صلى اهلل عليه
وسلم يسأل ربه الشوق إىل لقائه دون وجود أسباب ضاغطة عليه تدعوه لذلك مثل :ضراء الدنيا وأقدارها
املؤملة ،أو الفنت يف الدين املضلة ،أو مبعىن آخر أن يكون الشوق إىل اهلل ناشئًا عن حمض احملبة.
جاء يف األثر أن اهلل تبارك وتعاىل يقول:
إلي إال بفضل
أال قد طال شوق األبرار إلى لقائي ،وإني إليهم ألشد شوقًا ،وما شوق المشتاقين َّ
علي فلم أقبل
شوقي إليهم .أال من طلبني وجدني ،ومن طلب غيري لم يجدني ،من ذا الذي أقبل َّ
عليه؟ ومن ذا الذي دعاني فلم أجبه؟ ومن ذا الذي سألني فلم أعطه(.)2
رابعا :التضحية من أجله والجهاد في سبيله
ً
احملبة الصادقة هلل عز وجل تدفع صاحبها لبذل كل ما ميلكه من أجل نيل رضا حمبوبه ،وليس ذلك
فحسبـ بل إنه يفعل ذلك بسعادة ،وكل ما يتمناه أن حتوز هذه التضحية على رضاه.
تأمل معي ما حدث من عبد اهلل بن جحش ليلة غزوة أحد عندما قال لسعد بن أيب وقاص :أال تأيت
شديدا بأسه،
غدا َفلَقِّين رجالً ً
ندعو اهلل تعاىل ،فَ َخلَوا يف ناحية ،فدعا سعد ،فقال :يا رب إذا لقينا العدو ً
فأمن عبد اهلل ،مث قال :اللهم
شديد ا حرده ،أقاتله ويقاتلين ،مث ارزقين الظفر عليه حىت أقتله فآخذ سلبه َّ
ً
شديد ا حرده ،أقاتله ويقاتلين ،مث يأخذين ،فيجدع أنفي وأذين ،فإذا لقيتك
شديدا بأسهً ، غدا رجالً ً ارزقين ً
غدا قلتـ يل :يا عبد اهلل فيم ُجدع أنفك وأذنك؟ فأقول :فيك ويف رسولك ،فتقول :صدقت. ً
خريا من دعويت ،فلقد رأيته آخر النهار ،وإن أنفه وأذنه ملعلق يف خيط(.)3
قال سعد :كانت دعوته ً
ويف يوم من األيام رأى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مصعبـ بن عمري ميشي وعليه إهاب كبش قد
متنطق به ،فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم« :انظروا إلى هذا الرجل الذي قد نور اهلل قلبه ،ولقد رأيته
بين أبوين يغذيانه بأطيب الطعام والشراب فدعاه حب اهلل ورسوله إلى ما ترون»(.)4
16
تمهيــــــــــــدـ
خامسا :الرجاء والطمع فيما عند اهلل
ً
فكلما اشتد احلب اشتد الرجاء يف اهلل وحسن الظن فيه أال يلقي حبيبه يف النار ،فاحملب ال يعذب
اهلل وأ ِ
َحبَّا ُؤهُ قُ ْل فَلِ َم ُي َع ِّذبُ ُكم بِ ُذنُوبِ ُكم ِ
حبيبه كما جاء الرد اإلهلي على اليهود عندما قالوا :نَ ْح ُن أ َْبنَاءُ َ
[املائدة.]18 :
ويف احلديث أنه صلى اهلل عليه وسلم قال« :واهلل ،ال يلقي اهلل حبيبه في النار» (.)1
مرض أعرايب فقيل له :إنك متوت .قال :وأين أذهب؟ قالوا :إىل اهلل .قال :فما كراهتى أن أذهب إىل
من ال أرى اخلري إال منه(.)2
بل إن أي بالء يتعرض إليه جيعله قل ًق ا بأن يكون هذا البالء مظهر من مظاهر لوم اهلل له وغضبه عليه،
حينئذ يهرع إىل مواله يسرتضيه ويتذلل إليه ويستغفره ،ويطلب منه العفو والصفح. لذلك جتده ٍ
جيد ا يف دعاء رسولنا صلى اهلل عليه وسلم بعد أحداث الطائف وما تعرض فيها من
ويتجلى هذا األمر ً
استهزاء وتضيق وإيذاء ،فكان مما قاله لربه «...إن لم يكن بك غضب علي فال أبالي ،لكن عافيتك هي
أوسع لي ،أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات ،وصلح عليه أمر الدنيا واآلخرة :أن ينزل بي
1
() صحيح اجلامع (.)7095
2
() حسن الظن باهلل البن أيب الدنيا برقم (.)40
3
() املصدر السابق برقم (.)27
4
() املصدر السابق برقم (.)77
17
على سخطك ،لك العتبي( )1حتى ترضى وال حول وال قوة إال بك».
غضبك أو يحل ّ
ويف هذا املعىن يقول ابن رجب :إن حمبة اهلل إذا صدقت أوجبت حمبة طاعته وامتثاهلا ،وبغض معصيته
واجتناهبا ،وقد يقع احملب أحيانًا يف تفريط يف بعض املأمورات ،وارتكاب بعض احملظورات ،مث يرجع إىل
نفسه باملالمة ،وينزع عن ذلك ،ويتداركه بالتوبة(.)2
ومن األمثلة العظيمة اليت تبني تلك الشفقةـ على العصاة ما فعله مؤمن آل فرعون مع قومه ,تأمل أقواله
ِ الر َش ِ ِ ِ ِ ِ ِ
اف
َخ ُاد[ غافر .]38:يَا َق ْوم إِنِّي أ َ الذي جاء ذكرها يف سورة غافر يَا َق ْوم اتَّبعُون أ َْهد ُك ْم َسب َ
يل َّ
اب[ غافر ,]30:ويا َقوِم ما لِي أَ ْدعُو ُكم إِلَى النَّج ِ
اة َوتَ ْدعُونَنِي إِلَى النَّا ِر[ غافر: َح َز ِ ِ
َ ْ ََ ْ َ َعلَْي ُكم ِّمثْ َل َي ْوم األ ْ
َ .]41وأَنَا أَ ْدعُو ُك ْم إِلَى ال َْع ِزي ِز الْغََّفا ِر[ غافر.]42:
هذه الثمرة العظيمة من مثار احملبة من شأهنا أن جتعلنا نقوم بتعديل خطابنا الدعوي ،فنستوعب اجلميع
ونبشرهم ونطمئنهم جتاه رهبم قبل ختويفهم وترهيبهم.
18
تمهيــــــــــــدـ
فمع شفقته على العصاة ،إالّ أن هذا ال مينعه من بغضه لتصرفاهتم اليت تغضب ربه ،ولو كانت من
ين َم َعهُ إِ ْذ قَالُوا لَِق ْو ِم ِه ْم إِنَّا ُب َر َءاءُ ِم ْن ُك ْم ت لَ ُكم أُسوةٌ حسنَةٌ فِي إِبر ِاه َّ ِ
يم َوالذ َ
َْ َ أقرب الناس إليه قَ ْد َكانَ ْ ْ ْ َ َ َ
ضاء أَب ًدا حتَّى ُت ْؤ ِمنُوا بِ ِ ِ ِ ِ ِ
اهلل َوم َّما َت ْعبُ ُدو َن م ْن ُدون اهلل َك َف ْرنَا بِ ُك ْم َوبَ َدا َب ْيَننَا َو َب ْينَ ُك ُم ال َْع َد َاوةُ َوالَْبغْ َ ُ َ َ
َو ْح َدهُ[ املمتحنة.]4 :
لقد علم احملب الصادق أن حمبوبه األعظمـ حيب عباده ،وحيب من حيببهم فيه ،ويعيدهم إليه ،ويف نفس
الوقت فإنه سبحانه ال حيب تصرفاهتم املخالفة ألوامره ،املنافية لصفة العبودية اليت ينبغي أن يتصفوا هبا َ والَ
اد ِه الْ ُك ْف َر[ الزمر ]7 :فهو ال حيب الكفر ،وال حيب الظلم ،وال الطغيان ،وال الكرب ،وال الفسق،
ضى لِ ِعب ِ
َي ْر َ َ
لذلك ترى احملب هلل جيمع بني األمرين :الشفقة على اخللق ،وحب اخلري هلم من جانب ،وبغضه لتصرفاهتم
اليت ال ترضى مواله ،وهنيهم عنها ،بل وحماربتهم عليها إن تطلب األمر من جانب آخر.
ومن لوازم هذه الغرية :الغرية على رسوله ،وكيف ال وهو أحب اخللق إىل اهلل ,فلو كانت احملبة هلل صادقة
جيدا ،ولعل ما حدث خلبيب بن لتبعتهاـ والزمتها حمبة رسوله والغرية عليه ،ولقد متثل هذا األمر يف الصحابة ً
وصلب لكي يُقتل ،وقبل قتله قال املشركون له :أحتب أن عدي ما يؤكد ذلك ،فقد مت أسره يف يوم الرجيعُ ،
حممدا مكانك؟ فقال :ال واهلل العظيم .ما أحب أن يفديين بشوكة يُشاكها يف قدمه .
()1
ً
تاسعا :الغنى باهلل
ً
ومع كل الثمار السابقة تأيت أهم مثرة للمحبة أال وهي االستغناء باهلل سبحانه وتعاىل ،واالكتفاء به
َ واهللُ َخ ْي ٌر َوأ َْب َقى[ طه.]73 :
فينعكس ذلك على تعامالت العبد مع األحداث اليت متر به ،فإن ادهلمت اخلطوب استشعر معية اهلل له
الَ تَ ْح َز ْن إِ َّن اهللَ َم َعنَا[التوبة ،]40 :وإن تشابكت أمامه األمور تذكر فردد ىف نفسه إِ َّن َم ِع َي َربِّي َسَي ْه ِدي ِن
[ الشعراء.]62 :
1
() حياة الصحابة للكاندهلوي .1/400
19
وبني وبني العاملني خراب وليت الذي بيين وبينك عامر
وكل الذي فوق الرتاب تراب إذا صح منك الود فالكل هني
قال اجلنيد :قد أوجب اهلل ألهل حمبته الصنع والتوفيق يف مجيع أحواهلم ،فأورثهم الغىن ،وس ّد عنهم
ونزه أنفسهم
طلب احلاجات إىل اخللق ،تأتيهم ألطاف من اهلل من حيث ال حيتسبون ،وقام هلم مبا يكتفونَّ ،
إكرام ا هلم عن فضول الدنيا ،وطهارة لقلوهبم من كل دنس ،وأمشاهم يف طرقات الدنيا عما سوى ذلكً ،
طيبني ،وقد رفع أبصار قلوهبم إليه ،فهم ينظرون إليه بتلك القلوب غري حمجوبة عنه(.)1
***
1
() احملبة هلل سبحانه .84/
20
تمهيــــــــــــدـ
الفصل الثاني
21
22
تمهيــــــــــــدـ
النفخة العلوية
العالقة بني اهلل عز وجل وبني عباده من بىن آدم ختتلف عن عالقته سبحانه جبميع خلقه ،وكيف ال
ك لِل َْمالَئِ َك ِة إِنِّي َخالِ ٌق بَ َ
ش ًرا ِّمن وما من خملوق من البشر إالَّ وفيه نفخة علوية من روح اهلل إِ ْذ قَ َ
ال َربُّ َ
ين[ ص.]72 ،71 : ِِ ِ ِطي ٍن فَِإ َذا س َّويته و َن َف ْخ ُ ِ ِ ِ
ت فيه من ُّروحي َف َقعُوا لَهُ َساجد َ َ ُُْ َ
نعم ،هذه النفخة ليست جزءًا من ذات اهلل – كما ادعت النصارى – بل هي من ملكه( )1وأمره،
اختص هبا سبحانه اإلنسان وميزه عن سائر خملوقاته ،وجعلها مرحلة هامة وأساسية ومميزة يف خلقه فَِإذَا
ت فِ ِيه ِمن ُّر ِ
وحي[ احلجر ]29:بينما مل يُذكر ذلك يف حق أي خملوق آخر. َس َّو ْيتُهُ َو َن َف ْخ ُ
ي[ ص.]75 : ك أَن تَ ْس ُج َد لِ َما َخلَ ْق ُ
ت بِيَ َد َّ ومما يؤكد هذا األمر قوله تعاىل إلبليس َ ما َمَن َع َ
ويف هذا املعىن يقول سيد قطب :وألن اهلل عز وجل خالق كل شيء ،فال بد أن تكون هناك
خصوصية يف خلق هذا اإلنسان تستحق هذا التنويه ،هي خصوصية العناية الربانية هبذا الكائن ،وإيداعه
نفخة من روح اهلل داللة على هذه العناية(.)2
ويقول رمحه اهلل :وما كان هذا الكائن الصغري احلجم ،احملدود القوة ،القصري األجل ،احملدود املعرفة ،ما
كان له أن ينال شيئًا من هذه الكرامة لوال تلك اللطيفة الربانية الكرمية ,وإال فماذا يبلغ هذا اإلنسان
لتسجد له مالئكة الرمحن ،إال هبذا السر اللطيف العظيم؟! (.)3
تكريم اإلنسان
وليس أدل على خصوصية العناية الربانية باإلنسان من هذا التكرمي الذي مشله منذ بدء خلق أبيه آدم
ِ ِِ ِ ِ
س َج ُدوا إالَّ إبْل َ
يس[ البقرةً .]34 :
مرورا بالصورة وسجود املالئكة له َ وإِ ْذ ُقلْنَا لل َْمالَئِ َكة ْ
اس ُج ُدوا آل ََد َم فَ َ
س ِن َت ْق ِو ٍيم[ التني.]4 : احلسنة اليت خلق عليها لََق ْد َخلَ ْقنَا ا ِإلنْ ِ
َح َسا َن في أ َْ ُ
1
() يقول ع بد الرمحن حسن حبنكه امليداين :واإلضافة يف (روحي) ليست على معىن أهنا جزء من روح ذات اهلل سبحانه
وتعاىل ،بل هي على معىن امللك،كما أن كل شيء يف السماوات واألرض ،وما بينهما ملك هلل ،فلله ما يف السماوات
واألرض ،وهذا التعبري نظري التعبري يف (مسائي ،وأرضي ،وجنيت ،وناري) أو على معىن االختصاص بأمر من أموري ،مثل
«وطهر بييت للطائفني» وبسبب الفهم اخلطأ يف هذه اإلضافة سقط النصاري يف توهم أن عيسى عليه السالم جزء من ذات
اهلل ،سبحانه وتعاىل عما يصفون ،انظر تفسري معارج التفكر ودقائق التدبر اجلزء الثالث ص (.)267
2
() يف ظالل القرآن .5/3028
3
() يف ظالل القرآن .5/3129
23
ومتيزه بنعمة العقل الذي يُعد مبثابة وعاء للعلمـ واإلدراك والتمييز بني اخلري والشر والنافع والضار.
قال احلسن البصري :ملا خلق اهلل عز وجل العقل ،قال له :أقبل ،فأقبل ،مث قال له :أدبر ،فأدبر ،وقال:
إىل منك ،إين بك أُعبد ،وبك أُعرف ،وبك آخذ ،وبك أُعطي(.)1 ما خلقت خل ًقا هو أحب َّ
ات َو َما فِي
السماو ِ ِ
َّر لَ ُكم َّما في َّ َ َ
ومن مظاهر هذا التكرمي كذلك :تسخري الكون كله خلدمته َ و َسخ َ
ض َج ِم ًيعا ِّم ْنهُ[ اجلاثية.]13 :
األ َْر ِ
هذا التكرمي يشمل مجيع بين آدم دون تفرقة بني لون أو جنس أو عرق َ ولََق ْد َك َّر ْمنَا بَنِي َ
آد َم
اهم َعلَى َكثِي ٍر ِّم َّمن َخلَ ْقنَا َت ْف ِ اهم ِّمن الطَّيِّب ِ وحملْنَ ِ
ضيالً[ اإلسراء: ْ ات َوفَ َّ
ضلْنَ ُ ْ اه ْم في الَْب ِّر َوالْبَ ْح ِر َو َر َزقْنَ ُ َ َ
َ ََ ُ
.]70
نفسا؟!
أليست ً
موضعا للتكرمي ولو كان من الكافرين.
ً دوما
إن النفخة العلوية اليت حيملها اإلنسان جتعله ً
مجيعا هذا املعىن:
وإليك – أخي القارئ -هذا اخلرب الصحيح الذي يؤكد لنا ً
كان سهل بن حنيف وقيس بن سعد رضي اهلل عنهما قاعدين بالقادسية فمروا عليهما جبنازة فقاما،
فقيل هلما :إهنا من أهل األرض ،أي من أهل الذمة ،فقاال« :إن النيب صلى اهلل عليه وسلم مرت به جنازة
نفسا؟» (.)2
فقام ،فقيل له :إهنا جنازة يهودي ،فقال :أليست ً
وليس هذا فحسبـ بل إننا جند الشريعة اإلسالمية توجه املسلمني إىل ُحسن التعامل مع مجيع الناس يف
أمريا
السلمـ واحلرب ،ومن ذلك النهي عن التمثيل بالقتلى يف احلرب ،وكان عليه الصالة والسالم إذا َّأمر ً
على جيش أو سرية يوصيه ،فكان مما يقول له« :ال تمثلون»( )3ويف احلديث القدسي« :ال تمثلوا
بعبادي»(.)4
ين ُي َقاتِلُونَ ُك ْم َوالَ َت ْعتَ ُدوا %إِ َّن اهللَ الَ وكذلك حصر القتل فيمن يقاتل دون غريه وقَاتِلُوا ِفي سبِ ِ ِ َّ ِ
يل اهلل الذ َ َ َ
1
() شعب اإلميان للبيهقي ( )4/154برقم (.)4632
2
() رواه البخاري (.)1250
3
() رواه مسلم (.)3261
4
() رواه أمحد (.)16899
24
تمهيــــــــــــدـ
ين[ البقرة . ]190 :فال قتل المرأة أو صيب أو أجري أو راهب يف صومعته ،فإن انتهت احلرب وكان ِ يُ ِح ُّ
ب ال ُْم ْعتَد َ
هناك أسرى فال إهانة وال إذالل بل احرتام إلنسانيتهم َ ويُط ِْع ُمو َن الطَّ َع َام َعلَى ُحبِّ ِه ِم ْس ِكينًا َويَتِ ًيما َوأ َِس ًيرا
[اإلنسان.]8 :
وعندما أسر املسلمون من املشركني يوم بدر ،كانت وصية الرسول صلى اهلل عليه وسلم هبم كبرية،
خيرا»(.)1
فقال ألصحابه« :استوصوا بهم ً
تقرب المالئكة إلى اهلل بالدعاء للبشر
لقد اختص اهلل عز وجل اإلنسان لنفسه من بني سائر خملوقات كما جاء يف األثر :يا ابن آدم خلقت
كل شيء لك وخلقتك لنفسي ،فال تشتغل بما خلقته لك عما خلقتك له.
اختصه ليقوم مبهمة عظيمة أال وهي عبادته سبحانه بالغيب يف ظل متتعه خباصية حرية االختيار،
ووجود نفس أمارة بالسوء ،وشيطان يوسوس ،ودنيا تتزين.
وإن كانت العالقة بني األب وأبنائه تتسم باحلب واحلنان والرمحة واحلرص الدائم على مصلحتهم ،فإن
عالقته سبحانه بالبشر أمسى وأمسى ,إهنا عالقة الرب بعباده الذين أوجدهم من العدم ونفخ فيهم من روحه.
عالقة اخلالق باملخلوق الذي اختصه لنفسه فهو حيبه ويريد له اخلري ،والنجاح يف مهمته العظيمة.
ومن عجب أن املالئكة األطهار الكرام ملا علمت مبنزلة البشر عند اهلل جعلت جزءًا من عبادهتا دعاءها
سبِّ ُحو َن بِ َح ْم ِد َربِّ ِه ْم ِ
هلم وهي بذلك تريد التقرب إليه سبحانه وتطمع يف نيل رضاه َ وال َْمالَئ َكةُ يُ َ
َويَ ْسَت ْغ ِف ُرو َن لِ َم ْن ِفي األ َْر ِ
ض[ الشورى.]5 :
ين َّ ِ
ويزداد تقرهبم وتوددهم إليه سبحانه بكثرة الدعاء ملن هلم حب خاص ووالية خاصة عنده الذ َ
آمنُوا َر َّبنَا َو ِس ْع َ ِ ِِ ِ ِِ ِ ِ
ت ين َسبِّ ُحو َن ب َح ْمد َربِّ ِه ْم َو ُي ْؤمنُو َن به َويَ ْسَتغْف ُرو َن للَّذ َ يَ ْح ِملُو َن ال َْع ْر َ
ش َو َم ْن َح ْولَهُ يُ َ
ك وقِ ِهم َع َذاب الْج ِح ِيم ر َّبنَا وأَ ْد ِخل ُْهم جن ِ ِ ِ َِّ ِ ِ ٍ
َّات ْ َ َ َ َ َ ين تَابُوا َو َّاتَبعُوا َسبيلَ َ َ ْ ُك َّل َش ْيء َّر ْح َمةً َوعل ًْما فَا ْغف ْر للذ َ
يم َ وقِ ِه ُم َنت الْع ِزيز ال ِ َع ْد ٍن الَّتِي و َع ْدَّت ُهم ومن صلَح ِمن آبائِ ِهم وأَ ْزو ِ
اج ِه ْم َوذُ ِّريَّاتِ ِه ْم إِنَّ َ
ْحك ُكأ َ َ ُ َ ْ ََ َ َ ْ َ ْ َ َ َ
يم[ غافر.]9 -7 : ِ ِ ِ ٍ ِ ِ ات َو َمن تَ ِق َّ السيِّئَ ِ
ك ُه َو الْ َف ْو ُز ال َْعظ ُ السيِّئَات َي ْو َمئذ َف َق ْد َرح ْمتَهُ َوذَل َ َّ
1
() انظر جملة الوعي اإلسالمي عدد 494مقاال بعنوان (حفظ اإلسالم للكرامة اإلنسانية) د .إبراهيم أمحد مهنا.
25
صلُّو َن َعلَى النَّبِ ِّي[ األحزاب.]56 : ِ
ويزداد ويزداد ألحب اخللق إليه إِ َّن اهللَ َو َمالَئ َكتَهُ يُ َ
مباهاته بعباده
ومما يؤكد عالقته – سبحانه – اخلاصة بعباده البشر املوحدين له :مباهاته هبم املالئكة عند قيامهم
بطاعته.
يوما على حلقة من أصحابه فقال« :ما أجلسكم؟»ـ قالوا :جلسنا نذكر خرج صلى اهلل عليه وسلم ً
ومن به علينا .قال« :آهلل ما أجلسكم إال ذاك؟» قالوا :واهلل ما
اهلل ،وحنمده على ما هدانا لإلسالمَّ ،
أجلسنا إال ذاك قال« :أما إني لم أستحلفكم تهمة لكم ،ولكنه أتاني جبريل فأخبرني أن اهلل يباهي بكم
المالئكة»(.)1
وانظر إليه صلى اهلل عليه وسلم وهو حيدث أصحابه عن صورة أخرى من صور هذه املباهاة فيقول:
غبرا»(.)2
«إن اهلل يباهي بأهل عرفات أهل السماء ،فيقول لهم :انظروا إلى عبادي جاءوني شعثًا ً
مع أنه سبحانه -يقينًا -ال تنفعه طاعة الطائعني مهما بلغت ،وال تضره معصية العاصني مهما عظمت،
وما مباهاته وفرحه بطاعات عباده إال ألنه حيبهم ويريد هلم اخلري.
وما إخبارهم بتلك املباهاة يف أكثر من موضع على لسان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إال رسالة
حب منه هلم لعلها تزيدهم إقباال عليه وحبًا له وشوقًا إىل لقائه.
ضحكه سبحانه
ومن مظاهر العالقة املميَّزة بني اهلل تعاىل وعباده وخباصة الطائعني منهم :ضحكه سبحانه عندما يرى
عباده خيلصون أعماهلم له ،ويضحون من أجله.
عن أيب الدرداء رضي اهلل عنه عن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال« :ثالثة يحبهم اهلل ،ويضحك
إليهم ،ويستبشر بهم :الذي إذا انكشفت فئة قاتل وراءها بنفسه %هلل عز وجل ،فإما أن يُقتل وإما أن
ينصره اهلل ويكفيه ،فيقول :انظروا إلى عبدي هذا كيف صبر لي بنفسه؟ ,والذي له امرأة حسنة
وفراش لين حسن ،فيقوم من الليل ،فيقول :يذر شهوته ويذكرني ،ولو شاء رقد ،والذي كان في
1
() رواه مسلم (. )2701
2
() صحيح ،رواه ابن حبان واحلاكم وصححه األلباين يف ص .ج (.)1867
26
تمهيــــــــــــدـ
سفر ،وكان معه %ركب ،فسهروا ،ثم هجعوا ،فقام من السحر في ضراء وسراء» .
() 1
ومما يؤكد هذا املعىن قوله صلى اهلل عليه وسلم« :يعجب ربك من راعي غنم ،في رأس شظية
بجبل ،يؤذن للصالة ،ويصلي ،فيقول اهلل عز وجل :انظروا إلى عبدي هذا يؤذن ويقيم الصالة،
يخاف مني ،قد غفرت لعبدي ،وأدخلته الجنة»(.)2
يعلق ابن تيمية على ذلك فيقول :فبنَّي سبحانه أنه يرتدد (عن قبض نفس عبده املؤمن) ألن الرتدد تعارض
إرادتني ،وهو سبحانه حيب ما حيبه عبده ،ويكره ما يكرهه ،وهو يكره املوت فهو يكرهه كما قال (وأنا أكره
ترددا ،مث بني أنه البد من وقوع
مساءته) وهو سبحانه قد قضى باملوت ،فهو يريد له أن ميوت ،فسمى ذلك ً
ذلك(.)5
1
() حسن ،رواه الطرباين يف الكبري وقال إسناده حسن وقال عنه اهليثمي :رجاله ثقات ،وحسنه ،األلباين يف صحيح الرتغيب
والرتهيب (.)624
2
() صحيح اجلامع الصغري (.)8102
3
() صحيح اجلامع (.)5077
4
() رواه البخاري (.)6502
5
() التحفة العراقية.43 /
27
فرحه – سبحانه – بتوبة العاصين
بعيدا عن أبيه ،وسار يف طريق الفساد ،مث عاد إىل رشده وارمتى يف حضن
أرأيت لو أن ابنًا قد شرد ً
أبيه ,أي فرحة يكون عليها األب يف هذا الوقت؟!
هذه الفرحة ال تساوي شيئًا جبوار فرحته سبحانه بتوبة عبد من عباده مهما أسرف يف ذنبه وجلَّ يف
طغيانه.
تأمل معي احلديث الذي يؤكد فيه صلى اهلل عليه وسلم هذا املعىن بقوله:
فرحا بتوبة عبده من رجل كان في سفر ،في فالة من األرض فأوى إلى ظل «واهلل ،هلل أشد ً
شجرة فنام تحتها ،واستيقظ فلم يجد راحلته ،فأتى شرفًا فصعد عليه ،فلم ير شيئًا ،ثم أتى آخر،
فأشرف فلم ير شيئًا ،فقال :أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه ،فأكون فيه حتى أموت ،فذهب ،فإذا
فرحا بتوبة عبده من هذا براحلته»(.)1
براحلته تجر خطامها ،فاهلل أشد ً
مراده أن تدخل الجنة
عندما يقرأ املرء األخبار السابقة ،وخباصة ما يتعلقـ بفرح اهلل عز وجل العظيم بتوبة عبد من عباده فمن
املتوقع أن تقفز إىل الذهن بعض التساؤالت عن أسباب هذا الفرح فاهلل عز وجل ال تنفعه هذه التوبة
بشيء ،فهو الغىن احلميد ,فلماذا هذه الفرحة إذن؟
من السهل علينا أن ندرك سر هذا الفرح عندما نتذكر أن اهلل عز وجل اختص اإلنسان لنفسه دون
مجيعا ،وأنه يريد منه أن ينجح يف امتحان العبودية ليُدخله اجلنة ,فمراده سبحانه من مجيع البشر خلقه ً
ْجن َِّة َوال َْم ْغ ِف َر ِة بِِإ ْذنِِه[ البقرة.]221 :
دخول جنته َ واهللُ يَ ْدعُو إِلَى ال َ
خصيصا هلم ،وجعل لكل منهم فيها جزءًا ً مراده أن يعود اجلميع إليه ليكرمهم وينعمهم يف دار أعدها
مقسوم ا ،وهو سبحانه يريد لكل منهم أن ينال نصيبه يف تلك الدار ،ويتبوأ منزله فيها َ واهللُ يَ ْدعُو إِلَى َدا ِر
ً
ادهِ
ضى لِ ِعب ِ السالَِم[ يونس ]25 :ويف نفس الوقت فهو ال يريد أن يُدخل ً
أحدا من عباده النار َ والَ َي ْر َ َ َّ
الْ ُك ْف َر[ الزمر.]7 :
هذا األمر ينطبق على مجيع البشر يف مشارق األرض ومغارهبا ،ويف كل العصور واألزمان ..عباد
1
() رواه مسلم.
28
تمهيــــــــــــدـ
الصليب ..عباد البقر ..امللحدين والوثنيني ..كل هؤالء يريد اهلل منهم أن يدخلوا اجلنة ،ويكفيك يف هذا
أنه سبحانه وتعاىل ميهل هؤالء وغريهم من الكافرين ،ويعطيهم الفرصة تلو الفرصة ,مع قدرته املطلقةـ
عليهم وإحاطته التامة هبم ،فلو شاء أن يهلكم ألي ذنب يفعلونه ألهلكهم ،لكنه ال يفعل ،بل حيلم ويصرب
وميهل لعلهم ينتبهون من غفلتهم.
معىن ذلك أنه ما من واحد يدخل النار إال ألنه يأىب ويصر على أال يدخل اجلنة كما قال صلى اهلل
ْجنَّة إالَّ َم ْن أَبَى»(.)1 ِ
عليه وسلمُ « :ك ُّل أ َُّمتي يَ ْد ُخلُو َن ال َ
نعم ،هذه هي احلقيقة اليت يغفل عنها البشر « كلكم يدخل الجنة إال من شرد على اهلل شراد البعير
على أهله»(.)2
ومثال ذلك ما حدث ألصحاب القرية اليت كذبت الرسل فأصاهبم العذاب بعد طول إمهال ليأيت
التعقيب القرآين ليؤكد أهنم هم الذين أبوا إال العذاب يا حسر ًة َعلَى ال ِْعب ِ
اد َما يَأْتِي ِهم ِّمن َّر ُس ٍ
ول إِالَّ َ َ َ َْ
َكانُوا بِ ِه يَ ْسَت ْه ِزئُو َ
ن[يس.]30:
1
() صحيح البخاري ج (.)6737
2
() صحيح اجلامع (.)4570
3
() أورده اهليثمي يف جممع الزوائد .1/126
29
فاهلل عز وجل يبغض الشرك والكفر الذي تلبَّس باملشركني الكفار ،ولكنه سبحانه يريد أن يتوب
عليهم ،ويدخلهم اجلنة بينما هم يأبون ،لذلك فإنه سبحانه َّ
رغب عباده املؤمنني بدعوة هؤالء وحتبيبهم فيه
علَّهم يفيقون من غفلتهم ،ويعودون إىل رهبم.
ِِ
ف تأمل قوله تعاىل الذي يتفجر إشفاقًا ورمحة :قُل للَّذ َ
ين َك َف ُروا إِن يَ َنت ُهوا ُيغََف ْر ل َُه ْم َّما قَ ْد َسلَ َ
َجرهُ حتَّى يسمع َكالَم ِ ِ ِ
اهلل ثُ َّم استَ َج َار َك فَأ ْ َ َ ْ َ َ َ ين ْ [األنفال .]38 :وتأمل كذلك قولهَ :وإِ ْن أ َ
َح ٌد ِّم َن ال ُْم ْش ِرك َ
أَبْلِ ْغهُ َمأ َْمنَهُ َذلِ َ
ك بِأ ََّن ُه ْم َق ْو ٌم الَّ َي ْعلَ ُمو َن[ التوبة.]6 :
أشد ما يغضبه:
ومع فرحه سبحانه بتوبة عبد من عباده الضالني ،ومع حبه اخلاص ملن حيبب الناس فيه ،فإنه سبحانه
يغضب أشد الغضبـ ملن يُيئس الناس من بلوغ رمحته ويُنذرهم بانقطاع األمل ،وبأنه ال مآل هلم إال النار.
وما إمهال اهلل لعباده املقصرين واملسرفني على أنفسهم ،بل والكفار واملشركني – كما أسلفنا -إال
ألنه سبحانه يهيئ هلم من األمور ،ويرسل هلم من الرسائل ما قد يوقظهم من سباهتم ،ويذكرهم برهبم.
فإذا ما جاء شخص ما وأشعر هؤالء بأن اهلل لن يغفر هلم ،وأهنم مغضوب عليهم ،وال أمل أمامهم،
فسيؤدي ذلك إىل قنوطهم ويأسهم من رمحة اهلل ،ومن مثّ زيادة متاديهم يف الطغيان ،واحنرافهم ،وابتعادهم
عن طريق اهلدى ،لتكون هنايتهم النار.
1
() رواه مسلم.
30
تمهيــــــــــــدـ
وعن ضمضم بن َج ْوس قال :دخلت مسجد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف طلب صاحب يل فإذا
رجل أدعج العني ،براق الثنايا ،فقال يل :يا هتامي ال تقولن ألحد ال يغفر اهلل لك ،وال يدخلك اجلنة ،قلت:
من أنت يرمحك اهلل؟ قال :أنا أبو هريرة .قلت :قد هنيتين عن شيء كنت أقوله إذا غضبت على أهل بييت
وحشمي ،قال :فال تفعل فإين مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول« :كان رجالن من بني
إسرائيل فكان أحدهما به رهق ،واآلخر عاب ًدا ،فكان ال يزال يقول له :أال تكف ،أال تقصر ،فيقول:
يوما فإذا هو على كبيرة ،فقال :واهلل ال يغفر اهلل لك ،واهلل
ما لي ولك دعني وربي .قال :فهجم عليه ً
ال يدخلك الجنة ،فبعث اهلل إليهما مل ًكا فقبض أرواحهما ،فلما قدما بهما على اهلل عز وجل قال
قادرا على ما تحت
للمذنب :ادخل الجنة برحمتي ،وقال للعابد :حظرت على عبدي رحمتي ،أكنت ً
يدي؟ انطلقوا به إلى النار».
قال أبو هريرة :والذي نفسي بيده لقد تكلم كلمة أوبقت دنياه وآخرته(.)1
المرحلة األخيرة
فرصا عظيمة للتوبة والرجوع إليه وذلك طيلةوألنه سبحانه يريد من عباده دخول اجلنة ،فقد أتاح هلم ً
حياهتم يف الدنيا ،وال يقتصر األمر على ذلك ،بل وعند مماهتم كذلك طاملا أهنم مل يهتكوا السرت بالكفر أو
الشرك ،فقد أعطى عباده املوحدين أشياء تساعدهم على حمو السيئات وزيادة احلسنات.
ومن ذلك أنه تصدق عليهم بثلث أمواهلم اليت يرتكوهنا كوصية يتصرفون فيها كيفما شاءوا ،فإن كان
املال الذي حبوزهتم سيئول إىل ورثتهم ،إال أن هلم أن يوصوا بثلثه فيما يريدونه من أبواب اخلري.
قال صلى اهلل عليه وسلم« :إن اهلل تعالى تصدق عليكم عند وفاتكم بثُلث أموالكم ،وجعل ذلك
زيادة لكم في أعمالكم»(.)2
وحث سبحانه عباده املسلمني – على لسان رسوله صلى اهلل عليه وسلم -الصالة على امليت ليكون
دعاؤهم سببًا من أسباب تكفري سيئاته ،ورفع درجاته وإنزال الرمحة عليه.
قال صلى اهلل عليه وسلم« :من تبع الجنازة وصلى عليها ،فله قيراط ،ومن تبعها حتى يُفرغ منها
1
() رواه أبو داود (.)4901
2
() حسن صحيح اجلامع (.)1733
31
فله قيراطان ,أصغرهما مثل أحد ،أو أحدهما مثل أحد»(.)1
وحثهم على الدعاء له بالتثبيت عند دفنه «ادعوا ألخيكم فإنه اآلن يسأل»(.)2
وليس هذا فحسب ،بل جعل هناك أعماال جيري على املسلم ثواهبا بعد موته كدعاء الولد الصاحل،
وكالعلم النافع ،وكالصدقة اجلارية.
علما نشره،
قال صلى اهلل عليه وسلم« :إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناته ،بعد موتهً ،
نهرا أجراه ،أو
ورثه ،أو مسج ًدا بناه ،أو بيتًا البن السبيل بناه ،أو ً
صالحا تركه ،ومصح ًفا َّ
ً وول ًدا
صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته ،تلحقه بعد موته»(.)3
أهل المظالم:
وإن أردت أن تتأكد – أخي القارئ – أكثر وأكثر بأن مراد اهلل عز وجل هو دخول مجيع عباده
املوحدين اجلنة فاقرأ هذا احلديث:
قال« :رجالن من أمتي جثيا بين يدي رب العزة ،فقال أحدهما :يا رب خذ لي مظلمتي من أخي،
قال اهلل :أعط أخاك مظلمته ،فيقول :يا رب لم يبق من حسناتي ،قال :يا رب فليحمل عني من
أوزاري ،ففاضت عني رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالبكاء مث قال :إن ذلك اليوم عظيم يوم يحتاج
الناس فيه إلى أن يحمل عنهم من أوزارهم ،فيقول اهلل عز وجل للمطالب :ارفع رأسك فانظر إلى
وقصورا من ذهب مكلل باللؤلؤ ،ألي نبي هذا؟
ً الجنان فرفع رأسه فقال :يا رب أرى مدائن من فضة
ألي صدِّ يق هذا؟ ألي شهيد هذا؟ قال اهلل عز وجل :هذا لمن أعطاني الثمن .قال :يا رب فمن يملك
ذلك؟ قال :أنت تملكه .قال :بماذا يا رب؟ قال بعفوك عن أخيك .قال :يا رب قد عفوت عنه .قال:
خذ أخاك فأدخله الجنة ،مث قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :اتقوا اهلل وأصلحوا ذات بينكم فإن اهلل
1
() سنن أبو داود ح (.)2755
2
() سنن أبو داود ح (.)2804
3
() صحيح اجلامع (.)2231
32
تمهيــــــــــــدـ
يصلح بين المؤمنين يوم القيامة(.)1
فهذا يا أخي هو ربنا الذي حيبنا ويفرح بتوبتنا ويريد أن يدخلنا اجلنة.
الرحمن َّ ِ ِ
[البقرة: يم
الرح ُ عرفنا بنفسه فقالَ :وإِل َُه ُك ْم إِلَهٌ َواح ٌد الَّ إِلَهَ إِالَّ ُه َو َّ ْ َ ُ
هذا هو ربنا الذي َّ
.]163
***
1
() أورده اهليثمي يف جممع الزوائد .354 ،10/353
33
الفصل الثالث
34
تمهيــــــــــــدـ
تمهي ـ ـ ـد:
كأين بك أخي القارئ تتساءل عن الدليل العملي هلذه العالقة املميزة بني اهلل سبحانه وتعاىل وبني
عباده البشر ،بل وبينك أنت على وجه اخلصوص.
واحدا ،بل اطلب ما شئت من األدلة فهي – بفضل اهلل – أكثر ال أريدك أخي احلبيب أن تطلب دليال ً
من أن حتصى ،فمظاهر حب اهلل لعباده كثرية كثرية ،تنتظر منا أن ننتبه إليها لنستدل من خالهلا على الرب
الودود سبحانه وتعاىل.
كل ما هو مطلوبـ أن نـُعطي عقولنا الفرصة لكي تقوم باملهمة اليت ُخلقت من أجلها ..مهمة التعرف
على اهلل.
فبالتفكري يف مظاهر حب اهلل لعباده ،مع االجتهاد يف جتاوب املشاعر مع هذا التفكر ستزداد املعرفة
باهلل الودود ،وستستويل هذه املعرفة – بإذن اهلل – على اجلزء األكرب من مشاعر احلب يف القلب ،لتظهر
الثمار الطيبة هلذا احلب بصورة تلقائية ودون تكلف.
جوانب المعرفة
ويف الصفحات القادمة سيتم احلديث بعون اهلل عن بعض مظاهر حب اهلل لعباده ،واملطلوب منا أن
جيد ا ،ونعيش معها بعقولنا ومشاعرنا ،لعلها تساهم يف إشعال جذوة حب املوىل سبحانه وتعاىل
نتفكر فيها ً
يف قلوبنا.
وستلحظ أخي القارئ أننا يف أغلبها نتوجه إليك باخلطاب ليكون ذلك أدعى الستشعار معانيها
بصورة أقرب إىل احلقيقة والواقع.
***
35
أواًل :من مظاهر حبه:
َس ْبق فضله عليك قب ـ ـ ــل وجودك
واملقصد من سبق الفضل :أن فضل اهلل عز وجل علينا ،وحبه لنا سبق وجودنا على األرض.
هذا اجلانب من أهم اجلوانب اليت من شأهنا أن تؤجج مشاعر احلب داخل القلب ،وكيف ال ومن خالله
يكتشف الواحد منا مدى حب ربه له دون أي سبب منه.
وكرمك عليهم.
ولكنه الفضل العظيم من اهلل عز وجل الذي اجتباك على كثري من خملوقاتهَّ ،
المشهد العظيم
حمددا من الذرية هتبط إىل األرض لتؤدي اختبار عددا ً قدَّر اهلل عز وجل ألبينا آدم – عليه السالم – ً
واحدا منهم ،وشهدت املشهد العظيم الذي أخذ اهلل فيه العهد من مجيع ذرية آدم على العبودية ,كنت أنت ً
ت بَِربِّ ُك ْم قَالُوا ِ ِ ك ِمن بنِي َ ِ عبادته َ وإِ ْذ أ َ
آد َم من ظُ ُهو ِره ْم ذُ ِّر َّيَت ُه ْم َوأَ ْش َه َد ُه ْم َعلَى أَْن ُفس ِه ْم أَل ْ
َس ُ َخ َذ َربُّ َ َ
َبلَى َش ِه ْدنَا[األعراف.]172 :
36
تمهيــــــــــــدـ
هذا العدد الكبري الذي قدَّره اهلل لذرية آدم – عليه السالم – مل يشأ سبحانه أن يُهبطه إىل األرض
دفعة واحدة ،بل جمموعة تلو األخرى ,كل جمموعة تؤدي االمتحان مث ترتك األرض بعد نزع أرواحها،
انتظارا لنهاية امتحان اجلميع ،ليتم بعدها احلساب واجلزاء.
وتبقى يف القبور ً
مل خيرت أحد من البشر املكان ،أو الزمان ،أو البيئة ،أو األبوين ،أو الشكل الذي ستحل روحه فيه،
أحدا من الناس ،فبالعقل
ويؤدي من خالله االمتحان ،مع األخذ يف االعتبار بأن اهلل عز وجل مل يظلم ً
والفطرة يستطيع املرء يف أي زمان ومكان االستدالل على وحدانية اهلل ،وكذلك فإن الرسل والكتب
السماوية اليت أنزهلا اهلل عز وجل تبني للناس املطلوب منهم ،ولكن بال شك أن نزولك إىل األرض يف هذا
الزمان وهذا املكان الذي حنيا فيه له مميزات ضخمة تدل على سبق ٍ
فضل واجتباء عظيم من اهلل لك.
ختيل أنك قد ولدت يف زمن التتار ،أو حماكم التفتيش ماذا كنت ستفعل؟!
أال ترى يف جتنيبك كل ذلك عظيم حب ربك لك ،وسبق فضله عليك أن أوجدك يف هذا الزمان.
تيسر الحياة
تيسر احلياة ،فلو كنت قد ُولدت منذ بضع قرون يف نفسومما يلحقـ بنعم سبق الفضلـ يف الزمانُّ :
املكان الذي حتيا فيه اآلن ..ختيل مدى صعوبة احلياة يف ذلك الوقت ..ال كهرباء ..ال دورات مياه ..ال
سيارات ..أو طائرات ..ال وسائل اتصال ..ال عمليات جراحية .
ختيل أنك يف هذا الزمان أصبت بضعف يف النظر ماذا كنت ستفعل؟ـ أتدري حجم الصعوبات اليت
37
كنت ستواجهها بنظرك الضعيف؟
ختيل أماكن قضاء احلاجة اليت كانت تبعد عن مساكنـ الناس ..وختيل حجم اجلهد والوقت واملخاطر
اليت تواجه من يريد قضاء حاجته خباصة يف ليايل الشتاء الباردة واألجواء املتقلبة.
ختيل نفسك تريد السفر إىل مكة أو املدينة ..كم من األيام كنت ستقضيها على ظهر بعريك لتصل
إىل مقصودك؟! ختيل ..ختيل.
ختيل أنك قد ولدت يف أماكن الفنت واالضطهاد للمسلمني كرتكستان وكشمري والفلبني وبورما..
ماذا عساك أن تفعل؟!
إن هؤالء املضطهدين شاء اهلل عز وجل هلم أن يكونوا يف هذه األماكن ليؤدوا امتحان عبوديتهم هلل
َج َر ُه ْم بِغَْي ِر
الصابُِرو َن أ ْ
خباصة يف مادة الصرب ،وجزاؤهم عظيم إذا اجتازوا هذا االمتحان إِنَّ َما ُي َوفَّى َّ
اب[ الزمر ]10 :ولكنه بال شك امتحان ٍ
قاس عصمكـ اهلل منه. ِحس ٍ
َ
الوالدان
ختيل أنك ولدت يف هذا الزمان ،ولكن ألبوين نصرانيني أو يهوديني أو بوذيني أو ملحدينـ أو
شيوعيني أو هندوسيني ..ماذا كنت ستفعل؟!
ماذا كنت ستفعل عندما ترى أبويك يسجدان للبقرة ،أو للصليب؟! أكنت ستُعمل عقلكـ وتستنفر
سليم فطرتك كما أمرك اهلل ،وكما حدث من القليل منهم ،أم كنت ستسري على خطى األغلبية؟!
امتحان رهيب عصمكـ اهلل منه ،بأن خلقك ألبوين مسلمني ..أليس كذلك؟!
مث ختيل أنك كما أنت ُولدت يف هذا الزمان واملكان والديانة ولكنك وجدت أباك يعمل يف مهنة خملة
38
تمهيــــــــــــدـ
جبارا من اجلبابرة؟!
بالشرف ..أو وجدته ً
ختيل أنك ُولدت يف بيئة فجور أو أسرة مرتفة ..ماذا كنت ستفعل؟!
إهنا امتحانات صعبة عصمك اهلل منها دون سبب منك أو اجتهاد.
اللسان العربي
ولكن هب أنك قد ُخلقتـ من أبوين مسلمني لكنهما يتحدثان غري العربية كاللغة الفارسية أو األردية
أو اهلندية أو الصينية أو اإلجنليزية ..ماذا كنت ستفعل لكي تفهم القرآن وتتأثر بآياته وهو أمر واجب
عليك وليس اختياريًا؟!
نعم ،هؤالء عليهم تعلم العربية ليفهموا القرآن ويتأثروا به ،ولكن أال ترى يف ذلك عظيم فضلـ اهلل
عليك أن أوجدك يف بيئة تتحدث العربية ،فال حتتاج إىل جهد عظيم لكي تفهم كتابه وسنة نبيه؟! (.)1
فلقد َّ
قد ر اهلل عز وجل أن يولد عدد من الناس وهبم عيوب خلقية يف القلب ،أو قصور يف املخ ،أو
خلل يف األطراف كامتحان هلم من ناحية ،وإلظهار نعمته على املعافني من ناحية أخرى ،ومع ذلك ,مل
تكن أنت – بفضل اهلل – منهم.
بال شك أن هذا النقص الذي ابتُلى به هؤالء حيتاج منهم إىل صرب واحتساب لينجحوا يف اختبارهم،
ولكن أال ترى عظيم فضلـ ربك عليك أن اختارك فألبسك ثوب العافية ترفل فيه؟!
كلمة ال بد منها:
ليس معىن وجود نقص عند إنسان يف أحد األمور اليت ذكرت أو غريها دليل على عدم حب اهلل عز
1
() اعلم أخي احلبيب أنه كلما زادت النعم على العبد زاد املطلوب من الشكر ،وجوهر الشكر هو الشعور باالمتنان جتاه اهلل
عز وجل بالقلب ،واالعرتاف بفضله وكثرة محده باللسان ،واستخدام هذه النعمة يف طاعته والتواضع هبا خللقه باجلوارح،
فالذي جيد نفسه حماطا مبا سبق ذكره من نعم مث ال يشكر ربه عليها انقلبت النعمة يف حقه نقمة.
39
دارا للجزاء والنعيم كي
مجيعا أن الدنيا ليست ًوجل له ،بل هو عني احلب ولكن من جانب آخر ،ولنعلم ً
يظن البعض هذا الظن ،ولو يدري أهل العافية ما أعده اهلل ألهل البالء الصابرين يف اآلخرة لتمنوا أهنم
كانوا مثلهم.
إن النقص والبالء الذي يصيب املرء ليس إهانة بل امتحان على صاحبه أن جيتازه ،وكذلك فإن العطاء
أيضا ،فإن ظن املرء أن العطاء تفضيل ذايت لشخصه دون مقابل فإن هذا
والفضل ليس كرامة بل امتحان ً
العطاء يصبح وباال عليه كما حدث مع فرعون وقارون وصاحب اجلنتني.
أحدا منهم
مجيعا ويريد هلم اخلري ،فإن اختص ً
واحلقيقة اليت ال مرية فيها أن اهلل عز وجل حيب عباده ً
بشيء فهو سبحانه يريد من وراء ذلك أن يشكره عليها ،وأن ينفع عباده به كما جاء يف احلديث« :إن هلل
أقوام ا يختصهم بالنعم لمنافع العباد ،ويقرهم فيها ما بذلوها ،فإذا منعوها نزعها منهم فحولها
تعالى ً
إلى غيرهم»(.)1
***
1
() صحيح اجلامع الصغري
40
تمهيــــــــــــدـ
مئات بل آالف األمراض اليت تصيب أجهزة اجلسم وأعضاءه املختلفة قد عافاك اهلل منها.
أمراضا
ً لو علمت عدد الفريوسات والكائنات الدقيقة ومسببات األمراض اليت حتيط بنا ،وتسبب
شاكرا هلل عز وجل على
خطرية ،واليت ال مينعها من مهامجتنا إال اهلل عز وجل ،هلرعت إىل السجود الطويل ً
حفظه لك طيلة هذه السنني ،ولسألته دوام ومتام العافية.
هدايته لك
أخي القارئ ,يا من أكرمك اهلل عز وجل باإلميان.
أتدري ما الذي حدث معك لتكون من أهل املساجد ،بل من أهل الصالة أصال ،ومن أهل الصيام
والذكر والصدقة وفعل اخلري؟!
لقد حبب اهلل إىل قلبك اإلميان ،وشرح له صدرك ،وكره إليك طريق الضالل والغي ،ولو أردت أن
تدرك حجم هذه النعمة العظيمة فتأمل أقرانك وجريانك ،وزمالء دراستك.
كان من املمكن أن تذهب إىل أدائها فال يطاوعك لسانك على الذكر ،وال أعضاؤك على احلركة.
هذه هي احلقيقة ،فالذي مكنك من هذا كله وأزال عنك العوائق وشرح صدرك ألدائها هو ربك
الودود ،فليس بينك وبني ترك الصالة إال أن يرتكك اهلل عز وجل لنفسكـ وحبها الدائم للراحة وكرهها
املعهود للتكليف.
وكن على يقني بأن الفضلـ اإلهلي حيدث مع كل صالة تصليها ،وكل صوم تصومه ،وكل صدقة
ت فَبِما ي ِ ِ
وحي إِل َّ
َي َربِّي[ سبأ.]50 : تتصدق هبا ،وكل تسبيحة تسبحها َ وإِن ْاهتَ َديْ ُ َ ُ
العصمة
أما عن مظاهر حب ربك لك يف جانب العصمة من الفجور والكفر فمن الصعبـ إدراك أبعادها،
ويكفيك يف ذلك أن كل معصية حتدث على وجه األرض من كفر واستهزاء بالدين ،وإحلاد ،وسرقة ،وزنا،
و تعامل بالربا ،وأكل أموال الناس بالباطل ،وغش ،وخداع ،ورشوة ،وعقوق للوالدين ،و....
فإن قلت :وهل من املمكن أن أفعلـ ذلك وأنا مل أقرتف شيئًا منها طيلة حيايت ،ومل أفكر فيها؟
نعم أخي ،من املمكن أن يفعلها أي واحد منَّا لو تركه اهلل عز وجل ومل يعصمه منها ،فال يوجد يف
البشر من يستعصي على فعل املعصية – صغرية أو كبرية – وذلك لطبيعة النفس البشرية األمارة بالسوء
42
تمهيــــــــــــدـ
ووجود الشيطان الذي يوسوس ويزين للنفس فعل املعاصي.
اجنُْبنِي َوبَنِ َّي أَن َّن ْعبُ َد
فإن كنت يف شك من هذا فتأمل معي دعاء إبراهيم عليه السالم لربه َ و ْ
ام[ إبراهيم . ]35 :وكذلك يوسف الصديق عليه السالم عندما استجار بربه ليصرف عنه فعل السوء األصنَ َ
ْ
ِ ِ
ين[ يوسف.]33 :
ْجاهل َب إِل َْي ِه َّن َوأَ ُكن ِّم َن ال َ
َص ُ
ف َعنِّي َك ْي َد ُه َّن أ ْ َ وإِالَّ تَ ْ
ص ِر ْ
1
() حسن ،رواه أمحد والطرباين واحلاكم ،وقال صحيح اإلسناد ،وحسنه األلباين يف صحيح الرتغيب والرتهيب ح (.)657
43
ثالثًا :من مظاهر حب اهلل لك:
هذه األسباب ال متلك يف نفسها القدرة الذاتية على القيام بوظائفها املختلفة ،فالعضالت -مثال-
خلقها اهلل عز وجل ولديها القابلية لالنقباض واالنبساط ،لكن الذي ميدها بالفاعلية والقدرة على ذلك هو
اهلل سبحانه وتعاىل .يف كل حلظة وطرفة عني ميدها سبحانه مبا يكفل هلا القيام بوظيفتها ولو ختلى عنها
طرفة عني ملا انقبضت ،وال انبسطت ،فإذا أردت الضحك ال تطاوعك عضالت فمك فيما تريد ألهنا بدون
44
تمهيــــــــــــدـ
ك َوأَبْ َكى[ النجم.]43 : املدد اإلهلي تبقي عاجزة َ وأَنَّهُ ُه َو أَ ْ
ض َح َ
حرك َّ
وسكن. هذه هي احلقيقة فهو سبحانه الذي أضحك وأبكى ،وهو الذي أقام وأقعد ،وهو الذي َّ
نعم -أخي القارئ -ال قيمة ألحد منا بدون اهلل ،وكيف ال وكل خلية تعمل يف جسمك فإن ربك
هو القائم عليها ،وعلى تدبري شئوهنا.
الن َف س الذي تتنفسه يتوىل سبحانه عملية دخوله إىل الرئتني وأخذ مادة األكسجني منه وإخراجه حممال
َ
بثاين أكسيد الكربون.
يقوم سبحانه على اجلهاز العصيب واإلحساس ,وعلى اجلهاز املناعي ،وعلى الغدد وما تفرزه من
دوما إىل ضبط نسبها الدقيقة يف الدم.
هرمونات حتتاج ً
قائم على الدم ،وضبط درجة سيولته يف كل حلظة ،فلو زادت حلدث النزيف ولو نقصت لكانت
اجللطاتـ والعياذ باهلل.
1
() أخرجه النسائي وابن السين واحلاكم وابن حبان ،وقال احلاكم :صحيح على شرط مسلم ،ووافقه الذهيب.
46
تمهيــــــــــــدـ
كل هذا يتم دون اعرتاض أو متنُّع ،بل استسالم تام وانقياد تام ألوامرك.
يوم ا يف الطعام الذي تأكله كيف تتم رحلته داخل جسمك فيحدث من خالهلا اهلضم
هل فكرت ً
واالمتصاص وإخراج الفضالت.
إن األجهزة الداخلية تعمل داخلك ليل هنار لتقوم على راحتك ،فال جتهد ذهنك يف التفكري عن كيفية
47
عملها وماذا حيدث يف داخل الرئتني أو القلبـ أو الكبد أو....
ال تفكر يف كيفية التئام جرح من اجلروح فهناك من يقوم بذلك.
أرح نفسك من هذا كله فهناك خدم كثريون ال حيصى عددهم يقومون على خدمتك.
أيها المدلل
انظر إىل طعامك وختيل أن هذه اخلضروات والفواكه لن تكون موجودة هبذه السهولة ،وأن املطلوب
منك هو أن تقوم بنفسك على عملية استخراجها من مكوناهتا األصلية.
كم من الوقت واجلهد ستبذله للحصولـ على بعض مثار اخليار مثال ،بل على مثرة واحدة؟!
أيها املدلل...
أتدري أن هناك مصانع ال تعد وال حتصى موجودة حتت األرض وفوقها تعمل ليل هنار -بإذن رهبا-
من أجل أن توفر لك شىت أنواع األطعمة وما عليك إال أن جتمع إنتاجها ،وختتار منه ما يروق لك؟!
تخيل ثم تخيل
ختيل -أخي القارئ -أن الدابة اليت تستخدمها يف تنقالتك من مكان آلخر ،قد أنطقها اهلل عز وجل،
فإذا هي تسألك قبل حتركها بك عن وجهتك ،وملاذا تذهب إىل هذا املكان ،وكم من الوقت ستستغرقه فيه
و.....
ختيل أن املاء الذي تريد شربه ال يتحرك يف فمك ،بل يسألك ملاذا تشرب اآلن؟ أمل تشرب منذ قليل؟!
ختيل أنك تريد الكتابة فال تتحرك معك يدك بل توخبك على كثرة استخدامها وعدم إعطائها راحتها.
ختيل ذلك وختيل أن كل من حولك من املخلوقات يتكلم ،ويناقش قبل قيامه بتنفيذ األوامر ..مث اسأل
نفسك كيف ستكون احلياة هبذا الشكل؟!
ال تستغرب – أخي -هذا الكالم ،فبالفعل قد أنطق اهلل بقرة يف عصر من العصور السابقة لتكون آية
للناس تشعرهم حبجم نعمة التسخري ،ونعمة صمت الكائنات من حولنا.
فعن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال :صلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم صالة الصبح ،مث أقبل على
الناس ،فقال« :بينا رجل يسوق بقرة إذ ركبها فضربها ،فقالت :إنَّا لم نخلق لهذا ،إنما خلقنا للحرث،
48
تمهيــــــــــــدـ
() 1
فقال الناس :سبحان اهلل ،بقرة تتكلم؟ فقال :فإني أومن بهذا أنا وأبو بكر وعمر.»...
سل نفسك
وبعد أن ختيلت ما ختيلت ،سل نفسك:
هل يرفض املاء إرواءك ،والطعام إشباعك؟!
هل ترفض الدواب محلك إىل املكان الذي تريد ولو كان ال يرضي اهلل عز وجل؟!
هل امتنعت النار عن اإلحراق واملاء عن الغليان؟!
يوما عن اإلشراق ،والليل عن اإلظالم؟!
هل امتنعت الشمس ً
تأمل مث تأمل هذا اللون العجيب من نعم التسخري والتكرمي لك أيها اإلنسان واسأل نفسك -مرة
أخرى -ملاذا ميزك اهلل عن سائر خملوقاته؟!
جاء يف األثر « :يا ابن آدم خلقت كل شيء لك ،وخلقتك لنفسي ،فال تشتغل بما خلقته لك عما
خلقتك له».
***
1
() رواه البخاري (.)3471
49
خامسا :من مظاهر حبه لك
ً
كرمه البالغ وهداياه المتنوعة %إليك
إن ميزان العدل يقول إن من عمل حسنة كان جزاؤه حسنة ،ومن عمل سيئة كانت عليه سيئة،
سنَةً نَّ ِز ْد لَهُ فِ َيها ُح ْسنًا[ الشورى.]23 : ولكن ميزان الكرم والفضل اإلهلي له رأي آخر َ و َمن َي ْقتَ ِر ْ
ف َح َ
كرما منه سبحانه وتعاىل ،وحبًا لعباده ،ورغبة يف فميزان احلسنات خيتلف عن ميزان السيئاتً ,
السيِّئَ ِة فَالَ يُ ْج َزى إِالَّ ِم ْثلَ َها َو ُه ْم الَ
اء بِ َّ ِ دخوهلم اجلنة من جاء بِالْح ِ
سنَة َفلَهُ َع ْش ُر أ َْمثَال َها َو َمن َج َ
َ ََ ََ
يُظْلَ ُمو َن[ األنعام.]160 :
هم بحسنة فلم يعملها كتبها اهلل عنده حسنةتأمل أخي القارئ قوله صلى اهلل عليه وسلم« :فمن َّ
هم بها فعملها كتبها اهلل له عنده عشر حسنات إلى سبع مائة ضعف إلى أضعاف كاملة ،فإن هو َّ
هم بها فعملها كتبها اهلل له
هم بسيئة فلم يعملها كتبها اهلل له عنده حسنة كاملة ،فإن هو َّ
كثيرة ،ومن َّ
()1
سيئة واحدة».
فإن كنت يف شك من جوده وكرمه فماذا تقول يف قوله صلى اهلل عليه وسلم« :من قال سبحان اهلل
() 2
وبحمده في يوم مائة مرة ُحطت ذنوبه وإن كانت مثل زبد البحر».
وماذا تقول يف قوله صلى اهلل عليه وسلم« :من قال :ال إله إال اهلل وحده ال شريك له ،له الملك،
() 3
عشرا ،كان كمن أعتق رقبة من ولد إسماعيل».
وله الحمد ،وهو على كل شيء قديرً ،
وغري ذلك من األعمال املتاحة للجميع يف أي وقت ،واليت رتب اهلل على أدائها عظيم الثواب.
من األمير؟
جعل اهلل عز وجل لكل عبد من عباده ملكان حيصيان عليه أعمالهَ ,ملَكـ على اليمني يكتب احلسنات،
1
() رواه البخاري ح (.)6010
2
() متفق عليه.
3
() متفق عليه.
50
تمهيــــــــــــدـ
وملك على الشمال يكتب السيئات ،فمن هو األمري الذي له الكلمة على اآلخر؟!
يقول صلى اهلل عليه وسلم« :صاحب اليمين أمير على صاحب الشمال ،فإذا عمل عبد حسنة
كتبها بعشر أمثالها ،فإذا عمل سيئة فأراد صاحب الشمال أن يكتبها قال له صاحب اليمين :أمسك،
فيمسك ست ساعات ،فإن استغفر منها لم يكتب عليه شيئًا ،وإن لم يستغفر ُكتبت عليه سيئة
() 1
واحدة».
بل العجيب أن هناك خملوقات خلقها اهلل عز وجل إلشاعة البهجة يف نفوسنا عند رؤيتها َ وأَْن َز َل لَ ُكم
ات َب ْه َج ٍة[ النمل.]60 :
اء فَأَْنبَْتنَا بِ ِه َح َدائِ َق ذَ َ ِّمن َّ ِ
الس َماء َم ً َ
الهدايا المتنوعة
لقد وصانا نبينا صلى اهلل عليه وسلم بالتهادي فيما بيننا ليزداد احلب ،فاهلدية هلا تأثري عجيب يف
() 2
استمالة القلوب جتاه ُمعطيها؛ قال صلى اهلل عليه وسلم «تهادوا تحابوا».
هذه الوسيلة العظيمة ذات األثر اجملرب يف تنمية احلب يفعلها معنا ربنا باستمرار ،فهداياه ال تنقطع عنا
رغم إعراضنا الشديد عنه ,يتحبب هبا إلينا حىت نزداد له حبًا ،وهو من هو ..هو اإلله العظيم الذي
خضعت له السماوات واألرض واجلبال والبحار وكل شيء يف هذا الكون ..هو اهلل الذي له ملكوت كل
شيء.
1
() ضعيف ،أورده األلباين ،يف السلسلة الضعيفة ح (.)2237
2
() حسن ،رواه أبو يعلي يف مسنده ،وحسنه األلباين يف صحيح اجلامع (.)3004
51
هو الرب الغين الذي ال ينتظر من عباده طاعة تنفعه ،وال خيشى منهم معصية تضره -حاشاه -هذا
اإلله جبالله وكماله وملكه العظيم يتودد ويتحبب إلينا بإرسال حتفه وهداياه كل حني ,قال صلى اهلل عليه
وسلم« :إن لربكم في أيام دهركم نفحات %فتعرضوا لها ،لعل أحدكم أن يصيبه منها نفحة ال يشقى
() 1
بعدها أب ًدا».
ومن هذه النفحاتـ واهلدايا :يوم عرفة ..فإن صمته أخي القارئ غُفر لك ذنوب عامني ,عام سابق
وعام الحق ،وإن استطعتـ أن تكون يف أرض عرفة يف هذا اليوم تستغفر ربك غُفرت كل ذنوبك،
وأصبحت كيوم ولدتك أمك ..بال ذنوب وال خطايا.
52
تمهيــــــــــــدـ
() 1
الشربة ،فيحمد اهلل عليها».
بل إنه سبحانه وتعاىل يعلي من شأن هذا احلمد كما قال صلى اهلل عليه وسلم «ما أنعم اهلل على عبد
()2
نعمة ،فحمد اهلل عليها ،إال كان ذلك الحمد أفضل من تلك النعمة».
رب شكور
بال شك أن اهلل عز وجل هو الذي حيبب إلينا فعل اخلري ،ويعيننا على القيام به ،ويصرف عنا
ي ل َْوالَ أَ ْن ِ ِ
الشواغل ،ويزيل العوائق ،فلواله سبحانه ما اهتدينا وال تصدقنا وال صلينا َ و َما ُكنَّا لَن ْهتَد َ
َه َدانَا اهللُ[ األعراف.]43 :
ومع ذلك فإننا جنده سبحانه يُعظِّم أعمالنا ويكربها ،ويشعرنا بأننا قد فعلنا شيئًا ً
عظيما ..تأمل قوله
ْجنَّةَ بِ َما ُك ْنتُ ْم َت ْع َملُو َن[ النحل.]32 :
ألهل اجلنة ا ْد ُخلُوا ال َ
أهذه األعمال القليلة تستحق هذا اجلزاء العظيم لو افرتضنا أن أصحاهبا بالفعلـ قد قاموا هبا دون إعانة
من أحد؟ فما بالك واألمر غري ذلك ،فاهلل عز وجل هو الذي وفقهم وأعاهنم للقيام هبا ,مث يقول هلم بعد
ورا ذلك وهم يتقلبون يف صور النعيم يف جنات اخللود :إِ َّن َه َذا َكا َن لَ ُك ْم َج َز ً
اء َو َكا َن َس ْعيُ ُكم َّم ْش ُك ً
[اإلنسان.]22 :
كل هذا ليقبل صديقه الفقري أعطيته بنفس راضية ،على الرغم من أن هذا الفقري يعلم يف قرارة نفسه
أن هذا املقابل ال يتناسب بأي حال من األحوال مع ما قام به من أعمال.
َّات َع ْد ٍن
هذا تشبيه -مع الفارق -ملا يستشعره أهل اجلنة عندما يفاجئون بنعيم ال ميكن ختيله َ جن ُ
اس ُه ْم فِ َيها َح ِر ٌير[ فاطر.]33 : ِ َسا ِو َر ِمن ذَ َه ٍ ِ ِ
ب َول ُْؤل ًُؤا َولبَ ُ يَ ْد ُخلُو َن َها يُ َحلَّ ْو َن ف َيها م ْن أ َ
1
() رواه مسلم.
2
() صحيح اجلامع الصغري (.)5562
53
فماذا يقولون بعد ذلك؟!
ي ل َْوالَ أَ ْن َه َدانَا اهللُ[ األعراف ]43 :فإذا هبم ِ ِ ِ ِ َّ ِ
ْح ْم ُد هلل الذي َه َدانَا ل َه َذا َو َما ُكنَّا لَن ْهتَد َ
َ وقَالُوا ال َ
وها بِ َما ُك ْنتُ ْم
ْجنَّةُ أُو ِر ْثتُ ُم َ ِ
ودوا أَن ت ْل ُك ُم ال َ
يفاجئون بنداء يقول هلم :بل هذا حقكم وجزاء أعمالكم َ ونُ ُ
َت ْع َملُو َن[ األعراف.]43 :
كرم عجيب
تأمل معي أخي القارئ هذا احلديث الشريف الذي خيربنا عن حوار دار بني آخر رجل يدخل اجلنة،
وبني اهلل عز وجل ،فعن ابن مسعود رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :إني ألعلم
حبوا ،فيقول اهلل
خروجا منها ،وآخر أهل الجنة دخوال الجنة .رجل يخرج من النار ً ً آخر أهل النار
عز وجل له :اذهب فادخل الجنة ،فيأتيها ،فيخيل إليه أنها مألى ،فيرجع فيقول :يا رب وجدتها
مألى! فيقول اهلل عز وجل له :اذهب فادخل الجنة ،فإن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها أو أن لك مثل
عشرة أمثال الدنيا ،فيقول :أتسخر بي ،أو تضحك بي وأنت الملك» قال :فلقدـ رأيت رسول اهلل ×
()1
ضحك حىت بدت نواجذه ،فكان يقول« :ذلك أدنى أهل الجنة منزلة».
ويف هناية احلديث عن مظاهر الكرم اإلهلي أتركك -أخي -تتأمل قول رسول اهلل صلى اهلل عليه
خيرا»(.)2
حي ،كريم ،يستحي من عبده أن يرفع يديه ثم ال يضع فيهما ً وسلم« :إن اهلل رحيمٌّ ،
***
1
() متفق عليه.
2
() صحيح اجلامع الصغري (.)1768
54
تمهيــــــــــــدـ
منظر مؤثر دفع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألن يعلق عليه ويقول ألصحابه« :أترون هذه طارحة
() 1
ولدها في النار»؟! قالوا :ال واهلل .قال «اهلل أرحم بعباده من هذه على ولدها».
ويف بعض مغازيه صلى اهلل عليه وسلم وبينما كان يسري مع أصحابه ،إذ أخذ بعضهم فرخ طري ،فأقبل
أحد أبويه حىت سقط يف أيدي الذي أخذه ،فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :أال تعجبون لهذا
() 2
الطير أُخذ فرخه فأقبل حتى سقط في أيديهم ،واهلل هلل أرحم بخلقه من هذا الطير بفرخه».
نعم ،أخي القارئ ،اهلل عز وجل أرحم بنا من أمهاتنا ،ومن آبائنا ،وأبنائنا وأزواجنا .يقول عبد اهلل بن
مسعود :هلل أرحم بعبده يوم يأتيه ،أو يوم يلقاه ،من أم واحد فرشت له بأرض ّقر ،مث قالت (نامت)
()3
فلمست فراشه بيدها ،فإن كان به شوكة كانت قبله ،وإن كانت لدغة كانت هبا قبله.
1
() رواه مسلم ( )2754والبخاري (.)5999
2
() أورده اهليثمي يف جممع الزوائد ، 383 /10وقال :رواه البزار من طريقني ورجال أحدمها رجال الصحيح.
3
() حسن الظن باهلل البن أيب الدنيا برقم (.)21
55
ذلك هذا احلديث القدسي الذي خيربنا بأن اهلل عز وجل يقول يوم القيامة« :يا ابن آدم مرضت فلم
تعدني قال :يا رب كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال :أما علمت أن عبدي فالنا مرض فلم
تعده؟! أما علمت أنك لو عدته لوجدتني عنده» ...احلديث(.)1
رغب عباده يف عيادة املريض ،ووعدهم على ذلك بعظيموليس هذا فحسبـ بل إنه سبحانه وتعاىل قد َّ
اجلزاء لتكون الزيارة سببًا يف رفع معنويات املريض ،وختفي ًفا عنه ،وتسرية له.
وليس ذلك للمريض فحسب ،بل لكل أصحاب احلاالت اخلاصة والضعفاء كأهل البالء واألرامل
واأليتام.
ففي احلديث الذي رواه أبو هريرة أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :الساعي على األرملة
والمسكين كالمجاهد في سبيل اهلل» وأحسبه قال« :وكالقائم الذي ال يَفتُر ،وكالصائم الذي ال
يُفطر»(.)3
وخيربنا عليه الصالة والسالم مبلغًا عن ربه بأن «من عال جاريتين حتى يبلغا جاء يوم القيامة أنا وهو
كهاتين» وضم أصابعه (.)4
أما عن اليتيم فال تسل عن فضلـ كفالته ..يكفي أن كافله سيكون جار رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم يف اجلنة.
َّ ِ
وليس هذا فحسب ،بل كان الرتهيب الشديد من تضييع أمواله إِ َّن الذ َ
ين يَأْ ُكلُو َن أ َْم َو َ
ال الْيَتَ َامى
1
() رواه مسلم (.)2569
2
() رواه الرتمذي ( )969وأبو داود ( )3098وابن ماجه ( )1442وهو حديث صحيح ،واخلريف :أي الثمر اجملتين.
3
() متفق عليه البخاري ،366 /10ومسلم (.)2982
4
() رواه مسلم.
56
تمهيــــــــــــدـ
صلَ ْو َن َس ِع ًيرا[ النساء.]10 : ِ
ظُل ًْما إِنَّ َما يَأْ ُكلُو َن في بُطُونِ ِه ْم نَ ًارا َو َسيَ ْ
ولماذا االبتالء؟!
قد يقول قائل :وملاذا هذه األقدار املؤملة ،واالبتالءات الشديدة اليت تتناىف
-ظاهرا -مع مظاهر الرمحة اإلهلية بالناس؟!
ً
نعم ،قد يكون هلذا السؤال وجاهته إن كانت الدنيا هي دار النعيم األبدي واملستقر النهائي ،ولكن
الدنيا ليست كذلك ،فهي دار اختبار ،يؤدي كل من عليها امتحانًا يف مدى عبوديته لربه إِنَّا َج َعلْنَا َما
ِ
س ُن َع َمالً[ الكهف.]7 : ض ِزينَةً لَّ َها لنَْبلُ َو ُه ْم أ َُّي ُهم أ ْ
َح َ َعلَى األ َْر ِ
هذا االمتحان مكون من تكاليف يقوم هبا الفرد ،وأدوات عليه أن حُي سن التعامل معها ،فالتكاليف هي
األوامر والنواهي ،واألدوات هي العطاء واملنع.
أما العطاء فهو كل ما يرد على العبد من النعم ،واملطلوب منه أن يشكر اهلل عليها.
واملنع هو كل ما مينع اهلل منه العبد من صحة أو مال أو ،....واملطلوب أن يصرب على ذلك ابتغاء وجه
اهلل.
فالعطاء ليس دليل كرامة من اهلل للعبد ،واملنع ليس دليل إهانة ،بل كالمها مواد اختبار فَأ ََّما ا ِإلنْ َ
سا ُن
ول َربِّيول َربِّي أَ ْك َر َم ِن َ وأ ََّما إِ َذا َما ْابتَالَهُ َف َق َد َر َعلَْي ِه ِر ْزقَهُ َفَي ُق ُ
إِ َذا َما ْابتَالَهُ َربُّهُ فَأَ ْك َر َمهُ َو َن َّع َمهُ َفَي ُق ُ
أ ََهانَ ِن َ كالَّ[ الفجر.]17 -15 :
57
اد ِه
شاء وي ْق ِدر إِنَّهُ َكا َن بِ ِعب ِ
َ
ط ِّ ِ
الر ْز َق ل َمن يَّ َ ُ َ َ ُ سُ يصلحهم ،وحبسب حالتهم اليت ال يعلمها سواه إِ َّن َربَّ َ
ك َي ْب ُ
َخبِيرا ب ِ
ص ًيرا[ اإلسراء.]30 : ً َ
لذلك جاء يف احلديث القدسي يقول اهلل عز وجل« :إن من عبادي من ال يُصلح إيمانه إال الغني
ولو أفقرته ألفسده ذلك ،وإن من عبادي من ال يُصلح إيمانه إال الفقر ولو أغنيته ألفسده ذلك ،وإن
من عبادي من ال يُصلح إيمانه إال الصحة ،ولو أسقمته ألفسده ذلك ،وإن من عبادي من ال يصلح
()1
حاله إال السقم ولو أصححته ألفسده ذلك.»...
وما يؤكد هذا املعىن قوله صلى اهلل عليه وسلم« :إن اهلل تعالى ليحمي عبده المؤمن من الدنيا ،وهو
()2
يحبه ،كما تحمون مريضكم الطعام والشراب ،تخافون عليه».
أيهما أهون علينا -أخي القارئ -التطهري يف الدنيا أم التطهري يف اآلخرة بالنار والعياذ باهلل.
أمل يقل صلى اهلل عليه وسلم« :ما يُصيب المسلم من نصب ،وال وصب ،وال هم ،وال حزن ،وال
() 3
أذى ،وال غم ،حتى الشوكة يشاكها ،إال كفر اهلل بها من خطاياه».
وقال « :ما يزال البالء بالمؤمن والمؤمنة ،في نفسه وولده وماله ،حتى يلقى اهلل وما عليه من
خطيئة»(.)4
1
مرفوعا.
ً () رواه أبو نعيم يف احللية عن أنس
2
() صحيح اجلامع الصغري ح (.)1418
3
() متفق عليه.
4
() رواه الرتمذي عن أيب هريرة ،وصححه األلباين يف صحيح اجلامع (.)5815
58
تمهيــــــــــــدـ
وهناك طائفة أخرى من العباد الطائعني لرهبم ،يريد سبحانه أن يكافئهم برفع درجاهتم يف اجلنة ،ولكن
أعماهلم ال ميكنها أن ترقى هبم إىل هذه الدرجات فكان االبتالء وسيلة يستخرج اهلل عز وجل من قلوب
هؤالء ألوانًا من العبودية من ذل وانكسار وفقر واضطرار ما كانت لتخرج من قلوهبم إال من خالل هذا
االبتالء.
ويؤكد على هذا املعىن القاضي عياض يف كتاب «الشفا بتعريف حقوق املصطفى صلى اهلل عليه وسلم»،
فيقول :فإن قيل :فما احلكمة يف إجراء األمراض وش ّدهتا عليه صلى اهلل عليه وسلموعلى غريه من األنبياء على
امتحنوا به ،كأيوب ،ويعقوب ،ودانيال،
مجيعهم السالم؟ وما الوجه فيما ابتالهم اهلل به من البالء ،وامتحاهنم مبا ُ
وحييي ،وزكريا ،وإبراهيم ،ويوسف ،وغريهم ،صلوات اهلل عليهم ،وهم خريته من خلقه وأحباؤه وأصفياؤه؟
فاعلم -وفقنا اهلل وإياك -أن أفعال اهلل تعاىل كلها عدل ،وكلماته مجيعها صدق ،ال مبدل لكلماته،
يبتلي عباده كما قال تعاىل هلم لِنَنظَُر َك ْي َ
ف َت ْع َملُو َن[ يونس .]14 :فامتحانه إياهم بضروب احملن زيادة يف
مكانتهم ،ورفعة يف درجاهتم ،وأسباب الستخراج حاالت الصرب والرضا ،والشكر والتسليم ،والتوكل،
والتفويض ،والدعاء ،والتضرع منهم ،وتأكيد لبصائرهم يف رمحة املمتحنني ،والشفقة على املبتلني ،وتذكرة
ليتأس وا يف البالء هبم ،فيتسلوا يف احملن مبا جرى عليهم ،ويقتدوا هبم يف الصرب، لغريهم ،وموعظة لسواهم َّ
َّات فرطت منهم ،أو غفالت سلفت هلم ،ليلقوا اهلل طيبني ُمه ّذبني ،وليكون أجرهم أكمل ،وثواهبم وحمو هلن ٍ
ٌ َ
()1
َجزل.
أوفر وأ ْ
()2
تضرعه إليه.
جاء يف األثر :إن اهلل تعاىل ليصيب العبد باألمر ،وإنه ليحبه ،لينظر كيف كان ُّ
أخي ..
إن بعض الناس ال يرغب يف نزول املطر ألنه يراه عائ ًقا أمام حركة السري ،وسببًا لبعض احلوادث.
أج ّل صور الرمحة اإلهلية بالناس ،فيه ينبت الزرع وحتيا احلياة ،وترتوي
ولكن املطر -يف حقيقته -من َ
املخلوقات ،وليس معىن عدم استشعار البعض هلذه احلقيقة أن يتوقف نزول املطر -رمحة هبم على حد
زعمهم -بل إن الرب الرحيم يرى املصلحة العامة لعباده فُيقدِّر األقدار ،وحيرك األحداث من أجل حتقيقها.
1
() الشفا للقاضي عياض .178 /2
2
() احملبة للجنيد.73 /
59
سى أَن تَك َْر ُهوا
فاالبتالء وإن كان يف ظاهره الضيق والعنت إال أنه حيمل يف طياته رمحات كثرية َ ف َع َ
َش ْيئًا َويَ ْج َع َل اهللُ ِف ِيه َخ ْي ًرا َكثِ ًيرا[ النساء.]19 :
الشفقة اإللهية
بعض ا من أبعاد الشفقة والرأفة اإلهلية بعباده واليت تزداد وتزداد عند
مث تأمل معي هذا احلديث لتدرك ً
ابتالئهم.
عن أيب موسى األشعري رضي اهلل عنه ،أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قال« :إذا مات ولد العبد
قال تعالى لمالئكته :قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون :نعم ،فيقول ،قبضتم ثمرة فؤاده؟ فيقولون :نعم،
فيقول :ماذا قال عبدي؟ فيقولون :حمدك واسترجع ،فيقول اهلل تعالى :ابنوا لعبدي بيتًا في الجنة،
()1
وسموه بيت الحمد».
أما يوم القيامة فالتكرمي اخلاص ينتظر أهل البالء الذين جنحوا يف مادة الصرب .يقول صلى اهلل عليه
وسلم« :يود أهل العافية يوم القيامة حين يعطي أهل البالء الثواب لو أن جلودهم كانت ُق ِّرضت في
()2
الدنيا بالمقاريض».
60
تمهيــــــــــــدـ
لذلك كان االبتالء بالذنب ،واحلرمان من الطاعة من لطف اهلل اخلفي بعبده ،بل من دالئل حبه له
أحيانًا.
جاء يف احلديث« :يقول اهلل عز وجل :وإن من عبادي من يطلب بابًا من العبادة فأكفه عنه كيال
يدخله العجب ،إني أدبر أمر عبادي بعلمي بما في قلوبهم ،إني عليم خبير»(.)1
ولعلنا بذلك ندرك مغزى قوله صلى اهلل عليه وسلم« :لو لم تكونوا تذنبون ،لخفت عليكم ما هو
()2
أكبر من ذلك العُجب العُ ْجب».
ومما يؤكد هذا املعىن ما قاله صلى اهلل عليه وسلم للصحابة «لو أنكم تكونون على كل حال على
الحالة التي أنتم عليها عندي لصافحتكم المالئكة بأكفهم ،ولزارتكم في بيوتكم ،ولو لم تذنبوا ،لجاء
()3
اهلل بقوم يذنبون كي يغفر لهم».
الرحمة الواسعة
إن رمحة اهلل بعباده ولطفه اخلفي هبم ليس له حدود وال ميكن للعقل البشري أن يدرك أبعاده ،ويكفي
أنه سبحانه وتعاىل كتب على نفسه الرمحة ،ففي احلديث «إن اهلل حين خلق الخلق كتب بيده على نفسه
()4
أن رحمتي تغلب غضبي».
وجاء يف األثر أن بين إسرائيل قالت ملوسى « :هل يصلي ربك؟ قال موسى :اتقوا اهلل يا بني
إسرائيل .فقال اهلل يا موسى :ماذا قالت لك قومك؟ قال :يا رب قد علمت ،قالوا :هل يصلي ربك؟
()5
قال :فأخبرهم أن صالتي على عبادي أن تسبق رحمتي غضبي ,لوال ذلك ألهلكتهم».
ومن أعظم األدلة اليت تؤكد هذا املعىن :رمحته سبحانه بالعصاة له والكافرين به ،فهو سبحانه مل مينع عنهم
رزقه رغم عصياهنم وابتعادهم عن طريقه ،ومل يُعجل هنايتهم فلعلهم يعودون إليه يف حلظة من اللحظات إِ َّن اهللَ
َّاس لَر ُؤ ٌ ِ ِ
يم[ البقرة.]143 :
وف َّرح ٌ بالن ِ َ
1
مرفوعا.
ً () أخرجه أبو نعيم يف احللية عن أنس
2
() صحيح اجلامع الصغري (.)5303
3
() صحيح ،رواه اإلمام أمحد والرتمذي وصححه األلباين يف صحيح اجلامع (.)5253
4
() صحيح ،رواه الرتمذي وصححه األلباين يف صحيح اجلامع (.)1755
5
() كنز العمال رقم .10399
61
ويكفينا يف ذلك ما حدث من فرعون من طغيان فاق احلدود ،ومع ذلك أمهله اهلل عز وجل وأرسل
إليه موسى وهارون عليهما السالم ا ْذ َهبَا إِلَى فِ ْر َع ْو َن إِنَّهُ طَغَى َ ف ُقوالَ لَهُ َق ْوالً لَِّّينًا لَّ َعلَّهُ َيتَ َذ َّك ُر أ َْو
شى[ طه ]44 ،43 :فظال حياورانه ويثُبتان له باألدلة الدامغة ألوهية اهلل وربوبيته على خلقه ،ولكنه أىب يَ ْخ َ
واستكرب ..وكان ما كان من تتبعه ملوسى يف البحر إىل أن أغرقه اهلل عز وجل ..يف هذه اللحظات-
ت بِ ِه َبنُو
آمنَ ْ ِ
نت أَنَّهُ الَ إِلَهَ إِالَّ الَّذي َ
آم ُ
حلظات النهاية ،وبعد أن أصبح الغيب عنده كالشهادة قال َ
ِِ ِ ِ ِ
يل َوأَنَا م َن ال ُْم ْسلم َ
ين[ يونس.]90 : إ ْس َرائ َ
شهادة ال تنفع يف هذا الوقت ،وقت الغرغرة ونزع الروح ،ورؤية املالئكة ،ومع ذلك فإن جربيل
كان له موقف عجيب انطلق من إدراكه ملدى سعة الرمحة اإلهلية ،وانطلق كذلك من بغضه الشديد
لفرعون وأفعاله الطاغية ،وكربه وإصراره على الكفر رغم ما رأى من آيات مبصرة.
يقول صلى اهلل عليه وسلم« :لما أغرق اهلل فرعون ،قال :آمنت أنه ال إله إال الذي آمنت به بنو
إسرائيل ،قال جبريل :يا محمد! فلو رأيتني وأنا آخذ من ماء البحر فأدسه في فيه مخافة أن تدركه
()1
الرحمة».
رب رءوف:
أخي القارئ ,لعلك قد ملست مدى شفقة أمك عليكـ وهي ِّ
ترغبك يف تناول وجبة اإلفطار قبل
ذهابك ملدرستك أو عملك خوفًا عليك من أن يدامهك التعب واإلرهاق.
وأين هي رمحة أمك وعطفها-مهما بلغا -من رمحة ورأفة الرءوف الرحيم ،الذي يعاملكـ ويعاملنا
مجيعا بشفقة تفوق وتفوق شفقة أمك بك.
ً
فمع أنه -عز وجل -يكلفنا بأداء العبادات ليجزينا عليها اجلنة ،إال أنه ال يريد لنا أن نقع يف مشقة أو حرج
من أدائها َ و َما َج َع َل َعلَْي ُك ْم ِفي الدِّي ِن ِم ْن َح َر ٍج[ احلج.]78 :
يطالبنا بالصوم ،مث يرغبنا يف التعجيل بالفطر ،فيكفي الصيام حىت املغرب ،وال داعي للتأخري أكثر من
إلي أعجلهم
ذلك حىت ال يزداد اإلرهاق ،ففي احلديث القدسي :قال اهلل عز وجل« :أحب عبادي َّ
1
() صحيح ،أورده اإلمام أمحد ،والرتمذي ،وصححه األلباين يف صحيح اجلامع (.)5206
62
فطرا».
()1
ً
وحيثنا كذلك على السحور ،وعلى تأخريه قدر املستطاع لينشط به الصائم ويقوى ،ويهون عليه صيام
يومه.
()2
قال صلى اهلل عليه وسلم« :تسحروا فإن في السحور بركة».
ربك -أخي -علمنا على لسان نبيه صلى اهلل عليه وسلم كلمات نقوهلا حىت ال يصيبنا مكروه ،ففي
احلديث« :ما من عبد يقول في صباح كل يوم ومساء كل ليلة :بسم اهلل الذي ال يضر مع اسمه شيء
()3
في األرض وال في السماء وهو السميع العليم -ثالث مرات -فيضره شيء».
وعند اخلروج من املنزل ومواجهة أحداث احلياة أوصاك أن تقول« :بسم اهلل ،توكلت على اهلل وال
()4
وهديت ،وتنحى عنك الشيطان».؟
حول وال قوة إال باهلل .فيقال لكُ :كفيت ووقيت ُ
وتأمل معي هذه الوصية النبوية اليت تقطر شفقة ورمحة إهلية:
مخرجا ،ورزقه من حيث ال
ً فرجا ،ومن كل ضيق
«من لزم االستغفار جعل اهلل له من كل هم ً
()5
يحتسب».
ربك أوصاك على لسان نبيه بأن متيط األذى عن الطريق كيال يتسبب وجوده يف إيذاء الناس؛ شفقة
عليهم ورمحة هبم.
ولكي يشجعنا على تنفيذ هذا األمر أعد مكافأة خاصة ملن يقوم بذلك ,قال صلى اهلل عليه وسلم
()6
«كان على الطريق غصن شجرة يؤذي الناس فأماطها رجل فأُدخل الجنة»
فالصلوات اخلمس اليت ال يستغرق أداؤها وقتا طويال ،واليت نستفيد حنن منها لتسكب داخلنا
الطمأنينة ،والسالم الداخلي ،ومع ذلك ،ففي وقت السفر ،ومظنة التعب ،فإنه سبحانه خيفف عن املسافرين
عدد ركعات الصلوات الرباعية ليجعلها ركعتني ،ويسمح هلم كذلك باجلمع بني الصلوات ختفي ًفا عليهم،
ورفعا للحرج عنهم ،مع العلم بأنه ليست كل األسفار تسبب تعبًا ومشقة ولكنها الرمحة اإلهلية اليت تغمر ً
اجلميع يُ ِري ُد اهللُ بِ ُك ُم الْيُ ْس َر َوالَ يُ ِري ُد بِ ُك ُم الْعُ ْس َر[ البقرة.]185 :
ولعلمه سبحانه بأن البعض قد يتحامل على نفسه وال يأخذ هبذه الرخص فلقد أخربنا على لسان نبيه
()1
بأنه -سبحانه -حيب أن تؤتى رخصه كما حيب أن تؤتى عزائمه.
ومن مظاهر رفع احلرج قوله صلى اهلل عليه وسلمُ « :وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا
()2
عليه».
ومنها كذلك :عدم حماسبتنا عما حندث به أنفسنا من خمالفات -وما أكثرها -يقول صلى اهلل عليه
()3
وسلم« :إن اهلل تعالى تجاوز ألمتي عما حدثت به نفسها ،ما لم تتكلم به ،أو تعمل به».
أيض ا مراعاته سبحانه للحاجات الفطرية للناس وحاالت الضعف البشري اليت ومن مظاهر رفع احلرج ً
ِ ِ ث إِلَى نِ ِ ِ
اس لَّ ُك ْم َوأَْنتُ ْم لبَ ٌ
اس سائ ُك ْم ُه َّن لبَ ٌ
َ الصيَ ِام َّ
الرفَ ُ تعرتيهم ومن ذلك قوله تعاىل :أُح َّل لَ ُك ْم ل َْيلَةَ ِّ
لَّ ُه َّن[ البقرة.]187 :
اح
س َعلَْي ُك ْم ُجنَ ٌ
ومنها السماح للناس وهم يف رحلة احلج أن يبيعوا ويشرتوا ويتزودوا مبا يريدونه ل َْي َ
ضالً ِّمن َّربِّ ُك ْم[ البقرة.]198 :
أَن َت ْبَتغُوا فَ ْ
ال تنس أنك عبد
1
() صحيح اجلامع ح (.)1885
2
() صحيح اجلامع ح (.)711
3
() صحيح اجلامع ح (.)1730
إن العبد -أي عبد -من املفرتض عليه أن يقوم بالتكاليف اليت يطلبها منه سيده جملرد أنه عبد ،وأن هذا
أجرا عليه ،ألنه خيدمه
أيضا أن يسأل عن سبب تكليف سيده له بذلك ،وال أن ينتظر ً سيده ،وليس له ً
مبوجب أنه عبد عنده.
أي أننا وإن افرتض اهلل علينا ما شاء من عبادات فهذا ما تقتضيه عبوديتنا له سبحانه ،ويقتضيه كونه
مستح ًقاـ للعبادة ،وعندما نراه -جل شأنه -خيفف عنا بعض التكاليف ،ويرفع بعضها يف أوقات معينة،
مراعاة لظروف البعض ،فهذا منتهى الرمحة والرأفة من الرب بعبيده املكلفني يف األصل بطاعته وعبادته.
ولعل أفضل ما خنتم به احلديث عن هذا املظهر العظيم من مظاهر حب اهلل تعاىل هذه البشرى اليت
محلها إلينا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عندما أخربنا بأن اهلل عز وجل قد خلق مائة رمحة جعل جزءًا
واحد ا منها للدنيا يرتاحم هبا الناس فيما بينهم ،أما بقية املئة (التسعة وتسعون جزءًا) فقد ادخرها-
ً
سبحانه -ليوم أحوج ما نكون فيه إىل الرمحة ,ليوم القيامة.
قال صلى اهلل عليه وسلم« :إن اهلل تعالى خلق يوم خلق السماوات واألرض مائة رحمة ،كل رحمة
طباق بين السماء واألرض ،فجعل منها في الدنيا رحمة ،فبها تعطف الوالدة على ولدها ،والوحش
تسعا وتسعين ،فإذا كان يوم القيامة أكملها
والطير بعضها على بعض ،وأخَّر ً
بهذه الرحمة» (.)1
وكذلك قوله صلى اهلل عليه وسلم:ـ « والذي نفسي بيده ليغفرن اهلل يوم القيامة مغفرة ما خطرت على قلب
بشر ،والذي نفسي بيده ليغفرن اهلل يوم القيامة مغفرة يتطاول لها إبليس رجاء أن تصيبه»؟(. )2
***
1
() رواه مسلم.
2
() رواه الطرباين ..انظر كنز العمال (.) 10359
سابعا :من مظاهر حب اهلل لك: ً
تيسير طريقك إلى التوبة
والرجـ ـ ـ ـ ــوع إلي ـ ـ ــه
كان رجل يف بين إسرائيل امسه «الكفل» ،وكان معروفًا بني الناس بفحشه وإجرامه ،وذات ليلة وبينما
هو يف منزله إذ مسع طرقًا على بابه ،فقام ليفتحه فإذا بامرأة يقطر منها احلياء وقد جاءته لتطلبـ منه أن
يقرضها مبلغً ا من املال حلاجتها الضرورية إليه ،فيوافق على إقراضها بشرط أن متكنه من نفسها ،فتضطر
املرأة للموافقة ،وعندما يقرتب منها إذ هبا ترتعد ،فيسأهلا عن السبب ،فتجيبه بأهنا مل تفعل هذا من قبل،
وإهنا ختاف من غضب اهلل عليها.
هنا توقف الكفل عما كان ينوي فعله ،وقال هلا :من الذي ينبغي له أن خياف من غضب اهلل :أنا أم
أنت؟ مث أعطاها ما تريد من مال ،وتركها تنصرف ،والندم يعتصر قلبه على آثامه اليت اقرتفها ،وعلى
استخفافه بأوامر ربه ،مث توجه إىل اهلل هبذا القلبـ املنكسر يسأله العفو والصفح والتوبة.
مل يصدقوا ما قرءوه ،فهرعوا إىل نبيهم ،فأوحى اهلل إليه مبا حدث ،فأخربهم خربه ،فتلقوه فاغرين
أفواههم ،غري مصدقني ما حدث.
ومن هذه الدروس كذلك معرفة مدى حب اهلل العظيم لعباده فكتابة العبارة على الباب ما هي إال
مجيع ا بأن رمحة اهلل واسعة ..تسع اجلميع ،فال ينبغي ملذنب مهما كان ُجرمه أن ييأس أو يقنط
رسالة للناس ً
تمهيــــــــــــدـ
فر له ..إهنا رسالة تقول لكل فرد :أقبل وال ختف ،فربك ينتظرك.
من بلوغها ،والدليل أن الكفل قد غُ َ
مجيعا ،ويريد هلم اخلري ،ودخول اجلنة،
وكيف ال يكون األمر كذلك ،واهلل عز وجل حيب عباده ً
وينتظر من أي منهم التفاتة صادقة إليه ليقبل عليه ،ويعفو عما مضى منه.
1
() متفق عليه.
2
() رواه مسلم من حديث أيب ذر.
69
يعلق اإلمام النووي على هذا احلديث فيقول:
أي من تقرب إىل بطاعيت تقربت إليه برمحيت ،وإن زاد عبدي زدت ،فإن أتاين ميشي وأسرع يف طاعيت
أتيته هرولة أي صببت عليه الرمحة ،وسبقته هبا ،ومل أحوجه إىل املشي الكثري يف الوصول إىل املقصود (.)1
فهل توافقىن -أخى -أن هذا احلديث وغريه مما سبق ذكره يدل على شدة شوقه سبحانه لعودة عبادة
إليه ،وأنه أشد شوقا هلذه العودة من العبادة أنفسهم؟!
ولو ُكشفت احلُ ُجب ،وتأكد الشاردون عن اهلل من هذه احلقيقة ملاتوا خجال منه سبحانه.
بابه مفتوح للجميع:
أخي ..ما تعليقك على قوله صلى اهلل عليه وسلم« :إن اهلل تعالى يبسط يده بالليل ليتوب
مسيء النهار ،ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل حتى تطلع الشمس من مغربها»()2؟
أمل يكن من املمكن أن يكون الدخول على اهلل ودعاؤه يف وقت حمدد بالليل أو بالنهار ،وعلى من
يريد أن جياب طلبه أن جيتهد يف حتري هذا الوقت كما حيدث مع كل صاحب سلطان.
أليس كل واحد من هؤالء له مكان يف اجلنة يريد اهلل له أن يشغله ،وال يرتكه؟!
ِِ
فإن كنت تشك يف هذه احلقيقة فتأمل معي توجيهه لرسوله الكرمي :قُل للَّذ َ
ين َك َف ُروا إِن يَ َنت ُهوا
ف[ األنفال ]38 :هكذا بكل بساطة.
ُيغََف ْر ل َُه ْم َّما قَ ْد َسلَ َ
1
() صحيح مسلم بشرح النووي.
2
() رواه مسلم.
70
تمهيــــــــــــدـ
وتأمل خطابه للمنافقني ،فبعد أن حذرهم وخوفهم من مآل أفعاهلم عاد فلم ييئسهم من رمحته بل جعل
األس َف ِل ِمن النَّا ِر ولَن تَ ِج َد ل َُهم نَ ِ
ص ًيرا إِالَّ ممهدا للتوبة والعودة إليه إِ َّن الْمنَافِ ِقين فِي الد ِ
ْ َ َ َّرك ْ ْ ُ َ الطريق أمامهم ً
ِِ ين وسو َ ِ ِِ اهلل وأَ ْخلَصوا ِد َين ُهم ِ
هلل فَأُولَئِ َ ِ َّ ِ
ين
ف ُي ْؤت اهللُ ال ُْم ْؤمن َ ك َم َع ال ُْم ْؤمن َْ َ َ % ْ ص ُموا بِ َ ُ َصلَ ُحوا َوا ْعتَ َ
ين تَابُوا َوأ ْ
ا لذ َ
يما[ النساء.]146 ،145 : ِ
َج ًرا َعظ ًأْ
أحدا من خلقه َ ما َي ْف َع ُل اهللُ بِ َع َذابِ ُك ْم
وبعد ذلك يأيت التأكيد على أن اهلل عز وجل ال يريد أن يعذب ً
ِ ِ
يما[ النساء.]147 : إِن َش َك ْرتُ ْم َو َ
آم ْنتُ ْم َو َكا َن اهللُ َشاك ًرا َعل ً
وتأمل كذلك – أخي القارئ – خطابه للذين يعذبون الناس ,الطواغيت الظلمة ,هؤالء لو تابوا لتاب
ِ ِ ِِ َّ ِ
ْح ِر ِيق
اب ال َ
َّم َول َُه ْم َع َذ ُ
اب َج َهن َ
َم َيتُوبُوا َفلَ ُه ْم َع َذ ُ
ين َوال ُْم ْؤمنَات ثُ َّم ل ْ عليهم إِ َّن الذ َ
ين َفَتنُوا ال ُْم ْؤمن َ
[الربوج.]10 :
َّ ِ
والذين يروعون اآلمنني ويقطعون الطريق حدد الشرع جزاءهم إِنَّ َما َج َزاءُ الذ َ
ين يُ َحا ِربُو َن اهللَ
ادا أَن ي َقَّتلُوا أَو يصلَّبوا أَو ُت َقطَّع أَي ِدي ِهم وأَرجلُهم ِّمن ِخالَ ٍ
ف أ َْو يُن َف ْوا َو َر ُسولَهُ َويَ ْس َع ْو َن فِي األ َْر ِ
َ ْ َْ ُْ ُ ْ ْ َُُ ْ سً ُ ض فَ َ
يم[ املائدة .]33 :ولكن لو تاب هؤالء ِ ِ ِ ِ ي فِي ُّ ِ ض ذَلِ َ ِم َن األ َْر ِ
اب َعظ ٌ
الد ْنيَا َول َُه ْم في اآلَخ َرة َع َذ ٌ ك ل َُه ْم خ ْز ٌ
اللصوص القتلة لتاب اهلل عليهم كما جاء يف اآلية اليت تليها:
َن اهلل غَ ُف ِ ِ ِ َّ ِ
يم[ املائدة.]34 :
ور َّرح ٌ إِالَّ الذ َ
ين تَابُوا من َق ْب ِل أَن َت ْقد ُروا َعلَْي ِه ْم فَا ْعلَ ُموا أ َّ َ ٌ
ات َوال ُْه َدى ِمن وكذلك الذين يكتمون ما أنزل اهلل من اهلدى إِ َّن الَّ ِذين يكْتُمو َن ما أَْنزلْنَا ِمن الْبِّينَ ِ
ََ ُ َ َ َ َ
َّ ِ ِ اب أُولَئِ َ َّاس ِفي ال ِ َب ْع ِد َما َبَّينَّاهُ لِلن ِ
َصلَ ُحوا َو َبَّينُوا لع ُن ُه ُم اهللُ َو َيل َْع ُن ُه ُم الالَّعنُو َن إِالَّ الذ َ
ين تَابُوا َوأ ْ ك يَ َ ْكتَ ِ
َّواب َّ ِ فَأُولَئِ َ
يم[ البقرة.]160 ،159 : الرح ُ وب َعلَْي ِه ْم َوأَنَا الت َّ ُ
ك أَتُ ُ
أقبل وال تخف
71
نعم يا أخي إن مغفرته سبحانه تسع كل ذنوبك ،وكل ذنوبنا ،كل ما هو مطلوبـ منك أن تُقبل عليه
بصدق ,أن تعتذر له عما مضى من ذنوب وتقصري.
72
تمهيــــــــــــدـ
واعتذاره لربه ,فرأى منه اهلل هذه احلال فدلَّه – الرحيم – على ما يقوله له ،ليختصر عليه الطريق
َّواب َّ ِ ِ َ فَتلَ َّقى َ ِ ِ ِ ٍ
يم[ البقرة.]37 :
الرح ُ اب َعلَْيه إِنَّهُ ُه َو الت َّ ُ
آد ُم من َّربِّه َكل َمات َفتَ َ
وكذلك ما حدث مع بين إسرائيل ،فبعد أن ارتكبوا كبائر الذنوب ،وعبدوا العجل ،وقالوا لنبيهم :أرنا
اهلل جهرة و ..أراد اهلل أن يتوب عليهم فدهلم على وسيلة ذلك واأللفاظ اليت يقولوهنا َ وإِ ْذ ُقلْنَا ا ْد ُخلُوا َه ِذ ِه
اب ُس َّج ًدا َوقُولُوا ِحطَّةٌ َّنغْ ِف ْر لَ ُك ْم َخطَايَا ُك ْم َو َسنَ ِزي ُد الْ َقريةَ فَ ُكلُوا ِم ْنها حي ُ ِ
ث ش ْئتُ ْم َرغَ ًدا َوا ْد ُخلُوا الْبَ َ َ َْ َْ
ين[ البقرة.]58 : ِ ِ
ال ُْم ْحسن َ
فأي رب غفور رحيم هو ربنا!
يعلمنا كلمات نقوهلا ،وأدعية ندعوه هبا حتمل معان عظيمة ،مث خيربنا بأننا لو قلناها بصدق غفر لنا
ذنوبنا وأعطانا مرادنا.
ِ ِ
ص ًرا َك َما َح َملْتَهُومن ذلك قوله تعاىلَ :ر َّبنَا الَ ُت َؤاخ ْذنَا إِن نَّسينَا أ َْو أَ ْخطَأْنَا َر َّبنَا َوالَ تَ ْح ِم ْل َعلَْينَا إِ ْ
ف َعنَّا َوا ْغ ِف ْر لَنَا َو ْار َح ْمنَا أ َ
َنت َم ْوالَنَا ين ِمن َق ْبلِنَا َر َّبنَا َوالَ تُ َح ِّملْنَا َما الَ طَاقَةَ لَنَا بِ ِه َوا ْع ُ َّ ِ
َعلَى الذ َ
ِ ِ
ين[ البقرة.]286 : ص ْرنَا َعلَى الْ َق ْوم الْ َكاف ِر َفَانْ ُ
هذه الكلمات النورانية لو أردنا نُعرَّب عما حتمله من معان بكلمات من عندنا فكم عبارة سنقوهلا؟ وهل
سرتقى تلك العبارات فتليق ببالغة اآليات؟!
مث إن هذه اآليات وغريها من األدعية مما ورد على لسان املؤمنني ,من الذي أنزهلا؟!
أليس هو اهلل عز وجل؟!
ومن هم هؤالء املؤمنني الذي يقولوهنا؟!
أشخاص ا بعينهم ،ولكنها منوذج يقدمه اهلل لنا لكي خيتصر علينا طريق اختيار الكلمات
ً إهنم ليسوا
والعبارات اليت تنال رضاه ،وتستفتح باب فضله وكرمه ،فيجيب علينا – حني نرددها – بفتح خزائن عفوه
وفضله ورزقه.
وقد ورد أن العبد حني يقرأ :ر َّبنا الَ ُت َؤ ِ
اخ ْذنَا إِن نَّ ِسينَا أ َْو أَ ْخطَأْنَا جييب سبحانه« :قد فعلت»، ََ
73
ين ِمن َق ْبلِنَا جييب اهلل« :قد فعلت» َّ ِ
فإذا قالَ :ر َّبنَا َوالَ تَ ْح ِم ْل َعلَْينَا إِ ْ
ص ًرا َك َما َح َملْتَهُ َعلَى الذ َ
وهكذا(.)1
فانظر إىل مدى حب اهلل لنا ,يعلمنا ما نقول ،ليجيبنا بعد القول :قد فعلت!.
عدم االستقصاء
أرأيت لو أن زميال لك قد أساء إليك إساءات بالغة ،وارتكب يف حقك خمالفات جسيمة ،مث جاءك
بعد أن أفسد وأفسد ليعتذر لك عما فعله ,أليس أدىن ما يتوقع منك ساعتها أن جتلس معه وتعاتبه ،وتطلب
منه إصالح ما أفسده قبل قبول اعتذاره ،وأن تأخذ منه املواثيق على ذلك؟!
ولكن اهلل عز وجل ال يفعل معنا ذلك ،فهو يقبل منا االعتذار – مهما كان حجم جرائمنا يف حقه –
دون استقصاء ،كما حدث مع موسى – عليه السالم – فبعد أن قتل القبطي ،وقبيل هروبه من مصر قال:
ت َن ْف ِسي فَا ْغ ِف ْر لِي فبماذا أجاب اهلل؟ َ فغََف َر لَهُ ملاذا املغفرة بكل هذه السهولة
ب إِنِّي ظَلَ ْم ُ
ال َر ِّ
قَ َ
يم[ القصص.]16 : إِنَّه هو الْغَ ُفور َّ ِ
الرح ُ ُ ُ َُ
أحد ا بإصالح ما أفسده إال إذا كان يف حقوق الناس – رمحة هبم – أما ما كان يف حقه
ال يطالب ً
سبحانه ،فهو يتجاوز عنه ..ملاذا؟!
1
() انظر صحيح مسلم (.)126
74
تمهيــــــــــــدـ
وألنه سبحانه حيبنا ويريد لنا اجلنة ،لذلك فهو يسهل علينا طريق التوبة من كل جانب.
َس َرفُوا اد َّ ِِ ِ
ين أ ْ
ي الذ َ يطمئننا بأنه سيغفر لنا مجيع ذنوبنا – مهما بلغت – وذلك مبجرد توبتنا قُ ْل يَا عبَ َ
الذنُوب ج ِميعا إِنَّه هو الْغَ ُفور َّ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
يم[ الزمر.]53 :الرح ُ ُ َعلَى أَ ْن ُفس ِه ْم الَ َت ْقنَطُوا من َّر ْح َمة اهلل إِ َّن اهللَ َي ْغف ُر ُّ َ َ ً ُ ُ َ
ويؤكد لنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على هذا املعىن فيقول« :إن عب ًدا أصاب ذنبًا فقال :رب
أذنبت ،فاغفره ،فقال ربه :أعلم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ به؟ غفرت لعبدي ،ثم مكث ما
رب أذنبت آخر ،فاغفر لي .قال :أعلم عبدي أن له ربًا يغفر الذنب شاء اهلل ،ثم أصاب ذنبًا ،فقالَّ :
رب أذنبت آخر ،فاغفر لي ،قال :أعلم عبدي أن له ويأخذ به؟ غفرت لعبدي ،ثم أصاب ذنبًا ،فقالَّ :
ربًا يغفر الذنب ويأخذ به؟ قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء»(.)1
يعين -كما يقول ابن رجب – ما دام على هذا احلال كلما أذنب استغفر(.)2
شديدا؟
أتدري ما الذي يغضب ربك غضبًا ً
جاء رجل إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يسأله عن سعة رمحة اهلل ،فقال:
«جئت تسألني عن سعة رحمة اهلل؟ وأخبرك أن اهلل تعالى يقول :ما غضبت على أحد غضبي على
عبد أتى معصية فتعاظمها في جنب عفوي ،فلو كنت معُ َّجال أو كانت العجلة من شأني لعجلت
للقانطين من رحمتي»(.)3
1
() متفق عليه.
2
() شرح احلديث لبيك اللهم لبيك البن رجب .136/
3
() كنز العمال (.)5901
75
ك ِمن بع ِدها لَغَ ُف ِ ذَلِ َ
يم[ النحل.]119 :
ور َّرح ٌ
ٌ َصلَ ُحوا إِ َّن َربَّ َ َ ْ َ
ك َوأ ْ
َصلَ َح الرحمةَ أَنَّه من َع ِمل ِم ْن ُكم سوء بِجهال ٍَة ثُ َّم تَ ِ ِ ِ ِِ
اب من َب ْعده َوأ ْ
َ َ ْ ُ ً ََ ب َربُّ ُك ْم َعلَى َن ْفس %ه َّ ْ َ ُ َ
وقولهَ :كتَ َ
يم[ األنعام.]54 : فَأَنَّه غَ ُف ِ
ور َّرح ٌ
ُ ٌ
إهنا رسالة تطمني وترغيب تقول لنا :لقد أخطأمت واقرتفتم السيئات ألنكم كنتم غافلني عين ،جاهلني
بقدري ،فما عليكم إال أن تستغفروين ألغفرـ لكم وأتوب عليكم.
لننتهز الفرصة
أخي القارئ:
ويف هناية احلديث عن هذا املظهر العظيم من مظاهر حب ربك لك ،ولسائر عباده ،تبق كلمة ال بد
أن تُذكر يف هذا املقام وهي أن كل ما قيل يف الصفحات السابقة عن ترغيب اهلل لعباده يف التوبة وتيسريه
لطريقها ،ما هو إال استدراج منه سبحانه هلم لكي يسارعوا بالفرار والعودة إليه ،ومن مثَّ يرزقهم احلياة
ور[ سبأ.]15 :
ب غَ ُف ٌ
الطيبة يف الدنيا ،واجلنة يف اآلخرة َب ْل َدةٌ طَيِّبَةٌ َو َر ٌّ
ولكن هب أن البعض مل يستفد من هذه الفرصة العظيمة اليت أتاحها اهلل له ،ومل يتب إليه أو يقبل عليه،
وظل يف غفلته مييَّن نفسه أنه سيفعل ذلك بعد حني ..بعد أن حيج ،أو يزوج األوالد ،أو خيرج على املعاش...
يوما بعد يوم دون أن يشعروا ،مث يفاجئوا مبلكبال شك أن هؤالء سيندمون أشد الندم عندما تتسرب أعمارهم ً
املوت أمامهم قد جاءهم ليقبض أرواحهم ،ومن مثَّ ينغلق باب التوبة أمامهم.
كثريا من ذلك املوقف كي ال نقع فيه َ وأَنِيبُوا إِلَى َربِّ ُك ْم ومن عجب أن الرب الرحيم حذرنا ً
ِ
س َن َما أُنْ ِز َل إل َْي ُكم ِّمن َّربِّ ُكم ِّمن ِ ِ ِ وأ ِ
ص ُرو َن َ واتَّبعُوا أ ْ
َح َ َسل ُموا لَهُ من َق ْب ِل أَن يَأْتيَ ُك ُم ال َْع َذ ُ
اب ثُ َّم الَ ُت ْن َ َ ْ
ِ
اب َب ْغتَةً َوأَْنتُ ْم الَ تَ ْشعُ ُرو َن[ الزمر.]55 ،54 : َق ْب ِل أَن يَأْتيَ ُك ُم ال َْع َذ ُ
فلننتهز الفرصة ،ولنستجب لنصائح ربنا ،ولنبادر باالستغفار والتوبة ،واالستفادة من مثارها يف الدنيا
ت ُك َّل ِذي
اعا حسنًا إِلَى أَج ٍل ُّمس ًّمى وي ْؤ ِ ِ ِ ِ
َ َ َُ اسَتغْف ُروا َربَّ ُك ْم ثُ َّم تُوبُوا إِل َْيه يُ َمت ْ
ِّع ُكم َّمتَ ً َ َ قبل اآلخرة َ وأَن ْ
ض ٍل فَ ْ
ضلَهُ[ هود.]3 : فَ ْ
وخنتم احلديث عن هذا املظهر العظيم من مظاهر حب اهلل لعباده بقوله صلى اهلل عليه وسلم« :إن
76
تمهيــــــــــــدـ
عرض ما بين مصراعيه ما بين المشرق والمغرب ال يُغلق حتى تطلع الشمس من
ُ للتوبة بابًا
مغربها» .
() 1
1
() حسن ،رواه الطرباين ،وحسنه األلباين يف صحيح اجلامع ح (.)2177
77
ثامنًا :من مظاهر حب اهلل لك:
حلمه وصبره وستره لك
أخي.
مجيعا ال ختتلط عليه اللغات ،وال
مجيع ا أن اهلل عز وجل حي قيوم ال يغفل وال ينام ,أحاط بالناس ً
نعلم ً
يتوارى عليه شيء ولو كان يف قعر اجلبال أو قاع البحار.
مجيع ا ،يرى مكاننا ،ويسمع كالمنا ،ويعلم ما توسوس به أنفسنا َ ولََق ْد َخلَ ْقنَا ا ِإلنْ َسا َن َوَن ْعلَ ُم َما قريب منا ً
ُتوس ِوس بِ ِه َن ْفسهُ ونَحن أَقْرب إِلَي ِه ِمن حب ِل الْو ِر ِ
يد[ ق.]16 : ُ َ ْ ُ َ ُ ْ ْ َْ َ َْ ُ
ك
ب َعن َّربِّ َعلما َ و َما َي ْع ُز ُ
ال حيدث شيء يف أي مكان من األرض إال ويعرفه سبحانه ،وحييط به ً
اب ُّمبِي ٍ ِ ِ َصغََر ِمن َذلِ َ
ك َوالَ أَ ْكَبر إِالَّ في كتَ ٍ ض والَ ِفي َّ ِ ِ ٍِ ِ
ن[ يونس: َ الس َماء َوالَ أ ْ من ِّم ْث َقال َذ َّرة في األ َْر ِ َ
.]61
ال يغيب عنه – سبحانه – سقوط ورقة يابسة من شجرة وارفة يف ليلة مظلمة داخل غابة من الغابات
ط ِمن َو َرقَ ٍة إِالَّ الكثيفة َ و ِع ْن َدهُ َم َفاتِ ُح الْغَْي ِ
ب الَ َي ْعلَ ُم َها إِالَّ ُه َو َو َي ْعلَ ُم َما فِي الَْب ِّر َوالْبَ ْح ِر َو َما تَ ْس ُق ُ
اب ُّمبِي ٍن[ األنعام.]59 : س إِالَّ فِي كِتَ ٍ ْب َوالَ يَابِ ٍ ض َوالَ َرط ٍ ي ْعلَم َها والَ حبَّ ٍة فِي ظُلُم ِ
ات األ َْر ِ َ َ ُ َ َ
ومع هذا العلم وهذه اإلحاطة فإنه سبحانه قادر مقتدر ،ال يعجزه شيء أن يفعله إذا اراد أن يفعله إِنَّ َما
َق ْولُنَا لِ َش ْي ٍء إِذَا أ ََر ْدنَاهُ أَن َّن ُق َ
ول لَهُ ُك ْن َفيَ ُكو ُن[ النحل.]40 :
كان معنا
يقينًا -أخي – أن اهلل عز وجل مل يغب عنا ولو للحظةـ من حلظات حياتنا َ و َما تَ ُكو ُن فِي َشأ ٍْن َو َما
ضو َن فِ ِيه[ يونس.]61 : آن َوالَ َت ْع َملُو َن ِم ْن َع َم ٍل إِالَّ ُكنَّا َعلَْي ُك ْم ُش ُه ً
ودا إِ ْذ تُِفي ُ َت ْتلُو ِم ْنهُ ِمن ُقر ٍ
ْ
معىن ذلك أنه كان معي ومعك حني عصيناه.
كان معك حني أطلت النظر إىل غري حمارمك من النساء.
كان معك وقت أن مسعتـ مؤذن الفجر ينادي للصالة ،فلم جتب النداء بل تكاسلت وجتاهلت،
78
تمهيــــــــــــدـ
وأخلدت إىل النوم.
كان معك وأنت جتتهد يف إقناع اآلخرين بشيء تعلم يف قرارة نفسك أنه غري حقيقي ،وأنك تكذب
عليهم.
كان معي ومعك وقت كل معصية عصيناها ،وكل تقصري قصرناه ،وكان يقدر – سبحانه – على أن
يأخذ الواحد منا على احلال اليت كان عليها.
كان يقدر أن يأخذه وهو يكذب ..وهو يطلق بصره ..وهو حيسد غريه ..يأخذه يف حلظات شهادة
الزور أو حلظات تطاوله على والديه أو ....
اه ْم َعلَى
س ْخنَ ُ
شاءُ ل ََم َ
كان من السهل واليسري عليه سبحانه أن يأخذنا يف هذه األوضاع املشينة َ ول َْو نَ َ
ضيًّا َوالَ َي ْر ِجعُو َن[ يس.]67 :
استَطَاعُوا م ِ
ُ َم َكانَتِ ِه ْم فَ َما ْ
ولكنه مل يفعل ،بل تركنا نعصاه ،ونقصر يف حقه أكثر وأكثر.
ولكن ملاذا مل يفعل ذلك وهو القادر املقتدر؟!
اإلجابة واضحة؛ ألنه حيب عباده ويريد هلم أن يُنهوا حياهتم هناية سعيدة لذلك فهو حيلم ويصرب عليهم
ك لَ ُذو َم ْغ ِف َر ٍة لِّلن ِ
َّاس لعل حلظة تأيت عليهم يفيقون فيها من غفلتهم ،ويتوبون إليه فيتوب عليهم َ وإِ َّن َربَّ َ
َعلَى ظُل ِْم ِه ْم[ الرعد.]6 :
ِ ات أَن يَ ْخ ِس َ
السيِّئَ ِ ِ َّ ِ
اب
ض أ َْو يَأْتَي ُه ُم ال َْع َذ ُف اهللُ بِ ِه ُم األ َْر َ ين َم َك ُروا َّ تأمل معي قوله تعاىل :أَفَأَم َن الذ َ
ف[ النحل-45 : ْخ َذهم َعلَى تَ َخ ُّو ٍ
ين أ َْو يَأ ُ ُ ْ
ِ ِ ِ ِ
ْخ َذ ُه ْم في َت َقلُّب ِه ْم فَ َما ُهم ب ُم ْعج ِز َ ِم ْن َح ْي ُ
ث الَ يَ ْشعُ ُرو َن أ َْو يَأ ُ
.]47
يم" [النحل.]47 : لكنه مل يفعل ،ألنه كما جاء يف ختام اآلية األخرية "فَِإ َّن ربَّ ُكم لَر ُؤ ٌ ِ
وف َّرح ٌ َ ْ َ
نعم أخي القارئ ،فربنا رب حليم ،صبور ،ال يؤاخذ عباده بأفعاهلم السيئة ولو فعلـ ملا تنعم متنعم
سبُوا ل ََع َّج َل ِ ِ ك الْغَ ُفور ذُو َّ ِ
الر ْح َمة ل َْو ُي َؤاخ ُذ ُهم ب َما َك َ ُ ولتذوق اجلميع العذاب األليم َ و َربُّ َ
بيومه أو ليله َّ
اب[ الكهف.]58 :
ل َُه ُم ال َْع َذ َ
جاء يف األثر :ما من ليلة اختلط ظالمها ،وأرخى الليل سربال سرتها ،إال نادى اجلليل جل جاللهَ :من
79
جود ا واخلالئق يل عاصون وأنا هلم مراقب ،أكلؤهم يف مضاجعهم كأهنم مل يعصوين ،وأتوىل
أعظم مين ً
حفظهم كأهنم مل يذنبوا فيما بيين وبينهم ،أجود بالفضل على العاصي ،وأتفضل على املسيء.
من ذا الذي دعاين فلم أُلبَّه ،أم من ذا الذي سألين فلم أعطه ،من ذا الذي أناخ ببايب فنحيته(.)1
وكان ابن السماك يقول يف مناجاته:
تباركت يا عظيم ..لو كانت املعاصي اليت عصيتها طاعة أطعت فيها ما زاد على النعماء اليت تبتليها.
وإنك لتزيد يف اإلحسان إلينا كأن الذي أتيناه من اإلساءة إحسان.
فال أنت بكثرة اإلساءة منا تدع اإلحسان ،وال حنن بكثرة اإلحسان منك إلينا عن اإلساءة نقلع.
أبيت إال إحسانًا وأبينا إال إساءة واجرتاء.
() 2
فمن ذا الذي حيصي نعمك ويقوم بإحسانك وبأداء شكرك إال بتوفيقك ونعمك؟!
غضبة الكون
أخي القارئ.
واهلل مث واهلل لو قُدَّر ألحدنا أن يرى ما حيدث يف األرض كما يراه املأل األعلىـ الستشاط غضبًا ،وألحل
مجيعا.
على اهلل بتعجيل عقوبته ألهل األرض ً
أناسا يعيشون يف ملكـ اهلل.
ختيل أنك ترى ً
ويأكلون من رزقه.
وينامون آمنني يف حفظه.
مسخرة لديهم ومأمترة بأوامرهم.
واخلدم حتيط هبم من كل جانب َّ ..
مث بعد ذلك كله ال يذكرون من أكرمهم هبذا كله ,ال يشكرونه ،وال يعبدونه ،بل يعصون أوامره،
ولدا ،ومن قائل إن له
ويدعون عليه االدعاءات ,فمن قائل إن له ً
وجيحدون نعمه ،ويبارزونه باملعاصيَّ ،
شري ًكا ،ومن قائل إن هناك إهلًا غريه.
1
() شرح حديث لبيك اللهم لبيك البن رجب ص .138
2
() حسن الظن باهلل البن أىب الدنيا ص .63
80
تمهيــــــــــــدـ
ختيل أن هذا حيدث كل يوم ،بل يف كل وقت ،وختيل أنك ترى هذا كله ،فماذا سيكون رد فعلك؟!
سيكون بال شك رد الفعل الطبيعي الذي تعيشه كل املخلوقات اليت تشاهد ما يفعله اإلنسان من
جحود وعصيان ،وجترؤ على ربه.
سيكون رد فعلكـ كالبحر الذي يستأذن كل يوم أن يغرق ابن آدم لكثرة معاصيه ،وجرأته على ربه.
الستري
ومع حلمه العظيم وصربه سبحانه على عباده ،فإنه كذلك ستري ،يسرتهم وال يفضحهم رغم إساءاهتم
البالغة.
1
() أخرجه سعيد بن منصور وابن أىب شيبة وابن املنذر وأبو الشيخ كما يف الدر املنثور للسيوطي .3/45
81
ختيل – أخي القارئ -أن صديقك الذي حيبك وحتبه ،قد علم أنك قد حسدته على اخلري الذي أتاه..
ماذا ستكون مشاعره جتاهك؟!
ولو علم من اغتبته مبا ذكرته عنه ..بأي وجه سيلقاك بعد ذلك؟!
ولو علم الناس حقيقة أمري وأمرك ومدى تقصرينا يف جنب اهلل ،وجرأتنا على معاصيه أتراهم يُقبلون
علينا ويبتسمون يف وجوهنا؟ وهل سيلقون علينا السالم أصال؟!
َج ّل رمحات اهلل بعباده سرته هلم ،وعدم انكشاف هذا السرت أمام بعضهم البعض ،وإال ملا استطاعوا
إن من أ َ
أن يتعايشوا فيما بينهم ،أو يتوادوا ،أو يرتامحوا ،وملا أقدم بعضهم على مساعدة البعض ،ومن مثَّ يصبح اجلميع
فريسة سهلة للشيطان.
بل إنه سبحانه يستحثنا على سرت بعضنا البعض ،ووعد بعظيم اجلزاء ملن سرت أخاه.
يقول صلى اهلل عليه وسلم «ال يستر عبد عب ًدا في الدنيا إال ستره اهلل يوم القيامة»(.)1
هذه يف الدنيا ,أما يف اآلخرة فيستمر السرت لعباده املؤمنني.
قال صلى اهلل عليه وسلم« :إن اهلل تعالى يُدني المؤمن ،فيضع عليه كنفه ،وستره من الناس،
ويقرره بذنوبه ،فيقول :أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول :نعم أي رب ،حتى إذا قرره
بذنوبه ،ورأى في نفسه أنه قد هلك ،قال :فإني قد سترتها عليك في الدنيا ،وأنا أغفرها لك اليوم ،ثم
يُعطى كتاب حسناته بيمينه»(.)2
1
() رواه مسلم.
2
() صحيح اجلامع الصغري ح (.)1894
82
تمهيــــــــــــدـ
باملعاصي ،فناد يف الناس حىت خيرج من بني أظهركم ،فبه منعتكم.
فقام مناديًا وقال :أيها العبد العاصي الذي يبارز اهلل منذ أربعني سنة ,أخرج من بني أظهرنا ،فبك
ُمنعنا املطر.
إهلي أرين هذا العبد الطائع .فقال :يا موسى إيّن مل أفضحه وهو يعصيين ،أأفضحه وهو
فقال()1موسىّ :
يطيعين؟! .
1
() كتاب التوابني البن قدامة املقدسي .70 ،69
83
تاسعا :خطاب ـ ـ ــه الودود
ً
الذي يخاطب ــك به
ْك اهلل عز وجل ميلك كل شيء يف هذه األرض اليت نسكنها ،والسماء اليت تراها أعيننا ِ
هلل ُمل ُ
ض َو َما ِفي ِه َّن َو ُه َو َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء قَ ِد ٌير[ املائدة.]120 : السماو ِ
ات َواأل َْر ِ َّ َ َ
وكل املخلوقاتـ اليت نراها من جبال وأهنار وحبار وأشجار ورمال وأحجار ودواب و...
ض طَو ًعا و َكرها ِ ِ هلل يَ ْس ُج ُد َمن فِي َّ
كل هذا خاضع هلل عز وجل و ِ
وظالل ُُهم ًْ الس َم َاوات َواأل َْر ِ ْ َ
َص ِ
ال[ الرعد.]15 : بِالْغُ ُد ِّو َواآل َ
وخضوع الكون كله هلل عز وجل خضوع سرمدي يغلّفه احلمد إلتاحته سبحانه الفرصة للوجود من العدم،
الر ْع ُد بِ َح ْم ِد ِه
واستمرار بقائه وحفظه ،ويغلِّف ه كذلك اإلجالل لعظمته ،والرهبة من جربوته وسلطانه َ ويُ َسبِّ ُح َّ
َوال َْمالَئِ َكةُ ِم ْن ِخي َفتِ ِه[ الرعد.]13 :
ومن مظاهر اإلجالل والرهبة واخلضوع هلل عز وجل عبودية املالئكة له سبحانه ،فهناك بعضهم يف حالة من
الركوع منذ أن خلقه اهلل عز وجل ،ومنهم من هو يف حالة السجود له سبحانه منذ أن خلقهم َ ولَهُ َمن فِي
ِ ِ ِ ِ السماو ِ
ض َو َم ْن ع ْن َدهُ الَ يَ ْستَ ْكبِ ُرو َن َع ْن عبَ َادتِه َوالَ يَ ْستَ ْحس ُرو َن يُ َسبِّ ُحو َن اللَّْي َل َوالن َ
َّه َار الَ ات َواأل َْر ِ َّ َ َ
َي ْفُت ُرو َ%ن[ األنبياء.]20 ،19 :
من أنت؟
هذا اإلله العظيم بعظمته وجربوته ,جبالله وكماله ,بعزه وسلطانه كيف خياطبك أنت؟! ومن أنت؟!
1
() رواه البيهقي يف السنن واخلطيب وابن عساكر ،انظر كنز العمال (.)29836
84
تمهيــــــــــــدـ
أنت ذرة يسرية يف ملكه ال تساوي شيئًا جبوار جبل من اجلبال أو حبر من البحار ،بل إن األرض كلها مبن
عليها بالنسبة ململكته ال تساوي مقدار حبة رمل من صحراء شاسعة ال حدود هلا.
وباإلضافة إىل ذلك فال تنس أن ربك هو الذي أوجدك من العدم ،فقبل شهور من والدتك مل تكن
مذكورا.
ً شيئًا
وتذكر أن حياتك كلها متوقفة على إمداداته ،ولو توقفت تلك اإلمدادات النتهت حياتك.
ما املتوقع أن يكون خطاب العزيز للذليل ،والغين للفقري،ـ والقوي للضعيف ،والعظيم للحقري ،والكبري
للصغري،ـ واملعطي لآلخذ ،والقادر للعاجز.
أليس من املتوقع أن يكون اخلطاب املوجه إلينا يتناسب مع صفاته سبحانه وصفاتنا؟
أليس من املتوقع من إله عظيم له هذا امللك واجلالل والكمال أن يكون خطابه عبارة عن تعريف
مبهمتنا مع بيان باألوامر املطلوبة منا وكفى؟!
إنه خطاب يطمئن من يسمعه ويدفعه ويستدرجه للفرار يف اجتاه قائله ..الفرار إىل اهلل ،ال الفرار منه.
ولنبدأ بصيغة النداء:
تأمل نداءه سبحانه للعصاة واجملرمني الذي حيادونه ،وجياهرون بارتكاب كل ما يغضبه ،ويصرون على
َس َرفُوا َعلَى أَ ْن ُف ِس ِه ْم الَ َت ْقنَطُوا ِمن
ين أ ْ
اد َّ ِ
ي الذ َ
ِ ِ
ذلك ،بل ويستهزئون باملؤمنني ..مباذا يناديهم :يَا عبَ َ
الذنُوب ج ِميعا إِنَّه هو الْغَ ُفور َّ ِ ِ ِ ِ
يم[ الزمر.]53 :الرح ُ ُ َّر ْح َمة اهلل إِ َّن اهللَ َي ْغف ُر ُّ َ َ ً ُ ُ َ
85
إنه يناديهم بـ :يا عبادي ،بكل ما حيمله هذا النداء من ود ،وتلطف ،وحنان .مث انظر إىل ندائه للبشر
ِ ِ ِ
الد ْنيَا َوالَ َيغَُّرنَّ ُك ْم باهلل الْغَ ُر ُ
ور[ فاطر.]5 : َّاس إِ َّن َو ْع َد اهلل َح ٌّق فَالَ َتغَُّرنَّ ُك ُم ال َ
ْحيَاةُ ُّ مجيعا :يَا أ َُّي َها الن ُ
ً
ولدا وزوجة – حاشاه -يناديهم بقوله :يا زورا وهبتانًا أن له ً
وتأمل نداءه للنصارى الذين ادعوا عليه ً
أهل الكتاب ،فيشعرهمـ بأن هناك صلة قوية بينهم وبينه ،وأهنم ليسوا ببعيدين عنه.
مث تأمل وتأمل نداءه لليهود الذين ارتكبوا من اآلثام ،ومظاهر العلو واالستكبار ما ارتكبوا ..قتلوا
األنبياء ،وعبدوا العجل ،وحاربوا املسيح – عليه السالم – وكذبوا مبحمد صلى اهلل عليه وسلم و ...ومع
ذلك يناديهم فيقول هلم «يا بين إسرائيل» ..يا أبناء النيب إسرائيل ..نداء لطيف رقيق من املفرتض أن
يستثري مشاعرهم ،ويستدرجهم إلصغاء مسعهم ملا يتضمنه اخلطاب اإلهلي.
جميعا فاستغفروني أغفر لكم» إنه «يا عبادي إنك تخطئون باليل والنهار وأنا أغفر الذنوب ً
خطاب عجيب يناشدنا فيه اهلل عز وجل أن نستغفره ليغفر لنا ...أن نستفيد بالفرصة املتاحة أمامنا قبل أن
حيل بنا األجل.
ففي كل ليلة وباألخص ثلثها األخري يوجِّه اهلل عز وجل نداءه لعباده ويقول هلم :من يدعوين
فأستجيب له؟ من يسألين فأعطيه؟ من يستغفرين فأغفر له؟! (.)1
1
() رواه البخاري.
2
() رواه مسلم.
86
تمهيــــــــــــدـ
دوما أن حتسن به الظن فهو لن يضيعك ،ولن يرتكك ،فمراده دخولك
ماذا تقول ملن يطلب منك ً
اجلنة .قال صلى اهلل عليه وسلم «ال يموتن أحد منكم إال وهو يحسن الظن باهلل تعالى» .
() 1
فعلى سبيل املثال :اإلنفاق يف سبيل اهلل عمل عظيم يطهر نفس صاحبه من الشح ،ويسمو هبا إىل
السماء ،وخيلصها من جواذب األرض ،ومن مث يصبح من اليسري عليها العمل لآلخرة والزهد يف الدنيا
مبفهومه الصحيح.
هذا العالج الناجع للنفس البشرية يريد اهلل عز وجل أن جيعلنا نتناوله بكثرة حىت ننتفع به ،لذلك فهو
حيببه لنا ،ويرغبنا يف القيام به بأساليب شىت ،من أمهها رصد اجلوائز الكبرية واملغرية ملن ينفق من ماله يف
ضا حسنا َفي َ ِ ِ
َج ٌر َك ِر ٌ
يم ضاع َفهُ %لَهُ َولَهُ أ ْ سبيل مرضاته كما قال عز من قائلَ :من َذا الَّذي ُي ْق ِر ُ
ض اهللَ َق ْر ً َ َ ً ُ
[احلديد.]11 :
كثريا يف القرآنَ :و َسا ِرعُوا إِلَى َمغْ ِف َر ٍة ِّمن َّربِّ ُك ْم ويتكرر هذا النوع من اخلطاب الذي يستثري اهلمم ً
ين من هم؟! ِّت لِل ِ ات واألَر ِ َو َجن ٍَّة َع ْر ُ
ْمتَّق َض أُعد ْ ُ الس َم َاو ُ َ ْ ُ ض َها َّ
سنِين ِ َّاس َواهللُ يُ ِح ُّ
ين َع ِن الن ِ ِ ِِ ِ الَّ ِذين ي ْن ِف ُقو َن فِي َّ ِ
ب ال ُْم ْح َ ين الْغَْي َظ َوال َْعاف َ الس َّراء َوالض ََّّراء َوالْ َكاظم َ َُ
ِ ِ ِ ِ ِ َّ ِ
َّ
وب إال اهللُ َول َْم ُّ ِ
اسَتغْ َف ُروا ل ُذنُوبه ْم َو َمن َيغْف ُر الذنُ َ ين إِذَا َف َعلُوا فَاح َشةً أ َْو ظَلَ ُموا أَْن ُف َس ُه ْم ذَ َك ُروا اهللَ فَ ْ َوالذ َ
َّات تَ ْج ِري ِمن تَ ْحتِ َها األ ْن َه ُار
ك َج َزا ُؤ ُهم َّم ْغ ِف َرةٌ ِّمن َّربِّ ِه ْم َو َجن ٌ
ص ُّروا َعلَى َما َف َعلُوا َو ُه ْم َي ْعلَ ُمو َن أُولَئِ َ يِ
ُ
ِِ َخالِ ِد ِ
ين[ آل عمران.]136 ،133 : َج ُر ال َْعامل َ ين ف َيها َونِ ْع َم أ ْ
َ
النصائح الغالية
أتَ ْذكر كم من املرات مسعت فيها نصائح غالية من أبويك ومها يوجهانك من خالهلا حنو املعايل،
وحيذرانك من العقبات اليت قد تعرتض طريقك؟
1
() رواه مسلم.
87
هذه النصائح ما انطلقتـ من ألسنتهما إال بدافع احلب والشفقة واحلرص على أن تكون يف أحسن
حال.
وكذلك يفعل اهلل مع عباده مع الفارق الكبري بني نصائحه ونصائحهم ،وبني حبه وحبهم ،وبني علمه
وإحاطته مبا يصلحك وبني علمهم.
مجيعا والذي يقول فإن كنت تريد دليال على ذلك فتأمل معي هذا اخلطاب الناصح منه سبحانه للناس ً
ور إِ َّن َّ ِ ِ ِ
الش ْيطَا َن الد ْنيَا َوالَ َيغَُّرنَّ ُك ْم باهلل الْغَ ُر ُ َّاس إِ َّن َو ْع َد اهلل َح ٌّق فَالَ َتغَُّرنَّ ُك ُم ال َ
ْحيَاةُ ُّ فيه يَا أ َُّي َها الن ُ
الس ِعي ِر[ فاطر.]6 ،5 : ِ ِ ِ ِ
اب َّ َص َح ِ% لَ ُك ْم َع ُد ٌّو فَاتَّخ ُذوهُ َع ُد ًّوا إِنَّ َما يَ ْدعُو ح ْزبَهُ ليَ ُكونُوا م ْن أ ْ
[النساء: ْح ِّق ِمن َّربِّ ُك ْم فَ ِآمنُوا َخ ْي ًرا لَّ ُك ْم
ول بِال َ
الر ُس ُ
اء ُك ُم َّ
َّاس قَ ْد َج َ
وكذلك قوله هلم :يَا أ َُّي َها الن ُ
.]170
وانظر إىل اخلطاب املوجه ألهل الكتاب وما حيمل يف طياته من نصائح غالية هلم على الرغم مما فعلوه
ِ ِ ِ ِِ من كفر وعصيان :يا أ َْهل ال ِ
ْح َّق إِنَّ َما ال َْمس ُ
يح اب الَ َت ْغلُوا في دين ُك ْم َوالَ َت ُقولُوا َعلَى اهلل إِالَّ ال َ ْكتَ ِ
َ َ
اها إِلَى مريم وروح ِّم ْنهُ فَ ِآمنُوا بِ ِ
اهلل َو ُر ُسلِ ِه َوالَ َت ُقولُوا ثَالَثَةٌ ول ِ ِ
اهلل َو َكل َمتُهُ أَلْ َق َ يسى ابْ ُن َم ْريَ َم َر ُس ُ ِ
َْ ََ َ ُ ٌ ع َ
ا ْنَت ُهوا َخ ْي ًرا لَّ ُك ْم[ النساء.]171 :
88
تمهيــــــــــــدـ
ْجٍأ َي ْو َمئِ ٍذ َو َما لَ ُكم ِّمن ِ ِ ِ ِ ِ
استَجيبُوا ل َربِّ ُكم ِّمن َق ْب ِل أَن يَأْت َي َي ْو ٌم الَّ َم َر َّد لَهُ م َن اهلل َما لَ ُكم ِّمن َّمل َ
ْ
نَّ ِكي ٍر[ الشورى.]47 :
فالنفس ال حتب مساع هذه الكلمة بكثرة من الطرف الذي خياطبها ،ومع أن اهلل عز وجل هو الذي
خلقنا من العدم ،وأعطانا من النعم ما ال يُعد وال حُي صى ،وأن من حقه أن حيدثنا بضمري املتكلم «أنا» وهو
يعرفنا بنفسه وبنعمه وبقيوميته وقدرته و...
إال أنه سبحانه ال يفعل ذلك ،بل يتحدث عن نفسه – يف غالب القرآن – بضمري الغائب «هو» ُ ه َو
سِّي ُر ُك ْم فِي الَْب ِّر َوالْبَ ْح ِر[ يونس.]22 : َّ ِ
الذي يُ َ
ُ ه َو الَّ ِذي يُ ِري ُك ْم آيَاتِِه[ غافر.]13 :
ِ ضياء والْ َقمر نُورا وقَدَّرهُ منَا ِز َل لَِت ْعلَموا َع َد َد ِّ ِ
الشم ِ َّ ِ
اب[ يونس:س َ%
ين َوالْح َ
السن َ ُ س َ ً َ ََ ً َ َ َ ُ ه َو الذي َج َع َل َّ ْ َ
89
.]5
فأي رب رءوف ودود حي كرمي هو ربنا.
ما بال أقوام؟!
ومن صور مراعاته سبحانه لطبيعة النفس البشرية توجيهه الغري مباشر لعباده يف خطابه هلم ،فحني يريد
حتذير املؤمنني من القيام بفعل ما ،فإنه ال يتوجه مباشرة بذلك – يف غالب األحيان – بل حيدثهم عن أناس
ويشهدهم عليهم ،وجيعلهم يستنكرون أفعاهلم ،مع أهنم قد يكونون هم املعنيني آخرين – بصيغة النكرة – َّ
ِ ِ
وها[ "%إبراهيم ]34 :اخلطاب هنا موجه لنا
ص َهبذا التحذير ،ومن ذلك قوله تعاىلَ " :وإِن َتعُدُّوا ن ْع َمةَ اهلل الَ تُ ْح ُ
بأن علينا أن جنتهد يف إحصاء نعم اهلل كصورة من صور الشكر ،ومن املفرتض أن يكون التحذير الذي
تتضمنه اآلية بعد ذلك من مغبة عدم ذكر النعم حىت ال نقع يف دائرة الظلم والكفر موجه لنا كذلك ،فهل
جاء اخلطاب حيمل هذا املعىن املباشر.
وها إِ َّن
ص َ ال ،مل حيدث ذلك ،بل جاء وكأنه خياطب شخصا آخر :وإِن َتعدُّوا نِ ْعم َ ِ
ت اهلل الَ تُ ْح ُ َ َ ُ ً
وم َك َّف ٌ
ار[ إبراهيم.]34 : ا ِإلنْ َ
سا َن لَظَلُ ٌ
اخلطاب موجه لإلنسان ,وكأنه شخص آخر بعيد ال نعرفه ،مع أن اخلطاب يف بدايته موجه لنا ،ومما ال
شك فيه أن هذا التلطف العجيب يف التوجيه والنصح له دور كبري يف استقبال النصيحة بنفس هادئة.
لماذا العقاب؟%
قوما يف
فردا أو ًدوما السبب الذي من أجله عاقب ً ومن مظاهر خطابه املطمئن لعباده أنه يذكر هلم ً
املاضي ،مع أنه اإلله العظيم ملك امللوك الذي ال ينبغي أن يُسأل عما يفعل ،لكنه يف نفس الوقت الرب
فص ِل يف األسباب
الودود الذي حيب عباده ويريد منهم أن يفروا إليه ،ال أن يفروا منه ،لذلك تراه سبحانه يُ َّ
اليت أدت إىل عقوبة العصاة ،وأنه قد صرب عليهم وأمهلهم وأعطاهم الفرصة تلو الفرصة ،ولكنهم هم الذين
أبوا العودة إليه ،وأصروا على طغياهنم ،واستكربوا عليه سبحانه ،وحاربوا عباده ،فاستدعوا بأفعاهلم الكثرية
الظاملة غضب احلليم عليهم َ و َما ُكنَّا ُم ْهلِ ِكي الْ ُق َرى إِالَّ َوأ َْهلُ َها ظَالِ ُمو َن[ القصص.]59 :
ومع العقاب املستحق للظاملني ،والذي يقع بعد طول إمهال ،جند التعقيب القرآين :يَا َح ْس َرةً َعلَى
90
تمهيــــــــــــدـ
ول إِالَّ َكانُوا بِ ِه يَ ْسَت ْه ِزئُو َن[ يس .]30 :فاهلل عز وجل ال يرضى لعباده هذا املصري، ال ِْعب ِ
اد َما يَأْتِي ِهم ِّمن َّر ُس ٍَ
وأهنم هم الذين أبوا أو استكربوا إال أن يسريوا إليه ،ولو تأملنا القرآن لوجدنا أن هذا األمر واضح فيه متام
دوما أسباب العقوبة اليت يعاقب
الوضوح ،وأن اهلل عز وجل ال يظلم أحدا ،لذلك جنده سبحانه يذكر لنا ً
هبا الناس.
ال ُكلُوا ِمن ِّر ْز ِق تأمل معي قوله تعاىل :لََق ْد َكا َن لِسبٍأ ِفي مس َكنِ ِهم آيةٌ جنَّتَ ِ
ان َعن يَ ِمي ٍن و ِشم ٍ
َ َ َْ ْ َ َ ََ
ور. ب غَ ُف ٌ
َربِّ ُك ْم َوا ْش ُك ُروا لَهُ َب ْل َدةٌ طَيِّبَةٌ َو َر ٌّ
فماذا فعل أهل سبأ؟ هل شكروا هذه النعم العظيمة؟ مل يفعلوا ذلك ،بل أكلوا من رزق رهبم ومل
ضوا فَأ َْر َسلْنَا َعلَْي ِه ْم َس ْي َليشكروا له؟ وتبطروا على نعمه ،فاستدعوا العقابـ من اهلل عز وجل هلم فَأَ ْع َر ُ
اه ْم بِ َجنََّت ْي ِه ْم َجنََّت ْي ِن َذ َواتَ ْي أُ ُك ٍل َخ ْم ٍط َوأَثْ ٍل َو َش ْي ٍء ِّمن ِس ْد ٍر قَلِ ٍ ِ
يل مث تأيت حيثيات هذه ال َْع ِرم َوبَ َّدلْنَ ُ
ور[ سبأ.]17 -15 : اه ْم ب َما َك َف ُروا ويتلوها اخلطاب املطمئن َ و َه ْل نُ َجا ِزي إِالَّ الْ َك ُف َ
ك َج َز ْينَ ُ ِ العقوبة ذَلِ َ
وتأمل قوله تعاىل وهو حيدثنا عن اليهود وملاذا عاقبهم مبا عاقبهم ،وكيف أنه صرب عليهم طويال،
الس َم ِاء َف َق ْد
اب أَن ُتَن ِّز َل َعلَْي ِه ْم كِتَابًا ِّم َن َّ
ْكتَ ِ ُك أ َْهل ال ِ
ولكنهم هم الذين أصروا على طغياهنم يَ ْسأَل َ ُ
اع َقةُ بِظُل ِْم ِه ْم ثُ َّم اتَّ َخ ُذوا ال ِْع ْج َل ِمن َب ْع ِد
الص ِ
َخ َذ ْت ُه ُم َّ وسى أَ ْكَب َر ِمن ذَلِ َ
ك َف َقالُوا أَ ِرنَا ِ
اهلل َج ْه َرةً فَأ َ َسأَلُوا ُم َ
ك. وسى ُس ْلطَانًا ُّمبِينًا تأمل قولهَ :ف َع َف ْونَا َعن ذَلِ َ ك َوآَت ْينَا ُم َ ات َف َع َف ْونَا َعن ذَلِ َ
اء ْت ُه ُم الَْبِّينَ ُ
َما َج َ
ومتضي اآليات تعدد مظاهر حلم اهلل عليهم وتعدد كذلك مظاهر طغياهنم َ و َر َف ْعنَا َف ْو َق ُه ُم الطُّ َ
ور
هم ِّميثَاقًا غَلِيظًا ت وأ َ ِ بِ ِميثَاقِ ِهم و ُقلْنَا ل َُهم ا ْد ُخلُوا الْباب س َّج ًدا و ُقلْنَا ل َُهم الَ َت ْع ُدوا فِي َّ ِ
َخ ْذنَا م ْن ُ الس ْب َ ْ َ َ ُ َ ُ َْ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ْف بَ ْل طَبَ َع اهللُ
وبنَا غُل ٌ اء بِغَْي ِر َح ٍّق َو َق ْول ِه ْم ُقلُ ُ ِ ِ
فَب َما َن ْقض ِهم ِّميثَا َق ُه ْم َو ُك ْف ِرهم بآيَات اهلل َو َق ْتل ِه ُم األَنْبيَ َ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
يما[ النساء.]156 -154 : َعلَْي َها ب ُك ْف ِره ْم فَالَ ُي ْؤمنُو َن إِالَّ قَليالً َ وب ُك ْف ِره ْم َو َق ْول ِه ْم َعلَى َم ْريَ َم ُب ْهتَانًا َعظ ً
وكأنه يطلب منك الشهادة على الناس:
ويف بعض األحيان نستشعر بأن اخلطاب املتوجه إلينا يطلب منا الشهادة على فعل من األفعال املشينة،
ن[ يونس: س ُه ْم يَظْلِ ُمو َ
َّاس أَْن ُف َ
ِ
َّاس َش ْيئًا َولَك َّن الن َ
ِ
كل ذلك لتزداد اطمئنانًا بأن اهلل عز وجل الَ يَظْل ُم الن َ
صدِّي َقةٌ َكانَاالرسل وأ ُُّمهُ ِ ول قَ ْد َخلَ ْ ِ ِ ِ يح ابْ ُن َم ْريَ َم إِالَّ َر ُس ٌ ِ
ت من َق ْبله ُّ ُ ُ َ ]44ومن ذلك قوله تعاىلَ :ما ال َْمس ُ
ف ُنبيِّن ل َُهم اآلَي ِ ِ
ات ثُ َّم انْظُْر أَنَّى ُي ْؤفَ ُكو َن[ املائدة .]75 :وقولهَ :و َما َو َج ْدنَا يَأْ ُكالَن الطَّ َع َام انْظُْر َك ْي َ َ ُ ُ َ
91
ِِ ٍ ِ
أل ْكثَ ِرهم ِّم ْن َع ْهد َوإِن َو َج ْدنَا أَ ْك َث َر ُه ْم لََفاسق َ
ين[ األعراف.]102 :
مواساته للمبتلين
ومن عجيب خطابه سبحانه وتعاىل لعباده مواساته هلم عندما حيدث هلم مكروه بسبب ذنوهبم أو
تقصريهم.
فعلى سبيل املثال :عندما خالف الرماة أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وحدثت اهلزمية جند أن اخلطاب
مؤزرا ولكنهم نصرا ً القرآين خيفف عن الصحابة آثار ما حدث هلم ،ويبني األسباب ،وأن رهبم نصرهم يف البداية ً
ص َدقَ ُك ُم اهللُ َو ْع َدهُ إِ ْذ تَ ُح ُّسو َن ُه ْم بِِإ ْذنِِه َحتَّى إِ َذا
هم الذين اختلفوا وخالفوا أمر رسوهلم فكان ما كانَ :ولََق ْد َ
الد ْنيَا َو ِم ْن ُكم َّمن يُ ِري ُدص ْيتُم ِّمن َب ْع ِد َما أ ََرا ُكم َّما تُ ِحبُّو َن ِم ْن ُكم َّمن يُ ِري ُد ُّ األم ِر َو َع َ
ِ
فَشلْتُ ْم َوَتنَ َاز ْعتُ ْم في ْ
ِ
ين[ آل عمران.]152 : ض ٍل َعلَى ال ُْم ْؤ ِمنِ َ% ص َرفَ ُك ْم َع ْن ُه ْم لِيَْبتَلِيَ ُك ْم َولََق ْد َع َفا َع ْن ُك ْم َواهللُ ذُو فَ ْ ِ
اآلَخ َر َة ثُ َّم َ
ومع بيانه سبحانه ألسباب هزمية املؤمنني وأهنم هم الذين تسببوا يف ذلك إال أنه يواسيهم ،ويضمد جراحهم
ين إِن يَ ْم َس ْس ُك ْم َق ْر ٌح َف َق ْد ِِ
بكالم يقطر حنانًا وشفقةَ :والَ تَ ِهنُواَ %والَ تَ ْح َزنُوا َوأَْنتُ ُم األَ ْعلَ ْو َن إِ ْن ُك ْنتُم ُّم ْؤمن َ
َّاس ولِيعلَم اهلل الَّ ِذين آمنُوا ويت ِ
َّخ َذ ِم ْن ُك ْم ُش َه َد َاء َواهللُ الَ س الْ َق ْو َم َق ْر ٌح ِّم ْثلُهُ َوتِل َ
ْك األيَّ ُام نُ َدا ِول َُها َب ْي َن الن ِ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َ َم َّ
ي ِح ُّ ِ ِ
ين[ آل عمران.]10 ،139 : ب الظَّالم َ ُ
يل ِ
اهلل ين قُتِلُوا فِي َسبِ ِ َّ ِ
سبَ َّن الذ َ ويطمئنهم على إخواهنم الشهداء بأهنم يف أحسن حالَ :والَ تَ ْح َ
ْح ُقوا ِ َّ ِ ِ أَمواتًا بل أَحياء ِع ْن َد ربِّ ِهم ير َزقُو َن فَ ِر ِحين بِما آتَاهم اهلل ِمن فَ ْ ِ ِ
َم َيل َ
ين ل ْضله َويَ ْستَْبش ُرو َن بالذ َ َ َ ُُ ُ َ ْ ُْ َْ َ ْ َْ ٌ
يع ِ ض ٍل َوأ َّ ِ ٍ ِ ِ بِ ِهم ِّم ْن َخل ِْف ِه ْم أَالَّ َخ ْو ٌ
ف َعلَْي ِه ْم َوالَ ُه ْم يَ ْح َزنُو َن يَ ْستَْبش ُرو َن بِن ْع َمة ِّم َن اهلل َوفَ ْ
َن اهللَ الَ يُض ُ
ين[ آل عمران.]171 -169 : ِِ
َج َر ال ُْم ْؤمن َ
أْ
وفي النهاية:
ويف هناية احلديث عن هذا املظهر العظيم من مظاهر حب اهلل لنا ولعباده أمجعني أتركك أخي القارئ
مع هذا احلديث القدسي لكي تقرأه وتعيش معه بعقلكـ ومشاعرك:
92
تمهيــــــــــــدـ
إلي.
شيء َّ
إلي تلقيته من بعيد .ومن أعرض عني ناديته من قريب .ومن ترك ألجلي أعطيته فوق
من أقبل َّ
المزيد .ومن أراد رضاي أردت ما يريد .ومن تصرف بحولي وقوتي ألنت له الحديد.
أهل ذكري أهل مجالستي ،وأهل شكري أهل زيادتي ،وأهل طاعتي أهل كرامتي ،وأهل معصيتي
إلي
ال أُقنَّطهم من رحمتي ،إن تابوا فأنا حبيبهم ،فإني أحب التوابين وأحب المتطهرين ،وإن لم يتوبوا َّ
فأنا طبيبهم .أبتليهم بالمصائب ،ألطهرهم من المعايب.»...
***
93
عاشرا :من مظاهر حب اهلل لك:
ً
ترغيبــك وترهيبك
ليس ٍ
خباف على أحد أن النفس البشرية إذا ما ُر َّغبت يف فعل شيء ما ،وعلمت مبا ينتظرها من جزاء
حسن نظري قيامها هبذا الفعل فإهنا تتشجع ،وتقدم عليه بقدر ما تستثار فيها مشاعر الرغبة.
هذه خاصية أصيلة من خصائص النفس البشرية ,هذه اخلاصية هلا دور كبري يف إقدامـ املرء على أداء
العمل أو إحجامه عنه ،ففي احلديث «من خاف أدلج ،ومن أدلج بلغ المنزل ،أال إن سلعة اهلل غالية ،إال
إن سلعة اهلل الجنة»(.)1
التربية الربانية
وألنه سبحانه هو الذي خلق فينا هذه اخلاصية ،فإنه يستخدم أسلوب الرتغيب والرتهيب يف تربيتنا
وتوجيهنا حنو املبادرة لفعلـ اخلري واجتناب فعل الشر.
تأمل معي قوله تعاىل :وما نُر ِسل بِاآلَي ِ
ات إِالَّ تَ ْخ ِوي ًفا[ اإلسراء.]59 :ََ ْ ُ َ
فاآلية تدل داللة واضحة على أن اهلل سبحانه وتعاىل خيوفنا لنخاف ونرتك طريق الضالل ونتجه حنو
صراطه املستقيم فندخل اجلنة.
ف اهللُ بِ ِه انظر مثال إىل قوله تعاىل :ل َُهم ِّمن َف ْوقِ ِه ْم ظُلَ ٌل ِّم َن النَّا ِر َو ِمن تَ ْحتِ ِه ْم ظُلَ ٌل ذَلِ َ
ك يُ َخ ِّو ُ
1
() صيح ،صحيح األلباين يف صحيح اجلامع ح (.)6232
2
() فيض القدير .6/159
94
تمهيــــــــــــدـ
ادهُ يا ِعب ِ
اد فَ َّات ُق ِ
ون[ الزمر.]16 : ِ
عبَ َ َ َ
أرأيت صيغة اخلطاب :ذلك الذي خيوف اهلل به عباده ..يا عباد فاتقون.
فمع أن اآلية تتحدث عن النار وما فيها من عذاب ،إال أهنا حتمل يف طياهتا دالالت عظيمة عن حب
اهلل لعباده ،وكيف ال وحنن نلمح فيها مناشدة من اهلل عز وجل لعباده بأن خيافوا ،وحيذروا عقابه ألنه ال
يريد هلم أن يدخلوا هذه النار.
هذا احلوار بني أهل النار وأهل اجلنة مل يتم حىت اآلن ،فلماذا يعرضه اهلل لنا ويسرده هبذا التفصيل؟!
ملاذا حيتل احلديث عن القيامة واجلنة والنار هذه املساحة الواسعة من القرآن؟!
أال توافقين -أخي القارئ -أن هذا التفصيل يف عرض اجلنة وكأننا نراها رأي العني ،وكأن أهلها قد
سكنوها وبدءوا يف التمتع مبا فيها من نعيم ,أال توافقين أن الغرض من ذلك هو استثارة رغبتنا لدخوهلا ومن
مثَّ الوفاء حبقها والسباق حنوها؟!
وكذلك عرض النار هبذه الصورة البشعة الكريهة ،املنفرة لنخاف منها وجنتهد يف االبتعاد عنها؟!.
95
وتأكيدا على هذا املعىن أتركك مع هذه اآليات لتقرأها وتتدبر معانيها.
ً
وم َ فواكِهُ و ُهم ُّمكْرمو َن فِي جن ِ
َّات الن َِّع ِيم ين أُولَئِ َ ِ إِالَّ ِعب َ ِ
َ َُ ك ل َُه ْم ِر ْز ٌق َّم ْعلُ ٌ َ َ اد اهلل ال ُْم ْخلَص َ َ
ِ ِ ِّ ٍ َّ ِ ِ ِ ِ ِ
ين الَ ف َيها غَ ْو ٌل َوالَ ُه ْم َع ْن َها لشا ِرب َ اء لَذة ل َّ ضَ ْس ِّمن َّمعي ٍن َ ب ْي َ اف َعلَْيه ْم ب َكأ ٍ ين يُطَ ُ َعلَى ُس ُر ٍر ُّمَت َقابل َ
ِ ِ ي ْنزفُو َن و ِعن َد ُهم قَ ِ
اءلُو َن سَ ض َيتَ َ ض ُه ْم َعلَى َب ْع ٍ ض َّمكْنُو ٌن فَأَقْبَ َل َب ْع ُ ات الطَّْرف ع ٌ
ين َ كأ ََّن ُه َّن َب ْي ٌ اص َر ُ ْ َ َُ
ِ ِ
ين أَإِ َذا م ْتنَا َو ُكنَّا ُت َرابًا َوعظَ ًاما أَإِنَّا ِ ِ ول أَإِنَّ َ ِ ِ
صدِّق َ ك لَم َن ال ُْم َ ين َ ي ُق ُال قَائ ٌل ِّم ْن ُه ْم إِنِّي َكا َن لي قَ ِر ٌ قَ َ
دت ل َُت ْر ِدي ِن َ ول َْوالَ اهلل إِن كِ َّ ال تَ ِ ْج ِح ِيم قَ َ ِ ِ ِ ل ََم ِدينُو َن قَ َ
ال َه ْل أَْنتُم ُّمطَّلعُو َن فَاطَّلَ َع َف َرآهُ في َس َواء ال َ
ين إِ َّن َه َذا ل َُه َو ِ ِ
ين إِالَّ َم ْوَتَتنَا األُولَى َو َما نَ ْح ُن ب ُم َع َّذب َ
ِ ِ
ين أَفَ َما نَ ْح ُن ب َميِّت َ نت ِم َن ال ُْم ْح َ
ض ِر َ نِ ْع َمةُ َربِّي لَ ُك ُ
الْ َفوز الْع ِظيم لِ ِمث ِل ه َذا َفلْيعم ِل الْع ِاملُون أَ َذلِك خير ُّنزال أَم شجرةُ َّ ِ
اها ِف ْتنَةً
الزقُّوم إِنَّا َج َعلْنَ َ َ ٌَْ ُ ً ْ َ ََ ََْ َ َ ُْ َ ُ ْ َ
اطي ِن فَِإ َّن ُه ْم آلَكِلُو َن ِم ْن َها الشي ِ
وس َّ َ ْجح ِيم طَلْعُ َها َكأَنَّهُ ُر ُؤ ُ
لِّلظَّالِ ِمين إَِّنها َشجرةٌ تَ ْخرج فِي أَص ِل ال ِ
ْ َ َ َ ََ ُ ُ
ْج ِح ِ ِ فَمالِئُو َن ِم ْن َها الْبطُو َن ثُ َّم إِ َّن ل َُهم َعلَْي َها لَ َ ِ ِ
يم[ الصافات،40 : ش ْوبًا م ْن َحم ٍيم ثُ َّم إِ َّن َم ْرج َع ُه ْم ِإللَى ال َ ْ ُ َ
.]68
معىن ذلك أن التوسع يف احلديث عن أحداث اليوم اآلخر وما فيها من ترغيب وترهيب ما هو إال
مظهر عظيم من مظاهر حب اهلل لعباده.
فإن قلت وما الداعي لوجود النار من األصل يف ظل وجود هذه الرأفة والرمحة اإلهلية؟!
ِ ِِ
ين َكال ُْم ْج ِرم َ
ين َ ما هذا السؤال أجاب عنه القرآن يف عدة مواضع منها قوله تعاىل :أَ َفنَ ْج َع ُل ال ُْم ْسلم َ
96
تمهيــــــــــــدـ
ف تَ ْح ُك ُمو َن[ القلم.]36 ،35 :
لَ ُك ْم َك ْي َ
اء ات أَن نَّ ْجعلَ ُهم َكالَّ ِذين آمنُوا و َع ِملُوا َّ ِ ِ
السيِّئَ ِ وقوله :أَم ح ِس َّ ِ
الصال َحات َس َو ً َ َ َ َ ْ اجَت َر ُحوا َّ
ين ْ ب الذ َ ْ َ َ
اء َما يَ ْح ُك ُمو َن[ اجلاثية.]21 :
اه ْ%م َو َم َما ُت ُه ْم َس َ
َّم ْحيَ ُ
ال ميكن أن يستوي – بأي حال من األحوال – اجملد اجملتهد الذي ألزم نفسه االستقامة على أمر اهلل
فسادا.
مع من أسرف على نفسه ،ومل يبال بأوامر ربه واستهان هبا ،وعاث يف األرض ً
إن من دواعي العدلـ والرمحة اإلهلية أال يستوي هذا مع ذاك أَفَمن َكا َن م ْؤ ِمنًا َكمن َكا َن فَ ِ
اس ًقا الَّ َ ُ َْ
يَ ْسَت ُوو َن[ السجدة.]18 :
اللص والسجن
لصا قد اقتحم قرية من القرى ،واختبأ يف بعض نواحيها،وظل يُغري كل ليلة على منزل من
هب أن ً
منازهلا فيهدد أهله ،ويسرق ما فيه.
تُرى على أي حال سيكون أهل هذه القرية اليت كانت قبل جميء هذا اللص آمنة مطمئنة؟!
وهلعا ،وكيف ال وكل واحد منهم يتوقع كل ليلة فزعا ،وطمأنينتهم رعبًا ً بال شك سيتبدل أمنهم ً
هجوم اللص على داره ...اليعرف النوم إىل عينه طري ًقا ،بل ينخلع قلبه من الفزع إذا ما مسع صوتًا غريبًا
حول داره.
هل من املناسب يف ظل هذا الوضع املأساوي أن يُرتك اللص هكذا دون العمل علىالقبض عليه
والقصاص منه حتت مسمى الرمحة.
إن الرمحة تقتضي سرعة اإلمساك به وحبسه لتعود السكينة للناس ،ويعود إليهم أمنهم.
نعم ،أخي القارئ ،ال بد من عقاب املخطئ الذي أساء األدب مع ربه وخالف أوامره ،واستخدم ما
سخره له من النعم الكثرية يف معصيته.
حمادة اهلل وعصيانه واستحالل حمارمه ،استخدم استخدم يده ورجله وعقله وعينيه ولسانه وشفتيه يف َّ
ِ ِ
رغما عنهاَ -ي ْو َم تَ ْش َه ُد َعلَْي ِه ْم أَلْسنَُت ُه ْم َوأَيْدي ِه ْم َوأ َْر ُجلُ ُه ْم بِ َما َكانُوا
كل هذه األشياء وغريها ً -
97
َي ْع َملُو َن[ النور.]24 :
ومع هذا كله فاهلل عز وجل الرءوف الرحيم حيذر العصاة والكافرين ,يستحثهم على التوبة ويرغبهم
يف اجلنة وخيوفهم من النار لعلهم يعودون إليه قبل فوات األوان .
ولو كان اهلل عز وجل يريد بالفعلـ أن يعاقب كل خمطئ على خطئه ،وأن يقيم ميزان العدل على
اجلميع ما خوفنا كل هذا التخويف ,يكفي أن يقول لنا بأن هناك حساب للمخطئـ على خطئه ،وأن النار
يف انتظاره ،ولكنه-سبحانه – مل يفعل ذلك ،بل حذرنا وحذرنا بأساليب شىت ،وقص علينا ما سيحدث يف
ظيم ِ الس َ ِ
َّاس َّات ُقوا َربَّ ُك ْم إِ َّن َزل َْزلَةَ َّ
اع %ة َش ْيءٌ َع ٌ يوم القيامة حىت صرنا وكأننا نراه رأي العني يَا أ َُّي َها الن ُ
َّاس ُس َك َارى َو َما ِ
ض ُع ُك ُّل َذات َح ْم ٍل َح ْملَ َها َوَت َرى الن َ ت َوتَ َ ض َع ٍ%ة َع َّما أ َْر َ
ض َع ْ يوم َترو َن َها تَ ْذ َهل ُك ُّل مر ِ
ُ ُْ َْ َ َ ْ
ِ
اب اهلل َشدي ٌد[ احلج.]2 ،1 : ِ ِ ِ
س َك َارى َولَك َّن َع َذ َ ُهم ب ُ
َّاس لَر ُؤ ٌ ِ ِ كل ذلك مبعثه الشفقة والرمحة بالناس ً ِ
يم[ البقرة.]143 :
وف َّرح ٌ مجيعا إ َّن اهللَ بالن ِ َ
شمول الترغيب والترهيب
أمورا كثرية
وال يكفي أسلوب الرتغيب والرتهيب بذكر اليوم اآلخر واجلنة والنار ،بل يتسع وميتد ليشمل ً
يف حياة الفرد واجلماعة ،وليتناول املاضي واحلاضر واملستقبل ،كل ذلك ليحقق املقصود من استخدامه أال وهو
االستقامة على أمر اهلل.
98
تمهيــــــــــــدـ
جميعا
الناس ً
مجيعا بتوجيهاته ما بني الرتغيب ألن اهلل عز وجل حيب عباده ويريد هلم اخلري فإنه سبحانه قد مشلهم ً
َِّ ِ ِ
يل اذْ ُك ُروا ن ْع َمت َي التي ِ ِ ِ
والرتهيب ،فرتاه – على سبيل املثال -يرغب اليهود فيقول هلم :يَا بَني إ ْس َرائ َ
ِ
ين مث تراه خيوفهم فيقول هلمَ :و َّات ُقوا َي ْو ًما الَّ تَ ْج ِزي َن ْف ٌ
س ضلْتُ ُك ْم َعلَى ال َْعالَم َ ت َعلَْي ُك ْم َوأَنِّي فَ َّأَْن َع ْم ُ
ِ ِ َعن َّن ْف ٍ
ص ُرو َن[ البقرة.]123 ،122 : اعةٌ َوالَ ُي ْؤ َخ ُذ م ْن َها َع ْد ٌل َوالَ ُه ْم ُي ْن َ س َش ْيئًا َوالَ ُي ْقبَ ُل م ْن َها َش َف َ
ْكت ِ ِ َّ ِ
اب آمنُوا بِ َما َن َّزلْنَا ُم َ
ص ِّدقًا لِّ َما َم َع ُكم ِّمن ين أُوتُوا ال َ َ وأهل الكتاب خيوفهم بقوله :يَا أ َُّي َها الذ َ
ت و َكا َن أ َْمر ِ َصحاب َّ ِ ِ
اهلل َم ْفعُوالً% ُ الس ْب َ َّها َعلَى أَ ْدبَا ِر َها أ َْو َنل َْعَن ُه ْم َك َما ل ََعنَّا أ ْ َ َ
وها َفَن ُرد َس ُو ُج ً َق ْب ِل أَن نَّطْم َ
[ النساء.]47 :
َّات الن َِّع ِيم
اهم جن ِ ِ َن أ َْهل ال ِ
ْكتَ ِ
آمنُوا َو َّات َق ْوا لَ َك َّف ْرنَا َع ْن ُه ْم َسيِّئَات ِه ْم َوأل ْد َخلْنَ ُ ْ َ
اب َ ويرغبهم بقوله َ ول َْو أ َّ َ
[ املائدة.]65 :
شاء ومن يُّ ْش ِر ْك بِ ِ
اهلل واملشركني يقول هلم :إِ َّن اهلل الَ ي ْغ ِفر أَن ي ْشر َك بِ ِه وي ْغ ِفر ما ُدو َن َذلِ َ ِ
ك ل َمن يَّ َ ُ َ َ ََ ُ َ َ َ ُ ُ َ
ِ ِ
يما[ النساء.]48 : َف َقد ا ْفَت َرى إِثْ ًما َعظ ً
ين َو َمن َي ْف َع ْل َذلِ َ ِِ َّخ ِذ الْم ْؤ ِمنو َن الْ َكافِ ِرين أَولِي ِ
سك َفلَْي َ
ِ
اء من ُدون ال ُْم ْؤمن ََ ََْ بل وحىت املؤمنني :الَ َيت ِ ُ ُ
ِ ٍِ ِ ِِ
سهُ[ آل عمران.]28 : م َن اهلل في َش ْيء إالَّ أَن َتَّت ُقوا م ْن ُه ْم ُت َقاةً َويُ َح ِّذ ُر ُك ُم اهللُ َن ْف َ
الترهيب والترغيب في قصص السابقين
ومع مشول أسلوب الرتهيب والرتغيب جلميع الناس فإنه ميتد ليشمل الزمن كله ماضيه وحاضره
ومستقبله.
فاهلل عز وجل يدعونا يف كتابه لالستفادة مما حدث مع السابقني يف األزمنة املاضية ،فريغبنا يف
االحتذاء بالنماذج الصاحلة ،وخيوفنا من النماذج الطاحلة.
فنجد أن اهلل سبحانه قد قدم إبراهيم – عليه السالم – يف القرآن ،ويف أكثر من موضع كنموذج
صحيح ملا ينبغي أن يكون عليه املؤمن ،لذلك فقد عرضه القرآن بطريقة ترغب القارئ وحتفزه على االقتداء
ِ ِ ِ هلل حنِي ًفا ولَم ي ُ ِ
ِ ِ ِ ِ ِ
اجتَبَاهُ َو َه َداهُ إِلَىين َ شاك ًرا أل ْنعُ ِمه ْ
ك م َن ال ُْم ْش ِرك َ يم َكا َن أ َُّمةً قَانتًا َ َ ْ َ به إ َّن إ ْب َراه َ
ك أِ
َن اتَّبِ ْع ين ثُ َّم أ َْو َح ْينَا إِل َْي َ ِ
َخر ِة ل َِمن َّ ِ ِ ِ اط ُّم ْستَ ِق ٍيم َ وآَت ْينَاهُ فِي ُّصر ٍ ِ
الصالح َ سنَةً َوإِنَّهُ في اآل َ َ الد ْنيَا َح َ َ
ِ ِ ِملَّةَ إِ ْبر ِاه ِ
ين[ النحل.]123 -120 : يم َحني ًفا َو َما َكا َن م َن ال ُْم ْش ِرك َ
َ َ
99
فاسدا لعبد آبق اغرت مباله وتوهم أن له مكانة أعلى من سائر البشر ،وكذلك منوذجا ً
أما قارون ،فكان ً
فرعون الذي طغى وتكرب ،وقوم عاد ومثود وغريهم من مناذج الظاملني املتكربين ,هذه النماذج أفاض القرآن
يف ذكرها ،واملآل الذي صار إليه أصحاهبا ترهيبًا وختوي ًفا لنا كي نجتنب ما فعلوه :لََق ْد َكا َن فِي
اب[ يوسف.]111 :ص ِه ْم ِع ْبرةٌ ألُولِي األلْبَ ِ
قَص ِ
َ
َ
الرسائل اإللهية
هذا يف املاضي ،أما يف احلاضر فيظهر أسلوب الرتغيب والرتهيب من خالل الرسائل اإلهلية اليت يُرسلها
اهلل لعباده متشابكة مع أحداث حياهتم ،فالربق رسالة ترغيب وطمع يف رمحة اهلل ملا يبشر به من نزول
املطر ،وهو كذلك ترهيب ملن يراه حني يضيء السماء ،ويشق السحب َ و ِم ْن آيَاتِِه يُ ِري ُك ُم الَْب ْر َق َخ ْوفًا
َوطَ َم ًعا[ الروم.]24 :
والزالزل والرباكني واألعاصري ،وكسوف الشمس ،وخسوف القمر ..كل هذه رسائل ختويف،
خيوف اهلل هبا عباده ،لعلهم يقدروه حق قدره فيعبدوه حق عبادته فيدخلوا اجلنة :وما ُنر ِسل بِاآلَي ِ
ات إِالَّ ََ ْ ُ َ
تَ ْخ ِوي ًفا[ اإلسراء.]59 :
100
تمهيــــــــــــدـ
الترغيب في اإلنفاق في سبيل اهلل :
اهلل عز وجل أعطى لإلنسان حرية االختيار واختاذ القرار ،فهو ال جيربه على فعلـ شيء ال يريده ،ومع
مجيع ا دخول جنته ،لذلك جنده سبحانه يف خطابه إلينا يرغبنا يف كل ما يقربناذلك فهو سبحانه يريد للبشر ً
من جنته ،ويبعدنا من ناره ...يستثري رغبتنا الختاذ القرار بفعل اخلريات وترك املنكرات.
وألنه سبحانه قد أسكننا األرض ويعلم أن من أشد ما حيول بيننا وبني دخول اجلنة :التعلقـ بزينة احلياة
الدنيا ،وأن أهم رمز للدنيا هو املال ،لذلك فقد أخربنا بأن من أهم العقبات اليت تقف يف طريق اجلنة هي
ك َر َقبَ ٍة[ البلد.]13 -11 :
اك َما ال َْع َقبَةُ فَ ُّ
التعلقـ باملال :فَالَ اقْتَ َح َم ال َْع َقبَةَ َ و َما أَ ْد َر َ
والتغلبـ على هذه العقبة إمنا يكون بدوام اإلنفاق.
س ُّ
الش َّح فاإلنفاق إذًا طريق سهل لدخول اجلنة ,ولكن النفس ال حتب اإلنفاق وأ ْ ِ ِ
ُحض َرت األ ْن ُف ُ َ
[النساء.]128 :
من هنا جند تنوع أساليب احلث عليه ،وإنشاء الرغبة فيه ,كل ذلك ليتغلبـ املرء على شح نفسه
وخوفها من الفقر ،ومن مث اجتيازها للعقبة ,ومن هذه األساليب :التذكري بأمهيتها وأهنا من أبواب اجلهاد يف
اهلل َو َر ُسولِ ِه
اب أَلِ ٍيم ُ ت ْؤ ِمنُو َن بِ ِ
كم َعلَى تِ َج َار ٍة ُت ْن ِجي ُكم ِّم ْن َع َذ ٍ
آمنُوا َه ْل أ َُّدلُّ ْ ين َ
َّ ِ
سبيل اهلل :يَا أ َُّي َها الذ َ
اهلل بِأ َْم َوالِ ُك ْم َوأَ ْن ُف ِس ُك ْم ذَلِ ُك ْم َخ ْي ٌر لَّ ُك ْم إِ ْن ُك ْنتُ ْم َت ْعلَ ُمو َن[ الصف.]11 ،10 :
يل ِ اه ُدو َن ِفي َسبِ ِ وتُج ِ
َ َ
ومنها :التذكري بأن اإلنفاق يرضي اهلل عز وجل ويقرب صاحبه منه سبحانه :فَ ِ
آت َذا الْ ُق ْربَى َح َّقهُ
ك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن[ الروم.]38 : ك َخ ْير لِّلَّ ِذين ي ِري ُدو َن و ْجهَ ِ
اهلل َوأُولَئِ َ َ َُ يل ذَل َ ٌ
السبِ ِ ِ
ين َوابْ َن َّ ِ ِ
َوالْم ْسك َ
اهلل َك َمثَ ِل َحبَّ ٍة
يل ِ ين ُي ْن ِف ُقو َن أ َْم َوال َُه ْم فِي َسبِ ِ َّ ِ
ومنها :التذكري بفضل العمل ومثاره املتوقعةَ :مثَ ُل الذ َ
يم[ البقرة.]261 : ِ ِ ف لِ َمن يَّ َ ضِ ت َس ْب َع َسنَابِ َل ِفي ُك ِّل ُس ُنبلَ ٍة ِّمائَةُ َحبَّ ٍة َواهللُ يُ َ
شاءُ َواهللُ َواس ٌع َعل ٌ اع ُ أَنبَتَ ْ
وأن من هذه الثمار ما جيدها صاحبها يف الدنياَ :و َما أَْن َف ْقتُم ِّمن َش ْي ٍء َف ُه َو يُ ْخلِ ُفهُ َو ُه َو َخ ْي ُر
َّ ِ
الرا ِزق َ
ين[ سبأ.]39 :
ص َدقَةً تُطَ ِّه ُر ُه ْم َو ُت َز ِّكي ِه ْم بِ َها ِ ِ
والتذكري بأن املستفيد األول من اإلنفاق هو املنفقُ :خ ْذ م ْن أ َْم َوال ِه ْم َ
[التوبة.]103 :
آمنُوا أَنِْف ُقوا ِم َّما َر َزقْنَا ُكم ِّمن َق ْب ِل أَن يَأْتِ َي َي ْو ٌم الَّ َب ْي ٌع فِ ِيه َوالَ
ين َ
َّ ِ
والرتهيب من تركها :يَا أ َُّي َها الذ َ
101
ُخلَّةٌ َوالَ َش َف َ
اعةٌ[ البقرة.]254 :
ويطمئنناـ بأن الذي يأخذها هو اهلل ،ومن مثَّ فلن تضيع على صاحبها :أَل َْم َي ْعلَ ُموا أ َّ
َن اهللَ ُه َو َي ْقبَ ُل الت َّْوبَةَ%
يم[ التوبة.]104 : اب َّ ِ الص َدقَ ِ
ات َوأ َّ َع ْن ِعبَ ِاد ِه َويَأ ُ
الرح ُ َن اهللَ ُه َو الت ََّّو ُ% ْخ ُذ َّ
كثريا ما جندها تتكرر يف القرآن بأساليب خمتلفة.
هذه املعاين العظيمة وغريها ً
وهكذا يصبح استخدام أسلوب الرتغيب والرتهيب من أعظم مظاهر حب اهلل لعباده.
102
تمهيــــــــــــدـ
وأنسا
أما آن يل ولك أن نبدأ مع اهلل عز وجل صفحة جديدة من احلب الصادق الذي يثمر طاعة لهً ،
به وشوقًا إىل لقائه؟!
أال يستحق هذه اإلله الودود الكرمي أن نعامله معاملة تليق جبالله وتتناسب مع ما يعاملنا به؟!
فلنبدأ إذن من اآلن ،وقبل أن تذهب تلك احلالة الشعورية اليت صاحبتنا وحنن نتعرف على مظاهر حب
اهلل لنا.
لنبدأ بدعائه سبحانه دعاء فيه إحلاح وتضرع ونسأله فيه أن يرزقنا حبه ،وأن يهيمن هذا احلب على
مشاعرنا حىت يصري حبه سبحانه األحب إلينا من كل شيء ،وندعو كذلك بدعاء النيب عليه الصالة
والسالم « :اللهم إني أسالك حبك ،وحب من يحبك ،وحب عمل يقربني إلى حبك ,اهلل ما رزقتني ما
أحب فاجعله قوة لي فيما تحب ،وما زويت عني مما أحب فاجعله فراغًا فيما تحب ،اللهم اجعل
حبك أحب إلى من أهلي ومالي ،ومن الماء البارد على الظمأ ،اللهم حببني إليك وإلى مالئكتك
وأنبيائك ورسلك وعبادك الصالحين ،واجعلني ممن يحبك ويحب مالئكتك وأنبياءك ورسلك
وعبادك الصالحين ،اللهم أحيي قلبي بحبك واجعلني لك كما تحب ،اللهم اجعلني أحبك بقلبي كله،
وأرضيك بجسدي كله ،اللهم اجعل حبي كله لك ،وسعيي كل في مرضاتك»(.)1
ولننتقل اآلن إلى الوسائل العملية التي تمكن لحب اهلل في قلوبنا
1
() رواه الرتمذي.
103
الفصل الرابع
ومع أهمية التذكير الدائم تأتي األعمال الصالحة ذات الصلة بموضوع المحبة لتكون بمثابة
الماء الذي يسقي بذور المعرفة باهلل الودود ،فتنمو شجرتها ويرتفع بنيانها ،لتكون النتيجة هي
وعظُو َن بِ ِه
استحواذ حب اهلل على أكبر قدر من مشاعر الحب داخل القلب َ ول َْو أ ََّن ُه ْم َف َعلُوا َما يُ َ
لَ َكا َن َخ ْي ًرا لَّ ُه ْم َوأَ َش َّد َتثْبِيتًا[ النساء.]66 :
ومع هذا التعريف جند التكرار للمعىن الواحد بأساليب خمتلفة لريسخ مدلوله يف العقل الباطن لإلنسان
آن لِيَ َّذ َّك ُروا[ اإلسراء.]41 :
فيشكل جزءا من يقينهولََق ْد ص َّر ْفنَا فِي َه َذا الْ ُقر ِ
ْ َ َ ً
حيول احلقائق
ويف عرضه للمعاين جند أن العرض خياطب العقل فيقنعه واملشاعر فيستثريها ،مما َّ
1
() حسن ،رواه أبو نعيم يف احللية ،والبيهقي يف شعب اإلميان ،وحسنه األلباين يف صحيح اجلامع (.)6289
105
والقناعات الفكرية إىل إميان راسخ يف القلب.ـ
ومما يساعد القارئ على انتفاعه بالقرآن هو التزامه مبا أمره اهلل به من تدبر وتفهم ملا يقرؤه من آيات،
وكذلك ترتيله هلا ,فالفهم والتدبر خياطبان العقل فيقتنع ،والرتتيل يهز املشاعر ،فيمتزج بذلك الفكر مع
َم
العاطفة ليثمر يقينًا يف العقل،ـ وإميانًا يف القلب ،وهذا ال يتوافر يف أي كتاب آخر على وجه األرض أ ََو ل ْ
اب ُي ْتلَى َعلَْي ِه ْم[ العنكبوت.]51 : ْف ِهم أَنَّا أَْنزلْنَا َعلَي َ ِ
ِ
ك الْكتَ َ ْ َ يَك ْ
يقول ابن رجب :مساع القرآن ينبت القرآن يف القلبـ كما ينبت املاء البقل.
تعرف على ربك
القرآن -أخي القارئ -هو أفضل وسيلة لغرس حمبة اهلل يف القلب ،ولقد مت احلديث بشيء من
التفصيل حول هذا املوضوع يف أكثر من موضع سابق( ،)1وال داعي لتكرار ما قيل ،ولكن نُ َذكر بأمر هام
وهو:أن إنشاء اإلميان يف القلبـ من خالل القرآن لن يتم إال إذا كان هدفنا حني نقرؤه أن نفهم ما نقرؤه –
ولو بصورة إمجالية – وأن جنتهد يف التأثر به من خالل الرتتيل والتباكي مع القراءة .مع عدم إغفال أمر
أيضا وهو كثرة قراءته ،وإعطاؤه األولوية األوىل يف حياتنا.
مهم ً
قال حذيفة بن اليمان :اقرأوا القرآن حبُزن ،وال جتفوا عنه ،وتعاهدوه ورتلوه ترتيال(.)2
وباإلضافة إلىذلك علينا وحنن نعيش يف أجواء حمبة اهلل عز وجل ،وبعد أن تعرفنا على كثري من
مظاهرها أن نتتبع هذه املظاهر وحنن نقرأ القرآن ،فإن هذا من شأنه – إذا ما داومنا عليه -أن يؤكد
ويرسخ مدلوهلا يف اليقني ،ويزيد اإلميان يف القلبـ وحيوله إىل مقام ثابت.
نعم ،علينا أال نقف عند كل آية لنستخرجـ منها ما يدل على حب اهلل لعباده حىت ال تتحول القراءة
إىل عملية عقلية فكرية فقط ،فاملطلوب -كما قيل سال ًفا – هو مزج الفكر بالعاطفة ،وجتاوب العقلـ مع
القلب ،وهذا يستدعى استمرارية وانسيابية القراءة ليتسرب تأثريها شيئًا فشيئًا إىل املشاعر حىت تصل فى
النهاية ملرحلة االنفعال والتأثر.
معىن ذلك أنه من املناسب أن نبحث عن مظاهر احملبة يف القرآن بصورة إمجالية ،ال تؤثر بالسلبـ على
تدبرنا العام لآليات ،والجتعلنا نقف عند كل كلمة ،ولعل ما قيل يف الصفحات السابقة من شأنه أن
1
() مثل ما تضمنته كتب :العودة إىل القرآن –بناء اإلميان من خالل القرآن -كيف نغري ما بأنفسنا -حقيقة العبودية.
2
() حملات األنوار للغافقي(.)566
106
يستثري مشاعرنا ،وينشئ داخلنا حالة شعورية حملبة اهلل عز وجل ،فإذا ما استثمرنا وجود هذه احلالة ،ودخلنا
هبا إىل القرآن فسنجدـ ما يؤكدها من آيات ،وسنفاجأ وكأن حمور القرآن الرئيس يدور حول هذا
املوضوع.
أخي القارئ:
إن القرآن هو أفضل وسيلة لتنمية حب اهلل يف القلبـ والوصول ملرحلة األنس به والشوق إليه سبحانه،
لذلك أنصح نفسي وإياك أن نكثر من تالوته بفهم وترتيل وتباك ،وأن نتعرف على اهلل الودود من خالل
هذا الكتاب وحبذا لو خصصنا ختمة أو أكثر هلذا البحث العظيم.
يقول ابن رجب :ومما يستجلب احملبة :تالوة القرآن بالتدبر والتفكر ال سيما اآليات املتضمنة لألمساء
والصفات واألفعال الباهرات ،وحمبة ذلك يستوجب به العبد حمبة اهلل ،وحمبة اهلل له()1فتتحقق يُ ِحُّب ُه ْم
َويُ ِحبُّونَهُ.
ومما يؤكد هذا املعىن قوله صلى اهلل عليه وسلم« :أال من اشتاق إلى اهلل فليستمع كالم اهلل فإن مثل
القرآن كمثل جراب مسك أي وقت فتحه فاح ريحه»(.)2
كالما أحب إليه من وقوله« :ما من كالم أعظم عند اهلل من كالمه ،وما َّ
رد العباد إلى اهلل ً
كالمه»(.)3
فاألمر واضح ،والطريق معبد لتنمية حب اهلل يف القلب ،وكيف ال والقرآن بني أيدينا وال يوجد أي
شيء حيول بيننا وبينه ،فكلما اهتاجت لدينا مشاعرـ الشوق إىل اهلل ،وأردنا أن نسكنها ,وكلما أردنا أن
نأنس باهلل ،ونزداد حبًا له ،وتعل ًق ا به فلنهرع إىل املصحف ,نناجيه ونتحدث إليه – سبحانه -من خالل
قراءتنا وجتاوبنا مع خطابه لنا ,قال صلى اهلل عليه وسلم« :إذا أحب أحدكم أن يحدث ربه فليقرأ في
المصحف»(.)4
كثريا !
على ًفإن قلت :ولكن مشاعر الشوق إىل اهلل ال هتتاج َّ
1
() استنشاق نسيم األنس البن رجب .55/
2
() رواه الديلمي عن أىب هريرة ،كذا يف كنز العمال (.)2472
3
() رواه الدارمي (.)3354
4
() كنز العمال .2366
107
أيض ا يف مداومة قراءة القرآن آناء الليل وأطراف النهار ،لتزداد مساحة حب اهلل يف قلوبنا شيئًا احلل ً
مستمر ا إليه جيعل صاحبه يف عجلة دائمة لالتصال باهلل من خالل قراءة القرآن يف ً فشيئًا ،فيثمر ذلك شوقًا
ضى[ طه.]84 : ب لَِت ْر َ
ك َر ِّ َع ِجل ُ
ْت إِل َْي َ الصالة وخارج الصالة وكذلك يف الدعاء والذكر واملناجاة و َ
وخالصة القول:
إن أفضلـ شيء وأحب شيء نتقرب به إىل اهلل :قراءة القرآن بالتدبر والتفهم والرتتيل والصوت احلزين
(التباكي) قال صلى اهلل عليه وسلم« :ما تقرب العباد إلى اهلل بشيء أحب إليه مما خرج منه»(.)1
ومع اآليات املقروءة يف القرآن تأيت اآليات املرئية واملنظورة يف الكون وأحداث احلياة.
[فصلت: ك أَنَّهُ َعلَى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِهي ٌد ذكر به أَولَم يك ِ
ْف بَِربِّ َ َ َْ فكل ما يف الكون يدل على اهلل ويُ ِّ
.]53
ولقد حثنا – سبحانه – على أن نتفكر يف آياته املبثوثة يف كونه ،وفيما مير بنا من أحداث يف حياتنا
لتكون وسيلة للتذكرة الدائمة به ،ومن مثَّ الوصول إىل معرفته ،وحبه ،والتعلق التام به.
1
() كنز العمال .2257
2
() جمموعة رسائل احلافظ ابن رجب .2/47
108
[ ق.]8 -6 :
ومما يلفت االنتباه أن اهلل عز وجل يُصرف اآليات الكونية ويكررها بأشكال خمتلفة ،كما يكرر
رسوخا يف القلب
ً اآليات بأساليب خمتلفة يف القرآن ليتم من خالهلا التذكرة والتبصرة ،ومن مث يزداد اإلميان
ف اآلَي ِ
ات ل ََعلَّ ُه ْم َي ْف َق ُهو َن[ األنعام.]65 :ص ِّر ُ َ
ف نُ َ
انْظُْر َك ْي َ
ومثال ذلك :احلر الشديد أو الربد الشديد ،أو العواصف ،أو ...كل ذلك آيات تذكر باهلل عز وجل.
وكما أن اهلل عز وجل قد ذم من يعرض عن تدبر القرآن وفهم املراد من آياته ،فإنه كذلك قد ذم من
ِ ِ ِ
ف َع ْن َها ب بِآيَات اهلل َو َ
ص َد َ يعرض عن التدبر والتفكر يف آياته املبثوثة يف كونه فَ َم ْن أَظْلَ ُم م َّمن َك َّذ َ
ن[ يوسف: ضو َض يَ ُم ُّرو َن َعلَْي َها َو ُه ْم َع ْن َها ُم ْع ِر ُ السماو ِ
ات َواأل َْر ِ ٍِ
[األنعامَ .]157 :و َكأَيِّن ِّمن آيَة في َّ َ َ
.]105
لذلك كان التفكر من أفضل العبادات سواء كان هذا التفكر يف آيات القرآن ،أو آيات الكون.
وصدق من قال:
إذا املرء كانت له فكرة *** ففي كل شيء له عربة
يقول ابن رجب :كان السلف يفضلون التفكر عن نوافل العبادة ،وكان أكثر عمل أيب الدرداء
االعتبار والتفكر(.)1
1
() استنشاق نسيم األنس .49/
109
تفكر يقود إلى المحبة
وألننا يف هذه الصفحاتـ نتحدث عن حمبة اهلل وكيفية غرس شجرهتا يف قلوبنا ،لذلك فنحن نريد أن
نتجه بعقولنا ومشاعرنا حنو التفكر يف مظاهر حب اهلل لعباده اليت حتدثنا سل ًفا عن عشرة جوانب منها.
وحميط التفكر يف هذه اجملاالت يشمل أحداث احلياة اليت متر بنا ،واملشاهدات اليت نشاهدها ،واألخبار اليت
تصل إىل مسامعنا ،فنربط ما ميكن ربطه منها باهلل الودود.
أيض ا :رؤية املخلوقات األخرى اليت نشاهدها طيلة ساعات يومنا من مجادات
ومما يلحقـ هبذا اجلانب ً
أو حيوانات أو نباتات فنستشعر نعمة التكرمي اإلهلي لنا واليت سبقت وجودنا يف هذه األرض.
أما بالنسبة جلانب العافية وما فيه من عظيم فضلـ اهلل علينا فيمكن استشعاره من خالل رؤية أهل
البالء والنقص يف العافية ،فما من مرض يصيب إنسانًا وعوفيت أنت منه إال ويُذكرك مبدى فضل اهلل
عليك.
ونفس األمر بالنسبة جلانب العصمة :فما من معصية حتدث أمامكـ أو تصل إىل مسامعكـ ومل تفعل
وكرهك فيها ،سواء صغرت
مثلها إال دليل على حب اهلل بأن عصمك من ارتكاهبا وصرف رغبتك عنهاَّ ،
تلك املعصية أو كربت.
وكل طاعة نؤديها علينا أن نرى من خالهلا حب اهلل لنا أن وفقنا وأعاننا على القيام هبا.
أما جانب القيومية فما أسهل رؤيته من خالل ما قد حيدث لنا من منع وقيت إلمداداتـ ربانية اعتدنا
أن تتواىل علينا ليل هنار مثل :اختالل توازن اجلسم ،خفقان القلب ،أمل مفاجئ يف الرأس ...
كل ذلك وغريه علينا أن نرى من خالله قيومية اهلل لنا يف حفظه ألجسادنا ليل هنار.
وبالنسبة جلانب التسخري :علينا أن ننظر بعني االعتبار إىل كل األشياء اليت نتعامل معها ،ونتفكر يف مظاهر
تسخريها لنا ،وكيف ستكون احلياة بدون ذلك التسخري.
110
وهكذا ىف بقية اجلوانب العشرة ميكننا أن نتعرف عليها ونربطها باهلل الودود من خالل إعمال عقولنا
يف شريط أحداث احلياة الذي مير أمام أعيننا دون توقف.
والذي يساعد الواحد منا على ُحسن التفكر فيما يسمع ويشاهد :املداومة على قراءة القرآن والتفكر
يف آياته اليت تتحدث باستفاضة عن اهلل الودود ،فإذا ما أغلقـ مصحفهـ وانطلق إىل احلياة شاهد بعينه ما قد
ِ ِ ِ ِ ِ
تعرف عليه يف القرآن َ سنُ ِري ِه ْم آيَاتنَا في اآلَفَاق َوفي أَ ْن ُفس ِه ْم َحتَّى َيتََبيَّ َن ل َُه ْم أَنَّهُ ال َ
ْح ُّق[ فصلت.]53 :
وهبذا حيدث االنسجام بني ما يقرؤه وما يشاهده ،مما يكون له أكرب األثر على عالقته بربه فتزداد
معرفته به ،ومن مث حبه وأنسه وشوقه إليه.
قال صلى اهلل عليه وسلم« :أعطوا أعينكم حظها من العبادة» فقالوا يا رسول اهلل :وما حظها من
العبادة؟ قال« :النظر في المصحف والتفكر فيه واالعتبار عند عجائبه»(.)1
***
1
() أخرجه ابن أىب الدنيا بإسناد ضعيف.
111
األعمال الصالحة المقترح القيام بها
ومع أمهية وضرورة التفكر يف القرآن والكون والتعرف من خالهلما على اهلل الودود إلنشاء وترسيخ
قاعدة احملبة ،إال أن هذا وحده ال يكفي لتمكني هذه احملبة من القلب ،فال بد – كما أسلفنا – من القيام
بأعمال تثبَّت القواعد وترفع وتدعم البنيان.
وهناك أعمال صاحلة هلا ارتباط وثيق مبوضوع احملبة علينا أن نكثر من القيام هبا حىت تنمو شجرهتا
وتأيت بثمارها الطيبة.
112
وحتكي لنا كتب السرية عن أحد املشركني وهو صفوان بن أمية ،وكيف كانت مشاعره جتاه الرسول
صلى اهلل عليه وسلم.
متاما حىت صار رسول اهلل صلى اهلل عليه
هذه املشاعر اليت كان يسيطر عليها البغض والكره ،تبدلت ً
وسلم من أحب الناس إليه بسبب عطائه املتواصل له من غنائم حنني والطائف.
فإن قلت :ولكننا ال نستشعر ذلك بشكل ٍ
كاف جتاه اهلل عز وجل مع ما أسبغ علنيا من نعم ال تُعد
وال حُت صى.
نعم ،حنن نعيش يف هذه احلالة – حالة اجلحود للرب املنعم الودود – ألننا غرقى يف نعمه ،ويف الوقت
نفسه ال نسمح لعقولنا بتذكرها ،وال ألعيننا برؤيتها ،ألننا قد ألفنا تواصلها علينا حىت نسيناها.
لقد انشغلنا جبمع النعم ،ومل نلتفت إىل من أنعم هبا علينا فخفتت مشاعر احلب جتاهه سبحانه.
من هنا نقول :إن أهم عمل صاحل يورث احملبة وينميها هو ذكر النعم وربطها باملنعم فَاذْ ُك ُروا آالَ َء
اهلل ل ََعلَّ ُك ْم ُت ْفلِ ُحو َن[ األعراف.]69 :
ِ
قال صلى اهلل عليه وسلم :أحبوا اهلل لما يغذوكم به من نعمة .....احلديث(.)1
العبادة المهجورة
األمر الالفت لالنتباه أن هناك العديد من اآليات القرآنية اليت حتثنا على القيام هبذا العملـ العظيم يَا
الس َم ِاء َواأل َْر ِ
ض[ فاطر]3 : اهلل َعلَْي ُكم َهل ِمن َخالِ ٍق غَْير ِ
اهلل َي ْر ُزقُ ُك ْم ِّم َن َّ ُ ْ ْ ْ
ت ِ َّاس اذْ ُك ُروا نِ ْع َم َ
أ َُّي َها الن ُ
ِِ ِ
ين[البقرة.]198 : َ واذْ ُك ُروهُ َك َما َه َدا ُك ْم َوإِن ُك ْنتُ ْم ِّمن َق ْبله لَم َن الضَّالِّ َ
إن التفكر يف النعم اليت حتيط بنا من كل جانب وربطها باملنعم له دور كبري يف استثارة العقل ،وتأجيج
مشاعر االمتنان هلل عز وجل ومن مث اخلروج من حالة الغفلةـ إىل اليقظة واالنتباه ،لذلك كان ذكر النعم من
أفضلـ العبادات.
ويف هذا املعىن يقول أبو سليمان الواسطي :ذكر النعم يُورث احلب هلل عز وجل.
ويقول اجلنيد :إن الرضا يُنال بالتفويض ،والتفويض يُنال باحملبة ،واحملبة تنال باشتغال القلبـ بالذكر يف
1
() رواه الرتمذي ( )3878وقال حديث حسن غريب.
113
نعم اهلل عز وجل(.)1
ويؤكد عمر بن عبد العزيز على أمهية هذه العبادة فيقول :التفكر يف نعم اهلل أفضل العبادة(.)2
ويكفينا يف بيان أمهيتها وفضلها ما جاء يف حديث املالئكة السيارة اليت تلتمس مواضع الذكر فإذا
واحدا منها بعثت برائدهم إىل اهلل تبارك وتعاىل فيقولون« :ربنا أتينا على عباد من عبادك،
وجدت ً
يُعظمون آالءك ،ويتلون كتابك ،ويُصلُّون على نبيك محمد صلى اهلل عليه وسلم ،ويسألونك آلخرتهم
غشوهم رحمتي»(.)3 ودنياهم ،فيقول تبارك وتعالىُّ :
(نعم سبق الفضل – نعم اهلداية والعصمة -نعم العافية – نعم التسخري – نعم القيومية واحلفظ – نعم
اإلمهال والسرت -نعم اللطف والرمحة.)...-
فمن خالل توجيه الفكر إىل جانب من هذه اجلوانب ميكن للواحد منا أن يُعمل عقله يف تذكر ما أنعم
اهلل به عليه يف هذا اجلانب ،حبذا لو قام بتسجيل هذه النعم كتابة حىت يسهل عليه الرجوع إليها يف أي
وقت شاءه وقراءهتا وهذا من شأنه أن يستثري مشاعر احلب هلل عز وجل داخله.
ومع قيام املرء بالتفكر يف نعم اهلل عليه واالجتهاد يف إحصائها مع نفسه ،فعليه كذلك أن تكون له
جمالس مع أهله وأصدقائه يتذاكرون فيها نعم اهلل عليهم.
ولقد كان الصحابة والسلف جيلسون مثل تلك اجملالس اليت تُذكرهم بفضل اهلل عليهم وتزيدهم حبًا
له.
فعن معاوية رضي اهلل عنه أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه ،فقال:
ومن به علينا ،قال« :آهلل ما
«ما أجلسكم»؟ قالوا :جلسنا نذكر اهلل وحنمده على ما هدانا لإلسالم َّ
1
() احملبة هلل سبحانه للجنيد – 75 /دار املكتيب – سوريا.
2
() استنشاق نسيم األنس .49/
3
() رواه البزار بإسناد حسن.
114
أجلسكم إال ذاك؟» قالوا :آهلل ما أجلسنا إال ذاك .قال« :أما إني لم أستحلفكم تُهمة لكم ،ولكنه أتاني
جبريل فأخبرني أن اهلل عز وجل يباهي بكم المالئكة»(.)1
وجلس الفضيلـ بن عياض وسفيان بن عيينه ليلة إىل الصباح يتذاكرون النعم ،فجعلـ سفيان يقول:
أنعم اهلل علينا يف كذا ،أنعم اهلل علينا يف كذا ،أنعم اهلل علينا يف كذا ،فعل بنا كذا ،فعل بنا كذا(.)2
فلنجلس مثل هذه اجملالس املباركة وخباصة مع األهل واألوالد لنزداد حبًا هلل عز وجل ،وحبذا لو
كانت هذه اجملالس بعد النعم الكبرية اليت متر باألسرة كنجاح وتفوق األوالد ،وصيام رمضان وقيامه ،و...
القرآن يعلمنا
وحنن هبذه الطريقة نتعلم ونقتدي بالقرآن حيث كان يتنزل على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد
وشكرا ،فبعد بدر ً النعم اإلهلية الكبرية ليذ ّكره وأصحابه هبا ،ومبا أنعم اهلل عليهم من خالهلا فيزدادوا له حبًا
وما كان فيها من نصر مبني نزلت سورة األنفال تُذ ّكر بنعم اهلل العظيمة اليت صاحبت هذا النصر :إِ ْذ
ين َ و َما َج َعلَهُ اهللُ إِالَّ بُ ْش َرى ِ ِ ِِ ِ ٍ ِ ِ
اب لَ ُك ْم أَنِّي ُمم ُّد ُك ْم بأَلْف ِّم َن ال َْمالئ َكة ُم ْردف َاستَ َج َتَ ْستَغيثُو َن َربَّ ُك ْم فَ ْ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
اس أ ََمنَةً ِّم ْنهُ
ُّع َ
شي ُك ُم الن َيم إِ ْذ ُيغَ ِّ َولتَط َْمئِ َّن بِه ُقلُوبُ ُك ْم َو َما الن ْ
َّص ُر إِالَّ م ْن ع ْند اهلل إِ َّن اهللَ َع ِز ٌيز َحك ٌ
ان َولَِي ْربِ َالش ْيطَ ِ ِِ ِ وين ِّز ُل علَي ُكم ِّمن َّ ِ
ط َعلَى ُقلُوبِ ُك ْم َو ُيثَبِّ َ
ت ب َعن ُك ْم ِر ْج َز َّ اء لِّيُطَ ِّه َر ُك ْم به َويُ ْذه َ
الس َماء َم ً َ َُ َ ْ
ِ ِ ِ
آمنُوا َسأُلْقي في ُقلُ ِ َّ ِ َّ ِ ِ ِ
بِ ِه األقْ َد َام إِ ْذ يُوحي َربُّ َ
ين َك َف ُروا وب الذ َ ك إِلَى ال َْمالئ َكة أَنِّي َم َع ُك ْم َفثَبِّتُوا الذ َ
ين َ
ض ِربوا ِم ْن ُهم ُك َّل بنَ ٍ ِ
ان[ األنفال.]12 -9 : ْ َ ض ِربُوا َف ْو َق األ ْعنَاق َوا ْ ُ ب فَا ْ الر ْع َ
ُّ
ِ ِ َّ ِ
يحاآمنُوا ا ْذ ُك ُروا ن ْع َمةَ اهلل َعلَْي ُك ْم إِ ْذ َج َاءتْ ُك ْم ُجنُو ٌد فَأ َْر َسلْنَا َعلَْي ِه ْم ِر ً
ين َ
وبعد غزوة األحزاب :يَا أَُّي َها الذ َ
ودا لَّم َتروها و َكا َن اهلل بِما َتعملُو َن ب ِصيرا إِ ْذ جاءو ُكم ِّمن َفوقِ ُكم و ِمن أ ِ
َس َف َل م ْن ُك ْم َوإِ ْذ َزاغَ ِت األبْ َ
ص ُار ْ َْ ْ ْ َُ ُ َ َْ َ ً َو ُجنُ ً ْ َ ْ َ َ
اهلل الظُّنُونَا[ األحزاب.]10 ،9 : وبلَغَ ِت الْ ُقلُوب الْحنَ ِاجر وتَظُنُّو َن بِ ِ
ُ َ ََ ََ
ثانيًا %:رحالت االعتبار
واملقصد من رحالت االعتبار هو الذهاب إىل األماكن اليت يتواجد فيها أهل البالء كاملستشفيات
واملالجئ ،ودور األيتام وأصحاب االحتياجات اخلاصة ،فهذه الرحالت هلا دور كبري يف إدراك حجم النعم
العظيمة اليت أمدنا اهلل هبا وأغرقنا فيها.
1
() رواه مسلم ( )2701كتاب الذكر والدعاء.
2
() الشكر البن أىب الدنيا.50/
115
وحبذا لو اصطحبنا يف هذه الرحالت أهلنا وأوالدنا ليدركوا معنا عظيم فضل اهلل.
يوما لتعرف قيمة نعمة احلرية.
أخي ,زر السجن ً
زر أقسام احلروق والكسور وأصحاب احلاالت احلرجة لتدرك قيمة نعمة العافية.
أغمض عينيك وتفكر يف صعوبة احلياة بدون أبصار.
ختيل نفسك ،وأنت تشاهد األخبار ،مكان أصحاب اجملاعات والزالزل واحلروب والنكبات مث ردد :يا
رب لك احلمد كما ينبغي جلالل وجهك وعظيم سلطانك.
وال تنس أن تقــول عنــد رؤيــة أهــل البالء :احلمــد هلل الــذي عافــاين مما ابتالكم بــه وفضــلين على كثــري ممن
خلق تفضيال.
116
فنطقتـ باحلكمة(.)1
فبعد إحصاء النعم ،وبعد رحالت االعتبار ،ويف أوقات اخللوة به سبحانه علينا أن نناجيه ونتحدث إليه
وحنمده على ما أنعم به علينا ،وحبذا لو تضمنت هذه املناجاة النعم بصورة تفصيلية ،وقد أحسن من قال
يف مناجاته:
1
() إحياء علوم الدين .5/6
117
من صور المناجاة:
عن أىب هريرة رضي اهلل عنه قال :دعا رجل من األنصار من أهل قباء النيب صلى اهلل عليه وسلم ،فلما
طَعِم وغسل يده – أو قال يديه – قال« :الحمد هلل الذي يُ ِ
طعم وال يُطعَم ،من َّ علينا فهدانا ،وأطعمنا
مودع ربي ،وال مكافأ وال مكفور وال مستغنى عنه، وسقانا ،وكل بالء حسن أبالنا ،الحمد هلل غير ّ
صرالحمد هلل الذي أطعم من الطعام ،وسقى من الشراب ،وكسا من العُري ،وهدى من الضاللة ،وبَ َّ
ضل على كثير ممن خلق تفضيال ،الحمد هلل رب العالمين»(.)1 العمى ،وف ّ
من َ
فلتكن – أخي – مناجاتنا هلل بالثناء عليه ومدحه ،واالعرتاف بنعمه ،ولنداوم على ذلك حىت نذوق
حالوة حبه فنصل من خالل املناجاة إىل استشعار قربه منا وكأننا نراه فنكلمه على احلضور.
أما أفضل األوقات بالنسبة لساعات الليل والنهار ،فمما ال شك فيه أن املناجاة بالليل خاصة يف جوفه
اشئَةَ اللَّْي ِل ِه َي أَ َش ُّد
ونصفه األخري هلا تأثري عجيب على القلب ،وكيف ال وقد وصفها اهلل بذلك :إِ َّن نَ ِ
َوطئًا َوأَق َْو ُم قِيالً[ املزمل.]6 :
فأفضل األوقات اليت ميكن أن حيدث فيها مواطأة بني القلب واللسان هي ساعات الليل ،قال صلى اهلل
عليه وسلم« :أقرب ما يكون العبد من ربه في جوف الليل اآلخر»(.)2
ويف هذا املعىن يقول اإلمام حسن البنا – رمحه اهلل :-يا أخي لعل أطيب أوقات املناجاة أن ختلو بربك
والناس نيام ،واخلَليُّون هجع ،قد سكن الليل كله ،وأرخى سدوله ،وغابت النجوم ،فتستحضر قلبك،
وتتذكر ربك ،وتتمثل ضعفك وعظمة موالك فتأنس حبضرته ،ويطمئن قلبك بذكره ،وتفرح بفضله
ورمحته(.)3
وروى أبو نعيم بإسناده عن حسني بن زياد قال :أخذ فضيل بن عياض بيدي فقال :يا حسني ينزل
1
() أخرجه النسائي ،وابن السين ،واحلاكم ،وابن حبان ،وقال احلاكم :صحيح على شرط مسلم ،ووافقه الذهيب.
2
() صحيح ،أخرجه الرتمذي وغريه من حديث عمرو بن عبسة ،وصححه األلباين يف صحيح اجلامع ح (.)1173
3
() رسالة املناجاة حلسن البنا.
118
اهلل تعاىل كل ليلة إىل مساء الدنيا فيقول :كذب من ادعى حمبيت ،فإذا جنه الليل نام عين ،أليس كل حبيب
حيب اخللوة حببيبه ،ها أنذا مطلع على أحبايب إذا جنهم الليل مثلت نفسي بني أعينهم فخاطبوين على
غدا أقر أعني أحبايب يف جنايت»(.)1
املشاهدة ،وكلموين على الحضورً ،
وعن عنبسة بن األزهر قال :كان حمارب بن ِدثار ،قاضي أهل الكوفة ،قريب اجلوار مين ،فرمبا مسعته
يف بعض الليل يقول وهو يرفع صوته:
«أنا الصغري الذي ربيته فلك احلمد ،وأنا الضعف الذي قويته فلك احلمد ،وأنا الفقري الذي أغنيته فلك
العزب الذي
احلمد ،وأنا الغريب الذي وصلته فلك احلمد ،وأنا الصعلوك الذي َم َّولته فكل احلمد ،وأنا َ
اغب الذي أشبعته فلكـ احلمد ،وأنا العاري الذي كسوته فلك احلمد ،وأنا الس ُ
زوجته فلكـ احلمد ،وأنا َّ
املسافر الذي صاحبته فلك احلمد ،وأنا الغائب الذي َّأديته فلك احلمد ،وأنا الراجل الذي محلته فلك احلمد،
وأنا املريض الذي شفيته فلكـ احلمد ،وأنا السائل الذي أعطيته فلكـ احلمد ،وأنا الداعي الذي أجبته فلكـ
احلمد ،فلك احلمد ربنا محدا كثريا على ٍ
محد لك»(.)2 ً ً
سجود الشكر
ومن أفضل أوقات املناجاة والثناء على اهلل بنعمه :أثناء سجود الشكر ..ففي هذا السجود يكون
اإلنسان يف حالة من التأثر ،والتأجج املشاعري ملا يرى من إحسان ربه عليه ،لذلك علينا أن نستثمر هذا
الوقت مبناجاة اهلل وذكر نعمه ،ليزداد احلب ،والشعور باالمتنان جتاهه سبحانه.
فهذه الوسيلة هلا أكثر من فائدة :منها أهنا تذكر املتحدث مبا قد يكون غفل عنه ،فتجعلهـ يف حالة
دائمة من التذكر واالنتباه.
ومن فوائدها كذلك أهنا تدفعه إىل العمل مبا يقول حىت ال يدخل يف دائرة من يقول وال يفعل.
1
() استنشاق نسيم األنس .87/
2
() الشكر البن أىب الدنيا .75/
119
ومنها كذلك أهنا من أفضل األعمال اليت حيبها اهلل عز وجل ،ومن مثَّ فإهنا تعرض صاحبها لنفحات
احملبة اإلهلية.
عن أيب أمامة الباهلي أنه كان يقول :حببوا اهلل إىل الناس حيببكم اهلل(.)1
وجاء يف األثر أن اهلل عز وجل أوحى إىل داود عليه السالم:
يا داود أحبين ،وأحب من حيبين ،وحببين إىل خلقي .قال :يا رب ،هذا أحبك وأحب من حيبك،
فكيف أحببك إىل خلقك؟ قال :ذكرهم بآالئي فإهنم ال يذكرون مين إال خريا(.)2
وعن كعب قال :أوحى اهلل عز وجل إىل موسى عليه السالم :أحتب أن حتبك جنيت ومالئكيت ،وما
ذرأت من اجلن واإلنس؟ قال :نعم يا رب ،قال :حببين إىل خلقي ،قال :كيف أحببك إىل خلقك؟ قال:
ذكرهم آالئي ونعمائي ،فإهنم ال يذكرون مين إال كل حسنة»(.)3
وكان أبو الدرداء يقول :إن أحب عباد اهلل إىل اهلل عز وجل الذين حيبون اهلل وحيببون اهلل إىل الناس ،والذين
يراعون الشمس والقمر واألظلة لذكر اهلل عز وجل(.)4
نموذج عملي:
وإذا أردت أخي القارئ تطبي ًقا عمليًا هلذه الوسيلة فانظر إىل قوله تعاىل وهو خياطب فيه نبيه،
َّ ِ
ين
اء َك الذ َ ويعلمه طريقة الدعوة وما ينبغي أن يتضمنه خطاهبا من حتبيب الناس يف رهبمَ :وإِذَا َج َ
وء بِ َج َهال ٍَة ِ ِ ب َربُّ ُك ْم َعلَى َن ْف ِس ِه َّ ِ ِ ِ
الر ْح َمةَ أَنَّهُ َمن َعم َل م ْن ُك ْم ُس ً ُي ْؤمنُو َن بآيَاتنَا َف ُق ْل َسالَ ٌم َعلَْي ُك ْم َكتَ َ
يم[ األنعام.]54 : ثُ َّم تَاب ِمن بع ِد ِه وأَصلَح فَأَنَّه غَ ُف ِ
ور َّرح ٌ َ َْ َ ْ َ ُ ٌ
سنًا إِلَى ِ ِ ِ
اعا َح َ اسَت ْغف ُروا َربَّ ُك ْم ثُ َّم تُوبُوا إِل َْيه يُ َمت ْ
ِّع ُكم َّمتَ ً وهذا كثري يف القرآن تأمل قوله تعاىلَ :وأَن ْ
اب َي ْوٍم َكبِي ٍر[ هود.]3 :اف َعلَْي ُك ْم َع َذ َ َخ ُ ضلَهُ َوإِن َت َولَّ ْوا فَِإنِّي أ َ ت ُك َّل ِذي فَ ْ
ض ٍل فَ ْ أَج ٍل ُّمس ًّمى وي ْؤ ِ
َ َ َُ
ولقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مثاال كامال للداعية الذي حيبب الناس يف اهلل عز وجل،
ويدفعهم للفرار إليه مهما ارتكبوا من آثام.
1
() احملبة هلل سبحانه للجنيد.57 /
2
() املصدر السابق.63 /
3
() استنشاق نسيم األنس.46 ،45 /
4
() املصدر السابق.75 /
120
يوم ا من األيام شيخ كبري وهو يستند على عصاه ،فقال :يا نيب اهلل إن يل غدرات وفجرات فهل أتاه ً
يغفر اهلل يل؟ فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم :تشهد أن ال إله إال اهلل وأن محم ًدا رسول اهلل؟ قال :بلى يا
رسول اهلل .قال :فإن اهلل قد غفر لك غدراتك وفجراتك .فانطلق وهو يقول :اهلل أكرب اهلل أكرب(.)1
شاعرا يقذف النساء،
وكذلك كان صحابته :فهذا أبو هريرة رضي اهلل عنه يلقى الفرزدق وقد كان ً
وكانت الناس تكره فيه ذلك ،فماذا قال له أبو هريرة عندما لقيه؟
يقول الفرزدق :قال يل أبو هريرة :أنت الفرزدق؟ قلت :نعم .فقال :أنت الشاعر؟ قلت :نعم .فقال:
قوما يقولون ال توبة لك ،فإياك أن تقطع رجاءك من رمحة اهلل(.)2
أما إنك إن بقيت لقيت ً
علي بن احلسني فقال له :إن من وراء ابنك ثالث خالل: ومات لرجل ابن مسرف على نفسه ،فلقيه ّ
أما أوهلا فشهادة أن ال إله إال اهلل ،وأما الثانية فشفاعة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وأما الثالثة فرمحة اهلل
عز وجل اليت وسعت كل شيء(.)3
1
() أورده اهليثمي يف جممع الزوائد ،10/83ونسبه أليب يعلى والبزار والطرباين يف الصغري ورجاهلم ثقات.
2
() حسن الظن باهلل البن أيب الدنيا ص .69
3
() املصدر السابق.
121
قال سليمان :فإين أسال ريب أن جيعل قليب حيبه كما كان قلب أيب داود حيبه ،وأسال اهلل أن جيعل قليب
خيشاه كما كان قلب أيب داود خيشاه.
إلي أن أجعل قلبه يحبني،
فقال الرب تبارك وتعاىل« :أرسلت إلى عبدي ليسألني حاجة فكانت حاجته َّ
وأجعل قلبه يخشاني ،وعزتي ألكرمنه .فوهب له مل ًكا ال ينبغي ألحد من بعده(.»)1
***
1
() احملبة هلل سبحانه للجنيد خرب رقم (.)79
122
كلمة أخيرة
حول الطريق %إلى محبة اهلل
وخالصة القول أ ن الطريق إىل حمبة اهلل عز وجل – حمبة صادقة مثمرة – يبدأ بكثرة قراءة القرآن بفهم
وتأثر ،وكذلك بالتفكر اليومي يف أحداث احلياة اليت متر بنا وحتمل يف طياهتا مظاهر احلب اإلهلي لنا من
لطف ورمحة وقيومية وتذكري وتسخري.
ومع هاتني الوسيلتني العظيمتني اللتني من شأهنما إنشاء احملبة يف القلب وغرس بذرهتا وتأسيس
قاعدهتا ،تأيت األعمال الصاحلة بعد ذلك لرتفع البنيان وتسقي البذرة فال ترتكها إال بعد أن تصبح شجرة
وارفة مثمرة تؤيت أكلها كل حني بإذن رهبا.
وهذه األعمال هي ذكر النعم ،ورحالت االعتبار ،وكثرة احلمد باللسان ،ومناجاة اهلل بالنعم ،وحتبيب
وأخريا اإلحلاح على اهلل عز وجل بأن يرزقنا حمبته.
ً الناس يف اهلل عز وجل
نسأل اهلل عز وجل أن جيعل حبه يهيمن على قلوبنا وأن يفتح لنا باب األنس به والشوق إليه وأن
ضوا َع ْنهُ[ املائدة.]119: جيعلنا ممن قال يف شأهنم ي ِحُّب ُهم وي ِحبُّونَهُ[ املائدة ]54:وَّ ر ِ
ض َي اهللُ َع ْن ُه ْم َو َر ُ ُ ْ َُ
وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
َّ
والحمد هلل الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لوال أن هدانا اهلل
وللتواصل:
.www. Alemanawalan.Com
***
123
الفهـ ـ ـ ــرس
املوضوع
املقدمة ...............................................................
ولكننا حنب اهلل ! ......................................................
املعرفة طريق احملبة .....................................................
املعرفة النافعة ..........................................................
الفصل األول
أمهية احملبة الصادقة من العبد لربه
الثمار احللوة ..........................................................
أوالً :الرضا بالقضاء ...................................................
ثانيًا :التلذذ بالعبادة وسرعة املبادرة إليها .................................
ثالثًا :الشوق إىل اهلل ...................................................
رابعا :التضحية من أجله واجلهاد يف سبيله ............................... ً
خامسا :الرجاء والطمع فيما عند اهلل ....................................ً
سادسا :احلياء من اهلل ..................................................
ً
سابعا :الشفقة على اخللق .............................................. ً
124
الفهــــــــــرسـ
املوضوع
ثامنًا :الغرية هلل ........................................................
تاسعا :الغىن باهلل ......................................................
ً
الفصل الثاين
ملاذا حيب اهلل عباده؟
النفخة العلوية .........................................................
تكرمي اإلنسان .........................................................
نفسا؟! ........................................................ أليست ً
تقرب املالئكة إىل اهلل بالدعاء للبشر .....................................
مباهاته بعباده .........................................................
ضحكه سبحانه .......................................................
قدر املؤمن عند اهلل ....................................................
يكره سبحانه مساءة عبده املؤمن ........................................
فرحه – سبحانه – بتوبة العاصني ......................................
مراده أن تدخل اجلنة ...................................................
أحب العباد إىل اهلل ....................................................
أشد ما يغضبه .........................................................
املرحلة األخرية ........................................................
أهل املظامل ............................................................
الفصل الثالث
مظاهر حب اهلل تعاىل لعباده
متهيد................................................................ .
جوانب املعرفة....................................................... .
125
املوضوع
أوال :سبق فضله عليك قبل أن توجد................................... .
سبق الفضلـ يف التكرمي .................................................
املشهد العظيم .........................................................
سبق فضلـ الزمان ......................................................
تيسر احلياة ............................................................
سبق فضلـ املكان ......................................................
الوالدان ..............................................................
اللسان العريب .........................................................
سبق الفضلـ يف العافية ..................................................
كلمة ال بد منها .......................................................
ثانيًا :هدايته وعصمته ودوام عافيته..................................... .
هدايته لك ............................................................
العصمة ...............................................................
ثالثًا :قيامه على شئونك............................................... .
ال حول وال قوة إال باهلل.............................................. .
رابعا :تسخري الكون لك.............................................. .ً
أنت القائد ............................................................
أيها املدلل ............................................................
ختيل مث ختيل ..........................................................
سل نفسك ...........................................................
خامسا :كرمه البالغ ،وهداياه املتنوعة إليك..............................
ً
من األمري؟ ............................................................
كرمي يف عطاياه .......................................................
126
الفهــــــــــرسـ
املوضوع
اهلدايا املتنوعة .........................................................
شكرا ...................................................
يرضى باحلمد ً
رب شكور ...........................................................
كرم عجيب ..........................................................
سادسا :رمحته ورأفته بك ،وشفقته وحنانه عليك......................... ً
ال وجه للمقارنة .......................................................
وملاذا االبتالء؟! .......................................................
من فوائد االبتالء ......................................................
الشفقة اإلهلية .........................................................
االبتالء بالذنب واحلرمان من الطاعة .....................................
الرمحة الواسعة .........................................................
رب رءوف ...........................................................
رفع احلرج ............................................................
ال تنس أنك عبد ......................................................
شريعته كلها رمحة .....................................................
تقليل األعمال يف أعيننا ................................................
الرمحة املدَّخرة .........................................................
سابعا :تيسري طريقك إىل التوبة والرجوع إليه............................ً
ال حيوجنا إىل املشي الكثري ..............................................
بابه مفتوح للجميع ....................................................
أقبل وال ختف .........................................................
يعلمنا ما نقوله لنتوب ..................................................
عدم االستقصاء .......................................................
127
املوضوع
يسهل علينا طريق التوبة ................................................
لننتهز الفرصة .........................................................
ثامنًا :حلمه وصربه وسرته لك......................................... .
كان معنا .............................................................
غضبة الكون ..........................................................
اخلليل يرى امللكوت ...................................................
الستري ................................................................
تاسعا :خطابه الودود الذي خياطبك به................................. .ً
من أنت؟ .............................................................
خطاب يطمئن مستمعه ................................................
ولنبدأ بصيغة النداء ....................................................
خطاب يقول لك :أقبل وال ختف .......................................
خطاب يستثري اهلمم ...................................................
النصائح الغالية ........................................................
التوجيه غري املباشر .....................................................
مراعاة النفسية البشرية .................................................
ما بال أقوام؟! .........................................................
ملاذا العقاب؟ ..........................................................
مواساته للمبتلني .......................................................
ويف النهاية ............................................................
عاشرا :ترغيبك وترهيبك ..............................................ً
الرتبية الربانية .........................................................
هل قامت القيامة؟! ....................................................
128
الفهــــــــــرسـ
املوضوع
اللص والسجن ........................................................
مشول الرتغيب والرتهيب ...............................................
مجيعا ...........................................................
الناس ً
الرتهيب والرتغيب يف قصص السابقني ...................................
الرسائل اإلهلية ........................................................
املستقبل والرتغيب والرتهيب ...........................................
الرتغيب والرتهيب يف أفعال العباد .......................................
الفصل الرابع
الوسائل العملية لتمكني حب اهلل يف القلبـ
أمران البد منهما ......................................................
وسائل التذكري مبعارف احملبة ............................................
أوال :القرآن ودوره يف إنشاء اإلميان والتذكري مبعارف احملبة................
ثانيًا :التفكر يف الكون وأحداث احلياة ...................................
ال بديل عن التفكر ....................................................
تفكر يقود إىل احملبة ....................................................
األعمال الصاحلة املقرتح القيام هبا .......................................
أوال :ذكر النعم .......................................................
العبادة املهجورة .......................................................
كيفية ذكر النعم ......................................................
القرآن يعلمنا ..........................................................
ثانيًا :رحالت االعتبار .................................................
ثالثًا :كثرة احلمد ......................................................
رابعا :مناجاة اهلل بالنعم ................................................
ً
129
املوضوع
من صور املناجاة ......................................................
أفضل أوقات املناجاة ..................................................
سجود الشكر ........................................................
خامسا :حتبيب الناس يف اهلل عز وجل ...................................
ً
سادسا :اإلحلاح على اهلل بأن يرزقنا حبه .................................
ً
كلمة أخرية حول الطريق إىل حمبة اهلل ....................................
الفهرس ...............................................................
130
الفهــــــــــرسـ
131
132
الفهــــــــــرسـ
***
133