You are on page 1of 34

‫الملتقى الدولي حول‪:‬‬

‫مقومات تحقيق التنمية المستدامة في االقتصاد اإلسالمي‬


‫جامعة قالمة يومي ‪ 30‬و‪ 30‬ديسمبر ‪2302‬‬

‫أثر الوقف في التنمية المستدامة‬


‫(جامعة سلمان بن عبدالعزيز السعودية)‬ ‫د‪.‬عبدالرحمن بن عبدالعزيز الجريوي‬

‫المقدمة‪:‬‬

‫احلمد هلل رب العاملني‪ ،‬والصالة والسالم على خامت النبيني‪ ،‬وعلى آله وصحبه أمجعني‪ ،‬أما بعد‪:‬‬

‫فإن الوقف اإلسالمي يعد نظاماً نشأ وتطور يف ظل احلضارة اإلسالمية ‪ ،‬فقد عرفت األوقاف منذ عهد النبوة وعرب‬
‫وتنوعاً واتساعاً ‪ ،‬حيث مل تقتصر على العناية بفئات اجملتمع فحسب ‪ ،‬بل تعدهتا إىل العناية بكل‬‫العصور اإلسالمية منواً ّ‬
‫ما يعتمد عليه الناس يف معيشتهم ‪ ،‬وغطي بانتشاره خمتلف جوانب احلياة من النواحي الشرعية ‪ ،‬والعلمية ‪ ،‬والثقافية ‪،‬‬
‫والصحية ‪ ،‬واإلنسانية ‪ ،‬والسياسية‪ ،‬واالقتصادية ‪ ،‬واالجتماعية ‪ ،‬واخلدمية ‪ ،‬وغريها‪.‬‬

‫وميثل اليوم ركيزة أساسية من ركائز التنمية املستدامة ‪ ،‬حيث يقوم الوقف على أساس الدميومة واالستمرار ‪ ،‬ويسعى‬
‫طواعية إىل استدراك جوانب اخللل يف التوزيع والتملك ‪ ،‬وما ينجم عنها من قصور يف إشباع احلاجات األساسية والثانوية‬
‫للمجتمع‪.‬‬

‫ويناقش هذا البحث (أثر الوقف في التنمية المستدامة) هذه اجلوانب املتعددة ‪ ،‬حيث تأيت أمهية هذا املوضوع من‬
‫خالل استقراء هذا النمط من أمناط التنمية ‪ ،‬وكيف أن الدول قاطبة تسعى إىل اختاذ كل التدابري الالزمة لتحقيق هذه‬
‫التنمية‪.‬‬

‫‪861‬‬
‫الفصل األول ‪:‬‬

‫الوقف وماهيته‬

‫المبحث األول ‪ :‬تعريف الوقف‬

‫المبحث الثاني ‪ :‬التأصيل الشرعي للوقف‬

‫المبحث الثالث ‪ :‬أركان الوقف وشروطه‬

‫المبحث الرابع ‪ :‬أنواع الوقف‬

‫المبحث الخامس ‪ :‬مقاصد الوقف وأغراضه‬

‫المبحث األول‪ :‬تعريف الوقف‪:‬‬

‫أوالا‪ :‬التعريف اللغوي‪:‬‬

‫الوقف بفتح فسكون ‪ :‬مصدر وقف الشيء وأوقفه‪ ،‬يقال‪ :‬وقف الشيء وأوقفه وقفاً أي حبسه‪ ،‬ومنه وقفف داره‬
‫أو أرضففه علففى الفقفراء ألنففه ففبه امللففك علففيهم‪ ،‬قففال ابففن فففارس‪« :‬الفواو والقففاف والفففاء أصففل واحففد يففدل علففى كففث يف‬
‫الشيء يقاس عليه»(‪ )1‬ومن هذا األصل املقيه عليه يؤخذ الوقف فإنه ماكث األصل‪.‬‬

‫فففالوقف ل ففة ‪ :‬احلففبه‪ ،‬والوقففف والتحبففيه والتسففبيل ‪،‬عف واحففد‪ ،‬وهففو‪ :‬احلففبه واملنففع(‪ )2‬يقففال‪ :‬وقففف وقف فاً أي‪:‬‬
‫حبسه‪ ،‬ويقال‪ :‬وقفت الفدار وقففاً أي‪ :‬حبسفتها يف سفبيل اهلل‪ ،‬وشفيء موقفوف‪ ،‬واجلمفع وقفوف وأوقفاف مثفل افوب وأافواب‬
‫ووقففت وأوقففات ‪ ,‬ووقفففت الرجففل عففن الشففيء وقففاً منعتففه عنففه‪ ،‬وًففى املوقففوف وقف فاً ألن العففني موقوفففة‪ ،‬وحبسفاً ألن العففني‬
‫حمبوسة‪.‬‬
‫والفصيح أن يقال ‪ :‬وقفت كذا ف بدون األلف ف وال يقال‪ :‬أوقفت ف باأللف ف إال يف ل فة يميفة وهفي رديئفة وعليهفا‬
‫العامة وهي ‪،‬ع سكت وأمسك وأقلع(‪.)3‬‬

‫قال عنرتة بن شداد‪:‬‬

‫فد ٌن ِ‬
‫ألقضي حاجة املت ِّلوم‬ ‫ووقفت فيها ناقيت فكأَّنا‬

‫(‪ )1‬معجم مقاييه الل ة‪.831/6 :‬‬


‫(‪ )2‬انظر مادة (وقف)‪ :‬القاموس احمليط للفريوز آبادي ‪.501/3‬‬
‫(‪ )3‬انظر‪ :‬القاموس احمليط ‪501/3‬‬
‫‪861‬‬
‫ومنه املوقف ألن الناس يوقفون أي بسون للحساب(‪.)4‬‬

‫واحلبه‪ :‬بضم احلاء وسكون الباء ‪،‬ع الوقف‪ ،‬وهو كل شيء وقفه صاحبه من أصول أو غريها‪ ،‬به أصله‬
‫وتسبل غلته(‪.)5‬‬

‫والفقهاء يعربون أحياناً بالوقف وأحياناً باحلبه إال أن التعبري بالوقف عندهم أقوى‪ .‬وقد يعرب عن الوقف بلفظ‬
‫الصدقة بشرط أن يقرتن معها ما يفيد قصد التحبيه(‪.)6‬‬

‫ومجع احلبه حبه ‪ -‬بضم الباء‪ -‬كما قاله األزهري(‪ ، )7‬وأحبه باأللف أكثر استعماالً من حبه(‪ ،)8‬عكه‬
‫وقف‪ ،‬فاألوىل فصيحة‪ ،‬والثانية رديئة‪.‬‬

‫واحتبه فرساً يف سبيل اهلل أي‪ :‬وقفت‪ ،‬فهو حمتبه وحبيه‪ ،‬واحلبه بالضم ما وقف(‪.)9‬‬
‫واحلبيه‪ :‬فعيل ‪،‬ع مفعول أي حمبوس على ما قصد له‪ ،‬ال جيوز التصرف فيه ل ري ما صري له(‪.)10‬‬
‫واشتهر إطالق كلمة الوقف على اسم املفعول وهو املوقوف‪.‬‬

‫ويعرب عن الوقف باحلبه‪ ،‬ويقال يف امل رب‪ :‬وزير األحباس‪.‬‬

‫ثاني ا‪ :‬التعريف االصطالحي‪:‬‬

‫تعددت تعريفات الفقهاء للوقف اختلفوا يف ذلك‪ ،‬ويعود هذا االختالف إىل اختالف مذاهبهم فيه‪ ،‬وإىل‬
‫االعتبارات أو األوجه اليت نظروا إليه منها‪ ،‬فجاءت اإلضافات‪ ،‬والتقيدات للتعريف من أجل ذلك‪ ،‬وباعتبار من يصح‬
‫منه‪ ،‬وما يصح فيه‪ ،‬وملكيته(‪ ،)11‬من حيث انتقاهلا إىل ملك املوقوف عليه أو إىل ملك اهلل تعاىل‪ ،‬أو تبقى على ملك‬
‫الواقف‪.‬‬

‫(‪ )4‬كتاب اإلسعاف يف أحكام األوقاف للطرابلسي ص‪3/‬‬


‫(‪ )5‬القاموس احمليط ‪.501/5‬‬
‫(‪ )6‬كتاب شرح ألفاظ الواقفني والقسمة على املستحقني للحطاب ص‪.88/‬‬
‫(‪ )7‬هو‪ :‬حممد بن أمحد بن األزهر اهلروي األزهري الشافعي (أبو منصور) (‪370-515‬هف) كان فقيهاً صاحلاً غلب عليه علم الل ة‪ ،‬من‬
‫تصانيفه‪ :‬هتذيب الل ة‪ ،‬شرح الفاظ خمتصر املزين ‪ ،‬الزاهر يف غرائب األلفاظ‪ .‬انظر‪ :‬هتذيب الل ة ‪ ،345/4‬طبقات الشافعية لألسنوي‬
‫‪ ،41/8‬تذكرة احلفاظ للذهيب ‪.160/3‬‬
‫(‪ )8‬هتذيب الل ة لألزهري ‪.345/4‬‬
‫(‪ )9‬الصحاح للجوهري ‪.181/3‬‬
‫(‪ )10‬القاموس احمليط ‪ ،501/5‬لسان العرب ‪.715/5‬‬
‫(‪ )11‬انظر د‪ .‬حممد الكبيسي‪ ،‬أحكام الوقف يف الشريعة اإلسالمية ‪.11– 1 1/8‬‬
‫‪870‬‬
‫‪ )0‬الوقف عند فقهاء الحنفية‪:‬‬

‫الوقف عند أيب يوسف(‪)12‬وحممد بن احلسن(‪ )13‬رمحهم اهلل تعاىل‪ :‬قال صاحب تنوير األبصار(‪ :)14‬وعندمها هو‬
‫حبسها على ملك اهلل تعاىل وصرف منفعتها على من أحب‪.‬‬

‫وقد زاد صاحب الدر املختار(‪ )15‬كلمة «حكم» بعد «على» وقبل «ملك اهلل تعاىل» ليفيد أنه مل يبق على ملك‬
‫الواقف وال انتقل إىل ملك غريه بل صار على حكم ملك اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪ )2‬تعريف الوقف عند فقهاء المالكية‪:‬‬


‫(‪)16‬‬
‫رمحه اهلل تعريف الوقف بأنه‪ :‬إعطاء منفعة شيء مدة وجوده الزماً بقاؤه يف ملك معطيه ولو‬ ‫ذكر ابن عرفة‬
‫تقديرا(‪.)17‬‬

‫‪ )0‬تعريف الوقف عند فقهاء الشافعية‪:‬‬

‫عرفه اإلمام النووي عن األصحاب بقوله(‪ : )18‬حبه مال ميكن االنتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف يف رقبته‬ ‫ّ‬
‫وتصرف منافعه إىل الرب تقربا إىل اهلل تعاىل‪.‬‬

‫‪ )0‬تعريف الوقف عند فقهاء الحنابلة‪:‬‬

‫(‪ )12‬هو‪ :‬يعقوب بن إبراهيم بن حبيب األنصاري‪ ،‬الكويف‪ ،‬الب دادي (أبو يوسف) (‪815-883‬هف) فقيه‪ ،‬أصويل‪ ،‬حمدث‪ ،‬عامل‬
‫بالتفسري وامل ازي وأيام العرب‪ ،‬صاحب اإلمام أيب حنيفة وتفقه عليه‪ ،‬من آااره‪ :‬كتاب اخلراج‪ ،‬املبسوط يف فروع الفقه احلنفي‪ .‬انظر ترمجته‬
‫يف‪ :‬تاريخ ب داد‪ ،545/84‬اجلواهر املضيئة‪ ،688/3‬وفيات األعيان‪ ،371/6‬تاج الرتاجم ص‪.18/‬‬
‫(‪ )13‬هو حممد بن احلسن الشيباين بالوالء‪ ،‬احلنفي (أبو عبداهلل) (‪811-831‬هف) فقيه‪ ،‬جمتهد‪ ،‬حمدث‪ ،‬وهو الذي نشر علم أيب‬
‫حنيفة‪ ،‬من تصانيفه‪ :‬اجلامع الكبري‪ ،‬والسري‪ ،‬واألصل‪ ،‬واحلجة على أهل املدينة‪ .‬انظر ترمجته يف‪ :‬تاريخ ب داد ‪ ،875/5‬تاج الرتاجم‬
‫ص‪ ،14‬وفيات األعيان ‪.814/4‬‬
‫(‪ )14‬تنوير األبصار بشرحه الدر املختار هبامش حاشية ابن عابدين ‪.331/4‬‬
‫(‪ )15‬الدر املختار هبامش حاشية ابن عابدين ‪331/4‬‬
‫مي ‪ ،‬التونسي‪ ،‬املالكي‪ ،‬ويعرف بابن عرفه (أبو عبداهلل) (‪103-786‬هف) مقرئ‪ ،‬فقيه‪،‬‬ ‫(‪ )16‬حممد بن حممد بن حممد بن عرفة الورغ ّ‬
‫أصويل‪ ،‬متكلم‪ ،‬فرضي‪ ،‬إمام تونه وعاملها وخطيبها يف عصره‪ ،‬من تآليفه ‪ :‬خمتصر الفرائض‪ ،‬احلدود يف التعاريف الفقهية‪ ،‬املختصر الكبري‬
‫يف فقه املالكية‪ .‬انظر ترمجته يف‪ :‬البدر الطالع ‪ ،511/5‬شذرات الذهب ‪ ،31/7‬الديباج املذهب ص‪.331/‬‬
‫(‪ )17‬جواهر اإلكليل شرح خمتصر خليل ‪.501/5‬‬
‫(‪ )18‬حترير ألفاظ التنبيه للنووي ص‪ ،537/‬هتذيب األًاء والل ات ‪ ،814/4‬تيسري الوقوف على غوامض أحكام الوقوف للمناوي‬
‫‪ ،834/8‬التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص‪ ،738/‬كفاية األخيار ‪ ،381/8‬شرح ال زي على منت أيب شجاع ‪،43/5‬‬
‫تصحيح التنبيه للنووي ص‪ ،14/‬حترير املقال فيما ل و رم من بيت املال للبالطنسي ص‪.873/‬‬
‫‪878‬‬
‫(‪)20‬‬ ‫(‪)19‬‬
‫يف هذا‬ ‫بأنه ‪ :‬حتبيه األصل وتسبيل املنفعة‪ ،‬ووافقه الشمه املقدسي‬ ‫عرفه املوفق بن قدامة يف املقنع‬
‫ّ‬
‫(‪)21‬‬
‫التعريف ‪.‬‬

‫عرفه يف امل ين(‪ )22‬والعمدة (‪ )23‬بأنه ‪ :‬حتبيه األصل‪ ،‬وتسبيل الثمرة‪.‬‬


‫وّ‬
‫وقالوا‪ :‬إن السبب يف مجع الشارع بني لفظيت التحبيه والتسبيل تبيني حلاليت االبتداء والدوام‪ ،‬فإن حقيقة الوقف‬
‫ابتداء حتبيسه ودواما تسبيل منفعته‪ ،‬وهلذا ح ّد كثري من أصحاب اإلمام أمحد(‪ )24‬الوقف بأنه‪ :‬حتبيه األصل وتسبيل‬
‫الثمرة أو املنفعة(‪.)25‬‬

‫وتعريف ابن قدامة رمحه اهلل من أجود ما عِّرف به الوقف وأوج ِزه‪ .‬وهو مأخوذ من قول النيب الكرمي ف صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ف لعمر بن اخلطاب‪( :‬إن شئت حبست أصلها وتصدقت هبا)(‪.)26‬‬

‫قال الشيخ حممد أبو زهرة‪( :‬أمجع تعريف ملعانفي الوقفف عند الذين أجازوه أنه حبه العني وتسبيل مثرهتا‪ ،‬أو حبه‬
‫عني للتصدق ‪،‬نفعتها‪ ،‬أو كما قال ابن حجر العسقالين يف فتح الباري‪( :‬إنه قطع التصرف يف رقبة العني اليت يدوم‬
‫االنتفاع هبا وصرف املنفعة) ‪ ،‬فقوام الوقف يف هذه التعريفات املتقاربة‪ ،‬حبه العني فال يتصرف فيها بالبيع‪ ،‬والرهن‪،‬‬
‫واهلبة‪ ،‬وال تنتقل باملرياث‪ ،‬واملنفعة تصرف جلهات الوقف على مقتضى شروط الواقفني(‪.)27‬‬

‫(‪ )19‬املقنع ‪ ،307/5‬الشرح الكبري على منت املقنع ‪.811/6‬‬


‫(‪ )20‬عبدالرمحن بن حممد بن أمحد بن قدامة املقدسي اجلماعيلي ‪ ،‬احلنبلي (مشه الدين) (‪615-117‬هف) فقيه‪ ،‬أصويل‪ ،‬حمدث‪ ،‬تفقه‬
‫على عمه موفق الدين‪ ،‬وروى عنه حمي الدين النووي وغريه ‪ ،‬من تصانيفه ‪ :‬شرح املقنع لعمه موفق الدين‪ ،‬تسهيل املطلب يف حتصيل‬
‫املذهب‪ .‬انظر ترمجته يف‪ :‬ذيل طبقات احلنابلة ‪ ، 304/5‬شذرات الذهب ‪.376/1‬‬
‫(‪ )21‬الشرح الكبري على منت املقنع ‪.811/6‬‬
‫(‪ )22‬امل ين ‪.117/1‬‬
‫(‪ )23‬العمدة يف فقه إمام السنة أمحد بن حنبل الشيباين ص‪.510/‬‬
‫(‪ )24‬هو اإلمام اجملتهد أمحد بن حممد بن حنبل الشيباين املروزي أبو عبداهلل (‪548-864‬هف) إمام يف احلديث والفقه‪ ،‬أحد األئمة‬
‫األربعة اجملتهدين‪ ،‬صاحب املذهب احلنبلي‪ ،‬له من الكتب‪ :‬املسند يف احلديث‪ ،‬كتاب الزهد‪ ،‬الناسخ واملنسوخ‪ .‬انظر ترمجته يف‪ :‬تاريخ‬
‫ب داد‪ ،485/4‬هتذيب األًاء والل ات‪.880/8‬‬
‫(‪ )25‬شرح منتهى االرادات ‪.410/5‬‬
‫(‪ )26‬انظر د‪.‬حممد الكبيسي‪ ،‬أحكام الوقف اإلسالمي ‪ ،11/8‬وحممد بن عبد اهلل‪ ،‬الوقف يف الفكر اإلسالمي ‪ 46/8‬وسيأيت ختريج‬
‫احلديث‪.‬‬
‫(‪ )27‬حممد أبوزهرة‪ ،‬حماضرات يف الوقف ص‪.41– 44‬‬
‫‪875‬‬
‫المبحث الثاني‪ :‬التأصيل الشرعي للوقف‪:‬‬

‫الوقف من أعظم القربات اليت يتقرب هبا العبد إىل اهلل تعاىل‪ ،‬وهو مندوب الفعل‪ ،‬ال فرق يف ذلك يف وقف على‬
‫جهة مفن اجلهفات العامفة‪ ،‬كفالفقراء‪ ،‬وابفن السفبيل‪ ،‬وطلبفة العلفم‪ ،‬أو وقفف علفى القرابفة‪ ،‬والذريفة(‪ ،)28‬دلفت علفى مشفروعيته‬
‫نصوص عامة من القرآن الكرمي ‪ ،‬وفصلته أحاديث من السنة النبوية املطهرة ‪ ،‬وعمل به الصحابة الكفرام ف رضفي اهلل عفنهم‬
‫فف‪ ،‬وأمجعفت األمفة مفن السفلف واخللفف علفى مشفروعيته‪ ،‬وذهفب مجهفور العلمفاء إىل لزومفه(‪ ،)29‬سفوى مفا نقفل عفن القاضففي‬
‫شريح‪ ،‬وهو رواية عن أيب حنيفة النعمان‪.‬‬

‫وقد نقفل غفري واحفد مفن أهفل العلفم اتففاق العلمفاء علفى جفوازه واخفتالفهم يف لزومفه(‪ ،)30‬كفابن هبفرية ف رمحفه اهلل ف‬
‫وغريه‪.‬‬

‫بيان مشروعية الوقف‪:‬‬

‫أوالا‪ :‬النصوص العامة من القرآن الكريم‪:‬‬

‫‪ .1‬قول اهلل جل وعال‪« :‬لن تنالوا الرب حىت تنفقوا مما حتبون ‪ ،‬وما تنفقوا من شيء فإن اهلل به عليم» (‪ .)31‬وقد جاء‬
‫يف الصفحيحني ‪ ،‬عفن أنفه بفن مالفك ف رضفي اهلل عنفه ف أنفه قفال ‪ :‬كفان أبفو طلحفة أكثفر األنصفار باملدينفة مفاالً مفن فل ‪،‬‬
‫وكان أحب أمواله إليه بِريحاء(‪ ، )32‬وكانت مستقبلة املسجد ‪ ،‬وكان رسول اهلل ف صلى اهلل عليه وسلم ف ‪ ،‬يدخلها ويشفرب‬
‫من ماء فيها طيب ‪ ،‬قال أنه ‪ :‬فلما أنزلت هذه اآلية ‪« :‬لن تنالوا الرب حفىت تنفقفوا ممفا حتبفون» قفام أبفو طلحفة إىل رسفول‬
‫اهلل ‪ ،‬صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقفال ‪ :‬يفا رسفول اهلل ‪ ،‬إن اهلل تبفارك وتعفاىل يقفول ‪« :‬لفن تنفالوا الفرب حفىت تنفقفوا ممفا حتبفون»‪،‬‬
‫إيل بريحففاء ‪ ،‬وإَّنففا صففدقة هلل‪ ،‬أرجففو ّبرهففا وذخرهففا عنففد اهلل فضففعها يففا رسففول اهلل حيففث أراك اهلل‪ .‬قففال‪:‬‬
‫وإن أحففب أم فوايل ّ‬
‫فقال رسول اهلل ‪ ،‬صلى اهلل عليه وسلم ‪« :‬بخ(‪ )33‬ذلك مال رابح ‪ ،‬ذلك مال رابح ‪ ،‬وقد ًعت ما قلت ‪ ،‬وإين أرى أن‬
‫جتعلها يف األقربني»‪ .‬فقال أبو طلحة‪ :‬أفعل يا رسول اهلل ‪ .‬فقسمها أبو طلحة يف أقاربه وبين عمه‪.‬‬
‫‪ .2‬عموم اآليات اليت حتث على اإلنففاق وخباصفة صفدقة التطفوع‪ ،‬وقفد تكفررت يف القفرآن الكفرمي آيفات كثفرية يف هفذا‬
‫املقام‪ ،‬منها على سبيل املثال ال احلصر‪:‬‬

‫(‪ )28‬د‪ .‬حممد الكبيسي‪ ،‬أحكام الوقف يف الشريعة اإلسالمية‪ ،‬ص‪.16– 13‬‬
‫(‪ )29‬القرطيب‪ ،‬اجلامع ألحكام القرآن ‪.331– 331/6‬‬
‫(‪ )30‬ابن هبريه‪ ،‬اإلفصاح عن معاين الصحاح ‪.15/5‬‬
‫(‪ )31‬سورة آل عمران‪ ،‬آية ‪15‬‬
‫(‪ )32‬بريحاء على صي ة فعيل من الرباح وهي األرض الظاهرة‪ .‬انظر‪ :‬ابن منظور ‪ ،‬لسان العرب ‪ ،‬ج‪ ، 5‬ص ‪.485‬‬
‫(‪ )33‬بخ‪ ،‬كلمة إعجاب ورضا بالشيء ومدح به ‪ ،‬ختفف وتثقل‪ ،‬وإذا كررت فاالختيار أن ينون األول ويسكن الثفاين‪ ،‬وفيهفا أربفع ل فات‪:‬‬
‫اجلففزم‪ ،‬واخلفففض‪ ،‬والتنففوين‪ ،‬والتخفيففف‪ .‬انظففر‪ :‬اخلطففايب‪ ،‬غريففب احلففديث‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪ . 68‬وتسففتعمل أحيانًففا لإلنكففار وقففد تكففون معربففة‬
‫عن كلمة (به) الفارسية‪ .‬انظر ‪ :‬أمحد رضا ‪ ،‬معجم منت الل ة ‪ ،‬ج‪ ، 8‬ص ‪.547‬‬
‫‪873‬‬
‫‪ ‬قوله تعاىل‪" :‬وما يفعلوا من خري فلن يكفروه واهلل عليم باملتقني"(‪.)34‬‬
‫‪ ‬قوله تعاىل‪ " :‬يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا اخلري لعلكم تفلحون"(‪.)35‬‬
‫‪ ‬قوله تعاىل‪" :‬يا أيها الذ ين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من األرض وال تيمموا اخلبيث منه‬
‫تنفقون ولستم بآخذيه إال أن ت مضوا فيه واعلموا أن اهلل غين محيد"(‪.)36‬‬
‫إىل غري ذلك من آيات احلث على الرب‪ ،‬والبذل يف وجوه اخلري(‪ ،)37‬اليت تشمل الوقف باعتباره من أوجه اإلنفاق‬
‫يف الرب واخلري‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬نصوص السنة المطهرة‪: ،‬‬

‫ابت الوقف بقول النيب ف صلى اهلل عليه وسلم ف وفعله وإقراره (‪، )38‬ا ورد يف شأنه من أحاديث عدة منها‪:‬‬

‫حديث أيب هريرة رضي اهلل عنه قال‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪( :‬من احتبه فرساً يف سبيل اهلل إمياناً‪،‬‬ ‫‪.1‬‬
‫واحتساباً فإن شبعه‪ ،‬ورواه‪ ،‬وبوله‪ ،‬يف ميزانه يوم القيامة حسنات)(‪.)39‬‬
‫حففديث وقففف عمففر بففن اخلطففاب رضففي اهلل عنففه ‪ ،‬وقففد قففال احلففافظ ابففن حجففر يف هففذا احلففديث‪( :‬وحففديث عمففر‬ ‫‪.2‬‬
‫هفذا أصل يف مشفروعية الوقف)(‪ . )40‬واحلديث عن ابن عمر رضي اهلل عنهما فيمفا رواه اإلمفام البخفاري وغفريه ‪ :‬أن عمفر‬
‫خريا منه ‪ ،‬فما تأمرين؟ فقفال ‪:‬‬ ‫ُّ‬
‫أرضا من أرض خيرب ‪ ،‬فقال‪ :‬يا رسول اهلل ‪ ،‬أصبت ماالً خبيرب مل أصب قط ماالً ً‬ ‫أصاب ً‬
‫(إن شفئت حبسفت أصفلها وتصفدقت هبفا ‪ ،‬غفري أنفه ال يبفاع أصفلها ‪ ،‬وال يبتفاع ‪ ،‬وال يوهفب ‪ ،‬وال يفورث) قفال ابفن عمففر ‪:‬‬
‫فتصدق هبا عمر على أالّ تباع ‪ ،‬وال توهب ‪ ،‬وال تورث‪ ،‬يف الفقراء ‪ ،‬وذي القرىب ‪ ،‬والرقاب ‪ ،‬والضعيف ‪ ،‬وابن السبيل ‪،‬‬
‫وال جناح على من وليها أن يأكل منها باملعروف ‪ ،‬ويطعم غري متمول(‪.)41‬‬
‫جاء يف نصب الراية للزيلعي ‪ :‬أن هناك لرجل من بفين غففار عينفا يقفال هلفا ‪ :‬رومفة ‪ ،‬وكفان يبيفع منهفا القربفة ‪،‬فد ‪،‬‬ ‫‪.3‬‬
‫فقففال لففه صففلى اهلل عليففه وسففلم ‪( :‬أتبعنيهففا بعففني يف اجلنففة ) ؟ فقففال ‪ :‬يففا رسففول اهلل‪ ،‬صففلى اهلل عليففه وسففلم ‪ ،‬لففيه يل وال‬

‫(‪ )34‬سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.881‬‬


‫(‪ )35‬سورة احلج‪ ،‬اآلية ‪.77‬‬
‫(‪ )36‬سورة البقرة‪ ،‬اآلية ‪.567‬‬
‫(‪ )37‬ميكف ف ف ف ف ف ف ففن ملف ف ف ف ف ف ف ففن أراد أن يرجف ف ف ف ف ف ف ففع إىل بعف ف ف ف ف ف ف ففض منهف ف ف ف ف ف ف ففا أن ينظف ف ف ف ف ف ف ففر علف ف ف ف ف ف ف ففى سف ف ف ف ف ف ف ففبيل املثف ف ف ف ف ف ف ففال ‪ :‬سف ف ف ف ف ف ف ففورة البقف ف ف ف ف ف ف ففرة اآليف ف ف ف ف ف ف ففات‪:‬‬
‫‪ 574،561،565،568،514،581،581،3‬؛ وسففورة آل عمفران ‪ ،‬اآليتففان ‪ 834،887 :‬؛ وسففورة النسففاء ‪ ،‬اآليففات ‪31،34 :‬؛‬
‫وسففورة األنفففال ‪ ،‬اآليففة ‪ 3 :‬؛ وسففورة التوبففة‪ ،‬اآليففة ‪ 13 :‬؛ وسففورة احلففج ‪ ،‬اآليففة ‪ 31‬؛ والقصف ‪ 14‬؛ والسففجدة ‪ 86‬؛ والشففورى ‪ 45‬؛‬
‫والفرقان ‪ 67‬؛ واحلديد ‪.80‬‬
‫(‪ )38‬انظر ‪ :‬إبراهيم بن عبد اهلل ال صن‪ ،‬التصرف يف الوقف ‪.64/8‬‬
‫(‪ )39‬رواه أمحد والبخاري‪.‬‬
‫(‪ )40‬انظر‪ :‬فتح الباري ‪ ،‬ج‪ ، 1‬ص ‪.405‬‬
‫(‪ )41‬صحيح البخاري ‪ ،‬ج‪ ، 5‬ص ‪.70‬‬
‫‪874‬‬
‫لعيايل غريها‪ .‬فبلغ ذلك عثمان بن عفان رضي اهلل عنه ‪ ،‬فاشرتاها منه خبمسة واالاني ألف درهم ‪ ،‬مث أتى النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬فقال ‪ :‬أجتعل يل ما جعلت له ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬قد جعلتها للمسلمني(‪.)42‬‬
‫مفا ورد عفن النفيب ‪ ،‬صفلى اهلل عليفه وسفلم يف الصفدقة اجلاريفة ‪ ،‬حيفث قفال ‪ ( :‬إذا مفات ابفن آدم انقطفع عملفه إال‬ ‫‪.4‬‬
‫من االث ‪ :‬صدقة جارية ‪ ،‬أو علم ينتفع به ‪ ،‬أو ولد صاحل يدعو له )(‪ .)43‬والصدقة اجلارية هي اليت تتجدد منافعها عرب‬
‫الزمن كسك الدار ‪ ،‬وركوب الدابة ‪ ،‬وماء البئر‪.‬‬
‫وأما فعل النيب صلى اهلل عليه وسلم للوقف‪ ،‬فقد ابتدأ ‪،‬سجد قباء‪ ،‬الذي أسسه عليه الصالة والسالم حني قدم‬
‫إىل املدينة قبل أن يدخلها‪ ،‬مث املسجد النبوي يف املدينة ‪ ،‬كما أوقف عليه الصالة والسالم سبعة حوائط لرجل مفن اليهفود‬
‫يففدعى خمرييففق‪ ،‬قتففل يففوم أحففد‪ ،‬وكففان قففد أوصففى‪ ،‬إن أصففبت فففأموايل لرسففول اهلل صففلى اهلل عليففه وسففلم‪ ،‬يضففعها حيففث أراه‬
‫اهلل(‪.)44‬‬
‫وإما إقراره فقد روى أبو هريرة رضي اهلل عنه أن النيب صلى اهلل عليه وسلم قال‪( :‬فأما خالد فقد احتبه أدراعفه‪،‬‬
‫وأعتاده يف سبيل اهلل)(‪.)45‬‬
‫اإلجماع‪:‬‬

‫صف ّفرح غففري واحففد مففن أهففل العلففم بففأن إمجففاع الصففحابة منعقففد علففى صففحة الوقففف‪ ،‬فقففد ذكففر صففاحب امل ففين ‪ ،‬أن‬
‫جابرا رضي اهلل عنه قال ‪« :‬مل يكن أحد من أصحاب النيب صلى اهلل عليه وسلم ذو مقدرة إال وقف ‪ ،‬وهذا إمجاع منهم‬ ‫ً‬
‫إمجاعا» (‪.)46‬‬
‫‪ ،‬فإن الذي قدر منهم على الوقف وقف ‪ ،‬واشتهر ذلك ومل ينكره أحد‪ ،‬فكان ً‬
‫قفال ابفن قدامففه‪« :‬وهفذا إمجفاع مففنهم‪ ،‬ففإن الففذي قفدر علفى الوقففف مفنهم‪ ،‬وقففف‪ .‬واشفتهر ذلفك فلففم ينكفره أحففد‪،‬‬
‫فكان إمجاعاً؛ وألنه إزالة ملك يلزم بالوصية‪ ،‬فإذا أجنزه حال احلياة‪ ،‬لزم من غري حكم كالعتق»(‪.)47‬‬

‫وقال احلافظ ابن حجر نقال عن اإلمام الرتمذي قوله‪« :‬ال نعلم بني الصحابة واملتقدمني من أهل العلم خالفا يف‬
‫جواز وقف األراضني ‪ ،‬وجاء عن شريح أنه أنكر احلبه» (‪.)48‬‬

‫(‪ )42‬نصب الراية ألحاديفث اهلدايفة ‪ ،‬ج‪ ، 3‬ص ‪ .477‬وهفذه العفني ( عفني رومفة ) هفي الفيت أشفار إليهفا اإلمفام البخفاري رضفي اهلل عنفه‪،‬‬
‫فيمففا رواه عففن أيب عبففدالرمحن ‪ ،‬أن عثمففان بففن عفففان رضففي اهلل عنففه حيففث حوصففر أشففرف وقففال ‪ :‬أنشففدكم وال أنشففد إال أصففحاب النففيب ‪،‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬ألستم تعلمون أن رسول اهلل ‪ ،‬صفلى اهلل عليفه وسفلم ‪ ،‬قفال ‪ ( :‬مفن حففر رومفة فلفه اجلنفة ) فحفرهتفا‪ .‬انظفر‪ :‬صفحيح‬
‫بئرا‪.‬‬
‫أرضا أو ً‬
‫البخاري ‪ ،‬ج‪ ، 3‬ص ‪ ، 811‬كتاب الوصايا ‪ ،‬باب إذا وقف ً‬
‫(‪ )43‬رواه مس ففلم وأبف ففو داود وغريمه ففا ‪ ،‬انظف ففر ‪ :‬ص ففحيح مسف ففلم ‪ ،‬ج‪ ، 5‬ص ‪ ، 8511‬كت ففاب الوصف ففية‪ .‬؛ سف ففنن أيب داود ‪ ،‬ج‪ ، 3‬ص‬
‫‪.300‬‬
‫(‪ )44‬انظر مصطفى الزرقاء‪ ،‬أحكام الوقف ص‪ ،88‬وأمحد اخلصاف‪ ،‬أحكام الوقف ص‪.1‬‬
‫(‪ )45‬متفق عليه‪.‬‬
‫(‪ )46‬ابن قدامة ‪ ،‬امل ين ‪ ،‬ج‪ ، 1‬ص ‪.816‬‬
‫(‪ )47‬املرجع السابق ‪ 816/1‬وانظر القرطيب‪ ،‬اجلامع ألحكام القرآن ‪.331/6‬‬
‫‪871‬‬
‫وقففال صففاحب اإلسففعاف بعففد ذكففره ألوقففاف الصففحابة ‪« :‬وهففذا إمجففاع مففنهم عل فى ج فواز الوقففف ولزومففه‪ ،‬وألن‬
‫احلاجة ماسة إىل جوازه» (‪.)49‬‬

‫«وقال اإلمام الرتمذي معلقاً علفى قولفه صفلى اهلل عليفه وسفلم‪( :‬ال يبفاع أصفلها وال يبتفاع‪ ،‬وال يوهفب‪ ،‬وال يفورث)‬
‫يف حديث عمر بن اخلطاب املتقدم‪ « :‬العمل على هذا احلديث عند أهل العلم‪ ،‬من أصحاب النيب صلى اهلل عليفه وسفلم‬
‫وغريهم‪ ،‬ال نعلم بني أحد من املتقدمني منهم خالفاً»(‪.)50‬‬

‫هففذا يف اإلمجففاع املنقففول علففى صففحة الوقففف ‪ ،‬أمففا اللففزوم وعدمففه فقففد وقففع فيففه اخلففالف ‪ ،‬فففأبو حنيفففة يقففول ‪:‬‬
‫صحيح غري الزم ‪ ،‬وأبو يوسف وحممد وعامة الفقهاء يقولون بأنه صحيح الزم(‪.)51‬‬

‫المبحث الثالث‪ :‬أركان الوقف وشروطه‪:‬‬

‫الوقف مثل سائر االلتزامات والعقود ال بد له من توافر أركان معينة لقيامه وهي (‪:)52‬‬

‫الواقف ( احملبِه )‪.‬‬ ‫‪ -1‬الشخ‬

‫‪ -2‬املال املوقوف ( احملبه )‪.‬‬

‫أو اجلهة املوقوف عليها ( احملبه له )‪.‬‬ ‫‪ -3‬الشخ‬

‫‪ -4‬الصي ة املعتربة فهي هنا اإلجياب من الواقف‪.‬‬

‫شروط الواقف وتتمثل في(‪: )53‬‬

‫أن يكون أهالً للتربع ‪ ،‬يتمتع باألهلية الكاملة ‪ ،‬عاقال ‪ ،‬بال ا‪ ،‬حرا‪ ،‬غري حمجور عنه لسفه أو غفلة‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫يضا مرض املوت إذ يأخذ الوقف حكم الوصية يف هذه احلالة‪.‬‬ ‫أال يكون مر ً‬ ‫‪.2‬‬
‫شروط المحل ‪:‬‬

‫وهو املال املوقوف الذي يرد عليه الوقف‪ .‬فيشرتط فيه ما يلي(‪: )54‬‬

‫(‪ )48‬فتح الباري ‪ ،‬ج‪ ، 1‬ص ‪ .405‬وخرب شريح أورده البيهقي يف سننه الكربى‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪.863‬‬
‫(‪ )49‬برهان الدين الطرابلسي ‪ ،‬اإلسعاف يف أحكام األوقاف ‪ ،‬ص ‪.83‬‬
‫(‪ )50‬امل ين‪811/1 ،‬‬
‫(‪ )51‬انظر‪ :‬برهان الدين الطرابلسي ‪ ،‬اإلسعاف ‪ ،‬ص‪.1،7‬‬

‫(‪ )52‬انظر‪ :‬ابن جزي‪ ،‬القوانني الفقهية‪ ،‬ص‪.543‬‬


‫(‪ )53‬انظففر‪ :‬برهففان الففدين الطرابلسففي‪ ،‬اإلسففعاف‪ ،‬ص‪ 84‬؛ أبففو زهففرة‪ ،‬حماض فرات يف الوقففف‪ ،‬ص ‪ 857‬؛ الزرقففاء ‪ ،‬أحكففام الوقففف ‪ ،‬ص‬
‫‪.43‬‬
‫‪876‬‬
‫متقومفا ‪ :‬إذ ال يتففأتى وقفف مفا لفيه مفن األمفوال ‪ ،‬كاألتربفة يف مواقعهفا‪ ،‬ومفا لفيه ‪،‬تقففوم‬
‫‪ .1‬أن يكفون املوقفوف مفاالً ً‬
‫كاخلمر واخلنزير‪.‬‬
‫‪ .2‬أن يكون الوقف مملوًكا ‪ :‬فال يصح وقف غري اململوك ‪ ،‬مثل ‪ :‬األراضفي املفوات وشفجر البفوادي ‪ ،‬وحيفوان الصفيد‬
‫قبل صيده‪.‬‬
‫معلوما حني الوقف ‪ :‬فال يصح وقف الشيء اجملهول‪ ،‬كقوله وقفت جزاءًا من مايل‪ ،‬أو داري‪.‬‬ ‫‪ .3‬أن يكون ً‬
‫‪ .4‬أن يكون ماالً اابتًا ‪ :‬فيخرج به ما ال يبقى على حاله اليت يتحقق هبا االنتفاع ‪ ،‬كالثمار‪ ،‬واخلضر وات ‪ ،‬والثلج‪.‬‬
‫شروط الموقوف عليه(‪: )55‬‬

‫أن تكففون اجلهففة املوقففوف عليهففا قربففة مففن القربففات فففال جيففوز الوقففف علففى املعاصففي واملنك فرات وأهلهففا ‪ ،‬وال علففى‬ ‫‪.1‬‬
‫احلربيني ‪ ،‬والكنائه والشعائر الدينية غري اإلسالمية‪ .‬وقد حدد احلنفية اعتبار القربة بأمرين اانني مها(‪:)56‬‬
‫أ ‪ -‬أن يكون املوقوف عليه قربة يف نظر الشريعة‪.‬‬
‫ب ‪ -‬أن يكون قربة يف اعتقاد الواقف‪.‬‬
‫موجودا إذا كان الوقف ملعفني وذلفك عنفد إنشفاء العقفد‪ .‬أمفا انقطفاع اجلهفة املوقفوف عليهفا‬
‫ً‬ ‫‪ .2‬أن يكون املوقوف عليه‬
‫فهو حمل خالف بني الفقهاء بني من يرى أن األصل عدم صفحة الوقفف املنقطفع انتهفاء فقفط أو ابتفداء وانتهفاء‪ ،‬وبفني مفن‬
‫يرى صحة الوقف املنقطع مطلقا(‪.)57‬‬
‫تأبيد الوقف ‪ :‬أن تكون اجلهة املوقوف عليها دائمة الوجود عند من يشرتط التأبيد‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫شروط الصيغة (‪:)58‬‬

‫‪ .1‬أن تك ففون ص ففي ة الوق ففف منج ففزة ‪ :‬أي ال تق ففرتن بتعلي ففق أو إض ففافة إىل مس ففتقبل ‪ ،‬إذ ال ب ففد أن ت ففدل عل ففى إنش ففاء‬
‫الوقفف وقفت صففدوره‪ ،‬كقولفه ‪ :‬وقففت أرضففي علفى الفقفراء واملسففاكني‪ .‬والصفيغ املقرتنفة بالتعليقففات تبطفل عقفود التمليكففات‬
‫كاهلبة والصدقة والعارية‪ .‬كقوله ‪ :‬إذا اشرتيت هفذه األرض فهفي وقفف للفقفراء‪ ،‬والصفي ة املضفافة إىل زمفن قفادم ‪ ،‬كقولفه ‪:‬‬
‫وقفت أرضي ابتداءً من السنة القادمة يصححها بعض احلنفية يف صور معينة‪.‬‬
‫جازما إذ ال ينعقد الوقف بوعد ‪ ،‬كقوله سأقف أرضي أو داري على الفقراء‪.‬‬ ‫‪ .2‬أن يكون العقد فيها ً‬
‫أال تقرتن الصي ة بشرط يناقض مقتضى الوقف ‪ ،‬كقوله وقفت أرضي بشرط أن يل بيعها مىت أشاء‪.‬‬ ‫‪.3‬‬

‫(‪ )54‬انظر‪ :‬السنوسي‪ ،‬الروض الزاهر‪ ،‬ص‪ 86‬؛ الزرقاء أحكام الوقف‪ ،‬ص ‪.18-41‬‬
‫(‪ )55‬انظر‪ :‬السنوسي‪ ،‬الروض الزاهر‪ ،‬ص‪ 86‬؛ الزرقاء‪ ،‬أحكام الوقف‪ ،‬ص ‪.14-18‬‬
‫(‪ )56‬انظر‪ :‬ابن جنيم‪ ،‬البحر الرائق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪. 504‬‬
‫(‪ )57‬انظ ففر املوض ففوع تفص ففيال‪ :‬احلنفي ففة‪ :‬السرخس ففي‪ ،‬املبس ففوط‪ ،‬ج‪ ،83‬ص‪ . 48‬؛ اب ففن جن ففيم‪ ،‬البح ففر الرائ ففق‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪ . 583‬املالكي ففة‪:‬‬
‫الدس ففوقي‪ ،‬حاش ففية الدس ففوقي عل ففى الش ففرح الكب ففري‪ ،‬ج ‪ ،4‬ص‪ .11‬الش ففافعية‪ :‬الشف فريازي‪ ،‬امله ففذب‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪ . 445-448‬؛ اخلطي ففب‬
‫الشربني‪ ،‬م ين احملتاج‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪ . 314‬احلنابلة‪ :‬ابن قدامة‪ ،‬الشرح الكبري مع امل ين‪ ،‬ج‪ ،6‬ص‪587-581‬‬
‫(‪ )58‬انظر‪ :‬السنوسي‪ ،‬الروض الزاهر‪ ،‬ص‪ ،81،87‬الزرقاء‪ ،‬أحكام الوقف‪ ،‬ص‪.34‬‬
‫‪877‬‬
‫أن تفيد الصي ة تأبيد الوقف ملن ال يقول بصحة تأقيته‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫المبحث الرابع‪ :‬أنواع الوقف‪:‬‬

‫يستنبط مما ذكره الفقهاء من صور الوقف أنه ميكن أن يقسم إىل االاة أقسام هي‪:‬‬
‫الوقففف الخيففري أو "الوقففف العففام"‪ :‬وهففو الففذي يقصففد الواقففف منففه صففرف ريففع الوقففف إىل جهففات الففرب الففيت ال‬ ‫‪.1‬‬
‫أشخاصا معينني كالفقراء واملساكني ‪ ،‬أم جهات بر عامة كاملساجد واملدارس واملستشفيات إىل غفري‬
‫ً‬ ‫تنقطع ‪ ،‬سواء كانت‬
‫ذلك‪.‬‬
‫الوقفف األهلفي أو "اخلففاص"‪ :‬وهفو مفا يطلفق عليففه الوقفف الفذري ‪ ،‬ويسفمى يف امل ففرب األحبفاس املعقبفة(‪ )59‬وهففو‬ ‫‪.2‬‬
‫ريع للواقف أوالً مث ألوالده مث إىل جهة ّبر ال تنقطع‪.‬‬ ‫ختصي‬
‫الوقففف المشففتر ‪ :‬وهففو مففا خصصففت منافعففه إىل الذريففة وجهففة بففر ً‬
‫معففا‪ .‬جففاء يف امل ففين ‪( :‬وإن وقففف داره علففى‬ ‫‪.3‬‬
‫جهتني خمتلفتني‪ ،‬مثل‪ :‬أن يقفها على أوالده‪ ،‬وعلى املساكني ‪ :‬نصفني ‪ ،‬أو أاالاًا ‪ ،‬أو كيفما شاء ‪ ،‬جاز ‪ ،‬وسواء جعل‬
‫مآل املوقوف على أوالده وعلى املساكني أو على جهة أخرى سواهم)(‪ . )60‬وقال البهويت‪( :‬وإن قال وقفتفه ؛ أي العبفد ‪،‬‬
‫أو الففدار‪ ،‬أو الكتففاب و ففوه علففى أوالدي وعلففى املسففاكني فهففو بففني اجلهتففني نصفففان ‪ ،‬يصففرف ألوالده النصففف واملسففاكني‬
‫النصففف؛ القتض ففاء التسففوية) (‪ ،)61‬وج ففاء يف امل ففادة (‪ )666‬مففن جمل ففة األحكففام العدلي ففة احلنبلي ففة‪( :‬يصففح وق ففف داره عل ففى‬
‫جهتففني خمتلفتففني كففأوالده واملسففاكني)(‪ ،)62‬وهففو مففا يفهمففه القففارئ ضففمنًا مففن كففالم الفقهففاء عففن الوقففف يف أب فواب الففرب ‪،‬‬
‫والوقف على الذرية ‪ ،‬والعقب‪ ،‬دون التصريح بالشراكة(‪.)63‬‬
‫وق د نصت بعض القوانني املدنية املعاصرة املنظمة لألوقفاف يف بعفض الفدول اإلسفالمية‪ ،‬علفى الوقفف املشفرتك مثفل القفانون‬
‫املدين السوداين يف مادته (‪ ،)706‬والقانون املدنفي األردنفي يف مادتفه (‪.)64()223‬‬

‫المبحث الخامس‪ :‬مقاصد الوقف وأغراضه‪:‬‬

‫يأيت ضمن جمموعة من التشريعات املفروضة‪ ،‬والواجبة‪ ،‬واملستحبة‪ ،‬لتحقيق التكافل‪ ،‬والتعاون‪ ،‬والتكامل يف‬
‫اجملتمع اإلسالمي‪ ،‬وذلك لوجود التفاوت‪ ،‬واالختالف يف الصفات‪ ،‬والقدرات‪ ،‬والطاقات‪ ،‬وما ينتج عن ذلك‪ ،‬من وجود‬
‫املنتج‪ ،‬والعاطل‪ ،‬والذكي‪ ،‬وال يب‪ ،‬والقادر‪ ،‬والعاجز‪ ،‬مما يتطلب مالحظة بعضهم لبعض‪ ،‬وأخذ بعضهم بأيدي بعض‪،‬‬
‫ومن طرق ذلك اإلنفاق‪ ،‬وأفضله ما كان منتظماً‪ ،‬مضمون البقاء‪ ،‬يقوم على أساس‪ ،‬وينشأ من أجل الرب واخلري‪ ،‬وهذا ما‬

‫(‪ )59‬درويش عبد العزيز‪ ،‬جتربة األوقاف يف اململكة امل ربية‪ ،‬ص‪. 88‬‬
‫(‪ )60‬ابن قدامة‪ ،‬امل ين ‪ ،‬ج‪ ، 1‬ص‪.533‬‬
‫(‪ )61‬كشاف القناع‪ ،‬ج‪ ، 4‬ص‪.511‬‬
‫(‪ )62‬انظر‪ :‬القاري‪ ،‬جملة األحكام العدلية‪ ،‬ص ‪.571‬‬
‫(‪ )63‬ينظر على سبيل املثال‪ :‬برهان الدين الطرابلسي‪ ،‬اإلسعاف ‪ ،‬ص‪ 840-831‬وغريمها‪.‬‬
‫(‪ )64‬علي النصري‪ ،‬دراسة حول أنظمة وقوانني الوقف‪ ،‬ص‪. 865‬‬
‫‪871‬‬
‫يؤدي إليه الوقف‪ ،‬الذي فظ لكثري من اجلهات العامة حياهتا‪ ،‬ويساعد فئات من اجملتمع على االستمرار‪ ،‬ويتحقق به‬
‫ضمان العيش الكرمي‪ ،‬حني انصراف الناس‪ ،‬أو ط يان اخلطر‪ ،‬أو حالة الطوارئ(‪.)65‬‬
‫وللوقف مقاصد عامة وخاصة‪ ،‬فأما املقصد العام للوقف‪ :‬فهو إجياد مورد دائم ومستمر لتحقيق غرض مباح من‬
‫أجل مصلحة معينة‪.‬‬
‫وأما املقاصد اخلاصة للوقف كثرية منها‪:‬‬
‫‪ .1‬يف الوقف ضمان لبقاء املال ودوام االنتفاع به واالستفادة منه مدة طويلة‪.‬‬
‫‪ .2‬استمرار النفع العائد من املال احملبه للواقف واملوقوف عليه‪ ،‬فاألجر والثواب مستمران للواقف حيا أو ميتا‪،‬‬
‫ومستمر النفع للموقوف عليه‪.‬‬
‫‪ .3‬امتثال أمر اهلل سبحانه وتعاىل باإلنفاق والتصدق يف وجوه الرب‪ ،‬وامتثال أمر نبينا حممد صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بالصدقة واحلث عليها‪ ،‬وهذا أعلى املقاصد من الوقف‪.‬‬
‫(‪)66‬‬
‫‪ .4‬يف الوقف صلة لألرحام حيث يقول اهلل تعاىل‪" :‬وأولوا األرحام بعضهم أوىل ببعض يف كتفب اهلل"‬
‫‪ .5‬فيه تعاون على الرب واإلحسان لكفالة األيتام وعون الفقراء واملساكني وهو ضرب من التعاون يف كل ما ينفع‬
‫الناس وذلك ما دعا إليه القرءان الكرمي‪" :‬وتعاونوا على الرب والتقوى"(‪.)67‬‬
‫‪ .6‬الوقف على املساجد والزوايا والربط واملعاهد واملدارس واملشايف ودور العجزة ومالجئ األيتام‪ ،‬كل هذا مما يضمن‬
‫هلذه املرافق العامة بقاءها وصيانتها‪.‬‬
‫أما أغراضه فتتنوع بحسب تعدد أوجه البر‪ ،‬ويمكن ذكر أهمها‪ ،‬والتي تتمثل في‪:‬‬

‫‪ .1‬نشر الدعوة اإلسالمية ‪ :‬ومن أهم مظاهر هذا ال رض وقف املساجد اليت كانت عرب التاريخ منارات لنشر الدعوة‬
‫وتعلففيم النففاس وت فربيتهم وهتففذيبهم‪ ،‬ومففا أحلففق هبففا مففن أوقففاف لإلنفففاق عليهففا وعلففى القففائمني علففى شففؤوَّنا كالففدكاكني‬
‫والضيعات واملساكن وغري ذلفك‪ .‬والزال هلفذا ال فرض أمهيتفه فإضفافة إىل املسفاجد فهنفاك العديفد مفن املراكفز الدعويفة الفيت‬
‫تقوم على األوقاف‪.‬‬
‫‪ .2‬الرعاية االجتماعية ‪ :‬من خالل صلة الرحم باإلنففاق علفى القرابفة مفن األبنفاء وبنفيهم مفن خفالل الوقفف األهلفي أو‬
‫الذري‪ .‬وكذلك رعاية األيتام وأبناء السبيل وذوي العاهات من خالل األوقاف اخلريية الفيت صصصفها الواقففون ملثفل هفذه‬
‫األغراض‪ .‬ويذكر أحد الدارسني لدور األوقاف يف الرعاية االجتماعية بفامل رب ‪ ،‬أن األوقفاف فيهفا قامفت بفدور مهفم يف‬
‫التففآزر والتكافففل االجتم ففاعيني ‪ ،‬فقففد حففبه الواقف ففون كث فريا م ففن ممتلكففاهتم علففى املعت ففوهني واملقعففدين واملكف ففوفني ‪ ،‬وأن‬
‫أوقففاف أيب العبففاس السففبيت يف مفراكش تعتففرب أكففرب شففاهد علففى ذلففك(‪ .)68‬وقففد عرفففت األوقففاف امل ربيففة أنواعففا آخففر مففن‬
‫األوق ففاف ين ففدرج يف ال ففرض االجتم ففاعي ه ففي أوق ففاف افتك ففاك األس ففرى‪ ،‬وأوق ففاف اإلطع ففام وأوق ففاف الكس ففاء (املالب ففه)‬

‫(‪ )65‬انظر د‪ .‬حممد الكبيسي‪ ،‬أحكام الوقف يف الشريعة اإلسالمية ‪.831 ،837/8‬‬
‫(‪ )66‬سورة األنفال آية ‪71‬‬
‫(‪ )67‬سورة املائدة‪ ،‬آية ‪5‬‬
‫(‪ )68‬انظر ‪ :‬أبو ركبة‪ ،‬الوقف اإلسالمي وأاره يف احلياة االجتماعية يف امل رب ‪ ،‬ص‪.544‬‬
‫‪871‬‬
‫واألغطية ملن تاجوَّنفا‪ ،‬وأوقفاف مسفاعدة املصفابني واملنقطعفني وال ربفاء‪ .‬وقفد انتشفرت هفذه األوقفاف يف منفاطق متعفددة‬
‫يف امل رب مثل فاس ‪ ،‬وتطوان ‪ ،‬ومراكش وغريها(‪.)69‬‬
‫‪ .3‬الرعايففة الصففحية ‪ :‬يعففد هففذا ال ففرض مففن أوسففع اجملففاالت الففيت وقففف احملبسففون أمالكهففم عليهففا‪ ،‬ومشلففت أنواعففا كثففرية‬
‫مثف ف ففل بن ف ففاء البيمارس ف ففتانات "املستش ف فففيات واملص ف ففحات" ‪ ،‬والبح ف ففث العلمف ف ففي املف ف فرتبط باجملف ف ففاالت الطبيف ف ففة ‪ ،‬كالكيميف ف ففاء‬
‫والصيدلة(‪.)70‬‬
‫له بعض األسطر لبيانه‪ ،‬فيكفي املدارس الوقفية املنتشرة يف سائر أ اء العفامل‬ ‫‪ .4‬التعليم‪ :‬التعليم أشهر من أن خنص‬
‫اإلسففالمي وعلففى رأسففها تلففك املسففاجد واجلوامففع الففيت أضففحت منففارات للعلففم ويف مقففدمتها احلرمففان الش فريفان‪ ،‬واألزهففر‬
‫الشفريف يف مصفر‪ ،‬والقففرويني يف امل فرب والزيتونففة يف مصفر‪ ،‬واألمففويني يف دمشفق‪ .‬ناهيففك عفن املكتبففات واملعاهفد الففيت ال‬
‫ميكن عدها أو حصرها يف هذه العجالة‪.‬‬
‫‪ .5‬األمن والدفاع ‪ :‬ر‪،‬فا كفان مسفتند هفذا ال فرض مفا فعلفه خالفد بفن الوليفد حينمفا وقفف أدراعفه وأعتفاده يف سفبيل اهلل‪.‬‬
‫فقفد روى أبففو هريففرة رضفي اهلل عنففه أن رسففول اهلل صفلى اهلل عليففه وسففلم بعففث عم ًفرا علففى الصففدقة ‪ ،‬فقيفل منففع ابففن مجيففل‬
‫وخالد بن الوليد والعباس عم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،‬فقال الرسول صلى اهلل عليه وسلم ‪( :‬ما ينقم ابن مجيفل‬
‫فريا فأغنفاه اهلل ‪ ،‬وأمفا خالفد ففإنكم تظلمفون خال ًفدا ‪ ،‬قفد احتفبه أدراعفه وأعتفاده يف سفبيل اهلل وأمفا العبفاس‬ ‫إال أنه كان فق ً‬
‫علي ومثله معه)(‪ .)71‬وقد سار على هذا النهج الصحابة الكرام والتابعون ومن تبعهم بإحسان من العلماء واحلكام‬ ‫فهو ّ‬
‫وذوي اليسار يف األمة فوقفوا األموال على سد الث ور واحلفاظ على حرمة ديار املسلمني(‪.)72‬‬
‫‪ .6‬الوقف على البنية األساسفية ‪ :‬كفالوقف علفى إنشفاء الطفرق‪ ،‬واجلسفور(‪ ،)73‬وآبفار الشفرب وقفد سفبقت اإلشفارة إىل‬
‫بئر رومة يف املدينة املنورة اليت وقفها عثمان رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫الفصل الثاني ‪:‬‬

‫التنمية المستدامة وماهيتها‬

‫المبحث األول ‪ :‬تعريف التنمية المستدامة‬

‫المبحث الثاني ‪ :‬سمات التنمية المستدامة‬

‫المبحث الثالث ‪ :‬اإلسالم والتنمية المستدامة‬

‫(‪ )69‬راجع التجكاين‪ ،‬اإلحسان اإللزامي يف اإلسالم وتطبيقاته يف امل رب ‪ ،‬ص ‪.111-116‬‬
‫(‪ )70‬انظر ‪ :‬عبدامللك السيد ‪ ،‬الدور االجتماعي للوقف ‪ ،‬ص ‪.513-515‬‬
‫(‪)71‬رواه البخففاري ومس ففلم واللفففظ ملس ففلم‪ .‬انظ ففر ‪ :‬البخففاري‪ ،‬ص ففحيح البخففاري‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪ ،134‬كت ففاب الزك ففاة ‪ ،‬بففاب قول ففه تع ففاىل ‪( :‬ويف‬
‫الرقاب وال ارمني ويف سبيل اهلل)‪ .‬مسلم ‪ ،‬صحيح مسلم ‪ ،‬ج‪ ، 8‬كتاب الزكاة ‪ ،‬ص ‪.676‬‬
‫(‪ )72‬البالطنسي ‪ ،‬حترير املقال ‪ ،‬ص ‪.803-805‬‬
‫(‪ )73‬انظر ‪ :‬شوقي دنيا‪ ،‬أار الوقف يف إجناز التنمية الشاملة ‪ ،‬ص ‪.851‬‬

‫‪810‬‬
‫المبحث األول‪ :‬تعريف التنمية المستدامة‪:‬‬

‫تعددت التعريفات هلذا املفهوم لكنها مل تستخدم استخداما صحيحا يف مجيع األحوال‪ ،‬فتارة جند أَّنا تستنزف‬
‫املوارد الطبيعية‪ ،‬حبيث هذا االستنزاف من شأنه أن يؤدي إىل فشل عملية التنمية نفسها!(‪.)74‬‬

‫ويعود هذا التضارب يف التعريفات إىل تعدد األمناط اليت يشملها مصطلح (التنمية) والذي يراد به‪ :‬زيادة املوارد‬
‫والقدرات واإلنتاجية‪.‬‬

‫ورغم حدااة هذا املصطلح‪ ،‬إال أنه استعمل للداللة على أمناط خمتلفة من األنشطة البشرية‪ ،‬مثل‪ :‬التنمية‬
‫االقتصادية‪ ،‬والتنمية االجتماعية‪ ،‬والتنمية البشرية‪ ،‬اخل‪.‬‬

‫وكل منط من هذه األمناط ترتبط معها التنمية لتؤدي املعاين السابقة يف كل منط على حدة‪ ،‬فرياد بالتنمية‬
‫االقتصادية‪ :‬االستخدام األمثل للموارد الطبيعية والبشرية‪ ،‬ل رض حتقيق زيادات مستمرة يف الدخل تفوق معدالت النمو‬
‫السكاين‪ .‬ويراد بالتنمية االجتماعية‪ :‬إصالح األحوال االجتماعية للسكان عن طريق زيادة قدرة األفراد على است الل‬
‫الطاقة املتاحة إىل أقصى حد ممكن‪ ،‬وبتحصيل أكرب قدر من احلرية والرفاهية‪ .‬وبالتنمية البشرية‪ :‬ختويل البشر سلطة انتقاء‬
‫خياراهتم بأنفسهم‪ ،‬سواء فيما يتصل ‪،‬وارد الكسب‪ ،‬أو باألمن الشخصي‪ ،‬أو بالوضع السياسي‪.‬‬

‫ويالحظ أن مثة تداخال بني كل هذه األمناط التنموية‪ ،‬إذ يرتبط كل منط منها مع سائر األمناط األخرى ارتباطاً‬
‫وايقاً من حيث التأاري املتبادل بينهما‪ .‬ولذلك وجدنا من يدمج كل هذه األمناط املختلفة من التنمية حتت مسمى واحد‬
‫هو التنمية املتكاملة(‪.)75‬‬

‫ومن هذا املفهوم اهلالمي‪ ،‬نشأ اختالف الباحثني يف حتديد تعريف التنمية املستدامة‪ ،‬ولعل من أجود التعريفات‬
‫وأوسعها انتشاراً وأمشلها ملفهوم التنمية املستدامة‪ ،‬ذلك التعريف الوارد يف تقرير برونتالند(‪ )76‬والذي عرف التنمية‬
‫املستدامة بأَّنا " التنمية اليت تليب احتياجات اجليل احلاضر دون التضحية أو اإلضرار بقدرة األجيال القادمة على تلبية‬
‫احتياجاهتا"(‪.)77‬‬

‫(‪ )74‬عبد السالم أديب‪ ،‬التنمية املستدامة‪.‬‬


‫(‪ )75‬ركائز التنمية املستدامة ومحاية البيئة يف السنة النبوية‪ ،‬د‪ .‬حممد عبد القادر الفقي‪.‬‬
‫(‪ )76‬تقرير برونتالند‪ :‬هو تقرير نشر من قبل اللجنة احلكومية اليت أنشأهتا األمم املتحدة بزعامة جروهارلن بروندتالند‪ ،‬عام ‪8117‬م‬
‫كانت مهمتها دراسة محاية الطبيعة‪ ،‬واقرتحت مفهوم (التنمية املستدامة) يف بيئة حممية وطورته‪ ،‬وتوسعت يف حتليل جوانبه االقتصادية‬
‫واالجتماعية والسياسية‪ .‬انظر (دراسة عن ضرورة اإلقرار حبقوق أمنا األرض واحرتامها)‪ ،‬صادرة عن املنتدى الدائم املعين بقضايا الشعوب‬
‫األصلية‪ ،‬الدورة التاسعة‪ ،‬نيويورك ‪5080‬م‪.‬‬
‫(‪ )77‬د‪ .‬أشرف دوابة‪ ،‬مقال‪ :‬دور الوقف يف التنمية املستدامة‪.‬‬
‫‪818‬‬
‫وهبذا التعريف املوجز مشل هذا املصطلح األعمال اليت هتدف إىل استثمار املوارد البيئية بالقدر الذي قق‬
‫ويطورها‪ ،‬بدالً من استنزافها وحماولة السيطرة عليها‪ .‬وهي تنمية تراعي‬
‫التنمية‪ ،‬و د من التلوث‪ ،‬ويصون املوارد الطبيعية ِّ‬
‫حق األجيال القادمة يف الثروات الطبيعية للمجال احليوي لكوكب األرض‪ ،‬كما أَّنا تضع االحتياجات األساسية لإلنسان‬
‫يف املقام األول‪ ،‬فأولوياهتا هي تلبية احتياجات املرء من ال ذاء واملسكن وامللبه وحق العمل والتعليم واحلصول على‬
‫اخلدمات الصحية وكل ما يتصل بتحسني نوعية حياته املادية واالجتماعية‪ .‬وهي تنمية تشرتط أال نأخذ من األرض أكثر‬
‫مما نعطي‪.‬‬

‫و‪،‬ع أوضح فالتنمية املستدامة تتطلب تضامناً بني اجليل احلايل واجليل املستقبلي‪ ،‬وتضمن حقوق األجيال‬
‫املقبلة يف املوارد البيئية(‪.)78‬‬

‫وعلى هذا فالتنمية املستدامة كمفهوم يعترب قدمياً‪ ،‬إال أنه كمصطلح يعد حديث النشأة‪ ،‬حيث كان أول ظهور‬
‫له يف نادي روما ‪1716‬م‪ ،‬وكان يقتصر حني ظهوره على "التفاعل بني االقتصاد واإليكولوجيا"‪ .‬مث تطور إىل مع أعم‪،‬‬
‫ليشمل احلفاظ على املوارد الطبيعية(‪ ،)79‬وليه االقتصاد فقط‪.‬‬

‫المبحث الثاني‪ :‬سمات التنمية المستدامة‪:‬‬

‫تتضمن التنمية املستدامة يف إطارها موازنات تتم بني النظام البيئي والنظام االقتصادي والنظام االجتماعي‪.‬‬
‫فالنظام البيئي يتكون من املوارد الطبيعية‪ ،‬ويسعى من أجل اإلبقاء على عناصر احلياة األساسية‪ ،‬كما افظ‬
‫التنوع احليوي للكائنات واملخلوقات على الكرة األرضية‪.‬‬‫على ّ‬
‫أما النظام االقتصادي فإنه يتجه أساسا و تلبية احلاجات واملتطلبات املادية لإلنسان عرب شبكة معقدة من‬
‫اإلنتاج واالستهالك‪.‬‬
‫أما النظام االجتماعي فانه يهدف إىل اإلبقاء على التنوع احلضاري والثقايف و قق العدل االجتماعي من خالل‬
‫املشاركة الفعالة يف احلياة العامة‪.‬‬
‫وعلى أساس ذلك فالتنمية املستدامة املتناغمة مع األنظمة الثالاة‪ ،‬هلا أربع ًات أساسية هي‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬تداخلها وأكثر تعقيدها نظريا وتطبيقيا‪ ،‬وخباصة فيما يتعلق ‪،‬ا هو طبيعي (املوارد الطبيعية)‪ ،‬وما هو اجتماعي يف‬
‫التنمية‪.‬‬
‫اانيا‪ :‬اجتاهها أساسا إىل تلبية متطلبات واحتياجات أكثر الشرائح فقرا يف اجملتمع‪ ،‬وسعيها إىل احلد من تفاقم الفقر يف‬
‫العامل‪.‬‬
‫االثا‪ :‬للتنمية املستدامة بع ٌد نوعي يتعلق بتطوير اجلوانب الروحية والثقافية واإلبقاء على اخلصوصية احلضارية للمجتمعات‪.‬‬
‫رابعا‪ :‬ال ميكن يف حالة التنمية املستدامة فصل عناصرها وقياس مؤشراهتا لشدة تداخل األبعاد الكمية والنوعية‪.‬‬

‫(‪ )78‬ركائز التنمية املستدامة ومحاية البيئة يف السنة النبوية‪ ،‬د‪ .‬حممد عبد القادر الفقي‪.‬‬
‫(‪ )79‬عبد السالم أديب‪ ،‬التنمية املستدامة‪.‬‬
‫‪815‬‬
‫ومن خالل ما سبق يتضح بأن التنمية املستدامة هي التنمية اليت حتقق التوازن بني األنظمة الثالاة السابقة (البيئي‬
‫واالقتصادي واالجتماعي)‪ ،‬وتساهم يف حتقيق أقصى قدر من النمو واالرتقاء يف كل نظام من هذه األنظمة دون أن‬
‫يؤار التطور يف أي نظام سلبا على األنظمة األخرى(‪.)80‬‬

‫وقد طرح مصطلح التنمية املستدامة عام ‪ 1764‬أعقاب مؤ ر ستوكهومل‪ ،‬الذي عقبته قمة ريو للمرة األوىل حول‬
‫فيما يلي‪:‬‬ ‫التنمية املستدامة وًاهتا‪ ،‬واليت تتلخ‬ ‫البيئة والتنمية املستدامة الذي أعلن عام ‪ 1772‬عن خصائ‬

‫أ‪ -‬هي تنمية يعترب البعد الزمين هو األساس فيها‪ ،‬فهي تنمية طويلة املدى بالضرورة‪ ،‬تعتمد على تقدير إمكانات احلاضر‪،‬‬
‫ويتم التخطيط هلا ألطول فرتة زمنية مستقبلية ميكن خالهلا التنبؤ باملت ريات‪.‬‬

‫ب‪ -‬هي تنمية ترعى تلبية االحتياجات القادمة يف املوارد الطبيعية للمجال احليوي لكوكب األرض‪.‬‬

‫ج‪ -‬هي تنمية تضع تلبية احتياجات األفراد يف املقام األول‪ ،‬فأولوياهتا هي تلبية احلاجات األساسية والضرورية من ال ذاء‬
‫وامللبه والتعليم واخلدمات الصحية‪ ،‬وكل ما يتصل بتحسني نوعية حياة البشر املادية واالجتماعية‪.‬‬

‫د‪ -‬وهي تنمية تراعي احلفاظ على احمليط احليوي يف البيئة الطبيعية سواء عناصره ومركباته األساسية كاهلواء‪ ،‬واملاء مثال‪ ،‬أو‬
‫العمليات احليوية يف احمليط احليوي كال ازات مثال‪ ،‬لذلك فهي تنمية تشرتط عدم استنزاف قاعدة املوارد الطبيعية يف احمليط‬
‫احليوي‪ ،‬كما تشرتط أيضا احلفاظ على العمليات الدورية الص رى‪ ،‬والكربى يف احمليط احليوي‪ ،‬واليت يتم عن طريقها‬
‫انتقال املوارد والعناصر وتنقيتها ‪،‬ا يضمن استمرار احلياة‪.‬‬

‫هف‪ -‬هي تنمية متكاملة تقوم على التنسيق بني سلبيات استخدام املوارد‪ ،‬واجتاهات االستثمارات واالختيار التكنولوجي‪،‬‬
‫وجيعلها تعمل مجيعها بانسجام داخل املنظومة البيئية ‪،‬ا افظ عليها و قق التنمية املتواصلة املنشودة(‪.)81‬‬

‫المبحث الثالث ‪ :‬اإلسالم والتنمية المستدامة ‪:‬‬

‫اإلسالم يف مفهومه االعتقادي للعمارة واالستخالف يبارك مثل هذه التنمية ويوجبها‪ ،‬ألنه يعدها تكليفاً شرعياً‬
‫ابتداءً‪ ،‬قال تعاىل‪" :‬هو أنشأكم من األرض واستعمركم فيها" (‪ ، )82‬وهو يعدها أيضا هدفا أصيالً من أهداف جمتمعة‪،‬‬
‫ألَّنا شرط الكفاية ألبناء اجملتمع ‪ ،‬وشرط الستجماع مستلزمات أمنه ال ذائي واستقالله االقتصادي ‪ ،‬وهي وسيلته‬
‫كذلك الستجماع أسباب القوة اليت يؤمر بإعدادها حتصيناً للذات وَّنوضا بتكاليف الدعوة‪ ،‬وكل ذلك من املقاصد‬
‫املرعية شرعاً‪ ،‬والقاعدة تقضي بأن ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب‪.83‬‬

‫(‪ )80‬دور الوقف يف التنمية املستدامة‪ ،‬للدكتور‪ :‬أمحد مالوي‪.‬‬


‫(‪ )81‬عبد السالم أديب‪ ،‬التنمية املستدامة‪.‬‬
‫(‪ )82‬سورة هود‪ ،‬اآلية ‪68‬‬
‫(‪ )83‬دور الوقف يف التنمية املستدامة‪ ،‬أ‪ .‬د‪ .‬عبد اجلبار السبهاين‪.‬‬
‫‪813‬‬
‫والتشريع اإلسالمي أسهم من خالل أنظمة متكاملة‪ ،‬يف إجياد ما يسمى يف العصر احلديث (اجملتمع املدين)‪،‬‬
‫قبل أن تعرفه التجربة األوربية(‪ ،)84‬وَّنض بدور اجتماعي‪ ،‬واقتصادي‪ ،‬واقايف‪ ،‬كان له أاره يف تكييف األجهزة املسؤولة يف‬
‫الدولة‪ ،‬وختفيف الوطأة إىل حد بعيد‪ ،‬على امليزانية العمومية(‪ ،)85‬فأمد املؤسسات االجتماعية‪ ،‬باملوارد اليت تعينها على‬
‫أداء رسالتها اإلنسانية النبيلة‪ ،‬حبيث حتقق أهدافها املباشرة‪ ،‬وحتقق هبا التنمية املستدامة‪ ،‬إذ هي نتيجة غري مباشرة لكل‬
‫هدف اجتماعي أقيم له وقف‪.‬‬

‫وقد يزت التنمية املستدامة يف اإلسالم ‪،‬فهوم خاص له مميزاته‪ ،‬أبرزها‪ :‬املنطلق اإلمياين واإلدارة احلضارية ‪،‬‬
‫ولذلك نعتت التنمية املستدامة من وجهة نظر إسالمية بأَّنا‪( :‬عملية متعددة األبعاد تعمل على التوازن بني أبعاد التنمية‬
‫االقتصادية واالجتماعية من جهة‪ ،‬والبعد البيئي من جهة أخرى)(‪ ،)86‬وهتدف إىل االست الل األمثل للموارد واألنشطة‬
‫البشرية القائمة عليها من منظور إسالمي يؤكد أن اإلنسان مستخلف يف األرض‪ ،‬ويلتزم يف تنميتها بأحكام القرآن‬
‫والسنة‪ ،‬استجابة حلاجات احلاضر دون إهدار حق األجيال الالحقة‪ ،‬وصوالً إىل االرتفاع باجلوانب الكمية والنوعية‬
‫للبشر‪.‬‬

‫والقول بأن اجملتمع املسلم جمتمع ترتاجع فيه القيمة النفعية والقيمة الدنيوية لصاحل القيم األخروية ال يعين أن هذا‬
‫اجملتمع يزهد يف الكفاءة‪ ،‬وجيحد النمو‪ ،‬غاية ما يف األمر أن اجملتمع املسلم يفرق بني ال ايات والوسائل بوضوح‪ ،‬فهو‬
‫جمتمع يستهلك ليعيش‪ ،‬ال يعيش ليستهلك‪ ،‬لكن االستهالك الوظيفي بذاته يصبح فريضة وتكليفاً شرعيا متوافقا مع‬
‫مقاصر التشريع يف حفظ الوجود اإلنساين "ولكم يف األرض مستقر ومتاع إىل حني"(‪ .)87‬ويف ظل اهلوية اإلسالمية فإن‬
‫اإلنسان هو غاية التنمية قبل أن يكون وسيلتها‪ ،‬فال مع ألي منو يتجاهل البعد اإلنساين واالجتماعي‪.‬‬
‫فاإلسالم يريد من خالل عملية التنمية توفري احلياة الطيبة الكرمية لكل إنسان "من ع ِمل ص ِ‬
‫احلًا ِّمن ذكر أو أنثى‬
‫وهو مؤِم ٌن ففلنحيِيفنه حياةً طيِّب ًة ولنج ِزيفنفهم أجرهم بِأحس ِن ما كانوا يفعملون"(‪ ،)88‬حياة تسمو بالروح واجلسد‪ ،‬ويسودها‬
‫روح اإلخاء والتكافل واملودة والرمحة‪ ،‬وترفرف عليها مظلة األمن والعدل واحلرية‪ ،‬وختلو من شبح اجلوع واخلوف والكراهية‬
‫والب ضاء واألارة‪ ،‬وتراعي العدالة يف توزيع الدخول والثروة حىت ال يكون املال دولة بني األغنياء وحدهم ‪ ،‬حياة توازن بني‬
‫منافع األجيال احلالية واألجيال املستقبلية ‪.‬‬

‫(‪ )84‬انظر د‪ .‬حممد عمارة‪ ،‬مسامهة املؤسسات اخلريية يف تركيز اجملتمع املدين‪ ،‬مقال يف جملة اخلريية العدد ‪ 11‬حمرم ‪8481‬هف ص ‪،30‬‬
‫وحممد بن عبد اهلل‪ ،‬الوقف يف الفكر اإلسالمي ‪.34/8‬‬
‫(‪ )85‬حممد بن عبد اهلل‪ ،‬الوقف يف الفكر اإلسالمي ‪.30/8‬‬
‫(‪ )86‬نفه املرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )87‬سورة البقرة‪ ،‬آية ‪36‬‬
‫(‪ )88‬سورة النحل‪ ،‬آية ‪17‬‬
‫‪814‬‬
‫وبذلك سبق اإلسالم تعريف التنمية املستدامة وتطبيق قبل أن يعرفها ال رب بعشرات القرون‪ ،‬فاألجيال القادمة يف‬
‫املنهج اإلسالمي هلا حق يف اروات األجيال احلاضرة‪ .‬وتطبيقا لذلك حث اإلسالم اآلباء على ترك أوالدهم أغنياء ال‬
‫فقراء ‪ ،‬ففي احلديث الشريف «إنك إن تذر وراتك أغنياء خري من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"(‪" ،)89‬إذا مات‬
‫اإلنسان انقطع عمله إال من االث صدقة جارية ‪ ،‬أو علم ينتفع به ‪ ،‬أو ولد صاحل يدعو له" (‪ ،)90‬ويشري القرآن الكرمي‬
‫إىل الرتابط بني األجيال يف صورة من الرتاحم والتعاطف يف قوله تعاىل‪" :‬والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا‬
‫وإلخواننا الذين سبقونا باإلميان"(‪ ،)91‬ولقد استند أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب ‪-‬رضي اهلل عنه‪ -‬على هذه اآلية يف‬
‫عدم تقسيم أراضي العراق على الفاحتني‪ ،‬بل فرض عليها اخلراج ملصلحة األجيال املتعاقبة وقال ملن خالفه ‪" :‬تريدون أن‬
‫يأيت آخر الزمان ناس ليه هلم شيء؟ فما ملن بعدكم؟"(‪.)92‬‬

‫الفصل الثالث ‪:‬‬

‫الوقف والتنمية المستدامة‬

‫المبحث األول ‪ :‬إسهامات الوقف في بناء الحضارة اإلسالمية وتنميتها‬

‫المبحث الثاني ‪ :‬تأثير الوقف على التنمية المستدامة‬

‫المبحث الثالث ‪ :‬أبعاد التنمية المستدامة التي يحققها الوقف‬

‫المبحث األول‪ :‬إسهامات الوقف في بناء الحضارة وتنميتها‪:‬‬

‫تشري القراءة املتأنية لتاريخ احلضارة اإلسالمية‪ ،‬يف عصورها املختلفة إىل أن الوقف قام بدور بارز يف تطوير‬
‫اجملتمعات اإلسالمية اقتصادياً واجتماعياً واقافياً وعمرانياً‪ ،‬فقد امتدت تأارياته لتشمل معظم أوجه احلياة جبوانبها‬
‫املختلفة‪، ،‬ا يف ذلك محاية البيئة وحتقيق كل صور األمن البيئي‪ ،‬إضافة إىل رعاية الفئات الضعيفة‪ ،‬وتشجيع العلم‬
‫والعلماء‪ ،‬وإنشاء املكتبات واملعاهد واملدارس والكتاتيب اخلاصة بتحفيظ األطفال كتاب اهلل تعاىل‪ ،‬وتشييد املستشفيات‬
‫ورعاية املرضى‪ ،‬و ويل اخلدمات العامة‪ ،‬بل إن اهتمامات الواقفني امتدت لتشمل النواحي العسكرية‪ ،‬مثل‪ :‬إنشاء‬
‫األربطة واحلصون‪ ،‬وجتييش اجليوش وجتهيزها للذود عن الديار اإلسالمية‪ ،‬وهكذا مشل الوقف اإلسالمي كل مناحي‬
‫احلياة‪، ،‬ا يف ذلك جوانب التنمية واحملافظة على سالمة البيئة‪ ،‬أي أنه مل يقتصر على جانب معني أو اجتاه واحد‪ ،‬بل‬

‫(‪ )89‬رواه البخاري‪.‬‬


‫(‪ )90‬رواه مسلم‬
‫(‪ )91‬سورة احلشرة‪ ،‬آية ‪80‬‬
‫(‪ )92‬الوقف و ويل التنمية املستدامة‪ ،‬د‪ .‬أشرف دوابه ‪ -‬صحيفة املصريون ‪ -‬بتاريخ ‪ - 5088-04-54‬اخلليج اإلماراتية ‪ -‬بتاريخ ‪1‬‬
‫‪5088 - 1 -‬‬
‫‪811‬‬
‫اتسعت جماالته قدر اتساع حاجات اجملتمع والناس‪ ،‬وهذا الدور املتميز‪ ،‬الذي يشهد به التاريخ للوقف‪ ،‬حفظ‬
‫للمجتمعات اإلسالمية حيويتها وأسهم يف ازدهار اخلدمات فيها‪ ،‬حىت يف عصور اال سار(‪)93‬واالستعمار‪.‬‬

‫لقد كانت األوقاف حجر األساس الذي قامت عليه كل املؤسسات اخلريية اليت ظهرت يف ديار املسلمني‪ ،‬فقد‬
‫كانوا داون وقفاً لكل مشروع يقيمونه؛ لينفق عليه من دخله‪ ،‬ويكون ضماناً الستمرار تش يله‪ ،‬ولذلك فإن هذه‬
‫املنشآت تقوم بدورها يف اجملتمع‪ ،‬ب ض النظر عما صل ملن أوقفها‪ ،‬من طوارئ الزمان‪ ،‬أو انصراف عن املشروع إىل‬
‫سواه(‪.)94‬‬

‫وفكرة الوقف كانت موجودة قبل اإلسالم عند بعض األمم وإن مل يسم هبذا االسم ‪ ،‬فقد وجدت عند قدماء‬
‫املصريني حيث كانت األراضي ترصد على اآلهلة واملعابد واملقابر‪ ،‬وتؤخذ غلتها للنفقة عليها ‪ ،‬كذلك ينفق على الكهنة‬
‫واخلدام من هذه األموال‪ ،‬وكان الناس وقتها مدفوعني إىل هذا التصرف بقصد فعل اخلري والتقرب إىل اآلهلة كما زعموا‪.‬‬
‫وكان هذا الشيء موجوداً عند قدماء العراقيني‪ ،‬وعند الرومان وغريهم(‪.)95‬‬

‫ومن األوقاف اليت اشتهرت عند العرب قبل اإلسالم‪ ،‬الوقف على الكعبة املشرفة‪ ،‬بكسوهتا وعمارهتا كلما‬
‫هتدمت‪ ،‬وأول من كساها ووقف عليها (أسعد أبو كريب ملك محري)كما ذكر ابن خلدون يف مقدمته(‪.)96‬‬

‫أما قول الشافعي رمحه اهلل ‪ :‬مل به أهل اجلاهلية فيما علمته داراً‪ ،‬وال أرضاً تربراً حببسها‪ ،‬وإمنا حبه أهل‬
‫اإلسالم‪ )97(.‬فاإلمام الشافعي هنا مل ينف وجود األحباس يف اجلاهلية قطعاً‪ ،‬بل نفى وجود األحباس اليت يقصد منها‬
‫القربة والرب آنذاك (‪.)98‬‬

‫أول وقف في اإلسالم وارتباطه بالتنمية المستدامة‪:‬‬

‫ذكر علماء الفقه أن الوقف من خصائ أمة حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬قال اإلمام النووي‪" :‬وهو مما اخت‬
‫به املسلمون" ‪ ،‬وهلذا‪ ،‬يرى كثري من الباحثني أن أول وقف ديين يف اإلسالم هو مسجد قباء الذي أسسه النيب صلى اهلل‬
‫عليه وسلم حني قدم مهاجراً إىل املدينة املنورة‪ ،‬قبل أن يدخلها ويستقر فيها‪ ،‬مث املسجد النبوي الذي بناه صلى اهلل عليه‬

‫(‪ )93‬التجربة الكويتية يف إدارة األوقاف‪ ،‬د‪ .‬علي فهد الزميع‪ ،‬أحباث ندوة ( و دور تنموي للوقف) املنعقدة خالل الفرتة من ‪8‬ف‪ 3‬مايو‬
‫‪8113‬م بالكويت‪ ،‬وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية‪8113 ،‬م‪ ،‬صفحة ‪.13‬‬
‫(‪ )94‬انظر صاحل كامل‪ ،‬حماضرة عن الوقف ودوره يف التنمية االقتصادية ص‪ 38‬ضمن أحباث ندوة و دور تنموي للوقف‪ ،‬يف الكويت‪.‬‬
‫(‪ )95‬انظر‪ :‬أحكام الوقف د‪ /‬الكبيسي ‪ ،58/8‬والوقف األهلي‪ .‬د‪ /‬بافقيه ص‪ ،86‬وحماضرات يف الوقف ابو زهرة‪ .‬ص‪.1‬‬
‫(‪ )96‬انظر‪ :‬مقدمة ابن خلدون ‪ ،145/3‬والوقف مشروعية وأمهية د‪ /‬الدريويش ص‪.51‬‬
‫(‪ )97‬انظر‪ :‬األم ‪.571/3‬‬
‫(‪ )98‬انظر‪ :‬الوقف يف الفكر اإلسالمي حملمد عبدالعزيز ‪ ،73/8‬وأحكام الوقف د‪ /‬الكبيسي ‪.55/8‬‬
‫‪816‬‬
‫وسلم يف السنة األوىل من اهلجرة‪ ،‬عند مربك ناقته حينما دخل املدينة املنورة‪ ،‬أما أول وقف خريي عرف يف اإلسالم فهو‬
‫وقف النيب صلى اهلل عليه وسلم لسبع حوائط (بساتني) كانت لرجل يهودي اًه (خمرييق)‪ ،‬قتل على رأس اانني واالاني‬
‫شهراً من مهاجر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهو ارب مع املسلمني يف موقعة أحد‪ ،‬وأوصى‪ :‬إن أصبت أي قتلت‬
‫فأموايل حملمد يضعها حيث أراه اهلل تعاىل‪ ،‬فقتل يوم أحد‪ ،‬وهو على يهوديته‪ ،‬فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬خمرييق‬
‫خري يهود‪ ،‬وقبض النيب صلى اهلل عليه وسلم تلك احلوائط السبعة‪ ،‬فتصدق هبا‪ ،‬أي‪ :‬وقفها‪ ،‬مث تاله عمر رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫مث وقف أيب بكر الصديق رضي اهلل عنه‪ ،‬مث وقف عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪ ،‬مث وقف علي بن أيب طالب رضي اهلل‬
‫عنه‪ ،‬مث تتابعت بعد ذلك أوقاف الصحابة‪ ،‬وأخذت األوقاف اإلسالمية بعد ذلك تتكاار وتزدهر يف شىت أ اء العامل‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وأسهمت إسهاما بال اً يف حفظ البيئة وتنميتها بشىت أنواعها(‪.)99‬‬

‫إسهام الوقف في التنمية المائية‪:‬‬

‫كان للوقف دور كبري يف توافر األمن املائي للمسلمني منذ بداية نشأة الدولة اإلسالمية يف مدينة الرسول صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وقد شاع الوقف هلذا الوجه من الرب يف سائر أ اء العامل اإلسالمي ‪ ،‬لعظم فضله واوابه‪ ،‬ولعله من املفيد‬
‫هنا أن نشري إىل حادث شراء بئر رومة كدليل على ذلك‪ ،‬لقد كانت هذه البئر لرجل من قبيلة مزينة مث باعها لرومة‬
‫ال فاري‪ ،‬ومل يكن باملدينة املنورة ماء يستعذب غري مائها ‪ ،‬وهلذا كان مالكها يبيع منها القربة ‪،‬د ر نبوي وقد سأل‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم رومة أن يبيعها للمسلمني بقوله صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬بعينها بعني يف اجلنة‪ ،‬فقال له‬
‫الرجل‪ :‬يا رسول اهلل ليه يل وعيايل غريها‪ ،‬وال أستطيع ذلك‪ ،‬فبلغ هذا اخلرب عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪ ،‬فاشرتاها‬
‫منه على دفعتني األوىل خبمسة واالاني ألف درهم‪ ،‬واتفق مع صاحب البئر على أن يكون له يوم ولصاحب البئر يوم‪،‬‬
‫فإذا كان يوم عثمان استسقى املسلمون ما يكفيهم يومني‪ ،‬مث اشرتى الدفعة الثانية بثمانية آالف درهم‪ ،‬وجعلها كلها‬
‫وقفاً على املسلمني‪.‬‬

‫و فل التاريخ اإلسالمي بأًاء الكثري من الشخصيات اليت كانت هلا إسهامات بارزة يف جمال األمن املائي‪ ،‬مثل‪:‬‬
‫أيب جعفر حممد علي بن أيب منصور‪ ،‬املعروف باجلواد األصبهاين‪ ،‬وزير صاحب املوصل األيويب‪ ،‬فقد ب وأوقف الكثري‬
‫من األسبلة يف مكة‪ ،‬واختط صهاريج املاء‪ ،‬ووضع اجلباب يف طرق احلج لتجميع ماء املطر فيها(‪.)100‬‬

‫وقد تبارى املسلمون يف إنشاء األسبلة‪ ،‬باعتبارها نوعاً من الصدقة اجلارية اليت يصل اواهبا إىل صاحبها حىت بعد‬
‫موته‪ ،‬فقد روي عن سعد بن عبادة رضي اهلل عنه أنه قال‪ :‬يا رسول اهلل‪ :‬أي الصدقة أفضل؟ قال‪ :‬سقي املاء رواه ابن‬
‫ماجه‪ ،‬وعن عائشة رضي اهلل عنها‪ ،‬أَّنا قالت‪ :‬يا رسول اهلل‪ :‬ما الشيء الذي ال ل منعه؟ قال‪ :‬املاء وامللح والنار‪،‬‬
‫قالت‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول اهلل‪ :‬هذا املاء قد عرفناه‪ ،‬فما بال امللح والنار؟ قال‪" :‬يا محرياء‪ ،‬من أعطى ناراً فكأمنا تصدق‬

‫(‪ )99‬الوقف وأاره التنموي‪ ،‬د‪ .‬علي مجعة حممد أحباث ندوة‪ :‬و دور تنموي للوقف‪.‬‬
‫(‪ )100‬الشهب الالمعة يف السياسة النافعة‪ ،‬أبو القاسم بن رضوان املالقي‪.‬‬
‫‪817‬‬
‫جبميع ما أنضجت تلك النار‪ ،‬ومن أعطى ملحاً فكأمنا تصدق جبميع ما طيب ذلك امللح‪ ،‬ومن سقى مسلماً شربة من‬
‫ماء‪ ،‬حيث يوجد املاء‪ ،‬فكأمنا أعتق رقبة‪ ،‬ومن سقى نفساً مسلمة شربة من ماء حيث ال يوجد فكأمنا أحياها"(‪.)101‬‬

‫وقد أسهم نظام الوقف يف انتشار األسبلة‪ ،‬وصادفت مبانيها رواجاً وترحيباً حاراً من املسلمني‪ ،‬نظراً ملا ترتبط به من‬
‫فعل اخلري بتوافر مياه الشرب للمارة يف الشوارع والطرق ‪ ،‬وال سيما يف أوقات القيظ‪.‬‬

‫وميكن القول ‪ :‬إن األسبلة كانت تقوم مقام مرفق املياه حالياً ‪ ،‬يف املدن وبدرجة أقل يف القرى‪ ،‬وغالباً ما كانت‬
‫تلحق أسبلة املياه الصاحلة للشرب باملساجد أو تكون وسط املدينة أو على طرق القوافل‪ ،‬لتكون يف متناول اجلميع ‪ ،‬وقد‬
‫أنشئت األسبلة بني احلارات لتقدمي املاء البارد‪ ،‬وخصوصاً يف مناطق ازدحام السكان منها‪ ،‬بل كانت هناك األسبلة اليت‬
‫تقوم بتخصي جزء منها للنساء الاليت ال يقدرن على دفع أجور السقائني للحصول على حاجاهتن املنزلية من املاء‪.‬‬

‫وتزخ ر حجج األوقاف بكيفية تنظيم ورود املاء العذب إىل السبيل على مدار أيام العام ‪ ،‬واالهتمام بنظافة السبيل ‪،‬‬
‫والقائمني عليه ‪ ،‬كما أنشئت اآلبار االرتوازية يف الطرق الربية اليت تربط بني املدن على امتداد العامل اإلسالمي لسقاية‬
‫الراحلة وما شابه‪.‬‬

‫وامتدت شجرة الشفقة اإلنسانية بظالهلا الوارفة إىل احليوانات والدواب أيضاً‪ ،‬فعينت هلا أحواضاً لسقياها‪ ،‬طلباً‬
‫للمثوبة‪ ،‬وأنشئت هذه األحواض كمنشآت خريية خلدمة الدواب على طرق املدينة‪ ،‬وعلى الطرق اليت تربط بني املدن ‪،‬‬
‫خدمة للقوافل التجارية واملسافرين املتنقلني بني هذه املدن‪ ،‬كما كان يلحق ببعض األسبلة مثل هذه األحواض ‪ ،‬كما يف‬
‫سبيل درويش باشا يف منطقة الدرويشية القريبة من سوق احلميدية يف دمشق(‪.)102‬‬

‫إسهام الوقف في التنمية الغذائية‪:‬‬

‫كان للوقف دور كبري يف حتقيق األمن ال ذائي ألبناء الدولة اإلسالمية ‪ ،‬ويف مرحلة باكرة من تاريخ الدولة‬
‫اإلسالمية ‪ ،‬تنافه املسلمون يف ختصي األوقاف إلطعام ذوي احلاجة من البائسني وأبناء السبيل وامل رتبني يف طلب‬
‫العلم ‪ ،‬وقد تبارى العثمانيون وأبناء الدول اليت خضعت لسلطة اخلالفة العثمانية يف إنشاء (التكايا) اليت كان هلا دور بارز‬
‫يف توافر الطعام لطوائف كثرية من الفقراء واملساكني وابن السبيل وطلبة العلم ‪ ،‬وقد أنشئت التكايا يف خمتلف مدن العامل‬
‫اإلسالمي ‪، ،‬ا يف ذلك مكة املكرمة واملدينة املنورة ‪ ,‬وكانت التكية تقدم وجبات جمانية مرتني يف اليوم لكل من يقصدها‬
‫يف األيام العادية ‪ ،‬يف حني كانت تقدم وجبات خاصة يف أيام اجلمع وسائر الليايل الشريفة وليايل شهر رمضان ‪ ،‬ومل‬
‫يقتصر دور التكية ‪ ،‬على تقدمي الطعام والشراب ‪ ،‬بل كانت يف حقيقة األمر مؤسسة إسالمية متعددة األغراض ‪ ،‬إذ‬
‫كانت تستخدم أحياناً الستضافة ال رباء واملسافرين ‪ ،‬وتارة إليواء الفقراء واملساكني ‪ ،‬وتارة أخرى إلقامة طلبة العلم ‪،‬‬

‫(‪ )101‬رواه ابن ماجه‪.‬‬


‫(‪ )102‬األسبلة ماء احلضارة‪ ،‬د‪ .‬أمحد الصاوي‪.‬‬
‫‪811‬‬
‫وقد أبدع الواقفون يف عمارة التكايا ويف تصاميمها العمرانية ‪ ،‬حبيث ال تبدو جمرد مأوى أو مطعم ‪ ،‬فعلى سبيل املثال ‪،‬‬
‫كانت تكية الوايل العثماين أمحد باشا من حماسن دمشق ‪ ،‬على حد تعبري املؤرخ املعاصر له‪ :‬احلسن بن حممد‬
‫البوريين(‪.)103‬‬

‫واشتهرت اجلامعات اإلسالمية العريقة ‪ ،‬مثل األزهر ‪ ،‬بتوزيع ما عرف باجلراية وهي وجبات طعام يومية على‬
‫طالهبا ‪ ،‬حىت يتفرغوا للدراسة ‪ ،‬وكان يتم ويل هذه اجلرايات من عوائد األوقاف املخصصة لإلنفاق على املسجد وعلى‬
‫شيوخه ومنتسبيه‪.‬‬

‫وكانت هناك أوقاف إلمداد األمهات املرضعات باحلليب والسكر‪ ،‬ويذكر املؤرخون بإعجاب شديد أن من حماسن‬
‫صالح الدين األيويب أنه جعل يف أحد أبواب القلعة بدمشق ميزاباً يسيل منه احلليب ‪ ،‬وميزاباً يسيل منه املاء احمللى‬
‫بالسكر ‪ ،‬حيث تأيت إليهما األمهات يف كل أسبوع ليأخذن ألطفاهلن ما تاجون إليه من احلليب والسكر(‪.)104‬‬

‫إسهام الوقف في التنمية االجتماعية‪:‬‬

‫أسهم الوقف يف التنمية االجتماعية يف احلواضر واملدن اإلسالمية ‪ ،‬فقد است لت أموال األوقاف يف إيواء اليتامى‬
‫واللقطاء ورعايتهم ‪ ،‬وكانت هناك أوقاف خمصصة لرعاية املقعدين والعميان والشيوخ ‪ ،‬وأوقاف إلمدادهم ‪،‬ن يقودهم‬
‫وصدمهم ‪ ،‬وأوقاف لتزويج الشباب والفتيات ممن تضيق أيديهم وأيدي أوليائهم عن نفقاهتم ‪ ،‬وأنشئت يف بعض املدن‬
‫دور خاصة حبست على الفقراء إلقامة أعراسهم‪ ،‬كما أنشئت دور إليواء العجزة املسنني ‪ ،‬والقيام على خدمتهم ‪،‬‬
‫وإضافة إىل ذلك ‪ ،‬أقيمت املوائل واخلانات لكي ينزل هبا املسافرون يف حلهم وترحاهلم ‪ ،‬ويف تنقلهم من منطقة إىل‬
‫أخرى ‪ ،‬وخباصة إذا كانوا من الفقراء أو التجار الذين ال طاقة هلم بدفع إجيار السك ‪ ،‬وامتد نطاق اخلدمات‬
‫االجتماعية اليت يشملها نظام الوقف حبيث تضمن بناء مدافن الصدقة اليت يقرب فيها الفقراء الذين ال تلك أسرهم‬
‫مدافن خاصة هبم ‪ ،‬وكانت كل هذه األوجه املختلفة من أوجه الرعاية االجتماعية تقدم جماناً ‪ ،‬اعتماداً على ما أوقف من‬
‫وقوف على مثل هذه اخلدمات(‪·)105‬‬

‫إسهام الوقف في تنمية الرعاية الصحية‪:‬‬

‫كان لنظام الوقف اإلسالمي أار كبري يف دعم خدمات الرعاية الصحية للمواطنني والسكان على اختالف‬
‫مذاهبهم و لهم‪ ،‬وقد خصصت بعض األوقاف لإلنفاق من ريعها على املستشفيات‪ ،‬على و ما نراه يف وقف السلطان‬

‫(‪ )103‬دور الوقف يف اجملتمعات اإلسالمية‪ ،‬د‪ .‬حممد موفق األرناؤوط‪.‬‬


‫(‪ )104‬من روائع حضارتنا‪ ،‬د‪.‬مصطفى السباعي‪.‬‬
‫(‪ )105‬األوقاف السياسية يف مصر‪ ،‬د‪ .‬إبراهيم البيومي غامن‪.‬‬
‫‪811‬‬
‫نورالدين زنكي‪ ،‬فقد قام بوقف القطيفة(‪ )106‬كلها على البيمارستان الذي بناه يف دمشق‪ ،‬كما استثمرت أموال األوقاف‬
‫يف بناء أحياء طبية متكاملة‪.‬‬

‫ويذكر ابن جبري يف رحلته أنه وجد بب داد حياً كامالً من أحيائها‪ ،‬يشبه املدينة الص رية‪ ،‬كان يسمى بسوق‬
‫املارستان‪ ،‬يتوسطه قصر فخم مجيل‪ ،‬وحتيط به احلدائق والرياض واملقاصري والبيوت املتعددة‪ ،‬وكلها أوقاف أوقفت على‬
‫املرضى‪ ،‬وكان يؤمه األطباء والصيادلة وطلبة الطب‪ ،‬إذ كانت النفقات جارية عليهم من األموال الوقفية املنتشرة يف‬
‫ب داد(‪.)107‬‬

‫وحتدانا كتب التاريخ عن املستشفيات اليت أنشئت يف مصر بفضل أموال الواقف‪ .‬ويذكر املؤرخون منها مستشفى‬
‫أنشأه الفتح بن خاقان وزير املتوكل على اهلل العباسي‪ ،‬ومستشفى آخر أسسه أمري مصر أمحد بن طولون‪ًِّ ،‬ي باًه‪،‬‬
‫وحبه له من األوقاف ما يلزم لإلنفاق عليه‪ ،‬وب فيه احلمامات للرجال والنساء(‪ ،)108‬وقد حتدث املؤرخون والرحالة عن‬
‫هذا املستشفى الذي جعله ابن قالوون وقفاً لعالج مرضى املسلمني‪ .‬وقد قال عنه ابن بطوطة‪ :‬إنه يعجز الوصف عن‬
‫حماسنه‪ ،‬وقد أعد فيه من األدوية واملرافق اخلدمية ما ال صى‪.‬‬

‫وقد َّنضت األوقاف بالرعاية الصحية حيث أقيمت على األوقاف مستشفيات كبرية يف أهم املدن ‪ ،‬وحتدث عنها‬
‫املؤرخون بإسهاب‪ ،‬مثل مستشفى سيدي فرج يف فاس‪ ،‬أسسه السلطان يوسف بن يعقوب املريين‪ ،‬ووقف عليه عقارات‬
‫كثرية برسم النفقة عليه‪ ،‬والعناية باملرضى(‪.)109‬‬

‫إسهام الوقف في التنمية االقتصادية‪:‬‬

‫كان للوقف آاار بارزة يف دفع عجلة التنمية االقتصادية يف خمتلف أ اء العامل اإلسالمي‪ ،‬فقد أسهم يف حفظ‬
‫األصول احملبسة من التالشي‪ ،‬وأعطى األولية يف الصرف للمحافظة عليها‪ ،‬وإمنائها قبل الصرف املوقوف عليهم‪ ،‬كما أنه‬
‫أسهم يف توزيع جانب من املال على طبقات اجتماعية معينة‪ ،‬فأعاَّنم على قضاء حوائجهم‪ ،‬وأوجد طلباً على السلع‬
‫املشبعة لتلك احلاجات‪ ،‬األمر الذي ساعد على تدوير رأس املال وإنعاش حركة التجارة‪ ،‬وقد خصصت بعض األوقاف‬
‫ملساعدة أصحاب املشروعات الص رية ‪ ،‬وكانت هناك أوقاف لتوفري البذور الزراعية‪ ،‬ولشق األَّنار‪ ،‬وحفر اآلبار(‪.)110‬‬

‫(‪ )106‬منطقة تقع بني دمشق ومدينة مح ‪ ،‬انظر‪ :‬د‪ .‬حممد موفق األرناؤوط‪ ،‬دور الوقف يف اجملتمعات اإلسالمية‪.‬‬
‫(‪ )107‬التذكرة باألخبار يف اتفاقات األسفار‪ ،‬ابن جبري‪.‬‬
‫(‪ )108‬اخلطط املقريزية (املواعظ واالعتبار)‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬تقي الدين املقريزي‪.‬‬
‫(‪ )109‬نفه املرجع السابق‪.‬‬
‫(‪ )110‬نظام الوقف اإلسالمي‪ ،‬د‪ .‬أمحد أبوزيد‪.‬‬
‫‪810‬‬
‫وال صفى أار ذلك على زيادة معدالت اإلنتاج‪ ،‬وعلى توافر فرص عمل للكثريين‪ ،‬وقد أسهمت األوقاف الكثرية اليت‬
‫كا نت يف فرتة ازدهار احلضارة اإلسالمية يف ختفيف العبء امللقى على كاهل الدولة واملتعلق بتنفيذ املشروعات العامة‬
‫كاملدارس واملعاهد واملستشفيات‪ ،‬وهي مشروعات تستنفذ معظم دخل الدولة يف أنشطة غري منتجة‪ ،‬وأدى ذلك إىل‬
‫عدم ظهور ديوان للتعليم يف الدولة اإلسالمية قدمياً‪ ،‬يف حني ظهرت دواوين للخدمة والقضاء واحلسبة واملظامل وفضالً عن‬
‫ذلك‪ ،‬فإن األوقاف خففت من معدالت اإلنفاق الرًي العام على الوظائف‪ ،‬فاملنشآت الوقفية قبل أن ختضع لإلدارة‬
‫احلكومية يف العصر احلديث‪ ،‬كانت تتسم بكفاءة أنظمتها اإلدارية‪ ،‬ل ياب البريوقراطية منها‪ ،‬ولعدم حتميلها ‪،‬وظفني ال‬
‫مهام هلم‪.‬‬

‫إسهام الوقف في التنمية الحضارية‪:‬‬

‫أسهم الوقف يف منو املدن اإلسالمية اليت نشأت يف عصوره الزاهرة ‪ ,‬ومل يقتصر األمر على ذلك بل مشل املدن‬
‫املوجودة قبل اإلسالم مثل مدينيت دمشق وحلب حيث سامهت األوقاف يف بنائها وتطورها من خالل توافر اخلدمات‬
‫األساسية فيها‪ ،‬املمثلة يف إنشاء املدارس واملستشفيات واملربات ومرافق املياه وغريها‪ ،‬كما أسهم يف منو املدن اجلديدة مثل‬
‫الصاحلية وكاتشانيك وغريها‪.‬‬

‫إسهام الوقف في حماية البيئة وتنظيفها‪:‬‬

‫است لت أموال الوقف يف تعبيد الطرق داخل املدن وتنظيفها‪ ،‬واستثمرت أموال األوقاف يف توافر الرعاية الصحية‬
‫للحيوانات والطيور املريضة‪، ،‬ا يف ذلك الطيور الربية‪ ،‬وهي ظاهرة مل يعرفها تاريخ العامل إال يف بالد املسلمني(‪.)111‬‬

‫وهكذا أسهم نظام الوقف اإلسالمي يف بناء احلضارة اإلسالمية‪ ،‬وحتقيق التنمية املستدامة واحملافظة على البيئة‬
‫وإحيائها‪ ،‬األمر الذي ميكن اعتباره حبق مفخرة من مفاخر حضارتنا اإلسالمية‪.‬‬

‫المبحث الثاني ‪ :‬تأثير الوقف على التنمية المستدامة‪:‬‬

‫إن تداخل اجلوانب املختلفة للتنمية جيعل من الصعوبة تقسيمها أو فصلها عن بعضها‪ ،‬فكل جانب منها له تأاري‬
‫مباشر على اجلوانب األخرى‪ .‬فمثال للتنمية االقتصادية أاار تنموية يف النواحي االجتماعية وغريها؛ وكذلك التنمية‬
‫االجتماعية قد تؤدي إىل إحداث تنمية اقتصادية وإىل إحداث آاار تنموية يف جماالت أخرى‪ .‬ويف مبحث سابق تبني أن‬
‫أهم اجملاالت اليت تدور حوهلا التنمية املستدامة‪ ،‬هي االاة‪ :‬التنمية االقتصادية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬والبيئية‪.‬‬

‫فمفهوم التنمية االقتصادية يركز على املت ريات االقتصادية كالنمو االقتصادي وتوزيع الدخل واالستثمار واملنفعة‬
‫الكلية واألرباح واالدخار وغريها‪ ،‬أما مفهوم التنمية االجتماعية فريكز على نتائج التنمية على حياة األفراد واجلماعات‬

‫(‪ )111‬نفه املرجع السابق‪.‬‬


‫‪818‬‬
‫ومدى املسامهة يف حل الكثري من املشكالت االجتماعية؛ حيث إن مفهوم التنمية يتضمن عملية إحداث الت يري‬
‫والتحول اليت ترتك بصماهتا على حياة األفراد‪ ،‬وسنرى كيف دث ذلك يف ظل تأاري الوقف‪.‬‬

‫أوال‪ :‬تأثير الوقف في مجال التنمية االقتصادية‪:‬‬

‫يتمثل دور الوقف يف اجلانب االقتصادي من خالل النواحي التالية‪:‬‬


‫ّ‬
‫•السلوك االدخاري‪:‬‬

‫إن عالقة الوقف باالدخار واضحة من جهة إطالقه على مع احلبه ومنع العني املوقوفة عن أنشطة التبادل يف‬
‫السوق‪ .‬ويف هذا السياق يقصد باالدخار حفظ األموال املوقوفة وختزينها وحجزها عن عمليات التداول‪.‬‬

‫•توزيع ال لة‪:‬‬

‫يعمل الوقف على إعادة توزيع الدخل بني الطبقات مما يؤدي إىل عدم حبسها بأيد حمدودة‪ ،‬فعندما يوصي الواقف‬
‫بتوزيع غلة موقوفاته على جهة من اجلهات فإن هذا يكون ‪،‬ثابة عملية إلعادة توزيع املال على اجلهات املستفيدة وعدم‬
‫استئثار املالك به‪.‬‬

‫•البنية التحتية لالقتصاد‪:‬‬

‫يساعد الوقف يف حتسني البنية التحتية لالقتصاد مثل إنشاء الطرق وبناء اجلسور وحفر اآلبار إن حتسني مثل‬
‫هذه البنية التحتية وتطويرها يساعد على هتيئة الظروف املناسبة لزيادة حجم االستثمار احمللي واخلارجي ‪ .‬فاالستثمار‬
‫يؤدي لزيادة اإلنتاج وبالتايل زيادة الصادرات مما قد يعمل على حتسني امليزان التجاري للدولة‪ .‬كما أن تدفق أموال أجنبية‬
‫هبدف االستثمار يسهم يف حتسني ميزان املدفوعات‪.‬‬

‫•توفري القروض وتسهيلها‪:‬‬

‫قد يساهم الوقف بتوفري القروض للزراعة والتمويل باملضاربة لبعض النشاطات التجارية والزراعية‪ ،‬مما يساهم يف‬
‫توسيع قاعدة النشاط االقتصادي وتشجيع القطاعات االقتصادية املختلفة ‪.‬إن هذا بدوره يدفع عجلة النمو االقتصادي‬
‫لألمام ويعمل على استحداث فرص عمل جديدة مما يقلل من معدالت البطالة‪.‬‬

‫• ويل املدارس والكليات‪:‬‬

‫إن ويل املدارس والكليات ومراكز العلم من أموال الوقف يعترب ‪،‬ثابة استثمار يف رأس املال البشري ال تقل أمهيته‬
‫عن االستثمار يف رأس املال املادي‪.‬‬

‫‪815‬‬
‫•التأمني‪:‬‬

‫يعمل الوقف على تأمني جزء من رأس املال اإلنتاجي‪ ،‬فوقف املدارس ودور العلم هو شكل من أشكال رأس املال‬
‫املادي الالزم إلنتاج خمرجات العملية التعليمية‪.‬‬

‫•التخفيف على احلكومات‪:‬‬

‫تعمل املشاركة بالوقف من قبل أارياء األمة على تقليل األعباء امللقاة على عاتق احلكومات‪ ،‬وجيعل األفراد أكثر‬
‫استعدادا للمشاركة الفعالة يف تبين مهوم اجملتمع والتخفيف من االتكالية الشائعة لدى الناس باالعتماد على جهود‬
‫احلكومة فقط‪ .‬كل ذلك يؤدي إىل ختفيف العبء امللقى على عاتق احلكومات‪ ،‬وبالتايل إىل التخفيف من العجز يف‬
‫املوازنة العامة والتقليل من املديونية الداخلية واخلارجية لتلك الدول‪.‬‬

‫•استحداث مصادر دخل‪:‬‬

‫يعمل الوقف على إجياد مصادر دخل للفقراء واملساكني والعاجزين عن العمل واألرامل واأليتام وغريهم مما ي طي‬
‫حاجاهتم األساسية‪ .‬وهذا يؤدي إىل حتسني مستوى املعيشة هلذه الفئات من اجملتمع‪ ،‬مما قد يزيد من إنتاجيتهم‬
‫االقتصادية‪.‬‬

‫•تقدمي اإلعانات‪:‬‬

‫تعد كثري من أعمال اخلري اليت تؤدي إىل تقدمي إعانات مباشرة أو غري مباشرة للفقراء كالزكاة والصدقات مثال ‪،‬ثابة‬
‫عملية إلعادة توزيع الدخل أو عملية إلعادة توزيع الثروة بني فئات اجملتمع‪ .‬وهذا بدوره يعمل على ختفيف الفجوة بني‬
‫الطبقات‪ ،‬وحتويل جزء من األموال من الفئات األكثر ادخارا إىل الفئات األكثر استهالكا‪ ،‬وهذا حبد ذاته يدعم النمو‬
‫االقتصادي من خالل مضاعفة االستهالك‪.‬‬

‫•زيادة حجم الناتج احمللي‪:‬‬

‫يسهم الوقف يف حتويل جزء من الدخل من الفئات القادرة إىل الفئات احملتاجة‪ ،‬وألن امليل احلدي لالستهالك لدى‬
‫الشرائح الفقرية مرتفع نسبيا مقارنة معه لدى الفئات امليسورة‪ ،‬فان ذلك يؤدي إىل زيادة حجم الطلب الكلي على خمتلف‬
‫أنواع السلع واخلدمات يف االقتصاد‪ ،‬وهذا بدوره يساعد يف زيادة حجم الناتج احمللي اإلمجايل للدولة كون االستهالك‬
‫ميّثل مكونا من املكونات الرئيسية للدخل القومي‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬تأثير الوقف في مجال التنمية االجتماعية‪:‬‬

‫‪813‬‬
‫جيعل النظام اإلسالمي من الوقف إخراجا جلزء من الثروة اإلنتاجية يف اجملتمع من دائرة املنفعة الشخصية ومن دائرة‬
‫القرار احلكومي معا‪ ،‬وختصي ذلك اجلزء ألنشطة اخلدمة االجتماعية العامة‪ ،‬براً باألمة‪ ،‬وإحسانا ألجياهلا القادمة‪.‬‬
‫وبذلك يسهم الوقف يف إعادة ترتيب عالقات اجملتمع ويظهر تأاري الوقف يف التنمية االجتماعية من خالل اآليت‪:‬‬

‫• احله الرتامحي بني أفراد اجملتمع‪:‬‬

‫الوقف يظهر احله الرتامحي الذي ميلكه املسلم ويرتمجه بشكل عملي يف تفاعله مع مهوم جمتمعه الكبري ؛ مما يعمل‬
‫على تعزيز روح االنتماء اجملتمعي بني أفراد اجملتمع‪.‬‬

‫•اتساع منافعه‪:‬‬

‫وقد اتسعت منافع الوقف يف اإلسالم حىت مشلت غري املسلمني من أهل الذمة‪ ،‬فيجوز أن يقف املسلم على غري أهل‬
‫اإلسالم طلباً هلدايتهم ودخوهلم اإلسالم‪.‬‬

‫•الرعاية االجتماعية‪:‬‬

‫يتمثل دور الوقف يف جمال الرعاية االجتماعية مثل توفري املدارس واحملاضن اخلاصة باأليتام‪ ،‬وكذلك توفري املأكل‬
‫واألدوات املدرسية هلم‪.‬‬

‫•توفري املياه عموماً‪:‬‬

‫توفري مياه الشرب للمسافرين وعابري السبيل ومجوع الناس سواء داخل املدن أو خارجها‪.‬‬

‫•املساعدة يف احلراك االجتماعي‪:‬‬

‫يساعد نظام الوقف على احلراك االجتماعي الرأسي عن طريق انتقال األفراد من طبقة اجتماعية لطبقة اجتماعية‬
‫أعلى‪ ،‬فمثال تعليم الفقراء يساعد على رفع مستوى حياهتم االقتصادية‪.‬‬

‫•جمال رعاية ال رباء والعجزة‪:‬‬

‫مثل إنشاء بيوت للطالب امل رتبني جبانب مدارسهم مما يشجع انتقال الطلبة بني املدن والقرى املختلفة أو بني‬
‫األقطار اإلسالمية‪ ،‬وهذا يتضمن أيضا توفري امللحقات هلذه البيوت من محامات ومطاعم وأماكن عبادة وغريها‪.‬‬

‫•جمال رعاية الفقراء واملعدمني‪:‬‬

‫مثل توفري الطعام هلم وحتمل تكاليف دفنهم بعد وفاهتم ‪ ،‬ووفاء دين املدينني ‪ ،‬وفكاك املسجونني املعسرين ‪ ،‬وفك‬
‫أسرى املسلمني العاجزين ‪ ،‬ومداواة املرضى غري املقتدرين ‪ ،‬واإلنفاق على أسر السجناء وأوالدهم‪.‬‬

‫‪814‬‬
‫واإلسالم يدعو إىل إيالء ظاهرة الفقر اهتماما كبريا ألن الفقر مولد الثورات واجلرمية ‪ ،‬حيث تشري الدراسات إىل أن‬
‫أغلب الفئات املرتكبة للجرمية تنحدر من أسر فقرية‪.‬‬

‫•االستقرار االجتماعي‪:‬‬

‫يساعد الوقف يف حتقيق االستقرار االجتماعي وعدم شيوع روح التذمر يف اجملتمع مما يعمل على حتقيق مبدأ‬
‫التضامن االجتماعي وتسود روح الرتاحم والتواد بني أفراد اجملتمع ومحايته من األمراض االجتماعية اليت تنشأ عادة يف‬
‫اجملتمعات اليت تسود فيها روح األنانية املادية وينتج عنها الصراعات الطبقية بني املستويات االجتماعية املختلفة ‪ ،‬مما يعزز‬
‫روح االنتماء بني أفراد اجملتمع وشعورهم بأَّنم جزء من جسد واحد حتقيقا حلديث الرسول صلى اهلل عليه وسلم ‪" :‬ترى‬
‫املؤمنني يف ترامحهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل اجلسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر اجلسد بالسهر واحلمى‬
‫"(‪.)112‬‬

‫إن حتقيق االستقرار االجتماعي يساهم يف ختفيض معدالت اجلرمية‪ ،‬وبالتايل يستطيع كل من ال ين والفقري العيش‬
‫بأمن وسالم واستقرار‪ ،‬وكل ذلك يؤدي إىل االحرتام الراسخ لسيادة القانون‪.‬‬

‫•رفع اجلوانب األخالقية‪:‬‬

‫يساعد نظام الوقف يف تعزيز اجلانب األخالقي والسلوكي يف اجملتمع من خالل التضييق على منابع اال راف‪ ،‬فوجود‬
‫األوقاف لرعاية النساء األرامل واملطلقات يعترب صيانة هلن وللمجتمع من سلوك دروب اال راف بسبب احلاجة‪.‬‬

‫•صون األموال وحفظها‪:‬‬

‫إن الوقف وبشكل خاص الوقف األهلي أو الذري يعد نوعا من االدخار الذي يراد به حفظ األموال املوقوفة‬
‫وختزينها وحجزها عن عمليات التداول‪ .‬إن هذا يبني مدى اهتمام اجليل احلاضر ‪،‬صلحة بأوالدهم وذريتهم ‪ ،‬ويعرب عن‬
‫اإليثار‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬تأثير الوقف في مجاالت تنموية أخرى‪:‬‬

‫تتجلى مسامهة الوقف يف جماالت تنموية أخرى يف ميادين كثرية مثل‪:‬‬

‫•تثقيف اجملتمع‪:‬‬

‫يسهم الوقف يف تثقيف أفراد اجملتمع نتيجة دعم الطلبة ومراكز العلم‪ ،‬وبذلك يرفع من درجة التحضر يف اجملتمع‪ ،‬مما‬
‫يؤدي إىل الزيادة من درجة سيادة واحرتام القانون ويقلل من العصبية والقبلية‪.‬‬

‫(‪ )112‬رواه البخاري برقم ‪٥٦٦٥‬‬


‫‪811‬‬
‫•يف جمال حقوق اإلنسان‪:‬‬

‫يسهم الوقف يف وفاء دين املدينني املعسرين ويف فكاك املسجونني منهم‪.‬‬

‫•يف اجملال الصحي‪:‬‬

‫يسهم الوقف يف دعم اخلدمات الصحية يف اجملتمع مما يقلل من انتشار األمراض ‪ ،‬وبذلك يسهم يف توفري بيئة صحية‬
‫ألفراد اجملتمع‪.‬‬

‫•محاية البيئة احليوانية‪:‬‬

‫مل يقتصر أار الوقف على تقدمي العون واملساعدة لكل حمتاج من أفراد اجملتمع املسلم ؛ بل تعداه إىل اإلحسان إىل‬
‫احليوانات والطيور؛ فقد أوقفت بعض الدور حلماية الطيور يف فصل الشتاء من اهلالك‪.‬‬

‫المبحث الثالث ‪ :‬أبعاد التنمية المستدامة التي يحققها الوقف‪:‬‬

‫بالرغم ممن تعقيدات وتشابك مفهوم التنمية املستدامة ‪ ،‬إال أن هناك إمجاعاً على أَّنا ثل العناية املرغوب فيها‬
‫واملأمول حتقيقها ‪،‬ا صدم البشرية حاضرا ومستقبال‪ ،‬وقد مست االاة أبعاد رئيسة‪ ،‬وهي أبعاد قد أسهم الوقف يف التنمية‬
‫املستدامة من خالهلا عرب التاريخ‪ ،‬وهي‪:‬‬

‫أوالا‪ :‬البعد االقتصادي‪:‬‬

‫حيث يسهم الوقف يف تنمية البعد االقتصادي من خالل مخسة عناصر رئيسة‪ ،‬هي‪:‬‬

‫* ت يري اهليكل والبنيان االقتصادي‪ ،‬كما سبق بيان ذلك يف املبحث السابق‪.‬‬

‫* إعادة توزيع الدخل لصاحل الطبقة الفقرية‪ ،‬وقد ذكرت األمثلة على ذلك يف املباحث السابقة‪.‬‬

‫* إشباع احلاجات األساسية عن طريق زيادة اإلنتاج وحتسني مستواه من أجل مواجهة احلاجات األساسية‪.‬‬

‫* تصحيح االختالل يف هيكل توزيع الدخول ‪،‬ا يضمن إزالة الفوارق بني طبقات اجملتمع‪.‬‬

‫* رفع مستوى املعيشة والرفاهية‪.‬‬

‫إن أي نظام اقتصادي يهدف إىل حتقيق أمرين ‪:‬‬

‫األول ‪ :‬حتقيق الرفاهية االجتماعية‪.‬‬

‫الثاين ‪ :‬حتقيق التنمية االقتصادية‪.‬‬

‫‪816‬‬
‫وكل نظام من األنظمة االقتصادية املوجودة له وسائله املختلفة يف حتقيق هذين اهلدفني‪.‬‬

‫وملا كان أفراد اجملتمع متفاوتون من حيث مستواهم املعيشي؛ بني أغنياء‪ ،‬وفقراء حمتاجني‪ ،‬وأصحاب دخول متوسطة‬
‫‪ ,‬وهلذا جند أن اإلسالم سعى بنظام الوقف إىل التقريب بني هذه الفئات ‪ ،‬وتقليل الفوارق االجتماعية بينها ‪ ،‬فعمل‬
‫كنظام اقتصادي على حتقيق التكافل االجتماعي بني فئاته املتنوعة من خالل رعاية الفقراء وذوي احلاجة والضعف حبيث‬
‫يتحقق هلم مستوى الئق للمعيشة(‪.)113‬‬

‫ثاني ا‪ :‬البعد االجتماعي‪:‬‬

‫حيث يساعد الوقف على زيادة قدرة األفراد على است الل الطاقة املتاحة إىل أقصى حد ممكن لتحقيق احلرية‬
‫والرفاهية‪ ،‬ويعترب البعد االجتماعي ‪،‬ثابة البعد الذي يتميز الوقف خبدمته للتنمية املستدامة‪ ،‬ألنه البعد الذي ميثل البعد‬
‫اإلنساين باملع الضيق والذي جيعل من النمو وسيلة لاللتحام االجتماعي‪.‬‬

‫وقد ذكرت األمثلة بإسهاب يف املباحث السابقة على خدمة الوقف هلذا البعد‪ ،‬ونشاهد يف واقعنا املعاصر ما يساهم‬
‫به الوقف يف هذا اجملال من حد مستوى الفقر‪ ،‬ورفع مستوى املعيشة‪ ،‬ودعم املشاريع االجتماعية كالتزويج‪ ،‬واإلسكان‪،‬‬
‫وحفظ حقوق األجيال املستقبلية‪ ،‬وتأمني وسائل الراحة حملتاجيها‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬

‫وال شك أن كل ذلك قق تكافالً اجتماعياً فريداً من نوعه ؛ ألن أصحاب رؤوس األموال سخروا هذه األموال‬
‫اليت أوقفوها يف سد حاجات املعوزين من أفراد اجملتمع ‪ ،‬فكفلوا هلم بذلك حياة كرمية ‪ ،‬وحفظوا عليهم إنسانيتهم‬
‫وعزهتم من غري إراقة ماء وجوههم يف سؤال الناس ‪ .‬وبذلك يكون اإلسالم قد أوجد وسيلة لعالج مشكلة من املشاكل‬
‫االقتصادية اليت تواجه العامل وهي مشكلة الفقر والبطالة ‪ .‬فشكل الوقف بذلك حلقة من حلقات التكافل والتضامن ‪ ،‬ال‬
‫سيما وأنه يتميز بدوره املستمر يف العطاء واإلنفاق ‪ ،‬حيث إن عينه ال تستهلك ‪ ،‬وهذا بدوره يضمن لنا ضمن الظروف‬
‫الطبيعية دواماً يف إمكانية سد احلاجات امللحة للمجتمع ‪.‬‬

‫يقول الدهلوي ‪ ( :‬إن الرسول صلى اهلل عليه وسلم استنبط الوقف ملصاحل ال توجد يف سائر الصدقات ؛ فإن‬
‫اإلنسان ر‪،‬ا يصرف يف سبيل اهلل ماالً كثرياً مث يف ‪ ،‬فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى ‪ ،‬وجتيء أقوام آخرون من الفقراء‬
‫فيبقون حمرومني ‪ ،‬فال أحسن وال أنفع للعامة من أن يكون شيء حبساً للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم منافعه ويبقى‬
‫أصله) (‪. )114‬‬

‫ثالثا‪ :‬البعد البيئي‪:‬‬

‫(‪ )113‬الوقف ودوره يف التنمية االقتصادية‪ ،‬د‪ .‬أمين حممد العمر‪.‬‬


‫(‪ )114‬الدهلوي ‪ :‬حجة اهلل البال ة ‪. 111/2‬‬
‫‪817‬‬
‫أصبحت البيئة حمددا عامليا يفرض نفسه ويؤار على التعامالت االقتصادية والتجارية والعالقات الدولية املعاصرة‪،‬‬
‫وأصبح االهتمام هبا من أهم املقاييه لتقييم حضارة الدول‪ ،‬والبيئة والتنمية أمران متالزمان‪ ،‬بعد املزيد من االهتمام اليت‬
‫حظيت به على املستوى العاملي‪.‬‬

‫ويساعد الوقف يف حتيق هذا البعد‪ ،‬واملسامهة يف حفظ التزاوج بني البيئة والتنمية‪ ،‬ويكفي أن الوقف أسهم يف محاية‬
‫البيئة إسهاماً مل يسمع به ف كما ذكر يف امل باحث السابقة ف من تعبيد الطرق وتنظيف املدن‪ ،‬ووضع دور للحيوانات‪ ،‬وغري‬
‫ذلك من اإلسهامات على مر التاريخ‪.‬‬

‫ولعل سعة ساحة الوقف واستيعاهبا هلذه األبعاد‪ ،‬وفاعليتها يف حتقيقها يعود إىل املبادئ األساسية اليت قام عليها‪،‬‬
‫احلصني شفاه اهلل وعافاه ‪ " :‬لقد ساعد على فاعلية نظام الوقف يف حياة‬ ‫ّ‬ ‫ويف ذلك يقول الشيخ صاحل بن عبدالرمحن‬
‫املسلمني ‪ ،‬املبادئ اليت قام عليها وأمهها‪:‬‬

‫‪ .1‬امتناع التصرف يف أصل الوقف ‪ ،‬وقد حتقق هبذا املبدأ محاية الوقف وعدم تعريضه لطيش املتولني عليه‬
‫أو سوء نيتهم‪.‬‬
‫‪ .2‬ما استقر لدى الفقهاء من أن "شرط الواقف الصحيح مثل حكم الشارع" فتحققت بذلك محاية‬
‫الوقف واطمئنان الواقف إىل استمرار صرف وقفه يف األغراض اليت تفه ّمه ويع هبا‪.‬‬
‫‪ .3‬والية القضاء على األوقاف‪ ،‬فتحققت بذلك محاية الوقف من تدخل السلطات اإلدارية احلكومية‪.‬‬

‫وقد أابت التاريخ أن أي اخالل ‪،‬بدأ من هذه املبادئ فإمنا هو ‪،‬ثابة مسمار يدق يف نعش الوقف‪."115‬‬

‫الخاتمة‬

‫وبعد هذا االستعراض السريع للوقف والتنمية املستدامة والعالقة بينهما نأيت لذكر أهم نتائج هذا البحث وتوصياته ‪,‬‬
‫وتتلخ فيما يأيت ‪:‬‬

‫أوال‪ :‬النتائج‪:‬‬

‫‪ .1‬حث التشريع اإلسالمي على التنمية ‪ ،‬ومباركته ملفهومها‪.‬‬


‫مسامهة األوقاف عرب التاريخ بشكل فاعل يف بناء احلضارة واحملافظة عليها ‪ ،‬وتنميتها‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫الوقف اإلسالمي يدعم جوانب التنمية املستدامة بشىت أبعادها‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫أن مفهوم التنمية املستدامة قدمي ‪ ،‬وقد حث عليه اإلسالم ‪ ،‬ووضع لذلك سبالً وطرائق عدة‪ ،‬من أمهها ‪:‬‬ ‫‪.4‬‬
‫الوقف‪.‬‬
‫ًو مقاصد الوقف ‪ ،‬ومشاركته للتنمية املستدامة فيها ‪ ،‬ومجعه بني العبادة وعمارة األرض‪.‬‬ ‫‪.5‬‬

‫(‪ )115‬تطبيقات الوقف بني األمه واليوم‪ ،‬للشيخ‪ :‬صاحل احلصني‪.‬‬


‫‪811‬‬
‫ثاني ا‪ :‬التوصيات‪:‬‬

‫‪ .1‬التأكيد على فاعلية نظام األوقاف يف دفع عجلة التنمية املستدامة يف العصر احلاضر‪.‬‬
‫‪ .2‬ضرورة العمل على نشر اقافة الوقف يف اجملتمع ‪ ،‬وارتباطها الدائم بالتنمية املستدامة‪.‬‬
‫‪ .3‬التأكيد على ضرورة دراسة القيم احلديثة ف ومن أمهها‪ :‬التنمية املستدامة ف من منظور إسالمي‪.‬‬
‫‪ .4‬االهتمام برتمجة األحباث املهتمة باجلمع بني التشريع اإلسالمي والقيم احلديثة‪.‬‬
‫‪ .5‬ضرورة التعاون املشرتك بني الباحثني الشرعيني ‪ ،‬واملهتمني بالتنمية ‪ ،‬ملعاجلة معوقات التنمية املستدامة ‪ ،‬يف ظل‬
‫التشريع اإلسالمي‪.‬‬

‫ثبت المراجع ‪:‬‬

‫القرآن الكرمي‬ ‫‪.1‬‬


‫اجلامع ألحكام القرآن‪ ،‬لإلمام حممد بن أمحد األنصاري القرطيب‪.‬‬ ‫‪.2‬‬
‫صحيح البخاري‪ ،‬لإلمام حممد بن إًاعيل البخاري‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫صحيح مسلم‪ ،‬لإلمام مسلم بن احلجاج النيسابوري‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫سنن النسائي‪ ،‬لإلمام أمحد بن شعيب النسائي‪.‬‬ ‫‪.5‬‬
‫‪ .6‬سنن الرتمذي‪ ،‬لإلمام حممد بن عيسى الرتمذي‪.‬‬
‫‪ .6‬سنن ابن ماجه‪ ،‬لإلمام حممد بن يزيد بن ماجه الربعي‪.‬‬
‫‪ .1‬مسند اإلمام أمحد‪ ،‬لإلمام أمحد بن حنبل الشيباين‪.‬‬
‫‪ .7‬نصب الراية ألحاديث اهلداية‪ ،‬جلمال الدين عبد اهلل بن يوسف الزيلعي‪.‬‬
‫‪ .10‬جواهر اإلكليل شرح خمتصر خليل‪ ،‬لصاحل بن عبد السميع األزهري‪.‬‬
‫‪ .11‬حترير ألفاظ التنبيه‪ ،‬لإلمام ىي بن شرف النووي‪.‬‬
‫‪ .12‬الشرح الكبري على منت املقنع‪ ،‬لإلمام عبد الرمحن بن حممد بن قدامه املقدسي‪.‬‬
‫‪ .13‬العمدة يف الفقه‪ ،‬لإلمام موفق الدين عبد اهلل بن أمحد بن قدامه‪.‬‬
‫‪ .14‬امل ين‪ ،‬لإلمام موفق الدين عبد اهلل بن أمحد بن قدامه‪.‬‬
‫‪ .15‬شرح منتهى االرادات‪ ،‬موسى بن أمحد احلجاوي املقدسي‪.‬‬
‫‪ .16‬معجم مقاييه الل ة‪ ،‬ألمحد بن فارس الرازي‪.‬‬
‫‪ .16‬هتذيب الل ة‪ ،‬حملمد بن أمحد األزهري‪.‬‬
‫‪ .11‬الصحاح‪ ،‬إلًاعيل بن محاد اجلوهري‪.‬‬
‫‪ .17‬لسان العرب‪ ،‬جلمال الدين حممد بن مكرم األنصاري الشهري بابن منظور‪.‬‬
‫‪ .20‬القاموس احمليط ‪ ،‬جملد الدين حممد بن يعقوب الفريوزآبادي‪.‬‬
‫‪ .21‬اإلسعاف يف أحكام األوقاف‪ ،‬لربهان الدين إبراهيم بن موسى الطرابلسي‪.‬‬
‫‪811‬‬
‫‪ .22‬شرح ألفاظ الواقفني والقسمة على املستحقني‪ ،‬ليحىي بن حممد احلطاب‪.‬‬
‫‪ .23‬أحكام الوقف يف الشريعة اإلسالمية‪ ،‬د‪ .‬حممد الكبيسي‪.‬‬
‫‪ .24‬تاريخ ب داد‪ ،‬ألمحد بن علي بن اابت اخلطيب الب دادي‪.‬‬
‫‪ .25‬وفيات األعيان‪ ،‬ألمحد بن حممد بن إبراهيم بن خلكان‪.‬‬
‫‪ .26‬شذرات الذهب‪ ،‬لعبد احلي بن أمحد بن حممد ابن العماد‪.‬‬
‫‪ .26‬الوقف يف الفكر اإلسالمي‪ ،‬حملمد بن عبد العزيز بنعبد اهلل‪.‬‬
‫‪ .21‬حماضرات يف الوقف‪ ،‬حممد أبوزهرة‪.‬‬
‫‪ .27‬اإلفصاح عن معاين الصحاح‪ ،‬للوزير ىي بن حممد بن هبرية‪.‬‬
‫‪ .30‬التصرف يف الوقف‪ ،‬إلبراهيم بن عبد اهلل ال صن‪.‬‬
‫‪ .31‬أحكام الوقف ‪ ،‬مصطفى الزرقاء‪.‬‬
‫‪ .32‬دراسة حول أنظمة وقوانني الوقف‪ ،‬لعلي النصري‪.‬‬
‫‪ .33‬جتربة األوقاف يف اململكة امل ربية‪ ،‬لدرويش عبد العزيز‪.‬‬
‫‪ .34‬الدور االجتماعي للوقف‪ ،‬لعبدامللك السيد‪.‬‬
‫‪ .35‬أار الوقف يف إجناز التنمية الشاملة‪ ،‬لشوقي دنيا‪.‬‬
‫‪ .36‬التنمية املستدامة‪ ،‬لعبد السالم أديب‪.‬‬
‫‪ .36‬ركائز التنمية املستدامة ومحاية البيئة يف السنة النبوية‪ ،‬د‪ .‬حممد عبد القادر الفقي‪.‬‬
‫‪ .31‬دراسة عن ضرورة اإلقرار حبقوق أمنا األرض واحرتامها‪ ،‬صادرة عن املنتدى الدائم املعين بقضايا الشعوب‬
‫األصلية‪ ،‬الدورة التاسعة‪.‬‬
‫‪ .37‬مقال‪ :‬دور الوقف يف التنمية املستدامة‪ ،‬د‪ .‬أشرف دوابة‪.‬‬
‫‪ .40‬دور الوقف يف التنمية املستدامة‪ ،‬للدكتور‪ :‬أمحد مالوي‪.‬‬
‫‪ .41‬دور الوقف يف التنمية املستدامة‪ ،‬أ‪ .‬د‪ .‬عبد اجلبار السبهاين‪.‬‬
‫‪ .42‬مسامهة املؤسسات اخلريية يف تركيز اجملتمع املدين‪ ،‬د‪ .‬حممد عمارة‪.‬‬
‫‪ .43‬الوقف و ويل التنمية املستدامة‪ ،‬د‪ .‬أشرف دوابه‪.‬‬
‫‪ .44‬التجربة الكويتية يف إدارة األوقاف‪ ،‬د‪ .‬علي فهد الزميع‪.‬‬
‫‪ .45‬حماضرة عن الوقف ودوره يف التنمية االقتصادية‪ ،‬لصاحل كامل‪.‬‬
‫‪ .46‬الوقف يف الفكر اإلسالمي‪ ،‬حملمد عبدالعزيز‪.‬‬
‫‪ .46‬الوقف وأاره التنموي‪ ،‬د‪ .‬علي مجعة حممد‪.‬‬
‫‪ .41‬األسبلة ماء احلضارة‪ ،‬د‪ .‬أمحد الصاوي‪.‬‬
‫‪ .47‬دور الوقف يف اجملتمعات اإلسالمية ‪ ،‬د‪ .‬حممد موفق األرناؤوط‪.‬‬
‫‪ .50‬من روائع حضارتنا ‪ ،‬د‪ .‬مصطفى السباعي‪.‬‬

‫‪500‬‬
‫‪ .51‬األوقاف السياسية يف مصر‪ ،‬د‪ .‬إبراهيم البيومي غامن‪.‬‬
‫‪ .52‬نظام الوقف اإلسالمي‪ ،‬د‪ .‬أمحد أبوزيد‪.‬‬
‫‪ .53‬الوقف ودوره يف التنمية االقتصادية‪ ،‬د‪ .‬أمين حممد العمر‪.‬‬
‫‪ .54‬حجة اهلل البال ة ‪ ,‬لشاه ويل اهلل الدهلوي‪.‬‬
‫‪ .55‬مقال ‪ :‬تطبيقات الوقف بني األمه واليوم ‪ ،‬للشيخ‪ :‬صاحل احلصني‪.‬‬

‫‪508‬‬

You might also like