Professional Documents
Culture Documents
أثر الوقف في التنمية المستدامة عبدالرحمن بن عبدالعزيز الجريوي
أثر الوقف في التنمية المستدامة عبدالرحمن بن عبدالعزيز الجريوي
المقدمة:
احلمد هلل رب العاملني ،والصالة والسالم على خامت النبيني ،وعلى آله وصحبه أمجعني ،أما بعد:
فإن الوقف اإلسالمي يعد نظاماً نشأ وتطور يف ظل احلضارة اإلسالمية ،فقد عرفت األوقاف منذ عهد النبوة وعرب
وتنوعاً واتساعاً ،حيث مل تقتصر على العناية بفئات اجملتمع فحسب ،بل تعدهتا إىل العناية بكلالعصور اإلسالمية منواً ّ
ما يعتمد عليه الناس يف معيشتهم ،وغطي بانتشاره خمتلف جوانب احلياة من النواحي الشرعية ،والعلمية ،والثقافية ،
والصحية ،واإلنسانية ،والسياسية ،واالقتصادية ،واالجتماعية ،واخلدمية ،وغريها.
وميثل اليوم ركيزة أساسية من ركائز التنمية املستدامة ،حيث يقوم الوقف على أساس الدميومة واالستمرار ،ويسعى
طواعية إىل استدراك جوانب اخللل يف التوزيع والتملك ،وما ينجم عنها من قصور يف إشباع احلاجات األساسية والثانوية
للمجتمع.
ويناقش هذا البحث (أثر الوقف في التنمية المستدامة) هذه اجلوانب املتعددة ،حيث تأيت أمهية هذا املوضوع من
خالل استقراء هذا النمط من أمناط التنمية ،وكيف أن الدول قاطبة تسعى إىل اختاذ كل التدابري الالزمة لتحقيق هذه
التنمية.
861
الفصل األول :
الوقف وماهيته
الوقف بفتح فسكون :مصدر وقف الشيء وأوقفه ،يقال :وقف الشيء وأوقفه وقفاً أي حبسه ،ومنه وقفف داره
أو أرضففه علففى الفقفراء ألنففه ففبه امللففك علففيهم ،قففال ابففن فففارس« :الفواو والقففاف والفففاء أصففل واحففد يففدل علففى كففث يف
الشيء يقاس عليه»( )1ومن هذا األصل املقيه عليه يؤخذ الوقف فإنه ماكث األصل.
فففالوقف ل ففة :احلففبه ،والوقففف والتحبففيه والتسففبيل ،عف واحففد ،وهففو :احلففبه واملنففع( )2يقففال :وقففف وقف فاً أي:
حبسه ،ويقال :وقفت الفدار وقففاً أي :حبسفتها يف سفبيل اهلل ،وشفيء موقفوف ،واجلمفع وقفوف وأوقفاف مثفل افوب وأافواب
ووقففت وأوقففات ,ووقفففت الرجففل عففن الشففيء وقففاً منعتففه عنففه ،وًففى املوقففوف وقف فاً ألن العففني موقوفففة ،وحبسفاً ألن العففني
حمبوسة.
والفصيح أن يقال :وقفت كذا ف بدون األلف ف وال يقال :أوقفت ف باأللف ف إال يف ل فة يميفة وهفي رديئفة وعليهفا
العامة وهي ،ع سكت وأمسك وأقلع(.)3
فد ٌن ِ
ألقضي حاجة املت ِّلوم ووقفت فيها ناقيت فكأَّنا
واحلبه :بضم احلاء وسكون الباء ،ع الوقف ،وهو كل شيء وقفه صاحبه من أصول أو غريها ،به أصله
وتسبل غلته(.)5
والفقهاء يعربون أحياناً بالوقف وأحياناً باحلبه إال أن التعبري بالوقف عندهم أقوى .وقد يعرب عن الوقف بلفظ
الصدقة بشرط أن يقرتن معها ما يفيد قصد التحبيه(.)6
ومجع احلبه حبه -بضم الباء -كما قاله األزهري( ، )7وأحبه باأللف أكثر استعماالً من حبه( ،)8عكه
وقف ،فاألوىل فصيحة ،والثانية رديئة.
واحتبه فرساً يف سبيل اهلل أي :وقفت ،فهو حمتبه وحبيه ،واحلبه بالضم ما وقف(.)9
واحلبيه :فعيل ،ع مفعول أي حمبوس على ما قصد له ،ال جيوز التصرف فيه ل ري ما صري له(.)10
واشتهر إطالق كلمة الوقف على اسم املفعول وهو املوقوف.
تعددت تعريفات الفقهاء للوقف اختلفوا يف ذلك ،ويعود هذا االختالف إىل اختالف مذاهبهم فيه ،وإىل
االعتبارات أو األوجه اليت نظروا إليه منها ،فجاءت اإلضافات ،والتقيدات للتعريف من أجل ذلك ،وباعتبار من يصح
منه ،وما يصح فيه ،وملكيته( ،)11من حيث انتقاهلا إىل ملك املوقوف عليه أو إىل ملك اهلل تعاىل ،أو تبقى على ملك
الواقف.
الوقف عند أيب يوسف()12وحممد بن احلسن( )13رمحهم اهلل تعاىل :قال صاحب تنوير األبصار( :)14وعندمها هو
حبسها على ملك اهلل تعاىل وصرف منفعتها على من أحب.
وقد زاد صاحب الدر املختار( )15كلمة «حكم» بعد «على» وقبل «ملك اهلل تعاىل» ليفيد أنه مل يبق على ملك
الواقف وال انتقل إىل ملك غريه بل صار على حكم ملك اهلل تعاىل.
عرفه اإلمام النووي عن األصحاب بقوله( : )18حبه مال ميكن االنتفاع به مع بقاء عينه بقطع التصرف يف رقبته ّ
وتصرف منافعه إىل الرب تقربا إىل اهلل تعاىل.
( )12هو :يعقوب بن إبراهيم بن حبيب األنصاري ،الكويف ،الب دادي (أبو يوسف) (815-883هف) فقيه ،أصويل ،حمدث ،عامل
بالتفسري وامل ازي وأيام العرب ،صاحب اإلمام أيب حنيفة وتفقه عليه ،من آااره :كتاب اخلراج ،املبسوط يف فروع الفقه احلنفي .انظر ترمجته
يف :تاريخ ب داد ،545/84اجلواهر املضيئة ،688/3وفيات األعيان ،371/6تاج الرتاجم ص.18/
( )13هو حممد بن احلسن الشيباين بالوالء ،احلنفي (أبو عبداهلل) (811-831هف) فقيه ،جمتهد ،حمدث ،وهو الذي نشر علم أيب
حنيفة ،من تصانيفه :اجلامع الكبري ،والسري ،واألصل ،واحلجة على أهل املدينة .انظر ترمجته يف :تاريخ ب داد ،875/5تاج الرتاجم
ص ،14وفيات األعيان .814/4
( )14تنوير األبصار بشرحه الدر املختار هبامش حاشية ابن عابدين .331/4
( )15الدر املختار هبامش حاشية ابن عابدين 331/4
مي ،التونسي ،املالكي ،ويعرف بابن عرفه (أبو عبداهلل) (103-786هف) مقرئ ،فقيه، ( )16حممد بن حممد بن حممد بن عرفة الورغ ّ
أصويل ،متكلم ،فرضي ،إمام تونه وعاملها وخطيبها يف عصره ،من تآليفه :خمتصر الفرائض ،احلدود يف التعاريف الفقهية ،املختصر الكبري
يف فقه املالكية .انظر ترمجته يف :البدر الطالع ،511/5شذرات الذهب ،31/7الديباج املذهب ص.331/
( )17جواهر اإلكليل شرح خمتصر خليل .501/5
( )18حترير ألفاظ التنبيه للنووي ص ،537/هتذيب األًاء والل ات ،814/4تيسري الوقوف على غوامض أحكام الوقوف للمناوي
،834/8التوقيف على مهمات التعاريف للمناوي ص ،738/كفاية األخيار ،381/8شرح ال زي على منت أيب شجاع ،43/5
تصحيح التنبيه للنووي ص ،14/حترير املقال فيما ل و رم من بيت املال للبالطنسي ص.873/
878
()20 ()19
يف هذا بأنه :حتبيه األصل وتسبيل املنفعة ،ووافقه الشمه املقدسي عرفه املوفق بن قدامة يف املقنع
ّ
()21
التعريف .
وتعريف ابن قدامة رمحه اهلل من أجود ما عِّرف به الوقف وأوج ِزه .وهو مأخوذ من قول النيب الكرمي ف صلى اهلل عليه
وسلم ف لعمر بن اخلطاب( :إن شئت حبست أصلها وتصدقت هبا)(.)26
قال الشيخ حممد أبو زهرة( :أمجع تعريف ملعانفي الوقفف عند الذين أجازوه أنه حبه العني وتسبيل مثرهتا ،أو حبه
عني للتصدق ،نفعتها ،أو كما قال ابن حجر العسقالين يف فتح الباري( :إنه قطع التصرف يف رقبة العني اليت يدوم
االنتفاع هبا وصرف املنفعة) ،فقوام الوقف يف هذه التعريفات املتقاربة ،حبه العني فال يتصرف فيها بالبيع ،والرهن،
واهلبة ،وال تنتقل باملرياث ،واملنفعة تصرف جلهات الوقف على مقتضى شروط الواقفني(.)27
الوقف من أعظم القربات اليت يتقرب هبا العبد إىل اهلل تعاىل ،وهو مندوب الفعل ،ال فرق يف ذلك يف وقف على
جهة مفن اجلهفات العامفة ،كفالفقراء ،وابفن السفبيل ،وطلبفة العلفم ،أو وقفف علفى القرابفة ،والذريفة( ،)28دلفت علفى مشفروعيته
نصوص عامة من القرآن الكرمي ،وفصلته أحاديث من السنة النبوية املطهرة ،وعمل به الصحابة الكفرام ف رضفي اهلل عفنهم
فف ،وأمجعفت األمفة مفن السفلف واخللفف علفى مشفروعيته ،وذهفب مجهفور العلمفاء إىل لزومفه( ،)29سفوى مفا نقفل عفن القاضففي
شريح ،وهو رواية عن أيب حنيفة النعمان.
وقد نقفل غفري واحفد مفن أهفل العلفم اتففاق العلمفاء علفى جفوازه واخفتالفهم يف لزومفه( ،)30كفابن هبفرية ف رمحفه اهلل ف
وغريه.
.1قول اهلل جل وعال« :لن تنالوا الرب حىت تنفقوا مما حتبون ،وما تنفقوا من شيء فإن اهلل به عليم» ( .)31وقد جاء
يف الصفحيحني ،عفن أنفه بفن مالفك ف رضفي اهلل عنفه ف أنفه قفال :كفان أبفو طلحفة أكثفر األنصفار باملدينفة مفاالً مفن فل ،
وكان أحب أمواله إليه بِريحاء( ، )32وكانت مستقبلة املسجد ،وكان رسول اهلل ف صلى اهلل عليه وسلم ف ،يدخلها ويشفرب
من ماء فيها طيب ،قال أنه :فلما أنزلت هذه اآلية « :لن تنالوا الرب حفىت تنفقفوا ممفا حتبفون» قفام أبفو طلحفة إىل رسفول
اهلل ،صلى اهلل عليه وسلم ،فقفال :يفا رسفول اهلل ،إن اهلل تبفارك وتعفاىل يقفول « :لفن تنفالوا الفرب حفىت تنفقفوا ممفا حتبفون»،
إيل بريحففاء ،وإَّنففا صففدقة هلل ،أرجففو ّبرهففا وذخرهففا عنففد اهلل فضففعها يففا رسففول اهلل حيففث أراك اهلل .قففال:
وإن أحففب أم فوايل ّ
فقال رسول اهلل ،صلى اهلل عليه وسلم « :بخ( )33ذلك مال رابح ،ذلك مال رابح ،وقد ًعت ما قلت ،وإين أرى أن
جتعلها يف األقربني» .فقال أبو طلحة :أفعل يا رسول اهلل .فقسمها أبو طلحة يف أقاربه وبين عمه.
.2عموم اآليات اليت حتث على اإلنففاق وخباصفة صفدقة التطفوع ،وقفد تكفررت يف القفرآن الكفرمي آيفات كثفرية يف هفذا
املقام ،منها على سبيل املثال ال احلصر:
( )28د .حممد الكبيسي ،أحكام الوقف يف الشريعة اإلسالمية ،ص.16– 13
( )29القرطيب ،اجلامع ألحكام القرآن .331– 331/6
( )30ابن هبريه ،اإلفصاح عن معاين الصحاح .15/5
( )31سورة آل عمران ،آية 15
( )32بريحاء على صي ة فعيل من الرباح وهي األرض الظاهرة .انظر :ابن منظور ،لسان العرب ،ج ، 5ص .485
( )33بخ ،كلمة إعجاب ورضا بالشيء ومدح به ،ختفف وتثقل ،وإذا كررت فاالختيار أن ينون األول ويسكن الثفاين ،وفيهفا أربفع ل فات:
اجلففزم ،واخلفففض ،والتنففوين ،والتخفيففف .انظففر :اخلطففايب ،غريففب احلففديث ،ج ،8ص . 68وتسففتعمل أحيانًففا لإلنكففار وقففد تكففون معربففة
عن كلمة (به) الفارسية .انظر :أمحد رضا ،معجم منت الل ة ،ج ، 8ص .547
873
قوله تعاىل" :وما يفعلوا من خري فلن يكفروه واهلل عليم باملتقني"(.)34
قوله تعاىل " :يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا اخلري لعلكم تفلحون"(.)35
قوله تعاىل" :يا أيها الذ ين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من األرض وال تيمموا اخلبيث منه
تنفقون ولستم بآخذيه إال أن ت مضوا فيه واعلموا أن اهلل غين محيد"(.)36
إىل غري ذلك من آيات احلث على الرب ،والبذل يف وجوه اخلري( ،)37اليت تشمل الوقف باعتباره من أوجه اإلنفاق
يف الرب واخلري.
ابت الوقف بقول النيب ف صلى اهلل عليه وسلم ف وفعله وإقراره (، )38ا ورد يف شأنه من أحاديث عدة منها:
حديث أيب هريرة رضي اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم( :من احتبه فرساً يف سبيل اهلل إمياناً، .1
واحتساباً فإن شبعه ،ورواه ،وبوله ،يف ميزانه يوم القيامة حسنات)(.)39
حففديث وقففف عمففر بففن اخلطففاب رضففي اهلل عنففه ،وقففد قففال احلففافظ ابففن حجففر يف هففذا احلففديث( :وحففديث عمففر .2
هفذا أصل يف مشفروعية الوقف)( . )40واحلديث عن ابن عمر رضي اهلل عنهما فيمفا رواه اإلمفام البخفاري وغفريه :أن عمفر
خريا منه ،فما تأمرين؟ فقفال : ُّ
أرضا من أرض خيرب ،فقال :يا رسول اهلل ،أصبت ماالً خبيرب مل أصب قط ماالً ً أصاب ً
(إن شفئت حبسفت أصفلها وتصفدقت هبفا ،غفري أنفه ال يبفاع أصفلها ،وال يبتفاع ،وال يوهفب ،وال يفورث) قفال ابفن عمففر :
فتصدق هبا عمر على أالّ تباع ،وال توهب ،وال تورث ،يف الفقراء ،وذي القرىب ،والرقاب ،والضعيف ،وابن السبيل ،
وال جناح على من وليها أن يأكل منها باملعروف ،ويطعم غري متمول(.)41
جاء يف نصب الراية للزيلعي :أن هناك لرجل من بفين غففار عينفا يقفال هلفا :رومفة ،وكفان يبيفع منهفا القربفة ،فد ، .3
فقففال لففه صففلى اهلل عليففه وسففلم ( :أتبعنيهففا بعففني يف اجلنففة ) ؟ فقففال :يففا رسففول اهلل ،صففلى اهلل عليففه وسففلم ،لففيه يل وال
صف ّفرح غففري واحففد مففن أهففل العلففم بففأن إمجففاع الصففحابة منعقففد علففى صففحة الوقففف ،فقففد ذكففر صففاحب امل ففين ،أن
جابرا رضي اهلل عنه قال « :مل يكن أحد من أصحاب النيب صلى اهلل عليه وسلم ذو مقدرة إال وقف ،وهذا إمجاع منهم ً
إمجاعا» (.)46
،فإن الذي قدر منهم على الوقف وقف ،واشتهر ذلك ومل ينكره أحد ،فكان ً
قفال ابفن قدامففه« :وهفذا إمجفاع مففنهم ،ففإن الففذي قفدر علفى الوقففف مفنهم ،وقففف .واشفتهر ذلفك فلففم ينكفره أحففد،
فكان إمجاعاً؛ وألنه إزالة ملك يلزم بالوصية ،فإذا أجنزه حال احلياة ،لزم من غري حكم كالعتق»(.)47
وقال احلافظ ابن حجر نقال عن اإلمام الرتمذي قوله« :ال نعلم بني الصحابة واملتقدمني من أهل العلم خالفا يف
جواز وقف األراضني ،وجاء عن شريح أنه أنكر احلبه» (.)48
( )42نصب الراية ألحاديفث اهلدايفة ،ج ، 3ص .477وهفذه العفني ( عفني رومفة ) هفي الفيت أشفار إليهفا اإلمفام البخفاري رضفي اهلل عنفه،
فيمففا رواه عففن أيب عبففدالرمحن ،أن عثمففان بففن عفففان رضففي اهلل عنففه حيففث حوصففر أشففرف وقففال :أنشففدكم وال أنشففد إال أصففحاب النففيب ،
صلى اهلل عليه وسلم ،ألستم تعلمون أن رسول اهلل ،صفلى اهلل عليفه وسفلم ،قفال ( :مفن حففر رومفة فلفه اجلنفة ) فحفرهتفا .انظفر :صفحيح
بئرا.
أرضا أو ً
البخاري ،ج ، 3ص ، 811كتاب الوصايا ،باب إذا وقف ً
( )43رواه مس ففلم وأبف ففو داود وغريمه ففا ،انظف ففر :ص ففحيح مسف ففلم ،ج ، 5ص ، 8511كت ففاب الوصف ففية .؛ سف ففنن أيب داود ،ج ، 3ص
.300
( )44انظر مصطفى الزرقاء ،أحكام الوقف ص ،88وأمحد اخلصاف ،أحكام الوقف ص.1
( )45متفق عليه.
( )46ابن قدامة ،امل ين ،ج ، 1ص .816
( )47املرجع السابق 816/1وانظر القرطيب ،اجلامع ألحكام القرآن .331/6
871
وقففال صففاحب اإلسففعاف بعففد ذكففره ألوقففاف الصففحابة « :وهففذا إمجففاع مففنهم عل فى ج فواز الوقففف ولزومففه ،وألن
احلاجة ماسة إىل جوازه» (.)49
«وقال اإلمام الرتمذي معلقاً علفى قولفه صفلى اهلل عليفه وسفلم( :ال يبفاع أصفلها وال يبتفاع ،وال يوهفب ،وال يفورث)
يف حديث عمر بن اخلطاب املتقدم « :العمل على هذا احلديث عند أهل العلم ،من أصحاب النيب صلى اهلل عليفه وسفلم
وغريهم ،ال نعلم بني أحد من املتقدمني منهم خالفاً»(.)50
هففذا يف اإلمجففاع املنقففول علففى صففحة الوقففف ،أمففا اللففزوم وعدمففه فقففد وقففع فيففه اخلففالف ،فففأبو حنيفففة يقففول :
صحيح غري الزم ،وأبو يوسف وحممد وعامة الفقهاء يقولون بأنه صحيح الزم(.)51
الوقف مثل سائر االلتزامات والعقود ال بد له من توافر أركان معينة لقيامه وهي (:)52
أن يكون أهالً للتربع ،يتمتع باألهلية الكاملة ،عاقال ،بال ا ،حرا ،غري حمجور عنه لسفه أو غفلة. .1
يضا مرض املوت إذ يأخذ الوقف حكم الوصية يف هذه احلالة. أال يكون مر ً .2
شروط المحل :
وهو املال املوقوف الذي يرد عليه الوقف .فيشرتط فيه ما يلي(: )54
( )48فتح الباري ،ج ، 1ص .405وخرب شريح أورده البيهقي يف سننه الكربى ،ج ،6ص.863
( )49برهان الدين الطرابلسي ،اإلسعاف يف أحكام األوقاف ،ص .83
( )50امل ين811/1 ،
( )51انظر :برهان الدين الطرابلسي ،اإلسعاف ،ص.1،7
أن تكففون اجلهففة املوقففوف عليهففا قربففة مففن القربففات فففال جيففوز الوقففف علففى املعاصففي واملنك فرات وأهلهففا ،وال علففى .1
احلربيني ،والكنائه والشعائر الدينية غري اإلسالمية .وقد حدد احلنفية اعتبار القربة بأمرين اانني مها(:)56
أ -أن يكون املوقوف عليه قربة يف نظر الشريعة.
ب -أن يكون قربة يف اعتقاد الواقف.
موجودا إذا كان الوقف ملعفني وذلفك عنفد إنشفاء العقفد .أمفا انقطفاع اجلهفة املوقفوف عليهفا
ً .2أن يكون املوقوف عليه
فهو حمل خالف بني الفقهاء بني من يرى أن األصل عدم صفحة الوقفف املنقطفع انتهفاء فقفط أو ابتفداء وانتهفاء ،وبفني مفن
يرى صحة الوقف املنقطع مطلقا(.)57
تأبيد الوقف :أن تكون اجلهة املوقوف عليها دائمة الوجود عند من يشرتط التأبيد. .3
شروط الصيغة (:)58
.1أن تك ففون ص ففي ة الوق ففف منج ففزة :أي ال تق ففرتن بتعلي ففق أو إض ففافة إىل مس ففتقبل ،إذ ال ب ففد أن ت ففدل عل ففى إنش ففاء
الوقفف وقفت صففدوره ،كقولفه :وقففت أرضففي علفى الفقفراء واملسففاكني .والصفيغ املقرتنفة بالتعليقففات تبطفل عقفود التمليكففات
كاهلبة والصدقة والعارية .كقوله :إذا اشرتيت هفذه األرض فهفي وقفف للفقفراء ،والصفي ة املضفافة إىل زمفن قفادم ،كقولفه :
وقفت أرضي ابتداءً من السنة القادمة يصححها بعض احلنفية يف صور معينة.
جازما إذ ال ينعقد الوقف بوعد ،كقوله سأقف أرضي أو داري على الفقراء. .2أن يكون العقد فيها ً
أال تقرتن الصي ة بشرط يناقض مقتضى الوقف ،كقوله وقفت أرضي بشرط أن يل بيعها مىت أشاء. .3
( )54انظر :السنوسي ،الروض الزاهر ،ص 86؛ الزرقاء أحكام الوقف ،ص .18-41
( )55انظر :السنوسي ،الروض الزاهر ،ص 86؛ الزرقاء ،أحكام الوقف ،ص .14-18
( )56انظر :ابن جنيم ،البحر الرائق ،ج ،1ص. 504
( )57انظ ففر املوض ففوع تفص ففيال :احلنفي ففة :السرخس ففي ،املبس ففوط ،ج ،83ص . 48؛ اب ففن جن ففيم ،البح ففر الرائ ففق ،ج ،1ص . 583املالكي ففة:
الدس ففوقي ،حاش ففية الدس ففوقي عل ففى الش ففرح الكب ففري ،ج ،4ص .11الش ففافعية :الشف فريازي ،امله ففذب ،ج ،8ص . 445-448؛ اخلطي ففب
الشربني ،م ين احملتاج ،ج ،5ص . 314احلنابلة :ابن قدامة ،الشرح الكبري مع امل ين ،ج ،6ص587-581
( )58انظر :السنوسي ،الروض الزاهر ،ص ،81،87الزرقاء ،أحكام الوقف ،ص.34
877
أن تفيد الصي ة تأبيد الوقف ملن ال يقول بصحة تأقيته. .4
المبحث الرابع :أنواع الوقف:
يستنبط مما ذكره الفقهاء من صور الوقف أنه ميكن أن يقسم إىل االاة أقسام هي:
الوقففف الخيففري أو "الوقففف العففام" :وهففو الففذي يقصففد الواقففف منففه صففرف ريففع الوقففف إىل جهففات الففرب الففيت ال .1
أشخاصا معينني كالفقراء واملساكني ،أم جهات بر عامة كاملساجد واملدارس واملستشفيات إىل غفري
ً تنقطع ،سواء كانت
ذلك.
الوقفف األهلفي أو "اخلففاص" :وهفو مفا يطلفق عليففه الوقفف الفذري ،ويسفمى يف امل ففرب األحبفاس املعقبفة( )59وهففو .2
ريع للواقف أوالً مث ألوالده مث إىل جهة ّبر ال تنقطع. ختصي
الوقففف المشففتر :وهففو مففا خصصففت منافعففه إىل الذريففة وجهففة بففر ً
معففا .جففاء يف امل ففين ( :وإن وقففف داره علففى .3
جهتني خمتلفتني ،مثل :أن يقفها على أوالده ،وعلى املساكني :نصفني ،أو أاالاًا ،أو كيفما شاء ،جاز ،وسواء جعل
مآل املوقوف على أوالده وعلى املساكني أو على جهة أخرى سواهم)( . )60وقال البهويت( :وإن قال وقفتفه ؛ أي العبفد ،
أو الففدار ،أو الكتففاب و ففوه علففى أوالدي وعلففى املسففاكني فهففو بففني اجلهتففني نصفففان ،يصففرف ألوالده النصففف واملسففاكني
النصففف؛ القتض ففاء التسففوية) ( ،)61وج ففاء يف امل ففادة ( )666مففن جمل ففة األحكففام العدلي ففة احلنبلي ففة( :يصففح وق ففف داره عل ففى
جهتففني خمتلفتففني كففأوالده واملسففاكني)( ،)62وهففو مففا يفهمففه القففارئ ضففمنًا مففن كففالم الفقهففاء عففن الوقففف يف أب فواب الففرب ،
والوقف على الذرية ،والعقب ،دون التصريح بالشراكة(.)63
وق د نصت بعض القوانني املدنية املعاصرة املنظمة لألوقفاف يف بعفض الفدول اإلسفالمية ،علفى الوقفف املشفرتك مثفل القفانون
املدين السوداين يف مادته ( ،)706والقانون املدنفي األردنفي يف مادتفه (.)64()223
يأيت ضمن جمموعة من التشريعات املفروضة ،والواجبة ،واملستحبة ،لتحقيق التكافل ،والتعاون ،والتكامل يف
اجملتمع اإلسالمي ،وذلك لوجود التفاوت ،واالختالف يف الصفات ،والقدرات ،والطاقات ،وما ينتج عن ذلك ،من وجود
املنتج ،والعاطل ،والذكي ،وال يب ،والقادر ،والعاجز ،مما يتطلب مالحظة بعضهم لبعض ،وأخذ بعضهم بأيدي بعض،
ومن طرق ذلك اإلنفاق ،وأفضله ما كان منتظماً ،مضمون البقاء ،يقوم على أساس ،وينشأ من أجل الرب واخلري ،وهذا ما
( )59درويش عبد العزيز ،جتربة األوقاف يف اململكة امل ربية ،ص. 88
( )60ابن قدامة ،امل ين ،ج ، 1ص.533
( )61كشاف القناع ،ج ، 4ص.511
( )62انظر :القاري ،جملة األحكام العدلية ،ص .571
( )63ينظر على سبيل املثال :برهان الدين الطرابلسي ،اإلسعاف ،ص 840-831وغريمها.
( )64علي النصري ،دراسة حول أنظمة وقوانني الوقف ،ص. 865
871
يؤدي إليه الوقف ،الذي فظ لكثري من اجلهات العامة حياهتا ،ويساعد فئات من اجملتمع على االستمرار ،ويتحقق به
ضمان العيش الكرمي ،حني انصراف الناس ،أو ط يان اخلطر ،أو حالة الطوارئ(.)65
وللوقف مقاصد عامة وخاصة ،فأما املقصد العام للوقف :فهو إجياد مورد دائم ومستمر لتحقيق غرض مباح من
أجل مصلحة معينة.
وأما املقاصد اخلاصة للوقف كثرية منها:
.1يف الوقف ضمان لبقاء املال ودوام االنتفاع به واالستفادة منه مدة طويلة.
.2استمرار النفع العائد من املال احملبه للواقف واملوقوف عليه ،فاألجر والثواب مستمران للواقف حيا أو ميتا،
ومستمر النفع للموقوف عليه.
.3امتثال أمر اهلل سبحانه وتعاىل باإلنفاق والتصدق يف وجوه الرب ،وامتثال أمر نبينا حممد صلى اهلل عليه وسلم
بالصدقة واحلث عليها ،وهذا أعلى املقاصد من الوقف.
()66
.4يف الوقف صلة لألرحام حيث يقول اهلل تعاىل" :وأولوا األرحام بعضهم أوىل ببعض يف كتفب اهلل"
.5فيه تعاون على الرب واإلحسان لكفالة األيتام وعون الفقراء واملساكني وهو ضرب من التعاون يف كل ما ينفع
الناس وذلك ما دعا إليه القرءان الكرمي" :وتعاونوا على الرب والتقوى"(.)67
.6الوقف على املساجد والزوايا والربط واملعاهد واملدارس واملشايف ودور العجزة ومالجئ األيتام ،كل هذا مما يضمن
هلذه املرافق العامة بقاءها وصيانتها.
أما أغراضه فتتنوع بحسب تعدد أوجه البر ،ويمكن ذكر أهمها ،والتي تتمثل في:
.1نشر الدعوة اإلسالمية :ومن أهم مظاهر هذا ال رض وقف املساجد اليت كانت عرب التاريخ منارات لنشر الدعوة
وتعلففيم النففاس وت فربيتهم وهتففذيبهم ،ومففا أحلففق هبففا مففن أوقففاف لإلنفففاق عليهففا وعلففى القففائمني علففى شففؤوَّنا كالففدكاكني
والضيعات واملساكن وغري ذلفك .والزال هلفذا ال فرض أمهيتفه فإضفافة إىل املسفاجد فهنفاك العديفد مفن املراكفز الدعويفة الفيت
تقوم على األوقاف.
.2الرعاية االجتماعية :من خالل صلة الرحم باإلنففاق علفى القرابفة مفن األبنفاء وبنفيهم مفن خفالل الوقفف األهلفي أو
الذري .وكذلك رعاية األيتام وأبناء السبيل وذوي العاهات من خالل األوقاف اخلريية الفيت صصصفها الواقففون ملثفل هفذه
األغراض .ويذكر أحد الدارسني لدور األوقاف يف الرعاية االجتماعية بفامل رب ،أن األوقفاف فيهفا قامفت بفدور مهفم يف
التففآزر والتكافففل االجتم ففاعيني ،فقففد حففبه الواقف ففون كث فريا م ففن ممتلكففاهتم علففى املعت ففوهني واملقعففدين واملكف ففوفني ،وأن
أوقففاف أيب العبففاس السففبيت يف مفراكش تعتففرب أكففرب شففاهد علففى ذلففك( .)68وقففد عرفففت األوقففاف امل ربيففة أنواعففا آخففر مففن
األوق ففاف ين ففدرج يف ال ففرض االجتم ففاعي ه ففي أوق ففاف افتك ففاك األس ففرى ،وأوق ففاف اإلطع ففام وأوق ففاف الكس ففاء (املالب ففه)
( )65انظر د .حممد الكبيسي ،أحكام الوقف يف الشريعة اإلسالمية .831 ،837/8
( )66سورة األنفال آية 71
( )67سورة املائدة ،آية 5
( )68انظر :أبو ركبة ،الوقف اإلسالمي وأاره يف احلياة االجتماعية يف امل رب ،ص.544
871
واألغطية ملن تاجوَّنفا ،وأوقفاف مسفاعدة املصفابني واملنقطعفني وال ربفاء .وقفد انتشفرت هفذه األوقفاف يف منفاطق متعفددة
يف امل رب مثل فاس ،وتطوان ،ومراكش وغريها(.)69
.3الرعايففة الصففحية :يعففد هففذا ال ففرض مففن أوسففع اجملففاالت الففيت وقففف احملبسففون أمالكهففم عليهففا ،ومشلففت أنواعففا كثففرية
مثف ف ففل بن ف ففاء البيمارس ف ففتانات "املستش ف فففيات واملص ف ففحات" ،والبح ف ففث العلمف ف ففي املف ف فرتبط باجملف ف ففاالت الطبيف ف ففة ،كالكيميف ف ففاء
والصيدلة(.)70
له بعض األسطر لبيانه ،فيكفي املدارس الوقفية املنتشرة يف سائر أ اء العفامل .4التعليم :التعليم أشهر من أن خنص
اإلسففالمي وعلففى رأسففها تلففك املسففاجد واجلوامففع الففيت أضففحت منففارات للعلففم ويف مقففدمتها احلرمففان الش فريفان ،واألزهففر
الشفريف يف مصفر ،والقففرويني يف امل فرب والزيتونففة يف مصفر ،واألمففويني يف دمشفق .ناهيففك عفن املكتبففات واملعاهفد الففيت ال
ميكن عدها أو حصرها يف هذه العجالة.
.5األمن والدفاع :ر،فا كفان مسفتند هفذا ال فرض مفا فعلفه خالفد بفن الوليفد حينمفا وقفف أدراعفه وأعتفاده يف سفبيل اهلل.
فقفد روى أبففو هريففرة رضفي اهلل عنففه أن رسففول اهلل صفلى اهلل عليففه وسففلم بعففث عم ًفرا علففى الصففدقة ،فقيفل منففع ابففن مجيففل
وخالد بن الوليد والعباس عم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقال الرسول صلى اهلل عليه وسلم ( :ما ينقم ابن مجيفل
فريا فأغنفاه اهلل ،وأمفا خالفد ففإنكم تظلمفون خال ًفدا ،قفد احتفبه أدراعفه وأعتفاده يف سفبيل اهلل وأمفا العبفاس إال أنه كان فق ً
علي ومثله معه)( .)71وقد سار على هذا النهج الصحابة الكرام والتابعون ومن تبعهم بإحسان من العلماء واحلكام فهو ّ
وذوي اليسار يف األمة فوقفوا األموال على سد الث ور واحلفاظ على حرمة ديار املسلمني(.)72
.6الوقف على البنية األساسفية :كفالوقف علفى إنشفاء الطفرق ،واجلسفور( ،)73وآبفار الشفرب وقفد سفبقت اإلشفارة إىل
بئر رومة يف املدينة املنورة اليت وقفها عثمان رضي اهلل عنه.
الفصل الثاني :
( )69راجع التجكاين ،اإلحسان اإللزامي يف اإلسالم وتطبيقاته يف امل رب ،ص .111-116
( )70انظر :عبدامللك السيد ،الدور االجتماعي للوقف ،ص .513-515
()71رواه البخففاري ومس ففلم واللفففظ ملس ففلم .انظ ففر :البخففاري ،ص ففحيح البخففاري ،ج ،5ص ،134كت ففاب الزك ففاة ،بففاب قول ففه تع ففاىل ( :ويف
الرقاب وال ارمني ويف سبيل اهلل) .مسلم ،صحيح مسلم ،ج ، 8كتاب الزكاة ،ص .676
( )72البالطنسي ،حترير املقال ،ص .803-805
( )73انظر :شوقي دنيا ،أار الوقف يف إجناز التنمية الشاملة ،ص .851
810
المبحث األول :تعريف التنمية المستدامة:
تعددت التعريفات هلذا املفهوم لكنها مل تستخدم استخداما صحيحا يف مجيع األحوال ،فتارة جند أَّنا تستنزف
املوارد الطبيعية ،حبيث هذا االستنزاف من شأنه أن يؤدي إىل فشل عملية التنمية نفسها!(.)74
ويعود هذا التضارب يف التعريفات إىل تعدد األمناط اليت يشملها مصطلح (التنمية) والذي يراد به :زيادة املوارد
والقدرات واإلنتاجية.
ورغم حدااة هذا املصطلح ،إال أنه استعمل للداللة على أمناط خمتلفة من األنشطة البشرية ،مثل :التنمية
االقتصادية ،والتنمية االجتماعية ،والتنمية البشرية ،اخل.
وكل منط من هذه األمناط ترتبط معها التنمية لتؤدي املعاين السابقة يف كل منط على حدة ،فرياد بالتنمية
االقتصادية :االستخدام األمثل للموارد الطبيعية والبشرية ،ل رض حتقيق زيادات مستمرة يف الدخل تفوق معدالت النمو
السكاين .ويراد بالتنمية االجتماعية :إصالح األحوال االجتماعية للسكان عن طريق زيادة قدرة األفراد على است الل
الطاقة املتاحة إىل أقصى حد ممكن ،وبتحصيل أكرب قدر من احلرية والرفاهية .وبالتنمية البشرية :ختويل البشر سلطة انتقاء
خياراهتم بأنفسهم ،سواء فيما يتصل ،وارد الكسب ،أو باألمن الشخصي ،أو بالوضع السياسي.
ويالحظ أن مثة تداخال بني كل هذه األمناط التنموية ،إذ يرتبط كل منط منها مع سائر األمناط األخرى ارتباطاً
وايقاً من حيث التأاري املتبادل بينهما .ولذلك وجدنا من يدمج كل هذه األمناط املختلفة من التنمية حتت مسمى واحد
هو التنمية املتكاملة(.)75
ومن هذا املفهوم اهلالمي ،نشأ اختالف الباحثني يف حتديد تعريف التنمية املستدامة ،ولعل من أجود التعريفات
وأوسعها انتشاراً وأمشلها ملفهوم التنمية املستدامة ،ذلك التعريف الوارد يف تقرير برونتالند( )76والذي عرف التنمية
املستدامة بأَّنا " التنمية اليت تليب احتياجات اجليل احلاضر دون التضحية أو اإلضرار بقدرة األجيال القادمة على تلبية
احتياجاهتا"(.)77
و،ع أوضح فالتنمية املستدامة تتطلب تضامناً بني اجليل احلايل واجليل املستقبلي ،وتضمن حقوق األجيال
املقبلة يف املوارد البيئية(.)78
وعلى هذا فالتنمية املستدامة كمفهوم يعترب قدمياً ،إال أنه كمصطلح يعد حديث النشأة ،حيث كان أول ظهور
له يف نادي روما 1716م ،وكان يقتصر حني ظهوره على "التفاعل بني االقتصاد واإليكولوجيا" .مث تطور إىل مع أعم،
ليشمل احلفاظ على املوارد الطبيعية( ،)79وليه االقتصاد فقط.
تتضمن التنمية املستدامة يف إطارها موازنات تتم بني النظام البيئي والنظام االقتصادي والنظام االجتماعي.
فالنظام البيئي يتكون من املوارد الطبيعية ،ويسعى من أجل اإلبقاء على عناصر احلياة األساسية ،كما افظ
التنوع احليوي للكائنات واملخلوقات على الكرة األرضية.على ّ
أما النظام االقتصادي فإنه يتجه أساسا و تلبية احلاجات واملتطلبات املادية لإلنسان عرب شبكة معقدة من
اإلنتاج واالستهالك.
أما النظام االجتماعي فانه يهدف إىل اإلبقاء على التنوع احلضاري والثقايف و قق العدل االجتماعي من خالل
املشاركة الفعالة يف احلياة العامة.
وعلى أساس ذلك فالتنمية املستدامة املتناغمة مع األنظمة الثالاة ،هلا أربع ًات أساسية هي:
أوالً :تداخلها وأكثر تعقيدها نظريا وتطبيقيا ،وخباصة فيما يتعلق ،ا هو طبيعي (املوارد الطبيعية) ،وما هو اجتماعي يف
التنمية.
اانيا :اجتاهها أساسا إىل تلبية متطلبات واحتياجات أكثر الشرائح فقرا يف اجملتمع ،وسعيها إىل احلد من تفاقم الفقر يف
العامل.
االثا :للتنمية املستدامة بع ٌد نوعي يتعلق بتطوير اجلوانب الروحية والثقافية واإلبقاء على اخلصوصية احلضارية للمجتمعات.
رابعا :ال ميكن يف حالة التنمية املستدامة فصل عناصرها وقياس مؤشراهتا لشدة تداخل األبعاد الكمية والنوعية.
( )78ركائز التنمية املستدامة ومحاية البيئة يف السنة النبوية ،د .حممد عبد القادر الفقي.
( )79عبد السالم أديب ،التنمية املستدامة.
815
ومن خالل ما سبق يتضح بأن التنمية املستدامة هي التنمية اليت حتقق التوازن بني األنظمة الثالاة السابقة (البيئي
واالقتصادي واالجتماعي) ،وتساهم يف حتقيق أقصى قدر من النمو واالرتقاء يف كل نظام من هذه األنظمة دون أن
يؤار التطور يف أي نظام سلبا على األنظمة األخرى(.)80
وقد طرح مصطلح التنمية املستدامة عام 1764أعقاب مؤ ر ستوكهومل ،الذي عقبته قمة ريو للمرة األوىل حول
فيما يلي: التنمية املستدامة وًاهتا ،واليت تتلخ البيئة والتنمية املستدامة الذي أعلن عام 1772عن خصائ
أ -هي تنمية يعترب البعد الزمين هو األساس فيها ،فهي تنمية طويلة املدى بالضرورة ،تعتمد على تقدير إمكانات احلاضر،
ويتم التخطيط هلا ألطول فرتة زمنية مستقبلية ميكن خالهلا التنبؤ باملت ريات.
ب -هي تنمية ترعى تلبية االحتياجات القادمة يف املوارد الطبيعية للمجال احليوي لكوكب األرض.
ج -هي تنمية تضع تلبية احتياجات األفراد يف املقام األول ،فأولوياهتا هي تلبية احلاجات األساسية والضرورية من ال ذاء
وامللبه والتعليم واخلدمات الصحية ،وكل ما يتصل بتحسني نوعية حياة البشر املادية واالجتماعية.
د -وهي تنمية تراعي احلفاظ على احمليط احليوي يف البيئة الطبيعية سواء عناصره ومركباته األساسية كاهلواء ،واملاء مثال ،أو
العمليات احليوية يف احمليط احليوي كال ازات مثال ،لذلك فهي تنمية تشرتط عدم استنزاف قاعدة املوارد الطبيعية يف احمليط
احليوي ،كما تشرتط أيضا احلفاظ على العمليات الدورية الص رى ،والكربى يف احمليط احليوي ،واليت يتم عن طريقها
انتقال املوارد والعناصر وتنقيتها ،ا يضمن استمرار احلياة.
هف -هي تنمية متكاملة تقوم على التنسيق بني سلبيات استخدام املوارد ،واجتاهات االستثمارات واالختيار التكنولوجي،
وجيعلها تعمل مجيعها بانسجام داخل املنظومة البيئية ،ا افظ عليها و قق التنمية املتواصلة املنشودة(.)81
اإلسالم يف مفهومه االعتقادي للعمارة واالستخالف يبارك مثل هذه التنمية ويوجبها ،ألنه يعدها تكليفاً شرعياً
ابتداءً ،قال تعاىل" :هو أنشأكم من األرض واستعمركم فيها" ( ، )82وهو يعدها أيضا هدفا أصيالً من أهداف جمتمعة،
ألَّنا شرط الكفاية ألبناء اجملتمع ،وشرط الستجماع مستلزمات أمنه ال ذائي واستقالله االقتصادي ،وهي وسيلته
كذلك الستجماع أسباب القوة اليت يؤمر بإعدادها حتصيناً للذات وَّنوضا بتكاليف الدعوة ،وكل ذلك من املقاصد
املرعية شرعاً ،والقاعدة تقضي بأن ما ال يتم الواجب إال به فهو واجب.83
وقد يزت التنمية املستدامة يف اإلسالم ،فهوم خاص له مميزاته ،أبرزها :املنطلق اإلمياين واإلدارة احلضارية ،
ولذلك نعتت التنمية املستدامة من وجهة نظر إسالمية بأَّنا( :عملية متعددة األبعاد تعمل على التوازن بني أبعاد التنمية
االقتصادية واالجتماعية من جهة ،والبعد البيئي من جهة أخرى)( ،)86وهتدف إىل االست الل األمثل للموارد واألنشطة
البشرية القائمة عليها من منظور إسالمي يؤكد أن اإلنسان مستخلف يف األرض ،ويلتزم يف تنميتها بأحكام القرآن
والسنة ،استجابة حلاجات احلاضر دون إهدار حق األجيال الالحقة ،وصوالً إىل االرتفاع باجلوانب الكمية والنوعية
للبشر.
والقول بأن اجملتمع املسلم جمتمع ترتاجع فيه القيمة النفعية والقيمة الدنيوية لصاحل القيم األخروية ال يعين أن هذا
اجملتمع يزهد يف الكفاءة ،وجيحد النمو ،غاية ما يف األمر أن اجملتمع املسلم يفرق بني ال ايات والوسائل بوضوح ،فهو
جمتمع يستهلك ليعيش ،ال يعيش ليستهلك ،لكن االستهالك الوظيفي بذاته يصبح فريضة وتكليفاً شرعيا متوافقا مع
مقاصر التشريع يف حفظ الوجود اإلنساين "ولكم يف األرض مستقر ومتاع إىل حني"( .)87ويف ظل اهلوية اإلسالمية فإن
اإلنسان هو غاية التنمية قبل أن يكون وسيلتها ،فال مع ألي منو يتجاهل البعد اإلنساين واالجتماعي.
فاإلسالم يريد من خالل عملية التنمية توفري احلياة الطيبة الكرمية لكل إنسان "من ع ِمل ص ِ
احلًا ِّمن ذكر أو أنثى
وهو مؤِم ٌن ففلنحيِيفنه حياةً طيِّب ًة ولنج ِزيفنفهم أجرهم بِأحس ِن ما كانوا يفعملون"( ،)88حياة تسمو بالروح واجلسد ،ويسودها
روح اإلخاء والتكافل واملودة والرمحة ،وترفرف عليها مظلة األمن والعدل واحلرية ،وختلو من شبح اجلوع واخلوف والكراهية
والب ضاء واألارة ،وتراعي العدالة يف توزيع الدخول والثروة حىت ال يكون املال دولة بني األغنياء وحدهم ،حياة توازن بني
منافع األجيال احلالية واألجيال املستقبلية .
( )84انظر د .حممد عمارة ،مسامهة املؤسسات اخلريية يف تركيز اجملتمع املدين ،مقال يف جملة اخلريية العدد 11حمرم 8481هف ص ،30
وحممد بن عبد اهلل ،الوقف يف الفكر اإلسالمي .34/8
( )85حممد بن عبد اهلل ،الوقف يف الفكر اإلسالمي .30/8
( )86نفه املرجع السابق.
( )87سورة البقرة ،آية 36
( )88سورة النحل ،آية 17
814
وبذلك سبق اإلسالم تعريف التنمية املستدامة وتطبيق قبل أن يعرفها ال رب بعشرات القرون ،فاألجيال القادمة يف
املنهج اإلسالمي هلا حق يف اروات األجيال احلاضرة .وتطبيقا لذلك حث اإلسالم اآلباء على ترك أوالدهم أغنياء ال
فقراء ،ففي احلديث الشريف «إنك إن تذر وراتك أغنياء خري من أن تذرهم عالة يتكففون الناس"(" ،)89إذا مات
اإلنسان انقطع عمله إال من االث صدقة جارية ،أو علم ينتفع به ،أو ولد صاحل يدعو له" ( ،)90ويشري القرآن الكرمي
إىل الرتابط بني األجيال يف صورة من الرتاحم والتعاطف يف قوله تعاىل" :والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا
وإلخواننا الذين سبقونا باإلميان"( ،)91ولقد استند أمري املؤمنني عمر بن اخلطاب -رضي اهلل عنه -على هذه اآلية يف
عدم تقسيم أراضي العراق على الفاحتني ،بل فرض عليها اخلراج ملصلحة األجيال املتعاقبة وقال ملن خالفه " :تريدون أن
يأيت آخر الزمان ناس ليه هلم شيء؟ فما ملن بعدكم؟"(.)92
تشري القراءة املتأنية لتاريخ احلضارة اإلسالمية ،يف عصورها املختلفة إىل أن الوقف قام بدور بارز يف تطوير
اجملتمعات اإلسالمية اقتصادياً واجتماعياً واقافياً وعمرانياً ،فقد امتدت تأارياته لتشمل معظم أوجه احلياة جبوانبها
املختلفة، ،ا يف ذلك محاية البيئة وحتقيق كل صور األمن البيئي ،إضافة إىل رعاية الفئات الضعيفة ،وتشجيع العلم
والعلماء ،وإنشاء املكتبات واملعاهد واملدارس والكتاتيب اخلاصة بتحفيظ األطفال كتاب اهلل تعاىل ،وتشييد املستشفيات
ورعاية املرضى ،و ويل اخلدمات العامة ،بل إن اهتمامات الواقفني امتدت لتشمل النواحي العسكرية ،مثل :إنشاء
األربطة واحلصون ،وجتييش اجليوش وجتهيزها للذود عن الديار اإلسالمية ،وهكذا مشل الوقف اإلسالمي كل مناحي
احلياة، ،ا يف ذلك جوانب التنمية واحملافظة على سالمة البيئة ،أي أنه مل يقتصر على جانب معني أو اجتاه واحد ،بل
لقد كانت األوقاف حجر األساس الذي قامت عليه كل املؤسسات اخلريية اليت ظهرت يف ديار املسلمني ،فقد
كانوا داون وقفاً لكل مشروع يقيمونه؛ لينفق عليه من دخله ،ويكون ضماناً الستمرار تش يله ،ولذلك فإن هذه
املنشآت تقوم بدورها يف اجملتمع ،ب ض النظر عما صل ملن أوقفها ،من طوارئ الزمان ،أو انصراف عن املشروع إىل
سواه(.)94
وفكرة الوقف كانت موجودة قبل اإلسالم عند بعض األمم وإن مل يسم هبذا االسم ،فقد وجدت عند قدماء
املصريني حيث كانت األراضي ترصد على اآلهلة واملعابد واملقابر ،وتؤخذ غلتها للنفقة عليها ،كذلك ينفق على الكهنة
واخلدام من هذه األموال ،وكان الناس وقتها مدفوعني إىل هذا التصرف بقصد فعل اخلري والتقرب إىل اآلهلة كما زعموا.
وكان هذا الشيء موجوداً عند قدماء العراقيني ،وعند الرومان وغريهم(.)95
ومن األوقاف اليت اشتهرت عند العرب قبل اإلسالم ،الوقف على الكعبة املشرفة ،بكسوهتا وعمارهتا كلما
هتدمت ،وأول من كساها ووقف عليها (أسعد أبو كريب ملك محري)كما ذكر ابن خلدون يف مقدمته(.)96
أما قول الشافعي رمحه اهلل :مل به أهل اجلاهلية فيما علمته داراً ،وال أرضاً تربراً حببسها ،وإمنا حبه أهل
اإلسالم )97(.فاإلمام الشافعي هنا مل ينف وجود األحباس يف اجلاهلية قطعاً ،بل نفى وجود األحباس اليت يقصد منها
القربة والرب آنذاك (.)98
ذكر علماء الفقه أن الوقف من خصائ أمة حممد صلى اهلل عليه وسلم ،قال اإلمام النووي" :وهو مما اخت
به املسلمون" ،وهلذا ،يرى كثري من الباحثني أن أول وقف ديين يف اإلسالم هو مسجد قباء الذي أسسه النيب صلى اهلل
عليه وسلم حني قدم مهاجراً إىل املدينة املنورة ،قبل أن يدخلها ويستقر فيها ،مث املسجد النبوي الذي بناه صلى اهلل عليه
( )93التجربة الكويتية يف إدارة األوقاف ،د .علي فهد الزميع ،أحباث ندوة ( و دور تنموي للوقف) املنعقدة خالل الفرتة من 8ف 3مايو
8113م بالكويت ،وزارة األوقاف والشؤون اإلسالمية8113 ،م ،صفحة .13
( )94انظر صاحل كامل ،حماضرة عن الوقف ودوره يف التنمية االقتصادية ص 38ضمن أحباث ندوة و دور تنموي للوقف ،يف الكويت.
( )95انظر :أحكام الوقف د /الكبيسي ،58/8والوقف األهلي .د /بافقيه ص ،86وحماضرات يف الوقف ابو زهرة .ص.1
( )96انظر :مقدمة ابن خلدون ،145/3والوقف مشروعية وأمهية د /الدريويش ص.51
( )97انظر :األم .571/3
( )98انظر :الوقف يف الفكر اإلسالمي حملمد عبدالعزيز ،73/8وأحكام الوقف د /الكبيسي .55/8
816
وسلم يف السنة األوىل من اهلجرة ،عند مربك ناقته حينما دخل املدينة املنورة ،أما أول وقف خريي عرف يف اإلسالم فهو
وقف النيب صلى اهلل عليه وسلم لسبع حوائط (بساتني) كانت لرجل يهودي اًه (خمرييق) ،قتل على رأس اانني واالاني
شهراً من مهاجر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وهو ارب مع املسلمني يف موقعة أحد ،وأوصى :إن أصبت أي قتلت
فأموايل حملمد يضعها حيث أراه اهلل تعاىل ،فقتل يوم أحد ،وهو على يهوديته ،فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم :خمرييق
خري يهود ،وقبض النيب صلى اهلل عليه وسلم تلك احلوائط السبعة ،فتصدق هبا ،أي :وقفها ،مث تاله عمر رضي اهلل عنه،
مث وقف أيب بكر الصديق رضي اهلل عنه ،مث وقف عثمان بن عفان رضي اهلل عنه ،مث وقف علي بن أيب طالب رضي اهلل
عنه ،مث تتابعت بعد ذلك أوقاف الصحابة ،وأخذت األوقاف اإلسالمية بعد ذلك تتكاار وتزدهر يف شىت أ اء العامل
اإلسالمي ،وأسهمت إسهاما بال اً يف حفظ البيئة وتنميتها بشىت أنواعها(.)99
كان للوقف دور كبري يف توافر األمن املائي للمسلمني منذ بداية نشأة الدولة اإلسالمية يف مدينة الرسول صلى اهلل
عليه وسلم ،وقد شاع الوقف هلذا الوجه من الرب يف سائر أ اء العامل اإلسالمي ،لعظم فضله واوابه ،ولعله من املفيد
هنا أن نشري إىل حادث شراء بئر رومة كدليل على ذلك ،لقد كانت هذه البئر لرجل من قبيلة مزينة مث باعها لرومة
ال فاري ،ومل يكن باملدينة املنورة ماء يستعذب غري مائها ،وهلذا كان مالكها يبيع منها القربة ،د ر نبوي وقد سأل
الرسول صلى اهلل عليه وسلم رومة أن يبيعها للمسلمني بقوله صلى اهلل عليه وسلم :بعينها بعني يف اجلنة ،فقال له
الرجل :يا رسول اهلل ليه يل وعيايل غريها ،وال أستطيع ذلك ،فبلغ هذا اخلرب عثمان بن عفان رضي اهلل عنه ،فاشرتاها
منه على دفعتني األوىل خبمسة واالاني ألف درهم ،واتفق مع صاحب البئر على أن يكون له يوم ولصاحب البئر يوم،
فإذا كان يوم عثمان استسقى املسلمون ما يكفيهم يومني ،مث اشرتى الدفعة الثانية بثمانية آالف درهم ،وجعلها كلها
وقفاً على املسلمني.
و فل التاريخ اإلسالمي بأًاء الكثري من الشخصيات اليت كانت هلا إسهامات بارزة يف جمال األمن املائي ،مثل:
أيب جعفر حممد علي بن أيب منصور ،املعروف باجلواد األصبهاين ،وزير صاحب املوصل األيويب ،فقد ب وأوقف الكثري
من األسبلة يف مكة ،واختط صهاريج املاء ،ووضع اجلباب يف طرق احلج لتجميع ماء املطر فيها(.)100
وقد تبارى املسلمون يف إنشاء األسبلة ،باعتبارها نوعاً من الصدقة اجلارية اليت يصل اواهبا إىل صاحبها حىت بعد
موته ،فقد روي عن سعد بن عبادة رضي اهلل عنه أنه قال :يا رسول اهلل :أي الصدقة أفضل؟ قال :سقي املاء رواه ابن
ماجه ،وعن عائشة رضي اهلل عنها ،أَّنا قالت :يا رسول اهلل :ما الشيء الذي ال ل منعه؟ قال :املاء وامللح والنار،
قالت :قلت :يا رسول اهلل :هذا املاء قد عرفناه ،فما بال امللح والنار؟ قال" :يا محرياء ،من أعطى ناراً فكأمنا تصدق
( )99الوقف وأاره التنموي ،د .علي مجعة حممد أحباث ندوة :و دور تنموي للوقف.
( )100الشهب الالمعة يف السياسة النافعة ،أبو القاسم بن رضوان املالقي.
817
جبميع ما أنضجت تلك النار ،ومن أعطى ملحاً فكأمنا تصدق جبميع ما طيب ذلك امللح ،ومن سقى مسلماً شربة من
ماء ،حيث يوجد املاء ،فكأمنا أعتق رقبة ،ومن سقى نفساً مسلمة شربة من ماء حيث ال يوجد فكأمنا أحياها"(.)101
وقد أسهم نظام الوقف يف انتشار األسبلة ،وصادفت مبانيها رواجاً وترحيباً حاراً من املسلمني ،نظراً ملا ترتبط به من
فعل اخلري بتوافر مياه الشرب للمارة يف الشوارع والطرق ،وال سيما يف أوقات القيظ.
وميكن القول :إن األسبلة كانت تقوم مقام مرفق املياه حالياً ،يف املدن وبدرجة أقل يف القرى ،وغالباً ما كانت
تلحق أسبلة املياه الصاحلة للشرب باملساجد أو تكون وسط املدينة أو على طرق القوافل ،لتكون يف متناول اجلميع ،وقد
أنشئت األسبلة بني احلارات لتقدمي املاء البارد ،وخصوصاً يف مناطق ازدحام السكان منها ،بل كانت هناك األسبلة اليت
تقوم بتخصي جزء منها للنساء الاليت ال يقدرن على دفع أجور السقائني للحصول على حاجاهتن املنزلية من املاء.
وتزخ ر حجج األوقاف بكيفية تنظيم ورود املاء العذب إىل السبيل على مدار أيام العام ،واالهتمام بنظافة السبيل ،
والقائمني عليه ،كما أنشئت اآلبار االرتوازية يف الطرق الربية اليت تربط بني املدن على امتداد العامل اإلسالمي لسقاية
الراحلة وما شابه.
وامتدت شجرة الشفقة اإلنسانية بظالهلا الوارفة إىل احليوانات والدواب أيضاً ،فعينت هلا أحواضاً لسقياها ،طلباً
للمثوبة ،وأنشئت هذه األحواض كمنشآت خريية خلدمة الدواب على طرق املدينة ،وعلى الطرق اليت تربط بني املدن ،
خدمة للقوافل التجارية واملسافرين املتنقلني بني هذه املدن ،كما كان يلحق ببعض األسبلة مثل هذه األحواض ،كما يف
سبيل درويش باشا يف منطقة الدرويشية القريبة من سوق احلميدية يف دمشق(.)102
كان للوقف دور كبري يف حتقيق األمن ال ذائي ألبناء الدولة اإلسالمية ،ويف مرحلة باكرة من تاريخ الدولة
اإلسالمية ،تنافه املسلمون يف ختصي األوقاف إلطعام ذوي احلاجة من البائسني وأبناء السبيل وامل رتبني يف طلب
العلم ،وقد تبارى العثمانيون وأبناء الدول اليت خضعت لسلطة اخلالفة العثمانية يف إنشاء (التكايا) اليت كان هلا دور بارز
يف توافر الطعام لطوائف كثرية من الفقراء واملساكني وابن السبيل وطلبة العلم ،وقد أنشئت التكايا يف خمتلف مدن العامل
اإلسالمي ، ،ا يف ذلك مكة املكرمة واملدينة املنورة ,وكانت التكية تقدم وجبات جمانية مرتني يف اليوم لكل من يقصدها
يف األيام العادية ،يف حني كانت تقدم وجبات خاصة يف أيام اجلمع وسائر الليايل الشريفة وليايل شهر رمضان ،ومل
يقتصر دور التكية ،على تقدمي الطعام والشراب ،بل كانت يف حقيقة األمر مؤسسة إسالمية متعددة األغراض ،إذ
كانت تستخدم أحياناً الستضافة ال رباء واملسافرين ،وتارة إليواء الفقراء واملساكني ،وتارة أخرى إلقامة طلبة العلم ،
واشتهرت اجلامعات اإلسالمية العريقة ،مثل األزهر ،بتوزيع ما عرف باجلراية وهي وجبات طعام يومية على
طالهبا ،حىت يتفرغوا للدراسة ،وكان يتم ويل هذه اجلرايات من عوائد األوقاف املخصصة لإلنفاق على املسجد وعلى
شيوخه ومنتسبيه.
وكانت هناك أوقاف إلمداد األمهات املرضعات باحلليب والسكر ،ويذكر املؤرخون بإعجاب شديد أن من حماسن
صالح الدين األيويب أنه جعل يف أحد أبواب القلعة بدمشق ميزاباً يسيل منه احلليب ،وميزاباً يسيل منه املاء احمللى
بالسكر ،حيث تأيت إليهما األمهات يف كل أسبوع ليأخذن ألطفاهلن ما تاجون إليه من احلليب والسكر(.)104
أسهم الوقف يف التنمية االجتماعية يف احلواضر واملدن اإلسالمية ،فقد است لت أموال األوقاف يف إيواء اليتامى
واللقطاء ورعايتهم ،وكانت هناك أوقاف خمصصة لرعاية املقعدين والعميان والشيوخ ،وأوقاف إلمدادهم ،ن يقودهم
وصدمهم ،وأوقاف لتزويج الشباب والفتيات ممن تضيق أيديهم وأيدي أوليائهم عن نفقاهتم ،وأنشئت يف بعض املدن
دور خاصة حبست على الفقراء إلقامة أعراسهم ،كما أنشئت دور إليواء العجزة املسنني ،والقيام على خدمتهم ،
وإضافة إىل ذلك ،أقيمت املوائل واخلانات لكي ينزل هبا املسافرون يف حلهم وترحاهلم ،ويف تنقلهم من منطقة إىل
أخرى ،وخباصة إذا كانوا من الفقراء أو التجار الذين ال طاقة هلم بدفع إجيار السك ،وامتد نطاق اخلدمات
االجتماعية اليت يشملها نظام الوقف حبيث تضمن بناء مدافن الصدقة اليت يقرب فيها الفقراء الذين ال تلك أسرهم
مدافن خاصة هبم ،وكانت كل هذه األوجه املختلفة من أوجه الرعاية االجتماعية تقدم جماناً ،اعتماداً على ما أوقف من
وقوف على مثل هذه اخلدمات(·)105
كان لنظام الوقف اإلسالمي أار كبري يف دعم خدمات الرعاية الصحية للمواطنني والسكان على اختالف
مذاهبهم و لهم ،وقد خصصت بعض األوقاف لإلنفاق من ريعها على املستشفيات ،على و ما نراه يف وقف السلطان
ويذكر ابن جبري يف رحلته أنه وجد بب داد حياً كامالً من أحيائها ،يشبه املدينة الص رية ،كان يسمى بسوق
املارستان ،يتوسطه قصر فخم مجيل ،وحتيط به احلدائق والرياض واملقاصري والبيوت املتعددة ،وكلها أوقاف أوقفت على
املرضى ،وكان يؤمه األطباء والصيادلة وطلبة الطب ،إذ كانت النفقات جارية عليهم من األموال الوقفية املنتشرة يف
ب داد(.)107
وحتدانا كتب التاريخ عن املستشفيات اليت أنشئت يف مصر بفضل أموال الواقف .ويذكر املؤرخون منها مستشفى
أنشأه الفتح بن خاقان وزير املتوكل على اهلل العباسي ،ومستشفى آخر أسسه أمري مصر أمحد بن طولونًِّ ،ي باًه،
وحبه له من األوقاف ما يلزم لإلنفاق عليه ،وب فيه احلمامات للرجال والنساء( ،)108وقد حتدث املؤرخون والرحالة عن
هذا املستشفى الذي جعله ابن قالوون وقفاً لعالج مرضى املسلمني .وقد قال عنه ابن بطوطة :إنه يعجز الوصف عن
حماسنه ،وقد أعد فيه من األدوية واملرافق اخلدمية ما ال صى.
وقد َّنضت األوقاف بالرعاية الصحية حيث أقيمت على األوقاف مستشفيات كبرية يف أهم املدن ،وحتدث عنها
املؤرخون بإسهاب ،مثل مستشفى سيدي فرج يف فاس ،أسسه السلطان يوسف بن يعقوب املريين ،ووقف عليه عقارات
كثرية برسم النفقة عليه ،والعناية باملرضى(.)109
كان للوقف آاار بارزة يف دفع عجلة التنمية االقتصادية يف خمتلف أ اء العامل اإلسالمي ،فقد أسهم يف حفظ
األصول احملبسة من التالشي ،وأعطى األولية يف الصرف للمحافظة عليها ،وإمنائها قبل الصرف املوقوف عليهم ،كما أنه
أسهم يف توزيع جانب من املال على طبقات اجتماعية معينة ،فأعاَّنم على قضاء حوائجهم ،وأوجد طلباً على السلع
املشبعة لتلك احلاجات ،األمر الذي ساعد على تدوير رأس املال وإنعاش حركة التجارة ،وقد خصصت بعض األوقاف
ملساعدة أصحاب املشروعات الص رية ،وكانت هناك أوقاف لتوفري البذور الزراعية ،ولشق األَّنار ،وحفر اآلبار(.)110
( )106منطقة تقع بني دمشق ومدينة مح ،انظر :د .حممد موفق األرناؤوط ،دور الوقف يف اجملتمعات اإلسالمية.
( )107التذكرة باألخبار يف اتفاقات األسفار ،ابن جبري.
( )108اخلطط املقريزية (املواعظ واالعتبار) ،اجلزء الثاين ،تقي الدين املقريزي.
( )109نفه املرجع السابق.
( )110نظام الوقف اإلسالمي ،د .أمحد أبوزيد.
810
وال صفى أار ذلك على زيادة معدالت اإلنتاج ،وعلى توافر فرص عمل للكثريين ،وقد أسهمت األوقاف الكثرية اليت
كا نت يف فرتة ازدهار احلضارة اإلسالمية يف ختفيف العبء امللقى على كاهل الدولة واملتعلق بتنفيذ املشروعات العامة
كاملدارس واملعاهد واملستشفيات ،وهي مشروعات تستنفذ معظم دخل الدولة يف أنشطة غري منتجة ،وأدى ذلك إىل
عدم ظهور ديوان للتعليم يف الدولة اإلسالمية قدمياً ،يف حني ظهرت دواوين للخدمة والقضاء واحلسبة واملظامل وفضالً عن
ذلك ،فإن األوقاف خففت من معدالت اإلنفاق الرًي العام على الوظائف ،فاملنشآت الوقفية قبل أن ختضع لإلدارة
احلكومية يف العصر احلديث ،كانت تتسم بكفاءة أنظمتها اإلدارية ،ل ياب البريوقراطية منها ،ولعدم حتميلها ،وظفني ال
مهام هلم.
أسهم الوقف يف منو املدن اإلسالمية اليت نشأت يف عصوره الزاهرة ,ومل يقتصر األمر على ذلك بل مشل املدن
املوجودة قبل اإلسالم مثل مدينيت دمشق وحلب حيث سامهت األوقاف يف بنائها وتطورها من خالل توافر اخلدمات
األساسية فيها ،املمثلة يف إنشاء املدارس واملستشفيات واملربات ومرافق املياه وغريها ،كما أسهم يف منو املدن اجلديدة مثل
الصاحلية وكاتشانيك وغريها.
است لت أموال الوقف يف تعبيد الطرق داخل املدن وتنظيفها ،واستثمرت أموال األوقاف يف توافر الرعاية الصحية
للحيوانات والطيور املريضة، ،ا يف ذلك الطيور الربية ،وهي ظاهرة مل يعرفها تاريخ العامل إال يف بالد املسلمني(.)111
وهكذا أسهم نظام الوقف اإلسالمي يف بناء احلضارة اإلسالمية ،وحتقيق التنمية املستدامة واحملافظة على البيئة
وإحيائها ،األمر الذي ميكن اعتباره حبق مفخرة من مفاخر حضارتنا اإلسالمية.
إن تداخل اجلوانب املختلفة للتنمية جيعل من الصعوبة تقسيمها أو فصلها عن بعضها ،فكل جانب منها له تأاري
مباشر على اجلوانب األخرى .فمثال للتنمية االقتصادية أاار تنموية يف النواحي االجتماعية وغريها؛ وكذلك التنمية
االجتماعية قد تؤدي إىل إحداث تنمية اقتصادية وإىل إحداث آاار تنموية يف جماالت أخرى .ويف مبحث سابق تبني أن
أهم اجملاالت اليت تدور حوهلا التنمية املستدامة ،هي االاة :التنمية االقتصادية ،واالجتماعية ،والبيئية.
فمفهوم التنمية االقتصادية يركز على املت ريات االقتصادية كالنمو االقتصادي وتوزيع الدخل واالستثمار واملنفعة
الكلية واألرباح واالدخار وغريها ،أما مفهوم التنمية االجتماعية فريكز على نتائج التنمية على حياة األفراد واجلماعات
إن عالقة الوقف باالدخار واضحة من جهة إطالقه على مع احلبه ومنع العني املوقوفة عن أنشطة التبادل يف
السوق .ويف هذا السياق يقصد باالدخار حفظ األموال املوقوفة وختزينها وحجزها عن عمليات التداول.
•توزيع ال لة:
يعمل الوقف على إعادة توزيع الدخل بني الطبقات مما يؤدي إىل عدم حبسها بأيد حمدودة ،فعندما يوصي الواقف
بتوزيع غلة موقوفاته على جهة من اجلهات فإن هذا يكون ،ثابة عملية إلعادة توزيع املال على اجلهات املستفيدة وعدم
استئثار املالك به.
يساعد الوقف يف حتسني البنية التحتية لالقتصاد مثل إنشاء الطرق وبناء اجلسور وحفر اآلبار إن حتسني مثل
هذه البنية التحتية وتطويرها يساعد على هتيئة الظروف املناسبة لزيادة حجم االستثمار احمللي واخلارجي .فاالستثمار
يؤدي لزيادة اإلنتاج وبالتايل زيادة الصادرات مما قد يعمل على حتسني امليزان التجاري للدولة .كما أن تدفق أموال أجنبية
هبدف االستثمار يسهم يف حتسني ميزان املدفوعات.
قد يساهم الوقف بتوفري القروض للزراعة والتمويل باملضاربة لبعض النشاطات التجارية والزراعية ،مما يساهم يف
توسيع قاعدة النشاط االقتصادي وتشجيع القطاعات االقتصادية املختلفة .إن هذا بدوره يدفع عجلة النمو االقتصادي
لألمام ويعمل على استحداث فرص عمل جديدة مما يقلل من معدالت البطالة.
إن ويل املدارس والكليات ومراكز العلم من أموال الوقف يعترب ،ثابة استثمار يف رأس املال البشري ال تقل أمهيته
عن االستثمار يف رأس املال املادي.
815
•التأمني:
يعمل الوقف على تأمني جزء من رأس املال اإلنتاجي ،فوقف املدارس ودور العلم هو شكل من أشكال رأس املال
املادي الالزم إلنتاج خمرجات العملية التعليمية.
تعمل املشاركة بالوقف من قبل أارياء األمة على تقليل األعباء امللقاة على عاتق احلكومات ،وجيعل األفراد أكثر
استعدادا للمشاركة الفعالة يف تبين مهوم اجملتمع والتخفيف من االتكالية الشائعة لدى الناس باالعتماد على جهود
احلكومة فقط .كل ذلك يؤدي إىل ختفيف العبء امللقى على عاتق احلكومات ،وبالتايل إىل التخفيف من العجز يف
املوازنة العامة والتقليل من املديونية الداخلية واخلارجية لتلك الدول.
يعمل الوقف على إجياد مصادر دخل للفقراء واملساكني والعاجزين عن العمل واألرامل واأليتام وغريهم مما ي طي
حاجاهتم األساسية .وهذا يؤدي إىل حتسني مستوى املعيشة هلذه الفئات من اجملتمع ،مما قد يزيد من إنتاجيتهم
االقتصادية.
•تقدمي اإلعانات:
تعد كثري من أعمال اخلري اليت تؤدي إىل تقدمي إعانات مباشرة أو غري مباشرة للفقراء كالزكاة والصدقات مثال ،ثابة
عملية إلعادة توزيع الدخل أو عملية إلعادة توزيع الثروة بني فئات اجملتمع .وهذا بدوره يعمل على ختفيف الفجوة بني
الطبقات ،وحتويل جزء من األموال من الفئات األكثر ادخارا إىل الفئات األكثر استهالكا ،وهذا حبد ذاته يدعم النمو
االقتصادي من خالل مضاعفة االستهالك.
يسهم الوقف يف حتويل جزء من الدخل من الفئات القادرة إىل الفئات احملتاجة ،وألن امليل احلدي لالستهالك لدى
الشرائح الفقرية مرتفع نسبيا مقارنة معه لدى الفئات امليسورة ،فان ذلك يؤدي إىل زيادة حجم الطلب الكلي على خمتلف
أنواع السلع واخلدمات يف االقتصاد ،وهذا بدوره يساعد يف زيادة حجم الناتج احمللي اإلمجايل للدولة كون االستهالك
ميّثل مكونا من املكونات الرئيسية للدخل القومي.
813
جيعل النظام اإلسالمي من الوقف إخراجا جلزء من الثروة اإلنتاجية يف اجملتمع من دائرة املنفعة الشخصية ومن دائرة
القرار احلكومي معا ،وختصي ذلك اجلزء ألنشطة اخلدمة االجتماعية العامة ،براً باألمة ،وإحسانا ألجياهلا القادمة.
وبذلك يسهم الوقف يف إعادة ترتيب عالقات اجملتمع ويظهر تأاري الوقف يف التنمية االجتماعية من خالل اآليت:
الوقف يظهر احله الرتامحي الذي ميلكه املسلم ويرتمجه بشكل عملي يف تفاعله مع مهوم جمتمعه الكبري ؛ مما يعمل
على تعزيز روح االنتماء اجملتمعي بني أفراد اجملتمع.
•اتساع منافعه:
وقد اتسعت منافع الوقف يف اإلسالم حىت مشلت غري املسلمني من أهل الذمة ،فيجوز أن يقف املسلم على غري أهل
اإلسالم طلباً هلدايتهم ودخوهلم اإلسالم.
•الرعاية االجتماعية:
يتمثل دور الوقف يف جمال الرعاية االجتماعية مثل توفري املدارس واحملاضن اخلاصة باأليتام ،وكذلك توفري املأكل
واألدوات املدرسية هلم.
توفري مياه الشرب للمسافرين وعابري السبيل ومجوع الناس سواء داخل املدن أو خارجها.
يساعد نظام الوقف على احلراك االجتماعي الرأسي عن طريق انتقال األفراد من طبقة اجتماعية لطبقة اجتماعية
أعلى ،فمثال تعليم الفقراء يساعد على رفع مستوى حياهتم االقتصادية.
مثل إنشاء بيوت للطالب امل رتبني جبانب مدارسهم مما يشجع انتقال الطلبة بني املدن والقرى املختلفة أو بني
األقطار اإلسالمية ،وهذا يتضمن أيضا توفري امللحقات هلذه البيوت من محامات ومطاعم وأماكن عبادة وغريها.
مثل توفري الطعام هلم وحتمل تكاليف دفنهم بعد وفاهتم ،ووفاء دين املدينني ،وفكاك املسجونني املعسرين ،وفك
أسرى املسلمني العاجزين ،ومداواة املرضى غري املقتدرين ،واإلنفاق على أسر السجناء وأوالدهم.
814
واإلسالم يدعو إىل إيالء ظاهرة الفقر اهتماما كبريا ألن الفقر مولد الثورات واجلرمية ،حيث تشري الدراسات إىل أن
أغلب الفئات املرتكبة للجرمية تنحدر من أسر فقرية.
•االستقرار االجتماعي:
يساعد الوقف يف حتقيق االستقرار االجتماعي وعدم شيوع روح التذمر يف اجملتمع مما يعمل على حتقيق مبدأ
التضامن االجتماعي وتسود روح الرتاحم والتواد بني أفراد اجملتمع ومحايته من األمراض االجتماعية اليت تنشأ عادة يف
اجملتمعات اليت تسود فيها روح األنانية املادية وينتج عنها الصراعات الطبقية بني املستويات االجتماعية املختلفة ،مما يعزز
روح االنتماء بني أفراد اجملتمع وشعورهم بأَّنم جزء من جسد واحد حتقيقا حلديث الرسول صلى اهلل عليه وسلم " :ترى
املؤمنني يف ترامحهم وتوادهم وتعاطفهم كمثل اجلسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر اجلسد بالسهر واحلمى
"(.)112
إن حتقيق االستقرار االجتماعي يساهم يف ختفيض معدالت اجلرمية ،وبالتايل يستطيع كل من ال ين والفقري العيش
بأمن وسالم واستقرار ،وكل ذلك يؤدي إىل االحرتام الراسخ لسيادة القانون.
يساعد نظام الوقف يف تعزيز اجلانب األخالقي والسلوكي يف اجملتمع من خالل التضييق على منابع اال راف ،فوجود
األوقاف لرعاية النساء األرامل واملطلقات يعترب صيانة هلن وللمجتمع من سلوك دروب اال راف بسبب احلاجة.
إن الوقف وبشكل خاص الوقف األهلي أو الذري يعد نوعا من االدخار الذي يراد به حفظ األموال املوقوفة
وختزينها وحجزها عن عمليات التداول .إن هذا يبني مدى اهتمام اجليل احلاضر ،صلحة بأوالدهم وذريتهم ،ويعرب عن
اإليثار.
•تثقيف اجملتمع:
يسهم الوقف يف تثقيف أفراد اجملتمع نتيجة دعم الطلبة ومراكز العلم ،وبذلك يرفع من درجة التحضر يف اجملتمع ،مما
يؤدي إىل الزيادة من درجة سيادة واحرتام القانون ويقلل من العصبية والقبلية.
يسهم الوقف يف وفاء دين املدينني املعسرين ويف فكاك املسجونني منهم.
يسهم الوقف يف دعم اخلدمات الصحية يف اجملتمع مما يقلل من انتشار األمراض ،وبذلك يسهم يف توفري بيئة صحية
ألفراد اجملتمع.
مل يقتصر أار الوقف على تقدمي العون واملساعدة لكل حمتاج من أفراد اجملتمع املسلم ؛ بل تعداه إىل اإلحسان إىل
احليوانات والطيور؛ فقد أوقفت بعض الدور حلماية الطيور يف فصل الشتاء من اهلالك.
بالرغم ممن تعقيدات وتشابك مفهوم التنمية املستدامة ،إال أن هناك إمجاعاً على أَّنا ثل العناية املرغوب فيها
واملأمول حتقيقها ،ا صدم البشرية حاضرا ومستقبال ،وقد مست االاة أبعاد رئيسة ،وهي أبعاد قد أسهم الوقف يف التنمية
املستدامة من خالهلا عرب التاريخ ،وهي:
حيث يسهم الوقف يف تنمية البعد االقتصادي من خالل مخسة عناصر رئيسة ،هي:
* ت يري اهليكل والبنيان االقتصادي ،كما سبق بيان ذلك يف املبحث السابق.
* إعادة توزيع الدخل لصاحل الطبقة الفقرية ،وقد ذكرت األمثلة على ذلك يف املباحث السابقة.
* إشباع احلاجات األساسية عن طريق زيادة اإلنتاج وحتسني مستواه من أجل مواجهة احلاجات األساسية.
* تصحيح االختالل يف هيكل توزيع الدخول ،ا يضمن إزالة الفوارق بني طبقات اجملتمع.
816
وكل نظام من األنظمة االقتصادية املوجودة له وسائله املختلفة يف حتقيق هذين اهلدفني.
وملا كان أفراد اجملتمع متفاوتون من حيث مستواهم املعيشي؛ بني أغنياء ،وفقراء حمتاجني ،وأصحاب دخول متوسطة
,وهلذا جند أن اإلسالم سعى بنظام الوقف إىل التقريب بني هذه الفئات ،وتقليل الفوارق االجتماعية بينها ،فعمل
كنظام اقتصادي على حتقيق التكافل االجتماعي بني فئاته املتنوعة من خالل رعاية الفقراء وذوي احلاجة والضعف حبيث
يتحقق هلم مستوى الئق للمعيشة(.)113
حيث يساعد الوقف على زيادة قدرة األفراد على است الل الطاقة املتاحة إىل أقصى حد ممكن لتحقيق احلرية
والرفاهية ،ويعترب البعد االجتماعي ،ثابة البعد الذي يتميز الوقف خبدمته للتنمية املستدامة ،ألنه البعد الذي ميثل البعد
اإلنساين باملع الضيق والذي جيعل من النمو وسيلة لاللتحام االجتماعي.
وقد ذكرت األمثلة بإسهاب يف املباحث السابقة على خدمة الوقف هلذا البعد ،ونشاهد يف واقعنا املعاصر ما يساهم
به الوقف يف هذا اجملال من حد مستوى الفقر ،ورفع مستوى املعيشة ،ودعم املشاريع االجتماعية كالتزويج ،واإلسكان،
وحفظ حقوق األجيال املستقبلية ،وتأمني وسائل الراحة حملتاجيها ،وغري ذلك.
وال شك أن كل ذلك قق تكافالً اجتماعياً فريداً من نوعه ؛ ألن أصحاب رؤوس األموال سخروا هذه األموال
اليت أوقفوها يف سد حاجات املعوزين من أفراد اجملتمع ،فكفلوا هلم بذلك حياة كرمية ،وحفظوا عليهم إنسانيتهم
وعزهتم من غري إراقة ماء وجوههم يف سؤال الناس .وبذلك يكون اإلسالم قد أوجد وسيلة لعالج مشكلة من املشاكل
االقتصادية اليت تواجه العامل وهي مشكلة الفقر والبطالة .فشكل الوقف بذلك حلقة من حلقات التكافل والتضامن ،ال
سيما وأنه يتميز بدوره املستمر يف العطاء واإلنفاق ،حيث إن عينه ال تستهلك ،وهذا بدوره يضمن لنا ضمن الظروف
الطبيعية دواماً يف إمكانية سد احلاجات امللحة للمجتمع .
يقول الدهلوي ( :إن الرسول صلى اهلل عليه وسلم استنبط الوقف ملصاحل ال توجد يف سائر الصدقات ؛ فإن
اإلنسان ر،ا يصرف يف سبيل اهلل ماالً كثرياً مث يف ،فيحتاج أولئك الفقراء تارة أخرى ،وجتيء أقوام آخرون من الفقراء
فيبقون حمرومني ،فال أحسن وال أنفع للعامة من أن يكون شيء حبساً للفقراء وابن السبيل يصرف عليهم منافعه ويبقى
أصله) (. )114
ويساعد الوقف يف حتيق هذا البعد ،واملسامهة يف حفظ التزاوج بني البيئة والتنمية ،ويكفي أن الوقف أسهم يف محاية
البيئة إسهاماً مل يسمع به ف كما ذكر يف امل باحث السابقة ف من تعبيد الطرق وتنظيف املدن ،ووضع دور للحيوانات ،وغري
ذلك من اإلسهامات على مر التاريخ.
ولعل سعة ساحة الوقف واستيعاهبا هلذه األبعاد ،وفاعليتها يف حتقيقها يعود إىل املبادئ األساسية اليت قام عليها،
احلصني شفاه اهلل وعافاه " :لقد ساعد على فاعلية نظام الوقف يف حياة ّ ويف ذلك يقول الشيخ صاحل بن عبدالرمحن
املسلمني ،املبادئ اليت قام عليها وأمهها:
.1امتناع التصرف يف أصل الوقف ،وقد حتقق هبذا املبدأ محاية الوقف وعدم تعريضه لطيش املتولني عليه
أو سوء نيتهم.
.2ما استقر لدى الفقهاء من أن "شرط الواقف الصحيح مثل حكم الشارع" فتحققت بذلك محاية
الوقف واطمئنان الواقف إىل استمرار صرف وقفه يف األغراض اليت تفه ّمه ويع هبا.
.3والية القضاء على األوقاف ،فتحققت بذلك محاية الوقف من تدخل السلطات اإلدارية احلكومية.
وقد أابت التاريخ أن أي اخالل ،بدأ من هذه املبادئ فإمنا هو ،ثابة مسمار يدق يف نعش الوقف."115
الخاتمة
وبعد هذا االستعراض السريع للوقف والتنمية املستدامة والعالقة بينهما نأيت لذكر أهم نتائج هذا البحث وتوصياته ,
وتتلخ فيما يأيت :
أوال :النتائج:
.1التأكيد على فاعلية نظام األوقاف يف دفع عجلة التنمية املستدامة يف العصر احلاضر.
.2ضرورة العمل على نشر اقافة الوقف يف اجملتمع ،وارتباطها الدائم بالتنمية املستدامة.
.3التأكيد على ضرورة دراسة القيم احلديثة ف ومن أمهها :التنمية املستدامة ف من منظور إسالمي.
.4االهتمام برتمجة األحباث املهتمة باجلمع بني التشريع اإلسالمي والقيم احلديثة.
.5ضرورة التعاون املشرتك بني الباحثني الشرعيني ،واملهتمني بالتنمية ،ملعاجلة معوقات التنمية املستدامة ،يف ظل
التشريع اإلسالمي.
500
.51األوقاف السياسية يف مصر ،د .إبراهيم البيومي غامن.
.52نظام الوقف اإلسالمي ،د .أمحد أبوزيد.
.53الوقف ودوره يف التنمية االقتصادية ،د .أمين حممد العمر.
.54حجة اهلل البال ة ,لشاه ويل اهلل الدهلوي.
.55مقال :تطبيقات الوقف بني األمه واليوم ،للشيخ :صاحل احلصني.
508