Professional Documents
Culture Documents
6hours PDF
6hours PDF
ﺳﺎﻋﺎت
ٍ ﺳﺖ
حممد َّ
القواص
ﱡ
ﺳﺎﻋﺎت
ٍ ﺳﺖ
رواية
()1
وأشياء أخرى ،فأ ُّمه ٍ ربام تكمن إشكالية عبد الكريم يف ِ
اسمه
وحدها التي تعرتف هبذا االسم وتناديه به ،وكذلك الوثائق اجلامدة،
بينام يظل العامل كله يتعاطى معه كونه كريم .كي يؤسسوا لوجوده
التدليل الوحيدة التي ُمورست نحو ما يريده ،أو التجاوز ِ جدلي َة
حلقائقه حني يريد بثها للعامل املرتبك .لذا فهو ِ الذي مل حيدث من ِ
قبل
كريم رغم عشقه اجلارف ألمه ،ورغم أنف احلكومة ومجود الوثائق.
سيارة قذفته للساحة ٍ هبط كريم من عمل طالت قليالًَ ، بعد رحلة ٍ
فوجد أن لساعة ِ
هاتفه، ِ نظر وبيده حقيب ُة ٍالفسيحةِ ،
َ سفر صغريةَ ،
يذهب للبيت؛ كي ال ُحيدث قل ًقا َ كثريا ،فلم ْ
يشأ أن تأخر ً
الوقت قد َ َ
رس الغياب، عن ِ
الكثرية ها محه من أسئلتِ
َ تر لن ِ
العادة ألمه ،فبحك ِم
ِّ
طقوس وظيفتِه.
ِ رغم يقينها أن السفر من
مساحة من ٍ جلس لكريس من الرخا ِم يتوسط الساحة ،ويف َ
سنوات دراستِه،ِ تذكر
َ الصمت راح جيرت الكثري من الذكريات، ِ
بطريقة مل يكن يفهم ٍ ِ
احلياة اكتشف أنه يركض يف َ ِ
الثالثة ِ
السنة ففي
5
املوت هياب ِ
َ دواف َعها ،يكره النو َم والراحة ،يتحرك كالفراشات ،وال ُ
َ
أدرك أن تقديرا َته مرتفعة ،وحلم أن ِ
حضور الضوء .يف هذه السنة يف
يكون أستا ًذا
َ يصري مهندس حاسوب لن يرضيه ،بل جيب عليه أن َ
يف اهلندسة.
ٍ
توازن ِ
حتقيق حلم األستاذية ،عاش حال َة انعدا ِم حني َ
فشل يف
ِ
األصدقاء القليلني الذين كانوا ِ
جمالسة شاملة؛ انرصف عن
ِ
تفاصيله. ِ
الكآبة التي مألت كل إخراجه من يستطيعون
َ
سائرا حتى يظل ِ
هدوء املوتىُّ ، بالتعب وينرصف يف ِ يتعلل
ً
كلية اهلندسة ،هذا املبنى كان يستحق أن يعمره بآمالِه ،أروقته
سور ِِ
وقاعاته ،أساتذته ،كل التفاصيل حتى الصغري منها ،شعر أنه
السياج احلديد ،وحيلم من الوض ِع
ِ يفتقدها بعنف ،ينظر من بني
واق ًفا ،وكأنه يدير حلق َة للدرس ،يمنح الطلب َة الكثري من ِ
عشقه هلذا َ
كل يشء ،ولوال أنه ليجد دمو َعه ا ُملحبطة قد بللت َّ
َ العلم ،ويفيق
لص ينتظر الفرص َة ينظر ٍ
لدار للعلم ،لظن من يراه يف هذا الليل أنه ٌ
يذهب للنو ِم فال ينام ،فاليو ُم خيمة السريك،
ُ أي يشء، ألن يرسق َّ
كل اجتاهيتأرجح من أعىل إىل أسفل ،ويف ِّ
ُ وهو العب (ال ُعقلة) الذي
يتحكم يف سقوطِه.
َ دون أن
إخراجه من هذه احلالة ،استثمرت ِ كان أل ِّمه الدور األكرب يف
بأس به من الفرص ،فأحل َقه ِ رج ً
كام ال َ ال من معارف أبيه ،يمتلك ً
6
ِ
لظروف تعويضه عن احلل ِم الذي ضاع
َ ٍ
بوظيفة متميزة قد تستطيع
جمتم ٍع مل يكن عادالً بالكلية.
ذهب ملطع ٍم يف اجلوار ،وعا َد ببعض اجلوعَ ، ِ فشعر
َ التفكري،
ُ أره َقه
برودة الطقس ،كان يلقي ِ جديد رغم كل ما تبدى من ٍ ليجلس منَ
ِ
بمالبسه ،وعليها ُ
تتشبث بعض الطعا ِم عىل األرض فقد اكتشف قط ًة َ
بعض قط ِع البطاطا أثر اإلعياء ،وجائع ٌة حد السقوط .منحها َ يتجىل ُ
يكون مناس ًبا لرقتِها .وملا َ طعامه عىل صورتِه لن ِ وهو يضحك ،كون
أشد مما توقع ،حترك حيمل حقيب َته بيد ،واألخرى حتمل كان جو ُعها ُّ
احلليب وبعض املورتاديال ،ظل يراقبها ِ القط َة املتعبة .ابتاع قنين ًة من
جهز عىل باقي الطعام. جلوار باب حمل ُمغلق ل ُت َ ِ ومن ثم تركها
هائام بالطريق ،وطف ً
ال انً جمنو وجد
َ الساحة ِ
ملنتصف ِ
العودة يف ِ
طريق
ً
تعبث بنفايات الشارع، ُ ِ
القطط يفرتش رصي ًفا ،وجمموع ًة أخرى من
لروحه ويكاد يقتله ِ شعورا حمب ًطا وحوهلا دولة كاملة من الكالب .كان
ً
هيتم هبكذا تفاصيل؟ من األمل .أين العامل الذي من املفرتض أن َّ
لص حمرتف، ِ عند الفجر ،أدار كريم املفتاح يف ِ
باب البيت هبدوء ٍّ
منتصف الصالة؛ كي تراها أ ُّمه فتعرف ِ ٍ
طاولة تأيت يف ترك حقيب َته عىلَ
فرط التعب بمالبسه. بخفة ،ونام من ِ ٍ دخل لغرفتِه أنه قد عادَ ،
منتصف اليوم أدركت أ ُّمه أنه قد جاء ،ألقت عليه نظرة ،ومل ِ يف
ترد أن توقظه كي تسأله نفس األسئلة القديمة املعتادة.
7
مل يكن لكريم أزمة واضحة ،فليس له أرسة مرتامية الوجع ،فلقد
ِ
للدرجة التي إن ُدعي لتذكره ،فلن يستطيع ،صارت أ ُّمه مات أبوه
ٍ
رجل آخر يساعدها عىل ِ
الستكامل حياهتا مع أرمل ٌة دون أن تسعى
تربيته .وهنا تنكشف أوىل أزماته.
كبريا كوهنا قد عاشت له ،وعليه أنكانت كمن أسدت له معرو ًفا ً
شكل حياته واختياراتِه أحيا ًنا،
ترسم ََ ِ
ألفكارها حني تريد أن َ
يمتثل
ِ
الضفة ليديرها هو كام حيلو له .وعىل ٍ
للحظة أن ترتكَه تسع
َ ومل َ
فأشار هلا النصيحة، – النضج ِ
سنوات يدخر كريم -يف األخرى مل
َ ْ
خيرج من وصايتها ،ألنه بالفعل كان يريدها أن تتزوج لكي َ َ مرارا أن
ً
حياة يف ظالل هذا الطقس املمتد من الرتمل، تستدرك ما فقدته من ٍ َ
وخاص ًة أهنا سيدة مجيلة.
عشاء مجعه بأمه، ٍ عمل معتادة ،ويف ٍ يف هذه العودة من رحلة
ِ
ألبعد من كوهنا جمهدة ،هي عاد ًة الحظ ما يشري لإلعياء ،مل يذهب
ِ
بعضلة ٍ
ضعف مؤخرا من ال تراعي تقدمها يف العمر ،وما اكتشفه
ً
القلب.
جدا خمتلفة .تدعوه للزواج؛ كي تقركانت لغ ُتها يف هذه العودة ً
ِ
برؤية ولده يلعب أمام عينيها .وكالعادة ظل كريم يناور أنه عينيها
ِ
صعوده الوظيفي املتميز. ال يفكر يف األمر ،وعليه فقط أن َّ
يظل يف
كان يف الرس يشفق عليها ،يشعر وكأهنا خارج الزمن ،ال ترى
ٍ
صعوبات تكتنف فكر َة االختيار َ
شكل احلياة وما تنطوي عليه من
8
بطرق تقليدية ال تتناسب مع ِ
زمن ابنها. ٍ نفسها ،ربام كانت تفكر
أو مازالت تعيش احليا َة برشوطِها التي محلتها من بيت أبيها الذي
جاءت منه.
ِ
اغتيال كل األفكار بينام تظل احلياة يف ِ
كنف هذا الزمن قادرة عىل
ٍ
قسوة بارعة. الربيئة واملثالية بام متلكه من
***
9
()2
مساء ِ
أول يوم من أيام العطلة ،عا َد للدنيا التي تركها يف اخللف ُ
ٍ
ككائن رحلة عمل ناجحة .ففي هذه العطالت يعود كريم حلياتِهٍ بعد
ِ
ساعات الليل يف متأمل ،قارئ ومثقف وصعلوك أحيانا؛ يستهلك
ِ
أماكن التسلية بكل يشء. ِ
الكثري من
ٍ
جتميل تعمل يف مركزُ كانت ”سوزانا“ الفتاة البولندية التي
ِ
وبدوره كان ال يف ِ
حياهتا، شهري بوسط املدينة ،حتبه وتراه ركنًا أصي ً
أفكاره العداء ،كانت مجيل ًة، يناصب ٍ
ع واق من ٍ
هروبية ٍ
كحالة حيبها
َ
ِ
التواصل معها؛ ومقتنع ًة به ،ومل يكن يمتلك أية مرجعية متنعه من
ِ
بمنزلة عامرة خلف السفارة اليونانية ،كانت منه ٍ تسكن غرف ًة يف
لتصنع ما
َ زوجة ،وإن ظل مؤمنًا أهنا لو كانت زوج ُته فعالً ،ما كانت
ليل لعوب ال ٍ
حانية ُحمبة ،وىف الفراش فتا َة ٍ كانت تصنعه ،كانت كأ ٍّم
فورة العمر يشكل هلا ِ شاب يف ِ
مقومات ٍ بارى ،وهو بام يمتلكه من ُت َ
حلظات املتعة الوحيدة يف حياهتا. ِ
10
ِ
املعصية املطاف لنزواته ،فظلت هي وصوفيا و إيميليانا رشكاء ِ
والضياع .
خالل ما كانت تعامله به ،أمجل من ِ ظلت ”سوزانا“ من
ِ
بكيمياء ٍ
متعمد أبدى جه َله ٍ
بشكل صادفه َّن .وأخلصه َّن له .لكنه
دائام. أسباب امللل التي جتعله هروب ًيا ًِ بارع يف اخرتا ِع
احلب .هو فقط ٌ
هجرة معظم أقارهبا ،ومستعد ًة ِ كانت سوزانا مستعد ًة للبقاء رغم
يصدق َ حمتاجا ألن
ً لتقدي ِم الكثري من التنازالت ،يف حني كان كريم
أفكار ال يسبح ضد ٍ أن قدميه مازالتا عىل األرض ،وأنه بام يملكه من
ِ
اجلاذبية األرضية.
يصاب هبسرتيا من ُ أمر زواجه حني يفكر يف تعاطي أمه مع ِ
ٍ
النتكاسة إذا ما ٍ
أرسة قد تتعرض االمتعاض ،فلم يعد يفكر يف ِ
إنتاج
طقس مهيأ إلنتاج كارثة ،ففي هذا اجلزء من العامل ال يمكن ٍ مات يف
أن ينا َم املر ُء مل َء جفونِه.
نفسها جتربة ثقيلة .ال يدري بامذا شعر أبوه واملوت ِ
احلياة جترب ُة
َ
وحيدا ينتظر من أ ِّمه أن توق َظه لكي يراه .فلم يستجب ً وهو جيلس
ِ
صبيحة اليوم التايل أدركت السـر ِ
رشك النوم .لكنها يف لكون ابنه يف
تشعر
َ إحلاح أبيه أن يراه .ألن الصباح قد وضع النهاية ،دون أن ِ يف
إليقاظ أبيه ،فوجدته قد َ
فارق الدنيا .كريم لن ِ هبا أ ُّمه التي ذهبت
جذور واضحة تتشبث هبذه ٍ يعيش ابنه هذه التجربة .فال يطيق أن َ َ
ِ
ألبنائها. ِ
الطرد اهلائلة األرض ،التي متلك طاق ًة من
11
ِ
بمشاعره املرهفة ِ
برفضه وال َ
حتتفل حد خربتِه لن
الناس عىل ِّ
ُ
عاطفة حب حقيقية ،تؤسس يفِ ِ
البحث عن حني يفكر جد ًيا يف
خياله ذلك الوطن اجلميل الذي مل يعد له وجو ٌد عىل األرض.
نفسه لـ سوزانا التي حتبه بإخالص؟
ملاذا ال يرتك َ
ِ
بخيبة لشعر إثر ِ
أهلها الذين سبقوها للرحيل ربام لو رحلت يف ِ
َ
أمل عظيمة .أو سيسعى يف هذه اللحظة أن يلتحق هبا باخلارج
نفسه مغب َة األسئلة اللزجة عن ذاك الزواج ليتزوجها؛ كي يعفي َ
َ
الذي رضب بكل املذاهب عرض احلائط.
بنفس الطريقة ،هي أكثر سالسة ،ال تريد منه سوىِ إهنا ال تفكر
بنفس اإلخالص .كان يظن أهنا تبحث فيه عن وطن ،لكنه ِ أن حيبها
جدا حاسم عن إنسانيتِه ٍ
كبديل ً مشتت ،يتعامل مع نجاحاتِه العملية
ٍ
أناس ٍ
أرض غريبة ،يعيش مع غريب فوق
ٌ التي ال يشعر بجدواها.
يمثلون الشيزوفرينيا عىل أروع ما تكون الشواهد.
ففي مقاهي املثقفني ال يسمع سوى الضجيج املنزوع املعنى،
جمانية من حوله ،وهناك من يتحدث ٍ ٍ
حروب والناس يموتون يف
باب سفارة منعن األحالم والطموحات ،التي تنتهي غال ًبا عند ِ
السفارات قد متنحه رشف اهلجرة ألبعد من هذا اإلحباط الذي
ِ
برشوط يتنفسه اجلميع .حتى زياد صديقه الوحيد اتسق مع احلياة
يتاجر ،فيسحقه املستغلون أن يريد اخلاصة، ه احلياة وليس برشوطِ
َ
يامرس املهنة التي حيبها ،فيجد الناس قد انرصفت
َ الكبار ،يريد أن
12
ٍ
لقاص بارع ،لكن األحزاب مهام أص ً
ال عن القراءة .لقد كان مرشو ًعا ً
ال واس ًعا ِّ
بكل من الثقافية التي حتارص املواهب احلقيقية متارس تنكي ً
هم عىل شاكلتِه.
حياة كريم حني يوفد من ِ
قبل الرشكة كانت اللحظات السعيدة يف ِ
وضوحا مما يالقيه يف الداخل. يف ٍ
بلد أوريب ،فهناك تبدو احليا ُة أكثر
ً
ذواهتم ،ال جمال ألن تكذب ،أو تنتحل لغ ًة والناس أكثر اتسا ًقا مع ِ
ِ
مكنونات نفسك .فهذا أريده ،وذاك ال أريده .ملاذا ال تعرب يقينًا عن
ِ
بقدر انتامئها لعوامل ٍ
أمور غريبة ال تنتمي هلم يتورط الناس هنا يف
ٍ
ملسـرح أخرى ،ويرصون يف نفاق مفضوح أن حيولوا احليا َة البسيطة
هدف املؤلف،
َ أدوارا ساقطة ،ال حتققً عبثي ،يمثلون فوق خشبتِه
وال احلكم َة من ِ
وراء النص الغارق يقينًا يف االبتذال.
كل غياب يعود ِ
الراحة متثل لكريم أية غواية ،فبعد ِّ تعد أيا ُم
مل ْ
تدري أن دون يتزوج، أن امللحة أمه ِ
ولرغبات ِ
الروتني اململ. ِ
لنفس
َ
ِ
العرض ِ
الفكرة ذاهتا .هنالك فكر يف أنه يواجه أزم َة اتساق أكرب من
ِ
للحصول عىل يذهب إىل أملانيا
َ مديره يف العمل أن الذي عرضه
ُ
ٍ
دورة تدريبية طويلة األجل.
هاجسا مرع ًبا،
ً التفكري يف توحد أمه مع ظروفِها الصحية يمثل
ُ كان
موت أبيه ظلوا بعيدين ،وهي عىل األرجح ليست فكل األقرباء بعد ِ
ِ
أرسهتا .انزوت عىل نفسها ،وكأهنا تريد ِ
بمتابعة ما تبقى من مهموم ًة
13
ٍ
متابعة خجولة معاقب َة هؤالء الذين مل يفكروا يف ِ
أمرها للحظة ،أو
ِ
لطفلها اليتيم.
صارح كريم أ َّمه هبذه خال من الغموض، حديث مبارش ٍٍ بعد
َ
ِ
هلدنة تعد ترضيه ،ربام حيتاج ِ
بصورهتا مل ْ الرغبة ،وتعلل بأن احلياة
بلد آخر ،وأناس ال ينتمون ملركبات احلرية.حمارب يف ٍ
14
()3
15
ٍ
بواحد من ِ
اإلقامة وصل كريم فرانكفورت ،ومل يكن ُب ٌّد من
الفنادق كي يصل يف الصباح لـ“كولون“.
ٍ
بحالة من اجلو ِع الرهيب ،ومل تكن حقيب ُته ممتلئ ًة سوى شعر
أكثر خفة ،معه حفن ٌة ال بأس هبا من ِ
بالقليل من املالبس ليكون َ
بعض دخل ألحد البارات ،رشب البرية ،وتناول َ َ اليوروات،
َ
حيال املخبوزات ،كانت مشكل ُته الرئيسية تكمن يف ِ
زهد األملان
ٍ
بشاب احلظ حليفه عندما التقىُّ التعاطى مع ٍ
لغة غري لغتهم ،كان
ِ
بصدد طلب اعتقد أنه
َ عمله وجلس معه، ِ
انتهاء ِ عريب اصطحبه بعد
العرب خلقت لدهيمُ مساعدة أو ما شابه .كم املآيس التي عاشها
ِ
للعرب يف أملانيا كبريا من التوجس .تكلم معه عن الوض ِع العام كام ً
اًّ
والعديد من األمور ،حتى جاءت الساع ُة التاسعة ،فأحلت عليه ِ
العودة للفندق كي يبيت ليلته.
وكتب ظل يقرأ فيها كيٍ ٍ
أوراق فأخرج جمموع َة ، ٍ
بسهولة ينم
َ مل ْ
ٍ
معلومات نفسه فيام ورد فيهام منيتعثر يف النوم املستحيل ،امتحن َ
ِ
عصبية األملان، وخصوصا أن عنده فكر ٌة جاهزة عن متخصصة،
ً
وعد ِم ثقتهم ىف اآلخر ،والسيام األمور التقنية.
دي معهم ،بل عىل ٍ
متأكدا أن أي حديث سيقوله لن ُجي َ ً كان
ِ
بالرجل ذهب إىل هناك ،والتقى َ األرجح سيكون هناك اختبار،
كريام معه ،فلم تباغته إنجليزي ُته ،تكلم
املسئول عن الدورة ،كان ً
16
وحصل عليها قبل أن َ
يصل َ الدراسة وخرباتِه التي سبق
ِ معه عن
معظم خرباتِه عملي ًة أكثر من
َ حيا معه ،وأخربه أن
ألملانيا ،كان رص ً
ِ
مسألة اإلدارة ،والتي ِ
كوهنا نظرية ،أو تؤسس للمعنى الواسع عن
للممتحن. ِ
الرجل سوى إرساله ُ َ
استكامهلا باخلارج .فام كان من يريد
ِ
بعض األمور اخلاصة بربجمة التطبيقات ذهب كريم وتكلم عن
ِ
األسئلة ِ
تعامله مع ِ
طريقة ً
مندهشا من ُ
الرجل ومحاية البيانات ،كان
التي يعرضها عليه ،ورغم أن إجاباته كلها باإلنجليزية ،التي جييدها
بشكل مستفز ،جعله يشكٍ ِ
مالحمه كريم يقينًا ،لكن كان حيملق يف
جيرح
َ الوقت كي ال
َ أنه ال يكرتث بام يقوله ،وربام فقط يستهلك
السكوت وقال مجل ًة مل ينسها:
َ مشاعره ،لكنه قطع
اختصاصك ،ومؤكد بعد هذه الدورة لن
َ -يبدو أنك حتب
ترتكنا.
كان لقاء كريم بالسيد ”فرانك“ عالم ًة فارق ًة يف هذه الرحلة.
َ
اإلنسان ىف املطلق ،ولكنها حترتم عرف منه أن أوربا ال حترتم
العامل املميز املاهر ،وصاحب اخلربات التي تبدو ىف ٍ
كثري َ َ
اإلنسان
من األحيان نادرة.
مع الوقت عرف السيد ” فرانك“ أن كريم كان من املتفوقني ىف
ِ
هندسة يكون أستا ًذا ىف
َ مجلة طموحاتِه أن
جمال ختصصه ،وأن من ِ
ِ
احلاسوب.
17
ٍ
امرأة ِ
خالل مشكلة تعلم ٍ
لغة ما ،ال يتم إال من ِ إن مواجه َة
الواضح بني األملانية واإلنجليزية،
َ تتحدث هذه اللغة ،وإن التشتت
ِ ِ
وللمرة األوىل أمر بالغ الصعوبة، ىف جمتم ٍع ال حيفل ً
كثريا إال بلغتهٌ ،
دائام كالفراشات حتوم من حولِه، ِ
يف حياته ،حيث كانت النسا ُء ً
يقيم عالق َة و ٍّد معها. ٍ َ َ
البحث عن سيدة منتقاة كي َ حاول
ونطق حيتاج إىل
ٌ للغة األملانية ،أبجدي ٌة ُجمهدة،مل يكن مرتاحا ِ
ً
ِ
لكسب اجلولة ُ
السبيل الوحيد جمهود ،لكن االستمرار واملامرسة مها
ٍ
بشكل ِ
لرؤية اللغة ٍ
جرائد أملانية ِ
رشاء األوىل مع هذه اللغة ،مع
مستمر.
بشيطان متجسد واسع احليلةٍ ِ
الرغبة ىف النساء ملاذا يشعر عند
أحد املطاعم؛ امرأ ٌة جتاوزتييسـر األمور ،التقى بـ“ماريندا“ يف ِ
ُ
ٍ
وكثري مجاهلا وأنوثتِها
سن اليأس بقليل ،ولكنها حمتفظ ٌة ببعض من ِ
َّ
للحديث معها بمجرد أن خرجا من املطعم،ِ ً
مدخال من األمل ..د َّبر
مناسب سكان احلي القدامى ،وهل يوجد سك ٌن ِ سأهلا إن كانت من
ٌ
ورخيص حيث أنه قادم من ِ
بلده للدراسة. ٌ
ليحلم هبا،
َ ٍ
لنتائج مل يكن ً
طويال نسب ًيا؛ لكنه انتهى كان حدي ًثا
أكثر املتفائلني ..فقد قالت:
وال حيلم هبا ُ
أمرا.
أعرض عليك ً
َ أريد أن
ُ -
18
يقتسم معها القيم َة
َ تسمح بإقامتِه عندها نظري أن
َ فمن املمكن أن
ِ
أعامل تنظيف البيت. اإلجيارية لسكنِها ،وكذلك اجلهد املبذول ىف
ِ
بسوء طويته ،ولكنّه تصنّع مل ُي ِرد أن ُي َ
بدي موافق ًة رسيعة ُتغرهيا
الرشو َد للحظات ،ثم قال:
وهو كذلك.
ليعرف الطريق ،عىل أن
َ يصل إىل مسكنِها كان لزا ًما عليه أن َ
ُحيرض يف اليوم التايل حاجياتِه ومتعلقاتِه من الفندق شديد التواضع
الذي َ
نزل فيه.
ٍ
عارض من عد ِم جتمي ِع ألي
رقم هاتفها حتس ًبا ِّ
افرتقا بعد أن أخذ َ
نفسه ..
يسأل َ العنوان ىف ذاكرتِه ،رغم تركيزه الشديد .عا َد للفندق ُ
ما الذي جيعل النسا َء يتعاطفن معه إىل هذه الدرجة ،رغم أنه ليس
مفرط الوسامة ،وإن كانت هيئ ُته وهندا ُمه دائًام ما تكون مقنعة.
ٍ
سكن ٍ
وجريان داخل فعال، ٍ
كأصدقاء ً مكث معها لفرتة ،كانا
ِ
الرغبة احلريصة عىل عد ِم واحد ،وإن َ
بذل جمهو ًدا خراف ًيا من دواعي
غري مسئولة، تبدو التي التصـرفات ببعض ولو التجاوز، أو ِ
اإلساءة
َ
جاهدا
ً ورغم كم التلميحات األنثوية التي ُمورست ضده ،حاول
محيمة معها ،وهي بدورها فهمت أنه ٍ ٍ
عالقة ِ
إقامة زاهدا ىف يبدو
ً أن َ
حاول أن جيع َلها تؤمن
َ رجل رشقي ملتزم!! ولكنه من داف ِع املكر ٌ
ِ
بكون العالقة إن متت ،فهي خدمة ُيسدهيا هلا كأنثى!! وليست هد ًفا
19
ِ
عالقة اجلوار شي ًئا من االحرتام ،رغم أنه ضفى عىل
يسعى إليه ،ل ُي َ
ِ
ممارسة محاقته املعتادة .وقدرته يف مثل هذه املواقف ال يتوانى عن
اهلائلة عىل تصنّع العشق اجلارف.
أفكار أمه وآماهلا يف
ُ استمرت احليا ُة عىل نظامها ،واستمرت
اجلديدة يضغطه بعنف .لدرجة ِ ِ
ظروف الرحلة ٍ
أرسة مع ِ
تأسيس
ِ
اجلانب اآلخر من أوقات الوحدة ً
طفال يناديه .وعىل ِ َ
يتخيل يف أن
سفر أملاين بأي ثمن .رغم يقينِه الذي
اقتناء جواز ٍِ ِ
احلرية ربام فكر يف
ِ
النظر عن كم وبغض
ِّ ِ
جذوره. يربح معرك َته مع
ال ينهزم؛ لكونه لن َ
تعرض له ،فامزالت أ ُّمه هناك تنتظر عو َدته .لكنَ اإلحباط الذي
طموحه الوظيفي ح ّيد الفكر َة الرامي َة لصناعة أرسة ،بل وأبعدها
متا ًما.
عظيام يف
ً جهدا
ً كل األمور عىل خري ما يرام ،يبذل كانت ُّ
والوقت هو املحك الرئييس الذي ال يريد مطل ًقا أن ُهيزم
ُ التحصيل،
ٍ
دورة ِ
أرسار اللغة األملانية أو يكاد .وحصل عىل عىل يده ،وصل إىل
حساب صحتِه ووقته.ِ مكتظة باملعلومات ،وإن ظل كل ذلك عىل
قفز إىل ذهنه ِ
لفكرة اإلقامة الدائمةَ ، ِ
استسالمه املؤقت هنا ومع
يكون له زوج ٌة تشاطره هذا العناء ،ولكن هيهات أن
َ حلم أمه أن
ُ
ِ
بصدد رشاء سيارة، جيدها هبذه السهولة ،فهو يريد زوجة ،وليس َ
جيد زوجة حيبها،
وطاملا األفكار قد ذهبت هلذا احلل ،فال أقل من أن َ
20
أقل تقدير ،برشط أن حت َّبه هي األخرى ،واألهم أنأو حياول عىل ِّ
ٍ
شخصية قوية .هو بالرضورة حيب املرأ َة صاحبة َ
تكون صاحبة
الشخصية القوية والذكية ،باإلضافة إىل ِ
كوهنا حنونة و ُمقدرة .
اكتشف أن له
َ يف زيارة للسيد ”فرانك“ املشـرف عىل الدورة،
زاره فيها ،كانت للتو عائد ًة من
ابنة ،مل يرها يف املرات القليلة التي َ
بريطانيا ،تعمل هناك وتتدرب فيام ُيعرف بإدارة املتاحف وترميم
واضحا أهنا
ً اللوحات ،ترميم لفن مصاب بتقلبات الزمن ،كان
ِ
للنساء ِ
لعشقه القديم اقرتبت من الثالثني ،كانت امتدا ًدا طبيع ًيا
وكأي
ِّ األجنبيات ،شقراء ذات شعر أصفر شديد ،زرقاء العينني.
بتقبيل وجنتيها ،وجلس الثالثة ،ثم انضمت ِ رجل متحرض قام
والدهتا السيدة فرانك ،حاول أن يتج َه هلا بحديثِه بني احلني ُ هلم
أسئلة ساذجة معتادة ،هل أعجبتك ٍ واآلخر ،ومن خالل
بريطانيا؟ وماذا كان شعورك بالضباب اللندين؟ وغريها من هذه
األسئلة.
كان كريم حيب السيد ”فرانك“ بشدة ،يتحدث معه أحادي ًثا مل
تكن ختلو من دعابات ونكات ساخرة مضحكة ينفجر فيها اجلميع.
ٍ
أحاديث من كل جهة ،ثم استأذن وخرج ،و“ استغرقوا وق ًتا ىف
ِ
للدرجة أن حتركت يف داخله رغب ٌة ميال“ مسيطر ٌة متا ًما عىل عقله،
حل ِّبها ،ألن الواضح متا ًما أهنا خمتلفة ،مجيلة وذكية وشخصيتها قوية
21
ِ
أصعب أصناف النساء ىف نظره املرأة الثرثارة وهدوؤها رائع .من
التي تتكلم بال ضوابط للكالم ،وأحيا ًنا بال داع أصالً.
ورسم يف خياله سيناريو مصغر ليو ٍم من حياته
َ عا َد للبيت،
ٍ
تفكري صبياين أو مراهق، جدا ،ليس من منطلقسعيدا ً
ً معها ،فكان
وخصوصا أن
ً بل ألنه يمتلك فراس ًة ال بأس هبا ىف تقييم النساء،
بصم َة روحها كانت تشبه إىل حد كبري ”سوزانا“ كأنثى حمبة ،أو
تكون املهدئ احلاسم لنزعاتِه
َ تعرف احلب وتضحياته ،وتستطيع أن
ِ
دائرة الصواب ونزواته اجلنونية ،واحتواءها له بحبها ليعو َد إىل
ٍ
بشكل ناجح، واالتزان ،وهذا ما كان حيتاجه لكي تستمر حيا ُته
وخال من املنغصات؛ حيث أنه واحد ممن يكرهون تلك األمزجة ٍ
املحرضة عىل االكتئاب .
ذهب ىف دنيته التي ال يعرف سواها حتى أتم دور َته ،ويف ختا ِم
َ
حارضا إال السيد ”فرانك“ ،فلم
ً سهرة احتفالية بنهايتها كان الكل
جيده ،ومل جيد رسال ًة منه ،ال يش َء مطل ًقا ..سعى كريم للسؤال عنه،
فعلم أنه مريض ،يرقد باملستشفى يف ٍ
حالة شبه خطرية.
جدار زجاجي ،نظرا ألنه ىف ِ
شبه ٍ زاره ،وكانت الزيار ُة من ِ
وراء
ً َ
املشهد
ُ ِ
األشياء الطبية معلق ٌة بجسده ،كان غيبوبة ،والعديد من
ِ
ضعف اإلنسان أمام مؤثرا عىل ِ
نفسه ،ال ألنه حيبهِ ،
بقدر حزنه عىل ً
جربوت املرض ،خرج بعد أن ألقى عليه نظر ًة طويلة إىل القاعة
22
ٍ
ألحد املجاورة ،وجلس بينام يستأثر به احلزن ،الغريب أنه مل ينتبه
ٍ
مقربة منه ،وما كانتا سوى رغم أن هناك سيدتان جيلسان عىل
ململام
ً السيدة فرانك وميال ..فقام بتحيتهام يف عجالة ،وانرصف
حزنه ،وعا َد حلياتِه يدخل من جديد يف رصا ِع البقاء هناك ،أو
العودة ألمه املنتظرة يف البعيد.
ٍ
جلطة باملخ، علم كريم أن ”فرانك“ قد رجع لبيتِه ،ناج ًيا من
وثقل خفيف بالقدم مع ٍ شلال بسي ًطا ىف ِ
يده اليرسى، فقط تركت ً
واصطحب معه باق ًة من ابتهج حركة ال إرادية للعني اليسـرى. ٍ
َ َ
سعيدا بكريم .الذي تأمل َ لكونِه الوحيد
ً ُ
الرجل ِ
الزهور وزاره .كان
الذي يتابع حال َته.
طلب كريم اإلذن باالنرصاف ،فاصطحبته ميال حتى الباب،
جرس طويل وال إجابة؟
ٌ دائام ال جييب؟ ..
وسألته ملاذا اهلاتف عنده ً
ِ
بأسامء أصحاهبا. -يف العادة ال أرد عىل األرقام غري املشفوعة
-عال َم القلق من األغراب؟
ضحك وقال:
-ألين غريب.
ِ
الرجل احلب من
َّ ماذا ُيضري الثقاف َة الرشقية إن طلبت املرأ ُة
تراجع للحياء املعروف
ٌ فرس ذلك عىل أنه
وليس العكس؟ وملاذا ُي َّ
23
عن املرأة؟ ومن قال أن احليا َء صف ًة مجيلة من صفات أية امرأة؟
إن هذا اخلجل الذي زرعته الثقاف ُة الشـرقي ُة هو نفسه املسئول
ِ
للخيانة مبارشا ا ب سب األقل عىل أو الزوجية العالقات ِ
فساد عن
ً ً
ٍ
كرجل يسأل ..ملاذا جيد آدم رأي مباغت ..ربام .لكنه
الزوجيةٌ ،
عاهرة وال جيدها مع زوجته؟ ال إجابة واضحة ٍ متع َته اجلسدية مع
غري أن العاهرة ال تعرف اخلجل؟ وما يضري الزوج َة أن َ
تفعل ما
حيلو هلا ملتعة رجلها؟
وحيدا أن قالت
ً ِ
للجملة التي قاهلا مليال كونه كانت اجلمل ُة التالية
بدورها:
-إذن لنرتبط إن كنت تفكر يف األمر.
ِ
ثقافة َ
اندهش من العرض ،هو مل يفهم أبعا َد وألنه رشقي عتيد
هؤالء ،فقط ابتسم ،وقال:
-نعم أفكر ،ولكن هبذا الشكل؟ أليس من األجدر أن تعرفينني
بشكل جيد؟
فقالت بثقة:
ِ
بصلة قرابة ٍ
رجل ال يرتبط به ،ال عاطف ًيا وال ِ
ملرض -من يتأثر
ٍ
صداقة عابرة ،ومع ذلك يتأثر إىل هذا احلد، ِ
ملجرد ولو بعيدة ،بل
ِ
بالرضورة إنسان. فهو
24
هنا أدرك كريم أن حزنه يوم املستشفى كان الباب الذي
عربت منه الفتاة كي تفكر يف االرتباط به ،رغم أنه مل يكن حزينًا
عىل ”فرانك“ يف املقام األول ،بل عىل اإلنسان املريض ىف املطلق،
ٍ
بيشء ما وضعفه أمام املرض .لكن الصدق كل الصدق إنه شعر
يتبلور للمعنى الذي يريده أو تصوره ولو يف اخليال.
ْ جتاهها ،يشء مل
***
25
()4
أوفدت
ْ ِ
بنهاية الدورة التي كانت الرشكة يف الداخل قد علمت
لقرار حاسم وهنائي. ٍ ِ
للحصول عليها .ومسألة ميال حتتاج كريم
كل هذه احلرية ،فمؤكد لن يرتك أمه هن ًبا أي جحي ٍم أتته ُّ
مل يدر من ِّ
ولعه للحياة وحيدة ،تنتظر منه رسال ًة من هنا أو هناك ،وإن كان عىل ِ
ِ
رابط غري وجودهن عىل ٍ ٍ
منتميات له بأي ٍ
فتيات غري باالرتباط من
حامال كل مركبات ً يسري فيها
َ قدره أن
نفس األرض ،التي شاء ُ
شجنه وحريته ،فإن ”سوزانا“ كانت تنتظر منه جمر َد كلمة كي حيدث
هذا االرتباط املنشود.
مل يكن يشك أن أ َّمه ستتحمل هذه الفكرة ،حتى وإن أقنعتها
نفسه جمد ًدا عن احلب ِ
ميال لكوهنا االختيار األفضل .لكنه سيسأل َ
كعاطفة حقيقية ،وكيف نشأت من جمرد حديث واحد عىل هامش
جتربة مرض أبيها.
هو تأثر عىل كل األحوال بام حدث بينهام من نقاش مجيل .لكنها
يتدثر يف ِ
ثوب إنسان متعلم ،يمتهن كرجل معذب ٍُ لن ترحم حقيق َته
26
مهن ًة جتعله متحق ًقا وجود ًيا بشكل قد جيعل أقرا َنه حيسدونه عىل هذه
الوظيفة .إذن من أين تأيت األزمة؟
ِ
اعتبارها اهتا ًما كريم يكره هذه النظرات التي يرتمجها غال ًبا عىل
شاب يف ظروفه؛ حصل عىل تعلي ٍم متميز
له وجاهته .فامذا يريد يقينًا ٌ
ٍ
ووظيفة هو بالفعل ناجح فيها ألبعد حد.
مل تكن الدنيا عىل قياس ما يطمح إليه كريم يف أي حلظة ،وهذا
الكثري من املعاين التي كان من املمكن أن
َ أفقده
النفور من واقعه َ
تساعده كي يتسق مع زمنِه وعامله ،وخاصة أنه حلم امرأة عكفت عىل
َ
ِ
مقتبل العمر من الرضوري أن تربيتِه ،ونست وتناست كوهنا أنثى يف
ٍ
رجل يتسق بدوره مع كوهنا أرملة وهلا ابن وحيد ،حيتاج َ
تبحث عن
الرعاية.
كانت أمه أسري ًة لثقافة ال تدري من أين تأيت بروافدها ،تتهم أي
ِ
غياب األب ألي سبب. امرأة يف املطلق إهنا ال جتيد تربية أوالدها يف
إثبات صواب
َ ُ
حياول تسـرب لكريم ،فظل عىل الدوام
وهذا املعنى َّ
َ
فانتحل اخلشونة ،وساعده عىل ذلك ما التجربة التي خاضتها أمه،
ِ
اجلسارة التي منحته له الطبيع ُة من قوة الفتة ،وتصاعدت فيه روح
ٍ
لرجل قامت برتبيته امرأة ضعيفة -عىل الغالب - يت
ال يمكن أن تأ َ
حتتاط من عاملِها الصعب واملربك .رغم كل ما تعرض له كريم من
أذى وخسارة؛ كي يثبت هذا التوجه.
27
َ
يكون وجهة نظر ،لكنها مبادئ ِ
التضحية ال يمكن أن َ
مسلك إن
كسلوك ،لذا حني يعود كريم ِ
لنفسه يكتشف ٍ عىل األرجح ،تتشكل
فسا َد املنطق الذي يرسم بوضوح شكل تعاطيه مع حياته وتفاصيلها
ِ
ومفرداهتا .واألهم أولئك الذين ينتظرون منه التضحية.
رفاق املايض اهتمه أنه مازال ٍ
واحد من ِ جلس ذات قدر مع
فحني َ
مراه ًقا ،يمتلك جمموع ًة من األفكار املثالية املستحيلة ،فاحليا ُة ليست
رسام ثاب ًتا خيضع ملا نعتقده نحن فحسب .واملنطق ُة الرمادية ،التي
ً
ال ينسجم معها من هم عىل شاكلة كريم ،أكرب مما يعتقد أولئك
ِ
خيال الفالسفة، ِ
باملدينة الفاضلة التي ال مكان هلا إال يف احلاملون
ٍ
كدليل وحيد عىل وضوح الرؤية فثنائية األبيض واألسود التي حيبها
دائام.
تستجيب له ً
َ لن
األمور أوضح ،وكثر ُة أسفار كريم ظلت متنحه
ُ يف أملانيا كانت
هذا اليقني ،إن الناس يف الوطن ال وجود هلا ،فاإلنساني ُة خارج العامل
الذي اعتا َده تربح رهاناهتا دائام ،اإلنساني ُة التي تغطي كل يشء،
بشكل حرصي لإلنسان. ٍ وليست املوجهة
ميال كانت حتمل قط ًة يف لقائهام األخري ،وكانت تتعامل معها
اجلوع قتلها التي القطة تلك من ا ً
ظ ح أكثر أخرى ٌ
ة قط هلا. ٍ
كابنة
ُ
والربد يف الساحة الكبرية ،حيث تداعيات الغربة والقلوب الغليظة.
28
كان البد من قرار ،فال يمكن أن َّ
يظل هكذا كائنًا هروب ًيا بامتياز،
بمجرد أن ُتطرح عليه األشياء ينسحب .هو يقينًا ليس هذا الرجل
الذي ال يعرف ماذا يريد .سم ُته وحيا ُته ال تؤكد هذا املعنى .وميال
متنحه حضنًا بطع ِم الوطن املفقود.
فتا ٌة ناضجة وفنانة ،تستطيع أن َ
تنتظر ستخلص للمعنى دون أن تنتظر أي مقابل .لكن أمه عىل ِ
البعد
ُ َ
عود َته.
تطيق خطو ًة عىل هذا النحو من القسوة.
هي وحيد ٌة مثله ولن َ
وإذا كانت قد جتاوزت مفهو َم األنثى وما يتطلبه من احتياجات كي
ِ
خالهلا حني يتخذ خطو َة يفكر منتنترص لألمومة ،فال أقل من أن َّ
ِ
البحث عن احلب احلقيقي ،والوط ُن املقبول الذي يستطيع إقنا َعه
اقتناء جواز سفر آخر يعوضه ذاك ِ يفكر يف أن ودون فيه، ِ
للبقاء
َ
ِ
بالغربة وحدها ،وإنام اغرتاب شامل. الشعور املجنح ..ال
يستثمر حمب َة أهل ميال؛ كي يتخذ من أملانيا
َ كانت الظروف تدفعه أن
األمور عىل هواه ونيـَّته.
ُ وطنًا له ،وينسى املوضوع .الغريب أن جاءت
توحده أية قيمة لكي يعو َد من حيثِ حتدث معه والدها والذي مل َير مع
بلده من حيتاجه .هنالك أخربه أن أمه تنتظر عود َته.أتى .فليس له يف ِ
ِ
سيارة ميال َ
ورحل يف ِ
هتندمه، يف مساء ذلك اليوم ،مل يبالغ يف
ٍ
ملنطقة رومانسية رائعة.
29
ٍ
بانقباض غريب. األمور تسري يف جمراها الطبيعي ،لكنه شعر
ُ كادت
ٍ
بزيارة أخرى .عادت ِ
وللهروب من تأثري اللحظة بثقلها عليه ،وعدها
به وتركته قبال َة الفندق ولكنه مل يدخله ،جلس فوق ٍ
ربوة عالية تطل َ
ِ
معلومة ِ
املدينة الساهرة .فبدا وكأنه يودع البالد .وقو ٌة غري عىل
املصدر تدفعه دف ًعا أن يغادر لألبد.
***
30
()5
31
يف املساء ،أدرك أن األمور قد دخلت دائر َة اخلطر ،فالرشيان
ً
تدخال .ولوال ما أبدته أمه من التاجي -حسبام قال األطباء -حيتاج
يكون ابنها حارضا ،لكانت اآلن يف ِ
ذمة َ أن مشرتطة للعالج ٍ
رغبة
ً
رب كريم صاح َبه،اجلراحة .إذن هي حتتاج للتدخل فعالً .هكذا أخ َ
يستعد هلذه اخلطوة.
َّ والذي دعاه بدوره أن
عرج عىل
يعد للبيتَ ، انتهى اللقاء ،وهم باالنرصاف ،لكنه مل ْ
نفسه أثر ما سمع ،أويزيل عن ِسوزانا يف غرفتِها .ربام كان يريد أن َ
للدقة أثر احلالة التي عاشها يف الغياب مع ميال .ويبدو أن سوزانا قد
حارض فقط باجلسد ،فكل مدركاتِه ومشاعره كانت ٌ شعرت أن كريم
أخبار مرض أمه أربكتهِ تسبح يف ٍ
اجتاه آخر .تعلل أن ما سمعه من
ً
فعال .فبمجرد أن عا َد وهو يشعر باختناق ال يفهم له سب ًبا.
احلرب من جديد،
َ مل تكن الرحل ُة هدنة حمارب حيتاجها؛ كي يبدأ
وبعضا من وج ِع الضمري .مل يشعر
ً وجد طاق ًة هائلة من الرفض،
فاعتذر ورحل. ”سوزانا“ ِ
بوجود
َ
مكتئب املزاج ،ضيق الصدر ،وقلبه يدق
َ يف الطريق كان كريم
ِ
السهرة يف مكان آخر تراجع ،شعر بعنف ،بل حني أراد استكامل
ثقيال إىل درجة إذا ما حاول أن ينسـى مستجدات حياته، بكونه ً
ففي البيت سيدة مريضة تعاين ،وهناك ،حيث البعيد الذي تركه من
ٍ
بيشء ما ،حلم كان حيتاجه أكثر منها ،منفى أيام ،فتاة ربام حلمت
فالنجاح يف ِ
ألفكاره. غري صاحلة
ُ خيتاره بعناية بعد أن باتت احليا ُة َ
32
وظيفة مرموقة ليس هناية املطاف .والتكالب عىل ِ
املال والرحالت،
واإلنفاق عىل كل املت ِع املتاحة ال يعني أكثر من مظاهر ،ال ختتلف
كثريا عن ذاك النفاق اليومي الذي ال يؤدي إال ٍ
ملزيد من العبث. ً
مل يكن يراهن أن أ َّمه ال تفهم حقيق َة معاناتِه ،أو ختتزهلا فقط يف
ِ
للبيت مل جيدها زواجه ،بل كانت مشفق ًة عليه ،لذا حني عا َد ِ ِ
مسألة
عاتب
َ نائم ًة كالعادة .وخاص ًة يف هذه الساعة املتأخرة من الليل،
نفسه بقسوة ،فأمه املريضة ال يمكن أن ُترتك وحدها عىل هذا النحو َ
يقرتب منها وسألته:
َ من التجاهل .دعته ألن
-ما بك؟
قال :
ٍ
بشكل خميف .أشعر بأشياء ال أستطيع -ال أعلم ،ولكنّي منقبض
تفسريها.
َ
هنالك أخربته إنه تقري ًبا نفس ما تشعر به .تتخيل أشيا ًء غريبة
وترى ما يشبه األحالم ،رغم إهنا مل تنم .فرس هلا األمر عىل أنه نوع
ِ
مستقبله ،والرثاء حلاله ،لكنها نفت بشدة ،واعتربت من القلق عىل
ِ
حرصها األمور بحالتها هذه قد تبدو من النعمة .الغريب رغم أن
َ
تشعر بتجهيز ٍ
لقمة للعشاء؛ ألهنا ِ عىل عد ِم األكل يف الليل ،طالبته
ُ
بجو ٍع شديد.
ِ
بتحضري كل يشء ،ونظر إليها وناداها: قام كريم
33
-أمي ..أم كريم .. .العشاء.
ولكنها مل ترد ،اقرتب منها ،كانت للتو قد خرجت دمعتان من
عينيها .ظنها نائمة ،لكن كيف تنام وهى تشتكي جو ًعا مؤ ًملا؟
جسدها باردا نو ًعا ،محلها إىل ِ
فراشها ُ حركها بلطف ،لكن كان
ً
نظر إليها وحدثته نفسه يف أسى :ها هي آخر املعاينوأغلق عينيهاَ ،
َ
اجلميلة متوت وترتكني.
تلميحا
ً ألول مرة يشعر باليت ِم احلقيقي ،مل تعطه أي َة إشارة أو
مسجون يف إحباطِه وغربتِهٌ بالرحيل ،وكيف سيقرأ اإلشارات وهو
ِ
وتوحده الرسمدي؟
وجه إنسان ،ومن كل تفاصيل ِ نورا يشع من ال يذكر أن رأى ً
جسمه كام كانت أمه ،هو مدي ٌن بالكثري هلذه السيدة ،والتي لوالها ما ِ
نوبة منيدها وقدميها عىل السواء ،حتى ذهب يف ٍ أبدا ،ظل ُيقبل َ
كان ً
إجراءات
ُ خروجه من املكان كي تنتهي َ تطلب
َ بكاء ،دفعت بالناس أن
بالصمت والثبات ،لكنه مل يمنع قل َبه من البكاء. ِ جتهيزها ،فتعهد
مرسحية إنسانية رآها يف حياتِه ،فأ ُّمهٍ الستار عىل أرو ِع
ُ ُأسدل
معان كبرية وعميقة. ٍ ِ
للعظمة من كانت عظيمة بكل ما
مشهد جنازهتا رهي ًبا ،ومل يكن لذهولِه عنها معظم الوقت
ُ كان
ِ
احلزن ما يدهشه فعالً ،وال هؤالء الذي يظن أن جرياهنا ستبدي من
يتحركون كاألطياف يف حياهتا يسريون بإخالص وحب خلف نعشها.
34
مر هذا اليوم العصيب ..كان زياد يواسيه وهو يعلم أن كيف َّ
ِ
زوال أثر الفجيعة سيعيش حال ًة من الضياع وانعدام كريم بعد
أيضا كان حيبها برضاوة ،ولكم كانت
التوازن الشديد بغياهبا ،هو ً
مكافحا.
ً حتنو عليه وتعتربه شا ًبا
الكل انرصف ،ورحل اجلميع ،بينام كان كريم شديد التعب ُّ
ٍ
وبشكل يدعو للرثاء.
كان سلم البيت يبدو أكرب وأعىل مما كان ،صارت الشقة يف خميلتِه
تصعد
َ بعيدة ،وفوق هذا وذاك ،شعر ِ
بثقل أقدامه ،وكأهنا تأبى أن
ملكان ليست أمه فيه ،لكن ظل األصعب هو دخول الشقة من ِ
فرط ٍ
يقينه أن أنفاسها مازالت متأل املكان .وبمجرد أن رأى َ
فراشها خال ًيا
منها حتى اهنار باك ًيا.
يستطيع احلياة،
َ سولت له نفسه أن بعد هذه الفاجعة ،كيف ّ
ألفضال هذه السيدة ،فإن كانت ِ ونصف ما هو فيه وأكثر يعود
احليا ُة مدرسة يف حد ذاهتا ،فإن أمه هي الكنز الكبري ،والدفء
ِ
فبموهتا فقد وقت أن كانت دنياه مسكونة بالربودة ،وربام الثلوج،
ينجح يف أن اهلل إىل ِ
بالدعاء اليد الطاهرة الوحيدة التي كانت ترتفع
َ
حياتِه.
كانت كارث ُة فقدها امتدا ًدا طبيع ًيا لكم الضياع الذي عاشه يف
هذه الفرتة.
35
ِ
مسألة موهتا، كانت األيام التي تلت موت أم كريم أشد قسوة من
ِ
العزلة يمنع عينيه من التواصل سياجا من وكأن حياهتا قد صنعت
ً
القريب مع الوقت بتفاصيله الثقيلة ،مل يكن كريم غري ًبا عىل الليل،
الضجيج خمتل ًفا ،واألصوات تغادر بعض
ُ ففي سكون ساعاتِه ،بدا
بيد أن مالحمه ظلت تيش بواقع مأزوم ،مل يراهن يف هذا عصبيتهاَ ،
ِ
اهلشاشة الصادمة. نفسه هبذا الكم من
الطقس أن يرى َ
حتام ،يستيقظ
ربام جلس مدة طويلة ال يرى النهار ،وذلك يؤمله ً
أرض ليست هذه األرض ،ومل يكن ذلك ٍ عند رشوق الشمس عىل
ِ
الوصول الشهور األخري َة من براثن ذاكرته ،ويفشل يف ديدنه ،جيرت
َ
إىل معنى.
ُ
اخليال مع احلقيقة حتى هل هو يقينًا ابن هذه احلياة؟ كيف يتامهى
ُ
التفاصيل إىل ما يشبه الفوىض؟ تستحيل
صار مول ًعا بقراءة حركة األقدار التي تتجىل أمامه بوضوح،
يشعر فداحة ما
َ كأهنا رسائل البد أن ُتقرأ .أجنحته هيضت دون أن
نائام ،أو يف حالة كان هل الليل، مع التوحد ِ
ساعات حدث ،إال يف
ً
عرض هذا الفيلم امليلودرامي املؤثر؟
يقظة تعيد َ
يركض
َ يعرف أن هذا الطقس سيهلكه ،ال يشء يثري حفيظته أن
زاهدا ،لكنه
ً ِ
فستان الدنيا كي يعيش ،مل يكن كطفل ،يمسك بذيل
خالص روحه من هذه الدوائر َ حاول أال ينظر ألي معنى قد يعوق
الرمادية.
36
ِ
كالعسس يلتمس دنيا أخرى ،غيبوب ٌة خترجه من التفكري انطلق
َ
فيام حدث من انتكاسات ..سياح ٌة عىل علب الليل ،واألرصفة،
كل أنامط البشـر والتشـرد والضياع ،املجانني الذينالتي حتوي َّ
يفرتشون األرض ،ويلتحفون بالسامء ،فتا ٌة هاربة من جحيم ال
يعرفه ،رجل خرج إىل الفرا ِغ عندما اشتدت عليه الضغوط ..ربام
ِ
الساعات الثقيلة، ٍ
كتسلية تقتل سكنته رغب ُة تسجيل هذه املشاهد،
لكن ماذا يسجل؟
من خلف زجاج املقهى ،رأى فتا ًة تسأل اهلل ..ال يدري إذا
كانت متشـردة ،أو هبا مس من جنون ،وإن كان كل يشء خيفي خل َفه
روحه به جادت ما ها فتاة ،لوال ظروفها لكانت أمجل ،أسقط يف ِ
يد
ُ
مر من وقت ،فلقد طوحت الريح صوت وانرصفت .ال يدري كم َّ
ْ
ده ِسها حلديقة
ارتطام أفزعه ،سيارة يقودها سكران ألقى بالفتاة بعد ْ
األبدية.
مل يكن الناس عىل مستوى الصوت ،الفراغ ،ورجالن ه َّبا إىل
حيث استقرت عىل اإلسفلت ،وهو الرابع الذي ال يعرف ملاذا
الريح ابتلعت الوداع. بطعم ً
ة مكرم أخذت أن بعد ها ِ
مالحم دقق يف
ُ
ساعة من ساعات ليل ،ال ٍ البنت ميتة جمانية ،يف
ُ السيارة ،وماتت
يريد أن ينتهي.
فقد شهيته الستئناف ما تبقى من وقت ،فكر بالعودة إىل البيت،
وشيطانه يأبى عليه هذا القرار.
37
ضجيجا من هذا الصمت ،رحل رسي ًعا، ً حترك إىل مكان أكثرَّ
دلف إىل مقهى به شيخان طاعنان يف العمر ،وآخر يبدو عىل البعد
غائ ًبا عن الوعي ،يقرأ يف ٍ
كتاب مل يتبني عنوانه من مكانه ،يدخن مثله
ِ
كشاهد قرب. برشاهة ،وأمامه كوب من البرية يقف
جتاوز بائع اجلرائد اللييل ،ومل ِ
يشرت جريدة يقتل هبا َ انتابه ند ٌم أن
مشهد الرجل الذي ينغمس يف كتابِه ،وأحاديث ُ الوقت ،حرضه
ِ
ملتابعة ما يتسامرون فيه. دائام؛ كي يلقي أذنيه
العجائز ليست ممتعة ً
ٍ
بضيق يف صدره ،أدرك شعر
ال يدري ماذا رشب ،خرج للشارع؛ َ
شعر
النهار عىل وشك الوصول ،حترك جمد ًدا ،لكن إىل البيتَ ، َ أن
ٍ
سبب بشيخوخة ،مل يقدر عىل صعود السلم ،مرهق ومتعب دون
واضح ،املشهد بعد الدخول إىل البيت سيكون ضاغ ًطا ،ألقى
ٍ
أريكة كانت َ
سقط عىل ٍ
بضيق الفت. السالم ،فسمع الوحد َة ترد
مرحية منذ فرتة ..وال يدري أين ذهب ،ربام إىل النوم.
شعر
فيام يشبه احللم ،أمه تدعوه لألكل ،هل أكل؟ ال يدريَ ،
بلمس قبلة منها ،فهل كانت كذلك فعالً؟ وقع يدهيا هتدهده أن ِ
يستمر يف األكل ،فهل أ ُّمه كانت موجودة يقينًا؟ أم أهنا ماتت ،وهو
َ
فقط يرفض هذه احلقيقة؟
السكرة ،تداخلت املشاهد ،وظالل أستار ،يرى ال إجابة حتسم َ
ضباب كثيف ،يقظ ٌة صادمة ،يرى َ
نفسه ٌ مالمح باهتة،
ٌ الدنيا من خلفها.
يف وضوحٍ مؤمل ،وربام قد نسـي مالحمَه ،فليس هو من يظهر يف املرآة..
38
مالبسه ،وكأن هناك من يساعده َ هنض كريم كاملمسوس ،يرتدي
عىل ذلك ،وال يراه ،هيبط إىل السلم ،دون أن يرى شي ًئا ،أو يرد حتية
ال يلمح صاحبها ،يركض يف الشارع وكأنه الصحراء ،ال يشء فيها
غري الرمال والرساب ،يدلف إىل سيارة ،دون اليقني يف جهة تستطيع
تائها يف َ
استقبال غيبوبته ،ربام ينتبه للطريق بحكم العادة ،رغم كونه ً
ِ
احلزن يتذكر أسامءها. شوارع ما عاد من
عند بائع اجلرائد ،وقف يتخري ما يمكن قراءته من صحف
األفيون ،حني جلس يف نفس مكان أمس أدرك فداحة ما يقرتفه
عندما أراد اقتناء جريدة لقتل الوقت ،فقتلته بأخبارها ،كتاهبا
املدجنون الذين باعوا الوهم للناس يف الزمن الرديء ..استقبل
الرئيس الضيف الكبري ،وانتهى اللقاء إىل قطيعة ،سقوط عقار
جديد ،ووفاة معظم سكانه .غرق سفين ٌة قبالة السواحل تقل
الكل باطلَ .
انتقل إىل رمحة اهلل ،وانتقلت البائسني ،حكمة العددُّ :
ٍ
بجائزة كبرية عىل ما أنجزه.. فوز كاتب السلطة
لألجماد السامويةُ .
أنجزه؟
ثياب
والثلث اآلخر يعبث ،واألخري يرتدي َ ُ ِ
الوطن ال يقرأ، ُ
ثلث
ٍ
حرب ليست متكافئة ..ت ًبا هلذا املسخ والعبث الفقر يف
القتال ،جيابه َ
املنظم!
ضئيل هو ،وكل الطرقٌ ُ
التفاصيل الصغرية تعملقت أمامه،
ٌ
ورجل يف تؤدي لالختناق ،وعجائز املقهى جز ٌء من ديكور املكان،
39
منتصف العمر يف مكانه املقدس ،يقرأ نفس كتاب األمس ،ويدخن
بنفس الطريقة.
كان كريم يصارع رغبتني ..إما أن يثبت يف مكانه ،ويستهلك
الوقت وكفى ،أو أن يسعى لالقرتاب من هذا الشبح الذي جيلس
يف ثالوث معروف ..سجائر ،قنينة برية ،كتاب ..مل يراهن عىل أشياء
جتدد هذا الشعور بالضيق وتكسـره ،لو اقرتب ،فال جديد ،فالبؤس
ينطلق نحوه قاد ًما من حيث جيلس ذاك الغريب ،بدت له رغب ُة
يقرتب أكثر مما جيب ،بحسبِه
َ ِ
االقرتاب منه هي األقرب ،مل يشأ أن
أن يسم َعه بوضوح لو اشتبك معه يف حديث .االقرتاب مل يمنحه
ُيرس اقتحامه ،من بعيد كانت الصور ُة أكثر تشجي ًعا ،باالقرتاب وجد
الكآبة شاخص ًة بوضوح ،ذهول أو نصف غيبوبة .ورغبة حادة يف
بعض الندم ،وقبل االستسالم إىل هذا االنفصال عن الناس ..دخله ُ
املعنى سأ َله مبارش ًة ماذا تقرأ؟
-رواية مرتمجة.
-وملاذا مرتمجة؟
-ال أثق يف حكايات العرب.
-أال يعجبك أحد؟
-كثريون .لكنهم ال يكتبونني ،فانرصفت عنهم رغم إعجايب
ببعضهم.
40
-ال يكتبونك؟!
-الواقع هذه األيام قشور ،هناك واقع ال نعرفه.
-أي واقع؟
-كيف يمكن تأليف األزمة..
-أتسكن هذه النواحي؟
-ال...
عفوا -للسؤال. ِ
-ومل تأيت هناً -
بعيدا عمن يعرفونك.
جتلس ً
-من احلكمة أن َ
ٌ
مشاكل مع أحد؟ -ألك
-أنا املشكلة..
-ال أريد استالبك من الرواية ..استمر واغفر يل اقتحامك.
-ال بأس.
مل يتكلف الرجل الغريب أي إجابة ،صادق وصادم ،بدا
ٍ
طاقة للتواصل ،حتى يف كشـريك ،مأزوم وضائع ،ليس لديه أي
ظل هذا املقهى الغريب.
هنالك جلس كريم يفكر يف قاد ِم أيامه ،يريد ً
خملصا جتاوز هذا
الوضع ،حاول التواصل مع مصيبته التي كشفتها إجابات الرجل،
غدا قد يستطيع اصطيا َده ،فلم جيد ربام بدت كأدوات للتخفيفً ،
41
التشجيع الكايف؛ كي يستخدمه يف ِ
قتل الوقت هذه األمسية .وبينام
كان كريم مستغر ًقا يف أفكاره ،قام الطيف يدفع حسا َبه ،ومحل
حقيب َته ،وألقى إيامءة حتية االنرصاف .يركز يف األرض ،وكأنه
يشء قد سقط منه.يبحث عن ٍ
ِ
لالنشغال به ،رغم ما حيمله من غواية ،تدفعه أن مل يسع كريم
يصنع منه تسلية ،هلذه الساعات الثقيلة .مل تأخذه هذه الرغبة ،لكن
َ
ما حدث يف األيام التالية كان غري ًبا ،فقد الرتكيز ،ومل يفقد الوصول
هلذا املكان ،والرهان عىل وجود الرجل ،ويف نفس موقعه ،وربام
نفس الكتاب.
يقتحم عامل كريم ،آمن إنه عىل علم كبري إنه
َ عندما قرر هو أن
مأزوم .حياه عىل البعد .فذهب إليه ،رشبا م ًعا .بدا أقل حتفظ ،كأنه
يريد أن يعر َفه ،يف رغبة معكوسة من كريم؛ أن يكشف سرته.
ُ
الرجل جو ًعا سببته البرية الكثرية التي رشهبا ،خرج إىل اشتكى
مطع ٍم قريب ،سأله إذا كان من املمكن أن يشاركَه األكل ،فاستجاب،
ال جلو ٍع شعر به يدفعه لذلك ،فكر أن َ
يزيل ما حيول دون التواصل
نفسه ،وما حاجته للتواصل؟
معه .ثم يسأل َ
عاد وأكال ،مرت اللحظات رسيعة ،مل يرتكها بدون إشاراتِه
نادرا ما حيدث ،ألنه ال يأكل مع
الغريبة ،أن ما يصنعه معه –اآلنً -
الغرباء.
42
ليؤكد له حسن قراءتِه
َ اخلبز وامللح مسئولي ٌة كبرية .عاد كريم
ألفكاره ،يسرتسل يف رشح املعنى الذي يعني أن األكل مع الناس
َ
خيون أو خيدع. عهد ضمني أن ال
هو ٌ
خرجا بعد حديث مل يتبني منه شي ًئا ،عابر وقصري ،ربام ندم أن
خرج مع كريم ،ودعه رسي ًعا ،ورحل ملوقف الباصات الذي يأيت
َ
ِ
رأس الشارع ،مل يتجارس عىل سؤاله أين يسكن ،والغريب عىل
بدوره مل ينظر خلفه ،سار دون النظر ألي يشء.
مل تكن الليلة تريد أن تنتهي هناي ًة تقليدية .فبمجرد ابتعاد كريم
عن املكان ،انتبه لنسيانه هاتفه ،عاد رسي ًعا ،فوجد الرجل ،ويف
نفس مكانه ،أخذت كريم رغبة جتاوز هذا الترصف الغريب ،ومل
يشأ إعطا َءه أية إشارة لغرابة أن يمنحه معنى الرحيل ،ومن ثم يعود
ِ
الستئناف جلسته .فنسى كريم إنه موجود .ورحل رسي ًعا.
يف املسافة إىل البيت ظل كريم يفكر يف علة هذا السلوك ،مل
يستطع مغادر َة إحساسه بالضيق ،هو من دعاه لألكل ،ورشبا م ًعا،
حريصا عىل السري معه لو أراد ،سواء
ً ورحال بعد حديث عابر ،كان
كانت جهته يف طريقه ،أو ضدها .ماذا اعرتاه ،جعله يشعر بالضيق
تورط يف دعوتِه لألكل؟
َ من مصاحبته .هل
بحث ِ
األمسية التالية عرب كريم من املكان ،مل يشأ الدخول ،لكنه َ يف
ِ
ساعات الليل يف مكان آخر ،كان أكثر حركة. عنه ومل جيده ،أكمل
43
ِ
اختالس تغريت ني ُته ،مل يذهب للجلوس هناك .ومل تتغري رغبته يف
النظر إىل حيث موقعه ،دون معرفة السبب.
يف أيام ال يذكر عددها ،ربام اقرتبت من شهر ،مل جيده يف مكانِه.
هل كان كريم آس ًفا عىل ذاك الطيف الغريب .ال يدري .أو هل كان
يتجاوز ويسأله عن رس عودته يف هذه الليلة .ربام.
َ من الرضوري أن
حضور الصمت ،سمع ِ َ
النادل ،ومع دخل كريم إىل املكان ،ودعا
عىل البعد مههم َة العجائز ..ها قد عاد الرجل الذي يتحدث إىل
نفسه.
يستفرس عن رس اجلملة التي قيلت وكأهنا دورق ماء
َ مل يشأ أن
مثلج قد سكبته األيام فوق رأسه .فهل يمكن أن يستبد به الوهم إىل
احلد الذي يبلغ معه اختالق شخصيات وأحاديث كاملة؟
يبدو أنه قد سقط فريسة للهذيان ،وتالعبت به اهلالوس ،حتى
افرتست عقله املتداعي ،فصار كاللقمة السائغة بني فكيها.
مصيبة ِ
فقد أمه وخاصة يف ِ لقد آمن كريم بأنه أضعف بكثري من
هذا الوقت الفاصل والعصيب ،هنالك خرج يرثي حاله وما آلت
إليه غيبوبته احلزينة.
***
44
()6
احلزن متى توغل عليه هبذا الشكل فسوف يقيض َ أدرك كريم أن
ِ
أجل للعمل بروح رجل حمموم ،يتفانى من ِ عليه ال حمالة ،فعاد
ِ
ملركبات احلرية القديمة. اخلروج من كل األشياء املؤرقة ،واجلالبة
كان اجلميع متعاط ًفا مع أزمتِه ،وخاص ًة الذين يعرفون أنه مل يك ْن
غري أمه .وإمعا ًنا يف الترسية عنه ،أرسلوه لفر ِع يمتلك من الدنيا َ
حمتاجا التساع البحر
ً الرشكة القريب من الساحل ،ويبدو أنه كان
يستوعب إحبا َطه الكبري.
َ ِ
بدوره أن الذي يستطيع
املقر الذي سيامرس من خاللِه عم َله صادف ٍ
يف أول إطاللة عىل ِّ
ِ
التحيات والرتحيب ما جعله حياول ِ هنلة ،فتاة مجيلة رائعة ،أبدت من
جواره حال َة حب للترسية ،فيا ربام أنتجت ِ ِ
وجودها يف خيلق من
أن َ
عاطف ًة حقيقية.
حيب وحيب فقط ،ومنمل يكره هذا التناول الربامجايت لفكرة أن َّ
ٍ
للحظة يف كم االنكسارات يفكر
ثم انتقال حر حلالة جديدة .دون أن َ
القدر كي
ُ املتوقعة ،سواء لقلبِه أو لقلب هذه املسكينة التي ساقها
45
ٍ
بصدق ،مل َ
حترك صوب الفتاة اجلميلة تتعثر فيه .لكنه هذه املرة ربام
يكن موجو ًدا يف جتاربِه السابقة.
عرضت عليه هنلة توصي َله يف يومه األول بالفرع ،حيث أن الفرع
ٍ
بإخالص غريب رغبتها أن ال عن بيته ،ولقد أبدتاجلديد يبعد قلي ً
وبدوره وبرومانسيتِه املعتادة منحها
ِ تساعده متى احتاج املساعدة،
َ
ٍ
وكرجل خبري ،أدرك أنه ما يشري المتنانِه أهنا تفعل ما يتمناه منها.
بلغ يف خيال الفتاة مبل ًغا مهام ،مؤكد قد سمعت عنه من موظفي
قد َ
تستفيد من خرباتِه التي بدأت تتسع مع
َ الفر ِع الرئييس ،أو تريد أن
الوقت .بينام كان كريم حياول االنفالت من أحزانه وشعوره املجنح
بالغربة ،لذا أشفق عليها من نظراتِه التي حتمل يف طياهتا ما يشبه
ٍ
لنتيجة قد ترضيه، ِ
الوصول الدعو َة كي تعيش معه التجربة ،عىل ِ
أمل
جيد هلا حالً. تنتشله من ه ِ
وة الرفض للحياة التي مل تعد تضغطه كي َ ُ
ما هي أزم ُة هذا الرجل؟
رأس هنلة .رجل ِ ِ
الساعة يف ِ
كبندول كان هذا السؤال يتحرك
ٍ
رجل مأزوم ،ينتحل االبتسام َة انتحاالً مالمح
ُ ناجح ،فمن أين تأتيه
وجهه عىل طبيعته .وسيم وصبوح ،ومنطلق يف احلياة.
كي يبدو ُ
ٍ
لسهرة ٍ
وبجسارة مل تكن مربرة ،دعته يف ٍ
لقاء عابر ِ
بأحد املمرات،
ٍ
صديقة هلا ،فمنذ جاء وهو عىل ما يبدو منغلق عىل نفسه .نظر عند
ملح
أشفق عليها ووافق بعد أن َ
َ كريم لنهلة نظر ًة باردة أو تكاد ،لكنه
46
جيد ما يضريه إذا ما قىض
تسهر معه .مل ْ
َ ما يشري لصدق رغبتها أن
الوقت مع ٍ
فتاة مجيلة وذكية ،واألهم أهنا تعرف ما تريد. ِ بعض
إنذارا بحضوره ،استقبلته هنلة عند الباب ،وقدمته
ً كان عطره
ِ
لصاحبة البيت ،والغريب ظلت مالحمُه أقرب للجمود ،وبطول
ِ
بسيف احلياء. الوقت ظل ينتحل الرضا َ
حيال سهرة جاءها
اختلس النظر أكثر من مرة كي يرى كيمياء النظرات التي كانت
ِ
احلني واآلخر .حدثته أن الوضع عمو ًما مل عني هنلة بنيخترج من ِ
فمعظم الناهبني قد رحلوا من الرشكة رغم ما حيصلون ُ جيدا،
يعد ً
بنفس الرشكات العاملةِ رواتب تظل األعىل إذا ما قورنت ٍ عليه من
يف نفس املجال .مل يعلق .مل يفهم ماذا تريد أن تثب َته من ِ
جمرد كالم
حيسبه فار ًغا وال قيم َة له.
وحيدا بعدما طلب منً باحرتا ٍم كبري مل ْ
تشأ هنلة أن ترتكَه يرحل
مضيفتِه االنرصاف ،فخرجت معه للشارع.
ٍ
نظرة أو لقاء عابر .لكنها ِ
جمرد مل تكن هنلة مؤمن ًة باحلب من
منجذبة نحوه .فهل شعر هو هبذا االنجذاب؟
ِ
إغوائه حاولت أن َ
تصل ما انقطع يف هذه السهرة التي مل تنجح يف
كي يتحدث ،رغم أن اللحظات القليلة التي تكلم فيها كان ُمقن ًعا
ومبهرا يف آن واحد.
ً
يف الطريق إىل السيارة أضافت السام ُء للمشهد رومانسي ًة خاصة،
47
حلني انتهائها .ركبت معهرشفة بيت ظال واقفني ِ ِ املطر وحتت
هطل ُ
ِ
بنظرة أسى قتلتها تقري ًبا. وقام بتوصيلها وودعها
صوت رنني هاتف .ظنت أنه َ فجرا ،سمعت هنلة ِ
الواحدة عند
ً
َ
االطمئنان أهنا يقينًا يف فراشها .لكن ،مل يكن سوى هذا كريم ،يريد
الكائن اللزج الذي يتطفل دو ًما عىل سهرات صاحبتِها ،يستفرس
منها ملاذا اختفت رسي ًعا ،ومل تتحدث إليه كالعادة.
أحد املواقع ،ومل يعد يذهب للعمل يف ِ
ِ ٍ
انعطافة درامية خرج يف
ٍ
بيشء من االفتقاد مل تفهم سب َبه. للرشكة .وهنا شعرت هنلة
اسمه َ
االتصال به ،ومل يظهر ُ ْ
حتاول أيام ال تدري كيف مرت ،مل
مهتام بالسؤال عنها .ومل يشعر حياهلا
عىل شاشة هاتفها .ربام مل يكن ً
بأي يشء ،أو اعتربها فتا ًة عادية ،انبهرت لدقائق ،قتلت هبا الوقت،
ثم غابت.
تلمس
َ َ
يتحدث إليها ..عىل األقل؛ كي وهل كان رضور ًيا أن
اختال ًفا بني صوته عىل الطبيعة ،وصوته عرب اهلاتف.
حني وصلت هلذه النتيجة .ظلت هنلة تضحك ،بدت تفكر
فتاة مراهقة ،عن أي صوت خمتلف تتحدث؟ لكنها مل تستطع بطريقة ٍ
ِ
االنفالت من ذاك الشجن الرهيب الذي يندفع من صوتِه الذي بدا
ٍ
معركة غري متكافئة .مل تفهم ِمل ال تتصل باك ًيا ،مهزو ًما من الدنيا يف
به ،وتقتحم عزلته؟ فربام يف دنياه يشء يمنعه أن يفعل.
48
ف عنادها وصالبتها حياله ،فال غضاضة إن اتصلت به مل ُخت ِ
اتصاالً ال هدف من ورائه ،فقط من منطلق مرشوع صداقة يبدأ ،أو
سينتهي إىل ال يشء.
بد ما يشري الهتاممه هبا ،أو حيسن كأن تعاقبه يف الرس كونه مل ي ِ
ُ
جتلس معه وق ًتا إضاف ًيا بعد
َ إرصارها أن
َ قراءة نظراهتا .فلم يفرس
تفسريا يؤيد ما شعرت به ،وهو يلقي بكلامتِه القليلة عىل ً السهرة
ِ
ناصية االنبهار.
ال يبدو متصل ًبا وجامد املشاعر ،رغم ذهول مالحمه وجتهمه.
يفهم
َ لكنها عىل كل األحوال تعاقبه؛ ألنه كان من الرضوري أن
ويرى يف عينيها شي ًئا ..ترى ما هو؟؟
َ
يكون هو ،بدت ٍ
شوق عارم أن رنني هاتفها يفجر حال َة
أصبح ُ
البعض بدا مستغر ًبا
ُ متوتر ًة بمجرد أن جلست يف مكتبها بالرشكة،
حيال الطريقة التي تتناول هبا هاتفها عند كل رنني .واملؤمل دو ًما أنه
ٍ
بطريقة ليس املتصل .واألكثر إيال ًما ،الفضول واألسئلة التي تبتزها
وفجة ..من تنتظرين أن يتصل بك؟ مبارشة َّ
مل تكن حتتاج حلالة ُحب .فهي تثق عمو ًما يف مجاهلا ،مؤكد تريد
ٍ
شعور إجيايب يمكن توظيف مقدراهتا ومواهبها؛ كي حتصل عىل
تستسلم
َ حياهتا أن
َ ٍ
لرجل حتسبه يستحق .ومل ترد حني اقتحم توجيهه
رجل ناجح ،أكثر من احتياجها لعاشق متيم.ٍ ِ
لشعور فتاة تبحث عن
49
ٍ
طرف لتمر بسهولة ،ظل ينظر من
يف قطع متواز ،مل تكن ليلة كريم َّ
ِ
كالطعنات بني خفي لعامله املمتد يف القتام ،وللهزائم التي استقرت
ِ
بانتحال ضلوعه ،احلب هو احلب ،لكن رفاهية الغرام لن تسمح
عاطفة تتجه لفتاة ،يبدو أهنا متسق ٌة مع واقعها وال تشعر مثله بالغربة
ِ
تفاصيله. عن كل
ربام انجذب هلا كوهنا تشبه بطل ًة من بطالت قصصه .حدثته
نفسه ..ما الذي يمنعه أن َ
يسأل عنها طاملا أهنا حتمل يف عينيها ما ُ
ِ
حلدوث انجذاب ما. يشري
ِ
انتظارها مبارا ًة للصرب ،ال تعرف من يصممها، عاشت ”هنلة“ مع
والختبار أ ًيا منهام .كريم ابتلعته احلياة ،وهي تكابر يف إرصار ،تـُمني
بعيدا ِ
إحساسه هبا إنسان ًياً ، باتصال ال ينم عن ٍ
يشء أكرب من ٍ النفس
تفسري آخرِ ..مل ال تقول رصاحة أهنا قد وقعت يف غرامه، ٍ أي
عن ِّ
أحدا عنه دف ًعا
تسأل ًويؤذهيا جتاهله؟؟ وال تريد من زاوية أخرى أن َ
إلحراجه أو استفزاز فضول من ستسأهلم.
رقام
رنني اهلاتف ،وعندما رأت ً
تستسلم للنوم ،أيقظها ُ
َ قبل أن
ٍ
ساعة أو أكثر بال اسم ،شعرت باإلحباط الذي مل يغادرها .بعد
ِ
منتصف الليل كذلك .انتبهت أن الرقم تكرر املشهد .ومل ترد ،وقبل
واحد يف كل احلاالت ،فراحت لالعتقاد كونه هو.
ٌ
ُ
متطفل السهرة ،يعلن هلا أن يف املرة الرابعة ر َّدت ،ومل يكن سوى
50
مرة حياول االتصال هبا .كوهنا ال ترد عىل اتصالِه املشفوعهذه آخر ّ
ٍ
بسلبية كبرية. باسمه ،وهذا يعني أهنا تتعامل معه
بعد ما يقرب من شهر ،هبطت”هنلة“ إىل أحد الكافيهات،
فعلمت أن ”عاصم“ قد هاجر .أشعلت سيجارة ،وراحت تتذكر
ٍ
طاقة هائلة من حتولت البلد إىل ِ
بنفس الطريقةَّ . كل الذين رحلوا
يسمع منها كلمة
َ الضغط والطرد ال يمكن حتملها .كان رضور ًيا أن
ِ
لكوهنا له ،لكنها مل تكن لتقوهلا. ِ
السفر كي يطمئ َّن قبل
بمشاعرها نحوه؟ فعىل مدار عالقتهامِ ملاذا مل تؤمن به ،وتتجه
حصل عىل تقييم جمحف مل يدفع بالقصة كي تستمر .مترسع ،يقول
اختار اهلامش ،وريض به ،رغم تعليمه
َ بعد أن يقول اآلخرون.
املتميز ،وسلوكه الكاشف عن ٍ
تربية صارمة.
من خلف زجاج الرشفة املطلة عىل الشارع الكبري ملحت كريم،
كثريا ،غالبت كربياءها وراحت تناديه ،مل ينتبه ،بدا أنه يتجه
تفكر ً
مل ْ
نحوها ،ومل يكن من ٍ
سبب يدفعها أن تناديه أصالً.
َ
وصل ملكان يأيت يف مواجهتها تقري ًبا. عرب من بني الناس حتى
كانت مالحمُه ُمنغلقة لدرجة ،وحني استقرت عيناه ،أسعفه النظر
جديرا
ً جسدا
ً أكثر مجاالً وفتنة من يوم السهرة ،متتلك
أهنا هنلة .بدت ُ
َ
الرجل الرشقي الذي ينظر للمرأة – غال ًبا -كامدة للتمتع. يقنع
بأن َ
البعد ابتسامة ،فردت بمثلها وأحسن منها .ولكنه مل ِ أرسل عىل
51
يفهم السبب.
يغادر موقعه ،وجيلس معها دون أن َ
َ يملك جسار َة أن
لكنها هزمت خج َلها ،فجمعتهام طاول ٌة واحدة ،وحديث ُممتد.
نفسها .فاكتفى بالنظر ملالحمها
كثريا بام تقول .تكرر َ
مل ينفعل ً
احلادة ولذاك الكربياء ،الذي يمنح للمرأة مجاالً مضاع ًفا ،وشخصية
أكثر غواية.
الصمت جمد ًدا.
ُ حتدث ببعض الفجاجة غري املربرة ،ومن ثم ساد
ِ
باختيار كلامته .يطرحها يف قسوة ،ودون فأدركت هنلة أنه ال هيتم
مراعاة ألثرها.
ِ
اخلربة ما جيعله يدرك ما هو شعورها الذي بدأ كان لكريم من
تتطور األمور ملا هو أبعد من
َ يتبلور نحوه .ويراهن عىل استحالة أن
ٍ
مكان واحد .وجيب أن ٍ
لقاء قدري الثنني من املوظفني يعمالن يف
آثاره وبرسعة.
تنتهي ُ
َ
رشوده الذاهل ،كان يرثي نفسه التي تداركها الزمن ،كانِ يف
ينهض اآلن ،وحيتضنها حتى يموت .مل يكن َ املنطق الوحيد أن
لينفلت من هكذا نظرات ،متنحه الثق َة أنه مازال ً
قادرا عىل انتزا ِع َ
احلب يف صورته التي يؤمن هبا ،وظل بطول اجللسة يصارع رغبتني؛
جالسا ،حتى ُتنهي
ً أوهلام أن يقوم وينتهي كل يشء ،وثانيهام أن يظل
كل يف طريقه. هي احلديث .ويمضيانٌ ،
متأخرا.
ً مازال هيزمه الزمن ،وتغتاله املسافات .من فيهام قد جاء
52
هي عىل الغالب جاءت بعد أن هز َمه الوقت وأرهقته اهلزائم .أو هو
من ناحية أخرى قد يبدو مل ِ
يأت أصالً.
ِ
بطول صمته ختتلس النظر .تقسم يف الرس أهنا تقري ًبا ظلت
ترصخ يف وجهه :خت َّلص من هذه اللغة .كادت أن َ تسمعه .تريد أن
تنهض ،وحتتضنه ،وتبكي ،وال تدري تفعل ما كان يفكر فيه ،أن َ َ
ٍ
بمسئولية أخالقية تنطلق من داخلها كي شعورا من وضع يف ِ
قلبها
ً
سطوة احلزن والوحدة عليه. ِ حتميه من
ِ
صديقاهتا املقربني ،فكان ذلك إيذا ًنا بخروجه وصلت واحد ٌة من
من املشهد .هنض واق ًفا ،معلنًا أنه اطمأن عليها ،فلن يرتكها وحيدة.
ِ
بتكرار احلضور لذاك املكان طاملا أهنا تأيت إليه، وعدها كذ ًبا
وله تودعه .وعيناها ال تكادان ترتكان تفصيل ًة منهورحل ،وهي يف ٍ
ِ
بطول اخلطوات احلزينة التي غادر عىل ِ
إثرها املكان.
***
53
()7
ُ
فجامهلا الواثق كانت طريقة ”هنلة“ تتجاوز فكرة أهنا فتاة متمردة،
تصورا غري ًبا عن احلب ،ربام ال يرتبط يقينًا بالقدر ،لكنه عىل
ً منحها
الغالب قرار تتخذه متى تريد.
جتد الرجل الذي يتسق مع أحالمها .كثريون مؤكد حاولت أن َ
احلديث معها ،وحاولوا تطوير عالقاهتم هبا .ولكنها مل َ حاولوا
غرورها وثقتها بنفسها
ُ ترفض هذه املحاوالت بموضوعية ،بل كان ْ
جيهضان هذه املحاوالت .يعتربها ضحاياها مسكينة ،تستقوي
ملداراة ضعفها الكبري .أو متارس تعال ًيا يمنحها الوجودِ عليهم
والغموض ،االعرتاض عىل كل يشء كي تنفرد برؤيتِها ،وآخرون
أرجعوا األمر ل ُيتمها املبكر ،فلقد فقدت أبوهيا يف حادثة سري مدمرة.
ٍ
عمل هادئ، هزمت األقدار”هنلة“ من جديد .ففي صباح يوم
ٍ
بشكل جيد ،وإن مل يكونا وجدت أن منري زميلها يعرف كريم
ِ
فللرجل زهد كبري حيال تكوين الصداقات .لكن صديقني ُمقربني،
ترسب من حديث زميلها مديح كبري لرقيه وإنسانيته. َّ
54
إذن ما هي أزمته ،فهيئته ال تيش برجل قد زهد احلياة ،فعندما
غادر السهرة ورحل ،كان عطره مازال عال ًقا يف املكان.
لدرجة كبرية .أم تراها قصة حب ملتهبةٍ هل أزمته أنه أحب أ َّمه
أجهضتها الظروف ،لكن أي ظروف تلك ،فعىل ما يبدو من هيئته
أنه ال يعاين من يشء!!
َ
أدرك بطول األيام ما بني عتاب النفس ،واخلوف من املواجهة.
ِ
بأخطائه .لكنه ” كريم“ كم كان قاس ًيا ،هو عاد ًة ال ُيكابر ،و يعرتف
إنسان ،ال يستطيع أن يصادر عىل مشاعره ،لكن ،عىل ماذا سرياهن
نفسه كعاشق .ماذا سيقول املتابعون حلياته
إذا ختىل عن قلقه ،وطرح َ
رغم ندرهتم .إذا ترك فراغاته هلا .فتا ٌة ال تصادف أزمة اختيار،
جتعلها تربط حياهتا برجل لآلن ال يؤمن بأن هناك ح ًبا يفوق حب
اإلنسان لنفسه.
اعتيا ُد اهلزائم جعله ال يفكر ماذا حيدث إذا ما فقدها .وملاذا
يفقدها .يكفيه أن تكون صديقة ُمقربة .فليسمح هلا أن تقرتب .يا
تغيريا يف شكل حياته .لكنها رغبة نفعية كرهية ،لن تتسق
ربام أنتجت ً
مع صفاته ،فنفسه ال تتورط يف هكذا معاجلات ال تناسب عزوفه.
وقدرته الفائقة عىل االنسحاب.
يف حماولة منه لتدارك مجود مالحمه باللقاء األخري مع هنلة ،اتصل
هبا يدعوها للسهر يف مكان رائع ،ال تدري حني سمعت برغبته
55
للسهر معها ماذا أصاهبا .هل ظلت واقفة عىل األرض أم رأت
نفسها وقد سبحت يف اهلواء.
بعد سهرة مل تكن ختلو من كلامت غزل منمقة ،ظال سائرين
بالقرب من الشاطئ ،بمنتصف الطريق وضعت كفها يف كفه .بدا
مستسلام .رغم عدم نطقه بأي كلمة متنحها الثقة أهنا عىل الطريق
ً
وحتولت ِ
بالصمت كمحاولة لتشجيعها. الصحيح ..اكتفى
ّ
روح حياهلا هنلة اكشفت وضحكات، خفيف ٍ
حديث اإلشارات إىل
َ
ساخر كبري .يستطيع أن ُيضحك أحجار الطريق إذا أراد.
بمجرد أن دخلت “هنلة“ لغرفتها ،ويف أول ٍ
لقاء هلا مع املرآة.
صدمتها مالحمها التي مل تعرب عن سعادهتا هلذا التطور مع الرجل
ُ
شيطان ِ
التحدث إليه ألطول فرتة ممكنة .أرهقها الذي حرصت عىل
الليل كي تفكر ثانية ،فرغم كل يشء فالرجل مل يقل أي يشء عن
أزمته ،أو للدقة حتدث معها عن غربتِه وأسباهبا .لكن تفكريها
املتوجس اآلن نوع من اخليانةِ .مل ال تعرتف أهنا حتبه؟
لكنها مريض ٌة بجامهلا ،عادت لنفس احلسابات القديمة ،التي
تدفعها لتقييم من خيطب و َّدها ،عىل قياس ما منحتها الطبيعة من
مقومات الفتاة اجلميلة ،التي جيب أن تربط مصريها برجل يستحق
ال أن تدخل حلضنه ،دون أن تبدو كمن تنازلت كي حيتوهيا. فع ً
تعكر صفو الليلة .هي فقط متارس دالالً عىلَ مل ُت ِرد هنلة أن
الدنيا ،ولو صادفت يأس اآلخرين حيال ما ُتبديه من رفض أن
56
ٍ
هزيمة متوقعة ،أو فيض مشاعرها ،وبغض النظر عن ِ تنسجم مع
بشكل طبيعيٍ ،
خال من هكذا أفكار. ٍ خسارة عاجلة .لعاشت
إن تعاطيها مع احلب برؤيتِها هذه سيحوهلا ملسخ مجيل .فاحلب
ليس كالدنيا وتفاصيلها ،يريد منا احليطة؛ إذا ما فكرنا يف العودة
دائام
وكأن شي ًئا مل يكن ،كي نخرج من التجربة بال خسائر .واحلذر ً
َ
يبسط صوجلا َنه. القدر إذا ما أراد أن
َ لن يمنع
“ كريم” نفسه قد أعطى لقلبِه فرصة أن يفكر فيها ،بل ويعطيها
مساحة أكرب من غريها قد تسمح لتجربته معها بالنجاح.
أخريا ،أو هكذا حسبت نفسها .لكنها ظلت ً نامت “هنلة“
مستيقظ ًة حتى اندفع الفجر يطل من نافذة غرفتها ،تراهن عىل ر َّدة
فعل قد تصدر منه تربر لنفسها رغبتها للتوقف عن السعي للقائه ،أو
متارس عليه هذا املعنى ،وهي بالكاد تقف
َ اختباره .وهل ستقدر أن
ِ
أعتاب قلبه؟ عىل
استيقظت ،وعىل سبيل االختبار اتصلت به ،مل يغب ،بدا وكأنه
ممسك ِ
هباتفه ،فرد عىل الفور .كان بصوته نربة هلفة يمكن مالحظتها،
بطول احلديث ،والتحيات الباردة ،ظلت هنلة ثابتة ،ومل تشأ أنِ لكن
كل دليل عىل اشتياقه تندفع .أدهشها أنه يف هناية احلديث ختلص من ِّ
وسعادته كوهنا تكلمه .وانتهت املكامل ُة عىل أمل بلقاء قريب.
أمره بروح طفلة ،تدرك أهنا أنثى مجيلة. شعر أن هنلة تتعاطى مع ِ
ومل يعاقبها؟ ففي كل األحوال لن لذا مل يتورط يف رغبة عقاهباِ .
57
رب كي ِ َ
ينتحل عليها مشاعر ليست حقيقية بقصد خداعها .ولن يص َ
يرى النتيجة.
عادت هنلة للحديث مع منري بقصد إلقاء بعض األسئلة عن
الرجل ،ومل تكن ختشى من فضوله ،وبم سيفرس هذه األسئلة ،ال
توجد أزمة إن أدرك أن يف قلبها شيئ يتجه نحوه .الغريب أنه كان
َ
يمتلك بحكم يمتلك مساح ًة مقبولة من تفسري هنلة نفسها ،قبل أن
يطرحه اآلن كي تستبني حقيقته .لذا
َ الزمالة رأ ًيا يف كريم ،يمكن أن
ٍ
معلومات إضافية عنه بقدر ما واجهها بحديث يمنحها مل يفكر أن
َ
فرس هلا عىل ماذا ستقدم..قد ُي ِّ
-هنلة !! ..كريم ليس الرجل الذي يصلح معه ما نعرفه عنك،
رجل واقعي فيام خيص عمله وناجح ِ
احلرية ما يكفي .هو ٌ فلديه من
جدا ،يبحث عن ِ
ألبعد حد ،لكن يف منح مشاعره قد يكون خيال ًيا ً
ب ِ عالقة قد تبدو مستحيلة ،لن َ ِ
يرتك لك نفسه ،حتى لو آمن أنك ُح َّ
ِ
نجحت أن تشعريه كونه الرجل األهم يف ذلك العامل. العمر .ولو
قرارا بالبعد .وهو
ستظل املعاين املرتبكة يف يقينه تطارده .اختذي ً
ٍ
حسابات مسبقة ٍ
رجل ال يملك ِ
أرجوك ابحثي عن مؤكد سيتفهم.
ِ
أرجوك. عن احلب.
ال تدري كيف سمعت هذه الكلامت .واضحة كالشمس،
وطاعنة يف عنف .حاولت بإرصار أن خترج بعيد ًا عن مركزية
احلديث عنه ،لكنها فشلت.
58
بعد صمت أكمل منري :إن كريم ال يعرف جذوره ،فلقد مات
أبوه مبكرا عىل ما سمعنا.
وأمه كانت كل دنياه ،فموهتا قد حجبه عن الناس ما يقرب من
شهرين قبل أن يعود ويستأنف العمل.
-هنلة!! هذا الرجل ليس ابنًا لذاك الزمن ،عنده من احلساسية
املفرطة ،ويمتلك الكثري من اخلطوط احلمراء.
ينته الكالم ،لكن حديث منري أجهدها ووضعها حتت طائلة مل ِ
ٍ
ضغط مل تتحمله ،معلومات حادة وأصعب ما فيها أهنا صادقة .فلقد
ظهر يف عاملها من يعرفه .مل ْ
تشأ أن تتهم منري باملبالغة ،فسمة كريم َ
وشكل حياته قد يؤكد هذا املعنى.
سحبت سيجار ًة من علبتها ،وراحت تدخنها بغيظ .ترى لو
ربها .ما هلا
مهام يف حياته أمل يكن من الرضوري أن خي َ
كانت شي ًئا ً
تضع نفسها فيها .هو أدوارا ال يوجد مربر أص ً
ال أن ها تعطي ِ
لنفس
ً ً
جمرد استلطاف ،بداية قد تكون مشجعة .لكنها ختشاه ،يرهقها نظام
ٍ
برجل ال يؤمن بأن حياته وغموضه ،هي أجبن من مواجهة العامل
اآلخرين موجودين يف حياته ،ومن املمكن أن يؤثروا يف حركتِها
ونظامها.
***
59
()8
قرار
دخلت”هنلة” للفيسبوك تبحث عن “حازم” الذي ابتلعه ُ
اهلجرة .قرأت ماذا يكتب عىل حسابِه .يبدو أنه جتاوزها ،مل يعد
ِ
منشورات عاشق متيم ،يكابد مجود احلبيبة التي كان من يكتب
املفرتض أن َ
جتعل حلياته هد ًفا.
راحت تكتب رسال ًة مقتضبة تسأله عن احلال وكيف هي أيامه.
ٍ
لفتاة ُأغرم هبا .ويريد منها َ
أرسل هلا حسا ًبا جاء ر ُّده الغريب أن
وتكون رأ ًيا فيها .فهو عاد ًة يثق يف ِ
رأهيا حيال اآلخرين. ِّ متابعتها،
جتاوزها
َ ِ
بسالمة ن ّية تصيبها باحلزن .فلقد كانت الدردش ُة تتحرك
فعالً .واآلن هي واحدة من أهل الثقة يريد نصيحتها ورأهيا .سقطت
ٍ
ملاض مشرتك كان ِ
بدالل األنثى يف إشارة سقو ًطا رهي ًبا حني ذكرته
فيه ثمة معنى الستلطاف قد يتطور لعاطفة حب ُمكتملة .فاجأها
باعرتافِه أهنا كالضمري ،وليس سه ً
ال أن يقع املر ُء يف حمبة ضمريه
يصوب ويراقب ويعاقب حركته وتفاصيله.الذي َّ
60
لقد تذكر كيف كان حيكي هلا عن نزواتِه العابرة .ومشاعره
مشاعرا
ً الربيئة التي ظل يراها ذات معنى وعمق .فلو كان حيمل هلا
يصارحها هبفواته .بل وحيمد اهلل أهنا
َ لوجد من الصعوبة أن
َ حقيقية،
تسع لتطوير عالقة؛ حمكوم عليها بالفشل .هي بالرضورة صداقة مل ْ
وأخوة ُمنزهة.
َّ متينة،
ِ
بالبساطة يف تصوراته حياهلا .فهي من مل تتهم “هنلة” “حازم”
ايدا مع جعلته يفكر يف ِ
أمرها عىل هذا النحو ،دفعته دف ًعا أن يكون ُحم ً
مشاعره .ظل لفرتة يبتهل منها كلمة لكنها مل تقلها .فلامذا تبحث عنه
اآلن .أم تراها آمنت أن “كريم” قد خرج من ِ
حياهتا بالفعل؟
عىل الضفة األخرى من الليل .أدركت “هنلة” أن عرشة شهور
منذ أختفائه ليست رقام سهالً .تقاطعت مع نفس احلرية األوىل؛ يوم
انتظرت اتصاال منه بعد السهرة التي أعقبها شتاء قاس .حرية الرضا
أخريا،
بام آلت إليه األمور ،أو البحث احلثيث عنه .لكنها استسلمت ً
وعادت لطاحونة العمل.
يف صدفة ساقها القدر ،أدرك كريم أن ثمة حدي ًثا جيب استكامله،
ففي عرص يوم من أيام نوفمرب وبعد شهور مل يعد مشغوالً ِّ
بعدها،
وجد “هنلة” يف واحد من بارات وسط املدينة.
للمرة الثانية يستشعر قيمة أن متتلك األنثى هذا القدر من
احلضور .حاول أن يبدو وكأنه قد نساها ..منعه خجله من إبداء
الشوق لرؤيتها ،فانتزع يده من يدها برسعة وهو حيييها .ويبدو
61
أهنا شعرت به ،أدركت أن يف األمر شي ًئا .كان غموضه القديم يثري
تأخذ األمور ببساطة ،وترحب بوجوده َ حفيظتها ،فحاولت أن
بتحفظ.
جلس قبالتها تقري ًبا ،أرادت أن تصل ما انقطع من أحاديث
قديمة .وال تدري كيف تستطيع .،فلقد أجهضت البدايات .وهو
عىل الغالب ساعدها .كان يفهم كل يشء ،خماوفها وهواجسها ،ترك
َ
يورط نفسه وينجرف بمشاعره نحوها من الكرة يف ملعبها ،دون أن
جديد.
تعامل معها بخبث الرجل ا ُملجرب ،بدا أكثر ً
حتررا ولينًا وكأنه
َ
تنتحل مرة ،وهنا كان يقتلها بواقع كل ثانية .حاولت أن
يراها ألول ّ
الصمود والثبات .حتدثا وضحكا واشتبكا ،وختاصام وتصاحلا.
ضحك يف الرس ،مازالت تواجهه بنفس اآلراء ،التي إن مل تكن
تستحق أن تنساها ،فعىل األقل جيب مراجعتها.
أعجبها إيام ُنه القديم بام يعتقده ،ومنطقه ،مقنع ولديه اإلجابات
احلارضة ألي سؤال.
ظلت ُتتمتم يف رسها :لقد قررت أن أنسى كل يشء وأي حماذير
وأحبك.
كثريا ومل يعد،
غاب ًَ قام لري َّد عىل مكاملة أتته ،والغريب أن
دفع احلساب كله .بدت مرتبك ًة وكارهة هلذا الترصف
واألغرب أن َ
62
ٍ
لرجل قرر التخيل عن ذوقه .هو ابن هذا الزمن، الذي أرشدها
ٍ
حلظات عابرة ،ومن ثم ينتهي كل تنجز
الناس تتحرك يف خميلته كي َ
يشء.
يف آخر الليل وجدت رسال ًة منه عىل ِ
هاتفها كتب فيها:
“ -ليىل” ،أعتذر بشدة فلقد حدث يش ٌء استوجب مغادريت!
ضحكت يف غيظ ،وردت عىل رسالته:
-اسمي “هنلة” ،يبدو أنك نسيت.
حيا يف َ
يكون رص ً وملا مل يرد ،أغلقت وجهها ،فلقد اختار أن
فجاجة.
من خلف زجاج مكتبها ملحته يف مقر الرشكة ،ظلت تراقبه ،فلم
متخذا هد ًفا
ً جتد غري متثال من الشمع ،ينظر كالغائب عن الوعي،
حتدث نفسها برغبة عارمة أن تتكلم معه، ثابتا ال حييد عنه .كانت ِّ
بعض املفاهيم ،لكن منعها كربياؤها.
تصحح له َ
َ ولو عىل سبيل أن
تعرتف هنلة أن عودته قد رضبت ثق َتها يف نفسها ..فلم تراهن
ألبعد من حماوالت ،لالقرتاب منه ،ظلت جالسة يف مكتبها منرصفة
بالكلية ملتابعته ،ومل تكن تدري أن منري منذ ملح كريم يف رواق
ِ
ردود فعلها حيال حضوره .حتدث إليها ،مل الرشكة وهو يركز يف
تكن تركز يف أي حديث دار أو سيدور بينها وبني منري ،الذي كان
نفسه ً
أخا هلا .والذي أسعفه ذكاؤه ،أن صاحب َته مشغولة إىل يرى َ
63
درجة .بل وفيام هي مشغولة .نصحها جمد ًدا ،وبو ِّد ظاهر أن الرجل
أحدا مما نعرفه .غامض كاجلحيم ،ومل يعدخمتلف ومهزوم ،وال يشبه ً
مهتام بتأسيس أي روابط جتمعه بالناس.
ً
إخراجه من حميط
َ كانت هنلة تريد يقينًا أن حتبه ،هي حاولت
تفكريها لكن ربام كان غموضه حيفزها ألن تواصل ،بيد أن املشاعر
ليست جمرد أدوات ُنلقيها يف طريق من نحب ،وليس احلب بأي حال
قرارا نتخذه متى احتجناه .مؤكد هي ليست فتاة خيالية كي تفكر ً
هبذه الطريقة ،لكنها إن حلت رموزه املستغلقة لن تتورط يف حبه
فقط وإنام ستحاول تشكيله عىل قياس ما تريده يف رجلها املنتظر.
تناولت سيجارة ،وراحت تدخنها بغيظ .لكن حني ملحته من
زجاج مكتبها ،يعرب أمامها طلبت منه توصيلها.
حياها بإيامءة ،وقال :بكل تأكيد .كان يعرف باليقني إهنا تريد
أن تتكلم يف أي يشء .لكنه الذ باجلمود ،هي تنتحل عليه اجلرأة.
وهو ال يريد منها شي ًئا .ومن اجلميل أهنا توقفت ومل تسع أن جترب
تصميم حالة تبدو معها وكأهنا مغرمة به.
-أنت تعرف زمييل منري؟
-ال .أعرف أخاه الذي مات يف ِ
أحد مواقع الرشكة ،وهو هنا
يعمل مكانه.
بك؟ودفعا للصمت بطول الطريق سأهلا :ما ِ
ً
64
ٍ
مجود جتد ما تقوله .فقدت كل ما حاولت االختفاء خلفه من مل ْ
مضاد ،تواجه به جتاهله الالفت .مل ُجت ْ
ب .وقبل أن هيز َمها ضع ُفها
حياله ..شكرته أن اقتطع من وقته ،وقام بتوصيلها ،فرتكها وهو
ٍ
بابتسامة كبرية. حيتفظ يف ِ
فمه
مرت هذه الليلة .أو كيف اقتحمت ميال ُخميل َته
ال يعرف كيف َّ
ٍ
باشتياق جارف أن يرى سوزانا؟ املتعبة ،وملاذا شعر
تسيطر عىل جزء كبري
َ سوزانا ..أين هي؟ استطاعت بسهولة أن
من تفكريه ،خبرية وناجحة يف احتوائه ،أعطته نفسها بثقة أخجلته.
ال ،هو غال ًبا ال خيون من يثقون به .ومل يكن حيمل يف نفسه تطلعات
رجل يسعى فقط لقتل الوقت .لكنه متجمد ،وقلبه عىل البعد يصوغ
تصورات ال تصلح لعامل يبدو كالغابة .بل إن الغابة حيكمها قانون،
وليس نزوات املرىض واملعقدين نفس ًيا.
غرهامسكينة هنلة ..ظل بطول الليل يردد هذه الكلمة ،فلقد َّ
الوجه ا ُملربك ،حسبته ثقة بالنفس لرجل يمتلك االستغناء .وربام
يستطيع إنتاج عالقات وتداخالت مع البرش تتسم بالود.
ملاذا مل تالحظ اهلاالت السوداء التي تعني طول السهر؟ أو ترى
انكسار الروح وقد ترسب من صوته؟
كانت األيام متتد يف العمل حيث فرع الرشكة القريب من
ٍ
ملكان آخر ،حتى الساحل ،وكالعادة أحلت عىل كريم رغب ُة التنقل
65
ِ
استقبال بال أو يفكر يف توابعولو خارج البلد بالكامل ،هنالك مل ُي ِ
ِ
وجهة هنلة لرغبته اجلديدة يف الرحيل .مل يكرتث ،هي تعبث من
يستقر عىل أي رغبة قد جتعل هلا مكا ًنا يف حياته.
ْ نظره ،وهو مل
رحيام هبا ،رمحة ربام ال جتد ما يربرها،
ً حاول ساعتها أن يكون
فقد ظل بذكاء يالحظ تطورات ظنوهنا ،قبل مالحظة ما قد يبدو
ٍ
كمشاعر حقيقية ،تنطلق منها جتاهه.
***
66
()9
67
تصارع من أجل أن
َ هامت مع اإلجابة ،ملست شي ًئا قد يغرهيا أن
تكسبه .وحتتفظ به.
مرة .فلقد عاشت فرتة
كانت ُمهيأ ًة ألن تتكلم عن نفسها ألول َّ
مع خالتها ،بعد وفاة أبيها وأمها .سنوات ومل تعد قادرة أن تتحمل
الضغوط التي مورست ضدها .خدمها أن خالتها صغرية ومطلوبة.
فتزوجت من مهاجر ،وصارت تأتيها يف زيارات متقطعة.
مؤكد كان حيتاج هذه اإلجابة ،كي يفرس هذا التحرر النسبي.
فقد ملحها تدخن يوم السهرة ،لكنه مل ُيعلق .املالبس ،اجلسارة يف
تأسيس شكل معني لشعرها قد يبدو منفل ًتا .هي مجيلة ،وما كانت
لتحتاج إلبراز ذلك املعنى .وإن كان اجلامل يف هناية املطاف إحساس
ثقة تعرب عن نفسها ،وما تفعله بشكلها جمرد إضافات.
يف هذا العشاء أدركت أهنا قد ظلمته ،فالرجل حكاء بارع،
خفيف الظل ،وخملص حني يبدي النصيحة ،إنسان باحلق كام وصفه
منري .لكنها أشفقت عليه لكونه عىل هذا النحو من التوحد.
عىل شاطئ البحر كانت الصورة استثنائية بكل تفاصيلها،
عاشقان متيامن ،خيتلسان من الوقت ما يشبع حنينهام ألن يقوال كل
يشء .كان ممتن ًعا يف البداية أن يبدو منطل ًقا مع فتاة يف هذا الطقس
ٍ
كمراهق مندفع .لكن بنظرة واحدة منها الصعب ،خاف أن يبدو
ٍ
التفاتة تعطيه طو ًعا فرصة أن استسلم .ظلت بجواره ،ويف كل
يقبلها ،وال تدري ملاذا احتاجتها منه ،أو ِمل استجابت.
68
حلظة من رشود متأمل كيف تتكون الذكريات ،التي ٍ أدركت يف
حتوي بني طياهتا هذه التفاصيل ا ُملبهجة .تراجع خو ُفها من القصة،
األجدر هبا .مؤكد إذا غاب ستفتقد
َ وتركت نفسها للرجل الذي تراه
هذه اللمسات.
كثريا ،ومل يرد .وهذا املعنى كان يضغطها ِ
يف اليوم التايل اتصلت به ً
فتح بدا كمن يستعد للسفر.فعالً .زارته يف بيته وبمجرد أن َ
-واضح أنك ال تشعر بيشء.
-من قال؟
-طريق ُة تعاملك معي تقول هذا بوضوح جارح.
ِ -
أنت مبالغة إىل درجة.
انتهى احلوار البسيط وهو يضحك وينظر من نافذة تأيت عن
يمينه ،وهي تكاد أن جتن ،يقول وكأنه يف عامل آخر:
-ال يوجد من يشء يمنعني أحبك ،بل قد أكون حمتاجا أن أبدأ
ِ
معك قصة كبرية ،يدفعني هلا إيامين إنك خمتلفة .لكني لست مهزوما
كام يشاع .أزمتي إنني رسمت احلياة وهي جزء أصيل فيها ،فلام
مضت ،مل أكن أضع يف خميلتي حلام بديالً .شي ًئا آخر يمأل دنيتي
حال غياهبا .أخشى أن أظلمك .رغم جدارتك باحلب واالحرتام.
حلام وأضعك فيه .ولو توقعت أسألك فرصة واحدة ،سأرسم ً
إنك حب العمر.لك بكل صدق ِ غيابك وتأملت ،فسوف أعلن ِ
69
أبدا .حتدث وكأهنا غري
ظل يقول هذا الكالم ،ومل ينظر هلا ً
موجودة.
بطول الوقت حتركت يف النهر مياه كثرية .مل تتحمل هنلة فكرة أن
يصوغ حلام وجيرب أن يعطيها دورا فيه ،فالوصول لذاك املنعطف
جعل سعادهتا تتبخر.
كانت تصدقه أو تريد أن تصدقه ،ولكنها ال تؤمن بكونه سيتغري،
حيا لدرجة ،ال بديل
لن يصوغ مكا ًنا هلا يف حياته يو ًما .لقد كان رص ً
ملا يعيشه .والفتاة يف ثقافة العرب مضغوطة دائام بعامل الزمن.
تعرتف أهنا مل تشك يف إخالصه هلا ،ومل يكذب عليها ،بذل جمهو ًدا
مضاع ًفا كي يقن َعها أهنا األهم .لكن ظلت سلبي ُته وختوفه يقلقها من
ٍ
انتظار عبثي لرجل عىل الغالب لن يغادر ما يؤمن به. التعايش يف
حسمت أمرها بعد أن أدركت السنة ويزيد منذ التقت به جمد ًدا.
تعادلت فيها املعطيات :هو هلا .هي ليست له مهام حدث .فال جديد
يف حياته قد يغري باألمل .آمنت أن ثباته حيمل معنى االستهتار هبا
وبمشاعرها.
بعيدا عنه ،ماطلت ،لكنها اآلن مع أول دقة يف احلياة املوازية ً
باب ،ومع ما سبق وأن خططت له إزاء موقفه املتجمد منها.
وافقت ،واندفعت بثقة إلنجاز حياة جديدة .خرج كريم من حياهتا
حتولت النظرات ا ُملحبة املسكونة بالوله ،إىل حقد
كأنه مل يدخلها .بل َّ
70
وامتهان ،وتعال منتقم جزاءا لكل حلظة كانت حتمل له فيها مشاعر
خاصة وصادقة.
عندما حاولت استقراء كيف استقبل هذا الترصف املباغت ،مل
يبد
جتد إجابة تشعرها باالنتصار عليه .فهو مغلق لدرجة تستفزها .مل ُ
عليه أي يشء .كانت تضحك ملن يصفها يف حياته كمرض عارض
تعمق إحساسها بالكراهية للوقتولقد شفي منه .ربام يف قادم األيام َّ
الضائع .أو نقمت عليه االستسالم الكيل للهزيمة .هو مل يكذب عىل
كل حال ،قال هلا احلقيقة كام يراها ،وهي انتحلت احلامقة ،وكان البد
من هناية.
ٌ
كل دخل آتون ما يشغله .للدرجة التي ما عادت تسمح للناس
بإدراك الوقت ،وكيف يتمدد ،وملاذا يتقلص.
مل تكن احلياة عىل قياس حساباهتا تتطور ألبعد مما رسمت.
مصادرة عىل املطلوب لو حسبت الناس سيتشكلون عىل حسب
ما تظن وتعتقد .فليس سهال أن يتفق اإلنسان مع عامل يرفضه .أو
احتدم خالف لن ينفع معه ُهدنة ،أو سالم عابر.
أدركت هنلة أن من العبث البحث عن أصدقاء قدامى يفرسون
مرا ومل َتره
هلا ما ال ُيفرس ،وال إدراك أن عامني كاملني يف هذا العمل َّ
ولو صدفة..
أين ذهب كريم؟
71
إنه رجل رشقي مستبد ،ربام خاف من اختالفها .وراح يؤسس
العامل املوافق لرشوطه ،من الواضح إنه ال جديد قد يؤثر عىل
عالقتهام .ملاذا ال تتحرى الصدق وتعرتف أهنا ساعدت نفسها أن
خترسه باالستسالم لغرورها؟
يضع هناية قدرية تتسم
ال أن َ ذهبت مع ظنوهنا .وكان الوقت كفي ً
بالعطف .قد يكون نساها لألبد ،ومؤكد عنده الدنيا التي تستطيع أن
تستلبه من أي يشء.
***
72
()10
73
دلفت زوجته إىل حيث جيلسان ،وحيته بعربية واضحة ،جلست
ما شاء هلا الوقت ،ثم تركتهام ليكمال ما كان من حديث.
أدرك أن هذه البالد تعلم قاطنيها الوضوح واملبارشة ،فلقد
صدمه أيوب حني سأله بلهجة صادمة ..ملاذا أشعر إنك يف ورطة.
فرد كريم بلهجة يائسة:
-ال أعرف ماذا أريد ،مسكون بحرية وتوتر منذ أن بدأت أفهم
العامل من حويل .كل قصيص جمهضة ،وعندي أزمة ثقة يف كل يشء
يتحرك .اجلامد وحده هو ما يمنحني الراحة والطمأنينة.
كانت اإلجابة وكأهنا سباحة يف عامل ذلك األيوب الذي انشقت
األرض وأخرجت فليسوفا مار ًقا .فلقد ترك الديار وهو طفل
وبصحبة سيدة بولندية كانت تعمل باملستشفى األمريكي .بعد
موت أبويه زمن احلرب .أحسنت تربيته ،ومل حتاول أن جترده من
جذوره ،بل ظلت تبحث عن أي مصدر حيافظ له عىل هويته .وقد
نجحت إىل حد كبري ،لكنها نست أن بيئة اإلنسان هي التي تشكل
سامته ،وليست اجلذور وحدها .ماتت تيودورا التي كانت منه
بمنزلة أم حقيقية؛ تاركة خلفها ثروة ال بأس هبا.
ظلت طفولته كالكابوس ،يطارده يوم ًيا ،يتذكر فقط رفاق
اللهو واللعب .حتى حدثت الكارثة وضاع كل يشء .عاش
احلياة والتقى بالفتاة التي صارت زوجته .مل تعش حياهتا كأي فتاة
74
أوربية ،مكثت يف املدارس الداخلية نظرا النشغال أبوهيا عنها،
أيضا ،ولكنه ُيتم ُمقنّع عىل ما يبدو ،ونظرا للتامس مع
هي يتيمة ً
تلمس أيوب الطريقة املثالية لكي يكسبها .فمفتاح
هذه احلقيقةّ ،
قلبها وحبها .هو أن يغمرها بالعطف واحلنان الذي افتقدته يف
بواكري عمرها.
وبدوره كان يريد ما هو أكثر من احلب ،وهل هناك ما هو أكثر
واحدا يف
ً من احلب ؟ نعم ،يريد أن يذوبا معا حتى ليصبحا كيا ًنا
حياة حتتاج لذلك .
تم حتديد كل يشء وظلت املشكلة أين يتمم مراسم زواجه،
وهذه املسألة كانت ترهق تفكريه ،فعرف من والدها أن املراسم
ستكون يف صورة ٍ
حفل بعد إمتام عقد الزواج بمكتب التوثيق املدين
التابعة له بلدهتم.
يعرتف أيوب أنه كان يوما فاص ً
ال من أيام حياته ،يوم أن تزوج
من “ماتيلدا” وألول مرة يكون عىل هذا القدر من التفاؤل ،وجد أن
الدنيا بصدد رسم شكل آخر حلياته ،فلم يعد ذلك الرجل الغريب
املطارد يف كل حلظة بوطن يبدو كاهلاجس.
حرضه معنى غريب وهو جيتاز باب البيت ليبد َأ معها اليوم األول
حتت سقفه ،فقد طلب من زوجته أن تكون ابنة وأخت وليست
جمرد زوجة ،ربام ألنه وحيد ،حاول أن خيلق هذا الشعور ،ويعيش
75
تفاصيله ،لكنه يبتسم حني يتذكر أن هذا االتفاق كان ينهار بالكلية
يف غرفة النوم.
كانت السعادة منترشة عىل مجيع األصعدة ،نجاح يف العمل،
وحياة هادئة مع سيدة مجيلة وعظيمة بالفعل ،حياة جعلته خياف أن
ُحيرم من هذه السعادة ألي عارض ،وخصوصا أنه معتاد عىل اقتحام
كثريا ما اعرتضت حياته بشكل يدعو للرثاء،
األشياء املؤملة ،التي ً
لكنه أعرتف أن ساعات الصفاء ظلت مستمرة ،والتفاهم عميق،
واحلب املتبادل هو الدستور الذي أقسم عىل احرتامه .
مكث أيوب لفرتة يمرن نفسه عىل سامع كلمة بابا ،بعد أن أخربته
رسا ،ويتصنع ما
وحيدا كي يقوهلا اًّ
ً زوجته أهنا حامل ،كان ينزوي
يوحي بكونه يرد عىل ابنه أو ابنته املتوقعني ،ولكم كان حزينا حيال
ذاك التخيل ،ال ليشء يف احلقيقة ،ولكن ألنه مل يقلها من قبل ،هذا
باإلضافة إىل كارثة أخرى ال تقل أ ًملا عن األوىل حيث سيظل يسمعها
باألملانية ،فيضيع مذاقها الرائع حال سمعها.
اجلميع حياولون هتدئته ،مشفقني عىل خوفه وقلقه ،حتى
ُ كان
خرجت إحدى املمرضات التي أعلنت له البرشى ،فقد ُرزق
بمولود ذكر ،وبإمكانه بعد دقائق معدودة رؤيته ورؤية زوجته .ظل
يبكي دون أن يفهم رس هذه الدموع املنسابة يف سخاء.
76
هل كانت دموع الفرح التي كان يسمع عنها؟ أم يبكي عدم
وجود أبويه كي يريا حفيدمها .والغريب حني دخل لريى زوجته،
قبلها وشكرها ،وبدون وعى منه أو قصد قال:
-أشكرك أن ِ
أتيت يل بأخ حيمل لقب ابني .فبكيا م ًعا.
تصور ،فقد توقع من فرط ثقته
كان والد زوجته أكثر كر ًما مما ّ
َ
الطفل عىل اسمه ،و الغريب أنه نصحه أن يف حمبته له أنه سيسمي
اسام لينًا ،كي يكون مناس ًبا لثقافتهم ،وىف نفس الوقت ليس
يسميه ً
غري ًبا عن ثقافة أبيه ،وهنا يعرتف أيوب ،ورغم كل يشء أنه فكر يف
حركات عينيه وهو يالعبه
ُ “سامر” .فكان قرة ٍ
عني له وألمه ،وكانت
تنم عن ذئب عتيد قد ورث مكر أبيه ،وتلفيقاته ا ُملقنعة.
ضحك كريم حيال ما سمعه ،ومل ُي ِرد أن يثقل عىل الرجل املمتع
ح ًقا ،فلم يبد عليه أي أزمة لغربته ،ماذا وجد من األوطان غري
احلرب والدمار والغربة؟
رحل تاركًا خلفه هذه األرسة السعيدة وهو ُيمنِّي النفس أن
يلتقي بأيوب جمد ًدا ،فعىل ما يبدو قد وجد فيه غواي ًة من نوع خاص.
وعدا أن يصطحبه لألوبرا ،فثم ُة
والرجل بدوره مل خيذله ،بل منحه ً
مغن كبري سيغني ليلة السبت.
عاد كريم لغرفته يف الفندق ،حاول أن ينا َم فوجد يف سقف الغرفة
طي ًفا يشبه سوزانا ،ملاذا مل تكن هنلة ،ربام ألن سوزانا أجنبية أو تكاد،
77
بينام تظل هنلة تشرتك معه يف هواه وجذوره .لكن حياة أيوب ال تؤيد
هذه املعطيات الكرهية ،فلقد عاش الرجل دون منغصات توقظ فيه
شعور الرجل الغريب املفعم بالقلق والتوجس.
هي البساطة التي يتنفسها هؤالء ،أفعل فقط ما حيلو لك ،دون
التورط يف إيذاء اآلخر ،أي آخر .ودون توريط األفكار املتكلسة يف قيادة
مزيدا من املوت والضياع.
حياة الناس ،هذه األفكار التي ال تنتج إال ً
إن األوطان يف ظل ما يعيشه كريم أو من هم عىل شاكلته صارت
حمنة ،اختبار صعب ال يمكن جتاوزه.
يف أمسية السبت وصل لبيت أيوب ،كان جاهزا بشكل الفت،
وزوجته بدورها بدت تستعد .استثمر الوقت وظل يتحدث
متسائال عن هذه الدموع احلبيسة يف عينه ،وذاك الكم من احلرية
التي تسيطر عىل صمته الذاهل .ولكي خيرج من ذاك األثر ،حدثه
أيوب عن ابنه سامر الذي كان بمثابة احلجر األول الذي ألقاه القدر
يف بحرية أفكاره؛ ليعيد النظر فيام تبناه من أفكار تتجه إلنكار كل
يشء ،وانسحاق أي معنى.
فبعد عيد ميالده األول كانت أمه حام ً
ال يف طفلهام الثاين ،وبعد
أن أخربته باحلمل ،ذهب يف رحلة عمل خارج البالد استغرقت
قرابة عامني متصلني ،ختللها إجازة قصرية يف البداية ،ولكنها مل متكنّه
78
حمتارا فيام يسميه ،فرتك املسألة لزوجته
من التواجد يوم مولده ،كان ً
ويف رسالة أرسلها سأهلا أن تفعل ،فكان آدم.
انتهى من عمله ورجع برسعة ليجد أن اسم “آدم” كان أنسب
اسم هلذا الطفل ،الذي تربق عيناه يف ذكاء مبهر ،احتضنه طوي ً
ال
حتى كاد يموت بني يديه ،وأفاق عىل صياح أمه :الولد؛ احذر.
ولكنها مل تكن تعرف أن هذا الغالم بمالحمه هذه؛ أمه التي متيش
عىل األرض ،فتعلق به بشدة ،وإن مل يرتاجع ولو للحظة عن حبه
لـ”سامر”؛ ويذكر أن جدهتم بعد والدة “آدم” قالت له :أما آن لك
أن تعفي ابنتي من مشقة إنجاب األطفال؟ ضحك ساعتها ،ونظر
لزوجته التي قالت يف دعابة:
-رجل رشقي ال هيتم .
ُيردف أيوب ويقول دون النظر إىل كريم:
حلم إال وحققته ،وال يوجد
يف هذه األثناء وبعدها مل يكن يل ٌ
حلم قيد التحقيق إال وكنت أسعى لتحقيقه ،وأنا واثق من النجاح.
كانت السعادة تسيطر عىل كل تفاصيل حيايت ،انتقلت لعمل آخر
أكثر مت ّي ًزا ،ومسكن أوسع وأروع مصمم عىل طراز معامري مجيل،
وسط مساحة رائعة من اخلرضة ،وسيارتان حديثتان واحدة يل،
واألخرى لرحالتنا العائلية يف الداخل واخلارج ،حيث كنت مول ًعا
بالسفر ألي مكان ،ولو كنت أراه يف احللم ،تراجعت أشياء كثرية
79
من مجلة نزعايت ،لكني احتفظت بحب السفر ،ومل أختل يوما عن
هواية القراءة ،وخاصة وجوه البرش.
كان كريم ممتنًا لألقدار العطوفة التي جعلته يلتقي بأيوب ،والذي
جعل لإلجازة معنى املتعة والراحة ،والرجل بدوره ربام فهم شي ًئا
من أزمته ،فراح يتحدث عن سيناريوهات قد تشبه أزمته ،ومؤكد
من حديثه قد يستلهم حلوالً هلا.
***
80
()11
ِ
زيارة أيوب بطول األيام عقد كريم النية عىل أال يتوقف عن
املتبقية ،فقط سيغيب يوم املؤمتر الذي كان موفدا من قبل الرشكة
كي حيرض وقائ َعه .لكن حدث اقتحا ٌم مباغت ألقدار بدت غريبة.
أبدا ،فبطول
مل يراهن أن هذه الفتاة التي تتحرك كالنحلة أوروبية ً
اجللسات واالبتسامة ال تفارقها ،ووجهها منفتح عىل الدنيا وكأهنا
بشعرها الغجري املسرتسل يف توحش ،ترتجم ِ حتتضن العامل،
األسئلة ،وتعطي هذا الكلمة ،ومتنح ذاك بعض الوثائق .ظن ألول
وهلة أهنا رشقية ،أو مولودة ٍ
ألب عريب عىل األقل.
ِ
البعد أرسل إيامء َة اإلعجاب ،مل تكن نظراته تنتمي عىل
لإلعجاب بقدر ما تنتمي حلالة أكرب من االنبهار ،ومن حسن طالعه
وجد منها قبوالً طي ًبا لإلشارات ،ذكية وما كانت لتخطئ تفسري
أن َ
هذه النظرات ،وعىل الضفة األخرى فإن كريم بشكله وهندامه وما
لفت نظرها فعالً.
يتجىل من مواصفات قد َ
81
مؤسسا عىل اعتبار أن الرشكتني
ً التعارف عىل هامش املؤمتر
ُ كان
مهمومتان بام سيناقشه احلضور حول تطور الربجميات ،أخربها
كثريا حول بعض األمور الفنية،باسمه ،وعرف أهنا ناتايل .حتدثا ً
جامدا ال يطيق االسرتسال فيه ،فدعاها بعد املؤمتر
ً لكنه كان حدي ًثا
للغداء .فوافقت بابتسامة ال ختلو من تشجيع ورضا.
يعرتف يف الرس أهنا ليست مجيلة عىل مقاييس اجلامل التقليدية،
فكل يشء فيها مصاغ بعناية ،لكنها طفلة ،خفيفة ،ال تبدو وكأهنا
تالمس األرض .أخربها بظنونه األوىل كوهنا عربية .فمالحمها مرحية
واعتيادية إىل درجة أهبرته.
ابتسمت ناتايل لتقول عبارة أنتجت عىل غري املتوقع صدمة مؤكد
مل تكن تقصدها:
-إذن يف بالدكم ثمة أشياء مجيلة ،ثم ابتسمت.
ظاهرا عىل مالحمه ،وأردفت:
ً ثم ابتسمت ملا رأت ارتباكه
أيضا.
-نعم ،أنا عربية ً
الرحل ُة التي ابتدأت منذ حلظة مفارقة أبوهيا ،الذين شجعاها عىل
ِ
مواصلة التعليم باخلارج ،انتهت هبا يف النمسا .أرادت االستزادة
فأكملت بأملانيا ،فكرت يف االستقرار هناك لكنها عادت من جديد
الطقس األملاين ،الذي بدا هلا أكثر حدة وقسوة
ُ للنمسا ،فلقد أرهقها
ِ
التعامل مع اآلخر ،وخاص ًة يف البدايات. يف
82
كثريا أن تعو َد إىل أهلها ،لكنها مل تنسجم مع هذه الفكرة
فكرت ً
ِ
جانب أبوهيا بغرض إعادهتا إىل رغم كل ما ُمورس من ضغط من
ِ
الرغبات حتى تركاها نجاحها املطرد خيمد هذه حضن األرسة .كان
ُ
ِ
وبمرور الوقت عاشت حتدد مصريها ِ
بنفسها يف هناية املطاف. َ
بكل تفاصيله ونوازعه. الغرب ِّ
َ
ٍ
بشكل عفوي من كريم كوهنا كانت هذه احلقيقة التي تسللت
معايريه ،والتي اعتمد عليها يف قياس أن يؤكد عربية يصب يف ٍ
اجتاه
َ
مجال ناتايل ،تظل عربية هي األخرى يف األساس. ِ ما صادفه من
يعرتف بأنه مل يصادف
َ كنموذج لألنثى ،فمن الصدق أنٍ لكنها
أي ٍ
أثر للزمن ،فلو أدعت أهنا مل مثله من قبل .ال يبدو عىل مالحمها ُّ
تتجاوز السادسة عرش ،لكانت صادقة.
ربها عن جذوره بإشارات سلبية تتسق مع رفضه
مل يشأ أن خي َ
القديم ،وخاصة حني علم أهنا من نفس املنبت ،لكنه انتزع من
ِ
لكون احلياة بسيطة رائعة ،والغريب مل يشري ما الديار يف ه ِ
تفاصيل
ُ
يكن يكذب ،فالناس -حني يتخىل عن ِ
رفضه -يراهم مساكني، ُ
يصارعون يو َمهم كي ينتزعوا من قسوته ولو طيف ابتسامة ،جتعل
حلياهتم معنى ،يقبلون الضيم من أجل سعادة أوالدهم ،فثمة ِ
مسئولية أخالقية لألب واألم يف هذه البالد ،ال جتعل من األبناء
يستطيعون اخلروج من دائرة عنايتهم ،يف معنى للعناية قد يتخذ عند
83
األب العريب سمة القداسة .وربام هذا ما يفرس حرص أبوهيا عىل
عودهتا بمجرد أن أكملت تعليمها.
سطورا من
ً كانت ناتايل تسمعه بشغف غريب ،وكأنه يتلو عليها
أساطري خمبوءة ،أحيانا تندهش ،وغال ًبا تبتسم يف إعجاب بام يقصه
عليها من تفاصيل عامل ربام ال تعرف عنه شي ًئا.
طلبها للرقص ،فنهضت دون أن تسأله هل هو كعريب جييد
واضحا وهو يتاميل هبا عىل ال أم ال ،لكنه مل ي ِ
بد انضبا ًطا الرقص فع ً
ً ُ
أنغام موسيقى كانت حمرضة ،وأضواء تنتحل اخلفوت كي يقرتب
من وجهها يف حماولة إلبداء الرغبة يف تقبيلها .والغريب أهنا أبدت
بقدر ما بدت ِ
إلرضائهِ ، استسال ًما لذلك؛ ال من واقع أهنا تتساهل
وكأهنا تريد اكتشا َفه.
لذا حني انتهت الرقصة ،مل يالحظ كريم أهنا تريد العودة
للطاولة ملواصلة احلديث ،بل إما أهنا تنتظر موسيقى أخرى ،أو تريد
االنرصاف ملكان آخر.
مال كريم للخيار الثاين ،فدفع احلساب ،وغادر املكان ،مل متنحه
ناتايل معنى أنه قد جتاوز ،بل تأبطت ذراعه ومها خيرجان لسيارة
تتجه ملكان آخر جاء من اختيارها.
جيدا،
هبطا ملكان أكثر رق ًيا مما كانا فيه ،ويبدو أن عامله يعرفوهنا ً
فرحبوا هبا بشكل الفت ،وأجلسوها يف مكان يطل عىل بحرية رائعة
84
تتألأل حوهلا أضواء خمتلفة األلوان ،وبمجرد أن اعتدلت وتناول هو
معطفها ليضعه عىل مقعد آخر خال .بادرته بقوهلا:
-ملاذا أشعر أنك حزين ،وإن مل تكن كذلك ،فربام تائه تبحث عن
ٍ
يشء ما ،ويبدو أنك تتلذذ ألنك مل جتده لآلن؟
االنطباع األول حياهلا ،فلقد ذهب كريم
َ كان سؤال ناتايل حيطم
يف البداية لالعتقاد يف كوهنا سطحية بعض الشئ ،لكنها عىل ما يبدو
متبرصة وصاحبة رؤية منضبطة ،لذا فهو مل ينكر أنه حزين ،حني بدأ
يتهيأ لإلجابة عن تساؤالهتا ،وللصدق هو يبحث عن يشء ما ،لكنه
مل يفهم إشارهتا لكونه يتلذذ ألنه ال جيد ما يبحث عنه.
ظلت تضحك وتذكره هبذه الثواين التي سبقت احلديث عن
بلده ،هو مل يكذب يقينًا ،لكنه كان يصارع رغبة بداخل تدفعه دفعا
أن يقوم بتشويه ما يعرفه عن األرض والناس يف بالده ،ولو عىل
يب باألساس ،أو لكي يربر هلا
سبيل جماملة ناتايل ،طاملا أن هواها عر ٌ
يقينَها يف الالعودة.
رجل ِ
أصدقائه املقربني ،لكنه ٌ مل ختربه أنه مثايل مثلام حيدث من
نظرها ،يبحث فقط عمن يمنحه اإلذعان ألفكاره، ِ
وجهة ِ مدلل من
ويتوارى طو ًعا عن أولئك الذين يمتلكون جسار َة انتقاده.
بدي ما يشري لكونه قد تأمل
مل يستطع حتت تأثري ما يسمع أن ُي َ
َ
تطرق عىل احلديد وهو من ِ
رأهيا فيه .لكنها مل ترمحه ،إذ أرادت أن
85
السبب الذي جعلها تستجيب لنداء عينيه .فلم َ ساخن؛ فأخربته
ٍ
إعجاب أو رغبة ،أو يا ربام سقوط تكن الرسالة القادمة إليها تنم عن
ٍ
برجل استبد
َّ تأثري حضورها ،وإنام هو يش ٌء أقرب للهفةٌ ،
شوق حتت ِ
النجاة من حريتِه وختبطه .أو قد
ِ عقار
َ يمنحه كان ينتظر قدوم ٍ
أحد
يكون رباط الدم الذي يتوارى يف دواخلنا حتى جيد من حيرضه عىل
الظهور.
ال يذكر أنه ضحك ضحكة بمثل هذا الضجيج من قبل ،ضحكة
جعلت من رواد املكان يتجهون بنظرهم نحوه .حتى أهنم من فرط
التعاطف ضحكوا معه .بينام كان حياول يف ضعف متناه أن خيفي
صدمته حيال تفسريها لشخصيته من جمرد انطباع أول.
واملدهش أهنا فهمت رس الضحكة ،فأخربته ملاذا مل تنفر من
اقرتابه منها وإرصاره أن يبدو يف أثناء الرقص كأنه يقبلها ،بل إهنا
متنت أن خيترص كل هذه املقدمات ويفعلها؛ ألهنا يقينًا تريده أن
يفعلها ،ويقبلها بعنف .هنالك مل تنكر بالغة أثره منذ الساعة األوىل
ألعامل املؤمتر ،وال استطاعت االنفالت من تركيزه املتطرف حيال
املعلومات التي راح يسجلها عىل هاتفه .لكنها دفعته ألن خيربها عن
رس حزنه وهذا اليشء الذي يبحث عنه.
يتيام يكاد ال يتذكر أباه ،وأمه قد ماتت منذ
أخربها كريم كونه ً
فرتة ليست بالبعيدة ومل يكن يمتلك من يشء مجيل ورائع غريها.
وإن كان عىل ما يبحث عنه ،فإن األزمة كلها تكمن يف عدم معرفته
86
هبذا اليشء ،هو فقط يبحث ،لكنه يعجز عن توصيف ما يبحث عنه.
لكنه أراد أن يدحض ما ذهبت إليه كونه يستعذب هذه املعاناة .فال
جديرا بالنظر غري أنه موظف ناجح ومتميز يف حدود ما
ً يذكر شي ًئا
يفهمه .بل إن منطق السعادة حيال أي يشء ال وجود له يف حياته.
كثريا كي خيتفي خلف الدخان ،رغبة لالختفاء ورغبة مضادة
يدخن ً
أن ال يراه من أحد بوضوح .يتوارى ال ألهنم يرفضون قناعاته ،لكنه
ال يريدهم أن يصادفوا حلظات انكساره.
حاول اقتنا َء جواز سفر أوريب ،ليس ألنه ال يطيق َ
محل جواز
أرضا أخرى ال جتد من وسيلة حاسمة لعقابه.
سفر عريب ،لكنه يريد ً
قد يبدو مدل ً
ال فعالً ،ال عن إيامن بجدارته بالتدليل ،فهو اب ٌن وحيد
ال مل يرحم طفولته ،وأبدى من ٍ
ألرملة وحيدة ،لكنه كي ال يبدو مدل ً
ِ
الشدة واالندفاع أحيا ًنا كي ال تلحق به هذه التهمة .كون امرأة هي
من تصدت لرتبيته ،وهذا املعنى يف ثقافة العرب قد يبدو معي ًبا.
كانت ناتايل وهي تسمعه تلقي عليه بنظرات هلا ألف معنى،
استلبها ،بدا منطقه مرت ًبا ومقن ًعا ،واألهم من ذلك كله أنه مل ينتحل
الكذب أو املراوغة .رأت أن احلديث قد اقرتب من كونه اعرتاف
مذنب لكاهن يف كنيسة ،أو مريض جيلس فوق أريكة كي يمنح
طبيبه مفاتيح عالجه.
سألته يف وضوح:
87
-ما يمنعك أن تبقى هنا طاملا أن كل القريبني منك قد رحلوا؟
فأخربها أن ثمة رباط خفي ال يفهمه ،وربام ال يريد أن يفهمه.
هو فقط بني احلني واآلخر يتحرك كالوخز يف ضمريه.
أخربته أن قيمة احلياة ال يمكن حتديدها وأنت حي ،جيب أن
متوت أوالً؛ كي تستقيم املقارنة ،فاحلياة يف أوربا ليست أمجل .فحني
تتحدث عن التزام أخالقي يتجه من األب العريب صوب أوالده،
فهذا معناه أن ثمة التزاما آخر من األوالد ألبيهم .فكيف حتكم
عىل من يودع أباه يف دار للمسنني؛ كي يتخلص من أعباء رعايته.
احلضارة هنا سحقت البرش ،حولتهم لرتوس يف ماكينة منزوعة
الرمحة .فهل ستتحمل؟
بعد صمت عابر ،ختلصت ناتايل بذكاء من هلجة الوعظ ،وطلبته
للرقص ،لكنه تثاقل وشعر أن قدميه ال حتماله ،فطلب منها أن
تنتظر قليالً .كان صوته احلقيقي الذي أخفاه طيلة الوقت هو ما
ينطق بالوجع الذي أصابه يف هذه اللحظات ،لذا وحني نظر إليها
ليتبني صدى كلامته وجدها تبكي بدون احتياط منها .بل مدت
يدها لتخطف يده لتطبع عليها قبلة ال يدري من موقعه هل هي
جدا حاسم عن انفجار مشاعر بقصد االعتذار ،أم هي تعبري ً
حقيقية قد ُخلقت اآلن عىل صدا طقس من الشفافية مل جيرب أن
يعيش أجوائه يو ًما.
88
خرجا بعد مساحة من الصمت والنظرات ،وكام حدث يف املرة
األوىل دفع احلساب كله ،ابتسمت ومل تعلق.
سارا بمحاذاة البحرية ،دقائق وتنكشف السامء عن مطر غزير،
حاول االختباء وأخجله أهنا مل تستجب ،بل دعته أن يغتسل معها
بامء املطر ،بل وزيادة يف تعاطي اجلنون خلعت ناتايل حذائها لتسري
يف األرض املبتلة ،ودعته أن ال يرتك شي ًئا يفصله عن األشياء الربيئة،
فليتصد للمطر واهلواء والريح فليس هناك ما هو أصعب من البرش
بينام تظل الطبيعة أكثر أد ًبا ورمحة من كل الناس.
يتحمل وقع كلامهتا ،فاندفع حيضنها ويقبلها .بل َ مل يستطع أن
ال للخلف كي يرى صدا ما صنعه ،وجدها متأثرة إىل حني عاد قلي ً
درجة ،وودعها عىل أمل أن يعو َد ذات يوم هلذه البالد ،فيا ربام وجد
احلب الذي طاملا بحث عنه .هنالك ضحكت وقالت:
-عريب كاذب .إذن أنت تبحث عن احلب .ولكم أمتنى أن جتده
عندي.
ال يدري كريم حني وصل لغرفته بالفندق ،ما هذا االتساع الذي
حدث لرئتيه ،خفيف يكاد ال يلمس األرض .لكنه دون أن يفهم
ملاذا من فرط احلكمة املترسبة من حديثها مل يشعر بأن ما يتحرك اآلن
يف قلبه هو احلب ،بل هو يشء أكرب من أن يوصف ،أكرب حتى من
الصداقة .فلقد صار يف عينيها كائنًا زجاج ًيا ،مل يستطع أن خيفي شي ًئا
حيال نظراته اجلميلة التي اخرتقته بالكلية.
89
مرت األيام برسعة ،ويف حلظة فارقة ،قرر الرحيل .فزار أيوب
جدا .ومل ينس أن يرتك
يف بيته ،والذي وعد بزيارته يف الديار قريبا ً
لناتايل رسالة وداع ،عىل وعد بعودة يف القريب.
***
90
()12
ِ
زيارة عاد كريم للعمل بموق ٍع آخرً ،
بعيدا عن هنلة ،ربام فكر يف
سوزانا عىل إثر ما سمعه من قصص أيوب ،منذ غادر الوطن ورحل
ِ
توصيف صاحبه ،الذي أرسل له جمموعة بعيدا .الغريب أنه عىل حد
ً
من الكتب ،مل ِ
يأت منذ غادر .واملدهش ح ًقا أن صدي َقه مل يعرفه يف
زيارة للنمسا منذ فرتة .وصارت من ِ
بعدها ٍ الداخل ،بل عرفه يف
صداقة عىل درجة من العمق.
عاش كريم حال ًة شاملة من االنشغال ،مل يعد يفكر يف يشء ،بل
اندفع بشكل حمموم وكأنه يبحث عن ثروة .ال يدري ملن سيجمعها.
لكنه عىل األرجح قد فكر يف الرحيل النهائي ،وتأسيس ٍ
حياة جديدة َ
عىل ِ
غرار أيوب ،طاملا أن هناك ناتايل بالطبع.
ناتايل؟؟
حدسه أهنا عربي ُة
َ أثر االنطباع األول ،ويصدق
حني يستعيد َ
قبيل املصادفة ،بصم ُة ِ
لكون ما حدث من ِ اهلوى واجلذور ،ال يذهب
91
ِ
الروح املتوحدة التي متنحنا ذاك التصور ،الشفرة اخلاصة التي تعلن
ُ
اللون القمحي اجلميل الذي نفسها حيال من هم خارج عاملنا،عن ِ
الشمس برفق ،الثور ُة اجلاحمة التي تنطلق من ِ
شعرها. ُ داعبته
النفس من تعاطي
َ النظر ُة الذائبة التي خترتق الضلوع ،ومتنع
ِ
الكذب املنمق .لقد اندجمت عىل ما يبدو مع هذا العامل ،الذي يرفض
أن َ
يلون احلقائق ،ويمنح األكاذيب مرشوعي َتها.
ِ
عامل الوقت، ِ
الشخصية العربية مع ِ
مركبات كللقد جتاوزت َّ
ِ
ملحاكمة تراث أبوهيا الذين ِ
بالكلية عن التصدي وانفصلت
ٍ
كدليل السذج
ُ يبدوان وقد استسلام إلرادهتا .فهيئ ُتها قد يفرسها
ِ
سلطة الوالدين .لكنها عىل االنفالت ،وخروج طوعي من ِ عىل
ِ
برشوط عاملها ،أو عىل األقل عاشته بام الغالب تعيش احليا َة
قناعاهتا ،دون أن تصطد َم باملخالف هلا .ونجحت ِ يتوافق مع
ٍ
بتطرف كي تعطيهام معنى أن احلياة يف ثوهبا املقبول ليست هنا،
ليست يف هذا العامل.
االتصال هبا ،فلم ترد من ِ
أول َ استبد بكريم الشوق ،فحاول
مرة ،مل تأخذه الظنون ،فلن تنساه عىل ما بدا منها ،فاتصلت هي بعد
صوهتا خمتل ًفا ،تسأله
ُ ِ
باالنشغال قليال .مل يكن ٍ
رسالة قصرية تتعلل
ِ
موعد زيارته الثانية .مل جيد إجاب ًة واضحة ،لكنه أخربها بأهنا عن
قريبة.
92
ِ
مشاعرمها لعاطفة ِ
املستقبل فلو نجحا يف ترمجة حدثته عن
حقيقية ،فربام أقامت معه حيث هو .مل جيد ما يقوله ،وأدركت عىل
ُ
فالرجل عىل ما يبدو يريد ٍ
قبول عنده، ِ
البعد أن رغب َتها ليست حمل
الرحيل ،فقط الرحيل اعتقادا منه أن احليا َة يف ِ
بلده قد ال تصلح له ً
وهلا.
إذن ما هي أزمة ناتايل كي تغادر هذا كله من ِ
أجله ،ومن يدريه َ
أهنا ستغادر من ِ
أجل االنتصار حل ِّبها فقط .فقد تكون ناتايل نفسها
صدى ملعاناتِه هنا.ً
ٍ
بصوت تبينت قلقه: تفاد ًيا للجدل أخربها
-إهنا فكرة جيدة.
يمرر بعض النكات لكنها أبدت من التوجس الكثري .حاول أن َ
فرط شعوره إنه قد تورط يف الصمت ،لكنها أبدت عدم ِ
فهمها من ِ
َ
تعيد عليه كال َمها
هلذا النفور احلاد الذي يمنعه البقاء .ومل تشأ أن َ
القديم ،عن عيوبِه التي ال جتعله يرى أي معنى إجيايب يف حياتِه .أو
َ
ليسأهلا ..ملاذا مل تعد ولدهيا أرسة تنتظر منها العودة؟ ترتك له نفسها
ِ
بسالمة ن ّية تصيب كريم باحلزن .شعر ظلت الدردشة تتحرك
ِ
املتوفر من انطباعات هي أن موقفه قد جيعله خيرسها ،فناتايل عىل
مرشوع يود نجاحه ،وواحدة من ِ
أهل الثقة يريد نصيحتها ورأهيا.
93
بدالل األنثى بنظراتِه
ِ رغام عنها حني ذكرته سقطت ناتايل ً
ٍ
كدعوة ألن جترب احلياة معه ،فلامذا يبدوان اآلن هلا ،والتي بدت
بطريقة ختتلف عن األخرى .فاجأها باعرتافِه أهنا
ٍ وكأهنام يفكران
لآلن كالضمري ،وما خييفه من حديثِها ،رغم ما ينطوي عليه من ود
صادق ،أن يقع فقط يف ِ
حمبة ذاك الضمري ،وعىل ما يفهم ،ليس سه ً
ال َ
يصوب ويراقب حرك َته وتفاصي َله ِ
يقع املر ُء يف حمبة ضمريه الذي َّ
أن َ
وأحيا ًنا يعاقبه.
بصدق جتاوز معنىٍ لكنها بدالل متطرف أعلنت أهنا تريد
واألخوة ا ُملنزهة .فهي تريد ح اًّبا استثنائ ًيا.
َّ الصداقة املتينة،
ِ
ببساطة شعرت ناتايل أن حدي َثها قد يصل ملعنى اهتامه
ِ
شعوره بعدم القدرة تصوراتِه حياهلا ،فهو من جعلها تبدأ من عند
معايري بلده ،ورشوط العيش فيها ،وما شعرت ِ ِ
االتساق مع عىل
ضوء الساعات الستِ به يقينًا لن جيع َلها حمايد ًة معه .ألهنا عىل
َ
حترك كبريا قد
التي قضتها بصحبته ،آمنت أن يف قلبها ثمة شي ًئا ً
ٍ
ساعات فقط هي كل ما قضتها برفقته ،وها هي تشعر ست
نحوهُّ .
بأهنا حتبه .أيعقل هذا؟ هل ست ساعات كافية كي حتب إنسا ًنا
وتتعلق به؟ لكنها عىل كل حال تصدق قلبها ،أو عىل األقل تريد
ٍ
بافتقاد مل تكن تراهن عىل أن تصدقه ،ألهنا بعد ِ
سفر كريم شعرت
مدى رضاوته.
94
ال يدري كريم من أين أتاه الر ُد عىل هذه املشاعر الدافئة ح ًقا ،مل
ٍ
بكلامت عىل ُ
اخلجل أن ير َّد يرد بواقعية ما يشعر به فعالً ،بل دفعه
غرار ..ومن ُيدريك فلعل ما أمحله لك يف قلبي أكرب من منتهى
ِ
اعتبارها سمعت يف ختام هذه ُ
احلديث عىل توقعاتِك .هنالك توقف
األمسية ما يرضيها.
***
95
()13
ِ
األخبار ِ
بموت “زياد” كثاين أصعب بعد أيا ٍم من عودة كريم ،علم
َ
أرسل له رسال ًة ،كتب فيها: بعد موت أمه ،وكان قبلها قد
“ال أعرف كيف أعرب عن اشتياقي إليك ،فأنت كام تعرف
ِ
لرحيل أمك، صديقي الوحيد ،وما تبقى من عائلتي .ما زلت أتأمل
فهي مل تكن أمك وحدك ،بالتأكيد تدرك ذلك يا صديقي .لقد كان
أزايد عىل حزنِك،
َ رحي ُلها قاس ًيا ،مل أستطع ً
أبدا جتاوزه ،ال أريد أن
أبالغ حني أخربك أن حزين عليها مضاع ًفا .أنت ال تفهم لكنني لن َ
كل ما تبقى لك يف احلياة عىل تكون هذه املرأة هي ُّ
َ يا كريم معنى أن
فلت
وجودها بيدي ،وأخشى أن ُت َ ِ كنت أقبض عىل اإلطالق ،لقد ُ
نبل هذا العامل .حني رحلت انتهت من بني أصابعي الرق ُة الباقية من ِ
حيايت ،مل تكن يل حيا ٌة ُتذكر قبلها ،فأنا أختبط بني الوظائف ،وأكافح
أجل لقمة العيش ،وال أعرف اجلدوى من حيايت ،فأنا أعيش من ِ
كل ليلة أشعرفحسب ،لكن الدنيا ال ترتك يل جماالً كي أعيش ،ففي ِّ
عيل ،تطبق عىل صدري ،ال أبالغ ،لكنني فع ً
ال َ
اخلناق ّ بأهنا ُتض ِّيق
96
أحدا كي
استجامع صويت ألنادي ً َ أعجز عن التنفس ،وأحاول
ينقذين ،لكنني ال أعرف من أنادي ،وأظل أفتش يف ذاكريت حتى
شهوهتا يف تعذيبي”.
َ أفقد الوعي ،أو متنحني الدنيا يو ًما آخر ل ُتشبع
َ
رسالة إنسان بدا حيترض ،رسال ٌة مغرقة يف اليأس ،تشري بقوة
القرتاب األجل ،قرأها ومل يرد عليها لكونه سيعود قري ًبا .ليته أدرك
أهنا كلامته األخرية ،بالتأكيد يندم كريم عىل تأجيل الرد ،لكن ما نفع
الندم!
لقد عانى زياد من ضيق الفرص ،وعدم تقدير مواهبه وقدراته،
التي مل يسع أحد الكتشافها ،أو إتاحة الفرصة أمامها للظهور
والتفتح يف بستان احلياة.
ِ
قدرات كريم عىل التحمل، كانت مفاجأ ُة سقوط زياد أكرب من
يشتك من يشء ،عاد من ِ
عمله الروتيني الكريه ،فسقط ِ فهو مل
ُ
الرجل الفارع الطول ،املتوسط اجلسم عىل األرض ،مل حيرك ساكنًا،
الناس الذين عربوا بجواره أنه قد مات .فنقلوه للمستشفى.
ُ ظن
ويف ر َّدة فعل غريبة ،أفاق ليسأل من حوله:
-ماذا حدث؟
بعض اهلدوء ،وزالت عنه مالمح التعب ،لكن ما من ٍ
أحد عاد ُ
ُ
األمور قد اختذت منحى
َ تفسريا هلذا السقوط .ويبدو أن
ً منحه
النهاية ،فسقط جمد ًدا ،لكن يف شقته هذه املرة ،ومل جيد مع توحده
97
من يسعفه .وقتها ِقيل أن رائحة املوت التي انبعثت من شقته هي ما
أرشد جريانه إىل موته.
شاب مثله يف ِ
عمر ٍ
حلظة خاطفة، لقد تبخر زياد من عاملنا يف
ٌ
ِ
الكتشاف احلياة؛ احليا ُة الزهور ختطفه املوت ،ومل يمنحه فرص ًة
احلقيقية التي مل تسنح له فرص ُة عيشها .هكذا فجأة توقف قل ُبه عن
كل شئ.العمل ،وانتهى ُّ
ُترى ما الذي فكر فيه زياد بينام ُيصارع املوت لينال حقه يف
مستسلام لقبضة املوت اخلاطفة؟
ً مهتام باملزيد أم كان
احلياة؟ أكان ً
ال أحد يعلم ما شعر به زياد حينها عىل وجه التحديد ،لكن املؤكد
أنه قد نظر حوله ،يبحث بعينيه عمن ينقذه ،فلم جيد ،وملا اقرتبت
النهاية ،أراد أن يسرتجع أمامه كل الصور عسى أن جيد من بينها
صورة يقبض عليها حتى النهاية ،فلم جيد ،لقد كانت الدنيا أقوى
من هشاشة زياد وأشد قسوة.
ينعتق من مؤثرات هذا ٍ
لفرتة طويلة مل يستطع فيها أن َ مكث كريم
َ
يرحل الفقد ،فظل يامرس حالة شاملة من اإلنكار ،فال يمكن أن
كل من حيبهم هبذه القسوة ،بل كان موت زياد عىل هذا النحو مقل ًقا
ومرع ًبا يف آن م ًعا ،فمع هذا التوحد قد تبدو النهاي ُة بطعم الكابوس.
يف حلظة يستطيع كريم توصيفها بالعمياء ،تلقى كريم اتصاالً
من ناتايل ختربه أهنا أثناء يوم عمل عادي شعرت بانقباض .فهل هو
بخري؟
98
أخربها بام حدث لزياد ،صديقه الوحيد ،وأثر الطريقة التي مات
هبا عىل ِ
روحه ومقاومته .حاولت قدر ما تستطيع أن ُترسي عنه.
َ
تتحدث عن نفسها، بعد كثري من كلامت املواساة طلب منها أن
مل تفهم رس اقتحام الطلب يف ذاك اجلو املمتلئ بالشجن واملوت،
ِ
جتارهبا قبل لكنها حتسست أن صمتها سوف يقلقه ،فتحدثت عن
تلتقي به.
َ أن
هنالك كان كريم يسمعها بشغف .فناتايل منذ أكثر من عامني
شعورا غري ًبا بالعزلة ،فرغم أن حياهتا تسري بشكل جيد ،لكنها
ً تعاين
ِ
انتشاهلا من شعور دفني ٍ
بقادر عىل تفتقد شي ًئا ما ،فلم يعد العمل
باحلنني لرجل يستطيع احتواءها.
بعيدا عن الرجل الذي اعتقدت أنه
إنتاج حياة موازيةً ،
حاولت َ
ِ
البحث املجهد ،فامطلت مع معظم النامذج التي كانت جدير ًة هناية
ِ
لالرتباط هبا ،لكنها اآلن تشعر بفرا ٍغ رهيب.
أقلقت الكلم ُة كريم ،فسارع للسؤال:
-حتى ونحن معا؟
فأعادت السؤال بسؤال:
-مادمت أشعر بتجمد أفكارك؛ فهل من املمكن أن ننجح؟
ِ
استسالمه صمتت وكأهنا تستطلع عىل ِ
البعد مالحمه ،شعرت مع
ٍ
بوضوح يوم سهرا م ًعا. ألفكاره بعدم قدرته عىل إبداء الوله الذي رأته
99
بل إن خصوصية مشاعره بعد سفره بدت مرتاجع ًة حلساب شكواه
من الوضع ،الذي ال تعرف عنه شي ًئا يقينًا أو عىل األقل ال متلك
تفسريا واضحا ومرحيا.
ً حياله
ِ
كاملخمور كان كريم وكأنه ال يسمع شي ًئا من كل ما يقال ،بدا
ِ
بطول عمره يعيش يف اهلواء. الذي ال يفيق من سكرته ،وكأنه
تلفق مشاعره؛ كي متنحه ما ما هذا العبث ؟ ملاذا حتاول ناتايل أن َ
ِ
لالبتعاد عنها .فلقد كان االتصال داف ًئا يف البداية ،وهو ما يساعده
مبتهجا إىل درجة ،متناس ًيا أزم َة موت صاحبه ،ومن ثم وصلً جعله
حدي ُثها ملنعطف إبداء أزمة ِ
حياهتا بال رجل حتبه.
-هل يف حياتك يشء يمنعك حمبتي؟
متنحه الراحة ،بل دفعت بتفكريه لالجتاه كوهنا
مل حتاول ناتايل أن َ
تعامله بنفس ما أشار له من فكرة الضمري .فكيف يراهن أهنا بال
تاريخ ،والعرب غال ًبا ليسوا منفتحني هلذه الدرجة حني يصادفون
ِ
سنوات عمرها جتارب كثرية ،أو عىل األقل ملتهبة، امرأ ًة حتمل يف
حمطام لقلبها.
كان زواهلا ً
يفتح
صوت كريم ،بل وزيادة يف اليقني طلبت ناتايل أن َ ُ تغري
يكذب عليها أو يبدو وقد تأثر فعالً،
َ الكامريا .وألنه ال يريد أن
جدا سيقوم بإصالحه. ادعى أن بالكامريا ثمة عطل ،قري ًبا اًّ
-هل يؤملك أن أكون امرأة عاشت الكثري من التجارب؟
100
-ال مطل ًقا ،وإن كنت بمثالية متطرفة أمتنى أن أكون األول يف
حياة الفتاة التي أغرمت هبا.
سياق احلديث الذي تشعب ألكثر من طريق ،أخربته ناتايل ِ يف
عديم التجربة .رغم صعوبة ا، بكر ً
ال رج تلتقي أن القديم ها ِ
بحلم
َ ً َ
جتد هذا الرجل يف املجتمع األوريب.أن َ
ٍ
إشارة مترسعة نو ًعا .إن هذا النموذج الغريب أن باغتها كريم يف
يعرف أن إجاب ًة عىل هذا
َ كان زياد صاحبه يمثله خري متثيل .دون أن
ِ
بدوره. الكثري من التجارب النحو قد تعني أنه قد خاض
َ
كانت من الذكاء أن أملحت لكونِه عريض التجربة وله الكثري
من الضحايا .وحني اكتشف السقطة أخربها كوهنا حماوالت مل تكن
ارتياحها عىل اعتباره سيغفر هلا ما حدث قبل
َ تتسم باجلدية .فأبدت
تلتقي به يف هذه األمسية.
َ أن
ِ
رصف عتيدا ،وكان البد من
حتت تأثري ما قالته ربام بدا رشق ًيا ً
انتباهها عن أي شعور سلبي كونه لن َ
يقبل ماضيها مهام كانت
تفاصيله بسيطة .فلن يستطيع انتحال نموذج رجل أوريب ال يبايل
هبكذا أشياء.
صمت عارض سمعها ٍ ويبدو أهنا قد فهمت ما يرمي إليه ،فبعد
ِ
عطل الكامريا واستثامرا ملا سمعته عن
ً تضحك ضحكة هلا معنى.
راحت تقص واحد ًة من هذه التجارب .ال لكي يفهم ما حدث ،بل
لكي يفهم الطريقة التي تتعاطى هبا مع ِ
أمورها.
101
فلقد التقت بنموذج اعتقدت إنه مناسب ،شاب من نفس
األرض ،مل تتقاطع مع ثقافته ،ومل يزاحم تفكريها مركبات الرشق،
وهي تعيش معه احلالة عىل أمل أن تتطور العالقة .ورغم كل ما
ِ
اندماجها الواضح مع تفاصيلها ،فحني وصلت للقرار يبدو من
أو صدقت الرغبة ،طلبت من والدهيا الرحيل إليها كي يشاركاها
الرأي.
إمارات حتفظ ،ربام لكثرة ما
ُ يف هذا اللقاء ظهرت عىل أبيها
ِ
الشباب األوريب من معلومات ،قد ال تكون صحيحة يفهمه عن
عىل الدوام ،بينام كانت أمها كرشقية ختشى عىل ابنتها تطاول الزمن،
ومن ثم تفقد رفاهية االختيار.
متجها بقوة
ً ووفق هذا املعنى وقفا وراء قرار ناتايل ،الذي بدا
إقناع نفسها بعيوبه،
صوب هذا الشاب .عامان تقري ًبا وناتايل حتاول َ
مل ترها حمفز ًة عىل هنايتها ،يمكن معاجلتها أو جتاوزها.
العيب يف هذا االجتاه أن رومانسيته
ُ بدا رومانس ًيا لدرجة ،لكن ظل
جيب أن تستدعيها ناتايل دون أن يبادرها هو برومانسيتِه .فبدا كمن
ٍ
طفل مجيل يعرب من أمامنا ،قد مشاعره صوب
ُ ينتحلها .مل تتحرك
ٍ
مكان من أماكن التسلية. ٍ
طريق ،أو سوق ،أو نصادفه يف
وحني أبدت رغبتها أن تكون أما ،صادفت مالحمًا بدت وكأهنا مل
ِ
لفكرة إنجاب طفل .وقبل هذا ترها من قبل .أزعجها هذا التصور
102
ِ
اعتباره األمور يف بعض األحيان تتجاوز نجاحها عىل
ُ وذاك كانت
صدفة ،ففي بعض املقابالت كانت تتسلل منه هلج ُة ٍ
تعال ،حتى وإن
ِ
كبعض الناس. بدت منضبط ًة ،أو بمعنى آخر ،ليست زاعقة متباهية
مل َتر احلب حالة امتالك ،لكنها ال متيل أن ال كرامة يف احلب،
فنظرات إعجابِه حيال األخريات كانت تضايقها ،ويضايقها ُ
أكثر
ِ
أعقاب عتابه .فتسقط هنالك الرومانسية التربيرات التي تأيت يف
وتلمس ما جيعله غري ًبا عنها.
ٍ
بشكل دراماتيكي مؤمل لروحها. مل تأسف لكون العالقة قد انتهت
ِ
لتصحيح العالقة ،وتصويب بقدر ما تأملت أمها التي كانت تدعوها
عيوبِه طاملا بدت بسيطة ،لكن ناتايل أهنت كل يشء ،ومل تنظر خلفها،
حياهتا من األساس. وكأنه مل يدخل َ
ُ
حديث يعرت كريم يأس يف حياتِه مثلام اعرتاه اليأس الذي خ ّلفه
مل ِ
ناتايل .عن أي فراغ عاطفي تتحدث ،فواحدة نالت َّ
كل هذا القدر
من الفتنة وبالغة األثر ،ال يمكن أال تصادف رج ً
ال عىل قياس ما
تتمنى ،فلدهيا الوقت والفرصة.
هي مجيلة ،وما كانت لتحتاج إلبراز ذلك املعنى .وإن كان اجلامل
ِ
بشكلها جمرد ثقة تعرب عن ِ
نفسها ،وما تفعله هناية املطاف إحساس ٍيف ِ
ِ
لشعرها قد يبدو ِ
تأسيس شكل معني إضافات .املالبس ،اجلسارة يف
منفل ًتا وهذه الروح املتوثبة التي تبدو يف خفة الطائر .لكنها حمملة
103
ِ
جتارب هذه األرض ،أو عىل األقل ال بالتجارب التي ختتلف عن
ٍ
هنايات تتسم بالعمق املتسق بدوره مع قناعاهتا. تتورط يف
لكنها عىل الراجح كانت حتاول قراء َة استقباله للفكرة ،كونه مل
تنس حقيقة أن
تتجاوز والدهيا وهي بصدد قرار كهذا ،ألهنا يقينًا مل َ
هلا أه ً
ال ووطنًا .حتى وإن مل تعش وفق الكثري من تقاليده.
كثري من األحيان البد عىل اإلنسان أن يتخىل كل ًيا عن طريقتِه
يف ٍ
َ
حيتاط الكالسيكية ،التي كان معتا ًدا عىل التفكري هبا ،وعليه أن
حلياتِه.
واقع حتت حصار كبري من
ٌ فبعد هذه املحادثة ،شعر كريم أنه
األسئلة ،التي متارسها ناتايل بشكل أكثر رق اًّيا من جمرد أسئلة حيركها
الفضول ،وربام هناك معان سلبية قد مستها من حديثيهام يف هذه
األمسية ،حني بدا عجوالً اًّ
جدا يف طرح مشاعره ،لكنها عىل الغالب
ِ
الوقت ،الذي مل يساعده أن يبدي كل يشء. مل ترا ِع ضيق
الرفض ٍ
أشياء صارت عصية عىل التفسري .فمهام بلغ ثم ُة
ُ
باإلنسان لن تكون تصورا ُته عن األرض ،التي نشأ فيها ،بذاك القدر
من اهلالمية التي يرى هبا األمور .فهي احلياة ،والدراما جيب أن
تنجو بنفسك من تفاصيل ال ترقى
تندفع هلذا االجتاه .فقط عليك أن َ
الرفض لكل يشء.
ُ يمتد بك
ألن تؤمن هبا ،دون أن َّ
104
فكثريون هنا قد رحلوا ،وأكثرهم مل ينسجم مع الفكرة وعاد،
َ
الرحيل من األساس ،أو لدهيم نزوع حقيقي للرضا، ربام يكرهون
أو أصابتهم آف ُة التعود ويفتقرون للجسارة .أو أهنم حيبون األرض
متجاوزين آالمها كام أخرب ناتايل بصدق مل يكن يدعيه.
***
105
()14
يف ٍ
قرار مل يكن خيلو من ترس ٍع مدروس ،قدم كريم استقال َته من
لتأسيس الرشكة التي ستكون هي منتهى اآلمال ،فلمِ عمله ،وراح
ٍ
أموال كثرية ،ومن ثم طقس املوظف الذي حيصل عىل َ يعد يطيق
يسافر متى عنت عليه فكر ُة اخلروج؛ كي يامرس احلري َة التي حتولت
قرار الرحيل ِ
مع الوقت إىل قناعة يدافع عنها باستامتة ،يتدارس َ
النهائي وخاصة بعد موت أمه آخر املعاين اجلميلة يف حياته ،وموت
بتجرد وحب شديدين.ٍ زياد الصديق الوحيد الذي تعامل معه
بقراره كي يقنعها بالعمل معه،ِ إخبار سوزانا
َ عندما حاول
كان يتلقى صدمة أخرى ،فلم جيدها بغرفتها ،وحني سأل عنها يف
مركز التجميل ،عرف أهنا قد غادرت إىل فرنسا .وحني ترك املكان
ُ
الضحك الساخر، أثر هذا اخلرب ،ال يدري من أين أتاه يتحسس َ
رسها. يدري ال التي اخلفيفة وبعض الع ِ
ربات
َّ َ
القرار احلاسم الذي يرتجم ما هايئست منه عىل األرجح ،مل يعطِ
َ ُ
ٍ
مشاعر ،مؤكد مل تكن حقيقية كالعادة .هي العقار املهدئ، أبداه من
106
يعوضه حض َن الناس واألرض َ احلضن املؤقت الذي مل ينجح أن
والسامء.
مريضا يستحق العالج ،كام أملحت ناتايل يف
ً ملاذا ال ُيقر بكونِه
حديثها الصادم .فال رفضه سيغري األمر ،وال الظروف عىل ضوء
نفسها من أجله.
تغري َ
معطيات الزمن متتلك أن َ
ما هذه النرجسية الكرهية ،التي ُتزاحم مكونات روحه ،التي
تتسم رغم كل يشء بالطيبة والرهافة!
إنه مريض والشك عنده يف ذلك .ظل بار ًعا يف اخلسارة لكل
يشء ،كان يستطيع أن يقدم له ما حيتاجه طواعية .هنا وبنفس
الرعونة يعود ملركز التجميل ،ويبحث عن عنوان هلا ،أو رقم هاتف
ُ
الشوق هلذا كانت تتصل من خالله برفيقات املايض ،متى ع َّن هلا
املايض ،الذي يبدو أن سوزانا مل تتربأ منه بالكامل ،رغم يقينها أهنا
غريبة بالكلية عن املكان وأهله.
بال دراسة أو ترتيب ،سافر لباريس ،مل يضيع الوقت ،فبمجرد
أن دخل للفندق ،اتصل هبا ،ليس األمر صع ًبا هذه املرة ،هو جييد
الفرنسية ،لكنها من املستحيل أن تنسى صو َته إذا ما حتدث هبا كنو ٍع
من التمويه.
حتدث مبارشة:
-أين ِ
أنت؟
107
فكان ردها:
ِ
البالد التي ال حتمل يل ذكريات حمزنة .فلقد رحلت ،ال -يف
رحلت ألن الناس هناك مل
ُ ٍ
وطن أحبه وأومن به ،وإنام ِ
للبحث عن
يعودوا كام عهدهتم.
لقد صدقت سوزانا ،فاجلغرافيا هنا رائعة ،التاريخ فقط هو
أحدث لقلبها الكثري من الغصص .علم خالل حديثهام أهناَ الذي
ٍ
منطقة قريبة من نيس. ليست بالعاصمة .بل يف
أجلها ،فقط طلبتمل تبتهج سوزانا لكون الرحلة هذه املرة من ِ
منه أن يأيت إىل “نيس” ،ومن ثم يتصل هبا ،وهي بدورها ستقابله.
َ
يصدق أن هذه الرحلة من أجل كان من الرضوري بمكان أن
َ
حاول أن سوزانا .ملاذا نندم عىل األشياء فقط حني ترتكنا ومتيض.
يبدو قو اًّيا ،ولكن هيهات ،اآلن فقط يتحرك كطفل منحوه ما يشري
ِ
ملكان أمه بعد طول غياب.
ال من أيام اخلريف ،وبطول الطريق إىل “نيس”كان يو ًما فاص ً
حمض غبار.كانت حياته تبدو أمامه ،رغم كل النجاحات ،وكأهنا ُ
هو بالصدق ال يعتقد يف كونه حيب سوزانا ،لكنه هنا فيام يشبه
االمتنان.
الكثري من ركابه ،مل يكن
ُ القطار قرب مدينة نزل إليهاُ توقف
يركز يف ٍ
يشء رغم املناظر الرائعة ،التي بدت لعينِه من نافذته .وحني
108
أثر نوبة نو ٍم ملحة ،مل ِيفق منها إال
نفسه حتت ِ
حترك من جديد ،وجد َ
ُ
األمل أن حالة جوع رهيبة ،لكن أخذه عىل رصيف “نيس” .كان يف ِ
َ
يتناول الغداء مع سوزانا.
أجرى اتصاالً ومل تغب ،أدرك أهنا قريب ُة من حمطة القطار ،ودقائق
مذاق حضنِها خمتل ًفا وهي تندفع إليه ،وحني وستكون عنده .كان ُ
يشء ما ،حتررت من ِ
أرس مشاعرها انتهت بدت وكأهنا أفاقت من ٍ
القديمة ،ولكنها عادت رسي ًعا للقاء فقط جيمعها بصديق قديم.
بنفس ابتسامتها الرائعة ،وال هذه اإلطاللة ِ للصدق مل يرها
الصبوحة ،مهمومة ،حزينة ،أو ربام تعيش معنى معينًا للخسارة.
اصطحبته لشقتِها ،رحبت بوجوده قدر ما تستطيع ،لكنها ظلت
أمل أقوى بكثري مما يظن. ِ
بخيبة ٍ حمايد ًة لفرتة أشعرته
ِ
حضور ناتايل عىل وملاذا متنحه ما يوحي باألمل ،فسوزانا يف
سطرا يف كتاب أيامه .ربام متنى أن تبدو ِ
خميلته ال تعدو أكثر من كوهنا ً
أحد من ِ
لزيارهتا ٌ هتاجر دون أن يسعى سعيدة ،وأهنا أغىل من أن
َ
الديار.
رت شي ًئا
جالسا عىل أريكة بدت مرحية ،مل يشأ أن جي َّ
ً بعد أن استقر
مستعدا أن حيبها
ً من املايض ،أو يتسلل حلديث قد جيرحها ،كان
بدورها أدركت أنه ال أمل ،فلقد أتى كريم لكي يعود،برشف ،وهي ِ
كرشبة ماء حيتاجهاِ نفسها
هنا وإىل آخر دقيقة يف العطلة ،منحته َ
الشموع باألمسية األخرية.
ُ ميت ،تن ّفسا املتعة حتى انطفأت
109
بعض العطر يف كفيها ،ومسحت
وحني دقت ساعة الرحيل ألقت َ
هبا ِ
وجهه احلليق ،وظلت تبكي ،وراحت تسأل:
-لقد ختلصت من آفة التعود عليك ،لكن هل ستذكرين؟ هل
َ
تبحث عنّى؟ ستعود يو ًما كي
مستسلم ألسئلتِها ،يدرك أن هذه ٌ ظل واق ًفا كالطود ،وهو
شعورا مؤ ًملا بالذنب ،كان متعاط ًفا
ً تفجر فيه
َ العبارات من املمكن أن
حمارص بعاطفة امرأة حمبة ،من الصعب ٌ معها أشد التعاطف ،يشعر أنه
حتام ختتلف ،ليست لكنها كثريات، االنفالت منها ،تعامل مع ٍ
نساء
ً
مذبوح من الوريد للوريد .هنالك هزم ٌ مثلهن ،هي حتبه ح ًقا ،لكنه
بصوت مفعم باحلزن: ٍ صم َته وأجاهبا
ِ
لكنك عىل -سوزانا ..ربام تتعدد الدوائر وتتشابك هنا وهناك،
الدوام مركز الدائرة ،أبدأ من عندك وأنتهي عندك .ساعديني ألن
ِ
أرجوك. ُأ َ
ولد من جديد ،وتابعي أخباري.
ينظر أن حيتاط ظل بسيارهتا، القطار حمطة خرجت معه يف ِ
اجتاه
َ
من نافذهتا ،كي ال يرى أي معاملٍ من ذكرياته احلارضة يف هذه اللحظة
ِ
داخله ،كان منضب ًطا ،لكنه املرهقة ،للمرة األوىل يشعر بالبكاء من
يرتعش بعنف ،هتمة التخيل ظلت تؤرقه.
ٍ
لدمعة خترج ِ
احلني واآلخر تعطي إذ ًنا خيتلس النظر فيجدها بني
قوة التحمل عىل ما يبدو،يف إثر دمعة ،صمت طويل ،كانت مباراة يف ِ
110
لكن وهو بصدد الصعود للقطار ،تعانقا عنا ًقا ظل بطول عمره بعد
هذه الزيارة يبحث عن امرأة متنحه هذا اإلحساس الذي منحته له
كتفه وبكت ،توسل بعناقها يف هذه اللحظات ،ثم وضعت رأسها يف ِ ِ
َ
حتام ،لكنها أرصت برضاوة إليها أن تذهب ،فبقاؤها واقفة سيقتله ً
وقع هذا املشهد،
جدا ُ عىل أن تبقى حتى يتحرك القطار ،كان ثقي ً
ال اًّ
َ
ليتحمل هذا الطعن والقطار يميض ،وهي تبتعد يف قسوة ،ما كان
الذي متارسه املسافات التي تبتعد شي ًئا فشي ًئا ،فاختفى يف الداخل،
مشهد استمر فوق خشبة مرسح ،ال يعرض إال ٍ وأسدلت ستارة
بكائيات العبث طيلة سنوات.
صوهتا خلي ًطا من الفرحة والدهشة،
ُ يف املطار اتصل بناتايل ،كان
بعد العديد من كلامت الود واألشواق احلقيقية ،قالت:
-إذن أنت بفرنسا.
زيارة صديق قديم ،ولسوف يعود ِ فأخربها أنه للتو انتهى من
لتمر بسالم
إلمتام مراحل تأسيس رشكته اجلديدة .مل تكن اإلشار ُة َّ
عىل ذكاء ناتايل ،التي بادرته بقوهلا:
أخريا ،وأن فكرة املغادرة قد
ً -أنا سعيدة لكونك ستستقر
تبخرت عىل ما فهمت.
ٍ
بضحكات مستفزة، مل يعرف بام يرد ،وألهنا استقبلت صم َته
ِ
جودة االتصال .وبمجرد تعلل بأن الدخول يف حميط املطار يؤثر عىل
111
يصل للديار ،سيتصل هبا ويرشح أبعا َد خطوتِه املقبلة .الغريبأن َ
أهنا مل تعلق ،وأغلقت اًّ
اخلط رسي ًعا.
لتمر بسالم ،فاملساف ُة بني ِ
سفره مل تكن العود ُة للديار هذه املرة َّ
أكثر الناس تشاؤما ،يش ٌء ما
للقاء سوزانا والعودة ،ليست كام يظن ُ
يفكر للحظة يف استصدار القرار الصعب ويرحل قد حتطم دون أن َ
هنائ اًّيا.
شعوره الطاعن بالرفض .بل إن ِ كل ٍ
يشء هنا ،مع فقد َّ
طاملا أنه قد َ
خطوة تأسيس رشكة قد تدفع بناتايل للقدوم ،ومن ثم احلياة يف ِ
البلد
برشوطها .وليس برشوطِه هو ،وكذلك ناتايل .التي ربام تسري يف ذاك
قوة حبها له ومتسكها به .وخاصة أن جتربة أيوباالجتاه للتدليل عىل ِ
ِ
الوطن ثم ُة معنى ال يمكن جتاهله حتى تزاحم تفكريه كدليل أن يف
وإن بدا ضئي ً
ال إىل درجة.
مؤكد أن ناتايل بعد مكاملة املطار قد فهمت شي ًئا ،أو لدهيا بحكم
تفسري مقبول حيدثها أن كريم يمتلك نس ًقا معرف اًّيا ال يؤمن
ٌ ِ
جتارهبا
ِ
رشك باحلب يف معناه ،أو يا ربام يمتلك سوء ظن فيمن سيقع يف
ٍ
رجل تفسري عاطفة
َ حبها ،فالنساء ،عىل حد ما يعتقده ،قد يسيئون
تتسم هبذا القدر من اجليشان .وساعتها مؤكد سيحاولون تطوي َعه
واستغالله.
كام معقوالً من اخلربة؟ فهل ما هذا الذي يفكر فيه ٌ
رجل يمتلك اًّ
ٍ
بمساحة مقبولة يف مسألة مصري؟ رغم أن سيندفع دون تفكري ولو
112
ناتايل ال تراها كذلك ،حتسبها دالالً منه حيال بلده وكأنه ٌ
طفل متمرد
لفت نظر أبويه.
يريد َ
بيد أن كريم بالصدق حيتاج احلب أكثر منها ،أمل ِ
يكفه اليتم، َّ
والفقد ألمه قبل أن ترى أوالده؟ وحتى الصديق الوحيد يموت
غياهب وضع سائل ملهكذا دون أن ينتبه له من أحد؟ بل ضاع يف ِ
يأته باحلد األدنى من طموحه.
***
113
()15
بأي ٍ
حال يتابع هنلة املسكينة ،التي مضت سنوات ،ومل يكن كريم ِّ
ِ
جدارة من دخلوا ظلت تنتقل من فشل لفشل ،كل قصصها رغم
حياهتا لالقرتاب منها مل تكلل بالنجاح ،كيف حتولت األمور بعد
غياب كريم هلذا الشعور املؤمل بالضياع؟ ملاذا فرطت فيه ومل تصارع
الدنيا التي صنعت منه رج ً
ال غري ًبا كي حتصل عليه؟
يف حلظة فارقة -ربام -كان القدر حياول أن يصاحلها ،أو يتعاطف
ٍ
لواحد من بارات معها ،ففي هذه اللحظة التي قررت أن َ
هتبط فيها
ِ
قنينة برية ما وسط املدينة؛ لعلها تتعثر يف أحد تعرفه ،أو جتد يف
يمنحها الرغب َة أن تعو َد لفراشها فتجد النوم بسهولة ،كان “كريم”
ٍ
بشوق ِ
لنفس البار .جيلس قبال َة البارمان الذي ر َّد حتيته قد سبقها
ٍ
غياب طويل. جارف ،يكشف عن
ألي جدال قد ُيعكر ما ٍ
بمالمح رافضة ِّ سأله عن األحوال ،ر َّد
ِ
ساعات الليل. تبقى من
114
سجائره بطريقتِه املستفزة
َ اندمج مع ما يرشب ،وراح يدخن
التي ترهق من يتابعه يامرس هذه العادة .مل يكن يسرت تطرف حريته
ِ
بالوقت ،وال بيدها التي سوى الظالم الذي يلف املكان .مل يشعر
دقت كت َفه يف هذه اللحظة .لكنه وجد من تقول:
ِ
كثافة الدخان املنطلق أمامك. -عرف ُتك من
يستدير
َ التفت إليها من الوض ِع ً
مهتزا ،ونطق اسمها حتى قبل أن
استدار ًة كاملة وقال:
-أهالً.
ربام شعر أن اخلمر قد لعبت ِ
برأسه .فلقد مارس انضبا ًطا مبال ًغا
ضمها حلضنه ،هو الذي مل يفهم نفسه من تقبيلها أو ِّفيه؛ كي يمنع َ
ملاذا مل ُيعطِها فرصة انتشاله مما هو فيه ،ومؤكد كانت قادرة قبل أن
ِ
لطريق ناتايل. القدر
ُ يسو َقه
اكتشف أهنا مازالت تدخن ،وبمجرد أن استقرت بجانبه ،حياها
بقنينة برية مثلجة ،أخرجت علب َة سجائر من ذاك النوع اخلفيف ،كي
ُتشعل سيجار ًة من أخرى .وراحت يف ذهول من ضاع منه كل يشء.
رغم خفوت الضوء أدرك أهنا ليست بأي حال”هنلة” ،التي كانت
رب من أي يشء، حضورا .مل تفقد َ
مجاهلا الذي بدا أك َ ً أشد الفتيات
ُّ
تنظر إليه ،وكأهنا لكنها حزينة ،ووحيدة .ظلت تتحدث دون أن َ
تقاوم ضع ًفا يمنعها التعرض لعتابِه ،أو نظرات عينيه ا ُمل ِتهمة هلا
115
جيد
تنتظر حتى َ
َ بالتخيل عن الصرب وانعدام املحاولة ،حني دعاها أن
هلا مكا ًنا يف حياته.
مل يشعر بيشء ،وماتت عنده الرغب ُة يف اإلجابة عىل أسئلتِها عن
الدنيا واألحوال والطموح.
كثريا؟
-هل تأيت إىل هنا ً
-ليايل السبت ،لكن نادرا.
-ما بك؟
-يف املعتاد.
-أنا يف أسوأ حااليت.
-كل منّا يصنع أقداره.
ٍ
بنظرة غاضبة انتقامية ،ثم ألقى ثم َن ما رشب ورشبت، رمقها
أحد اجلالسني من زبائن الليل .لكنه
خارجا .كاد يصدم َ
ً وانرصف
اعتدل ،ونظر نظر ًة أخرية إىل حيث جتلس وغمغم بكلامت:
-برجاء انتظاري حتى أختفي ..فال طاقة يل باستكامل أي
حديث.
سابحا من
ً ظلت مع قنينة البرية ،وكثري من احلرج ،وما تبقى
عطره العالق باملكان .أشفقت عليه ،مؤكد أحبها يف صمت ،أو عىل ِ
األقل متنى أن حي َّبها ،وانتظر منها املبادرة ،لكنها ماطلت ،فخرج من
ِ
حياهتا لألبد أو يكاد.
116
ملاذا بدت واثقة ثق ًة مرضية يف مجاهلا ،الذي صور إهنا أكرب من
جمرد االرتباط برجل ال ينقصه النجاح ،لكنه نجاح مهني أكثر منه
ِ
بالغة أثره، إنساين ،ربام كان ينتحل هذه احلالة من فرط ثقته املهتزة يف
يشء يمنعه احلب ،ملِاذا مل تبحث عنه ،وانسحبت يف يعان من ٍلكنه مل ِ
أنسب وقت كان من املمكن أن يؤسس معها أمجل قصة للحب.
وهل كان سريىض؟
مادام حيبها كان سيغفر هلا ،وهل كانت حتبه؟ ُحمتمل ،لكنها حتب
ِ
واعتدادها نفسها بتطرف ،معظم من يعرفها يدرك حقيقة غرورها
بنفسها.
خرجت إىل الشارع ،وال تدري ِمل انتاهبا هذا الشعور العارم
تقدير لقاء يتم بعد
َ بالند ِم كوهنا اقتحمته بال رمحة ،مؤكد أساءت
سنوات من الغياب .ربام ينقم عليها ،ذكَّرته باستخفافها ورعونتها،
خملصا أن ينساها ،أو أراد أن حيتضنها بعنف ،وكرامته حالتويريد ً
دون هذه الرغبة.
ِمل نسى الرقة يوم قبل أن تضع يدها يف يده .ثم يسأهلا عن أحواهلا،
وجيلسها ،ومن ثم جيلس ويسري هبا ألقرب طاولة ،هييئ الكريسُ ،
يستجيب
َ أمامها كاملريد وشيخه مثل ليلة العشاء ،ملاذا رفض أن
ِ
لنداء اشتياقها ،ويطبع قبل ًة من نفس هذه الرقة التي كانت يوم جلسا
عىل الشاطئ .ويف سرت الظالم ضمها إىل حضنه يف شغف .بحسبه
إنه تعامل معها باحرتا ٍم متناه ،مل يكن مغرما بالعالقات العابرة،
117
والنزوات ا ُملسكنة ،رومانس اًّيا يف انضباط ،وواقع ًيا يف غري تكالب
عىل احلياة ،مل يتنازل عن مبادئه يف سبيل حتصيل ما ينفعه منها ،هكذا
كان.
ربام كان من األجدى أن ُتبدي دالالً جتيده ،وتنتخب طريقة
جتعل اللقاء قدر اًّيا ومباغ ًتا ،صدفة عمياء ،ولو جمحفة .خرجت
خلفه برسعة ولكنها عادت خائبة الرجاء .وجلست حيث كانت.
سألت البارمان عن الرجل الذي كانت بجواره منذ ساعة أو أقل.
نظر هلا نظر ًة هلا معنى ،مل ترتح ملالحمه ،وبدوره ندم أنه فعل.
نفس السؤال تقري ًبا،
فلم يشعر أهنا تشبه األخريات الذين يسألون َ
ٍ
وألسباب أخرى غري خفية .فأجاب بلهجة من يعتذر:
أحدا َ
يشارك ً -هو هكذا دائام ،يأيت صام ًتا ،ويرحل دون أن
ٍ
بخروج ٌ
إيذان احلديث عن أي يشء ،وإن وجد من يعرفه؛ فهذا
رسيع من املكان .لكن أسمع من بعض زبائني أنه اختفى زمنًا قبل
يظهر من جديد.
أن َ
نادرا ،وإن أتى ال َ
فضوهلا ،يأيت ً ِ
الرجل تستفز إجابات
ُ كانت
كثريا ،وال يدري من
ينخرط مع أحد يكرس معه مجود اليوم .غاب ً
أحد أين كان؟
ظلت سائر ًة للبيت؛ تلتقط لقم ًة لإلفطار ،ودخا ًنا ألمسية لن متر
ٍ
ماض ال بسالم ،نزلت ألقرب كريس ،وراحت يف رشود؛ تتحسس
118
يمكن نسيانه ،كانت تستشعر اخلسار َة يف املطلق ،مل يعد هناك من
أمل الستدراك ما فات ،فال العمر وال الطاقة .وزواج عادي مؤكد
النموذج املتسق مع مشاعرها.
َ قرار لن َ
يروق ملن عاشت تنتظر
هل كانت حتبه؟
ٍ
حائط ِ
كعقرب الدقائق يف ساعة ظل هذا السؤال العبثي يتحرك
ٍ
كانفجارات متصلة ،مل يكن سؤاالً صع ًبا، ُحم ِد ًثا دو ًيا يصل ألذنيها
ٍ
رجل حمتمل أراد أن حي َّبها ،لكنه طرحه اآلن جعله ُمربكًا حيال لكن ُ
رفض يف حسم هامش احلياة .أو هكذا يبدو ،بعد أن َ ِ اآلن يعيش عىل
بدي أي َة ر ّدة فعل تؤيد أنه يعاين شو ًقا ضاغ ًطا أن يراها.
أن ُي َ
أشعلت سيجار ًة دخنتها بانتقام ظاهر ،تذكرت أهنا حتتفظ له
بصورة التقطتها خلسة من ِ
هاتفها .مل يكن ينتبه للكامريا ،شارد ٍ
َ
يكون قد أحبها .ألن ذلك متنت أن كاملوتى .وقبل أن َّ
تغط يف النوم ْ
املعنى قد ُييرس قادم مسعاها ألن تعود .رغم خوفها من استسالمه
للحياة برشوطِه.
***
119
()16
120
كانت أمسي ُة السبت بأبرز معاملها هو لقاء”هنلة” والتي مل يكن
يراهن عىل شكل استقباهلا حلريته .ربام أرىض غرورها باملتوفر من
انطباعات اهلزيمة البادية عليه.
يدفع
مستعدا أن َ
ً ِمل دعاها أن تنتظر حلني اختفائه؟ هو الذي كان
صوهتا جتامله جماملة مصطنعة؛ تسأل عنه يف
َ يسمع
َ الكثري لقاء أن
مكاملة تليفونية توحي باألمل؟
السكر الشديد ،وراح يطبع قبل ًةيستثمر غيبوبة ُ
َ ِمل رفض أن
حيتاجها ،كي يتذكر حلظة .كان يستطيع أن يفع َلها دون احتياط منه
أو منها؟
يعرتف بافتقاده هلا .أو يدعوها طي ًفا
َ مل يستطع ولو يف الرس أن
أو خياالً أن يستكمال الرحلة معا .كان من املمكن أن يصد َمه
كربياؤها ،وتتمنع عليه بنفس التربيرات التي ساقتها وهي تتحدث
عن نفسها ..ال تؤمن بغريها كوهنا مجيلة ،ويبدو يف هناية املطاف أن
مجاهلا قد قتلها.
تفكر هبذه
َ كثريا يف األمر .هي كذلك والبد أن
مل يعد يفكر ً
تظهر
َ يأنس للوحدة دون أن
الطريقة .ومن غريها يستطيع أن َ
لرجل يشاركها أفكارها ،ويتعايش معها .تعطلت ٍ احتياجها
االختيارات ،وهي ربام تنتظر حركة األقدار ،أو تنسحب منها
أعراض ذلك الغرور البغيض.
ُ
121
ٍ
حلظة أن حدي َثه املتجه لنهلة قد يصلح إسقا ُطه عىل اكتشف يف
ناتايل ،فحني يفرس ما أبدته من ٍ
ثقة وهو حياول تقبي َلها أثناء الرقص،
ٍ
بطريقة تنتظر لرتى. يراها أكرب من حماوالتِه وقتها لالقرتاب ،تفكر
ماذا يستطيع ذلك العريب أن يقد َم من تفاصيل قد تدفعها أن تتنازل.
ربام كانت من النو ِع الذي يريد صد ًفا عفوية ،وكريم عىل الراجح
انبهار “هنلة”
ُ ليس مؤمنًا باألقدار ،بقدر إيامنه بتلفيقها .فلم يكن
الذي بدأ يوم السهرة ،ومن قبلها اإلطاللة األوىل يف ِ
رواق الرشكة
بتعاطف جم مع رغبتِها للبحث عن
ٍ إال جمرد صدفة صممها القدر
رجل بطعم احلضن واملالذ .يستطيع التوقف أمام نموذج سمعته ٍ
ورأته.
وناتايل يوم املؤمتر ربام شعرت من أول انطباع أهنا قد بلغت
ِ
سذاجة العريب يف خياله مبل ًغا ،فصنعت الرشك ،واندفع هو بكل
نفسه املنبهر .ال ،إن ناتايل مل تر فيه رج ً
ال سي ًئا أو عرب ًيا عليه أن يقد َم َ
مشاعره باندفاع
َ يف ثوب مقنع ،لكنه مثايل ومراهق فعالً ،ال يطرح
طور التجربة ،وهذا ِ وحسب ،لكنه يصوغ كل يشء ويضعه يف
املعنى مرعب إىل درجة بالنسبة هلا ،بينام تظل هنلة مؤمن ٌة بجدارتِه إنه
سيحبها ،واألهم من ذلك قدرته عىل تصحيح مسارها.
ِ
القلب األمر صع ًبا عىل اجلميع ،لذا نصح املقربون هنل َة ويفُ كان
املوضوع ،فكرامتها لن َ
تتقبل هذه احلالة ،وحتى َ منهم منري أن تنسى
لو ظهر ،فام من دليل أن قلبه حيمل هلا شي ًئا بعد كل ما كان .فتعلن
122
ِ
صدره بدا صاد ًقا ،وحني تناول دون احتياط بأنه حني ضمها إىل
شفتيها كي يطبع عليها قبلة ،كانت ملراهق يندفع بصدق عواطفه
نحوها ،وليست لرجل ُجمرب.
مرة تقري ًبا
كان “منري” ينصت إىل كلامهتا يف تأثر بالغ ،فألول ّ
جيدها عىل هذا النحو من االنكسار واملصارحة .وحني عاد لعمله مل
يكن يصدق أن صاحبته قد ذهبت بك ِّلها وراء حمبة الرجل.
خصومة مع طبيعتها ،ومواقفهاٍ الغريب أن كل من كانوا عىل
السابقة منهم ،نسوا كل يشء ،وراحوا يبحثون عنه؛ متعاطفني معها
تعاط ًفا ً
خملصا.
الضفة األخرى من النهر ،ويف ِ
زمحة التفاصيل التي يعيشها ِ عىل
كريم ،اقتحمته ناتايل ..ترى أين هي؟
استطاعت بسهولة أن تسيطر عىل ٍ
جزء كبري من تفكريه ،خبري ٌة َ
بكلامهتا ،أعطته نفسها ٍ
بثقة أخجلته .ال ،هو ِ ِ
احتوائه وناجحة يف
َ
ِ
تطلعات رجل غال ًبا ال خيون من يثقون به .ومل يكن حيمل يف نفسه
يسعى لقتل الوقت.
لكنه متجمد ،وقلبه عىل البعد يصوغ تصورات ال تصلح لعامل
يبدو كالغابة .بل إن الغابة حيكمها قانون ،وليس نزوات املرىض
واملعقدين نفس ًيا .لكن التفكري اآلن يف هنلة قد يبدو خيانة .فلن
يسعى إلدراك موقف حيدد من خالله أين تقف منه ،هو املشغول
بإقناع ناتايل أن احلياة املقبولة لديه أن َ
يعيش معها حيث هي.
123
لكنها منذ حديث املطار ،وما طرحته عن نموذج الرجل الذي
فالوقت يقتله،
ُ ِ
أعدائه، تريده ،مل تتصل به .إهنا ال تدرك حقيقة
ِ
بسياط الشوق .إنه حيبها وال يدري ما قيمة أن واملسافات جتلده
حيد َد هلا أبعاد ما يريده من حبها ،لكنه حني رسب مي َله أن يكون
الرجل األول يف حياهتا صدمته برغبتِها يف ِ
لقاء رجل بكر ،فكيف هلا
أن تتمنى هذا الرجل يف ٍ
بيئة كالتي استقرت هبا!
َ
ليكون ينترص عىل خماوفه
َ إهنا تعبث به ،أو تريد تركه هن ًبا للظنون كي
معها .لكن أين هي يف هذا الصمت الذي طال أكثر من الالزم؟
طالت حال ٌة بدت كالقطيعة بني كريم وناتايل ،فبعد مكاملة
ِ
العديد من أكثر من مرة ومل ترد ،بعد
املطار وما انتهت إليه ،راسلها َ
ربه عن رس االتصاالت ويف كل األوقات ،لكنها مل جتد الوقت لتخ َ
غياهبا.
َ
دالهلا لصوهتا ،وخاصة حني متارس عليه ِ ٍ
بافتقاد كبري شعر
تتكلم معه ،ولو عىل
َ الواثق .وبدورها كادت تضعف وحتاول أن
ِ
سبيل أن تصحح له بعض املفاهيم ،لكن منعها كربياؤها .ومل تراهن
كيف سيستقبل هذا الترصف املباغت منها ،مل جتد إجاب ًة تشعرها
باالنتصار عليه .فهو بعيد لدرجة تستفزها .وال تدري فيام سيتكلم.
تظهر كانت تضحك لكنها عىل ضوء ما أبداه نحوها ،لن َ
تقبل أن َ
يف حياته وكأهنا مرض عارض ،ولقد شفي منه .لكن ماذا ستفعل؟
فالبد من هناية.
124
بعد فرتة ،غلب ناتايل احلنني ،فكتبت له رسال ًة مقتضبة تسأله عن
أرسل هلا حسابا ٍ
لفتاة َ احلال ،وكيف هي أيامه؟ جاء ر ُّده الغريب أن ِ
ً
وتكون رأ ًيا فيها .فهو
ِّ فرنسية عىل الفيسبوك .ويريد منها متابعتها،
عادة يثق يف ِ
رأهيا حيال اآلخرين.
لنفسها وهي تتدارس طل َبه الغريب مل حتاول ناتايل االنتصار ِ
َ
واملباغت ،ومل تذهب لكون املسألة هتدف يف األساس النتزا ِع
غياهبا .لذا مل تترسع ،وبعد أسبوع أخربته غريهتا .ربام ينتقم من ِ
درجة من اجلامل والذكاء .وهذا ٍ رأ ًيا إجياب ًيا يف الفتاة ،فيبدو أهنا عىل
ٍ
بكلمة واحدة: حتام .فرد عىل رسالتِها
الصنف يليق به ً
-أحبك.
شعورها رغم كل ما انتحلته ناتايل من القوة ،لكنها مل ُخت ِ
ف
َ
شاكلة كريم أن يفجر هذاِ بالتوتر .من الصعب عىل رجل عىل
الشعور اخلفي بعدم الثقة فيه .هو أذكى من أن يفرس ما حل بناتايل
اختبار األرض التي سيتجه إليها
َ يقينًا .إنه احلب املتجرد ،الذي يريد
يو ًما ما .ما له ال يدرك أين يقف منها؟
ٍ
رحيل يتمناه ،يف نفس اللحظة التي يتعلل فيها حني حيدثها عن
ٍ
رشكة يف بلده .ملاذا يضعها يف هذه اجلدلية بانشغالِه عنها بتأسيس
بكل قسوة؟ واآلن هيبط من تصوراتِه ويقوهلا واضحة ..أحبك!!
الغياب عىل اعتبار أن ناتايل
َ يف استسال ٍم غريب كان كريم يفرس
125
يستطع إقنا َعها .بل من الصدق اآلن
ْ قد يئست ،وإنه بعد رحيله مل
ِ
احلامقة املرتكبة يوم حدثها من باريس .فمؤكد قد يعرتف بكم
َ أن
ٍ
ذكريات رائعة ٍ
حلبيبة قديمة الستعادة ذهب ظنها أن الزيارة كانت
يف حماولة إلحيائها.
يمنحها هذا الشعور
َ بل إن احلامق َة األكرب أن اتصل هبا كي
يقتطع جز ًء من العطلة ويرحل إليها،
َ بالقرب ،مع عدم رغبته أن
فاملساف ُة مل تكن كبرية اًّ
جدا إذا ما حاول االنتقال من باريس لفيينا.
الغريب ما حدث بعد هذا احلوار املتوتر ،فقد خرج كريم ووقف
بسيارتِه قبالة البحر ،يفكر يف هذه املعضلة ،التي حركتها ناتايل
يفكر يف اخلطوة فيام وراء الرشكة ألهنا أن األجدر من كان ها،بحديثِ
َ
تتناقض مع ما سبق وطرحه عليها من رغبتِه يف الرحيل عن بلده.
ِ
ألبعد مما رسمت. ِ
قياس حسابات ناتايل تتطور مل تكن احليا ُة عىل
ِ
حسب مصادر ٌة عىل املطلوب لو حسبت أن كريم سيتشكل عىل
يتفق
ال أن َ ما تظن وتعتقد ،أو جيد اخلالص من أزماته .فليس سه ً
ُ
اإلنسان مع عاملٍ يرفضه .أو احتدم خالف لن ينفع معه ُهدنة ،أو
سالم عابر .لكنها حتبه ،ومؤكد إن أخلص هلا فسوف تنتهي كل
األزمات.
***
126
()17
127
عن اخلروج منها .يدرك أن مشاعر رجل متيم يف ذاك الزمن قد تبدو
فاحلب بات سلع ًة تتعرض لقوانني العرض والطلب.
ُّ غريبة عنه.
األفكار نفسها باتت سلعة .القيم ،التي ظل بطول عمره يتحدث
ٍ
كمبادئ كلية ،صارت تنتحر اليوم أمام عينيه ،واحتدت مع عنها
نفسه كي يتصالح معيرهق ََ كوهنا وجهة نظر .فام الذي يدفعه أن
عامله ،أو مع تصوراهتا التي حتاول إسقاطها عىل الواقع وإنسانيته.
عوار نفسها ،وغرورها الغري مربر .وحتى لو راح مؤكد قد أدرك َ
ِ
مركبات ضعفها املستور ،فام هي ِ
لنسج عالقة معها؛ متسام ًيا فوق
الستكامل خسائره؟ وخاصة مع هذا الوقت الصعب يف كل ِ دوافعه
تفاصيله ،واألصعب زوال فرص تعويضه. ِ
زاوية أخرى للحقيقة فإن “هنلة” ليست هبذا السقوط ٍ لكن من
ِ
حديث منتقدهيا .ربام تسكنها حري ُة القرار، الفظيع الذي يتسلل من
ضبابي ُة التصور عن احلبيب الذي تشتهي أن تنا َم يف حضنه وهي
مطمئنة .ال أزمة تعيشها أكرب من توفيق هذه املتناقضات املؤملة من
ِ
وجهة نظرها.
احلب قد
ُّ العمر ليس من األعداء الذي يمكن هزيمتهم بقرار.
كبريا ملته ًبا.
وخصوصا إذا كان ً
ً يستطيع أن يلغي بعض املحاذير،
قدر ِ
لكن من سوء حظها أن التقت”كريم” فإذا كانت تفكر يف أمره َ
غرام ،فإنه يفكر يف ِ
أموره حد االنتحار.
128
القدر ومتكن منري من لقائه عند مدخل املنزل .بدا ُ تعاطف
ِ
عالمات التعب .ومل يبتهج هبج ًة جيوز هدا ،وبانت عليه الكثري من ُجم ً
رصدها حال رآه .صعد معه لشقته .ودفع بكريس ،وحني استقر ُ
جالسا حدثه مبارشة عن “هنلة” وكيف هو حاهلا يف غيابه.ً
مل يكن حيتاج إىل إخباره بحبها له ،لكن بان عىل وجهه الذي مل
حيرص يو ًما عىل إظهاره .حزين يف تطرف ،واحلرية تكسو مالحمَه
كلها .هنالك قام “منري” ليحتضنَه .ويقول يف هلجة أقرب للتوسل:
َ
تكون يف حياتك ،بغض النظر عن أي -امنح “هنلة” فرص َة أن
انكسار متوقع .فيقينًا ال يوجد ما خترسه.
لكن كريم تأمل من هذا االقرتاح ،وراح يفند إنه ليس من هؤالء
الذي يقتلون الوقت بمشاعر جمانية ،فإما أنه حيبها ،أو لتخرج من
حياتِه ولألبد .لكنه ال يعلم أن أي مساحة س ُتمنح هلا معناها أن
يبقى ،وهذا غري وارد اآلن.
ربام أشفق عىل منري ،ففتح قل َبه ،اعرتف أنه يف آتون حرية شاملة،
ففي زيارة للنمسا تعثر يف ٍ
فتاة تدعى ناتايل ،عربية مهاجرة ،متتلك
ٍ
ملفاتيح قد تستطيع إخراجه مما هو فيه ،وتطهريه مما علق به ما يشري
بطول رصاعه مع عامله هنا.
امرأة عىل درجة من الطفولة ،تستطيع إعادته لعوامله السابقة.
متنحه
بينام يشعر أن سطوة الطموح يف عني “هنلة” سيغتال رغب َتها أن َ
129
احلب كام يتمنى .وإن مل تنجح يف منحه احلب ،فسوف تصطدم َّ
بمزاجه احلاد .وميولِه الرافضة واملمتعضة والتي تدفعه دف ًعا كي
ِ
يغادر.
ِ
اجرتار ذكريات املايض ،وحديث بعد كوبني من القهوة ،راحا يف
يثق فيام يقوله
شجي عن أخيه الراحل .ويف النهاية دعاه “منري” أن َ
املرة عىل األقل ..فإن هنلة قد جتاوزت هذه السلبيات التي مل هذه ّ
نفسه القدر َة عىل نفيها ،كوهنا صديقته ،ويعرفها بصدق. جيد يف ِ
ويستطيع أن َ
يقوهلا وبال تردد؛ إهنا حتبه.
***
130
()18
قبيل غروب يوم بدا بار ًدا ،هبط كريم من سيارته ،توقف قبالة
ِ
احلزينة حيال هؤالء الذين جيلسون عىل رجاء البحر .رشد بنظراتِه
سقف من حب .ضائعون ومساكني ،من ٍ أن جتمعهم الدنيا حتت
هيبهم فرصة واحدة ينجحون يف استغالهلا ويصنعون شي ًئا؟
ظل يسري هذه املسافة كلها ،تاركًا هذا املشهد الضاغط بعنف إىل
سجائره .وصعد رسي ًعا ،وارمتى عىل رسيره بمالبسه.
َ البيت .اشرتى
ِ
بسقف الغرفة ،وبعض الذكريات وأغمض عينيه اللتان كانتا معلقتان
يت ناتايل عىل قياس ما يتمنى.
القديمة .وبعض اآلمال أن تأ َ
يسمع جرس الباب ،هو َ مر قبل أن
ال يدري كم من وقت قد َّ
يزوره أحد .من الداخل مل يتبني مالحمَها ،خانه
َ الذي مل يعتد أن
النظر .لكن صوهتا قال إهنا هي .كان اخلجل يعرتي كل تفاصيله،
فحيا ُة رجل منفرد ال توحي بأكرب من رهان عىل ِ
لقاء الفوىض ،لكنه
فتح ،وبرسعة أغلق با َبه ،ليجدها تتجه حلضنِه بعنف ،تبكي ،وهتتز
من البكاء.
131
مشاعره ُحمايدة وال يدري السبب .هل هي املفاجأة ،أم
ُ كانت
يده املرتعشة عىل كتفها ،هيدهدها ،وخيفف من اجلسارة؟ وضع َ
ِ
شجن اللقاء ،بعد كل ما كان من جفوة.
عىل نفس الكريس الذي جلس عليه “منري” جلست “هنلة”.
حركت عينيها الصافيتني الباكيتني يف كل األركان .رأت الكتب،
ٍ
مستلق عىل واحلاسوب تنبعث منه موسيقى كان يديرها هبمس وهو
أريكة.
صوت “أسمهان” الساموي يصدح يف سامء الغرفة ،فيحلق ُ كان
صوهتا بينام ُتغني “ليايل األنس يف فيينا” ،تلك
ُ غناؤها عال ًيا ويتسامى
األغنية الساحرة التي ال يمل كريم سامعها.
َ
يشغل نفسه أشعل سيجارتني ومنحها واحدة .وحاول أن
بالبحث يف ملفات ال يدري ما فيها .ربام كانت مباراة للصمت أو
ارتياحا ،هو الذي مل ينم
ً ٍ
بشكل أكثر جيلس
الصرب .بدا وكأنه يريد أن َ
لثالثة أيام خلت ،بينام هييئ نفسه للرحيل .وعىل مالحمه الكثري من ِ
منتصف األريكة ،ويف اخللف من رأسه بعض ِ التعب .فنام تقري ًبا يف
النظر يف تفاصيل بيته.
َ الوسائد ،وهنلة بدورها مازالت ُمتعن
سألته عن يشء قد استقر فوق منضدة يف الزاوية .فأجاهبا إنه
ِ
ارتباك اجلريان حني يموت كفنه ،فمنذ مات زياد وهو خيشى من
وحيدا.
ً
132
صدمتها اإلجاب ُة فاندفعت تلقي َ
نفسها يف حضنه .مل يقم أو
ِ
يستلق من أجل أن حمتاجا لذلك ،رغم أنه مل
ً ينتفض .بدا وكأنه كان
َ
تفعل ما فعلت .كان قل ُبه يدق برسعة .بدا كمراهق ،يتعرض لغواية
أنثى عريضة التجربة .حتى أهنا شعرت هبذه الدقات املتسارعة.
غريت من شكل حركة جسمها، ولفتت نظره ،لكنه أجاب إجابة َّ
ٍ
عناق دافئ، التي غادرت جمرد استناد عىل صدره ،لتتحول إىل
مستسلام هلا.
ً وجسمه مازال
مل يكن هناك من عتاب ،وال حماكمة عىل أي درجة من القسوة ،ومل
متارس عليه دالالً يكافئ حضنَه .فقط فتاة مؤرقة ،وجدت املساح َة
صمت جعله يعتقد فع ً
ال ٌ التي تعينها عىل نو ٍم هادئ ،بعد طول أرق،
ِ
لشعرها يده تتسلل
دقات قلبه للهدوء ،وراحت ُ
ُ أهنا نامت .فعادت
هامسا أن تطمئن.
ً حينًا ،وهتدهد كت َفها حينًا ،يدعوها
ككتلة واحدة ،وأشعلت هي السيجارتني بدالًٍ قاما من نومتهام
الكثري من األسئلة.
َ َ
تسأل منه .كان يدرك أن شغفها يدفعها ألن
ِ
جلواره تنظر حاولت أن تعو َد للكريس ،لكنها مل تستطع؛ فجلست
ِ
لساموات إليه ،وصوت املوسيقى مازال متواصالً .وراح ينظر
الغرفة وحيكي..
أخربها أنه يتأمل للمعاين التي ال تأيت عىل أسل ِم التفاسري ،وقد
يقبل أي ٍ
يشء حتى الظلم ،لكنه ال يقبل أن ُتلفق نيته .أقسم إنه قد َّ
133
خيتار املساحة التي
جتاوز كل يشء .كان فقط حياول يف الغياب أن َ
تسمح هلا بالوجود ،وماذا عساه أن حيدث لو غابت.
هنالك اكتشف أهنا ستظل واحدة من ِ
مجلة خسائره ،ألنه يشفق
عليها من شخصيته املرتبكة ،ربام استفزها صم ُته وغموضه ،فسعت
لكشفه وحل لغزه ،لكنه ال يدري ما هي أزمته لكي حيكي عنها.ِ
ِ
شعوره وليس ظل صو ُته يدفعها دف ًعا أن تطال َبه باحلديث عن
هواجسه .مل تكن تريده أن يصمت ،لكنها ال تتمنى جماهب َة أفكاره
كناصح أمني ،وكأن كل ما قاله كان متحق ًقا
ٍ السلبية .حاول أن يبدو
يف حساباهتا وهي تتواصل معه بعد السهرة ،أو يف غامر العمل
الذي صادفها فيه ،لكنها مل تتعاطف مع هذه التوجهات املؤذية يف
كثري من نتائجها ،وكأنه يمهد خلتام جديد ،لكنه وعدها أنه يفكر
يف األمر ،مؤكد يضع املحاذير والضغوط املحتمل أن تتعرض هلا.
واالختبارات القاسية التي قد تصادف رحلتهام معا.
ِ
للصالة إخراجه من ذاك الطقس فطلبت منه أن خيرجا حاولت
َ
ترقص معه .سأهلا هل هي َ صوت املوسيقى ،فهي تريد أن
َ ويرفع
يكون هو من ال يستطيع .لكنهامَ جادة ،وجتيد الرقص .فخشيت أن
مع ارتفاع صوت املوسيقى رقصا م ًعا.
انتزعت منه قبل ًة هلا معنى ،وحني انتهت الرقصة ،احتضنها،
وشبح ناتايل يتمدد عىل اتسا ِع خميلته.
134
ِ
جوار البحر. هبطا إىل مطع ٍم قريب ،وبعد أن خرجا منه مشيا إىل
ٍ
كطفلة ،وهو ِ
بدوره عاد عاش ًقا ً
متيام .سأهلا مبارشة.. بدت
-ماذا تريدين؟
دورها يف الكالم قد حان..
ضحكت ،وأعلنت أن َ
أمره كان صمته، غموضه أرهقها ،لكن األشد غواية يف ِ
َ مل تنكر أن
واختالفه عن كل من صادفها.
بإشفاق غريب ،مل يراهن عىل تفاصيل ال تتحرك ٍ كان ينظر إليها
ِ
احلياة ِ
جتربة يف عقلها ،ويكاد يشعر هبا ،فتحدث مبارش ًة عن رغبتِه يف
الطموح األخري.
ُ يف أوروبا .فهذا عىل ما يبدو سيكون
مل تتعاطف “هنلة” مع هذه الرغبة ،بدت حزينة ،وهو يصف احليا َة
هنا وكأهنا قبس من اجلحيم ،أو لعنة ترتصد كل من هم عىل شاكلته.
فلقد أرهقته األيام ،ومل يعد بري ًئا كام كان .فالكل ٌ
باطل هنا ،حتى
غياب احللم واملعنى.
َ ِ
هامش الرخاء ،يعانون الذين يعيشون عىل
الرفاهية الزائدة عن احلد ُمهلكة ال حمالةُ .حتيل اإلنسان الذي اختاره
اهلل إىل ٍ
كائن استهالكي كريه.
تتجمد مالحمُه ،وهو يرى الصدم َة بادي ًة عىل وجهها
َ مل يشأ أن
الصبوح .فأخربها عىل سبيل األمل أنه مل ينسحب من ِ
حياهتا ،لكنه
ِ
تعاملها الغريب مع تعاطف مع ظروفِها ،وخاف عليها الفشل من
مجاهلا ،أو ترتبك حيال ترتيب القادم من أيامها.
135
ال يدري ِمل كان حريصا عىل ِ
رسد هذه الذكريات .ومل يستطع عىل ً
يفرس ِمل اندفع منري كي حيكي عنه تفاصيالً ،ربام ما
الدرجة نفسها أن َ
كان ينبغي له أن حيكيها.
األمر ،وتنتبه
َ مؤكد مع غيابه الطويل منحها ما جيعلها تنسى
ِ
حلياهتا وكأنه ليس فيها .ساق هلا هزائمه وإحباطاته ،التي حتول دون
ٍ
جتربة جديدة ،قد تكون هنايته. َ
يكمل قادم أيامه يف أن
كثريا بعد أن غابت ،عاد هلواجسه ،لكنه قتلها رسي ًعا .فربام
توقف ً
تعيد له االتزان املفقود .أو ربحت معرك َة الوجود التي
استطاعت أن َ
أحدا سواها.
يديرها القدر هذه املرة بناتايل وليس ً
يف قط ٍع متواز ..ال تدري كيف وصلت للبيت .فآخر ما تظنه أهنا
رحلت بسيارة وليس بجناحني من أمل .هي حتبه ،وآمنت به.
ستتزوجه وستقاتل من أجله .هذه هي احلقيقة ا ٌملجردة الوحيدة
التي ستسعى لتحقيقها.
ِ
حماولة اتصال ،ورسائل بعد عودة كريم للبيت وجد أكثر من
ِ
للوقت املتأخر واتصل هبا برسعة .فاجأته كثرية ،من ناتايل .مل حيتط
ِ
بقوهلا دون كلامت الرتحيب املعتادة:
-أحبك.
وأريدك أن متنحني صور َتك اآلن وأنت تستقبل هذه الكلمة
مني .فتح الكامريا فعالً ،ومل حياول أن ُيبدي أي َة ردة فعل ،كان
136
جامدا كاملوتى .ال يدري من ِ
سوء طالعه ملاذا ظهرت هنلة اآلن كي ً
ربك حساباتِه وتعوق رغبته يف ناتايل. ُت َ
ٍ
البتسامة ال يعلم النظر صوب وجهها يلمح ما يشريكلام اختلس َ
معناها .انتصار ،فرحة من ربحت الرهان وأدركت كم هو كائن
مرتبك .صدمته حني قالت إن اإلفراط يف احلب ال يعني أنك حتب.
ويبدو أن تصنيع حالة الغرام كان يبتغي أص ً
ال صناعة دراما حلياة
يراها متجمدة وخالية من املعنى .فهل هو كذلك فعالً؟
جتميع نفسه كي يرد
َ ص كم من سيجارة أشعلها وهو حياول مل ُحي ِ
عىل تساؤالهتا.
مريضا فعالً ..فالناس أي تعاطف وهو خيربها كونه ِ
ً مل ُتبد ناتايل َّ
النظرات
ُ حد علمه خمتلفون هنا .الثرثرة تسلي ُة اجلميع .وتقتله عىل ِّ
املرتابة ،لذا مل يظلمهم عندما تعامل بشح جدير بالنظر مع فكرة
التعارف ،وتكوين الصداقات .ومؤكد قد أصابت ناتايل يوم
ِ
كيمياء فالناس نمطيون ،ال يعرفون شي ًئا عن رفضت العودة لبلدها.
ُ
االختالف ،وخاصة حني ُيبدي دهش َته حيال أمور قد تبدو بسيطة،
جدا معربة عن كارثة.
لكنها اًّ
ِ
ملسببات ِ
رومانسية البدايات ،وطلبت منه أمثل ًة ختلت ناتايل عن
املالبس مع مج ٍع من
َ رفضه .فأخربها عن أولئك الذين يشرتون
َ
أذواق اآلخرين ُتشتت اختياراهتم؟ األصدقاء .ملاذا جيعلون
137
َ
واألشكال التي تتسق مع رغباهتم ،ويتبنون َ
األلوان فلريتدوا
الدفاع عنها .وحتى يف السينام ،فليس من
َ األفكار التي يستطيعون
َ
فيلام مع أحد قد جيعلنا نرى األحداث من خالله. نشاهد
َ أن ِ
احلكمة
ً
حسام يف يد الطواغيت.
ً املصادرة عىل الفهم هي األدا ُة األكثر
حد خربيت
املستبدون خيشون من املختلفني .واألزمة احلقيقية عىل ِّ
أن العامل لن يتغري.
ِ
مالحمه لدرجة أن اعتقدت كانت ناتايل تسمعه ُ
ومتعن النظر إىل
أن كريم هيذي ،إنه ال يمتعض من الناس ِ
بقدر ما خيافهم ،ولو يف
يمنحهم فرصة اصطياده ،ومل يشأ حتت
َ الرس واخلفاء ،ال يريد أن
َ
يكون جدل ًيا حتى مع من يعتقد بحبهم. ضغط نفس اخلوف أنِ
138
ِ
أبواب قصة بطالب احلقيقة ،وأنصار التزود باملعرفة حتى وهو عىل
َ
التورط يف التفسري. ِ
طريق ناتايل ال يريد حب حقيقية تدفعه يف
ضوء ما سمعت ..أنت ختشى ِ ِ
بحكمها عليه عىل باغتته ناتايل
الناس ،لكنك حتت ضغط احلياء ،وحمبة العزلة ،ترتك من يريد الفهم
تتجنب وبقسوة أي فرصة قد يعيش مع ِ
جهله باحلقيقة ،فقررت أن
َ
جتمعك هبم ،أو أي لقاء قد يورطك يف رشح معنى ،متلك حياله آلية
قد تساعد اآلخر عىل اإلدراك.
بعد سيجارة أشعلها بتوتر قال:
-لكي أنترص لكوين الوحيد الذي يعرف احلقيقة .هل هذا ما
تقصدينه؟
مل تشأ ناتايل أن تصد َمه بام وصلها من أفكاره .حاولت فقط
غري أن احلياة قد
إبدا َء رأهيا فيام سمعته وتعلق عىل مالحمه ،فلم جتد َ
تبدو أبسط من هكذا تصورات .هنالك أخربها وهو ينتحل بعض
القوة أن احلقيقة حتتاج للشقاء والنضال .املعاين السهلة التي ال تأيت
بدم ،تركض إىل زواهلا املؤكد .وأن طاقة العطاء عنده ظلت تتحرك
وفق ما يعتمل يف قلبه من مشاعر إجيابية مع حمدثه ،فإن أحب يمنح
بسخاء ،وإن كره ،فال طاقة له متنحه الصرب عىل هذه النامذج التي
جتعله بوجودها يتنفس من ثقب إبرة .وليس له من أمل سوى أن
ترتكه الناس يستمتع بوحدته.
139
-وحدتك؟
وملا أدرك كريم قسوة املفردة قال:
-طاملا أنك خارج حيايت أستطيع توصي َفها وحديت.
ِ
تفاصيله املربكة ،فأخربها َ
انتشال ناتايل من ٍ
صمت أراد كريم بعد
أن أيوب رسحان ،ذاك الرجل الذي التقى به عىل هامش املؤمتر يف
فيينا ،سيصل يف غضون أسبوع .سيلتحق هو وزوجته بأوالده.
وحني علم هبذه النية ال يعرف هل يبتهج أم حيزن ،لكن عىل الغالب
يؤجر له
َ الرجل ثانية .والذي طلب ِ
بدوره أن َ سعيدا أن يرى
ً سيكون
سيارة ،ويصطحبه من املطار حتى الفندق الذي سينزل فيه .ويبدو
ٍ
لعودة دائمة. ِ
بصدد ترتيب أن الرجل قد يكون
ِ
بلهجة الواثق أن جتارب سألته ناتايل عن ِ
رأيه يف األمر .فأقر كريم
العودة مل تنجح مع من جربوا العودة ،فشلوا يف التأقلم مع الوضع،
ذر .ولسوف أرشح له حني أقابله صعوب َةفاحلياة هنا تغريت بشكل ُم ٍ
أن يعود ٍ
لبلد تركها طفالً ،ومؤكد له ذكريات بريئة مل يعد هلا مكان، َ
أثر للبيت الذيفام من أهل وال صحبة ،وربام مع احلرب قد زال كل ٍ
نشأ فيه.
-لكنك تصادر عىل ظروف الرجل وتوجهاته فربام استطاع
التأقلم ،استنا ًدا حلبه القديم لبلده.
140
فضحك وأخربها أن بالدنا ال حتب .وملا وجد من مالحمها ما
يشري لعد ِم قبوهلا للدعابة .دعاها أن تنسى هؤالء احلاملني .فزاد وج ُه
َ
االتصال دون جتهام .وطلبت منه أن يرتكَها لتنام ،وأغلقت ناتايل ً
حتى أن تود َعه.
***
141
()19
ِ
بمستجدات ِ
صبيحة أحد األيام ،التقت هنلة بمنري فأخربته يف
ٍ
بصمت فرحا هلذه التطورات .لكنه الذ
عالقتها بكريم .ابتسم ً
أقلقها فعال .ومل تستطع االنفالت برسعة من طقس الريبة الذي
سيطر عليها .فسألته مبارشة:
-ألك حتفظات عىل العودة؟
هنا نصحها أن تسأله يف ِ
أول لقاء جيمعهام عن ناتايل ،فمنذ فرتة
ِ
التعليقات املتبادلة وهو يتابع نشا َطه عىل الفيسبوك ،وهو يالحظ من
فيام بينهام أن ثمة يشء كبري قد حدث.
تفرس رغبتها
َ ال تدري”هنلة” من أين أتاها هذا الثبات ،وال أن
َ
تتجاهل ما سمعته ،إذن هو يعيش حال َة حب أخرى جتاوزهتا يف أن
بالكلية .لكنه لن يكذب .فلو دفعته للحديث عن هذه الشخصية
اسمها اآلن حلكى هلا وبكل أرحيية .الغريب يف األمر أن
التي سقط ُ
منري قلق ،فمؤكد ما يقرأه دال ومعرب عن يشء ما.
142
ٍ
حرية قد تفرس جهلها باألمر .فانتحلت اهلدو َء مل تشأ السقوط يف
حتى تلقاه.
ال تدري ألي جهة انتقل احلديث .فقط رشود عارض،
وحماوالت يائسة أن تنسى مؤق ًتا هذه القنبلة التي ألقاها منري ،دون
أن يراهن عىل ِ
أثرها ا ُملزلزل.
َ
تتصل به مبارشة، عمل صعب .فكرت أن خرجت هنلة بعد يوم ٍ
وتناقش معه هذا التطور الذي أنتج ناتايلُ ..ترى من هي؟
متأخرا للدرجة ليس الوقت
َ أن وأدركت ها نظرت هنلة ِ
هلاتف
ً
تقتحم عليه وحد َته يف بيته .لرتى إن كان بالفعل لديه
َ التي متنعها أن
آثار هذه العالقة ِ
ما يقوله .لكنها ذهبت بنفسها حلسابه كي تقتفي َ
املمتدة يف الكوكب األزرق.
صور ناتايل شعرت هنلة بيشء قد رضب ثق َتها بنفسها، ِ باستطالع
مولع هبذه النامذج املبهرة.
ٌ فناتايل مجيلة يف تطرف .ومؤكد أن كريم
صحيحا، ٍ
اعتقاد بدا تابعت التعليقات فوصلها ما وصل لصاحبِها من
ً
قصة ملتهبة فد نشأت .أرسلت عرب املاسينجر رسال ًة فعىل ما يبدو ثمة ٍ
تطلب رؤيته ،والغريب بدا أنه قد قرأها ،لكنه مل يرد.
لباب شقته ،فبدت األضوا ُء ِ حتركت لزيارتِه يف بيته ،وصلت
املرة .مل يغب ،وفتح بعد أول
وضوحا هذه َّ
ً املنبعثة من الصالة أكثر
يتجاوزه.
َ ٍ
بربود استطاع أن دقة .دخلت ،وسلمت
143
ِ
بروده املستفز بالنسبة ِ
الفراغات الكثرية بني الصمت يمأل
ُ كان
هلا ،وأسئلتها الكثرية ،وأمهها هذا التطور الذي مل ِ
حيك عنه .حتى
َ
فنجان قهوة ليصنع
َ نفسه ليسأهلا ..ما بك؟ فقط قام
إنه مل يكلف َ
ٍ
لثالجة صغرية تأيت يسع لسؤاهلا ماذا ترشب .فقط أشار واحد .ومل َ
يف اخللف من ِ
باب الغرفة التي جيلس فيها.
-ألك رغبة أن نتكلم يف يشء؟
ٍ
يشء يف باقي الغرف أشعل سيجارة ،وقام وكأنه يبحث عن
واملمر ،الذي يؤدي للمطبخ والصالة من جديد .وظل يتكلم وكأهنا
ليست موجودة:
-كان من املمكن أن تكوين يف مكاهنا ،لكنك مشغولة بأمور مل
أعد أفهمها ،مشغولة للدرجة أن يمنحك منري ما يشري لعالقة قد
نشأت بيني وبني ناتايل ،لقد كتب يل رسالة يف نفس توقيت رسالتك
تقري ًبا يستفرس عن األمر ،وطاملا أنكام أصدقاء فليس صع ًبا أن
ٍ
ضوء رسالته .وها أنت تأتني للسؤال وكأين قد أفرس رسالتك عىل
خنتك .أنت ال يشء ..عىل األقل لآلن .تدعني الذكا َء والفهم يف
حني إنني بمجرد أن سمحت لك باالقرتاب كان من الرضوري أن
تضحي حتت داع احلب وتقرتيب ألين أحتاجك ،فإن مل أكن أحبك
أو تبلورت يف قلبي مشاعر تقرتب من احلب ،فكان جديرا بك أن
ترسقيني من هواجيس وحرييت ،طاملا قد فهمت إنني أعاين هنا من
مركبات احلرية واالرتباك .لكنك تشبهني هذا الواقع الظامل الذي
144
نعيشه ،تريدين استاليب من عاملي اخلاص كي َ
أعيشه من خاللك.
أو ترتكيني هن ًبا لشغفك املريض ،رغم كل ما يعرتيك من هشاشة.
تريدين أمتالكي ،وأنا يقينًا غري موجود إال يف إطار عميل .تقرتبني
فقط عندما يستبد بك الظن إنني بصدد الرحيل ،لكن بمجرد علمك
ِ
ذهبت لعاملك تتدارسني إين بصدد تأسيس رشكة حتتاج بقائي هنا،
ٍ
كحبيبة مطعونة ،حتاولني من جديد فكرة اقرتابك مني .واآلن تأتني
استجال َء احلقيقة يف هذه العالقة املحرمة مع ناتايل .هي تشبهك
ِ
تصوراهتا اخلاصة حيايل، يف ٍ
كثري من األمور عىل كل حال ،متتلك
كثريا مع تصوراتِك ،لكنها جتامليني أكثر منك.
وباملناسبة تتطابق ً
ولدهيا من الكر ِم ما يساعدها عىل منحي الفرصة.
صمت كريم للحظات ثم أردف:
ٍ
لرجل مازال -ليس يل مصلحة يف تدمري صورة تتشكل أمامك
ِ
سواك ،حال يف طور إقناعك إنه جدير ِ
بك ،ليس عندي ما أخرسه
لديك ما خترسينه إذا ألح عليك ِ ِ
وأنت ليس حتطمت عالقتي بناتايل.
رجل معتا ٌد عىل االنسحاب من حيايت ،ألنك لآلن مل تدخليها .وأنا ٌ
ُ
فهمها .وحتى ِ َ
أكون أنان ًيا وأنتزع منك عاطفة ال أجيد َ اخلسارة .ولن
تصديقك ملا أقول أو تكذيبه مل يعد هيم .فقط خذي وقتك .ألين يف
أخرج من حيا َتك فقط ،بل من هذا البلد هنائ ًيا.
َ القريب لن
بثبات غريب ،ثبات أغراها أن ال تتورط يف ٍ كان كريم يتحدث
145
ٍ
بعمل قد كُلفت خطأ التعليق عىل ما قاله .فقط أعلنت أهنا ستنشغل
به من قبل الرشكة.
و َّدعته بصورة أكثر لط ًفا من بداية اللقاء ،والذي كان بار ًدا اًّ
جدا
ٍ
هلواجس كثرية .ال تدري هل من من جهتها .وخرجت وهي هنب
تطورات أخرى قد حدثت ومل خيربها بشأهنا؟؟ ٍ
ملالمح هنلة وهي متيض خارج ًة من شقته ،بعد ِ مل يرتح كريم
حديث متوتر عن ناتايل كواحدة دخلت حلياته ،ومن ناحية أخرى ٍ
ٍ
بيشء من وجع الضمري ،فلم خيربها أن اليوم اجلديد ربام سيأيت شعر
رب ملنري كي يقوله يف
وهو خارج هذه األرض ،هو فقط رسب اخل َ
ِ
الوقت املناسب ،أو بعد أن تتثبت أقدا ُمه يف منفاه األخري.
***
146
()20
َ
ختتزل ناتايل رغب َته وتدفعه دف ًعا الختاذ من الصعب بمكان أن
قرار هبذه القسوة.
القسوة؟؟ فرغم كل معاناتِه وغربته التي عاجلها بالذوبان يف
روحه مازالت قلقة ،ومؤكد لو حدث
العمل والنجاح املستمر .فإن َ
وغاب هنائ ًيا ،فسوف تتأقلم هنلة مع الوضع ،وتتدارك ما يميض من
ِ
خياهلا منذ عرفت احلب كام رسمته يف عمرها رسي ًعا ،وتبحث عن
ِّ
احلب.
قرب عودتِه هلا ،مل يذهب لكوهنا ال
حني راسل ناتايل خيربها َ
امرأة ترى األمر صعبا ،ال ألنه غري ٍ
جاد ٍ تصدقه .بل منحته تصور
ُ ً
بلده ومرتبط هبا ،وكل ما يتبدى من انتقاد ملا
يف رغبته ،لكنه حيب َ
يعتقده سقو ًطا للمعنى ،واضطرا ًبا للتوجهات ما هي إال قشور ،أو
هو جمرد دالل لصبي قد وضع سق ًفا عال ًيا لطموحاته وما يرجوه من
األرض والناس.
147
دفعته رسال ُتها للجلوس قبال َة صورة أمه يف منتصف الصالة ،مل
يشعر هبذا الكم من األسى من قبل .مؤكد لو كانت باحلياة ،جلعلت
ِ
رحيله اآلن حمكوم عليه بالفشل .ليس التزا ًما أخالق ًيا، من قرار
املسألة أكرب بكثري من جمرد عاطفة غريزية حتكم عالقة عىل هذا القدر
من اخلصوصية .كانت تفهمه وحتتويه ،أو عىل األقل جتعل من احلياة
هنا ممكنة ،ومتنحها املعنى الذي يمتلك جدار َة أن يعيش من أجله.
ٍ
أرض غريبة يمثل هذا اهلاجس املؤمل الذي يريد هل كان املوت يف
ينفلت من بشاعة أثره .فيعود بعد أربعني سنة ويزيد؛ كيَ أيوب أن
ترميم مقربة عائلتِه ،وماذا يضريه إن مات يف أي بقعة ،طاملا
َ يعيد
َ
سيتحول يف ِ
هناية املطاف لعظا ٍم بالية؟
ُ
الرجل الذي عاد؛ كي يتحسس ما بقي ٍ
جذور يتحدث عن أي
ال احلرب بعد أن اغتالت َّ
كل أحبته .هل كان طف ً ُ منها .ولقد لفظته
كي يبحث من جديد عن ِ
رفاق الصبا ورشكاء اللعب واللهو .من
احلرب مل حتصدهم كام حصدت آباءهم.
َ يضمن له أن
إن الناس هم األوطان ،ناتايل جسدت هذا املعنى يف ست
ٍ
وطن يتجسد كالرساب. ساعات ،لكن احلمقى يبحثون عن
ِ
خلارج أرضه، ِ
اصطحاب الغالم من منح البولندية العجوز َّ
صك
والقذائف هتطل عىل احلي الذي يسكنه كاملطر .إهنا اإلنسانية
ِ
إنقاذه ،ومنحه احلياة التي مل يستطع ِ
ألبعد من املتجردة التي مل تنظر
148
أه ُله أن يمنحوها له .فلقد بحثت عن أقاربِه ومل جتدهم ،وحتى
الذين مل ينكروا القرابة ،ختلوا عنه ألن عندهم ما يشغلهم.
ولده
جذوره يوم دعاه أن يسمي َ احرتم قد أيوب ِ
زوجة إن والد
َ
اسام لينًا ،يصلح لألرض التي َ
نشأ فيها ،ويصلح لألرض التي نشأ ً
فيها أبوه.
ٍ
برغبة الواعية؛ كي يكون األول سامر ،كونه ربام اندفع أيوب
ال يريد أن ينسى حقيق َة ما يعتقده .لكن عند(آدم) كانت الفكرة
الناس سيختلفون عليه. َ قد اختمرت ،وأتى باالسم الذي لن يرى
تبا هلذا النفاق املدروس ،فام من كذبة أشد حقارة من أسامئنا .فال
(عادل) يتنفس غري الظلم ،وال (عاطف) حيمل يف قلبه غري القسوة
يف أعظم جتلياهتا.
ِ
فبطول عمره غري حريته األزلية،
ماذا صنع زياد ،صديقه اللدودَ ،
وحيدا
ً وظيفة حيبها ،ومات دون أن جيدها ،مات ٍ ُ
يبحث عن وهو
ِ
برائحة جثته خترتق رب موتِه خ همريضا ،مات وأخرب املحيطني بوحدتِ
ً
َ
الصمت البارد الذي حارص كل حياته .مات وصاحبه الوحيد
يامرس حريته املقدسة ،يبحث عن منفى يتسع إلحباطه.
لكن من سيسأل عنه إذا ما مات عىل هذا النحو من الفجيعة؟
ِ
ساموات الغرفة كمطرقة حتطم رأسه. كان السؤال يتجسد يف
َ
يبحث عن جذوره ،أو أخذه احلنني سفيها حني أراد أن
ً فأيوب ليس
149
للنو ِم يف جوار أبويه بعد أن أرهقته املنايف والغياب .فهنا الذكريات
وهناك اجلليد ،هنا املعنى وهناك املبنى.
هنلة ..يا رب األرض والسامء حني يصل للتفكري فيها قبل رحيله
املتوقع .تراها أحبته فعالً ،وبإخالص ،يساوي دموع سوزانا وهي
بمحطة قطار “نيس” يوم زارها واعتقد أن قلبه هذه املرة ِ تودعه
سيحسم الرصاع وخيربها احلقيق َة التي ال تؤيد ارتباطه هبا ،عىل كل
األحوال فإن قل َبه مل يفعلها إمعا ًنا يف تعذيبِه.
صنف من الرجال خيشى اقتنا َء امرأة عىل
ٌ إن ناتايل مجيلة وهناك
ُ
عيون هذا القدر من الدالل الواثق ،املدعوم ٍ
بفتنة الهنائية .ستقتلها
احلاقدين ،سريوهنا نعم ًة ال يستحقها ،أو يا ربام وصلت هبم الظنون
ٍ
رجل يتاجر بلحمها. ِ
جلوار كوهنا ساقطة تسري
قنينة مخر معتقة هل كان حيب ِ مل يكن يدري وهو يتجرع من
واحد ًة منهن عىل األقل .فال مريم حبيب ُة األيام األوىل كانت تصلح
مهام يف حياته .وال سوزانا ،ففي حدود وضعها كانت َ
تكون شي ًئا ً أن
تتعاطف
َ ستخلق إشكالي ًة مزعجة لعامله الصغري ،املتمثل يف أم لن
مع أي اختالف.
أين ميال من هذه األرض ،غرها التأثر واألسى عىل اإلنسان حني
جترب معه
َ يسقط حتت سيف املرض .ربام أحبته ،وكانت تريد أن
أوضح بكثري من هذه الصورة
َ قص ًة ال ختلو من إثارة ،لكنها كانت
جديرا هبا أن تتسلل لعامله بقصد
ً التي يمتلكها عن الوضوح .كان
150
توريطه ،ال استنا ًدا عىل كوهنا أجنبية وكفى ،وإنام لكوهنا قد عرضت
الشعور بأن احلب من ِ
يقني احلب ومالحمها عىل ِ
هيئة ثبات ،منحه
ُ
امرأة تفكر بطريقتها قد يكون عاد ًيا ،أو بار ًدا أو جمرد حالة تريد
اكتشافها.
مريضا
ً مل يتعاطف كريم ،ودخان سجائره يمأل املكان ،مع كونه
ِ
الصورة كام ادعى من يزعمون معرفته ،ومل يكن مثال ًيا يبحث عن
احلب متجر ًدا
يتمه قد ساعده أن يرى َّ طهرا للحب .مؤكد أن َ
األكثر ً
احلب دون رشوط أو حسابات نفعية كرهية. ِ
شخص أمهُّ . يف
ثمة رس أفصح عنه أيوب يوم أثنى عىل زوجتِه ،التي حتركت
يف كل أركان البيت وكأهنا أمه ،بينام كانت يف غرفة ِ
نومها فتاة ليل
جملوبة من حانة .مؤكد هنا تكمن األزمة .فلقد كره احلياة هنا ألن
ما من مفردة حتيط بروحه جعلته يؤمن أن أمه متحققة يف أي يشء.
لكن احلقيقة أن أمه مل تكن سوى أم تنطلق يف حمبتِه بوحي الغريزة،
ألن من الشذوذ بمكان أن تكرهه ،أو تناصب روحه العداء.
ال عىل كريم االستغراق يف هكذا تفاصيل ذاك اليوم، مل يكن سه ً
يفكر جمد ًدا ِ
الرحيل هنائ ًيا ،ومل يشأ أن َ وخاصة إنه قد عقد العزم عىل
يف أمر هنلة.
هنلة؟؟
قد يبدو ظلمها وهو حياول ربط روحها بام يعانيه من البلد كلها.
تفسريها ،وخاصة يف حضور ليستطيع كان ما ٍ
حلدود لكنه ذهب معها
َ َ
151
سوزانا ،التي بدت قصته معها جمهضة من البداية .فلو كانت منتمية
كثريا قبل اختاذ قرارها بالرحيل .تعللت ِ
بنفس درجة انتامئه لفكرت ً
بأن الناس هنا قد تغريت .وتريد حيا ًة ال تذكرها بيشء من أيامها.
ِ
بكلمة انتامء يف سياق تذكره لسوزانا .فهل هو ال يدري من أيت
منت ٍم فعال؟
دليل مبطن عن املحبة كام ِ
تناقضات ما يعيشه ٌ إن حز َنه حيال
أخربته ناتايل ،فلو أن هذه احلياة ال متثل لروحه أي يشء .ما كان
َ
ليحزن من األساس.
ثم ُة براءة مازالت تتنفس ،هي تتقلص عادة ،لكنها ال تنتهي
بسهولة أو تذهب للتاليش ،الذي يفقده ذلك اإلحساس بالدفء،
شعوره
َ هو مل يكذب أو يدافع دفا ًعا أعمى عن الناس هنا وهو يصف
حيال حياته ،فأمه وأبوه هم نتاج هؤالء الذين يظهرون اآلن ملخيلته
وكأهنم دوافع للرحيل.
بلغة ،أخرى وبداخلها نفس كيف سيطرح مشاعره عىل ناتايل ٍ
َ
احلنني حتى وإن أبدت من القدرة عىل التحكم فيه .إهنا ال تصدقه،
أو غري مقتنعة بصدقه ،فمعها وحسب طبيعة روحها سيبحث عن
املفردات ،ولسوف جتهده الطريقة التي تفرس رفضه ،بينام يكفيه مع
هنلة أن يومأ بنظراته ،أو يعاتبها بصمته ،أو يدعوها للبحث معه عن
طريق للتوافق .فيا ربام يستطيعان بناء العامل املريض عنه.
***
152
()21
غري
ملاذا كل هذا الضيق واالنقباض؟ عال َم األسى ومل يتبق ُ
ساعات تفصله عن الرحيل؟
جتاوز زمالء الصف عليه وهو يلعب َ ينس حني أشتكى أل ِّمه
مل َ
معهم ،يومها أعلن بحزن أهنم ال يفهمونه ،أو ربام يستسهلون إيذاءه
يفهمهم هو طاملا ال يفهمونه كام يقول.
ألنه يتيم .يومها دعته أمه أن َ
نعم ملاذا مل َ يسع للفهم كي يرتاح ،وأرص بغباء ليس من سمته أن
حياولوا فهمه .يبدو إنه مل يتعلم شي ًئا من اجلبال اخلرضاء التي تطل
ٍ
كإشارات لالرتفاع والتسامي ،أو هذا البحر الطيب الذي عيل عينيه
حد تعبري أيوب رسحان الذي استقبل العائدين بأمواج رحيمة ،عىل ِّ
كأول ٍ
يشء يريد عم َله بعد عودتِه للديار. ِ يسري عىل الشاطئ
أرص أن َ َّ
تراب األرض الذي احتوى كل أحبته حتى وإن جتىل يف أو يعشق َ
شاهدا بأسامء الغوايل الراحلني.
ً صورة قرب حيملِ
ِ
ساعات ِ
عودهتا ،وصوت ناتايل ،يف إن املساف َة بني مالمح هنلة ،بعد
الدردشة ،بدت شاسعة ،وعميقة .ربام قد فكرا بطريقة واحدة ،قد
153
ملحا طريا َنه فوضعتا العراقيل والصعوبات كي خيتربا والءه .لكن
هنلة استهلكت وق َتها يف املشاهدة ،بينام ظلت ناتايل جترب واقع ًيا
ال يأيت عىل قياس ما تتمنى .رغم أن طموحها باعرتافِها لتقتني رج ً
بكرا ،يف حني أهنا هي ذاهتا ليست عذراء ،وف ًقا ملا بدا جتد رج ً
ال ً أن َ
اندفاعها كي يقبلها بعنف؛ كي يستقيم ميزان العدل .فهي فتاة ِ من
متخم ٌة بالتجارب .فكيف استقبلت رغبته للرحيل إليها دون ما
يشري لعودته يف القريب؟
تفكريه حيال ناتايل وكأنه دعو ٌة لالتصال ،فوجد منها رسال ًة
ُ كان
ختربه أهنا بعد ساعة تريد التحدث معه حول بعض األمور .مل تكن
ِ
املنطقة قراءة الرسالة سوى إنذار قوي أن كريم يقف يف ِ مالحمُه بعد
الرمادية ألول مرة يف حياتِه ،فرحة مبتورة وسعادة ناقصة .وحني
مغيش عليه .ليستٌّ عادت ظل ينظر هلا من كامريا حاسوبه ،وكأنه
حلم عمره. ِ ٍ
كثريا من لقاء الفتاة التي يراها َ
رجل يقرتب ً مالمح
ُ هذه
البيت والتجهيزات أرادت أنِ ِ
للحديث عن حني ذهبت ناتايل
ٍ
بوضوح من نظراته املرتبكة. توق َظه من غفلة احلرية ،التي تظهر
بأي ِ
قرارا سهالً ،ال يمكن ِّ
ً ليست يبدو ما عىل األوطان مغادر ُة
ٍ
جذور وروابط ال يمكن جتاوزها. نفسها ،فثم ُة
ختدع ناتايل َ
َ حال أن
تفاصيل قد تبدو بسيطة ولكنها متغلغلة يف نفسه وروحه.
كل يشء بأقل قدر ممكن من ينتهي ُّ
َ جتميع نفسه كي
َ مؤكد يريد
ِ
بواكري اليتم ،زياد الوجع .ظل حيدثها عن مدرستِه ،طفولته ،أمه يف
154
ومواقع اللعب واللهو ،معلميه الذي تفانوا يف تعليمه ،قاعات
السينام ،وعلب الليل ،وأرصفة الشوارع ،البائعون الطيبون الذين
منحه احللوى دون ثمن ،لكنه ما إن يدركوا يتمه حتى يندفعوا يف ِ
َ
كان يرفض مكرمتهم ،خماف َة ذاك الشعور الشجي بالضعف .البحر
والصيد ومتابعة النوارس ،ولعب الكرة بالساحات.
ٍ
بأشياء صوت كريم خيرتق ناتايل تقري ًبا ،بدا وكأنه يذكرها كان
ُ
ِ
بضبط مالحمه وإظهار أن ما يقوله قد سقطت منها ..وبدوره مل هيتم
ِ
رصيد حمبته الكامنة تفاصيل عادية إىل درجة ،ومل تأخذ من ٍ من
َ
ليتأمل صور ًة هنا لألرض والناس .بل كان يغيب عنها بعينيه ِ
لكف أمه عىل جدار الغرفة ،أو مكتبه ِّ أو صورة هناك ،أو بصمة
ً
تلميذا نا ًهبا وبقعة احلرب التي تأيت كدليل عىل زمن الصغري يوم كان
كثريا كونه كان
رائع قد مىض ،وهذا الكريس املتهالك الذي رممه ً
مفض ً
ال عند أبيه.
يقول كل يشء، مل حتاول ناتايل التعليق ،وإن بدا عليها رغبة أن َ
كي يتخفف من ثقل ذكرياته يف هذه اللحظة .يا ربام استطاع أن يبد َأ
ٍ
بابتسامة وقالت: من جديد .بدا عىل كريم التعب ،فعاجلته
-سأنتظرك باملطار.
مفتاح الشقة ،كي يأمتنَه
َ ليمنحه
َ اتصل كريم بمنري والذي جاءه
تتضح الرؤية .وحني وصل وجد أنه قد َ عىل ما هبا من أشياء إىل أن
ِ
موقعه املالبس التي سيسافر هبا. جهز حقائ َبه .وملح من
155
ِ
إلنجاز أي يشء يف َ
يتحرك معه الشاب الطيب أن
ُ عرض عليه
ِ
احلارة وحده .وأكد ٍ
بجولة يف ذاك الوقت الضيق ،لكنه أراد أن يقو َم
رب هنلة إال حني يتلقى اتصاالً منه إنه قد غادر بالفعل.عليه أال خي َ
ستائر نافذته املطلة عىل الشارع،
َ مل ينتبه للصباح الذي اقتحم
ُ
التفاصيل املرهقة ،وأغلق فانطلق إىل توديع من حيبهم .انرصفت
ِ
حائط املبكى اللييل ،وألول مرة مل يدخل يف رصا ٍع الباب مع دقات
َ
مفتوح مع النو ِم من أجل ما يدعون أهنا الراحة .فمن اليوم لن جيد
شبح خميف يريد
باب غرفته ،يتجه إليه وكأنه ٌشاخصا عند ِ
ً املايض
ابتال َعه.
ِ
مشاهد احلارة ،كانت مل يكن شج ُن الذكريات ِّ
بأقل رضاوة من
كل التفاصيل الصغرية تضغطه بشدة ،الناس البسيطة الراضية، ُّ
األغاين اجلميلة املنبعث ُة من النوافذ ،هلو األطفال .صوت الباعة
ُ
اخليال منحه ِ
لسور مدرستهَ . اجلميل .امتدت به اخلطى فوصل
طفل جيتاز باهبا ألول مرة .اختلس النظر ِ
لفنائها فمنحه مشهده وهو ٌ
َ
َ َ
احلنني هيئته وهو يلعب.ُ
رويدا
ً رويدا
ً كثريا ،وروحه تنسحب
سيتذكر هذا النهار األخري ً
ضجيج الشوارع وغبار اإلسفلت، جسد هذه األرض .سينسىِ من
َ
حاسام عىل الرفض،
ً وسطو َة الفراغ ،وجريد ًة أجنبية حتمل دلي ً
ال
ِ
عقول من يعرفهم، وأخبار احلروب ،لن يكرتث باملعاين احلائرة يف
156
ِ
وفحولة شاب قرر أن ِ
البنات الضائعات، وشقق القامر ،وفلول
ينتحر كل ليلة يف فراش خمتلف. َ
الليل بنزواتِه الغريبة ،ولن يقو َد الصعاليك ،وترهقه
لن ينتهك َ
القطط املبتلة بدمو ِع الشتاء .فلن ينتظر الشفق َة من أحد ،ولن يعاقب
ُ
املقدمات كي ال
ُ ٍ
حلظة عمياء ،ولن تشغله الظروف التي ظلمته يف
َ
تقت َله النتائج.
الوداع من عند أبيه. ِ
منطقة املقابر ،وال يدري ملاذا بدأ توقف عند
َ
رس ذاك القتام .فلقد مات َ
الرجل عن ِّ ظل واق ًفا يبكي أبيه ،يسأل
يامرس عليه أي عقوق ،إنه ال يتذكر مالحمَه ،فكيف يعيش
َ قبل أن
عىل ِ
إثر موته فيام يشبه الكابوس .هل مات غاض ًبا عليه .فكيف
ِ
أبراج حدث غرير ال يدرك َ
الليل من النهار .ربام يراقبه من ٌ وهو
الغيب ،فيتأذى من حريتِه ورفضه ،فتهبط عىل ِ
روح ابنه اللعنات
ِ
ساحة احلياة املكتظة يف أثر اللعنات .كيف يؤذيه ،وهو مل ِ
يلتق به يف
باملسافرين.
لقرب أمه .التي وعدها أن ينجح، ِ
بسطوة اهلذيان فرحل ِ شعر كريم
يصنع أرس ًة من أجلها.
َ وأقسم هلا وهي متدثرة يف كفنها الثلجي أن
ٍ
أرض ِ
الوفاء بالقسم .ربام يف لكنه حتى هذه اللحظة مل يقدر عىل
أخرى سيستطيع ،لكنها خدعته ،وعدته أال تفارقه لكنها أخلفت،
ويف املساء رحلت لألعىل ،من باتساع هذا امللكوت حيتاج أما
157
غريه .ومن يف مالئكة السامء يريد أ اًّما من األساس ،إهنم مشغولون
بالطواف وبالسباحة وبالطريان.
يا اهلل ربام عادت أمه هناك لطفلة ،يكاد يراها وهي مترح يف
الفردوس ،مؤكد قد مات املرض ،وعاشت أمه ،لكن يف اجلوار
ِ
كأمجل امرأة يف ذلك الكون .ربام جتلس اآلن مع أبيه، األبدي ،عادت
الناس هنا يف احلانات
ُ يتبادالن األنخاب من ٍ
مخر ال يشبه ما يرشبه
أثر
مالبس أبيه السندسية ،تقتفي َ
َ األرضية الرخيصة ،يراها تشم
عطر غريب ال تستخدمه عادة ،أو تندهش حيال شعرة طويلة قد ٍ
قميصه املزركش بالنعيم ،ربام تعبث هبن غري ُة النساء حتى يف
َ سكنت
يضري أباه يشء إذا ما عانق حضور الفردوس .عىل كل األحوال لنِ
َ
ِ
ألريكة أمه املطرزة بالآللئ والنور. حوري ًة وهو يف طريق العودة
ِ
مناجاة أبويه ،وقبل أن يميض مل ِ
تنته عرباته ،وهو يسرتسل يف
طلب من أمه أن تذكره هناك ،وأن َ
حتمل ألبيه السالم والتحيات،
دائام كان يسأل عنه ويقتفي أخباره.
ولتخربه إنه ً
ِ
ساحة املقابر ،أدرك أن منري قد خانه أو مل حال خروج كريم من
َ
يكون قد رحل فعالً. ينفذ ما وعد به؛ كي خيرب هنلة برحيله بعد أن
ِ
مالحمها من هلع وخوف ،ودموعها التي مل مل يكن يتخيل ما بدا عىل
ِ
عاطفة حب كبرية وحقيقية .اندهش كيف عرفت متنع ما ظهر من
أنه هنا ،فأخربته أن الوداع عاد ًة ال يتم إال للقريبني من الروح.
158
بنفس األسى القديم ،حتول ِ ينظر هلا
مضطرا أن ًَ نفسه
مل جيد َ
سيارهتا عائدة به للبيت،
َ مستسلام هلا وهي تقود
ً الطريق فجأة ،بدا
ُ
وحني استقر أمامه ،مل تشأ أن تتحدث ،فبحسبها أنه قد عاد .فقط
ِ
بدوره جيتهد
َ يمنحها فرص َة تغيريه ،وأن
َ دعته وهي تنظر للطريق أن
تغفر للمعاين ،متى اهتزت يف نفسه جترب أن َ يغريها ،ويرتك َأن َ
ليطلب من
َ يقني الناس .انتهت هنلة من حديثها ،لكنه استوقفها
االتصال بمنري كي يأتيه بمفتاح البيت .وصعد أخريا ،وراح يف ِ
نوبة ً
أبعد من تراجعه ،فقبل أن نو ٍم طويلة ،ويبدو أن ناتايل مل تراهن عىل ِ
أي رسالة أو حماول َة اتصال ،تستفرس ملاذا مليغمض عينيه مل جيد منها َّ
َ
يأهتا .ألهنا مؤكد تعرف السبب.ِ
النهاية
159