You are on page 1of 161

‫ﱡ‬

‫ﺳﺎﻋﺎت‬
‫ٍ‬ ‫ﺳﺖ‬
‫حممد َّ‬
‫القواص‬

‫ﱡ‬
‫ﺳﺎﻋﺎت‬
‫ٍ‬ ‫ﺳﺖ‬
‫رواية‬
‫(‪)1‬‬

‫وأشياء أخرى‪ ،‬فأ ُّمه‬ ‫ٍ‬ ‫ربام تكمن إشكالية عبد الكريم يف ِ‬
‫اسمه‬
‫وحدها التي تعرتف هبذا االسم وتناديه به‪ ،‬وكذلك الوثائق اجلامدة‪،‬‬
‫بينام يظل العامل كله يتعاطى معه كونه كريم‪ .‬كي يؤسسوا لوجوده‬
‫التدليل الوحيدة التي ُمورست نحو ما يريده‪ ،‬أو التجاوز‬ ‫ِ‬ ‫جدلي َة‬
‫حلقائقه حني يريد بثها للعامل املرتبك‪ .‬لذا فهو‬ ‫ِ‬ ‫الذي مل حيدث من ِ‬
‫قبل‬
‫كريم رغم عشقه اجلارف ألمه‪ ،‬ورغم أنف احلكومة ومجود الوثائق‪.‬‬
‫سيارة قذفته للساحة‬ ‫ٍ‬ ‫هبط كريم من‬ ‫عمل طالت قليالً‪َ ،‬‬ ‫بعد رحلة ٍ‬
‫فوجد أن‬ ‫لساعة ِ‬
‫هاتفه‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫نظر‬ ‫وبيده حقيب ُة ٍ‬‫الفسيحة‪ِ ،‬‬
‫َ‬ ‫سفر صغرية‪َ ،‬‬
‫يذهب للبيت؛ كي ال ُحيدث قل ًقا‬ ‫َ‬ ‫كثريا‪ ،‬فلم ْ‬
‫يشأ أن‬ ‫تأخر ً‬
‫الوقت قد َ‬ ‫َ‬
‫رس الغياب‪،‬‬ ‫عن‬ ‫ِ‬
‫الكثرية‬ ‫ها‬ ‫محه من أسئلتِ‬
‫َ‬ ‫تر‬ ‫لن‬ ‫ِ‬
‫العادة‬ ‫ألمه‪ ،‬فبحك ِم‬
‫ِّ‬
‫طقوس وظيفتِه‪.‬‬
‫ِ‬ ‫رغم يقينها أن السفر من‬
‫مساحة من‬ ‫ٍ‬ ‫جلس لكريس من الرخا ِم يتوسط الساحة‪ ،‬ويف‬ ‫َ‬
‫سنوات دراستِه‪،‬‬‫ِ‬ ‫تذكر‬
‫َ‬ ‫الصمت راح جيرت الكثري من الذكريات‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بطريقة مل يكن يفهم‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫احلياة‬ ‫اكتشف أنه يركض يف‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫الثالثة‬ ‫ِ‬
‫السنة‬ ‫ففي‬

‫‪5‬‬
‫املوت‬ ‫هياب‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫دواف َعها‪ ،‬يكره النو َم والراحة‪ ،‬يتحرك كالفراشات‪ ،‬وال ُ‬
‫َ‬
‫أدرك أن تقديرا َته مرتفعة‪ ،‬وحلم أن‬ ‫ِ‬
‫حضور الضوء‪ .‬يف هذه السنة‬ ‫يف‬
‫يكون أستا ًذا‬
‫َ‬ ‫يصري مهندس حاسوب لن يرضيه‪ ،‬بل جيب عليه أن‬ ‫َ‬
‫يف اهلندسة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫توازن‬ ‫ِ‬
‫حتقيق حلم األستاذية‪ ،‬عاش حال َة انعدا ِم‬ ‫حني َ‬
‫فشل يف‬
‫ِ‬
‫األصدقاء القليلني الذين كانوا‬ ‫ِ‬
‫جمالسة‬ ‫شاملة؛ انرصف عن‬
‫ِ‬
‫تفاصيله‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الكآبة التي مألت كل‬ ‫إخراجه من‬ ‫يستطيعون‬
‫َ‬
‫سائرا حتى‬ ‫يظل‬ ‫ِ‬
‫هدوء املوتى‪ُّ ،‬‬ ‫بالتعب وينرصف يف‬ ‫ِ‬ ‫يتعلل‬
‫ً‬
‫كلية اهلندسة‪ ،‬هذا املبنى كان يستحق أن يعمره بآمالِه‪ ،‬أروقته‬
‫سور ِ‬‫ِ‬
‫وقاعاته‪ ،‬أساتذته‪ ،‬كل التفاصيل حتى الصغري منها‪ ،‬شعر أنه‬
‫السياج احلديد‪ ،‬وحيلم من الوض ِع‬
‫ِ‬ ‫يفتقدها بعنف‪ ،‬ينظر من بني‬
‫واق ًفا‪ ،‬وكأنه يدير حلق َة للدرس‪ ،‬يمنح الطلب َة الكثري من ِ‬
‫عشقه هلذا‬ ‫َ‬
‫كل يشء‪ ،‬ولوال أنه‬ ‫ليجد دمو َعه ا ُملحبطة قد بللت َّ‬
‫َ‬ ‫العلم‪ ،‬ويفيق‬
‫لص ينتظر الفرص َة‬ ‫ينظر ٍ‬
‫لدار للعلم‪ ،‬لظن من يراه يف هذا الليل أنه ٌ‬
‫يذهب للنو ِم فال ينام‪ ،‬فاليو ُم خيمة السريك‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أي يشء‪،‬‬ ‫ألن يرسق َّ‬
‫كل اجتاه‬‫يتأرجح من أعىل إىل أسفل‪ ،‬ويف ِّ‬
‫ُ‬ ‫وهو العب (ال ُعقلة) الذي‬
‫يتحكم يف سقوطِه‪.‬‬
‫َ‬ ‫دون أن‬
‫إخراجه من هذه احلالة‪ ،‬استثمرت‬ ‫ِ‬ ‫كان أل ِّمه الدور األكرب يف‬
‫بأس به من الفرص‪ ،‬فأحل َقه‬ ‫ِ‬ ‫رج ً‬
‫كام ال َ‬ ‫ال من معارف أبيه‪ ،‬يمتلك ً‬

‫‪6‬‬
‫ِ‬
‫لظروف‬ ‫تعويضه عن احلل ِم الذي ضاع‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫بوظيفة متميزة قد تستطيع‬
‫جمتم ٍع مل يكن عادالً بالكلية‪.‬‬
‫ذهب ملطع ٍم يف اجلوار‪ ،‬وعا َد‬ ‫ببعض اجلوع‪َ ،‬‬ ‫ِ‬ ‫فشعر‬
‫َ‬ ‫التفكري‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أره َقه‬
‫برودة الطقس‪ ،‬كان يلقي‬ ‫ِ‬ ‫جديد رغم كل ما تبدى من‬ ‫ٍ‬ ‫ليجلس من‬‫َ‬
‫ِ‬
‫بمالبسه‪ ،‬وعليها‬ ‫ُ‬
‫تتشبث‬ ‫بعض الطعا ِم عىل األرض فقد اكتشف قط ًة‬ ‫َ‬
‫بعض قط ِع البطاطا‬ ‫أثر اإلعياء‪ ،‬وجائع ٌة حد السقوط‪ .‬منحها َ‬ ‫يتجىل ُ‬
‫يكون مناس ًبا لرقتِها‪ .‬وملا‬ ‫َ‬ ‫طعامه عىل صورتِه لن‬ ‫ِ‬ ‫وهو يضحك‪ ،‬كون‬
‫أشد مما توقع‪ ،‬حترك حيمل حقيب َته بيد‪ ،‬واألخرى حتمل‬ ‫كان جو ُعها ُّ‬
‫احلليب وبعض املورتاديال‪ ،‬ظل يراقبها‬ ‫ِ‬ ‫القط َة املتعبة‪ .‬ابتاع قنين ًة من‬
‫جهز عىل باقي الطعام‪.‬‬ ‫جلوار باب حمل ُمغلق ل ُت َ‬ ‫ِ‬ ‫ومن ثم تركها‬
‫هائام بالطريق‪ ،‬وطف ً‬
‫ال‬ ‫ا‬‫ن‬‫ً‬ ‫جمنو‬ ‫وجد‬
‫َ‬ ‫الساحة‬ ‫ِ‬
‫ملنتصف‬ ‫ِ‬
‫العودة‬ ‫يف ِ‬
‫طريق‬
‫ً‬
‫تعبث بنفايات الشارع‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫القطط‬ ‫يفرتش رصي ًفا‪ ،‬وجمموع ًة أخرى من‬
‫لروحه ويكاد يقتله‬ ‫ِ‬ ‫شعورا حمب ًطا‬ ‫وحوهلا دولة كاملة من الكالب‪ .‬كان‬
‫ً‬
‫هيتم هبكذا تفاصيل؟‬ ‫من األمل‪ .‬أين العامل الذي من املفرتض أن َّ‬
‫لص حمرتف‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫عند الفجر‪ ،‬أدار كريم املفتاح يف ِ‬
‫باب البيت هبدوء ٍّ‬
‫منتصف الصالة؛ كي تراها أ ُّمه فتعرف‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫طاولة تأيت يف‬ ‫ترك حقيب َته عىل‬‫َ‬
‫فرط التعب بمالبسه‪.‬‬ ‫بخفة‪ ،‬ونام من ِ‬ ‫ٍ‬ ‫دخل لغرفتِه‬ ‫أنه قد عاد‪َ ،‬‬
‫منتصف اليوم أدركت أ ُّمه أنه قد جاء‪ ،‬ألقت عليه نظرة‪ ،‬ومل‬ ‫ِ‬ ‫يف‬
‫ترد أن توقظه كي تسأله نفس األسئلة القديمة املعتادة‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫مل يكن لكريم أزمة واضحة‪ ،‬فليس له أرسة مرتامية الوجع‪ ،‬فلقد‬
‫ِ‬
‫للدرجة التي إن ُدعي لتذكره‪ ،‬فلن يستطيع‪ ،‬صارت أ ُّمه‬ ‫مات أبوه‬
‫ٍ‬
‫رجل آخر يساعدها عىل‬ ‫ِ‬
‫الستكامل حياهتا مع‬ ‫أرمل ٌة دون أن تسعى‬
‫تربيته‪ .‬وهنا تنكشف أوىل أزماته‪.‬‬
‫كبريا كوهنا قد عاشت له‪ ،‬وعليه أن‬‫كانت كمن أسدت له معرو ًفا ً‬
‫شكل حياته واختياراتِه أحيا ًنا‪،‬‬
‫ترسم َ‬‫َ‬ ‫ِ‬
‫ألفكارها حني تريد أن‬ ‫َ‬
‫يمتثل‬
‫ِ‬
‫الضفة‬ ‫ليديرها هو كام حيلو له‪ .‬وعىل‬ ‫ٍ‬
‫للحظة أن ترتكَه‬ ‫تسع‬
‫َ‬ ‫ومل َ‬
‫فأشار هلا‬ ‫النصيحة‪،‬‬ ‫–‬ ‫النضج‬ ‫ِ‬
‫سنوات‬ ‫يدخر كريم ‪ -‬يف‬ ‫األخرى مل‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫خيرج من وصايتها‪ ،‬ألنه بالفعل كان يريدها أن‬ ‫تتزوج لكي َ‬ ‫َ‬ ‫مرارا أن‬
‫ً‬
‫حياة يف ظالل هذا الطقس املمتد من الرتمل‪،‬‬ ‫تستدرك ما فقدته من ٍ‬ ‫َ‬
‫وخاص ًة أهنا سيدة مجيلة‪.‬‬
‫عشاء مجعه بأمه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫عمل معتادة‪ ،‬ويف‬ ‫ٍ‬ ‫يف هذه العودة من رحلة‬
‫ِ‬
‫ألبعد من كوهنا جمهدة‪ ،‬هي عاد ًة‬ ‫الحظ ما يشري لإلعياء‪ ،‬مل يذهب‬
‫ِ‬
‫بعضلة‬ ‫ٍ‬
‫ضعف‬ ‫مؤخرا من‬ ‫ال تراعي تقدمها يف العمر‪ ،‬وما اكتشفه‬
‫ً‬
‫القلب‪.‬‬
‫جدا خمتلفة‪ .‬تدعوه للزواج؛ كي تقر‬‫كانت لغ ُتها يف هذه العودة ً‬
‫ِ‬
‫برؤية ولده يلعب أمام عينيها‪ .‬وكالعادة ظل كريم يناور أنه‬ ‫عينيها‬
‫ِ‬
‫صعوده الوظيفي املتميز‪.‬‬ ‫ال يفكر يف األمر‪ ،‬وعليه فقط أن َّ‬
‫يظل يف‬
‫كان يف الرس يشفق عليها‪ ،‬يشعر وكأهنا خارج الزمن‪ ،‬ال ترى‬
‫ٍ‬
‫صعوبات تكتنف فكر َة االختيار‬ ‫َ‬
‫شكل احلياة وما تنطوي عليه من‬

‫‪8‬‬
‫بطرق تقليدية ال تتناسب مع ِ‬
‫زمن ابنها‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫نفسها‪ ،‬ربام كانت تفكر‬
‫أو مازالت تعيش احليا َة برشوطِها التي محلتها من بيت أبيها الذي‬
‫جاءت منه‪.‬‬
‫ِ‬
‫اغتيال كل األفكار‬ ‫بينام تظل احلياة يف ِ‬
‫كنف هذا الزمن قادرة عىل‬
‫ٍ‬
‫قسوة بارعة‪.‬‬ ‫الربيئة واملثالية بام متلكه من‬
‫***‬

‫‪9‬‬
‫(‪)2‬‬

‫مساء ِ‬
‫أول يوم من أيام العطلة‪ ،‬عا َد للدنيا التي تركها يف اخللف‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫ككائن‬ ‫رحلة عمل ناجحة‪ .‬ففي هذه العطالت يعود كريم حلياتِه‬‫ٍ‬ ‫بعد‬
‫ِ‬
‫ساعات الليل يف‬ ‫متأمل‪ ،‬قارئ ومثقف وصعلوك أحيانا؛ يستهلك‬
‫ِ‬
‫أماكن التسلية بكل يشء‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الكثري من‬
‫ٍ‬
‫جتميل‬ ‫تعمل يف مركز‬‫ُ‬ ‫كانت ”سوزانا“ الفتاة البولندية التي‬
‫ِ‬
‫وبدوره كان‬ ‫ال يف ِ‬
‫حياهتا‪،‬‬ ‫شهري بوسط املدينة‪ ،‬حتبه وتراه ركنًا أصي ً‬
‫أفكاره العداء‪ ،‬كانت مجيل ًة‪،‬‬ ‫يناصب‬ ‫ٍ‬
‫ع‬ ‫واق‬ ‫من‬ ‫ٍ‬
‫هروبية‬ ‫ٍ‬
‫كحالة‬ ‫حيبها‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫التواصل معها؛‬ ‫ومقتنع ًة به‪ ،‬ومل يكن يمتلك أية مرجعية متنعه من‬
‫ِ‬
‫بمنزلة‬ ‫عامرة خلف السفارة اليونانية‪ ،‬كانت منه‬ ‫ٍ‬ ‫تسكن غرف ًة يف‬
‫لتصنع ما‬
‫َ‬ ‫زوجة‪ ،‬وإن ظل مؤمنًا أهنا لو كانت زوج ُته فعالً‪ ،‬ما كانت‬
‫ليل لعوب ال‬ ‫ٍ‬
‫حانية ُحمبة‪ ،‬وىف الفراش فتا َة ٍ‬ ‫كانت تصنعه‪ ،‬كانت كأ ٍّم‬
‫فورة العمر يشكل هلا‬ ‫ِ‬ ‫شاب يف‬ ‫ِ‬
‫مقومات ٍ‬ ‫بارى‪ ،‬وهو بام يمتلكه من‬ ‫ُت َ‬
‫حلظات املتعة الوحيدة يف حياهتا‪.‬‬ ‫ِ‬

‫كثريا هبذه العالقة‪ ،‬ومل تكن هي عىل الواضح هناي ُة‬


‫مل يكرتث ً‬

‫‪10‬‬
‫ِ‬
‫املعصية‬ ‫املطاف لنزواته‪ ،‬فظلت هي وصوفيا و إيميليانا رشكاء‬ ‫ِ‬
‫والضياع ‪.‬‬
‫خالل ما كانت تعامله به‪ ،‬أمجل من‬ ‫ِ‬ ‫ظلت ”سوزانا“ من‬
‫ِ‬
‫بكيمياء‬ ‫ٍ‬
‫متعمد أبدى جه َله‬ ‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫صادفه َّن‪ .‬وأخلصه َّن له‪ .‬لكنه‬
‫دائام‪.‬‬ ‫أسباب امللل التي جتعله هروب ًيا ً‬‫ِ‬ ‫بارع يف اخرتا ِع‬
‫احلب‪ .‬هو فقط ٌ‬
‫هجرة معظم أقارهبا‪ ،‬ومستعد ًة‬ ‫ِ‬ ‫كانت سوزانا مستعد ًة للبقاء رغم‬
‫يصدق‬ ‫َ‬ ‫حمتاجا ألن‬
‫ً‬ ‫لتقدي ِم الكثري من التنازالت‪ ،‬يف حني كان كريم‬
‫أفكار ال يسبح ضد‬ ‫ٍ‬ ‫أن قدميه مازالتا عىل األرض‪ ،‬وأنه بام يملكه من‬
‫ِ‬
‫اجلاذبية األرضية‪.‬‬
‫يصاب هبسرتيا من‬ ‫ُ‬ ‫أمر زواجه‬ ‫حني يفكر يف تعاطي أمه مع ِ‬
‫ٍ‬
‫النتكاسة إذا ما‬ ‫ٍ‬
‫أرسة قد تتعرض‬ ‫االمتعاض‪ ،‬فلم يعد يفكر يف ِ‬
‫إنتاج‬
‫طقس مهيأ إلنتاج كارثة‪ ،‬ففي هذا اجلزء من العامل ال يمكن‬ ‫ٍ‬ ‫مات يف‬
‫أن ينا َم املر ُء مل َء جفونِه‪.‬‬
‫نفسها جتربة ثقيلة‪ .‬ال يدري بامذا شعر أبوه‬ ‫واملوت‬ ‫ِ‬
‫احلياة‬ ‫جترب ُة‬
‫َ‬
‫وحيدا ينتظر من أ ِّمه أن توق َظه لكي يراه‪ .‬فلم يستجب‬ ‫ً‬ ‫وهو جيلس‬
‫ِ‬
‫صبيحة اليوم التايل أدركت السـر‬ ‫ِ‬
‫رشك النوم‪ .‬لكنها يف‬ ‫لكون ابنه يف‬
‫تشعر‬
‫َ‬ ‫إحلاح أبيه أن يراه‪ .‬ألن الصباح قد وضع النهاية‪ ،‬دون أن‬ ‫ِ‬ ‫يف‬
‫إليقاظ أبيه‪ ،‬فوجدته قد َ‬
‫فارق الدنيا‪ .‬كريم لن‬ ‫ِ‬ ‫هبا أ ُّمه التي ذهبت‬
‫جذور واضحة تتشبث هبذه‬ ‫ٍ‬ ‫يعيش ابنه هذه التجربة‪ .‬فال‬ ‫يطيق أن َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫ألبنائها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الطرد اهلائلة‬ ‫األرض‪ ،‬التي متلك طاق ًة من‬

‫‪11‬‬
‫ِ‬
‫بمشاعره املرهفة‬ ‫ِ‬
‫برفضه وال‬ ‫َ‬
‫حتتفل‬ ‫حد خربتِه لن‬
‫الناس عىل ِّ‬
‫ُ‬
‫عاطفة حب حقيقية‪ ،‬تؤسس يف‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫البحث عن‬ ‫حني يفكر جد ًيا يف‬
‫خياله ذلك الوطن اجلميل الذي مل يعد له وجو ٌد عىل األرض‪.‬‬
‫نفسه لـ سوزانا التي حتبه بإخالص؟‬
‫ملاذا ال يرتك َ‬
‫ِ‬
‫بخيبة‬ ‫لشعر‬ ‫إثر ِ‬
‫أهلها الذين سبقوها للرحيل‬ ‫ربام لو رحلت يف ِ‬
‫َ‬
‫أمل عظيمة‪ .‬أو سيسعى يف هذه اللحظة أن يلتحق هبا باخلارج‬
‫نفسه مغب َة األسئلة اللزجة عن ذاك الزواج‬ ‫ليتزوجها؛ كي يعفي َ‬
‫َ‬
‫الذي رضب بكل املذاهب عرض احلائط‪.‬‬
‫بنفس الطريقة‪ ،‬هي أكثر سالسة‪ ،‬ال تريد منه سوى‬‫ِ‬ ‫إهنا ال تفكر‬
‫بنفس اإلخالص‪ .‬كان يظن أهنا تبحث فيه عن وطن‪ ،‬لكنه‬ ‫ِ‬ ‫أن حيبها‬
‫جدا حاسم عن إنسانيتِه‬ ‫ٍ‬
‫كبديل ً‬ ‫مشتت‪ ،‬يتعامل مع نجاحاتِه العملية‬
‫ٍ‬
‫أناس‬ ‫ٍ‬
‫أرض غريبة‪ ،‬يعيش مع‬ ‫غريب فوق‬
‫ٌ‬ ‫التي ال يشعر بجدواها‪.‬‬
‫يمثلون الشيزوفرينيا عىل أروع ما تكون الشواهد‪.‬‬
‫ففي مقاهي املثقفني ال يسمع سوى الضجيج املنزوع املعنى‪،‬‬
‫جمانية من حوله‪ ،‬وهناك من يتحدث‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حروب‬ ‫والناس يموتون يف‬
‫باب سفارة من‬‫عن األحالم والطموحات‪ ،‬التي تنتهي غال ًبا عند ِ‬
‫السفارات قد متنحه رشف اهلجرة ألبعد من هذا اإلحباط الذي‬
‫ِ‬
‫برشوط‬ ‫يتنفسه اجلميع‪ .‬حتى زياد صديقه الوحيد اتسق مع احلياة‬
‫يتاجر‪ ،‬فيسحقه املستغلون‬ ‫أن‬ ‫يريد‬ ‫اخلاصة‪،‬‬ ‫ه‬ ‫احلياة وليس برشوطِ‬
‫َ‬
‫يامرس املهنة التي حيبها‪ ،‬فيجد الناس قد انرصفت‬
‫َ‬ ‫الكبار‪ ،‬يريد أن‬

‫‪12‬‬
‫ٍ‬
‫لقاص بارع‪ ،‬لكن األحزاب‬ ‫مهام‬ ‫أص ً‬
‫ال عن القراءة‪ .‬لقد كان مرشو ًعا ً‬
‫ال واس ًعا ِّ‬
‫بكل من‬ ‫الثقافية التي حتارص املواهب احلقيقية متارس تنكي ً‬
‫هم عىل شاكلتِه‪.‬‬
‫حياة كريم حني يوفد من ِ‬
‫قبل الرشكة‬ ‫كانت اللحظات السعيدة يف ِ‬
‫وضوحا مما يالقيه يف الداخل‪.‬‬ ‫يف ٍ‬
‫بلد أوريب‪ ،‬فهناك تبدو احليا ُة أكثر‬
‫ً‬
‫ذواهتم‪ ،‬ال جمال ألن تكذب‪ ،‬أو تنتحل لغ ًة‬ ‫والناس أكثر اتسا ًقا مع ِ‬
‫ِ‬
‫مكنونات نفسك‪ .‬فهذا أريده‪ ،‬وذاك ال أريده‪ .‬ملاذا‬ ‫ال تعرب يقينًا عن‬
‫ِ‬
‫بقدر انتامئها لعوامل‬ ‫ٍ‬
‫أمور غريبة ال تنتمي هلم‬ ‫يتورط الناس هنا يف‬
‫ٍ‬
‫ملسـرح‬ ‫أخرى‪ ،‬ويرصون يف نفاق مفضوح أن حيولوا احليا َة البسيطة‬
‫هدف املؤلف‪،‬‬
‫َ‬ ‫أدوارا ساقطة‪ ،‬ال حتقق‬‫ً‬ ‫عبثي‪ ،‬يمثلون فوق خشبتِه‬
‫وال احلكم َة من ِ‬
‫وراء النص الغارق يقينًا يف االبتذال‪.‬‬
‫كل غياب يعود‬ ‫ِ‬
‫الراحة متثل لكريم أية غواية‪ ،‬فبعد ِّ‬ ‫تعد أيا ُم‬
‫مل ْ‬
‫تدري‬ ‫أن‬ ‫دون‬ ‫يتزوج‪،‬‬ ‫أن‬ ‫امللحة‬ ‫أمه‬ ‫ِ‬
‫ولرغبات‬ ‫ِ‬
‫الروتني اململ‪.‬‬ ‫ِ‬
‫لنفس‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫العرض‬ ‫ِ‬
‫الفكرة ذاهتا‪ .‬هنالك فكر يف‬ ‫أنه يواجه أزم َة اتساق أكرب من‬
‫ِ‬
‫للحصول عىل‬ ‫يذهب إىل أملانيا‬
‫َ‬ ‫مديره يف العمل أن‬ ‫الذي عرضه‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫دورة تدريبية طويلة األجل‪.‬‬
‫هاجسا مرع ًبا‪،‬‬
‫ً‬ ‫التفكري يف توحد أمه مع ظروفِها الصحية يمثل‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫موت أبيه ظلوا بعيدين‪ ،‬وهي عىل األرجح ليست‬ ‫فكل األقرباء بعد ِ‬
‫ِ‬
‫أرسهتا‪ .‬انزوت عىل نفسها‪ ،‬وكأهنا تريد‬ ‫ِ‬
‫بمتابعة ما تبقى من‬ ‫مهموم ًة‬

‫‪13‬‬
‫ٍ‬
‫متابعة خجولة‬ ‫معاقب َة هؤالء الذين مل يفكروا يف ِ‬
‫أمرها للحظة‪ ،‬أو‬
‫ِ‬
‫لطفلها اليتيم‪.‬‬
‫صارح كريم أ َّمه هبذه‬ ‫خال من الغموض‪،‬‬ ‫حديث مبارش ٍ‬‫ٍ‬ ‫بعد‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫هلدنة‬ ‫تعد ترضيه‪ ،‬ربام حيتاج‬ ‫ِ‬
‫بصورهتا مل ْ‬ ‫الرغبة‪ ،‬وتعلل بأن احلياة‬
‫بلد آخر‪ ،‬وأناس ال ينتمون ملركبات احلرية‪.‬‬‫حمارب يف ٍ‬

‫يميض قد ًما إلنجاز هذه‬


‫َ‬ ‫أدهشه أن أ َّمه مل تعرتض‪ ،‬بل شجعته أن‬
‫ليفكر جد ًيا يف ِ‬
‫أمر الزواج‪،‬‬ ‫َ‬ ‫اخلطوة برشط أن يعو َد من هذه الرحلة‬
‫ِ‬
‫احلياة‬ ‫وتأسيس أرسة قد جتعلها مطمئن ًة أهنا قد أنجزت َ‬
‫دورها يف‬
‫ٍ‬
‫بشكل يرضيها‪.‬‬
‫بعيد ميالده الثالثني‪ ،‬مع‬‫سهرة بطعم الوداع‪ ،‬احتفل كريم ِ‬ ‫ٍ‬ ‫يف‬
‫جمموعة من األصدقاء والزمالء القريبني‪ ،‬وبعد االحتفال‪ ،‬عا َد‬ ‫ٍ‬
‫إضاءة خفيفة‪ ،‬وظل يتحدث‬ ‫ٍ‬ ‫جلس كالعادة قبال َة املرآة مع‬ ‫للبيت‪،‬‬
‫َ‬
‫داخله‪ .‬يسأله عن املستقبل‪ ،‬فريد‬ ‫ِ‬ ‫وكأن هناك كريم آخر يقبع يف‬
‫اعتدت عليها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫بمخاوفِه القاتلة من الوحدة‪ .‬فيجيبه اآلخر‪ :‬لقد‬
‫وجهه من‬
‫فيعود السؤال‪ ..‬وأمك الوحيدة يف ظل الغياب؟ فيأيت ُ‬
‫ممتعضا وقل ًقا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ِ‬
‫املرآة‬
‫***‬

‫‪14‬‬
‫(‪)3‬‬

‫بعيدا عن أمه يف‬ ‫َ‬


‫يصدق أن هذه الطائرة تتجه به ً‬ ‫كان جيب أن‬
‫ٍ‬
‫غياب طويل هذه املرة‪ ،‬مل يتخ ّيل هذا املعنى‪ ،‬ولكنها احلقيقة‬
‫يبدو قو ًيا ولكن هيهات‪ ،‬فام كان منه سوى أن‬
‫الواضحة‪ ،‬حاول أن َ‬
‫ينهار كل ًيا‪.‬‬ ‫َ‬
‫انتحل ما يشبه النوم؛ حتى ال َ‬
‫ٍ‬
‫كعرض‬ ‫ً‬
‫فاصال من أيا ِم اخلريف‪ ،‬رأى حيا َته كلها أمامه‬ ‫كان يو ًما‬
‫ٌ‬
‫مغرق يف ميلودراما إنسانية‪ ،‬متناهية‬ ‫ثرى باهلزل‪ ،‬لكنه‬‫مسـرحي ٍّ‬
‫ٍّ‬
‫هدف ال يغيب عن قصدية املؤلف‪ ،‬وال تبدو‬ ‫ٌ‬ ‫التعقيد‪ .‬املأساة فيها‬
‫احللم‬ ‫ِ‬
‫تفاصيلها سوى ملحمة رسيالية كاملة‪ ،‬خيتلط فيها‬ ‫يف ٍ‬
‫كثري من‬
‫ُ‬
‫بالواقع‪ ،‬اليقظ ُة املستنرية باهلذيان العارم‪ ،‬ويبدو كام قال رامبو‪:‬‬
‫”عندما استيقظت كان العامل يف الظهرية‪“.‬‬
‫وحاول الترسي َة عن ِ‬
‫نفسه‪ ،‬يستعرض‬ ‫َ‬ ‫ً‬
‫طويال يف املستقبل‬ ‫فكر‬
‫َ‬
‫مر هبا‪ ،‬والغريب حتى املواقف اجلميلة‬ ‫املواقف اجلميلة فقط التي َّ‬
‫َ‬
‫يتمه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بالرسور النسبي‪ ،‬كانت جالب ًة للدموع التي تشبه َ‬ ‫املمتلئة‬

‫‪15‬‬
‫ٍ‬
‫بواحد من‬ ‫ِ‬
‫اإلقامة‬ ‫وصل كريم فرانكفورت ‪ ،‬ومل يكن ُب ٌّد من‬
‫الفنادق كي يصل يف الصباح لـ“كولون“‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بحالة من اجلو ِع الرهيب‪ ،‬ومل تكن حقيب ُته ممتلئ ًة سوى‬ ‫شعر‬
‫أكثر خفة‪ ،‬معه حفن ٌة ال بأس هبا من‬ ‫ِ‬
‫بالقليل من املالبس ليكون َ‬
‫بعض‬ ‫دخل ألحد البارات‪ ،‬رشب البرية‪ ،‬وتناول َ‬ ‫َ‬ ‫اليوروات‪،‬‬
‫َ‬
‫حيال‬ ‫املخبوزات‪ ،‬كانت مشكل ُته الرئيسية تكمن يف ِ‬
‫زهد األملان‬
‫ٍ‬
‫بشاب‬ ‫احلظ حليفه عندما التقى‬‫ُّ‬ ‫التعاطى مع ٍ‬
‫لغة غري لغتهم‪ ،‬كان‬
‫ِ‬
‫بصدد طلب‬ ‫اعتقد أنه‬
‫َ‬ ‫عمله وجلس معه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫انتهاء ِ‬ ‫عريب اصطحبه بعد‬
‫العرب خلقت لدهيم‬‫ُ‬ ‫مساعدة أو ما شابه‪ .‬كم املآيس التي عاشها‬
‫ِ‬
‫للعرب يف أملانيا‬ ‫كبريا من التوجس‪ .‬تكلم معه عن الوض ِع العام‬ ‫كام ً‬
‫اًّ‬
‫والعديد من األمور‪ ،‬حتى جاءت الساع ُة التاسعة‪ ،‬فأحلت عليه‬ ‫ِ‬
‫العودة للفندق كي يبيت ليلته‪.‬‬
‫وكتب ظل يقرأ فيها كي‬‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫أوراق‬ ‫فأخرج جمموع َة‬ ‫‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫بسهولة‬ ‫ينم‬
‫َ‬ ‫مل ْ‬
‫ٍ‬
‫معلومات‬ ‫نفسه فيام ورد فيهام من‬‫يتعثر يف النوم املستحيل‪ ،‬امتحن َ‬
‫ِ‬
‫عصبية األملان‪،‬‬ ‫وخصوصا أن عنده فكر ٌة جاهزة عن‬ ‫متخصصة‪،‬‬
‫ً‬
‫وعد ِم ثقتهم ىف اآلخر‪ ،‬والسيام األمور التقنية‪.‬‬
‫دي معهم‪ ،‬بل عىل‬ ‫ٍ‬
‫متأكدا أن أي حديث سيقوله لن ُجي َ‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫ِ‬
‫بالرجل‬ ‫ذهب إىل هناك‪ ،‬والتقى‬ ‫َ‬ ‫األرجح سيكون هناك اختبار‪،‬‬
‫كريام معه‪ ،‬فلم تباغته إنجليزي ُته‪ ،‬تكلم‬
‫املسئول عن الدورة‪ ،‬كان ً‬

‫‪16‬‬
‫وحصل عليها قبل أن َ‬
‫يصل‬ ‫َ‬ ‫الدراسة وخرباتِه التي سبق‬
‫ِ‬ ‫معه عن‬
‫معظم خرباتِه عملي ًة أكثر من‬
‫َ‬ ‫حيا معه‪ ،‬وأخربه أن‬
‫ألملانيا‪ ،‬كان رص ً‬
‫ِ‬
‫مسألة اإلدارة‪ ،‬والتي‬ ‫ِ‬
‫كوهنا نظرية‪ ،‬أو تؤسس للمعنى الواسع عن‬
‫للممتحن‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الرجل سوى إرساله ُ‬ ‫َ‬
‫استكامهلا باخلارج‪ .‬فام كان من‬ ‫يريد‬
‫ِ‬
‫بعض األمور اخلاصة بربجمة التطبيقات‬ ‫ذهب كريم وتكلم عن‬
‫ِ‬
‫األسئلة‬ ‫ِ‬
‫تعامله مع‬ ‫ِ‬
‫طريقة‬ ‫ً‬
‫مندهشا من‬ ‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫ومحاية البيانات‪ ،‬كان‬
‫التي يعرضها عليه‪ ،‬ورغم أن إجاباته كلها باإلنجليزية‪ ،‬التي جييدها‬
‫بشكل مستفز‪ ،‬جعله يشك‬‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫مالحمه‬ ‫كريم يقينًا‪ ،‬لكن كان حيملق يف‬
‫جيرح‬
‫َ‬ ‫الوقت كي ال‬
‫َ‬ ‫أنه ال يكرتث بام يقوله‪ ،‬وربام فقط يستهلك‬
‫السكوت وقال مجل ًة مل ينسها‪:‬‬
‫َ‬ ‫مشاعره‪ ،‬لكنه قطع‬
‫اختصاصك‪ ،‬ومؤكد بعد هذه الدورة لن‬
‫َ‬ ‫‪ -‬يبدو أنك حتب‬
‫ترتكنا‪.‬‬
‫كان لقاء كريم بالسيد ”فرانك“ عالم ًة فارق ًة يف هذه الرحلة‪.‬‬
‫َ‬
‫اإلنسان ىف املطلق‪ ،‬ولكنها حترتم‬ ‫عرف منه أن أوربا ال حترتم‬
‫العامل املميز املاهر‪ ،‬وصاحب اخلربات التي تبدو ىف ٍ‬
‫كثري‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اإلنسان‬
‫من األحيان نادرة‪.‬‬
‫مع الوقت عرف السيد ” فرانك“ أن كريم كان من املتفوقني ىف‬
‫ِ‬
‫هندسة‬ ‫يكون أستا ًذا ىف‬
‫َ‬ ‫مجلة طموحاتِه أن‬
‫جمال ختصصه‪ ،‬وأن من ِ‬
‫ِ‬
‫احلاسوب‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫ٍ‬
‫امرأة‬ ‫ِ‬
‫خالل‬ ‫مشكلة تعلم ٍ‬
‫لغة ما‪ ،‬ال يتم إال من‬ ‫ِ‬ ‫إن مواجه َة‬
‫الواضح بني األملانية واإلنجليزية‪،‬‬
‫َ‬ ‫تتحدث هذه اللغة‪ ،‬وإن التشتت‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وللمرة األوىل‬ ‫أمر بالغ الصعوبة‪،‬‬ ‫ىف جمتم ٍع ال حيفل ً‬
‫كثريا إال بلغته‪ٌ ،‬‬
‫دائام كالفراشات حتوم من حولِه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫يف حياته‪ ،‬حيث كانت النسا ُء ً‬
‫يقيم عالق َة و ٍّد معها‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫البحث عن سيدة منتقاة كي َ‬ ‫حاول‬
‫ونطق حيتاج إىل‬
‫ٌ‬ ‫للغة األملانية‪ ،‬أبجدي ٌة ُجمهدة‪،‬‬‫مل يكن مرتاحا ِ‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫لكسب اجلولة‬ ‫ُ‬
‫السبيل الوحيد‬ ‫جمهود‪ ،‬لكن االستمرار واملامرسة مها‬
‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫ِ‬
‫لرؤية اللغة‬ ‫ٍ‬
‫جرائد أملانية‬ ‫ِ‬
‫رشاء‬ ‫األوىل مع هذه اللغة‪ ،‬مع‬
‫مستمر‪.‬‬
‫بشيطان متجسد واسع احليلة‬‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫الرغبة ىف النساء‬ ‫ملاذا يشعر عند‬
‫أحد املطاعم؛ امرأ ٌة جتاوزت‬‫ييسـر األمور‪ ،‬التقى بـ“ماريندا“ يف ِ‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫وكثري‬ ‫مجاهلا وأنوثتِها‬
‫سن اليأس بقليل‪ ،‬ولكنها حمتفظ ٌة ببعض من ِ‬
‫َّ‬
‫للحديث معها بمجرد أن خرجا من املطعم‪،‬‬‫ِ‬ ‫ً‬
‫مدخال‬ ‫من األمل‪ ..‬د َّبر‬
‫مناسب‬ ‫سكان احلي القدامى‪ ،‬وهل يوجد سك ٌن‬ ‫ِ‬ ‫سأهلا إن كانت من‬
‫ٌ‬
‫ورخيص حيث أنه قادم من ِ‬
‫بلده للدراسة‪.‬‬ ‫ٌ‬
‫ليحلم هبا‪،‬‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫لنتائج مل يكن‬ ‫ً‬
‫طويال نسب ًيا؛ لكنه انتهى‬ ‫كان حدي ًثا‬
‫أكثر املتفائلني‪ ..‬فقد قالت‪:‬‬
‫وال حيلم هبا ُ‬
‫أمرا‪.‬‬
‫أعرض عليك ً‬
‫َ‬ ‫أريد أن‬
‫‪ُ -‬‬

‫‪18‬‬
‫يقتسم معها القيم َة‬
‫َ‬ ‫تسمح بإقامتِه عندها نظري أن‬
‫َ‬ ‫فمن املمكن أن‬
‫ِ‬
‫أعامل تنظيف البيت‪.‬‬ ‫اإلجيارية لسكنِها‪ ،‬وكذلك اجلهد املبذول ىف‬
‫ِ‬
‫بسوء طويته‪ ،‬ولكنّه تصنّع‬ ‫مل ُي ِرد أن ُي َ‬
‫بدي موافق ًة رسيعة ُتغرهيا‬
‫الرشو َد للحظات‪ ،‬ثم قال‪:‬‬
‫وهو كذلك‪.‬‬
‫ليعرف الطريق‪ ،‬عىل أن‬
‫َ‬ ‫يصل إىل مسكنِها‬ ‫كان لزا ًما عليه أن َ‬
‫ُحيرض يف اليوم التايل حاجياتِه ومتعلقاتِه من الفندق شديد التواضع‬
‫الذي َ‬
‫نزل فيه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عارض من عد ِم جتمي ِع‬ ‫ألي‬
‫رقم هاتفها حتس ًبا ِّ‬
‫افرتقا بعد أن أخذ َ‬
‫نفسه ‪..‬‬
‫يسأل َ‬ ‫العنوان ىف ذاكرتِه‪ ،‬رغم تركيزه الشديد‪ .‬عا َد للفندق ُ‬
‫ما الذي جيعل النسا َء يتعاطفن معه إىل هذه الدرجة‪ ،‬رغم أنه ليس‬
‫مفرط الوسامة‪ ،‬وإن كانت هيئ ُته وهندا ُمه دائًام ما تكون مقنعة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫سكن‬ ‫ٍ‬
‫وجريان داخل‬ ‫فعال‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫كأصدقاء ً‬ ‫مكث معها لفرتة‪ ،‬كانا‬
‫ِ‬
‫الرغبة احلريصة عىل عد ِم‬ ‫واحد‪ ،‬وإن َ‬
‫بذل جمهو ًدا خراف ًيا من دواعي‬
‫غري مسئولة‪،‬‬ ‫تبدو‬ ‫التي‬ ‫التصـرفات‬ ‫ببعض‬ ‫ولو‬ ‫التجاوز‪،‬‬ ‫أو‬ ‫ِ‬
‫اإلساءة‬
‫َ‬
‫جاهدا‬
‫ً‬ ‫ورغم كم التلميحات األنثوية التي ُمورست ضده‪ ،‬حاول‬
‫محيمة معها‪ ،‬وهي بدورها فهمت أنه‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫عالقة‬ ‫ِ‬
‫إقامة‬ ‫زاهدا ىف‬ ‫يبدو‬
‫ً‬ ‫أن َ‬
‫حاول أن جيع َلها تؤمن‬
‫َ‬ ‫رجل رشقي ملتزم!! ولكنه من داف ِع املكر‬ ‫ٌ‬
‫ِ‬
‫بكون العالقة إن متت‪ ،‬فهي خدمة ُيسدهيا هلا كأنثى!! وليست هد ًفا‬

‫‪19‬‬
‫ِ‬
‫عالقة اجلوار شي ًئا من االحرتام‪ ،‬رغم أنه‬ ‫ضفى عىل‬
‫يسعى إليه‪ ،‬ل ُي َ‬
‫ِ‬
‫ممارسة محاقته املعتادة ‪ .‬وقدرته‬ ‫يف مثل هذه املواقف ال يتوانى عن‬
‫اهلائلة عىل تصنّع العشق اجلارف‪.‬‬
‫أفكار أمه وآماهلا يف‬
‫ُ‬ ‫استمرت احليا ُة عىل نظامها‪ ،‬واستمرت‬
‫اجلديدة يضغطه بعنف‪ .‬لدرجة‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ظروف الرحلة‬ ‫ٍ‬
‫أرسة مع‬ ‫ِ‬
‫تأسيس‬
‫ِ‬
‫اجلانب اآلخر من‬ ‫أوقات الوحدة ً‬
‫طفال يناديه‪ .‬وعىل‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫يتخيل يف‬ ‫أن‬
‫سفر أملاين بأي ثمن‪ .‬رغم يقينِه الذي‬
‫اقتناء جواز ٍ‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫احلرية ربام فكر يف‬
‫ِ‬
‫النظر عن كم‬ ‫وبغض‬
‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫جذوره‪.‬‬ ‫يربح معرك َته مع‬
‫ال ينهزم؛ لكونه لن َ‬
‫تعرض له‪ ،‬فامزالت أ ُّمه هناك تنتظر عو َدته‪ .‬لكن‬‫َ‬ ‫اإلحباط الذي‬
‫طموحه الوظيفي ح ّيد الفكر َة الرامي َة لصناعة أرسة‪ ،‬بل وأبعدها‬
‫متا ًما‪.‬‬
‫عظيام يف‬
‫ً‬ ‫جهدا‬
‫ً‬ ‫كل األمور عىل خري ما يرام‪ ،‬يبذل‬ ‫كانت ُّ‬
‫والوقت هو املحك الرئييس الذي ال يريد مطل ًقا أن ُهيزم‬
‫ُ‬ ‫التحصيل‪،‬‬
‫ٍ‬
‫دورة‬ ‫ِ‬
‫أرسار اللغة األملانية أو يكاد‪ .‬وحصل عىل‬ ‫عىل يده‪ ،‬وصل إىل‬
‫حساب صحتِه ووقته‪.‬‬‫ِ‬ ‫مكتظة باملعلومات‪ ،‬وإن ظل كل ذلك عىل‬
‫قفز إىل ذهنه‬ ‫ِ‬
‫لفكرة اإلقامة الدائمة‪َ ،‬‬ ‫ِ‬
‫استسالمه املؤقت‬ ‫هنا ومع‬
‫يكون له زوج ٌة تشاطره هذا العناء‪ ،‬ولكن هيهات أن‬
‫َ‬ ‫حلم أمه أن‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫بصدد رشاء سيارة‪،‬‬ ‫جيدها هبذه السهولة‪ ،‬فهو يريد زوجة‪ ،‬وليس‬ ‫َ‬
‫جيد زوجة حيبها‪،‬‬
‫وطاملا األفكار قد ذهبت هلذا احلل‪ ،‬فال أقل من أن َ‬

‫‪20‬‬
‫أقل تقدير‪ ،‬برشط أن حت َّبه هي األخرى‪ ،‬واألهم أن‬‫أو حياول عىل ِّ‬
‫ٍ‬
‫شخصية قوية‪ .‬هو بالرضورة حيب املرأ َة صاحبة‬ ‫َ‬
‫تكون صاحبة‬
‫الشخصية القوية والذكية‪ ،‬باإلضافة إىل ِ‬
‫كوهنا حنونة و ُمقدرة ‪.‬‬
‫اكتشف أن له‬
‫َ‬ ‫يف زيارة للسيد ”فرانك“ املشـرف عىل الدورة‪،‬‬
‫زاره فيها‪ ،‬كانت للتو عائد ًة من‬
‫ابنة‪ ،‬مل يرها يف املرات القليلة التي َ‬
‫بريطانيا‪ ،‬تعمل هناك وتتدرب فيام ُيعرف بإدارة املتاحف وترميم‬
‫واضحا أهنا‬
‫ً‬ ‫اللوحات‪ ،‬ترميم لفن مصاب بتقلبات الزمن‪ ،‬كان‬
‫ِ‬
‫للنساء‬ ‫ِ‬
‫لعشقه القديم‬ ‫اقرتبت من الثالثني‪ ،‬كانت امتدا ًدا طبيع ًيا‬
‫وكأي‬
‫ِّ‬ ‫األجنبيات‪ ،‬شقراء ذات شعر أصفر شديد‪ ،‬زرقاء العينني‪.‬‬
‫بتقبيل وجنتيها‪ ،‬وجلس الثالثة‪ ،‬ثم انضمت‬ ‫ِ‬ ‫رجل متحرض قام‬
‫والدهتا السيدة فرانك‪ ،‬حاول أن يتج َه هلا بحديثِه بني احلني‬ ‫ُ‬ ‫هلم‬
‫أسئلة ساذجة معتادة‪ ،‬هل أعجبتك‬ ‫ٍ‬ ‫واآلخر‪ ،‬ومن خالل‬
‫بريطانيا؟ وماذا كان شعورك بالضباب اللندين؟ وغريها من هذه‬
‫األسئلة‪.‬‬
‫كان كريم حيب السيد ”فرانك“ بشدة‪ ،‬يتحدث معه أحادي ًثا مل‬
‫تكن ختلو من دعابات ونكات ساخرة مضحكة ينفجر فيها اجلميع‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أحاديث من كل جهة‪ ،‬ثم استأذن وخرج‪ ،‬و“‬ ‫استغرقوا وق ًتا ىف‬
‫ِ‬
‫للدرجة أن حتركت يف داخله رغب ٌة‬ ‫ميال“ مسيطر ٌة متا ًما عىل عقله‪،‬‬
‫حل ِّبها‪ ،‬ألن الواضح متا ًما أهنا خمتلفة‪ ،‬مجيلة وذكية وشخصيتها قوية‬

‫‪21‬‬
‫ِ‬
‫أصعب أصناف النساء ىف نظره املرأة الثرثارة‬ ‫وهدوؤها رائع‪ .‬من‬
‫التي تتكلم بال ضوابط للكالم‪ ،‬وأحيا ًنا بال داع أصالً‪.‬‬
‫ورسم يف خياله سيناريو مصغر ليو ٍم من حياته‬
‫َ‬ ‫عا َد للبيت‪،‬‬
‫ٍ‬
‫تفكري صبياين أو مراهق‪،‬‬ ‫جدا‪ ،‬ليس من منطلق‬‫سعيدا ً‬
‫ً‬ ‫معها‪ ،‬فكان‬
‫وخصوصا أن‬
‫ً‬ ‫بل ألنه يمتلك فراس ًة ال بأس هبا ىف تقييم النساء‪،‬‬
‫بصم َة روحها كانت تشبه إىل حد كبري ”سوزانا“ كأنثى حمبة‪ ،‬أو‬
‫تكون املهدئ احلاسم لنزعاتِه‬
‫َ‬ ‫تعرف احلب وتضحياته‪ ،‬وتستطيع أن‬
‫ِ‬
‫دائرة الصواب‬ ‫ونزواته اجلنونية‪ ،‬واحتواءها له بحبها ليعو َد إىل‬
‫ٍ‬
‫بشكل ناجح‪،‬‬ ‫واالتزان‪ ،‬وهذا ما كان حيتاجه لكي تستمر حيا ُته‬
‫وخال من املنغصات؛ حيث أنه واحد ممن يكرهون تلك األمزجة‬ ‫ٍ‬
‫املحرضة عىل االكتئاب ‪.‬‬
‫ذهب ىف دنيته التي ال يعرف سواها حتى أتم دور َته‪ ،‬ويف ختا ِم‬
‫َ‬
‫حارضا إال السيد ”فرانك“‪ ،‬فلم‬
‫ً‬ ‫سهرة احتفالية بنهايتها كان الكل‬
‫جيده‪ ،‬ومل جيد رسال ًة منه‪ ،‬ال يش َء مطل ًقا‪ ..‬سعى كريم للسؤال عنه‪،‬‬
‫فعلم أنه مريض‪ ،‬يرقد باملستشفى يف ٍ‬
‫حالة شبه خطرية‪.‬‬
‫جدار زجاجي‪ ،‬نظرا ألنه ىف ِ‬
‫شبه‬ ‫ٍ‬ ‫زاره‪ ،‬وكانت الزيار ُة من ِ‬
‫وراء‬
‫ً‬ ‫َ‬
‫املشهد‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫األشياء الطبية معلق ٌة بجسده‪ ،‬كان‬ ‫غيبوبة‪ ،‬والعديد من‬
‫ِ‬
‫ضعف اإلنسان أمام‬ ‫مؤثرا عىل ِ‬
‫نفسه‪ ،‬ال ألنه حيبه‪ِ ،‬‬
‫بقدر حزنه عىل‬ ‫ً‬
‫جربوت املرض‪ ،‬خرج بعد أن ألقى عليه نظر ًة طويلة إىل القاعة‬

‫‪22‬‬
‫ٍ‬
‫ألحد‬ ‫املجاورة‪ ،‬وجلس بينام يستأثر به احلزن‪ ،‬الغريب أنه مل ينتبه‬
‫ٍ‬
‫مقربة منه‪ ،‬وما كانتا سوى‬ ‫رغم أن هناك سيدتان جيلسان عىل‬
‫ململام‬
‫ً‬ ‫السيدة فرانك وميال‪ ..‬فقام بتحيتهام يف عجالة‪ ،‬وانرصف‬
‫حزنه‪ ،‬وعا َد حلياتِه يدخل من جديد يف رصا ِع البقاء هناك‪ ،‬أو‬
‫العودة ألمه املنتظرة يف البعيد‪.‬‬
‫ٍ‬
‫جلطة باملخ‪،‬‬ ‫علم كريم أن ”فرانك“ قد رجع لبيتِه‪ ،‬ناج ًيا من‬
‫وثقل خفيف بالقدم مع‬ ‫ٍ‬ ‫شلال بسي ًطا ىف ِ‬
‫يده اليرسى‪،‬‬ ‫فقط تركت ً‬
‫واصطحب معه باق ًة من‬ ‫ابتهج‬ ‫حركة ال إرادية للعني اليسـرى‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫سعيدا بكريم‪ .‬الذي تأمل َ لكونِه الوحيد‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫الرجل‬ ‫ِ‬
‫الزهور وزاره‪ .‬كان‬
‫الذي يتابع حال َته‪.‬‬
‫طلب كريم اإلذن باالنرصاف‪ ،‬فاصطحبته ميال حتى الباب‪،‬‬
‫جرس طويل وال إجابة؟‬
‫ٌ‬ ‫دائام ال جييب؟ ‪..‬‬
‫وسألته ملاذا اهلاتف عنده ً‬
‫ِ‬
‫بأسامء أصحاهبا‪.‬‬ ‫‪ -‬يف العادة ال أرد عىل األرقام غري املشفوعة‬
‫‪ -‬عال َم القلق من األغراب؟‬
‫ضحك وقال‪:‬‬
‫‪ -‬ألين غريب‪.‬‬
‫ِ‬
‫الرجل‬ ‫احلب من‬
‫َّ‬ ‫ماذا ُيضري الثقاف َة الرشقية إن طلبت املرأ ُة‬
‫تراجع للحياء املعروف‬
‫ٌ‬ ‫فرس ذلك عىل أنه‬
‫وليس العكس؟ وملاذا ُي َّ‬

‫‪23‬‬
‫عن املرأة؟ ومن قال أن احليا َء صف ًة مجيلة من صفات أية امرأة؟‬
‫إن هذا اخلجل الذي زرعته الثقاف ُة الشـرقي ُة هو نفسه املسئول‬
‫ِ‬
‫للخيانة‬ ‫مبارشا‬ ‫ا‬ ‫ب‬ ‫سب‬ ‫األقل‬ ‫عىل‬ ‫أو‬ ‫الزوجية‬ ‫العالقات‬ ‫ِ‬
‫فساد‬ ‫عن‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ٍ‬
‫كرجل يسأل‪ ..‬ملاذا جيد آدم‬ ‫رأي مباغت‪ ..‬ربام‪ .‬لكنه‬
‫الزوجية‪ٌ ،‬‬
‫عاهرة وال جيدها مع زوجته؟ ال إجابة واضحة‬ ‫ٍ‬ ‫متع َته اجلسدية مع‬
‫غري أن العاهرة ال تعرف اخلجل؟ وما يضري الزوج َة أن َ‬
‫تفعل ما‬
‫حيلو هلا ملتعة رجلها؟‬
‫وحيدا أن قالت‬
‫ً‬ ‫ِ‬
‫للجملة التي قاهلا مليال كونه‬ ‫كانت اجلمل ُة التالية‬
‫بدورها‪:‬‬
‫‪ -‬إذن لنرتبط إن كنت تفكر يف األمر‪.‬‬
‫ِ‬
‫ثقافة‬ ‫َ‬
‫اندهش من العرض‪ ،‬هو مل يفهم أبعا َد‬ ‫وألنه رشقي عتيد‬
‫هؤالء‪ ،‬فقط ابتسم‪ ،‬وقال‪:‬‬
‫‪ -‬نعم أفكر‪ ،‬ولكن هبذا الشكل؟ أليس من األجدر أن تعرفينني‬
‫بشكل جيد؟‬
‫فقالت بثقة‪:‬‬
‫ِ‬
‫بصلة قرابة‬ ‫ٍ‬
‫رجل ال يرتبط به‪ ،‬ال عاطف ًيا وال‬ ‫ِ‬
‫ملرض‬ ‫‪ -‬من يتأثر‬
‫ٍ‬
‫صداقة عابرة‪ ،‬ومع ذلك يتأثر إىل هذا احلد‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ملجرد‬ ‫ولو بعيدة‪ ،‬بل‬
‫ِ‬
‫بالرضورة إنسان‪.‬‬ ‫فهو‬

‫‪24‬‬
‫هنا أدرك كريم أن حزنه يوم املستشفى كان الباب الذي‬
‫عربت منه الفتاة كي تفكر يف االرتباط به‪ ،‬رغم أنه مل يكن حزينًا‬
‫عىل ”فرانك“ يف املقام األول‪ ،‬بل عىل اإلنسان املريض ىف املطلق‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بيشء ما‬ ‫وضعفه أمام املرض‪ .‬لكن الصدق كل الصدق إنه شعر‬
‫يتبلور للمعنى الذي يريده أو تصوره ولو يف اخليال‪.‬‬
‫ْ‬ ‫جتاهها‪ ،‬يشء مل‬
‫***‬

‫‪25‬‬
‫(‪)4‬‬

‫أوفدت‬
‫ْ‬ ‫ِ‬
‫بنهاية الدورة التي‬ ‫كانت الرشكة يف الداخل قد علمت‬
‫لقرار حاسم وهنائي‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫للحصول عليها‪ .‬ومسألة ميال حتتاج‬ ‫كريم‬
‫كل هذه احلرية‪ ،‬فمؤكد لن يرتك أمه هن ًبا‬ ‫أي جحي ٍم أتته ُّ‬
‫مل يدر من ِّ‬
‫ولعه‬ ‫للحياة وحيدة‪ ،‬تنتظر منه رسال ًة من هنا أو هناك‪ ،‬وإن كان عىل ِ‬
‫ِ‬
‫رابط غري وجودهن عىل‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫منتميات له بأي‬ ‫ٍ‬
‫فتيات غري‬ ‫باالرتباط من‬
‫حامال كل مركبات‬ ‫ً‬ ‫يسري فيها‬
‫َ‬ ‫قدره أن‬
‫نفس األرض‪ ،‬التي شاء ُ‬
‫شجنه وحريته‪ ،‬فإن ”سوزانا“ كانت تنتظر منه جمر َد كلمة كي حيدث‬
‫هذا االرتباط املنشود‪.‬‬
‫مل يكن يشك أن أ َّمه ستتحمل هذه الفكرة‪ ،‬حتى وإن أقنعتها‬
‫نفسه جمد ًدا عن احلب‬ ‫ِ‬
‫ميال لكوهنا االختيار األفضل‪ .‬لكنه سيسأل َ‬
‫كعاطفة حقيقية‪ ،‬وكيف نشأت من جمرد حديث واحد عىل هامش‬
‫جتربة مرض أبيها‪.‬‬
‫هو تأثر عىل كل األحوال بام حدث بينهام من نقاش مجيل‪ .‬لكنها‬
‫يتدثر يف ِ‬
‫ثوب إنسان متعلم‪ ،‬يمتهن‬ ‫كرجل معذب ُ‬‫ٍ‬ ‫لن ترحم حقيق َته‬

‫‪26‬‬
‫مهن ًة جتعله متحق ًقا وجود ًيا بشكل قد جيعل أقرا َنه حيسدونه عىل هذه‬
‫الوظيفة‪ .‬إذن من أين تأيت األزمة؟‬
‫ِ‬
‫اعتبارها اهتا ًما‬ ‫كريم يكره هذه النظرات التي يرتمجها غال ًبا عىل‬
‫شاب يف ظروفه؛ حصل عىل تعلي ٍم متميز‬
‫له وجاهته‪ .‬فامذا يريد يقينًا ٌ‬
‫ٍ‬
‫ووظيفة هو بالفعل ناجح فيها ألبعد حد‪.‬‬
‫مل تكن الدنيا عىل قياس ما يطمح إليه كريم يف أي حلظة‪ ،‬وهذا‬
‫الكثري من املعاين التي كان من املمكن أن‬
‫َ‬ ‫أفقده‬
‫النفور من واقعه َ‬
‫تساعده كي يتسق مع زمنِه وعامله‪ ،‬وخاصة أنه حلم امرأة عكفت عىل‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫مقتبل العمر من الرضوري أن‬ ‫تربيتِه‪ ،‬ونست وتناست كوهنا أنثى يف‬
‫ٍ‬
‫رجل يتسق بدوره مع كوهنا أرملة وهلا ابن وحيد‪ ،‬حيتاج‬ ‫َ‬
‫تبحث عن‬
‫الرعاية‪.‬‬
‫كانت أمه أسري ًة لثقافة ال تدري من أين تأيت بروافدها‪ ،‬تتهم أي‬
‫ِ‬
‫غياب األب ألي سبب‪.‬‬ ‫امرأة يف املطلق إهنا ال جتيد تربية أوالدها يف‬
‫إثبات صواب‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫حياول‬ ‫تسـرب لكريم‪ ،‬فظل عىل الدوام‬
‫وهذا املعنى َّ‬
‫َ‬
‫فانتحل اخلشونة‪ ،‬وساعده عىل ذلك ما‬ ‫التجربة التي خاضتها أمه‪،‬‬
‫ِ‬
‫اجلسارة التي‬ ‫منحته له الطبيع ُة من قوة الفتة‪ ،‬وتصاعدت فيه روح‬
‫ٍ‬
‫لرجل قامت برتبيته امرأة ضعيفة ‪ -‬عىل الغالب ‪-‬‬ ‫يت‬
‫ال يمكن أن تأ َ‬
‫حتتاط من عاملِها الصعب واملربك‪ .‬رغم كل ما تعرض له كريم من‬
‫أذى وخسارة؛ كي يثبت هذا التوجه‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫َ‬
‫يكون وجهة نظر‪ ،‬لكنها مبادئ‬ ‫ِ‬
‫التضحية ال يمكن أن‬ ‫َ‬
‫مسلك‬ ‫إن‬
‫كسلوك‪ ،‬لذا حني يعود كريم ِ‬
‫لنفسه يكتشف‬ ‫ٍ‬ ‫عىل األرجح‪ ،‬تتشكل‬
‫فسا َد املنطق الذي يرسم بوضوح شكل تعاطيه مع حياته وتفاصيلها‬
‫ِ‬
‫ومفرداهتا‪ .‬واألهم أولئك الذين ينتظرون منه التضحية‪.‬‬
‫رفاق املايض اهتمه أنه مازال‬ ‫ٍ‬
‫واحد من ِ‬ ‫جلس ذات قدر مع‬
‫فحني َ‬
‫مراه ًقا‪ ،‬يمتلك جمموع ًة من األفكار املثالية املستحيلة‪ ،‬فاحليا ُة ليست‬
‫رسام ثاب ًتا خيضع ملا نعتقده نحن فحسب‪ .‬واملنطق ُة الرمادية‪ ،‬التي‬
‫ً‬
‫ال ينسجم معها من هم عىل شاكلة كريم‪ ،‬أكرب مما يعتقد أولئك‬
‫ِ‬
‫خيال الفالسفة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫باملدينة الفاضلة التي ال مكان هلا إال يف‬ ‫احلاملون‬
‫ٍ‬
‫كدليل وحيد عىل وضوح الرؤية‬ ‫فثنائية األبيض واألسود التي حيبها‬
‫دائام‪.‬‬
‫تستجيب له ً‬
‫َ‬ ‫لن‬
‫األمور أوضح‪ ،‬وكثر ُة أسفار كريم ظلت متنحه‬
‫ُ‬ ‫يف أملانيا كانت‬
‫هذا اليقني‪ ،‬إن الناس يف الوطن ال وجود هلا‪ ،‬فاإلنساني ُة خارج العامل‬
‫الذي اعتا َده تربح رهاناهتا دائام‪ ،‬اإلنساني ُة التي تغطي كل يشء‪،‬‬
‫بشكل حرصي لإلنسان‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫وليست املوجهة‬
‫ميال كانت حتمل قط ًة يف لقائهام األخري‪ ،‬وكانت تتعامل معها‬
‫اجلوع‬ ‫قتلها‬ ‫التي‬ ‫القطة‬ ‫تلك‬ ‫من‬ ‫ا‬ ‫ً‬
‫ظ‬ ‫ح‬ ‫أكثر‬ ‫أخرى‬ ‫ٌ‬
‫ة‬ ‫قط‬ ‫هلا‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫كابنة‬
‫ُ‬
‫والربد يف الساحة الكبرية‪ ،‬حيث تداعيات الغربة والقلوب الغليظة‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫كان البد من قرار‪ ،‬فال يمكن أن َّ‬
‫يظل هكذا كائنًا هروب ًيا بامتياز‪،‬‬
‫بمجرد أن ُتطرح عليه األشياء ينسحب‪ .‬هو يقينًا ليس هذا الرجل‬
‫الذي ال يعرف ماذا يريد‪ .‬سم ُته وحيا ُته ال تؤكد هذا املعنى‪ .‬وميال‬
‫متنحه حضنًا بطع ِم الوطن املفقود‪.‬‬
‫فتا ٌة ناضجة وفنانة‪ ،‬تستطيع أن َ‬
‫تنتظر‬ ‫ستخلص للمعنى دون أن تنتظر أي مقابل‪ .‬لكن أمه عىل ِ‬
‫البعد‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫عود َته‪.‬‬
‫تطيق خطو ًة عىل هذا النحو من القسوة‪.‬‬
‫هي وحيد ٌة مثله ولن َ‬
‫وإذا كانت قد جتاوزت مفهو َم األنثى وما يتطلبه من احتياجات كي‬
‫ِ‬
‫خالهلا حني يتخذ خطو َة‬ ‫يفكر من‬‫تنترص لألمومة‪ ،‬فال أقل من أن َّ‬
‫ِ‬
‫البحث عن احلب احلقيقي‪ ،‬والوط ُن املقبول الذي يستطيع إقنا َعه‬
‫اقتناء جواز سفر آخر يعوضه ذاك‬ ‫ِ‬ ‫يفكر يف‬ ‫أن‬ ‫ودون‬ ‫فيه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫للبقاء‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫بالغربة وحدها‪ ،‬وإنام اغرتاب شامل‪.‬‬ ‫الشعور املجنح‪ ..‬ال‬
‫يستثمر حمب َة أهل ميال؛ كي يتخذ من أملانيا‬
‫َ‬ ‫كانت الظروف تدفعه أن‬
‫األمور عىل هواه ونيـَّته‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وطنًا له‪ ،‬وينسى املوضوع‪ .‬الغريب أن جاءت‬
‫توحده أية قيمة لكي يعو َد من حيث‬‫ِ‬ ‫حتدث معه والدها والذي مل َير مع‬
‫بلده من حيتاجه‪ .‬هنالك أخربه أن أمه تنتظر عود َته‪.‬‬‫أتى‪ .‬فليس له يف ِ‬
‫ِ‬
‫سيارة ميال‬ ‫َ‬
‫ورحل يف‬ ‫ِ‬
‫هتندمه‪،‬‬ ‫يف مساء ذلك اليوم‪ ،‬مل يبالغ يف‬
‫ٍ‬
‫ملنطقة رومانسية رائعة‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫ٍ‬
‫بانقباض غريب‪.‬‬ ‫األمور تسري يف جمراها الطبيعي‪ ،‬لكنه شعر‬
‫ُ‬ ‫كادت‬
‫ٍ‬
‫بزيارة أخرى‪ .‬عادت‬ ‫ِ‬
‫وللهروب من تأثري اللحظة بثقلها عليه‪ ،‬وعدها‬
‫به وتركته قبال َة الفندق ولكنه مل يدخله‪ ،‬جلس فوق ٍ‬
‫ربوة عالية تطل‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫معلومة‬ ‫ِ‬
‫املدينة الساهرة‪ .‬فبدا وكأنه يودع البالد‪ .‬وقو ٌة غري‬ ‫عىل‬
‫املصدر تدفعه دف ًعا أن يغادر لألبد‪.‬‬
‫***‬

‫‪30‬‬
‫(‪)5‬‬

‫شعر كريم بغصة كبرية‪ ،‬ولج‬


‫بمجرد أن وطأت أقدا ُمه األرض‪َ ،‬‬
‫جد‬
‫رسا كالعادة‪ ،‬وانتظر الصباح اجلديد كي يرى أ َّمه‪ ،‬وما َّ‬
‫للبيت ً‬
‫كشف بوضوح أن األمر أصعب مما‬ ‫َ‬ ‫عليها من أمور‪ .‬لكن الصباح‬
‫كانت عليه أ ُّمه حال االنتكاسة األوىل‪ ،‬حال ٌة أكرب من املرض‪ ،‬بل‬
‫ٍ‬
‫شعور طاعن بالتاليش‪.‬‬ ‫تقرتب من‬
‫ٍ‬
‫إلغامءة‬ ‫الغريب أن يف هذه املدة القليلة نسب ًيا تعرضت مرتني‬
‫بأمر متابعتِها بطول غيابه‪،‬‬
‫طويلة‪ .‬ولوال زياد صديقه الذي تكفل ِ‬
‫لكانت األمور أكثر قسوة مما يتوقع‪ .‬بأمومتها الزاعقة أرصت أن‬
‫الكثري من كلامت الطمأنينة‪ ،‬تتعلل بأهنا تناولت‬
‫َ‬ ‫تكذب‪ ،‬ومتنحه‬
‫ترتيب غرفته حتس ًبا‬ ‫مؤذ لقلبها‪ ،‬وإهنا حاولت‬‫طعاما حتبه لكنه ٍ‬
‫َ‬ ‫ً‬
‫لرجوعه‪ ،‬فأرهقتها برود ُة الطقس‪.‬‬
‫يلتقي كريم بزياد كي يرى احلقيق َة فيام يسمعه من‬
‫َ‬ ‫كان لزا ًما أن‬
‫اعتالل واضح يف صحتها‪.‬‬‫ٍ‬ ‫أمه التي تكابر‪ ،‬رغم كل ما يتبدى من‬

‫‪31‬‬
‫يف املساء‪ ،‬أدرك أن األمور قد دخلت دائر َة اخلطر‪ ،‬فالرشيان‬
‫ً‬
‫تدخال‪ .‬ولوال ما أبدته أمه من‬ ‫التاجي ‪ -‬حسبام قال األطباء ‪ -‬حيتاج‬
‫يكون ابنها حارضا‪ ،‬لكانت اآلن يف ِ‬
‫ذمة‬ ‫َ‬ ‫أن‬ ‫مشرتطة‬ ‫للعالج‬ ‫ٍ‬
‫رغبة‬
‫ً‬
‫رب كريم صاح َبه‪،‬‬‫اجلراحة‪ .‬إذن هي حتتاج للتدخل فعالً‪ .‬هكذا أخ َ‬
‫يستعد هلذه اخلطوة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫والذي دعاه بدوره أن‬
‫عرج عىل‬
‫يعد للبيت‪َ ،‬‬ ‫انتهى اللقاء‪ ،‬وهم باالنرصاف‪ ،‬لكنه مل ْ‬
‫نفسه أثر ما سمع‪ ،‬أو‬‫يزيل عن ِ‬‫سوزانا يف غرفتِها‪ .‬ربام كان يريد أن َ‬
‫للدقة أثر احلالة التي عاشها يف الغياب مع ميال‪ .‬ويبدو أن سوزانا قد‬
‫حارض فقط باجلسد‪ ،‬فكل مدركاتِه ومشاعره كانت‬ ‫ٌ‬ ‫شعرت أن كريم‬
‫أخبار مرض أمه أربكته‬‫ِ‬ ‫تسبح يف ٍ‬
‫اجتاه آخر‪ .‬تعلل أن ما سمعه من‬
‫ً‬
‫فعال‪ .‬فبمجرد أن عا َد وهو يشعر باختناق ال يفهم له سب ًبا‪.‬‬
‫احلرب من جديد‪،‬‬
‫َ‬ ‫مل تكن الرحل ُة هدنة حمارب حيتاجها؛ كي يبدأ‬
‫وبعضا من وج ِع الضمري‪ .‬مل يشعر‬
‫ً‬ ‫وجد طاق ًة هائلة من الرفض‪،‬‬
‫فاعتذر ورحل‪.‬‬ ‫”سوزانا“‬ ‫ِ‬
‫بوجود‬
‫َ‬
‫مكتئب املزاج‪ ،‬ضيق الصدر‪ ،‬وقلبه يدق‬
‫َ‬ ‫يف الطريق كان كريم‬
‫ِ‬
‫السهرة يف مكان آخر تراجع‪ ،‬شعر‬ ‫بعنف‪ ،‬بل حني أراد استكامل‬
‫ثقيال إىل درجة إذا ما حاول أن ينسـى مستجدات حياته‪،‬‬ ‫بكونه ً‬
‫ففي البيت سيدة مريضة تعاين‪ ،‬وهناك‪ ،‬حيث البعيد الذي تركه من‬
‫ٍ‬
‫بيشء ما‪ ،‬حلم كان حيتاجه أكثر منها‪ ،‬منفى‬ ‫أيام‪ ،‬فتاة ربام حلمت‬
‫فالنجاح يف‬ ‫ِ‬
‫ألفكاره‪.‬‬ ‫غري صاحلة‬
‫ُ‬ ‫خيتاره بعناية بعد أن باتت احليا ُة َ‬
‫‪32‬‬
‫وظيفة مرموقة ليس هناية املطاف‪ .‬والتكالب عىل ِ‬
‫املال والرحالت‪،‬‬
‫واإلنفاق عىل كل املت ِع املتاحة ال يعني أكثر من مظاهر‪ ،‬ال ختتلف‬
‫كثريا عن ذاك النفاق اليومي الذي ال يؤدي إال ٍ‬
‫ملزيد من العبث‪.‬‬ ‫ً‬
‫مل يكن يراهن أن أ َّمه ال تفهم حقيق َة معاناتِه‪ ،‬أو ختتزهلا فقط يف‬
‫ِ‬
‫للبيت مل جيدها‬ ‫زواجه‪ ،‬بل كانت مشفق ًة عليه‪ ،‬لذا حني عا َد‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مسألة‬
‫عاتب‬
‫َ‬ ‫نائم ًة كالعادة‪ .‬وخاص ًة يف هذه الساعة املتأخرة من الليل‪،‬‬
‫نفسه بقسوة‪ ،‬فأمه املريضة ال يمكن أن ُترتك وحدها عىل هذا النحو‬ ‫َ‬
‫يقرتب منها وسألته‪:‬‬
‫َ‬ ‫من التجاهل‪ .‬دعته ألن‬
‫‪ -‬ما بك؟‬
‫قال ‪:‬‬
‫ٍ‬
‫بشكل خميف‪ .‬أشعر بأشياء ال أستطيع‬ ‫‪ -‬ال أعلم‪ ،‬ولكنّي منقبض‬
‫تفسريها‪.‬‬
‫َ‬
‫هنالك أخربته إنه تقري ًبا نفس ما تشعر به‪ .‬تتخيل أشيا ًء غريبة‬
‫وترى ما يشبه األحالم‪ ،‬رغم إهنا مل تنم‪ .‬فرس هلا األمر عىل أنه نوع‬
‫ِ‬
‫مستقبله‪ ،‬والرثاء حلاله‪ ،‬لكنها نفت بشدة‪ ،‬واعتربت‬ ‫من القلق عىل‬
‫ِ‬
‫حرصها‬ ‫األمور بحالتها هذه قد تبدو من النعمة‪ .‬الغريب رغم‬ ‫أن‬
‫َ‬
‫تشعر‬ ‫بتجهيز ٍ‬
‫لقمة للعشاء؛ ألهنا‬ ‫ِ‬ ‫عىل عد ِم األكل يف الليل‪ ،‬طالبته‬
‫ُ‬
‫بجو ٍع شديد‪.‬‬
‫ِ‬
‫بتحضري كل يشء‪ ،‬ونظر إليها وناداها‪:‬‬ ‫قام كريم‬

‫‪33‬‬
‫‪ -‬أمي ‪ ..‬أم كريم‪ .. .‬العشاء‪.‬‬
‫ولكنها مل ترد‪ ،‬اقرتب منها‪ ،‬كانت للتو قد خرجت دمعتان من‬
‫عينيها‪ .‬ظنها نائمة‪ ،‬لكن كيف تنام وهى تشتكي جو ًعا مؤ ًملا؟‬
‫جسدها باردا نو ًعا‪ ،‬محلها إىل ِ‬
‫فراشها‬ ‫ُ‬ ‫حركها بلطف‪ ،‬لكن كان‬
‫ً‬
‫نظر إليها وحدثته نفسه يف أسى‪ :‬ها هي آخر املعاين‬‫وأغلق عينيها‪َ ،‬‬
‫َ‬
‫اجلميلة متوت وترتكني‪.‬‬
‫تلميحا‬
‫ً‬ ‫ألول مرة يشعر باليت ِم احلقيقي‪ ،‬مل تعطه أي َة إشارة أو‬
‫مسجون يف إحباطِه وغربتِه‬‫ٌ‬ ‫بالرحيل‪ ،‬وكيف سيقرأ اإلشارات وهو‬
‫ِ‬
‫وتوحده الرسمدي؟‬
‫وجه إنسان‪ ،‬ومن كل تفاصيل‬ ‫ِ‬ ‫نورا يشع من‬ ‫ال يذكر أن رأى ً‬
‫جسمه كام كانت أمه‪ ،‬هو مدي ٌن بالكثري هلذه السيدة‪ ،‬والتي لوالها ما‬ ‫ِ‬
‫نوبة من‬‫يدها وقدميها عىل السواء‪ ،‬حتى ذهب يف ٍ‬ ‫أبدا‪ ،‬ظل ُيقبل َ‬
‫كان ً‬
‫إجراءات‬
‫ُ‬ ‫خروجه من املكان كي تنتهي‬ ‫َ‬ ‫تطلب‬
‫َ‬ ‫بكاء‪ ،‬دفعت بالناس أن‬
‫بالصمت والثبات‪ ،‬لكنه مل يمنع قل َبه من البكاء‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫جتهيزها‪ ،‬فتعهد‬
‫مرسحية إنسانية رآها يف حياتِه‪ ،‬فأ ُّمه‬‫ٍ‬ ‫الستار عىل أرو ِع‬
‫ُ‬ ‫ُأسدل‬
‫معان كبرية وعميقة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫للعظمة من‬ ‫كانت عظيمة بكل ما‬
‫مشهد جنازهتا رهي ًبا‪ ،‬ومل يكن لذهولِه عنها معظم الوقت‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫ِ‬
‫احلزن ما يدهشه فعالً‪ ،‬وال هؤالء الذي‬ ‫يظن أن جرياهنا ستبدي من‬
‫يتحركون كاألطياف يف حياهتا يسريون بإخالص وحب خلف نعشها‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫مر هذا اليوم العصيب‪ ..‬كان زياد يواسيه وهو يعلم أن‬ ‫كيف َّ‬
‫ِ‬
‫زوال أثر الفجيعة سيعيش حال ًة من الضياع وانعدام‬ ‫كريم بعد‬
‫أيضا كان حيبها برضاوة‪ ،‬ولكم كانت‬
‫التوازن الشديد بغياهبا‪ ،‬هو ً‬
‫مكافحا‪.‬‬
‫ً‬ ‫حتنو عليه وتعتربه شا ًبا‬
‫الكل انرصف‪ ،‬ورحل اجلميع‪ ،‬بينام كان كريم شديد التعب‬ ‫ُّ‬
‫ٍ‬
‫وبشكل يدعو للرثاء‪.‬‬
‫كان سلم البيت يبدو أكرب وأعىل مما كان‪ ،‬صارت الشقة يف خميلتِه‬
‫تصعد‬
‫َ‬ ‫بعيدة‪ ،‬وفوق هذا وذاك‪ ،‬شعر ِ‬
‫بثقل أقدامه‪ ،‬وكأهنا تأبى أن‬
‫ملكان ليست أمه فيه‪ ،‬لكن ظل األصعب هو دخول الشقة من ِ‬
‫فرط‬ ‫ٍ‬
‫يقينه أن أنفاسها مازالت متأل املكان‪ .‬وبمجرد أن رأى َ‬
‫فراشها خال ًيا‬
‫منها حتى اهنار باك ًيا‪.‬‬
‫يستطيع احلياة‪،‬‬
‫َ‬ ‫سولت له نفسه أن‬ ‫بعد هذه الفاجعة‪ ،‬كيف ّ‬
‫ألفضال هذه السيدة‪ ،‬فإن كانت‬ ‫ِ‬ ‫ونصف ما هو فيه وأكثر يعود‬
‫احليا ُة مدرسة يف حد ذاهتا‪ ،‬فإن أمه هي الكنز الكبري‪ ،‬والدفء‬
‫ِ‬
‫فبموهتا فقد‬ ‫وقت أن كانت دنياه مسكونة بالربودة‪ ،‬وربام الثلوج‪،‬‬
‫ينجح يف‬ ‫أن‬ ‫اهلل‬ ‫إىل‬ ‫ِ‬
‫بالدعاء‬ ‫اليد الطاهرة الوحيدة التي كانت ترتفع‬
‫َ‬
‫حياتِه‪.‬‬
‫كانت كارث ُة فقدها امتدا ًدا طبيع ًيا لكم الضياع الذي عاشه يف‬
‫هذه الفرتة‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫ِ‬
‫مسألة موهتا‪،‬‬ ‫كانت األيام التي تلت موت أم كريم أشد قسوة من‬
‫ِ‬
‫العزلة يمنع عينيه من التواصل‬ ‫سياجا من‬ ‫وكأن حياهتا قد صنعت‬
‫ً‬
‫القريب مع الوقت بتفاصيله الثقيلة‪ ،‬مل يكن كريم غري ًبا عىل الليل‪،‬‬
‫الضجيج خمتل ًفا‪ ،‬واألصوات تغادر بعض‬
‫ُ‬ ‫ففي سكون ساعاتِه‪ ،‬بدا‬
‫بيد أن مالحمه ظلت تيش بواقع مأزوم‪ ،‬مل يراهن يف هذا‬ ‫عصبيتها‪َ ،‬‬
‫ِ‬
‫اهلشاشة الصادمة‪.‬‬ ‫نفسه هبذا الكم من‬
‫الطقس أن يرى َ‬
‫حتام‪ ،‬يستيقظ‬
‫ربام جلس مدة طويلة ال يرى النهار‪ ،‬وذلك يؤمله ً‬
‫أرض ليست هذه األرض‪ ،‬ومل يكن ذلك‬ ‫ٍ‬ ‫عند رشوق الشمس عىل‬
‫ِ‬
‫الوصول‬ ‫الشهور األخري َة من براثن ذاكرته‪ ،‬ويفشل يف‬ ‫ديدنه‪ ،‬جيرت‬
‫َ‬
‫إىل معنى‪.‬‬
‫ُ‬
‫اخليال مع احلقيقة حتى‬ ‫هل هو يقينًا ابن هذه احلياة؟ كيف يتامهى‬
‫ُ‬
‫التفاصيل إىل ما يشبه الفوىض؟‬ ‫تستحيل‬
‫صار مول ًعا بقراءة حركة األقدار التي تتجىل أمامه بوضوح‪،‬‬
‫يشعر فداحة ما‬
‫َ‬ ‫كأهنا رسائل البد أن ُتقرأ‪ .‬أجنحته هيضت دون أن‬
‫نائام‪ ،‬أو يف حالة‬ ‫كان‬ ‫هل‬ ‫الليل‪،‬‬ ‫مع‬ ‫التوحد‬ ‫ِ‬
‫ساعات‬ ‫حدث‪ ،‬إال يف‬
‫ً‬
‫عرض هذا الفيلم امليلودرامي املؤثر؟‬
‫يقظة تعيد َ‬
‫يركض‬
‫َ‬ ‫يعرف أن هذا الطقس سيهلكه‪ ،‬ال يشء يثري حفيظته أن‬
‫زاهدا‪ ،‬لكنه‬
‫ً‬ ‫ِ‬
‫فستان الدنيا كي يعيش‪ ،‬مل يكن‬ ‫كطفل‪ ،‬يمسك بذيل‬
‫خالص روحه من هذه الدوائر‬ ‫َ‬ ‫حاول أال ينظر ألي معنى قد يعوق‬
‫الرمادية‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫ِ‬
‫كالعسس يلتمس دنيا أخرى‪ ،‬غيبوب ٌة خترجه من التفكري‬ ‫انطلق‬
‫َ‬
‫فيام حدث من انتكاسات‪ ..‬سياح ٌة عىل علب الليل‪ ،‬واألرصفة‪،‬‬
‫كل أنامط البشـر والتشـرد والضياع‪ ،‬املجانني الذين‬‫التي حتوي َّ‬
‫يفرتشون األرض‪ ،‬ويلتحفون بالسامء‪ ،‬فتا ٌة هاربة من جحيم ال‬
‫يعرفه‪ ،‬رجل خرج إىل الفرا ِغ عندما اشتدت عليه الضغوط‪ ..‬ربام‬
‫ِ‬
‫الساعات الثقيلة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫كتسلية تقتل‬ ‫سكنته رغب ُة تسجيل هذه املشاهد‪،‬‬
‫لكن ماذا يسجل؟‬
‫من خلف زجاج املقهى‪ ،‬رأى فتا ًة تسأل اهلل‪ ..‬ال يدري إذا‬
‫كانت متشـردة‪ ،‬أو هبا مس من جنون‪ ،‬وإن كان كل يشء خيفي خل َفه‬
‫روحه‬ ‫به‬ ‫جادت‬ ‫ما‬ ‫ها‬ ‫فتاة‪ ،‬لوال ظروفها لكانت أمجل‪ ،‬أسقط يف ِ‬
‫يد‬
‫ُ‬
‫مر من وقت‪ ،‬فلقد طوحت الريح صوت‬ ‫وانرصفت‪ .‬ال يدري كم َّ‬
‫ْ‬
‫ده ِسها حلديقة‬
‫ارتطام أفزعه‪ ،‬سيارة يقودها سكران ألقى بالفتاة بعد ْ‬
‫األبدية‪.‬‬
‫مل يكن الناس عىل مستوى الصوت‪ ،‬الفراغ‪ ،‬ورجالن ه َّبا إىل‬
‫حيث استقرت عىل اإلسفلت‪ ،‬وهو الرابع الذي ال يعرف ملاذا‬
‫الريح‬ ‫ابتلعت‬ ‫الوداع‪.‬‬ ‫بطعم‬ ‫ً‬
‫ة‬ ‫مكرم‬ ‫أخذت‬ ‫أن‬ ‫بعد‬ ‫ها‬ ‫ِ‬
‫مالحم‬ ‫دقق يف‬
‫ُ‬
‫ساعة من ساعات ليل‪ ،‬ال‬ ‫ٍ‬ ‫البنت ميتة جمانية‪ ،‬يف‬
‫ُ‬ ‫السيارة‪ ،‬وماتت‬
‫يريد أن ينتهي‪.‬‬
‫فقد شهيته الستئناف ما تبقى من وقت‪ ،‬فكر بالعودة إىل البيت‪،‬‬
‫وشيطانه يأبى عليه هذا القرار‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫ضجيجا من هذا الصمت‪ ،‬رحل رسي ًعا‪،‬‬ ‫ً‬ ‫حترك إىل مكان أكثر‬‫َّ‬
‫دلف إىل مقهى به شيخان طاعنان يف العمر‪ ،‬وآخر يبدو عىل البعد‬
‫غائ ًبا عن الوعي‪ ،‬يقرأ يف ٍ‬
‫كتاب مل يتبني عنوانه من مكانه‪ ،‬يدخن مثله‬
‫ِ‬
‫كشاهد قرب‪.‬‬ ‫برشاهة‪ ،‬وأمامه كوب من البرية يقف‬
‫جتاوز بائع اجلرائد اللييل‪ ،‬ومل ِ‬
‫يشرت جريدة يقتل هبا‬ ‫َ‬ ‫انتابه ند ٌم أن‬
‫مشهد الرجل الذي ينغمس يف كتابِه‪ ،‬وأحاديث‬ ‫ُ‬ ‫الوقت‪ ،‬حرضه‬
‫ِ‬
‫ملتابعة ما يتسامرون فيه‪.‬‬ ‫دائام؛ كي يلقي أذنيه‬
‫العجائز ليست ممتعة ً‬
‫ٍ‬
‫بضيق يف صدره‪ ،‬أدرك‬ ‫شعر‬
‫ال يدري ماذا رشب‪ ،‬خرج للشارع؛ َ‬
‫شعر‬
‫النهار عىل وشك الوصول‪ ،‬حترك جمد ًدا‪ ،‬لكن إىل البيت‪َ ،‬‬ ‫َ‬ ‫أن‬
‫ٍ‬
‫سبب‬ ‫بشيخوخة‪ ،‬مل يقدر عىل صعود السلم‪ ،‬مرهق ومتعب دون‬
‫واضح‪ ،‬املشهد بعد الدخول إىل البيت سيكون ضاغ ًطا‪ ،‬ألقى‬
‫ٍ‬
‫أريكة كانت‬ ‫َ‬
‫سقط عىل‬ ‫ٍ‬
‫بضيق الفت‪.‬‬ ‫السالم‪ ،‬فسمع الوحد َة ترد‬
‫مرحية منذ فرتة‪ ..‬وال يدري أين ذهب‪ ،‬ربام إىل النوم‪.‬‬
‫شعر‬
‫فيام يشبه احللم‪ ،‬أمه تدعوه لألكل‪ ،‬هل أكل؟ ال يدري‪َ ،‬‬
‫بلمس قبلة منها‪ ،‬فهل كانت كذلك فعالً؟ وقع يدهيا هتدهده أن‬ ‫ِ‬
‫يستمر يف األكل‪ ،‬فهل أ ُّمه كانت موجودة يقينًا؟ أم أهنا ماتت‪ ،‬وهو‬
‫َ‬
‫فقط يرفض هذه احلقيقة؟‬
‫السكرة‪ ،‬تداخلت املشاهد‪ ،‬وظالل أستار‪ ،‬يرى‬ ‫ال إجابة حتسم َ‬
‫ضباب كثيف‪ ،‬يقظ ٌة صادمة‪ ،‬يرى َ‬
‫نفسه‬ ‫ٌ‬ ‫مالمح باهتة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫الدنيا من خلفها‪.‬‬
‫يف وضوحٍ مؤمل‪ ،‬وربام قد نسـي مالحمَه‪ ،‬فليس هو من يظهر يف املرآة‪..‬‬

‫‪38‬‬
‫مالبسه‪ ،‬وكأن هناك من يساعده‬ ‫َ‬ ‫هنض كريم كاملمسوس‪ ،‬يرتدي‬
‫عىل ذلك‪ ،‬وال يراه‪ ،‬هيبط إىل السلم‪ ،‬دون أن يرى شي ًئا‪ ،‬أو يرد حتية‬
‫ال يلمح صاحبها‪ ،‬يركض يف الشارع وكأنه الصحراء‪ ،‬ال يشء فيها‬
‫غري الرمال والرساب‪ ،‬يدلف إىل سيارة‪ ،‬دون اليقني يف جهة تستطيع‬
‫تائها يف‬ ‫َ‬
‫استقبال غيبوبته‪ ،‬ربام ينتبه للطريق بحكم العادة‪ ،‬رغم كونه ً‬
‫ِ‬
‫احلزن يتذكر أسامءها‪.‬‬ ‫شوارع ما عاد من‬
‫عند بائع اجلرائد‪ ،‬وقف يتخري ما يمكن قراءته من صحف‬
‫األفيون‪ ،‬حني جلس يف نفس مكان أمس أدرك فداحة ما يقرتفه‬
‫عندما أراد اقتناء جريدة لقتل الوقت‪ ،‬فقتلته بأخبارها‪ ،‬كتاهبا‬
‫املدجنون الذين باعوا الوهم للناس يف الزمن الرديء‪ ..‬استقبل‬
‫الرئيس الضيف الكبري‪ ،‬وانتهى اللقاء إىل قطيعة‪ ،‬سقوط عقار‬
‫جديد‪ ،‬ووفاة معظم سكانه‪ .‬غرق سفين ٌة قبالة السواحل تقل‬
‫الكل باطل‪َ .‬‬
‫انتقل إىل رمحة اهلل‪ ،‬وانتقلت‬ ‫البائسني‪ ،‬حكمة العدد‪ُّ :‬‬
‫ٍ‬
‫بجائزة كبرية عىل ما أنجزه‪..‬‬ ‫فوز كاتب السلطة‬
‫لألجماد الساموية‪ُ .‬‬
‫أنجزه؟‬
‫ثياب‬
‫والثلث اآلخر يعبث‪ ،‬واألخري يرتدي َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬
‫الوطن ال يقرأ‪،‬‬ ‫ُ‬
‫ثلث‬
‫ٍ‬
‫حرب ليست متكافئة‪ ..‬ت ًبا هلذا املسخ والعبث‬ ‫الفقر يف‬
‫القتال‪ ،‬جيابه َ‬
‫املنظم!‬
‫ضئيل هو‪ ،‬وكل الطرق‬‫ٌ‬ ‫ُ‬
‫التفاصيل الصغرية تعملقت أمامه‪،‬‬
‫ٌ‬
‫ورجل يف‬ ‫تؤدي لالختناق‪ ،‬وعجائز املقهى جز ٌء من ديكور املكان‪،‬‬

‫‪39‬‬
‫منتصف العمر يف مكانه املقدس‪ ،‬يقرأ نفس كتاب األمس‪ ،‬ويدخن‬
‫بنفس الطريقة‪.‬‬
‫كان كريم يصارع رغبتني‪ ..‬إما أن يثبت يف مكانه‪ ،‬ويستهلك‬
‫الوقت وكفى‪ ،‬أو أن يسعى لالقرتاب من هذا الشبح الذي جيلس‬
‫يف ثالوث معروف‪ ..‬سجائر‪ ،‬قنينة برية‪ ،‬كتاب‪ ..‬مل يراهن عىل أشياء‬
‫جتدد هذا الشعور بالضيق وتكسـره‪ ،‬لو اقرتب‪ ،‬فال جديد‪ ،‬فالبؤس‬
‫ينطلق نحوه قاد ًما من حيث جيلس ذاك الغريب‪ ،‬بدت له رغب ُة‬
‫يقرتب أكثر مما جيب‪ ،‬بحسبِه‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫االقرتاب منه هي األقرب‪ ،‬مل يشأ أن‬
‫أن يسم َعه بوضوح لو اشتبك معه يف حديث‪ .‬االقرتاب مل يمنحه‬
‫ُيرس اقتحامه‪ ،‬من بعيد كانت الصور ُة أكثر تشجي ًعا‪ ،‬باالقرتاب وجد‬
‫الكآبة شاخص ًة بوضوح‪ ،‬ذهول أو نصف غيبوبة‪ .‬ورغبة حادة يف‬
‫بعض الندم‪ ،‬وقبل االستسالم إىل هذا‬ ‫االنفصال عن الناس‪ ..‬دخله ُ‬
‫املعنى سأ َله مبارش ًة ماذا تقرأ؟‬
‫‪ -‬رواية مرتمجة‪.‬‬
‫‪ -‬وملاذا مرتمجة؟‬
‫‪ -‬ال أثق يف حكايات العرب‪.‬‬
‫‪ -‬أال يعجبك أحد؟‬
‫‪ -‬كثريون‪ .‬لكنهم ال يكتبونني‪ ،‬فانرصفت عنهم رغم إعجايب‬
‫ببعضهم‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫‪ -‬ال يكتبونك؟!‬
‫‪ -‬الواقع هذه األيام قشور‪ ،‬هناك واقع ال نعرفه‪.‬‬
‫‪ -‬أي واقع؟‬
‫‪ -‬كيف يمكن تأليف األزمة‪..‬‬
‫‪ -‬أتسكن هذه النواحي؟‬
‫‪ -‬ال‪...‬‬
‫عفوا ‪ -‬للسؤال‪.‬‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬ومل تأيت هنا‪ً -‬‬
‫بعيدا عمن يعرفونك‪.‬‬
‫جتلس ً‬
‫‪ -‬من احلكمة أن َ‬
‫ٌ‬
‫مشاكل مع أحد؟‬ ‫‪ -‬ألك‬
‫‪ -‬أنا املشكلة‪..‬‬
‫‪ -‬ال أريد استالبك من الرواية‪ ..‬استمر واغفر يل اقتحامك‪.‬‬
‫‪ -‬ال بأس‪.‬‬
‫مل يتكلف الرجل الغريب أي إجابة‪ ،‬صادق وصادم‪ ،‬بدا‬
‫ٍ‬
‫طاقة للتواصل‪ ،‬حتى يف‬ ‫كشـريك‪ ،‬مأزوم وضائع‪ ،‬ليس لديه أي‬
‫ظل هذا املقهى الغريب‪.‬‬
‫هنالك جلس كريم يفكر يف قاد ِم أيامه‪ ،‬يريد ً‬
‫خملصا جتاوز هذا‬
‫الوضع‪ ،‬حاول التواصل مع مصيبته التي كشفتها إجابات الرجل‪،‬‬
‫غدا قد يستطيع اصطيا َده‪ ،‬فلم جيد‬ ‫ربام بدت كأدوات للتخفيف‪ً ،‬‬

‫‪41‬‬
‫التشجيع الكايف؛ كي يستخدمه يف ِ‬
‫قتل الوقت هذه األمسية‪ .‬وبينام‬
‫كان كريم مستغر ًقا يف أفكاره‪ ،‬قام الطيف يدفع حسا َبه‪ ،‬ومحل‬
‫حقيب َته‪ ،‬وألقى إيامءة حتية االنرصاف‪ .‬يركز يف األرض‪ ،‬وكأنه‬
‫يشء قد سقط منه‪.‬‬‫يبحث عن ٍ‬
‫ِ‬
‫لالنشغال به‪ ،‬رغم ما حيمله من غواية‪ ،‬تدفعه أن‬ ‫مل يسع كريم‬
‫يصنع منه تسلية‪ ،‬هلذه الساعات الثقيلة‪ .‬مل تأخذه هذه الرغبة‪ ،‬لكن‬
‫َ‬
‫ما حدث يف األيام التالية كان غري ًبا‪ ،‬فقد الرتكيز‪ ،‬ومل يفقد الوصول‬
‫هلذا املكان‪ ،‬والرهان عىل وجود الرجل‪ ،‬ويف نفس موقعه‪ ،‬وربام‬
‫نفس الكتاب‪.‬‬
‫يقتحم عامل كريم‪ ،‬آمن إنه عىل علم كبري إنه‬
‫َ‬ ‫عندما قرر هو أن‬
‫مأزوم‪ .‬حياه عىل البعد‪ .‬فذهب إليه‪ ،‬رشبا م ًعا‪ .‬بدا أقل حتفظ‪ ،‬كأنه‬
‫يريد أن يعر َفه‪ ،‬يف رغبة معكوسة من كريم؛ أن يكشف سرته‪.‬‬
‫ُ‬
‫الرجل جو ًعا سببته البرية الكثرية التي رشهبا‪ ،‬خرج إىل‬ ‫اشتكى‬
‫مطع ٍم قريب‪ ،‬سأله إذا كان من املمكن أن يشاركَه األكل‪ ،‬فاستجاب‪،‬‬
‫ال جلو ٍع شعر به يدفعه لذلك‪ ،‬فكر أن َ‬
‫يزيل ما حيول دون التواصل‬
‫نفسه‪ ،‬وما حاجته للتواصل؟‬
‫معه‪ .‬ثم يسأل َ‬
‫عاد وأكال‪ ،‬مرت اللحظات رسيعة‪ ،‬مل يرتكها بدون إشاراتِه‬
‫نادرا ما حيدث‪ ،‬ألنه ال يأكل مع‬
‫الغريبة‪ ،‬أن ما يصنعه معه –اآلن‪ً -‬‬
‫الغرباء‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫ليؤكد له حسن قراءتِه‬
‫َ‬ ‫اخلبز وامللح مسئولي ٌة كبرية‪ .‬عاد كريم‬
‫ألفكاره‪ ،‬يسرتسل يف رشح املعنى الذي يعني أن األكل مع الناس‬
‫َ‬
‫خيون أو خيدع‪.‬‬ ‫عهد ضمني أن ال‬
‫هو ٌ‬
‫خرجا بعد حديث مل يتبني منه شي ًئا‪ ،‬عابر وقصري‪ ،‬ربام ندم أن‬
‫خرج مع كريم‪ ،‬ودعه رسي ًعا‪ ،‬ورحل ملوقف الباصات الذي يأيت‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫رأس الشارع‪ ،‬مل يتجارس عىل سؤاله أين يسكن‪ ،‬والغريب‬ ‫عىل‬
‫بدوره مل ينظر خلفه‪ ،‬سار دون النظر ألي يشء‪.‬‬
‫مل تكن الليلة تريد أن تنتهي هناي ًة تقليدية‪ .‬فبمجرد ابتعاد كريم‬
‫عن املكان‪ ،‬انتبه لنسيانه هاتفه‪ ،‬عاد رسي ًعا‪ ،‬فوجد الرجل‪ ،‬ويف‬
‫نفس مكانه‪ ،‬أخذت كريم رغبة جتاوز هذا الترصف الغريب‪ ،‬ومل‬
‫يشأ إعطا َءه أية إشارة لغرابة أن يمنحه معنى الرحيل‪ ،‬ومن ثم يعود‬
‫ِ‬
‫الستئناف جلسته‪ .‬فنسى كريم إنه موجود‪ .‬ورحل رسي ًعا‪.‬‬
‫يف املسافة إىل البيت ظل كريم يفكر يف علة هذا السلوك‪ ،‬مل‬
‫يستطع مغادر َة إحساسه بالضيق‪ ،‬هو من دعاه لألكل‪ ،‬ورشبا م ًعا‪،‬‬
‫حريصا عىل السري معه لو أراد‪ ،‬سواء‬
‫ً‬ ‫ورحال بعد حديث عابر‪ ،‬كان‬
‫كانت جهته يف طريقه‪ ،‬أو ضدها‪ .‬ماذا اعرتاه‪ ،‬جعله يشعر بالضيق‬
‫تورط يف دعوتِه لألكل؟‬
‫َ‬ ‫من مصاحبته‪ .‬هل‬
‫بحث‬ ‫ِ‬
‫األمسية التالية عرب كريم من املكان‪ ،‬مل يشأ الدخول‪ ،‬لكنه َ‬ ‫يف‬
‫ِ‬
‫ساعات الليل يف مكان آخر‪ ،‬كان أكثر حركة‪.‬‬ ‫عنه ومل جيده‪ ،‬أكمل‬

‫‪43‬‬
‫ِ‬
‫اختالس‬ ‫تغريت ني ُته‪ ،‬مل يذهب للجلوس هناك‪ .‬ومل تتغري رغبته يف‬
‫النظر إىل حيث موقعه‪ ،‬دون معرفة السبب‪.‬‬
‫يف أيام ال يذكر عددها‪ ،‬ربام اقرتبت من شهر‪ ،‬مل جيده يف مكانِه‪.‬‬
‫هل كان كريم آس ًفا عىل ذاك الطيف الغريب‪ .‬ال يدري‪ .‬أو هل كان‬
‫يتجاوز ويسأله عن رس عودته يف هذه الليلة‪ .‬ربام‪.‬‬
‫َ‬ ‫من الرضوري أن‬
‫حضور الصمت‪ ،‬سمع‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫النادل‪ ،‬ومع‬ ‫دخل كريم إىل املكان‪ ،‬ودعا‬
‫عىل البعد مههم َة العجائز‪ ..‬ها قد عاد الرجل الذي يتحدث إىل‬
‫نفسه‪.‬‬
‫يستفرس عن رس اجلملة التي قيلت وكأهنا دورق ماء‬
‫َ‬ ‫مل يشأ أن‬
‫مثلج قد سكبته األيام فوق رأسه‪ .‬فهل يمكن أن يستبد به الوهم إىل‬
‫احلد الذي يبلغ معه اختالق شخصيات وأحاديث كاملة؟‬
‫يبدو أنه قد سقط فريسة للهذيان‪ ،‬وتالعبت به اهلالوس‪ ،‬حتى‬
‫افرتست عقله املتداعي‪ ،‬فصار كاللقمة السائغة بني فكيها‪.‬‬
‫مصيبة ِ‬
‫فقد أمه وخاصة يف‬ ‫ِ‬ ‫لقد آمن كريم بأنه أضعف بكثري من‬
‫هذا الوقت الفاصل والعصيب‪ ،‬هنالك خرج يرثي حاله وما آلت‬
‫إليه غيبوبته احلزينة‪.‬‬
‫***‬

‫‪44‬‬
‫(‪)6‬‬

‫احلزن متى توغل عليه هبذا الشكل فسوف يقيض‬ ‫َ‬ ‫أدرك كريم أن‬
‫ِ‬
‫أجل‬ ‫للعمل بروح رجل حمموم‪ ،‬يتفانى من‬ ‫ِ‬ ‫عليه ال حمالة‪ ،‬فعاد‬
‫ِ‬
‫ملركبات احلرية القديمة‪.‬‬ ‫اخلروج من كل األشياء املؤرقة‪ ،‬واجلالبة‬
‫كان اجلميع متعاط ًفا مع أزمتِه‪ ،‬وخاص ًة الذين يعرفون أنه مل يك ْن‬
‫غري أمه‪ .‬وإمعا ًنا يف الترسية عنه‪ ،‬أرسلوه لفر ِع‬ ‫يمتلك من الدنيا َ‬
‫حمتاجا التساع البحر‬
‫ً‬ ‫الرشكة القريب من الساحل‪ ،‬ويبدو أنه كان‬
‫يستوعب إحبا َطه الكبري‪.‬‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫بدوره أن‬ ‫الذي يستطيع‬
‫املقر الذي سيامرس من خاللِه عم َله صادف‬ ‫ٍ‬
‫يف أول إطاللة عىل ِّ‬
‫ِ‬
‫التحيات والرتحيب ما جعله حياول‬ ‫ِ‬ ‫هنلة‪ ،‬فتاة مجيلة رائعة‪ ،‬أبدت من‬
‫جواره حال َة حب للترسية‪ ،‬فيا ربام أنتجت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وجودها يف‬ ‫خيلق من‬
‫أن َ‬
‫عاطف ًة حقيقية‪.‬‬
‫حيب وحيب فقط‪ ،‬ومن‬‫مل يكره هذا التناول الربامجايت لفكرة أن َّ‬
‫ٍ‬
‫للحظة يف كم االنكسارات‬ ‫يفكر‬
‫ثم انتقال حر حلالة جديدة‪ .‬دون أن َ‬
‫القدر كي‬
‫ُ‬ ‫املتوقعة‪ ،‬سواء لقلبِه أو لقلب هذه املسكينة التي ساقها‬

‫‪45‬‬
‫ٍ‬
‫بصدق‪ ،‬مل‬ ‫َ‬
‫حترك صوب الفتاة اجلميلة‬ ‫تتعثر فيه‪ .‬لكنه هذه املرة ربام‬
‫يكن موجو ًدا يف جتاربِه السابقة‪.‬‬
‫عرضت عليه هنلة توصي َله يف يومه األول بالفرع‪ ،‬حيث أن الفرع‬
‫ٍ‬
‫بإخالص غريب رغبتها أن‬ ‫ال عن بيته‪ ،‬ولقد أبدت‬‫اجلديد يبعد قلي ً‬
‫وبدوره وبرومانسيتِه املعتادة منحها‬
‫ِ‬ ‫تساعده متى احتاج املساعدة‪،‬‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫وكرجل خبري‪ ،‬أدرك أنه‬ ‫ما يشري المتنانِه أهنا تفعل ما يتمناه منها‪.‬‬
‫بلغ يف خيال الفتاة مبل ًغا مهام‪ ،‬مؤكد قد سمعت عنه من موظفي‬
‫قد َ‬
‫تستفيد من خرباتِه التي بدأت تتسع مع‬
‫َ‬ ‫الفر ِع الرئييس‪ ،‬أو تريد أن‬
‫الوقت‪ .‬بينام كان كريم حياول االنفالت من أحزانه وشعوره املجنح‬
‫بالغربة‪ ،‬لذا أشفق عليها من نظراتِه التي حتمل يف طياهتا ما يشبه‬
‫ٍ‬
‫لنتيجة قد ترضيه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الوصول‬ ‫الدعو َة كي تعيش معه التجربة‪ ،‬عىل ِ‬
‫أمل‬
‫جيد هلا حالً‪.‬‬ ‫تنتشله من ه ِ‬
‫وة الرفض للحياة التي مل تعد تضغطه كي َ‬ ‫ُ‬
‫ما هي أزم ُة هذا الرجل؟‬
‫رأس هنلة‪ .‬رجل‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الساعة يف‬ ‫ِ‬
‫كبندول‬ ‫كان هذا السؤال يتحرك‬
‫ٍ‬
‫رجل مأزوم‪ ،‬ينتحل االبتسام َة انتحاالً‬ ‫مالمح‬
‫ُ‬ ‫ناجح‪ ،‬فمن أين تأتيه‬
‫وجهه عىل طبيعته‪ .‬وسيم وصبوح‪ ،‬ومنطلق يف احلياة‪.‬‬
‫كي يبدو ُ‬
‫ٍ‬
‫لسهرة‬ ‫ٍ‬
‫وبجسارة مل تكن مربرة‪ ،‬دعته‬ ‫يف ٍ‬
‫لقاء عابر ِ‬
‫بأحد املمرات‪،‬‬
‫ٍ‬
‫صديقة هلا‪ ،‬فمنذ جاء وهو عىل ما يبدو منغلق عىل نفسه‪ .‬نظر‬ ‫عند‬
‫ملح‬
‫أشفق عليها ووافق بعد أن َ‬
‫َ‬ ‫كريم لنهلة نظر ًة باردة أو تكاد‪ ،‬لكنه‬

‫‪46‬‬
‫جيد ما يضريه إذا ما قىض‬
‫تسهر معه‪ .‬مل ْ‬
‫َ‬ ‫ما يشري لصدق رغبتها أن‬
‫الوقت مع ٍ‬
‫فتاة مجيلة وذكية‪ ،‬واألهم أهنا تعرف ما تريد‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫بعض‬
‫إنذارا بحضوره‪ ،‬استقبلته هنلة عند الباب‪ ،‬وقدمته‬
‫ً‬ ‫كان عطره‬
‫ِ‬
‫لصاحبة البيت‪ ،‬والغريب ظلت مالحمُه أقرب للجمود‪ ،‬وبطول‬
‫ِ‬
‫بسيف احلياء‪.‬‬ ‫الوقت ظل ينتحل الرضا َ‬
‫حيال سهرة جاءها‬
‫اختلس النظر أكثر من مرة كي يرى كيمياء النظرات التي كانت‬
‫ِ‬
‫احلني واآلخر‪ .‬حدثته أن الوضع عمو ًما مل‬ ‫عني هنلة بني‬‫خترج من ِ‬
‫فمعظم الناهبني قد رحلوا من الرشكة رغم ما حيصلون‬ ‫ُ‬ ‫جيدا‪،‬‬
‫يعد ً‬
‫بنفس الرشكات العاملة‬‫ِ‬ ‫رواتب تظل األعىل إذا ما قورنت‬ ‫ٍ‬ ‫عليه من‬
‫يف نفس املجال‪ .‬مل يعلق‪ .‬مل يفهم ماذا تريد أن تثب َته من ِ‬
‫جمرد كالم‬
‫حيسبه فار ًغا وال قيم َة له‪.‬‬
‫وحيدا بعدما طلب من‬‫ً‬ ‫باحرتا ٍم كبري مل ْ‬
‫تشأ هنلة أن ترتكَه يرحل‬
‫مضيفتِه االنرصاف‪ ،‬فخرجت معه للشارع‪.‬‬
‫ٍ‬
‫نظرة أو لقاء عابر‪ .‬لكنها‬ ‫ِ‬
‫جمرد‬ ‫مل تكن هنلة مؤمن ًة باحلب من‬
‫منجذبة نحوه‪ .‬فهل شعر هو هبذا االنجذاب؟‬
‫ِ‬
‫إغوائه‬ ‫حاولت أن َ‬
‫تصل ما انقطع يف هذه السهرة التي مل تنجح يف‬
‫كي يتحدث‪ ،‬رغم أن اللحظات القليلة التي تكلم فيها كان ُمقن ًعا‬
‫ومبهرا يف آن واحد‪.‬‬
‫ً‬
‫يف الطريق إىل السيارة أضافت السام ُء للمشهد رومانسي ًة خاصة‪،‬‬

‫‪47‬‬
‫حلني انتهائها‪ .‬ركبت معه‬‫رشفة بيت ظال واقفني ِ‬ ‫ِ‬ ‫املطر وحتت‬
‫هطل ُ‬
‫ِ‬
‫بنظرة أسى قتلتها تقري ًبا‪.‬‬ ‫وقام بتوصيلها وودعها‬
‫صوت رنني هاتف‪ .‬ظنت أنه‬ ‫َ‬ ‫فجرا‪ ،‬سمعت هنلة‬ ‫ِ‬
‫الواحدة‬ ‫عند‬
‫ً‬
‫َ‬
‫االطمئنان أهنا يقينًا يف فراشها‪ .‬لكن‪ ،‬مل يكن سوى هذا‬ ‫كريم‪ ،‬يريد‬
‫الكائن اللزج الذي يتطفل دو ًما عىل سهرات صاحبتِها‪ ،‬يستفرس‬
‫منها ملاذا اختفت رسي ًعا‪ ،‬ومل تتحدث إليه كالعادة‪.‬‬
‫أحد املواقع‪ ،‬ومل يعد يذهب‬ ‫للعمل يف ِ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫انعطافة درامية خرج‬ ‫يف‬
‫ٍ‬
‫بيشء من االفتقاد مل تفهم سب َبه‪.‬‬ ‫للرشكة‪ .‬وهنا شعرت هنلة‬
‫اسمه‬ ‫َ‬
‫االتصال به‪ ،‬ومل يظهر ُ‬ ‫ْ‬
‫حتاول‬ ‫أيام ال تدري كيف مرت‪ ،‬مل‬
‫مهتام بالسؤال عنها‪ .‬ومل يشعر حياهلا‬
‫عىل شاشة هاتفها‪ .‬ربام مل يكن ً‬
‫بأي يشء‪ ،‬أو اعتربها فتا ًة عادية‪ ،‬انبهرت لدقائق‪ ،‬قتلت هبا الوقت‪،‬‬
‫ثم غابت‪.‬‬
‫تلمس‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫يتحدث إليها‪ ..‬عىل األقل؛ كي‬ ‫وهل كان رضور ًيا أن‬
‫اختال ًفا بني صوته عىل الطبيعة‪ ،‬وصوته عرب اهلاتف‪.‬‬
‫حني وصلت هلذه النتيجة‪ .‬ظلت هنلة تضحك‪ ،‬بدت تفكر‬
‫فتاة مراهقة‪ ،‬عن أي صوت خمتلف تتحدث؟ لكنها مل تستطع‬ ‫بطريقة ٍ‬
‫ِ‬
‫االنفالت من ذاك الشجن الرهيب الذي يندفع من صوتِه الذي بدا‬
‫ٍ‬
‫معركة غري متكافئة‪ .‬مل تفهم ِمل ال تتصل‬ ‫باك ًيا‪ ،‬مهزو ًما من الدنيا يف‬
‫به‪ ،‬وتقتحم عزلته؟ فربام يف دنياه يشء يمنعه أن يفعل‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫ف عنادها وصالبتها حياله‪ ،‬فال غضاضة إن اتصلت به‬ ‫مل ُخت ِ‬
‫اتصاالً ال هدف من ورائه‪ ،‬فقط من منطلق مرشوع صداقة يبدأ‪ ،‬أو‬
‫سينتهي إىل ال يشء‪.‬‬
‫بد ما يشري الهتاممه هبا‪ ،‬أو حيسن‬ ‫كأن تعاقبه يف الرس كونه مل ي ِ‬
‫ُ‬
‫جتلس معه وق ًتا إضاف ًيا بعد‬
‫َ‬ ‫إرصارها أن‬
‫َ‬ ‫قراءة نظراهتا‪ .‬فلم يفرس‬
‫تفسريا يؤيد ما شعرت به‪ ،‬وهو يلقي بكلامتِه القليلة عىل‬ ‫ً‬ ‫السهرة‬
‫ِ‬
‫ناصية االنبهار‪.‬‬
‫ال يبدو متصل ًبا وجامد املشاعر‪ ،‬رغم ذهول مالحمه وجتهمه‪.‬‬
‫يفهم‬
‫َ‬ ‫لكنها عىل كل األحوال تعاقبه؛ ألنه كان من الرضوري أن‬
‫ويرى يف عينيها شي ًئا‪ ..‬ترى ما هو؟؟‬
‫َ‬
‫يكون هو‪ ،‬بدت‬ ‫ٍ‬
‫شوق عارم أن‬ ‫رنني هاتفها يفجر حال َة‬
‫أصبح ُ‬
‫البعض بدا مستغر ًبا‬
‫ُ‬ ‫متوتر ًة بمجرد أن جلست يف مكتبها بالرشكة‪،‬‬
‫حيال الطريقة التي تتناول هبا هاتفها عند كل رنني‪ .‬واملؤمل دو ًما أنه‬
‫ٍ‬
‫بطريقة‬ ‫ليس املتصل‪ .‬واألكثر إيال ًما‪ ،‬الفضول واألسئلة التي تبتزها‬
‫وفجة‪ ..‬من تنتظرين أن يتصل بك؟‬ ‫مبارشة َّ‬
‫مل تكن حتتاج حلالة ُحب‪ .‬فهي تثق عمو ًما يف مجاهلا‪ ،‬مؤكد تريد‬
‫ٍ‬
‫شعور إجيايب يمكن‬ ‫توظيف مقدراهتا ومواهبها؛ كي حتصل عىل‬
‫تستسلم‬
‫َ‬ ‫حياهتا أن‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫لرجل حتسبه يستحق‪ .‬ومل ترد حني اقتحم‬ ‫توجيهه‬
‫رجل ناجح‪ ،‬أكثر من احتياجها لعاشق متيم‪.‬‬‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫لشعور فتاة تبحث عن‬

‫‪49‬‬
‫ٍ‬
‫طرف‬ ‫لتمر بسهولة‪ ،‬ظل ينظر من‬
‫يف قطع متواز‪ ،‬مل تكن ليلة كريم َّ‬
‫ِ‬
‫كالطعنات بني‬ ‫خفي لعامله املمتد يف القتام‪ ،‬وللهزائم التي استقرت‬
‫ِ‬
‫بانتحال‬ ‫ضلوعه‪ ،‬احلب هو احلب‪ ،‬لكن رفاهية الغرام لن تسمح‬
‫عاطفة تتجه لفتاة‪ ،‬يبدو أهنا متسق ٌة مع واقعها وال تشعر مثله بالغربة‬
‫ِ‬
‫تفاصيله‪.‬‬ ‫عن كل‬
‫ربام انجذب هلا كوهنا تشبه بطل ًة من بطالت قصصه‪ .‬حدثته‬
‫نفسه‪ ..‬ما الذي يمنعه أن َ‬
‫يسأل عنها طاملا أهنا حتمل يف عينيها ما‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫حلدوث انجذاب ما‪.‬‬ ‫يشري‬
‫ِ‬
‫انتظارها مبارا ًة للصرب‪ ،‬ال تعرف من يصممها‪،‬‬ ‫عاشت ”هنلة“ مع‬
‫والختبار أ ًيا منهام‪ .‬كريم ابتلعته احلياة‪ ،‬وهي تكابر يف إرصار‪ ،‬تـُمني‬
‫بعيدا‬ ‫ِ‬
‫إحساسه هبا إنسان ًيا‪ً ،‬‬ ‫باتصال ال ينم عن ٍ‬
‫يشء أكرب من‬ ‫ٍ‬ ‫النفس‬
‫تفسري آخر‪ِ ..‬مل ال تقول رصاحة أهنا قد وقعت يف غرامه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫أي‬
‫عن ِّ‬
‫أحدا عنه دف ًعا‬
‫تسأل ً‬‫ويؤذهيا جتاهله؟؟ وال تريد من زاوية أخرى أن َ‬
‫إلحراجه أو استفزاز فضول من ستسأهلم‪.‬‬
‫رقام‬
‫رنني اهلاتف‪ ،‬وعندما رأت ً‬
‫تستسلم للنوم‪ ،‬أيقظها ُ‬
‫َ‬ ‫قبل أن‬
‫ٍ‬
‫ساعة أو أكثر‬ ‫بال اسم‪ ،‬شعرت باإلحباط الذي مل يغادرها‪ .‬بعد‬
‫ِ‬
‫منتصف الليل كذلك‪ .‬انتبهت أن الرقم‬ ‫تكرر املشهد‪ .‬ومل ترد‪ ،‬وقبل‬
‫واحد يف كل احلاالت‪ ،‬فراحت لالعتقاد كونه هو‪.‬‬
‫ٌ‬
‫ُ‬
‫متطفل السهرة‪ ،‬يعلن هلا أن‬ ‫يف املرة الرابعة ر َّدت‪ ،‬ومل يكن سوى‬

‫‪50‬‬
‫مرة حياول االتصال هبا‪ .‬كوهنا ال ترد عىل اتصالِه املشفوع‬‫هذه آخر ّ‬
‫ٍ‬
‫بسلبية كبرية‪.‬‬ ‫باسمه‪ ،‬وهذا يعني أهنا تتعامل معه‬
‫بعد ما يقرب من شهر‪ ،‬هبطت”هنلة“ إىل أحد الكافيهات‪،‬‬
‫فعلمت أن ”عاصم“ قد هاجر‪ .‬أشعلت سيجارة‪ ،‬وراحت تتذكر‬
‫ٍ‬
‫طاقة هائلة من‬ ‫حتولت البلد إىل‬ ‫ِ‬
‫بنفس الطريقة‪َّ .‬‬ ‫كل الذين رحلوا‬
‫يسمع منها كلمة‬
‫َ‬ ‫الضغط والطرد ال يمكن حتملها‪ .‬كان رضور ًيا أن‬
‫ِ‬
‫لكوهنا له‪ ،‬لكنها مل تكن لتقوهلا‪.‬‬ ‫ِ‬
‫السفر كي يطمئ َّن‬ ‫قبل‬
‫بمشاعرها نحوه؟ فعىل مدار عالقتهام‬‫ِ‬ ‫ملاذا مل تؤمن به‪ ،‬وتتجه‬
‫حصل عىل تقييم جمحف مل يدفع بالقصة كي تستمر‪ .‬مترسع‪ ،‬يقول‬
‫اختار اهلامش‪ ،‬وريض به‪ ،‬رغم تعليمه‬
‫َ‬ ‫بعد أن يقول اآلخرون‪.‬‬
‫املتميز‪ ،‬وسلوكه الكاشف عن ٍ‬
‫تربية صارمة‪.‬‬
‫من خلف زجاج الرشفة املطلة عىل الشارع الكبري ملحت كريم‪،‬‬
‫كثريا‪ ،‬غالبت كربياءها وراحت تناديه‪ ،‬مل ينتبه‪ ،‬بدا أنه يتجه‬
‫تفكر ً‬
‫مل ْ‬
‫نحوها‪ ،‬ومل يكن من ٍ‬
‫سبب يدفعها أن تناديه أصالً‪.‬‬
‫َ‬
‫وصل ملكان يأيت يف مواجهتها تقري ًبا‪.‬‬ ‫عرب من بني الناس حتى‬
‫كانت مالحمُه ُمنغلقة لدرجة‪ ،‬وحني استقرت عيناه‪ ،‬أسعفه النظر‬
‫جديرا‬
‫ً‬ ‫جسدا‬
‫ً‬ ‫أكثر مجاالً وفتنة من يوم السهرة‪ ،‬متتلك‬
‫أهنا هنلة‪ .‬بدت ُ‬
‫َ‬
‫الرجل الرشقي الذي ينظر للمرأة – غال ًبا ‪ -‬كامدة للتمتع‪.‬‬ ‫يقنع‬
‫بأن َ‬
‫البعد ابتسامة‪ ،‬فردت بمثلها وأحسن منها‪ .‬ولكنه مل‬ ‫ِ‬ ‫أرسل عىل‬

‫‪51‬‬
‫يفهم السبب‪.‬‬
‫يغادر موقعه‪ ،‬وجيلس معها دون أن َ‬
‫َ‬ ‫يملك جسار َة أن‬
‫لكنها هزمت خج َلها‪ ،‬فجمعتهام طاول ٌة واحدة‪ ،‬وحديث ُممتد‪.‬‬
‫نفسها‪ .‬فاكتفى بالنظر ملالحمها‬
‫كثريا بام تقول‪ .‬تكرر َ‬
‫مل ينفعل ً‬
‫احلادة ولذاك الكربياء‪ ،‬الذي يمنح للمرأة مجاالً مضاع ًفا‪ ،‬وشخصية‬
‫أكثر غواية‪.‬‬
‫الصمت جمد ًدا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫حتدث ببعض الفجاجة غري املربرة‪ ،‬ومن ثم ساد‬
‫ِ‬
‫باختيار كلامته‪ .‬يطرحها يف قسوة‪ ،‬ودون‬ ‫فأدركت هنلة أنه ال هيتم‬
‫مراعاة ألثرها‪.‬‬
‫ِ‬
‫اخلربة ما جيعله يدرك ما هو شعورها الذي بدأ‬ ‫كان لكريم من‬
‫تتطور األمور ملا هو أبعد من‬
‫َ‬ ‫يتبلور نحوه‪ .‬ويراهن عىل استحالة أن‬
‫ٍ‬
‫مكان واحد‪ .‬وجيب أن‬ ‫ٍ‬
‫لقاء قدري الثنني من املوظفني يعمالن يف‬
‫آثاره وبرسعة‪.‬‬
‫تنتهي ُ‬
‫َ‬
‫رشوده الذاهل‪ ،‬كان يرثي نفسه التي تداركها الزمن‪ ،‬كان‬‫ِ‬ ‫يف‬
‫ينهض اآلن‪ ،‬وحيتضنها حتى يموت‪ .‬مل يكن‬ ‫َ‬ ‫املنطق الوحيد أن‬
‫لينفلت من هكذا نظرات‪ ،‬متنحه الثق َة أنه مازال ً‬
‫قادرا عىل انتزا ِع‬ ‫َ‬
‫احلب يف صورته التي يؤمن هبا‪ ،‬وظل بطول اجللسة يصارع رغبتني؛‬
‫جالسا‪ ،‬حتى ُتنهي‬
‫ً‬ ‫أوهلام أن يقوم وينتهي كل يشء‪ ،‬وثانيهام أن يظل‬
‫كل يف طريقه‪.‬‬ ‫هي احلديث‪ .‬ويمضيان‪ٌ ،‬‬
‫متأخرا‪.‬‬
‫ً‬ ‫مازال هيزمه الزمن‪ ،‬وتغتاله املسافات‪ .‬من فيهام قد جاء‬

‫‪52‬‬
‫هي عىل الغالب جاءت بعد أن هز َمه الوقت وأرهقته اهلزائم‪ .‬أو هو‬
‫من ناحية أخرى قد يبدو مل ِ‬
‫يأت أصالً‪.‬‬
‫ِ‬
‫بطول صمته ختتلس النظر‪ .‬تقسم يف الرس أهنا تقري ًبا‬ ‫ظلت‬
‫ترصخ يف وجهه‪ :‬خت َّلص من هذه اللغة‪ .‬كادت أن‬ ‫َ‬ ‫تسمعه‪ .‬تريد أن‬
‫تنهض‪ ،‬وحتتضنه‪ ،‬وتبكي‪ ،‬وال تدري‬ ‫تفعل ما كان يفكر فيه‪ ،‬أن َ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬
‫بمسئولية أخالقية تنطلق من داخلها كي‬ ‫شعورا‬ ‫من وضع يف ِ‬
‫قلبها‬
‫ً‬
‫سطوة احلزن والوحدة عليه‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫حتميه من‬
‫ِ‬
‫صديقاهتا املقربني‪ ،‬فكان ذلك إيذا ًنا بخروجه‬ ‫وصلت واحد ٌة من‬
‫من املشهد‪ .‬هنض واق ًفا‪ ،‬معلنًا أنه اطمأن عليها‪ ،‬فلن يرتكها وحيدة‪.‬‬
‫ِ‬
‫بتكرار احلضور لذاك املكان طاملا أهنا تأيت إليه‪،‬‬ ‫وعدها كذ ًبا‬
‫وله تودعه‪ .‬وعيناها ال تكادان ترتكان تفصيل ًة منه‬‫ورحل‪ ،‬وهي يف ٍ‬
‫ِ‬
‫بطول اخلطوات احلزينة التي غادر عىل ِ‬
‫إثرها املكان‪.‬‬
‫***‬

‫‪53‬‬
‫(‪)7‬‬

‫ُ‬
‫فجامهلا الواثق‬ ‫كانت طريقة ”هنلة“ تتجاوز فكرة أهنا فتاة متمردة‪،‬‬
‫تصورا غري ًبا عن احلب‪ ،‬ربام ال يرتبط يقينًا بالقدر‪ ،‬لكنه عىل‬
‫ً‬ ‫منحها‬
‫الغالب قرار تتخذه متى تريد‪.‬‬
‫جتد الرجل الذي يتسق مع أحالمها‪ .‬كثريون‬ ‫مؤكد حاولت أن َ‬
‫احلديث معها‪ ،‬وحاولوا تطوير عالقاهتم هبا‪ .‬ولكنها مل‬ ‫َ‬ ‫حاولوا‬
‫غرورها وثقتها بنفسها‬
‫ُ‬ ‫ترفض هذه املحاوالت بموضوعية‪ ،‬بل كان‬ ‫ْ‬
‫جيهضان هذه املحاوالت‪ .‬يعتربها ضحاياها مسكينة‪ ،‬تستقوي‬
‫ملداراة ضعفها الكبري‪ .‬أو متارس تعال ًيا يمنحها الوجود‬‫ِ‬ ‫عليهم‬
‫والغموض‪ ،‬االعرتاض عىل كل يشء كي تنفرد برؤيتِها‪ ،‬وآخرون‬
‫أرجعوا األمر ل ُيتمها املبكر‪ ،‬فلقد فقدت أبوهيا يف حادثة سري مدمرة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫عمل هادئ‪،‬‬ ‫هزمت األقدار”هنلة“ من جديد‪ .‬ففي صباح يوم‬
‫ٍ‬
‫بشكل جيد‪ ،‬وإن مل يكونا‬ ‫وجدت أن منري زميلها يعرف كريم‬
‫ِ‬
‫فللرجل زهد كبري حيال تكوين الصداقات‪ .‬لكن‬ ‫صديقني ُمقربني‪،‬‬
‫ترسب من حديث زميلها مديح كبري لرقيه وإنسانيته‪.‬‬ ‫َّ‬

‫‪54‬‬
‫إذن ما هي أزمته‪ ،‬فهيئته ال تيش برجل قد زهد احلياة‪ ،‬فعندما‬
‫غادر السهرة ورحل‪ ،‬كان عطره مازال عال ًقا يف املكان‪.‬‬
‫لدرجة كبرية‪ .‬أم تراها قصة حب ملتهبة‬‫ٍ‬ ‫هل أزمته أنه أحب أ َّمه‬
‫أجهضتها الظروف‪ ،‬لكن أي ظروف تلك‪ ،‬فعىل ما يبدو من هيئته‬
‫أنه ال يعاين من يشء!!‬
‫َ‬
‫أدرك‬ ‫بطول األيام ما بني عتاب النفس‪ ،‬واخلوف من املواجهة‪.‬‬
‫ِ‬
‫بأخطائه‪ .‬لكنه‬ ‫” كريم“ كم كان قاس ًيا‪ ،‬هو عاد ًة ال ُيكابر‪ ،‬و يعرتف‬
‫إنسان‪ ،‬ال يستطيع أن يصادر عىل مشاعره‪ ،‬لكن‪ ،‬عىل ماذا سرياهن‬
‫نفسه كعاشق‪ .‬ماذا سيقول املتابعون حلياته‬
‫إذا ختىل عن قلقه‪ ،‬وطرح َ‬
‫رغم ندرهتم‪ .‬إذا ترك فراغاته هلا‪ .‬فتا ٌة ال تصادف أزمة اختيار‪،‬‬
‫جتعلها تربط حياهتا برجل لآلن ال يؤمن بأن هناك ح ًبا يفوق حب‬
‫اإلنسان لنفسه‪.‬‬
‫اعتيا ُد اهلزائم جعله ال يفكر ماذا حيدث إذا ما فقدها‪ .‬وملاذا‬
‫يفقدها‪ .‬يكفيه أن تكون صديقة ُمقربة‪ .‬فليسمح هلا أن تقرتب‪ .‬يا‬
‫تغيريا يف شكل حياته‪ .‬لكنها رغبة نفعية كرهية‪ ،‬لن تتسق‬
‫ربام أنتجت ً‬
‫مع صفاته‪ ،‬فنفسه ال تتورط يف هكذا معاجلات ال تناسب عزوفه‪.‬‬
‫وقدرته الفائقة عىل االنسحاب‪.‬‬
‫يف حماولة منه لتدارك مجود مالحمه باللقاء األخري مع هنلة‪ ،‬اتصل‬
‫هبا يدعوها للسهر يف مكان رائع‪ ،‬ال تدري حني سمعت برغبته‬

‫‪55‬‬
‫للسهر معها ماذا أصاهبا‪ .‬هل ظلت واقفة عىل األرض أم رأت‬
‫نفسها وقد سبحت يف اهلواء‪.‬‬
‫بعد سهرة مل تكن ختلو من كلامت غزل منمقة‪ ،‬ظال سائرين‬
‫بالقرب من الشاطئ‪ ،‬بمنتصف الطريق وضعت كفها يف كفه‪ .‬بدا‬
‫مستسلام‪ .‬رغم عدم نطقه بأي كلمة متنحها الثقة أهنا عىل الطريق‬
‫ً‬
‫وحتولت‬ ‫ِ‬
‫بالصمت كمحاولة لتشجيعها‪.‬‬ ‫الصحيح‪ ..‬اكتفى‬
‫ّ‬
‫روح‬ ‫حياهلا‬ ‫هنلة‬ ‫اكشفت‬ ‫وضحكات‪،‬‬ ‫خفيف‬ ‫ٍ‬
‫حديث‬ ‫اإلشارات إىل‬
‫َ‬
‫ساخر كبري‪ .‬يستطيع أن ُيضحك أحجار الطريق إذا أراد‪.‬‬
‫بمجرد أن دخلت “هنلة“ لغرفتها‪ ،‬ويف أول ٍ‬
‫لقاء هلا مع املرآة‪.‬‬
‫صدمتها مالحمها التي مل تعرب عن سعادهتا هلذا التطور مع الرجل‬
‫ُ‬
‫شيطان‬ ‫ِ‬
‫التحدث إليه ألطول فرتة ممكنة‪ .‬أرهقها‬ ‫الذي حرصت عىل‬
‫الليل كي تفكر ثانية‪ ،‬فرغم كل يشء فالرجل مل يقل أي يشء عن‬
‫أزمته‪ ،‬أو للدقة حتدث معها عن غربتِه وأسباهبا‪ .‬لكن تفكريها‬
‫املتوجس اآلن نوع من اخليانة‪ِ .‬مل ال تعرتف أهنا حتبه؟‬
‫لكنها مريض ٌة بجامهلا‪ ،‬عادت لنفس احلسابات القديمة‪ ،‬التي‬
‫تدفعها لتقييم من خيطب و َّدها‪ ،‬عىل قياس ما منحتها الطبيعة من‬
‫مقومات الفتاة اجلميلة‪ ،‬التي جيب أن تربط مصريها برجل يستحق‬
‫ال أن تدخل حلضنه‪ ،‬دون أن تبدو كمن تنازلت كي حيتوهيا‪.‬‬ ‫فع ً‬
‫تعكر صفو الليلة‪ .‬هي فقط متارس دالالً عىل‬‫َ‬ ‫مل ُت ِرد هنلة أن‬
‫الدنيا‪ ،‬ولو صادفت يأس اآلخرين حيال ما ُتبديه من رفض أن‬

‫‪56‬‬
‫ٍ‬
‫هزيمة متوقعة‪ ،‬أو‬ ‫فيض مشاعرها‪ ،‬وبغض النظر عن‬ ‫ِ‬ ‫تنسجم مع‬
‫بشكل طبيعي‪ٍ ،‬‬
‫خال من هكذا أفكار‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫خسارة عاجلة‪ .‬لعاشت‬
‫إن تعاطيها مع احلب برؤيتِها هذه سيحوهلا ملسخ مجيل‪ .‬فاحلب‬
‫ليس كالدنيا وتفاصيلها‪ ،‬يريد منا احليطة؛ إذا ما فكرنا يف العودة‬
‫دائام‬
‫وكأن شي ًئا مل يكن‪ ،‬كي نخرج من التجربة بال خسائر‪ .‬واحلذر ً‬
‫َ‬
‫يبسط صوجلا َنه‪.‬‬ ‫القدر إذا ما أراد أن‬
‫َ‬ ‫لن يمنع‬
‫“ كريم” نفسه قد أعطى لقلبِه فرصة أن يفكر فيها‪ ،‬بل ويعطيها‬
‫مساحة أكرب من غريها قد تسمح لتجربته معها بالنجاح‪.‬‬
‫أخريا‪ ،‬أو هكذا حسبت نفسها‪ .‬لكنها ظلت‬ ‫ً‬ ‫نامت “هنلة“‬
‫مستيقظ ًة حتى اندفع الفجر يطل من نافذة غرفتها‪ ،‬تراهن عىل ر َّدة‬
‫فعل قد تصدر منه تربر لنفسها رغبتها للتوقف عن السعي للقائه‪ ،‬أو‬
‫متارس عليه هذا املعنى‪ ،‬وهي بالكاد تقف‬
‫َ‬ ‫اختباره‪ .‬وهل ستقدر أن‬
‫ِ‬
‫أعتاب قلبه؟‬ ‫عىل‬
‫استيقظت‪ ،‬وعىل سبيل االختبار اتصلت به‪ ،‬مل يغب‪ ،‬بدا وكأنه‬
‫ممسك ِ‬
‫هباتفه‪ ،‬فرد عىل الفور‪ .‬كان بصوته نربة هلفة يمكن مالحظتها‪،‬‬
‫بطول احلديث‪ ،‬والتحيات الباردة‪ ،‬ظلت هنلة ثابتة‪ ،‬ومل تشأ أن‬‫ِ‬ ‫لكن‬
‫كل دليل عىل اشتياقه‬ ‫تندفع‪ .‬أدهشها أنه يف هناية احلديث ختلص من ِّ‬
‫وسعادته كوهنا تكلمه‪ .‬وانتهت املكامل ُة عىل أمل بلقاء قريب‪.‬‬
‫أمره بروح طفلة‪ ،‬تدرك أهنا أنثى مجيلة‪.‬‬ ‫شعر أن هنلة تتعاطى مع ِ‬
‫ومل يعاقبها؟ ففي كل األحوال لن‬ ‫لذا مل يتورط يف رغبة عقاهبا‪ِ .‬‬

‫‪57‬‬
‫رب كي‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ينتحل عليها مشاعر ليست حقيقية بقصد خداعها‪ .‬ولن يص َ‬
‫يرى النتيجة‪.‬‬
‫عادت هنلة للحديث مع منري بقصد إلقاء بعض األسئلة عن‬
‫الرجل‪ ،‬ومل تكن ختشى من فضوله‪ ،‬وبم سيفرس هذه األسئلة‪ ،‬ال‬
‫توجد أزمة إن أدرك أن يف قلبها شيئ يتجه نحوه‪ .‬الغريب أنه كان‬
‫َ‬
‫يمتلك بحكم‬ ‫يمتلك مساح ًة مقبولة من تفسري هنلة نفسها‪ ،‬قبل أن‬
‫يطرحه اآلن كي تستبني حقيقته‪ .‬لذا‬
‫َ‬ ‫الزمالة رأ ًيا يف كريم‪ ،‬يمكن أن‬
‫ٍ‬
‫معلومات إضافية عنه بقدر ما واجهها بحديث‬ ‫يمنحها‬ ‫مل يفكر أن‬
‫َ‬
‫فرس هلا عىل ماذا ستقدم‪..‬‬‫قد ُي ِّ‬
‫‪ -‬هنلة‪ !! ..‬كريم ليس الرجل الذي يصلح معه ما نعرفه عنك‪،‬‬
‫رجل واقعي فيام خيص عمله وناجح‬ ‫ِ‬
‫احلرية ما يكفي‪ .‬هو ٌ‬ ‫فلديه من‬
‫جدا‪ ،‬يبحث عن‬ ‫ِ‬
‫ألبعد حد‪ ،‬لكن يف منح مشاعره قد يكون خيال ًيا ً‬
‫ب‬ ‫ِ‬ ‫عالقة قد تبدو مستحيلة‪ ،‬لن َ ِ‬
‫يرتك لك نفسه‪ ،‬حتى لو آمن أنك ُح َّ‬
‫ِ‬
‫نجحت أن تشعريه كونه الرجل األهم يف ذلك العامل‪.‬‬ ‫العمر‪ .‬ولو‬
‫قرارا بالبعد‪ .‬وهو‬
‫ستظل املعاين املرتبكة يف يقينه تطارده‪ .‬اختذي ً‬
‫ٍ‬
‫حسابات مسبقة‬ ‫ٍ‬
‫رجل ال يملك‬ ‫ِ‬
‫أرجوك ابحثي عن‬ ‫مؤكد سيتفهم‪.‬‬
‫ِ‬
‫أرجوك‪.‬‬ ‫عن احلب‪.‬‬
‫ال تدري كيف سمعت هذه الكلامت‪ .‬واضحة كالشمس‪،‬‬
‫وطاعنة يف عنف‪ .‬حاولت بإرصار أن خترج بعيد ًا عن مركزية‬
‫احلديث عنه‪ ،‬لكنها فشلت‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫بعد صمت أكمل منري‪ :‬إن كريم ال يعرف جذوره‪ ،‬فلقد مات‬
‫أبوه مبكرا عىل ما سمعنا‪.‬‬
‫وأمه كانت كل دنياه‪ ،‬فموهتا قد حجبه عن الناس ما يقرب من‬
‫شهرين قبل أن يعود ويستأنف العمل‪.‬‬
‫‪ -‬هنلة!! هذا الرجل ليس ابنًا لذاك الزمن‪ ،‬عنده من احلساسية‬
‫املفرطة‪ ،‬ويمتلك الكثري من اخلطوط احلمراء‪.‬‬
‫ينته الكالم‪ ،‬لكن حديث منري أجهدها ووضعها حتت طائلة‬ ‫مل ِ‬
‫ٍ‬
‫ضغط مل تتحمله‪ ،‬معلومات حادة وأصعب ما فيها أهنا صادقة‪ .‬فلقد‬
‫ظهر يف عاملها من يعرفه‪ .‬مل ْ‬
‫تشأ أن تتهم منري باملبالغة‪ ،‬فسمة كريم‬ ‫َ‬
‫وشكل حياته قد يؤكد هذا املعنى‪.‬‬
‫سحبت سيجار ًة من علبتها‪ ،‬وراحت تدخنها بغيظ‪ .‬ترى لو‬
‫ربها‪ .‬ما هلا‬
‫مهام يف حياته أمل يكن من الرضوري أن خي َ‬
‫كانت شي ًئا ً‬
‫تضع نفسها فيها‪ .‬هو‬ ‫أدوارا ال يوجد مربر أص ً‬
‫ال أن‬ ‫ها‬ ‫تعطي ِ‬
‫لنفس‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫جمرد استلطاف‪ ،‬بداية قد تكون مشجعة‪ .‬لكنها ختشاه‪ ،‬يرهقها نظام‬
‫ٍ‬
‫برجل ال يؤمن بأن‬ ‫حياته وغموضه‪ ،‬هي أجبن من مواجهة العامل‬
‫اآلخرين موجودين يف حياته‪ ،‬ومن املمكن أن يؤثروا يف حركتِها‬
‫ونظامها‪.‬‬
‫***‬

‫‪59‬‬
‫(‪)8‬‬

‫قرار‬
‫دخلت”هنلة” للفيسبوك تبحث عن “حازم” الذي ابتلعه ُ‬
‫اهلجرة‪ .‬قرأت ماذا يكتب عىل حسابِه‪ .‬يبدو أنه جتاوزها‪ ،‬مل يعد‬
‫ِ‬
‫منشورات عاشق متيم‪ ،‬يكابد مجود احلبيبة التي كان من‬ ‫يكتب‬
‫املفرتض أن َ‬
‫جتعل حلياته هد ًفا‪.‬‬
‫راحت تكتب رسال ًة مقتضبة تسأله عن احلال وكيف هي أيامه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لفتاة ُأغرم هبا‪ .‬ويريد منها‬ ‫َ‬
‫أرسل هلا حسا ًبا‬ ‫جاء ر ُّده الغريب أن‬
‫وتكون رأ ًيا فيها‪ .‬فهو عاد ًة يثق يف ِ‬
‫رأهيا حيال اآلخرين‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫متابعتها‪،‬‬
‫جتاوزها‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫بسالمة ن ّية تصيبها باحلزن‪ .‬فلقد‬ ‫كانت الدردش ُة تتحرك‬
‫فعالً‪ .‬واآلن هي واحدة من أهل الثقة يريد نصيحتها ورأهيا‪ .‬سقطت‬
‫ٍ‬
‫ملاض مشرتك كان‬ ‫ِ‬
‫بدالل األنثى يف إشارة‬ ‫سقو ًطا رهي ًبا حني ذكرته‬
‫فيه ثمة معنى الستلطاف قد يتطور لعاطفة حب ُمكتملة‪ .‬فاجأها‬
‫باعرتافِه أهنا كالضمري‪ ،‬وليس سه ً‬
‫ال أن يقع املر ُء يف حمبة ضمريه‬
‫يصوب ويراقب ويعاقب حركته وتفاصيله‪.‬‬‫الذي َّ‬

‫‪60‬‬
‫لقد تذكر كيف كان حيكي هلا عن نزواتِه العابرة‪ .‬ومشاعره‬
‫مشاعرا‬
‫ً‬ ‫الربيئة التي ظل يراها ذات معنى وعمق‪ .‬فلو كان حيمل هلا‬
‫يصارحها هبفواته‪ .‬بل وحيمد اهلل أهنا‬
‫َ‬ ‫لوجد من الصعوبة أن‬
‫َ‬ ‫حقيقية‪،‬‬
‫تسع لتطوير عالقة؛ حمكوم عليها بالفشل‪ .‬هي بالرضورة صداقة‬ ‫مل ْ‬
‫وأخوة ُمنزهة‪.‬‬
‫َّ‬ ‫متينة‪،‬‬
‫ِ‬
‫بالبساطة يف تصوراته حياهلا‪ .‬فهي من‬ ‫مل تتهم “هنلة” “حازم”‬
‫ايدا مع‬ ‫جعلته يفكر يف ِ‬
‫أمرها عىل هذا النحو‪ ،‬دفعته دف ًعا أن يكون ُحم ً‬
‫مشاعره‪ .‬ظل لفرتة يبتهل منها كلمة لكنها مل تقلها‪ .‬فلامذا تبحث عنه‬
‫اآلن‪ .‬أم تراها آمنت أن “كريم” قد خرج من ِ‬
‫حياهتا بالفعل؟‬
‫عىل الضفة األخرى من الليل‪ .‬أدركت “هنلة” أن عرشة شهور‬
‫منذ أختفائه ليست رقام سهالً‪ .‬تقاطعت مع نفس احلرية األوىل؛ يوم‬
‫انتظرت اتصاال منه بعد السهرة التي أعقبها شتاء قاس‪ .‬حرية الرضا‬
‫أخريا‪،‬‬
‫بام آلت إليه األمور‪ ،‬أو البحث احلثيث عنه‪ .‬لكنها استسلمت ً‬
‫وعادت لطاحونة العمل‪.‬‬
‫يف صدفة ساقها القدر‪ ،‬أدرك كريم أن ثمة حدي ًثا جيب استكامله‪،‬‬
‫ففي عرص يوم من أيام نوفمرب وبعد شهور مل يعد مشغوالً ِّ‬
‫بعدها‪،‬‬
‫وجد “هنلة” يف واحد من بارات وسط املدينة‪.‬‬
‫للمرة الثانية يستشعر قيمة أن متتلك األنثى هذا القدر من‬
‫احلضور‪ .‬حاول أن يبدو وكأنه قد نساها‪ ..‬منعه خجله من إبداء‬
‫الشوق لرؤيتها‪ ،‬فانتزع يده من يدها برسعة وهو حيييها‪ .‬ويبدو‬

‫‪61‬‬
‫أهنا شعرت به‪ ،‬أدركت أن يف األمر شي ًئا‪ .‬كان غموضه القديم يثري‬
‫تأخذ األمور ببساطة‪ ،‬وترحب بوجوده‬ ‫َ‬ ‫حفيظتها‪ ،‬فحاولت أن‬
‫بتحفظ‪.‬‬
‫جلس قبالتها تقري ًبا‪ ،‬أرادت أن تصل ما انقطع من أحاديث‬
‫قديمة‪ .‬وال تدري كيف تستطيع‪ .،‬فلقد أجهضت البدايات‪ .‬وهو‬
‫عىل الغالب ساعدها‪ .‬كان يفهم كل يشء‪ ،‬خماوفها وهواجسها‪ ،‬ترك‬
‫َ‬
‫يورط نفسه وينجرف بمشاعره نحوها من‬ ‫الكرة يف ملعبها‪ ،‬دون أن‬
‫جديد‪.‬‬
‫تعامل معها بخبث الرجل ا ُملجرب‪ ،‬بدا أكثر ً‬
‫حتررا ولينًا وكأنه‬
‫َ‬
‫تنتحل‬ ‫مرة‪ ،‬وهنا كان يقتلها بواقع كل ثانية‪ .‬حاولت أن‬
‫يراها ألول ّ‬
‫الصمود والثبات‪ .‬حتدثا وضحكا واشتبكا‪ ،‬وختاصام وتصاحلا‪.‬‬
‫ضحك يف الرس‪ ،‬مازالت تواجهه بنفس اآلراء‪ ،‬التي إن مل تكن‬
‫تستحق أن تنساها‪ ،‬فعىل األقل جيب مراجعتها‪.‬‬
‫أعجبها إيام ُنه القديم بام يعتقده‪ ،‬ومنطقه‪ ،‬مقنع ولديه اإلجابات‬
‫احلارضة ألي سؤال‪.‬‬
‫ظلت ُتتمتم يف رسها‪ :‬لقد قررت أن أنسى كل يشء وأي حماذير‬
‫وأحبك‪.‬‬
‫كثريا ومل يعد‪،‬‬
‫غاب ً‬‫َ‬ ‫قام لري َّد عىل مكاملة أتته‪ ،‬والغريب أن‬
‫دفع احلساب كله‪ .‬بدت مرتبك ًة وكارهة هلذا الترصف‬
‫واألغرب أن َ‬

‫‪62‬‬
‫ٍ‬
‫لرجل قرر التخيل عن ذوقه‪ .‬هو ابن هذا الزمن‪،‬‬ ‫الذي أرشدها‬
‫ٍ‬
‫حلظات عابرة‪ ،‬ومن ثم ينتهي كل‬ ‫تنجز‬
‫الناس تتحرك يف خميلته كي َ‬
‫يشء‪.‬‬
‫يف آخر الليل وجدت رسال ًة منه عىل ِ‬
‫هاتفها كتب فيها‪:‬‬
‫‪“ -‬ليىل”‪ ،‬أعتذر بشدة فلقد حدث يش ٌء استوجب مغادريت!‬
‫ضحكت يف غيظ‪ ،‬وردت عىل رسالته‪:‬‬
‫‪ -‬اسمي “هنلة”‪ ،‬يبدو أنك نسيت‪.‬‬
‫حيا يف‬ ‫َ‬
‫يكون رص ً‬ ‫وملا مل يرد‪ ،‬أغلقت وجهها‪ ،‬فلقد اختار أن‬
‫فجاجة‪.‬‬
‫من خلف زجاج مكتبها ملحته يف مقر الرشكة‪ ،‬ظلت تراقبه‪ ،‬فلم‬
‫متخذا هد ًفا‬
‫ً‬ ‫جتد غري متثال من الشمع‪ ،‬ينظر كالغائب عن الوعي‪،‬‬
‫حتدث نفسها برغبة عارمة أن تتكلم معه‪،‬‬ ‫ثابتا ال حييد عنه‪ .‬كانت ِّ‬
‫بعض املفاهيم‪ ،‬لكن منعها كربياؤها‪.‬‬
‫تصحح له َ‬
‫َ‬ ‫ولو عىل سبيل أن‬
‫تعرتف هنلة أن عودته قد رضبت ثق َتها يف نفسها‪ ..‬فلم تراهن‬
‫ألبعد من حماوالت‪ ،‬لالقرتاب منه‪ ،‬ظلت جالسة يف مكتبها منرصفة‬
‫بالكلية ملتابعته‪ ،‬ومل تكن تدري أن منري منذ ملح كريم يف رواق‬
‫ِ‬
‫ردود فعلها حيال حضوره‪ .‬حتدث إليها‪ ،‬مل‬ ‫الرشكة وهو يركز يف‬
‫تكن تركز يف أي حديث دار أو سيدور بينها وبني منري‪ ،‬الذي كان‬
‫نفسه ً‬
‫أخا هلا‪ .‬والذي أسعفه ذكاؤه‪ ،‬أن صاحب َته مشغولة إىل‬ ‫يرى َ‬

‫‪63‬‬
‫درجة‪ .‬بل وفيام هي مشغولة‪ .‬نصحها جمد ًدا‪ ،‬وبو ِّد ظاهر أن الرجل‬
‫أحدا مما نعرفه‪ .‬غامض كاجلحيم‪ ،‬ومل يعد‬‫خمتلف ومهزوم‪ ،‬وال يشبه ً‬
‫مهتام بتأسيس أي روابط جتمعه بالناس‪.‬‬
‫ً‬
‫إخراجه من حميط‬
‫َ‬ ‫كانت هنلة تريد يقينًا أن حتبه‪ ،‬هي حاولت‬
‫تفكريها لكن ربام كان غموضه حيفزها ألن تواصل‪ ،‬بيد أن املشاعر‬
‫ليست جمرد أدوات ُنلقيها يف طريق من نحب‪ ،‬وليس احلب بأي حال‬
‫قرارا نتخذه متى احتجناه‪ .‬مؤكد هي ليست فتاة خيالية كي تفكر‬ ‫ً‬
‫هبذه الطريقة‪ ،‬لكنها إن حلت رموزه املستغلقة لن تتورط يف حبه‬
‫فقط وإنام ستحاول تشكيله عىل قياس ما تريده يف رجلها املنتظر‪.‬‬
‫تناولت سيجارة‪ ،‬وراحت تدخنها بغيظ‪ .‬لكن حني ملحته من‬
‫زجاج مكتبها‪ ،‬يعرب أمامها طلبت منه توصيلها‪.‬‬
‫حياها بإيامءة‪ ،‬وقال‪ :‬بكل تأكيد‪ .‬كان يعرف باليقني إهنا تريد‬
‫أن تتكلم يف أي يشء‪ .‬لكنه الذ باجلمود‪ ،‬هي تنتحل عليه اجلرأة‪.‬‬
‫وهو ال يريد منها شي ًئا‪ .‬ومن اجلميل أهنا توقفت ومل تسع أن جترب‬
‫تصميم حالة تبدو معها وكأهنا مغرمة به‪.‬‬
‫‪ -‬أنت تعرف زمييل منري؟‬
‫‪ -‬ال‪ .‬أعرف أخاه الذي مات يف ِ‬
‫أحد مواقع الرشكة‪ ،‬وهو هنا‬
‫يعمل مكانه‪.‬‬
‫بك؟‬‫ودفعا للصمت بطول الطريق سأهلا‪ :‬ما ِ‬
‫ً‬

‫‪64‬‬
‫ٍ‬
‫مجود‬ ‫جتد ما تقوله‪ .‬فقدت كل ما حاولت االختفاء خلفه من‬ ‫مل ْ‬
‫مضاد‪ ،‬تواجه به جتاهله الالفت‪ .‬مل ُجت ْ‬
‫ب‪ .‬وقبل أن هيز َمها ضع ُفها‬
‫حياله‪ ..‬شكرته أن اقتطع من وقته‪ ،‬وقام بتوصيلها‪ ،‬فرتكها وهو‬
‫ٍ‬
‫بابتسامة كبرية‪.‬‬ ‫حيتفظ يف ِ‬
‫فمه‬
‫مرت هذه الليلة‪ .‬أو كيف اقتحمت ميال ُخميل َته‬
‫ال يعرف كيف َّ‬
‫ٍ‬
‫باشتياق جارف أن يرى سوزانا؟‬ ‫املتعبة‪ ،‬وملاذا شعر‬
‫تسيطر عىل جزء كبري‬
‫َ‬ ‫سوزانا‪ ..‬أين هي؟ استطاعت بسهولة أن‬
‫من تفكريه‪ ،‬خبرية وناجحة يف احتوائه‪ ،‬أعطته نفسها بثقة أخجلته‪.‬‬
‫ال‪ ،‬هو غال ًبا ال خيون من يثقون به‪ .‬ومل يكن حيمل يف نفسه تطلعات‬
‫رجل يسعى فقط لقتل الوقت‪ .‬لكنه متجمد‪ ،‬وقلبه عىل البعد يصوغ‬
‫تصورات ال تصلح لعامل يبدو كالغابة‪ .‬بل إن الغابة حيكمها قانون‪،‬‬
‫وليس نزوات املرىض واملعقدين نفس ًيا‪.‬‬
‫غرها‬‫مسكينة هنلة‪ ..‬ظل بطول الليل يردد هذه الكلمة‪ ،‬فلقد َّ‬
‫الوجه ا ُملربك‪ ،‬حسبته ثقة بالنفس لرجل يمتلك االستغناء‪ .‬وربام‬
‫يستطيع إنتاج عالقات وتداخالت مع البرش تتسم بالود‪.‬‬
‫ملاذا مل تالحظ اهلاالت السوداء التي تعني طول السهر؟ أو ترى‬
‫انكسار الروح وقد ترسب من صوته؟‬
‫كانت األيام متتد يف العمل حيث فرع الرشكة القريب من‬
‫ٍ‬
‫ملكان آخر‪ ،‬حتى‬ ‫الساحل‪ ،‬وكالعادة أحلت عىل كريم رغب ُة التنقل‬

‫‪65‬‬
‫ِ‬
‫استقبال‬ ‫بال أو يفكر يف توابع‬‫ولو خارج البلد بالكامل‪ ،‬هنالك مل ُي ِ‬
‫ِ‬
‫وجهة‬ ‫هنلة لرغبته اجلديدة يف الرحيل‪ .‬مل يكرتث‪ ،‬هي تعبث من‬
‫يستقر عىل أي رغبة قد جتعل هلا مكا ًنا يف حياته‪.‬‬
‫ْ‬ ‫نظره‪ ،‬وهو مل‬
‫رحيام هبا‪ ،‬رمحة ربام ال جتد ما يربرها‪،‬‬
‫ً‬ ‫حاول ساعتها أن يكون‬
‫فقد ظل بذكاء يالحظ تطورات ظنوهنا‪ ،‬قبل مالحظة ما قد يبدو‬
‫ٍ‬
‫كمشاعر حقيقية‪ ،‬تنطلق منها جتاهه‪.‬‬
‫***‬

‫‪66‬‬
‫(‪)9‬‬

‫وافقت الرشك ُة عىل منحه إجازة للراحة‪ ،‬ليست الراحة يف‬


‫ال يف إطار‬‫معناها‪ ،‬وإنام رغبة منهم يف إنعاش طاقاتِه التي هي أص ً‬
‫العمل قد تبدو أكرب بكثري من أقرانه‪ .‬دعاها للعشاء‪ ،‬والغريب رغم‬
‫أشكال التجاهل املتبادل‪ ،‬وافقت‪ .‬هل كانت تبتغي‬ ‫ِ‬ ‫كل ما ظهر من‬
‫حاسام أن تدخل حياته من جديد؟ ما الذي شجعها أن تتج َه‬ ‫ً‬ ‫قرارا‬
‫ً‬
‫هلذا الطريق؟ وهل كانت قبل هذه الفرتة يف حياتِه أصالً؟‬
‫كانت هنلة كسندريال‪ ،‬وهو يف قمة التهندم‪ ،‬فهمت إنه ليس‬
‫مهزو ًما بقدر ما تعفف عن هذه الدنيا ورفضها‪ .‬ظلت هتمهم هبذه‬
‫ٍ‬
‫بشغف غريب‪.‬‬ ‫الكلامت وهي تنظر له‬
‫سألته عن اسم هذا العطر الذي يستخدمه‪ ،‬فرد بإجابة كادت‬
‫تقتل األمل والرغبة؟ قال‪ :‬هو العطر الذي كانت حتبه‪.‬‬
‫‪ -‬من ؟‬
‫‪ -‬التي جعلتني أخاف أن أمنحك األمل كوين أشعر ِ‬
‫بك‪.‬‬ ‫َ‬

‫‪67‬‬
‫تصارع من أجل أن‬
‫َ‬ ‫هامت مع اإلجابة‪ ،‬ملست شي ًئا قد يغرهيا أن‬
‫تكسبه‪ .‬وحتتفظ به‪.‬‬
‫مرة‪ .‬فلقد عاشت فرتة‬
‫كانت ُمهيأ ًة ألن تتكلم عن نفسها ألول َّ‬
‫مع خالتها‪ ،‬بعد وفاة أبيها وأمها‪ .‬سنوات ومل تعد قادرة أن تتحمل‬
‫الضغوط التي مورست ضدها‪ .‬خدمها أن خالتها صغرية ومطلوبة‪.‬‬
‫فتزوجت من مهاجر‪ ،‬وصارت تأتيها يف زيارات متقطعة‪.‬‬
‫مؤكد كان حيتاج هذه اإلجابة‪ ،‬كي يفرس هذا التحرر النسبي‪.‬‬
‫فقد ملحها تدخن يوم السهرة‪ ،‬لكنه مل ُيعلق‪ .‬املالبس‪ ،‬اجلسارة يف‬
‫تأسيس شكل معني لشعرها قد يبدو منفل ًتا‪ .‬هي مجيلة‪ ،‬وما كانت‬
‫لتحتاج إلبراز ذلك املعنى‪ .‬وإن كان اجلامل يف هناية املطاف إحساس‬
‫ثقة تعرب عن نفسها‪ ،‬وما تفعله بشكلها جمرد إضافات‪.‬‬
‫يف هذا العشاء أدركت أهنا قد ظلمته‪ ،‬فالرجل حكاء بارع‪،‬‬
‫خفيف الظل‪ ،‬وخملص حني يبدي النصيحة‪ ،‬إنسان باحلق كام وصفه‬
‫منري‪ .‬لكنها أشفقت عليه لكونه عىل هذا النحو من التوحد‪.‬‬
‫عىل شاطئ البحر كانت الصورة استثنائية بكل تفاصيلها‪،‬‬
‫عاشقان متيامن‪ ،‬خيتلسان من الوقت ما يشبع حنينهام ألن يقوال كل‬
‫يشء‪ .‬كان ممتن ًعا يف البداية أن يبدو منطل ًقا مع فتاة يف هذا الطقس‬
‫ٍ‬
‫كمراهق مندفع‪ .‬لكن بنظرة واحدة منها‬ ‫الصعب‪ ،‬خاف أن يبدو‬
‫ٍ‬
‫التفاتة تعطيه طو ًعا فرصة أن‬ ‫استسلم‪ .‬ظلت بجواره‪ ،‬ويف كل‬
‫يقبلها‪ ،‬وال تدري ملاذا احتاجتها منه‪ ،‬أو ِمل استجابت‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫حلظة من رشود متأمل كيف تتكون الذكريات‪ ،‬التي‬ ‫ٍ‬ ‫أدركت يف‬
‫حتوي بني طياهتا هذه التفاصيل ا ُملبهجة‪ .‬تراجع خو ُفها من القصة‪،‬‬
‫األجدر هبا‪ .‬مؤكد إذا غاب ستفتقد‬
‫َ‬ ‫وتركت نفسها للرجل الذي تراه‬
‫هذه اللمسات‪.‬‬
‫كثريا‪ ،‬ومل يرد‪ .‬وهذا املعنى كان يضغطها‬ ‫ِ‬
‫يف اليوم التايل اتصلت به ً‬
‫فتح بدا كمن يستعد للسفر‪.‬‬‫فعالً‪ .‬زارته يف بيته وبمجرد أن َ‬
‫‪ -‬واضح أنك ال تشعر بيشء‪.‬‬
‫‪ -‬من قال؟‬
‫‪ -‬طريق ُة تعاملك معي تقول هذا بوضوح جارح‪.‬‬
‫‪ِ -‬‬
‫أنت مبالغة إىل درجة‪.‬‬
‫انتهى احلوار البسيط وهو يضحك وينظر من نافذة تأيت عن‬
‫يمينه‪ ،‬وهي تكاد أن جتن‪ ،‬يقول وكأنه يف عامل آخر‪:‬‬
‫‪ -‬ال يوجد من يشء يمنعني أحبك‪ ،‬بل قد أكون حمتاجا أن أبدأ‬
‫ِ‬
‫معك قصة كبرية‪ ،‬يدفعني هلا إيامين إنك خمتلفة‪ .‬لكني لست مهزوما‬
‫كام يشاع‪ .‬أزمتي إنني رسمت احلياة وهي جزء أصيل فيها‪ ،‬فلام‬
‫مضت‪ ،‬مل أكن أضع يف خميلتي حلام بديالً‪ .‬شي ًئا آخر يمأل دنيتي‬
‫حال غياهبا‪ .‬أخشى أن أظلمك‪ .‬رغم جدارتك باحلب واالحرتام‪.‬‬
‫حلام وأضعك فيه‪ .‬ولو توقعت‬ ‫أسألك فرصة واحدة‪ ،‬سأرسم ً‬
‫إنك حب العمر‪.‬‬‫لك بكل صدق ِ‬ ‫غيابك وتأملت‪ ،‬فسوف أعلن ِ‬

‫‪69‬‬
‫أبدا‪ .‬حتدث وكأهنا غري‬
‫ظل يقول هذا الكالم‪ ،‬ومل ينظر هلا ً‬
‫موجودة‪.‬‬
‫بطول الوقت حتركت يف النهر مياه كثرية‪ .‬مل تتحمل هنلة فكرة أن‬
‫يصوغ حلام وجيرب أن يعطيها دورا فيه‪ ،‬فالوصول لذاك املنعطف‬
‫جعل سعادهتا تتبخر‪.‬‬
‫كانت تصدقه أو تريد أن تصدقه‪ ،‬ولكنها ال تؤمن بكونه سيتغري‪،‬‬
‫حيا لدرجة‪ ،‬ال بديل‬
‫لن يصوغ مكا ًنا هلا يف حياته يو ًما‪ .‬لقد كان رص ً‬
‫ملا يعيشه‪ .‬والفتاة يف ثقافة العرب مضغوطة دائام بعامل الزمن‪.‬‬
‫تعرتف أهنا مل تشك يف إخالصه هلا‪ ،‬ومل يكذب عليها‪ ،‬بذل جمهو ًدا‬
‫مضاع ًفا كي يقن َعها أهنا األهم‪ .‬لكن ظلت سلبي ُته وختوفه يقلقها من‬
‫ٍ‬
‫انتظار عبثي لرجل عىل الغالب لن يغادر ما يؤمن به‪.‬‬ ‫التعايش يف‬
‫حسمت أمرها بعد أن أدركت السنة ويزيد منذ التقت به جمد ًدا‪.‬‬
‫تعادلت فيها املعطيات‪ :‬هو هلا‪ .‬هي ليست له مهام حدث‪ .‬فال جديد‬
‫يف حياته قد يغري باألمل‪ .‬آمنت أن ثباته حيمل معنى االستهتار هبا‬
‫وبمشاعرها‪.‬‬
‫بعيدا عنه‪ ،‬ماطلت‪ ،‬لكنها اآلن مع أول دقة‬ ‫يف احلياة املوازية ً‬
‫باب‪ ،‬ومع ما سبق وأن خططت له إزاء موقفه املتجمد منها‪.‬‬
‫وافقت‪ ،‬واندفعت بثقة إلنجاز حياة جديدة‪ .‬خرج كريم من حياهتا‬
‫حتولت النظرات ا ُملحبة املسكونة بالوله‪ ،‬إىل حقد‬
‫كأنه مل يدخلها‪ .‬بل َّ‬

‫‪70‬‬
‫وامتهان‪ ،‬وتعال منتقم جزاءا لكل حلظة كانت حتمل له فيها مشاعر‬
‫خاصة وصادقة‪.‬‬
‫عندما حاولت استقراء كيف استقبل هذا الترصف املباغت‪ ،‬مل‬
‫يبد‬
‫جتد إجابة تشعرها باالنتصار عليه‪ .‬فهو مغلق لدرجة تستفزها‪ .‬مل ُ‬
‫عليه أي يشء‪ .‬كانت تضحك ملن يصفها يف حياته كمرض عارض‬
‫تعمق إحساسها بالكراهية للوقت‬‫ولقد شفي منه‪ .‬ربام يف قادم األيام َّ‬
‫الضائع‪ .‬أو نقمت عليه االستسالم الكيل للهزيمة‪ .‬هو مل يكذب عىل‬
‫كل حال‪ ،‬قال هلا احلقيقة كام يراها‪ ،‬وهي انتحلت احلامقة‪ ،‬وكان البد‬
‫من هناية‪.‬‬
‫ٌ‬
‫كل دخل آتون ما يشغله‪ .‬للدرجة التي ما عادت تسمح للناس‬
‫بإدراك الوقت‪ ،‬وكيف يتمدد‪ ،‬وملاذا يتقلص‪.‬‬
‫مل تكن احلياة عىل قياس حساباهتا تتطور ألبعد مما رسمت‪.‬‬
‫مصادرة عىل املطلوب لو حسبت الناس سيتشكلون عىل حسب‬
‫ما تظن وتعتقد‪ .‬فليس سهال أن يتفق اإلنسان مع عامل يرفضه‪ .‬أو‬
‫احتدم خالف لن ينفع معه ُهدنة‪ ،‬أو سالم عابر‪.‬‬
‫أدركت هنلة أن من العبث البحث عن أصدقاء قدامى يفرسون‬
‫مرا ومل َتره‬
‫هلا ما ال ُيفرس‪ ،‬وال إدراك أن عامني كاملني يف هذا العمل َّ‬
‫ولو صدفة‪..‬‬
‫أين ذهب كريم؟‬

‫‪71‬‬
‫إنه رجل رشقي مستبد‪ ،‬ربام خاف من اختالفها‪ .‬وراح يؤسس‬
‫العامل املوافق لرشوطه‪ ،‬من الواضح إنه ال جديد قد يؤثر عىل‬
‫عالقتهام‪ .‬ملاذا ال تتحرى الصدق وتعرتف أهنا ساعدت نفسها أن‬
‫خترسه باالستسالم لغرورها؟‬
‫يضع هناية قدرية تتسم‬
‫ال أن َ‬ ‫ذهبت مع ظنوهنا‪ .‬وكان الوقت كفي ً‬
‫بالعطف‪ .‬قد يكون نساها لألبد‪ ،‬ومؤكد عنده الدنيا التي تستطيع أن‬
‫تستلبه من أي يشء‪.‬‬
‫***‬

‫‪72‬‬
‫(‪)10‬‬

‫وغسل ما علق بروحه‬‫ْ‬ ‫سافر كريم للنمسا بقصد إنعاش ذاكرته‪،‬‬


‫مؤمترا دول ًيا‬
‫ً‬ ‫يف العامني األخريين‪ .‬وعىل هامش العطلة سيحرض‬
‫معن ًيا بنشاطات الرشكة‪.‬‬
‫يف أول انطباع أدرك أنه يف متحف أو يكاد‪ ،‬بالد ال شذوذ فيها‪.‬‬
‫منظمة حد االستفزاز‪ .‬ال يدري ملاذا مل يأخذه احلنني مليال‪ ،‬فالنمسا‬
‫ليست بعيدة عن أملانيا‪ ،‬ربام حيتاج أن يتابع ما آلت له حياهتا‪ .‬ويسأل‬
‫عن “فرانك” وإىل أين وصلت به الصحة‪ .‬لكنه مل يفعل‪ .‬انتبه حلقيبة‬
‫أرسلها معه رئيسه يف العمل‪ ،‬ممتلئة بالكتب لصديق له بفيينا يدعى‬
‫أيوب رسحان‪ .‬وصل إليه فوجد رج ً‬
‫ال مخسين ًيا‪ ،‬يسكن بي ًتا رائ ًعا‬
‫عىل ضفاف بحرية بديعة حد اهلوس‪.‬‬
‫كان الرجل من الفطنة أن أدرك معنى األزمة يترسب من مالحه‪،‬‬
‫ومن حديثه وحتى صمته‪ ،‬بل أبدى مع الوقت تعاط ًفا ملحو ًظا‪،‬‬
‫الغريب ورغم ما يتبدى من نفوره‪ ،‬بدا وكأنه ال يريد الرحيل وترك‬
‫الرجل حلياته بعد أن أتم مهمته‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫دلفت زوجته إىل حيث جيلسان‪ ،‬وحيته بعربية واضحة‪ ،‬جلست‬
‫ما شاء هلا الوقت‪ ،‬ثم تركتهام ليكمال ما كان من حديث‪.‬‬
‫أدرك أن هذه البالد تعلم قاطنيها الوضوح واملبارشة‪ ،‬فلقد‬
‫صدمه أيوب حني سأله بلهجة صادمة‪ ..‬ملاذا أشعر إنك يف ورطة‪.‬‬
‫فرد كريم بلهجة يائسة‪:‬‬
‫‪ -‬ال أعرف ماذا أريد‪ ،‬مسكون بحرية وتوتر منذ أن بدأت أفهم‬
‫العامل من حويل‪ .‬كل قصيص جمهضة‪ ،‬وعندي أزمة ثقة يف كل يشء‬
‫يتحرك‪ .‬اجلامد وحده هو ما يمنحني الراحة والطمأنينة‪.‬‬
‫كانت اإلجابة وكأهنا سباحة يف عامل ذلك األيوب الذي انشقت‬
‫األرض وأخرجت فليسوفا مار ًقا‪ .‬فلقد ترك الديار وهو طفل‬
‫وبصحبة سيدة بولندية كانت تعمل باملستشفى األمريكي‪ .‬بعد‬
‫موت أبويه زمن احلرب‪ .‬أحسنت تربيته‪ ،‬ومل حتاول أن جترده من‬
‫جذوره‪ ،‬بل ظلت تبحث عن أي مصدر حيافظ له عىل هويته‪ .‬وقد‬
‫نجحت إىل حد كبري‪ ،‬لكنها نست أن بيئة اإلنسان هي التي تشكل‬
‫سامته‪ ،‬وليست اجلذور وحدها‪ .‬ماتت تيودورا التي كانت منه‬
‫بمنزلة أم حقيقية؛ تاركة خلفها ثروة ال بأس هبا‪.‬‬
‫ظلت طفولته كالكابوس‪ ،‬يطارده يوم ًيا‪ ،‬يتذكر فقط رفاق‬
‫اللهو واللعب‪ .‬حتى حدثت الكارثة وضاع كل يشء‪ .‬عاش‬
‫احلياة والتقى بالفتاة التي صارت زوجته‪ .‬مل تعش حياهتا كأي فتاة‬

‫‪74‬‬
‫أوربية‪ ،‬مكثت يف املدارس الداخلية نظرا النشغال أبوهيا عنها‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬ولكنه ُيتم ُمقنّع عىل ما يبدو‪ ،‬ونظرا للتامس مع‬
‫هي يتيمة ً‬
‫تلمس أيوب الطريقة املثالية لكي يكسبها‪ .‬فمفتاح‬
‫هذه احلقيقة‪ّ ،‬‬
‫قلبها وحبها‪ .‬هو أن يغمرها بالعطف واحلنان الذي افتقدته يف‬
‫بواكري عمرها‪.‬‬
‫وبدوره كان يريد ما هو أكثر من احلب‪ ،‬وهل هناك ما هو أكثر‬
‫واحدا يف‬
‫ً‬ ‫من احلب ؟ نعم ‪ ،‬يريد أن يذوبا معا حتى ليصبحا كيا ًنا‬
‫حياة حتتاج لذلك ‪.‬‬
‫تم حتديد كل يشء وظلت املشكلة أين يتمم مراسم زواجه‪،‬‬
‫وهذه املسألة كانت ترهق تفكريه‪ ،‬فعرف من والدها أن املراسم‬
‫ستكون يف صورة ٍ‬
‫حفل بعد إمتام عقد الزواج بمكتب التوثيق املدين‬
‫التابعة له بلدهتم‪.‬‬
‫يعرتف أيوب أنه كان يوما فاص ً‬
‫ال من أيام حياته‪ ،‬يوم أن تزوج‬
‫من “ماتيلدا” وألول مرة يكون عىل هذا القدر من التفاؤل‪ ،‬وجد أن‬
‫الدنيا بصدد رسم شكل آخر حلياته‪ ،‬فلم يعد ذلك الرجل الغريب‬
‫املطارد يف كل حلظة بوطن يبدو كاهلاجس‪.‬‬
‫حرضه معنى غريب وهو جيتاز باب البيت ليبد َأ معها اليوم األول‬
‫حتت سقفه‪ ،‬فقد طلب من زوجته أن تكون ابنة وأخت وليست‬
‫جمرد زوجة‪ ،‬ربام ألنه وحيد‪ ،‬حاول أن خيلق هذا الشعور‪ ،‬ويعيش‬

‫‪75‬‬
‫تفاصيله‪ ،‬لكنه يبتسم حني يتذكر أن هذا االتفاق كان ينهار بالكلية‬
‫يف غرفة النوم‪.‬‬
‫كانت السعادة منترشة عىل مجيع األصعدة‪ ،‬نجاح يف العمل‪،‬‬
‫وحياة هادئة مع سيدة مجيلة وعظيمة بالفعل‪ ،‬حياة جعلته خياف أن‬
‫ُحيرم من هذه السعادة ألي عارض‪ ،‬وخصوصا أنه معتاد عىل اقتحام‬
‫كثريا ما اعرتضت حياته بشكل يدعو للرثاء‪،‬‬
‫األشياء املؤملة‪ ،‬التي ً‬
‫لكنه أعرتف أن ساعات الصفاء ظلت مستمرة‪ ،‬والتفاهم عميق‪،‬‬
‫واحلب املتبادل هو الدستور الذي أقسم عىل احرتامه ‪.‬‬
‫مكث أيوب لفرتة يمرن نفسه عىل سامع كلمة بابا‪ ،‬بعد أن أخربته‬
‫رسا‪ ،‬ويتصنع ما‬
‫وحيدا كي يقوهلا اًّ‬
‫ً‬ ‫زوجته أهنا حامل‪ ،‬كان ينزوي‬
‫يوحي بكونه يرد عىل ابنه أو ابنته املتوقعني‪ ،‬ولكم كان حزينا حيال‬
‫ذاك التخيل‪ ،‬ال ليشء يف احلقيقة‪ ،‬ولكن ألنه مل يقلها من قبل‪ ،‬هذا‬
‫باإلضافة إىل كارثة أخرى ال تقل أ ًملا عن األوىل حيث سيظل يسمعها‬
‫باألملانية‪ ،‬فيضيع مذاقها الرائع حال سمعها‪.‬‬
‫اجلميع حياولون هتدئته‪ ،‬مشفقني عىل خوفه وقلقه‪ ،‬حتى‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫خرجت إحدى املمرضات التي أعلنت له البرشى‪ ،‬فقد ُرزق‬
‫بمولود ذكر‪ ،‬وبإمكانه بعد دقائق معدودة رؤيته ورؤية زوجته‪ .‬ظل‬
‫يبكي دون أن يفهم رس هذه الدموع املنسابة يف سخاء‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫هل كانت دموع الفرح التي كان يسمع عنها؟ أم يبكي عدم‬
‫وجود أبويه كي يريا حفيدمها‪ .‬والغريب حني دخل لريى زوجته‪،‬‬
‫قبلها وشكرها‪ ،‬وبدون وعى منه أو قصد قال‪:‬‬
‫‪ -‬أشكرك أن ِ‬
‫أتيت يل بأخ حيمل لقب ابني‪ .‬فبكيا م ًعا‪.‬‬
‫تصور‪ ،‬فقد توقع من فرط ثقته‬
‫كان والد زوجته أكثر كر ًما مما ّ‬
‫َ‬
‫الطفل عىل اسمه‪ ،‬و الغريب أنه نصحه أن‬ ‫يف حمبته له أنه سيسمي‬
‫اسام لينًا‪ ،‬كي يكون مناس ًبا لثقافتهم‪ ،‬وىف نفس الوقت ليس‬
‫يسميه ً‬
‫غري ًبا عن ثقافة أبيه‪ ،‬وهنا يعرتف أيوب‪ ،‬ورغم كل يشء أنه فكر يف‬
‫حركات عينيه وهو يالعبه‬
‫ُ‬ ‫“سامر”‪ .‬فكان قرة ٍ‬
‫عني له وألمه‪ ،‬وكانت‬
‫تنم عن ذئب عتيد قد ورث مكر أبيه‪ ،‬وتلفيقاته ا ُملقنعة‪.‬‬
‫ضحك كريم حيال ما سمعه‪ ،‬ومل ُي ِرد أن يثقل عىل الرجل املمتع‬
‫ح ًقا‪ ،‬فلم يبد عليه أي أزمة لغربته‪ ،‬ماذا وجد من األوطان غري‬
‫احلرب والدمار والغربة؟‬
‫رحل تاركًا خلفه هذه األرسة السعيدة وهو ُيمنِّي النفس أن‬
‫يلتقي بأيوب جمد ًدا‪ ،‬فعىل ما يبدو قد وجد فيه غواي ًة من نوع خاص‪.‬‬
‫وعدا أن يصطحبه لألوبرا‪ ،‬فثم ُة‬
‫والرجل بدوره مل خيذله‪ ،‬بل منحه ً‬
‫مغن كبري سيغني ليلة السبت‪.‬‬
‫عاد كريم لغرفته يف الفندق‪ ،‬حاول أن ينا َم فوجد يف سقف الغرفة‬
‫طي ًفا يشبه سوزانا‪ ،‬ملاذا مل تكن هنلة‪ ،‬ربام ألن سوزانا أجنبية أو تكاد‪،‬‬

‫‪77‬‬
‫بينام تظل هنلة تشرتك معه يف هواه وجذوره‪ .‬لكن حياة أيوب ال تؤيد‬
‫هذه املعطيات الكرهية‪ ،‬فلقد عاش الرجل دون منغصات توقظ فيه‬
‫شعور الرجل الغريب املفعم بالقلق والتوجس‪.‬‬
‫هي البساطة التي يتنفسها هؤالء‪ ،‬أفعل فقط ما حيلو لك‪ ،‬دون‬
‫التورط يف إيذاء اآلخر‪ ،‬أي آخر‪ .‬ودون توريط األفكار املتكلسة يف قيادة‬
‫مزيدا من املوت والضياع‪.‬‬
‫حياة الناس‪ ،‬هذه األفكار التي ال تنتج إال ً‬
‫إن األوطان يف ظل ما يعيشه كريم أو من هم عىل شاكلته صارت‬
‫حمنة‪ ،‬اختبار صعب ال يمكن جتاوزه‪.‬‬
‫يف أمسية السبت وصل لبيت أيوب‪ ،‬كان جاهزا بشكل الفت‪،‬‬
‫وزوجته بدورها بدت تستعد‪ .‬استثمر الوقت وظل يتحدث‬
‫متسائال عن هذه الدموع احلبيسة يف عينه‪ ،‬وذاك الكم من احلرية‬
‫التي تسيطر عىل صمته الذاهل‪ .‬ولكي خيرج من ذاك األثر‪ ،‬حدثه‬
‫أيوب عن ابنه سامر الذي كان بمثابة احلجر األول الذي ألقاه القدر‬
‫يف بحرية أفكاره؛ ليعيد النظر فيام تبناه من أفكار تتجه إلنكار كل‬
‫يشء‪ ،‬وانسحاق أي معنى‪.‬‬
‫فبعد عيد ميالده األول كانت أمه حام ً‬
‫ال يف طفلهام الثاين‪ ،‬وبعد‬
‫أن أخربته باحلمل‪ ،‬ذهب يف رحلة عمل خارج البالد استغرقت‬
‫قرابة عامني متصلني‪ ،‬ختللها إجازة قصرية يف البداية‪ ،‬ولكنها مل متكنّه‬

‫‪78‬‬
‫حمتارا فيام يسميه‪ ،‬فرتك املسألة لزوجته‬
‫من التواجد يوم مولده‪ ،‬كان ً‬
‫ويف رسالة أرسلها سأهلا أن تفعل‪ ،‬فكان آدم‪.‬‬
‫انتهى من عمله ورجع برسعة ليجد أن اسم “آدم” كان أنسب‬
‫اسم هلذا الطفل‪ ،‬الذي تربق عيناه يف ذكاء مبهر‪ ،‬احتضنه طوي ً‬
‫ال‬
‫حتى كاد يموت بني يديه‪ ،‬وأفاق عىل صياح أمه‪ :‬الولد؛ احذر‪.‬‬
‫ولكنها مل تكن تعرف أن هذا الغالم بمالحمه هذه؛ أمه التي متيش‬
‫عىل األرض‪ ،‬فتعلق به بشدة‪ ،‬وإن مل يرتاجع ولو للحظة عن حبه‬
‫لـ”سامر”؛ ويذكر أن جدهتم بعد والدة “آدم” قالت له‪ :‬أما آن لك‬
‫أن تعفي ابنتي من مشقة إنجاب األطفال؟ ضحك ساعتها‪ ،‬ونظر‬
‫لزوجته التي قالت يف دعابة‪:‬‬
‫‪ -‬رجل رشقي ال هيتم ‪.‬‬
‫ُيردف أيوب ويقول دون النظر إىل كريم‪:‬‬
‫حلم إال وحققته‪ ،‬وال يوجد‬
‫يف هذه األثناء وبعدها مل يكن يل ٌ‬
‫حلم قيد التحقيق إال وكنت أسعى لتحقيقه‪ ،‬وأنا واثق من النجاح‪.‬‬
‫كانت السعادة تسيطر عىل كل تفاصيل حيايت‪ ،‬انتقلت لعمل آخر‬
‫أكثر مت ّي ًزا‪ ،‬ومسكن أوسع وأروع مصمم عىل طراز معامري مجيل‪،‬‬
‫وسط مساحة رائعة من اخلرضة‪ ،‬وسيارتان حديثتان واحدة يل‪،‬‬
‫واألخرى لرحالتنا العائلية يف الداخل واخلارج‪ ،‬حيث كنت مول ًعا‬
‫بالسفر ألي مكان‪ ،‬ولو كنت أراه يف احللم‪ ،‬تراجعت أشياء كثرية‬

‫‪79‬‬
‫من مجلة نزعايت‪ ،‬لكني احتفظت بحب السفر‪ ،‬ومل أختل يوما عن‬
‫هواية القراءة‪ ،‬وخاصة وجوه البرش‪.‬‬
‫كان كريم ممتنًا لألقدار العطوفة التي جعلته يلتقي بأيوب‪ ،‬والذي‬
‫جعل لإلجازة معنى املتعة والراحة‪ ،‬والرجل بدوره ربام فهم شي ًئا‬
‫من أزمته‪ ،‬فراح يتحدث عن سيناريوهات قد تشبه أزمته‪ ،‬ومؤكد‬
‫من حديثه قد يستلهم حلوالً هلا‪.‬‬
‫***‬

‫‪80‬‬
‫(‪)11‬‬

‫ِ‬
‫زيارة أيوب بطول األيام‬ ‫عقد كريم النية عىل أال يتوقف عن‬
‫املتبقية‪ ،‬فقط سيغيب يوم املؤمتر الذي كان موفدا من قبل الرشكة‬
‫كي حيرض وقائ َعه‪ .‬لكن حدث اقتحا ٌم مباغت ألقدار بدت غريبة‪.‬‬
‫أبدا‪ ،‬فبطول‬
‫مل يراهن أن هذه الفتاة التي تتحرك كالنحلة أوروبية ً‬
‫اجللسات واالبتسامة ال تفارقها‪ ،‬ووجهها منفتح عىل الدنيا وكأهنا‬
‫بشعرها الغجري املسرتسل يف توحش‪ ،‬ترتجم‬ ‫ِ‬ ‫حتتضن العامل‪،‬‬
‫األسئلة‪ ،‬وتعطي هذا الكلمة‪ ،‬ومتنح ذاك بعض الوثائق‪ .‬ظن ألول‬
‫وهلة أهنا رشقية‪ ،‬أو مولودة ٍ‬
‫ألب عريب عىل األقل‪.‬‬
‫ِ‬
‫البعد أرسل إيامء َة اإلعجاب‪ ،‬مل تكن نظراته تنتمي‬ ‫عىل‬
‫لإلعجاب بقدر ما تنتمي حلالة أكرب من االنبهار‪ ،‬ومن حسن طالعه‬
‫وجد منها قبوالً طي ًبا لإلشارات‪ ،‬ذكية وما كانت لتخطئ تفسري‬
‫أن َ‬
‫هذه النظرات‪ ،‬وعىل الضفة األخرى فإن كريم بشكله وهندامه وما‬
‫لفت نظرها فعالً‪.‬‬
‫يتجىل من مواصفات قد َ‬

‫‪81‬‬
‫مؤسسا عىل اعتبار أن الرشكتني‬
‫ً‬ ‫التعارف عىل هامش املؤمتر‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫مهمومتان بام سيناقشه احلضور حول تطور الربجميات‪ ،‬أخربها‬
‫كثريا حول بعض األمور الفنية‪،‬‬‫باسمه‪ ،‬وعرف أهنا ناتايل‪ .‬حتدثا ً‬
‫جامدا ال يطيق االسرتسال فيه‪ ،‬فدعاها بعد املؤمتر‬
‫ً‬ ‫لكنه كان حدي ًثا‬
‫للغداء‪ .‬فوافقت بابتسامة ال ختلو من تشجيع ورضا‪.‬‬
‫يعرتف يف الرس أهنا ليست مجيلة عىل مقاييس اجلامل التقليدية‪،‬‬
‫فكل يشء فيها مصاغ بعناية‪ ،‬لكنها طفلة‪ ،‬خفيفة‪ ،‬ال تبدو وكأهنا‬
‫تالمس األرض‪ .‬أخربها بظنونه األوىل كوهنا عربية‪ .‬فمالحمها مرحية‬
‫واعتيادية إىل درجة أهبرته‪.‬‬
‫ابتسمت ناتايل لتقول عبارة أنتجت عىل غري املتوقع صدمة مؤكد‬
‫مل تكن تقصدها‪:‬‬
‫‪ -‬إذن يف بالدكم ثمة أشياء مجيلة‪ ،‬ثم ابتسمت‪.‬‬
‫ظاهرا عىل مالحمه‪ ،‬وأردفت‪:‬‬
‫ً‬ ‫ثم ابتسمت ملا رأت ارتباكه‬
‫أيضا‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪ ،‬أنا عربية ً‬
‫الرحل ُة التي ابتدأت منذ حلظة مفارقة أبوهيا‪ ،‬الذين شجعاها عىل‬
‫ِ‬
‫مواصلة التعليم باخلارج‪ ،‬انتهت هبا يف النمسا‪ .‬أرادت االستزادة‬
‫فأكملت بأملانيا‪ ،‬فكرت يف االستقرار هناك لكنها عادت من جديد‬
‫الطقس األملاين‪ ،‬الذي بدا هلا أكثر حدة وقسوة‬
‫ُ‬ ‫للنمسا‪ ،‬فلقد أرهقها‬
‫ِ‬
‫التعامل مع اآلخر‪ ،‬وخاص ًة يف البدايات‪.‬‬ ‫يف‬

‫‪82‬‬
‫كثريا أن تعو َد إىل أهلها‪ ،‬لكنها مل تنسجم مع هذه الفكرة‬
‫فكرت ً‬
‫ِ‬
‫جانب أبوهيا بغرض إعادهتا إىل‬ ‫رغم كل ما ُمورس من ضغط من‬
‫ِ‬
‫الرغبات حتى تركاها‬ ‫نجاحها املطرد خيمد هذه‬ ‫حضن األرسة‪ .‬كان‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫وبمرور الوقت عاشت‬ ‫حتدد مصريها ِ‬
‫بنفسها يف هناية املطاف‪.‬‬ ‫َ‬
‫بكل تفاصيله ونوازعه‪.‬‬ ‫الغرب ِّ‬
‫َ‬
‫ٍ‬
‫بشكل عفوي من كريم كوهنا‬ ‫كانت هذه احلقيقة التي تسللت‬
‫معايريه‪ ،‬والتي اعتمد عليها يف قياس‬ ‫أن‬ ‫يؤكد‬ ‫عربية يصب يف ٍ‬
‫اجتاه‬
‫َ‬
‫مجال ناتايل‪ ،‬تظل عربية هي األخرى يف األساس‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ما صادفه من‬
‫يعرتف بأنه مل يصادف‬
‫َ‬ ‫كنموذج لألنثى‪ ،‬فمن الصدق أن‬‫ٍ‬ ‫لكنها‬
‫أي ٍ‬
‫أثر للزمن‪ ،‬فلو أدعت أهنا مل‬ ‫مثله من قبل‪ .‬ال يبدو عىل مالحمها ُّ‬
‫تتجاوز السادسة عرش‪ ،‬لكانت صادقة‪.‬‬
‫ربها عن جذوره بإشارات سلبية تتسق مع رفضه‬
‫مل يشأ أن خي َ‬
‫القديم‪ ،‬وخاصة حني علم أهنا من نفس املنبت‪ ،‬لكنه انتزع من‬
‫ِ‬
‫لكون احلياة بسيطة رائعة‪ ،‬والغريب مل‬ ‫يشري‬ ‫ما‬ ‫الديار‬ ‫يف‬ ‫ه‬ ‫ِ‬
‫تفاصيل‬
‫ُ‬
‫يكن يكذب‪ ،‬فالناس ‪ -‬حني يتخىل عن ِ‬
‫رفضه ‪ -‬يراهم مساكني‪،‬‬ ‫ُ‬
‫يصارعون يو َمهم كي ينتزعوا من قسوته ولو طيف ابتسامة‪ ،‬جتعل‬
‫حلياهتم معنى‪ ،‬يقبلون الضيم من أجل سعادة أوالدهم‪ ،‬فثمة‬ ‫ِ‬
‫مسئولية أخالقية لألب واألم يف هذه البالد‪ ،‬ال جتعل من األبناء‬
‫يستطيعون اخلروج من دائرة عنايتهم‪ ،‬يف معنى للعناية قد يتخذ عند‬

‫‪83‬‬
‫األب العريب سمة القداسة‪ .‬وربام هذا ما يفرس حرص أبوهيا عىل‬
‫عودهتا بمجرد أن أكملت تعليمها‪.‬‬
‫سطورا من‬
‫ً‬ ‫كانت ناتايل تسمعه بشغف غريب‪ ،‬وكأنه يتلو عليها‬
‫أساطري خمبوءة‪ ،‬أحيانا تندهش‪ ،‬وغال ًبا تبتسم يف إعجاب بام يقصه‬
‫عليها من تفاصيل عامل ربام ال تعرف عنه شي ًئا‪.‬‬
‫طلبها للرقص‪ ،‬فنهضت دون أن تسأله هل هو كعريب جييد‬
‫واضحا وهو يتاميل هبا عىل‬ ‫ال أم ال‪ ،‬لكنه مل ي ِ‬
‫بد انضبا ًطا‬ ‫الرقص فع ً‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫أنغام موسيقى كانت حمرضة‪ ،‬وأضواء تنتحل اخلفوت كي يقرتب‬
‫من وجهها يف حماولة إلبداء الرغبة يف تقبيلها‪ .‬والغريب أهنا أبدت‬
‫بقدر ما بدت‬ ‫ِ‬
‫إلرضائه‪ِ ،‬‬ ‫استسال ًما لذلك؛ ال من واقع أهنا تتساهل‬
‫وكأهنا تريد اكتشا َفه‪.‬‬
‫لذا حني انتهت الرقصة‪ ،‬مل يالحظ كريم أهنا تريد العودة‬
‫للطاولة ملواصلة احلديث‪ ،‬بل إما أهنا تنتظر موسيقى أخرى‪ ،‬أو تريد‬
‫االنرصاف ملكان آخر‪.‬‬
‫مال كريم للخيار الثاين‪ ،‬فدفع احلساب‪ ،‬وغادر املكان‪ ،‬مل متنحه‬
‫ناتايل معنى أنه قد جتاوز‪ ،‬بل تأبطت ذراعه ومها خيرجان لسيارة‬
‫تتجه ملكان آخر جاء من اختيارها‪.‬‬
‫جيدا‪،‬‬
‫هبطا ملكان أكثر رق ًيا مما كانا فيه‪ ،‬ويبدو أن عامله يعرفوهنا ً‬
‫فرحبوا هبا بشكل الفت‪ ،‬وأجلسوها يف مكان يطل عىل بحرية رائعة‬

‫‪84‬‬
‫تتألأل حوهلا أضواء خمتلفة األلوان‪ ،‬وبمجرد أن اعتدلت وتناول هو‬
‫معطفها ليضعه عىل مقعد آخر خال‪ .‬بادرته بقوهلا‪:‬‬
‫‪ -‬ملاذا أشعر أنك حزين‪ ،‬وإن مل تكن كذلك‪ ،‬فربام تائه تبحث عن‬
‫ٍ‬
‫يشء ما‪ ،‬ويبدو أنك تتلذذ ألنك مل جتده لآلن؟‬
‫االنطباع األول حياهلا‪ ،‬فلقد ذهب كريم‬
‫َ‬ ‫كان سؤال ناتايل حيطم‬
‫يف البداية لالعتقاد يف كوهنا سطحية بعض الشئ‪ ،‬لكنها عىل ما يبدو‬
‫متبرصة وصاحبة رؤية منضبطة‪ ،‬لذا فهو مل ينكر أنه حزين‪ ،‬حني بدأ‬
‫يتهيأ لإلجابة عن تساؤالهتا‪ ،‬وللصدق هو يبحث عن يشء ما‪ ،‬لكنه‬
‫مل يفهم إشارهتا لكونه يتلذذ ألنه ال جيد ما يبحث عنه‪.‬‬
‫ظلت تضحك وتذكره هبذه الثواين التي سبقت احلديث عن‬
‫بلده‪ ،‬هو مل يكذب يقينًا‪ ،‬لكنه كان يصارع رغبة بداخل تدفعه دفعا‬
‫أن يقوم بتشويه ما يعرفه عن األرض والناس يف بالده‪ ،‬ولو عىل‬
‫يب باألساس‪ ،‬أو لكي يربر هلا‬
‫سبيل جماملة ناتايل‪ ،‬طاملا أن هواها عر ٌ‬
‫يقينَها يف الالعودة‪.‬‬
‫رجل‬ ‫ِ‬
‫أصدقائه املقربني‪ ،‬لكنه ٌ‬ ‫مل ختربه أنه مثايل مثلام حيدث من‬
‫نظرها‪ ،‬يبحث فقط عمن يمنحه اإلذعان ألفكاره‪،‬‬ ‫ِ‬
‫وجهة ِ‬ ‫مدلل من‬
‫ويتوارى طو ًعا عن أولئك الذين يمتلكون جسار َة انتقاده‪.‬‬
‫بدي ما يشري لكونه قد تأمل‬
‫مل يستطع حتت تأثري ما يسمع أن ُي َ‬
‫َ‬
‫تطرق عىل احلديد وهو‬ ‫من ِ‬
‫رأهيا فيه‪ .‬لكنها مل ترمحه‪ ،‬إذ أرادت أن‬

‫‪85‬‬
‫السبب الذي جعلها تستجيب لنداء عينيه‪ .‬فلم‬ ‫َ‬ ‫ساخن؛ فأخربته‬
‫ٍ‬
‫إعجاب أو رغبة‪ ،‬أو يا ربام سقوط‬ ‫تكن الرسالة القادمة إليها تنم عن‬
‫ٍ‬
‫برجل‬ ‫استبد‬
‫َّ‬ ‫تأثري حضورها‪ ،‬وإنام هو يش ٌء أقرب للهفة‪ٌ ،‬‬
‫شوق‬ ‫حتت ِ‬
‫النجاة من حريتِه وختبطه‪ .‬أو قد‬
‫ِ‬ ‫عقار‬
‫َ‬ ‫يمنحه‬ ‫كان ينتظر قدوم ٍ‬
‫أحد‬
‫يكون رباط الدم الذي يتوارى يف دواخلنا حتى جيد من حيرضه عىل‬
‫الظهور‪.‬‬
‫ال يذكر أنه ضحك ضحكة بمثل هذا الضجيج من قبل‪ ،‬ضحكة‬
‫جعلت من رواد املكان يتجهون بنظرهم نحوه‪ .‬حتى أهنم من فرط‬
‫التعاطف ضحكوا معه‪ .‬بينام كان حياول يف ضعف متناه أن خيفي‬
‫صدمته حيال تفسريها لشخصيته من جمرد انطباع أول‪.‬‬
‫واملدهش أهنا فهمت رس الضحكة‪ ،‬فأخربته ملاذا مل تنفر من‬
‫اقرتابه منها وإرصاره أن يبدو يف أثناء الرقص كأنه يقبلها‪ ،‬بل إهنا‬
‫متنت أن خيترص كل هذه املقدمات ويفعلها؛ ألهنا يقينًا تريده أن‬
‫يفعلها‪ ،‬ويقبلها بعنف‪ .‬هنالك مل تنكر بالغة أثره منذ الساعة األوىل‬
‫ألعامل املؤمتر‪ ،‬وال استطاعت االنفالت من تركيزه املتطرف حيال‬
‫املعلومات التي راح يسجلها عىل هاتفه‪ .‬لكنها دفعته ألن خيربها عن‬
‫رس حزنه وهذا اليشء الذي يبحث عنه‪.‬‬
‫يتيام يكاد ال يتذكر أباه‪ ،‬وأمه قد ماتت منذ‬
‫أخربها كريم كونه ً‬
‫فرتة ليست بالبعيدة ومل يكن يمتلك من يشء مجيل ورائع غريها‪.‬‬
‫وإن كان عىل ما يبحث عنه‪ ،‬فإن األزمة كلها تكمن يف عدم معرفته‬

‫‪86‬‬
‫هبذا اليشء‪ ،‬هو فقط يبحث‪ ،‬لكنه يعجز عن توصيف ما يبحث عنه‪.‬‬
‫لكنه أراد أن يدحض ما ذهبت إليه كونه يستعذب هذه املعاناة‪ .‬فال‬
‫جديرا بالنظر غري أنه موظف ناجح ومتميز يف حدود ما‬
‫ً‬ ‫يذكر شي ًئا‬
‫يفهمه‪ .‬بل إن منطق السعادة حيال أي يشء ال وجود له يف حياته‪.‬‬
‫كثريا كي خيتفي خلف الدخان‪ ،‬رغبة لالختفاء ورغبة مضادة‬
‫يدخن ً‬
‫أن ال يراه من أحد بوضوح‪ .‬يتوارى ال ألهنم يرفضون قناعاته‪ ،‬لكنه‬
‫ال يريدهم أن يصادفوا حلظات انكساره‪.‬‬
‫حاول اقتنا َء جواز سفر أوريب‪ ،‬ليس ألنه ال يطيق َ‬
‫محل جواز‬
‫أرضا أخرى ال جتد من وسيلة حاسمة لعقابه‪.‬‬
‫سفر عريب‪ ،‬لكنه يريد ً‬
‫قد يبدو مدل ً‬
‫ال فعالً‪ ،‬ال عن إيامن بجدارته بالتدليل‪ ،‬فهو اب ٌن وحيد‬
‫ال مل يرحم طفولته‪ ،‬وأبدى من‬ ‫ٍ‬
‫ألرملة وحيدة‪ ،‬لكنه كي ال يبدو مدل ً‬
‫ِ‬
‫الشدة واالندفاع أحيا ًنا كي ال تلحق به هذه التهمة‪ .‬كون امرأة هي‬
‫من تصدت لرتبيته‪ ،‬وهذا املعنى يف ثقافة العرب قد يبدو معي ًبا‪.‬‬
‫كانت ناتايل وهي تسمعه تلقي عليه بنظرات هلا ألف معنى‪،‬‬
‫استلبها‪ ،‬بدا منطقه مرت ًبا ومقن ًعا‪ ،‬واألهم من ذلك كله أنه مل ينتحل‬
‫الكذب أو املراوغة‪ .‬رأت أن احلديث قد اقرتب من كونه اعرتاف‬
‫مذنب لكاهن يف كنيسة‪ ،‬أو مريض جيلس فوق أريكة كي يمنح‬
‫طبيبه مفاتيح عالجه‪.‬‬
‫سألته يف وضوح‪:‬‬

‫‪87‬‬
‫‪ -‬ما يمنعك أن تبقى هنا طاملا أن كل القريبني منك قد رحلوا؟‬
‫فأخربها أن ثمة رباط خفي ال يفهمه‪ ،‬وربام ال يريد أن يفهمه‪.‬‬
‫هو فقط بني احلني واآلخر يتحرك كالوخز يف ضمريه‪.‬‬
‫أخربته أن قيمة احلياة ال يمكن حتديدها وأنت حي‪ ،‬جيب أن‬
‫متوت أوالً؛ كي تستقيم املقارنة‪ ،‬فاحلياة يف أوربا ليست أمجل‪ .‬فحني‬
‫تتحدث عن التزام أخالقي يتجه من األب العريب صوب أوالده‪،‬‬
‫فهذا معناه أن ثمة التزاما آخر من األوالد ألبيهم‪ .‬فكيف حتكم‬
‫عىل من يودع أباه يف دار للمسنني؛ كي يتخلص من أعباء رعايته‪.‬‬
‫احلضارة هنا سحقت البرش‪ ،‬حولتهم لرتوس يف ماكينة منزوعة‬
‫الرمحة‪ .‬فهل ستتحمل؟‬
‫بعد صمت عابر‪ ،‬ختلصت ناتايل بذكاء من هلجة الوعظ‪ ،‬وطلبته‬
‫للرقص‪ ،‬لكنه تثاقل وشعر أن قدميه ال حتماله‪ ،‬فطلب منها أن‬
‫تنتظر قليالً‪ .‬كان صوته احلقيقي الذي أخفاه طيلة الوقت هو ما‬
‫ينطق بالوجع الذي أصابه يف هذه اللحظات‪ ،‬لذا وحني نظر إليها‬
‫ليتبني صدى كلامته وجدها تبكي بدون احتياط منها‪ .‬بل مدت‬
‫يدها لتخطف يده لتطبع عليها قبلة ال يدري من موقعه هل هي‬
‫جدا حاسم عن انفجار مشاعر‬ ‫بقصد االعتذار‪ ،‬أم هي تعبري ً‬
‫حقيقية قد ُخلقت اآلن عىل صدا طقس من الشفافية مل جيرب أن‬
‫يعيش أجوائه يو ًما‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫خرجا بعد مساحة من الصمت والنظرات‪ ،‬وكام حدث يف املرة‬
‫األوىل دفع احلساب كله‪ ،‬ابتسمت ومل تعلق‪.‬‬
‫سارا بمحاذاة البحرية‪ ،‬دقائق وتنكشف السامء عن مطر غزير‪،‬‬
‫حاول االختباء وأخجله أهنا مل تستجب‪ ،‬بل دعته أن يغتسل معها‬
‫بامء املطر‪ ،‬بل وزيادة يف تعاطي اجلنون خلعت ناتايل حذائها لتسري‬
‫يف األرض املبتلة‪ ،‬ودعته أن ال يرتك شي ًئا يفصله عن األشياء الربيئة‪،‬‬
‫فليتصد للمطر واهلواء والريح فليس هناك ما هو أصعب من البرش‬
‫بينام تظل الطبيعة أكثر أد ًبا ورمحة من كل الناس‪.‬‬
‫يتحمل وقع كلامهتا‪ ،‬فاندفع حيضنها ويقبلها‪ .‬بل‬ ‫َ‬ ‫مل يستطع أن‬
‫ال للخلف كي يرى صدا ما صنعه‪ ،‬وجدها متأثرة إىل‬ ‫حني عاد قلي ً‬
‫درجة‪ ،‬وودعها عىل أمل أن يعو َد ذات يوم هلذه البالد‪ ،‬فيا ربام وجد‬
‫احلب الذي طاملا بحث عنه‪ .‬هنالك ضحكت وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬عريب كاذب‪ .‬إذن أنت تبحث عن احلب‪ .‬ولكم أمتنى أن جتده‬
‫عندي‪.‬‬
‫ال يدري كريم حني وصل لغرفته بالفندق‪ ،‬ما هذا االتساع الذي‬
‫حدث لرئتيه‪ ،‬خفيف يكاد ال يلمس األرض‪ .‬لكنه دون أن يفهم‬
‫ملاذا من فرط احلكمة املترسبة من حديثها مل يشعر بأن ما يتحرك اآلن‬
‫يف قلبه هو احلب‪ ،‬بل هو يشء أكرب من أن يوصف‪ ،‬أكرب حتى من‬
‫الصداقة‪ .‬فلقد صار يف عينيها كائنًا زجاج ًيا‪ ،‬مل يستطع أن خيفي شي ًئا‬
‫حيال نظراته اجلميلة التي اخرتقته بالكلية‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫مرت األيام برسعة‪ ،‬ويف حلظة فارقة‪ ،‬قرر الرحيل‪ .‬فزار أيوب‬
‫جدا‪ .‬ومل ينس أن يرتك‬
‫يف بيته‪ ،‬والذي وعد بزيارته يف الديار قريبا ً‬
‫لناتايل رسالة وداع‪ ،‬عىل وعد بعودة يف القريب‪.‬‬
‫***‬

‫‪90‬‬
‫(‪)12‬‬

‫ِ‬
‫زيارة‬ ‫عاد كريم للعمل بموق ٍع آخر‪ً ،‬‬
‫بعيدا عن هنلة‪ ،‬ربام فكر يف‬
‫سوزانا عىل إثر ما سمعه من قصص أيوب‪ ،‬منذ غادر الوطن ورحل‬
‫ِ‬
‫توصيف صاحبه‪ ،‬الذي أرسل له جمموعة‬ ‫بعيدا‪ .‬الغريب أنه عىل حد‬
‫ً‬
‫من الكتب‪ ،‬مل ِ‬
‫يأت منذ غادر‪ .‬واملدهش ح ًقا أن صدي َقه مل يعرفه يف‬
‫زيارة للنمسا منذ فرتة‪ .‬وصارت من ِ‬
‫بعدها‬ ‫ٍ‬ ‫الداخل‪ ،‬بل عرفه يف‬
‫صداقة عىل درجة من العمق‪.‬‬
‫عاش كريم حال ًة شاملة من االنشغال‪ ،‬مل يعد يفكر يف يشء‪ ،‬بل‬
‫اندفع بشكل حمموم وكأنه يبحث عن ثروة‪ .‬ال يدري ملن سيجمعها‪.‬‬
‫لكنه عىل األرجح قد فكر يف الرحيل النهائي‪ ،‬وتأسيس ٍ‬
‫حياة جديدة‬ ‫َ‬
‫عىل ِ‬
‫غرار أيوب‪ ،‬طاملا أن هناك ناتايل بالطبع‪.‬‬
‫ناتايل؟؟‬
‫حدسه أهنا عربي ُة‬
‫َ‬ ‫أثر االنطباع األول‪ ،‬ويصدق‬
‫حني يستعيد َ‬
‫قبيل املصادفة‪ ،‬بصم ُة‬ ‫ِ‬
‫لكون ما حدث من ِ‬ ‫اهلوى واجلذور‪ ،‬ال يذهب‬

‫‪91‬‬
‫ِ‬
‫الروح املتوحدة التي متنحنا ذاك التصور‪ ،‬الشفرة اخلاصة التي تعلن‬
‫ُ‬
‫اللون القمحي اجلميل الذي‬ ‫نفسها حيال من هم خارج عاملنا‪،‬‬‫عن ِ‬
‫الشمس برفق‪ ،‬الثور ُة اجلاحمة التي تنطلق من ِ‬
‫شعرها‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫داعبته‬
‫النفس من تعاطي‬
‫َ‬ ‫النظر ُة الذائبة التي خترتق الضلوع‪ ،‬ومتنع‬
‫ِ‬
‫الكذب املنمق‪ .‬لقد اندجمت عىل ما يبدو مع هذا العامل‪ ،‬الذي يرفض‬
‫أن َ‬
‫يلون احلقائق‪ ،‬ويمنح األكاذيب مرشوعي َتها‪.‬‬
‫ِ‬
‫عامل الوقت‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الشخصية العربية مع‬ ‫ِ‬
‫مركبات‬ ‫كل‬‫لقد جتاوزت َّ‬
‫ِ‬
‫ملحاكمة تراث أبوهيا الذين‬ ‫ِ‬
‫بالكلية عن التصدي‬ ‫وانفصلت‬
‫ٍ‬
‫كدليل‬ ‫السذج‬
‫ُ‬ ‫يبدوان وقد استسلام إلرادهتا‪ .‬فهيئ ُتها قد يفرسها‬
‫ِ‬
‫سلطة الوالدين‪ .‬لكنها عىل‬ ‫االنفالت‪ ،‬وخروج طوعي من‬ ‫ِ‬ ‫عىل‬
‫ِ‬
‫برشوط عاملها‪ ،‬أو عىل األقل عاشته بام‬ ‫الغالب تعيش احليا َة‬
‫قناعاهتا‪ ،‬دون أن تصطد َم باملخالف هلا‪ .‬ونجحت‬ ‫ِ‬ ‫يتوافق مع‬
‫ٍ‬
‫بتطرف كي تعطيهام معنى أن احلياة يف ثوهبا املقبول ليست هنا‪،‬‬
‫ليست يف هذا العامل‪.‬‬
‫االتصال هبا‪ ،‬فلم ترد من ِ‬
‫أول‬ ‫َ‬ ‫استبد بكريم الشوق‪ ،‬فحاول‬
‫مرة‪ ،‬مل تأخذه الظنون‪ ،‬فلن تنساه عىل ما بدا منها‪ ،‬فاتصلت هي بعد‬
‫صوهتا خمتل ًفا‪ ،‬تسأله‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫باالنشغال قليال‪ .‬مل يكن‬ ‫ٍ‬
‫رسالة قصرية تتعلل‬
‫ِ‬
‫موعد زيارته الثانية‪ .‬مل جيد إجاب ًة واضحة‪ ،‬لكنه أخربها بأهنا‬ ‫عن‬
‫قريبة‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫ِ‬
‫مشاعرمها لعاطفة‬ ‫ِ‬
‫املستقبل فلو نجحا يف ترمجة‬ ‫حدثته عن‬
‫حقيقية‪ ،‬فربام أقامت معه حيث هو‪ .‬مل جيد ما يقوله‪ ،‬وأدركت عىل‬
‫ُ‬
‫فالرجل عىل ما يبدو يريد‬ ‫ٍ‬
‫قبول عنده‪،‬‬ ‫ِ‬
‫البعد أن رغب َتها ليست حمل‬
‫الرحيل‪ ،‬فقط الرحيل اعتقادا منه أن احليا َة يف ِ‬
‫بلده قد ال تصلح له‬ ‫ً‬
‫وهلا‪.‬‬
‫إذن ما هي أزمة ناتايل كي تغادر هذا كله من ِ‬
‫أجله‪ ،‬ومن يدريه‬ ‫َ‬
‫أهنا ستغادر من ِ‬
‫أجل االنتصار حل ِّبها فقط‪ .‬فقد تكون ناتايل نفسها‬
‫صدى ملعاناتِه هنا‪.‬‬‫ً‬
‫ٍ‬
‫بصوت تبينت قلقه‪:‬‬ ‫تفاد ًيا للجدل أخربها‬
‫‪ -‬إهنا فكرة جيدة‪.‬‬
‫يمرر بعض النكات‬ ‫لكنها أبدت من التوجس الكثري‪ .‬حاول أن َ‬
‫فرط شعوره إنه قد تورط يف الصمت‪ ،‬لكنها أبدت عدم ِ‬
‫فهمها‬ ‫من ِ‬
‫َ‬
‫تعيد عليه كال َمها‬
‫هلذا النفور احلاد الذي يمنعه البقاء‪ .‬ومل تشأ أن َ‬
‫القديم‪ ،‬عن عيوبِه التي ال جتعله يرى أي معنى إجيايب يف حياتِه‪ .‬أو‬
‫َ‬
‫ليسأهلا‪ ..‬ملاذا مل تعد ولدهيا أرسة تنتظر منها العودة؟‬ ‫ترتك له نفسها‬
‫ِ‬
‫بسالمة ن ّية تصيب كريم باحلزن‪ .‬شعر‬ ‫ظلت الدردشة تتحرك‬
‫ِ‬
‫املتوفر من انطباعات هي‬ ‫أن موقفه قد جيعله خيرسها‪ ،‬فناتايل عىل‬
‫مرشوع يود نجاحه‪ ،‬وواحدة من ِ‬
‫أهل الثقة يريد نصيحتها ورأهيا‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫بدالل األنثى بنظراتِه‬
‫ِ‬ ‫رغام عنها حني ذكرته‬ ‫سقطت ناتايل ً‬
‫ٍ‬
‫كدعوة ألن جترب احلياة معه‪ ،‬فلامذا يبدوان اآلن‬ ‫هلا‪ ،‬والتي بدت‬
‫بطريقة ختتلف عن األخرى‪ .‬فاجأها باعرتافِه أهنا‬
‫ٍ‬ ‫وكأهنام يفكران‬
‫لآلن كالضمري‪ ،‬وما خييفه من حديثِها‪ ،‬رغم ما ينطوي عليه من ود‬
‫صادق‪ ،‬أن يقع فقط يف ِ‬
‫حمبة ذاك الضمري‪ ،‬وعىل ما يفهم‪ ،‬ليس سه ً‬
‫ال‬ ‫َ‬
‫يصوب ويراقب حرك َته وتفاصي َله‬ ‫ِ‬
‫يقع املر ُء يف حمبة ضمريه الذي َّ‬
‫أن َ‬
‫وأحيا ًنا يعاقبه‪.‬‬
‫بصدق جتاوز معنى‬‫ٍ‬ ‫لكنها بدالل متطرف أعلنت أهنا تريد‬
‫واألخوة ا ُملنزهة‪ .‬فهي تريد ح اًّبا استثنائ ًيا‪.‬‬
‫َّ‬ ‫الصداقة املتينة‪،‬‬
‫ِ‬
‫ببساطة‬ ‫شعرت ناتايل أن حدي َثها قد يصل ملعنى اهتامه‬
‫ِ‬
‫شعوره بعدم القدرة‬ ‫تصوراتِه حياهلا‪ ،‬فهو من جعلها تبدأ من عند‬
‫معايري بلده‪ ،‬ورشوط العيش فيها‪ ،‬وما شعرت‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫االتساق مع‬ ‫عىل‬
‫ضوء الساعات الست‬‫ِ‬ ‫به يقينًا لن جيع َلها حمايد ًة معه‪ .‬ألهنا عىل‬
‫َ‬
‫حترك‬ ‫كبريا قد‬
‫التي قضتها بصحبته‪ ،‬آمنت أن يف قلبها ثمة شي ًئا ً‬
‫ٍ‬
‫ساعات فقط هي كل ما قضتها برفقته‪ ،‬وها هي تشعر‬ ‫ست‬
‫نحوه‪ُّ .‬‬
‫بأهنا حتبه‪ .‬أيعقل هذا؟ هل ست ساعات كافية كي حتب إنسا ًنا‬
‫وتتعلق به؟ لكنها عىل كل حال تصدق قلبها‪ ،‬أو عىل األقل تريد‬
‫ٍ‬
‫بافتقاد مل تكن تراهن عىل‬ ‫أن تصدقه‪ ،‬ألهنا بعد ِ‬
‫سفر كريم شعرت‬
‫مدى رضاوته‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫ال يدري كريم من أين أتاه الر ُد عىل هذه املشاعر الدافئة ح ًقا‪ ،‬مل‬
‫ٍ‬
‫بكلامت عىل‬ ‫ُ‬
‫اخلجل أن ير َّد‬ ‫يرد بواقعية ما يشعر به فعالً‪ ،‬بل دفعه‬
‫غرار‪ ..‬ومن ُيدريك فلعل ما أمحله لك يف قلبي أكرب من منتهى‬
‫ِ‬
‫اعتبارها سمعت يف ختام هذه‬ ‫ُ‬
‫احلديث عىل‬ ‫توقعاتِك‪ .‬هنالك توقف‬
‫األمسية ما يرضيها‪.‬‬
‫***‬

‫‪95‬‬
‫(‪)13‬‬

‫ِ‬
‫األخبار‬ ‫ِ‬
‫بموت “زياد” كثاين أصعب‬ ‫بعد أيا ٍم من عودة كريم‪ ،‬علم‬
‫َ‬
‫أرسل له رسال ًة‪ ،‬كتب فيها‪:‬‬ ‫بعد موت أمه‪ ،‬وكان قبلها قد‬
‫“ال أعرف كيف أعرب عن اشتياقي إليك‪ ،‬فأنت كام تعرف‬
‫ِ‬
‫لرحيل أمك‪،‬‬ ‫صديقي الوحيد‪ ،‬وما تبقى من عائلتي‪ .‬ما زلت أتأمل‬
‫فهي مل تكن أمك وحدك‪ ،‬بالتأكيد تدرك ذلك يا صديقي‪ .‬لقد كان‬
‫أزايد عىل حزنِك‪،‬‬
‫َ‬ ‫رحي ُلها قاس ًيا‪ ،‬مل أستطع ً‬
‫أبدا جتاوزه‪ ،‬ال أريد أن‬
‫أبالغ حني أخربك أن حزين عليها مضاع ًفا‪ .‬أنت ال تفهم‬ ‫لكنني لن َ‬
‫كل ما تبقى لك يف احلياة عىل‬ ‫تكون هذه املرأة هي ُّ‬
‫َ‬ ‫يا كريم معنى أن‬
‫فلت‬
‫وجودها بيدي‪ ،‬وأخشى أن ُت َ‬ ‫ِ‬ ‫كنت أقبض عىل‬ ‫اإلطالق‪ ،‬لقد ُ‬
‫نبل هذا العامل‪ .‬حني رحلت انتهت‬ ‫من بني أصابعي الرق ُة الباقية من ِ‬
‫حيايت‪ ،‬مل تكن يل حيا ٌة ُتذكر قبلها‪ ،‬فأنا أختبط بني الوظائف‪ ،‬وأكافح‬
‫أجل لقمة العيش‪ ،‬وال أعرف اجلدوى من حيايت‪ ،‬فأنا أعيش‬ ‫من ِ‬
‫كل ليلة أشعر‬‫فحسب‪ ،‬لكن الدنيا ال ترتك يل جماالً كي أعيش‪ ،‬ففي ِّ‬
‫عيل‪ ،‬تطبق عىل صدري‪ ،‬ال أبالغ‪ ،‬لكنني فع ً‬
‫ال‬ ‫َ‬
‫اخلناق ّ‬ ‫بأهنا ُتض ِّيق‬

‫‪96‬‬
‫أحدا كي‬
‫استجامع صويت ألنادي ً‬ ‫َ‬ ‫أعجز عن التنفس‪ ،‬وأحاول‬
‫ينقذين‪ ،‬لكنني ال أعرف من أنادي‪ ،‬وأظل أفتش يف ذاكريت حتى‬
‫شهوهتا يف تعذيبي‪”.‬‬
‫َ‬ ‫أفقد الوعي‪ ،‬أو متنحني الدنيا يو ًما آخر ل ُتشبع‬
‫َ‬
‫رسالة إنسان بدا حيترض‪ ،‬رسال ٌة مغرقة يف اليأس‪ ،‬تشري بقوة‬
‫القرتاب األجل‪ ،‬قرأها ومل يرد عليها لكونه سيعود قري ًبا‪ .‬ليته أدرك‬
‫أهنا كلامته األخرية‪ ،‬بالتأكيد يندم كريم عىل تأجيل الرد‪ ،‬لكن ما نفع‬
‫الندم!‬
‫لقد عانى زياد من ضيق الفرص‪ ،‬وعدم تقدير مواهبه وقدراته‪،‬‬
‫التي مل يسع أحد الكتشافها‪ ،‬أو إتاحة الفرصة أمامها للظهور‬
‫والتفتح يف بستان احلياة‪.‬‬
‫ِ‬
‫قدرات كريم عىل التحمل‪،‬‬ ‫كانت مفاجأ ُة سقوط زياد أكرب من‬
‫يشتك من يشء‪ ،‬عاد من ِ‬
‫عمله الروتيني الكريه‪ ،‬فسقط‬ ‫ِ‬ ‫فهو مل‬
‫ُ‬
‫الرجل الفارع الطول‪ ،‬املتوسط اجلسم عىل األرض‪ ،‬مل حيرك ساكنًا‪،‬‬
‫الناس الذين عربوا بجواره أنه قد مات‪ .‬فنقلوه للمستشفى‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ظن‬
‫ويف ر َّدة فعل غريبة‪ ،‬أفاق ليسأل من حوله‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا حدث؟‬
‫بعض اهلدوء‪ ،‬وزالت عنه مالمح التعب‪ ،‬لكن ما من ٍ‬
‫أحد‬ ‫عاد ُ‬
‫ُ‬
‫األمور قد اختذت منحى‬
‫َ‬ ‫تفسريا هلذا السقوط‪ .‬ويبدو أن‬
‫ً‬ ‫منحه‬
‫النهاية‪ ،‬فسقط جمد ًدا‪ ،‬لكن يف شقته هذه املرة‪ ،‬ومل جيد مع توحده‬

‫‪97‬‬
‫من يسعفه‪ .‬وقتها ِقيل أن رائحة املوت التي انبعثت من شقته هي ما‬
‫أرشد جريانه إىل موته‪.‬‬
‫شاب مثله يف ِ‬
‫عمر‬ ‫ٍ‬
‫حلظة خاطفة‪،‬‬ ‫لقد تبخر زياد من عاملنا يف‬
‫ٌ‬
‫ِ‬
‫الكتشاف احلياة؛ احليا ُة‬ ‫الزهور ختطفه املوت‪ ،‬ومل يمنحه فرص ًة‬
‫احلقيقية التي مل تسنح له فرص ُة عيشها‪ .‬هكذا فجأة توقف قل ُبه عن‬
‫كل شئ‪.‬‬‫العمل‪ ،‬وانتهى ُّ‬
‫ُترى ما الذي فكر فيه زياد بينام ُيصارع املوت لينال حقه يف‬
‫مستسلام لقبضة املوت اخلاطفة؟‬
‫ً‬ ‫مهتام باملزيد أم كان‬
‫احلياة؟ أكان ً‬
‫ال أحد يعلم ما شعر به زياد حينها عىل وجه التحديد‪ ،‬لكن املؤكد‬
‫أنه قد نظر حوله‪ ،‬يبحث بعينيه عمن ينقذه‪ ،‬فلم جيد‪ ،‬وملا اقرتبت‬
‫النهاية‪ ،‬أراد أن يسرتجع أمامه كل الصور عسى أن جيد من بينها‬
‫صورة يقبض عليها حتى النهاية‪ ،‬فلم جيد‪ ،‬لقد كانت الدنيا أقوى‬
‫من هشاشة زياد وأشد قسوة‪.‬‬
‫ينعتق من مؤثرات هذا‬ ‫ٍ‬
‫لفرتة طويلة مل يستطع فيها أن َ‬ ‫مكث كريم‬
‫َ‬
‫يرحل‬ ‫الفقد‪ ،‬فظل يامرس حالة شاملة من اإلنكار‪ ،‬فال يمكن أن‬
‫كل من حيبهم هبذه القسوة‪ ،‬بل كان موت زياد عىل هذا النحو مقل ًقا‬
‫ومرع ًبا يف آن م ًعا‪ ،‬فمع هذا التوحد قد تبدو النهاي ُة بطعم الكابوس‪.‬‬
‫يف حلظة يستطيع كريم توصيفها بالعمياء‪ ،‬تلقى كريم اتصاالً‬
‫من ناتايل ختربه أهنا أثناء يوم عمل عادي شعرت بانقباض‪ .‬فهل هو‬
‫بخري؟‬

‫‪98‬‬
‫أخربها بام حدث لزياد‪ ،‬صديقه الوحيد‪ ،‬وأثر الطريقة التي مات‬
‫هبا عىل ِ‬
‫روحه ومقاومته‪ .‬حاولت قدر ما تستطيع أن ُترسي عنه‪.‬‬
‫َ‬
‫تتحدث عن نفسها‪،‬‬ ‫بعد كثري من كلامت املواساة طلب منها أن‬
‫مل تفهم رس اقتحام الطلب يف ذاك اجلو املمتلئ بالشجن واملوت‪،‬‬
‫ِ‬
‫جتارهبا قبل‬ ‫لكنها حتسست أن صمتها سوف يقلقه‪ ،‬فتحدثت عن‬
‫تلتقي به‪.‬‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫هنالك كان كريم يسمعها بشغف‪ .‬فناتايل منذ أكثر من عامني‬
‫شعورا غري ًبا بالعزلة‪ ،‬فرغم أن حياهتا تسري بشكل جيد‪ ،‬لكنها‬
‫ً‬ ‫تعاين‬
‫ِ‬
‫انتشاهلا من شعور دفني‬ ‫ٍ‬
‫بقادر عىل‬ ‫تفتقد شي ًئا ما‪ ،‬فلم يعد العمل‬
‫باحلنني لرجل يستطيع احتواءها‪.‬‬
‫بعيدا عن الرجل الذي اعتقدت أنه‬
‫إنتاج حياة موازية‪ً ،‬‬
‫حاولت َ‬
‫ِ‬
‫البحث املجهد‪ ،‬فامطلت مع معظم النامذج التي كانت جدير ًة‬ ‫هناية‬
‫ِ‬
‫لالرتباط هبا‪ ،‬لكنها اآلن تشعر بفرا ٍغ رهيب‪.‬‬
‫أقلقت الكلم ُة كريم‪ ،‬فسارع للسؤال‪:‬‬
‫‪ -‬حتى ونحن معا؟‬
‫فأعادت السؤال بسؤال‪:‬‬
‫‪ -‬مادمت أشعر بتجمد أفكارك؛ فهل من املمكن أن ننجح؟‬
‫ِ‬
‫استسالمه‬ ‫صمتت وكأهنا تستطلع عىل ِ‬
‫البعد مالحمه‪ ،‬شعرت مع‬
‫ٍ‬
‫بوضوح يوم سهرا م ًعا‪.‬‬ ‫ألفكاره بعدم قدرته عىل إبداء الوله الذي رأته‬

‫‪99‬‬
‫بل إن خصوصية مشاعره بعد سفره بدت مرتاجع ًة حلساب شكواه‬
‫من الوضع‪ ،‬الذي ال تعرف عنه شي ًئا يقينًا أو عىل األقل ال متلك‬
‫تفسريا واضحا ومرحيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫حياله‬
‫ِ‬
‫كاملخمور‬ ‫كان كريم وكأنه ال يسمع شي ًئا من كل ما يقال‪ ،‬بدا‬
‫ِ‬
‫بطول عمره يعيش يف اهلواء‪.‬‬ ‫الذي ال يفيق من سكرته‪ ،‬وكأنه‬
‫تلفق مشاعره؛ كي متنحه ما‬ ‫ما هذا العبث ؟ ملاذا حتاول ناتايل أن َ‬
‫ِ‬
‫لالبتعاد عنها‪ .‬فلقد كان االتصال داف ًئا يف البداية‪ ،‬وهو ما‬ ‫يساعده‬
‫مبتهجا إىل درجة‪ ،‬متناس ًيا أزم َة موت صاحبه‪ ،‬ومن ثم وصل‬‫ً‬ ‫جعله‬
‫حدي ُثها ملنعطف إبداء أزمة ِ‬
‫حياهتا بال رجل حتبه‪.‬‬
‫‪ -‬هل يف حياتك يشء يمنعك حمبتي؟‬
‫متنحه الراحة‪ ،‬بل دفعت بتفكريه لالجتاه كوهنا‬
‫مل حتاول ناتايل أن َ‬
‫تعامله بنفس ما أشار له من فكرة الضمري‪ .‬فكيف يراهن أهنا بال‬
‫تاريخ‪ ،‬والعرب غال ًبا ليسوا منفتحني هلذه الدرجة حني يصادفون‬
‫ِ‬
‫سنوات عمرها جتارب كثرية‪ ،‬أو عىل األقل ملتهبة‪،‬‬ ‫امرأ ًة حتمل يف‬
‫حمطام لقلبها‪.‬‬
‫كان زواهلا ً‬
‫يفتح‬
‫صوت كريم‪ ،‬بل وزيادة يف اليقني طلبت ناتايل أن َ‬ ‫ُ‬ ‫تغري‬
‫يكذب عليها أو يبدو وقد تأثر فعالً‪،‬‬
‫َ‬ ‫الكامريا‪ .‬وألنه ال يريد أن‬
‫جدا سيقوم بإصالحه‪.‬‬ ‫ادعى أن بالكامريا ثمة عطل‪ ،‬قري ًبا اًّ‬
‫‪ -‬هل يؤملك أن أكون امرأة عاشت الكثري من التجارب؟‬

‫‪100‬‬
‫‪ -‬ال مطل ًقا‪ ،‬وإن كنت بمثالية متطرفة أمتنى أن أكون األول يف‬
‫حياة الفتاة التي أغرمت هبا‪.‬‬
‫سياق احلديث الذي تشعب ألكثر من طريق‪ ،‬أخربته ناتايل‬ ‫ِ‬ ‫يف‬
‫عديم التجربة‪ .‬رغم صعوبة‬ ‫ا‪،‬‬ ‫بكر‬ ‫ً‬
‫ال‬ ‫رج‬ ‫تلتقي‬ ‫أن‬ ‫القديم‬ ‫ها‬ ‫ِ‬
‫بحلم‬
‫َ‬ ‫ً‬ ‫َ‬
‫جتد هذا الرجل يف املجتمع األوريب‪.‬‬‫أن َ‬
‫ٍ‬
‫إشارة مترسعة نو ًعا‪ .‬إن هذا النموذج‬ ‫الغريب أن باغتها كريم يف‬
‫يعرف أن إجاب ًة عىل هذا‬
‫َ‬ ‫كان زياد صاحبه يمثله خري متثيل‪ .‬دون أن‬
‫ِ‬
‫بدوره‪.‬‬ ‫الكثري من التجارب‬ ‫النحو قد تعني أنه قد خاض‬
‫َ‬
‫كانت من الذكاء أن أملحت لكونِه عريض التجربة وله الكثري‬
‫من الضحايا‪ .‬وحني اكتشف السقطة أخربها كوهنا حماوالت مل تكن‬
‫ارتياحها عىل اعتباره سيغفر هلا ما حدث قبل‬
‫َ‬ ‫تتسم باجلدية‪ .‬فأبدت‬
‫تلتقي به يف هذه األمسية‪.‬‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫ِ‬
‫رصف‬ ‫عتيدا‪ ،‬وكان البد من‬
‫حتت تأثري ما قالته ربام بدا رشق ًيا ً‬
‫انتباهها عن أي شعور سلبي كونه لن َ‬
‫يقبل ماضيها مهام كانت‬
‫تفاصيله بسيطة‪ .‬فلن يستطيع انتحال نموذج رجل أوريب ال يبايل‬
‫هبكذا أشياء‪.‬‬
‫صمت عارض سمعها‬ ‫ٍ‬ ‫ويبدو أهنا قد فهمت ما يرمي إليه‪ ،‬فبعد‬
‫ِ‬
‫عطل الكامريا‬ ‫واستثامرا ملا سمعته عن‬
‫ً‬ ‫تضحك ضحكة هلا معنى‪.‬‬
‫راحت تقص واحد ًة من هذه التجارب‪ .‬ال لكي يفهم ما حدث‪ ،‬بل‬
‫لكي يفهم الطريقة التي تتعاطى هبا مع ِ‬
‫أمورها‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫فلقد التقت بنموذج اعتقدت إنه مناسب‪ ،‬شاب من نفس‬
‫األرض‪ ،‬مل تتقاطع مع ثقافته‪ ،‬ومل يزاحم تفكريها مركبات الرشق‪،‬‬
‫وهي تعيش معه احلالة عىل أمل أن تتطور العالقة‪ .‬ورغم كل ما‬
‫ِ‬
‫اندماجها الواضح مع تفاصيلها‪ ،‬فحني وصلت للقرار‬ ‫يبدو من‬
‫أو صدقت الرغبة‪ ،‬طلبت من والدهيا الرحيل إليها كي يشاركاها‬
‫الرأي‪.‬‬
‫إمارات حتفظ‪ ،‬ربام لكثرة ما‬
‫ُ‬ ‫يف هذا اللقاء ظهرت عىل أبيها‬
‫ِ‬
‫الشباب األوريب من معلومات‪ ،‬قد ال تكون صحيحة‬ ‫يفهمه عن‬
‫عىل الدوام‪ ،‬بينام كانت أمها كرشقية ختشى عىل ابنتها تطاول الزمن‪،‬‬
‫ومن ثم تفقد رفاهية االختيار‪.‬‬
‫متجها بقوة‬
‫ً‬ ‫ووفق هذا املعنى وقفا وراء قرار ناتايل‪ ،‬الذي بدا‬
‫إقناع نفسها بعيوبه‪،‬‬
‫صوب هذا الشاب‪ .‬عامان تقري ًبا وناتايل حتاول َ‬
‫مل ترها حمفز ًة عىل هنايتها‪ ،‬يمكن معاجلتها أو جتاوزها‪.‬‬
‫العيب يف هذا االجتاه أن رومانسيته‬
‫ُ‬ ‫بدا رومانس ًيا لدرجة‪ ،‬لكن ظل‬
‫جيب أن تستدعيها ناتايل دون أن يبادرها هو برومانسيتِه‪ .‬فبدا كمن‬
‫ٍ‬
‫طفل مجيل يعرب من أمامنا‪ ،‬قد‬ ‫مشاعره صوب‬
‫ُ‬ ‫ينتحلها‪ .‬مل تتحرك‬
‫ٍ‬
‫مكان من أماكن التسلية‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫طريق‪ ،‬أو سوق‪ ،‬أو‬ ‫نصادفه يف‬
‫وحني أبدت رغبتها أن تكون أما‪ ،‬صادفت مالحمًا بدت وكأهنا مل‬
‫ِ‬
‫لفكرة إنجاب طفل‪ .‬وقبل هذا‬ ‫ترها من قبل‪ .‬أزعجها هذا التصور‬

‫‪102‬‬
‫ِ‬
‫اعتباره‬ ‫األمور يف بعض األحيان تتجاوز نجاحها عىل‬
‫ُ‬ ‫وذاك كانت‬
‫صدفة‪ ،‬ففي بعض املقابالت كانت تتسلل منه هلج ُة ٍ‬
‫تعال‪ ،‬حتى وإن‬
‫ِ‬
‫كبعض الناس‪.‬‬ ‫بدت منضبط ًة‪ ،‬أو بمعنى آخر‪ ،‬ليست زاعقة متباهية‬
‫مل َتر احلب حالة امتالك‪ ،‬لكنها ال متيل أن ال كرامة يف احلب‪،‬‬
‫فنظرات إعجابِه حيال األخريات كانت تضايقها‪ ،‬ويضايقها ُ‬
‫أكثر‬
‫ِ‬
‫أعقاب عتابه‪ .‬فتسقط هنالك الرومانسية‬ ‫التربيرات التي تأيت يف‬
‫وتلمس ما جيعله غري ًبا عنها‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بشكل دراماتيكي مؤمل لروحها‪.‬‬ ‫مل تأسف لكون العالقة قد انتهت‬
‫ِ‬
‫لتصحيح العالقة‪ ،‬وتصويب‬ ‫بقدر ما تأملت أمها التي كانت تدعوها‬
‫عيوبِه طاملا بدت بسيطة‪ ،‬لكن ناتايل أهنت كل يشء‪ ،‬ومل تنظر خلفها‪،‬‬
‫حياهتا من األساس‪.‬‬ ‫وكأنه مل يدخل َ‬
‫ُ‬
‫حديث‬ ‫يعرت كريم يأس يف حياتِه مثلام اعرتاه اليأس الذي خ ّلفه‬
‫مل ِ‬
‫ناتايل‪ .‬عن أي فراغ عاطفي تتحدث‪ ،‬فواحدة نالت َّ‬
‫كل هذا القدر‬
‫من الفتنة وبالغة األثر‪ ،‬ال يمكن أال تصادف رج ً‬
‫ال عىل قياس ما‬
‫تتمنى‪ ،‬فلدهيا الوقت والفرصة‪.‬‬
‫هي مجيلة‪ ،‬وما كانت لتحتاج إلبراز ذلك املعنى‪ .‬وإن كان اجلامل‬
‫ِ‬
‫بشكلها جمرد‬ ‫ثقة تعرب عن ِ‬
‫نفسها‪ ،‬وما تفعله‬ ‫هناية املطاف إحساس ٍ‬‫يف ِ‬
‫ِ‬
‫لشعرها قد يبدو‬ ‫ِ‬
‫تأسيس شكل معني‬ ‫إضافات‪ .‬املالبس‪ ،‬اجلسارة يف‬
‫منفل ًتا وهذه الروح املتوثبة التي تبدو يف خفة الطائر‪ .‬لكنها حمملة‬

‫‪103‬‬
‫ِ‬
‫جتارب هذه األرض‪ ،‬أو عىل األقل ال‬ ‫بالتجارب التي ختتلف عن‬
‫ٍ‬
‫هنايات تتسم بالعمق املتسق بدوره مع قناعاهتا‪.‬‬ ‫تتورط يف‬
‫لكنها عىل الراجح كانت حتاول قراء َة استقباله للفكرة‪ ،‬كونه مل‬
‫تنس حقيقة أن‬
‫تتجاوز والدهيا وهي بصدد قرار كهذا‪ ،‬ألهنا يقينًا مل َ‬
‫هلا أه ً‬
‫ال ووطنًا‪ .‬حتى وإن مل تعش وفق الكثري من تقاليده‪.‬‬
‫كثري من األحيان البد عىل اإلنسان أن يتخىل كل ًيا عن طريقتِه‬
‫يف ٍ‬
‫َ‬
‫حيتاط‬ ‫الكالسيكية‪ ،‬التي كان معتا ًدا عىل التفكري هبا‪ ،‬وعليه أن‬
‫حلياتِه‪.‬‬
‫واقع حتت حصار كبري من‬
‫ٌ‬ ‫فبعد هذه املحادثة‪ ،‬شعر كريم أنه‬
‫األسئلة‪ ،‬التي متارسها ناتايل بشكل أكثر رق اًّيا من جمرد أسئلة حيركها‬
‫الفضول‪ ،‬وربام هناك معان سلبية قد مستها من حديثيهام يف هذه‬
‫األمسية‪ ،‬حني بدا عجوالً اًّ‬
‫جدا يف طرح مشاعره‪ ،‬لكنها عىل الغالب‬
‫ِ‬
‫الوقت‪ ،‬الذي مل يساعده أن يبدي كل يشء‪.‬‬ ‫مل ترا ِع ضيق‬
‫الرفض‬ ‫ٍ‬
‫أشياء صارت عصية عىل التفسري‪ .‬فمهام بلغ‬ ‫ثم ُة‬
‫ُ‬
‫باإلنسان لن تكون تصورا ُته عن األرض‪ ،‬التي نشأ فيها‪ ،‬بذاك القدر‬
‫من اهلالمية التي يرى هبا األمور‪ .‬فهي احلياة‪ ،‬والدراما جيب أن‬
‫تنجو بنفسك من تفاصيل ال ترقى‬
‫تندفع هلذا االجتاه‪ .‬فقط عليك أن َ‬
‫الرفض لكل يشء‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يمتد بك‬
‫ألن تؤمن هبا‪ ،‬دون أن َّ‬

‫‪104‬‬
‫فكثريون هنا قد رحلوا‪ ،‬وأكثرهم مل ينسجم مع الفكرة وعاد‪،‬‬
‫َ‬
‫الرحيل من األساس‪ ،‬أو لدهيم نزوع حقيقي للرضا‪،‬‬ ‫ربام يكرهون‬
‫أو أصابتهم آف ُة التعود ويفتقرون للجسارة‪ .‬أو أهنم حيبون األرض‬
‫متجاوزين آالمها كام أخرب ناتايل بصدق مل يكن يدعيه‪.‬‬
‫***‬

‫‪105‬‬
‫(‪)14‬‬

‫يف ٍ‬
‫قرار مل يكن خيلو من ترس ٍع مدروس‪ ،‬قدم كريم استقال َته من‬
‫لتأسيس الرشكة التي ستكون هي منتهى اآلمال‪ ،‬فلم‬‫ِ‬ ‫عمله‪ ،‬وراح‬
‫ٍ‬
‫أموال كثرية‪ ،‬ومن ثم‬ ‫طقس املوظف الذي حيصل عىل‬ ‫َ‬ ‫يعد يطيق‬
‫يسافر متى عنت عليه فكر ُة اخلروج؛ كي يامرس احلري َة التي حتولت‬
‫قرار الرحيل‬ ‫ِ‬
‫مع الوقت إىل قناعة يدافع عنها باستامتة‪ ،‬يتدارس َ‬
‫النهائي وخاصة بعد موت أمه آخر املعاين اجلميلة يف حياته‪ ،‬وموت‬
‫بتجرد وحب شديدين‪.‬‬‫ٍ‬ ‫زياد الصديق الوحيد الذي تعامل معه‬
‫بقراره كي يقنعها بالعمل معه‪،‬‬‫ِ‬ ‫إخبار سوزانا‬
‫َ‬ ‫عندما حاول‬
‫كان يتلقى صدمة أخرى‪ ،‬فلم جيدها بغرفتها‪ ،‬وحني سأل عنها يف‬
‫مركز التجميل‪ ،‬عرف أهنا قد غادرت إىل فرنسا‪ .‬وحني ترك املكان‬
‫ُ‬
‫الضحك الساخر‪،‬‬ ‫أثر هذا اخلرب‪ ،‬ال يدري من أين أتاه‬ ‫يتحسس َ‬
‫رسها‪.‬‬ ‫يدري‬ ‫ال‬ ‫التي‬ ‫اخلفيفة‬ ‫وبعض الع ِ‬
‫ربات‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫القرار احلاسم الذي يرتجم ما‬ ‫ها‬‫يئست منه عىل األرجح‪ ،‬مل يعطِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫مشاعر‪ ،‬مؤكد مل تكن حقيقية كالعادة‪ .‬هي العقار املهدئ‪،‬‬ ‫أبداه من‬

‫‪106‬‬
‫يعوضه حض َن الناس واألرض‬ ‫َ‬ ‫احلضن املؤقت الذي مل ينجح أن‬
‫والسامء‪.‬‬
‫مريضا يستحق العالج‪ ،‬كام أملحت ناتايل يف‬
‫ً‬ ‫ملاذا ال ُيقر بكونِه‬
‫حديثها الصادم‪ .‬فال رفضه سيغري األمر‪ ،‬وال الظروف عىل ضوء‬
‫نفسها من أجله‪.‬‬
‫تغري َ‬
‫معطيات الزمن متتلك أن َ‬
‫ما هذه النرجسية الكرهية‪ ،‬التي ُتزاحم مكونات روحه‪ ،‬التي‬
‫تتسم رغم كل يشء بالطيبة والرهافة!‬
‫إنه مريض والشك عنده يف ذلك‪ .‬ظل بار ًعا يف اخلسارة لكل‬
‫يشء‪ ،‬كان يستطيع أن يقدم له ما حيتاجه طواعية‪ .‬هنا وبنفس‬
‫الرعونة يعود ملركز التجميل‪ ،‬ويبحث عن عنوان هلا‪ ،‬أو رقم هاتف‬
‫ُ‬
‫الشوق هلذا‬ ‫كانت تتصل من خالله برفيقات املايض‪ ،‬متى ع َّن هلا‬
‫املايض‪ ،‬الذي يبدو أن سوزانا مل تتربأ منه بالكامل‪ ،‬رغم يقينها أهنا‬
‫غريبة بالكلية عن املكان وأهله‪.‬‬
‫بال دراسة أو ترتيب‪ ،‬سافر لباريس‪ ،‬مل يضيع الوقت‪ ،‬فبمجرد‬
‫أن دخل للفندق‪ ،‬اتصل هبا‪ ،‬ليس األمر صع ًبا هذه املرة‪ ،‬هو جييد‬
‫الفرنسية‪ ،‬لكنها من املستحيل أن تنسى صو َته إذا ما حتدث هبا كنو ٍع‬
‫من التمويه‪.‬‬
‫حتدث مبارشة‪:‬‬
‫‪ -‬أين ِ‬
‫أنت؟‬

‫‪107‬‬
‫فكان ردها‪:‬‬
‫ِ‬
‫البالد التي ال حتمل يل ذكريات حمزنة‪ .‬فلقد رحلت‪ ،‬ال‬ ‫‪ -‬يف‬
‫رحلت ألن الناس هناك مل‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫وطن أحبه وأومن به‪ ،‬وإنام‬ ‫ِ‬
‫للبحث عن‬
‫يعودوا كام عهدهتم‪.‬‬
‫لقد صدقت سوزانا‪ ،‬فاجلغرافيا هنا رائعة‪ ،‬التاريخ فقط هو‬
‫أحدث لقلبها الكثري من الغصص‪ .‬علم خالل حديثهام أهنا‬‫َ‬ ‫الذي‬
‫ٍ‬
‫منطقة قريبة من نيس‪.‬‬ ‫ليست بالعاصمة‪ .‬بل يف‬
‫أجلها‪ ،‬فقط طلبت‬‫مل تبتهج سوزانا لكون الرحلة هذه املرة من ِ‬
‫منه أن يأيت إىل “نيس”‪ ،‬ومن ثم يتصل هبا‪ ،‬وهي بدورها ستقابله‪.‬‬
‫َ‬
‫يصدق أن هذه الرحلة من أجل‬ ‫كان من الرضوري بمكان أن‬
‫َ‬
‫حاول أن‬ ‫سوزانا‪ .‬ملاذا نندم عىل األشياء فقط حني ترتكنا ومتيض‪.‬‬
‫يبدو قو اًّيا‪ ،‬ولكن هيهات‪ ،‬اآلن فقط يتحرك كطفل منحوه ما يشري‬
‫ِ‬
‫ملكان أمه بعد طول غياب‪.‬‬
‫ال من أيام اخلريف‪ ،‬وبطول الطريق إىل “نيس”‬‫كان يو ًما فاص ً‬
‫حمض غبار‪.‬‬‫كانت حياته تبدو أمامه‪ ،‬رغم كل النجاحات‪ ،‬وكأهنا ُ‬
‫هو بالصدق ال يعتقد يف كونه حيب سوزانا‪ ،‬لكنه هنا فيام يشبه‬
‫االمتنان‪.‬‬
‫الكثري من ركابه‪ ،‬مل يكن‬
‫ُ‬ ‫القطار قرب مدينة نزل إليها‬‫ُ‬ ‫توقف‬
‫يركز يف ٍ‬
‫يشء رغم املناظر الرائعة‪ ،‬التي بدت لعينِه من نافذته‪ .‬وحني‬

‫‪108‬‬
‫أثر نوبة نو ٍم ملحة‪ ،‬مل ِيفق منها إال‬
‫نفسه حتت ِ‬
‫حترك من جديد‪ ،‬وجد َ‬
‫ُ‬
‫األمل أن‬ ‫حالة جوع رهيبة‪ ،‬لكن أخذه‬ ‫عىل رصيف “نيس”‪ .‬كان يف ِ‬
‫َ‬
‫يتناول الغداء مع سوزانا‪.‬‬
‫أجرى اتصاالً ومل تغب‪ ،‬أدرك أهنا قريب ُة من حمطة القطار‪ ،‬ودقائق‬
‫مذاق حضنِها خمتل ًفا وهي تندفع إليه‪ ،‬وحني‬ ‫وستكون عنده‪ .‬كان ُ‬
‫يشء ما‪ ،‬حتررت من ِ‬
‫أرس مشاعرها‬ ‫انتهت بدت وكأهنا أفاقت من ٍ‬
‫القديمة‪ ،‬ولكنها عادت رسي ًعا للقاء فقط جيمعها بصديق قديم‪.‬‬
‫بنفس ابتسامتها الرائعة‪ ،‬وال هذه اإلطاللة‬ ‫ِ‬ ‫للصدق مل يرها‬
‫الصبوحة‪ ،‬مهمومة‪ ،‬حزينة‪ ،‬أو ربام تعيش معنى معينًا للخسارة‪.‬‬
‫اصطحبته لشقتِها‪ ،‬رحبت بوجوده قدر ما تستطيع‪ ،‬لكنها ظلت‬
‫أمل أقوى بكثري مما يظن‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بخيبة ٍ‬ ‫حمايد ًة لفرتة أشعرته‬
‫ِ‬
‫حضور ناتايل عىل‬ ‫وملاذا متنحه ما يوحي باألمل‪ ،‬فسوزانا يف‬
‫سطرا يف كتاب أيامه‪ .‬ربام متنى أن تبدو‬ ‫ِ‬
‫خميلته ال تعدو أكثر من كوهنا ً‬
‫أحد من‬ ‫ِ‬
‫لزيارهتا ٌ‬ ‫هتاجر دون أن يسعى‬ ‫سعيدة‪ ،‬وأهنا أغىل من أن‬
‫َ‬
‫الديار‪.‬‬
‫رت شي ًئا‬
‫جالسا عىل أريكة بدت مرحية‪ ،‬مل يشأ أن جي َّ‬
‫ً‬ ‫بعد أن استقر‬
‫مستعدا أن حيبها‬
‫ً‬ ‫من املايض‪ ،‬أو يتسلل حلديث قد جيرحها‪ ،‬كان‬
‫بدورها أدركت أنه ال أمل‪ ،‬فلقد أتى كريم لكي يعود‪،‬‬‫برشف‪ ،‬وهي ِ‬
‫كرشبة ماء حيتاجها‬‫ِ‬ ‫نفسها‬
‫هنا وإىل آخر دقيقة يف العطلة‪ ،‬منحته َ‬
‫الشموع باألمسية األخرية‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ميت‪ ،‬تن ّفسا املتعة حتى انطفأت‬

‫‪109‬‬
‫بعض العطر يف كفيها‪ ،‬ومسحت‬
‫وحني دقت ساعة الرحيل ألقت َ‬
‫هبا ِ‬
‫وجهه احلليق‪ ،‬وظلت تبكي‪ ،‬وراحت تسأل‪:‬‬
‫‪ -‬لقد ختلصت من آفة التعود عليك‪ ،‬لكن هل ستذكرين؟ هل‬
‫َ‬
‫تبحث عنّى؟‬ ‫ستعود يو ًما كي‬
‫مستسلم ألسئلتِها‪ ،‬يدرك أن هذه‬ ‫ٌ‬ ‫ظل واق ًفا كالطود‪ ،‬وهو‬
‫شعورا مؤ ًملا بالذنب‪ ،‬كان متعاط ًفا‬
‫ً‬ ‫تفجر فيه‬
‫َ‬ ‫العبارات من املمكن أن‬
‫حمارص بعاطفة امرأة حمبة‪ ،‬من الصعب‬ ‫ٌ‬ ‫معها أشد التعاطف‪ ،‬يشعر أنه‬
‫حتام ختتلف‪ ،‬ليست‬ ‫لكنها‬ ‫كثريات‪،‬‬ ‫االنفالت منها‪ ،‬تعامل مع ٍ‬
‫نساء‬
‫ً‬
‫مذبوح من الوريد للوريد‪ .‬هنالك هزم‬ ‫ٌ‬ ‫مثلهن‪ ،‬هي حتبه ح ًقا‪ ،‬لكنه‬
‫بصوت مفعم باحلزن‪:‬‬ ‫ٍ‬ ‫صم َته وأجاهبا‬
‫ِ‬
‫لكنك عىل‬ ‫‪ -‬سوزانا‪ ..‬ربام تتعدد الدوائر وتتشابك هنا وهناك‪،‬‬
‫الدوام مركز الدائرة‪ ،‬أبدأ من عندك وأنتهي عندك‪ .‬ساعديني ألن‬
‫ِ‬
‫أرجوك‪.‬‬ ‫ُأ َ‬
‫ولد من جديد‪ ،‬وتابعي أخباري‪.‬‬
‫ينظر‬ ‫أن‬ ‫حيتاط‬ ‫ظل‬ ‫بسيارهتا‪،‬‬ ‫القطار‬ ‫حمطة‬ ‫خرجت معه يف ِ‬
‫اجتاه‬
‫َ‬
‫من نافذهتا‪ ،‬كي ال يرى أي معاملٍ من ذكرياته احلارضة يف هذه اللحظة‬
‫ِ‬
‫داخله‪ ،‬كان منضب ًطا‪ ،‬لكنه‬ ‫املرهقة‪ ،‬للمرة األوىل يشعر بالبكاء من‬
‫يرتعش بعنف‪ ،‬هتمة التخيل ظلت تؤرقه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫لدمعة خترج‬ ‫ِ‬
‫احلني واآلخر تعطي إذ ًنا‬ ‫خيتلس النظر فيجدها بني‬
‫قوة التحمل عىل ما يبدو‪،‬‬‫يف إثر دمعة‪ ،‬صمت طويل‪ ،‬كانت مباراة يف ِ‬

‫‪110‬‬
‫لكن وهو بصدد الصعود للقطار‪ ،‬تعانقا عنا ًقا ظل بطول عمره بعد‬
‫هذه الزيارة يبحث عن امرأة متنحه هذا اإلحساس الذي منحته له‬
‫كتفه وبكت‪ ،‬توسل‬ ‫بعناقها يف هذه اللحظات‪ ،‬ثم وضعت رأسها يف ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬
‫حتام‪ ،‬لكنها أرصت برضاوة‬ ‫إليها أن تذهب‪ ،‬فبقاؤها واقفة سيقتله ً‬
‫وقع هذا املشهد‪،‬‬
‫جدا ُ‬ ‫عىل أن تبقى حتى يتحرك القطار‪ ،‬كان ثقي ً‬
‫ال اًّ‬
‫َ‬
‫ليتحمل هذا الطعن‬ ‫والقطار يميض‪ ،‬وهي تبتعد يف قسوة‪ ،‬ما كان‬
‫الذي متارسه املسافات التي تبتعد شي ًئا فشي ًئا‪ ،‬فاختفى يف الداخل‪،‬‬
‫مشهد استمر فوق خشبة مرسح‪ ،‬ال يعرض إال‬ ‫ٍ‬ ‫وأسدلت ستارة‬
‫بكائيات العبث طيلة سنوات‪.‬‬
‫صوهتا خلي ًطا من الفرحة والدهشة‪،‬‬
‫ُ‬ ‫يف املطار اتصل بناتايل‪ ،‬كان‬
‫بعد العديد من كلامت الود واألشواق احلقيقية‪ ،‬قالت‪:‬‬
‫‪ -‬إذن أنت بفرنسا‪.‬‬
‫زيارة صديق قديم‪ ،‬ولسوف يعود‬ ‫ِ‬ ‫فأخربها أنه للتو انتهى من‬
‫لتمر بسالم‬
‫إلمتام مراحل تأسيس رشكته اجلديدة‪ .‬مل تكن اإلشار ُة َّ‬
‫عىل ذكاء ناتايل‪ ،‬التي بادرته بقوهلا‪:‬‬
‫أخريا‪ ،‬وأن فكرة املغادرة قد‬
‫ً‬ ‫‪ -‬أنا سعيدة لكونك ستستقر‬
‫تبخرت عىل ما فهمت‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بضحكات مستفزة‪،‬‬ ‫مل يعرف بام يرد‪ ،‬وألهنا استقبلت صم َته‬
‫ِ‬
‫جودة االتصال‪ .‬وبمجرد‬ ‫تعلل بأن الدخول يف حميط املطار يؤثر عىل‬

‫‪111‬‬
‫يصل للديار‪ ،‬سيتصل هبا ويرشح أبعا َد خطوتِه املقبلة‪ .‬الغريب‬‫أن َ‬
‫أهنا مل تعلق‪ ،‬وأغلقت اًّ‬
‫اخلط رسي ًعا‪.‬‬
‫لتمر بسالم‪ ،‬فاملساف ُة بني ِ‬
‫سفره‬ ‫مل تكن العود ُة للديار هذه املرة َّ‬
‫أكثر الناس تشاؤما‪ ،‬يش ٌء ما‬
‫للقاء سوزانا والعودة‪ ،‬ليست كام يظن ُ‬
‫يفكر للحظة يف استصدار القرار الصعب ويرحل‬ ‫قد حتطم دون أن َ‬
‫هنائ اًّيا‪.‬‬
‫شعوره الطاعن بالرفض‪ .‬بل إن‬ ‫ِ‬ ‫كل ٍ‬
‫يشء هنا‪ ،‬مع‬ ‫فقد َّ‬
‫طاملا أنه قد َ‬
‫خطوة تأسيس رشكة قد تدفع بناتايل للقدوم‪ ،‬ومن ثم احلياة يف ِ‬
‫البلد‬
‫برشوطها‪ .‬وليس برشوطِه هو‪ ،‬وكذلك ناتايل‪ .‬التي ربام تسري يف ذاك‬
‫قوة حبها له ومتسكها به‪ .‬وخاصة أن جتربة أيوب‬‫االجتاه للتدليل عىل ِ‬
‫ِ‬
‫الوطن ثم ُة معنى ال يمكن جتاهله حتى‬ ‫تزاحم تفكريه كدليل أن يف‬
‫وإن بدا ضئي ً‬
‫ال إىل درجة‪.‬‬
‫مؤكد أن ناتايل بعد مكاملة املطار قد فهمت شي ًئا‪ ،‬أو لدهيا بحكم‬
‫تفسري مقبول حيدثها أن كريم يمتلك نس ًقا معرف اًّيا ال يؤمن‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫جتارهبا‬
‫ِ‬
‫رشك‬ ‫باحلب يف معناه‪ ،‬أو يا ربام يمتلك سوء ظن فيمن سيقع يف‬
‫ٍ‬
‫رجل‬ ‫تفسري عاطفة‬
‫َ‬ ‫حبها‪ ،‬فالنساء‪ ،‬عىل حد ما يعتقده‪ ،‬قد يسيئون‬
‫تتسم هبذا القدر من اجليشان‪ .‬وساعتها مؤكد سيحاولون تطوي َعه‬
‫واستغالله‪.‬‬
‫كام معقوالً من اخلربة؟ فهل‬ ‫ما هذا الذي يفكر فيه ٌ‬
‫رجل يمتلك اًّ‬
‫ٍ‬
‫بمساحة مقبولة يف مسألة مصري؟ رغم أن‬ ‫سيندفع دون تفكري ولو‬

‫‪112‬‬
‫ناتايل ال تراها كذلك‪ ،‬حتسبها دالالً منه حيال بلده وكأنه ٌ‬
‫طفل متمرد‬
‫لفت نظر أبويه‪.‬‬
‫يريد َ‬
‫بيد أن كريم بالصدق حيتاج احلب أكثر منها‪ ،‬أمل ِ‬
‫يكفه اليتم‪،‬‬ ‫َّ‬
‫والفقد ألمه قبل أن ترى أوالده؟ وحتى الصديق الوحيد يموت‬
‫غياهب وضع سائل مل‬‫هكذا دون أن ينتبه له من أحد؟ بل ضاع يف ِ‬
‫يأته باحلد األدنى من طموحه‪.‬‬
‫***‬

‫‪113‬‬
‫(‪)15‬‬

‫بأي ٍ‬
‫حال يتابع هنلة املسكينة‪ ،‬التي‬ ‫مضت سنوات‪ ،‬ومل يكن كريم ِّ‬
‫ِ‬
‫جدارة من دخلوا‬ ‫ظلت تنتقل من فشل لفشل‪ ،‬كل قصصها رغم‬
‫حياهتا لالقرتاب منها مل تكلل بالنجاح‪ ،‬كيف حتولت األمور بعد‬
‫غياب كريم هلذا الشعور املؤمل بالضياع؟ ملاذا فرطت فيه ومل تصارع‬
‫الدنيا التي صنعت منه رج ً‬
‫ال غري ًبا كي حتصل عليه؟‬
‫يف حلظة فارقة ‪ -‬ربام ‪ -‬كان القدر حياول أن يصاحلها‪ ،‬أو يتعاطف‬
‫ٍ‬
‫لواحد من بارات‬ ‫معها‪ ،‬ففي هذه اللحظة التي قررت أن َ‬
‫هتبط فيها‬
‫ِ‬
‫قنينة برية ما‬ ‫وسط املدينة؛ لعلها تتعثر يف أحد تعرفه‪ ،‬أو جتد يف‬
‫يمنحها الرغب َة أن تعو َد لفراشها فتجد النوم بسهولة‪ ،‬كان “كريم”‬
‫ٍ‬
‫بشوق‬ ‫ِ‬
‫لنفس البار‪ .‬جيلس قبال َة البارمان الذي ر َّد حتيته‬ ‫قد سبقها‬
‫ٍ‬
‫غياب طويل‪.‬‬ ‫جارف‪ ،‬يكشف عن‬
‫ألي جدال قد ُيعكر ما‬ ‫ٍ‬
‫بمالمح رافضة ِّ‬ ‫سأله عن األحوال‪ ،‬ر َّد‬
‫ِ‬
‫ساعات الليل‪.‬‬ ‫تبقى من‬

‫‪114‬‬
‫سجائره بطريقتِه املستفزة‬
‫َ‬ ‫اندمج مع ما يرشب‪ ،‬وراح يدخن‬
‫التي ترهق من يتابعه يامرس هذه العادة‪ .‬مل يكن يسرت تطرف حريته‬
‫ِ‬
‫بالوقت‪ ،‬وال بيدها التي‬ ‫سوى الظالم الذي يلف املكان‪ .‬مل يشعر‬
‫دقت كت َفه يف هذه اللحظة‪ .‬لكنه وجد من تقول‪:‬‬
‫ِ‬
‫كثافة الدخان املنطلق أمامك‪.‬‬ ‫‪ -‬عرف ُتك من‬
‫يستدير‬
‫َ‬ ‫التفت إليها من الوض ِع ً‬
‫مهتزا‪ ،‬ونطق اسمها حتى قبل أن‬
‫استدار ًة كاملة وقال‪:‬‬
‫‪ -‬أهالً‪.‬‬
‫ربام شعر أن اخلمر قد لعبت ِ‬
‫برأسه‪ .‬فلقد مارس انضبا ًطا مبال ًغا‬
‫ضمها حلضنه‪ ،‬هو الذي مل يفهم‬ ‫نفسه من تقبيلها أو ِّ‬‫فيه؛ كي يمنع َ‬
‫ملاذا مل ُيعطِها فرصة انتشاله مما هو فيه‪ ،‬ومؤكد كانت قادرة قبل أن‬
‫ِ‬
‫لطريق ناتايل‪.‬‬ ‫القدر‬
‫ُ‬ ‫يسو َقه‬
‫اكتشف أهنا مازالت تدخن‪ ،‬وبمجرد أن استقرت بجانبه‪ ،‬حياها‬
‫بقنينة برية مثلجة‪ ،‬أخرجت علب َة سجائر من ذاك النوع اخلفيف‪ ،‬كي‬
‫ُتشعل سيجار ًة من أخرى‪ .‬وراحت يف ذهول من ضاع منه كل يشء‪.‬‬
‫رغم خفوت الضوء أدرك أهنا ليست بأي حال”هنلة”‪ ،‬التي كانت‬
‫رب من أي يشء‪،‬‬ ‫حضورا‪ .‬مل تفقد َ‬
‫مجاهلا الذي بدا أك َ‬ ‫ً‬ ‫أشد الفتيات‬
‫ُّ‬
‫تنظر إليه‪ ،‬وكأهنا‬ ‫لكنها حزينة‪ ،‬ووحيدة‪ .‬ظلت تتحدث دون أن َ‬
‫تقاوم ضع ًفا يمنعها التعرض لعتابِه‪ ،‬أو نظرات عينيه ا ُمل ِتهمة هلا‬

‫‪115‬‬
‫جيد‬
‫تنتظر حتى َ‬
‫َ‬ ‫بالتخيل عن الصرب وانعدام املحاولة‪ ،‬حني دعاها أن‬
‫هلا مكا ًنا يف حياته‪.‬‬
‫مل يشعر بيشء‪ ،‬وماتت عنده الرغب ُة يف اإلجابة عىل أسئلتِها عن‬
‫الدنيا واألحوال والطموح‪.‬‬
‫كثريا؟‬
‫‪ -‬هل تأيت إىل هنا ً‬
‫‪ -‬ليايل السبت‪ ،‬لكن نادرا‪.‬‬
‫‪ -‬ما بك؟‬
‫‪ -‬يف املعتاد‪.‬‬
‫‪ -‬أنا يف أسوأ حااليت‪.‬‬
‫‪ -‬كل منّا يصنع أقداره‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بنظرة غاضبة انتقامية‪ ،‬ثم ألقى ثم َن ما رشب ورشبت‪،‬‬ ‫رمقها‬
‫أحد اجلالسني من زبائن الليل‪ .‬لكنه‬
‫خارجا‪ .‬كاد يصدم َ‬
‫ً‬ ‫وانرصف‬
‫اعتدل‪ ،‬ونظر نظر ًة أخرية إىل حيث جتلس وغمغم بكلامت‪:‬‬
‫‪ -‬برجاء انتظاري حتى أختفي‪ ..‬فال طاقة يل باستكامل أي‬
‫حديث‪.‬‬
‫سابحا من‬
‫ً‬ ‫ظلت مع قنينة البرية‪ ،‬وكثري من احلرج‪ ،‬وما تبقى‬
‫عطره العالق باملكان‪ .‬أشفقت عليه‪ ،‬مؤكد أحبها يف صمت‪ ،‬أو عىل‬ ‫ِ‬
‫األقل متنى أن حي َّبها‪ ،‬وانتظر منها املبادرة‪ ،‬لكنها ماطلت‪ ،‬فخرج من‬
‫ِ‬
‫حياهتا لألبد أو يكاد‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫ملاذا بدت واثقة ثق ًة مرضية يف مجاهلا‪ ،‬الذي صور إهنا أكرب من‬
‫جمرد االرتباط برجل ال ينقصه النجاح‪ ،‬لكنه نجاح مهني أكثر منه‬
‫ِ‬
‫بالغة أثره‪،‬‬ ‫إنساين‪ ،‬ربام كان ينتحل هذه احلالة من فرط ثقته املهتزة يف‬
‫يشء يمنعه احلب‪ ،‬ملِاذا مل تبحث عنه‪ ،‬وانسحبت يف‬ ‫يعان من ٍ‬‫لكنه مل ِ‬
‫أنسب وقت كان من املمكن أن يؤسس معها أمجل قصة للحب‪.‬‬
‫وهل كان سريىض؟‬
‫مادام حيبها كان سيغفر هلا‪ ،‬وهل كانت حتبه؟ ُحمتمل‪ ،‬لكنها حتب‬
‫ِ‬
‫واعتدادها‬ ‫نفسها بتطرف‪ ،‬معظم من يعرفها يدرك حقيقة غرورها‬
‫بنفسها‪.‬‬
‫خرجت إىل الشارع‪ ،‬وال تدري ِمل انتاهبا هذا الشعور العارم‬
‫تقدير لقاء يتم بعد‬
‫َ‬ ‫بالند ِم كوهنا اقتحمته بال رمحة‪ ،‬مؤكد أساءت‬
‫سنوات من الغياب‪ .‬ربام ينقم عليها‪ ،‬ذكَّرته باستخفافها ورعونتها‪،‬‬
‫خملصا أن ينساها‪ ،‬أو أراد أن حيتضنها بعنف‪ ،‬وكرامته حالت‬‫ويريد ً‬
‫دون هذه الرغبة‪.‬‬
‫ِمل نسى الرقة يوم قبل أن تضع يدها يف يده‪ .‬ثم يسأهلا عن أحواهلا‪،‬‬
‫وجيلسها‪ ،‬ومن ثم جيلس‬ ‫ويسري هبا ألقرب طاولة‪ ،‬هييئ الكريس‪ُ ،‬‬
‫يستجيب‬
‫َ‬ ‫أمامها كاملريد وشيخه مثل ليلة العشاء‪ ،‬ملاذا رفض أن‬
‫ِ‬
‫لنداء اشتياقها‪ ،‬ويطبع قبل ًة من نفس هذه الرقة التي كانت يوم جلسا‬
‫عىل الشاطئ‪ .‬ويف سرت الظالم ضمها إىل حضنه يف شغف‪ .‬بحسبه‬
‫إنه تعامل معها باحرتا ٍم متناه‪ ،‬مل يكن مغرما بالعالقات العابرة‪،‬‬

‫‪117‬‬
‫والنزوات ا ُملسكنة‪ ،‬رومانس اًّيا يف انضباط‪ ،‬وواقع ًيا يف غري تكالب‬
‫عىل احلياة‪ ،‬مل يتنازل عن مبادئه يف سبيل حتصيل ما ينفعه منها‪ ،‬هكذا‬
‫كان‪.‬‬
‫ربام كان من األجدى أن ُتبدي دالالً جتيده‪ ،‬وتنتخب طريقة‬
‫جتعل اللقاء قدر اًّيا ومباغ ًتا‪ ،‬صدفة عمياء‪ ،‬ولو جمحفة‪ .‬خرجت‬
‫خلفه برسعة ولكنها عادت خائبة الرجاء‪ .‬وجلست حيث كانت‪.‬‬
‫سألت البارمان عن الرجل الذي كانت بجواره منذ ساعة أو أقل‪.‬‬
‫نظر هلا نظر ًة هلا معنى‪ ،‬مل ترتح ملالحمه‪ ،‬وبدوره ندم أنه فعل‪.‬‬
‫نفس السؤال تقري ًبا‪،‬‬
‫فلم يشعر أهنا تشبه األخريات الذين يسألون َ‬
‫ٍ‬
‫وألسباب أخرى غري خفية‪ .‬فأجاب بلهجة من يعتذر‪:‬‬
‫أحدا‬ ‫َ‬
‫يشارك ً‬ ‫‪ -‬هو هكذا دائام‪ ،‬يأيت صام ًتا‪ ،‬ويرحل دون أن‬
‫ٍ‬
‫بخروج‬ ‫ٌ‬
‫إيذان‬ ‫احلديث عن أي يشء‪ ،‬وإن وجد من يعرفه؛ فهذا‬
‫رسيع من املكان‪ .‬لكن أسمع من بعض زبائني أنه اختفى زمنًا قبل‬
‫يظهر من جديد‪.‬‬
‫أن َ‬
‫نادرا‪ ،‬وإن أتى ال‬ ‫َ‬
‫فضوهلا‪ ،‬يأيت ً‬ ‫ِ‬
‫الرجل تستفز‬ ‫إجابات‬
‫ُ‬ ‫كانت‬
‫كثريا‪ ،‬وال يدري من‬
‫ينخرط مع أحد يكرس معه مجود اليوم‪ .‬غاب ً‬
‫أحد أين كان؟‬
‫ظلت سائر ًة للبيت؛ تلتقط لقم ًة لإلفطار‪ ،‬ودخا ًنا ألمسية لن متر‬
‫ٍ‬
‫ماض ال‬ ‫بسالم‪ ،‬نزلت ألقرب كريس‪ ،‬وراحت يف رشود؛ تتحسس‬

‫‪118‬‬
‫يمكن نسيانه‪ ،‬كانت تستشعر اخلسار َة يف املطلق‪ ،‬مل يعد هناك من‬
‫أمل الستدراك ما فات‪ ،‬فال العمر وال الطاقة‪ .‬وزواج عادي مؤكد‬
‫النموذج املتسق مع مشاعرها‪.‬‬
‫َ‬ ‫قرار لن َ‬
‫يروق ملن عاشت تنتظر‬
‫هل كانت حتبه؟‬
‫ٍ‬
‫حائط‬ ‫ِ‬
‫كعقرب الدقائق يف ساعة‬ ‫ظل هذا السؤال العبثي يتحرك‬
‫ٍ‬
‫كانفجارات متصلة‪ ،‬مل يكن سؤاالً صع ًبا‪،‬‬ ‫ُحم ِد ًثا دو ًيا يصل ألذنيها‬
‫ٍ‬
‫رجل حمتمل أراد أن حي َّبها‪ ،‬لكنه‬ ‫طرحه اآلن جعله ُمربكًا حيال‬ ‫لكن ُ‬
‫رفض يف حسم‬ ‫هامش احلياة‪ .‬أو هكذا يبدو‪ ،‬بعد أن َ‬ ‫ِ‬ ‫اآلن يعيش عىل‬
‫بدي أي َة ر ّدة فعل تؤيد أنه يعاين شو ًقا ضاغ ًطا أن يراها‪.‬‬
‫أن ُي َ‬
‫أشعلت سيجار ًة دخنتها بانتقام ظاهر‪ ،‬تذكرت أهنا حتتفظ له‬
‫بصورة التقطتها خلسة من ِ‬
‫هاتفها‪ .‬مل يكن ينتبه للكامريا‪ ،‬شارد‬ ‫ٍ‬
‫َ‬
‫يكون قد أحبها‪ .‬ألن ذلك‬ ‫متنت أن‬ ‫كاملوتى‪ .‬وقبل أن َّ‬
‫تغط يف النوم ْ‬
‫املعنى قد ُييرس قادم مسعاها ألن تعود‪ .‬رغم خوفها من استسالمه‬
‫للحياة برشوطِه‪.‬‬
‫***‬

‫‪119‬‬
‫(‪)16‬‬

‫يستهلك لي َله‪ ،‬فتناول‬


‫َ‬ ‫متواز‪ ..‬دخل كريم لغرفته‪ ،‬أراد أن‬‫ٍ‬ ‫يف قط ٍع‬
‫جدران وحدتِه‪ ،‬وراح يقرأ‪ ،‬مل يكن يركز يف يشء‪ ،‬رغم‬ ‫ِ‬ ‫كتا ًبا من‬
‫َ‬
‫يتورط يف هذا السيناريو‬ ‫كراهيته للقراءة ملجرد القراءة‪ ،‬مل يشأ أن‬
‫الذي اقتحم ليلته‪ ،‬ويفكر جمد ًدا من داخل القصة‪.‬‬
‫ِ‬
‫لفشله يف جتاوز األمر‪ ،‬ربام كان‬ ‫مع حلول الشعور باجلو ِع تنبه‬
‫جديرا هبا أن تتجاهله‪ ،‬مل يكن سه ً‬
‫ال أن تتواءم الرغبات‪ ،‬حتى وإن‬ ‫ً‬
‫كان مقتوالً من الشوق لرؤيتها‪ ،‬وتريد أن َ‬
‫تقف عىل ما انتهت إليه‬
‫ٍ‬
‫مرحلة بعينها‪.‬‬ ‫دنياه‪ .‬كيف ستحكم عىل حياتِه التي جتمدت عند‬
‫مل يستطع النوم‪ ،‬فال تعب اليوم ساعده‪ ،‬وال اخلمر الكثري الذي‬
‫إمخاد الثورة التي اشتعلت بمجرد‬ ‫ِ‬ ‫قادرا عىل‬
‫مأل به معد َته كان ً‬
‫أن رآها‪ .‬كان يغالب رغب ًة ُملحة يف البكاء‪ .‬وال يدري‪ .‬هل يبكي‬
‫ٍ‬
‫قصة‬ ‫عجزه وخو َفه من التقدم يف‬
‫َ‬ ‫انسحاهبا من حياته‪ ،‬أم يبكي‬
‫َ‬
‫تأخذ سمة االكتامل‪ ،‬فام يعيشه عىل معطيات اللحظة إنه حيب ناتايل‬
‫ويريدها للنهاية‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫كانت أمسي ُة السبت بأبرز معاملها هو لقاء”هنلة” والتي مل يكن‬
‫يراهن عىل شكل استقباهلا حلريته‪ .‬ربام أرىض غرورها باملتوفر من‬
‫انطباعات اهلزيمة البادية عليه‪.‬‬
‫يدفع‬
‫مستعدا أن َ‬
‫ً‬ ‫ِمل دعاها أن تنتظر حلني اختفائه؟ هو الذي كان‬
‫صوهتا جتامله جماملة مصطنعة؛ تسأل عنه يف‬
‫َ‬ ‫يسمع‬
‫َ‬ ‫الكثري لقاء أن‬
‫مكاملة تليفونية توحي باألمل؟‬
‫السكر الشديد‪ ،‬وراح يطبع قبل ًة‬‫يستثمر غيبوبة ُ‬
‫َ‬ ‫ِمل رفض أن‬
‫حيتاجها‪ ،‬كي يتذكر حلظة‪ .‬كان يستطيع أن يفع َلها دون احتياط منه‬
‫أو منها؟‬
‫يعرتف بافتقاده هلا‪ .‬أو يدعوها طي ًفا‬
‫َ‬ ‫مل يستطع ولو يف الرس أن‬
‫أو خياالً أن يستكمال الرحلة معا‪ .‬كان من املمكن أن يصد َمه‬
‫كربياؤها‪ ،‬وتتمنع عليه بنفس التربيرات التي ساقتها وهي تتحدث‬
‫عن نفسها‪ ..‬ال تؤمن بغريها كوهنا مجيلة‪ ،‬ويبدو يف هناية املطاف أن‬
‫مجاهلا قد قتلها‪.‬‬
‫تفكر هبذه‬
‫َ‬ ‫كثريا يف األمر‪ .‬هي كذلك والبد أن‬
‫مل يعد يفكر ً‬
‫تظهر‬
‫َ‬ ‫يأنس للوحدة دون أن‬
‫الطريقة‪ .‬ومن غريها يستطيع أن َ‬
‫لرجل يشاركها أفكارها‪ ،‬ويتعايش معها‪ .‬تعطلت‬ ‫ٍ‬ ‫احتياجها‬
‫االختيارات‪ ،‬وهي ربام تنتظر حركة األقدار‪ ،‬أو تنسحب منها‬
‫أعراض ذلك الغرور البغيض‪.‬‬
‫ُ‬

‫‪121‬‬
‫ٍ‬
‫حلظة أن حدي َثه املتجه لنهلة قد يصلح إسقا ُطه عىل‬ ‫اكتشف يف‬
‫ناتايل‪ ،‬فحني يفرس ما أبدته من ٍ‬
‫ثقة وهو حياول تقبي َلها أثناء الرقص‪،‬‬
‫ٍ‬
‫بطريقة تنتظر لرتى‪.‬‬ ‫يراها أكرب من حماوالتِه وقتها لالقرتاب‪ ،‬تفكر‬
‫ماذا يستطيع ذلك العريب أن يقد َم من تفاصيل قد تدفعها أن تتنازل‪.‬‬
‫ربام كانت من النو ِع الذي يريد صد ًفا عفوية‪ ،‬وكريم عىل الراجح‬
‫انبهار “هنلة”‬
‫ُ‬ ‫ليس مؤمنًا باألقدار‪ ،‬بقدر إيامنه بتلفيقها‪ .‬فلم يكن‬
‫الذي بدأ يوم السهرة‪ ،‬ومن قبلها اإلطاللة األوىل يف ِ‬
‫رواق الرشكة‬
‫بتعاطف جم مع رغبتِها للبحث عن‬
‫ٍ‬ ‫إال جمرد صدفة صممها القدر‬
‫رجل بطعم احلضن واملالذ‪ .‬يستطيع التوقف أمام نموذج سمعته‬ ‫ٍ‬
‫ورأته‪.‬‬
‫وناتايل يوم املؤمتر ربام شعرت من أول انطباع أهنا قد بلغت‬
‫ِ‬
‫سذاجة العريب‬ ‫يف خياله مبل ًغا‪ ،‬فصنعت الرشك‪ ،‬واندفع هو بكل‬
‫نفسه‬ ‫املنبهر‪ .‬ال‪ ،‬إن ناتايل مل تر فيه رج ً‬
‫ال سي ًئا أو عرب ًيا عليه أن يقد َم َ‬
‫مشاعره باندفاع‬
‫َ‬ ‫يف ثوب مقنع‪ ،‬لكنه مثايل ومراهق فعالً‪ ،‬ال يطرح‬
‫طور التجربة‪ ،‬وهذا‬ ‫ِ‬ ‫وحسب‪ ،‬لكنه يصوغ كل يشء ويضعه يف‬
‫املعنى مرعب إىل درجة بالنسبة هلا‪ ،‬بينام تظل هنلة مؤمن ٌة بجدارتِه إنه‬
‫سيحبها‪ ،‬واألهم من ذلك قدرته عىل تصحيح مسارها‪.‬‬
‫ِ‬
‫القلب‬ ‫األمر صع ًبا عىل اجلميع‪ ،‬لذا نصح املقربون هنل َة ويف‬‫ُ‬ ‫كان‬
‫املوضوع‪ ،‬فكرامتها لن َ‬
‫تتقبل هذه احلالة‪ ،‬وحتى‬ ‫َ‬ ‫منهم منري أن تنسى‬
‫لو ظهر‪ ،‬فام من دليل أن قلبه حيمل هلا شي ًئا بعد كل ما كان‪ .‬فتعلن‬

‫‪122‬‬
‫ِ‬
‫صدره بدا صاد ًقا‪ ،‬وحني تناول‬ ‫دون احتياط بأنه حني ضمها إىل‬
‫شفتيها كي يطبع عليها قبلة‪ ،‬كانت ملراهق يندفع بصدق عواطفه‬
‫نحوها‪ ،‬وليست لرجل ُجمرب‪.‬‬
‫مرة تقري ًبا‬
‫كان “منري” ينصت إىل كلامهتا يف تأثر بالغ‪ ،‬فألول ّ‬
‫جيدها عىل هذا النحو من االنكسار واملصارحة‪ .‬وحني عاد لعمله مل‬
‫يكن يصدق أن صاحبته قد ذهبت بك ِّلها وراء حمبة الرجل‪.‬‬
‫خصومة مع طبيعتها‪ ،‬ومواقفها‬‫ٍ‬ ‫الغريب أن كل من كانوا عىل‬
‫السابقة منهم‪ ،‬نسوا كل يشء‪ ،‬وراحوا يبحثون عنه؛ متعاطفني معها‬
‫تعاط ًفا ً‬
‫خملصا‪.‬‬
‫الضفة األخرى من النهر‪ ،‬ويف ِ‬
‫زمحة التفاصيل التي يعيشها‬ ‫ِ‬ ‫عىل‬
‫كريم‪ ،‬اقتحمته ناتايل‪ ..‬ترى أين هي؟‬
‫استطاعت بسهولة أن تسيطر عىل ٍ‬
‫جزء كبري من تفكريه‪ ،‬خبري ٌة‬ ‫َ‬
‫بكلامهتا‪ ،‬أعطته نفسها ٍ‬
‫بثقة أخجلته‪ .‬ال‪ ،‬هو‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫احتوائه‬ ‫وناجحة يف‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫تطلعات رجل‬ ‫غال ًبا ال خيون من يثقون به‪ .‬ومل يكن حيمل يف نفسه‬
‫يسعى لقتل الوقت‪.‬‬
‫لكنه متجمد‪ ،‬وقلبه عىل البعد يصوغ تصورات ال تصلح لعامل‬
‫يبدو كالغابة‪ .‬بل إن الغابة حيكمها قانون‪ ،‬وليس نزوات املرىض‬
‫واملعقدين نفس ًيا‪ .‬لكن التفكري اآلن يف هنلة قد يبدو خيانة‪ .‬فلن‬
‫يسعى إلدراك موقف حيدد من خالله أين تقف منه‪ ،‬هو املشغول‬
‫بإقناع ناتايل أن احلياة املقبولة لديه أن َ‬
‫يعيش معها حيث هي‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫لكنها منذ حديث املطار‪ ،‬وما طرحته عن نموذج الرجل الذي‬
‫فالوقت يقتله‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ِ‬
‫أعدائه‪،‬‬ ‫تريده‪ ،‬مل تتصل به‪ .‬إهنا ال تدرك حقيقة‬
‫ِ‬
‫بسياط الشوق‪ .‬إنه حيبها وال يدري ما قيمة أن‬ ‫واملسافات جتلده‬
‫حيد َد هلا أبعاد ما يريده من حبها‪ ،‬لكنه حني رسب مي َله أن يكون‬
‫الرجل األول يف حياهتا صدمته برغبتِها يف ِ‬
‫لقاء رجل بكر‪ ،‬فكيف هلا‬
‫أن تتمنى هذا الرجل يف ٍ‬
‫بيئة كالتي استقرت هبا!‬
‫َ‬
‫ليكون‬ ‫ينترص عىل خماوفه‬
‫َ‬ ‫إهنا تعبث به‪ ،‬أو تريد تركه هن ًبا للظنون كي‬
‫معها‪ .‬لكن أين هي يف هذا الصمت الذي طال أكثر من الالزم؟‬
‫طالت حال ٌة بدت كالقطيعة بني كريم وناتايل‪ ،‬فبعد مكاملة‬
‫ِ‬
‫العديد من‬ ‫أكثر من مرة ومل ترد‪ ،‬بعد‬
‫املطار وما انتهت إليه‪ ،‬راسلها َ‬
‫ربه عن رس‬ ‫االتصاالت ويف كل األوقات‪ ،‬لكنها مل جتد الوقت لتخ َ‬
‫غياهبا‪.‬‬
‫َ‬
‫دالهلا‬ ‫لصوهتا‪ ،‬وخاصة حني متارس عليه‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫بافتقاد كبري‬ ‫شعر‬
‫تتكلم معه‪ ،‬ولو عىل‬
‫َ‬ ‫الواثق‪ .‬وبدورها كادت تضعف وحتاول أن‬
‫ِ‬
‫سبيل أن تصحح له بعض املفاهيم‪ ،‬لكن منعها كربياؤها‪ .‬ومل تراهن‬
‫كيف سيستقبل هذا الترصف املباغت منها‪ ،‬مل جتد إجاب ًة تشعرها‬
‫باالنتصار عليه‪ .‬فهو بعيد لدرجة تستفزها‪ .‬وال تدري فيام سيتكلم‪.‬‬
‫تظهر‬ ‫كانت تضحك لكنها عىل ضوء ما أبداه نحوها‪ ،‬لن َ‬
‫تقبل أن َ‬
‫يف حياته وكأهنا مرض عارض‪ ،‬ولقد شفي منه‪ .‬لكن ماذا ستفعل؟‬
‫فالبد من هناية‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫بعد فرتة‪ ،‬غلب ناتايل احلنني‪ ،‬فكتبت له رسال ًة مقتضبة تسأله عن‬
‫أرسل هلا حسابا ٍ‬
‫لفتاة‬ ‫َ‬ ‫احلال‪ ،‬وكيف هي أيامه؟ جاء ر ُّده الغريب أن‬ ‫ِ‬
‫ً‬
‫وتكون رأ ًيا فيها‪ .‬فهو‬
‫ِّ‬ ‫فرنسية عىل الفيسبوك‪ .‬ويريد منها متابعتها‪،‬‬
‫عادة يثق يف ِ‬
‫رأهيا حيال اآلخرين‪.‬‬
‫لنفسها وهي تتدارس طل َبه الغريب‬ ‫مل حتاول ناتايل االنتصار ِ‬
‫َ‬
‫واملباغت‪ ،‬ومل تذهب لكون املسألة هتدف يف األساس النتزا ِع‬
‫غياهبا‪ .‬لذا مل تترسع‪ ،‬وبعد أسبوع أخربته‬ ‫غريهتا‪ .‬ربام ينتقم من ِ‬
‫درجة من اجلامل والذكاء‪ .‬وهذا‬ ‫ٍ‬ ‫رأ ًيا إجياب ًيا يف الفتاة‪ ،‬فيبدو أهنا عىل‬
‫ٍ‬
‫بكلمة واحدة‪:‬‬ ‫حتام‪ .‬فرد عىل رسالتِها‬
‫الصنف يليق به ً‬
‫‪ -‬أحبك‪.‬‬
‫شعورها‬ ‫رغم كل ما انتحلته ناتايل من القوة‪ ،‬لكنها مل ُخت ِ‬
‫ف‬
‫َ‬
‫شاكلة كريم أن يفجر هذا‬‫ِ‬ ‫بالتوتر‪ .‬من الصعب عىل رجل عىل‬
‫الشعور اخلفي بعدم الثقة فيه‪ .‬هو أذكى من أن يفرس ما حل بناتايل‬
‫اختبار األرض التي سيتجه إليها‬
‫َ‬ ‫يقينًا‪ .‬إنه احلب املتجرد‪ ،‬الذي يريد‬
‫يو ًما ما‪ .‬ما له ال يدرك أين يقف منها؟‬
‫ٍ‬
‫رحيل يتمناه‪ ،‬يف نفس اللحظة التي يتعلل فيها‬ ‫حني حيدثها عن‬
‫ٍ‬
‫رشكة يف بلده‪ .‬ملاذا يضعها يف هذه اجلدلية‬ ‫بانشغالِه عنها بتأسيس‬
‫بكل قسوة؟ واآلن هيبط من تصوراتِه ويقوهلا واضحة‪ ..‬أحبك!!‬
‫الغياب عىل اعتبار أن ناتايل‬
‫َ‬ ‫يف استسال ٍم غريب كان كريم يفرس‬

‫‪125‬‬
‫يستطع إقنا َعها‪ .‬بل من الصدق اآلن‬
‫ْ‬ ‫قد يئست‪ ،‬وإنه بعد رحيله مل‬
‫ِ‬
‫احلامقة املرتكبة يوم حدثها من باريس‪ .‬فمؤكد قد‬ ‫يعرتف بكم‬
‫َ‬ ‫أن‬
‫ٍ‬
‫ذكريات رائعة‬ ‫ٍ‬
‫حلبيبة قديمة الستعادة‬ ‫ذهب ظنها أن الزيارة كانت‬
‫يف حماولة إلحيائها‪.‬‬
‫يمنحها هذا الشعور‬
‫َ‬ ‫بل إن احلامق َة األكرب أن اتصل هبا كي‬
‫يقتطع جز ًء من العطلة ويرحل إليها‪،‬‬
‫َ‬ ‫بالقرب‪ ،‬مع عدم رغبته أن‬
‫فاملساف ُة مل تكن كبرية اًّ‬
‫جدا إذا ما حاول االنتقال من باريس لفيينا‪.‬‬
‫الغريب ما حدث بعد هذا احلوار املتوتر‪ ،‬فقد خرج كريم ووقف‬
‫بسيارتِه قبالة البحر‪ ،‬يفكر يف هذه املعضلة‪ ،‬التي حركتها ناتايل‬
‫يفكر يف اخلطوة فيام وراء الرشكة ألهنا‬ ‫أن‬ ‫األجدر‬ ‫من‬ ‫كان‬ ‫ها‪،‬‬‫بحديثِ‬
‫َ‬
‫تتناقض مع ما سبق وطرحه عليها من رغبتِه يف الرحيل عن بلده‪.‬‬
‫ِ‬
‫ألبعد مما رسمت‪.‬‬ ‫ِ‬
‫قياس حسابات ناتايل تتطور‬ ‫مل تكن احليا ُة عىل‬
‫ِ‬
‫حسب‬ ‫مصادر ٌة عىل املطلوب لو حسبت أن كريم سيتشكل عىل‬
‫يتفق‬
‫ال أن َ‬ ‫ما تظن وتعتقد‪ ،‬أو جيد اخلالص من أزماته‪ .‬فليس سه ً‬
‫ُ‬
‫اإلنسان مع عاملٍ يرفضه‪ .‬أو احتدم خالف لن ينفع معه ُهدنة‪ ،‬أو‬
‫سالم عابر‪ .‬لكنها حتبه‪ ،‬ومؤكد إن أخلص هلا فسوف تنتهي كل‬
‫األزمات‪.‬‬
‫***‬

‫‪126‬‬
‫(‪)17‬‬

‫أخبار “هنلة” ال تبرش بأي‬ ‫ِ‬


‫الضفة األخرى من النهر‪ ،‬كانت‬ ‫عىل‬
‫ُ‬
‫كل من شاهدها بعد لقاء البار أدرك كيف يكون االكتئاب‬ ‫خري‪ُّ .‬‬
‫البعض من معارفها راحوا للزعم أهنا تنتحل‬
‫َ‬ ‫واحلزن‪ .‬واألصعب أن‬
‫هذه احلالة انتحاالً‪ .‬حتى املقربني منها‪ ،‬فإهنا مل يصدقوا أن هذه‬
‫تسوق بواقع كل حلظة دلي ً‬
‫ال عىل كوهنا‬ ‫املغرورة واملتعجرفة‪ ،‬التي ِّ‬
‫أعلم من يف الدنيا‪ ،‬تسقط هكذا‪.‬‬
‫كيف ال تعرف أهنا حتبه؟! بل قد يذهب هبا الشيطان مع ما ذهب‬
‫ٍ‬
‫كمحاولة لالنتقام منه‪.‬‬ ‫له “منري” عىل قياس غرورها‪ ،‬أهنا تريد لقاءه‬
‫قرار‬
‫دائام بتأسيس مشاريع الفراق من جانبها‪ .‬تشعر أن َ‬
‫هي املشغولة ً‬
‫اآلخر باالبتعاد عنها حيمل شي ًئا من إهانة‪ .‬والرجل عىل الواضح‬
‫كان واقع ًيا‪.‬‬
‫فتا ٌة مجيلة‪ ،‬متتلك نظر ًة أكثر اتسا ًعا للمستقبل‪ .‬ما الذي يدفعها‬
‫يضع تصوراته‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫رجل ربام يستعد ألن‬ ‫أن تبني حياة وتبدأ فيها‪ ،‬مع‬

‫‪127‬‬
‫عن اخلروج منها‪ .‬يدرك أن مشاعر رجل متيم يف ذاك الزمن قد تبدو‬
‫فاحلب بات سلع ًة تتعرض لقوانني العرض والطلب‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫غريبة عنه‪.‬‬
‫األفكار نفسها باتت سلعة‪ .‬القيم‪ ،‬التي ظل بطول عمره يتحدث‬
‫ٍ‬
‫كمبادئ كلية‪ ،‬صارت تنتحر اليوم أمام عينيه‪ ،‬واحتدت مع‬ ‫عنها‬
‫نفسه كي يتصالح مع‬‫يرهق َ‬‫َ‬ ‫كوهنا وجهة نظر‪ .‬فام الذي يدفعه أن‬
‫عامله‪ ،‬أو مع تصوراهتا التي حتاول إسقاطها عىل الواقع وإنسانيته‪.‬‬
‫عوار نفسها‪ ،‬وغرورها الغري مربر‪ .‬وحتى لو راح‬ ‫مؤكد قد أدرك َ‬
‫ِ‬
‫مركبات ضعفها املستور‪ ،‬فام هي‬ ‫ِ‬
‫لنسج عالقة معها؛ متسام ًيا فوق‬
‫الستكامل خسائره؟ وخاصة مع هذا الوقت الصعب يف كل‬ ‫ِ‬ ‫دوافعه‬
‫تفاصيله‪ ،‬واألصعب زوال فرص تعويضه‪.‬‬ ‫ِ‬

‫زاوية أخرى للحقيقة فإن “هنلة” ليست هبذا السقوط‬ ‫ٍ‬ ‫لكن من‬
‫ِ‬
‫حديث منتقدهيا‪ .‬ربام تسكنها حري ُة القرار‪،‬‬ ‫الفظيع الذي يتسلل من‬
‫ضبابي ُة التصور عن احلبيب الذي تشتهي أن تنا َم يف حضنه وهي‬
‫مطمئنة‪ .‬ال أزمة تعيشها أكرب من توفيق هذه املتناقضات املؤملة من‬
‫ِ‬
‫وجهة نظرها‪.‬‬
‫احلب قد‬
‫ُّ‬ ‫العمر ليس من األعداء الذي يمكن هزيمتهم بقرار‪.‬‬
‫كبريا ملته ًبا‪.‬‬
‫وخصوصا إذا كان ً‬
‫ً‬ ‫يستطيع أن يلغي بعض املحاذير‪،‬‬
‫قدر‬ ‫ِ‬
‫لكن من سوء حظها أن التقت”كريم” فإذا كانت تفكر يف أمره َ‬
‫غرام‪ ،‬فإنه يفكر يف ِ‬
‫أموره حد االنتحار‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫القدر ومتكن منري من لقائه عند مدخل املنزل‪ .‬بدا‬ ‫ُ‬ ‫تعاطف‬
‫ِ‬
‫عالمات التعب‪ .‬ومل يبتهج هبج ًة جيوز‬ ‫هدا‪ ،‬وبانت عليه الكثري من‬ ‫ُجم ً‬
‫رصدها حال رآه‪ .‬صعد معه لشقته‪ .‬ودفع بكريس‪ ،‬وحني استقر‬ ‫ُ‬
‫جالسا حدثه مبارشة عن “هنلة” وكيف هو حاهلا يف غيابه‪.‬‬‫ً‬
‫مل يكن حيتاج إىل إخباره بحبها له‪ ،‬لكن بان عىل وجهه الذي مل‬
‫حيرص يو ًما عىل إظهاره‪ .‬حزين يف تطرف‪ ،‬واحلرية تكسو مالحمَه‬
‫كلها‪ .‬هنالك قام “منري” ليحتضنَه‪ .‬ويقول يف هلجة أقرب للتوسل‪:‬‬
‫َ‬
‫تكون يف حياتك‪ ،‬بغض النظر عن أي‬ ‫‪ -‬امنح “هنلة” فرص َة أن‬
‫انكسار متوقع‪ .‬فيقينًا ال يوجد ما خترسه‪.‬‬
‫لكن كريم تأمل من هذا االقرتاح‪ ،‬وراح يفند إنه ليس من هؤالء‬
‫الذي يقتلون الوقت بمشاعر جمانية‪ ،‬فإما أنه حيبها‪ ،‬أو لتخرج من‬
‫حياتِه ولألبد‪ .‬لكنه ال يعلم أن أي مساحة س ُتمنح هلا معناها أن‬
‫يبقى‪ ،‬وهذا غري وارد اآلن‪.‬‬
‫ربام أشفق عىل منري‪ ،‬ففتح قل َبه‪ ،‬اعرتف أنه يف آتون حرية شاملة‪،‬‬
‫ففي زيارة للنمسا تعثر يف ٍ‬
‫فتاة تدعى ناتايل‪ ،‬عربية مهاجرة‪ ،‬متتلك‬
‫ٍ‬
‫ملفاتيح قد تستطيع إخراجه مما هو فيه‪ ،‬وتطهريه مما علق به‬ ‫ما يشري‬
‫بطول رصاعه مع عامله هنا‪.‬‬
‫امرأة عىل درجة من الطفولة‪ ،‬تستطيع إعادته لعوامله السابقة‪.‬‬
‫متنحه‬
‫بينام يشعر أن سطوة الطموح يف عني “هنلة” سيغتال رغب َتها أن َ‬

‫‪129‬‬
‫احلب كام يتمنى‪ .‬وإن مل تنجح يف منحه احلب‪ ،‬فسوف تصطدم‬ ‫َّ‬
‫بمزاجه احلاد‪ .‬وميولِه الرافضة واملمتعضة والتي تدفعه دف ًعا كي‬
‫ِ‬
‫يغادر‪.‬‬
‫ِ‬
‫اجرتار ذكريات املايض‪ ،‬وحديث‬ ‫بعد كوبني من القهوة‪ ،‬راحا يف‬
‫يثق فيام يقوله‬
‫شجي عن أخيه الراحل‪ .‬ويف النهاية دعاه “منري” أن َ‬
‫املرة عىل األقل‪ ..‬فإن هنلة قد جتاوزت هذه السلبيات التي مل‬ ‫هذه ّ‬
‫نفسه القدر َة عىل نفيها‪ ،‬كوهنا صديقته‪ ،‬ويعرفها بصدق‪.‬‬ ‫جيد يف ِ‬
‫ويستطيع أن َ‬
‫يقوهلا وبال تردد؛ إهنا حتبه‪.‬‬
‫***‬

‫‪130‬‬
‫(‪)18‬‬

‫قبيل غروب يوم بدا بار ًدا‪ ،‬هبط كريم من سيارته‪ ،‬توقف قبالة‬
‫ِ‬
‫احلزينة حيال هؤالء الذين جيلسون عىل رجاء‬ ‫البحر‪ .‬رشد بنظراتِه‬
‫سقف من حب‪ .‬ضائعون ومساكني‪ ،‬من‬ ‫ٍ‬ ‫أن جتمعهم الدنيا حتت‬
‫هيبهم فرصة واحدة ينجحون يف استغالهلا ويصنعون شي ًئا؟‬
‫ظل يسري هذه املسافة كلها‪ ،‬تاركًا هذا املشهد الضاغط بعنف إىل‬
‫سجائره‪ .‬وصعد رسي ًعا‪ ،‬وارمتى عىل رسيره بمالبسه‪.‬‬
‫َ‬ ‫البيت‪ .‬اشرتى‬
‫ِ‬
‫بسقف الغرفة‪ ،‬وبعض الذكريات‬ ‫وأغمض عينيه اللتان كانتا معلقتان‬
‫يت ناتايل عىل قياس ما يتمنى‪.‬‬
‫القديمة‪ .‬وبعض اآلمال أن تأ َ‬
‫يسمع جرس الباب‪ ،‬هو‬ ‫َ‬ ‫مر قبل أن‬
‫ال يدري كم من وقت قد َّ‬
‫يزوره أحد‪ .‬من الداخل مل يتبني مالحمَها‪ ،‬خانه‬
‫َ‬ ‫الذي مل يعتد أن‬
‫النظر‪ .‬لكن صوهتا قال إهنا هي‪ .‬كان اخلجل يعرتي كل تفاصيله‪،‬‬
‫فحيا ُة رجل منفرد ال توحي بأكرب من رهان عىل ِ‬
‫لقاء الفوىض‪ ،‬لكنه‬
‫فتح‪ ،‬وبرسعة أغلق با َبه‪ ،‬ليجدها تتجه حلضنِه بعنف‪ ،‬تبكي‪ ،‬وهتتز‬
‫من البكاء‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫مشاعره ُحمايدة وال يدري السبب‪ .‬هل هي املفاجأة‪ ،‬أم‬
‫ُ‬ ‫كانت‬
‫يده املرتعشة عىل كتفها‪ ،‬هيدهدها‪ ،‬وخيفف من‬ ‫اجلسارة؟ وضع َ‬
‫ِ‬
‫شجن اللقاء‪ ،‬بعد كل ما كان من جفوة‪.‬‬
‫عىل نفس الكريس الذي جلس عليه “منري” جلست “هنلة”‪.‬‬
‫حركت عينيها الصافيتني الباكيتني يف كل األركان‪ .‬رأت الكتب‪،‬‬
‫ٍ‬
‫مستلق عىل‬ ‫واحلاسوب تنبعث منه موسيقى كان يديرها هبمس وهو‬
‫أريكة‪.‬‬
‫صوت “أسمهان” الساموي يصدح يف سامء الغرفة‪ ،‬فيحلق‬ ‫ُ‬ ‫كان‬
‫صوهتا بينام ُتغني “ليايل األنس يف فيينا”‪ ،‬تلك‬
‫ُ‬ ‫غناؤها عال ًيا ويتسامى‬
‫األغنية الساحرة التي ال يمل كريم سامعها‪.‬‬
‫َ‬
‫يشغل نفسه‬ ‫أشعل سيجارتني ومنحها واحدة‪ .‬وحاول أن‬
‫بالبحث يف ملفات ال يدري ما فيها‪ .‬ربام كانت مباراة للصمت أو‬
‫ارتياحا‪ ،‬هو الذي مل ينم‬
‫ً‬ ‫ٍ‬
‫بشكل أكثر‬ ‫جيلس‬
‫الصرب‪ .‬بدا وكأنه يريد أن َ‬
‫لثالثة أيام خلت‪ ،‬بينام هييئ نفسه للرحيل‪ .‬وعىل مالحمه الكثري من‬ ‫ِ‬
‫منتصف األريكة‪ ،‬ويف اخللف من رأسه بعض‬ ‫ِ‬ ‫التعب‪ .‬فنام تقري ًبا يف‬
‫النظر يف تفاصيل بيته‪.‬‬
‫َ‬ ‫الوسائد‪ ،‬وهنلة بدورها مازالت ُمتعن‬
‫سألته عن يشء قد استقر فوق منضدة يف الزاوية‪ .‬فأجاهبا إنه‬
‫ِ‬
‫ارتباك اجلريان حني يموت‬ ‫كفنه‪ ،‬فمنذ مات زياد وهو خيشى من‬
‫وحيدا‪.‬‬
‫ً‬

‫‪132‬‬
‫صدمتها اإلجاب ُة فاندفعت تلقي َ‬
‫نفسها يف حضنه‪ .‬مل يقم أو‬
‫ِ‬
‫يستلق من أجل أن‬ ‫حمتاجا لذلك‪ ،‬رغم أنه مل‬
‫ً‬ ‫ينتفض‪ .‬بدا وكأنه كان‬
‫َ‬
‫تفعل ما فعلت‪ .‬كان قل ُبه يدق برسعة‪ .‬بدا كمراهق‪ ،‬يتعرض لغواية‬
‫أنثى عريضة التجربة‪ .‬حتى أهنا شعرت هبذه الدقات املتسارعة‪.‬‬
‫غريت من شكل حركة جسمها‪،‬‬ ‫ولفتت نظره‪ ،‬لكنه أجاب إجابة َّ‬
‫ٍ‬
‫عناق دافئ‪،‬‬ ‫التي غادرت جمرد استناد عىل صدره‪ ،‬لتتحول إىل‬
‫مستسلام هلا‪.‬‬
‫ً‬ ‫وجسمه مازال‬
‫مل يكن هناك من عتاب‪ ،‬وال حماكمة عىل أي درجة من القسوة‪ ،‬ومل‬
‫متارس عليه دالالً يكافئ حضنَه‪ .‬فقط فتاة مؤرقة‪ ،‬وجدت املساح َة‬
‫صمت جعله يعتقد فع ً‬
‫ال‬ ‫ٌ‬ ‫التي تعينها عىل نو ٍم هادئ‪ ،‬بعد طول أرق‪،‬‬
‫ِ‬
‫لشعرها‬ ‫يده تتسلل‬
‫دقات قلبه للهدوء‪ ،‬وراحت ُ‬
‫ُ‬ ‫أهنا نامت‪ .‬فعادت‬
‫هامسا أن تطمئن‪.‬‬
‫ً‬ ‫حينًا‪ ،‬وهتدهد كت َفها حينًا‪ ،‬يدعوها‬
‫ككتلة واحدة‪ ،‬وأشعلت هي السيجارتني بدالً‬‫ٍ‬ ‫قاما من نومتهام‬
‫الكثري من األسئلة‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫تسأل‬ ‫منه‪ .‬كان يدرك أن شغفها يدفعها ألن‬
‫ِ‬
‫جلواره تنظر‬ ‫حاولت أن تعو َد للكريس‪ ،‬لكنها مل تستطع؛ فجلست‬
‫ِ‬
‫لساموات‬ ‫إليه‪ ،‬وصوت املوسيقى مازال متواصالً‪ .‬وراح ينظر‬
‫الغرفة وحيكي‪..‬‬
‫أخربها أنه يتأمل للمعاين التي ال تأيت عىل أسل ِم التفاسري‪ ،‬وقد‬
‫يقبل أي ٍ‬
‫يشء حتى الظلم‪ ،‬لكنه ال يقبل أن ُتلفق نيته‪ .‬أقسم إنه قد‬ ‫َّ‬

‫‪133‬‬
‫خيتار املساحة التي‬
‫جتاوز كل يشء‪ .‬كان فقط حياول يف الغياب أن َ‬
‫تسمح هلا بالوجود‪ ،‬وماذا عساه أن حيدث لو غابت‪.‬‬
‫هنالك اكتشف أهنا ستظل واحدة من ِ‬
‫مجلة خسائره‪ ،‬ألنه يشفق‬
‫عليها من شخصيته املرتبكة‪ ،‬ربام استفزها صم ُته وغموضه‪ ،‬فسعت‬
‫لكشفه وحل لغزه‪ ،‬لكنه ال يدري ما هي أزمته لكي حيكي عنها‪.‬‬‫ِ‬
‫ِ‬
‫شعوره وليس‬ ‫ظل صو ُته يدفعها دف ًعا أن تطال َبه باحلديث عن‬
‫هواجسه‪ .‬مل تكن تريده أن يصمت‪ ،‬لكنها ال تتمنى جماهب َة أفكاره‬
‫كناصح أمني‪ ،‬وكأن كل ما قاله كان متحق ًقا‬
‫ٍ‬ ‫السلبية‪ .‬حاول أن يبدو‬
‫يف حساباهتا وهي تتواصل معه بعد السهرة‪ ،‬أو يف غامر العمل‬
‫الذي صادفها فيه‪ ،‬لكنها مل تتعاطف مع هذه التوجهات املؤذية يف‬
‫كثري من نتائجها‪ ،‬وكأنه يمهد خلتام جديد‪ ،‬لكنه وعدها أنه يفكر‬
‫يف األمر‪ ،‬مؤكد يضع املحاذير والضغوط املحتمل أن تتعرض هلا‪.‬‬
‫واالختبارات القاسية التي قد تصادف رحلتهام معا‪.‬‬
‫ِ‬
‫للصالة‬ ‫إخراجه من ذاك الطقس فطلبت منه أن خيرجا‬ ‫حاولت‬
‫َ‬
‫ترقص معه‪ .‬سأهلا هل هي‬ ‫َ‬ ‫صوت املوسيقى‪ ،‬فهي تريد أن‬
‫َ‬ ‫ويرفع‬
‫يكون هو من ال يستطيع‪ .‬لكنهام‬‫َ‬ ‫جادة‪ ،‬وجتيد الرقص‪ .‬فخشيت أن‬
‫مع ارتفاع صوت املوسيقى رقصا م ًعا‪.‬‬
‫انتزعت منه قبل ًة هلا معنى‪ ،‬وحني انتهت الرقصة‪ ،‬احتضنها‪،‬‬
‫وشبح ناتايل يتمدد عىل اتسا ِع خميلته‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫ِ‬
‫جوار البحر‪.‬‬ ‫هبطا إىل مطع ٍم قريب‪ ،‬وبعد أن خرجا منه مشيا إىل‬
‫ٍ‬
‫كطفلة‪ ،‬وهو ِ‬
‫بدوره عاد عاش ًقا ً‬
‫متيام‪ .‬سأهلا مبارشة‪..‬‬ ‫بدت‬
‫‪ -‬ماذا تريدين؟‬
‫دورها يف الكالم قد حان‪..‬‬
‫ضحكت‪ ،‬وأعلنت أن َ‬
‫أمره كان صمته‪،‬‬ ‫غموضه أرهقها‪ ،‬لكن األشد غواية يف ِ‬
‫َ‬ ‫مل تنكر أن‬
‫واختالفه عن كل من صادفها‪.‬‬
‫بإشفاق غريب‪ ،‬مل يراهن عىل تفاصيل ال تتحرك‬ ‫ٍ‬ ‫كان ينظر إليها‬
‫ِ‬
‫احلياة‬ ‫ِ‬
‫جتربة‬ ‫يف عقلها‪ ،‬ويكاد يشعر هبا‪ ،‬فتحدث مبارش ًة عن رغبتِه يف‬
‫الطموح األخري‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يف أوروبا‪ .‬فهذا عىل ما يبدو سيكون‬
‫مل تتعاطف “هنلة” مع هذه الرغبة‪ ،‬بدت حزينة‪ ،‬وهو يصف احليا َة‬
‫هنا وكأهنا قبس من اجلحيم‪ ،‬أو لعنة ترتصد كل من هم عىل شاكلته‪.‬‬
‫فلقد أرهقته األيام‪ ،‬ومل يعد بري ًئا كام كان‪ .‬فالكل ٌ‬
‫باطل هنا‪ ،‬حتى‬
‫غياب احللم واملعنى‪.‬‬
‫َ‬ ‫ِ‬
‫هامش الرخاء‪ ،‬يعانون‬ ‫الذين يعيشون عىل‬
‫الرفاهية الزائدة عن احلد ُمهلكة ال حمالة‪ُ .‬حتيل اإلنسان الذي اختاره‬
‫اهلل إىل ٍ‬
‫كائن استهالكي كريه‪.‬‬
‫تتجمد مالحمُه‪ ،‬وهو يرى الصدم َة بادي ًة عىل وجهها‬
‫َ‬ ‫مل يشأ أن‬
‫الصبوح‪ .‬فأخربها عىل سبيل األمل أنه مل ينسحب من ِ‬
‫حياهتا‪ ،‬لكنه‬
‫ِ‬
‫تعاملها الغريب مع‬ ‫تعاطف مع ظروفِها‪ ،‬وخاف عليها الفشل من‬
‫مجاهلا‪ ،‬أو ترتبك حيال ترتيب القادم من أيامها‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫ال يدري ِمل كان حريصا عىل ِ‬
‫رسد هذه الذكريات‪ .‬ومل يستطع عىل‬ ‫ً‬
‫يفرس ِمل اندفع منري كي حيكي عنه تفاصيالً‪ ،‬ربام ما‬
‫الدرجة نفسها أن َ‬
‫كان ينبغي له أن حيكيها‪.‬‬
‫األمر‪ ،‬وتنتبه‬
‫َ‬ ‫مؤكد مع غيابه الطويل منحها ما جيعلها تنسى‬
‫ِ‬
‫حلياهتا وكأنه ليس فيها‪ .‬ساق هلا هزائمه وإحباطاته‪ ،‬التي حتول دون‬
‫ٍ‬
‫جتربة جديدة‪ ،‬قد تكون هنايته‪.‬‬ ‫َ‬
‫يكمل قادم أيامه يف‬ ‫أن‬
‫كثريا بعد أن غابت‪ ،‬عاد هلواجسه‪ ،‬لكنه قتلها رسي ًعا‪ .‬فربام‬
‫توقف ً‬
‫تعيد له االتزان املفقود‪ .‬أو ربحت معرك َة الوجود التي‬
‫استطاعت أن َ‬
‫أحدا سواها‪.‬‬
‫يديرها القدر هذه املرة بناتايل وليس ً‬
‫يف قط ٍع متواز‪ ..‬ال تدري كيف وصلت للبيت‪ .‬فآخر ما تظنه أهنا‬
‫رحلت بسيارة وليس بجناحني من أمل‪ .‬هي حتبه‪ ،‬وآمنت به‪.‬‬
‫ستتزوجه وستقاتل من أجله‪ .‬هذه هي احلقيقة ا ٌملجردة الوحيدة‬
‫التي ستسعى لتحقيقها‪.‬‬
‫ِ‬
‫حماولة اتصال‪ ،‬ورسائل‬ ‫بعد عودة كريم للبيت وجد أكثر من‬
‫ِ‬
‫للوقت املتأخر واتصل هبا برسعة‪ .‬فاجأته‬ ‫كثرية‪ ،‬من ناتايل‪ .‬مل حيتط‬
‫ِ‬
‫بقوهلا دون كلامت الرتحيب املعتادة‪:‬‬
‫‪ -‬أحبك‪.‬‬
‫وأريدك أن متنحني صور َتك اآلن وأنت تستقبل هذه الكلمة‬
‫مني‪ .‬فتح الكامريا فعالً‪ ،‬ومل حياول أن ُيبدي أي َة ردة فعل‪ ،‬كان‬

‫‪136‬‬
‫جامدا كاملوتى‪ .‬ال يدري من ِ‬
‫سوء طالعه ملاذا ظهرت هنلة اآلن كي‬ ‫ً‬
‫ربك حساباتِه وتعوق رغبته يف ناتايل‪.‬‬ ‫ُت َ‬
‫ٍ‬
‫البتسامة ال يعلم‬ ‫النظر صوب وجهها يلمح ما يشري‬‫كلام اختلس َ‬
‫معناها‪ .‬انتصار‪ ،‬فرحة من ربحت الرهان وأدركت كم هو كائن‬
‫مرتبك‪ .‬صدمته حني قالت إن اإلفراط يف احلب ال يعني أنك حتب‪.‬‬
‫ويبدو أن تصنيع حالة الغرام كان يبتغي أص ً‬
‫ال صناعة دراما حلياة‬
‫يراها متجمدة وخالية من املعنى‪ .‬فهل هو كذلك فعالً؟‬
‫جتميع نفسه كي يرد‬
‫َ‬ ‫ص كم من سيجارة أشعلها وهو حياول‬ ‫مل ُحي ِ‬
‫عىل تساؤالهتا‪.‬‬
‫مريضا فعالً‪ ..‬فالناس‬ ‫أي تعاطف وهو خيربها كونه‬ ‫ِ‬
‫ً‬ ‫مل ُتبد ناتايل َّ‬
‫النظرات‬
‫ُ‬ ‫حد علمه خمتلفون هنا‪ .‬الثرثرة تسلي ُة اجلميع‪ .‬وتقتله‬ ‫عىل ِّ‬
‫املرتابة‪ ،‬لذا مل يظلمهم عندما تعامل بشح جدير بالنظر مع فكرة‬
‫التعارف‪ ،‬وتكوين الصداقات‪ .‬ومؤكد قد أصابت ناتايل يوم‬
‫ِ‬
‫كيمياء‬ ‫فالناس نمطيون‪ ،‬ال يعرفون شي ًئا عن‬ ‫رفضت العودة لبلدها‪.‬‬
‫ُ‬
‫االختالف‪ ،‬وخاصة حني ُيبدي دهش َته حيال أمور قد تبدو بسيطة‪،‬‬
‫جدا معربة عن كارثة‪.‬‬
‫لكنها اًّ‬
‫ِ‬
‫ملسببات‬ ‫ِ‬
‫رومانسية البدايات‪ ،‬وطلبت منه أمثل ًة‬ ‫ختلت ناتايل عن‬
‫املالبس مع مج ٍع من‬
‫َ‬ ‫رفضه‪ .‬فأخربها عن أولئك الذين يشرتون‬
‫َ‬
‫أذواق اآلخرين ُتشتت اختياراهتم؟‬ ‫األصدقاء‪ .‬ملاذا جيعلون‬

‫‪137‬‬
‫َ‬
‫واألشكال التي تتسق مع رغباهتم‪ ،‬ويتبنون‬ ‫َ‬
‫األلوان‬ ‫فلريتدوا‬
‫الدفاع عنها‪ .‬وحتى يف السينام‪ ،‬فليس من‬
‫َ‬ ‫األفكار التي يستطيعون‬
‫َ‬
‫فيلام مع أحد قد جيعلنا نرى األحداث من خالله‪.‬‬ ‫نشاهد‬
‫َ‬ ‫أن‬ ‫ِ‬
‫احلكمة‬
‫ً‬
‫حسام يف يد الطواغيت‪.‬‬
‫ً‬ ‫املصادرة عىل الفهم هي األدا ُة األكثر‬
‫حد خربيت‬
‫املستبدون خيشون من املختلفني‪ .‬واألزمة احلقيقية عىل ِّ‬
‫أن العامل لن يتغري‪.‬‬
‫ِ‬
‫مالحمه لدرجة أن اعتقدت‬ ‫كانت ناتايل تسمعه ُ‬
‫ومتعن النظر إىل‬
‫أن كريم هيذي‪ ،‬إنه ال يمتعض من الناس ِ‬
‫بقدر ما خيافهم‪ ،‬ولو يف‬
‫يمنحهم فرصة اصطياده‪ ،‬ومل يشأ حتت‬
‫َ‬ ‫الرس واخلفاء‪ ،‬ال يريد أن‬
‫َ‬
‫يكون جدل ًيا حتى مع من يعتقد بحبهم‪.‬‬ ‫ضغط نفس اخلوف أن‬‫ِ‬

‫مؤكد حيال شخص ككريم‪ ،‬وحني متتلك الكفاية من متطلبات‬


‫ِ‬
‫الناس منحته‬ ‫احلياة‪ ،‬قد تندفع طو ًعا للبعد‪ .‬وخاصة أن ظروف‬
‫اليقني بانعدام اجلدوى‪ .‬فال يوجد التزام أخالقي جيعله مسئوالً‬
‫عن الرتاجع الذي أصاب معظم من يعرفهم‪ .‬وال توجد بالرضورة‬
‫موهبة صاغها صاحبها‪ .‬لكن أسوأ ما فيه استنا ًدا لظروفه‪ ،‬يكمن يف‬
‫هذا العزوف الكاره للناس‪.‬‬
‫الفهم واالنسالل لكبد احلقائق امللغزة منحة اهلل‪ ،‬فإنه‬
‫ُ‬ ‫فإذا كان‬
‫كل حركاته وسكناته بالغموض‪.‬‬ ‫يغلف َّ‬
‫َ‬ ‫ص وبإخالص كبري أن‬ ‫حر َ‬
‫َ‬
‫واحدا من أهدافه‪ .‬مل تتسلل لقناعتِه الرمح ُة‬
‫ً‬ ‫الغموض‬
‫ُ‬ ‫حتى بات‬

‫‪138‬‬
‫ِ‬
‫أبواب قصة‬ ‫بطالب احلقيقة‪ ،‬وأنصار التزود باملعرفة حتى وهو عىل‬
‫َ‬
‫التورط يف التفسري‪.‬‬ ‫ِ‬
‫طريق ناتايل ال يريد‬ ‫حب حقيقية تدفعه يف‬
‫ضوء ما سمعت‪ ..‬أنت ختشى‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫بحكمها عليه عىل‬ ‫باغتته ناتايل‬
‫الناس‪ ،‬لكنك حتت ضغط احلياء‪ ،‬وحمبة العزلة‪ ،‬ترتك من يريد الفهم‬
‫تتجنب وبقسوة أي فرصة قد‬ ‫يعيش مع ِ‬
‫جهله باحلقيقة‪ ،‬فقررت أن‬
‫َ‬
‫جتمعك هبم‪ ،‬أو أي لقاء قد يورطك يف رشح معنى‪ ،‬متلك حياله آلية‬
‫قد تساعد اآلخر عىل اإلدراك‪.‬‬
‫بعد سيجارة أشعلها بتوتر قال‪:‬‬
‫‪ -‬لكي أنترص لكوين الوحيد الذي يعرف احلقيقة‪ .‬هل هذا ما‬
‫تقصدينه؟‬
‫مل تشأ ناتايل أن تصد َمه بام وصلها من أفكاره‪ .‬حاولت فقط‬
‫غري أن احلياة قد‬
‫إبدا َء رأهيا فيام سمعته وتعلق عىل مالحمه‪ ،‬فلم جتد َ‬
‫تبدو أبسط من هكذا تصورات‪ .‬هنالك أخربها وهو ينتحل بعض‬
‫القوة أن احلقيقة حتتاج للشقاء والنضال‪ .‬املعاين السهلة التي ال تأيت‬
‫بدم‪ ،‬تركض إىل زواهلا املؤكد‪ .‬وأن طاقة العطاء عنده ظلت تتحرك‬
‫وفق ما يعتمل يف قلبه من مشاعر إجيابية مع حمدثه‪ ،‬فإن أحب يمنح‬
‫بسخاء‪ ،‬وإن كره‪ ،‬فال طاقة له متنحه الصرب عىل هذه النامذج التي‬
‫جتعله بوجودها يتنفس من ثقب إبرة‪ .‬وليس له من أمل سوى أن‬
‫ترتكه الناس يستمتع بوحدته‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫‪ -‬وحدتك؟‬
‫وملا أدرك كريم قسوة املفردة قال‪:‬‬
‫‪ -‬طاملا أنك خارج حيايت أستطيع توصي َفها وحديت‪.‬‬
‫ِ‬
‫تفاصيله املربكة‪ ،‬فأخربها‬ ‫َ‬
‫انتشال ناتايل من‬ ‫ٍ‬
‫صمت أراد كريم‬ ‫بعد‬
‫أن أيوب رسحان‪ ،‬ذاك الرجل الذي التقى به عىل هامش املؤمتر يف‬
‫فيينا‪ ،‬سيصل يف غضون أسبوع‪ .‬سيلتحق هو وزوجته بأوالده‪.‬‬
‫وحني علم هبذه النية ال يعرف هل يبتهج أم حيزن‪ ،‬لكن عىل الغالب‬
‫يؤجر له‬
‫َ‬ ‫الرجل ثانية‪ .‬والذي طلب ِ‬
‫بدوره أن‬ ‫َ‬ ‫سعيدا أن يرى‬
‫ً‬ ‫سيكون‬
‫سيارة‪ ،‬ويصطحبه من املطار حتى الفندق الذي سينزل فيه‪ .‬ويبدو‬
‫ٍ‬
‫لعودة دائمة‪.‬‬ ‫ِ‬
‫بصدد ترتيب‬ ‫أن الرجل قد يكون‬
‫ِ‬
‫بلهجة الواثق أن جتارب‬ ‫سألته ناتايل عن ِ‬
‫رأيه يف األمر‪ .‬فأقر كريم‬
‫العودة مل تنجح مع من جربوا العودة‪ ،‬فشلوا يف التأقلم مع الوضع‪،‬‬
‫ذر‪ .‬ولسوف أرشح له حني أقابله صعوب َة‬‫فاحلياة هنا تغريت بشكل ُم ٍ‬
‫أن يعود ٍ‬
‫لبلد تركها طفالً‪ ،‬ومؤكد له ذكريات بريئة مل يعد هلا مكان‪،‬‬ ‫َ‬
‫أثر للبيت الذي‬‫فام من أهل وال صحبة‪ ،‬وربام مع احلرب قد زال كل ٍ‬
‫نشأ فيه‪.‬‬
‫‪ -‬لكنك تصادر عىل ظروف الرجل وتوجهاته فربام استطاع‬
‫التأقلم‪ ،‬استنا ًدا حلبه القديم لبلده‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫فضحك وأخربها أن بالدنا ال حتب‪ .‬وملا وجد من مالحمها ما‬
‫يشري لعد ِم قبوهلا للدعابة‪ .‬دعاها أن تنسى هؤالء احلاملني‪ .‬فزاد وج ُه‬
‫َ‬
‫االتصال دون‬ ‫جتهام‪ .‬وطلبت منه أن يرتكَها لتنام‪ ،‬وأغلقت‬ ‫ناتايل ً‬
‫حتى أن تود َعه‪.‬‬
‫***‬

‫‪141‬‬
‫(‪)19‬‬

‫ِ‬
‫بمستجدات‬ ‫ِ‬
‫صبيحة أحد األيام‪ ،‬التقت هنلة بمنري فأخربته‬ ‫يف‬
‫ٍ‬
‫بصمت‬ ‫فرحا هلذه التطورات‪ .‬لكنه الذ‬
‫عالقتها بكريم‪ .‬ابتسم ً‬
‫أقلقها فعال‪ .‬ومل تستطع االنفالت برسعة من طقس الريبة الذي‬
‫سيطر عليها‪ .‬فسألته مبارشة‪:‬‬
‫‪ -‬ألك حتفظات عىل العودة؟‬
‫هنا نصحها أن تسأله يف ِ‬
‫أول لقاء جيمعهام عن ناتايل‪ ،‬فمنذ فرتة‬
‫ِ‬
‫التعليقات املتبادلة‬ ‫وهو يتابع نشا َطه عىل الفيسبوك‪ ،‬وهو يالحظ من‬
‫فيام بينهام أن ثمة يشء كبري قد حدث‪.‬‬
‫تفرس رغبتها‬
‫َ‬ ‫ال تدري”هنلة” من أين أتاها هذا الثبات‪ ،‬وال أن‬
‫َ‬
‫تتجاهل ما سمعته‪ ،‬إذن هو يعيش حال َة حب أخرى جتاوزهتا‬ ‫يف أن‬
‫بالكلية‪ .‬لكنه لن يكذب‪ .‬فلو دفعته للحديث عن هذه الشخصية‬
‫اسمها اآلن حلكى هلا وبكل أرحيية‪ .‬الغريب يف األمر أن‬
‫التي سقط ُ‬
‫منري قلق‪ ،‬فمؤكد ما يقرأه دال ومعرب عن يشء ما‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫ٍ‬
‫حرية قد تفرس جهلها باألمر‪ .‬فانتحلت اهلدو َء‬ ‫مل تشأ السقوط يف‬
‫حتى تلقاه‪.‬‬
‫ال تدري ألي جهة انتقل احلديث‪ .‬فقط رشود عارض‪،‬‬
‫وحماوالت يائسة أن تنسى مؤق ًتا هذه القنبلة التي ألقاها منري‪ ،‬دون‬
‫أن يراهن عىل ِ‬
‫أثرها ا ُملزلزل‪.‬‬
‫َ‬
‫تتصل به مبارشة‪،‬‬ ‫عمل صعب‪ .‬فكرت أن‬ ‫خرجت هنلة بعد يوم ٍ‬
‫وتناقش معه هذا التطور الذي أنتج ناتايل‪ُ ..‬ترى من هي؟‬
‫متأخرا للدرجة‬ ‫ليس‬ ‫الوقت‬
‫َ‬ ‫أن‬ ‫وأدركت‬ ‫ها‬ ‫نظرت هنلة ِ‬
‫هلاتف‬
‫ً‬
‫تقتحم عليه وحد َته يف بيته‪ .‬لرتى إن كان بالفعل لديه‬
‫َ‬ ‫التي متنعها أن‬
‫آثار هذه العالقة‬ ‫ِ‬
‫ما يقوله‪ .‬لكنها ذهبت بنفسها حلسابه كي تقتفي َ‬
‫املمتدة يف الكوكب األزرق‪.‬‬
‫صور ناتايل شعرت هنلة بيشء قد رضب ثق َتها بنفسها‪،‬‬ ‫ِ‬ ‫باستطالع‬
‫مولع هبذه النامذج املبهرة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫فناتايل مجيلة يف تطرف‪ .‬ومؤكد أن كريم‬
‫صحيحا‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫اعتقاد بدا‬ ‫تابعت التعليقات فوصلها ما وصل لصاحبِها من‬
‫ً‬
‫قصة ملتهبة فد نشأت‪ .‬أرسلت عرب املاسينجر رسال ًة‬ ‫فعىل ما يبدو ثمة ٍ‬
‫تطلب رؤيته‪ ،‬والغريب بدا أنه قد قرأها‪ ،‬لكنه مل يرد‪.‬‬
‫لباب شقته‪ ،‬فبدت األضوا ُء‬ ‫ِ‬ ‫حتركت لزيارتِه يف بيته‪ ،‬وصلت‬
‫املرة‪ .‬مل يغب‪ ،‬وفتح بعد أول‬
‫وضوحا هذه َّ‬
‫ً‬ ‫املنبعثة من الصالة أكثر‬
‫يتجاوزه‪.‬‬
‫َ‬ ‫ٍ‬
‫بربود استطاع أن‬ ‫دقة‪ .‬دخلت‪ ،‬وسلمت‬

‫‪143‬‬
‫ِ‬
‫بروده املستفز بالنسبة‬ ‫ِ‬
‫الفراغات الكثرية بني‬ ‫الصمت يمأل‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫هلا‪ ،‬وأسئلتها الكثرية‪ ،‬وأمهها هذا التطور الذي مل ِ‬
‫حيك عنه‪ .‬حتى‬
‫َ‬
‫فنجان قهوة‬ ‫ليصنع‬
‫َ‬ ‫نفسه ليسأهلا‪ ..‬ما بك؟ فقط قام‬
‫إنه مل يكلف َ‬
‫ٍ‬
‫لثالجة صغرية تأيت‬ ‫يسع لسؤاهلا ماذا ترشب‪ .‬فقط أشار‬ ‫واحد‪ .‬ومل َ‬
‫يف اخللف من ِ‬
‫باب الغرفة التي جيلس فيها‪.‬‬
‫‪ -‬ألك رغبة أن نتكلم يف يشء؟‬
‫ٍ‬
‫يشء يف باقي الغرف‬ ‫أشعل سيجارة‪ ،‬وقام وكأنه يبحث عن‬
‫واملمر‪ ،‬الذي يؤدي للمطبخ والصالة من جديد‪ .‬وظل يتكلم وكأهنا‬
‫ليست موجودة‪:‬‬
‫‪ -‬كان من املمكن أن تكوين يف مكاهنا‪ ،‬لكنك مشغولة بأمور مل‬
‫أعد أفهمها‪ ،‬مشغولة للدرجة أن يمنحك منري ما يشري لعالقة قد‬
‫نشأت بيني وبني ناتايل‪ ،‬لقد كتب يل رسالة يف نفس توقيت رسالتك‬
‫تقري ًبا يستفرس عن األمر‪ ،‬وطاملا أنكام أصدقاء فليس صع ًبا أن‬
‫ٍ‬
‫ضوء رسالته‪ .‬وها أنت تأتني للسؤال وكأين قد‬ ‫أفرس رسالتك عىل‬
‫خنتك‪ .‬أنت ال يشء‪ ..‬عىل األقل لآلن‪ .‬تدعني الذكا َء والفهم يف‬
‫حني إنني بمجرد أن سمحت لك باالقرتاب كان من الرضوري أن‬
‫تضحي حتت داع احلب وتقرتيب ألين أحتاجك‪ ،‬فإن مل أكن أحبك‬
‫أو تبلورت يف قلبي مشاعر تقرتب من احلب‪ ،‬فكان جديرا بك أن‬
‫ترسقيني من هواجيس وحرييت‪ ،‬طاملا قد فهمت إنني أعاين هنا من‬
‫مركبات احلرية واالرتباك‪ .‬لكنك تشبهني هذا الواقع الظامل الذي‬

‫‪144‬‬
‫نعيشه‪ ،‬تريدين استاليب من عاملي اخلاص كي َ‬
‫أعيشه من خاللك‪.‬‬
‫أو ترتكيني هن ًبا لشغفك املريض‪ ،‬رغم كل ما يعرتيك من هشاشة‪.‬‬
‫تريدين أمتالكي‪ ،‬وأنا يقينًا غري موجود إال يف إطار عميل‪ .‬تقرتبني‬
‫فقط عندما يستبد بك الظن إنني بصدد الرحيل‪ ،‬لكن بمجرد علمك‬
‫ِ‬
‫ذهبت لعاملك تتدارسني‬ ‫إين بصدد تأسيس رشكة حتتاج بقائي هنا‪،‬‬
‫ٍ‬
‫كحبيبة مطعونة‪ ،‬حتاولني‬ ‫من جديد فكرة اقرتابك مني‪ .‬واآلن تأتني‬
‫استجال َء احلقيقة يف هذه العالقة املحرمة مع ناتايل‪ .‬هي تشبهك‬
‫ِ‬
‫تصوراهتا اخلاصة حيايل‪،‬‬ ‫يف ٍ‬
‫كثري من األمور عىل كل حال‪ ،‬متتلك‬
‫كثريا مع تصوراتِك‪ ،‬لكنها جتامليني أكثر منك‪.‬‬
‫وباملناسبة تتطابق ً‬
‫ولدهيا من الكر ِم ما يساعدها عىل منحي الفرصة‪.‬‬
‫صمت كريم للحظات ثم أردف‪:‬‬
‫ٍ‬
‫لرجل مازال‬ ‫‪ -‬ليس يل مصلحة يف تدمري صورة تتشكل أمامك‬
‫ِ‬
‫سواك‪ ،‬حال‬ ‫يف طور إقناعك إنه جدير ِ‬
‫بك‪ ،‬ليس عندي ما أخرسه‬
‫لديك ما خترسينه إذا ألح عليك‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وأنت ليس‬ ‫حتطمت عالقتي بناتايل‪.‬‬
‫رجل معتا ٌد عىل‬ ‫االنسحاب من حيايت‪ ،‬ألنك لآلن مل تدخليها‪ .‬وأنا ٌ‬
‫ُ‬
‫فهمها‪ .‬وحتى‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫أكون أنان ًيا وأنتزع منك عاطفة ال أجيد َ‬ ‫اخلسارة‪ .‬ولن‬
‫تصديقك ملا أقول أو تكذيبه مل يعد هيم‪ .‬فقط خذي وقتك‪ .‬ألين يف‬
‫أخرج من حيا َتك فقط‪ ،‬بل من هذا البلد هنائ ًيا‪.‬‬
‫َ‬ ‫القريب لن‬
‫بثبات غريب‪ ،‬ثبات أغراها أن ال تتورط يف‬ ‫ٍ‬ ‫كان كريم يتحدث‬

‫‪145‬‬
‫ٍ‬
‫بعمل قد كُلفت‬ ‫خطأ التعليق عىل ما قاله‪ .‬فقط أعلنت أهنا ستنشغل‬
‫به من قبل الرشكة‪.‬‬
‫و َّدعته بصورة أكثر لط ًفا من بداية اللقاء‪ ،‬والذي كان بار ًدا اًّ‬
‫جدا‬
‫ٍ‬
‫هلواجس كثرية‪ .‬ال تدري هل من‬ ‫من جهتها‪ .‬وخرجت وهي هنب‬
‫تطورات أخرى قد حدثت ومل خيربها بشأهنا؟؟‬ ‫ٍ‬

‫ملالمح هنلة وهي متيض خارج ًة من شقته‪ ،‬بعد‬ ‫ِ‬ ‫مل يرتح كريم‬
‫حديث متوتر عن ناتايل كواحدة دخلت حلياته‪ ،‬ومن ناحية أخرى‬ ‫ٍ‬
‫ٍ‬
‫بيشء من وجع الضمري‪ ،‬فلم خيربها أن اليوم اجلديد ربام سيأيت‬ ‫شعر‬
‫رب ملنري كي يقوله يف‬
‫وهو خارج هذه األرض‪ ،‬هو فقط رسب اخل َ‬
‫ِ‬
‫الوقت املناسب‪ ،‬أو بعد أن تتثبت أقدا ُمه يف منفاه األخري‪.‬‬
‫***‬

‫‪146‬‬
‫(‪)20‬‬

‫َ‬
‫ختتزل ناتايل رغب َته وتدفعه دف ًعا الختاذ‬ ‫من الصعب بمكان أن‬
‫قرار هبذه القسوة‪.‬‬
‫القسوة؟؟ فرغم كل معاناتِه وغربته التي عاجلها بالذوبان يف‬
‫روحه مازالت قلقة‪ ،‬ومؤكد لو حدث‬
‫العمل والنجاح املستمر‪ .‬فإن َ‬
‫وغاب هنائ ًيا‪ ،‬فسوف تتأقلم هنلة مع الوضع‪ ،‬وتتدارك ما يميض من‬
‫ِ‬
‫خياهلا منذ عرفت‬ ‫احلب كام رسمته يف‬ ‫عمرها رسي ًعا‪ ،‬وتبحث عن‬
‫ِّ‬
‫احلب‪.‬‬
‫قرب عودتِه هلا‪ ،‬مل يذهب لكوهنا ال‬
‫حني راسل ناتايل خيربها َ‬
‫امرأة ترى األمر صعبا‪ ،‬ال ألنه غري ٍ‬
‫جاد‬ ‫ٍ‬ ‫تصدقه‪ .‬بل منحته تصور‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫بلده ومرتبط هبا‪ ،‬وكل ما يتبدى من انتقاد ملا‬
‫يف رغبته‪ ،‬لكنه حيب َ‬
‫يعتقده سقو ًطا للمعنى‪ ،‬واضطرا ًبا للتوجهات ما هي إال قشور‪ ،‬أو‬
‫هو جمرد دالل لصبي قد وضع سق ًفا عال ًيا لطموحاته وما يرجوه من‬
‫األرض والناس‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫دفعته رسال ُتها للجلوس قبال َة صورة أمه يف منتصف الصالة‪ ،‬مل‬
‫يشعر هبذا الكم من األسى من قبل‪ .‬مؤكد لو كانت باحلياة‪ ،‬جلعلت‬
‫ِ‬
‫رحيله اآلن حمكوم عليه بالفشل‪ .‬ليس التزا ًما أخالق ًيا‪،‬‬ ‫من قرار‬
‫املسألة أكرب بكثري من جمرد عاطفة غريزية حتكم عالقة عىل هذا القدر‬
‫من اخلصوصية‪ .‬كانت تفهمه وحتتويه‪ ،‬أو عىل األقل جتعل من احلياة‬
‫هنا ممكنة‪ ،‬ومتنحها املعنى الذي يمتلك جدار َة أن يعيش من أجله‪.‬‬
‫ٍ‬
‫أرض غريبة يمثل هذا اهلاجس املؤمل الذي يريد‬ ‫هل كان املوت يف‬
‫ينفلت من بشاعة أثره‪ .‬فيعود بعد أربعني سنة ويزيد؛ كي‬‫َ‬ ‫أيوب أن‬
‫ترميم مقربة عائلتِه‪ ،‬وماذا يضريه إن مات يف أي بقعة‪ ،‬طاملا‬
‫َ‬ ‫يعيد‬
‫َ‬
‫سيتحول يف ِ‬
‫هناية املطاف لعظا ٍم بالية؟‬
‫ُ‬
‫الرجل الذي عاد؛ كي يتحسس ما بقي‬ ‫ٍ‬
‫جذور يتحدث‬ ‫عن أي‬
‫ال‬ ‫احلرب بعد أن اغتالت َّ‬
‫كل أحبته‪ .‬هل كان طف ً‬ ‫ُ‬ ‫منها‪ .‬ولقد لفظته‬
‫كي يبحث من جديد عن ِ‬
‫رفاق الصبا ورشكاء اللعب واللهو‪ .‬من‬
‫احلرب مل حتصدهم كام حصدت آباءهم‪.‬‬
‫َ‬ ‫يضمن له أن‬
‫إن الناس هم األوطان‪ ،‬ناتايل جسدت هذا املعنى يف ست‬
‫ٍ‬
‫وطن يتجسد كالرساب‪.‬‬ ‫ساعات‪ ،‬لكن احلمقى يبحثون عن‬
‫ِ‬
‫خلارج أرضه‪،‬‬ ‫ِ‬
‫اصطحاب الغالم‬ ‫من منح البولندية العجوز َّ‬
‫صك‬
‫والقذائف هتطل عىل احلي الذي يسكنه كاملطر‪ .‬إهنا اإلنسانية‬
‫ِ‬
‫إنقاذه‪ ،‬ومنحه احلياة التي مل يستطع‬ ‫ِ‬
‫ألبعد من‬ ‫املتجردة التي مل تنظر‬

‫‪148‬‬
‫أه ُله أن يمنحوها له‪ .‬فلقد بحثت عن أقاربِه ومل جتدهم‪ ،‬وحتى‬
‫الذين مل ينكروا القرابة‪ ،‬ختلوا عنه ألن عندهم ما يشغلهم‪.‬‬
‫ولده‬
‫جذوره يوم دعاه أن يسمي َ‬ ‫احرتم‬ ‫قد‬ ‫أيوب‬ ‫ِ‬
‫زوجة‬ ‫إن والد‬
‫َ‬
‫اسام لينًا‪ ،‬يصلح لألرض التي َ‬
‫نشأ فيها‪ ،‬ويصلح لألرض التي نشأ‬ ‫ً‬
‫فيها أبوه‪.‬‬
‫ٍ‬
‫برغبة الواعية؛ كي يكون األول سامر‪ ،‬كونه‬ ‫ربام اندفع أيوب‬
‫ال يريد أن ينسى حقيق َة ما يعتقده‪ .‬لكن عند(آدم) كانت الفكرة‬
‫الناس سيختلفون عليه‪.‬‬ ‫َ‬ ‫قد اختمرت‪ ،‬وأتى باالسم الذي لن يرى‬
‫تبا هلذا النفاق املدروس‪ ،‬فام من كذبة أشد حقارة من أسامئنا‪ .‬فال‬
‫(عادل) يتنفس غري الظلم‪ ،‬وال (عاطف) حيمل يف قلبه غري القسوة‬
‫يف أعظم جتلياهتا‪.‬‬
‫ِ‬
‫فبطول عمره‬ ‫غري حريته األزلية‪،‬‬
‫ماذا صنع زياد‪ ،‬صديقه اللدود‪َ ،‬‬
‫وحيدا‬
‫ً‬ ‫وظيفة حيبها‪ ،‬ومات دون أن جيدها‪ ،‬مات‬ ‫ٍ‬ ‫ُ‬
‫يبحث عن‬ ‫وهو‬
‫ِ‬
‫برائحة جثته خترتق‬ ‫رب موتِه‬ ‫خ‬ ‫ه‬‫مريضا‪ ،‬مات وأخرب املحيطني بوحدتِ‬
‫ً‬
‫َ‬
‫الصمت البارد الذي حارص كل حياته‪ .‬مات وصاحبه الوحيد‬
‫يامرس حريته املقدسة‪ ،‬يبحث عن منفى يتسع إلحباطه‪.‬‬
‫لكن من سيسأل عنه إذا ما مات عىل هذا النحو من الفجيعة؟‬
‫ِ‬
‫ساموات الغرفة كمطرقة حتطم رأسه‪.‬‬ ‫كان السؤال يتجسد يف‬
‫َ‬
‫يبحث عن جذوره‪ ،‬أو أخذه احلنني‬ ‫سفيها حني أراد أن‬
‫ً‬ ‫فأيوب ليس‬

‫‪149‬‬
‫للنو ِم يف جوار أبويه بعد أن أرهقته املنايف والغياب‪ .‬فهنا الذكريات‬
‫وهناك اجلليد‪ ،‬هنا املعنى وهناك املبنى‪.‬‬
‫هنلة‪ ..‬يا رب األرض والسامء حني يصل للتفكري فيها قبل رحيله‬
‫املتوقع‪ .‬تراها أحبته فعالً‪ ،‬وبإخالص‪ ،‬يساوي دموع سوزانا وهي‬
‫بمحطة قطار “نيس” يوم زارها واعتقد أن قلبه هذه املرة‬ ‫ِ‬ ‫تودعه‬
‫سيحسم الرصاع وخيربها احلقيق َة التي ال تؤيد ارتباطه هبا‪ ،‬عىل كل‬
‫األحوال فإن قل َبه مل يفعلها إمعا ًنا يف تعذيبِه‪.‬‬
‫صنف من الرجال خيشى اقتنا َء امرأة عىل‬
‫ٌ‬ ‫إن ناتايل مجيلة وهناك‬
‫ُ‬
‫عيون‬ ‫هذا القدر من الدالل الواثق‪ ،‬املدعوم ٍ‬
‫بفتنة الهنائية‪ .‬ستقتلها‬
‫احلاقدين‪ ،‬سريوهنا نعم ًة ال يستحقها‪ ،‬أو يا ربام وصلت هبم الظنون‬
‫ٍ‬
‫رجل يتاجر بلحمها‪.‬‬ ‫ِ‬
‫جلوار‬ ‫كوهنا ساقطة تسري‬
‫قنينة مخر معتقة هل كان حيب‬ ‫ِ‬ ‫مل يكن يدري وهو يتجرع من‬
‫واحد ًة منهن عىل األقل‪ .‬فال مريم حبيب ُة األيام األوىل كانت تصلح‬
‫مهام يف حياته‪ .‬وال سوزانا‪ ،‬ففي حدود وضعها كانت‬ ‫َ‬
‫تكون شي ًئا ً‬ ‫أن‬
‫تتعاطف‬
‫َ‬ ‫ستخلق إشكالي ًة مزعجة لعامله الصغري‪ ،‬املتمثل يف أم لن‬
‫مع أي اختالف‪.‬‬
‫أين ميال من هذه األرض‪ ،‬غرها التأثر واألسى عىل اإلنسان حني‬
‫جترب معه‬
‫َ‬ ‫يسقط حتت سيف املرض‪ .‬ربام أحبته‪ ،‬وكانت تريد أن‬
‫أوضح بكثري من هذه الصورة‬
‫َ‬ ‫قص ًة ال ختلو من إثارة‪ ،‬لكنها كانت‬
‫جديرا هبا أن تتسلل لعامله بقصد‬
‫ً‬ ‫التي يمتلكها عن الوضوح‪ .‬كان‬

‫‪150‬‬
‫توريطه‪ ،‬ال استنا ًدا عىل كوهنا أجنبية وكفى‪ ،‬وإنام لكوهنا قد عرضت‬
‫الشعور بأن احلب من ِ‬
‫يقني‬ ‫احلب ومالحمها عىل ِ‬
‫هيئة ثبات‪ ،‬منحه‬
‫ُ‬
‫امرأة تفكر بطريقتها قد يكون عاد ًيا‪ ،‬أو بار ًدا أو جمرد حالة تريد‬
‫اكتشافها‪.‬‬
‫مريضا‬
‫ً‬ ‫مل يتعاطف كريم‪ ،‬ودخان سجائره يمأل املكان‪ ،‬مع كونه‬
‫ِ‬
‫الصورة‬ ‫كام ادعى من يزعمون معرفته‪ ،‬ومل يكن مثال ًيا يبحث عن‬
‫احلب متجر ًدا‬
‫يتمه قد ساعده أن يرى َّ‬ ‫طهرا للحب‪ .‬مؤكد أن َ‬
‫األكثر ً‬
‫احلب دون رشوط أو حسابات نفعية كرهية‪.‬‬ ‫ِ‬
‫شخص أمه‪ُّ .‬‬ ‫يف‬
‫ثمة رس أفصح عنه أيوب يوم أثنى عىل زوجتِه‪ ،‬التي حتركت‬
‫يف كل أركان البيت وكأهنا أمه‪ ،‬بينام كانت يف غرفة ِ‬
‫نومها فتاة ليل‬
‫جملوبة من حانة‪ .‬مؤكد هنا تكمن األزمة‪ .‬فلقد كره احلياة هنا ألن‬
‫ما من مفردة حتيط بروحه جعلته يؤمن أن أمه متحققة يف أي يشء‪.‬‬
‫لكن احلقيقة أن أمه مل تكن سوى أم تنطلق يف حمبتِه بوحي الغريزة‪،‬‬
‫ألن من الشذوذ بمكان أن تكرهه‪ ،‬أو تناصب روحه العداء‪.‬‬
‫ال عىل كريم االستغراق يف هكذا تفاصيل ذاك اليوم‪،‬‬ ‫مل يكن سه ً‬
‫يفكر جمد ًدا‬ ‫ِ‬
‫الرحيل هنائ ًيا‪ ،‬ومل يشأ أن َ‬ ‫وخاصة إنه قد عقد العزم عىل‬
‫يف أمر هنلة‪.‬‬
‫هنلة؟؟‬
‫قد يبدو ظلمها وهو حياول ربط روحها بام يعانيه من البلد كلها‪.‬‬
‫تفسريها‪ ،‬وخاصة يف حضور‬ ‫ليستطيع‬ ‫كان‬ ‫ما‬ ‫ٍ‬
‫حلدود‬ ‫لكنه ذهب معها‬
‫َ‬ ‫َ‬

‫‪151‬‬
‫سوزانا‪ ،‬التي بدت قصته معها جمهضة من البداية‪ .‬فلو كانت منتمية‬
‫كثريا قبل اختاذ قرارها بالرحيل‪ .‬تعللت‬ ‫ِ‬
‫بنفس درجة انتامئه لفكرت ً‬
‫بأن الناس هنا قد تغريت‪ .‬وتريد حيا ًة ال تذكرها بيشء من أيامها‪.‬‬
‫ِ‬
‫بكلمة انتامء يف سياق تذكره لسوزانا‪ .‬فهل هو‬ ‫ال يدري من أيت‬
‫منت ٍم فعال؟‬
‫دليل مبطن عن املحبة كام‬ ‫ِ‬
‫تناقضات ما يعيشه ٌ‬ ‫إن حز َنه حيال‬
‫أخربته ناتايل‪ ،‬فلو أن هذه احلياة ال متثل لروحه أي يشء‪ .‬ما كان‬
‫َ‬
‫ليحزن من األساس‪.‬‬
‫ثم ُة براءة مازالت تتنفس‪ ،‬هي تتقلص عادة‪ ،‬لكنها ال تنتهي‬
‫بسهولة أو تذهب للتاليش‪ ،‬الذي يفقده ذلك اإلحساس بالدفء‪،‬‬
‫شعوره‬
‫َ‬ ‫هو مل يكذب أو يدافع دفا ًعا أعمى عن الناس هنا وهو يصف‬
‫حيال حياته‪ ،‬فأمه وأبوه هم نتاج هؤالء الذين يظهرون اآلن ملخيلته‬
‫وكأهنم دوافع للرحيل‪.‬‬
‫بلغة‪ ،‬أخرى وبداخلها نفس‬ ‫كيف سيطرح مشاعره عىل ناتايل ٍ‬
‫َ‬
‫احلنني حتى وإن أبدت من القدرة عىل التحكم فيه‪ .‬إهنا ال تصدقه‪،‬‬
‫أو غري مقتنعة بصدقه‪ ،‬فمعها وحسب طبيعة روحها سيبحث عن‬
‫املفردات‪ ،‬ولسوف جتهده الطريقة التي تفرس رفضه‪ ،‬بينام يكفيه مع‬
‫هنلة أن يومأ بنظراته‪ ،‬أو يعاتبها بصمته‪ ،‬أو يدعوها للبحث معه عن‬
‫طريق للتوافق‪ .‬فيا ربام يستطيعان بناء العامل املريض عنه‪.‬‬
‫***‬

‫‪152‬‬
‫(‪)21‬‬

‫غري‬
‫ملاذا كل هذا الضيق واالنقباض؟ عال َم األسى ومل يتبق ُ‬
‫ساعات تفصله عن الرحيل؟‬
‫جتاوز زمالء الصف عليه وهو يلعب‬ ‫َ‬ ‫ينس حني أشتكى أل ِّمه‬
‫مل َ‬
‫معهم‪ ،‬يومها أعلن بحزن أهنم ال يفهمونه‪ ،‬أو ربام يستسهلون إيذاءه‬
‫يفهمهم هو طاملا ال يفهمونه كام يقول‪.‬‬
‫ألنه يتيم‪ .‬يومها دعته أمه أن َ‬
‫نعم ملاذا مل َ يسع للفهم كي يرتاح‪ ،‬وأرص بغباء ليس من سمته أن‬
‫حياولوا فهمه‪ .‬يبدو إنه مل يتعلم شي ًئا من اجلبال اخلرضاء التي تطل‬
‫ٍ‬
‫كإشارات لالرتفاع والتسامي‪ ،‬أو هذا البحر الطيب الذي‬ ‫عيل عينيه‬
‫حد تعبري أيوب رسحان الذي‬ ‫استقبل العائدين بأمواج رحيمة‪ ،‬عىل ِّ‬
‫كأول ٍ‬
‫يشء يريد عم َله بعد عودتِه للديار‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫يسري عىل الشاطئ‬
‫أرص أن َ‬ ‫َّ‬
‫تراب األرض الذي احتوى كل أحبته حتى وإن جتىل يف‬ ‫أو يعشق َ‬
‫شاهدا بأسامء الغوايل الراحلني‪.‬‬
‫ً‬ ‫صورة قرب حيمل‬‫ِ‬
‫ِ‬
‫ساعات‬ ‫ِ‬
‫عودهتا‪ ،‬وصوت ناتايل‪ ،‬يف‬ ‫إن املساف َة بني مالمح هنلة‪ ،‬بعد‬
‫الدردشة‪ ،‬بدت شاسعة‪ ،‬وعميقة‪ .‬ربام قد فكرا بطريقة واحدة‪ ،‬قد‬

‫‪153‬‬
‫ملحا طريا َنه فوضعتا العراقيل والصعوبات كي خيتربا والءه‪ .‬لكن‬
‫هنلة استهلكت وق َتها يف املشاهدة‪ ،‬بينام ظلت ناتايل جترب واقع ًيا‬
‫ال يأيت عىل قياس ما تتمنى‪ .‬رغم أن طموحها باعرتافِها‬ ‫لتقتني رج ً‬
‫بكرا‪ ،‬يف حني أهنا هي ذاهتا ليست عذراء‪ ،‬وف ًقا ملا بدا‬ ‫جتد رج ً‬
‫ال ً‬ ‫أن َ‬
‫اندفاعها كي يقبلها بعنف؛ كي يستقيم ميزان العدل‪ .‬فهي فتاة‬ ‫ِ‬ ‫من‬
‫متخم ٌة بالتجارب‪ .‬فكيف استقبلت رغبته للرحيل إليها دون ما‬
‫يشري لعودته يف القريب؟‬
‫تفكريه حيال ناتايل وكأنه دعو ٌة لالتصال‪ ،‬فوجد منها رسال ًة‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫ختربه أهنا بعد ساعة تريد التحدث معه حول بعض األمور‪ .‬مل تكن‬
‫ِ‬
‫املنطقة‬ ‫قراءة الرسالة سوى إنذار قوي أن كريم يقف يف‬ ‫ِ‬ ‫مالحمُه بعد‬
‫الرمادية ألول مرة يف حياتِه‪ ،‬فرحة مبتورة وسعادة ناقصة‪ .‬وحني‬
‫مغيش عليه‪ .‬ليست‬‫ٌّ‬ ‫عادت ظل ينظر هلا من كامريا حاسوبه‪ ،‬وكأنه‬
‫حلم عمره‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫كثريا من لقاء الفتاة التي يراها َ‬
‫رجل يقرتب ً‬ ‫مالمح‬
‫ُ‬ ‫هذه‬
‫البيت والتجهيزات أرادت أن‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫للحديث عن‬ ‫حني ذهبت ناتايل‬
‫ٍ‬
‫بوضوح من نظراته املرتبكة‪.‬‬ ‫توق َظه من غفلة احلرية‪ ،‬التي تظهر‬
‫بأي‬ ‫ِ‬
‫قرارا سهالً‪ ،‬ال يمكن ِّ‬
‫ً‬ ‫ليست‬ ‫يبدو‬ ‫ما‬ ‫عىل‬ ‫األوطان‬ ‫مغادر ُة‬
‫ٍ‬
‫جذور وروابط ال يمكن جتاوزها‪.‬‬ ‫نفسها‪ ،‬فثم ُة‬
‫ختدع ناتايل َ‬
‫َ‬ ‫حال أن‬
‫تفاصيل قد تبدو بسيطة ولكنها متغلغلة يف نفسه وروحه‪.‬‬
‫كل يشء بأقل قدر ممكن من‬ ‫ينتهي ُّ‬
‫َ‬ ‫جتميع نفسه كي‬
‫َ‬ ‫مؤكد يريد‬
‫ِ‬
‫بواكري اليتم‪ ،‬زياد‬ ‫الوجع‪ .‬ظل حيدثها عن مدرستِه‪ ،‬طفولته‪ ،‬أمه يف‬

‫‪154‬‬
‫ومواقع اللعب واللهو‪ ،‬معلميه الذي تفانوا يف تعليمه‪ ،‬قاعات‬
‫السينام‪ ،‬وعلب الليل‪ ،‬وأرصفة الشوارع‪ ،‬البائعون الطيبون الذين‬
‫منحه احللوى دون ثمن‪ ،‬لكنه‬ ‫ما إن يدركوا يتمه حتى يندفعوا يف ِ‬
‫َ‬
‫كان يرفض مكرمتهم‪ ،‬خماف َة ذاك الشعور الشجي بالضعف‪ .‬البحر‬
‫والصيد ومتابعة النوارس‪ ،‬ولعب الكرة بالساحات‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بأشياء‬ ‫صوت كريم خيرتق ناتايل تقري ًبا‪ ،‬بدا وكأنه يذكرها‬ ‫كان‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫بضبط مالحمه وإظهار أن ما يقوله‬ ‫قد سقطت منها‪ ..‬وبدوره مل هيتم‬
‫ِ‬
‫رصيد حمبته الكامنة‬ ‫تفاصيل عادية إىل درجة‪ ،‬ومل تأخذ من‬ ‫ٍ‬ ‫من‬
‫َ‬
‫ليتأمل صور ًة هنا‬ ‫لألرض والناس‪ .‬بل كان يغيب عنها بعينيه‬ ‫ِ‬
‫لكف أمه عىل جدار الغرفة‪ ،‬أو مكتبه‬ ‫ِّ‬ ‫أو صورة هناك‪ ،‬أو بصمة‬
‫ً‬
‫تلميذا نا ًهبا وبقعة احلرب التي تأيت كدليل عىل زمن‬ ‫الصغري يوم كان‬
‫كثريا كونه كان‬
‫رائع قد مىض‪ ،‬وهذا الكريس املتهالك الذي رممه ً‬
‫مفض ً‬
‫ال عند أبيه‪.‬‬
‫يقول كل يشء‪،‬‬ ‫مل حتاول ناتايل التعليق‪ ،‬وإن بدا عليها رغبة أن َ‬
‫كي يتخفف من ثقل ذكرياته يف هذه اللحظة‪ .‬يا ربام استطاع أن يبد َأ‬
‫ٍ‬
‫بابتسامة وقالت‪:‬‬ ‫من جديد‪ .‬بدا عىل كريم التعب‪ ،‬فعاجلته‬
‫‪ -‬سأنتظرك باملطار‪.‬‬
‫مفتاح الشقة‪ ،‬كي يأمتنَه‬
‫َ‬ ‫ليمنحه‬
‫َ‬ ‫اتصل كريم بمنري والذي جاءه‬
‫تتضح الرؤية‪ .‬وحني وصل وجد أنه قد‬ ‫َ‬ ‫عىل ما هبا من أشياء إىل أن‬
‫ِ‬
‫موقعه املالبس التي سيسافر هبا‪.‬‬ ‫جهز حقائ َبه‪ .‬وملح من‬

‫‪155‬‬
‫ِ‬
‫إلنجاز أي يشء يف‬ ‫َ‬
‫يتحرك معه‬ ‫الشاب الطيب أن‬
‫ُ‬ ‫عرض عليه‬
‫ِ‬
‫احلارة وحده‪ .‬وأكد‬ ‫ٍ‬
‫بجولة يف‬ ‫ذاك الوقت الضيق‪ ،‬لكنه أراد أن يقو َم‬
‫رب هنلة إال حني يتلقى اتصاالً منه إنه قد غادر بالفعل‪.‬‬‫عليه أال خي َ‬
‫ستائر نافذته املطلة عىل الشارع‪،‬‬
‫َ‬ ‫مل ينتبه للصباح الذي اقتحم‬
‫ُ‬
‫التفاصيل املرهقة‪ ،‬وأغلق‬ ‫فانطلق إىل توديع من حيبهم‪ .‬انرصفت‬
‫ِ‬
‫حائط املبكى اللييل‪ ،‬وألول مرة مل يدخل يف رصا ٍع‬ ‫الباب مع دقات‬
‫َ‬
‫مفتوح مع النو ِم من أجل ما يدعون أهنا الراحة‪ .‬فمن اليوم لن جيد‬
‫شبح خميف يريد‬
‫باب غرفته‪ ،‬يتجه إليه وكأنه ٌ‬‫شاخصا عند ِ‬
‫ً‬ ‫املايض‬
‫ابتال َعه‪.‬‬
‫ِ‬
‫مشاهد احلارة‪ ،‬كانت‬ ‫مل يكن شج ُن الذكريات ِّ‬
‫بأقل رضاوة من‬
‫كل التفاصيل الصغرية تضغطه بشدة‪ ،‬الناس البسيطة الراضية‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫األغاين اجلميلة املنبعث ُة من النوافذ‪ ،‬هلو األطفال‪ .‬صوت الباعة‬
‫ُ‬
‫اخليال‬ ‫منحه‬ ‫ِ‬
‫لسور مدرسته‪َ .‬‬ ‫اجلميل‪ .‬امتدت به اخلطى فوصل‬
‫طفل جيتاز باهبا ألول مرة‪ .‬اختلس النظر ِ‬
‫لفنائها فمنحه‬ ‫مشهده وهو ٌ‬
‫َ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫احلنني هيئته وهو يلعب‪.‬‬‫ُ‬
‫رويدا‬
‫ً‬ ‫رويدا‬
‫ً‬ ‫كثريا‪ ،‬وروحه تنسحب‬
‫سيتذكر هذا النهار األخري ً‬
‫ضجيج الشوارع وغبار اإلسفلت‪،‬‬ ‫جسد هذه األرض‪ .‬سينسى‬‫ِ‬ ‫من‬
‫َ‬
‫حاسام عىل الرفض‪،‬‬
‫ً‬ ‫وسطو َة الفراغ‪ ،‬وجريد ًة أجنبية حتمل دلي ً‬
‫ال‬
‫ِ‬
‫عقول من يعرفهم‪،‬‬ ‫وأخبار احلروب‪ ،‬لن يكرتث باملعاين احلائرة يف‬

‫‪156‬‬
‫ِ‬
‫وفحولة شاب قرر أن‬ ‫ِ‬
‫البنات الضائعات‪،‬‬ ‫وشقق القامر‪ ،‬وفلول‬
‫ينتحر كل ليلة يف فراش خمتلف‪.‬‬ ‫َ‬
‫الليل بنزواتِه الغريبة‪ ،‬ولن يقو َد الصعاليك‪ ،‬وترهقه‬
‫لن ينتهك َ‬
‫القطط املبتلة بدمو ِع الشتاء‪ .‬فلن ينتظر الشفق َة من أحد‪ ،‬ولن يعاقب‬
‫ُ‬
‫املقدمات كي ال‬
‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫حلظة عمياء‪ ،‬ولن تشغله‬ ‫الظروف التي ظلمته يف‬
‫َ‬
‫تقت َله النتائج‪.‬‬
‫الوداع من عند أبيه‪.‬‬ ‫ِ‬
‫منطقة املقابر‪ ،‬وال يدري ملاذا بدأ‬ ‫توقف عند‬
‫َ‬
‫رس ذاك القتام‪ .‬فلقد مات‬ ‫َ‬
‫الرجل عن ِّ‬ ‫ظل واق ًفا يبكي أبيه‪ ،‬يسأل‬
‫يامرس عليه أي عقوق‪ ،‬إنه ال يتذكر مالحمَه‪ ،‬فكيف يعيش‬
‫َ‬ ‫قبل أن‬
‫عىل ِ‬
‫إثر موته فيام يشبه الكابوس‪ .‬هل مات غاض ًبا عليه‪ .‬فكيف‬
‫ِ‬
‫أبراج‬ ‫حدث غرير ال يدرك َ‬
‫الليل من النهار‪ .‬ربام يراقبه من‬ ‫ٌ‬ ‫وهو‬
‫الغيب‪ ،‬فيتأذى من حريتِه ورفضه‪ ،‬فتهبط عىل ِ‬
‫روح ابنه اللعنات‬
‫ِ‬
‫ساحة احلياة املكتظة‬ ‫يف أثر اللعنات‪ .‬كيف يؤذيه‪ ،‬وهو مل ِ‬
‫يلتق به يف‬
‫باملسافرين‪.‬‬
‫لقرب أمه‪ .‬التي وعدها أن ينجح‪،‬‬ ‫ِ‬
‫بسطوة اهلذيان فرحل ِ‬ ‫شعر كريم‬
‫يصنع أرس ًة من أجلها‪.‬‬
‫َ‬ ‫وأقسم هلا وهي متدثرة يف كفنها الثلجي أن‬
‫ٍ‬
‫أرض‬ ‫ِ‬
‫الوفاء بالقسم‪ .‬ربام يف‬ ‫لكنه حتى هذه اللحظة مل يقدر عىل‬
‫أخرى سيستطيع‪ ،‬لكنها خدعته‪ ،‬وعدته أال تفارقه لكنها أخلفت‪،‬‬
‫ويف املساء رحلت لألعىل‪ ،‬من باتساع هذا امللكوت حيتاج أما‬

‫‪157‬‬
‫غريه‪ .‬ومن يف مالئكة السامء يريد أ اًّما من األساس‪ ،‬إهنم مشغولون‬
‫بالطواف وبالسباحة وبالطريان‪.‬‬
‫يا اهلل ربام عادت أمه هناك لطفلة‪ ،‬يكاد يراها وهي مترح يف‬
‫الفردوس‪ ،‬مؤكد قد مات املرض‪ ،‬وعاشت أمه‪ ،‬لكن يف اجلوار‬
‫ِ‬
‫كأمجل امرأة يف ذلك الكون‪ .‬ربام جتلس اآلن مع أبيه‪،‬‬ ‫األبدي‪ ،‬عادت‬
‫الناس هنا يف احلانات‬
‫ُ‬ ‫يتبادالن األنخاب من ٍ‬
‫مخر ال يشبه ما يرشبه‬
‫أثر‬
‫مالبس أبيه السندسية‪ ،‬تقتفي َ‬
‫َ‬ ‫األرضية الرخيصة‪ ،‬يراها تشم‬
‫عطر غريب ال تستخدمه عادة‪ ،‬أو تندهش حيال شعرة طويلة قد‬ ‫ٍ‬
‫قميصه املزركش بالنعيم‪ ،‬ربام تعبث هبن غري ُة النساء حتى يف‬
‫َ‬ ‫سكنت‬
‫يضري أباه يشء إذا ما عانق‬ ‫حضور الفردوس‪ .‬عىل كل األحوال لن‬‫ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫ألريكة أمه املطرزة بالآللئ والنور‪.‬‬ ‫حوري ًة وهو يف طريق العودة‬
‫ِ‬
‫مناجاة أبويه‪ ،‬وقبل أن يميض‬ ‫مل ِ‬
‫تنته عرباته‪ ،‬وهو يسرتسل يف‬
‫طلب من أمه أن تذكره هناك‪ ،‬وأن َ‬
‫حتمل ألبيه السالم والتحيات‪،‬‬
‫دائام كان يسأل عنه ويقتفي أخباره‪.‬‬
‫ولتخربه إنه ً‬
‫ِ‬
‫ساحة املقابر‪ ،‬أدرك أن منري قد خانه أو مل‬ ‫حال خروج كريم من‬
‫َ‬
‫يكون قد رحل فعالً‪.‬‬ ‫ينفذ ما وعد به؛ كي خيرب هنلة برحيله بعد أن‬
‫ِ‬
‫مالحمها من هلع وخوف‪ ،‬ودموعها التي مل‬ ‫مل يكن يتخيل ما بدا عىل‬
‫ِ‬
‫عاطفة حب كبرية وحقيقية‪ .‬اندهش كيف عرفت‬ ‫متنع ما ظهر من‬
‫أنه هنا‪ ،‬فأخربته أن الوداع عاد ًة ال يتم إال للقريبني من الروح‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫بنفس األسى القديم‪ ،‬حتول‬ ‫ِ‬ ‫ينظر هلا‬
‫مضطرا أن َ‬‫ً‬ ‫نفسه‬
‫مل جيد َ‬
‫سيارهتا عائدة به للبيت‪،‬‬
‫َ‬ ‫مستسلام هلا وهي تقود‬
‫ً‬ ‫الطريق فجأة‪ ،‬بدا‬
‫ُ‬
‫وحني استقر أمامه‪ ،‬مل تشأ أن تتحدث‪ ،‬فبحسبها أنه قد عاد‪ .‬فقط‬
‫ِ‬
‫بدوره‬ ‫جيتهد‬
‫َ‬ ‫يمنحها فرص َة تغيريه‪ ،‬وأن‬
‫َ‬ ‫دعته وهي تنظر للطريق أن‬
‫تغفر للمعاين‪ ،‬متى اهتزت يف‬ ‫نفسه جترب أن َ‬ ‫يغريها‪ ،‬ويرتك َ‬‫أن َ‬
‫ليطلب من‬
‫َ‬ ‫يقني الناس‪ .‬انتهت هنلة من حديثها‪ ،‬لكنه استوقفها‬
‫االتصال بمنري كي يأتيه بمفتاح البيت‪ .‬وصعد أخريا‪ ،‬وراح يف ِ‬
‫نوبة‬ ‫ً‬
‫أبعد من تراجعه‪ ،‬فقبل أن‬ ‫نو ٍم طويلة‪ ،‬ويبدو أن ناتايل مل تراهن عىل ِ‬
‫أي رسالة أو حماول َة اتصال‪ ،‬تستفرس ملاذا مل‬‫يغمض عينيه مل جيد منها َّ‬
‫َ‬
‫يأهتا‪ .‬ألهنا مؤكد تعرف السبب‪.‬‬‫ِ‬

‫النهاية‬

‫‪159‬‬

You might also like