Professional Documents
Culture Documents
Aqidah Tauhid (Fauzan) (BW)
Aqidah Tauhid (Fauzan) (BW)
عقيدة
التوحيد
تأليف فضيلة الشيخ الدكتور:
صالح بن فوزان بن عبد هللا الفوزان
-حفظه هللا تعالى ومتعه بالصحة العافية-
الناشر:
1
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
.
2
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
3
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
.
4
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
المقـدمـة
5
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
6
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
الفهرس الموضوعي
7
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ت ألداء وظائفها ،والقيام بخصائصها46............... 3ـ تسخي ُر المخلوقا ِ
ُ
استلزام توحي ِد الرُّ بوبيَّ ِة لتوحيد األلوهيَّة48..............
ِ الفصل الخامس :بيانُ
{ }2توحيد األلوهية53................................................................
الفصل األول :في بيا ِن معنى توحي ِد األلوهيَّ ِة وأنه موضو ُ
ع دعو ِة الرُّ سل 55.
الفصل الثاني :في بيان معنى ال َّشهادتينـ وما وق َع فيهما من الخطأ؛ وأركانهما
وشروطهما ومقتضاهما ونواقضهما59.............................................
أواًل :معنى ال َّشهادتين 59..........................................................
ثانيًا :أركان الشهادتين 61.........................................................
ثالثًا :شروط الشهادتين64.........................................................
أ -شروط شهادة أن ال إله إال هللا64........................................ :
أن محمدًا رسو ُل هللا هي67.........................: ب ـ وشروطُ شهادة َّ
رابعًا :مقتضى الشهادتين 68......................................................
أ ـ مقتضى شهادة أن ال إله إال هللا68........................................
ب ـ ومقتضى شهادة أن محمدًا رسول هللا68..............................
خامسًا :نواقض الشهادتين68.....................................................
الفصل الثاني :في التشريع 72........................................................
الفصل الثالث :العبادةُ معناهاُ ،شمولها75...........................................
1ـ معنى العبادة 75.................................................................
2ـ أنواع العبادة وشمولها77.....................................................
الفصل الرابع :في بيا ِن مفاهي َم خاطئ ٍة في تحديد العبادة 77......................
الفصل الخامس :في بيان ركائز العبودية الصحيحة 80..........................
{ }3توحيد األسماء والصفات83....................................................
أواًل :األدلة من الكتاب والسنة والعقل على ثبوت األسماء والصفات84.......
أ ـ األدلة من الكتاب والسنة 84...................................................
ب ـ الدليل العقلي 88...............................................................
ثانيًا :منه ُج أهل ال ّسنَّة والجماعة في أسماء هللا وصفاته89.......................
ت ،أو أنكر بعضها90................ ثالثًا :ال ّر ُّد على من أن َك َر األسما َء والصّفا ِ
الباب الثالث :في بيان الشرك واالنحراف في حياة البشرية97................
الفصل األول :االنحراف في حياة البشرية99......................................
الفصل الثاني :الشرك :تعريفه ،أنواعه102........................................
8
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
أ ـ تعريفـه103......................................................................
ب ـ أنواع الشرك 106.............................................................
الفصل الثالث :الكفر :تعريفه -أنواعه 111........................................
أ ـ تعريفـه111......................................................................
ب ـ أنواعه112.....................................................................
الفصل الرابع :النفاق :تعريفه ،أنواعه116.........................................
أ ـ تعريفـه116......................................................................
ب ـ أنواع النفاق 117..............................................................
ج ـ الفروق بين النفاق األكبر والنفاق األصغر121...........................
الفصل الخامس :بيان حقيقة كل من الجاهلية -الفسق -الضالل -الردة:
أقسامها ،أحكامها123..................................................................
1ـ الجاهليـة123...................................................................
2ـ الفسـق126......................................................................
3ـ الضـالل 127...................................................................
4ـ الردة وأقسامها وأحكامها129................................................
صه133.......................الباب الرابع :أقوال وأفعال تُنافي التوحيد أو تُنقِ ُ
الفصل األول :ادِّعاء علم الغيب في قراءة الكف والفنجان وغيرهما135.....
.1المراد بالغيب135..............................................................
.2ال يعلم الغيب إال هللا 135......................................................
.3حكم من ا َّدعى علم الغيب أو ص ّدقه137....................................
الفصل الثاني :السح ُر والكهانةُ ِ
والعرافة138......................................
ُ
1ـ فالسح ُر عبارةٌ عما خفي ولَطفَ سببُهُ138.................................
2ـ الكهانة والعرافة140..........................................................
الفصل الثالث :تقديم القرابين والنذور والهدايا للمزارات والقبور وتعظيمها..
144
الفصل الرابع :في بيان حكم تعظيم التماثيل والنصب التذكارية150...........
الفصل الخامس :في بيان حكم االستهزاء بالدين واالستهانة بحرماته153....
الفصل السادس :الحكم بغير ما أنزل هللا157......................................
الفصل السابع :ادعاء حق التشريع والتحليل والتحريم165......................
الفصل الثامن :حكم االنتماء إلى المذاهب اإللحادية واألحزاب الجاهلية 169.
9
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
الفصل التاسع :النظرية المادية للحياة ومفاسد هذه النظرية175................
أ ـ فالنظرة الماديّة للحياة معناها175........................................
ب ـ النظرة الثانية للحياة :النظرة الصحيحة179..........................
الفصل العاشر :في الرقى والتمائم 180.............................................
أ ـ الرقى180........................................................................
• معنى الرقى180............................................................ :
• وهي على نوعين180......................................................:
2ـ التمائم 182......................................................................
• معنى التمائم182............................................................:
• وهو على نوعين182...................................................... :
الفصل الحادي عشر :في بيان حكم الحلف بغير هللا والتوسل واالستغاثة
واالستعانة بالمخلوق 185.............................................................
1ـ الحلف بغير هللا 185...........................................................
• معنى الحلف185............................................................:
• الحلف بغير هللا186........................................................ :
• حكم كثرة الحلف187......................................................:
2ـ التوسل بالمخلوق إلى هللا تعالى188........................................
• تعريف التوسل188.........................................................:
• أنواع التوسل188...........................................................:
3ـ حكم االستعانة واالستغاثة بالمخلوق 193..................................
• تعريف االستعانة193...................................................... :
• أنواع االستعانة بالمخلوق193............................................:
الباب الخامس :في بيان ما يجب اعتقاده في الرسول صلى هللا عليه وسلم
وأهل بيته وصحابته 197.............................................................
الفصل األول :في وجوب محبة الرسول وتعظيمه ،والنهي عن الغلو
واإلطراء في مدحه ،وبيان منزلته صلى هللا عليه وسلم199....................
1ـ وجوب محبّته وتعظيمه صلى هللا عليه وسلم 199........................
2ـ النهي عن ال ُغل ّو واإلطراء في مدحه202...................................
• الغلو202......................................................................
• اإلطرا ُء202..................................................................
10
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
3ـ بيان منزلته صلى هللا عليه وسلم205.......................................
الفصل الثاني :في وجوب طاعته صلى هللا عليه وسلم واالقتداء به208......
الفصل الثالث :في مشروعية الصالة والسالم على الرسول صلى هللا عليه
وسلم 211................................................................................
الفصل الرابع :في فضل أهل البيت وما يجب لهم من غير جفاء وال ُغلُ ّو.....
214
الفصل الخامس :في فضل الصحابة وما يجب اعتقاده فيهم ومذهب أهل
السنة والجماعة فيما حدث بينهم218................................................
-1ما المراد بالصحابة ،وما الذي يجب اعتقاده فيهم؟218..................
2ـ مذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث بين الصحابة من القتال والفتنة
221
3ـ ومذهب أهل السنة والجماعة في االختالف الذي حصل224............
الفصل السادس :في النهي عن سب الصحابة وأئمة الهدى228................
1ـ النهي عن سب الصحابة 228.................................................
2ـ النهي عن سبّ أئ ّمة الهدى من علماء هذه األ ّمة230.....................
الباب السادس :البـدع 233...........................................................
الفصل األول :تعريف البدعة ،أنواعها وأحكامها235............................
1ـ تعريف البدعة 235............................................................
2ـ أنواع البدع 236................................................................
3ـ حكم البدعة في الدين بجميع أنواعها238..................................
الفصل الثاني :ظهور البدع في حياة المسلمين واألسباب التي أدت إليها 241
.1ظهور البدَع في حياة المسلمين 241.........................................
المسألة األولى :وقت ظهور البدع 242.....................................
المسألة الثانية :مكان ظهور البدع243......................................
2ـ األسباب التي أ ّدت إلى ظهور البدع244...................................
أ ـ الجهل بأحكام الدين 245...................................................
ب ـ اتباع الهوى 246..........................................................
جـ ـ التعصب لآلراء والرجال247..........................................
د ـ التشبّه بالكفار247..........................................................
11
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
الفصل الثالث :موقف األمة اإلسالمية من المبتدعة،ـ ومنهج أهل السنة
والجماعة في ال ّر ّد عليهم248.........................................................
1ـ موقف أهل ال ُّسنَّة والجماعة من المبتدعة248.............................
2ـ منهج أهل السنة والجماعة في الرد على أهل البدع252................
الفصل الرابع :في بيان نماذج من البدع المعاصرة 254.........................
1ـ االحتفال بمناسبة المولد النبوي 254........................................
2ـ التبرك باألماكن واآلثار واألشخاص أحياء وأمواتًا258................
3ـ البدع في مجال العبادات والتقرّب إلى هللا260............................
ما يعامل به المبتدعة 262.........................................................
قائمة المصادر والمراجع 265.......................................................
12
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
13
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
.
14
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
• العقيدة لغة
ُ
واعتقدت • والعقيدة لغة :مأخوذة من العقد وهو ربط الشيء.
ُ
عقدت عليه القلب والضمير. كذا:
والعقيدة ما يدين به اإلنسان .يقال" :له عقيدة حسنة" أي:
سال َمةٌ من الشك.
والعقيدةُ عمل قلبي .وهي إيمانُ القلب بالشيء وتصديقه به.
• العقيدةُ شرعًا
• والعقيدة شرعًا :هي اإليمان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله
واليوم اآلخر ،واإليمان بالقدر خيره وشره .وتُس َّمىـ هذه أركانُ
اإليمان.
• أقسام الشريعة:
والشريعة تنقسم إلى قسمين :اعتقاديات وعمليات.
فاالعتقاديات :هي التي ال تتعلق بكيفية العمل ،مثل اعتقاد
ربوبية هللا ووجوب عبادته ،واعتقاد بقية أركان اإليمان
المذكورة ،وتُس َّمىـ أصلية.
15
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
والعمليات :هي ما يتعلق بكيفية العمل مثل الصالة والزكاة
والصومـ وسائر األحكام العملية .وتسمىـ فرعية ،ألنها تبنى على
تلك صحة وفسادًا.
فالعقيدةُ الصحيحةُ هي األساسُ الذي يقوم عليه الدين وتَصحُّ
معه األعمال.
صالِحًا كما قال تعالى{ :فَ َمن َكانَ يَرْ جُو لِقَا َء َربِّ ِه فَ ْليَ ْع َملْ َع َماًل َ
َوال يُ ْش ِر ْـك بِ ِعبَا َد ِة َربِّ ِه أَ َحدًا} [الكهف.]110/
وقال تعالىَ { :ولَقَ ْد أُ ِ
وح َي إِلَ ْيكَ َوإِلَى الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِكَ لَئِ ْن
أَ ْش َر ْكتَ لَيَحْ بَطَ َّن َع َملُكَ َولَتَ ُكون ََّن ِمنَ ْالخَا ِس ِرينَ } [الزمر.]65/
وقال تعالى{ :فَا ْعبُ ِد هَّللا َ ُم ْخلِصًا لَّهُ ال ِّدينَ * أَال هَّلِل ِ الدِّينُ
ْالخَالِصُ } [الزمر.]3 ،2/
فدلّت هذه اآليات الكريمة ،وما جاء بمعناها -وهو كثير -على
أن األعمال ال تُقب ُل إال إذا كانت خالصة من الشرك .ومن ثَ َّم كان
-صلوات هللا وسالمه عليهم -بإصالح العقيدة أواًل . ُ اهتمام الرسل
فأول ما يدعون أقوامهمـ إلى عبادة هللا وحده ،وترك عبادة ما
سواه.
كما قال تعالىَ { :ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي ُكلِّ أُ َّم ٍة َّر ُسواًل أَ ِن ا ْعبُد ْ
ُوا هَّللا َ
ُوا الطَّا ُغوتَ } [النحل.]36/ َواجْ تَنِب ْ
وكلُّ رسولـ يقول أول ما يخاطب قومه{ :ا ْعبُدُوا هَّللا َ َما لَ ُكم
ِّم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ} [األعراف .]85 ،73 ،65 ،59 /قالها نوح وهودـ
وصالح وشعيب ،وسائرـ األنبياء لقومهم.
وقد بقي النبي -صلى هللا عليه وسلم -في مكة بعد البعثة ثالثة
عشر عا ًما يدعو الناس إلى التوحيد ،وإصالح العقيدة ألنها
16
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
األساسُ الذي يقوم عليه بنا ُء الدين .وقدـ احتذى الدعاة
والمصلحون في كل زمان حذو األنبياء والمرسلين .فكانواـ
يبدءون بالدعوة إلى التوحيد ،وإصالح العقيدة .ثم يتجهون بعد
ذلك إلى األمر ببقية أوامر الدين.
17
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
18
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وقال تعالى{ :فَإِ َّما يَأتِيَنَّ ُكم ِمنِّي هُدًى فَ َم ِن اتَّبَ َع هُد َ
َاي فَالَ يَ ِ
ضلُّ
َوالَ يَ ْشقَى} [طه.]23/
ولذلك ُس ُّموا بالفرقة الناجية ألن النبي -صلى هللا عليه وسلم-
شهد لهم بالنجاة حين أخبر بافتراقـ األمة إلى ثالث وسبعين فرقة،
كلّها في النار إال واحدة .ول َما سئل عن هذه الواحدة قالِ ( :ه َي َمن
أصحابِي) [الحديث رواه اإلمامكانَ عَلى ِمثل َما أنَا َعلَيه اليَو َم َو َ
أحمد].
وقد وقع مصداق ما أخبر به صلى هللا عليه وسلم .فعندماـ بنى
بعض الناس عقيدتهم على غير الكتاب والسنة -من علم الكالم
وقواعد المنطق الموروثَيْن عن فالسفة اليونان -حصل االنحرافُ
والتفرق في االعتقاد مما نتج عنه اختالفُ الكلمة ،وتفرُّ ُ
ق
الجماعة ،وتصدعـ بناء المجتمع اإلسالمي.
19
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
والمجتمع الذي ال تسوده عقيدة صحيحة هو مجتمع بهيمي يفقد
كل مقومات الحياة السعيدة وإن كان يملك الكثير من مقومات
الحياة المادية التي كثيرًا ما تقوده إلى الدمار .كما هو مشاهد في
المجتمعات الكافرة .ألن هذه المقومات المادية تحتاج إلى توجيه
وترشيدـ لالستفادة من خصائصها ومنافعها .وال موجه لها سوى
العقيدة الصحيحة.
صالِحًا} ت َوا ْع َملُوا َ قال تعالى{ :يَا أَيُّهَا الرُّ ُس ُل ُكلُوا ِمنَ الطَّيِّبَا ِ
[المؤمنون.]51/
وقال تعالىَ { :ولَقَ ْد آتَ ْينَا دَا ُوو َـد ِمنَّا فَضْ اًل يَا ِجبَا ُل أَ ِّوبِي َم َعهُ
ت َوقَدِّرْ فِي السَّرْ ِد َوالطَّ ْي َر َوأَلَنَّا لَهُ ْال َح ِدي َد * أَ ِن ا ْع َملْ َسابِغَا ٍ
الرِّيح ُغد ُُّوهَا
َ صي ٌر * َولِ ُسلَ ْي َمانَ صالِحًا إِنِّي بِ َما تَ ْع َملُونَ بَ ِ َوا ْع َملُوا َ
ط ِر َو ِمنَ ْال ِجنِّ َمن يَ ْع َم ُل َش ْه ٌر َو َر َوا ُحهَاـ َش ْه ٌر َوأَ َس ْلنَا لَهُ َع ْينَ ْالقِ ْ
بَ ْينَ يَ َد ْي ِه بِإِ ْذ ِن َربِّ ِه َو َمن يَ ِز ْغ ِم ْنهُ ْم ع َْن أَ ْم ِرنَا نُ ِذ ْقهُ ِم ْن َع َذا ِ
ب
يل َو ِجفَ ٍ
ان يب َوتَ َماثِ َـ ار َير * يَ ْع َملُونَ لَهُ َما يَ َشا ُء ِمن َّم َح ِ ال َّس ِع ِ
ي ْ
آل دَا ُوو َد ُشكرًا َوقَلِي ٌل ِّم ْن ِعبَا ِد َ ُ
ت ا ْع َملوا َ َّاسيَا ٍُور ر ِ ُ
ب َوقد ٍـ َك ْال َج َوا ِ
ال َّش ُكورُ} [سبأ.]13-10/
فق ّوة العقيدة يجب أن ال تنفك عن القوة المادية .فإن انفكت
عنها باالنحرافـ إلى العقائد الباطلة ،صارت القوة المادية وسيلة
دمار وانحدار .كما هو المشاهد اليو َم في الدول الكافرة التي تملكُ
مادة ،وال تملك عقيدة صحيحة.
20
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
1ـ الجهل بالعقيدة الصحيحة؛ بسبب اإلعراض عن تعلمها
وتعليمها ،أو قلة االهتمام والعناية بها .حتى ينشأ جي ٌل ال يعرفُ
تلك العقيدة ،وال يعرف ما يخالفها ويضادها .فيعتقد الحق باطاًل ،
والباطل حقًّا.
كما قا َل عم ُر بن الخطاب -رضي هللا عنه" :إنما تُنقضُ عُرى
اإلسالم عروةً عروةً إذا نشأ في اإلسالم من ال يعرفُ الجاهلية".
ب لما عليه اآلباء واألجداد ،والتمسك به وإن كان ّعص ُ
2ـ الت ُّ
باطاًل ،وترك ما خالفه وإن كان حقّاً.
يل لَهُ ُم اتَّبِعُوا َما أَنزَ َل هّللا ُ قَالُ ْ
وا بَلْ {وإِ َذا قِ َ
كما قال هللا تعالىَ :
نَتَّبِ ُع َما أَ ْلفَ ْينَا َعلَ ْي ِه آبَا َءنَا أَ َولَوْ َكانَ آبَا ُؤهُْـم الَ يَ ْعقِلُونَ َش ْيئًا َوالَ
يَ ْهتَ ُدونَ } [البقرة.]170/
3ـ التقلي ُد األعمى بأخذ أقوال الناس في العقيدة من غير
معرفة دليلها ،ومعرفة مدى صحتها.
الفرق المخالفة من جهمية ومعتزلة،
ِ كما هو الواق ُع من
ُ
حيث قلدواـ من قبلهمـ من أئمة وأشاعرة وصوفية ،وغيرهم،
الضالل؛ فضلوا وانحرفواـ عن االعتقاد الصحيح.
4ـ ال ُغلُ ّو في األولياء والصالحين ،ورفعهمـ فوق منزلتهم،
بحيث يُعتقد فيهم ما ال يقدر عليه إال هللا من جلب النفع ،ودفع
الضر ،واتخاذهمـ وسائطـ بين هللا وبين خلقه في قضاء الحوائج
وإجابة الدعاء .حتى يؤول األمر إلى عبادتهم من دون هللا،
والتقرب إلى أضرحتم بالذبائح والنذور،ـ والدعاء واالستغاثة
وطلب المدد.
21
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
كما حصل من قوم نوح في حق الصالحين حين قالوا{ :ال
ق َونَ ْسرًا}ـ تَ َذر َُّن آلِهَتَ ُك ْم َوال تَ َذر َُّن َو ًّدا َوال س َُواعًا َوال يَ ُغ َ
وث َويَعُو َ
[نوح.]23/
وكما ه َُو الحاص ُل من عبَّاد القُبور اليو َم في كثير من
األمصار.
5ـ الغفلة عن تدبر آيات هللا الكونية ،وآيات هللا القرآنية،
واالنبهار بمعطيات الحضارة المادية.
ظمون حتى ظنواـ أنها من مقدور البشر وحده .فصاروا يُع ِّ
البشر ،ويضيفونـ هذه المعطيات إلى مجهوده واختراعه وحده.
ال إِنَّ َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِع ْل ٍم ِعن ِدي}
كما قال قارون من قبلُ{ :قَ َ
[القصص. ]78/
وكما يقول اإلنسان {هَ َذا لِي} [فصلت.]50/
{إِنَّ َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِع ْل ٍم} [الزمر.]49/
ولم يتفكروا وينظرواـ في عظمة من أوجد هذه الكائنات،
وأودعها هذه الخصائص الباهرة ،وأوجدـ البشر وأعطاهُ المقدرةَ
{وهَّللا ُ خَ لَقَ ُك ْم َو َما
على استخراج هذه الخصائص ،واالنتفاع بها َ
تَ ْع َملُونَ } [الصافات.]96/
ق هَّللا ُ ِمن ض َو َما خَ لَ َ ت َواألَرْ ِ اوا ِ ت ال َّس َم َ ُوا فِي َملَ ُكو ِ {أَ َولَ ْم يَنظُر ْ
َش ْي ٍء} [األعراف.]185/
ض َوأَنزَ َل ِمنَ ال َّس َما ِء َما ًء ت َواألَرْ َ اوا ِ ق ال َّس َم َ{هَّللا ُ الَّ ِذي َخلَ َ
ي فِي ت ِر ْزقًا لَّ ُك ْم َو َس َّخ َر لَ ُك ُم ْالفُ ْلكَ لِتَجْ ِر َ فَأ َ ْخ َر َج بِ ِه ِمنَ الثَّ َم َرا ِ
س َو ْالقَ َم َر
ار * َو َس َّخر لَ ُك ُم ال َّش ْم َ ْالبَحْ ِر بِأ َ ْم ِر ِه َو َس َّخ َر لَ ُك ُم األَ ْنهَ َ
22
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ار * َوآتَا ُكم ِّمن ُكلِّ َما َسأ َ ْلتُ ُموهُ َوإِن
دَآئِبَينَ َو َس َّخ َـر لَ ُك ُم اللَّي َْل َوالنَّهَ َـ
وا نِ ْع َمتَ هَّللا ِ الَ تُحْ صُوهَا} [إبراهيم.]34-32/ تَ ُع ُّد ْ
6ـ أصبح البيتُ في الغالب خاليًا من التوجيه السليم.
وقد قال النبي صلى هللا عليه وسلمُ ( :ك ّل َمولُود يُولَد عَلى
صرانِه أو يُ َم ّجسانِه) [أخرجه الفِط َرة فَأب َواه يُ َه ّودانِه أو يُنَ ّ
الشيخان] .فاألبوان لهما دورـ كبير في تقويم اتجاه الطفل.
7ـ إحجا ُم وسائل التعليم واإلعالم في غالب العالم اإلسالمي
عن أداء مهمتهما.
فقد أصبحت مناهج التعليم في الغالب ال تولي جانب الدين
اهتما ًما كبيرًا ،أو ال تهتم به أصاًل ،وأصبحت وسائ ُل اإلعالم
ال َمرئية وال َمسموعة وال َمقروءة في الغالب أداة تدمير وانحراف،
أو تعنى بأشياء مادية وترفيهية ،وال تهتم بما يُقَ ِّو ُم األخالق،
ويزرع العقيدة الصحيحة ،ويقاومـ التيارات المنحرفة؛ حتى ينشأ
جي ٌل أعز ُل أمام جيوش اإللحاد ال يدان له بمقاومتها.
23
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
2ـ العناية بتدريس العقيدة الصحيحة -عقيدة السلف الصالح-
في مختلف المراحل الدراسية ،وإعطاؤها الحصص الكافية من
الَمنهج ،واالهتمام البالغ في تدقيق االمتحانات في هذه المادة.
سلفية الصافية. 3ـ أن تُقرر دراسةُ ال ُكت ِ
ب ال َّ
ويبتعد عن كتب الفرق المنحرفة -كالصوفية والمبتدعة،
والجهمية والمعتزلة ،واألشاعرة والماتوريدية ،وغيرهم -إال من
باب معرفتهاـ لر ّد ما فيها من الباطل والتحذيرـ منها.
4ـ قيام دعاة مصلحين يجددون للناس عقيدة السلف،
ويردون ضالالت المنحرفين عنها.
24
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
25
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
:في بيان استلزام توحيد الربوبية لتوحيد الفصل الخامس
األلوهية.
26
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
27
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ك في الملك أو معين ،كما وقد نفى هللا سبحانه أن يكون له شري ٌ
ك في الخلق والرِّ زق ،قال تعالى: نفى سُبحانه أن يكونَ له شري ٌ
ق الَّ ِذينَ ِمن دُونِ ِه} [لقمان.]11/ ق هَّللا ِ فَأَرُونِيـ َما َذا َخلَ َ {هَ َذا خَ ْل ُ
ك ِر ْزقَهُ} [الملك/ وقال تعالى{ :أَ َّم ْن هَ َذا الَّ ِذي يَرْ ُزقُ ُك ْم إِ ْن أَ ْم َس َ
.]21
{ال َح ْم ُد هّلل ِكما أعلن انفراده بالربوبية على جميع خلقه فقالْ :
َربِّ ْال َعالَ ِمينَ } [الفاتحة،]2/
ض فِي ِستَّ ِة ت َواألَرْ َ اوا ِ ق ال َّس َم َ وقال{ :إِ َّن َربَّ ُك ُم هَّللا ُ الَّ ِذي خَ لَ َ
طلُبُهُ َحثِيثًا ار يَ ْ ش يُ ْغ ِشي اللَّي َْل النَّهَ َ أَي ٍَّام ثُ َّم ا ْستَ َوى َعلَى ْال َعرْ ِ
ق َواألَ ْم ُر ت بِأ َ ْم ِر ِه أَالَ لَهُ ْالخَ ْل ُس َو ْالقَ َم َر َوالنُّجُو َم ُم َس َّخ َرا ٍ َوال َّش ْم َ
ك هَّللا ُ َربُّ ْال َعالَ ِمينَ } [األعراف.]54/ ار َ تَبَ َ
وقد فَطَ َر هللا جمي َع الخلق على اإلقرارـ بربوبيته؛ حتى إن
المشركين الذين جعلوا له شري ًكا في العبادة؛ يقرون بتفرده
ت ال َّسب ِْع َو َربُّ اوا ِ بالربوبية ،كما قال تعالى{ :قُلْ َمن رَّبُّ ال َّس َم َ
ش ْال َع ِظ ِيم * َسيَقُولُونَ هَّلِل ِ قُلْ أَفَالَ تَتَّقُونَ * قُلْ َمن بِيَ ِد ِه َملَ ُك ُ
وت ْال َعرْ ِ
ُك ِّل َش ْي ٍء َوه َُو يُ ِجي ُر َوال ي َُجا ُر َعلَ ْي ِه إِن ُكنتُ ْم تَ ْعلَ ُمونَ * َسيَقُولُونَ
ْحرُونَ } [المؤمنون.]89-86/ هَّلِل ِ قُلْ فَأَنَّىـ تُس َ
فهذا التوحي ُد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم؛
بل القلوب مفطورة على اإلقرار به؛ أعظم من كونها مفطورة
على اإلقرار بغيره من الموجودات.ـ
ت ُر ُسلُهُ ْم أَفِي هَّللا ِ كما قالت الرسل فيما حكى هللا عنهم{ :قَالَ ْ
ض} [إبراهيم.]10/ ت َواألَرْ ِ اط ِـر ال َّس َما َوا ِ ك فَ ِ َش ٌّ
28
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الرب فرعون ،وقدـ
ال لَقَ ْد َعلِ ْمتَ َما كان مستيقنًا به في الباطن كما قال له موسى{ :قَ َ
صآئِ َر}ـ [اإلسراء/ ض بَ َ ت َواألَرْ ِ أَن َز َل هَـؤُال ِء إِالَّ َربُّ ال َّس َم َ
اوا ِ
.]102
{و َج َحدُوا بِهَا َوا ْستَ ْيقَنَ ْتهَا أَنفُ ُسهُ ْم ظُ ْل ًما
وقال عنه وعن قومهَ :
َو ُعلُ ًّوا} [النمل.]14/
وكذلك من يُنك ُر الربَّ اليو َم من الشيوعيين؛ إنما ينكرونه في
الظاهر مكابرة؛ وإال فهم في الباطن ال ب ّد أن يعترفواـ أنه ما من
موجود إال وله موجد ،وما من مخلوق إال وله خالق وما من أثر
إال وله مؤثر ،قال تعالى{ :أَ ْم ُخلِقُوا ِم ْن َغي ِْر َش ْي ٍء أَ ْم هُ ُم ْالخَالِقُونَ
ض بَل ال يُوقِنُونَ } [الطور.]36-35/ ت َواألَرْ َ اوا ِ * أَ ْم خَ لَقُوا ال َّس َم َ
تأمل العالم كله -علويه وسفليه ،بجميع أجزائه -تجده شاهدًا
بإثبات صانعه وفاطره ومليكه .فإنكارـ صانعه وجحده في العقول
والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده .ال فرقـ بينهما [ألن العلم
الصحيح يثبت وجود الخالق] ،وما تتبجح به الشيوعية اليوم من
إنكار وجود الرب ،إنما هو من باب ال ُمكابرة ،ومصادرة نتائج
العقول واألفكار الصحيحة ،ومن كان بهذه ال َمثابة ،فقد ألغى عقله
ودعا الناس للسخرية منه.
قال الشاعر:
ويجحده الجاحـد ** كيــــــف يعصي اإلله
تدل على أنه واحد ** وفيـ كـل شـيء لـه آيـة
29
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
الفصل الثاني :مفهو ُم كلم ِة الربِّ في القرآن وال ُّسنَّة
وتصورات األمم الضّالَّة
ُّ
ب في الكتاب والسنة
1ـ مفهوم كلمة ال ّر ِّ
ال ّر ُّب في األصل :مصد ُر ربَّ يَرُبُّ ،بمعنى :ن َّشأ الشي َء من
حال إلى حال إلى حال التمام .يُقالُ :ربَّه وربَّاه وربَّبَهُ .فلفظ
(رب) مصدرـ مستعار للفاعل ،وال يُقالُ( :الرَّبُّ ) باإلطالق إال هلل
{ربِّ ْال َعالَ ِمينَ }
تعالى ال ُمتكفل بما يصلح الموجودات .نحو قولهَ :
{ربُّ ُك ْم َو َربُّ آبَائِ ُك ُم األَ َّولِينَ } [الشعراء.]26/
[الفاتحةَ ،]2/
وال يقال لغيره إال مضافًا محدودًا.ـ كما يقال :رب الدار ،وربُّ
الفرس؛ يعني صاحبُها.ـ ومنه قولُه تعالى حكاية عن يوسف عله
{اذ ُكرْ نِيـ ِعن َد َربِّكَ فَأَن َساهُ ال َّش ْيطَانُ ِذ ْك َر َربِّ ِه} [يوسف/
السالمْ :
]42على قول في تفسير اآلية.
وقوله تعالى{ :قَا َل ارْ ِج ْع إِلَى َربِّكَ} [يوسف.]50/
وقوله تعالى{ :أَ َّما أَ َح ُد ُك َما فَيَ ْسقِي َربَّهُ َخ ْمرًا} [يوسف.]41/
(حتّى يَ ِجدها
وقال -صلى هللا عليه وسلم -في ضالة اإلبلَ :
ر ُّبها) [من حديث متفق عليه].
فتبين بهذا :أن الرب يطلق على هللا معرفًا ومضافًا ،فيقال:
الرب ،أو رب العالمين ،أو رب الناس .وال تُطلق كلمة الرّبِّ
على غير هللا إال مضافة ،مثل :رب الدار ،ورب المنزل ،ورب
اإلبل.
ومعنى (رب العالمين) أي :خالقهم ومالكهم ،ومصلحهمـ
ومربهيمـ بنعمه ،وبإرسال رسله ،وإنزال كتبه ،ومجازيهمـ على
30
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
(فإن الربوبية تقتضيأعمالهم .قال العالمة ابن القيم رحمه هللاَّ :
أمر العباد ونهيهم ،وجزاء ُمحسنهم بإحسانه ،و ُمسيئهمـ بإساءته) .
هذه حقيقة الربوبية.
31
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
اآلخر؛ ألنهم لما تركواـ الرب الحق ،ابتُلُوا باتخاذ األرباب
الباطلة.
ق فَ َما َذا بَ ْع َد ْال َح ِّ
ق إِالَّ كما قال تعالى{ :فَ َذلِ ُك ُم هّللا ُ َربُّ ُك ُم ْال َح ُّ
ضالَلُ} [يونس.]32/ ال َّ
أعرض عن َ والضالل ليس له ح ّد ونهاية ،وهو الزم لكل من
ربه الحق .قال هللا تعالى{ :أَأَرْ بَابٌ ُّمتَفَرِّ قُونَ خَ ْي ٌر أَ ِم ُ ال َوا ِح ُد
ْ هَّللا
ْالقَهَّا ُر * َما تَ ْعبُ ُدونَ ِمن دُونِ ِه إِالَّ أَ ْس َما ًء َس َّم ْيتُ ُموهَاـ أَنتُ ْم َوآبَآ ُؤ ُكم َّما
أَن َز َل هَّللا ُ بِهَا ِمن س ُْلطَا ٍن} [يوسف.]40 ،39/
ك في الربوبية باعتبار إثبات خالقين متماثلين في وال ّشر ُ
الصفات واألفعال ممتنع .وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن
معبوداتهمـ تملك بعض التصرفات في الكون .وقد تالعب بهم
َب بكل قوم على قدر الشيطان في عبادة هذه المعبودات ،فتالع َ
عقولهم .فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى؛ الذين
صورواـ تلك األصنام على صورهم ،كقوم نوح ،وطائفةٌ اتخذت
األصنام على صورة الكواكب؛ التي زعموا أنها تؤثر على العالم،
فجعلوا لها بيوتًاـ وسدنة.
واختلفوا في عبادتهمـ لهذه الكواكب :فمنهم من عبد الشمس،
ومنهم من عبد القمر ،ومنهم من يعب ُد غيرهما من الكواكب
األخرى .حتى بنوا لها هياكل .لكل كوكب منها هيكل يخصه.
ومنهم من يعب ُد النار ،وهم المجوس .ومنهم من يعبد البقر ،كما
في الهند .ومنهمـ من يعبد المالئكة .ومنهم من يعبد األشجار
واألحجار .ومنهمـ من يعب ُد القبور واألضرحة .وكل هذا بسبب أن
هؤالء تصوروا في هذه األشياء شيئًا من خصائص الربوبية.
فمنهم من يزعم أن هذه األصنام تمثل أشياء غائبة.
32
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
قال ابن القيم" :وضع الصنم إنما كان في األصل على شكل
معبود غائب .فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته؛ ليكون
نائبًا منابه ،وقائ ًما مقامه .وإال فمن المعلوم أن عاقاًل ال ينحت
خشبة أو حجرًا بيده ،ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده "....انتهى .
القبور قدي ًما وحديثًا ،يزعمون أن هؤالء األموات ِ كما أن ُعبَّاد
يشفعون لهم ،ويتوسطون لهم عند هللا في قضاء حوائجهم
ويقولونَ { :ما نَ ْعبُ ُدهُ ْم إِال لِيُقَرِّ بُونَاـ إِلَى هَّللا ِ ُز ْلفَى} [يونس،]18/
{ َويَ ْعبُ ُدونَ ِمن دُو ِن هَّللا ِ َما الَ يَضُرُّ هُ ْم َوالَ يَنفَ ُعهُ ْم َويَقُولُونَ
هَـؤُال ِء ُشفَ َعا ُؤنَا ِعن َد هَّللا ِ} [يونس.]18/
كما أن بعض مشركي العرب والنصارىـ تصورواـ في
معبوداتهمـ أنها ولد هللا .فمشركو العرب عبدوا المالئكة على أنها
بنات هللا ،والنصارىـ عبدوا المسيح -عليه السالم -على أنه ابن
هللا.
33
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
{وا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبَأ َ إِ ْب َرا ِهي َم * إِ ْذ قَا َل ألَبِي ِه َوقَ ْو ِم ِهوقال تعالىَ :
َ َ َ
صنا ًما فنظ ُّل ل َها عَا ِكفِينَ * قا َل َه ْلَ َ َ َ
َما تَ ْعبُدُونَ * قَالُوا ن ْعبُ ُد أ ْ
َ
ض ُّرونَ * قَالُوا بَ ْل س َم ُعونَ ُك ْم إِ ْذ تَ ْدعُونَ * أَ ْو يَنفَ ُعونَ ُك ْـم أَ ْو يَ ُ
يَ ْ
ُ ْ
َو َج ْدنا آبَا َءنا َكذلِكَ يَف َعلونَ } [الشعراء.]74-69/ َ َ َ
أن هذه األصنا َم ال تسم ُع الدعا َء وال تنف ُع وال فقد وافقواـ على َّ
تضر ،وإنَّما عبدوها تقليدًا آلبائهم ،والتقليد حجة باطلة.
ب ـ ور ّد على من عبد الكواكب والشمس والقمر بقوله:
ت بِأ َ ْم ِر ِه} [األعراف.]54/ س َّخ َرا ٍ س َوا ْلقَ َم َر َوالنُّ ُجو َم ُم َ ش ْم َ{وال َّ
َ
س َوا ْلقَ َم ُر ال
ش ْم ُ {و ِمنْ آيَاتِ ِه اللَّ ْي ُل َوالنَّ َها ُر َوال َّ
وبقولهَ :
س ُجدُوا هَّلِل ِ الَّ ِذي َخلَقَ ُهنَّ إِن ُكنتُ ْم س َوال لِ ْلقَ َم ِر َوا ْ ش ْم ِ تَ ْ
س ُجدُوا لِل َّ
إِيَّاهُ تَ ْعبُدُونَ } [فصلت.]37/
جـ ـ ور ّد على من عبد ال َمالئكة وال َمسيح -عليهم السالم -على
أنهم ولد هللا -بقوله تعالىَ { :ما ات ََّخ َذ هَّللا ُ ِمن َولَ ٍد} [المؤمنون/
.]91
صا ِحبَةٌ} [األنعام/ وبقوله{ :أَنَّى يَ ُكونُ لَهُ َولَ ٌد َولَ ْم تَ ُكن لَّهُ َ
.]101
وبقوله{ :لَ ْم يَلِ ْد َولَ ْم يُولَ ْد * َولَ ْم يَ ُكن لَّهُ ُكفُ ًواـ أَ َحدٌ}
[اإلخالص.]4 ،3/
34
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
إن جميع الكون بسمائه وأرضه وأفالكه وكواكبه ،ودوابه َّ
وشجره ومدره وبَره وبحره ،ومالئكته وجنه وإنسه؛ كله خاضع
هلل ،مطيع ألمره الكوني.
ط ْوعًا ض َ ت َواألَ ْر ِ اوا ِس َم َ سلَ َم َمن فِي ال َّ {ولَهُ أَ ْ قال تعالىَ :
َو َك ْرهًا} [آل عمران.]83:
ض ُك ٌّل لَّهُ قَانِتُونَ } ت َواألَ ْر ِ اوا ِ وقال تعالى{ :بَل لَّهُ َما فِي ال َّ
س َم َ
[البقرة.]116/
ض ِمن دَآبَّ ٍة ت َو َما فِي األَ ْر ِ س َما َوا ِ س ُج ُد َما فِي ال َّ {وهَّلِل ِ يَ ْ َ
ستَ ْكبِرُونَ } [النحل.]49/ َوا ْل َم ِ َ ْ َ ْ
ي َ ال م ه
ُ و ُ ة َ
ك ئ آل
ت َو َمن فِي األَ ْر ِ
ض س َما َوا ِس ُج ُد لَهُ َمن فِي ال َّ {أَلَ ْم تَ َر أَنَّ هَّللا َ يَ ْ
اب َو َكثِي ٌر ِّمنَ س َوا ْلقَ َم ُر َوالنُّ ُجو ُم َوا ْل ِجبَا ُل َوالش ََّج ُر َوالد ََّو ُّ ش ْم ُ َوال َّ
س} [الحج.]18/ النَّا ِ
ط ْوعًا َو َك ْرهًا ض َ ت َواألَ ْر ِ اوا ِ
س َم َس ُج ُد َمن ِفي ال َّ {وهَّلِل ِ يَ ْ َ
ال} [الرعد.]15: َ ِاآلص و
ِّ َ ُود ُ
غ ْ
ل ا ُ
َو ِظالل ُ ِ
ب م ه
ف ُكلُّ هذه الكائنات والعوالم ُمنقادة هلل خاضعة لسلطانه؛ تجري
وفق إرادته وطوع أمره ،ال يستعصيـ عليه منها شيء ،تقوم
بوظائفها ،وتؤديـ نتائجها بنظام دقيق ،وتنزه خالقها عن النقص
والعجز والعيب.
ض َو َمن فِي ِهنَّ س ْب ُع َواألَ ْر ُ اواتُ ال َّ سبِّ ُح لَهُ ال َّ
س َم َ قال تعالى{ :تُ َ
يح ُه ْم} سب ِ َ سبِّ ُح بِ َح ْم َد ِه َولَـ ِكن الَّ تَ ْفقَهُونَ تَ ْ َي ٍء إِالَّ يُ َ َوإِن ِّمن ش ْ
[اإلسراء.]44/
فهذه ال َمخلوقاتـ صامتها وناطقها ،وحيها وميتها ،كلها ُمطيعةٌ
هلل ُمنقادة ألمره الكوني .و ُكلُّها تنزه هللا عن النقائص والعيوب
35
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
بلسان الحال ،ولسان ال َمقال .فكلما تدبّر العاقل هذه ال َمخلوقات،
علم أنها ُخلقت بالحق وللحق ،وأنها مسخرات ليس لها تدبير وال
استعصاء عن أمر مدبرها .فالجميع ُمقِرُّ ون بالخالق بفطرتهم.
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية -رحمه هللا" :وهم خاضعون
ُمستسلمون ،قانتون مضطرون من وجوه:
منها :علمهم بحاجتهم وضرورتهمـ إليه.
ومنها :خضو ُعهُم واستسالمهم لما يجري عليهم من أقداره
ومشيئته.
ومنها :دعاؤهم إياهُ عن َد االضطرار.
وال ُمؤمن يخضع ألمر ربه طوعًا .وكذلك ل َما يقدره عليه من
ال َمصائب .فإنه يفع ُل عندها ما أمر به من الصبرـ وغيره طوعًا.
فهو مسلم هلل طوعًا ،خاضع له طوعًا .والكاف ُر يخضع ألمر ربه
الكوني .وسجودـ الكائنات ال َمقصودـ به الخضوعُ ،وسجودـ كل
شيء ب َح َسبِه .سُجو ٌد يناسبه ويتض َّمنُ الخضوعـ للرب ،وتسبيح كل
شيء بحسبه حقيقةً ال مجا ًزا".
وقال شي ُخ اإلسالم ابن تيمية -رحمه هللا -على قوله تعالى:
ت َواألَ ْر ِ
ض اوا ِ
س َم َ {أَفَ َغ ْي َر ِدي ِن هَّللا ِ يَ ْب ُغونَ َولَهُ أَ ْ
سلَ َم َمن فِي ال َّ
طَ ْوعًا َو َك ْرهًا َوإِلَ ْي ِه يُ ْر َجعُونَ } [آل عمران.]83/
قال" :فذكرـ سبحانه إسالم الكائنات طوعًا وكرهًاـ ألن
ال َمخلوقات جميعها متعبدة له التعبد التام .سواء أق ّر ال ُمقر بذلك أو
أنكره .وهم َمدينون له ُم َدبَّرون .فه ُم مسلمون له طوعًا وكرهًا.
وليس ألحد من المخلوقات خروج ع َّما شاءه وق َّدره وقضاه .وال
حول وال قوة إال به .وهو رب العالمين وملي ُكهُم ،يصرفهم كيف
36
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
يشاء .وهو خالقهم كلهم ،وبارئهم ومصورهم .وكل ما سواه فهو
مربوب مصنوع ،مفطور فقير محتاج ُمعبَّ ٌد مقهور .وهو سبحانه
الواحد القهار الخالق البارئ المصور".ـ
37
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
َي ٍء} أي :من غير خالق خلقهم ،أم يقول{ :أَ ْم ُخلِقُوا ِمنْ َغ ْي ِر ش ْ
هم خَ لَقوا أنفسهم؟ وكال األمرين باطلٌ .فتعين أن لهم خالقًا خلقهم،
ليس هُناك خالق غيره. وهو هللا سبحانهَ ،
ق هَّللا ِ َفأ َ ُرونِي َما َذا َخلَ َ
ق الَّ ِذينَ ِمن دُونِ ِه} قال تعالىَ { :ه َذا َخ ْل ُ
[لقمان.]11/
ض} [األحقاف.]4/ {أَ ُرونِي َما َذا َخلَقُوا ِمنَ األَ ْر ِ
ق َعلَ ْي ِه ْم قُ ِل {أَ ْم َج َعلُو ْا هَّلِل ِ ُ
ش َر َكا َء َخلَقُو ْا َك َخ ْلقِ ِه فَتَشَابَهَ ا ْل َخ ْل ُ
اح ُد ا ْلقَ َّها ُر} [الرعد.،]16/ َي ٍء َوه َُو ا ْل َو ِ
ق ُك ِّل ش ْ هَّللا ُ َخالِ ُ
اجتَ َم ُعواـ{إِنَّ الَّ ِذينَ تَ ْدعُونَ ِمن دُو ِن هَّللا ِ لَن يَ ْخلُقُوا ُذبَابًا َولَ ِو ْ
لَهُ} [الحج.]73/
ش ْيئًا َو ُه ْم يُ ْخلَقُونَ } ُون هَّللا ِ الَ يَ ْخلُقُونَ َ {والَّ ِذينَ يَ ْدعُونَ ِمن د ِ َ
[النحل.]20/
ق أَفَال تَ َذ َّكرُونَ } [النحل.]17/ ق َك َمن الَّ يَ ْخلُ ُ{أَفَ َمن يَ ْخلُ ُ
ق شيئًا ،وال مجرد
ومع هذا التحدي المتكرِّر لم ي َّدع أح ٌد أنه خل َ
قدعوى -فضاًل عن إثبات ذلك .فتعيَّنَ أن هللا سُبحانه هو الخال ُ
وح َدهُ ال شريك له.
38
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
قال تعالىَ { :ما ات ََّخ َذ هَّللا ُ ِمن َولَ ٍد َو َما َكانَ َم َعهُ ِمنْ إِلَ ٍه إِ ًذا
ض} [المؤمنون/ ض ُه ْم َعلَى بَ ْع ٍ ق َولَ َعال بَ ْع ُ لَّ َذه َ
َب ُك ُّل إِلَ ٍه بِ َما َخلَ َ
.]91
فاإلله الحق ال ب ّد أن يكون خالقًا فاعاًل .فلو كان معه سبحانه
إله آخر ،يُشاركه في ُملكه -تعالى هللا عن ذلك -لكان له خلق
وفعل .وحينئ ٍذ فال يرضى ِشر َكةَ اإلله اآلخر معه .بل إن قدر على
قهر شريكه وتف َّردـ بالملك واإللهية دونَهُ ،فعل .وإن لم يقدر على
ك الدنيا ذلك ،انفرد بنصيبه في ال ُملك والخلق .كما ينفرد ملو ُ
بعضهم عن بعض بملكه ،فيحصل االنقسام.
فال بُ َّد من أحد ثالثة أمور:
أ -إما أن يقهر أحدهما اآلخر وينفر َـد بالملك دونه.
ب -وإما أن ينفر َد ُكلُّ واحد منهما عن اآلخر بملكه وخلقه؛
فيحصل االنقسام.
ك واح ٍد يتصر ُـ
ّف فيهما كيف يشاء؛ ج -وإما أن يكونا تحت َملِ ٍ
فيكون هو اإلله الحق وهم عَبيدُه.
وهذا هو الواقعُ .فإنه لم يحصل في العالم انقسام وال خلل .مما
أن مدبره واح ٌد ،ال منازع له ،وأن مالكه واحد ال شريكيَدُلُّ على َّ
له.
39
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
كاف فقالَ { :ربُّنَا الَّ ِذي أَ ْعطَى ُك َّل
ٍ شاف
ٍ أجاب موسى بجواب
َي ٍء َخ ْلقَهُ ثُ َّم َهدَى} [طه.]50 ،49/
ش ْ
أي :ربنا الذي خلق جميع ال َمخلوقات ،وأعطى كل مخلوق
خلقه الالئق به؛ من كبر الجسم وصغره وتوسطه وجميع صفاته.
ثم هدى كل مخلوق إلى ما خلقه له .وهذه الهدايةُ هي هداية الداللة
واإللهام .وهي الهدايةُ الكاملةُ المشاه َدةُ في جميع المخلوقات .فكلُّ
المضارِّ
َ مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع ،وفي دفع
إن هللا أعطى الحيوان البهيم من اإلدراك؛ ما يتمكن به عنه .حتى َّ
من فعل ما ينفعه ،ودفع ما يضره ،وما به يؤدي مهمته في الحياة.
َي ٍء َخلَقَهُ} [السجدة.]7/ وهذا كقوله تعالى{ :الَّ ِذي أَ ْح َ
سنَ ُك َّل ش ْ
فالذي خلق جمي َع ال َمخلوقات ،وأعطاها خلقَها الحسنَ -الذي ال
تقترح العقول فوقـ حسنه -وهداها ل َمصالحها ،هو الرب على
الحقيقة .فإنكا ُرهُ إنكا ٌر ألعظم األشياء وجودًا.ـ وهو مكابرة
و ُمجاهرة بالكذب.
فاهلل أعطَى الخلق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا ،ثم هداهم
إلى طريقـ االنتفاع به .والشك أنه أعطى كل صنف شكلَه
المناسب له
َ وصورتَهُ المناسبة له .وأعطى كل ذكر وأنثى ال ّش َ
كل
من جنسه ،في المناكحة واأللفة واالجتماع.ـ وأعطى كل عضو
شكله المالئم للمنفعة المنوطة به .وفي هذا براهين قاطعة على أنه
ق للعباد ِة دون سواه.... ج ّل وعال َربُّ ُك ِّل شيء .وهو المستح ُّ
وفيـ ُكـ ِّل شـي ٍء لَـهُ آيـةٌ ** تَدلُّ على أنّه الواح ُد
أن المقصو َد من إثبات ربوبيته -سبحانه- ومما ال شك فيه َّ
لخلقه وانفراده .لذلك :هو االستدالل به على وجوب عبادته وحده
ال شريك له؛ الذي هو توحيدـ األلوهية .فلو أن اإلنسان أق ّر بتوحيد
40
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
الربوبية ولم يقر بتوحيد األلوهية أو لم يَقُ ْم به على الوجه
الصحيح ،لم يكن مسل ًما ،وال موحدًا .بل يكون كافرًا جاحدًا .وهذا
ما سنتح َّدث عنه في الفصل التالي ،إن شاء هللا تعالى.
41
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
فأمرهم بتوحيدـ األلوهية ،وهو عبادتهُ .واحت َّج عليهم بتوحيدـ
ق السما ِءق الناس األولين واآلخرين ،وخل ُ الرُّ بوبية الذي هو خل ُ
واألرض وما فيهما ،وتسخير الرياح وإنزا ُل المطر ،وإنباتُ
ِ
النبات ،وإخراج الثمرات التي هي رزق العباد .فال يليق بهم أن
يُشركوا معه غيره -م َّم ْن يعلمون أنه لم يفعل شيئًا من ذلك ،وال
من غيره.
فالطريقـ الفطري إلثبات توحيدـ األلوهية :االستدالل عليه
بتوحيد الربوبية .فإن اإلنسان يتعلق أواًل بمصدرـ خلقه ،ومنشأ
نفعه وضره .ثم ينتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي تقرّبه إليه،
وترضيه عنه ،وتوثقـ الصلة بينه وبينه.
باب لتوحيد األلوهية:
• توحيد الربوبية ٌ
فتوحيدـ الربوبية بابٌ لتوحيد األلوهية .من أجل ذلك احت َّج هللا
على المشركين بهذه الطريقة ،وأمر رسوله أن يحت َّج بها عليهم.
ض َو َمن فِي َها إِن ُكنتُ ْم تَ ْعلَ ُمونَ * فقال تعالى{ :قُل لِّ َم ِن األَ ْر ُ
س ْب ِعت ال َّ اوا ِ
س َم َسيَقُولُونَ هَّلِل ِ قُ ْل أَفَالَ تَ َذ َّكرُونَ * قُ ْل َمن َّر ُّب ال َّ َ
ُ َ َ ُ
سيَقُولُونَ هَّلِل ِ ق ْل أفالَ تَتَّقُونَ * ق ْل َمن بِيَ ِد ِه يم * َ ش ا ْل َع ِظ ِ
َو َر ُّب ا ْل َع ْر ِ
َي ٍء َو ُه َو يُ ِجي ُر َوال يُ َجا ُر َعلَ ْي ِه إِن ُكنتُ ْم تَ ْعلَ ُمونَ * َملَ ُكوتُ ُك ِّل ش ْ
س َحرُونَ } [المؤمنون.]89-84/ َ َ
سيَقُولُونَ هَّلِل ِ قُ ْل فأنَّى تُ ْ َ
ق ُك ِّل ش ْ
َي ٍء وقال تعالىَ { :ذلِ ُك ُم هَّللا ُ َربُّ ُك ْم ال إِلَـهَ إِالَّ ُه َو َخالِ ُ
فَا ْعبُدُوهُ} [األنعام.]102/
فقد احتج بتفرُّ ِده بالربوبية على استحقاقه للعبادة .وتوحيد
األلوهية :هو الذي خلق الخلق من أجله.
42
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
نس إِال لِيَ ْعبُدُو ِن} [الذاريات/ {و َما َخلَ ْقتُ ا ْل ِجنَّ َو ِ
اإل َ قال تعالىَ :
.]56
ومعنى (يَ ْعبُد ِ
ُون) :يُفردونيـ بالعبادة.
• مجرد االعتراف بتوحيد الربوبية ال يصير العبد موحدا:
وال يكون العب ُد ُمو ّح ًداـ بمجرد اعترافه بتوحيد الربوبية؛ حتى
فإن المشركين كانوا ُمقرِّينَ يُق َّر بتوحيدـ األلوهية ،ويقو َم به .وإال َّ
بتوحي ِد الربوبية ،ولم يُدخلهم في اإلسالم ،وقاتلهمـ رسو ُل هللا
صلى هللا عليه وسلم .وهم يُقرُّ ون بأن هللا هو الخالق الرازق،
المحيي المميت.
سأ َ ْلتَ ُهم َّمنْ َخلَقَ ُه ْم لَيَقُولُنَّ هَّللا ُ} {ولَئِن َ كما قال تعالىَ :
ض َ
ت َواأل ْر َ اوا ِ س َم َق ال َّ َ
سألتَ ُهم َّمنْ َخل َ ْ َ {ولَئِن َ [الزخرف/ـَ ،]87
لَيَقُولُنَّ َخلَقَ ُهنَّ ا ْل َع ِزي ُز ال َعلِي ُم} [الزخرف/ـ.]9
ْ
س ْم َعض أَ َّمن يَ ْملِ ُك ال َّ س َما ِء َواألَ ْر ِ {قُ ْل َمن يَ ْر ُزقُ ُكم ِّمنَ ال َّ
ت َويُ ْخ ِر ُج ا ْل َميَّتَ ِمنَ ا ْل َح ِّي صا َر َو َمن يُ ْخ ِر ُج ا ْل َح َّي ِمنَ ا ْل َميِّ ِ واألَ ْب َ
سيَقُولُونَ هَّللا ُ} [يونس.]31/ َو َمن يُ َدبِّ ُر األَ ْم َر فَ َ
وهذا كثي ٌر في القرآن.
فمن زع َم َّ
أن التوحي َد هو اإلقرا ُر بوجودـ هللا ،أو اإلقرار بأن
هللا هو الخالق ال ُمتصرفـ في الكون ،واقتصرـ على هذا النوع ،لم
َت إليه الرسل ألنه وقفَ عن َديكن عارفًاـ لحقيقة التوحيد الذي دع ْ
ال َملزوم وترك الالزم ،أو وقفـ عند الدليل وترك ال َمدلول عليه.
• خصائص األلوهية:
ومن خصائص األلوهية :الكما ُل ال ُمطل ُ
ق من جميع الوجوده
الذي ال نقص فيه بوجه من الوجوه .وذلك يوجب أن تكون العبادة
43
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
كلها له وحده ،والتعظيمـ واإلجالل ،والخشية والدعاء ،والرجاء،
واإلنابة ،والتوكل واالستغاثة ،وغاية ّ
الذ ِّل مع غاية الحب.
كل ذلك يجب عقاًل وشرعًا وفطرةً أن يكون هلل وحده ،ويمتنع
عقاًل وشرعًا وفطرةً أن يكون لغيره.
44
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
45
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
46
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وأنزل على محمد صلى هللا عليه وسلم{ :قُ ْل إِنِّي أُ ِم ْرتُ أَنْ
صا لَّهُ الدِّينَ } [الزمر.]11/ أَ ْعبُ َد هَّللا َ ُم ْخلِ ً
اس؛ حتّى وقال صلى هللا عليه وسلم( :أ ِمرتُ أن أقَاتِل النّ َ
سو ُل هللا) [الحديث رواه يَش َهدوا أن ال إله إال هللا وأنّ ُمح ّمدًا َر ُ
البخاري ومسلم].
• أول واجب على ال ُمكلف:
وأول واجب على ال ُمكلف :شهادة أن ال إله إال هللا والعمل بها.
قال تعالى{ :فَا ْعلَ ْم أَنَّهُ ال إِلَهَ إِال هَّللا ُ َوا ْ
ستَ ْغفِ ْر لِ َذنبِكَ} [محمد.]19/
وأول ما يؤمر به َم ْن يريد الدخول في اإلسالم :النط ُ
ق
بالشهادتين.
• مقصود دعوة الرسل:
فتبين من هذا :أن توحيد األلوهية هو مقصو ُد دعوة الرُّ سل.
و ُس ِّمي بذلك ألن األلوهية وصف هللا تعالى الدال عليه اسمه تعالى
(هللا) .فـ(هللا) :ذو األلوهية ،أي ال َمعبود.
ويقال له :توحيد العبادة ،باعتبار أن العبودية وصفُ العبد،
حيث إنه يجبُ عليه أن يعبد هللا مخلصًا في ذلك لحاجته إلى ربه ُ
وفقره إليه.
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية -رحمه هللا" :واعلم أن فقر العبد
إلى هللا :أن يعبده ال يُشرك به شيئًا ،ليس له نظير فيُقاسُ به؛ لكن
يُشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب.
وبينهما فروق كثيرة .فإن حقيقة العبد قلبه وروحه .وهي ال
صال َح لها إال بإلهها هللا الذي ال إله إال هو .فال تطمئن في الدنيا
لذات وسرورـ بغير هللا ،فال يدوم ذلك؛ ص َل للعبد ّ
إال بذكره .ولو َح َ
47
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
نوع ،ومن شخص إلى شخص .وأما إلهه نوع إلى ٍ
بل ينتقل من ٍ
فال ب ّد له منه في كل حال ،وكل وقت وأينماـ كان فهوـ معه".
وكان هذا النوع من التوحيد هو موضوعـ دعوة الرسل ألنه
األساسُ الذي تُبنى عليه جميع األعمال .وبدون تحققه ال تصحُّ
جمي ُع األعمال .فإنه إذا لم يتحقق؛ حصل ضده ،وهو الشركُ.
ش َركَ بِ ِه} [النساء/48/ وقد قال هللا تعالى{ :إِنَّ هَّللا َ الَ يَ ْغفِ ُر أَن يُ ْ
.]116
{ولَ ْو أَش َْر ُكو ْا لَ َحبِ َ
ط َع ْن ُهم َّما َكانُو ْا يَ ْع َملُونَ } وقال تعالىَ :
[األنعام.]88/
وقال تعالى { :لَئِنْ أَش َْر ْكتَ لَيَ ْحبَطَنَّ َع َملُكَ َولَتَ ُكونَنَّ ِمنَ
س ِرينَ } [الزمر.]65/ ا ْل َخا ِ
وألن هذا النوع من التوحيد هو أوّل الحقوق الواجبة على
ش ِر ُكو ْا بِ ِه َ
ش ْيئًا {وا ْعبُدُو ْا هَّللا َ َوالَ تُ ْ العبد .كما قال تعالىَ :
سانًا} [النساء ]36/اآلية. َوبِا ْل َوالِ َد ْي ِن إِ ْح َ
ضى َربُّكَ أَالَّ تَ ْعبُدُو ْا إِالَّ إِيَّاهُ َوبِا ْل َوالِ َد ْي ِن {وقَ َوقال تعالىَ :
سانًا} [اإلسراء ]23/اآلية. إِ ْح َ
ش ِر ُكو ْا بِ ِه وقال تعالى{ :قُ ْل تَ َعالَ ْو ْا أَ ْت ُل َما َح َّر َم َربُّ ُك ْم َعلَ ْي ُك ْم أَالَّ تُ ْ
سانًا} [األنعام ]153-151/اآليات. ش ْيئًا َوبِا ْل َوالِ َد ْي ِن إِ ْح َ
َ
48
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
أواًل :معنى الشَّهادتين
-1معنى شهادة أن ال إله إال هللا:
معنى شهادة أن ال إله إال هللا :االعتقاد واإلقرار .أنه ال يستح ُّ
ق
العبادةَ إال هللا ،والتزام ذلك والعمل به.
فـ(ال إله) نفي الستحقاقـ من سوى هللا للعبادة كائنًا من كان.
ٌ
إثبات الستحقاقـ هللا وحده للعبادة. (إال هللا)
ومعنى هذه الكلمة إجمااًل :ال معبو َـد بح ٍّ
ق إال هللا.
وخبر (ال) يجب تقديره( :بحقٍّ) وال يجو ُـز تقديره بموجودـ ّ
ألن
ُ
فالمعبودات غي ُر هللا موجودة بكثرة ،فيلزم منه هذا خالفُ الواقع.
أن عبادة هذه األشياء عبادة هلل .وهذا من أبطل الباطل .وهو
مذهب أهل وحدة الوجودـ الذين هم أكفر أهل األرض.
التفسيرات الباطلة ل(ال إله إال هللا):
ّرت هذه الكلمةُ بتفسيرات باطلة منها:وقد فُس ْ
(أ) أن معناه :ال معبو َد إال هللا .وهذا باط ٌل ألن معناه :أن كل
ق أو باطل هو هللا ،كما سبق بيانه قريبًا. معبود بح ّ
ق إال هللا .وهذا جزء من معنى هذه (ب) أن معناها :ال خال َ
الكلمة؛ ولكن ليس هو المقصود ألنه ال يثبت إال توحيد الربوبية.
وهو ال يكفي .وهو توحيدـ المشركين.
(جـ) أن معناها :ال حاكميّةَ إال هلل .وهذا أيضًا جزء من
معناها .وليس هو المقصود ألنه ال يكفي؛ ألنه لو أفردـ هللا
بالحاكمية فقط ودعا غير هللا أو صرفـ له شيئًا من العبادة لم يكن
49
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
موحدًا .وكل هذه تفاسير باطلة أو ناقصة .وإنما نبهنا عليها ألنها
توجد في بعض الكتب المتداولة.
التفسير الصحيح:
والتفسي ُر الصحيح لهذه الكلمة عند السلف والمحققين:
أن يُقا َل( :ال معبود بحق إال هللا) كما سبق.
-2معنى شهادة أن محمدًا رسول هللا:
ومعنى شهادة أن محمدًا رسول هللا :هو االعتراف باطنًا
وظاه ًرا أنه عبد هللا ورسوله إلى الناس كافة ،والعمل بمقتضى
ذلك من طاعته فيما أمر ،وتصديقه فيما أخبر ،واجتناب ما نهى
عنه وزجر ،وأال يُعب َد هللا إال بما شرع.
50
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
فقوله( :من يكفر بالطاغوت) هو معنى الركن األول (ال إله)
وقوله( :ويؤمن باهلل) هو معنى الركن الثاني (إال هللا).
وكذلك قولُهُ عن إبراهي َم عليه السالم{ :إِنَّنِي بَ َرا ٌء ِّم َّما تَ ْعبُدُونَ
* إِال الَّ ِذي فَطَ َرنِي} [الزخرف.]27 ،26/
فقوله( :إنني براء) هو معنى النفي في الركن األول ،وقوله:
(إال الذي فطرني) هو معنى اإلثبات في الركن الثاني.
-2أركان شهادة أن محمدًا رسول هللا:
أركان شهادة أن محمدًا رسول هللا :لها ركنان ،هما :قولنا:
"عبدُه ورسوله".
ط والتفريطـ في حقه صلى هللا عليه وسلم. وهما ينفيان اإلفرا َ
فهو عبده ورسوله .وهو أكمل الخلق في هاتين الصفتين
الشريفتين.
• معنى العبد:
ومعنى العبد هنا :المملوك العابد .أي :أنه بش ٌر مخلوق مما
خلق منه البشر .يجري عليه ما يجري عليهم .كما قال تعالى{ :قُ ْل
ش ٌر ِّم ْثلُ ُك ْم} [الكهف.]110/ إِنَّ َما أَنَا بَ َ
وقد َوفَّى -صلى هللا عليه وسلم -العبوديّة حقَّها ،ومدحه هللا
اف َع ْب َدهُ} [الزمر{ .]36/ا ْل َح ْم ُدس هَّللا ُ بِ َك ٍ بذلك .قال تعالى{ :أَلَ ْي َ
س ْب َحانَ الَّ ِذي
َاب} [الكهفُ { .]1/ هَّلِل ِ الَّ ِذي أَن َز َل َعلَى َع ْب ِد ِه ا ْل ِكت َ
س ِج ِد ا ْل َح َر ِام} [اإلسراء.]1/س َرى بِ َع ْب ِد ِه لَ ْياًل ِّمنَ ا ْل َم ْأَ ْ
• معنى الرسول:
51
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ومعنى الرسول :المبعوث إلى الناس كافة بالدعوة إلى هللا
بشيرًا ونذيرًا.
وفي الشهادة له بهاتين الصفتين :نفي لإلفراط والتفريطـ في
حقه صلى هللا عليه وسلم .فإن كثيرًا ممن يدعي أنه من أمته أفرط
في حقه ،وغال فيه .حتى رفعه فوقـ مرتبة العبودية إلى مرتبة
العبادة له من دون هللا .فاستغاث به من دون هللا ،وطلب منه ما ال
يقدر عليه إال هللا -من قضاء الحاجات وتفريج الكربات.
والبعض اآلخر جحد رسالته أو فرط في متابعته ،واعتمد على
َّف في تأويل أخباره
اآلراء واألقوالـ المخالفة لما جاء به؛ وتعس َـ
وأحكامه.
52
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
أي العلم بمعناها المراد منها وما تنفيه وما تُثبته ،المنافيـ
ش ِه َد بِا ْل َح ِّ
ق َو ُه ْم يَ ْعلَ ُمونَ } للجهل بذلك .قال تعالى{ :إِال َمن َ
[الزخرف/ـ.]86
(وهُ ْم يَ ْعلَ ُمونَ ) بقلوبهم ما شهدت أي( :شهد) بـ"ال إله إال هللا"َ .
ق بها وهو ال يعلم معناها ،لم تنفعهُ ألنه لم به ألسنتهم.ـ فلو نطَ َ
يعتق ْد ما تدل عليه.
الشرط الثاني :اليقين
بأن يكون قائلها مستيقنًا بما تد ّل عليه .فإن كان شا ًّكا بما تدل
عليه لم تنفعه .قال تعالى{ :إِنَّ َما ا ْل ُمؤْ ِمنُونَ الَّ ِذينَ آ َمنُوا بِاهَّلل ِ
سولِ ِه ثُ َّم لَ ْم يَ ْرتَابُوا} [الحجرات.]15/ َو َر ُ
فإن كان مرتابًا كان منافقًا .وقال النبي صلى هللا عليه وسلم:
الحائط يَش َهد أن ال إله إاّل هللا ُمستَيقنًا قَلبه ( َمن لَقِيتَ َو َراء هذا َ
بالجنّة) [الحديث في الصحيح] .فمن لم يستيقن بها قلبه ،لم فَبَشّره َ
دخول الجنَّة.
َ يستحق
الشرط الثالث :القبول
ل َما اقتضته هذه الكلمة من عبادة هللا وحده ،وترك عبادة ما
سواه .فمن قالهَا ولم يقبل ذلك ولم يلتزمـ به ،كان من الذين قال هللا
فيهم{ :إِنَّ ُه ْم َكانُوا إِ َذا قِي َل لَ ُه ْم ال إِلَهَ إِال هَّللا ُ يَ ْ
ستَ ْكبِرُونَ * َويَقُولُونَ
ون} [الصافات.]36 ،35/ َاع ٍر َّم ْجنُ ٍأَئِنَّا لَتَا ِر ُكوا آلِ َهتِنَا لِش ِ
وهذا كحال عباد القبور اليوم .فإنهم يقولون( :اَل إله إاّل هللا)،
وال يتركون عبادة القبور .فال يكونون قابلين ل َمعنى ال إله إاّل هللا.
الشرط الرابع :االنقياد
53
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
االنقياد ل َما دلّت عليه .قال تعالىَ { :و َمن يُ ْ
سلِ ْم َو ْج َههُ إِلَى هَّللا ِ
سكَ بِا ْل ُع ْر َو ِة ا ْل ُو ْثقَى} [لقمان.]22/ سنٌ فَقَ ِد ا ْ
ستَ ْم َ َو ُه َو ُم ْح ِ
والعروة الوثقى :ال إله إال هللا .ومعنىـ (يُ ْسلِ ْم َوجْ هَهُ) :أي ينقاد
هلل باإلخالص له.
الشطر الخامس :الصدق
يقول هذه الكلمة مصدقًاـ بها قلبُه .فإن قالَهَا بلسانه ولم َ وهو أن
يصدق بها قلبُه ،كان منافقًا كاذبًا.
س َمن يَقُو ُل آ َمنَّا بِاهّلل ِ َوبِا ْليَ ْو ِم اآل ِخ ِر{و ِمنَ النَّا ِ
قال تعالىَ :
َ ُ َّ هّللا
َو َما هُم بِ ُمؤْ ِمنِينَ * يُ َخا ِدعُونَ َ َوال ِذينَ آ َمنوا} إلى قولهَ :
{ول ُهم
اب أَلِي ٌم بِ َما َكانُوا يَ ْك ِذبُونَ } [البقرة.]10-8/
َع َذ ٌ
اإلخالص
ُ الشرط السادس:
وهو تصفيةُ العمل من جميع شوائب الشرك .بأن ال يقصد
بقولها طمعًا من مطامع الدنيا ،وال رياء وال سمعة .لما في
الحديث الصحيح من حديث عتبان قال( :فإنَّ هللا َح ّرم عَلى النّار
َمن قَال :ال إله إال هللا ،يَبتَغي بِذلِك َوجهَ هللا) [الحديث أخرجه
الشيخان].
الشرط السابع :المحبة
المحبة لهذه الكلمة ،ولما تدل عليه ،وألهلها العاملين
َ
س َمن يَتَّ ِخ ُذ ِمن دُو ِن هَّللا ِ أندَادًا
{و ِمنَ النَّا ِ بمقتضاها .قال تعالىَ :
ش ُّد ُحبًّا هَّلِّل ِ} [البقرة.]165/ َ
يُ ِحبُّونَ ُه ْم َك ُح ِّب هَّللا ِ َوالَّ ِذينَ آ َمنُو ْا أ َ
فأهل (ال إله إال هللا) يحبون هللا حبًّا خالصًا .وأهل الشرك
يحبونه ويحبونـ معه غيره؛ وهذا ينافيـ مقتضى ال إله إال هللا.
54
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ب ـ شروطُ شهادة أنَّ محمدًا رسو ُل هللا:
أن محمدًا رسو ُل هللا هي:وشروطُـ شهادة َّ
.1االعتراف برسالته ،واعتقادها باطنًا في القلب.
.2النطق بذلك ،واالعتراف به ظاه ًر باللسان.
.3المتابعة له؛ بأن يعمل بما جاء به من الحق ،ويترك ما نهى
عنه من الباطل.
.4تصديقه فيما أخبر به من الغيوب الماضية والمستقبلة.
.5محبته أشد من محبة النفس والمال والولد والوالد والناس
أجمعين.
.6تقديم قوله على قول كل أحد ،والعمل بسنته.
55
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ب ـ ومقتضى شهادة أن محمدًا رسول هللا
طاعتهُ وتصديقُهُ ،وترك ما نهى عنه ،واالقتصارـ على العمل
بسنته ،وترك ما عداها من البدع والمحدثات ،وتقديم قوله على
قول كل أحد.
56
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
4ـ من اعتقد أن هدي غير النبي -صلى هللا عليه وسلم -أكمل
من هديه؛ أو أن حكم غيره أحسن من حكمه .كالذين يفضلون
حكم الطواغيت على حكم الرسول صلى هللا عليه وسلم،
ويفضلون حكم القوانين على حكم اإلسالم.
5ـ من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول -صلى هللا عليه
وسلم -ولو عمل به؛ كفر.
6ـ من استهزأ بشيء من دين الرسول أو ثوابه أو عقابه؛
كفر.
والدليل على ذلك قوله تعالى{ :قُ ْل أَبِاهَّلل ِ َوآيَاتِ ِه َو َر ُ
سولِ ِه ُكنتُ ْم
ستَ ْه ِز ُؤونَ * الَ تَ ْعتَ ِذ ُرو ْا قَ ْد َكفَ ْرتُم بَ ْع َد إِي َمانِ ُك ْم} [التوبة/65:
تَ ْ
.]66
7ـ السحرُ.
والعطف (لعله يقصد عمل ما يصرفُ الرج َل ُـ ومنهُ الصرفُ
عن حب زوجته ،أو عمل ما يحببها إليه) .فمن فعله أو رضي به،
كفر،
َ
ان ِمنْ أَ َح ٍد َحتَّى يَقُوالَ إِنَّ َما نَ ْحنُ
{و َما يُ َعلِّ َم ِوالدليل قوله تعالىَ :
فِ ْتنَةٌ فَالَ تَ ْكفُ ْر} [البقرة.]102/
8ـ مظاهرة المشركين ،ومعاونتهم على المسلمين.
{و َمن يَتَ َولَّ ُهم ِّمن ُك ْم فَإِنَّهُ ِم ْن ُه ْم إِنَّ هَّللا َ الَ
والدليل قوله تعالىَ :
يَ ْه ِدي ا ْلقَ ْو َم الظَّالِ ِمينَ } [المائدة.]51/
9ـ من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد
صلى هللا عليه وسلم.
57
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى ،عليه السالم.
فهو كافر.
صلون إلى درج ٍة القلت :وكما يعتقده غالة الصوفية أنهم يَ ِ
يحتاجون معها إلى متابعة الرسول صلى هللا عليه وسلم.
10ـ اإلعراض عن دين هللا ،ال يتعل ُمهُ ،وال يعمل به.
{والَّ ِذينَ َكفَ ُروا َع َّما أُن ِذ ُروا ُم ْع ِرضُونَ } والدليل قوله تعالىَ :
[األحقاف.]3/
ت َربِّ ِه ثُ َّم أَ ْع َر َ
ض َع ْن َها إِنَّا ِمنَ {و َمنْ أَ ْظلَ ُم ِم َّمن ُذ ِّك َر بِآيَا ِ
َ
ا ْل ُم ْج ِر ِمينَ ُمنتَقِ ُمونَ } [السجدة.]22/
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه هللا" :ال فرق في جميع
هذه النواقض ،بين الهازل والجاد والخائف ،إال المكره .وكلها من
أعظم ما يكون خطرًا ،وأكثر ما يكون وقوعًا .فينبغي للمسلم أن
يح َذرها ،ويخاف منها على نفسه ،نعو ُذ باهلل من موجبات غضبه،
وأليم عقابه".
58
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وقال تعالى{ :قُ ْل أَ َرأَ ْيتُم َّما أَنزَ َل هَّللا ُ لَ ُكم ِّمن ِّر ْز ٍ
ق فَ َج َع ْلتُم ِّم ْنهُ
َح َرا ًما َو َحالَاًل قُ ْل آهَّلل ُ أَ ِذنَ لَ ُك ْم أَ ْم َعلَى هَّللا ِ تَ ْفتَرُونَ } [يونس.]59/
• التحليل والتحريم بدون دليل:
فقد نهى هللا عن التحليل والتحريم بدون دليل من الكتاب
والسنة .وأخبرـ أن ذلك من الكذب على هللا .كما أخبر سبحانه َّ
أن
ب شيئًا أو ح َّر َم شيئًا من غير دليل ،فقد جعل نفسه شريكاً من أو َج َ
هلل فيما هو من خصائصه ،وهو التشريع.
ِّين َما لَ ْم يَأْ َذن
قال تعالى{ :أَ ْم لَ ُه ْم ش َُر َكا ُء ش ََرعُوا لَ ُهم ِّمنَ الد ِ
بِ ِه هَّللا ُ} [الشورى.]21/
ومن أطاع هذا المش ِّرع من دون هللا وهو يعلم بذلك ووافقه
على فعله ،فقد أشركه مع هللا.
ش ِر ُكونَ } [األنعام.]121/ {وإِنْ أَ َ
ط ْعتُ ُمو ُه ْم إِنَّ ُك ْم لَ ُم ْ قال تعالىَ :
يعني :الذين يُحلّون ما حرَّم هللا من الميتاتَ ،من أطاعهم في
ذلك فهو مشرك.
كما أخبر سبحانه أن من أطاع األحبار والرهبان في تحليل ما
حرم هللا ،وتحريم ما أحله هللا ،فقد اتخذهم أربابًا من دون هللا.
قال تعالى{ :ات ََّخ ُذوْـا أَ ْحبَا َر ُه ْم َو ُر ْهبَانَ ُه ْم أَ ْربَابًا ِّمن دُو ِن هَّللا ِ
يح ابْنَ َم ْريَ َم َو َما أُ ِم ُرو ْا إِالَّ لِيَ ْعبُدُو ْا إِلَـ ًها َو ِ
احدًا الَّ إِلَـهَ إِالَّ س َ َوا ْل َم ِ
ش ِر ُكونَ } [التوبة.]31/ س ْب َحانَهُ َع َّما يُ ُْه َو ُ
ي بنُ حاتم -رضيـ هللا عنه -هذه اآلية ،قال" :يا ولما سمع عد ّ
رسول هللا ،إنا لسنا نعبدهم".
59
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
سوا يُ ِحلّونَ َما َح َّر َم هللا
فقال له النبي صلى هللا عليه وسلم( :ألَي ُ
فت ُِحلّونَه ،ويُح ّر ُمون َما َ
أح ّل هللا فت َُح ّر ُمونَه)؟
قال" :بلى".
قال( :فَتِل َك ِعبَا َدتُ ُهم) [الحديث رواه الترمذي].
قال الشي ُخ عبد الرحمن بن حسن -رحمه هللا" :وفيـ الحديث
أن طاعةَ األحبار والرهبان في معصية هللا عبادة لهم دليل على َّ
من دون هللا؛ ومن الشرك األكبر الذي ال يغفره هللا .بقوله تعالى
احدًا الَّ إِلَـهَ إِالَّ ه َُو {و َما أُ ِم ُرو ْا إِالَّ لِيَ ْعبُدُو ْا إِلَـ ًها َو ِ
في آخر اآليةَ :
ش ِر ُكونَ }. س ْب َحانَهُ َع َّما يُ ْ ُ
س ُم هَّللا ِ َعلَ ْي ِه{والَ تَأْ ُكلُو ْا ِم َّما لَ ْم يُ ْذ َك ِر ا ْ
ونظير ذلك قوله تعالىَ :
ُ َ َ
وحونَ إِلى أ ْولِيَآئِ ِه ْم لِيُ َجا ِدلو ُك ْم َوإِنْ اطينَ لَيُ ُ شي َ ِق َوإِنَّ ال َّ س ٌ َوإِنَّهُ لَفِ ْ
ش ِر ُكونَ } [األنعام.]121/ أَطَ ْعتُ ُمو ُه ْم إِنَّ ُك ْم لَ ُم ْ
وهذا وقع فيه كثي ٌر من النَّاس مع من قلدوهم لعدم اعتبارهم
الدليل إذا خالف ال ُمقلَّد؛ وهو من هذا الشرك ".انتهى.
فالتزام شرع هللا وتركـ شرع ما سواه ،هو من مقتضى ال إله
إال هللا ،وهللا المستعان.
60
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وفي الشرع لها تعاريفـ كثيرة ،ومعناها واحد.
أن العبادة هي طاعة هللا بامتثال ما أم َر هللا به على ألسنةمنهاَّ :
رسله.
ومنها :أن العبادة ،معناها :التذلُّل هلل سبحانه ،فهي :غايةُ ّ
الذلِّ
هلل تعالى مع غاية ُحبّه.
• التعريف الجامع للعبادة:
والتعريفـ الجامع لها هو أن العبادة :اسم جامع لكل ما يحبه
هللا ويرضاه من األقوال واألعمال الظاهرة والباطنة.
• العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح:
وهي ُمنقسمة على القلب واللسان والجوارح .فالخوفـ
والرجاء ،والمحبة والتوكل ،والرغبة والرهبة :عبادة قلبية.
والتسبيح والتهليل والتكبير ،والحمد والشكر باللسان والقلب:
عبادة لسانية قلبية.
والصالة والزكاة والحج والجهاد :عبادة بدنية قلبية ،إلى غير
ذلك من أنواع العبادة التي تجري على القلب واللسان والجوارح،
وهي كثيرة.
• الحكمة من خلق الجن واإلنس:
والعبادةُ هي التي خلق هللا الخلق من أجلها .قال تعالىَ :
{و َما
نس إِال لِيَ ْعبُدُو ِن * َما أُ ِري ُد ِم ْن ُهم ِّمن ِّر ْز ٍ
ق َو َما َخلَ ْقتُ ا ْل ِجنَّ َو ِ
اإل َ
أُ ِري ُد أَن يُ ْط ِع ُمو ِن * إِنَّ هَّللا َ ه َُو ال َّر َّزا ُ
ق ُذو ا ْلقُ َّو ِة ا ْل َمتِينُ }
[الذاريات.]58-56/
61
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
فأخبر سبحانه أن الحكمة من خلق الجن واإلنس :هي قيامهمـ
بعبادة هللا .وهللا غن ٌّي عن عبادتهم ،وإنما هم المحتاجون إليها
لفقرهم إلى هللا تعالى ،فيعبدونه على وفقـ شريعته .فمن أبى أن
يعبد هللا؛ فهو مستكبر .ومن عبده وعبد معه غيره ،فهو مشرك.
ومن عبده وحده بغير ما شرع ،فهو مبتدع .ومن عبده وحده بما
شرع فهو المؤمن الموحِّد.
62
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
• العبادات توقيفية:
بمعنى :أنه ال يشرع شيء منها إال بدليل من الكتاب والسنة،
وما لم يشرع يعتبر بدعة مردودة.
يس َعلَيه
كما قال النبي صلى هللا عليه وسلمَ ( :من َع ِمل َع َماًل لَ َ
أم ُرنا ف ُهو َردّ) [متفق عليه] .أي مردودـ عليه عمله ،ال يقبل منه،
بل يأثم عليه ألنه معصية وليس طاعة.
• المنهج السليم في أداء العبادات:
ثم إن المنهج السليم في أداء العبادات المشروعة هو :االعتدال
بين التساهل والتكاسل؛ وبين التشدد والغلو.
ستَقِ ْم َك َما أُ ِم ْرتَ َو َمن
قال تعالى لنبيه صلى هللا عليه وسلم{ :فَا ْ
َاب َم َع َك َوالَ تَ ْط َغ ْو ْا} [هود.]112/
ت َ
فهذه اآلية الكريمة فيها رسمـ لخطة المنهج السليم في فعل
العبادات .وذلك باالستقامة في فعلها على الطريق المعتدل؛ الذي
ليس فيه إفراط وال تفريط؛ حسب الشرع (كما أمرت) .ثم أكد ذلك
بقوله( :وال تطغوا) والطغيان :مجاوزة الحد بالتشدد والتنطع،
وهو الغلو.
ولما علم -صلى هللا عليه وسلم -بأن ثالثة من أصحابه تقالوا
في أعمالهم ،حيث قال أحدهم" :أنا أصوم وال أفطر ".وقال
اآلخر" :أنا أصلي وال أرقد".ـ وقال الثالث" :أنا ال أتزوج
النساء".
وأفطر وأتز ّوج
ِ صوم
قال صلى هللا عليه وسلم( :أ ّما أنا فأ ُ
سنَّتي فلَيس ِمنّي) [الحديث متفق عليه]. ساء ،ف َمن ر ِغب عَن ُ
الن َ
• الفئتان في أمر العبادة:
63
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وهناك اآلن فئتان من الناس على طرفيـ نقيض في أمر
العبادة.
الفئة األولى :قصَّرتـ في مفهوم العبادة وتساهلت في أدائها
حتى عطلت كثيرًا من أنواعها ،وقصرتهاـ على أعمال محدودة،
وشعائرـ قليلة تؤدى في المسجد فقط .وال مجال للعبادة في البيت،
وال في المكتب ،وال في المتجر ،وال في الشارع ،وال في
المعامالت ،وفي السياسة ،وال الحكم في المنازعات ،وال غير
ذلك من شئون الحياة.
نعم للمسجد فضلٌ ،ويجب أن تؤدى فيه الصلوات الخمس،
ولكن العبادة تشمل كل حياة المسلم؛ داخل المسجد وخارجه.
والفئة الثانية :تشددت في تطبيق العبادات إلى ح ّد التطرف.
فرفعت المستحبات إلى مرتبة الواجبات ،وحرَّمتـ بعض
المباحات ،وحكمت بالتضليل أو التخطئة على من خالف منهجها،
وخطَّأ مفاهيمها .وخير الهدي هدي محمد صلى هللا عليه وسلم،
وش ّر األمور محدثاتها.
64
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
قال تعالى في وصف عباده المؤمنين{ :ي ُِحبُّهُ ْم َوي ُِحبُّونَهُ}
وا أَ َش ُّد ُحبًّا هَّلِّل ِ} [البقرة/
[المائدة .]54/وقال تعالىَ { :والَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
.]165
ار ُعونَ فِي وقال في وصف ُرسُله وأنبيائه{ :إِنَّهُ ْم َكانُوا يُ َس ِ
ْالخَ ي َْرا ِ
ت َويَ ْدعُونَنَاـ َر َغبًا َو َرهَبًا َو َكانُواـ لَنَا خَا ِش ِعينَ } [األنبياء/
.]90
وقال بعض السلف" :من عبد هللا بالحب وحده فهو زنديق،ـ
ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ ،ومن عبده بالخوفـ وحده
فهو حروريـ ،ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن
ُمو ِّحد ".ذكر هذا شي ُخ اإلسالم في رسالة (العبودية).
وقال أيضًا" :فدين هللا :عبادته وطاعته والخضوع له.
ق ُمعبَّ ٌد ،إذا كان ُمذلاًل قد
والعبادة أصل معناها :الذل .يقال :طري ٌ
وطئته األقدام .لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل،
ومعنى الحب .فهي تتضمن غاية الذل هلل تعالى ،بغاية الحب له.
خض َع إلنسان مع بغضه له ال يكون عابدًا له ،ولو أحبّ َ ومن
شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدًا له ،كما يُحبُّ الرجل ولده
وصديقه .ولهذا ال يكفي أحدهما في عبادة هللا تعالى ،بل يجب أن
يكون هللا أحب إلى العبد من كل شيء ،وأن يكون هللا أعظم عنده
من كل شيء ،بل ال يستحق المحبة والخضوع التام إال هللا"....
انتهى .
هذه ركائز العبودية التي تدور عليها .قال العالمة ابن القيم في
النونية:
*** مع ُذلِّ عابده هُما قطبــان وعبادةُ الرحمن غايةُ ُحبِّه
65
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ت القُطبــان
*** ما دار حتى قام ِ وعليهما فَل ُ
ك العبادة دائ ٌر
شبَّه -رح َمهُ هللا -دورانَ العبادة على المحبة والذل للمحبوب
-وهو هللا جل وعال -بدوران الفلك على قطبيه .وذكر أن دوران
فلك العبادة بأمر الرسول -صلى هللا عليه وسلم -وما شرعه ،ال
بالهوى ،وما تأمر به النفس والشيطان ،فليس ذلك من العبادة .فما
شرعه الرسول -صلى هللا عليه وسلم -هو الذي يدير فلك العبادة،
وال تُديره البدع والخرافات واألهواء وتقليد اآلباء.
66
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ويتضمن ما يلي:
أواًل :األدلَّةُ من الكتاب والسنة والعقل على ثبوت األسماء
والصفات.
ثانيًا :منهج أهل ال ُّسنَّة والجماعة في أسماء هللا وصفاته.
:الر ُّد على من أنكر األسماء والصفات ،أو أنكر شيئًا ثالثًا
منها.
67
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
68
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ْال ُمهَ ْي ِمنُ ْال َع ِزي ُز ْال َجبَّا ُر ْال ُمتَ َكبِّ ُر ُس ْب َحانَ هَّللا ِ َع َّما يُ ْش ِر ُكونَ * ه َُو هَّللا ُ
ص ِّو ُر لَهُ األَ ْس َما ُء ْال ُح ْسنَى يُ َسبِّ ُح لَهُ َما فِي ئ ْال ُم َ ار ُق ْالبَ ِ ْالخَالِ ُ
ض َوه َُو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم} [الحشر.]24-22/ ت َواألَرْ ِ ال َّس َما َوا ِ
فدلّت هذه اآليات على إثبات األسماء هلل.
2ـ ومن األدلة على ثبوت أسماء هللا من سنة الرسول صلى
هللا عليه وسلم:
ما رواه أبو هريرة رضي هللا عنه أن رسول هللا -صلى هللا
عليه وسلم -قال( :إن هلل تسعةً وتسعين اس ًما ،مائة إال واحدًا ،من
أحصاها دخل الجنة) [متفق عليه].
وليست أسما ُء هللا منحصرة في هذا العدد .بدليل ما رواه عبد
ي صلى هللا عليه وسلم هللا بن مسعود -رضي هللا عنه -أن النب َّ
سك ،أو أن َزلتَهُ في س َّميتَ بِه نَف َ قال( :أسألُ َك بِ ُك ِّل ٍ
اسم هُو لَكََ ،
أحدًا ِمن َخلقِك ،أو استَأثَرتَ بِه في ِع ِلم ال َغي ِ
ب ِكتَابِكَ ،أو َعلَّمتَهُ َ
ِعندَك ،أن تَج َعل القُرآن ال َع ِظيم َربِي َع قَلبِي) الحديث [رواه أحمد
في المسند وصححه ابن حبان -وقد د ّل على عدم حصر أسماء هللا
في تسعة وتسعين .فيكون المراد بالحديث -وهللا أعلم -أن من تعلم
هذه األسماء التسعة والتسعين ودعا هللا بها وعبده بها دخل الجنة
ويكون ذلك خاصية لها].
وكل اسم من أسماء هللا ،فإنه يتضمن صفة من صفاته .فالعلي ُـم
يدل على العلم ،والحكيمـ يدل على الحكمة ،والسَّمي ُـع البصير يدالن
على السمع والبصر.ـ وهكذا كلُّ اسم يدل على صفة من صفات
هللا تعالى.
وقال تعالى{ :قُلْ ه َُو هَّللا ُ أَ َح ٌد * هَّللا ُ ال َّ
ص َم ُد * لَ ْم يَلِ ْد َولَ ْم يُولَ ْد *
َولَ ْم يَ ُكن لَّهُ ُكفُ ًوا أَ َح ٌد} [سورة اإلخالص].
69
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
عن أنس رضي هللا عنه قال :كانَ رج ٌل من األنصارـ يؤمهم
في مسجد قُباء .فكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصالة
مما يقرأ به؛ افتتح بـ( قُلْ ه َُو هَّللا ُ أَ َح ٌد) ،حتى يفرغ منها .ثم كان
يقرأ سورة أخرى معها ،وكان يصن ُع ذلك في كل ركعة .فكلَّمهُ
أصحابهُ فقالوا" :إنك تفتتح بهذه السورة ،ثم ال ترى أنها تجزئك
حتى تقرأ باألخرى! فإما أن تقرأ بها ،وإما أن تدعها وتقرأ
بأخرى.
ُ
فعلت ،وإن فقال" :ما أنا بتاركها ،إن أحببتم أن أؤمكم بذلك
كرهتم تركتكم".
وكانوا يرون أنه من أفضلهم،ـ وكرهوا أن يؤمهم غيره .فلما
أتاهم النبي -صلى هللا عليه وسلم -أخبروه الخبر .فقال( :يَا فُالنُ ،
أصحابُك؟ َو َما َحملَكَ عَلى لُزوم
َ َما يَمنَ ُعك أن تَفع َل َما يَأ ُمرك بِه
ورة في ك ّل َرك َعة)؟ س َه ِذه ال ُّ
قال" :إنِّي أُحبُّها".
أدخلَكَ الجنَّة) [رواه البخاري في صحيحه].
(حبُّ َك إيّاهَا َ
قالُ :
وعن عائشة -رضي هللا عنها -أن النبي -صلى هللا عليه وسلم-
بعث رجاًل على سرية وكان يقرأ ألصحابه في صالتهم ،فيخت ُم َ
بـ(قُلْ هُ َو هَّللا ُ أَ َح ٌد) .فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي -صلى هللا عليه
سلُوه :أِل ّ
ي شَيء يَف َع ُل ذلِك)؟ وسلم -فقالِ ( :
فسألوه ،فقال" :ألنها صفةُ الرحمن ،وأنا أحب أن أقرأ بها".
النبي صلى هللا عليه وسلم( :أخبِ ُروه أنّ هللا تَ َعالى يُ ِحبُّه)
ُّ فقال
[رواه البخاري في صحيحه].
ت الرَّحمن.
يعني أنها اشتملت على صفا ِ
70
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
أن له وجهًا ،فقالَ { :ويَ ْبقَى َوجْ هُ َربِّكَ ُذو وقد أخبر سبحانه َّ
ْال َجال ِل َوا ِإل ْك َر ِام}ـ [الرحمن.]27/
ت بِيَ َديَّ} [ص{ ،]75/بَلْ يَدَاهُ وأن له يدين ،فقال{ :لِ َما خَ لَ ْق ُ
َم ْبسُوطَتَا ِن} [المائدة.]64/
وأنه يرضى ويحب ويغضب ويسخط ،إلى غير ذلك مما
وصف هللا به نفسه ،أو وصفه به رسوله صلى هللا عليه وسلم.
ب ـ الدليل العقلي
وأما الدليل العقلي على ثبوت األسماء والصفات التي د َّل
عليها الشرع فهو أن يُقال:
-1هذه ال َمخلوقات العظيمة على تنوعها ،واختالفها،ـ
وانتظامهاـ في أداء مصالحها ،وسيرها في خططها المرسومة لها،
تدل على عظمة هللا وقُدرته ،وعلمه وحكمته ،وإرادته ومشيئته.
-2اإلنعام واإلحسان ،وكشف الضر ،وتفريج الكربات؛ هذه
األشياء تد ّل على الرحمة والكرم والجود.
-3والعقاب واالنتقام من العصاة؛ يدالن على غضب هللا
عليهم وكراهيته لهم.
-4وإكرا ُـم الطائعين وإثابتهم؛ يدالن على رضان هللا عنهم
ومحبته لهم.
71
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
منهج أهل ال ُّسنَّ ِة والجماعة؛ من السلف الصالح وأتباعهم:
ُ
إثبات أسما ِء هللا وصفاته ،كما وردت في الكتاب والسنة ،وينبني
منهجهم على القواعد التالية:
-1أنهم يُثبتون أسماء هللا وصفاته كما وردت في الكتاب
والسنة على ظاهرها ،وما تدل عليه ألفاظها من المعاني ،وال
يؤولونهاـ عن ظاهرها ،وال يُحرفون ألفاظها وداللتها عن
مواضعها.
-2يَنفونَ عنها مشابهة صفات المخلوقين .كما قال تعالى:
ْس َك ِم ْثلِ ِه َش ْي ٌء َوهُ َو ال َّس ِمي ُع البَ ِ
صي ُر}ـ [الشورى/ـ.]11 {لَي َ
-3ال يتجاوزون ما ورد في الكتاب والسنة في إثبات أسماء
هللا وصفاته .فما أثبته هللا ورسوله من ذلك أثبتوه ،وما نفاهُ هللا
ورسولُه نفوه ،وما َسكتَ عنه هللا ورسوله س َكتُوا عنه.
نصوص األسما ِء والصفات من المحكم الذي َ -4يعتقدون َّ
أن
يُفهم معناه ويُفسَّر ،وليست من المتشابه .فال يُفَ ِّوضون معناها ،كما
ب عليهم ،أو لم يعرف منهجهم من بعض يَنسبُ ذلك إليهم َمن َك َذ َ
المؤلفين والكتاب المعاصرين.
-5يُفوّضونَ كيفية الصفات إلى هللا تعالى ،وال يبحثون عنها.
72
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ع واصل بن عطاء؛ الذي اعتزل مجلس -2ال ُمعتزلة :وهم أتبا ُ
الحسن البصري .وهؤالء يُثبتون األسما َء على أنها ألفاظ ُمجرَّدة
عن المعاني ،وينفون الصفات كلها.
-3األشاعرة وال َماتوريدية ومن تبعهم .وهؤالء يثبتون
صفات ،وينفون بعضها. وبعض ال ِّ
َ األسما َء
وال ُّشبهة التي بنوا عليها جميعًا مذاهبهم :هي الفرا ُر من تشبيه
ببعض تلك األسماء،
ِ هللا بخلقه –بزعمهم -ألن المخلوقينـ يُ َس َّمون
ويوصفون بتلك الصفات .فيلز ُم من االشتراك في لفظ االسم
والصفة ومعناهما :االشتراكـ في حقيقتهما .وهذا يَلز ُم منه تشبيه
المخلوق بالخالق في نظرهم.
والتزمواـ حيال ذلك أحد أمرين:
أ ـ إما تأوي ُل نصوص األسماء والصفات عن ظاهرها؛ كتأويل
الوجه بالذات ،واليد بالنعمة.
ب ـ وإما تفويض معاني هذه النصوص إلى هللا .فيقولون :هللا
أعلم بمراده منها؛ مع اعتقادهم أنها ليست على ظاهرها.
وأول من ُعرفَ عنه إنكار األسماء والصفات :بعضُ مشركيـ
العرب؛ الذين أنزل هللا فيهمـ قوله تعالىَ { :ك َذلِكَ أَرْ َس ْلنَاكَ فِي أُ َّم ٍة
ت ِمن قَ ْبلِهَا أُ َم ٌم لِّتَ ْتلُ َو َعلَ ْي ِه ُم الَّ ِذ َ
ي أَوْ َح ْينَاـ إِلَ ْيكَ َوهُ ْم يَ ْكفُرُونَ قَ ْد َخلَ ْ
ـن} [الرعد.]30/ بِالرَّحْ َم ِ
أن قري ًشا لما سمعت رسو َل هللا -صلى وسببُ نزول هذه اآليةَّ :
هللا عليه وسلم -يذكر الرحمن ،أنكروا ذلك .فأنزلـ هللا فيهمَ { :وهُ ْم
ـن}. يَ ْكفُرُونَ بِالرَّحْ َم ِ
73
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وذكر ابن جرير أن ذلك كان في صلح الحديبية؛ حين كتب
الكاتبُ في قضية الصلح الذي جرى بينهم وبين رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم" :بسم هللا الرحمن الرحيم" فقالت قريش" :أما
الرحمن فال نَعرفهُ".
وروىـ ابنُ جرير أيضًا عن ابن عباس :كان رسول هللا -صلى
هللا عليه وسلم -يدعو ساجدًا يقول" :يا رحمن يا رحيم "....فقال
المشركون" :هذا يَزع ُم أنه يدعو واحدًا ،وهو يدعو مثنى .فأنزل
ُوا فَلَهُ األَ ْس َما ُء
ُوا الرَّحْ َمـنَ أَيًّا َّما تَ ْدع ْ
ُوا هَّللا َ أَ ِو ا ْدع ْ
هللا{ :قُ ِل ا ْدع ْ
ْال ُح ْسنَى}[ ".اإلسراء.]110/
{وإِ َذا قِي َل لَهُ ُم ا ْس ُجدُوا لِلرَّحْ َم ِن
وقال تعالى في سورة الفرقانَ :
قَالُوا َو َما الرَّحْ َمنُ } [الفرقان.]60/
فهؤالء المشركون هُم سلف الجهمية ،والمعتزلة واألشاعرة،
وكل من نفى عن هللا ما أثبتَهُ لنفسه ،أو أثبته له رسوله -صلى هللا
وبئس السلف لبئس الخلف.
َ عليه وسلم -من أسماء هللا وصفاته.
والرد عليهم من وجوه:
الوجه األول:
أن هللا -سبحانه وتعالى -أثبتَ لنفسه األسما َء والصفا ِ
ت،
وأثبتها له رسوله -صلى هللا عليه وسلم .فنفيُها عن هللا أو نفي
ي لما أثبته هللا ورسوله ،وهذا محادة هلل ورسوله.ضها :نف ٌ
بع ِ
الوجه الثاني:
أنه ال يلزم من وجودـ هذه الصفات في المخلوقين ،أو من
تس ِّمي بعض المخلوقين بشيء من تلك األسماء المشابهة بين هللا
وخلقه .فإن هلل سبحانه أسما ًء وصفات تخصه ،وللمخلوقين أسماء
74
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وصفات تخصهم .فكما أن هلل سبحانه وتعالىـ ذاتًا ال تشبه ذوات
المخلوقين ،فله أسماء وصفات ال تشبه أسما َء المخلوقينـ
وصفاتهم.
واالشتراكـ في االسم والمعنىـ العام ال يوجب االشتراك في
الحقيقة .فقد س َّمى هللا نف َسهُ علي ًما حلي ًما ،وس َّمى بعض عباده
الم َعلِ ٍيم} [الذاريات .]28/يعني {وبَ َّشرُوهُ بِ ُغ ٍ
علي ًما .فقالَ :
إسحاق.
وسمى آخر حلي ًما ،فقال{ :فَبَ َّشرْ نَاهُ بِ ُغ ٍ
الم َحلِ ٍيم} [الصافات/
]101يعني إسماعيل.
وليس العليم كالعليم ،وال الحليم كالحليم .وس َّمى نفسه فقال: َ
صيرًا}ـ [النساء.]58/ ب
َِ َ ِ ًا ع يم س انَ َ
ك {إِ َّن هَّللا َ
وس َّمى بعض عباده سميعًا بصيرًا ،فقال{ :إِنَّا خَ لَ ْقنَا ا ِإلن َسانَ
صيرًا} [اإلنسان.]2/ اج نَّ ْبتَلِي ِه فَ َج َع ْلنَاهُ َس ِميعًا بَ ِ طفَ ٍة أَ ْم َش ٍِمن نُّ ْ
وليس السمي ُع كالسَّميع وال البصي ُر كالبصير.
اس لَ َرؤ ٌـ
ُوف وس َّمى نفسه بالرؤوف الرحيم ،فقال{ :إِ َّن هَّللا َ بِالنَّ ِ
بعض عباده رؤوفًاـ رحي ًما ،فقال{ :لَقَ ْد َ َّر ِحي ٌم} [الحج .]65/وس َّمىـ
َزي ٌز َعلَ ْي ِه َما َعنِتُّ ْم َح ِريصٌ َعلَ ْي ُكم َجا َء ُك ْم َرسُو ٌـل ِّم ْن أَنفُ ِس ُك ْم ع ِ
َّحي ٌم} [التوبة .]128/وليس الرؤوفـ ُوف ر ِ بِ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َرؤ ٌـ
كالرؤوف،ـ وال الرحي ُم كالرَّحيم.
صفَ عباده بنظير ذلك .مثل ت ،وو َوكذلك وصف نف َسهُ بصفا ٍ
ْ
قولهَ { :والَ يُ ِحيطُونَ بِ َش ْي ٍء ِّم ْن ِعل ِم ِه} [البقرة.]255/
فوصفـ نف َسهُ بالعلم ،ووصفـ عباده بالعلم ،فقالَ { :و َما أُوتِيتُمـ
ق ُك ِّل ِذي ِع ْل ٍم
ِّمن ْال ِع ْل ِم إِالَّ قَلِياًل } [اإلسراء .]85/وقالَ { :وفَوْ َـ
75
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ال الَّ ِذينَ أُوتُوا ْال ِع ْل َم} [القصص/ {وقَ ََعلِي ٌم} [يوسف .]76/وقالَ :
.]80
َزي ٌز} [الحج،]40/ ووصفـ نفسه بالقوة فقال{ :إِ َّن هَّللا َ لَقَ ِويٌّ ع ِ
ق ُذو ْالقُ َّو ِة ْال َمتِينُ } [الذاريات .]58/ووصف {إِ َّن هَّللا َ هُ َو ال َّر َّزا ُ
ْف ثُ َّم َج َع َل ِمن بَ ْع ِد
ضع ٍعبادهُ بالقوة ،فقال{ :هَّللا ُ الَّ ِذي خَ لَقَ ُكم ِّمن َ
ض ْعفًا َو َش ْيبَةً} [الروم ،]54/إلى ْف قُ َّوةً ثُ َّم َج َع َل ِمن بَ ْع ِد قُ َّو ٍة َ
ضع ٍ َ
غير ذلك.
ومعلو ٌم أن أسماء هللا وصفاته تخصه وتليقـ به ،وأسماء
المخلوقين تخصهم وتليق بهم .وال يلز ُم من االشتراكـ في االسم
والمعنى االشتراك في الحقيقة .وذلك لعدم التماثل بين ال ُم َس َّميين
والمصوفين ،وهذا ظاهر ،والحمد هلل.
الوجه الثالث:
أن الذي ليس له صفات كمال ،ال يصلح أن يكون إلهًا .ولهذا َّ
ص ُر}ـ [مريم.]42/ قال إبراهيم ألبيه{ :لِ َم تَ ْعبُ ُد َما ال يَ ْس َم ُع َوال يُ ْب ِ
وقال تعالى في الرد على الذين عبدوا العجل{ :أَلَ ْم يَ َروْ ْا أَنَّهُ الَ
يُ َكلِّ ُمهُ ْم َوالَ يَ ْه ِدي ِه ْـم َسبِياًل } [األعراف.]148/
الوجه الرابع:
أن إثباتَ الصفات كمالٌ ،ونفيها نقص ،فالذيـ ليس له صفات، َّ
إما معدو ٌـم وإما ناقص ،وهللا تعالى ُمن ّزه عن ذلك.
الوجه الخامس:
دليل عليه ،فهو باطلٌ،
ت عن ظاهرها ال َ تأويل الصّفا ِ
َ َّ
أن
وتفويض معناها؟ يلزم منه أن هللا خاطبنا في القرآن بما ال نفهم
76
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
معناه؟ وأمرنا بتدبر القرآن كله ،فكيفَ يأمرنا بتدبر ماال يُفهم
معناه؟
فتبين من هذا أنه البد من إثبات أسماء هللا وصفاته على الوجه
الالئق باهلل ،مع نفي مشابهة المخلوقين .كما قال تعالى{ :لَي َ
ْس
صيرُ} [الشورى.]11/ َك ِم ْثلِ ِه َش ْي ٌء َوه َُو ال َّس ِمي ُع البَ ِ
فنفى عن نفسه ُمماثلة األشياء ،وأثبت له السمع والبصر .فدل
على أن إثبات الصفات ال يلزم منه التشبيه ،وعلى وجوب إثبات
الصفات مع نفي المشابهة.
وهذا معنى قول أهل السنة والجماعة في النفي واإلثبات في
األسماء والصفات :إثبات بال تمثيل وتنزيه بال تعطيل.
77
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
78
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
.
79
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
80
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ك واالنحراف عن العقيدة الصحيحة في حدث الشر ُ َ وأ َّو ُل ما
قوم نوح .فكانَ -عليه السالم -أول رسول إلى البشرية بعد حدوث
الشرك فيها{ :إِنَّا أَوْ َح ْينَا إِلَ ْيكَ َك َما أَوْ َح ْينَا إِلَى نُ ٍ
وح َوالنَّبِيِّينَ ِمن
بَ ْع ِد ِه} [النساء.]163/
قال ابن عباس" :كان بين آدم ونوح -عليهما السالم -عشرةُ
قرون .كلهم على اإلسالم".
فإن قراءة أُب ّي قال ابن القيِّم " :وهذا القو ُل هو الصواب قطعًا؛ َّ
ب -يعني :في آية البقرة( :فاختلفوا فبعث هللا النبيين). ب ِن كع ٍ
{و َما َكانَ
ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى في سورة يونسَ :
وا}ـ [يونس.]19/ النَّاسُ إِالَّ أُ َّمةً َوا ِح َدةً فَ ْ
اختَلَفُ ْ
أن بعثةَ النبيين سببُها االختالف عما كانوا -رحمهُ هللاَّ - يريد َ
عليه من الدين الصحيح .كما كانت العربُ بعد ذلك على دين
زاعي فغيّر دينَ إبراهي َم عليه السالم .حتى جاء عَمرو بن لُ َحي ال ُخ ِ
وجلب األصنامـ إلى أرض العرب ،وإلى أرض الحجاز َ إبراهيم.
ك في هذه البالد بصفة خاصة؛ فعُبدت من دون هللا ،وانتشرـ الشر ُ
المقدسة ،وما جاورها.ـ
بعث هللا نبيه محمدًا خاتم النبيين -صلى هللا عليه وسلم- إلى أن َ
فدعا الناس إلى التوحيد ،واتّباع ملَّة إبراهيم ،وجاهدـ في هللا حق
جهاده .حتى عادت عقيدة التوحيد وملة إبراهيم .وك َّسرـ األصنام
وأكمل هللا به الدين .وأتم به النعمة على العالمين ،وسارت على
ضلَة من صدر هذه األمة. نهجه القرون المف َّ
إلى أن فشا الجهل في القرون المتأخرة ،ودخلهاـ الدخي ُل من
الديانات األخرى ،فعاد الشرك إلى كثير من هذه األمة؛ بسبب
دعاة الضاللة ،وبسبب البناء على القبور ،متمثاًل بتعظيمـ األولياء
81
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
والصالحين ،وادعاء المحبة لهم .حتى بنيت األضرحة على
قبورهم ،واتخذت أوثانًا تُعب ُد من دون هللا ،بأنواع القُربات من
دعاء واستغاثة ،وذبح ونذر لمقامهم.
و َسموا هذا الشرك :تو ُّساًل بالصالحين وإظهارًا لمحبتهم،
وليس عبادة لهم -بزعمهم .ونسوـ أن هذا هو قول المشركين
األولين حين يقولونَ { :ما نَ ْعبُ ُدهُ ْم إِال لِيُقَرِّ بُونَاـ إِلَى هَّللا ِ ُز ْلفَى}
[الزمر.]3/
ومع هذا الشرك الذي وقع في البشرية قدي ًما وحديثًا ،فاألكثرية
منهم يؤمنون بتوحيد الربوبية؛ وإنما يُشركون في العبادة .كما قال
تعالىَ { :و َما ي ُْؤ ِمنُ أَ ْكثَ ُرهُ ْم بِاهَّلل ِ إِالَّ َوهُم ُّم ْش ِر ُكونَ } [يوسف/
.]106
ولم يجحد وجو َـد الرب إال نز ٌر يسير من البشر ،كفرعون
والمالحدة الدهريين ،والشيوعيين في هذا الزمان ،وجحودهمـ
{و َج َحدُوا بِهَا َوا ْستَ ْيقَنَ ْتهَا
باطنهم ،وقرارة نفوسهم .كما قال تعالىَ :
أَنفُ ُسهُ ْم ظُ ْل ًما َو ُعلُ ًّوا} [النمل.]14/
وعقولهم تعرف أن كل مخلوقـ البد له من خالق ،وكل موجود
ال ب ّد له من موجد .وأن نظام هذا الكون المنضبطـ الدقيق ال ب ّد له
من مدبر حكيم ،قدير عليم ،من أنكره فهو إما فاقد لعقله ،أو مكابر
قد ألغى عقله وسفه نفسه ،وهذا ال ِعبرةَ به.
82
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
أ ـ تعريفـه
الشرك هو :جعل شريك هلل تعالى في ربوبيته وإلهيته.
والغالب اإلشراكـ في األلوهية؛ بأن يدعو مع هللا غيره ،أو
يَصرفَ له شيئًا من أنواع العبادة؛ كالذبح والنذر ،والخوف
والرجاء والمحبة.
والشر ُ
ك أعظ ُم الذنوب .وذلك ألمور:
1ـ ألنه تشبيه للمخلوق بالخالق في خصائص اإللهية.
فمن أشرك مع هللا أحدًا فقد شبهه به؛ وهذا أعظم الظلم .قال
ك لَظُ ْل ٌم ع ِ
َظي ٌم} [لقمان.]13/ تعالى{ :إِ َّن ال ِّشرْ َ
والظلم هو :وضع الشيء في غير موضعه .فمن عبد غير هللا،
فقد وضع العبادة في غير موضعها ،وصرفها لغير مستحقها؛
وذلك أعظم الظلم.
2ـ أن هللا أخبر أنه ال يغفره لمن لم يتب منه.
ك بِ ِه َويَ ْغفِ ُر َما ُدونَ َذلِكَ قال تعالى{ :إِ َّن هَّللا َ الَ يَ ْغفِ ُر أَن يُ ْش َر َ
لِ َمن يَ َشاء} [النساء.]48/
3ـ أن هللا أخبر أنه حرَّم الجنة على المشرك ،وأنه خالد مخلد
في نار جهنم.
قال تعالى{ :إِنَّهُ َمن يُ ْش ِر ْك بِاهَّلل ِ فَقَ ْد َح َّر َم هَّللا ُ َعلَي ِه ْال َجنَّةَ َو َمأْ َواهُ
ار} [المائدة.]72/ ص ٍ النَّا ُر َو َما لِلظَّالِ ِمينَ ِم ْن أَن َ
ك يُحبطُ جمي َع األعمال. أن الشر َ 4ـ َّ
83
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وا يَ ْع َملُونَ } وا لَ َحبِطَ َع ْنهُم َّما َكانُ ْ قال تعالىَ { :ولَوْ أَ ْش َر ُك ْـ
[األنعام.]88/
وح َي إِلَ ْيكَ َوإِلَى الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِكَ لَئِ ْن وقال تعالىَ { :ولَقَ ْد أُ ِ
أَ ْش َر ْكتَ لَيَحْ بَطَ َّن َع َملُكَ َولَتَ ُكون ََّن ِمنَ ْالخَا ِس ِرينَ } [الزمر.]65/
أن المشرك حال ُل الدم والمال. 5ـ َّ
ْث َو َجد ُّت ُموهُ ْم َو ُخ ُذوهُ ْم وا ْال ُم ْش ِر ِكينَ َحي ُ قال تعالى{ :فَا ْقتُلُ ْ
ص ٍد} [التوبة.]5/ ُوا لَهُ ْم ُك َّل َمرْ َ صرُوهُ ْم َوا ْق ُعد ْ َواحْ ُ
أقاتل حتى يَقُولوا: َ وقال النبي صلى هللا عليه وسلم( :أ ِم ُ
رت أن
أموالَهُم إال ص ُموا ِمنّي ِد َماءهُم َو َ اَل إله إال هللا ،فإ َذا قَالُوهَاـ َع َ
بِحقّها) [رواه البخاري ومسلم].
ك أكب ُر الكبائر. أن الشر َ 6ـ َّ
قال صلى هللا عليه وسلم( :أال أنبّئُ ُكم بِأكبَر ال َكبَائر) .قلنا" :بلى
(اإلشراك باهللَ ،و ُعقُوق ال َوالدَين )...الحديث َ يا رسول هللا ".قال:
[رواه البخاري ومسلم].
قال العالمة ابن القيم" :أخبر سُبحانه أن القصد بالخلق
واألمر :أن يُعرفَ بأسمائه وصفاته ،ويُعب َد وحده ال يُشركـ به،
وأن يقوم الناس بالقسط ،وهو العدل الذي قامت به السماوات
واألرض.
ت َوأَنزَ ْلنَا َم َعهُ ُم
كما قال تعالى{ :لَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا ُر ُسلَنَا بِ ْالبَيِّنَا ِ
ْط} [الحديد.]25/ َاب َو ْال ِمي َزانَ لِيَقُو َم النَّاسُ بِ ْالقِس ِ
ْال ِكت َ
فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله وأنز َل ُكتبه ،ليقوم الناس
بالقسط؛ وهو العدل .ومن أعظم القسط :التوحيد ،وهو رأس العدل
84
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ك لَظُ ْل ٌم
وقوامه؛ وإن الشرك ظلم .كما قال تعالى{ :إِ َّن ال ِّشرْ َ
َع ِظي ٌم} [لقمان.]13/
فالشرك أظلم الظلم ،والتوحيد أعدل العدل؛ فما كان أشد منافاةً
لهذا المقصود فهوـ أكبر الكبائر".
إلى أن قال" :فلما كان الشرك منافيًا بالذات لهذا المقصود،
كان أكبر الكبائرـ على اإلطالق.ـ وحرم هللا الجنة على كل مشرك،
وأباح دمه وماله وأهله ألهل التوحيد ،وأن يتخذوهم عبيدًا لهم لما
تركوا القيام بعبوديته.
وأبى هللا سبحانه أن يقبل لمشرك عماًل ،أو َ
يقبل فيه شفاعة ،أو
يَستجيب له في اآلخرة دعوة ،أو يقبل له فيها رجاء .فإن المشركـ
أجهل الجاهلين باهلل ،حيث جعل له من خلقه ن ًّدا .وذلك غاية
الجهل به ،كما أنه غاية الظلم منه ،وإن كان المشرك في الواقع
لما يظلم ربَّه ،وإنَّما ظلَ َم نفسه ".انتهى.
ك تنقص وعيب نزه الرب سبحانه نفسه عنهما. أن الشر َ 7ـ َّ
فمن أشرك باهلل فقد أثبت هلل ما نزه نفسه عنه ،وهذا غاية
المحا َّد ِة هلل تعالى ،وغاية المعاندة والمشاقَّة هلل.
ب ـ أنواع الشرك
• الشرك نوعان:
النوع األول :شرك أكبر يُخرج من الملة ،ويخلَّ ُد صاحبُهُ في
النار ،إذا مات ولم يتب منه.
وهو صرفُ شيء من أنواع العبادة لغير هللا؛ كدعاء غير هللا،
والتقرب بالذبائح والنذورـ لغير هللا من القبور والجن والشياطين،
85
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
والخوف من الموتى أو الجن أو الشياطين أن يضروه أو
يُمرضوه ،ورجاء غير هللا فيما ال يقدر عليه إال هللا من قضاء
حول األضرحة َ الحاجات ،وتفريج ال ُكربات ،مما يُمارسُ اآلن
المبنية على قبور األولياء والصالحين.
ُون هَّللا ِ َما الَ يَضُرُّ هُْـم َوالَ يَنفَ ُعهُ ْم قال تعالىَ { :ويَ ْعبُ ُدونَ ِمن د ِ
َويَقُولُونَ هَـؤُال ِء ُشفَ َعا ُؤنَا ِعن َد هَّللا ِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ هَّللا َ بِ َما الَ يَ ْعلَ ُم فِي
ض ُسب َْحانَهُ َوتَ َعالَى َع َّما يُ ْش ِر ُكونَ } [يونس/ ت َوالَ فِي األَرْ ِ ال َّس َما َوا ِ
.]18
والنوع الثاني :شرك أصغر ال يخرج من الملة؛ لكنه ينقص
التوحيد ،وهو وسيلة إلى الشرك األكبر.
• الشرك األصغر قسمان:
وهو قسمان:
القسم األول :شرك ظاهر على اللسان والجوارحـ وهو :ألفاظ
وأفعال .فاأللفاظ كالحلف بغير هللا.
قال صلى هللا عليه وسلمَ ( :من َحلَف ب َغير هللا فَقَد َكفَر أو
شرك) [رواه الترمذيـ وحسنه وصححه الحاكم]. أَ َ
وقول :ما شاء هللا وشئت .قال صلى هللا عليه وسلم :لما قال له
(أجعلتَني هلل نِ ًّدا؟! قُ ْلَ :ما شَا َء
رجل" :ما شاء هللا وشئت ".فقالَ :
هللا َوحدَه) [رواه النسائي].
ُقال :ما شا َء هللا ثُ َّم شاء
والصواب أن ي َ
ُـ وقول :لو ال هللا وفالن.
فالن؛ ولوال هللا ث َّم فالن .ألن (ثم) تفي ُد الترتيب مع التراخي.
وتجع ُل مشيئة العبد تابعة لمشيئة هللا.
86
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
{و َما تَ َشا ُؤونَ إِاَّل أَن يَ َشا َء هَّللا ُ َربُّ ْال َعالَ ِمينَ }
كما قال تعالىَ :
[التكوير/ـ.]29
وأما الواو :فهي لمطلق الجمع واالشتراك.ـ ال تقتضي ترتيبًا
وال تعقيبًا .ومثلُه قول" :ما لي إال هللا وأنت" .و" :هذا من بركات
هللا وبركاتك".
وأما األفعال :فمثل لبس الحلقة والخيط لرفع البالء أو دفعه،
ومثل تعليق التمائم خوفًاـ من العين وغيرها؛ إذا اعتقد أن هذه
أسباب لرفع البالء أو دفعه .فهذا شرك أصغر ألن هللا لم يجعل
هذه أسبابًا .أما إن اعتقد أنها تدفع أو ترفع البالء بنفسها ،فهذا
شرك أكبر ألنه تَعلَّق بغير هللا.
القسم الثاني من الشرك األصغر :شرك خفي وهو الشرك في
اإلرادات والنيات؛ كالرياء والسمعة .كأن يعمل عماًل مما يتقرب
به إلى هللا ،يريد به ثناء الناس عليه؛ كأنه يُحسن صالته ،أو
يتصدق ألجل أن يُمدح ويُثنى عليه .أو يتلفظ بالذكر ويحسن
صوته بالتالوة ألجل أن يسمعه الناس ،فيُثنواـ عليه ويمدحوه.
والرياء إذا خالط العمل أبطله .قال هللا تعالى{ :فَ َمن َكانَ يَرْ جُو
صالِحًا َوال يُ ْش ِر ْك بِ ِعبَا َد ِة َربِّ ِه أَ َحدًا}
لِقَا َء َربِّ ِه فَ ْليَ ْع َملْ َع َماًل َ
[الكهف.]110/
أخافُ َعلَي ُكم (أخ َوفُ َما َ وقال النبي صلى هللا عليه وسلمْ :
الشرك األص َغر). ِ
قالوا" :يا رسولـ هللا ،وما الشرك األصغر؟"
قال( :ال ّريَاء) [رواه أحمد والطبراني والبغوي في شرح
السنة].
87
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ومنه :العم ُل ألجل الطمع الدنيوي؛ كمن يحج أو يؤذن أو يؤم
الناس ألجل المال ،أو يتعلم العلم الشرعي ،أو يجاهد ألجل المال.
س
س عب ُد الدينار ،وت َِع َ
قال النبي صلى هللا عليه وسلم( :ت َِع َ
ُ يصة ،ت َِعس عَب ُد َ
الخ ِميلة ،إن أعطي عبد ال ِدرهَم ،تَ ِعس عَبد َ
الخ ِم َ
سخط) [رواه البخاري]. ضيَ ،وإن لَم يُعطَ َ َر ِ
قال اإلمام ابنُ القيم رحمه هللا" :وأما الشرك في اإلرادات
والنيات ،فذلك البحر الذي ال ساحل له ،وق َّل من ينجو منه .فمن
أراد بعمله غير وجه هللا ،ونوىـ شيئًا غير التقرب إليه وطلب
الجزاء منه ،فقد أشرك في نيته وإرادته.
ُخلص هلل في أفعاله وأقواله ،وإرادته ونيته. َ واإلخالص :أن ي
وهذه هي الحنيفية ملة إبراهيم التي أمر هللا بها عباده كلهم ،وال
يُقب ُل من أحد غيرها ،وهي حقيقة اإلسالم.
اإل ْسالَ ِم ِدينًا فَلَن يُ ْقبَ َل ِم ْنهُ َوه َُو
كما قال تعالىَ { :و َمن يَ ْبت َِغ َغ ْي َر ِ
فِي اآل ِخ َر ِة ِمنَ ْالخَا ِس ِرينَ } [آل عمران.]85/
وهي ملَّةُ إبراهي َم -عليه السالم -التي من رغب عنها فهو من
أسفَ ِه السُّفهاء ".انتهى.
• الفرق بين الشرك األكبر واألصغر (ملخص):
يتل َّخصُ مما م ّر أن هناك فروقًا بين الشرك األكبر واألصغر،
وهي:
-1الشرك األكبر :يُخرج من ال ِملّة؛ والشرك األصغر ال
يُخرج من ال ِملّة ،لكنه ينقص التوحيد.
-2الشرك األكب ُر يخلَّ ُد صاحبه في النار؛ والشرك األصغر ال
يُخلَّد صاحبُه فيها إن َدخَلها.
88
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ك األصغ ُر ال ك األكب ُر يحبطُ جمي َع األعمال؛ والشر ُـ -3الشر ُ
يُحبِطُ جميع األعمال ،وإنما يُحبِطُ الريا ُء والعم ُل ألجل الدنيا
العمل الذي خالطاه فقط.
َ
-4الشرك األكبر يبيح الدم والمال؛ والشركـ األصغر ال
يبيحهما.
أ ـ تعريفـه
• لغة:
الكفر في اللغة :التغطية والستر.ـ
• شرعا::
فإن ال ُك َ
فر :عدم اإليمان باهلل والكفر شرعًا :ضد اإليمانَّ ،
ورسله ،سوا ًء كان معه تكذيب ،أو لم يكن معه تكذيب ،بل مجرد
ك وريب أو إعراض أو حسد ،أو كبر أو اتباع لبعض األهواء ش ّ
الصادة عن اتباع الرسالة .وإن كان ال ُمكذب أعظم كفرًا .وكذلك
الجاح ُد والمك ِّذب حسدًا؛ مع استيقان صدق الرسل .
ب ـ أنواعه
الكفر نوعان:
• النوع األول :كفر أكبر يخرج من ال ِملّة.
وهو خمسة أقسام:
89
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
القسم األولُ :كف ُر التَّكذيب.
وال َّدليلُ :قوله تعالىَ { :و َم ْن أَ ْ
ظلَ ُم ِم َّم ِن ا ْفت ََرى َعلَى هَّللا ِ َك ِذبًا أَوْ
ْس فِي َجهَنَّ َم َم ْث ًوى لِّ ْل َكافِ ِرينَ } [العنكبوت/ ق لَ َّما َجا َءهُ أَلَي َ
ب بِ ْال َح ِّ
َك َّذ َ
.]68
القسم الثاني :كفر اإلباء واالستكبارـ مع التصديق.ـ
ُوا آل َد َم فَ َس َجد ْ
ُوا {وإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َمالَئِ َك ِة ا ْس ُجد ْ
والدليل قوله تعالىَ :
يس أَبَى َوا ْستَ ْكبَ َـر َو َكانَ ِمنَ ْال َكافِ ِرينَ } [البقرة.]34/ إِالَّ إِ ْبلِ َ
القسم الثالث :كف ُر ال ّشكِّ ،وهو كفر الظّ ّن.
ظالِ ٌم لِّنَ ْف ِس ِه قَا َل َما أَظُ ُّن {و َدخَ َل َجنَّتَهُ َوه َُو َ والدليل قوله تعالىَ :
دت إِلَى َربِّي أَن تَبِي َد هَ ِذ ِه أَبَدًا * َو َما أَظُ ُّن السَّا َعةَ قَائِ َمةً َولَئِن رُّ ِد ُّ
او ُرهُ أَ َكفَرْ تَ
احبُهُ َوه َُو ي َُح ِ ص ِال لَهُ َ ألَ ِجد ََّن خَ ْيرًا ِّم ْنهَا ُمنقَلَبًا * قَ َ
طفَ ٍة ثُ َّم َسوَّاكَ َر ُجاًل * لَّ ِكنَّا ه َُو هَّللا ُ ب ثُ َّم ِمن نُّ ْ
ك ِمن تُ َرا ٍ بِالَّ ِذي َخلَقَ َ
ك بِ َربِّي أَ َحدًا} [الكهف.]38-35/ َربِّي َوالَ أُ ْش ِر ُ
اإلعراض.
ِ القسم الرابع :كف ُر
ُ
ْرضُونَ } {والَّ ِذينَ َكفَرُوا َع َّما أن ِذرُواـ ُمع ِ والدلي ُل قولُه تعالىَ :
[األحقاف.]3/
القسم الخامس :كف ُر النّ ِ
فاق.
والدلي ُل قوله تعالىَ { :ذلِكَ بِأَنَّهُ ْم آ َمنُوا ثُ َّم َكفَرُوا فَطُبِ َع َعلَى
قُلُوبِ ِه ْم فَهُ ْم ال يَ ْفقَهُونَ } [المنافقين.]3/
• النوع الثاني :كف ٌر أصغ ُر ال يُخر ُج من الملة .وهو الكف ُر
العملي ،وهو الذنوب التي وردت تسميتهاـ في الكتاب والسنة
ُكفرًا ،وهي ال تص ُل إلى ح ِّد الكفر األكبر.
90
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ب هَّللا ُ َمثَاًل
ض َر َ
{و َمثل كفر النعمة المذكورـ في قوله تعالىَ :
ط َمئِنَّةً يَأْتِيهَا ِر ْزقُهَاـ َر َغدًا ِّمن ُك ِّل َم َكا ٍن فَ َكفَ َرتْ
َت آ ِمنَةً ُّم ْ
قَرْ يَةً َكان ْ
بِأ َ ْنع ُِم هَّللا ِ} [النحل.]112/
ومث ُل قتال المسلم المذكورـ في قوله صلى هللا عليه وسلم:
سوقٌَ ،وقِتَالُه ُكفر) [رواه البخاري ومسلم]. س ِلم فُ ُ سبَاب ال ُم ْ ( ِ
َرجعوا بَع ِدي ُكفَّا ًرا وفي قوله صلى هللا عليه وسلم( :اَل ت ِ
قاب بَعض) [رواه الشيخان]. ض ُكمـ ِر َ ب بَع ُ يَض ِر ُ
ومثل الحلف بغير هللا .قال صلى هللا عليه وسلمَ ( :من َحلَف
شرك) [رواه الترمذيـ وحسنه وصححه بِ َغ ْير هللا فَقَد َكفَر أو أَ َ
الحاكم].
ب الكبيرة ُمؤمنًا .قال تعالى{ :يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ فقد جعل هللا ُمرت ِك َ
َ ْ ْ
صاصُ فِي القَتلى}. ب َعلَ ْي ُك ُم ْالقِ َ آ َمنُ ْ
وا ُكتِ َ
القاتل من الذين آمنوا ،وجعله أ ًخا لول ّي القصاص، َ فلم يُخرج
ُوف َوأَدَا ٌء إِلَ ْي ِه ع بِ ْال َم ْعر ِ فقال{ :فَ َم ْن ُعفِ َي لَهُ ِم ْن أَ ِخي ِه َش ْي ٌء فَاتِّبَا ٌ
ان} [البقرة.]178/ بِإِحْ َس ٍ
والمرادُ :أخوة الدين ،بال ريب.
وقال تعالىَ { :وإِن طَائِفَتَا ِن ِمنَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ا ْقتَتَلُوا فَأَصْ لِحُوا
بَ ْينَهُ َما} [الحجرات.]9/
ون إِ ْخ َوةٌ فَأَصْ لِحُواـ بَ ْينَ أَخ ََو ْي ُك ْم}ـإلى قوله{ :إِنَّ َما ْال ُم ْؤ ِمنُ َـ
[الحجرات.]10/
انتهى من شرح الطحاوية باختصار.
• وملخص الفروق بين الكفر األكبر والكفر األصغر:
91
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
أن الكفر األكبر يُخر ُج من ال ِملّة ،ويحبطـ األعمال؛ وال ُكفر
َّ -1
األصغرـ ال يخرج من ال ِملّة وال يحبط األعمال ،لكن ينقصُها
بحسبه ،ويع ِّرضُ صاحبَهاـ للوعيد.
األكبر يُخلد صاحبه في النار؛ والكفر األصغر إذا
َ الكفر
َ َّ -2
أن
دخل صاحبه النار ،فإنه ال يخلد فيها؛ وقدـ يتوب هللا على
صاحبه ،فال يدخله النار أصاًل .
األكبر يُبيح الدم والمال ،والكفر األصغر ال يُبي ُح
َ الكفر
َ َّ -3
أن
الدم والمال.
-4أن الكفر األكبر يُوجب العداوة الخالصة بين صاحبه وبين
المؤمنين.
فال يجوزـ للمؤمنين محبته ومواالته ولو كان أقرب قريب.
وأما الكفر األصغرـ فإنهُ ال يمنع المواالة مطلقًا ،بل صاحبه
ي َُحبُّ ويُوالىـ بقدر ما فيه من اإليمان ،ويغض ويُعادىـ بقدر ما
فيه من العصيان.
أ ـ تعريفـه
• لغة:
النفاق لغة :مصدر نافق .يُقال :نافقـ يُنافق نفاقًا ومنافقة .وهو
مأخوذ من النافقاء :أحد مخارج اليربوعـ من جحره؛ فإنه إذا طلب
من مخرج هرب إلى اآلخر ،وخرج منه.
92
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وقيل :هو من النفق وهو :ال ِّس ُر الذي يستتر فيه .
• شرعا:
وأما النفاق في الشرع فمعناه :إظها ُـر اإلسالم والخير ،وإبطانُ
الكفر والشر .سمي بذلك ألنه يدخل في الشرع من باب ،ويخرجـ
منه من باب آخر.
وعلى ذلك نبه هللا تعالى بقوله{ :إِ َّن ْال ُمنَافِقِينَ هُ ُم ْالفَا ِسقُونَ }
[التوبة.]67/
أي :الخارجون من الشرع.
وجعل هللا المنافقين ش ًّرا من الكافرين ،فقال{ :إِ َّن ْال ُمنَافِقِينَ فِي
ار} [النساء.]145/ ك األَ ْسفَ ِل ِمنَ النَّ ِ
ال َّدرْ ِ
وقال تعالى{ :إِ َّن ْال ُمنَافِقِينَ يُخَا ِد ُعونَ هَّللا َ َوه َُو خَا ِد ُعهُ ْم}
[النساء{ ،]142/يُخَا ِد ُعونَ هّللا َ َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َما يَ ْخ َد ُعونَ إِالَّ
ُون * فِي قُلُوبِ ِهم َّم َرضٌ فَزَا َدهُ ُـم هّللا ُ َم َرضًا َولَهُم أَنفُ َسهُم َو َما يَ ْش ُعر َـ
َع َذابٌ أَلِي ٌم بِ َما َكانُوا يَ ْك ِذبُونَ } [البقرة.]10 ،9/
ب ـ أنواع النفاق
النفاق نوعان:
• النوع األول :النفا ُ
ق االعتقادي.
وهو النفاق األكبر الذي يُظهر صاحبه اإلسالم ،ويُبطن الكفر.
وهذا النوع مخرج من الدين بالكلية ،وصاحبه في الدرك
وصفَ هللا أهله بصفات الش ّر كلها :من
األسفل من النار .وقدـ َ
الكفر وعدم اإليمان ،واالستهزاء بالدين وأهله ،والسخرية منهم،
93
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
والميل بالكلية إلى أعداء الدين؛ لمشاركتهم لهم في عداوة
اإلسالم.
وهؤالء َموجودون في كل زمان .وال سيما عندما تظهرـ قوة
اإلسالم وال يستطيعون مقاومته في الظاهر ،فإنهم يظهرون
الدخول فيه ألجل الكيد له وألهله في الباطن ،وألجل أن يعيشواـ
مع المسلمين ويأمنوا على دمائهم وأموالهم.ـ
فيظهر المنافقـ إيمانه باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم
اآلخر؛ وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به ،ال يؤمن
باهلل ،وال يؤمن بأن هللا تكلم بكالم أنزله على بشر جعله رسواًل
للناس يهديهم بإذنه ،وينذرهم بأسه ويخوّفهمـ عقابه.
وقد هتك هللا أستار هؤالء المنافقين ،وكشف أسرارهمـ في
القرآن الكريم .وجلى لعباده أمورهم ليكونواـ منها ومن أهلها على
حذر.
وذك َر طوائفـ العالم الثالثة في أول البقرة :المؤمنين ،والكفار،
والمنافقين .فذكر في المؤمنين أربع آيات ،وفي الكفار آيتين ،وفي
المنافقين ثالث عشرة آية .لكثرتهم وعموم االبتالء بهم ،وشدة
فتنتهم على اإلسالم وأهله .فإن بلية اإلسالم بهم شديدة ج ًّدا ألنهم
منسوبون إليه وإلى نصرته ومواالته ،وهم أعداؤه في الحقيقة.
يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصالح،
وهو غاية الجهل واإلفساد.
• أقسام النفاق االعتقادي:
وهذا النفاق ستة أنواع:
-1تكذيب الرسولـ صلى هللا عليه وسلم.
94
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
-2تكذيبُ بعض ما جا َء به الرسول صلى هللا عليه وسلم.
-3بُغضُ الرسول صلى هللا عليه وسلم.
-4بغضُ بعض ما جاء به الرسول صلى هللا عليه وسلم.
-5المسرَّة بانخفاض دين الرسول صلى هللا عليه وسلم.
-6الكراهية النتصارـ دين الرسول صلى هللا عليه وسلم.
• النوع الثاني :النفاق العملي.
وهو عمل شيء من أعمال المنافقين مع بقاء اإليمان في
القلب .وهذا ال يُخرج من الملة ،لكنه وسيلة إلى ذلك .وصاحبه
صار بسببه منافقًا خالصًا.
َ يكونُ فيه إيمان ونفاق .وإذا كثر،
والدليل عليه قوله صلى هللا عليه وسلم( :أرب ٌع َمنْ ُكنَّ فِيه كانَ
صا ،و َمن كانَت فِيه خصلَة ِمن ُهنّ كانَت فِيه خصلَة ِمن ُمنافقًا خال ً
النِفَاق حتّى ي َدعَها؛ إذا أؤتُ ِمن َخان ،وإ َذا َحدّث َكذبَ ،وإ َذا عَاهَد
صم فَ َجر) [متفق عليه]. غدَر ،وإ َذا َخا َ
فمن اجتمعت فيه هذه الخصال األربع ،فقد اجتمع فيه الشر،
وخلصت فيه نعوت المنافقين .و َمن كانت فيه واحدة منها صار
فيه خصلة من النفاق .فإنه قد يجتمع في العبد خصال خير
وخصال شر وخصال إيمان وخصال كفر ونفاق؛ ويستحق من
الثواب والعقاب بحسب ما قام به من موجبات ذلك.
ومنه :التكاسل عن الصالة مع الجماعة في المسجد فإنه من
صفات المنافقين .فالنفاق شر وخطير ج ًّدا .وكان الصحابة
يتخوفون من الوقوعـ فيه.
95
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
قال ابن أبي مليكة" :أدركت ثالثين من أصحاب رسول هللا
-صلى هللا عليه وسلمُ -كلُّهم يخاف النفاق على نفسه".
96
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وفي رواية" :ما يتعاظمـ أن يتكلم به".
سوسة). قال( :الحم ُد هلل الذي ر َّد َكيدَه إلى َ
الو َ
أي حصول هذا الوسواس ،مع هذه الكراهة العظيمة ،ودفعه
عن القلب ،هو من صريح اإليمان ".انتهى.
ي فَهُ ْم الَ ص ٌّم بُ ْك ٌم ُع ْم ٌ
وأما أهل النفاق األكبر ،فقال هللا فيهمُ { :
يَرْ ِجعُونَ } [البقرة.]18/
أي :إلى اإلسالم في الباطن.
َام َّم َّرةً أَوْ
وقال تعالى فيهم{ :أَ َوالَ يَ َروْ نَ أَنَّهُ ْم يُ ْفتَنُونَ فِي ُكلِّ ع ٍ
َم َّرتَي ِْن ثُ َّم الَ يَتُوبُونَ َوالَ هُ ْم يَ َّذ َّكرُونَ } [التوبة.]126/
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية" :وقدـ اختلف العلما ُء في قبولـ
توبتهم في الظاهر لكون ذلك ال يُعلم ،إذ هم دائ ًما يظهرون
اإلسالم".
1ـ الجاهليـة
• حقيقة الجاهلية:
هي الحال التي كانت عليها العرب قبل اإلسالم -من الجهل
باهلل ورسله ،وشرائع الدين ،والمفاخرة باألنساب ،والكبر
والتجبر ،وغير ذلك؛ نِسبةً إلى الجهل الذي هو عدم العلم ،أو عدم
اتباع العلم.
97
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
َّ
"فإن من لم يعلم الحق فهو جاهل قال شي ُخ اإلسالم ابن تيمية:
جهاًل بسيطًا .فإن اعتقد خالفه فهو جاهل جهاًل مركبًا .فإن قال
خالف الحق عال ًما بالحق ،أو غير عالم ،فهو جاهل أيضًا.
فإذا تبيّن ذلك فالناس قبل بعث الرسول -صلى هللا عليه وسلم-
كانوا في جاهلية منسوبة إلى الجهل .فإن ما كانوا عليه من
األقوال واألعمال ،إنما أحدثه لهم جاهل ،وإنما يفعله جاهل.
وكذلك كل ما يخالف ما جاء به المرسلون ،من يهودية
ونصرانية ،فهو جاهلية ،وتلك كانت الجاهلية العامة.
• الجاهلية بعد بعثة الرسول:
فأما بعد بعث الرسول -صلى هللا عليه وسلم -فقد تكون في
مصر دون مصر ،كما هي في دار الكفار .وقد تكونُ في شخص
دون شخص -كالرجل قبل أن يسل َم فإنه في جاهلية ،وإن كان في
دار اإلسالم.
فأما في زمان مطلق فال جاهلية بعد مبعث محمد -صلى هللا
عليه وسلم -فإنه ال تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى
قيام الساعة.
والجاهلية المقيدة قد توجد في بعض ديار المسلمين ،وفي كثير
من األشخاص المسلمين.
كما قال صلى هللا عليه وسلم( :أربَع في أ ّمتي ِمن أ ْمر
الجا ِهليّة[ )...رواه مسلم].
وقال ألبي ذر( :إنّك ام ُرؤ فِيكَ َجا ِهليّة) [في الصحيحين]
ونحو ذلك ".انتهى.
• وملخص ذلك:
98
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
أن الجاهلية :نسبة إلى الجهل ،وهو عدم العلم.
وأنها تنقسم إلى قسمين:
1ـ الجاهلية العامة :وهي ما كان قبل مبعث الرسول محمد
-صلى هللا عليه وسلم -وقد انتهت ببعثته.
2ـ جاهلية خاصة ببعض الدول ،وبعض البلدان ،وبعض
األشخاص .وهذه ال تزال باقية.
وبهذا يتضح خطأ من يُع ّممونَ الجاهلية في هذا الزمان،
فيقولون" :جاهلية هذا القرن أو جاهلية القرن العشرين "...وما
شابه ذلك.
ُقال" :جاهلية بعض أهل هذا القرن ،أو غالب والصواب أن ي َ
أهل هذا القرن".
وأما التعميم فال يصحُّ وال يجو ُز ألنه ببعثة النبي -صلى هللا
عليه وسلم -زالت الجاهلية العامة.
2ـ الفسـق
• لغة:
الفسق لغة :الخروج.
• شرعا:
والمراد به شرعًا :الخروج عن طاعة هللا .وهو يشمل الخروج
الكلي -فيقا ُل للكافر :فاسق -والخروج الجزئي -فيقال للمؤمن
المرتكب لكبيرة من كبار الذنوب :فاسق.
• أقسام الفسق:
99
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
فالفسق فسقان :فسق ينقل عن الملة ،وهو الكفر .فيس َّمىـ الكاف ُر
فاسقًا.
ق ع َْن أَ ْم ِر َربِّ ِه} [الكهف،]50/ إبليس فقال{ :فَفَ َس َ َ فقد ذكر هللا
وكان ذلك الفسق منه ُكفرًا.
{وأَ َّما الَّ ِذينَ فَ َسقُوا فَ َمأْ َواهُ ُـم النَّارُ} ،يريد وقال هللا تعالىَ :
ُ ْ ْ َ َ َّ ُ
الكفار .د َّل على ذلك قوله{ :كل َما أ َرادُوا أن يَخ ُرجُوا ِمنهَا أ ِعيدُوا
ار الَّ ِذي ُكنتُم بِ ِه تُ َك ِّذبُونَ } [السجدة/ اب النَّ ِ فِيهَا َوقِي َل لَهُ ْم ُذوقُوا َع َذ َ
.]20
ويُس َّمى مرتكب الكبيرة من المسلمين :فاسقًا ،ولم يُخرجهُ فسقُهُ
من اإلسالم.
ت ثُ َّم لَ ْم يَأْتُوا بِأَرْ بَ َع ِة {والَّ ِذينَ يَرْ ُمونَ ْال ُمحْ َ
صنَا ِ قال هللا تعالىَ :
ك هُ ُم َ ُ َ َ ُ ْ ْ
ُشهَدَا َء فَاجْ لِدُوهُ ْم ثَ َمانِينَ َجل َدةً َوال تَقبَلوا لهُ ْم َشهَا َدةً أبَدًا َوأوْ لئِ َ
ْالفَا ِسقُونَ } [النور.]4/
ق َوالَ ث َوالَ فُسُو َـ ض فِي ِه َّن ْال َح َّج فَالَ َرفَ َ وقال تعالى{ :فَ َمن فَ َر َ
ِجدَا َل فِي ْال َحجِّ} [البقرة.]196/
وقال العلماء في تفسير الفسوق هنا :هو المعاصي .
3ـ الضـالل
• تعريف الضالل:
الضالل :العدول عن الطريقـ المستقيم ،وهو ضد الهداية.
قال تعالىَ { :م ِن ا ْهتَدَى فَإِنَّ َما يَ ْهتَ ِدي لِنَ ْف ِس ِه َو َمن َ
ض َّل فَإِنَّ َما
ضلُّ َعلَ ْيهَا} [اإلسراء.]15/ يَ ِ
100
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
• إطالقات كلمة الضالل:
والضال ُل يطلق على عدة معان:
ق على الكفر. -1فتارةً يُطل ُ
قال تعالىَ { :و َمن يَ ْكفُرْ بِاهَّلل ِ َو َمالَئِ َكتِ ِه َو ُكتُبِ ِه َو ُر ُسلِ ِه َو ْاليَوْ ِم
ضالَاًل بَ ِعيدًا} [النساء.]136/ ض َّل َاآل ِخ ِر فَقَ ْد َ
ق على الشرك. -2وتارة يُطل ُ
ضالَاًل بَ ِعيدًا} [النساء/ ض َّل َ قال تعالىَ { :و َمن يُ ْش ِر ْك بِاهَّلل ِ فَقَ ْد َ
.]116
-3وتارة يُطل ُ
ق على المخالفة التي هي دون الكفر.
كما يقال :الفرق الضالة :أي المخالفة.
-4وتارة يُطلق على الخطأ.
ومنه قو ُل موسى عليه السالم{ :فَ َع ْلتُهَاـ إِ ًذا َوأَنَا ِمنَ الضَّالِّينَ }
[الشعراء.]20/
ق على النسيان. -5وتارةً يُطل ُ
َض َّل ْإحْ دَاهُ َما فَتُ َذ ِّك َـر إِحْ دَاهُ َما األُ ْخ َرى}
ومنه قوله تعالى{ :أَن ت ِ
[البقرة.]282/
-6ويُطل ُـ
ق الضال ُل على الضياع والغيبة ،ومنه :ضالة اإلبل .
101
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
{والَ تَرْ تَ ُّدواـ َعلَى أَ ْدبَ ِ
ار ُك ْم} الردة لغة :الرجوع .قال تعالىَ :
[المائدة.]21/
أي :ال ترجعوا.ـ
• شرعا:
والردة في االصطالح الشرعي هي :الكف ُر بعد اإلسالم.
قال تعالىَ { :و َمن يَرْ تَ ِد ْد ِمن ُك ْم عَن ِدينِ ِه فَيَ ُم ْ
ت َوهُ َو َكافِ ٌر
ُ فَأُوْ لَـئِكَ َحبِطَ ْ
اآلخ َر ِة َوأوْ لَـئِكَ أَصْ َحابُ النَّ ِ
ار ت أَ ْع َمالُهُ ْم فِي ال ُّد ْنيَا َو ِ
هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ } [البقرة.]217/
• أقسام الردة:
نواقض اإلسالم.
ِ ناقض من
ٍ أقسامها :الردة تحصل بارتكاب
ونواقضُ اإلسالم كثيرة ترجع إلى أربعة أقسام ،هي:
-1الردة بالقول:
كسبِّ هللا تعالى ،أو رسوله صلى هللا عليه وسلم ،أو مالئكته،
أو أحد من رسله .أو ا ّدعاء علم الغيب ،أو ا ّدعاء النبوة ،أو
تصديق من يدعيها .أو دعاء غير هللا ،أو االستعانة به فيما ال
يقدر عليه إال هللا ،واالستعاذة به في ذلك.
-2الردة بالفعل:
كالسجود للصنم والشجر ،والحجرـ والقبور ،والذبح لها .وإلقاء
المصحف في المواطن القذرة ،وعمل السحر ،وتعلمه وتعليمه،
والحكم بغير ما أنزل هللا معتقدًا حله.
-3الردة باالعتقاد:
102
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
كاعتقاد الشريك هلل ،أو أن الزنا والخمر والربا حالل ،أو أن
الخبز حرام ،وأن الصالة غير واجبة ،ونحوـ ذلك مما أُجمع على
حله ،أو حرمته أو وجوبه ،إجماعًا قطعيًّا ،ومثله ال يجهله.
-4الردة بالشك في شيء مما سبق:
ك في تحريم الشرك ،أو تحريمـ الزنا والخمر ،أو في كمن ش َّ
حل الخبز ،أو شك في رسالة النبي -صلى هللا عليه وسلم -أو
رسالة غيره من األنبياء ،أو في صدقه ،أو في دين اإلسالم ،أو
في صالحيته لهذا الزمان.
-5الردة بالترك:
كمن ترك الصالة متعمدًا؛ لقول النبي صلى هللا عليه وسلم:
صاَل ة) [رواه مسلم].
(بَينَ ال َعبد َوبَين ال ُكفر والشّرك تَر ُك ال ّ
وغيره من األدلة على كفر تارك الصالة.
• أحكام الردة:
وأحكامها التي تترتّب عليها بعد ثبوتهاـ هي:
-1استتابة ال ُمرت ّد ،فإن تاب ورج َع إلى اإلسالم في خالل ثالثة
أيام؛ قبل منه ذلك وترك.
يتوب ،وجب قتله.
َ -2إذا أبى أن
لقوله صلى هللا عليه وسلمَ ( :من ب َّد َل ِدينَه فَاقتُلُوه) [رواه
البخاري وأبو داود].
-3يُمنع من التصرّف في ماله في مدة استتابته .فإن أسلم فهو
له ،وإال صار فيئًا لبيت المال ،من حيث قتله ،أو موته على الردة.
وقيل :من حين ارتداده يصرفـ في مصالح المسلمين.
103
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
-4انقطاع التوارث بينه وبين أقاربه .فال يرثهم وال يرثونه.
-5إذا ماتَ أو قُت َل على ر ّدته فإنه ال يُغ َّس ُل وال يُصلَّى عليه
وال يُدفنُ في مقابر المسلمين؛ وإنما يُدفَنُ في مقابر الكفّار ،أو
يُوارى في التراب في أي مكان غير مقابر المسلمين.
104
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
105
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
106
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
.1المراد بالغيب
ما غاب عن الناس من األمور المستقبلة وال َماضية وما ال
يرونه ،وقد اختص هللا تعالى بعلمه.
ض ْال َغي َ
ْب إِال ت َواألَرْ ِ وقال تعالى{ :قُل ال يَ ْعلَ ُم َمن فِي ال َّس َم َ
اوا ِ
هَّللا ُ} [النمل.]65/
107
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
فمن ا ّدعى علم الغيب بأي وسيلة من الوسائل غير من استثناه
هللا من رسله ،فهوـ كاذب كافر -سواء ا ّدعى ذلك بواسطة قراءة
الكف أو الفنجان ،أو الكهانة أو السحر أو التنجيم ،أو غير ذلك.
وهذا الذي يحصل من بعض المشعوذين والدجّالين -من
اإلخبار عن مكان األشياء المفقودة واألشياء الغائبة ،وعن أسباب
بعض األمراض .فيقولون" :فالن َع ِم َل لكَ كذا وكذا فمرضتَ
بسببه".
وإنما هذا الستخدام الجن والشياطين ،ويظهرون للناس أن هذا
يحصل لهم -عن طريق عمل هذه األشياء من باب الخداع
والتلبيس.
قال شي ُخ اإلسالم ابن تيمية" :والكهان كان يكون ألحدهم
القرين من الشياطين ،يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من
ق بالكذب "....إلى أن قال" :ومنالسمع ،وكانوا يَخلطون الصِّد َ
هؤالء من يأتيه الشيطان بأطعمة فواكه وحلوى ،وغير ذلك م ّما
ال يكون في ذلك ال َموضع .ومنهم من يطير به الجني إلى مكة أو
بيت المقدس أو غيرهما ".انتهى.
وقد يكون إخبارهمـ عن ذلك عن طريقـ التنجيم .وهو
االستدالل باألحوال الفلكية على الحوادث األرضية؛ كأوقات
هُبوب الرياح ومجيء المطر ،وتغيرـ األسعار ،وغير ذلك من
األمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بسير الكواكب في
مجاريها ،واجتماعها وافتراقها.
ويقولون" :من تزوج بنجم كذا وكذا ،حصل له كذا وكذا...
ومن سافر بنجم كذا حصل له كذا ...ومن ُولد بنجم كذا وكذا
حصل له كذا- "....من السعود أو النحوس .كما يعلن في بعض
108
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
المجالت الساقطة من الخزعبالت حول البروج؛ وما يجري فيها
من الحظوظ.
وقد يذهب بعضُ الجهال وضعافـ اإليمان إلى هؤالء
المنجمين ،فيسألهمـ عن مستقبل حياته ،وما يجري عليه فيه ،وعن
زواجه وغير ذلك.
صدّقه
.3حكم من ادَّعى علم الغيب أو َ
ك كافر؛ ومن ا َّدعى علم الغيب أو ص َّدق من ي َّدعيه ،فهو مشر ٌ
ألنه ي َّدعي مشاركة هللا فيما هو من خصائصه .والنجومـ مس َّخرة
مخلوقة ،ليس لها من األمر شيء ،وال تدل على نحوس ،وال
سعود ،وال موت ،وال حياة .وإنما هذا كلّه من أعمال الشياطين
الذين يسترقون السمع.
109
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ومنه ما يؤثرـ في القلوب واألبدان فيُمرض ويقتُل ويفرق بين
المرء وزوجه ،وتأثيره بإذن هللا الكوني القَدَريّ ،وهو عمل
شيطاني .وكثيرـ منه ال يتوصل إليه إال بالشرك والتقرب إلى
األرواح الخبيثة بما تحب ،والتوصلـ إلى استخدامهاـ باإلشراك
بها.
ولهذا قرنهُ الشارع بالشرك ،حيث يقول النبي صلى هللا عليه
وسلم( :اجتَنِبُوا ال ّ
سب َع ال ُموبِقات).
قالوا" :وما هي؟"
س ْحر[ )...رواه البخاريـ ومسلم]
قال( :اإلشْرا ُك بِاهلل َوال ّ
الحديث.
• سبب دخول السحر في الشرك:
فهو داخل في الشرك من ناحيتين:
الناحية األولى :ما فيه من استخدام الشياطين ،والتعلق بهم
والتقرب إليهم بما يحبونه؛ ليقوموا بخدمة الساحر .فالسِّح ُـر من
تعليم الشياطين.
قال تعالىَ { :ولَـ ِك َّن ال َّشيْا ِطينَ َكفَر ْ
ُوا يُ َعلِّ ُمونَ النَّ َ
اس السِّحْ َر}
[البقرة.]102/
الثانية :ما فيه من دعوى علم الغيب ،ودعوى مشاركة هللا في
{ولَقَ ْد َعلِ ُم ْ
وا لَ َم ِن ا ْشت ََراهُ َما ذلك ،وهذا كفر وضالل ،قال تعالىَ :
ق} [البقرة ،]102/أي :نصيبٌ . لَهُ فِي ِ
اآلخ َر ِة ِم ْن َخالَ ٍ
ك أنه كفر وشرك؛ يناقض العقيدة، وإذا كان كذلك فال ش َّ
ويجبُ قتل متعاطيه .كما قتله جماعة من أكابر الصحابة رضي
هللا عنهم.
110
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وقد تساهل الناس في شأن الساحر والسِّحر .ورُبماـ عدوا ذلك
فنًّا من الفنون التي يفتخرون بها ،ويمنحون أصحابها الجوائزـ
والتشجيع ،ويُقيمون النوادي والحفالت والمسابقات للسحرة،
ويحضرهاـ آالف المتفرجين والمشجعين ،أو يسمونه بالسرك.
وهذا من الجهل بالدين والتهاون بشأن العقيدة ،وتمكين للعابثين.
111
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وعن أبي هريرة -رضي هللا عنه -عن النبي -صلى هللا عليه
فص ّدقه بِما يَقُول ،فقَد كفَر بِما ِ
أنزل وسلم -قالَ ( :من أتَى كا ِهنًا َ
على ُم َح ّمد صلى هللا عليه وسلم) [رواه أبو داود].
• تنبيه:
وم ّما يجب التنبيه عليه والتنبّه له :أن السحرة والكهان
والعرافين ،يعبثون بعقائد الناس بحيث يظهرون بمظهر األطباء،
فيأمرون المرضىـ بالذبح لغير هللا -بأن يذبحواـ خروفًا صفته كذا
وكذا ،أو دجاجة -أو يكتبون لهم الطالسمـ الشركية ،والتعاويذـ
الشيطانية بصفة حروز يعلقونها في رقابهم ،أو يضعونهاـ في
صناديقهم ،أو في بيوتهم.
والبعض اآلخر يظهر بمظهرـ المخبر عن المغيبات ،وأماكن
األشياء المفقودة -بحيث يأتيه الجهال فيسألونه عن األشياء
الضائعة ،فيخبرهمـ بها أو يحضرها لهم ،بواسطة عمالئه من
الشياطين.
وبعضهمـ يظهر بمظهر الول ّي الذي له خوارقـ وكرامات أو
بمظهر الفنان ،كدخول النار وال تؤثر فيه ،وضرب نفسه
بالسالح ،أو وضع نفسه تحت عجالت السيارة وال تؤثرـ فيه ،أو
غير ذلك من الشعوذات التي هي في حقيقتها سحر من عمل
الشيطان ،يجري على أيدي هؤالء للفتنة .أو هي أمور تخيلية ال
حقيقة لها؛ بل هي حيل خفية يتعاطونها أمام األنظار .كعمل
سحرة فرعون بالحبال والعصي.
قال شيخ اإلسالم في مناظرته للسحرة البطائحية األحمدية
الرفاعية؛ قال( :يعني شيخ البطائحية) ورفعـ صوته" :نحن لنا
112
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
أحوال كذا وكذا "...وا َّدعى األحوال الخارقة كالنار وغيرها
واختصاصهم بها ،وأنهمـ يستحقون تسليم الحال إليهم ألجلها.
ورفعت صوتي وغضبت" :أنا ُ ُ
"فقلت قال شيخ اإلسالم:
أُخاطب كل أحمدي من مشرق األرض إلى مغربها :أي شيء
فعلوه في النار ،فأنا أصنع مثل ما تصنعون ،ومن احترق فهو
مغلوب( .وربما قلت :فعليه لعنة هللا) ولكن بعد أن نغسل جسومناـ
بالخل والماء الحار".
فسألني األمراء والناس عن ذلك .فقلت" :ألن لهم حياًل في
االتصال بالنار ،يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع ،وقشر
النارنج ،وحجر الطلق".
فضج الناس بذلك .فأخذ يظهرـ القدرة على ذلك.
فقال" :أنا وأنت نُلَ ُّ
ف في بارية بعد أن تُطلى جسو ُمنا
بالكبريت".
فقلت" :فقُم!"
وأخذت أكرر عليه في القيام إلى ذلك .فم َّد يده يظهر خلع
القميص.
لت" :ال ،حتى تغتسل بالماء الحار والخل". فق ُ ُ
فأظهر الوهم على عادتهم .فقال" :من كان يحبُّ األمير
فليحضرـ خشبًا (أو قال :حزمة حطب)".
ق للجمع وال يَحص ُل به مقصود؛ بل ُ
فقلت" :هذا تطوي ٌل وتفري ٌـ
قندير يوقدـ وأُدخل أصبعي وأصبعك فيه بعد الغسل .ومن احترقت
أصبعه فعليه لعنة هللا (أو قلت :فهو مغلوب)".
113
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
فل َّما ُ
قلت ذلك تغيّر وذلّ ".انتهى .
وال َمقصود منه بيان أن هؤالء الدجالين يكذبون على الناس
بمثل هذه الحيل الخفية ،كجرهمـ السيارة بشعرة وإلقائه نفسه تحت
عجالتها وإدخال أصياخ الحديد في عينه ،إلى غير ذلك من
الشعوذات الشيطانية.
114
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
هللا عليه وسلم؟ أن ال تَدَع تمثَااًل إاّل ط َمستَهَ ،وال قب ًرا ُمشرفًا إاّل
س َّويتَه) [رواه مسلم].
3ـ ونهى عن تجصيصهاـ والبناء عليها.
عن جابر -رضيـ هللا عنه -قال( :نهى رسول هللا -صلى هللا
عليه وسلم -عن تجصيص القبر ،وأن يقعد عليه ،وأن يبنى عليه
بناء) [رواه مسلم].
َّ
وحذر -صلى هللا عليه وسلم -من الصالة عند القبور. 4ـ
عن عائشة -رضيـ هللا عنها -قالت" :ل ّما نُ ِز َل برسول هللا
-صلى هللا عليه وسلم -طفق يطرح خميصة له على وجهه ،فإذا
اغتم بها كشفها ،فقال وهو كذلك( :لَعنَةُ هللا عَلى اليَ ُهود
ساجد) يحذ ُر ما صنعوا ،ولو صارى؛ ات َّخ ُذواـ قُبُ َ
ور أنبِيَائِهم َم َ والنَ َ
َ َّ
ال ذلك أبرز قبره ،غير أنه خشي أن يُتخذ مسجدًا[ ".متفق عليه].
وقال صلى هللا عليه وسلم( :أال وإنَّ َمن كان قَبلَكم كانُوا
ساجد؛ ساجد ،أاَل فَاَل تت ِّخذوا القُبُو َر َم َ يتّ ِخ ُذون قُبُور أنبِيائِهم َم َ
فَإنّي أن َها ُكم عَن ذلِك) [رواه مسلم في صحيحه].
واتخا ُذها مساجد معناهُ :الصالة عندها وإن لم يبن مسجد
عليها؛ فكلُّ موضع قصدـ للصالة فيه فقد اتُّخ َذ مسجدًا ،كما قال
سجدًا وطَ ُهو ًرا) [رواه األرض َم ِ
ُ (ج ِعلَت لِيصلى هللا عليه وسلمُ :
البخاري] فإذا بني عليها مسجد فاألمرـ أشد.
وقد خالف أكثر الناس هذه النواهي ،وارتكبوا ما حذر منه
النبي صلى هللا عليه وسلم .فوقعواـ بسبب ذلك في الشرك األكبر.
فبنوا على القبور مساجد وأضرحة ومقامات .وجعلوها مزارات
115
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
تمارس عندها كل أنواع الشرك األكبر -من الذبح لها ،ودعاء
أصحابها ،واالستغاثة بهم ،وصرف النذور لهم ...وغير ذلك.
قال العالمة ابن القيم رحمه هللا" :ومن جمع بين سنة رسول
هللا -صلى هللا عليه وسلم -في القبور ،وما أمر به ونهى عنه ،وما
كان عليه أصحابه ،وبين ما عليه أكثر الناس اليوم ،رأى أحدُهما
مضادًا لآلخر مناقضًا له؛ بحيث ال يجتمعان أبدًا.
فنهى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن الصالة إلى القبور،
وهؤالء يصلون عندها .ونهى عن اتخاذها مساجد ،وهؤالء يبنون
عليها المساجد ،ويسمونهاـ مشاهد؛ مضاهاة لبيوت هللا .ونهى عن
إيقاد ال ُّسرُج عليها ،وهؤالء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل
عليها .ونهى عن أن تُتَّخ َذ عيدًا ،وهؤالء يتخذونهاـ أعيادًا
ومناسك ،ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر.
وأمر بتسويتها ،كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج
األسدي ،قال :قال لي علي بنُ أبي طالب رضي هللا عنه" :أال
ك على ما بعثني عليه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم؟ أن أبعثُ َ
التدع صورة إال طمستها ،وال قبرًا مشرفًا إال س َّويته".
وفي صحيحه أيضًا عن ثُما َمة بن ُشف ّي قال" :كنا مع فضالة
بن عبيد بأرض الروم برودسـ فتوفيـ صاحب لنا .فأمر فضالة
بقبره فسوي ،ثم قال :سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يأمر
بتسويتها".ـ
وهؤالء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين ،ويرفعونهاـ عن
األرض كالبيت ،ويعقدون عليها القباب.
إلى أن قال" :فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه
رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -وقصده من النهي عما تقدم
116
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ريب أن
َ ذكره في القبور ،وبين ما شرعه هؤالء وقصدوه؟! وال
في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره".
ثم أخذ يذكر تلك المفاسد ...إلى أن قال" :ومنها :أن الذي
شرعه النبي -صلى هللا عليه وسلم -عند زيارة القبور إنما هو
تذكر اآلخرة ،واإلحسان إلى المزور بالدعاء له ،والترحّم عليه
واالستغفار ،وسؤال العافية له .فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه
وإلى ال َميّت.
فقلب هؤالء المشركون األمر ،وعكسوا الدين .وجعلوا
المقصود بالزيارة :الشرك بالميت ،ودعاءه والدعاء به ،وسؤالـ
حوائجهم ،واستنزال البركات منه ،ونصره لهُم على األعداء
ونحو ذلك .فصارواـ مسيئين إلى أنفسهم ،وإلى الميت ،ولو لم يكن
إال بحرمانه بركة ما شرعه تعالى من الدعاء له والترحمـ عليه
واالستغفار له ".انتهى.
وبهذا يتّضح أن تقديم النذور والقرابين للمزارات شرك أكبر،
سببه مخالفة هَ ْدي النبي -صلى هللا عليه وسلم -في الحالة التي
يجب أن تكون عليها القبور -من عدم البناء عليها وإقامة المساجد
عليها -ألنها لما بنيت عليها القباب وأقيمت حولها المساجد
والمزارات ،ظن الجهال أن المدفونين فيها ينفعون أو يضرون،
وأنهم يُغيثون من استغاث بهم ،ويقضون حوائج من التجأ إليهم.
فقدموا لهم النذورـ والقرابين .حتى صارت أوثانًا تُعب ُد من دون
هللا.
وقد قال النبي صلى هللا عليه وسلم( :اللهم اَل تَج َعل قَب ِري َوثنًا
يُعبَد) [رواه مالك وأحمد].
117
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وما دعا بهذا الدعاء إال ألنه سيحصل شيء من ذلك .وقد
حصل عند القبور في كثير من بالد اإلسالم .أما قبره فقد حماه هللا
ببركة دعائه صلى هللا عليه وسلم -وإن كان قد يحصل في مسجده
شيء من المخالفات من بعض الجهال أو الخرافيين .لكنهم ال
يقدرون على الوصولـ إلى قبره ألن قبره في بيته وليس في
المسجد ،وهو محوطـ بالجدران.
كما قال العالمة ابن القيم رحمه هللا في نونيته:
فأجاب ربُّ العالمين دعاءه ** وأحاطه بثالثة الجدران
118
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
رسم الصورة على لوحة أو ورقة ،أو جدار أو ثوب ،أو عن
طريق االلتقاط بااللة الضوئية المعروفة في هذا الزمان ،أو عن
طريق النحت ،وبناء الصورة على هيئة التمثال.
ونهى -صلى هللا عليه وسلم -عن تعليق الصورـ على الجدران
ونحوها ،وعن نصب التماثيل -ومنها :النصب التذكارية ألن ذلك
وسيلة إلى الشرك .فإن أول شرك حدث في األرض كان بسبب
التصويرـ ونصب الصور.
وذلك أنه كان في قوم نوح رجال صالحون ،فلما ماتوا حزن
عليهم قومهم ،فأوحى إليهم الشيطان :أن انصبوا إلى مجالسهم
التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا ،وسموها بأسمائهم ،ففعلوا ولم
تُعبد؛ حتى إذا هلك أولئك ونُسي العل ُم؛ عُبدت [رواه البخاري].
بعث هللا نبيه نُوحًا -عليه السالم -ينهى عن هذا الشرك ول ّما َ
الذي حصل بسبب تلك الصور التي نصبت ،امتنع قومه من قبول
دعوته ،وأصروا على عبادة تلك الصورـ المنصوبة التي تحوّلت
إلى أوثانَ { :وقَالُوا ال تَ َذر َُّن آلِهَتَ ُك ْم َوال تَ َذر َُّن َو ًّدا َوال س َُواعًا َوال
ق َونَ ْسرًا}ـ [نوح.]23/ يَ ُغ َ
وث َويَعُو َ
وهذا أسماء الرجال الذين صورت لهم تلك الصور على
أشكالهم إحياء لذكرياتهم ،وتعظي ًما لهم.
فانظر ما آل إليه األمر بسبب هذه األنصاب التذكارية من
الشرك باهلل ،ومعاندة رسله؟! م ّما سبب إهالكهم بالطوفان،
ومقتهم عند هللا وعند خلقه ،مما يدلك على خطورة التصوير
ونصب الصور.
ولِ ِهذا لعن النبي -صلى هللا عليه وسلم -المصوّرين .وأخبر
أنهم أش ُّد الناس عذابًا يوم القيامة .وأمر بطمس الصور.ـ وأخبر أن
119
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
المالئكة ال تدخل بيتًا فيه صورة .كل ذلك من أجل مفاسدها،
وشدة مخاطرهاـ على األمة في عقيدتها.
فإن أول شرك حدث في األرض كان بسبب نصب الصُّ ور، َّ
وسواء كان هذا النصب للصور والتماثيل في المجالس ،أو
الميادين أو الحدائق .فإنه محرم شرعًا ألنه وسيلة إلى الشرك،
وفسادـ العقيدة.
وإذا كان الكفار اليو َم يعملون هذا العمل ألنهم ليس لهُم عقيدة
يحافظون عليها .فإنه ال يجوز للمسلمين أن يتشبّهواـ بهم
ويشاركوهم في هذا العمل؛ حفاظًا على عقيدتهم التي هي مصدرـ
قوتهم وسعادتهم.
وال يقال :إن الناس تجاوزوا هذه المرحلة وعرفواـ التوحيد
والشرك؛ ألن الشيطان ينظر للجيل المستقبل حينما يظهر فيهم
الجهل .كما عمل مع قومـ نوح ل ّما مات علماؤهم وفشاـ فيهم
الجهل؛ وألن الحي ال تؤمن عليه الفتنة .كما قال إبراهيم عليه
ي أَن نَّ ْعبُ َد األَصْ نَا َم}ـ .فخاف على نفسه
{واجْ نُ ْبنِيـ َوبَنِ َّ
السالمَ :
الفتنة.
قال بعض السلف" :ومن يأمن البالء بعد إبراهيم؟!"
120
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
هذه اآلية تدل على أن االستهزاء باهلل كفر؛ وأن االستهزاء
بالرسول كفر؛ وأن االستهزاء بآيات هللا كفر .فمن استهزأـ بواحد
من هذه األمورـ فهو مستهزئ بجميعها .والذيـ حصل من هؤالء
المنافقين :أنهم استهزءوا بالرسولـ وصحابته ،فنزلت اآلية.
يستخ ُّفون بتوحيدـ هللا ِ فاالستهزاء بهذه األمور متالزم .فالذين
تعالى ،ويعظمون دعا َء غيره من األموات؛ وإذا أمروا بالتوحيدـ
ونُهوا عن الشرك استخفُّوا بذلك.
َك إِال هُ ُز ًوا أَهَ َذا الَّ ِذي
كما قال تعالىَ { :وإِ َذا َرأَوْ كَ إِن يَتَّ ِخ ُذون َـ
ُضلُّنَا ع َْن آلِهَتِنَا لَوْ ال أَن َ
صبَرْ نَا َعلَ ْيهَا} ث هَّللا ُ َر ُسواًل * إِن َكا َد لَي ِ
بَ َع َ
[الفرقان.]42 ،41/
فاستهزءواـ بالرسول -صلى هللا عليه وسلم -ل ّما نهاهم عن
الشرك .وما زال المشركون يعيبون األنبياء ويصفونهم بالسفاهة
والضالل والجنون ،إذا دعوهم إلى التوحيد؛ ل َما في أنفسهم من
تعظيم الشرك.
وهكذا تجد من فيه شبه منهم؛ إذا رأى من يدعو إلى التوحيدـ
استهزأ بذلك .ل َما عنده من الشرك.
ُون هَّللا ِ أَندَادًا
اس َمن يَتَّ ِخ ُذ ِمن د ِ
{و ِمنَ النَّ ِ
قال هللا تعالىَ :
ي ُِحبُّونَهُ ْم َكحُبِّ هَّللا ِ} [البقرة.]165/
فمن أحبَّ مخلوقًاـ مثل ما يُحبّ هللا فهو مشرك .ويجبُ الفرق
القبور
َ بين الحب في هللا ،والحب مع هللا .فهؤالء الذين اتخذوا
أوثانًا ،تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد هللا وعبادته.
ويعظمون ما اتخذوه من دون هللا شفعاء.
121
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ويَحلِفُ أحدُهم باهلل اليمين الغموس كاذبًا ،وال يجترئ أن
يحلف بشيخه كاذبًا .وكثير من طوائف متعددة ترى أحدهم يرى
أن استغاثته بالشيخ -إما عند قبره أو غير قبره -أنفع له من أن
يدعو هللا في المسجد عند الس ََّحر!
ويستهزئـ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد ،وكثيرـ منهم
يخربون المساجد ،ويعمرون المشاهد ،فهل هذا إال من استخفافهمـ
باهلل وبآياته ورسوله ،وتعظيمهم للشرك ؟ وهذا كثير وقوعه في
القبوريين اليوم.
• أنواع االستهزاء:
واالستهزاء على نوعين:
أحدهما :االستهزاء الصريح .كالذي نزلت اآلية فيه .وهو
قولهم" :ما رأينا مثل قرائنا هؤالء ،أرغب بطونًا ،وال أكذب
أل ُسنًا ،وال أجبن عند اللقاء "...أو نحو ذلك من أقوال المستهزئين.
دين خامس "...وقول اآلخر" :دينكمكقول بعضهم" :دينكمـ هذا ٌ
أخرق "...وقول اآلخر إذا رأى اآلمرين بالمعروفـ والناهين عن
المنكر" :جاءكم أهل الدِّين "...من باب السُّخرية بهم .وما أشبه
ذلك مما ال يُحصى إال بكلفة -مما هو أعظم من قول الذين نزلت
فيهم اآلية.
النوع الثاني :غير الصريح .وهو البحر الذي ال ساحل له؛
مثل :الرمز بالعين ،وإخراج اللسان ،وم ّد الشفعة ،والغمز باليد
عند تالوة كتاب هللا ،أو سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،أو
عند األمر بالمعروف ،والنهي عن المنكر .
"إن اإلسالم ال يَصلُ ُح للقرن
ومثل هذا ما يقوله بعضهمَّ :
تأخ ٌر ورجعيةٌ ،وأن
العشرين؛ وإنما يصلح للقُرون الوسطى ،وأنه ُّ
122
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
فيه قسوة ووحشية؛ في عقوبات الحدودـ والتعازير ،وأنه ظَلَم
المرأة حقوقها حيث أباح الطالق ،وتعدد الزوجات".ـ
وقولهم" :الحك ُم بالقوانين الوضعية أحسنُ للناس من الحكم
باإلسالم".
ويقولون في الذي يدعو إلى التوحيد ،ويُنكر عبادة القبور
واألضرحة" :هذا متطرف،ـ أو يُريد أن يفرق جماعة
المسلمين "...أو" :هذا وهَّابي ،أو مذهب خامس "...وما أشبه هذه
األقوال التي كلها سب للدين وأهله ،واستهزاء بالعقيدة الصحيحة،
وال حول وال قوة إال باهلل.
ومن ذلك :استهزاؤهم بمن تم َّسكَ بسنة من سنن الرسول
-صلى هللا عليه وسلم -فيقولون" :الدين ليس في ال َّش ِ
عر"...
استهزا ًء بإعفاء اللحية ،وما أشبه هذه األلفاظ الوقحة.
123
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ُوا هَّللا َ َوأَ ِطيع ْ
ُواـ وا أَ ِطيع ْ وقال في حق الرعية{ :يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
ال َّرسُو َل َوأُوْ لِي األَ ْم ِر ِمن ُك ْم فَإِن تَنَازَ ْعتُ ْم فِي َش ْي ٍء فَ ُر ُّدوهُ إِلَى هَّللا ِ
اآلخ ِر َذلِكَ َخ ْي ٌر َوأَحْ َسنُ
َوال َّرسُو ِل إِن ُكنتُ ْم تُ ْؤ ِمنُونَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَوْ ِم ِ
تَأْ ِوياًل } [النساء.]59/
ثم بيّن أنه ال يجتمع اإليمان مع التحاكم إلى غير ما أنزل هللا.
نز َل إِلَ ْيكَ ُ فقال تعالى{ :أَلَ ْم ت ََر إِلَى الَّ ِذينَ يَ ْز ُع ُمونَ أَنَّهُ ْم آ َمنُ ْ
وا بِ َما أ ِ
ُوا ُ
ت َوقَ ْد أ ِمر ْ وا إِلَى الطَّا ُغو ِ نز َل ِمن قَ ْبلِكَ ي ُِري ُدونَ أَن يَت ََحا َك ُم ْـ ُ
َو َما أ ِ
ضالَاًل بَ ِعيدًا} [النساء/ ُضلَّهُ ْم َ ُوا بِ ِه َوي ُِري ُـد ال َّش ْيطَانُ أَن ي ِ أَن يَ ْكفُر ْ
.]60
وك فِي َماون َحتَّ َى ي َُح ِّك ُم َـ ك الَ ي ُْؤ ِمنُ َـ إلى قوله تعالى{ :فَالَ َو َربِّ َ
ضيْتَ َويُ َسلِّ ُمواْ ُوا فِي أَنفُ ِس ِه ْم َح َرجًا ِّم َّما قَ َ َش َج َر بَ ْينَهُ ْم ثُ َّم الَ يَ ِجد ْ
تَ ْسلِي ًما} [النساء.]65/
فنفى سُبحانه -نفيًا مؤ َّكدًا بالقسم -اإليمانَ ع ّمن لم يتحاكم إلى
الرسول -صلى هللا عليه وسلم -ويرضى بحكمه ويسلمـ له .كما أنه
حكم ب ُكفر الوالة الذين ال يحكمون بما أنزل هللا ،وبظلمهم وفسقهم.
ك هُ ُم ْال َكافِرُونَ } قال تعالىَ { :و َمن لَّ ْم يَحْ ُكم بِ َما أَنزَ َل هَّللا ُ فَأُوْ لَـئِ َ
[المائدة.]44/
ك هُ ُم الظَّالِ ُمونَ } [المائدة/ { َو َمن لَّ ْم يَحْ ُكم بِ َما أنزَ َل هَّللا ُ فَأُوْ لَـئِ َـ
.]45
اسقُونَ } [المائدة/ ك هُ ُم ْالفَ ِ { َو َمن لَّ ْم يَحْ ُكم بِ َما أَنزَ َل هَّللا ُ فَأُوْ لَـئِ َـ
.]47
124
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وال بُ َّد من الحكم بما أنزل هللا ،والتحا ُكم إليه في جميع موار ِـد
النّزاع في األقوال االجتهادية بين العلماء .فال يقبل منها إال ما د ّل
عليه الكتاب والسنة -من غير تعصب ل َمذهب ،وال تحيّز إلمام.
وفي ال ُمرافعات والخصومات في سائر الحقوق ال في األحوال
الشخصية فقط .كما في بعض الدول التي تنتسب إلى اإلسالمَّ .
فإن
وا ا ْد ُخلُ ْ
وا فِي اإلسالم ُك ٌّل ال يتج َّزأ .قال تعالى{ :يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
الس ِّْل ِم َكآفَّةً} [البقرة.]208/
ب َوتَ ْكفُرُونَ بِبَع ٍ
ْض} ْض ْال ِكتَا ِ وقال تعالى{ :أَفَتُ ْؤ ِمنُ َـ
ون بِبَع ِ
[البقرة.]85/
وكذلك يجب على أتباع المذاهب والمناهج المعاصرة أن
يردوا أقوال أئمتهم إلى الكتاب والسنة .فما وافقهما أخذوا به ،وما
خالفهما ردوه دون تعصب أو تحيّز .وال سيما في أمور العقيدة،
فإن األئمة -رحمهم هللا -يوصون بذلك .وهذا مذهبهم جميعًا.
فمن خالف ذلك فليس متبعًا لهم ،وإن انتسب إليهم .وهو ممن
وا أَحْ بَا َرهُ ْم َو ُر ْهبَانَهُْـم أَرْ بَابًا ِّمن دُو ِن هَّللا ِ
قال هللا فيهم{ :اتَّ َخ ُذ ْـ
يح ا ْبنَ َمرْ يَ َم}ـ [التوبة.]31/ َو ْال َم ِس َ
فليست اآلية خاصة بالنصارى ،بل تتناولـ كل من فعل مثل
فعلهم ،فمن خالف ما أمر هللا به ورسوله -صلى هللا عليه وسلم-
بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل هللا ،أو طلب ذلك اتباعًا لما
زَ
يهواه ويريده ،فقد خلع ربقة اإلسالم واإليمان من عنقه ،وإن ع َم
أنه مؤمن.
فإن هللا تعالى أنكر على من أراد ذلك ،وأكذبهمـ في زعمهم
اإليمان.
125
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
نز َل ُ فقال تعالى{ :أَلَ ْم ت ََر إِلَى الَّ ِذينَ يَ ْز ُع ُمونَ أَنَّهُ ْم آ َمنُ ْ
وا بِ َما أ ِ
ت َوقَ ْد وا إِلَى الطَّا ُغو ِ ك ي ُِري ُدونَ أَن يَت ََحا َك ُم ْنز َل ِمن قَ ْبلِ َ ُ إِلَ ْي َ
ك َو َما أ ِ
ضالَاًل بَ ِعيدًا}. ُضلَّهُ ْم َ ُوا بِ ِه َوي ُِري ُـد ال َّش ْيطَانُ أَن ي ِ أُ ِمر ْ
ُوا أَن يَ ْكفُر ْ
ل َما في ضمن قوله( :يَ ْز ُع ُمونَ ) من نفي إيمانهمَّ ،
فإن
(يَ ْز ُع ُمونَ ) إنما يقال غالبًا ل َمن ا ّدعى دعوى هو فيها كاذب،
ُوا ُ
{وقَ ْد أ ِمر ْ ل ُمخالفته لموجبها ،وعمله بما ينافيها .يحقق هذا قولهَ :
ُوا بِ ِه} ألن ال ُكفر بالطاغوت ركن التوحيد ،كما في آية أَن يَ ْكفُر ْ
البقرة .فإذا لم يَحصُلْ هذا الركن ،لم يكن ُمو ِّحدًا.
والتوحي ُـد هو أساس اإليمان الذي تَصلح به جميع األعمال،
وتفسد بعدمه .كما أن ذلك بي ٌِّن في قوله{ :فَ َم ْن يَ ْكفُرْ بِالطَّا ُغو ِ
ت
أن التَّحا ُك َم إلى َوي ُْؤ ِمن بِاهَّلل ِ فَقَ ِد ا ْستَ ْم َسكَ بِ ْالعُرْ َو ِة ْال ُو ْثقَ َى} .وذلك َّ
ٌ
إيمان به. الطَّاغو ِ
ت
ي اإليمان ع ّمن لم يحكم بما أنزل هللا ،يدلُّ على أن تحكيم ونَف ُ
شرع هللا إيمان وعقيدة ،وعبادة هلل يجب أن يدين بها المسلم .فال
ع هللا من أجل أن تحكيمه أصلح للناس وأضبط لألمن يُح َّك ُم شر ُ
بعض الناس يركز على هذا الجانب ،وينسىـ الجانب َ فقطَّ .
فإن
األول.
وهللا سبحانه قد عاب على من يُح ِّك ُم شرع هللا ألجل مصلحة
{وإِ َذا ُدعُوا إِلَى
نفسه ،من دُون تعبُّ ٍد هلل تعالى بذلك .فقال سبحانهَ :
َّ هَّللا ِ َو َرسُولِ ِه لِيَحْ ُك َم بَ ْينَهُ ْم إِ َذا فَ ِري ٌـ
ق ِّم ْنهُم ُّمع ِ
ْرضُونَ * َوإِن يَ ُكن لهُ ُم
ق يَأْتُوا إِلَ ْي ِه ُم ْذ ِعنِينَ } [النور.]49 ،48/ ْال َح ُّ
فهم ال يهت ّمون إال بما يهوون .وما خالف هواهم أعرضواـ
عنه .ألنهم ال يتعبدون هلل بالتحاكمـ إلى رسوله صلى هللا عليه
وسلم.
126
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
• حكم من حكم بغير ما أنزل هللا:
{و َمن لَّ ْم يَحْ ُكم بِ َما أَنزَ َل هَّللا ُ فَأُوْ لَـئِ َ
ك هُ ُم قال هللا تعالىَ :
ْال َكافِرُونَ } [المائدة.]44/
في هذه اآلية الكريمةَّ :
أن الحكم بغير ما أنزل هللا كفر .وهذا
الكفر تارةً يكون كفرًا أكبر ينقل عن ال ِملة ،وتارة يكون كفرًا
أصغر ال يُخرج من الملة .وذلك بحسب حال الحاكم .فإنه إن
أن الحكم بما أنزل هللا غير واجب ،وأنه مخيَّر فيه ،أواعتقد َّ
استهان بحكم هللا ،واعتقد أن غيره من القوانين والنظمـ الوضعية
أحسن منه أو مساويًاـ له ،أو أنه ال يصلح لهذا الزمان ،أو أراد
بالحكم بغير ما أنزل هللا استرضا َء الكفار والمنافقين -فهذا كفر
أكبر.
وجوب الحكم بما أنزل هللا ،وعلمه في هذه الواقعة
َ وإن اعتقد
وعدل عنه ،مع اعترافه بأنه مستحقـ للعقوبة ،فهذا عاص،
ويُس َّمى كاف ًراـ كفرًا أصغر .وإن جهل حكم هللا فيها مع بذل جهده،
واستفراغ وسعه في معرفة الحكم ،وأخطأه ،فهذا ُمخطئ له أجر
على اجتهاده ،وخطؤه مغفور .وهذا في الحكم في القضية
الخاصة.
وأما الحكم في القضايا العامة فإنه يختلف .قال شيخ اإلسالم
"فإن الحاكم إذا كان ديِّنًا -لكنَّهُ حكم بغير علم -كان
َّ ابن تيمية :
من أهل النار .وإن كان عال ًما لكنه حكم بخالف الحق الذي يعلمه،
كان من أهل النار .وإذا حكم بال عدل وال علم أولى أن يكون من
أهل النار .وهذا إذا حكم في قضية لشخص.
وأما إذا حكم حُك ًما عا ّمًا في دين المسلمين؛ فجعل الحق باطاًل ،
والباطل حقًّا ،والسنة بدعة ،والبدعة سنة ،والمعروف منكرًا،
127
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
والمنكر معروفًا ،ونهى عما أمر هللا به ورسوله ،وأمر بما نهى
هللا عنه ورسوله؛ فهذا لون آخر يَح ُكم فيه رب العالمين ،وإله
المرسلين ،مالك يوم الدين؛ الذي له الحمد في األولى واآلخرة:
{لَهُ ْال ُح ْك ُم َوإِلَ ْي ِه تُرْ َجعُونَ } [القصص.]88/
ق لِي ْ
ُظ ِه َرهُ َعلَى الد ِ
ِّين ين ْال َح ِّ
{هُ َو الَّ ِذي أَرْ َس َل َرسُولَهُ بِ ْالهُ َدىـ َو ِد ِ
ُكلِّ ِه َو َكفَى بِاهَّلل ِ َش ِهيدًا} [الفتح".)]28/
ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل َ وقال أيضًا" :ال
هللا على رسوله فهوـ كافر .فمن استحل أن يحكم بين الناس بما
يراه هو عداًل من غير اتباع لما أنزل هللا ،فهوـ كافر.
فإنّهُ ما من أمة إال وهي تأمر بالحكم بالعدل .وقدـ يكون العدل
في دينها ما يراه أكابرهم ،بل كثير من المنتسبين إلى اإلسالم؛
يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها هللا .كسواليف البادية (أي عادات
من سلفهم) ،وكانواـ األمرا َء ال ُمطاعين ،ويرون أن هذا هو الذي
ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة .وهذا هو الكفر.
فإن كثيرًا من الناس أسلموا؛ ولكن ال يحكمون إال بالعادات
الجارية؛ التي يأمر بها المطاعون .فهؤالء إذا عرفوا أنه ال يجوزـ
لهم الحكم إال بما أنزل هللا ،فلم يلتزموا ذلك ،بل است ََحلّوا أن
يحكموا بخالف ما أنزل هللا فهم كفار ".انتهى.
وقال الشيخ محمد بن إبراهيم" :وأ ّما الذي قيل فيه أنه كفر
وأن حكمصَّ ،دون كفر ،إذا حاكم إلى غير هللا مع اعتقاد أنه عا ٍ
هللا هو الحق .فهذا الذي يصدرـ منه المرة ونحوها .أما الذي جعل
قوانين بترتيب وتخضيع ،فهو ُكفرٌ ،وإن قالوا :أخطأنا وحك ُم
الشرع أعدل؛ فهذا كفر ناقل عن ال ِملة".
128
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ق رحمه هللا بينَ الحكم الجزئي الذي ال يتكرر ،وبين الحكم فف َّر َ
العام الذي هو المرجع في جميع األحكام ،أو غالبها .وق ّررـ أن هذا
الكفر ناقل عن الملة مطلقًا .وذلك ألن من نحى الشريعة
اإلسالمية وجعل القانون الوضعيـ بدياًل منها .فهذا دليل على أنه
يرى أن القانون أحسن وأصلح من الشريعة .وهذا ال ش ّ
ك أنه كفر
أكبر يُخر ُج من ال ِملَّة ويُناقضُ التوحيد.
129
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
فمن قبل تشريعًا غير تشريع هللا ،فقد أشرك باهلل تعالى .وما لم
يشرعه هللا ورسوله من العبادات ،فهو بدعة ،وكل بدعة ضاللة.
قال صلى هللا عليه وسلمَ ( :من أحدَث في أم ِرنا هذا َما لَ َ
يس
ِمنه ف ُهو َردّ) [الحديث رواه البخاري ومسلم].
يس َعلَيه أم ُرنا ف ُهو َردّ) [رواه
وفي روايةَ ( :من َع ِمل َع َماًل لَ َ
مسلم].
وما لم يشرعه هللا وال رسوله في السياسة والحكم بين الناس،
فهو حكم الطاغوت ،وحكم الجاهلية{ :أَفَ ُح ْك َم ْال َجا ِهلِيَّ ِة يَ ْب ُغونَ َو َم ْن
أَحْ َسنُ ِمنَ هَّللا ِ ُح ْك ًما لِّقَوْ ٍم يُوقِنُونَ } [المائدة.]50/
• التحليل والتحريم حق هلل:
وكذلك التحليل والتحريم ،حق هلل تعالى .ال يجوز ألح ٍد أن
{والَ تَأْ ُكلُ ْ
وا ِم َّما لَ ْم ي ُْذ َك ِر ا ْس ُم هَّللا ِ َعلَ ْي ِه يُشاركه فيه .قال تعالىَ :
اطينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْ لِيَآئِ ِه ْم لِيُ َجا ِدلُو ُك ْـم َوإِ ْن ق َوإِ َّن ال َّشيَ ِ
َوإِنَّهُ لَفِ ْس ٌ
أَطَ ْعتُ ُموهُْـم إِنَّ ُك ْم لَ ُم ْش ِر ُكونَ }ـ [األنعام.]121/
فجعل سبحانه طاعة الشياطين وأوليائهمـ في تحليل ما حرّم
هللا :شر ًكا به سبحانه .وكذلك من أطاع العلماء واألمراء في
تحريم ما أحل هللا ،أو تحليل ما حرم هللا ،فقد اتخذهم أربابًا من
دون هللا.
ارهُ ْم َو ُر ْهبَانَهُ ْم أَرْ بَابًا ِّمن د ِ
ُون هَّللا ِ وا أَحْ بَ َلقول هللا تعالى{ :اتَّخَ ُذ ْ
ُوا إِلَـهًا َوا ِحدًا الَّ إِلَـهَ إِالَّ هُ َو يح ا ْبنَ َمرْ يَ َم َو َما أُ ِمر ْ
ُوا إِالَّ لِيَ ْعبُد ْـ َو ْال َم ِس َ
ُس ْب َحانَهُ َع َّما يُ ْش ِر ُكونَ }ـ [التوبة.]31/
130
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وفي الحديث أن النبي -صلى هللا عليه وسلم -تال هذه اآلية
ي بن حاتم الطائيـ -رضي هللا عنه -فقال" :يا رسول هللا، على عَد ّ
لسنا نعبُدُهم".ـ
(أليس يُحلّون لَ ُكم َما ح َّرم هللا
َ قال صلى هللا عليه وسلم:
فتُ ِحلّونه ،ويُح ّرمون َما أح ّل هللا فتُح ّرمونَه؟!).
قال" :بلى".
قال النبي صلى هللا عليه وسلم( :فَتِلكَ ِعبا َدتُهم) [رواه
الترمذي وابن جريرـ وغيرهما].
فصارت طاعتُهم في التحليل والتحريم من دون هللا عبادة لهم
ك أكب ُر يُنافي التوحيدـ الذي هو مدلول شهادة أن وشر ًكا .وهو شر ٌ
ق هللأن التحليل والتحريمـ ح ٌّ فإن ِم ْن مدلولهماَّ :
ال إله إال هللاّ .
تعالى.
وإذا كان هذا فيمن أطاع العلماء وال ُعبَّاد في التحليل والتحريم
الذي يخالف شرع هللا وهو يعلم هذه ال ُمخالفة ،مع أنهم أقرب إلى
العلم والدين ،وقدـ يكونُ خطؤهمـ عن اجتهاد لم يصيبوا فيه الحق،
وهم مأجورون عليه؛ فكيفَ بمن يُطي ُع أحكام القوانين الوضعية
التي هي من صنع الكفار وال ُملحدين ،يجلبها إلى بالد المسلمين،
ويحكم بها بينهم؟ فال حول وال قوة إال باهلل.
َّ
إن هذا قد اتخذ الكفار أربابًاـ من دون هللا ،يُشرِّ عونَ له
األحكام ،ويبيحونَ له الحرام ،ويحكمون بين األنام.
132
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وهذه ال َمذاهب اإللحادية مذاهبُ متناحرة ألنها مؤسسة على
الباطل .فالشيوعية تنكر وجودـ الخالق -سبحانه وتعالى -وتحاربـ
األديان السماوية .ومن يرضىـ لعقله أن يعيش بال عقيدة؟ وينكر
البدهيات العقلية اليقينية؟ فيكون ُملغيًا لعقله؟
والعلمانية تنكر األديان ،وتعتم ُد على المادية التي ال موجِّ ه
لها ،وال غاية لها في هذه الحياة إال الحياة البهيمية؟
والرأسماليةُ همها جمع المال من أي وجه وال تتقيد بحالل وال
حرام ،وال عطف وال شفقة على الفقراء والمساكين ،وقوامـ
اقتصادهاـ على ال ِّربا الذي هو محاربة هلل ولرسوله؛ والذي هو
دما ُر الدول واألفراد ،وامتصاصُ دماء الشعوب الفقيرة.
وأي عاقل -فضاًل عمن فيه ذرة من إيمان -يرضى أن يعيش
على هذه المذاهب؟ بال عقل وال دين ،وال غاية صحيحة من
حياته يهدف إليها؟ ويُناضلـ من أجلها وإنما غزت هذه المذاهبُ
بالد ال ُمسلمين؛ ل َّما غاب عن أكثريتهاـ الدين الصحيح ،وتربت
على الضياع وعاشت على التبعية؟!
2ـ واالنتماء لألحزاب الجاهلية ،والقوميات العنصرية .هو
ألن اإلسالم يرفُضُ العصبيات، اآلخر ُكف ٌر ور َّدة عن دين اإلسالم َّ
والنعرات الجاهلية.
يقول تعالى{ :يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَ لَ ْقنَا ُكم ِّمن َذ َك ٍر َوأُنثَى
ارفُوا إِ َّن أَ ْك َر َم ُك ْم ِعن َد هَّللا ِ أَ ْتقَا ُك ْم}
َو َج َع ْلنَا ُك ْم ُشعُوبًاـ َوقَبَائِ َل لِتَ َع َ
[الحجرات.]13/
يس ِمنّا َمن دَعا إلى ويقول النبي صلى هللا عليه وسلم( :لَ َ
يس منّا َمن َغ ِ
ضب َصبيّة ،ولَ َ يس ِمنّا َمن قاتَل على ع َ صبيّة ،ولَ َ َع َ
صبيّة) [رواه الترمذي وغيره]. ل َع َ
133
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وقال صلى هللا عليه وسلم( :إنّ هللا قَد أذهَب عَن ُكم ُعبِّيَّةَ
اجر شَق ّي، الجا ِهليّة ،وفَخرها باآلباء؛ إنّما هُو ُمؤ ِمن تَق ّي أو فَ ِ
النّاس بَنو آدَمَ ،وآدَم ُخلِق ِمن تُرابَ ،وال فَضل لِ َعرب ّي على
ع ََجم ّي إاّل بِالتّق َوى) [رواه مسلم].
وهذه الحزبيات تفرق المسلمين .وهللا قد أمر باالجتماع
والتعاون على البر والتقوى ،ونهى عن التفرق واالختالف.ـ
وا َو ْاذ ُكر ْ
ُوا وا بِ َحب ِْل هَّللا ِ َج ِميعًا َوالَ تَفَ َّرقُ ْـ
َص ُم ْ
وقال تعالىَ { :وا ْعت ِ
نِ ْع َمتَ هَّللا ِ َعلَ ْي ُك ْم إِ ْذ ُكنتُ ْم أَ ْعدَا ًء فألفَ بَ ْينَ قلوبِك ْـم فأصْ بَحْ تمـ بِنِ ْع َمتِ ِه
ُ َ َ ُ ُ ُ َّ َ َ
إِ ْخ َوانًا} [آل عمران.]103/
إن هللا سبحانه يريد منا أن نكون مع حزب واحد ،هُم حزبُ هللا
ال ُمفلحون .ولكن العالم اإلسالمي أصبح بعدما غزته أوروباـ
سياسيًّا وثقافيًّا ،يخضع لهذه العصبيات الدموية والجنسية
والوطنية؛ ويؤمن بها كقضية علمية وحقيقية مقررة ،وواقع ال
مف َّر منه.
وأصبحت شعوبه تندفع اندفاعًا غريبًا إلى إحياء هذه
العصبيات التي أماتها اإلسالم ،والتغني بها وإحياء شعائرها،
واالفتخارـ بعهدها الذي تقدم على اإلسالم .وهو الذي يُلحُّ اإلسالم
على تسميته بالجاهلية .وقد َم َّن هللا على المسلمين بالخروج عنها،
وحثهم على شكر هذه النعمة.
والطبيعيـ من ال ُمؤمن أن ال يذكر جاهليةً تقاد َم عهدُها أو
قارب؛ إال بمقت وكراهية وامتعاض واقشعرار .وهو يذكر
السجين ال ُمعذب الذي يطلق سراحه أيام اعتقاله وتعذيبه وامتهانه،
إال َوعرتهُ قشعريرة.
134
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وهل يذ ُك ُر البريء من ِعلَّة شديدة طويلة أش َرفَ منها على
الموت أيا َم سُقمه ،إال وانكسف بالُهُ وانتقع لونه؟
أن هذه الحزبيات عذاب؛ بعثه هللا على من والواجبُ أن يُعل َم َّ
أعرض عن شرعه ،وتنكرـ لدينه.
ث َعلَ ْي ُك ْم َع َذابًا ِّمن كما قال تعالى{ :قُلْ ه َُو ْالقَا ِد ُر َعلَى أَن يَ ْب َع َ
س ْض ُكمـ بَأْ َق بَع َ ت أَرْ ُجلِ ُك ْم أَوْ يَ ْلبِ َس ُك ْم ِشيَعًا َويُ ِذي َ
فَوْ قِ ُك ْـم أَوْ ِمن تَحْ ِ
ْض} [األنعام.]65/ بَع ٍ
وقال صلى هللا عليه وسلمَ ( :و َما لَم تح ُكم أئمتهم ب ِكتاب هللا إاّل
ج َعل هللا بَأس ُهم بينَهم) [من حديث رواه ابن ماجه].
إن التعصب للحزبيات يسبب رفض الحق الذي مع اآلخرين. َّ
هّللا َ ْ ُ
يل لهُ ْم آ ِمنوا بِ َما أنزَ َل ُ َ َ
{وإِذا قِ َكحال اليهود الذين قال هللا فيهمَ :
ص ِّدقاً ْ نز َل َعلَ ْينَا َويَ ْكفُ َـ ُ قَالُ ْ
ق ُم َ رون بِ َما َو َرا َءهُ َوه َُو ال َح ُّ وا نُ ْؤ ِمنُ بِ َمآ أ ِ
لِّ َما َم َعهُ ْم} [البقرة.]91/
وكحال أهل الجاهلية ،الذين رفضوا الحق الذي جاءهم به
{وإِ َذا قِ َ
يل صبًاـ ل َما عليه آباؤهمَ : الرسول -صلى هللا عليه وسلم -تع ّ
وا بَلْ نَتَّبِ ُع َما أَ ْلفَ ْينَا َعلَ ْي ِه آبَا َءنَا} [البقرة/ لَهُ ُم اتَّبِعُوا َما أَن َز َل هّللا ُ قَالُ ْ
.]170
ويريد أصحاب هذه الحزبيات أن يجعلوها بديلة عن اإلسالم
الذي َم َّن هللا به على البشرية.
135
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
هناك نظرتان للحياة :نظرة ما ّديّة للحياة ،ونظرة صحيحة.
ولكل من النظرتين آثارها:
136
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وا إِ ْن ِه َي إِالَّ َحيَاتُنَا ال ُّد ْنيَا َو َما نَحْ نُ كما قال تعالىَ { :وقَالُ ْـ
بِ َم ْبعُوثِينَ } [األنعام.]29/
وقد تو ّعد هللا تعالى َم ْن هذه نظرتُهُ للحياة .فقال تعالى{ :إَ َّن
وا بِهَا َوالَّ ِذينَ ُوا بِ ْال َحيا ِة ال ُّد ْنيَا َو ْ
اط َمأَنُّ ْـ الَّ ِذينَ الَ يَرْ جُونَ لِقَا َءنَا َو َرض ْـ
وا يَ ْك ِسبُونَ } ك َمأْ َواهُ ُم النُّا ُر بِ َما َكانُ ْ هُ ْم ع َْن آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْ لَـئِ َ
[يونس.]8 ،7/
وقال تعالىَ { :من َكانَ ي ُِري ُد ْال َحيَاةَ ال ُّد ْنيَا َو ِزينَتَهَا نُ َوفِّ إِلَ ْي ِه ْم
ْس لَهُ ْم فِي أَ ْع َمالَهُ ْم فِيهَا َوهُ ْم فِيهَا الَ يُبْخَ سُونَ * أُوْ لَـئِكَ الَّ ِذينَ لَي َ
وا يَ ْع َملُونَ } اط ٌل َّما َكانُ ْ ُوا فِيهَا َوبَ ِ صنَع ْ اآل ِخ َر ِة إِالَّ النَّا ُر َو َحبِطَ َما َ
[هود.]16 ،15/
أصحاب هذه النظرة؛ سواء كانوا من الذين َ وهذا الوعيد يشمل
يعملون عمل اآلخرة؛ يريدون به الحياة الدنيا؛ كالمنافقين
ار الذين ال يؤمنون ببعث والمرائين بأعمالهم ،أو كانوا من ال ُكفَّ ِ
وال حساب؛ كحال أهل الجاهلية والمذاهب الهدامة من رأسمالية
وشيوعية ،وعلمانية إلحادية.
وأولئك لم يعرفوا -من رأسمالية وشيوعية ،وعلمانية إلحادية-
قدر الحياة .وال تعدو نظرتهمـ لها أن تكون وأولئك لم يعرفوا َ
كنظرة البهائم ،بل هم أضل سبياًل ألنهم ألغَوا عقولهم وسخروا
طاقاتهمـ وضيعواـ أوقاتهم فيما ال يبقى لهم؛ وال يبقون له ولم
يعملوا لمصيرهم الذي ينتظرهمـ والبُ َّد لهم منه.
والبهائم ليس لها مصي ٌر ينتظرها ،وليس لها عقول تفكر بها؛
بخالف أولئك .ولهذا يقول تعالى فيها{ :أَ ْم تَحْ َسبُ أَ َّن أَ ْكثَ َرهُ ْم
ضلُّ َسبِياًل } يَ ْس َمعُونَ أَوْ يَ ْعقِلُونَ إِ ْن هُ ْم إِال َكاألَ ْن َع ِـام بَلْ هُ ْم أَ َ
[الفرقان.]44/
137
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وقد وصف هللا أهل هذه النظرة بعدم العلم .قال تعالىَ { :و ْع َد
هَّللا ِ ال ي ُْخلِفُ هَّللا ُ َو ْع َدهُ َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ
اس ال يَ ْعلَ ُمونَ * يَ ْعلَ ُمونَ
اآلخ َر ِة هُ ْم غَافِلُونَ } [الروم،6/ ظَا ِهرًا ِّمنَ ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوهُ ْم َع ِن ِ
.]7
فهم -وإن كانوا أهل خبرة في المخترعات والصناعات -فهم
ُوصفوا بالعلم ألن علمهم لم يتجاوزـ ظاهر ُجهَّا ٌل ال يستحقون أن ي َ
الحياة الدنيا .وهذا علم ناقص ال يستحق أصحابه أن يطلق عليهم
هذا الوصف الشريف ،فيقال :العلماء .وإنما يطلق هذا على أهل
معرفة هللا وخشيته .كما قال تعالى{ :إِنَّ َما يَ ْخ َشى هَّللا َ ِم ْن ِعبَا ِد ِه
ْال ُعلَ َما ُء} [فاطر.]28/
ومن النظرة ال َمادية للحياة الدنيا :ما ذكره هللا في قصة قارون،
وما آتاه هللا من الكنوز{ :فَخَ َر َج َعلَى قَوْ ِم ِه فِي ِزينَتِ ِه قَا َل الَّ ِذينَ
ي ُِري ُدونَ ْال َحيَاةَ ال ُّدنيَا يَا لَيْتَ لَنَا ِم ْث َل َما أُوتِ َي قَا ُرونُ إِنَّهُ لَ ُذو َح ٍّ
ظ
َع ِظ ٍيم} [القصص.]79/
فتمنَّوا مثله وغبطوه ،ووصفوه بالحظ العظيم بنا ًء على
نظرتهم المادية .وهذا كما هو الحال اآلن في الدول الكافرة ،وما
فإن ضعافَ اإليمان من عندها من تق ّدم صناعي واقتصاديَّ .
المسلمين ينظرون إليهم نظرة إعجاب دون نظر إلى ما هم عليه
من الكفر ،وما ينتظرهم من سوء المصير.ـ فتبعثهم هذه النظرة
الخاطئة إلى تعظيم الكفار واحترامهم في نفوسهم ،والتشبه بهم في
أخالقهم وعاداتهم السيئة .ولم يقلدوهم في الجد وإعداد القوة
والشيء النافع من المخترعات والصناعات .كما قال تعالى:
وا لَهُم َّما ا ْستَطَ ْعتُم ِّمن قُ َّو ٍة} [األنفال.]60/ { َوأَ ِع ُّد ْ
138
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ب ـ النظرة الثانية للحياة :النظرة الصحيحة
وهي أن يعتبر اإلنسان ما في هذه الحياة من مال وسلطان
وقوىـ مادية وسيلةً يُستعان بها لعمل اآلخرة.
فالدنيا في الحقيقة ال تُذ ُّم لذاتها ،وإنما يتوجه المدح ّ
والذ ّـم إلى
فعل العبد فيها .فهي قنطرة ومعبر لآلخرة .ومنها زا ُد الجنة.
وخي ُر عيش ينالُه أهل الجنة إنَّما حصل لهم بما زرعوه في الدنيا.
فهي دار الجهاد والصالة والصيام واإلنفاقـ في سبيل هللا،
ومضمارـ التسابق إلى الخيرات.
يقول هللا تعالى ألهل الجنةُ { :كلُوا َوا ْش َربُواـ هَنِيئًا بِ َما أَ ْسلَ ْفتُ ْم
فِي األَي َِّام ْالخَالِيَ ِة} [الحاقة ]24/يعني :الدنيا.
أ ـ الرقى
• معنى الرقى:
الرقى جمع رُقية .وهي :العُو َذةُ التي يُرقىـ بها صاحبُ اآلفة
كالح َّمى والصَّرع ،وغير ذلك من اآلفات .ويُسمونهاـ العزائم.
139
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
فعن عوف بن مالك قال :كنا نرقي في الجاهلية ،فقلنا" :يا
رسول هللا ،كيف ترى في ذلك؟"
شر ًكا)أس بال ّرقَى َما لَم تَ ُكن ِ
ضوا عل َّي ُرقا ُكم ،ال بَ َ
فقال( :اع ِر ُ
[رواه مسلم].
قال السيوطي" :وقد أجم َع العلماء على جواز الرقى ،عند
اجتماع ثالثة شروط :أن تكون بكالم هللا أو بأسماء هللا وصفاته،
وأن تكون باللسان العربي وما يُعرفُ معناه ،وأن يُعتقَ َد أن الرقية
ال تؤثر بذاتها؛ بل بتقدير هللا تعالى .
وينفث على المريض ،أو يقرأ في ما ٍء َ وكيفيتها :أن يُقرأ
ويُسقاهُ المريض.
كما جاء في حديث ثابت بن قيس( :أنّ النبي -صلى هللا عليه
نفث عليه بما ٍءقدح ،ثم َ
وسلم -أخذ تُرابًا من بُطحان ،فجعله في ٍ
وصبَّه عليه) [رواه أبو داود].
النوع الثاني :ما لم يخ ُل من ال ّشرك.
وهي الرقى التي يُستعانُ فيها بغير هللا -من دعاء غير هللا
واالستغاثة واالستعاذة به؛ كالرقى بأسماء الجن ،أو بأسماء
المالئكة واألنبياء والصالحين .فهذا دعاء لغير هللا ،وه َُو شر ٌ
ك
أكبر.
أو يكون بغير اللسان العربي ،أو بما ال يُعرف معناه ألنه
يُخشى أن يدخلها كفر أو شرك وال يُعل ُم عنه .فهذا النوع من
الرقية ممنوع.
140
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
2ـ التمائم
• معنى التمائم:
وهي جمع تميمة .وهي :ما يعلق بأعناق الصبيان لدفع العين.
وقد يعلق على الكبار من الرجال والنساء.
141
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
والتولة :شيء يصنعونه ،يزعمون أنه يحبب المرأة إلى
زوجها ،والرجل إلى امرأته.
-القول الصحيح:
وهذا هو الصحيح؛ لوجوه ثالثة:
األول :عموم النهي وال مخصص للعموم.
الثاني :س ّد الذريعة فإنَّهاـ تفضي إلى تعليق ما ليس مباحًا.
الثالث :أنه إذا علق شيئًا من القرآن ،فقد يمتهنه المعلِّق بحمله
معه في حال قضاء الحاجة واالستنجاء ونحو ذلك .
النوع الثاني من التمائم:
التي تعلق على األشخاص ما كان من غير القرآن؛ كالخرز
والعظام والودعـ والخيوطـ والنعال والمسامير ،وأسماء الشياطين
والجن والطالسم.ـ فهذا محرّم قطعًا .وهو من الشرك ألنه تعلق
على غير هللا سبحانه وأسمائه وصفاته وآياته.
وفي الحديثَ ( :من تَ َعلّق شَيئًا ُو ّكل إلَ ْيه) [رواه أحمد
والترمذي]
أي :و ّكله هللا إلى ذلك الشيء الذي تعلَّقه .فمن تعلّق باهلل والتجأ
إليه وف ّوضـ أمره إليه ،كفاه وقرّب إليه كل بعيد ،وي ّسرـ له ك ّل
عسير.
ومن تعلّق بغيره من المخلوقين والتمائمـ واألدوية والقبور،
وكله هللا إلى ذلك الذي ال يغني عنه شيئًا وال يملك له ض ًّرا وال
نفعًا .فخسر عقيدته وانقطعت صلته بربه وخذله هللا.
-الواجب على المسلم:
142
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
والواجب على المسلم :المحافظة على عقيدته مما يُفسدها أو
يُخ ّل بها .فال يتعاطىـ ما ال يجوز من األدوية ،وال يذهب إلى
المخرفين والمشعوذين ليتعالج عندهم من األمراض ألنهم
يُمرضون قلبه وعقيدته ،ومن تو ّكل على هللا كفاه.
وبعض الناس يعلّق هذه األشياء على نفسه ،وهو ليس فيه
مرض حسّي ،وإنما فيه مرض وهمي ،وهو الخوف من العين
والحسد ،أو يعلقها على سيارته أو دابّته أو باب بيته أو دكانه.
وإن ضعفـوهذا كله من ضعف العقيدة ،وضعف توكله على هللاَّ .
العقيدة هو المرض الحقيقي الذي يَجبُ عالجه بمعرفة التوحيد
والعقيدة الصحيحة.
143
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
• الحلف بغير هللا:
ل َما روى ابن عمر -رضي هللا عنهما -أن رسول هللا -صلى
أشرك) [رواه هللا عليه وسلم -قالَ ( :من َحلَفَ بِ َغير هللا فَقَد َكفَر أو َ
أحمد والترمذي والحاكم].
وهو شرك أصغر ،إال إذا كان المحلوف به معظَّ ًما عند
الحالف إلى درجة عبادته له فهذا شرك أكبر .كما هو الحال اليو َم
عند ُعبَّاد القبور؛ فإنَّهمـ يخافون َم ْن يعظمون من أصحاب القبور،
أكثر من خوفهمـ من هللا وتعظيمه -بحيث إذا طُلب من أحدهم أن
يحلف بالولي الذي يعظمه ،لم يحلف به إال إذا كان صادقًا .وإذا
طلب منه أن يحلف باهلل ،حلف به وإن كان كاذبًا.
فالحلف تعظيم للمحلوفـ به ال يليق إال باهلل .ويجب توقير
اليمين .فال يكثر منها.
ين} [القلم.]10/ قال تعالىَ { :وال تُ ِط ْع ُك َّل َح ٍ
الف َّم ِه ٍ
وا أَ ْي َمانَ ُك ْم} [المائدة.]89/
{واحْ فَظُ ْ
وقال تعالىَ :
أي :ال تحلفوا إال عند الحاجة ،وفي حالة الصدق والبر ألن
كثرة الحلف أو الكذب فيها يدالن على االستخفافـ باهلل ،وعدم
التعظيم له .وهذا ينافيـ كمال التوحيد.
وفي الحديث أن رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -قال( :ثَالثةٌ
اَل يُكلّ ُمهم هللا َوال يُز ّكي ِهمَ ،ول ُهم عَذاب ألِيم) .وجاء فيهَ :
(و َر ُجل
ضاعَته ال يَشتَري إاّل بيَ ِمينهَ ،وال يَبِيع إاّل بيَ ِمينه)
ج َعل هللا ب َ
[رواه الطبراني بسند صحيح].
144
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
• حكم كثرة الحلف:
فقد ش َّدد الوعيد على كثرة الحلف ،مما يد ّل على تحريمه
احترا ًما السم هللا تعالى ،وتعظي ًماـ له سبحانه.
وكذلك يحرم الحلفُ باهلل كاذبًا وهي :اليمين ال َغموسُ .وقد
وصفَ هللا المنافقين بأنهم يحلفون على الكذب وهم يعلمون.
فتلخص من ذلك:
-1تحريمـ الحلف بغير هللا تعالى؛ كالحلف باألمانة أو الكعبة
أو النبي -صلى هللا عليه وسلم -وأن ذلك شرك.
-2تحريمـ الحلف باهلل كاذبًا متع ّمدًا ،وهي الغموس.
-3تحريمـ كثرة الحلف باهلل -ولو كان صادقًا -إذا لم تد ُ
ع إليه
ألن هذا استخفاف باهلل سبحانه. حاجة؛ َّ
الحلف باهلل إذا كان صادقًا ،وعند الحاجة.
ِ -4جواز
• أنواع التوسل:
والتوسل قسمان:
145
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
القسم األول :توسل مشروع ،وهو أنواع.
1ـ النوع األول :التوسل إلى هللا تعالى بأسمائه وصفاته.
{وهَّلِل ِ األَ ْس َما ُء ْال ُح ْسنَى
كما أم َر هللا تعالى بذلك في قولهَ :
ُوا الَّ ِذينَ ي ُْل ِح ُدونَ فِي أَ ْس َمآئِ ِه َسيُجْ زَ وْ نَ َما َكانُواْ
فَا ْدعُوهُ بِهَا َو َذر ْ
يَ ْع َملُونَ } [األعراف.]180/
2ـ النوع الثاني :التوسل إلى هللا تعالى باإليمان واألعمال
الصالحة التي قام بها المتوسل.
كما قال تعالى عن أهل اإليمانَّ { :ربَّنَا إِنَّنَا َس ِم ْعنَا ُمنَا ِديًا يُنَا ِديـ
ان أَ ْن آ ِمنُ ْ
وا بِ َربِّ ُك ْـم فَآ َمنَّا َربَّنَا فَا ْغفِرْ لَنَا ُذنُوبَنَاـ َو َكفِّرْ َعنَّا إلي َم ِ
لِ ِ
ار}ـ [آل عمران.]193/ َّ
َسيِّئَاتِنَا َوتَ َوفنَا َم َع األ ْب َر ِ
وكما في حديث الثالثة الذين انطبقت عليهم الصخرة ،فسدت
عليهم باب الغار ،فلم يستطيعوا الخروج .فتوسلوا إلى هللا بصالح
أعمالهم؛ ففرج هللا عنهم [هذا مضمون الحديث وهو متفق عليه]
فخرجواـ يمشون.
3ـ النوع الثالث :التوسل إلى هللا تعالى بتوحيده.
ت أَن ال إِلَهَ كما توسل يونس عليه السالم{ :فَنَادَى فِي ُّ
الظلُ َما ِ
إِال أَنتَ ُسب َْحانَكَ} [األنبياء.]87/
4ـ النوع الرابع :التّو ُّس ُل إلى هللا تعالى بإظهارـ الضَّعف.
والحاجة واالفتقارـ إلى هللا .كما قال أيوب عليه السالم{ :أَنِّي
َم َّسنِ َي الضُّ رُّ َوأَنتَ أَرْ َح ُم الر ِ
َّاح ِمينَ } [األنبياء.]83/
5ـ النوع الخامس :التوسل إلى هللا بدعاء الصالحين األحياء.
146
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
كما كان الصحابة إذا أجدبوا طلبوا من النبي -صلى هللا عليه
وسلم -أن يدعو هللا لهم ،ول ّما تُوفي صارواـ يطلبون من ع ّمه
العباس -رضي هللا عنه -فيدعو لهم [رواه البخاري].
6ـ النوع السادس :التّو ُّس ُل إلى هللا باالعتراف بالذنب{ .قَا َل
ت نَ ْف ِسي فَا ْغفِرْ لِي} [القصص.]16/
َربِّ إِنِّي ظَلَ ْم ُ
القسم الثاني :توسل غير مشروع
وهو التوسل بما عدا األنواع المذكورة في التوسل المشروع؛
كالتوسل بطلب الدعاء والشفاعة من األموات ،والتوسلـ بجاه
النبي صلى هللا عليه وسلم ،والتوسلـ بذات المخلوقين أو حقهم.
وتفصيل ذلك كما يلي:
1ـ طلب الدعاء من األموات ال يجوز.ـ
ألن الميت ال يقدر على الدعاء ،كما كان يقدر عليه في الحياة.
وطلب الشفاعة من األموات ال يجوزـ ألن عمر بن الخطاب
ومعاوية بن أبي سفيان -رضي هللا عنهما ومن بحضرتهما من
الصحابة والتابعين لهم بإحسان ،ل َّما أجدبوا استسقرواـ وتوسَّلواـ
استشفعوا بمن كان حيًّا ،كالعباس وكيزيدـ بن األسود؛ ولم يتوسلواـ
ولم يستشفعوا ولم يستسقوا بالنبي -صلى هللا عليه وسلم -ال عند
قبره وال عند غيره؛ بل عدلوا إلى البدل كالعباس وكيزيد.ـ
وقد قال عمر( :اللهم إنّا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا ،وإنَّا
سقِنا) فجعلواـ هذا بداًل من ذلك ،ل ّما تعذر أن
نتوسل بع ّم نبيّنا فا ْ
يتوسلوا به على الوجه المشروعـ الذي كانوا يفعلونه.
وقد كان من ال ُممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به؛ يعني :لو
كان جائ ًزا .فتر ُكهم لذلك دلي ٌل على عدم جواز التوسل باألموات،
147
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ال لطلب الدعاء والشفاعة منهم وهم أموات .فلو كان طلب الدعاء
منه واالستشفاع به حيًّا وميّتًاـ سوءا ،لم يعدلوا عنه إلى غيره ممن
هو دونه.
2ـ والتوسل بجاه النبي -صلى هللا عليه وسلم -أو بجاه غيره ال
يجوز.
والحديث الذي فيه( :إذا سألتم هللا فاسألوه بجاهي ،فإن جاهي
عند هللا عظيم) حديث مكذوب .ليس في شيء من كتب المسلمين
التي يُعتمد عليها .وال ذكره أحد من أهل العلم بالحديث .وما دا َم ال
يصح فيه دليل ،فهو ال يجو ُز ألن العبادات ال تثبت إال بدليل
صريح.
3ـ والتوسل بذوات المخلوقين ال يجوز.
ألنه إن كانت الباء للقسم ،فهو إقسام به على هللا تعالى ،وإذا
كان اإلقسام بالمخلوقـ على المخلوق ال يجوز ،وهو شرك كما في
الحديث؛ فكيف باإلقسامـ بالمخلوقـ على الخالق جل وعال؟!
وإن كانت الباء للسببية فاهلل سبحانه لم يجعل السؤال بال َمخلوق
سببًا لإلجابة ،ولم يشرعه لعباده.
4ـ والتوسل بحق ال َمخلوق ال يجوزـ ألمرين.
ق ألحد .وإنَّما هو الذياألول :أن هللا سبحانه ال يجب عليه ح ّ
{و َكانَ َحقًّا
يتفضّل سبحانه على المخلوق بذلك .كما قال تعالىَ :
َعلَ ْينَا نَصْ ُر ْال ُم ْؤ ِمنِينَ } [الروم/ـ.]47
فكون المطيع يستحقـ الجزاء ،هو استحقاق فضل وإنعام،
وليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوقـ على المخلوق.
148
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
الثاني :أن هذا الحق الذي تفضل هللا به على عبده هو ح ٌّ
ق
خاص به ،ال عالقة لغيره به .فإذا توسل به غير مستحقه كان
متوساًل بأمر أجنبي ،ال عالقة له به ،وهذا ال يجديه شيئًا.
وأما الحديث الذي فيه( :أسألك بحق السائلين) فهو حديث لم
يثبت ألن في إسناده عطية العوفي ،وهو ضعيف مجمع على
ضعفه ،كما قال بعض المحدثين .وما كان كذلك ،فإنه ال يُحتج به
في هذه المسألة المه ّمة من أمور العقيدة.
ق شخص معيّن ،وإنما فيه التوسل ثم إنه ليس فيه توسل بح ّ
بحق السائلين عمو ًما ،وحق السائلين اإلجابة كما وعدهم هللا بذلك.
وهو حق أوجبه على نفسه لهم ،لم يوجبه عليه أحد ،فهو توسل
إليه بوعده الصادقـ ال بحق المخلوق.
149
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وقال تعالى في قصة موسى عليه السالم{ :فَا ْستَغَاثَهُ الَّ ِذي ِمن
ِشي َعتِ ِه َعلَى الَّ ِذي ِم ْن َع ُد ِّو ِه} [القصص.]15/
وكما يستغيث الرجل بأصحابه في الحرب وغيرها ،مما يقدر
عليه المخلوق.
النوع الثاني :االستغاثة واالستعانة بالمخلوقـ
فيما ال يقدر عليه إال هللا؛ كاالستغاثة واالستعانة باألموات،
واالستغاثة باألحياء ،واالستعانة بهم فيما ال يقدر عليه إال هللا من
شفاء المرضى ،وتفريج ال ُكرُبات ودفع الضر .فهذا النوع غير
جائز .وهو شرك أكبر.
وقد كان في زمن النبي -صلى هللا عليه وسلم -منافق يؤذيـ
فقال بعضهم" :قومواـ بنا نستغيث برسول هللا -صلى المؤمنينَ ،
هللا عليه وسلم -من هذا المنافق".
َغاث بي ،وإنّ َما
فقال النبي صلى هللا عليه وسلم( :إنّه ال يُست ُ
يُستَ َغاث بِاهلل) [رواه الطبراني].
كره -صلى هللا عليه وسلم -أن يُستعمل هذا اللفظ في حقّه -وإن
كان مما يقدر عليه في حياته حمايةً لجناب التوحيد وس ًّدا لذرائع
الشرك ،وأدبًا وتواضعًا لربه ،وتحذي ًراـ لألمة من وسائل الشرك
في األقوال واألفعال .فإذا كان هذا فيما يقدر عليه النبي -صلى هللا
ُ
ُستغاث به بعد مماته ،ويُطلبُ منه عليه وسلم -في حياته ،فكيفـ ي
أمور ال يقدر عليها إال هللا؟! وإذا كان هذا ال يجوزـ في حقهّ
-صلى هللا عليه وسلم -فغيره من باب أولى!
150
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
.
151
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
.
152
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
153
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ب إلَيه ِمن صلى هللا عليه وسلم( :ال يُؤمنُ أح ُد ُكمـ حتّى أ ُكونَ َ
أح َّ
س أج َم ِعين) [متفق عليه]. َولَده َووالِده َوالنّا ِ
بل ورد أنه يجب على المؤمن أن يكون الرسو ُل -صلى هللا
عليه وسلم -أحبَّ إليه من نفسه .كما في الحديث :أن عمر بن
ي من الخطاب رضيـ هللا عنه قال" :يا رسول هللا ،ألنتَ أحبُّ إل َّ
كل شيء إال من نفسي"
فسك). ب إلَيك ِمن نَ ِ فقالَ ( :والّذي نَ ِ
فسي بِيَده حتّى أ ُكونَ َ
أح ّ
ي من نفسي".
فقال له عمر" :فإنك اآلن أحب إل َّ
فقال( :اآلن ،يَا ُع َمر) [رواه البخاري].
ففي هذا أن محبة الرسول واجبةٌ ومق ّدمةٌ على محبّة كل شيء
سوى محبة هللا .فإنها تابعة لهَا الزمة لها ألنها محبة في هللا
وألجله .تزيد بزيادة محبة هللا في قلب المؤمن ،وتنقص بنقصها.
وكل من كان محبًّا هلل فإنما يحب في هللا وألجله.
ومحبّته -صلى هللا عليه وسلم -تقتضي تعظيمه وتوقيره
واتباعه؛ وتقديم قوله على قول كل أحد من الخلق؛ وتعظيم سنته.
قال العالمة ابن القيم رحمه هللا" :وكلُّ محبة وتعظيمـ للبشر؛
فإنما تجوز تبعًا لمحبة هللا وتعظيمه ،كمحبة رسول هللا -صلى هللا
عليه وسلم -وتعظيمه؛ فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه .فإن
أمته يحبونه ل َمحبة هللا له ،ويعظمونه ويجلونه إلجالل هللا له ،فهي
محبة هلل من موجبات محبة هللا.
والمقصودُ :أن النبي -صلى هللا عليه وسلم -ألقى هللا عليه من
المهابة وال َمحبة ....ولهذا لم يكن بشر أحب إلى بشر ،وال أهيب
154
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وأج ّل في صدره من رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -في صدورـ
أصحابه -رضي هللا عنهم.
أبغض
َ قال عمرو بن العاص بعد إسالمه" :إنه لم يكن شخص
ي منه ،وال أج َّل في
ي منه .فل ّما أسلمت ،لم يكن شخص أحب إل َّ إل َّ
عيني منه".
أطقت ،ألني لم أكن أمأل ُ قال" :ولو ُسئِلت أن أصفه لكم ل َما
ي منه إجالاًل له".
عين َّ
وقال عروة بن مسعود لقريش" :يا قوم ،وهللا لقد وفدت إلى
رأيت مل ًكا يعظمه أصحابه ما يعظمُ كسرى وقيصر وال ُملوك ،فما
أصحابُ محمد محمدًا صلى هللا عليه وسلم .وهللا ما يح ُّدون النظر
إليه تعظي ًماـ له ،وما تن َّخم نُخامةً إال وقعت في كَفِّ رجل منهم،
فيدلك بها وجهَهُ وصدره ،وإذا توضأـ كادوا يقتتلون على
وضوئه ".انتهى .
• اإلطرا ُء
اإلطراء :مجاوزة الح ِّد في المدح ،والكذب فيه.
155
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
لو في حق النبي صلى هللا عليه وسلم :مجاوزة والمرا ُد بال ُغ ِّ
الحد في قدره -بأن يُرفع فوقـ مرتبة العبودية والرسالة ،ويُجع َل
َ
ُستغاث به من دون له شيء من خصائص اإللهية ،بأن يُدعى وي
ُحلف به.
هللا ،وي َـ
والمراد باإلطراء في حقه صلى هللا عليه وسلم :أن يُزا َد في
مدحه .فقد نهى صلى هللا عليه وسلم عن ذلك بقوله( :اَل تُط ُروني
ت النَّصا َرى ابنَ َمريَم ،إنّ َما أنا عَبد ،فقُولوا :عب ُد هللا َك َما َ
أطر ِ
سولُه) [متفق عليه]. ور َُ
أي :ال تمدحونيـ بالباطل ،وال تجاوزوا الح َّد في مدحي ،كما
غلت النَّصارىـ في عيسى -عليه السالم -فا َّدعوا فيه األلوهية،
صفَني به ربّي ،فقولوا :عب ُد هللا ورسوله. صفُونيـ بما َو ََو ِ
ولما قال له بعض أصحابه" :أنت سيّدُنا ،"...فقال( :ال َّ
سيّ ُد هللا
ارك وتَ َعالى).تَبَ َ
ول ّما قالوا" :أفضلنا وأعظمنا طَواًل ،"...فقال( :قُولُوا بقَولِكم،
أو بَعض قَولِكمَ ،وال يَستَجرين ُكم الشَيطَان) [رواه أبو داود بسند
جيد].
خيرنا وابن خيرنا ،وسيدناـ رسول هللا ،يا َ َ وقال له ناس" :يا
َ ُ ُ ّ
وابن سيدنا ،"...فقال( :يا أيّها الناس ،قولوا بقولكم َوال
سولُهَ ،ما أ ِح ُّب أن يَستَهوين ُكم الشَيطَان ،أنَا ُمح ّم ٌد عَب ُد هللا َ
ور ُ
ق َمن ِزلتي الّتي أنزلَني هللا ع ّز وج ّل) [رواه أحمد تَرفَ ُعوني فَو َ
والنسائي].
كره -صلى هللا عليه وسلم -أن يمدحوه بهذه األلفاظ" :أنتِ
سيدنا ،أنت خيرُنا ،أنت أفضلُنا ،أنت أعظ ُمنا "...مع أنه أفض ُل
156
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
الخلق وأشرفُهمـ على اإلطالق؛ لكنه نهاهم عن ذلك ابتعادًا بهم
عن ال ُغلُ ِّو واإلطراء في حقه ،وحمايةً للتوحيد.ـ
وأرشدهمـ أن يصفون بصفتين ،هما أعلى مراتب العبد وليس
فيهما غلو وال خطر على العقيدة ،وهما :عبد هللا ورسوله .ولم
يُحب أن يرفعوه فوق ما أنزله هللا عز وجل من ال َمنزلة التي
رضيها له.
وقد خالف نهيَه -صلى هللا عليه وسلم -كثي ٌر من الناس
فصارواـ يدعونه ويستغيثون به ويحلفونَ به ،ويطلبون منها ما ال
يُطلب إال من هللا؛ كما يُفع ُل في الموالد والقصائد واألناشيد ،وال
يُميزون بين حق هللا وحق الرسول.
يقول العالمةُ ابن القيم في النونية:
ولعبده حـق هما حقّـان *** هلل ح ّ
ق ال يكون لـــغيره
من غير تمييز وال فرقان *** ال تجعلوا الحقّين حقًّا واحدًا
157
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وهو صاحب المقام المحمود الذي قال هللا تعالى فيهَ { :ع َسى
أَن يَ ْب َعثَكَ َربُّكَ َمقَا ًما َّمحْ ُمودًا}ـ [اإلسراء.]79/
أي :المقام الذي يُقيمه هللا فيه للشفاعة للناس يوم القيامة
ليريحهم ربهم من شدة الموقف.ـ وهو مقام خاص به صلى هللا
عليه وسلم دونَ غيره من النبيين.
وهو أخشى الخلق هلل ،وأتقاهم له .وقد نهى هللا عن رفع
الصوت بحضرته صلى هللا عليه وسلم ،وأثنىـ على الذين
ضونَ أصواتهم عنده. يَ ُغ ّ
فقال تعالى{ :يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ال تَرْ فَعُواـ أَصْ َواتَ ُك ْم فَوْ َـ
ق
ْض أَنْض ُك ْـم لِبَع ٍ ت النَّبِ ِّي َوال تَجْ هَرُوا لَهُ بِ ْالقَوْ ِل َك َجه ِْر بَع ِ صوْ َِ
تَحْ بَطَ أَ ْع َمالُ ُك ْم َوأَنتُ ْم ال تَ ْش ُعرُونَ * إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ُغضُّ ونَ أَصْ َواتَهُْـم
ُول هَّللا ِ أُوْ لَئِ َ
ك الَّ ِذينَ ا ْمت ََحنَ هَّللا ُ قُلُوبَهُْـم لِلتَّ ْق َوى لَهُم َّم ْغفِ َرةٌ ِعن َد َرس ِ
ت أَ ْكثَ ُرهُ ْم ال ك ِمن َو َرا ِء ْال ُح ُج َرا ِ َوأَجْ ٌر َع ِظي ٌم * إِ َّن الَّ ِذينَ يُنَادُونَ َـ
ُج إِلَ ْي ِه ْم لَ َكانَ خَ ْيرًا لَّهُ ْم َوهَّللا ُ
صبَرُوا َحتَّى ت َْخر َ يَ ْعقِلُونَ * َولَوْ أَنَّهُ ْم َ
َغفُو ٌر َّر ِحي ٌم} [الحجرات.]5-2/
قال اإلمام ابن كثير -رحمه هللا" :هذه آيات أ ّدب هللا فيها عباده
المؤمنين فيما يعاملون به النبي -صلى هللا عليه وسلم -من التوقيرـ
واالحترام ،والتبجيل واإلعظام ...أن ال يرفعواـ أصواتهمـ بين يدي
النبي -صلى هللا عليه وسلم -فوق صوته".
ونهى سبحانه وتعالىـ أن يُدعى الرسول باسمه كما يُدعى
سائ ُر الناس ،فيقال :يا محمد .وإنما يُدعى بالرسالة والنبوة ،فيقال:
يا رسول هللا ،يا نبي هللا.
ْض ُكمـ قال تعالى{ :ال تَجْ َعلُوا ُدعَا َء ال َّرس ِـ
ُول بَ ْينَ ُك ْم َك ُدعَا ِء بَع ِ
بَ ْعضًا} [النور.]63/
158
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
كما أن هللا سبحانه يناديه بـ "يا أيها النبي ،يا أيها الرسول".
وقد صلى هللا ومالئكته عليه ،وأمر عباده بالصالة والتسليم
ُصلُّونَ َعلَى النَّبِ ِّي يَا أَيُّهَا
عليه ،فقال تعالى{ :إِ َّن هَّللا َ َو َمالئِ َكتَهُ ي َ
صلُّوا َعلَ ْي ِه َو َسلِّ ُموا تَ ْسلِي ًما}ـ [األحزاب.]56/ الَّ ِذينَ آ َمنُوا َ
وقت وال كيفية ٌ لكن ال يُخصص ل َمدحه -صلى هللا عليه وسلم-
معينة إال بدلي ٍل صحيح من الكتاب وال ُّسنَّة .فما يفعله أصحابُ
الموالد من تخصيص اليوم الذي يزعمون أنه يوم مولده ل َمدحه:
بدعة منكرة.
ومن تعظيمه -صلى هللا عليه وسلم -تعظيم سنته ،واعتقاد
وجوب العمل بها .وأنها في المنزلة الثانية بعد القرآن الكريم في
وجوب التعظيم والعمل ألنها وحي من هللا تعالى .كما قال تعالى:
ُوحى}ـ [النجم.]4 ،3/ يي َ ق ع َِن ْالهَ َوى * إِ ْن ه َُو إِالَّ َوحْ ٌ
{ َو َما يَ ْن ِط ُ
فال يجوزـ التشكيك فيها ،والتقليل من شأنها ،أو الكالم فيها
بتصحيح أو تضعيف لطرقها وأسانيدهاـ أو شرح ل َمعانيها إال بعلم
َّال على ُسنّة الرسولوتحفُّظ .وقد كثر في هذا الزمان تطاول الجه ِ
صا من بعض الشباب الناشئين؛ -صلى هللا عليه وسلم -خصو ً
الذين ال يزالون في المراحل األولى من التعليم .صاروا
يص ِّححون ويُضعّفون في األحاديث ،ويجرحون في الرواة بغير
علم سوى قراءة الكتب .وهذا خط ٌر عظيم عليهم وعلى األمة،
فيجب عليهم أن يتقوا هللا ،ويقفوا عند حدهم.
159
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
تجب طاعة النبي -صلى هللا عليه وسلم -بفعل ما أمره به،
وترك ما نهى عنه .وهذا من مقتضى شهادة أنه رسول هللا .وقد
أمر هللا تعالى بطاعته في آيات كثيرة ،تارة مقرونة مع طاعة هللا.
ُوا هَّللا َ َوأَ ِطيع ْـ
ُوا وا أَ ِطيع ْكما في قوله{ :يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ
ال َّرسُو َل} [النساء .]59/وأمثالهَا من اآليات.
وتارة يأمر بها منفردة ،كما في قولهَّ { :م ْن ي ُِط ِع ال َّرسُو َل فَقَ ْد
{وأَ ِطيعُوا ال َّرسُو َل لَ َعلَّ ُك ْم تُرْ َح ُمونَ }
أَطَا َع هَّللا َ} [النساءَ ،]80/
[النور.]56/
وتارة يتوعد من عصى رسوله صلى هللا عليه وسلم ،كما في
صيبَهُْـم فِ ْتنَةٌ أَوْ
قوله تعالى{ :فَ ْليَحْ َذ ِـر الَّ ِذينَ يُخَالِفُونَ ع َْن أَ ْم ِر ِه أَن تُ ِ
صيبَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم} [النور.]63/ يُ ِ
أي :تصيبهمـ فتنة في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة ،أو
عذاب أليم في الدنيا -بقتل أو َح ٍّد أو حبس ،أو غير ذلك من
العقوبات العاجلة.
وقد جعل هللا طاعته واتباعه سببًا لنيل محبة هللا للعبد ومغفرة
ذنوبه ،قال تعالى{ :قُلْ إِن ُكنتُ ْم تُ ِحبُّونَ هَّللا َ فَاتَّبِعُونِي يُحْ بِ ْب ُك ُم هَّللا ُ
َويَ ْغفِرْ لَ ُك ْم ُذنُوبَ ُك ْم} [آل عمران.]31/
وجعل طاعته هداية ،ومعصيته ضالاًل ،قال تعالىَ { :وإِن
تُ ِطيعُوهُ تَ ْهتَدُوا} [النور.]54/
ك فَا ْعلَ ْم أَنَّ َما يَتَّبِعُونَ أَ ْه َوا َءهُ ْم وقال تعالى{ :فَإِن لَّ ْم يَ ْست َِجيبُوا لَ َ
ضلُّ ِم َّم ِن اتَّبَ َع ه ََواهُ بِ َغي ِْر هُدًى ِّمنَ هَّللا ِ إِ َّن هَّللا َ ال يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم
َو َم ْن أَ َ
الظَّالِ ِمينَ } [القصص.]50/
160
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
أن فيه القدوة الحسنة ألمته ،فقال تعالى: وأخبر سبحانه وتعالى َّ َ
ْ هَّللا َ ِّ ٌ ٌ ُ هَّللا
ُول ِ أس َْوة َح َسنَة ل َمن كانَ يَرْ جُو َ َواليَوْ َم ُ
{لَقَ ْد َكانَ لك ْم فِي َرس ِ
َ
اآل ِخ َر َو َذ َك َر هَّللا َ َكثِيرًا} [األحزاب.]21/
قال ابن كثير -رحمه هللا تعالى" :هذه اآلية الكريمة أصل
كبير في التأسّي برسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -في أقواله
وأفعاله وأحواله .ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي
-صلى هللا عليه وسلم -يوم األحزاب في صبره ومصابرته،
ومرابطته ومجاهدته ،وانتظاره الفرج من ربه -عز وجل-
صلوات هللا وسالمه عليه دائ ًما ،إلى يوم الدين".
وقد ذكر هللا طاعة الرسول واتباعه في نحو أربعين موضعًا
من القرآن .فالنفوس أحوج على معرفة ما جاء به واتباعه منها
فإن الطعام والشراب إذا فات الحصولـ إلى الطعام والشرابَّ .
عليهما ،حصل الموت في الدنيا ,وطاعة الرسول واتباعه إذا فاتا،
حصل العذاب والشقاء الدائم.
وقد أمر صلى هللا عليه وسلم باالقتداء به في أداء العبادات،
وأن تؤدى على الكيفية التي كان يؤديهاـ بها.
ُول هَّللا ِ أُس َْوةٌ َح َسنَةٌ}
فقال تعالى{ :لَقَ ْد َكانَ لَ ُك ْم فِي َرس ِ
[األحزاب.]21/
أصلّي)
(صلّوا َك َما َرأيتُ ُمونِي َ وقال النبي صلى هللا عليه وسلمَ :
[الحديث رواه البخاري].
اس َك ُكم) [الحديث رواه مسلم]. (خ ُذوا َعنّي َمنَ ِ وقالُ :
يس َعلَيه أم ُرنَا فَ ُهو َردّ) [الحديث
وقالَ ( :من َع ِمل َع َماًل لَ َ
متفق عليه].
161
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
سنّتِي فَلَ َ
يس ِمنّي) [متفق عليه] إلى وقالَ ( :من َر ِغ َب عَن ُ
غير ذلك من النصوص التي فيها األمر باالقتداء به والنهي عن
مخالفته.
162
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
• مواطن الصلوات:
وتشرع الصالة عليه -صلى هللا عليه وسلم -في مواطنَ يتأكد
طلبها فيها ،إما وجوبًا وإما استحبابًا مؤكدًا.
وذكر ابن القيم-رحمه هللا -في كتابه( :جالء األفهام) واحدًا
وأربعين موطنًا؛ بدأها بقوله" :الموطن األول - :وهو أهمها
وآكدها -في الصالة في آخر التشهد .وقد أجمع المسلمون على
مشروعيته .واختلفوا في وجوبه فيها".ـ
طب -ك ُخطبةثم ذكر من المواطن :آخر القنوت ،وفي ال ُخ َ
الجمعة ،والعيدين واالستسقاء ،وبعد إجابة المؤذن ،وعند الدعاء،
وعند دخول المسجد والخروج منه ،وعند ذكره صلى هللا عليه
وسلم.
• فوائد الصلوات:
ثم ذكر -رحمه هللا -الثمرات الحاصلة من الصالة على النبي
صلى هللا عليه وسلم .فذكر فيها أربعين فائدة:
منها :امتثال أمر هللا سبحانه بذلك.
ومنها :حصول عشر صلوات من هللا على المصلي مرة.
ومنها :رجاء إجابة الدعاء إذا ق َّدمهاـ أمامه.
ومنها :أنها سبب لشفاعته صلى هللا عليه وسلم إذا قرنها
بسؤال الوسيلة له صلى هللا عليه وسلم.
ومنها :أنها سبب ل ُغفران الذنوب.
ومنها :أنها سبب لرد النبي -صلى هللا عليه وسلم -على
صلِّي وال ُم َسلِّم عليه.
ال ُم َ
163
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ُ
فصلوات هللا وسالمه على هذا النبي الكريم.
الفصل الرابع :في فضل أهل البيت وما يجب لهم من
غير جفاء وال ُغلُ ّو
• معنى أهل البيت:
ُمتأهل البيت هم آل النبي -صلى هللا عليه وسلم -الذين َحر ْ
عليهم الصدقة .وهم آل علي ،وآل جعفر ،وآل عقيل ،وآل
العباس ،وبنو الحارث بن عبد المطلب ،وأزواج النبي صلى هللا
عليه وسلم وبناته.
تس أَ ْه َل ْالبَ ْي ِ
ب عَن ُك ُم الرِّجْ َ لقوله تعالى{ :إِنَّ َما ي ُِري ُد هَّللا ُ لِي ُْذ ِه َ
َط ِهيرًا} [األحزاب.]33/ َويُطَه َِّر ُك ْـم ت ْ
قال اإلمام ابن كثير -رحمه هللا" :ثُ َّم الذي ال يشك فيه من تدبّر
القرآن ،أن نساء النبي -صلى هللا عليه وسلم -داخالت في قوله
ت َويُطَه َِّر ُك ْـم س أَ ْه َل ْالبَ ْي ِ
ب عَن ُك ُم الرِّجْ َ تعالى{ :إِنَّ َما ي ُِري ُد هَّللا ُ لِي ُْذ ِه َ
َط ِهيرًا} [األحزاب.]33/ ت ْ
{و ْاذ ُكرْ نَ َما فإن سياق الكالم معهن .ولهذا قال بعد هذا كلهَ :
ت هَّللا ِ َو ْال ِح ْك َم ِة} [األحزاب.]34/ يُ ْتلَى فِي بُيُوتِ ُك َّن ِم ْن آيَا ِ
أي :واعملن بما ينزل هللا تبارك وتعالى على رسوله -صلى
هللا عليه وسلم -في بيوتكن ،من الكتاب والسنة .قاله قتادة وغير
واحد.
صصْ تُ َّن بها من بين الناس :أن واذ ُكرنَ هذه النعمة التي ُخ ِ
الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس .وعائشة الصديقة بنت
164
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
الصديق -رضي هللا عنها -أواله َُّن بهذه النعمة ،وأخصُّ ه َُّن من هذه
الرحمة العميمة .فإنه لم ينزل على رسولـ هللا -صلى هللا عليه
وسلم -الوحي في فراش امرأة سواها .كما نصَّ على ذلك صلوات
هللا وسالمه عليه.
وقال بعض العلماء :ألنه لم يتزوج بكرًا سواها ،ولم ينم معها
رجل في فراشهاـ سواه صلى هللا عليه وسلم .فناسب أن تُخص َ
َّص
بهذه المزية ،وأن تُفر َد بهذه المرتبة العليَّة .ولكن إذا كان أزواجه
من أهل بيته ،فقرابته أحق بهذه التسمية ".انتهى من تفسير ابن
كثير.
• محبّة أهل البيت ومواالتهم:
فأهل السنة والجماعة يحبّون أهل بيت رسول هللا -صلى هللا
عليه وسلم -ويتولونهم .ويحفظون فيهمـ وصية رسول هللا صلى
هللا عليه وسلم ،حيث قال يوم غدير ُخم ( :أُذ ّك ُر ُكمـ هللا في ِ
أهل
بَيتِي) [رواه مسلم].
فأهل السنة يحبونهم ويكرمونهمـ ألن ذلك من محبة النبي
-صلى هللا عليه وسلم -وإكرامه .وذلك بشرط :أن يكونوا متبعين
لل ُّسنَّة مستقيمين على ال ِملة .كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنوه،
وعلي وبنوه .أما من خالف السنة ،ولم يستقم على الدين ،فإنه ال
تجوز مواالته ولو كان من أهل البيت.
فموقفـ أهل السنة والجماعة من أهل البيت موقف االعتدال
واإلنصاف.ـ يتولون أهل الدين واالستقامة منهم ،ويتبرءون ممن
خالف السنة وانحرف عن الدين ،ولو كان من أهل البيت .فإن
كونه من أهل البيت ومن قرابة الرسول ،ال ينفعه شيئًا حتى
يستقي َم على دين هللا.
165
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
فقد روىـ أبو هريرة -رضيـ هللا عنه -قال :قام رسول هللا
ك األَ ْق َربِينَ } {وأَن ِذرْ ع َِش َ
يرتَ َ صلى هللا عليه وسلم حين أنزل عليهَ :
[الشعراء.]214/
سكم ،ال فقال( :يا َمعشَر قُ َريش -أو كلِمة نَحوهَا -اشتَروا أنفُ َ
أغنِي عَن ُكم ِمن هللا شَيئًا ،يَا َعبّاس ابن عَبد ال ُمطّلب ال أغنِي
عَنك ِمن هللا شيئًا ،يَا صفيّةُ ع ّمة َرسول هللا صلى هللا عليه
اطمة بنتَ مح ّمد ،سلِينِي وسلم ،اَل أغنِي عَنك ِمن هللا شيئًا ،ويَا فَ ِ
شئت ،اَل أغنِي عَنك ِمن هللا شَيئًا) [رواه البخاري]. ِمن َمالي َما ِ
سبُه) [رواه مسلم]. والحديثَ ( :من بَطَّأ َع َملُه لَم يُس ِرع بِه نَ َ
ويتبرأ أهل ال ُّسنَّة والجماعة من طريق الروافض؛ الذين يُغلون
في بعض أهل البيت ،ويَ َّدعون لهم العصمة .ومن طريقة
النواصب؛ الذين ينصبونـ العداوة ألهل البيت المستقيمين،
ويطعنون فيهم .ومن طريقة المبتدعة والخرافيين الذين يتوسلونـ
بأهل البيت ،ويتخذونهم أربابًا من دون هللا.
فأهل السنة في هذا الباب وغيره على المنهج المعتدل،
والصراطـ المستقيم الذي ال إفراطَـ فيه وال تفريط ،وال جفاء وال
غل ّو في حق أهل البيت وغيرهم.
وأهل البيت المستقيمون يُنكرون الغلو فيهم ،ويتبرؤون من
ال ُغالة .فقد حرق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي هللا
عنه -الغالة الذين َغلَوا فيه بالنار .وأقرّه ابنُ عباس -رضي هللا
عنه -على قتلهم ،لكن يرى قتلهم بالسيف بداًل من التحريق.
وطلب علي -رضي هللا عنهما -عبد هللا بن سبأ رأس ال ُغالة ليقتله،
لكنه هرب واختفى.
166
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
الفصل الخامس :في فضل الصحابة وما يجب اعتقاده
فيهم ومذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث بينهم
167
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ُ وقال تعالى{ :لِ ْلفُقَ َراء ْال ُمهَ ِ
اج ِرينَ الَّ ِذينَ أ ْخ ِرجُواـ ِمن ِد ِ
يار ِه ْـم
صرُونَ هَّللا َ َو َرسُولَهُ َوأَ ْم َوالِ ِه ْم يَ ْبتَ ُغونَ فَضْ اًل ِّمنَ هَّللا ِ َو ِرضْ َوانًا َويَن ُ
ك هُ ُم الصَّا ِدقُونَ * َوالَّ ِذينَ تَبَ َّوؤُواـ ال َّدا َر َوا ِإلي َمانَ ِمن قَ ْبلِ ِه ْم أُوْ لَئِ َ
اجةً ِّم َّما أُوتُوا ُور ِه ْـم َح َ
صد ِ ي ُِحبُّونَ َم ْن هَا َج َر إِلَ ْي ِه ْم َوال يَ ِج ُدونَ فِي ُ
ق ُش َّح نَ ْف ِس ِه اصةٌ َو َمن يُو َ خَص ََ َوي ُْؤثِرُونَ َعلَى أَنفُ ِس ِه ْم َولَوْ َكانَ بِ ِه ْم
ك هُ ُم ْال ُم ْفلِحُونَ } [الحشر.]9 ،8/ فَأُوْ لَئِ َ
ففي هذه اآليات:
-أن هللا سبحانه أثنى على المهاجرين واألنصار ،ووصفهمـ
بالسبقـ إلى الخيرات.
-وأخبر أنه قد رضي هللا عنهم ،وأع ّد لهم الجنات.
-ووصفهمـ بالتراحم فيما بينهم ،وال ّش ّدة على ال ُكفَّ ِ
ار.
-ووصفهمـ بكثرة الركوع والسجود ،وصالح القلوب.
-وأنهم يعرفون بسيما الطاعة واإليمان.
-وأن هللا اختارهم لصحبة نبيه ليغيظ بهم أعداءه الكفار.
-كما وصفـ المهاجرين بترك أوطانهم وأموالهمـ من أجل هللا
ونصرة دينه ،وابتغاء فضله ورضوانه.
-وأنهم صادقونـ في ذلك.
ُّ
-ووصفـ األنصار بأنهم أهل دار الهجرة والنصرة ،واإليمان
الصادق.ـ
-ووصفهمـ بمحبة إخوانهم المهاجرين ،وإيثارهم على أنفسهم،
و ُمواساتهمـ لهم ،وسالمتهمـ من الشح .وبذلك حازواـ على الفالح.
هذه بعض فضائلهم العامة ،وهناك فضائل خاصة ومراتب
يفضل بها بعضهم بعضًا ،رضي هللا عنهم ،وذلك بحسب سبقهم
إلى اإلسالم والجهاد والهجرة.
• أفضل الصحابة:
168
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
فأفضل الصحابة الخلفاء األربعة؛ أبو بكر وعمر وعثمان
وعلي .ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة؛ وهم هؤالء األربعة
وطلحة ،والزبير ،وعبد الرحمن بن عوف ،وأبو عبيدة بن
الجراح ،وسعد بن أبي وقاص ،وسعيد بن زيد .ويَ ْف ُ
ض ُل
المهاجرون على األنصار ،وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان.
ويَ ْفضُل من أسلم قبل الفتح وقاتل على من أسلم بعد الفتح.
169
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
بدين النصرانية -فأظهر التنسك .ثم أظهر األمر بالمعروف
َ
والنهي عن المنكر ،حتى سعى في فتنة عثمان وقتله .ثم ل ّما ق ِد َم
على الكوفة أظهر ال ُغل َّو في علي والنصر له ليتمكن بذلك من
أغراضه .وبلغ ذلك عليًّا فطلب قتله ،فهرب منه إلى قرقيس.
وخبره معروف في التاريخ".
وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه هللا" :فلما قُتل عثمان
رضي هللا عنه ،تفرقت القلوب وعظُ َمت الكروب ،وظهرت
األشرار و َذ َّل األخيار .وسعى في الفتنة من كان عاج ًزا عنها،
وعجز عن الخير والصالح من كان يحب إقامته .فبايعوا أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب -رضي هللا عنه -وهو أحق الناس
بالخالفة حينئذ ،وأفضل من بقي .لكن كانت القلوب متفرقة ،ونار
الفتنة متوقدة .فلم تتّفق الكلمة ،ولم تنتظم الجماعة ،ولم يتمكن
الخليفة وخيارـ األمة من ك ّل ما يريدونه من الخير ،ودخل في
الفرقة والفتنة أقوام ،وكان ما كان".
وقال أيضًا مبيّنًا عذر المتقاتلين من الصحابة في قتال علي
ع الخالفة ،ولم يُبايَع له بها حين قاتل ومعاوية" :ومعاوية لم يَ َّد ِ
عليًّا .ولم يقاتل على أنه خليفة ،وال أنه يستحق الخالفة .وكان
معاوية يقر بذلك ل َمن سأله عنه .وال كان معاوية وأصحابه يَرونَ
أن يبتدئواـ عليًّا وأصحابه بالقتال .وال فعلوا ،بل ل ّما رأى علي
-رضيـ هللا عنه -وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته ،إذ ال
يكون للمسلمين إال خليفة واحد ،وأنهم خارجون عن طاعته؛
يمتنعون عن هذا الواجب ،وهم أهل شوكة :رأى أن يُقاتلهم حتى
يؤدوا هذا الواجب ،فتحصل الطاعة والجماعة.
وهم قالوا :إن ذلك ال يجب عليهم ،وأنهم إذا قوتلوا على ذلك
كانوا مظلومين.
170
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
قالوا :ألن عثمان قُتِ َل مظلو ًما باتفاق المسلمين ،وقتلته في
عسكر علي ،وهم غالبون لهُم شوكة .فإذا امتنعنا :ظلمونا واعتدوا
علينا .وعلي ال يمكنه دفعهم ،كما لم يمكنه الدفع عن عثمان .وإنما
علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن يُنصفنا ويبذل لنا اإلنصاف".ـ
171
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
والخطأ مغفور .ل َما في الحديث :أن رسول هللا صلى هللا عليه
وسلم قال( :إ َذا اجتَه َد الحا ِك ُم فَ َ
أصاب فَلَه أج َرانَ ،وإن اجتَ َهد
أجر َوا ِحد) [في الصحيحين من حديث عمرو بن فَأخطَأ فَلَه ْ
العاص رضي هللا عنهما].
الوجه الرابع :أنهم ب َشر يجوزـ على أفرادهم الخطأ ،فهم ليسوا
معصومين من الذنوب بالنسبة لألفراد .لكن ما يقع منهم فله
مكفرات عديدة ،منها:
1ـ أن يكون قد تاب منه .والتوبة تمحو السيئة مهما كانت ،كما
جاءت به األدلة.
2ـ أن لهُم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما صدرـ
ت ي ُْذ ِه ْبنَ السَّـيِّئَا ِ
ت} منهم ،إن صدر .قال تعالى{ :إِ َّن ْال َح َسنَا ِ
[هود.]114/
ولهُم من الصُّ حبة والجهاد مع رسول هللا -صلى هللا عليه
وسلم -ما يغمر الخطأ الجزئي.
3ـ أنهم تُضاعفُ لهُم الحسنات أكثر من غيرهم ،وال يساويهمـ
أحد في الفضل.
وقد ثبت بقول رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -أنهم خير
القرون ،وأن ال ُم َّد من أحدهم إذا تصدق به أفضل من جبل أُحد
ذهبًا إذا تصدق به غيرهم -رضي هللا عنهم -وأرضاهم.ـ
قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه هللا" :وسائر أهل السنة
والجماعة وأئمة الدين ال يعتقدون عصمة أحد من الصحابة ،وال
القرابة وال السابقين وال غيرهم .بل يجوز عندهم وقوعـ الذنوب
172
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
منهم .وهللا تعالى يغف ُر لهم بالتوبة ،ويرفعـ لها درجاتهم،ـ ويغفر
لهم بحسنات ماحية ،أو بغير ذلك من األسباب.
ق بِ ِه أُوْ لَئِكَ هُ ُم ْال ُمتَّقُونَ ص َّد َـ ق َو َقال تعالىَ { :والَّ ِذيـ َجا َء بِالصِّ ْد ِ
33لَهُم َّما يَ َشاءُونَ ِعن َد َربِّ ِه ْم َذلِكَ َج َزا ُء ْال ُمحْ ِسنِينَ * لِيُ َكفِّ َر هَّللا ُ
َع ْنهُ ْم أَس َْوأَ الَّ ِذي َع ِملُوا َويَجْ ِزيَهُْـم أَجْ َرهُم بِأَحْ َس ِن الَّ ِذي َكانُوا
يَ ْع َملُونَ } [الزمر.]35-32/
ال َربِّ وقال تعالىَ { :حتَّى إِ َذا بَلَ َغ أَ ُش َّدهُ َوبَلَ َغ أَرْ بَ ِعينَ َسنَةً قَ َ
ي َوأَ ْن ي َو َعلَى َوالِ َد َّ ك الَّتِي أَ ْن َع ْمتَ َعلَ َّ أَوْ ِز ْعنِي أَ ْن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َ
ك َوإِنِّي ْت إِلَ ْي َضاهُ َوأَصْ لِحْ لِي فِي ُذ ِّريَّتِي إِنِّي تُب ُ صالِحًا تَرْ َ أَ ْع َم َل َ
ك الَّ ِذينَ نَتَقَبَّ ُل َع ْنهُ ْم أَحْ َسنَ َما َع ِملُوا َونَتَجا َو ُـز ِمنَ ْال ُم ْسلِ ِمينَ * أُوْ لَئِ َ
ب ْال َجنَّ ِة} [األحقاف ".]16 ،15/انتهى. عَن َسيِّئَاتِ ِه ْم فِي أَصْ َحا ِ
وقد اتخذ أعداء هللا ما وقع بين الصحابة وقت الفتنة من
االختالف واالقتتال سببًا للوقيعة بهم ،والنيل من كرامتهم.
وقد جرى على هذا المخطط الخبيث بعض الكتّاب
المعاصرين؛ الذين يهرفون بما ال يعرفون .فجعلوا أنفسهم حك ًما
ضهم، بين أصحاب رسولـ هللا -صلى هللا عليه وسلم -يصوّبون بع َ
بعضهم ،بال دليل؛ بل بالجهل واتباع الهوى ،وترديدـ ماَ ويخطئون
يقوله المغرضون والحاقدون من المستشرقين وأذنابهم.ـ
حتى شككواـ بعض ناشئة المسلمين -ممن ثقافتهم ضحلة-
بتاريخ أمتهم المجيد ،وسلفهم الصالح الذين هم خير القرون،
لينفذوا بالتالي إلى الطعن في اإلسالم ،وتفريق كلمة المسلمين،
وإلقاء البُغض في قلوب آخر هذه األمة ألولها ،بداًل من االقتداء
{والَّ ِذينَ َجاؤُوا ِمن بَ ْع ِد ِه ْم
بالسلف الصالح ،والعمل بقوله تعالىَ :
173
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
يَقُولُونَ َربَّنَا ا ْغفِرْ لَنَا َو ِإل ْخ َوانِنَا الَّ ِذينَ َسبَقُونَا بِا ِإلي َما ِن َوال تَجْ َعلْ
َّحي ٌم} [الحشر.]10/ ُوف ر ِفِي قُلُوبِنَا ِغاًل لِّلَّ ِذينَ آ َمنُوا َربَّنَا إِنَّكَ َرؤ ٌـ
174
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
(هُم َمن كانَ عَلى ِمثل َما أنَا َعلَيه اليَو َم َو َ
أصحابي) [رواه اإلمام
أحمد وغيره].
قال أبو زرعة -وهو أج ّل شيوخ اإلمام مسلم" :إذا رأيت
الرجل يتنقص امر ًءا من الصحابة ،فاعلم أنه زنديق .وذلك أن
القرآن حق ،والرسول حق ،وما جاء به حق ،وما أدى إلينا ذلك
كله إال الصحابة .فمن جرحهمـ إنما أراد إبطال الكتاب وال ُّسنَّة.
فيكون الجرح به أليق ،والحكم عليه بالزندقة والضالل أقوم
وأحق".
قال العالمة ابن حمدان في نهاية المبتدئين" :من َسبَّ أحدًا من
الصحابة ُمستحاًل ،كفر؛ وإن لم يستح ّل ،فسق ،وعنه :يكفر
مطلقًا ،ومن فَسَّقهم ،أو طعن في دينهم ،أو كفَّرهم؛ كفر .
175
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
قال شارح الطحاوية" :فيجبُ على كل مسلم بعد ُمواالة هللا
ورسوله :مواالة المؤمنين؛ كما أطلق القرآن ،خصوصًا الذين هُم
ورثة األنبياء ،الذين جعلهم هللا بمنزلة النجوم ،يُهتدى بهم في
ظلمات البر والبحر .وقد أجم َع المسلمون على هدايتهمـ ودرايتهم.
فإنهم ُخلفاء الرسول -صلى هللا عليه وسلم -في أمته،
وال ُمحيون ل َما مات من سنته .فبِهم قام الكتاب وبه قاموا ،وبهم
نطق الكتاب وبه نطقوا .وكلهم متفقون اتفاقًا يقينًا على وجوب
اتباع الرسولـ صلى هللا عليه وسلم .ولكن :إذا وجد لواحد منهم
قول قد جاء حديث صحيح بخالفه ،فالبد له في تركه من عذر".
وجماع األعذار ثالثة أصناف:
أحدها :عدم اعتقاده أن النبي صلى هللا عليه وسلم قاله.
الثاني :عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول.
الثالث :اعتقاده أن الحكم منسوخ.
فلهم الفضل علينا وال ِمنة بالسبقـ وتبليغ ما أرسل به الرسول
-صلى هللا عليه وسلم -إلينا ،وإيضاحـ ما كان منه يخفى علينا.
{ربَّنَا ا ْغفِرْ لَنَا وَإِل ِ ْخ َوانِنَاـ الَّ ِذينَ َسبَقونَا
ُ فرضيـ هللا عنهم وأرضاهمـ َ
ك َرؤ ٌ
ُوف َّ ِّ اًّل
بِا ِإلي َما ِن َوال تَجْ َعلْ فِي قُلُوبِنَاـ ِغ لل ِذينَ آ َمنُوا َربَّنَا إِنَّ َ
َّحي ٌم} [الحشر.]10/ ر ِ
والحطّ من قدر العلماء بسبب وقوع الخطأ االجتهادي من
بعضهم ،هو من طريقة المبتدعة؛ ومن ُمخططات أعداء األمة
للتشكيك في دين اإلسالم ،وإليقاع العداوة بين المسلمين ،وألجل
وبث الفرقة بين الشباب والعلماء، فصل خلف األمة عن سلفهاّ ،
كما هو الواقع اآلن.
176
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
فليتنبه لذلك بعض الطلبة المبتدئين -الذين يحطون من قدر
الفقهاء ،ومن قدر الفقه اإلسالمي ،ويزهدون في دراسته،
واالنتفاع بما فيه من حق وصواب .فليعتزوا بفقههم ،وليحترموا
علماءهم .وال ينخدعوا بالدعايات المضللة والمغرضة .وهللا
ال ُموفق.
177
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
.
178
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
179
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
2ـ أنواع البدع
البدعة في الدين نوعان:
النوع األول :بدعة قوليّة اعتقاديّة.
180
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
كتخصيص يوم النصف من شعبان وليلته بصيامـ وقيام .فإن
أصل الصيام والقيام مشروع،ـ ولكن تخصيصه بوقت من األوقات
يحتاج إلى دليل.
181
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
• تنبيـه:
من قَ َّس َم البدعة إلى بدعة حسنة ،وبدعة سيئة ،فهو مخطئ
ومخالف لقوله صلى هللا عليه وسلم( :فَإن ك ّل بِدعَة َ
ضاَل لَة) ألن
الرسول -صلى هللا عليه وسلم -حكم على البدع كلها بأنها ضاللة،
وهذا يقول :ليس كل بدعة ضاللة؛ بل هناك بدعة حسنة.
قال الحافظُـ ابنُ رجب في شرح األربعين" :فقوله صلى هللا
ضاَل لَة) من جوامع الكلم؛ ال يخرج عنه عليه وسلمُ ( :ك ّل بِدعَة َ
شيء .وهو أصل عظيم من أصول الدين .وهو شبيه بقوله صلى
يس ِمنه فَ ُهو َردّ) .فكل
َث في أم ِرنَا َما لَ َ
هللا عليه وسلمَ ( :من أحد َ
من أحدث شيئًا ونسبَهُ إلى الدين ،ولم يكن له أصل من الدين
يرجع إليه ،فهو ضاللة ،والدين بريء منه .وسواء في ذلك مسائل
االعتقادات ،أو األعمال أو األقوال الظاهرة والباطنة ".انتهى.
وليس لهؤالء حجة على أن هناك بدعة حسنة ،إال قول عمر
رضي هللا عنه في صالة التراويح( :نِع َمت البِدعَة ه ِذه).
وقالوا أيضًا :أنها أُحدثت أشياء لم يستنكرها السلف ،مثل جمع
القرآن في كتاب واحد ،وكتابة الحديث وتدوينه.
والجواب عن ذلك أن هذه األمور لها أصل في الشرع ،فليست
ُمحدثة.
وقول عمر( :نِع َمت البِدعَة )...يري ُد البدعة اللغوية ال
الشرعيّة .فما كان له أصل في الشرع يُر َج ُع إليه .إذا قيل :إنه
بدعة ،فهو بدعةٌ لغةً ال شرعًا ألن البدعة شرعًا :ما ليس له أصل
في الشرع.
182
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وجمع القرآن في كتاب واحد له أصل في الشرع ألن النبي
-صلى هللا عليه وسلم -كان يأمر بكتابة القرآن ،لكن كان مكتوبًاـ
متفرقًا ،فجمعه الصحابة -رضي هللا عنهم -في مصحف واحد
حفظًا له.
والتراويح قد صالها النبي -صلى هللا عليه وسلم -بأصحابه
ف عنهم في األخير خشية أن تفرض عليهم .واستم ّر ليالي .وتخلَّ َـ
الصحابةُ -رضي هللا عنهم -يصلونهاـ أوزاعًا متفرقين في حياة
النبي -صلى هللا عليه وسلم -وبعد وفاته ،إلى أن جمعهم عمر بن
الخطاب -رضي هللا عنه -على إمام واحد كما كانوا خلف النبي
صلى هللا عليه وسلم .وليس هذا بدعة في الدين.
وكتابةُ الحديث أيضًا لها أصل في الشرع .فقد أمر النبي
-صلى هللا عليه وسلم -بكتابة بعض األحاديث لبعض أصحابه؛
ل ّما طلب منه ذلك .وكان أبو هريرة -رضي هللا عنه -يكتب
الحديث في عهد النبي -صلى هللا عليه وسلم.ـ وكان المحذور من
كتابته بصفة عامة في عهده :خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس
منه .فل ّما تُوفّيـ -صلى هللا عليه وسلم -انتفى هذا المحذورـ ألن
القرآن قد تكامل ،وضبط قبل وفاته صلى هللا عليه وسلم .فدوَّنَ
الحديث بعد ذلك حفظًا له من الضياع .فجزاهُ ُم هللا عن
َ ال ُمسلمون
اإلسالم وال ُمسلمين خيرًا حيث حفظوا كتاب ربهم وسنة نبيهم
-صلى هللا عليه وسلم -من الضياع وعبث العابثين.
183
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
.1ظهور البدَع في حياة المسلمين
وتحته مسألتان:
184
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
المسألة الثانية :مكان ظهور البدع
تختلف البلدان اإلسالمية في ظهور البدع فيها .قال شيخ
اإلسالم ابن تيمية" :فإن األمصار الكبار التي سكنها أصحاب
رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -وخرج منها العل ُم واإليمان
خمسة :ال َحرمان ،والعراقان ،والشام .منها خرج القرآن
والحديث ،والفقه والعبادة ،وما يتبع ذلك من أمور اإلسالم.
وخَر َج من هذه األمصارـ بدع أصولية ،غير المدينة النبوية.
فالكوفة خرج منها التشيع واإلرجاء .وانتشرـ بعد ذلك في غيرها.
والبصرة خرج منها القدر واالعتزال والنسك الفاسد .وانتشر بعد
ذلك في غيرها .والشامـ كان بها النصب والقدر .وأما التجهم فإنما
ظهر في ناحية خراسان ،وهو شر البدع.
وكان ظهورـ البدع بحسب البعد عن الدار النبوية ،فل ّما حدثت
الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة الحرورية .وأما ال َمدينة
النبوية ،فكانت سليمة من ظهور هذه البدع ،وإن كان بها من هو
مضمر لذلك .فكان عندهم مهانًا مذمو ًما ،إذ كان بها قوم من
القدرية وغيرهم ،ولكن كانوا مقهورين ذليلين ،بخالف التشيع
واإلرجاء في الكوفة ،واالعتزال وبدع النساك بالبصرة ،والنصب
بالشام؛ فإنه كان ظاهرًا.
وقد ثبت في الصحيح عن النبي -صلى هللا عليه وسلم -أن
ال ّدجَّا َل ال يدخلها ،ولم يزل العلم واإليمان ظاهرًا إلى زمن
أصحاب مالك ،وهم من أهل القرن الرابع ".انتهى.
فأما العصور الثالثة ال ُمفضلة فلم يكن فيها بال َمدينة النبوية
بدعة ظاهرة البتّة ،وال خرج منها بدعة في أصول الدين البتّة،
كما خرج من سائرـ األمصار.
185
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
2ـ األسباب التي أدّت إلى ظهور البدع
مما ال شك فيه أن االعتصامـ بالكتاب والسنة فيه منجاة من
ص َرا ِطي{وأَ َّن هَـ َذا ِ
الوقوع في البدع والضالل .قال تعالىَ :
ق بِ ُك ْم عَن َسبِيلِ ِه} [األنعام/ ُم ْستَقِي ًما فَاتَّبِعُوهُ َوالَ تَتَّبِع ْ
ُوا ال ُّسب َُل فَتَفَ َّر َ
.]153
وقد وضح ذلك النبي -صلى هللا عليه وسلم -فيما رواه ابن
مسعود -رضي هللا عنه -قال :خَطَّ لنا رسول هللا -صلى هللا عليه
سبِي ُل هللا) .ثم خطَّ خطوطًاـ عن يمينه، وسلم -خطًّا فقال( :هذا َ
سبِيل ِمن َها شَيطَان سبُ ٌل ،عَلى ك ّل َ وعن شماله ثم قال( :وهذه ُ
اطي ُم ْستَقِي ًما فَاتَّبِعُوهُ َوالَ ص َر ِ {وأَ َّن هَـ َذا ِ
يَدعُو إلَيه) .ثم تالَ :
َّ
ق بِ ُك ْم عَن َسبِيلِ ِه َذلِ ُك ْم َوصَّا ُكم بِ ِه لَ َعل ُك ْم تَتَّقُونَ }) تَتَّبِع ْ
ُوا ال ُّسبُ َل فَتَفَ َّر َـ
[رواه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم].
أعرض عن الكتاب والسنة ،تنازعته الطرق ال ُمضللة،
َ فمن
َ
والبدع ال ُمح َدثة.
فاألسباب التي أ َّدت إلى ظهورـ البدع تتلخص في األمور
التالية :الجه ُل بأحكام الدين ،اتباع الهوى ،التعصب لآلراء
واألشخاص ،التشبّه بالكفار وتقليدهم.
ونتناول هذه األسباب بشيء من التفصيل:
186
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ض ال ِعل َم انتِزَاعًا يَنتَ ِزعه ِمن ِ
العبَاد، وقوله( :إنَّ هللا ال يَقبِ ُ
العل َم بِقَبض ال ُعلَماء؛ َحتّى إ َذا لَم يُ ْبق عَال ًما اتّخذَ
ض ِ َول ِكن يَقبِ ُ
ّ
ضلوا) ّ
ضلوا َوأ َ َ َ َ
سئلوا فأفتَوا بِغير ِعلم ،ف َ َ اًل
سا ُج ّها ،ف ُ النّاس ُرؤو ً
[جامع بيان العلم وفضله البن عبد البر (.])1/180
فال يُقاو ُم البد َع إال العلم والعلماء .فإذا فُقد العلم والعلماء
أتيحت الفرصة للبدع أن تظهرـ وتنتشر ،وألهلها أن ينشطوا.
ب ـ اتباع الهوى
من أعرض عن الكتاب والسنة اتبع هواه .كما قال تعالى:
ك فَا ْعلَ ْم أَنَّ َما يَتَّبِعُونَ أَ ْه َوا َءهُ ْم َو َم ْن أَ َ
ضلُّ ِم َّم ِن {فَإِن لَّ ْم يَ ْست َِجيبُوا لَ َ
اتَّبَ َع ه ََواهُ بِ َغي ِْر هُدًى ِّمنَ هَّللا ِ} [القصص.]50/
ضلَّهُ هَّللا ُ َعلَى ِع ْل ٍم
وقال تعالى{ :أَفَ َرأَيْتَ َم ِن اتَّخَ َذ إِلَهَهُ ه ََواهُ َوأَ َ
اوةً فَ َمن يَ ْه ِدي ِه ِمنص ِر ِه ِغ َش ََو َختَ َم َعلَى َس ْم ِع ِه َوقَ ْلبِ ِه َو َج َع َل َعلَى بَ َ
بَ ْع ِد هَّللا ِ} [الجاثية.]23/
والبدع إنَّما هي نسي ُج الهَوى المتَّبع.
187
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
د ـ التشبّه بالكفار
وهو من أشد ما يوقعـ في البدع .كما في حديث أبي واقدـ الليثي
قال :خرجنا مع رسول هللا -صلى هللا عليه وسلم -إلى حُنين.
ونحن حدثاء عهد بكفر .وللمشركينـ ِسدرة يعكفون عندها
ذات أنواط .فمررنا بسدرة فقلنا: وينوطون بها أسلحتهم ،يقال لهاُ :
"يا رسو َل هللا ،اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط".
سنَن!فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم( :هللا أكبَر ،إنّ َها ال ّ
فسي بِيَ ِدهَ -ك َما قَالَت بَنُو إس َرائِيل ل ُموسى{ :اجْ َعل -والّ ِذي نَ ِ قُلتُم َ
لَّنَا إِلَـهًا َك َما لَهُ ْم آلِهَةٌ قَا َل إِنَّ ُك ْم قَوْ ٌـم تَجْ هَلُونَ } [األعراف]138/
سنَنَ َمن قَبلَ ُكم) [رواه الترمذيـ وصححه]. لَتَركبُنَّ ُ
ففي هذا الحديث :أن التشبه بالكفار هو الذي حمل بني
إسرائيل أن يطلبواـ هذا الطلب القبيح .وهو أن يجعل لهم آلهة
يعبدونها.ـ وهو الذي حمل بعض أصحاب محمد -صلى هللا عليه
وسلم -أن يسألوه أن يجعل لهم شجرة يتبركون بها من دون هللا.
فإن غالب الناس من المسلمين قلدواـوهذا نفس الواقع اليومَّ ،
الكفار في عمل البدع والشركيات؛ كأعياد الموالد ،وإقامة األيام
واألسابيع ألعمال مخصصة ،واالحتفال بالمناسبات الدينية
والذكريات ،وإقامة التماثيل ،والنصب التذكارية ،وإقامة المآتم،
وبدع الجنائز ،والبناء على القبور ،وغير ذلك.
188
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
سنَّة والجماعة من المبتدعة
1ـ موقف أهل ال ُّ
ما زال أهل السنة والجماعة ير ّدون على المبتدعة ،ويُنكرون
عليهم بدعهم ،ويمنعونهمـ من مزاولتها.ـ وإليك نماذج من ذلك:
غضبًا،
ي أبو الدرداء ُم َ
( أ ) عن أم الدرداء قالت :دخل عل َّ
ك؟" فق ُ ُ
لت له" :ما ل َ
أعرفُ فيهم شيئًا من أمر مح ّم ٍد إال أنهم
فقال" :وهللا ،ما ِ
يصلون جميعًا[ ".رواه البخاري].
سمعت أبي يُ َحد ُ
ِّث عن أبيه ُ ( ب ) عن عمر بن يحيى قال:
قال :كنا نجلسُ على باب عبد هللا بن مسعود قبل صالة الغداة .فإذا
خرج م َشينَا معه إلى المسجد .فجاءنا أبو موسى األشعري ،فقال:
"أخر َج علي ُكم أبو عبد الرحمن بعد؟"
قلنا" :ال".
خرج قُمنا إليه جميعًا ،فقال" :ياَ َرج .فلما
فجلس معنا حتى خ َ
أبا عبد الرحمن ،إني رأيت في ال َمسجد آنفًا أمرًا أنكرتُهُ ،ولم أ َر
-والحمد هلل -إال خيرًا".
قال" :وما هو؟"
قال" :إن ِع ْشتَ فستراه".
"رأيت في ال َمسجد قو ًما ِحلقًا جلوسًا ينتظرون الصالة.
ُ قال:
في كل حلقة رجل ،وفيـ أيديهم حصى فيقولُ :كبرواـ مائة،
فيكبرون مائة ،فيقول :هللوا مائة ،فيهللون مائة ،فيقول :سبّحوا
مائة ،فيسبحون مائة".
قال" :فماذاـ قلتَ لهم؟"
189
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
انتظار رأيك ".أو "انتظار أمرك".
َـ فقال" :ما ُ
قلت لهم شيئًا
قال" :أفال أمرتَهُم أن يعدوا سيئاتهم ،وضمنتَ لهم أن ال يَشيع
من حسناتهم شيء؟"
ثم مضى ومضيناـ معه؛ حتى أتى حلقة من تلك الحلق ،فوقف
عليهم ،فقال" :ما هذا الذي أراكم تصنعون؟"
قالوا" :يا أبا عبد الرحمن ،حصى نع ُّد به التكبير والتهليل
والتسبيح والتحميد".
ٌ
ضامن أن ال يضي َع من حسناتكم قال :فعدواـ سيئاتكم ،فأنا
شيء .ويحكمـ يا أمة محمد ،ما أسرع هلكتكم ،هؤالء أصحابه
متوافرون ،وهذه ثيابه لم تبل ،وآنيته لم تُكسر .والذي نفسي بيده،
إنكم لعلى مل ٍة هي أهدى من ملة محمد ،أو ُمفتتحو باب ضاللة".
قالوا" :وهللا ،يا أبا عبد الرحمن ،ما أردنا إال الخير".
قال" :وكم مريد للخير لن يُصيبه! ّ
إن رسولـ هللا -صلى هللا
عليه وسلم -حدثنا أن قو ًماـ يقرؤون القرآن ال يجاوزـ تراقيهم ،واي ُم
هللا ال أدري لعل أكثرهم ِمن ُكم".
ثم تولَّى عنهم.
فقال عمرو بن سلمة" :رأيناـ عامة أولئك يطاعنوننا يو َم
َ
النهروان مع الخوارج[ ".رواه الدارمي].
(جـ) جاء رجل إلى اإلمام مالك بن أنس -رحمه هللا -فقال:
"من أين أُحْ ِر ُم؟"
فقال" :من ال ِميقات الذي َوقَّتَ رسولـ هللا -صلى هللا عليه
وسلم -وأحرم منه".
190
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ُ
أحرمت من أبعد منه". فقال الرجل" :فإن
فقال مالك" :ال أرى ذلك".
فقا َل" :ما تكرهُ من ذلك؟"
قال" :أكره عليك الفتنة".
قال" :وأي فتنة في ازديادـ الخير؟"
"فإن هللا تعالى يقول{ :فَ ْليَحْ َذ ِـر الَّ ِذينَ يُخَالِفُونَ ع َْن ّ فقال مالك:
َ
ُصيبَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم} [النور.]63/ ِ ي وَْ أ ٌ ة َ نتْ أَ ْم ِر ِه أَن ِ َ ْ ِ
ف م
ـ ُ هبيص ُ ت
َص به رسو ُل صتَ بفضل لم يُخت ّ ي فتنة أعظم من أنك ُخ ِّ
ص ْ وأ ّ
هللا صلى هللا عليه وسلم[ ".ذكره أبو شامة في كتاب :الباعث
على إنكار البدع والحوادث نقاًل عن أبي بكر الخالل ص.]14
هذا نموذج ،وال زال العلما ُء يُنكرونَ على ال ُمبتدعة في كل
عصر ،والحمد هلل.
191
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
غيره من األئمة في ذلك كعثمان بن سعيد الدارمي .وكما في كتب
شيخ اإلسالم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم ،والشيخ محمد بن عبد
الوهاب ،وغيرهم ،من الرد على تلك الفرق ،وعلى القبورية
والصوفية.
• وأما الكتب الخاصة في الرد على أهل البدع ،فهي كثيرة.
منها على سبيل ال ِمثال من الكتب القديمة:
-1كتاب االعتصام لإلمام الشاطبي.
-2كتاب اقتضاء الصراطـ المستقيم لشيخ اإلسالم ابن تيمية ،فقد
استغرقـ الرد على المبتدعة جز ًءا كبيرًا منه.
-3كتاب إنكار الحوادث والبدع البن وضَّاح.
-4كتاب الحوادث والبدع للطرطوشي.
-5كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادثـ ألبي شامة.
• ومن الكتب العصرية:
-1كتاب اإلبداع في مضار االبتداع للشيخ علي محفوظ.
-2كتاب السنن والمبتدعات المتعلقة باألذكار والصلواتـ للشيخ
محمد بن أحمد الشقيري الحوامدي.
-3رسالة التحذير من البدع للشيخ عبد العزيز بن باز.
وال يزا ُل علماء المسلمين -والحمد هلل -يُنكرون البد َع ويردونـ
على ال ُمبتدعة من خالل الصحفـ وال َمجالت واإلذاعات وخطب
الجُمع والندوات والمحاضرات ،مما له كبير األثر في توعية
ال ُمسلمين ،والقضاء على البدع ،وقمع ال ُمبتدعين.
192
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وهي -1 :االحتفال بالمولد النبوي؛ -2التبرك باألماكن
واآلثار واألموات ونحوـ ذلك؛ -3البدع في مجال العبادات
والتقرب إلى هللا.
البدع المعاصرة كثيرة؛ بحكم تأخر الزمن ،وقلة العلم ،وكثرة
الدعاة إلى البدع والمخالفات ،وسريان التشبه بالكفار في عاداتهم
وطقوسهم؛ مصداقًا لقوله صلى هللا عليه وسلم( :لتتّب َعنَّ ُ
سنَنَ َمن
كان قَبلَ ُكم) [رواه الترمذي وصححه].
193
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
اإلطرا ُء معناه :ال ُغلُ ّو في المدح .وربماـ يعتقدون أن الرسول
ض ُر احتفاالتهم.ـ
-صلى هللا عليه وسلم -يح ُ
ومن ال ُمنكرات التي تصاب هذه االحتفاالت :األناشيد الجماعية
ال ُمنغمة وضربُ الطبول ،وغي ُر ذلك من عمل األذكارـ الصوفية
ال ُمبتدعة .وقد يكون فيه اختالط بين الرجال والنساء ،مما يُسبّب
الفتنة ،ويج ّر إلى الوقوع في الفواحش .وحتى لو خالل هذا
االحتفال من هذه المحاذير ،واقتصرـ على االجتماع وتناول
الطعام ،وإظهار الفرح -كما يقولون -فإنه بدعة محدثة ( َوك ّل
ُم ْح َدثَة بِدعَةَ ،وك ّل بِدعَة َ
ضاَل لَة) .وأيضًا هو وسيلة على أن
يتطور ،ويحصل فيه ما يحصل في االحتفاالت األخرى من
المنكرات.
وقلنا :إنه بدعة ألنه ال أصل له في الكتاب والسنة وعمل
السلف الصالح والقرون المفضلة .وإنما حدث متأخرًا بعد القرن
الرابع الهجري ،أحدثه الفاطميون الشيعة.
قال اإلمام أبو حفص تاج الدين الفاكهانيـ -رحمه هللا" :أ َّما
بعدُ :فقد تكرر سؤال جماعة من ال ُمباركين عن االجتماع الذي
يعمله بعض الناس في شهر ربيع األول ،ويسمونه ال َمولد؛ هل له
أصل في الدين ،وقصدواـ الجواب عن ذلك مبيّنًا ،واإليضاح عنه
معينًا .فقلت -وباهلل التوفيق:
ال أعلم لهذا ال َمولد أصاًل في كتاب وال سنة ،وال يُنق ُل عملُه
عن أحد من علماء األمة ،الذين هم القدوة في الدين ،ال ُمتمسكون
بآثار المتقدمين ،بل هو بدعة أحدثها البطّالون ،وشهوة نفس
اغتنى بها األ َّكالون".
194
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه هللا" :وكذلك ما يحدثه
بعض الناس ،إما مضاهاة للنصارى في ميالد عيسى عليه
السالم ،وإما محبة للنبي صلى هللا عليه وسلم وتعظي ًما ...من
اتخاذ مولد النبي -صلى هللا عليه وسلم -عيدًا ،مع اختالف الناس
فإن هذا لم يفعله السلف .ولو كان هذا خيرًا محضًا ،أو في مولدهَّ .
َّ
ق به منا .فإنهم كانواراجحًا لكان السلفُ -رضي هللا عنهم -أح َّ
أشد محبة للنبي -صلى هللا عليه وسلم -وتعظي ًما له منا .وهم على
الخير أحرص .وإنما كان محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته،
واتباع أمره وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا ،ونشرـ ما ب َ
ُعث به،
والجها ُد على ذلك بالقلب واليد واللسان ،فإن هذه طريقة السابقين
األولين من المهاجرين واألنصارـ والذين اتبعوهمـ بإحسان"....
انتهى ببعض اختصار.
وقد أُلِّفَ في إنكار هذه البدعة كتب ورسائل قديمة وحديثة،
وهو عالوة على كونه بدعة وتشبهًا ،فإنه يجرُّ إلى إقامة موالد
أخرى كموالد األولياء وال َمشائخ والزعماء؛ فيفتح أبواب شرٍّ
كثيرة.
195
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
فالتبرك باألماكن واآلثار واألشخاص -أحياء وأمواتًا -ال
يجوز ألنه إما شرك -إن اعتقد َّ
أن ذلك الشيء يمن ُح البركة .أو
وسيلة إلى الشرك إن اعتقد أن زيارته ومالمسته والتمسح به،
سبب لحصولهاـ من هللا.
وأما ما كان الصحابة يفعلونه من التبرك بشعر النبي -صلى
هللا عليه وسلم -وريقه وما انفصل من جسمه صلى هللا عليه
وسلم ،خاصة كما تق َّدم؛ فذلك خاص به -صلى هللا عليه وسلم -ولم
يكن الصحابة يتبركون بحُجرته وقبره بعد موته .وال كانوا
يقصدون األماكن التي صلَّى فيها و جلس فيها ليتبركوا بها.
وكذلك مقامات األولياء من باب أولى .ولم يكونواـ يتبركون
باألشخاص الصالحين -كأبي بكر وعمر وغيرهما من أفاضل
الصحابة .ال في الحياة وال بعد الموت.
ولم يكونوا يذهبون إلى غار حراء ليصلوا فيه أو يدعوا .ولم
يكونوا يذهبون إلى الطورـ الذي َكلَّم هللا عليه موسى ليصلوا فيه
ويدعوا .أو إلى غير هذه األمكنة من الجبال التي يُقا ُل َّ
إن فيها
مقامات األنبياء أو غيرهم .وال إلى مشهد مبني على أثر نبي من
األنبياء.
وأيضًا فإن ال َمكان الذي كان النبي -صلى هللا عليه وسلم-
يصلي فيه بال َمدينة النبوية دائ ًما لم يكن أحد من السلف يستلمه وال
يُقبّلُه .وال ال َموضع الذي صلى فيه بمكة وغيرها.
فإذا كان ال َموضع الذي كان يطؤه -صلى هللا عليه وسلم-
بقدميه الكريمتين ويُصلي عليه ،لم يشرع ألمته التمسح به وال
تقبيله؛ فكيف بما يقال إن غيره صلى فيه أو نام عليه؟ فتقبيل
196
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
شيء من ذلك والتمسّح به قد علم العلماء باالضطرارـ من دين
اإلسالم :أن هذا ليس من شريعته صلى هللا عليه وسلم .
197
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
• ومنها :االحتفال بال ُمناسباتـ الدينية ،كمناسبة اإلسراء
وال ِمعراج ،ومناسبة الهجرة النبوية .وهذا االحتفال بتلك
ال ُمناسبات ال أصل له في الشرع.
• ومن ذلك :ما يفعل في شهر رجب .وما يفعل فيه من
العبادات الخاصة به ،كالتطوعـ بالصالة والصيامـ فيه خاصة ،فإنه
ال ميزة له على غيره من الشهور؛ ال في الصيام والصالة والذبح
للنسك فيه ،وال غير ذلك.
• ومن ذلك :األذكارـ الصُّ وفية بأنواعها .كلها بدع ومحدثات
ألنها مخالفة لألذكار المشروعة في صيغها وهيئاتها وأوقاتها.
• ومن ذلك :تخصيصُ ليلة النصف من شعبان بقيام ،ويومـ
النصف من شعبان بصيام .فإنه لم يثبت عن النبي -صلى هللا عليه
وسلم -في ذلك شيء خاص به.
• ومن ذلك :البناء على القبور ،واتخاذها مساجد ،وزيارتها
ألجل التبرك بها ،والتوسلـ بالموتى ،وغير ذلك من األغراض
الشركية ،وزيارة النساء لها؛ مع أن الرسولـ -صلى هللا عليه
وسلم -لعن زوارات القبور ،وال ُمتخذين عليها ال َمساجد والسرج.
إن البد َع بريد الكفر .وهي زيادة دين لم يشرعه وختا ًما نقولَّ :
هللا وال رسوله .والبدعة شر من ال َمعصية الكبيرة .والشيطانُ
ألن العاصي يفعل يفر ُح بها أكثر مما يفرح بالمعاصيـ الكبيرة َّ
ال َمعصية وهو يعلم أنها معصية فيتوب منها .وال ُمبتدع يفعل
البدعة يعتقدها دينًا يتقرب به إلى هللا ،فال يتوب منها .والبدع
وأهل السنة.
َ تقضي على السُّنن ،وتُ َكرِّ ه إلى أصحابهاـ فعل السنن
والبدعة تُباعد عن هللا ،وتُوجبُ غضبه وعقابه ،وتسبب زيغ
القلوب وفسادها.
198
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ما يعامل به المبتدعة
تح ُر ُم زيارة ال ُمبتدع ومجالسته إال على وجه النصيحة له
واإلنكار عليه ألن مخالطته تؤثر على مخالطه شرًا ،وتنشرـ
عداوته إلى غيره .ويجب التحذيرـ منهم ،ومن شرهم ،إذا لم يكن
األخذ على أيديهم ،ومنعهمـ من مزاولة البدع؛ وإال فإنه يجب على
علماء ال ُمسلمين ووالة أمورهم منع البدع ،واألخذ على أيدي
المبتدعة ،وردعهمـ عن شرهم ألن خطرهم على اإلسالم شديد.
ثم إنَّهُ يجب أن يُعل َم أن دول الكفر تشجع ال ُمبتدعة على نشر
بدعتهم ،وتساعدهم على ذلك بشتى الطرق ألن في ذلك القضاء
على اإلسالم ،وتشويه صورته.
نسأل هللا عز وجل أن ينصر دينه ،ويُعلي كلمته ،ويخذل
أعداءه.
وصلى هللا وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
199
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
.
200
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
201
صالِح ال َف َ
وزان ِ ِ
َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ
ـ الباعث على إنكار البدع ـ االعتصام للشاطبي
والحوادث ألبي شامة ـ جامع بيان العلم وفضله البن
ـ سنن الدارمي عبد البر
ـ رسالة المورد في عمل ـ صحيح ابن حبان
المولد
-o0o-
202