You are on page 1of 202

‫صالِح ال َف َ‬

‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬


‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫عقيدة التوحيد لفضيلة الشيخ صالح الفوزان‬

‫عقيدة‬
‫التوحيد‬
‫تأليف فضيلة الشيخ الدكتور‪:‬‬
‫صالح بن فوزان بن عبد هللا الفوزان‬
‫‪-‬حفظه هللا تعالى ومتعه بالصحة العافية‪-‬‬

‫الناشر‪:‬‬

‫مكتبة السنة شيربون‬

‫‪1‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫َّحيْم‬ ‫بِس ِْم هللاِ الرَّحْ ِ‬


‫من الر ِ‬

‫‪3‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫المقـدمـة‬

‫الحمد هلل رب العالمين‪ ،‬والصالة والسالمـ على نبيه الصادق‬


‫األمين‪ ،‬نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين‪ ...‬وبعد‪:‬‬
‫فهذا كتاب في علم التوحيد‪ .‬وقد راعيت فيه االختصار مع‬
‫سهولة العبارة‪ .‬وقد اقتبسته من مصادر كثيرة من كتب أئمتنا‬
‫األعالم‪ ،‬وال سيما كتب شيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬وكتب العالمة‬
‫ابن القيم‪ ،‬وكتب شيخ اإلسالم محمد بن عبد الوهاب وتالميذه من‬
‫أئمة هذه الدعوة المباركة‪.‬‬
‫ك فيه أن علم العقيدة اإلسالمية هو العلم األساسيـ‬ ‫ومما ال ش ّ‬
‫اًل‬ ‫ّ‬
‫الذي تجدر العناية به تعل ًما وتعلي ًما وعم بموجبه لتكون األعمال‬
‫صا وأننا في‬
‫صحيحة مقبولة عند هللا نافعة للعاملين؛ وخصو ً‬
‫زمان كثرت فيه التيارات المنحرفة ‪-‬تيار اإللحاد‪ ،‬وتيارـ التصوف‬
‫والرهبنة‪ ،‬وتيارـ القبورية الوثنية‪ ،‬وتيارـ البدع ال ُمخالفة للهدي‬
‫النبوي‪ .‬وكلها تيارات خطيرة ما لم يكن المسلم مسلحًا بسالح‬
‫العقيدة الصحيحة المرتكزة على الكتاب والسنة وما عليه سلف‬
‫األمة‪ .‬فإنه حري أن تجرفه تلك التيارات المضلة‪.‬‬
‫وهذا مما يستدعي العناية التامة بتعليم العقيدة الصحيحة ألبناء‬
‫ال ُمسلمين من مصادرهاـ األصيلة‪.‬‬
‫وصلى هللا وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫‪6‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫الفهرس الموضوعي‬

‫عقيدة التوحيد لفضيلة الشيخ صالح الفوزان ‪1.....................................‬‬


‫المقـدمـة ‪5...............................................................................‬‬
‫الفهرس الموضوعي‪7.................................................................‬‬
‫الباب األول‪ :‬مدخل لدراسة العقيدة‪13..............................................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬في بيان العقيدة وبيان أهميتها باعتبارها أساسًا يقوم عليه بناء‬
‫الدين ‪15..................................................................................‬‬
‫• العقيدة لغة ‪15.....................................................................‬‬
‫• والعقيدةُ شرعًا ‪15................................................................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬في بيان مصادر العقيدة ومنهج السلف في تلقيها‪18.............‬‬
‫االنحراف عن العقيدة وسبل التوقي منه‪20............‬‬ ‫ِ‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬في بيان‬
‫• أسباب االنحراف عن العقيدة الصحيحة‪21...................................‬‬
‫• ُسبُل التّوقِّي في هذا االنحراف‪25..............................................‬‬
‫الباب الثاني‪ :‬في بيان معنى التوحيد وأنواعه‪27.................................‬‬
‫{‪ }1‬توحيد الربوبية‪27................................................................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬في بيان معنى توحيد الربوبية وإقرار المشركين به‪29.........‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬مفهو ُم كلم ِة الربِّ في القرآن وال ُّسنَّة وتصوُّ رات األمم الضّالَّة‪33...‬‬
‫‪ 1‬ـ مفهوم كلمة الرّبِّ في الكتاب والسنة‪33....................................‬‬
‫‪ 2‬ـ مفهوم كلمة الرب في تصورات األمم الضالة‪34.........................‬‬
‫‪ 3‬ـ الرد على هذه التصورات الباطلة ‪37.......................................‬‬
‫ُوع والطَّاع ِة هلل ‪39.....................‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬الكونُ وفطرتُهُ في ال ُخض ِ‬
‫الخالق ووحدانيَّتهـ‪42...‬‬
‫ِ‬ ‫د‬‫ُو‬
‫ج‬
‫ُ ِ‬ ‫و‬ ‫إثبات‬ ‫الفصل الرابع‪ :‬في بيا ِن منهج القرآن في‬
‫‪ 1‬ـ من المعلوم بالضرورة أن الحادث ال ب ّد له من محدث‪43...............‬‬
‫‪ 2‬ـ انتظام أمر العالم كله وإحكامه ‪44...........................................‬‬

‫‪7‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ت ألداء وظائفها‪ ،‬والقيام بخصائصها‪46...............‬‬ ‫‪ 3‬ـ تسخي ُر المخلوقا ِ‬
‫ُ‬
‫استلزام توحي ِد الرُّ بوبيَّ ِة لتوحيد األلوهيَّة‪48..............‬‬
‫ِ‬ ‫الفصل الخامس‪ :‬بيانُ‬
‫{‪ }2‬توحيد األلوهية‪53................................................................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬في بيا ِن معنى توحي ِد األلوهيَّ ِة وأنه موضو ُ‬
‫ع دعو ِة الرُّ سل ‪55.‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬في بيان معنى ال َّشهادتينـ وما وق َع فيهما من الخطأ؛ وأركانهما‬
‫وشروطهما ومقتضاهما ونواقضهما‪59.............................................‬‬
‫أواًل ‪ :‬معنى ال َّشهادتين ‪59..........................................................‬‬
‫ثانيًا‪ :‬أركان الشهادتين ‪61.........................................................‬‬
‫ثالثًا‪ :‬شروط الشهادتين‪64.........................................................‬‬
‫أ‪ -‬شروط شهادة أن ال إله إال هللا‪64........................................ :‬‬
‫أن محمدًا رسو ُل هللا هي‪67.........................:‬‬ ‫ب ـ وشروطُ شهادة َّ‬
‫رابعًا‪ :‬مقتضى الشهادتين ‪68......................................................‬‬
‫أ ـ مقتضى شهادة أن ال إله إال هللا‪68........................................‬‬
‫ب ـ ومقتضى شهادة أن محمدًا رسول هللا‪68..............................‬‬
‫خامسًا‪ :‬نواقض الشهادتين‪68.....................................................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬في التشريع ‪72........................................................‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬العبادةُ معناها‪ُ ،‬شمولها‪75...........................................‬‬
‫‪1‬ـ معنى العبادة ‪75.................................................................‬‬
‫‪ 2‬ـ أنواع العبادة وشمولها‪77.....................................................‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬في بيا ِن مفاهي َم خاطئ ٍة في تحديد العبادة ‪77......................‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬في بيان ركائز العبودية الصحيحة ‪80..........................‬‬
‫{‪ }3‬توحيد األسماء والصفات‪83....................................................‬‬
‫أواًل ‪ :‬األدلة من الكتاب والسنة والعقل على ثبوت األسماء والصفات‪84.......‬‬
‫أ ـ األدلة من الكتاب والسنة ‪84...................................................‬‬
‫ب ـ الدليل العقلي ‪88...............................................................‬‬
‫ثانيًا‪ :‬منه ُج أهل ال ّسنَّة والجماعة في أسماء هللا وصفاته‪89.......................‬‬
‫ت‪ ،‬أو أنكر بعضها‪90................‬‬ ‫ثالثًا‪ :‬ال ّر ُّد على من أن َك َر األسما َء والصّفا ِ‬
‫الباب الثالث‪ :‬في بيان الشرك واالنحراف في حياة البشرية‪97................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬االنحراف في حياة البشرية‪99......................................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬الشرك‪ :‬تعريفه‪ ،‬أنواعه‪102........................................‬‬

‫‪8‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫أ ـ تعريفـه‪103......................................................................‬‬
‫ب ـ أنواع الشرك ‪106.............................................................‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬الكفر‪ :‬تعريفه ‪ -‬أنواعه ‪111........................................‬‬
‫أ ـ تعريفـه‪111......................................................................‬‬
‫ب ـ أنواعه‪112.....................................................................‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬النفاق‪ :‬تعريفه‪ ،‬أنواعه‪116.........................................‬‬
‫أ ـ تعريفـه‪116......................................................................‬‬
‫ب ـ أنواع النفاق ‪117..............................................................‬‬
‫ج ـ الفروق بين النفاق األكبر والنفاق األصغر‪121...........................‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬بيان حقيقة كل من الجاهلية ‪ -‬الفسق ‪ -‬الضالل ‪ -‬الردة‪:‬‬
‫أقسامها‪ ،‬أحكامها‪123..................................................................‬‬
‫‪ 1‬ـ الجاهليـة‪123...................................................................‬‬
‫‪ 2‬ـ الفسـق‪126......................................................................‬‬
‫‪ 3‬ـ الضـالل ‪127...................................................................‬‬
‫‪ 4‬ـ الردة وأقسامها وأحكامها‪129................................................‬‬
‫صه‪133.......................‬‬‫الباب الرابع‪ :‬أقوال وأفعال تُنافي التوحيد أو تُنقِ ُ‬
‫الفصل األول‪ :‬ادِّعاء علم الغيب في قراءة الكف والفنجان وغيرهما‪135.....‬‬
‫‪ .1‬المراد بالغيب‪135..............................................................‬‬
‫‪ .2‬ال يعلم الغيب إال هللا ‪135......................................................‬‬
‫‪ .3‬حكم من ا َّدعى علم الغيب أو ص ّدقه‪137....................................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬السح ُر والكهانةُ ِ‬
‫والعرافة‪138......................................‬‬
‫ُ‬
‫‪ 1‬ـ فالسح ُر عبارةٌ عما خفي ولَطفَ سببُهُ‪138.................................‬‬
‫‪ 2‬ـ الكهانة والعرافة‪140..........................................................‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬تقديم القرابين والنذور والهدايا للمزارات والقبور وتعظيمها‪..‬‬
‫‪144‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬في بيان حكم تعظيم التماثيل والنصب التذكارية‪150...........‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬في بيان حكم االستهزاء بالدين واالستهانة بحرماته‪153....‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬الحكم بغير ما أنزل هللا‪157......................................‬‬
‫الفصل السابع‪ :‬ادعاء حق التشريع والتحليل والتحريم‪165......................‬‬
‫الفصل الثامن‪ :‬حكم االنتماء إلى المذاهب اإللحادية واألحزاب الجاهلية ‪169.‬‬

‫‪9‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫الفصل التاسع‪ :‬النظرية المادية للحياة ومفاسد هذه النظرية‪175................‬‬
‫أ ـ فالنظرة الماديّة للحياة معناها‪175........................................‬‬
‫ب ـ النظرة الثانية للحياة‪ :‬النظرة الصحيحة‪179..........................‬‬
‫الفصل العاشر‪ :‬في الرقى والتمائم ‪180.............................................‬‬
‫أ ـ الرقى‪180........................................................................‬‬
‫• معنى الرقى‪180............................................................ :‬‬
‫• وهي على نوعين‪180......................................................:‬‬
‫‪ 2‬ـ التمائم ‪182......................................................................‬‬
‫• معنى التمائم‪182............................................................:‬‬
‫• وهو على نوعين‪182...................................................... :‬‬
‫الفصل الحادي عشر‪ :‬في بيان حكم الحلف بغير هللا والتوسل واالستغاثة‬
‫واالستعانة بالمخلوق ‪185.............................................................‬‬
‫‪ 1‬ـ الحلف بغير هللا ‪185...........................................................‬‬
‫• معنى الحلف‪185............................................................:‬‬
‫• الحلف بغير هللا‪186........................................................ :‬‬
‫• حكم كثرة الحلف‪187......................................................:‬‬
‫‪ 2‬ـ التوسل بالمخلوق إلى هللا تعالى‪188........................................‬‬
‫• تعريف التوسل‪188.........................................................:‬‬
‫• أنواع التوسل‪188...........................................................:‬‬
‫‪ 3‬ـ حكم االستعانة واالستغاثة بالمخلوق ‪193..................................‬‬
‫• تعريف االستعانة‪193...................................................... :‬‬
‫• أنواع االستعانة بالمخلوق‪193............................................:‬‬
‫الباب الخامس‪ :‬في بيان ما يجب اعتقاده في الرسول صلى هللا عليه وسلم‬
‫وأهل بيته وصحابته ‪197.............................................................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬في وجوب محبة الرسول وتعظيمه‪ ،‬والنهي عن الغلو‬
‫واإلطراء في مدحه‪ ،‬وبيان منزلته صلى هللا عليه وسلم‪199....................‬‬
‫‪ 1‬ـ وجوب محبّته وتعظيمه صلى هللا عليه وسلم ‪199........................‬‬
‫‪ 2‬ـ النهي عن ال ُغل ّو واإلطراء في مدحه‪202...................................‬‬
‫• الغلو‪202......................................................................‬‬
‫• اإلطرا ُء‪202..................................................................‬‬

‫‪10‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫‪ 3‬ـ بيان منزلته صلى هللا عليه وسلم‪205.......................................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬في وجوب طاعته صلى هللا عليه وسلم واالقتداء به‪208......‬‬
‫الفصل الثالث‪ :‬في مشروعية الصالة والسالم على الرسول صلى هللا عليه‬
‫وسلم ‪211................................................................................‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬في فضل أهل البيت وما يجب لهم من غير جفاء وال ُغلُ ّو‪.....‬‬
‫‪214‬‬
‫الفصل الخامس‪ :‬في فضل الصحابة وما يجب اعتقاده فيهم ومذهب أهل‬
‫السنة والجماعة فيما حدث بينهم‪218................................................‬‬
‫‪ -1‬ما المراد بالصحابة‪ ،‬وما الذي يجب اعتقاده فيهم؟‪218..................‬‬
‫‪ 2‬ـ مذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث بين الصحابة من القتال والفتنة‬
‫‪221‬‬
‫‪3‬ـ ومذهب أهل السنة والجماعة في االختالف الذي حصل‪224............‬‬
‫الفصل السادس‪ :‬في النهي عن سب الصحابة وأئمة الهدى‪228................‬‬
‫‪1‬ـ النهي عن سب الصحابة ‪228.................................................‬‬
‫‪ 2‬ـ النهي عن سبّ أئ ّمة الهدى من علماء هذه األ ّمة‪230.....................‬‬
‫الباب السادس‪ :‬البـدع ‪233...........................................................‬‬
‫الفصل األول‪ :‬تعريف البدعة‪ ،‬أنواعها وأحكامها‪235............................‬‬
‫‪ 1‬ـ تعريف البدعة ‪235............................................................‬‬
‫‪ 2‬ـ أنواع البدع ‪236................................................................‬‬
‫‪ 3‬ـ حكم البدعة في الدين بجميع أنواعها‪238..................................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬ظهور البدع في حياة المسلمين واألسباب التي أدت إليها ‪241‬‬
‫‪ .1‬ظهور البدَع في حياة المسلمين ‪241.........................................‬‬
‫المسألة األولى‪ :‬وقت ظهور البدع ‪242.....................................‬‬
‫المسألة الثانية‪ :‬مكان ظهور البدع‪243......................................‬‬
‫‪ 2‬ـ األسباب التي أ ّدت إلى ظهور البدع‪244...................................‬‬
‫أ ـ الجهل بأحكام الدين ‪245...................................................‬‬
‫ب ـ اتباع الهوى ‪246..........................................................‬‬
‫جـ ـ التعصب لآلراء والرجال‪247..........................................‬‬
‫د ـ التشبّه بالكفار‪247..........................................................‬‬

‫‪11‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫الفصل الثالث‪ :‬موقف األمة اإلسالمية من المبتدعة‪،‬ـ ومنهج أهل السنة‬
‫والجماعة في ال ّر ّد عليهم‪248.........................................................‬‬
‫‪ 1‬ـ موقف أهل ال ُّسنَّة والجماعة من المبتدعة‪248.............................‬‬
‫‪ 2‬ـ منهج أهل السنة والجماعة في الرد على أهل البدع‪252................‬‬
‫الفصل الرابع‪ :‬في بيان نماذج من البدع المعاصرة ‪254.........................‬‬
‫‪ 1‬ـ االحتفال بمناسبة المولد النبوي ‪254........................................‬‬
‫‪ 2‬ـ التبرك باألماكن واآلثار واألشخاص أحياء وأمواتًا‪258................‬‬
‫‪ 3‬ـ البدع في مجال العبادات والتقرّب إلى هللا‪260............................‬‬
‫ما يعامل به المبتدعة ‪262.........................................................‬‬
‫قائمة المصادر والمراجع ‪265.......................................................‬‬

‫‪12‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫الباب األول‪ :‬مدخل لدراسة العقيدة‬

‫ويتكون من الفصول التالية‪:‬‬


‫‪ :‬معنى العقيدة‪ ،‬وبيان أهميتها؛ باعتبارها‬ ‫الفصل األ َّو ُل‬
‫أساسًا يقوم عليه بناء الدين‪.‬‬
‫‪ :‬مصادرـ العقيدة الصحيحة‪ ،‬ومنهج السَّلف في‬ ‫الفصل الثَّاني‬
‫تلقيها‪.‬‬
‫االنحراف عن العقيدة‪ ،‬وسُب ُل التّوقِّيـ منه‪.‬‬
‫ُـ‬ ‫‪:‬‬ ‫ُ‬
‫الثالث‬ ‫الفصل‬

‫‪13‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫الفصل األول‪ :‬في بيان العقيدة وبيان أهميتها باعتبارها‬


‫أساسًا يقوم عليه بناء الدين‬

‫• العقيدة لغة‬
‫ُ‬
‫واعتقدت‬ ‫• والعقيدة لغة‪ :‬مأخوذة من العقد وهو ربط الشيء‪.‬‬
‫ُ‬
‫عقدت عليه القلب والضمير‪.‬‬ ‫كذا‪:‬‬
‫والعقيدة ما يدين به اإلنسان‪ .‬يقال‪" :‬له عقيدة حسنة" أي‪:‬‬
‫سال َمةٌ من الشك‪.‬‬
‫والعقيدةُ عمل قلبي‪ .‬وهي إيمانُ القلب بالشيء وتصديقه به‪.‬‬

‫• العقيدةُ شرعًا‬
‫• والعقيدة شرعًا‪ :‬هي اإليمان باهلل ومالئكته وكتبه ورسله‬
‫واليوم اآلخر‪ ،‬واإليمان بالقدر خيره وشره‪ .‬وتُس َّمىـ هذه أركانُ‬
‫اإليمان‪.‬‬
‫• أقسام الشريعة‪:‬‬
‫والشريعة تنقسم إلى قسمين‪ :‬اعتقاديات وعمليات‪.‬‬
‫فاالعتقاديات‪ :‬هي التي ال تتعلق بكيفية العمل‪ ،‬مثل اعتقاد‬
‫ربوبية هللا ووجوب عبادته‪ ،‬واعتقاد بقية أركان اإليمان‬
‫المذكورة‪ ،‬وتُس َّمىـ أصلية‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫والعمليات‪ :‬هي ما يتعلق بكيفية العمل مثل الصالة والزكاة‬
‫والصومـ وسائر األحكام العملية‪ .‬وتسمىـ فرعية‪ ،‬ألنها تبنى على‬
‫تلك صحة وفسادًا‪.‬‬
‫فالعقيدةُ الصحيحةُ هي األساسُ الذي يقوم عليه الدين وتَصحُّ‬
‫معه األعمال‪.‬‬
‫صالِحًا‬ ‫كما قال تعالى‪{ :‬فَ َمن َكانَ يَرْ جُو لِقَا َء َربِّ ِه فَ ْليَ ْع َملْ َع َماًل َ‬
‫َوال يُ ْش ِر ْـك بِ ِعبَا َد ِة َربِّ ِه أَ َحدًا} [الكهف‪.]110/‬‬
‫وقال تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد أُ ِ‬
‫وح َي إِلَ ْيكَ َوإِلَى الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِكَ لَئِ ْن‬
‫أَ ْش َر ْكتَ لَيَحْ بَطَ َّن َع َملُكَ َولَتَ ُكون ََّن ِمنَ ْالخَا ِس ِرينَ } [الزمر‪.]65/‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬فَا ْعبُ ِد هَّللا َ ُم ْخلِصًا لَّهُ ال ِّدينَ * أَال هَّلِل ِ الدِّينُ‬
‫ْالخَالِصُ } [الزمر‪.]3 ،2/‬‬
‫فدلّت هذه اآليات الكريمة‪ ،‬وما جاء بمعناها ‪-‬وهو كثير‪ -‬على‬
‫أن األعمال ال تُقب ُل إال إذا كانت خالصة من الشرك‪ .‬ومن ثَ َّم كان‬
‫‪-‬صلوات هللا وسالمه عليهم‪ -‬بإصالح العقيدة أواًل ‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫اهتمام الرسل‬
‫فأول ما يدعون أقوامهمـ إلى عبادة هللا وحده‪ ،‬وترك عبادة ما‬
‫سواه‪.‬‬
‫كما قال تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي ُكلِّ أُ َّم ٍة َّر ُسواًل أَ ِن ا ْعبُد ْ‬
‫ُوا هَّللا َ‬
‫ُوا الطَّا ُغوتَ } [النحل‪.]36/‬‬ ‫َواجْ تَنِب ْ‬
‫وكلُّ رسولـ يقول أول ما يخاطب قومه‪{ :‬ا ْعبُدُوا هَّللا َ َما لَ ُكم‬
‫ِّم ْن إِلَ ٍه َغ ْي ُرهُ} [األعراف‪ .]85 ،73 ،65 ،59 /‬قالها نوح وهودـ‬
‫وصالح وشعيب‪ ،‬وسائرـ األنبياء لقومهم‪.‬‬
‫وقد بقي النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬في مكة بعد البعثة ثالثة‬
‫عشر عا ًما يدعو الناس إلى التوحيد‪ ،‬وإصالح العقيدة ألنها‬

‫‪16‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫األساسُ الذي يقوم عليه بنا ُء الدين‪ .‬وقدـ احتذى الدعاة‬
‫والمصلحون في كل زمان حذو األنبياء والمرسلين‪ .‬فكانواـ‬
‫يبدءون بالدعوة إلى التوحيد‪ ،‬وإصالح العقيدة‪ .‬ثم يتجهون بعد‬
‫ذلك إلى األمر ببقية أوامر الدين‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫الفصل الثاني‪ :‬في بيان مصادر العقيدة ومنهج السلف في‬


‫تلقيها‬
‫• العقيدة توقيفية‪:‬‬
‫العقيدة توقيفية فال تثبت إال بدليل من الشارع‪ ،‬وال مسرح فيها‬
‫للرأي واالجتهاد‪.‬‬
‫• مصادر العقيدة‪:‬‬
‫ومن ثَ َّم فإن مصادرها مقصورة على ما جاء في الكتاب‬
‫والسنة؛ ألنه ال أحد أعل ُم باهلل وما يجب له وما ينزه عنه من هللا‪،‬‬
‫وال أحد بعد هللا أعل ُم باهلل من رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫ولهذا كان منهج السلف الصالح ومن تبعهم في تلقِّي العقيدة‬
‫مقصورًا على الكتاب والسنة‪.‬‬
‫فما د ّل عليه الكتاب والسنة في حق هللا تعالى آمنوا به‪،‬‬
‫واعتقدوه وعملوا به‪ .‬وما لم يدل عليه كتاب هللا وال سنة رسوله‬
‫نقَوْ هُ عن هللا تعالى ورفضوه‪.‬‬
‫ولهذا لم يحصل بينهم اختالف في االعتقاد‪ ،‬بل كانت عقيدتهم‬
‫واحدة‪ .‬وكانت جماعتهم واحدة ألن هللا تكفّل لمن تمسك بكتابه‬
‫وسنة رسوله باجتماع الكلمة‪ ،‬والصواب في المعتقد واتحادـ‬
‫المنهج‪.‬‬
‫وا} [آل‬‫وا بِ َحب ِْل هَّللا ِ َج ِميعًا َوالَ تَفَ َّرقُ ْ‬
‫َص ُم ْـ‬
‫قال تعالى‪َ { :‬وا ْعت ِ‬
‫عمران‪.]103/‬‬

‫‪18‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وقال تعالى‪{ :‬فَإِ َّما يَأتِيَنَّ ُكم ِمنِّي هُدًى فَ َم ِن اتَّبَ َع هُد َ‬
‫َاي فَالَ يَ ِ‬
‫ضلُّ‬
‫َوالَ يَ ْشقَى} [طه‪.]23/‬‬
‫ولذلك ُس ُّموا بالفرقة الناجية ألن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬‬
‫شهد لهم بالنجاة حين أخبر بافتراقـ األمة إلى ثالث وسبعين فرقة‪،‬‬
‫كلّها في النار إال واحدة‪ .‬ول َما سئل عن هذه الواحدة قال‪ِ ( :‬ه َي َمن‬
‫أصحابِي) [الحديث رواه اإلمام‬‫كانَ عَلى ِمثل َما أنَا َعلَيه اليَو َم َو َ‬
‫أحمد]‪.‬‬
‫وقد وقع مصداق ما أخبر به صلى هللا عليه وسلم‪ .‬فعندماـ بنى‬
‫بعض الناس عقيدتهم على غير الكتاب والسنة ‪-‬من علم الكالم‬
‫وقواعد المنطق الموروثَيْن عن فالسفة اليونان‪ -‬حصل االنحرافُ‬
‫والتفرق في االعتقاد مما نتج عنه اختالفُ الكلمة‪ ،‬وتفرُّ ُ‬
‫ق‬
‫الجماعة‪ ،‬وتصدعـ بناء المجتمع اإلسالمي‪.‬‬

‫االنحراف عن العقيدة وسبل‬


‫ِ‬ ‫الفصل الثالث‪ :‬في بيان‬
‫التوقي منه‬

‫• االنحراف عن العقيدة الصحيحة َمهلكة‪:‬‬


‫االنحراف عن العقيدة الصحيحة َمهلَكة َ‬
‫وضياع ألن العقيدة‬
‫الصحيحة هي الدافع القوي إلى العمل النافع‪ .‬والفرد بال عقيدة‬
‫صحيحة‪ ،‬يكون فريسة لألوهام والشكوك التي ربما تتراكمـ عليه‪.‬‬
‫فتحجب عنه الرؤية الصحيحة لدروب الحياة السعيدة؛ حتى‬
‫تضيق عليه حياته ثم يحاول التخلص من هذا الضيق بإنهاء حياته‬
‫ولو باالنتحار‪ .‬كما هو الواقع من كثير من األفراد الذين فقدوا‬
‫هداية العقيدة الصحيحة‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫والمجتمع الذي ال تسوده عقيدة صحيحة هو مجتمع بهيمي يفقد‬
‫كل مقومات الحياة السعيدة وإن كان يملك الكثير من مقومات‬
‫الحياة المادية التي كثيرًا ما تقوده إلى الدمار‪ .‬كما هو مشاهد في‬
‫المجتمعات الكافرة‪ .‬ألن هذه المقومات المادية تحتاج إلى توجيه‬
‫وترشيدـ لالستفادة من خصائصها ومنافعها‪ .‬وال موجه لها سوى‬
‫العقيدة الصحيحة‪.‬‬
‫صالِحًا}‬ ‫ت َوا ْع َملُوا َ‬ ‫قال تعالى‪{ :‬يَا أَيُّهَا الرُّ ُس ُل ُكلُوا ِمنَ الطَّيِّبَا ِ‬
‫[المؤمنون‪.]51/‬‬
‫وقال تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد آتَ ْينَا دَا ُوو َـد ِمنَّا فَضْ اًل يَا ِجبَا ُل أَ ِّوبِي َم َعهُ‬
‫ت َوقَدِّرْ فِي السَّرْ ِد‬ ‫َوالطَّ ْي َر َوأَلَنَّا لَهُ ْال َح ِدي َد * أَ ِن ا ْع َملْ َسابِغَا ٍ‬
‫الرِّيح ُغد ُُّوهَا‬
‫َ‬ ‫صي ٌر * َولِ ُسلَ ْي َمانَ‬ ‫صالِحًا إِنِّي بِ َما تَ ْع َملُونَ بَ ِ‬ ‫َوا ْع َملُوا َ‬
‫ط ِر َو ِمنَ ْال ِجنِّ َمن يَ ْع َم ُل‬ ‫َش ْه ٌر َو َر َوا ُحهَاـ َش ْه ٌر َوأَ َس ْلنَا لَهُ َع ْينَ ْالقِ ْ‬
‫بَ ْينَ يَ َد ْي ِه بِإِ ْذ ِن َربِّ ِه َو َمن يَ ِز ْغ ِم ْنهُ ْم ع َْن أَ ْم ِرنَا نُ ِذ ْقهُ ِم ْن َع َذا ِ‬
‫ب‬
‫يل َو ِجفَ ٍ‬
‫ان‬ ‫يب َوتَ َماثِ َـ‬ ‫ار َ‬‫ير * يَ ْع َملُونَ لَهُ َما يَ َشا ُء ِمن َّم َح ِ‬ ‫ال َّس ِع ِ‬
‫ي‬ ‫ْ‬
‫آل دَا ُوو َد ُشكرًا َوقَلِي ٌل ِّم ْن ِعبَا ِد َ‬ ‫ُ‬
‫ت ا ْع َملوا َ‬ ‫َّاسيَا ٍ‬‫ُور ر ِ‬ ‫ُ‬
‫ب َوقد ٍـ‬ ‫َك ْال َج َوا ِ‬
‫ال َّش ُكورُ} [سبأ‪.]13-10/‬‬
‫فق ّوة العقيدة يجب أن ال تنفك عن القوة المادية‪ .‬فإن انفكت‬
‫عنها باالنحرافـ إلى العقائد الباطلة‪ ،‬صارت القوة المادية وسيلة‬
‫دمار وانحدار‪ .‬كما هو المشاهد اليو َم في الدول الكافرة التي تملكُ‬
‫مادة‪ ،‬وال تملك عقيدة صحيحة‪.‬‬

‫• أسباب االنحراف عن العقيدة الصحيحة‬


‫واالنحرافـ عن العقيدة الصحيحة له أسباب تجب معرفتها‪،‬‬
‫من أه ّمها‪:‬‬

‫‪20‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫‪1‬ـ الجهل بالعقيدة الصحيحة؛ بسبب اإلعراض عن تعلمها‬
‫وتعليمها‪ ،‬أو قلة االهتمام والعناية بها‪ .‬حتى ينشأ جي ٌل ال يعرفُ‬
‫تلك العقيدة‪ ،‬وال يعرف ما يخالفها ويضادها‪ .‬فيعتقد الحق باطاًل ‪،‬‬
‫والباطل حقًّا‪.‬‬
‫كما قا َل عم ُر بن الخطاب ‪-‬رضي هللا عنه‪" :‬إنما تُنقضُ عُرى‬
‫اإلسالم عروةً عروةً إذا نشأ في اإلسالم من ال يعرفُ الجاهلية‪".‬‬
‫ب لما عليه اآلباء واألجداد‪ ،‬والتمسك به وإن كان‬ ‫ّعص ُ‬
‫‪2‬ـ الت ُّ‬
‫باطاًل ‪ ،‬وترك ما خالفه وإن كان حقّا‪ً.‬‬
‫يل لَهُ ُم اتَّبِعُوا َما أَنزَ َل هّللا ُ قَالُ ْ‬
‫وا بَلْ‬ ‫{وإِ َذا قِ َ‬
‫كما قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫نَتَّبِ ُع َما أَ ْلفَ ْينَا َعلَ ْي ِه آبَا َءنَا أَ َولَوْ َكانَ آبَا ُؤهُْـم الَ يَ ْعقِلُونَ َش ْيئًا َوالَ‬
‫يَ ْهتَ ُدونَ } [البقرة‪.]170/‬‬
‫‪3‬ـ التقلي ُد األعمى بأخذ أقوال الناس في العقيدة من غير‬
‫معرفة دليلها‪ ،‬ومعرفة مدى صحتها‪.‬‬
‫الفرق المخالفة من جهمية ومعتزلة‪،‬‬
‫ِ‬ ‫كما هو الواق ُع من‬
‫ُ‬
‫حيث قلدواـ من قبلهمـ من أئمة‬ ‫وأشاعرة وصوفية‪ ،‬وغيرهم‪،‬‬
‫الضالل؛ فضلوا وانحرفواـ عن االعتقاد الصحيح‪.‬‬
‫‪4‬ـ ال ُغلُ ّو في األولياء والصالحين‪ ،‬ورفعهمـ فوق منزلتهم‪،‬‬
‫بحيث يُعتقد فيهم ما ال يقدر عليه إال هللا من جلب النفع‪ ،‬ودفع‬
‫الضر‪ ،‬واتخاذهمـ وسائطـ بين هللا وبين خلقه في قضاء الحوائج‬
‫وإجابة الدعاء‪ .‬حتى يؤول األمر إلى عبادتهم من دون هللا‪،‬‬
‫والتقرب إلى أضرحتم بالذبائح والنذور‪،‬ـ والدعاء واالستغاثة‬
‫وطلب المدد‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫كما حصل من قوم نوح في حق الصالحين حين قالوا‪{ :‬ال‬
‫ق َونَ ْسرًا}ـ‬ ‫تَ َذر َُّن آلِهَتَ ُك ْم َوال تَ َذر َُّن َو ًّدا َوال س َُواعًا َوال يَ ُغ َ‬
‫وث َويَعُو َ‬
‫[نوح‪.]23/‬‬
‫وكما ه َُو الحاص ُل من عبَّاد القُبور اليو َم في كثير من‬
‫األمصار‪.‬‬
‫‪5‬ـ الغفلة عن تدبر آيات هللا الكونية‪ ،‬وآيات هللا القرآنية‪،‬‬
‫واالنبهار بمعطيات الحضارة المادية‪.‬‬
‫ظمون‬ ‫حتى ظنواـ أنها من مقدور البشر وحده‪ .‬فصاروا يُع ِّ‬
‫البشر‪ ،‬ويضيفونـ هذه المعطيات إلى مجهوده واختراعه وحده‪.‬‬
‫ال إِنَّ َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِع ْل ٍم ِعن ِدي}‬
‫كما قال قارون من قبلُ‪{ :‬قَ َ‬
‫[القصص‪. ]78/‬‬
‫وكما يقول اإلنسان {هَ َذا لِي} [فصلت‪.]50/‬‬
‫{إِنَّ َما أُوتِيتُهُ َعلَى ِع ْل ٍم} [الزمر‪.]49/‬‬
‫ولم يتفكروا وينظرواـ في عظمة من أوجد هذه الكائنات‪،‬‬
‫وأودعها هذه الخصائص الباهرة‪ ،‬وأوجدـ البشر وأعطاهُ المقدرةَ‬
‫{وهَّللا ُ خَ لَقَ ُك ْم َو َما‬
‫على استخراج هذه الخصائص‪ ،‬واالنتفاع بها َ‬
‫تَ ْع َملُونَ } [الصافات‪.]96/‬‬
‫ق هَّللا ُ ِمن‬ ‫ض َو َما خَ لَ َ‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ت ال َّس َم َ‬ ‫ُوا فِي َملَ ُكو ِ‬ ‫{أَ َولَ ْم يَنظُر ْ‬
‫َش ْي ٍء} [األعراف‪.]185/‬‬
‫ض َوأَنزَ َل ِمنَ ال َّس َما ِء َما ًء‬ ‫ت َواألَرْ َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ق ال َّس َم َ‬‫{هَّللا ُ الَّ ِذي َخلَ َ‬
‫ي فِي‬ ‫ت ِر ْزقًا لَّ ُك ْم َو َس َّخ َر لَ ُك ُم ْالفُ ْلكَ لِتَجْ ِر َ‬ ‫فَأ َ ْخ َر َج بِ ِه ِمنَ الثَّ َم َرا ِ‬
‫س َو ْالقَ َم َر‬
‫ار * َو َس َّخر لَ ُك ُم ال َّش ْم َ‬ ‫ْالبَحْ ِر بِأ َ ْم ِر ِه َو َس َّخ َر لَ ُك ُم األَ ْنهَ َ‬

‫‪22‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ار * َوآتَا ُكم ِّمن ُكلِّ َما َسأ َ ْلتُ ُموهُ َوإِن‬
‫دَآئِبَينَ َو َس َّخ َـر لَ ُك ُم اللَّي َْل َوالنَّهَ َـ‬
‫وا نِ ْع َمتَ هَّللا ِ الَ تُحْ صُوهَا} [إبراهيم‪.]34-32/‬‬ ‫تَ ُع ُّد ْ‬
‫‪6‬ـ أصبح البيتُ في الغالب خاليًا من التوجيه السليم‪.‬‬
‫وقد قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪ُ ( :‬ك ّل َمولُود يُولَد عَلى‬
‫صرانِه أو يُ َم ّجسانِه) [أخرجه‬ ‫الفِط َرة فَأب َواه يُ َه ّودانِه أو يُنَ ّ‬
‫الشيخان]‪ .‬فاألبوان لهما دورـ كبير في تقويم اتجاه الطفل‪.‬‬
‫‪7‬ـ إحجا ُم وسائل التعليم واإلعالم في غالب العالم اإلسالمي‬
‫عن أداء مهمتهما‪.‬‬
‫فقد أصبحت مناهج التعليم في الغالب ال تولي جانب الدين‬
‫اهتما ًما كبيرًا‪ ،‬أو ال تهتم به أصاًل ‪ ،‬وأصبحت وسائ ُل اإلعالم‬
‫ال َمرئية وال َمسموعة وال َمقروءة في الغالب أداة تدمير وانحراف‪،‬‬
‫أو تعنى بأشياء مادية وترفيهية‪ ،‬وال تهتم بما يُقَ ِّو ُم األخالق‪،‬‬
‫ويزرع العقيدة الصحيحة‪ ،‬ويقاومـ التيارات المنحرفة؛ حتى ينشأ‬
‫جي ٌل أعز ُل أمام جيوش اإللحاد ال يدان له بمقاومتها‪.‬‬

‫سبُل التّوقِّي في هذا االنحراف‬


‫• ُ‬
‫وسبل التّوقِّي في هذا االنحرافـ تتلخص فيما يلي‪:‬‬
‫‪1‬ـ الرجوع إلى كتاب هللا ع َّز وج َّل‪ ،‬وإلى سنة رسوله ‪-‬صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ -‬لتلقِّي االعتقاد الصحيح منهما‪.‬‬
‫كما كان السلف الصالح يستمدون عقيدتهم منهما‪ ،‬ولن يصلح‬
‫آخر هذه األمة إال ما أصلح أولها‪ ،‬مع االطالع على عقائد الفرق‬
‫المنحرفة‪ ،‬ومعرفة ُشبههم للرد عليها والتحذير منها؛ ألن من ال‬
‫يعرف الشر يوشك أن يقع فيه‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫‪2‬ـ العناية بتدريس العقيدة الصحيحة ‪-‬عقيدة السلف الصالح‪-‬‬
‫في مختلف المراحل الدراسية‪ ،‬وإعطاؤها الحصص الكافية من‬
‫الَمنهج‪ ،‬واالهتمام البالغ في تدقيق االمتحانات في هذه المادة‪.‬‬
‫سلفية الصافية‪.‬‬ ‫‪3‬ـ أن تُقرر دراسةُ ال ُكت ِ‬
‫ب ال َّ‬
‫ويبتعد عن كتب الفرق المنحرفة ‪-‬كالصوفية والمبتدعة‪،‬‬
‫والجهمية والمعتزلة‪ ،‬واألشاعرة والماتوريدية‪ ،‬وغيرهم‪ -‬إال من‬
‫باب معرفتهاـ لر ّد ما فيها من الباطل والتحذيرـ منها‪.‬‬
‫‪4‬ـ قيام دعاة مصلحين يجددون للناس عقيدة السلف‪،‬‬
‫ويردون ضالالت المنحرفين عنها‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫الباب الثاني‪ :‬في بيان معنى التوحيد وأنواعه‬

‫التوحيدُ‪ :‬هو إفرا ُد هللا بالخلق والتدبر‪،‬ـ وإخالصُ العبادة له‪،‬‬


‫وترك عبادة ما سواه‪ ،‬وإثبات ما لَهُ من األسماء الحسنى‪،‬‬
‫والصفات العليا‪ ،‬وتنزيهه عن النقص والعيب‪.‬‬
‫فهو بهذا التعريف يشم ُل أنواع التوحيدـ الثالثة‪ ،‬وبيانهاـ‬
‫كالتالي‪:‬‬

‫{‪ }1‬توحيد الربوبية‬


‫ويتضمن الفصول التالية‪:‬‬
‫‪ :‬في بيان معنى توحيدـ الربوبية‪ ،‬وفطريته‬ ‫الفصل األول‬
‫وإقرارـ المشركين به‪.‬‬
‫‪ :‬في بيان مفهوم كلمة الرب في القرآن‬ ‫الفصل الثاني‬
‫والسنة‪ ،‬وتصورات األمم الضّالَّة في باب‬
‫الربوبية‪ ،‬والردـ عليها‪.‬‬
‫‪ :‬في بيان خضوع الكون في االنقياد‬ ‫الفصل الثالث‬
‫والطاعة هلل‪.‬‬
‫‪ :‬في بيان منهج القرآن في إثبات وحدانية هللا‬ ‫الفصل الرابع‬
‫في الخلق والرزقـ وغير ذلك‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫‪ :‬في بيان استلزام توحيد الربوبية لتوحيد‬ ‫الفصل الخامس‬
‫األلوهية‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫الفصل األول‪ :‬في بيان معنى توحيد الربوبية وإقرار‬


‫المشركين به‬
‫• تعريف التوحيد‪:‬‬
‫التوحيد‪ :‬بمعناه العام هو اعتقا ُد تفرُّ ِد هللا تعالى بالربوبية‪،‬‬
‫وإخالص العبادة له‪ ،‬وإثبات ما له من األسماء والصفات‪.‬‬
‫• أنواع التوحيد‪:‬‬
‫فهو ثالثة أنواع‪ :‬توحيد الربوبية‪ ،‬وتوحيد األلوهية‪ ،‬وتوحيدـ‬
‫األسماء والصفات‪ .‬وكل نوع له معنى البد من بيانه ليتحدد الفرق‬
‫بين هذه األنواع‪:‬‬
‫فتوحيدـ الربوبية‪ :‬هو إفرا ُد هللا تعالى بأفعاله؛ بأن يُعتقَ َد أنه‬
‫ق ُكلِّ َش ْي ٍء} [الزمر‪/‬‬‫وحده الخالق لجميع المخلوقات‪{ :‬هَّللا ُ خَالِ ُ‬
‫‪.]62‬‬
‫{و َما ِمن دَآبَّ ٍة‬ ‫وأنه الرازق لجميع الدواب واآلدميين وغيرهم‪َ :‬‬
‫ض إِالَّ َعلَى هَّللا ِ ِر ْزقُهَا}ـ [هود‪.]6/‬‬ ‫فِي األَرْ ِ‬
‫ك الملك‪ ،‬والمدبّ ُـر لشؤون العالم كله؛ يُولِّي ويعزل‪،‬‬ ‫وأنه مال ُ‬
‫ُصرِّ فُ الليل والنهار‪ ،‬ويُحيي‬ ‫ُعز ويُذل‪ ،‬قاد ٌر على كل شيء‪ ،‬ي َ‬ ‫وي ُّ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ع ال ُملكَ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ك تُ ْؤتِي ال ُملكَ َمن تَ َشا ُء َوت ِ‬
‫َنز ُـ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َّ‬
‫ويُميت‪{ :‬قُ ِل اللهُ َّم َمالِكَ ال ُمل ِ‬
‫ْ‬
‫ِم َّمن تَ َشا ُء َوتُ ِع ُّز َمن تَ َشا ُء َوتُ ِذلُّ َمن تَ َشا ُء بِيَ ِدكَ ال َخ ْي ُر إِنَّكَ َعلَ َى ُك ِّل‬
‫ار فِي اللَّي ِْل َوتُ ْخ ِر ُج‬ ‫َش ْي ٍء قَ ِدي ٌـر * تُولِ ُج اللَّي َْل فِي ْالنَّهَ ِ‬
‫ار َوتُولِ ُج النَّهَ َ‬
‫ق َمن تَ َشا ُء بِ َغي ِْر‬‫ت َوتُ ْخ ِر ُج الَ َميَّتَ ِمنَ ْال َح ِّي َوتَرْ ُز ُـ‬ ‫ي ِمنَ ْال َميِّ ِ‬ ‫ْال َح َّ‬
‫ب} [آل عمران‪.]27 ،26/‬‬ ‫ِح َسا ٍ‬

‫‪27‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ك في الملك أو معين‪ ،‬كما‬ ‫وقد نفى هللا سبحانه أن يكون له شري ٌ‬
‫ك في الخلق والرِّ زق‪ ،‬قال تعالى‪:‬‬ ‫نفى سُبحانه أن يكونَ له شري ٌ‬
‫ق الَّ ِذينَ ِمن دُونِ ِه} [لقمان‪.]11/‬‬ ‫ق هَّللا ِ فَأَرُونِيـ َما َذا َخلَ َ‬ ‫{هَ َذا خَ ْل ُ‬
‫ك ِر ْزقَهُ} [الملك‪/‬‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬أَ َّم ْن هَ َذا الَّ ِذي يَرْ ُزقُ ُك ْم إِ ْن أَ ْم َس َ‬
‫‪.]21‬‬
‫{ال َح ْم ُد هّلل ِ‬‫كما أعلن انفراده بالربوبية على جميع خلقه فقال‪ْ :‬‬
‫َربِّ ْال َعالَ ِمينَ } [الفاتحة‪،]2/‬‬
‫ض فِي ِستَّ ِة‬ ‫ت َواألَرْ َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫ق ال َّس َم َ‬ ‫وقال‪{ :‬إِ َّن َربَّ ُك ُم هَّللا ُ الَّ ِذي خَ لَ َ‬
‫طلُبُهُ َحثِيثًا‬ ‫ار يَ ْ‬ ‫ش يُ ْغ ِشي اللَّي َْل النَّهَ َ‬ ‫أَي ٍَّام ثُ َّم ا ْستَ َوى َعلَى ْال َعرْ ِ‬
‫ق َواألَ ْم ُر‬ ‫ت بِأ َ ْم ِر ِه أَالَ لَهُ ْالخَ ْل ُ‬‫س َو ْالقَ َم َر َوالنُّجُو َم ُم َس َّخ َرا ٍ‬ ‫َوال َّش ْم َ‬
‫ك هَّللا ُ َربُّ ْال َعالَ ِمينَ } [األعراف‪.]54/‬‬ ‫ار َ‬ ‫تَبَ َ‬
‫وقد فَطَ َر هللا جمي َع الخلق على اإلقرارـ بربوبيته؛ حتى إن‬
‫المشركين الذين جعلوا له شري ًكا في العبادة؛ يقرون بتفرده‬
‫ت ال َّسب ِْع َو َربُّ‬ ‫اوا ِ‬ ‫بالربوبية‪ ،‬كما قال تعالى‪{ :‬قُلْ َمن رَّبُّ ال َّس َم َ‬
‫ش ْال َع ِظ ِيم * َسيَقُولُونَ هَّلِل ِ قُلْ أَفَالَ تَتَّقُونَ * قُلْ َمن بِيَ ِد ِه َملَ ُك ُ‬
‫وت‬ ‫ْال َعرْ ِ‬
‫ُك ِّل َش ْي ٍء َوه َُو يُ ِجي ُر َوال ي َُجا ُر َعلَ ْي ِه إِن ُكنتُ ْم تَ ْعلَ ُمونَ * َسيَقُولُونَ‬
‫ْحرُونَ } [المؤمنون‪.]89-86/‬‬ ‫هَّلِل ِ قُلْ فَأَنَّىـ تُس َ‬
‫فهذا التوحي ُد لم يذهب إلى نقيضه طائفة معروفة من بني آدم؛‬
‫بل القلوب مفطورة على اإلقرار به؛ أعظم من كونها مفطورة‬
‫على اإلقرار بغيره من الموجودات‪.‬ـ‬
‫ت ُر ُسلُهُ ْم أَفِي هَّللا ِ‬ ‫كما قالت الرسل فيما حكى هللا عنهم‪{ :‬قَالَ ْ‬
‫ض} [إبراهيم‪.]10/‬‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫اط ِـر ال َّس َما َوا ِ‬ ‫ك فَ ِ‬ ‫َش ٌّ‬

‫‪28‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وأشهر من عرف تجاهله وتظاهره بإنكار الرب فرعون‪ ،‬وقدـ‬
‫ال لَقَ ْد َعلِ ْمتَ َما‬ ‫كان مستيقنًا به في الباطن كما قال له موسى‪{ :‬قَ َ‬
‫صآئِ َر}ـ [اإلسراء‪/‬‬ ‫ض بَ َ‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫أَن َز َل هَـؤُال ِء إِالَّ َربُّ ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫‪.]102‬‬
‫{و َج َحدُوا بِهَا َوا ْستَ ْيقَنَ ْتهَا أَنفُ ُسهُ ْم ظُ ْل ًما‬
‫وقال عنه وعن قومه‪َ :‬‬
‫َو ُعلُ ًّوا} [النمل‪.]14/‬‬
‫وكذلك من يُنك ُر الربَّ اليو َم من الشيوعيين؛ إنما ينكرونه في‬
‫الظاهر مكابرة؛ وإال فهم في الباطن ال ب ّد أن يعترفواـ أنه ما من‬
‫موجود إال وله موجد‪ ،‬وما من مخلوق إال وله خالق وما من أثر‬
‫إال وله مؤثر‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬أَ ْم ُخلِقُوا ِم ْن َغي ِْر َش ْي ٍء أَ ْم هُ ُم ْالخَالِقُونَ‬
‫ض بَل ال يُوقِنُونَ } [الطور‪.]36-35/‬‬ ‫ت َواألَرْ َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫* أَ ْم خَ لَقُوا ال َّس َم َ‬
‫تأمل العالم كله ‪-‬علويه وسفليه‪ ،‬بجميع أجزائه‪ -‬تجده شاهدًا‬
‫بإثبات صانعه وفاطره ومليكه‪ .‬فإنكارـ صانعه وجحده في العقول‬
‫والفطر بمنزلة إنكار العلم وجحده‪ .‬ال فرقـ بينهما [ألن العلم‬
‫الصحيح يثبت وجود الخالق]‪ ،‬وما تتبجح به الشيوعية اليوم من‬
‫إنكار وجود الرب‪ ،‬إنما هو من باب ال ُمكابرة‪ ،‬ومصادرة نتائج‬
‫العقول واألفكار الصحيحة‪ ،‬ومن كان بهذه ال َمثابة‪ ،‬فقد ألغى عقله‬
‫ودعا الناس للسخرية منه‪.‬‬
‫قال الشاعر‪:‬‬
‫ويجحده الجاحـد‬ ‫**‬ ‫كيــــــف يعصي اإلله‬
‫تدل على أنه واحد‬ ‫**‬ ‫وفيـ كـل شـيء لـه آيـة‬

‫‪29‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫الفصل الثاني‪ :‬مفهو ُم كلم ِة الربِّ في القرآن وال ُّسنَّة‬
‫وتصورات األمم الضّالَّة‬
‫ُّ‬

‫ب في الكتاب والسنة‬
‫‪ 1‬ـ مفهوم كلمة ال ّر ِّ‬
‫ال ّر ُّب في األصل‪ :‬مصد ُر ربَّ يَرُبُّ ‪ ،‬بمعنى‪ :‬ن َّشأ الشي َء من‬
‫حال إلى حال إلى حال التمام‪ .‬يُقالُ‪ :‬ربَّه وربَّاه وربَّبَهُ‪ .‬فلفظ‬
‫(رب) مصدرـ مستعار للفاعل‪ ،‬وال يُقالُ‪( :‬الرَّبُّ ) باإلطالق إال هلل‬
‫{ربِّ ْال َعالَ ِمينَ }‬
‫تعالى ال ُمتكفل بما يصلح الموجودات‪ .‬نحو قوله‪َ :‬‬
‫{ربُّ ُك ْم َو َربُّ آبَائِ ُك ُم األَ َّولِينَ } [الشعراء‪.]26/‬‬
‫[الفاتحة‪َ ،]2/‬‬
‫وال يقال لغيره إال مضافًا محدودًا‪.‬ـ كما يقال‪ :‬رب الدار‪ ،‬وربُّ‬
‫الفرس؛ يعني صاحبُها‪.‬ـ ومنه قولُه تعالى حكاية عن يوسف عله‬
‫{اذ ُكرْ نِيـ ِعن َد َربِّكَ فَأَن َساهُ ال َّش ْيطَانُ ِذ ْك َر َربِّ ِه} [يوسف‪/‬‬
‫السالم‪ْ :‬‬
‫‪ ]42‬على قول في تفسير اآلية‪.‬‬
‫وقوله تعالى‪{ :‬قَا َل ارْ ِج ْع إِلَى َربِّكَ} [يوسف‪.]50/‬‬
‫وقوله تعالى‪{ :‬أَ َّما أَ َح ُد ُك َما فَيَ ْسقِي َربَّهُ َخ ْمرًا} [يوسف‪.]41/‬‬
‫(حتّى يَ ِجدها‬
‫وقال ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬في ضالة اإلبل‪َ :‬‬
‫ر ُّبها) [من حديث متفق عليه]‪.‬‬
‫فتبين بهذا‪ :‬أن الرب يطلق على هللا معرفًا ومضافًا‪ ،‬فيقال‪:‬‬
‫الرب‪ ،‬أو رب العالمين‪ ،‬أو رب الناس‪ .‬وال تُطلق كلمة الرّبِّ‬
‫على غير هللا إال مضافة‪ ،‬مثل‪ :‬رب الدار‪ ،‬ورب المنزل‪ ،‬ورب‬
‫اإلبل‪.‬‬
‫ومعنى (رب العالمين) أي‪ :‬خالقهم ومالكهم‪ ،‬ومصلحهمـ‬
‫ومربهيمـ بنعمه‪ ،‬وبإرسال رسله‪ ،‬وإنزال كتبه‪ ،‬ومجازيهمـ على‬

‫‪30‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫(فإن الربوبية تقتضي‬‫أعمالهم‪ .‬قال العالمة ابن القيم رحمه هللا‪َّ :‬‬
‫أمر العباد ونهيهم‪ ،‬وجزاء ُمحسنهم بإحسانه‪ ،‬و ُمسيئهمـ بإساءته) ‪.‬‬
‫هذه حقيقة الربوبية‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ مفهوم كلمة الرب في تصورات األمم الضالة‬


‫خلق هللا الخلق مفطورين على التوحيد‪ ،‬ومعرفة الرب الخالق‬
‫ِّين َحنِيفًا فِ ْ‬
‫ط َرةَ هَّللا ِ‬ ‫سبحانه‪ ،‬كما قال هللا تعالى‪{ :‬فَأَقِ ْم َوجْ هَكَ لِلد ِ‬
‫ق هَّللا ِ} [الروم‪/‬ـ‪.]30‬‬ ‫يل لِخَ ْل ِ‬ ‫الَّتِي فَطَ َـر النَّ َ‬
‫اس َعلَ ْيهَا ال تَ ْب ِد َ‬
‫وقال تعالى‪َ { :‬وإِ ْذ أَخَ َذ َربُّكَ ِمن بَنِي آ َد َم ِمن ظُه ِ‬
‫ُور ِه ْم ُذ ِّريَّتَهُْـم‬
‫وا بَلَى َش ِه ْدنَا} [األعراف‪/‬‬ ‫ْت بِ َربِّ ُك ْم قَالُ ْـ‬
‫َوأَ ْشهَ َدهُ ْم َعلَى أَنفُ ِس ِه ْم أَلَس ُ‬
‫‪.]172‬‬
‫فاإلقرا ُـر بربوبية هللا والتوجه إليه أمر فطري‪ ،‬والشركـ حادث‬
‫طارئ‪ .‬وقد قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪( :‬ك ُّل مولود يُولد على‬
‫مجسانه) [رواه‬ ‫نصرانه أو يُ ِّ‬
‫الفطرة‪ ،‬فأبواه يُه ِّودانه أو يُ ِّ‬
‫الشيخان]‪.‬‬
‫فلو ُخلِّ َي العبد وفطرته التّجه إلى التوحيد وقَبِل دعوة الرسل؛‬
‫الذي جاءت به الرسل‪ ،‬ونزلت به الكتب‪ ،‬ودلّت عليه اآليات‬
‫الكونية‪ ،‬ولكن التربية ال ُمنحرفة والبيئة ال ُملحدة هما اللتان تغيران‬
‫اتجاه ال َمولود‪ ،‬ومن ثَ َّم يقلد األوالد آباءهم في الضاللة‬
‫واالنحراف‪.‬‬
‫(خلَقتُ ِعبَا ِدي ُحنَفَاء‪،‬‬
‫يقو ُل هللا تعالى في الحديث القدسي‪َ :‬‬
‫ْ‬ ‫فَاجتَالَت ُهم الشيَا ِطين) [رواه أحمد ومسلم] أي‪َ :‬‬
‫ص َرفَتهُمـ إلى عبادة‬
‫األصنام‪ ،‬واتخاذها أربابًا من دون هللا؛ فوقعوا في الضالل‬
‫والضياع‪ ،‬والتفرق واالختالف؛ كل يتخذ له ربًّا يعبده غير رب‬

‫‪31‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫اآلخر؛ ألنهم لما تركواـ الرب الحق‪ ،‬ابتُلُوا باتخاذ األرباب‬
‫الباطلة‪.‬‬
‫ق فَ َما َذا بَ ْع َد ْال َح ِّ‬
‫ق إِالَّ‬ ‫كما قال تعالى‪{ :‬فَ َذلِ ُك ُم هّللا ُ َربُّ ُك ُم ْال َح ُّ‬
‫ضالَلُ} [يونس‪.]32/‬‬ ‫ال َّ‬
‫أعرض عن‬ ‫َ‬ ‫والضالل ليس له ح ّد ونهاية‪ ،‬وهو الزم لكل من‬
‫ربه الحق‪ .‬قال هللا تعالى‪{ :‬أَأَرْ بَابٌ ُّمتَفَرِّ قُونَ خَ ْي ٌر أَ ِم ُ ال َوا ِح ُد‬
‫ْ‬ ‫هَّللا‬
‫ْالقَهَّا ُر * َما تَ ْعبُ ُدونَ ِمن دُونِ ِه إِالَّ أَ ْس َما ًء َس َّم ْيتُ ُموهَاـ أَنتُ ْم َوآبَآ ُؤ ُكم َّما‬
‫أَن َز َل هَّللا ُ بِهَا ِمن س ُْلطَا ٍن} [يوسف‪.]40 ،39/‬‬
‫ك في الربوبية باعتبار إثبات خالقين متماثلين في‬ ‫وال ّشر ُ‬
‫الصفات واألفعال ممتنع‪ .‬وإنما ذهب بعض المشركين إلى أن‬
‫معبوداتهمـ تملك بعض التصرفات في الكون‪ .‬وقد تالعب بهم‬
‫َب بكل قوم على قدر‬ ‫الشيطان في عبادة هذه المعبودات‪ ،‬فتالع َ‬
‫عقولهم‪ .‬فطائفة دعاهم إلى عبادتها من جهة تعظيم الموتى؛ الذين‬
‫صورواـ تلك األصنام على صورهم‪ ،‬كقوم نوح‪ ،‬وطائفةٌ اتخذت‬
‫األصنام على صورة الكواكب؛ التي زعموا أنها تؤثر على العالم‪،‬‬
‫فجعلوا لها بيوتًاـ وسدنة‪.‬‬
‫واختلفوا في عبادتهمـ لهذه الكواكب‪ :‬فمنهم من عبد الشمس‪،‬‬
‫ومنهم من عبد القمر‪ ،‬ومنهم من يعب ُد غيرهما من الكواكب‬
‫األخرى‪ .‬حتى بنوا لها هياكل‪ .‬لكل كوكب منها هيكل يخصه‪.‬‬
‫ومنهم من يعب ُد النار‪ ،‬وهم المجوس‪ .‬ومنهم من يعبد البقر‪ ،‬كما‬
‫في الهند‪ .‬ومنهمـ من يعبد المالئكة‪ .‬ومنهم من يعبد األشجار‬
‫واألحجار‪ .‬ومنهمـ من يعب ُد القبور واألضرحة‪ .‬وكل هذا بسبب أن‬
‫هؤالء تصوروا في هذه األشياء شيئًا من خصائص الربوبية‪.‬‬
‫فمنهم من يزعم أن هذه األصنام تمثل أشياء غائبة‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫قال ابن القيم‪" :‬وضع الصنم إنما كان في األصل على شكل‬
‫معبود غائب‪ .‬فجعلوا الصنم على شكله وهيأته وصورته؛ ليكون‬
‫نائبًا منابه‪ ،‬وقائ ًما مقامه‪ .‬وإال فمن المعلوم أن عاقاًل ال ينحت‬
‫خشبة أو حجرًا بيده‪ ،‬ثم يعتقد أنه إلهه ومعبوده‪ "....‬انتهى ‪.‬‬
‫القبور قدي ًما وحديثًا‪ ،‬يزعمون أن هؤالء األموات‬ ‫ِ‬ ‫كما أن ُعبَّاد‬
‫يشفعون لهم‪ ،‬ويتوسطون لهم عند هللا في قضاء حوائجهم‬
‫ويقولون‪َ { :‬ما نَ ْعبُ ُدهُ ْم إِال لِيُقَرِّ بُونَاـ إِلَى هَّللا ِ ُز ْلفَى} [يونس‪،]18/‬‬
‫{ َويَ ْعبُ ُدونَ ِمن دُو ِن هَّللا ِ َما الَ يَضُرُّ هُ ْم َوالَ يَنفَ ُعهُ ْم َويَقُولُونَ‬
‫هَـؤُال ِء ُشفَ َعا ُؤنَا ِعن َد هَّللا ِ} [يونس‪.]18/‬‬
‫كما أن بعض مشركي العرب والنصارىـ تصورواـ في‬
‫معبوداتهمـ أنها ولد هللا‪ .‬فمشركو العرب عبدوا المالئكة على أنها‬
‫بنات هللا‪ ،‬والنصارىـ عبدوا المسيح ‪-‬عليه السالم‪ -‬على أنه ابن‬
‫هللا‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ الر ّد على هذه التصورات الباطلة‬


‫قد رد هللا على هذه التصورات الباطلة جميعًا بما يأتي‪:‬‬
‫أ ـ ر ّد على عبدة األصنام بقوله‪{ :‬أَفَ َرأ ْيتُ ُم الَّالَتَ َوال ُع َّزى *‬
‫َو َمنَاةَ الثَّالِثَةَ األُ ْخ َرى} [يونس‪.]18/‬‬
‫ومعنى اآلية كما قال القرطبي‪ :‬أفرأيتمـ هذه اآللهة! أنفعت أو‬
‫ضرت؛ حتى تكون شركاء هلل تعالى؟ وهل دفعت عن نفسها‬
‫حينما حطمها رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وأصحابه ‪-‬رضي‬
‫هللا‪ -‬عنهم وهدموها‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫{وا ْت ُل َعلَ ْي ِه ْم نَبَأ َ إِ ْب َرا ِهي َم * إِ ْذ قَا َل ألَبِي ِه َوقَ ْو ِم ِه‬‫وقال تعالى‪َ :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫صنا ًما فنظ ُّل ل َها عَا ِكفِينَ * قا َل َه ْل‬‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َما تَ ْعبُدُونَ * قَالُوا ن ْعبُ ُد أ ْ‬
‫َ‬
‫ض ُّرونَ * قَالُوا بَ ْل‬ ‫س َم ُعونَ ُك ْم إِ ْذ تَ ْدعُونَ * أَ ْو يَنفَ ُعونَ ُك ْـم أَ ْو يَ ُ‬
‫يَ ْ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬
‫َو َج ْدنا آبَا َءنا َكذلِكَ يَف َعلونَ } [الشعراء‪.]74-69/‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫أن هذه األصنا َم ال تسم ُع الدعا َء وال تنف ُع وال‬ ‫فقد وافقواـ على َّ‬
‫تضر‪ ،‬وإنَّما عبدوها تقليدًا آلبائهم‪ ،‬والتقليد حجة باطلة‪.‬‬
‫ب ـ ور ّد على من عبد الكواكب والشمس والقمر بقوله‪:‬‬
‫ت بِأ َ ْم ِر ِه} [األعراف‪.]54/‬‬ ‫س َّخ َرا ٍ‬ ‫س َوا ْلقَ َم َر َوالنُّ ُجو َم ُم َ‬ ‫ش ْم َ‬‫{وال َّ‬
‫َ‬
‫س َوا ْلقَ َم ُر ال‬
‫ش ْم ُ‬ ‫{و ِمنْ آيَاتِ ِه اللَّ ْي ُل َوالنَّ َها ُر َوال َّ‬
‫وبقوله‪َ :‬‬
‫س ُجدُوا هَّلِل ِ الَّ ِذي َخلَقَ ُهنَّ إِن ُكنتُ ْم‬ ‫س َوال لِ ْلقَ َم ِر َوا ْ‬ ‫ش ْم ِ‬ ‫تَ ْ‬
‫س ُجدُوا لِل َّ‬
‫إِيَّاهُ تَ ْعبُدُونَ } [فصلت‪.]37/‬‬
‫جـ ـ ور ّد على من عبد ال َمالئكة وال َمسيح ‪-‬عليهم السالم‪ -‬على‬
‫أنهم ولد هللا ‪ -‬بقوله تعالى‪َ { :‬ما ات ََّخ َذ هَّللا ُ ِمن َولَ ٍد} [المؤمنون‪/‬‬
‫‪.]91‬‬
‫صا ِحبَةٌ} [األنعام‪/‬‬ ‫وبقوله‪{ :‬أَنَّى يَ ُكونُ لَهُ َولَ ٌد َولَ ْم تَ ُكن لَّهُ َ‬
‫‪.]101‬‬
‫وبقوله‪{ :‬لَ ْم يَلِ ْد َولَ ْم يُولَ ْد * َولَ ْم يَ ُكن لَّهُ ُكفُ ًواـ أَ َحدٌ}‬
‫[اإلخالص‪.]4 ،3/‬‬

‫ُوع والطَّاع ِة هلل‬


‫الكون وفطرتُهُ في ال ُخض ِ‬
‫ُ‬ ‫الفصل الثالث‪:‬‬

‫‪34‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫إن جميع الكون بسمائه وأرضه وأفالكه وكواكبه‪ ،‬ودوابه‬ ‫َّ‬
‫وشجره ومدره وبَره وبحره‪ ،‬ومالئكته وجنه وإنسه؛ كله خاضع‬
‫هلل‪ ،‬مطيع ألمره الكوني‪.‬‬
‫ط ْوعًا‬ ‫ض َ‬ ‫ت َواألَ ْر ِ‬ ‫اوا ِ‬‫س َم َ‬ ‫سلَ َم َمن فِي ال َّ‬ ‫{ولَهُ أَ ْ‬ ‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫َو َك ْرهًا} [آل عمران‪.]83:‬‬
‫ض ُك ٌّل لَّهُ قَانِتُونَ }‬ ‫ت َواألَ ْر ِ‬ ‫اوا ِ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬بَل لَّهُ َما فِي ال َّ‬
‫س َم َ‬
‫[البقرة‪.]116/‬‬
‫ض ِمن دَآبَّ ٍة‬ ‫ت َو َما فِي األَ ْر ِ‬ ‫س َما َوا ِ‬ ‫س ُج ُد َما فِي ال َّ‬ ‫{وهَّلِل ِ يَ ْ‬ ‫َ‬
‫ستَ ْكبِرُونَ } [النحل‪.]49/‬‬ ‫َوا ْل َم ِ َ ْ َ ْ‬
‫ي‬ ‫َ‬ ‫ال‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ُ‬ ‫و‬ ‫ُ‬ ‫ة‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫ئ‬ ‫آل‬
‫ت َو َمن فِي األَ ْر ِ‬
‫ض‬ ‫س َما َوا ِ‬‫س ُج ُد لَهُ َمن فِي ال َّ‬ ‫{أَلَ ْم تَ َر أَنَّ هَّللا َ يَ ْ‬
‫اب َو َكثِي ٌر ِّمنَ‬ ‫س َوا ْلقَ َم ُر َوالنُّ ُجو ُم َوا ْل ِجبَا ُل َوالش ََّج ُر َوالد ََّو ُّ‬ ‫ش ْم ُ‬ ‫َوال َّ‬
‫س} [الحج‪.]18/‬‬ ‫النَّا ِ‬
‫ط ْوعًا َو َك ْرهًا‬ ‫ض َ‬ ‫ت َواألَ ْر ِ‬ ‫اوا ِ‬
‫س َم َ‬‫س ُج ُد َمن ِفي ال َّ‬ ‫{وهَّلِل ِ يَ ْ‬ ‫َ‬
‫ال} [الرعد‪.]15:‬‬ ‫َ ِ‬‫اآلص‬ ‫و‬
‫ِّ َ‬ ‫ُو‬‫د‬ ‫ُ‬
‫غ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ُ‬
‫َو ِظالل ُ ِ‬
‫ب‬ ‫م‬ ‫ه‬
‫ف ُكلُّ هذه الكائنات والعوالم ُمنقادة هلل خاضعة لسلطانه؛ تجري‬
‫وفق إرادته وطوع أمره‪ ،‬ال يستعصيـ عليه منها شيء‪ ،‬تقوم‬
‫بوظائفها‪ ،‬وتؤديـ نتائجها بنظام دقيق‪ ،‬وتنزه خالقها عن النقص‬
‫والعجز والعيب‪.‬‬
‫ض َو َمن فِي ِهنَّ‬ ‫س ْب ُع َواألَ ْر ُ‬ ‫اواتُ ال َّ‬ ‫سبِّ ُح لَهُ ال َّ‬
‫س َم َ‬ ‫قال تعالى‪{ :‬تُ َ‬
‫يح ُه ْم}‬ ‫سب ِ َ‬ ‫سبِّ ُح بِ َح ْم َد ِه َولَـ ِكن الَّ تَ ْفقَهُونَ تَ ْ‬ ‫َي ٍء إِالَّ يُ َ‬ ‫َوإِن ِّمن ش ْ‬
‫[اإلسراء‪.]44/‬‬
‫فهذه ال َمخلوقاتـ صامتها وناطقها‪ ،‬وحيها وميتها‪ ،‬كلها ُمطيعةٌ‬
‫هلل ُمنقادة ألمره الكوني‪ .‬و ُكلُّها تنزه هللا عن النقائص والعيوب‬

‫‪35‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫بلسان الحال‪ ،‬ولسان ال َمقال‪ .‬فكلما تدبّر العاقل هذه ال َمخلوقات‪،‬‬
‫علم أنها ُخلقت بالحق وللحق‪ ،‬وأنها مسخرات ليس لها تدبير وال‬
‫استعصاء عن أمر مدبرها‪ .‬فالجميع ُمقِرُّ ون بالخالق بفطرتهم‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رحمه هللا‪" :‬وهم خاضعون‬
‫ُمستسلمون‪ ،‬قانتون مضطرون من وجوه‪:‬‬
‫منها‪ :‬علمهم بحاجتهم وضرورتهمـ إليه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬خضو ُعهُم واستسالمهم لما يجري عليهم من أقداره‬
‫ومشيئته‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬دعاؤهم إياهُ عن َد االضطرار‪.‬‬
‫وال ُمؤمن يخضع ألمر ربه طوعًا‪ .‬وكذلك ل َما يقدره عليه من‬
‫ال َمصائب‪ .‬فإنه يفع ُل عندها ما أمر به من الصبرـ وغيره طوعًا‪.‬‬
‫فهو مسلم هلل طوعًا‪ ،‬خاضع له طوعًا‪ .‬والكاف ُر يخضع ألمر ربه‬
‫الكوني‪ .‬وسجودـ الكائنات ال َمقصودـ به الخضوعُ‪ ،‬وسجودـ كل‬
‫شيء ب َح َسبِه‪ .‬سُجو ٌد يناسبه ويتض َّمنُ الخضوعـ للرب‪ ،‬وتسبيح كل‬
‫شيء بحسبه حقيقةً ال مجا ًزا‪".‬‬
‫وقال شي ُخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رحمه هللا‪ -‬على قوله تعالى‪:‬‬
‫ت َواألَ ْر ِ‬
‫ض‬ ‫اوا ِ‬
‫س َم َ‬ ‫{أَفَ َغ ْي َر ِدي ِن هَّللا ِ يَ ْب ُغونَ َولَهُ أَ ْ‬
‫سلَ َم َمن فِي ال َّ‬
‫طَ ْوعًا َو َك ْرهًا َوإِلَ ْي ِه يُ ْر َجعُونَ } [آل عمران‪.]83/‬‬
‫قال‪" :‬فذكرـ سبحانه إسالم الكائنات طوعًا وكرهًاـ ألن‬
‫ال َمخلوقات جميعها متعبدة له التعبد التام‪ .‬سواء أق ّر ال ُمقر بذلك أو‬
‫أنكره‪ .‬وهم َمدينون له ُم َدبَّرون‪ .‬فه ُم مسلمون له طوعًا وكرهًا‪.‬‬
‫وليس ألحد من المخلوقات خروج ع َّما شاءه وق َّدره وقضاه‪ .‬وال‬
‫حول وال قوة إال به‪ .‬وهو رب العالمين وملي ُكهُم‪ ،‬يصرفهم كيف‬

‫‪36‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫يشاء‪ .‬وهو خالقهم كلهم‪ ،‬وبارئهم ومصورهم‪ .‬وكل ما سواه فهو‬
‫مربوب مصنوع‪ ،‬مفطور فقير محتاج ُمعبَّ ٌد مقهور‪ .‬وهو سبحانه‬
‫الواحد القهار الخالق البارئ المصور‪".‬ـ‬

‫‪ ‬الفصل الرابع‪ :‬في بيا ِن منهج القرآن في إثبات ُوجُو ِد‬


‫الخالق ووحدانيَّته‬
‫ِ‬
‫منه ُج القرآن في إثبات وجود الخالق ووحدانيته هو ال َمنهج‬
‫الذي يتم ّشىـ مع الفطر ال ُمستقيمة‪ ،‬والعقول السليمة‪ .‬وذلك بإقامة‬
‫البراهين الصحيحة التي تقتنع بها العقول‪ ،‬وتسلم بها الخصوم‪.‬‬
‫ومن ذلك‪:‬‬

‫‪ 1‬ـ من المعلوم بالضرورة أن الحادث ال ب ّد له من محدث‪.‬‬


‫هذه قضية ضرورية معلومة بالفطرة‪ ،‬حتى للصبيان‪َّ .‬‬
‫فإن‬
‫ي لو ضربَهُ ضاربٌ ‪ ،‬وهو غاف ٌل ال يُبصره‪ ،‬لقال‪ :‬من‬ ‫الصَّب َّ‬
‫ُ‬
‫ك أح ٌد"‪ ،‬لم يقبل عقلهُ أن تكونَ‬ ‫ضربني؟ فلو قيل له‪" :‬لم يضرب َ‬
‫الضَّربةُ حدثت من غير محدث‪ .‬فإذا قيل‪" :‬فالن ضربَكَ "‪ ،‬بكى‬
‫ب ضاربُهُ‪.‬‬
‫ُضر َ‬
‫حتى ي َ‬
‫َي ٍء أَ ْم ُه ُم ا ْل َخالِقُونَ }‬
‫ولهذا قال تعالى‪{ :‬أَ ْم ُخلِقُوا ِمنْ َغ ْي ِر ش ْ‬
‫[الطور‪/‬ـ‪.]35‬‬
‫وهذا تقسيم حاصر‪ ،‬ذكره هللا بصيغة استفهام إنكاري‪ ،‬ليبيّن‬
‫أن هذه المقدمات معلومة بالضرورة‪ ،‬ال يمكن جحدها‪.‬‬‫َّ‬

‫‪37‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫َي ٍء} أي‪ :‬من غير خالق خلقهم‪ ،‬أم‬ ‫يقول‪{ :‬أَ ْم ُخلِقُوا ِمنْ َغ ْي ِر ش ْ‬
‫هم خَ لَقوا أنفسهم؟ وكال األمرين باطلٌ‪ .‬فتعين أن لهم خالقًا خلقهم‪،‬‬
‫ليس هُناك خالق غيره‪.‬‬ ‫وهو هللا سبحانه‪َ ،‬‬
‫ق هَّللا ِ َفأ َ ُرونِي َما َذا َخلَ َ‬
‫ق الَّ ِذينَ ِمن دُونِ ِه}‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬ه َذا َخ ْل ُ‬
‫[لقمان‪.]11/‬‬
‫ض} [األحقاف‪.]4/‬‬ ‫{أَ ُرونِي َما َذا َخلَقُوا ِمنَ األَ ْر ِ‬
‫ق َعلَ ْي ِه ْم قُ ِل‬ ‫{أَ ْم َج َعلُو ْا هَّلِل ِ ُ‬
‫ش َر َكا َء َخلَقُو ْا َك َخ ْلقِ ِه فَتَشَابَهَ ا ْل َخ ْل ُ‬
‫اح ُد ا ْلقَ َّها ُر} [الرعد‪.،]16/‬‬ ‫َي ٍء َوه َُو ا ْل َو ِ‬
‫ق ُك ِّل ش ْ‬ ‫هَّللا ُ َخالِ ُ‬
‫اجتَ َم ُعواـ‬‫{إِنَّ الَّ ِذينَ تَ ْدعُونَ ِمن دُو ِن هَّللا ِ لَن يَ ْخلُقُوا ُذبَابًا َولَ ِو ْ‬
‫لَهُ} [الحج‪.]73/‬‬
‫ش ْيئًا َو ُه ْم يُ ْخلَقُونَ }‬ ‫ُون هَّللا ِ الَ يَ ْخلُقُونَ َ‬ ‫{والَّ ِذينَ يَ ْدعُونَ ِمن د ِ‬ ‫َ‬
‫[النحل‪.]20/‬‬
‫ق أَفَال تَ َذ َّكرُونَ } [النحل‪.]17/‬‬ ‫ق َك َمن الَّ يَ ْخلُ ُ‬‫{أَفَ َمن يَ ْخلُ ُ‬
‫ق شيئًا‪ ،‬وال مجرد‬
‫ومع هذا التحدي المتكرِّر لم ي َّدع أح ٌد أنه خل َ‬
‫ق‬‫دعوى ‪-‬فضاًل عن إثبات ذلك‪ .‬فتعيَّنَ أن هللا سُبحانه هو الخال ُ‬
‫وح َدهُ ال شريك له‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ انتظام أمر العالم كله وإحكامه‬


‫أدَلُّ دليل على َّ‬
‫أن مدبره إلهٌ واحد وربٌّ واح ٌد ال شريك له وال‬
‫ُمنازع‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫قال تعالى‪َ { :‬ما ات ََّخ َذ هَّللا ُ ِمن َولَ ٍد َو َما َكانَ َم َعهُ ِمنْ إِلَ ٍه إِ ًذا‬
‫ض} [المؤمنون‪/‬‬ ‫ض ُه ْم َعلَى بَ ْع ٍ‬ ‫ق َولَ َعال بَ ْع ُ‬ ‫لَّ َذه َ‬
‫َب ُك ُّل إِلَ ٍه بِ َما َخلَ َ‬
‫‪.]91‬‬
‫فاإلله الحق ال ب ّد أن يكون خالقًا فاعاًل ‪ .‬فلو كان معه سبحانه‬
‫إله آخر‪ ،‬يُشاركه في ُملكه ‪-‬تعالى هللا عن ذلك‪ -‬لكان له خلق‬
‫وفعل‪ .‬وحينئ ٍذ فال يرضى ِشر َكةَ اإلله اآلخر معه‪ .‬بل إن قدر على‬
‫قهر شريكه وتف َّردـ بالملك واإللهية دونَهُ‪ ،‬فعل‪ .‬وإن لم يقدر على‬
‫ك الدنيا‬ ‫ذلك‪ ،‬انفرد بنصيبه في ال ُملك والخلق‪ .‬كما ينفرد ملو ُ‬
‫بعضهم عن بعض بملكه‪ ،‬فيحصل االنقسام‪.‬‬
‫فال بُ َّد من أحد ثالثة أمور‪:‬‬
‫أ‪ -‬إما أن يقهر أحدهما اآلخر وينفر َـد بالملك دونه‪.‬‬
‫ب‪ -‬وإما أن ينفر َد ُكلُّ واحد منهما عن اآلخر بملكه وخلقه؛‬
‫فيحصل االنقسام‪.‬‬
‫ك واح ٍد يتصر ُـ‬
‫ّف فيهما كيف يشاء؛‬ ‫ج‪ -‬وإما أن يكونا تحت َملِ ٍ‬
‫فيكون هو اإلله الحق وهم عَبيدُه‪.‬‬
‫وهذا هو الواقعُ‪ .‬فإنه لم يحصل في العالم انقسام وال خلل‪ .‬مما‬
‫أن مدبره واح ٌد‪ ،‬ال منازع له‪ ،‬وأن مالكه واحد ال شريك‬‫يَدُلُّ على َّ‬
‫له‪.‬‬

‫ت ألداء وظائفها‪ ،‬والقيام بخصائصها‪.‬‬


‫‪ 3‬ـ تسخي ُر المخلوقا ِ‬
‫فليس هُناك مخلوق يستعصيـ ويمتنع عن أداء مهمته في هذا‬ ‫َ‬
‫الكون‪ .‬وهذا ما استدل به موسىـ ‪-‬عليه السالم‪ -‬حين سأله‬
‫سى}‪.‬‬‫فرعون‪{ :‬قَا َل فَ َمن َّر ُّب ُك َما يَا ُمو َ‬

‫‪39‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫كاف فقال‪َ { :‬ربُّنَا الَّ ِذي أَ ْعطَى ُك َّل‬
‫ٍ‬ ‫شاف‬
‫ٍ‬ ‫أجاب موسى بجواب‬
‫َي ٍء َخ ْلقَهُ ثُ َّم َهدَى} [طه‪.]50 ،49/‬‬
‫ش ْ‬
‫أي‪ :‬ربنا الذي خلق جميع ال َمخلوقات‪ ،‬وأعطى كل مخلوق‬
‫خلقه الالئق به؛ من كبر الجسم وصغره وتوسطه وجميع صفاته‪.‬‬
‫ثم هدى كل مخلوق إلى ما خلقه له‪ .‬وهذه الهدايةُ هي هداية الداللة‬
‫واإللهام‪ .‬وهي الهدايةُ الكاملةُ المشاه َدةُ في جميع المخلوقات‪ .‬فكلُّ‬
‫المضارِّ‬
‫َ‬ ‫مخلوق تجده يسعى لما خلق له من المنافع‪ ،‬وفي دفع‬
‫إن هللا أعطى الحيوان البهيم من اإلدراك؛ ما يتمكن به‬ ‫عنه‪ .‬حتى َّ‬
‫من فعل ما ينفعه‪ ،‬ودفع ما يضره‪ ،‬وما به يؤدي مهمته في الحياة‪.‬‬
‫َي ٍء َخلَقَهُ} [السجدة‪.]7/‬‬ ‫وهذا كقوله تعالى‪{ :‬الَّ ِذي أَ ْح َ‬
‫سنَ ُك َّل ش ْ‬
‫فالذي خلق جمي َع ال َمخلوقات‪ ،‬وأعطاها خلقَها الحسنَ ‪-‬الذي ال‬
‫تقترح العقول فوقـ حسنه‪ -‬وهداها ل َمصالحها‪ ،‬هو الرب على‬
‫الحقيقة‪ .‬فإنكا ُرهُ إنكا ٌر ألعظم األشياء وجودًا‪.‬ـ وهو مكابرة‬
‫و ُمجاهرة بالكذب‪.‬‬
‫فاهلل أعطَى الخلق كل شيء يحتاجون إليه في الدنيا‪ ،‬ثم هداهم‬
‫إلى طريقـ االنتفاع به‪ .‬والشك أنه أعطى كل صنف شكلَه‬
‫المناسب له‬
‫َ‬ ‫وصورتَهُ المناسبة له‪ .‬وأعطى كل ذكر وأنثى ال ّش َ‬
‫كل‬
‫من جنسه‪ ،‬في المناكحة واأللفة واالجتماع‪.‬ـ وأعطى كل عضو‬
‫شكله المالئم للمنفعة المنوطة به‪ .‬وفي هذا براهين قاطعة على أنه‬
‫ق للعباد ِة دون سواه‪....‬‬ ‫ج ّل وعال َربُّ ُك ِّل شيء‪ .‬وهو المستح ُّ‬
‫وفيـ ُكـ ِّل شـي ٍء لَـهُ آيـةٌ ** تَدلُّ على أنّه الواح ُد‬
‫أن المقصو َد من إثبات ربوبيته ‪-‬سبحانه‪-‬‬ ‫ومما ال شك فيه َّ‬
‫لخلقه وانفراده‪ .‬لذلك‪ :‬هو االستدالل به على وجوب عبادته وحده‬
‫ال شريك له؛ الذي هو توحيدـ األلوهية‪ .‬فلو أن اإلنسان أق ّر بتوحيد‬

‫‪40‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫الربوبية ولم يقر بتوحيد األلوهية أو لم يَقُ ْم به على الوجه‬
‫الصحيح‪ ،‬لم يكن مسل ًما‪ ،‬وال موحدًا‪ .‬بل يكون كافرًا جاحدًا‪ .‬وهذا‬
‫ما سنتح َّدث عنه في الفصل التالي‪ ،‬إن شاء هللا تعالى‪.‬‬

‫استلزام توحي ِد الرُّ بوبيَّ ِة لتوحيد‬


‫ِ‬ ‫‪ ‬الفصل الخامس‪ُ :‬‬
‫بيان‬
‫األُلوهيَّة‬
‫• معنى الترجمة‪:‬‬
‫ومعنى ذلك َّ‬
‫أن من أق َّر بتوحيد الربوبية هلل‪ ،‬فاعترف بأنه ال‬
‫خالق وال رازق وال مدبِّر للكون إال هللا ‪-‬ع ّز وجل‪ -‬لزمه أن يُق َّر‬
‫بأنه ال يستحق العبادة بجميع أنواعها إال هللا سبحانه‪.‬‬
‫فإن األلوهية هي العبادة‪ .‬فاإلله‬ ‫وهذا هو توحيد األلوهية‪َّ .‬‬
‫ُ‬
‫معناه‪ :‬المعبود‪ .‬فال يُدعى إال هللا‪ ،‬وال يُستغاث إال به‪ ،‬وال يُت َو َّك ُل‬
‫صرف جمي ُع أنواع‬ ‫ُـ‬ ‫إال عليه‪ ،‬وال تذبح القرابين وتُنذر النذو ُـر وال تُ‬
‫العبادة إال له‪.‬‬
‫• توحي ُد الربوبية دلي ٌل لوجوب توحيد األلوهية‪:‬‬
‫فتوحي ُـد الربوبية دلي ٌل لوجوب توحيد األلوهية‪ .‬ولهذا كثيرًا ما‬
‫يحتجُّ هللا ‪-‬سُبحانه‪ -‬على المنكرين لتوحيد األلوهية بما أقرواـ به‬
‫من توحيد الربوبية‪.‬‬
‫مثل قوله تعالى‪{ :‬يَا أَيُّ َها النَّ ُ‬
‫اس ا ْعبُدُو ْا َربَّ ُك ُم الَّ ِذي َخلَقَ ُك ْم‬
‫ض فِ َراشًا‬ ‫َوالَّ ِذينَ ِمن قَ ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم تَتَّقُونَ * الَّ ِذي َج َع َل لَ ُك ُم األَ ْر َ‬
‫س َما ِء َما ًء فَأ َ ْخ َر َج بِ ِه ِمنَ الثَّ َم َرا ِ‬
‫ت‬ ‫س َما َء بِنَا ًء َوأَن َز َل ِمنَ ال َّ‬ ‫َوال َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ِر ْزقًا ل ُك ْم فالَ ت َْج َعلوا ِ أندَادًا َوأنتُ ْم تَ ْعل ُمونَ } [البقرة‪.]22 ،21/‬‬
‫هّلِل‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬

‫‪41‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫فأمرهم بتوحيدـ األلوهية‪ ،‬وهو عبادتهُ‪ .‬واحت َّج عليهم بتوحيدـ‬
‫ق السما ِء‬‫ق الناس األولين واآلخرين‪ ،‬وخل ُ‬ ‫الرُّ بوبية الذي هو خل ُ‬
‫واألرض وما فيهما‪ ،‬وتسخير الرياح وإنزا ُل المطر‪ ،‬وإنباتُ‬
‫ِ‬
‫النبات‪ ،‬وإخراج الثمرات التي هي رزق العباد‪ .‬فال يليق بهم أن‬
‫يُشركوا معه غيره ‪-‬م َّم ْن يعلمون أنه لم يفعل شيئًا من ذلك‪ ،‬وال‬
‫من غيره‪.‬‬
‫فالطريقـ الفطري إلثبات توحيدـ األلوهية‪ :‬االستدالل عليه‬
‫بتوحيد الربوبية‪ .‬فإن اإلنسان يتعلق أواًل بمصدرـ خلقه‪ ،‬ومنشأ‬
‫نفعه وضره‪ .‬ثم ينتقل بعد ذلك إلى الوسائل التي تقرّبه إليه‪،‬‬
‫وترضيه عنه‪ ،‬وتوثقـ الصلة بينه وبينه‪.‬‬
‫باب لتوحيد األلوهية‪:‬‬
‫• توحيد الربوبية ٌ‬
‫فتوحيدـ الربوبية بابٌ لتوحيد األلوهية‪ .‬من أجل ذلك احت َّج هللا‬
‫على المشركين بهذه الطريقة‪ ،‬وأمر رسوله أن يحت َّج بها عليهم‪.‬‬
‫ض َو َمن فِي َها إِن ُكنتُ ْم تَ ْعلَ ُمونَ *‬ ‫فقال تعالى‪{ :‬قُل لِّ َم ِن األَ ْر ُ‬
‫س ْب ِع‬‫ت ال َّ‬ ‫اوا ِ‬
‫س َم َ‬‫سيَقُولُونَ هَّلِل ِ قُ ْل أَفَالَ تَ َذ َّكرُونَ * قُ ْل َمن َّر ُّب ال َّ‬ ‫َ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫سيَقُولُونَ هَّلِل ِ ق ْل أفالَ تَتَّقُونَ * ق ْل َمن بِيَ ِد ِه‬ ‫يم * َ‬ ‫ش ا ْل َع ِظ ِ‬
‫َو َر ُّب ا ْل َع ْر ِ‬
‫َي ٍء َو ُه َو يُ ِجي ُر َوال يُ َجا ُر َعلَ ْي ِه إِن ُكنتُ ْم تَ ْعلَ ُمونَ *‬ ‫َملَ ُكوتُ ُك ِّل ش ْ‬
‫س َحرُونَ } [المؤمنون‪.]89-84/‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سيَقُولُونَ هَّلِل ِ قُ ْل فأنَّى تُ ْ‬ ‫َ‬
‫ق ُك ِّل ش ْ‬
‫َي ٍء‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬ذلِ ُك ُم هَّللا ُ َربُّ ُك ْم ال إِلَـهَ إِالَّ ُه َو َخالِ ُ‬
‫فَا ْعبُدُوهُ} [األنعام‪.]102/‬‬
‫فقد احتج بتفرُّ ِده بالربوبية على استحقاقه للعبادة‪ .‬وتوحيد‬
‫األلوهية‪ :‬هو الذي خلق الخلق من أجله‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫نس إِال لِيَ ْعبُدُو ِن} [الذاريات‪/‬‬ ‫{و َما َخلَ ْقتُ ا ْل ِجنَّ َو ِ‬
‫اإل َ‬ ‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫‪.]56‬‬
‫ومعنى (يَ ْعبُد ِ‬
‫ُون)‪ :‬يُفردونيـ بالعبادة‪.‬‬
‫• مجرد االعتراف بتوحيد الربوبية ال يصير العبد موحدا‪:‬‬
‫وال يكون العب ُد ُمو ّح ًداـ بمجرد اعترافه بتوحيد الربوبية؛ حتى‬
‫فإن المشركين كانوا ُمقرِّينَ‬ ‫يُق َّر بتوحيدـ األلوهية‪ ،‬ويقو َم به‪ .‬وإال َّ‬
‫بتوحي ِد الربوبية‪ ،‬ولم يُدخلهم في اإلسالم‪ ،‬وقاتلهمـ رسو ُل هللا‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ .‬وهم يُقرُّ ون بأن هللا هو الخالق الرازق‪،‬‬
‫المحيي المميت‪.‬‬
‫سأ َ ْلتَ ُهم َّمنْ َخلَقَ ُه ْم لَيَقُولُنَّ هَّللا ُ}‬ ‫{ولَئِن َ‬ ‫كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫ض‬ ‫َ‬
‫ت َواأل ْر َ‬ ‫اوا ِ‬ ‫س َم َ‬‫ق ال َّ‬ ‫َ‬
‫سألتَ ُهم َّمنْ َخل َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫{ولَئِن َ‬ ‫[الزخرف‪/‬ـ‪َ ،]87‬‬
‫لَيَقُولُنَّ َخلَقَ ُهنَّ ا ْل َع ِزي ُز ال َعلِي ُم} [الزخرف‪/‬ـ‪.]9‬‬
‫ْ‬
‫س ْم َع‬‫ض أَ َّمن يَ ْملِ ُك ال َّ‬ ‫س َما ِء َواألَ ْر ِ‬ ‫{قُ ْل َمن يَ ْر ُزقُ ُكم ِّمنَ ال َّ‬
‫ت َويُ ْخ ِر ُج ا ْل َميَّتَ ِمنَ ا ْل َح ِّي‬ ‫صا َر َو َمن يُ ْخ ِر ُج ا ْل َح َّي ِمنَ ا ْل َميِّ ِ‬ ‫واألَ ْب َ‬
‫سيَقُولُونَ هَّللا ُ} [يونس‪.]31/‬‬ ‫َو َمن يُ َدبِّ ُر األَ ْم َر فَ َ‬
‫وهذا كثي ٌر في القرآن‪.‬‬
‫فمن زع َم َّ‬
‫أن التوحي َد هو اإلقرا ُر بوجودـ هللا‪ ،‬أو اإلقرار بأن‬
‫هللا هو الخالق ال ُمتصرفـ في الكون‪ ،‬واقتصرـ على هذا النوع‪ ،‬لم‬
‫َت إليه الرسل ألنه وقفَ عن َد‬‫يكن عارفًاـ لحقيقة التوحيد الذي دع ْ‬
‫ال َملزوم وترك الالزم‪ ،‬أو وقفـ عند الدليل وترك ال َمدلول عليه‪.‬‬
‫• خصائص األلوهية‪:‬‬
‫ومن خصائص األلوهية‪ :‬الكما ُل ال ُمطل ُ‬
‫ق من جميع الوجوده‬
‫الذي ال نقص فيه بوجه من الوجوه‪ .‬وذلك يوجب أن تكون العبادة‬

‫‪43‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫كلها له وحده‪ ،‬والتعظيمـ واإلجالل‪ ،‬والخشية والدعاء‪ ،‬والرجاء‪،‬‬
‫واإلنابة‪ ،‬والتوكل واالستغاثة‪ ،‬وغاية ّ‬
‫الذ ِّل مع غاية الحب‪.‬‬
‫كل ذلك يجب عقاًل وشرعًا وفطرةً أن يكون هلل وحده‪ ،‬ويمتنع‬
‫عقاًل وشرعًا وفطرةً أن يكون لغيره‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫{‪ }2‬توحيد األلوهية‬


‫ويتض ّمن الفصول التالية‪:‬‬
‫‪ :‬في معنى توحيدـ األلوهية وأنه موضو ُـ‬
‫ع‬ ‫الفصل األول‬
‫دعو ِة الرُّ سُل‪.‬‬
‫‪ :‬الشهادتان‪ :‬معناهما ‪ -‬أركانهما ‪-‬‬ ‫الفصل الثاني‬
‫شروطهماـ ‪ -‬مقتضاهماـ ‪ -‬نواقضهما‪.‬‬
‫‪ :‬في التشريع‪ :‬التحليل ‪ -‬التحريم ‪ -‬حق هللا‪.‬‬ ‫الفصل الثالث‬
‫‪ :‬في العبادة‪ :‬معناها ‪ -‬أنواعها ‪ -‬شمولها‪.‬‬ ‫الفصل الرابع‬
‫‪ :‬في بيان مفاهيم خاطئ ٍة في تحديد العبادة‬ ‫الفصل الخامس‬
‫(وذلك كالتقصيرـ في مدلول العبادة أو‬
‫الغلو فيها)‪.‬‬
‫‪ :‬في بيان ركائز العبودية الصحيحة‪ :‬الحب‬ ‫الفصل السادس‬
‫‪ -‬الخوف ‪ -‬الخضوع ‪ -‬الرجاء‪.‬‬
‫‪ :‬في بيان شروط قَ ِ‬
‫بول العبادة والعمل‪:‬‬ ‫الفصل السابع‬
‫وهي اإلخالصُ ومتابعة الشرع‪.‬‬
‫الفصل الثامن‪ :‬في بيان مراتب الدين وهي‪ :‬اإلسالم ‪ -‬واإليمان ‪-‬‬
‫واإلحسان‪ .‬تعريفها وما بينها من عموم‬
‫وخصوص‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫الفصل األول‪ :‬في بيا ِن معنى توحي ِد األلوهيَّ ِة وأنه‬


‫موضو ُ‬
‫ع دعو ِة الرُّ سل‬
‫• تعريف توحيد األلوهية‪:‬‬
‫توحي ُد األلوهية‪ :‬األلوهية هي العبادة‬
‫وتوحي ُد األلوهية هو‪ :‬إفرا ُد هللا تعالى بأفعال العباد التي‬
‫يفعلونها على وجه التقرب المشروع‪ ،‬كالدعاء والنذرـ والنحر‪،‬‬
‫والرجاء والخوف‪ ،‬والتوكل والرغبة والرهبة واإلنابة‪.‬‬
‫• موضوع دعوة الرسل‪:‬‬
‫وهذا النوع من التوحيد هو موضوعـ دعوة الرسل من أولهم‬
‫إلى آخرهم‪.‬‬
‫سواًل أَ ِن ا ْعبُدُو ْا هَّللا َ‬‫{ولَقَ ْد بَ َع ْثنَا فِي ُك ِّل أُ َّم ٍة َّر ُ‬
‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫اجتَنِبُو ْا الطَّا ُغوتَ } [النحل‪.]36/‬‬ ‫َو ْ‬
‫ول إِال نُو ِحي إِلَ ْي ِه‬ ‫س ٍ‬ ‫س ْلنَا ِمن قَ ْبلِكَ ِمن َّر ُ‬ ‫{و َما أَ ْر َ‬ ‫وقال تعالى‪َ :‬‬
‫ُون} [األنبياء‪.]25/‬‬ ‫أَنَّهُ ال إِلَهَ إِال أَنَاْ فَا ْعبُد ِ‬

‫• أول ما دعى إليه الرسل‪:‬‬


‫وكلُّ رسولـ يبدأ دعوته لقومه باألمر بتوحيدـ األلوهية‪ .‬كما قال‬
‫نوح وهودـ وصالح وشعيب‪{ :‬يَا قَ ْو ِم ا ْعبُدُوا هَّللا َ َما لَ ُكم ِّمنْ إِلَ ٍه}‬
‫[األعراف‪.]85 ،73 ،65 ،59/‬‬
‫{وإِ ْب َرا ِهي َم إِ ْذ َقا َل لِقَ ْو ِم ِه ا ْعبُدُوا هَّللا َ َواتَّقُوهُ} [العنكبوت‪.]16/‬‬
‫َ‬

‫‪46‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وأنزل على محمد صلى هللا عليه وسلم‪{ :‬قُ ْل إِنِّي أُ ِم ْرتُ أَنْ‬
‫صا لَّهُ الدِّينَ } [الزمر‪.]11/‬‬ ‫أَ ْعبُ َد هَّللا َ ُم ْخلِ ً‬
‫اس؛ حتّى‬ ‫وقال صلى هللا عليه وسلم‪( :‬أ ِمرتُ أن أقَاتِل النّ َ‬
‫سو ُل هللا) [الحديث رواه‬ ‫يَش َهدوا أن ال إله إال هللا وأنّ ُمح ّمدًا َر ُ‬
‫البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫• أول واجب على ال ُمكلف‪:‬‬
‫وأول واجب على ال ُمكلف‪ :‬شهادة أن ال إله إال هللا والعمل بها‪.‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬فَا ْعلَ ْم أَنَّهُ ال إِلَهَ إِال هَّللا ُ َوا ْ‬
‫ستَ ْغفِ ْر لِ َذنبِكَ} [محمد‪.]19/‬‬
‫وأول ما يؤمر به َم ْن يريد الدخول في اإلسالم‪ :‬النط ُ‬
‫ق‬
‫بالشهادتين‪.‬‬
‫• مقصود دعوة الرسل‪:‬‬
‫فتبين من هذا‪ :‬أن توحيد األلوهية هو مقصو ُد دعوة الرُّ سل‪.‬‬
‫و ُس ِّمي بذلك ألن األلوهية وصف هللا تعالى الدال عليه اسمه تعالى‬
‫(هللا)‪ .‬فـ(هللا)‪ :‬ذو األلوهية‪ ،‬أي ال َمعبود‪.‬‬
‫ويقال له‪ :‬توحيد العبادة‪ ،‬باعتبار أن العبودية وصفُ العبد‪،‬‬
‫حيث إنه يجبُ عليه أن يعبد هللا مخلصًا في ذلك لحاجته إلى ربه‬ ‫ُ‬
‫وفقره إليه‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪-‬رحمه هللا‪" :‬واعلم أن فقر العبد‬
‫إلى هللا‪ :‬أن يعبده ال يُشرك به شيئًا‪ ،‬ليس له نظير فيُقاسُ به؛ لكن‬
‫يُشبه من بعض الوجوه حاجة الجسد إلى الطعام والشراب‪.‬‬
‫وبينهما فروق كثيرة‪ .‬فإن حقيقة العبد قلبه وروحه‪ .‬وهي ال‬
‫صال َح لها إال بإلهها هللا الذي ال إله إال هو‪ .‬فال تطمئن في الدنيا‬
‫لذات وسرورـ بغير هللا‪ ،‬فال يدوم ذلك؛‬ ‫ص َل للعبد ّ‬
‫إال بذكره‪ .‬ولو َح َ‬

‫‪47‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫نوع‪ ،‬ومن شخص إلى شخص‪ .‬وأما إلهه‬ ‫نوع إلى ٍ‬
‫بل ينتقل من ٍ‬
‫فال ب ّد له منه في كل حال‪ ،‬وكل وقت وأينماـ كان فهوـ معه‪".‬‬
‫وكان هذا النوع من التوحيد هو موضوعـ دعوة الرسل ألنه‬
‫األساسُ الذي تُبنى عليه جميع األعمال‪ .‬وبدون تحققه ال تصحُّ‬
‫جمي ُع األعمال‪ .‬فإنه إذا لم يتحقق؛ حصل ضده‪ ،‬وهو الشركُ‪.‬‬
‫ش َركَ بِ ِه} [النساء‪/48/‬‬ ‫وقد قال هللا تعالى‪{ :‬إِنَّ هَّللا َ الَ يَ ْغفِ ُر أَن يُ ْ‬
‫‪.]116‬‬
‫{ولَ ْو أَش َْر ُكو ْا لَ َحبِ َ‬
‫ط َع ْن ُهم َّما َكانُو ْا يَ ْع َملُونَ }‬ ‫وقال تعالى‪َ :‬‬
‫[األنعام‪.]88/‬‬
‫وقال تعالى‪ { :‬لَئِنْ أَش َْر ْكتَ لَيَ ْحبَطَنَّ َع َملُكَ َولَتَ ُكونَنَّ ِمنَ‬
‫س ِرينَ } [الزمر‪.]65/‬‬ ‫ا ْل َخا ِ‬
‫وألن هذا النوع من التوحيد هو أوّل الحقوق الواجبة على‬
‫ش ِر ُكو ْا بِ ِه َ‬
‫ش ْيئًا‬ ‫{وا ْعبُدُو ْا هَّللا َ َوالَ تُ ْ‬ ‫العبد‪ .‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫سانًا} [النساء‪ ]36/‬اآلية‪.‬‬ ‫َوبِا ْل َوالِ َد ْي ِن إِ ْح َ‬
‫ضى َربُّكَ أَالَّ تَ ْعبُدُو ْا إِالَّ إِيَّاهُ َوبِا ْل َوالِ َد ْي ِن‬ ‫{وقَ َ‬‫وقال تعالى‪َ :‬‬
‫سانًا} [اإلسراء‪ ]23/‬اآلية‪.‬‬ ‫إِ ْح َ‬
‫ش ِر ُكو ْا بِ ِه‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬قُ ْل تَ َعالَ ْو ْا أَ ْت ُل َما َح َّر َم َربُّ ُك ْم َعلَ ْي ُك ْم أَالَّ تُ ْ‬
‫سانًا} [األنعام‪ ]153-151/‬اآليات‪.‬‬ ‫ش ْيئًا َوبِا ْل َوالِ َد ْي ِن إِ ْح َ‬
‫َ‬

‫الفصل الثاني‪ :‬في بيان معنى ال َّشهادتين وما وق َع فيهما‬


‫من الخطأ؛ وأركانهما وشروطهما ومقتضاهما‬
‫ونواقضهما‬

‫‪48‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫أواًل ‪ :‬معنى الشَّهادتين‬
‫‪ -1‬معنى شهادة أن ال إله إال هللا‪:‬‬
‫معنى شهادة أن ال إله إال هللا‪ :‬االعتقاد واإلقرار‪ .‬أنه ال يستح ُّ‬
‫ق‬
‫العبادةَ إال هللا‪ ،‬والتزام ذلك والعمل به‪.‬‬
‫فـ(ال إله) نفي الستحقاقـ من سوى هللا للعبادة كائنًا من كان‪.‬‬
‫ٌ‬
‫إثبات الستحقاقـ هللا وحده للعبادة‪.‬‬ ‫(إال هللا)‬
‫ومعنى هذه الكلمة إجمااًل ‪ :‬ال معبو َـد بح ٍّ‬
‫ق إال هللا‪.‬‬
‫وخبر (ال) يجب تقديره‪( :‬بحقٍّ) وال يجو ُـز تقديره بموجودـ ّ‬
‫ألن‬
‫ُ‬
‫فالمعبودات غي ُر هللا موجودة بكثرة‪ ،‬فيلزم منه‬ ‫هذا خالفُ الواقع‪.‬‬
‫أن عبادة هذه األشياء عبادة هلل‪ .‬وهذا من أبطل الباطل‪ .‬وهو‬
‫مذهب أهل وحدة الوجودـ الذين هم أكفر أهل األرض‪.‬‬
‫التفسيرات الباطلة ل(ال إله إال هللا)‪:‬‬
‫ّرت هذه الكلمةُ بتفسيرات باطلة منها‪:‬‬‫وقد فُس ْ‬
‫(أ) أن معناه‪ :‬ال معبو َد إال هللا‪ .‬وهذا باط ٌل ألن معناه‪ :‬أن كل‬
‫ق أو باطل هو هللا‪ ،‬كما سبق بيانه قريبًا‪.‬‬ ‫معبود بح ّ‬
‫ق إال هللا‪ .‬وهذا جزء من معنى هذه‬ ‫(ب) أن معناها‪ :‬ال خال َ‬
‫الكلمة؛ ولكن ليس هو المقصود ألنه ال يثبت إال توحيد الربوبية‪.‬‬
‫وهو ال يكفي‪ .‬وهو توحيدـ المشركين‪.‬‬
‫(جـ) أن معناها‪ :‬ال حاكميّةَ إال هلل‪ .‬وهذا أيضًا جزء من‬
‫معناها‪ .‬وليس هو المقصود ألنه ال يكفي؛ ألنه لو أفردـ هللا‬
‫بالحاكمية فقط ودعا غير هللا أو صرفـ له شيئًا من العبادة لم يكن‬

‫‪49‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫موحدًا‪ .‬وكل هذه تفاسير باطلة أو ناقصة‪ .‬وإنما نبهنا عليها ألنها‬
‫توجد في بعض الكتب المتداولة‪.‬‬
‫التفسير الصحيح‪:‬‬
‫والتفسي ُر الصحيح لهذه الكلمة عند السلف والمحققين‪:‬‬
‫أن يُقا َل‪( :‬ال معبود بحق إال هللا) كما سبق‪.‬‬
‫‪ -2‬معنى شهادة أن محمدًا رسول هللا‪:‬‬
‫ومعنى شهادة أن محمدًا رسول هللا‪ :‬هو االعتراف باطنًا‬
‫وظاه ًرا أنه عبد هللا ورسوله إلى الناس كافة‪ ،‬والعمل بمقتضى‬
‫ذلك من طاعته فيما أمر‪ ،‬وتصديقه فيما أخبر‪ ،‬واجتناب ما نهى‬
‫عنه وزجر‪ ،‬وأال يُعب َد هللا إال بما شرع‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬أركان الشهادتين‬


‫‪ -1‬أركان شهادة أن ال إله إال هللا‪:‬‬
‫لها ركنان‪ ،‬هما‪ :‬النفي واإلثبات‪.‬‬
‫فالركن األول‪ :‬النفي [ال إله]‪ .‬يُبطل الشرك بجميع أنواعه‪،‬‬
‫ويُوجب ال ُكف َر بكل ما يعبد من دون هللا‪.‬‬
‫ُ‬
‫اإلثبات [إال هللا]‪ .‬يثبت أنه ال يستحق العبادة‬ ‫والركن الثاني‪:‬‬
‫إال هللا‪ ،‬ويُوجب العمل بذلك‪.‬‬
‫وقد جاء معنى هذين الركنين في كثير من اآليات‪ ،‬مثل قوله‬
‫س َك بِا ْل ُع ْر َو ِة‬
‫ستَ ْم َ‬ ‫تعالى‪{ :‬فَ َمنْ يَ ْكفُ ْر بِالطَّا ُغو ِ‬
‫ت َويُؤْ ِمن بِاهَّلل ِ فَقَ ِد ا ْ‬
‫ا ْل ُو ْثقَ َى} [البقرة‪.]256/‬‬

‫‪50‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫فقوله‪( :‬من يكفر بالطاغوت) هو معنى الركن األول (ال إله)‬
‫وقوله‪( :‬ويؤمن باهلل) هو معنى الركن الثاني (إال هللا)‪.‬‬
‫وكذلك قولُهُ عن إبراهي َم عليه السالم‪{ :‬إِنَّنِي بَ َرا ٌء ِّم َّما تَ ْعبُدُونَ‬
‫* إِال الَّ ِذي فَطَ َرنِي} [الزخرف‪.]27 ،26/‬‬
‫فقوله‪( :‬إنني براء) هو معنى النفي في الركن األول‪ ،‬وقوله‪:‬‬
‫(إال الذي فطرني) هو معنى اإلثبات في الركن الثاني‪.‬‬
‫‪ -2‬أركان شهادة أن محمدًا رسول هللا‪:‬‬
‫أركان شهادة أن محمدًا رسول هللا‪ :‬لها ركنان‪ ،‬هما‪ :‬قولنا‪:‬‬
‫"عبدُه ورسوله"‪.‬‬
‫ط والتفريطـ في حقه صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬ ‫وهما ينفيان اإلفرا َ‬
‫فهو عبده ورسوله‪ .‬وهو أكمل الخلق في هاتين الصفتين‬
‫الشريفتين‪.‬‬
‫• معنى العبد‪:‬‬
‫ومعنى العبد هنا‪ :‬المملوك العابد‪ .‬أي‪ :‬أنه بش ٌر مخلوق مما‬
‫خلق منه البشر‪ .‬يجري عليه ما يجري عليهم‪ .‬كما قال تعالى‪{ :‬قُ ْل‬
‫ش ٌر ِّم ْثلُ ُك ْم} [الكهف‪.]110/‬‬ ‫إِنَّ َما أَنَا بَ َ‬
‫وقد َوفَّى ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬العبوديّة حقَّها‪ ،‬ومدحه هللا‬
‫اف َع ْب َدهُ} [الزمر‪{ .]36/‬ا ْل َح ْم ُد‬‫س هَّللا ُ بِ َك ٍ‬ ‫بذلك‪ .‬قال تعالى‪{ :‬أَلَ ْي َ‬
‫س ْب َحانَ الَّ ِذي‬
‫َاب} [الكهف‪ُ { .]1/‬‬ ‫هَّلِل ِ الَّ ِذي أَن َز َل َعلَى َع ْب ِد ِه ا ْل ِكت َ‬
‫س ِج ِد ا ْل َح َر ِام} [اإلسراء‪.]1/‬‬‫س َرى بِ َع ْب ِد ِه لَ ْياًل ِّمنَ ا ْل َم ْ‬‫أَ ْ‬
‫• معنى الرسول‪:‬‬

‫‪51‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ومعنى الرسول‪ :‬المبعوث إلى الناس كافة بالدعوة إلى هللا‬
‫بشيرًا ونذيرًا‪.‬‬
‫وفي الشهادة له بهاتين الصفتين‪ :‬نفي لإلفراط والتفريطـ في‬
‫حقه صلى هللا عليه وسلم‪ .‬فإن كثيرًا ممن يدعي أنه من أمته أفرط‬
‫في حقه‪ ،‬وغال فيه‪ .‬حتى رفعه فوقـ مرتبة العبودية إلى مرتبة‬
‫العبادة له من دون هللا‪ .‬فاستغاث به من دون هللا‪ ،‬وطلب منه ما ال‬
‫يقدر عليه إال هللا ‪-‬من قضاء الحاجات وتفريج الكربات‪.‬‬
‫والبعض اآلخر جحد رسالته أو فرط في متابعته‪ ،‬واعتمد على‬
‫َّف في تأويل أخباره‬
‫اآلراء واألقوالـ المخالفة لما جاء به؛ وتعس َـ‬
‫وأحكامه‪.‬‬

‫ثالثًا‪ :‬شروط الشهادتين‬


‫أ‪ -‬شروط شهادة أن ال إله إال هللا‪:‬‬
‫البد في شهادة أن ال إله إال هللا من سبعة شروط‪.‬ـ ال تنفع قائلها‬
‫إال باجتماعها‪ .‬وهي على سبيل اإلجمال‪:‬‬
‫‪ .5‬اإلخالص المنافيـ‬ ‫‪ .1‬العلم المنافي للجهل‪.‬‬
‫للشرك‪.‬‬ ‫‪ .2‬اليقين المنافي للشك‪.‬‬
‫‪ .6‬الصدق المنافيـ للكذب‪.‬‬ ‫‪ .3‬القبول المنافي للرد‪.‬‬
‫‪ .7‬المحبة المنافية لضدها‬ ‫‪ .4‬االنقيا ُد المنافي للترك‪.‬‬
‫وهو البغضاء‪.‬‬
‫وأما تفصيلها فكما يلي‪:‬‬
‫الشرط األول‪ :‬العلم‬

‫‪52‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫أي العلم بمعناها المراد منها وما تنفيه وما تُثبته‪ ،‬المنافيـ‬
‫ش ِه َد بِا ْل َح ِّ‬
‫ق َو ُه ْم يَ ْعلَ ُمونَ }‬ ‫للجهل بذلك‪ .‬قال تعالى‪{ :‬إِال َمن َ‬
‫[الزخرف‪/‬ـ‪.]86‬‬
‫(وهُ ْم يَ ْعلَ ُمونَ ) بقلوبهم ما شهدت‬ ‫أي‪( :‬شهد) بـ"ال إله إال هللا"‪َ .‬‬
‫ق بها وهو ال يعلم معناها‪ ،‬لم تنفعهُ ألنه لم‬ ‫به ألسنتهم‪.‬ـ فلو نطَ َ‬
‫يعتق ْد ما تدل عليه‪.‬‬
‫الشرط الثاني‪ :‬اليقين‬
‫بأن يكون قائلها مستيقنًا بما تد ّل عليه‪ .‬فإن كان شا ًّكا بما تدل‬
‫عليه لم تنفعه‪ .‬قال تعالى‪{ :‬إِنَّ َما ا ْل ُمؤْ ِمنُونَ الَّ ِذينَ آ َمنُوا بِاهَّلل ِ‬
‫سولِ ِه ثُ َّم لَ ْم يَ ْرتَابُوا} [الحجرات‪.]15/‬‬ ‫َو َر ُ‬
‫فإن كان مرتابًا كان منافقًا‪ .‬وقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫الحائط يَش َهد أن ال إله إاّل هللا ُمستَيقنًا قَلبه‬ ‫( َمن لَقِيتَ َو َراء هذا َ‬
‫بالجنّة) [الحديث في الصحيح]‪ .‬فمن لم يستيقن بها قلبه‪ ،‬لم‬ ‫فَبَشّره َ‬
‫دخول الجنَّة‪.‬‬
‫َ‬ ‫يستحق‬
‫الشرط الثالث‪ :‬القبول‬
‫ل َما اقتضته هذه الكلمة من عبادة هللا وحده‪ ،‬وترك عبادة ما‬
‫سواه‪ .‬فمن قالهَا ولم يقبل ذلك ولم يلتزمـ به‪ ،‬كان من الذين قال هللا‬
‫فيهم‪{ :‬إِنَّ ُه ْم َكانُوا إِ َذا قِي َل لَ ُه ْم ال إِلَهَ إِال هَّللا ُ يَ ْ‬
‫ستَ ْكبِرُونَ * َويَقُولُونَ‬
‫ون} [الصافات‪.]36 ،35/‬‬ ‫َاع ٍر َّم ْجنُ ٍ‬‫أَئِنَّا لَتَا ِر ُكوا آلِ َهتِنَا لِش ِ‬
‫وهذا كحال عباد القبور اليوم‪ .‬فإنهم يقولون‪( :‬اَل إله إاّل هللا)‪،‬‬
‫وال يتركون عبادة القبور‪ .‬فال يكونون قابلين ل َمعنى ال إله إاّل هللا‪.‬‬
‫الشرط الرابع‪ :‬االنقياد‬

‫‪53‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫االنقياد ل َما دلّت عليه‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬و َمن يُ ْ‬
‫سلِ ْم َو ْج َههُ إِلَى هَّللا ِ‬
‫سكَ بِا ْل ُع ْر َو ِة ا ْل ُو ْثقَى} [لقمان‪.]22/‬‬ ‫سنٌ فَقَ ِد ا ْ‬
‫ستَ ْم َ‬ ‫َو ُه َو ُم ْح ِ‬
‫والعروة الوثقى‪ :‬ال إله إال هللا‪ .‬ومعنىـ (يُ ْسلِ ْم َوجْ هَهُ)‪ :‬أي ينقاد‬
‫هلل باإلخالص له‪.‬‬
‫الشطر الخامس‪ :‬الصدق‬
‫يقول هذه الكلمة مصدقًاـ بها قلبُه‪ .‬فإن قالَهَا بلسانه ولم‬ ‫َ‬ ‫وهو أن‬
‫يصدق بها قلبُه‪ ،‬كان منافقًا كاذبًا‪.‬‬
‫س َمن يَقُو ُل آ َمنَّا بِاهّلل ِ َوبِا ْليَ ْو ِم اآل ِخ ِر‬‫{و ِمنَ النَّا ِ‬
‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫هّللا‬
‫َو َما هُم بِ ُمؤْ ِمنِينَ * يُ َخا ِدعُونَ َ َوال ِذينَ آ َمنوا} إلى قوله‪َ :‬‬
‫{ول ُهم‬
‫اب أَلِي ٌم بِ َما َكانُوا يَ ْك ِذبُونَ } [البقرة‪.]10-8/‬‬
‫َع َذ ٌ‬
‫اإلخالص‬
‫ُ‬ ‫الشرط السادس‪:‬‬
‫وهو تصفيةُ العمل من جميع شوائب الشرك‪ .‬بأن ال يقصد‬
‫بقولها طمعًا من مطامع الدنيا‪ ،‬وال رياء وال سمعة‪ .‬لما في‬
‫الحديث الصحيح من حديث عتبان قال‪( :‬فإنَّ هللا َح ّرم عَلى النّار‬
‫َمن قَال‪ :‬ال إله إال هللا‪ ،‬يَبتَغي بِذلِك َوجهَ هللا) [الحديث أخرجه‬
‫الشيخان]‪.‬‬
‫الشرط السابع‪ :‬المحبة‬
‫المحبة لهذه الكلمة‪ ،‬ولما تدل عليه‪ ،‬وألهلها العاملين‬
‫َ‬
‫س َمن يَتَّ ِخ ُذ ِمن دُو ِن هَّللا ِ أندَادًا‬
‫{و ِمنَ النَّا ِ‬ ‫بمقتضاها‪ .‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫ش ُّد ُحبًّا هَّلِّل ِ} [البقرة‪.]165/‬‬ ‫َ‬
‫يُ ِحبُّونَ ُه ْم َك ُح ِّب هَّللا ِ َوالَّ ِذينَ آ َمنُو ْا أ َ‬
‫فأهل (ال إله إال هللا) يحبون هللا حبًّا خالصًا‪ .‬وأهل الشرك‬
‫يحبونه ويحبونـ معه غيره؛ وهذا ينافيـ مقتضى ال إله إال هللا‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ب ـ شروطُ شهادة أنَّ محمدًا رسو ُل هللا‪:‬‬
‫أن محمدًا رسو ُل هللا هي‪:‬‬‫وشروطُـ شهادة َّ‬
‫‪ .1‬االعتراف برسالته‪ ،‬واعتقادها باطنًا في القلب‪.‬‬
‫‪ .2‬النطق بذلك‪ ،‬واالعتراف به ظاه ًر باللسان‪.‬‬
‫‪ .3‬المتابعة له؛ بأن يعمل بما جاء به من الحق‪ ،‬ويترك ما نهى‬
‫عنه من الباطل‪.‬‬
‫‪ .4‬تصديقه فيما أخبر به من الغيوب الماضية والمستقبلة‪.‬‬
‫‪ .5‬محبته أشد من محبة النفس والمال والولد والوالد والناس‬
‫أجمعين‪.‬‬
‫‪ .6‬تقديم قوله على قول كل أحد‪ ،‬والعمل بسنته‪.‬‬

‫راب ًعا‪ :‬مقتضى الشهادتين‬


‫أ ـ مقتضى شهادة أن ال إله إال هللا‬
‫هو ترك عبادة ما سوى هللا من جميع المعبودات؛ المدلول‬
‫عليه بالنفي‪ ،‬وهو قولنا‪( :‬ال إله)‪ .‬وعبادةُ هللا وحده ال شريك له؛‬
‫المدلول عليه باإلثبات‪ ،‬وهو قولنا‪( :‬إال هللا)‪.‬‬
‫فكثير ممن يقولها يُخالف مقتضاها‪ .‬فيثبت اإللهية المنفية‬
‫للمخلوقين والقبور والمشاهدـ والطواغيت واألشجار واألحجار‪.‬‬
‫وهؤالء اعتقدوا أن التوحيد بدعة‪ .‬وأنكروه على من دعاهُم‬
‫أخلص العبادة هلل‪.‬‬
‫َ‬ ‫إليه‪ ،‬وعابوا على من‬

‫‪55‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ب ـ ومقتضى شهادة أن محمدًا رسول هللا‬
‫طاعتهُ وتصديقُهُ‪ ،‬وترك ما نهى عنه‪ ،‬واالقتصارـ على العمل‬
‫بسنته‪ ،‬وترك ما عداها من البدع والمحدثات‪ ،‬وتقديم قوله على‬
‫قول كل أحد‪.‬‬

‫سا‪ :‬نواقض الشهادتين‬


‫خام ً‬
‫هي نواقض اإلسالم ألن الشهادتين هنا هما اللتان يُدخل المرء‬
‫بالنطق بهما في اإلسالم‪ .‬والنطق بهما اعتراف بمدلولهما‪،‬ـ والتزام‬
‫بالقيام بما تقضيانه ‪-‬من أداء شعائر اإلسالم‪ .‬فإذا أخ ّل بهذا‬
‫االلتزام فقد نقض التعهد الذي تعهد به حين نطق بالشهادتين‪.‬‬
‫ونواقض اإلسالم كثيرةٌ قد عقد لها الفقهاء في كتب الفقه بابًا‬
‫صا سموه (باب الردة)‪ .‬وأهمها عشرة نواقض؛ ذكرها شيخ‬ ‫خا ًّ‬
‫اإلسالم محم ُد بنُ عبد الوهاب رحمه هللا في قوله‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الشرك في عبادة هللا‪.‬‬
‫ش َركَ بِ ِه َويَ ْغفِ ُر َما دُونَ‬ ‫قال هللا تعالى‪{ :‬إِنَّ هَّللا َ الَ يَ ْغفِ ُر أَن يُ ْ‬
‫َذلِ َك لِ َمن يَشَاء} [النساء‪.]116 ،48/‬‬
‫ش ِركْ بِاهَّلل ِ فَقَ ْد َح َّر َم هَّللا ُ َعلَي ِه ا ْل َجنَّةَ‬
‫وقال تعالى‪{ :‬إِنَّهُ َمن يُ ْ‬
‫نصا ٍر} [المائدة‪ .]72/‬ومنه الذب ُح‬ ‫َو َمأْ َواهُ النَّا ُر َو َما لِلظَّالِ ِمينَ ِمنْ أَ َ‬
‫لغير هللا؛ كالذبح لألضرحة أو الذبح للجن‪.‬‬ ‫ِ‬
‫‪ 2‬ـ من جعل بينَهُ وبينَ هللا وسائط؛ يدعوهم ويسألهمـ الشفاعة‬
‫ويتوكل عليهم؛ فإنه يكفر إجماعًا‪.‬‬
‫ك في كفرهم‪ ،‬أو صحح‬ ‫‪ 3‬ـ من لم يكفّر المشركين‪ ،‬ومن يش ّ‬
‫مذهبهم؛ كفر‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫‪ 4‬ـ من اعتقد أن هدي غير النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أكمل‬
‫من هديه؛ أو أن حكم غيره أحسن من حكمه‪ .‬كالذين يفضلون‬
‫حكم الطواغيت على حكم الرسول صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫ويفضلون حكم القوانين على حكم اإلسالم‪.‬‬
‫‪ 5‬ـ من أبغض شيئًا مما جاء به الرسول ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ -‬ولو عمل به؛ كفر‪.‬‬
‫‪ 6‬ـ من استهزأ بشيء من دين الرسول أو ثوابه أو عقابه؛‬
‫كفر‪.‬‬
‫والدليل على ذلك قوله تعالى‪{ :‬قُ ْل أَبِاهَّلل ِ َوآيَاتِ ِه َو َر ُ‬
‫سولِ ِه ُكنتُ ْم‬
‫ستَ ْه ِز ُؤونَ * الَ تَ ْعتَ ِذ ُرو ْا قَ ْد َكفَ ْرتُم بَ ْع َد إِي َمانِ ُك ْم} [التوبة‪/65:‬‬
‫تَ ْ‬
‫‪.]66‬‬
‫‪ 7‬ـ السحرُ‪.‬‬
‫والعطف (لعله يقصد عمل ما يصرفُ الرج َل‬ ‫ُـ‬ ‫ومنهُ الصرفُ‬
‫عن حب زوجته‪ ،‬أو عمل ما يحببها إليه)‪ .‬فمن فعله أو رضي به‪،‬‬
‫كفر‪،‬‬
‫َ‬
‫ان ِمنْ أَ َح ٍد َحتَّى يَقُوالَ إِنَّ َما نَ ْحنُ‬
‫{و َما يُ َعلِّ َم ِ‬‫والدليل قوله تعالى‪َ :‬‬
‫فِ ْتنَةٌ فَالَ تَ ْكفُ ْر} [البقرة‪.]102/‬‬
‫‪ 8‬ـ مظاهرة المشركين‪ ،‬ومعاونتهم على المسلمين‪.‬‬
‫{و َمن يَتَ َولَّ ُهم ِّمن ُك ْم فَإِنَّهُ ِم ْن ُه ْم إِنَّ هَّللا َ الَ‬
‫والدليل قوله تعالى‪َ :‬‬
‫يَ ْه ِدي ا ْلقَ ْو َم الظَّالِ ِمينَ } [المائدة‪.]51/‬‬
‫‪ 9‬ـ من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫كما وسع الخضر الخروج عن شريعة موسى‪ ،‬عليه السالم‪.‬‬
‫فهو كافر‪.‬‬
‫صلون إلى درج ٍة ال‬‫قلت‪ :‬وكما يعتقده غالة الصوفية أنهم يَ ِ‬
‫يحتاجون معها إلى متابعة الرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ 10‬ـ اإلعراض عن دين هللا‪ ،‬ال يتعل ُمهُ‪ ،‬وال يعمل به‪.‬‬
‫{والَّ ِذينَ َكفَ ُروا َع َّما أُن ِذ ُروا ُم ْع ِرضُونَ }‬ ‫والدليل قوله تعالى‪َ :‬‬
‫[األحقاف‪.]3/‬‬
‫ت َربِّ ِه ثُ َّم أَ ْع َر َ‬
‫ض َع ْن َها إِنَّا ِمنَ‬ ‫{و َمنْ أَ ْظلَ ُم ِم َّمن ُذ ِّك َر بِآيَا ِ‬
‫َ‬
‫ا ْل ُم ْج ِر ِمينَ ُمنتَقِ ُمونَ } [السجدة‪.]22/‬‬
‫قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه هللا‪" :‬ال فرق في جميع‬
‫هذه النواقض‪ ،‬بين الهازل والجاد والخائف‪ ،‬إال المكره‪ .‬وكلها من‬
‫أعظم ما يكون خطرًا‪ ،‬وأكثر ما يكون وقوعًا‪ .‬فينبغي للمسلم أن‬
‫يح َذرها‪ ،‬ويخاف منها على نفسه‪ ،‬نعو ُذ باهلل من موجبات غضبه‪،‬‬
‫وأليم عقابه‪".‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬في التشريع‬


‫• التشريع حق هلل تعالى‪:‬‬
‫ينزلُه هللا لعباده من المنهج الذي يسيرون‬
‫والمراد بالتشريع‪ :‬ما ِّ‬
‫عليه في العقائد والمعامالت وغيرها‪ .‬ومن ذلك التحليل والتحريم‪.‬‬
‫فليس ألحد أن يحل إال ما أحله هللا‪ ،‬وال يحرم إال ما حرم هللا‪.‬‬
‫َصفُ أَ ْل ِ‬
‫سنَتُ ُك ُـم ا ْل َك ِذ َب هَـ َذا َحالَ ٌل‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬والَ تَقُولُو ْا لِ َما ت ِ‬
‫َوهَـ َذا َح َرا ٌم لِّتَ ْفتَ ُرو ْا َعلَى هَّللا ِ ا ْل َك ِذ َب} [النحل‪.]116/‬‬

‫‪58‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وقال تعالى‪{ :‬قُ ْل أَ َرأَ ْيتُم َّما أَنزَ َل هَّللا ُ لَ ُكم ِّمن ِّر ْز ٍ‬
‫ق فَ َج َع ْلتُم ِّم ْنهُ‬
‫َح َرا ًما َو َحالَاًل قُ ْل آهَّلل ُ أَ ِذنَ لَ ُك ْم أَ ْم َعلَى هَّللا ِ تَ ْفتَرُونَ } [يونس‪.]59/‬‬
‫• التحليل والتحريم بدون دليل‪:‬‬
‫فقد نهى هللا عن التحليل والتحريم بدون دليل من الكتاب‬
‫والسنة‪ .‬وأخبرـ أن ذلك من الكذب على هللا‪ .‬كما أخبر سبحانه َّ‬
‫أن‬
‫ب شيئًا أو ح َّر َم شيئًا من غير دليل‪ ،‬فقد جعل نفسه شريكاً‬ ‫من أو َج َ‬
‫هلل فيما هو من خصائصه‪ ،‬وهو التشريع‪.‬‬
‫ِّين َما لَ ْم يَأْ َذن‬
‫قال تعالى‪{ :‬أَ ْم لَ ُه ْم ش َُر َكا ُء ش ََرعُوا لَ ُهم ِّمنَ الد ِ‬
‫بِ ِه هَّللا ُ} [الشورى‪.]21/‬‬
‫ومن أطاع هذا المش ِّرع من دون هللا وهو يعلم بذلك ووافقه‬
‫على فعله‪ ،‬فقد أشركه مع هللا‪.‬‬
‫ش ِر ُكونَ } [األنعام‪.]121/‬‬ ‫{وإِنْ أَ َ‬
‫ط ْعتُ ُمو ُه ْم إِنَّ ُك ْم لَ ُم ْ‬ ‫قال تعالى‪َ :‬‬
‫يعني‪ :‬الذين يُحلّون ما حرَّم هللا من الميتات‪َ ،‬من أطاعهم في‬
‫ذلك فهو مشرك‪.‬‬
‫كما أخبر سبحانه أن من أطاع األحبار والرهبان في تحليل ما‬
‫حرم هللا‪ ،‬وتحريم ما أحله هللا‪ ،‬فقد اتخذهم أربابًا من دون هللا‪.‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬ات ََّخ ُذوْـا أَ ْحبَا َر ُه ْم َو ُر ْهبَانَ ُه ْم أَ ْربَابًا ِّمن دُو ِن هَّللا ِ‬
‫يح ابْنَ َم ْريَ َم َو َما أُ ِم ُرو ْا إِالَّ لِيَ ْعبُدُو ْا إِلَـ ًها َو ِ‬
‫احدًا الَّ إِلَـهَ إِالَّ‬ ‫س َ‬ ‫َوا ْل َم ِ‬
‫ش ِر ُكونَ } [التوبة‪.]31/‬‬ ‫س ْب َحانَهُ َع َّما يُ ْ‬‫ُه َو ُ‬
‫ي بنُ حاتم ‪-‬رضيـ هللا عنه‪ -‬هذه اآلية‪ ،‬قال‪" :‬يا‬ ‫ولما سمع عد ّ‬
‫رسول هللا‪ ،‬إنا لسنا نعبدهم‪".‬‬

‫‪59‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫سوا يُ ِحلّونَ َما َح َّر َم هللا‬
‫فقال له النبي صلى هللا عليه وسلم‪( :‬ألَي ُ‬
‫فت ُِحلّونَه‪ ،‬ويُح ّر ُمون َما َ‬
‫أح ّل هللا فت َُح ّر ُمونَه)؟‬
‫قال‪" :‬بلى‪".‬‬
‫قال‪( :‬فَتِل َك ِعبَا َدتُ ُهم) [الحديث رواه الترمذي]‪.‬‬
‫قال الشي ُخ عبد الرحمن بن حسن ‪-‬رحمه هللا‪" :‬وفيـ الحديث‬
‫أن طاعةَ األحبار والرهبان في معصية هللا عبادة لهم‬ ‫دليل على َّ‬
‫من دون هللا؛ ومن الشرك األكبر الذي ال يغفره هللا‪ .‬بقوله تعالى‬
‫احدًا الَّ إِلَـهَ إِالَّ ه َُو‬ ‫{و َما أُ ِم ُرو ْا إِالَّ لِيَ ْعبُدُو ْا إِلَـ ًها َو ِ‬
‫في آخر اآلية‪َ :‬‬
‫ش ِر ُكونَ }‪.‬‬ ‫س ْب َحانَهُ َع َّما يُ ْ‬ ‫ُ‬
‫س ُم هَّللا ِ َعلَ ْي ِه‬‫{والَ تَأْ ُكلُو ْا ِم َّما لَ ْم يُ ْذ َك ِر ا ْ‬
‫ونظير ذلك قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وحونَ إِلى أ ْولِيَآئِ ِه ْم لِيُ َجا ِدلو ُك ْم َوإِنْ‬ ‫اطينَ لَيُ ُ‬ ‫شي َ ِ‬‫ق َوإِنَّ ال َّ‬ ‫س ٌ‬ ‫َوإِنَّهُ لَفِ ْ‬
‫ش ِر ُكونَ } [األنعام‪.]121/‬‬ ‫أَطَ ْعتُ ُمو ُه ْم إِنَّ ُك ْم لَ ُم ْ‬
‫وهذا وقع فيه كثي ٌر من النَّاس مع من قلدوهم لعدم اعتبارهم‬
‫الدليل إذا خالف ال ُمقلَّد؛ وهو من هذا الشرك‪ ".‬انتهى‪.‬‬
‫فالتزام شرع هللا وتركـ شرع ما سواه‪ ،‬هو من مقتضى ال إله‬
‫إال هللا‪ ،‬وهللا المستعان‪.‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬العبادةُ معناها‪ُ ،‬شمولها‬

‫‪1‬ـ معنى العبادة‬


‫• أصل العبادة‪:‬‬
‫أصل العبادة‪ :‬التذلل والخضوع‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وفي الشرع لها تعاريفـ كثيرة‪ ،‬ومعناها واحد‪.‬‬
‫أن العبادة هي طاعة هللا بامتثال ما أم َر هللا به على ألسنة‬‫منها‪َّ :‬‬
‫رسله‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أن العبادة‪ ،‬معناها‪ :‬التذلُّل هلل سبحانه‪ ،‬فهي‪ :‬غايةُ ّ‬
‫الذلِّ‬
‫هلل تعالى مع غاية ُحبّه‪.‬‬
‫• التعريف الجامع للعبادة‪:‬‬
‫والتعريفـ الجامع لها هو أن العبادة‪ :‬اسم جامع لكل ما يحبه‬
‫هللا ويرضاه من األقوال واألعمال الظاهرة والباطنة‪.‬‬
‫• العبادة منقسمة على القلب واللسان والجوارح‪:‬‬
‫وهي ُمنقسمة على القلب واللسان والجوارح‪ .‬فالخوفـ‬
‫والرجاء‪ ،‬والمحبة والتوكل‪ ،‬والرغبة والرهبة‪ :‬عبادة قلبية‪.‬‬
‫والتسبيح والتهليل والتكبير‪ ،‬والحمد والشكر باللسان والقلب‪:‬‬
‫عبادة لسانية قلبية‪.‬‬
‫والصالة والزكاة والحج والجهاد‪ :‬عبادة بدنية قلبية‪ ،‬إلى غير‬
‫ذلك من أنواع العبادة التي تجري على القلب واللسان والجوارح‪،‬‬
‫وهي كثيرة‪.‬‬
‫• الحكمة من خلق الجن واإلنس‪:‬‬
‫والعبادةُ هي التي خلق هللا الخلق من أجلها‪ .‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫{و َما‬
‫نس إِال لِيَ ْعبُدُو ِن * َما أُ ِري ُد ِم ْن ُهم ِّمن ِّر ْز ٍ‬
‫ق َو َما‬ ‫َخلَ ْقتُ ا ْل ِجنَّ َو ِ‬
‫اإل َ‬
‫أُ ِري ُد أَن يُ ْط ِع ُمو ِن * إِنَّ هَّللا َ ه َُو ال َّر َّزا ُ‬
‫ق ُذو ا ْلقُ َّو ِة ا ْل َمتِينُ }‬
‫[الذاريات‪.]58-56/‬‬

‫‪61‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫فأخبر سبحانه أن الحكمة من خلق الجن واإلنس‪ :‬هي قيامهمـ‬
‫بعبادة هللا‪ .‬وهللا غن ٌّي عن عبادتهم‪ ،‬وإنما هم المحتاجون إليها‬
‫لفقرهم إلى هللا تعالى‪ ،‬فيعبدونه على وفقـ شريعته‪ .‬فمن أبى أن‬
‫يعبد هللا؛ فهو مستكبر‪ .‬ومن عبده وعبد معه غيره‪ ،‬فهو مشرك‪.‬‬
‫ومن عبده وحده بغير ما شرع‪ ،‬فهو مبتدع‪ .‬ومن عبده وحده بما‬
‫شرع فهو المؤمن الموحِّد‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ أنواع العبادة وشمولها‬


‫العبادة لها أنواع كثيرة‪ .‬فهي تشمل كل أنواع الطاعات‬
‫الظاهرة على اللسان والجوارح‪ ،‬والصادرة عن القلب؛ كالذكر‬
‫والتسبيح والتهليل وتالوة القرآن‪ ،‬والصالة والزكاة والصيام‪،‬‬
‫والحج‪ ،‬والجهاد واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬واإلحسان‬
‫إلى األقارب واليتامىـ والمساكين وابن السبيل‪.‬‬
‫وكذلك حب هللا ورسوله‪ ،‬وخشية هللا واإلنابة إليه‪ ،‬وإخالص‬
‫الدين له‪ ،‬والصبرـ لحكمه والرضا بقضائه‪ ،‬والتوكل عليه‪،‬‬
‫والرجاء لرحمته‪ ،‬والخوف من عذابه‪ .‬فهي شاملة لكل تصرفاتـ‬
‫المؤمن؛ إذا نوى بها القربة أو ما يعين عليها‪.‬‬
‫التقوي على الطاعات‪ ،‬كالنوم‬
‫حتى العادات‪ ،‬إذا قصد بها ِّ‬
‫واألكل والشرب‪ ،‬والبيع والشراء وطلب الرزق والنكاح‪ .‬فإن هذه‬
‫العادات مع النية الصالحة تصي ُر عبادات‪ ،‬يثاب عليها‪ ،‬وليست‬
‫العبادة قاصرة على الشعائر المعروفة‪.‬‬

‫بيان مفاهي َم خاطئ ٍة في تحديد العبادة‬


‫الفصل الرابع‪ :‬في ِ‬

‫‪62‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫• العبادات توقيفية‪:‬‬
‫بمعنى‪ :‬أنه ال يشرع شيء منها إال بدليل من الكتاب والسنة‪،‬‬
‫وما لم يشرع يعتبر بدعة مردودة‪.‬‬
‫يس َعلَيه‬
‫كما قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪َ ( :‬من َع ِمل َع َماًل لَ َ‬
‫أم ُرنا ف ُهو َردّ) [متفق عليه]‪ .‬أي مردودـ عليه عمله‪ ،‬ال يقبل منه‪،‬‬
‫بل يأثم عليه ألنه معصية وليس طاعة‪.‬‬
‫• المنهج السليم في أداء العبادات‪:‬‬
‫ثم إن المنهج السليم في أداء العبادات المشروعة هو‪ :‬االعتدال‬
‫بين التساهل والتكاسل؛ وبين التشدد والغلو‪.‬‬
‫ستَقِ ْم َك َما أُ ِم ْرتَ َو َمن‬
‫قال تعالى لنبيه صلى هللا عليه وسلم‪{ :‬فَا ْ‬
‫َاب َم َع َك َوالَ تَ ْط َغ ْو ْا} [هود‪.]112/‬‬
‫ت َ‬
‫فهذه اآلية الكريمة فيها رسمـ لخطة المنهج السليم في فعل‬
‫العبادات‪ .‬وذلك باالستقامة في فعلها على الطريق المعتدل؛ الذي‬
‫ليس فيه إفراط وال تفريط؛ حسب الشرع (كما أمرت)‪ .‬ثم أكد ذلك‬
‫بقوله‪( :‬وال تطغوا) والطغيان‪ :‬مجاوزة الحد بالتشدد والتنطع‪،‬‬
‫وهو الغلو‪.‬‬
‫ولما علم ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬بأن ثالثة من أصحابه تقالوا‬
‫في أعمالهم‪ ،‬حيث قال أحدهم‪" :‬أنا أصوم وال أفطر‪ ".‬وقال‬
‫اآلخر‪" :‬أنا أصلي وال أرقد"‪.‬ـ وقال الثالث‪" :‬أنا ال أتزوج‬
‫النساء‪".‬‬
‫وأفطر وأتز ّوج‬
‫ِ‬ ‫صوم‬
‫قال صلى هللا عليه وسلم‪( :‬أ ّما أنا فأ ُ‬
‫سنَّتي فلَيس ِمنّي) [الحديث متفق عليه]‪.‬‬ ‫ساء‪ ،‬ف َمن ر ِغب عَن ُ‬
‫الن َ‬
‫• الفئتان في أمر العبادة‪:‬‬

‫‪63‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وهناك اآلن فئتان من الناس على طرفيـ نقيض في أمر‬
‫العبادة‪.‬‬
‫الفئة األولى‪ :‬قصَّرتـ في مفهوم العبادة وتساهلت في أدائها‬
‫حتى عطلت كثيرًا من أنواعها‪ ،‬وقصرتهاـ على أعمال محدودة‪،‬‬
‫وشعائرـ قليلة تؤدى في المسجد فقط‪ .‬وال مجال للعبادة في البيت‪،‬‬
‫وال في المكتب‪ ،‬وال في المتجر‪ ،‬وال في الشارع‪ ،‬وال في‬
‫المعامالت‪ ،‬وفي السياسة‪ ،‬وال الحكم في المنازعات‪ ،‬وال غير‬
‫ذلك من شئون الحياة‪.‬‬
‫نعم للمسجد فضلٌ‪ ،‬ويجب أن تؤدى فيه الصلوات الخمس‪،‬‬
‫ولكن العبادة تشمل كل حياة المسلم؛ داخل المسجد وخارجه‪.‬‬
‫والفئة الثانية‪ :‬تشددت في تطبيق العبادات إلى ح ّد التطرف‪.‬‬
‫فرفعت المستحبات إلى مرتبة الواجبات‪ ،‬وحرَّمتـ بعض‬
‫المباحات‪ ،‬وحكمت بالتضليل أو التخطئة على من خالف منهجها‪،‬‬
‫وخطَّأ مفاهيمها‪ .‬وخير الهدي هدي محمد صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫وش ّر األمور محدثاتها‪.‬‬

‫الفصل الخامس‪ :‬في بيان ركائز العبودية الصحيحة‬


‫• ركائز العادة‪:‬‬
‫ُـ‬
‫والخوف‬ ‫إن العبادة ترتكز على ثالثة ركائز‪ ،‬هي‪ :‬الحبُّ‬
‫والرجاء‪.‬‬
‫الذل‪ ،‬والخوف مع الرجاء‪ .‬البد في العبادة من‬‫فالحب مع ّ‬
‫اجتماع هذه األمور‪.‬ـ‬

‫‪64‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫قال تعالى في وصف عباده المؤمنين‪{ :‬ي ُِحبُّهُ ْم َوي ُِحبُّونَهُ}‬
‫وا أَ َش ُّد ُحبًّا هَّلِّل ِ} [البقرة‪/‬‬
‫[المائدة‪ .]54/‬وقال تعالى‪َ { :‬والَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫‪.]165‬‬
‫ار ُعونَ فِي‬ ‫وقال في وصف ُرسُله وأنبيائه‪{ :‬إِنَّهُ ْم َكانُوا يُ َس ِ‬
‫ْالخَ ي َْرا ِ‬
‫ت َويَ ْدعُونَنَاـ َر َغبًا َو َرهَبًا َو َكانُواـ لَنَا خَا ِش ِعينَ } [األنبياء‪/‬‬
‫‪.]90‬‬
‫وقال بعض السلف‪" :‬من عبد هللا بالحب وحده فهو زنديق‪،‬ـ‬
‫ومن عبده بالرجاء وحده فهو مرجئ‪ ،‬ومن عبده بالخوفـ وحده‬
‫فهو حروريـ ‪ ،‬ومن عبده بالحب والخوف والرجاء فهو مؤمن‬
‫ُمو ِّحد‪ ".‬ذكر هذا شي ُخ اإلسالم في رسالة (العبودية)‪.‬‬
‫وقال أيضًا‪" :‬فدين هللا‪ :‬عبادته وطاعته والخضوع له‪.‬‬
‫ق ُمعبَّ ٌد‪ ،‬إذا كان ُمذلاًل قد‬
‫والعبادة أصل معناها‪ :‬الذل‪ .‬يقال‪ :‬طري ٌ‬
‫وطئته األقدام‪ .‬لكن العبادة المأمور بها تتضمن معنى الذل‪،‬‬
‫ومعنى الحب‪ .‬فهي تتضمن غاية الذل هلل تعالى‪ ،‬بغاية الحب له‪.‬‬
‫خض َع إلنسان مع بغضه له ال يكون عابدًا له‪ ،‬ولو أحبّ‬ ‫َ‬ ‫ومن‬
‫شيئًا ولم يخضع له لم يكن عابدًا له‪ ،‬كما يُحبُّ الرجل ولده‬
‫وصديقه‪ .‬ولهذا ال يكفي أحدهما في عبادة هللا تعالى‪ ،‬بل يجب أن‬
‫يكون هللا أحب إلى العبد من كل شيء‪ ،‬وأن يكون هللا أعظم عنده‬
‫من كل شيء‪ ،‬بل ال يستحق المحبة والخضوع التام إال هللا‪"....‬‬
‫انتهى ‪.‬‬
‫هذه ركائز العبودية التي تدور عليها‪ .‬قال العالمة ابن القيم في‬
‫النونية‪:‬‬
‫*** مع ُذلِّ عابده هُما قطبــان‬ ‫وعبادةُ الرحمن غايةُ ُحبِّه‬

‫‪65‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫ت القُطبــان‬
‫*** ما دار حتى قام ِ‬ ‫وعليهما فَل ُ‬
‫ك العبادة دائ ٌر‬

‫والنفس والشيطا ِن‬


‫ِ‬ ‫*** ال بالهوى‬ ‫أمر َرسوله‬
‫و َمدارهُ باألمر ِ‬

‫شبَّه ‪-‬رح َمهُ هللا‪ -‬دورانَ العبادة على المحبة والذل للمحبوب‬
‫‪-‬وهو هللا جل وعال‪ -‬بدوران الفلك على قطبيه‪ .‬وذكر أن دوران‬
‫فلك العبادة بأمر الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وما شرعه‪ ،‬ال‬
‫بالهوى‪ ،‬وما تأمر به النفس والشيطان‪ ،‬فليس ذلك من العبادة‪ .‬فما‬
‫شرعه الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬هو الذي يدير فلك العبادة‪،‬‬
‫وال تُديره البدع والخرافات واألهواء وتقليد اآلباء‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫{‪ }3‬توحيد األسماء والصفات‬

‫ويتضمن ما يلي‪:‬‬
‫أواًل ‪ :‬األدلَّةُ من الكتاب والسنة والعقل على ثبوت األسماء‬
‫والصفات‪.‬‬
‫ثانيًا ‪ :‬منهج أهل ال ُّسنَّة والجماعة في أسماء هللا وصفاته‪.‬‬
‫‪ :‬الر ُّد على من أنكر األسماء والصفات‪ ،‬أو أنكر شيئًا‬ ‫ثالثًا‬
‫منها‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫أواًل ‪ :‬األدلة من الكتاب والسنة والعقل على ثبوت األسماء‬


‫والصفات‬

‫أ ـ األدلة من الكتاب والسنة‬


‫سبق أن ذكرنا أن التوحيد ينقسم إلى ثالثة أقسام‪ :‬توحي ُد‬
‫الرُّ بوبية‪ ،‬وتوحيد األلوهية‪ ،‬وتوحيدـ األسماء والصفات‪ .‬وذكرناـ‬
‫جملة من األدلة على النوعين األولين‪ :‬توحيد الربوبية‪ ،‬وتوحيد‬
‫األلوهية‪ .‬واآلن نذكر األدلة على النوع الثالث‪ :‬وهو توحيد‬
‫األسماء والصفات‪.‬‬
‫فإليك شيئًا من أدلة الكتاب والسنة‪ .‬فمن أدلة الكتاب قوله‬
‫ُوا الَّ ِذينَ ي ُْل ِح ُدونَ فِي‬
‫تعالى‪َ { :‬وهَّلِل ِ األَ ْس َما ُء ْال ُح ْسنَى فَا ْدعُوهُ بِهَا َو َذر ْـ‬
‫وا يَ ْع َملُونَ } [األعراف‪.]180/‬‬ ‫أَ ْس َمآئِ ِه َسيُجْ َزوْ نَ َما َكانُ ْ‬
‫أثبت هللا سبحانه في هذه اآلية لنفسه األسماء‪ ،‬وأخبر أنها‬
‫حُسنى‪ .‬وأمر بدعائه؛ بأن يُقال‪ :‬يا هللا‪ ،‬يا رحمن‪ ،‬يا رحيم‪ ،‬يا حي‬
‫يا قيوم‪ ،‬يا رب العالمين‪.‬‬
‫وتو ّعد الذين يُلحدون في أسمائه؛ بمعنى أنهم يميلون بها عن‬
‫الحق؛ إما بنفيها عن هللا‪ ،‬أو تأويلهاـ بغير معناها الصحيح‪ ،‬أو غير‬
‫ذلك من أنواع اإللحاد‪ .‬توعدهم بأنه سيُجازيهم بعملهم السيئ‪.‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬هَّللا ُ ال إِلَهَ إِال ه َُو لَهُ األَ ْس َماء ْال ُح ْسنَى}ـ [طه‪،]8/‬‬
‫{هُ َو هَّللا ُ الَّ ِذي ال إِلَهَ إِال ه َُو عَالِ ُم ْال َغ ْي ِ‬
‫ب َوال َّشهَا َد ِة هُ َو الرَّحْ َمنُ‬
‫ك ْالقُ ُّدوسُ السَّال ُم ْال ُم ْؤ ِمنُ‬‫َّحي ُم * ه َُو هَّللا ُ الَّ ِذي ال إِلَهَ إِاَّل ه َُو ْال َملِ ُ‬
‫الر ِ‬

‫‪68‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ْال ُمهَ ْي ِمنُ ْال َع ِزي ُز ْال َجبَّا ُر ْال ُمتَ َكبِّ ُر ُس ْب َحانَ هَّللا ِ َع َّما يُ ْش ِر ُكونَ * ه َُو هَّللا ُ‬
‫ص ِّو ُر لَهُ األَ ْس َما ُء ْال ُح ْسنَى يُ َسبِّ ُح لَهُ َما فِي‬ ‫ئ ْال ُم َ‬ ‫ار ُ‬‫ق ْالبَ ِ‬ ‫ْالخَالِ ُ‬
‫ض َوه َُو ْال َع ِزي ُز ْال َح ِكي ُم} [الحشر‪.]24-22/‬‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫ال َّس َما َوا ِ‬
‫فدلّت هذه اآليات على إثبات األسماء هلل‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ ومن األدلة على ثبوت أسماء هللا من سنة الرسول صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫ما رواه أبو هريرة رضي هللا عنه أن رسول هللا ‪-‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ -‬قال‪( :‬إن هلل تسعةً وتسعين اس ًما‪ ،‬مائة إال واحدًا‪ ،‬من‬
‫أحصاها دخل الجنة) [متفق عليه]‪.‬‬
‫وليست أسما ُء هللا منحصرة في هذا العدد‪ .‬بدليل ما رواه عبد‬
‫ي صلى هللا عليه وسلم‬ ‫هللا بن مسعود ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬أن النب َّ‬
‫سك‪ ،‬أو أن َزلتَهُ في‬ ‫س َّميتَ بِه نَف َ‬ ‫قال‪( :‬أسألُ َك بِ ُك ِّل ٍ‬
‫اسم هُو لَكَ‪َ ،‬‬
‫أحدًا ِمن َخلقِك‪ ،‬أو استَأثَرتَ بِه في ِع ِلم ال َغي ِ‬
‫ب‬ ‫ِكتَابِكَ‪ ،‬أو َعلَّمتَهُ َ‬
‫ِعندَك‪ ،‬أن تَج َعل القُرآن ال َع ِظيم َربِي َع قَلبِي) الحديث [رواه أحمد‬
‫في المسند وصححه ابن حبان ‪-‬وقد د ّل على عدم حصر أسماء هللا‬
‫في تسعة وتسعين‪ .‬فيكون المراد بالحديث ‪-‬وهللا أعلم‪ -‬أن من تعلم‬
‫هذه األسماء التسعة والتسعين ودعا هللا بها وعبده بها دخل الجنة‬
‫ويكون ذلك خاصية لها]‪.‬‬
‫وكل اسم من أسماء هللا‪ ،‬فإنه يتضمن صفة من صفاته‪ .‬فالعلي ُـم‬
‫يدل على العلم‪ ،‬والحكيمـ يدل على الحكمة‪ ،‬والسَّمي ُـع البصير يدالن‬
‫على السمع والبصر‪.‬ـ وهكذا كلُّ اسم يدل على صفة من صفات‬
‫هللا تعالى‪.‬‬
‫وقال تعالى‪{ :‬قُلْ ه َُو هَّللا ُ أَ َح ٌد * هَّللا ُ ال َّ‬
‫ص َم ُد * لَ ْم يَلِ ْد َولَ ْم يُولَ ْد *‬
‫َولَ ْم يَ ُكن لَّهُ ُكفُ ًوا أَ َح ٌد} [سورة اإلخالص]‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫عن أنس رضي هللا عنه قال‪ :‬كانَ رج ٌل من األنصارـ يؤمهم‬
‫في مسجد قُباء‪ .‬فكان كلما افتتح سورة يقرأ بها لهم في الصالة‬
‫مما يقرأ به؛ افتتح بـ( قُلْ ه َُو هَّللا ُ أَ َح ٌد)‪ ،‬حتى يفرغ منها‪ .‬ثم كان‬
‫يقرأ سورة أخرى معها‪ ،‬وكان يصن ُع ذلك في كل ركعة‪ .‬فكلَّمهُ‬
‫أصحابهُ فقالوا‪" :‬إنك تفتتح بهذه السورة‪ ،‬ثم ال ترى أنها تجزئك‬
‫حتى تقرأ باألخرى! فإما أن تقرأ بها‪ ،‬وإما أن تدعها وتقرأ‬
‫بأخرى‪.‬‬
‫ُ‬
‫فعلت‪ ،‬وإن‬ ‫فقال‪" :‬ما أنا بتاركها‪ ،‬إن أحببتم أن أؤمكم بذلك‬
‫كرهتم تركتكم‪".‬‬
‫وكانوا يرون أنه من أفضلهم‪،‬ـ وكرهوا أن يؤمهم غيره‪ .‬فلما‬
‫أتاهم النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أخبروه الخبر‪ .‬فقال‪( :‬يَا فُالنُ ‪،‬‬
‫أصحابُك؟ َو َما َحملَكَ عَلى لُزوم‬
‫َ‬ ‫َما يَمنَ ُعك أن تَفع َل َما يَأ ُمرك بِه‬
‫ورة في ك ّل َرك َعة)؟‬ ‫س َ‬‫ه ِذه ال ُّ‬
‫قال‪" :‬إنِّي أُحبُّها‪".‬‬
‫أدخلَكَ الجنَّة) [رواه البخاري في صحيحه]‪.‬‬
‫(حبُّ َك إيّاهَا َ‬
‫قال‪ُ :‬‬
‫وعن عائشة ‪-‬رضي هللا عنها‪ -‬أن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬‬
‫بعث رجاًل على سرية وكان يقرأ ألصحابه في صالتهم‪ ،‬فيخت ُم‬ ‫َ‬
‫بـ(قُلْ هُ َو هَّللا ُ أَ َح ٌد)‪ .‬فلما رجعوا ذكروا ذلك للنبي ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫سلُوه‪ :‬أِل ّ‬
‫ي شَيء يَف َع ُل ذلِك)؟‬ ‫وسلم‪ -‬فقال‪ِ ( :‬‬
‫فسألوه‪ ،‬فقال‪" :‬ألنها صفةُ الرحمن‪ ،‬وأنا أحب أن أقرأ بها‪".‬‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم‪( :‬أخبِ ُروه أنّ هللا تَ َعالى يُ ِحبُّه)‬
‫ُّ‬ ‫فقال‬
‫[رواه البخاري في صحيحه]‪.‬‬
‫ت الرَّحمن‪.‬‬
‫يعني أنها اشتملت على صفا ِ‬

‫‪70‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫أن له وجهًا‪ ،‬فقال‪َ { :‬ويَ ْبقَى َوجْ هُ َربِّكَ ُذو‬ ‫وقد أخبر سبحانه َّ‬
‫ْال َجال ِل َوا ِإل ْك َر ِام}ـ [الرحمن‪.]27/‬‬
‫ت بِيَ َديَّ} [ص‪{ ،]75/‬بَلْ يَدَاهُ‬ ‫وأن له يدين‪ ،‬فقال‪{ :‬لِ َما خَ لَ ْق ُ‬
‫َم ْبسُوطَتَا ِن} [المائدة‪.]64/‬‬
‫وأنه يرضى ويحب ويغضب ويسخط‪ ،‬إلى غير ذلك مما‬
‫وصف هللا به نفسه‪ ،‬أو وصفه به رسوله صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫ب ـ الدليل العقلي‬
‫وأما الدليل العقلي على ثبوت األسماء والصفات التي د َّل‬
‫عليها الشرع فهو أن يُقال‪:‬‬
‫‪ -1‬هذه ال َمخلوقات العظيمة على تنوعها‪ ،‬واختالفها‪،‬ـ‬
‫وانتظامهاـ في أداء مصالحها‪ ،‬وسيرها في خططها المرسومة لها‪،‬‬
‫تدل على عظمة هللا وقُدرته‪ ،‬وعلمه وحكمته‪ ،‬وإرادته ومشيئته‪.‬‬
‫‪ -2‬اإلنعام واإلحسان‪ ،‬وكشف الضر‪ ،‬وتفريج الكربات؛ هذه‬
‫األشياء تد ّل على الرحمة والكرم والجود‪.‬‬
‫‪ -3‬والعقاب واالنتقام من العصاة؛ يدالن على غضب هللا‬
‫عليهم وكراهيته لهم‪.‬‬
‫‪ -4‬وإكرا ُـم الطائعين وإثابتهم؛ يدالن على رضان هللا عنهم‬
‫ومحبته لهم‪.‬‬

‫ثانيًا‪ :‬منه ُج أهل ال ّسنَّة والجماعة في أسماء هللا وصفاته‬

‫‪71‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫منهج أهل ال ُّسنَّ ِة والجماعة؛ من السلف الصالح وأتباعهم‪:‬‬
‫ُ‬
‫إثبات أسما ِء هللا وصفاته‪ ،‬كما وردت في الكتاب والسنة‪ ،‬وينبني‬
‫منهجهم على القواعد التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬أنهم يُثبتون أسماء هللا وصفاته كما وردت في الكتاب‬
‫والسنة على ظاهرها‪ ،‬وما تدل عليه ألفاظها من المعاني‪ ،‬وال‬
‫يؤولونهاـ عن ظاهرها‪ ،‬وال يُحرفون ألفاظها وداللتها عن‬
‫مواضعها‪.‬‬
‫‪ -2‬يَنفونَ عنها مشابهة صفات المخلوقين‪ .‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ْس َك ِم ْثلِ ِه َش ْي ٌء َوهُ َو ال َّس ِمي ُع البَ ِ‬
‫صي ُر}ـ [الشورى‪/‬ـ‪.]11‬‬ ‫{لَي َ‬
‫‪ -3‬ال يتجاوزون ما ورد في الكتاب والسنة في إثبات أسماء‬
‫هللا وصفاته‪ .‬فما أثبته هللا ورسوله من ذلك أثبتوه‪ ،‬وما نفاهُ هللا‬
‫ورسولُه نفوه‪ ،‬وما َسكتَ عنه هللا ورسوله س َكتُوا عنه‪.‬‬
‫نصوص األسما ِء والصفات من المحكم الذي‬ ‫َ‬ ‫‪ -4‬يعتقدون َّ‬
‫أن‬
‫يُفهم معناه ويُفسَّر‪ ،‬وليست من المتشابه‪ .‬فال يُفَ ِّوضون معناها‪ ،‬كما‬
‫ب عليهم‪ ،‬أو لم يعرف منهجهم من بعض‬ ‫يَنسبُ ذلك إليهم َمن َك َذ َ‬
‫المؤلفين والكتاب المعاصرين‪.‬‬
‫‪ -5‬يُفوّضونَ كيفية الصفات إلى هللا تعالى‪ ،‬وال يبحثون عنها‪.‬‬

‫ثالثًا‪ :‬ال ّر ُّد على من أن َك َر األسما َء والصّفا ِ‬


‫ت‪ ،‬أو أنكر بعضها‬
‫ت ثالثة أصناف‪:‬‬
‫الذين يُنكرون األسما َء والصفا ِ‬
‫الجهم بن صفوان‪ .‬وهؤالء يُنكرون‬
‫ِ‬ ‫‪ -1‬الجهمية‪ :‬وهم أتباع‬
‫األسماء والصفات جميعًا‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ع واصل بن عطاء؛ الذي اعتزل مجلس‬ ‫‪ -2‬ال ُمعتزلة‪ :‬وهم أتبا ُ‬
‫الحسن البصري‪ .‬وهؤالء يُثبتون األسما َء على أنها ألفاظ ُمجرَّدة‬
‫عن المعاني‪ ،‬وينفون الصفات كلها‪.‬‬
‫‪ -3‬األشاعرة وال َماتوريدية ومن تبعهم‪ .‬وهؤالء يثبتون‬
‫صفات‪ ،‬وينفون بعضها‪.‬‬ ‫وبعض ال ِّ‬
‫َ‬ ‫األسما َء‬
‫وال ُّشبهة التي بنوا عليها جميعًا مذاهبهم‪ :‬هي الفرا ُر من تشبيه‬
‫ببعض تلك األسماء‪،‬‬
‫ِ‬ ‫هللا بخلقه –بزعمهم‪ -‬ألن المخلوقينـ يُ َس َّمون‬
‫ويوصفون بتلك الصفات‪ .‬فيلز ُم من االشتراك في لفظ االسم‬
‫والصفة ومعناهما‪ :‬االشتراكـ في حقيقتهما‪ .‬وهذا يَلز ُم منه تشبيه‬
‫المخلوق بالخالق في نظرهم‪.‬‬
‫والتزمواـ حيال ذلك أحد أمرين‪:‬‬
‫أ ـ إما تأوي ُل نصوص األسماء والصفات عن ظاهرها؛ كتأويل‬
‫الوجه بالذات‪ ،‬واليد بالنعمة‪.‬‬
‫ب ـ وإما تفويض معاني هذه النصوص إلى هللا‪ .‬فيقولون‪ :‬هللا‬
‫أعلم بمراده منها؛ مع اعتقادهم أنها ليست على ظاهرها‪.‬‬
‫وأول من ُعرفَ عنه إنكار األسماء والصفات‪ :‬بعضُ مشركيـ‬
‫العرب؛ الذين أنزل هللا فيهمـ قوله تعالى‪َ { :‬ك َذلِكَ أَرْ َس ْلنَاكَ فِي أُ َّم ٍة‬
‫ت ِمن قَ ْبلِهَا أُ َم ٌم لِّتَ ْتلُ َو َعلَ ْي ِه ُم الَّ ِذ َ‬
‫ي أَوْ َح ْينَاـ إِلَ ْيكَ َوهُ ْم يَ ْكفُرُونَ‬ ‫قَ ْد َخلَ ْ‬
‫ـن} [الرعد‪.]30/‬‬ ‫بِالرَّحْ َم ِ‬
‫أن قري ًشا لما سمعت رسو َل هللا ‪-‬صلى‬ ‫وسببُ نزول هذه اآلية‪َّ :‬‬
‫هللا عليه وسلم‪ -‬يذكر الرحمن‪ ،‬أنكروا ذلك‪ .‬فأنزلـ هللا فيهم‪َ { :‬وهُ ْم‬
‫ـن}‪.‬‬ ‫يَ ْكفُرُونَ بِالرَّحْ َم ِ‬

‫‪73‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وذكر ابن جرير أن ذلك كان في صلح الحديبية؛ حين كتب‬
‫الكاتبُ في قضية الصلح الذي جرى بينهم وبين رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪" :‬بسم هللا الرحمن الرحيم" فقالت قريش‪" :‬أما‬
‫الرحمن فال نَعرفهُ‪".‬‬
‫وروىـ ابنُ جرير أيضًا عن ابن عباس‪ :‬كان رسول هللا ‪-‬صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ -‬يدعو ساجدًا يقول‪" :‬يا رحمن يا رحيم‪ "....‬فقال‬
‫المشركون‪" :‬هذا يَزع ُم أنه يدعو واحدًا‪ ،‬وهو يدعو مثنى‪ .‬فأنزل‬
‫ُوا فَلَهُ األَ ْس َما ُء‬
‫ُوا الرَّحْ َمـنَ أَيًّا َّما تَ ْدع ْ‬
‫ُوا هَّللا َ أَ ِو ا ْدع ْ‬
‫هللا‪{ :‬قُ ِل ا ْدع ْ‬
‫ْال ُح ْسنَى}‪[ ".‬اإلسراء‪.]110/‬‬
‫{وإِ َذا قِي َل لَهُ ُم ا ْس ُجدُوا لِلرَّحْ َم ِن‬
‫وقال تعالى في سورة الفرقان‪َ :‬‬
‫قَالُوا َو َما الرَّحْ َمنُ } [الفرقان‪.]60/‬‬
‫فهؤالء المشركون هُم سلف الجهمية‪ ،‬والمعتزلة واألشاعرة‪،‬‬
‫وكل من نفى عن هللا ما أثبتَهُ لنفسه‪ ،‬أو أثبته له رسوله ‪-‬صلى هللا‬
‫وبئس السلف لبئس الخلف‪.‬‬
‫َ‬ ‫عليه وسلم‪ -‬من أسماء هللا وصفاته‪.‬‬
‫والرد عليهم من وجوه‪:‬‬
‫الوجه األول‪:‬‬
‫أن هللا ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬أثبتَ لنفسه األسما َء والصفا ِ‬
‫ت‪،‬‬
‫وأثبتها له رسوله ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ .‬فنفيُها عن هللا أو نفي‬
‫ي لما أثبته هللا ورسوله‪ ،‬وهذا محادة هلل ورسوله‪.‬‬‫ضها‪ :‬نف ٌ‬
‫بع ِ‬
‫الوجه الثاني‪:‬‬
‫أنه ال يلزم من وجودـ هذه الصفات في المخلوقين‪ ،‬أو من‬
‫تس ِّمي بعض المخلوقين بشيء من تلك األسماء المشابهة بين هللا‬
‫وخلقه‪ .‬فإن هلل سبحانه أسما ًء وصفات تخصه‪ ،‬وللمخلوقين أسماء‬

‫‪74‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وصفات تخصهم‪ .‬فكما أن هلل سبحانه وتعالىـ ذاتًا ال تشبه ذوات‬
‫المخلوقين‪ ،‬فله أسماء وصفات ال تشبه أسما َء المخلوقينـ‬
‫وصفاتهم‪.‬‬
‫واالشتراكـ في االسم والمعنىـ العام ال يوجب االشتراك في‬
‫الحقيقة‪ .‬فقد س َّمى هللا نف َسهُ علي ًما حلي ًما‪ ،‬وس َّمى بعض عباده‬
‫الم َعلِ ٍيم} [الذاريات‪ .]28/‬يعني‬ ‫{وبَ َّشرُوهُ بِ ُغ ٍ‬
‫علي ًما‪ .‬فقال‪َ :‬‬
‫إسحاق‪.‬‬
‫وسمى آخر حلي ًما‪ ،‬فقال‪{ :‬فَبَ َّشرْ نَاهُ بِ ُغ ٍ‬
‫الم َحلِ ٍيم} [الصافات‪/‬‬
‫‪ ]101‬يعني إسماعيل‪.‬‬
‫وليس العليم كالعليم‪ ،‬وال الحليم كالحليم‪ .‬وس َّمى نفسه فقال‪:‬‬ ‫َ‬
‫صيرًا}ـ [النساء‪.]58/‬‬ ‫ب‬
‫َِ َ ِ‬ ‫ًا‬ ‫ع‬ ‫ي‬‫م‬ ‫س‬ ‫انَ‬ ‫َ‬
‫ك‬ ‫{إِ َّن هَّللا َ‬
‫وس َّمى بعض عباده سميعًا بصيرًا‪ ،‬فقال‪{ :‬إِنَّا خَ لَ ْقنَا ا ِإلن َسانَ‬
‫صيرًا} [اإلنسان‪.]2/‬‬ ‫اج نَّ ْبتَلِي ِه فَ َج َع ْلنَاهُ َس ِميعًا بَ ِ‬ ‫طفَ ٍة أَ ْم َش ٍ‬‫ِمن نُّ ْ‬
‫وليس السمي ُع كالسَّميع وال البصي ُر كالبصير‪.‬‬
‫اس لَ َرؤ ٌـ‬
‫ُوف‬ ‫وس َّمى نفسه بالرؤوف الرحيم‪ ،‬فقال‪{ :‬إِ َّن هَّللا َ بِالنَّ ِ‬
‫بعض عباده رؤوفًاـ رحي ًما‪ ،‬فقال‪{ :‬لَقَ ْد‬ ‫َ‬ ‫َّر ِحي ٌم} [الحج‪ .]65/‬وس َّمىـ‬
‫َزي ٌز َعلَ ْي ِه َما َعنِتُّ ْم َح ِريصٌ َعلَ ْي ُكم‬ ‫َجا َء ُك ْم َرسُو ٌـل ِّم ْن أَنفُ ِس ُك ْم ع ِ‬
‫َّحي ٌم} [التوبة‪ .]128/‬وليس الرؤوفـ‬ ‫ُوف ر ِ‬ ‫بِ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ َرؤ ٌـ‬
‫كالرؤوف‪،‬ـ وال الرحي ُم كالرَّحيم‪.‬‬
‫صفَ عباده بنظير ذلك‪ .‬مثل‬ ‫ت‪ ،‬وو َ‬‫وكذلك وصف نف َسهُ بصفا ٍ‬
‫ْ‬
‫قوله‪َ { :‬والَ يُ ِحيطُونَ بِ َش ْي ٍء ِّم ْن ِعل ِم ِه} [البقرة‪.]255/‬‬
‫فوصفـ نف َسهُ بالعلم‪ ،‬ووصفـ عباده بالعلم‪ ،‬فقال‪َ { :‬و َما أُوتِيتُمـ‬
‫ق ُك ِّل ِذي ِع ْل ٍم‬
‫ِّمن ْال ِع ْل ِم إِالَّ قَلِياًل } [اإلسراء‪ .]85/‬وقال‪َ { :‬وفَوْ َـ‬

‫‪75‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ال الَّ ِذينَ أُوتُوا ْال ِع ْل َم} [القصص‪/‬‬ ‫{وقَ َ‬‫َعلِي ٌم} [يوسف‪ .]76/‬وقال‪َ :‬‬
‫‪.]80‬‬
‫َزي ٌز} [الحج‪،]40/‬‬ ‫ووصفـ نفسه بالقوة فقال‪{ :‬إِ َّن هَّللا َ لَقَ ِويٌّ ع ِ‬
‫ق ُذو ْالقُ َّو ِة ْال َمتِينُ } [الذاريات‪ .]58/‬ووصف‬ ‫{إِ َّن هَّللا َ هُ َو ال َّر َّزا ُ‬
‫ْف ثُ َّم َج َع َل ِمن بَ ْع ِد‬
‫ضع ٍ‬‫عبادهُ بالقوة‪ ،‬فقال‪{ :‬هَّللا ُ الَّ ِذي خَ لَقَ ُكم ِّمن َ‬
‫ض ْعفًا َو َش ْيبَةً} [الروم‪ ،]54/‬إلى‬ ‫ْف قُ َّوةً ثُ َّم َج َع َل ِمن بَ ْع ِد قُ َّو ٍة َ‬
‫ضع ٍ‬ ‫َ‬
‫غير ذلك‪.‬‬
‫ومعلو ٌم أن أسماء هللا وصفاته تخصه وتليقـ به‪ ،‬وأسماء‬
‫المخلوقين تخصهم وتليق بهم‪ .‬وال يلز ُم من االشتراكـ في االسم‬
‫والمعنى االشتراك في الحقيقة‪ .‬وذلك لعدم التماثل بين ال ُم َس َّميين‬
‫والمصوفين‪ ،‬وهذا ظاهر‪ ،‬والحمد هلل‪.‬‬
‫الوجه الثالث‪:‬‬
‫أن الذي ليس له صفات كمال‪ ،‬ال يصلح أن يكون إلهًا‪ .‬ولهذا‬ ‫َّ‬
‫ص ُر}ـ [مريم‪.]42/‬‬ ‫قال إبراهيم ألبيه‪{ :‬لِ َم تَ ْعبُ ُد َما ال يَ ْس َم ُع َوال يُ ْب ِ‬
‫وقال تعالى في الرد على الذين عبدوا العجل‪{ :‬أَلَ ْم يَ َروْ ْا أَنَّهُ الَ‬
‫يُ َكلِّ ُمهُ ْم َوالَ يَ ْه ِدي ِه ْـم َسبِياًل } [األعراف‪.]148/‬‬
‫الوجه الرابع‪:‬‬
‫أن إثباتَ الصفات كمالٌ‪ ،‬ونفيها نقص‪ ،‬فالذيـ ليس له صفات‪،‬‬ ‫َّ‬
‫إما معدو ٌـم وإما ناقص‪ ،‬وهللا تعالى ُمن ّزه عن ذلك‪.‬‬
‫الوجه الخامس‪:‬‬
‫دليل عليه‪ ،‬فهو باطلٌ‪،‬‬
‫ت عن ظاهرها ال َ‬ ‫تأويل الصّفا ِ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫أن‬
‫وتفويض معناها؟ يلزم منه أن هللا خاطبنا في القرآن بما ال نفهم‬

‫‪76‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫معناه؟ وأمرنا بتدبر القرآن كله‪ ،‬فكيفَ يأمرنا بتدبر ماال يُفهم‬
‫معناه؟‬
‫فتبين من هذا أنه البد من إثبات أسماء هللا وصفاته على الوجه‬
‫الالئق باهلل‪ ،‬مع نفي مشابهة المخلوقين‪ .‬كما قال تعالى‪{ :‬لَي َ‬
‫ْس‬
‫صيرُ} [الشورى‪.]11/‬‬ ‫َك ِم ْثلِ ِه َش ْي ٌء َوه َُو ال َّس ِمي ُع البَ ِ‬
‫فنفى عن نفسه ُمماثلة األشياء‪ ،‬وأثبت له السمع والبصر‪ .‬فدل‬
‫على أن إثبات الصفات ال يلزم منه التشبيه‪ ،‬وعلى وجوب إثبات‬
‫الصفات مع نفي المشابهة‪.‬‬
‫وهذا معنى قول أهل السنة والجماعة في النفي واإلثبات في‬
‫األسماء والصفات‪ :‬إثبات بال تمثيل وتنزيه بال تعطيل‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫الباب الثالث‪ :‬في بيان الشرك واالنحراف في حياة البشرية‬

‫ولمحة تاريخية عن الكفر واإللحاد والشرك والنِّفاق‬

‫ويتض ّمن الفصول التالية‪:‬‬


‫‪ :‬االنحراف في حياة البشرية‪.‬‬ ‫الفصل األول‬
‫‪ :‬الشرك ‪ -‬تعريفه وأنواعه‪.‬‬ ‫الفصل الثاني‬
‫‪ :‬الكفر ‪ -‬تعريفه وأنواعه‪.‬‬ ‫الفصل الثالث‬
‫‪ :‬النفاق ‪ -‬تعريفه وأنواعه‪.‬‬ ‫الفصل الرابع‬
‫‪ :‬بيان حقيقة كل من‪ :‬الجاهلية ‪ -‬الفسق‬ ‫الفصل الخامس‬
‫‪ -‬الضالل ‪ -‬الردة‪ :‬أقسامها‪،‬‬
‫وأحكامها‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫الفصل األول‪ :‬االنحراف في حياة البشرية‬


‫• الفطرة مقرة هلل باإللهية‪:‬‬
‫خلق هللا الخلق لعبادته‪ ،‬وهيأ لهم ما يعينهم عليها من رزقه‪.‬‬
‫ُون * َما أُ ِري ُد ِم ْنهُم‬ ‫نس إِال لِيَ ْعبُد ِ‬ ‫ت ْال ِج َّن َوا ِإل َ‬
‫قال تعالى‪َ { :‬و َما َخلَ ْق ُ‬
‫ق ُذو ْالقُ َّو ِة‬
‫ون * إِ َّن هَّللا َ ه َُو ال َّر َّزا ُ‬ ‫ق َو َما أُ ِري ُد أَن ي ْ‬
‫ُط ِع ُم ِ‬ ‫ِّمن ر ِّْز ٍ‬
‫ْال َمتِينُ } [الذاريات‪.]56-58 :‬‬
‫والنفسُ بفطرتها إذا تركت‪ ،‬كانت مقرة هلل باإللهية ُمحبَّةً هلل‬
‫تعبدُه ال تُشرك به شيئًا‪ .‬ولكن يفسدها وينحرفـ بها عن ذلك ما‬
‫يُزيِّنُ لها شياطين اإلنس والجن بما يوحيـ بعضهم إلى بعض‬
‫زخرف القول غرورًا‪.‬‬
‫فالتوحيدـ مركوز في الفطرة‪ ،‬والشرك طارئـ ودخيل عليها‪.‬‬
‫ِّين َحنِيفًا فِ ْ‬
‫ط َرةَ هَّللا ِ الَّتِي فَطَ َر النَّ َ‬
‫اس‬ ‫قال هللا تعالى‪{ :‬فَأَقِ ْـم َوجْ هَ َ‬
‫ك لِلد ِ‬
‫ق هَّللا ِ} [الروم‪.]30/‬‬ ‫يل لِ َخ ْل ِ‬
‫َعلَ ْيهَا ال تَ ْب ِد َ‬
‫وقال صلى هللا عليه وسلم‪ُ ( :‬ك ّل َمولُود يُولَ ُد عَلى الفِط َرة‬
‫سانه) [في الصحيحين من‬ ‫مج َ‬‫نصرانه‪ ،‬أو يُ ِّ‬ ‫فأبَواه يُه ِّودانه‪ ،‬أو يُ ِّ‬
‫حديث أبي هريرة]‪ .‬فاألص ُل في بني آدم‪ :‬التوحيد‪.‬‬
‫والدينُ اإلسالم وكان عليه آدم عليه السالم‪ ،‬ومن جا َء بع َدهُ من‬
‫ث هّللا ُ‬ ‫ُذرّيته قُرونًا طويلة‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬كانَ النَّاسُ أُ َّمةً َو ِ‬
‫اح َدةً فَبَ َع َ‬
‫النَّبِيِّينَ ُمبَ ِّش ِرينَ َو ُمن ِذ ِرينَ } [البقرة‪.]213/‬‬
‫• أول الشرك في بني آدم‪:‬‬

‫‪80‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ك واالنحراف عن العقيدة الصحيحة في‬ ‫حدث الشر ُ‬ ‫َ‬ ‫وأ َّو ُل ما‬
‫قوم نوح‪ .‬فكانَ ‪-‬عليه السالم‪ -‬أول رسول إلى البشرية بعد حدوث‬
‫الشرك فيها‪{ :‬إِنَّا أَوْ َح ْينَا إِلَ ْيكَ َك َما أَوْ َح ْينَا إِلَى نُ ٍ‬
‫وح َوالنَّبِيِّينَ ِمن‬
‫بَ ْع ِد ِه} [النساء‪.]163/‬‬
‫قال ابن عباس‪" :‬كان بين آدم ونوح ‪-‬عليهما السالم‪ -‬عشرةُ‬
‫قرون‪ .‬كلهم على اإلسالم‪".‬‬
‫فإن قراءة أُب ّي‬ ‫قال ابن القيِّم ‪" :‬وهذا القو ُل هو الصواب قطعًا؛ َّ‬
‫ب ‪-‬يعني‪ :‬في آية البقرة‪( :‬فاختلفوا فبعث هللا النبيين)‪.‬‬ ‫ب ِن كع ٍ‬
‫{و َما َكانَ‬
‫ويشهد لهذه القراءة قوله تعالى في سورة يونس‪َ :‬‬
‫وا}ـ [يونس‪.]19/‬‬ ‫النَّاسُ إِالَّ أُ َّمةً َوا ِح َدةً فَ ْ‬
‫اختَلَفُ ْ‬
‫أن بعثةَ النبيين سببُها االختالف عما كانوا‬ ‫‪-‬رحمهُ هللا‪َّ -‬‬ ‫يريد َ‬
‫عليه من الدين الصحيح‪ .‬كما كانت العربُ بعد ذلك على دين‬
‫زاعي فغيّر دينَ‬ ‫إبراهي َم عليه السالم‪ .‬حتى جاء عَمرو بن لُ َحي ال ُخ ِ‬
‫وجلب األصنامـ إلى أرض العرب‪ ،‬وإلى أرض الحجاز‬ ‫َ‬ ‫إبراهيم‪.‬‬
‫ك في هذه البالد‬ ‫بصفة خاصة؛ فعُبدت من دون هللا‪ ،‬وانتشرـ الشر ُ‬
‫المقدسة‪ ،‬وما جاورها‪.‬ـ‬
‫بعث هللا نبيه محمدًا خاتم النبيين ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬‬ ‫إلى أن َ‬
‫فدعا الناس إلى التوحيد‪ ،‬واتّباع ملَّة إبراهيم‪ ،‬وجاهدـ في هللا حق‬
‫جهاده‪ .‬حتى عادت عقيدة التوحيد وملة إبراهيم‪ .‬وك َّسرـ األصنام‬
‫وأكمل هللا به الدين‪ .‬وأتم به النعمة على العالمين‪ ،‬وسارت على‬
‫ضلَة من صدر هذه األمة‪.‬‬ ‫نهجه القرون المف َّ‬
‫إلى أن فشا الجهل في القرون المتأخرة‪ ،‬ودخلهاـ الدخي ُل من‬
‫الديانات األخرى‪ ،‬فعاد الشرك إلى كثير من هذه األمة؛ بسبب‬
‫دعاة الضاللة‪ ،‬وبسبب البناء على القبور‪ ،‬متمثاًل بتعظيمـ األولياء‬

‫‪81‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫والصالحين‪ ،‬وادعاء المحبة لهم‪ .‬حتى بنيت األضرحة على‬
‫قبورهم‪ ،‬واتخذت أوثانًا تُعب ُد من دون هللا‪ ،‬بأنواع القُربات من‬
‫دعاء واستغاثة‪ ،‬وذبح ونذر لمقامهم‪.‬‬
‫و َسموا هذا الشرك‪ :‬تو ُّساًل بالصالحين وإظهارًا لمحبتهم‪،‬‬
‫وليس عبادة لهم ‪-‬بزعمهم‪ .‬ونسوـ أن هذا هو قول المشركين‬
‫األولين حين يقولون‪َ { :‬ما نَ ْعبُ ُدهُ ْم إِال لِيُقَرِّ بُونَاـ إِلَى هَّللا ِ ُز ْلفَى}‬
‫[الزمر‪.]3/‬‬
‫ومع هذا الشرك الذي وقع في البشرية قدي ًما وحديثًا‪ ،‬فاألكثرية‬
‫منهم يؤمنون بتوحيد الربوبية؛ وإنما يُشركون في العبادة‪ .‬كما قال‬
‫تعالى‪َ { :‬و َما ي ُْؤ ِمنُ أَ ْكثَ ُرهُ ْم بِاهَّلل ِ إِالَّ َوهُم ُّم ْش ِر ُكونَ } [يوسف‪/‬‬
‫‪.]106‬‬
‫ولم يجحد وجو َـد الرب إال نز ٌر يسير من البشر‪ ،‬كفرعون‬
‫والمالحدة الدهريين‪ ،‬والشيوعيين في هذا الزمان‪ ،‬وجحودهمـ‬
‫{و َج َحدُوا بِهَا َوا ْستَ ْيقَنَ ْتهَا‬
‫باطنهم‪ ،‬وقرارة نفوسهم‪ .‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫أَنفُ ُسهُ ْم ظُ ْل ًما َو ُعلُ ًّوا} [النمل‪.]14/‬‬
‫وعقولهم تعرف أن كل مخلوقـ البد له من خالق‪ ،‬وكل موجود‬
‫ال ب ّد له من موجد‪ .‬وأن نظام هذا الكون المنضبطـ الدقيق ال ب ّد له‬
‫من مدبر حكيم‪ ،‬قدير عليم‪ ،‬من أنكره فهو إما فاقد لعقله‪ ،‬أو مكابر‬
‫قد ألغى عقله وسفه نفسه‪ ،‬وهذا ال ِعبرةَ به‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬الشرك‪ :‬تعريفه‪ ،‬أنواعه‬

‫‪82‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫أ ـ تعريفـه‬
‫الشرك هو‪ :‬جعل شريك هلل تعالى في ربوبيته وإلهيته‪.‬‬
‫والغالب اإلشراكـ في األلوهية؛ بأن يدعو مع هللا غيره‪ ،‬أو‬
‫يَصرفَ له شيئًا من أنواع العبادة؛ كالذبح والنذر‪ ،‬والخوف‬
‫والرجاء والمحبة‪.‬‬
‫والشر ُ‬
‫ك أعظ ُم الذنوب‪ .‬وذلك ألمور‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ ألنه تشبيه للمخلوق بالخالق في خصائص اإللهية‪.‬‬
‫فمن أشرك مع هللا أحدًا فقد شبهه به؛ وهذا أعظم الظلم‪ .‬قال‬
‫ك لَظُ ْل ٌم ع ِ‬
‫َظي ٌم} [لقمان‪.]13/‬‬ ‫تعالى‪{ :‬إِ َّن ال ِّشرْ َ‬
‫والظلم هو‪ :‬وضع الشيء في غير موضعه‪ .‬فمن عبد غير هللا‪،‬‬
‫فقد وضع العبادة في غير موضعها‪ ،‬وصرفها لغير مستحقها؛‬
‫وذلك أعظم الظلم‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ أن هللا أخبر أنه ال يغفره لمن لم يتب منه‪.‬‬
‫ك بِ ِه َويَ ْغفِ ُر َما ُدونَ َذلِكَ‬ ‫قال تعالى‪{ :‬إِ َّن هَّللا َ الَ يَ ْغفِ ُر أَن يُ ْش َر َ‬
‫لِ َمن يَ َشاء} [النساء‪.]48/‬‬
‫‪ 3‬ـ أن هللا أخبر أنه حرَّم الجنة على المشرك‪ ،‬وأنه خالد مخلد‬
‫في نار جهنم‪.‬‬
‫قال تعالى‪{ :‬إِنَّهُ َمن يُ ْش ِر ْك بِاهَّلل ِ فَقَ ْد َح َّر َم هَّللا ُ َعلَي ِه ْال َجنَّةَ َو َمأْ َواهُ‬
‫ار} [المائدة‪.]72/‬‬ ‫ص ٍ‬ ‫النَّا ُر َو َما لِلظَّالِ ِمينَ ِم ْن أَن َ‬
‫ك يُحبطُ جمي َع األعمال‪.‬‬ ‫أن الشر َ‬‫‪ 4‬ـ َّ‬

‫‪83‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وا يَ ْع َملُونَ }‬ ‫وا لَ َحبِطَ َع ْنهُم َّما َكانُ ْ‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬ولَوْ أَ ْش َر ُك ْـ‬
‫[األنعام‪.]88/‬‬
‫وح َي إِلَ ْيكَ َوإِلَى الَّ ِذينَ ِم ْن قَ ْبلِكَ لَئِ ْن‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬ولَقَ ْد أُ ِ‬
‫أَ ْش َر ْكتَ لَيَحْ بَطَ َّن َع َملُكَ َولَتَ ُكون ََّن ِمنَ ْالخَا ِس ِرينَ } [الزمر‪.]65/‬‬
‫أن المشرك حال ُل الدم والمال‪.‬‬ ‫‪ 5‬ـ َّ‬
‫ْث َو َجد ُّت ُموهُ ْم َو ُخ ُذوهُ ْم‬ ‫وا ْال ُم ْش ِر ِكينَ َحي ُ‬ ‫قال تعالى‪{ :‬فَا ْقتُلُ ْ‬
‫ص ٍد} [التوبة‪.]5/‬‬ ‫ُوا لَهُ ْم ُك َّل َمرْ َ‬ ‫صرُوهُ ْم َوا ْق ُعد ْ‬ ‫َواحْ ُ‬
‫أقاتل حتى يَقُولوا‪:‬‬ ‫َ‬ ‫وقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪( :‬أ ِم ُ‬
‫رت أن‬
‫أموالَهُم إال‬ ‫ص ُموا ِمنّي ِد َماءهُم َو َ‬ ‫اَل إله إال هللا‪ ،‬فإ َذا قَالُوهَاـ َع َ‬
‫بِحقّها) [رواه البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫ك أكب ُر الكبائر‪.‬‬ ‫أن الشر َ‬ ‫‪ 6‬ـ َّ‬
‫قال صلى هللا عليه وسلم‪( :‬أال أنبّئُ ُكم بِأكبَر ال َكبَائر)‪ .‬قلنا‪" :‬بلى‬
‫(اإلشراك باهلل‪َ ،‬و ُعقُوق ال َوالدَين‪ )...‬الحديث‬ ‫َ‬ ‫يا رسول هللا‪ ".‬قال‪:‬‬
‫[رواه البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫قال العالمة ابن القيم‪" :‬أخبر سُبحانه أن القصد بالخلق‬
‫واألمر‪ :‬أن يُعرفَ بأسمائه وصفاته‪ ،‬ويُعب َد وحده ال يُشركـ به‪،‬‬
‫وأن يقوم الناس بالقسط‪ ،‬وهو العدل الذي قامت به السماوات‬
‫واألرض‪.‬‬
‫ت َوأَنزَ ْلنَا َم َعهُ ُم‬
‫كما قال تعالى‪{ :‬لَقَ ْد أَرْ َس ْلنَا ُر ُسلَنَا بِ ْالبَيِّنَا ِ‬
‫ْط} [الحديد‪.]25/‬‬ ‫َاب َو ْال ِمي َزانَ لِيَقُو َم النَّاسُ بِ ْالقِس ِ‬
‫ْال ِكت َ‬
‫فأخبر سبحانه أنه أرسل رسله وأنز َل ُكتبه‪ ،‬ليقوم الناس‬
‫بالقسط؛ وهو العدل‪ .‬ومن أعظم القسط‪ :‬التوحيد‪ ،‬وهو رأس العدل‬

‫‪84‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ك لَظُ ْل ٌم‬
‫وقوامه؛ وإن الشرك ظلم‪ .‬كما قال تعالى‪{ :‬إِ َّن ال ِّشرْ َ‬
‫َع ِظي ٌم} [لقمان‪.]13/‬‬
‫فالشرك أظلم الظلم‪ ،‬والتوحيد أعدل العدل؛ فما كان أشد منافاةً‬
‫لهذا المقصود فهوـ أكبر الكبائر‪".‬‬
‫إلى أن قال‪" :‬فلما كان الشرك منافيًا بالذات لهذا المقصود‪،‬‬
‫كان أكبر الكبائرـ على اإلطالق‪.‬ـ وحرم هللا الجنة على كل مشرك‪،‬‬
‫وأباح دمه وماله وأهله ألهل التوحيد‪ ،‬وأن يتخذوهم عبيدًا لهم لما‬
‫تركوا القيام بعبوديته‪.‬‬
‫وأبى هللا سبحانه أن يقبل لمشرك عماًل ‪ ،‬أو َ‬
‫يقبل فيه شفاعة‪ ،‬أو‬
‫يَستجيب له في اآلخرة دعوة‪ ،‬أو يقبل له فيها رجاء‪ .‬فإن المشركـ‬
‫أجهل الجاهلين باهلل‪ ،‬حيث جعل له من خلقه ن ًّدا‪ .‬وذلك غاية‬
‫الجهل به‪ ،‬كما أنه غاية الظلم منه‪ ،‬وإن كان المشرك في الواقع‬
‫لما يظلم ربَّه‪ ،‬وإنَّما ظلَ َم نفسه‪ ".‬انتهى‪.‬‬
‫ك تنقص وعيب نزه الرب سبحانه نفسه عنهما‪.‬‬ ‫أن الشر َ‬‫‪ 7‬ـ َّ‬
‫فمن أشرك باهلل فقد أثبت هلل ما نزه نفسه عنه‪ ،‬وهذا غاية‬
‫المحا َّد ِة هلل تعالى‪ ،‬وغاية المعاندة والمشاقَّة هلل‪.‬‬

‫ب ـ أنواع الشرك‬
‫• الشرك نوعان‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬شرك أكبر يُخرج من الملة‪ ،‬ويخلَّ ُد صاحبُهُ في‬
‫النار‪ ،‬إذا مات ولم يتب منه‪.‬‬
‫وهو صرفُ شيء من أنواع العبادة لغير هللا؛ كدعاء غير هللا‪،‬‬
‫والتقرب بالذبائح والنذورـ لغير هللا من القبور والجن والشياطين‪،‬‬

‫‪85‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫والخوف من الموتى أو الجن أو الشياطين أن يضروه أو‬
‫يُمرضوه‪ ،‬ورجاء غير هللا فيما ال يقدر عليه إال هللا من قضاء‬
‫حول األضرحة‬ ‫َ‬ ‫الحاجات‪ ،‬وتفريج ال ُكربات‪ ،‬مما يُمارسُ اآلن‬
‫المبنية على قبور األولياء والصالحين‪.‬‬
‫ُون هَّللا ِ َما الَ يَضُرُّ هُْـم َوالَ يَنفَ ُعهُ ْم‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬ويَ ْعبُ ُدونَ ِمن د ِ‬
‫َويَقُولُونَ هَـؤُال ِء ُشفَ َعا ُؤنَا ِعن َد هَّللا ِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ هَّللا َ بِ َما الَ يَ ْعلَ ُم فِي‬
‫ض ُسب َْحانَهُ َوتَ َعالَى َع َّما يُ ْش ِر ُكونَ } [يونس‪/‬‬ ‫ت َوالَ فِي األَرْ ِ‬ ‫ال َّس َما َوا ِ‬
‫‪.]18‬‬
‫والنوع الثاني‪ :‬شرك أصغر ال يخرج من الملة؛ لكنه ينقص‬
‫التوحيد‪ ،‬وهو وسيلة إلى الشرك األكبر‪.‬‬
‫• الشرك األصغر قسمان‪:‬‬
‫وهو قسمان‪:‬‬
‫القسم األول‪ :‬شرك ظاهر على اللسان والجوارحـ وهو‪ :‬ألفاظ‬
‫وأفعال‪ .‬فاأللفاظ كالحلف بغير هللا‪.‬‬
‫قال صلى هللا عليه وسلم‪َ ( :‬من َحلَف ب َغير هللا فَقَد َكفَر أو‬
‫شرك) [رواه الترمذيـ وحسنه وصححه الحاكم]‪.‬‬ ‫أَ َ‬
‫وقول‪ :‬ما شاء هللا وشئت‪ .‬قال صلى هللا عليه وسلم‪ :‬لما قال له‬
‫(أجعلتَني هلل نِ ًّدا؟! قُ ْل‪َ :‬ما شَا َء‬
‫رجل‪" :‬ما شاء هللا وشئت‪ ".‬فقال‪َ :‬‬
‫هللا َوحدَه) [رواه النسائي]‪.‬‬
‫ُقال‪ :‬ما شا َء هللا ثُ َّم شاء‬
‫والصواب أن ي َ‬
‫ُـ‬ ‫وقول‪ :‬لو ال هللا وفالن‪.‬‬
‫فالن؛ ولوال هللا ث َّم فالن‪ .‬ألن (ثم) تفي ُد الترتيب مع التراخي‪.‬‬
‫وتجع ُل مشيئة العبد تابعة لمشيئة هللا‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫{و َما تَ َشا ُؤونَ إِاَّل أَن يَ َشا َء هَّللا ُ َربُّ ْال َعالَ ِمينَ }‬
‫كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫[التكوير‪/‬ـ‪.]29‬‬
‫وأما الواو‪ :‬فهي لمطلق الجمع واالشتراك‪.‬ـ ال تقتضي ترتيبًا‬
‫وال تعقيبًا‪ .‬ومثلُه قول‪" :‬ما لي إال هللا وأنت"‪ .‬و‪" :‬هذا من بركات‬
‫هللا وبركاتك"‪.‬‬
‫وأما األفعال‪ :‬فمثل لبس الحلقة والخيط لرفع البالء أو دفعه‪،‬‬
‫ومثل تعليق التمائم خوفًاـ من العين وغيرها؛ إذا اعتقد أن هذه‬
‫أسباب لرفع البالء أو دفعه‪ .‬فهذا شرك أصغر ألن هللا لم يجعل‬
‫هذه أسبابًا‪ .‬أما إن اعتقد أنها تدفع أو ترفع البالء بنفسها‪ ،‬فهذا‬
‫شرك أكبر ألنه تَعلَّق بغير هللا‪.‬‬
‫القسم الثاني من الشرك األصغر‪ :‬شرك خفي وهو الشرك في‬
‫اإلرادات والنيات؛ كالرياء والسمعة‪ .‬كأن يعمل عماًل مما يتقرب‬
‫به إلى هللا‪ ،‬يريد به ثناء الناس عليه؛ كأنه يُحسن صالته‪ ،‬أو‬
‫يتصدق ألجل أن يُمدح ويُثنى عليه‪ .‬أو يتلفظ بالذكر ويحسن‬
‫صوته بالتالوة ألجل أن يسمعه الناس‪ ،‬فيُثنواـ عليه ويمدحوه‪.‬‬
‫والرياء إذا خالط العمل أبطله‪ .‬قال هللا تعالى‪{ :‬فَ َمن َكانَ يَرْ جُو‬
‫صالِحًا َوال يُ ْش ِر ْك بِ ِعبَا َد ِة َربِّ ِه أَ َحدًا}‬
‫لِقَا َء َربِّ ِه فَ ْليَ ْع َملْ َع َماًل َ‬
‫[الكهف‪.]110/‬‬
‫أخافُ َعلَي ُكم‬ ‫(أخ َوفُ َما َ‬ ‫وقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪ْ :‬‬
‫الشرك األص َغر)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫قالوا‪" :‬يا رسولـ هللا‪ ،‬وما الشرك األصغر؟"‬
‫قال‪( :‬ال ّريَاء) [رواه أحمد والطبراني والبغوي في شرح‬
‫السنة]‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ومنه‪ :‬العم ُل ألجل الطمع الدنيوي؛ كمن يحج أو يؤذن أو يؤم‬
‫الناس ألجل المال‪ ،‬أو يتعلم العلم الشرعي‪ ،‬أو يجاهد ألجل المال‪.‬‬
‫س‬
‫س عب ُد الدينار‪ ،‬وت َِع َ‬
‫قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪( :‬ت َِع َ‬
‫ُ‬ ‫يصة‪ ،‬ت َِعس عَب ُد َ‬
‫الخ ِميلة‪ ،‬إن أعطي‬ ‫عبد ال ِدرهَم‪ ،‬تَ ِعس عَبد َ‬
‫الخ ِم َ‬
‫سخط) [رواه البخاري]‪.‬‬ ‫ضي‪َ ،‬وإن لَم يُعطَ َ‬ ‫َر ِ‬
‫قال اإلمام ابنُ القيم رحمه هللا‪" :‬وأما الشرك في اإلرادات‬
‫والنيات‪ ،‬فذلك البحر الذي ال ساحل له‪ ،‬وق َّل من ينجو منه‪ .‬فمن‬
‫أراد بعمله غير وجه هللا‪ ،‬ونوىـ شيئًا غير التقرب إليه وطلب‬
‫الجزاء منه‪ ،‬فقد أشرك في نيته وإرادته‪.‬‬
‫ُخلص هلل في أفعاله وأقواله‪ ،‬وإرادته ونيته‪.‬‬ ‫َ‬ ‫واإلخالص‪ :‬أن ي‬
‫وهذه هي الحنيفية ملة إبراهيم التي أمر هللا بها عباده كلهم‪ ،‬وال‬
‫يُقب ُل من أحد غيرها‪ ،‬وهي حقيقة اإلسالم‪.‬‬
‫اإل ْسالَ ِم ِدينًا فَلَن يُ ْقبَ َل ِم ْنهُ َوه َُو‬
‫كما قال تعالى‪َ { :‬و َمن يَ ْبت َِغ َغ ْي َر ِ‬
‫فِي اآل ِخ َر ِة ِمنَ ْالخَا ِس ِرينَ } [آل عمران‪.]85/‬‬
‫وهي ملَّةُ إبراهي َم ‪-‬عليه السالم‪ -‬التي من رغب عنها فهو من‬
‫أسفَ ِه السُّفهاء‪ ".‬انتهى‪.‬‬
‫• الفرق بين الشرك األكبر واألصغر (ملخص)‪:‬‬
‫يتل َّخصُ مما م ّر أن هناك فروقًا بين الشرك األكبر واألصغر‪،‬‬
‫وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬الشرك األكبر‪ :‬يُخرج من ال ِملّة؛ والشرك األصغر ال‬
‫يُخرج من ال ِملّة‪ ،‬لكنه ينقص التوحيد‪.‬‬
‫‪ -2‬الشرك األكب ُر يخلَّ ُد صاحبه في النار؛ والشرك األصغر ال‬
‫يُخلَّد صاحبُه فيها إن َدخَلها‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ك األصغ ُر ال‬ ‫ك األكب ُر يحبطُ جمي َع األعمال؛ والشر ُـ‬ ‫‪ -3‬الشر ُ‬
‫يُحبِطُ جميع األعمال‪ ،‬وإنما يُحبِطُ الريا ُء والعم ُل ألجل الدنيا‬
‫العمل الذي خالطاه فقط‪.‬‬
‫َ‬
‫‪ -4‬الشرك األكبر يبيح الدم والمال؛ والشركـ األصغر ال‬
‫يبيحهما‪.‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬الكفر‪ :‬تعريفه وأنواعه‬

‫أ ـ تعريفـه‬
‫• لغة‪:‬‬
‫الكفر في اللغة‪ :‬التغطية والستر‪.‬ـ‬
‫• شرعا‪::‬‬
‫فإن ال ُك َ‬
‫فر‪ :‬عدم اإليمان باهلل‬ ‫والكفر شرعًا‪ :‬ضد اإليمان‪َّ ،‬‬
‫ورسله‪ ،‬سوا ًء كان معه تكذيب‪ ،‬أو لم يكن معه تكذيب‪ ،‬بل مجرد‬
‫ك وريب أو إعراض أو حسد‪ ،‬أو كبر أو اتباع لبعض األهواء‬ ‫ش ّ‬
‫الصادة عن اتباع الرسالة‪ .‬وإن كان ال ُمكذب أعظم كفرًا‪ .‬وكذلك‬
‫الجاح ُد والمك ِّذب حسدًا؛ مع استيقان صدق الرسل ‪.‬‬

‫ب ـ أنواعه‬
‫الكفر نوعان‪:‬‬
‫• النوع األول‪ :‬كفر أكبر يخرج من ال ِملّة‪.‬‬
‫وهو خمسة أقسام‪:‬‬

‫‪89‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫القسم األول‪ُ :‬كف ُر التَّكذيب‪.‬‬
‫وال َّدليلُ‪ :‬قوله تعالى‪َ { :‬و َم ْن أَ ْ‬
‫ظلَ ُم ِم َّم ِن ا ْفت ََرى َعلَى هَّللا ِ َك ِذبًا أَوْ‬
‫ْس فِي َجهَنَّ َم َم ْث ًوى لِّ ْل َكافِ ِرينَ } [العنكبوت‪/‬‬ ‫ق لَ َّما َجا َءهُ أَلَي َ‬
‫ب بِ ْال َح ِّ‬
‫َك َّذ َ‬
‫‪.]68‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬كفر اإلباء واالستكبارـ مع التصديق‪.‬ـ‬
‫ُوا آل َد َم فَ َس َجد ْ‬
‫ُوا‬ ‫{وإِ ْذ قُ ْلنَا لِ ْل َمالَئِ َك ِة ا ْس ُجد ْ‬
‫والدليل قوله تعالى‪َ :‬‬
‫يس أَبَى َوا ْستَ ْكبَ َـر َو َكانَ ِمنَ ْال َكافِ ِرينَ } [البقرة‪.]34/‬‬ ‫إِالَّ إِ ْبلِ َ‬
‫القسم الثالث‪ :‬كف ُر ال ّشكِّ ‪ ،‬وهو كفر الظّ ّن‪.‬‬
‫ظالِ ٌم لِّنَ ْف ِس ِه قَا َل َما أَظُ ُّن‬ ‫{و َدخَ َل َجنَّتَهُ َوه َُو َ‬ ‫والدليل قوله تعالى‪َ :‬‬
‫دت إِلَى َربِّي‬ ‫أَن تَبِي َد هَ ِذ ِه أَبَدًا * َو َما أَظُ ُّن السَّا َعةَ قَائِ َمةً َولَئِن رُّ ِد ُّ‬
‫او ُرهُ أَ َكفَرْ تَ‬
‫احبُهُ َوه َُو ي َُح ِ‬ ‫ص ِ‬‫ال لَهُ َ‬ ‫ألَ ِجد ََّن خَ ْيرًا ِّم ْنهَا ُمنقَلَبًا * قَ َ‬
‫طفَ ٍة ثُ َّم َسوَّاكَ َر ُجاًل * لَّ ِكنَّا ه َُو هَّللا ُ‬ ‫ب ثُ َّم ِمن نُّ ْ‬
‫ك ِمن تُ َرا ٍ‬ ‫بِالَّ ِذي َخلَقَ َ‬
‫ك بِ َربِّي أَ َحدًا} [الكهف‪.]38-35/‬‬ ‫َربِّي َوالَ أُ ْش ِر ُ‬
‫اإلعراض‪.‬‬
‫ِ‬ ‫القسم الرابع‪ :‬كف ُر‬
‫ُ‬
‫ْرضُونَ }‬ ‫{والَّ ِذينَ َكفَرُوا َع َّما أن ِذرُواـ ُمع ِ‬ ‫والدلي ُل قولُه تعالى‪َ :‬‬
‫[األحقاف‪.]3/‬‬
‫القسم الخامس‪ :‬كف ُر النّ ِ‬
‫فاق‪.‬‬
‫والدلي ُل قوله تعالى‪َ { :‬ذلِكَ بِأَنَّهُ ْم آ َمنُوا ثُ َّم َكفَرُوا فَطُبِ َع َعلَى‬
‫قُلُوبِ ِه ْم فَهُ ْم ال يَ ْفقَهُونَ } [المنافقين‪.]3/‬‬
‫• النوع الثاني‪ :‬كف ٌر أصغ ُر ال يُخر ُج من الملة‪ .‬وهو الكف ُر‬
‫العملي‪ ،‬وهو الذنوب التي وردت تسميتهاـ في الكتاب والسنة‬
‫ُكفرًا‪ ،‬وهي ال تص ُل إلى ح ِّد الكفر األكبر‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ب هَّللا ُ َمثَاًل‬
‫ض َر َ‬
‫{و َ‬‫مثل كفر النعمة المذكورـ في قوله تعالى‪َ :‬‬
‫ط َمئِنَّةً يَأْتِيهَا ِر ْزقُهَاـ َر َغدًا ِّمن ُك ِّل َم َكا ٍن فَ َكفَ َرتْ‬
‫َت آ ِمنَةً ُّم ْ‬
‫قَرْ يَةً َكان ْ‬
‫بِأ َ ْنع ُِم هَّللا ِ} [النحل‪.]112/‬‬
‫ومث ُل قتال المسلم المذكورـ في قوله صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫سوقٌ‪َ ،‬وقِتَالُه ُكفر) [رواه البخاري ومسلم]‪.‬‬ ‫س ِلم فُ ُ‬ ‫سبَاب ال ُم ْ‬ ‫( ِ‬
‫َرجعوا بَع ِدي ُكفَّا ًرا‬ ‫وفي قوله صلى هللا عليه وسلم‪( :‬اَل ت ِ‬
‫قاب بَعض) [رواه الشيخان]‪.‬‬ ‫ض ُكمـ ِر َ‬ ‫ب بَع ُ‬ ‫يَض ِر ُ‬
‫ومثل الحلف بغير هللا‪ .‬قال صلى هللا عليه وسلم‪َ ( :‬من َحلَف‬
‫شرك) [رواه الترمذيـ وحسنه وصححه‬ ‫بِ َغ ْير هللا فَقَد َكفَر أو أَ َ‬
‫الحاكم]‪.‬‬
‫ب الكبيرة ُمؤمنًا‪ .‬قال تعالى‪{ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ‬ ‫فقد جعل هللا ُمرت ِك َ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫صاصُ فِي القَتلى}‪.‬‬ ‫ب َعلَ ْي ُك ُم ْالقِ َ‬ ‫آ َمنُ ْ‬
‫وا ُكتِ َ‬
‫القاتل من الذين آمنوا‪ ،‬وجعله أ ًخا لول ّي القصاص‪،‬‬ ‫َ‬ ‫فلم يُخرج‬
‫ُوف َوأَدَا ٌء إِلَ ْي ِه‬ ‫ع بِ ْال َم ْعر ِ‬ ‫فقال‪{ :‬فَ َم ْن ُعفِ َي لَهُ ِم ْن أَ ِخي ِه َش ْي ٌء فَاتِّبَا ٌ‬
‫ان} [البقرة‪.]178/‬‬ ‫بِإِحْ َس ٍ‬
‫والمرادُ‪ :‬أخوة الدين‪ ،‬بال ريب‪.‬‬
‫وقال تعالى‪َ { :‬وإِن طَائِفَتَا ِن ِمنَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ ا ْقتَتَلُوا فَأَصْ لِحُوا‬
‫بَ ْينَهُ َما} [الحجرات‪.]9/‬‬
‫ون إِ ْخ َوةٌ فَأَصْ لِحُواـ بَ ْينَ أَخ ََو ْي ُك ْم}ـ‬‫إلى قوله‪{ :‬إِنَّ َما ْال ُم ْؤ ِمنُ َـ‬
‫[الحجرات‪.]10/‬‬
‫انتهى من شرح الطحاوية باختصار‪.‬‬
‫• وملخص الفروق بين الكفر األكبر والكفر األصغر‪:‬‬

‫‪91‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫أن الكفر األكبر يُخر ُج من ال ِملّة‪ ،‬ويحبطـ األعمال؛ وال ُكفر‬
‫‪َّ -1‬‬
‫األصغرـ ال يخرج من ال ِملّة وال يحبط األعمال‪ ،‬لكن ينقصُها‬
‫بحسبه‪ ،‬ويع ِّرضُ صاحبَهاـ للوعيد‪.‬‬
‫األكبر يُخلد صاحبه في النار؛ والكفر األصغر إذا‬
‫َ‬ ‫الكفر‬
‫َ‬ ‫‪َّ -2‬‬
‫أن‬
‫دخل صاحبه النار‪ ،‬فإنه ال يخلد فيها؛ وقدـ يتوب هللا على‬
‫صاحبه‪ ،‬فال يدخله النار أصاًل ‪.‬‬
‫األكبر يُبيح الدم والمال‪ ،‬والكفر األصغر ال يُبي ُح‬
‫َ‬ ‫الكفر‬
‫َ‬ ‫‪َّ -3‬‬
‫أن‬
‫الدم والمال‪.‬‬
‫‪ -4‬أن الكفر األكبر يُوجب العداوة الخالصة بين صاحبه وبين‬
‫المؤمنين‪.‬‬
‫فال يجوزـ للمؤمنين محبته ومواالته ولو كان أقرب قريب‪.‬‬
‫وأما الكفر األصغرـ فإنهُ ال يمنع المواالة مطلقًا‪ ،‬بل صاحبه‬
‫ي َُحبُّ ويُوالىـ بقدر ما فيه من اإليمان‪ ،‬ويغض ويُعادىـ بقدر ما‬
‫فيه من العصيان‪.‬‬

‫الفصل الرابع‪ :‬النفاق‪ :‬تعريفه‪ ،‬أنواعه‬

‫أ ـ تعريفـه‬
‫• لغة‪:‬‬
‫النفاق لغة‪ :‬مصدر نافق‪ .‬يُقال‪ :‬نافقـ يُنافق نفاقًا ومنافقة‪ .‬وهو‬
‫مأخوذ من النافقاء‪ :‬أحد مخارج اليربوعـ من جحره؛ فإنه إذا طلب‬
‫من مخرج هرب إلى اآلخر‪ ،‬وخرج منه‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وقيل‪ :‬هو من النفق وهو‪ :‬ال ِّس ُر الذي يستتر فيه ‪.‬‬
‫• شرعا‪:‬‬
‫وأما النفاق في الشرع فمعناه‪ :‬إظها ُـر اإلسالم والخير‪ ،‬وإبطانُ‬
‫الكفر والشر‪ .‬سمي بذلك ألنه يدخل في الشرع من باب‪ ،‬ويخرجـ‬
‫منه من باب آخر‪.‬‬
‫وعلى ذلك نبه هللا تعالى بقوله‪{ :‬إِ َّن ْال ُمنَافِقِينَ هُ ُم ْالفَا ِسقُونَ }‬
‫[التوبة‪.]67/‬‬
‫أي‪ :‬الخارجون من الشرع‪.‬‬
‫وجعل هللا المنافقين ش ًّرا من الكافرين‪ ،‬فقال‪{ :‬إِ َّن ْال ُمنَافِقِينَ فِي‬
‫ار} [النساء‪.]145/‬‬ ‫ك األَ ْسفَ ِل ِمنَ النَّ ِ‬
‫ال َّدرْ ِ‬
‫وقال تعالى‪{ :‬إِ َّن ْال ُمنَافِقِينَ يُخَا ِد ُعونَ هَّللا َ َوه َُو خَا ِد ُعهُ ْم}‬
‫[النساء‪{ ،]142/‬يُخَا ِد ُعونَ هّللا َ َوالَّ ِذينَ آ َمنُوا َو َما يَ ْخ َد ُعونَ إِالَّ‬
‫ُون * فِي قُلُوبِ ِهم َّم َرضٌ فَزَا َدهُ ُـم هّللا ُ َم َرضًا َولَهُم‬ ‫أَنفُ َسهُم َو َما يَ ْش ُعر َـ‬
‫َع َذابٌ أَلِي ٌم بِ َما َكانُوا يَ ْك ِذبُونَ } [البقرة‪.]10 ،9/‬‬

‫ب ـ أنواع النفاق‬
‫النفاق نوعان‪:‬‬
‫• النوع األول‪ :‬النفا ُ‬
‫ق االعتقادي‪.‬‬
‫وهو النفاق األكبر الذي يُظهر صاحبه اإلسالم‪ ،‬ويُبطن الكفر‪.‬‬
‫وهذا النوع مخرج من الدين بالكلية‪ ،‬وصاحبه في الدرك‬
‫وصفَ هللا أهله بصفات الش ّر كلها‪ :‬من‬
‫األسفل من النار‪ .‬وقدـ َ‬
‫الكفر وعدم اإليمان‪ ،‬واالستهزاء بالدين وأهله‪ ،‬والسخرية منهم‪،‬‬

‫‪93‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫والميل بالكلية إلى أعداء الدين؛ لمشاركتهم لهم في عداوة‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫وهؤالء َموجودون في كل زمان‪ .‬وال سيما عندما تظهرـ قوة‬
‫اإلسالم وال يستطيعون مقاومته في الظاهر‪ ،‬فإنهم يظهرون‬
‫الدخول فيه ألجل الكيد له وألهله في الباطن‪ ،‬وألجل أن يعيشواـ‬
‫مع المسلمين ويأمنوا على دمائهم وأموالهم‪.‬ـ‬
‫فيظهر المنافقـ إيمانه باهلل ومالئكته وكتبه ورسله واليوم‬
‫اآلخر؛ وهو في الباطن منسلخ من ذلك كله مكذب به‪ ،‬ال يؤمن‬
‫باهلل‪ ،‬وال يؤمن بأن هللا تكلم بكالم أنزله على بشر جعله رسواًل‬
‫للناس يهديهم بإذنه‪ ،‬وينذرهم بأسه ويخوّفهمـ عقابه‪.‬‬
‫وقد هتك هللا أستار هؤالء المنافقين‪ ،‬وكشف أسرارهمـ في‬
‫القرآن الكريم‪ .‬وجلى لعباده أمورهم ليكونواـ منها ومن أهلها على‬
‫حذر‪.‬‬
‫وذك َر طوائفـ العالم الثالثة في أول البقرة‪ :‬المؤمنين‪ ،‬والكفار‪،‬‬
‫والمنافقين‪ .‬فذكر في المؤمنين أربع آيات‪ ،‬وفي الكفار آيتين‪ ،‬وفي‬
‫المنافقين ثالث عشرة آية‪ .‬لكثرتهم وعموم االبتالء بهم‪ ،‬وشدة‬
‫فتنتهم على اإلسالم وأهله‪ .‬فإن بلية اإلسالم بهم شديدة ج ًّدا ألنهم‬
‫منسوبون إليه وإلى نصرته ومواالته‪ ،‬وهم أعداؤه في الحقيقة‪.‬‬
‫يخرجون عداوته في كل قالب يظن الجاهل أنه علم وإصالح‪،‬‬
‫وهو غاية الجهل واإلفساد‪.‬‬
‫• أقسام النفاق االعتقادي‪:‬‬
‫وهذا النفاق ستة أنواع‪:‬‬
‫‪ -1‬تكذيب الرسولـ صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫‪ -2‬تكذيبُ بعض ما جا َء به الرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ -3‬بُغضُ الرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ -4‬بغضُ بعض ما جاء به الرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ -5‬المسرَّة بانخفاض دين الرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ -6‬الكراهية النتصارـ دين الرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫• النوع الثاني‪ :‬النفاق العملي‪.‬‬
‫وهو عمل شيء من أعمال المنافقين مع بقاء اإليمان في‬
‫القلب‪ .‬وهذا ال يُخرج من الملة‪ ،‬لكنه وسيلة إلى ذلك‪ .‬وصاحبه‬
‫صار بسببه منافقًا خالصًا‪.‬‬
‫َ‬ ‫يكونُ فيه إيمان ونفاق‪ .‬وإذا كثر‪،‬‬
‫والدليل عليه قوله صلى هللا عليه وسلم‪( :‬أرب ٌع َمنْ ُكنَّ فِيه كانَ‬
‫صا‪ ،‬و َمن كانَت فِيه خصلَة ِمن ُهنّ كانَت فِيه خصلَة ِمن‬ ‫ُمنافقًا خال ً‬
‫النِفَاق حتّى ي َدعَها؛ إذا أؤتُ ِمن َخان‪ ،‬وإ َذا َحدّث َكذب‪َ ،‬وإ َذا عَاهَد‬
‫صم فَ َجر) [متفق عليه]‪.‬‬ ‫غدَر‪ ،‬وإ َذا َخا َ‬
‫فمن اجتمعت فيه هذه الخصال األربع‪ ،‬فقد اجتمع فيه الشر‪،‬‬
‫وخلصت فيه نعوت المنافقين‪ .‬و َمن كانت فيه واحدة منها صار‬
‫فيه خصلة من النفاق‪ .‬فإنه قد يجتمع في العبد خصال خير‬
‫وخصال شر وخصال إيمان وخصال كفر ونفاق؛ ويستحق من‬
‫الثواب والعقاب بحسب ما قام به من موجبات ذلك‪.‬‬
‫ومنه‪ :‬التكاسل عن الصالة مع الجماعة في المسجد فإنه من‬
‫صفات المنافقين‪ .‬فالنفاق شر وخطير ج ًّدا‪ .‬وكان الصحابة‬
‫يتخوفون من الوقوعـ فيه‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫قال ابن أبي مليكة‪" :‬أدركت ثالثين من أصحاب رسول هللا‬
‫‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ُ -‬كلُّهم يخاف النفاق على نفسه‪".‬‬

‫ج ـ الفروق بين النفاق األكبر والنفاق األصغر‬


‫األكبر يُخر ُج من الملَّة‪ ،‬والنفا َ‬
‫ق األصغر ال‬ ‫َ‬ ‫ق‬‫‪ -1‬إن النفا َ‬
‫يُخر ُج من الملَّة‪.‬‬
‫‪ -2‬إن النفاق األكبر‪ :‬اختالف السر والعالنية في االعتقاد‪.‬‬
‫والنفاق األصغر‪ :‬اختالف السر والعالنية في األعمال دون‬
‫االعتقاد‪.‬‬
‫‪ -3‬إن النفاق األكبر ال يصدر من مؤمن‪ .‬وأما النفاق األصغرـ‬
‫فقد يصدرـ من المؤمن‪.‬‬
‫‪ -4‬إن النفاق األكبر في الغالب ال يتوب صاحبه‪ .‬ولو تاب فقد‬
‫اختلف في قبول توبته عند الحاكم‪.‬‬
‫بخالف النفاق األصغر؛ فإن صاحبه قد يتوب إلى هللا‪ ،‬فيتوب‬
‫هللا عليه‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية ‪" :‬وكثي ًراـ ما تعرض للمؤمن شعبة‬
‫من شعب النفاق‪ ،‬ثم يتوبُ هللا عليه‪ .‬وقدـ يرد على قلبه بعض ما‬
‫يوجب النفاق‪ ،‬ويدفعه هللا عنه‪ .‬والمؤمن يبتلى بوساوس الشيطان‪،‬‬
‫وبوساوسـ الكفر التي يضيق بها صدره‪.‬‬
‫كما قال الصحابة‪" :‬يا رسول هللا‪ ،‬إن أحدنا ليجد في نفسه ما‬
‫لئن يخ ّر من السماء إلى األرض‪ ،‬أحب إليه من أن يتكلم به‪".‬‬
‫ص ِريح اإلي َمان) [رواه أحمد ومسلم]‪.‬‬
‫فقال‪( :‬ذلك َ‬

‫‪96‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وفي رواية‪" :‬ما يتعاظمـ أن يتكلم به‪".‬‬
‫سوسة)‪.‬‬ ‫قال‪( :‬الحم ُد هلل الذي ر َّد َكيدَه إلى َ‬
‫الو َ‬
‫أي حصول هذا الوسواس‪ ،‬مع هذه الكراهة العظيمة‪ ،‬ودفعه‬
‫عن القلب‪ ،‬هو من صريح اإليمان‪ ".‬انتهى‪.‬‬
‫ي فَهُ ْم الَ‬ ‫ص ٌّم بُ ْك ٌم ُع ْم ٌ‬
‫وأما أهل النفاق األكبر‪ ،‬فقال هللا فيهم‪ُ { :‬‬
‫يَرْ ِجعُونَ } [البقرة‪.]18/‬‬
‫أي‪ :‬إلى اإلسالم في الباطن‪.‬‬
‫َام َّم َّرةً أَوْ‬
‫وقال تعالى فيهم‪{ :‬أَ َوالَ يَ َروْ نَ أَنَّهُ ْم يُ ْفتَنُونَ فِي ُكلِّ ع ٍ‬
‫َم َّرتَي ِْن ثُ َّم الَ يَتُوبُونَ َوالَ هُ ْم يَ َّذ َّكرُونَ } [التوبة‪.]126/‬‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية‪" :‬وقدـ اختلف العلما ُء في قبولـ‬
‫توبتهم في الظاهر لكون ذلك ال يُعلم‪ ،‬إذ هم دائ ًما يظهرون‬
‫اإلسالم‪".‬‬

‫الفصل الخامس‪ :‬بيان حقيقة كل من الجاهلية والفسق‬


‫والضالل والردة (أقسامها وأحكامها)‬

‫‪ 1‬ـ الجاهليـة‬
‫• حقيقة الجاهلية‪:‬‬
‫هي الحال التي كانت عليها العرب قبل اإلسالم ‪-‬من الجهل‬
‫باهلل ورسله‪ ،‬وشرائع الدين‪ ،‬والمفاخرة باألنساب‪ ،‬والكبر‬
‫والتجبر‪ ،‬وغير ذلك؛ نِسبةً إلى الجهل الذي هو عدم العلم‪ ،‬أو عدم‬
‫اتباع العلم‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫َّ‬
‫"فإن من لم يعلم الحق فهو جاهل‬ ‫قال شي ُخ اإلسالم ابن تيمية‪:‬‬
‫جهاًل بسيطًا‪ .‬فإن اعتقد خالفه فهو جاهل جهاًل مركبًا‪ .‬فإن قال‬
‫خالف الحق عال ًما بالحق‪ ،‬أو غير عالم‪ ،‬فهو جاهل أيضًا‪.‬‬
‫فإذا تبيّن ذلك فالناس قبل بعث الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬‬
‫كانوا في جاهلية منسوبة إلى الجهل‪ .‬فإن ما كانوا عليه من‬
‫األقوال واألعمال‪ ،‬إنما أحدثه لهم جاهل‪ ،‬وإنما يفعله جاهل‪.‬‬
‫وكذلك كل ما يخالف ما جاء به المرسلون‪ ،‬من يهودية‬
‫ونصرانية‪ ،‬فهو جاهلية‪ ،‬وتلك كانت الجاهلية العامة‪.‬‬
‫• الجاهلية بعد بعثة الرسول‪:‬‬
‫فأما بعد بعث الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬فقد تكون في‬
‫مصر دون مصر‪ ،‬كما هي في دار الكفار‪ .‬وقد تكونُ في شخص‬
‫دون شخص ‪-‬كالرجل قبل أن يسل َم فإنه في جاهلية‪ ،‬وإن كان في‬
‫دار اإلسالم‪.‬‬
‫فأما في زمان مطلق فال جاهلية بعد مبعث محمد ‪-‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ -‬فإنه ال تزال من أمته طائفة ظاهرين على الحق إلى‬
‫قيام الساعة‪.‬‬
‫والجاهلية المقيدة قد توجد في بعض ديار المسلمين‪ ،‬وفي كثير‬
‫من األشخاص المسلمين‪.‬‬
‫كما قال صلى هللا عليه وسلم‪( :‬أربَع في أ ّمتي ِمن أ ْمر‬
‫الجا ِهليّة‪[ )...‬رواه مسلم]‪.‬‬
‫وقال ألبي ذر‪( :‬إنّك ام ُرؤ فِيكَ َجا ِهليّة) [في الصحيحين]‬
‫ونحو ذلك‪ ".‬انتهى‪.‬‬
‫• وملخص ذلك‪:‬‬

‫‪98‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫أن الجاهلية‪ :‬نسبة إلى الجهل‪ ،‬وهو عدم العلم‪.‬‬
‫وأنها تنقسم إلى قسمين‪:‬‬
‫‪ 1‬ـ الجاهلية العامة‪ :‬وهي ما كان قبل مبعث الرسول محمد‬
‫‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وقد انتهت ببعثته‪.‬‬
‫‪ 2‬ـ جاهلية خاصة ببعض الدول‪ ،‬وبعض البلدان‪ ،‬وبعض‬
‫األشخاص‪ .‬وهذه ال تزال باقية‪.‬‬
‫وبهذا يتضح خطأ من يُع ّممونَ الجاهلية في هذا الزمان‪،‬‬
‫فيقولون‪" :‬جاهلية هذا القرن أو جاهلية القرن العشرين‪ "...‬وما‬
‫شابه ذلك‪.‬‬
‫ُقال‪" :‬جاهلية بعض أهل هذا القرن‪ ،‬أو غالب‬ ‫والصواب أن ي َ‬
‫أهل هذا القرن‪".‬‬
‫وأما التعميم فال يصحُّ وال يجو ُز ألنه ببعثة النبي ‪-‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ -‬زالت الجاهلية العامة‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ الفسـق‬
‫• لغة‪:‬‬
‫الفسق لغة‪ :‬الخروج‪.‬‬
‫• شرعا‪:‬‬
‫والمراد به شرعًا‪ :‬الخروج عن طاعة هللا‪ .‬وهو يشمل الخروج‬
‫الكلي ‪-‬فيقا ُل للكافر‪ :‬فاسق‪ -‬والخروج الجزئي ‪-‬فيقال للمؤمن‬
‫المرتكب لكبيرة من كبار الذنوب‪ :‬فاسق‪.‬‬
‫• أقسام الفسق‪:‬‬

‫‪99‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫فالفسق فسقان‪ :‬فسق ينقل عن الملة‪ ،‬وهو الكفر‪ .‬فيس َّمىـ الكاف ُر‬
‫فاسقًا‪.‬‬
‫ق ع َْن أَ ْم ِر َربِّ ِه} [الكهف‪،]50/‬‬ ‫إبليس فقال‪{ :‬فَفَ َس َ‬ ‫َ‬ ‫فقد ذكر هللا‬
‫وكان ذلك الفسق منه ُكفرًا‪.‬‬
‫{وأَ َّما الَّ ِذينَ فَ َسقُوا فَ َمأْ َواهُ ُـم النَّارُ}‪ ،‬يريد‬ ‫وقال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫الكفار‪ .‬د َّل على ذلك قوله‪{ :‬كل َما أ َرادُوا أن يَخ ُرجُوا ِمنهَا أ ِعيدُوا‬
‫ار الَّ ِذي ُكنتُم بِ ِه تُ َك ِّذبُونَ } [السجدة‪/‬‬ ‫اب النَّ ِ‬ ‫فِيهَا َوقِي َل لَهُ ْم ُذوقُوا َع َذ َ‬
‫‪.]20‬‬
‫ويُس َّمى مرتكب الكبيرة من المسلمين‪ :‬فاسقًا‪ ،‬ولم يُخرجهُ فسقُهُ‬
‫من اإلسالم‪.‬‬
‫ت ثُ َّم لَ ْم يَأْتُوا بِأَرْ بَ َع ِة‬ ‫{والَّ ِذينَ يَرْ ُمونَ ْال ُمحْ َ‬
‫صنَا ِ‬ ‫قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫ك هُ ُم‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫ُشهَدَا َء فَاجْ لِدُوهُ ْم ثَ َمانِينَ َجل َدةً َوال تَقبَلوا لهُ ْم َشهَا َدةً أبَدًا َوأوْ لئِ َ‬
‫ْالفَا ِسقُونَ } [النور‪.]4/‬‬
‫ق َوالَ‬ ‫ث َوالَ فُسُو َـ‬ ‫ض فِي ِه َّن ْال َح َّج فَالَ َرفَ َ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬فَ َمن فَ َر َ‬
‫ِجدَا َل فِي ْال َحجِّ} [البقرة‪.]196/‬‬
‫وقال العلماء في تفسير الفسوق هنا‪ :‬هو المعاصي ‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ الضـالل‬
‫• تعريف الضالل‪:‬‬
‫الضالل‪ :‬العدول عن الطريقـ المستقيم‪ ،‬وهو ضد الهداية‪.‬‬
‫قال تعالى‪َ { :‬م ِن ا ْهتَدَى فَإِنَّ َما يَ ْهتَ ِدي لِنَ ْف ِس ِه َو َمن َ‬
‫ض َّل فَإِنَّ َما‬
‫ضلُّ َعلَ ْيهَا} [اإلسراء‪.]15/‬‬ ‫يَ ِ‬

‫‪100‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫• إطالقات كلمة الضالل‪:‬‬
‫والضال ُل يطلق على عدة معان‪:‬‬
‫ق على الكفر‪.‬‬ ‫‪ -1‬فتارةً يُطل ُ‬
‫قال تعالى‪َ { :‬و َمن يَ ْكفُرْ بِاهَّلل ِ َو َمالَئِ َكتِ ِه َو ُكتُبِ ِه َو ُر ُسلِ ِه َو ْاليَوْ ِم‬
‫ضالَاًل بَ ِعيدًا} [النساء‪.]136/‬‬ ‫ض َّل َ‬‫اآل ِخ ِر فَقَ ْد َ‬
‫ق على الشرك‪.‬‬ ‫‪ -2‬وتارة يُطل ُ‬
‫ضالَاًل بَ ِعيدًا} [النساء‪/‬‬ ‫ض َّل َ‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬و َمن يُ ْش ِر ْك بِاهَّلل ِ فَقَ ْد َ‬
‫‪.]116‬‬
‫‪ -3‬وتارة يُطل ُ‬
‫ق على المخالفة التي هي دون الكفر‪.‬‬
‫كما يقال‪ :‬الفرق الضالة‪ :‬أي المخالفة‪.‬‬
‫‪ -4‬وتارة يُطلق على الخطأ‪.‬‬
‫ومنه قو ُل موسى عليه السالم‪{ :‬فَ َع ْلتُهَاـ إِ ًذا َوأَنَا ِمنَ الضَّالِّينَ }‬
‫[الشعراء‪.]20/‬‬
‫ق على النسيان‪.‬‬ ‫‪ -5‬وتارةً يُطل ُ‬
‫َض َّل ْإحْ دَاهُ َما فَتُ َذ ِّك َـر إِحْ دَاهُ َما األُ ْخ َرى}‬
‫ومنه قوله تعالى‪{ :‬أَن ت ِ‬
‫[البقرة‪.]282/‬‬
‫‪ -6‬ويُطل ُـ‬
‫ق الضال ُل على الضياع والغيبة‪ ،‬ومنه‪ :‬ضالة اإلبل ‪.‬‬

‫‪ 4‬ـ الردّة وأقسامها وأحكامها‬


‫• لغة‪:‬‬

‫‪101‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫{والَ تَرْ تَ ُّدواـ َعلَى أَ ْدبَ ِ‬
‫ار ُك ْم}‬ ‫الردة لغة‪ :‬الرجوع‪ .‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫[المائدة‪.]21/‬‬
‫أي‪ :‬ال ترجعوا‪.‬ـ‬
‫• شرعا‪:‬‬
‫والردة في االصطالح الشرعي هي‪ :‬الكف ُر بعد اإلسالم‪.‬‬
‫قال تعالى‪َ { :‬و َمن يَرْ تَ ِد ْد ِمن ُك ْم عَن ِدينِ ِه فَيَ ُم ْ‬
‫ت َوهُ َو َكافِ ٌر‬
‫ُ‬ ‫فَأُوْ لَـئِكَ َحبِطَ ْ‬
‫اآلخ َر ِة َوأوْ لَـئِكَ أَصْ َحابُ النَّ ِ‬
‫ار‬ ‫ت أَ ْع َمالُهُ ْم فِي ال ُّد ْنيَا َو ِ‬
‫هُ ْم فِيهَا خَالِ ُدونَ } [البقرة‪.]217/‬‬
‫• أقسام الردة‪:‬‬
‫نواقض اإلسالم‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ناقض من‬
‫ٍ‬ ‫أقسامها‪ :‬الردة تحصل بارتكاب‬
‫ونواقضُ اإلسالم كثيرة ترجع إلى أربعة أقسام‪ ،‬هي‪:‬‬
‫‪ -1‬الردة بالقول‪:‬‬
‫كسبِّ هللا تعالى‪ ،‬أو رسوله صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أو مالئكته‪،‬‬
‫أو أحد من رسله‪ .‬أو ا ّدعاء علم الغيب‪ ،‬أو ا ّدعاء النبوة‪ ،‬أو‬
‫تصديق من يدعيها‪ .‬أو دعاء غير هللا‪ ،‬أو االستعانة به فيما ال‬
‫يقدر عليه إال هللا‪ ،‬واالستعاذة به في ذلك‪.‬‬
‫‪ -2‬الردة بالفعل‪:‬‬
‫كالسجود للصنم والشجر‪ ،‬والحجرـ والقبور‪ ،‬والذبح لها‪ .‬وإلقاء‬
‫المصحف في المواطن القذرة‪ ،‬وعمل السحر‪ ،‬وتعلمه وتعليمه‪،‬‬
‫والحكم بغير ما أنزل هللا معتقدًا حله‪.‬‬
‫‪ -3‬الردة باالعتقاد‪:‬‬

‫‪102‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫كاعتقاد الشريك هلل‪ ،‬أو أن الزنا والخمر والربا حالل‪ ،‬أو أن‬
‫الخبز حرام‪ ،‬وأن الصالة غير واجبة‪ ،‬ونحوـ ذلك مما أُجمع على‬
‫حله‪ ،‬أو حرمته أو وجوبه‪ ،‬إجماعًا قطعيًّا‪ ،‬ومثله ال يجهله‪.‬‬
‫‪ -4‬الردة بالشك في شيء مما سبق‪:‬‬
‫ك في تحريم الشرك‪ ،‬أو تحريمـ الزنا والخمر‪ ،‬أو في‬ ‫كمن ش َّ‬
‫حل الخبز‪ ،‬أو شك في رسالة النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أو‬
‫رسالة غيره من األنبياء‪ ،‬أو في صدقه‪ ،‬أو في دين اإلسالم‪ ،‬أو‬
‫في صالحيته لهذا الزمان‪.‬‬
‫‪ -5‬الردة بالترك‪:‬‬
‫كمن ترك الصالة متعمدًا؛ لقول النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫صاَل ة) [رواه مسلم]‪.‬‬
‫(بَينَ ال َعبد َوبَين ال ُكفر والشّرك تَر ُك ال ّ‬
‫وغيره من األدلة على كفر تارك الصالة‪.‬‬
‫• أحكام الردة‪:‬‬
‫وأحكامها التي تترتّب عليها بعد ثبوتهاـ هي‪:‬‬
‫‪ -1‬استتابة ال ُمرت ّد‪ ،‬فإن تاب ورج َع إلى اإلسالم في خالل ثالثة‬
‫أيام؛ قبل منه ذلك وترك‪.‬‬
‫يتوب‪ ،‬وجب قتله‪.‬‬
‫َ‬ ‫‪ -2‬إذا أبى أن‬
‫لقوله صلى هللا عليه وسلم‪َ ( :‬من ب َّد َل ِدينَه فَاقتُلُوه) [رواه‬
‫البخاري وأبو داود]‪.‬‬
‫‪ -3‬يُمنع من التصرّف في ماله في مدة استتابته‪ .‬فإن أسلم فهو‬
‫له‪ ،‬وإال صار فيئًا لبيت المال‪ ،‬من حيث قتله‪ ،‬أو موته على الردة‪.‬‬
‫وقيل‪ :‬من حين ارتداده يصرفـ في مصالح المسلمين‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫‪ -4‬انقطاع التوارث بينه وبين أقاربه‪ .‬فال يرثهم وال يرثونه‪.‬‬
‫‪ -5‬إذا ماتَ أو قُت َل على ر ّدته فإنه ال يُغ َّس ُل وال يُصلَّى عليه‬
‫وال يُدفنُ في مقابر المسلمين؛ وإنما يُدفَنُ في مقابر الكفّار‪ ،‬أو‬
‫يُوارى في التراب في أي مكان غير مقابر المسلمين‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫الباب الرابع‪ :‬أقوال وأفعال تُنافي التوحيد أو تُنقِصُه‬


‫وفيه فصول‪:‬‬
‫‪ :‬ادعاء علم الغيب في قراءة الكف‬ ‫الفصل األول‬
‫والفنجان‪ ،‬والتنجيم‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫‪ :‬السحر والكهانة والعرافة‪.‬‬ ‫الفصل الثاني‬
‫‪ :‬تقديم القرابين والنذورـ والهدايا‬ ‫الفصل الثالث‬
‫للمزارات والقبور وتعظيمها‪.‬‬
‫‪ :‬تعظيم التماثيل والنصب التذكارية‪.‬‬ ‫الفصل الرابع‬
‫‪ :‬االستهزاء بالدين واالستهانة‬ ‫الفصل الخامس‬
‫بحرماته‪.‬‬
‫‪ :‬الحكم بغير ما أنزل هللا‪.‬‬ ‫الفصل السادس‬
‫‪ :‬ادعاء حق التشريع والتحليل‬ ‫الفصل السابع‬
‫والتحريم‪.‬‬
‫‪ :‬االنتماء إلى المذاهب اإللحادية‪،‬‬ ‫الفصل الثامن‬
‫واألحزاب الجاهلية‪.‬‬
‫‪ :‬النظرة المادية للحياة‪.‬‬ ‫الفصل التاسع‬
‫‪ :‬التمائم والرقى‪.‬‬ ‫الفصل العاشرـ‬
‫‪ :‬الحلف بغير هللا‪ ،‬والتوسلـ‬ ‫الفصل الحادي عشر‬
‫واالستعانة بالمخلوق دون هللا‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫‪106‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫الفصل األول‪ :‬ادِّعاء علم الغيب في قراءة الكف والفنجان‬


‫وغيرهما‬

‫‪ .1‬المراد بالغيب‬
‫ما غاب عن الناس من األمور المستقبلة وال َماضية وما ال‬
‫يرونه‪ ،‬وقد اختص هللا تعالى بعلمه‪.‬‬
‫ض ْال َغي َ‬
‫ْب إِال‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬قُل ال يَ ْعلَ ُم َمن فِي ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫هَّللا ُ} [النمل‪.]65/‬‬

‫‪ .2‬ال يعلم الغيب إال هللا‬


‫فال يعلم الغيب إال هللا سبحانه وحده‪ .‬وقدـ يُطلع رُسلَه على ما‬
‫شاء من غيبه لحكمة ومصلحة‪.‬‬
‫ب فَال ي ْ‬
‫ُظ ِه ُر َعلَى َغ ْيبِ ِه أَ َحدًا * إِال َم ِن‬ ‫قال تعالى‪{ :‬عَالِ ُم ْال َغ ْي ِ‬
‫ضى ِمن َّرسُو ٍل} [الجن‪.]27 ،26/‬‬ ‫ارْ تَ َ‬
‫أي‪ :‬ال يطلع على شيء من الغيب إال َمن اصطفاه لرسالته‪.‬‬
‫فيظهره على ما يشاء من الغيب ألنه يُستدل على نبوته‬
‫بالمعجزات؛ التي منها اإلخبار عن الغيب؛ الذي يطلعه هللا عليه‪.‬‬
‫وهذا يع ّم الرسول الملكي والبشري‪ ،‬وال يطلع غيرهما لدليل‬
‫الحصر‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫فمن ا ّدعى علم الغيب بأي وسيلة من الوسائل غير من استثناه‬
‫هللا من رسله‪ ،‬فهوـ كاذب كافر ‪-‬سواء ا ّدعى ذلك بواسطة قراءة‬
‫الكف أو الفنجان‪ ،‬أو الكهانة أو السحر أو التنجيم‪ ،‬أو غير ذلك‪.‬‬
‫وهذا الذي يحصل من بعض المشعوذين والدجّالين ‪-‬من‬
‫اإلخبار عن مكان األشياء المفقودة واألشياء الغائبة‪ ،‬وعن أسباب‬
‫بعض األمراض‪ .‬فيقولون‪" :‬فالن َع ِم َل لكَ كذا وكذا فمرضتَ‬
‫بسببه‪".‬‬
‫وإنما هذا الستخدام الجن والشياطين‪ ،‬ويظهرون للناس أن هذا‬
‫يحصل لهم ‪-‬عن طريق عمل هذه األشياء من باب الخداع‬
‫والتلبيس‪.‬‬
‫قال شي ُخ اإلسالم ابن تيمية‪" :‬والكهان كان يكون ألحدهم‬
‫القرين من الشياطين‪ ،‬يخبره بكثير من المغيبات بما يسترقه من‬
‫ق بالكذب‪ "....‬إلى أن قال‪" :‬ومن‬‫السمع‪ ،‬وكانوا يَخلطون الصِّد َ‬
‫هؤالء من يأتيه الشيطان بأطعمة فواكه وحلوى‪ ،‬وغير ذلك م ّما‬
‫ال يكون في ذلك ال َموضع‪ .‬ومنهم من يطير به الجني إلى مكة أو‬
‫بيت المقدس أو غيرهما‪ ".‬انتهى‪.‬‬
‫وقد يكون إخبارهمـ عن ذلك عن طريقـ التنجيم‪ .‬وهو‬
‫االستدالل باألحوال الفلكية على الحوادث األرضية؛ كأوقات‬
‫هُبوب الرياح ومجيء المطر‪ ،‬وتغيرـ األسعار‪ ،‬وغير ذلك من‬
‫األمور التي يزعمون أنها تدرك معرفتها بسير الكواكب في‬
‫مجاريها‪ ،‬واجتماعها وافتراقها‪.‬‬
‫ويقولون‪" :‬من تزوج بنجم كذا وكذا‪ ،‬حصل له كذا وكذا‪...‬‬
‫ومن سافر بنجم كذا حصل له كذا‪ ...‬ومن ُولد بنجم كذا وكذا‬
‫حصل له كذا‪- "....‬من السعود أو النحوس‪ .‬كما يعلن في بعض‬

‫‪108‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫المجالت الساقطة من الخزعبالت حول البروج؛ وما يجري فيها‬
‫من الحظوظ‪.‬‬
‫وقد يذهب بعضُ الجهال وضعافـ اإليمان إلى هؤالء‬
‫المنجمين‪ ،‬فيسألهمـ عن مستقبل حياته‪ ،‬وما يجري عليه فيه‪ ،‬وعن‬
‫زواجه وغير ذلك‪.‬‬

‫صدّقه‬
‫‪ .3‬حكم من ادَّعى علم الغيب أو َ‬
‫ك كافر؛‬ ‫ومن ا َّدعى علم الغيب أو ص َّدق من ي َّدعيه‪ ،‬فهو مشر ٌ‬
‫ألنه ي َّدعي مشاركة هللا فيما هو من خصائصه‪ .‬والنجومـ مس َّخرة‬
‫مخلوقة‪ ،‬ليس لها من األمر شيء‪ ،‬وال تدل على نحوس‪ ،‬وال‬
‫سعود‪ ،‬وال موت‪ ،‬وال حياة‪ .‬وإنما هذا كلّه من أعمال الشياطين‬
‫الذين يسترقون السمع‪.‬‬

‫‪ ‬الفصل الثاني‪ :‬السح ُر والكهانةُ وال ِعرافة‬


‫ك ّل هذه األمور أعمال شيطانية ُمحرَّمة تخ ّل بالعقيدة أو‬
‫تناقضهاـ ألنها ال تحصل إال بأمورـ شركية‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ فالسح ُر عبارةٌ عما خفي ولَطُفَ سببُهُ‬


‫• حقيقة السحر‪:‬‬
‫ُس ِّمي ِسحْ را ألنه يحصل بأمورـ خفية‪ ،‬ال تدرك باألبصار‪.‬ـ‬
‫وهو‪ :‬عزائم ورقى‪،‬ـ وكالم يتكلم به‪ ،‬وأدوية وتدخينات‪ .‬وله‬
‫حقيقة‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ومنه ما يؤثرـ في القلوب واألبدان فيُمرض ويقتُل ويفرق بين‬
‫المرء وزوجه‪ ،‬وتأثيره بإذن هللا الكوني القَدَريّ‪ ،‬وهو عمل‬
‫شيطاني‪ .‬وكثيرـ منه ال يتوصل إليه إال بالشرك والتقرب إلى‬
‫األرواح الخبيثة بما تحب‪ ،‬والتوصلـ إلى استخدامهاـ باإلشراك‬
‫بها‪.‬‬
‫ولهذا قرنهُ الشارع بالشرك‪ ،‬حيث يقول النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪( :‬اجتَنِبُوا ال ّ‬
‫سب َع ال ُموبِقات)‪.‬‬
‫قالوا‪" :‬وما هي؟"‬
‫س ْحر‪[ )...‬رواه البخاريـ ومسلم]‬
‫قال‪( :‬اإلشْرا ُك بِاهلل َوال ّ‬
‫الحديث‪.‬‬
‫• سبب دخول السحر في الشرك‪:‬‬
‫فهو داخل في الشرك من ناحيتين‪:‬‬
‫الناحية األولى‪ :‬ما فيه من استخدام الشياطين‪ ،‬والتعلق بهم‬
‫والتقرب إليهم بما يحبونه؛ ليقوموا بخدمة الساحر‪ .‬فالسِّح ُـر من‬
‫تعليم الشياطين‪.‬‬
‫قال تعالى‪َ { :‬ولَـ ِك َّن ال َّشيْا ِطينَ َكفَر ْ‬
‫ُوا يُ َعلِّ ُمونَ النَّ َ‬
‫اس السِّحْ َر}‬
‫[البقرة‪.]102/‬‬
‫الثانية‪ :‬ما فيه من دعوى علم الغيب‪ ،‬ودعوى مشاركة هللا في‬
‫{ولَقَ ْد َعلِ ُم ْ‬
‫وا لَ َم ِن ا ْشت ََراهُ َما‬ ‫ذلك‪ ،‬وهذا كفر وضالل‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫ق} [البقرة‪ ،]102/‬أي‪ :‬نصيبٌ ‪.‬‬ ‫لَهُ فِي ِ‬
‫اآلخ َر ِة ِم ْن َخالَ ٍ‬
‫ك أنه كفر وشرك؛ يناقض العقيدة‪،‬‬ ‫وإذا كان كذلك فال ش َّ‬
‫ويجبُ قتل متعاطيه‪ .‬كما قتله جماعة من أكابر الصحابة رضي‬
‫هللا عنهم‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وقد تساهل الناس في شأن الساحر والسِّحر‪ .‬ورُبماـ عدوا ذلك‬
‫فنًّا من الفنون التي يفتخرون بها‪ ،‬ويمنحون أصحابها الجوائزـ‬
‫والتشجيع‪ ،‬ويُقيمون النوادي والحفالت والمسابقات للسحرة‪،‬‬
‫ويحضرهاـ آالف المتفرجين والمشجعين‪ ،‬أو يسمونه بالسرك‪.‬‬
‫وهذا من الجهل بالدين والتهاون بشأن العقيدة‪ ،‬وتمكين للعابثين‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ الكهانة والعرافة‬


‫وهما ادعاء علم الغيب‪ ،‬ومعرفة األمورـ الغائبة؛ كاألخبارـ بما‬
‫سيقع في األرض‪ ،‬وما سيحصل‪ ،‬وأين مكان الشيء المفقود‪.‬‬
‫وذلك عن طريق استخدامـ الشياطين الذين يسترقون السمع من‬
‫السماء‪.‬‬
‫كما قال تعالى‪{ :‬هَلْ أُنَبِّئُ ُك ْم َعلَى َمن تَنَ َّز ُل ال َّشيَ ِ‬
‫اطينُ * تَنَ َّز ُل‬
‫اك أَثِ ٍيم * ي ُْلقُونَ ال َّس ْم َع َوأَ ْكثَ ُرهُ ْم َكا ِذبُونَ } [الشعراء‪/‬‬
‫َعلَى ُك ِّل أَفَّ ٍ‬
‫‪.]223 ،221‬‬
‫وذلك أن الشيطان يسترق الكلمة من كالم المالئكة‪ ،‬فيلقيها في‬
‫أذن الكاهن‪ .‬ويكذب الكاهن مع هذه الكلمة مائة كذبة‪ ،‬فيصدقه‬
‫الناس بسبب تلك الكلمة‪ ،‬التي سُمعت من السماء‪.‬‬
‫وهللا عز وجل هو المنفرد بعلم الغيب‪ ،‬فمن ادعى مشاركته في‬
‫شيء من ذلك ‪-‬بكهانة أو غيرها‪ ،‬أو صدق من يدعي ذلك‪ -‬فقد‬
‫جعل هلل شري ًكاـ فيما هو من خصائصه‪.‬‬
‫والكهانة ال تخلو من الشرك ألنها تَقَرُّ بٌ إلى الشياطين بما‬
‫يحبون‪ .‬فهي شرك في الربوبية من حيث ادعاء مشاركة هللا في‬
‫علمه؛ وشرك في األلوهية من حيث التقرب إلى غير هللا بشيء‬
‫من العبادة‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وعن أبي هريرة ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬عن النبي ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫فص ّدقه بِما يَقُول‪ ،‬فقَد كفَر بِما ِ‬
‫أنزل‬ ‫وسلم‪ -‬قال‪َ ( :‬من أتَى كا ِهنًا َ‬
‫على ُم َح ّمد صلى هللا عليه وسلم) [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫• تنبيه‪:‬‬
‫وم ّما يجب التنبيه عليه والتنبّه له‪ :‬أن السحرة والكهان‬
‫والعرافين‪ ،‬يعبثون بعقائد الناس بحيث يظهرون بمظهر األطباء‪،‬‬
‫فيأمرون المرضىـ بالذبح لغير هللا ‪-‬بأن يذبحواـ خروفًا صفته كذا‬
‫وكذا‪ ،‬أو دجاجة‪ -‬أو يكتبون لهم الطالسمـ الشركية‪ ،‬والتعاويذـ‬
‫الشيطانية بصفة حروز يعلقونها في رقابهم‪ ،‬أو يضعونهاـ في‬
‫صناديقهم‪ ،‬أو في بيوتهم‪.‬‬
‫والبعض اآلخر يظهر بمظهرـ المخبر عن المغيبات‪ ،‬وأماكن‬
‫األشياء المفقودة ‪-‬بحيث يأتيه الجهال فيسألونه عن األشياء‬
‫الضائعة‪ ،‬فيخبرهمـ بها أو يحضرها لهم‪ ،‬بواسطة عمالئه من‬
‫الشياطين‪.‬‬
‫وبعضهمـ يظهر بمظهر الول ّي الذي له خوارقـ وكرامات أو‬
‫بمظهر الفنان‪ ،‬كدخول النار وال تؤثر فيه‪ ،‬وضرب نفسه‬
‫بالسالح‪ ،‬أو وضع نفسه تحت عجالت السيارة وال تؤثرـ فيه‪ ،‬أو‬
‫غير ذلك من الشعوذات التي هي في حقيقتها سحر من عمل‬
‫الشيطان‪ ،‬يجري على أيدي هؤالء للفتنة‪ .‬أو هي أمور تخيلية ال‬
‫حقيقة لها؛ بل هي حيل خفية يتعاطونها أمام األنظار‪ .‬كعمل‬
‫سحرة فرعون بالحبال والعصي‪.‬‬
‫قال شيخ اإلسالم في مناظرته للسحرة البطائحية األحمدية‬
‫الرفاعية؛ قال‪( :‬يعني شيخ البطائحية) ورفعـ صوته‪" :‬نحن لنا‬

‫‪112‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫أحوال كذا وكذا‪ "...‬وا َّدعى األحوال الخارقة كالنار وغيرها‬
‫واختصاصهم بها‪ ،‬وأنهمـ يستحقون تسليم الحال إليهم ألجلها‪.‬‬
‫ورفعت صوتي وغضبت‪" :‬أنا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫"فقلت‬ ‫قال شيخ اإلسالم‪:‬‬
‫أُخاطب كل أحمدي من مشرق األرض إلى مغربها‪ :‬أي شيء‬
‫فعلوه في النار‪ ،‬فأنا أصنع مثل ما تصنعون‪ ،‬ومن احترق فهو‬
‫مغلوب‪( .‬وربما قلت‪ :‬فعليه لعنة هللا) ولكن بعد أن نغسل جسومناـ‬
‫بالخل والماء الحار‪".‬‬
‫فسألني األمراء والناس عن ذلك‪ .‬فقلت‪" :‬ألن لهم حياًل في‬
‫االتصال بالنار‪ ،‬يصنعونها من أشياء من دهن الضفادع‪ ،‬وقشر‬
‫النارنج‪ ،‬وحجر الطلق‪".‬‬
‫فضج الناس بذلك‪ .‬فأخذ يظهرـ القدرة على ذلك‪.‬‬
‫فقال‪" :‬أنا وأنت نُلَ ُّ‬
‫ف في بارية بعد أن تُطلى جسو ُمنا‬
‫بالكبريت‪".‬‬
‫فقلت‪" :‬فقُم!"‬
‫وأخذت أكرر عليه في القيام إلى ذلك‪ .‬فم َّد يده يظهر خلع‬
‫القميص‪.‬‬
‫لت‪" :‬ال‪ ،‬حتى تغتسل بالماء الحار والخل‪".‬‬ ‫فق ُ ُ‬
‫فأظهر الوهم على عادتهم‪ .‬فقال‪" :‬من كان يحبُّ األمير‬
‫فليحضرـ خشبًا (أو قال‪ :‬حزمة حطب)‪".‬‬
‫ق للجمع وال يَحص ُل به مقصود؛ بل‬ ‫ُ‬
‫فقلت‪" :‬هذا تطوي ٌل وتفري ٌـ‬
‫قندير يوقدـ وأُدخل أصبعي وأصبعك فيه بعد الغسل‪ .‬ومن احترقت‬
‫أصبعه فعليه لعنة هللا (أو قلت‪ :‬فهو مغلوب)‪".‬‬

‫‪113‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫فل َّما ُ‬
‫قلت ذلك تغيّر وذلّ‪ ".‬انتهى ‪.‬‬
‫وال َمقصود منه بيان أن هؤالء الدجالين يكذبون على الناس‬
‫بمثل هذه الحيل الخفية‪ ،‬كجرهمـ السيارة بشعرة وإلقائه نفسه تحت‬
‫عجالتها وإدخال أصياخ الحديد في عينه‪ ،‬إلى غير ذلك من‬
‫الشعوذات الشيطانية‪.‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬تقديم القرابين والنذور والهدايا للمزارات‬


‫والقبور وتعظيمها‬
‫لقد س ّد النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬كل الطرق ال ُمفضية إلى‬
‫وحذرـ منها غاية التحذير‪ .‬ومن ذلك‪ :‬مسألة القبور‪.‬ـ قد‬ ‫ّ‬ ‫الشرك‪،‬‬
‫وضع الضوابط الواقية من عبادتها‪ ،‬والغلو في أصحابها‪ .‬ومن‬
‫ذلك‪:‬‬
‫حذر ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬من الغلو في األولياء‬ ‫‪1‬ـ أنه قد ّ‬
‫والصالحين ألن ذلك يؤدِّي إلى عبادتهم‪.‬‬
‫فقال‪( :‬إياكم وال ُغلُ َّو‪ ،‬فإنّما أهلَك َمن كانَ قَبلَ ُكم ال ُغلُ ُّو) [رواه‬
‫اإلمام أحمد والترمذي وابن ماجه]‪.‬‬
‫صارى ابنَ َمريَم‪ ،‬إنما أنا‬ ‫ت النّ َ‬ ‫وقال‪( :‬ال تُط ُروني َكما َ‬
‫أطر ِ‬
‫سوله) [رواه البخاري]‪.‬‬ ‫عبدٌ‪ .‬فَقُولُوا‪ :‬عب ُد هللا َ‬
‫ور ُ‬
‫‪2‬ـ وحذر ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬من البناء على القبور‪.‬‬
‫كما روىـ أبو الهياج األسدي قال‪ :‬قال لي علي بن أبي طالب‬
‫رضي هللا عنه‪( :‬أال أبعثُك عَلى َما ب َعثَني َعلَيه َر ُ‬
‫سول هللا صلى‬

‫‪114‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫هللا عليه وسلم؟ أن ال تَدَع تمثَااًل إاّل ط َمستَه‪َ ،‬وال قب ًرا ُمشرفًا إاّل‬
‫س َّويتَه) [رواه مسلم]‪.‬‬
‫‪3‬ـ ونهى عن تجصيصهاـ والبناء عليها‪.‬‬
‫عن جابر ‪-‬رضيـ هللا عنه‪ -‬قال‪( :‬نهى رسول هللا ‪-‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ -‬عن تجصيص القبر‪ ،‬وأن يقعد عليه‪ ،‬وأن يبنى عليه‬
‫بناء) [رواه مسلم]‪.‬‬
‫َّ‬
‫وحذر ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬من الصالة عند القبور‪.‬‬ ‫‪4‬ـ‬
‫عن عائشة ‪-‬رضيـ هللا عنها‪ -‬قالت‪" :‬ل ّما نُ ِز َل برسول هللا‬
‫‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬طفق يطرح خميصة له على وجهه‪ ،‬فإذا‬
‫اغتم بها كشفها‪ ،‬فقال وهو كذلك‪( :‬لَعنَةُ هللا عَلى اليَ ُهود‬
‫ساجد) يحذ ُر ما صنعوا‪ ،‬ولو‬ ‫صارى؛ ات َّخ ُذواـ قُبُ َ‬
‫ور أنبِيَائِهم َم َ‬ ‫والنَ َ‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫ال ذلك أبرز قبره‪ ،‬غير أنه خشي أن يُتخذ مسجدًا‪[ ".‬متفق عليه]‪.‬‬
‫وقال صلى هللا عليه وسلم‪( :‬أال وإنَّ َمن كان قَبلَكم كانُوا‬
‫ساجد؛‬ ‫ساجد‪ ،‬أاَل فَاَل تت ِّخذوا القُبُو َر َم َ‬ ‫يتّ ِخ ُذون قُبُور أنبِيائِهم َم َ‬
‫فَإنّي أن َها ُكم عَن ذلِك) [رواه مسلم في صحيحه]‪.‬‬
‫واتخا ُذها مساجد معناهُ‪ :‬الصالة عندها وإن لم يبن مسجد‬
‫عليها؛ فكلُّ موضع قصدـ للصالة فيه فقد اتُّخ َذ مسجدًا‪ ،‬كما قال‬
‫سجدًا وطَ ُهو ًرا) [رواه‬ ‫األرض َم ِ‬
‫ُ‬ ‫(ج ِعلَت لِي‬‫صلى هللا عليه وسلم‪ُ :‬‬
‫البخاري] فإذا بني عليها مسجد فاألمرـ أشد‪.‬‬
‫وقد خالف أكثر الناس هذه النواهي‪ ،‬وارتكبوا ما حذر منه‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم‪ .‬فوقعواـ بسبب ذلك في الشرك األكبر‪.‬‬
‫فبنوا على القبور مساجد وأضرحة ومقامات‪ .‬وجعلوها مزارات‬

‫‪115‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫تمارس عندها كل أنواع الشرك األكبر ‪-‬من الذبح لها‪ ،‬ودعاء‬
‫أصحابها‪ ،‬واالستغاثة بهم‪ ،‬وصرف النذور لهم‪ ...‬وغير ذلك‪.‬‬
‫قال العالمة ابن القيم رحمه هللا‪" :‬ومن جمع بين سنة رسول‬
‫هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬في القبور‪ ،‬وما أمر به ونهى عنه‪ ،‬وما‬
‫كان عليه أصحابه‪ ،‬وبين ما عليه أكثر الناس اليوم ‪ ،‬رأى أحدُهما‬
‫مضادًا لآلخر مناقضًا له؛ بحيث ال يجتمعان أبدًا‪.‬‬
‫فنهى رسول هللا صلى هللا عليه وسلم عن الصالة إلى القبور‪،‬‬
‫وهؤالء يصلون عندها‪ .‬ونهى عن اتخاذها مساجد‪ ،‬وهؤالء يبنون‬
‫عليها المساجد‪ ،‬ويسمونهاـ مشاهد؛ مضاهاة لبيوت هللا‪ .‬ونهى عن‬
‫إيقاد ال ُّسرُج عليها‪ ،‬وهؤالء يوقفون الوقوف على إيقاد القناديل‬
‫عليها‪ .‬ونهى عن أن تُتَّخ َذ عيدًا‪ ،‬وهؤالء يتخذونهاـ أعيادًا‬
‫ومناسك‪ ،‬ويجتمعون لها كاجتماعهم للعيد أو أكثر‪.‬‬
‫وأمر بتسويتها‪ ،‬كما روى مسلم في صحيحه عن أبي الهياج‬
‫األسدي‪ ،‬قال‪ :‬قال لي علي بنُ أبي طالب رضي هللا عنه‪" :‬أال‬
‫ك على ما بعثني عليه رسول هللا صلى هللا عليه وسلم؟ أن‬ ‫أبعثُ َ‬
‫التدع صورة إال طمستها‪ ،‬وال قبرًا مشرفًا إال س َّويته‪".‬‬
‫وفي صحيحه أيضًا عن ثُما َمة بن ُشف ّي قال‪" :‬كنا مع فضالة‬
‫بن عبيد بأرض الروم برودسـ فتوفيـ صاحب لنا‪ .‬فأمر فضالة‬
‫بقبره فسوي‪ ،‬ثم قال‪ :‬سمعت رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يأمر‬
‫بتسويتها‪".‬ـ‬
‫وهؤالء يبالغون في مخالفة هذين الحديثين‪ ،‬ويرفعونهاـ عن‬
‫األرض كالبيت‪ ،‬ويعقدون عليها القباب‪.‬‬
‫إلى أن قال‪" :‬فانظر إلى هذا التباين العظيم بين ما شرعه‬
‫رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وقصده من النهي عما تقدم‬

‫‪116‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ريب أن‬
‫َ‬ ‫ذكره في القبور‪ ،‬وبين ما شرعه هؤالء وقصدوه؟! وال‬
‫في ذلك من المفاسد ما يعجز العبد عن حصره‪".‬‬
‫ثم أخذ يذكر تلك المفاسد‪ ...‬إلى أن قال‪" :‬ومنها‪ :‬أن الذي‬
‫شرعه النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬عند زيارة القبور إنما هو‬
‫تذكر اآلخرة‪ ،‬واإلحسان إلى المزور بالدعاء له‪ ،‬والترحّم عليه‬
‫واالستغفار‪ ،‬وسؤال العافية له‪ .‬فيكون الزائر محسنًا إلى نفسه‬
‫وإلى ال َميّت‪.‬‬
‫فقلب هؤالء المشركون األمر‪ ،‬وعكسوا الدين‪ .‬وجعلوا‬
‫المقصود بالزيارة‪ :‬الشرك بالميت‪ ،‬ودعاءه والدعاء به‪ ،‬وسؤالـ‬
‫حوائجهم‪ ،‬واستنزال البركات منه‪ ،‬ونصره لهُم على األعداء‬
‫ونحو ذلك‪ .‬فصارواـ مسيئين إلى أنفسهم‪ ،‬وإلى الميت‪ ،‬ولو لم يكن‬
‫إال بحرمانه بركة ما شرعه تعالى من الدعاء له والترحمـ عليه‬
‫واالستغفار له‪ ".‬انتهى‪.‬‬
‫وبهذا يتّضح أن تقديم النذور والقرابين للمزارات شرك أكبر‪،‬‬
‫سببه مخالفة هَ ْدي النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬في الحالة التي‬
‫يجب أن تكون عليها القبور ‪-‬من عدم البناء عليها وإقامة المساجد‬
‫عليها‪ -‬ألنها لما بنيت عليها القباب وأقيمت حولها المساجد‬
‫والمزارات‪ ،‬ظن الجهال أن المدفونين فيها ينفعون أو يضرون‪،‬‬
‫وأنهم يُغيثون من استغاث بهم‪ ،‬ويقضون حوائج من التجأ إليهم‪.‬‬
‫فقدموا لهم النذورـ والقرابين‪ .‬حتى صارت أوثانًا تُعب ُد من دون‬
‫هللا‪.‬‬
‫وقد قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪( :‬اللهم اَل تَج َعل قَب ِري َوثنًا‬
‫يُعبَد) [رواه مالك وأحمد]‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وما دعا بهذا الدعاء إال ألنه سيحصل شيء من ذلك‪ .‬وقد‬
‫حصل عند القبور في كثير من بالد اإلسالم‪ .‬أما قبره فقد حماه هللا‬
‫ببركة دعائه صلى هللا عليه وسلم ‪-‬وإن كان قد يحصل في مسجده‬
‫شيء من المخالفات من بعض الجهال أو الخرافيين‪ .‬لكنهم ال‬
‫يقدرون على الوصولـ إلى قبره ألن قبره في بيته وليس في‬
‫المسجد‪ ،‬وهو محوطـ بالجدران‪.‬‬
‫كما قال العالمة ابن القيم رحمه هللا في نونيته‪:‬‬
‫فأجاب ربُّ العالمين دعاءه ** وأحاطه بثالثة الجدران‬

‫الفصل الرابع‪ :‬في بيان حكم تعظيم التماثيل والنصب‬


‫التذكارية‬
‫• تعريف التماثيل‪:‬‬
‫التماثيل جمع تمثال‪ .‬وهو الصورة المجسمة على شكل إنسان‬
‫أو حيوان‪ ،‬أو غيرهما مما فيه روح‪.‬‬
‫• تعريف النصب‪:‬‬
‫والنصب في األصل‪ :‬ال َعلَ ُم وأحجارـ كان المشركون يذبحون‬
‫عندها‪.‬‬
‫وال ُّنصُبُ التذكارية‪ :‬تماثي ٌل يُقيمونهاـ في الميادين ونحوها؛‬
‫إلحياء ذكرى زعيم أو ُمعظَّ ٍم‪.‬‬
‫حذر النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬من تصويرـ ذوات‬ ‫ولقد ّ‬
‫األرواح؛ وال سيما تصويرـ المعظَّمين من البشر كالعلماء والملوك‬
‫وال ُعبَّاد والقادة والرؤساء‪ ،‬سواء كان هذا التصوير عن طريقـ‬

‫‪118‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫رسم الصورة على لوحة أو ورقة‪ ،‬أو جدار أو ثوب‪ ،‬أو عن‬
‫طريق االلتقاط بااللة الضوئية المعروفة في هذا الزمان‪ ،‬أو عن‬
‫طريق النحت‪ ،‬وبناء الصورة على هيئة التمثال‪.‬‬
‫ونهى ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬عن تعليق الصورـ على الجدران‬
‫ونحوها‪ ،‬وعن نصب التماثيل ‪-‬ومنها‪ :‬النصب التذكارية ألن ذلك‬
‫وسيلة إلى الشرك‪ .‬فإن أول شرك حدث في األرض كان بسبب‬
‫التصويرـ ونصب الصور‪.‬‬
‫وذلك أنه كان في قوم نوح رجال صالحون‪ ،‬فلما ماتوا حزن‬
‫عليهم قومهم‪ ،‬فأوحى إليهم الشيطان‪ :‬أن انصبوا إلى مجالسهم‬
‫التي كانوا يجلسون فيها أنصابًا‪ ،‬وسموها بأسمائهم‪ ،‬ففعلوا ولم‬
‫تُعبد؛ حتى إذا هلك أولئك ونُسي العل ُم؛ عُبدت [رواه البخاري]‪.‬‬
‫بعث هللا نبيه نُوحًا ‪-‬عليه السالم‪ -‬ينهى عن هذا الشرك‬ ‫ول ّما َ‬
‫الذي حصل بسبب تلك الصور التي نصبت‪ ،‬امتنع قومه من قبول‬
‫دعوته‪ ،‬وأصروا على عبادة تلك الصورـ المنصوبة التي تحوّلت‬
‫إلى أوثان‪َ { :‬وقَالُوا ال تَ َذر َُّن آلِهَتَ ُك ْم َوال تَ َذر َُّن َو ًّدا َوال س َُواعًا َوال‬
‫ق َونَ ْسرًا}ـ [نوح‪.]23/‬‬ ‫يَ ُغ َ‬
‫وث َويَعُو َ‬
‫وهذا أسماء الرجال الذين صورت لهم تلك الصور على‬
‫أشكالهم إحياء لذكرياتهم‪ ،‬وتعظي ًما لهم‪.‬‬
‫فانظر ما آل إليه األمر بسبب هذه األنصاب التذكارية من‬
‫الشرك باهلل‪ ،‬ومعاندة رسله؟! م ّما سبب إهالكهم بالطوفان‪،‬‬
‫ومقتهم عند هللا وعند خلقه‪ ،‬مما يدلك على خطورة التصوير‬
‫ونصب الصور‪.‬‬
‫ولِ ِهذا لعن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬المصوّرين‪ .‬وأخبر‬
‫أنهم أش ُّد الناس عذابًا يوم القيامة‪ .‬وأمر بطمس الصور‪.‬ـ وأخبر أن‬

‫‪119‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫المالئكة ال تدخل بيتًا فيه صورة‪ .‬كل ذلك من أجل مفاسدها‪،‬‬
‫وشدة مخاطرهاـ على األمة في عقيدتها‪.‬‬
‫فإن أول شرك حدث في األرض كان بسبب نصب الصُّ ور‪،‬‬ ‫َّ‬
‫وسواء كان هذا النصب للصور والتماثيل في المجالس‪ ،‬أو‬
‫الميادين أو الحدائق‪ .‬فإنه محرم شرعًا ألنه وسيلة إلى الشرك‪،‬‬
‫وفسادـ العقيدة‪.‬‬
‫وإذا كان الكفار اليو َم يعملون هذا العمل ألنهم ليس لهُم عقيدة‬
‫يحافظون عليها‪ .‬فإنه ال يجوز للمسلمين أن يتشبّهواـ بهم‬
‫ويشاركوهم في هذا العمل؛ حفاظًا على عقيدتهم التي هي مصدرـ‬
‫قوتهم وسعادتهم‪.‬‬
‫وال يقال‪ :‬إن الناس تجاوزوا هذه المرحلة وعرفواـ التوحيد‬
‫والشرك؛ ألن الشيطان ينظر للجيل المستقبل حينما يظهر فيهم‬
‫الجهل‪ .‬كما عمل مع قومـ نوح ل ّما مات علماؤهم وفشاـ فيهم‬
‫الجهل؛ وألن الحي ال تؤمن عليه الفتنة‪ .‬كما قال إبراهيم عليه‬
‫ي أَن نَّ ْعبُ َد األَصْ نَا َم}ـ‪ .‬فخاف على نفسه‬
‫{واجْ نُ ْبنِيـ َوبَنِ َّ‬
‫السالم‪َ :‬‬
‫الفتنة‪.‬‬
‫قال بعض السلف‪" :‬ومن يأمن البالء بعد إبراهيم؟!"‬

‫الفصل الخامس‪ :‬في بيان حكم االستهزاء بالدين‬


‫واالستهانة بحرماته‬
‫االستهزاء بالدين ر ّدة عن اإلسالم‪ ،‬وخروج عن الدين بالكلية‪.‬‬
‫قال هللا تعالى‪{ :‬قُلْ أَبِاهَّلل ِ َوآيَاتِ ِه َو َرسُولِ ِه ُكنتُ ْم تَ ْستَه ِْز ُؤونَ * الَ‬
‫ُوا قَ ْد َكفَرْ تُم بَ ْع َد إِي َمانِ ُك ْم} [التوبة‪.]66 ،65/‬‬ ‫تَ ْعتَ ِذر ْ‬

‫‪120‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫هذه اآلية تدل على أن االستهزاء باهلل كفر؛ وأن االستهزاء‬
‫بالرسول كفر؛ وأن االستهزاء بآيات هللا كفر‪ .‬فمن استهزأـ بواحد‬
‫من هذه األمورـ فهو مستهزئ بجميعها‪ .‬والذيـ حصل من هؤالء‬
‫المنافقين‪ :‬أنهم استهزءوا بالرسولـ وصحابته‪ ،‬فنزلت اآلية‪.‬‬
‫يستخ ُّفون بتوحيدـ هللا‬ ‫ِ‬ ‫فاالستهزاء بهذه األمور متالزم‪ .‬فالذين‬
‫تعالى‪ ،‬ويعظمون دعا َء غيره من األموات؛ وإذا أمروا بالتوحيدـ‬
‫ونُهوا عن الشرك استخفُّوا بذلك‪.‬‬
‫َك إِال هُ ُز ًوا أَهَ َذا الَّ ِذي‬
‫كما قال تعالى‪َ { :‬وإِ َذا َرأَوْ كَ إِن يَتَّ ِخ ُذون َـ‬
‫ُضلُّنَا ع َْن آلِهَتِنَا لَوْ ال أَن َ‬
‫صبَرْ نَا َعلَ ْيهَا}‬ ‫ث هَّللا ُ َر ُسواًل * إِن َكا َد لَي ِ‬
‫بَ َع َ‬
‫[الفرقان‪.]42 ،41/‬‬
‫فاستهزءواـ بالرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬ل ّما نهاهم عن‬
‫الشرك‪ .‬وما زال المشركون يعيبون األنبياء ويصفونهم بالسفاهة‬
‫والضالل والجنون‪ ،‬إذا دعوهم إلى التوحيد؛ ل َما في أنفسهم من‬
‫تعظيم الشرك‪.‬‬
‫وهكذا تجد من فيه شبه منهم؛ إذا رأى من يدعو إلى التوحيدـ‬
‫استهزأ بذلك‪ .‬ل َما عنده من الشرك‪.‬‬
‫ُون هَّللا ِ أَندَادًا‬
‫اس َمن يَتَّ ِخ ُذ ِمن د ِ‬
‫{و ِمنَ النَّ ِ‬
‫قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫ي ُِحبُّونَهُ ْم َكحُبِّ هَّللا ِ} [البقرة‪.]165/‬‬
‫فمن أحبَّ مخلوقًاـ مثل ما يُحبّ هللا فهو مشرك‪ .‬ويجبُ الفرق‬
‫القبور‬
‫َ‬ ‫بين الحب في هللا‪ ،‬والحب مع هللا‪ .‬فهؤالء الذين اتخذوا‬
‫أوثانًا‪ ،‬تجدهم يستهزئون بما هو من توحيد هللا وعبادته‪.‬‬
‫ويعظمون ما اتخذوه من دون هللا شفعاء‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ويَحلِفُ أحدُهم باهلل اليمين الغموس كاذبًا‪ ،‬وال يجترئ أن‬
‫يحلف بشيخه كاذبًا‪ .‬وكثير من طوائف متعددة ترى أحدهم يرى‬
‫أن استغاثته بالشيخ ‪-‬إما عند قبره أو غير قبره‪ -‬أنفع له من أن‬
‫يدعو هللا في المسجد عند الس ََّحر!‬
‫ويستهزئـ بمن يعدل عن طريقته إلى التوحيد‪ ،‬وكثيرـ منهم‬
‫يخربون المساجد‪ ،‬ويعمرون المشاهد‪ ،‬فهل هذا إال من استخفافهمـ‬
‫باهلل وبآياته ورسوله‪ ،‬وتعظيمهم للشرك ؟ وهذا كثير وقوعه في‬
‫القبوريين اليوم‪.‬‬
‫• أنواع االستهزاء‪:‬‬
‫واالستهزاء على نوعين‪:‬‬
‫أحدهما‪ :‬االستهزاء الصريح‪ .‬كالذي نزلت اآلية فيه‪ .‬وهو‬
‫قولهم‪" :‬ما رأينا مثل قرائنا هؤالء‪ ،‬أرغب بطونًا‪ ،‬وال أكذب‬
‫أل ُسنًا‪ ،‬وال أجبن عند اللقاء‪ "...‬أو نحو ذلك من أقوال المستهزئين‪.‬‬
‫دين خامس‪ "...‬وقول اآلخر‪" :‬دينكم‬‫كقول بعضهم‪" :‬دينكمـ هذا ٌ‬
‫أخرق‪ "...‬وقول اآلخر إذا رأى اآلمرين بالمعروفـ والناهين عن‬
‫المنكر‪" :‬جاءكم أهل الدِّين‪ "...‬من باب السُّخرية بهم‪ .‬وما أشبه‬
‫ذلك مما ال يُحصى إال بكلفة ‪-‬مما هو أعظم من قول الذين نزلت‬
‫فيهم اآلية‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬غير الصريح‪ .‬وهو البحر الذي ال ساحل له؛‬
‫مثل‪ :‬الرمز بالعين‪ ،‬وإخراج اللسان‪ ،‬وم ّد الشفعة‪ ،‬والغمز باليد‬
‫عند تالوة كتاب هللا‪ ،‬أو سنة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬أو‬
‫عند األمر بالمعروف‪ ،‬والنهي عن المنكر ‪.‬‬
‫"إن اإلسالم ال يَصلُ ُح للقرن‬
‫ومثل هذا ما يقوله بعضهم‪َّ :‬‬
‫تأخ ٌر ورجعيةٌ‪ ،‬وأن‬
‫العشرين؛ وإنما يصلح للقُرون الوسطى‪ ،‬وأنه ُّ‬

‫‪122‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫فيه قسوة ووحشية؛ في عقوبات الحدودـ والتعازير‪ ،‬وأنه ظَلَم‬
‫المرأة حقوقها حيث أباح الطالق‪ ،‬وتعدد الزوجات‪".‬ـ‬
‫وقولهم‪" :‬الحك ُم بالقوانين الوضعية أحسنُ للناس من الحكم‬
‫باإلسالم‪".‬‬
‫ويقولون في الذي يدعو إلى التوحيد‪ ،‬ويُنكر عبادة القبور‬
‫واألضرحة‪" :‬هذا متطرف‪،‬ـ أو يُريد أن يفرق جماعة‬
‫المسلمين‪ "...‬أو‪" :‬هذا وهَّابي‪ ،‬أو مذهب خامس‪ "...‬وما أشبه هذه‬
‫األقوال التي كلها سب للدين وأهله‪ ،‬واستهزاء بالعقيدة الصحيحة‪،‬‬
‫وال حول وال قوة إال باهلل‪.‬‬
‫ومن ذلك‪ :‬استهزاؤهم بمن تم َّسكَ بسنة من سنن الرسول‬
‫‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬فيقولون‪" :‬الدين ليس في ال َّش ِ‬
‫عر‪"...‬‬
‫استهزا ًء بإعفاء اللحية‪ ،‬وما أشبه هذه األلفاظ الوقحة‪.‬‬

‫‪ ‬الفصل السادس‪ :‬الحكم بغير ما أنزل هللا‬


‫• مقتضى اإليمان‪:‬‬
‫من مقتضى اإليمان باهلل تعالى وعبادته‪ :‬الخضوعـ لحكمه‬
‫والرضا بشرعه‪ ،‬والرجوعـ إلى كتابه وسنة رسوله عند االختالف‬
‫في األقوال‪ ،‬وفيـ العقائد وفيـ الخصومات‪ ،‬وفي الدماء واألموال‪،‬‬
‫فإن هللا هو الح َك ُم وإليه الحُك ُم‪ .‬فيجبُ على الحكام‬ ‫وسائر الحقوق‪َّ .‬‬
‫أن يحكمواـ بما أنزل هللا‪ .‬ويجب على الرَّعيَّة أن يتحاكمواـ إلى ما‬
‫أنزل هللا في كتابه‪ ،‬وسنة رسوله‪.‬‬
‫قال تعالى في حق الوالة‪{ :‬إِ َّن هَّللا َ يَأْ ُم ُر ُك ْم أَن تُ َؤ ُّد ْ‬
‫وا األَ َمانَا ِ‬
‫ت‬
‫وا بِ ْال َع ْد ِل} [النساء‪.]58/‬‬ ‫اس أَن تَحْ ُك ُم ْ‬ ‫إِلَى أَ ْهلِهَا َوإِ َذا َح َك ْمتُم بَ ْينَ النَّ ِ‬

‫‪123‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ُوا هَّللا َ َوأَ ِطيع ْ‬
‫ُواـ‬ ‫وا أَ ِطيع ْ‬ ‫وقال في حق الرعية‪{ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫ال َّرسُو َل َوأُوْ لِي األَ ْم ِر ِمن ُك ْم فَإِن تَنَازَ ْعتُ ْم فِي َش ْي ٍء فَ ُر ُّدوهُ إِلَى هَّللا ِ‬
‫اآلخ ِر َذلِكَ َخ ْي ٌر َوأَحْ َسنُ‬
‫َوال َّرسُو ِل إِن ُكنتُ ْم تُ ْؤ ِمنُونَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَوْ ِم ِ‬
‫تَأْ ِوياًل } [النساء‪.]59/‬‬
‫ثم بيّن أنه ال يجتمع اإليمان مع التحاكم إلى غير ما أنزل هللا‪.‬‬
‫نز َل إِلَ ْيكَ‬ ‫ُ‬ ‫فقال تعالى‪{ :‬أَلَ ْم ت ََر إِلَى الَّ ِذينَ يَ ْز ُع ُمونَ أَنَّهُ ْم آ َمنُ ْ‬
‫وا بِ َما أ ِ‬
‫ُوا‬ ‫ُ‬
‫ت َوقَ ْد أ ِمر ْ‬ ‫وا إِلَى الطَّا ُغو ِ‬ ‫نز َل ِمن قَ ْبلِكَ ي ُِري ُدونَ أَن يَت ََحا َك ُم ْـ‬ ‫ُ‬
‫َو َما أ ِ‬
‫ضالَاًل بَ ِعيدًا} [النساء‪/‬‬ ‫ُضلَّهُ ْم َ‬ ‫ُوا بِ ِه َوي ُِري ُـد ال َّش ْيطَانُ أَن ي ِ‬ ‫أَن يَ ْكفُر ْ‬
‫‪.]60‬‬
‫وك فِي َما‬‫ون َحتَّ َى ي َُح ِّك ُم َـ‬ ‫ك الَ ي ُْؤ ِمنُ َـ‬ ‫إلى قوله تعالى‪{ :‬فَالَ َو َربِّ َ‬
‫ضيْتَ َويُ َسلِّ ُمواْ‬ ‫ُوا فِي أَنفُ ِس ِه ْم َح َرجًا ِّم َّما قَ َ‬ ‫َش َج َر بَ ْينَهُ ْم ثُ َّم الَ يَ ِجد ْ‬
‫تَ ْسلِي ًما} [النساء‪.]65/‬‬
‫فنفى سُبحانه ‪-‬نفيًا مؤ َّكدًا بالقسم‪ -‬اإليمانَ ع ّمن لم يتحاكم إلى‬
‫الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬ويرضى بحكمه ويسلمـ له‪ .‬كما أنه‬
‫حكم ب ُكفر الوالة الذين ال يحكمون بما أنزل هللا‪ ،‬وبظلمهم وفسقهم‪.‬‬
‫ك هُ ُم ْال َكافِرُونَ }‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬و َمن لَّ ْم يَحْ ُكم بِ َما أَنزَ َل هَّللا ُ فَأُوْ لَـئِ َ‬
‫[المائدة‪.]44/‬‬
‫ك هُ ُم الظَّالِ ُمونَ } [المائدة‪/‬‬ ‫{ َو َمن لَّ ْم يَحْ ُكم بِ َما أنزَ َل هَّللا ُ فَأُوْ لَـئِ َـ‬
‫‪.]45‬‬
‫اسقُونَ } [المائدة‪/‬‬ ‫ك هُ ُم ْالفَ ِ‬ ‫{ َو َمن لَّ ْم يَحْ ُكم بِ َما أَنزَ َل هَّللا ُ فَأُوْ لَـئِ َـ‬
‫‪.]47‬‬

‫‪124‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وال بُ َّد من الحكم بما أنزل هللا‪ ،‬والتحا ُكم إليه في جميع موار ِـد‬
‫النّزاع في األقوال االجتهادية بين العلماء‪ .‬فال يقبل منها إال ما د ّل‬
‫عليه الكتاب والسنة ‪-‬من غير تعصب ل َمذهب‪ ،‬وال تحيّز إلمام‪.‬‬
‫وفي ال ُمرافعات والخصومات في سائر الحقوق ال في األحوال‬
‫الشخصية فقط‪ .‬كما في بعض الدول التي تنتسب إلى اإلسالم‪َّ .‬‬
‫فإن‬
‫وا ا ْد ُخلُ ْ‬
‫وا فِي‬ ‫اإلسالم ُك ٌّل ال يتج َّزأ‪ .‬قال تعالى‪{ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫الس ِّْل ِم َكآفَّةً} [البقرة‪.]208/‬‬
‫ب َوتَ ْكفُرُونَ بِبَع ٍ‬
‫ْض}‬ ‫ْض ْال ِكتَا ِ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬أَفَتُ ْؤ ِمنُ َـ‬
‫ون بِبَع ِ‬
‫[البقرة‪.]85/‬‬
‫وكذلك يجب على أتباع المذاهب والمناهج المعاصرة أن‬
‫يردوا أقوال أئمتهم إلى الكتاب والسنة‪ .‬فما وافقهما أخذوا به‪ ،‬وما‬
‫خالفهما ردوه دون تعصب أو تحيّز‪ .‬وال سيما في أمور العقيدة‪،‬‬
‫فإن األئمة ‪-‬رحمهم هللا‪ -‬يوصون بذلك‪ .‬وهذا مذهبهم جميعًا‪.‬‬
‫فمن خالف ذلك فليس متبعًا لهم‪ ،‬وإن انتسب إليهم‪ .‬وهو ممن‬
‫وا أَحْ بَا َرهُ ْم َو ُر ْهبَانَهُْـم أَرْ بَابًا ِّمن دُو ِن هَّللا ِ‬
‫قال هللا فيهم‪{ :‬اتَّ َخ ُذ ْـ‬
‫يح ا ْبنَ َمرْ يَ َم}ـ [التوبة‪.]31/‬‬ ‫َو ْال َم ِس َ‬
‫فليست اآلية خاصة بالنصارى‪ ،‬بل تتناولـ كل من فعل مثل‬
‫فعلهم‪ ،‬فمن خالف ما أمر هللا به ورسوله ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬‬
‫بأن حكم بين الناس بغير ما أنزل هللا‪ ،‬أو طلب ذلك اتباعًا لما‬
‫زَ‬
‫يهواه ويريده‪ ،‬فقد خلع ربقة اإلسالم واإليمان من عنقه‪ ،‬وإن ع َم‬
‫أنه مؤمن‪.‬‬
‫فإن هللا تعالى أنكر على من أراد ذلك‪ ،‬وأكذبهمـ في زعمهم‬
‫اإليمان‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫نز َل‬ ‫ُ‬ ‫فقال تعالى‪{ :‬أَلَ ْم ت ََر إِلَى الَّ ِذينَ يَ ْز ُع ُمونَ أَنَّهُ ْم آ َمنُ ْ‬
‫وا بِ َما أ ِ‬
‫ت َوقَ ْد‬ ‫وا إِلَى الطَّا ُغو ِ‬ ‫ك ي ُِري ُدونَ أَن يَت ََحا َك ُم ْ‬‫نز َل ِمن قَ ْبلِ َ‬ ‫ُ‬ ‫إِلَ ْي َ‬
‫ك َو َما أ ِ‬
‫ضالَاًل بَ ِعيدًا}‪.‬‬ ‫ُضلَّهُ ْم َ‬ ‫ُوا بِ ِه َوي ُِري ُـد ال َّش ْيطَانُ أَن ي ِ‬ ‫أُ ِمر ْ‬
‫ُوا أَن يَ ْكفُر ْ‬
‫ل َما في ضمن قوله‪( :‬يَ ْز ُع ُمونَ ) من نفي إيمانهم‪َّ ،‬‬
‫فإن‬
‫(يَ ْز ُع ُمونَ ) إنما يقال غالبًا ل َمن ا ّدعى دعوى هو فيها كاذب‪،‬‬
‫ُوا‬ ‫ُ‬
‫{وقَ ْد أ ِمر ْ‬ ‫ل ُمخالفته لموجبها‪ ،‬وعمله بما ينافيها‪ .‬يحقق هذا قوله‪َ :‬‬
‫ُوا بِ ِه} ألن ال ُكفر بالطاغوت ركن التوحيد‪ ،‬كما في آية‬ ‫أَن يَ ْكفُر ْ‬
‫البقرة‪ .‬فإذا لم يَحصُلْ هذا الركن‪ ،‬لم يكن ُمو ِّحدًا‪.‬‬
‫والتوحي ُـد هو أساس اإليمان الذي تَصلح به جميع األعمال‪،‬‬
‫وتفسد بعدمه‪ .‬كما أن ذلك بي ٌِّن في قوله‪{ :‬فَ َم ْن يَ ْكفُرْ بِالطَّا ُغو ِ‬
‫ت‬
‫أن التَّحا ُك َم إلى‬ ‫َوي ُْؤ ِمن بِاهَّلل ِ فَقَ ِد ا ْستَ ْم َسكَ بِ ْالعُرْ َو ِة ْال ُو ْثقَ َى}‪ .‬وذلك َّ‬
‫ٌ‬
‫إيمان به‪.‬‬ ‫الطَّاغو ِ‬
‫ت‬
‫ي اإليمان ع ّمن لم يحكم بما أنزل هللا‪ ،‬يدلُّ على أن تحكيم‬ ‫ونَف ُ‬
‫شرع هللا إيمان وعقيدة‪ ،‬وعبادة هلل يجب أن يدين بها المسلم‪ .‬فال‬
‫ع هللا من أجل أن تحكيمه أصلح للناس وأضبط لألمن‬ ‫يُح َّك ُم شر ُ‬
‫بعض الناس يركز على هذا الجانب‪ ،‬وينسىـ الجانب‬ ‫َ‬ ‫فقط‪َّ .‬‬
‫فإن‬
‫األول‪.‬‬
‫وهللا سبحانه قد عاب على من يُح ِّك ُم شرع هللا ألجل مصلحة‬
‫{وإِ َذا ُدعُوا إِلَى‬
‫نفسه‪ ،‬من دُون تعبُّ ٍد هلل تعالى بذلك‪ .‬فقال سبحانه‪َ :‬‬
‫َّ‬ ‫هَّللا ِ َو َرسُولِ ِه لِيَحْ ُك َم بَ ْينَهُ ْم إِ َذا فَ ِري ٌـ‬
‫ق ِّم ْنهُم ُّمع ِ‬
‫ْرضُونَ * َوإِن يَ ُكن لهُ ُم‬
‫ق يَأْتُوا إِلَ ْي ِه ُم ْذ ِعنِينَ } [النور‪.]49 ،48/‬‬ ‫ْال َح ُّ‬
‫فهم ال يهت ّمون إال بما يهوون‪ .‬وما خالف هواهم أعرضواـ‬
‫عنه‪ .‬ألنهم ال يتعبدون هلل بالتحاكمـ إلى رسوله صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫• حكم من حكم بغير ما أنزل هللا‪:‬‬
‫{و َمن لَّ ْم يَحْ ُكم بِ َما أَنزَ َل هَّللا ُ فَأُوْ لَـئِ َ‬
‫ك هُ ُم‬ ‫قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫ْال َكافِرُونَ } [المائدة‪.]44/‬‬
‫في هذه اآلية الكريمة‪َّ :‬‬
‫أن الحكم بغير ما أنزل هللا كفر‪ .‬وهذا‬
‫الكفر تارةً يكون كفرًا أكبر ينقل عن ال ِملة‪ ،‬وتارة يكون كفرًا‬
‫أصغر ال يُخرج من الملة‪ .‬وذلك بحسب حال الحاكم‪ .‬فإنه إن‬
‫أن الحكم بما أنزل هللا غير واجب‪ ،‬وأنه مخيَّر فيه‪ ،‬أو‬‫اعتقد َّ‬
‫استهان بحكم هللا‪ ،‬واعتقد أن غيره من القوانين والنظمـ الوضعية‬
‫أحسن منه أو مساويًاـ له‪ ،‬أو أنه ال يصلح لهذا الزمان‪ ،‬أو أراد‬
‫بالحكم بغير ما أنزل هللا استرضا َء الكفار والمنافقين‪ -‬فهذا كفر‬
‫أكبر‪.‬‬
‫وجوب الحكم بما أنزل هللا‪ ،‬وعلمه في هذه الواقعة‬
‫َ‬ ‫وإن اعتقد‬
‫وعدل عنه‪ ،‬مع اعترافه بأنه مستحقـ للعقوبة‪ ،‬فهذا عاص‪،‬‬
‫ويُس َّمى كاف ًراـ كفرًا أصغر‪ .‬وإن جهل حكم هللا فيها مع بذل جهده‪،‬‬
‫واستفراغ وسعه في معرفة الحكم‪ ،‬وأخطأه‪ ،‬فهذا ُمخطئ له أجر‬
‫على اجتهاده‪ ،‬وخطؤه مغفور ‪ .‬وهذا في الحكم في القضية‬
‫الخاصة‪.‬‬
‫وأما الحكم في القضايا العامة فإنه يختلف‪ .‬قال شيخ اإلسالم‬
‫"فإن الحاكم إذا كان ديِّنًا ‪-‬لكنَّهُ حكم بغير علم‪ -‬كان‬
‫َّ‬ ‫ابن تيمية ‪:‬‬
‫من أهل النار‪ .‬وإن كان عال ًما لكنه حكم بخالف الحق الذي يعلمه‪،‬‬
‫كان من أهل النار‪ .‬وإذا حكم بال عدل وال علم أولى أن يكون من‬
‫أهل النار‪ .‬وهذا إذا حكم في قضية لشخص‪.‬‬
‫وأما إذا حكم حُك ًما عا ّمًا في دين المسلمين؛ فجعل الحق باطاًل ‪،‬‬
‫والباطل حقًّا‪ ،‬والسنة بدعة‪ ،‬والبدعة سنة‪ ،‬والمعروف منكرًا‪،‬‬

‫‪127‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫والمنكر معروفًا‪ ،‬ونهى عما أمر هللا به ورسوله‪ ،‬وأمر بما نهى‬
‫هللا عنه ورسوله؛ فهذا لون آخر يَح ُكم فيه رب العالمين‪ ،‬وإله‬
‫المرسلين‪ ،‬مالك يوم الدين؛ الذي له الحمد في األولى واآلخرة‪:‬‬
‫{لَهُ ْال ُح ْك ُم َوإِلَ ْي ِه تُرْ َجعُونَ } [القصص‪.]88/‬‬
‫ق لِي ْ‬
‫ُظ ِه َرهُ َعلَى الد ِ‬
‫ِّين‬ ‫ين ْال َح ِّ‬
‫{هُ َو الَّ ِذي أَرْ َس َل َرسُولَهُ بِ ْالهُ َدىـ َو ِد ِ‬
‫ُكلِّ ِه َو َكفَى بِاهَّلل ِ َش ِهيدًا} [الفتح‪".)]28/‬‬
‫ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم بما أنزل‬ ‫َ‬ ‫وقال أيضًا‪" :‬ال‬
‫هللا على رسوله فهوـ كافر‪ .‬فمن استحل أن يحكم بين الناس بما‬
‫يراه هو عداًل من غير اتباع لما أنزل هللا‪ ،‬فهوـ كافر‪.‬‬
‫فإنّهُ ما من أمة إال وهي تأمر بالحكم بالعدل‪ .‬وقدـ يكون العدل‬
‫في دينها ما يراه أكابرهم‪ ،‬بل كثير من المنتسبين إلى اإلسالم؛‬
‫يحكمون بعاداتهم التي لم ينزلها هللا‪ .‬كسواليف البادية (أي عادات‬
‫من سلفهم)‪ ،‬وكانواـ األمرا َء ال ُمطاعين‪ ،‬ويرون أن هذا هو الذي‬
‫ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة‪ .‬وهذا هو الكفر‪.‬‬
‫فإن كثيرًا من الناس أسلموا؛ ولكن ال يحكمون إال بالعادات‬
‫الجارية؛ التي يأمر بها المطاعون‪ .‬فهؤالء إذا عرفوا أنه ال يجوزـ‬
‫لهم الحكم إال بما أنزل هللا‪ ،‬فلم يلتزموا ذلك‪ ،‬بل است ََحلّوا أن‬
‫يحكموا بخالف ما أنزل هللا فهم كفار‪ ".‬انتهى‪.‬‬
‫وقال الشيخ محمد بن إبراهيم‪" :‬وأ ّما الذي قيل فيه أنه كفر‬
‫وأن حكم‬‫ص‪َّ ،‬‬‫دون كفر‪ ،‬إذا حاكم إلى غير هللا مع اعتقاد أنه عا ٍ‬
‫هللا هو الحق‪ .‬فهذا الذي يصدرـ منه المرة ونحوها‪ .‬أما الذي جعل‬
‫قوانين بترتيب وتخضيع‪ ،‬فهو ُكفرٌ‪ ،‬وإن قالوا‪ :‬أخطأنا وحك ُم‬
‫الشرع أعدل؛ فهذا كفر ناقل عن ال ِملة‪".‬‬

‫‪128‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ق رحمه هللا بينَ الحكم الجزئي الذي ال يتكرر‪ ،‬وبين الحكم‬ ‫فف َّر َ‬
‫العام الذي هو المرجع في جميع األحكام‪ ،‬أو غالبها‪ .‬وق ّررـ أن هذا‬
‫الكفر ناقل عن الملة مطلقًا‪ .‬وذلك ألن من نحى الشريعة‬
‫اإلسالمية وجعل القانون الوضعيـ بدياًل منها‪ .‬فهذا دليل على أنه‬
‫يرى أن القانون أحسن وأصلح من الشريعة‪ .‬وهذا ال ش ّ‬
‫ك أنه كفر‬
‫أكبر يُخر ُج من ال ِملَّة ويُناقضُ التوحيد‪.‬‬

‫‪ ‬الفصل السابع‪ :‬ادعاء حق التشريع والتحليل والتحريم‬


‫• تشريع األحكامـ حق هلل‪:‬‬
‫تشريع األحكام التي يسير عليها العباد في عباداتهم‬
‫ومعامالتهمـ وسائر شئونهم‪،‬ـ والتي تفصل النزاع بينهم وتُنهي‬
‫الخصومات‪ ،‬حق هلل تعالى رب الناس‪ ،‬وخالق الخلق‪{ :‬أَالَ لَهُ‬
‫ك هَّللا ُ َربُّ ْال َعالَ ِمينَ } [األعراف‪.]54/‬‬ ‫ق َواألَ ْم ُـر تَبَ َ‬
‫ار َ‬ ‫ْال َخ ْل ُ‬
‫وهو الذي يعلم ما يصلح عباده‪ ،‬فيشرعه لهم‪ ،‬فبحكم ربوبيته‬
‫ع لهم‪ ،‬وبحكم عبوديتهم له يتقبلون أحكامه‪ ،‬والمصلحةُ‬ ‫لهم يش ِّر ُ‬
‫في ذلك عائدة إليهم‪ .‬قال تعالى‪{ :‬فَإِن تَنَازَ ْعتُ ْم فِي َش ْي ٍء فَ ُر ُّدوهُ‬
‫إِلَى هَّللا ِ َوال َّرسُو ِـل إِن ُكنتُ ْم تُ ْؤ ِمنُونَ بِاهَّلل ِ َو ْاليَوْ ِم ِ‬
‫اآلخ ِر َذلِكَ خَ ْي ٌر‬
‫َوأَحْ َسنُ تَأْ ِوياًل }ـ [النساء‪.]59/‬‬
‫اختَلَ ْفتُ ْم فِي ِه ِمن َش ْي ٍء فَ ُح ْك ُمهُ إِلَى هَّللا ِ َذلِ ُك ُم هَّللا ُ‬
‫وقال تعالى‪َ { :‬و َما ْ‬
‫َربِّي} [الشورى‪/‬ـ‪.]10‬‬
‫واستنكرـ سبحنه أن يتخ َذ العباد ُمشرِّ عًا غيره‪ ،‬فقال‪{ :‬أَ ْم لَهُ ْم‬
‫ِّين َما لَ ْم يَأْ َذن بِ ِه هَّللا ُ} [الشورى‪.]21/‬‬ ‫ُش َر َكا ُء َش َرعُوا لَهُم ِّمنَ الد ِ‬
‫• حكم َمن قبل غير تشريع هللا‪:‬‬

‫‪129‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫فمن قبل تشريعًا غير تشريع هللا‪ ،‬فقد أشرك باهلل تعالى‪ .‬وما لم‬
‫يشرعه هللا ورسوله من العبادات‪ ،‬فهو بدعة‪ ،‬وكل بدعة ضاللة‪.‬‬
‫قال صلى هللا عليه وسلم‪َ ( :‬من أحدَث في أم ِرنا هذا َما لَ َ‬
‫يس‬
‫ِمنه ف ُهو َردّ) [الحديث رواه البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫يس َعلَيه أم ُرنا ف ُهو َردّ) [رواه‬
‫وفي رواية‪َ ( :‬من َع ِمل َع َماًل لَ َ‬
‫مسلم]‪.‬‬
‫وما لم يشرعه هللا وال رسوله في السياسة والحكم بين الناس‪،‬‬
‫فهو حكم الطاغوت‪ ،‬وحكم الجاهلية‪{ :‬أَفَ ُح ْك َم ْال َجا ِهلِيَّ ِة يَ ْب ُغونَ َو َم ْن‬
‫أَحْ َسنُ ِمنَ هَّللا ِ ُح ْك ًما لِّقَوْ ٍم يُوقِنُونَ } [المائدة‪.]50/‬‬
‫• التحليل والتحريم حق هلل‪:‬‬
‫وكذلك التحليل والتحريم‪ ،‬حق هلل تعالى‪ .‬ال يجوز ألح ٍد أن‬
‫{والَ تَأْ ُكلُ ْ‬
‫وا ِم َّما لَ ْم ي ُْذ َك ِر ا ْس ُم هَّللا ِ َعلَ ْي ِه‬ ‫يُشاركه فيه‪ .‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫اطينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْ لِيَآئِ ِه ْم لِيُ َجا ِدلُو ُك ْـم َوإِ ْن‬ ‫ق َوإِ َّن ال َّشيَ ِ‬
‫َوإِنَّهُ لَفِ ْس ٌ‬
‫أَطَ ْعتُ ُموهُْـم إِنَّ ُك ْم لَ ُم ْش ِر ُكونَ }ـ [األنعام‪.]121/‬‬
‫فجعل سبحانه طاعة الشياطين وأوليائهمـ في تحليل ما حرّم‬
‫هللا‪ :‬شر ًكا به سبحانه‪ .‬وكذلك من أطاع العلماء واألمراء في‬
‫تحريم ما أحل هللا‪ ،‬أو تحليل ما حرم هللا‪ ،‬فقد اتخذهم أربابًا من‬
‫دون هللا‪.‬‬
‫ارهُ ْم َو ُر ْهبَانَهُ ْم أَرْ بَابًا ِّمن د ِ‬
‫ُون هَّللا ِ‬ ‫وا أَحْ بَ َ‬‫لقول هللا تعالى‪{ :‬اتَّخَ ُذ ْ‬
‫ُوا إِلَـهًا َوا ِحدًا الَّ إِلَـهَ إِالَّ هُ َو‬ ‫يح ا ْبنَ َمرْ يَ َم َو َما أُ ِمر ْ‬
‫ُوا إِالَّ لِيَ ْعبُد ْـ‬ ‫َو ْال َم ِس َ‬
‫ُس ْب َحانَهُ َع َّما يُ ْش ِر ُكونَ }ـ [التوبة‪.]31/‬‬

‫‪130‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وفي الحديث أن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬تال هذه اآلية‬
‫ي بن حاتم الطائيـ ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬فقال‪" :‬يا رسول هللا‪،‬‬ ‫على عَد ّ‬
‫لسنا نعبُدُهم‪".‬ـ‬
‫(أليس يُحلّون لَ ُكم َما ح َّرم هللا‬
‫َ‬ ‫قال صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫فتُ ِحلّونه‪ ،‬ويُح ّرمون َما أح ّل هللا فتُح ّرمونَه؟!)‪.‬‬
‫قال‪" :‬بلى‪".‬‬
‫قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪( :‬فَتِلكَ ِعبا َدتُهم) [رواه‬
‫الترمذي وابن جريرـ وغيرهما]‪.‬‬
‫فصارت طاعتُهم في التحليل والتحريم من دون هللا عبادة لهم‬
‫ك أكب ُر يُنافي التوحيدـ الذي هو مدلول شهادة أن‬ ‫وشر ًكا‪ .‬وهو شر ٌ‬
‫ق هلل‬‫أن التحليل والتحريمـ ح ٌّ‬ ‫فإن ِم ْن مدلولهما‪َّ :‬‬
‫ال إله إال هللا‪ّ .‬‬
‫تعالى‪.‬‬
‫وإذا كان هذا فيمن أطاع العلماء وال ُعبَّاد في التحليل والتحريم‬
‫الذي يخالف شرع هللا وهو يعلم هذه ال ُمخالفة‪ ،‬مع أنهم أقرب إلى‬
‫العلم والدين‪ ،‬وقدـ يكونُ خطؤهمـ عن اجتهاد لم يصيبوا فيه الحق‪،‬‬
‫وهم مأجورون عليه؛ فكيفَ بمن يُطي ُع أحكام القوانين الوضعية‬
‫التي هي من صنع الكفار وال ُملحدين‪ ،‬يجلبها إلى بالد المسلمين‪،‬‬
‫ويحكم بها بينهم؟ فال حول وال قوة إال باهلل‪.‬‬
‫َّ‬
‫إن هذا قد اتخذ الكفار أربابًاـ من دون هللا‪ ،‬يُشرِّ عونَ له‬
‫األحكام‪ ،‬ويبيحونَ له الحرام‪ ،‬ويحكمون بين األنام‪.‬‬

‫‪ ‬الفصل الثامن‪ :‬حكم االنتماء إلى المذاهب اإللحادية‬


‫واألحزاب الجاهلية‬
‫‪131‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫‪1‬ـ االنتماء إلى ال َمذاهب اإللحادية كالشيوعية‪ ،‬والعلمانية‪،‬‬
‫والرأسمالية‪ ،‬وغيرها من مذاهب الكفر‪ ،‬ر ّدة عن دين اإلسالم‪.‬‬
‫فإن كانَ ال ُمنتمي إلى تلك المذاهب ي ّدعي اإلسالم‪ ،‬فهذا من‬ ‫ْ‬
‫النفاق األكبر‪ .‬فإن المنافقين ينتمون إلى اإلسالم في الظاهر‪ ،‬وهم‬
‫مع الكفار في الباطن‪.‬‬
‫وا آ َمنَّا َوإِ َذا َخلَوْ ْا‬ ‫وا قَالُ ْ‬‫وا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫{وإِ َذا لَقُ ْ‬
‫كما قال تعالى فيهم‪َ :‬‬
‫وا إِنَّا َم َع ْك ْم إِن َما نَحْ نُ ُم ْستَه ِْز ُؤونَ } [البقرة‪.]14/‬‬
‫َّ‬ ‫إِلَى َشيَا ِطينِ ِه ْم قَالُ ْ‬
‫وقال تعالى‪{ :‬الَّ ِذينَ يَت ََربَّصُونَ بِ ُك ْم فَإِن َكانَ لَ ُك ْم فَ ْت ٌح ِّمنَ هَّللا ِ‬
‫وا أَلَ ْم نَ ْستَحْ ِو ْـذ‬
‫صيبٌ قَالُ ْ‬ ‫وا أَلَ ْم نَ ُكن َّم َع ُك ْم َوإِن َكانَ لِ ْل َكافِ ِرينَ نَ ِ‬ ‫قَالُ ْ‬
‫َعلَ ْي ُك ْم َونَ ْمنَ ْع ُكمـ ِّمنَ ْال ُم ْؤ ِمنِينَ } [النساء‪.]141/‬‬
‫فهؤالء ال ُمنافقون ال ُمخادعون‪ .‬لكل منهم وجهان‪ :‬وجهٌ يلقى به‬
‫ال ُمؤمنين‪ ،‬ووجه ينقلب به إلى إخوانه من ال ُملحدين‪ .‬وله لسانان‪:‬‬
‫أحدُهما يقبله بظاهره ال ُمسلمون‪ ،‬واآلخر يُترجمـ عن ِسرّه‬
‫اطينِ ِه ْـم‬ ‫وا آ َمنَّا َوإِ َذا َخلَوْ ْا إِلَى َشيَ ِ‬ ‫وا قَالُ ْ‬
‫وا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫{وإِ َذا لَقُ ْ‬
‫المكنون‪َ :‬‬
‫وا إِنَّا َم َع ْك ْم إِنَّ َما نَحْ نُ ُم ْستَه ِْز ُؤونَ }‪.‬‬‫قَالُ ْ‬
‫قد أعرضواـ عن الكتاب والسنة‪ ،‬استهزا ًء بأهلهما واستحقارً‪،‬‬
‫وأبَوا أن ينقادوا لحكم الوحيين‪ ،‬فر ًحاـ بما عندهم من العلم الذي ال‬
‫ينفع االستكثار منه إال أشرًا واستكبارًا‪ .‬فتراهمـ أبدًا بال ُمتمسكين‬
‫بصريح الوحي يستهزئون‪{ :‬هّللا ُ يَ ْستَه ِْزى ُء بِ ِه ْم َويَ ُم ُّدهُْـم فِي‬
‫طُ ْغيَانِ ِه ْم يَ ْع َمهُونَ } ‪.‬‬
‫وا اتَّقُ ْ‬
‫وا‬ ‫أمر هللا باالنتماء إلى ال ُمؤمنين‪{ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬ ‫وقد َ‬
‫وا َم َع الصَّا ِدقِينَ } [التوبة‪.]119/‬‬ ‫هَّللا َ َو ُكونُ ْـ‬

‫‪132‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وهذه ال َمذاهب اإللحادية مذاهبُ متناحرة ألنها مؤسسة على‬
‫الباطل‪ .‬فالشيوعية تنكر وجودـ الخالق ‪-‬سبحانه وتعالى‪ -‬وتحاربـ‬
‫األديان السماوية‪ .‬ومن يرضىـ لعقله أن يعيش بال عقيدة؟ وينكر‬
‫البدهيات العقلية اليقينية؟ فيكون ُملغيًا لعقله؟‬
‫والعلمانية تنكر األديان‪ ،‬وتعتم ُد على المادية التي ال موجِّ ه‬
‫لها‪ ،‬وال غاية لها في هذه الحياة إال الحياة البهيمية؟‬
‫والرأسماليةُ همها جمع المال من أي وجه وال تتقيد بحالل وال‬
‫حرام‪ ،‬وال عطف وال شفقة على الفقراء والمساكين‪ ،‬وقوامـ‬
‫اقتصادهاـ على ال ِّربا الذي هو محاربة هلل ولرسوله؛ والذي هو‬
‫دما ُر الدول واألفراد‪ ،‬وامتصاصُ دماء الشعوب الفقيرة‪.‬‬
‫وأي عاقل ‪-‬فضاًل عمن فيه ذرة من إيمان‪ -‬يرضى أن يعيش‬
‫على هذه المذاهب؟ بال عقل وال دين‪ ،‬وال غاية صحيحة من‬
‫حياته يهدف إليها؟ ويُناضلـ من أجلها وإنما غزت هذه المذاهبُ‬
‫بالد ال ُمسلمين؛ ل َّما غاب عن أكثريتهاـ الدين الصحيح‪ ،‬وتربت‬
‫على الضياع وعاشت على التبعية؟!‬
‫‪2‬ـ واالنتماء لألحزاب الجاهلية‪ ،‬والقوميات العنصرية‪ .‬هو‬
‫ألن اإلسالم يرفُضُ العصبيات‪،‬‬ ‫اآلخر ُكف ٌر ور َّدة عن دين اإلسالم َّ‬
‫والنعرات الجاهلية‪.‬‬
‫يقول تعالى‪{ :‬يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَ لَ ْقنَا ُكم ِّمن َذ َك ٍر َوأُنثَى‬
‫ارفُوا إِ َّن أَ ْك َر َم ُك ْم ِعن َد هَّللا ِ أَ ْتقَا ُك ْم}‬
‫َو َج َع ْلنَا ُك ْم ُشعُوبًاـ َوقَبَائِ َل لِتَ َع َ‬
‫[الحجرات‪.]13/‬‬
‫يس ِمنّا َمن دَعا إلى‬ ‫ويقول النبي صلى هللا عليه وسلم‪( :‬لَ َ‬
‫يس منّا َمن َغ ِ‬
‫ضب‬ ‫َصبيّة‪ ،‬ولَ َ‬ ‫يس ِمنّا َمن قاتَل على ع َ‬ ‫صبيّة‪ ،‬ولَ َ‬ ‫َع َ‬
‫صبيّة) [رواه الترمذي وغيره]‪.‬‬ ‫ل َع َ‬

‫‪133‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وقال صلى هللا عليه وسلم‪( :‬إنّ هللا قَد أذهَب عَن ُكم ُعبِّيَّةَ‬
‫اجر شَق ّي‪،‬‬ ‫الجا ِهليّة‪ ،‬وفَخرها باآلباء؛ إنّما هُو ُمؤ ِمن تَق ّي أو فَ ِ‬
‫النّاس بَنو آدَم‪َ ،‬وآدَم ُخلِق ِمن تُراب‪َ ،‬وال فَضل لِ َعرب ّي على‬
‫ع ََجم ّي إاّل بِالتّق َوى) [رواه مسلم]‪.‬‬
‫وهذه الحزبيات تفرق المسلمين‪ .‬وهللا قد أمر باالجتماع‬
‫والتعاون على البر والتقوى‪ ،‬ونهى عن التفرق واالختالف‪.‬ـ‬
‫وا َو ْاذ ُكر ْ‬
‫ُوا‬ ‫وا بِ َحب ِْل هَّللا ِ َج ِميعًا َوالَ تَفَ َّرقُ ْـ‬
‫َص ُم ْ‬
‫وقال تعالى‪َ { :‬وا ْعت ِ‬
‫نِ ْع َمتَ هَّللا ِ َعلَ ْي ُك ْم إِ ْذ ُكنتُ ْم أَ ْعدَا ًء فألفَ بَ ْينَ قلوبِك ْـم فأصْ بَحْ تمـ بِنِ ْع َمتِ ِه‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫إِ ْخ َوانًا} [آل عمران‪.]103/‬‬
‫إن هللا سبحانه يريد منا أن نكون مع حزب واحد‪ ،‬هُم حزبُ هللا‬
‫ال ُمفلحون‪ .‬ولكن العالم اإلسالمي أصبح بعدما غزته أوروباـ‬
‫سياسيًّا وثقافيًّا‪ ،‬يخضع لهذه العصبيات الدموية والجنسية‬
‫والوطنية؛ ويؤمن بها كقضية علمية وحقيقية مقررة‪ ،‬وواقع ال‬
‫مف َّر منه‪.‬‬
‫وأصبحت شعوبه تندفع اندفاعًا غريبًا إلى إحياء هذه‬
‫العصبيات التي أماتها اإلسالم‪ ،‬والتغني بها وإحياء شعائرها‪،‬‬
‫واالفتخارـ بعهدها الذي تقدم على اإلسالم‪ .‬وهو الذي يُلحُّ اإلسالم‬
‫على تسميته بالجاهلية‪ .‬وقد َم َّن هللا على المسلمين بالخروج عنها‪،‬‬
‫وحثهم على شكر هذه النعمة‪.‬‬
‫والطبيعيـ من ال ُمؤمن أن ال يذكر جاهليةً تقاد َم عهدُها أو‬
‫قارب؛ إال بمقت وكراهية وامتعاض واقشعرار‪ .‬وهو يذكر‬
‫السجين ال ُمعذب الذي يطلق سراحه أيام اعتقاله وتعذيبه وامتهانه‪،‬‬
‫إال َوعرتهُ قشعريرة‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وهل يذ ُك ُر البريء من ِعلَّة شديدة طويلة أش َرفَ منها على‬
‫الموت أيا َم سُقمه‪ ،‬إال وانكسف بالُهُ وانتقع لونه؟‬
‫أن هذه الحزبيات عذاب؛ بعثه هللا على من‬ ‫والواجبُ أن يُعل َم َّ‬
‫أعرض عن شرعه‪ ،‬وتنكرـ لدينه‪.‬‬
‫ث َعلَ ْي ُك ْم َع َذابًا ِّمن‬ ‫كما قال تعالى‪{ :‬قُلْ ه َُو ْالقَا ِد ُر َعلَى أَن يَ ْب َع َ‬
‫س‬ ‫ْض ُكمـ بَأْ َ‬‫ق بَع َ‬ ‫ت أَرْ ُجلِ ُك ْم أَوْ يَ ْلبِ َس ُك ْم ِشيَعًا َويُ ِذي َ‬
‫فَوْ قِ ُك ْـم أَوْ ِمن تَحْ ِ‬
‫ْض} [األنعام‪.]65/‬‬ ‫بَع ٍ‬
‫وقال صلى هللا عليه وسلم‪َ ( :‬و َما لَم تح ُكم أئمتهم ب ِكتاب هللا إاّل‬
‫ج َعل هللا بَأس ُهم بينَهم) [من حديث رواه ابن ماجه]‪.‬‬
‫إن التعصب للحزبيات يسبب رفض الحق الذي مع اآلخرين‪.‬‬ ‫َّ‬
‫هّللا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫يل لهُ ْم آ ِمنوا بِ َما أنزَ َل ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫{وإِذا قِ َ‬‫كحال اليهود الذين قال هللا فيهم‪َ :‬‬
‫ص ِّدقاً‬ ‫ْ‬ ‫نز َل َعلَ ْينَا َويَ ْكفُ َـ‬ ‫ُ‬ ‫قَالُ ْ‬
‫ق ُم َ‬ ‫رون بِ َما َو َرا َءهُ َوه َُو ال َح ُّ‬ ‫وا نُ ْؤ ِمنُ بِ َمآ أ ِ‬
‫لِّ َما َم َعهُ ْم} [البقرة‪.]91/‬‬
‫وكحال أهل الجاهلية‪ ،‬الذين رفضوا الحق الذي جاءهم به‬
‫{وإِ َذا قِ َ‬
‫يل‬ ‫صبًاـ ل َما عليه آباؤهم‪َ :‬‬ ‫الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬تع ّ‬
‫وا بَلْ نَتَّبِ ُع َما أَ ْلفَ ْينَا َعلَ ْي ِه آبَا َءنَا} [البقرة‪/‬‬ ‫لَهُ ُم اتَّبِعُوا َما أَن َز َل هّللا ُ قَالُ ْ‬
‫‪.]170‬‬
‫ويريد أصحاب هذه الحزبيات أن يجعلوها بديلة عن اإلسالم‬
‫الذي َم َّن هللا به على البشرية‪.‬‬

‫‪ ‬الفصل التاسع‪ :‬النظرية المادية للحياة ومفاسد هذه‬


‫النظرية‬

‫‪135‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫هناك نظرتان للحياة‪ :‬نظرة ما ّديّة للحياة‪ ،‬ونظرة صحيحة‪.‬‬
‫ولكل من النظرتين آثارها‪:‬‬

‫أ ـ فالنظرة الماديّة للحياة معناها‬


‫أن يكون تفكير اإلنسان مقصورًا على تحصيل ملذاته العاجلة‪.‬‬
‫ويكون عمله محصو ًراـ في نطاق ذلك‪ .‬فال يتجاوز تفكيره ما وراء‬
‫ذلك من العواقب‪ ،‬وال يعمل له‪ ،‬وال يهتم بشأنه‪ .‬وال يعلم أن هللا‬
‫دار عمل‪،‬‬ ‫جعل هذه الحياة الدنيا مزرعة لآلخرة‪ .‬فجعل ال ُّدنيا َ‬
‫وجعل اآلخرة دار جزاء‪ .‬فمن استغل دنياه بالعمل الصالح رب َح‬
‫الدارين‪ ،‬ومن ضيّع دنياه ضاعت آخرته‪{ :‬خَ ِس َر ال ُّد ْنيَا َواآل ِخ َرةَ‬
‫َذلِكَ ه َُو ْال ُخس َْرانُ ْال ُمبِينُ } [الحج‪.]11/‬‬
‫فاهلل لم يخلق هذه الدنيا عبثًا بل خلقها لحكمة عظيمة‪ .‬قال‬
‫ق ْال َموْ تَ َو ْال َحيَاةَ لِيَ ْبلُ َو ُك ْم أَيُّ ُك ْم أَحْ َسنُ َع َماًل }‬
‫تعالى‪{ :‬الَّ ِذي خَ لَ َ‬
‫[الملك‪.]2/‬‬
‫ض ِزينَةً لَّهَا لِنَ ْبلُ َوهُ ْم أَيُّهُ ْم‬
‫وقال تعالى‪{ :‬إِنَّا َج َع ْلنَا َما َعلَى األَرْ ِ‬
‫أَحْ َسنُ َع َماًل } [الكهف‪.]7/‬‬
‫أوجد سبحانه في هذه الحياة من المتع العاجلة‪ ،‬والزينة‬
‫الظاهرة من األموال واألوالد‪ ،‬والجاه والسلطان‪ ،‬وسائرـ‬
‫المستلذات‪ ،‬ما ال يعلمه إال هللا‪.‬‬
‫صر نظرهُ على ظاهرها‬ ‫فمن الناس ‪-‬وهم األكثر‪ -‬من قَ َ‬
‫ومفاتنها‪ ،‬ومتَّع نف َسهُ بها‪ ،‬ولم يتأمل في سرها‪ .‬فانشغل بتحصيلها‬
‫وجمعها والتمتع بها عن العمل لما بعدها؛ بل ربما أنكر أن يكون‬
‫هناك حياة غيرها‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وا إِ ْن ِه َي إِالَّ َحيَاتُنَا ال ُّد ْنيَا َو َما نَحْ نُ‬ ‫كما قال تعالى‪َ { :‬وقَالُ ْـ‬
‫بِ َم ْبعُوثِينَ } [األنعام‪.]29/‬‬
‫وقد تو ّعد هللا تعالى َم ْن هذه نظرتُهُ للحياة‪ .‬فقال تعالى‪{ :‬إَ َّن‬
‫وا بِهَا َوالَّ ِذينَ‬ ‫ُوا بِ ْال َحيا ِة ال ُّد ْنيَا َو ْ‬
‫اط َمأَنُّ ْـ‬ ‫الَّ ِذينَ الَ يَرْ جُونَ لِقَا َءنَا َو َرض ْـ‬
‫وا يَ ْك ِسبُونَ }‬ ‫ك َمأْ َواهُ ُم النُّا ُر بِ َما َكانُ ْ‬ ‫هُ ْم ع َْن آيَاتِنَا غَافِلُونَ * أُوْ لَـئِ َ‬
‫[يونس‪.]8 ،7/‬‬
‫وقال تعالى‪َ { :‬من َكانَ ي ُِري ُد ْال َحيَاةَ ال ُّد ْنيَا َو ِزينَتَهَا نُ َوفِّ إِلَ ْي ِه ْم‬
‫ْس لَهُ ْم فِي‬ ‫أَ ْع َمالَهُ ْم فِيهَا َوهُ ْم فِيهَا الَ يُبْخَ سُونَ * أُوْ لَـئِكَ الَّ ِذينَ لَي َ‬
‫وا يَ ْع َملُونَ }‬ ‫اط ٌل َّما َكانُ ْ‬ ‫ُوا فِيهَا َوبَ ِ‬ ‫صنَع ْ‬ ‫اآل ِخ َر ِة إِالَّ النَّا ُر َو َحبِطَ َما َ‬
‫[هود‪.]16 ،15/‬‬
‫أصحاب هذه النظرة؛ سواء كانوا من الذين‬ ‫َ‬ ‫وهذا الوعيد يشمل‬
‫يعملون عمل اآلخرة؛ يريدون به الحياة الدنيا؛ كالمنافقين‬
‫ار الذين ال يؤمنون ببعث‬ ‫والمرائين بأعمالهم‪ ،‬أو كانوا من ال ُكفَّ ِ‬
‫وال حساب؛ كحال أهل الجاهلية والمذاهب الهدامة من رأسمالية‬
‫وشيوعية‪ ،‬وعلمانية إلحادية‪.‬‬
‫وأولئك لم يعرفوا ‪-‬من رأسمالية وشيوعية‪ ،‬وعلمانية إلحادية‪-‬‬
‫قدر الحياة‪ .‬وال تعدو نظرتهمـ لها أن تكون‬ ‫وأولئك لم يعرفوا َ‬
‫كنظرة البهائم‪ ،‬بل هم أضل سبياًل ألنهم ألغَوا عقولهم وسخروا‬
‫طاقاتهمـ وضيعواـ أوقاتهم فيما ال يبقى لهم؛ وال يبقون له ولم‬
‫يعملوا لمصيرهم الذي ينتظرهمـ والبُ َّد لهم منه‪.‬‬
‫والبهائم ليس لها مصي ٌر ينتظرها‪ ،‬وليس لها عقول تفكر بها؛‬
‫بخالف أولئك‪ .‬ولهذا يقول تعالى فيها‪{ :‬أَ ْم تَحْ َسبُ أَ َّن أَ ْكثَ َرهُ ْم‬
‫ضلُّ َسبِياًل }‬ ‫يَ ْس َمعُونَ أَوْ يَ ْعقِلُونَ إِ ْن هُ ْم إِال َكاألَ ْن َع ِـام بَلْ هُ ْم أَ َ‬
‫[الفرقان‪.]44/‬‬

‫‪137‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وقد وصف هللا أهل هذه النظرة بعدم العلم‪ .‬قال تعالى‪َ { :‬و ْع َد‬
‫هَّللا ِ ال ي ُْخلِفُ هَّللا ُ َو ْع َدهُ َولَ ِك َّن أَ ْكثَ َر النَّ ِ‬
‫اس ال يَ ْعلَ ُمونَ * يَ ْعلَ ُمونَ‬
‫اآلخ َر ِة هُ ْم غَافِلُونَ } [الروم‪،6/‬‬ ‫ظَا ِهرًا ِّمنَ ْال َحيَا ِة ال ُّد ْنيَا َوهُ ْم َع ِن ِ‬
‫‪.]7‬‬
‫فهم ‪-‬وإن كانوا أهل خبرة في المخترعات والصناعات‪ -‬فهم‬
‫ُوصفوا بالعلم ألن علمهم لم يتجاوزـ ظاهر‬ ‫ُجهَّا ٌل ال يستحقون أن ي َ‬
‫الحياة الدنيا‪ .‬وهذا علم ناقص ال يستحق أصحابه أن يطلق عليهم‬
‫هذا الوصف الشريف‪ ،‬فيقال‪ :‬العلماء‪ .‬وإنما يطلق هذا على أهل‬
‫معرفة هللا وخشيته‪ .‬كما قال تعالى‪{ :‬إِنَّ َما يَ ْخ َشى هَّللا َ ِم ْن ِعبَا ِد ِه‬
‫ْال ُعلَ َما ُء} [فاطر‪.]28/‬‬
‫ومن النظرة ال َمادية للحياة الدنيا‪ :‬ما ذكره هللا في قصة قارون‪،‬‬
‫وما آتاه هللا من الكنوز‪{ :‬فَخَ َر َج َعلَى قَوْ ِم ِه فِي ِزينَتِ ِه قَا َل الَّ ِذينَ‬
‫ي ُِري ُدونَ ْال َحيَاةَ ال ُّدنيَا يَا لَيْتَ لَنَا ِم ْث َل َما أُوتِ َي قَا ُرونُ إِنَّهُ لَ ُذو َح ٍّ‬
‫ظ‬
‫َع ِظ ٍيم} [القصص‪.]79/‬‬
‫فتمنَّوا مثله وغبطوه‪ ،‬ووصفوه بالحظ العظيم بنا ًء على‬
‫نظرتهم المادية‪ .‬وهذا كما هو الحال اآلن في الدول الكافرة‪ ،‬وما‬
‫فإن ضعافَ اإليمان من‬ ‫عندها من تق ّدم صناعي واقتصادي‪َّ .‬‬
‫المسلمين ينظرون إليهم نظرة إعجاب دون نظر إلى ما هم عليه‬
‫من الكفر‪ ،‬وما ينتظرهم من سوء المصير‪.‬ـ فتبعثهم هذه النظرة‬
‫الخاطئة إلى تعظيم الكفار واحترامهم في نفوسهم‪ ،‬والتشبه بهم في‬
‫أخالقهم وعاداتهم السيئة‪ .‬ولم يقلدوهم في الجد وإعداد القوة‬
‫والشيء النافع من المخترعات والصناعات‪ .‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫وا لَهُم َّما ا ْستَطَ ْعتُم ِّمن قُ َّو ٍة} [األنفال‪.]60/‬‬ ‫{ َوأَ ِع ُّد ْ‬

‫‪138‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ب ـ النظرة الثانية للحياة‪ :‬النظرة الصحيحة‬
‫وهي أن يعتبر اإلنسان ما في هذه الحياة من مال وسلطان‬
‫وقوىـ مادية وسيلةً يُستعان بها لعمل اآلخرة‪.‬‬
‫فالدنيا في الحقيقة ال تُذ ُّم لذاتها‪ ،‬وإنما يتوجه المدح ّ‬
‫والذ ّـم إلى‬
‫فعل العبد فيها‪ .‬فهي قنطرة ومعبر لآلخرة‪ .‬ومنها زا ُد الجنة‪.‬‬
‫وخي ُر عيش ينالُه أهل الجنة إنَّما حصل لهم بما زرعوه في الدنيا‪.‬‬
‫فهي دار الجهاد والصالة والصيام واإلنفاقـ في سبيل هللا‪،‬‬
‫ومضمارـ التسابق إلى الخيرات‪.‬‬
‫يقول هللا تعالى ألهل الجنة‪ُ { :‬كلُوا َوا ْش َربُواـ هَنِيئًا بِ َما أَ ْسلَ ْفتُ ْم‬
‫فِي األَي َِّام ْالخَالِيَ ِة} [الحاقة‪ ]24/‬يعني‪ :‬الدنيا‪.‬‬

‫‪ ‬الفصل العاشر‪ :‬في الرقى والتمائم‬

‫أ ـ الرقى‬
‫• معنى الرقى‪:‬‬
‫الرقى جمع رُقية‪ .‬وهي‪ :‬العُو َذةُ التي يُرقىـ بها صاحبُ اآلفة‬
‫كالح َّمى والصَّرع‪ ،‬وغير ذلك من اآلفات‪ .‬ويُسمونهاـ العزائم‪.‬‬

‫• وهي على نوعين‪:‬‬


‫النوع األول‪ :‬ما كان خاليًا من ال ِّشرك ‪-‬بأن يُقرأ على المريض‬
‫شيء من القرآن‪ ،‬أو يُ َع َّوذ بأسماء هللا وصفاته؛ فهذا ُمباح ألن‬
‫النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬قد َرقى وأمر بالرُّ قية وأجازها‪.‬‬

‫‪139‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫فعن عوف بن مالك قال‪ :‬كنا نرقي في الجاهلية‪ ،‬فقلنا‪" :‬يا‬
‫رسول هللا‪ ،‬كيف ترى في ذلك؟"‬
‫شر ًكا)‬‫أس بال ّرقَى َما لَم تَ ُكن ِ‬
‫ضوا عل َّي ُرقا ُكم‪ ،‬ال بَ َ‬
‫فقال‪( :‬اع ِر ُ‬
‫[رواه مسلم]‪.‬‬
‫قال السيوطي‪" :‬وقد أجم َع العلماء على جواز الرقى‪ ،‬عند‬
‫اجتماع ثالثة شروط‪ :‬أن تكون بكالم هللا أو بأسماء هللا وصفاته‪،‬‬
‫وأن تكون باللسان العربي وما يُعرفُ معناه‪ ،‬وأن يُعتقَ َد أن الرقية‬
‫ال تؤثر بذاتها؛ بل بتقدير هللا تعالى ‪.‬‬
‫وينفث على المريض‪ ،‬أو يقرأ في ما ٍء‬ ‫َ‬ ‫وكيفيتها‪ :‬أن يُقرأ‬
‫ويُسقاهُ المريض‪.‬‬
‫كما جاء في حديث ثابت بن قيس‪( :‬أنّ النبي ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫نفث عليه بما ٍء‬‫قدح‪ ،‬ثم َ‬
‫وسلم‪ -‬أخذ تُرابًا من بُطحان‪ ،‬فجعله في ٍ‬
‫وصبَّه عليه) [رواه أبو داود]‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬ما لم يخ ُل من ال ّشرك‪.‬‬
‫وهي الرقى التي يُستعانُ فيها بغير هللا ‪-‬من دعاء غير هللا‬
‫واالستغاثة واالستعاذة به؛ كالرقى بأسماء الجن‪ ،‬أو بأسماء‬
‫المالئكة واألنبياء والصالحين‪ .‬فهذا دعاء لغير هللا‪ ،‬وه َُو شر ٌ‬
‫ك‬
‫أكبر‪.‬‬
‫أو يكون بغير اللسان العربي‪ ،‬أو بما ال يُعرف معناه ألنه‬
‫يُخشى أن يدخلها كفر أو شرك وال يُعل ُم عنه‪ .‬فهذا النوع من‬
‫الرقية ممنوع‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫‪ 2‬ـ التمائم‬
‫• معنى التمائم‪:‬‬
‫وهي جمع تميمة‪ .‬وهي‪ :‬ما يعلق بأعناق الصبيان لدفع العين‪.‬‬
‫وقد يعلق على الكبار من الرجال والنساء‪.‬‬

‫• وهو على نوعين‪:‬‬


‫النوع األول من التمائم‪ :‬ما كان من القرآن‪ .‬بأن يكتب آيات من‬
‫القرآن‪ ،‬أو من أسماء هللا وصفاته‪ ،‬ويعلقها لالستشفاء بها‪.‬‬
‫‪ -‬اختالف العلماء‪:‬‬
‫فهذا النوع قد اختلف فيه العلما ُء في حكم تعليقه على قولين‪:‬‬
‫القول األول‪ :‬الجوا ُز‪ .‬وهو قول عبد هللا بن عمرو بن العاص‪،‬‬
‫وهو ظاه ُر ما رُوي عن عائشة‪ ،‬وبه قال أبو جعفر الباقر‪ ،‬وأحمد‬
‫بن حنبل في رواية عنه‪ .‬وحملوا الحديث الواردـ في المنع من‬
‫تعليق التمائم على التمائم التي فيها شرك‪.‬‬
‫القول الثاني‪ :‬المنع من ذلك‪ .‬وهو قول ابن مسعودـ وابن‬
‫عباس‪ ،‬وهو ظاهر قول حذيفة وعقبة بن عامر‪ ،‬وابن عكيم‪ .‬وبه‬
‫قال جماعة من التابعين‪ ،‬منهم‪ :‬أصحابُ ابن مسعود‪ ،‬وأحمد في‬
‫رواية اختارها كثير من أصحابه‪ ،‬وجزمـ بها المتأخرون‪.‬‬
‫واحتجوا بما رواهُ ابن مسعود ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬قال‪ :‬سمعت‬
‫رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬يقول‪( :‬إنّ ال ّرقى َوالتّ َمائم‬
‫ش ْرك) [رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه والحاكم]‪.‬‬ ‫َوالتّ َولَة ِ‬

‫‪141‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫والتولة‪ :‬شيء يصنعونه‪ ،‬يزعمون أنه يحبب المرأة إلى‬
‫زوجها‪ ،‬والرجل إلى امرأته‪.‬‬
‫‪ -‬القول الصحيح‪:‬‬
‫وهذا هو الصحيح؛ لوجوه ثالثة‪:‬‬
‫األول‪ :‬عموم النهي وال مخصص للعموم‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬س ّد الذريعة فإنَّهاـ تفضي إلى تعليق ما ليس مباحًا‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه إذا علق شيئًا من القرآن‪ ،‬فقد يمتهنه المعلِّق بحمله‬
‫معه في حال قضاء الحاجة واالستنجاء ونحو ذلك ‪.‬‬
‫النوع الثاني من التمائم‪:‬‬
‫التي تعلق على األشخاص ما كان من غير القرآن؛ كالخرز‬
‫والعظام والودعـ والخيوطـ والنعال والمسامير‪ ،‬وأسماء الشياطين‬
‫والجن والطالسم‪.‬ـ فهذا محرّم قطعًا‪ .‬وهو من الشرك ألنه تعلق‬
‫على غير هللا سبحانه وأسمائه وصفاته وآياته‪.‬‬
‫وفي الحديث‪َ ( :‬من تَ َعلّق شَيئًا ُو ّكل إلَ ْيه) [رواه أحمد‬
‫والترمذي]‬
‫أي‪ :‬و ّكله هللا إلى ذلك الشيء الذي تعلَّقه‪ .‬فمن تعلّق باهلل والتجأ‬
‫إليه وف ّوضـ أمره إليه‪ ،‬كفاه وقرّب إليه كل بعيد‪ ،‬وي ّسرـ له ك ّل‬
‫عسير‪.‬‬
‫ومن تعلّق بغيره من المخلوقين والتمائمـ واألدوية والقبور‪،‬‬
‫وكله هللا إلى ذلك الذي ال يغني عنه شيئًا وال يملك له ض ًّرا وال‬
‫نفعًا‪ .‬فخسر عقيدته وانقطعت صلته بربه وخذله هللا‪.‬‬
‫‪ -‬الواجب على المسلم‪:‬‬

‫‪142‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫والواجب على المسلم‪ :‬المحافظة على عقيدته مما يُفسدها أو‬
‫يُخ ّل بها‪ .‬فال يتعاطىـ ما ال يجوز من األدوية‪ ،‬وال يذهب إلى‬
‫المخرفين والمشعوذين ليتعالج عندهم من األمراض ألنهم‬
‫يُمرضون قلبه وعقيدته‪ ،‬ومن تو ّكل على هللا كفاه‪.‬‬
‫وبعض الناس يعلّق هذه األشياء على نفسه‪ ،‬وهو ليس فيه‬
‫مرض حسّي‪ ،‬وإنما فيه مرض وهمي‪ ،‬وهو الخوف من العين‬
‫والحسد‪ ،‬أو يعلقها على سيارته أو دابّته أو باب بيته أو دكانه‪.‬‬
‫وإن ضعفـ‬‫وهذا كله من ضعف العقيدة‪ ،‬وضعف توكله على هللا‪َّ .‬‬
‫العقيدة هو المرض الحقيقي الذي يَجبُ عالجه بمعرفة التوحيد‬
‫والعقيدة الصحيحة‪.‬‬

‫الفصل الحادي عشر‪ :‬في بيان حكم الحلف بغير هللا‬


‫والتوسل واالستغاثة واالستعانة بالمخلوق‬

‫‪ 1‬ـ الحلف بغير هللا‬


‫• معنى الحلف‪:‬‬
‫الحلف‪ :‬هو اليمين‪ .‬وهي‪ :‬توكيد الحكم بذكر ُم َعظَّم على وجه‬
‫الخصوص‪.‬‬
‫والتعظيم‪ :‬حق هلل تعالى‪ ،‬فال يجوز الحلف بغيره‪.‬‬
‫فقد أجمع العلماء على أن اليمين ال تكون إال باهلل‪ ،‬أو بأسمائه‬
‫وصفاته‪ .‬وأجمعواـ على المنع من الحلف بغيره‪ .‬والحلف بغير هللا‬
‫شرك‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫• الحلف بغير هللا‪:‬‬
‫ل َما روى ابن عمر ‪-‬رضي هللا عنهما‪ -‬أن رسول هللا ‪-‬صلى‬
‫أشرك) [رواه‬ ‫هللا عليه وسلم‪ -‬قال‪َ ( :‬من َحلَفَ بِ َغير هللا فَقَد َكفَر أو َ‬
‫أحمد والترمذي والحاكم]‪.‬‬
‫وهو شرك أصغر‪ ،‬إال إذا كان المحلوف به معظَّ ًما عند‬
‫الحالف إلى درجة عبادته له فهذا شرك أكبر‪ .‬كما هو الحال اليو َم‬
‫عند ُعبَّاد القبور؛ فإنَّهمـ يخافون َم ْن يعظمون من أصحاب القبور‪،‬‬
‫أكثر من خوفهمـ من هللا وتعظيمه ‪-‬بحيث إذا طُلب من أحدهم أن‬
‫يحلف بالولي الذي يعظمه‪ ،‬لم يحلف به إال إذا كان صادقًا‪ .‬وإذا‬
‫طلب منه أن يحلف باهلل‪ ،‬حلف به وإن كان كاذبًا‪.‬‬
‫فالحلف تعظيم للمحلوفـ به ال يليق إال باهلل‪ .‬ويجب توقير‬
‫اليمين‪ .‬فال يكثر منها‪.‬‬
‫ين} [القلم‪.]10/‬‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬وال تُ ِط ْع ُك َّل َح ٍ‬
‫الف َّم ِه ٍ‬
‫وا أَ ْي َمانَ ُك ْم} [المائدة‪.]89/‬‬
‫{واحْ فَظُ ْ‬
‫وقال تعالى‪َ :‬‬
‫أي‪ :‬ال تحلفوا إال عند الحاجة‪ ،‬وفي حالة الصدق والبر ألن‬
‫كثرة الحلف أو الكذب فيها يدالن على االستخفافـ باهلل‪ ،‬وعدم‬
‫التعظيم له‪ .‬وهذا ينافيـ كمال التوحيد‪.‬‬
‫وفي الحديث أن رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬قال‪( :‬ثَالثةٌ‬
‫اَل يُكلّ ُمهم هللا َوال يُز ّكي ِهم‪َ ،‬ول ُهم عَذاب ألِيم)‪ .‬وجاء فيه‪َ :‬‬
‫(و َر ُجل‬
‫ضاعَته ال يَشتَري إاّل بيَ ِمينه‪َ ،‬وال يَبِيع إاّل بيَ ِمينه)‬
‫ج َعل هللا ب َ‬
‫[رواه الطبراني بسند صحيح]‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫• حكم كثرة الحلف‪:‬‬
‫فقد ش َّدد الوعيد على كثرة الحلف‪ ،‬مما يد ّل على تحريمه‬
‫احترا ًما السم هللا تعالى‪ ،‬وتعظي ًماـ له سبحانه‪.‬‬
‫وكذلك يحرم الحلفُ باهلل كاذبًا وهي‪ :‬اليمين ال َغموسُ ‪ .‬وقد‬
‫وصفَ هللا المنافقين بأنهم يحلفون على الكذب وهم يعلمون‪.‬‬
‫فتلخص من ذلك‪:‬‬
‫‪ -1‬تحريمـ الحلف بغير هللا تعالى؛ كالحلف باألمانة أو الكعبة‬
‫أو النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وأن ذلك شرك‪.‬‬
‫‪ -2‬تحريمـ الحلف باهلل كاذبًا متع ّمدًا‪ ،‬وهي الغموس‪.‬‬
‫‪ -3‬تحريمـ كثرة الحلف باهلل ‪-‬ولو كان صادقًا‪ -‬إذا لم تد ُ‬
‫ع إليه‬
‫ألن هذا استخفاف باهلل سبحانه‪.‬‬ ‫حاجة؛ َّ‬
‫الحلف باهلل إذا كان صادقًا‪ ،‬وعند الحاجة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫‪ -4‬جواز‬

‫‪ 2‬ـ التوسل بالمخلوق إلى هللا تعالى‬


‫• تعريف التوسل‪:‬‬
‫سل‪ :‬هو التقرب إلى الشيء والتوصل إليه‪ .‬والوسيلة‪:‬‬ ‫التّو ّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫{وا ْبتَغوا إِلي ِه ال َو ِسيلة} [المائدة‪.]35/‬‬
‫القربة‪ .‬قال هللا تعالى‪َ :‬‬
‫أي القربة إليه سبحانه بطاعته‪ ،‬واتباع مرضاته‪.‬‬

‫• أنواع التوسل‪:‬‬
‫والتوسل قسمان‪:‬‬

‫‪145‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫القسم األول‪ :‬توسل مشروع‪ ،‬وهو أنواع‪.‬‬
‫‪1‬ـ النوع األول‪ :‬التوسل إلى هللا تعالى بأسمائه وصفاته‪.‬‬
‫{وهَّلِل ِ األَ ْس َما ُء ْال ُح ْسنَى‬
‫كما أم َر هللا تعالى بذلك في قوله‪َ :‬‬
‫ُوا الَّ ِذينَ ي ُْل ِح ُدونَ فِي أَ ْس َمآئِ ِه َسيُجْ زَ وْ نَ َما َكانُواْ‬
‫فَا ْدعُوهُ بِهَا َو َذر ْ‬
‫يَ ْع َملُونَ } [األعراف‪.]180/‬‬
‫‪2‬ـ النوع الثاني‪ :‬التوسل إلى هللا تعالى باإليمان واألعمال‬
‫الصالحة التي قام بها المتوسل‪.‬‬
‫كما قال تعالى عن أهل اإليمان‪َّ { :‬ربَّنَا إِنَّنَا َس ِم ْعنَا ُمنَا ِديًا يُنَا ِديـ‬
‫ان أَ ْن آ ِمنُ ْ‬
‫وا بِ َربِّ ُك ْـم فَآ َمنَّا َربَّنَا فَا ْغفِرْ لَنَا ُذنُوبَنَاـ َو َكفِّرْ َعنَّا‬ ‫إلي َم ِ‬
‫لِ ِ‬
‫ار}ـ [آل عمران‪.]193/‬‬ ‫َّ‬
‫َسيِّئَاتِنَا َوتَ َوفنَا َم َع األ ْب َر ِ‬
‫وكما في حديث الثالثة الذين انطبقت عليهم الصخرة‪ ،‬فسدت‬
‫عليهم باب الغار‪ ،‬فلم يستطيعوا الخروج‪ .‬فتوسلوا إلى هللا بصالح‬
‫أعمالهم؛ ففرج هللا عنهم [هذا مضمون الحديث وهو متفق عليه]‬
‫فخرجواـ يمشون‪.‬‬
‫‪3‬ـ النوع الثالث‪ :‬التوسل إلى هللا تعالى بتوحيده‪.‬‬
‫ت أَن ال إِلَهَ‬ ‫كما توسل يونس عليه السالم‪{ :‬فَنَادَى فِي ُّ‬
‫الظلُ َما ِ‬
‫إِال أَنتَ ُسب َْحانَكَ} [األنبياء‪.]87/‬‬
‫‪4‬ـ النوع الرابع‪ :‬التّو ُّس ُل إلى هللا تعالى بإظهارـ الضَّعف‪.‬‬
‫والحاجة واالفتقارـ إلى هللا‪ .‬كما قال أيوب عليه السالم‪{ :‬أَنِّي‬
‫َم َّسنِ َي الضُّ رُّ َوأَنتَ أَرْ َح ُم الر ِ‬
‫َّاح ِمينَ } [األنبياء‪.]83/‬‬
‫‪5‬ـ النوع الخامس‪ :‬التوسل إلى هللا بدعاء الصالحين األحياء‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫كما كان الصحابة إذا أجدبوا طلبوا من النبي ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ -‬أن يدعو هللا لهم‪ ،‬ول ّما تُوفي صارواـ يطلبون من ع ّمه‬
‫العباس ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬فيدعو لهم [رواه البخاري]‪.‬‬
‫‪6‬ـ النوع السادس‪ :‬التّو ُّس ُل إلى هللا باالعتراف بالذنب‪{ .‬قَا َل‬
‫ت نَ ْف ِسي فَا ْغفِرْ لِي} [القصص‪.]16/‬‬
‫َربِّ إِنِّي ظَلَ ْم ُ‬
‫القسم الثاني‪ :‬توسل غير مشروع‬
‫وهو التوسل بما عدا األنواع المذكورة في التوسل المشروع؛‬
‫كالتوسل بطلب الدعاء والشفاعة من األموات‪ ،‬والتوسلـ بجاه‬
‫النبي صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬والتوسلـ بذات المخلوقين أو حقهم‪.‬‬
‫وتفصيل ذلك كما يلي‪:‬‬
‫‪1‬ـ طلب الدعاء من األموات ال يجوز‪.‬ـ‬
‫ألن الميت ال يقدر على الدعاء‪ ،‬كما كان يقدر عليه في الحياة‪.‬‬
‫وطلب الشفاعة من األموات ال يجوزـ ألن عمر بن الخطاب‬
‫ومعاوية بن أبي سفيان ‪-‬رضي هللا عنهما ومن بحضرتهما من‬
‫الصحابة والتابعين لهم بإحسان‪ ،‬ل َّما أجدبوا استسقرواـ وتوسَّلواـ‬
‫استشفعوا بمن كان حيًّا‪ ،‬كالعباس وكيزيدـ بن األسود؛ ولم يتوسلواـ‬
‫ولم يستشفعوا ولم يستسقوا بالنبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬ال عند‬
‫قبره وال عند غيره؛ بل عدلوا إلى البدل كالعباس وكيزيد‪.‬ـ‬
‫وقد قال عمر‪( :‬اللهم إنّا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا‪ ،‬وإنَّا‬
‫سقِنا) فجعلواـ هذا بداًل من ذلك‪ ،‬ل ّما تعذر أن‬
‫نتوسل بع ّم نبيّنا فا ْ‬
‫يتوسلوا به على الوجه المشروعـ الذي كانوا يفعلونه‪.‬‬
‫وقد كان من ال ُممكن أن يأتوا إلى قبره فيتوسلوا به؛ يعني‪ :‬لو‬
‫كان جائ ًزا‪ .‬فتر ُكهم لذلك دلي ٌل على عدم جواز التوسل باألموات‪،‬‬

‫‪147‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ال لطلب الدعاء والشفاعة منهم وهم أموات‪ .‬فلو كان طلب الدعاء‬
‫منه واالستشفاع به حيًّا وميّتًاـ سوءا‪ ،‬لم يعدلوا عنه إلى غيره ممن‬
‫هو دونه‪.‬‬
‫‪2‬ـ والتوسل بجاه النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أو بجاه غيره ال‬
‫يجوز‪.‬‬
‫والحديث الذي فيه‪( :‬إذا سألتم هللا فاسألوه بجاهي‪ ،‬فإن جاهي‬
‫عند هللا عظيم) حديث مكذوب‪ .‬ليس في شيء من كتب المسلمين‬
‫التي يُعتمد عليها‪ .‬وال ذكره أحد من أهل العلم بالحديث‪ .‬وما دا َم ال‬
‫يصح فيه دليل‪ ،‬فهو ال يجو ُز ألن العبادات ال تثبت إال بدليل‬
‫صريح‪.‬‬
‫‪3‬ـ والتوسل بذوات المخلوقين ال يجوز‪.‬‬
‫ألنه إن كانت الباء للقسم‪ ،‬فهو إقسام به على هللا تعالى‪ ،‬وإذا‬
‫كان اإلقسام بالمخلوقـ على المخلوق ال يجوز‪ ،‬وهو شرك كما في‬
‫الحديث؛ فكيف باإلقسامـ بالمخلوقـ على الخالق جل وعال؟!‬
‫وإن كانت الباء للسببية فاهلل سبحانه لم يجعل السؤال بال َمخلوق‬
‫سببًا لإلجابة‪ ،‬ولم يشرعه لعباده‪.‬‬
‫‪4‬ـ والتوسل بحق ال َمخلوق ال يجوزـ ألمرين‪.‬‬
‫ق ألحد‪ .‬وإنَّما هو الذي‬‫األول‪ :‬أن هللا سبحانه ال يجب عليه ح ّ‬
‫{و َكانَ َحقًّا‬
‫يتفضّل سبحانه على المخلوق بذلك‪ .‬كما قال تعالى‪َ :‬‬
‫َعلَ ْينَا نَصْ ُر ْال ُم ْؤ ِمنِينَ } [الروم‪/‬ـ‪.]47‬‬
‫فكون المطيع يستحقـ الجزاء‪ ،‬هو استحقاق فضل وإنعام‪،‬‬
‫وليس هو استحقاق مقابلة كما يستحق المخلوقـ على المخلوق‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫الثاني‪ :‬أن هذا الحق الذي تفضل هللا به على عبده هو ح ٌّ‬
‫ق‬
‫خاص به‪ ،‬ال عالقة لغيره به‪ .‬فإذا توسل به غير مستحقه كان‬
‫متوساًل بأمر أجنبي‪ ،‬ال عالقة له به‪ ،‬وهذا ال يجديه شيئًا‪.‬‬
‫وأما الحديث الذي فيه‪( :‬أسألك بحق السائلين) فهو حديث لم‬
‫يثبت ألن في إسناده عطية العوفي‪ ،‬وهو ضعيف مجمع على‬
‫ضعفه‪ ،‬كما قال بعض المحدثين‪ .‬وما كان كذلك‪ ،‬فإنه ال يُحتج به‬
‫في هذه المسألة المه ّمة من أمور العقيدة‪.‬‬
‫ق شخص معيّن‪ ،‬وإنما فيه التوسل‬ ‫ثم إنه ليس فيه توسل بح ّ‬
‫بحق السائلين عمو ًما‪ ،‬وحق السائلين اإلجابة كما وعدهم هللا بذلك‪.‬‬
‫وهو حق أوجبه على نفسه لهم‪ ،‬لم يوجبه عليه أحد‪ ،‬فهو توسل‬
‫إليه بوعده الصادقـ ال بحق المخلوق‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ حكم االستعانة واالستغاثة بالمخلوق‬


‫• تعريف االستعانة‪:‬‬
‫االستعانة‪ :‬طلب العون والمؤازرة في األمر‪.‬‬
‫واالستغاثة‪ :‬طلب الغوث‪ ،‬وهو إزالة الشدة‪.‬‬

‫• أنواع االستعانة بالمخلوق‪:‬‬


‫فاالستغاثة واالستعانة بالمخلوقـ على نوعين‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬االستعانة واالستغاثة بالمخلوقـ فيما يقدر عليه‪.‬‬
‫وا َعلَى ْالبرِّ َوالتَّ ْق َوى}ـ‬
‫اونُ ْـ‬
‫{وتَ َع َ‬
‫وهذا جائز‪ ،‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫[المائدة‪.]2/‬‬

‫‪149‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وقال تعالى في قصة موسى عليه السالم‪{ :‬فَا ْستَغَاثَهُ الَّ ِذي ِمن‬
‫ِشي َعتِ ِه َعلَى الَّ ِذي ِم ْن َع ُد ِّو ِه} [القصص‪.]15/‬‬
‫وكما يستغيث الرجل بأصحابه في الحرب وغيرها‪ ،‬مما يقدر‬
‫عليه المخلوق‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬االستغاثة واالستعانة بالمخلوقـ‬
‫فيما ال يقدر عليه إال هللا؛ كاالستغاثة واالستعانة باألموات‪،‬‬
‫واالستغاثة باألحياء‪ ،‬واالستعانة بهم فيما ال يقدر عليه إال هللا من‬
‫شفاء المرضى‪ ،‬وتفريج ال ُكرُبات ودفع الضر‪ .‬فهذا النوع غير‬
‫جائز‪ .‬وهو شرك أكبر‪.‬‬
‫وقد كان في زمن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬منافق يؤذيـ‬
‫فقال بعضهم‪" :‬قومواـ بنا نستغيث برسول هللا ‪-‬صلى‬ ‫المؤمنين‪َ ،‬‬
‫هللا عليه وسلم‪ -‬من هذا المنافق‪".‬‬
‫َغاث بي‪ ،‬وإنّ َما‬
‫فقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪( :‬إنّه ال يُست ُ‬
‫يُستَ َغاث بِاهلل) [رواه الطبراني]‪.‬‬
‫كره ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أن يُستعمل هذا اللفظ في حقّه ‪-‬وإن‬
‫كان مما يقدر عليه في حياته حمايةً لجناب التوحيد وس ًّدا لذرائع‬
‫الشرك‪ ،‬وأدبًا وتواضعًا لربه‪ ،‬وتحذي ًراـ لألمة من وسائل الشرك‬
‫في األقوال واألفعال‪ .‬فإذا كان هذا فيما يقدر عليه النبي ‪-‬صلى هللا‬
‫ُ‬
‫ُستغاث به بعد مماته‪ ،‬ويُطلبُ منه‬ ‫عليه وسلم‪ -‬في حياته‪ ،‬فكيفـ ي‬
‫أمور ال يقدر عليها إال هللا؟! وإذا كان هذا ال يجوزـ في حقهّ‬
‫‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬فغيره من باب أولى!‬

‫‪150‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫‪.‬‬

‫‪151‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫الباب الخامس‪ :‬في بيان ما يجب اعتقاده في الرسول صلى‬


‫هللا عليه وسلم وأهل بيته وصحابته‬
‫وذلك في فصول‪:‬‬
‫‪ :‬في وجوب محبة الرسول وتعظيمه‪،‬‬ ‫الفصل األول‬
‫والنهي عن الغلو واإلطراء في مدحه‪،‬‬
‫وبيان منزلته صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ :‬في وجوب طاعته واالقتداء به‪.‬‬ ‫الفصل الثاني‬
‫‪ :‬في مشروعية الصالة والسالم عليه‪.‬‬ ‫الفصل الثالث‬
‫‪ :‬في فضل أهل البيت‪ ،‬وما يجب لهم من‬ ‫الفصل الرابع‬
‫غير جفاء وال غلو‪.‬‬
‫‪ :‬في فضل الصحابة وما يجب اعتقاده فيهم‪،‬‬ ‫الفصل الخامس‬
‫ومذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث‬
‫بينهم‪.‬‬
‫‪ :‬في النهي عن سب الصحابة وأئمة الهدى‪.‬‬ ‫الفصل السادس‬

‫‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫الفصل األول‪ :‬في وجوب محبة الرسول وتعظيمه‪،‬‬


‫والنهي عن الغلو واإلطراء في مدحه‪ ،‬وبيان منزلته‬
‫صلى هللا عليه وسلم‬

‫‪ 1‬ـ وجوب محبّته وتعظيمه صلى هللا عليه وسلم‬


‫يجبُ على العب ِد ‪-‬أواًل ‪ -‬محبّةُ هللا عز وجل‪ .‬وهي من أعظم‬
‫وا أَ َش ُّد ُحبًّا هَّلِّل ِ} [البقرة‪/‬‬
‫{والَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫أنواع العبادة‪ .‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫‪.]165‬‬
‫ألنه هو الرّبُّ ال ُمتفضّل على عباده بجميع النّعم ظا ِهرها‬
‫وباطنها‪.‬ـ‬
‫ثم بعد محبة هللا تعالى‪ ،‬تجب محبة رسوله محمد ‪-‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ -‬ألنه هو الذي دعا إلى هللا‪ ،‬وعرَّف به‪ ،‬وبلَّغ شريعته‪،‬‬
‫وبيَّن أحكامه‪ .‬فما حصل للمؤمنين من خير في الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫فعلى يد هذا الرسول‪.‬ـ وال يدخ ُل أح ٌد الجنة إال بطاعته واتباعه‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫الوةَ اإلي َمان؛ أن‬ ‫وفي الحديث‪( :‬ثَ ٌ‬
‫الث َمن ُكنَّ فِيه َو َجد َح َ‬
‫ب ال َمرء ال‬ ‫سواهُما‪ ،‬وأن يُ ِح َّ‬ ‫ب إلَيه م ّما ِ‬ ‫ورسولَه َ‬
‫أح َّ‬ ‫يَ ُكون هللا َ‬
‫َ‬
‫يُحبّه إال هلل‪َ ،‬وأن يَك َره أن ي ُعود في ال ُكفر بَع َد أن أنقَذه هللا ِمنه‪،‬‬
‫َك َما يَك َره أن يُق َذف في النّار) [متفق عليه]‪.‬‬
‫فمحبة الرسول تابعة ل َمحبّة هللا تعالى‪ ،‬الزمة لها‪ ،‬وتليهاـ في‬
‫المرتبة‪ .‬وقد جاء بخصوص محبته ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬‬
‫ووجوب تقديمها على محبة كل محبوب سوى هللا تعالى‪ ،‬قوله‬

‫‪153‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ب إلَيه ِمن‬ ‫صلى هللا عليه وسلم‪( :‬ال يُؤمنُ أح ُد ُكمـ حتّى أ ُكونَ َ‬
‫أح َّ‬
‫س أج َم ِعين) [متفق عليه]‪.‬‬ ‫َولَده َووالِده َوالنّا ِ‬
‫بل ورد أنه يجب على المؤمن أن يكون الرسو ُل ‪-‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ -‬أحبَّ إليه من نفسه‪ .‬كما في الحديث‪ :‬أن عمر بن‬
‫ي من‬ ‫الخطاب رضيـ هللا عنه قال‪" :‬يا رسول هللا‪ ،‬ألنتَ أحبُّ إل َّ‬
‫كل شيء إال من نفسي"‬
‫فسك)‪.‬‬ ‫ب إلَيك ِمن نَ ِ‬ ‫فقال‪َ ( :‬والّذي نَ ِ‬
‫فسي بِيَده حتّى أ ُكونَ َ‬
‫أح ّ‬
‫ي من نفسي‪".‬‬
‫فقال له عمر‪" :‬فإنك اآلن أحب إل َّ‬
‫فقال‪( :‬اآلن‪ ،‬يَا ُع َمر) [رواه البخاري]‪.‬‬
‫ففي هذا أن محبة الرسول واجبةٌ ومق ّدمةٌ على محبّة كل شيء‬
‫سوى محبة هللا‪ .‬فإنها تابعة لهَا الزمة لها ألنها محبة في هللا‬
‫وألجله‪ .‬تزيد بزيادة محبة هللا في قلب المؤمن‪ ،‬وتنقص بنقصها‪.‬‬
‫وكل من كان محبًّا هلل فإنما يحب في هللا وألجله‪.‬‬
‫ومحبّته ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬تقتضي تعظيمه وتوقيره‬
‫واتباعه؛ وتقديم قوله على قول كل أحد من الخلق؛ وتعظيم سنته‪.‬‬
‫قال العالمة ابن القيم رحمه هللا‪" :‬وكلُّ محبة وتعظيمـ للبشر؛‬
‫فإنما تجوز تبعًا لمحبة هللا وتعظيمه‪ ،‬كمحبة رسول هللا ‪-‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ -‬وتعظيمه؛ فإنها من تمام محبة مرسله وتعظيمه‪ .‬فإن‬
‫أمته يحبونه ل َمحبة هللا له‪ ،‬ويعظمونه ويجلونه إلجالل هللا له‪ ،‬فهي‬
‫محبة هلل من موجبات محبة هللا‪.‬‬
‫والمقصودُ‪ :‬أن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬ألقى هللا عليه من‬
‫المهابة وال َمحبة‪ ....‬ولهذا لم يكن بشر أحب إلى بشر‪ ،‬وال أهيب‬

‫‪154‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وأج ّل في صدره من رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬في صدورـ‬
‫أصحابه ‪-‬رضي هللا عنهم‪.‬‬
‫أبغض‬
‫َ‬ ‫قال عمرو بن العاص بعد إسالمه‪" :‬إنه لم يكن شخص‬
‫ي منه‪ ،‬وال أج َّل في‬
‫ي منه‪ .‬فل ّما أسلمت‪ ،‬لم يكن شخص أحب إل َّ‬ ‫إل َّ‬
‫عيني منه‪".‬‬
‫أطقت‪ ،‬ألني لم أكن أمأل‬ ‫ُ‬ ‫قال‪" :‬ولو ُسئِلت أن أصفه لكم ل َما‬
‫ي منه إجالاًل له‪".‬‬
‫عين َّ‬
‫وقال عروة بن مسعود لقريش‪" :‬يا قوم‪ ،‬وهللا لقد وفدت إلى‬
‫رأيت مل ًكا يعظمه أصحابه ما يعظم‬‫ُ‬ ‫كسرى وقيصر وال ُملوك‪ ،‬فما‬
‫أصحابُ محمد محمدًا صلى هللا عليه وسلم‪ .‬وهللا ما يح ُّدون النظر‬
‫إليه تعظي ًماـ له‪ ،‬وما تن َّخم نُخامةً إال وقعت في كَفِّ رجل منهم‪،‬‬
‫فيدلك بها وجهَهُ وصدره‪ ،‬وإذا توضأـ كادوا يقتتلون على‬
‫وضوئه‪ ".‬انتهى ‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ النهي عن ال ُغل ّو واإلطراء في مدحه‬


‫• الغلو‬
‫الغلو‪ :‬تجاوزـ الحد‪ .‬يُقالُ‪ :‬غَال ُغلُ ًّوا‪ ،‬إذا تجاوز الحد في القدر‪.‬‬
‫وا فِي ِدينِ ُك ْم}ـ [النساء‪ .]171/‬أي‪ :‬ال تجاوزواـ‬‫قال تعالى‪{ :‬الَ تَ ْغلُ ْ‬
‫الحد‪.‬‬

‫• اإلطرا ُء‬
‫اإلطراء‪ :‬مجاوزة الح ِّد في المدح‪ ،‬والكذب فيه‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫لو في حق النبي صلى هللا عليه وسلم‪ :‬مجاوزة‬ ‫والمرا ُد بال ُغ ِّ‬
‫الحد في قدره ‪-‬بأن يُرفع فوقـ مرتبة العبودية والرسالة‪ ،‬ويُجع َل‬
‫َ‬
‫ُستغاث به من دون‬ ‫له شيء من خصائص اإللهية‪ ،‬بأن يُدعى وي‬
‫ُحلف به‪.‬‬
‫هللا‪ ،‬وي َـ‬
‫والمراد باإلطراء في حقه صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أن يُزا َد في‬
‫مدحه‪ .‬فقد نهى صلى هللا عليه وسلم عن ذلك بقوله‪( :‬اَل تُط ُروني‬
‫ت النَّصا َرى ابنَ َمريَم‪ ،‬إنّ َما أنا عَبد‪ ،‬فقُولوا‪ :‬عب ُد هللا‬ ‫َك َما َ‬
‫أطر ِ‬
‫سولُه) [متفق عليه]‪.‬‬ ‫ور ُ‬‫َ‬
‫أي‪ :‬ال تمدحونيـ بالباطل‪ ،‬وال تجاوزوا الح َّد في مدحي‪ ،‬كما‬
‫غلت النَّصارىـ في عيسى ‪-‬عليه السالم‪ -‬فا َّدعوا فيه األلوهية‪،‬‬
‫صفَني به ربّي‪ ،‬فقولوا‪ :‬عب ُد هللا ورسوله‪.‬‬ ‫صفُونيـ بما َو َ‬‫َو ِ‬
‫ولما قال له بعض أصحابه‪" :‬أنت سيّدُنا‪ ،"...‬فقال‪( :‬ال َّ‬
‫سيّ ُد هللا‬
‫ارك وتَ َعالى)‪.‬‬‫تَبَ َ‬
‫ول ّما قالوا‪" :‬أفضلنا وأعظمنا طَواًل ‪ ،"...‬فقال‪( :‬قُولُوا بقَولِكم‪،‬‬
‫أو بَعض قَولِكم‪َ ،‬وال يَستَجرين ُكم الشَيطَان) [رواه أبو داود بسند‬
‫جيد]‪.‬‬
‫خيرنا وابن خيرنا‪ ،‬وسيدناـ‬ ‫رسول هللا‪ ،‬يا َ‬ ‫َ‬ ‫وقال له ناس‪" :‬يا‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬
‫وابن سيدنا‪ ،"...‬فقال‪( :‬يا أيّها الناس‪ ،‬قولوا بقولكم َوال‬
‫سولُه‪َ ،‬ما أ ِح ُّب أن‬ ‫يَستَهوين ُكم الشَيطَان‪ ،‬أنَا ُمح ّم ٌد عَب ُد هللا َ‬
‫ور ُ‬
‫ق َمن ِزلتي الّتي أنزلَني هللا ع ّز وج ّل) [رواه أحمد‬ ‫تَرفَ ُعوني فَو َ‬
‫والنسائي]‪.‬‬
‫كره ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أن يمدحوه بهذه األلفاظ‪" :‬أنت‬‫ِ‬
‫سيدنا‪ ،‬أنت خيرُنا‪ ،‬أنت أفضلُنا‪ ،‬أنت أعظ ُمنا‪ "...‬مع أنه أفض ُل‬

‫‪156‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫الخلق وأشرفُهمـ على اإلطالق؛ لكنه نهاهم عن ذلك ابتعادًا بهم‬
‫عن ال ُغلُ ِّو واإلطراء في حقه‪ ،‬وحمايةً للتوحيد‪.‬ـ‬
‫وأرشدهمـ أن يصفون بصفتين‪ ،‬هما أعلى مراتب العبد وليس‬
‫فيهما غلو وال خطر على العقيدة‪ ،‬وهما‪ :‬عبد هللا ورسوله‪ .‬ولم‬
‫يُحب أن يرفعوه فوق ما أنزله هللا عز وجل من ال َمنزلة التي‬
‫رضيها له‪.‬‬
‫وقد خالف نهيَه ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬كثي ٌر من الناس‬
‫فصارواـ يدعونه ويستغيثون به ويحلفونَ به‪ ،‬ويطلبون منها ما ال‬
‫يُطلب إال من هللا؛ كما يُفع ُل في الموالد والقصائد واألناشيد‪ ،‬وال‬
‫يُميزون بين حق هللا وحق الرسول‪.‬‬
‫يقول العالمةُ ابن القيم في النونية‪:‬‬
‫ولعبده حـق هما حقّـان‬ ‫***‬ ‫هلل ح ّ‬
‫ق ال يكون لـــغيره‬
‫من غير تمييز وال فرقان‬ ‫***‬ ‫ال تجعلوا الحقّين حقًّا واحدًا‬

‫‪ 3‬ـ بيان منزلته صلى هللا عليه وسلم‬


‫ال بأس ببيان منزلته بمدحه ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬بما مدحه‬
‫هللا به‪ ،‬وذكر منزلته التي فضله هللا بها واعتقاد ذلك‪ .‬فله ‪-‬صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ -‬ال َمنزلة العالية التي أنزله هللا فيها‪ ،‬فهو عبد هللا‬
‫ورسوله‪ ،‬وخيرته من خلقه‪ ،‬وأفضلـ الخلق على اإلطالق‪ .‬وهو‬
‫رسول هللا إلى الناس كافة‪ ،‬وإلى جميع الثقلين الجن واإلنس‪ .‬وهو‬
‫ي بعده‪ .‬قد شرح هللا له صدره‪،‬‬ ‫أفضل الرسل‪ ،‬وخاتم النبيين‪ ،‬ال نب َّ‬
‫ورفع له ذكره‪ ،‬وجعل ال ِّذلَّة والصَّغارـ على من خالف أمره‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وهو صاحب المقام المحمود الذي قال هللا تعالى فيه‪َ { :‬ع َسى‬
‫أَن يَ ْب َعثَكَ َربُّكَ َمقَا ًما َّمحْ ُمودًا}ـ [اإلسراء‪.]79/‬‬
‫أي‪ :‬المقام الذي يُقيمه هللا فيه للشفاعة للناس يوم القيامة‬
‫ليريحهم ربهم من شدة الموقف‪.‬ـ وهو مقام خاص به صلى هللا‬
‫عليه وسلم دونَ غيره من النبيين‪.‬‬
‫وهو أخشى الخلق هلل‪ ،‬وأتقاهم له‪ .‬وقد نهى هللا عن رفع‬
‫الصوت بحضرته صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬وأثنىـ على الذين‬
‫ضونَ أصواتهم عنده‪.‬‬ ‫يَ ُغ ّ‬
‫فقال تعالى‪{ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُوا ال تَرْ فَعُواـ أَصْ َواتَ ُك ْم فَوْ َـ‬
‫ق‬
‫ْض أَن‬‫ْض ُك ْـم لِبَع ٍ‬ ‫ت النَّبِ ِّي َوال تَجْ هَرُوا لَهُ بِ ْالقَوْ ِل َك َجه ِْر بَع ِ‬ ‫صوْ ِ‬‫َ‬
‫تَحْ بَطَ أَ ْع َمالُ ُك ْم َوأَنتُ ْم ال تَ ْش ُعرُونَ * إِ َّن الَّ ِذينَ يَ ُغضُّ ونَ أَصْ َواتَهُْـم‬
‫ُول هَّللا ِ أُوْ لَئِ َ‬
‫ك الَّ ِذينَ ا ْمت ََحنَ هَّللا ُ قُلُوبَهُْـم لِلتَّ ْق َوى لَهُم َّم ْغفِ َرةٌ‬ ‫ِعن َد َرس ِ‬
‫ت أَ ْكثَ ُرهُ ْم ال‬ ‫ك ِمن َو َرا ِء ْال ُح ُج َرا ِ‬ ‫َوأَجْ ٌر َع ِظي ٌم * إِ َّن الَّ ِذينَ يُنَادُونَ َـ‬
‫ُج إِلَ ْي ِه ْم لَ َكانَ خَ ْيرًا لَّهُ ْم َوهَّللا ُ‬
‫صبَرُوا َحتَّى ت َْخر َ‬ ‫يَ ْعقِلُونَ * َولَوْ أَنَّهُ ْم َ‬
‫َغفُو ٌر َّر ِحي ٌم} [الحجرات‪.]5-2/‬‬
‫قال اإلمام ابن كثير ‪-‬رحمه هللا‪" :‬هذه آيات أ ّدب هللا فيها عباده‬
‫المؤمنين فيما يعاملون به النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬من التوقيرـ‬
‫واالحترام‪ ،‬والتبجيل واإلعظام‪ ...‬أن ال يرفعواـ أصواتهمـ بين يدي‬
‫النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬فوق صوته‪".‬‬
‫ونهى سبحانه وتعالىـ أن يُدعى الرسول باسمه كما يُدعى‬
‫سائ ُر الناس‪ ،‬فيقال‪ :‬يا محمد‪ .‬وإنما يُدعى بالرسالة والنبوة‪ ،‬فيقال‪:‬‬
‫يا رسول هللا‪ ،‬يا نبي هللا‪.‬‬
‫ْض ُكمـ‬ ‫قال تعالى‪{ :‬ال تَجْ َعلُوا ُدعَا َء ال َّرس ِـ‬
‫ُول بَ ْينَ ُك ْم َك ُدعَا ِء بَع ِ‬
‫بَ ْعضًا} [النور‪.]63/‬‬

‫‪158‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫كما أن هللا سبحانه يناديه بـ "يا أيها النبي‪ ،‬يا أيها الرسول"‪.‬‬
‫وقد صلى هللا ومالئكته عليه‪ ،‬وأمر عباده بالصالة والتسليم‬
‫ُصلُّونَ َعلَى النَّبِ ِّي يَا أَيُّهَا‬
‫عليه‪ ،‬فقال تعالى‪{ :‬إِ َّن هَّللا َ َو َمالئِ َكتَهُ ي َ‬
‫صلُّوا َعلَ ْي ِه َو َسلِّ ُموا تَ ْسلِي ًما}ـ [األحزاب‪.]56/‬‬ ‫الَّ ِذينَ آ َمنُوا َ‬
‫وقت وال كيفية‬ ‫ٌ‬ ‫لكن ال يُخصص ل َمدحه ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬‬
‫معينة إال بدلي ٍل صحيح من الكتاب وال ُّسنَّة‪ .‬فما يفعله أصحابُ‬
‫الموالد من تخصيص اليوم الذي يزعمون أنه يوم مولده ل َمدحه‪:‬‬
‫بدعة منكرة‪.‬‬
‫ومن تعظيمه ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬تعظيم سنته‪ ،‬واعتقاد‬
‫وجوب العمل بها‪ .‬وأنها في المنزلة الثانية بعد القرآن الكريم في‬
‫وجوب التعظيم والعمل ألنها وحي من هللا تعالى‪ .‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ُوحى}ـ [النجم‪.]4 ،3/‬‬ ‫يي َ‬ ‫ق ع َِن ْالهَ َوى * إِ ْن ه َُو إِالَّ َوحْ ٌ‬
‫{ َو َما يَ ْن ِط ُ‬
‫فال يجوزـ التشكيك فيها‪ ،‬والتقليل من شأنها‪ ،‬أو الكالم فيها‬
‫بتصحيح أو تضعيف لطرقها وأسانيدهاـ أو شرح ل َمعانيها إال بعلم‬
‫َّال على ُسنّة الرسول‬‫وتحفُّظ‪ .‬وقد كثر في هذا الزمان تطاول الجه ِ‬
‫صا من بعض الشباب الناشئين؛‬ ‫‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬خصو ً‬
‫الذين ال يزالون في المراحل األولى من التعليم‪ .‬صاروا‬
‫يص ِّححون ويُضعّفون في األحاديث‪ ،‬ويجرحون في الرواة بغير‬
‫علم سوى قراءة الكتب‪ .‬وهذا خط ٌر عظيم عليهم وعلى األمة‪،‬‬
‫فيجب عليهم أن يتقوا هللا‪ ،‬ويقفوا عند حدهم‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬في وجوب طاعته صلى هللا عليه وسلم‬


‫واالقتداء به‬

‫‪159‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫تجب طاعة النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬بفعل ما أمره به‪،‬‬
‫وترك ما نهى عنه‪ .‬وهذا من مقتضى شهادة أنه رسول هللا‪ .‬وقد‬
‫أمر هللا تعالى بطاعته في آيات كثيرة‪ ،‬تارة مقرونة مع طاعة هللا‪.‬‬
‫ُوا هَّللا َ َوأَ ِطيع ْـ‬
‫ُوا‬ ‫وا أَ ِطيع ْ‬‫كما في قوله‪{ :‬يَا أَيُّهَا الَّ ِذينَ آ َمنُ ْ‬
‫ال َّرسُو َل} [النساء‪ .]59/‬وأمثالهَا من اآليات‪.‬‬
‫وتارة يأمر بها منفردة‪ ،‬كما في قوله‪َّ { :‬م ْن ي ُِط ِع ال َّرسُو َل فَقَ ْد‬
‫{وأَ ِطيعُوا ال َّرسُو َل لَ َعلَّ ُك ْم تُرْ َح ُمونَ }‬
‫أَطَا َع هَّللا َ} [النساء‪َ ،]80/‬‬
‫[النور‪.]56/‬‬
‫وتارة يتوعد من عصى رسوله صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬كما في‬
‫صيبَهُْـم فِ ْتنَةٌ أَوْ‬
‫قوله تعالى‪{ :‬فَ ْليَحْ َذ ِـر الَّ ِذينَ يُخَالِفُونَ ع َْن أَ ْم ِر ِه أَن تُ ِ‬
‫صيبَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم} [النور‪.]63/‬‬ ‫يُ ِ‬
‫أي‪ :‬تصيبهمـ فتنة في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة‪ ،‬أو‬
‫عذاب أليم في الدنيا ‪-‬بقتل أو َح ٍّد أو حبس‪ ،‬أو غير ذلك من‬
‫العقوبات العاجلة‪.‬‬
‫وقد جعل هللا طاعته واتباعه سببًا لنيل محبة هللا للعبد ومغفرة‬
‫ذنوبه‪ ،‬قال تعالى‪{ :‬قُلْ إِن ُكنتُ ْم تُ ِحبُّونَ هَّللا َ فَاتَّبِعُونِي يُحْ بِ ْب ُك ُم هَّللا ُ‬
‫َويَ ْغفِرْ لَ ُك ْم ُذنُوبَ ُك ْم} [آل عمران‪.]31/‬‬
‫وجعل طاعته هداية‪ ،‬ومعصيته ضالاًل ‪ ،‬قال تعالى‪َ { :‬وإِن‬
‫تُ ِطيعُوهُ تَ ْهتَدُوا} [النور‪.]54/‬‬
‫ك فَا ْعلَ ْم أَنَّ َما يَتَّبِعُونَ أَ ْه َوا َءهُ ْم‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬فَإِن لَّ ْم يَ ْست َِجيبُوا لَ َ‬
‫ضلُّ ِم َّم ِن اتَّبَ َع ه ََواهُ بِ َغي ِْر هُدًى ِّمنَ هَّللا ِ إِ َّن هَّللا َ ال يَ ْه ِدي ْالقَوْ َم‬
‫َو َم ْن أَ َ‬
‫الظَّالِ ِمينَ } [القصص‪.]50/‬‬

‫‪160‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫أن فيه القدوة الحسنة ألمته‪ ،‬فقال تعالى‪:‬‬ ‫وأخبر سبحانه وتعالى َّ‬ ‫َ‬
‫ْ‬ ‫هَّللا‬ ‫َ‬ ‫ِّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ُ‬ ‫هَّللا‬
‫ُول ِ أس َْوة َح َسنَة ل َمن كانَ يَرْ جُو َ َواليَوْ َم‬ ‫ُ‬
‫{لَقَ ْد َكانَ لك ْم فِي َرس ِ‬
‫َ‬
‫اآل ِخ َر َو َذ َك َر هَّللا َ َكثِيرًا} [األحزاب‪.]21/‬‬
‫قال ابن كثير ‪ -‬رحمه هللا تعالى‪" :‬هذه اآلية الكريمة أصل‬
‫كبير في التأسّي برسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬في أقواله‬
‫وأفعاله وأحواله‪ .‬ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي‬
‫‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬يوم األحزاب في صبره ومصابرته‪،‬‬
‫ومرابطته ومجاهدته‪ ،‬وانتظاره الفرج من ربه ‪-‬عز وجل‪-‬‬
‫صلوات هللا وسالمه عليه دائ ًما‪ ،‬إلى يوم الدين‪".‬‬
‫وقد ذكر هللا طاعة الرسول واتباعه في نحو أربعين موضعًا‬
‫من القرآن‪ .‬فالنفوس أحوج على معرفة ما جاء به واتباعه منها‬
‫فإن الطعام والشراب إذا فات الحصولـ‬ ‫إلى الطعام والشراب‪َّ .‬‬
‫عليهما‪ ،‬حصل الموت في الدنيا‪ ,‬وطاعة الرسول واتباعه إذا فاتا‪،‬‬
‫حصل العذاب والشقاء الدائم‪.‬‬
‫وقد أمر صلى هللا عليه وسلم باالقتداء به في أداء العبادات‪،‬‬
‫وأن تؤدى على الكيفية التي كان يؤديهاـ بها‪.‬‬
‫ُول هَّللا ِ أُس َْوةٌ َح َسنَةٌ}‬
‫فقال تعالى‪{ :‬لَقَ ْد َكانَ لَ ُك ْم فِي َرس ِ‬
‫[األحزاب‪.]21/‬‬
‫أصلّي)‬
‫(صلّوا َك َما َرأيتُ ُمونِي َ‬ ‫وقال النبي صلى هللا عليه وسلم‪َ :‬‬
‫[الحديث رواه البخاري]‪.‬‬
‫اس َك ُكم) [الحديث رواه مسلم]‪.‬‬ ‫(خ ُذوا َعنّي َمنَ ِ‬ ‫وقال‪ُ :‬‬
‫يس َعلَيه أم ُرنَا فَ ُهو َردّ) [الحديث‬
‫وقال‪َ ( :‬من َع ِمل َع َماًل لَ َ‬
‫متفق عليه]‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫سنّتِي فَلَ َ‬
‫يس ِمنّي) [متفق عليه] إلى‬ ‫وقال‪َ ( :‬من َر ِغ َب عَن ُ‬
‫غير ذلك من النصوص التي فيها األمر باالقتداء به والنهي عن‬
‫مخالفته‪.‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬في مشروعية الصالة والسالم على‬


‫الرسول صلى هللا عليه وسلم‬
‫ُصلُّوا ويسلّموا عليه‪،‬‬ ‫من حقه الذي شرع هللا له على أمته أن ي َ‬
‫َ‬
‫ُصلُّونَ َعلَى النبِ ِّي يَا أيُّهَا‬
‫َّ‬ ‫فقد قال هللا تعالى‪{ :‬إِ َّن هَّللا َ َو َمالئِ َكتَهُ ي َ‬
‫صلُّوا َعلَ ْي ِه َو َسلِّ ُموا تَ ْسلِي ًما}ـ [األحزاب‪.]56/‬‬ ‫الَّ ِذينَ آ َمنُوا َ‬
‫وقد ورد أن معنى صالة هللا تعالى‪ :‬ثناؤه عليه عند المالئكة‪،‬‬
‫وصالة المالئكة‪ :‬الدعاء‪ ،‬وصالة اآلدميين‪ :‬االستغفار ‪.‬‬
‫وقد أخبر هللا سبحانه في هذه اآلية عن منزلة عبده ونبيه عنده‬
‫في ال َمأل األعلى ‪-‬بأنه يثني عليه عند ال َمالئكة المقربين‪ ،‬وأن‬
‫المالئكة تصلي عليه‪.‬‬
‫ثم أمر تعالى أهل العالم السُّفلي بالصالة والتسليمـ عليه ليجتمع‬
‫الثناء عليه من أهل العالم العُلوي والسُّفلي‪.‬‬
‫ومعنى‪َ { :‬و َسلِّ ُمواـ تَ ْسلِي ًما} أي‪ :‬حيُّوه بتحية اإلسالم‪.‬‬
‫• كيفية الصلوات‪:‬‬
‫فإذا صلى على النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬فليجمع بين‬
‫الصالة والتسليم‪ .‬فال يقتصر على أحدهما‪ ،‬فال يقول‪( :‬صلى هللا‬
‫عليه) فقط‪ ،‬وال يقول‪( :‬عليه السالم) فقط ألن هللا تعالى أمر بهما‬
‫جميعًا‪.‬‬

‫‪162‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫• مواطن الصلوات‪:‬‬
‫وتشرع الصالة عليه ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬في مواطنَ يتأكد‬
‫طلبها فيها‪ ،‬إما وجوبًا وإما استحبابًا مؤكدًا‪.‬‬
‫وذكر ابن القيم‪-‬رحمه هللا‪ -‬في كتابه‪( :‬جالء األفهام) واحدًا‬
‫وأربعين موطنًا؛ بدأها بقوله‪" :‬الموطن األول‪ - :‬وهو أهمها‬
‫وآكدها ‪ -‬في الصالة في آخر التشهد‪ .‬وقد أجمع المسلمون على‬
‫مشروعيته‪ .‬واختلفوا في وجوبه فيها‪".‬ـ‬
‫طب ‪-‬ك ُخطبة‬‫ثم ذكر من المواطن‪ :‬آخر القنوت‪ ،‬وفي ال ُخ َ‬
‫الجمعة‪ ،‬والعيدين واالستسقاء‪ ،‬وبعد إجابة المؤذن‪ ،‬وعند الدعاء‪،‬‬
‫وعند دخول المسجد والخروج منه‪ ،‬وعند ذكره صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪.‬‬
‫• فوائد الصلوات‪:‬‬
‫ثم ذكر ‪-‬رحمه هللا‪ -‬الثمرات الحاصلة من الصالة على النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ .‬فذكر فيها أربعين فائدة‪:‬‬
‫منها‪ :‬امتثال أمر هللا سبحانه بذلك‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬حصول عشر صلوات من هللا على المصلي مرة‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬رجاء إجابة الدعاء إذا ق َّدمهاـ أمامه‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنها سبب لشفاعته صلى هللا عليه وسلم إذا قرنها‬
‫بسؤال الوسيلة له صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنها سبب ل ُغفران الذنوب‪.‬‬
‫ومنها‪ :‬أنها سبب لرد النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬على‬
‫صلِّي وال ُم َسلِّم عليه‪.‬‬
‫ال ُم َ‬

‫‪163‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ُ‬
‫فصلوات هللا وسالمه على هذا النبي الكريم‪.‬‬

‫‪ ‬الفصل الرابع‪ :‬في فضل أهل البيت وما يجب لهم من‬
‫غير جفاء وال ُغلُ ّو‬
‫• معنى أهل البيت‪:‬‬
‫ُمت‬‫أهل البيت هم آل النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬الذين َحر ْ‬
‫عليهم الصدقة‪ .‬وهم آل علي‪ ،‬وآل جعفر‪ ،‬وآل عقيل‪ ،‬وآل‬
‫العباس‪ ،‬وبنو الحارث بن عبد المطلب‪ ،‬وأزواج النبي صلى هللا‬
‫عليه وسلم وبناته‪.‬‬
‫ت‬‫س أَ ْه َل ْالبَ ْي ِ‬
‫ب عَن ُك ُم الرِّجْ َ‬ ‫لقوله تعالى‪{ :‬إِنَّ َما ي ُِري ُد هَّللا ُ لِي ُْذ ِه َ‬
‫َط ِهيرًا} [األحزاب‪.]33/‬‬ ‫َويُطَه َِّر ُك ْـم ت ْ‬
‫قال اإلمام ابن كثير ‪-‬رحمه هللا‪" :‬ثُ َّم الذي ال يشك فيه من تدبّر‬
‫القرآن‪ ،‬أن نساء النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬داخالت في قوله‬
‫ت َويُطَه َِّر ُك ْـم‬ ‫س أَ ْه َل ْالبَ ْي ِ‬
‫ب عَن ُك ُم الرِّجْ َ‬ ‫تعالى‪{ :‬إِنَّ َما ي ُِري ُد هَّللا ُ لِي ُْذ ِه َ‬
‫َط ِهيرًا} [األحزاب‪.]33/‬‬ ‫ت ْ‬
‫{و ْاذ ُكرْ نَ َما‬ ‫فإن سياق الكالم معهن‪ .‬ولهذا قال بعد هذا كله‪َ :‬‬
‫ت هَّللا ِ َو ْال ِح ْك َم ِة} [األحزاب‪.]34/‬‬ ‫يُ ْتلَى فِي بُيُوتِ ُك َّن ِم ْن آيَا ِ‬
‫أي‪ :‬واعملن بما ينزل هللا تبارك وتعالى على رسوله ‪-‬صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ -‬في بيوتكن‪ ،‬من الكتاب والسنة‪ .‬قاله قتادة وغير‬
‫واحد‪.‬‬
‫صصْ تُ َّن بها من بين الناس‪ :‬أن‬ ‫واذ ُكرنَ هذه النعمة التي ُخ ِ‬
‫الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس‪ .‬وعائشة الصديقة بنت‬

‫‪164‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫الصديق ‪-‬رضي هللا عنها‪ -‬أواله َُّن بهذه النعمة‪ ،‬وأخصُّ ه َُّن من هذه‬
‫الرحمة العميمة‪ .‬فإنه لم ينزل على رسولـ هللا ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ -‬الوحي في فراش امرأة سواها‪ .‬كما نصَّ على ذلك صلوات‬
‫هللا وسالمه عليه‪.‬‬
‫وقال بعض العلماء‪ :‬ألنه لم يتزوج بكرًا سواها‪ ،‬ولم ينم معها‬
‫رجل في فراشهاـ سواه صلى هللا عليه وسلم‪ .‬فناسب أن تُخص َ‬
‫َّص‬
‫بهذه المزية‪ ،‬وأن تُفر َد بهذه المرتبة العليَّة‪ .‬ولكن إذا كان أزواجه‬
‫من أهل بيته‪ ،‬فقرابته أحق بهذه التسمية‪ ".‬انتهى من تفسير ابن‬
‫كثير‪.‬‬
‫• محبّة أهل البيت ومواالتهم‪:‬‬
‫فأهل السنة والجماعة يحبّون أهل بيت رسول هللا ‪-‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ -‬ويتولونهم‪ .‬ويحفظون فيهمـ وصية رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ ،‬حيث قال يوم غدير ُخم ‪( :‬أُذ ّك ُر ُكمـ هللا في ِ‬
‫أهل‬
‫بَيتِي) [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فأهل السنة يحبونهم ويكرمونهمـ ألن ذلك من محبة النبي‬
‫‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وإكرامه‪ .‬وذلك بشرط‪ :‬أن يكونوا متبعين‬
‫لل ُّسنَّة مستقيمين على ال ِملة‪ .‬كما كان عليه سلفهم كالعباس وبنوه‪،‬‬
‫وعلي وبنوه‪ .‬أما من خالف السنة‪ ،‬ولم يستقم على الدين‪ ،‬فإنه ال‬
‫تجوز مواالته ولو كان من أهل البيت‪.‬‬
‫فموقفـ أهل السنة والجماعة من أهل البيت موقف االعتدال‬
‫واإلنصاف‪.‬ـ يتولون أهل الدين واالستقامة منهم‪ ،‬ويتبرءون ممن‬
‫خالف السنة وانحرف عن الدين‪ ،‬ولو كان من أهل البيت‪ .‬فإن‬
‫كونه من أهل البيت ومن قرابة الرسول‪ ،‬ال ينفعه شيئًا حتى‬
‫يستقي َم على دين هللا‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫فقد روىـ أبو هريرة ‪-‬رضيـ هللا عنه‪ -‬قال‪ :‬قام رسول هللا‬
‫ك األَ ْق َربِينَ }‬ ‫{وأَن ِذرْ ع َِش َ‬
‫يرتَ َ‬ ‫صلى هللا عليه وسلم حين أنزل عليه‪َ :‬‬
‫[الشعراء‪.]214/‬‬
‫سكم‪ ،‬ال‬ ‫فقال‪( :‬يا َمعشَر قُ َريش ‪ -‬أو كلِمة نَحوهَا ‪ -‬اشتَروا أنفُ َ‬
‫أغنِي عَن ُكم ِمن هللا شَيئًا‪ ،‬يَا َعبّاس ابن عَبد ال ُمطّلب ال أغنِي‬
‫عَنك ِمن هللا شيئًا‪ ،‬يَا صفيّةُ ع ّمة َرسول هللا صلى هللا عليه‬
‫اطمة بنتَ مح ّمد‪ ،‬سلِينِي‬ ‫وسلم‪ ،‬اَل أغنِي عَنك ِمن هللا شيئًا‪ ،‬ويَا فَ ِ‬
‫شئت‪ ،‬اَل أغنِي عَنك ِمن هللا شَيئًا) [رواه البخاري]‪.‬‬ ‫ِمن َمالي َما ِ‬
‫سبُه) [رواه مسلم]‪.‬‬ ‫والحديث‪َ ( :‬من بَطَّأ َع َملُه لَم يُس ِرع بِه نَ َ‬
‫ويتبرأ أهل ال ُّسنَّة والجماعة من طريق الروافض؛ الذين يُغلون‬
‫في بعض أهل البيت‪ ،‬ويَ َّدعون لهم العصمة‪ .‬ومن طريقة‬
‫النواصب؛ الذين ينصبونـ العداوة ألهل البيت المستقيمين‪،‬‬
‫ويطعنون فيهم‪ .‬ومن طريقة المبتدعة والخرافيين الذين يتوسلونـ‬
‫بأهل البيت‪ ،‬ويتخذونهم أربابًا من دون هللا‪.‬‬
‫فأهل السنة في هذا الباب وغيره على المنهج المعتدل‪،‬‬
‫والصراطـ المستقيم الذي ال إفراطَـ فيه وال تفريط‪ ،‬وال جفاء وال‬
‫غل ّو في حق أهل البيت وغيرهم‪.‬‬
‫وأهل البيت المستقيمون يُنكرون الغلو فيهم‪ ،‬ويتبرؤون من‬
‫ال ُغالة‪ .‬فقد حرق أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ‪-‬رضي هللا‬
‫عنه‪ -‬الغالة الذين َغلَوا فيه بالنار‪ .‬وأقرّه ابنُ عباس ‪-‬رضي هللا‬
‫عنه‪ -‬على قتلهم‪ ،‬لكن يرى قتلهم بالسيف بداًل من التحريق‪.‬‬
‫وطلب علي ‪-‬رضي هللا عنهما‪ -‬عبد هللا بن سبأ رأس ال ُغالة ليقتله‪،‬‬
‫لكنه هرب واختفى‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫‪ ‬الفصل الخامس‪ :‬في فضل الصحابة وما يجب اعتقاده‬
‫فيهم ومذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث بينهم‬

‫‪ -1‬ما المراد بالصحابة‪ ،‬وما الذي يجب اعتقاده فيهم؟‬


‫• تعريف الصحابي‪:‬‬
‫الصحابة جمع صحابي‪ :‬وهو من لقي النبي ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ -‬مؤمنًا به ومات على ذلك‪.‬‬
‫• االعتقاد فيهم‪:‬‬
‫والذي يجب اعتقاده فيهمـ أنهم أفضل األمة‪ ،‬وخير القرون‬
‫لسبقهم واختصاصهم بصحبة النبي صلى هللا عليه وسلم والجهادـ‬
‫معه‪ ،‬وتحمل الشريعة عنه‪ ،‬وتبليغها لمن بعدهم‪ .‬وقد أثنى هللا‬
‫عليهم في محكم كتابه‪.‬‬
‫ار‬
‫ص ِـ‬ ‫قال تعالى‪َ { :‬والسَّابِقُونَ األَ َّولُونَ ِمنَ ْال ُمهَا ِج ِرينَ َواألَن َ‬
‫ُوا َع ْنهُ َوأَ َع َّد لَهُ ْم‬
‫َّض َي هَّللا ُ َع ْنهُ ْم َو َرض ْـ‬
‫ان ر ِ‬ ‫َوالَّ ِذينَ اتَّبَعُوهُمـ بِإِحْ َس ٍ‬
‫ت تَجْ ِري تَحْ تَهَا األَ ْنهَا ُر خَالِ ِدينَ فِيهَا أَبَدًا َذلِكَ ْالفَوْ ُز ْال َع ِظي ُم}‬ ‫َجنَّا ٍ‬
‫[التوبة‪.]100/‬‬
‫وقال تعالى‪ُّ { :‬م َح َّم ٌد َّرسُو ُل هَّللا ِ َوالَّ ِذينَ َم َعهُ أَ ِش َّدا ُء َعلَى ْال ُكفَّ ِ‬
‫ار‬
‫ُر َح َما ُء بَ ْينَهُ ْم تَ َراهُ ْم ُر َّكعًا ُس َّجدًا يَ ْبتَ ُغونَ فَضْ اًل ِّمنَ هَّللا ِ َو ِرضْ َوانًاـ‬
‫ِسي َماهُ ْم فِي ُوجُو ِه ِهم ِّم ْن أَثَ ِر ال ُّسجُو ِد َذلِكَ َمثَلُهُ ْم فِي التَّوْ َرا ِة َو َمثَلُهُ ْم‬
‫طأَهُ فَآزَ َرهُ فَا ْستَ ْغلَظَـ فَا ْست ََوىـ َعلَى‬ ‫ع أَ ْخ َر َج َش ْ‬ ‫يل َكزَرْ ٍ‬
‫نج ِ‬ ‫اإل ِ‬‫فِي ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫هَّللا‬
‫ار َو َع َد ُ ال ِذينَ آ َمنُوا َو َع ِملوا‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫الزرَّا َع لِيَ ِغيظَ بِ ِه ُم ال ُكف َ‬‫ْجبُ ُّ‬ ‫سُوقِ ِه يُع ِ‬
‫َظي ًما} [الفتح‪.]29/‬‬ ‫َ‬
‫ت ِم ْنهُم َّم ْغفِ َرةً َوأجْ ًراـ ع ِ‬‫الصَّالِ َحا ِ‬

‫‪167‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ُ‬ ‫وقال تعالى‪{ :‬لِ ْلفُقَ َراء ْال ُمهَ ِ‬
‫اج ِرينَ الَّ ِذينَ أ ْخ ِرجُواـ ِمن ِد ِ‬
‫يار ِه ْـم‬
‫صرُونَ هَّللا َ َو َرسُولَهُ‬ ‫َوأَ ْم َوالِ ِه ْم يَ ْبتَ ُغونَ فَضْ اًل ِّمنَ هَّللا ِ َو ِرضْ َوانًا َويَن ُ‬
‫ك هُ ُم الصَّا ِدقُونَ * َوالَّ ِذينَ تَبَ َّوؤُواـ ال َّدا َر َوا ِإلي َمانَ ِمن قَ ْبلِ ِه ْم‬ ‫أُوْ لَئِ َ‬
‫اجةً ِّم َّما أُوتُوا‬ ‫ُور ِه ْـم َح َ‬
‫صد ِ‬ ‫ي ُِحبُّونَ َم ْن هَا َج َر إِلَ ْي ِه ْم َوال يَ ِج ُدونَ فِي ُ‬
‫ق ُش َّح نَ ْف ِس ِه‬ ‫اصةٌ َو َمن يُو َ‬ ‫خَص َ‬‫َ‬ ‫َوي ُْؤثِرُونَ َعلَى أَنفُ ِس ِه ْم َولَوْ َكانَ بِ ِه ْم‬
‫ك هُ ُم ْال ُم ْفلِحُونَ } [الحشر‪.]9 ،8/‬‬ ‫فَأُوْ لَئِ َ‬
‫ففي هذه اآليات‪:‬‬
‫‪ -‬أن هللا سبحانه أثنى على المهاجرين واألنصار‪ ،‬ووصفهمـ‬
‫بالسبقـ إلى الخيرات‪.‬‬
‫‪ -‬وأخبر أنه قد رضي هللا عنهم‪ ،‬وأع ّد لهم الجنات‪.‬‬
‫‪ -‬ووصفهمـ بالتراحم فيما بينهم‪ ،‬وال ّش ّدة على ال ُكفَّ ِ‬
‫ار‪.‬‬
‫‪ -‬ووصفهمـ بكثرة الركوع والسجود‪ ،‬وصالح القلوب‪.‬‬
‫‪ -‬وأنهم يعرفون بسيما الطاعة واإليمان‪.‬‬
‫‪ -‬وأن هللا اختارهم لصحبة نبيه ليغيظ بهم أعداءه الكفار‪.‬‬
‫‪ -‬كما وصفـ المهاجرين بترك أوطانهم وأموالهمـ من أجل هللا‬
‫ونصرة دينه‪ ،‬وابتغاء فضله ورضوانه‪.‬‬
‫‪ -‬وأنهم صادقونـ في ذلك‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪ -‬ووصفـ األنصار بأنهم أهل دار الهجرة والنصرة‪ ،‬واإليمان‬
‫الصادق‪.‬ـ‬
‫‪ -‬ووصفهمـ بمحبة إخوانهم المهاجرين‪ ،‬وإيثارهم على أنفسهم‪،‬‬
‫و ُمواساتهمـ لهم‪ ،‬وسالمتهمـ من الشح‪ .‬وبذلك حازواـ على الفالح‪.‬‬
‫هذه بعض فضائلهم العامة‪ ،‬وهناك فضائل خاصة ومراتب‬
‫يفضل بها بعضهم بعضًا‪ ،‬رضي هللا عنهم‪ ،‬وذلك بحسب سبقهم‬
‫إلى اإلسالم والجهاد والهجرة‪.‬‬
‫• أفضل الصحابة‪:‬‬

‫‪168‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫فأفضل الصحابة الخلفاء األربعة؛ أبو بكر وعمر وعثمان‬
‫وعلي‪ .‬ثم بقية العشرة المبشرين بالجنة؛ وهم هؤالء األربعة‬
‫وطلحة‪ ،‬والزبير‪ ،‬وعبد الرحمن بن عوف‪ ،‬وأبو عبيدة بن‬
‫الجراح‪ ،‬وسعد بن أبي وقاص‪ ،‬وسعيد بن زيد‪ .‬ويَ ْف ُ‬
‫ض ُل‬
‫المهاجرون على األنصار‪ ،‬وأهل بدر وأهل بيعة الرضوان‪.‬‬
‫ويَ ْفضُل من أسلم قبل الفتح وقاتل على من أسلم بعد الفتح‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ مذهب أهل السنة والجماعة فيما حدث بين الصحابة‬


‫من القتال والفتنة‬
‫سبب الفتنة‪:‬‬
‫تآ َم َر اليهو ُد على اإلسالم وأهله‪ .‬فدسوا ماكرًا خبيثًا تظاهر‬
‫باإلسالم كذبًا وزورًا‪ ،‬هو‪ :‬عبد هللا بن سبأ‪ ،‬من يهود اليمن‪ .‬فأخذ‬
‫هذا اليهودي ينفث حقده وسمومه ضد الخليفة الثالث من الخلفاء‬
‫الراشدين‪ :‬عثمان بن عفان ‪-‬رضي هللا عنه وأرضاه‪ .‬ويختلقـ‬
‫التهم ضده‪ ،‬فالتفـ حوله من انخدع به من قاصريـ النظر‬
‫وضعافـ اإليمان ومحبي الفتنة‪.‬‬
‫وانتهت المؤامرة بقتل الخليفة الراشد عثمان ‪-‬رضي هللا عنه‪-‬‬
‫مظلو ًما‪ .‬وعلى أثر مقتله حصل االختالف بين المسلمين‪ ،‬وشبَّت‬
‫بتحريض من هذا اليهوديـ وأتباعه‪ .‬وحصل القتال بين‬
‫ٍ‬ ‫الفتنةُ‬
‫الصحابة عن اجتها ٍد منهم‪.‬‬
‫قال شارح الطحاوية‪" :‬إن أصل الرفض إنما أحدثه منافقـ‬
‫زنديق‪ .‬قص ُدهُ إبطال دين اإلسالم‪ ،‬والقدح في الرسولـ ‪-‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ -‬كما ذكر ذلك العلماء‪ .‬فإن عبد هللا بن سبأ؛ ل ّما أظهر‬
‫اإلسالم‪ ،‬أراد أن يُفسد دين اإلسالم بمكره وخبثه ‪-‬كما فعل بولس‬

‫‪169‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫بدين النصرانية‪ -‬فأظهر التنسك‪ .‬ثم أظهر األمر بالمعروف‬
‫َ‬
‫والنهي عن المنكر‪ ،‬حتى سعى في فتنة عثمان وقتله‪ .‬ثم ل ّما ق ِد َم‬
‫على الكوفة أظهر ال ُغل َّو في علي والنصر له ليتمكن بذلك من‬
‫أغراضه‪ .‬وبلغ ذلك عليًّا فطلب قتله‪ ،‬فهرب منه إلى قرقيس‪.‬‬
‫وخبره معروف في التاريخ‪".‬‬
‫وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه هللا‪" :‬فلما قُتل عثمان‬
‫رضي هللا عنه‪ ،‬تفرقت القلوب وعظُ َمت الكروب‪ ،‬وظهرت‬
‫األشرار و َذ َّل األخيار‪ .‬وسعى في الفتنة من كان عاج ًزا عنها‪،‬‬
‫وعجز عن الخير والصالح من كان يحب إقامته‪ .‬فبايعوا أمير‬
‫المؤمنين علي بن أبي طالب ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬وهو أحق الناس‬
‫بالخالفة حينئذ‪ ،‬وأفضل من بقي‪ .‬لكن كانت القلوب متفرقة‪ ،‬ونار‬
‫الفتنة متوقدة‪ .‬فلم تتّفق الكلمة‪ ،‬ولم تنتظم الجماعة‪ ،‬ولم يتمكن‬
‫الخليفة وخيارـ األمة من ك ّل ما يريدونه من الخير‪ ،‬ودخل في‬
‫الفرقة والفتنة أقوام‪ ،‬وكان ما كان‪".‬‬
‫وقال أيضًا مبيّنًا عذر المتقاتلين من الصحابة في قتال علي‬
‫ع الخالفة‪ ،‬ولم يُبايَع له بها حين قاتل‬ ‫ومعاوية‪" :‬ومعاوية لم يَ َّد ِ‬
‫عليًّا‪ .‬ولم يقاتل على أنه خليفة‪ ،‬وال أنه يستحق الخالفة‪ .‬وكان‬
‫معاوية يقر بذلك ل َمن سأله عنه‪ .‬وال كان معاوية وأصحابه يَرونَ‬
‫أن يبتدئواـ عليًّا وأصحابه بالقتال‪ .‬وال فعلوا‪ ،‬بل ل ّما رأى علي‬
‫‪-‬رضيـ هللا عنه‪ -‬وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته‪ ،‬إذ ال‬
‫يكون للمسلمين إال خليفة واحد‪ ،‬وأنهم خارجون عن طاعته؛‬
‫يمتنعون عن هذا الواجب‪ ،‬وهم أهل شوكة‪ :‬رأى أن يُقاتلهم حتى‬
‫يؤدوا هذا الواجب‪ ،‬فتحصل الطاعة والجماعة‪.‬‬
‫وهم قالوا‪ :‬إن ذلك ال يجب عليهم‪ ،‬وأنهم إذا قوتلوا على ذلك‬
‫كانوا مظلومين‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫قالوا‪ :‬ألن عثمان قُتِ َل مظلو ًما باتفاق المسلمين‪ ،‬وقتلته في‬
‫عسكر علي‪ ،‬وهم غالبون لهُم شوكة‪ .‬فإذا امتنعنا‪ :‬ظلمونا واعتدوا‬
‫علينا‪ .‬وعلي ال يمكنه دفعهم‪ ،‬كما لم يمكنه الدفع عن عثمان‪ .‬وإنما‬
‫علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن يُنصفنا ويبذل لنا اإلنصاف‪".‬ـ‬

‫‪3‬ـ ومذهبـ أهل السنة والجماعة في االختالف الذي حصل‬


‫والفتنة التي وقعت من جرائها الحروب بين الصحابة‪ ،‬يتلخص‬
‫في أمرين‪:‬‬
‫يمسكون عن الكالم فيما حصل بين الصحابة‬ ‫األمر األول‪ :‬أنهم ِ‬
‫ويكفون عن البحث فيه‪ ،‬ألن طريقـ السالمة هو السكون عن مثل‬
‫{ربَّنَا ا ْغفِرْ لَنَا َو ِإل ْخ َوانِنَاـ الَّ ِذينَ َسبَقُونَا بِا ِإلي َما ِن َوال‬
‫هذا‪ .‬ويقولون‪َ :‬‬
‫ٌ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫تَجْ َعلْ فِي قُلُوبِنَاـ ِغال لل ِذينَ آ َمنوا َربَّنَا إِنكَ َرؤُوف َّر ِحي ٌم} [الحشر‪/‬‬
‫ِّ‬
‫‪.]10‬‬
‫األمر الثاني‪ :‬اإلجابة عن اآلثار المروية في مساويهم‪.‬ـ‬
‫وذلك من وجوه‪:‬‬
‫الوجه األول‪ :‬أن هذه اآلثار منها ما هو كذب؛ قد افتراه‬
‫أعداؤهم ليشوهواـ سمعتهم‪.‬‬
‫الوجه الثاني‪ :‬أن هذه اآلثار منها ما قد زيد ونقص فيه‪ ،‬و ُغيِّ َر‬
‫عن وجهه الصحيح‪ ،‬ودخله الكذب‪ ،‬فهو محرف ال يلتفت إليه‪.‬‬
‫الوجه الثالث‪ :‬أن ما صح من هذه اآلثار ‪-‬وهو القليل‪ -‬هم فيه‬
‫معذورون ألنهم إما مجتهدون مصيبون‪ ،‬وإما مجتهدون‬
‫مخطئون‪ .‬فهو من موارد االجتهاد الذي إن أصاب المجتهد فيه‬
‫فله أجران‪ ،‬وإن أخطأ فله أجر واحد‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫والخطأ مغفور‪ .‬ل َما في الحديث‪ :‬أن رسول هللا صلى هللا عليه‬
‫وسلم قال‪( :‬إ َذا اجتَه َد الحا ِك ُم فَ َ‬
‫أصاب فَلَه أج َران‪َ ،‬وإن اجتَ َهد‬
‫أجر َوا ِحد) [في الصحيحين من حديث عمرو بن‬ ‫فَأخطَأ فَلَه ْ‬
‫العاص رضي هللا عنهما]‪.‬‬
‫الوجه الرابع‪ :‬أنهم ب َشر يجوزـ على أفرادهم الخطأ‪ ،‬فهم ليسوا‬
‫معصومين من الذنوب بالنسبة لألفراد‪ .‬لكن ما يقع منهم فله‬
‫مكفرات عديدة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪1‬ـ أن يكون قد تاب منه‪ .‬والتوبة تمحو السيئة مهما كانت‪ ،‬كما‬
‫جاءت به األدلة‪.‬‬
‫‪2‬ـ أن لهُم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما صدرـ‬
‫ت ي ُْذ ِه ْبنَ السَّـيِّئَا ِ‬
‫ت}‬ ‫منهم‪ ،‬إن صدر‪ .‬قال تعالى‪{ :‬إِ َّن ْال َح َسنَا ِ‬
‫[هود‪.]114/‬‬
‫ولهُم من الصُّ حبة والجهاد مع رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ -‬ما يغمر الخطأ الجزئي‪.‬‬
‫‪3‬ـ أنهم تُضاعفُ لهُم الحسنات أكثر من غيرهم‪ ،‬وال يساويهمـ‬
‫أحد في الفضل‪.‬‬
‫وقد ثبت بقول رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أنهم خير‬
‫القرون‪ ،‬وأن ال ُم َّد من أحدهم إذا تصدق به أفضل من جبل أُحد‬
‫ذهبًا إذا تصدق به غيرهم ‪-‬رضي هللا عنهم‪ -‬وأرضاهم‪.‬ـ‬
‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه هللا‪" :‬وسائر أهل السنة‬
‫والجماعة وأئمة الدين ال يعتقدون عصمة أحد من الصحابة‪ ،‬وال‬
‫القرابة وال السابقين وال غيرهم‪ .‬بل يجوز عندهم وقوعـ الذنوب‬

‫‪172‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫منهم‪ .‬وهللا تعالى يغف ُر لهم بالتوبة‪ ،‬ويرفعـ لها درجاتهم‪،‬ـ ويغفر‬
‫لهم بحسنات ماحية‪ ،‬أو بغير ذلك من األسباب‪.‬‬
‫ق بِ ِه أُوْ لَئِكَ هُ ُم ْال ُمتَّقُونَ‬ ‫ص َّد َـ‬ ‫ق َو َ‬‫قال تعالى‪َ { :‬والَّ ِذيـ َجا َء بِالصِّ ْد ِ‬
‫‪ 33‬لَهُم َّما يَ َشاءُونَ ِعن َد َربِّ ِه ْم َذلِكَ َج َزا ُء ْال ُمحْ ِسنِينَ * لِيُ َكفِّ َر هَّللا ُ‬
‫َع ْنهُ ْم أَس َْوأَ الَّ ِذي َع ِملُوا َويَجْ ِزيَهُْـم أَجْ َرهُم بِأَحْ َس ِن الَّ ِذي َكانُوا‬
‫يَ ْع َملُونَ } [الزمر‪.]35-32/‬‬
‫ال َربِّ‬ ‫وقال تعالى‪َ { :‬حتَّى إِ َذا بَلَ َغ أَ ُش َّدهُ َوبَلَ َغ أَرْ بَ ِعينَ َسنَةً قَ َ‬
‫ي َوأَ ْن‬ ‫ي َو َعلَى َوالِ َد َّ‬ ‫ك الَّتِي أَ ْن َع ْمتَ َعلَ َّ‬ ‫أَوْ ِز ْعنِي أَ ْن أَ ْش ُك َر نِ ْع َمتَ َ‬
‫ك َوإِنِّي‬ ‫ْت إِلَ ْي َ‬‫ضاهُ َوأَصْ لِحْ لِي فِي ُذ ِّريَّتِي إِنِّي تُب ُ‬ ‫صالِحًا تَرْ َ‬ ‫أَ ْع َم َل َ‬
‫ك الَّ ِذينَ نَتَقَبَّ ُل َع ْنهُ ْم أَحْ َسنَ َما َع ِملُوا َونَتَجا َو ُـز‬ ‫ِمنَ ْال ُم ْسلِ ِمينَ * أُوْ لَئِ َ‬
‫ب ْال َجنَّ ِة} [األحقاف‪ ".]16 ،15/‬انتهى‪.‬‬ ‫عَن َسيِّئَاتِ ِه ْم فِي أَصْ َحا ِ‬
‫وقد اتخذ أعداء هللا ما وقع بين الصحابة وقت الفتنة من‬
‫االختالف واالقتتال سببًا للوقيعة بهم‪ ،‬والنيل من كرامتهم‪.‬‬
‫وقد جرى على هذا المخطط الخبيث بعض الكتّاب‬
‫المعاصرين؛ الذين يهرفون بما ال يعرفون‪ .‬فجعلوا أنفسهم حك ًما‬
‫ضهم‪،‬‬ ‫بين أصحاب رسولـ هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬يصوّبون بع َ‬
‫بعضهم‪ ،‬بال دليل؛ بل بالجهل واتباع الهوى‪ ،‬وترديدـ ما‬‫َ‬ ‫ويخطئون‬
‫يقوله المغرضون والحاقدون من المستشرقين وأذنابهم‪.‬ـ‬
‫حتى شككواـ بعض ناشئة المسلمين ‪-‬ممن ثقافتهم ضحلة‪-‬‬
‫بتاريخ أمتهم المجيد‪ ،‬وسلفهم الصالح الذين هم خير القرون‪،‬‬
‫لينفذوا بالتالي إلى الطعن في اإلسالم‪ ،‬وتفريق كلمة المسلمين‪،‬‬
‫وإلقاء البُغض في قلوب آخر هذه األمة ألولها‪ ،‬بداًل من االقتداء‬
‫{والَّ ِذينَ َجاؤُوا ِمن بَ ْع ِد ِه ْم‬
‫بالسلف الصالح‪ ،‬والعمل بقوله تعالى‪َ :‬‬

‫‪173‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫يَقُولُونَ َربَّنَا ا ْغفِرْ لَنَا َو ِإل ْخ َوانِنَا الَّ ِذينَ َسبَقُونَا بِا ِإلي َما ِن َوال تَجْ َعلْ‬
‫َّحي ٌم} [الحشر‪.]10/‬‬ ‫ُوف ر ِ‬‫فِي قُلُوبِنَا ِغاًل لِّلَّ ِذينَ آ َمنُوا َربَّنَا إِنَّكَ َرؤ ٌـ‬

‫‪ ‬الفصل السادس‪ :‬في النهي عن سب الصحابة وأئمة‬


‫الهدى‬

‫‪1‬ـ النهي عن سب الصحابة‬


‫من أصول أهل السنة والجماعة‪ :‬سالمة قلوبهم وألسنتهمـ‬
‫ألصحاب رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ ،‬كما وصفهم هللا بذلك‬
‫{والَّ ِذينَ َجاؤُواـ ِمن بَ ْع ِد ِه ْم يَقُولُونَ َربَّنَا ا ْغفِرْ لَنَا‬
‫في قوله تعالى‪َ :‬‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫اًل‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ان َوال تَجْ َعلْ فِي قلوبِنَاـ ِغ لل ِذينَ‬ ‫َو ِإل ْخ َوانِنَاـ الَّ ِذينَ َسبَقونَا بِ ِ‬
‫اإلي َم ِ‬ ‫ُ‬
‫َّحي ٌم} [الحشر‪.]10/‬‬ ‫آ َمنُوا َربَّنَا إِنَّكَ َرؤ ٌـ‬
‫ُوف ر ِ‬
‫وطاعة لرسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬في قوله‪( :‬اَل تَ ُ‬
‫س ُّبوا‬
‫أح ُد ُكم ِمث َل أُ ُحد َذهبًا َما‬
‫ق َ‬ ‫أصحابي‪ ،‬فَوالذي نَ ِ‬
‫فسي بيَ ِده لَو أنفَ َ‬ ‫َ‬
‫صيفَه) [الحديث متفق عليه]‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫َ‬ ‫ال‬‫و‬‫بَلَغ ُ َ ِ َ‬
‫هم‬ ‫د‬ ‫أح‬ ‫د‬
‫َّ‬ ‫م‬
‫ويتبرءون من طريقة الرافضة والخوارج الذين يسبون‬
‫الصحابة ‪-‬رضي هللا عنهم‪ -‬ويبغضونَهم‪ ،‬ويجحدونَ فضائلهم‪،‬‬
‫ويكفرون أكثرهم‪.‬‬
‫وأهل السنة يقبلون ما جاء في الكتاب والسنة من فضائلهم‪،‬‬
‫ويعتقدون أنهم خير القرون‪ .‬كما قال النبي صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫(خي ُر ُكم قَرني‪ )...‬الحديث [الحديث في الصحيحين]‪.‬‬
‫َ‬
‫ول َما ذكر صلى هللا عليه وسلم افتراق األمة إلى ثالث وسبعين‬
‫فرقة‪ ،‬وأنها في النار إال واحدة‪ ،‬وسألوه عن تلك الواحدة‪ ،‬قال‪:‬‬

‫‪174‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫(هُم َمن كانَ عَلى ِمثل َما أنَا َعلَيه اليَو َم َو َ‬
‫أصحابي) [رواه اإلمام‬
‫أحمد وغيره]‪.‬‬
‫قال أبو زرعة ‪-‬وهو أج ّل شيوخ اإلمام مسلم‪" :‬إذا رأيت‬
‫الرجل يتنقص امر ًءا من الصحابة‪ ،‬فاعلم أنه زنديق‪ .‬وذلك أن‬
‫القرآن حق‪ ،‬والرسول حق‪ ،‬وما جاء به حق‪ ،‬وما أدى إلينا ذلك‬
‫كله إال الصحابة‪ .‬فمن جرحهمـ إنما أراد إبطال الكتاب وال ُّسنَّة‪.‬‬
‫فيكون الجرح به أليق‪ ،‬والحكم عليه بالزندقة والضالل أقوم‬
‫وأحق‪".‬‬
‫قال العالمة ابن حمدان في نهاية المبتدئين‪" :‬من َسبَّ أحدًا من‬
‫الصحابة ُمستحاًل ‪ ،‬كفر؛ وإن لم يستح ّل‪ ،‬فسق‪ ،‬وعنه‪ :‬يكفر‬
‫مطلقًا‪ ،‬ومن فَسَّقهم‪ ،‬أو طعن في دينهم‪ ،‬أو كفَّرهم؛ كفر ‪.‬‬

‫سب أئ ّمة الهدى من علماء هذهـ األ ّمة‬


‫‪ 2‬ـ النهي عن ّ‬
‫يلي الصحابة في الفضيلة والكرامة والمنزلة‪ :‬أئمة الهدى من‬
‫التابعين وأتباعهم من القرون المفضلة‪ ،‬ومن جاء من بعدهم ممن‬
‫تبع الصحابة بإحسان‪.‬‬
‫ار‬
‫نص ِ‬ ‫اج ِرينَ َواألَ َ‬ ‫كما قال تعالى‪َ { :‬والسَّابِقُونَ األَ َّولُونَ ِمنَ ْال ُمهَ ِ‬
‫ُوا َع ْنهُ} [التوبة‪/‬‬ ‫َّض َي هَّللا ُ َع ْنهُ ْم َو َرض ْـ‬
‫ان ر ِ‬ ‫َوالَّ ِذينَ اتَّبَعُوهُمـ بِإِحْ َس ٍ‬
‫‪ .]100‬اآلية‪.‬‬
‫فال يجو ُـز تَنقّصهم وسبّهم ألنهم أعالم هدى‪ .‬فقد قال تعالى‪:‬‬
‫ق ال َّرسُو َل ِمن بَ ْع ِد َما تَبَيَّنَ لَهُ ْالهُدَى َويَتَّبِ ْع َغ ْي َر َسبِي ِل‬ ‫{ َو َمن يُ َشاقِ ِـ‬
‫صيرًا}ـ [النساء‪/‬‬ ‫ت َم ِ‬ ‫ْال ُم ْؤ ِمنِينَ نُ َولِّ ِه َما ت ََولَّى َونُصْ لِ ِه َجهَنَّ َم َو َسا َء ْ‬
‫‪.]115‬‬

‫‪175‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫قال شارح الطحاوية‪" :‬فيجبُ على كل مسلم بعد ُمواالة هللا‬
‫ورسوله‪ :‬مواالة المؤمنين؛ كما أطلق القرآن‪ ،‬خصوصًا الذين هُم‬
‫ورثة األنبياء‪ ،‬الذين جعلهم هللا بمنزلة النجوم‪ ،‬يُهتدى بهم في‬
‫ظلمات البر والبحر‪ .‬وقد أجم َع المسلمون على هدايتهمـ ودرايتهم‪.‬‬
‫فإنهم ُخلفاء الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬في أمته‪،‬‬
‫وال ُمحيون ل َما مات من سنته‪ .‬فبِهم قام الكتاب وبه قاموا‪ ،‬وبهم‬
‫نطق الكتاب وبه نطقوا‪ .‬وكلهم متفقون اتفاقًا يقينًا على وجوب‬
‫اتباع الرسولـ صلى هللا عليه وسلم‪ .‬ولكن‪ :‬إذا وجد لواحد منهم‬
‫قول قد جاء حديث صحيح بخالفه‪ ،‬فالبد له في تركه من عذر‪".‬‬
‫وجماع األعذار ثالثة أصناف‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬عدم اعتقاده أن النبي صلى هللا عليه وسلم قاله‪.‬‬
‫الثاني‪ :‬عدم اعتقاده أنه أراد تلك المسألة بذلك القول‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬اعتقاده أن الحكم منسوخ‪.‬‬
‫فلهم الفضل علينا وال ِمنة بالسبقـ وتبليغ ما أرسل به الرسول‬
‫‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬إلينا‪ ،‬وإيضاحـ ما كان منه يخفى علينا‪.‬‬
‫{ربَّنَا ا ْغفِرْ لَنَا وَإِل ِ ْخ َوانِنَاـ الَّ ِذينَ َسبَقونَا‬
‫ُ‬ ‫فرضيـ هللا عنهم وأرضاهمـ َ‬
‫ك َرؤ ٌ‬
‫ُوف‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫اًّل‬
‫بِا ِإلي َما ِن َوال تَجْ َعلْ فِي قُلُوبِنَاـ ِغ لل ِذينَ آ َمنُوا َربَّنَا إِنَّ َ‬
‫َّحي ٌم} [الحشر‪.]10/‬‬ ‫ر ِ‬
‫والحطّ من قدر العلماء بسبب وقوع الخطأ االجتهادي من‬
‫بعضهم‪ ،‬هو من طريقة المبتدعة؛ ومن ُمخططات أعداء األمة‬
‫للتشكيك في دين اإلسالم‪ ،‬وإليقاع العداوة بين المسلمين‪ ،‬وألجل‬
‫وبث الفرقة بين الشباب والعلماء‪،‬‬ ‫فصل خلف األمة عن سلفها‪ّ ،‬‬
‫كما هو الواقع اآلن‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫فليتنبه لذلك بعض الطلبة المبتدئين ‪-‬الذين يحطون من قدر‬
‫الفقهاء‪ ،‬ومن قدر الفقه اإلسالمي‪ ،‬ويزهدون في دراسته‪،‬‬
‫واالنتفاع بما فيه من حق وصواب‪ .‬فليعتزوا بفقههم‪ ،‬وليحترموا‬
‫علماءهم‪ .‬وال ينخدعوا بالدعايات المضللة والمغرضة‪ .‬وهللا‬
‫ال ُموفق‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫الباب السادس‪ :‬البـدع‬

‫ويتضمن الفصول التالية‪:‬‬


‫‪ :‬تعريف البدعة ‪ -‬أنواعها ‪ -‬أحكامها‪.‬‬ ‫الفصل األول‬
‫‪ :‬ظهور البدع في حياة المسلمين‪ ،‬واألسباب‬ ‫الفصل الثاني‬
‫التي أ َّدت إليها‪.‬‬
‫‪ :‬موقف األمة اإلسالمية من المبتدعة‪ ،‬ومنهج‬ ‫الفصل الثالث‬
‫أهل السنة والجماعة في ال َّر ِّد عليهم‪.‬‬
‫صرة‬
‫‪ :‬في الكالم على نماذج من البدع المعا ِ‬ ‫الفصل الرابع‬
‫وهي‪:‬‬
‫‪ -1‬االحتفال بالموالد النبوي‪.‬‬
‫‪ -2‬التّب ّرك باألماكن واآلثار واألموات‪ ،‬ونحو‬
‫ذلك‪.‬‬
‫‪ -3‬البدع في مجال العبادات والتّقرّب إلى هللا‪.‬‬

‫‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫الفصل األول‪ :‬تعريف البدعة‪ ،‬أنواعها وأحكامها‬

‫‪ 1‬ـ تعريف البدعة‬


‫• البدعة في اللغة‪:‬‬
‫مأخوذة من البَ ْدع‪ ،‬وهو االختراع على غير مثال سابق‪ ،‬ومنه‬
‫ض} [البقرة‪.]117/‬‬ ‫ت َواألَرْ ِ‬ ‫قوله تعالى‪{ :‬بَ ِدي ُع ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫أي مخترعها على غير مثال سابق‪ ،‬قوله تعالى‪{ :‬قُلْ َما ُك ُ‬
‫نت‬
‫بِ ْدعًا ِّم ْن الرُّ ُس ِل} [األحقاف‪.]9/‬‬
‫أي‪ :‬ما كنت أول من جاء بالرسالة من هللا إلى العباد‪ ،‬بل‬
‫تقدمني كثير من الرسل‪.‬‬
‫ويقال‪ :‬ابتدع فالن بدعة‪ ،‬يعني‪ :‬ابتدأ طريقة لم يسبق إليها‪.‬‬
‫• أنواع االبتداع‪:‬‬
‫واالبتداع على قسمين‪:‬‬
‫ابتداع في العادات كابتداع المخترعات الحديثة‪ ،‬وهذا مباح؛‬
‫ألن األصل في العادات‪ :‬اإلباحة‪.‬‬
‫وابتداع في الدين‪ ،‬وهذا ُمحرَّم ألن األصل فيه التوقيف‪.‬ـ قال‬
‫يس ِمنه فَ ُهو‬
‫َث في أم ِرنَا هذا َما لَ َ‬‫صلى هللا عليه وسلم‪َ ( :‬من أحد َ‬
‫َردّ) [رواه البخاري ومسلم]‪.‬‬
‫يس َعلَيه أم ُرنا فَ ُهو َردّ) [في‬
‫وفي رواية‪َ ( :‬من َع ِمل َع َماًل لَ َ‬
‫صحيح مسلم]‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫‪ 2‬ـ أنواع البدع‬
‫البدعة في الدين نوعان‪:‬‬
‫النوع األول‪ :‬بدعة قوليّة اعتقاديّة‪.‬‬

‫كمقاالت الجهميّة والمعتزلة والرّافضة‪ ،‬وسائرـ الفرق الضّالّة‪،‬‬


‫واعتقاداتهم‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬بدعة في العبادات‪.‬‬

‫كالتّعبّد هلل بعبادة لم يشرعها‪ ،‬وهي أقسام‪:‬‬


‫القسم األول‪ :‬ما يكون في أصل العبادة‪.‬‬
‫بأن يحدث عبادة ليس لها أصل في الشرع ‪-‬كأن يحدث صالة‬
‫غير مشروعة أو صيا ًما غير مشروعـ أصاًل ‪ ،‬أو أعيادًا غير‬
‫مشروعة كأعياد الموالد وغيرها‪.‬‬
‫القسم الثاني‪ :‬ما يكون من الزيادة في العبادة المشروعة‪ .‬كما‬
‫لو زاد ركعة خامسة في صالة الظهر أو العصر مثاًل ‪.‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬ما يكون في صفة أداء العبادة المشروعة‪.‬‬
‫بأن يؤديها على صفة غير مشروعة‪ .‬وذلك كأداء األفكار‬
‫المشروعة بأصوات جماعية ُمطربة‪ ،‬وكالتشديدـ على النفس في‬
‫العبادات إلى حد يخرج عن سنة الرسول صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫القسم الرابع‪ :‬ما يكون بتخصيص وقت للعبادة المشروعة لم‬
‫يخصصه الشرع‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫كتخصيص يوم النصف من شعبان وليلته بصيامـ وقيام‪ .‬فإن‬
‫أصل الصيام والقيام مشروع‪،‬ـ ولكن تخصيصه بوقت من األوقات‬
‫يحتاج إلى دليل‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ حكم البدعة في الدين بجميع أنواعها‬


‫كل بدعة في الدين فهي محرّمة وضاللة‪ ،‬لقوله صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪َ ( :‬وإيّا ُكمـ و ُمحدَثات األمور‪ ،‬فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة‬
‫ضاللة) [رواه الترمذيـ وقال‪ :‬حديث حسن صحيح]‪.‬‬
‫َث في أم ِرنَا هذا َما لَ َ‬
‫يس‬ ‫وقوله صلى هللا عليه وسلم‪َ ( :‬من أحد َ‬
‫ِمنه فَ ُهو َردّ) [متفق عليه]‪ .‬وفيـ رواية‪َ ( :‬من َع ِمل َع َماًل لَ َ‬
‫يس‬
‫َعلَيه أم ُرنَا فَ ُهو َردّ) [رواه مسلم]‪.‬‬
‫فدل الحديثان على أن كل محدث في الدين فهو بدعة‪ ،‬وكل‬
‫بدعة ضاللة مردودة‪ .‬ومعنىـ ذلك أن البدع في العبادات‬
‫واالعتقادات محرمة‪ ،‬ولكن التحريم يتفاوت بحسب نوعية البدعة‪.‬‬
‫فمنها ما هو كفر صراح‪ ،‬كالطواف بالقبور تق ّربًا إلى أصحابها‪،‬‬
‫وتقديم الذبائح والنذور لها‪ ،‬ودعاء أصحابها‪ ،‬واالستغاثة بهم‪،‬‬
‫وكأقوالـ غالة الجهمية والمعتزلة‪.‬‬
‫ومنها ما هو من وسائل الشرك‪ ،‬كالبناء على القبورـ والصالة‬
‫والدعاء عندها‪.‬‬
‫ومنها ما هو فسق اعتقادي كبدعة الخوارج والقدرية‬
‫والمرجئة في أقوالهم واعتقاداتهم ال ُمخالفة لألدلة الشرعية‪.‬‬
‫ومنها ما هو معصية كبدعة التبتل والصيام قائ ًما في الشمس‪،‬‬
‫والخصاء بقصد قطع شهوة الجماع‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫• تنبيـه‪:‬‬
‫من قَ َّس َم البدعة إلى بدعة حسنة‪ ،‬وبدعة سيئة‪ ،‬فهو مخطئ‬
‫ومخالف لقوله صلى هللا عليه وسلم‪( :‬فَإن ك ّل بِدعَة َ‬
‫ضاَل لَة) ألن‬
‫الرسول ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬حكم على البدع كلها بأنها ضاللة‪،‬‬
‫وهذا يقول‪ :‬ليس كل بدعة ضاللة؛ بل هناك بدعة حسنة‪.‬‬
‫قال الحافظُـ ابنُ رجب في شرح األربعين‪" :‬فقوله صلى هللا‬
‫ضاَل لَة) من جوامع الكلم؛ ال يخرج عنه‬ ‫عليه وسلم‪ُ ( :‬ك ّل بِدعَة َ‬
‫شيء‪ .‬وهو أصل عظيم من أصول الدين‪ .‬وهو شبيه بقوله صلى‬
‫يس ِمنه فَ ُهو َردّ)‪ .‬فكل‬
‫َث في أم ِرنَا َما لَ َ‬
‫هللا عليه وسلم‪َ ( :‬من أحد َ‬
‫من أحدث شيئًا ونسبَهُ إلى الدين‪ ،‬ولم يكن له أصل من الدين‬
‫يرجع إليه‪ ،‬فهو ضاللة‪ ،‬والدين بريء منه‪ .‬وسواء في ذلك مسائل‬
‫االعتقادات‪ ،‬أو األعمال أو األقوال الظاهرة والباطنة‪ ".‬انتهى‪.‬‬
‫وليس لهؤالء حجة على أن هناك بدعة حسنة‪ ،‬إال قول عمر‬
‫رضي هللا عنه في صالة التراويح‪( :‬نِع َمت البِدعَة ه ِذه)‪.‬‬
‫وقالوا أيضًا‪ :‬أنها أُحدثت أشياء لم يستنكرها السلف‪ ،‬مثل جمع‬
‫القرآن في كتاب واحد‪ ،‬وكتابة الحديث وتدوينه‪.‬‬
‫والجواب عن ذلك أن هذه األمور لها أصل في الشرع‪ ،‬فليست‬
‫ُمحدثة‪.‬‬
‫وقول عمر‪( :‬نِع َمت البِدعَة‪ )...‬يري ُد البدعة اللغوية ال‬
‫الشرعيّة‪ .‬فما كان له أصل في الشرع يُر َج ُع إليه‪ .‬إذا قيل‪ :‬إنه‬
‫بدعة‪ ،‬فهو بدعةٌ لغةً ال شرعًا ألن البدعة شرعًا‪ :‬ما ليس له أصل‬
‫في الشرع‪.‬‬

‫‪182‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وجمع القرآن في كتاب واحد له أصل في الشرع ألن النبي‬
‫‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬كان يأمر بكتابة القرآن‪ ،‬لكن كان مكتوبًاـ‬
‫متفرقًا‪ ،‬فجمعه الصحابة ‪-‬رضي هللا عنهم‪ -‬في مصحف واحد‬
‫حفظًا له‪.‬‬
‫والتراويح قد صالها النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬بأصحابه‬
‫ف عنهم في األخير خشية أن تفرض عليهم‪ .‬واستم ّر‬ ‫ليالي‪ .‬وتخلَّ َـ‬
‫الصحابةُ ‪-‬رضي هللا عنهم‪ -‬يصلونهاـ أوزاعًا متفرقين في حياة‬
‫النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وبعد وفاته‪ ،‬إلى أن جمعهم عمر بن‬
‫الخطاب ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬على إمام واحد كما كانوا خلف النبي‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ .‬وليس هذا بدعة في الدين‪.‬‬
‫وكتابةُ الحديث أيضًا لها أصل في الشرع‪ .‬فقد أمر النبي‬
‫‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬بكتابة بعض األحاديث لبعض أصحابه؛‬
‫ل ّما طلب منه ذلك‪ .‬وكان أبو هريرة ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬يكتب‬
‫الحديث في عهد النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪.‬ـ وكان المحذور من‬
‫كتابته بصفة عامة في عهده‪ :‬خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس‬
‫منه‪ .‬فل ّما تُوفّيـ ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬انتفى هذا المحذورـ ألن‬
‫القرآن قد تكامل‪ ،‬وضبط قبل وفاته صلى هللا عليه وسلم‪ .‬فدوَّنَ‬
‫الحديث بعد ذلك حفظًا له من الضياع‪ .‬فجزاهُ ُم هللا عن‬
‫َ‬ ‫ال ُمسلمون‬
‫اإلسالم وال ُمسلمين خيرًا حيث حفظوا كتاب ربهم وسنة نبيهم‬
‫‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬من الضياع وعبث العابثين‪.‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬ظهور البدع في حياة المسلمين واألسباب‬


‫التي أدت إليها‬

‫‪183‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫‪ .1‬ظهور البدَع في حياة المسلمين‬
‫وتحته مسألتان‪:‬‬

‫المسألة األولى‪ :‬وقت ظهور البدع‬


‫قال شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه هللا ‪" :‬واعلم أن عامة البدع‬
‫ال ُمتعلقة بالعلوم والعبادات إنما وقع في األمة في أواخر عهد‬
‫الخلفاء الراشدين‪ .‬كما أخبر به النبي صلى هللا عليه وسلم حيث‬
‫سنةّ‬ ‫يرى اختِاَل فًا َكثي ًرا‪ ،‬فَ َعلَي ُكم بِ ُ‬
‫سنّتي َو ُ‬ ‫س َ‬‫قال‪َ ( :‬من يَ ِعش ِمن ُكم‪ ،‬فَ َ‬
‫ش ِدين ال َمه ِديّين) [رواه أبو داود والترمذي وقال‪:‬‬ ‫الخلَفَاء ال ّرا ِ‬
‫ُ‬
‫حديث حسن صحيح]‪.‬‬
‫وأول بدعة ظهرت‪ :‬بدعةُ القدر‪ ،‬وبدعة اإلرجاء‪ ،‬وبدعة‬
‫التشيع والخوارج‪ ،‬ول ّما حدثت الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت‬
‫بدعة الحرورية‪ .‬ثم في أواخر عصر الصحابة‪ ،‬حدثت القدرية في‬
‫آخر عصر ابن عمر وابن عباس وجابر وأمثالهمـ من الصحابة‬
‫‪-‬رضيـ هللا عنهم‪ -‬وحدثت ال ُمرجئة قريبًا من ذلك‪.‬‬
‫وأما الجهمية فإنما حدثوا في أواخر عصر التابعين بعد موت‬
‫عمر بن عبد العزيز‪ .‬وقد روي أنه أنذر بهم‪ .‬وكان ظهور جهم‬
‫ب ُخراسان في خالفة هشام بن عبد الملك‪.‬‬
‫هذه البدع ظهرت في القرن الثاني‪ ،‬والصحابةُ موجودون‪ ،‬وقدـ‬
‫أنكروا على أهلها‪.‬‬
‫ثم ظهرت بدعة االعتزال‪ ،‬وحدثت الفتن بين المسلمين‪ .‬وظهرـ‬
‫اختالف اآلراء وال َميل إلى البدع واألهواء‪ .‬وظهرت بدعة‬
‫التصوف‪ ،‬وبدعة البناء على القبور بعد القرون ال ُمفضلة‪ .‬وهكذا‬
‫كلما تأخر الوقت زادت البدع وتنوعت‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫المسألة الثانية‪ :‬مكان ظهور البدع‬
‫تختلف البلدان اإلسالمية في ظهور البدع فيها‪ .‬قال شيخ‬
‫اإلسالم ابن تيمية‪" :‬فإن األمصار الكبار التي سكنها أصحاب‬
‫رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وخرج منها العل ُم واإليمان‬
‫خمسة‪ :‬ال َحرمان‪ ،‬والعراقان‪ ،‬والشام‪ .‬منها خرج القرآن‬
‫والحديث‪ ،‬والفقه والعبادة‪ ،‬وما يتبع ذلك من أمور اإلسالم‪.‬‬
‫وخَر َج من هذه األمصارـ بدع أصولية‪ ،‬غير المدينة النبوية‪.‬‬
‫فالكوفة خرج منها التشيع واإلرجاء‪ .‬وانتشرـ بعد ذلك في غيرها‪.‬‬
‫والبصرة خرج منها القدر واالعتزال والنسك الفاسد‪ .‬وانتشر بعد‬
‫ذلك في غيرها‪ .‬والشامـ كان بها النصب والقدر‪ .‬وأما التجهم فإنما‬
‫ظهر في ناحية خراسان‪ ،‬وهو شر البدع‪.‬‬
‫وكان ظهورـ البدع بحسب البعد عن الدار النبوية‪ ،‬فل ّما حدثت‬
‫الفرقة بعد مقتل عثمان ظهرت بدعة الحرورية‪ .‬وأما ال َمدينة‬
‫النبوية‪ ،‬فكانت سليمة من ظهور هذه البدع‪ ،‬وإن كان بها من هو‬
‫مضمر لذلك‪ .‬فكان عندهم مهانًا مذمو ًما‪ ،‬إذ كان بها قوم من‬
‫القدرية وغيرهم‪ ،‬ولكن كانوا مقهورين ذليلين‪ ،‬بخالف التشيع‬
‫واإلرجاء في الكوفة‪ ،‬واالعتزال وبدع النساك بالبصرة‪ ،‬والنصب‬
‫بالشام؛ فإنه كان ظاهرًا‪.‬‬
‫وقد ثبت في الصحيح عن النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬أن‬
‫ال ّدجَّا َل ال يدخلها‪ ،‬ولم يزل العلم واإليمان ظاهرًا إلى زمن‬
‫أصحاب مالك‪ ،‬وهم من أهل القرن الرابع‪ ".‬انتهى‪.‬‬
‫فأما العصور الثالثة ال ُمفضلة فلم يكن فيها بال َمدينة النبوية‬
‫بدعة ظاهرة البتّة‪ ،‬وال خرج منها بدعة في أصول الدين البتّة‪،‬‬
‫كما خرج من سائرـ األمصار‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫‪ 2‬ـ األسباب التي أدّت إلى ظهور البدع‬
‫مما ال شك فيه أن االعتصامـ بالكتاب والسنة فيه منجاة من‬
‫ص َرا ِطي‬‫{وأَ َّن هَـ َذا ِ‬
‫الوقوع في البدع والضالل‪ .‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫ق بِ ُك ْم عَن َسبِيلِ ِه} [األنعام‪/‬‬ ‫ُم ْستَقِي ًما فَاتَّبِعُوهُ َوالَ تَتَّبِع ْ‬
‫ُوا ال ُّسب َُل فَتَفَ َّر َ‬
‫‪.]153‬‬
‫وقد وضح ذلك النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬فيما رواه ابن‬
‫مسعود ‪-‬رضي هللا عنه‪ -‬قال‪ :‬خَطَّ لنا رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫سبِي ُل هللا)‪ .‬ثم خطَّ خطوطًاـ عن يمينه‪،‬‬ ‫وسلم‪ -‬خطًّا فقال‪( :‬هذا َ‬
‫سبِيل ِمن َها شَيطَان‬ ‫سبُ ٌل‪ ،‬عَلى ك ّل َ‬ ‫وعن شماله ثم قال‪( :‬وهذه ُ‬
‫اطي ُم ْستَقِي ًما فَاتَّبِعُوهُ َوالَ‬ ‫ص َر ِ‬ ‫{وأَ َّن هَـ َذا ِ‬
‫يَدعُو إلَيه)‪ .‬ثم تال‪َ :‬‬
‫َّ‬
‫ق بِ ُك ْم عَن َسبِيلِ ِه َذلِ ُك ْم َوصَّا ُكم بِ ِه لَ َعل ُك ْم تَتَّقُونَ })‬ ‫تَتَّبِع ْ‬
‫ُوا ال ُّسبُ َل فَتَفَ َّر َـ‬
‫[رواه أحمد وابن حبان والحاكم وغيرهم]‪.‬‬
‫أعرض عن الكتاب والسنة‪ ،‬تنازعته الطرق ال ُمضللة‪،‬‬
‫َ‬ ‫فمن‬
‫َ‬
‫والبدع ال ُمح َدثة‪.‬‬
‫فاألسباب التي أ َّدت إلى ظهورـ البدع تتلخص في األمور‬
‫التالية‪ :‬الجه ُل بأحكام الدين‪ ،‬اتباع الهوى‪ ،‬التعصب لآلراء‬
‫واألشخاص‪ ،‬التشبّه بالكفار وتقليدهم‪.‬‬
‫ونتناول هذه األسباب بشيء من التفصيل‪:‬‬

‫أ ـ الجهل بأحكام الدين‬


‫كلما امتد الزمن‪ ،‬وبَ ُع َد الناس عن آثار الرسالة‪ ،‬قَ َّل العل ُم وفشاـ‬
‫الجهل‪ .‬كما أخب َر بذلك النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬بقوله‪َ ( :‬من‬
‫سي َرى اختِاَل فًا َكثي ًرا) [من حديث رواه أبو داود‬‫يَ ِعش ِمن ُكم فَ َ‬
‫والترمذيـ وقال‪ :‬حديث حسن صحيح]‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ض ال ِعل َم انتِزَاعًا يَنتَ ِزعه ِمن ِ‬
‫العبَاد‪،‬‬ ‫وقوله‪( :‬إنَّ هللا ال يَقبِ ُ‬
‫العل َم بِقَبض ال ُعلَماء؛ َحتّى إ َذا لَم يُ ْبق عَال ًما اتّخذَ‬
‫ض ِ‬ ‫َول ِكن يَقبِ ُ‬
‫ّ‬
‫ضلوا)‬ ‫ّ‬
‫ضلوا َوأ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫سئلوا فأفتَوا بِغير ِعلم‪ ،‬ف َ‬ ‫َ‬ ‫اًل‬
‫سا ُج ّها ‪ ،‬ف ُ‬ ‫النّاس ُرؤو ً‬
‫[جامع بيان العلم وفضله البن عبد البر (‪.])1/180‬‬
‫فال يُقاو ُم البد َع إال العلم والعلماء‪ .‬فإذا فُقد العلم والعلماء‬
‫أتيحت الفرصة للبدع أن تظهرـ وتنتشر‪ ،‬وألهلها أن ينشطوا‪.‬‬

‫ب ـ اتباع الهوى‬
‫من أعرض عن الكتاب والسنة اتبع هواه‪ .‬كما قال تعالى‪:‬‬
‫ك فَا ْعلَ ْم أَنَّ َما يَتَّبِعُونَ أَ ْه َوا َءهُ ْم َو َم ْن أَ َ‬
‫ضلُّ ِم َّم ِن‬ ‫{فَإِن لَّ ْم يَ ْست َِجيبُوا لَ َ‬
‫اتَّبَ َع ه ََواهُ بِ َغي ِْر هُدًى ِّمنَ هَّللا ِ} [القصص‪.]50/‬‬
‫ضلَّهُ هَّللا ُ َعلَى ِع ْل ٍم‬
‫وقال تعالى‪{ :‬أَفَ َرأَيْتَ َم ِن اتَّخَ َذ إِلَهَهُ ه ََواهُ َوأَ َ‬
‫اوةً فَ َمن يَ ْه ِدي ِه ِمن‬‫ص ِر ِه ِغ َش َ‬‫َو َختَ َم َعلَى َس ْم ِع ِه َوقَ ْلبِ ِه َو َج َع َل َعلَى بَ َ‬
‫بَ ْع ِد هَّللا ِ} [الجاثية‪.]23/‬‬
‫والبدع إنَّما هي نسي ُج الهَوى المتَّبع‪.‬‬

‫جـ ـ التعصب لآلراء والرجال‬


‫التعصب لآلراء والرجال يحول بين المرء واتّباع الدليل‪،‬‬
‫يل لَهُ ُم اتَّبِعُوا َما أَنزَ َل هّللا ُ قَالُ ْ‬
‫وا‬ ‫{وإِ َذا قِ َ‬
‫ومعرفة الحق‪ .‬قال تعالى‪َ :‬‬
‫بَلْ نَتَّبِ ُع َما أَ ْلفَ ْينَا َعلَ ْي ِه آبَا َءنَا} [البقرة‪.]170/‬‬
‫وهذا هو الشأن في ال ُمتعصبين اليوم‪ ،‬من بعض أتباع ال َمذاهب‬
‫الصوفية والقبوريين‪ .‬إذا دُعوا إلى اتباع الكتاب والسنة‪ ،‬ونبذ ما‬
‫هُم عليه مما يُخالفهما‪ ،‬احتجوا بمذاهبهم‪ ،‬ومشائخهم وآبائهمـ‬
‫وأجدادهم‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫د ـ التشبّه بالكفار‬
‫وهو من أشد ما يوقعـ في البدع‪ .‬كما في حديث أبي واقدـ الليثي‬
‫قال‪ :‬خرجنا مع رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬إلى حُنين‪.‬‬
‫ونحن حدثاء عهد بكفر‪ .‬وللمشركينـ ِسدرة يعكفون عندها‬
‫ذات أنواط‪ .‬فمررنا بسدرة فقلنا‪:‬‬ ‫وينوطون بها أسلحتهم‪ ،‬يقال لها‪ُ :‬‬
‫"يا رسو َل هللا‪ ،‬اجعل لنا ذات أنواط كما لهم ذات أنواط‪".‬‬
‫سنَن!‬‫فقال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪( :‬هللا أكبَر‪ ،‬إنّ َها ال ّ‬
‫فسي بِيَ ِده‪َ -‬ك َما قَالَت بَنُو إس َرائِيل ل ُموسى‪{ :‬اجْ َعل‬ ‫‪-‬والّ ِذي نَ ِ‬ ‫قُلتُم َ‬
‫لَّنَا إِلَـهًا َك َما لَهُ ْم آلِهَةٌ قَا َل إِنَّ ُك ْم قَوْ ٌـم تَجْ هَلُونَ } [األعراف‪]138/‬‬
‫سنَنَ َمن قَبلَ ُكم) [رواه الترمذيـ وصححه]‪.‬‬ ‫لَتَركبُنَّ ُ‬
‫ففي هذا الحديث‪ :‬أن التشبه بالكفار هو الذي حمل بني‬
‫إسرائيل أن يطلبواـ هذا الطلب القبيح‪ .‬وهو أن يجعل لهم آلهة‬
‫يعبدونها‪.‬ـ وهو الذي حمل بعض أصحاب محمد ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ -‬أن يسألوه أن يجعل لهم شجرة يتبركون بها من دون هللا‪.‬‬
‫فإن غالب الناس من المسلمين قلدواـ‬‫وهذا نفس الواقع اليوم‪َّ ،‬‬
‫الكفار في عمل البدع والشركيات؛ كأعياد الموالد‪ ،‬وإقامة األيام‬
‫واألسابيع ألعمال مخصصة‪ ،‬واالحتفال بالمناسبات الدينية‬
‫والذكريات‪ ،‬وإقامة التماثيل‪ ،‬والنصب التذكارية‪ ،‬وإقامة المآتم‪،‬‬
‫وبدع الجنائز‪ ،‬والبناء على القبور‪ ،‬وغير ذلك‪.‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬موقف األمة اإلسالمية من المبتدعة‪ ،‬ومنهج‬


‫أهل السنة والجماعة في ال ّر ّد عليهم‬

‫‪188‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫سنَّة والجماعة من المبتدعة‬
‫‪ 1‬ـ موقف أهل ال ُّ‬
‫ما زال أهل السنة والجماعة ير ّدون على المبتدعة‪ ،‬ويُنكرون‬
‫عليهم بدعهم‪ ،‬ويمنعونهمـ من مزاولتها‪.‬ـ وإليك نماذج من ذلك‪:‬‬
‫غضبًا‪،‬‬
‫ي أبو الدرداء ُم َ‬
‫( أ ) عن أم الدرداء قالت‪ :‬دخل عل َّ‬
‫ك؟"‬ ‫فق ُ ُ‬
‫لت له‪" :‬ما ل َ‬
‫أعرفُ فيهم شيئًا من أمر مح ّم ٍد إال أنهم‬
‫فقال‪" :‬وهللا‪ ،‬ما ِ‬
‫يصلون جميعًا‪[ ".‬رواه البخاري]‪.‬‬
‫سمعت أبي يُ َحد ُ‬
‫ِّث عن أبيه‬ ‫ُ‬ ‫( ب ) عن عمر بن يحيى قال‪:‬‬
‫قال‪ :‬كنا نجلسُ على باب عبد هللا بن مسعود قبل صالة الغداة‪ .‬فإذا‬
‫خرج م َشينَا معه إلى المسجد‪ .‬فجاءنا أبو موسى األشعري‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫"أخر َج علي ُكم أبو عبد الرحمن بعد؟"‬
‫قلنا‪" :‬ال‪".‬‬
‫خرج قُمنا إليه جميعًا‪ ،‬فقال‪" :‬يا‬‫َ‬ ‫َرج‪ .‬فلما‬
‫فجلس معنا حتى خ َ‬
‫أبا عبد الرحمن‪ ،‬إني رأيت في ال َمسجد آنفًا أمرًا أنكرتُهُ‪ ،‬ولم أ َر‬
‫‪-‬والحمد هلل‪ -‬إال خيرًا‪".‬‬
‫قال‪" :‬وما هو؟"‬
‫قال‪" :‬إن ِع ْشتَ فستراه‪".‬‬
‫"رأيت في ال َمسجد قو ًما ِحلقًا جلوسًا ينتظرون الصالة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫قال‪:‬‬
‫في كل حلقة رجل‪ ،‬وفيـ أيديهم حصى فيقولُ‪ :‬كبرواـ مائة‪،‬‬
‫فيكبرون مائة‪ ،‬فيقول‪ :‬هللوا مائة‪ ،‬فيهللون مائة‪ ،‬فيقول‪ :‬سبّحوا‬
‫مائة‪ ،‬فيسبحون مائة‪".‬‬
‫قال‪" :‬فماذاـ قلتَ لهم؟"‬

‫‪189‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫انتظار رأيك‪ ".‬أو "انتظار أمرك‪".‬‬
‫َـ‬ ‫فقال‪" :‬ما ُ‬
‫قلت لهم شيئًا‬
‫قال‪" :‬أفال أمرتَهُم أن يعدوا سيئاتهم‪ ،‬وضمنتَ لهم أن ال يَشيع‬
‫من حسناتهم شيء؟"‬
‫ثم مضى ومضيناـ معه؛ حتى أتى حلقة من تلك الحلق‪ ،‬فوقف‬
‫عليهم‪ ،‬فقال‪" :‬ما هذا الذي أراكم تصنعون؟"‬
‫قالوا‪" :‬يا أبا عبد الرحمن‪ ،‬حصى نع ُّد به التكبير والتهليل‬
‫والتسبيح والتحميد‪".‬‬
‫ٌ‬
‫ضامن أن ال يضي َع من حسناتكم‬ ‫قال‪ :‬فعدواـ سيئاتكم‪ ،‬فأنا‬
‫شيء‪ .‬ويحكمـ يا أمة محمد‪ ،‬ما أسرع هلكتكم‪ ،‬هؤالء أصحابه‬
‫متوافرون‪ ،‬وهذه ثيابه لم تبل‪ ،‬وآنيته لم تُكسر‪ .‬والذي نفسي بيده‪،‬‬
‫إنكم لعلى مل ٍة هي أهدى من ملة محمد‪ ،‬أو ُمفتتحو باب ضاللة‪".‬‬
‫قالوا‪" :‬وهللا‪ ،‬يا أبا عبد الرحمن‪ ،‬ما أردنا إال الخير‪".‬‬
‫قال‪" :‬وكم مريد للخير لن يُصيبه! ّ‬
‫إن رسولـ هللا ‪-‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم‪ -‬حدثنا أن قو ًماـ يقرؤون القرآن ال يجاوزـ تراقيهم‪ ،‬واي ُم‬
‫هللا ال أدري لعل أكثرهم ِمن ُكم‪".‬‬
‫ثم تولَّى عنهم‪.‬‬
‫فقال عمرو بن سلمة‪" :‬رأيناـ عامة أولئك يطاعنوننا يو َم‬
‫َ‬
‫النهروان مع الخوارج‪[ ".‬رواه الدارمي]‪.‬‬
‫(جـ) جاء رجل إلى اإلمام مالك بن أنس ‪-‬رحمه هللا‪ -‬فقال‪:‬‬
‫"من أين أُحْ ِر ُم؟"‬
‫فقال‪" :‬من ال ِميقات الذي َوقَّتَ رسولـ هللا ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ -‬وأحرم منه‪".‬‬

‫‪190‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ُ‬
‫أحرمت من أبعد منه‪".‬‬ ‫فقال الرجل‪" :‬فإن‬
‫فقال مالك‪" :‬ال أرى ذلك‪".‬‬
‫فقا َل‪" :‬ما تكرهُ من ذلك؟"‬
‫قال‪" :‬أكره عليك الفتنة‪".‬‬
‫قال‪" :‬وأي فتنة في ازديادـ الخير؟"‬
‫"فإن هللا تعالى يقول‪{ :‬فَ ْليَحْ َذ ِـر الَّ ِذينَ يُخَالِفُونَ ع َْن‬ ‫ّ‬ ‫فقال مالك‪:‬‬
‫َ‬
‫ُصيبَهُ ْم َع َذابٌ أَلِي ٌم} [النور‪.]63/‬‬ ‫ِ‬ ‫ي‬ ‫وْ‬‫َ‬ ‫أ‬ ‫ٌ‬ ‫ة‬ ‫َ‬ ‫ن‬‫ت‬‫ْ‬ ‫أَ ْم ِر ِه أَن ِ َ ْ ِ‬
‫ف‬ ‫م‬
‫ـ‬ ‫ُ‬ ‫ه‬‫ب‬‫ي‬‫ص‬ ‫ُ‬ ‫ت‬
‫َص به رسو ُل‬ ‫صتَ بفضل لم يُخت ّ‬ ‫ي فتنة أعظم من أنك ُخ ِّ‬
‫ص ْ‬ ‫وأ ّ‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪[ ".‬ذكره أبو شامة في كتاب‪ :‬الباعث‬
‫على إنكار البدع والحوادث نقاًل عن أبي بكر الخالل ص‪.]14‬‬
‫هذا نموذج‪ ،‬وال زال العلما ُء يُنكرونَ على ال ُمبتدعة في كل‬
‫عصر‪ ،‬والحمد هلل‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ منهج أهل السنة والجماعة في الرد على أهل البدع‬


‫منهجهم في ذك مبني على الكتاب والسنة‪ .‬وهو المنهج المقنع‬
‫المفحم‪ ،‬حيث يرودون شبه المبتدعة وينقضونها‪ .‬ويستدلون‬
‫بالكتاب والسنة على وجوب التمسك بالسنن‪ ،‬والنهي عن البدع‬
‫والمحدثات‪.‬‬
‫وقد ألَّفوا ال ُمؤلفات الكثيرة في ذلك‪ .‬ور ُّدوا في كتب العقائد‬
‫على الشيعة والخوارج والجهمية والمعتزلة واألشاعرة‪ ،‬في‬
‫مقاالتهم المبتدعة في أصول اإليمان والعقيدة‪ .‬وألفوا كتبًا خاصّة‬
‫في ذلك‪ .‬كما ألَّفَ اإلمام أحمد كتاب الرد على الجهمية‪ .‬وألف‬

‫‪191‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫غيره من األئمة في ذلك كعثمان بن سعيد الدارمي‪ .‬وكما في كتب‬
‫شيخ اإلسالم ابن تيمية وتلميذه ابن القيم‪ ،‬والشيخ محمد بن عبد‬
‫الوهاب‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬من الرد على تلك الفرق‪ ،‬وعلى القبورية‬
‫والصوفية‪.‬‬
‫• وأما الكتب الخاصة في الرد على أهل البدع‪ ،‬فهي كثيرة‪.‬‬
‫منها على سبيل ال ِمثال من الكتب القديمة‪:‬‬
‫‪ -1‬كتاب االعتصام لإلمام الشاطبي‪.‬‬
‫‪ -2‬كتاب اقتضاء الصراطـ المستقيم لشيخ اإلسالم ابن تيمية‪ ،‬فقد‬
‫استغرقـ الرد على المبتدعة جز ًءا كبيرًا منه‪.‬‬
‫‪ -3‬كتاب إنكار الحوادث والبدع البن وضَّاح‪.‬‬
‫‪ -4‬كتاب الحوادث والبدع للطرطوشي‪.‬‬
‫‪ -5‬كتاب الباعث على إنكار البدع والحوادثـ ألبي شامة‪.‬‬
‫• ومن الكتب العصرية‪:‬‬
‫‪ -1‬كتاب اإلبداع في مضار االبتداع للشيخ علي محفوظ‪.‬‬
‫‪ -2‬كتاب السنن والمبتدعات المتعلقة باألذكار والصلواتـ للشيخ‬
‫محمد بن أحمد الشقيري الحوامدي‪.‬‬
‫‪ -3‬رسالة التحذير من البدع للشيخ عبد العزيز بن باز‪.‬‬
‫وال يزا ُل علماء المسلمين ‪-‬والحمد هلل‪ -‬يُنكرون البد َع ويردونـ‬
‫على ال ُمبتدعة من خالل الصحفـ وال َمجالت واإلذاعات وخطب‬
‫الجُمع والندوات والمحاضرات‪ ،‬مما له كبير األثر في توعية‬
‫ال ُمسلمين‪ ،‬والقضاء على البدع‪ ،‬وقمع ال ُمبتدعين‪.‬‬

‫الفصل الرابع‪ :‬في بيان نماذج من البدع المعاصرة‬

‫‪192‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وهي‪ -1 :‬االحتفال بالمولد النبوي؛ ‪ -2‬التبرك باألماكن‬
‫واآلثار واألموات ونحوـ ذلك؛ ‪ -3‬البدع في مجال العبادات‬
‫والتقرب إلى هللا‪.‬‬
‫البدع المعاصرة كثيرة؛ بحكم تأخر الزمن‪ ،‬وقلة العلم‪ ،‬وكثرة‬
‫الدعاة إلى البدع والمخالفات‪ ،‬وسريان التشبه بالكفار في عاداتهم‬
‫وطقوسهم؛ مصداقًا لقوله صلى هللا عليه وسلم‪( :‬لتتّب َعنَّ ُ‬
‫سنَنَ َمن‬
‫كان قَبلَ ُكم) [رواه الترمذي وصححه]‪.‬‬

‫‪ 1‬ـ االحتفال بمناسبة المولد النبوي‬


‫وهو تشبه بالنصارىـ في عمل ما يس َّمى باالحتفال بـ"مولدـ‬
‫المسيح"‪ .‬فيحتفل جهلةُ المسلمين‪ ،‬أو العلماء ال ُمضلون في ربيع‬
‫األول أو في غيره من كل سنة بمناسبة مولد الرسول محمد صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ .‬فمنهمـ من يقيم هذا االحتفال في ال َمساجد‪ ،‬ومنهم‬
‫ض ُر جمو ٌ‬
‫ع‬ ‫من يقيمه في البيوت‪ ،‬أو األمكنة ال ُمعدة لذلك‪ .‬ويَح ُ‬
‫كثيرة من دعماء الناس وعوامهم‪ .‬يعملون ذلك تشبهًا بالنصارى‬
‫في ابتداعهم االحتفال بمولد المسيح ‪-‬عليه السالم‪ .‬والغالبُ أن هذا‬
‫االحتفال عالوة على كونه بدعة‪ ،‬وتشبهًاـ بالنصارى‪ ،‬ال يخلو من‬
‫وجود الشركيات والمنكرات؛ كإنشاد القصائد التي فيها الغلو في‬
‫حق الرسولـ ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬إلى درجة دعائه من دون‬
‫هللا‪ ،‬واالستغاثة به‪.‬‬
‫لو في مدحه‬ ‫وقد نهى النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬عن ال ُغ ِّ‬
‫ارى ابنَ َمريَم؛ إنّ َما أنَا عَبد‪،‬‬ ‫أطرت النّ َ‬
‫ص َ‬ ‫فقال‪( :‬اَل تُط ُروني َك َما َ‬
‫سولُه) [رواه الشيخان]‪ .‬وقد يصب هذا‬ ‫فَقُولُوا‪ :‬عَب ُد هللا َو َر ُ‬
‫االحتفال اختالط بين الرجال والنساء وفساد األخالق وظهور‬
‫ال ُمسكرات وغير ذلك‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫اإلطرا ُء معناه‪ :‬ال ُغلُ ّو في المدح‪ .‬وربماـ يعتقدون أن الرسول‬
‫ض ُر احتفاالتهم‪.‬ـ‬
‫‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬يح ُ‬
‫ومن ال ُمنكرات التي تصاب هذه االحتفاالت‪ :‬األناشيد الجماعية‬
‫ال ُمنغمة وضربُ الطبول‪ ،‬وغي ُر ذلك من عمل األذكارـ الصوفية‬
‫ال ُمبتدعة‪ .‬وقد يكون فيه اختالط بين الرجال والنساء‪ ،‬مما يُسبّب‬
‫الفتنة‪ ،‬ويج ّر إلى الوقوع في الفواحش‪ .‬وحتى لو خالل هذا‬
‫االحتفال من هذه المحاذير‪ ،‬واقتصرـ على االجتماع وتناول‬
‫الطعام‪ ،‬وإظهار الفرح ‪-‬كما يقولون‪ -‬فإنه بدعة محدثة ( َوك ّل‬
‫ُم ْح َدثَة بِدعَة‪َ ،‬وك ّل بِدعَة َ‬
‫ضاَل لَة)‪ .‬وأيضًا هو وسيلة على أن‬
‫يتطور‪ ،‬ويحصل فيه ما يحصل في االحتفاالت األخرى من‬
‫المنكرات‪.‬‬
‫وقلنا‪ :‬إنه بدعة ألنه ال أصل له في الكتاب والسنة وعمل‬
‫السلف الصالح والقرون المفضلة‪ .‬وإنما حدث متأخرًا بعد القرن‬
‫الرابع الهجري‪ ،‬أحدثه الفاطميون الشيعة‪.‬‬
‫قال اإلمام أبو حفص تاج الدين الفاكهانيـ ‪-‬رحمه هللا‪" :‬أ َّما‬
‫بعدُ‪ :‬فقد تكرر سؤال جماعة من ال ُمباركين عن االجتماع الذي‬
‫يعمله بعض الناس في شهر ربيع األول‪ ،‬ويسمونه ال َمولد؛ هل له‬
‫أصل في الدين‪ ،‬وقصدواـ الجواب عن ذلك مبيّنًا‪ ،‬واإليضاح عنه‬
‫معينًا‪ .‬فقلت ‪-‬وباهلل التوفيق‪:‬‬
‫ال أعلم لهذا ال َمولد أصاًل في كتاب وال سنة‪ ،‬وال يُنق ُل عملُه‬
‫عن أحد من علماء األمة‪ ،‬الذين هم القدوة في الدين‪ ،‬ال ُمتمسكون‬
‫بآثار المتقدمين‪ ،‬بل هو بدعة أحدثها البطّالون‪ ،‬وشهوة نفس‬
‫اغتنى بها األ َّكالون‪".‬‬

‫‪194‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫وقال شيخ اإلسالم ابن تيمية رحمه هللا‪" :‬وكذلك ما يحدثه‬
‫بعض الناس‪ ،‬إما مضاهاة للنصارى في ميالد عيسى عليه‬
‫السالم‪ ،‬وإما محبة للنبي صلى هللا عليه وسلم وتعظي ًما‪ ...‬من‬
‫اتخاذ مولد النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬عيدًا‪ ،‬مع اختالف الناس‬
‫فإن هذا لم يفعله السلف‪ .‬ولو كان هذا خيرًا محضًا‪ ،‬أو‬ ‫في مولده‪َّ .‬‬
‫َّ‬
‫ق به منا‪ .‬فإنهم كانوا‬‫راجحًا لكان السلفُ ‪-‬رضي هللا عنهم‪ -‬أح َّ‬
‫أشد محبة للنبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬وتعظي ًما له منا‪ .‬وهم على‬
‫الخير أحرص‪ .‬وإنما كان محبته وتعظيمه في متابعته وطاعته‪،‬‬
‫واتباع أمره وإحياء سنته باطنًا وظاهرًا‪ ،‬ونشرـ ما ب َ‬
‫ُعث به‪،‬‬
‫والجها ُد على ذلك بالقلب واليد واللسان‪ ،‬فإن هذه طريقة السابقين‬
‫األولين من المهاجرين واألنصارـ والذين اتبعوهمـ بإحسان‪"....‬‬
‫انتهى ببعض اختصار‪.‬‬
‫وقد أُلِّفَ في إنكار هذه البدعة كتب ورسائل قديمة وحديثة‪،‬‬
‫وهو عالوة على كونه بدعة وتشبهًا‪ ،‬فإنه يجرُّ إلى إقامة موالد‬
‫أخرى كموالد األولياء وال َمشائخ والزعماء؛ فيفتح أبواب شرٍّ‬
‫كثيرة‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ التبرك باألماكن واآلثار واألشخاص أحياء وأمواتًا‬


‫من البدع المحدثة‪ :‬التبرك بالمخلوقين‪ .‬وهو ٌ‬
‫لون من ألوان‬
‫الوثنية‪ ،‬وشبكة يصطاد بها ال ُمرتزقة أموال السذج من الناس‪.‬‬
‫والتبرك‪ :‬طلب البركة؛ وهي‪ :‬ثبوت الخير في الشيء وزيادته‪.‬‬
‫وطلبُ ثبوت الخير وزيادته إنما يكونُ ممن يَملك ذلك ويقدر‬
‫عليه‪ ،‬وهو هللا سبحانه‪ .‬فهو الذي ينزل البركة ويثبتها‪ .‬أما‬
‫ال َمخلوق فإنه ال يقدر على منح البركة وإيجادها‪ ،‬وال على إبقائها‬
‫وتثبيتها‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫فالتبرك باألماكن واآلثار واألشخاص ‪-‬أحياء وأمواتًا‪ -‬ال‬
‫يجوز ألنه إما شرك ‪-‬إن اعتقد َّ‬
‫أن ذلك الشيء يمن ُح البركة‪ .‬أو‬
‫وسيلة إلى الشرك إن اعتقد أن زيارته ومالمسته والتمسح به‪،‬‬
‫سبب لحصولهاـ من هللا‪.‬‬
‫وأما ما كان الصحابة يفعلونه من التبرك بشعر النبي ‪-‬صلى‬
‫هللا عليه وسلم‪ -‬وريقه وما انفصل من جسمه صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ ،‬خاصة كما تق َّدم؛ فذلك خاص به ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪ -‬ولم‬
‫يكن الصحابة يتبركون بحُجرته وقبره بعد موته‪ .‬وال كانوا‬
‫يقصدون األماكن التي صلَّى فيها و جلس فيها ليتبركوا بها‪.‬‬
‫وكذلك مقامات األولياء من باب أولى‪ .‬ولم يكونواـ يتبركون‬
‫باألشخاص الصالحين ‪-‬كأبي بكر وعمر وغيرهما من أفاضل‬
‫الصحابة‪ .‬ال في الحياة وال بعد الموت‪.‬‬
‫ولم يكونوا يذهبون إلى غار حراء ليصلوا فيه أو يدعوا‪ .‬ولم‬
‫يكونوا يذهبون إلى الطورـ الذي َكلَّم هللا عليه موسى ليصلوا فيه‬
‫ويدعوا‪ .‬أو إلى غير هذه األمكنة من الجبال التي يُقا ُل َّ‬
‫إن فيها‬
‫مقامات األنبياء أو غيرهم‪ .‬وال إلى مشهد مبني على أثر نبي من‬
‫األنبياء‪.‬‬
‫وأيضًا فإن ال َمكان الذي كان النبي ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬‬
‫يصلي فيه بال َمدينة النبوية دائ ًما لم يكن أحد من السلف يستلمه وال‬
‫يُقبّلُه‪ .‬وال ال َموضع الذي صلى فيه بمكة وغيرها‪.‬‬
‫فإذا كان ال َموضع الذي كان يطؤه ‪-‬صلى هللا عليه وسلم‪-‬‬
‫بقدميه الكريمتين ويُصلي عليه‪ ،‬لم يشرع ألمته التمسح به وال‬
‫تقبيله؛ فكيف بما يقال إن غيره صلى فيه أو نام عليه؟ فتقبيل‬

‫‪196‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫شيء من ذلك والتمسّح به قد علم العلماء باالضطرارـ من دين‬
‫اإلسالم‪ :‬أن هذا ليس من شريعته صلى هللا عليه وسلم ‪.‬‬

‫‪ 3‬ـ البدع في مجال العبادات والتق ّرب إلى هللا‬


‫البدع التي أحدثت في مجال العبادات في هذا الزمان كثيرة‪.‬‬
‫ع شيء منها إال بدليل‪.‬‬ ‫واألصل في العبادات التوقيف‪ .‬فال يشر ُ‬
‫وما لم يدل عليه دلي ٌل فهو بدعة‪ .‬لقوله صلى هللا عليه وسلم‪َ ( :‬من‬
‫يس َعلَيه أم ُرنَا فَ ُهو َردّ) [رواه مسلم]‪.‬‬
‫َع ِمل َع َماًل لَ َ‬
‫والعبادات التي تمارس اآلن وال دليل عليها كثيرة ج ًّدا‪ ،‬منها‪:‬‬
‫• الجهر بالنية للصالة ‪-‬بأن يقول‪ :‬نويت أن أصلي هلل كذا‬
‫وكذا‪ .‬وهذه بدعة ألنه ليس من سنة النبي صلى هللا عليه وسلم‪،‬‬
‫ت َو َما فِي‬ ‫وألن هللا تعالى يقول‪{ :‬بِ ِدينِ ُك ْـم َوهَّللا ُ يَ ْعلَ ُم َما فِي ال َّس َم َ‬
‫اوا ِ‬
‫ض َوهَّللا ُ بِ ُك ِّل َش ْي ٍء َعلِي ٌم} [الحجرات‪.]16/‬‬ ‫األَرْ ِ‬
‫والنية محلها القلب‪ ،‬فهي عمل قلبي ال عمل لساني‪.‬‬
‫• ومنها‪ :‬الذكر الجماعي بعد الصالة ألن ال َمشروع أن كل‬
‫شخص يقول الذكر الوارد منفردًا‪.‬‬
‫• ومنها‪ :‬طلب قراءة الفاتحة في ال ُمناسبات‪ ،‬وبعد الدعاء‪،‬‬
‫ولألموات‪.‬‬
‫• ومنها‪ :‬إقامة ال َمآتم على األموات‪ ،‬وصناعة األطعمة‬
‫واستئجارـ ال ُمقرئين‪ .‬يزعمون أن ذلك من باب العزاء‪ ،‬أو أن ذلك‬
‫ينفع ال َميت‪ .‬وكل ذلك بدع ال أصل لها‪ ،‬وآصارـ وأغالل ما أنزل‬
‫هللا بها من سلطان‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫• ومنها‪ :‬االحتفال بال ُمناسباتـ الدينية‪ ،‬كمناسبة اإلسراء‬
‫وال ِمعراج‪ ،‬ومناسبة الهجرة النبوية‪ .‬وهذا االحتفال بتلك‬
‫ال ُمناسبات ال أصل له في الشرع‪.‬‬
‫• ومن ذلك‪ :‬ما يفعل في شهر رجب‪ .‬وما يفعل فيه من‬
‫العبادات الخاصة به‪ ،‬كالتطوعـ بالصالة والصيامـ فيه خاصة‪ ،‬فإنه‬
‫ال ميزة له على غيره من الشهور؛ ال في الصيام والصالة والذبح‬
‫للنسك فيه‪ ،‬وال غير ذلك‪.‬‬
‫• ومن ذلك‪ :‬األذكارـ الصُّ وفية بأنواعها‪ .‬كلها بدع ومحدثات‬
‫ألنها مخالفة لألذكار المشروعة في صيغها وهيئاتها وأوقاتها‪.‬‬
‫• ومن ذلك‪ :‬تخصيصُ ليلة النصف من شعبان بقيام‪ ،‬ويومـ‬
‫النصف من شعبان بصيام‪ .‬فإنه لم يثبت عن النبي ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ -‬في ذلك شيء خاص به‪.‬‬
‫• ومن ذلك‪ :‬البناء على القبور‪ ،‬واتخاذها مساجد‪ ،‬وزيارتها‬
‫ألجل التبرك بها‪ ،‬والتوسلـ بالموتى‪ ،‬وغير ذلك من األغراض‬
‫الشركية‪ ،‬وزيارة النساء لها؛ مع أن الرسولـ ‪-‬صلى هللا عليه‬
‫وسلم‪ -‬لعن زوارات القبور‪ ،‬وال ُمتخذين عليها ال َمساجد والسرج‪.‬‬
‫إن البد َع بريد الكفر‪ .‬وهي زيادة دين لم يشرعه‬ ‫وختا ًما نقول‪َّ :‬‬
‫هللا وال رسوله‪ .‬والبدعة شر من ال َمعصية الكبيرة‪ .‬والشيطانُ‬
‫ألن العاصي يفعل‬ ‫يفر ُح بها أكثر مما يفرح بالمعاصيـ الكبيرة َّ‬
‫ال َمعصية وهو يعلم أنها معصية فيتوب منها‪ .‬وال ُمبتدع يفعل‬
‫البدعة يعتقدها دينًا يتقرب به إلى هللا‪ ،‬فال يتوب منها‪ .‬والبدع‬
‫وأهل السنة‪.‬‬
‫َ‬ ‫تقضي على السُّنن‪ ،‬وتُ َكرِّ ه إلى أصحابهاـ فعل السنن‬
‫والبدعة تُباعد عن هللا‪ ،‬وتُوجبُ غضبه وعقابه‪ ،‬وتسبب زيغ‬
‫القلوب وفسادها‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ما يعامل به المبتدعة‬
‫تح ُر ُم زيارة ال ُمبتدع ومجالسته إال على وجه النصيحة له‬
‫واإلنكار عليه ألن مخالطته تؤثر على مخالطه شرًا‪ ،‬وتنشرـ‬
‫عداوته إلى غيره‪ .‬ويجب التحذيرـ منهم‪ ،‬ومن شرهم‪ ،‬إذا لم يكن‬
‫األخذ على أيديهم‪ ،‬ومنعهمـ من مزاولة البدع؛ وإال فإنه يجب على‬
‫علماء ال ُمسلمين ووالة أمورهم منع البدع‪ ،‬واألخذ على أيدي‬
‫المبتدعة‪ ،‬وردعهمـ عن شرهم ألن خطرهم على اإلسالم شديد‪.‬‬
‫ثم إنَّهُ يجب أن يُعل َم أن دول الكفر تشجع ال ُمبتدعة على نشر‬
‫بدعتهم‪ ،‬وتساعدهم على ذلك بشتى الطرق ألن في ذلك القضاء‬
‫على اإلسالم‪ ،‬وتشويه صورته‪.‬‬
‫نسأل هللا عز وجل أن ينصر دينه‪ ،‬ويُعلي كلمته‪ ،‬ويخذل‬
‫أعداءه‪.‬‬
‫وصلى هللا وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬

‫قائمة المصادر والمراجع‬

‫ملحوظة‪( :‬رتبت هذه القائمة على حسب أسبقية ذكرها في‬


‫الكتاب)‪.‬‬
‫ـ اقتضاء الصراط المستقيم‬ ‫ـ القرآن الكريم‬
‫لشيخ اإلسالم ابن تيمية‬ ‫ـ شرح العقيدة السفارينية‬
‫تحقيق الدكتور ناصر العقل‬ ‫ـ مسند اإلمام أحمد‬
‫ـ سنن أبي داود‬ ‫ـ صحيح البخاري‬
‫ـ موطأ اإلمام مالك‬ ‫ـ صحيح مسلم‬
‫ـ سنن ابن ماجه‬ ‫ـ إغاثة اللهفان البن القيم‬
‫ـ مجموع فتاوى الشيخ محمد‬ ‫ـ مدارج السالكين البن القيم‬
‫بن إبراهيم آل الشيخ‬ ‫ـ مجموع الفتاوى البن تيمية‬
‫ـ منهاج السنة النبوية‬ ‫ـ مجموعة التوحيد النجدية‬
‫ـ شرح العقيدة الطحاوية‬ ‫ـ سنن الترمذي‬
‫ـ فتح المجيد شرح كتاب‬ ‫ـ الجواب الكافي لمن سأل عن‬
‫التوحيد‬ ‫الدواء االشافي البن القيم‬
‫ـ تفسير ابن جرير الطبري‬ ‫ـ معجم الطبراني‬
‫ـ ردة وال أبا بكر لها ألبي‬ ‫ـ شرح السنة للبغوي‬
‫الحسن الندوي‬ ‫ـ سنن النسائي‬
‫ـ صفات المنافقين البن القيم‬ ‫ـ المستدرك للحاكم‬
‫ـ حاشية ابن قاسم على كتاب‬ ‫ـ النهاية البن األثير‬
‫التوحيد‬ ‫ـ كتاب اإليمان لشيخ اإلسالم‬
‫ـ جالء األفهام البن القيم‬ ‫ابن تيمية‬
‫ـ جامع العلوم والحكم البن‬
‫رجب الحنبلي‬

‫‪201‬‬
‫صالِح ال َف َ‬
‫وزان‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َعقي َدة التّوحيد للشيخ َ‬
‫ـ الباعث على إنكار البدع‬ ‫ـ االعتصام للشاطبي‬
‫والحوادث ألبي شامة‬ ‫ـ جامع بيان العلم وفضله البن‬
‫ـ سنن الدارمي‬ ‫عبد البر‬
‫ـ رسالة المورد في عمل‬ ‫ـ صحيح ابن حبان‬
‫المولد‬

‫‪-o0o-‬‬

‫‪202‬‬

You might also like