You are on page 1of 284

‫عبقرية اللغة‬

‫عبقرية اللغة‬
‫حترير ويندي ليسري‬
‫ترمجة محد المشري‬

‫الطبعة األولى ‪2019 / 1440‬‬


‫ردمك ‪978-1-947836-22-8‬‬

‫‪Copyright © 2005, Wendy Lesser‬‬


‫‪All rights reserved‬‬

‫دار أثر للنشر والتوزيع‬


‫اململكة العربية السعودية ‪ -‬الدمام‬
‫تلفون‪00966505774560 :‬‬
‫املوقع اإللكتروني‪www.darathar.net :‬‬
‫البريد اإللكتروني‪info@darathar.net :‬‬

‫يمنع نسخ أو استعمال أي جزءٍ من هذا الكتاب بأي وسيلة تصويرية أو‬
‫الكترونية أو ميكانيكية‪ ..‬بما فيه التسجيل الفوتوغرافي والتسجيل على‬
‫أشرطة أو أقراص مقروءة أو أي وسيلة نشر أخرى‪ ..‬بما فيها حفظ‬
‫املعلومات أو استرجاعها من دون إذن خطي من الناشر‪.‬‬

‫إن اآلراء الواردة في هذا الكتاب ال تعبر بالضرورة عن رأي الناشر‬


‫عبقرية اللغة‬
‫حاكية اللغة األم يروهيا مخسة عرش اكت ًبا‬

‫حترير وتقدمي‬

‫ويندي ليسير‬

‫ترمجة‬
‫محد المشري‬
‫إىل اللغة األم العزيزة‬
‫إىل العربية‬

‫املرتجم‬

‫‪5‬‬
6
‫إىل ذكرى ليونارد مايكلز‬
‫‪2004 - 1933‬‬

‫‪7‬‬
8
‫المقدمة‬
‫ويندي ليسير‬
‫(((‬

‫تعود فكرة كتاب «عبقرية اللغة» يف األصل إىل الصديقة املحررة أليس‬
‫َ‬
‫البحث عن عدد من الكتّاب الذين يكتبون‬ ‫عيل‬
‫فان سرتالن‪ .‬فقد اقرتحت ّ‬
‫باللغة اإلنجليزية وهم ليسوا من أبنائها يف األصل‪ ،‬بل يتكلمون لغات‬
‫أخرى؛ ثم أطلب منهم كتابة مقاالت عن الفرق بني اللغتني‪ .‬وكان من‬
‫عاديت ّأل أقبل فكرة من أي حمرر أو حمررة‪ ،‬لكن هذه الفكرة أدهشتني إىل‬
‫احلد الذي ال يمكنني مقاومتها معه‪ .‬إهنا فكرة جذابة جدً ا‪ ،‬أن تكون هناك‬
‫ُؤثر فيها‬
‫تترسب إىل تلك اللغة التي يكتب هبا الكاتب‪ :‬ت ُ‬
‫ُ‬ ‫لغ ٌة أصلي ٌة خمتبئة‪،‬‬
‫وتعيدُ تشكيلها‪ .‬بل لعل ذلك يصدق حتى عىل الكتّاب الذين ال يعرفون‬
‫إال لغة واحدة‪ .‬فقد قال يل صديق شاعر ال يعرف إال اإلنجليزية حني سمع‬
‫بفكرة الكتاب‪« :‬يا إهلي‪ ،‬أريد أن أكون أحد هؤالء الكتّاب»‪.‬‬
‫حني دعوت كتابنا اخلمسة عرش للمشاركة يف مرشوع الكتاب‪ ،‬شجعتهم‬
‫أن يكتبوا وكأن مشاركتهم سرية ذاتية هلم؛ فحكاية اللغة األم ليست مسألة‬

‫‪ -١‬ويندي ليسري (‪ )Wendy Lesser‬كاتبة ومؤلفة أمريكية ولدت ونشأت يف كاليفورنا‪،‬‬


‫درست يف هارفارد يف املرحلة اجلامعية وحصلت عىل الدكتوراه من جامعة كاليفورنيا يف بريكيل‬
‫(عام ‪١٩٨٢‬م)‪ .‬كتبت وحررت ويندي جمموعة من الكتب منها روايتها «الباغودا يف احلديقة»‪،‬‬
‫وكتاب «ملاذا أقرأ»‪ ،‬وسرية املعامري األمريكي الكبري لويس كان (تويف ‪١٩٧٤‬م) بعنوان «أنت‬
‫قل للحجر»‪ ،‬وكتابنا هذا «عبقرية اللغة»‪ .‬أسست ويندي جملة أدبية فصلية عنواهنا( (�‪The Three‬‬

‫‪ .)penny Review‬تكتب ويندي يف العديد من الصف واملجالت وهلا حضور يف املشهد الثقايف‬
‫واألديب‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫لسانية أو أدبية فحسب‪ ،‬بل هي مسألة متس حياة الناس وشعورهم جتاهها‪.‬‬
‫ً‬
‫وانتقال قرسيا يف غالب األحيان‪ ،‬من‬ ‫ً‬
‫انتقال‪،‬‬ ‫وألن هذه احلياة تضمنت‬
‫بالد إىل أخرى‪ ،‬ومن عائلة إىل أخرى‪ ،‬أو من ثقافة إىل أخرى‪ ،‬فإن قصتها‬
‫ستحكي لنا عام هو أكرب وأوسع أف ًقا من القضايا التارخيية والسياسية التي‬
‫تزامنت معها‪.‬‬

‫ولكن هذه القضايا ليست أولي ًة هنا‪ .‬إن ّ‬


‫اهلم الرئيس يف هذا العمل هو‬
‫ّاب قديرون؛ والتنقيب‬
‫حماولة كشف احلجاب عن املورد الذي يستقي منه كت ٌ‬
‫داخل كل الطبقات املمكنة ملعرفة الطبيعة املوروثة‪ ،‬وقيمة األصالة‪،‬‬
‫و«العبقرية» يف الكتابة‪ .‬إن ما أردته من ال ُكتّاب وهو ما حتصلت عليه بالفعل‬
‫الح ًقا‪ ،‬ليس شيئا متشاهبا‪ ،‬فالكتّاب مثل القطط‪ ،‬ال يعيشون يف قطيع‪ .‬ولو‬
‫مصدرا‬
‫ً‬ ‫أن الكتّاب كانوا قطي ًعا متشا ًهبا‪ ،‬ألصبحت احلياة والعمل مع الكتابة‬
‫للملل‪.‬‬
‫إن احلديث عن كتّاب جاؤوا إىل عامل اإلنجليزية بعد والدهتم يف أحضان‬
‫لغاهتم األم سيجعل من جوزيف كونراد((( َ‬
‫أول من جيي ُء يف البال؛ فإنه األب‬
‫األعظم هلذه القائمة‪ ،‬وهو الروح التي ترعى كتا ًبا مثل كتابنا هذا‪( .‬قد يقرتح‬
‫البعض اسم فالديمري نابوكوف((( كذلك‪ ،‬لكني ال أرى أن يقدم عىل كونراد‬
‫أي اسم أبدا‪ .‬كام إنني عىل يقني أن الناس سيقرؤون «لورد جيم» و«فرصة»‬
‫و«العميل الرسي» لزمن طويل بعد موت «لوليتا» و«النار اخلافتة»)‪ .‬ولكون‬
‫خصيصا ألجل هذا الكتاب‪ ،‬فإنه ‪-‬وألسباب واضحة‪ -‬مل‬ ‫ً‬ ‫مقاالتنا هنا كتبت‬

‫‪ -١‬جوزيف كونراد روائي بولندي‪/‬بريطاين‪ ،‬مل تكن اإلنجليزية لغته األم‪ .‬يعدّ من أهم الروائيني‬
‫يف اإلنجليزية (تويف ‪١٩٢٤‬م)‪.‬‬
‫‪ -٢‬فالديمري نابوكوف روائي رويس‪/‬أمريكي‪ ،‬كتب يف البداية بالروسية‪ ،‬ثم باإلنجليزية بعد‬
‫شهرته العاملية (تويف ‪١٩٧٧‬م)‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫يكن باإلمكان احلصول عىل مقالة من كونراد [املتوىف يف العام ‪1924‬م]‪ .‬لذا‬
‫سأحاول أنا بدوري أن أقوم بتهريبه إىل هذا العمل من الباب اخللفي‪ ،‬ولكن‬
‫عرب حضوره يف املقدمة‪.‬‬
‫يف بداية طبعة العام ‪1919‬م من سريته الذاتية املعنونة بـ «سجل‬
‫شخيص»‪ ،‬حاول كونراد جاهدً ا أن يدحض االنطباع القائل إنه اختار أن‬
‫يكتب باإلنجليزية‪ .‬كانت لغة كونراد األم البولندية‪ ،‬وكان والده الوطني‬
‫املعروف‪ ،‬الذي تويف حني كان كونراد يف الثانية عرش‪ ،‬متمكنًا من البولندية‬
‫متام التمكن‪ .‬وحيث أن كونراد نشأ يف بولندا‪ ،‬فقد كان يعرف الفرنسية‪،‬‬
‫ويصف معرفته هبا بأهنا «معرفة جيدة جدً ا‪ ،‬فقد كانت مألوفة منذ والديت»‪.‬‬
‫لكنه حني أراد كتابة الرواية‪ ،‬كانت اإلنجليزية هي سيدة خياله‪:‬‬
‫احلقيقة أن قدريت عىل الكتابة باإلنجليزية ال ختتلف يف طبيعتها عن‬
‫أي موهبة طبيعية ولدت معها‪ .‬عندي شعور غريب وبالغ القوة أن‬
‫اإلنجليزية كانت جز ًءا مورو ًثا من ذايت‪ .‬مل تكن اإلنجليزية بالنسبة‬
‫اختيارا‪ .‬ومل ترد حكاية االختيار وسطحيتها يف ذهني‬ ‫ً‬ ‫قرارا وال‬
‫يل ً‬
‫ُ‬
‫حدث تَبنّي‪ ،‬ولكن‬ ‫أبدً ا‪ .‬كام أنني مل أقرر تبنيها‪ .‬لقد كان هناك ً‬
‫فعل‬
‫أخذت بيدي مبارشة بعد مرحلة‬ ‫ْ‬ ‫عبقرية اللغة هي ما تبناين‪ ،‬لقد‬
‫التمتمة األوىل وجعلتني ابنًا هلا بشكل كامل‪ ،‬حتى كأن أمثاهلا‬
‫وحكمتها كان هلا مفعول مبارش عىل مزاجي‪ ،‬وتشكيل شخصيتي‪.‬‬
‫يدرك كونراد أن عالقته باإلنجليزية خمتلفة عن عالقة أوالدها األصليني‬
‫هبا؛ لكنه يرى أن محيميته معها ال تقل عن ذلك إن مل تكن أعظم‪.‬‬
‫كانت املسألة مسألة اكتشاف وليست مسألة وراثة؛ فالشعور‬
‫لست من أوالدها جعل‬‫بالنقص يف عالقتي باإلنجليزية بصفتي ُ‬
‫شعورا خالدً ا‬
‫ً‬ ‫من الرغبة يف التّمكن منها أثمن‪ ،‬كام بسط أمامي‬

‫‪11‬‬
‫بالواجب أن أعمل ألستمر يف استحقاقي هلذه الثروة‪ ....‬وبعد‬
‫كل هذه السنوات من العمل املخلص الدؤوب‪ ،‬وكل ما رافقها‬
‫من اآلالم املرتاكمة يف قلبي بسبب التعثر والقصور والظنون‪ ،‬كل‬
‫ما آمل أن أمتكن من قوله هو أنه جيب أن ُأصدّ َق حني أقول أنني مل‬
‫أكن ألكتب أبدً ا إن مل أكتب باإلنجليزية‪.‬‬
‫سيقول بعض كتّاب مقاالت هذا الكتاب ‪-‬وربام قالوا‪ -‬ذلك عن‬
‫أنفسهم‪ .‬إذ ربام كان كرس احلواجز‪ ،‬والنأي عن اللغة األصل‪ ،‬هو ما يصنع‬
‫من الكاتب كات ًبا‪ .‬لذا فإن ِكتا ًبا ُسئل فيه جمموعة متنوعة من املؤلفني ثنائيي‬
‫حتم عن‬
‫اللغة أن ينظروا يف الفروق بني لغاهتم األصلية واإلنجليزية سيكون ً‬
‫اللغة املتبناة ‪-‬اإلنجليزية‪ -‬بمقدار ما سيكون عن كل يشء آخر‪ .‬كان كونراد‬
‫قد استخدم عبارة «عبقرية اللغة» يف معرض حديثه عن اإلنجليزية؛ هي‬
‫َ‬
‫احتوتك وألقت عليك‬ ‫تلك احلالة التي تشعر فيها أن اللغة اإلنجليزية قد‬
‫رداءها‪ ،‬عرب الكتب أو األفالم أو الناس‪ .‬ستكون أهيا القارئ شاهدً ا عىل‬
‫هذه العبقرية يف اآليت من الصفحات‪.‬‬
‫حافزا لتتجىل لنا‬
‫ً‬ ‫ومع ذلك فإن إحدى غايات الكتاب أن يكون‬
‫بعض خصائص اللغة األصل‪ :‬أن يدفع كتّابنا للتعبري باإلنجليزية عن‬
‫فرائد خصائص لغاهتم األم‪ .‬فاألمر ليس من السهولة بمكان حني حياول‬
‫ذكر أدوات عبوره حدود املناطق اللغوية واألدبية‪ ،‬األمر الذي قال‬
‫الكاتب َ‬
‫ذكرت للتو أهنا مستحيلة»‪ .‬لكن ُكتّابنا‬
‫ُ‬ ‫عنه كونراد نفسه‪« :‬مهمة كنت قد‬
‫مجي ًعا هنا بذلوا جهدً ا يف املحاولة(((‪ .‬وخالل قراءة قصص اكتشاف كتّابنا‬
‫لإلنجليزية‪ ،‬سيتعلم القارئ شي ًئا كذلك عن خصوصية كل جتربة‪ ،‬وعن‬

‫‪ -١‬لطيفة لغوية‪ :‬مفردة مقالة اإلنجليزية (‪ )essay‬تعني يف أصل داللتها اللغوية املحاولة‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫شعور القرار والسكنى‪ ،‬سواء أكانت التجربة والروح فرنسي ًة أم يونانية‪،‬‬
‫أم كورية‪ ،‬أم روسية‪ .‬وقد ال تكون عالمات اللغة األصل يف بعض األحيان‬
‫تقرتب أكثر لتستمع‪ ،‬وأن تنصت للصوت‬ ‫َ‬ ‫رصحي ًة؛ عندها جيب عليك أن‬
‫الرقيق لتدرك مواطن تأثري اللغة األم عىل اللغة اجلديدة‪ .‬روح الدعابة‪،‬‬
‫والسجع‪ ،‬والرتكيز عىل الزمان واملكان‪ ،‬وامليل إىل احلكاية أو إىل التحليل‪،‬‬
‫أدوات قد حيملها الكاتب من‬
‫ٌ‬ ‫وبناء احلكاية عىل صوت املتكلم‪ ،‬وغريها؛‬
‫لغته األم إىل اإلنجليزية‪.‬‬
‫وربام جيدر يب أن أقول شي ًئا حول ما ال عالقة له هبذه املختارات‪ .‬إن هذه‬
‫حمكم يف حقل اللسانيات أو األنثروبولوجيا أو‬ ‫املقاالت ليست ً‬
‫عمل علم ًيا ً‬
‫األدب املقارن‪ .‬ال أحد من هؤالء الكتاب كان قد تدرج ليكون لسان ًيا‪ ،‬أو محل‬
‫ّاب أختريوا للمشاركة‬ ‫شهادة عليا يف حقلها‪ .‬إن كل املشاركني مؤلفون‪ ،‬كت ٌ‬
‫بناء عىل كتابتهم باإلنجليزية‪ ،‬وهي السبيل الوحيدة يل ملعرفتهم والتعرف إىل‬
‫أعامهلم‪ .‬لقد كان زعمي أننا قد نتعلم من كتّاب الرواية‪ ،‬واملرسحية‪ ،‬والنقد‪،‬‬
‫أمرا مل يكن لنا أن نتعلمه من علامء اللغة‪.‬‬
‫والصحافة األدبية‪ً ،‬‬
‫كام أن هذا العمل ليس حماولة لتمثيل لغات العامل‪ ،‬تلك التي قد يتجاوز‬
‫عددها ستة آالف لغة خمتلفة‪ .‬صحيح أنني حاولت أن أنظر إىل اجلغرافيا‬
‫ً‬
‫قليل‪ ،‬لكنه مل يكن جهدً ا حقيق ًيا‪ .‬لدينا فراغ كبري بسبب غياب لغات كالعربية‬
‫واليابانية والربتغالية‪ ،‬عىل سبيل املثال ال احلرص‪ .‬لدينا يف هذا العمل كاتب‬
‫كثريا‬
‫واحد فقط من القارة األفريقية‪ .‬ويف املقابل الكثري من أوروبا‪ ،‬كام أن ً‬
‫منهم من اليهود‪ .‬قد يكون ذلك بسبب التقلبات اجليوسياسية خالل القرن‬
‫كبريا من اليهود هياجرون إىل اللغة اإلنجليزية‪،‬‬
‫العرشين‪ ،‬التي جعلت عد ًدا ً‬
‫وجعلت عد ًدا منهم كتّا ًبا‪ .‬ولكن جز ًءا من ذلك ‪-‬دون شك‪ -‬هو أنني أنا‬
‫نفيس أنتمي لعائلة ذات جذور هيودية أوروبية‪ .‬غري أن األمر الذي ينبغي‬

‫‪13‬‬
‫أن يقتنع به القارئ هو أنني اجتهدت يف إقناع املشاركني هبذا العمل الشاق‪،‬‬
‫أي كتابة املقالة‪ .‬ويف هذا السياق أتذكر فقرة من مرسحية «هنري الرابع‪،‬‬
‫اجلزء األول» لشكسبري‪ ،‬حني ا ّدعى جلنداور ً‬
‫قائل‪« :‬إن يف استطاعتي أن‬
‫أدعو األرواح من أعامقها السحيقة»‪ .‬حينها دمغه هوتسرب برده‪« :‬أنا كذلك‬
‫أستطيع دعوهتا‪ ،‬بل ويستطيع دعوهتا كل إنسان‪ ،‬ولكن املهم هو إن كانت‬
‫ستستجيب لك تلك األرواح عند دعوهتا»‪ .‬والذي سيجده قارئ هذا‬
‫الكتاب هو تلك األرواح التي استجابت للدعوة‪.‬‬
‫مل يتّبع املشاركون هبذا العمل التعليامت‪ ،‬أو باألحرى كنت أنا أول من‬
‫أساسا يف طريقة طلبي هلم‪ ،‬ومن ثم قاموا هم بكرس مزيد من‬ ‫ً‬ ‫جتاوزها‬
‫معيارا جامدً ا للحديث عن اللغة األم ثم عن‬
‫ً‬ ‫التعليامت يف مقاالهتم‪ .‬إن‬
‫اإلنجليزية كان سينتهي ربام باستبعاد آيريل دورفامن‪ ،‬الذي كان قد نيس‬
‫متا ًما إسبانيته يف الصغر وكان عليه أن يتعلمها جمد ًدا بعد اإلنجليزية؛ وربام‬
‫استبعد كذلك أيمي تان‪ ،‬التي تعلمت إنجليزيتها وصينيتها يف الوقت نفسه؛‬
‫وكذلك نيكوالس باباندريو‪ ،‬الذي ولد يف بريكيل ونطق اإلنجليزية قبل‬
‫معرفته باليونانية؛ ومعهم جيمز كامبيل‪ ،‬الذي مل يتكلم االسكتلندية أبدً ا‪ ،‬مع‬
‫بعضا منها هنا وهناك يف أحاديث أمه وجدته‪ .‬كام أن اشرتاط أن‬‫أنه كان يفهم ً‬
‫يكون املشاركون مجي ًعا يكتبون ‪-‬اآلن‪ -‬باإلنجليزية كان سيستبعد جوزيف‬
‫سكوفوريكي‪ ،‬الذي وإن كان قد أ ّلف باإلنجليزية إال أن األصل أنه يكتب‬
‫بالتشيكية؛ وكذلك نغوغي وا ثيونغو‪ ،‬الذي كتب باإلنجليزية لسنوات لكنه‬
‫عاد إىل الغيكويو ألسباب سياسية وذاتية؛ وبريت كيزر‪ ،‬الذي ال يكتب وال‬
‫يتكلم إال باهلولندية‪ .‬وحيث أن مسألة ثنائية اللغة ليست بين ًة جدً ا‪ ،‬فقد‬
‫طلبت من الكتّاب ‪-‬فقط‪ -‬أن يتحدثوا عن العالقة بني لغاهتم األم وبني‬
‫اإلنجليزية‪ .‬واحلقيقة أن مفهوم اللغة كله قد ال يكون هبذا الوضوح املزعوم؛‬

‫‪14‬‬
‫فقد يرى البعض أن اليدشية فرع عن األملانية‪ ،‬وأن االسكتلندية فرع عن‬
‫فاصال حول معنى اللهجة أو‬ ‫اإلنجليزية‪ .‬كان كل هذا اجلدل قد رسم خ ًطا ً‬
‫كيفية تناوله؛ كام اتسع هذه اخلط بسبب تنوع أعامر كتّابنا املشاركني‪ :‬حيث‬
‫ال خمتل ًفا‬
‫ترتاوح أعامرهم بني العرشينات و السبعني‪ .‬فقد سلك كل جيل سبي ً‬
‫نحو اإلنجليزية‪ ،‬كام فعلت كل بلد‪ ،‬أو كل ثقافة‪.‬‬
‫يبقى أن هناك خي ًطا ربط بني كل املقاالت‪ .‬إذ كانت ثمة نزعة واضحة‬
‫أمرا واحدً ا‪ .‬إن النظر‬
‫يف املقاالت جتاه اعتبار لغة مرحلة الطفولة والطفولة ً‬
‫حمسوسا وربط الكلمة بيشء ذي واقع مادي‬ ‫ً‬ ‫إىل لغة الطفولة بوصفها شي ًئا‬
‫أي يشء‪ :‬مثل‬ ‫هو كام وصفه راندال جاريل(((‪« :‬للكلمة واقع حمسوس مثل ّ‬
‫رأسا عىل عقب‪ ،‬أو أن تعبث به مثل دمية‪ ،‬أو‬ ‫أي يشء يمكنك أن متسك به ً‬ ‫ّ‬
‫أن ترميه عىل أحدهم مثل لعبة أطفال»‪ .‬كانت هذه النظرة للكلمة حارضة‬
‫النفي من الطفولة زمنًا هو قدر الناس مجي ًعا‪ ،‬لكن هؤالء الكتّاب‬ ‫َّ‬ ‫هنا‪ .‬إن‬
‫كانوا قد نفوا من طفولتهم مكانًا كذلك‪ .‬يشعر كتّابنا أن هذا اليشء املفقود‬
‫من جتربة الطفولة ما زال حي ًا يف مكان ما‪ ،‬ويمكن الولوج إليه ‪-‬إن كان‬
‫فعل‪ -‬عرب اللغة وحدها‪ .‬يمكن رؤية حديث الطفولة هذا وبقوة يف‬ ‫ممكنًا ً‬
‫الفصل الذي كتبته إم جاي فيتزجارلد عن اإليطالية‪ ،‬والفصل الذي كتبه‬
‫غاري شتاينغارت عن الروسية؛ كام كانت الطفولة سمة بارزة يف الفصل‬
‫الذي كتبته َب ْار ِت ُموك ِْرجي عن البنغالية‪ ،‬ومقالة توماس الكور عن األملانية‪،‬‬
‫كتبت ها‪-‬يون‬ ‫ْ‬ ‫ومقالة نيكوالس باباندريو عن اليونانية‪ ،‬وعن الكور ّية كام‬
‫جانغ‪ .‬عندما خلط لويس بيغيل بعض ما خيص طفولته مع قصة بولندية‬
‫كان قد قرأها ذات مرة؛ أو عندما وصف لوك سانت الفرنسية بأهنا «هويتي‬
‫الرس ّية التي ال يمكن حتى لألصدقاء اقتحا َمها»‪ ،‬نصبح نحن أمام ملحة من‬

‫‪ -١‬راندال جاريل شاعر وناقد وكاتب أمريكي‪ ،‬اشتهر بكتابته ألعامل األطفال (تويف ‪١٩٦٥‬م)‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫بالد يتصورها الكاتب؛ بالد جيتمع فيها اخليال‪ ،‬والذاكرة‪ ،‬والفقد‪.‬‬
‫وإنه ملن املفارقة أن أحرر أنا كتا ًبا يكون فيه املهجر أو املنفى موضو ًعا‬
‫ٌ‬
‫مرتبط باألرض‪،‬‬ ‫رئيسا‪ .‬فبقدر ما إن الكتاب عن عبقرية اللغة‪ ،‬فهو كذلك‬ ‫ً‬
‫والثقافة‪ ،‬والسياسة‪ ،‬والتاريخ‪ .‬وها أنا بتواضع كبري‪ ،‬أحادية اللغة‪ ،‬متعلقة‬
‫ببقايا ما أمتلك من إسبانيتي التي عرفتها يف املدرسة الثانوية‪ ،‬وأقل من تلك‬
‫البقايا من الروسية من املدرسة نفسها‪ .‬كام أنني أبعد ما أكون عن فكرة‬
‫نشأت‬
‫ُ‬ ‫املهجر واالغرتاب؛ فأنا أعيش عىل بعد أربعني ً‬
‫ميل من املكان الذي‬
‫به؛ كام أنني وخالل السنوات اخلمس واخلمسني التي عشتها مل أبتعد مطل ًقا‬
‫ولدت فيها‪ .‬إن األمر‬‫ُ‬ ‫عن كاليفورنيا أكثر من ستة أشهر وهي الوالية التي‬
‫املهجرون هو العودة إىل أرضهم املفقودة‪،‬‬‫ّ‬ ‫الذي يتوق إليه هؤالء الكتّاب‬
‫والتي تركوها هم أو عائالهتم قرسا؛ ما يشتاقون إليه هو أمر اكتسبته أنا دون‬
‫عناء‪ .‬لكن هذا احلق املكتسب بالوالدة مل جيعلني غري مدركة ملا قد يشعرون‬
‫به‪ .‬أقود سياريت فوق جرس سان فرانسيسكو‪ ،‬مع الفجر أو مع املغيب‪ ،‬فأنظر‬
‫إىل تلك البالد املألوفة متا ًما وأتذكر كلامت برخيت((( من مرسحيته «دائرة‬
‫الطباشري القوقازية» عن بالد املرء وحبه هلا‪:‬‬
‫ألن اخلبز فيها ألذ‪ ،‬وألن السامء أعىل‪ ،‬وألن اهلواء أزكى‪ ،‬وألن‬
‫األصوات تبدو أقوى‪ ،‬وألن امليش عىل أرضها أيرس‪ .‬أليس األمر‬
‫كذلك؟‬
‫حني غياهبا أو فقدها‪.‬‬
‫وقد يكون إدارك حقيقة األشياء أحيانًا أعمق َ‬
‫كام أدرك كونراد ما أدركه من اإلنجليزية ألنه اكتشفها ومل يرثها‪ .‬هذه هي‬
‫السبيل التي أفهم من خالهلا ما كان يشعر به برخيت‪ ،‬الذي كان يف مهجره يف‬

‫‪ -١‬برتولت برخيت (بريشت) شاعر وكاتب مرسحية أملاين‪ ،‬يعد من أهم كتاب املرسحية يف القرن‬
‫العرشين (تويف ‪١٩٥٦‬م)‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫كاليفورنيا حني كتب هذه الكلامت‪ .‬وهذه هي السبيل التي أفهم من خالهلا‬
‫ما يكتبه أي كاتب مغرتب عن بالده‪ ،‬وحني يكتب عن لغته املفقودة‪.‬‬

‫الكتاب ُقبيل تسليمي ّ‬


‫ملسودته النهائية‪ .‬ففي‬ ‫َ‬ ‫غياب آخر هذا‬
‫ٌ‬ ‫وقد أصاب‬
‫مارس من العام ‪2003‬م كان الصديق ليونارد مايكلز قد تويف فجأة بسبب‬
‫عم كان يمثله يل بصفته كات ًبا‪،‬‬‫رسطان الغدة اللمفاوية‪ .‬أعجز عن التعبري ّ‬
‫وبصفتي قارئة‪ ،‬وللمجلة التي أعانني عليها ملدة تزيد عن عرشين سنة‪،‬‬
‫ولشكل األدب األمريكي‪ ،‬الذي ساهم جزئ ًيا بصياغته‪ .‬لربام كانت مقالته‬
‫اجلميلة عن اليدشية آخر عمل رئيس يكتبه‪ ،‬ولربام ساعدتنا عىل التعبري عن‬
‫فقدنا له‪ .‬لقد كان سيد اجلملة الوصفية؛ وكانت عباراته الساخرة اللامحة‬
‫جز ًءا ال ينفك عن يوميايت‪ .‬أتذكر أنني كنت أخاطب نفيس حني علمت‬
‫بمرضه قائلة إنني ال أريد أن أكون يف عامل ال يكون ليني((( مايكلز داخله‪.‬‬
‫لكنني اآلن‪ ،‬مضطرة إىل ذلك‪ ،‬كام هو حالنا مجي ًعا‪ .‬ربام كان من املالئم‪ ،‬وإن‬
‫عمل عن «عبقرية اللغة» إىل ذكراه(((‪.‬‬‫كان عزاء مؤ ًملا‪ ،‬أن ُيدى ٌ‬

‫‪ -١‬ليني هو الصيغة احلميمية (‪ )nickname‬السم ليونارد‪ ،‬عادة ما تستخدم هذه الصيغ بني‬
‫األهل واألصدقاء املقربني‪.‬‬
‫‪ -٢‬باإلضافة اإىل ليونارد مايكلز‪ ،‬كان قد تويف كاتبان من كتّاب مقاالت هذا الكتاب عند العمل‬
‫عىل ترمجته‪ ،‬وهم‪َ :‬ب ْار ِت ُموك ِْرجي التي توفيت يف يناير ‪٢٠١٧‬م‪ ،‬و جوزيف سكوفوريكي الذي‬
‫تويف يف يناير ‪٢٠١٢‬م‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫طريق العودة‬
‫ْ‬ ‫َب ْ‬
‫(((‬
‫هار ِتي ُموك ِرجي‬

‫ال عجب يف أن تسمى اللغة التي نرثها باللغة األم‪ .‬فهي أمنا‪ :‬رؤوم‬
‫وعطوف؛ وتسمي لنا العامل وكل ما يدور فيه من املشاعر‪ .‬بالرغم من إقامتي‬
‫األربعني سنة املاضية من عمري يف مدن يتكلم غالبية أهلها اإلنجليزية‬
‫والفرنسية إال أن األمومة والسلطة اللغوية عىل هويتي الظرفية بوصفي‬
‫مهاجرة كانت دائام للغة البنغالية‪ .‬كم هي متين ٌة أمي البنغالية؛ فأنا مل أتعلم‬
‫جديد عربها ملدة تقارب نصف‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫شعور‬ ‫ٍ‬
‫فكرة أو‬ ‫مفرد ًة جديد ًة وال حتى جمر َد‬
‫القرن‪ .‬مل أحتج ذلك يوما‪ .‬بناء عىل االعتقاد السائد فمجرد والديت يف بيئة‬
‫بنغالية أصيلة جتعلني بالرضورة أنتمي لعضوية أكثر لغات العامل تعبريا‬
‫وخياال وذكاء‪ .‬بالرغم من ندائها الرصيح للحب والتباهي واملقدمان عىل‬
‫طبق من الشعور القرسي بالذنب‪ ،‬حتطم البنغالية دوما بمفارقة ثقة جمتمعها‬
‫املتصاعدة بنفسه‪ .‬وأنا كالطفلة أحاول أن ألتمس األعذار كي ال أشجب‬
‫حال أمي السائرة دون دليل‪ .‬ثابت ٌة عىل الوفاء لبنغاليتي يف وجداين؛ كام هي‬
‫وف ّية يل كذلك‪.‬‬

‫‪-١‬ب ْار ِت ُموك ِْرجي (‪ )Bharati Mukherjee‬أستاذة األدب اإلنجليزي يف جامعة كاليفورنا يف‬‫َ‬
‫بريكيل‪ ،‬وهي كاتبة وروائية أمريكية من أصل هندي؛ ألف ست روايات وجمموعتني من القصص‬
‫القصرية‪ .‬كثري من رواياهتا تناقش قضايا اهلجرة واملهاجرين‪ .‬كام ألفت كتبا بالرشاكة مع زوجها‬
‫كالرك باليز أستاذ الكتابة اإلبداعية يف جامعة يورك الكندية‪ .‬ولدت يف كالكوتا يف أقليم البغال‬
‫ودرست به املرحلة اجلامعية‪ .‬توفيت هباريت يف يناير من العام ‪٢٠١٧‬م‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫ناد بربع مليار عضو عىل االحتواء يا ترى؟ البنغالية هي لغة‬ ‫كم هي قدرة ٍ‬
‫بنغالديش‪ :‬ثامن أكرب دولة يف العامل من حيث عدد السكان؛ وهي كذلك‬
‫لغة والية البنغال الغربية يف اهلند‪ :‬ثاين أكرب جمتمع لغوي يف اهلند‪ .‬وهناك‬
‫املاليني ممن مل ُيق َّيد يعيشون هنا وهناك يف العامل‪ .‬وحتى إن وضعت هذه‬
‫األرقام املهولة جانبا‪ ،‬فإن البنغالية تشكل الغالبية داخل وجدان كل فرد من‬
‫أوالدها‪ .‬تسكن البنغالية إيامننا؛ متمثلة يف تراثنا وتارخينا ويف أماكننا املقدسة‬
‫ويف بنية جمتمعنا وثقافتنا‪.‬‬
‫تُعدُّ البنغالي ُة اللغ َة األم للجوع والفقر‪ ،‬بحسب العاملني يف اإلغاثة‬
‫الدولية‪ .‬لكنها يف املقابل اللغة األم للشعر والشغف والوفرة بالنسبة لورثة‬
‫الوطني الذهبي ألبناء احلقول البنغالية املتهيئة‬
‫ّ‬ ‫(‪ )bangla shonar‬النشيد‬
‫للحصاد‪ ،‬واألهنار البنغالية املليئة باألسامك‪ .‬كام أن البنغالية هي لغة احلنني‬
‫إىل األمل الذي كان ح ّيا يوما ما‪ :‬احلنني إىل التعايش بني اهلندوس واملسلمني‬
‫الذين عاشوا يوما ما يف بنغال موحدة قبل أن يمزقها االنتقام‪ ،‬عىل يد البحرية‬
‫متجاوزا‬
‫ً‬ ‫الربيطانية؛ كان األمل بوحدة اللسان‪ ،‬واإلخالص لغد مشرتك‬
‫للغضب الديني‪ ،‬الذي يتغذى عليه سياسيو يومنا هذا‪ .‬أعتقد دوما أن وحدة‬
‫اللسان أقوى من اخلالفات الدينية‪ .‬بناء عىل مالحظتي أثناء سفري املستمر‬
‫لبنغالديش‪ ،‬كنت أظن‪ ،‬وما أزال‪ ،‬أن اهلندوس واملسلمني قادرون عىل عبور‬
‫تلك احلفرة التي وضعت بينهم‪ ،‬لوال أن السياسيني الفسدة من اجلانبني‬
‫يقفون يف الطريق‪.‬‬
‫بلغت الثامنة وأنا يف أرض البنغال‪ .‬فوالدي كان العائل ومصدر الرزق‬
‫ملا يقارب اخلمسني نفسا من األقارب الذين كانوا يسكنون معنا متزامحني‪،‬‬
‫يف شقة أرضية يف بيتنا ذي الطابقني‪ ،‬يف ح ّينا اهلندويس ديانة والبنغايل لغة؛‬

‫‪19‬‬
‫ينتمي ح ُّينا للطبقة الوسطى يف مدينة كالكوتا(((‪ ،‬التي أفسد املستعمر نطقها‬
‫وكتابتها كذلك(((‪ُ .‬ولِد كل البالغني يف ذلك املنزل يف قرى تابعة ملقاطعة دكا‬
‫لد كل الصغار يف كالكوتا‬ ‫يف البنغال الرشقية‪ ،‬بنغالديش حاليا؛ يف املقابل و ِ‬
‫ُ‬
‫املزدهرة‪ ،‬عاصمة إقليم البنغال الغربية‪ .‬يتكلم الكبار فيام بينهم بلهجة دكا؛‬
‫ويتكلم والصغار بلهجة كالكوتا‪ .‬مل أكن حينها أعلم أن اللغويني يعدّ ون‬
‫هلجة دكا هلج ًة منحرف ًة‪ ،‬بينام يعدون هلجة كالكوتا هلجة صحيحة ومعيارية‪.‬‬
‫يعتز املرء بلهجة‬
‫ففي بيتنا كانت هلجة دكا البنغالية هي هلجة األصالة‪ .‬إذ ّ‬
‫أسالفه‪ ،‬وإن أضاع هو نفسه بعضا منها بفعل االستجابة لنداءات اهلجرة‬
‫املتوالية‪ .‬ونحن بنغاليون رشق ّيون‪ ،‬أو بنغاليون فقط‪ .‬كنا نحاول عزل أنفسنا‬
‫عن البنغاليني الغربيني والذين كانوا حيارصوننا ويعدّ وننا دخالء‪ .‬لقد صنفنا‬
‫مهجرين لألبد من أرضنا وأرض أسالفنا‪.‬‬ ‫أنفسنا بنغاليني ّ‬
‫أن يولد اإلنسان بنغاليا يف غري بالده يعني بالرضورة أن يرث الفقدَ‬
‫والشوق ألرضه احلقيقية‪ .‬وبالرغم من حجم تأثري اللغة األم يف هوية‬ ‫َ‬
‫اإلنسان‪ ،‬إال إن للوطن تأثريا عظيام كذلك؛ الوطن‪ ،‬تلك املساحة من‬
‫األرض التي امتلكها أسال ُفه يوما؛ تلك الرتبة التي راحوا واسرتاحوا عليها‪.‬‬
‫الرضاء إىل‬
‫أن يرمي بك القدر خارج تراب أرض األجداد يعني أن ترافقك ّ‬
‫األبد‪ .‬وبخالف اللهجات والتي يمكنها أن ترافق اإلنسان يف مهجره‪ ،‬فإن‬
‫فراق تراب أرض األجداد هو أمر حتمي ودائم عند اهلجرة‪ .‬قد يملك أبناء‬
‫الشتات البنغايل بعض العقارات يف بالد املهجر‪ ،‬ولكنه ملك مرشوط‪ ،‬متاما‬
‫كحال واقعهم باعتبارهم مهاجرين؛ وهذه العقارات لن تكون وطنا أبدا‪.‬‬

‫‪ -١‬عاصمة والية البنغال الغربية يف رشق اهلند‪ ،‬وكانت عاصمة اهلند قبل انتقاهلا إىل نيودهلي‪.‬‬

‫‪ -٢‬كان اهلنود يكتبون اسم املدينة باللغة اإلنجليزية (‪ )Kalkota‬حتى غريها املستعمر اإلنجليزي‬
‫إىل (‪ )Calcutta‬وتغريت مع ذلك حتى طريقة نطقها‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫أعتقد أن الضفرية احلميم ّية للغة املوروثة واملكان واهلوية هي التي مل تسمح‬
‫ملهاجري البنغال أن ينظروا إىل النظام الربيطاين بأنه حضن أم حقيقي‪ .‬لذلك‬
‫فإن حبل الوصل امتد بني اآلباء واألجداد عرب توارث األرض التي حتوي‬
‫تلك الرتبة‪ .‬مل يكن مهام أن تكون تلك األرض املنكمشة ذات مردود مادي‬
‫أو إنتاج زراعي‪ٌ .‬‬
‫جيل واثنان وثالثة وأربعة‪ .....‬وثامنية وتسعة والذرية ال‬
‫ووجداين ال عالقة له‬
‫ّ‬ ‫هتاجر؛ يزدادون فقرا‪ ،‬لكنهم ينظرون ألمر رمزي‬
‫باالقتصاد‪.‬‬
‫أتقنت يف طفولتي نطق مفردات أقسام منزلنا بالبنغالية‪ :‬منزل‪ ،‬وحجرة‪،‬‬
‫وأرض‪ ،‬وتربة‪ ،‬ووطن‪ .‬وكنت وأوالد عمومتي ندرك احلكمة من وراء‬
‫القروي عىل الصرب‬
‫ّ‬ ‫قصص األطفال الالمعدودة والتي خترب عن عزيمة‬
‫واملصابرة دون بيع األرض التي حتوي تربة آبائه‪ .‬كان أشدّ وعيد عرفناه‬
‫يف صغرنا عبارة عن قصيدة مشهورة تتحدث عن غني جشع هيدد املزارع‬
‫البائس الفقري‪« :‬أمل تدرك ذلك بعد أهيا الفقري؟ أنا من سيشرتي أرضك!»‬
‫حتى يومنا هذا‪ ،‬وبالرغم من استقراري يف سان فرانسيسكو‪ ،‬ما زلت أدخل‬
‫يف نوبات رعب ترافق سداد كل دفعة لرضيبة السكن أو قسط أدفعه ملنزيل‪،‬‬
‫بسبب عمق أثر ذلك الوعيد ورمزية تلك القصيدة‪ .‬كلام مررت بأزمة مالية‬
‫جعلتني أفكر ‪-‬ربام‪ -‬يف إعادة متويل قرض رشاء منزيل أقول لنفيس‪« :‬مطلقا!‬
‫بل اصربي وانجي كام صرب ونجا املهاجرون‪ ،‬أو أولئك الذين مل يضعوا ثقتهم‬
‫عيل‬
‫دروسها ّ‬‫َ‬ ‫يف البنوك خالل فرتة الكساد العظيم»‪ .‬واصلت الثقافة املوروثة‬
‫متر يب؛ واجلغرافيا جعلت من «الالوطن» حالة دائمة يل‪ .‬ويف‬ ‫عرب كل حادثة ُّ‬
‫احلني ذاته‪ ،‬عملت الثقافة اجلديدة عىل إقناعي أن الوطن هو حيث أستطيع‬
‫استثامر حبي ووالئي‪.‬‬
‫البحث عن تعليم أفضل‪ ،‬وعن فرص عمل أفضل‪ ،‬باإلضافة إىل الكوارث‬

‫‪21‬‬
‫الطبيعية من الفياضانات واملجاعات‪ ،‬ونار العداوة املشتعلة باستمرار بني‬
‫املسلمني واهلندوس‪ ،‬كلها ح ّثت عائلتي عىل اهلجرة إىل كالكوتا خالل‬
‫العرشينيات والثالثينيات من القرن املايض؛ مع استمرار متلكهم ألراضيهم‬
‫ٍ‬
‫أصهار ألرسته‪:‬‬ ‫يف قراهم األصلية‪ .‬ذهب أيب يف صغره إىل كالكوتا ليقيم مع‬
‫زوجني مل يكونا قد رزقا أطفاال‪ .‬وكان السبب يف إرساله هو التعليم اجلامعي‬
‫اإلنجليزي اجليد يف كلية القديس زفري يف كالكوتا‪ ،‬والتي يديرها جمموع ٌة من‬
‫املسيحيني من بلجيكا‪ .‬وألن والدي حصل عىل منحة دراسية جمانية استمر‬
‫يف الكلية كطالب للدراسات العليا يف ختصص الكيمياء التطبيقية‪ .‬ثم ألنه‬
‫توجب عىل‬‫كان األكثر تعليام‪ ،‬وإن مل يكن األكرب سنا بني أخوته التسعة‪ّ ،‬‬
‫أيب أن يبحث عن عمل يف كالكوتا‪ ،‬املدينة األكثر إزدهارا بني مدن البنغال‪.‬‬
‫بدأ املحتاجون من أفراد العائلة واألقارب واألصدقاء بالوفود قادمني من‬
‫الرشق‪ ،‬بمجرد سامعهم أخبار بحث أيب عن عمل‪ .‬واستمر هؤالء الضيوف‬
‫بالتنقل بني بيوهتم التي ما زالوا يملكوهنا يف املناطق الزراعية رشقا‪ ،‬وبني‬
‫كالكوتا‪.‬‬
‫دفعت األحداث بني اهلندوس واملسلمني يف العام ‪1946‬م‪ ،‬والتي‬
‫كانت األعنف يف ذاكرة الناس‪ ،‬بانتقال كل قبيلة آل ُموك ِْرجي خارج قريتهم‬
‫حيث‪ ،‬شكّل املسلمون حينها األغلبية يف تلك املنطقة‪ .‬جاء الالجئون‬
‫حمملني بحكايات احلرق والنهب واالغتصاب‪ .‬وعرب دموعهم وكوابيسهم‬ ‫ّ‬
‫تعلمت مفردة (خوف) باللغة البنغالية‪ ،‬وما حتمله من األمل‬ ‫ُ‬ ‫وعويلهم‬
‫والصدى‪ .‬وبميزان الرعب الذي رأيته يف وجوههم فإين ال أستطيع أن أدرك‬
‫كلمة إنجليزية تقابل ما حتمله مفردة (خوف) البنغالية‪ .‬تقفز كلمة (خوف)‬
‫البنغالية باملرء يف ذاكرة ومعاناة شعب ال يمكن التعبري عنها‪ .‬حني انفصلت‬
‫بنغالديش كدولة يف العام ‪1947‬م أصبح كل أفراد أرستنا الكبرية من‬

‫‪22‬‬
‫متنقلني بني الريف واملدينة إىل الجئني يف مدينة ال يمكنهم الشعور باالنتامء‬
‫هلا‪ .‬كانت كالكوتا مدينة جلوئهم املستكثرة عليهم‪.‬‬
‫لقد رزقت حزن املنفى منذ طفولتي‪ .‬كنا نحن الالجئني خمتلفني ومتميزين‬
‫ُ‬
‫سؤال‬ ‫عن البنغاليني الغربيني‪ .‬هذا االختالف بدأ يظهر عىل السطح يرافقه‬
‫الرصاع الذي بدى مطروحا بوضوح! كنا نرفض مصاهرة األرس من البنغال‬
‫الغربية‪ ،‬وكنا نسخر من لكنتهم وعجزهم عن نطق بعض األصوات‪ .‬كام‬
‫ظهر الرصاع عىل ملعب كرة القدم حني يلعب فريقنا‪ ،‬البنغال الرشقية‪ ،‬مع‬
‫فريق البنغال الغربية؛ حتى إننا كفتيات كنا ُن ْظهر أننا مشاكسات وخشنات‬
‫ومشجعات لكرة القدم‪ ،‬ملجرد أن نتحدى فتيات البنغال الغربية‪ .‬البنغاليون‬
‫الغربيون يف املقابل بدأوا بتنميطنا كمزارعني وذلك هبمزنا بأسامء كـ (اليقطني‬
‫الريفي) ‪ ..‬لقد بدأنا معركة قوامها «نحن و هم» وذلك بتقسيم الناس بناء‬
‫ش َعنّا «نرجسية االختالفات‬
‫عىل اللهجة التي يتكلموهنا‪ .‬أظننا كنا قد َ ْ‬
‫الصغرية» قبل معرفتنا أساسا بفرويد((( بزمن طويل‪.‬‬
‫كانت البنغالية يف منزلنا لغة الشغف والرتبية‪ .‬كانت الزوجات غري‬
‫املوت بالبنغالية؛ واألبكار العفيفات ك ّن يغتب َن الفتيات‬
‫َ‬ ‫السعيدات هيدّ دن‬
‫ذوات السمعية السيئة باجلوار بالبنغالية كذلك‪ .‬وكان األعامم يابسو‬
‫تقمص شخصية‬ ‫الرؤوس يتبادلون الشتائم بالبنغالية‪ .‬وكلام حاول والدي ّ‬
‫ترصف غري مهذب‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ليؤدب أحد األقارب عىل‬ ‫املصلح ‪-‬غري الالئقة به‪-‬‬
‫َ‬
‫شاور والدته األرملة بالبنغالية‪ :‬ممارسة حمافظة تقليدية متسلطة‪ .‬أتذكر‬
‫جيدا البنغالية يف القصائد الساخرة التي كانت تتبادهلا جديت أليب حني‬
‫َ‬
‫يقرأن لبعضهن‬ ‫تكون بصحبة ش ّلتِها‪ ،‬وه ّن يمضغ ّن التبغ‪ .‬أرامل حدباوات‬

‫‪ -١‬نرجسية االختالفات الصغرية رسالة لعامل التحليل النفيس زيغمونت فرويد‪ ،‬وهي تبحث يف‬
‫أسباب عداوة بعض املجموعات لبعض رغم تشاهبهم داخل املجتمع الواحد الكبري‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫البعض بصوت مرتفع شعرا يعرب عن قسوهتن وحتيزهن جنسيا‪ .‬متر األيام‬
‫ِ‬
‫لثالث فتيات‪ ،‬دون أي ولد‬ ‫وهؤالء العجائز يعذبن والديت بسبب إنجاهبا‬
‫صبي‪ .‬ولربام كنت أميش أحيانا يف شارع هايت((( يف سان فرانسيسكو وأنا‬
‫ّ‬
‫أسمع صدى ثنائيتهن القبيحة‪« :‬هناك الكثري من املال يف الصبي‪ ،‬حتى يف‬
‫بوله‪ /‬وهناك ٌ‬
‫حبل لتشنق به الفتاة»‪.‬‬
‫وحو َل‬
‫ّ‬ ‫قيم املجتمع وحمظوراته‪.‬‬
‫غريت لغتي األم وبشكل واضح َ‬ ‫ْ‬ ‫لقد‬
‫التعليم نسا َء املجتمع إىل ثائرات‪ ،‬وغري مستسلامت‪ ،‬وغري مؤهالت للزواج‬
‫يف الوقت نفسه‪ .‬عانت أمي من تسلط وسخرية أرسة أيب والذي تزوجته بعد‬
‫لمها بأن تلتحق‬‫حصوهلا عىل الشهادة الثانوية؛ كان ذلك بسبب ذكرها حل ِ‬
‫ُ‬
‫بالكلية يوما ما‪ ،‬وكذلك بسبب رغبتها بإرسالنا ‪-‬بناهتا الثالث‪ -‬ملدرسة‬
‫ابتدائية أفضل يف احلي املجاور‪ .‬مل يكن األمر جمرد سخرية؛ بل كان هناك‬
‫الكثري من العنف اللفظي والبدين‪ .‬مل أكن أدرك أين لست جمرد طفلة مراقبة‬
‫ملشهد من املامرسة السادية‪-‬املازوخية املرشعنة؛ بل كنت كذلك شاهدة‬‫ٍ‬
‫عىل الفصول األخرية من عذاب ثقايف وضجة كبرية‪ .‬مؤخرا وأثناء بحثي‬
‫يف معارك اهلندوس التقليديني واإلصالحيني املتأثرين بأوروبا حضاريا‪،‬‬
‫عثرت عىل قصائد؛ قامت تلك القصائد بدورها بإعادة كل مشاهد األمل‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫حماولة‬ ‫من طفولتي‪ :‬األمل امللحق واألمل املقبول((( والذي تعرضت له كل‬
‫لإلصالح‪ :‬فردية‪ ،‬أو أرسية‪ ،‬أو جمتمعية‪.‬‬
‫إحدى هذه القصائد كانت بلهجة بنغالية عامية‪ ،‬مل تعد دارجة يف يومنا‪.‬‬
‫تقول القصيدة‪« :‬املرأة املتعلمة هي امرأة دون زوج‪ /‬كبقرة منفلتة‪ ،‬ترعى يف‬
‫اجلوار»‪ .‬يبدو املقصد من هذه القصيدة واضحا عىل السطح‪ :‬املرأة املتعلمة‬

‫‪-١‬يمثل شارع هايت معلام بارزا يف مدينة سان فرانسيسكو‪ ،‬يرتاده السواح والزوار‪.‬‬
‫‪ -٢‬يف عبارة امللحق واملقبول متثيل لواقع فكرة السادية واملازوخية املذكورة آنفا‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫هتدد التقاليد! ولكن الرتمجة ال ولن تفي حق األنساق الثقافية واللغوية‬
‫املضمرة يف رموز تلك القصيدة‪ .‬كانت مفردة «دون زوج» الواردة يف القصيدة‬
‫رجل معها‪ ،‬وهي بأي حال لن خترج عن ثالث‬ ‫البنغالية تصف املرأة التي ال َ‬
‫حاالت اجتامعية‪ :‬قد تكون أرملة وهو قدر مؤمل يف جمتمع يقدس وجوب‬
‫رفقة الزوج يف كل حال؛ أو قد تكون عزباء وهو قدر أسوأ من سابقه ألن‬
‫املرأة مكلفة بعبادة رهبا عرب عبادهتا لزوجها؛ أو قد تكون عاهرة‪ .‬وجاءت‬
‫صفة «منفلتة» لتصف البقرة كمثال لقياس حال املرأة دون زوج‪ ،‬وقد كان‬
‫من املمكن ترمجتها إىل «غري مربوطة» أو «عارية» كذلك‪ .‬ثم جاءت «ترعى»‬
‫جتتمع‬
‫ُ‬ ‫لتعني «جتول» أو «تتسكع» أوحتى «تقتحم البيوت دون إذن أهلها»‪.‬‬
‫هذه املفردات لرتبط بقبح شديد بني املرأة التي تتطلع لتع ّلم أساسيات القراءة‬
‫والكتابة واحلساب وبني عاهرة جوالة‪ ،‬وقعت ضحية للمجتمع نفسه الذي‬
‫نبذها ابتدا ًء‪ .‬ولكن هذا الربط الدينء مستبعدٌ ومفندٌ بل وال معنى له أساسا‪،‬‬
‫وذلك ألن قائل القصيدة هو الشاعر العظيم من القرون الوسطى‪ ،‬جوفيندا‬
‫داسا(((؛ وخيال الشاعر املقدس ال يمكن أن يكون هبذا السوء! فالشاعر يف‬
‫ألنْس كام قد يكون عليه األمر‬ ‫جمتمعنا البنغايل ليس جمرد فنان أو مصدر ل ُ‬
‫ورثت لسانا‬
‫ُ‬ ‫يف الغرب؛ بل هو من ّظر وكاشف أللغاز الكون العظمى‪ .‬لقد‬
‫حيمل الكثري من التناقضات واملفارقات‪ .‬قدرة املفردات البنغالية عىل محل‬
‫املعاين املتضادة ظلت ترافقني حتى وأنا أكتب الرواية باإلنجليزية‪.‬‬
‫البنغالية ليست فريدة يف حاهلا هذه‪ .‬فقد رشح لنا الشاعر اإلرسائييل‪،‬‬
‫روين سوميك(((‪ ،‬أن العربية احلديثة لغ ٌة ملغومة بمصدرين رئيسني‪ :‬الكتاب‬

‫‪ -١‬وفيندا داسا شاعر هندويس كبري‪ ،‬مشهور بقصائده املخلصة لإلله كريشنا يف التقاليد‬
‫اهلندوسية (تويف ‪١٦١٣‬م)‪.‬‬
‫‪ -٢‬شاعر هيودي من مواليد العراق‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫املقدس واآللة العسكرية احلديثة‪ .‬وبناء عىل قوله فإن كل شاعر يف العربية‬
‫احلديثة حيتمل دائام قراءتني أو أكثر بطريقة متناقضة وساخرة‪ ،‬بل و قد ُت َّم ُل‬
‫كتاباته إحياءات جنسية‪.‬‬
‫لقد نلت امتياز عضوية متحدثي البنغالية من خالل هتويدات النوم‪،‬‬
‫واألمثال الشعبية‪ ،‬والرصاعات األرسية‪ .‬تربيتي كفتاة صاحلة كان عىل يد‬
‫جديت أليب‪ ،‬ذات العجوز التي آذت أمي بلساهنا ألهنا مل تنجب صبيا‪ .‬كانت‬
‫جديت نفسها قد تعلمت القراءة عىل يد أختها الكربى‪ ،‬والتي مل ترزق بأوالد‬
‫من زوجها الذي اختاره أبوها؛ حيث كان من املتوقع أن يكون ذا دخل عال‬
‫كطبيب يف كالكوتا؛ رغم ذلك كانت حتمل نوعا ما بعض األفكار التقدمية‪.‬‬
‫كل ليلة وبرغم رغبتنا بقصص اجلن مع مؤثراهتا الصوتية الدرامية حيكيها‬
‫لنا أحد اخلدم‪ ،‬كانت جديت تقص علينا النسخة البنغالية من مالحم رامايانا‬
‫وميهيباراتا(((‪.‬‬
‫كانت رامايانا هي املفضلة عندي من بني امللحمتني‪ .‬كيف هي يا ترى تلك‬
‫الفتاة التي مل يكن يبهجها العشق؟! واألمري الصالح الوسيم‪ ،‬رام‪ ،‬والذي‬
‫ُفي إىل الغابة‪.‬‬
‫كان الوريث الرشعي لعرش والده العجوز املعدد‪ ،‬كان قد ن َ‬
‫كان والده امللك حتت سيطرة زوجته صغرية السن والطموحة بأن يكون هلا‬
‫إصدارها اخلاص لوالية العهد‪ .‬ألسنا مجيعا نعرف حكاية شبيهة هبذه يف‬
‫املنفي‪ ،‬رام‪ ،‬ومنها اختطاف‬
‫ّ‬ ‫حاراتنا أو عائالتنا؟! تتواىل املغامرات لألمري‬
‫زوجته واحلرب العظيمة النقاذها‪ .‬تنتهي القصة بزواج سعيد وتتويج لرام‬
‫ليكون ملكا للبالد‪ .‬ما أوضح املقارنة بينها وبني هيلني وباريس(((‪ ،‬واليونان‬

‫‪ -1‬من أشهر املالحم اهلندية وأقدمها وحتتوي عىل كثري من الشعر والفلسفة والتعليامت الدينية‬
‫وأصلها من السنسكريتية القديمة‪.‬‬
‫‪ -2‬يف األساطري اليونانية قصة باريس ابن ملك طروادة واجلميلة هيلني اإلسبارطية‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫وطروادة‪ .‬ياهلا من قصة مجيلة مع إعادة صياغة مظهر الشياطني واآلهلة‬
‫لتأخذ شكال من احلياة اليومية‪ .‬كان صخب احلكاية يبهجني‪ :‬حبكة القصة‬
‫القوي‪ ،‬والتوازن بني العنف والرفق‪ .‬وخلف كل كواليس هذا اإلعجاب‬
‫الالمنتهي‪ ،‬كان هناك يشء من الواقع يف القصة من حال أرسيت النفسية‪ .‬ها‬
‫أنا ذا أتدرب ألكون روائية‪.‬‬
‫وككاتبة‪ ،‬كنت دائام ما أقوم بربط خيوط احلكايات ببعضها‪ :‬فقد كنت‬
‫أحيانا أحيل قصص العائلة إىل قصص جريمة وغموض؛ وأحيانا أخرى‬
‫أغمس نفيس يف العنف؛ أو أمزج بني التاريخ القديم والواقع املعارص‪.‬‬
‫كنت أغرق يف زخم من األصوات واملشاهد بشكل أعمق بكثري من جتربتي‬
‫الشخصية‪ :‬االستغراق كام حيب البعض تسميتَه ليعيبه‪ .‬عليهم إذن أن يلوموا‬
‫رامايانا عىل ذلك العيب!‬
‫كان من عاديت أن أنبش املوروث العاملي باحثة عن الفكرة واملفردات؛‬
‫ثم أعيد تشكيلها حتى تستقر يف انتامئها يل؛ أظنها عادة اكتسبها ال إراديا‬
‫منذ الطفولة‪ .‬كنا كبنغاليني نفاخر ونرص عىل خصوصيتنا‪ ،‬خاصة هؤالء‬
‫الذين من كالكوتا‪ .‬كان لدينا ‪-‬عىل سبيل املثال‪ -‬كلامت تسلب األلباب‪،‬‬
‫حتصلنا عليها من األمم التي مررنا هبا خالل رحلة احلياة‪ :‬احلرب‪ ،‬والتجارة‪،‬‬
‫والزواج‪ ،‬واهلجرة‪ ،‬وذلك دون أن نشعر بأهنا تشكل أي هتديد عىل جوهر‬
‫هويتنا‪ .‬فمن الفارسية والتي كانت لغة القضاء قبل االستعامر اإلنجليزي‬
‫املوسيقي املحرتف‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أخذنا اسم الوردة (غوالب)‪ ،‬وكذلك (أوستاد) وهو‬
‫حتى املفردة اهلندية‪-‬اإلنجليزية (دوربار) كانت من الفارسية‪ ،‬وهي من‬
‫يعب عن القوة والنرص والتوسع؛ و‬‫الزمن الفيكتوري‪ ،‬وتعني الفسطاط الذي ّ‬
‫(رشبات) للرشاب املنعش‪ .‬وعرب تواصلنا الطويل يف التجارة مع الربتغاليني‬
‫جاءتنا كلامت مثل (توايل) للمنشفة‪ ،‬و(أملريا) للخزانة اخلشبية الكبرية‪ .‬ومن‬

‫‪27‬‬
‫اإلنجليز‪ ،‬والذين جعلوا من كالكوتا مركزا للقوة جاءت كلامت تدور يف‬
‫فلك املحاكم واملدارس واحلدائق العامة واملساكن الفاخرة‪ .‬لقد تلقينا أول‬
‫إبعاد لنا من قبل السلطة عرب اإلنجليزية‪ ،‬والتي لقنتنا بدورها لقرنني من‬
‫الزمان أننا رجعيون‪ .‬وهناك الكثري من الكلامت التي «هنّدها» الناس نطقا‪:‬‬
‫(تيبيل) للطاولة و(كابارد) للخزانة اخلشبية‪ ،‬واملفضلة عندي (تيكوجي((()‬
‫لغطاء إبريق الشاي الذي حيفظ سخونته؛كانت هذه الكلامت عالمة عىل‬
‫العار االستعامري‪ .‬مظاهر احلضور اللغوي الربيطاين ‪-‬والذي سأعود هلا‬
‫الحقا‪ -‬كانت كذلك أكثر إثارة لالهتامم أو أكثر دمارا بحسب الزاوية التي‬
‫ينظر منها اإلنسان‪.‬‬
‫يف بيتنا كنا نتن ّقل بني نوعني خمتلفني من البنغالية‪ .‬كنا نتكلم (تشالتي)‬
‫مبهرة بالفلفل اهلندي واملفردات األجنبية التي فقدت صفة‬ ‫والتي تُعدُّ عامية ّ‬
‫األجنبية عرب القرون‪ .‬ولكننا حني نكتب الرسائل وفروضنا الدراسية‪ ،‬فإننا‬
‫نكتب بالـ (سودها) أو البنغالية النقية كام نظنها؛ وهي هلجة مليئة بمفردات‬
‫ورسمي‪ .‬وكان معيار املراوحة بني‬
‫ّ‬ ‫سنسكريتي وذات طابع أديب‬
‫ّ‬ ‫ذات أصل‬
‫اللهجتني مبني عىل توقيت التواصل ومكانه ودافعه وأطرافه‪ .‬يف طفولتي‬
‫كنت ال أعارض فكرة الفجوة غري القابلة للعبور بني املنطوق وبني املكتوب‪.‬‬
‫كان ذلك قبل عوديت من سفري ملدة ثالث سنوات لدراسة مراحل التعليم‬
‫العام يف إنجلرتا؛ حينها احتجت أن أتعلم اإلنجليزية من أول الطريق‬
‫وبرسعة‪ ،‬حتى أمتكن من اللحاق بمواعيد تسليم واجبايت األسبوعية ملادة‬
‫الكتابة عن موضوع رياضة امليش‪ ،‬وعن غناء العصافري‪ ،‬وعن العطالت يف‬
‫مارغيت((( والتي كتبتها يف احلقيقة بإنجليزية منطوقة بسيطة؛ وبالرغم من‬

‫‪ -1‬تيكوجي هنا هي نطق اهلنود لـ (‪ )tea-cozy‬اإلنجليزية‪.‬‬


‫‪ -2‬مدينة عىل الساحل اجلنوب‪-‬رشقي إلنجلرتا‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫ذلك فقد حصلت عىل أعىل الدرجات‪ .‬حينها بدأت أثور عىل التقليد البنغايل‬
‫الذي يعامل البنغالية العامية عىل أهنا أدنى من أن تستقر عىل الورق‪.‬‬
‫كنت يف الثامنة حني بدأت عالقتي مع واقعي ثنائي اللغة‪ .‬يف املدرسة‬
‫الواقعة يف ساحة ْس ُل َون((( كنت أتكلم اإلنجليزية التي أسمعها يف حميطي‪ .‬ويف‬
‫البيت أتكلم البنغالية التي تكلمتها يف بيتنا يف كالكوتا‪ .‬مل تكن ذايت البنغالية‬
‫مهددة أبدا بسبب نمو مهاريت وطالقتي بلغة املستعمر‪ .‬لكن الصدمة كانت‬
‫حني اكتشفت أنني ُأعدّ من األقليات؛ فتاة ذات برشة سمراء يف مدرسة‬
‫بيضاء‪ .‬كنت حينها ما زلت حمافظة عىل عضويتي يف أكثر نوادي اللغة نخبوية‬
‫َ‬
‫ليكرتث‪ ،‬أو ليعلم بذلك‪.‬‬ ‫يف العامل‪ ،‬ولكن أحدا ممن حويل مل يكن‬
‫أدركت أن‬
‫ُ‬ ‫خالل األسابيع األوىل النضاممي للمدرسة اإلنجليزية‬
‫األبجدية البنغالية أكرب بكثري من اإلنجليزية‪ .‬احلروف اإلنجليزية مرتبة‬
‫بطريقة مربِكة‪ ،‬فليس ثمة منطق يف ترتيبها مما يؤكد أن ترتيب احلروف‬
‫اإلنجليزية أبجديا هو أمر اعتباطي‪ .‬بينام تضع البنغالية حروف األصوات‬
‫املتحركة وحدها بمنأى عن حروف األصوات الساكنة‪ .‬وعند احلديث‬
‫عن احلروف الساكنة فإن القائمة البنغالية ال تقدر عليها فتيات املدارس‬
‫اإلنجليزيات وال حتى املعلامت وال ه ّن منها بقريب‪ .‬إن الصوت يف احلرف‬
‫معجزا لإلنجليز‪ .‬حروف األصوات‬ ‫ِ‬ ‫األول من اسمي «بوهرايت» كان‬
‫اخليشومية يف البنغالية ال يوجد هلا مقابل إنجليزي‪ .‬حروف األصوات‬
‫الساكنة مرتبة يف األبجدية البنغالية بحسب موقع خمرجها من الفم واللسان‪.‬‬
‫لدينا ثالث أصوات أصلية للـ (‪ )n‬اإلنجليزية‪ ،‬ولدينا كذلك ثالث أصوات‬
‫أصلية أخرى للـ (‪ )r‬اإلنجليزية‪ .‬وبالرغم أن هذه الدقة ‪-‬أو التعقيد إن‬
‫شئت‪ -‬جتعل اإلمالء ممارسة عسرية عىل الذهن‪ ،‬إال أنني فخورة بام تتطلبه‬

‫‪ -1‬ساحة من الساحات العامة يف وسط لندن‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫هذه الرباعة اللغوية من جهد ومهارة‪.‬‬
‫يف املقابل فإن لإلنجليزية أبجدية اقتصادية جدا‪ .‬لقد كانت اإلنجليزية‬
‫متساحمة جدا مع األصوات غري الدقيقة التي تنطقها تلك األلسن الكسولة‪.‬‬
‫ليس يف اإلنجليزية مفردات متدّ ظالهلا لذوي القربى يف العائلة املمتدة‪.‬‬
‫والعمت واخلاالت ليس هلم ما يم ّيز قرابتهم جتاه األب‬
‫ّ‬ ‫فاألعامم واألخوال‪،‬‬
‫أو األم يف اإلنجليزية؛ بل وال حتى ما يميز أعامرهم‪ ،‬وكأن األمر يبدو‬
‫غري مهام! وباملقارنة مع تنوع األصوات املتحركة يف البنغالية مما جيعلها لغة‬
‫موسيقي ًة‪ ،‬فإن اإلنجليزية تبدو جافة وال إثارة فيها‪ .‬أشتاق للمفردة البنغالية‬
‫تت لتحاكي صوت عزيف الرياح‪ ،‬وصوت هزيم املطر‪ ،‬وصوت‬ ‫ُح ْ‬ ‫التي ن ِ‬
‫خرير املاء‪ .‬كام أفتقد كذلك املفردات ذات الصدى‪ ،‬تلك التي تكرر املفردة‬
‫كـ (غرام غرام)‪ ،‬أي حار حار والتي تفيد التحذير؛ وأخواهتا يف القائمة ال‬
‫تنتهي‪ :‬جيد جيد‪ ،‬غني غني‪ ،‬وبدين بدين‪ .‬استخدامات ال حتتاج الكثري من‬
‫العبقرية ملامرستها‪ .‬هناك أشكال أخرى للصدى‪ ،‬التكرار‪ ،‬ولكنها تتطلب‬
‫حضورا ذهنيا خمتلفا حيث إنه سيختلف إما الصوت األول من املفردة أو‬
‫األخري‪ .‬كان أيب بطال لكل األلعاب اللغوية يف البنغالية العامية‪ ،‬وكان يداعب‬
‫اجلميع هبا حتى وإن كان يف لقاء مع ضيوف مهمني‪ .‬أحيانا وعرب تالعب‬
‫لفظي بسيط‪ ،‬كان أيب (يعتقد أنه) يمتحن ذكاء املقابل له‪ ،‬أو يستخرج منه‬
‫معلومات خاصة حول رشعية أمواله‪ ،‬أو أخالق أوالده‪ ،‬أو تبذير زوجته‪،‬‬
‫من خالل إجاباته‪.‬‬
‫كنت أغبط اإلنجليز عىل قدرهتم عىل تدوين الوقت لغويا؛ فبينام‬
‫يستخدمون األمس‪ ،‬واليوم‪ ،‬والغد ليعربوا عن املايض‪ ،‬واحلارض‪،‬‬
‫واملستقبل؛ فإن البنغالية تستخدم (كال) والتي تعني الزمن يف كل حاالته‬
‫سالفة الذكر‪ .‬لقد كان بيني وبني زميالت الدراسة الربيطانيات الكثري من‬

‫‪30‬‬
‫املعارضات حول مفهوم الزمن‪ .‬ولكن ومع تنامي متكني من لغتي الثانية‪،‬‬
‫بدأت أدرك االختالف بني األزمنة دالليا ونحويا‪ .‬واحلقيقة أن بناء اجلملة‬
‫اإلنجليزية نحويا كان قد شكل يل معضلة‪ ،‬حيث كنت أرص عىل استحضار‬
‫تركيب تلك اجلمل اإلنجليزية ولكن حسب القاعدة البنغالية‪ .‬وكأن حمرك‬
‫النحو يف دماغي كان موصوال بالرتتيب الذي تفرضه لغتي األم‪.‬‬
‫بدأت أستثمر يف لغتي األم عرب احلنني إىل ساعة احلكاية مع جديت‬
‫واألقارب «الرشيرين» يف كالكوتا‪ ،‬والذين كنت أحيانا أختبئ حتت الرسير‬
‫عجل بشكل أو بآخر بإشعال جذوة شوقي‬ ‫لتجنبهم‪ .‬ذلك احلنني املصطنع ّ‬
‫حلكايات أمي التي كانت تقصها علينا‪ :‬عن شهداء احلرية الذين كانوا‬
‫حياربون ألجلها يف بلدات عتيقة كبلدتنا‪ .‬كانت تقص علينا تلك القصص‬
‫بينام كنت أتناول عشائي جالسة عىل حصري مصنوع من عيدان القصب‬
‫بجوار أوالد األقارب الذين يسكنون معنا وأخوايت الثنتني‪ .‬وحلجم أرستنا‬
‫املمتدة كنا نأكل العشاء عىل دفعات‪ :‬األطفال أوال‪ ،‬ثم الرجال من العائلة‪،‬‬
‫ثم النساء؛ ثم يأكل اخلدم‪ .‬خالل تناولنا لوجبة العشاء كانت أمي احلكيمة‬
‫تستهل بقصص عن شباب وشابات خياطرون بتعرضهم للتعذيب يف‬
‫السجون‪ ،‬أو النفي جلزر آندامان(((‪ ،‬أو ربام حتى املوت‪ ،‬وذلك هبجومهم‬
‫عىل مراكز الرشطة أو الثكنات العسكرية‪ .‬تقص أمي علينا ذلك وهي تبعد‬
‫عظام السمكة البيضاء والتي كانت قد نقعتها يف خليط الـ(كاري)‪ ،‬لتطعمني‬
‫بيدها كرات السمك واألرز‪ .‬تقص علينا وتطعمنا ونحن نتشاجر ونبكي‬
‫رصاعا عىل رأس السمكة‪« :‬أنا أريد رأس السمكة!» فريد اآلخر‪« :‬ال! إنه‬
‫دوري‪ .‬لقد أكلت رأس السمكة البارحة‪ .‬ليس عدال! آكل هذا ألن والدي‬
‫ليس ‪ ».....‬يتّحد الرصاخ متزامنا مع أصوات الطيور حني حتاول القرار عىل‬

‫‪ -1‬أرخبيل يقع يف خليج البنغال‪ ،‬وكانت اجلزر فيه تستخدم كمنفى‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫أشجار الغاف املصفوفة عىل أرصفة احلي‪.‬‬
‫يف كالكوتا ولقرهبا من املحيط‪ ،‬يكون الشفق حلظة مفصلية للتفكر‪ :‬بني‬
‫االعتقاد والثقة يف القيم التنويرية املستوردة‪ ،‬وبني االستسالم لقوى الكون‬
‫‪-‬كموسيقي جاز حمرتف‪ -‬ماهرة يف احلكاية واالرجتال؛‬
‫ّ‬ ‫الغيبية‪ .‬كانت أمي‬
‫عيل‬
‫كانت تعرف جيدا كيف جتعلني مشدودة ومشدوهة يف كل مرة تقص ّ‬
‫ذات احلكاية‪ ،‬ولكن دوما بنهاية مفاجئة وخمتلفة‪ .‬كان صوهتا يذيب كل‬
‫اجلامدات من حويل‪.‬‬
‫كروائية‪ ،‬أحاول اآلن أن أذيب كل احلدود الثقافية بني املوروثات التي‬
‫عشت خالهلا‪ .‬كان مفهوم الزمن السائل الذي ورثته عن البنغالية (كال)؛‬
‫والواقعية السحرية((( التي ورثتها من املالحم اهلندية؛ كانا يرشدان قلمي إىل‬
‫الكتابة عن املهاجرين يف مدن أمريكا الشاملية‪ .‬كام أنني حاليا أكتب بلغة ثالثة‪،‬‬
‫وهي األمريكية‪ ،‬هلجة جديدة منحرفة عن الـ (فورسرتية((() اإلنجليزية التي‬
‫تعلمتها كمعيار للغة الصواب‪ ،‬والتي كتبت هبا أول رواية يل وأول جمموعة‬
‫قصصية‪.‬‬
‫كانت لغتي األم هي اإلعداد األول؛ وهذا التعبري يبدو وكأنه اعرتاف‬
‫هبزيمتي أنا وبراءهتا هي‪ ،‬إن أردت أن أتكلم بإدراك وتعقل‪ .‬ولكنّها‬
‫حل ُجب من‬‫تتالت ا ُ‬
‫ْ‬ ‫اإلنجليزية التي كانت بدايتي للقياس واملقارنة‪ .‬ثم‬
‫ُ‬
‫القليل من بريقها‬ ‫الفرنسية واإلنجليزية حتى سرتت بنغاليتي متاما وإن بقي‬
‫هناك‪ .‬ولكثري ممن ينتمي هلذا املجتمع العاملي وليس فقط لنا نحن القادمني‬
‫من اهلند‪ ،‬إنه لقدر غريب أن نطمئن عرب إدراكنا للوقت الذي تعلمناه من‬
‫أرسنا وعرب رسد احلكايات أن لغ ًة أخرى‪ ،‬لغة للدراسة‪ ،‬كانت من الرضورة‬

‫‪ -1‬مذهب يف الرواية والقصة ويف اآلداب والفنون عمو ًما‪.‬‬


‫‪ -2‬نسبة إىل إدوارد مورغان فورسرت األديب والكاتب اإلنجليزي (تويف ‪١٩٧٠‬م)‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫بمكان لتحرر عقولنا من أبداننا؛ لتحرر ذواتنا من جمتمعاتنا‪.‬‬
‫تعيش شخصيتان داخل كل إنسان كان قد تبنى لغة ثانية‪ .‬وكام هو احلال‬
‫يف كل واقعة للتبني هناك ما يضاف وهناك ما يفقد‪ .‬وهناك خري وحظ عظيم‪:‬‬
‫والدة ناجتة عن احلاجة واخليبة سويا‪ .‬وبالنسبة يل ككاتبة كان ذوبان لغتي‬
‫األم هو ما صنع الكيكة؛ كان هو طريق العودة وطريق امليض قدما يف الوقت‬
‫ذاته‪ .‬كان فقدا للذات يف أعمق ذاكرة‪ :‬أ ّم القصص ك ّلها‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫نعم وال‬
‫أيمي تان‬
‫(((‬

‫ُ‬
‫«تبالغ سوسو كثريا‬ ‫أرست يل أمي ذات عشاء عائيل يف سان فرانسيسكو‪:‬‬ ‫ّ‬
‫بالتظاهر أهنا مهذبة (تعني زوجة أخيها‪/‬خايل)! ملاذا ّ‬
‫كل هذا التظاهر؟! فهي‬
‫تأخذ كل ما تريده دو ًما!»‬
‫تفكّر أمي وكأهنا خبرية يف شؤون العادات الصينية‪ ،‬وكأهنا مل تكن قد‬
‫غادرت الصني منذ العام ‪1949‬م‪ .‬فها هي مل تعد حتتمل مظاهر اللطافة‬
‫واللباقة الرسمية‪ .‬ولتثبت سوء ظنّها جتاه سوسو‪ ،‬قفزت أمي للجهة األخرى‬
‫آخر قطعة‬
‫من الطاولة لتقدم هلذه اخلالة الكبرية يف السن والقادمة من بكّني َ‬
‫إسكالوب من عشائنا البحري السعيد‪.‬‬
‫قليل وقالت‪« :‬ال أريدها؛ أنا ً‬
‫فعل ال أريد!»‬ ‫جتهمت سوسو ً‬
‫ّ‬
‫«خذهيا خذهيا!»‪ ،‬قالتها أمي بالصينية بنربة أقرب ما تكون للتوبيخ‪.‬‬
‫«لقد اكتفيت ً‬
‫فعل‪ ،‬امتألت»؛ هكذا اعرتضت خالتي سوسو‪ ،‬ولكن‬
‫بضعف وهي ترمق اإلسكالوب اللذيذ بنظرها‪.‬‬
‫«ما هذا!»‪ ،‬تعجبت أمي باستياء بالغ وقالت‪« :‬ال يريدها أحد؛ إن مل‬

‫‪ -1‬أيمي تان (‪ )Amy Tan‬كاتبة أمريكية‪/‬صينية‪ ،‬هلا عدة روايات وقصص قصرية وقصص‬
‫لألطفال‪ .‬ألفت رواية «نادي احلظ املمتع» وهي رواية تبحث يف عالقة املرأة الصينية بابنتها‬
‫األمريكية‪/‬الصينية‪ .‬آخر كتبها كان رواية واقعية بعنوان «عكس القدر»‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫تأكليها فإهنا سرتمى!»‬
‫عند ذلك‪ ،‬تنهدت سوسو وترصفت وكأهنا تسدي لوالديت معرو ًفا‬
‫بتناول ذلك اإلسكالوب املسكني من يد أمي‪.‬‬
‫التفتت أمي ألخيها‪ ،‬الضيف الذي يزورها للمرة األوىل يف كاليفورنيا‪،‬‬
‫والذي كان ذا منصب رفيع جدً ا يف احلزب الشيوعي يف الصني؛ وقالت له‪:‬‬
‫«يف أمريكا قد يموت الصيني من اجلوع‪ ،‬ألن األمريكيني لن يكرروا عليك‬
‫عرض ضيافتهم أبدً ا إن قلت ال أريد‪ ،‬لن جياملوك ولو بتكرار عرضهم ملرة‬
‫واحدة أبدً ا»‪.‬‬
‫أومأ اخلال برأسه‪ ،‬وقد استوعب الصورة متا ًما ً‬
‫قائل‪« :‬يأخذ األمريكيون‬
‫األمور عىل عجل ألهنم ال يملكون وقتًا ليكونوا لطفاء»‪.‬‬
‫فكرت بسوء الفهم هذا مرة أخرى؛ سوء فهم لسياق اجتامعي‬ ‫ُ‬ ‫حينها‬
‫بسبب ما قد يفقده املشهد عند الرتمجة‪ .‬حدث أن أرسل يل صديق مقال ًة‬
‫من جملة نيويورك تايمز‪ .‬وكانت املقالة تتحدث عن التغريات احلاصلة يف‬
‫احلي الصيني يف مدينة نيويورك‪ .‬وقد أملحت إىل أن هناك حالة من التناقض‬
‫واخللط املوروث داخل اللغة الصينية نفسها‪.‬‬
‫«الصينيون هلم خصوصيتهم وحياؤهم»‪ ،‬كام أقرت املقالة‪ ،‬ثم جعلت‬
‫ذلك سب ًبا الفتقار اللغة الصينية ملفردات مثل (نعم وال)‪.‬‬
‫وهذا غري صحيح البتة‪ ،‬هذا ما أعلمه عن الصينية‪ ،‬لكني أستطيع فهم‬
‫هذا املوقف من الغرباء عن اللغة‪ .‬ثم أكملت القراءة‪.‬‬
‫مضت املقالة قائلة‪« :‬إن الصيني يقدم التنازالت؛ ألنه ال يغامر بالتعرض‬
‫للحرج»‪.‬‬
‫أغص! ما الذي يدفع الناس لقول مثل هذه األشياء؟ يتكلمون‬
‫لقد كدت ّ‬

‫‪35‬‬
‫عنا وكأننا ‪-‬حرف ًيا‪ -‬مثل تلك الدمى الصينية التي يبتاعوهنا من متاجر احلي‬
‫دائم بكل‬
‫تقر ً‬
‫الصيني؛ تلك الدمى التي هتز رأسها لألعىل واألسفل‪ ،‬وكأهنا ُّ‬
‫ما يمليه عليها املتحدث املقابِل‪.‬‬
‫خييفني تأثري هذه التقريرات قارصة النظر عىل اإلنسان البسيط الغافل‪.‬‬
‫«قصورا يف‬
‫ً‬ ‫يسمونه‬
‫فأتساءل عن الناس حني يقرأون يف مثل هذه املقالة ما ّ‬
‫برشا يف‬
‫املفردات»؛ هل يظنون حينها يا ترى أن الصينيني يتطورون بوصفهم ً‬
‫ظل حالة كهذه من القصور‪ ،‬أي بام تسمح به لغتهم؟‬ ‫ّ‬
‫ُيف َقدُ الكثري دو ًما أثناء الرتمجة‪ ،‬فتحدث بعض الفجوات‪ .‬ثم يترسب‬
‫الكثري من السوء إىل ذلك الفراغ‪ ،‬خاصة عندما يقوم بعض اللغويني غري‬
‫الراشدين بمقارنة اللغات بطريقة تبحث مفردات التفاوت بني اللغات‪،‬‬
‫دون النظرة املجملة الشاملة‪ .‬ثم يلوحون باإلذن للناس بسوء التفسري‬
‫مثل إن الصينية تفتقر لألسلوب املبارش الذي يسمح‬ ‫والرشح‪ .‬فقوهلم ً‬
‫للناس باختاذ القرارات‪ :‬القبول‪ ،‬أو الرفض‪ ،‬أو التأكيد‪ ،‬أو النفي؛ يفيد أن‬
‫الصيني ال يستطيع أن يرفض االستجابة ‪-‬عىل سبيل املثال‪ -‬لعرض جمر ٍم أو‬
‫تاجر خمدرات‪ ،‬أو أنه ال جييب بوضوح إذا قيل له أجب بـ «نعم أو ال» عىل‬
‫منصة الشهود‪.‬‬
‫قد يستطيع بعض األشخاص وبمساعدة من بعض اللغويني الكبار‬
‫فعل مثل جدول ماء ليس فيه «نعم أو ال»‪ .‬فهناك نظرية‬ ‫املجادلة أن الصينية ً‬
‫(اللغة والواقع) القديمة التي عمل عليها قبل سنوات إدوارد سابري(((‪:‬‬
‫«الناس ‪ .....‬مرهونون برمحة كل لغة خاصة‪ ،‬حدث أهنا قد أصبحت وسيلة‬
‫التواصل بينهم يف جمتم ٍع ما‪ ..... .‬ألن العامل احلقيقي ما هو إال من بناء‬

‫‪ - 1‬عامل لسانيات وإنثروبولوجيا أمريكي (تويف ‪١٩٣٩‬م)‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫العادات اللغوية يف تلك املجموعة اإلنسانية بشكل أو بآخر»‪.‬‬
‫لبثت نظري ُة (اللغة والواقع) سالفة الذكر إال وساندهتا الفرضي ُة‬ ‫ثم ما ْ‬
‫يت هذه الفرضية عىل أن نظرة اإلنسان‬ ‫ِ‬
‫رف(((‪ .‬وقد ُبن ْ‬
‫املشهور ُة لسابري َو ُو ْو َ‬
‫فاعل داخل عامله تعتمد بشكل‬ ‫وتصوره للعامل‪ ،‬بل حتى وكيف يكون املرء ً‬
‫كبري عىل اللغة التي يستخدمها‪ .‬يزعم سابري َو ُو ْورف وحاملو الراية من‬
‫بعدمها أن علينا االقتناع بأن اللغة تشكّل طريقة تفكرينا وتقودنا عرب احلياة‬
‫بأنامط مضمرة يف اللغة نفسها كالرتاكيب النحوية وأنامط النرب والتنغيم‪ .‬وبناء‬
‫عىل هذا االفرتاض‪ ،‬فإن اللغة بذاهتا تكون هي الرف والقواطع التي متكننا‬
‫من تقسيم العامل وتصنيفه‪ .‬ففي اإلنجليزية عىل سبيل املثال مفردة للقطط‬
‫ومفردة للكالب كحيوانات أليفة؛ لكن ماذا لو كانت اللغة كذلك تفصل‬
‫مسميات احليوانات األليفة بمفردات ختص احليوان األليف الذي يتساقط‬
‫شعره عىل األريكة‪ ،‬يف مقابل احليوان األليف الذي يتساقط شعره ولعابه عىل‬
‫إن كان هذا االفرتاض واق ًعا‪ ،‬كيف ‪-‬إذن‪ -‬تشكل اللغة تصورنا‬ ‫األريكة؟ ْ‬
‫للواقع عرب هذه املفردات؟!‬
‫فعل ‪-‬أي أن اللغة هي سيدة الفكرة املرادة‪-‬‬ ‫وإن كانت هذه هي احلال ً‬
‫فلنفكر يف حجم إمكانية ضياع الكثري‪ ،‬فقط ألن لغ ًة ما مل تتمكن من تطوير‬
‫مفردتني صغريتني «نعم وال»‪ .‬فلربام عاد جنكيز خان أدراجه من منغوليا؛‬
‫(((‬
‫ولربام جتنب الناس حروب األفيون(((‪ .‬ولربام مل تكن الثورة الثقافية‬

‫‪ - 1‬فرضية توصل هلا كل من سابري واللساين األمريكي بنجامني وورف (تويف ‪١٩٤١‬م) تنص‬
‫عىل أن اللغات تفرض عىل املجتمعات رؤية الواقع وتصور العامل‪.‬‬
‫‪ -2‬حربان قامتا بني اإلمرباطورية الصينية وبريطانيا‪ .‬األوىل يف (‪١٨٤٢-١٨٤٠‬م)؛ والثانية يف‬
‫(‪١٨٦٠-١٨٥٦‬م)‪ ،‬واشرتكت فيها فرنسا دعام لربيطانيا‪.‬‬
‫‪ - 3‬فرتة من القالقل السياسية مرت عىل الصني يف الستينيات والسبعينيات امليالدية‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫لتحدث كذلك!‬
‫يامي‬ ‫ِ‬
‫وما زال بعض اللغويني والنفسانيني يرون أن اللغة والواقع توأم س ّ‬
‫ال يمكن فصلهام‪ ،‬وأن أحدمها نتيجة لآلخر بالرضورة‪ .‬لقد جتاوزنا فرضية‬
‫سابري َو ُو ْوف إىل تطوير الذات وبرجمة اللغة العصبية اللذين خيرباننا‪« :‬أن‬
‫املرء هو ما يقوله»‪.‬‬
‫حدث أن كنت مفتونة بالنظريتني‪ .‬وأستطيع رسد أمثلة وإن مل تكن‬
‫دقيقة من أحقاب مضت كأدلة جتريبية عليهام‪ :‬فلديك اإلسكيمو وقائمتهم‬
‫الالمنتهية لكلمة «ثلج»‪ ،‬وقدرهتم احلقيقية عىل إدراك الفوارق يف صفات‬
‫الثلج مهام د ّقت بفضل غنى مفردات لغتهم املعربة عن الثلج! يف حني ال‬
‫يستطيع يف املقابل غري الناطقني بلغات اإلسكيمو إال قول «ثلج» أو «مزيد‬
‫من الثلج»‪.‬‬
‫لقد حدث وأن مررت بتجارب إدراكية عجيبة ومؤثرة من خالل‬
‫الكلامت‪ .‬ذات مرة أضفت كلمة «موف(((» خلزينة مفردايت‪ ،‬ثم ما لبثت‬
‫حتى رأيت اللون يف كل مكان حويل‪ .‬يف مرة أخرى بدت يل أسعار املطاعم‬
‫الفرنسية أرخص حني تعلمت نطق (‪ ،)prix fixe‬والتي هي أصعب من نطق‬
‫أثرا يف القيمة املدفوعة(((‪.‬‬
‫(‪ ،)a la carte‬ولكنها أكثر ً‬
‫ولكن ما مدى جدية هذا احلديث؟!‬
‫لقد قال سابري شي ًئا آخر عن اللغة والواقع‪ .‬إنه اجلزء الذي عادة ما‬

‫‪ - 1‬درجة البنفسجي الباهت‪ ،‬وقد سمي هبذا بعد اسم زهرة نبات اخلبيزة بالفرنسية (‪.)muave‬‬
‫‪ )fixe prix( -2‬قائمة املطاعم ذات السعر الشامل والثابت وتكون دائام أقل سعرا من املطاعم‬
‫األخرى وقد تدخل هبا مطاعم البوفيه‪ ،‬بينام املطاعم التي تقدم الطلبات اخلاصة باطباق حسب‬
‫الطلب هي التي تسمى (‪.)a la carte‬‬

‫‪38‬‬
‫خيفيه الناس عندما يكثرون النقاط داخل عالمات التنصيص‪ .....« .‬ال‬
‫توجد لغتان متكافئتان متا ًما لتعدّ ا ممثلتني للواقع االجتامعي ذاته‪ .‬فالعوامل‬
‫التي تعيش هبا املجتمعات عوامل متاميزة متا ًما‪ ،‬وال يوجد عامل واحد تصفه‬
‫عالمات أجنبية عنه»‪.‬‬
‫تصديق ما كنت‬
‫ُ‬ ‫حينام قرأت هذا القول للمرة األوىل‪ ،‬قلت لنفيس‪ :‬هذا‬
‫أشعر به حني نشأيت يف عائلة ذات ثقافتني خمتلفتني ولغتني خمتلفتني‪ .‬وكام‬
‫مزدوجا مرضو ًبا عليهم؛ رضيبة‬
‫ً‬ ‫يعرف كل أطفال املهاجرين أن ثمة قيدً ا‬
‫معرفة لغتني‪ .‬يتحدث والداي ‪-‬عىل سبيل املثال‪ -‬معي بالصينية واإلنجليزية‬
‫سو ًيا؛ ولكني أجيبهام باإلنجليزية فقط‪.‬‬
‫«إيمي آآ(((»‪ ،‬ينادونني‪.‬‬
‫«ماذا؟»‪ ،‬أمتتم جميب ًة‪.‬‬
‫«ال تكثري علينا األسئلة حني ندعوك‪ ،‬فهذا ليس من األدب»؛ يوبخانني‪.‬‬
‫«ما الذي تقصدانه؟»‬
‫«أي(((! أمل ِ‬
‫ننهك للتو عن طرح األسئلة؟»‬
‫أتساءل دو ًما ‪-‬حتى يومنا هذا‪ -‬عن أي جزء من سلوكي كانت الصينية‬
‫قد شكلته‪ ،‬وأي جزء شكلته اإلنجليزية‪ .‬ويغريني التفكري ً‬
‫مثل أن أتساءل‬
‫فعل ذات عقلني حني أتعامل مع ٍ‬
‫أمر ما؟ وهل هذا عائد‬ ‫كذلك عام إذا كنت ً‬
‫ً‬
‫فعل إىل ثراء جتربتي اللغوية‪ ،‬أم إهنا نزعتي الفردية نحو االرتباك؟ لكني‬

‫كثريا يف الصينية للنداء‪ ،‬أو لفت االنتباه‪ .‬هو مما دخل يف ما يمكن تسميته‬
‫‪ -1‬تعبري يستخدم ً‬
‫(‪ ،)Chinglish‬اإلنجليزية بنكهة الصينية ولكنتها‪.‬‬
‫‪ -2‬تعبري للتعجب وهو من جنس الرشح السابق‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫أيضا‪ :‬أي عقل يف احلقيقة نطق هبذا التساؤل؟‬
‫أتساءل ً‬
‫رب والذي نام معي وأنا أحاول تفكيك رموز إنجليزية‬ ‫هل يا ترى كان الص ُ‬
‫استمعت لتلك املرأة عىل اهلاتف‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أمي الضعيفة هو الذي جعلني لطيف ًة حينام‬
‫وهي تعلن فوزي بجوائز ثمينة؟ أم يا ترى كان االحرتام الذي ُغ ِرس بداخيل‬
‫عرب اللغة الصينية وصيغ األمر فيها حني أستمع للعجائب وبرشح معقد هو‬
‫ما قادين أن أوافق حمدثتي أن قيادة السيارة خلمسة وسبعني ً‬
‫ميل فقط ألجل‬
‫معاينة منتجع مشرتك امللكية سيكون شي ًئا ممت ًعا؟ هل كانت الكلامت هي ما‬
‫ينقصني فعل ًيا حني كنت أرد عىل تلك األسئلة‪« :‬أال تودين ربح رحلة عىل‬
‫خصيصا‬
‫ً‬ ‫متن باخرة إىل جزر هاواي‪ ،‬أو ربام الفوز بنجمة هندية مصممة‬
‫لدى كارتري وفان آربيلز(((؟!»‬
‫وحني اتصلت املرأة نفسها بعد أسبوع من تلك املكاملة متذمر ًة من تفويتي‬
‫«املتعمد» ملوعدي‪ ،‬بالطبع كانت لغتي التي رددت عليها وقاطعتها هبا هي‬ ‫َّ‬
‫رفضا قاط ًعا بكل تأكيد حني قلت هلا‪« :‬من‬ ‫اللغة التي أتقنها بامتياز‪ .‬كان ً‬
‫الواضح أنني غري مهتمة باألمر!» كان هذا الرفض القاطع أمريك ًيا ب ّينًا مثل‬
‫(فطرية التفاح((() متا ًما‪ .‬قالت السيدة‪« :‬ولكنه ‪-‬أي املنتجع‪ -‬عىل مرتفعات‬
‫مورغان»‪ .‬حينها رفعت صويت‪« :‬أال تفهمني؟ ال هيمني حتى وإن كانت يف‬
‫متبكتو(((» ‪ ..‬ولكم أن تتأكدوا أنني قلتها بنربهتا املعربة بمثالية عن السخرية‬
‫واالشمئزاز‪.‬‬
‫إن هذا التقسيم للغة والسلوك ألمر خطري جدا‪ .‬أين هي اإلنجليزية؟‬

‫‪ -1‬فان كليف آند أربيلز اسم رشكة فرنسية منتجة للساعات واإلكسسوارات والكامليات‪.‬‬
‫أمريكي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫‪ -2‬فطرية التفاح رمز للحلوى األمريكية‪ ،‬ومن ثم أصبحت رمزا للتعبري عن كل ما هو‬
‫‪ -3‬مدينة تارخيية يف مايل‪ ،‬تعدّ ملتقى للحضارات والثقافات وطرق التجارة القديمة‪ ،‬وهي حمط‬
‫أنظار السواح‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫وأين هي الصينية؟ ترشح التصنيفات نفسها ِ‬
‫بنفسها‪ :‬عدوانية وضعيفة؛‬ ‫َ‬
‫مرتددة وحاسمة؛ مبارشة وغري مبارشة‪ .‬أدرك أهنا أوصاف تصب يف وصف‬
‫املقالة املذكورة‪« :‬الصينيون هلم خصوصيتهم وحياؤهم»‪.‬‬
‫لكني أرفض ذلك كله!‬
‫إن كانت ردات فعيل حاسمة يف بعض األمور‪ ،‬فذلك ألين ال أستطيع‬
‫كثريا؛ متاما‬
‫جماراهتا‪ .‬لقد نشأت وأنا أستمع لكثري من الكالم املبتذل واملكرر ً‬
‫كتلك األسطر املكررة يف ذلك اليشء الذي تسميه اإلنجليزية «كتاب»(((‪ .‬يف‬
‫احلقيقة إنني كدّ ت أصدق تلك القناعات‪.‬‬
‫حني أفكر يف اللغة الصينية التي نشأت معها فإهنا ال حتمل أي خصوصية‬
‫دائم‪ ،‬مهام تطلب األمر‪ .‬ال‬
‫أو حياء! كان والداي جيعالن األمور واضحة ً‬
‫يشء مضطرب يف أوامرمها‪ ،‬وال مساومة عليها‪« .‬بالطبع ستكونني جراحة‬
‫أعصاب مشهورة»‪ .‬هكذا قاال يل‪ ،‬ثم أضافا‪« :‬وعازفة بيانو حمرتفة كذلك»‪.‬‬
‫واحلقيقة إنني أتذكر اآلن أن أقل جتليات قلة الصرب التي شهدهتا يف حيايت‬
‫كانت بالصينية‪« :‬ليس هكذا! جيب أن تغسيل األرز جيدً ا‪ ،‬كام جيب ّأل تسقط‬
‫حبة واحدة منه»‪.‬‬
‫املهاجر ْين من الصني يشكالن أي استثناء عن املجتمع‬
‫َ‬ ‫والدي‬
‫ّ‬ ‫ال أؤمن أن‬
‫احليي واملؤدب! كام إنني حني أنظر إىل الطالب الصينيني يف جمال‬
‫ّ‬ ‫الصيني‬
‫اهلندسة يف جامعات بريكيل وإم آي يت وييل‪ ،‬فإنني جز ًما ال أظنهم قد تربوا‬
‫يف أحضان آباء وأمهات ضعفاء‪ ،‬خياطبوهنم بمثل‪« :‬ال بأس يا ابنتي‪ ،‬األمر‬
‫كنت تريدين العمل كاتبة أو موظفة استقبال‪ ،‬أو عاملة‬ ‫لك؛ إن ِ‬
‫راجع ِ‬
‫تدليك‪ ،‬أو مهندسة نووية؛ ِ‬
‫أنت من يقرر»‪.‬‬

‫تسوق بكثرة للقراء يف أمريكا‪.‬‬


‫‪ -1‬يف إشارة إىل الكتب السطحية واملبتذلة التي ّ‬

‫‪41‬‬
‫يف املقابل خيربين عقيل األمريكي أن طالب اهلندسة هؤالء مل يستطيعوا أن‬
‫يقولوا «ال» لوالدهيم وال للمصري الذي خيتارونه هلم‪ .‬فريد عليه عقيل الصيني‬
‫جمادل‪ :‬لكن هؤالء اآلباء واألمهات أرادوا أن يدرس أوالدهم الطب(((‪.‬‬ ‫ً‬
‫وأثناء استامعي لكال العقلني فإين أميل إىل االبتعاد عن املقارنة بني‬
‫دائم ما جتعل إحدى اللغتني معيارية‬ ‫اللغتني‪ .‬فإن املقارنات بني اللغات ً‬
‫وحمدِّ دة للمنطق والتعبري الذي ُيتكم إليه؛ ويلزم من ذلك أن تكون‬
‫أساسا؛‬
‫ً‬ ‫اللغة األخرى حمل اهتام وقصور‪ ،‬أو حتى إهنا غري رضورية‬
‫شديدة البساطة أو شديدة التعقيد؛ مائعة الصوت أو نشاز‪ .‬يقول متحدثو‬
‫كثريا عىل قواعد نرب‬
‫اإلنجليزية إن الصينية فائقة الصعوبة وذلك ألهنا تعتمد ً‬
‫يصعب إدراكها باألذن البرشية العادية‪ .‬يف السياق ذاته‪ ،‬يقول الصينيون إن‬
‫اإلنجليزية صعبة جدً ا ألهنا غري مطردة القواعد‪ ،‬لغة هلا الكثري من القواعد‬
‫القابلة للكرس؛ كام إهنا لغة ميكي ماوس والبطة دونالد‪.‬‬
‫ِ‬
‫الرتمجة إىل تلك‬ ‫واألخطر من تلك املقارنات نفسها حني تقع املقارن ُة عىل‬
‫اللغات وليس عىل اللغة ذاهتا‪ .‬من يستمع ألمي ‪-‬عىل سبيل املثال‪ -‬فإنه‬
‫ً‬
‫ومستقبل؛‬ ‫وحارضا‬
‫ً‬ ‫حتم أهنا ال تقدر عىل التفريق بني األزمنة‪ :‬ماض ًيا‬
‫سيظن ً‬
‫وأهنا ال تؤمن باجلمع واإلفراد؛ بل وأن التذكري والتأنيث ال يعني هلا شي ًئا‪:‬‬
‫فهي تشري إىل زوجي بالضمري «هي»‪ .‬إن النظرة غري املتأنية إىل طريقة كالم‬
‫ال بأن هذه هي طريقة الصينيني كلهم يف احلديث؛‬ ‫تعميم جاه ً‬
‫ً‬ ‫أمي ربام أنتجت‬
‫كثريا يف سبيل حماولة الوصول إىل نقطة ما‪ .‬واحلقيقة أن طريقة‬
‫ّ‬
‫(((‬
‫فهم يسهبون‬

‫‪ -1‬حماولة ساخرة يف أن من يفشل يف دراسة الطب من الصينيني بسبب «ضعفه» فإنه يدرس‬
‫اهلندسة يف اجلامعات املرموقة عامل ًيا‪.‬‬
‫‪ -2‬هناك نظرية لغوية تطبيقية قديمة حول أسلوب الصينيني يف الكتابة األكاديمية اإلنجليزية‪،‬‬
‫تفرتض النظرية أن التمطيط واملراوغة موجودة يف كتابة الصينيني اإلنجليزية أكاديم ًيا وأهنا كذلك‬
‫تعرب عن طريقة تفكريهم‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫أمي الفريدة هي أهنا تراوغ ً‬
‫قليل‪.‬‬
‫أما أنا فأخشى أن الثقافة العامة تصنف الصينيني بأهنم حمدودي النظر‪.‬‬
‫وأخشى كذلك أن الصورة النمطية وإن كانت سليمة املقصد هي السبب‬
‫الرئييس خلف وجود عدد ضئيل جدً ا من الصينيني كقيادات يف جمال األعامل‬
‫والسياسة يف أمريكا‪ .‬أخشى ما أخشاه أن تصبح قوة اللغة ‪-‬أي لغة كانت‪-‬‬
‫أمرا حقيق ًيا‪.‬‬
‫ً‬
‫والدي الصينيني ومن يف جيلهام تلك التعميامت‪،‬‬
‫ّ‬ ‫أهلذا يقبل معظم أصدقاء‬
‫دون حتى حماولة االعرتاض؟!‬
‫«ملاذا كل هذا التذمر؟» سألني أحد هؤالء الكبار ذات ٍ‬
‫مرة ثم قال‪« :‬إن‬
‫كان الناس يظنوننا حي ّيني ومؤدبني‪ ،‬فلهم ذلك‪ .‬ألن يسعد األمريكيون‬
‫نفسهم إن وصفهم أحد بأهنم مؤدبون؟»‬
‫أنا كذلك أظن أن الناس بعمومهم قد يرون أن هذا الوصف ّ‬
‫حمل إطراء‬
‫مزعجا‪ ،‬وكأن كل ما‬
‫ً‬ ‫وثناء ابتدا ًء‪ .‬لكن مع استمرار ذلك‪ ،‬فإن األمر يبدو‬
‫يعلمه الناس عنك هو تقييمهم االجتامعي لك عرب العالمات اللغوية‪ .‬كأنام‬
‫يقول أحدهم‪« :‬مرسور بلقائك‪ .‬لقد سمعت الكثري عنك‪ .‬أما عني‪ ،‬فال بد‬
‫أنك مل تسمع شي ًئا!»‬
‫أفكارا جديدة‪ ،‬وال مشاعر‬
‫ً‬ ‫هذه العالمات اللغوية ال متثل يف احلقيقة‬
‫أدب من عىل البعد‪ ،‬متجرد من‬‫أو انطباعات صادقة‪ .‬بل هي يف احلقيقة ٌ‬
‫األدب بطاقات التهاين واملباركات‬
‫ُ‬ ‫سياقه االجتامعي والتواصيل؛ يشبه هذا‬
‫والشكر‪ ،‬والتي تعترب مرحية إىل حد بعيد‪.‬‬
‫هذا الواقع جيعلني أتساءل عن عدد علامء األنثروبولوجيا وعدد‬
‫االجتامعيني‪ ،‬والصحفيني الذين و ّثقوا ما قد ُيسمى بـ «التفاعل الطبيعي» يف‬

‫‪43‬‬
‫فعل حيملون أورا ًقا فارغة لتدوين مشاهداهتم‪.‬‬
‫البالد األخرى‪ ،‬وهل كانوا ً‬
‫كام أتساءل عن عدد اآلخرين من املنتمني ألصل البرش األقدم؛ هؤالء الذين‬
‫تطوروا حتى جترأوا عىل إنتاج عرض حياكي حياة العرص احلجري‪ ،‬ليشاهده‬
‫علامء األصول البرشية‪.‬‬
‫أتساءل عن عدد السياح الذين غادروا للتو حافالهتم السياحية ليجولوا‬
‫يف احلي الصيني ويتشدقوا عىل الباعة‪ ،‬أولئك املنكرين لذواهتم‪ ،‬والذين‬
‫يوافقوهنم مكرهني أن البضائع املعروضة ال تستحق الثمن املطلوب فيها‪.‬‬
‫كثريا‪.‬‬
‫لقد شاهدت ذلك وشهدته ً‬
‫«ال أدري! ولكنها ال تبدو يل أصل ّية‪ .‬سأعطيك مقابلها ثالثة دوالرات»‪.‬‬
‫هكذا قالت سائح ٌة ذات مرة لبائعة صينية يف اخلمسني من عمرها‪ .‬أجابتها‬
‫البائعة‪« :‬إن مل يعجبك السعر‪ ،‬فبإمكانك أن تشرتي من حمل آخر»‪ .‬بكت‬
‫السائحة مفجوع ًة وهي تقول‪« :‬إنك لست لطيفة؛ لست لطيفة أبدً ا!» قالت‬
‫عيل أن أكون لطيفة؟!»‬
‫البائعة متعجبة‪« :‬وملاذا جيب ّ‬
‫هنا سألتني رفيقتي وبحذر‪« :‬كيف جييب املرء بـ (نعم أو ال) باللغة‬
‫الصينية إذن؟»‬
‫عيل أن أوافق ولو جزئ ًيا عىل ما جاء يف مقالة جملة‬
‫وهنا ‪-‬متا ًما‪ -‬كان ّ‬
‫نيويورك تايمز‪ .‬ليس ثمة مفردة لـ «نعم أو ال» يف الصينية؛ لكن الدافع وراء‬
‫هذا الغياب ليس احلياء أو االستتار بالرضورة‪ .‬إن املقابل لـ «نعم أو ال» يف‬
‫الصينية هو «سرتمها»‪ ،‬وذلك باستخدام الكلامت املوجودة يف السؤال نفسه‪.‬‬
‫حني ُيسأل الصيني عام إن كان تناول طعامه أم ال‪ ،‬فإنه سيجيب بـ(‪)chrle‬‬
‫أي أكلت بالفعل؛ أو سيجيب بـ (‪ )meiyou‬أي مل أفعل‪ .‬وحني السؤال عام‬
‫إذا كان لديه تأمني عىل سيارته لدى وقوع احلادث‪ ،‬فإنه سيجيب بـ (‪)dwei‬‬

‫‪44‬‬
‫أي صحيح؛ أو سيجيب كذلك بـ (‪ )meiyou‬مل يكن لدي‪.‬‬
‫وحني سؤاله عام إن كان قد توقف عن رضب زوجته‪ ،‬فإن إجابته ستكون‬
‫مبارشة لصيغة السؤال‪ .‬سيجيب بأنه توقف ً‬
‫فعل؛ أو أنه مستمر برضهبا؛ أو‬
‫أنه مل يرضهبا أبدً ا؛ أو أنه غري متزوج‪ .‬هل هناك وضوح أكثر من هذا؟!‬
‫وهلؤالء الذين يريدون أن يعرفوا كيف يرتمجون لغة «حي ّي ًة» كالصينية‪،‬‬
‫فإين أدعوهم لالطالع عىل هذا املثال الشخيص‪.‬‬
‫حني اقرتب موعد سفر خايل وخالتي (زوجته) عائدين إىل بكني بعد‬
‫زيارهتم التي امتدت لثالثة أشهر‪ ،‬ويف ليلتهم األخرية يف الواليات املتحدة‪،‬‬
‫دعوهتم إىل العشاء يف أحد املطاعم‪.‬‬
‫سألتهم بالصينية‪« :‬هل أنتم جائعون؟»‬
‫قال اخلال مبارشة‪« :‬لسنا جائعني»‪ .‬وهي اإلجابة ذاهتا التي قاهلا يل مرة‬
‫عندما كان يعاين من انخفاض يف ضغط الدم‪ ،‬وكان بحاجة ملحة للطعام‬
‫ح ًقا‪.‬‬
‫أما زوجته فقالت‪« :‬لسنا جائعني جدً ا؛ هل أنت جائعة؟»‬
‫ً‬
‫«قليل!»‬ ‫فاضطررت إىل أن أعرتف هلم‪:‬‬
‫«إذا كان األمر كذلك فإننا نستطيع األكل ومشاركتك»‪ .‬هكذا أجابا‬
‫سو ًيا‪.‬‬
‫سألتهام جمد ًدا‪« :‬ما نوع الطعام الذي تفضالنه؟»‬
‫فارها وال مكل ًفا‪.‬‬
‫أجابا‪« :‬أي يشء‪ ،‬ال هيم؛ ال يتطلب األمر أن يكون ً‬
‫طعام بسيط سيفي بالغرض»‪.‬‬
‫اقرتحت عليهام‪« :‬ما رأيكام باملطبخ الياباين؟ مل نجرب ذلك سو ًيا»‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫التفتا إىل بعضهام‪ ،‬ثم قال خايل‪« :‬نستطيع تناول ذلك»‪ .‬قاهلا دون تردد‪،‬‬
‫بل وبكل شجاعة هذا الناجي من املسرية الطويلة(((‪ .‬ولكن خالتي قالت‪:‬‬
‫«لقد جربناه من قبل؛ سمك ينء!»‬
‫قلت هلا‪« :‬أنت ال تفضلني ذلك! نستطيع الذهاب إىل مكان آخر؛ ال‬
‫جتامليني»‪.‬‬
‫ردت عيل اخلالة قائل ًة‪« :‬ال أجاملك فنحن نستطيع أكله ح ًقا!»‬
‫ركبنا السيارة قاصدين احلي الياباين‪ ،‬ثم مشينا من أمام جمموعة من‬
‫املطاعم اليابانية‪ ،‬املزينة بالطعام البالستيكي عىل واجهاهتا‪ .‬كنت أومئ‬
‫بيدي عىل املطاعم قائل ًة‪« :‬ليس هذا! وال هذا!» ولكنني مل أكن أملك أي آلية‬
‫لالختيار‪ .‬أرشت إىل مطعم صيني‪ ،‬يقدم الطعام الصيني التقليدي من والية‬
‫شاندونج‪ ،‬وقلت هلم بسعادة‪« :‬هذا هو»‪.‬‬
‫قالت خالتي بصوت سعيد ومرتفع‪ ،‬وقد تنفست الصعداء‪« :‬طعام‬
‫صيني»‪.‬‬
‫بينام ر ّبت خايل عىل ذراعي ً‬
‫قائل‪« :‬أنت تفكرين كالصينيني»‪.‬‬
‫قلت هلام‪« :‬إهنا ليلتكام األخرية يف الواليات املتحدة‪ .‬ال جتامالين؛ افعال‬
‫كام يفعل األمريكيون‪ ،‬فهم ال جياملون»‪.‬‬
‫وتناولنا وليم ًة كبري ًة ليلتَنا تلك‪.‬‬

‫ً‬
‫كامل (أكتوبر‬ ‫‪ -1‬املسرية الطويلة كانت رحلة تراجع للجيش األمحر الصيني استمرت عا ًما‬
‫‪١٩٣٥-١٩٣٤‬م)‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫إشكال مع اللغة‬
‫جوزيف سكوفوريكي‬
‫(((‬

‫ذات يوم أن العقد األول من حياة اإلنسان هو ما يشكّل حياته‬ ‫قيل يل َ‬


‫كلها مهام طالت سنواهتا‪ ،‬حتى يعو َد إىل خالقه‪ .‬أعتقد أن هذا صحيح‪،‬‬
‫وأصدقه مستندً ا إىل أدلة كثرية من حيايت‪.‬‬
‫سست عىل خط سري قديم يمر بني غابتني جبليتني‪،‬‬ ‫ولدت يف بلدة صغرية ُأ ّ‬
‫ُ‬
‫يتمكن من خالله التجار والقوافل من العبور إىل وادي بوهيميا((( العظيم‬
‫حتى يصلوا إىل مركزه‪ .‬كانت البلدة يف زمن حكم الكلتيني واجلرمانيني جمرد‬
‫حصن ‪-‬مملكة إن شئت‪ -‬لكنها أصبحت بلدة بعد تدفق القبائل السالفية‬
‫بلغت ما يسمى‬
‫ْ‬ ‫املهاجرة؛ ثم أصبحت مدينة؛ فحارضة ذات ضواحي‪ ،‬حتى‬
‫اليوم براغ‪ .‬عىل خرائط القرون الوسطى‪ ،‬كان املمر عرب اجلبال يسمى‬

‫‪ -١‬جوزيف سكوفوريكي (‪ )Josef Škvorecký‬كاتب وروائي كندي‪/‬تشيكي‪ .‬درس‬


‫الطب يف جامعة براغ ثم انتقل إىل دراسة الفلسفة حتى نال درجة الدكتوره يف الدراسات‬
‫الفلسفية (‪١٩٥١‬م)‪ .‬صاحب نضال ودعم للرواية التشيكية املمنوعة إبان احلكم الشيوعي‬
‫لتشيكوسلوفاكيا‪ .‬بعد انطالق «ربيع براغ» يف العام ‪١٩٦٨‬م واقتحام قوات حلف وارسو بقيادة‬
‫االحتاد السوفييتي لرباغ‪ ،‬انتقل جوزيف إىل كندا الجئا سياسيا ثم أسس وزوجته دار نرش (‪٦٨‬‬
‫‪ )Publishers‬متيمنني بتاريخ انطالق ربيع براغ وداعمني للغة التشيكية‪ .‬عمل جوزيف أستاذا‬
‫لألدب يف جامعة تورنتو‪ .‬كتب الرواية باللغة التشيكية واإلنجليزية‪ .‬تويف يف يناير من العام‬
‫‪٢٠١٢‬م‪.‬‬
‫‪ -2‬منطقة تارخيية يف أوروبا الوسطي‪ ،‬حتتل جزء كبريا من مجهورية التشيك حاليا‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫بالالتينية بوابة اململكة؛ ممكلة أرشف قبائل املنطقة حينها‪ :‬التشيك‪.‬‬
‫صغريا‪ ،‬كانت الواليات املتحدة بعيدة‪ ،‬بعيدة جدً ا؛ كانت‬
‫ً‬ ‫حني كنت‬
‫جمر َد صدى لواقع ال يمكن بلوغه‪ .‬وبالرغم من هذا البعد‪ ،‬فإن أول ذاكرة‬
‫ثقافية‪/‬أدبية يل جاءت من قلب منطقة ويري الضبابية يف الواليات املتحدة‪.‬‬
‫جالسا يف حجر أمي يف قاعة حملية للسينام‪ ،‬جمرد طفل‬
‫ً‬ ‫حدث ذلك حني كنت‬
‫عرضا للبدين آرابكل(((‪ :‬اسم العرض «أنقذين يا‬
‫يف سن الروضة‪ .‬شاهدنا ً‬
‫فيدو»‪ .‬كنت أتذكره كام يتذكر الطفل دون أن يعلم كيفية اسرتجاعه؛ حتى‬
‫قرأت كتا ًبا عن الكوميديا الصامتة يف هوليوود‪ ،‬حدث ذلك يف كندا وبعد‬
‫ستني سنة من ذلك العرض‪.‬‬
‫جاءين اإلهلام الثقايف التايل كذلك من أمريكا الشاملية‪ ،‬ولكنه كان هذه‬
‫املرة أدب ًّيا حتديدً ا‪ .‬إذ كان مؤلف الكتاب جيمز أوليفر كوروود((( أمريك ًيا‬
‫من ميتشيغان‪ ،‬وكان الكتاب رواية بعنوان «رجال بقلوب شجاعة»‪ .‬أرجو‬
‫أن ذاكريت التشيكية مل ختني يف استدعاء اسم الكتاب‪ .‬كانت ثالثية تدور‬
‫أحداثها يف الشامل الكندي؛ أبطاهلا من الـ (ماونتيز((() يالحقون فتاة مجيلة‬
‫من قبائل كندا األصلية إلنقاذها‪ .‬كانت الرواية هدية من أيب يف عيد امليالد؛‬
‫يف ذلك الزمان كانت هدايا عيد امليالد من الكتب‪ ،‬ال من ألعاب السيارات‪.‬‬
‫عيل أن أصرب حتى عيد امليالد القادم ألحصل عىل اجلزء الثاين‬ ‫كان جيب ّ‬
‫من الرواية‪ ،‬ألعرف مغامرات هؤالء األبطال وما حصل هلم مع عشيقتهم‬
‫اجلميلة‪ .‬مل يسعفني الصرب‪ ،‬فاشرتيت اجلزء الثاين بام كنت قد وفرته من‬
‫قرأت عند النهاية عىل غالفه أن السيد‬
‫ُ‬ ‫مرصويف‪ .‬وأفزعني اجلزء الثاين حني‬

‫‪ -1‬االسم الفني لروسكو كونكلنغ‪ ،‬فنان كوميديا صامتة أمريكي (تويف ‪١٩٣٣‬م)‪.‬‬
‫‪ -٢‬كاتب قصص مغامرات أمريكي (تويف ‪١٩٢٧‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬أفراد رشطة اجلبال امللكية الكندية‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫كوروود قد مات قبل أن ينهي اجلزء األخري من ثالثيته‪.‬‬
‫وكتبت هناية ملحمة الراحل السيد‬
‫ُ‬ ‫جلست‬
‫ُ‬ ‫قدر اجلميلة حني‬‫تغي ُ‬‫ّ‬
‫«الكهف الغامض» كانت باكورة مؤلفايت‪ .‬كان والدي‬ ‫ُ‬ ‫كوروود‪ .‬رواية‬
‫مندهشا من روايتي ‪-‬ثامين عرشة صفحة‪ -‬والتي اضطر لنسخها عىل اآللة‬ ‫ً‬
‫الكاتبة ورسم صورة لغالفها‪ :‬نسخ أيب الصورة عىل ورق شفاف من رواية‬
‫مصورة لكارل ماي(((‪ ،‬وقد كانت الروايات يف تلك األيام مليئة بالرسومات‪.‬‬
‫كنت أظن أن السيد كوروود كندي‪ .‬فمن سوى الكنديني سيكتب عن‬
‫الرباري الكندية هبذا الوصف الدقيق وهذا اإلقناع؟!‬
‫مل يقمع هذا اخلطأ ثوريت األدبية‪ .‬مضت سنتان عىل تلك القصة؛ واحتل‬
‫أمريكي ْ‬
‫وإن انتهى األمر‬ ‫ِ‬
‫الزائف‪ ،‬السيد كوروود‪ ،‬يف وجداين‬ ‫الكندي‬ ‫مكان‬
‫ٌّ‬ ‫ِّ‬
‫به أن يكون كند ًيا‪ ،‬مع كل األسف‪ .‬ال أعلم ملاذا كنت قد ظننت أن إرنست‬
‫تومبسن سيتون((( كان «يانكي» وأن حكاية «بربريان صغريان» حدثت يف‬
‫مزرعة قريبة من شيكاغو‪ .‬ربام كان قد أثر ّيف وأنا أقرأ صوت أمي وضيوفها‬
‫حني كانوا يتحدثون عن مجال ترمجة رواية أمريكية تدعى «األدغال» ووصفها‬
‫لبؤس حياة احليوانات وموهتا وكآبتها يف «مدينة الرياح(((»‪.‬‬
‫كانت السيدات يف ذلك الزمان واملكان‪ ،‬بعيدً ا عن عرص أوبرا(((‪ ،‬جيلسن‬
‫ويتحاورن حول الكتب‪.‬‬

‫‪ -1‬روائي أملاين (تويف ‪١٩١٢‬م)‪.‬‬


‫‪ -2‬روائي كندي‪ ،‬بريطاين املولد (تويف ‪١٩٤٦‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬ربط الرياح بشيكاغو لشهرهتا هبا‪.‬‬
‫‪ -4‬عرص التلفزيون ومتابعة الربامج احلوارية عىل الشاشة الصغرية‪ ،‬وأوبرا هي أوبرا وينفري‬
‫مقدمة الربامج األمريكية الشهرية‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫مرة أخرى وبعد ستني سنة يف تورونتو‪ ،‬والتي يعد يومها الشتوي كئي ًبا‬
‫جدً ا‪ ،‬عرفت من دليل للمدينة أن «وادي دان» الذي يبعد عن منزلنا عرشة‬
‫دقائق مش ًيا عىل األقدام كان هو ساحة بطولة الشاب يف قصة السيد سيتون؛‬
‫وأن املكان الكئيب الذي كان يعيشه هو يف احلقيقة حيث أسكن اآلن‪،‬‬
‫تورونتو وليس إيلينويز؛ وأن السيد سيتون كان كند ًيا ومل يكن أمريك ًيا‪.‬‬
‫بعد فرتة ويف فصل باكر من فصول حيايت‪ ،‬كدت أموت بسبب اإلصابة‬
‫بااللتهاب الرئوي‪ .‬كل يشء يف طفولتي كان ساب ًقا ليشء ما! يف هذه احلالة‬
‫كانت طفولتي سابقة للمضادات احليوية‪ .‬نجوت بمعجزة‪ ،‬لكن األطباء‬
‫حمتمسا جدً ا هلا قبل‬
‫ً‬ ‫أمروا بعزيل عن املشاركة يف ألعاب األطفال‪ ،‬التي كنت‬
‫رأيت ذات‬‫ُ‬ ‫مريض‪ .‬كانت تلك األلعاب حمل تفكريي حتى يف منامي‪ ،‬فقد‬
‫(((‬
‫ليلة يف املنام أن مدرستي قد أعلنت استحداث نشاط لرياضة الـرغبي‬
‫(‪ .)Rugby‬كان آربكل وكوروود وسيتون قد صنعوا مني مشج ًعا لثقافتهم‬
‫الغربية‪ .‬وبالرغم من أن الناس متارس رياضة الرغبي يف براغ منذ منتصف‬
‫القرن التاسع عرش‪ ،‬إال إهنا مل تنل شعبية أبدً ا‪ .‬ذهبت مرة بعد احلرب العاملية‬
‫حلضور مباراة النهائي عىل البطولة يف براغ‪ ،‬وكان اجلمهور أقل عد ًدا من‬
‫الالعبني يف أرض امللعب‪ .‬كنت أجلس عىل املدرج وحيدً ا؛ كنت الرجل‬
‫الوحيد بجوار مخس أو ست زوجات يعانني من هؤالء الرعناء الذين قد‬
‫أدموا بعضهم عىل العشب‪.‬‬
‫باكرا حتى قبل املرض‪ .‬مل يكن باستطاعتي أن أشرتي‬
‫تبخر حلم الرغبي ً‬
‫أساسا حيث مل تكن تعرض يف األسواق يف براغ‪.‬‬
‫كرة رغبي ً‬
‫حني عزلت عن صحبة الصبية وهم يركلون الكرة بأقدامهم‪ ،‬كنت أقرأ‪.‬‬

‫‪ -1‬رياضة تشبه لعبة كرة القدم األمريكية مع اختالف يف الزي وبعض القوانني‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫كانت مكتبة والدي املنزلية توفر يل الكثري من األعامل املرتمجة‪ ،‬فوالدي‬
‫رجل تقليدي‪ .‬واألمة التشيكية‪ ،‬أو لغتها‪ ،‬كانت قد ولدت من جديد عىل‬
‫يد الرتمجة‪ :‬كانت يف غالبها من الكالسيكيات اإلنجليزية واألمريكية‪ .‬لقد‬
‫خرس التشيكيون سيادة مملكتهم يف الوقت نفسه الذي استقرت أقدام اآلباء‬
‫املهاجرين عىل أرض أمريكا؛ خرسوا لغتَهم مع تلك السيادة‪ .‬عند قراءيت‬
‫لتلك األعامل املرتمجة السيئة والثمينة يف احلني ذاته‪ ،‬أصابتني رعدة خو ًفا‬
‫فعلت أشياء‬
‫ُ‬ ‫من هيكل غراموس((( الغارقة يف «حكاية آرثر غوردن بيم(((»‪.‬‬
‫مل أكن ألقدم عىل فعلها لوال «بينرود(((»‪ .‬أبحرت عرب متاهات امليسيسيبي‬
‫وبمعية اخلالفات املستعصية عىل الفهم بني غرانغرفوردز وشيفريدسونز(((‪.‬‬
‫شعرت‬
‫ُ‬ ‫وسافرت باملنطاد فوق صحراء أفريقيا بصحبة توم سوير(((‪ .‬كام أنني‬
‫بالرطوبة الطاغية يف الغابات االستوائية حيث يسكن «طرزان» مع عائلته من‬
‫القرود‪ .‬كان ذلك تعليمي الروحي‪.‬‬
‫أل ّطلع عىل األدب اإلنجليزي‪ ،‬مل أكن بحاجة إىل اللغة اإلنجليزية‪ ،‬التي‬
‫أساسا يف قاعات املدرسة‪ ،‬والفضل ك ُّله يعود إىل وفرة األعامل‬‫مل تكن تدرس ً‬
‫املرتمجة‪ .‬يف املدرسة كان علينا أن نتقن الالتينية‪ ،‬واألملانية‪ ،‬والفرنسية؛‬
‫األخرية كانت لغة الدبلوماسية‪ .‬فقبل احلرب العاملية الثانية مل تكن اإلنجليزية‬
‫لغة التواصل بني األغراب عامل ًيا‪ ،‬كام هو حاهلا اليوم‪.‬‬

‫‪ -1‬اسم السفينة يف الرواية التايل ذكرها‪.‬‬


‫‪.‬‬
‫‪ -2‬العمل الروائي املكتمل الوحيد للروائي والناقد األمريكي إدغار آالن بو (تويف ‪١٨٤٩‬م)‬
‫‪ -3‬رواية نرشت يف العام ‪١٩١٢‬م للروائي األمريكي نيوتن بوث تاركينغتن (تويف ‪١٩٤٦‬م)‪.‬‬
‫‪ -4‬أسامء عائلتني متصارعتني يف رواية مغامرات هكلبريي فِن ملارك توين (تويف ‪١٩١٠‬م)‪ ،‬وتعترب‬
‫‪.‬‬
‫الرواية من أهم األعامل يف األدب األمريكي ومن أول ما كتب بلغة عامية‪ ،‬نرشت عام ‪١٨٨٤‬م‪.‬‬
‫‪ -5‬الشخصية الرئيسية وصاحب حكاية رواية مغامرات توم سوير‪ ،‬نرشت عام ‪١٨٧٦‬م‪ ،‬ملارك‬
‫توين‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫أعجبت بصبي‬
‫ُ‬ ‫بدأت أعضائي تتدخل يف عالقتي مع اإلنجليزية! لقد‬
‫أمريكي؛ يف احلقيقة كان بريطان ًيا‪ ،‬وهو ما مل أكن ألعلمه ألنه يسكن هوليوود‬
‫يف كاليفورنيا‪ .‬كان اسمه فرييدي بارثولومي((( ويف ظهرية ساحرة يف يوم‬
‫األحد‪ ،‬يف السينام نفسها التي شاهدت فيها آربكل من عىل حجر أمي‪ ،‬رأيت‬
‫كثريا من الصبية‬
‫فرييدي يف عرض لفيلم «السيد املتأنق الصغري»‪ .‬يقال إن ً‬
‫الصغار قد يمرون بعاطفة «شاذة» يف الصغر؛ لكن إعجايب وحبي لذلك‬
‫املمثل الصبي كان حمبة لروحه‪ .‬وعىل أي حال لقد أنقذين اهلل من أن ينتهي‬
‫يب األمر كقدر الشواذ املؤسف؛ وكان ذلك بأن وقعت يف حب فتاة ‪-‬أنثى‬
‫بام حتمله الكلمة من معنى‪ -‬وكانت من هوليوود كذلك‪ ،‬واسمها جودي‬
‫هجرت فرييدي ألجلها حني استمعت ألغنيتها الدرامية «اخليل‬ ‫ُ‬ ‫غارالند(((‪.‬‬
‫األصيلة ال تبكي»‪.‬‬
‫كان للهوى األفالطوين آثار جانبية‪ .‬فقد قررت أن أتعلم اإلنجليزية‬
‫ألكتب جلودي رسالة غرامية‪ .‬وهذه الرسالة هي موضوع حديثنا الذي‬
‫أطلت الطريق للوصول إليه‪.‬‬
‫نفسك اإلنجليزية» ووقعت بعشق‬ ‫صغريا بعنوان «ع ّلم َ‬
‫ً‬ ‫اقنتيت كتي ًبا‬
‫عميق مع لسان جودي الذي تتكلم به‪ .‬كنت الطفل الوحيد لعائلة ميسورة‬
‫والدي إيامن أن زحام املدرسة حيتاج أن ترافقه دروس‬
‫ّ‬ ‫احلال؛ وكان لدى‬
‫خصوصية‪ .‬ذات مرة محلت معلمتي اخلاصة للفرنسية السيدة هالفاكوفا‬
‫ً‬
‫تلميذا غب ًيا‬ ‫أخبارا سيئة إىل أمي؛ إذ أكدت السيدة الفرنسية أهنا مل تعرف‬
‫ً‬
‫مثيل‪ .‬قالت املعلمة ألمي يائس ًة‪« :‬إنه ملن اإلرساف أن تبذروا املال عىل‬
‫تدريسه الفرنسية»‪.‬‬

‫‪ -1‬ممثل بريطاين اشتهر باألدوار التي لعبها يف صغره (تويف ‪١٩٩٢‬م)‪.‬‬


‫‪ -2‬مطربة وممثلة أمريكية (توفيت ‪١٩٦٩‬م)‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫مل تكن أمي سعيدة باخلرب‪ .‬ولكنها وجدت كتيبي اإلنجليزي ً‬
‫وبدل من‬
‫أن تعاقبني‪ ،‬أتت يل باآلنسة بوكورنا لتعلمني اإلنجليزية‪ .‬كانت أ ًما حكيمة‬
‫ومسكينة؛ ماتت من ارتفاع ضغط الدم يف اخلمسني من عمرها‪ ،‬املرض الذي‬
‫حي أرزق‪ ،‬يف اخلامسة والسبعني‪.‬‬‫خصت به عند اخلمسني‪ ،‬لكن ها أنا ذا ّ‬
‫ُ‬ ‫ُش‬
‫ماتت أمي ألهنا كانت كذلك تعيش إحدى تلك الفرتات «السابقة» التي‬
‫حدثتكم عنها آن ًفا‪.‬‬
‫ال أحتمل مقاومة لذة االستطراد!‬
‫لقد كان معلمي اخلاص املفضل هو السيد نيو‪ ،‬الذي كان منشدً ا يف‬
‫املحيل يف حينا‪ .‬و قد علمني األملانية حتى بلغت إتقانًا يقارب‬
‫ّ‬ ‫املعبد اليهودي‬
‫مؤرخا كذلك يف إحدى الفرتات‬ ‫ً‬ ‫الناطقني األصليني‪ .‬كان اسمه األول‬
‫«السابقة»‪ .‬فقد أسامه والداه وبكل براءة أدولف‪ .‬مات السيد نيو يف معسكر‬
‫اليهود الذي أقامه النازيون يف التشيك‪ .‬قبل وفاته ‪-‬أي حني كان اليهود يف‬
‫مسموحا هلم أن يقيموا مقهى هيود ًيا‪ -‬كانت دروس األملانية بيني‬‫ً‬ ‫بلدتنا‬
‫تنهد األستاذ نيو ذات مرة‬‫حتولت إىل تأمالت وحنني إىل املايض‪ّ .‬‬ ‫وبينه قد ّ‬
‫وقال باألملانية‪« :‬ما كل هذا الذي مررنا به نحن معرش اليهود!» ثم بدأ خيربين‬
‫أيضا‪ .‬كان هناك القليل من‬ ‫عن أيام احلرب العاملية األوىل والتي كانت سيئة ً‬
‫دروسا خصوصية للغة األملانية باملجان؛ كان يرفض‬
‫ً‬ ‫الطعام‪ ،‬وكان السيد يقدم‬
‫املال مع صعوبة ظروف املعيشة حينها‪ ،‬لكنه كان يقبل السكّر والدقيق مقابل‬
‫ذلك‪ .‬كانت األملانية التي يدرسها خمتلفة متا ًما عن تلك التي كنت قد سمعتها‬
‫الح ًقا يف مصانع مريسيشميت أو التي كنت أشاهدها يف نرشات أخبار يوفا‬
‫األسبوعية عىل شاشة السينام املحلية‪ .‬كان«زعيم» املدراس يف التشيك يومها‬
‫واحدا‪« ،‬املفتش» ويرنري‪ ،‬والذي كانت طريقته يف التفتيش أن يظهر فجأة يف‬
‫لريوع املعلمني؛ يستمع لنصف ساعة؛ ثم‬ ‫زيارة للمدارس دون ترتيب مسبق ّ‬

‫‪53‬‬
‫املعلم بلغة سيئة‪ .‬كان أفضل من وصف لغة ويرنري هو السيد بروبليك‬
‫َ‬ ‫هياجم‬
‫‪-‬معلم اللغة الروسية يف مدرستنا‪ -‬حني تعرض مر ًة ملسائلة املفتش وتوبيخه‬
‫متجهم‪ .‬وما إن توقف املفتش للحظة‬
‫ً‬ ‫عابسا‬
‫وهجومه الالذع؛ كان املفتش ً‬
‫وملجم‬
‫ً‬ ‫معجزا‬
‫ً‬ ‫ليلتقط أنفاسه‪ ،‬حتى صدح األستاذ بقوله القاطع والذي كان‬
‫لذلك النازي املتعطش للدم‪« :‬أنا هنا أعلم األملانية‪ ،‬لغة غوته؛ ولست هنا‬
‫ألعلم أملانية خنازير اجلرمان الربية!»‪ .‬نجا معلمي اليهودي من خبث املفتش‬
‫ويرنري لسنوات قليلة‪ ،‬ولكنه أعدم بعد احلرب مبارشة‪ .‬أما األستاذ بروبليك‬
‫فقد منعه الشيوعيون من االستمرار يف تدريس الروسية الح ًقا‪.‬‬
‫بعد منزلة األستاذ نيو يف عاطفتي جتاه التعليم‪ ،‬جتيء الدكتورة إيفا الثامر‪:‬‬
‫آري أصيل‪ .‬مل تكن رفيقة للنازيني‬‫شابة مجيلة شقراء‪ ،‬أملانية قحة مع اسم ّ‬
‫أبدً ا‪ ،‬وكانت حتب ريلكه(((‪ ،‬ومتزوجة من رجل اسمه سفوريك! ومع‬
‫ذلك فقد كان هلا بعض املامرسات العنرصية البسيطة‪ .‬كان املفتش ويرنري قد‬
‫هددها بالسجن يف املعسكرات النازية ألهنا مل تلتحق باحلزب النازي‪ ،‬وألن‬
‫زوجها مل يبدل جنسيته إىل األملانية‪ .‬مل يكن أحد ليجرؤ عىل االستخفاف‬
‫بتهديد ويرنري‪ ،‬فقد شهد الناس أن البعض دفع حياته ثمنًا مقابل بعض‬
‫األخطاء معه‪ .‬هذا وقد نشأت صداقة بني السيدة الثامر‪/‬سفوريك وبني أيب‪،‬‬
‫الطبيب التشيكي الذي أوصاها باحلمل‪ .‬كانت وصيته مبنية عىل أن النازيني‬
‫مل يكونوا لريسلوا جنينًا أملان ًيا بري ًئا إىل املعسكرات‪ .‬قبل هتديد املفتش ويرنري‬
‫كانت األستاذة وزوجها قد قررا أن يؤجال فكرة احلمل حتى حيل السالم‬
‫فنجت‪ .‬بعد‬
‫ْ‬ ‫يف املنطقة‪ ،‬ولكنها اآلن قررت اتباع وصية الطبيب التشيكي‪،‬‬
‫سنوات عدة أصبحت أستاذيت أول مرتمجة يل للغة األملانية؛ مددت هلا‬
‫القصيدة الوحيدة التي كتبتها باألملانية‪ ،‬وذلك حني كنت تلميذها املريد‬

‫‪ -1‬ريلكه شاعر نمساوي شهري‪ ،‬اتسم شعره بالغموض بحسب بعض النقاد (تويف ‪١٩٢٦‬م)‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫ ‬ ‫ً‬
‫حماول أن أحاكي حمبوهبا رينيه ماريا ريلكه‪:‬‬ ‫املحب‪،‬‬
‫قريبا ستهب رياح الشتاء املحملة بالثلوج‪،‬‬
‫وستغريك للدرب العزيزة القديمة‪.‬‬
‫هتب الرياح الباردة وتعصف بقلبي ‪...‬‬
‫أعود بعد هذا االستطراد إىل بدايايت مع اإلنجليزية‪ .‬بعد سنة من تعيني‬
‫والديت لآلنسة بوكورنا لتعلمني اإلنجليزية‪ ،‬سألتها أمي عن مستوى تقدمي‬
‫فيها‪ .‬وبحامس بالغ أخربت اآلنس ُة أمي بأنني أفضل طالهبا عىل اإلطالق‪.‬‬
‫لقد كان احلب دافع عالقتي باإلنجليزية‪.‬‬
‫وباملناسبة لقد تيرس يل أن أرسل رسالة الغرام تلك إىل جودي يف الثاين‬
‫من ديسمرب من العام ‪1941‬م‪ ،‬بعدما كنا قد تركنا العيش يف تشيكوسلوفاكيا‬
‫وأصبحنا مواطنني من الدرجة الثانية ويف «حممية» بوهيميا ضمن الرايخ(((‪.‬‬
‫حينها كان الربيد إىل الواليات املتحدة ما زال يعمل ألن أمريكا كانت ّملا‬
‫تشارك يف احلرب بعد؛ اشرتكت أمريكا يف احلرب بعد الرسالة بأيام قليلة‪.‬‬
‫جتب‪ ،‬لكني‬‫كان هناك أمل أن تبلغ الرسال ُة جودي‪ .‬عىل أي حال‪ ،‬هي مل ْ‬
‫املحيل قد استوطن‬
‫ّ‬ ‫جتاوزت ذلك نفس ًيا خالل زمن قصري‪ .‬كان اجلامل‬
‫يف قلبي مكان جودي‪ .‬وبمساعدة اآلنسة بوكورنا بدأت أقرأ األعامل‬
‫اإلنجليزية واألمريكية مبارشة دون احلاجة للرتمجة‪ .‬كانت معلمتي خرجية‬
‫ممثل‬‫مدرسة بريطانية‪ ،‬درست فيها حني كان والدها يعمل يف لندن باعتباره ً‬
‫جتار ًيا‪ ،‬لذا فإن إنجليزيتها كانت تعدّ حقيقي ًة‪ .‬وال أفهم ملاذا قررت عائلتها‬
‫أن تعود يف ذلك الوقت لتشيكوسلوفاكيا‪ ،‬أي قبل انضامم تشيكوسلوفاكيا‬
‫للـرايخ بأيام‪ .‬يف تلك األيام مل يكن الكثري يعلم أو يدرك حكاية الرش‬

‫‪ -1‬كلمة أملانية تعني اإلمرباطورية األملانية‪ ،‬وقد تسمت هبا أملانيا رسم ًيا خالل فرتات من تارخيها‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫املستطري املسمى هتلر‪.‬‬
‫كان لدى اآلنسة مكتبة إنجليزية خاصة وغنية جدً ا بكثري من العناوين‬
‫اإلنجليزية واألمريكية‪ .‬وبعد إتقاين للقواعد البسيطة‪ ،‬جعلتني اآلنسة أقرأ‬
‫كل من شو‪ ،‬وأونيل‪ ،‬وأوسكار وايلد‪ ،‬وكبلنغ‪ ،‬ومارك توين‪ ،‬وأو هنري‪.‬‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫أعامل (ناقص ًة)‬ ‫كنت يف السادسة عرشة‪ ،‬أو السابعة عرشة‪ ،‬حني ألفت‬
‫حول تألق عمل عازف ساكسفون تشيكي يف املالهي الليلة يف هوليوود؛‬
‫عمل ً‬
‫كامل ومتقنًا (لكنه غري منشور) بعنوان «عقدة نقص» تدور‬ ‫كام ألفت ً‬
‫الرواية حول البطلتني آرينا وماري من روايايت الالحقة‪.‬‬
‫وكأي صبي يافع‪ ،‬كنت أقرا الشعر بحب‪ .‬كنت أقرأ لشعراء احلركة‬
‫الشعرية التشيكية والرتمجات املميزة لكارل تشابيك((( من الشعر الفرنيس‬
‫املعارص؛ كام أعارتني اآلنسة بوكورنا جملدً ا لشعر يت إس إليوت(((‪ .‬كانت‬
‫احلرب تسري يف غري صالح الرايخ‪ ،‬بمعنى أهنا كانت تسري لصالح مواطنيها‬
‫غري الراغبني هبا! حينها ألزمت بالعمل جمندً ا يف مصانع مريسيشميت والتي‬
‫كانت تنتج طائرات مقاتلة وقاذفات‪ .‬هناك‪ ،‬ويف ظالل إزعاج آالت الثقب‬
‫أنشدت عىل نفيس‪:‬‬
‫ُ‬ ‫واملطارق امليكانيكية‪،‬‬
‫مرة أخرى‬
‫ألنني ال آمل أن أرجع ّ‬
‫ألنني ال آمل‬

‫‪ -1‬كاتب مرسحي تشيكي اشتهر بإداخله ملفردة «روبوت» عىل اإلنسان اآليل يف اللغة املعارصة‬
‫والتي تعني العبيد يف التشيكية (تويف ‪١٩٣٨‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬توماس سترينز إليوت شاعر ناقد أمريكي نال جائزة نوبل يف األدب للعام ‪١٩٤٨‬م‪ ،‬انتقل إىل‬
‫بريطانيا وهبا تويف يف العام ‪١٩٦٥‬م‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫(((‬
‫ألنني ال آمل أن أرجع‬
‫ال أزعم أنني كنت مدركًا ملا قد عناه إليوت يف هذه الكلامت‪ ،‬لكنها‬
‫عيل كالسحر؛ ربام كانت تلك هي اللمسة الساحرة األوىل يل مع اللغة‬
‫وقعت ّ‬
‫اإلنجليزية‪.‬‬
‫انتهت احلرب‪ ،‬واشرتيت من مكتبة يف براغ رواية «ودا ًعا للسالح»‬
‫هلمنغواي والتي كانت قد طبعت يف السويد لكن باإلنجليزية‪ .‬قرأهتا‬
‫وأدركت حينها ما الذي كان يرمي له جوزيف هورا ‪-‬شاعر تشيكي‪ -‬حني‬
‫كتب عن الكتابة عىل مذهب الواقعية السحرية‪ ،‬كان ذلك قبل ماركيز بزمن‬
‫طويل‪ .‬وبخالف اليساري األمريكي‪/‬اإلسباين‪ ،‬مل يكن هورا يقرتح كتابة‬
‫مشوها ليصب يف مقاصد أيدولوجية؛ لكن هورا كان‬ ‫ً‬ ‫خيالية‪ ،‬أو تارخيًا‬
‫يقصد واجب الروائي بالعناية الدقيقة جدً ا بكل مفردة‪ ،‬مهام ص ُغر حجمها‬
‫داخل نصوصه؛ كام يفعل الشاعر الغنائي متا ًما‪.‬‬
‫قراءة حكاية كاثرين وفريد((( عند مهنغواي جعلتني أدرك متا ًما ما أراده‬
‫مهنغواي من الكتابة‪ :‬هكذا جيب أن تكتب الرواية‪ .‬لذا فقد حاولت التوليف‬
‫بني وصية الشاعر وأنموذج الروائي‪ .‬مضت سنوات بعد ذلك‪ ،‬حتى قال‬
‫الناقد األديب التشيكي‪ ،‬بريمسل بالزيك عن روايتي «عروس تكساس»‪:‬‬
‫«كل مجلة يف تلك الرواية كانت مثالية كام ينبغي»‪.‬‬
‫لن أجرؤ عىل التعليق عىل حكمه‪ ،‬مصي ًبا كان أم خمط ًئا‪ .‬ولكن ما أعلمه‬
‫يقينًا أن هذا لن يقوله أي ناقد أمريكي عن روايتي ألهنم ال يعرفون كتابايت‪.‬‬
‫أقصد أهنم ال يعرفون كيف كتبت تلك الكتب ألهنم ال يقرأون تلك اللغة‬

‫‪ -1‬من قصيدة «أربعاء الرماد» إلليوت‪ ،‬ومن ترمجة عبداهلادي السايح‪.‬‬


‫‪ -2‬أبطال رواية مهنغواي «وداعا للسالح»‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫املجهولة للسالفيني املستغربني‪.‬‬
‫إن اإلنجليزية هي لغتي الروحية منذ األيام املظلمة لطفولتي املرهقة‬
‫باملرض‪ .‬لقد كنت أتلو صلوات املساء بتلك اللغة األجنبية‪ ،‬كام كنت‬
‫أقرأ بنهم تلك الكتب من مكتبة اآلنسة بوكورنا اخلاصة‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬حني‬
‫رصت طال ًبا يف قسم الفلسفة‪ ،‬أصبحت أنتمي لرايخ ستالني‪ ،‬التي كانت‬
‫توفر لطالهبا كل األعامل احلديثة املهمة بلغتها األصلية يف مكتبة قسم اللغة‬
‫اإلنجليزية‪ .‬وكنت يف ذلك الوقت كلام أوغلت يف الكتب‪ ،‬زاد جتاهيل‬
‫لآلداب التشيكية‪ .‬كان من املمكن أن أدخل قائمة غينيس لألرقام القياسية‬
‫يف هذه املعادلة‪ :‬العالقة العكسية بني عالقتي باألدب اإلنجليزي واألدب‬
‫وأخريا وبعد طول زمان‪ ،‬صدرت روايتي عن اجليش الشيوعي‬ ‫ً‬ ‫التشيكي‪.‬‬
‫التشيكي يف الواليات املتحدة‪ ،‬وقد منعت حينها يف تشيكوسلوفاكيا لزمن‪.‬‬
‫هنأين حينها املراجعون األمريكيون مقارنني بني روايتي ورواية «جيجك‪،‬‬
‫اجلندي الصالح»‪ .‬مل أكن قد قرأت هذا العمل الكالسيكي يسء السمعة!‬
‫وكثريا ما تلقيت التهاين‬
‫ً‬ ‫إن األمريكيني متساحمون لغو ًيا؛ لطفاء جدً ا‪.‬‬
‫عىل لغتي اإلنجليزية اجليدة جدً ا أحيانًا‪ ،‬واملمتازة أحيانًا أخرى‪ .‬ويف كل‬
‫مرة أتلقى فيها التهاين أبتسم ابتسامة املجاملة تلط ًفا معهم‪ ،‬لكني أظن أن‬
‫علم بأن اإلنجليزية‬
‫واضحا هلم‪ ،‬وإن كانوا لطفاء‪ً .‬‬ ‫ً‬ ‫تصنّع االبتسامة كان‬
‫كانت ما تزال لغة روحي املحدودة؛ قواعد صحيحة ولكن الروح واملجاز‬
‫غائبان‪ .‬وكان سؤال األمريكيني التايل دو ًما عند حديثهم معي‪« :‬هل تكتب‬
‫باإلنجليزية اآلن؟» وكنت أجيب بأين أكتب مقاالت صحفية فقط؛ ألهنم‬
‫كانوا يرون أن املقاالت الصحفية مل تكن تتطلب العيش مع اللغة يف مسكن‬
‫واحد‪ .‬مل أكن أجرؤ عىل قول «مقاالت مطولة» وذلك بسبب أنني وبكل‬
‫أمل وأسف كنت أعتقد أن ذلك النوع النبيل من الكتابة يتطلب مستوى من‬

‫‪58‬‬
‫الكفاية اللغوية مل متلكه روحي حينها‪.‬‬
‫تذكرت اآلنسة بوكورنا اللطيفة‪ ،‬والتي تزوجت فيام بعد بمنتج مرسحي‬
‫استوطنت كندا‪ .‬تذكرهتا ألن تقييمها للغتي كان خاط ًئا‪ ،‬أو أن‬
‫ُ‬ ‫يف براغ بعد أن‬
‫املعايري اللغوية اإلنجليزية يف بلدتنا كانت متدنية جدً ا‪ .‬صحيح أنني تعلمت‬
‫اإلنجليزية برسعة إىل حد ما‪ .‬أعني إىل حد جعلني أقرأ الكتب دون احلاجة‬
‫إىل معجم يف جيبي‪ ،‬ثم إين أناقش هذه الكتب بشكل عميق‪ .‬أصبح نقاش‬
‫أدرس مادة األدب يف جامعة‬ ‫ال فيام بعد حني بدأت ّ‬ ‫األدب ‪-‬عمو ًما‪ -‬سه ً‬
‫تورونتو‪ .‬أما قدريت عىل احلديث مع الناس فيام سوى األدب‪ ،‬كاحلديث عن‬
‫املطاعم واحلانات‪ ،‬كانت ال تزال حمدودة جدً ا‪ .‬لقد وصلت إىل حد أشبه ما‬
‫يكون باحلاجز‪ ،‬ومل أستطع جتاوزه‪.‬‬
‫ثم قرأت كونراد((( ألنني توقعت أنه قد واجه نفس املشكالت التي‬
‫واجهتها حني كان يف حاجة أن يتعلم لغة أجنبية‪ ،‬أصبح فيام بعد متقنًا هلا‬
‫بشكل ال يقبل املقارنة‪ .‬لقد قرأت «قلب الظالم» وكررت قراءهتا‪ ،‬وكنت‬
‫عند قراءيت أتعرق بسبب تعثري بغنى مفرداته‪ ،‬وأصبت باهللع من املوسيقى‬
‫فعلمت أن‬
‫ُ‬ ‫(((‬
‫يف تلك اجلمل املظلمة‪ .‬ثم قرأت مذكرات فورد مادوكس‬
‫مهارات كونراد يف التحدث باإلنجليزية أبعد ما تكون عن كوهنا جيدة‪.‬‬
‫فعل؟ لقد كان كونراد يكتب وكأنه خيلق‬ ‫لكن هل هذه املعلومة تساعدين ً‬
‫الكلامت‪ .‬أنا مل أكن كذلك‪ .‬جازما أقول أنني مل أكن كذلك يف لغتي املكتسبة‪،‬‬
‫فهل كنت كذلك يف لغتي األم يا ترى؟‬
‫يشء غريب كان قد وصفه هنري ميلر بشكل صحيح‪ .‬حني أصبحت‬

‫‪ -1‬جوزيف كونراد روائي بولندي‪/‬بريطاين‪ ،‬مل تكن اإلنجليزية لغته األم‪ .‬يعد من أهم الروائيني‬
‫يف اإلنجليزية (تويف ‪١٩٢٤‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬روائي وشاعر وناقد إنجليزي (تويف ‪١٩٣٩‬م)‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫حمارصا باللغة األجنبية ‪-‬اإلنجليزية أعني‪ -‬وأحتدثها بشكل يومي‪ ،‬أصبحت‬ ‫ً‬
‫أذين‪ ،‬وعيني‪ ،‬وكل أعضاء االستقبال يف جسدي متناغمة مع التشيكية بشكل‬
‫أكرب من الدقة التي كانت عليها عندما كنت يف بوهيميا‪ .‬لقد أدركت شي ًئا من‬
‫خصائص لغتي األم مل أكن ألدركه من قبل‪ ،‬أي حني كنت أتكلمها بشكل‬
‫ميكانيكي ودون وعي‪ .‬من مظاهر التأنيث يف هنايات الكلامت املؤنثة؛ فتنة‬
‫األفعال املركبة؛ النغمة املتقلبة يف سوابق الكلامت؛ وكثري من هذا القبيل‪.‬‬
‫لكنني مل أتوقف عن القراءة باإلنجليزية‪ :‬سحر فوكنر؛ وأسلوبه الالذع؛‬
‫وصور الطبيعة والشوارع يف ذهن تشاندلر‪ ،‬يرافقها مجال اللكنة املحلية؛‬
‫وسحر اإلجياز لدى مهنغواي‪ .‬هذه األشياء كلها(((‪.‬‬
‫كتبت ‪..‬‬
‫ثم ُ‬
‫هل كنت مقلدً ا؟ ربام‪ .‬لكني إن كنت مقلدً ا فأنا أقلد عىل مذهب «حماكاة‬
‫املسيح(((» يف اللغة كام أنا يف الدين والوطن‪ .‬لذلك مل أكن أشعر باحلنني يو ًما‪.‬‬
‫كام أن البلد العجوز التي قضت مخسني سنة من عمرها عىل غري هدى‪ ،‬بل‬
‫يف دكتاتورية متوحشة‪ ،‬مل تعد بالدي‪ .‬ولكن اللغة لغتي؛ التشيكية أعني‪ .‬لغة‬
‫أمي‪ ،‬ولغة كتابتي‪.‬‬
‫ومع ذلك وبدعم من األصدقاء املنطقيني‪ ،‬قررت قفز احلاجز وكتابة‬
‫رواية باإلنجليزية‪ .‬لقد كانت حماولة سبك اجلمل ممتعة؛ وبناء احلوارات‬
‫كذلك؛ والوصف يف اللغة املكتسبة مع اقتناص تعبري جمازي من هنا أو‬

‫‪ -1‬ويليام فوكنر الروائي األمريكي احلائز عىل جائزة نوبل (تويف ‪١٩٦٢‬م)؛ رايموند تشاندلركاتب‬
‫قصص جريمة أمريكي (تويف ‪١٩٥٩‬م)؛ إرنست مهنغواي الروائي األمريكي احلائز عىل جائزة‬
‫نوبل (تويف ‪١٩٦١‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬من أكثر أدبيات الديانة النرصانية انتشار ًا وقراءة بعد اإلنجيل‪ ،‬وهو من تأليف الراهب توماس‬
‫كيمبس (تويف ‪١٤٧١‬م)‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫هناك‪ ،‬ومساعدة من املفتش مارلو يف احلانة ربام‪ .‬كانت املتعة يف أن أضيف إىل‬
‫نفيس ذاتًا جديدة‪ ،‬ألن هذا هو ما تتطلبه الكتابة بلغة إضافية‪ .‬تلك هي املتعة‪.‬‬
‫طويل! إذ مل ِ‬
‫جتن الفتيات املحررات لدى النارش‬ ‫ً‬ ‫ولكن املتعة مل تدم‬
‫الكثري من املال وال الثناء‪ .‬ثمة يشء مفقود كام ذكر املراجعون‪« :‬حني كتب‬
‫باإلنجليزية‪ ،‬فإن ثمة يشء مفقود!» ربام كانت عبقرية اللغة؟‬
‫هل كانوا عىل صواب؟ ال تسألونني! ولكن الفتيات املحررات نلن‬
‫ممزوجا بطعم اهلزيمة‪ .‬مل تصحح الفتيات أخطائي النحوية الكثرية؛‬
‫ً‬ ‫تقديري‬
‫لكنهن باملقابل جعلن إنجليزيتي إنجليزية حقيقية‪ .‬بني يدهين أزهرت كلاميت‬
‫إىل حد الثراء الكونرادي‪ .‬لكن هذا االزدهار كان من صنع أيدهين؛ ال من‬
‫صنع يدي‪.‬‬
‫مل يقرأ املراجعون روايتي كام كتبتها بلغتي الصغرية‪ .‬ولكنهم قرأوا ترمجتها‬
‫تفكرت يف أيامي اخلوايل مع أعامل سنكلري وديكنز ودرايزر؛ ومن ال‬
‫ُ‬ ‫فقط‪.‬‬
‫أحتاج إىل ذكرهم كذلك مثل كريوود وسيتون وإدغار رايس بوروه‪ .‬كلهم‬
‫استمتعت هبم مع كل اللبس الذي اعرتى قراءيت للنصوص‪ ،‬ولكن دون‬
‫أن يقول يل أحدٌ «ال» ودون ترمجات سيئة‪ .‬تيسء الرتمجة ً‬
‫فعل إىل املتكلمني‬
‫البسطاء باإلنجليزية من السالفيني املستغربني‪.‬‬
‫أتساءل‪ :‬ما الذي جعلني أستمتع بنداء شخصية روائية‪ ،‬رجل ينادي‬
‫أوالده بصيغة مجع املخاطب‪ ،‬كام كان ينادي هبا زوجته وأصدقاءه؟ ما الذي‬
‫جعلني أجتاوز قلة األدب الفاحشة من بعض الشخصيات وهم ينادون‬
‫أطباءهم بالطبيب‪ ،‬وليس بالسيد الطبيب؟ ما الذي جعلني غري متيقن من‬
‫اجلمل امللتوية‪ ،‬والتي تبعت بكل خنوع الرتكيب النحوي للجمل األصلية؟‬
‫هل بدت تلك النصوص غريبة يل بشكل شديد اإلغراء؟ هل كان الشعور‬
‫حلوا إىل هذا احلد؟‬
‫هبا باعتبارها أجنبية ً‬

‫‪61‬‬
‫ثمة يشء مل يقرتب بكل تأكيد من العبقرية يف تلك الرتمجات‪ ،‬لكنها‬
‫خاطبتني وبكل عمق؛ بعمق شديد حتى أهنا قررت مستقبيل‪ .‬بالطبع كان‬
‫هناك إليوت‪ ،‬والذي قرأت له ابتداء باإلنجليزية‪ ،‬وبعد ذلك بسنوات قرأت‬
‫له ترمجة تشيكية جيدة‪ ،‬الذي انقلب سحره يف «ألين ال آمل ‪ »...‬عذا ًبا فيام‬
‫بعد‪ .‬هل كان عمل جوزيف هورا املخ ّلص لكل كلمة؟ أم كان شيئا آخر؟‬
‫حني كانت جهودي كلها معطلة ولعقد من الزمان‪ ،‬عملت ترمجانًا‪.‬‬
‫علمتني تلك التجربة أن أقدر الذين كانوا يرتمجون يل يف كندا‪ .‬تعلمت‬
‫عمل من تدفق األفعال‬‫عرب الطريق الصعبة ما الذي يتطلبه األمر أن تنقي ً‬
‫املساعدة األجنبية عىل التشيكية؛ ومن انتشار صوت املبني للمجهول؛‬
‫وضامئر امللكية التي تستخدم مع أعضاء اجلسد البرشي؛ لقد شوهت كل‬
‫أخطاء الرتمجة هذه سحر فوكنر األمريكي‪ ،‬ولسعة ووه الربيطانية؛ ورقة‬
‫معجم مهنغواي وشفافيته‪ .‬إذن‪ ،‬هل سيجرؤ أي مراجع أو ناقد إنجليزي‬
‫جل َم ِل التي أكتبها ما قاله‬
‫أو متحدث للغتني أو حتى ثالث أن يقول يف حق ا ُ‬
‫ذلك الناقد التشيكي؟‬
‫ال بالطبع! وهذا ليس بسبب قصورهم‪ ،‬بل ألن مراجعاهتم‪ ،‬وبالرغم من‬
‫نادرا ما كانت رشسة؛ وغال ًبا ما كانت كريمة‪.‬‬‫معرفتهم بأصويل وخلفيتي‪ً ،‬‬
‫مبهجا حتى‬
‫ً‬ ‫ثم ماذا عن اللغة؟ ما هو اليشء الذي جيعل كتا ًبا ما ممت ًعا بل‬
‫وإن كان غالفه مهرتئًا؟ ما الذي جيعل صب ًيا مراه ًقا‪ ،‬من بلد حيكمها املحتل‬
‫أمي من ميزوري‪ ،‬أو عبد زنجي؛ ما‬ ‫األجنبي ويسلخها‪ ،‬يتقمص جلد غالم ٍّ‬
‫الذي جيعله يدخل ذلك العامل البعيد جدً ا كام هي النجوم؟‬
‫أمرا‬
‫نعم‪ ،‬تستطيع اللغة أن تكون عالية اجلامل‪ .‬ولكن الرواية تتطلب ً‬
‫أكرب من جمرد اللغة‪ .‬تتطلب الرواية أسلو ًبا كام لدى تشاندلر؛ وجتربة كام‬
‫عند ديكنز وهنري جيمز؛ تتطلب حياة كحياة الشهداء‪ ،‬حياة حلوة ندية؛‬

‫‪62‬‬
‫وتتطلب أشياء أخرى كثرية‪.‬‬
‫رؤوسا أكرب‪.‬‬
‫ً‬ ‫لنرتك األمر ‪-‬إذن‪ -‬لألحصنة فهي متتلك‬
‫أو ربام للفيلة‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫قوائم السيرك‬
‫بيرت كيزر‬
‫(((‬

‫«إن حدود لغتي هي حدود عاملي»‪ .‬هكذا قال فيتغنشتاين(((‪ .‬ربام قفز‬
‫بعضنا كذلك إىل القول‪ :‬إن لغتي هي عاملي‪ .‬يا له من كابوس ضيق ْ‬
‫إن‬
‫استيقظ اإلنسان يو ًما بعد غيبوبة إثر جلطة دماغية‪ ،‬ليكتشف أن الناس كلهم‬
‫يتكلمون الصينية فقط‪ .‬هذا يف احلقيقة أسوأ سيناريو يمكن ختيله للدخول‬
‫إىل عامل اللغة األجنبية؛ ألنك يف هذه احلال ستجد نفسك خارج العامل كله‬
‫يف ملحة عني‪.‬‬
‫تدرجا‪ .‬فقد‬
‫ً‬ ‫أما رحلتي نحو اإلنجليزية ‪-‬وحلسن احلظ‪ -‬فقد كانت أكثر‬
‫ابتدأت تلك العالقة حني كنت أجرب قبعات صغرية‪ ،‬بينام يتأرجح يف رأيس‬
‫رساب لصورة يل وأنا يف كامل ّأبتي متأن ًقا أميش نحو ‪ !.....‬ال أذكر! أكان‬
‫ٌ‬
‫شاط ًئا يف كاليفورنيا؟ أم كانت باحة من باحات كليات جامعة أوكسفورد؟‬
‫أم واد ًيا يف اسكتلندا؟ أم هي حانة يف دبلن؟ ربام هي أماكن مشهورة‪ ،‬ولكني‬
‫مل أزر أ ًيا منها يف الواقع عىل أية حال‪.‬‬

‫‪ -1‬بريت كيزر (‪ )Bert Keizer‬كاتب وطبيب هولندي‪ ،‬خمتص بأمراض الشيخوخة‪ .‬نرش روايته‬
‫األوىل يف العام ‪١٩٩٤‬م بعنوان «الرقص من السيد د»‪ ،‬ثم نرش كتابه عن جتربته كطبيب يف أفريقيا‬
‫والتي جم ّد فيه فيتغنشتاين‪ .‬له عمود رأي أسبوعي يف الصحافة اهلولندية‪ .‬ترجم ونرش بعض أعامل‬
‫إيمييل ديكسون إىل اهلولندية‪.‬‬
‫‪ -2‬لودفيغ فيتغنشتاين فيلسوف لغوي نمساوي‪ ،‬ولد يف فيينا عاصمة النمسا (تويف ‪١٩٥١‬م)‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫كانت «نعم» هي الكلمة اإلنجليزية األوىل‪ .‬تعرفت عليها يف كتاب‬
‫للص ْب َية عن رعاة البقر واهلنود‪ .‬كان اسم الصبي اهلندي الرزين (الريشة‬ ‫ِ‬
‫البيضاء)‪ ،‬و اسم راعي البقر املتهور (عني النرس)‪ .‬وكنا ننطق راعي البقر‬
‫بشكل خاطئ؛ فكنا نقول (كوي((( بوي)‪ ،‬رغم أنه ال يشء خجول (‪ )coy‬يف‬
‫مشهد رعاة البقر أو ثقافتهم ح ًقا‪ .‬كام ساهم يف سوء نطقنا أننا مل نربط االسم‬
‫بأي يشء بقري (‪ ،)cow‬ألنه كان من املستحيل علينا أن نتخيل صورة أرع َن‬
‫ومتحمسا بجوار‬ ‫ً‬
‫صارخا‬ ‫ممتط جوا َده‪ ،‬ويومئ بحبله يف دوامة من الغبار‬‫ٍ‬
‫ً‬
‫صورة البقرة اهلولندية‪ ،‬مرضب املثل يف البطء واهلدوء أثناء مشيها يف حقول‬
‫أنت عزيزيت البقرة‪ ،‬سيكون مشهد الرصاخ‬ ‫األحالم اهلولندية‪ .‬مسكينة ِ‬
‫مكدرا لصفوك املعتاد عىل الكسل‪ .‬ولكن «نعم» التي قاهلا (الريشة‬‫ً‬ ‫والغضب‬
‫البيضاء) كانت ذات معنى رمزي يل‪ ،‬ألهنا أول ما نطقته باإلنجليزية‪ .‬رافقت‬
‫تلك الـ «نعم» قوة ورجولة‪ ،‬وعزيمة أصيلة عىل االستمرار بوقار‪« .‬الريشة‬
‫البيضاء وعني النرس» مل يكن هلذه املعاين داللة كبرية باهلولندية‪ ،‬سوى إهنا‬
‫جاءت يف ذهن مؤلفها جاي يب ناوي((( ‪-‬والذي أظن أن جتربة حياته ال‬
‫تؤهله ألن يعرف الفرق بني رعاة البقر وبني مواقف السيارات‪ -‬جاءته‬
‫الفكرة حني رأى مجو ًعا ذات ألوان شتى تصارع لشق طريقها نحو الشواطئ‬
‫النورماندية عام ‪1944‬م وقد جلبوا معهم السجائر‪ ،‬والعلكة‪ ،‬وطر ًقا‬
‫يكون خلطة للصبي راعي‬ ‫للتعامل مع الفتيات؛ فمن هذا املصدر حاول أن ّ‬

‫كثريا من متعلمي اإلنجليزية يقولون كوي بوي (‪ً )coyboy‬‬


‫بدل عن كاوبوي‬ ‫‪ -1‬يالحظ أن ً‬
‫(‪.)cowboy‬‬

‫‪ -2‬يظهر يل أن الكاتب هنا خلط بني األب (‪ )J‬واالبن (‪ ،)P‬ومها كاتبني هولنديني‪ ،‬خاصة أن‬
‫االبن كان قد أكمل سلسلة قصة والده بعد وفاته يف العام ‪١٩٥٨‬م‪ .‬تقع القصة يف ‪ ٦٣‬جزء‪ .‬كتب‬
‫األب عرشين منها‪ ،‬والباقي كانت من تأليف االبن‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫البقر‪ ،‬باإلضافة إىل ما كان يعرفه من وثائقيات الرباري‪.‬‬
‫نعم!‬
‫مل أكن أعرف كيف أنطقها ألين مل أكن حينها قد رأيت احلرف (‪ )y‬أبدً ا‪،‬‬
‫ربام حاولت حينها أن أنطقه (‪ )i‬بدال عن (‪.)y‬‬
‫متثلت اإلنجليزي ُة يل فقط يف صورة جنود جيولون‬ ‫ِ‬ ‫يف العام ‪1952‬م‬
‫الشوارع‪ ،‬ليس كام جاهلا النازيون املجانني‪ ،‬بل كانوا حيملون نية اخلري وروح‬
‫دائم ما يكرسون رسمية التدرج العسكري للحصول عىل بعض‬ ‫احلرية‪ .‬كانوا ً‬
‫املرح أو بعض الرشاب‪ .‬ومل يكونوا حيملون أي ذخرية يف أسلحتهم‪ .‬وقد‬
‫أحببت حينها أغنية «زهرة تكساس الصفراء(((»‪ ،‬مع نغمتها شبه العسكرية‪،‬‬
‫صوت احلزن يف «توم دويل(((»‪،‬‬
‫َ‬ ‫وطبقات صوت الطبلة فيها‪ .‬كام أحببت‬
‫لكني كنت أسمعها عىل أهنا «ع ّلق قبعتك‪ ،‬توم دويل»‪ ،‬والسبب ربام كان‬
‫قرهبا من بعض األمثال البولندية حول تعليق القبعة؛ ثم سمعت السطر‬
‫اآلخر من األغنية وكأهنا «صبي جيد أنت‪ ،‬إىل اللقاء»‪ .‬تشكلت صورة‬
‫هذا الصبي اجليد والذي نزع قبعته عن رأسه ليكون حمل تقدير جمموعة‬
‫من الرجال كبار السن‪ .‬ثم كذلك جاء تينييس إيرين فورد وأغنيته‪« :‬أدين‬
‫بحيايت ملستودع الرشكة»‪ .‬ومن هذه األغنية تشكلت لدي فكرة أن اإلنسان‬
‫طويل يف الرباري األمريكية‪ ،‬فإنه سيتحول إىل هبيمة مسكينة ال‬ ‫ً‬ ‫إن عاش‬
‫تستطيع التحدث مع العامل؛ بل تفهم لغة املطارق فحسب‪.‬‬
‫كل هذا احلامس حول تلك األمور كان يمثل رصخ ًة بعيد ًة جدً ا من صبي‬
‫كان قد دخل بعدها مرحلة ما مع ذكورته؛ وهذا الطرح املخترص غري املقصود‬

‫‪ -1‬أغنية فلكلورية أمريكية تعود ملنتصف القرن التاسع عرش‪ ،‬عدّ ها البعض من أهم مئة أغنية‬
‫غربية‪ ،‬وغناها كثريون بإصدارات خمتلفة‪.‬‬
‫‪ -2‬توم دويل أغنية للفرقة الشعبية األمريكية‪ ،‬الثالثي كنغستون‪ ،‬ظهرت األغنية يف العام ‪١٩٥٨‬م‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫يعرض لون حالتي البني‪ ،‬حني بدأت أقتحم عامل الذكورة‪ .‬تنقلت عملية‬
‫االقتحام هذه من عامل حكايات الصغار وراعي البقر‪ ،‬وخالل نكد املراهقة‪،‬‬
‫ثم إىل حرية الشباب‪ ،‬حتى انتهت يب إىل حلظة من اليقني غري املهزوز‪ ،‬الذي‬
‫سأتكلم عنه يف وقت الحق‪ .‬ومن هناك إىل األسفل يف منحدر سحيق‪ .‬ولكي‬
‫أبني الصورة للقراء‪ ،‬أقول أين كنت أصارع يف سبيل هبوطي ذلك ومل يكن‬
‫األمر جمرد انزالق‪.‬‬
‫أمرا مش ِّتتًا‪ ،‬كان من الصعب تذكره رغم أنه يدور حول‬ ‫نسيت أن أذكر ً‬
‫ما ذكرته ساب ًقا؛ كان الشاب اهلولندي يف النصف الثاين من القرن العرشين‬
‫مطال ًبا أن يبني لنفسه حصنًا جيدً ا يتحصن به من العامل مستخد ًما القرميد‬
‫اإلنجليزي‪ :‬قرميد احللفاء‪.‬‬
‫ُ‬
‫أختيل نفيس دو ًما يف عامل اللغة‬ ‫يف تلك املرحلة من حيايت‪ ،‬كنت‬
‫ً‬
‫مقابل إنجليز ًيا لكل مفردة هولندية‬ ‫اإلنجليزية‪ُ .‬‬
‫أختيل دو ًما أنني أالمس‬
‫وذلك ‪-‬فقط‪ -‬عرب التحديق ذهن ًيا يف روحها املحلقة‪ ،‬ومن ثم إدخاهلا يف‬
‫سحري داخيل لتنضج مثل تعبري إنجليزي مثايل ملا أريد قوله‪ .‬ما زالت‬‫ّ‬ ‫فرن‬
‫أشباح بعض تلك الكلامت تسكن العلية املوجودة يف دماغي؛ كنت أظنها‬
‫يو ًما إنجليزية صحيحة‪ .‬ومل يكن هذا اجلهد الكيميائي اللغوي عرب رمي قطع‬
‫من احلديد اهلولندي‪ ،‬وانتظار سبائك الذهب اإلنجليزية يف املقابل سخي ًفا‬
‫عىل اإلطالق‪ .‬فكثري من املفردات اهلولندية مرتبطة باإلنجليزية‪ ،‬وهنا أنا ال‬
‫أتكلم برطانة لسانية أو بتأثيل متقن؛ بل أتكلم فقط عن كلامت تتشابه يف‬
‫أساسا من فكرة‬
‫ً‬ ‫شكلها ويف صوهتا‪ ،‬وكانت مغرية ومربكة لصبي مل يقرتب‬
‫مثل مفردة «فتاة» اإلنجليزية‬‫السيطرة عىل الكلامت‪ .‬فلن تتقاطع يف ذهني ً‬
‫شكل ونط ًقا (‪)girl, meisje‬؛ ويف يف املقابل‬
‫ً‬ ‫مع اهلولندية الختالفهام التام‬
‫تبدو مفردة «خادمة منزلية» يف اللغتني وكأهنام توأم يف مظهرمها ونطقهام‬

‫‪67‬‬
‫(‪ ،)maid, meid‬لكن املعنى قد يكون خمتل ًفا وبشكل خطر كذلك؛ إذ إن‬
‫كلمة «خادمة» اهلولندية ال تدل عىل اخلادمة التي تسكن املنزل‪ ،‬أو حتى التي‬
‫تعمل داخله؛ بل تدل املفردة عىل فتاة شوارع وليست فتاة فحسب‪ ،‬ممتعة أو‬
‫حتى ممتعة جدً ا‪ ،‬وربام جتاوزت كل احلدود املتصورة‪.‬‬
‫كل هذا التلعثم مع الكلامت اإلنجليزية وأصواهتا كان ساب ًقا عىل إتقان‬
‫القراءة والكتابة‪ ،‬حيث كانت تلك الكلامت حترض يف منزلنا عرب األغاين‪،‬‬
‫فعل‪ .‬ال أذكر أي مفردة من فيلم «روي‬ ‫وإال فلم يكن أحد يتكلم اإلنجليزية ً‬
‫مؤخرا فقط أن اسم حصانه كان‬ ‫ً‬ ‫روجر» الذي شاهدناه يف منزلنا‪ ،‬واكتشفت‬
‫فيلم وثائق ًيا عن راعي البقر املشهور الذي كان‬
‫«تريغر»وذلك حني شاهدت ً‬
‫جيلس بفخر بجوار حصانه املحبوب؛ لكن راعي البقر بدا ممتل ًئا نو ًعا ما يف‬
‫الفيلم الوثائقي‪ ،‬مما جعلني أشعر باألسى ألجل املسكني تريغر‪.‬‬
‫لدهان‬
‫نشأت يف أرسة هولندية كاثوليكية؛ فأمي ابنة ملزارع‪ ،‬وأيب ابن ّ‬‫ُ‬
‫منزل يف بلدة صغرية يف الضواحي يف ثالثينيات القرن‬ ‫قروي؛ وبنيا سو ًيا ً‬
‫العرشين‪ .‬نشأنا حتت ما تبقى من سقف نرصانية القرون الوسطى‪ .‬ومل ندرك‬
‫متأخرا بالطبع‪ .‬وكنا متورطني ولكن مطمئنني يف سكنانا‪ ،‬حتى‬ ‫ً‬ ‫ذلك إال‬
‫اخلمسينيات‪ ،‬وكأننا نسخة من القرون الوسطى‪ ،‬ولكن يف القرن التاسع‬
‫عرش‪ .‬كانت الكاثوليكية اهلولندية يف انحسار‪ ،‬ولكنها كانت كذلك بعيدة‬
‫عن زحام اجلموع املستعجلة التي تعرب الطرق الفكرية الرسيعة يف أوروبا‪.‬‬
‫كان فيتغنشتاين قد تويف حينها‪ ،‬وأصبح بيكيت((( قامة بحجم نوبل‪ ،‬ولكن‬
‫حمريا‪.‬‬
‫لغزا ً‬
‫يف سياقنا الديني ما زال التعليم العايل اهلولندي ً‬
‫مل نكن نعلم أننا حتت احلصار‪ .‬ما الذي جيعلني أقول هذا؟ حني غنى لنا‬

‫‪ -1‬صمويل بيكيت كاتب وشاعر وناقد إيرلندي‪ ،‬كان يكتب باإلنجليزية والفرنسية (تويف‬
‫‪١٩٨٩‬م)‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫ٍ‬
‫هتديد؛ إذ بقي كل متثال يف كنائسنا‬ ‫املطرب بريي كومو((( مل يكن يشكل أي‬
‫يف مكانه حني غنى كومو أغنياته‪ .‬مل يكن جيذبني ألفيس((( يف مرحلة ما قبل‬
‫انضاممه إىل اجليش‪ ،‬احلقيقة أنني مل أكن أدرك حتى وجوده إىل أن أصبح‬
‫بدينًا‪ .‬ثم جاءت فرقة «بيتلز(((» يف العام ‪1963‬م‪ ،‬وحتت اهنامر أصواهتم‬
‫نسينا مجي ًعا شأن األصنام يف كنائسنا وخرجنا خارج أسوارها سعداء؛‬
‫ولقطع الشك باليقني حول خروجنا من احلصار تلقينا جرعة أبعدتنا كثريا‬
‫عن خلفياتنا (حيث كنا نجلس حس ًّيا وثقاف ًيا) من ِق َب ِل «رولنغ ستونز(((»‪.‬‬
‫جلوسا يف الكنيسة‪ ،‬وعىل حد علمي إنه املكان الذي‬ ‫ً‬ ‫لقد تركنا آباءنا وراءنا‬
‫ما زالوا حينها يتسكعون فيه‪.‬‬
‫يعتقد الرجال اهلولنديون من أبناء جييل أهنم كانوا قد صارعوا كاألبطال‬
‫نقاشا عني ًفا مع من يكربوهنم‬
‫كي يتخلصون من براثن الكنيسة‪ .‬وإن دخلوا ً‬
‫سنًا ‪-‬وليس مع الرب نفسه‪ -‬ينتهي هبم األمر منترصين دو ًما‪ .‬احلقيقة أن‬
‫هذا املشهد ذاته كان سيحدث لو أهنم كانوا دخلوا الرصاع يف الثالثينيات‪،‬‬
‫لكن باإلضافة إىل النفي االجتامعي الذي كان سيحدث هلم دون حماكمة‬
‫عادلة‪ ،‬وذلك بوصفهم حياولون إسقاط املجتمع املقدس‪ .‬ولكنه العام‬
‫‪1963‬م حيث املروج املعشوشبة‪« :‬عدد ال متناهي من السطو عىل البنك(((»‬
‫كان يلوح لنا‪.‬‬
‫لقد سحبت بيتلز البساط من حتت الرجولة عديمة االبتسامة‪ ،‬من حتت‬

‫‪ -1‬بريي كومو شخصية تلفزيونية ومغن أمريكي (تويف ‪٢٠٠١‬م)‪.‬‬


‫‪ -2‬ألفيس بريسيل الرمز الثقايف واملغني األمرييكي الشهري (تويف ‪١٩٧٧‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬فرقة موسيقى روك إنجليزية شهرية جدً ا‪ ،‬تشكلت يف العام ‪١٩٦٠‬م يف مدينة ليفريبول‪.‬‬
‫‪ -4‬فرقة موسيقى روك إنجليزية شهرية جدً ا‪ ،‬تشكلت يف العام ‪١٩٦٢‬م يف مدينة لندن‪.‬‬
‫‪ -5‬تناص مع كلامت أغنية لفرقة بيتلز وفيها إشارة لتغري الوقت وسهولة التغيري االجتامعي‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫أبطال «يوم الدال(((»‪ ،‬الذين أبقوا سجائرهم مشتعلة بنار العدو وأفواههم‬
‫مشغولة بمضغ العلكة‪ ،‬حتى حني كانوا حيرقون األبرياء بقنابلهم التي غطت‬
‫أمرا فظي ًعا‪ ،‬ولكن كان ال بد من القيام به»‪ .‬يمكن للمرء أن‬
‫كل أملانيا‪« .‬كان ً‬
‫حيشو كل أعامله الفظيعة إذن داخل أغنية لفرقة بيتلز‪.‬‬
‫عيل حني ذكرت «توم دويل» و«مستودع الرشكة»‪ ،‬وذلك‬ ‫ربام اختلط األمر ّ‬
‫بسبب احسايس بالطمأنينة لـ «األحد» املشمس يف «سحر اللحظات»‪ .‬لكني‬
‫فهمت حقيق ًة كلامت أغاين بيتلز‪« .‬أريد أن أمسك يدك»‪ ،‬مل يكن أبدً ا ً‬
‫شطرا‬
‫مستعص ًيا عىل الفهم‪ ،‬وإن كنت ذات مرة أسأت فهم «أحبيني وافعيل» حيث‬
‫فعل‪ .‬كانت إنجليزية‬ ‫ظننت أن الكلمة «افعيل» (‪ )do‬هي اسم فتاة وليست ً‬
‫بيتلز هي التي قادتني نحو اللغة الصحيحة‪ .‬قبل أن تالمسني أغانيهم‪ ،‬كانت‬
‫جوا عا ًما وليست لغة حمملة بالرسائل والكلامت‪ .‬منذ‬ ‫اإلنجليزية بالنسبة يل ًّ‬
‫ذلك احلني‪ ،‬والفرصة تراودين بأنني سأقول «أنا» باإلنجليزية يو ًما ما‪.‬‬
‫حني انتقلت إلنجلرتا يف العام ‪1968‬م كانت خيوط فريا لني((( ال تزال‬
‫مثل لـ رولنغ ستونز‬ ‫معلقة يف اهلواء‪ ،‬وهو أمر ال يتصوره املرء وهو يستمع ً‬
‫وأغنيتهم «اقفز جاك»‪ ،‬والتي أطلقت للجمهور يف صيف ذلك العام‪ .‬لكن‬
‫أمر ال يمكن‬‫تلك اخليوط كانت متثل جاذبي ًة للمكان يف تلك األيام‪ ،‬وهو ٌ‬
‫وصفه‪ .‬احلرب العاملية الثانية انتهت بالفعل؛ جمرد سديم بسيط اآلن عىل‬
‫أخريا‪ .‬كان‬
‫ً‬ ‫آخر معدات القتال من تلك الطرق‬ ‫ُقلت ُ‬ ‫منحدرات دوفر‪ .‬ن ْ‬
‫ٍ‬
‫ببشاعة من‬ ‫الطريق ياف ًعا‪ ،‬وكأنه خت ّلق للتو من العدم؛ لكنه ما لبث أن ُط ِر َق‬

‫‪ -1‬يوم الدال ‪٦ D-Day‬يونيو ‪١٩٤٤‬م‪ ،‬اليوم الذي احتل به احللفاء شامل فرنسا ويعدُّ بداية‬
‫عمليات التغيري يف احلرب العاملية الثانية‪.‬‬
‫‪ -2‬مغنية إنجليزية كان هلا صيت خالل احلرب العاملية الثانية حتى أطلق عليها لقب «حمبوبة‬
‫القوات»‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫أوالد هذه احلرب‪ ،‬الذين كانوا عىل وشك أن ينحروا يف فيتنام ذلك احلني؛‬
‫يف فيتنام اغتيل سحر نورماندي(((‪.‬‬
‫كان أول ما لفت انتباهي يف إنجلرتا أن صغار السن مل يكونوا يستوعبون‬
‫غالبية أغاين بوب ديالن(((‪ ،‬مثل حايل متا ًما‪ .‬تنازلت حينها عن فرضيتي يف‬
‫(((‬
‫أن أغنية «اليك رولنغ ستونز» كانت بمثابة التقدير ألسلوب مايك جاغر‬
‫يف احلياة‪ ،‬لكني مل أضع فرضية أخرى مكاهنا‪ .‬كنت أعتقد أن نصوص ديالن‬
‫مشكلة نو ًعا ما؛ فهي إما سطحية وغري منطقية‪ ،‬أو كاملة وعبقرية‪.‬‬
‫كثريا من األسئلة بني يدي‬
‫برغم وصية أخي يل بأن ال أفعل! كنت أطرح ً‬
‫كل فتاة إنجليزية حتادثني‪ ،‬فور ما يبلغ حديثنا مخس دقائق‪ :‬هذه جاءت من‬
‫لندن‪ ،‬واألخرى تسكن يف كورنوول‪ ،‬والثالثة متفوقة يف دراستها‪ .‬كنت ً‬
‫نادل‬
‫كثريا وبشكل مزعج ظننت معه أنني‬ ‫يف الفندق املحيل‪ ،‬وأهذر باإلنجليزية ً‬
‫أبدو أمريك ًيا يف هلجتي‪ ،‬تلك اللهجة التي كان ألهلها بقايا مجيل لتحريرهم‬
‫للقارة األوروبية‪ ،‬ولكنها مل تبدُ حمبوبة جدً ا يف تلك األيام بسبب فيتنام‪ .‬كان‬
‫اسم عائلتي ينطق كايزر بسبب شهرة عل ٍم حيمل االسم هبذا النطق‪ .‬وكنت‬
‫أتلقى بسبب طريقة نطق اإلنجليز السم عائلتي الكثري من التعاطف ظانني‬
‫أنني نمساوي‪ ،‬بسبب اخليانة التي تلقاها أساليف النمساويون! أو ربام كان‬
‫نمساوي ألهنم لطفاء‪ ،‬فهم يف احلقيقة مل يريدوا تلويثي‬
‫ّ‬ ‫الناس يقولون أنني‬
‫رب ُت هلم وبسالم تام‬‫بأي عالقة مع األملان‪ .‬وهلؤالء املتنعمني بجهلهم ع ّ‬
‫ّ‬
‫«النمساوي واألملاين تعني اليشء ذاته‪ ،‬ولكن ال بأس»‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫قائل‪:‬‬

‫‪ -1‬انتصار األمريكان ونزوهلم عىل شواطئ نورماندي كمخلصني ألوروبا ذهب بريقه حني‬
‫حاربوا كمعتدين عىل فيتنام‪.‬‬
‫‪ -2‬بوب ديالن مغن وشاعر غنائي أمريكي فاز بجائزة نوبل لألدب يف العام ‪٢٠١٦‬م‪.‬‬
‫‪ -3‬مايك جاغر مغن إنجليزي‪ ،‬قائد و مؤسس فرقة رولنغ ستونز‪.‬‬

‫‪71‬‬
‫مل يبدُ أن بعض اإلنجليز عىل دراية بأن هناك لغ ًة تسمى اهلولندية‬
‫مطل ًقا‪ .‬ذات مرة‪ ،‬أثناء تناول الشاي يف منزل أحد القساوسة‪ ،‬وهو والد‬
‫أحد األصدقاء‪ ،‬سألتني أم صديقي يف أكثر نربة يمكنني ختيلها من اللطف‬
‫واألدب‪« :‬أتساءل‪ :‬هل لديكم أنتم اهلولنديون لغة خاصة؟» ولتأكيد سؤاهلا‬
‫فعل نتكلم حزمة كبرية من هلجات ولغات كثرية مجعها‬ ‫املتضمن رأ ًيا‪ ،‬فنحن ً‬
‫جمموعة من اللصوص عرب سنوات كثرية؛ فرسقوها من الرومان‪ ،‬والكلتيني‪،‬‬
‫والفريزيني‪ ،‬والفايكنغ‪ ،‬والفرانكيني‪ ،‬والساكسونيني‪ .‬من ألفاظ هؤالء مجي ًعا‬
‫و ّلفنا ‪-‬نحن القرود املحليني‪ -‬ما نسميه اليوم لغتنا‪ ،‬اهلولندية‪ .‬لقد كنت‬
‫غاض ًبا‪ ،‬مستهجنًا سؤاهلا رغم لطفه فأجبتها‪« :‬ال يا سيديت! ليس لدينا لغة‪.‬‬
‫نحن ننبح عىل بعضنا البعض من وراء األشجار!» أخذين صاحبي للحديقة‬
‫لتهدئتي بينام أخذ األب زوجته ليبقيها بعيدً ا عن هجومي املتوحش‪ ،‬والذي‬
‫مل يكن يف احلسبان‪.‬‬
‫ذات مرة وجهتني صديقتي احلميمة إىل طريق جيد للخروج من املضيق‬
‫كثريا‬
‫املربك عند تعدد األصوات واألشكال للكلامت‪ ،‬قالت‪« :‬ال تفكر ً‬
‫يف املعاين املختلفة بني الكلامت املتشاهبة؛ حاول فقط أن متيز الفرق بينها‬
‫يف النطق»‪ .‬هي بذلك تذكرين باملقولة القديمة أن اإلنجليزية ال تُكتب كام‬
‫تنطق‪ ،‬وهي احلالة التي مل حتملها خميلة أي إنسان عن لغته األم‪ .‬مل أمتكن‬
‫أبدً ا من الصوت يف (‪ ،)th‬الذي بدا سخي ًفا جدً ا حني كنت أحاول الغناء مع‬
‫مريي هوبكنز يف أغنيتها «تلك كانت األيام يا صديقي»‪ .‬وبالرغم من أنني مل‬
‫مزعجا‬
‫ً‬ ‫أحتول إىل باحث عن املرح فقط‪ ،‬إال إنني وبكل تأكيد أصبحت ً‬
‫رجل‬
‫كادحا يف سريي يف هذا الطريق األجنبي‪ .‬خيرس كل‬ ‫ً‬ ‫بطريقة غري مرغوب هبا‬
‫من ال يتقن لغة ثانية ثالثني إىل أربعني درجة من اختبار معدل الذكاء (‪،)IQ‬‬
‫ويصعب عىل املتعاملني حتمل هذا اهلبوط دون أن يرض بغرورهم املسترت‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫حييطني الكثري من األخيار من متحدثي اللغة اإلنجليزية‪ ،‬وقد ساعدوين‬
‫قدمي جمد ًدا‪ .‬لكني رسعان ما أقع يف الفخ جمد ًدا‪ :‬فخ عبادة‬
‫ّ‬ ‫ألقف عىل‬
‫األصنام(((!‬
‫يتطلب األمر سنوات بسيطة حتى تتكون عالق ٌة من الصداقة بني متعلم‬
‫اللغة وبني القوالب اجلاهزة فيها‪ ،‬والقائمة تطول لكنها لن تكون شاملة‪.‬‬
‫يفقد املتعلم حينها التمييز بني تعبري دراج عتيق وبني جوهرة من اإلبداع‬
‫الشخيص ألحدهم‪ .‬يف بداية هذه املرحلة وجدت تعبريات بديعة‪ ،‬فرحت‬
‫هبا وكانت هبجة يل‪ ،‬لكني أدركت فيام بعد أهنا ميتة‪ ،‬خارج نطاق التداول‪:‬‬
‫مثل مسامري األبواب القديمة‪.‬‬
‫هناك أمر آخر أدركته برسعة وهو أنه من املمكن تصنيف الناس‬
‫اجتامع ًيا‪ ،‬وذلك بالتدقيق يف سامع لغتهم‪ .‬عاطفي‪ ،‬متعال‪ ،‬فخور‪ ،‬قنوع من‬
‫الطبقة الكادحة‪ ،‬غضوب من الطبقة الكادحة‪ ،‬طموح من الطبقة الكادحة‪،‬‬
‫صلب‪ ،‬عقالين‪ ،‬متعلم‪ ،‬فنان‪ ،‬مزارع‪ ،‬وماليني أخرى من االحتامالت‬
‫التي نع ّلب الناس اجتامع ًيا داخلها باستخدام اللغة‪ ،‬ومطلقني أحكامنا أو‬
‫ختبطاتنا يف الظنون‪ .‬كل ذلك قابل للتعلم الرسيع يف أي لغة أوروبية‪ .‬كنت‬
‫قد استشكلت األمر بسبب أننا يف قومي نستخدم طبقات مشاهبة‪ .‬أقول هذا‬
‫عن أوروبا ألنني عند إقامتي يف أفريقيا بوصفي طبي ًبا‪ ،‬مل أجد هذه العالمات‬
‫اللغوية‪ .‬كان بإمكاين اإلخبار إن كان حمدثي مزار ًعا من خالل عبقريته يف‬
‫متوجها إ ّيل مطل ًقا‪.‬‬
‫ً‬ ‫لباسه‪ ،‬أو عنايته بجسده‪ ،‬أو من وجهه الذي ربام ال يكون‬
‫ال أذكر نصف الكتب التي قرأت باإلنجليزية‪ .‬لكني اآلن منغمس مع‬
‫عمل تشاتوبريان((( «ذكريات من وراء القرب»؛ أقوم بالبحث عن معاين‬

‫‪-1‬عبادة األصنام هنا تعبري يفيد التقليد املطلق‪.‬‬


‫‪ -2‬الفيكونت دوشاتوبريان كاتب فرنيس‪ ،‬يعد زعيم املدرسة الرومانسية يف األدب الفرنيس (تويف‬

‫‪73‬‬
‫املفردات‪ ،‬وأتفكر يف التعبريات‪ ،‬ثم قد ال أصل إىل أي نتيجة‪ .‬كام أنني ما أزال‬
‫أحتفظ بنسختي من «يوليسيس(((» والتي قرأهتا يف عامي الثاين يف إنجلرتا‪،‬‬
‫‪1970‬م‪ ،‬حينها ع ّلمت وأنا منزعج عىل كل مفردة مل أفهمها‪ .‬كانت القائمة‬
‫طويلة جدً ا‪ ،‬وتتضمن كلامت بسيطة جدً ا‪ .‬ما تزال قائمتي كذلك‪ .‬وحتى‬
‫الكلامت التي حني تذاكيت وشككت بكوهنا ال تعني معناها السطحي‬
‫الواضح‪ ،‬اتضح أهنا تعني ذلك متا ًما‪.‬‬
‫ً‬
‫سافل‪،‬‬ ‫كان هناك بعض الكلامت التي بحثت عنها بالنظر عال ًيا وليس‬
‫أدون املعنى الذي أعتقد أنه وجه الكلمة احلقيقي‪،‬‬
‫فقط كي أتذكرها! كنت ّ‬
‫ثم بعد ذلك أبحث عن معناها يف املعجم؛ أشعر هبذه الطريقة أنني أملك‬
‫عدة حلول ألغلق السبيل عىل جهودي الكيميائية القديمة‪ ،‬والتي كنت‬
‫أحاول من خالهلا أن أعرف املقابل اإلنجليزي ألي كلمة هولندية بطريقة‬
‫غيبية ساموية‪.‬‬
‫فعل من شدة االختالف‬‫حني أنظر إىل بعض أمثلة قائمتي املذكورة‪ ،‬أتفاجأ ً‬
‫بني مظهر الكلامت اهلولندية وقبيالهتا اإلنجليزية‪ .‬لن يستطيع ناطق‬
‫اإلنجليزية ختمني املقابل اهلولندي أبدً ا‪ .‬وهبذا أعني إىل أي مدى اإلنجليزية‬
‫فعل لغة جرمانية؟ أعني تيوتونك(((؛ أي أهنا مترسبة من عمق الغابات بني‬ ‫ً‬
‫ساحل بحر الشامل من جهته الغربية‪ ،‬وحتى حدود بولندا الرشقية‪ .‬يف ذلك‬
‫الزمان‪ ،‬وقبل جميء الرومان ومعهم القبائل املعتدية‪ .‬كانت كثري من الكلامت‬
‫اإلنجليزية تنتمي إىل الغزاة املعتدين‪ ،‬خاصة الرومان واإلغريق؛ فهي ال‬

‫‪١٨٤٨‬م)‪.‬‬
‫‪ -1‬يوليسيس (عوليس) رواية للكاتب اآليرلندي جيمز جويس‪.‬‬
‫‪ -2‬اسم آخر لفرع اللغات اجلريمانية‪ ،‬والتي تنتمي له اإلنجليزية حسب تصنيف اللسانيات‪ ،‬من‬
‫ثم إىل أرسة اللغات اهلندو‪-‬أوروبية‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫فعل لتلك الغابات‪ .‬هناك فارق بني استخدام اإلنجليزي لكلامت‬ ‫تنتمي ً‬
‫مثل‪ :‬علم اإلنسان‪ ،‬وعلم النفس‪ ،‬والديموقراطية معتقدً ا أهنا مفردات‬
‫تنتمي له‪ ،‬وبني كيفية تعامل اهلولندي مع تلك اإلغريقيات والالتينيات‪ .‬يف‬
‫اهلولندية هذه الكلامت كالطيور الغريبة‪ ،‬هلا حظرية خاصة وخمتلفة؛ بينام يف‬
‫اإلنجليزية فقد غرقت تلك الكلامت يف لغة الناس العامة ألسباب تارخيية‬
‫ربام‪ .‬وقد أصبحت هذه املفردات القادمة من حوض األبيض املتوسط اآلن‬
‫تتبخرت يف اإلنجليزية وكأهنا االحتامل اللغوي الوحيد واملطلق‪ .‬فكلمة تاريخ‬
‫مثل هي نفسها اهلولندية‪ ،‬مع اختالف بسيط يف التهجئ ة (�‪his‬‬ ‫اإلنجليزية ً‬
‫‪ ،)tory, historie‬لكن لدينا يف اهلولندية باإلضافة هلذا الزيف القادم من‬
‫اجلنوب مفردة أخرى‪ ،‬مفردة أصيلة تنتمي لنا‪ ،‬والسبب يف عدم استخدامنا‬
‫كثريا مع اإلنجليزية‪ ،‬وقد يزعم أحدهم‬ ‫ُ‬
‫تتواطأ ً‬ ‫هلا هو خدعة العاملية‪ ،‬والتي‬
‫التصور‬
‫ّ‬ ‫أن تلك العاملية املنشودة ال حتتوهيا املفردة اهلولندية‪ .‬أظن أن سوء‬
‫هذا هو عامل رئيس من عوامل انتشار وتبجيل اإلنجليزية يف بالدي‪.‬‬
‫إن أول قراءة واعية يل باإلنجليزية كانت لكتاب راسل((( «تاريخ‬
‫الفلسفة الغربية»‪ .‬كنت يف غالب العام ‪1969‬م أعمل يف غسل الصحون يف‬
‫مطبخ لقلعة قديمة يف ديفون اسمها قرص دارتينغتون‪ ،‬كانت ملكيتها تعود‬
‫للملك هنري الثامن‪ ،‬وكانت القلعة حتتوي ضمن ما كانت حتتويه عىل ٍ‬
‫كلية‬
‫لآلداب‪ .‬كنت أغسل الصحون بينام كانت صديقتي احلميمة يف ذات الوقت‬
‫دروسا يف الدراما والرقص‪ .‬وكان من ضمن جهودي الغبية لصعود‬ ‫ً‬ ‫حترض‬
‫(((‬
‫مرتفعات الفلسفة ووعورة صخورها أن أحرضت كتاب كارل ياسربز‬

‫‪ -1‬برتنارد راسل الفيلسوف والريايض والناقد واملؤرخ اإلنجليزي املعروف (تويف ‪١٩٧٠‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬كارل ياسربز أستاذ الطب النفيس والفيلسوف األملاين (تويف ‪١٩٦٩‬م)‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫مرتمجا للهولندية‪ .‬مل يكن هذا اجلهد ناف ًعا أبدً ا‪ .‬مل أستطع فهم‬
‫عن كانت((( ً‬
‫الكتاب‪ ،‬وشعرت أنني مرفوض يف ذلك احلقل‪ .‬باملقابل بدأت أرعى‬
‫املشاعر املحبطة جتاه حصن الفلسفة املنيع‪ ،‬والذي كنت عىل أمل أن أقابل‬
‫الناس داخل أسواره‪ ،‬الناس الذين حياولون دراسة األسئلة امللحة لإلنسان‪،‬‬
‫وربام اإلجابة عنها‪ .‬لكن مل يؤذن يل بالدخول‪.‬‬
‫ال للدخول‪ .‬وذات يوم‪ ،‬كنت عىل وشك اإلصابة‬ ‫مل أستطع أن أجد سبي ً‬
‫عثرت عىل كتاب‬
‫ُ‬ ‫بحالة من الكدر‪ ،‬ويف مكتبة العائلة يف قرص دارتينغتون‬
‫قمت للحلم جمد ًدا؛‬
‫«تاريخ الفلسفة الغربية» لراسل‪ .‬ومن داخل قلعة النكد ُ‬
‫ً‬
‫مهرول جتاهي‪ ،‬وبتلوحية واحدة من يده بدد راسل‬ ‫جاء هذا الرجل الرشيق‬
‫كل قلقي وشكوكي‪ .‬بسحره املتصايب‪ ،‬وبنكتته الالذعة‪ ،‬وفوق ذلك كله‬
‫مرورا بخمسة وعرشين قرنًا من‬
‫ً‬ ‫بذكائه الفائق جال يب عرب رحلة ال تنسى‬
‫الفكر الغريب‪ .‬لقد كانت قراءته مرحية جدً ا‪ ،‬وذلك ألنه شخص ًيا كان يف‬
‫معارضا للفالسفة الذين حتدّ ث عنهم‪.‬‬
‫ً‬ ‫منارصا أو‬
‫ً‬ ‫ساحات املعارك تلك‪ ،‬إما‬
‫مل أقرأ أبدً ا ألي أحد مثل راسل يف علمه املبهر‪ ،‬ويف موثوقيته وظرافته يف‬
‫الوقت نفسه‪ .‬هنا بعض األمثلة من مقوالته‪« :‬كان إراسموس((( حم ًّبا لألدب‬
‫بشكل ال يرجى برؤه منه‪ ،‬وال تثريب عليه فيه»‪ .‬وعن ميكافييل(((‪« :‬لقد‬
‫جرت العادة أن يصدم اجلميع»‪ .‬وعن سبينوزا(((‪« :‬لقد تفوق عليه البعض‬
‫قدرا يف اجلانب األخالقي‪ .‬وكنتيجة‬ ‫يف اجلانب الفكري؛ لكنه ظل األعىل ً‬

‫‪ -1‬إيامنويل كانط ( كانت) الفيلسوف األملاين املعروف‪ ،‬آخر فالسفة عرص التنوير (تويف ‪١٨٠٤‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬دسيدريوس إراسموس فيلسوف هولندي من رواد احلركة اإلنسانية يف أوروبا وكان صاحب‬
‫جهد تربوي عظيم (تويف ‪١٥٣٦‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬نيكولو ميكافييل الفيلسوف اإليطايل وصاحب نظريات الواقع السيايس مؤلف الكتاب فائق‬
‫الشهرة «األمري» (تويف ‪١٥٢٧‬م)‪.‬‬
‫‪ -4‬باروخ سبينوزا الفيلسوف اهلولندي (تويف ‪١٦٧٧‬م)‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫رشا مرو ًعا»‪ .‬وعن‬
‫طبيعية‪ ،‬ظل يف حياته وإىل قرن من الزمان بعد موته ُيعدُّ ً‬
‫مؤثرا؛ وكان هيوم عاق ً‬
‫ل لكن‬ ‫هيوم وروسو ‪« :‬كان روسو جمنونًا لكنه كان ً‬
‫(((‬

‫دون أي أتباع(((»‪.‬‬
‫علمت الح ًقا أن تاريخ راسل كان قد هتافت عند وصوله للقرن التاسع‬
‫متسمرا يف منتصف‬ ‫ً‬ ‫عرش‪ ،‬ولكننا لسنا معنيني هبذا هنا‪ .‬املهم أنني حني كنت‬
‫خويف أمام قلعة احلكمة الغربية املبجلة‪ ،‬كان من قدري السعيد أن يكون‬
‫برتنارد راسل هو من رحب يب عند ذلك املدخل‪ .‬لقد كان مض ّي ًفا ظري ًفا‬
‫وحف ًيا؛ حتى أولئك الذين مل يعبأ هبم أحد يف تلك احلفلة‪ ،‬تكون صحبة‬
‫الع َوض‪ .‬ما زلت أعتز بنسختي من كتابه‪ ،‬عليها رسمته‬ ‫برتنارد هلم نعم ِ‬
‫مرتد ًيا بدلته‪ ،‬بقلم الرصاص للفنان روبن غوثري‪.‬‬
‫ال أعرف يف هولندا ً‬
‫رجل مثله يف العلم والنباهة واملتعة‪ .‬أكره قول ذلك‬
‫ألنني ال أريد التقليل من قدر بالدي‪ .‬لكني سأقول ذلك بأخف ما يمكنني‪:‬‬
‫يف الواقع أن هناك مستوى فظي ًعا من الكتابة الباهتة داخل اجلسد األكاديمي‬
‫اهلولندي‪ ،‬هذا الواقع كان موجو ًدا لعقود مضت‪ .‬وأخشى أنه سيظل‬
‫موجو ًدا لعقود سوف تأيت‪.‬‬
‫يف هولندا يصعب عىل املرء ‪-‬عىل سبيل املثال‪ -‬أن يمر عىل أعالم مثل‪:‬‬
‫غيلبريت موري‪ ،‬وجاي يب بوري‪ ،‬وفرانسيس كونفورد‪ ،‬ومورايس بوورا‪،‬‬
‫و إتش دي إف كيتو‪ ،‬وموسيس فينايل‪ ،‬وبينجامني جويت‪ ،‬ودبليو كاي يس‬

‫‪ -1‬ديفيد هيوم فيلسوف ومؤرخ اسكتلندي (تويف ‪١٧٧٦‬م)‪ .‬جان جاك روسو فيلسوف «فرنيس»‬
‫(تويف ‪.)١٧٧٨‬‬
‫‪ -2‬حاولت البحث عن هذه املقولة ضمن كتاب رسل‪ ،‬لكن مل أجدها‪ .‬وأخشى أن الكاتب قد‬
‫اختلط عليه املصدر‪.‬‬

‫‪77‬‬
‫غورثي(((؛ هذا ذكر ألسامء جاءت رسيعة عىل البال وإال فالقائمة تطول‪ .‬كان‬
‫هلؤالء األعالم تعليقات عبقرية‪ ،‬وترمجات مبدعة من التاريخ الكالسيكي‬
‫والفلسفة‪ .‬أما قراءة أفالطون باهلولندية يف الستينيات‪ ،‬فكانت تتطلب مشقة‬
‫عظيمة لسلوك درب ممتلئة باللغة غري الناضجة‪ :‬لغة صحيحة قواعد ًيا‪،‬‬
‫لكن ال روح فيها وال أمل؛ منبثقة جز ًما من اهلولندية املحلية للمرتمجني‪،‬‬
‫تاركة القارئ مع ما يشبه لفائف املومياء‪ .‬يف املقابل كنت قد ُأ ُ‬
‫رست متا ًما‬
‫حينام قرأت أفالطون باإلنجليزية‪ .‬احلكمة‪ ،‬والزي‪ ،‬والتغزل‪ ،‬واألسواق‪،‬‬
‫والباحات‪ ،‬والشخصيات‪ ،‬والنكتة‪ ،‬كلها كانت مزهرة كالربيع باإلنجليزية‪،‬‬
‫بشكل ال يأذن للقارئ باهلرب‪ .‬قرأت مجهورية أفالطون يف صيف العام‬
‫‪1969‬م‪ ،‬وكانت من أعظم النصوص التي صافحتُها عىل الورق وما تزال‪.‬‬
‫ولن أزعجكم هنا باحلديث عن تفاصيل نظام التعليم يف هولندا‪ ،‬لكني‬
‫سأذكر معلومة عنه‪ .‬يفتقر التعليم يف هولندا إىل جمرد احتامل العالقة الواسعة‬
‫والعميقة مع الثقافات القديمة‪ ،‬وهو األمر الذي يتفوق به بكل اعتزاز نظام‬
‫نشأت‬
‫ُ‬ ‫التعليم العام اإلنجليزي‪ .‬يف هولندا وحميطها املتواضع فكر ًيا‪ ،‬والذي‬
‫ٌ‬
‫مدفون يف علبة زجاجية تارخيية قد غطاها الغبار‪.‬‬ ‫فيه‪ ،‬أفالطون وبكل أسى‬
‫وبحلول العام ‪1970‬م تفوقت معرفتي باإلنجليزية كل مستوى توصلت‬
‫له باألملانية والفرنسية‪ .‬ويف بعض املواطن الفكرية‪ ،‬أظن أن إنجليزيتي فاقت‬
‫حتى هولنديتي‪ .‬وصلت احلالة إىل أن ترسبت اإلنجليزية إىل داخيل‪ ،‬لدرجة‬
‫بعضا‪.‬‬
‫أنني حني أرى أرسيت يف املنام‪ ،‬فأين أراهم يتحدثون هبا مع بعضهم ً‬
‫مل أكن أظن أن ذاك الصوت األجنبي قادر عىل السفر إىل هذا العمق يف روح‬
‫اإلنسان‪ .‬كانت إنجليزيتي حينها فعل ًيا دون لكنة أجنبية‪ ،‬وإن كان أصحاب‬
‫التدقيق السمعي قد صنفوين هلج ًيا من جنوب أفريقيا‪ ،‬وهي اللهجة التي‬

‫‪ -1‬األسامء كلها ألعالم ينتمون للكتابة اإلنجليزية الكالسيكية‪.‬‬

‫‪78‬‬
‫أساسا‪ .‬وحني عرفت عنها الح ًقا‪ ،‬علمت أن حكمهم كان‬ ‫ً‬ ‫مل أكن أعرفها‬
‫دقي ًقا‪ ،‬كأهنم كانوا يعرفونني؛ فاللكنة اجلنوب أفريقية بالنسبة للرجل‬
‫اهلولندي تشبه متا ًما لكنة اهلولندي الذي مل خيرت أو يم ّيز متعمدً ا هلجة من‬
‫اللهجات اإلنجليزية؛ متا ًما كام يتصارع اإلنجليز والفرنسيون حني يتعمد كل‬
‫منهم حتريف صوت لغة اآلخر لييسء إليه‪.‬‬
‫مجا إىل اإلنجليزية‬ ‫األمر أنني خضت جلة اللغة اإلنجليزية‪ .‬فقد قرأت مرت ً‬
‫كل من كانت‪ ،‬وشوبنهاور‪ ،‬ونيتشه((( ‪ ،‬واألهم بالنسبة ّإيل فيتغنشتاين‬ ‫ً‬
‫وكتابه «مصنف منطقي فلسفي(((»‪ ،‬بالرغم من إمكانيتي لغو ًيا من التعامل‬
‫مع أعامهلم مجيعا بلغتها األصلية‪ ،‬األملانية‪ .‬ولكن كان لقراءيت هلذه األعامل‬
‫باإلنجليزية بعض التبعات؛ فقد كنت أظ ّن أن فيتغنشتاين كان فيلسو ًفا‬
‫إنجليز ًيا بخلفية فيناوية غامضة‪ ،‬سببها فقط سفره كل عام لفيينا حلضور‬
‫عيد امليالد‪ .‬وهذه نظرة سطحية جدً ا لفيتغنشتاين بال شك‪ ،‬الذي علمت‬
‫الح ًقا أنه مفكر فيناوي اختذ عىل مضض من بريطانيا ً‬
‫حمل إلقامته املؤقتة؛ كام‬
‫كان حال كثري من مفكري فيينا يف الثالثينيات خاصة إن كانوا هيو ًدا‪.‬‬
‫أمرا غب ًيا بعض اليشء‪ ،‬ذلك‬ ‫كانت قراءة هؤالء الفالسفة باإلنجليزية ً‬
‫ألهنا قادتني ألخطاء يف تقييم بعض زوايا أفكارهم‪ .‬وقد حدث خالف هذا‬
‫الواقع أثناء قراءيت لرتمجة سكوت مونكريف((( لربوست(((؛ فأنا مل أفقد‬
‫الكثري منه عند قراءيت له باإلنجليزية‪ ،‬كام كان واقع األملانية أو كام كان الواقع‬

‫‪ -1‬األسامء الثالثة من أعالم الفالسفة األملان الكبار‪.‬‬


‫‪« -2‬الرتاكتاتوس» هو الكتاب الوحيد الذي نرشه فيتغنشتاين يف حياته‪.‬‬
‫‪ -3‬سكوت مونكريف كاتب أسكتلندي‪ ،‬اشتهر برتمجاته ألعامل بروست إىل اإلنجليزية (تويف‬
‫‪١٩٣٠‬م)‪.‬‬
‫‪ -4‬مارسيل بروست كاتب وناقد وروائي فرنيس (تويف ‪١٩٢٢‬م)‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫لو تُرجم إىل اهلولندية يف ذلك الوقت‪ .‬ويعود السبب يف ذلك إىل وجود‬
‫تقاطعات اجتامعية عريضة جدً ا بني الفرنسيني واإلنجليز يف أواخر القرن‬
‫التاسع عرش فيام خيص كون املرء فنانًا‪ ،‬أو نخبو ًيا‪ ،‬أو أدي ًبا‪ ،‬أو متأن ًقا‪ ،‬أو‬
‫عضوا يف نادي الفروسية‪ ،‬أو صاحب صالون اجتامعي‪ ،‬أو سليل بيت نبيل‪،‬‬ ‫ً‬
‫أو خاد ًما‪ ،‬أو حتى موظ ًفا من الطبقة الوسطى يقوم ألداء عمله كل صباح‪ .‬مل‬
‫يكن بوسع اهلولندية رشح كل ما سبق دون مزيد من عالمات الرتقيم‪ ،‬كي‬
‫يتضح انتامؤه للمعسكر السيايس والثقايف العاملي يف ذلك الوقت‪ .‬مل تكن‬
‫ألي منهام مع‬‫أساسا ّ‬ ‫ً‬ ‫تلك الروابط بني لندن وباريس واضحة أو موجودة‬
‫أمسرتدام‪ .‬ومل يكن يف البال أن يل َقى أي كاتب هولندي حفاوة يف أميان((( كام‬
‫وجد راسكن((( من بروست‪ .‬مل يكن هذا املثال لبيان حالة الكتّاب اهلولنديني‬
‫يف ذلك الزمن‪ ،‬ولكنه تعبري لبيان حالة العالقات الدولية يف ذلك الزمن‪.‬‬
‫فكم روائي من فنلندا‪ ،‬أو ليتوانيا‪ ،‬أو التفيا‪ ،‬أو الباسك كان سيتقدم لنيل‬
‫جائزة عاملية يف ذلك الزمان؟!‬
‫يف العام ‪1972‬م‪ ،‬وبعد خترجي بشهادة يف الفلسفة عدت إىل أمسرتدام‬
‫ألدرس الطب‪ .‬لقد غبت يف إنجلرتا خلمسة أعوام‪ ،‬وكانت عوديت تشكل يل‬
‫اخلوف املطلق! بعد وصويل بقليل‪ ،‬جلست عىل مقاعد الدراسة أمام مشهد‬
‫ألستاذ الطب‪ ،‬والذي كان يكتب فعل ًيا باإلنجليزية عىل السبورة يف قاعة‬
‫الدرس؛ كان يكتب عن األسباب التي جتعل أطباء الرعاية األولية حييلون‬
‫املرىض إىل املستشفيات التخصصية‪:‬‬
‫ألننا ال نعلم ‪...‬‬
‫ألننا ال نستطيع ‪...‬‬

‫‪ -1‬مدينة يف شامل فرنسا‪.‬‬


‫‪ -2‬جون راسكن كاتب وناقد فني إنجليزي (تويف ‪١٩٠٠‬م)‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫ألننا نحتاج الدعم يف ‪...‬‬
‫ثم ما لبث بعد كتابته اجلميلة حتى أثبت غباءه بتشدقه ومبالغته يف نطق‬
‫هذه اجلمل الثالث رغم بساطتها‪.‬‬
‫يف هولندا‪ ،‬ومناطق أخرى كثرية من العامل‪ ،‬كان لعبادة األصنام التي‬
‫ذكرهتا آن ًفا هذا الوقع املقيت من كون اإلنجليزية متسيدة للمشهد العاملي‪.‬‬
‫يف جمال عميل الطبي‪ ،‬هناك نزعة مؤسفة نحو استخدام اإلنجليزية وتعبرياهتا‬
‫عند احلديث عن أمر يمكننا قوله وبوضوح تام بلغتنا‪ .‬فلامذا يقال (‪the blue‬‬
‫‪ )toe syndrome‬لوصف حالة املريض إن كان لديه مشكلة يف الدورة‬
‫الدموية؟! لقد ختىل األطباء عن الالتينية ليأرسوا أنفسهم باإلنجليزية‪،‬‬
‫وذلك ليغلفوا حمتواهم اململ لكثري من املفاهيم بغالف ربام يكون أقل ملالً‪.‬‬
‫(‪ )irritable bowel syndrome‬هو التشخيص حلالة يمكن للهولندية‬
‫وصفها وبكل سهولة‪ ،‬ولكنها حينئذ ستفقد بريقها اإلكلينيكي والذي حيافظ‬
‫عىل أن يكون املريض جان ًبا يف حني حيمي هؤالء األطباء مضارهبم عرب هذه‬
‫التعبريات «الفاخرة»‪.‬‬
‫أيضا بطبيعة احلال‪( :‬داونلود‪،‬‬
‫سيتبنى الناس تعبريات احلاسب اآليل ً‬
‫تشات‪ ،‬أونالين‪ ،‬إيميل‪ ،‬أبديت‪ ،‬وغريها)‪ .‬ولكن اإلنجليزية هنا ستظلم‬
‫حتت وطأة ترصيفات األفعال اهلولندية؛ املايض من فعل التحميل سيكون‬
‫(‪ )ge-download‬أو حتى (‪ )downgeload‬مع التوصية بعدم حماولة‬
‫نطقها! وللاميض من التصفح ستحصل عىل (‪ .)surfte‬ثم ما رأيكم هبذه‬
‫(‪ ),downloadized, surfetted, croshed, be-mailed‬كترصيفات‬
‫لألفعال اإلنجليزية؟‬
‫أعلم أهنا قبيحة‪ .‬وأقبح منها بكثري ما يوجد يف كثري من رسائل الدكتوراه‬
‫التي كتبت يف هولندا ولكن باإلنجليزية‪ .‬وأنا ال هيمني يف احلقيقة إن كان‬

‫‪81‬‬
‫موضوع الدراسة هو الذرة‪ ،‬أو اجلسور‪ ،‬أو األسنان‪ ،‬أو الرشايني‪ ،‬أو أشعة‬
‫بعضا من شخصية‬ ‫غاما‪ ،‬ولكن الذي هيمني هو أن الكتابة جيب أن تتضمن ً‬
‫كاتبها لتمنحها بعض احلياة‪ ،‬والذي ّ‬
‫يشل هذه احلياة هو تداول اإلنجليزية‬
‫هبذه الشكل املزعج‪ .‬ال يدرك الناس هذا‪ ،‬لذلك هم يستخدمون اإلنجليزية‬
‫وكأن لغتنا لغة ميتة كاإلسبارانتو(((‪ ،‬وبمخرجات ال حياة فيها كذلك‪.‬‬
‫ولكن األقبح من هذا كله حني يظن اهلولنديون أهنم يتكلمون اإلنجليزية‬
‫بطالقة‪ ،‬مدفوعني إىل ذلك الظن عرب تشجيع ناطقي اإلنجليزية هلم بقول‪:‬‬
‫أي إنجليزي من‬ ‫علم بأن هذا اإلطراء ال يناله ّ‬
‫«إنجليزيتك رائعة جدً ا»‪ً .‬‬
‫شهدت مذبح‬
‫ُ‬ ‫إنجليزي آخر إطال ًقا‪ .‬تعلمت هذا الدرس بأمل شديد حني‬
‫أحد الزمالء يف أحد الربامج عىل قناة البي يب يس‪ .‬مشى املسكني‪ ،‬بكل‬
‫وضوح‬
‫َ‬ ‫واضحا‬
‫ً‬ ‫أمرا‬
‫براءة‪ ،‬نحو االستديو يف حوار حول ما ظنّه صاحبنا ً‬
‫الشمس يف رائعة النهار‪ :‬موضوع القتل الرحيم‪ .‬كان لودوفيك كينيدي‬ ‫ِ‬
‫مديرا للحوار؛ وكانت دام سيسييل‬
‫هناك ليساعده؛ وكان مايكل إغناتيف ً‬
‫سانديرس ‪-‬القديسة العذراء حلركة اهلوسبيك(((‪ -‬يف الطرف املقابل معها‬
‫طبيبا أعصاب بريطانيان متغطرسان؛ كانوا يتكلمون بنظرة متعالية ملؤها‬
‫الغرور‪ .‬قالوا لزمييل املسكني‪« :‬إنك تقتل مريضك بسبب جهلك باملامرسة‬
‫الطبية الصحيحة»‪ .‬هنا‪ ،‬مل تكن لغة صاحبي املسكني سيئة لدرجة عجزه عن‬
‫قول «إن الرشايني التاجية تقع عىل جدار القلب»؛ أو قول «إن عمي ديك‬
‫جزارا»! ولكن لكي يتمكن من رصاع هؤالء القوم‪ ،‬كان بحاجة ً‬
‫فعل‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫إىل أن يتكلم اللغة؛ أن يعيش مشاعر كلامهتا‪ ،‬تلك الكلامت التي خذلته متام‬
‫مفعم بصالح مقصده ومحاسته‪ ،‬لكنه كان ً‬
‫مكبل بافتقاره للغة‪.‬‬ ‫اخلذالن‪ .‬كان ً‬

‫‪ -1‬لغة تواصل دولية اخرتعها لودفيغ أليعزر زامنهوف يف العام ‪١٨٨٧‬م‪.‬‬


‫‪ -2‬حركة طبية دينية تناهض مبادئ القتل الرحيم وتسعىى ‪-‬دين ًيا‪ -‬للحفاظ عىل احلياة‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫مرو ًعا‪ ،‬كيف‬
‫درسا ّ‬
‫لقد ّقزموه كام لو كان جمم ًعا للبصاق‪ .‬لكن ذلك كان ً‬
‫يفتقر املرء إىل كلامت قليلة رغم امتالئه بالكالم الكثري؟ هناك فرق شاسع‬
‫بني أن ّ‬
‫تدل إنسانًا عىل طريقه إىل حمطة القطار باإلنجليزية‪ ،‬وبني أن تدله عىل‬
‫الطريق إىل أفالطون‪ .‬يتجاهل هذا األمر أحيانًا الناطقون بلغة خريطة املدينة‪.‬‬
‫أحتاج أن أجتهد لكي أحافظ عىل إنجليزيتي لكوين أعيش يف هولندا‪.‬‬
‫أنا أقابل الكثري من الناس ممن يتكلم القليل من اإلنجليزية‪ ،‬واحلديث‬
‫معهم مل يكن باملستوى الذي يساعدين فعليا عىل حتسني مستواي اللغوي‪.‬‬
‫لذا فقد كانت برامج التلفزيون والقراءة والسينام هي السبيل الوحيدة ملقابلة‬
‫اإلنجليزية الصحيحة‪ .‬وهلذا فإن مستوى ما أستقبله من اإلنجليزية ال بأس‬
‫به؛ لكن ما أرسله من اإلنجليزية كان حيتاج إىل مزيد اجلهد ألحافظ عىل‬
‫لياقته؛ أخشى أنني لن أمتكن من ذلك‪.‬‬
‫بدت الكتابة اإلنجليزية ابتداء وكأنني أحاول حرث ساحة من الرخام‪:‬‬
‫أي يشء يف املقابل‪.‬‬ ‫أمر مستحيل التحصيل‪ ،‬وإفساد ملواد نافعة دون ّ‬
‫لكني اآلن أكتب باإلنجليزية وأنا أشعر بارتياح تام‪ ،‬وهو شعور ال أجده‬
‫عند الكتابة باهلولندية‪ .‬مل ال؟! حسنًا‪ ،‬املسألة هي كالفارق بني رجل يقف‬
‫طبيع ًيا عىل قائمتيه االثنتني‪ ،‬وبني كلب استعراض يقف كذلك عىل اثنتني‬
‫من قوائمه يف السريك‪ .‬لن يتكلم أحد بإعجابه بأسلوب رجل يف مشيه عىل‬
‫كل كاتب‬ ‫فحلم ّ‬
‫ُ‬ ‫رجلني؛ لكن الكل سيصفق للكلب عىل هذا العمل النادر‪.‬‬
‫يالحظ ناطقو اللغة األصليون أنه كلب؛‬‫َ‬ ‫أجنبي يكتب باإلنجليزية هو ّأل‬
‫وأن يقول أحدهم لآلخر يف الوقت نفسه‪« :‬أحب أسلوبه يف امليش»‪.‬‬
‫كتفي أحيانا باستياء‪،‬‬
‫ّ‬ ‫مرتاحا أم ال‪ ،‬فأنا ال زلت أهز‬
‫ً‬ ‫لكن‪ ..‬سواء أكنت‬
‫ألنني مضطر للبس هذا الرداء الغريب لكي يؤذن يل! أستطيع العيش‬
‫نلت استعطافكم ولفت أنظاركم إىل ما فاتكم من الكتاب‬
‫واحلالة هذه إن ُ‬

‫‪83‬‬
‫أساسا رشح مناقبهم‪ ،‬إال بمثل‬
‫ً‬ ‫اهلولنديني؛ حتديدً ا هؤالء الذين ال أستطيع‬
‫قدريت عىل التصفري ألبني ألحدهم تفوق جيمي هيندريكس((( يف عزف‬
‫القيثارة‪ .‬ولكن وبرغم عجزي احلايل عن الرشح‪ ،‬إال إنني أستطيع اجلزم‬
‫ً‬
‫فعل بتفوقهم‪.‬‬
‫وبالرغم من طول صحبتي مع اللغة‪ّ ،‬‬
‫أظل ال أعرف سبييل يف مناطق‬
‫كثرية من اإلنجليزية‪ .‬أنا هنا ال أحتدث فقط عن األسوار واألرسار صعبة‬
‫الفهم‪ ،‬بل وكذلك عن النجارة وقطع غيار السيارات وصيانتها‪ ،‬أو عن‬
‫مصطلحات الشحن وأسامء الطيور‪ :‬لطاملا اختلطت عيل أسامء الزرزور‬
‫والغطاس والسامن والكروان والشنقب‪ .‬أنا يف اإلنجليزية رجل احلاممة‬
‫والبطة((( فقط‪.‬‬
‫أنا ‪-‬وبإجياز شديد‪ -‬لست ناط ًقا أصل ًيا لإلنجليزية‪ ،‬وال هيمني أن أكون‪.‬‬

‫‪ -1‬جيمي هيندريكس مغن وعازف قيثارة أمريكي (تويف ‪١٩٧٠‬م)‪.‬‬


‫‪ -2‬عالمة عىل بساطة معجم الطيور لدى الكاتب‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫الفرنسية دون دموع‬
‫لوك سانت‬
‫(((‬

‫طفل من اجلزء الناطق بالفرنسية يف بلجيكا‬ ‫كنت ً‬‫والدي حني ُ‬‫ّ‬ ‫هاجرت مع‬
‫ُ‬
‫إىل الواليات املتحدة‪ .‬كان االنتقال استجابة للظروف االقتصادية‪ ،‬وقد كان‬
‫والدي عاطف ًيا منذ بدايته؛ وقليلة هي املرات التي حاوال‬ ‫ّ‬ ‫وقعه شديدً ا عىل‬
‫خال يف املحيط اجلديد‪ .‬مل تكن أمي تعرف اإلنجليزية‬ ‫فيها أن حيظيا بقلب ٍ‬
‫آنذاك‪ ،‬وكان أيب معتمدً ا عىل بقايا قليلة من ذاكرة دراسته الثانوية‪ ،‬كام كان‬
‫أيب خيلط بني اإلنجليزية وبني األملانية الثقيلة عىل اللسان‪ ،‬التي اكتسبها حني‬
‫لوالدي قليل من األصدقاء‬
‫ّ‬ ‫نشأ يف قريته القريبة جدً ا من احلدود اللغوية‪ .‬كان‬
‫املقربني الذين يتكلمون الفرنسية‪ .‬كان هذا العزل أشد وطأة عىل أمي‪ ،‬فهي‬
‫غري متعلمة‪ ،‬ومن أرسة ريفية شديدة املحافظة؛ كام كانت دائمة البقاء‬
‫يف املنزل‪ ،‬عىل عكس أيب املتنوع يف طبيعته‪ ،‬الذي كان خيتلط باألمريكيني‬
‫وغريهم من املهاجرين يف عمله‪ .‬لذلك فقد وقعت أمي حتت سيطرة كل‬
‫رمز أو مظهر يأخذها إىل الفرنسية ماد ًيا كان أم معنو ًيا يف احلياة األمريكية‪،‬‬

‫‪ -1‬لوك سانت (‪ )Luc Sante‬أستاذ الكتابة وتاريخ التصوير يف جامعة (‪ )Brad College‬يف‬
‫نيويورك (علام أنه مل يتخرج من اجلامعة يوما وال يملك أي درجة علمية)‪ .‬كاتب أمريكي‪/‬‬
‫بلجيكي‪ ،‬نرش عدة كتب منها «احلياة البطيئة» و«الدليل»‪ ،‬وسريته الذاتيه بعنوان «مصنع احلقائق»‪.‬‬
‫آخر كتبه كان بعنوان «باريس األخرى»‪ .‬كام أن له مسامهات كثرية أدبية وثقافية منشورة يف جملة‬
‫(‪ )The New York Review of Books‬الشهرية‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫فتبتهج لساعات طويلة عند رؤية اسم ذي أصول فرنسية يف إعالن جتاري‪.‬‬ ‫ُ‬
‫كانت ضحكة أمي هي العالمة البارزة جلولتنا يف السيارة حني تقرأ وبسعادة‬
‫الكلامت الفرنسية عىل جانب الطريق‪:‬‬

‫!‪Chez Pierre‬‬

‫!‪Masion de Beau‬‬

‫وعند مشاهديت لربامج الرسوم املتحركة يف صباحات السبت‪ ،‬جتتمع‬


‫األرسة كلها ألجل ‪ ،Pepe le Pew‬ملشاهدة حيوان الظربان الفرنيس وهو‬
‫حياول التقرب متود ًدا نحو القطتني املرعوبتني‪ :‬السوداء والبيضاء‪ ،‬فيقول‬
‫دائم احلب ‪. . .‬‬
‫هلام‪ ،l’amour, toujours l’amour :‬احلب‪ً ،‬‬
‫يف عامي الدرايس األول يف الواليات املتحدة‪ ،‬كانت أمي تعلمني الفرنسية‬
‫بمقدار ساعة يف اليوم عند عوديت إىل املنزل‪ .‬كان ذلك من حكمتها؛ يف البداية‬
‫شعرت بقليل من الضياع حني أقوم باملراوحة بني اللغتني ‪-‬لغة املدرسة ولغة‬
‫املنزل‪ -‬كام كنت أشعر بفقدي حلاسة اللغة‪ ،‬واقرتبت من العجز اللغوي‪.‬‬
‫ومؤثرا عىل إعاديت إىل الفرنسية‪ ،‬كلام حاول‬
‫ً‬ ‫أثرا بال ًغا‬
‫كان ملامرسة أمي ً‬
‫قادرا‬
‫أصدقاء املدرسة جذيب إىل اإلنجليزية أثناء اللعب‪ .‬وبعد حني‪ ،‬رصت ً‬
‫عىل املراوحة بني اللغتني بسهولة وتوازن‪ ،‬حتى إنه عند زياراتنا املتكررة‬
‫والطويلة نسب ًيا إىل بلجيكا بصحبة أمي‪ ،‬كنت ألتحق باملدرسة وال أجد أدنى‬
‫صعوبة يف التعامل مع املنهج الدرايس الفرنيس‪ .‬كانت تلك الزيارات بني‬
‫الثامنة والتاسعة من عمري؛ وكان هلا أثر بالغ عىل حياتنا مجي ًعا‪ .‬قبل تلك‬
‫الزيارات كان والداي يؤمنان أن اإلقامة يف الواليات املتحدة ليست دائمة‪،‬‬
‫وأهنام سيعودان يو ًما ما إىل بلجيكا‪ .‬لكن حني أرهق املرض جدي وجديت‬
‫ألمي‪ ،‬ومن ثم توفيا‪ ،‬كان جيب علينا القيام بتلك الزيارات ألجل حدث‬
‫تقديرا للرحم‪ ،‬هذا وقد كان جدي وجديت أليب ميتني منذ زمن طويل‬‫ً‬ ‫فقدمها‬

‫‪86‬‬
‫جدً ا‪ .‬مل يعد لدينا عائلة قريبة يف بلجيكا‪ .‬كنا وحدنا‪ ،‬ومن ثم كان قرار مكان‬
‫إقامتنا عائدً ا إىل وفرة الفرصة حيث كانت‪ .‬هذا القرار مل يرفع من معنويات‬
‫العائلة‪ .‬فبعد فقد أجدادي حاول والداي أن حيافظا عىل املظهر البلجيكي يف‬
‫منزلنا‪ ،‬ولكن محاسهام مل يدم طويالً‪ ،‬ومن ثم انتقل اجلو العام ملنزلنا وبتدرج‬
‫وخفية بعيدً ا عن رمزيته‪ .‬ويف ظالل الروح ذاهتا‪ ،‬تقدمت لغة العائلة لتكون‬
‫خلي ًطا متنو ًعا‪ .‬ورغم أن النحو والنطق ظال فرنسيني‪ ،‬فقد أصبح الكالم‬
‫بعمومه ‪ franglais‬فرنس ًيا‪/‬إنجليز ًيا‪.‬‬
‫انفصلت الفرنسية عن أساساهتا ‪-‬بالنسبة يل‪ -‬كام فعلت كثري من مظاهر‬
‫احلياة يف بيتنا؛ لقد انفصلت هذه املظاهر عن صلتها بعامل أوسع مما هي عليه‪،‬‬
‫وبدت تلك العاطفة كأهنا بدعة ابتدعها والداي‬‫ْ‬ ‫كأهنا تدور يف حلقة مفرغة؛‬
‫ليصونا غربتي بني أقراين‪ .‬لكن تلك البدعة خلقت وحلسن احلظ عالقة‬
‫بيني وبني األطفال الناطقني بالفرنسية يف العامل كله‪ :‬متلك عمتي وزوجها‬
‫دكان صحف يف قرية صغرية جدً ا‪ ،‬وكانا قد أهدياين اشرتاكًا يف جملة الرسوم‬
‫املفضلة عندي يف بلجيكا‪ .‬لقد قرأت سبارو((( أسبوع ًيا ولعرش سنوات؛‬
‫مل تكن تلك املجلة جاذبة فقط عرب تعاملها مع اللغة احلية يف الشارع بل‬
‫بتقديم نكهة احلياة اليومية يف بلجيكا‪ ،‬التي كانت رسيعة التحول‪ ،‬أرسع مما‬
‫ظنه والداي‪ .‬مل يكن هلذه الرسوم األسبوعية أي منافس أمريكي؛ كل عدد‬
‫كان حيتوي عىل سلسلة من رشائط الرسوم‪ ،‬وصفحات مطوية ملجموعة‬
‫من املغامرات‪ ،‬وألعاب‪ ،‬ومسابقات‪ ،‬وحكايات تعليمية‪ ،‬وقصص خيالية‬
‫مل أمعن النظر يف حيايت كلها يف نصوص كام فعلت معها‪ .‬مل تكن القصص‬
‫متجها نحو أسلوب الرسم املرافق هلا؛‬
‫ً‬ ‫مها يل حينها بقدر ما كان شغفي‬
‫ذاهتا ًّ‬
‫وقد أثر هذا يف طريقة قراءيت وتعاميل مع الفنون الح ًقا‪ ،‬إذ كنت أزدري كل‬

‫‪ -1‬تعد سبارو واحدة من أشهر جمالت الرسوم اهلزلية باللغة الفرنسية وتصدر يف بلجيكا‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫األعامل اجلادة يف ظاهرها وأسلوهبا الفني الواقعي‪ ،‬يف مقابل تفضييل لكل ما‬
‫هو مجوح ومضحك‪ .‬كانت رشائط الرسوم اهلزلية أكثر أجزاء املجلة متر ًدا‬
‫بم َلك َِة الفرنسية يف إنتاج األلعاب اللغوية‪،‬‬
‫يف استخداماهتا اللغوية‪ ،‬حمتفية َ‬
‫خاصة ألعاب التورية والتالعب اللفظي‪.‬‬
‫إن التالعب اللفظي والتورية هي األساس الذي يتعلم من خالله أطفال‬
‫املدارس الناطقني بالفرنسية‪ .‬ربام كان هذا واقع اإلنجليزية أو غريها من‬
‫اللغات كذلك؛ فلذلك كانت األحجيات واأللغاز جز ًءا من حياة النشء‪.‬‬
‫أستطيع أن أؤرخ حلقيقة غمر اإلنجليزية يل حني استطعت أن أستوعب‬ ‫ُ‬
‫موضع الدعابة يف بعض النكات‪ .‬لكن وبرغم هذا فإن التورية والتالعب‬
‫اللفظي خمتلف يف الفرنسية‪ ،‬وذلك ألهنا لغة صارمة وحمددة‪ ،‬وليست مرتامية‬
‫األطراف وهائلة كاإلنجليزية؛ كام أن الفرنسية أنيقة وكافية وكأهنا حمرك‬
‫ثنائي احلركة‪ ،‬وليست مثل اإلنجليزية التي تشبه آلة روب غولدبريغ(((‪.‬‬
‫ليس يف الفرنسية بالرضورة أصواتًا أقل من اإلنجليزية‪ ،‬ولكن النظام الذي‬
‫حيكم ترتيبها وتواترها جيعل ظهورها ً‬
‫قابل للتنبؤ؛ لذلك كانت لدينا وفرة‬
‫من التشابه الصويت يف العبارات واجلمل والتي فاضت هبا أدبيات الرسيالية‪،‬‬
‫وجعلت أفكار الفرويدية وما بعد الفرويدية أكثر جاذبية يف العامل الناطق‬
‫بالفرنسية‪:‬‬
‫‪Les dents, la bouche. Laid dans la bouche. La dents la‬‬
‫‪bouchent. L’aidant la bouche‬‬

‫إن الشبه يف الصوت واضح بني هذه العبارات‪ ،‬وهي تعني عىل التوايل‪:‬‬
‫قبيح يف الفم‪ .‬خنقها الس ّن‪ .‬مساعدهتا ختنقها‪ .‬ال حيتاج أحدٌ‬
‫الفم‪ ،‬األسنان‪ٌ .‬‬

‫‪ -1‬آلة معقدة جدا وذات تصميم متعب‪ ،‬صممت لتحصل عىل نتيجة ضئيلة فصارت مرضب‬
‫مثل حني يسلك اإلنسان ً‬
‫سبيل صع ًبا للحصول عىل يشء يسري‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫قادرا عىل مالحظة الشبه بني هذه‬
‫إىل تزكية من جاك الكان حتى يكون ً‬
‫(((‬

‫العبارات‪ ،‬كام أن هذا التشابه قد يبني مقدرة اللغة عىل دع ِم رسعة حركة‬
‫الفكرة سواء كانت دنيوية أم غيبية‪ .‬لدى األطفال غريزة فطرية إلدراك‬
‫ذلك‪ ،‬خاصة حني تكون نشأهتم كاثوليكي ًة‪ ،‬ألهنم حينها يكونون قد جربوا‬
‫أدق تفاصيل االنصياع!‬
‫السنافر ‪ Les Schtroumpfs‬أشهر شخصيات جملة سبارو عامل ًيا؛‬
‫خملوقات صغرية عفريتية زرقاء‪ ،‬تعيش يف قرية مساكنها من نبات الفطر‪.‬‬
‫يف ظهورهم باإلنجليزية بدا السنافر وقد ُأشبعوا لطافة وظرافة؛ لكنهم‬
‫بالفرنسية كانوا قد اجتنبوا هذا ال َقدَ َر مستعينني بلغتهم‪ ،‬التي كانت تعتمد‬
‫أساسا‪-‬‬ ‫ً‬ ‫عىل استعامهلم املتواصل لكلمة ‪ schtroumpf‬سنفور ‪-‬املبتدعة‬
‫وحال وصيغة تعجب‪ .‬استوعب هذا االستخدام‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫وفعل وصفة‬ ‫اسم‬ ‫لتكون ً‬
‫وكبارا‪ ،‬دون احلاجة إىل تعليقات وتوضيحات‪.‬‬ ‫ً‬ ‫صغارا‬
‫ً‬ ‫كل القراء‪،‬‬ ‫اللغوي ُّ‬
‫وضا‬ ‫حل بسخرية ليكون ِع ً‬ ‫كانت السهولة تكمن يف أن هذا االستخدام قد ّ‬
‫عن املفردات غري القابلة للتصنيف القواعدي يف الفرنسية املحكية‪ ،‬والتي‬
‫حرة يف تنقالهتا يف الكالم مثل‪.machin((( ,truc, chose :‬‬ ‫كانت بدورها ّ‬
‫األمر الذي فعلته مفردة سنفور يف احلقيقة هو أهنا أثبتت قدرة كلامت ‪-‬قد‬
‫يراها البعض سخيفة‪ -‬عىل أن تضع ما هو ممنوع االستخدام يف كالمنا وكتابتنا‬
‫فعل عن حقيقة املفردة التي حلت «السنفرة» حملها‪ ،‬ألن املعنى‬ ‫بغض النظر ً‬
‫واضحا جلي ًا من السياق‪ .‬إن مفردات مثل ‪ ،truc, chose‬كانت ستقوم‬ ‫ً‬ ‫كان‬
‫بالدور نفسه‪ ،‬لكنها كلامت حيادية رمادية! يف حني كانت املفردات املشتقة‬
‫من سنفور ختاطب العقل الباطن كأهنا يشء حمسوس‪ ،‬وكان شكلها الغريب‬

‫‪ -1‬جاك الكان حملل نفيس فرنيس (تويف ‪١٩٨١‬م)‪.‬‬


‫‪ -2‬هذه املفردات الفرنسية الثالث كلها تعني «يشء»‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫يفتح الباب لكل املعاين التي وإن مل يدركها عقل الطفل‪ ،‬لكنه يستطيع أن‬
‫يتخيلها مع كل ما يرافقها من حرية وغموض‪.‬‬
‫مل تكن كل التالعبات اللفظية خميفة بالطبع‪ .‬فسلسلة إصدارات‬
‫ذوي القبعات من بالد‬ ‫ْ‬ ‫أسرتيكس((( (حكايات مات وجيف الرفيقني‬
‫الغال((()‪ ،‬والتي كانت شخصيات احلكايات فيها تُعرض بوضوح من‬
‫خالل ترصيف أسامئها؛ كان بعض األسامء غال ًّيا [نسبة إىل بالد الغال]‬
‫بوضوح واآلخر يبني عدائية حامله فهو روماين بالرضورة‪ .‬كانت شفرات‬
‫هذه األسامء ورموزها منترشة يف كل السلسلة الفكاهية؛ وكان فك رموز‬
‫بعضها حيتاج بعض التامرين البدنية حيث يمكث القارئ أسبو ًعا أو أسبوعني‬
‫حتى تتفكك له الرموز كأهنا أرقام رسية لقفل‪ .‬يف املقابل كانت مغامرات‬
‫تان تان(((‪ ،‬الصحفي البلجيكي الشاب‪ ،‬قد أظهرت وبشكل متكرر الكابتن‬
‫سكريا غضو ًبا‪ ،‬لكنه طيب القلب‪ .‬كان الكابتن‬ ‫ً‬ ‫هادوك‪ ،‬البحار العتيق‬
‫أرشارا‪ ،‬أو‬
‫ً‬ ‫هادوك كثري الوقوع عىل مؤخرته‪ ،‬شتا ًما حني يرى من يظنهم‬
‫الذين خيربون الطبيعة‪ ،‬أو حني متر سيارة مرسعة فرتشق ماء الشارع عليه‪،‬‬
‫أو حني ترضبه الكرة التي يلعب هبا األطفال يف الشارع‪ .‬كان معجم شتائمه‬
‫مهم‪:‬‬
‫درسا ً‬
‫يدوي كأنه انفجار للغة مقيدة سجينة‪ .‬تقدم لنا هذه الرسومات ً‬
‫ٌ‬
‫ومأذون‬ ‫أن اللغة يمكن أن تكون أداة مرح‪ ،‬لكنه ليس بالرضورة مرح آمن‬
‫ومعكرا للصفو‪ .‬إن توظيف اللغة‬ ‫ً‬ ‫مرحا جاحمًا‪ ،‬وفوضو ًيا‪،‬‬
‫به؛ بل قد يكون ً‬
‫أمرا مقصو ًدا‪َ ،‬ب ِّينًا حتى ألولئك‬
‫أمرا اعتباط ًيا‪ ،‬بل كان ً‬
‫يف الرسومات مل يكن ً‬

‫‪ -1‬سلسلة إصدارات مطبوعة من الرسوم الكوميدية باللغة الفرنسية تصدر يف بلجيكا‪.‬‬


‫‪ -2‬الغال هو االسم الذي أطلقه الرومان عىل أجزاء من شامل إيطاليا وفرنسا وبلجيكا وبعضا‬
‫من أملانيا وهي األماكن التي يسكنها الغاليون‪ ،‬وجزء من هذه املناطق تعرض للفتح اإلسالمي‬
‫من األندلس يف القرن اهلجري الثاين‪.‬‬
‫‪ -3‬شخصية كرتونية شهرية عرضت عىل التلفزيون مدبلجة باللغة العربية يف عدة بلدان عربية‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫األطفال يف الثامنة من أعامرهم‪ .‬لذا فإن الفائدة املرجوة من هذا الدرس هي‬
‫أن املرح يمكن حتصيله من خالل التأسيس املدريس العميق واملنطق القوي‬
‫الدقيق‪.‬‬
‫دروسا عن أمهية الدقة خالل مراحل حيايت كلها؛ و‬
‫ً‬ ‫كنت قد تلقيت‬
‫كانت أغلب الدروس من أيب بالذات‪ .‬كان أيب قد توقف عن الدراسة يف‬
‫مضطرا كي يعمل؛ وكان جدي قد مر بالتجربة نفسها؛ يف حني‬
‫ً‬ ‫الرابعة عرشة‬
‫كان جد أيب أم ًّيا‪ .‬بالرغم من هذه الظروف كان أيب وجدي قارئني عظيمني‪.‬‬
‫مل يكن بيتنا خيلو أبدً ا من زاوية مزدمحة بالكتب‪ ،‬والتي كان غالبها قد رافق‬
‫عظيم فحسب‪ ،‬بل كان‬ ‫ً‬ ‫أرسيت حني هجرهتا عرب املحيط‪ .‬مل يكن أيب قارئًا‬
‫يعيد القراءة بكثرة للامدة نفسها‪ .‬كانت أشكال الكتب اخلارجية تعرب برص ًيا‬
‫يل يف طفولتي عن التنوع؛ فبعضها كان ذا جتليد داكن فاخر‪ ،‬وبعضها كان‬
‫كنت أخاهلا حتوي األرسار املقدسة لتقاليد البالغني‬ ‫ذا غالف ورقي براق؛ ُ‬
‫والدي‪ ،‬أنظر إليها‬
‫ّ‬ ‫وحياهتم مجي ًعا‪ .‬وبعدما باعت أرسيت منزهلا بعد وفاة‬
‫اليوم فأرى أن العناوين كلها تنتمي ملجموعات األكثر مبي ًعا‪ :‬كانت مثل‬
‫أواخر‬
‫َ‬ ‫تلك الكتب املعروضة عىل رفوف غالب متاجر الكتب يف بلجيكا‬
‫أواخر اخلمسينيات‪ .‬كانت الكتب الرباقة من إصدارات‬ ‫َ‬ ‫األربعينيات وحتى‬
‫مريأباوت دار النرش اللغوية األدبية الفرنسية نظرية بنغوين اإلنجليزية‪ ،‬والتي‬
‫كان من قدرها أن يكون مقرها الرئيس يف بلدتنا يف بلجيكا‪ ،‬تلك املدينة التي‬
‫مل تكن قط واجهة قرائية أو ثقافية‪.‬‬
‫إذن فإنه من املحتمل أن حمتويات مكتبة أيب كانت تشابه متا ًما كثريا من‬
‫املكتبات يف منازل أبناء الطبقة الوسطى يف بلجيكا يف ذلك الوقت‪ ،‬وهي اليوم‬
‫متأل كذلك رفوف متاجر الكتاب املستعمل‪ .‬مل يكن من بينها أي إصدار نادر‬
‫وال حتى أي إصدار بارييس مؤثر‪ .‬بعضها كان يعدّ أدب ًيا‪ ،‬لكنه غال ًبا ينتمي‬

‫‪91‬‬
‫للحقبة ذاهتا‪ .‬لكنها يف احلقيقة كانت خمتارات منتقاة عن متييز دقيق‪ ،‬وكانت‬
‫كلها تشرتك يف عنرص األسلوب‪ .‬أعني أهنا كانت كلها مميزة يف أسلوهبا ْ‬
‫وإن‬
‫مل ْ جتتمع حتت مظلة واحدة‪ .‬كان من بينها كتب الرواية والتاريخ والرحالت‬
‫روت َ‬
‫غليل أيب من القراءة ول ّب ْت‬ ‫واملالحم والكوميديا؛ بجملتها كانت قد َأ ْ‬
‫هنمه‪ .‬كان أيب يرص عىل ‪ le mot juste‬أي أن كلمة واحدة ‪-‬كلمة واحدة‬ ‫نداء ِ‬
‫َ‬
‫رب بدقة عن فكرة حمددة ضمن معطيات حمددة‪ .‬إن‬ ‫دائم أن تع َ‬
‫فقط‪ -‬تصلح ً‬
‫فكرة األسلوب عند أيب تتكون من رشطني‪ :‬اجلامل والدقة‪ ،‬ومها أمران‬
‫كل من حكايات‬ ‫متداخالن بطبيعة احلال‪ .‬تضمنت جمموعته الكالسيكية ًّ‬
‫الفونتني(((‪ ،‬وكوميديا موليري(((‪ ،‬وقصائد فيكتور هوغو(((‪ ،‬ومرسحيات‬
‫إدموند روستان((( خاصة مرسحية سريانو دو برجراك(((‪ .‬كان أيب دائم‬
‫ُ‬
‫يشتاق‬ ‫االستشهاد واالقتباس من هذه املجموعة؛ ألهنا مناسبة أحيانًا‪ ،‬وألنه‬
‫إىل ذكراها أحيانًا أخرى‪.‬‬
‫ويف مرحلة مبكرة من حيايت غرس أيب ّيف نموذج الذائقة عىل رشطه‬
‫األسلويب‪ ،‬كام هو يف هناية مرسحية سريانو دو برجراك‪ .‬حيترض البطل ً‬
‫قائل‬
‫عىل مسمع من رفاقه‪« :‬إن شي ًئا واحدً ا نق ًيا‪ ،‬ال يشوبه الدنس‪ ،‬سآخذه معي‬
‫رغم عنك [أهيا املوت]»‪ .‬يرفع حينئذ سيفه ً‬
‫قائل‪« :‬هذا اليشء هو ‪،»...‬‬ ‫ً‬

‫‪ -1‬جان دي الفونتني كاتب وشاعر فرنيس يعد من القالئل الذين عرفوا أرسار الفرنسية‪ ،‬وأشهر‬
‫من كتب القصص اخلرافية يف األدب الفرنيس (تويف ‪١٦٩٥‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬جون باتيست بوكالن ولقبه موليري كاتب كوميدي مرسحي وشاعر فرنيس (تويف ‪١٦٧٣‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬فيكتور هوغو شاعر وكاتب وأديب فرنيس يعد من أشهر وأهم أدباء فرنسا وقد ترمجت أعامله‬
‫إىل غالب اللغات احلية (تويف ‪١٨٨٥‬م)‪.‬‬
‫‪ -4‬إدموند روستان شاعر وأديب ومرسحي فرنيس (تويف ‪.)١٩١٨‬‬
‫‪ -5‬مرسحية عظيمة إلدموند روستان ترمجت إىل العربية بعنوان «الشاعر» وقد ترمجها األديب‬
‫الكبري مصطفى لطفي املنفلوطي‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫فيقع سيفه من يده ويسقط البطل بني يدي رفاقه‪ .‬تنحني روكسان وتقبل‬
‫جبينه‪ ،‬وتسأله‪« :‬ما هو ذلك اليشء يا سريانو؟» يفتح سريانو عينيه‪ ،‬فريى‬
‫روكسان فيبتسم ويقول‪« :‬حريتي واستقاليل»؛ ثم ت ُ‬
‫ُسدل الستارة‪ .‬كلمة‬
‫‪ panache‬تعني حرف ًيا تلك الريشة التي توضع عىل القبعات التي يعتمرها‬
‫الرجال املحرتمون يف القرن السابع عرش؛ ولكنها كذلك تعني ما تعنيه يف‬
‫اإلنجليزية من إظهار العزة‪ ،‬مع زيادة يف تلك الداللة‪ :‬احلرية واالستقالل‪.‬‬
‫س يف حياة سريانو؛ جاءت بوصفها‬ ‫جاءت لعبة املفردات هنا عند ِ‬
‫آخر َن َف ٍ‬
‫إظهارا‬
‫ً‬ ‫رمزا مثال ًيا للبطولة‪ ،‬أي‬
‫كم وجاءت بوصفها ً‬ ‫تعبريا يدل عىل الفطنة ًّ‬
‫ً‬
‫علمت أن‬
‫ُ‬ ‫تذكرت هذا النص ذات مرة‪ ،‬حني‬ ‫ُ‬ ‫للقيم الرفيعة يف مفردة واحدة‪.‬‬
‫املتعلمني املبتدئني ملصارعة الثريان يسمون أنفسهم‪ :‬تالميذ املجد‪ .‬واحلقيقة‬
‫أن اإلسبانيني مل يكونوا قادرين عىل رؤية قمة املجد كام يراها الفرنسيون‪،‬‬
‫ِ‬
‫اللغة وحدَ ها‪.‬‬ ‫لبوس‬
‫املوت مرتد ًيا َ‬
‫َ‬ ‫حني يواجه املجدُ‬
‫إن اجلامل والدقة حليفان بالرضورة؛ يدالن سوي ًا عىل وجود احلقيقة‪ .‬إن‬
‫هذه املس ّلمة تبدو أوضح ما تكون يف حكايات جان دي الفونتني‪ .‬كل ناطق‬
‫ُ‬
‫«رزق املدّ احني عىل أولئك الذين ينصتون هلم»‪،‬‬ ‫بالفرنسية يستطيع أن ينشد‪:‬‬
‫من حكاية الغراب والثعلب‪ .‬كنت أعرف تلك الكلامت كوحدة لغوية كاملة‬
‫وكأهنا منقوشة يف ذهني قبل حتى أن أدرك داللة كل مفردة عىل حدة‪ .‬كانت‬
‫العبارة كأهنا آية من نص ديني كام كانت كأهنا حكمة يف الوقت نفسه‪ .‬وحني‬
‫بلغت من العمر ما يؤهلني إلدراك مراد العبارة الدقيق‪ ،‬وجدت أن موسيقى‬
‫ُ‬
‫أبلغ من حكمتها‪ .‬كان ذلك يف العرشينات من عمري‪ ،‬وكنت أعمل‬ ‫اجلملة ُ‬
‫كات ًبا؛ حينها وقعت عىل رسالة من فلوبري((( إىل جورج ساند(((‪ ،‬وقد جاء‬

‫‪ -1‬غوستاف فلوبري روائي فرنيس من رواد املدرسة الواقعية (تويف ‪١٨٨٠‬م)‪.‬‬


‫‪ -2‬جورج ساند هو االسم املستعار للروائية الفرنسية أمانتني أورو لوسيل دوبني ومن املهتمني‬

‫‪93‬‬
‫فيها‪:‬‬
‫حني يقع قلمي يف السجع املبتذل أو التكرار اليسء‪ ،‬أعلم يقينًا أنني‬
‫أختبط يف الغلط‪ .‬وعند البحث أجد ضالتي؛ أعني التعبري الدقيق‪،‬‬
‫أتبني فيام بعد أنه متناغم‬
‫تعبريا واحدً ا فقط؛ ثم ُ‬ ‫ً‬ ‫دائم‬
‫الذي يكون ً‬
‫مسيطرا عىل‬
‫ً‬ ‫تغيب املفردة أبدً ا إذا كان املرء‬
‫ُ‬ ‫صوت ًيا كذلك‪ .‬ال‬
‫فكرته‪ .‬فهل ثمة نظام ذايت تعمل من خالله اللغة يف ملءالفراغات‬
‫هبذه الدقة؟ وإن مل يكن ثمة نظام وال قاعدة‪ ،‬فكيف ينتهي األمر‬
‫دو ًما إىل إن املفردة الدقيقة دالل ًيا هي ذاهتا املفردة الدقيقة موسيق ًيا؟‬
‫أو بعبارة أخرى‪ :‬ملاذا ينتهي أعظم إجياز ألي فكرة يف أن يكون بيتًا‬
‫من الشعر؟‬
‫مل يكن أيب أبدً ا قد قرأ فلوبري‪ ،‬لكنه كان قد نقل إ ّيل شي ًئا من روحه‪ ،‬ومر ّد‬
‫ذلك إىل أن الكثري قد نرشوا فكرة فلوبري كتاب ًيا وشفو ًيا؛ كام أن مفهوم اجلامل‬
‫قرأت رسالة‬
‫ُ‬ ‫والدقة موجود بالفرنسية حتى قبل أن يعرب عنه فلوبري‪ .‬وحني‬
‫فلوبري أصبحت بالنسبة يل بمثابة النص املقدس‪.‬‬
‫وبالرغم من حماولتي البعد عن مكتبة أيب‪ ،‬إال إين ال يمكن أن ُأغفل أثرها‬
‫مشا ًء بني تلك املختارات‪ .‬كان امللل رفيق أفكار بعض‬‫النفيس عيل؛ لقد كنت ّ‬
‫تلك الكتب‪ :‬مطوالت تسلق اجلبال لفريزن روش(((‪ ،‬وفكاهات الفالحني‬
‫آلرثر ماسون(((‪ ،‬واحلكايات الطنانة عن أخالق النبالء الكاثوليكيني‬
‫جلان دي الفونتني‪ .‬يف املقابل كانت قصص اجلريمة من أهم ثمرات تلك‬

‫باالصالح االجتامعي (توفيت ‪١٨٧٦‬م)‪.‬‬


‫‪ -1‬روجر فريزن روش متسلق جبال ومستكشف وكاتب فرنيس (تويف ‪١٩٩٩‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬آرثر ماسون أستاذ جامعي بلجيكي يف الفلسفة واآلداب وكاتب باللغة الفرنسية (تويف‬
‫‪١٩٧٠‬م)‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫علم إهنا كانت األبغض إىل أيب‪ ،‬وهو مل يقرأها قط! كانت قصص‬ ‫الرفوف؛ ً‬
‫اجلريمة تصلنا بالربيد من عمتي وزوجها ‪-‬ومها شخصان رائعان جدً ا‪-‬‬
‫منتجا غري ذي قيمة‪ ،‬لذا كان إرساهلا لنا‬
‫ً‬ ‫الكتب ك َّلها‬
‫َ‬ ‫لكنهام كانا يعدّ ان‬
‫بمثابة التخلص اليسري منها‪ .‬كانت هذه القصص إىل جانب جمالت األطفال‬
‫صغريا‪ .‬أما باإلنجليزية فقد‬
‫ً‬ ‫نصيبي املخصص للقراءة بالفرنسية حني كنت‬
‫كانت غالب حماوالت القراءة املبكرة متقدمة عىل سني‪ ،‬يف وحماولة لتوافق‬
‫مستوى املوسيقى التي كنت أستمع إليها‪ .‬وكانت هذه فجوة تشكلت بني‬
‫مستوى اللغتني يف طفولتي‪.‬‬
‫ثم عند بلوغي السن املناسبة‪ ،‬سافرنا إىل مونرتيال((( يف كندا حلضور‬
‫ألي منا يف زيارة بلد ناطق بالفرنسية‬
‫معرض دويل؛ كانت تلك هي املرة األوىل ّ‬
‫كنت يومها يف شوق ومحاسة لزيارة حمالت‬ ‫خالل األعوام األربعة املاضية‪ُ .‬‬
‫بيع الكتب كام هي محاستي للمعرض نفسه‪ .‬وإن مل ختني الذاكرة‪ ،‬فإن مكتب َة‬
‫وسط املدينة كانت أول نقطة توقف جلولتنا‪ .‬ال أذكر اآلن إن كان يف نيتي‬ ‫ِ‬
‫حمدد قبل الولوج إىل املكتبة‪ ،‬ولكني خرجت بصحبة كتابني‪.‬‬ ‫رشاء أي عنوان ٍ‬
‫ُ َّ‬
‫كان أحد الكتابني خمتارات من الكوميديا السوداء من حترير أندريه بريتون(((‪،‬‬
‫خيارا رائ ًعا حلسن احلظ‪ .‬الكوميديا السوداء؛ كنت أتصور أن‬ ‫ً‬ ‫الذي كان‬
‫خياري ذا عالقة باألسلوب األديب الذي ُولدَ عىل يدي ليني بروس((( وغريه‬
‫من الكوميديني األمريكيني الذين كانوا مصدر الكثري من الغضب يف الشارع‬
‫األمريكي حينها‪ .‬كان الكتاب الثاين جملدً ا سميكًا من الشعر الفرنيس من‬

‫‪ -1‬مونرتيال مدينة كندية تقع ضمن إقليم كيبيك الناطق بالفرنسية‪.‬‬


‫‪ -2‬أندريه بريتون شاعر وأديب وفيلسوف فرنيس‪ ،‬من أهم رموز السرييالية (تويف ‪١٩٦٦‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬ليني بروس فنان كوميدي وناقد اجتامعي أمريكي‪ ،‬اشتهر بنقده الالذع وانطالق ثورة يف عامل‬
‫الكوميديا (تويف ‪١٩٦٦‬م)‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫مهتم بالشعر‪ ،‬ولكني حني ق ّلبت‬ ‫إصدارات مريأباوت‪ .‬مل أكن أيامي تلك ً‬
‫شكل ومضمون ًا‪ .‬عند الليل‪ ،‬كنت مستلق ًيا‬
‫وقعت عىل يشء خمتلف ً‬‫ُ‬ ‫الكتاب‬
‫عىل فرايش يف غرفة الفندق‪ ،‬فتحت الكتاب عىل صفحة‪ ،‬ووقع نظري عىل‬
‫السطر‪:‬‬
‫‪A la fin tu est las de ce monde ancient‬‬

‫نفسك عند النهاية متع ًبا من هذا العامل القديم» ‪ ..‬سطر من قصيدة‬
‫«وجتدُ َ‬
‫لغيوم أبولينري((( كانت القصيدة قد افتتحت بكلمة «جمال»‪.‬‬
‫ثم تقول القصيدة‪« :‬يا أيتها الراعية‪ ،‬يا برج إيفل‪ ،‬إن لقطيع اجلسور ثغا ٌء‬
‫حزي ٌن هذا الصباح»‪ .‬ختاطبني القصيدة بشكل مبارش؛ ختاطبني أنا وال أحد‬
‫شارع حزي ٌن‪ ،‬وأنت‬
‫ٌ‬ ‫مضت يف صفحتها الثانية‪« :‬هنا‬‫ْ‬ ‫سواي‪ ،‬كام جاء حني‬
‫واألبيض فقط»‪ .‬كان هذا واقع‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫األزرق‬ ‫جمرد طفل صغري ‪ ..‬تُلبسك أ ُّمك‬
‫ضمري املخاطب ‪ tu‬يف تلك القصيدة طفولتي‬ ‫ُ‬ ‫المس‬
‫َ‬ ‫طفولتي متا ًما؛ لقد‬
‫[أنت] بعينيك احلزينتني‪ ،‬الغارقتني بالدمع‪،‬‬‫واستدعاها عىل الفور‪« .‬تشاهد َ‬
‫فقرا َء املهاجرين ‪ ..‬يؤمن املهاجرون باهلل‪ ،‬ويصلون ألجل املرأة التي ترضع‬
‫كنت يف ذلك املكان‬ ‫روائ ُحهم ممرات حمطة القديس الزار(((»‪ُ .‬‬ ‫أطفاهلا ‪ ..‬متأل ِ‬
‫ورأيت ذلك بأم عيني‪ .‬بدت القصيد ُة وكأنا يف ٍ‬
‫هلفة إىل احلداثة‬ ‫ُ‬ ‫ذات يوم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫وكأنا مرشئب ٌة إىل اليقني الديني من ناحية أخرى‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫ويف حرية منها؛ كام بدت ّ‬
‫حي لذلك األسى الذي أمحله يف داخيل عن ذلك الزمان‪.‬‬ ‫بدت كأهنا مشهد ّ‬
‫ولكن األمر كان أعظم‪ .‬لقد كانت القصيدة رشيقة جدً ا؛ موزونة مع بعض‬
‫املرونة‪ ،‬كأنام كتبت مرة أخرى لتُغنّى‪ .‬عباراهتا منظومة دون عالمات ترقيم‪،‬‬
‫لكنها كانت واضحة احلدود واملعاين؛ و كان نحوها بسي ًطا قري ًبا من حديث‬

‫‪ -1‬غيوم أبولينري شاعر وقاص وروائي وناقد فني فرنيس (تويف ‪١٩١٨‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬هي إحدى املحطات الست الكربى التي يتداخل فيها نظام النقل العام يف باريس‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫العادي؛ وأسامء مع ّلمة((( باألحرف العلوية مثل حبات الكرز يف علبة‬‫ّ‬ ‫الناس‬
‫حركات مفاجئة خالل الزمان واملكان‪ ،‬ثم‬ ‫ٌ‬ ‫الشوكوالتة‪ .‬كان يف القصيدة‬
‫ختتفي مثلام ختتفي األشياء بني يدي عارض اخلدع البرصية‪ .‬أضواء ودوران‬
‫متنيت أن يقدِّ م هذا العامل احلديث يل‬
‫ُ‬ ‫مستمرة يف تقديم الدهشة‪ ،‬متا ًما مثلام‬
‫بلطف حمسوس ظل يتجدد كلام حلقت يب القصيدة بعيدً ا‪.‬‬
‫أصبحت فرنس ًيا حداث ًيا‪ ،‬وأزعم أنني ظللت كذلك‬ ‫ُ‬ ‫يف تلك الساعة‪،‬‬
‫بالرغم من بعض الشكليات التي مل تكن‪ .‬كانت اللغة الفرنسية قادرة عىل‬
‫أن تثري الدهشة واملفاخر بشكل مل يكن ممكنًا يف بعض اللغات‪ ،‬أو هكذا‬
‫بدت يل‪ .‬يف قصيدة ألندريه بريتون بعنوان‪ :‬االحتاد احلر ‪L’union libre‬‬
‫والتي تعدّ من أكثر النصوص جمونًا يف األدب كله‪ ،‬جاءت أوصاف حمبوبة‬
‫الشاعر بالفرنسية بطريقة ال تتأتّى لإلنجليزية أبدً ا‪ .‬مل تكن ترمجة القصيدة‬
‫إىل اإلنجليزية قبيحة‪ ،‬لكنها كانت خالية من السحر واملوسيقى‪ .‬كانت شدة‬
‫حساسية اإلنجليزية جتاه النصوص املاجنة سب ًبا لغياب السحر واملوسيقى؛‬
‫و كانت سالسل احلرير التي يتشكل منها تركيب حروف اجلر وأسامئها يف‬
‫مصدرا للسحر وقوته‪ .‬ال شك يف أن اللغات تتفاوت؛ وأنه ليس‬ ‫ً‬ ‫الفرنسية‬
‫من العدل قياس تفاوت اللغات ذلك بميزان واحد‪ ،‬ولكن وبالرغم من ذلك‬
‫فإن الشعر الفرنيس حني يرتجم إىل اإلنجليزية فإن اإلصدار اإلنجليزي يبدو‬ ‫ّ‬
‫خامل‪ِ ،‬‬
‫خشن ًا‪ ،‬ال جاذبية فيه عىل اإلطالق‪.‬‬ ‫ً‬ ‫دو ًما‬
‫‪Ma femme à la langue d’hostie poignardée‬‬

‫ٌ‬
‫لسان مثل لسان املضيف [صاحب الدار] املطعون» ‪ ..‬نجد‬ ‫«المرأيت‬

‫‪ -1‬املقصود هنا هو أسامء األعالم حني توسم باألحرف العلوية (الشكل الكبري للحرف‬
‫الروماين)‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫هنا عبارة ‪ hostie poignardée‬والتي تستدعي قصة استحالة الشكلني‬
‫(((‬

‫تصور العنف‬‫جلسد املسيح إىل رغيف أبيض من اخلبز‪ .‬إن العبارة الفرنسية ّ‬
‫املوجود يف القصة بمحاكاته صوت ًيا‪ :‬ففي حني تأيت كلمة ‪ hostie‬يف هدوء تام‪،‬‬
‫تتغافلها كلمة ‪ poignardée‬ذات املقاطع الصوتية الثالثة‪ .‬كأن القارئ يرى‬
‫اخلنجر ‪ poignard‬بعينه حني يقرأ‪ .‬يف املقابل نجد الرتمجة اإلنجليزية للعبارة‬
‫«‪ »stabbed host‬ال تتضمن أي شاعرية سوى حماولتها أن َ‬
‫تنقل الفكرة يف‬
‫أقل من مجلة؛ ولكأهنا حماولة لإلبالغ عرب أجهزة الراديو يف سيارات الرشطة‬
‫عن جريمة قتل لعامل يف مطعم يقع عىل الطريق الرسيع؛ كام أهنا خترج مثل‬
‫أي صدى بعد حلظة‬ ‫كتلة خشنة من األصوات‪ .‬مل ترتك العبارة اإلنجليزية َّ‬
‫من انتهائها‪.‬‬
‫لقد فتحت يل الفرنسية با ًبا إىل الشعر‪ .‬يف سنوات دراستي كنت أقرأ‬
‫دائم‪ ،‬كام كنت أحاول كتابته باإلنجليزية‪ ،‬ويعود ذلك إىل عدم إيامين‬
‫الشعر ً‬
‫بتمكني من دقائق وطرائف اللغة الفرنسية‪ .‬وبطبيعة احلال‪ ،‬انتهى يب األمر‬
‫أن أحببت الشعر اإلنجليزي كذلك‪ ،‬ولكنه حب خمتلف‪ .‬لو ُط َ‬
‫لب مني يو ًما‬
‫إنشاد الشعر‪ ،‬فإن أول ما سيكون عىل لساين وبتلقائية تامة هو‪:‬‬
‫‪J’ai tendu des cordes de clocher à clocher; des guirlandes de‬‬
‫‪fenêtre à fenêtre; des chaînes d’or d’étoile à étoile, et je danse‬‬
‫‪-Rambaud‬‬
‫ٍ‬
‫نافذة إىل أخرى؛‬ ‫برج آخر؛ وأكاليل من‬ ‫ٍ‬
‫كنيسة إىل ٍ‬ ‫«مددت ً‬
‫حبال من ِ‬
‫برج‬ ‫ُّ‬
‫وسالسل ذهبية بني كل نجمة وأخرى‪ ،‬وها أنا أرقص» ‪ -‬رامبو(((‪.‬‬

‫‪ -1‬استحالة الشكلني ‪ Transubstantiation‬هي مشهد نابع من العقيدة النرصانية حول حتول‬


‫دم املسيح وحلمه إىل النبيذ واخلبز‪.‬‬
‫كثريا من أعامله يف سن مبكرة (تويف ‪١٨٩١‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬آرثر رامبو هو الشاعر الفرنيس العلم الذي كتب ً‬

‫‪98‬‬
‫وعند منتصف املرحلة اجلامعية توقفت عن كتابة الشعر هنائ ًيا‪ .‬لقد فقدت‬
‫اليقني بموهبتي‪ .‬لكن احلقيقة تكمن يف أنني وجدت أن املوسيقى األصيلة‬
‫لصوت اللغة األمريكية((( تكمن يف النثر‪ ،‬يف كتابات كل من داشيل هاميت‪،‬‬
‫ورايموند تشاندلر‪ ،‬وجيمز كاين(((‪« .‬لقد رموين من عىل شاحنة األعالف‬
‫عند الظهرية تقري ًبا»‪ .‬كانت هذه هي مجلة االفتتاح لرواية «ساعي الربيد يقرع‬
‫اجلرس دو ًما مرتني»؛ َب َل َغ ْت هذه اجلمل ُة بكلامهتا التسع أعىل مناقب الكتابة‬
‫األمريكية‪ .‬كانت كلامت حمايدة غري متك ّلفة‪ ،‬موجزة جدً ا وسطحية كذلك؛‬
‫كانت اجلمل ُة وكأهنا تشكل خارطة مدينة كاملة بمحطات وقودها ومواقف‬
‫حافالهتا وحاناهتا‪ ،‬وممرات املشاة املليئة بقصاصات دوالرات قديمة‪،‬‬
‫وأعقاب السجائر‪ ،‬وآثار البصاق‪ :‬أشياء كنت أراها كل يوم يف منظومة حياة‬
‫كانت تتحدى األدب وتتوعده يف حال جتاوز خطوط «األدب» املرسومة‪.‬‬
‫لقد شكلت اجلملة كل التنوع واجلامليات للجامعة التي كنت فيها جند ًيا شبه‬
‫معارض‪ ،‬ولكنها جسدت دون شك انقاليب التام عىل الفرنسية التي ظننت‬
‫أين أعرف كل يشء عنها‪.‬‬
‫لقد كانت املسألة مهمة ألنني حني استوعبت أمر اإلنجليزية والفرنسية‬
‫كنت يف باريس‪ ،‬حيث كنت ملتح ًقا يف برنامج صيفي برعاية من الكلية التي‬
‫أدرس فيها‪ ،‬التي كانت بطبيعة احلال جادة وسباقة بشكل منقطع النظري يف‬
‫تساءلت ذات مرة يف باريس‪ :‬ما الذي‬
‫ُ‬ ‫دراسة ظاهرة الفكر النقدي الفرنيس‪.‬‬
‫أفعله هنا؟ كنت يف العام الذي سبق هذا الربنامج قد درست يف قسم اللغة‬
‫الفرنسية مادة عن السرييالية‪ ،‬املوضوع الذي اهتممت به عىل الدوام‪ .‬ولكن‬

‫‪ -1‬األمريكية يف هذه املقالة دوم ًا تعني اإلنجليزية األمريكية‪.‬‬


‫‪ -2‬الثالثة من أعالم كتاب قصص اجلريمة باللغة اإلنجليزية يف القرن العرشين‪ ،‬وكلهم من‬
‫الواليات املتحدة األمريكية‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫عرش دقائق من أول لقاء حتى كنت غائ ًبا عن عامله‬
‫يف باريس‪ ،‬ما إن مضت ُ‬
‫متا ًما‪ .‬كان املعلم باريس ًيا حديث االنتقال إىل املدينة؛ بدأ املعلم برسم خرائط‬
‫وابل من املراجع واملصادر واالقتباسات‪،‬‬‫ذهنية معقدة تشبه األلغاز‪ ،‬يرافقها ٌ‬
‫ومصطلحات يونانية األصل صعبة النطق والسامع‪ ،‬وبعض التالعب‬
‫باأللفاظ ‪-‬وهذا األخري يشء أحبه وأقدره‪ -‬لكنها مل تكن مضحكة تلك‬
‫املرة‪ ،‬بل كانت سمج ًة جدً ا‪ .‬كان الدرس يشبه مشهد جمموعة من األكاديميني‬
‫يرقصون عىل مرسح ملهى لييل لغرض توضيح موضوع معريف‪ .‬وبحكم‬
‫سخريتي املزمنة من الرياضيات‪ ،‬فإن تلك اخلرائط الذهنية تسببت يل باهللع‪،‬‬
‫الذي ازداد بسبب التقريرات العلمية‪ ،‬أو الدعاوى الزائفة‪ .‬مل أكن حينها قد‬
‫أساسا بالسرييالية؟‬
‫ً‬ ‫سمعت قط بالكان أو دريدا(((‪ ،‬ولكن ما عالقة ذلك‬
‫بدا يل األمر غري مرتابط أبدً ا‪ .‬بشكل أو آخر مضت تلك السنة‪ ،‬بعالمات مل‬
‫تكن مرضية وال خمزية‪ .‬أظنني التحقت بالربنامج الصيفي فقط ألقنع نفيس‬
‫بالسفر إىل باريس ألغراض تعليمية‪ .‬لكنها كانت مغامرة مدفوعة التكاليف‪.‬‬
‫جيا عجي ًبا‪ :‬فأستاذ مادة تاريخ اآلداب كان ً‬
‫رجل متثبتا‬ ‫كان الربنامج مز ً‬
‫من أقواله‪ .‬لكن الذي أتذكره جيدً ا كأنه أمامي اآلن هو املختص بالرواية‬
‫احلديثة؛ كان يقيض الوقت املخصص لدراسة قصة «مدام بافوري» يف حماولته‬
‫الخرتاع بعض التالعبات اللفظية عرب أسامء الشخصيات واملفردات الواردة‬
‫يف الرواية‪ ،‬كان يلوكها يف فهمه لتكون ما يريد‪ ،‬طائع ًة أو كارهة‪ .‬لكنني كنت‬
‫سئمت تلك املتعة اللغوية املزعومة؛ بل‬
‫ُ‬ ‫ضقت ذر ًعا باألالعيب اللفظية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫قد‬
‫وذهبت‬
‫ُ‬ ‫أخذت نفيس‬
‫ُ‬ ‫ً‬
‫وتفصيل‪.‬‬ ‫كنت حينها قد سئمت من الفرنسية مجلة‬

‫‪ -1‬جاك دريدا فيلسوف فرنيس‪ ،‬جزائري املولد‪ ،‬صاحب النظرية التفكيكية (تويف ‪٢٠٠٤‬م)‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫‪Rue‬‬ ‫(((‬
‫إىل غالينياين(((‪ :‬متجر الكتب اإلنجليزية العريق عىل شارع ريفويل‬
‫وابتعت بعض الكتب األمريكية‪ ،‬غالبها مؤلف من كلامت ذات‬ ‫ُ‬ ‫‪،de Rivoli‬‬
‫مقطع صويت واحد! لكني حني أرجع اآلن إىل أوراق مالحظايت حول تلك‬
‫العناوين والكتب‪ ،‬أجد أن اختيارايت كانت كلها مدفوعة بروح فرنسية‪،‬‬
‫كانت تلك الروح سيديت يف ذلك الوقت عىل وجه التحديد‪ .‬يف املقابل‬
‫اقرتاب الغريب األجنبي‪ ،‬وكان‬ ‫َ‬ ‫كان اقرتايب من رواية اجلريمة األمريكية‬
‫مدفو ًعا بمختارات ‪Noire((( Série‬؛ كان مدفو ًعا بتلك الفكرة عن األفالم‬
‫األمريكية التي كان يروج هلا النقاد يف جملة [كراسة ] ‪Ciné� Cahiers du‬‬
‫(((‪ma‬؛ وكذلك كان اقرتايب من رواية اجلريمة األمريكية مدفو ًعا بحامس‬
‫سارتر((( جتاه أعامل فوكنر((( التي وصفها بأهنا تشبه املنظر الذي يراه املرء عرب‬
‫ورغم عني‪ ،‬كنت دائم احلب لألناقة‬ ‫ً‬ ‫الزجاج اخللفي للسيارة أثناء مسريها‪.‬‬
‫شبعت هبا مظاهر الفكر الفرنسية‪ .‬كنت مفتونًا بنزعة اللغة الفرنسية‬ ‫ْ‬ ‫التي ُأ‬
‫تقديرا‬
‫ً‬ ‫نحو َل ْوي الكلامت والعبارات والقصص من كل مرشب ثم منحها‬
‫وإعجا ًبا كأهنا أعجوبة؛ كأهنا تلك اخلرقة امللطخة بالزيت حني توضع يف‬
‫مبتهجا وحمب ًطا من اآلداب الفرنسية‬
‫ً‬ ‫إطار مجيل وخلفية بيضاء‪ .‬لقد كنت‬

‫‪ -1‬غالينياين أو ‪ Librairie Galignani‬هي دار لبيع الكتب اإلنجليزية يف باريس‪ ،‬وهي شهرية‬
‫معلم سياح ًيا‪.‬‬
‫وتعد ً‬
‫‪ -2‬شارع ريفويل شارع بارييس شهري‪ ،‬وما زال السياح يزورونه لشهرته حتى يومنا هذا‪.‬‬
‫‪ Noire Série -3‬اسم مستعار لدار نرش فرنسية اعتنت بقصص اجلريمة وكان هلا جمموعة‬
‫خمتارة اشتهرت باسمها‪.‬‬
‫‪ -4‬جملة سينامئية فنية تعنى باألفالم تصدر باللغة الفرنسية‪ ،‬تأسست يف العام ‪١٩٢٨‬م‪.‬‬
‫‪ -5‬جان بول سارتر كاتب وأديب وفيلسوف فرنيس (تويف ‪١٩٨٠‬م)‪.‬‬
‫‪ -6‬ويليام فوكنر كاتب وشاعر أمريكي يعد من أهم األدباء يف القرن العرشين‪ ،‬نال جائزة نوبل يف‬
‫األدب يف العام ‪١٩٤٩‬م (تويف ‪١٩٦٢‬م)‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫بالقدر ذاته‪ .‬كان لدي إعجاب غري ناج ٍم عن القراءة بالرضورة‪ ،‬فقد كنت‬
‫وهم ذلك األثر‬
‫أرى أثر الفرنسية عىل كل عنوان‪ ،‬أو باألحرى كنت أرى َ‬
‫غامضا‪ .‬إن اإلعجاب بالفرنسية كان يطال‬ ‫ً‬ ‫وكأن شي ًئا ما بدا رفيع املستوى أو‬
‫حتى القرارات املطبعية الرصفة‪ :‬األحرف املتناثرة كأهنا مالحظات معلقة‬
‫عىل باب ثالجة‪ ،‬أو حتى القطعة النثرية اجلامدة دون عالمات ترقيم وال‬
‫فواصل لفقراهتا‪ ،‬التي استمرت حتى شكلت جملدً ا رقي ًقا‪.‬‬
‫فقدت تواصيل مع الفرنسية‬ ‫ُ‬ ‫حني عوديت من ذلك الربنامج البارييس‪،‬‬
‫جمد ًدا‪ .‬وكان انقطاع التواصل شاهدً ا جديدً ا عىل عالقة املد واجلزر مع‬
‫الفرنسية خالل مراحل حيايت؛ كانت كأهنا قمر يف مدار كوكب كبري جدً ا‪ .‬مل‬
‫تطأ قدمي بال ًدا فرنسية خلمس عرشة سنة؛ ثم توالت زيارايت سنو ًيا لعقد من‬
‫الزمان بحجة مجع مادة للبحث والكتابة‪ .‬أقمت بعض الصداقات خالل تلك‬
‫لدي عادات مرتبطة باملكان‪.‬‬ ‫الزيارات‪ ،‬وأصبح يل حار ٌة وجريان‪ ،‬ون ََم ْت ّ‬
‫فعلت ذلك ألستعيد طالقتي الفرنسية يف وقت قيايس‪ ،‬ولكنني اكتشفت‬
‫أن الفرنسية أصبحت فرنسيات كثر‪ .‬كانت لغة اإلعالم والدعايات واللغة‬
‫التي تنطق هبا أفواه غالب ساكني املدينة واملتغلغلني خالهلا خمتلفة جدً ا عن‬
‫إن هذه الفرنسية‬ ‫صغريا والتي قرأت هبا كذلك‪ّ .‬‬ ‫ً‬ ‫تلك اللغة التي تعلمتها‬
‫اجلديدة عبقرية‪ ،‬وهادئة‪ ،‬ومتفوقة ومتفاعلة مع التقنية احلديثة والسوق‬
‫العاملية وأغراض البحث واملال‪ .‬وكنت أعلم أن هلا ندًّ ا أمريك ًيا‪ ،‬والذي‬
‫كنت بدوري أجتنبه عن قصد بل كنت أسخر منه أحيانًا‪ .‬لكن هذا النوع‬
‫كلامتا إىل‬
‫ُ‬ ‫تسللت‬
‫ْ‬ ‫وكلم‬
‫ّ‬ ‫اجلديد من الفرنسية كان مثل صفعة بالنسبة يل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫فكرة ما‪،‬‬ ‫لساين حني أفتقر إىل اختيار لفظي خيدمني بشكل ودود ألعرب عن‬
‫لكأن األمر كله دجل وخداع؛ وكأنني أمسكت نفيس‬ ‫ّ‬ ‫يعرتيني شعور يسء‬
‫متلبسا بربطة عنق مصنوعة من الذهب‪ ،‬خائنًا لطبقة كنت أنتمي هلا يو ًما ما‪،‬‬ ‫ً‬

‫‪102‬‬
‫كأنني هجرهتا فجأة مهام يكن معنى اهلجر هنا‪ .‬حتى تلك الكلامت الرضورية‬
‫بدت كأهنا أكاذيب رغم احلاجة إليها؛ إهنا لغة‬
‫التي تنتمي هلذه اللغة اجلديدة ْ‬
‫قت َ‬
‫داخل معمل‪.‬‬ ‫‪-‬وبصورة بينة‪ -‬كانت قد خت ّل ْ‬
‫هذا وقد كنت قد انغمست إىل حد ما يف اللهجة العامية ‪la tongue‬‬
‫أمرا‬
‫‪[ verte‬اللسان األخرض كام يسميه عامة الفرنسيني]‪ .‬مل تكن اللهجات ً‬
‫كثريا يف منتصف العرشين من عمري حني‬ ‫تعرضت هلا ً‬
‫ُ‬ ‫عيل‪ ،‬فقد‬
‫جديدً ا ّ‬
‫تعاملت يف القارتني مع أوالد أرس أكاديمية متطرفة يف انتامئها الفرنيس؛‬
‫كانوا مولعني جدً ا بالـ ‪ verlan‬وهي هلجة تعتمد عىل التالعب الصويت يف‬
‫أساسها ثم استحالت بقدرة قادر إىل يشء رفيع وأنيق‪ ،‬كام كانوا يقضون‬
‫طويل وهم يتحدثون بلهجة نزالء السجن السوقية دون أدنى جهد‬ ‫ً‬ ‫وقتهم‬
‫أو حماولة منهم إلفهامي وإرشاكي يف ذلك احلديث؛ كنت أشعر باإلقصاء‬
‫املتعمد واخلروج زمنًا عن موضة الشباب التي ينتمون هلا‪ .‬لكن الرطانة‬
‫السوقية بعد عقد أو عقدين جتاوزت هؤالء الشباب لتتغلغل يف أحاديث كل‬
‫ترش ْبتها خالل قراءيت لقصص اجلريمة الصادرة يف‬
‫الناس ويف كل يوم؛ وقد ّ‬
‫اخلمسينيات والستينيات‪ .‬إن نزعة اللغة الشوارعية يف أمريكا كانت لغرض‬
‫خفي عن يشء حمدد يتعلق‬‫سد احلاجة عند عجز املفردات عن التعبري بشكل ّ‬
‫عادة بمجتمع اجلريمة‪ ،‬بل بعامل اجلنس واملخدرات بشكل خاص‪ .‬يف املقابل‬
‫كانت نشأة اللغة الشوارعية الفرنسية ‪-‬وإن كانت مرتبطة بمجتمع اجلريمة‬
‫كذلك‪ -‬مبنية عىل انعدام اهليبة وعىل كشف املستور‪ .‬إن اللغة الفرنسية‬
‫مواز يتعمد السخرية من الربوتوكوالت الرسمية‬ ‫ٍ‬ ‫الشوارعية عامل لفظي‬
‫ولغة األسياد‪ .‬وبخالف نظريهتا األمريكية فإن للشوارعية الفرنسية معجم‬
‫مفردات لكل الكلامت «العادية» مثل الباب‪ ،‬والطاولة‪ ،‬وكأس املاء‪ .‬بعض‬

‫‪103‬‬
‫هذه املفردات قديمة جدً ا‪ ،‬بل بائدة تنتمي إىل زمن فرانسيس فيلون((( أو‬
‫الروما [الغجر]؛ ومتتد رسقات‬ ‫هي أقدم؛ وبعض املفردات مو ّلد من لغة ّ‬
‫الشوارعية الفرنسية إىل اللغات األخرى‪ ،‬وذلك لتثبت اختالفها عن‬
‫الفرنسية الرسمية‪ ،‬تلك التي قدمت دو ًما تربعاهتا الكريمة مانحة اللغات‬
‫األخرى من مستودعها املعجمي الثري‪ .‬هذه اللغة لغة رمزية بامتياز‪ ،‬وهذا‬
‫هو شأن الشارع؛ كام أهنا ذات موسيقى محاسية ومتغطرسة‪ ،‬وإيقاع متقطع‪:‬‬
‫‪Quand le bruit se répand que la poule tape aux fafs dans un‬‬
‫‪coin, vous voyez les tapis se vider de tous les tricards‬‬

‫الصوت بأن‬
‫ُ‬ ‫هذه الكلامت قد تعني حرف ًيا شي ًئا مثل‪« :‬حني ينترش‬
‫الدجاجة ألجل الورقة يف الزاوية‪ ،‬سرتى حينها أن السجاد سيزيل عن نفسه‬
‫فعل هي‪ :‬حني ينترش خرب‬ ‫كل املحتالني»‪ .‬ولكن الرسالة التي تقوهلا الكلامت ً‬
‫تدقيق أفراد الرشطة عىل بطاقات اهلويات يف اجلوار‪ ،‬فإنه جيب عىل املفرج‬
‫بعض الرضا بعد استخدامي‬ ‫عنهم برشوط أن خيتفوا عىل الفور‪ .‬لقد بلغني ُ‬
‫هلذه العامية السوقية بالرغم من قلة هذا االستخدام يف األساس‪ .‬بدا يل األمر‬
‫وكأن اإلنجليزية األمريكية والفرنسية قد تزاوجتا وأنجبتا لسانًا جديدً ا مع‬
‫منافع اللغتني‪ ،‬دون التبجح املوجود يف كلتيهام‪.‬‬
‫لقد كانت اللغة الفرنسية لغة الدبلوماسية الدولية حينًا من الدهر‪ ،‬ولكنه‬
‫ول وانقىض‪ .‬هي اآلن بالكاد تكافح كي تظل مرتبطة ببعض مظاهر‬ ‫زمان ّ‬
‫الطغيان األنجلو‪-‬ساكسوين الفرنسية ً‬
‫قرسا‬ ‫(((‬ ‫ُ‬ ‫رب‬
‫الفنون اجلميلة‪ .‬لقد أج َ‬

‫‪ -1‬فرانسيس فيلون شاعر وكاتب فرنيس ولد يف باريس‪ ،‬تويف شا ًبا وربام كان يف استخدام اسمه‬
‫يف هذا السياق إملاحة إىل أن غالب مستخدمي اللغة العامية السوقية هم من جمتمعات الشباب‬
‫(تويف ‪١٤٣٦‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬األنجلو‪-‬ساكسونيون هم القبائل اجلرمانية التي هاجرت من شامل أوروبا واستوطنت‬

‫‪104‬‬
‫تسببت حال ُة التضاؤل‬
‫ْ‬ ‫عىل الرتاجع مرة تلو األخرى‪ ،‬ويف موقع تلو اآلخر‪.‬‬
‫هذه باستياء عىل صعيد األرياف والطبقات العليا من رجال املال والوجهاء‬
‫نادرا‬
‫يف فرنسا‪ .‬وآداب الفرنسية يف يومنا هذا ال ترتجم إىل اإلنجليزية إال ً‬
‫خبت بني جمتمعات‬ ‫ْ‬ ‫وبطريقة عشوائية‪ .‬ثم إن رومانسية الشعر الفرنيس قد‬
‫علم إن اآلداب الفرنسية نفسها تتحمل‬ ‫الشباب األمريكية وبشكل ملحوظ؛ ً‬
‫إثم هذا الواقع جزئ ًيا وذلك لدقة فروق عباراهتا ولغتها املعقدة والتي ال‬
‫يدركها ناطقو اإلنجليزية البسطاء‪ .‬إن للفرنسية طرافة غامضة حيث أعيش‬
‫يف الضواحي األمريكية‪ .‬إهنا لغتي األم التي ال أعتقد أنني سألتقي يو ًما ما‬
‫صغريا؛ لقد كانت أداة طبقي ًة وهذا‬
‫ً‬ ‫أحدً ا ينطقها بالطريقة ذاهتا التي تعلمتها‬
‫الواقع قد تغري متا ًما‪ ،‬كام أنني اآلن ال أملك أي ارتباط هبا‪ .‬أنا ال أستخدمها‬
‫ال عن استخدامها يوم ًيا؛ ولكنها ‪-‬وبالرغم من‬ ‫اليو َم بشكل أسبوعي فض ً‬
‫ذلك كله‪ -‬تصبغ كل قرار أختذه بطريقة عجيبة‪ ،‬فتعينني عىل جتاوز الوحشة‬
‫غالب أيامي دون‬‫َ‬ ‫أشعر هبا يف األرض التي تربيت فيها وقضيت عليها‬ ‫ُ‬ ‫التي‬
‫أن أنثر أوراق شعوري بالغربة أمام أحد‪ .‬إن الفرنسية هي ذايت املستورة؛‬
‫تلك التي مل تتكشف قط حتى لألصدقاء‪ .‬أشعر أحيانًا بأهنا كلها ملكي‬
‫وحدي دون سواي‪.‬‬

‫بريطانيا وتشكلت معهم نشأة اللغة اإلنجليزية وتشكلت امتداداهتم مدارس فكرية وثقافية وقوة‬
‫حضارية سياسية غالبة يف عاملنا املعارص‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫استهالل‬
‫توماس الكور‬
‫(((‬

‫يظهر أنني أمحل وال ًء خاصة للغة األملانية منذ طفولتي ومع بدايات‬
‫حماواليت أن أنطق بام تراه عيني‪ .‬حفزين والداي عىل تع ّلم الرتكية حني كنت‬
‫يف الثالثة لكي أمتكن من خماطبة الذين كنت ألعب معهم يف إسطنبول حيث‬
‫كان يقيم والداي اهلاربان من هتلر‪ ،‬لكني مل أكن أستجيب‪ .‬أظنني كنت‬
‫أقول يف نفيس‪ :‬فليتعلموا هم اللغة األملانية‪ .‬كانت الرتكية يف نظري ‪ist eine‬‬
‫‪ hässliche Sprache‬لغة قبيحة‪ .‬أصبحت مشاعري حول الكالم باألملانية‬
‫وحول هويتي األوروبية أقوى كلام أضعفت الظروف روابطي الواقعية‬
‫معها‪ ،‬مع أملانيا ومع أوروبا‪ ،‬والتي تقطعت متا ًما‪.‬‬
‫إن اللغة األملانية هي لغتي األم‪ .‬وهنا أعني ما يعنيه غالب الناس أي أهنا‬
‫لغتي األوىل‪ ،‬لكنني كذلك أقصد أهنا اللغة التي كنت أختاطب هبا مع أمي‬

‫‪ -1‬توماس الكور (‪ )Thomas Laqueur‬كاتب ومؤرخ أمريكي‪ ،‬وأستاذ التاريخ ودراسات‬


‫العالقات اجلنسية يف جامعة كاليفورنيا بريكيل‪ .‬حاصل عىل العديد من اجلوائز واألوسمة‬
‫األكاديمية‪ .‬حصل عىل الدكتوراه من جامعة برينستون يف العام (‪١٩٧٣‬م)‪ .‬ألف العديد من‬
‫ُ‬
‫«عمل األموات» الذي نرشته جامعة‬ ‫الكتب يف جمال ختصصه منها عن التاريخ اإلنساين كتاب‬
‫برينستون عام (‪٢٠١٥‬م)‪ ،‬وهو كتاب يناقش أثر ما أنجزه األسالف عىل املجتمعات يف الزمن‬
‫املعارص‪ .‬كاتب دائم يف املجلة األدبية (‪ )The London Review of Books‬وكذلك يف‬
‫(‪.)Times Literary Supplement‬‬

‫‪106‬‬
‫وجديت وبعض النساء من صديقاهتن‪ .‬مل يكن ثمة ختاطب يف عاملي حينها مع‬
‫الرجال وال منهم‪ .‬فكانت األملانية بالنسبة يل لغة أجد هبا ذايت‪ ،‬وأرسيت‪ ،‬كام‬
‫حارض أحيانًا ومنيس أحيانًا أخرى؛ عامل‬
‫ٌ‬ ‫كانت لغة لعامل حقيقي لكنه مفقود‪،‬‬
‫يسك ُن بشكل كامل يف خميلتي‪ ،‬لكنه السبيل الوحيد الذي أبكي به فراق أيب‬
‫وأمي وأحباهبام‪.‬‬
‫مل أتكلم إال األملانية حتى غادرنا تركيا يف نوفمرب من العام ‪1949‬م‪.‬‬
‫كام كانت وقفتنا الرسيعة يف لندن بصحبة بعض األقارب كلها باألملانية‪،‬‬
‫وكذلك كانت األسابيع القليلة األوىل يف نيويورك‪ .‬سك َن خايل أوتو وزوجته‬
‫يف ماهناتن يف حي لليهود األملان‪ .‬بعد استقرارنا يف غرب فرجيينيا كانت أمي‬
‫تزور عائلة خايل بني احلني واآلخر‪ ،‬ويف كل مرة كانت تتذمر حول واقعهم‬
‫املنعزل‪ .‬أستطيع فهم ما عنته‪ .‬مل أر يف املقابل أرسة تقطعت هبم أوارص لغتهم‬
‫األم مثل حال أرسيت يف القرى والبلدات الصغرية التي نشأت هبا‪ .‬يف الواقع‬
‫والدي كانا يدركان أهنام يعيشان يف حالة من الشتات (‪)diaspora‬‬
‫ّ‬ ‫ال أظن أن‬
‫ألنه ما من أحد ٍ‬
‫متاح يتذمرون عنده باألملانية‪ ،‬أو يعربون لديه عن أساهم‬
‫وفقدهم‪.‬‬
‫بعد وصولنا لنيويورك انتقلنا للعيش لبضعة أشهر عند عمتي قري ًبا‬
‫تعمل متعهدة بإقامة الطالب األجانب حينها‪.‬‬ ‫من جامعة تكساس‪ .‬كانت ُ‬
‫انتقلت عمتي هذه وزوجها من أملانيا إىل يوغوسالفيا حني وصل هتلر إىل‬
‫السلطة‪ ،‬وعندما هاجم هتلر بلغراد((( استطاعا أن يشقا طريقهام جنو ًبا‬
‫حتى بلغا ألبانيا عىل أمل أن يقعا يف أرس اإليطاليني الرمحاء ال األملان القتلة‪.‬‬
‫نجحت خطتهام وأقاما داخل معسكر فرتة احلرب حتى العام ‪1942‬م ثم‬
‫أطلق الفيلق الربيطاين الثامن رساحهام‪ ،‬وانضام إليه بصفتهام مرتمجني واجتها‬

‫‪ -1‬عاصمة يوغوسالفيا االشرتاكية وعاصة رصبيا يف الزمن احلارض‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫بمعيته ً‬
‫شامل‪ .‬إىل أن انتهى هبام املطاف يف تكساس طل ًبا للرزق‪ ،‬حينها كانا‬
‫قد اكتسبا بعض اإليطالية واليوغوسالفية وبعض اإلنجليزية العامية‪ ،‬ومها‬
‫أساسا يتقنان الفرنسية والالتينية بمستوى عال جدً ا‪ .‬وكان لقائي هبام أول‬
‫ً‬
‫تواصل ‪-‬كتبت له النجاة واالستمرار‪ -‬يل مع اإلنجليزية‪.‬‬
‫أتذكر أنني مل أكن سعيدً ا بسبب تعلمي للغة ثانية يف أوستن(((‪ .‬أتذكر‬
‫والدي ومها ينسبان يل أقواالً ُي ُ‬
‫قال إهنا كانت كلاميت األوىل باللغة اجلديدة(((‪:‬‬
‫«‪ ،»me no eat fruit‬مل أصدقهام يف احلقيقة ألنني ال أتذكر أنني مل أحب‬
‫الفاكهة ذات يوم‪ .‬لكنني ال أستطيع إنكار ذلك ألن عادات العائلة ال تسمح‬
‫والدي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫بتكذيب‬
‫وبعد مرحلة مزدمحة من احلياة انتقلنا أنا وأمي وجديت أليب وأخي‬
‫األصغر‪ ،‬والتحقنا بأيب يف غرب فرجينيا حيث استقرت أموره مع عمله‬
‫كأخصائي خمتربات يف مستشفى خاص بني حقول الفحم‪ .‬كان صديق‬
‫أيضا أخصائي ًا للمختربات عرب وكالة‬ ‫لعائلتنا من إسطنبول قد عمل هناك ً‬
‫إغاثة هيودية‪ .‬ال أذكر أنني كلمت أحدً ا باإلنجليزية يف ذلك املكان ألشهر‪،‬‬
‫وإنجليزية أمي كانت سيئة لذا مل نتمكن من لقاء أحد من اجلريان‪ .‬لكن‬
‫اخلالة بيبا وزوجها اخلال بيرت ‪-‬أصدقاءنا من إسطنبول‪ -‬كانا يسكنان عىل‬
‫بعد ثالثني مي ً‬
‫ال تقري ًبا‪ ،‬وعند لقائهام فإننا مجيعا نتكلم األملانية‪ .‬ثم انتقلنا إىل‬
‫بلوفيلد «املدينة املك ّيفة» حني جييء الفحم من اجلنوب الغريب لفرجينيا‪ ،‬من‬
‫حقول الفحم القاري‪ ،‬إىل نورفوك حيث تقع أكرب ساحة توزيع حلموالت‬
‫قطار الغرب‪ .‬هناك بدأت رحلتي اجلادة لتعلم اإلنجليزية‪ .‬مل أختذ حينها‬
‫موق ًفا عدوان ًيا من اللغة‪ ،‬لكن لكنتي األملانية كانت دو ًما مدعاة للسخرية‪،‬‬

‫‪ -1‬مدينة أوستن هي عاصمة والية تكساس األمريكية‪.‬‬


‫‪ -2‬الكلامت يف اجلملة اإلنجليزية غري مرتبة قواعد ًيا وإن كانت واضحة الداللة‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫واستمرت لسنوات بعد ذلك‪ .‬وخال ًفا حلال أخي األصغر‪ ،‬الذي يصغرين‬
‫بثالث سنوات‪ ،‬مل أمتكن من إتقان اللكنة املحلية أبدً ا؛ وحتى اليوم ما زلت‬
‫أبدو أجنب ًيا يف بعض مظاهر النطق‪.‬‬
‫أدركت يف بلوفيلد أن األملانية كانت لغة يتكلمها عدد كبري من الناس‪،‬‬
‫إىل جانب أيب وأمي وبعض أصدقائهام‪ .‬مل أعلم أهنا كذلك‪ ،‬كنت أخاهلا‬
‫رموزا تواصلية خاصة بأرسيت‪ .‬كان هذا االكتشاف الثوري كالتايل‪ :‬كنت‬ ‫ً‬
‫كثريا عن‬
‫وأخي نتشاجر بالكالم باللغة األملانية أمام البقال الذي ال يبعد ً‬
‫منزلنا؛ كان عمر أخي يومها ثالث سنوات وعمري ست سنوات‪ .‬كانت‬
‫القضية بيننا تدور حول عدد احللوى التي سأشاركه إياها‪ .‬عندها جاءت‬
‫سيدة وقالت لنا باألملانية‪ :‬سأعطي كل واحد منكام ً‬
‫مال ليكون له نصيبه‬
‫اخلاص من احللوى‪ .‬ال أتذكر إن كنا قد اشرتينا فع ً‬
‫ال احللوى أم ال‪ ،‬لكني‬
‫أذكر جيدً ا محاستي الكتشاف أن هناك من ينتمي لفصيلتنا اللغوية‪ .‬كنت‬
‫أركض ناحية البيت برسعة ألبلغهم باألخبار العظيمة‪.‬‬
‫كانت املرأة تدعى فرو بريسلر‪ .‬سألتنا عن مكان بيتنا فأخربهتا‪ ،‬ثم زارتنا‪.‬‬
‫كانت فرو متزوجة من هري بريسلر‪ ،‬والذي كان يعاين من مرض جلدي يف‬
‫يديه مما جيعلهام محراوين‪ .‬كان يعمل يف إصالح األجهزة الكهربائية البسيطة‪.‬‬
‫كانا فقريين؛ وقد كانت فرو من اجلنوب األملاين‪ ،‬من الكاثوليك‪ .‬وأصبحت‬
‫فيام بعد صديقة أمي املقربة‪ ،‬والزائرة الدائمة ملنزلنا؛ كام كانت ترعانا حني‬
‫يغيب والداي ألي ظرف ألكثر من ليلة‪.‬‬
‫كانت هناك ناطقة ثالثة باألملانية يف بلوفيلد‪ ،‬فرو سنيلنغ‪ ،‬والتي تزوجت‬
‫كثريا؛‬
‫بعد احلرب من سكّري من غرب فرجينيا‪ .‬كنت أصحب فرو األخرية ً‬
‫مل أكن أحاول جعل األملانية لغة عامة حليايت‪ ،‬لكن حماولتي أن أكون صب ًيا‬
‫أملان ًيا صاحلًا قد فشلت‪ .‬كانت الصدمة حني جاءت أم فرو من أملانيا للزيارة‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫تذكرت أن أخاطبها باألسلوب الرسمي قائال ‪ ،Sie‬وهو‬‫ُ‬ ‫التقيت هبا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وعندما‬
‫األمر الذي قيل يل أن أفعله‪ .‬ولكني نسيت يف املقابل أن أنحني‪Mach eine« .‬‬
‫ِ‬
‫«انحن»‪ .‬مل‬ ‫‪ ،»Verbeugung‬هذا ما قالته أمي غري راضية أبدً ا عىل هفويت‪:‬‬
‫واضحا عىل وجهها أهنا مل حتبذ ترصيف غري‬
‫ً‬ ‫تنطق أم فرو بأي يشء لكنه بدا‬
‫املهذب‪.‬‬
‫اآلن ‪ ..‬أصبح هناك جمموعة من الغرباء يتكلمون األملانية يف عاملي‪.‬‬
‫كنت أدرك أهنم غرباء ألنني كنت أنادهيم بأسامئهم مثل فرو وهري‪ ،‬وليس‬
‫باخلال واخلالة‪ ،‬وهو أمر كنت أفعله مع غالب من أعرف ممن يتكلم‬
‫األملانية من البالغني‪ .‬كنت أدعو أصدقاء األرسة البالغني من األمريكيني‬
‫واضحا‪ .‬إيدي وجيني وهيزل‬ ‫ً‬ ‫بأسامئهم كذلك‪ ،‬وهذا كان تفري ًقا لغو ًيا‬
‫كانوا مجي ًعا ببساطة ينتمون إىل عامل آخر متا ًما؛ عامل له أعرافه وقوانينه‬
‫التي تناسبه‪ .‬مل أستطع أن أنادي البالغني من األملان بأسامئهم حتى بلغت‬
‫عندئذ‪ .‬حدثت الكارثة عند حصويل‬ ‫ٍ‬ ‫سهل حتى‬ ‫العرشين‪ ،‬ومل يكن األمر ً‬
‫عىل عمل يف بريكيل((( وكنت مشاركًا يف جلنة مع اثنني من الزمالء األكرب‬
‫متعلم إىل حد اإلرساف‪ ،‬وكان عىل‬‫ٌ‬ ‫سنًا‪ :‬بول ألكساندر(((‪ ،‬وهو رجل وقور‬
‫عالقة أرسية بعيدة بنا (صديق خاص ومقرب من قريب لنا باملصاهرة)؛‬
‫ونيكوالس رايسانوفيسكي(((‪ ،‬املؤرخ الرويس الشهري‪ .‬كانت وظيفة اللجنة‬
‫أن تقرر رصف أموال لدعم مشاريع بحثية لطالب الدراسات العليا‪ .‬مل أكن‬
‫أستطع نداء ألكساندر بـ «اخلال بول»‪ ،‬وهو أمر كنت قد فعلته لعدة مرات‬

‫‪ -1‬عندما يطلق اسم بريكيل (إحدى مدن املنطقة املجاورة لسان فرانسيسكو) فإن املقصود هو فرع‬
‫جامعة كاليفورنيا فيه وهي جامعة عريقة‪.‬‬
‫‪ -2‬أستاذ التاريخ واألدب املقارن يف جامعة كاليفورنيا‪ ،‬بريكيل (تويف ‪١٩٧٧‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬أستاذ التاريخ الرويس‪ ،‬وتاريخ الفكر األورويب يف جامعة كاليفورنيا‪ ،‬بريكيل (تويف ‪٢٠١١‬م)‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫مع «اخلال نكوالس»‪ ،‬ومل يكن يف األمر غرابة أبدً ا‪ .‬كام كان من الصعب‬
‫أن ينادي الزميل زميله بدرجته العلمية «بروفيسور»‪ ،‬لذا فاألمر انتهى إىل‬
‫نكوالس وبول‪ ،‬لكنه تطلب صمتًا ذهن ًيا قبل كل نداء‪ .‬وما زالت هذه‬
‫احلواجز غري املحسوسة تؤرقني‪.‬‬
‫كان لقاعدة األسامء هذه بعض االستثناءات‪ .‬وكنا مجي ًعا ندعو صديقتني‬
‫مقربتني ألمي من أيام إسطنبول بأسامء الشهرة التي كان الكبار ينادوهنام هبا‪:‬‬
‫ديكه أو دي ديكه ‪ die Dicke‬أي البدينة‪ ،‬والتي أظنها كانت بدينة ذات‬
‫يوم؛ أما األخرى فكانت ‪ Schweinchen‬أي اخلنزيرة الصغرية‪ ،‬وأظنه كان‬
‫حماكاة ساخرة السمها احلقيقي ‪ .Schwerine‬كانت اخلنزيرة الصغرية أحيانًا‬
‫دائم ديكه‪.‬‬
‫«اخلالة بوال» لكن ديكه ظلت ً‬
‫شكّلت األملانية عا ًملا تربطني به معرفة محيمية وإن كنت ال أعرفه عىل‬
‫اإلطالق! إن إدراكي للعامل والناس خارج حميط أرسيت كان ضباب ًيا‪ ،‬مل أكن‬
‫أفهم كيف هلؤالء الناس أن يعيشوا ويعملوا مستعملني لغتنا «اخلاصة»‪.‬‬
‫ثم وبالرغم من ملكتي األملانية املمتازة إال إنني كنت أعاين يف حال احلاجة‬
‫عيل‪ .‬كان األمر‬ ‫للتفريق بني اخلاص والعام‪ .‬مل تكن مسألة األلقاب يسرية ّ‬
‫يسري بالعادة‪ ،‬وبالرغم من ذلك فإنني كنت أحتاج أن أمترن‬ ‫ُ‬ ‫داخل أرسيت‬
‫وأن أتنبه للظرف الرسمي‪ .‬كان زوج ديكه من الطبقة العالية‪ ،‬وهذا حكم ال‬
‫نجحت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أساسا له‪ ،‬لكنهم نبهوين أن أحسن الترصف يف حرضته؛ وقد‬
‫أعلم ً‬
‫ولكن وقعت بعض اهلنّات البسيطة‪ ،‬املحرجة‪.‬‬
‫يف الثانية عرشة سافرت أنا وأهيل إىل بوسطن‪ ،‬وزرنا حمل اجلزار هري‬
‫لوالدي وإن كان بعيدً ا‬
‫ّ‬ ‫ثايسون‪ ،‬الذي كان مصدر متويل الطعام األملاين‬
‫عنا‪ .‬كان يوفر اللحوم كل فرتة إىل بلوفيلد‪ ،‬مغلفة ومربدة بواسطة الثلج‪،‬‬
‫ويوصلها عرب حافالت النقل اجلامعي‪kaiserjagdwurst, leberwurst, :‬‬

‫‪111‬‬
‫‪ blutwurst‬وغريها من أنواع الـ ‪ wursts‬السجق التي أستطيع نطقها لكني‬
‫ال أستطيع كتابة حروفها مطل ًقا‪ .‬يف ذلك املتجر كان التعريف بالنفس عادة‬
‫دائم ما أستخدم الـ ‪ du‬خمط ًئا هبا ً‬
‫بدل عن الـ ‪ ،sie‬ومل يكن‬ ‫دارجة‪ ،‬وكنت ً‬
‫كثريا؛ أحيانا كانت تتنمى أن‬
‫كثريا‪ ،‬كام كان حيرج أمي ً‬‫ذلك يعجب اجلزار ً‬
‫تبتلعها األرض(((‪.‬‬
‫وتستمر مشكلة األملانية يف اختيار ارتفاع الصوت ونربته واملسافة بني‬
‫املتكلم واملخاطب‪ .‬وتبني يل أنني أعاين دائم بأن أكون واقعا وال بد يف ٍ‬
‫غلط‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫ما‪ .‬كانت «مامي» زوجة عامل خمتربات هنغاري كنا نزورهم بني احلني‬
‫كنت ‪ feldwebel‬أي الرقيب (الرتبة‬ ‫واحلني‪ ،‬تقول يل إنني أتكلم كأنني ُ‬
‫العسكرية)‪ ،‬وهي الكلمة التي ال أعرف معناها‪ ،‬ألهنا مل تكن جز ًءا من‬
‫خطابنا األرسي‪ ،‬ومل ألعبها مع أحد من األطفال باألملانية‪ .‬ومما ال شك فيه‬
‫أن هذا التعليق مل يكن تعلي ًقا إجياب ًيا‪ .‬وحني كنت ألتقي باألساتذة املهاجرين‬
‫يف اجلامعة من الغرباء الناطقني باألملانية‪ ،‬كنت دائم االضطراب وبعيدً ا عن‬
‫القدر الصحيح من املساحة املسموح هبا‪.‬‬
‫إن أملانيتي وأملانية أرسيت لغة مبتورة بشكل كامل عن أملانيا وعن كل‬
‫ما جرى يف أملانيا منذ الثالثينيات‪ .‬وكان االستثناء الوحيد هو حضورنا‬
‫ملرسحية أملانية يف نيويورك‪ .‬كل الذين يتكلمون األملانية يف عاملي هم أناس‬
‫جيا عجي ًبا‬
‫ال يربطهم بمنابع األملانية أي رابط لعقود من الزمان‪ .‬كانوا مز ً‬
‫من املهاجرين؛ بعضهم ناطق أصيل لألملانية‪ ،‬وبعضهم من ثقافة عاشت يف‬
‫ظالل األملانية‪ .‬حني انتقلنا للسكن يف بيكييل يف العام ‪1956‬م‪ ،‬كان فيها‬
‫زوجان فقط يتكلامن األملانية‪ :‬ومها أوكرانيان من األرثوذوكس‪ .‬كان الرجل‬

‫‪ -1‬يف األملانية هناك أداتان لنداء املخاطب وحيدد االختيار مستوى الرسمية بني طريف احلديث‪:‬‬
‫‪ du‬لغري الرسمية و ‪ sie‬للرسمية‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫قد تلقى تعليمه يف كلية الطب يف أملانيا؛ وزوجته تتكلم األملانية بلكنة روسية‬
‫ثقيلة‪ :‬وهي امرأة حساسة مفعمة بالعاطفة والرومانسية‪ .‬أما يف الصيف‬
‫فكان بعض األقارب يزوروننا يف كوخنا قرب البحرية يف غرب فرجينيا‪.‬‬
‫كام كان هناك رفيقات أمي من إسطنبول وبعض صديقات شباهبا من أملانيا‪،‬‬
‫وقبل ذلك كانت هنالك قريبة جديت التي تتكلم األملانية مع نكهة بولندية‪.‬‬
‫ويف اجلوار كان يقطن بعض اهلنغاريني‪ ،‬وممرضة نمساوية كانت عىل عالقة‬
‫خمبزا يف‬
‫بزميل أليب وكانت تزوره دو ًما‪ .‬وماكس وزوجته‪ ،‬اللذان يملكان ً‬
‫وشم من‬‫ٌ‬ ‫بلدة بوالسكي يف فرجينيا بالقرب من بحريتنا‪ ،‬وكان عىل كليهام‬
‫(‪ )(((Auschwitz‬أوشفتز؛ مل يكن من الواضح دافعهام للكالم باألملانية‬
‫مع أمي‪ ،‬واحلقيقة أنه مل يكن موضع تساؤل يل آنذاك‪ .‬لكنهام كانا يتكلامن‬
‫باليدشية مع خايل أوتو عند زياراته لنا‪ .‬كان عا ًَلا لغو ًيا بالغ الغرابة‪.‬‬
‫أسهب يف ذكريات الطفولة ألن اللغة األملانية يل هي لغة الذاكرة ولغة‬
‫النسيان؛ هي استهالل لغوي‪ .‬إن األملانية قبل كل يشء هي رابطي بذايت‬
‫قبل بلوغي النزعات اجلسدية‪ .‬فأنا ال أعرف معنى الشهوة باألملانية؛ وال‬
‫أعرف أي كلامت عامية تعرب عن عامل العالقة مع اجلنس اآلخر‪ ،‬بل وال أي‬
‫كلامت عامية من لغة الشارع حقيق ًة‪ .‬أنا ال أعرف كيف تبدو الرغبة اجلسدية‬
‫باألملانية‪ .‬إن فكرة التأثري اللغوي الكبري عىل املراهق بسبب حاجاته اجلسدية‬
‫وعالقته هبذه احلاجات لغو ًيا مع أبناء جيله هي أمر مفقود لدي متا ًما‬
‫ٍ‬
‫كقطعة من الكهرمان‪ ،‬ليس‬ ‫باألملانية‪ .‬فاألملانية عندي لغة بريئة‪ ،‬متجمدة‬
‫يف عالقتها التارخيية بام قبل احلرب‪ ،‬بل كذلك بطفولتي‪ .‬إهنا لغة عوجلت‬
‫مشاعرها سلفا‪.‬‬
‫واألملانية كذلك لغة حتمل فيها الكلامت دالالت مشاهد حمددة‪ .‬فكلمة‬

‫‪ -1‬من املعسكرات التي كان اليهود حيبسون فيها ويعذبون ويستعبدون يف فرتة احلكم النازي‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫بذور الكمون ‪- kümmel‬عىل سبيل املثال‪ -‬صفة لنوع من اخلبز يؤكل مع‬
‫اللحم البقري اململح والكبد املقطعة‪ ،‬لكنها بالنسبة يل تصف رج ً‬
‫ال كان‬
‫فقريا جيلس أمام‬
‫رجل ً‬ ‫يصيبني بالرعب يف صغري؛ ‪ً der kümmel mann‬‬
‫العامرة التي نسكن يسأل املارة املال‪ ،‬وكان يف وجهه آثار من اجلدري‪ .‬إن‬
‫مقدار ما حصل يل يف حيايت باألملانية ال يأذن لدالالت الكلامت العامة كام‬
‫يستخدمها الناس أن تعني اليشء ذاته بالنسبة يل‪.‬‬
‫تبني أن كل الكلامت قوية الداللة كانت قد جاءتني من أمي‪ ،‬بينام جاءت‬
‫دائم ما أربط كلمة ‪Snaft‬‬
‫التعبريات والرمزيات من أيب‪ .‬وكنت يف ذهني ً‬
‫التي تعني لطيف أو رقيق بأمي‪ ،‬بالرغم من أن املقولة التي حترض يف ذهني‬
‫مبارشة عند ذكرها ليس هلا عالقة بأمي‪ .‬هتمس الكلمة يف مسمعي وعقيل بـ‬
‫«أنشودة الفرح» لشيلر(((‪.‬‬
‫‪Wo dein sanfter Flügel weilt .‬‬

‫جناحك اللطيف ‪ »..‬تأخذين هذه الكلمة ليوم مولدي من‬ ‫َ‬ ‫يرتاح‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫«حيث‬
‫كل عام‪ ،‬يف السادس من سبتمرب؛ يف املساء من ذلك اليوم ‪-‬منذ بدأت أتذكر‬
‫جالسا مع أيب عىل األريكة‪ ،‬أتعلق‬
‫ً‬ ‫األشياء حتى بلغت العارشة تقري ًبا‪ -‬أكون‬
‫بذراعه بلطف ونحن نستمع لسيمفونية بيتهوفن التاسعة(((‪ .‬يف أول سنواتنا‬
‫يف فرجينيا كنا نستمع هلا بتسجيل عزف فورتوانغلر(((‪ ،‬ثم جددنا اإلصدار‬

‫‪ -1‬فريدريك شيلر شاعر وكاتب مرسحي ومؤرخ أملاين (تويف ‪١٨٠٥‬م)‪.‬‬


‫‪ -2‬السيمفونية التاسعة لبيتهوفن املوسيقار العلم األملاين (تويف ‪١٨٢٧‬م) وتعد آخر سمفونياته‬
‫وختام تأليفه املوسيقي‪.‬‬
‫‪ -3‬ويلهلم (فلهلم) فورتوانغلر موسيقي أملاين يعد من أشهر موسيقيي األوبرا يف القرن العرشين‬
‫(تويف ‪١٩٤٥‬م)‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫طويال‪ ،‬وعز ًفا معجزا‪ ،‬يرافقه إيقاع‬
‫ً‬ ‫مع توسكانيني(((‪ ،‬الذي كان إصدار ًا‬
‫جامح‪ ،‬يبدو أرسع من إصدار فورتوانغلر‪ ،‬اإلصدار األملاين‪ .‬لكن طقوس‬
‫مساء يوم ميالدي مل تتغري حني تغري عازف املقطوعة‪ .‬أنوار خافتة‪ ،‬ال يقطع‬
‫االستامع للسمفونية التاسعة ‪ die Neunte‬فيها كال ٌم من أي فرد من أفراد‬
‫العائلة؛ كنت أنا وأيب وحدنا‪ .‬كنت أتساءل أحيانًا كيف استطاع األملان من‬
‫والدي أن‬
‫ّ‬ ‫جيل ما قبل مشغالت أسطوانات املوسيقى الرخيصة أي جيل‬
‫يتعلموا احرتام وتقدير «التاسعة» التي تعني بيتهوفن نفسه دون زيادة يف‬
‫رب عىل أداة التعريف ‪ die‬ثم يرققون‬ ‫والدي يشددون الن َ‬
‫ّ‬ ‫الكالم‪ .‬كان جيل‬
‫نطق االسم ‪ Neunte‬ولكن هذا ال يكون إال مع بيتهوفن؛ فهم ال ينطقوهنا‬
‫هكذا مع السيمفونية التاسعة لشوبرت((( أو السيمفونية التاسعة ملالر(((‪.‬‬
‫لكني ال أعلم إن كان أبناء جييل سينطقون الكلامت بالطريقة ذاهتا التي كان‬
‫ينطقها جيل أيب وأمي؛ أو أن جييل سيتعلم كيف يشعر بام أشعر به عند سامع‬
‫الكلامت‪ .‬وكام هو حال غالب األملانية معي‪ ،‬فإنني أعرف هاتني الكلمتني‬
‫أملاين إال من عائلتي‪.‬‬
‫بعزلة تامة عن كل ما هو ّ‬
‫إن كلمة ‪ Geboren‬وهي صفة تعني مولود تنتمي ألمي‪ ،‬فهي ‪-‬وال‬
‫أحد سواها يف حياهتا أو بعد وفاهتا‪ -‬من كانت تناديني بعبارهتا العفوية‬
‫املتكررة يف كل ذكرى ليوم مولدي‪mein einziger Erstgeborener :‬؛‬
‫يا مولودي البكر الوحيد‪ .‬أما الالحقة الرصفية ‪ lein‬والتي تضاف لالسم‬
‫أيضا‪ْ .‬‬
‫وإن كان أيب يناديني أحيانًا بـ‬ ‫كأداة للتصغري‪ ،‬فهي تنتمي ألمي ً‬

‫‪ -1‬أرتورو توسكانيني موسيقي إيطايل كان من أشهر موسيقيي هناية القرن التاسع عرش وبداية‬
‫العرشين (تويف ‪١٩٥١‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬فرانز شوبرت موسقار نمساوي أ ّلف ألف مقطوعة موسيقية رغم رحيله شا ًبا (تويف ‪١٨٢٨‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬غوستاف مالر موسيقار وقائد أوكسرتا نمساوي (تويف ‪١٩١١‬م)‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫‪ Thomaslein‬لكن أمي كانت تفعل ذلك دائام‪ .‬تومي ‪-‬كام كنت أدعى يف‬
‫اسم باهتًا! توماس‪-‬لني‬ ‫اسم سخي ًفا؛ وتوم كان ً‬‫دائم ً‬
‫غرب فرجينيا‪ -‬كان ً‬
‫حلوا جدا‪ .‬األمر املحزن ‪ trauring‬كانت كذلك من كلامت أمي‪ ،‬وإن‬ ‫كان ً‬
‫كانت يف الواقع أسعد من أيب بكثري‪ .‬كانت أمي تعجز أن َتُدَّ ن َف َسها يف الغناء‬
‫وإن كانت حتبه؛ كانت حتب أن تغني أغنية اسمها ‪ ،die Lorelei‬بمعنى‬
‫«اإلغواء»‪ ،‬من كلامت شاعرها املفضل هاينريش هاينه(((‪ .‬ما زلت أحتفظ‬
‫غالب أيام حياهتا‬
‫َ‬ ‫بنسختها من أعامله الشعرية الكاملة‪ ،‬والتي كانت تقرأ منها‬
‫عىل طاولتها الليلية‪.‬‬
‫‪Ich weiß nicht, was soll es bedeuten‬‬

‫‪Daß ich so traurig bin‬‬

‫‪Ein Märchen aus uralten Zeiten‬‬

‫‪Das kommt mir nicht aus dem Sinn‬‬

‫مفعم باحلزن؛ وال أستطيع أن أخرج من‬


‫«أنا ال أعرف ماذا يعني أن أكون ً‬
‫رأيس حكاية عن غالب األزمنة الغابرة»‪ .‬هكذا هو إحسايس عن األملانية‪،‬‬
‫حكاية كاألساطري‪ ،‬مبنية عىل اخليال واإلسقاطات‪ ،‬والذاكرة التي ال أستطيع‬
‫حموها‪ ،‬والتي جتعلني ِ‬
‫تع ًسا بدورها‪.‬‬
‫يف إطار األرسة كنا نتكلم باألملانية عىل املائدة إىل أن التحقت باجلامعة‪،‬‬
‫والسبب الذي كان يدفعنا إىل الكالم باألملانية هو أن جديت كانت تزعم أهنا ال‬
‫زعم صاد ًقا حيث كانت‬‫تفهم اإلنجليزية وال تتكلمها‪ .‬وهذا مل يكن بالطبع ً‬
‫جديت تقرأ الصحف اإلنجليزية وتتابع الربامج التلفزيونية باإلنجليزية؛ لكن‬

‫‪ -4‬هاينرش هاينه شاعر رومانيس وناقد أملاين‪ ،‬اشتهر بكتابه القصيدة عىل نمط األغنية وقد حلن‬
‫بعض قصائده وغنيت (تويف ‪١٨٥٦‬م)‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫دعوى اجلهل هذه ساعدت جديت بالتامدي يف خياالهتا الالدنيوية والتي كانت‬
‫تنميها طيلة حياهتا بعيدً ا عن العامل اخلارجي املحيط‪ .‬مل تكن خترج بعيدً ا عن‬
‫األرسة طيلة سنواهتا يف أمريكا‪ :‬أي عىل مدى ثالث وعرشين سنة‪ .‬ولدت‬
‫جديت يف العام ‪1873‬م‪ ،‬وكانت البنت الصغرى بني ستة أطفال‪ .‬التحقت‬
‫باملدرسة لفرتة كافية لتعلم الفرنسية بشكل جيد؛ وكانت تعزف البيانو‬
‫بإتقان؛ عاشت حياهتا هي وجدي ألجل املوسيقى‪ ،‬التي كانا يعزفاهنا سو ًيا‪.‬‬
‫وقد تعلام موسيقى برامز((( يف فرتة مبكرة من حياهتام‪ ،‬كام تعلام أعاملً ألعالم‬
‫تعرفت عىل تارخيهام املوسيقي من‬ ‫ُ‬ ‫املوسيقى األملان يف القرن التاسع عرش‪.‬‬
‫دفرت مذكراهتام اليومية اخلاص بحفالت املوسيقى‪ ،‬الذي ورثته عن أيب عند‬
‫وفاته‪ .‬كانت جديت حرفية ماهرة تستطيع القيام بكل أعامل اخلياطة والتطريز؛‬
‫لكنها يف املقابل مل تكن قادرة ‪-‬أو مل تفعل رغبة منها‪ -‬عىل أن تطهو بيضة‬
‫واحدة‪ .‬وقد عاشت يف أملانيا حتى ديسمرب من العام ‪1939‬م‪ ،‬عىل األرض‬
‫التي تقف عليها اآللة العزيزة عليها جدً ا‪ ،‬البيانو‪ .‬يف أمريكا كان مظهر لباس‬
‫جديت جيعلها وكأهنا قادمة من قرون قديمة جدً ا‪ ،‬غري مدركة وال آهبة بالعامل‬
‫الذي حوهلا وال بتحوالته‪ .‬كانت تعلم عن مقتل أقراهنا يف أملانيا‪ ،‬وكانت‬
‫تلك األخبار تؤرقها حتى بلغت اخلامسة والتسعني من عمرها‪ .‬كانت أغلب‬
‫خيااليت األوىل عن املفردات األملانية تدور حول عامل جديت إذ ارتبطت هبا‬
‫كلامت مثل‪Es geht rapide bergab :‬؛ وهي عبارة قالتها هي عن نفسها‪:‬‬
‫«بعض األشياء تنهار برسعة»‪ .‬تتحدث عن نفسها يو َم كانت يف السبعني‪،‬‬
‫وها قد بلغت أواخر التسعني وبدأت تصاب باجلنون‪.‬‬
‫كانت األملانية لغة التواصل احلرصية فيام بيني وبني أمي حتى وفاهتا‪ .‬ومنذ‬
‫ذلك الوقت‪ ،‬العام ‪1992‬م‪ ،‬مل أتكلم األملانية باالعتياد والعفوية نفسهام‪.‬‬

‫‪ -1‬يوهان برامز موسيقار أملاين يعد امتدا ًدا لبيتهوفن (تويف ‪١٨٩٧‬م)‪.‬‬

‫‪117‬‬
‫كنت أتكلم اإلنجليزية مع أيب‪ ،‬فهي لغة البالغني‪ ،‬اللغة التي أتكلم هبا عن‬
‫العلوم والطب والسياسة‪ .‬وإنجليزية أيب كانت بالفعل أفضل بمراحل من‬
‫مؤخرا أن لكنته األملانية كانت شديدة‬
‫ً‬ ‫إنجليزية أمي‪ ،‬ولكنني اكتشفت‬
‫استمعت لتسجيل خمترص بصوته عن ترشيح اجلثث‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وذلك حني‬
‫وكام جاء آن ًفا‪ ،‬فهناك بعض االستثناءات حلالة العزل اللغوي هذه‪ .‬فمن‬
‫األمور اخلاصة بالبالغني التي كنت أعرفها باللغة األملانية كان العدد غري‬
‫الكبري للسجع الذي تأيت به بعض األقوال املأثورة ‪ Sprichwörter‬والتي‬
‫متنيت أن ألفظ الوابل اجلميل لتلك العبارات‬
‫سمعتها يف الغالب من أيب‪ .‬كم ُ‬
‫كام يفعل األملان ً‬
‫فعل‪ .‬وأعرف كذلك الشتائم التي يقوهلا أيب أحيانًا‪mit :‬‬
‫‪ ،der dummheit kämpfen götter selbst vergebens‬كانت كبرية جدا‬
‫حني خترج منه‪« :‬يا للغباء الذي حتى اآلهلة حتاربه عب ًثا»‪ .‬كام وجب ‪-‬عند‬
‫أيب‪ -‬ترتيل فلسفات كانط((( عن احلتمية بالصوت والتبجيل‪ .‬كنت أحب‬
‫صوهتا وإن مل أكن قد فهمتها إال فيام بعد‪ ،‬وبمنطق خمتلف كذلك!‬
‫كان أيب «يستهل» غضبه قائال‪ Donnerwetter :‬والتي تعني «طقس‬
‫يمأله الرعد»‪ ،‬ثم ينفجر غاض ًبا ويقول‪« noch ein mal :‬مر ًة أخرى؟!»‬
‫كانت هذه العبارات الغاضبة تصدر عادة من أيب حني تبلغه أمي عن سوء‬
‫ترصفاتنا‪ ،‬يتبع تلك اللعنات بعبارة‪ ein machtwort :‬التي تعني حرف ًيا‬
‫«كلمة القوة» ولكني أظنها عبارة حتذير من ذاته اخلارقة‪ .‬وبام أن إحدى‬
‫العبارات الكبرية داخل أرستنا كانت «‪»quod licet Jovi, non licet bovi‬‬
‫مسموحا به لثور(((‪ ،‬إذن‬
‫ً‬ ‫مسموحا به جلوبتري ليس‬
‫ً‬ ‫التي تعني أن ما كان‬

‫‪ -1‬إيامنويل كانط (كانت) الفيلسوف األملاين الشهري‪ ،‬آخر الفالسفة املؤثرين يف احلضارة‬
‫األوروبية احلديثة وآخر فالسفة عرص التنوير (تويف ‪١٨٠٤‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬أسامء لشخصيات من آهلة األساطري اليونانية القديمة‪.‬‬

‫‪118‬‬
‫فإن خليط الطقس املمتلئ رعدً ا‪ ،‬وكلامت القوة حيمل الكثري من الرعب‬
‫واإلرهاب األسطوري‪ .‬كانت املقولة الالتينية عن جوبتري وثور تستخدم‬
‫مسموحا له بالوصول‬ ‫ً‬ ‫دو ًما إلثبات غلطي يف فهم قول كانط‪ .‬فإن كان‬
‫متأخرا يف حني أننا مجي ًعا نعلم أن فعل التأخر ال يمكن تربيره باعتباره قانونًا‬
‫ً‬
‫عندئذ املقولة عن جوبتري العجوز لنستشهد هبا‪ .‬كنت‬ ‫ٍ‬ ‫كون ًيا‪ ،‬كنا نستخدم‬
‫أتصور أن االستشهاد بالعبارة بمثابة التنصل من القوانني الكونية‪ ،‬لكنني مل‬
‫أنجح بام كنت أحاول فعله عند استخدامي هذه اجلدلية‪.‬‬
‫الشتائم الوحيدة التي أعرفها كانت تلك التي يقوهلا أيب‪ ،‬وهي ظريفة‬
‫قائل‪Was glaubst du das ich, ein :‬‬ ‫بسخافة‪ .‬أحيانا يقرتب من أمي ً‬
‫شخصا خيرج مملكات‬ ‫ً‬ ‫‪ Dukatenscheisser‬كأنه يقول‪« :‬ماذا تظنينني؟‬
‫[ثروات] كفضالت من مؤخرته!» كان يقول ذلك كل شهر حني يقرتب‬
‫متوترا بسبب الوضع املادي وذلك ألنه‬
‫ً‬ ‫موعد سداد فواتري‪ .‬يكون أيب حينها‬
‫وحيد دون مساندة من أحد لو ُق ِدر وفشل يف إدارة الوضع؛ لكنه بالطبع كان‬
‫يعلم أن زوجته مقتصدة وامرأة بارعة يف تدبري شؤون األرسة‪ .‬وكان لديه‬
‫بعض الشتائم اخلاصة عند ذكر أسامء بعض األدباء األملان‪ ،‬التي مل أحاول‬
‫التلفظ هبا يف العامل اخلارجي ولن أفعل؛ ولست أدري إن كان هلا معنى آخر‬
‫خارج حميط العائلة‪.‬‬
‫ثمة كلمتان أشعر بانتامئهام أليب وأمي سو ًيا‪ ،‬وأن هلام صدى يف الكون‪:‬‬
‫‪ .unsinn, vernunftig‬ومرة أخرى فأنا ال أدري إن كان األملان من أبناء‬
‫جييل يشعرون جتاه هذه الكلامت بالشعور نفسه‪ .‬لكن الذي أعرفه أن هلا‬
‫خاصا خياطبني‪ ،‬وهذا األثر هو أثر داخل لغتي اخلاصة فقط ‪Un� .‬‬ ‫صدى ً‬
‫كثريا ما‬
‫‪ ،sinn‬بمعنى غباء أو سخافة‪ ،‬وهلا عدة استخدامات وإن كانت ً‬
‫تستخدم للحشو اللغوي فقط‪ .‬ولكنها مفردة من القالئل التي رافقتني من‬

‫‪119‬‬
‫طفولتي وحتى بعد بلوغي‪« .‬ال ترتكب محاق ًة [شي ًئا غب ًيا]»؛ كان ً‬
‫تنبيها يسبق‬
‫دو ًما اخلروج يف موعد غرامي‪ .‬مل يكن هذا التنبيه يوجه لقياديت للسيارة‪ ،‬التي‬
‫كانت ممارسة مثالية معصومة من اخلطأ؛ لكنه يوجه إىل «الوقوف» عىل جانب‬
‫أحد مئات الطرق امللتوية حول مناطق التعدين التي كنا نسكن بجوارها! مل‬
‫أساسا يف بيكييل لصغر البلدة وقلة سكاهنا‪ ،‬لكن ربام‬‫ً‬ ‫تكن احلامقات متوفرة‬
‫كانت النصيحة حتمل معنى واحدً ا حمددا‪ .‬كانت عبارة ‪ unsinn‬وعبارة ‪sei‬‬
‫مسؤول» ‪-‬أي يف ترصفاتك‪ -‬هي الكلامت‬ ‫ً‬ ‫‪ vernunftig‬والتي تعني «كن‬
‫األملانية الوحيدة التي ارتبطت عندي بالعالقة مع اجلنس اآلخر‪ .‬ال شك‬
‫ً‬
‫مسؤول‬ ‫أن هلا دالالت أخرى يف أبواب احلياة كلها‪ ،‬لكن! أن يكون املرء‬
‫يعني أن يكون حتت سيطرة املنطق يف كل السياقات‪ ،‬لكن وبحكم غياب أي‬
‫توجيهات أخرى لفرتة ما بعد «االحتالم» فإن جرسها اخلاص ما زال يرن يف‬
‫رأيس حول العالقات اجلسدية مع اجلنس‪.‬‬
‫وأنا وإن كنت أتواصل مع أيب باإلنجليزية إال إن شعوري بأن األملانية لغ ٌة‬
‫أحسست وبقوة أثناء نشأيت أن أيب مل يدرك‬
‫ُ‬ ‫للفقد كان قد جاء ابتدا ًء من عنده‪.‬‬
‫حقيقة معنى أن يعيش اإلنسان يف ثقافة خمتلفة‪ .‬أمي يف املقابل‪ ،‬وبالرغم من‬
‫إنجليزيتها املحطمة قواعد ًيا ومتكنها األملاين كانت تتفاعل بمستوى حسن‬
‫مع اجلوار‪ .‬وقعت هلا نكتة حقيقية بسبب سوء الفهم عند امتحان اجلنسية‪.‬‬
‫عضوا يف احلزب االشرتاكي‪ .‬كان‬ ‫ً‬ ‫قالت‪ ja, ja :‬حني سئلت عام إن كانت‬
‫ذلك مبن ًيا عىل نصيحة الكثري من األصدقاء يف أن جتيب بـ «نعم» عند كل‬
‫سؤال ال تفهم معناه‪ .‬كان كل من بيكييل وبلوفيلد زاخرة باستخدامات توين‬
‫الكور اخلاطئة للكلامت‪ ،‬لكن هذا مل يمنعها من االندماج‪ .‬غري أن أيب مل‬
‫يكن مهتد ًيا هلذا كله‪ .‬فقد كان يرتجم حدث خترجي من الثانوية إىل ‪abitur‬‬
‫الذي وإن كان حيمل داللة التخرج من الثانوية إال أنه حيمل معان خاصة‬

‫‪120‬‬
‫حول شكل االحتفالية وحمتوياهتا‪ :‬الشمبانيا‪ ،‬والفواكه املنقوعة باخلمور‪.‬‬
‫مل يكن األمر حسب ما توقعه أصدقائي من املدرسة‪ .‬كان كذلك حياول‬
‫عند االحتفال بمناسبة رأس السنة أن يلزم اجلميع بلبس البدالت الرسمية‬
‫ً‬
‫مقبول متا ًما‪.‬‬ ‫واالستامع إىل بيتهوفن‪ .‬وهذا كذلك مل يكن‬
‫مل يكن أيب يدرك شكل الفرتة التي عاشها بعد هتلر‪ .‬كان حيفظ أغنيات‬
‫التخرج من اجلامعة باألملانية؛ وحفظتها أنا معه‪ .‬كام كان حيتفظ بصورة له مع‬
‫زمالئه من اجلامعة بزي رسمي موحد وهم حيملون الرماح‪ .‬احلقيقة أن لديه‬
‫أثر جرح ناتج عن املبارزة بالرمح يف أعىل جبهته‪ .‬مل ينتبه قط أن أ ًّيا من هذا‬
‫حمط للسخرية‪ .‬ربام كان حال أيب هذا جز ًءا من اسرتاتيجية مشرتكة‬ ‫غريب أو ٌّ‬
‫ٌ‬
‫والدي يف حماولة ختفيف وطأة األمل الذي تسبب به فقدمها ألرضهام؛ فال‬ ‫ّ‬ ‫بني‬
‫مها انصهرا يف املجتمع اجلديد متا ًما‪ ،‬وال مها هائامن يف الشتات كام كان حال‬
‫الكثري من الناس‪ .‬لقد استوطنا فقاع ًة‪ ،‬يتكلامن لغ ًة ويأكالن طعا ًما ويستمعان‬
‫ورثت عنهام أملانيتي كام ورثت‬
‫ُ‬ ‫إىل املوسيقى كام ال يفعل أحدٌ ممن يف جوارمها‪.‬‬
‫بعضا من ثقافتهام األوتوقراطية‪.‬‬
‫ً‬
‫ال أريد هنا أن أزعم أنني ال أعرف باألملانية إال ما يعرفه األطفال‪ ،‬بل‬
‫أنا قادر عىل اخلوض يف جمال األعامل واملوضوعات الكبرية كذلك باألملانية‪.‬‬
‫ولكنني حني أقوم باألملانية بام يقوم به الكبار فإنني أحتاج إىل حضور ذهني‬
‫والدي‬
‫ّ‬ ‫كبري‪ .‬أنا أدرك اهلوة بني احلارض وبني حينئذ؛ و«حينئذ» هنا تعني حياة‬
‫وطفولتي‪ .‬مل يزر أيب أملانيا منذ غادرها قط‪ ،‬أما أمي فزارهتا مر ًة واحدة فقط‬
‫يف العام ‪1955‬م لزيارة صديقة كبرية يف السن قررت العودة إىل أملانيا‪.‬‬
‫لكنها كانت حمارصة بكابوس أحاديث سائق سيارة األجرة عن حسنات‬
‫النازيني‪ ،‬وأن األمريكيني أساؤوا فهم فرتة هتلر‪ .‬مل تزرها مرة أخرى! إذن‬
‫فقد جاهد والداي أن ّ‬
‫يظل أملانيني دون وجود تواصل حقيقي مع أملانيا‪ .‬كانا‬

‫‪121‬‬
‫يرشبان النبيذ األملاين؛ ويامرسان طقوس عيد امليالد األملانية بتعليق الشموع‬
‫عىل الشجرة (حتى نبههام أحد اجلريان أن األمريكيني يقطعون األشجار‬
‫قبل شهر من عيد امليالد وهذا قد جيعلها يابسة بعض اليشء وقد يعرضهام‬
‫للحريق!)‪ .‬مل يستمعا إال للموسيقى األملانية؛ كانت أوبرا البارسيفال((( دائ ًم‬
‫(((‬
‫مناسبة لعيد الفصح‪ .‬وكانا جيزمان بغلط الفرنسيني حني احتلوا راينالند‬
‫يف العام ‪ ،1920‬كام كانا عنيدين حول كثري من القضايا األخرى‪ .‬لقد كانت‬
‫طفولتي منتجا لعالقة أب وأم هيوديني‪ ،‬كانا أطفاال من هيود القرن التاسع‬
‫عرش‪ .‬وقد ظال يتخيالن أرض غوته((( وشيلر دون فهم لواقعها أو تارخيها‬
‫املعارص‪.‬‬
‫أول زيارايت ألملانيا كانت يف العام ‪1992‬م‪ ،‬حني بلغت السابعة‬
‫سائحا ومل أكن أختاطب مع الناس إال‬ ‫ً‬ ‫واألربعني من عمري‪ .‬زرهتا بصفتي‬
‫حول خدمات الضيافة والفنادق والفعاليات السياحية‪ .‬أول مرة نطقت هبا‬
‫باألملانية شي ًئا ليس ذا عالقة بالسياحة وال باألرسة كان حد ًثا كأنه بيان أنني‬
‫أختذ من األملانية لغة يف حيايت العامة كذلك‪ .‬كان ذلك يف صيف ‪1995‬م‬
‫سؤال إىل أحد اإلعالميني‪ ،‬والذي‬ ‫ً‬ ‫وجهت‬
‫ُ‬ ‫يف مؤمتر يف فرانكفورت‪.‬‬
‫فهمني متاما بدوره‪ ،‬وأجاب عن تساؤيل‪ .‬وكنت أمهس لزوجتي برتمجات‬
‫ملحارضات الزمالء‪ ،‬واستحسنت ذلك‪ .‬وخالل الزيارات املتتالية بدأت‬
‫أقدم حمارضايت باألملانية‪ ،‬بطلب من اجلهات املستضيفة حينًا‪ ،‬ولرغبتي يف‬
‫والدي أحيانًا كثرية‪.‬‬
‫ّ‬ ‫استدعاء اللغة ألجل ذكرى‬
‫أحب أن أكون يف أملانيا‪ :‬إهنا العودة إىل املكان واللغة والثقافة والتقاليد‬

‫‪ -1‬قطعة موسيقية كالسيكية شهرية من تأليف املوسيقي األملاين ريتشارد فاغنر (تويف ‪١٨٨٣‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬االسم القديم ألملانيا الغربية وقد يشمل أملانيا كلها‪.‬‬
‫‪ -3‬يوهان غوته الشاعر العلم األملاين (تويف ‪١٨٣٢‬م)‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫التي مل يتوقف والداي عن احلنني إليها واحلداد عىل فقدها‪ .‬كان الناس‬
‫فيها متعلمني ومثقفني وكرماء عىل الصعيد الشخيص‪ .‬لكنني مل أكن أمحل‬
‫أي أبعاد خيالية ختص املكان أو اللغة‪ .‬يف العام ‪1995‬م زرت أنا وزوجتي‬
‫مسقط رأس أمي‪ ،‬بلدة هان موندن‪ ،‬عىل هنر فيزر‪ ،‬وهي مدينة صغرية ال‬
‫يتجاوز سكاهنا الثالثني أل ًفا وليست بعيدة من هانوفر ‪ .‬كانت تلك املنطقة‬
‫حمور قوة النازيني الشعبية‪ .‬وبدا بيت جديت متا ًما كام هو يف الصور‪ ،‬مل يتغري‬
‫فيه يشء عىل اإلطالق‪ .‬وكان هنر فيزر جيري برسعة عىل مقربة من املزرعة‬
‫التي كان يريب هبا جدي ‪-‬تاجر احلبوب‪ -‬بعض األبقار وبعض الدواجن‪.‬‬
‫الباب‪ ،‬فأط ّل ْت عيل عجوز من النافذة‪ .‬سألتها إن كانت تسكن‬‫َ‬ ‫طرقت‬
‫ُ‬
‫البيت منذ زمن طويل‪ ،‬فأجابت بنعم‪ .‬قلت هلا أن أجدادي سكنوا املنزل‬
‫يو ًما‪ .‬فقالت‪ :‬هذا مستحيل! ثم تراجعت سائلة‪ :‬من هم أجدادك؟ أخربهتا‬
‫أن اسم عائلتهم هو وينبريغ‪ .‬قالت‪.ach ja, die Juden. Feine leute :‬‬
‫نجارا‪ ،‬واشرتى البيت‬‫ً‬ ‫أناسا طيبني‪ .‬كان أبوها‬
‫أجل أجل ‪ ..‬اليهود كانوا ً‬
‫من جدي يف مطلع األربعينيات قبل أن ُين َقل جدي إىل معكرسات التعذيب‪.‬‬
‫دلتني العجوز عىل أماكن السباحة يف النهر؛ كانت أمي حتب السباحة حبا‬
‫عظيام وكانت حتدثني بالكثري عن هنر فيزر وصعوبة التعامل مع تياراته‬
‫الرسيعة‪ .‬كام دلتني العجوز عىل مدرسة الفتيات الكاثوليكية التي درست‬
‫فيها أمي‪ .‬طلبت منها أن ألتقط صورة يل مطال عىل النافذة نفسها‪ .‬كنت‬
‫وجداي عىل‬
‫ّ‬ ‫أحتفظ بصورة للمنزل وجدّ ا أمي واقفان عىل نافذة العل ّية‪،‬‬
‫النافذة الوسطى‪ ،‬أمي وأشقاؤها عىل النافذة التي تطل منها حمدّ ثتي‪ .‬ثم بدت‬
‫املرأة وكأهنا مل تعد تفهم أملانيتي‪ ،‬فانتهى احلديث‪ .‬ال بد وأنني قد بالغت يف‬
‫حماولتي الستدعاء الكثري من الذكريات‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫ُ‬
‫إحياء األصل‬
‫(((‬
‫نغوغي وا ثيونغو‬

‫متدّ َد عىل بطنه فوق طاولة مرتفعة يف ساحة الطابور وبحرضة مجيع‬
‫الطالب ومنسويب املدرسة‪ .‬أمسك معلامن رأسه وساقيه وثبتاه جيدً ا عىل‬
‫الطاولة‪ ،‬ودعاه أحدمها بـ «القرد» عند اجللدة الثالثة بالسوط‪ .‬وما كانا‬
‫ليفلتاه مهام رفع صوته برصاخه املرعب‪ ،‬ومهام تلوى من األمل‪« .‬ارصخ أهيا‬
‫القرد»‪ .‬رسي ًعا ما متزق رسواله ومأل د ُمه املكان؛ وانتثر عىل مالبس اللذين‬
‫كانا يمسكانه‪ ،‬وكان ذلك هو السبب الوحيد إلطالق رساحه‪ .‬بالكاد‬
‫استطاع النهوض ليميش‪ ،‬وبالكاد استطاع البكاء‪ ،‬ثم مىض؛ مىض لكي ال‬
‫ُيرى أبدً ا يف املدرسة احلكومية لتلك املقاطعة وال يف غريها‪ .‬مل يكن يل علم‬
‫متلبسا يف‬
‫ً‬ ‫بسبب ذلك كله؛ ماذا كان خطؤه يا ترى؟! لقد ألقي القبض عليه‬
‫حادثة وهو يتكلم الغيكويو داخل حميط املدرسة‪ ،‬ليس ملرة وال اثنتني‪ ،‬بل‬
‫لعدة مرات‪ .‬ولكن كيف اكتشف املعلمون جريمته؟!‬
‫كان الكالم باللغات األفريقية داخل املدرسة يعدّ جريمة‪ .‬وإن وجد أحد‬

‫‪ -1‬نغوغي وا ثيونغو (‪ )Ngũgĩ wa Thiong’o‬الكاتب الكيني والروائي الكبري‪ .‬يعدّ ه الكثري‬


‫من املرشحني األكثر حظا لنيل جائزة نوبل لآلداب يف دوراهتا‪ .‬صاحب نضال لغوي وثقايف‬
‫ضد تسلط املستعمر أو حتى تسلط القيادات املحلية يف كينيا‪ .‬له الفضل يف حترير املرسح وإحياء‬
‫اآلداب يف بالده‪ .‬كتب باإلنجليزية وترجم أعامله املحلية إليها‪ .‬أستاذ لآلداب املقارنة والدراسات‬
‫املرسحية يف جامعات مثل ييل‪ ،‬ونيويورك‪ ،‬وحاليا يف جامعة كاليفورنيا يف آرفاين والتي قلدته‬
‫وسام األستاذية املتميز ويدير فيها مركز الكتابة والرتمجة‪.‬‬

‫‪124‬‬
‫أي لغة أفريقية‪ ،‬فإنه ينقل شهادته هذه وكأهنا «دليل‬ ‫الطالب ً‬
‫زميل له يتكلم ّ‬
‫مادي» إىل زميل آخر ليشرتي صمته عن «جريمة» كان قد شهدها ودوهنا‬
‫كامل يومهم‪ ،‬بل ويمكرون‬ ‫ضده! هكذا يتجسس األطفال عىل بعضهم َ‬
‫بعضا يف رشك اجلريمة‪ :‬الكالم باللغة املوبوءة‪ .‬وتثبت التهمة يف‬ ‫ليوقعوا ً‬
‫هناية املطاف عىل طالب ال يملك ما يقايض به من شهادات اجلرائم‪ ،‬فيكون‬
‫مذن ًبا يف نظر املدرسة مستح ًقا للعقاب‪ .‬كان الطالب الذي تلقى َو ْق َع السوط‬
‫عىل ظهره يف القصة السابقة قد ِس ْي َق إىل تلك العقوبة مرات عديدة‪ ،‬وكأنه‬
‫متعمدً ا حتريم الغيكويو يف املدرسة‪ .‬وكان املعلمون بدورهم‬
‫ّ‬ ‫كان يتحدى‬
‫دائم يستشهدون به كمثال يتوعدون به بقية الطالب‪.‬‬ ‫ً‬
‫كان هذا جز ًءا من الواقع يف كينيا يف مخسينيات القرن املايض‪ .‬مستعمرة‬
‫بريطانية‪ ،‬ومستوطنة ضخمة يقطنها البيض يف قلب أرضها الزراعية‪:‬‬
‫أسموها فيام بعد املرتفعات البيضاء‪ .‬وبرغم كوهنا مستعمرة منذ العام‬
‫ال للرصاع؛ فقد كانت املواجهات دائمة‬ ‫‪1895‬م إال إن كينيا كانت دو ًما حم ً‬
‫بني جيوش املحتل املستعمر واملعارضني الوطنيني‪ .‬وبلغ الرصاع ذروته بني‬
‫التف الكينيون حول‬
‫الطرفني يف املواجهات املسلحة يف اخلمسينيات‪ ،‬حني َّ‬
‫ماو ماو‪ ،‬أو (أرض كينيا وجيشها احلر) كام جيب أن يسمى‪ .‬حينها استوطن‬
‫الكينيون األدغال واجلبال وشنّوا حرب عصابات ضد دولة االحتالل‪ .‬رافق‬
‫اندالع املعارك ازديا ٌد يف الوعي الثقايف‪ :‬أغنيات‪ ،‬وقصائد‪ ،‬وصحف يومية‬
‫تعزز اللغات األفريقية‪ .‬نتج عن هذه احلركة واملعارك أن منعت اللغات‬
‫األفريقية من النرش كام منعت من احلضور يف املحافل‪ .‬وشمل منع اللغات‬
‫َ‬
‫احلديث هبا يف املدارس يف حماولة إلبطال مفعوهلا‪.‬‬ ‫األفريقية هذا‬
‫التحقت يف العام ‪1957‬م بابتدائية كاماندورا‪ ،‬وهي منشأة تبشريية‪ .‬ومع‬
‫ازدياد الوعي الوطني‪ ،‬ظهرت إشاعات تفيد بتعمد هذه املدارس ّأل تقدم‬

‫‪125‬‬
‫تعليم حقيق ًيا؛ ومن ذلك أهنم كانوا ال يعلموننا اإلنجليزية بشكل‬
‫ألطفاهلا ً‬
‫كاف‪ .‬لذلك انسحب بعضنا من الدراسة يف املدرسة التبشريية والتحقنا‬
‫بمدرسة مانغو‪ ،‬وهي مدرسة وطنية تعتني بتاريخ وثقافة األفارقة‪ .‬أما فيام‬
‫خيص الدين‪ ،‬فقد انحازت بعض املدارس الوطنية ‪-‬والتي تسمي نفسها‬
‫باملستقلة‪ -‬إىل الكنيسة األرثوذكسية لرتبط نفسها بالتقليد املتني للمسيحية‬
‫يف مرص وأثيوبيا‪ ،‬باحثني عن القرون األوىل من عمر الديانة املسيحية‪.‬‬
‫صغريا جدً ا ألفهم هذا الربط؛ كل ما كنت أدركه أنني سألتحق‬‫ً‬ ‫كنت‬
‫باملدرسة التي ستعلمنا اإلنجليزية بشكل «أعمق» باإلضافة إىل مواد ولغات‬
‫أخرى‪ ،‬وبالتحديد الغيكويو‪ .‬ال أتذكر إن كانت اإلنجليزية يف هذه املدرسة‬
‫الوطنية «أعمق» منها يف املدرسة السابقة ‪-‬أشك حقيقة إن كان بينهام أي‬
‫اختالف يف منهجية تعليم اإلنجليزية‪ -‬ولكن ما أستطيع تذكره هو أن‬
‫كاف ألستعرض أمام الفصل استحسان‬ ‫منهج الغيكويو كان جيدً ا بشكل ٍ‬
‫املعلمني‪« .‬هكذا جيب أن ُيكتب بالغيكويو»؛ قاهلا املعلم بعد أن قرأ ما كتبت‬
‫عال خماط ًبا طالب الفصل‪ .‬وهلذا مل يكن ثمة تعارض بني الغيكويو‬ ‫بصوت ٍ‬
‫تقديرا عىل‬
‫ً‬ ‫واإلنجليزية يف تلك الفرتة من تعليمي األويل إذ ينال الطالب‬
‫إتقانه إحدامها أو كليهام‪.‬‬
‫مل تَد ْم حالة التعايش السلمي يف قاعات الدراسة بني اإلنجليزية‬
‫طويل‪ .‬فقد تغري الوضع بعد سنوات قليلة حني ُأغلقت هذه‬ ‫ً‬ ‫والغيكويو‬
‫املدارس األفريقية الوطنية املستقلة؛ وبعثت بعضها من جديد لتديرها‬
‫حكومة املستعمر‪ .‬كانت مانغو إحدى هذه املدراس املبعوثة من جديد؛ وكان‬
‫الرتكيز عىل احتقار الغيكويو بوصفه متطل ًبا ساب ًقا الكتساب اإلنجليزية‬
‫أحد أهم مظاهر هذا البعث‪ .‬كان تف ّلت الغيكويو من عقاهلا أكرب ما يرعب‬
‫إدارة املدرسة اجلديدة‪ .‬فيسحق الطالب جلدً ا ‪-‬وهو يرصخ بأعىل صوت‪-‬‬

‫‪126‬‬
‫ليخرجوه من ظلامت الغيكويو إىل نور العلم باإلنجليزية‪.‬‬
‫ّعت باإلنجليزية رغم قسوة كل تلك األحكام‪ ،‬لكن مشهد رصاخ‬
‫متت ُ‬
‫الطالب ظل يطاردين حتى خارج أسوار املدرسة كلام تكلمت بالغيكويو‪،‬‬
‫عيل معلمي يو ًما حني أحسنت الكتابة هبا‪ .‬ربام كان املعلمون‬‫اللغة التي أثنى ّ‬
‫عىل خطأ‪ ،‬خاصة وأهنم خرسوا وظائفهم مجي ًعا حني قرر املستعمر إعالن‬
‫أمهية اإلنجليزية‪ .‬وكان املعلمون اجلدد كلهم أفارقة‪ ،‬كلهم من السود‪ ،‬كلهم‬
‫من أبناء الغيكويو؛ مدججني بكل ما يساعدهم لريبطوا بني كل ما هو سلبي‬
‫وبني كل اللغات األفريقية‪ .‬كان من ضمن عتادهم صناعة مفهوم اآلثم‬
‫رب بأنه محار‪ .‬كانت حرب استنزاف‬ ‫لغو ًيا‪ ،‬حيث يع ّلق الطالب اآلثم بطاقة خت ُ‬
‫أي ثقة أو اعتزاز بتلك اللغات‪ .‬ومل أعد أؤمن بقدرة لغتي عىل أن‬ ‫مل ِ‬
‫تبق ّ‬
‫متعلم وعرص ًيا‪ .‬كان‬
‫ً‬ ‫تعلمني شي ًئا؛ أو عىل األقل بقدرهتا أن جتعل مني إنسانًا‬
‫الدّ ُم نصيب أولئك الطالب الذين تكلموا بالغيكويو؛ وكان املجد نصيب‬
‫نشأت عىل أن أباعد‬
‫ُ‬ ‫اآلخرين الذين أظهروا متكنهم من اإلنجليزية‪ .‬هذا وقد‬
‫بيني وبني الدّ ِم وبيني وبني ولغتي‪ ،‬باح ًثا عن املجد املالزم إلتقان اإلنجليزية‪.‬‬
‫وكانت اجلوائز‪ .‬فاألداء اإلنجليزي املتميز يعقبه النجاح والرتقي يف‬
‫سلم التعليم‪ .‬كان إتقاين لإلنجليزية هو ما أخرجني من مانغو‪ ،‬الواقعة حتت‬
‫وصاية املستعمر‪ ،‬إىل ثانوية احللفاء(((‪ ،‬أكثر مدارس األفارقة نخبوية حينها‪،‬‬
‫األدب‬
‫َ‬ ‫ومنها إىل كلية جامعة ماكريري يف كامباال‪-‬أوغندا‪ ،‬حيث َد َر ْس ُت‬
‫اإلنجليزي‪.‬‬
‫كنت يف ماكريري يف السيتينيات‪ ،‬ذروة إعالن الدول اإلفريقية‬
‫ُ‬

‫‪ -1‬اسم «احللفاء» هنا هو االسم اإلنجليزي وليس اسام من اللغات املحلية‪ ،‬وفيه مفارقة أن‬
‫اسم أجنب ًيا رغم عدم التحفظ عىل أسامء األعالم‪/‬األماكن املحلية لتسمية‬
‫حتمل مدرسة نخبوية ً‬
‫املدارس‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫كتبت حينها ما عنونته الحقا‬ ‫ُ‬ ‫استقالهلا من االستعامر‪ :‬دولة تلو األخرى؛‬
‫تبك يا ولدي»‪ ،‬وغريها من القصص القصرية‬ ‫بـ «النهر الذي بينهم» و»ال ِ‬
‫أعامل إنجليزية‪ .‬وحني التحقت بجامعة ليدز يف‬ ‫ً‬ ‫واملرسحيات؛ كانت كلها‬
‫كتبت «حب ُة قمح»‪ .‬لقد أسعدتني جدً ا حماولة الغناء ورسم ألوان‬ ‫ُ‬ ‫إنجلرتا‬
‫ومالمح حيايت بالكلمة اإلنجليزية‪ .‬كنت أثناء كتابتي لرواية «حب ُة قمح»‬
‫غال ًبا يف غرفتي يف بدنغتون؛ مبنى سكن الطالب بجوار تالل يورك‪-‬‬
‫شاير(((‪ ،‬موطن أحداث «مرتفعات وذرنغ» لربونتي(((‪ .‬كنت أستمع إىل‬
‫طاحما إىل أن أنسج عرب حركة‬ ‫سيمفونية بيتهوفن اخلامسة((( يف ذلك املكان ً‬
‫أردت أن أصعد بالكلامت اإلنجليزية‬ ‫ُ‬ ‫مشاهبة لربونتي قطع ًة ناعمة سلسة‪.‬‬
‫إىل أعىل قمة جبل التجربة اإلنسانية‪ .‬لكن ملاذا اخرتت اإلنجليزي َة وسيلة‬
‫فعل مسألة اختيار‪ ،‬حيث إنه من الطبيعي جدً ا اآلن‬ ‫يل؟ وهل كانت املسألة ً‬
‫وبالنظر إىل تعليمي وكل ما حيارصين يف املدرسة يف أفريقيا وخارجها أن‬
‫عشريا‪ ،‬رغب ًة وفطرةً‪ ،‬للكتابة باإلنجليزية‪،‬‬
‫ً‬ ‫أصبحت‬
‫ُ‬ ‫أكتب باإلنجليزية‪ .‬لقد‬
‫رئيسا يف أعاميل‪.‬‬
‫حتى وإن كان أمر االستقالل عن املستعمر موضو ًعا ً‬
‫كنت غار ًقا يف كتابايت كلها يف حياة الغيكويو والشعب األفريقي وثقافته‪.‬‬
‫حمور اهتامم أعاميل وكتابتي‪.‬‬
‫كان تارخيهم وبخاصة رصاعهم ضد املستعمر َ‬

‫‪ -1‬مقاطعة (‪ )Yorkshire‬التارخيية يف شامل إنجلرتا‪ ،‬وكانت تسمى مقاطعة يورك ساب ًقا؛ وتسمى‬
‫أحيانًا اآلن يوركس (‪ )Yorks‬لغرض االختصار يف التسمية‪.‬‬
‫‪ -2‬إمييل برونتي شاعرة وروائية إنجليزية (توفيت ‪١٨٤٨‬م)‪ ،‬و«مرتفعات ويذرينغ» هي روايتها‬
‫الوحيدة والتي تعترب من كالسيكيات األدب اإلنجليزي‪ .‬من اإلحياءات الذكية لذكر ثيونغو هلذا‬
‫العمل حتديدً ا هو يف افتتاحيته بحكاية عن ثالثني سنة مضت‪ ،‬وهي مدة ختص عالقة ثيونغو‬
‫بالغيكويو‪ .‬كام أن يف الرواية حكاية عن العنرص األجنبي‪ ،‬والغربة‪ ،‬والنفي‪ ،‬واحلب‪ ،‬والعذاب‪،‬‬
‫والرصاع ‪ ،‬وهي كلها واقع يف حياة ثيونغو كام هي أحداث الرواية‪.‬‬
‫‪ -3‬السم هذه السيمفونية حتديدً ا «رضبة القدر» عالقة بقصة ثيونغو مع الغيكويو‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫ولكن نقاش هذا التاريخ وهذه الثقافة جيب أن يكون عرب الغيكويو واللغات‬
‫األفريقية األخرى‪ .‬مل يكن حماربو املاو ماو ضد حكومة االستعامر اإلنجليزي‬
‫يف خمابئهم يف اجلبال واألدغال خيططون باإلنجليزية؛ بل كانوا يتكلمون‬
‫كتبت عنهم رغم ذلك‬ ‫ُ‬ ‫بالغيكويو والسواحيلية واللغات الكينية األخرى‪.‬‬
‫وصنعت‬
‫ُ‬ ‫سمعت أصواهتم بالغيكويو‬ ‫ُ‬ ‫وكأهنم كانوا يتكلمون اإلنجليزية‪.‬‬
‫ضجيجا باإلنجليزية‪ .‬ما الذي كنت أفعله؟! كان ذلك بالطبع ترمجة‬ ‫ً‬ ‫منها‬
‫نصا أصل ًيا‪ .‬فام الذي‬‫ذهنية‪ .‬هذا يعني أن لكل رواية كتبتها باإلنجليزية ً‬
‫حدث هلذا األصل يا ترى؟! خاصة وأنه موجود يف ذهني فقط وليس بصيغة‬
‫األصل‪ ،‬والسبيل الوحيدة املؤدية إليه هي اإلنجليزية؟‬ ‫ُ‬ ‫مكتوبة‪ .‬هل ُف ِقدَ‬
‫لقد ارتدت لغة الغيكويو وثقافتها وتارخيها قنا ًعا إنجليز ًيا بام كسبت يداي‬
‫املتعلمتان‪.‬‬
‫هيم هنا كم عدد أولئك الذين يتكلمون‬ ‫أؤمن أن لكل لغة عبقريتها‪ .‬وال ُّ‬
‫سلبت الكثري‬
‫ُ‬ ‫هذه اللغة أو تلك فعامد عبقرية اللغة ليس عىل األرقام‪ .‬لقد‬
‫سلبت‬
‫ُ‬ ‫من عبقرية الغيكويو ألضيف هذه العبقرية املغتصبة إىل اإلنجليزية‪.‬‬
‫منتجا عبقر ًيا للغة‪ ،‬ألثري به شكل أخرى‪.‬‬
‫ً‬
‫يف املقابل‪ ،‬ليست اللغة جمرد جمموعة مصفوفة من األصوات‪ .‬بل اللغة‬
‫هي الناس الذين يتكلموهنا‪ .‬ومل تكن قضية كتابتي كام هي يف ظاهرها‬
‫فحسب‪ :‬أي أنني أثريت اإلنجليزية عىل حساب الغيكويو‪ .‬لقد كان األمر‬
‫قدرتم‬
‫َ‬ ‫سلبت من الناس الذين صنعوا الغيكويو وعبقريتها‬ ‫ُ‬ ‫يف حقيقته أنني‬
‫عىل قراءة واستدعاء تارخيهم إال عرب لسان املستعمر األجنبي‪ .‬مل أكن أفكر‬
‫نارشا باإلنجليزية‪،‬‬
‫مبتهجا حني أرى نفيس ً‬
‫ً‬ ‫هبذا يف بداية الطريق فقد كنت‬
‫والصحافة اإلنجليزية تستعرض أعاميل يف أفريقيا أو خارجها‪ .‬لكن السؤال‬
‫أكتب ملن؟!‬
‫ُ‬ ‫الذي بدأ يؤرقني هو‪ :‬أنا‬

‫‪129‬‬
‫بعت رواية «حبة قمح» يف العام ‪1967‬م‪ .‬كنت يف بريوت‪ ،‬لبنان‪ ،‬حني‬ ‫ُط ْ‬
‫قرأت صحيفة لندن أوبزيرفر((( والتي احتفت بالرواية يف عددها الصادر‬ ‫ُ‬
‫عمت موجة الدفء العاطفية املراجعات يف الصحف األخرى‪ .‬ومل‬ ‫آنذاك‪ّ .‬‬
‫خيفف كل اإلطراء يف املراجعات عىل الرواية من إحسايس جتاه تبعات الشكل‬
‫واستبعدت يف لقاء يل مع‬
‫ُ‬ ‫عدت إىل ليدز‬
‫ُ‬ ‫أمرا متع ًبا‪.‬‬
‫اللغوي للرواية‪ ،‬لقد كان ً‬
‫فعلت‬
‫ُ‬ ‫صحيفة طالبية أنني سأكتب رواية أخرى بعد رواية حبة قمح‪ .‬ملاذا‬
‫ذلك؟ ألنني أعرف متا ًما من هم الذين أكتب عنهم وهلم‪ .‬إن الناس الذين‬
‫كتبت عنهم ليسوا يف موضع يؤهلهم‬ ‫ُ‬ ‫أكتب عنهم وأقوهلا بلسان مبني مثلام‬
‫لقراءة قصة حياهتم إال بلغتهم‪ .‬ثم حني أعدت النظر يف األمر‪ ،‬وجدت أن‬
‫الصدمة ليست فقط يف كتابتي عنهم بلغة أخرى‪ ،‬بقدر ما كانت بقراري‬
‫ّأل أكتب جمد ًدا‪ .‬فلامذا مل أقل أنني سأكتب عنهم بلغتهم‪ :‬السبيل الوحيدة‬
‫آمنت أن اإلنجليزية هي‬
‫ُ‬ ‫التي يستطيعها أبطال احلكاية؟ بدا األمر وكأنني‬
‫األداة الوحيدة التي أملكها إليصال األدب الذي أريد‪ .‬ما هو اخليار الذي‬
‫يقوله لسان حال جوايب؟ يقول‪ :‬اكتب باإلنجليزية أو ال تكتب أبدً ا! لكنني‬
‫احتجت بعد ذلك إىل روايتي التالية «بتالت الدّ م» التي أصدرت يف العام‬
‫‪1977‬م‪ .‬كانت الرواية باإلنجليزية مط ّعمة ببعض املفردات من الغيكويو‬
‫أرصح عرب النص نفسه بالتعارض بني موقفي‬ ‫ومن السواحيلية؛ كأنني ّ‬
‫السابق وبني ممارستي‪.‬‬
‫لقد غري حدثان يف حيايت عالقتي باإلنجليزية وبالغيكويو‪ .‬يف العام‬
‫دعيت للعمل يف‬‫ُ‬ ‫‪1976‬م حني كنت أستا ًذا لألدب يف جامعة نريويب‪،‬‬
‫مركز كامرييثو اإلجتامعي للرتبية والثقافة‪ .‬وكانت كامرييثو قرية تبعد قرابة‬

‫‪ -1‬لندن أوبزيرفر هي الصحيفة الشقيقة األقدم للغارديان وكانت قد بدأت النرش يف العام‬
‫‪١٧٩١‬م‪.‬‬

‫‪130‬‬
‫رتا عن نريويب‪ .‬كان العمل ملرشوع تعليمي‪ ،‬وتثقيفي؛ يقدم‬ ‫الثالثني كيلوم ً‬
‫موا ًدا يف الثقافة والقراءة والكتابة‪ .‬وكأن الفكرة تبرش بأن يصبح األداء‬
‫املرسحي وسيلة واقعية لتحصيل اهلدفني م ًعا‪ :‬حمو األمية وزيادة الوعي‬
‫ّ‬
‫والثقافة‪ .‬يتكلم أهل قرية كامرييثو الغيكويو‪ ،‬ومل يكن ثمة سبيل للعمل سو ًيا‬
‫إال من خالل لغة املجتمع نفسها‪ .‬وكانت تلك هي املرة األوىل يف حيايت‪،‬‬
‫التي أجربت هبا عىل مواجهة لغة الغيكويو حلاجة عملية‪ .‬كانت (نغاهيكا‬
‫شئت» ‪-‬مرسحية كتبتها‬ ‫ُ‬ ‫نديندا) والتي تعني باإلنجليزية «سأتزوج متى‬
‫باملشاركة مع نغوغي وا ِمري(((‪ -‬النتيجة املبارشة واألوىل للعمل يف القرية؛‬
‫حارين‪ .‬ولك ّن حكومة ما‬ ‫استقبل جمتمع القرية املرسحية بحفاوة وترحيب ّ‬
‫بعد االستعامر استقبلت العمل بشكل عدائي جدً ا‪ .‬كان عرض املرسحية يف‬
‫يوم ‪ 11‬من نوفمرب عام ‪1977‬م‪ ،‬ويف يوم ‪ 31‬من ديسمرب اعتقلتني احلكومة‬
‫كتبت الكثري‬
‫ُ‬ ‫الكينية وأودعتني سج َن كاميتي فائق التأمني واحلراسة‪ .‬وقد‬
‫يوميات كاتب‬
‫ُ‬ ‫عن هذه التجربة يف كتبي‪ ،‬وبشكل خاص يف كتايب «املعت َقل‪:‬‬
‫يف السجن»‪.‬‬
‫كانت هنالك قرابة الثالثني سنة من احلكايات التي مل أذكرها فيام بني‬
‫حادثة كامرييثو يف العام ‪1977‬م وبني جتربتي يف املدرسة االبتدائية‪ .‬منذ‬
‫كتابتي بالغيكويو يف املدرسة االبتدائية الوطنية‪ ،‬مانغو‪ ،‬كانت املرسحية يف‬
‫يب بالغيكويو‪.‬‬
‫قرية كامرييثو هي املرة األوىل التي أنخرط فيها جد ًيا بعمل كتا ٍّ‬
‫يف ابتدائية مانغو حصلت عىل تقدير املعلمني والطالب‪ ،‬وبعد سنوات يف‬
‫كامرييثو كان املجتمع رائع ًا كذلك‪ .‬وكانت تبعة التصفيق للغيكويو يف‬
‫املدرسة االبتدائية كبرية‪ :‬من تسلط حكومة املستعمر عىل املدرسة‪ ،‬ونرش‬
‫الرعب بني أوالدها حني تكلموا لغتهم األم‪ .‬ورصاخ ذلك الصبي الذي‬

‫‪ -1‬كاتب مرسحي كيني‪ ،‬نُفي إىل زيمبابوي‪ ،‬وظل هبا حتى وفاته يف العام ‪٢٠٠٨‬م‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫أرغم عىل ترك املدرسة‪ .‬كام كانت التبعة لتصفيق أهل كامرييثو أن ُس ِجن ُْت؛‬
‫ُفيت من بلدي بعدها‪.‬‬
‫ردت من كل قاعة للدرس‪ ،‬ون ُ‬ ‫ُط ُ‬
‫قد يقول قائل إن تواصيل مع أهل كامرييثو كان هو سبب إعادة تواصيل‬
‫حد ما‪ .‬لقد استعاد القرويون‬ ‫مع عبقرية الغيكويو؛ وهذا القول صحيح إىل ٍ‬
‫ٌ‬
‫تعلمت‬
‫ُ‬ ‫إيامهنم بلغتهم؛ أبقوها عىل قيد احلياة بمواصلة استخدامها‪ .‬لقد‬
‫الكثري‪ ،‬والكثري جدً ا منهم‪ .‬ولكن احلقيقة أن الزنزانة رقم ‪ 16‬يف السجن فائق‬
‫التأمني واحلراسة كانت هي موطن وصايل مع عبقرية الغيكويو‪ .‬سجنتني‬
‫حكومة أفريقية لكتابتي بلغة أفريقية؛ ملاذا؟ أجربين السؤال عىل تكرار النظر‬
‫عيل أن أجد ً‬
‫سبيل‬ ‫يف اللغة‪ ،‬واالستعامر‪ ،‬والعالقة بينهام‪ .‬كان من الواجب ّ‬
‫ألختلط باللغة التي سجنت بسببها‪ .‬مل يكن األمر متعل ًقا باحلنني؛ ومل أكن‬
‫عيل أن أتواصل مع اللغة نفسها ألنجو بنفيس؛‬ ‫أحاول أن أبدو عاطف ًيا‪ .‬كان ّ‬
‫كتبت ‪-‬عندها‪ -‬يف السجن أول‬ ‫ُ‬ ‫وكان ذلك رض ًبا من النضال واملقاومة‪.‬‬
‫رواية عىل اإلطالق بالغيكويو‪ ،‬كتبتها عىل ورق املرحاض‪ ،‬يف غرفة «جمانية»‬
‫ُرشت رواية (سايتاين موثارابايني)‬‫مقدمة من حكومة ما بعد االستعامر‪ .‬ن ْ‬
‫يف العام ‪1980‬م؛ أتبعتها بعد ذلك بسنتني برتمجتها اإلنجليزية «شيطان‬
‫عىل الصليب»‪ ،‬والتي هتف هلا النقاد األدبيون يف الصحافة اإلنجليزية؛‬
‫قت هذه احلفاوة من النقاد ‪-‬وللمرة األوىل‪ -‬بمراجعة جمتمعها األصيل‬ ‫ُسبِ ْ‬
‫وحفاوته‪ .‬قبل ذلك وعند خروجي من السجن يف العام ‪1978‬م‪ ،‬قررت‬
‫أنني لن أكتب الرواية باإلنجليزية إال عرب الرتمجة من األصل املوجود‬
‫كتاب ًة بالغيكويو‪ .‬منذ ذلك احلني‪ ،‬أصبحت الغيكويو اللغة األول ّية ألعاميل‬
‫قرارا ً‬
‫قابل إلعادة النظر‪.‬‬ ‫االبداعية‪ .‬ومل يكن ً‬
‫انتهيت‬
‫ُ‬ ‫ثم تبعت «شيطان عىل الصليب» رواي ُة (ماتيغاري((()‪ ،‬وها أنا‬

‫‪ -1‬اسم حميل لرواية لثيونغو‪ ،‬وهي حتكي قصة فلكلورية بأسلوب ساخر‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫للتو((( من كتابة مسودة عمل بدأته يف مايو من العام ‪1997‬م‪ .‬حني تصدر‬
‫ّ‬
‫رواية (موروغي وا كاغوغو) ستكون أطول عمل روائي بلغة الغيكويو‪.‬‬
‫وسيكون عنوان الرتمجة اإلنجليزية حال صدورها «ساحر الغراب(((»‪.‬‬
‫كان األمر األكثر أمهية يف هذه القصة هو رشوق شمس روائيني آخرين‬
‫ٍ‬
‫جديد‪ْ .‬‬
‫وإن كان‬ ‫وشعراء وكتاب مرسحيني بلغة الغيكويو‪ .‬إهنا والد ُة ٍ‬
‫أدب‬
‫هلذا التقليد بداية واضحة مكانًا وزمانًا‪ ،‬فإهنا الزنزانة رقم ‪ 16‬يف سجن‬
‫كاميتي فائق التأمني واحلراسة‪ ،‬يف كينيا‪ ،‬بني العامني ‪1977‬م و‪1978‬م‪.‬‬
‫دت فيه أزمة الصبي‬ ‫وربام كانت البداية أقدم من ذلك‪ ،‬يف اليوم الذي ِ‬
‫شه ُ‬
‫ورصاخه‪ .‬وعند حماولتي اهلروب من أن أكون يف مأزقه‪ ،‬أظنني كنت أركض‬
‫إىل قدره متا ًما‪ .‬كانت عبقرية اللغة وحدها هي ما أبقاين عىل قيد احلياة ألرس َد‬
‫احلكاية‪.‬‬

‫‪ -1‬التوقيت هنا حييل إىل موعد كتابة املقالة وهو العام ‪٢٠٠٤‬م‪.‬‬
‫‪« -2‬ساحر الغراب» رواية للكاتب صدرت عام ‪٢٠٠٦‬م أي بعد ‪ ٢٠‬سنة من روايته السابقة‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫ذاتي المنقسمة‬
‫(((‬
‫نيكوالس باباندريو‬

‫ثنائي اللغة يعني أن ينشأ بمعية ثقافتني خمتلفتني‪ ،‬وربام‬


‫َّ‬ ‫أن ينشأ املرء‬
‫هويتني متعارضتني‪ .‬كانت اليونانية ابتدا ًء لغة السياسة؛ أي لغة حمارضات‬
‫أيب وجدي‪« .‬اليونان لليونانيني»؛ هكذا قاهلا أيب بنربة حزن يف منتصف‬
‫الستينيات‪ .‬أو بكلامت أكثر حكمة‪ ،‬بيونانية جدي‪[« :‬حيث] ا ُمل ْلك للملك‪،‬‬
‫ولكن احلكم للشعب»‪.‬‬
‫صيت حفاظهم عليها‪ .‬لغة الرجال‬ ‫ُ‬ ‫كانت اليونانية لغتهم التي ذاع‬
‫البسطاء الذين جيتمعون خالل االنتخابات يف املطبخ‪ ،‬مرتدين بدالهتم‬
‫الداكنة وربطات العنق القصرية؛ ولغة النساء الاليت ارتدين السواد دو ًما‪،‬‬
‫وأصابعهن غليظة‪ ،‬أشد غلظة من أصابع أمي وجديت وأخواهلا البولنديني‪.‬‬
‫آمنت أولئك النسوة أن اهلل قد منحه ّن حق قرص جلدي وحلمي‪.‬‬
‫ولكن لغة الضفة التي تنتمي هلا أمي((( كانت هي التي سلبت قلبي‪ :‬لغة‬

‫‪ -1‬نيكوالس باباندريو (‪ )Nicholas Papandreou‬كاتب أمريكي‪/‬يوناين‪ .‬حاصل عىل‬


‫الدكتوراه يف االقتصاد من جامعة برينستون‪ .‬بعد العمل يف البنك الدويل يف فرتة التسعينيات‪،‬‬
‫وكرس حياته للكتابة‪ .‬وهو ابن عائلة غارقة يف السياسة يف اليونان‪ ،‬لذلك حاول‬ ‫تفرغ نيكوالس ّ‬
‫نقاش أثر الرسد عىل حياة الساسة اليونانيني يف دراسة بعنوان «السياسة يف صيغة املتك ّلم»‪ .‬له عدة‬
‫روايات ترجم بعضها إىل عدة لغات عاملية‪.‬‬
‫‪ -2‬أم الكاتب أمريكية لذلك كام سيأيت الحقا تعاين من اليونانية وتتعثر هبا‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫شيكاغو األنجلو‪-‬ساكسونية‪ .‬حني انتقلنا إىل اليونان من كالفورنيا مطلع‬
‫الستينيات ليامرس أيب العمل السيايس‪ ،‬كانت اإلنجليزية ملجئي؛ كانت‬
‫السبيل الذي أجاهد من خالله ضد ضياع هوية طفولتي كامل ًة‪.‬‬
‫يف مرسحية ريتشارد الثاين لشكسبري‪ ،‬كان جواب الدوق توماس موبراي‬
‫عىل عقوبة نفيه من إنجلرتا أن قال‪« :‬لقد حبست لساين يف فمي»‪ ،‬ثم يصف‬
‫ً‬
‫متكامل‪،‬‬ ‫«وأي جرح غائر هو»‪ .‬لكن حالتي بالطبع مل تكن سجنًا‬ ‫ّ‬ ‫ذلك ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫والسبب كان يف وفرة اإلمدادات من الكتب‪ ،‬كام أن اإلنجليزية كانت لغتنا‬
‫تشبثت بقوة بإنجليزيتي؛ هذا يعني أنني قرأت الكثري من‬‫ُ‬ ‫داخل املنزل‪ .‬لقد‬
‫الكتب الربيطانية وهذا جعلني عار ًفا ببعض خصائص اللهجة وعباراهتا‪،‬‬
‫كام تعرفت عىل كتب الرسومات اهلزلية وساعدتني يف التغلب عىل أخي‬
‫األصغر أثناء اللعب‪ .‬فكنت أرصخ به أثناء مصارعتنا بعبارات مثل ‪zap,‬‬
‫كثريا حني أكتشف‬‫كنت أبتهج ً‬‫‪ pow‬أو عبارة ‪ kablooey‬حني أجهز عليه‪ُ .‬‬
‫كلامت جديدة‪ ،‬خاصة إن كانت من لغة الشارع العامة‪ .‬حني سألني أمريكي‬
‫مراهق ذات مرة عن مكان احلامم كي يستطيع أن «يترسب» ‪،leak a take‬‬
‫لت أجسادنا مثل سفن خربة يترسب‬ ‫كدت أجن من السعادة؛ عندها خت ّي ُ‬
‫انتقلت عائل ٌة أمريكية إىل اجلوار تعلمت أن عبارة «يارجل»‬
‫ْ‬ ‫منها املاء‪ .‬وحني‬
‫‪ man‬يمكن أن تلقى يف أي مكان من اجلملة كام يشاء املتكلم‪ ،‬وأن ‪cool‬‬
‫تعني‪.(((well, cool, man :‬‬
‫لكن اليونانية كانت متأل املكان كله‪ ،‬فكانت لغة الدراسة ملواد علوم‬
‫اهلندسة والرياضيات واجلغرافيا‪ ،‬يف شكلها اللغوي املسمى ب ـ �‪kathar‬‬
‫‪ evousa‬وتعني النظيفة أو النقية‪ .‬أحرضت اليونانية يف معيتها رشيط حياهتا‬
‫الثقايف ً‬
‫كامل‪ :‬الرهبان الذي أحرقهم الرتك أحيا ًء والنساء حني ينتحرن من‬

‫‪ -1‬عبارات تقال بكثرة أثناء احلديث باإلنجليزية‪.‬‬

‫‪135‬‬
‫شاهق اجلبال قبل أن يقعن بيد العدو؛ وجرس آرتا الذي ذكرين دو ًما بقصة‬
‫هنارا ليعاود االهنيار ليلً‪ .‬كذلك‬
‫سيزيف ‪ ،‬حيث كانوا يصلحون اجلرس ً‬
‫(((‬

‫حترض حكايات احلرب العاملية الثانية يف معية اللغة اليونانية حيث قام عميل‬
‫لألملان بقطع رؤوس املقاومني الرسيني وبيعها لألملان كام يباع امللفوف‪.‬‬
‫وحني وضعت احلرب أوزارها‪ ،‬ألقي القبض عىل الرجل وسلخ جلده ً‬
‫كامل‬
‫بشفرات احلالقة‪ ،‬ثم دفن يف كثيب رمل‪.‬‬
‫مل أكن ألطيق الصرب وأنا أحلم بالعودة إىل «الديار» ألخرب أصحايب‬
‫عن احلمل الصغري الذي اختذناه حيوانًا ألي ًفا داخل منزلنا‪ ،‬وال عن االهنيار‬
‫الشديد لقنطرة مضيق كورينث‪ ،‬وكذلك عن سمكة القرش التي رأيتها‬
‫معلقة يف سنارة صيد األسامك يف جزيرة هيدرا‪ .‬كنت أحترق شو ًقا ألخربهم‬
‫عن طعم املشويات اليونانية مع اخلبز‪ ،‬وعن الريقات املتدلية من عىل أغصان‬
‫أشجار األَ ْرز‪ .‬مل يكن يف احلقيقة ثمة أصدقاء يف تلك اجلهة من العامل‪ ،‬لكنني‬
‫شعرت بحاجة متلكتني كي أخرب أحدً ا ما عن عامل خمتلف عن الواليات‬
‫املتحدة‪ .‬أدركت بعد سنوات أن ذلك العامل‪ ،‬أي الواليات املتحدة‪ ،‬هو مكان‬
‫جنبي يف كل مكان وزمان‪.‬‬
‫ّ‬ ‫محلته بني‬
‫حني كان أيب وجدي يرويان قصصهام‪ ،‬كانت هناك مجوع مذهلة تستمع‬
‫هلام‪ .‬لقد أذهلتني تلك اجلموع‪ ،‬كام كنت قد تعلمت من أيب وجدي الرسد‬
‫باألسلوب اليوناين‪« .‬إن اليونان لليونانيني‪ ،‬املسيحيني الربوتستانتينني‬
‫الكالثوليكيني»‪ ،‬هكذا كان جدي يرشق الطغاة حني كان حتت اإلقامة‬
‫اجلربية‪ .‬وبرغم صغر سني حينها‪ ،‬إال أنني تعجبت من قدرته عىل دمج‬
‫ثالثة ديانات داخل عبارة واحدة مؤثرة‪ .‬وقال مرة يف عباراته التي يمزج هبا‬

‫‪ -1‬سيزيف شخصية من األساطري اليونانية وكان ماكر ًا حاول خداع املوت‪ ،‬فعاقبته اآلهلة أن‬
‫حيمل صخرة تتدحرج كلام وصل هبا إىل القمة‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫ملك الناس قط»‪ .‬وقال يف‬ ‫َ‬
‫امللوك دو ًما؛ ومل ينزع ٌ‬ ‫الناس‬
‫«ينزع ُ‬
‫ُ‬ ‫األشياء بإجياز‪:‬‬
‫أخرى‪« :‬تتشدق الديكتاتوريات باالتفاق؛ ووحدها الديموقراطيات تأذن‬
‫كبريا أن أحتدث‬
‫محلتني عب ًئا ً‬ ‫باخلالف»‪ .‬إن بالغة الرجلني ‪-‬أيب وجدي‪ّ -‬‬
‫محل شا ًقا إىل احلد الذي مل‬
‫اليونانية بمستوى يفوق مستوى عامة الناس‪ .‬كان ً‬
‫مبكرا يف معسكر املمكن‬ ‫كثريا؛ مما جعلني ألقي بنفيس ً‬
‫أستطع البذل يف سبيله ً‬
‫ال املستحيل‪.‬‬
‫كبريا‪ ،‬جملدً ا سميكًا‪،‬‬
‫والدي كتا ًبا ً‬
‫ّ‬ ‫أتذكر أنني مرة اخرتت من مكتبة‬
‫قرأت يف‬
‫ُ‬ ‫معتقدً ا ‪-‬بالطبع‪ -‬أن األسمن هو األغنى؛ فانتهى يب األمر أن‬
‫عيل نطق‬‫رجل يستحيل ّ‬ ‫التاسعة من عمري قصة حياة معامري كان قد كتبها ٌ‬
‫اسمه األول‪ ،‬أو حتى جمرد حماولة ذلك! هربت برسعة من ذلك إىل مغامرات‬
‫بيغيل ورس باليتون اخلامس(((‪ ،‬كام قرأت أوالد هاردي وكل كتب الفتيات‬
‫التي استطعت حتصيلها من أختي غيل‪-‬صوفيا‪ .‬كنت أرفض ندا َءها باسمها‬
‫وندائها بغيل‪-‬صوفيا‪ .‬كانت‬ ‫ِ‬ ‫جمر ًدا‪ ،‬وأرص عىل إضافة النكهة األمريكية‬
‫اسم بنكهة أمريكية‪ ،‬يف حني كانت أسامء البقية‬
‫أختي هي الوحيدة التي حتمل ً‬
‫يونانية دون نكهات أخرى‪ :‬جورج‪ ،‬وآندي‪ ،‬ونيك‪.‬‬
‫وقد كان عرايب((( اخلاص من جعلني أفكر دائ ًم باللغة بالشكل الذي‬
‫أمارسه؛ إذ كان يسألني أحيانًا‪« :‬ملاذا تسمى امللعقة ملعقة؟» فكنت أجيب‬
‫مثلام يفعل األطفال‪« :‬هذا سخيف جدً ا! تسمى ملعقة ألهنا ملعقة‪ ،‬وتلك‬
‫شوكة‪ ،‬إذن تسمى شوكة»‪.‬‬

‫‪ -1‬عناوين لقصص مغامرات ال تعد من القراءات العميقة لكنها مشهورة‪.‬‬


‫موجها‬
‫ً‬ ‫‪ -2‬فكرة العراب (‪ )godfather‬تكون يف أن خيتار الوالدان صدي ًقا أو قري ًبا ليكون‬
‫لطفلهام‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫مل أكن أفهم حينها معنى أن يكون عرايب من حمبي ماغريت(((؛ أحببت‬
‫العراب‪:‬‬
‫عرايب ألنني كنت أظن أنه كان يمثل متا ًما ما ينبغي أن يكون عليه ّ‬
‫بدلة رسمية‪ ،‬وربطة عنق أنيقة‪ ،‬وقبعة‪ ،‬وعصا‪ ،‬وشارب خمفف وحمدد‪،‬‬
‫وذائقة أرستقراطية مميزة‪.‬‬
‫«أتعلم ما الذي يعنيه اسمك؟» ‪ ..‬سألني ذات مرة ونحن يف غرفة الطعام‬
‫يف منزلنا‪.‬‬
‫«اسمي ‪ ..‬حسنًا! اسمي نيك فهو إذن يعني نيك»؛ لكنه بادرين ً‬
‫قائل‪:‬‬
‫كامل وليس النسخة القصرية منه‪ ،‬أتعرف ح ًقا ماذا‬
‫ً‬ ‫«أريد معنى اسمك‬
‫يعني؟»‬
‫أنا‪« :‬أنت تعني نيكوالس إذن؟»‬
‫العراب‪« :‬يف اسمك تركيب من كلمتني؛ أتستطيع رؤيتهام؟»‬
‫أنا‪« :‬ال»‪.‬‬
‫العراب‪« :‬نيك باإلضافة إىل الوس‪ ،‬وهذا يعني‪ :‬انتصار الشعب»‪.‬‬
‫فعل‪ .‬نظرت مبارشة‬‫أرسارا ً‬ ‫ٍ‬
‫عندئذ أن األسامء اليونانية حتمل‬ ‫تبني يل‬
‫ً‬
‫وبسهولة إىل اسم أخي جورج‪ ،‬جيو تعني األرض‪ ،‬وأورج تعني الفعل‬
‫َح َرث؛ هكذا يكون اسم جورج يعني املزارع‪ ،‬الذي حيرث األرض‪ .‬أما آندي‬
‫وشعره األشقر والذي مل يكن يتكلم إال اليونانية فكان اسمه يعني ببساطة‪:‬‬
‫رجل‪ .‬أما صوفيا فلم يكن يف اسمها أي توليف؛ صوفيا تعني احلكمة‪ .‬هذه‬
‫األسامء البسيطة مل تكن ممتعة فال أرسار فيها وال ألغاز‪.‬‬

‫‪- 1‬رينيه ماغريت رسام سرييايل بلجيكي‪ ،‬وكان يعد من الفنانني األذكياء الذين حيفزون الفكر‬
‫عرب أعامهلم الفنية‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫كان اسم زوجة اخلباز ممت ًعا يف اللعبة‪ :‬يوفوين‪ .‬حني دخلت أختي علينا‬
‫ورغيف اخلبز بيدها‪ ،‬رصخت عال ًيا‪« :‬يووو ‪ -‬فوين! أجزم أنك اشرتيت‬
‫هذا الرغيف من السيدة الصوت‪-‬اجلميل!» وكان اسم صديقي ألكساندر‪،‬‬
‫أي‪ :‬رجل‪-‬معرتض‪ .‬كنت أشعر بتفوق يف ممارسة لعبة األسامء تلك‪ .‬أخذين‬
‫الغرور مرة فجئت إىل أمي ‪-‬التي كانت تتعثر باليونانية‪ -‬متحد ًيا إياها أن‬
‫عم فأتت بكلمة‬ ‫الرسي‪ .‬قدمت يل أمي ُط ً‬
‫ّ‬ ‫يت بكلمة ال أستطيع معرفة معناها‬
‫تأ َ‬
‫سهلة وأجبتها مبارشة‪ .‬ثم جاءت بكلمة ال أنساها أبدً ا وكنت قد تعجبت‬
‫حينها من معرفة أمي هلا رغم طوهلا! كانت ‪ eleemosynary‬هي الكلمة‪.‬‬
‫أعلنت هزيمتي مبارشة‪ ،‬فقالت أمي‪« :‬اذهب وابحث عنها يف املعجم»‪.‬‬
‫فاكتشفت وأنا مبتهج أن ثمة جذور يونانية يف الكلمة‪ eleimosini :‬والتي‬
‫تدل بشكل أو بآخر عىل االرتباط بالصدقة والرب‪.‬‬
‫بدأت رحلة البحث عن املفردات اإلنجليزية ذات اجلذور اليونانية‪،‬‬
‫خاصة تلك التي ال يتصور املرء أهنا كذلك‪ .‬ووضعت قائمة بتلك املفردات‪.‬‬
‫عىل سبيل املثال كلمة مقربة ‪ cemetery‬والتي تعني يف اليونانية ‪kimitirio‬‬
‫بكل بساطة‪ :‬مكان النوم‪ .‬وكلمة رشطة ‪ police‬والتي يعرفها العامل كله‬
‫جاءت من أصلها اليوناين ‪ .polis‬كام أن كلمة نطاق ‪ zone‬يونانية يف أصلها‬
‫لكن معناها يف اليونانية يدل عىل كل ما يرتديه اإلنسان عىل وسطه‪ ،‬احلزام‪.‬‬
‫وها أنا أشارككم كلمتي املفضلة ضمن تلك القائمة‪ .‬كلمة كارثة ‪disaster‬‬
‫هي األخرى من أصل يوناين وتعني يف أصلها‪ :‬عدم التوافق مع النجوم!‬
‫األمر أين أصبحت مصدر إزعاج ألهيل مع لعبة الكلامت هذه‪،‬‬
‫ُ‬ ‫بلغ يب‬
‫ً‬
‫حماول نطقها كام هي يف‬ ‫ٍ‬
‫وعال‬ ‫حيث كنت أردد الكلامت بصوت مزعج‬
‫أصلها‪ .‬أو يف املقابل كنت أزعم تصحيح نطقهم «القبيح» لبعض املفردات‬

‫‪139‬‬
‫فها أنا ذا املصاب األول يف عائلتي بمرض التهاب الكلامت(((‪.‬‬
‫«أبتي‪ ،‬توقف عن إصدار هذا الصوت املزعج ‪»!cacophony‬‬
‫«أماه‪ ،‬هذا اللحم املشوي سيكون ً‬
‫ثقيل عىل املريء ‪»!esophagus‬‬
‫«ال أستطيع الرتكيز مع هذه الضوضاء ‪ susurrus‬التي تصدر من تقليب‬
‫أوراق اجلريدة»‪.‬‬
‫«أبتي‪ ،‬أنت أحيانًا والد فخم‪/‬مغرور ‪»!pompous‬‬
‫كان ملثل هذه العبارات أن تفقأ عيني وذلك أن أيب منذ جميئنا من أمريكا‬
‫إىل اليونان وهو يعرب عن عدم ارتياحه لثقافة مراعاة نفسية الطفل يف الرتبية‬
‫األمريكية‪ ،‬وبدأ يميل ناحية الرتبية اليونانية التقليدية؛ كنا نسميها أحيانا‬
‫سيطرة العثامنيني‪ ،‬والتي تطبق بمساعدة الـ (((‪ zoni‬عىل مؤخراتنا! كانت‬
‫عملية فعالة!‬
‫كنزا‬
‫مبتهجا بصحبة أسامء األعالم األفراد‪ ،‬وجدت ً‬
‫ً‬ ‫وبعد فرتة قضيتها‬
‫ثمينًا حيث مل أحتسب‪ :‬أسامء العائالت اليونانية‪ .‬فكنت أترجم األسامء‬
‫بصورة لتبدو مضحكة يف شكلها اإلنجليزي‪ :‬فأصبح ‪Mister Kalovelonis‬‬
‫يدعى السيد اإلبرة اجليدة‪ ،‬وكذلك ‪ Mister Kalambokis‬أصبح صاحب‬
‫السمو السيد ذرة‪ .‬وكانت بعض األسامء مضحكة جدً ا يل وألختي حيث كنا‬
‫نتشاقى مع أسامء بعض رفيقات أختي يف املدرسة‪ .‬لكن بعض األسامء مل تكن‬
‫ذات داللة واضحة رغم صوهتا املضحك واملشجع عىل البحث‪.‬‬

‫‪ -1‬الكلامت التالية شديدة التقعر وال ينطقها الناس يف كالمهم اليومي‪ ،‬جاءت لتبني شدة عالقة‬
‫ساخرا بالتهاب الكلامت‪.‬‬
‫ً‬ ‫الكاتب باملعجم يف طفولته‪ ،‬لذلك سمى الكاتب احلالة‬
‫‪ Zoni -2‬جاءت بمعنى احلزام وقد ذكرت سل ًفا فاستخدمها الكاتب مرة أخرى بطرافة ليحيل‬
‫إىل ما سبق ذكره‪.‬‬

‫‪140‬‬
‫تكرارا صوت ًيا‪ ،papa ،‬فجدنا‬
‫ً‬ ‫كان اسم عائلتنا ‪ Papandreou‬يتضمن‬
‫قسيسا وهذا ما يفرس وجود البابا! أما اسم عائلة أحد مساعدي‬ ‫ً‬ ‫األول كان‬
‫أيب فكان فيه تكرار زائد‪ ،papapa ،‬ومل أستطع فك شفرته رغم املتعة التي‬
‫ترافق نطقه ‪ .Papapanayotou‬كنت أتغنى باسمه طر ًبا وأنا أميش داخل بيتنا‬
‫مما جعل أفراد األرسة مجي ًعا يفعلون اليشء ذاته‪ .‬حتى إن أمي كانت تشعر‬
‫بالتعاطف معه دون مربر فتقول أحيانًا‪« :‬يا للمسكني السيد بابابانايوتو!»‬
‫حريصا أن يعرفه يب‪ .‬ويف احلقيقة‬
‫ً‬ ‫زارنا مساعد أيب مرة يف بيتنا‪ ،‬وكان أيب‬
‫كبريا حني نطق اسم مساعده بزيادة «با» إضافية‬‫كان أيب قد قدم يل معرو ًفا ً‬
‫السمه فقال‪ :‬بابا ‪-‬با‪ -‬بانايوتو‪ .‬ال أظن حامل االسم أدرك لذة هذا التحريف‬
‫الذي طال اسمه‪ ،‬والذي كنت أجد أنا حالوته يف املقابل‪ .‬استمرت سعاديت‬
‫بمعرفة رس ذلك االسم ألسابيع‪ ،‬وكنت أرى ابتسامة أيب اللطيفة ألجيل‪ .‬لقد‬
‫«لساين العائلة» باإلمجاع‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أصبحت‬
‫ويف أثناء زمن الديكتاتورية احلاكمة لليونان يف الفرتة الواقعة بني ‪1967‬‬
‫وحتى ‪1974‬م‪ ،‬كان والدي قد اعتقل‪ .‬عندها طلبنا من بعض أقارب‬
‫أرستنا من جهة أمي أن يزورونا يف اليونان‪ .‬زارنا قريب ألمي‪ ،‬وهو ضابط‬
‫برتبة عقيد حائز عىل الكثري من األنواط العسكرية‪ ،‬وكان للتو عائدً ا من‬
‫ساحة القتال يف فيتنام‪ .‬كنا نسري بجواره يف شوارع أثينا‪ ،‬وهو فارع الطول‬
‫يف كامل أهبته العسكرية‪ ،‬متجاهلني حظر التجول؛ كنا نسري يف معيته لنتمكن‬
‫أخريا من الوقوف أمام سجن إيفريوف حيث كان أيب‪ .‬مل تكن تلك حالة‬ ‫ً‬
‫من البهجة املجردة فقط‪ ،‬بل كانت كأهنا ممارسة للثأر‪ ،‬كام عززت فكرة أن‬
‫اإلنجليزية كانت أقدر عىل توفري احلامية لنا من اليونانية‪.‬‬
‫انتقلنا إىل السويد يف العام ‪1968‬م‪ ،‬بعد خروج والدي من املعتقل بتدخل‬

‫‪141‬‬
‫مبارش من الرئيس جونسن((( والذي نُقل عنه أنه قال بلهجته التكساسية‬
‫عفو النظام‬
‫اجلنوبية‪« :‬أخرجوا ابن السافلة هذا من السجن»‪ ،‬فحينها نال أيب ُ‬
‫الديكتاتوري!‬
‫كنت أشعر أنني ‪-‬وأنا يف الثانية عرشة‪ -‬قد أطلق رساحي يف أستوكهومل(((‪،‬‬
‫ً‬
‫مندهشا‬ ‫فانغمست بحامس ‪-‬ولكن لوقت قصري‪ -‬يف إنجليزية السويد‪ .‬كنت‬
‫من وقاحة صور النساء شبه العاريات املعلقة عىل كل ركن بقالة يف املدينة؛‬
‫كام أدهشني تكوين مفرديت مدخل وخمرج‪ ،‬اللتني كانتا متآلن املكان‪ :‬بكل‬
‫جرأة كانتا ‪ infart‬و ‪ .utfart‬مل تكن مرحلة املراهقة سوى حالة من املتعة يف‬
‫وحل من القذارة‪ ،‬وكان كل يشء سوى ذلك كأنه أمر أخروي ينظر فقط إىل‬
‫املوت أو ما وراءه! لذلك كانت كلمتي املفضلة يف السويدية هي اإلمساك‪،‬‬
‫شكرا لك!‬
‫والتي كانت تعني يف احلني نفسه ‪ً ،ferstoppining‬‬
‫انتهى املطاف بنا يف كندا يف آخر سنة من عقد الستينيات‪ ،‬وحتت حكومة‬
‫رئيس الوزراء بيري ترودو((( الذي منح أيب حق اللجوء السيايس برشط عدم‬
‫جتاوز احلد يف نقده للواليات املتحدة األمريكية؛ وهو الرشط الذي مل يتمكن‬
‫دائم‬
‫أيب من العمل بموجبه قط! لقد كان األمر شديد الغرابة‪ ،‬حيث كنت ً‬
‫أشعر أن كندا هي موطني؛ والكنديني يتكلمون كام نتكلم‪ ،‬ولكن األمر‬
‫املبهج أهنم ال يتكلمون مثلنا متا ًما‪ .‬فكان هناك اختالف يف عبارات لعب‬
‫كرة السلة‪ ،‬واملعدات‪ ،‬والطرق؛ كام كانت أداة اجلمع ‪ s‬ختتفي أحيانًا‪ .‬وكانت‬

‫‪ -1‬ليندون جونسن هو الرئيس السادس والثالثون للواليات املتحدة األمريكي‪ ،‬وهو من احلزب‬
‫الديموقراطي؛ كان حكمه يف الفرتة من ‪١٩٦٣‬م وحتى ‪١٩٦٩‬م (تويف ‪١٩٧٣‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬عاصمة السويد‪.‬‬
‫‪- 3‬بيري ترودو رئيس وزراء كندا يف الفرتة من ‪١٩٦٨‬م وحتى ‪١٩٧٩‬م‪ ،‬ثم عاد بعد أشهر منتخ ًبا‬
‫مرة أخرى يف الفرتة من ‪١٩٨٠‬م وحتى ‪١٩٨٤‬م (تويف ‪٢٠٠٠‬م)‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫أداة ملكية ‪ your‬تلقى أمام كل ما هو داخل حتت التصنيف الذكوري من‬
‫األشياء‪ .‬وكان لدهيم آلة جترش الثلج ‪ ،snowblower‬تزيل الثلج وبعض‬
‫احلجارة‪ ،‬وربام بعض احليوانات الصغرية؛ وبعض املجرمني كام يف أفالم‬
‫(((‬
‫مغامرات جيمز بوند‪ .‬ويف نسخة حمدثة للكندية من الدكتور جيفاغو‬
‫بدل عن ‪.snowmobile‬‬‫سنرى ‪ً ski-doos‬‬
‫التحقت باملدرسة يف أرياف أونتاريو‪ ،‬التي مل أعلم قط عن سبب اختيار‬
‫أيب هلا لتكون مقامنا يف كندا‪ .‬وفيها تعلمت أن مقبض املنجل يسمى ‪.snath‬‬
‫أيضا أن فراشات ‪ Viceroy‬تشبه متا ًما فراشات ‪،Monarchs‬‬ ‫وتعلمت ً‬
‫تعلمت أن النبيل السيد‬
‫ُ‬ ‫لكن نمط حركة طرياهنا هو املختلف والفارق‪ .‬كام‬
‫سرتاثكونا((( كان قد دشن انتهاء مرشوع قطار املحيط اهلادي الكندي يف‬
‫السابع من نوفم رب ‪1885‬م‪ .‬وأن املستنقعات ‪ swamps‬تسمى عندهم �‪mus‬‬
‫‪kegs‬؛ وصوت اخلطوات فوقها تسمى دو ًّيا‪ ،‬والفقاعات داخل املاء املتجمد‬
‫تبدو ككرات كريستالية‪ .‬كام تعلمت يف كندا أن بإمكان قرص لعبة اهلوكي‬
‫أن يتحرك برسعة مئة ميل يف الساعة بحسب قوة الرضبة! كنا يف سيارتنا عىل‬
‫الطريق ‪ 13‬يف مدينة كنغ ستي ذات ظهرية باردة جدً ا‪ ،‬ومررنا بمحاذاة‬
‫مقربة صغرية وإذا بالصلبان متجهة نحو العلو ومثقلة باجلليد كأهنا قرون‬
‫يت وجهي شطر أمي ً‬
‫قائل‪« :‬أماه‪ ،‬أريدكم أن تدفنونني‬ ‫غزالن متجمدة‪َ .‬و ّل ُ‬
‫هنا حني أموت؛ ال يف كاليفورنيا وال يف اليونان وال السويد‪ ،‬بل هنا فقط‪:‬‬
‫يف كنغ ستي يف أونتاريو»‪ .‬مل أرها تبكي قط لكالم قلته مثلام فعلت حينها‪.‬‬
‫يف كندا كان لقائي األول بلغة ثالثة‪ ،‬لغة كنت أعرفها بعض اليشء وإن‬

‫‪ -1‬رواية للكاتب الرويس بوريس باسرتناك وكانت أحداثها تدور يف شتاءات روسيا املثلجة‪.‬‬
‫‪ -2‬رجل أعامل كندي‪ ،‬اسكتلندي املولد‪ ،‬وكان مشاركًا يف امتدادات اإلمرباطورية الربيطانية‬
‫ومؤسسا لعدة رشكات (تويف ‪١٩١٤‬م)‪.‬‬‫ً‬ ‫وحاكم ملقاطعات‬
‫ً‬ ‫يف القرنني التاسع عرش والعرشين‪،‬‬

‫‪143‬‬
‫مل أكن تعلمتها بشكل رسمي‪ .‬إهنا اإلنجليزية التي يتكلمها اجليل اليوناين‬
‫األول الذي نشأ يف كندا؛ إهنا اللغة التي يسميها جمتمعنا متعدد الثقافة بـ‬
‫(((‪ Gringlish‬غرينغليش‪ .‬يف الغرينغليشية يقحم املتكلم األسامء أو األفعال‬
‫اإلنجليزية يف اجلملة اليونانية‪ .‬فتصبح مجلة مثل ‪ Will you park the car‬يف‬
‫تستحيل مجلة مثل ‪How many‬‬‫ُ‬ ‫الغرينغليشية ‪ Tha kanis park to caro‬كام‬
‫‪ blocks away do you live‬إىل ‪Posa blockya makria‬‬

‫مزيج من اسمي‬ ‫ٌ‬ ‫مل أحبذ قط كلمة غرينغليش‪ ،‬حني بدت يل وكأهنا‬
‫علمني من األرشار‪ :‬غريندل و غرينش(((! يف املقابل أفضل استخدام كلمة‬
‫من إبداعي ال ختلو ‪-‬ربام‪ -‬من بعض السخرية وإن كانت دقيقة يف داللتها‪:‬‬
‫‪ ،Dinerese‬الداينريية (لغة املطاعم)‪ .‬يتكلم الناس هذه اللغة يف املطاعم‬
‫شامل وحتى فلوريدا جنوب ًا‪ ،‬بل حتى يف أشهرها عىل‬ ‫اليونانية من شيكاغو ً‬
‫اإلطالق‪ :‬مطعم نيبتون يف أستوريا((( القابع بأناقة حتت جرس تريبوبو‪ .‬شعب‬
‫اليونان ‪ The Greek People‬عبارة أحبها أيب دو ًما تصبح يف الداينريية ‪The‬‬
‫فليحي‬
‫َ‬ ‫‪ .Greek Peep‬حيب اليونانيون الـ «بيب(((»‪ .‬يا «بيب» العامل احتدوا‪.‬‬
‫الـ «بيب»‪ .‬هكذا يفعل اليونانيون رسيعو احلديث‪.‬‬
‫كثريا لتذكره‪ ،‬فقد حدث حني كنت يف‬ ‫أما مشهد املحادثة الذي أضحك ً‬
‫اجلامعة؛ حينها جاء إىل اجلامعة يوناين يوناين [حديث القدوم من اليونان]‪،‬‬
‫كان قد تعلم إنجليزيته من كتب الدراسات القانونية التي قرأها‪ ،‬وكان يعمل‬

‫‪ -1‬املفردة عبارة عن دمج لليونانية واإلنجليزية‪.English and Greek ،‬‬


‫‪ -2‬شخصيات خرافية رشيرة جاءت ضمن قصص خمتلفة‪.‬‬
‫‪ -3‬أستوريا هي حي يف منطقة كوينز يف نيويورك األمريكية‪.‬‬
‫‪ -4‬مفردة شعبية تطلق بمعنى الناس‪ ،‬وهي كذلك اسم حللوى شهرية تصنع عىل شكل دجاج‬
‫وأرانب لذلك أملح الكاتب حلب اليونانيني للكلمة‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫أجريا بوقت جزئي لدى حمل بيتزا يوناين يف نيو هيفني(((‪ .‬يف ذلك املكان‬‫ً‬
‫كان هذا الشاب قد التقى بأمريكا دون حروف مقطعة وال هتجئة ‪ .‬كانت‬
‫(((‬

‫املحادثة كام سيأيت وكام أسعفتني ذاكريت‪:‬‬


‫الزبون‪« :‬تشيزا ونصف بيب(((!»‬
‫العامل اليوناين‪« :‬أعتذر! ما هو طلبك؟»‬
‫الزبون‪« :‬نصف بيب‪ ،‬يا رجل‪ ،‬املزيج الدسم»‪.‬‬
‫العامل اليوناين‪« :‬أعتذر جمد ًدا‪ .‬أنا ال أتكلم العامية»‪.‬‬
‫الزبون‪« :‬أنت ال تتكلم ماذا؟»‬
‫العامل اليوناين‪« :‬لغة الشارع‪ .‬نعم هو ذاك؛ أنا ال أتكلم لغة الشارع»‪.‬‬
‫الزبون‪« :‬ومن الذي تكلم لغة الشارع؛ أنا أتكلم اإلنجليزية»‪.‬‬
‫العامل اليوناين‪« :‬أهتزأ يب يا سيدي؟ أتسخر يب؟»‬
‫الزبون‪« :‬هون عليك يا صاحبي؛ أنا فقط أريد الـ إيزا(((»‪.‬‬
‫العامل اليوناين‪« :‬أنت تتخيل نفسك يف بيتك؛ لذلك تظن أن لك احلق‬
‫أن تتكلم هبذا الشكل»‪.‬‬
‫الزبون‪« :‬يا رجل‪ ،‬هذا ليس بيتي! هذا حمل البيتزا اللعني؛ لكن اعذرين؛‬
‫من أي (كوكب) أنت؟»‬

‫‪ -1‬مدينة يف والية كونيتيكت األمريكية وحتتضن حرم جامعة ييل العريقة‪.‬‬


‫‪ -2‬يف إشارة إىل كالم الناس الرسيع والذي خيتلف يف واقعه عن القراءة ومرحلة التعلم‪.‬‬
‫‪ -3‬تيشزا دمج لكلمتي تيشز (جبن) وبيتزا‪ ،‬كام أن بيب هنا اختصارا لبيباروين‪ ،‬وهي رشائح من‬
‫اللحم توضع عىل البيتزا‪.‬‬
‫‪ -4‬اختصار آخر لكلمة بيتزا‪.‬‬

‫‪145‬‬
‫العامل اليوناين‪« :‬كوكب هي الكلمة اليونانية القديمة والتي تعني‬
‫متسكع يا سيدي‪ .‬أنا أعرف أصويل جيدً ا؛ أنا من آرتا‪ ،‬يف غرب اليونان‪،‬‬
‫جرسا ذات يوم!»‬
‫حيث بنى الناس ً‬
‫الزبون‪« :‬صه! اركب قاربك وعد أدراجك من حيث جئت أينام كان‬
‫ذلك»‪.‬‬
‫صغريا يف بيتنا كانت هي‬
‫ً‬ ‫إنه ملن املفارقة بمكان أن اليونانية التي تعلمتها‬
‫كثريا‬
‫ومفتاحا ألبواب الكثري من أماكن اللهو‪ ،‬فقد خلقت يل ً‬ ‫ً‬ ‫جواز سفري‬
‫من العالقات أيام اجلامعة‪ ،‬خاصة مع أولئك الذين تبدأ أسامء عائالهتم بـ‬
‫‪ Papa‬وتنهي بـ ‪ .opoulos‬لقد قدمت يل إذنًا دون سؤال لكثري من مواضع‬
‫اللهو املاجن من األندية الليلة التي يملكها يونانيون‪ .‬لكنها مل تكن كذلك‬
‫لعامل املطعم اليوناين!‬
‫كثريا ليس‬
‫دعيت ً‬
‫ُ‬ ‫إن عبء اليونانية الذي يقع عىل كاهيل وبشدة هو أنني‬
‫َ‬
‫ألمثل أيب وأكون مثله متاما؛ أيب الذي كان منذ السبعينيات الرقم‬ ‫لذايت ولكن‬
‫ً‬
‫حماول إدخال‬ ‫الفارق واألهم يف املعارضة اليونانية‪ ،‬والذي انحنى ظهره‬
‫االشرتاكية إىل اليونان‪ .‬لقد حرضت ‪( caucuses‬مؤمترات حزبية يف قربص)‬
‫دائم أساعد الطالب اليونانيني يف جامعة ييل متطو ًعا‪ ،‬وشاركت يف‬ ‫وكنت ً‬
‫حمافل كثرية جلمع التربعات لصالح املجتمع اليوناين‪/‬األمريكي يف مدن‬
‫عكازا لوالدي أثناء صعوده إىل السلطة‪ .‬وكان ثمة‬‫ً‬ ‫أمريكية كثرية‪ .‬لقد كنت‬
‫(((‬
‫ربا عىل زيارته بني احلني واحلني؛ إنه قرص الكريستال‬
‫مكان أجد نفيس جم ً‬
‫يف أستوريا يف منطقة كوينز‪ .‬يف هذا املكان كنت أجد املزيج الكامل ملظاهر‬
‫اإلجهاض اللغوي اليوناين األمريكي‪ .‬لقد كان قرص الكريستال ً‬
‫حافل بكثري‬

‫‪ -1‬اسم فندق فيه صالة للمناسبات‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫من اللقاءات السياسية‪ ،‬وحفالت الزفاف‪ ،‬واجتامعات األعياد والرقص‬
‫والغناء‪ ،‬وحمافل تعميد األطفال‪ .‬أدركت الح ًقا أن قرص كريستال حقيق ًيا‬
‫رصح الكريستال الذي‬‫ُ‬ ‫قد ُش ّيد قبل حوايل مئة ومخسني عاما يف إنجلرتا‪« .‬إنه‬
‫ال يمكن تدمريه»‪ ،‬كام قال دوستويفسكي((( يف «مذكرات من العامل السفيل»‪.‬‬
‫وبالرغم من عدم اتصايل حاليا بأي شكل مع أستوريا‪ ،‬وبالرغم من فقد‬
‫مغمورا‬
‫ً‬ ‫أستوريا للكثري من مظاهر هويتها اليونانية‪ ،‬إال أنني أجد نفيس‬
‫باملعنى غري املبارش مع ما قاله الكاتب الرويس‪ ،‬حتى وإن كان هذا املعنى من‬
‫الضآلة الشديدة بمكان‪.‬‬
‫بلغت سن التاسعة والعرشين كنت قد حتصلت عىل لغة جديدة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫وحني‬
‫فقد علمتني درجة الدكتوراه يف االقتصاد كل ما جيب معرفته عن‪ :‬دالة‬
‫التكاليف اللوغاريتمية؛ التغاير يف مصفوفات االنحراف املعياري؛ مقدرات‬
‫مربعات املراحل الثالث الصغرى‪.‬‬
‫عدت‬
‫ُ‬ ‫مل أكن أزور اليونان خالل دراستي إال يف الصيف‪ ،‬وحني انتهيت‬
‫إليها ألداء خدمة التجنيد اإللزامية يف أواخر الثامنينيات؛ بعد أسبوع واحد‬
‫من مناقشة أطروحة الدكتوراه يف مقاعد جامعة مرحية من جامعات رابطة‬
‫اآليفي(((‪.‬‬
‫هكذا انتهي يب املطاف إيل جزيرة ليموس شامل اليونان‪ ،‬جمندً ا يف قطاع‬
‫الطريان العسكري اليوناين‪ .‬كنت أستطيع جتنب اخلدمة العسكرية مستخد ًما‬
‫جنسيتي األمريكية‪ ،‬لكن هذا ما ال جيب أن يفعله الوطنيون؛ وقد أحببت‬

‫‪ -1‬فيودور دوستويفسكي كاتب وروائي وصحفي رويس‪ ،‬يعد من أشهر الكتاب عامل ًيا (تويف‬
‫‪١٨٨١‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬رابطة ودوري ريايض تنتمي له أعرق ثامن جامعات أمريكية وهي األقدم كذلك وبدأت‬
‫تشتهر أكاديم ًيا هبذا االسم‪ ،‬ومنها جامعة برينستن العريقة التي خترج منها الكاتب‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫أن أرتدي الزي العسكري املوحد وأمحل السالح أكثر من حبي قراءة مقالة‬
‫علمية اقتصادية أخرى‪ .‬كام كان لدي سبب آخر‪ :‬كنت أختيلني أجد فجأة‬
‫ذاك الضابط الذي اعتقل أيب ليلة االنقالب‪ ،‬الذي وجه سالحه يف وجهي‬
‫أيضا‪ .‬أرستني تلك الفكرة‪ .‬لكنه اجتامع مل يكن ليحصل واق ًعا مع‬ ‫حينها ً‬
‫األسف الشديد‪ .‬بل يف املقابل كنا جنو ًدا يف جيش بالد واحدة نحيي بعضنا‬
‫البعض‪ :‬أنا واملنتمني لليمني املتطرف‪.‬‬
‫كانت اجلزيرة حمارصة بالصخور الربكانية؛ وكانت موطن بوسيدون(((‪.‬‬
‫َق َطن الثكنات العسكرية جمموعة من الشباب الصغار يف الثامنة عرشة من‬
‫أعامرهم؛ وكان كل واحد منهم يتكلم هلجة يونانية حملية ختتلف عن األخرى‬
‫دعي ُ‬
‫يقول‬ ‫شعرت بينهم وكأنني مهرج دخيل ٌ‬
‫وأخ توأ ٌم كاذب‪ٌّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫بشكل ّبي‪.‬‬
‫أنه ابن رئيس الوزراء‪ .‬وقد كنت يف ذلك الوقت أفكر وأكتب باإلنجليزية‪.‬‬
‫ووزيرا للدفاع؛ مما جيعله القائد العام لكل القوات‬
‫ً‬ ‫رئيسا للوزراء‬
‫وكان أيب ً‬
‫العسكرية‪ .‬وكوين ابنًا لقائد وطني‪ ،‬فاجلميع يتوقع مني أن أكون بشكل‬
‫خبريا يف كل الشؤون اليونانية‪ :‬أن أعرف كل أبطال الثورة ورموزها؛‬‫تلقائي ً‬
‫ّ‬
‫وأن أعرف أسامء الوزراء احلاليني والسابقني واحلقائب التي استلموها‬
‫أي‬
‫والسنوات التي خدموا خالهلا؛ واألسوأ عىل اإلطالق أن ال يصدر مني َّ‬
‫خطأ إمالئي يف أي وثيقة أكتب هبا حر ًفا!‬
‫وبرصف النظر عن كل الضغوط التي كنت أواجهها‪ ،‬كان ثمة أمر إجيايب‬
‫عظيم ملريض بالتهاب الكلامت مثيل‪ :‬رطانة العسكريني؛ هلجة العسكريني‬
‫اليونانيني‪.‬‬
‫كنت يف‬
‫«من السهل أن تزعم استعدادك لتلقي رضبة من اخللف إن َ‬

‫‪ -1‬إله البحر يف األساطري اليونانية القديمة‪.‬‬

‫‪148‬‬
‫احلقيقة حتمل ظهر غريك ال ظهرك»‪ ،‬هكذا سمعت جند ًيا يقول بعد املجيء‬
‫من احلراسة يف ليلة باردة جدً ا‪ .‬ورصخ جندي آخر عند كدمه أصبع رجله‬
‫بقائمة الرسير ً‬
‫ليل‪« :‬فليذهب احلامر الذي أكل سعفة املسيح وهو يف طريقه‬
‫إىل النارصة إىل اجلحيم»‪ .‬وكان بعضهم يذكر «أذن مريم العذراء» حني‬
‫يسقط سالحه يف إملاحة إىل أن محلها باملسيح حسب اعتقاد الكنيسة كان‬
‫سام ًعا عرب فتحة األذن‪.‬‬
‫هذه اللغة بني اجلنود ال تعني أهنم كانوا جيهلون تراثهم متا ًما! لكن اجليش‬
‫خاصا وهلجته ختصه‪:‬‬ ‫كان شار ًعا ً‬
‫«كيف يا ترى كان أوديسوس((( يتجسس عىل الطرواديني؟»‬
‫«من خالل فتحة الرشج اخلشبية للحصان اخلشبي!»‬
‫كنا كذلك نستخدم عبارات وجمازات وكلامت رسية منبثقة من اليونانية‬
‫الرتاثية املعيارية‪ ،‬لغة كنا نظن أن العدو الرتكي الذي كان عىل بعد مخسني‬
‫رتا لن يدرك مغزاها أبدً ا حتى وإن اجتهد يف ذلك‪.‬‬
‫كيلوم ً‬
‫كانت فكرة أن أدعى أمام ألف جندي يف الساحة ألتلو الصلوات‬
‫اإلنجيلية تشكل يل خويف األكرب‪ .‬كان هذا اهلاجس خييفني ألنني أضعت‬
‫بعضا من تلك الكلامت أو بأي لغة تقال إثر الرتحال من بلد آلخر‪ .‬يف كل‬
‫اسم من اختياره بعشوائية‬
‫ليلة يف امليدان‪ ،‬نصطف بانضباط‪ ،‬فينادي القائد ً‬
‫فيطلب من «سعيد احلظ» أن يتلو الصلوات‪ .‬وخالل انتظار سامعنا لالسم‪،‬‬
‫كنت أجتهد يف تذكر ألفاظ الدعاء‪ ،‬وكنت أمأل الفراغات اليونانية التي‬
‫مل تسعفني ذاكريت هبا باأللفاظ اإلنجليزية من الصلوات ثم أترمجها إىل‬

‫‪ -1‬أوديسوس هو ملك أيثاكا يف األساطري اليونانية وكان قد ترك بالده ملشاركة اليونانيني احلرب‬
‫عىل طروادة وهو صاحب فكرة خدعة احلصان‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫اليونانية‪ .‬لكن هذه اللعبة مل تكن سهلة حتت وطأة ضغط اخلدمة العسكرية‬
‫وقو ًفا بجوار ألف جسد يمألها الشهيق والزفري‪ .‬وحلسن احلظ‪ ،‬مل َ‬
‫أدع قط‬
‫وكأن النجوم مل تكن أبدً ا يف حالة تناسق كارثية‪.‬‬
‫كل هذا التاريخ كان وسادة لغوية وثرية أضع رأيس عليها كل ليلة حني‬
‫أخريا أن أكتب؛ كنت أرى أن احتكاك اللغتني تسبب يف منحي شي ًئا‬
‫قررت ً‬
‫ُ‬
‫عظيم‪ ،‬وهو قدرة حتويل املعنى الزهيد إىل معنى جمازي ثري‪ .‬فأصبحت‬ ‫ً‬
‫صورة الشخص الذكي اللامح يف ذهني مثل «خملب النرس»‪ ،‬كام أصبح‬
‫حكيم‪« :‬ال تتجهم يف‬
‫ً‬ ‫الرجل الطويل «صديقا لشجرة األَ ْرز» ‪ ...‬وأصبحت‬
‫وجه أسفل درجات السلم‪ ،‬ألنك ستحتاجها للوصول إىل قرصك»‪.‬‬
‫الناس يف جزيرة كريت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫وجدت مقط ًعا شعر ًيا مقفى ذات مرة يتداوله‬
‫وحاولت ترمجته‪:‬‬
‫واخلوف‬
‫ُ‬ ‫بعض البرش‪ ،‬أما أنا فيذبلني األمل ُ‬ ‫ُ‬
‫السنون واحلروب َ‬ ‫تُذبِل‬
‫الشمس سكّيني‪ ،‬لكن ح ًّبا صغريا‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫وتأكل‬ ‫الريح ثيايب‪،‬‬
‫ُ‬ ‫ُتلك‬
‫ُ‬
‫يأكل داخيل‬
‫كان الناس يف اليونان مثل كنز ذهبي منثور عىل التالل‪« .‬أستطيع سامع‬
‫الرائحة املاحلة»‪ ،‬هكذا قالت امرأة قروية ذات مرة حني أتت الرياح برائحة‬
‫البحر‪ .‬لقد أرستني بمزجها للحواس؛ ثم أدركت الح ًقا أهنا كانت ً‬
‫مثال ح ًيا‬
‫ملا يسميه الفالسفة «املحاسة»‪ ،‬أو «احلس املشرتك»‪ ،‬ويعني أن تزحف حاس ٌة‬
‫بانسيابية نحو أختها‪ .‬ومن األمثلة األدبية عىل ذلك قول نابوكوف يف سريته‬
‫الذاتية املعنونة بـ «تكلمي أيتها الذكريات» حيث أخرب أنه كان يرى األلوان‬
‫ترافق نطق أصوات احلروف؛ اخلاصية التي كان يسميها هو «السامع امللون»‬
‫أو ‪ audition colore‬كام يف الفرنسية والتي أظنها أكثر أناقة‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫قديم اسمها‬
‫حدثتني جديت صوفيا ذات مرة عن اسم فتاة كانت تعرفها ً‬
‫‪ .Eulalia‬وأخربتني أن االسم ينقسم إىل قسمني‪ :‬مطلعه ‪ eu‬بمعنى جيد‬
‫كثريا أثناء بحثي‬
‫أو مجيل‪ ،‬ثم ‪ lalia‬بمعنى كالم‪ .‬وهو اسم بدأت أجده ً‬
‫وقراءايت ألجل الكتابة خاص ًة يف ما يكتبه سكان واليات اجلنوب يف أمريكا‪.‬‬
‫ويف احلقيقة قابلت مرة فتاة تدعى ‪ Eulalia‬يف جزيرة سريوس والتي زامحت‬
‫كنائسها السامء وكأهنا تتنافس ملزيد من املساحة يف فضاء اجلزيرة‪ .‬كنت يف‬
‫مزدحم» الذي كتبته باإلنجليزية‬
‫ٌ‬ ‫«قلب‬
‫ٌ‬ ‫لقاء عام أعرض من خالله كتايب‬
‫وترجم إىل اليونانية الح ًقا‪ .‬كان اجلمع معقول العدد‪ ،‬وال أنسى أن اسم‬
‫حضورا جيدً ا‪ ،‬ومن ذلك كان هذا اجلمع‬
‫ً‬ ‫العائلة الذي أمحله يضمن يل دو ًما‬
‫الذي حرض ليشاركني تدشني كتايب وقراءة بعض صفحاته‪.‬‬
‫كبريا يف السن‪ ،‬قسطنطني‪ ،‬ليقرأ جز ًءا من الكتاب‬ ‫أحرض املنسقون ً‬
‫ممثل ً‬
‫عىل اجلمهور‪ .‬كان يقرأه وكأنه مرسحية تراجيدية من الرتاث اليوناين‪،‬‬
‫فكان خيفض صوته حينًا ويرفعه حين ًا آخر؛ وكان التصفيق واالحتفاء‬
‫بأدائه حارين‪ .‬جلس قسطنطني بجواري حني كان البعض يتحدثون عن‬
‫الكتاب يف إحدى فقرات الربنامج‪ ،‬فبدأ احلديث معي وكأننا مل نكن عىل‬
‫آمل أن يدفعه ذلك إىل خفض صوته‪.‬‬ ‫فانحنيت ناحيته ً‬
‫ُ‬ ‫املرسح أمام الناس‪،‬‬
‫ضغط قسطنطني عىل فخذي بحامسة مفاجئة وقال‪« :‬أترى تلك الفتاة‬
‫هناك؟ نعم هناك هناك؛ ذات الشعر الداكن والعينني اجلميلتني؟ أتراها؟‬
‫كانت لدهيا صعوبة يف النطق‪ ،‬وقد ساعدهتا يف ختطي ذلك عرب أربع سنوات‬
‫من دروس تقويم اللسان»‪ .‬كان ذلك هو لقائي الوحيد بـ ‪ ،Eulalia‬وكانت‬
‫هي الوحيدة التي عرفتها حقيقة وحتمل ذلك االسم‪ .‬وقعت هلا نسختها من‬
‫كتايب‪ ،‬وفعلت ذلك بإهداء اجتهدت أن يبدو فن ًّيا مثل زهرة‪ .‬كانت بالفعل‬
‫طويل ًة‪ ،‬ذات شعر داكن اللون‪ ،‬مجيلة‪ ،‬كام كانت حسنة النطق‪ ،‬لبقة حتسن‬

‫‪151‬‬
‫اختيار املفردات؛ متام ًا مثلام جيب أن تكون كل من حتمل اسمها‪ .‬مل أرها قط‬
‫إال تلك املرة‪.‬‬
‫إن مفردة ‪ lalia‬يف اليونانية تعني الصوت‪ ،‬أو اللغة‪ ،‬أو اللسان‪ .‬ويف‬
‫السويدية مفردة ‪ tala‬تعني الفعل تكلم؛ ويف الدنامركية ‪ lalle‬تعني ثرثرة‬
‫اإلنسان الثمل أو الفاقد لوعيه جزئ ًيا‪ .‬ملا بدأت تعلم اإلسبانية وجدت‬
‫صدى الكلمة يف ‪ habla‬التي تعني خطبة‪ ،‬وسمعت صدي ًقا برازيل ًيا يقول‬
‫‪ falaa‬بمعنى يتكلم‪ .‬ويف الفرنسية يسمون الكالم البسيط غري املتكلف �‪par‬‬
‫‪ .ler‬وحتى ‪ parlance‬اإلنجليزية‪ ،‬أسلوب أو تعبري‪ .‬إهنا تلك الـ ‪.la‬‬
‫يف إحدى زيارات الصيف إىل اليونان أثناء سنوات الدراسة زرت جزيرة‬
‫سكياثوس املليئة بأشجار الصنوبر‪ .‬أخذين أحد صيادي األسامك إىل شاطئه‬
‫املفضل‪ .Lalaria ،‬سألته‪« :‬ملاذا سمي الالريا؟» أجابني الرجل‪ ،‬كام يفعل‬
‫كل اليونانيون‪« :‬أترى تلك الصخور؟» وأشار إىل صخور بيضاوية مثل‬
‫بيضة النعام‪ ،‬وكانت حتارص الساحل‪ ،‬ثم قال‪« :‬حني يرضب موج البحر‬
‫هذه الصخور تنطق وتغني هي بـ ال ال ال ال؛ أغمض عينيك وأنصت»‪.‬‬
‫أعتقد أن كل أفراد أرسيت أصابتهم جراح اللغة بشكل أو بآخر‪ .‬فأخي‬
‫جورج وصفه أحد معارضيه ذا ًّما إياه بأنه «أول وزير خارجية لبالدنا تعلم‬
‫لغتنا اليونانية كلغة ثانية»‪ .‬وأمي مل تكن تقبل أن تظهر يف لقاءات تلفزيونية‬
‫خشية أن ختلط بني املذكر واملؤنث يف اللغة رغم أهنا أمضت عقو ًدا من الزمن‬
‫قائدة حلركة حقوق املرأة يف اليونان‪ .‬أما أختي فكانت قد هربت من هذا كله‬
‫إىل كندا‪ ،‬وابنها الصغري يتكلم «الكندية» بطالقة‪ .‬وكان أخي األصغر آندي‬
‫يراجع كل كلمة من املحتمل أن ينطقها يف املدرسة خشية أن يقع يف خطأ يف‬
‫النطق أو القواعد‪ .‬أيب‪ ،‬وما أدراك ما أيب‪ ،‬لقد أمىض عمره حيمل عىل عاتقة‬
‫ٌ‬
‫«متأمرك» جدً ا؛ كان متمكنًا من كلتا‬ ‫عبء اخلوف من أن يصفه الناس بأنه‬

‫‪152‬‬
‫مكدرا‬
‫ً‬ ‫اللغتني بطالقة‪ .‬وكان الفرد الوحيد يف أرستنا الذي ال أذكر له موق ًفا‬
‫خيص اللغة رغم ختوفه املبالغ فيه‪.‬‬
‫أما أنا! فاآلن‪ ،‬أشعر بأن االنقسام كنز حتصلت عليه‪ .‬تلعب اإلنجليزية‬
‫دو ًما دور الباب إىل كل ما ّملا يكتشف بعد‪ ،‬نحو تلك التضاريس لليونان التي‬
‫يف خميلتي‪ ،‬لليونان التي أمحلها يف ذاكريت‪ :‬يونان طفولتي‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫ُ ّ‬ ‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫شفاف‪ ،‬وأزرق‪ ،‬وشقائق النعمان‬
‫إم جاي فيتزجيرالد‬
‫(((‬

‫يف مطلع العام ‪1959‬م‪ ،‬حني كنا نسكن يف بلدة ساحلية صغرية عىل‬
‫شاطيء ليغوريا(((‪ ،‬أنتجت قناة تلفزيونية إيطالية فيل ًم وثائق ًيا عن أرستنا‬
‫بعنوان‪ Una Famiglia Americana in Italia :‬أي «عائل ٌة أمريكية يف‬
‫إيطاليا»‪.‬‬
‫كان قرار هيئة اإلذاعة والتلفزيون اإليطالية‪ ،‬والوليدة يومها‪ ،‬بتسجيل‬
‫قرارا يشبه اهلجامت املرتدة‪ ،‬فهو عن عائلة أمريكية يف إيطاليا مقابل‬
‫الفيلم‪ً ،‬‬
‫جربت عىل االنتقال واهلجرة إىل الواليات‬
‫ْ‬ ‫آالف األرس اإليطالية التي ُأ‬
‫املتحدة‪ .‬أتصور أن ذلك كان أحد األسباب الكثرية‪ ،‬لكن اختيار أرسيت‬
‫حتديدً ا أظنه كان ألننا مل نكن يف احلقيقة نعيش كام يعيش العاملون األجانب‬
‫يف ميالن‪ ،‬و فلورانس‪ ،‬وروما يف جمتمعات أمريكية مغرتبة قد تكون صغرية‬
‫أو كبرية؛ لكننا كنا نسك ُن يف حالة من االندماج والتعايش يف بلدة صغرية‬

‫‪ -1‬إم جاي فيتزجريالد (‪ )MJ. Fitzgerald‬كاتبة أمريكية حاصلة عىل املاجستري يف اإلنجليزية‬
‫وترأس مركز الكتابة اإلبداعية يف جامعة مينيسوتا األمريكية‪ ،‬والتي قدمت هبا كأستاذة عدة مواد‬
‫يف الكتابة والدراسات األوروبية‪ .‬هلا عدة روايات‪ ،‬وهلا قصة نرشهتا جملة( (�‪Literary Imagina‬‬

‫‪ )tion‬األدبية العلمية بعنوان «اخرتاع احلالة اليونانية»‪.‬‬


‫‪ -2‬ليغوريا منطقة ساحلية مشهورة يف الشامل الغريب اإليطايل وهي من أقاليم إيطاليا الرسمية‬
‫كمنطقة إدارية‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫اسمها الفانتو‪ ،‬كنا األمريكيني الوحيدين الذين مروا يف تلك البلدة لعام‬
‫كامل‪.‬‬
‫سبب وجيه آخر لذلك االختيار هو أن بال ًدا حيبها األطفال ينبغي أن تكون‬
‫املكان الذي جيتمع فيها ستة أطفال يشبهون صغار البط حيث ال اختالف‬
‫بينهم لتقارب أعامرهم؛ سبع سنوات هي الفاصل بني أكربنا سنًا وأصغرنا‪.‬‬
‫كنا ثالثة ِصبية وثالث فتيات؛ لنا الوجوه ذاهتا‪ ،‬وشعرنا متشابه‪ ،‬وكنا كسائر‬
‫أطفال الدنيا مؤهلني لقرصة عىل خدودنا ترافقها عالمات التعجب التي‬
‫يفرتض أهنا تعرب عن اللطف! أربعة منا التحقوا باملدرسة؛ صب ّيان يف قسم‬
‫البنني يف مدرسة احلي االبتدائية‪ ،‬وأنا يف اجلهة املقابلة يف قسم البنات‪،‬‬
‫التحقت أختنا الكربى‬
‫ْ‬ ‫ذي املمرات املزخرفة باللونني األبيض واألخرض‪.‬‬
‫بمدرسة داخلية يف ترينيتا ري مونتي يف روما‪ ،‬الذي يعد مكانًا خاصا جدً ا‬
‫تديره راهبات فرنسيات‪ ،‬عدد الطالبات فيها ال يتجاوز املئة كلهن ينتمني‬
‫لعائالت من قمة الطبقة الوسطى‪ ،‬ويقيم غالب تلك العائالت يف اجلنوب‬
‫الفقري نسب ًيا‪ :‬كاالبريا‪ ،‬بوليا‪ ،‬بازيليكاتا‪ ،‬كامبانيا‪ ،‬سيسليا (صقل ّية)‪ ،‬مع أقلية‬
‫حلقت بأختي‬
‫ُ‬ ‫من اإلقليم الشاميل بل حتى من إقليم التسيو((( بعظمته! حني‬
‫وانضممت إىل املدرسة يف العام ‪1963‬م‪.‬كان يف املدرسة طالبتان أمريكيتان‬
‫وقد ذهبت بصحبتهام ذات مرة إىل القنصلية األمريكية يف حزن شديد للتوقيع‬
‫عىل دفرت التعازي بعد حادثة الثاين والعرشين من نوفمرب(((‪ .‬أختي يف املقابل‬
‫مل يكن معها أي أمريكيات حني بدأت يف العام ‪1958‬م‪.‬‬
‫جامعي ‪ Il Professore‬دافعا آخرا الختيار‬
‫ّ‬ ‫وربام كان عمل أيب كأستاذ‬

‫‪ -1‬التسيو هو اإلقليم الذي يضم العاصمة اإليطالية روما‪ ،‬لذا فهو مقر للطبقات الثرية والوجاهة‬
‫االجتامعية‪.‬‬
‫‪ -2‬املقصود هنا هو حادثة اغتيال الرئيس األمريكي اخلامس والثالثني جون فيتزجريالد كينيدي‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫عائلتنا موضو ًعا ومادة للفيلم‪ .‬كان أيب يقيض يومه ويؤدي عمله يف املنزل‬
‫يف كثري من األوقات‪ ،‬مما جيعله يبدو وكأنه عاطل ليس لديه ما يعمله‪ .‬وقد‬
‫كتب قصيدة عن أحد إخويت‪ ،‬و كانت تدور حول تبجح أخي وتفاخره عىل‬
‫أصدقائه حني سألوه عن وجود أيب يف املنزل طوال النهار‪ ،‬فأجاهبم متباه ًيا‪:‬‬
‫ليل!» كان املكتب الذي ينجز أيب‬ ‫«ألن أيب ‪ il babbo‬يسطو عىل املنازل ً‬
‫ّ‬
‫به دراساته وترمجاته ألوديسة هومريوس((( مكانًا مقدّ ًسا ال يمكن اقتحام‬
‫حرمته؛ لكنه كان يأذن أحيانًا بمنح امتياز الزيارة لبعضنا‪ .‬وكان تدبري شؤون‬
‫املنزل واألرسة عب ًئا عىل كاهل أمي وحدها مع مساعدة اخلادمتني اللتني‬
‫تقيامن معنا يف املنزل‪ :‬ماريا وأليس‪ .‬كل واحدة منهن تزور أرسهتا مرة واحدة‬
‫يف الشهر يف قرى جبلية ومعها عرشة دوالرات هدية ألرسهتا‪.‬‬
‫كثريا‪.‬‬
‫وألشهر طويلة ‪-‬أو كام بدت يل‪ -‬تر ّدد فريق التلفزيون عىل بيتنا ً‬
‫كانوا يزورننا عىل الدوام والتوايل أليام وأسابيع‪ ،‬يغادرون ثم يعودون‬
‫جمد ًدا‪ .‬أتذكر جيدً ا حني طلبوا مني امليش عىل السلم الصخري املؤدي إىل‬
‫كثريا‪ .‬من‬
‫باحة منزلنا اخللفية حيث بستان الزيتون والعنب‪ ،‬وتكرار املشهد ً‬
‫طول بقائهم وكثرة توجيهاهتم أصبحت قادرة عىل اجللوس دون حراك يف‬
‫املدرسة‪ ،‬مطيعة ألوامر االنضباط! صوروين وأيب ونحن نعزف ‪Für Elise‬‬
‫دخلت كثريا باندفاع وخرجت من مكتب أيب ألجل جلسات‬ ‫ُ‬ ‫عىل البيانو(((‪.‬‬
‫تصوير البيانو؛ تط ّلب األمر قبل ذلك ساعات طويلة لتجهيز وضعية البيانو‬
‫للتصوير‪.‬‬
‫توقفت عن أخذ دروس العزف عىل البيانو بعد ذلك بقليل‪ ،‬قبل أشهر‬

‫‪ -1‬هومريوس الشاعر اليوناين األسطوري صاحب امللحمتني‪ :‬األوديسة واإللياذة (تويف يف القرن‬
‫الثامن قبل امليالد)‪.‬‬
‫‪ -2‬من أشهر مقطوعات املوسيقار بيتهوفن‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫من جلوسنا فيام بعد يف منزل القسيس ملشاهدة الوثائقي‪ .‬وكام تنبأ أيب حني‬
‫تنهد ُمتع ًبا من عنادي حني كنت أقول‪« :‬ال أريد‪ ،‬أكرهها‪ ،‬وال أبايل هبا!»‬
‫ها أنا ذا اليوم نادمة عىل توقفي بقدر حدة كرهي لثقل دم السلم املوسيقي‬
‫حينئذ؛ يكون اإلهبام األيمن عىل األيرس لنحصل عىل صوت اإليقاع‬
‫السلم بشكل ممل مل يبدُ أنه سيتوقف قري ًبا‪ .‬وأنا عىل يقني تام‬
‫َ‬ ‫املوزون‪ ،‬ونكرر‬
‫ورصخت باإليطالية حني أردت التوقف عن‬ ‫ُ‬ ‫وأرصيت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫جتهمت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫اآلن أنني‬
‫دروس العزف‪ ،‬وأن أيب عرب عن أسفه وخيبته باإلنجليزية‪ .‬ال أمحل ذكريات‬
‫مشاهبة من التداخل اللغوي إال حني كان والداي حياوالن ّأل نفهم مرادمها‬
‫أمر ما؛ عند ذلك يكتبون ما يريدون باإلنجليزية‪ .‬كنا نفهم نطقهام‬ ‫من نقاش ٍ‬
‫اإلنجليزي متا ًما‪ ،‬ولكن مسألة الكتابة والقراءة باإلنجليزية كانت نقطة‬
‫ضعفنا حتى بلغنا املراهقة وبدأنا باالنتقال إىل العامل الناطق باإلنجليزية‪.‬‬
‫يف بدايات العام ‪1959‬م‪ ،‬قبل بداية الدراسة‪ ،‬انتقلنا للعيش يف‬
‫فلورانس‪ ،‬واستأجرنا الـ ‪ ،piano nobile‬الطابق الرئيس من بناية قديمة؛‬
‫كان سكن القسيس مالص ًقا للكنيسة الصغرية‪ ،‬التي بدت بسبب صغر‬
‫حجمها ومالصقتها لبنايتنا وكأهنا جناح من البناية‪ .‬أتذكر مثل حلم ‪-‬يف‬
‫آخر العام ‪1959‬م‪ ،‬أو ‪1960‬م‪ -‬املطر والربد اخلفيف؛ اجتمعنا يف الردهة‬
‫الرئيسة مع بعض األصحاب الذين مل يكن لدهيم جهاز تلفزيون يف ذلك‬
‫نجلس عىل األريكة البالية وبعضنا عىل كرايس اخلشب الصلبة‬ ‫ُ‬ ‫الوقت‪،‬‬
‫وآخرون عىل األرضية ملشاهدة الفيلم الوثائقي‪ .‬يرشف والداي القليل من‬
‫رشاب اخلرشوف الكحويل‪ ،‬كان رشا ًبا مساعدا عىل اهلضم ‪ digestive‬يقدَّ م‬
‫بعد العشاء عادة لدى العائالت «الكريمة» فيام ينالنا نحن األطفال نصيبنا‬
‫من احللوى ‪ caramelle‬مع حتفظ ّبي يف نظرات أمي‪ ،‬لكنها كانت عاجزة‬
‫توجب أن تقدم احللوى‬‫ُ‬ ‫عن مصارعة عادات الضيافة اإليطالية‪ ،‬التي كانت‬

‫‪157‬‬
‫لألطفال يف اللقاءات واملناسبات‪.‬‬
‫مل يبق يف ذاكريت إال مظهر ذلك املكان بعمومه‪ ،‬أما تلك احللوى بطول‬
‫إنش واحد وبطعم الفواكه‪ ،‬صلبة من اخلارج وطرية من الداخل مغلفة‬
‫برقاقة بالستيكية جمعدة فأثرها ال ينسى‪ .‬كانت تلك احللوى موجودة لدى‬
‫كل ب ّقال ومطعم يف املنطقة‪ ،‬لكني مل أكن أعلم عنها قبل تناويل هلا يف تلك‬
‫قبل بام يف ذلك‬ ‫كل مذاق حلو عرفته من ُ‬ ‫الليلة‪ ،‬وهي بدورها طغت عىل ّ‬
‫احللوى املفضلة لدي «منتينه»‪ :‬حلوى صلبة تأيت بنكهات متنوعة وما زالت‬
‫حتى يومنا هذا تباع يف الفانتو‪ .‬مل تعد تؤثر كلمة حلوى ‪ candy‬اإلنجليزية‬
‫عىل مزاجي الذوقي أبدً ا‪ ،‬يف املقابل جتيء كلمة ‪ caramelle‬اإليطالية لتأخذين‬
‫إىل ذلك املذاق احللو‪ ،‬تلك القرشة الصلبة التي تداعب األسنان َف َ ِت ُّق شي ًئا‬
‫فشي ًئا أثناء حتريكها يف الفم حتى بلوغ قلبها الطري‪.‬‬
‫أما الفيلم الوثائقي فلم أشاهده مرة أخرى إال بعد مخس وعرشين سنة‪،‬‬
‫مريضا بالرسطان‪ ،‬وبدأ معركته العالجية ضد‬ ‫ً‬ ‫شخص األطباء أيب‬ ‫حني ّ‬
‫طوال بصحبته يف صيف العام‬ ‫ً‬ ‫قضيت أيا ًما‬
‫ُ‬ ‫انتشاره من الرئتني إىل الكبد‪.‬‬
‫متسلحا بالعالج الكياموي‬
‫ً‬ ‫‪1984‬م حني كان يصارع يف معركته اخلارسة‬
‫واإلشعاعي‪ .‬نجح أخي يف احلصول عىل نسخة من الفيلم الوثائقي من‬
‫أرشيف هيئة اإلذاعة والتلفزيون اإليطالية‪ ،‬ثم حول صيغتها إىل نظام أرشطة‬
‫الفيديو‪ ،‬ونسخ منها عد ًدا من النسخ‪ .‬جاء أخي بنسخة أليب يف ظهرية صيفية‬
‫مجيلة جدً ا‪ :‬كانت الشمس مرشق ًة عىل الستائر القامشية دون أن جتد سبيلها‬
‫أبيضا يمأل هدوء غرفة أيب املريض‪.‬‬ ‫نورا ً‬ ‫املبارش إىل الغرفة‪ ،‬فكانت تعطي ً‬
‫أحطت أنا وأخي أبانا وهو مستلق عىل رسيره الذي يمكن رفعه وخفضه‬ ‫ُ‬
‫قليل‪ ،‬ساقاه ممدودتان عىل طرف‬ ‫حسب حاجة املريض وراحته‪ .‬انتهض أيب ً‬
‫الرسير‪ ،‬ورأسه وظهره مسنودان عىل طرف الرسير املرتفع‪ ،‬ثم شاهدنا سوي ًا‬

‫‪158‬‬
‫الثالثني دقيقة من اإلصدار األصيل حلياتنا قبل مخس وعرشين سنة‪.‬‬
‫كان األمر األكثر مفاجأة ودهشة يف تلك املشاهدة الثانية للفيلم هو‬
‫والدي‪ .‬لكن الفرق بينهام يكم ُن يف أن أمي كانت‬ ‫ّ‬ ‫املستوى املتدين إليطالية‬
‫فجعلت من أخطائها وسيلة‬ ‫ْ‬ ‫ترجتل سبيلها بشجاعة أثناء الكالم دون تردد‬‫ُ‬
‫لبيان مرادها وتفهيم املقابل؛ أما أيب فكان معتمدً ا اعتام ًدا ً‬
‫كامل عىل مالحظاته‬
‫املكتوبة‪ ،‬والتي كان يقرأ منها أثناء حديثه مع املقابل‪ ،‬وكان نطقه سي ًئا بشكل‬
‫هت مذهول ًة أنني‬
‫ال يوصف‪ .‬أثناء مرافقتي أليب يف هدأة ضياء الصيف‪ ،‬تن ّب ُ‬
‫كربت وبعدما عدنا إىل الواليات املتحدة‪ ،‬مل أسمع أيب يتكلم اإليطالية‬ ‫ُ‬ ‫حينام‬
‫قط‪ ،‬وإن كان يستذكر بعد العبارات لغرض املجامالت الرسمية بالرغم‬
‫من أن نطقه هلا كان عص ّيا عىل الفهم والرتمجة‪ .‬أنا كذلك مل أبادره بالكالم‬
‫باإليطالية منذئذ‪ .‬أما أمي فكانت دائمة التن ّقل بني اللغتني‪ ،‬تقفز من هذه إىل‬
‫تلك بسهولة ورشاقة‪ .‬كانت اللكنة األجنبية بينة يف حديثها‪ ،‬وهو األمر الذي‬
‫مل يؤثر عىل واقعها فقد كانت تستخدمها كلام استطاعت إىل ذلك ً‬
‫سبيل‪.‬‬
‫دققت النظر يف أيب وأنا بجواره عىل رسير مرضه الذي مل يكن ليقوم منه‪.‬‬ ‫ُ‬
‫كان أنفه اجلميل معقو ًفا كام مل يكن من قبل متوس ًطا مالحمه التي بدت هزيلة‬
‫أضحت داكنة‪ ،‬وعيناه غارقتني يف حميطهام؛ كام كان إهبام‬
‫ْ‬ ‫جدً ا؛ خرض ُة عينيه‬
‫يده يف راحة من إشارته التي مل تكن تفارقه‪ُ :‬صن ُْع دائرة بالتالقي مع األصبع‬
‫الوسطى وإصدار صوت بضغط لسانه عىل أعىل حلقه عندما يريد أن يعلن‬
‫تقريره ألمر ما‪ .‬كان انتقالنا عائدين إىل الواليات املتحدة قبل عرشين سنة‪،‬‬
‫ي أيب يف جامعة هارفارد؛ عرشون سنة منذ‬ ‫يف خريف العام ‪1965‬م حني ُع ّ َ‬
‫تفرق أوالده األربعة الكبار يف مدارس داخلية يف دول أربعة خمتلفة‪ .‬الطفولة‬
‫يف إيطاليا‪ ،‬كانت هي األساس والتجربة واالنطباع الذي شكّل غالب حيايت‬
‫فيام بعد؛ إحدى عرشة سنة بني أكتوبر من العام ‪1953‬م وأكتوبر ‪1964‬م‬

‫‪159‬‬
‫كثريا‪،‬‬
‫والدي‪ :‬مرحلة تشبثت هبا أمي ً‬ ‫ّ‬ ‫كانت مرحلة فاصلة رسيعة يف حياة‬
‫ونفض أيب يده منها رسي ًعا‪ .‬ربام مل يتكلم أيب اإليطالية معنا مطل ًقا؟ ربام كان‬
‫يتكلم اإلنجليزية فقط‪ ،‬وكان يكفيه أن يفهم ما نقوله نحن باإليطالية أثناء‬
‫احلديث؟‬
‫حني انتهينا من مشاهدة الفيلم‪ ،‬ابتسم أيب ابتسامة خفيفة‪ ،‬وزفر زفرة‬
‫عميقة‪ ،‬لكنه مل يعقب بيشء‪ .‬كنت حمرجة من عدم متكنه من لغة كنت‬
‫أتكلمها كام أتكلم اإلنجليزية اآلن‪ ،‬وهذا ما منعني من سؤاله عام إذا كان‬
‫قد تكلم اإليطالية يو ًما‪ .‬وبالرغم من أن أيب شاهد الفيلم مرات عديدة بعد‬
‫ذلك مع أخويت الذين كانوا يبادرونه بالزيارة كام كنت أفعل‪ ،‬إال إنني وإياه‬
‫مل نشاهد الفيلم سوي ًا مرة أخرى‪ ،‬مل نفعل يف ذلك الصيف الذي قضيت معه‬
‫أيا ًما عديدة‪ ،‬وال عند بداية احرتاق أوراق اخلريف الذي تزامن مع جميئي من‬
‫إنجلرتا طريانًا فقط ألكون معه‪ .‬شاهدت الفيلم وحدي مرة واحدة فقط بعد‬
‫ذلك‪ .‬ولربام سأشاهده مرة أخرى قبل انتهائي من كتابة هذه املقالة‪ .‬تنتابني‬
‫رغبة قوية ّأل أفعل‪ ،‬ربام بسبب شعوري بالعار بسبب حياتنا الرغيدة‪ :‬عار‬
‫تو ّلد من رحم اللباقة السياسية‪ ،‬التي أنظر إليها دو ًما بريبة شديدة‪ .‬أو ربام ال‬
‫ٍ‬
‫ضبابية مثل خويف من أمل احلنني‬ ‫أرغب بمشاهدته ألسباب أعجز عن بياهنا‪:‬‬
‫وواضحة مثل أمل فقد أيب‪ .‬أما اآلن فاألمر يتطلب شجاع ًة أعظم بعد فقد‬ ‫ٍ‬
‫مؤخرا ألمي‪ .‬أتذكر مشاهدها يف ذلك الفيلم بضفائرها املجدّ لة عىل طريقة‬
‫اهلنود احلمر‪ ،‬وقد التقطنا بعض الصور معها عىل شواطئ ليفانتو وسيسرتي‬
‫ليفانتي(((‪.‬‬
‫قبل وفاة أيب‪ ،‬اجتمعنا ذات يوم حول رسيره وحتدثنا عن الفيلم متذكرين‬
‫تلك األيام اخلوايل‪ ،‬والتي كانت الرابط الوحيد بيننا مجي ًعا‪ .‬كان الكالم‬

‫‪ -1‬بلدتان صغريتان يف إقليم ليغوريا‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫يو َمها كالمنا نحن األوالد وليس كالم أيب‪ .‬وأنا أكتب اآلن‪ُ ،‬أ ُ‬
‫درك أن أيب‬
‫أراد بقراره العيش يف إيطاليا أن جيدَ لنا بيئة خمتلفة عن البيئة التي عاش فيها‬
‫صغريا‪ ،‬بيئ ًة بعيدة قدر املستطاع عن دياره‪ ،‬حيث ُولد وترعرع‪ :‬زرقة البحر‬‫ً‬
‫املتوسط‪ ،‬نور الدفء وانعكاساته املبهرة عىل املاء‪ ،‬منحدرات وتربة بساتني‬
‫الزيتون‪ ،‬تلك األرض التي يظهر عىل وجهها املزيد من احلجارة كلام نزل‬
‫كل يوم ليبني ً‬
‫منزل ‪per fare‬‬ ‫عليها املطر‪ ،‬ليجمعه ابن جارنا املزارع املجنون َّ‬
‫‪ ،una casa‬ويرعى األشجار ويقطف الزيتون والعنب‪ ،‬الرائحة الالذعة‬
‫رقصا‬
‫املالزمة للحظرية الكبرية حيث كنا ندوس العنب مبتهجني ونعرصه ً‬
‫بأقدامنا‪ ،‬العطر الرقيق لشجرة امليموزا‪ ،‬وشجرة املشمش التي كنا نتسلقها‪،‬‬
‫وشجرة الكوبية التي كنا نصنع التيجان من أوراقها‪ ،‬وأشجار املاغنوليا‬
‫والصنوبر املنترشة يف كل مكان‪ .‬فام هو وجه الشبه بني كل هذا وبني الوسط‬
‫الغريب البعيد عن البحر يف الواليات املتحدة‪ ،‬ذلك املكان الذي مل أعلم عنه‬
‫شي ًئا إال أن الذرة تنمو عال ًيا بمقدار ارتفاع رأس الفيل؟! وما هو وجه الشبه‬
‫بني طفولتنا املليئة بشجار األشقاء واألصدقاء‪ ،‬وبني أرسة صغرية نشأ أيب‬
‫فيها شاهدً ا عىل فقد مل يستطع فهمه وهو طفل‪ :‬موت أمه وأخيه؟!‬
‫إنه بالفعل سبيل خمتلف وبيئة خمتلفة‪ .‬إنه عامل خمتلف مل أستطع رؤيته‬
‫إال حني حاولت أن أفهم بصفتي أ ًّما‪ ،‬كيف ستؤثر وفايت عىل حياة ابني‪،‬‬
‫جرتني إىل ذلك الوسط الغريب البعيد عن البحر‬ ‫خاصة وأن دائرة األيام قد ّ‬
‫برجيل‪ ،‬ليس بعيدً ا من مسقط رأس أيب يف مدينة‬
‫ّ‬ ‫وأنا أرصخ مقاوم ًة وأركل‬
‫سيربينغفيلد يف والية إيلينويز األمريكية‪ ،‬املكان الذي عاش فيه طفولته يف‬
‫بدل عن‬‫أب مريض‪ ،‬يف شتاءات متلؤها دهشة الثلج ً‬ ‫صحبة مفردة وحيدة مع ٍ‬
‫صيفيات من الغطس يف دهشة البحر‪ .‬البحر‪ !..‬تعجز األلفاظ عدا اإليطالية‬
‫‪ azzurro‬عن احتواء وصف عمق ُزرقته‪ .‬إن الكلمة األنجليزية ‪ blue‬أزرق‬

‫‪161‬‬
‫عمل املسكنات واملهدئات لألمل عاجز ًة عن العالج عند‬ ‫ِ‬ ‫مثل‬‫تعمل إال َ‬
‫ُ‬ ‫ال‬
‫حماولتي للتعبري عن زرقة البحر التي عرفتها يف طفولتي؛ يف املقابل تستدعي‬
‫‪ azzurro‬كل تلك الذاكرة العنيفة التي وكأهنا تلكمني باحلدة ذاهتا بقبضتها‬
‫كل ٍ‬
‫مرة أنطقها هبا‪.‬‬ ‫عىل معديت يف ِّ‬
‫أظن وأنا أكتب الساع َة وأتذكرين وأيب ونحن نشاهد ‪Una famiglia‬‬
‫‪ Americana in Italia‬يف تلك الظهرية املشمسة أن أيب ‪-‬ربام‪ -‬مل يغادر‬
‫الوسط الغريب األمريكي قط؛ وأن أمي ‪-‬يف املقابل‪ -‬غادرت تكساس حقيقة‬
‫واختارت حياة أخرى أرادهتا هي‪ .‬أظن أيب وجد نفسه ‪-‬دون إرادة حقيقة‬
‫متنقل من سيربينغفيلد إىل تشوت‪ ،‬ثم إىل هارفارد‪ ،‬فنيويورك‪ ،‬ثم نيو‪-‬‬ ‫ً‬ ‫منه‪-‬‬
‫إنجالند‪ ،‬ثم إىل إيطاليا؛ متا ًما مثلام أظنني مل أغادر إيطاليا‪ ،‬بل وجدت نفيس‬
‫متنقل ًة بني دولة وأخرى‪ ،‬مدفوع ًة باحلاجة التي ال خيار يل وال رغبة فيها‪.‬‬
‫قررت ّأل أتكلم باإليطالية أو‬
‫ُ‬ ‫لكن ماذا عن «اخليار» الذي اختذته حني‬
‫قرارا اختذته يف يقظة للطموح‬‫قرارا متعمدً ا دون شك‪ً ،‬‬
‫أقرأ هبا؟ كان ذلك ً‬
‫عيل أن أختار إحدى اللغتني؛ لكن ملاذا مل أخرت‬
‫اجلاد يف أن أكون كاتبة‪ .‬كان ّ‬
‫اإليطالية؟ عند السادسة عرشة من عمري‪ ،‬وحني اختذت قرار الكتابة‪،‬‬
‫كانت اإلنجليزية واإليطالية متوازيتني‪ ،‬وإن كان ثمة ميزة إضافية فإنني‬
‫كنت أكثر طالقة ومتكنًا من اإليطالية‪ .‬استمرت إنجليزيتي تعاين من لكنتي‬
‫اإليطالية حتى بعد التحاقي بمدرسة داخلية إنجليزية لسنتني‪ ،‬واستمرت‬
‫كتابتي اإلنجليزية تتضمن أخطا ًء بسبب احلضور الدائم لقواعد بناء اجلملة‬
‫اإليطالية والالتينية‪.‬‬
‫كنت دو ًما قارئة هنمة‪ ،‬وإن مل يكن ذلك جز ًءا من طفولتي املبكّرة؛‬
‫لقد ُ‬
‫كنت يف السابعة كنت أتناول وجبة قرائية خفيفة الدسم‪Piccole :‬‬ ‫حني ُ‬

‫‪162‬‬
‫‪( Donne, Piccole Donne Crescono, I ragazzi‬نساء صغريات)(((‪،‬‬
‫وهايدي(((‪ .‬ويف الثامنة قرأت رواية قلب((( ‪ ،Coure‬ربام مئة مرة‪ .‬ويف‬
‫العارشة قرأت باإليطالية جملدً ا للطالبات قبل سن املراهقة وموضوعه عن‬
‫املدارس الداخلية اإلنجليزية‪ ،‬اشرتيته من كشك لبيع الصحف والكتب‬
‫يقع يف اجلادة التي تؤدي إىل مسكننا يف فلورانس؛ كانت قيمته مخسمئة‬
‫لرية‪ ،‬وأظنني رسقتها من حقيبة أمي‪ .‬وحني انتقلنا إىل بريوجيا((( يف خريف‬
‫قرأت كل كتاب من الكتب التي خ ّل َفها صاحب املنزل عند‬ ‫ُ‬ ‫العام ‪1961‬م‪،‬‬
‫نسخ من الثالثينيات ملؤلفات إيميليو‬ ‫انتقاله منه؛ كانت الكتب قرابة املئة‪ٌ :‬‬
‫ل بلحية‬ ‫رومانسيات ملؤلفني منسيني‪ ،‬جاء يف إحداها أن رج ً‬
‫ٌ‬ ‫سالغاري(((‪،‬‬
‫ٍ‬
‫امرأة حي ّبها ‪ ...‬مل أقرأ يف الثانية عرشة‬ ‫وعاممة أسلم عند حممد((( ألجل‬
‫املخطوبون((( وال السيد دون غيسالدو(((‪ ،‬بل وال حتى اإللياذة؛ ومل أقرأ‬
‫املختارات املطلوبة منا يف السنة األوىل من املدرسة الداخلية كلها‪ .‬مل أقرأ‬
‫كذلك أعامل تشيزاري بافيزي‪ ،‬وليوناردو شاشا‪ ،‬وجورجيو باساين‪ ،‬ودينو‬

‫‪ -1‬عمل (سلسلة) روائي مثايل لألطفال من تأليف الروائية األمريكية لويزا ماي ألكوت (توفيت‬
‫‪١٨٨٨‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬هايدي رواية أطفال للروائية السويرسية يوهانا شبريي (توفيت ‪١٩٠١‬م)‪ ،‬وكان شعارها أهنا‬
‫«قصة لألطفال وألولئك الذين حيبون األطفال» وهي من أكثر الكتب مبي ًعا يف تاريخ الكتاب‬
‫املطبوع مطل ًقا‪ ،‬وقد أنتجت مسلسل رسوم متحركة وعرض باللغة العربية‪.‬‬
‫‪ -3‬رواية أطفال للروائي اإليطايل إدموندو دي إيميكس (تويف ‪١٩٠٨‬م)‪.‬‬
‫‪ -4‬مدينة يف يف إقليم أومربيا وسط إيطاليا‪.‬‬
‫‪ -5‬روائي وكاتب قصص مغامرات إيطايل (تويف ‪١٩١١‬م)‪.‬‬
‫‪ -6‬املقصود هنا هو النبي حممد صىل اهلل عليه وسلم نبي اإلسالم وخاتم املرسلني‪.‬‬
‫‪ -7‬رواية تارخيية إيطالية من ثالثة جملدات (وقد يكون اخلطيبان ترمجة أدق لعنوان الرواية)‬
‫للكاتب والشاعر اإليطايل ألساندرو مانزوين (تويف ‪١٨٧٣‬م)‪.‬‬
‫‪ -8‬رواية للكاتب اإليطايل جيوفاين فريغا (تويف ‪١٩٢٢‬م)‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫بوزايت‪ ،‬وال حتى إيتالو كالفينو‪ ،‬الذي كان كتابه «حكايات شعبية إيطالية»‬
‫دافع قصتي األوىل «ال َط ْو َية»‪ ،‬التي كتبتها ألقرر أنني كاتبة عىل مستوى‬
‫خلق رغبة الكتابة لدي بشكل ّبي كان كتا ًبا‬ ‫الطموح‪ .‬أما الكتاب الذي َ‬
‫قرأته وأنا يف الثالثة عرشة خالل األشهر الثامنية عرش التي قضيتها يف املدرسة‬
‫الداخلية يف روما؛ رواية من ثالثة جملدات مرتمجة من األملانية إىل اإليطالية‪،‬‬
‫رض من اجلامل والتناظر‪ :‬عن عازفة كامن موهوبة‬ ‫ي و ُم ٍ‬ ‫كانت عىل مستوى َب ِّ ٍ‬
‫رجل يكربها بسبع عرشة سنة‪،‬‬ ‫من النمسا تتزوج وهي يف السابعة عرشة ً‬
‫يرزقان بفتاتني توأم يبلغان السابعة عرشة يف بداية املجلد الثاين حيث تلتقيان‬
‫بشابني توأم وتتزوج كل واحدة منهام بشاب من التوأم‪ .‬وعند بداية املجلد‬
‫الثالث يبلغ أطفال كل أرسة السابعة عرشة‪ ،‬ومتيض القصة الطويلة هكذا‬
‫حتى تنتهي بالفتاة من املجلد األول‪ ،‬التي غدت امرأة كبرية (ليست بعيدة‬
‫عن عمري احلايل) تعزف الكامن عند وفاة زوجها وهو يف الثامنة والستني‪،‬‬
‫فتسمعها بنتاها وهن يف الرابعة والثالثني وأحفادها الذين يف السابعة عرشة‪.‬‬
‫كتبت روايتي األوىل يف العام ‪1963‬م‪ .‬كتبتها باإليطالية بكل تأكيد‪.‬‬
‫ُ‬
‫عن عازف بيانو موهوب حيترض من اللوكيميا؛ يلتقي الفتى بفتاة ملتحقة‬
‫حب حمكوم‬ ‫بمدرسة داخلية جماورة للمشفى الذي يرقد فيه‪ ،‬فيبدأ بينهام ٌّ‬
‫عليه باملوت سل ًفا وإن كان للتو قد أزهر ‪ ...‬أو أهنا ‪-‬ربام‪ -‬هي التي كانت‬
‫حتترض من اللوكيميا بينام كانت تتجلد وتتعزى بجامل عزفه الذي كانت‬ ‫ُ‬
‫تسمعه من معهد املوسيقى املجاور للمشفى الذي ترقد فيه‪ .‬كانت رواية‬
‫قصرية كتبتها عىل دفرت الدراسة بمساعدة اثنتني من الزميالت خالل الليايل‬
‫الطويلة من الدراسة‪ ،‬ثم نسختها بمشقة أثناء العطالت املدرسية عىل‬
‫الشعر‪،‬‬
‫َ‬ ‫كتبت‬
‫ُ‬ ‫اآللة الكاتبة (أوليفيتي((( ‪ )22‬اخلاصة بأيب‪ .‬حينها كنت قد‬

‫‪ -1‬من أشهر العالمات التجارية يف صناعة اآلالت الكاتبة حتى يومنا هذا والرقم ‪ ٢٢‬يرمز ألحد‬

‫‪164‬‬
‫باإليطالية كذلك‪ ،‬وكنت أتلقى نقدً ا من الصديقات يف املدرسة وكان يرتاوح‬
‫حول كونه‪ ،mi piace, bella, carina :‬أحببته‪ ،‬لطيف‪ ،‬مجيل‪.‬‬
‫ثم جاءت األيام العجاف يف املدرسة الداخلية‪ .‬فاملدرسة مل يكن فيها‬
‫مكتبة‪ ،‬بل خمتارات عشوائية‪ ،‬موزعة عىل أرفف بعشوائية هنا وهناك حول‬
‫ِ‬
‫يمض الوقت رسي ًعا حتى قرأهتا كلها ومل يعد لدي‬ ‫مرفقات املدرسة؛ ومل‬
‫جديد مل أقرأه‪ .‬ويف مقابل رضاي يف طفولتي يف أن أكرر ما سبق يل قراءته‬
‫فإنني َ‬
‫اآلن ال أريد إال كتا ًبا جديدً ا لكل يوم جديد‪ .‬حتى وجودي أثناء‬
‫العطالت يف املنزل مل يكن أفضل ً‬
‫حال من واقع املدرسة‪ .‬كان يف منزل أرسيت‬
‫الكثري من األرفف وعليها الكثري من الكتب اإلنجليزية مستحيلة القراءة‪،‬‬
‫لكن املخزون اإليطايل كان ضعي ًفا جدً ا ورسعان ما انقىض‪ .‬مل يكن ثمة كشك‬
‫يف بريوجيا ألتزود منه بكتاب أو جملة من األموال التي أرسقها من أمي؛‬
‫فالقرية مل يكن هبا إال حمل بقالة هزيل يرتاده الكثري من الذباب‪ ،‬وحمل آخر‬
‫يوفر حاجيات املنزل التي حتتاجها عامة األرس وبعض املجالت التي كان‬
‫عيل رشاؤها‪ .‬أتذكر حماولتي الفاشلة يف خفض رسعة قراءيت للكتاب‬
‫حمر ًما ّ‬
‫اجلميل ‪« Le cinque Sorelle d’America‬مخس أخوات أمريكيات(((»‪،‬‬
‫كنت أخشى ّأل أجد ما أقرأه عند انتهائي منه‪.‬‬
‫ُ‬
‫ويف مركز املدينة ‪ al centro‬كنا نبطئ سرينا ذها ًبا وجيئ ًة عىل شوارعها‬
‫احلجرية يف أول املساء‪ .‬كان عىل ذلك الشارع متجران لبيع الكتب‪ ،‬لكنها‬
‫تشف غلييل إذ كانت غالب الكتب إما تشبه الكتاب الذي اشرتيته حني‬ ‫ِ‬ ‫مل‬
‫رسقت اللريات من أمي‪ ،‬وإما روايات للكبار مل تكن تغريني حينها‪ .‬احللقة‬
‫اجلديدة من سلسلة ماندادوري األصفر‪ ،‬قصة البحث والتحقيق يف قضية‬

‫إصدارات اآللة‪.‬‬
‫‪ -1‬قصة خيالية للفتيات للكاتبة واملمثلة األمريكية جانيت المربت (توفيت ‪١٩٧٣‬م)‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫وبدت مغرية إىل حد ما‪ .‬ولكني‬ ‫ْ‬ ‫نافست الكثري من القصص‬
‫ْ‬ ‫قتل غامضة‪،‬‬
‫كنت سألتهمها يف عرشين دقيقة ونحن يف طريقنا إىل املنزل‪ ،‬واحلقيقة أنني‬
‫أخذت السلسلة كاملة ومل أمتكن من النوم حتى أهنيتها‪ ،‬مل أمتكن من النوم‬
‫حتى ُح ّلت القضية‪ .‬ثم متدد الوقت حتى أصبح رسمدً ا دون قراءة‪ .‬مل تكن‬
‫املجالت وإصدارات املعلومات األسبوعية وجمالت الصور الساخرة لتشبع‬
‫هنمي القرائي أبدً ا‪ ،‬ال أجد نفيس غارقة فيها كام أفعل حني أقرأ الرواية‪ .‬كانت‬
‫دائم يف اجلوار حيث كان أخويت يقرؤوهنا‪ ،‬وبالرغم من عدم‬ ‫هذه اإلصدرات ً‬
‫مالءمتها يل إال أنني قرأهتا كلها‪ .‬ثم قرأت أعامل جاك لندن((( بتوصية من‬
‫صديقتي لوسيانا‪ ،‬لكني مل أستمتع هبا أبدً ا فلم تكن املغامرات دافعا يل نحو‬
‫القراءة عىل اإلطالق‪ ،‬كنت أمتنى أن تعطيني القراء ُة الرومانسي َة‪.‬‬
‫ومع حلظة التقلبات اجلسدية‪ ،‬عند ثاين سنة من مراهقتي‪ ،‬وعند انحسار‬
‫طفولتي بشكل رسيع‪ ،‬وهو أمر مل أندم عليه قط‪ ،‬التحقت بام طال االنتظار‬
‫شو ًقا له‪ :‬مدرسة داخلية يف إنجلرتا‪ .‬مل يكن علينا يف تلك املدرسة ارتداء‬
‫الزي املوحد الرمادي وال ربطات العنق املضحكة‪ ،‬ولكن كان جيب أن‬
‫انغمست هناك يف والئم الليل‬
‫ُ‬ ‫نرتدي قبعة وسرتة رسمية‪ .‬وبطبيعة احلال‬
‫املتأخرة من الكعك املدهون بزبدة الـ «مريمايت(((»‪ ،‬متجرع ًة إياه بعصري‬
‫التفاح الكحويل الذي مل أستسغه لكني حاولت ادعاء ذلك‪ ،‬وكذلك‬
‫بمرشوب البرية التي مل أستطع حتى ادعاء استساغتها‪ .‬كام أنني واجهت‬
‫بعض املتاعب بسبب تدخيني داخل غرفتي يف سكن املدرسة‪ .‬لكن النقلة‬
‫العظيمة للمدرسة الداخلية اإلنجليزية مل تكن اجتامعي ًة‪ ،‬فبشكل أو بآخر‬

‫‪ -1‬روائي أمريكي اتسمت أعامله برؤاه السياسية حول االشرتاكية ورصاع الطبقات (تويف‬
‫‪١٩١٦‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬زبدة حامضة تصنع من اخلمرية وبقايا الشعري املستخدم يف تصنيع رشاب البرية‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫كنت إنسانة انطوائية‪ .‬كانت النقلة أدبي ًة‪ .‬قرأنا «حلم منتصف ليلة صيف»‬
‫حت بالرضا عىل كل ذرة‬ ‫وكذلك قرأنا الرائعة «روميو وجولييت» والتي َم َس ْ‬
‫أي كتاب قرأته‬‫من قلبي احلامل العاطفي احلميم‪ .‬وقرأنا «جني آير»‪ّ .‬ملا يبلغ ُّ‬
‫أي من األبطال الرومانسيني لروايات‬ ‫بعدُ ما بلغته مني «جني آير»‪ .‬مل يكن ٌّ‬
‫الثالثينيات التي كانت تقبع يف عل ّية منزلنا أو حتى شخصيات القصص يف‬
‫املجالت املصورة كفي ًفا أو معا ًقا بأي مظهر من مظاهر اإلعاقة‪ ،‬لذلك فإن‬
‫شاعرا‬
‫ً‬ ‫احلامسة التي متلكتني منذ سن الثانية عرشة جتاه ليوباردي((( ‪-‬ألنه كان‬
‫أخريا عند قراءة «جني آير»‪ .‬ثم‬ ‫عظيم وأحدبا‪ -‬بلغت من القراءة ما يرضيها ً‬ ‫ً‬
‫وقعت يف‬
‫ُ‬ ‫البائس‪ ،‬كيف‬ ‫قرأت «مرتفعات وذرنغ»‪ٍ .‬‬
‫إيه يا هيثكليف‪ ،‬أهيا‬ ‫ُ‬
‫ُ‬
‫ٍ‬
‫وروح متيمني وتائهني!‬ ‫ٍ‬
‫بقلب‬ ‫ح ّب َك كام فعلت كاثرين؟! كالنا َ‬
‫فعل‬
‫تركت وحدي متبتل ًة يف‬‫ُ‬ ‫كانت تلك املدرسة الداخلية بيئتي املثالية‪ .‬لقد‬
‫الرف وكلها حتمل كت ًبا‬
‫ِّ‬ ‫الرف تلو‬
‫ّ‬ ‫دفء ونور وبيئة صديقة‪ .‬كان يف املكتبة‬
‫خصيصا‪ :‬جورجيت هاير‪ ،‬أغاثا كريستي‪ ،‬شارلوت برونتي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كأنام ُأ ّلفت يل‬
‫عيل‬ ‫كاثلني وينسور‪ ،‬إيمييل برونتي(((‪ .‬وألمتكن من اقتحام هذه الكتب كان ّ‬
‫أن أتعلم القراءة باإلنجليزية بالرسعة التي تعلمت هبا الكالم باإلنجليزية‬
‫بدأت مع باتريشا هايسميث ودوروثي سايرز‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫بعد أشهر من الصمت‪.‬‬
‫قرأت «كربياء وهوى» رائعة جني أوستن((( الثورية‬ ‫ُ‬ ‫وعند هناية السنة الثانية‬

‫‪ -1‬جاكومو ليوباردي شاعر وكاتب إيطايل‪ ،‬عانى من املرض الذي أهنكه صغريا ورافقه حتى‬
‫وفاته يف العام ‪١٨٣٧‬م وهو يف الثامنة والثالثني‪.‬‬
‫‪ 2‬كاتبات إنجليزيات من أشهر الكاتبات يف األدب اإلنجليزي مع اختالف زمن كل واحدة‬
‫منهن‪ :‬جورجيت هاير (توفيت ‪١٩٤٧‬م)؛ أغاثا كريستي (توفيت ‪١٩٧٦‬م)؛ شارلوت برونتي‬
‫(توفيت ‪١٨٥٥‬م)؛ كاثيلني وينسور (توفيت ‪٢٠٠٣‬م)؛ إيمييل برونتي (توفيت ‪١٨٤٨‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬الروائية اإلنجليزية الشهرية برواياهتا الست التي تنتقد هبا حياة طبقة اإلقطاعيني وروايتها‬
‫كربياء وهوى هي األشهر (توفيت ‪١٩١٨‬م)‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫والطاغية يف اخليال؛ فأتبعتها باألفق الذي يشبه املحيط سع ًة يف «مدل مارش»‬
‫جلورج إليوت((( ثم «أنتوين وكليوبرتا» لشكسبري و»الليلة الثانية عرشة»‬
‫تقع فيوال وأخوها التوأم يف احلب فتنتهي القصة الطويلة بمجلداهتا‬ ‫حيث ُ‬
‫الثالثة كام جيب أن تنتهي عند هناية عامي الثاين عرش يف املدرسة‪ ،‬ترافقني لغ ٌة‬
‫تعكس متا ًما تلك الدراما املفرطة التي تسك ُن قلبي‪.‬‬
‫إن العودة إىل النصوص اإليطالية بعد التهام هذه الوجبة الدسمة كان‬
‫بمثابة العودة إىل تناول اخلبز باحلليب بعد تناول الكعك الغني بالزبدة‪ .‬لقد‬
‫أحببت ثراء اللغة اإلنجليزية بالصفات والتي بدت مرتاكمة حتى إن املرء‬
‫ليستطيع الغوص داخلها‪ ،‬يف مقابل تكرار االستخدام نفسه حيث يكون‬
‫السياق وحده هو احلكم يف بيان الفروق البسيطة‪ ،‬وهذا الواقع يعدّ من‬
‫أحببت املبالغة التي حتتوهيا اإلنجليزية‪ ،‬تداخل اللغة‬
‫ُ‬ ‫أوجه قوة اإليطالية‪.‬‬
‫ببعضها والتواءاهتا‪ ،‬وأحببت قيمتها الباروكية(((‪ .‬أغلب الكنائس‪ ،‬والفنون‬
‫البرصية‪ ،‬بل وحتى تلوحيات الناس ولغة جسدهم باروكية يف إيطاليا؛ ولكن‬
‫اللغة نفسها مل تكن كذلك‪ :‬إهنا عميقة‪ ،‬يكمن مجاهلا يف سحر صوهتا ويف‬
‫أناقتها‪ .‬حني جيتهد املتكلم يف اإليطالية ليثري اللغة فتزل قدمه باستخدام‬
‫خاطئ خلطاب أو مفردة فكأن اللغة تنزوي عىل نفسها متمنع ًة‪ ،‬فاقد ًة ملواطن‬
‫عمل وجهدً ا‪،‬‬‫قواها‪ .‬يف املقابل فإن بساطة اإلنجليزية وأناقتها تتطلب ً‬
‫عذاب عىل‬
‫ٌ‬ ‫متعم ٍد ال جرس هلا وال فتنة‪ ،‬وكأهنا‬ ‫ٍ‬
‫فاألصوات فيها دون جهد ّ‬
‫َ‬
‫لسان فتاة ترى ذاهتا املتحمسة‬ ‫ُ‬
‫يشحذ‬ ‫اللسان‪ .‬وما أمجله من عذاب ذلك الذي‬

‫‪ -1‬جورج إليوت هو االسم الذكوري املستعار للكاتبة والروائية اإلنجليزية ماري آن إيفانس‬
‫(توفيت ‪١٨٨٠‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬نسبة إىل العرص الباروكي املمتد من أواخر القرن السادس عرش وحتى أوائل القرن الثامن‬
‫عرش والذي سادت فيها فنون برصية وصفت بالغرابة وربام السطحية والوضوح وإن تعلقت‬
‫بمضامني رمزية‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫تعب عن مشاعرها بمفردات‬ ‫والدرامية بكل شفافية يف هذه اللغة؛ وها هي ّ ُ‬
‫متنوعة ال مفردة يتيمة‪ .‬عند السادسة عرشة‪ ،‬مل يكن ثمة تنافس بني اللغتني!‬
‫كانت اإلنجليزية لغة املنطق واإلحساس؛ واللغة التي أكتب هبا قصائد ثرية‬
‫بمفرداهتا كام كان يفعل ديالن توماس(((؛ وروايات غنية بمشاعرها مثل‬
‫«فيليت(((»؛ ومرسحيات قوية مثل «الصبي والعربة» لكريستفور فراي(((‪.‬‬
‫هربت من اإليطالية حاملة معي ِو ْز ًرا من اهلمة والطموح‪ ،‬متغذية‬
‫ُ‬ ‫لقد‬
‫والدي الغن ّية وإن مل أدرك يو ًما بوعي ووضوح أهنا كانت لغتهام‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عىل لغة‬
‫ارحتلت بصحبة اإلنجليزية عرش سنني‪ ،‬وانتهى يب املطاف هاجر ًة طموحي‬‫ُ‬
‫األول؛ فأنا مل أعد أرغب بالكتابة ألمتاهى مع شارلوت برونتي وال ديالن‬
‫(((‬
‫توماس أو كريستوفر فراي‪ .‬بل مل أعد أرغب أن أشبه فرجينيا وولف‬
‫أو جيمس جويس((( أو نابوكوف؛ وال حتى وليم غولدنغ((( أو يت إس‬
‫أليوت(((‪ .‬لقد انتهي يب املطاف يرافقني شعور أن أقطف من كل بستان زهر ًة‬
‫دون أن يكون يل وجهة أحاول الوصول إليها‪ ،‬مرشدة‪ .‬رافقني هذا الشعور‬
‫حتى قرأت باإليطالية «ستون قصة» لدينو بوزايت ثم ثالثية «أسالفنا» و»لو‬

‫‪ -1‬شاعر إنجليزي عاطفي كان له عناية باملشاعر (تويف ‪١٩٥٣‬م)‪.‬‬


‫‪ -2‬رواية لشارلوت برونتي أصدرت عام ‪١٨٥٣‬م‪.‬‬
‫‪ -3‬شاعر وأديب إنجليزي اشتهر يف أواخر األربعينيات وأوائل اخلمسينيات وكان له حماوالت‬
‫إلحياء املرسح شعر ًيا (تويف ‪٢٠٠٥‬م)‪.‬‬
‫‪ -4‬كاتبة إنجليزية من أهم األسامء يف األدب احلديث‪ ،‬أصيبت بحالة اكتئاب وتوفيت منتحرة عىل‬
‫إثرها يف العام ‪١٩٤١‬م‪.‬‬
‫‪ -5‬كاتب وشاعر إيرلندي يعد من األسامء املهمة يف األدب اإلنجليزي (تويف ‪١٩٤١‬م)‪.‬‬
‫‪ -6‬كاتب وأديب بريطاين اشتهر بروايته «أمري الذباب» ونال جائزة نوبل للعام ‪١٩٨٣‬م (تويف‬
‫‪١٩٩٣‬م)‪.‬‬
‫‪ -7‬توماس سترينز إليوت شاعر ناقد أمريكي نال جائزة نوبل يف األدب للعام ‪١٩٤٨‬م‪ ،‬انتقل إىل‬
‫بريطانيا وهبا تويف يف العام ‪١٩٦٥‬م‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫مسافرا يف ليلة شتاء» إليتالو كالفينو‪ ،‬والعمل األهم له كذلك «حكايات‬
‫ً‬ ‫أن‬
‫أردت أن أكتب باإلنجليزية ولكن بروح ولكنة‬ ‫ُ‬ ‫شعبية إيطالية»‪ .‬عندها‬
‫إيطالية‪ .‬ربام مل يكن الشعور أن أكتب اإلنجليزية بلكنة إيطالية فقط؛ بل أن‬
‫ألقي كل ما عرفته عن اإلنجليزية ابتداء‪ ،‬كل تلك املظاهر الباروكية‪ ،‬ثم‬
‫أكتب باإلنجليزية كام لو أهنا كانت اإليطالية‪ .‬استطعت عندها‪ ،‬حيث أسكن‬
‫يف لندن‪ ،‬أن أكتب أول جمموعة قصصية يل‪« :‬الراقصة عىل احلبل» وكانت‬
‫أغلب القصص من إهلام كالفينو وبوزايت‪ .‬وأثناء تنقاليت من ساوثهامبتون‬
‫وإليها‪ ((( ،‬كتبت روايتي «الطوية»‪ُ .‬أصدر الكتابان سويا بعد أشهر قليلة من‬
‫وفاة أيب يف يناير ‪1985‬م‪ ،‬بعد أقل من عام من جلوسنا سو ًيا حني شاهدنا‬
‫«عائل ٌة أمريكية يف إيطاليا» حني صدمني ضعف إيطالية أيب‪ .‬والسؤال اآلن‪،‬‬
‫وصلت إىل هناية الدائرة؟‬
‫ُ‬ ‫هل‬
‫ال ‪ ..‬إن هناية حياة أيب كانت بداية حليايت بوصفي كاتبة؛ فأنا مل أكن يف دائرة‬
‫إعصارا‪ .‬لقد بدا دور اإليطالية يف كل‬
‫ً‬ ‫بأي حال‪ ،‬إإل إن كانت تلك الدائرة‬
‫ما سبق أكثر تعقيدً ا حتى حينام عدت إىل بريوجويا يف العام ‪1986‬م‪ .‬أعلنت‬
‫نفيس حينها كاتب ًة مستقل ًة‪ ،‬معتقدة أنني أستطيع العيش بام يدخل ماد ًيا من‬
‫الكتابة والرتمجة‪ ،‬مع تقديم بعض الدروس اخلاصة لإلنجليزية‪ .‬لكنني عند‬
‫ذلك االنتقال مل أشعر أنني يف وطني‪ ،‬ومل أجد األسلوب الذي ظننت أين‬
‫سأجده مثلام وجدته عند كتابة أعاميل األوىل‪ .‬لقد فعلت اإلنجليزية َّيف ما‬
‫(((‬
‫ال يمكن فهمه وال سرب غوره‪ .‬كنت أشاهد املرتفعات اخلرضاء ألومربيا‬
‫نحو قمم اجلبال الزرقاء‪ ،‬فقررت يف حلظة أن أخلع عني اللكنة اإليطالية‪ ،‬أن‬
‫أهجر احلاجة إىل أن أكتب باإلنجليزية وكأهنا اإليطالية‪ .‬كتبت حينها روايتي‬

‫‪ -1‬مدينة وميناء يف هامبشاير جنوب إنجلرتا‪.‬‬


‫‪ -2‬أومربيا أقليم يف وسط إيطاليا‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫«حالة امللوك» والتي كانت متأثرة بـ «كربياء وهوى»‪ ،‬أي بأكثر األدباء‬
‫اإلنجليز إنجليزي ًة‪.‬‬
‫أدركت أن العيش يف إنجلرتا مل يمثل‬
‫ُ‬ ‫انتهيت من كتابة الرواية‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حني‬
‫علمت كذلك أن العيش يف إيطاليا مل يكن ً‬
‫عيشا يف‬ ‫ُ‬ ‫العيش يف الوطن‪ ،‬كام‬
‫الوطن‪ ،‬وإن كنت أجد رزقي هناك؛ ثم وجدت نفيس أمام التحدي األكرب‪:‬‬
‫اهلجرة إىل الواليات املتحدة‪ ،‬ديار أيب يف الوسط الغريب‪ .‬مل أكن حينئذ قد‬
‫زرت إال الساحل الرشقي ألمريكا‪ ،‬وكان بقائي يف معية أيب يف صيف‬
‫‪1984‬م أطول فرتة أقمتها يف أمريكا‪.‬‬
‫اآلن شاهد ٌة عىل نفيس وأنا أحاول أن أتك ّيف مع عامل جيتمع فيه‬‫وها أنا ذا َ‬
‫التاريخ والزمان بشكل مدهش؛ مع عامل يتزاوج فيه نظام التعليم مع املرجعية‬
‫األوروبية يف عالقة رائعة ومهينة يف الوقت نفسه؛ يف عامل ُت َعدُّ فيه اإليطالية‬
‫(لغة طفولتي‪ ،‬واللغة الوحيدة التي أعرف هبا أناشيد الطفولة) غريب ًة!‬
‫لكنني ال أظن األمر كان بالغرابة ذاهتا التي رآنا هبا اإليطاليون يف العام‬
‫‪1957‬م‪ ،‬حني صوروا حياتنا اليومية يف تلك البلدة الصغرية التي مل تشاهد‬
‫حينها حياة عائلة أمريكية قط؛ بلدة صغرية مل تكن تدرك كيف ألطفال‬
‫أمريكيني أن يتكلموا اإليطالية كأهنم من أوالدها‪ .‬فهل اكتملت دائرة حيايت‬
‫مع هذه الغرابة والتي ختاطب كل من عاش يو ًما يف بالد ومل يكن من أهلها‪:‬‬
‫إيطال ًيا أم صومال ًيا يعيش هنا يف الواليات املتحدة؛ أو أمريك ًيا أم آسيو ًيا‬
‫يف إيطاليا؛ أو إيطال ًيا يعيش يف الصومال‪ .‬ولكن بخالف وجود آسيوي‪-‬‬
‫أمريكي‪ ،‬وصومايل‪-‬أمريكي‪ ،‬وإيطايل‪-‬أمريكي‪ ،‬فإين مل أشعر باالنتامء نحو‬
‫أي جمموعة من هؤالء؛ فأنا ال أستطيع القول بأنني إيطالية يف إيطاليا‪ ،‬وال أنا‬
‫«إنجليزية» هنا وال يف إنجلرتا‪ .‬وال أنا قادرة عىل وصف نفيس بأين أمريكية‪،‬‬
‫ألنني ببساطة لست كذلك‪ .‬لقد ُقدّ َر عيل أن أحيا ممتطية تلك الثقافات‬

‫‪171‬‬
‫الثالث التي ترشبتها‪ ،‬وإن كنت ال أشعر بسكينة الوطن إال بواحدة منها‪.‬‬
‫لقد اكتشفت أن هذا هو مغزى كالمي حني قلت أن أيب مل يغادر أبدً ا‬
‫سيربنغفيلد كام أنني مل أغادر أبدً ا إيطاليا‪ .‬إن من شأن جتربة الطفولة أن‬
‫تشكل جز ًءا كبريا من احلياة الح ًقا‪ ،‬ويف حاالت معينة هي تشكل احلياة‬
‫كاملة‪ .‬فكم ابتعد أيب يا ترى من تلك الطفولة واملكان اهلادئ‪ ،‬املنعزل‪ ،‬كثري‬
‫قادرا‬
‫التفكر واملنحدر من ثقافة أمريكية من القرن التاسع عرش؛ مل يكن أيب ً‬
‫وال حتى راغ ًبا أن يتحرر من تلك الثقافة‪ ،‬تلك الثقافة التي شكلت حياته‬
‫كاملة فيام بعد يف كل ارتفاع وهبوط خالل احلياة الفكرية للقرن العرشين‪.‬‬
‫األرض‬
‫َ‬ ‫وأنا مهام ابتعدت عن إيطاليا أو أظن نفيس كذلك‪ ،‬سأظل أجد‬
‫عيل قوله وعمله يف كل موقف‪.‬‬
‫واللغة تطالن عيل لتخرباين بالذي ينبغي ّ‬
‫دائم‪ -‬تلك اللغة التي مل أعد قادرة عىل الكتابة هبا‬
‫الوطن أصبح ‪-‬كام كان ً‬
‫باالنسيابية ذاهتا التي تنتابني مع اإلنجليزية‪ .‬أشعر مع اإليطالية اآلن بانسداد‬
‫كالذي يصيب رأس قلم احلرب‪ ،‬فها هو املاء والطحني ‪ impastata‬معجون‬
‫بني األصابع‪ ،‬ورغم داللة هذه الكلمة إال أهنا ال تسمن وال تغني من جوع‬
‫ألهنا ال خترب الناطقني باإلنجليزية شي ًئا وذلك ألهنم مل يشاهدوا املزارعني‬
‫‪ contadine‬يو ًما وهم جيهزون وليمة الزفاف بصنع املاكرونة الطازجة‪ ،‬وال‬
‫يستطيعون يف احلقيقة مشاهدة تلك األيدي العاملة واملشققة وهي تضيف‬
‫إىل مزيج العجني بعض مكوناته ليصل إىل تلك الدرجة من التامسك التي‬
‫جيب أن يصل إليها‪ ،‬والتي حتمل الكلمة داللتها كاملة وبينة‪.‬‬
‫إن الوطن هو الكلامت‪ .‬فكلمة شفاف ‪ limpido‬والتي ال تبدو عرجاء‬
‫رفضت تلك اللكن َة اإليطالي َة‬
‫ْ‬ ‫‪ limp‬مثل مقابلتها اإلنجليزية ‪ limpid‬حني‬
‫القوي َة املتمثل َة يف الصوت األخري ‪ .o‬تلك الكلمة اإليطالية حتمل كامل‬
‫الداللة عىل نقاء هواء أيام اخلريف بعد أول رياح البحر العنيفة التي أرهقت‬

‫‪172‬‬
‫نفسها وهي تصطد ُم بتلك املنحدرات الصلبة‪ ،‬يف ذلك النقاء يكون وقت‬
‫قطاف أواخر العنب‪ .‬عندها تعود السامء ‪ azzurro‬مرة أخرى يف الوقت‬
‫الذي توضع فيه الشباك أسفل أشجار الزيتون يف آخر املوسم من كل عام‪،‬‬
‫حتى إذا ما هبت الرياح مرة أخرى هتزه فينحدر عىل املرتفع املائل الذي ُأعدّ‬
‫هو بدوره ليجمع حبات الزيتون يف أخدودها األخري‪ .‬يتوقع الناس حينها‬
‫احتامل االهنيارات األرضية! كم هي مرعبة كلمة االهنيار بشقيها الثلجي‬
‫واألريض باإليطالية‪ ،frana, valanga :‬حني يقطع االهنيار جز ًءا من الطريق‬
‫أساسا ليزحف هبا باجتاه الفانتو‪.‬‬
‫الضيق ً‬
‫الوط ُن هو كلمة ‪ incendio‬والتي تتضمن محول ًة داللي ًة ال تستطيعها‬
‫كلمة «النار» جمردة‪ :‬إهنا مشهد الغابة يف اجلهة األخرى من اخلليج‪ ،‬عىل ذلك‬
‫اللهب عاليا نحو السامء‬
‫ُ‬ ‫اجلبل بني ال فانتو ومونرتيسو(((‪ ،‬ذلك اللظى؛ يرتفع‬
‫حالكة السواد‪ ،‬تنقطها نجومها ببصيص نور برتقايل من النار‪ .‬واألصوات‪،‬‬
‫ليست صافرات اإلنذار‪ ،‬إنام أجراس الكنائس ورصخات الناس وصداهم‪،‬‬
‫وخلف ذلك كله صوت اهنيار األخشاب حني تأكلها النار؛ ورائحة الدخان‬
‫جتول متجاوزة اخلليج‬ ‫التي تسكن كل املكان أليام بعد احلريق‪ ،‬بل ألسابيع‪ُ ،‬‬
‫نول وجوهنا شطر اخلليج‪ ،‬يبدو ُ‬
‫اجلبل حلي ًقا‪ ،‬عار ًيا‪.‬‬ ‫نحو منزلنا‪ .‬يف كل مرة ّ‬
‫تنم األشجار بعد احلريق إال بعض شجريات ظهرت عىل وجه األرض‬ ‫مل ُ‬
‫بعد زمن من مغادرتنا؛ واآلن فقط ‪-‬بعد مخس وأربعني سنة‪ -‬متكنت بعض‬
‫أشجار الصنوبر واللوز من صبغ اجلبل ببعض اخلرضة‪.‬‬
‫شقائق النّعامن‪ ،‬التي تستدعي بجالء تام تلك‬
‫ُ‬ ‫الوط ُن هو كلمة ‪،papvaro‬‬
‫األهزوجة التي كانت ُت َغنى يف احلقول ذات زمان؛ يف تلك احلقول تتبخرت‬
‫زهور شقائق النعامن بني أعواد القش التي تدغدغ األرجل‪ ،‬فيغني الناس‪:‬‬

‫‪ -1‬مدينة يف إقليم ليغوريا اإليطايل‪.‬‬

‫‪173‬‬
Lo sai che i papaveri

son alti, alti, alti

e tu sei piccolina, e tu sei piccolina

lo sai che i papaveri

son alti, alti, alti

sei nata paperina, che cosa ci vuoi far?

‫تعرف أن زهرة شقائق النعامن‬


ُ
‫ طويلة القامة‬،‫ طويلة القامة‬،‫طويلة القامة‬
‫ وأنت صغري‬،‫وأنت صغري‬
‫ طويالت القامة‬،‫ طويالت القامة‬،‫هن طويالت القامة‬
‫ ماذا ستفعل؟‬،‫وأنت يا صغري البط‬

:‫ثم تلحقها أختها عىل إثرها‬


Aveva una casetta piccolina in Canadà

con vasche, pesciolini e tanti fiori di lillà

e tutte le ragazze che passavano di là

dicevano: Che bella la casetta in Canadà

‫لديه منزل صغري يف كندا‬


‫ والكثري من زهور الزنبق‬،‫ وأعشاب‬،‫فيه محامات سباحة‬

174
‫مرر َن به‬
‫كل الفتيات الاليت ّ‬
‫قلن‪« :‬يا له من منزل مجيل يف كندا»‪.‬‬
‫مل تكن هذه األغاين تعرض مطل ًقا عىل اإلذاعة‪ ،‬بل كان الناس يستمعون‬
‫هلا يف احلقول‪ ،‬يرافقها عزف الرجال عىل األكورديون واهلريمونيكا‪ .‬فهل‬
‫عت يف خم ّيلتي‪ ،‬أم كانت سلسلة من‬ ‫كانت هذه الذكرى لظهرية طويلة ُطبِ ْ‬
‫النزهات بصحبة ماريا وأليس وعشيقيهام القرو َي ْي؟ ال أتذكر التفاصيل‪،‬‬
‫ٍ‬
‫ظهرية‬ ‫استدعت أمامي رائحة القش‪ ،‬ومشهدَ‬ ‫ْ‬ ‫لكن األهازيج والكلامت‬
‫ملؤها التشاقي واملزاح واملرح واللعب والغناء والرقص الذي انطلق حني‬
‫خف وهج الظهرية ليستمر ليال حتت ضوء ِ‬
‫اخل َرق املشبعة بوقود البارافني‬ ‫َ‬
‫ً‬
‫مشاعل‪ .‬ال تستطيع أي كلمة إنجليزية‬ ‫ص لتكون‬ ‫ِِ‬
‫وامللفوفة عىل رؤوس الع ّ‬
‫أبدً ا أن تأخذين إىل موطن طفولتي‪.‬‬

‫‪175‬‬
‫مفرد ٌ‬
‫وجمع‬ ‫ٌ‬
‫ها‪-‬يون جانغ‬
‫(((‬

‫عسري‬
‫ٌ‬ ‫إن احلديث باستخدام ضمري املتكلم املفرد باللغة الكورية أمر‬
‫وليس من السهولة بمكان‪ .‬اجلملة البسيطة «أنا أريد تفاح ًة» إن ت ْ‬
‫ُرمجت إىل‬
‫الكوري إىل يشء مثل‬
‫ُّ‬ ‫الكورية كلم ًة كلم ًة ستبدو شديدة الغرابة‪ .‬سيرتمجها‬
‫«إنه ملن اجليد احلصول عىل تفاحة»‪ .‬جتنب استخدام الضمري «أنا» ليس ً‬
‫خلل‬
‫لغو ًيا عىل اإلطالق؛ ويف املقابل ستبدو اجلملة ألطف نو ًعا ما بدونه‪ .‬يندر‬
‫شخصا كور ًيا يكتب أو يقول ً‬
‫مجل متتالية تبدأ بـ «أنا فعلت‬ ‫ً‬ ‫جدً ا أن جتد‬
‫كذا» و«أنا تركت كذا»‪ .‬فالضمري أنا يبدو إىل الناظر يف الكورية خمتب ًئا خلف‬
‫الكواليس ألول وهلة‪.‬‬
‫أما حني حيتاج الكوري إىل احلديث عن امللكية القواعدية فإنه سيستخدم‬
‫ضمري اجلمع ال ضمري املفرد‪ .‬بالدي‪ ،‬وأهيل‪ ،‬وحاريت‪ ،‬كلها تعبريات مل َي ْعت َِد‬
‫الكوريون عليها وإن كان املتكلم واحدً ا‪ .‬تزداد أمهية هذه املامرسة حني يكون‬
‫احلديث يف سياق األرسة‪ ،‬حتى وإن كان املتكلم هو الولد الوحيد لألرسة‬
‫فإنه سيقول‪ :‬أبونا‪ ،‬وأ ُّمنا؛ لن يكون الضمري املضاف مفردا أبدً ا‪.‬‬
‫أنا أم عزباء‪ ،‬لكني حني أحتدث الكورية أقول‪ :‬ابننا‪ .‬ويف اإلنجليزية‬

‫‪ -1‬ها‪-‬يون جانغ (‪ )Ha-Yun Jung‬كاتبة كورية‪ .‬هلا مقاالت ثقافية وأدبية يف عدة جمالت أدبية‬
‫وصحف يومية‪ .‬عملت كباحثة ومرتمجة للكورية يف جامعة ويسكانسون‪-‬ماديسون األمريكية‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫أكون عرضة ألن أقول لصديقة قد ألتقيها يف حمل القهوة شي ًئا مثل‪ :‬نحتاج‬
‫إىل أن نذهب لنحرض الدواء البننا‪ .‬ثم أدرك مبارشة من نظرة االستغراب‬
‫إشكال عويصا عىل األذن األمريكية‪.‬‬ ‫ً‬ ‫عىل وجهها أن ما قلته قد خيلق‬
‫قائل‪« :‬يا للمسكينة‪ ،‬مل تتجاوز أزمة طالقها بعد»؛ هكذا‬‫يتعاطف البعض ً‬
‫مستمعي حني أستخدم ضمري اجلمع‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يظن‬
‫كان يل يو ًما ما أخ‪ ،‬لكنه تويف‪ .‬وبالرغم من حدث وفاته‪ ،‬فأنا ال زلت‬
‫ُّ‬
‫وسيظل أخي بعد‬ ‫أقول «أمنا» بالكورية كام أقول «أبونا» الراحل كذلك‪.‬‬
‫فقده كام كان يف حياته «أخانا الصغري»‪.‬‬
‫ربام كان هذا من دافع اختياري لإلنجليزية لغ ًة للكتابة دون اللغة التي‬
‫لدت هبا‪.‬‬
‫ُو ُ‬
‫وصلت عائلتنا إىل بانكوك يف تايالند يف العام ‪1975‬م‪ .‬وقد كان يف‬
‫قارس يف سيئول(((‪ ،‬تلك املدينة التي أمضيت هبا عندئذ أعوام‬ ‫و ِ‬
‫داعنا شتا ٌء‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫حيايت التسعة والنصف‪ ،‬ولكن وبمجرد أن وطأت أقدامنا األرض خارج‬
‫ب أخي األصغر‬ ‫صالة املطار يف بانكوك حتى مألت الرطوبة مناخرنا‪َ .‬ق َّط َ‬
‫رفعت أنا‬
‫ُ‬ ‫وجهه من وهج الشمس‪ .‬كانت عيناه رقيقتني جدً ا‪ .‬يف املقابل‬
‫وجهي ناحية النور وأحسست بالدفء وهو يمأل املكان كله‪ .‬كان صي ًفا‬
‫حقيق ًّيا يف تايالند بالرغم من أنه كان منتصف نوفمرب؛ هكذا رشح أيب احلالة‬
‫يل وألخي بحامسة شديدة‪.‬‬
‫استمر‬
‫ّ‬ ‫لكن احلقيقة أنه كان صي ًفا‪ ،‬صي ًفا ً‬
‫حارا جدً ا‪ ،‬عىل مدار العام؛ بل‬
‫طيلة ثالث سنوات متتالية‪ ،‬وهي الفرتة التي أقمنا هبا يف بانكوك‪ .‬تلك‬

‫‪ -1‬سيئول عاصمة كوريا اجلنوبية‪ ،‬وهناك اختالف يف طريقة كتابتها العربية حيث تكتب كذلك‬
‫سول أو سيول‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫فصل واحد ُخ ِل َق من احلرارة‬
‫السنوات الثالث ستظل عالقة يف خميلتي وكأهنا ٌ‬
‫واملطر‪ .‬هذه احلالة املناخية جعلت كل يشء حويل ينمو برسعة‪ :‬العشب‪،‬‬
‫واحلرشات‪ ،‬واألوركيدات اجلميلة‪ ،‬وأشجار جوز اهلند التي تعانق السامء‪،‬‬
‫والسحلية احلمراء النارية التي تبدو وكأهنا تورمات الطفح اجللدي عند‬
‫اختبائها بني احلشائش! يف هذه البيئة نشأت أنا كذلك‪ ،‬يف طفرة مفاجئة‪،‬‬
‫فأصبحت أسك ُن جسد أنثى مل أعتده ومل أكن أعرفه حني وصولنا‪.‬‬
‫ُ‬
‫أقمنا يف جممع سكني مغلق خمصص للعاملني األجانب‪ :‬مساحات‬
‫خرضاء‪ ،‬ومالعب تنس‪ ،‬وأجنحة للخدم‪ ،‬وجدران وأرضيات إسمنتية‪،‬‬
‫وغرفة خمصصة لغسيل املالبس لكل وحدة سكنية‪ .‬ورغم غرابة تصميم‬
‫احلي الذي كنا نسكنه يف‬ ‫هذا املكان اجلديد‪ ،‬إال إنه مل يكن خمتل ًفا ً‬
‫كثريا عن ّ‬
‫سيئول‪ .‬كنا نسكن يف منزل عىل نمط املستعمرات اليابانية‪ :‬خمتبئ مثل عش‬
‫طائر بني شبكة ملتوية من الطرق املؤدية إىل املرتفعات؛ أبوابه تأذن باخلروج‬
‫فقط ناحية منزل جدي وجديت وأعاممي وعاميت؛ حمارصون بغرف اخلدم‬
‫والسائقني‪ .‬مقفلة تلك األبواب علينا وعىل الترصفات والطقوس املالئمة‬
‫بدت حياتنا سيان‪ ،‬سواء أكنا يف ديارنا أم كنا يف اجلهة األخرى من بحر‬
‫فقط! ْ‬
‫جنوب الصني‪.‬‬
‫والدي‪ .‬كان احلفل‬‫ّ‬ ‫نشأت وأخي عىل سامع حكايات حفل زفاف‬ ‫ُ‬
‫متزامنًا مع بلوغ جدي أليب وجدي ألمي ذروة منصبيهام الرفيعني‪ ،‬ورشفه‬
‫باحلضور رئيس الوزراء حينها ومجع من كبار الوجهاء والوزراء؛ أزعم أنه‬
‫تسبب بزحام شديد يف وسط املدينة‪ .‬كان جدي ألمي مؤسس الثانوية األكثر‬
‫نخبوي ًة يف سيئول ومديرها؛ كان يراها املثال الكوري عىل نموذج إيتون(((‪.‬‬

‫‪ -1‬إيتون مدرسة بنني إنجليزية عريقة أسسها امللك هنري السادس ملك إنجلرتا يف العام‬
‫‪١٤٤٠‬م‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫كان أيب أحد طالب تلك الثانوية‪ ،‬وكان كذلك واحدً ا من أولئك الذين‬
‫تنافسوا عىل التفاتة بنات مدير املدرسة اخلمس اجلميالت وانتباههن‪ ،‬حيث‬
‫كل من أمي‬ ‫كانت تقط ُن األرسة منزالً داخل حرم مدرسة األوالد‪ .‬خترج ٌّ‬
‫وأيب من أعرق اجلامعات ثم تزوجا‪ .‬أما جدي أليب فكان رجل قانون ً‬
‫وممثل‬
‫جليش نظام حزب بارك تشونغ ِه ْي((( احلاكم‪ .‬كل ما أتذكره عن األرسة أنني‬
‫وأخي كنا ندعى بأوالد وأحفاد كذا وكذا من األلقاب التي كنا نظنها نعمة‬
‫ستأخذ بأيدينا خالل رحلة احلياة؛ وبأن موقعنا الراقي يف هذا العامل كان قد‬
‫ووضعت معامله‪.‬‬
‫ُحدّ َد لنا ُ‬
‫كان أيب ملح ًقا جتار ًيا يف سفارة كوريا اجلنوبية يف بانكوك‪ ،‬وكان حينها يف‬
‫منتصف الثالثني من عمره؛ وكان يتطلع إىل مستقبل مرشق أمامه يف العمل‬
‫احلكومي‪ .‬أمي يف املقابل كانت زوجته القصرية اجلميلة‪ ،‬حتمل درجة علمية‬
‫وتنسج وتقرأ للدكتور‬
‫ُ‬ ‫يف األدب اإلنجليزي؛ كانت تقيض يومها وهي ُ‬
‫تطبخ‬
‫ل مه ًم ملزادات القطع‬
‫سبوك(((‪ ،‬الذي بدوره حني زار بانكوك‪ ،‬كان عمي ً‬
‫دائم ملتجر جيم تومبسون(((‪.‬‬
‫وزائرا ً‬
‫ً‬ ‫مشهورا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ومقامرا‬
‫ً‬ ‫األثرية والتحف‪،‬‬
‫كانت اإلنجليزية هي لغة مدرسة روامرودي العاملية‪ ،‬املدرسة التي‬
‫أسسها بعض اآلباء املخ ّلصني حني جاؤوا مبرشين باملسيحية يف تايالند‪.‬‬

‫‪ -1‬رئيس كوريا اجلنوبية الذي توىل مقاليد احلكم بعد االنقالب العسكري يف العام ‪١٩٦٢‬م‪،‬‬
‫حاكم حتى اغتياله يف العام ‪١٩٧٩‬م‪.‬‬
‫ً‬ ‫وحكم بقبضة من حديد وظل‬
‫‪ -2‬الدكتور بنجامني سبوك طبيب أطفال أمريكي‪ ،‬ومؤلف شهري عن رعاية األطفال‪ .‬بيع من‬
‫أحد كتبه أكثر من مخسني مليون نسخة مرتمجا إىل ‪ ٤٢‬لغة‪ .‬كان من املفارقة أن يكتب الرجل‬
‫مقامرا ورب أموال جشع (تويف‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫خمجل حيث كان‬ ‫عن األمومة لكن وجوده خارج حميطه كان‬
‫‪١٩٩٨‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬متاجر جيم تومبسون من أشهر متاجر املالبس يف تايالند حيث استغل مؤسسها جودة احلرير‬
‫التايالندي واحتكر صناعته لفرتة‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫اسم املدرسة يعني «احتاد القلوب» يف اللغة التايالندية‪ .‬وكان جمتمع‬
‫كبريا جدً ا؛ فلألمريكيني مدرستهم اخلاصة‪،‬‬‫املوظفني األجانب يف بانكوك ً‬
‫والربيطانيني كذلك‪ ،‬وللفرنسيني مدرسة‪ ،‬وأخرى لليابانيني‪ .‬لذلك‪ ،‬كان‬
‫طالب روامرودي عامليون حقيق ًة‪ ،‬مع تركيز من العامل الثالث‪ :‬األغلبية‬
‫من أوالد األرس الثرية من تايالند والصني‪ ،‬وجمموعة من اهلند والفلبني‬
‫وإسكندينافيا‪ ،‬مع عدد من هنا وهناك من الكتلة األوروبية الرشقية‪.‬‬
‫وبصفتي قادمة من أرسة تناهض االشرتاكية بتطرف من حقبة بارك تشونغ‬
‫هي‪ ،‬أذكر أنني كنت أحيانًا أفقد القدرة عىل الرتكيز أو احلديث أو حتى النظر‬
‫روماين‪.‬‬
‫ّ‬ ‫لدبلومايس‬
‫ّ‬ ‫إىل نيكوال‪ ،‬طالب واسع العينني وناعم الشعر‪ ،‬كان ابنًا‬
‫إسمنتي‪ ،‬وسور إسمنتي حيارص املبنى‬
‫ّ‬ ‫وكانت املدرسة عبارة عن مكعب‬
‫ويشكل باحاته‪ .‬كان املبنى تارخي ًيا مرف ًقا تاب ًعا لكنيسة املخ ّلص املقدسة‪،‬‬
‫املالكة ساب ًقا لتلك األرايض وما جاورها‪ .‬كان لبناء الكاتدرائية سقف مائل‬
‫عظيم يزينه القرميد األزرق واألمحر‪ ،‬ومطعم بالذهب؛ يشبه قصور امللوك‬
‫ومعابد البوذيني التي متأل بانكوك‪ .‬كان الفرق بينها أهنا كنيسة‪ ،‬أي أهنا مليئة‬
‫املعشق ومتاثيل املسيح‪ .‬وعىل واجهة املبنى تقف جمموعة‬ ‫بالصلبان والزجاج ّ‬
‫من األبواب كلها تؤدي إىل صالة الكنيسة الرئيسة حيث صفوف املقاعد‪.‬‬
‫كانت تلك األبواب مفتوح ًة عىل الدوام‪ ،‬فتدخل الرياح وخترج حتى وإن‬
‫حارا حار ًقا‪ .‬كان كل يشء أجنب ًيا غري ًبا يل‪ ،‬كام هي غرابة أولئك‬
‫كان يو ًما ً‬
‫صغار جيعلني وجو ُدهم‬
‫ٌ‬ ‫الطلبة الذين كانوا ال يشبهون الناس يف كوريا!‬
‫باهتة غري مرئية‪ :‬آذاهنم مثقوبة‪ ،‬وأذرعتهم يملؤها الشعر‪ ،‬يضعون قالئد من‬
‫رؤوسهم عامئم بربطة‬
‫َ‬ ‫الذهب‪ ،‬وتكسوهم رائحة الزيوت العطرية‪ ،‬وتعلو‬
‫كالقبضة‪ .‬إهنم السيخ وأعينُهم الدائرية!‬
‫مل يكن يف املدرسة أي طالب أمريكي‪ ،‬ولكن املنهج كان أمريك ًيا‪ ،‬وكذلك‬

‫‪180‬‬
‫كان مدير املدرسة السيد ماكسويل صاحب صوت جهوري كالزئري‪ ،‬وبطن‬
‫ودائري يعتيل حزام بنطاله كالبالون! وكان اآلباء واألخوات((( يتلون‬
‫ّ‬ ‫كبري‬
‫علينا الصلوات مبارشة بعد رفع العلم التايالندي‪ .‬تعرفنا يف املدرسة‬
‫عىل واليات أمريكا اخلمسني‪ ،‬وعاصمة كل والية؛ كام درسنا عن لويس‬
‫وكالرك((( وبول ريفري(((‪ ،‬وكان أغلبنا مل يزر الواليات املتحدة قط‪ .‬يف حصة‬
‫املوسيقى‪ ،‬كنا مع معلمتنا الفلبينية ندرس ونغني جلون هينري وأغنيتيه‪:‬‬
‫أشيائي املفضلة واجلميلة أمريكا‪.‬‬
‫مقسم ًة‬
‫ّ‬ ‫بدأت دروس اإلنجليزية بكتاب مصور يعرض الكلامت‬ ‫ْ‬
‫واستوعبت دون جهد يذكر‬
‫ُ‬ ‫برتتيبها اهلجائي‪ .‬كنت يف التاسعة من عمري‪،‬‬
‫كل معاين الكلامت وقواعد تركيب اجلملة‪َ ،‬ب ْيدَ أن الصعوبة كانت يف نطق‬ ‫َّ‬
‫كبريا‪ .‬مل‬
‫وحضورا ذهن ًيا ً‬
‫ً‬ ‫تلك األصوات الغريبة؛ لقد تطلب األمر جهدً ا‬
‫يت بقدر ما اإلنجليزية؛ فكانت تبدو باملقارنة مع‬ ‫وهج صو ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫يكن للكورية‬
‫اإلنجليزية رتيبة جدً ا‪ ،‬فكل مقطع صويت له الطول ذاته والنربة ذاهتا‪ .‬كام‬
‫أساسا يف الكورية‪ f, r, v, z, th :‬وغريها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫مل تكن بعض األصوات موجودة‬
‫شفتي حماول ًة أن‬
‫ّ‬ ‫فاحتجت إىل أن أشد عىل معديت‪ ،‬وألوي حلقي‪ ،‬وأز ّم‬
‫ُ‬
‫أحرك لساين دون توقف‪ .‬كانت عملية رس ّية ذاتية‪ ،‬فاألمر كله كان يتم‬
‫داخل فمي وبكتامن تام‪ .‬ثم بدأت أحاول اجلهر بالكلامت وربطها باحلرف‬
‫يف مطلعها‪ ،‬مثل ‪ u‬لكلمة ‪ ،um-brel-la‬ولكني كنت مشغولة بتذكري نفيس‬

‫‪ -1‬اآلباء هم قساوسة الكنيسة الرجال‪ ،‬واألخوات هو اللقب الذي يطلق عىل الطاقم النسائي‬
‫(الراهبات) العامل يف الكنيسة‪.‬‬
‫‪ -2‬مها مرييوذر لويس (تويف ‪١٩٠٨‬م) ووليم كالرك (تويف ‪١٨٣٨‬م) مسكشفا الوسط والشامل‬
‫الغريب األمريكي‪.‬‬
‫مشهورا بصناعة الفضة وارتباطه‬
‫ً‬ ‫‪ -3‬بول ريفري رجل صناعة وسيايس ووطني أمريكي‪ ،‬كان‬
‫بالسياسة األمريكية يف فرتة حياته (تويف ‪١٨١٨‬م)‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫بالفرق بني صوت احلرفني‪r, l :‬؛ ثم أتوه وأفقد السيطرة حني أحاول تذكر‬
‫موقع النرب عىل احلروف‪ .‬كنت أخاطب نفيس قائلة‪« :‬كيف ستكررين نطق‬
‫هذه الكلمة؟ كيف ستخرج هذه األصوات من فمك وبرسعة عند املقطع‬
‫الثاين؟ صويت يبدو وكأنني عىل وشك أن أتقيأ!» وعند كل صباح‪ ،‬وعند‬
‫الشمس‬
‫َ‬ ‫االصطفاف للطابور عىل تلك األرض التي وكأهنا قد امتصت‬
‫وحرارهتا‪ ،‬وقدماي متعرقتان بسبب تلك اجلوارب البيضاء‪ ،‬أقف مستمع ًة‬
‫النسيابية كالم السيد ماكسويل؛ أنصت بدقة لكل تفاصيل الكلامت‪a-an :‬‬
‫‪ ،an-nou-ncment‬ثم أجاهد نفيس ألشارك اجلميع يف تالوة الصلوات‪،‬‬
‫عيني‪ ،‬متفوه ًة بالكلامت ألمارس نطقها‬
‫ّ‬ ‫جامع ًة يدي إىل بعضهام‪ ،‬مغمض ًة‬
‫كنت ال أفهم معناها‪ .‬فأنا ال أعرف من هو هذا «األب» الذي نخاطبه‬
‫وإن ُ‬
‫وال من أين جاء!‬
‫أما ما تبقى من هذه الدولة‪ ،‬خارج أسوار بيتنا واملدرسة واملتاجر احلديثة‪،‬‬
‫فلم نشاهد أنا وأخي إال ما هو داخل سيارتنا الفولفو املك ّيفة وسائقها اخلاص‬
‫ولوحة أرقامها اخلاصة بالدبلوماسيني‪ .‬يف طريق املدرسة ذها ًبا وإيا ًبا‪ ،‬كنا‬
‫نشاهد الكثري من الدخان والزحام؛ شوارع مكتظة بعربات التوك توك ذات‬
‫العجالت الثالث؛ شاحنات مز ّينة برسومات نساء شبه عاريات؛ حافالت‬
‫مزعجة وبعض ركّاهبا متعلقني حيث ما تيرس هلم‪ ،‬متسببني بميالن العربة‪.‬‬
‫األطفال املحل ّيون‪ ،‬حيارصون السيارات عند كل إشارة مرور‪ :‬يبيعون‬
‫الزهور‪ ،‬وينظفون الزجاج‪ ،‬ويطلبون املال‪ .‬وعند فتحنا لزجاج السيارة‬
‫ولو للحظة خاطفة فإن الروائح الرطبة للعامل اخلارجي تعصف بنا‪ :‬روائح‬
‫األطعمة‪ ،‬و العرق والدخان‪ ،‬وروائح املانجا احللوة والبخور‪ .‬واملنظر البشع‬
‫للطيور املسلوخة وهي معلقة بكامل تفاصيلها دون تقطيع عىل واجهة‬
‫بعض املطاعم‪ ،‬وإن كانت رائحتها تثري الشهية‪ .‬لكن أمي ال تأذن لنا مطل ًقا‬

‫‪182‬‬
‫برشاء أي طعام من الشارع‪ .‬تؤم ُن أمي أن كل تلك األطعمة غري موثوقة‬
‫خاصة حني أصيب أخي بتحسس جلدي بسبب أسامك أكلناها يف مطعم‬
‫بدت تلك الشوارع حمفوفة باخلطر واملوت‪ ،‬لكنها يف الوقت نفسه‬ ‫ذات يوم‪ْ .‬‬
‫تنبض باحلياة‪ ،‬متا ًما مثل بعض األزهار الفاتنة التي ال تولد إال بعد‬
‫كانت ُ‬
‫موس ٍم من العواصف والرياح‪.‬‬
‫بعد وصولنا املذكور إىل بانكوك‪ ،‬راودتني كوابيس ومنامات مزعجة‪.‬‬
‫ويدي ألجاهد وأبعد‬
‫ّ‬ ‫رجيل‬
‫ّ‬ ‫كنت أستيقظ يف منتصف الليل باكي ًة وأنا أحرك‬
‫العدد الكبري من الديدان واألفاعي التي متيش عىل جسدي‪ .‬كان رسيري‬
‫يمتأل هبا‪ ،‬وكنت أشعر أين أغرق بينها أكثر كلام حاولت أن أبعدها عني‪.‬‬
‫لزجا‪ ،‬وكأنه من إفرازات تلك‬
‫حني أفتح عيني أجد العرق عىل جسدي ً‬
‫املخلوقات اللزقة والتي ليس هلا وجه وال مالمح‪ .‬كانت املعارك يف تلك‬
‫الليايل‪ ،‬معاركي وحدي؛ ليال مظلمة ورطبة مثل ثقب يف باطن األرض‪.‬‬
‫مل يالحظ أحدٌ أي يشء‪ .‬وعند الصباح‪ ،‬حني نتجه أنا وأخي إىل املدرسة‬
‫أرى ضفادع ميت ًة عىل الطرقات‪ ،‬مدهوسة وملتصقة باألسفلت من إطارات‬
‫السيارات العائدة متأخرة يف الليل‪ ،‬ورغم قرب العهد إال أهنا تكون جافة‬
‫متيبسة من الشمس احلارة‪ ،‬رقيقة جدا وكأهنا قصاصات ورق‪.‬‬
‫يسب أي مرور لذكر‬
‫دائم ّ‬
‫املوت من أيب‪ ،‬كان قد انكمش وكان ً‬
‫ُ‬ ‫حني دنا‬
‫مريضا»‪.‬‬
‫تايالند‪ .‬كان يقول‪« :‬ذلك احلر الشديد هو الذي طرحني ً‬
‫احلواس‬
‫َّ‬ ‫تسلب‬
‫ُ‬ ‫إن الكبد حني مترض فإهنا ال تُظهر ذلك عرب األمل‪ ،‬بل‬
‫لذاهتا‪ ،‬وتسلب الطاقة البدنية‪ ،‬وتسلب أبسط مظاهر األمل يف احلياة‪ .‬لقد‬‫ّ‬
‫التذوق فقىض عقو ًدا من الزمن يتحدث‬‫ّ‬ ‫سلب التهاب الكبد من أيب حالوة‬
‫عن الطعام بحنني مؤمل‪ .‬مل يكن حيب احلديث عن الطعام التايالندي‪ ،‬فكان‬
‫يعتقد حتى قبل تشخيصه باملرض أن كثرة الطعام اجلديد الذي مل يعهده قبل‬

‫‪183‬‬
‫جميئنا إىل تايالند كانت من أسباب تدهور عافيته‪ .‬جمرد ذكر صلصة األسامك‪،‬‬
‫وعشبة العطرة‪ ،‬واألرز طويل احلبة‪ ،‬وماء جوز اهلند‪ ،‬يصيب أيب بالغثيان‪،‬‬
‫ً‬
‫عاجل أم آجالً‪،‬‬ ‫كان ذكر تلك األطعمة يذكر جسدَ ه باملرض الذي سيقتله‬
‫وأصبحت صفراء قبيحة مثل لون فاكهة‬
‫ْ‬ ‫ذاك املرض الذي تص ّل ْ‬
‫بت معه كبده‬
‫منتنة متعفنة‪.‬‬
‫يف أول إجازة صيفية مرت عىل فرتة إقامتنا يف بانكوك‪ ،‬كان أيب يتناول‬
‫الغداء معنا يف املنزل فيغط يف قيلولته‪ ،‬ثم يقوم عىل مضض ليعود إىل السفارة‬
‫حني هتدأ حرارة منتصف اليوم قليالً‪ .‬كان يظن أن سبب حالة اخلمول التي‬
‫يعانيها هو قلة احلركة والتامرين البدنية‪ ،‬لذا فقد بدأ يامرس بعض الرياضة‬
‫حتت الشمس‪ ،‬ويلعب الغولف يف هناية األسبوع؛ قال فيام بعد‪« :‬لقد كنت‬
‫جاهل حيث َأ َعن ُْت خاليا املرض لتتكاثر داع ًيا‬
‫ً‬ ‫أنتحر ببطئ‪ ،‬كنت‬
‫ُ‬ ‫عمل ًّيا‬
‫إياها الحتالل كامل بدين»‪.‬‬
‫شهرا ً‬
‫كامل‬ ‫كان أيب يكثر من اإلجازات املرضية حتى إنه قىض ذات مرة ً‬
‫راقدً ا عىل رسير املرض يف املستشفى‪ .‬مل يكن يريد حضور حفل الغداء‬
‫الرسمي ترحي ًبا بالسفري اجلديد وعائلته؛ لكن عدم احلضور مل يكن خيار ًا‬
‫متاحا!‬
‫ً‬
‫كان حمل إقامة السفري ً‬
‫منزل حدي ًثا فيه حجرات بيضاء اللون عريضة‪،‬‬
‫ونوافذ زجاجية طويلة ّ‬
‫تطل عىل احلديقة واملسبح‪ ،‬وكان للبيت مدخل مرتفع‬
‫السقف فيه صخور غريبة الشكل ملتوية‪ ،‬معروضة بوصفها قط ًعا فنية‪ .‬كنت‬
‫من أكرب األطفال احلارضين سنًا‪ ،‬وبرفقة فتاتني أخريني‪ ،‬ذهبنا نستكشف‬
‫املنزل وحجراته الشاسعة والفارغة‪ .‬تساءلنا‪ :‬ملاذا ُص ّممت هذه احلجرات‬
‫ممرا رخام ًيا مرتفع السقف حيث‬
‫هبذا احلجم؟ وما حاجتها يا ترى؟ دخلنا ً‬
‫وجدنا ِصبي ًة ينظرون إىل يشء ما ‪-‬أو أحد ما‪ -‬ويومئون نحوه ويضحكون‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫لقد كان ذلك اليشء هو أيب! كان مستلق ًيا عىل كريس‪ ،‬ذراعاه عىل ذراعي‬
‫الكريس‪ ،‬وأصابع يديه متشابكة ومرمية أمامه‪ ،‬ورأسه منحن وكأنه يف حال‬
‫نائم‪.‬‬
‫خشوع؛ كان منظره مهي ًبا وكئي ًبا وكأنه كان يصيل‪ ،‬لكنه يف احلقيقة كان ً‬
‫مل يستطع املسكني مقاومة التعب خالل تلك املناسبة دون أن يأخذ قيلولته‪.‬‬
‫رب‬
‫ورغم علمي بتعبه‪ ،‬كنت أريد أن أصفعه ألوقظه! خلفه لوحة معلقة تع ُ‬
‫عن (الال يشء) بمعنى الكلمة؛ رسم ٌة لدرجات اللون األزرق فقط‪ .‬كان‬
‫منعزل عن كل يشء‪ ،‬غري قادر عىل البقاء بصحبة أحد‪ ،‬بل كان‬ ‫ً‬ ‫أيب حينها‬
‫بالكاد مستجم ًعا نفسه ليلقيها يف تلك الزاوية النائية‪ .‬كان أخي يلعب مع‬
‫الصبية يف ذلك املمر‪ ،‬مشاركًا إياهم التهكم والضحك‪ .‬ال أظنه كان‬ ‫بقية ِ‬
‫فانرصفت عن ذلك املكان‪ ،‬وكأن ذلك الرجل‬
‫ُ‬ ‫يعلم حقيقة ما جيري‪ .‬أما أنا‪،‬‬
‫ال يعني يل شي ًئا عىل اإلطالق‪.‬‬
‫بقيت أنا‬
‫ُ‬ ‫تويف جدي أليب فسافر والداي حلضور مراسم جنازته بينام‬
‫وأخي يف بانكوك لظروف الدراسة؛ كنت يف الصف اخلامس وأخي يف‬
‫الصف الثالث‪ .‬كنا نحرض املدرسة ونؤدي واجباتنا املنزلية ونشاهد «رجل‬
‫الستة ماليني دوالر» و«مالئكة تشاريل»‪ ،‬وكانت خادمتنا‪ ،‬وونغ‪ ،‬تقدم لنا‬
‫وجبات الطعام بانتظام‪.‬‬
‫سألت أمي عن أسباب عدم حضورنا للجنازة‪ ،‬كانت جتيب بأن‬ ‫ُ‬ ‫حني‬
‫األمر كان مفاج ًئا وملي ًئا بالتفاصيل التي ال نستطع فهمها‪ .‬مل نكن أنا وأخي‬
‫قادرين عىل إدراك ما عنته وفاة جدي ألرستنا‪ .‬لقد كان جدي يف الرابعة‬
‫والثامنني عند وفاته‪ ،‬رب أرسة كبرية تقارب الثالثني عد ًدا‪ :‬زوجتان‪،‬‬
‫وأخوان‪ ،‬وثالثة عرش ً‬
‫طفل‪ ،‬وأرامل وأطفال ألربعة بنني وبنتني كان قد‬
‫فقدهم أثناء احلرب الكورية(((‪ .‬قبل مخس سنوات من وفاته‪ ،‬اختذ جدي‬

‫‪ -1‬احلرب الكورية اندلعت بني الكوريتني لثالث سنوات‪ :‬بني منتصف العام ‪١٩٥٠‬م وحتى‬

‫‪185‬‬
‫موق ًفا سياس ًيا غري متوقع حني عارض عالنية ‪-‬بصفته رئيس جملس احلزب‬
‫احلاكم‪ -‬اإلصالحات الدستورية التي تقدم هبا الرئيس بارك تشونغ هي‬
‫والتي كانت ستضمن بدورها فرتة رئاسية رابعة وخامسة للرئيس‪ُ .‬م ّر َر‬
‫القانون بطبيعة احلال‪ ،‬ونال جدي احرتا ًما سياس ًيا رفي ًعا‪ ،‬لكنه واجه بعض‬
‫مال‪ ،‬سوى احلمل الثقيل‬ ‫الدعاوى القانونية‪ .‬حني تويف جدي مل يرتك كثري ٍ‬
‫َ‬
‫ملجده السيايس‪.‬‬
‫ً‬
‫تسجيل مرئ ًيا‬ ‫بعد عودتنا إىل كوريا بفرتة قرر والداي أن نشاهد أنا وأخي‬
‫صامتًا ملراسم اجلنازة‪ .‬كنا نجلس يف الغرفة التي اختذها جدي مكت ًبا له لعقود‬
‫طويلة‪ .‬كانت الغرفة ذات يوم مليئة باملجلدات القديمة التي عالها الغبار‪،‬‬
‫وجدراهنا مزينة برواق من النقوش اجلميلة‪ .‬أما اليوم فجدراهنا يعلوها‬
‫الورق الرخيص الرديء الذي مل يستطع حتى تغطية البقع التي عليها؛ وعىل‬
‫رفوف املكتبة قطع من األلعاب واألحجيات وزجاجات جوين ولكر(((‪.‬‬
‫أخذ عمي األكرب ذلك املكتب‪ ،‬بل واملنزل كله‪ ،‬وخالل مخس سنوات من‬
‫حدث وفاة جدي أعلن عمي إفالسه بشكل رسمي وفقد كل يشء يملكه‬
‫رأيت كل أفراد عائلتنا؛‬
‫ُ‬ ‫واملنزل ضمن القائمة‪ .‬يف فيلم اجلنازة الصامت‪،‬‬
‫ورأيت النساء يرتدين اهلانبوك((( ‪ hanbok‬القطني األبيض‪ ،‬والرجال‬
‫يف بدالهتم السوداء وقبعات اجلنائز املخروطية؛ رأيتهم ينتحبون وكأهنم‬
‫خائفون‪ ،‬وكأن اجلنازة مل تكن هناي ًة ألمر ما بل بداية أمر مرعب يرتقبونه‪.‬‬
‫بدا وجه أيب متجعدً ا وكأن مالحمه‪ :‬عينيه‪ ،‬وأنفه‪ ،‬وشفتيه‪ ،‬قد غريت موقعها‬

‫منتصف العام ‪١٩٥٣‬م؛ كانت كوريا الشاملية مدعومة من االحتاد السوفيتي والصني‪ ،‬وكوريا‬
‫اجلنوبية مدعومة من الواليات املتحدة األمريكية‪.‬‬
‫‪ -1‬من أشهر الرشكات املنتجة للخمور لكنها ال تعد رشكة فاخرة وال ثمينة املنتجات‪.‬‬
‫‪ -2‬اهلانبوك لباس تقليدي للنساء يف كوريا‪ ،‬وهو موجود يف أماكن آسيوية أخرى ولكن لكل بيئة‬
‫طريقة وثقافة يف ألوانه ومعانيها وطريقة تفصيله ولباسه‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫حدقت بوجهه كثريا عىل الشاشة‪ ،‬مذهولة من وجهه غري‬ ‫ُ‬ ‫عىل خارطة وجهه‪.‬‬
‫املألوف‪ ،‬ورغم أن التسجيل كان صامتًا‪ ،‬إال أنني كنت أسمع صوت عويله‬
‫ٌ‬
‫حيوان قد اشتد عليه األمل‪ .‬كانت تلك هي املرة األوىل التي أراه يبكي‪.‬‬ ‫وكأنه‬
‫عودة إىل الوراء قليالً‪ ،‬حني كنا يف بانكوك دون والدَ ينا‪ ،‬توفيت السيدة‬
‫تشانتي‪ .‬معلمة من اهلند تدرس املرحلة الثانوية؛ كانت ترتدي لباس الساري‬
‫اهلندي اجلميل بألوان داكنة‪ ،‬وتضع جمموعة كبرية من أساور الذهب الرقيقة‬
‫يف ذراعها؛ كان لألساور صوتًا رنانًا حني متيش‪ .‬أتذكر أين رأيتها يف مطعم‬
‫املدرسة بضعة أيام قبل سامع خرب وفاهتا؛ كانت تضع مكياجا فاتنا حول‬
‫عينيها كعادهتا؛ كانت واسعة اخلُطى حني متيش ولكنها متيش برشاقة وكأهنا‬
‫تتزلج فوق األرض دون أن تطأها‪ .‬كان موهتا فجأة‪ ،‬بجلطة دماغية‪.‬‬
‫ذهبت املدرسة كاملة إىل الكاتدرائية ألداء واجب الوداع واالحرتام‬
‫للسيدة تشانتي‪ .‬اصطفت فصول الطالب صفوفا يف ممرات الكنيسة‬
‫أوسط مقدمة املبنى‪ .‬مل ِ‬
‫أدر ما الذي‬ ‫َ‬ ‫يتقدمون واحدً ا تلو اآلخر حتى بلغوا‬
‫شمس الصباح صبغة من‬ ‫ُ‬ ‫ألقت‬
‫ْ‬ ‫عيل فعله عند وصويل إىل هناك‪.‬‬ ‫يتوجب ّ‬
‫النور عىل مداخل الكنيسة وصحنها‪ .‬مل أزر هذا املكان من الكنيسة قط‪ .‬مل‬
‫يكن بالظلمة التي كنت أختيلها‪ ،‬لكن اهلواء كان شديدً ا ورط ًبا؛ كنت أشعر‬
‫وذراعي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ساعدي‬
‫ّ‬ ‫بقشعريرة صامتة تقطر عىل جبيني بغزارة‪ ،‬فتنزل عىل‬
‫الريح إىل الداخل‪ ،‬محلت‬
‫ُ‬ ‫وعىل رقبتي من اخللف حتى ظهري‪ .‬حني عصفت‬
‫معها شي ًئا رقي ًقا من احلرارة التي بدأت للتو موعدها اليومي يف اخلارج‪.‬‬
‫وقفت ‪ ..‬مقابل املذبح‪ ،‬حيث ُوضع التابوت‪ .‬كانت السيدة تشانتي‬
‫ُ‬
‫مستلقية عىل قامش الساتان األبيض‪ ،‬مرتدية لفافة ساري جديدة‪ ،‬لوهنا‬
‫اعتقدت‬
‫ُ‬ ‫بنفسجي كوجه السيدة تشانتي‪ .‬ويف منخارهيا وضع قطن أبيض‪.‬‬
‫أن السيدة تشانتي امليتة قد قامت للتو وارتَدَ ْت لباسها للمرة األخرية‪،‬‬

‫‪187‬‬
‫وبعضا من أمحر الشفاه‪ ،‬وعقدت بانسيابية عقدة شعرها من‬ ‫ً‬ ‫ووضعت حل َّيها‬
‫اخللف‪ ،‬ثم عادت واستلقت داخل تابوهتا وأغمضت عينيها مسلم ًة أمرها‬
‫بدت وكأهنا حية ترزق‪ ،‬بالرغم‬ ‫إىل املوت يف تنهيدة ملؤها التعبري عن التفاهة‪ْ .‬‬
‫من اضمحالهلا الواضح والذي أصابني بالغثيان‪ .‬اآلن أتساءل عام إذا كان‬
‫جدي خالل جنازته يف حالة تشبه حالة السيدة تشانتي‪ ،‬عندما دفنوه حتت‬
‫األرض احلي ُة الطري ُة داخلها‪.‬‬
‫ُ‬ ‫تضمه‬
‫ّ‬ ‫األرض يف قرب كوري تقليدي‪ ،‬حيث‬
‫فأومأت بعالمة الصليب أمام جسدها‬ ‫ُ‬ ‫أما ما جرى يف جنازة السيدة تشانتي‪،‬‬
‫انرصفت راجعة إىل‬
‫ُ‬ ‫ألنني مل أكن أعرف ما الذي ينبغي عمله سوى ذلك‪ ،‬ثم‬
‫عيني حينها‪.‬‬
‫ضوء النهار الذي أعمى ّ‬
‫بلغت جسد ًيا يف السنة األخرية لنا يف تايالند‪ ،‬وكنت أطول الفتيات يف‬
‫ُ‬
‫تركت شعري يطول‪ ،‬فاستحالت قصة شعر األوالد التي كانت‬ ‫ُ‬ ‫الصف‪.‬‬
‫عيل أمي إىل كثافة جاحمة خالل وقت قصري جدً ا‪.‬‬
‫تفرضها ّ‬
‫ُأذن يل حينها أن أحرض احلفالت التي يقيمها األصدقاء خالل فرتة النهار‬
‫وأن أستخدم سيارات األجرة وحيدةً‪ .‬كانت حفلة الرقص األوىل‬ ‫فقط‪ْ ،‬‬
‫ملدرستنا عىل األبواب‪ ،‬قري ًبا من عيد امليالد‪ ،‬فكانت ّ‬
‫حمل اهتامم الفتيات‬
‫وأحاديثهن‪ .‬لكنني كنت سأغادر قبل ذلك املوعد‪ .‬آخر حفلة حرضهتا كانت‬
‫حفلة صاخبة لعيد ميالد الصديقة الفلبينية‪ ،‬ماريسا‪ ،‬يف منزل أرسهتا الشبيه‬
‫بالقصور وحدائقه العظيمة‪ .‬كان ملاريسا أشقاء يكربوهنا سنًا‪ ،‬وأصدقاؤهم‬
‫كانوا مدعوين للحفلة‪ .‬ومما أرعبني وعكّر صفوي كان الفتى تشاي‪-‬وين‪،‬‬
‫طالب يف الصف الثامن من تايوان؛ كان حيدّ ُق يب لدرجة أخافتني وأشعرتني‬
‫بنطال من اجلينز وقميص مزارعني‬ ‫ً‬ ‫بخ ّفة يف الوقت نفسه! كنت أرتدي‬
‫أبيضا‪.‬‬
‫ً‬
‫وهج الظهرية خرجنا إىل احلديقة خاصة‬
‫اقرتب املسا ُء وانخفض ُ‬
‫َ‬ ‫وحني‬

‫‪188‬‬
‫بعدما أصابنا ُ‬
‫امللل ألننا مل نكن نفعل شي ًئا عدا ارتشاف املرشوبات الغازية‬
‫واالستامع لفرقة بوين إم(((‪ .‬كانت للحديقة ظاللً وارفة لوجود األشجار‬
‫الكبرية؛ جتولت يف الباحة املرصوفة مرتدد ًة أن أطأ بقدمي العشب الكثيف‪.‬‬
‫«أفعى!» ‪ ..‬صاح أحدهم وهو يومئ ناحية شجرة موز كبرية أوراقها‬
‫ثامرا صغرية‪.‬‬
‫كاملجاديف وأغصاهنا حتمل ً‬
‫ُ‬
‫تتحرك كلها؛‬ ‫مل أمتكن من رؤية األفعى‪ ،‬ولكن بدت احلديقة وكأهنا‬
‫بدت أوراق األشجار وكأهنا كلها ذات جسد من حلم ودم؛ واألزهار كأهنا‬
‫من احلكايات اخلرافية‪ ،‬هلا أفواه عظيمة وتلتهم الكائنات احلية‪ .‬مل أستطع‬
‫حراكًا! أحسست أنني يف أحد أحالمي التي كنت أراها؛ أغرق يف حوض من‬
‫جترن‬
‫األفاعي والديدان وهي ملتفة عىل جسدي العاجز عن املقاومة وهي ّ‬
‫إىل األسفل‪.‬‬
‫جتمهر الصبية والفتيات عند الشجرة يف حني كان األوالد األكرب سنًا‬
‫يرمون احلجارة والعيدان باجتاه األفعى‪ .‬كان اجلميع مستمت ًعا كام يبدو‪،‬‬
‫وحتول رصاخ الفتيات إىل ضحك‪ ،‬والصبية هيتفون‪ .‬كأن األمر برمته جز ٌء‬
‫معدٌّ سل ًفا كفقرة من هذه االحتفالية‪.‬‬
‫أخريا‪ ،‬قال أحدهم‪« :‬وجدهتا!»؛ رفع تشاي‪-‬وين األفعى السوداء عالي ًا‪،‬‬ ‫ً‬
‫وكان جلدها الم ًعا وكانت ملتوية عىل نفسها‪ .‬نظر إ ّيل نظر ًة ملؤها السعادة‬
‫والفخر‪ ،‬ترافقها ابتسامة بريئة‪ .‬عندها أدرت وجهي ناحية البوابة الرئيسة‪،‬‬
‫مستحث ًة رجيل عىل امليض إىل اخلارج باجتاه الشارع املزدحم‪ .‬أوقفت أول‬
‫سيارة أجرة‪ ،‬وبمجرد ما أغلقت باب السيارة حتى قرع تشاي‪-‬وين سقف‬
‫أنت بخري؟» رددت عليه أن‬ ‫السيارة وكان بالكاد يلتقط أنفاسه قائال‪« :‬هل ِ‬

‫‪-1‬فرقة غنائية أسست يف أملانيا الغربية يف العام ‪١٩٧٥‬م‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫ذلك كان «مقززا!» وبالغت يف بيان شعوري بالقرف‪ .‬اعتذر ً‬
‫قائل‪« :‬آسف‬
‫‪ ..‬آسف» ورفع يديه ليؤكد يل أنه ال حيمل شي ًئا‪.‬‬
‫أخربت سائق األجرة عن وجهتي‪ ،‬وساومته باللغة التايالندية ألبني‬
‫له سيطريت عىل بعض الكلامت واحلروف؛ كأنني أخربه أنني أجنبية أتكلم‬
‫اإلنجليزية‪« .‬ودا ًعا»‪ ،‬قلتها لتشاي‪-‬وين‪ ،‬وما أن ابتعدت سيارة األجرة‬
‫قليل حتى شعرت ببعض االستياء من ترصيف مع تشاي‪-‬وين حيث تركته‬ ‫ً‬
‫بائسا‪.‬‬
‫حمرجا ً‬
‫ً‬
‫عند عودتنا إىل كوريا يف نوفمرب من العام ‪1978‬م‪ ،‬واستقبلنا الرب ُد الذي‬
‫مل أكن ذقته منذ ثالث سنوات‪ ،‬كان يلسعنا بشدة‪ .‬نوفمرب هو الشهر ذاته‬
‫الذي غادرنا فيه سيئول‪ ،‬لكن الربد هذه املرة بدا غري ًبا حتى إنني كنت‬
‫أخشى أن أتنفس‪ .‬جتمدت أصابع قدمي وهي داخل حذائي الريايض؛ ومل‬
‫أمتكن من اإلحساس بأي رائحة يف اهلواء‪ ،‬كأن هذا الربد الشديد قد ضاق‬
‫بالروائح ومل يرتك هلا مكانًا يف حميطه‪.‬‬
‫كل الذين نعرفهم كانوا قد انتقلوا ليسكنوا شق ًقا يف العامرات الشاهقة‬
‫احلديثة جنوب سيئول؛ حولت هذه الثقافة النصف اجلنويب من العاصمة‬
‫العريقة ذات التاريخ املمتد إىل مخسمئة سنة إىل النصف «احلديث»‪ .‬انتقلنا‬
‫حي مكون من مئتي بناية‬
‫والدي إىل شقة ذات ثالث حجرات يف بانبو‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬ ‫مع‬
‫رمادية متطابقة متا ًما‪ .‬أقمنا مجي ًعا يف الطابق األول من البناية رقم ‪ 65‬لثالث‬
‫املقسم إىل مربعات صغرية حمكمة‬ ‫عرشة سنة‪ ،‬حمارصون يف ذلك املستطيل ّ‬
‫االغالق وكأهنا حاويات مفرغة من اهلواء‪ .‬إن مل ختني الذاكرة فإن لون الشقة‬
‫دائم مرتبة‪ ،‬فكل يشء يف موقعه بل كانت‬ ‫دائم تراب ًّيا وفيها ستائر كبرية؛ ً‬
‫كان ً‬
‫نادرا ما تنقل من أماكنها؛ فكؤوس النبيذ الفضية املنقوشة عليها‬
‫األشياء ً‬
‫رسومات الفيلة والتي كانت أمي قد اشرتهتا من تايالند‪ ،‬ظلت يف مكاهنا‬

‫‪190‬‬
‫ٌ‬
‫أسنان‬ ‫دون أي استخدام لسنوات طويلة‪ ،‬حتى أصبحت سوداء وكأهنا‬
‫دامهها التسوس‪.‬‬
‫كان يومي األول يف املدرسة الثانوية يف شهر مارس‪ .‬مضت ثالثة أشهر‬
‫منذ جميئنا من تايالند‪ ،‬لكن الطقس ما زال بار ًدا‪ ،‬ومل أكن أشعر بالراحة‬
‫مع تلك الطبقات من املالبس الداخلية الثقيلة‪ ،‬وفوقها ذلك الزي املوحد‬
‫املزعج‪ :‬تنورة وسرتة رياضية سوداء‪ .‬كانت عيناي متورمتان من بكاء الليلة‬
‫املاضية بسبب اضطراري لقص شعري ليتوافق مع أنظمة الدراسة‪ :‬ال ينبغي‬
‫أن ينزل الشعر أسفل من األذن أكثر من سنتيمرت واحد‪ .‬كنت يف الفصل‬
‫مع سبعني فتاة أخرى؛ كلنا نرتدي املالبس نفسها‪ ،‬واألحذية نفسها‪ ،‬ولنا‬
‫مفرق ومثبت بنفس الطريقة‪ ،‬حتى إن رقابنا من اخللف‬ ‫شكل شعر متامثل ّ‬
‫خمرضة من أثر ماكينة احلالقة األلكرتونية‪ .‬وصورة خميفة للرئيس بارك تشانغ‬
‫ّ‬
‫هي معلقة فوق السبورة وبجواره ‪ ،taegeuk-ki‬العلم الوطني الذي حيمل‬
‫اسمه داللة (العلو املطلق)‪.‬‬
‫الطالبات األكرب سنًا كمسؤوالت عن التزام بقية‬
‫ُ‬ ‫ويف كل صباح‪ ،‬تقف‬
‫الطالبات بالنظام‪ ،‬فيكون التفتيش عىل الشعر والزي املدريس املوحد‪ .‬ويف‬
‫كل يوم أشعر أن إحداه ّن سوف تنظر خاليل وترى ما بداخيل من الشعور‬
‫وإن كنت ملتزمة خارج ًيا‪ ،‬فتجذبني خارج الصف قائل ًة‪« :‬ملاذا ال تشبهني‬
‫البقية؟ ملاذا ال تلتزمني مثل البقية؟»‬
‫عدت إليها جمد ًدا كانت لغة هرمية سلطوية تتضمن ترشي ًفا‬
‫ُ‬ ‫الكورية التي‬
‫وتسليم آلخرين‪ .‬وحيث أنني مل أعد تلك‬
‫ً‬ ‫لبعض األشخاص وتواض ًعا‬
‫كنت أمارسه‬‫الطفلة الربيئة ذات السنوات التسع‪ ،‬فإن أسلوب الكالم الذي ُ‬
‫مالئم‪ُ .‬أذكّر نفيس باستمرار أن عالقتي بطرف املحادثة‬‫ً‬ ‫قبل سفرنا مل يعد‬
‫فعل أم سوى ذلك‪ .‬بدأت‬ ‫ضمريا أم ً‬
‫ً‬ ‫املقابل ستحدد معامل كل كلمة أنطقها‪:‬‬

‫‪191‬‬
‫أتعلم جمد ًدا ما يمكن قوله وما ال يمكن قوله‪ .‬وحني تؤنبنا معلم ٌة ّ‬
‫فإن الرد‬
‫املناسب بالكورية دو ًما هو‪« :‬إنه خطأي‪ ،‬أنا املذنبة»‪ .‬حماولة الرشح والتفسري‬
‫تعدُّ من سوء األدب‪ .‬يف الكورية ال أعلم كيف أعرب عن األشياء التي‬
‫أشتاق إليها يف بانكوك‪ :‬احلر‪ ،‬واأللوان‪ ،‬والرقص الذي مل أحرض احتفاليته‪،‬‬
‫والطريقة التي نظر تشاي‪-‬وين إيل هبا يف تلك احلديقة‪.‬‬
‫والدروس اإلنجليزية بدأت من مستوى الصفر؛ أحرف اهلجاء من‬
‫جديد‪.‬‬
‫?‪see-saw-seen, I-we, you-you, he-she-they, what is your name‬‬

‫صحيح أننا عدنا إىل حيث كانت تعيش أرستنا؛ ولكن األمر بدا وكأننا‬
‫خطأ يف مكان غريب أو يف حياة أخرى‪ .‬كل يشء كان خمتلفا‪ .‬وحني‬ ‫ً‬ ‫نزلنا‬
‫أراد أيب امليض قد ًما يف الطريق الذي سلكه أبوه قبله‪ ،‬استقال من العمل‬
‫احلكومي ّ‬
‫ورشح نفسه يف انتخابات املجلس الوطني‪ ،‬لكنه خرس املحاولة‪ .‬مل‬
‫يعد بإمكانه أن يستعيد املجد القديم؛ عالوة عىل ذلك خرس أيب ماله وعافيته‬
‫وروابطه ببقية أفراد األرسة‪ .‬أما أمي فبدأت تنال منها نوبات االكتئاب‬
‫الطويلة؛ حتولت مع حاالت متطرفة من األمل غري املربر والتي مل تساعدها‬
‫بدورها إال عىل االهنيار‪ .‬قرر األطباء أن أمي مصابة بمرض ثنائية القطب‪،‬‬
‫وكثريا حينام كنت أعود من املدرسة إىل املنزل أجدها منوم ًة يف املستشفى‪.‬‬
‫ً‬
‫كانت ترقد يف املستشفى ألسابيع‪ ،‬وأحيانا ألشهر حتى تعود إىل املنزل‬
‫وأصابعها ترتعدُ ‪ ،‬وكالمها متقطع غري مفهوم‪ ،‬وشعرها أشعث أغرب‪.‬‬
‫مل نعدْ كام كنا‪ ،‬ومل نعدْ نحن «نحن»‪ .‬بدأت أنا وأخي نفعل ما كنا نفعله‬
‫ً‬
‫منعزل خلف أبواب‬ ‫سو ًيا لنميض خالل احلياة‪ ،‬ولكن ّ‬
‫كل منا وحده‪ ،‬وحيدً ا‬
‫غرفته‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫بدأت أكتب يوميايت باإلنجليزية‪ .‬مل أعد أتكلم اإلنجليزية ألخاطب هبا‬
‫مؤخرا‪ ،‬قررت أن‬
‫ً‬ ‫أضحت لغة خاصة يل بمفردي وبشكل كامل‪.‬‬ ‫ْ‬ ‫أحدً ا؛ لقد‬
‫أبحث يف دفرت مذكرايت األصفر القديم القابع يف صندوق محلته معي الح ًقا‬
‫خالل املدن‪ ،‬والواليات‪ ،‬والدول‪ ،‬والقارات التي مررت هبا‪ .‬األمر الذي‬
‫أذهلني هو أن كل ما أكتبه كان جمر ًدا من التفاصيل والرشح‪ ،‬مع ندرة يف‬
‫ذكر أي صديق أو قريب؛ كانت كتابايت مليئة باجلمل التي تبدأ بالضمري «أنا»‬
‫شعرت به «أنا» عىل الورق‪ .‬بدت‬
‫ُ‬ ‫لتسكب دون تراجع أو غموض كل ما‬
‫مصدرا واحدً ا وهو ذايت أنا‪ ،‬وكأنني مكان منعزل بعيد‬‫ً‬ ‫الكلامت وكأن هلا‬
‫عن العامل كله‪ ،‬مكان ال يمكن ألي أحد وال أي يشء أن جيد ً‬
‫سبيل ليقتحمه‪.‬‬
‫صباحا‬
‫ً‬ ‫استيقظت‬
‫ُ‬ ‫يف اخلامس والعرشين من سبتمرب من العام ‪1982‬م‪،‬‬
‫ووجدت أمي ملقاة عىل األرض فاقدة للوعي‪ ،‬وبجوارها قنينة سم مكافح‬
‫للفئران‪ .‬حني عدت من املستشفى بعد إسعافها‪ ،‬أغلقت الباب وجلست عىل‬
‫َ‬
‫حدث!»‬ ‫ُ‬
‫أصدق ما‬ ‫أعلم من أين أبدأ وال‬
‫مكتبي وكتبت باإلنجليزية‪« :‬ال ُ‬
‫استمرت حماوالت أمي لالنتحار مع موجات اهلوس واالندفاع التي‬
‫ترافقها عند كل فقد‪.‬‬
‫وقبل ثالثة أسابيع من ذكرى وفاة أيب الثانية‪ ،‬وجدنا أخي الذي كان‬
‫مفقو ًدا ألكثر من شهر‪ ،‬ميتًا‪ ،‬متجمدً ا‪ ،‬متصل ًبا يف سيارته وهو يف الثامنة‬
‫والعرشين من عمره‪ .‬كانت سيارته يف ساحة مواقف سيارات بجوار هنر‬
‫هان(((‪ ،‬عىل بعد عرشة دقائق بالسيارة من بيتنا يف بانبو‪ ،‬حيث كانت أمي‬
‫تنتظره وتنتظره وتنتظره‪ .‬كنت تلك الليلة يف بوسطن‪ ،‬وركبت الطائرة ذاهبة‬
‫إىل سيئول‪ ،‬طارت الطائرة فوق املجرات البيضاء التي تعلو أالسكا‪ ،‬حيث مل‬

‫‪ -1‬من أهم األهنار يف كوريا اجلنوبية‪ ،‬يمر بعاصمتها سيئول وهو رابع أكرب هنر يف شبه اجلزيرة‬
‫الكورية‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫ً‬
‫حامل يف شهري الرابع‪.‬‬ ‫يكن ثمة صيف أبدً ا‪ .‬كنت‬
‫وتستمر احلياة‪ ،‬وها أنا ذا ال أشعر بنفيس كاملة بالكورية وال باإلنجليزية‪.‬‬
‫كل لغة مكملة ألختها؛ كل واحدة منهام عالة عىل األخرى ومفتقرة‬ ‫بدت ّ‬
‫أمحل خويف الدائم ّأل أكون مفهومة حني أستخدم لغة‬ ‫إىل خصائصها‪ .‬وأنا ُ‬
‫تعلم‬
‫واحدة فقط‪« :‬هل تدرك ‪-‬أهيا القارئ‪ -‬ما الذي أحاول قوله هنا؟ هل ُ‬
‫من أنا؟»‬

‫‪194‬‬
‫ُيتم الكاتب‬
‫لويس بيغلي‬
‫(((‬

‫مسودة رواية جديدة‬ ‫كنت قد أهنيت ّ‬ ‫يف أواخر صيف العام ‪2002‬م‪ُ ،‬‬
‫بعنوان «حطام سفينة»‪ .‬تكون جعجعة دور النرش بطيئ ًة حني ال يتوقعون أن‬
‫متطر عليهم الرواية ذه ًبا‪ ،‬لذا فقد وصلتني مالحظات املحررين ُقبيل عطلة‬
‫عيد امليالد بقليل‪ .‬قمت بالتعديالت املطلوبة خالل فرتة العطلة باإلضافة‬
‫كنت قد رسقتها من عميل يف املحاماة‪ .‬كانت هناك‬ ‫لبعض الساعات التي ُ‬
‫مالحظة واحدة ختص البناء اللغوي‪ ،‬وكان التعامل معها ً‬
‫سهل‪ .‬أما البقية‬
‫فكانت من النوع املحري‪ ،‬تلك التي تدعوك إىل الستجابة هلا أو إىل جتاهلها‬
‫واملع َّلمة بقلم الرصاص‪ .‬بعض ّ‬
‫القراء املوهوبني ال يستطيع أحيانًا مقاومة‬
‫متميزا بشكل‬
‫ً‬ ‫اخلربشة عىل هوامش النص‪ ،‬وهذا النوع من التحرير يكون‬
‫مبهر‪ .‬ولكن هذا النوع رغم مجاله يستهلك وقتًا وجهدً ا عظيمني للتعامل‬
‫معه؛ بل ويرتك الكاتب يف حالة من اليأس والقنوط والوسوسة‪ ،‬وقد يضعه‬
‫يف حالة عزلة أكثر مما اعتاد عليه‪ .‬انتعشت روحي ً‬
‫قليل بعد قراءيت للرواية‬
‫مجيل‪ .‬ولكن تعكري‬‫يف مسودهتا النهائية‪ .‬شعرت وملرة أخرى أن ما كتبته كان ً‬

‫‪ -1‬لويس بيغيل (‪ )Louis Begley‬روائي وحمام أمريكي‪/‬بولندي‪ .‬درس لويس يف جامعة هارفارد‬
‫وفيها نال لدرجته اجلامعية والدراست العليا يف القانون‪ .‬له عدة روايات منها «حطام سفينة»‬
‫(‪٢٠٠٣‬م)‪ ،‬وروايته التي يعدها البعض شبه سرية ذاتيه بعنوان «الكذب يف زمن احلروب» والتي‬
‫نرشت باإلنجليزية والبولندية‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫هذا الصفو ال يتطلب أكثر من أن يقرر املرء اجللوس للقراءة جمد ًدا يف حماولة‬
‫أخرية للتعامل مع بعض رتوش احلبكة أو اخلط الزمني‪ ،‬والتي ستتابعها‬
‫حمررة أعاميل‪ ،‬تلك الص ّيادة املاهرة واملوهوبة فطر ًيا بحاسة ال ختذهلا أبدً ا‪.‬‬
‫أدرك متاما أسباب بطئي وعدم يقيني‪ ،‬كام إنني ال أخلطها مع الشكوك التي‬
‫هتاجم كل الروائيني عند تسليم نسخهم النهائية إىل النارشين‪ ،‬العمل الذي‬
‫غريك‪ .‬حتى تلك اللحظة‪،‬‬ ‫يشابه يف ظالميته أن تتخىل عن ذريتك ليتبناهم ُ‬
‫يكون الكاتب ملكًا عىل حزمة أوراقه التي رافقته يف رحلة ح ّفتها رعايته‬
‫وإخالصه‪ .‬وفجأة‪ ،‬وداع إىل األبد‪ :‬خيرج الكتاب إىل أيدي الغرباء‪ ،‬الذين‬
‫يملكون مطلق احلرية يف طريقة معاملته‪ .‬هل سيحتفون به أم سيعادونه؟ هل‬
‫سيفهمونه؟ وكل ما يمكنك فعله هو أن تتمنى له احلظ السعيد‪ .‬قد يفضل‬
‫(((‬
‫الكاتب أحيانًا احلرج يف أن يقف عار ًيا يف زحام الظهرية يف تايمز سكوير‬
‫عىل أن يكون كتابه (ابنه) يف هذا املأزق‪.‬‬
‫إن الرتبة اخلصبة التي ّ‬
‫جتذر هبا قلقي هذا هي يف احلقيقة عالقتي املتزعزعة‬
‫مع اللغة اإلنجليزية‪ .‬األمر هو كالتايل‪ :‬البولندية هي لغتي األم‪ .‬وألسباب‬
‫وأحداث ال سلطان يل عليها‪ ،‬فإين أكتب باإلنجليزية‪ ،‬هلذا فأنا كاتب يتيم‪.‬‬
‫بدأت تعلمها حني كنت‬ ‫ُ‬ ‫مل تكن اإلنجليزية يل لغة أوىل وال حتى ثانية؛ إذ‬
‫يف الثانية عرش تأه ًبا ملغادرة بولندا‪ .‬هناك كان مولدي قبل سبعني سنة من‬
‫يومنا هذا‪ ،‬ومن هناك غادرت يف أكتوبر من العام ‪1946‬م‪ ،‬قري ًبا من يوم‬
‫مولدي الثالث عرش‪ .‬كانت فرنسا هي املحطة التالية‪ .‬أقمنا يف باريس ألشهر‬
‫قليلة‪ ،‬ثم انتقلنا إىل نيويورك يف فرباير من العام ‪1947‬م‪ .‬منذ ذلك التاريخ‪،‬‬
‫أصبحت نيويورك هي الوطن والسكنى برغم بعض الغياب لغرض‬
‫الدراسة‪ ،‬واخلدمة العسكرية‪ ،‬أو بعض رحالت العمل مع رشكة املحاماة‬

‫‪ -1‬القلب الرتفيهي والتجاري ملنطقة ماهناتن يف مدينة نيويورك‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫التي انضممت هلا الح ًقا‪.‬‬
‫مل حيدث أن عدت لزيارة بولندا حتى العام ‪1994‬م‪ ،‬حني سافرت إىل‬
‫وارسو((( يف رحلة عمل قانونية‪ .‬تتالت الزيارات بعد ذلك إىل وارسو‪،‬‬
‫وكانت كلها رحالت هادئة ورسيعة‪ .‬وكانت إحدى تلك الرحالت يف العام‬
‫‪1995‬م بصفتي كات ًبا‪ .‬وسبب الزيارة هو نرش الرتمجة البولندية لروايتي‬
‫األوىل «الكذب يف زمن احلروب» والتي نرشت للمرة األوىل بأصلها‬
‫اإلنجليزي يف العام ‪1991‬م‪ .‬كانت الرواية عن حياة صبي هيودي وعمته‬
‫خالل احلرب العاملية الثانية؛ واسم الصبي ماكيك ((((‪ .)Maciek‬ورغم أن‬
‫الرواية مل تكن سرية ذاتية‪ ،‬إال إن مغامرات الفتى ماكيك كانت تشابه حيايت‬
‫كثريا‪ .‬ويتبني هذا الشبه خاصة يف الفوىض التي عانت منها مراحل تعليمه‪.‬‬‫ً‬
‫دروسا‬
‫ً‬ ‫قبل وصولنا إىل نيويورك‪ ،‬مل يتجاوز التعليم الذي تلقيته يف وارسو‬
‫متقطعة أثناء فرتة احلرب؛ كانت معلمتي اخلاصة امرأة ال تنسى‪ ،‬ختاطر‬
‫درست يف مدرسة نظامية لعام درايس‬ ‫ُ‬ ‫بحياهتا ألجل تلك الدروس‪ .‬كام‬
‫يف كراكوف((( مبارشة بعد احلرب‪ .‬كانت البولندية هي اللغة التي رافقت‬
‫تلك األحداث‪ ،‬واللغة التي كنت أنا وأمي وأيب نتكلمها‪ ،‬متا ًما مثل ماكيك‬
‫وعمته‪ .‬أما اللغة الوحيدة التي تعلمتها أثناء احلرب فكانت األملانية‪ .‬لكن‬
‫تثور حني أحتاجها للرضورة‪ .‬وتعلمت بعض‬ ‫أملانيتي اليوم يف سبات عميق؛ ُ‬
‫الروسية يف رشق بولندا‪ ،‬يف فرتة االحتالل السوفييتي لرشق بولندا يف سبتمرب‬
‫من العام ‪1939‬م‪ ،‬وبني خرق األملان مليثاق مولوتوف‪-‬ريبنرتوب(((يف العام‬

‫‪ -1‬عاصمة بولندا وأكرب مدهنا‪.‬‬


‫‪ -2‬تشري املعاجم إىل أن أصل االسم مرتبط بالبولندي الذي يقيم يف إنجلرتا دون وثيقة رسمية‪،‬‬
‫أو استخدم هلذه الداللة بعد كونه اسم علم‪.‬‬
‫‪ -3‬ثاين أكرب املدن البولندية‪.‬‬
‫‪ -4‬ميثاق بني االحتاد السوفيتي وأملانيا النازية عىل أن تكون الدولتني يف حالة حياد إن دخلت‬

‫‪197‬‬
‫‪1941‬م‪ ،‬الذي قام الفريماخت((( بإزاحة القوات الروسية خارج بولندا‪ ،‬بل‬
‫وجتاوز عطشهم حدود األرايض الروسية‪ .‬لكنني نسيت الروسية متا ًما؛ ثم‬
‫جاءت الفرنسية الح ًقا‪ .‬ومن املفارقة أن الفرنسية هي اللغة املرحية يل‪ ،‬وهي‬
‫التي أخاطب هبا زوجتي‪ ،‬حيث إهنا لغتها األم‪ ،‬وهي لغة خطابنا الودود‬
‫واحلميمي‪.‬‬
‫أما اللغة البولندية فظل وصاهلا متينًا‪ .‬ما زلت أحتدث هبا مع أمي‪،‬‬
‫وخادمتها البولندية‪ ،‬وأحيانًا مع الذين ألتقيهم من البولنديني يف نيويورك‪.‬‬
‫حني كنت يف وارسو‪ ،‬مل خيطر ببايل أن أتكلم اإلنجليزية أو الفرنسية مع‬
‫البولنديني حتى وإن كان بعضهم متمكنًا من إحدى اللغتني أو كلتيهام‪ .‬كان‬
‫استخدام البولندية فطر ًيا‪ .‬وكان من النادر جدً ا أن ال أرى الكوابيس عن‬
‫احلرب يف منامي؛ كانت تلك الكوابيس باللغة البولندية وباطراد‪ .‬وحني أقوم‬
‫بحساب يشء يف ذهني‪ ،‬أو حني أعدّ كاسات النبيذ عىل الطاولة للرتتيب قبل‬
‫جميء الضيوف‪ ،‬فإين أفعل ذلك بالبولندية وأنتقل إىل اإلنجليزية فقط حني‬
‫أنتبه إىل غرابة فعيل‪ .‬واألغاين التي أغنيها وأنا أحارب نوبات النوم أثناء قيادة‬
‫السيارة كلها أغان فلكلورية أو عسكرية بولندية تعلمتها يف طفولتي؛ كام‬
‫عيل‬
‫إنني ما زلت أتذكر مئات أبيات الشعر البولندية مما كانت تفرض أمي ّ‬
‫حفظه‪ .‬يف األسبوع املايض تلقيت رسالة مؤثرة من طالبة يف الثانية عرشة من‬
‫سكان وارسو؛ ختربين أهنا قرأت «الكذب يف زمن احلروب» مع جدّ ها‪ ،‬كام‬
‫ختربين بأهنا شاهدت «عازف البيانو» للمخرج رومان بوالنسكي(((‪ .‬كانت‬

‫األخرى يف حرب مع طرف ثالث‪.‬‬


‫‪ -1‬فريماخت تعني قوة الدفاع باألملانية وهي القوات املسلحة املكونة من اجليش والقوات‬
‫البحرية واجلوية‪.‬‬
‫‪ -2‬املخرج البولندي‪/‬الفرنيس املعروف‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫الفتاة قد طرحت بعض األسئلة الصعبة عن الوحشية التي تضمنها كال‬
‫العملني‪ ،‬كام عربت عن أملها يف أن أجيب عن األسئلة بالبولندية إن كنت‬
‫مبارشا للفتاة‪ ،‬واستعنت بصديق بولندي‬ ‫ً‬ ‫ما زلت أتذكرها‪ .‬كتبت جوا ًبا‬
‫لرياجع الرسالة إن كانت حتتوي عىل بعض األخطاء‪ .‬أخربين صديقي أن‬
‫كثريا يف‬
‫الرسالة خالية من األخطاء‪ .‬كان إغفال بعض الكلامت أو احلروف ً‬
‫الرسالة كام أفعل ذلك باإلنجليزية؛ ويعود ذلك ‪-‬ربام‪ -‬إىل أنني أقول ما‬
‫أريد قوله يف ذهني أرسع من كتابتي له يدو ًيا أو آل ًيا‪ .‬بالطبع مل أتوقف أبدً ا‬
‫ونثرا‪ .‬وكان من أعظم ما تعرفت عليه من‬ ‫شعرا ً‬‫عن قراءة األدب البولندي ً‬
‫األدب خالل العقدين املاضيني أعامل الشاعر البولندي زبيغنيف هربرت(((‪،‬‬
‫والكاتب املرسحي ڤيتولد غومربوڤيتش((( الذي تربع عىل قمة األدب يف‬
‫القرن الواحد والعرشين‪ .‬و ُب َع ْيد غومربوڤيتش ومن جيل هربرت جييء‬
‫كاتب القصة القصرية واملقالة غوستاف هريلنغ‪-‬غرودزينسكي((( والذي‬
‫سنحت يل الفرصة بمراجعة منتخبات من قصصه القصرية؛ للرجل موقع‬
‫رفيع بني عصبة األدباء‪.‬‬
‫تكون التغريات الثقافية‪ ،‬أحيانًا‪ ،‬أقل رسع ًة من املتوقع‪ .‬يف لقاء مع‬
‫القراء يف وارسو عام ‪1995‬م قرأت فيه بعض فقرات من «الكذب يف‬
‫زمن احلروب»‪ ،‬ثم طلب مني أحد احلضور أن أتلو عليهم قصيد ًة خمتارة‬
‫انطلقت أقرأ‬
‫ُ‬ ‫من حمفوظات الطفولة‪ .‬ودون حلظة تردد‪ ،‬وبضحكة سعيدة‬
‫أبياتًا بالبولندية حتكي عن رجال قبيحني وبدناء؛ يف عربة القطار‪ ،‬يغطيهم‬

‫‪ -1‬زبيغنيف هربرت شاعر وكاتب مقالة بولندي (تويف ‪١٩٩٨‬م)‪.‬‬


‫‪ -2‬ڤيتولد غومربوڤيتش أديب وكاتب بولندي من أبناء الطبقة األرستقراطية‪ ،‬لكنه كان ناقدً ا‬
‫شديدً ا عىل جمتمعها (تويف ‪١٩٦٩‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬غوستاف هريلنغ‪-‬غرودزينسكي صحايف وكاتب بولندي‪ ،‬وكان من املقاتلني يف معارك‬
‫احلرب العاملية الثانية (تويف ‪٢٠٠٠‬م)‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫لذيذا‪ :‬يأكلون السجق‪ .)kielbasy( ،‬كانت هذه‬ ‫ً‬ ‫الشحم ويأكلون دهنًا‬
‫القصيدة املبهجة جلوليان تويم(((‪ ،‬الشاعر البولندي العظيم‪ ،‬والذي كان يف‬
‫بحب كل األطفال‬ ‫ّ‬ ‫ذروة نشاطه بني احلربني العامليتني؛ حيفظ هذه القصيدة‬
‫يف بولندا من أبناء جييل برصف النظر عن مستوى تعليم والدهيم‪ .‬أصابني‬
‫محايس أثناء إلقاء القصيدة ببعض اخلوف واحلزن‪ ،‬حيث ال تزال تلك الفرتة‬
‫وخشيت أن يكون شعوري غري ًبا أو حتى‬
‫ُ‬ ‫من زمن احلرب ح ّية يف ذاكريت؛‬
‫غب ًيا يف نظر مجهور بولندي من حقبة ما بعد احلرب الباردة‪ .‬لكن املفاجأة‬
‫والبهجة اجتمعا حني بدأ اجلمهور يتغنى معي بأبيات القصيدة‪ ،‬بصوت‬
‫ونربة واحدة‪ .‬إن املايض الذي عشته ما زال ح ًيا يف حارضهم‪.‬‬
‫قد يدفع الفضول قارئًا للسؤال عن إنجليزيتي‪ .‬إهنا ممتازة وال شك‪ .‬فقد‬
‫كان تعليمي كله يف الواليات املتحدة‪ ،‬بعد مغادرة بولندا‪ .‬وحني كنت يف‬
‫السنة األخرية من الثانوية العامة يف العام ‪1949‬م‪ ،‬كنت أكتب بمستوى‬
‫جيد جدً ا‪ ،‬حتى إنني فزت بمسابقة للقصة القصرية عىل مستوى املدينة‬
‫من تنظيم جامعة نيويورك‪ .‬كانت اجلائزة جملدً ا فاخرا بغالف جلدي متميز‬
‫لكتاب أوكسفورد للشعر اإلنجليزي‪ ،‬الذي قمت بدوري بإهدائه الح ًقا إىل‬
‫املحب لألدب‪ ،‬الذي قام بدوره بإغراقه باملاء حني أراد أن يسرتخي يف‬‫ّ‬ ‫ابني‬
‫احلامم وهو يقرأ الشعر‪ .‬كان األدب اإلنجليزي ختصيص يف املرحلة اجلامعية‪،‬‬
‫وكنت دو ًما ما أختار كتابة القصة القصرية لتقديم واجبايت يف دروس الكتابة‬
‫قلت حينها أنه ليس لدي ما‬ ‫اإلبداعية‪ .‬لكني توقفت يف ربيع السنة الثالثة؛ ُ‬
‫جاهزا ألكتب‬‫ً‬ ‫أقوله‪ .‬ربام أكون أكثر دقة وأقل لط ًفا إن اعرتفت أنني مل أكن‬
‫ما أستطيع الوقوف بجواره وأسميه حقيقتي‪ .‬بعد ذلك كنت قد انخرطت‬
‫يف دراسة القانون‪ ،‬والذي يلزم الطالب وبشكل كبري بمامرسة كتابة رسائل‬

‫‪ -1‬جوليان تويم شاعر بولندي‪ ،‬كان من أعظم رموز األدب يف بولندا (تويف ‪١٩٥٣‬م)‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫استشارات قانونية‪ ،‬وملخصات‪ ،‬وعقود‪ ،‬وخطط‪ ،‬وكانت الكتابة يف هذا‬
‫املسار تعتمد عىل ما يقرره أكابر املهنة من اشرتاطات جودة الكتابة‪ .‬لذا‬
‫مل أكن فعل ًيا مستجدً ا يف ذلك الطريق بسبب عالقتي السابقة مع الكتابة‪.‬‬
‫أكملت أول رواية يل يف العام ‪1989‬م‪ ،‬وكنت حينها يف السادسة واخلمسني‪.‬‬
‫ُ‬
‫كنت يف احلقيقة أصقل مهارايت دون تقاعس طوال هذه السنني‪ ،‬وإن كان‬
‫تم بشكل غري تقليدي‪ .‬وكان انضاممي للخدمة العسكرية يف اجليش‬ ‫األمر قد ّ‬
‫مهم ساعد عىل جتويد إنجليزيتي بشكل كبري‪ ،‬بل وساهم يف‬
‫عامل ً‬‫األمريكي ً‬
‫كنت جند ًيا‪،‬‬
‫جعلها لغتي األفضل واللغة الوحيدة التي أكتب هبا خيااليت‪ُ .‬‬
‫وأب ًا لثالثة أطفال أمريكيني‪ :‬ولد اثنان منهم قبل بلوغي الثالثني‪ ،‬واألخري‬
‫بعدها بأشهر‪ .‬لوال أنني عشت جتربة رطانة السياق العسكري واق ًعا‪،‬‬
‫وتعلمت لغة احلضانة ومالعب األطفال حقيقة‪ ،‬ملا كانت إنجليزيتي مثل‬
‫اجتهدت يف حماوالت تأديبها وتنميقها؛ كانت ستبدو َ‬
‫مثل‬ ‫ُ‬ ‫ما هي عليه مهام‬
‫جثة يف ثياب أنيقة‪.‬‬
‫ِ‬
‫املوت((( (‪rigor‬‬ ‫ختشب‬‫خيربين الناس أن ما أكتبه ال يعاين من أعراض ّ‬
‫أكتب ببطئ ومشقة‪ ،‬أتوقف‬ ‫ُ‬ ‫‪ ،)mortis‬لكن هذا ال يغري من واقع أنني‬
‫بعد كل كلمة أكتبها‪ .‬أكتب وأشطب‪ ،‬وأبدّ ل مرات عديدة؛ أكرر العملية‬
‫مع كل مجلة وكل فقرة أكتبها قبل أن أمتكن من جتاوزها وامليض قد ًما‪ .‬إن‬
‫أسلوب ترولوب((( يف كتابته ملجموعة روايات «بارسيرش» يف عربة النقل‪،‬‬

‫‪ -1‬التخشب املويت أو ختشب املوت هو االصطالح العلمي الذي يوصف به جسد امليت يف‬
‫مرحلته الثالثة‪ ،‬أي عند تصلب العضالت وعدم القدرة عىل حتريكها‪ .‬ويستخدم هذا التشخيص‬
‫يف الطب الرشعي ملعرفة وقت الوفاة بدقة أكرب وربام كذلك سببها‪.‬‬
‫‪ -2‬أنتوين ترولوب روائي إنجليزي مكثر‪ ،‬كان منهجه هو االستمرار يف الكتابة وختصيص وقت‬
‫هلا فكان يكتب من اخلامسة صباحا حتى الثامنة‪ ،‬وإن انتهى من رواية يف املنتصف‪ ،‬ال يتوقف بل‬
‫يستهل أخرى؛ كان لرواياته أصداء يف منتصف القرن العرشين (تويف ‪١٨٨٢‬م)‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫ولوح للكتابة عىل حجره‪ ،‬دون احلاجة ملحو يشء أو تعديله قبل تسليم‬
‫نسخته إىل النارش‪ ،‬يصيبني بالتقدير للرجل‪ ،‬وبعض احلسد الذي يرافقه‬
‫القنوط‪ .‬أستطيع أنا كذلك أن أعمل هبذه الرسعة عند كتابة ورقة قانونية‬
‫قدمي ثابتة عىل األرض‪ .‬وهنا‬ ‫ّ‬ ‫أو مقالة؛ لكن كتابة الرواية يتطلب أن أبقي‬
‫ال تقع املالمة عىل مثاليتي وعدم رضاي وحدمها؛ يبدو يل األمر أنني حني‬
‫فضل عن الثقة بالنفس التي حيتاجها‬ ‫أكتب باإلنجليزية فإنني أفقد عفويتي‪ً ،‬‬
‫الكاتب ليح ّلق أو ليتجاوز احلدود‪ .‬أدرك أنني أسيطر عىل جتاوزايت بني احلني‬
‫واآلخر‪ ،‬ولكن املسؤول عن هذا التوتر كله هو الفعل «أسيطر» نفسه‪ .‬هذه‬
‫األمور ليست طارئة لتكون حتت السيطرة‪ .‬واحلق أنني رغم هذا االنغامس‬
‫يف اإلنجليزية منذ ما يزيد عن مخسة ومخسني سنة‪ ،‬ما زلت غري واثق متا ًما مما‬
‫أريد كتابته‪ ،‬خاصة عند املحاولة األوىل‪ .‬وال عزاء يل يف أن أمتكن أحيانًا مما‬
‫أريد من الرضبة األوىل‪ .‬ويف هذا السياق‪ ،‬أنا ال أشبه ابن بالدي جوزيف‬
‫كونراد‪ .‬لدى كونراد الكثري من العذر فهو مل يتعلم اإلنجليزية إال عند‬
‫الواحدة والعرشين‪ ،‬كام أنه نرش أول رواياته «محاقة العمدة» وهو يف الثامنة‬
‫فاعل نش ًطا‪ .‬يف املقابل لدينا متكن فالديمري‬
‫والثالثني‪ ،‬واستمر بني هذا وذاك ً‬
‫نابوكوف من اإلنجليزية وهو حكاية أخرى بذاهتا‪ .‬لقد كانت اإلنجليزية‬
‫بشكل أو بآخر لغة نابوكوف األوىل‪ .‬قرأ نابوكوف باإلنجليزية قبل أن يقرأ‬
‫بالروسية‪ .‬إن التمكن وإتقان لسان «متحرض»‪ ،‬مثل الفرنسية يف العادة‪ ،‬ومن‬
‫ثم هجر لسان «العوام» الح ًقا وإغراقه يف األول كجزء من النشأة‪ ،‬كان‬
‫دارجا خالل القرن العرشين بني أفراد الطبقة العليا من األرس السالفية‪.‬‬ ‫ً‬
‫كان هناك الكثري من املربيات اإلنجليزيات والفرنسيات الاليت رعني أطفال‬
‫أرسة نابوكوف‪ .‬كان فالديمري يف السابعة حني انتبه والده أن ابنه متأخر جدً ا‬
‫يف معرفة لسانه األصيل‪ ،‬ومن ثم تعاقد مع معلم مدرسة من القرية لينضم‬
‫لألرسة ليعلم أوالده القراءة والكتابة بالروسية‪.‬‬

‫‪202‬‬
‫مسودة أحدث روايايت‪ .‬لقد كان سبب‬ ‫فلنعد اآلن إىل معانايت مع تبييض ّ‬
‫املحرر كان قد استشكل لعدة مرات معرفتي املعجمية‬ ‫ّ‬ ‫املعاناة املبارش هو أن‬
‫بالكلامت‪ ،‬ومدى قدريت عىل التعبري عن ذايت باإلنجليزية‪ .‬مل تكن املسألة‬
‫أنه مل يكن عىل حق دو ًما‪ .‬كان األمل يكمن يف املقارنة بني إدراكه الفطري‬
‫ملا قد يقوله املرء عاد ًة للتعبري عام أردت قوله أنا فيام وبني ظنوين‪ :‬حاجتي‬
‫لتلمس مواضع قدمي ألجد الطريق‪ ،‬وامتحاين لكل مجلة بقراءهتا بصوت‬
‫مرتفع‪ .‬لدى حمرري حقه الثابت بالوراثة يف استدعاء قدراته يف لغته األم‬
‫عم أستطيعه‬ ‫متى ما احتاجها‪ ،‬أما أنا فال أملك ذلك احلق‪ .‬وبرصف النظر ّ‬
‫وما ال أستطيعه‪ ،‬فأنا أشعر بعدم امتالكي للعفوية واحلرية بصفتي مؤل ًفا حني‬
‫الكتابة باإلنجليزية‪ ،‬اللغة التي متكنت منها متا ًما وأنا يف الرابعة عرشة‪ .‬وكم‬
‫كتبت الرواية بلغتي األم‪،‬‬
‫هو مثري إن استطعت اإلجابة عن التساؤل‪ :‬ماذا لو ُ‬
‫البولندية؟ والذي وهو سؤال بطبيعة احلال ال يمكن اإلجابة عنه بشكل‬
‫رض‪ .‬ولكن وبرغم ضعف احتامل اإلجابة عن التساؤل السابق‪ ،‬فأنا أظن‬ ‫ُم ٍ‬
‫أن حمبتي للبولندية وحضورها الدائم يف إدراكي ويف عقيل الباطن مؤرش‬
‫إجيايب‪.‬‬
‫والدي مل هيجرا‬
‫ّ‬ ‫األصعب هو إن كنت ً‬
‫فعل سأغدو كات ًبا لو أن‬ ‫ُ‬ ‫والسؤال‬
‫ُركت أجسادهم دون كرامة وال دفن حني‬ ‫بولندا هر ًبا من مشاهد أهلنا الذين ت ْ‬
‫قتلتهم الستالينية املتوحشة‪ .‬ماذا لو أهنام اختارا الراحة ‪-‬وإن كانت عرضة‬
‫مفلس ْي مغادرين‬
‫للخطر‪ -‬والبقاء يف كراكوف؛ ماذا لو أهنام مل يغامرا باهلجرة َ‬
‫لبولندا وأنا معهم يف العام ‪1946‬م؟ ال أظن مهارة الروائي تستطيع أن تثمر‬
‫أمرا معتمدً ا عىل‬
‫وحدها دون أن حتارصها الظروف؛ فكتابة الرواية ليست ً‬
‫املوهبة املجردة كام هو حال املوسيقى أو العلوم‪ ،‬لكنها أمر أشبه باملوهبة‬
‫الرياضية البدنية‪ .‬أؤمن أن تأخري يف كتابة الرواية كان نتيجة جنوحي للسلم‬

‫‪203‬‬
‫متأخرا كذلك‪ ،‬وكان لذلك املايض صبغة مؤثرة يف‬ ‫ً‬ ‫مع املايض‪ ،‬والذي جاء‬
‫ذايت‪ .‬فقد كانت بعض مظاهر املايض حمرمة عىل النقاش العام العلني يف‬
‫بولندا فيام بعد احلرب حتت النظام الشيوعي؛ ومن أهم تلك األحداث‬
‫كان إعدامات األملان لليهود البولنديني خالل احلرب العاملية الثانية‪ ،‬وسوء‬
‫معاملة عامة البولنديني ملواطنيهم من اليهود‪ ،‬ونحر ما يقارب ثالثة ماليني‬
‫هيودي منهم‪ .‬استمرت أحداث املايض حمرمة حتى التسعينيات‪ ،‬بل ربام إن‬
‫(((‬
‫التحريم بقي جزئ ًيا حتى ثار عليه وكرس حاجزه املؤرخ جان يت غروس‬
‫يف كتابه «اجلريان‪ :‬تدمري املجتمع اليهودي يف جدفابني‪ ،‬بولندا»‪ ،‬الذي كان‬
‫مهتم باملذبحة املنظمة يف العام ‪1941‬م يف البلدة الصغرية جدً ا‪ ،‬جدفابني‪ .‬لقد‬
‫ً‬
‫ِ‬
‫نصف القرية الكاثولوكي نص َفها اآلخر اليهودي؛ ُقت َل ‪ 1600‬هيود ًّيا‬
‫ُ‬ ‫أعدم‬
‫بوحش ّية بالغة‪ .‬تال نرش كتاب غروس جدل عنيف يف بولندا‪ ،‬وقد استدعى‬
‫كثريا من القضايا إىل الفضاء العام مستبعدً ا كل أساطري التحريم!‬ ‫ُ‬
‫اجلدل ً‬ ‫هذا‬
‫قبل كتاب غروس كان اجلو العام بعد احلرب يف بولندا يمنع اليهو َد الذين‬
‫نجوا من القتل دون مغادرة البالد وأولئك الذين ُولدوا بعد احلرب ‪-‬خاصة‬
‫الذين نالوا بعض الشهرة يف احلياة العامة‪ -‬من الترصيح يف أي سياق ويف أي‬
‫مستوى بيهوديتهم والد ًة أو إيامنًا‪ ،‬وذلك ليتجنبوا أدنى مستوى من املضايقة‬
‫وإن كانت واهنة وضعيفة جدً ا ألن نجاحاهتم تكون عرضة للخطر حينها‪.‬‬
‫وإنه ملؤمل جدً ا حني يتذكر املرء ا ّدعاءنا أننا بولنديون كاثوليكيون كي‬
‫نتمكن من العبور والنجاة من احلصار اجلامعي ومن ثم املوت املؤكد حتت‬
‫االحتالل األملاين‪ .‬مؤمل جدً ا أن يقوم األبناء بذلك بصحبة آبائهم‪ ،‬واآلباء‬
‫بصحبة أبنائهم‪ .‬ال أستطيع إدارك كيف قادتني تلك الظروف إىل مهارة‬
‫الكتابة‪ :‬إىل أن أكون روائ ًيا؛ إذ كان من املحتمل أن تصنع مني تلك الظروف‬

‫‪ -1‬جان يت غروس مؤرخ أمريكي‪/‬بولندي‪.‬‬

‫‪204‬‬
‫شي ًئا آخر متا ًما وباجتاه آخر متا ًما‪ ،‬شي ًئا يتجاوز حب اللغة والكتب‪ .‬ويف‬
‫احلقيقة أنا ال أعلم عن أي هيودي بولندي من جييل من األدباء أو الروائيني‬
‫أو الشعراء املعروفني؛ فإما أهنم ‪-‬إن وجدوا‪ -‬مغمورون أو أن هويتهم‬
‫اليهودية مل تكن بين ًة يل‪ .‬واملقارنة تبدو صادمة إذا نظرنا إىل األدباء من اليهود‬
‫البولنديني يف الفرتة فيام بني احلربني العامليتني؛ سيجد املتأمل حينها أعال ًما‬
‫كبارا يف األدب مثل جوليان تويم و هريلنغ‪-‬غرودزينسكي‪ ،‬اللذين ذكرهتم‬ ‫ً‬
‫آن ًفا‪ ،‬كام أن هناك جوزيف ِوتلني ‪ .‬ربام مل يكن للصمت األديب ليهود بولندا‬
‫(((‬

‫أي ميزة حقيقية؛ فليس هناك منطق مبني عىل اهلوية الوطنية للكاتب يف متيزه‬
‫وتقدمه‪ ،‬ويف هذا السياق إن كان الكاتب هيود ًيا أو غري هيودي فإن هذا ال‬
‫أمهية له ّإل إن استخدم الكاتب يف عمله ماد ًة هيودية بالرضورة‪ .‬ألن القدر‬
‫فطري‪.‬‬
‫ّ‬ ‫هو ما جيعل اإلنسان هيود ًّيا وليس يف األمر امتياز‬
‫ويف حالتي‪ ،‬فقد كتبت روايتي األوىل يف موضوع هيودي يف جوهره‬
‫اكتويت منها أنا وأرسيت‪.‬‬
‫ُ‬ ‫وهو النجاة من املوت خالل احلرب‪ .‬إهنا فكرة‬
‫كنت أعتقد أن الكتابة يف موضوعات أخرى غري احلرب يف بولندا كان‬
‫عارا‪ .‬لقد اكتملت تلك املهمة‪ ،‬فلم يعد‬ ‫ً‬
‫مستحيل؛ بل أظنني كنت أراه ً‬
‫هم للمسألة اليهودية أو البولندية‪ .‬وخارج ذلك السياق‪ ،‬حاولت يف‬
‫عندي ّ‬
‫روايايت معاجلة موضوعات تتعدى حدود الوطن والدين‪ ،‬بل وحتى احلدود‬
‫االجتامعية؛ تلك القضايا التي تؤثر بنا مجي ًعا ملجرد أننا برش؛ من قبيل فقد‬
‫احلبيب‪ ،‬وعمق الوحدة‪ ،‬التي يستطيع إيروس((( وحده حتريرنا منها أحيانًا؛‬
‫وعشوائية املآيس حني حتدث فينا وعلينا؛ والرضر الذي نسببه للعالقات‬
‫تقديرا مني ملا سيخدم‬
‫ً‬ ‫األكثر أمهية يف حياتنا‪ .‬يكون اختيار املحيط العام‬

‫‪ -1‬جوزيف ِوتلني روائي وشاعر ومرتجم بولندي (تويف ‪١٩٧٦‬م)‪.‬‬


‫‪ -2‬إيروس هو إله احلب والعالقات احلميمية عند اليونان‪.‬‬

‫‪205‬‬
‫أيضا‪.‬‬ ‫القصة التي أريد حكايتها بشكل أفضل‪ ،‬والذي أعرفه إىل حد ٍ‬
‫كاف ً‬
‫لذا فإن الشخصيات جتد نفسها فجأة يف الساحل الغريب للواليات املتحدة‪،‬‬
‫أو يف فرنسا وإيطاليا‪ ،‬يف جزيرة يونانية‪ ،‬أو الربازيل‪ ،‬ويف طوكيو وبكني‪.‬‬
‫ورغم هذه املحاوالت‪ ،‬ال أظنني حتررت فعال من تأثري بولندا‪ .‬لكنني‬
‫أتساءل إن كان هذا التأثري هو ً‬
‫فعل تأثري اللغة البولندية أو األدب البولندي؟‬
‫مرة‪ ،‬خاصة بعد تصميمي للمحيط‬ ‫طرحت هذا السؤال عىل نفيس غري ٍ‬ ‫ُ‬ ‫لقد‬
‫ً (((‬
‫العام حلكايتي «الكذب يف زمن احلروب»‪ .‬كانت روايتي األوىل أبدوعة‬
‫مع بعض قصاصات من أحداث حيايت‪ ،‬أو أجزاء سمعتها عن تعاسات‬
‫األخرين من رسديات احلرب الشفوية‪ ،‬أثناء احلرب أو ُبعيدها بقليل‪ .‬وحني‬
‫كل األماكن التي أعرفها يف‬ ‫نسيت تضاريس ّ‬ ‫ُ‬ ‫كتبت عنها‪ ،‬اكتشفت أنني‬
‫ولدت هبا؛ بل إن حتى تلك الذكرى البسيطة‬ ‫ُ‬ ‫بولندا‪ ،‬باستثناء البلدة التي‬
‫احتجت واحلالة هذه‬
‫ُ‬ ‫كانت قد مزقت إىل ما هو أصغر وأكثر تروي ًعا‪ .‬لذا فقد‬
‫كل من مدينة وارسو ومدينة لفيف((( ألستطيع رسم مسار‬ ‫إىل مراجعة خرائط ٍّ‬
‫رحلة الصبي وعمته‪ .‬أتذكر جيدً ا كل ما هو داخل املدينة‪ ،‬كان سبب معرفتي‬
‫اجليدة ببساطة هو أن جتنّب االعتداء أو االعتقال يلزم منه أن يكون من جيول‬
‫صغريا ليبدو األمر يف ظاهره روتينا عاد ّيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫شوارع املدينة امرأة شابة أو صب ًيا‬
‫كان هناك ‪-‬مع بالغ األسف‪ -‬بعض املشاهد اخلارجية يف روايتي‪ ،‬منظر تلك‬
‫حراثة بحرب األسيد‬ ‫املشاهد حمفور عىل جلدي متا ًما مثل الرسالة التي كتبتها ّ‬
‫عىل ظهر ذلك السجني «يف مستوطنة العقاب» لكافكا(((‪.‬‬

‫‪ -1‬أبدوعة مفردة جتمع معنى الرواية واخليال سو ًيا‪ ،‬وهي ترمجة األستاذ أيب يعرب املرزوقي‬
‫لكلمة (‪ )fiction‬اإلنجليزية‪.‬‬
‫‪ -2‬مدينة أوكرانية تعدُّ أكرب مدن غرب أوكرانيا‪.‬‬
‫‪ -3‬فرانز كافكا كاتب تشيكي هيودي كان يكتب باألملانية (تويف ‪١٩٢٤‬م)‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫كان هناك ثمة ذكريات سعيدة جدً ا وكان بإمكاين استحضارها‪ ،‬لكني مل‬
‫أضمنها يف «الكذب يف زمن احلروب» ألهنا ولعدة أسباب مل تكن مالئمة‪.‬‬
‫كانت تلك الذكريات حني زرنا جدي وجديت يف ملكيتهام الصغرية يف‬
‫أرياف بولندا‪ .‬اكتشفت الح ًقا أن ثمة تشاب ٌه بني مظهر حياة أجدادي وبني‬
‫كتاب كنت قد قرأته بعد هناية احلرب العاملية الثانية ملحمة «الغزوة اللتوانية‬
‫األخرية» الشعرية آلدم متسكيفيتش((( التي حتدث فيها الشاعر عن حياة‬
‫نبالء األرياف الليتوانية كام يذكرها من محلة نابليون عىل روسيا‪.‬‬
‫وجدت راب ًطا بني وصفه لألرياف وبني صورة بيت جدي يف خميلتي‪،‬‬
‫ذلك البيت اخلشبي الصغري‪ ،‬الذي عبثت به أحوال الطقس‪ .‬كانت ليتوانيا‬
‫جز ًءا من بولندا قبل احلرب العاملية األوىل؛ لقد ظلت كذلك منذ تعميد‬
‫أمريها يوغيال ((( يف العام ‪1386‬م‪ ،‬والذي استوىل بخدعة بسيطة تلقائ ًيا‬
‫عىل عرش بولندا‪ ،‬حني تزوج من ابنة ملك هنغاريا يادفيجا((( يبني هذا‬
‫االستطراد التارخيي أسباب عجز الطالب البولندي الطبيعي عىل التفريق بني‬
‫ليتوانيا وبولندا حني يقرأ «الغزوة اللتوانية األخرية»‪ .‬وعىل أية حال‪ ،‬إن كان‬
‫هذا الطالب البولندي هو أنا‪ ،‬وبام أملكه من ماض مميز‪ ،‬فإنني كنت قد قفزت‬
‫قفزة أعظم‪ .‬لقد كان ثمة أمر يف مرثية متسكيفيتش يطاردين وكأنني معزوفة‬
‫ض ّلت طريقها؛ كان ذلك اليشء ‪-‬طال أم قرص‪ -‬نداءات من املايض‪ ،‬من‬
‫الصيف واخلريف يف منزل جدي وجديت الريفي‪ .‬كان ً‬
‫عمل بطول ًيا استثنائ ًيا‬
‫ناب ًعا من تعظيم الذات‪ ،‬أو التعاطف‪ ،‬أو اخليال‪ .‬وإال فام وجه الشبه بني بيت‬

‫‪ -1‬آدم متسكيفيتش شاعر وكاتب مقالة ودراما بولندي‪ ،‬يعد شاعر الوطن يف بولندا (تويف‬
‫‪١٨٥٥‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬يوغيال الليتواين‪ ،‬مؤسس أرسة جاغلون‪ ،‬كان دوقا عىل ليتوانيا ثم ملكا عىل بولندا حني تزوج‬
‫من يادفيجا مكلة بولندا (تويف ‪١٤٣٤‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬يادفيجا أول أنثى ترتبع عىل عرش ممكلة بولندا (توفيت ‪١٣٩٩‬م)‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫متواضع يملكه هيودي بولندي كادح يتاجر باملواد الزراعية‪ ،‬وبني احلياة يف‬
‫بيت من اخليال لشخصية أرستقراطية رائعة ونخبوية‪ ،‬والتي كانت حمور عمل‬
‫متسكيفيتش وهي شخصية القايض سوبليكا‪ .‬ما هو حجم اخليال يا ترى يف‬
‫«الغزوة اللتوانية األخرية» وما هو حجم الذكريات؟ كان الشاعر قد ولد‬
‫يف العام ‪1798‬م‪ .‬ووقعت األحداث التي وصفها يف ملحمته بني العامني‬
‫الروس عىل‬
‫ُ‬ ‫‪ 1811‬و‪1812‬م‪ ،‬أي حينام كان صب ًيا‪ .‬يف العام ‪1824‬م حكم‬
‫متسكيفيتش بالنفي لنشاطه الثوري‪ ،‬ومل يرجع بعدها أبدً ا‪ .‬كم كان بإمكانه‬
‫يا ترى أن يتذكر يف عمل أمتّه بعد عرشين سنة من الواقعة؟ ما هي مادة تلك‬
‫القط ِع التي استطاع أن يصمم من خالهلا تفاصيله املبهرة؟ كيف استطاع‬ ‫ِ‬
‫أن ينسج أوصاف طبيعة األرياف‪ ،‬وجمتمع بائد بصيده وشجاعته وقتاله؟‬
‫اجلواب يكمن يف أن التفريق بني الذاكرة واخليال أمر ضبايب وربام كان غري‬
‫ذي أمهية للشاعر وللروائي عىل حد سواء‪ .‬إن األمر املهم يكمن يف اإلغراء‪،‬‬
‫يف قوة اجلذب التي يامرسها املكان واللغة باإلضافة إىل األدب‪.‬‬
‫كان متسكيفيتش قد كتب‪ ،‬بكل تأكيد‪ ،‬بالبولندية وهي لغته األم‪ .‬إذ مل‬
‫فعل مع «الغزوة‬‫تكن الطبقة العليا تتكلم الليتوانية‪ .‬وربام كان هذا هو ما فعلته ً‬
‫كنت يف احلادية عرشة‪ ،‬ثم أعدت صياغتها الح ًقا يف‬ ‫اللتوانية األخرية» حني ُ‬
‫عب‬‫سن السادسة واخلمسني حني كتبت «الكذب يف زمن احلروب»‪ ،‬ربام ّ‬
‫كل ذلك عن عالقتي املستمرة بمسقط رأيس وبالدي‪ .‬كانت الكلامت وما‬
‫حتمله من حياة هي املادة اخلام لتلك العالقة‪ .‬لذلك ففي رائعة غومربوڤيتش‬
‫«فريدريك»‪ ،‬وحتديدً ا حني وصف الراوي العليم فجأة املدرسة التي كان قد‬
‫استطعت أن أجد الذكريات الدفينة لوحشية بعض‬ ‫ُ‬ ‫ظمأ فيها خالل كابوسه‪،‬‬
‫الطالب واملعلمني يف مدرستي يف كراكوف‪ .‬وحني كان الراوي مع قريبه‬
‫يتحاوران بتلذذ حول متعة الرجل حني يلطم خدمه واحلاملني واحلالقني عىل‬

‫‪208‬‬
‫فعت‬
‫وجوههم‪ :‬أي كل من ال يستطيع رد اللطمة له‪ ،‬تذكرت حينها حني ُص ُ‬
‫عىل وجهي وأنا طفل‪ ،‬وحني ُص ِف َع آخرون‪ .‬مل أقرأ «فريدريك» إال يف أواخر‬
‫الثامنينيات‪ .‬ربام كان أكثر عج ًبا أين قد وجدت قبل «فريدريك» وص ًفا ملثل‬
‫أرصح‬
‫هذه الصفعات عىل الوجه يف فصل درايس ‪-‬يف بولندا بالتأكيد وإن مل ّ‬
‫بذلك‪ -‬كان الوصف يف قصة قصرية كتبتها واج ًبا ملادة اللغة اإلنجليزية يف‬
‫املدرسة التي التحقت هبا يف العام ‪1948‬م‪ ،‬حني انتقلنا إىل نيويورك‪.‬‬
‫حيث جيلس الكاتب‬ ‫جيب أن تعلق لوحة عىل اجلدار املواجه للمكتب‪ُ ،‬‬ ‫ُ‬
‫مطرز‬
‫ٌ‬ ‫أمر يقول‪« :‬جتنّب االستنتاجات النهائية»‬
‫للكتابة؛ عىل هذه اللوحة ٌ‬
‫بلغة مناسبة! ومع ذلك فأنا ال أقدر عىل مقاومة تكرار سؤايل لنفيس عن‬
‫ُ‬
‫سأفضل البقاء يف بولندا بعد احلرب عىل‬ ‫أعمق مشاعري‪ .‬هل كنت يا ترى‬
‫صغري جدً ا‪ ،‬أو ‪-‬وعرب ألفاظ‬
‫ٌ‬ ‫بولندي‬
‫ٌّ‬ ‫وطني‬
‫ٌّ‬ ‫اهلجرة‪ ،‬أو املنفى‪ ،‬كام قد يسميه‬
‫طفل تربى عىل حب بالده؟ ُأ ّ‬
‫محل قناعتي بعدم العودة إىل‬ ‫أكثر تواض ًعا‪ٌ -‬‬
‫زائرا جز ًءا من مسؤولية توقيت زياريت األوىل هلا‪ ،‬أي تأخرها‬
‫بولندا بوصفي ً‬
‫حتى العام ‪1994‬م؛ وتتحمل باقي املسؤولية املخاوف من عدم قانونية‬
‫والدي لبولندا‪ ،‬والتي ال أساس هلا سوى خداع السلطات‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫طريقة مغادرة‬
‫لكنها كانت مرعب ًة‪ :‬هل كنا سنخرج منها جمددا إن زرناها! وهل كنت‬
‫سأفضل إن كانت بعض االحتامالت ممكنة أن أكون كات ًبا باللغة البولندية؟‬
‫أساسا‪،‬‬
‫ً‬ ‫إن اجلواب عىل التساؤل األول يسري جدً ا‪ .‬إن كنت مل أغادر بولندا‬
‫فأنا لن أكون ما أنا عليه اليوم‪ .‬وأنا لست عىل يقني إن كنت سأحب ذلك‬
‫احلظ آهل ٌة يقظة ال تسرتيح أبدً ا‪ ،‬وتعربد بحال‬
‫الشخص الذي قد أكونه‪ .‬إن َّ‬
‫سأ ْق ِدم عىل االعرتاف أنني‬‫أولئك الذين يبدون عىل قدر من السعادة‪ .‬وأنا ُ‬
‫وبأن كانت حيايت كام هي وكام‬ ‫ْ‬ ‫أصبحت أمريك ًيا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أعدّ نفيس حمظو ًظا بأن‬
‫القلب‪.‬‬
‫َ‬ ‫تفطر‬
‫أصبحت‪ .‬لكن حماولة اإلجابة عن السؤال الثاين هي ما ُ‬

‫‪209‬‬
‫ألستقر يف بولندا‪ .‬لكن هذه املشاعر كانت قد‬ ‫َ‬ ‫كنت أشعر أن عيل َد ْينًا‬
‫تبخرت مع الوقت‪ ،‬التي اجتاحت بدورها كل البولنديني الذين كانوا يف‬ ‫ْ‬
‫سن يؤهلهم لتحمل مسؤولية ما حدث أثناء احلرب العاملية الثانية وما مل‬
‫حيدث‪ .‬وأنا أحتفظ عىل حكمي بخصوص البولنديني الذين يقيمون اليو َم‬
‫يف بولندا‪ .‬لقد كانت اللغة البولندية مور ًدا للمتعة املخففة التي أشعر هبا‪ ،‬كام‬
‫مصدرا لألمل حيث أبدو جاحدً ا حلبي األول‪ .‬لكن احلقيقة الواضحة‬ ‫ً‬ ‫كانت‬
‫حمظوظ بشكل كبري بأين روائي أمريكي‪ ،‬أكتب‬ ‫ٌ‬ ‫هي أنني أشعر بأنني ‪-‬جمد ًدا‪-‬‬
‫بلغة مجيلة تقدمني لكثري من القراء؛ أكتب بلغة أعدّ ها ملكًا يل‪ ،‬رغم كل ما‬
‫ذكرت عني وعنها‪ .‬ويف هذا السياق حتديدً ا فإن حايل خمتلفة جدً ا عن حال‬ ‫ُ‬
‫حني وصفها يف تذييله عىل «لوليتا»‪:‬‬ ‫نابوكوف َ‬
‫مها ألي أحد‬‫إن مأسايت‪ ،‬التي ال يمكن وال جيب أن تكون ً‬ ‫ّ‬
‫استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خري‪:‬‬
‫ُ‬ ‫سواي‪ ،‬هي أنني قد‬
‫اللغ َة اإلنجليزي َة األدنى‪ ،‬اخلالية من أدوات مثل املرآة العجيبة‬
‫والستائر املخملية السوداء الطويلة وما يرافقها من تقاليد‬
‫الثري‪،‬‬
‫ّ‬ ‫وخياالت‪ ،‬استبدلتها بمعجم أمثايل الفطري‪ ،‬لساين‬
‫املطي ِع بال حدود وبال قيود‪ ،‬لغتي الروسية‪ :‬تلك التي يستخدمها‬
‫الساحر من أبنائها‪ ،‬مرتد ًيا سرتته ذات الذيل الطائر‪ ،‬ليتجاوز‬
‫بسحره مساحات التقاليد كلها بطريقته اخلاصة‪.‬‬
‫إهنا مأساة بكل تأكيد‪ ،‬لكنّها مبطن ٌة يف انتصار‪ .‬أعرف روايات نابوكوف‬
‫شبعت جهدً ا‬
‫ْ‬ ‫الروسية عرب ترمجاهتا اإلنجليزية‪ ،‬وبام أن الرتمجات كانت قد ُأ‬
‫عيل التفريق بني اللغة اإلنجليزية التي ظهرت‬
‫من نابوكوف نفسه فإنه يصعب ّ‬
‫هبا الرتمجة وبني اللغة اإلنجليزية التي استخدمها نابوكوف حني كتب بعد‬

‫‪210‬‬
‫والدته الثانية‪ ،‬باإلنجليزية؛ ابتداء من «حياة سباستيان نايت احلقيقية(((»‬
‫الصادرة يف العام ‪1941‬م‪ .‬إن كال املجموعتني من أعامل نابوكوف تتضمن‬
‫فاخر من اللغة‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫حت ًفا فنية من السحر وحساسية الذات‪ ،‬حييط هبا إطار ٌ‬
‫أنيق‬
‫هل كانت بعض صفات أسلوبه يف الروسية خمتلفة؟ أعجز عن اإلجابة‪.‬‬
‫وألنني عاجز فأنا سأعمل بوصية نابوكوف نفسه‪ ،‬سأنظر بجدية إىل املأساة‬
‫ألن جراح نابوكوف العاطفية كانت يقينًا وواق ًعا‪ ،‬كام هي اجلراح التي‬
‫املهجرين‪ ،‬برصف النظر عن خصوصية الظروف والعواقب‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫أصابت كل‬
‫إن اجلرح واحدٌ ولن يندمل أبدً ا‪ ،‬حتى وإن ردد املرء قول نابوكوف‪ ،‬وهو‬
‫ما أقوم به بقسوة‪« :‬إن الفرصة التي منحني إياها القدر أعطتني يف حالة من‬
‫كنت ألفوهتا بالدنيا»‪.‬‬
‫تذكر املايض ركلة مفقد ًة للوعي‪ ،‬وما ُ‬

‫‪ -1‬أول رواية كتبها فالديمري نابوكوف باللغة اإلنجليزية‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫اللغة األم بين شريحتين من خبز الحبوب‬
‫غاري شتاينغارت‬
‫(((‬

‫عدت إىل مسقط رأيس يف روسيا مل أمتكن من النوم لعدّ ِة أيام‪ .‬كانت‬
‫ُ‬ ‫حني‬
‫اللغة الروسية حمارصة للمكان كله‪ ،‬وتكرار صوت الراء يدغدغ باطن‬
‫كل امرأة عجوز تغني ألسباطها هي جديت الراحلة‪ .‬وكل رجل‬ ‫قدمي‪ .‬كانت ّ‬
‫ويمر بسيارته الفولغا((( عىل وزجته‬ ‫ٍ‬
‫غارق يف مهومه اجلادة‬ ‫متجهم املالمح‬
‫ّ‬
‫وكل شاب يافع يكيل الشتائم للغرب‬ ‫ليأخذها من مقر عملها كان هو أيب‪ّ .‬‬
‫بصحبة أصدقائه وهم حيتسون اجلعة آخر الضحى يف «حديقة الصيف(((»‬
‫كان أنا‪ .‬كأنني سقطت من حافة العامل املألوف بأجهزته اللوحية(((‪ ،‬ومتاجره‬
‫الكالسيكية البغيضة‪ ،‬وحاناته ذات املظهر الفرنيس الكاريبي يف بروكلني؛‬
‫وإذا يب عائدٌ إىل ديار آل شتاينغارت البدائية‪ ،‬كأنني داخل كابوس ّ‬
‫يرن فيه‬

‫‪ -1‬غاري شتاينغارت (‪ )Gary Shteyngart‬روائي أمريكي‪/‬رويس وكاتب ساخر‪ .‬تظهر كتاباته‬


‫الرويس» عىل‬
‫ّ‬ ‫ُ‬
‫«دليل املبتدئ‬ ‫عىل عدة صفحات من املجالت والصحف األمريكية‪ .‬نالت روايته‬
‫تقدير واستحسان أديب يف الواليات املتحدة‪ ،‬كام نالت عدة جوائز أدبية‪ .‬عمل كمتطوع مع‬
‫جمموعة من املنظامت غري الربحية‪.‬‬
‫‪ -2‬أقدم رشكة تصنيع سيارات يف (روسيا) االحتاد السوفييتي‪.‬‬
‫‪ -3‬حديقة ضخمة يف جزيرة صيفية ُبني فيها قصور لبعض القيارصة الروس وأصبحت فيام بعد‬
‫مكانًا عا ًما‪.‬‬
‫‪ -4‬اجلهاز اللوحي املقصود به أول حماوالت تصغري الكمبيوتر حني ُصنعت بعض األجهزة‬
‫الصغرية التي حتاكي اهلاتف وجهاز احلاسب‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫كل صوت ساكن بام يشبه اللكامت عىل كبدي‪ ،‬وكل صوت ع ّلة غريب ُ‬
‫جيعل‬ ‫ّ‬
‫ٌ‬
‫مشتاق قد رأى حمبوبه‪.‬‬ ‫جنبي يرفان كأنني‬
‫َّ‬
‫مستلق عىل رسير غرفة الفندق أصاب مسمعي أمل ٌ من تلك اللغة‬ ‫ٍ‬ ‫وأنا‬
‫الرسيعة والكلامت الغبية ألغنية «ال تزعجني رجا ًء» ‪ ...‬كانت املغنية فتاة‬
‫متلؤها البهجة تغني عىل قناة روسيا املوسيقية قائل ًة‪« :‬أنا ذاهبة إىل منزل ماما»‪.‬‬
‫وكأنام كنت يف حفرة من زمن االحتاد السوفييتي‪ ،‬وأنا أستمع لعامالت‬
‫بعضا‪« :‬لريا أيتها الساقطة‪ ،‬أعيدي يل‬
‫الفندق الاليت يرصخن ببعضهن ً‬
‫العرشين روبل التي أخذهتا!»‬
‫«أنت السافلة يا فريا!» هكذا ردت الزميلة عىل زميلتها‪ .‬كانت تلك‬
‫الكلامت كأهنا تعويذات تتىل دون توقف وأنا أحاول أن أغرق يف وساديت‬
‫اهلزيلة البالية واملستعملة منذ زمن برجينيف(((‪ .‬وباملناسبة فإن لريا وفريا مها‬
‫قريبتاي العزيزتان‪ ،‬مها كل يشء يل يف روسيا‪ .‬خرجت إىل املمر وقلت هلام‬
‫بالروسية‪ :‬لريا‪ ،‬فريا‪ ،‬هذه عرشون روبل لكل واحدة منكام‪ .‬أيتها السيدتان يا‬
‫عزيزتاي‪ ،‬هيا لنرشب بعض الشاي والكونياك يف حانة الفندق يف األسفل‪.‬‬
‫كنت يف فندق غريب ‪-‬فلنقل ماريوت موسكو عىل سبيل املثال‪-‬‬ ‫لو ُ‬
‫فإنني سأكون اآلن أحاول ضبط صوت وحدة التكييف املركزي يف الغرفة‬
‫حمارصا بأرضيات اخلشب الفاخرة‬ ‫ً‬ ‫متجاهل كل ما هو رويس يف ذهني‪،‬‬‫ً‬
‫وامللمعة‪ ،‬واملناشف الدافئة عىل الرف اخلاص هبا‪ ،‬وكل اخلدمات التي‬
‫بطاقات‬
‫ٌ‬ ‫تصنّف حتت درجة رجال األعامل‪« .‬ضيفنا العزيز» ‪ ...‬ختاطبني هبا‬
‫باإلنجليزية‪ ،‬ثم تقول‪« :‬إن رضاك هو هدفنا األول»؛ لكن احلقيقة إنني أرى‬
‫حني أفتح نافذة الغرفة مباين صلبة املنظر تعود إىل حقبة االحتاد السوفييتي‬

‫‪ -1‬ليونيد برجينيف رئيس االحتاد السوفييتي يف الفرتة من ‪١٩٦٤‬م و‪١٩٨٢‬م (تويف ‪١٩٨٢‬م)‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫حيث الكثري من النساء حيملن اسم لريا وفريا ويرصخن بأعىل أصواهتن؛‬
‫وجدّ ات يغنني ألسباطهن؛ وشباب يف الساحات ترافقهم زجاجات اجلعة‬
‫والكثري من الشتائم‪.‬‬
‫عندما أريد النوم‪ ،‬أخاطب نفيس باإلنجليزية ً‬
‫قائل‪« :‬مرح ًبا‪was’ ..‬‬
‫‪ .up‬ما الذي ستفعله يوم اخلميس؟ أحتاج إىل زيارة العيادة النفسية من‬
‫الساعة ‪ 4:00‬حتى ‪ 4:45‬ثم أستطيع أن أكون يف مركز املدينة عند اخلامسة‬
‫والنصف‪ .‬ومتى تنتهي من عملك؟» أكرر هذه الكلامت مع صديقي اخليايل‬
‫كثريا يف حماولة بائسة ألستعيد توازين األمريكي وإحسايس بالواقع‪،‬‬
‫اجلديد ً‬
‫حيث تتكفل العيادة النفسية ومخسة أكواب من رشاب املارتيني احلامض‬
‫هبموم املايض كاملة! أكرر‪« :‬ومتى تنتهي من عملك؟ ومتى تنتهي من‬
‫عملك؟ ومتى تنتهي من عملك؟» لكنها ال تسمن وال تغني من جوع!‬
‫«ال تزعجني رجا ًء ‪ ..‬أنا ذاهبة إىل منزل ماما»‪.‬‬
‫«لريا أيتها الساقطة‪ ،‬أعيدي يل العرشين روبل التي أخذهتا!»‬
‫انطلق النشيدُ الوطني القديم لالحتاد السوفييتي يتمتم‬
‫َ‬ ‫وخلتم اهلوان‬
‫عرب قناة موجودة يف مؤخرة ذاكريت؛ عرب منحدرات صغرية وأبواب خفية‬
‫تربط ميمنة دماغي بالبطني األيرس‪ ،‬وعربه تستمر أجزا ٌء من هويتي األصلية‬
‫بالتدفق‪.‬‬
‫طائر النورس يرفرف بجناحيه‬
‫ينادينا إىل واجبنا‬
‫روا ًدا وأصدقاء َّ‬
‫وكل الرفاق‬
‫فلننطلق إىل الرحلة أمامنا ‪...‬‬

‫‪214‬‬
‫ومتسطح مثل سمكة هنّاش أمحر مقدمة يف مطعم‬
‫ٌ‬ ‫مشطور من املنتصف‬
‫ٌ‬
‫يف احلي الصيني‪ ،‬متلؤين أصوات الـ ‪ً kh, she‬‬
‫بدل عن الزنجبيل والثوم‪،‬‬
‫مستلق عىل رسيري يف غرفة الفندق يف موسكو أو يف سانت‬ ‫ٍ‬ ‫وها أنا ذا‬
‫رقيق متقطعٍ‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫أمهس للسقف بصوت ٍ‬ ‫بطرسربغ حزي ٌن أكابد وعثاء السفر‪،‬‬
‫ُ‬
‫أحاول بجنون تسمية األشياء باللغة الروسية لعلها تكون اللغة نافعة‪ :‬كيف‬
‫أطلب حساء الشعري مع الفطر‪ ،‬كيف أصف الطريق لسائق سيارة األجرة‬
‫ليأخذين إىل ذلك القرب املنيس‪ ،‬أو حتى كيف أخطط النقالب لعله يسهم‬
‫أخريا بصناعة دولة تنويرية‪.khhh, shhh, rrrr .‬‬ ‫ً‬
‫أخريا يف بالدي‪.‬‬
‫إنني ً‬
‫‪великий могучий русский язык‬‬

‫نعم ‪« ..‬اللسان الرويس القوي العظيم» هو وصف لغتي األم لنفسها‪.‬‬


‫خالل سبعني سنة‪ ،‬انتزع اخلطاب البريوقراطي للحكم السوفييتي ‪-‬بقصد‬
‫أو دون قصد‪ -‬من اللغة الروسية غالب مظاهر قوهتا وعظمتها‪ .‬ومع‬
‫ذلك متكن هذا اللسان الرويس املحارص من صناعة عرض رائع لصبي‬
‫يف اخلامسة يف حمطة قطار املدينة يف لينينغراد(((‪ .‬كانت الفكرة أن تُستخدم‬
‫حروف ضخمة مصنوعة من ألواح النحاس‪ ،‬فتثبت باملسامري عىل اجلدران‬
‫احلجرية يف حماولة لصناعة مشهد ضخم وليعمر حتى تراه األجيال القادمة؛‬
‫يف شعارات مكتوبة باألحرف العالية يف حماولة لرفع وضع الدولة السوفييتية‬
‫املتدين‪ .‬كانت الكلامت متجد اجلدران وهي كالتايل‪:‬‬
‫(‪ – 1959‬وصل صاروخ الفضاء السوفييتي إىل سطح القمر)‬

‫‪ -1‬أحد أسامء مدينة سانت بطرسربغ الروسية الشهرية‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫أتسمعنا يا نيل أرمسرتونغ(((؟‬
‫(‪ – 1934‬العلامء السوفييت اخرتعوا أول مفاعل متسلسل)‬
‫إذن‪ ،‬هنا بدأت احلكاية!‬
‫(‪ –1974‬يف بناية ‪ AMUR-BAIKAL‬بدأت أول جذوع لسكة‬
‫القطارات)‬
‫حسنًا! ما الذي تعنيه هذه العبارة هنا؟! لكنها عبارة مجيلة يف صوهتا‪:‬‬
‫‪ Bailkal‬هو اسم لعلم عىل رأسه نار من شهرهتا‪ ،‬فهي البحرية السيبريية‬
‫الشهرية (وإن كانت ملوثة يف يومنا هذا)‪ ،‬هي أسطورة من احلكاية الروسية؛‬
‫أما ‪ Amur‬فأظنه اسم و ّلدته اللغة الروسية بكل فخر من الفرنسية‪ ،‬ربام‬
‫(احلقيقة هو اسم إقليم رويس من أقىص الرشق)‪.‬‬
‫كنت يومها يف اخلامسة‪ ،‬وأشعر بضيق يف حذائي‪ ،‬ما الذي يمكن أن‬
‫منبهرا‪ ،‬وكان‬
‫ً‬ ‫فغرت فمي‬‫ُ‬ ‫يلقيه دب أو جمموعة قنادس سوفييتية عىل كتفي‪،‬‬
‫«سينعق الغراب هنا يو ًما ما»‪ .‬وأنا يف قمة‬
‫ُ‬ ‫وحمذرا إياي‪:‬‬
‫ً‬ ‫منبها‬
‫أيب يقول يل ً‬
‫دهشتي‪ .‬فمحطة القطار وجدراهنا العريضة والعاملون الثوريون بصدورهم‬
‫العريضة‪ ،‬وردهاهتا احلجرية والرخامية التي متتد ملساحات شاسعة كانت‬
‫فعل‪ .‬والكلامت! لقد كان لتلك الكلامت قوة ليس لإلقناع‬ ‫مثرية للدهشة ً‬
‫فقط‪ ،‬بل كان هلا أثر واقعي بالغ وعظيم عىل طفل يف اخلامسة من عمره‪،‬‬
‫منبهرا بالعلوم وخياالهتا‪« .‬نحن أولئك» الغرباء احلكامء‬
‫ً‬ ‫كان من قبل رؤيتها‬
‫الذين نزلنا إىل األرض‪ .‬وهذه هي اللغة التي نتكلم هبا‪« .‬اللسان الرويس‬
‫القوي العظيم»‪.‬‬
‫يف املقابل‪ ،‬كان القطار امليلء بعرق الرفاق قد اقرتب من املحطة ليأخذنا‬

‫‪ -1‬رائد فضاء أمريكي يعد أول رجل خطا برجله عىل سطح القمر (تويف ‪٢٠١٢‬م)‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫شامل إىل متحف هريميتاج أو متحف دوستويفسكي(((‪ .‬ولكن ما فائدة‬ ‫ً‬
‫احلقيقة الكئيبة من عرض «عودة االبن الضال» لرامربانت((( أو حتى أواين‬
‫قضاء حاجة الروائيني الكبار‪ ،‬يف حني أن مستقبل اجلنس البرشي جمرد متا ًما‬
‫من أرساره‪ ،‬موجود ها هنا ألجل أن ُيرى‪« .‬اخرتع العلامء السوفييت أول‬
‫مفاعل متسلسل»‪ .‬إن عىل املرء أن يتجاهل ما يرتديه البرش من حوله من‬
‫خرق البوليسرت البالية‪ ،‬والقطار السوفييتي الفريد من نوعه يطلق رائحة‬
‫نادرا ما يغتسلون ومتتصهم أنفاق‬‫املاليني من طبقة العامل الكادحة الذين ً‬
‫الرخام العظيمة كل يوم‪ .‬ها هو األمر‪ ،‬أهيا الطفل‪ ،‬مكتوب بحروف نحاسية‬
‫كبرية‪ .‬ما الذي تريده أكثر من هذا؟‬
‫وبعد ما يقارب السنتني‪ ،‬يف كوينز نيويورك‪ ،‬ها أنا أقتحم واق ًعا جديدً ا‬
‫وخمتل ًفا‪ .‬أقف وسط قطيع من الصبية‪ ،‬نرتدي قبعات وقمصان بيضاء‪ ،‬بينام‬
‫الفتيات بجوارنا يف ثياب طويلة‪ ،‬ننتحب يف صالة نتلوها بلغة قديمة‪ .‬كان‬
‫الكبار يف املشهد منتبهني لنا ليتأكدوا أن تالوتنا منسجمة حلنًا وصوتًا؛ وهذا‬
‫متاحا‪،Sh’ima Yisrael .‬‬
‫خيارا ً‬
‫ً‬ ‫يعني أن عدم املشاركة يف النحيب مل يكن‬
‫كنت أقوهلا طائ ًعا‪.Adonai Elheinu, Adonai Echad ،‬‬
‫«اسمع يا إرسائيل‪ ،‬إن الرب هو إهلنا‪ ،‬إل ٌه واحد»‪ .‬مل أكن أعرف ما الذي‬
‫كانت تعنيه الكلامت العربية‪ ،‬لكني كنت أنظر يف الرتمجة اإلنجليزية لتلك‬
‫علم أنني حينها مل أكن أعرف اإلنجليزية كذلك‪ .‬لكنني كنت‬ ‫الصالة‪ً ،‬‬
‫الصوت‪ :‬كان ثمة حزن عميق يف كيفية ترضعنا إىل القدير‪ .‬إن ما كنا‬
‫َ‬ ‫أفهم‬

‫‪ -1‬متحف هريميتاج يف مدينة سانت بطرسربغ يعدّ من أكرب متاحف العامل وأقدمها عىل االطالق؛‬
‫ومتحف دوستويفسكي هو متحف أديب كان عبارة عن شقة عاش فيها األديب الرويس‬
‫دوستويفسكي‪.‬‬
‫‪ -2‬رامربانت هرمنسزون فان راين فنان هولندي صاحب معرفة بنظريات الضوء والظالل (تويف‬
‫‪١٦٦٩‬م)‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫نفعله ‪-‬كام كنت أعتقد‪ -‬هو الدعاء‪ .‬ونحن‪ ،‬أفراد أرسة‪ ،‬لسنا غريبني عىل‬
‫الدعاء أبدً ا‪ .‬فنحن الجئون هيود من االحتاد السوفييتي يف الواليات املتحدة‪.‬‬
‫واسمعوا هذه النكتة‪ :‬الجئون‪ ،refugees ،‬تشبه ‪ !refu(((-Jews‬فقراء‪،‬‬
‫عالة عىل رمحة اآلخرين‪ :‬بطاقات متوين غذائي من احلكومة األمريكية‪،‬‬
‫مساعدات مالية من منظامت دعم الالجئني‪ ،‬مالبس مستعملة لشخصيات‬
‫عت من اليهود األمريكيني‬ ‫األبطال اخلارقني يف السينام‪ ،‬قطع أثاث مهرتئة ُج ْ‬
‫جالس يف مطعم املدرسة العربية‪ ،‬حتارصين تلك اجلدران‬ ‫ٌ‬ ‫اللطفاء‪ .‬وأنا‬
‫املرعبة ملبنى املدرسة‪ :‬قطعة هندسية حديثة‪ ،‬رمادية اللون‪ ،‬ال جتاور شي ًئا‪،‬‬
‫امللون‪ .‬وأستاذنا احلاخام البدين ينضح عر ًقا‪ ،‬وبقية‬‫مطعمة ببعض الزجاج ّ‬
‫أجورا كافية مقابل ما يقومون‬‫ً‬ ‫طاقم التدريس من الشباب الذين ال يتقاضون‬
‫به من عمل‪ .‬أما الطالب فهم جمموعة من املزعجني‪ ،‬البعيدين كل البعد عن‬
‫االنضباط من أوالد العائالت اليهودية األمريكية‪ .‬وكالنا‪ ،‬أنا واملدرسة‪،‬‬
‫حتارصنا أمريكا‪ :‬جمتمع كبري تقوده يدُ اإلعالم‪ ،‬وجمتمع سعيد باآلالت‬
‫التي تسهل حياته‪ .‬صورة هذا املجتمع ولغته هي أداة التواصل املشرتك بني‬
‫شعوب العامل أمجع؛ أما روائح عطورهم الزهرية وابتساماهتم اليسرية فهي‬
‫جالس وحدي عىل طاولة‬ ‫ٌ‬ ‫أمر يتجاوز قدريت عىل االستيعاب‪ .‬وها أنا هنا‬
‫قميصا رويس الصنع متزينًا‬‫ً‬ ‫الغداء‪ ،‬صغري البدن وكبري النظارات‪ ،‬مرتد ًيا‬
‫باملربعات‪ .‬وما الذي أفعله؟ أحتدث إىل نفيس‪.‬‬
‫ُ‬
‫أحتدث إىل نفيس بالروسية‪.‬‬
‫هل يا ترى كنت أقول هلا‪ – 1959« :‬وصل صاروخ الفضاء الرويس إىل‬
‫سطح القمر»؟ هذا وار ٌد جدً ا‪ .‬أم هل كنت أحاول إحصاء مقتنيات قرص‬

‫‪ -1‬الطرفة هنا هي يف التشابه يف السجع يف ختام نطق كلمة الجئني وهيود باللغة اإلنجليزية‪.‬‬

‫‪218‬‬
‫أثبت فيه ذكائي قبل سنة واحدة فقط‬ ‫فورونتسوفسكي يف يالطا((( الذي ُّ‬
‫أمام كل املجموعة السياحية التي رافقتنا (عندها منحتني أمي حبها املطلق)‬
‫قلت أن القرص كان قد بني ليشبه مالمح اجلبال املجاورة‬ ‫كنت يومها قد ُ‬
‫أمهس لنفيس مغن ًيا من أناشيد‬
‫ُ‬ ‫أيضا‪ .‬أم يا هل ترى كنت‬ ‫له؟ وهذا ممكن ً‬
‫وجدت طريقها فيام بعد إىل إحدى قصيص التي كتبتها‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫الطفولة أنشود ًة‬
‫فلتبق السامء صافي ًة ‪ ..‬وأبقى‬
‫فلتبق أمي إىل األبد ‪َ ..‬‬
‫َ‬ ‫«فلتبق الدنيا مشمس ًة ‪..‬‬
‫َ‬
‫أنا إىل األبد»؟ ممكن جدً ا‪ .‬ألن ما أحتاجه اآلن يف هذا العامل األجنبي احلزين‬
‫هي أمي‪ ،‬املرأة التي خاطت وجوه القطط عىل سرتيت الدافئة‪ ،‬وإال لكنت‬
‫أضعت علبة الصمغ ودفرت املالحظات وأقالمي‬ ‫ُ‬ ‫أضعت تلك القطط كام‬ ‫ُ‬ ‫قد‬
‫امللونة التي كانت جيب أن ترافقني خالل رحلة الصف األول االبتدائي‪.‬‬
‫باإلضافة إىل أمي وأيب وذلك الطفل اللطيف ابن األمريكيني املتفتحني‬
‫اللذين أغرياه باللعب معي كان ثمة يشء آخر حقيقي يف حيايت وهو أن اللغة‬
‫الروسية صديقتي‪ .‬صديقتي التي أشعر بالراحة بجوارها‪ .‬وهي تعرف عني‬
‫أشياء ال يعرفها هؤالء األشقياء املزعجون حويل الذين يسخرون مني كلام‬
‫تغنيت بأصوات الصفري السالفية وحيدً ا‪ ،‬وهم لن يفهموما أبدً ا‪ .‬الروسية‬
‫مالمح اجلبال املجاورة‬
‫َ‬ ‫مالمح قرص فورونتسوفسكي‬ ‫ُ‬ ‫تدرك معنى أن تشبه‬
‫له‪ .‬تعرف الروسية متا ًما معنى التفتيش الذايت الكامل يف مطار لينيغراد‪ ،‬حينام‬
‫ينزع مفتش اجلامرك قبعات العابرين ويتحسسها بح ًثا عن األملاس ّ‬
‫املهرب‪.‬‬
‫تعرف الروسية أن «العلامء السوفييت اخرتعوا أول مفاعل متسلسل» يف عام‬
‫‪1934‬م‪ .‬كل هذا تعرفه اللغة الروسية القوية العظيمة‪ .‬كل هذا هتمس به‬
‫منطرح يف الليل عىل فرايش ويطاردين أرق الطفولة‪.‬‬‫ٌ‬ ‫الروسية يل وأنا‬

‫‪ -1‬مدينة ساحلية مجيلة يف شبه جزيرة القرم ويعدّ قرص فورونتسوفسكي أحد أمجل معاملها وهناك‬
‫الكثري من بيوت القيارصة والطبقات النبيلة بنيت فيها جلامهلا‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫بدأ املعلمون بالتدخل يف حالتي‪ .‬طلبوا مني التخلص من بعض «لبايس»‬
‫قليل‪ ،‬وأن أكف عن الكالم بالروسية‪:‬‬ ‫أهذب شعري األشعث ً‬ ‫الرويس‪ ،‬وأن ّ‬
‫طفل‬‫عيت إىل اللعب مع ابن األرسة املتفتحة وكان ً‬ ‫«كن أكثر طبيعي ًة»‪ُ .‬د ُ‬
‫تائها يف «أدغال» رشقي كوينز‪ .‬ذهبنا سو ًيا إىل‬
‫ودو ًدا حس َن التغذية‪ ،‬ويبدو ً‬
‫تناولت قطعة وكأنني استنشقتها فإذا بخيط كثيف لزج من‬ ‫ُ‬ ‫حمل بيتزا‪ .‬وحني‬
‫جبنة الربجمان قد وقف يف حلقي‪ .‬حاولت مستخد ًما غالب أصابع يدي أن‬
‫حاولت اإليامء طل ًبا للمساعدة‪Помогите، .‬‬
‫ُ‬ ‫غصصت!‬
‫ُ‬ ‫أخرج اجلبن‪ .‬لقد‬
‫‪ ،Help‬فمي ‪ ..‬فمي ‪ ..‬النجدة ‪ ..‬فأنا غارق يف عامل من اجلبنة الال متناهية!‬
‫وكأين بالالفتة اجلديدة عىل جدار حمطة قطار لينيغراد تقول‪ – 1979« :‬أول‬
‫جلست‬
‫ُ‬ ‫يغص يف حمل رأساميل للبيتزا»‪ .‬حني انتهت األزمة‬‫طفل سوفييتي ّ‬
‫اللعاب وبقايا الربجمان‪ .‬هذه ليست سبيل للحياة!‬
‫ُ‬ ‫ويداي ترتعدان‪ ،‬يغطيني‬
‫ُصنع من احلبوب‪ .‬ونحن وإن كنا فقراء‬
‫وقعت يف غرام الرقائق التي ت ُ‬
‫ُ‬ ‫ثم‬
‫عاجزين عن رشاء ال ُل َعب‪ ،‬إال إننا ال بد لنا من أن نأكل‪ .‬وكانت رقائق‬
‫احلبوب طعا ًما‪ .‬كان طعم احلبوب فيها ب ّينًا‪ ،‬وكانت سهلة التحضري وخفيفة‬
‫عىل املعدة‪ ،‬يرافقها طعم من الفاكهة املزيفة‪ .‬إهنا تشبه أمريكا‪ .‬كان ولعي‬
‫برقائق احلبوب شديدا ألن كل صندوق منها يأيت باهلدايا يف داخله‪ ،‬وهذه‬
‫كانت معجزة مل يسبق يل رؤيتها‪ .‬يش ٌء َ‬
‫مقابل ال يشء! كان اسم النوع املفضل‬
‫عندي ‪ Honey Combs‬صندوق عليه صورة طفل أبيض صحيح البنية‪،‬‬
‫مريضا بالربو‪ ،‬أصبح هذا الطفل مثاالً حيتذى به بالنسبة يل‪،‬‬
‫ً‬ ‫كنت‬
‫وألين ُ‬
‫متجها نحو السامء‪ .‬يف كل علبة من رقائق احلبوب‬‫ً‬ ‫كان عىل دراجة هوائية‬
‫هذه كنت أحصل عىل لوحة صغرية حتاكي لوحة املرور لتسجيل السيارات؛‬
‫يضعها األطفال عىل خلفية دراجاهتم اهلوائية‪ .‬كانت أصغر بكثري من‬
‫وكثريا ما حصلت‬
‫ً‬ ‫اللوحات احلقيقية لكنها كانت جيدة ومرضية ومقنِعة‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫عىل اللوحة اخلاصة بوالية ميتشيغان‪ ،‬كان تصميهام بسي ًطا‪ :‬حروف بيضاء‬
‫عىل خلفية سوداء‪ .‬كنت أهتجأ الكلمة وأصبعي يمر عىل كل حرف منها‪،‬‬
‫عال‪ ،‬فينتهي يب األمر أن أنطق كل صوت بشكل خاطئ‪.‬‬ ‫أنطقها بصوت ٍ‬

‫وحني مجعت كمية من تلك اللوحات‪ ،‬كنت أمسكها بيدي كام يفعل‬
‫الكبار بأوراق اللعب‪ ،‬أرميها أحيانًا عىل سطح رسيري البايل‪ ،‬ثم أمجعها‬
‫وأضمها إىل صدري بشدة دون احلاجة ملربر‪ .‬كنت أخبئها مثل كنز حتت‬
‫وساديت‪ ،‬ثم أحتسسها بيدي هبوس‪ .‬كل لوحة منها كانت فريدة جدً ا بالنسبة‬
‫شعارا مثل «أرض األلبان األمريكية» وبعضها يقول‬ ‫ً‬ ‫يل‪ .‬بعضها كان حيمل‬
‫ملح جدً ا‬
‫«احلياة بحرية أو املوت»‪ .‬لكن اليشء الذي كنت أحتاجه بشكل ٍّ‬
‫يف تلك اللحظة هو أن أمتلك دراج ًة هوائية حقيقية‪.‬‬
‫أردت‬
‫ُ‬ ‫لقد كانت املسافة يف أمريكا بني األمنية وبلوغها قصرية جدً ا‪.‬‬
‫دراجة هوائية‪ ،‬إذن سيعطيني بعض أثرياء األمريكيني واحدة؛ أليسوا مجيعا‬
‫ال حصلت عىل واحدة قبيحة وصدئة واملكابح فيها ال تعمل؛‬ ‫أثرياء؟! فع ً‬
‫وضعت‬
‫ُ‬ ‫أساسا لكي أتذمر؟ أليست الدراجة؟‬‫ً‬ ‫ولكن ما الذي كنت أريده‬
‫واحدة من اللوحات عىل خلفية الدراجة‪ ،‬وبدأت أقيض غالب أيامي أفكر‬
‫أي لوحة أستخدم لكل يوم‪ :‬فلوريدا املشمسة وامللئية باحلمضيات‪ ،‬أم‬
‫فريمونت املثلجة‪ .‬وهذه كانت حكاية أمريكا‪ :‬فرصة االختيار‪.‬‬
‫يف مقابل ذلك كانت خيارايت مع األصدقاء حمدودة جدا؛ لكن كانت هناك‬
‫طفلة عوراء تسكن يف بنايتنا‪ ،‬وكنا نعترب أنفسنا أصدقاء إىل حد ما‪ .‬كانت‬
‫ضئيلة‪ ،‬مليئة بالكدمات‪ ،‬فقرية مثلنا متا ًما‪ .‬مل نكن نثق ببعضنا يف البداية‪ ،‬لكن‬
‫مهاجرا‪ ،‬وواقعها باعتبارها عوراء جيعلنا متعادلني‪.‬‬ ‫ً‬ ‫واقعي باعتباري ً‬
‫طفل‬
‫كثريا‬
‫أيضا دراجة نصف حمطمة مثل التي عندي‪ .‬كانت تقع ً‬
‫وكان لدهيا ً‬
‫من عىل الدراجة وتصاب بمزيد من اخلدوش والكدمات‪ ،‬وتنهال سبا ًبا‬

‫‪221‬‬
‫حني تدمي راحة يدها؛ تقول اإلشاعة أهنا فقدت عينها يف حادثة سقوط‬
‫من الدراجة‪ .‬رأتني صديقتي ذات مرة وأنا عىل دراجتي العرجاء‪ ،‬ولوحة‬
‫علبة رقائق احلبوب عليها‪ ،‬فصاحت يب‪« :‬ميتشيغان ‪ ..‬ميتشيغان!» فأكملت‬
‫ً‬
‫خمتال باحلروف اإلنجليزية‬ ‫مبتسم وأنا أدندن بجرس الدراجة‪،‬‬
‫ً‬ ‫طريقي‬
‫امللصقة عىل خلفية الدراجة حتت مؤخريت! ميتشيغان! ميتشيغان! تلك‬
‫اللوحة ذات السطح األزرق الداكن املائل للسواد‪ ،‬مثل لون عني صديقتي‬
‫السليمة‪ .‬ميتشيغان‪ ،‬يا له من اسم أمريكي لذيذ‪ .‬كم هو حمظوظ ذاك الذي‬
‫يسكن تلك الديار‪.‬‬
‫بطل روايتي األوىل ُ‬
‫«دليل‬ ‫كان فالديمري غريشكن الشاب املهاجر املكافح َ‬
‫الرويس» وكان يشاركني يف كثري من صفات شخصيتي‪ ،‬خاصة نزعته‬
‫ّ‬ ‫املبتدئ‬
‫إىل عد النقود باللغة الروسية‪ ،‬و هي كام يعرض الكتاب لغة الشوق والوطن‬
‫يضيف هنا‪ -‬لغة اخلوف‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫واألم‪ ،‬وكذلك هي لغة النقود‪ .‬كام أهنا ‪-‬وأنا من‬
‫فيلفظ كتل ًة من املال‪ ،‬فإين‬
‫ُ‬ ‫حني أكون عند جهاز رصف النقود اآليل (‪)ATM‬‬
‫عند استعدادي الستقبال تلك النقود وعدها‪ ،‬أترك اإلنجليزية بالكلية‪ .‬إن‬
‫فقد الدوالرات األمريكية كان يشكل اخلوف الرئيس يف حياة املهاجر‪ ،‬لذا‬
‫فإن عدّ ها باللغة الروسية خيفف من عبء ذلك اخلوف‪ .‬بناء عىل هذا املنطق‪،‬‬
‫يقوم اخليايل فالديمري غريشكن واحلقيقي غاري شتاينغارت بعدّ حزمة املال‬
‫اخلرضاء‪ ،‬والتي متثل قيمتنا وحتصيلنا يف األرض اجلديدة هكذا‪:‬‬
‫‪восемь десять долларов, сто долларов, сто двадцать‬‬
‫‪долларов‬‬

‫دوالرا ‪...‬‬
‫ً‬ ‫دوالرا‪ ،‬مئة دوالر‪ ،‬مئة وعرشون‬
‫ً‬ ‫ثامنية عرش‬
‫أيضا‪ ،‬خاصة تلك التي كانت مترشبة‬ ‫كان أغلب أحالمي باللغة الروسية ً‬
‫بالرعب‪ .‬رأيت ذات ليلة عىل سبيل املثال أنني قادم عىل ماهناتن وكانت داكنة‬

‫‪222‬‬
‫اللون ومظلمة؛ وعىل بناياهتا دروع أجسام حرشات ضخمة احلجم‪ ،‬وكان‬
‫هناك حرشات أخرى ذات قرون استشعار كبرية جدً ا و تطلق هتديدات‪« .‬ما‬
‫سألت عابر ًة مل أشك أهنا أمريكية وكانت شابة‪ ،‬مخنت من‬
‫ُ‬ ‫الذي جيري؟»‬
‫لباسها أهنا قد تكون من الطبقة الوسطى‪.‬‬
‫أجابتني بالروسية قائل ًة‪ ничево :‬أي‪« :‬ال يشء!» رافقت إجابتها هزة‬
‫زوجا‬
‫لكتفيها بأسلوب السالفيني الال مبايل عند الضجر‪ .‬ثم الحظت كأن ً‬
‫استيقظت عندها ِ‬
‫فز ًعا‬ ‫ُ‬ ‫من حرشات غريبة خترج من القرب من فكها السفيل‪.‬‬
‫وأنا أقول‪ .. боже мой, боже мой :‬يا إهلي يا إهلي‪.‬‬
‫هيز عاملي‪ ،‬إن انخفض صوت حمرك الطائرة فجأة يف‬ ‫وعند أي خوف ّ‬
‫وسط الرحلة‪ ،‬أو حني يتجه ناحيتي رجل ضخم بمنخارين كمنخاري قاتل‪،‬‬
‫فإن أول ما ينطق به عقيل ولساين هو‪ за что :‬بمعنى‪ :‬ملاذا؟ ملاذا أنا بالذات؟‬
‫وملاذا اآلن حتديدً ا؟ ملاذا ينبغي عيل املوت ميتة كهذه؟ هل هذا من العدل؟‬
‫هذه األسئلة مل تكن أبدً ا موجهة إىل السامء‪ ،‬بل موجهة إىل اللغة الروسية‬
‫نفسها‪ ،‬تلك التي حتدث خالهلا كل األشياء املرعبة بشكل ال يمكن جتنبه وال‬
‫يمكن فهمه‪.‬‬
‫بعد جميئنا إىل الواليات املتحدة‪ ،‬كان كثري من رفاقنا املهاجرين قادرين‬
‫عىل التكيف وقد فارقوا برسعة فائقة لغاهتم التي ولدوا هبا‪ ،‬حتى إهنم يغنون‬
‫ملايكل جاكسون بدقة ملحوظة وثقة عالية‪ .‬السبب يف إنني كنت أحلم‪،‬‬
‫وأفكر‪ ،‬وأرتعد خو ًفا‪ ،‬وأعد النقود باللغة الروسية يعود إىل سلسلة من‬
‫أرص والداي عىل‬
‫صغارا‪ .‬إذ ّ‬
‫ً‬ ‫القرارات التي كان والداي قد اختذاها حينام كنا‬
‫أمرا ال يقبل النقاش‬
‫أن اللغة التي نتكلمها يف املنزل هي الروسية فقط؛ وكان ً‬
‫وال املجاملة‪ .‬ويف حني كنت أحاول احلفاظ عىل لغتي الروسية‪ ،‬كان والداي‬
‫جياهدان يف معافسة احلياة مع اللغة اجلديدة فكانا يشعران بعظيم فائدة عند‬

‫‪223‬‬
‫االستامع لطفل يثرثر باإلنجليزية عىل طاولة الطعام‪.‬‬

‫ُظهر اإلنجليزي ُة َ‬
‫رأسها بشكل أو‬ ‫كان منزلنا روس ًيا حتى النخاع‪ ،‬وحني ت ُ‬
‫بآخر‪ ،‬فإهنا ُت ُ‬
‫فظ كتاب ًة عىل إحدى األوراق املستعملة التي كان أيب يراجع‬
‫عليها دروس احلاسب‪ .‬كنت أمسك تلك األوراق بالدهشة ذاهتا التي كنت‬
‫أمسك هبا اللوحات من صناديق رقائق احلبوب‪ .‬كنت مفتونًا باإلحساس‬
‫بالورقة‪ :‬خشونة ملمسها‪ ،‬ولوهنا‪ ،‬وكوهنا أمريكي ًة‪ ،‬وبالكلامت والتعبريات‬
‫التي قيدها أيب عليها‪ :‬كلمة إنجليزية عىل وجه الورقة‪ ،‬ومقابلها الرويس‬
‫عىل الوجه اآلخر‪ .‬أتذكر اآلن دون سبب خيص هذه الكلامت‪ :‬صناعة‬
‫‪ ،промышленность‬إبريق الشاي ‪ ،чайник‬سكتة قلبية ‪،инфаркт‬‬
‫الرمزية ‪ ،символизм‬الرهن العقاري ‪ ،ипотека‬وأخريا ‪ ..‬حظرية‬
‫‪.ранчо‬‬
‫أما السبب اآلخر للحالة اللغوية التي أعيشها فكان اقتصاد ًيا‪ .‬مل تكن‬
‫وبدل عن مشاهدة مسلسل املغامرات‬ ‫أرستنا قادرة عىل رشاء جهاز تلفزيون‪ً ،‬‬
‫التفت إىل خمتارات من أعامل أنطون تشيخوف(((‪:‬‬ ‫ُّ‬ ‫‪The Dukes of Hazzard‬‬
‫ثامنية جملدات ما زلت أحتفظ هبا يف مكتبتي اخلاصة‪ .‬حتى حني وجدنا جهاز‬
‫تلفزيون (باألبيض واألسود) من إنتاج زينيث((( مرم ًيا يف حاوية القاممة‪ ،‬مل‬
‫مسموحا يل أن أجلس ملشاهدته أكثر من نصف ساعة يف األسبوع‪ ،‬وهو‬ ‫ً‬ ‫يكن‬
‫الوقت الذي مل يكن كاف ًيا لفهم سبب ظهور اخلارق َه ْل ْك((( باللون األخرض‬

‫‪ -1‬أنطون تشيخوف أديب وكاتب مرسحي وطبيب رويس يعدّ أفضل من كتب القصة القصرية‬
‫مطل ًقا (تويف ‪١٩٠٤‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬من أقدم أسامء الرشكات األمريكية إنتاجا ألجهزة التلفزيون‪.‬‬
‫‪ -3‬اخلارق هلك هو من األبطال اخلارقني من إنتاج جمموعة مارفن‪ ،‬وهو الذي يدعى بالعربية‬
‫«الرجل األخرض»‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫تارة وبغريه تارة أخرى‪ .‬دون التلفزيون مل يكن ثمة ما يمكن احلديث عنه مع‬
‫بقية األوالد يف املدرسة مطل ًقا‪ .‬لقد تبني يل أن هؤالء اخلنازير املزعجني ال‬
‫هيتمون أبدً ا بعنوان مثل «عنب الثعلب» أو «السيدة صاحبة الكلب»(((‪ .‬إنه‬
‫خترج من فم طفل وهي‬‫ملن املستحيل يف مطلع الثامنينيات أن يسمع املرء مجل ًة ُ‬
‫ليست مرتبطة بصورة تلفزيونية‪.‬‬
‫وجدت نفيس يف هناية املطاف معا ًقا من جهتني‪ ،‬فأنا أعيش يف عامل ال‬ ‫ُ‬
‫أتكلم أ ًّيا من اللغتني الفاعلتني واقع ًيا داخله‪ :‬اللغة اإلنجليزية‪ ،‬واللغة التي‬
‫ال تقل عنها أمهية‪ ،‬لغة التلفزيون‪.‬‬
‫قررت الكتابة باإلنجليزية‪ ،‬كام قررت أن‬ ‫ُ‬ ‫وذات يوم يف ذلك الزمان‪،‬‬
‫أستمتع بذلك‪ .‬قررت أن أكتب للسبب ذاته الذي يكتب ألجله األطفال‪:‬‬
‫أي الوحدة‪ ،‬وامللل‪ ،‬أو لإلثارة الطاغية التي تدعو لبناء عامل بامدة احلرف‬
‫والكلمة‪ ،‬عامل ال حتدد معامله األرسة أو املدرسة‪ .‬والسبب األخري كان هد ًفا‬
‫ربا ومناد ًيا‪« :‬اسمع يا‬
‫حمور ًيا بالنسبة يل‪ .‬خالل خشوعي يف الصالة متص ً‬
‫دعوت اإلله أن يتوالين برمحته وأن يبعد عني صغار اليهود يف‬
‫ُ‬ ‫إرسائيل» ‪...‬‬
‫املدرسة العربية وسخريتهم‪ّ :‬أل يسخروا من مالبيس وال من جبيني رسيع‬
‫التعرق‪ ،‬وال من واقع فقري وكوين روس ًيا يف العامل األمريكي املتأللئ‪ .‬لكنني‬
‫قررت أن أفعل شي ًئا‪.‬‬
‫كتبت حينها تورايت اخلاصة‪ .‬أسميتها غروناه (عىل غرار توراة)؛ حاكيت‬
‫ُ‬
‫يف صياغة االسم اللقب الذي كان يعريين به الطالب وهو لشخصية تلفزيونية‬
‫مل أشاهدها قط‪ .‬كانت الغروناه نسخة فاجرة من العهد القديم‪ .‬كانت حتتوي‬
‫عىل الكثري من األرقام واألغاين والنبوءات املغناة والكثري من املجون‪ .‬أظن‬

‫‪ -1‬عنب الثعلب والسيدة صاحبة الكلب قصتان قصريتان ألنطون تشيخوف‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫فخورا هبا‪.‬‬
‫ً‬ ‫أن هنري ميلر((( سيكون‬
‫بت الغروناه عىل ورق مطوي قديم‪ ،‬وقد اجتهدت يف طباعتها من‬ ‫كُتِ ْ‬
‫طالب املدرسة العربية‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫استقبل‬ ‫األسفل إىل األعىل كي حتاكي التوراة احلقيقية‪.‬‬
‫الغروناه بسيل من النقد‪ ،‬يف كل االجتاهات‪ .‬كان الطالب قد سئموا أسلوب‬
‫التلقني للتوارة والتلمود يف املدرسة‪ ،‬كام سئموا من الصلوات التي تتىل قبل‬
‫الغداء وبعده‪ ،‬وسئموا من احلاخام األمحق الذي يزعم أن ما حصل لليهود‬
‫يف أوروبا هو عقوبة هلم بسبب تساهلهم يف أكل حلم اخلنزير اللذيذ‪ .‬بدأ‬
‫الكل يتحدث عن الغروناه ويقتبسون منها‪ .‬لكن هذا مل جيعل مني حمبو ًبا أو‬
‫مقبوالً كصديق ألي من الطالب‪ .‬وحده تلفزيون سوين بخزانة خشبية من‬
‫السوق يستطيع فعل ذلك‪ .‬لكن انتشار الغروناه ساعد عىل جتاوزي لفكرة‬
‫عدم متكني من االنضامم لنادي غريبي األطوار يف املدرسة إىل أن أصنف‬
‫غريب أطوار مقبول‪ .‬قل يل بربك‪ ،‬هل هناك يشء ال تستطيعه الكتابة؟‬
‫أخذت الغروناه بيدي إىل هناية الطريق مع الروسية بوصفها لغتي‬‫ِ‬
‫األساسية‪ ،‬ودلتني عىل بداية مرحلة االندماج مع اإلنجليزية األمريكية‪.‬‬
‫جماورا‬
‫ً‬ ‫لقد كنت أريد أن أكون حمبو ًبا مهام كلفني الثمن‪ ،‬األمر الذي جعلني‬
‫ملنطقة اجلنون فعل ًيا‪ .‬لقد بذلت غالب وقتي يف الكتابة‪ ،‬ساعات املدرسة‬
‫قصصا‬
‫ً‬ ‫كتبت‬
‫ُ‬ ‫والوقت الذي كان ينبغي لنا فيه مراجعة أحكام التلمود‪.‬‬
‫قصصا كانت تثرينا لنضحك من حياتنا التافهة‪،‬‬
‫ً‬ ‫ألصدقاء املدرسة وعنهم‪،‬‬
‫قصصا‬ ‫ً‬ ‫قصصا مليئة بتقاطعات مع شخصيات تلفزيونية مل أشاهدها قط‪،‬‬ ‫ً‬
‫تقطع الصلة بأي طيف ما زال يزورين لروسيا التي تركتها خلفي أو حتى‬
‫خصص أحدُ املعلمني‬ ‫ألوراق تشيخوف التي بدأ الغبار يعلوها عىل الرف‪ّ .‬‬

‫‪ -1‬رسام وأديب أمريكي اشتهر بعدم رضاه عن اإلنتاج األديب وبمحاولته لكرس الروتني وتغيري‬
‫أشكال املنتج األديب (تويف ‪١٩٨٠‬م)‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫بعضا من قصيص عىل الطالب يف الفصل‪،‬‬ ‫وقتًا من مادة اإلنجليزية ألقرأ ً‬
‫ُ‬
‫فيضحك الطالب وهيتفون يل مقدرين العمل الذي أقوم به‪ .‬يا له من نرص‬
‫عظيم للكلمة املكتوبة يف تلك الزاوية من كوينز‪.‬‬
‫طويل‪ ،‬فمامرستي للكتابة يف سن ما قبل املراهقة توقفت ومل‬ ‫ً‬ ‫مل يدم األمر‬
‫تستمر‪ .‬يف ذلك الوقت بدأت ظروف أرسيت بالتحسن‪ ،‬فنحن مل نعد فقراء‬
‫كام كنا‪ ،‬واستطعنا رشاء تلفزيون سوين ذي الشاشة الكبرية (سبع وعرشون‬
‫بوصة) بقيمة ألف دوالر‪ .‬أظن أن وصول التلفزيون إىل بيتنا كان أسعد حلظة‬
‫أدرت‬
‫ُ‬ ‫أحسست أنني أصبحت مواطنًا أمريك ًيا حقيق ًيا‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أخريا‬
‫يف حيايت كلها‪ً .‬‬
‫مفتاح التشغيل ومل أطف ْئ ُه بعدها قط‪ .‬كام إنني مل أكتب حر ًفا واحدً ا لعرش‬
‫سنوات منذ وصول التلفزيون‪.‬‬
‫لقد بدأت رحلة كتابة مقالتي هذه تزامنا مع رحلة طويلة جفاها النعاس‬
‫إىل روسيا املعارصة‪ ،‬رحلة غمرهتا أصوات مضطربة من اللغة األم‪ ،‬وقد‬
‫بلغت النهاية حيث جيب عىل الطفل يف داخيل أن يو ّدع اللغة التي شكّلت له‬ ‫ُ‬
‫كامل ذات يوم‪ .‬لكن الذاكرة‪ ،‬التي تعدّ ها الثقافة الروسية جمرد غطاء‬ ‫عا ًملا ً‬
‫ٍ‬
‫واه للحنني‪ ،‬تسألني متوسل ًة هناية خمتلفة ملقالتي‪.‬‬
‫قررت أن أختم املشوار يف مكان آخر‪ ،‬يف مكان يسمى مستوطنات‬‫ُ‬ ‫لذلك‬
‫آن ماسون ألكواخ القش يف جبال كاتسكيل(((‪ .‬حتى أفقر الروس ال يستطيع‬
‫العيش دون ‪ дача‬بيت ريفي صيفي‪ ،‬لذا فحني حيل شهر يونيو‪ ،‬نذهب ومعنا‬
‫جمموعة من العائالت الروسية ونستأجر واحدة من تلك األكواخ ذات‬
‫التصاميم الكبرية‪ .‬كنا أنا وأمي نتسلل إىل املنتجع املجاور لنسرتق النظر‬
‫إىل هيود أمريكيني‪ ،‬أجسامهم ضخمة وقد َص َب َغتْهم الشمس بسمرة وقد‬

‫‪ -1‬سلسلة جبال تقع يف اجلنوب الرشقي لوالية نيويورك األمريكية‪ ،‬وفيها غابات وحياة برية‬
‫ثرية‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫استلقوا عىل ظهورهم بجوار مسبح املنتجع األولومبي احلجم‪ ،‬أو كنا نتسلل‬
‫ليل نحو مرسح العروض لنشاهد نيل دايموند((( يف فيلم «مغني اجلاز»‪ .‬لقد‬‫ً‬
‫كانت تلك ‪-‬ربام‪ -‬أعظم زفرة زفرهتا يف حيايت؛ ثم أخذت عهدً ا عىل نفيس‬
‫أن أعمل بجد واجتهاد كي أوفر حياة رغيدة مثل هذه ألوالدي (كان ذلك‬
‫املنتجع قد أقفل بعد عهدي به كام إنني مل أرزق بأطفال)‪.‬‬
‫أما حالتنا يف مستوطنتنا‪ ،‬آن ماسون‪ ،‬فقد استمتعنا دون احلاجة إىل‬
‫ّسع لستة من األطفال الروس يف كل‬ ‫مشاهدة مغني اجلاز‪ ،‬واملسبح الصغري يت ُ‬
‫مرة‪ .‬أما آن ماسون مالكة املكان‪ ،‬فهي سيدة كبرية يف السن‪ ،‬ضخمة‪ ،‬ثرثارة‬
‫تتكلم اليدشية‪ .‬كنا نرى ثياهبا الواسعة جدً ا معلقة يف خزانة مالبسها‪ .‬كان‬
‫غالب زوار املكان يف أيام األسبوع الصيفية من األطفال السوفييت‪ ،‬ترافقهم‬
‫اس ُت ْئ ِم َّن عليهم‪ .‬أما اآلباء واألمهات فهم يف نيويورك‪،‬‬
‫اجلدات الاليت ْ‬
‫ساخر‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫يعملون ألجل لقمة العيش‪ .‬كان األطفال حيبون زوج آن ماسون‪:‬‬
‫هنم لصحف‬ ‫قصري‪ ،‬ذو حلية محراء‪ ،‬واسمه مارفن؛ كان قارئًا ً‬
‫ٌ‬ ‫عظيم البطن‪،‬‬
‫األحد الساخرة‪ .‬وكانت آن وزوجها يأخذاننا إىل مطعم قريب لتناول بعض‬
‫رشائح اللحم والبطاطس املهروسة‪ .‬وكانت طاولة السلطات املفتوحة‬
‫بالكامل للضيوف عالمة بارزة للرأساملية‪ ،‬لكننا كنا ننتظر االنقضاض عليها‬
‫بشوق عظيم‪.‬‬
‫كانت املستوطنة عىل سفح التل‪ ،‬ويف أسفلها جدول ماء صغري لكنه‬
‫ساحر ومجيل‪ ،‬وفيه كنت أنا وأيب نصطاد السمك‪ ،‬حتى إننا اصطدنا سمكة‬
‫ال أعرف اسمها باإلنجليزية‪ ،‬لكننا نسميها بالروسية ‪ сиг‬وبحسب معجم‬
‫أوكسفورد الرويس‪-‬اإلنجليزي فهي سمكة تعيش يف املاء العذب وتنتمي‬
‫ألرسة الساملون‪ .‬يف الناحية األخرى من اجلدول مزرعة تنتج أساطني التبن‬

‫‪ -1‬كاتب أغنيات ومغن أمريكي كان من أشهر النجوم شهرة يف السبعينيات‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫أعال ًفا للحيوانات‪ ،‬يملك احلقل بولندي متطرف يف معاداته للسامية‪ ،‬والذي‬
‫زعمت‬
‫ْ‬ ‫لن يتورع عن مهامجتنا مجي ًعا مع كلبه إن اقرتبنا من أمالكه؛ أو هكذا‬
‫اجلدّ ات‪.‬‬
‫صباحا بنية إطعامنا الفواكه وجبن‬
‫ً‬ ‫كنا نقيض صيفنا واجلدات يطاردننا‬
‫فتبح أصواهتن وهن ينادين علينا لنلبس‬‫املزارع الطازج‪ .‬أما يف املساء‪ّ ،‬‬
‫مالبسنا الدافئة لنحتمي من برودة اجلبال‪.‬‬
‫كان هؤالء األطفال هم املسافة األقرب التي اقرتبتها من أبناء بالدي‪.‬‬
‫كامل‪ .‬أصبحت بعض الفتيات‬ ‫كنت أتطلع أن أكون بمعيتهم خالل العام ً‬
‫‪-‬دون شك‪ -‬بالغات ومجيالت مجاال ال يقبل املقارنة‪ ،‬وجوههن صغرية‬
‫ودائرية بمالمح أسيوية‪-‬أوروبية‪ ،‬وأردافهن رشيقة ينضجن بنعومة رويدً ا‬
‫رويدا‪ .‬أما األمر الذي كنت أحبه فيهن هو أصواهتن املبحوحة احلامسية‪ ،‬وهن‬
‫تطو ُق األفعال اإلنجليزية أو العكس‪.‬‬
‫يلقني األسامء الروسية كاحلبال التي ّ‬
‫وطازجا‪ ،‬حتى قررت أن أكتب الشعر املغنى‬ ‫ً‬ ‫وما زال نجاح الغروناه داف ًئا‬
‫ٍ‬
‫أغان من أكثر أغاين الثقافة األمريكية‬ ‫أللبوم موسيقي‪ :‬أدخل الروسية عىل‬
‫انتشار ًا وشهرة‪ .‬ظهر صوت الراء ‪ rrr‬أكثر جاذبية حينها مما كنا نظن‪ .‬عند‬
‫حاكيت صورة بروس سربينغستني((( عىل غالف‬ ‫ُ‬ ‫تصميم غالف األلبوم‬
‫ألبومه «مولو ٌد يف الـ ‪ »USA‬فارتديت اجلينز والقميص‪ ،‬ووضعت قبعتي يف‬
‫جيب اجلينز اخللفي لتبدو واضحة‪ ،‬وقد طلبت من الفتيات أن يلتففن حويل‬
‫عند التقاط الصورة‪ ،‬وهن يرتدين تنورات مجيلة وسرتات‪ ،‬ويضعن شي ًئا‬
‫لدت يف‬‫ناعام من الزينة‪« .‬مولو ٌد يف الـ ‪ »(((USSR‬كان اسم ألبومنا ‪ ....‬لقد ُو ُ‬
‫لـ ـيـ ـنـ ـغـ ـراد‪.‬‬

‫‪ -1‬مغن وملحن وكاتب أغنيات أمريكي شهري‪.‬‬


‫‪ -2‬اختصار اسم االحتاد السوفييتي باألحرف اإلنجليزية‪.‬‬

‫‪229‬‬
‫انتظرنا عطلة هناية األسبوع‪ ،‬حتى حيرض اآلباء العاملون وهم متعبني من‬
‫أعامهلم األمريكية‪ .‬يكون الرجال حينها متأهبون لينزعوا عنهم قمصاهنم‬
‫ويولوا صدورهم ناحية السامء‪ ،‬والنساء يتكلمن بصوت منخفض عن‬
‫أزواجهن‪ .‬ثم نتزاحم يف سيارة صغرية نحو أقرب مدينة حيث يوجد صالة‬
‫سينام لعرض األفالم القديمة مقابل دوالرين وسلة الفشار الكبرية مع الزبدة‬
‫بعضا‬
‫السيئة بنصف دوالر‪ .‬حني نعود ملستوطنتنا‪ ،‬نجلس يف أحضان بعضنا ً‬
‫ونناقش فكرة فيلم «إي يت الكائن الفضائي عىل األرض»‪ .‬تساءلت حينها‬
‫عن سبب عدم امتداد مغامرة القصة إىل خارج حميط األرض‪ ،‬إىل كوكب‬
‫صديقنا متجعد البرشة‪ ،‬إىل مسقط رأسه ووطنه احلقيقي‪.‬‬
‫يستمر نقاشنا الرويس‪-‬األمريكي حتى تنري نجوم الليل عيني ثور‬
‫صاحب حقل التبن املعادي للسامية‪ ،‬أما جداتنا فيتحاورن بصوت منخفض‬
‫عن وجبات طعام اليوم التايل وتستمر مههمتهن حتى بعد خلودهن للنوم‪.‬‬
‫غدً ا مباراة ودية يف التنس األريض‪ ،‬فسيكون يو ًما طويالً‪ .‬أما بعد الغد‬
‫فسيكون اليوم الذي يستلم فيه مارفن الصحف الساخرة كي نضحك سوي ًا‬
‫عىل بيتيل بييل وغارفيلد(((‪ .‬ال يتطلب األمر أن أفهم كل يشء ألضحك‪،‬‬
‫فالضحك كالسعادة ال ت ُ‬
‫ُدرك أسباهبا غال ًبا‪.‬‬

‫‪ -1‬شخصيات أمريكية كرتونية ساخرة كانت تظهر قصصهام عىل صفحات املجالت‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫بوزويل والسيدة ميلر‬
‫جيمز كامبيل‬
‫(((‬

‫حني سلك جيمز بوزويل((( الطريق املخترص من اسكتلندا إىل لندن يف‬
‫العام ‪1762‬م‪ ،‬باح ًثا عن الثروة ومؤل ًفا من بعد ذلك كتابه «حياة [صمويل]‬
‫جونسون»‪ ،‬احتاج بوزويل جلواز سفر يعرب به احلدود‪ .‬وبعد عبوره احلدود‪،‬‬
‫تصور بوزويل أنه بحصوله عىل ختم العبور قد حصل عىل ما سيغري من‬ ‫ّ‬
‫حياته كلها إىل األفضل‪ .‬كان التغيري إىل األفضل معيش ًيا هو غاية بوزويل‬
‫العظمى يف احلياة؛ ويف سبيل تلك الغاية‪ ،‬كان بوزويل مستعدً ا أن ينزع عن‬
‫ذاته جالفة «جيمي» االسكتلندية‪ ،‬ليحل حملها لطافة «جيمز» املتأنجلزة(((‪.‬‬
‫صافحت بوزويل ذكرى مفاجئة لبالده‪ ،‬مل‬
‫ْ‬ ‫يف لندن وذات ريح جنوبية‪،‬‬
‫ِ‬
‫لسان السيدة ميلر‬ ‫قع‬
‫أيضا‪« .‬لقد كان َو ُ‬
‫تكن يف حسبانه ومل يكن راغ ًبا هبا ً‬
‫الغالسكوي((( عىل جسدي كالعذاب»‪ ،‬هكذا كتب يف مذكراته ليوم ‪17‬‬

‫‪ -1‬جيمز كامبيل (‪ )James Campbell‬كاتب وباحث ونارش اسكتلندي‪ .‬عمل حمررا أدبيا يف‬
‫املجلة الفصلية (‪ )New Edinburgh Review‬لسنوات‪ .‬نرش سرية الروائي والناقد االجتامعي‬
‫بولدون بعنوان «حديث عىل األبواب» (‪١٩٩١‬م)‪ ،‬كام نرش (‪١٩٨٤‬م) كتابه عن‬ ‫ِ‬ ‫األمريكي جيمز‬
‫اسكتلندا بعنوان «البالد املخف ّية‪ :‬رحلة عرب اسكتلندا»‪.‬‬
‫‪ -2‬كاتب سرية ويوميات اسكتلندي تعد السرية التي كتبها لألديب اإلنجليزي صمويل جونسون‬
‫(تويف ‪١٧٨٤‬م) أعظم سرية كتبت باإلنجليزية (تويف ‪١٧٩٥‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬أي املتقربة واملتشبهة بأفعال اإلنجليز‪ ،‬أهل إنجلرتا‪.‬‬
‫‪ -4‬نسبة إىل غالسكو مدينة شامل اسكتلندا‪.‬‬

‫‪231‬‬
‫يأذن‬ ‫«قررت حينها ّأل أتناول طعامي بتاتًا يف ّ‬
‫أي مكان ُ‬ ‫ُ‬ ‫مارس ‪1763‬م‪.‬‬
‫المرأة اسكتلدنية من الغرب أن تتغذى فيه معنا»‪.‬‬
‫ال بد وأن تلك املرأة االسكتلندية من الغرب كانت قد أحدثت جلب ًة‬
‫صفو‬ ‫قبيحة جدً ا‪ .‬كام يقرتح بوزويل أنه جيب ّأل يعكّر ُ‬
‫نباح البهائم املتوحشة َ‬
‫طاولة النخب وأناقتها‪ .‬نالحظ هنا أنه بينام يتناول (‪ )dines‬بوزويل طعامه‪،‬‬
‫فإن السيدة ميلر تتغذى (‪ .)feeds‬ومن املفاجآت أن السيدة ميلر هي زوجة‬
‫توماس ميلر‪ ،‬نبيل اسكتلندا األول ومندوب العرش الربيطاين فيها‪ ،‬وهو‬
‫أعىل منصب اعتباري قانوين يف البالد‪ .‬البد أن السيدة ميلر كانت تعدُّ نفسها‪،‬‬
‫أيضا‪ ،‬فر ًدا من الطبقة العليا‪ ،‬أي النخبة‪ .‬إن قصة انزعاج‬ ‫ويعدها آخرون ً‬
‫بوزويل وإحراجه ختربنا أنه مل يكن مستغر ًبا يف منتصف القرن الثامن عرش‬
‫جنسا لغو ًيا يسمى االسكتلندية القديمة‪،‬‬
‫أن يتكلم علية القوم يف اسكتلندا ً‬
‫وهو جنس عام يعرب عن اللهجة التي كافحت عرب الزمن لتدوم منذ العصور‬
‫الوسطى وحتى يومنا هذا‪ .‬وحني أراد بوزويل أن يتجنب مشاهبة السيدة‬
‫قليل‪ ،‬ويتكلم بصورة خمتلفة‪.‬‬‫ميلر‪ ،‬كان عليه فقط أن جيتهد ً‬
‫ولكن كيف كانت السيدة ميلر تتحدث؟ كانت تقول (‪ )aff‬وتعني‬
‫بدل عن (‪)out‬؛ كام كانت السيدة ميلر تقول (‪ben‬‬ ‫(‪ ،)off‬وتقول (‪ً )oot‬‬
‫‪ )the hoose‬وتعني داخل املنزل‪ ،‬و(‪ )greetan‬لتقول بكاء‪ .‬مل متانع‬
‫السيدة ميلر أن تبدو غريبة أو تلقائية أثناء عشائها‪ ،‬لكن بوزويل والذين‬
‫معه كانوا حياولون إظهار رقيهم بإبقاء مرافقهم بعيدة عن الطاولة‪ .‬كانت‬
‫خاصا‪ ،‬وهو ما حاول بوزويل جاهدً ا حموه من‬ ‫تستخدم ً‬
‫أمثال وبنا ًء نحو ًيا ً‬
‫حياته لسنوات‪ .‬قالت وهي تتفكر يف ازدراء املتعجرف بوزويل ويف عينيه‬
‫عاجز عن التفريق بني املرأة الغنية والفقرية»‪ .‬ثم‬
‫ٌ‬ ‫الناقمتني‪« :‬أظن أن جيمي‬
‫أكملت تناول وجبتها اللذيذة‪ .‬كان‬‫ْ‬ ‫نفس ِك» ثم‬ ‫ِ‬
‫رصخت قائلة‪« :‬ال ُت ْغضبي َ‬

‫‪232‬‬
‫األمر بالنسبة لبوزويل وصحبه أن السيدة ميلر عاجزة عن إدراك الفرق بني‬
‫كلامت مثل‪ )those, they( :‬أو حتى (‪ ،)thae‬فهي هبذا عاجزة عن نطق‬
‫مثل عند احلديث عن‬ ‫احلرف البسيط ‪ a‬وهلذا مل حتاول التلفظ باسم التفاح ً‬
‫التفاحات (‪ )apples‬التي عىل طاولتها‪ .‬تقول‪،)thon ashet yonder( :‬‬
‫حني تريد احلديث عن الطبق‪ ،‬بمعنى «ذاك الطبق الدائري الذي هناك»‪.‬‬
‫بدأت السيدة تتكلم بسخرية عن أبيها والعائلة وطفلها الصغري الذي كان‬
‫وسيم (‪ ،)bonny‬وإن كان ينقصه الذكاء‪ .‬حني حتاول السيدة ميلر أن تنطق‬‫ً‬
‫الصوت ‪ a‬فإهنا خترجه من املخرج اخلاطئ‪ ،‬فكلمة ماء (‪ )water‬تُعجز لسان‬
‫السيدة ملري لتصبح (‪ .)waa’er‬ولك أن تتخيل أن يتكرر هذا الغلط يف كل‬
‫الصوت بوزويل وملاذا كان له أثر‬
‫ُ‬ ‫الكلامت اإلنجليزية لتتصور كيف أوجع‬
‫العذاب‪.‬‬
‫مل يكن من املسموح للسيدة ميلر العودة إىل الطاولة وإال فإن بوزويل‬
‫يرفض متا ًما اجللوس عليها‪ .‬قبل أسابيع قليلة من هذه احلادثة كان بوزويل‬
‫قد رأى أن من احلكمة واملصلحة االجتامعية أن يتجنب لقاء أبناء بلده مطل ًقا‬
‫عند جميئهم إىل لندن قاصدين منزله‪ .‬خاصة أولئك الذين يتسببون له باحلرج‬
‫بحديثهم بـ «لسان غالسكو الفظيع»‪.‬‬
‫أعرف السيدة ميلر جيدً ا‪ .‬وأستطيع سامع ما تقوله بوضوح تام‪ .‬مع بعض‬‫ُ‬
‫التغريات يف أصوات الع ّلة‪ ،‬وبعض االرتفاع أو االنخفاض يف األصوات‬
‫احلنجرية الوقفية(((‪ ،‬فإن امتداد ذرية السيدة ميلر اليوم يف غالسكو يتكلمون‬
‫متا ًما كام تكلمت قبل قرنني ونصف من الزمان‪ .‬متثل طريقة السيدة ميلر‬
‫الكالم الطبيعي يف غرب اسكتلندا؛ بينام كان بوزويل يلمع أطباقه وهيذب‬

‫‪ -1‬األصوات احلنجرية الوقفية التي تشبه يف خمرجها وصفتها صوت اهلمزة يف اللغة العربية‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫مظهره ليتكلم (‪ ،)suddron‬أي (‪ )southern‬اللهجة اجلنوبية(((‪ .‬واألمر‬
‫اليوم أشبه بالتقليعة بني الكثري من سيدات املجتمع االسكتلندي وسادته‪.‬‬
‫ينحدر بوزويل من أرسة مرفهة من مالك العقار واملحامني من املناطق‬
‫الزراعية يف اجلنوب الغريب‪ ،‬وكان قد التحق بجامعة غالسكو‪ .‬تلقى‬
‫دروسا يف اخلطابة وتقويم اللسان يف أدنربه عىل يد توماس شرييدان‪ ،‬والد‬‫ً‬
‫الكاتب املرسحي ريتشارد برينسيل ‪ ،‬وال شك أن توماس كان يعرف‬
‫(((‬

‫الكتاب املسمى «االسكتلندية» الذي نرش يف مخسينيات القرن الثامن عرش‬


‫وستينياته‪ ،‬و حيتوي عىل قائمة مرتبة أبجد ًيا للمفردات والتعبريات التي‬
‫ينبغي لالسكتلنديني جتنبها عند احلديث يف احلياة العامة‪ ،‬وبخاصة حني‬
‫يرغبون بالدخول يف عالقة اجتامعية أو جتارية مع اإلنجليز أو األجانب‪.‬‬
‫لذلك فقد كان إثم جميء السيدة ميلر وانضاممها للطعام عىل طاولة رفيعة‬
‫املستوى يف لندن ذن ًبا خيدش اللباقة املزعومة لذلك السياق‪.‬‬
‫وكان اعرتاض بوزويل قد أظهره بمظهر الفظ بل حتى اخلائن‪ .‬ولكنه مل‬
‫يكن يف احلقيقة متعجر ًفا كام بدا‪ .‬إذ كانت عالقته بالناس وباسكتلندا عالقة‬
‫حقيقية وصادقة ومبنية عىل أرضية من القناعات والقيم‪ .‬حتى إن بوزويل‬
‫تزوج بامرأة من الغرب االسكتلندي‪ ،‬وأقام معها يف أدنربه رش ًقا‪ .‬ولكن‬
‫ترصفه احلاد كان معتا ًدا لكل من ولد وترعرع يف غالسكو ‪-‬وأنا منهم‪ -‬كام‬
‫قسمت الطريقتان التي يتكلم هبا الناس املدينة‬ ‫هو حال اللسان نفسه‪ .‬لقد ّ‬
‫إىل غالسكو‪ ،‬وغليسكا‪ .‬ومن ثم تفرقت األرس‪ ،‬واجلريان‪ ،‬واألحياء بناء‬
‫عىل ذلك؛ لقد خلق اللسان ُفرق ًة وطنية‪ ،‬وصنع حدو ًدا داخل املدينة نفسها‪.‬‬

‫‪ -1‬اجلنوبية أي إنجلرتا وحتديدً ا لندن ألهنم يف اجلنوب بالنسبة إىل اسكتلندا‪.‬‬


‫‪ -2‬ريتشارد برينسيل شرييدان رجل دولة وكاتب مرسحي آيرلندي (تويف ‪١٨٠٦‬م)‪ ،‬وأبوه مدير‬
‫للمرسح ومعلم للهجات وممثل مرسحي (تويف ‪١٧٨٨‬م)‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫فاللبق الذي ينطق «غالسكو» خيرج إىل فضاء املدينة متجنبا التواصل مع كل‬
‫من ينطق «غليسكا»‪ .‬إذ يتخذ كالمها موق ًفا اجتامع ًيا بمجرد أن ّ‬
‫يتفوه اآلخر‬
‫بكلمة‪.‬‬
‫قد يعامل السيد غالسكو السيد غليسكا بيشء من التعايل والسخرية‬
‫الدافئة؛ يشء ُيقصدُ به املتعة‪ .‬يف املقابل قد حياول السيد غليسكا املبالغة يف‬
‫طريقة نطقه للمفردات ليامحك نده‪ .‬وقد يظن السيد غالسكو أن اآلخر‬
‫يقول غليسكا ألنه عاجز طبيع ًيا عن نطق غالسكو‪ .‬والذي يظهر أن الندين‬
‫ال يعرفان أن الكلمة يف القرن الرابع عرش واخلامس عرش كانت تكتب‬
‫(‪ ،)Glescu‬ولربام وافق نطقها أحرفها متا ًما «غليسكو» و هي طريقة ُ‬
‫متزج‬
‫بني نطق كل من بوزويل والسيدة ميلر سويا‪.‬‬
‫إن االنقسام اللغوي الذي تطور يف القرن السادس عرش مراف ًقا االحتاد‬
‫تسبب بانقسام حتى عىل صعيد‬ ‫َ‬ ‫بني العرشني امللكيني يف إنجلرتا واسكتلندا‬
‫األفراد‪ .‬ال يوجد متثيل يعرب عن هذه الثنائية وهذا االنقسام يف اللسان‬
‫نفسه‪ .‬يف كالمه اليومي‬‫االسكتلندي مثل ما عرب عنه واق ًعا الشاعر الوطني ُ‬
‫ويف شعره وأدبه‪ ،‬كان لروبرت برينز((( هلجتان‪ :‬االسكتلندية القديمة‬
‫وكثريا ما كان جياور بينهام يف اجلملة الواحدة‪ ،‬أو يف‬
‫ً‬ ‫واإلنجليزية املعيارية‪.‬‬
‫املقطع الشعري الواحد‪ ،‬كام فعل يف كلامته املشهورة‪:‬‬
‫‪The best-laid schemes o’ mice an’ men‬‬

‫‪Gang aft a-gley‬‬

‫«أفضل اخلطط التي توضع بني الفأرة واإلنسان‬


‫تكون فاشلة عىل األغلب‪».‬‬

‫‪ -1‬روبرت برينز شاعر وكاتب أغنية اسكتلندي‪ ،‬كان يدعى الشاعر الوطني (تويف ‪١٧٩٦‬م)‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫قصيدة «إىل فأرة» مثل كثري من قصائد برينز كُتبت باملزاوجة بني‬
‫تفوقت النكهة االسكتلندية رغم قلة‬ ‫االسكتلندية واإلنجليزية‪ ،‬وإن ّ‬
‫مفرداهتا املشاركة‪ .‬وهذا كان أيضا واقع برينز يف كالمه اليومي‪ .‬ففي رسالة‬
‫كتبها إىل مزارع من جريانه يف آيرشاير (وهي املقاطعة التي ينتمي هلا بوزويل‪،‬‬
‫ميل جنوب غرب غالسكو)‪ ،‬كانت الكلامت كلها من‬ ‫وتقع عىل بعد مخسني ً‬
‫اللهجة االسكتلندية وإن ختللتها بعض اإلنجليزية املعيارية‪ .‬يف الوقت نفسه‬
‫قادرا عىل أن يتكيف مع خطاب آخر متى ما دعت الظروف إىل‬ ‫كان برينز ً‬
‫ذلك‪ .‬فحني التقى مع رجال ونساء يف صالة للفنون يف أدنربه وأراد الكتابة‬
‫هلم مود ًعا كاتبهم بصوت خمتلف عىل اإلطالق‪ .‬كذلك كانت رسائله إىل‬
‫ختتلف متا ًما عن مكاتباته إىل النساء‪،‬‬
‫ُ‬ ‫رفاقه من زمالء املدرسة من الرجال‬
‫خاصة أولئك الاليت يك َّن هد ًفا لعاطفته‪.‬‬
‫الكثري من الفوارق اللهجية املبنية عىل االختالف‬ ‫ُ‬ ‫يف االسكتلندية‬
‫اجلغرايف‪ ،‬والسيد برينز وبالده آيرشاير والسيدة ميلر ومدينتها غليسكا ليسا‬
‫إال اثنني من هذه اللهجات الكثرية‪ .‬وكل هذه اللهجات مرتبطة ببعضها‪،‬‬
‫وبمجموعها تشكّل االسكتلندية‪ ،‬كام إهنا مجيعا مرتبطة باإلنجليزية املعيارية‪.‬‬
‫خيارا شائ ًعا أيام برينز وبوزويل‪ ،‬لكنه قبل مئتني‬
‫كان استخدام االسكتلندية ً‬
‫أمرا كونيا يشمل اجلميع‪.‬‬ ‫ومخسني سنة من زمنهام كان ً‬
‫خالل املئة واخلمسني عا ًما املاضية‪ُ ،‬أعلن عن موت االسكتلندية أو‬
‫اضمحالهلا وتالشيها؛ أو ربام كان ذلك األمل بمثابة خماض البعث من جديد‪.‬‬
‫لقد بذر روبرت لويس ستيفينسن(((‪ ،‬الذي ولد ألرسة من الطبقة الوسطى‬
‫يف العام ‪1850‬م‪ ،‬الكثري من االسكتلندية التي اكتسبها من اخلدم واملزارعني‬

‫‪ -1‬روبرت لويس ستيفنسن كاتب وروائي وشاعر اسكتلندي‪ ،‬القى إعجا ًبا عامل ًيا أشهر أعامله‬
‫جزيرة الكنز (تويف ‪١٨٩٤‬م)‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫لتنمو يف شعره ورسائله‪ ،‬بل حتى يف قصصه القصرية؛ و كان يعلم أن فعله‬
‫كان بمثابة احلنني اللغوي‪ .‬كان ستيفينسن يستحرض شخصية جده يف‬
‫القصص‪ ،‬الذي قال عنه برينز‪« :‬من أواخر الذين تكلموا االسكتلندية وهو‬
‫رجل رفيع الشأن»‪ .‬لقد صاغت قصص آيرشاير الشعبية يف وقتنا احلارض‬
‫صورة «األصدقاء» و«الرشقيني» حني خاطبت عابر ًة األطليس أقاربنا‬
‫املهاجرين يف أمريكا الشاملية‪ ،‬والذين مل يعودوا يتكلمون بكلامت مثل ما‬
‫كتب برينز جلاره املزارع‪ ،‬أو مثل ما ضمن قصيدته «أيتها الفأرة»‪ ،‬بالرغم من‬
‫بعدهم الشديد عن موطن نسيجهم املميز‪ .‬وكأن املساحة تضيق عىل اللهجة‪،‬‬
‫كلام اقرتب الناس من بعضهم؛ ألنه ينبغي لنا أن نخاطب اجلريان بلغة نثق‬
‫أهنم سيفهموهنا‪.‬‬
‫ومع ذلك كله‪ ،‬فإن االسكتلندية ما زالت عىل قيد احلياة‪ .‬إهنا معارصة‬
‫الصبية والفتيات يف شوارع غالسكو اليوم‬‫بشكل ربام مل يالحظه الكثري‪ .‬إن ِ‬
‫‪-‬عىل سبيل املثال‪ -‬جيدون لغة األنشودة الشعبية واألغاين الراقصة مألوفة‬
‫هلم‪ ،‬بل ولربام تكلموا كام مل يتكلم الكبار‪.‬‬
‫إن األدب االسكتلندي دائم النقاش والذكر ملسألة الثنائية واالزدواجية‪.‬‬
‫فرواية «الدكتور جيكل والسيد هايد» لستيفنسن ‪-‬عىل سبيل املثل‪ -‬وغريها‬
‫من القصص والقصائد تطرح مسألة العاملني أو الواقعني‪ :‬واقع األشباح‬
‫مهم للغة التي كُتب هبا‬
‫ملظهر ٌ‬
‫ٌ‬ ‫والسحرة والوحوش وواقعنا‪ .‬إن الثنائيات‬
‫عدد ال يستهان به من األدب االسكتلندي بأجناسه‪ .‬هناك تعبري قاله يف‬
‫األصل الشاعر إدوين موير((( واقتبسه الكثري عنه حتى أصبح وكأنه من‬
‫املسلامت‪ ،‬وهو أن عاطفة كتّاب االسكتلندية يف الزمن املعارص اسكتلندية‪،‬‬
‫حيسون ويشعرون عرب هذه اللغة؛ لكنهم يف املقابل يفكرون بلغة أخرى‬‫فهم ّ‬

‫‪ -1‬شاعر وروائي ومرتجم اسكتلندي (تويف ‪١٩٥٩‬م)‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫وهي اإلنجليزية‪.‬‬
‫إن اخلالف بني العنرصين مستمر حتى يومنا هذا يف اسكتلندا‪ .‬وقد‬
‫ظهر بشكل جيل يف صالون بيتنا يف اجلهة اجلنوبية من غالسكو يف أواخر‬
‫اخلمسينيات وأوائل الستينيات‪ .‬كنا أرسة من الطبقة العاملة حيدونا األمل يف‬
‫والدي‬
‫ّ‬ ‫نشأت يرافقني حرص بالغ من‬ ‫ُ‬ ‫أن نكون من الطبقة الوسطى‪ .‬وقد‬
‫عىل أن أتكلم «بشكل صحيح» (أو قل كام يتكلم الناس الذين ال يتكلمون‬
‫بشكل صحيح حني يقولون ‪ speak polite‬ويقصدون تكلم بلطف((()‪.‬‬
‫ولكنني يف منتصف مراهقتي مارست ثورة خاصة‪ ،‬وبدأت رحلة العودة إىل‬
‫االسكتلندية القديمة‪ .‬مل أكن أدرك يومها أن هذا اسمها يف احلقيقة‪ ،‬لكنها‬
‫اللهجة التي كنت أسمعها حويل‪ .‬كنت أتساءل إن كان ثمة يشء يف «غلظة»‬
‫الكالم يبادر أعاصري املراهقة بالرضا‪ .‬كان موقف أهيل مثل موقف بوزويل‪،‬‬
‫ويف املقابل كنت أنا مثل السيدة ميلر متا ًما‪ .‬وكانت املصادفة أنني يف تلك‬
‫األثناء تعرفت عىل جمموعة من األصدقاء من املناطق الفقرية يف غالسكو‪،‬‬
‫يقال عنها أهنا سيئة السمعة تسمى غوربالز(((‪ .‬مل يكن يف أصدقائي ما‬
‫ُ‬
‫تعمل عملها‬ ‫يستحقون أن يوصفوا معه بالسمعة السيئة‪ ،‬لكن «اجلغرافيا»‬
‫يف تقسيم السمعة يف املدن الكبرية‪ ،‬وغالسكو واحدة منها‪ .‬كل مساء ينتبه‬
‫متجاوزا تلك األشجار املهذبة‬
‫ً‬ ‫عيل حني أسري‬
‫كل من هيتم ألمري وخيشى ّ‬
‫متجها نحو تلك البنايات املليئة بالوحدات السكنية‪،‬‬
‫ً‬ ‫واملنظمة يف شارعنا‪،‬‬
‫واحلاويات‪ ،‬والساحات‪ ،‬ومداخل األقبية‪ .‬ولكنني لست مثل بوزويل‪ ،‬فقد‬

‫حني يتكلم املعياريون اإلنجليزية جيب أن يقال ‪ politely speak‬وليس ‪polite speak‬‬ ‫‪-1‬‬
‫وهذا كان مقصد الكاتب‪.‬‬
‫‪ -2‬غوربالز حي كان يقع باملقربة من املصانع يف غالسكو فغلب عليه سكن الطبقة العاملة واملنازل‬
‫فيه يف بنايات حلفظ املساحة‪.‬‬

‫‪238‬‬
‫كنت أبدل لساين أثناء الطريق‪ .‬كنت أترك معطفي اإلنجليزي (‪ ،)jacket‬ثم‬
‫أرتدي معطفي االسكتلندي (‪)ma jaiket‬؛ خمل ًفا غالسكو ورائي ومتجها‬
‫إىل غليسكا‪.‬‬
‫مل يكن من املألوف أن يكون ملراهق لغة لساحات اللعب‪ ،‬ولغة أخرى‬
‫حتول األمر‬
‫لقاعات الدراسة؛ واحدة للشارع وأخرى لصالون املنزل‪ .‬ثم ّ‬
‫إىل حدث درامي ليكون املفصل الذي جيعل االختيار بني الظلمة والنور‬
‫واجبا كام يف ثنائيات القصص وعواملها‪ .‬أمي‪ ،‬التي ال ختتلف يف يشء عن‬
‫األمهات حولنا والتي مل تسمع ببوزويل يو ًما‪ ،‬تدرك متا ًما واقع «لسان‬
‫والدي حني يرققان أصواهتام وأصوات أطفاهلام‪،‬‬‫ّ‬ ‫غالسكو الفظيع»‪ .‬إن‬
‫ٌ‬
‫أجيال من اخلانعني؛ كانا حياوالن النهوض‪ ،‬أو كام‬ ‫يفعالن ما فعلته قبلهام‬
‫يقول بوزويل ليتمكنا من بلوغ رشف خدمة طاوالت طعام النخبة‪ .‬لكن‬
‫شوارع غالسكو كانت مليئة بمن مل ينهض‪ ،‬وأنى هلم ذلك‪ .‬لقد كانوا فقراء؛‬
‫دون عمل؛ ويرشبون الكثري من اخلمر ويرتكبون بعض املخالفات القانونية‪.‬‬
‫هل يا ترى كان هؤالء الناس عاجزين عن حماولة التصالح مع نطق تلك‬
‫األصوات‪ ،‬أصوات إنجليزية امللكة؟! «من سيوفر لك وظيفة وأنت تتكلم‬
‫مر!‬
‫هبذا الشكل؟» شعار يرفع يف وجه كل من وقع ضحية لواقع ّ‬
‫أناسا حمرتمني؛ أولئك الذين مل يتمكنوا من قول (‪)ground‬‬ ‫لقد كانوا ً‬
‫لكنهم قالوا (‪)grun‬؛ أولئك الذين عجزوا عن ‪ /ou/‬يف (‪ )house‬وعن‬
‫‪ /ea/‬يف (‪ ،)bread‬فقالوا (‪ )hoose‬و(‪)bried‬؛ الذين قالوا (‪ )hame‬وهم‬
‫يقصدون (‪)home‬؛ الذين كان من العسري عليهم أن يكملوا نطق أبسط‬
‫الكلامت مثل (‪ ،)of, all, dad‬فقالوا (‪ .)’o’, a’, ad‬لكن هؤالء الناس كانوا‬
‫غال ًبا يف الضواحي‪ ،‬يف األرياف حيث يسكن حبيب أمي وأخوها اخلال‬
‫مبهجا‬
‫ً‬ ‫وييل‪ ،‬الراعي واملزارع وييل‪ .‬يف ذلك املكان يعدّ اللسان االسكتلندي‬

‫‪239‬‬
‫للقلب‪ .Hertsome :‬يف األرياف تبدو االسكتلندية صح ّي ًة أكثر من غريها؛‬
‫متا ًما مثل احلليب والبيض حني يقدم يف الريف‪ ،‬جملو ًبا مبارشة من املزرعة إىل‬
‫طاولة اإلفطار‪ ،‬فيكون طعمه ّ‬
‫ألذ‪.‬‬
‫كان عىل الناس حتى يكونوا مقبولني بلساهنم االسكتلندي أن يكونوا يف‬
‫األرياف‪ ،‬أو أن يكونوا من العجزة‪ ،‬حيث تكون جذورهم يف القرن التاسع‬
‫ناقشت هذه الشؤون‬
‫ُ‬ ‫عرش‪ ،‬مثل جدي وجديت‪ .‬كان من الغرابة مرة أنني‬
‫السياسية‪/‬اللغوية مع أختي أثناء زيارتنا جدي وجديت‪ ،‬اللذين ولدا يف‬
‫يف زمن روبرت لويس ستيفنسن؛ وقد رحبا بنا عند الوصول هبذا اللسان‬
‫القديم‪ ،)c’wa ben the hoose( .‬هكذا قالت جديت لتدعونا إىل «داخل‬
‫املنزل»‪ .‬مطر الصيف الرقيق كانت تسميه (‪ ،)smirr‬واألطفال املبللون‬
‫(‪ .)fair drookit‬كانت جديت كبقية جيلها‪ ،‬تتكلم باإلنجليزية لكنها تنزلق‬
‫بانسيابية وطبيعية نحو اللغة القديمة‪ .‬تدعو جديت الصبية و الفتيات (‪chiels‬‬
‫‪ ،)and quines‬وكانت تسمي فتحة ترصيف املياه (‪ ،)stank‬وإن كانت‬
‫خارج املنزل تكون (‪ .)scunner‬جييء عىل لساهنا بعفوية مجيلة الكثري من‬
‫مفردات برينز فتقول (‪ )bide‬وتعني يسكن‪ ،‬وتقول (‪ )thole‬وتعني جياهد‪.‬‬
‫مل تسمع جديت يو ًما عن هيو ماكديارميدز(((‪ ،‬لكنها قط ًعا كانت ستفهم شعره‬
‫وتطرب له‪.‬‬
‫ُأرسلت أخوايت الكبار كحال كثري من الفتيات إىل معلمة للخطابة‬
‫َ‬
‫وجياهدن ويترصف َن خارج لغتهن وكالمهن بأقىص‬ ‫وتقويم اللسان ليسك ّن‬
‫ن يرتاقصن ماشيات خارج املنزل ويقلن (‪how-now-brown-‬‬ ‫ما يكون‪ .‬ك ّ‬
‫التمرن عىل التشبه باللسان القويم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫متثييل مرسحي من قبيل‬
‫ّ‬ ‫‪ )cow‬يف أداء‬

‫‪ -1‬كريستيفور غريف وكان يكتب باسم الشهرة هيو ماكديارميدز‪ ،‬شاعر وصحايف ورجل‬
‫سياسة اسكتلندي (تويف ‪١٩٧٨‬م)‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫متذكرا أستاذه شايريدين‪.‬‬
‫ً‬ ‫أظن أن بوزويل كان سيبتسم فرحا ملشهدهن‬
‫متتلك أمي وبوزويل الكثري من احلجج الصحيحة وهذا يشمل التعليم‪،‬‬
‫والقبول االجتامعي‪ ،‬وفرض االحرتام‪ .‬لكن «األدب» يقف إىل صفي‬
‫مؤخرا أن اللغة التي يتكلم هبا رفاقي يف‬
‫ً‬ ‫وصف السيدة ميلر‪ .‬لقد أدركت‬
‫غروبالز‪ ،‬وجدي وجديت‪ ،‬وخايل وييل ومعه عصا الراعي‪ ،‬ويتكلمها كل‬
‫الصبية والفتيات يف آيرشاير ويف اسكتلندا كلها مل تكن لغة فاسدة أبدً ا‪ .‬كل‬
‫اللهجات املحلية‪ ،‬بام فيها غليسكا‪ ،‬هي هلجات منحدرة من االسكتلندية‬
‫القديمة؛ اللغة التي استخدمها شعراء القرن التاسع عرش العظامء‪ :‬ويليام‬
‫دونبار وروبريت هنريسون(((‪ .‬الصبية والفتيات يف الشوارع املجاورة مل‬
‫يقولوا (‪ )thae aipples‬ألهنم عاجزون عن نطق (‪ ،)these apples‬أو ألهنم‬
‫مصابون باحلرج؛ بل كانوا حيافظون ‪-‬أدركوا ذلك أم مل يدركوا‪ -‬عىل‬
‫االسكتلندية القديمة التي نجت خالل قرون من حماوالت قتلها عىل يد‬
‫دروس اخلطابة وتقويم اللسان‪ .‬إن هذه املالمح هلذا اللسان كانت يف زمن‬
‫مىض هي الغالب السائد لعموم أرض اسكتلندا‪.‬‬
‫هل أنا اآلن ذو عاطفة اسكتلندية وتفكري إنجليزي؟ ربام‪ ،‬ألكون جز ًءا‬
‫أي منها أن أكون «أصيالً»‪.‬‬
‫من معركة أو مناظرة أو حتى متعة إن تطلب ٌ‬
‫أو ألنني أريد أن أتداخل مع الطبيعة واألطفال واحليوانات‪ .‬إن الكلامت‬
‫االسكتلندية متلك قدرة عىل جذيب إليها‪ .‬والشعر االسكتلندي يبهجني‬
‫أشعر منه‪،‬‬
‫َ‬
‫(((‬
‫بشكل ال يقدر عليه سواه‪ .‬كان دونبار دائم الرتديد بأن تشورس‬

‫‪ 1‬دونبار شاعر اسكتلندي عظيم من «املؤسسني» ومن شعراء البالط امللكي (تويف ‪١٥٣٠‬م)‪.‬‬
‫هنريسون كذلك من شعراء اسكتلندا «املؤسسني» (تويف ‪١٥٠٠‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬جيفري تشورس شاعر إنجليزي من العصور الوسطى من أهم الشعراء يف األدب اإلنجليزي‬
‫(تويف ‪١٤٠٠‬م)‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫لكن دونبار خياطبني كام مل يفعل تشورس قط ولن يقدر أبدً ا‪ .‬إنه يشبهني‪ .‬إن‬
‫اللغة التي يكتب هبا دونبار وبعض أخوته الشعراء الذي جاؤوا بعده بخمسة‬
‫قرون جتيء وكأهنا نصف ذكرى‪ ،‬مرصة أن تكون اللغة األوىل وإن ُأ ِخ َذ‬
‫يعج بأمواج من األشياء‬ ‫مكانا‪ .‬إن املرور بمحطة قطارات غالسكو اليوم ّ‬ ‫ُ‬
‫املألوفة؛ اللغة التي تسود يف جو املحطة حتمل جتارب مل أدرك أهنا حية؛ كأهنا‬
‫كانت غامضة‪ ،‬مسترتة خلف اجلدران التي شيدت لتفرق بني اسكتلندا‬
‫وإنجلرتا‪.‬‬
‫حني انتقلت للسكنى يف لندن عند بلوغي سن الثالثني أعرتف أنني فعلت‬
‫مت لساين! مل أكن فظي ًعا كام زعم كام بوزويل عن السيدة‬
‫قو ُ‬
‫ما فعل بوزويل‪ّ :‬‬
‫مسجل‪ ،‬كانت‬ ‫ً‬ ‫ميلر‪ ،‬لكنني كنت أشعر بيشء ما‪ .‬حني أسمع صويت وكالمي‬
‫حدة اللكنة وقوهتا تفاجئني جدً ا‪ .‬لكنها تالشت مع الوقت‪ .‬مل أتعمد ذهاهبا‪،‬‬
‫فعل أملك صوت ًا ولسانًا‬
‫ومل أروعها لتستعجل الرحيل‪ .‬أعتذر لنفيس ألنني ً‬
‫ّنزا ًعا إىل التقليد بشكل طبيعي‪ .‬إنني أنزع إىل أن أشابه أولئك الذين أمتنى أن‬
‫أكون مفهو ًما هلم؛ لذلك أظن صويت االسكتلندي مل يذهب بعيدً ا‪ ،‬بل هو‬
‫خمتبئ حتت تلك املالبس اجلنوبية‪.‬‬
‫املفارقة يف أرستنا تكمن يف أنني حني ارحتلت بلكنتي جنو ًبا‪ ،‬ارحتل‬
‫والداي إىل الناحية األخرى متا ًما‪ .‬يف السنوات األخرية بدأ أيب يعرب عن آرائه‬
‫السياسية بلسان غري لسانه املعتاد‪ .‬مل أشهده يتكلم هكذا منذ بدأت عمليات‬
‫إدانتي بسبب أصدقائي الذين كنت أصحبهم‪ .‬كان يتذمر ويشتم السياسيني‬
‫بلسانه اإلنجليزي‪ .‬لكنه يف سنواته األخرية وبعد انتقاله إىل أطراف املرتفعات‬
‫الشاملية‪ ،‬بني الناس الذين يتكلمون درجة ناعمة من االسكتلندية احلديثة‪،‬‬
‫وجد أيب نفسه وقد تغريت أصوات الع ّلة لديه؛ بدأت تتجه إىل الشوارع‬
‫التي نشأ هبا‪ ،‬غري بعيد عن الشوارع التي وصمت بسوء السمعة يف غوربالز‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫أهبجني صوته االسكتلندي‪ .‬كانت عودته إىل صداقته مع لسانه اآلخر مرحية‬
‫وممتعة‪.‬‬
‫يف املقابل ال ينتاب أمي شعور سلبي مطل ًقا حيال البقاء مع «غالسكو»‪.‬‬
‫وذات يوم‪ ،‬يف مرض أيب الذي تويف فيه‪ ،‬رفض أيب االستجابة ألمر الطبيب‬
‫بأخذ الدواء‪ ،‬كام هدد الطبيب بأنه سيذهب خارج املنزل يف حني إنه ممنوع‬
‫من ذلك طبيا‪ .‬جلست أمي عىل كرسيها املعتاد مرهق ًة‪ ،‬ثم أدارت وجهها‬
‫نحوي‪.‬‬
‫(‪ ،)Thrawn‬أظنها قالت ذلك! ثم سألتني‪« :‬أهذه هي الكلمة؟» كانت‬
‫أمي تسأل فعال‪ ،‬لكن دقتها يف اختيار املفردة كانت مبهرة‪ ،‬فالكلمة تعني‬
‫حرف ًيا «ملتوي» لكنها تعني جماز ًيا الشخص الصلب والعنيد‪ .‬نعم‪ ،‬إهنا‬
‫الكلمة بعينها‪ .‬مل أسمعها قط تقوهلا من قبل؛ ال بد وأهنا كانت قد خبأهتا‬
‫للحظة املناسبة‪.‬‬
‫أما بوزويل‪ ،‬بعد سنوات من غلظته عىل السيدة ميلر‪ ،‬فقد كان يف لندن‪،‬‬
‫يرتب لزواجه من امرأة اسكتلندية وجيهز نفسه للعمل حمام ًيا‪ .‬يف ورقة من‬
‫مذكراته‪ ،‬يف يوم الثالثني من مارس من العام ‪1772‬م‪ ،‬ذكر أنه كان مع‬
‫كامل‪.‬‬ ‫ً‬
‫انتقال ً‬ ‫جونسون يف أحد بيوت القهوة يتفكر يف االنتقال من اجلنوب‬
‫«مل يعارض السيد جونسون الفكرة‪ ،‬وقال أنني سأستعيد لكنتي االسكتلندية‬
‫رسي ًعا»‪ .‬ها هو بوزويل يشق لنفسه طري ًقا‪ .‬فبعد عرشة سنوات من رؤيته‬
‫للسيدة ميلر‪ ،‬وبالرغم من كل الدروس التي تلقاها ليقوم لسانه‪ ،‬ما زال‬
‫جيمي يف احلقيقة يتكلم بلسانه األول‪.‬‬

‫‪243‬‬
‫ٌ‬
‫هوامش لحياة مزدوجة‬
‫آيريل دورفمان‬
‫(((‬

‫ألقص عليكم هذه احلكاية(((‪.‬‬


‫َّ‬ ‫مل يكن من املفرتض أن أكون هنا‬

‫‪ -1‬آيريل دورفامن (‪ )Ariel Dorfman‬ناشط حقوقي وسيايس وكاتب وروائي أمريكي‪/‬‬


‫تشييل‪/‬أرجنتيني‪ .‬أستاذ يف جامعة تشييل ورئيس لكريس علمي يف جامعة ديوك األمريكية‪.‬‬
‫عمل مستشارا ثقافيا للرئيس التشييل سيلفادور الليندي (الذي أطاح به انقالب عسكري نفذته‬
‫املخابرات األمريكية)‪ ،‬وأثناء تلك الفرتة كتب باملشاركة بحثا نقديا عن التسلط األمريكي بعنوان‬
‫«كيف تقرأ دونالد دك»‪ :‬شخصية البطة الكرتونية‪ .‬نرش كتبا باإلنجليزية واإلسبانية‪ ،‬ونرشت‬
‫له تراجم بلغات عدة‪ .‬آخر أعامله كان كتا ًبا يف أدب الرحالت بعنوان «ذكريات الصحراء»‪،‬‬
‫و«شهور سبتمرب األخرى‪ ،‬واألمريكات العديدة» (‪ )٢٠٠٤‬وهو شبه خطاب موجه للواليات‬
‫املتحدة األمريكية بعد أحداث سبتمرب واألحداث التي تلتها‪.‬‬
‫«متجها إىل اجلنوب‪ ،‬متطل ًعا إىل الشامل‪ :‬رحلة ثنائي اللغة» ‪ ..‬ابتدأهتا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ابتدأت مذكرايت‬
‫ُ‬ ‫‪ 2‬هكذا‬
‫بقيت يف البداية‪ ،‬ألنني قضيت تسعة أشهر كاملة ألكتب السطر األول هذا واألسطر اخلمسة‬ ‫أو ُ‬
‫التي تليه‪ .‬تسعة أشهر كاملة؛ ترددت يف ذكر ذلك رغم عفويته فلربام أثار نوعًا من تشبيه اإلبداع‪/‬‬
‫الكتابة بفرتة احلمل‪/‬الوالدة‪ .‬ولكن جهد تسعة األشهر مل يكن انسيابيا عىل اإلطالق؛ بل كان‬
‫مليئًا بالعمل الشاق‪ ،‬والثرثرة‪ ،‬واخلربشة يوم ًا بعد يوم‪ .‬كتابة ثم إعادة كتابة مرات عديدة ألول‬
‫عرش صفحات من كتاب واحد حتى تساءلت‪ :‬ماذا لو كانت زوجتي قد برشتني بحملها عند‬
‫حتم عند االنتهاء من كتابة ذلك السطر األول‪.‬‬ ‫بداية كتابتي؛ كنت سأجن ً‬
‫ّ‬
‫وبرصف النظر عن األسباب الكثرية حول الثقة بالنفس والتي وإن كانت مزعجة‪ ،‬إل إهنا ال‬
‫تعني يل شيئًا يف هذا املقام‪ .‬لقد كانت مسأل ُة اختيار اللغة التي سأكتب هبا قصة حيايت مسأل َة‬
‫حياة أو موت‪ ،‬ومع ذلك مل أمتكن من اختاذ القرار‪ .‬لقد كانت اللغتان موطن النزاع يف وجودي‬
‫تصيب اللغ ُة املسيطر ُة أختَها‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫حيث‬ ‫سيطرت عىل حيايت لفرتات طويلة‪،‬‬ ‫ْ‬ ‫كله؛ كل واحدة منهام‬
‫طفل لوالدين مضطربني‪ :‬يتظاهر‬ ‫باجلمود التام لتصبح دون أدنى قوة أو صوت‪ .‬أتعبني أن أكون ً‬
‫أحدمها أنه ال يفهم لغة اآلخر حني يس ّبه هبا‪ ،‬ولكن ابنهام يفهم ما يقوالنه جيدً ا‪ .‬أتعبني أن أكون‬
‫دائم؛ أو حمبوب ًا لعشيقتني؛ هل أنا يف احلقيقة ذلك الرسير حيث ترقدُ‬
‫زوجا لزوجتني متشاجرتني ً‬ ‫ً‬

‫‪244‬‬
‫مفردات اللغتني سو ًيا و‪ .....‬اخرت ما شئت من االستعارات أهيا القارئ‪ .‬املهم أنني حني قررت‬
‫أن أكتب مذكرايت‪ ،‬كان هذان القسامن من دماغي‪ ،‬أو هذان اللسانان قد سدّ ا تلك الفجوة التي‬
‫أسميها (‪)cabeza‬؛ أو أسميها رأيس؛ قررت حينها أن أعلن اهلدنة‪ ،‬أن أوقف حرب الشكاية‬
‫فعل يف حاجة أن تنجو كلتا اللغتني من املنفى‪ .‬أردهتام أن تعمال سو ًيا؛‬‫والتذمر هذه‪ ،‬ألنني كنت ً‬
‫أن تتناوبا‪ :‬مرة باإلنجليزية ومرة أخرى باإلسبانية‪ .‬أحتاجهام سو ًيا ألجل مواجهة الديكتاتورية‬
‫أردت أن أمتكن‬
‫ُ‬ ‫يف تشييل؛ أريد أن أرفع سقف احتامالت أن ُأسمع الناس قصة األرض املنهوبة؛‬
‫من إقناع ضعف عدد من يمكنني إقناعهم حول العامل بلسان واحد‪ .‬كان الفضل لتلك اهلدنة‬
‫يف أن آمنت أنني أستطيع اآلن السيطرة عىل قصة حيايت؛ أستطيع اآلن إقفاهلا بطريقة ال تتضمن‬
‫الرصاع مع اجلدران أو حماولة الغوص فيها‪.‬‬
‫وحني بدأت كتابة اجلملة األوىل يف تلك السرية بإحدى اللغتني ‪-‬اإلنجليزية عىل سبيل املثال‪ -‬مل‬
‫تكن اإلسبانية صبورة حتى ترصفت بقلة أدب‪ ،‬وذلك بحجب الكلامت كام لو ك ّن أجنبيات‪،‬‬
‫الزوجات أزواجه َّن بالطالق عند اخلالف‪ :‬إن‬
‫ُ‬ ‫كام لو كانت حالة من اخليانة اللغوية‪ .‬وكام هتدد‬
‫فعلت هذا أو هذا فأنا خارجة من هنا وحياتك‪ .‬وإن عكست احلكاية وحاولت الكتابة باإلسبانية‬
‫فإن اإلنجليزية لن تتسامح مع تلك اخليانة كذلك‪ .‬من الواضح (‪ )qlaro que si‬أنني أستخدم‬
‫استعارات هنا‪ .‬ليست اللغتان شخصيتني عىل خشبة املرسح‪ ،‬لكني وبمنحهام حياة حقيقية‬
‫عيل‪ ،‬كام أحاول أن أعرب عن شعوري‬
‫مستقلة‪ ،‬فأنا أحاول فقط أن أعرب عن تسلطهام االستثنائي ّ‬
‫حني حتاوالن مقاطعة كتابتي بمثال واضح جدً ا‪.)muy simple( :‬‬
‫إذن‪ ،‬هل سبب هذا انقطاعًا يف عميل؟‬
‫متى ما كتبت شيئًا عن حيايت بإحدى اللغتني بدا زائ ًفا (‪ ،)falso‬أو خمادعًا (‪.)fraudulento‬‬
‫باملناسبة فإن يف اإلسبانية جتيء هذه الالحقة (‪ )lento-‬وكأهنا تدلل عىل خديعة بطيئة مثابرة؛‬
‫خديعة ّ‬
‫متط نفسها داخل عقل اإلنسان؛ بينام اخلديعة اإلنجليزية (‪ )fraudulent‬كام أفهمها فورية‬
‫يقص كل زيادة من اخلديعة نفسها‪.‬‬
‫وقاطعة؛ كأهنا ال تسمح بغفراهنا‪ ،‬وكأن صوهتا األخري (‪ّ )t‬‬
‫ليس يف ذايت اإلنجليزية أي يشء (‪ )lento-‬وال قري ًبا منها‪ .‬وبسبب الغرية (‪ )celos‬ال تسمح أي‬
‫لغة لألخرى باجتياز االمتحان حني أكتب شيئًا عىل الورق؛ يصيبانني بالشلل‪.‬‬
‫عشيقتي (‪ )amantes‬يا ترى؟‬
‫ّ‬ ‫فام هو حمل اعرتاض‬
‫ّ‬
‫أذنت كل واحدة منهام لألخرى حق كتابة الفقرة‪ ،‬حفاوة الفقرة‪ ،‬لكن برشط أل يكون‬ ‫ْ‬ ‫لقد‬
‫ربا عن األخرى بأي حال‪ .‬قالت كلتامها‪ :‬أنا التي سأقص احلكاية ألهنا‬
‫أي منهام خ ً‬
‫املكتوب بلغة ٍّ‬

‫‪245‬‬
‫حدثت يل أنا‪ .‬ويمكنني القول إذن أنني أنا من خيتار كيف يقول احلكاية ألهنا فعل ًيا حدثت يل أنا‪،‬‬
‫أي لكام سو ًيا‪ ،‬لش ّقي نفيس املسكينة؛ لكنهام جتادالنني قائلتني‪ :‬لكن ماحدث لك ال يمكن التعبري‬
‫عنه ابتداء إال بلغة واحدة فقط‪ .‬وإن كانت لكل لغة قدرة هائلة عىل استيعاب األخرى‪ ،‬لكنهام‬
‫تتزامحان حلظ َة النطق‪ :‬واحدة هي التي سوف تقول‪ .‬مرت تسعة أشهر؛ تسعة أشهر بائسة‪ ،‬مكبلة‬
‫بالواقع املرير‪ :‬مل أستطع كتابة كلمة واحدة بأي منهام؛ مل أستطع املحاولة بالكتابة بلغة دون الشعور‬
‫بخيانتي لألخرى‪ .‬مل تكن تلك الرغبة بالكتابة نزوة رسيعة؛ مل تكن مقالة جلريدة نيويورك تايمز‪،‬‬
‫والتي كانت جيب أن تكون باإلنجليزية؛ كام مل تكن لـ (‪ )El Pais‬يف مدريد والتي كانت جيب أن‬
‫تكون باإلسبانية‪ .‬كذلك مل تكن املسألة رواية (‪ ،)Konfidenz‬والتي ظلت لفرتة باإلسبانية حتى‬
‫عيل أن أصححها‬
‫قررت ترمجتها لإلنجليزية‪ ،‬كام دلتني بدورها عىل بعض األخطاء التي كان جيب ّ‬
‫أمرا خيص ال َقرار واالستقرار‬
‫باإلسبانية‪ .‬كان أمر الكتابة عن سرييت شديد احلساسية واجلدية؛ ً‬
‫سواء مع اللغتني أو مع إحدامها دون األخرى‪ ،‬حتى وإن أعطيت األولوية إلحدامها‪ ،‬أو أعطيت‬
‫رأسا يف هرم التسلط أو (‪ )una primogeniture‬أن تكون طفلتي‬ ‫أنوا ًطا من الفخر‪ ،‬أو كانت ً‬
‫أرأيت لو‬
‫َ‬ ‫البكر املدللة‪ .‬سأفضل واحدة عىل األخرى ‪-‬فقط‪ -‬ألرسد حكاية عالقتهام ومشاكلهام‪.‬‬
‫أن دولتني متحاربتني وصلتا لطريق مسدود‪ ،‬وذات هدنة وجدتا أن معاهدة السالم النهائية بينهام‬
‫حتم‪ ،‬ستدخالن احلرب جمد ًدا ومن الغد‪ .‬أليس كذلك؟ هذه‬ ‫جيب أن تكتب بلغة واحدة فقط؛ ً‬
‫املرة ستكون احلرب اجلديدة بسبب لغة كتابة الرشوط‪ ،‬وترسيم احلدود‪ ،‬وتقدير تكاليف إعادة‬
‫اإلعامر‪ ،‬وتبادل اجلنود من األرسى‪ .‬فمن يدري حني تكتب النسخة النهائية أي ثغرات قانونية‪،‬‬
‫أو أي مجل مبهمة‪ ،‬أو تفاصيل سيقوم اخلصم بتهريبها إىل وثيقة املعاهدة‪.‬‬
‫بلغت؛ بت ليلة من الليايل دون راحة أو نوم‪ ،‬ثم‬ ‫ُ‬ ‫سأخربكم عن حجم اهلذيان والتوتر الذي‬
‫أخذت ورق ًة وخربشت بعض الكلامت عىل وجهها ‪ ........‬بالفرنسية‪ .‬لغة بالكاد أمتتم هبا‪،‬‬
‫بالكاد أجاهد نفيس لكتابة كلمة واحدة هبا؛ ألستام تريدان أدا ًة حمايدةً؟ بعض دماغي خاطبني‬
‫بالسؤال ذاته‪ )Quieres neutralidad( :‬أهذا هو احلياد؟ نعم‪ ،‬إن ما أحتاجه هو طرف حمايد‬
‫ومحيمي؛ لن يكون يل أي‬
‫ّ‬ ‫غري منحاز؛ ولكن الفرنسية ال تقدر أن تكتب نيابة عني بشكل أنيق‬
‫ذكريات واحلالة هذه‪.‬‬
‫لقد أنقذين جنون الفجر حينها‪ .‬لقد وصلت ألقىص قعر اهلوة فال مزيد من اهلبوط‪ .‬يف الصباح‬
‫التايل‪ ،‬قلت يف قرارة نفيس‪ :‬كفى (‪)basta‬؛ لقد بلغ السيل الزبى! لقد بلغت مبلغًا جيب عيل أن‬
‫لغتي من هو املسؤول والقائد هنا‪ .‬قلت هلام‪ :‬إن مل خت ّليا بيني وبني اختيار اللغة التي سأكتب‬
‫أخرب ّ‬
‫هبا فسينتهي األمر يب يف مستشفى لألمراض العقلية؛ حينئذ لن تكون كلاميت إنجليزية وال إسبانية‪،‬‬

‫‪246‬‬
‫ببساطة شديدة‪ :‬كان ثمة يوم من مايض حيايت‪ ،‬يوم قبل سنوات عدة يف‬
‫أموت‪ ،‬ولكني مل أمت(((‪.‬‬
‫َ‬ ‫سانتياقو التشيلية(((‪ ،‬كان يفرتض يف ذلك اليوم أن‬

‫جيا غري ذي معنى من االثنتني‪ :‬بربرة!‬


‫بل مز ً‬
‫ألسباب فضلت أن أبقيها يف صندوق أرساري مع احتفاظي بقفله‪ ،‬قررت أن تكون اإلنجليزية‬
‫وسيلة كتابة حيايت‪ ،‬أن أعطيها ذلك احلق ابتدا ًء‪ ،‬لكن بشكل مؤقت فحسب؛ أردت أن أمتكن من‬
‫رمي هذه اللعنة عن كاهيل وأضعها عىل كاهل َ‬
‫العال‪ .‬مهست إلسبانيتي عند ذلك‪te voy a( :‬‬

‫لك أن يكون لك إصدارك‬ ‫‪ ،)dejar que re-escribas por entero el libro‬بمعنى‪ :‬سأسمح ِ‬
‫اخلاص من قصة حيايت‪.‬‬
‫قيلت‬ ‫ِ‬
‫فخا‪ ،‬وأظن إسبانيتي تعلم ذلك‪ ،‬لكنها مل تبال‪ .‬أظنها كانت تدرك أن القصة إن ْ‬ ‫لقد كان ً‬
‫حتول فيها‪.‬‬
‫بطريقة ما‪ ،‬إن قلتها باإلنجليزية‪ ،‬فإهنا ستصبح ثابتة ال ّ‬
‫وانتهى األمر مثلام ظنت اإلسبانية‪ ،‬فحني كتبت مذكرايت باإلنجليزية‪ ،‬ثم حاولت إعادة كتابتها‬
‫باإلسبانية جمار ًيا سبيل القصة ونحوها واكتشافاهتا‪ ،‬بل وتاريخ أحداثها التي صاغتها اللغة‬
‫املنافسة؛ أصبحت الكلامت اإلسبانية عندها فائض ًة‪ ،‬تسبح يف البيت الذي بنته اإلنجليزية‪.‬‬
‫ومع ذلك فقد تغري ذلك البيت حني امتأل باألسبانية‪.‬‬
‫مل يكن الكتاب هو الكتاب نفسه!‬
‫‪ -1‬عاصمة تشييل‪ ،‬وقد ذكرها الكاتب هبذه الصياغة ليميزها عن أخواهتا يف االسم يف بالد أخرى‬
‫(املرتجم)‪.‬‬
‫‪ -2‬انظروا يف السطور األوىل من النص اإلسباين‪ ،‬حيث أقول‪ :‬إن كنت أكتب هذه القصة‪ ،‬وإن‬
‫قادرا عىل رسدها‪ ،‬فإن ذلك ألن إنسانًا آخر كان قد مات بدالً عنّي‪ ،‬قبل سنوات طويلة‬
‫كنت ً‬
‫مضت يف سانتياقو التشيلية‪.‬‬
‫كلفني األمر بضعة أسابيع ألدرك أنه ليس من السهل أن أقحم الكلامت اإلنجليزية بسالسة يف‬
‫اإلسبانية‪ ،‬وأن اإلسبانية ستطالبني بأن أيف بوعدي الذي قطعته عىل نفيس بأن أسمح هلا بإصدارها‬
‫اخلاص من احلكاية‪.‬‬
‫ّ‬
‫أترون كيف أطالت اإلسبانية وعقدت تلك اجلملة اإلنجليزية‪ ،‬املخترصة والبسيطة التي ذكرهتا‬
‫مطلع مقالتي؟ بدأت اجلملة اإلسبانية بأداة رشط (‪ ،)si‬جاعل ًة من الوجود كله حالة ظرفية‪،‬‬
‫تضيف أداة رشط أخرى (‪ ،)si‬لترشح لنا بشكل غامض حجم اإلعاقة التي تسببت هبا هذه‬ ‫ُ‬ ‫ثم‬
‫ً‬
‫العملية‪ .‬واألمر األصعب كذلك هو أن اإلسبانية ألزمتني بموت أحدهم بدل عني؛ كان جيب‬
‫أن يلعب إنسان آخر دور امليت‪ ،‬إن مل أفعل أنا‪ .‬ال أستطيع تذكّر سالمتي ونجايت باإلسبانية‬

‫‪247‬‬
‫كان ذلك هو املكان‪ :‬دار املوت(((‪ .‬يف ذلك املكان ُأ ِص ْب ُت بااللتهاب‬
‫ذات ليلة سبت من شهر فرباير من العام ‪1954‬م‪ ،‬كان والداي قد‬ ‫الرئوي َ‬
‫مرة منذ وصولنا إىل الواليات املتحدة‪ .‬احلقيقة أنني‬ ‫خرجا بمفردمها ألول ّ‬
‫استخدمت الفعل « ُأ ِص ْب ُت» هبذه الصياغة متعمدً ا ومدركًا ملا قد يعرتي داللة‬
‫الترصيف من غموض؛ ذلك ألنني مل أكن عىل يقني إن كان املرض هو الذي‬
‫دخل‬‫فاظ عىل حياة الصبي‪ُ ،‬أ ِ‬ ‫وللح ِ‬
‫ِ‬ ‫عيل‪ ،‬أم كنت أنا الذي دعوته‪.‬‬ ‫اعتدى ّ‬
‫أي كلمة إسبانية إطال ًقا‪ .‬مل‬‫معزول يف جناح ال يتكلم فيه أحدٌ ّ‬ ‫ً‬ ‫املستشفى؛‬

‫عشت أنا‪ .‬مل أتكلم مع‬


‫ُ‬ ‫دون أن أتذكر مبارشة ذلك الناطق باإلسبانية الذي كان ميتًا‪ ،‬حني‬
‫عشت أنا‪ -‬باإلنجليزية أبدً ا‪ .‬كان يظهر يف‬
‫ُ‬ ‫ذلك الرجل‪ ،‬كالوديو هيمينو ‪-‬والذي مات حني‬
‫ً‬
‫عجول جدً ا حتى يظهر يف السطور األوىل منها‪ .‬مل‬ ‫النسخة اإلنجليزية من القصة‪ ،‬لكنه مل يكن‬
‫يكن ‪-‬إذن‪ -‬لدى اإلسبانية أي نية يف ترك أهلها وراء ظهرها؛ الناس الذين حيملون أصواهتا‬
‫ونحوها؛ أرادت اإلسبانية أن تغرس ذلك ال ُبعدَ من حكايتي مبارش ًة يف رأس ّقرائها‪ .‬وألن النص‬
‫كان (‪ :)historia‬بمعنى أنه مل يكن جمرد قصة‪ ،‬بل تارخيا موازيا لتلك األحداث كام صنعته أنا‬
‫وعانيت بسببه‪ .‬ألنني أقفلت عىل بعض أحداثه‪ ،‬ومل أستطع إخراجها إىل العلن باإلنجليزية‪ .‬لكن‬
‫كانت مذكرايت كام هي كثري من األعامل دليل عىل تشكيل التاريخ يف الوقت ذاته الذي يشكلنا هو‬
‫فيه؛ كام هي دليل عىل قدرة اللغة عىل أن تتكلمنا كام نتكلمها متا ًما‪ .‬لكن وعرب اإلسبانية الفاتنة‬
‫حني سحقت بعض الكلامت ذات املعنى اخلاص‪ ،‬وأطلقت إنذار التوكيد‪ ،‬وجعلت من األرض‬
‫مساحة فسيحة‪ ،‬كان األمر قد تقرر من البداية أن القصة لن تكون قصتي وحدي‪ .‬ثمة شخص‬
‫إنسان‪ ،‬هي نفسها الكلامت األخرية التي سمعها‬ ‫ٌ‬ ‫آخر قد مات‪ .‬كانت الكلامت األوىل التي سمعها‬
‫إنسان آخر‪ .‬الكلامت األوىل واألخرية التي قلتها لصديقي كالوديو كانت كلامت إسبانية‪ .‬كانت‬ ‫ٌ‬
‫الثورة التي مات ألجلها‪ ،‬والتي مل أمنحها حيايت؛ كانت الثورة تعيش يف كلينا‪ ،‬وبإسبانية تشييل‪.‬‬
‫وإن كنت أريد احلصول عىل مجلة إسبانية تقابل اجلملة اإلنجليزية األوىل من املذكرات‪ ،‬فإن األمر‬
‫املوت ألجيل‪ ،‬مل جيدين‪ .‬وهذا املعنى‪ ،‬والفكرة‪ ،‬واجلملة‬
‫ُ‬ ‫سينهي يب ً‬
‫قائل شيئًا قري ًبا من‪ :‬حني جاء‬
‫أريد أن أحتفظ هبا‪ ،‬ولكن يف موقع آخر من النص‪.‬‬
‫ولدت يف اإلسبانية ويف األرجنتني‪ ،‬ويف عمر باكر‬
‫ُ‬ ‫‪ -1‬ها نحن اآلن يف الفصل الثاين من احلكاية‪.‬‬
‫جدً ا تعرضت لالنتقال زمنًا ومكان ًا؛ أعني هنا وصولنا لنيويورك حني كنت يف الثانية والنصف‬
‫من عمري‪ ،‬وأنا ال أفهم كلمة واحدة من اللغة التي أكتب هبا هذه احلاشية‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫الصبي والديه لثالثة أسابيع‪ ،‬إال يف أوقات الزيارة القصرية ومن خلف‬
‫ُّ‬ ‫َير‬
‫زجاجي(((‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ٍ‬
‫حجاب‬
‫عيل والداي ما جرى مرات كثرية‪ ،‬حتى ُخ ّيل إ ّيل أنني أنا من كان‬
‫قص ّ‬ ‫َّ‬
‫يتذكر احلدث بتفاصيله‪ ،‬لكن هذا اخليال تالشى؛ ألنني كنت كالذي وصل‬
‫فأصبح حتت رمحة أولئك الذين شاهدوا العرض‬ ‫َ‬ ‫متأخرا ً‬
‫قليل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫قاعة السينام‬
‫من بدايته‪ )te internaron en ese hospital( .‬لقد أدخلوك املستشفى؛‬
‫هكذا قالتها أمي وهي تنتقي كلامهتا وكأهنا تتكلم اإلسبانية للمرة األوىل‪ ،‬ثم‬
‫أكملت ((((‪« .. )no nos acordamos del nambre‬املستشفى الذي ال أذكر‬

‫‪ -1‬هل انتبهتم لضمري الغائب؟ خلق املسافة! وكأن أدايت‪ ،‬وشبحي‪ ،‬وخمليص كلها اجتمعت يف‬
‫(‪ )distanica‬املسافة‪ .‬ها أنا أحاول أن أعزي نفيس عن حقيقة أن شخصيتي اإلنجليزية املوازية‬
‫هي التي تتحدث دو ًما عام حصل (‪ )el‬ل ُه (ضمري الغائب)‪ ،‬لذلك الغائب‪ )nino ese( ،‬ذلك‬
‫الطفل‪.‬‬
‫مل أكن هناك؛ أعني هنا أنني أنا كاتب هذه الكلامت اإلنجليزية‪ ،‬مل أكن هناك أبدً ا حني بدأ الفصل‬
‫رب عن عزها‬‫تتمتم بأدب‪ ،‬طالب ًة إيامء ًة نحوها‪ ،‬خت ُ‬
‫ُ‬ ‫الثاين من الذكريات‪ .‬هل كانت اإلسبانية‬
‫املايض؟ تبني يل فيام بعد أن اإلسبانية نفسها مل تكن تعلم‪ ،.‬مل تكن تتذكر ما الذي حدث بعد ذلك؛‬
‫وأهنا كانت يتيمة كاإلنجليزية متا ًما‪ ،‬كام شعر ذلك الطفل يف ذلك املشهد‪ .‬سيقول السطر القادم‬
‫والدي مها من أخربين بقية القصة مرات عديدة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أن‬
‫‪ -2‬أظنني استمعت للقصة باإلسبانية‪ ،‬ألنني أتذكرها برسد أمي للحكاية والذي كانت تستخدم‬
‫معه صيغة الزمن املستقبل‪ ،‬الذي كانت هي نفسها تلجأ إليه لتهرب من هويتها التي كانت‬
‫تعيش يف اليديشية‪ ،‬اللغة التي تسمعها حتوم عند رأسها منذ أن كانت طفلة مهاجرة من أوروبا‬
‫إىل األرجنتني‪ .‬كانت رحلتها عىل باخرة من هامبيغ يف أملانيا وحتى األرجنتني‪ ،‬هربت قبل أربع‬
‫سنوات من احلرب العاملية األوىل التي سحقت القارة التي ُولِدَ ْت هبا‪.‬‬
‫وهذه لعبة أستخدمها كذلك يف مذكرايت هذه‪ ،‬وبعض كتابايت الصحفية وروايايت ‪-‬ليست جمرد‬
‫أسلوب كتايب‪ .‬فأنقلب فجأة من لغة إىل أخرى‪ ،‬دون ترمجة؛ دون أدنى مساعدة للقارئ؛ أنت‬
‫مهاجرا يف‬
‫ً‬ ‫وحدك يف هذه الرحلة أهيا القارئ‪ ،‬كام كنت أنا؛ مثل سفينة حمطمة يف عرض البحر؛‬
‫واقعي وأثناء رحلتي مع الكلامت التي ال أفهمها أحيانًا‪ .‬مذاق بسيط يف أن تكون جمرو ًفا بتيار‬
‫لغة إنسان آخر‪ .‬أو ربام ‪-‬يف حال مذكرايت‪ -‬هي وسيلة ليسكن روع اإلسبانية‪ ،‬اللغة التي بدأت‬

‫‪249‬‬
‫اسمه اآلن» ‪ ..‬ثم أخرباين أن اجلناح كان فار ًغا‪ ،‬أبيض اللون‪ ،‬وبار ًدا جدً ا‪.‬‬
‫أخرباين أهنام شهدا دموعي جتري عىل خدي يف كل زيارة؛ وأين كنت أحاول‬
‫والدي قريبني جدً ا وبعيدين‬
‫ّ‬ ‫رأيت‬
‫ُ‬ ‫الزجاجي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أن أملسهم من وراء احلاجز‬
‫جدً ا يف الوقت نفسه؛ كانا يتحدثان يل باإلسبانية بكلامت مل أكن أسمعها‪.‬‬
‫ثم يرحالن عند هناية الزيارة‪ ،‬وأعود وحيدً ا ومعي أمل ُ رئتي‪ .‬أدركت حينها‪،‬‬
‫ما أدركه اآلن‪ ،‬مدى رقتي وهشاشتي‪ ،‬وأن احلياة قد تنتهي يف ملحة برص‬
‫أدركت ذلك وأنا طفل باللغة‬ ‫ُ‬ ‫كنت قد‬
‫كام يكرس عود رقيق من عىل شجرة‪ُ .‬‬
‫اإلسبانية؛ وكل الذين حويل من البالغني كانوا من األطباء وطاقم التمريض‪.‬‬
‫كانوا مجي ًعا يتكلمون معي بلغة ال أفهمها‪ .‬لغة كان عيل فيام بعد تعلمها‪،‬‬
‫اسمها اإلنجليزية‪ .‬فبأي لغة كان جيب عيل الرد؟ وبأي لغة كان يمكنني‬
‫الرد؟‬
‫مضت ثالثة أسابيع‪ ،‬وجاء والداي الستالم ابنهام((( من املستشفى‪،‬‬
‫تسببت هلام‬
‫ُ‬ ‫سليم يف بدنه ولكن مع احتاملية بعض اجلنون يف عقله! لقد‬
‫ً‬
‫فعل حيث مل أكن أستجيب أو أجيب عن أسئلتهام باإلسبانية‪ ،‬كنت‬ ‫بالقلق ً‬
‫أجيب باإلنجليزية فقط ً‬
‫قائل‪« :‬ال أفهمكام» ‪ ..‬تقول أمي أنني كنت أردد هذا‬
‫ولدت‬
‫ُ‬ ‫اجلواب‪ .‬من تلك اللحظة وأنا أرفض نطق كلمة واحدة باللغة التي‬

‫أحداث احلكاية يف الواقع هبا‪ ،‬ولكن ُطلب منها فيام بعد أن جتلس يف ركن ٍ‬
‫ناء عىل الطاولة حتى‬
‫حيني موعد إقحامها يف زحام خيانات الرتمجة‪.‬‬
‫كثريا يف العديد من الكتابات اإلسبانية يف األمريكتني؛ كانوا‬
‫وجدت هذه احليلة مستخدمة ً‬
‫حيقنون الكثري من الكلامت التي تنتمي للغات أخرى يف كتاباهتم دون أي إيضاح يف املتن أو‬
‫اهلامش‪ ،‬جمربين قراءهم أن خيمنوا املعنى من السياق‪ ،‬رافضني أن يفلتوا قبضتهم عليهم‪ .‬يسء‬
‫جدً ا إن مل تكن تفهم هذه اللغة أو تلك؛ ملاذا ال تتعلم لغة جديدة؟!‬
‫‪ -1‬يف هذه اجلملة حاولت أن أجد الوسط‪ ،‬أو التقاطع يف ذهني‪ ،‬وكأنني أحاول أن أصلح بني‬
‫اإلسبانية التي حدث املشهد هبا‪ ،‬وبني اإلنجليزية التي كتب احلدث هبا‪ :‬فهام (والداي) ولكنه‬
‫(ابنهام)؛ كأنني أحاول أن أكون يف كل مواضع نحو اجلملة‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫هبا‪ ،‬وبكل صالبة رأس وثبات وإرصار‪.‬‬
‫مل أنطق بكلمة إسبانية واحدة منذ خروجي من املستشفى‪ ،‬وملدة عرش‬
‫سنوات(((‪.‬‬

‫‪ -1‬ربام أستطيع اآلن أن أبني السبب األكرب الختياري أن تكون اإلنجليزية هي لغة مذكرايت‪.‬‬
‫مقسم إىل ثنائيتني تتناوبان‬
‫«متجها إىل اجلنوب‪ ،‬متطل ًعا إىل الشامل‪ :‬رحلة ثنائي اللغة» وهي كتاب ّ‬
‫ً‬
‫عىل فصوله‪ .‬جمموعة تستهل احلكاية بأين كدت أن أقتل يف االنقالب العسكري يف العام ‪١٩٧٣‬م‪،‬‬
‫وتستمر أحداثها خمرب ًة عن نجايت من القتل يف عدة مواضع حتى جاء قرار النفي‪ :‬الوضع الذي‬
‫يعني أنني سأعيش بعيدً ا عن تشييل‪ ،‬وبالرضورة سأكون ثنائي اللغة‪ .‬أما املجموعة الثانية فتستهل‬
‫احلكاية عند مولدي يف األرجنني‪ ،‬والديت يف اإلسبانية‪ .‬وعند هناية الفصل األول‪ ،‬أي حني‬
‫استبدلت اإلنجليزية باإلسبانية‪ ،‬تستمر احللقة بعرض خطة القدر يل يف أن ينتهي يب األمر جمد ًدا‬
‫ُ‬
‫يف أمريكا الالتينية‪ ،‬حيث لساين األم‪ .‬خترب كيف انتظرين ذلك اليوم الذي كان جيب أن أموت‬
‫فيه لكني مل أمت يف تشييل‪ .‬واألمر املؤمل املشرتك بني املجموعتني هو حصار املوت يل‪ ،‬سواء يف‬
‫طفل‪ ،‬أم يف شوارع سانتياقو حني أصبحت شا ًبا‪ .‬واحلقيقة أنني عشت‬ ‫مشفى نيويورك حني كنت ً‬
‫اللحظات املؤملة من املجموعتني باإلسبانية؛ فلامذا أكتب باإلنجليزية؟‬
‫أعتقد أن السبب أنه كان من األفضل أن أتعامل مع املأساة يف أن أضعها يف اإلطار املحدد‬
‫للمفردات اإلنجليزية‪ ،‬ألحارص األمل‪ ،‬ألرى تلك املشاهد بطريقة غري مبارشة‪ .‬وكانت اإلنجليزية‬
‫أتكشف‪،‬‬‫كاملرآة االفرتاضية التي تريني األحداث من زاوية أخرى‪ ،‬وبإضاءة خمتلفة‪ :‬أن أعرتف‪ّ ،‬‬
‫أجتىل‪ ،‬أتعامل مع املسافة‪ ،‬أعامل نفيس وكأهنا كائن خيايل‪ .‬كنت أحيانًا وأنا أحاول إعادة الكتابة‬
‫باإلسبانية أصاب باإلعياء والغثيان والتعب؛ أقول لنفيس‪ :‬كيف جترأت عىل كتابة مثل هذا؟‬
‫لقد كنت عاريا أمام جنون قادين أن ينتهي يب األمر بمثل هذه األفكار اخلاصة‪ ،‬اخلاصة جدً ا‪.‬‬
‫واجهت خالهلام املوت مبارشة مها احلافة التي ابتدأت عالقتي مع‬ ‫ُ‬ ‫وكان هذان احلدثان اللذان‬
‫أمهات (‪)las maders‬‬
‫ٌ‬ ‫اإلنجليزية عندها‪ ،‬وهي اللغة التي أكتب هبا اآلن‪ .‬كأن حادثتا املوت‬
‫أنجبن سو ًيا لغتي هذه‪ .‬أو ربام كانتا (‪ ،)paders‬ربام كانت الكلامت اإلنجليزية؛ أباء لقحوا عقيل‬
‫هبذه اللغة‪ .‬ومهام يكن جنس اللغة‪ ،‬فاألمر حقيقي فعالً‪ .‬أن يكشف اإلنسان عن أصوله‪ ،‬أن‬
‫يرحتل اإلنسان إىل حيث بدأ كل يشء‪ ،‬لربام نحتاج لسانًا خمتل ًفا ليساعدنا عىل القيام بذلك‪ .‬نحاول‬
‫بديل‪ ،‬نمنحه الثقة لنخربه بالقصة التي ملا نحكها بعد‪ .‬ال يمكن لإلنسان أن‬ ‫شخصا ً‬
‫ً‬ ‫أن نخلق‬
‫يسافر إىل حيث أصوله دون احلاجة إىل مرتجم داخل نفسه‪ .‬وأظن هذه اللحظة كانت هي حلظة‬
‫الصلح املطلق بني اللغتني‪ ،‬اآلن وأنا أكتب هذا الكالم حتديدً ا‪ .‬وحقيقة أنني أكتب اآلن تعدّ ً‬
‫دليل‬

‫‪251‬‬
‫هناك(((‪ ،‬عىل طرف لساين‪ ،‬ويف حدود قدريت عىل الوصول للكلامت‬
‫اإلسبانية‪ ،‬التي ال أعلم كيف تشكّلت‪ ،‬كان ثمة حتد حقيقي يف انتظاري‪:‬‬
‫الناس الذين يتكلمون اللغة وحيرسون جمدها وإرثها وجتربتها‪ .‬كنت أشعر‬
‫بحصار تلك األشياء جلسدي‪ ،‬وأهنا تتطلب كلامت أسميها هبا‪ .‬استحوذت‬
‫اإلسبانية ‪-‬واحلالة تلك‪ -‬عىل مستقبيل‪.‬‬
‫(((‬
‫يف اإلسبانية تعيش كلامت غارسيا لوركا((( التي سأهدهيا ألنجيليكا‬
‫الح ًقا‪« :)verde que te quiero verde( :‬أعشقك وأعشق تلك اخلرضة»‪.‬‬
‫كلامت كويفيدو((( التي كنت سأغنيها لبالدي‪mire( :‬‬
‫ُ‬ ‫كام تعيش يف اإلسبانية‬
‫‪« :)los muros de la patria mia‬وأبرص جدران أرض آبائي تتهاوى»‪.‬‬
‫وكلامت نريودا التي كنت سأخاطب الثور َة هبا‪sude a nacer conmi�( (:‬‬
‫‪« :)go‬اهنض‪ ،‬وتعال لن ُْو َلد سو ًّيا يا أخي»‪ .‬وكذلك كلامت بورخيس التي‬
‫«نمور من‬
‫ٌ‬ ‫سأمهس هبا يف أذن الزمان‪:)los tigers de la memoria( :‬‬
‫مرة أخرى»‪ .‬وسأدرك مرة أخرى‬ ‫الذاكرة‪ ،‬معها أحاول أن أرعب املوت ّ‬
‫أن كلمة «أمل» باإلسبانية (‪ ،)esperanza‬التي خيتبئ بني مقاطعها الصوتية‬
‫الصوت الذي يدل عىل االنتظار (‪)esperar‬؛ كيف يكون هذا التنبؤ باخليبة‪،‬‬
‫ُ‬
‫والدعوة إىل احلذر‪ ،‬أن تأمل ولكن أن ال تأمل! ال تبالغ يف أملك ألن جتارب‬

‫أن اللغتني بدأتا بتبادل الثقة‪.‬‬


‫‪ -1‬يف هذه اللحظة كنت قد أجربت عىل مغادرة الواليات املتحدة واالرحتال إىل تشييل؛ أجربت‬
‫أن أتكلم وأكتب باإلسبانية التي كرهتها‪.‬‬
‫ِ‬
‫فيدركوغارسيا لوركا شاعر وكاتب وفنان أسباين‪ ،‬يعد من أهم أدباء القرن العرشين؛ تويف‬ ‫‪-2‬‬
‫شا ًبا بتنفيذ حكم اإلعدام يف العام ‪١٩٣٦‬م (املرتجم)‬
‫‪ -3‬زوجة الكاتب (املرتجم)‪.‬‬
‫‪ -4‬فرانسيسكو كويفيندو من نبالء أسبانيا‪ ،‬شاعر وكاتب وسيايس‪ ،‬تويف يف العام ‪١٦٤٥‬م‬
‫(املرتجم)‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫أولئك الذين صاغوا هذه املقاطع الصوتية ختربنا أننا انتهينا؛ بأننا قد اعتدى‬
‫التاريخ((( علينا!‬
‫حمل تعجبي فحسب‪ ،‬بل كنت أتع ّلم عربها كيف‬ ‫مل تكن اإلسبانية ّ‬
‫أيضا‪ .‬فمن أيام املايض التي تزورين ‪-‬كنت يف السادسة‬
‫أمتلص من مسؤوليتي ً‬
‫عرشة‪ -‬وكانت املرة األوىل التي أحسست هبا أن اإلسبانية ختاطبني؛ كانت‬
‫قد تسللت إىل عادايت وممارسايت اليومية‪ .‬حدث ذلك يف حصة مادة النجارة‪،‬‬
‫قبيحا غريب الشكل كنت‬ ‫جمسم ً‬‫ً‬ ‫حني حطمت بالرضبة القاضية باملطرقة‬
‫التفت ناحية معلم النجارة‪ ،‬وقلت له‬
‫ُّ‬ ‫قد صنعته؛ سقط متهاو ًيا مبارشة؛‬
‫كتفي‪ :)se rompio( :‬لقد ّ‬
‫تكس!‬ ‫باإلسبانية وأنا أهز ّ‬
‫حتركت شفاه معلمي ووجهه يتم ّعر غض ًبا وقال (‪ ،)se, se, se‬ثم أتبعها‬
‫بقوله‪« :‬كل يشء يف هذه البالد هو كذلك؛ هو الذي حت ّطم‪ ،‬حدث ذلك‬
‫قدرا؛ ملاذا ‪-‬بحق اجلحيم‪ -‬ال تقول إنك أنت الذي كرسته؛ إنك أخفقت‪.‬‬ ‫ً‬
‫أصبحت فجأ ًة‬
‫ُ‬ ‫قلها اآلن‪ ،‬حتمل تبعة عملك ومسؤوليتك أهيا الصبي!» لقد‬
‫خت بسبب حماولتي االختباء وراء شكل حمدد للغة‪.‬‬ ‫ناط ًقا باإلسبانية؛ ُ‬
‫وو ّب ُ‬
‫ابتكارا شخص ًيا؛ هرعت‬
‫ً‬ ‫دارجا وليس‬
‫بشكل عفوي متا ًما‪ ،‬استخدمت شي ًئا ً‬

‫‪ -1‬ال أتذكر أول انتقال لغوي يف حيايت‪ ،‬أي من الال‪-‬لغة إىل اإلسبانية؛ كام ال أتذكر االنتقال‬
‫سبيل ألكتب عن جتربتهام‪ .‬ولكن‬ ‫ً‬ ‫الثاين‪ :‬من اإلسبانية إىل اإلنجليزية‪ .‬لذا كان عيل أن أبتدع‬
‫االنتقال الثالت إىل اإلسبانية هو الذي يستحق أن أعرب عنه‪ ،‬مع أن ذلك ال يعني أنني أعلم متا ًما‬
‫كيف حدث؛ أو أنني كنت واع ًيا لالنتقال أو األحداث التي تسببت به مبارشة‪ .‬كانت جتربة‬
‫طويلة‪ ،‬مغرية‪ ،‬جتاذبني فيها الذهاب واإلياب‪ :‬جتاوزات وجتاوزات لكثري من حدود دماغي‪.‬‬
‫ً‬
‫مستقبل‬ ‫لذا فعند احلديث عنه‪ ،‬فأنا ال أركز عىل حدث واحد؛ إنام حماولة للتسديد واملقاربة ألفهم‬
‫سيكون جمده كله لإلسبانية‪ .‬وكأنه كان يناديني( (�‪llamandome todos esos anos de ex‬‬

‫‪ )ilio‬خالل كل سنوات املنفى‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫هار ًبا داخل اللغة؛ وتوحدّ ت معها(((‪.‬‬
‫أصبحت واع ًيا بعد ذلك بالطرق امللتوية التي من خالهلا تأذن اللغ ُة‬
‫للمخلصني من أبنائها بأن يلقوا مسؤولياهتم من عىل أكتافهم وحيملوها‬
‫اآلخرين؛ كثرة أشكال املبني للمجهول وكثرة توظيفه ‪ ..‬أشكال ختترصها‬
‫مجيعا عبارة «كان من الرضوري أن ُي ْف َعل كذا ‪ »....‬بعد سنوات من رؤية هذا‬
‫االستعامل كدت أن أفقد عقيل‪ .‬فالناس من حويل كلهم‪ ،‬دون كلل أو ملل‪،‬‬
‫يف غرفة مغلقة مليئة بدخان السجائر يناقشون ما الذي يفرتض أن يكون يف‬
‫ليغي من حاله! لكن ومع مزيد من‬ ‫كل يشء دون أن حيرك أحد منهم ساكنًا ّ‬
‫التعمق يف اللغة‪ ،‬تع ّلمت أن هذه التعقيدات واالحتامالت واألنامط والطرق‬
‫يمكن هلا أن تكون فضيلة ومزية‪ ،‬ومصدر غنى للغة نفسها‪ .‬لقد تأتى يل أن‬
‫أستكشف نظام األفعال يف اإلسبانية والذي يعدّ األغنى بني اللغات يف العائلة‬
‫الكربى‪ :‬اهلندو‪-‬أوروبية‪ .‬كام أحببت االستخدام السائل ملفهوم الزمن‪،‬‬
‫والذي يبدو كاللعبة يف اإلسبانية‪ .‬أحببت اجلمل الرشط ّية يف اإلسبانية؛ كأن‬
‫اجلمل الرشطية تعيش يف األذهان حال ًة من النقاء‪ ،‬بعيدً ا عن حاالت الزمن‬
‫حيل عليها بعد؛ ذلك الزمن املع َّطل داخل حالة االنتظار‪ ،‬الزمن‬ ‫الذي ّملا ّ‬
‫الذي حييا يف األذهان‪ ،‬وإن مل تسنح له الفرصة بأن يكون جز ًءا من الوجود‬

‫‪ -1‬هنا جاءت اإلنجليزية لنجديت! إن حضور هذه اللغة يف داخيل ‪-‬اآلن ومن قبل‪ -‬مل يكن‬
‫يأذن يل أن أختبئ كام أشاء‪ ،‬أو كام استطاع الرفاق اآلخرون‪ .‬ال أقصد هنا ‪-‬كذلك‪ -‬أن الناطقني‬
‫باإلنجليزية أقل مهارة يف املراوغة عند مواجهة املسؤولية من أولئك الناطقني باإلسبانية‪.‬‬
‫فكسينجر (السيايس واملفكر األمريكي) يتكلم بمهارة لغته األجنبية ‪-‬اإلنجليزية‪ -‬كام يفعل‬
‫بيونشيه (الديكتاتور التشييل) باإلسبانية ليتجنبا مواجهة هتم اجلرائم‪ ،‬التي ُيقال إهنام ارتكباها‬
‫ضد اإلنسانية‪ .‬أن تكون ثنائي اللغة ال يقلل من هول اخلوف الذي يتعرض له اإلنسان‪ .‬ليس‬
‫ثمة عالقة بني لغة معينة وكسل أو فعالية الناطقني هبا؛ كام أنه ليس ثمة عالقة بني أي لغة وبني‬
‫احلث عىل الكذب أو الصدق‪ .‬لكن إن كان لدى املرء نزعة إىل الكذب‪ ،‬فإن قدرته عىل الكذب‬
‫تتضاعف إن كان يتكلم لغتني‪ ،‬وهي رضبة عنيفة يف وجه احلقيقة‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫احلقيقي عىل خط التاريخ‪ .‬يطارد هذا اخليار املحتمل لعوامل متخ ّيلة‬
‫ّ‬ ‫املادي‬
‫ّ‬
‫يف تلك احلقيقة الصلبة يف قلوبنا‪ ،‬والعالقة يف سجنها هناك يف عبارات كـ‬
‫«اليوم» و»اآلن»((( ‪..‬‬
‫فعل ملا كان حيدث لعقيل‪ .‬كانت عملية‬ ‫ويف زحام هذا كله‪ ،‬مل أكن مدركًا ً‬
‫دقيق ًة‪ ،‬وماكرة‪ ،‬ومتسرتة؛ فقد تسللت الرتاكيب واملفردات إىل وعيي بخفة‬
‫وبراعة فأحالتني دون أن أشعر إىل شخص نشط مع كلتا اللغتني‪ .‬رغم أنني‬
‫مل أكن أسمح منذ البداية للغتي اجلديدة بأن تقتحم أي حوار مع أختها‬
‫األقدم‪ .‬لقد كنت أرفض بعناد أن أقارن بني املزايا املشرتكة بينهام‪ ،‬فام الذي‬
‫يمكن أن تقدمه إحدى اللغتني وال تستطيعه األخرى‪ .‬كانت احلالة وكأن‬
‫ومعزول عن الذي استوطنته األخرى‬ ‫ً‬ ‫كل لغة استوطنت مكانًا خمتل ًفا متا ًما‬
‫يف دماغي‪ .‬أو ربام وكأنام كنت أنا نفيس «إدواردين(((» اثنني‪ ،‬واحدٌ لكل‬
‫منفصل عن شخصيته؛ كل‬ ‫ً‬ ‫لغة؛ كل منهام يعيش بمعزل عن عامل اآلخر‪،‬‬
‫منهام يتجاهل صاحبه‪ ،‬وخيشى إفساده له‪ .‬مل أحاول يو ًما ‪-‬بل حتى إنني مل‬
‫أفكر يف‪ -‬أن أزاوج بينهام‪ :‬فلربام كان يف ذلك حماولة لقياس أدائهام وخلق‬
‫منطقة حمايدة هلام للنظر يف أي ظاهرة سو ًيا‪ :‬مساحة مشاعة بينهام ليسكنا‬
‫فيها داخيل‪ .‬كان ذلك سيشكل اعرتا ًفا ال رجعة فيه بأين «ثنائي اللغة» وكان‬
‫صغريا عىل فهمها‬
‫ً‬ ‫عيل با ًبا من أسئلة اهلوية‪ ،‬التي كنت‬ ‫ذلك بدوره سيفتح ّ‬

‫‪ -1‬لربام كانت اإلنجليزية هي اللغة التي كتبت هبا مذكرايت‪ ،‬لكن ‪-‬ودون شك‪ -‬مجالياهتا‬
‫فعل‪ ،‬ولكن كام كان‬ ‫إسبانية‪/‬التينية‪ .‬وكأهنا حالة لغوية يف الظل لواقع حيايت‪ ،‬ليس كام حدث يل ً‬
‫شخص آخر متا ًما‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫من املمكن أن حيدث كذلك‪ .‬كأهنا حيايت‪ ،‬التي تبدو مثل هوامش ملتن كتبه‬
‫نفخر هبوامشنا كام لو أهنا كانت اختيارنا احلر؛ كام لو‬
‫ُ‬ ‫شخص أكثر قوة وسلطة‪ .‬نحن الالتينيني‪:‬‬
‫ٌ‬
‫أن التاريخ مل يفرض علينا هذه اهلامشية‪.‬‬
‫‪ -2‬خالل هويس بأن أكون أمريك ًيا والتخيل متا ًما عن ماضيي اإلسباين‪ ،‬كنت قد أسميت نفيس‬
‫اسم جديدً ا‪ ،‬إدوارد‪ .‬ما زال أصدقائي القليلون من مرحلة املراهقة ينادونني إد (اختصار إدوارد)‪.‬‬
‫ً‬

‫‪255‬‬
‫وأقل حكمة من أن أواجهها‪ :‬من هذا الذي يتكلم اإلسبانية؟ أهو الشاب‬
‫يتغي أبدً ا برصف النظر عن‬
‫نفسه الذي يتكلم اإلنجليزية؟ هل هناك ما ال ّ‬
‫اللغة املستخدمة؟ وأي اللغتني أكثر أهل ّي ًة لتخرب عن قصة ما؟ ثم كيف يتغري‬
‫اجلسد يف تفاعله حني التبديل من لغة إىل أخرى؟ أهو جسد خمتلف؟ ظلت‬
‫هذه األسئلة تزورين لسنوات عدة‪ ،‬وأنا أحاول إنكار وجودها؛ اآلن فقط‬
‫أعرتف أهنا هنا(((‪ .‬أسئلة لو تعرضت هلا يف بداية رحلتي نحو «ثنائيتي»‬
‫رافضا أن يكون هلا صوت‬ ‫ً‬ ‫لكنت تنازلت‪ ،‬أو اغتلت اإلسبانية جمد ًدا‪،‬‬
‫لمت إسبانيتي بذلك ومل متانع‪ ،‬بل تعاونت معي؛ كانت سعيدة‬ ‫يسمع‪ .‬و َع ْ‬

‫‪ -1‬غالب هذه الفقرة مل يكن مكتو ًبا يف النسخة األصل‪ .‬لكن صديقي جون غلوسامن‪ ،‬املحرر‬
‫لدى النارش (فرار‪ ،‬سرتاس)‪ ،‬كان يؤمن أنني أحتاج يف مذكرايت أن أكتب عن بدايات شعوري‬
‫بأين ثنائي اللغة‪ ،‬بدايات حماولة التعايش مع ذلك الواقع‪ .‬متى انترصت اإلسبانية؟ متى تنازلت‬
‫اإلنجليزية؟ كيف ‪-‬بحق اجلحيم‪ -‬حصل كل ذلك؟ وما كتبته حينها جوا ًبا عىل تساؤله املرشوع‬
‫كان بحجم ما استطعت أن أدرك‪ ،‬فقد كان األمر بعيدً ا وكان جوايب عىل قدر شجاعتي وقدريت‬
‫عىل التعمق يف ذلك املايض‪ .‬بعض األسئلة خطري جدً ا؛ وكأن عشيقتي تسألني إن كانت عالقتي‬
‫احلميمية معها ألذ وأفضل من تلك التي أمارسها مع زوجتي الرشعية! كان الصلح بني اللغتني‬
‫وكنت عىل حذر من أي يشء قد يعكر صفو ذلك‬ ‫ُ‬ ‫قابل للكرس يف أي حلظة‪.‬‬ ‫هشا ً‬ ‫رقي ًقا جدً ا‪ً ،‬‬
‫الصلح اهلش‪ .‬كان ثمة شخص آخر داخيل يقرر موعد حضور اإلنجليزية وموعد حضور‬
‫اإلسبانية‪ .‬غال ًبا ما كان هذا التوقيت ُي َق َر ُر يل‪ ،‬وال أقرره أنا‪.‬‬
‫حني أحاول اإلجابة عىل هذا السؤال‪ ،‬الذي يوحي إ ّيل أنا‪ ،‬أقول‪ :‬أكتب باإلسبانية إن كنت أكتب‬
‫لـ (‪ )Revista Proceso‬يف املكسيك؛ وأكتب باإلنجليزية إن كنت أكتب للواشنطن بوست‪.‬‬
‫أتكلم اإلسبانية مع طالب الدراسات العليا؛ وأستخدم اإلنجليزية مع طالب املرحلة اجلامعية‪.‬‬
‫ولكن هناك مواطن أو حلظات عزلة خالل أيامي‪ ،‬وحني أكون وحيدً ا إال من( (�‪mis dos idi‬‬
‫أي واحدة ستنال اهتاممي ً‬
‫كامل‪ .‬وأنا ال‬ ‫‪ ،)omas‬فأحتاج أن أقرر وحدي أ ّي ًا منهام سأستخدم؛ ّ‬
‫أحاول أن أسأل نفيس ‪-‬عند ذلك‪ -‬عن كيفية توصيل لقرار ما‪ ،‬أو كيف ختطف إحدامها برسعة‬
‫شديدة أصابعى لتُشغَلها عىل لوحة املفاتيح؛ أو حتى كيف تأرس ذهني ببطء وسكينة وأنا أحدق‬
‫يف األشجار خالل امليش‪ .‬ال أريد أن أعرف‪ ،‬وال أريد ترشي ًعا يربر تلك اللحظات؛ ال أريد إال أن‬
‫بدل من التحديق داخله‪.‬‬ ‫أكون تلقائيا؛ أريد أن أستكشف العمق الذي أحب‪ً ،‬‬

‫‪256‬‬
‫أن استوطنت رأيس مرة أخرى بأي حال؛ مل حتاول قط لفت األنظار‪ .‬مل‬
‫حتاول بغباء أن تتبجح بنرصها حني تظهر إحدى مفرداهتا فجأة داخل مجلة‬
‫إنجليزية‪ ،‬عند عدم وجود أي مقابل إنجليزي يسعف املوقف‪ .‬مل تطلب مني‬
‫إسبانيتي أن أناقش سبب حاجتي لتلك الكلمة حتديدً ا رغم وجود مستودع‬
‫ضخم لإلنجليزية عىل لساين‪ .‬مل تسألني‪ :‬ملاذا كانت تلك املفردة أو تلك‬
‫غري قابلة للرتمجة أو االستبدال؟ لقد تسللت إسبانيتي إىل داخيل‪ ،‬وترصفت‬
‫بحكمة حتى متكنت مني متا ًما‪ .‬ببساطة شديدة‪ ،‬لقد ن ََم ْت‪ ،‬ثم ن ََم ْت‪ ،‬ثم‬
‫ن ََم ْت(((‪.‬‬

‫‪ -1‬هذا هو القدر الذي أعرفه‪ .‬وهي ما زالت تنمو‪ ،‬مثل اإلنجليزية متا ًما‪ .‬حتى حني ال أستخدم‬
‫إحدامها‪ ،‬حني تكون إحدامها عىل هامش حيايت متا ًما‪ ،‬تواصل هذه اللغة ‪-‬سواء أكانت اإلنجليزية‬
‫نموها كام تواصل سلطاهنا‪ .‬ويف هذه اللحظة حتديدً ا‪ ،‬وأنا أحاول أن أعرب وأكتب‪،‬‬
‫أم اإلسبانية‪ّ -‬‬
‫حتجم خيارات‬‫هتمس إسبانيتي يل باقرتاحات وتوجيهات؛ ترمي بالقوايف عىل طريقي حماولة أن ّ‬
‫منافستها‪ .‬أما أنا فكأنام خلقت بينهام لغ ًة‪ ،‬ليست هذه متا ًما وال تلك‪ ،‬ولكنها يشء خمتلف إىل حد‬
‫ما (‪ .)ambos creciendo‬أقسم إنه حلق‪ ،‬أو أرجو ذلك‪.‬‬
‫‪Juro que es cierto‬‬

‫‪Mas bien: espero que sea cierto‬‬

‫‪257‬‬
‫ّ‬
‫اليدشية‬ ‫لغتي‬
‫(((‬
‫ليونارد مايكلز‬

‫بارييس‬
‫ّ‬ ‫كنت أميش بمحاذاة شارع مالور((( (‪ )rue Malher‬ذات صباح‬
‫يف السبعينيات‪ ،‬وإذا بمجموعة من الشيوخ يتجادلون رافعني أصواهتم‬
‫فعل معرفة موضوع حديثهم‪ .‬لكن مستوى‬ ‫وملوحني بأيدهيم‪ .‬أردت ً‬
‫فرنسيتي اخلاص بالدراسات العليا كان يساعدين فقط أن أقرأ لكتّاب‬
‫عظامء‪ ،‬بيد أنه مل يكن جيدً ا إىل احلد الذي يؤهلني إىل الدخول يف حديث‬
‫احلي‪ .‬حني أصبحت بموازاة هؤالء الشيوخ‪،‬‬ ‫أو نقاش حا ٍم كهذا مع ب ّقال ّ‬
‫فهمت ما يقولون‪ .‬يا إهلي لقد اكتسبت‬
‫ُ‬ ‫شعرت بصدمة وهبجة عظيمتني‪ .‬فقد‬
‫املسمى الفرنسية املحكية‪ .‬ثم كانت الصاعقة! كان الشيوخ كام‬
‫ّ‬ ‫ذلك اليشء‬
‫أدركت الح ًقا يتجادلون باليدش ّية‪.‬‬
‫شخيص وبشدة‪ ،‬وإن كان غري‬
‫ّ‬ ‫تباطأ املشهد وكأنه حلم‪ .‬لقد بدا وكأنه‬

‫‪ -1‬ليونارد مايكلز (‪ )Leonard Michaels‬روائي وكاتب قصة قصرية ومقالة أمريكي هيودي‪.‬‬
‫نال درجة الدكتوراه يف األدب اإلنجليزي من جامعة ميتشيغان‪ ،‬ثم انتقل إىل كاليفورنيا ليقيم‬
‫هبا ويعمل أستاذا يف جامعة كاليفورنا بريكيل‪ .‬بعد تقاعده من اجلامعة كان دائم االنتقال بني‬
‫كاليفورنيا وإيطاليا وتفرغ للكتابة‪ .‬له عدة كتبه منها‪« :‬أماكن للذهاب» و«كنت سأنقذهم لو‬
‫استطعت» و«ألشعر هبذه األشياء» وجمموعات قصيية أخرى‪ .‬تويف ليونارد يف مايو من العام‬
‫‪٢٠٠٣‬م‪.‬‬

‫‪ -2‬شارع قصري يف منطقة (‪ )Le Marais‬التارخيية يف باريس‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫شخيص‪ .‬لقد د ّبت احلياة يف املعنى يف داخيل‪ .‬مل أكن أترجم ما يقولون؛ مل‬
‫ّ‬
‫نور أمامي‪ ،‬لقد حصل يش ٌء ما‪ ،‬وإن مل يكن ثمة يش ٌء‬
‫أفعل شي ًئا أبدً ا‪ .‬أضاء ٌ‬
‫حصل!‬
‫يناقش الفالسفة «الفهم» وكأنه وظيفة ذهنية مستقلة‪ ،‬يف حني يتكلمون‬
‫اليوم عن نظريات املعرفة وعلوم اإلدراك‪ُ .‬ينظر إىل «الفهم» يف اختبارات‬
‫الذكاء اآلي كيو((( (‪ )IQ Tests‬بوصفه موضوع املناظرة حول قيمة ما‪ .‬كام‬
‫نعرف الفهم بعفوية عرب وسائل غري حمصورة يف حياتنا اليومية‪ .‬وحني جعلني‬‫ّ‬
‫«الفهم»‪ ،‬يف احلادثة الباريسية‪ ،‬أتساءل حول مقولة ديكارت املشهورة‪« :‬أنا‬
‫أفكر‪ ،‬إذن أنا موجود»؛ هل كانت تلك املقولة ح ّقا يف حاله فقط‪ ،‬ال يف حايل‬
‫أنا؟ فأنا أفضل قول‪« :‬أنا موجود‪ ،‬إذن أنا أفكر»؛ وأزيدُ عليها‪« :‬إذن أنا‬
‫أتكلم»‪.‬‬
‫مل أكن أتكلم إال اليدش ّية حتى بلغت اخلامسة‪ .‬وكانت كافية لتؤسس‬
‫تفكريي‪ ،‬وتكون رفيقته اخلالدة‪ .‬ثم تعلمت اإلنجليزية التي حاولت أن‬
‫أحاكي من خالهلا طريقة تفكري ناطقيها‪ .‬استمر حديس وصورة تعبريي‬
‫يديش ّيا إىل حد ما‪ .‬أستطيع بيان ذلك باملقاربة عرب املثال‪ ،‬هبذه النكتة مثالً‪:‬‬
‫ب‪ :‬ما هو اليشء األخرض‪ ،‬الذي يع َّلق عىل اجلدار‪ ،‬ويص ِّفر؟‬
‫حل ْ ُ‬
‫ا َ‬
‫الطالب‪ :‬ال أدري‪.‬‬
‫احلرب‪ :‬سمكة الرنكة‪.‬‬
‫الطالب‪ :‬لربام كانت سمكة الرنكة خرضاء‪ ،‬ولربام علقت عىل‬
‫اجلدار؛ لكنها ال تص ّفر قط ًعا‪.‬‬

‫‪ -1‬اختبارات تصنف الناس حسب مستوى ذكائهم‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫احلرب‪ :‬إذن هي ال تص ّفر‪.‬‬
‫هذه النكتة موروثة عرب اليدشية‪ ،‬وليست يف أي لغة أخرى‪ .‬إهنا مضحكة‪،‬‬
‫أيضا مثل كل قصص كافكا‪ .‬هنا جيب أن أعرتف أنني ال‬ ‫وليست مضحكة ً‬
‫علم لدي عن باقي اللغات‪ .‬لربام كانت هناك نكات مشاهبة هلذه يف الروسية‬
‫أو األملانية‪ ،‬لكن هذه اللغات وغريها ال متتلك تارخيًا يشبه تاريخ اليدشية‬
‫نجت عرب القرون رغم تقتيل أهلها وشتاهتم‪.‬‬
‫حيث ْ‬
‫أشار العامل والناقد بينجامني هارشاف((( يف كتابه «املعنى يف اليدشية» أن‬
‫أي معنى حمدد‪nu, epes, tockeh,( :‬‬ ‫اللغة حتتوي عىل مفردات ال حتمل ّ‬
‫‪ .)shoyn‬مفردات تقتحم الكالم لتعرب عن الشعور‪ ،‬وكأهنا تنهيدات‪ .‬تدل‬
‫هذه املفردات دون معنى حقيقي هلا عىل أشياء مثل‪ :‬جدً ا‪ ،‬وح ًقا‪ ،‬وحسنًا‪.‬‬
‫كام يبني هارشاف أن يف اليدش ّية مفردات وتعبريات ذات داللة ب ّينة لكنها‬
‫عص ّية عىل الرتمجة‪ .‬شفافة‪ ،‬وسهلة الفهم‪ ،‬لكنها واألمر رس بيننا ليست ذات‬
‫منطق خيدم بناء اخلطاب‪ ،‬بل وسيلة كي ختدم اليدش ّي ُة الكال َم من خالهلا‪.‬‬
‫تكون هذه املفردات بني الكائن الذي حيمل اسم املتكلم‪ ،‬وبني الذي يتكلم‬
‫موضوعي‪ .‬ومن األمثلة عىل هذه التعبريات أن‬‫ّ‬ ‫مع اآلخرين فعل ًيا بشكل‬
‫أقول‪ :‬إن حاصل رضب العدد مخسة يف مخسة هو مخسة وعرشون‪ ،‬وهي ال‬
‫تص ّفر(((!‬
‫دائم يف إنجليزيتي‪ .‬أفكر هذه اللحظة وأنا‬ ‫أظن أن اليدشية موجودة ً‬
‫أكتب باإلنجليزية بتيارات من اليدشية اخلفية جتري من حتتي‪ .‬إن َأن َْص ُّت‬
‫فعل لسمعتها‪ .‬إن عبارة هذه اللحظة (‪ )this moment‬بنطقها‪ ،‬مقطع‬ ‫ً‬

‫‪ -1‬بينجامني هارشاف عامل هيودي باللغات واآلداب‪ ،‬وكان قد عمل أستاذا يف عدة جامعات‬
‫عاملية‪ ،‬ألف الكثري من الكتب باإلنجليزية والعربية‪.‬‬
‫‪ -2‬متثيل بالنكتة السابقة (احلرب والطالب والسمكة)‪.‬‬

‫‪260‬‬
‫صويت مشدد يتبعه آخران مهمالن‪ .‬وتتجىل هذه العبارة وكأهنا سمكة‬
‫الرنكة‪ ،‬معلق ًة عىل حبل ُم ْث َق ٍل بعبارة «أكتب باإلنجليزية»‪ ،‬ثم جييء‬
‫اإلعالن‪« :‬أفكر بتيارات اليدشية اخلفية جتري من حتتي»‪ .‬انتهت اجلملة‬
‫فعل صوت تيارات من اليدشية‪ ،‬وربام‬ ‫وهي هتز كتفيها؛ فلربام كنت أسمع ً‬
‫كتب هذه اجلملة أي إنسان يعرف‬ ‫كنت ال أسمع شي ًئا‪ .‬كان من املمكن أن َي َ‬
‫أي أمم ِ ّي((( َح ِ‬
‫سن الرتبية‪ .‬هناك الكثري‬ ‫اإلنجليزية؛ ولكن ربام لن يكتبها ُّ‬
‫من الدراما يف اجلملة‪ ،‬ولربام كانت معكرة للصفو مثلام تفعل املوسيقى يف‬
‫املطاعم واملصاعد‪ .‬تُلز ُم هذه اجلملة قارئها أن يبقى يف حالة تالطم‪ ،‬وكأن‬
‫ما قلتُه معقد جدً ا‪ ،‬شعور يتطلب كتابة نوتة غنائية‪ .‬هناك نوع من احلميمية‬
‫القرسية مع القارئ؛ أفرتض أهنا محيمية هيودية يف جنسها‪ .‬ويف كتابات شون‬
‫جنسا آيرلند ًيا من هذه احلميمية‪.‬‬
‫أوكييس األمجل‪ ،‬ستجد ً‬
‫(((‬

‫يقول فيتغنشتاين يف مباحثه الفلسفية‪« :‬أليست هناك ألعاب‪ ،‬نضع‬


‫قواعدها أثناء مضينا يف اللعب‪ ،‬وهذه منها»‪ .)Nu( .‬أي ناطق لليديشية‬
‫يعلم ذلك متا ًما‪ .‬ومن أفضل األمثلة عىل تلك األلعاب التي نلعبها ونضع‬
‫قواعدها يف الوقت نفسه مقاالت مونتني(((‪ ،‬ذلك الشكل الذي يقول الناس‬
‫دائم يتكلمون مثل‬
‫أنه ابتدعه‪ )Shoyn( .‬يا له من مبدع كبري‪ .‬كان اليهود ً‬
‫مقاالت مكتوبة‪ .‬إن خدعة مقاالت مونتني بأهنا ذات عالقة وقعت مصادفة‬
‫املنطق‪ .‬كان‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫الشكل هو‬ ‫مع اجلدل املنطقي املتتابع؛ كانت خدعة مقنعة‪ .‬وكان‬

‫األممي هو أحد أوصاف اليهود لكل من هو غري هيودي‪ ،‬وهم يستخدمون الكثري من املفردات‬ ‫ّ‬ ‫‪-1‬‬
‫لتدل عىل ذات املعنى لكنها تتفاوت يف سلبية أو إجيابية دالالهتا وإحياءاهتا (األغيار مثاال)‪.‬‬
‫‪ -2‬شون أوكييس كان كاتبا اشرتاكيا إيرلنديا‪ ،‬أول من ألف مرسحية تتكلم عن الطبقة العاملة يف‬
‫دبلن (تويف ‪١٩٦٤‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬ميشيل دي مونتني كاتب فرنيس مؤثر يف عرص النهضة ويعد رائد كتابة املقالة احلديثة يف أوروبا‬
‫(تويف ‪١٥٩٢‬م)‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫منطق املقاالت يشكله عقل مونتني وشعوره؛ ومل يشكله ادعاء دقة التسلسل‬
‫املنطقي‪ .‬يقول مونتني أن مقاالته تشاهبه متا ًما‪ .‬تقول صديق ٌة من األمميني عن‬
‫الكتابات التي مل حتبها‪« :‬مل يكن ثمة أحد يف ذلك املنزل»‪ .‬ال حيتاج املرء أن‬
‫رمت‬
‫يكون من ذرية اليهود مثل مونتني وفيتغنشتاين ليدرك املعنى الذي ْ‬
‫إليه‪.‬‬
‫مل أتعلم اإلنجليزية حتى بلغت اخلامسة ألن أمي مل تكن تتكلم‬
‫اإلنجليزية‪ .‬سافر أيب عائدً ا إىل بولندا ليبحث عن زوجة له‪ .‬ثم عاد‬
‫وبصحبته فتاة ذات سبعة عرش ربي ًعا‪ ،‬هلا جديلة سوداء طويلة‪ .‬وألنه ظن أن‬
‫الرجال كانوا سيتحرشون هبا‪ ،‬منعها والدي من أن تذهب حلضور دروس‬
‫اإلنجليزية‪ .‬تعلمت أمي اإلنجليزية من مذاكرهتا دروس االبتدائية معي‪.‬‬
‫أما أنا فكنت قبل بلوغ اخلامسة وبعدها عرض ًة ألمراض الصدر‪ ،‬مما جعلني‬
‫طريح فراش املرض لكثري من الوقت يف شقتنا الصغرية رشق منهاتن حيث‬
‫متكنت من لعب الكرة أو‬
‫ُ‬ ‫ال يتكلم الناس إال اليدشية‪ .‬مرت سنوات حتى‬
‫ركوب الدراجة اهلوائية جمد ًدا‪ .‬يف رصاعات اللعب مع األطفال‪ ،‬كانت أي‬
‫فتاة قادرة عىل أن تربحني رض ًبا‪ .‬كنت سهل االنقياد‪ ،‬حيث مل يكن يل طاقة‬
‫اليديش‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وال رسعة تساعدين‪ .‬وكان كل ما أملكه لساين‬
‫ظلت اليدشية عا ًَلا ً‬
‫كامل يل لزمن طويل‪ .‬ويف هذا العامل ال جتتمع العائلة‬
‫لتناول بعض املرشوبات الكحولية واحلديث قبل العشاء‪ .‬ال مرشوبات‬
‫طول‪ :‬نقد‪ ،‬وحترش‪ ،‬وتبادل‬ ‫كحولية‪ ،‬بل جمرد حديث طويل جدً ا‪ ،‬مثل اليوم ً‬
‫آراء‪ ،‬وغيبة‪ ،‬ونكتة‪ .‬وقد يكون حدي ًثا كئي ًبا أحيانًا‪ .‬قد تبدو األحاديث قبل‬
‫أمرا غري مستساغ‪ .‬كانت املرة األوىل التي استمتعت بحديث مثل‬ ‫العشاء ً‬
‫هذا يف جامعة ميتشيغان قرابة العام ‪1956‬م‪ .‬كان من عاديت حينها أن أزور‬
‫صدي ًقا يل يف شقته بعد حضور املحارضات يف اجلامعة‪ .‬كان كالسيك ًيا‪،‬‬

‫‪262‬‬
‫يش ّغل املوسيقى عىل جهاز الفونوغراف‪ ،‬موسيقى كالسيكية لعازف واحد‬
‫وآلة واحدة‪ .‬وحني يقرتب موعد خروجنا للعشاء‪ ،‬كنت أشعر بحامسة‬
‫وانتشاء بسبب احلديث واملوسيقى الرائعة‪ .‬وكنت غال ًبا ما أكون َث ِم ًل‪،‬‬
‫عيل كذلك‪ .‬إن احلديث مع مجاعتي من اليهود ليس‬ ‫وهي جتربة جديدة ّ‬
‫له سامت طقوسية‪ ،‬وال اشرتاطات مجالية‪ .‬مل أتعلم يو ًما كيف أصقل تلك‬
‫املهارات التي قد تفصل اإلنسان عن ذاته‪ ،‬حتس ًبا ألي احتامل إهانة قد يسببها‬
‫لآلخرين‪ .‬واألمر حقيقة أن كل يشء كان يعترب شخص ًيا يف جمتمعي‪.‬‬
‫تعلمت يف دائرة احلديث داخل عائلتي أن خارج عامل الطفولة اليدش ّية‬ ‫ُ‬
‫ٍ‬
‫أعامل‬ ‫يوجد برابرة ليس لدهيم الكثري ليتفوهوا به‪ ،‬لكنهم قادرون عىل أداء‬
‫كأعامل السباكة‪ .‬هؤالء الربابرة مغرمون باحليوانات والذهاب إىل السباحة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫كل مشاكلهم‬ ‫كام حيبون رشب اخلمر واجلدال والشجار‪ .‬كان مفتاح حل ِّ‬
‫هو أن (‪ )hut geharget yiddin‬يقتلوا اليهود‪ .‬وكان من املستحيل جتاوز‬
‫تعلمت أن أقوم بأعامل السباكة‬‫ُ‬ ‫هذه األخرية‪ .‬ومثلام يفعل الناس مجي ًعا‪،‬‬
‫رت كثريا‪ .‬لكن كل يشء آخر يف احلياة‪،‬‬ ‫وس ِك ُ‬‫وامتلكت كل ًبا وق ّط ًة‪َ ،‬‬
‫ُ‬ ‫بنفيس‪،‬‬
‫واإلنجليزية أوهلا‪ ،‬بدا وكأنه ابتعاد دون إدارك عن فكرة قتل اليهود‪ ،‬الفكرة‬
‫شاعر عىل قناة البي‬‫ٌ‬ ‫التي ناولتني إياها يدش ّيتي يف الطفولة املبكرة‪ .‬حني قال‬
‫قلت (‪ )epes‬وما‬ ‫يب يس إنه يريد رمي اليهود بالرصاص يف الضفة الغربية‪ُ ،‬‬
‫اجلديد؟ إن صالحه وحريته يف أن يقول ما يريد كلها تأذن له أن يؤمن بأنه‬
‫جمرد حديث باإلنجليزية‪ ،‬اللغة التي تشكّل معادا ُة السامية قواعد ِ‬
‫نحوها‪ ،‬أو‬
‫كام يقول فيتغنشتاين‪« :‬شكل من أشكال احلياة»‪ .‬لكن وعىل أية حال هناك‬
‫وضوحا يف اآلونة األخرية‪ .‬األمر اجلديد أن عملية قتل‬ ‫ً‬ ‫أمر جديد‪ ،‬أو أكثر‬
‫الناس حال ٌة هستريي ٌة‬
‫َ‬ ‫شكل جديدً ا وهو العزل‪ .‬تأخذ‬ ‫ً‬ ‫اليهود بدأت تأخذ‬
‫التارخيي القديم يف كره اليهود أصبح حمل نقاش‬ ‫ّ‬ ‫حني يشعرون أن حقهم‬

‫‪263‬‬
‫ووجهة نظر‪ .‬وحماولة رضب األمثلة ستكون مثل النبش يف عش الدبابري‪.‬‬
‫يمكننا احلديث عن الفرنسية دون احلاجة إىل نقل محولتها ومحولة أهلها‬
‫الثقيلة من رمزيتها التارخيية‪ ،‬والثقافية‪ ،‬والوطنية‪ .‬باملقابل يستحيل احلديث‬
‫عن اليدشية مثل ذلك إال يف النطاق العلمي الضيق‪ ،‬ومع تقييدات كثرية‬
‫متنع احلديث عن تفاصيل املامرسة اللغوية‪ .‬ازدهرت اليدشية يف عدة دول‪،‬‬
‫مع أنه يمكن احلديث ‪-‬نظر ًيا فقط‪ -‬عن حدود جغرافية هلا‪ .‬وأصل معنى‬
‫كلمة اليدشية بحسب بعض الآلراء هو «بال حدود»‪ .‬وبحسب رأي آخر فإن‬
‫جيل‪.‬‬
‫«شعب بال أرض»‪ ،‬وهنا تتضح تلك احلدود الال مرئية بشكل ّ‬ ‫ٌ‬ ‫معناها‬
‫هناك ازدراء متبادل بني اليهود الشموليني واليهود اليهود(((‪ .‬وهي معضلة‬
‫قديمة فقد انقلب اليهود عىل اليهود يف زمن حماكم التفتيش اإلسبانية‪ .‬وعند‬
‫التاجر أنطونيو النرصاين اجلديد‪ ،‬وشايلوك‬
‫َ‬ ‫شكسبري يف «تاجر البندقية» نجد‬
‫اليهودي املؤمن بالعهد القديم‪ .‬كان رطل اللحم يف احلكاية مبالغة غريبة‬
‫للرتميز للختان‪ ،‬والذي كانت وظيفته تذكري أنطونيو بأصوله وهو القائل‪:‬‬
‫«ال أعلم يف احلقيقة مل َ أنا حزي ٌن جدً ا»‪.‬‬
‫يف أول حضور يل للعبة البيسبول‪ ،‬وأثناء متارين اإلمحاء قبل البدء رمى‬
‫الالعب العظيم هانك غرينبريغ الكرة باجتاه اجلمهور الواقف تشجي ًعا له‪،‬‬
‫والذين كان أكثرهم من املراهقني‪ .‬مددت يدي متعطشا أن أمسك بالكرة‬
‫وفعل كان ذلك‪ .‬أخذت الكرة معي إىل املنزل‪،‬‬‫ً‬ ‫بني تلك األيدي املتحمسة‪،‬‬
‫وكانت الثروة املادية الوحيدة التي كنزهتا يف حيايت‪ .‬مل أملك أي لعبة أطفال‬
‫يو ًما‪ .‬كنت أحلم يف ليايل عيد امليالد أين أميش يف صالة منزلنا وأجد ألعابا‬
‫كثرية‪ )tokeh( .‬ح ًقا؟ نعم ح ًقا‪ .‬إن كان هناك ناد لدعم املحبطني يف موسم‬

‫‪ -1‬حماولة للتفرين بني اليهودي املتدين (اليهود اليهود)‪ ،‬وأصحاب النظرة السياسية األحادية من‬
‫اليهود السياسيني (الشموليني عىل حد تعبريه)‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫عيد امليالد‪ ،‬لكنت أنا من قادته‪ .‬جعلتني تلك الكرة ممتنّا وكأنني أمريكي‬
‫حقيقي‪ .‬كان ذلك قبل وقوعي يف غرام الشقراء اخليالية‪ ،‬التي متنح اجلنسية‬
‫(((‬
‫ذقت (‪)traif‬‬
‫األمريكية لليهود‪ .‬حينها كنت يف اخلامسة عرشة‪ .‬كنت قد ُ‬
‫وقبل ذلك بزمن توقفت عن استخدام اليدشية إال حني عملت كنادل يف‬
‫فنادق جبال كاتسكيل(((‪ .‬كان ما تبقى من اليدشية كاف ًيا كي أفهم النكتة‪،‬‬
‫واإلطراء‪ ،‬والشتائم‪ ،‬وبعض األسئلة‪ ،‬عند دخول الضيوف إىل صالة الطعام‪.‬‬
‫ففي جبال كاتسكيل قد يقول النادل شي ًئا مثل من هنا متر (‪)vildeh chayes‬‬
‫سيايس باليدشية‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫حلديث‬ ‫ذهبت ألستمع‬
‫ُ‬ ‫احليوانات الربية‪ .‬ذات مساء‬
‫أدركت أنه بمقدور اليدشية أن‬ ‫ُ‬ ‫فهمت القليل من تلك املحارضة‪ ،‬لكني‬
‫ُ‬
‫شعرت حينها وكأين أجنبي عن‬ ‫ُ‬ ‫تكون لغة حتليل علمي وحوارات فكرية‪.‬‬
‫احلضور‪ ،‬يعرتيني يشء من العار أنني لست مثلهم أو منهم‪.‬‬
‫كان بعض أفراد عائلتي يتكلمون البولندية باإلضافة إىل اليدشية‪،‬‬
‫وبعضهم يتكلم العربية والروسية‪ .‬وألن أيب عمل حينًا من الدهر يف باريس‬
‫فإنه متمكن من بعض الفرنسية‪ ،‬أما أمي فمتمكنة من البولندية حيث كانت‬
‫قد درست املرحلة الثانوية يف بولندا‪ ،‬لكنها ترفض متعمد ًة استخدامها‪.‬‬
‫جعلت ذكريات البوغروم((( من البولندية لغ ًة غري قابلة لالستخدام‪ .‬وعرب‬
‫ْ‬
‫سمعت قصة أبيها‪ ،‬جدي‪ ،‬الذي كان خيا ًطا يصنع‬ ‫ُ‬ ‫اإلنجليزية واليدشية‬
‫بدالت الزي الرسمي للجيش البولندي‪َ .‬ع ِم َل ذات مرة ليله كله لينهي‬
‫بدلة‪ ،‬ورفض صاحبها اجلندي عند الصباح دفع ثمنها‪ّ .‬لوح جدي بمقصه‬

‫‪ -1‬تدل كلمة (‪ )traif‬عن الطعام غري املباح يف تعاليم الديانة اليهودية‪.‬‬


‫‪ -2‬سلسلة جبال تقع يف اجلنوب الرشقي لوالية نيويورك األمريكية‪ ،‬وفيها غابات وحياة برية‬
‫ثرية‪.‬‬
‫علم يدل عىل أحداث قتل اليهود يف بولندا‪.‬‬
‫‪ -3‬املذابح املنظمة‪ ،‬وقد أصبح االسم ً‬

‫‪265‬‬
‫مهد ًدا اجلندي بأنه سيتلف بدلته إن مل يدفع‪ .‬عند ذلك دفع اجلندي ما عليه‪.‬‬
‫ثم أعدم األملان جدي وزوجته وإحدى بناته‪ُ .‬سج َن الضباط البولنديون يف‬
‫اختذت هذه الفقر ُة من أول ٍ‬
‫مجلة‬ ‫ْ‬ ‫غابة كاتني((( ثم قتلوا مجي ًعا عىل يد ستالني‪.‬‬
‫شكل الـ (‪ )geshichte‬أو القصة كام‬‫َ‬ ‫فيها وحتى بلوغها العربة يف آخرها‬
‫يف اليدشية‪ّ .‬إل إن هذه القصة قيلت باإلنجليزية‪ ،‬وكانت حقيق ّي ًة بفضلها‬
‫وحدَ ها‪.‬‬
‫واضحا‪ ،‬ويستمر‬
‫ً‬ ‫كنت يف معقل((( لغتي اليدشية أخشى الفشل يف أن أكون‬
‫الثقب األسو ُد ما بداخله تأيت‬
‫ُ‬ ‫قتل هيود (‪)hut geharget yiddin‬؛ وكام ُ‬
‫يلفظ‬
‫أرسلت وزارة‬
‫ْ‬ ‫الدعابة‪ ،‬والفكر‪ ،‬واملعنى‪ ،‬والال معنى‪ ،‬من ذاكرة القتل هذه‪.‬‬
‫ذهبت أنا‬
‫ُ‬ ‫اخلارجية األمريكية يف العام ‪1979‬م كتّا ًبا أمريكيني إىل أوروبا‪.‬‬
‫تفاجأت حينها‬
‫ُ‬ ‫إىل بولندا وألقيت حمارضات يف وارسو وبوزنان وكراكوف‪.‬‬
‫بمدى تشاهبنا‪ ،‬كام زاد املستوى الفكري للبولنديني من دهشتي‪ ،‬الذين أصبح‬
‫البعض منهم أصدقاء‪ ،‬وزارين بعضهم يف أمريكا الحقا‪ .‬كان من ضمن‬
‫البولنديني الذي مل ألتق هبم بعد تلك الزيارة امرأة من كراكوف‪ :‬هلا عينان‬
‫زرقاوان مجيلتان‪ ،‬ومالمح تشبه مالمح أمي‪ .‬كنت متأكدً ا من أهنا هيودية‬
‫بالرغم من لبسها للصليب حني رأيتها‪ .‬مل أرد أن أزعجها باألسئلة‪ ،‬ومل أشأ‬
‫أن أعرف قصتها‪ .‬بل مل أستطع حتى إمعان النظر فيها‪ .‬وبرغم كراهتي لكلمة‬
‫سمعت أهنا تستخدم من قبل بعض األصدقاء‬ ‫ُ‬ ‫(‪ )shiska‬األممية(((‪ ،‬والتي‬
‫املعادين للسامية أكثر من استخدام اليهود هلا‪ ،‬إال إنني شعرت يف عمق ذايت‬
‫أن الكلمة تنطبق عىل تلك املرأة بالرغم من إيامين بيهوديتها‪.‬‬

‫‪ -1‬هو اسم غابة ُأعدم فيها عدد كبري من الضباط واجلنود البولنديني‪.‬‬
‫‪ -2‬تعترب نيويورك ً‬
‫معقل لليدشية يف الواليات املتحدة‪.‬‬
‫‪ -3‬استخدام آخر لوصف األنثى غري اليهودية‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫إن اليدشية حتمل تقديرا حتى لال معنى كام أرشت سال ًفا‪ .‬فإن كانت املرأة‬
‫يف كراكوف كاثوليكية‪ ،‬فحينها تكون شبح الال معنى الذي يطاردين؛ أنا الفتى‬
‫اليهودي البولندي العابر يف تلك اللحظة بصفتي كات ًبا أمريك ًيا‪ .‬ونحن نقول‬
‫يف أمثالنا‪« :‬إذا نسيت إنك هيودي‪ ،‬فسيذكّرك أحد األمميني بذلك»‪ ،‬ولكن‬
‫مؤخرا إذا نيس‬
‫ً‬ ‫أخذت أبعا ًدا أخرى‪.‬‬
‫ْ‬ ‫فكرة نسيان بعض األمور كانت قد‬
‫هيودي آخر بذلك‪ .‬وهنا قد تكون العالقة والصداقة‬ ‫ٌ‬ ‫اليهودي نفسه فسيذكّره‬
‫عرضة للتلف‪ .‬ومن األمثلة املتطرفة عىل ذلك أنني كنت يف جدل عقيم مع‬
‫هيودي ستاليني‪ ،‬والذي ظل ستالين ًيا‪ ،‬بالرغم من األدلة القاطعة والعديدة‬
‫التي تثبت أن ستالني كان قد قتل الكثري من اليهود فقط ألهنم هيود‪ .‬كان‬
‫هوياتم الشخصية‬‫ُ‬ ‫صاحبي ومن عىل شاكلته يفضلون املوت عىل أن تتزعزع‬
‫بأن‪« :‬كان ستالني ً‬
‫رجل‬ ‫أو املتومهة‪ .‬كان ثمة وجه هيودي للجنون ينادي ْ‬
‫صاحلًا‪ ،‬ولكن ذائقته املوسيقية كانت سيئ ًة»‪ .‬بمثل هذه العقلية الشيطانية‬
‫كان النازيون يستهلكون مواردهم الطبيعية وجهود جيوشهم لقتل اليهود‪،‬‬
‫حتى وإن كان اجليش الرويس عىل األبواب‪ .‬ألن هؤالء اليهود كان ينبغي‬
‫أن يموتوا عىل أي حال‪ ...‬إلخ‪ .‬يؤكد ترتليانوس((( أحد اآلباء املؤسسني‬
‫جوهري يف‬
‫ّ‬ ‫للكنيسة النرصانية يف القرن الثاين أن األمر الال معقول [الغيبي]‬
‫أخاذة‪ ،‬ومرعبة يف تطبيقاهتا عىل‬ ‫مسألة اإليامن‪ .‬لقد كانت حذاقته السياسية ّ‬
‫ب اإليامن بعقالنية‬‫الواقع يف الوقت نفسه‪ .‬فكلام تضاعف عدد املؤمنني‪ ،‬ص ُع َ‬
‫بأي يشء‪.‬‬
‫تكمن املفارقات كأسلوب إدراكي يف كل زوايا اليدشية‪ .‬وربام كانت‬
‫املسألة جين ّية‪ ،‬وربام فرست لنا رس حمبة اليهود للنكتة‪ .‬فالتحليق من‬

‫‪ -1‬ترتليان أو ترتليانوس نرصاين أمازيغي‪ ،‬اكتسب شهرته بسبك عبارة «الثالوث» ورشحه‬
‫للعقيدة النرصانية (تويف ‪٢٣٠‬م)‪.‬‬

‫‪267‬‬
‫فورا عالقة مع املستمع‪ .‬كان هوبز((( يسمي‬‫اإلحساس إىل الذكاء خيلق ً‬
‫شاهدت الكوميد َيني‬
‫ُ‬ ‫الضحك بـ «املجد املفاجئ»‪ ،‬وهذا تعبري فاخر‪ .‬لكني‬
‫اليهود َيني‪ :‬ليني بروس ومارون كوهني ينحدران عرب الضحك بجمهور‬
‫ملهى لييل نحو شجار معيب ومتشنج‪ .‬حني كنت أعمل يف فنادق جبال‬
‫كاتستل الحظت أن الكوميديان (‪ )tumler‬والعربيد‪ ،‬هو من ختلت النساء‬
‫ألجله عن ذواهتن‪ .‬يقول جريي لويس وهو كوميديان سابق يف مقابلة‬
‫تلفزيونية أنه كان حيصل عىل أربع نساء يف اليوم حني كان يف ذروة جمده‪.‬‬
‫وعىل خالف جريي لويس كانت حنّه أرندت((( تفضل القطيعة مع جمتمعها‬
‫اليهودي وتارخيه‪ .‬استخدمت حنّه املفردة املتعجرفة «تافه» لتصف حدث‬
‫مقتل املاليني من اليهود‪ .‬قالت يف إحدى رسائلها املتأخرة أهنا استمرت‬
‫«سليمة القلب» رغم كل سوء املعاملة التي طالتها بسبب استخدامها لتلك‬
‫املفردة‪.‬‬
‫هرب األعامم والعامت واألخوال واخلاالت من بولندا مهاجرين إىل‬ ‫َ‬
‫ُ‬
‫أستيقظ‬ ‫الواليات املتحدة‪ .‬كانوا يقيمون معنا إىل أن جيدوا هلم سكنًا مناس ًبا‪.‬‬
‫صغارا نائمني عىل أرض ّية صالة املنزل‪ .‬كانت عمتي‬ ‫ً‬ ‫أحيانًا ألجد هيو ًدا‬
‫راحل‪،‬‬‫ٌ‬ ‫زوج‬
‫احلال نائمة عىل األرضية‪ٌ .‬‬ ‫األرملة مويل تسهر الليل لينتهي هبا ُ‬
‫وأوالد متزوجون ومشغولون‪ .‬كانت وحيدةً‪ .‬كنا نخصص هلا األريكة مع‬
‫غطاء ووسادة‪ ،‬لكنها كانت ترفض ذلك الرتف! مل ترد أن تكون ثقيلة عىل‬
‫مالبسها أدنى مساحة للتخزين‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫تشغل‬ ‫أحد بأي حال أو أي شكل‪ .‬ولكي ال‬
‫شعورا‬
‫ً‬ ‫كل مالبسها‪ .‬كان‬ ‫كانت تلبس فستانني أو ثالثة فوق بعضها‪ ،‬أو حتى َّ‬
‫مؤملا أن نرى العمة مويل منطوية ناحية اجلدار صباحا‪ .‬كانت بطول أمي‪:‬‬

‫‪ -1‬توماس هوبز الفيلسوف اإلنجليزي وأحد مؤسيس الفلسفة احلديثة (تويف ‪١٦٧٩‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬باحثة وكاتبة سياسية أمريكية هيودية من أصول أملانية (توفيت ‪١٩٧٥‬م)‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫يشع ذكا ًء وحزنًا‪ .‬مل أرها تضحك قط‪،‬‬‫مخس أقدام تقري ًبا‪ ،‬وهلا وج ٌه مجيل ُّ‬
‫أحيانا تقهق ُه هبدوء‪ ،‬وربام ابتسمت يل وهي متازحني‪ .‬كانت ُّ‬
‫حتك (‪)krotz‬‬
‫ظهري كل ليلة حتى أغط يف نوم عميق‪ ،‬وكام كانت تغني يل‪ .‬يف البداية كان‬
‫الغناء كله باليدشية‪ ،‬ثم دخلت اإلنجليزية وشاركتنا‪.‬‬
‫‪Label, gay fressen‬‬

‫‪A fish shtayt on de tish‬‬

‫‪Lenny, go eat‬‬

‫‪A fish on the table‬‬

‫واضحا‪ ،‬فلربام كان كل من (تقف‪ ،‬أو تبقى‪ ،‬أو‬


‫ً‬ ‫مل يكن معنى (‪)shtayt‬‬
‫توجد) صحيح ولكنّه غري دقيق بالرضورة‪ .‬أتصور أن املعنى «توجد» أي‬
‫«توجد سمكة عىل الطاولة» معنى رائ ًعا‪ .‬ذات مرة رافقتني صديقة محيمة‬
‫إىل املنزل‪ .‬قالت هلا عمتي مويل‪« :‬تبدين الئقة [جسد ًيا]»‪ .‬لكن العمة مويل‬
‫نطقت الئقة [اإلنجليزية] (‪ ،)fit‬وكأهنا (‪ )fet‬والتي بدورها كانت قريبة‬
‫ْ‬
‫جدً ا من (‪ )fat‬أي بدينة‪َ .‬و ْل َو َل ْت صديقتي معرتضة عىل عمتي‪ .‬تط ّلب‬
‫أمرا معتا ًدا‬
‫األمر بعض الوقت لتهدئتها وتوضيح املسألة‪ .‬كان ذلك النطق ً‬
‫يف اإلنجليزية ذات النكهة اليدشية‪ ،‬التي تبدو وكأهنا لغة أخرى متا ًما‪ .‬حني‬
‫أقول النكتة فإين أتكلم كأهل اللغة متا ًما‪ .‬ولكن عدد مجهور هذه النكات‬
‫كان قد انكمش مع السنني ألن معظم اليهود أصبحوا ليرباليني سياس ًيا‪،‬‬
‫وحيملون شهادات عليا‪ ،‬ومن ثم بدت هذه النكات هلم منحطة أو عنرصية‪.‬‬
‫كانت إحدى هذه النكات تالمس حكاية التقدم والنقلة احلضارية! تقول‬
‫النكت ُة أن والدين هيود َيني كانا قلقني عىل ابنهام الذي ذهب ليدرس األدب‬

‫‪269‬‬
‫اإلنجليزي يف جامعة هارفارد‪ .‬فذهب هذان الوالدان إىل كيرتيدج((( العامل‬
‫الشكسبريي العظيم وسأاله‪« :‬أتعتقد أن لكنة ابننا اليدشية تعدّ منقص ًة؟»‬
‫فأطلقها كيرتيدج مدوي ًة [بلكنة بولندية]‪ّ )vot akcent( :‬‬
‫«أي لكنة تتحدثان‬
‫عنها؟»‬
‫حني كنت ً‬
‫طفل كنت أعرف هيود ًيا واحدً ا فقط ممن هيتم أن يكون (‪bella‬‬
‫دائم ما يظهر‬
‫ووسيم جدً ا‪ ،‬وكان ً‬
‫ً‬ ‫‪ )figura‬ذا سمت حسن‪ .‬كان طبي ًبا حمرت ًما‬
‫مرتد ًيا بدلة فاخرة‪ ،‬وبرغم كل هذه اجلامليات كان متمكنًا من اليدشية‪.‬‬
‫كانت عيادته يف ح ّينا‪ ،‬لذا فقد كان يقصد أيب كل صباح يف حمل احلالقة‬
‫ليحلق حليته‪ .‬ويف املقابل كان عامل نتف ريش الدجاج يف زاوية الشارع‬
‫رجل صاخ ًبا‪ ،‬يشتم زبائنه بألفاظ مضحكة ونابية باليدشية كذلك‪ .‬ابن هذا‬ ‫ً‬
‫علم من أعالم جامعة إم آي يت(((‪ .‬وهذه معجزة يعرب‬ ‫األخري أصبح الح ًقا ً‬
‫جر العربات»؛ يقصدون أنه‬ ‫الناس عنها بقوهلم «انط َلق عال ًيا [عال شأنه] من ّ‬
‫انطلق من فقر اليدشية إىل املال‪ ،‬أو إىل الطبقة الرفيعة التي ينتمي هلا أساتذ ُة‬
‫اجلامعات‪ .‬و ّل ْت أيا ٌم كهذه‪ .‬يف الستينيات قام بعض الفتية اليهود معارضني‬
‫مقاصد إيرفينج هاو((( يف كتابه «عامل آبائنا»؛ كانوا هيتفون أن «اقتلوا اآلباء»‪.‬‬
‫كان التطبيق دمو ًيا ومطر ًدا مع مفارقات اليدشية التي مل يعودوا يتكلموهنا‪.‬‬
‫ارتديت مالبس أنيقة للخروج‪ ،‬تقول يل أمي‪« :‬ملاذا أنت (‪)fapitzed‬‬
‫ُ‬ ‫إن‬
‫أي متأنق جدً ا؟» هناك دعوة دائمة يف اليدشية إىل أن يبدو اإلنسان أفضل من‬

‫‪ -1‬جورج كيرتيدج أستاذ األدب اإلنجليزي يف جامعة هارفارد‪ ،‬كان عا ًملا بأعامل شكسبري (تويف‬
‫‪١٩٤١‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬معهد ماساتشوستس للتقنة ‪ MIT‬يف بوسطن‪ ،‬يعد من أكرب جامعات العامل وأعرقها يف التقنية‬
‫ويف غريها من العلوم‪.‬‬
‫‪ -3‬ناقد اجتامعي وأديب هيودي أمريكي (تويف ‪١٩٩٣‬م)‪.‬‬

‫‪270‬‬
‫كونه جمرد هيودي وناقد لكل يشء كذلك‪ .‬يرصخ الرجل عال ًيا إن أراد التبول‬
‫أو املعارشة اجلنسية‪ .‬وتظهر املرأة عارية أمام زوجها فتقول‪« :‬ليس لدي ما‬
‫ألبسه» فريد عليها‪« :‬اذهبي واحلقي فأنت تبدين كاملرشدين»‪ .‬كان هنري‬
‫آدمز((( يشري إىل «الضحك الساخر لدى اليهود»‪ .‬إنه من السهل بمكان أن‬
‫جتد السخرية صادرة عن اليهود‪ ،‬ولكن عبارة آدمز بغض النظر عن خبثها‬
‫تتعارض مع فكرة كراهية الذات وخوفها التي كانت ملهمة لعداء‬ ‫ُ‬ ‫وغبائها‬
‫السامية بني املثقفني‪ ،‬حتى اليهود منهم‪ .‬كان عزرا باوند((( يصف هراءه‬
‫املعادي للسامية بالغباء‪ ،‬وكأن العالقة بني الغباء والرش بدت بينة وظاهرة‪.‬‬
‫وأشكال متعددة‪ .‬بعض هذه‬‫ً‬ ‫متحررا‪،‬‬
‫ً‬ ‫إن للضحك اليهودي أسلو ًبا‬
‫ني حول اليدشية‪ .‬حني بلغت سن احللم‪،‬‬ ‫األشكال يبدو سخيفا‪ ،‬وكأنه ُب َ‬
‫بدل من صابون اليد‪ .‬فاشرتيت‬ ‫أردت أن أستخدم الشامبو لغسيل شعري ً‬ ‫ُ‬
‫قارورة من بريك(((‪ .‬رآين أيب وقال يل باليدشية‪« :‬ال تستخد ُم إال األفضل‬
‫محلت درسه الذي أراد تبليغي إياه بصورة غري مبارشة يف قلبي‬ ‫ُ‬ ‫دائم»‪ .‬لقد‬
‫ً‬
‫دو ًما‪ ،‬رغم إنني مل أرجع إىل استخدام صابون اليد لغسيل شعري‪ .‬ولكن‬
‫ما عالقة هذا كله باليدشية؟ إن العالقة كبرية جدً ا بالنسبة يل ألهنا ختاطبني‬
‫بالسؤال املصريي وإن كان صوت خطاهبا منخفضا جدً ا‪ :‬من أنت؟‬
‫لقد حفظت بعض اليدشية‪ ،‬وإن كان هذا البعض ‪-‬مع كل أسف‪ -‬ال‬
‫يزيد عن أغنيات العمة مويل‪ .‬لكن ما اخلري الذي قد حتمله اليدشية يل؟ كنت‬

‫‪ -1‬هنري آدمز كاتب ومؤرخ أمريكي‪ ،‬تعد سريته الذاتية من أروع ما كتب يف السرية الذاتية (تويف‬
‫‪١٩١٨‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬عزرا باوند شاعر وناقد أمريكي من رواد حركة احلداثة (تويف ‪١٩٧٢‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬اسم عالمة جتارية كانت ذائعة الصيت لشامبو شعر نسائي‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫ضب طوق أمني من الرشطة‬ ‫مؤخرا يف روما أثناء أيام األعياد العالية ؛ ُ‬
‫(((‬
‫ً‬
‫ألي اعتداء‪ .‬وعند‬‫والسكان اليهود حول املعبد يف أحد األحياء حترزا ّ‬
‫تفاجأت من‬
‫ُ‬ ‫حماولتي عبور أحد احلواجر أوقفني أحد السكان اليهود‪ .‬لقد‬
‫أنه مل يستطع إدارك أين هيودي‪ .‬قلت له أنا من شعب اهلل املختار‪ ،‬فأجابني‬
‫بأن أرين جواز سفرك‪ .‬حدث يل موقف مشابه هلذا من َق ُبل مع هيود مغاربة‬
‫يف فرنسا‪ .‬تذكرت حينها وتساءلت عن حال سبينوزا إذ كان معلمه لالتنية‬
‫أملان ًيا‪ ،‬كام أن أول جريدة تنرش باليدشية كانت قد صدرت حني وفاته‪ .‬أتراه‬
‫كان يعرف اليدشية؟ أنا متيقن من معرفتي املتواضعة باليدشية‪ ،‬لكن هذه‬
‫ً‬
‫واتصال بذايت من‬ ‫اليدشية التي ال أستطيع الكالم هبا تبدو أكثر طبيع ّي ًة‬
‫درست الشعرا َء اإلنجليز‪ .‬كان ثمة شطر لتي إس أليوت‬ ‫ُ‬ ‫اإلنجليزية‪ .‬هلذا‬
‫زل‪ ،‬تصدّ ع‪ ،‬أو شي ًئا كهذا‪ .‬كلامت يتصور املرء‬ ‫يقول فيه كلامت مثل‪ :‬اندلق‪ّ ،‬‬
‫أنه لن يواجه مشكلة معها أبدً ا‪ .‬ومع مقوالت إليوت املشهورة حول كراهيته‬
‫ألي هيودي إن كان مرتد ًيا الفرو‪ ،‬أتساءل‪ :‬من يا ترى سريبط بني ذلك وبني‬
‫عمل أرسة إليوت يف صناعة الفراء‪ ،‬والذين كانوا متا ًما مثل أسالف أمي يف‬
‫أحب إليوت غروتشو ماركس((( اليهودي‪ ،‬ولكن هل تفكّر إليوت يا‬ ‫فيينا؟ َّ‬
‫ترى عند كتابته لرباعياته األربع((( وصورها املدهشة عن القديس الصليبي‬
‫يوحنا(((؟ هل تفكّر بأن ذلك الراهب‪ ،‬الناسك‪ ،‬العبقري‪ ،‬حنطي البرشة قد‬
‫يكون هيود ًيا؟‬
‫كانت أول كلامت نطقتها التوارة‪« :‬ليكن النور»‪ .‬كان هذا النور هو‬

‫‪ -1‬موسم سنوي ألعياد هيودية‪.‬‬


‫‪ -2‬غروتشو ماركس كوميديان ونجم سينامئي أمريكي (تويف ‪١٩٧٧‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬سلسلة شعرية من أربع قصائد كتبها إليوت ونرشت يف العام ‪١٩٤٣‬م‪.‬‬
‫‪ -4‬يوحنا الرائي واإلنجييل بحسب املعتقد النرصاين‪ ،‬كاتب الرسائل‪ ،‬وأحد حواريي املسيح عليه‬
‫السالم‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫الفهم والبصرية وليس نور البرص جمر ًدا‪ .‬نقول يف اليدشية «إن قتل إنسان‬
‫العال»‪ .‬وهذا يعني أن اإلنسان مل يعد جمرد جسد‪ ،‬كام مل يعد أداة جمد‬ ‫َ‬ ‫كقتل‬
‫افرتايض مثل النور‪ ،‬وهو كذلك ليس عا ًملا مضي ًئا‪َ .‬ط َر َح هذه الفكرة عىل ما‬
‫أظن سبينوزا بتفصيل يف كتابه «األخالق»‪ .‬فاألخالق من لوازم الوجود‪.‬‬
‫وربام كانت الفكرة كذلك يف « الرتاكتاتوس» عند فيتغنشتاين‪« :‬العامل هو كل‬
‫يشء؛ هذه هي احلال»‪ .‬ولكن ما هي احلال؟ إن كانت احلال هي أن احلقائق‬
‫األمر يبدو يدش ًّيا أم سبينوز ًّيا؟ ربام كان هذا‬
‫َ‬ ‫مقيدة بالقيم‪ ،‬فهل جيعل ذلك‬
‫هو السبب أن كتّاب اليهود مل يكتبوا عن القتل كام فعل النصارى‪ .‬حتى‬
‫بريمو ليفي((( والذي كان القتل موضوعه األعظم مل يرسم بكلامته البشاعة‬
‫املرافقة للقتل كام قد يتوقع املرء‪.‬‬
‫أما فيام خيص كتابايت أنا فإن يد اليدشية اخلف ّية أبقتني بعيدً ا من جمرد فكرة‬
‫االقرتاب من الكتابة بشكل حسن عن الشخصيات القاتلة‪ .‬إن أقرب ما‬
‫متكنت الوصول إليه فيام خيص القتل كان يف قصة «حديقة تروتسكي(((»‪،‬‬
‫قرأت دراس ًة‬
‫تبنيت فيها نرب ًة يدشي ًة للحديث عن حياة الرجل‪ .‬كنت قد ُ‬ ‫والتي ُ‬
‫نفسي ًة انتهت إىل أن تروتسكي كان يامرس القتل لرييض لينني(((‪ ،‬والذي كان‬
‫يعدّ ه تروتسكي مثاال حيتذى به بمثابة الوالد‪ .‬إن كان سلوك تروتسكي يف‬
‫تصورت‪ .‬كانت‬
‫ُ‬ ‫حقيقته كام ذكرت هذه الدراسة‪ ،‬فإن األمر أسوأ بكثري مما‬
‫كنت أريد خملصا أن ُأقدّ ر تروتسكي لعبقريته‪،‬‬ ‫دافع كتابتي للقصة‪ُ .‬‬ ‫اخليبة َ‬
‫وشجاعته‪ ،‬وقدراته األدبية غري العادية‪ .‬كانت دقة وصفه لقص العشب عىل‬

‫‪ -1‬بريمو ليفي أحد اليهود الناجني من اهلوليكوست‪ ،‬كيميائي وكاتب إيطايل (تويف ‪١٩٨٧‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬قصة من تأليف الكاتب عن حياة ليون تروتسكي املنظر املاركيس الثائر (تويف ‪١٩٤٠‬م)‪.‬‬
‫‪ -3‬فالديمري لينني الزعيم السيايس املاركيس مؤسس االحتاد السوفيتي (تويف ‪١٩٢٤‬م)‪.‬‬

‫‪273‬‬
‫ف املشهد نفسه ودقته لدى تولستوي((( يف‬ ‫سبيل املثال من اجلامل مثل وص ِ‬
‫َ ْ‬
‫«آنا كارنينا»‪ .‬وقد تكون يف اليدش ّية بعض الوحشية إىل حد ما عىل سبيل‬
‫وتغوط يف البحر»‪ ،‬لكن‬
‫املثال (‪ )gay koken aff yam‬والتي تعني «اذهب ّ‬
‫حني يكون القتل هو املوضوع‪ ،‬فأين هم الكتاب اليهود مقارن ًة بشكسبري‪،‬‬
‫وويبستري‪ ،‬ومارك توين‪ ،‬وفالنري أوكونور‪ ،‬وكورماك ماكارثي‪ ،‬وإملور‬
‫ليونارد؟ إن قصة إبراهيم وابنه إسحاق يف التوراة‪ ،‬والتي تشكل أمهية كبرية‬
‫ِ‬
‫قطعت الطريق عىل القتل‪ ،‬وهي اليوم مهم ٌة‬ ‫يف الديانات الثالث‪ ،‬كانت قد‬
‫يف سياق معاجلة اإلرهاب الديني املعارص عند أبناء هذه الديانات‪.‬‬
‫موت أحد اآلباء واسمه (‪)Ganz‬‬ ‫بحدث ِ‬‫ِ‬ ‫(((‬
‫بدأت قص ٌة لبرينارد ماالمود‬
‫ْ‬
‫حتمل داللة هذه املفردة يف اليدشية معنى الشمول‪( :‬مجيع‪ ،‬اليشء‬ ‫ُ‬ ‫غانز‪.‬‬
‫كل‬‫موت العامل كله‪ .‬كان ُّ‬‫موت غانز جماز ًيا َ‬
‫كامل‪ ،‬كل يشء)‪ .‬وهكذا محل ُ‬ ‫ً‬
‫كتب‬
‫يشء قد قتل‪ .‬ومل يكن بمقدور ماالمود تسمية هذا األب بغانز لو أنه َ‬
‫ومدمرا لكل اجلد ّية‬
‫ً‬ ‫قصته باليدش ّية‪ .‬ألن األمر سيبدو حينها مضحكًا جدً ا‬
‫ً‬
‫متمثل يف موت‬ ‫التي تريدها القصة‪ .‬لقد كان موت األب أو موت العامل كله‬
‫إنسان هو سبب حزن هاملت املفرط؛ وهي احلالة خيشاها اليهو ُد دو ًما لسبب‬
‫جاء يف املرسحية نفسها‪« :‬كيف يبدو كل ما يف هذا العامل مره ًقا‪ ،‬وشاح ًبا‪،‬‬
‫وعديم اجلدوى»‪ .‬وبسبب موت هاملت األب يبدو هاملت االبن‬ ‫َ‬ ‫وباهتًا‪،‬‬
‫باكرا يف الفصل األول عن مسري هاملت نحو‬ ‫ميتًا كذلك‪ .‬تتحدث املرسحية ً‬
‫قربه وكأنه نكتة؛ ثم يفتتح الفصل اخلامس‪ ،‬ودون مقدمات‪ ،‬هباملت يف‬
‫فعل داخل قرب‪ .‬وبمناسبة احلديث عن احلزن‪ ،‬فإن زيغموند‬ ‫املقربة‪ ،‬فيقفز ً‬
‫فرويد كان قد حلق شكسبري يف كتابه «احلداد والسوداوية»‪ .‬فكام أن هاملت‬

‫‪ -1‬ليو تولتسوي مفكر وروائي رويس من عاملقة األدب الرويس (تويف ‪١٩١٠‬م)‪.‬‬
‫‪ -2‬برينادر ماالمود أحد أهم الكتاب اليهود األمريكان يف القرن العرشين (تويف ‪١٩٨٦‬م)‪.‬‬

‫‪274‬‬
‫طلب أن تنظر أمه إىل صورة أبيه‪ ،‬فإن فرويد يعطي أمهية كربى ملا تبقيه‬
‫الصورة من آثار وتوجيه للرتكيز الفكري‪ .‬وها أنا أعود جمد ًدا ليدش ّيتي‪،‬‬
‫حني أردت ذات مرة أن أكتب عن موت أيب‪ ،‬كنت قد ألزمت حزين أن‬
‫أخذت»‪ .‬عادة ما‬
‫ُ‬ ‫يظل يف نطاق صور حمدودة ورثاء بسيط‪« :‬هو أعطى؛ وأنا‬
‫تكون مجلتي القصرية ناقدة لنفسها‪ ،‬كام أنه ليست ذات عالقة بأعامل الكتّاب‬
‫الذين اشتهروا بكتابة اجلملة القصرية‪ .‬مجلتي القصرية هي ابنة لنزعة اليدشية‬
‫لالختصار وهي حتاول أن ختتطف املقابل اإلنجليزي‪.‬‬
‫قادرا عىل كتابة ما‬
‫كانت مجلة شكسبري القصرية تدهشني دو ًما‪ .‬مل أكن ً‬
‫يشبهها‪ .‬يضحكني هذا االعرتاف دو ًما‪ .‬يقول بواب املعبد وهو يرضب عىل‬
‫ب‪ ،‬والذي كان يقول‬ ‫دائم ما كان يسمعه احلَ ْ ُ‬
‫صدره‪« :‬يا إهلي‪ ،‬إنني ال يشء»‪ً .‬‬
‫دو ًما‪« :‬انظروا إىل من يزعم أنه ال يشء»‪ .‬كال الرجلني مضحك‪ .‬عىل الكاتب‬
‫اليهودي أن يكون دو ًما عىل حذر‪ ،‬فالفارق بني العاطفة الشديدة والسخرية‬
‫ضئيل جدً ا مثل خطوة عنكبوت واحدة‪.‬‬
‫كانت أمي حني ختاطبني دائمة التنقل بني اإلنجليزية إىل اليدشية داخل‬
‫وقادرا عىل‬
‫ً‬ ‫قادرا عىل مغادرة اإلنجليزية‪،‬‬
‫اجلملة الواحدة‪ .‬إذا كان املعنى ً‬
‫معاودة الظهور يف اليدشية‪ ،‬فهل جيب واحلالة هذه أن تكون للمعنى عالقة‬
‫خاصة بأي لغة منهام؟ يقول اللسانيون أن كل ما يمكن قوله باألملانية عىل‬
‫سبيل املثال فإنه يمكن قوله بالرضورة بالسواحيلية‪ ،‬والتي هي عربية بشكل‬
‫أو بآخر‪ .‬لكن يأبى الشعراء أن يقبلوا فكرة اللسانيني هذه عن املساواة‬
‫اللغوية؛ أما املتطرفون الدينيون فقد يصل األمر هبم إىل قتل من يتفوه‬
‫هبذا االفرتاض‪ .‬أؤمن بشكل مطلق أن عالقة املعنى باللغة أقل من عالقته‬
‫تنطق‪ ،‬وتتكلم‬‫ُ‬ ‫باملوسيقى‪ ،‬لكن تدفق املوسيقى املشاعري هو ما جعلها‬
‫بدرجات خمتلفة‪ .‬لذلك فإن املعنى يف الرواية والشعر هو أقرب للموسيقى‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫إن احلديث عن قصة مثل ما عند غوغول ونابوكوف يشعرك أهنا تقول‪:‬‬
‫ال ال دو ال ال ال(((‪ .‬لكن الكلمة تبقى أداة القصة الرئيسة‪ ،‬كام هي حاجة‬
‫القصة‪ .‬وهذه الوحدة قد يدركها اإلنسان يف كل يشء يف الطبيعة‪ .‬مثلام أن‬
‫املوسيقى هي معنى القصة‪ ،‬يكون املادي والشعوري وجهان لليشء ذاته‪.‬‬
‫فبكل عنارصها التي اجتمعت من األملانية‪ ،‬والعربية‪ ،‬واآلرامية‪ ،‬والالتينية‪،‬‬
‫واإلسبانية‪ ،‬والبولندية‪ ،‬والروسية‪ ،‬والرومانية‪ ،‬فإن فاليدشية تبدو وكأهنا‬
‫جمازا‪ .‬إن شع ًبا قد جاء من هنا وهناك؛ ملزم أن يتبنى الكثري‬ ‫(كل يشء) ً‬ ‫ّ‬
‫ليكون ذاته؛ كام هو ملزم كذلك بأن يعيد الكثري جدً ا هلذا العامل‪ .‬وإهنا ملفارقة‬
‫ّ‬
‫بشعة من مفارقات الرش أن يصبح هذا الشعب مكونًا رضور ًيا ملشهد القتل‬
‫يف العامل‪.‬‬
‫يف اخلامسة‪ ،‬كنت أذهب إىل املدرسة يف مبنى فيكتوري ضخم وكئيب‬
‫عىل بعد شارع من حينا يف قرية نيكرباكر(((‪ .‬عبور ذلك الشارع يشبه‬
‫االرحتال من النعيم إىل اجلحيم‪ .‬مل أكن أنبس ببنت شفة يف قاعة الدرس‪ ،‬بل‬
‫ً‬
‫حماول جتنب نظرة املعلمة الرشيرة‪ .‬كانت املعلمة قد‬ ‫أجلس وحيدً ا وبعيدً ا‪،‬‬
‫لوالدي بأين سوف أنتقل إىل فصل خاص‬ ‫ّ‬ ‫شخصتني متخل ًفا‪ ،‬وكتبت رسالة‬
‫حيث سأكون أسعد‪ ،‬وحيث أستطيع لعب تنس الطاولة طوال اليوم‪ .‬مل تكن‬
‫أمي قادرة عىل قراءة الرسالة‪ ،‬فعرضتها عىل جارة لنا من تكساس‪ ،‬اسمها‬
‫لني نيشنز‪ .‬كانت جارتنا لني أمريكية حقيق ّية‪ .‬تفاخر بأهنا حتمل جينات هندية‬
‫أصيلة‪ ،‬وإن كانت شقراء وبارزة الوجنتني؛ كام كان هلا قوام ونعومة تؤهلها‬
‫أن تكون عارضة أزياء‪ .‬تطلب منّا أحيانًا أن ننظر داخل فمها‪ ،‬لنشاهد مثالية‬
‫أسناهنا‪ .‬كانت هذه املميزات جتعل لني تؤمن بأصوهلا األمريكية‪ .‬وكانت لني‬

‫‪ -1‬تعبري عن نوتات السلم املوسيقي‪.‬‬


‫‪ -2‬نيكرباركر اسم أحد أحياء نيويورك وهو كذلك اسم آخر لالنسان النيويوركي‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫كثريا‬
‫مغرمة يب جدً ا بالرغم من أنني مل أشاركها احلديث يو ًما‪ .‬كنت أقيض ً‬
‫املحرم‪ .‬كام كنت‬
‫ّ‬ ‫من الوقت يف شقتها‪ :‬أتصفح كتب الفنون‪ ،‬وآكل الطعا َم‬
‫أحتدث إىل زوجها‪ :‬وهو تاجر فراء وناشط يساري‪ ،‬ويعرف اليدشية‪.‬‬
‫كانت لني تؤمن أنني أذكي من أكون متخل ًفا‪ ،‬فذهبت إىل مديرة الدرسة‬
‫وهو األمر الذي مل تكن أمي لتجرؤ عىل فعله‪ ،‬وطلبت منها أن ختترب ذكائي‬
‫بشكل احرتايف‪ .‬والندهاشها بحضور لني الذي يشبه كاثرين هيبورن(((‪،‬‬
‫وافقت املديرة عىل طلبها‪ .‬رتبت املديرة مع اإلخصائي النفيس يف املدرسة‬
‫يت مع جمموعة طالب إىل مرحلة أكرب من عمري‬ ‫ليختربين‪ .‬بعد االختبار‪ ،‬ر ّق ُ‬
‫بسنة‪ .‬كان ضمن طالب الفصل اجلديد صبي اسمه بونفيغليو وفتاة اسمها‬
‫إيستريفيز‪ .‬أذكر االسمني ألن ترتيبنا يف اجللوس كان مبنيا عىل درجات‬
‫اختبارات الذكاء‪ .‬كان بونفيغليو األول ثم إيستريفيز ثم أنا؛ كانت إيستريفيز‬
‫طفلة ال تستطيع حتى طلب اإلذن لتذهب إىل دورة املياه‪ .‬يف ذلك الفصل‬
‫سحرا‬
‫ً‬ ‫األعىل اضطررت إىل الكتابة والكالم باإلنجليزية‪ .‬وكأن األمر كان‬
‫وحدث بني عشية وضحاها؛ يظهر أنني كنت أعرف عن اإلنجليزية أكثر مما‬
‫ظننت‪ .‬حني سألت أمي عن ذلك قالت‪« :‬بالطبع أنت تعرف اإلنجليزية‪،‬‬
‫لقد تعلمتها من الشاحنات»‪ .‬قصدت أمي أنني حني كنت طريح فراش‬
‫املرض‪ ،‬كنت أطل عىل الشارع من النافذة وأقرأ الكلامت املكتوبة عىل‬
‫جانبي الشاحنات؛ أي أنني علمت نفيس اإلنجليزية‪ .‬مع األسف‪ ،‬لقد‬
‫قادرا عىل تعلم أي لغة من‬
‫أحرقت احلمى الكثري من دماغي‪ ،‬فأنا مل أعد ً‬
‫الشاحنات‪ .‬يتعلم األطفال اللغة برسعة مدهشة‪ .‬وملرة أخرى وبرضب من‬
‫رضوب املجاز‪ ،‬فإن اليدشية كانت لغة األطفال الذين جتولوا آلالف السنني‬
‫حيصلون لغ ًة دون فائدة ملموسة‪.‬‬ ‫يف كابوس طويل؛ ّ‬

‫‪ -1‬كاثرين هيبورن ممثلة أمريكية ذات حضور وتأثري (توفيت ‪٢٠٠٣‬م)‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫أذكر جيدً ا بصمة أصابعي عىل أول كتاب مدريس أمسكته بيدي‪ ،‬كام‬
‫حمم ًل بكل إنجليزي‬ ‫أذكر جيدً ا عدم يقيني املرعب من أن يكون هذا املعنى ّ‬
‫أمر مل يكن سائ ًغا أبدً ا‪ .‬ما‬
‫غريب‪ ،‬وقد يفرتس كل ما الزم لغتي اليدشية‪ٌ .‬‬
‫سطر‬
‫الذي يمكن أن يقرتحه األسلوب اليديش يف مقابل اإلنجليزي‪ .‬بدا يل ٌ‬
‫معارضا لليدشية‪ )goyish( ،‬غري هيودي‪:‬‬
‫ً‬ ‫(((‬
‫من قصيدة لواالس ستيفينز‬
‫‪It is the word pejorative that hurts‬‬

‫«إن كلمة االزدراء هي التي تؤمل‪».‬‬


‫لقد انفصل ستيفينز عن موضوعه‪ ،‬قلب الشاعر الرومانيس‪ ،‬وذلك‬
‫باللعب من خالل نحو اللغة الفرنسية‪ )word pejorative(.‬مثل (‪mot‬‬
‫‪ )juste‬الكلمة املثالية‪ .‬لقد جعل ستيفينز الصفة تابعة للموصوف‪.‬‬
‫كل من مفردة (‪،)word‬‬ ‫واالنفصال الذي طرحته يتبني أكثر يف موسيقى ّ‬
‫كلمة‪ ،‬ومفردة (‪ ،)hurts‬تؤمل‪ .‬إن الصدى الرقيق يعطي ملسة رقيقة للتأثري‬
‫املؤمل دون أن جيعل القارئ يعاين التجربة ذاهتا‪ .‬لكن السطر وبمفارقة بدا‬
‫ً‬
‫منفصل حتى عن االنفصال نفسه‪ .‬حتتوي اليدشية عىل الكثري من املفارقات‪،‬‬
‫لكنها لطيفة احلضور وحساسة جتاه جتربة القارئ مع الكلامت‪ .‬كان سطر‬
‫أمرا ال يمكن فهمه‪،‬‬‫ستيفينز سيبدو معتدً ا بذاته‪ ،‬وستبدو حذاقته الفاخرة ً‬
‫إن مل يبدُ سخي ًفا‪ .‬لقد كان يتباهى كالطاووس هنا‪ ،‬ولكن األمر الذي جيب‬
‫والتحجر‪ ،‬حاله‬
‫ّ‬ ‫التنبيه عليه هو أن ستيفينز يف مناطق أخرى يملؤه احلشو‬
‫حال أي متكلم باليدشية‪.‬‬
‫فقدت الكثري من لغتي اليدشية‪ ،‬الكثري إىل احلد الذي ال يسمح يل‬
‫ُ‬ ‫لقد‬
‫بإدراك حجم ما تبقى منها‪ .‬لكن ثمة ما تبقى‪ .‬لربام كان الذي تبقى بعض‬

‫‪ -1‬لواالس ستيفينز شاعر حداثي أمريكي (تويف ‪١٩٥٥‬م)‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫عبقريتها ذات الفاعلية يف اجلملة التي أكتبها‪ ،‬ولكن هذا ال يتعلق يب شخص ًيا‪.‬‬
‫إن متعة التعقيد‪ ،‬والفرحة بالبالهة‪ ،‬إىل جانب فكرة ما هو اجليد وما هو غري‬
‫اجليد‪ ،‬كل ذلك يف اليدشية‪ .‬فإن تكلمت اليدشية يف مجلتي‪ ،‬فاملتكلم إذن‬
‫فضل من أن أكون أنا وحدي املتكلم‪.‬‬ ‫ليس أنا‪ً ،‬‬
‫حني ُسئل لورد باملرستون((( عن اختياره إن مل يكن ُولد إنجليز ًيا‪،‬‬
‫فأجاب‪« :‬إنجليزي»!‪ .‬تذكرين إجابته بنكتة‪ .‬تقول النكتة إن هيود ًيا يرى‬
‫نفسه يف املرآة بعد أن لبس بدلة فاخرة لدى خياط راق يف لندن‪« .‬هل كل‬
‫يشء عىل ما يرام؟» يسأله اخلياط‪ .‬يقول اليهودي باك ًيا‪vee lost de em�( (:‬‬
‫‪« )pire‬لقد أضاعوا اإلمرباطورية»‪ .‬حتاول النكتة خماطبة الغضب املجنون‬
‫لليهودي‬
‫ّ‬ ‫الذي أثر يف طبيعة اليدشية؛ كام تبني النكتة بوضوح أن سؤال اهلوية‬
‫ليس ً‬
‫متثيل بار ًعا ومتقنًا دو ًما‪ ،‬كام هو حال السيد باملرستون‪.‬‬

‫‪ -1‬لورد باملرستون سيايس إنجليزي‪ ،‬كان رئيس الوزراء يف منتصف القرن التاسع عرش (تويف‬
‫‪١٨٦٥‬م)‪.‬‬

‫‪279‬‬
280
‫المحتويات‬

‫املقدمة‪ :‬ويندي ليسري ‪٧ .................................................‬‬

‫طريق العودة‪َ :‬ب ْار ِت ُموك ِْرجي ‪٩ ...........................................‬‬

‫نعم وال‪ :‬أيمي تان ‪٣٤ ....................................................‬‬

‫إشكال مع اللغة‪ :‬جوزيف سكوفوريكي‪٤٧...............................‬‬

‫قوائم السريك‪ :‬بريت كيزر‪٦٤...........................................‬‬

‫الفرنسية دون دموع‪ :‬لوك سانت ‪٨٥ .....................................‬‬

‫استهالل‪ :‬توماس الكور ‪١٠٦ ...........................................‬‬

‫إحياء األصل‪ :‬نغوغي وا ثيونغو‪١٢٤ .....................................‬‬


‫ُ‬
‫ذايت املنقسمة‪ :‬نيكوالس باباندريو ‪١٣٤ ...................................‬‬

‫وشقائق النّعامن‪ :‬إم جاي فيتزجريالد ‪١٥٤ ................‬‬


‫ُ‬ ‫ٌ‬
‫وأزرق‪،‬‬ ‫شفاف‪،‬‬
‫ٌ‬

‫ومجع‪ :‬ها‪-‬يون جانغ‪١٧٦ .........................................‬‬


‫ٌ‬ ‫مفر ٌد‬

‫ُيتم الكاتب‪ :‬لويس بيغيل ‪١٩٥ ...........................................‬‬

‫اللغة األم بني رشحيتني من خبز احلبوب‪ :‬غاري شتاينغارت ‪٢١٢ ............‬‬

‫بوزويل والسيدة ميلر‪ :‬جيمز كامبيل ‪٢٣١ .................................‬‬

‫‪281‬‬
‫ٌ‬
‫هوامشحلياةمزدوجة‪:‬آيريلدورفامن ‪٢٤٤ ................................‬‬

‫لغتي اليدش ّية‪ :‬ليونارد مايكلز ‪٢٥٨ ........................................‬‬

‫‪282‬‬
283
284

You might also like