Professional Documents
Culture Documents
عبقرية اللغة
حترير ويندي ليسري
ترمجة محد المشري
يمنع نسخ أو استعمال أي جزءٍ من هذا الكتاب بأي وسيلة تصويرية أو
الكترونية أو ميكانيكية ..بما فيه التسجيل الفوتوغرافي والتسجيل على
أشرطة أو أقراص مقروءة أو أي وسيلة نشر أخرى ..بما فيها حفظ
املعلومات أو استرجاعها من دون إذن خطي من الناشر.
حترير وتقدمي
ويندي ليسير
ترمجة
محد المشري
إىل اللغة األم العزيزة
إىل العربية
املرتجم
5
6
إىل ذكرى ليونارد مايكلز
2004 - 1933
7
8
المقدمة
ويندي ليسير
(((
تعود فكرة كتاب «عبقرية اللغة» يف األصل إىل الصديقة املحررة أليس
َ
البحث عن عدد من الكتّاب الذين يكتبون عيل
فان سرتالن .فقد اقرتحت ّ
باللغة اإلنجليزية وهم ليسوا من أبنائها يف األصل ،بل يتكلمون لغات
أخرى؛ ثم أطلب منهم كتابة مقاالت عن الفرق بني اللغتني .وكان من
عاديت ّأل أقبل فكرة من أي حمرر أو حمررة ،لكن هذه الفكرة أدهشتني إىل
احلد الذي ال يمكنني مقاومتها معه .إهنا فكرة جذابة جدً ا ،أن تكون هناك
ُؤثر فيها
تترسب إىل تلك اللغة التي يكتب هبا الكاتب :ت ُ
ُ لغ ٌة أصلي ٌة خمتبئة،
وتعيدُ تشكيلها .بل لعل ذلك يصدق حتى عىل الكتّاب الذين ال يعرفون
إال لغة واحدة .فقد قال يل صديق شاعر ال يعرف إال اإلنجليزية حني سمع
بفكرة الكتاب« :يا إهلي ،أريد أن أكون أحد هؤالء الكتّاب».
حني دعوت كتابنا اخلمسة عرش للمشاركة يف مرشوع الكتاب ،شجعتهم
أن يكتبوا وكأن مشاركتهم سرية ذاتية هلم؛ فحكاية اللغة األم ليست مسألة
.)penny Reviewتكتب ويندي يف العديد من الصف واملجالت وهلا حضور يف املشهد الثقايف
واألديب.
9
لسانية أو أدبية فحسب ،بل هي مسألة متس حياة الناس وشعورهم جتاهها.
ً
وانتقال قرسيا يف غالب األحيان ،من ً
انتقال، وألن هذه احلياة تضمنت
بالد إىل أخرى ،ومن عائلة إىل أخرى ،أو من ثقافة إىل أخرى ،فإن قصتها
ستحكي لنا عام هو أكرب وأوسع أف ًقا من القضايا التارخيية والسياسية التي
تزامنت معها.
-١جوزيف كونراد روائي بولندي/بريطاين ،مل تكن اإلنجليزية لغته األم .يعدّ من أهم الروائيني
يف اإلنجليزية (تويف ١٩٢٤م).
-٢فالديمري نابوكوف روائي رويس/أمريكي ،كتب يف البداية بالروسية ،ثم باإلنجليزية بعد
شهرته العاملية (تويف ١٩٧٧م).
10
يكن باإلمكان احلصول عىل مقالة من كونراد [املتوىف يف العام 1924م] .لذا
سأحاول أنا بدوري أن أقوم بتهريبه إىل هذا العمل من الباب اخللفي ،ولكن
عرب حضوره يف املقدمة.
يف بداية طبعة العام 1919م من سريته الذاتية املعنونة بـ «سجل
شخيص» ،حاول كونراد جاهدً ا أن يدحض االنطباع القائل إنه اختار أن
يكتب باإلنجليزية .كانت لغة كونراد األم البولندية ،وكان والده الوطني
املعروف ،الذي تويف حني كان كونراد يف الثانية عرش ،متمكنًا من البولندية
متام التمكن .وحيث أن كونراد نشأ يف بولندا ،فقد كان يعرف الفرنسية،
ويصف معرفته هبا بأهنا «معرفة جيدة جدً ا ،فقد كانت مألوفة منذ والديت».
لكنه حني أراد كتابة الرواية ،كانت اإلنجليزية هي سيدة خياله:
احلقيقة أن قدريت عىل الكتابة باإلنجليزية ال ختتلف يف طبيعتها عن
أي موهبة طبيعية ولدت معها .عندي شعور غريب وبالغ القوة أن
اإلنجليزية كانت جز ًءا مورو ًثا من ذايت .مل تكن اإلنجليزية بالنسبة
اختيارا .ومل ترد حكاية االختيار وسطحيتها يف ذهني ً قرارا وال
يل ً
ُ
حدث تَبنّي ،ولكن أبدً ا .كام أنني مل أقرر تبنيها .لقد كان هناك ً
فعل
أخذت بيدي مبارشة بعد مرحلة ْ عبقرية اللغة هي ما تبناين ،لقد
التمتمة األوىل وجعلتني ابنًا هلا بشكل كامل ،حتى كأن أمثاهلا
وحكمتها كان هلا مفعول مبارش عىل مزاجي ،وتشكيل شخصيتي.
يدرك كونراد أن عالقته باإلنجليزية خمتلفة عن عالقة أوالدها األصليني
هبا؛ لكنه يرى أن محيميته معها ال تقل عن ذلك إن مل تكن أعظم.
كانت املسألة مسألة اكتشاف وليست مسألة وراثة؛ فالشعور
لست من أوالدها جعلبالنقص يف عالقتي باإلنجليزية بصفتي ُ
شعورا خالدً ا
ً من الرغبة يف التّمكن منها أثمن ،كام بسط أمامي
11
بالواجب أن أعمل ألستمر يف استحقاقي هلذه الثروة ....وبعد
كل هذه السنوات من العمل املخلص الدؤوب ،وكل ما رافقها
من اآلالم املرتاكمة يف قلبي بسبب التعثر والقصور والظنون ،كل
ما آمل أن أمتكن من قوله هو أنه جيب أن ُأصدّ َق حني أقول أنني مل
أكن ألكتب أبدً ا إن مل أكتب باإلنجليزية.
سيقول بعض كتّاب مقاالت هذا الكتاب -وربام قالوا -ذلك عن
أنفسهم .إذ ربام كان كرس احلواجز ،والنأي عن اللغة األصل ،هو ما يصنع
من الكاتب كات ًبا .لذا فإن ِكتا ًبا ُسئل فيه جمموعة متنوعة من املؤلفني ثنائيي
حتم عن
اللغة أن ينظروا يف الفروق بني لغاهتم األصلية واإلنجليزية سيكون ً
اللغة املتبناة -اإلنجليزية -بمقدار ما سيكون عن كل يشء آخر .كان كونراد
قد استخدم عبارة «عبقرية اللغة» يف معرض حديثه عن اإلنجليزية؛ هي
َ
احتوتك وألقت عليك تلك احلالة التي تشعر فيها أن اللغة اإلنجليزية قد
رداءها ،عرب الكتب أو األفالم أو الناس .ستكون أهيا القارئ شاهدً ا عىل
هذه العبقرية يف اآليت من الصفحات.
حافزا لتتجىل لنا
ً ومع ذلك فإن إحدى غايات الكتاب أن يكون
بعض خصائص اللغة األصل :أن يدفع كتّابنا للتعبري باإلنجليزية عن
فرائد خصائص لغاهتم األم .فاألمر ليس من السهولة بمكان حني حياول
ذكر أدوات عبوره حدود املناطق اللغوية واألدبية ،األمر الذي قال
الكاتب َ
ذكرت للتو أهنا مستحيلة» .لكن ُكتّابنا
ُ عنه كونراد نفسه« :مهمة كنت قد
مجي ًعا هنا بذلوا جهدً ا يف املحاولة((( .وخالل قراءة قصص اكتشاف كتّابنا
لإلنجليزية ،سيتعلم القارئ شي ًئا كذلك عن خصوصية كل جتربة ،وعن
-١لطيفة لغوية :مفردة مقالة اإلنجليزية ( )essayتعني يف أصل داللتها اللغوية املحاولة.
12
شعور القرار والسكنى ،سواء أكانت التجربة والروح فرنسي ًة أم يونانية،
أم كورية ،أم روسية .وقد ال تكون عالمات اللغة األصل يف بعض األحيان
تقرتب أكثر لتستمع ،وأن تنصت للصوت َ رصحي ًة؛ عندها جيب عليك أن
الرقيق لتدرك مواطن تأثري اللغة األم عىل اللغة اجلديدة .روح الدعابة،
والسجع ،والرتكيز عىل الزمان واملكان ،وامليل إىل احلكاية أو إىل التحليل،
أدوات قد حيملها الكاتب من
ٌ وبناء احلكاية عىل صوت املتكلم ،وغريها؛
لغته األم إىل اإلنجليزية.
وربام جيدر يب أن أقول شي ًئا حول ما ال عالقة له هبذه املختارات .إن هذه
حمكم يف حقل اللسانيات أو األنثروبولوجيا أو املقاالت ليست ً
عمل علم ًيا ً
األدب املقارن .ال أحد من هؤالء الكتاب كان قد تدرج ليكون لسان ًيا ،أو محل
ّاب أختريوا للمشاركة شهادة عليا يف حقلها .إن كل املشاركني مؤلفون ،كت ٌ
بناء عىل كتابتهم باإلنجليزية ،وهي السبيل الوحيدة يل ملعرفتهم والتعرف إىل
أعامهلم .لقد كان زعمي أننا قد نتعلم من كتّاب الرواية ،واملرسحية ،والنقد،
أمرا مل يكن لنا أن نتعلمه من علامء اللغة.
والصحافة األدبيةً ،
كام أن هذا العمل ليس حماولة لتمثيل لغات العامل ،تلك التي قد يتجاوز
عددها ستة آالف لغة خمتلفة .صحيح أنني حاولت أن أنظر إىل اجلغرافيا
ً
قليل ،لكنه مل يكن جهدً ا حقيق ًيا .لدينا فراغ كبري بسبب غياب لغات كالعربية
واليابانية والربتغالية ،عىل سبيل املثال ال احلرص .لدينا يف هذا العمل كاتب
كثريا
واحد فقط من القارة األفريقية .ويف املقابل الكثري من أوروبا ،كام أن ً
منهم من اليهود .قد يكون ذلك بسبب التقلبات اجليوسياسية خالل القرن
كبريا من اليهود هياجرون إىل اللغة اإلنجليزية،
العرشين ،التي جعلت عد ًدا ً
وجعلت عد ًدا منهم كتّا ًبا .ولكن جز ًءا من ذلك -دون شك -هو أنني أنا
نفيس أنتمي لعائلة ذات جذور هيودية أوروبية .غري أن األمر الذي ينبغي
13
أن يقتنع به القارئ هو أنني اجتهدت يف إقناع املشاركني هبذا العمل الشاق،
أي كتابة املقالة .ويف هذا السياق أتذكر فقرة من مرسحية «هنري الرابع،
اجلزء األول» لشكسبري ،حني ا ّدعى جلنداور ً
قائل« :إن يف استطاعتي أن
أدعو األرواح من أعامقها السحيقة» .حينها دمغه هوتسرب برده« :أنا كذلك
أستطيع دعوهتا ،بل ويستطيع دعوهتا كل إنسان ،ولكن املهم هو إن كانت
ستستجيب لك تلك األرواح عند دعوهتا» .والذي سيجده قارئ هذا
الكتاب هو تلك األرواح التي استجابت للدعوة.
مل يتّبع املشاركون هبذا العمل التعليامت ،أو باألحرى كنت أنا أول من
أساسا يف طريقة طلبي هلم ،ومن ثم قاموا هم بكرس مزيد من ً جتاوزها
معيارا جامدً ا للحديث عن اللغة األم ثم عن
ً التعليامت يف مقاالهتم .إن
اإلنجليزية كان سينتهي ربام باستبعاد آيريل دورفامن ،الذي كان قد نيس
متا ًما إسبانيته يف الصغر وكان عليه أن يتعلمها جمد ًدا بعد اإلنجليزية؛ وربام
استبعد كذلك أيمي تان ،التي تعلمت إنجليزيتها وصينيتها يف الوقت نفسه؛
وكذلك نيكوالس باباندريو ،الذي ولد يف بريكيل ونطق اإلنجليزية قبل
معرفته باليونانية؛ ومعهم جيمز كامبيل ،الذي مل يتكلم االسكتلندية أبدً ا ،مع
بعضا منها هنا وهناك يف أحاديث أمه وجدته .كام أن اشرتاط أنأنه كان يفهم ً
يكون املشاركون مجي ًعا يكتبون -اآلن -باإلنجليزية كان سيستبعد جوزيف
سكوفوريكي ،الذي وإن كان قد أ ّلف باإلنجليزية إال أن األصل أنه يكتب
بالتشيكية؛ وكذلك نغوغي وا ثيونغو ،الذي كتب باإلنجليزية لسنوات لكنه
عاد إىل الغيكويو ألسباب سياسية وذاتية؛ وبريت كيزر ،الذي ال يكتب وال
يتكلم إال باهلولندية .وحيث أن مسألة ثنائية اللغة ليست بين ًة جدً ا ،فقد
طلبت من الكتّاب -فقط -أن يتحدثوا عن العالقة بني لغاهتم األم وبني
اإلنجليزية .واحلقيقة أن مفهوم اللغة كله قد ال يكون هبذا الوضوح املزعوم؛
14
فقد يرى البعض أن اليدشية فرع عن األملانية ،وأن االسكتلندية فرع عن
فاصال حول معنى اللهجة أو اإلنجليزية .كان كل هذا اجلدل قد رسم خ ًطا ً
كيفية تناوله؛ كام اتسع هذه اخلط بسبب تنوع أعامر كتّابنا املشاركني :حيث
ال خمتل ًفا
ترتاوح أعامرهم بني العرشينات و السبعني .فقد سلك كل جيل سبي ً
نحو اإلنجليزية ،كام فعلت كل بلد ،أو كل ثقافة.
يبقى أن هناك خي ًطا ربط بني كل املقاالت .إذ كانت ثمة نزعة واضحة
أمرا واحدً ا .إن النظر
يف املقاالت جتاه اعتبار لغة مرحلة الطفولة والطفولة ً
حمسوسا وربط الكلمة بيشء ذي واقع مادي ً إىل لغة الطفولة بوصفها شي ًئا
أي يشء :مثل هو كام وصفه راندال جاريل(((« :للكلمة واقع حمسوس مثل ّ
رأسا عىل عقب ،أو أن تعبث به مثل دمية ،أو أي يشء يمكنك أن متسك به ً ّ
أن ترميه عىل أحدهم مثل لعبة أطفال» .كانت هذه النظرة للكلمة حارضة
النفي من الطفولة زمنًا هو قدر الناس مجي ًعا ،لكن هؤالء الكتّاب َّ هنا .إن
كانوا قد نفوا من طفولتهم مكانًا كذلك .يشعر كتّابنا أن هذا اليشء املفقود
من جتربة الطفولة ما زال حي ًا يف مكان ما ،ويمكن الولوج إليه -إن كان
فعل -عرب اللغة وحدها .يمكن رؤية حديث الطفولة هذا وبقوة يف ممكنًا ً
الفصل الذي كتبته إم جاي فيتزجارلد عن اإليطالية ،والفصل الذي كتبه
غاري شتاينغارت عن الروسية؛ كام كانت الطفولة سمة بارزة يف الفصل
الذي كتبته َب ْار ِت ُموك ِْرجي عن البنغالية ،ومقالة توماس الكور عن األملانية،
كتبت ها-يون ْ ومقالة نيكوالس باباندريو عن اليونانية ،وعن الكور ّية كام
جانغ .عندما خلط لويس بيغيل بعض ما خيص طفولته مع قصة بولندية
كان قد قرأها ذات مرة؛ أو عندما وصف لوك سانت الفرنسية بأهنا «هويتي
الرس ّية التي ال يمكن حتى لألصدقاء اقتحا َمها» ،نصبح نحن أمام ملحة من
-١راندال جاريل شاعر وناقد وكاتب أمريكي ،اشتهر بكتابته ألعامل األطفال (تويف ١٩٦٥م).
15
بالد يتصورها الكاتب؛ بالد جيتمع فيها اخليال ،والذاكرة ،والفقد.
وإنه ملن املفارقة أن أحرر أنا كتا ًبا يكون فيه املهجر أو املنفى موضو ًعا
ٌ
مرتبط باألرض، رئيسا .فبقدر ما إن الكتاب عن عبقرية اللغة ،فهو كذلك ً
والثقافة ،والسياسة ،والتاريخ .وها أنا بتواضع كبري ،أحادية اللغة ،متعلقة
ببقايا ما أمتلك من إسبانيتي التي عرفتها يف املدرسة الثانوية ،وأقل من تلك
البقايا من الروسية من املدرسة نفسها .كام أنني أبعد ما أكون عن فكرة
نشأت
ُ املهجر واالغرتاب؛ فأنا أعيش عىل بعد أربعني ً
ميل من املكان الذي
به؛ كام أنني وخالل السنوات اخلمس واخلمسني التي عشتها مل أبتعد مطل ًقا
ولدت فيها .إن األمرُ عن كاليفورنيا أكثر من ستة أشهر وهي الوالية التي
املهجرون هو العودة إىل أرضهم املفقودة،ّ الذي يتوق إليه هؤالء الكتّاب
والتي تركوها هم أو عائالهتم قرسا؛ ما يشتاقون إليه هو أمر اكتسبته أنا دون
عناء .لكن هذا احلق املكتسب بالوالدة مل جيعلني غري مدركة ملا قد يشعرون
به .أقود سياريت فوق جرس سان فرانسيسكو ،مع الفجر أو مع املغيب ،فأنظر
إىل تلك البالد املألوفة متا ًما وأتذكر كلامت برخيت((( من مرسحيته «دائرة
الطباشري القوقازية» عن بالد املرء وحبه هلا:
ألن اخلبز فيها ألذ ،وألن السامء أعىل ،وألن اهلواء أزكى ،وألن
األصوات تبدو أقوى ،وألن امليش عىل أرضها أيرس .أليس األمر
كذلك؟
حني غياهبا أو فقدها.
وقد يكون إدارك حقيقة األشياء أحيانًا أعمق َ
كام أدرك كونراد ما أدركه من اإلنجليزية ألنه اكتشفها ومل يرثها .هذه هي
السبيل التي أفهم من خالهلا ما كان يشعر به برخيت ،الذي كان يف مهجره يف
-١برتولت برخيت (بريشت) شاعر وكاتب مرسحية أملاين ،يعد من أهم كتاب املرسحية يف القرن
العرشين (تويف ١٩٥٦م).
16
كاليفورنيا حني كتب هذه الكلامت .وهذه هي السبيل التي أفهم من خالهلا
ما يكتبه أي كاتب مغرتب عن بالده ،وحني يكتب عن لغته املفقودة.
-١ليني هو الصيغة احلميمية ( )nicknameالسم ليونارد ،عادة ما تستخدم هذه الصيغ بني
األهل واألصدقاء املقربني.
-٢باإلضافة اإىل ليونارد مايكلز ،كان قد تويف كاتبان من كتّاب مقاالت هذا الكتاب عند العمل
عىل ترمجته ،وهمَ :ب ْار ِت ُموك ِْرجي التي توفيت يف يناير ٢٠١٧م ،و جوزيف سكوفوريكي الذي
تويف يف يناير ٢٠١٢م.
17
طريق العودة
ْ َب ْ
(((
هار ِتي ُموك ِرجي
ال عجب يف أن تسمى اللغة التي نرثها باللغة األم .فهي أمنا :رؤوم
وعطوف؛ وتسمي لنا العامل وكل ما يدور فيه من املشاعر .بالرغم من إقامتي
األربعني سنة املاضية من عمري يف مدن يتكلم غالبية أهلها اإلنجليزية
والفرنسية إال أن األمومة والسلطة اللغوية عىل هويتي الظرفية بوصفي
مهاجرة كانت دائام للغة البنغالية .كم هي متين ٌة أمي البنغالية؛ فأنا مل أتعلم
جديد عربها ملدة تقارب نصف ٍ ٍ
شعور ٍ
فكرة أو مفرد ًة جديد ًة وال حتى جمر َد
القرن .مل أحتج ذلك يوما .بناء عىل االعتقاد السائد فمجرد والديت يف بيئة
بنغالية أصيلة جتعلني بالرضورة أنتمي لعضوية أكثر لغات العامل تعبريا
وخياال وذكاء .بالرغم من ندائها الرصيح للحب والتباهي واملقدمان عىل
طبق من الشعور القرسي بالذنب ،حتطم البنغالية دوما بمفارقة ثقة جمتمعها
املتصاعدة بنفسه .وأنا كالطفلة أحاول أن ألتمس األعذار كي ال أشجب
حال أمي السائرة دون دليل .ثابت ٌة عىل الوفاء لبنغاليتي يف وجداين؛ كام هي
وف ّية يل كذلك.
-١ب ْار ِت ُموك ِْرجي ( )Bharati Mukherjeeأستاذة األدب اإلنجليزي يف جامعة كاليفورنا يفَ
بريكيل ،وهي كاتبة وروائية أمريكية من أصل هندي؛ ألف ست روايات وجمموعتني من القصص
القصرية .كثري من رواياهتا تناقش قضايا اهلجرة واملهاجرين .كام ألفت كتبا بالرشاكة مع زوجها
كالرك باليز أستاذ الكتابة اإلبداعية يف جامعة يورك الكندية .ولدت يف كالكوتا يف أقليم البغال
ودرست به املرحلة اجلامعية .توفيت هباريت يف يناير من العام ٢٠١٧م.
18
ناد بربع مليار عضو عىل االحتواء يا ترى؟ البنغالية هي لغة كم هي قدرة ٍ
بنغالديش :ثامن أكرب دولة يف العامل من حيث عدد السكان؛ وهي كذلك
لغة والية البنغال الغربية يف اهلند :ثاين أكرب جمتمع لغوي يف اهلند .وهناك
املاليني ممن مل ُيق َّيد يعيشون هنا وهناك يف العامل .وحتى إن وضعت هذه
األرقام املهولة جانبا ،فإن البنغالية تشكل الغالبية داخل وجدان كل فرد من
أوالدها .تسكن البنغالية إيامننا؛ متمثلة يف تراثنا وتارخينا ويف أماكننا املقدسة
ويف بنية جمتمعنا وثقافتنا.
تُعدُّ البنغالي ُة اللغ َة األم للجوع والفقر ،بحسب العاملني يف اإلغاثة
الدولية .لكنها يف املقابل اللغة األم للشعر والشغف والوفرة بالنسبة لورثة
الوطني الذهبي ألبناء احلقول البنغالية املتهيئة
ّ ( )bangla shonarالنشيد
للحصاد ،واألهنار البنغالية املليئة باألسامك .كام أن البنغالية هي لغة احلنني
إىل األمل الذي كان ح ّيا يوما ما :احلنني إىل التعايش بني اهلندوس واملسلمني
الذين عاشوا يوما ما يف بنغال موحدة قبل أن يمزقها االنتقام ،عىل يد البحرية
متجاوزا
ً الربيطانية؛ كان األمل بوحدة اللسان ،واإلخالص لغد مشرتك
للغضب الديني ،الذي يتغذى عليه سياسيو يومنا هذا .أعتقد دوما أن وحدة
اللسان أقوى من اخلالفات الدينية .بناء عىل مالحظتي أثناء سفري املستمر
لبنغالديش ،كنت أظن ،وما أزال ،أن اهلندوس واملسلمني قادرون عىل عبور
تلك احلفرة التي وضعت بينهم ،لوال أن السياسيني الفسدة من اجلانبني
يقفون يف الطريق.
بلغت الثامنة وأنا يف أرض البنغال .فوالدي كان العائل ومصدر الرزق
ملا يقارب اخلمسني نفسا من األقارب الذين كانوا يسكنون معنا متزامحني،
يف شقة أرضية يف بيتنا ذي الطابقني ،يف ح ّينا اهلندويس ديانة والبنغايل لغة؛
19
ينتمي ح ُّينا للطبقة الوسطى يف مدينة كالكوتا((( ،التي أفسد املستعمر نطقها
وكتابتها كذلك(((ُ .ولِد كل البالغني يف ذلك املنزل يف قرى تابعة ملقاطعة دكا
لد كل الصغار يف كالكوتا يف البنغال الرشقية ،بنغالديش حاليا؛ يف املقابل و ِ
ُ
املزدهرة ،عاصمة إقليم البنغال الغربية .يتكلم الكبار فيام بينهم بلهجة دكا؛
ويتكلم والصغار بلهجة كالكوتا .مل أكن حينها أعلم أن اللغويني يعدّ ون
هلجة دكا هلج ًة منحرف ًة ،بينام يعدون هلجة كالكوتا هلجة صحيحة ومعيارية.
يعتز املرء بلهجة
ففي بيتنا كانت هلجة دكا البنغالية هي هلجة األصالة .إذ ّ
أسالفه ،وإن أضاع هو نفسه بعضا منها بفعل االستجابة لنداءات اهلجرة
املتوالية .ونحن بنغاليون رشق ّيون ،أو بنغاليون فقط .كنا نحاول عزل أنفسنا
عن البنغاليني الغربيني والذين كانوا حيارصوننا ويعدّ وننا دخالء .لقد صنفنا
مهجرين لألبد من أرضنا وأرض أسالفنا. أنفسنا بنغاليني ّ
أن يولد اإلنسان بنغاليا يف غري بالده يعني بالرضورة أن يرث الفقدَ
والشوق ألرضه احلقيقية .وبالرغم من حجم تأثري اللغة األم يف هوية َ
اإلنسان ،إال إن للوطن تأثريا عظيام كذلك؛ الوطن ،تلك املساحة من
األرض التي امتلكها أسال ُفه يوما؛ تلك الرتبة التي راحوا واسرتاحوا عليها.
الرضاء إىل
أن يرمي بك القدر خارج تراب أرض األجداد يعني أن ترافقك ّ
األبد .وبخالف اللهجات والتي يمكنها أن ترافق اإلنسان يف مهجره ،فإن
فراق تراب أرض األجداد هو أمر حتمي ودائم عند اهلجرة .قد يملك أبناء
الشتات البنغايل بعض العقارات يف بالد املهجر ،ولكنه ملك مرشوط ،متاما
كحال واقعهم باعتبارهم مهاجرين؛ وهذه العقارات لن تكون وطنا أبدا.
-١عاصمة والية البنغال الغربية يف رشق اهلند ،وكانت عاصمة اهلند قبل انتقاهلا إىل نيودهلي.
-٢كان اهلنود يكتبون اسم املدينة باللغة اإلنجليزية ( )Kalkotaحتى غريها املستعمر اإلنجليزي
إىل ( )Calcuttaوتغريت مع ذلك حتى طريقة نطقها.
20
أعتقد أن الضفرية احلميم ّية للغة املوروثة واملكان واهلوية هي التي مل تسمح
ملهاجري البنغال أن ينظروا إىل النظام الربيطاين بأنه حضن أم حقيقي .لذلك
فإن حبل الوصل امتد بني اآلباء واألجداد عرب توارث األرض التي حتوي
تلك الرتبة .مل يكن مهام أن تكون تلك األرض املنكمشة ذات مردود مادي
أو إنتاج زراعيٌ .
جيل واثنان وثالثة وأربعة .....وثامنية وتسعة والذرية ال
ووجداين ال عالقة له
ّ هتاجر؛ يزدادون فقرا ،لكنهم ينظرون ألمر رمزي
باالقتصاد.
أتقنت يف طفولتي نطق مفردات أقسام منزلنا بالبنغالية :منزل ،وحجرة،
وأرض ،وتربة ،ووطن .وكنت وأوالد عمومتي ندرك احلكمة من وراء
القروي عىل الصرب
ّ قصص األطفال الالمعدودة والتي خترب عن عزيمة
واملصابرة دون بيع األرض التي حتوي تربة آبائه .كان أشدّ وعيد عرفناه
يف صغرنا عبارة عن قصيدة مشهورة تتحدث عن غني جشع هيدد املزارع
البائس الفقري« :أمل تدرك ذلك بعد أهيا الفقري؟ أنا من سيشرتي أرضك!»
حتى يومنا هذا ،وبالرغم من استقراري يف سان فرانسيسكو ،ما زلت أدخل
يف نوبات رعب ترافق سداد كل دفعة لرضيبة السكن أو قسط أدفعه ملنزيل،
بسبب عمق أثر ذلك الوعيد ورمزية تلك القصيدة .كلام مررت بأزمة مالية
جعلتني أفكر -ربام -يف إعادة متويل قرض رشاء منزيل أقول لنفيس« :مطلقا!
بل اصربي وانجي كام صرب ونجا املهاجرون ،أو أولئك الذين مل يضعوا ثقتهم
عيل
دروسها َّ يف البنوك خالل فرتة الكساد العظيم» .واصلت الثقافة املوروثة
متر يب؛ واجلغرافيا جعلت من «الالوطن» حالة دائمة يل .ويف عرب كل حادثة ُّ
احلني ذاته ،عملت الثقافة اجلديدة عىل إقناعي أن الوطن هو حيث أستطيع
استثامر حبي ووالئي.
البحث عن تعليم أفضل ،وعن فرص عمل أفضل ،باإلضافة إىل الكوارث
21
الطبيعية من الفياضانات واملجاعات ،ونار العداوة املشتعلة باستمرار بني
املسلمني واهلندوس ،كلها ح ّثت عائلتي عىل اهلجرة إىل كالكوتا خالل
العرشينيات والثالثينيات من القرن املايض؛ مع استمرار متلكهم ألراضيهم
ٍ
أصهار ألرسته: يف قراهم األصلية .ذهب أيب يف صغره إىل كالكوتا ليقيم مع
زوجني مل يكونا قد رزقا أطفاال .وكان السبب يف إرساله هو التعليم اجلامعي
اإلنجليزي اجليد يف كلية القديس زفري يف كالكوتا ،والتي يديرها جمموع ٌة من
املسيحيني من بلجيكا .وألن والدي حصل عىل منحة دراسية جمانية استمر
يف الكلية كطالب للدراسات العليا يف ختصص الكيمياء التطبيقية .ثم ألنه
توجب عىلكان األكثر تعليام ،وإن مل يكن األكرب سنا بني أخوته التسعةّ ،
أيب أن يبحث عن عمل يف كالكوتا ،املدينة األكثر إزدهارا بني مدن البنغال.
بدأ املحتاجون من أفراد العائلة واألقارب واألصدقاء بالوفود قادمني من
الرشق ،بمجرد سامعهم أخبار بحث أيب عن عمل .واستمر هؤالء الضيوف
بالتنقل بني بيوهتم التي ما زالوا يملكوهنا يف املناطق الزراعية رشقا ،وبني
كالكوتا.
دفعت األحداث بني اهلندوس واملسلمني يف العام 1946م ،والتي
كانت األعنف يف ذاكرة الناس ،بانتقال كل قبيلة آل ُموك ِْرجي خارج قريتهم
حيث ،شكّل املسلمون حينها األغلبية يف تلك املنطقة .جاء الالجئون
حمملني بحكايات احلرق والنهب واالغتصاب .وعرب دموعهم وكوابيسهم ّ
تعلمت مفردة (خوف) باللغة البنغالية ،وما حتمله من األمل ُ وعويلهم
والصدى .وبميزان الرعب الذي رأيته يف وجوههم فإين ال أستطيع أن أدرك
كلمة إنجليزية تقابل ما حتمله مفردة (خوف) البنغالية .تقفز كلمة (خوف)
البنغالية باملرء يف ذاكرة ومعاناة شعب ال يمكن التعبري عنها .حني انفصلت
بنغالديش كدولة يف العام 1947م أصبح كل أفراد أرستنا الكبرية من
22
متنقلني بني الريف واملدينة إىل الجئني يف مدينة ال يمكنهم الشعور باالنتامء
هلا .كانت كالكوتا مدينة جلوئهم املستكثرة عليهم.
لقد رزقت حزن املنفى منذ طفولتي .كنا نحن الالجئني خمتلفني ومتميزين
ُ
سؤال عن البنغاليني الغربيني .هذا االختالف بدأ يظهر عىل السطح يرافقه
الرصاع الذي بدى مطروحا بوضوح! كنا نرفض مصاهرة األرس من البنغال
الغربية ،وكنا نسخر من لكنتهم وعجزهم عن نطق بعض األصوات .كام
ظهر الرصاع عىل ملعب كرة القدم حني يلعب فريقنا ،البنغال الرشقية ،مع
فريق البنغال الغربية؛ حتى إننا كفتيات كنا ُن ْظهر أننا مشاكسات وخشنات
ومشجعات لكرة القدم ،ملجرد أن نتحدى فتيات البنغال الغربية .البنغاليون
الغربيون يف املقابل بدأوا بتنميطنا كمزارعني وذلك هبمزنا بأسامء كـ (اليقطني
الريفي) ..لقد بدأنا معركة قوامها «نحن و هم» وذلك بتقسيم الناس بناء
ش َعنّا «نرجسية االختالفات
عىل اللهجة التي يتكلموهنا .أظننا كنا قد َ ْ
الصغرية» قبل معرفتنا أساسا بفرويد((( بزمن طويل.
كانت البنغالية يف منزلنا لغة الشغف والرتبية .كانت الزوجات غري
املوت بالبنغالية؛ واألبكار العفيفات ك ّن يغتب َن الفتيات
َ السعيدات هيدّ دن
ذوات السمعية السيئة باجلوار بالبنغالية كذلك .وكان األعامم يابسو
تقمص شخصية الرؤوس يتبادلون الشتائم بالبنغالية .وكلام حاول والدي ّ
ترصف غري مهذب، ٍ ليؤدب أحد األقارب عىل املصلح -غري الالئقة به-
َ
شاور والدته األرملة بالبنغالية :ممارسة حمافظة تقليدية متسلطة .أتذكر
جيدا البنغالية يف القصائد الساخرة التي كانت تتبادهلا جديت أليب حني
َ
يقرأن لبعضهن تكون بصحبة ش ّلتِها ،وه ّن يمضغ ّن التبغ .أرامل حدباوات
-١نرجسية االختالفات الصغرية رسالة لعامل التحليل النفيس زيغمونت فرويد ،وهي تبحث يف
أسباب عداوة بعض املجموعات لبعض رغم تشاهبهم داخل املجتمع الواحد الكبري.
23
البعض بصوت مرتفع شعرا يعرب عن قسوهتن وحتيزهن جنسيا .متر األيام
ِ
لثالث فتيات ،دون أي ولد وهؤالء العجائز يعذبن والديت بسبب إنجاهبا
صبي .ولربام كنت أميش أحيانا يف شارع هايت((( يف سان فرانسيسكو وأنا
ّ
أسمع صدى ثنائيتهن القبيحة« :هناك الكثري من املال يف الصبي ،حتى يف
بوله /وهناك ٌ
حبل لتشنق به الفتاة».
وحو َل
ّ قيم املجتمع وحمظوراته.
غريت لغتي األم وبشكل واضح َ ْ لقد
التعليم نسا َء املجتمع إىل ثائرات ،وغري مستسلامت ،وغري مؤهالت للزواج
يف الوقت نفسه .عانت أمي من تسلط وسخرية أرسة أيب والذي تزوجته بعد
لمها بأن تلتحقحصوهلا عىل الشهادة الثانوية؛ كان ذلك بسبب ذكرها حل ِ
ُ
بالكلية يوما ما ،وكذلك بسبب رغبتها بإرسالنا -بناهتا الثالث -ملدرسة
ابتدائية أفضل يف احلي املجاور .مل يكن األمر جمرد سخرية؛ بل كان هناك
الكثري من العنف اللفظي والبدين .مل أكن أدرك أين لست جمرد طفلة مراقبة
ملشهد من املامرسة السادية-املازوخية املرشعنة؛ بل كنت كذلك شاهدةٍ
عىل الفصول األخرية من عذاب ثقايف وضجة كبرية .مؤخرا وأثناء بحثي
يف معارك اهلندوس التقليديني واإلصالحيني املتأثرين بأوروبا حضاريا،
عثرت عىل قصائد؛ قامت تلك القصائد بدورها بإعادة كل مشاهد األمل ُ
ٍ
حماولة من طفولتي :األمل امللحق واألمل املقبول((( والذي تعرضت له كل
لإلصالح :فردية ،أو أرسية ،أو جمتمعية.
إحدى هذه القصائد كانت بلهجة بنغالية عامية ،مل تعد دارجة يف يومنا.
تقول القصيدة« :املرأة املتعلمة هي امرأة دون زوج /كبقرة منفلتة ،ترعى يف
اجلوار» .يبدو املقصد من هذه القصيدة واضحا عىل السطح :املرأة املتعلمة
-١يمثل شارع هايت معلام بارزا يف مدينة سان فرانسيسكو ،يرتاده السواح والزوار.
-٢يف عبارة امللحق واملقبول متثيل لواقع فكرة السادية واملازوخية املذكورة آنفا.
24
هتدد التقاليد! ولكن الرتمجة ال ولن تفي حق األنساق الثقافية واللغوية
املضمرة يف رموز تلك القصيدة .كانت مفردة «دون زوج» الواردة يف القصيدة
رجل معها ،وهي بأي حال لن خترج عن ثالث البنغالية تصف املرأة التي ال َ
حاالت اجتامعية :قد تكون أرملة وهو قدر مؤمل يف جمتمع يقدس وجوب
رفقة الزوج يف كل حال؛ أو قد تكون عزباء وهو قدر أسوأ من سابقه ألن
املرأة مكلفة بعبادة رهبا عرب عبادهتا لزوجها؛ أو قد تكون عاهرة .وجاءت
صفة «منفلتة» لتصف البقرة كمثال لقياس حال املرأة دون زوج ،وقد كان
من املمكن ترمجتها إىل «غري مربوطة» أو «عارية» كذلك .ثم جاءت «ترعى»
جتتمع
ُ لتعني «جتول» أو «تتسكع» أوحتى «تقتحم البيوت دون إذن أهلها».
هذه املفردات لرتبط بقبح شديد بني املرأة التي تتطلع لتع ّلم أساسيات القراءة
والكتابة واحلساب وبني عاهرة جوالة ،وقعت ضحية للمجتمع نفسه الذي
نبذها ابتدا ًء .ولكن هذا الربط الدينء مستبعدٌ ومفندٌ بل وال معنى له أساسا،
وذلك ألن قائل القصيدة هو الشاعر العظيم من القرون الوسطى ،جوفيندا
داسا(((؛ وخيال الشاعر املقدس ال يمكن أن يكون هبذا السوء! فالشاعر يف
ألنْس كام قد يكون عليه األمر جمتمعنا البنغايل ليس جمرد فنان أو مصدر ل ُ
ورثت لسانا
ُ يف الغرب؛ بل هو من ّظر وكاشف أللغاز الكون العظمى .لقد
حيمل الكثري من التناقضات واملفارقات .قدرة املفردات البنغالية عىل محل
املعاين املتضادة ظلت ترافقني حتى وأنا أكتب الرواية باإلنجليزية.
البنغالية ليست فريدة يف حاهلا هذه .فقد رشح لنا الشاعر اإلرسائييل،
روين سوميك((( ،أن العربية احلديثة لغ ٌة ملغومة بمصدرين رئيسني :الكتاب
-١وفيندا داسا شاعر هندويس كبري ،مشهور بقصائده املخلصة لإلله كريشنا يف التقاليد
اهلندوسية (تويف ١٦١٣م).
-٢شاعر هيودي من مواليد العراق.
25
املقدس واآللة العسكرية احلديثة .وبناء عىل قوله فإن كل شاعر يف العربية
احلديثة حيتمل دائام قراءتني أو أكثر بطريقة متناقضة وساخرة ،بل و قد ُت َّم ُل
كتاباته إحياءات جنسية.
لقد نلت امتياز عضوية متحدثي البنغالية من خالل هتويدات النوم،
واألمثال الشعبية ،والرصاعات األرسية .تربيتي كفتاة صاحلة كان عىل يد
جديت أليب ،ذات العجوز التي آذت أمي بلساهنا ألهنا مل تنجب صبيا .كانت
جديت نفسها قد تعلمت القراءة عىل يد أختها الكربى ،والتي مل ترزق بأوالد
من زوجها الذي اختاره أبوها؛ حيث كان من املتوقع أن يكون ذا دخل عال
كطبيب يف كالكوتا؛ رغم ذلك كانت حتمل نوعا ما بعض األفكار التقدمية.
كل ليلة وبرغم رغبتنا بقصص اجلن مع مؤثراهتا الصوتية الدرامية حيكيها
لنا أحد اخلدم ،كانت جديت تقص علينا النسخة البنغالية من مالحم رامايانا
وميهيباراتا(((.
كانت رامايانا هي املفضلة عندي من بني امللحمتني .كيف هي يا ترى تلك
الفتاة التي مل يكن يبهجها العشق؟! واألمري الصالح الوسيم ،رام ،والذي
ُفي إىل الغابة.
كان الوريث الرشعي لعرش والده العجوز املعدد ،كان قد ن َ
كان والده امللك حتت سيطرة زوجته صغرية السن والطموحة بأن يكون هلا
إصدارها اخلاص لوالية العهد .ألسنا مجيعا نعرف حكاية شبيهة هبذه يف
املنفي ،رام ،ومنها اختطاف
ّ حاراتنا أو عائالتنا؟! تتواىل املغامرات لألمري
زوجته واحلرب العظيمة النقاذها .تنتهي القصة بزواج سعيد وتتويج لرام
ليكون ملكا للبالد .ما أوضح املقارنة بينها وبني هيلني وباريس((( ،واليونان
-1من أشهر املالحم اهلندية وأقدمها وحتتوي عىل كثري من الشعر والفلسفة والتعليامت الدينية
وأصلها من السنسكريتية القديمة.
-2يف األساطري اليونانية قصة باريس ابن ملك طروادة واجلميلة هيلني اإلسبارطية.
26
وطروادة .ياهلا من قصة مجيلة مع إعادة صياغة مظهر الشياطني واآلهلة
لتأخذ شكال من احلياة اليومية .كان صخب احلكاية يبهجني :حبكة القصة
القوي ،والتوازن بني العنف والرفق .وخلف كل كواليس هذا اإلعجاب
الالمنتهي ،كان هناك يشء من الواقع يف القصة من حال أرسيت النفسية .ها
أنا ذا أتدرب ألكون روائية.
وككاتبة ،كنت دائام ما أقوم بربط خيوط احلكايات ببعضها :فقد كنت
أحيانا أحيل قصص العائلة إىل قصص جريمة وغموض؛ وأحيانا أخرى
أغمس نفيس يف العنف؛ أو أمزج بني التاريخ القديم والواقع املعارص.
كنت أغرق يف زخم من األصوات واملشاهد بشكل أعمق بكثري من جتربتي
الشخصية :االستغراق كام حيب البعض تسميتَه ليعيبه .عليهم إذن أن يلوموا
رامايانا عىل ذلك العيب!
كان من عاديت أن أنبش املوروث العاملي باحثة عن الفكرة واملفردات؛
ثم أعيد تشكيلها حتى تستقر يف انتامئها يل؛ أظنها عادة اكتسبها ال إراديا
منذ الطفولة .كنا كبنغاليني نفاخر ونرص عىل خصوصيتنا ،خاصة هؤالء
الذين من كالكوتا .كان لدينا -عىل سبيل املثال -كلامت تسلب األلباب،
حتصلنا عليها من األمم التي مررنا هبا خالل رحلة احلياة :احلرب ،والتجارة،
والزواج ،واهلجرة ،وذلك دون أن نشعر بأهنا تشكل أي هتديد عىل جوهر
هويتنا .فمن الفارسية والتي كانت لغة القضاء قبل االستعامر اإلنجليزي
املوسيقي املحرتف.
ّ أخذنا اسم الوردة (غوالب) ،وكذلك (أوستاد) وهو
حتى املفردة اهلندية-اإلنجليزية (دوربار) كانت من الفارسية ،وهي من
يعب عن القوة والنرص والتوسع؛ والزمن الفيكتوري ،وتعني الفسطاط الذي ّ
(رشبات) للرشاب املنعش .وعرب تواصلنا الطويل يف التجارة مع الربتغاليني
جاءتنا كلامت مثل (توايل) للمنشفة ،و(أملريا) للخزانة اخلشبية الكبرية .ومن
27
اإلنجليز ،والذين جعلوا من كالكوتا مركزا للقوة جاءت كلامت تدور يف
فلك املحاكم واملدارس واحلدائق العامة واملساكن الفاخرة .لقد تلقينا أول
إبعاد لنا من قبل السلطة عرب اإلنجليزية ،والتي لقنتنا بدورها لقرنني من
الزمان أننا رجعيون .وهناك الكثري من الكلامت التي «هنّدها» الناس نطقا:
(تيبيل) للطاولة و(كابارد) للخزانة اخلشبية ،واملفضلة عندي (تيكوجي((()
لغطاء إبريق الشاي الذي حيفظ سخونته؛كانت هذه الكلامت عالمة عىل
العار االستعامري .مظاهر احلضور اللغوي الربيطاين -والذي سأعود هلا
الحقا -كانت كذلك أكثر إثارة لالهتامم أو أكثر دمارا بحسب الزاوية التي
ينظر منها اإلنسان.
يف بيتنا كنا نتن ّقل بني نوعني خمتلفني من البنغالية .كنا نتكلم (تشالتي)
مبهرة بالفلفل اهلندي واملفردات األجنبية التي فقدت صفة والتي تُعدُّ عامية ّ
األجنبية عرب القرون .ولكننا حني نكتب الرسائل وفروضنا الدراسية ،فإننا
نكتب بالـ (سودها) أو البنغالية النقية كام نظنها؛ وهي هلجة مليئة بمفردات
ورسمي .وكان معيار املراوحة بني
ّ سنسكريتي وذات طابع أديب
ّ ذات أصل
اللهجتني مبني عىل توقيت التواصل ومكانه ودافعه وأطرافه .يف طفولتي
كنت ال أعارض فكرة الفجوة غري القابلة للعبور بني املنطوق وبني املكتوب.
كان ذلك قبل عوديت من سفري ملدة ثالث سنوات لدراسة مراحل التعليم
العام يف إنجلرتا؛ حينها احتجت أن أتعلم اإلنجليزية من أول الطريق
وبرسعة ،حتى أمتكن من اللحاق بمواعيد تسليم واجبايت األسبوعية ملادة
الكتابة عن موضوع رياضة امليش ،وعن غناء العصافري ،وعن العطالت يف
مارغيت((( والتي كتبتها يف احلقيقة بإنجليزية منطوقة بسيطة؛ وبالرغم من
28
ذلك فقد حصلت عىل أعىل الدرجات .حينها بدأت أثور عىل التقليد البنغايل
الذي يعامل البنغالية العامية عىل أهنا أدنى من أن تستقر عىل الورق.
كنت يف الثامنة حني بدأت عالقتي مع واقعي ثنائي اللغة .يف املدرسة
الواقعة يف ساحة ْس ُل َون((( كنت أتكلم اإلنجليزية التي أسمعها يف حميطي .ويف
البيت أتكلم البنغالية التي تكلمتها يف بيتنا يف كالكوتا .مل تكن ذايت البنغالية
مهددة أبدا بسبب نمو مهاريت وطالقتي بلغة املستعمر .لكن الصدمة كانت
حني اكتشفت أنني ُأعدّ من األقليات؛ فتاة ذات برشة سمراء يف مدرسة
بيضاء .كنت حينها ما زلت حمافظة عىل عضويتي يف أكثر نوادي اللغة نخبوية
َ
ليكرتث ،أو ليعلم بذلك. يف العامل ،ولكن أحدا ممن حويل مل يكن
أدركت أن
ُ خالل األسابيع األوىل النضاممي للمدرسة اإلنجليزية
األبجدية البنغالية أكرب بكثري من اإلنجليزية .احلروف اإلنجليزية مرتبة
بطريقة مربِكة ،فليس ثمة منطق يف ترتيبها مما يؤكد أن ترتيب احلروف
اإلنجليزية أبجديا هو أمر اعتباطي .بينام تضع البنغالية حروف األصوات
املتحركة وحدها بمنأى عن حروف األصوات الساكنة .وعند احلديث
عن احلروف الساكنة فإن القائمة البنغالية ال تقدر عليها فتيات املدارس
اإلنجليزيات وال حتى املعلامت وال ه ّن منها بقريب .إن الصوت يف احلرف
معجزا لإلنجليز .حروف األصوات ِ األول من اسمي «بوهرايت» كان
اخليشومية يف البنغالية ال يوجد هلا مقابل إنجليزي .حروف األصوات
الساكنة مرتبة يف األبجدية البنغالية بحسب موقع خمرجها من الفم واللسان.
لدينا ثالث أصوات أصلية للـ ( )nاإلنجليزية ،ولدينا كذلك ثالث أصوات
أصلية أخرى للـ ( )rاإلنجليزية .وبالرغم أن هذه الدقة -أو التعقيد إن
شئت -جتعل اإلمالء ممارسة عسرية عىل الذهن ،إال أنني فخورة بام تتطلبه
29
هذه الرباعة اللغوية من جهد ومهارة.
يف املقابل فإن لإلنجليزية أبجدية اقتصادية جدا .لقد كانت اإلنجليزية
متساحمة جدا مع األصوات غري الدقيقة التي تنطقها تلك األلسن الكسولة.
ليس يف اإلنجليزية مفردات متدّ ظالهلا لذوي القربى يف العائلة املمتدة.
والعمت واخلاالت ليس هلم ما يم ّيز قرابتهم جتاه األب
ّ فاألعامم واألخوال،
أو األم يف اإلنجليزية؛ بل وال حتى ما يميز أعامرهم ،وكأن األمر يبدو
غري مهام! وباملقارنة مع تنوع األصوات املتحركة يف البنغالية مما جيعلها لغة
موسيقي ًة ،فإن اإلنجليزية تبدو جافة وال إثارة فيها .أشتاق للمفردة البنغالية
تت لتحاكي صوت عزيف الرياح ،وصوت هزيم املطر ،وصوت ُح ْ التي ن ِ
خرير املاء .كام أفتقد كذلك املفردات ذات الصدى ،تلك التي تكرر املفردة
كـ (غرام غرام) ،أي حار حار والتي تفيد التحذير؛ وأخواهتا يف القائمة ال
تنتهي :جيد جيد ،غني غني ،وبدين بدين .استخدامات ال حتتاج الكثري من
العبقرية ملامرستها .هناك أشكال أخرى للصدى ،التكرار ،ولكنها تتطلب
حضورا ذهنيا خمتلفا حيث إنه سيختلف إما الصوت األول من املفردة أو
األخري .كان أيب بطال لكل األلعاب اللغوية يف البنغالية العامية ،وكان يداعب
اجلميع هبا حتى وإن كان يف لقاء مع ضيوف مهمني .أحيانا وعرب تالعب
لفظي بسيط ،كان أيب (يعتقد أنه) يمتحن ذكاء املقابل له ،أو يستخرج منه
معلومات خاصة حول رشعية أمواله ،أو أخالق أوالده ،أو تبذير زوجته،
من خالل إجاباته.
كنت أغبط اإلنجليز عىل قدرهتم عىل تدوين الوقت لغويا؛ فبينام
يستخدمون األمس ،واليوم ،والغد ليعربوا عن املايض ،واحلارض،
واملستقبل؛ فإن البنغالية تستخدم (كال) والتي تعني الزمن يف كل حاالته
سالفة الذكر .لقد كان بيني وبني زميالت الدراسة الربيطانيات الكثري من
30
املعارضات حول مفهوم الزمن .ولكن ومع تنامي متكني من لغتي الثانية،
بدأت أدرك االختالف بني األزمنة دالليا ونحويا .واحلقيقة أن بناء اجلملة
اإلنجليزية نحويا كان قد شكل يل معضلة ،حيث كنت أرص عىل استحضار
تركيب تلك اجلمل اإلنجليزية ولكن حسب القاعدة البنغالية .وكأن حمرك
النحو يف دماغي كان موصوال بالرتتيب الذي تفرضه لغتي األم.
بدأت أستثمر يف لغتي األم عرب احلنني إىل ساعة احلكاية مع جديت
واألقارب «الرشيرين» يف كالكوتا ،والذين كنت أحيانا أختبئ حتت الرسير
عجل بشكل أو بآخر بإشعال جذوة شوقي لتجنبهم .ذلك احلنني املصطنع ّ
حلكايات أمي التي كانت تقصها علينا :عن شهداء احلرية الذين كانوا
حياربون ألجلها يف بلدات عتيقة كبلدتنا .كانت تقص علينا تلك القصص
بينام كنت أتناول عشائي جالسة عىل حصري مصنوع من عيدان القصب
بجوار أوالد األقارب الذين يسكنون معنا وأخوايت الثنتني .وحلجم أرستنا
املمتدة كنا نأكل العشاء عىل دفعات :األطفال أوال ،ثم الرجال من العائلة،
ثم النساء؛ ثم يأكل اخلدم .خالل تناولنا لوجبة العشاء كانت أمي احلكيمة
تستهل بقصص عن شباب وشابات خياطرون بتعرضهم للتعذيب يف
السجون ،أو النفي جلزر آندامان((( ،أو ربام حتى املوت ،وذلك هبجومهم
عىل مراكز الرشطة أو الثكنات العسكرية .تقص أمي علينا ذلك وهي تبعد
عظام السمكة البيضاء والتي كانت قد نقعتها يف خليط الـ(كاري) ،لتطعمني
بيدها كرات السمك واألرز .تقص علينا وتطعمنا ونحن نتشاجر ونبكي
رصاعا عىل رأس السمكة« :أنا أريد رأس السمكة!» فريد اآلخر« :ال! إنه
دوري .لقد أكلت رأس السمكة البارحة .ليس عدال! آكل هذا ألن والدي
ليس ».....يتّحد الرصاخ متزامنا مع أصوات الطيور حني حتاول القرار عىل
31
أشجار الغاف املصفوفة عىل أرصفة احلي.
يف كالكوتا ولقرهبا من املحيط ،يكون الشفق حلظة مفصلية للتفكر :بني
االعتقاد والثقة يف القيم التنويرية املستوردة ،وبني االستسالم لقوى الكون
-كموسيقي جاز حمرتف -ماهرة يف احلكاية واالرجتال؛
ّ الغيبية .كانت أمي
عيل
كانت تعرف جيدا كيف جتعلني مشدودة ومشدوهة يف كل مرة تقص ّ
ذات احلكاية ،ولكن دوما بنهاية مفاجئة وخمتلفة .كان صوهتا يذيب كل
اجلامدات من حويل.
كروائية ،أحاول اآلن أن أذيب كل احلدود الثقافية بني املوروثات التي
عشت خالهلا .كان مفهوم الزمن السائل الذي ورثته عن البنغالية (كال)؛
والواقعية السحرية((( التي ورثتها من املالحم اهلندية؛ كانا يرشدان قلمي إىل
الكتابة عن املهاجرين يف مدن أمريكا الشاملية .كام أنني حاليا أكتب بلغة ثالثة،
وهي األمريكية ،هلجة جديدة منحرفة عن الـ (فورسرتية((() اإلنجليزية التي
تعلمتها كمعيار للغة الصواب ،والتي كتبت هبا أول رواية يل وأول جمموعة
قصصية.
كانت لغتي األم هي اإلعداد األول؛ وهذا التعبري يبدو وكأنه اعرتاف
هبزيمتي أنا وبراءهتا هي ،إن أردت أن أتكلم بإدراك وتعقل .ولكنّها
حل ُجب منتتالت ا ُ
ْ اإلنجليزية التي كانت بدايتي للقياس واملقارنة .ثم
ُ
القليل من بريقها الفرنسية واإلنجليزية حتى سرتت بنغاليتي متاما وإن بقي
هناك .ولكثري ممن ينتمي هلذا املجتمع العاملي وليس فقط لنا نحن القادمني
من اهلند ،إنه لقدر غريب أن نطمئن عرب إدراكنا للوقت الذي تعلمناه من
أرسنا وعرب رسد احلكايات أن لغ ًة أخرى ،لغة للدراسة ،كانت من الرضورة
32
بمكان لتحرر عقولنا من أبداننا؛ لتحرر ذواتنا من جمتمعاتنا.
تعيش شخصيتان داخل كل إنسان كان قد تبنى لغة ثانية .وكام هو احلال
يف كل واقعة للتبني هناك ما يضاف وهناك ما يفقد .وهناك خري وحظ عظيم:
والدة ناجتة عن احلاجة واخليبة سويا .وبالنسبة يل ككاتبة كان ذوبان لغتي
األم هو ما صنع الكيكة؛ كان هو طريق العودة وطريق امليض قدما يف الوقت
ذاته .كان فقدا للذات يف أعمق ذاكرة :أ ّم القصص ك ّلها.
33
نعم وال
أيمي تان
(((
ُ
«تبالغ سوسو كثريا أرست يل أمي ذات عشاء عائيل يف سان فرانسيسكو: ّ
بالتظاهر أهنا مهذبة (تعني زوجة أخيها/خايل)! ملاذا ّ
كل هذا التظاهر؟! فهي
تأخذ كل ما تريده دو ًما!»
تفكّر أمي وكأهنا خبرية يف شؤون العادات الصينية ،وكأهنا مل تكن قد
غادرت الصني منذ العام 1949م .فها هي مل تعد حتتمل مظاهر اللطافة
واللباقة الرسمية .ولتثبت سوء ظنّها جتاه سوسو ،قفزت أمي للجهة األخرى
آخر قطعة
من الطاولة لتقدم هلذه اخلالة الكبرية يف السن والقادمة من بكّني َ
إسكالوب من عشائنا البحري السعيد.
قليل وقالت« :ال أريدها؛ أنا ً
فعل ال أريد!» جتهمت سوسو ً
ّ
«خذهيا خذهيا!» ،قالتها أمي بالصينية بنربة أقرب ما تكون للتوبيخ.
«لقد اكتفيت ً
فعل ،امتألت»؛ هكذا اعرتضت خالتي سوسو ،ولكن
بضعف وهي ترمق اإلسكالوب اللذيذ بنظرها.
«ما هذا!» ،تعجبت أمي باستياء بالغ وقالت« :ال يريدها أحد؛ إن مل
-1أيمي تان ( )Amy Tanكاتبة أمريكية/صينية ،هلا عدة روايات وقصص قصرية وقصص
لألطفال .ألفت رواية «نادي احلظ املمتع» وهي رواية تبحث يف عالقة املرأة الصينية بابنتها
األمريكية/الصينية .آخر كتبها كان رواية واقعية بعنوان «عكس القدر».
34
تأكليها فإهنا سرتمى!»
عند ذلك ،تنهدت سوسو وترصفت وكأهنا تسدي لوالديت معرو ًفا
بتناول ذلك اإلسكالوب املسكني من يد أمي.
التفتت أمي ألخيها ،الضيف الذي يزورها للمرة األوىل يف كاليفورنيا،
والذي كان ذا منصب رفيع جدً ا يف احلزب الشيوعي يف الصني؛ وقالت له:
«يف أمريكا قد يموت الصيني من اجلوع ،ألن األمريكيني لن يكرروا عليك
عرض ضيافتهم أبدً ا إن قلت ال أريد ،لن جياملوك ولو بتكرار عرضهم ملرة
واحدة أبدً ا».
أومأ اخلال برأسه ،وقد استوعب الصورة متا ًما ً
قائل« :يأخذ األمريكيون
األمور عىل عجل ألهنم ال يملكون وقتًا ليكونوا لطفاء».
فكرت بسوء الفهم هذا مرة أخرى؛ سوء فهم لسياق اجتامعي ُ حينها
بسبب ما قد يفقده املشهد عند الرتمجة .حدث أن أرسل يل صديق مقال ًة
من جملة نيويورك تايمز .وكانت املقالة تتحدث عن التغريات احلاصلة يف
احلي الصيني يف مدينة نيويورك .وقد أملحت إىل أن هناك حالة من التناقض
واخللط املوروث داخل اللغة الصينية نفسها.
«الصينيون هلم خصوصيتهم وحياؤهم» ،كام أقرت املقالة ،ثم جعلت
ذلك سب ًبا الفتقار اللغة الصينية ملفردات مثل (نعم وال).
وهذا غري صحيح البتة ،هذا ما أعلمه عن الصينية ،لكني أستطيع فهم
هذا املوقف من الغرباء عن اللغة .ثم أكملت القراءة.
مضت املقالة قائلة« :إن الصيني يقدم التنازالت؛ ألنه ال يغامر بالتعرض
للحرج».
أغص! ما الذي يدفع الناس لقول مثل هذه األشياء؟ يتكلمون
لقد كدت ّ
35
عنا وكأننا -حرف ًيا -مثل تلك الدمى الصينية التي يبتاعوهنا من متاجر احلي
دائم بكل
تقر ً
الصيني؛ تلك الدمى التي هتز رأسها لألعىل واألسفل ،وكأهنا ُّ
ما يمليه عليها املتحدث املقابِل.
خييفني تأثري هذه التقريرات قارصة النظر عىل اإلنسان البسيط الغافل.
«قصورا يف
ً يسمونه
فأتساءل عن الناس حني يقرأون يف مثل هذه املقالة ما ّ
برشا يف
املفردات»؛ هل يظنون حينها يا ترى أن الصينيني يتطورون بوصفهم ً
ظل حالة كهذه من القصور ،أي بام تسمح به لغتهم؟ ّ
ُيف َقدُ الكثري دو ًما أثناء الرتمجة ،فتحدث بعض الفجوات .ثم يترسب
الكثري من السوء إىل ذلك الفراغ ،خاصة عندما يقوم بعض اللغويني غري
الراشدين بمقارنة اللغات بطريقة تبحث مفردات التفاوت بني اللغات،
دون النظرة املجملة الشاملة .ثم يلوحون باإلذن للناس بسوء التفسري
مثل إن الصينية تفتقر لألسلوب املبارش الذي يسمح والرشح .فقوهلم ً
للناس باختاذ القرارات :القبول ،أو الرفض ،أو التأكيد ،أو النفي؛ يفيد أن
الصيني ال يستطيع أن يرفض االستجابة -عىل سبيل املثال -لعرض جمر ٍم أو
تاجر خمدرات ،أو أنه ال جييب بوضوح إذا قيل له أجب بـ «نعم أو ال» عىل
منصة الشهود.
قد يستطيع بعض األشخاص وبمساعدة من بعض اللغويني الكبار
فعل مثل جدول ماء ليس فيه «نعم أو ال» .فهناك نظرية املجادلة أن الصينية ً
(اللغة والواقع) القديمة التي عمل عليها قبل سنوات إدوارد سابري(((:
«الناس .....مرهونون برمحة كل لغة خاصة ،حدث أهنا قد أصبحت وسيلة
التواصل بينهم يف جمتم ٍع ما ..... .ألن العامل احلقيقي ما هو إال من بناء
36
العادات اللغوية يف تلك املجموعة اإلنسانية بشكل أو بآخر».
لبثت نظري ُة (اللغة والواقع) سالفة الذكر إال وساندهتا الفرضي ُة ثم ما ْ
يت هذه الفرضية عىل أن نظرة اإلنسان ِ
رف((( .وقد ُبن ْ
املشهور ُة لسابري َو ُو ْو َ
فاعل داخل عامله تعتمد بشكل وتصوره للعامل ،بل حتى وكيف يكون املرء ً
كبري عىل اللغة التي يستخدمها .يزعم سابري َو ُو ْورف وحاملو الراية من
بعدمها أن علينا االقتناع بأن اللغة تشكّل طريقة تفكرينا وتقودنا عرب احلياة
بأنامط مضمرة يف اللغة نفسها كالرتاكيب النحوية وأنامط النرب والتنغيم .وبناء
عىل هذا االفرتاض ،فإن اللغة بذاهتا تكون هي الرف والقواطع التي متكننا
من تقسيم العامل وتصنيفه .ففي اإلنجليزية عىل سبيل املثال مفردة للقطط
ومفردة للكالب كحيوانات أليفة؛ لكن ماذا لو كانت اللغة كذلك تفصل
مسميات احليوانات األليفة بمفردات ختص احليوان األليف الذي يتساقط
شعره عىل األريكة ،يف مقابل احليوان األليف الذي يتساقط شعره ولعابه عىل
إن كان هذا االفرتاض واق ًعا ،كيف -إذن -تشكل اللغة تصورنا األريكة؟ ْ
للواقع عرب هذه املفردات؟!
فعل -أي أن اللغة هي سيدة الفكرة املرادة- وإن كانت هذه هي احلال ً
فلنفكر يف حجم إمكانية ضياع الكثري ،فقط ألن لغ ًة ما مل تتمكن من تطوير
مفردتني صغريتني «نعم وال» .فلربام عاد جنكيز خان أدراجه من منغوليا؛
(((
ولربام جتنب الناس حروب األفيون((( .ولربام مل تكن الثورة الثقافية
- 1فرضية توصل هلا كل من سابري واللساين األمريكي بنجامني وورف (تويف ١٩٤١م) تنص
عىل أن اللغات تفرض عىل املجتمعات رؤية الواقع وتصور العامل.
-2حربان قامتا بني اإلمرباطورية الصينية وبريطانيا .األوىل يف (١٨٤٢-١٨٤٠م)؛ والثانية يف
(١٨٦٠-١٨٥٦م) ،واشرتكت فيها فرنسا دعام لربيطانيا.
- 3فرتة من القالقل السياسية مرت عىل الصني يف الستينيات والسبعينيات امليالدية.
37
لتحدث كذلك!
يامي ِ
وما زال بعض اللغويني والنفسانيني يرون أن اللغة والواقع توأم س ّ
ال يمكن فصلهام ،وأن أحدمها نتيجة لآلخر بالرضورة .لقد جتاوزنا فرضية
سابري َو ُو ْوف إىل تطوير الذات وبرجمة اللغة العصبية اللذين خيرباننا« :أن
املرء هو ما يقوله».
حدث أن كنت مفتونة بالنظريتني .وأستطيع رسد أمثلة وإن مل تكن
دقيقة من أحقاب مضت كأدلة جتريبية عليهام :فلديك اإلسكيمو وقائمتهم
الالمنتهية لكلمة «ثلج» ،وقدرهتم احلقيقية عىل إدراك الفوارق يف صفات
الثلج مهام د ّقت بفضل غنى مفردات لغتهم املعربة عن الثلج! يف حني ال
يستطيع يف املقابل غري الناطقني بلغات اإلسكيمو إال قول «ثلج» أو «مزيد
من الثلج».
لقد حدث وأن مررت بتجارب إدراكية عجيبة ومؤثرة من خالل
الكلامت .ذات مرة أضفت كلمة «موف(((» خلزينة مفردايت ،ثم ما لبثت
حتى رأيت اللون يف كل مكان حويل .يف مرة أخرى بدت يل أسعار املطاعم
الفرنسية أرخص حني تعلمت نطق ( ،)prix fixeوالتي هي أصعب من نطق
أثرا يف القيمة املدفوعة(((.
( ،)a la carteولكنها أكثر ً
ولكن ما مدى جدية هذا احلديث؟!
لقد قال سابري شي ًئا آخر عن اللغة والواقع .إنه اجلزء الذي عادة ما
- 1درجة البنفسجي الباهت ،وقد سمي هبذا بعد اسم زهرة نبات اخلبيزة بالفرنسية (.)muave
)fixe prix( -2قائمة املطاعم ذات السعر الشامل والثابت وتكون دائام أقل سعرا من املطاعم
األخرى وقد تدخل هبا مطاعم البوفيه ،بينام املطاعم التي تقدم الطلبات اخلاصة باطباق حسب
الطلب هي التي تسمى (.)a la carte
38
خيفيه الناس عندما يكثرون النقاط داخل عالمات التنصيص .....« .ال
توجد لغتان متكافئتان متا ًما لتعدّ ا ممثلتني للواقع االجتامعي ذاته .فالعوامل
التي تعيش هبا املجتمعات عوامل متاميزة متا ًما ،وال يوجد عامل واحد تصفه
عالمات أجنبية عنه».
تصديق ما كنت
ُ حينام قرأت هذا القول للمرة األوىل ،قلت لنفيس :هذا
أشعر به حني نشأيت يف عائلة ذات ثقافتني خمتلفتني ولغتني خمتلفتني .وكام
مزدوجا مرضو ًبا عليهم؛ رضيبة
ً يعرف كل أطفال املهاجرين أن ثمة قيدً ا
معرفة لغتني .يتحدث والداي -عىل سبيل املثال -معي بالصينية واإلنجليزية
سو ًيا؛ ولكني أجيبهام باإلنجليزية فقط.
«إيمي آآ(((» ،ينادونني.
«ماذا؟» ،أمتتم جميب ًة.
«ال تكثري علينا األسئلة حني ندعوك ،فهذا ليس من األدب»؛ يوبخانني.
«ما الذي تقصدانه؟»
«أي(((! أمل ِ
ننهك للتو عن طرح األسئلة؟»
أتساءل دو ًما -حتى يومنا هذا -عن أي جزء من سلوكي كانت الصينية
قد شكلته ،وأي جزء شكلته اإلنجليزية .ويغريني التفكري ً
مثل أن أتساءل
فعل ذات عقلني حني أتعامل مع ٍ
أمر ما؟ وهل هذا عائد كذلك عام إذا كنت ً
ً
فعل إىل ثراء جتربتي اللغوية ،أم إهنا نزعتي الفردية نحو االرتباك؟ لكني
كثريا يف الصينية للنداء ،أو لفت االنتباه .هو مما دخل يف ما يمكن تسميته
-1تعبري يستخدم ً
( ،)Chinglishاإلنجليزية بنكهة الصينية ولكنتها.
-2تعبري للتعجب وهو من جنس الرشح السابق.
39
أيضا :أي عقل يف احلقيقة نطق هبذا التساؤل؟
أتساءل ً
رب والذي نام معي وأنا أحاول تفكيك رموز إنجليزية هل يا ترى كان الص ُ
استمعت لتلك املرأة عىل اهلاتف،
ُ أمي الضعيفة هو الذي جعلني لطيف ًة حينام
وهي تعلن فوزي بجوائز ثمينة؟ أم يا ترى كان االحرتام الذي ُغ ِرس بداخيل
عرب اللغة الصينية وصيغ األمر فيها حني أستمع للعجائب وبرشح معقد هو
ما قادين أن أوافق حمدثتي أن قيادة السيارة خلمسة وسبعني ً
ميل فقط ألجل
معاينة منتجع مشرتك امللكية سيكون شي ًئا ممت ًعا؟ هل كانت الكلامت هي ما
ينقصني فعل ًيا حني كنت أرد عىل تلك األسئلة« :أال تودين ربح رحلة عىل
خصيصا
ً متن باخرة إىل جزر هاواي ،أو ربام الفوز بنجمة هندية مصممة
لدى كارتري وفان آربيلز(((؟!»
وحني اتصلت املرأة نفسها بعد أسبوع من تلك املكاملة متذمر ًة من تفويتي
«املتعمد» ملوعدي ،بالطبع كانت لغتي التي رددت عليها وقاطعتها هبا هي َّ
رفضا قاط ًعا بكل تأكيد حني قلت هلا« :من اللغة التي أتقنها بامتياز .كان ً
الواضح أنني غري مهتمة باألمر!» كان هذا الرفض القاطع أمريك ًيا ب ّينًا مثل
(فطرية التفاح((() متا ًما .قالت السيدة« :ولكنه -أي املنتجع -عىل مرتفعات
مورغان» .حينها رفعت صويت« :أال تفهمني؟ ال هيمني حتى وإن كانت يف
متبكتو(((» ..ولكم أن تتأكدوا أنني قلتها بنربهتا املعربة بمثالية عن السخرية
واالشمئزاز.
إن هذا التقسيم للغة والسلوك ألمر خطري جدا .أين هي اإلنجليزية؟
-1فان كليف آند أربيلز اسم رشكة فرنسية منتجة للساعات واإلكسسوارات والكامليات.
أمريكي.
ّ -2فطرية التفاح رمز للحلوى األمريكية ،ومن ثم أصبحت رمزا للتعبري عن كل ما هو
-3مدينة تارخيية يف مايل ،تعدّ ملتقى للحضارات والثقافات وطرق التجارة القديمة ،وهي حمط
أنظار السواح.
40
وأين هي الصينية؟ ترشح التصنيفات نفسها ِ
بنفسها :عدوانية وضعيفة؛ َ
مرتددة وحاسمة؛ مبارشة وغري مبارشة .أدرك أهنا أوصاف تصب يف وصف
املقالة املذكورة« :الصينيون هلم خصوصيتهم وحياؤهم».
لكني أرفض ذلك كله!
إن كانت ردات فعيل حاسمة يف بعض األمور ،فذلك ألين ال أستطيع
كثريا؛ متاما
جماراهتا .لقد نشأت وأنا أستمع لكثري من الكالم املبتذل واملكرر ً
كتلك األسطر املكررة يف ذلك اليشء الذي تسميه اإلنجليزية «كتاب»((( .يف
احلقيقة إنني كدّ ت أصدق تلك القناعات.
حني أفكر يف اللغة الصينية التي نشأت معها فإهنا ال حتمل أي خصوصية
دائم ،مهام تطلب األمر .ال
أو حياء! كان والداي جيعالن األمور واضحة ً
يشء مضطرب يف أوامرمها ،وال مساومة عليها« .بالطبع ستكونني جراحة
أعصاب مشهورة» .هكذا قاال يل ،ثم أضافا« :وعازفة بيانو حمرتفة كذلك».
واحلقيقة إنني أتذكر اآلن أن أقل جتليات قلة الصرب التي شهدهتا يف حيايت
كانت بالصينية« :ليس هكذا! جيب أن تغسيل األرز جيدً ا ،كام جيب ّأل تسقط
حبة واحدة منه».
املهاجر ْين من الصني يشكالن أي استثناء عن املجتمع
َ والدي
ّ ال أؤمن أن
احليي واملؤدب! كام إنني حني أنظر إىل الطالب الصينيني يف جمال
ّ الصيني
اهلندسة يف جامعات بريكيل وإم آي يت وييل ،فإنني جز ًما ال أظنهم قد تربوا
يف أحضان آباء وأمهات ضعفاء ،خياطبوهنم بمثل« :ال بأس يا ابنتي ،األمر
كنت تريدين العمل كاتبة أو موظفة استقبال ،أو عاملة لك؛ إن ِ
راجع ِ
تدليك ،أو مهندسة نووية؛ ِ
أنت من يقرر».
41
يف املقابل خيربين عقيل األمريكي أن طالب اهلندسة هؤالء مل يستطيعوا أن
يقولوا «ال» لوالدهيم وال للمصري الذي خيتارونه هلم .فريد عليه عقيل الصيني
جمادل :لكن هؤالء اآلباء واألمهات أرادوا أن يدرس أوالدهم الطب(((. ً
وأثناء استامعي لكال العقلني فإين أميل إىل االبتعاد عن املقارنة بني
دائم ما جتعل إحدى اللغتني معيارية اللغتني .فإن املقارنات بني اللغات ً
وحمدِّ دة للمنطق والتعبري الذي ُيتكم إليه؛ ويلزم من ذلك أن تكون
أساسا؛
ً اللغة األخرى حمل اهتام وقصور ،أو حتى إهنا غري رضورية
شديدة البساطة أو شديدة التعقيد؛ مائعة الصوت أو نشاز .يقول متحدثو
كثريا عىل قواعد نرب
اإلنجليزية إن الصينية فائقة الصعوبة وذلك ألهنا تعتمد ً
يصعب إدراكها باألذن البرشية العادية .يف السياق ذاته ،يقول الصينيون إن
اإلنجليزية صعبة جدً ا ألهنا غري مطردة القواعد ،لغة هلا الكثري من القواعد
القابلة للكرس؛ كام إهنا لغة ميكي ماوس والبطة دونالد.
ِ
الرتمجة إىل تلك واألخطر من تلك املقارنات نفسها حني تقع املقارن ُة عىل
اللغات وليس عىل اللغة ذاهتا .من يستمع ألمي -عىل سبيل املثال -فإنه
ً
ومستقبل؛ وحارضا
ً حتم أهنا ال تقدر عىل التفريق بني األزمنة :ماض ًيا
سيظن ً
وأهنا ال تؤمن باجلمع واإلفراد؛ بل وأن التذكري والتأنيث ال يعني هلا شي ًئا:
فهي تشري إىل زوجي بالضمري «هي» .إن النظرة غري املتأنية إىل طريقة كالم
ال بأن هذه هي طريقة الصينيني كلهم يف احلديث؛ تعميم جاه ً
ً أمي ربام أنتجت
كثريا يف سبيل حماولة الوصول إىل نقطة ما .واحلقيقة أن طريقة
ّ
(((
فهم يسهبون
-1حماولة ساخرة يف أن من يفشل يف دراسة الطب من الصينيني بسبب «ضعفه» فإنه يدرس
اهلندسة يف اجلامعات املرموقة عامل ًيا.
-2هناك نظرية لغوية تطبيقية قديمة حول أسلوب الصينيني يف الكتابة األكاديمية اإلنجليزية،
تفرتض النظرية أن التمطيط واملراوغة موجودة يف كتابة الصينيني اإلنجليزية أكاديم ًيا وأهنا كذلك
تعرب عن طريقة تفكريهم.
42
أمي الفريدة هي أهنا تراوغ ً
قليل.
أما أنا فأخشى أن الثقافة العامة تصنف الصينيني بأهنم حمدودي النظر.
وأخشى كذلك أن الصورة النمطية وإن كانت سليمة املقصد هي السبب
الرئييس خلف وجود عدد ضئيل جدً ا من الصينيني كقيادات يف جمال األعامل
والسياسة يف أمريكا .أخشى ما أخشاه أن تصبح قوة اللغة -أي لغة كانت-
أمرا حقيق ًيا.
ً
والدي الصينيني ومن يف جيلهام تلك التعميامت،
ّ أهلذا يقبل معظم أصدقاء
دون حتى حماولة االعرتاض؟!
«ملاذا كل هذا التذمر؟» سألني أحد هؤالء الكبار ذات ٍ
مرة ثم قال« :إن
كان الناس يظنوننا حي ّيني ومؤدبني ،فلهم ذلك .ألن يسعد األمريكيون
نفسهم إن وصفهم أحد بأهنم مؤدبون؟»
أنا كذلك أظن أن الناس بعمومهم قد يرون أن هذا الوصف ّ
حمل إطراء
مزعجا ،وكأن كل ما
ً وثناء ابتدا ًء .لكن مع استمرار ذلك ،فإن األمر يبدو
يعلمه الناس عنك هو تقييمهم االجتامعي لك عرب العالمات اللغوية .كأنام
يقول أحدهم« :مرسور بلقائك .لقد سمعت الكثري عنك .أما عني ،فال بد
أنك مل تسمع شي ًئا!»
أفكارا جديدة ،وال مشاعر
ً هذه العالمات اللغوية ال متثل يف احلقيقة
أدب من عىل البعد ،متجرد منأو انطباعات صادقة .بل هي يف احلقيقة ٌ
األدب بطاقات التهاين واملباركات
ُ سياقه االجتامعي والتواصيل؛ يشبه هذا
والشكر ،والتي تعترب مرحية إىل حد بعيد.
هذا الواقع جيعلني أتساءل عن عدد علامء األنثروبولوجيا وعدد
االجتامعيني ،والصحفيني الذين و ّثقوا ما قد ُيسمى بـ «التفاعل الطبيعي» يف
43
فعل حيملون أورا ًقا فارغة لتدوين مشاهداهتم.
البالد األخرى ،وهل كانوا ً
كام أتساءل عن عدد اآلخرين من املنتمني ألصل البرش األقدم؛ هؤالء الذين
تطوروا حتى جترأوا عىل إنتاج عرض حياكي حياة العرص احلجري ،ليشاهده
علامء األصول البرشية.
أتساءل عن عدد السياح الذين غادروا للتو حافالهتم السياحية ليجولوا
يف احلي الصيني ويتشدقوا عىل الباعة ،أولئك املنكرين لذواهتم ،والذين
يوافقوهنم مكرهني أن البضائع املعروضة ال تستحق الثمن املطلوب فيها.
كثريا.
لقد شاهدت ذلك وشهدته ً
«ال أدري! ولكنها ال تبدو يل أصل ّية .سأعطيك مقابلها ثالثة دوالرات».
هكذا قالت سائح ٌة ذات مرة لبائعة صينية يف اخلمسني من عمرها .أجابتها
البائعة« :إن مل يعجبك السعر ،فبإمكانك أن تشرتي من حمل آخر» .بكت
السائحة مفجوع ًة وهي تقول« :إنك لست لطيفة؛ لست لطيفة أبدً ا!» قالت
عيل أن أكون لطيفة؟!»
البائعة متعجبة« :وملاذا جيب ّ
هنا سألتني رفيقتي وبحذر« :كيف جييب املرء بـ (نعم أو ال) باللغة
الصينية إذن؟»
عيل أن أوافق ولو جزئ ًيا عىل ما جاء يف مقالة جملة
وهنا -متا ًما -كان ّ
نيويورك تايمز .ليس ثمة مفردة لـ «نعم أو ال» يف الصينية؛ لكن الدافع وراء
هذا الغياب ليس احلياء أو االستتار بالرضورة .إن املقابل لـ «نعم أو ال» يف
الصينية هو «سرتمها» ،وذلك باستخدام الكلامت املوجودة يف السؤال نفسه.
حني ُيسأل الصيني عام إن كان تناول طعامه أم ال ،فإنه سيجيب بـ()chrle
أي أكلت بالفعل؛ أو سيجيب بـ ( )meiyouأي مل أفعل .وحني السؤال عام
إذا كان لديه تأمني عىل سيارته لدى وقوع احلادث ،فإنه سيجيب بـ ()dwei
44
أي صحيح؛ أو سيجيب كذلك بـ ( )meiyouمل يكن لدي.
وحني سؤاله عام إن كان قد توقف عن رضب زوجته ،فإن إجابته ستكون
مبارشة لصيغة السؤال .سيجيب بأنه توقف ً
فعل؛ أو أنه مستمر برضهبا؛ أو
أنه مل يرضهبا أبدً ا؛ أو أنه غري متزوج .هل هناك وضوح أكثر من هذا؟!
وهلؤالء الذين يريدون أن يعرفوا كيف يرتمجون لغة «حي ّي ًة» كالصينية،
فإين أدعوهم لالطالع عىل هذا املثال الشخيص.
حني اقرتب موعد سفر خايل وخالتي (زوجته) عائدين إىل بكني بعد
زيارهتم التي امتدت لثالثة أشهر ،ويف ليلتهم األخرية يف الواليات املتحدة،
دعوهتم إىل العشاء يف أحد املطاعم.
سألتهم بالصينية« :هل أنتم جائعون؟»
قال اخلال مبارشة« :لسنا جائعني» .وهي اإلجابة ذاهتا التي قاهلا يل مرة
عندما كان يعاين من انخفاض يف ضغط الدم ،وكان بحاجة ملحة للطعام
ح ًقا.
أما زوجته فقالت« :لسنا جائعني جدً ا؛ هل أنت جائعة؟»
ً
«قليل!» فاضطررت إىل أن أعرتف هلم:
«إذا كان األمر كذلك فإننا نستطيع األكل ومشاركتك» .هكذا أجابا
سو ًيا.
سألتهام جمد ًدا« :ما نوع الطعام الذي تفضالنه؟»
فارها وال مكل ًفا.
أجابا« :أي يشء ،ال هيم؛ ال يتطلب األمر أن يكون ً
طعام بسيط سيفي بالغرض».
اقرتحت عليهام« :ما رأيكام باملطبخ الياباين؟ مل نجرب ذلك سو ًيا».
45
التفتا إىل بعضهام ،ثم قال خايل« :نستطيع تناول ذلك» .قاهلا دون تردد،
بل وبكل شجاعة هذا الناجي من املسرية الطويلة((( .ولكن خالتي قالت:
«لقد جربناه من قبل؛ سمك ينء!»
قلت هلا« :أنت ال تفضلني ذلك! نستطيع الذهاب إىل مكان آخر؛ ال
جتامليني».
ردت عيل اخلالة قائل ًة« :ال أجاملك فنحن نستطيع أكله ح ًقا!»
ركبنا السيارة قاصدين احلي الياباين ،ثم مشينا من أمام جمموعة من
املطاعم اليابانية ،املزينة بالطعام البالستيكي عىل واجهاهتا .كنت أومئ
بيدي عىل املطاعم قائل ًة« :ليس هذا! وال هذا!» ولكنني مل أكن أملك أي آلية
لالختيار .أرشت إىل مطعم صيني ،يقدم الطعام الصيني التقليدي من والية
شاندونج ،وقلت هلم بسعادة« :هذا هو».
قالت خالتي بصوت سعيد ومرتفع ،وقد تنفست الصعداء« :طعام
صيني».
بينام ر ّبت خايل عىل ذراعي ً
قائل« :أنت تفكرين كالصينيني».
قلت هلام« :إهنا ليلتكام األخرية يف الواليات املتحدة .ال جتامالين؛ افعال
كام يفعل األمريكيون ،فهم ال جياملون».
وتناولنا وليم ًة كبري ًة ليلتَنا تلك.
ً
كامل (أكتوبر -1املسرية الطويلة كانت رحلة تراجع للجيش األمحر الصيني استمرت عا ًما
١٩٣٥-١٩٣٤م).
46
إشكال مع اللغة
جوزيف سكوفوريكي
(((
47
بالالتينية بوابة اململكة؛ ممكلة أرشف قبائل املنطقة حينها :التشيك.
صغريا ،كانت الواليات املتحدة بعيدة ،بعيدة جدً ا؛ كانت
ً حني كنت
جمر َد صدى لواقع ال يمكن بلوغه .وبالرغم من هذا البعد ،فإن أول ذاكرة
ثقافية/أدبية يل جاءت من قلب منطقة ويري الضبابية يف الواليات املتحدة.
جالسا يف حجر أمي يف قاعة حملية للسينام ،جمرد طفل
ً حدث ذلك حني كنت
عرضا للبدين آرابكل((( :اسم العرض «أنقذين يا
يف سن الروضة .شاهدنا ً
فيدو» .كنت أتذكره كام يتذكر الطفل دون أن يعلم كيفية اسرتجاعه؛ حتى
قرأت كتا ًبا عن الكوميديا الصامتة يف هوليوود ،حدث ذلك يف كندا وبعد
ستني سنة من ذلك العرض.
جاءين اإلهلام الثقايف التايل كذلك من أمريكا الشاملية ،ولكنه كان هذه
املرة أدب ًّيا حتديدً ا .إذ كان مؤلف الكتاب جيمز أوليفر كوروود((( أمريك ًيا
من ميتشيغان ،وكان الكتاب رواية بعنوان «رجال بقلوب شجاعة» .أرجو
أن ذاكريت التشيكية مل ختني يف استدعاء اسم الكتاب .كانت ثالثية تدور
أحداثها يف الشامل الكندي؛ أبطاهلا من الـ (ماونتيز((() يالحقون فتاة مجيلة
من قبائل كندا األصلية إلنقاذها .كانت الرواية هدية من أيب يف عيد امليالد؛
يف ذلك الزمان كانت هدايا عيد امليالد من الكتب ،ال من ألعاب السيارات.
عيل أن أصرب حتى عيد امليالد القادم ألحصل عىل اجلزء الثاين كان جيب ّ
من الرواية ،ألعرف مغامرات هؤالء األبطال وما حصل هلم مع عشيقتهم
اجلميلة .مل يسعفني الصرب ،فاشرتيت اجلزء الثاين بام كنت قد وفرته من
قرأت عند النهاية عىل غالفه أن السيد
ُ مرصويف .وأفزعني اجلزء الثاين حني
-1االسم الفني لروسكو كونكلنغ ،فنان كوميديا صامتة أمريكي (تويف ١٩٣٣م).
-٢كاتب قصص مغامرات أمريكي (تويف ١٩٢٧م).
-3أفراد رشطة اجلبال امللكية الكندية.
48
كوروود قد مات قبل أن ينهي اجلزء األخري من ثالثيته.
وكتبت هناية ملحمة الراحل السيد
ُ جلست
ُ قدر اجلميلة حنيتغي ُّ
«الكهف الغامض» كانت باكورة مؤلفايت .كان والدي ُ كوروود .رواية
مندهشا من روايتي -ثامين عرشة صفحة -والتي اضطر لنسخها عىل اآللة ً
الكاتبة ورسم صورة لغالفها :نسخ أيب الصورة عىل ورق شفاف من رواية
مصورة لكارل ماي((( ،وقد كانت الروايات يف تلك األيام مليئة بالرسومات.
كنت أظن أن السيد كوروود كندي .فمن سوى الكنديني سيكتب عن
الرباري الكندية هبذا الوصف الدقيق وهذا اإلقناع؟!
مل يقمع هذا اخلطأ ثوريت األدبية .مضت سنتان عىل تلك القصة؛ واحتل
أمريكي ْ
وإن انتهى األمر ِ
الزائف ،السيد كوروود ،يف وجداين الكندي مكان
ٌّ ِّ
به أن يكون كند ًيا ،مع كل األسف .ال أعلم ملاذا كنت قد ظننت أن إرنست
تومبسن سيتون((( كان «يانكي» وأن حكاية «بربريان صغريان» حدثت يف
مزرعة قريبة من شيكاغو .ربام كان قد أثر ّيف وأنا أقرأ صوت أمي وضيوفها
حني كانوا يتحدثون عن مجال ترمجة رواية أمريكية تدعى «األدغال» ووصفها
لبؤس حياة احليوانات وموهتا وكآبتها يف «مدينة الرياح(((».
كانت السيدات يف ذلك الزمان واملكان ،بعيدً ا عن عرص أوبرا((( ،جيلسن
ويتحاورن حول الكتب.
49
مرة أخرى وبعد ستني سنة يف تورونتو ،والتي يعد يومها الشتوي كئي ًبا
جدً ا ،عرفت من دليل للمدينة أن «وادي دان» الذي يبعد عن منزلنا عرشة
دقائق مش ًيا عىل األقدام كان هو ساحة بطولة الشاب يف قصة السيد سيتون؛
وأن املكان الكئيب الذي كان يعيشه هو يف احلقيقة حيث أسكن اآلن،
تورونتو وليس إيلينويز؛ وأن السيد سيتون كان كند ًيا ومل يكن أمريك ًيا.
بعد فرتة ويف فصل باكر من فصول حيايت ،كدت أموت بسبب اإلصابة
بااللتهاب الرئوي .كل يشء يف طفولتي كان ساب ًقا ليشء ما! يف هذه احلالة
كانت طفولتي سابقة للمضادات احليوية .نجوت بمعجزة ،لكن األطباء
حمتمسا جدً ا هلا قبل
ً أمروا بعزيل عن املشاركة يف ألعاب األطفال ،التي كنت
رأيت ذاتُ مريض .كانت تلك األلعاب حمل تفكريي حتى يف منامي ،فقد
(((
ليلة يف املنام أن مدرستي قد أعلنت استحداث نشاط لرياضة الـرغبي
( .)Rugbyكان آربكل وكوروود وسيتون قد صنعوا مني مشج ًعا لثقافتهم
الغربية .وبالرغم من أن الناس متارس رياضة الرغبي يف براغ منذ منتصف
القرن التاسع عرش ،إال إهنا مل تنل شعبية أبدً ا .ذهبت مرة بعد احلرب العاملية
حلضور مباراة النهائي عىل البطولة يف براغ ،وكان اجلمهور أقل عد ًدا من
الالعبني يف أرض امللعب .كنت أجلس عىل املدرج وحيدً ا؛ كنت الرجل
الوحيد بجوار مخس أو ست زوجات يعانني من هؤالء الرعناء الذين قد
أدموا بعضهم عىل العشب.
باكرا حتى قبل املرض .مل يكن باستطاعتي أن أشرتي
تبخر حلم الرغبي ً
أساسا حيث مل تكن تعرض يف األسواق يف براغ.
كرة رغبي ً
حني عزلت عن صحبة الصبية وهم يركلون الكرة بأقدامهم ،كنت أقرأ.
-1رياضة تشبه لعبة كرة القدم األمريكية مع اختالف يف الزي وبعض القوانني.
50
كانت مكتبة والدي املنزلية توفر يل الكثري من األعامل املرتمجة ،فوالدي
رجل تقليدي .واألمة التشيكية ،أو لغتها ،كانت قد ولدت من جديد عىل
يد الرتمجة :كانت يف غالبها من الكالسيكيات اإلنجليزية واألمريكية .لقد
خرس التشيكيون سيادة مملكتهم يف الوقت نفسه الذي استقرت أقدام اآلباء
املهاجرين عىل أرض أمريكا؛ خرسوا لغتَهم مع تلك السيادة .عند قراءيت
لتلك األعامل املرتمجة السيئة والثمينة يف احلني ذاته ،أصابتني رعدة خو ًفا
فعلت أشياء
ُ من هيكل غراموس((( الغارقة يف «حكاية آرثر غوردن بيم(((».
مل أكن ألقدم عىل فعلها لوال «بينرود(((» .أبحرت عرب متاهات امليسيسيبي
وبمعية اخلالفات املستعصية عىل الفهم بني غرانغرفوردز وشيفريدسونز(((.
شعرت
ُ وسافرت باملنطاد فوق صحراء أفريقيا بصحبة توم سوير((( .كام أنني
بالرطوبة الطاغية يف الغابات االستوائية حيث يسكن «طرزان» مع عائلته من
القرود .كان ذلك تعليمي الروحي.
أل ّطلع عىل األدب اإلنجليزي ،مل أكن بحاجة إىل اللغة اإلنجليزية ،التي
أساسا يف قاعات املدرسة ،والفضل ك ُّله يعود إىل وفرة األعاململ تكن تدرس ً
املرتمجة .يف املدرسة كان علينا أن نتقن الالتينية ،واألملانية ،والفرنسية؛
األخرية كانت لغة الدبلوماسية .فقبل احلرب العاملية الثانية مل تكن اإلنجليزية
لغة التواصل بني األغراب عامل ًيا ،كام هو حاهلا اليوم.
51
أعجبت بصبي
ُ بدأت أعضائي تتدخل يف عالقتي مع اإلنجليزية! لقد
أمريكي؛ يف احلقيقة كان بريطان ًيا ،وهو ما مل أكن ألعلمه ألنه يسكن هوليوود
يف كاليفورنيا .كان اسمه فرييدي بارثولومي((( ويف ظهرية ساحرة يف يوم
األحد ،يف السينام نفسها التي شاهدت فيها آربكل من عىل حجر أمي ،رأيت
كثريا من الصبية
فرييدي يف عرض لفيلم «السيد املتأنق الصغري» .يقال إن ً
الصغار قد يمرون بعاطفة «شاذة» يف الصغر؛ لكن إعجايب وحبي لذلك
املمثل الصبي كان حمبة لروحه .وعىل أي حال لقد أنقذين اهلل من أن ينتهي
يب األمر كقدر الشواذ املؤسف؛ وكان ذلك بأن وقعت يف حب فتاة -أنثى
بام حتمله الكلمة من معنى -وكانت من هوليوود كذلك ،واسمها جودي
هجرت فرييدي ألجلها حني استمعت ألغنيتها الدرامية «اخليل ُ غارالند(((.
األصيلة ال تبكي».
كان للهوى األفالطوين آثار جانبية .فقد قررت أن أتعلم اإلنجليزية
ألكتب جلودي رسالة غرامية .وهذه الرسالة هي موضوع حديثنا الذي
أطلت الطريق للوصول إليه.
نفسك اإلنجليزية» ووقعت بعشق صغريا بعنوان «ع ّلم َ
ً اقنتيت كتي ًبا
عميق مع لسان جودي الذي تتكلم به .كنت الطفل الوحيد لعائلة ميسورة
والدي إيامن أن زحام املدرسة حيتاج أن ترافقه دروس
ّ احلال؛ وكان لدى
خصوصية .ذات مرة محلت معلمتي اخلاصة للفرنسية السيدة هالفاكوفا
ً
تلميذا غب ًيا أخبارا سيئة إىل أمي؛ إذ أكدت السيدة الفرنسية أهنا مل تعرف
ً
مثيل .قالت املعلمة ألمي يائس ًة« :إنه ملن اإلرساف أن تبذروا املال عىل
تدريسه الفرنسية».
52
مل تكن أمي سعيدة باخلرب .ولكنها وجدت كتيبي اإلنجليزي ً
وبدل من
أن تعاقبني ،أتت يل باآلنسة بوكورنا لتعلمني اإلنجليزية .كانت أ ًما حكيمة
ومسكينة؛ ماتت من ارتفاع ضغط الدم يف اخلمسني من عمرها ،املرض الذي
حي أرزق ،يف اخلامسة والسبعني.خصت به عند اخلمسني ،لكن ها أنا ذا ّ
ُ ُش
ماتت أمي ألهنا كانت كذلك تعيش إحدى تلك الفرتات «السابقة» التي
حدثتكم عنها آن ًفا.
ال أحتمل مقاومة لذة االستطراد!
لقد كان معلمي اخلاص املفضل هو السيد نيو ،الذي كان منشدً ا يف
املحيل يف حينا .و قد علمني األملانية حتى بلغت إتقانًا يقارب
ّ املعبد اليهودي
مؤرخا كذلك يف إحدى الفرتات ً الناطقني األصليني .كان اسمه األول
«السابقة» .فقد أسامه والداه وبكل براءة أدولف .مات السيد نيو يف معسكر
اليهود الذي أقامه النازيون يف التشيك .قبل وفاته -أي حني كان اليهود يف
مسموحا هلم أن يقيموا مقهى هيود ًيا -كانت دروس األملانية بينيً بلدتنا
تنهد األستاذ نيو ذات مرةحتولت إىل تأمالت وحنني إىل املايضّ . وبينه قد ّ
وقال باألملانية« :ما كل هذا الذي مررنا به نحن معرش اليهود!» ثم بدأ خيربين
أيضا .كان هناك القليل من عن أيام احلرب العاملية األوىل والتي كانت سيئة ً
دروسا خصوصية للغة األملانية باملجان؛ كان يرفض
ً الطعام ،وكان السيد يقدم
املال مع صعوبة ظروف املعيشة حينها ،لكنه كان يقبل السكّر والدقيق مقابل
ذلك .كانت األملانية التي يدرسها خمتلفة متا ًما عن تلك التي كنت قد سمعتها
الح ًقا يف مصانع مريسيشميت أو التي كنت أشاهدها يف نرشات أخبار يوفا
األسبوعية عىل شاشة السينام املحلية .كان«زعيم» املدراس يف التشيك يومها
واحدا« ،املفتش» ويرنري ،والذي كانت طريقته يف التفتيش أن يظهر فجأة يف
لريوع املعلمني؛ يستمع لنصف ساعة؛ ثم زيارة للمدارس دون ترتيب مسبق ّ
53
املعلم بلغة سيئة .كان أفضل من وصف لغة ويرنري هو السيد بروبليك
َ هياجم
-معلم اللغة الروسية يف مدرستنا -حني تعرض مر ًة ملسائلة املفتش وتوبيخه
متجهم .وما إن توقف املفتش للحظة
ً عابسا
وهجومه الالذع؛ كان املفتش ً
وملجم
ً معجزا
ً ليلتقط أنفاسه ،حتى صدح األستاذ بقوله القاطع والذي كان
لذلك النازي املتعطش للدم« :أنا هنا أعلم األملانية ،لغة غوته؛ ولست هنا
ألعلم أملانية خنازير اجلرمان الربية!» .نجا معلمي اليهودي من خبث املفتش
ويرنري لسنوات قليلة ،ولكنه أعدم بعد احلرب مبارشة .أما األستاذ بروبليك
فقد منعه الشيوعيون من االستمرار يف تدريس الروسية الح ًقا.
بعد منزلة األستاذ نيو يف عاطفتي جتاه التعليم ،جتيء الدكتورة إيفا الثامر:
آري أصيل .مل تكن رفيقة للنازينيشابة مجيلة شقراء ،أملانية قحة مع اسم ّ
أبدً ا ،وكانت حتب ريلكه((( ،ومتزوجة من رجل اسمه سفوريك! ومع
ذلك فقد كان هلا بعض املامرسات العنرصية البسيطة .كان املفتش ويرنري قد
هددها بالسجن يف املعسكرات النازية ألهنا مل تلتحق باحلزب النازي ،وألن
زوجها مل يبدل جنسيته إىل األملانية .مل يكن أحد ليجرؤ عىل االستخفاف
بتهديد ويرنري ،فقد شهد الناس أن البعض دفع حياته ثمنًا مقابل بعض
األخطاء معه .هذا وقد نشأت صداقة بني السيدة الثامر/سفوريك وبني أيب،
الطبيب التشيكي الذي أوصاها باحلمل .كانت وصيته مبنية عىل أن النازيني
مل يكونوا لريسلوا جنينًا أملان ًيا بري ًئا إىل املعسكرات .قبل هتديد املفتش ويرنري
كانت األستاذة وزوجها قد قررا أن يؤجال فكرة احلمل حتى حيل السالم
فنجت .بعد
ْ يف املنطقة ،ولكنها اآلن قررت اتباع وصية الطبيب التشيكي،
سنوات عدة أصبحت أستاذيت أول مرتمجة يل للغة األملانية؛ مددت هلا
القصيدة الوحيدة التي كتبتها باألملانية ،وذلك حني كنت تلميذها املريد
-1ريلكه شاعر نمساوي شهري ،اتسم شعره بالغموض بحسب بعض النقاد (تويف ١٩٢٦م).
54
ً
حماول أن أحاكي حمبوهبا رينيه ماريا ريلكه: املحب،
قريبا ستهب رياح الشتاء املحملة بالثلوج،
وستغريك للدرب العزيزة القديمة.
هتب الرياح الباردة وتعصف بقلبي ...
أعود بعد هذا االستطراد إىل بدايايت مع اإلنجليزية .بعد سنة من تعيني
والديت لآلنسة بوكورنا لتعلمني اإلنجليزية ،سألتها أمي عن مستوى تقدمي
فيها .وبحامس بالغ أخربت اآلنس ُة أمي بأنني أفضل طالهبا عىل اإلطالق.
لقد كان احلب دافع عالقتي باإلنجليزية.
وباملناسبة لقد تيرس يل أن أرسل رسالة الغرام تلك إىل جودي يف الثاين
من ديسمرب من العام 1941م ،بعدما كنا قد تركنا العيش يف تشيكوسلوفاكيا
وأصبحنا مواطنني من الدرجة الثانية ويف «حممية» بوهيميا ضمن الرايخ(((.
حينها كان الربيد إىل الواليات املتحدة ما زال يعمل ألن أمريكا كانت ّملا
تشارك يف احلرب بعد؛ اشرتكت أمريكا يف احلرب بعد الرسالة بأيام قليلة.
جتب ،لكنيكان هناك أمل أن تبلغ الرسال ُة جودي .عىل أي حال ،هي مل ْ
املحيل قد استوطن
ّ جتاوزت ذلك نفس ًيا خالل زمن قصري .كان اجلامل
يف قلبي مكان جودي .وبمساعدة اآلنسة بوكورنا بدأت أقرأ األعامل
اإلنجليزية واألمريكية مبارشة دون احلاجة للرتمجة .كانت معلمتي خرجية
ممثلمدرسة بريطانية ،درست فيها حني كان والدها يعمل يف لندن باعتباره ً
جتار ًيا ،لذا فإن إنجليزيتها كانت تعدّ حقيقي ًة .وال أفهم ملاذا قررت عائلتها
أن تعود يف ذلك الوقت لتشيكوسلوفاكيا ،أي قبل انضامم تشيكوسلوفاكيا
للـرايخ بأيام .يف تلك األيام مل يكن الكثري يعلم أو يدرك حكاية الرش
-1كلمة أملانية تعني اإلمرباطورية األملانية ،وقد تسمت هبا أملانيا رسم ًيا خالل فرتات من تارخيها.
55
املستطري املسمى هتلر.
كان لدى اآلنسة مكتبة إنجليزية خاصة وغنية جدً ا بكثري من العناوين
اإلنجليزية واألمريكية .وبعد إتقاين للقواعد البسيطة ،جعلتني اآلنسة أقرأ
كل من شو ،وأونيل ،وأوسكار وايلد ،وكبلنغ ،ومارك توين ،وأو هنري. ً
ً
أعامل (ناقص ًة) كنت يف السادسة عرشة ،أو السابعة عرشة ،حني ألفت
حول تألق عمل عازف ساكسفون تشيكي يف املالهي الليلة يف هوليوود؛
عمل ً
كامل ومتقنًا (لكنه غري منشور) بعنوان «عقدة نقص» تدور كام ألفت ً
الرواية حول البطلتني آرينا وماري من روايايت الالحقة.
وكأي صبي يافع ،كنت أقرا الشعر بحب .كنت أقرأ لشعراء احلركة
الشعرية التشيكية والرتمجات املميزة لكارل تشابيك((( من الشعر الفرنيس
املعارص؛ كام أعارتني اآلنسة بوكورنا جملدً ا لشعر يت إس إليوت((( .كانت
احلرب تسري يف غري صالح الرايخ ،بمعنى أهنا كانت تسري لصالح مواطنيها
غري الراغبني هبا! حينها ألزمت بالعمل جمندً ا يف مصانع مريسيشميت والتي
كانت تنتج طائرات مقاتلة وقاذفات .هناك ،ويف ظالل إزعاج آالت الثقب
أنشدت عىل نفيس:
ُ واملطارق امليكانيكية،
مرة أخرى
ألنني ال آمل أن أرجع ّ
ألنني ال آمل
-1كاتب مرسحي تشيكي اشتهر بإداخله ملفردة «روبوت» عىل اإلنسان اآليل يف اللغة املعارصة
والتي تعني العبيد يف التشيكية (تويف ١٩٣٨م).
-2توماس سترينز إليوت شاعر ناقد أمريكي نال جائزة نوبل يف األدب للعام ١٩٤٨م ،انتقل إىل
بريطانيا وهبا تويف يف العام ١٩٦٥م.
56
(((
ألنني ال آمل أن أرجع
ال أزعم أنني كنت مدركًا ملا قد عناه إليوت يف هذه الكلامت ،لكنها
عيل كالسحر؛ ربام كانت تلك هي اللمسة الساحرة األوىل يل مع اللغة
وقعت ّ
اإلنجليزية.
انتهت احلرب ،واشرتيت من مكتبة يف براغ رواية «ودا ًعا للسالح»
هلمنغواي والتي كانت قد طبعت يف السويد لكن باإلنجليزية .قرأهتا
وأدركت حينها ما الذي كان يرمي له جوزيف هورا -شاعر تشيكي -حني
كتب عن الكتابة عىل مذهب الواقعية السحرية ،كان ذلك قبل ماركيز بزمن
طويل .وبخالف اليساري األمريكي/اإلسباين ،مل يكن هورا يقرتح كتابة
مشوها ليصب يف مقاصد أيدولوجية؛ لكن هورا كان ً خيالية ،أو تارخيًا
يقصد واجب الروائي بالعناية الدقيقة جدً ا بكل مفردة ،مهام ص ُغر حجمها
داخل نصوصه؛ كام يفعل الشاعر الغنائي متا ًما.
قراءة حكاية كاثرين وفريد((( عند مهنغواي جعلتني أدرك متا ًما ما أراده
مهنغواي من الكتابة :هكذا جيب أن تكتب الرواية .لذا فقد حاولت التوليف
بني وصية الشاعر وأنموذج الروائي .مضت سنوات بعد ذلك ،حتى قال
الناقد األديب التشيكي ،بريمسل بالزيك عن روايتي «عروس تكساس»:
«كل مجلة يف تلك الرواية كانت مثالية كام ينبغي».
لن أجرؤ عىل التعليق عىل حكمه ،مصي ًبا كان أم خمط ًئا .ولكن ما أعلمه
يقينًا أن هذا لن يقوله أي ناقد أمريكي عن روايتي ألهنم ال يعرفون كتابايت.
أقصد أهنم ال يعرفون كيف كتبت تلك الكتب ألهنم ال يقرأون تلك اللغة
57
املجهولة للسالفيني املستغربني.
إن اإلنجليزية هي لغتي الروحية منذ األيام املظلمة لطفولتي املرهقة
باملرض .لقد كنت أتلو صلوات املساء بتلك اللغة األجنبية ،كام كنت
أقرأ بنهم تلك الكتب من مكتبة اآلنسة بوكورنا اخلاصة .بعد ذلك ،حني
رصت طال ًبا يف قسم الفلسفة ،أصبحت أنتمي لرايخ ستالني ،التي كانت
توفر لطالهبا كل األعامل احلديثة املهمة بلغتها األصلية يف مكتبة قسم اللغة
اإلنجليزية .وكنت يف ذلك الوقت كلام أوغلت يف الكتب ،زاد جتاهيل
لآلداب التشيكية .كان من املمكن أن أدخل قائمة غينيس لألرقام القياسية
يف هذه املعادلة :العالقة العكسية بني عالقتي باألدب اإلنجليزي واألدب
وأخريا وبعد طول زمان ،صدرت روايتي عن اجليش الشيوعي ً التشيكي.
التشيكي يف الواليات املتحدة ،وقد منعت حينها يف تشيكوسلوفاكيا لزمن.
هنأين حينها املراجعون األمريكيون مقارنني بني روايتي ورواية «جيجك،
اجلندي الصالح» .مل أكن قد قرأت هذا العمل الكالسيكي يسء السمعة!
وكثريا ما تلقيت التهاين
ً إن األمريكيني متساحمون لغو ًيا؛ لطفاء جدً ا.
عىل لغتي اإلنجليزية اجليدة جدً ا أحيانًا ،واملمتازة أحيانًا أخرى .ويف كل
مرة أتلقى فيها التهاين أبتسم ابتسامة املجاملة تلط ًفا معهم ،لكني أظن أن
علم بأن اإلنجليزية
واضحا هلم ،وإن كانوا لطفاءً . ً تصنّع االبتسامة كان
كانت ما تزال لغة روحي املحدودة؛ قواعد صحيحة ولكن الروح واملجاز
غائبان .وكان سؤال األمريكيني التايل دو ًما عند حديثهم معي« :هل تكتب
باإلنجليزية اآلن؟» وكنت أجيب بأين أكتب مقاالت صحفية فقط؛ ألهنم
كانوا يرون أن املقاالت الصحفية مل تكن تتطلب العيش مع اللغة يف مسكن
واحد .مل أكن أجرؤ عىل قول «مقاالت مطولة» وذلك بسبب أنني وبكل
أمل وأسف كنت أعتقد أن ذلك النوع النبيل من الكتابة يتطلب مستوى من
58
الكفاية اللغوية مل متلكه روحي حينها.
تذكرت اآلنسة بوكورنا اللطيفة ،والتي تزوجت فيام بعد بمنتج مرسحي
استوطنت كندا .تذكرهتا ألن تقييمها للغتي كان خاط ًئا ،أو أن
ُ يف براغ بعد أن
املعايري اللغوية اإلنجليزية يف بلدتنا كانت متدنية جدً ا .صحيح أنني تعلمت
اإلنجليزية برسعة إىل حد ما .أعني إىل حد جعلني أقرأ الكتب دون احلاجة
إىل معجم يف جيبي ،ثم إين أناقش هذه الكتب بشكل عميق .أصبح نقاش
أدرس مادة األدب يف جامعة ال فيام بعد حني بدأت ّ األدب -عمو ًما -سه ً
تورونتو .أما قدريت عىل احلديث مع الناس فيام سوى األدب ،كاحلديث عن
املطاعم واحلانات ،كانت ال تزال حمدودة جدً ا .لقد وصلت إىل حد أشبه ما
يكون باحلاجز ،ومل أستطع جتاوزه.
ثم قرأت كونراد((( ألنني توقعت أنه قد واجه نفس املشكالت التي
واجهتها حني كان يف حاجة أن يتعلم لغة أجنبية ،أصبح فيام بعد متقنًا هلا
بشكل ال يقبل املقارنة .لقد قرأت «قلب الظالم» وكررت قراءهتا ،وكنت
عند قراءيت أتعرق بسبب تعثري بغنى مفرداته ،وأصبت باهللع من املوسيقى
فعلمت أن
ُ (((
يف تلك اجلمل املظلمة .ثم قرأت مذكرات فورد مادوكس
مهارات كونراد يف التحدث باإلنجليزية أبعد ما تكون عن كوهنا جيدة.
فعل؟ لقد كان كونراد يكتب وكأنه خيلق لكن هل هذه املعلومة تساعدين ً
الكلامت .أنا مل أكن كذلك .جازما أقول أنني مل أكن كذلك يف لغتي املكتسبة،
فهل كنت كذلك يف لغتي األم يا ترى؟
يشء غريب كان قد وصفه هنري ميلر بشكل صحيح .حني أصبحت
-1جوزيف كونراد روائي بولندي/بريطاين ،مل تكن اإلنجليزية لغته األم .يعد من أهم الروائيني
يف اإلنجليزية (تويف ١٩٢٤م).
-2روائي وشاعر وناقد إنجليزي (تويف ١٩٣٩م).
59
حمارصا باللغة األجنبية -اإلنجليزية أعني -وأحتدثها بشكل يومي ،أصبحت ً
أذين ،وعيني ،وكل أعضاء االستقبال يف جسدي متناغمة مع التشيكية بشكل
أكرب من الدقة التي كانت عليها عندما كنت يف بوهيميا .لقد أدركت شي ًئا من
خصائص لغتي األم مل أكن ألدركه من قبل ،أي حني كنت أتكلمها بشكل
ميكانيكي ودون وعي .من مظاهر التأنيث يف هنايات الكلامت املؤنثة؛ فتنة
األفعال املركبة؛ النغمة املتقلبة يف سوابق الكلامت؛ وكثري من هذا القبيل.
لكنني مل أتوقف عن القراءة باإلنجليزية :سحر فوكنر؛ وأسلوبه الالذع؛
وصور الطبيعة والشوارع يف ذهن تشاندلر ،يرافقها مجال اللكنة املحلية؛
وسحر اإلجياز لدى مهنغواي .هذه األشياء كلها(((.
كتبت ..
ثم ُ
هل كنت مقلدً ا؟ ربام .لكني إن كنت مقلدً ا فأنا أقلد عىل مذهب «حماكاة
املسيح(((» يف اللغة كام أنا يف الدين والوطن .لذلك مل أكن أشعر باحلنني يو ًما.
كام أن البلد العجوز التي قضت مخسني سنة من عمرها عىل غري هدى ،بل
يف دكتاتورية متوحشة ،مل تعد بالدي .ولكن اللغة لغتي؛ التشيكية أعني .لغة
أمي ،ولغة كتابتي.
ومع ذلك وبدعم من األصدقاء املنطقيني ،قررت قفز احلاجز وكتابة
رواية باإلنجليزية .لقد كانت حماولة سبك اجلمل ممتعة؛ وبناء احلوارات
كذلك؛ والوصف يف اللغة املكتسبة مع اقتناص تعبري جمازي من هنا أو
-1ويليام فوكنر الروائي األمريكي احلائز عىل جائزة نوبل (تويف ١٩٦٢م)؛ رايموند تشاندلركاتب
قصص جريمة أمريكي (تويف ١٩٥٩م)؛ إرنست مهنغواي الروائي األمريكي احلائز عىل جائزة
نوبل (تويف ١٩٦١م).
-2من أكثر أدبيات الديانة النرصانية انتشار ًا وقراءة بعد اإلنجيل ،وهو من تأليف الراهب توماس
كيمبس (تويف ١٤٧١م).
60
هناك ،ومساعدة من املفتش مارلو يف احلانة ربام .كانت املتعة يف أن أضيف إىل
نفيس ذاتًا جديدة ،ألن هذا هو ما تتطلبه الكتابة بلغة إضافية .تلك هي املتعة.
طويل! إذ مل ِ
جتن الفتيات املحررات لدى النارش ً ولكن املتعة مل تدم
الكثري من املال وال الثناء .ثمة يشء مفقود كام ذكر املراجعون« :حني كتب
باإلنجليزية ،فإن ثمة يشء مفقود!» ربام كانت عبقرية اللغة؟
هل كانوا عىل صواب؟ ال تسألونني! ولكن الفتيات املحررات نلن
ممزوجا بطعم اهلزيمة .مل تصحح الفتيات أخطائي النحوية الكثرية؛
ً تقديري
لكنهن باملقابل جعلن إنجليزيتي إنجليزية حقيقية .بني يدهين أزهرت كلاميت
إىل حد الثراء الكونرادي .لكن هذا االزدهار كان من صنع أيدهين؛ ال من
صنع يدي.
مل يقرأ املراجعون روايتي كام كتبتها بلغتي الصغرية .ولكنهم قرأوا ترمجتها
تفكرت يف أيامي اخلوايل مع أعامل سنكلري وديكنز ودرايزر؛ ومن ال
ُ فقط.
أحتاج إىل ذكرهم كذلك مثل كريوود وسيتون وإدغار رايس بوروه .كلهم
استمتعت هبم مع كل اللبس الذي اعرتى قراءيت للنصوص ،ولكن دون
أن يقول يل أحدٌ «ال» ودون ترمجات سيئة .تيسء الرتمجة ً
فعل إىل املتكلمني
البسطاء باإلنجليزية من السالفيني املستغربني.
أتساءل :ما الذي جعلني أستمتع بنداء شخصية روائية ،رجل ينادي
أوالده بصيغة مجع املخاطب ،كام كان ينادي هبا زوجته وأصدقاءه؟ ما الذي
جعلني أجتاوز قلة األدب الفاحشة من بعض الشخصيات وهم ينادون
أطباءهم بالطبيب ،وليس بالسيد الطبيب؟ ما الذي جعلني غري متيقن من
اجلمل امللتوية ،والتي تبعت بكل خنوع الرتكيب النحوي للجمل األصلية؟
هل بدت تلك النصوص غريبة يل بشكل شديد اإلغراء؟ هل كان الشعور
حلوا إىل هذا احلد؟
هبا باعتبارها أجنبية ً
61
ثمة يشء مل يقرتب بكل تأكيد من العبقرية يف تلك الرتمجات ،لكنها
خاطبتني وبكل عمق؛ بعمق شديد حتى أهنا قررت مستقبيل .بالطبع كان
هناك إليوت ،والذي قرأت له ابتداء باإلنجليزية ،وبعد ذلك بسنوات قرأت
له ترمجة تشيكية جيدة ،الذي انقلب سحره يف «ألين ال آمل »...عذا ًبا فيام
بعد .هل كان عمل جوزيف هورا املخ ّلص لكل كلمة؟ أم كان شيئا آخر؟
حني كانت جهودي كلها معطلة ولعقد من الزمان ،عملت ترمجانًا.
علمتني تلك التجربة أن أقدر الذين كانوا يرتمجون يل يف كندا .تعلمت
عمل من تدفق األفعالعرب الطريق الصعبة ما الذي يتطلبه األمر أن تنقي ً
املساعدة األجنبية عىل التشيكية؛ ومن انتشار صوت املبني للمجهول؛
وضامئر امللكية التي تستخدم مع أعضاء اجلسد البرشي؛ لقد شوهت كل
أخطاء الرتمجة هذه سحر فوكنر األمريكي ،ولسعة ووه الربيطانية؛ ورقة
معجم مهنغواي وشفافيته .إذن ،هل سيجرؤ أي مراجع أو ناقد إنجليزي
جل َم ِل التي أكتبها ما قاله
أو متحدث للغتني أو حتى ثالث أن يقول يف حق ا ُ
ذلك الناقد التشيكي؟
ال بالطبع! وهذا ليس بسبب قصورهم ،بل ألن مراجعاهتم ،وبالرغم من
نادرا ما كانت رشسة؛ وغال ًبا ما كانت كريمة.معرفتهم بأصويل وخلفيتيً ،
مبهجا حتى
ً ثم ماذا عن اللغة؟ ما هو اليشء الذي جيعل كتا ًبا ما ممت ًعا بل
وإن كان غالفه مهرتئًا؟ ما الذي جيعل صب ًيا مراه ًقا ،من بلد حيكمها املحتل
أمي من ميزوري ،أو عبد زنجي؛ ما األجنبي ويسلخها ،يتقمص جلد غالم ٍّ
الذي جيعله يدخل ذلك العامل البعيد جدً ا كام هي النجوم؟
أمرا
نعم ،تستطيع اللغة أن تكون عالية اجلامل .ولكن الرواية تتطلب ً
أكرب من جمرد اللغة .تتطلب الرواية أسلو ًبا كام لدى تشاندلر؛ وجتربة كام
عند ديكنز وهنري جيمز؛ تتطلب حياة كحياة الشهداء ،حياة حلوة ندية؛
62
وتتطلب أشياء أخرى كثرية.
رؤوسا أكرب.
ً لنرتك األمر -إذن -لألحصنة فهي متتلك
أو ربام للفيلة.
63
قوائم السيرك
بيرت كيزر
(((
«إن حدود لغتي هي حدود عاملي» .هكذا قال فيتغنشتاين((( .ربام قفز
بعضنا كذلك إىل القول :إن لغتي هي عاملي .يا له من كابوس ضيق ْ
إن
استيقظ اإلنسان يو ًما بعد غيبوبة إثر جلطة دماغية ،ليكتشف أن الناس كلهم
يتكلمون الصينية فقط .هذا يف احلقيقة أسوأ سيناريو يمكن ختيله للدخول
إىل عامل اللغة األجنبية؛ ألنك يف هذه احلال ستجد نفسك خارج العامل كله
يف ملحة عني.
تدرجا .فقد
ً أما رحلتي نحو اإلنجليزية -وحلسن احلظ -فقد كانت أكثر
ابتدأت تلك العالقة حني كنت أجرب قبعات صغرية ،بينام يتأرجح يف رأيس
رساب لصورة يل وأنا يف كامل ّأبتي متأن ًقا أميش نحو !.....ال أذكر! أكان
ٌ
شاط ًئا يف كاليفورنيا؟ أم كانت باحة من باحات كليات جامعة أوكسفورد؟
أم واد ًيا يف اسكتلندا؟ أم هي حانة يف دبلن؟ ربام هي أماكن مشهورة ،ولكني
مل أزر أ ًيا منها يف الواقع عىل أية حال.
-1بريت كيزر ( )Bert Keizerكاتب وطبيب هولندي ،خمتص بأمراض الشيخوخة .نرش روايته
األوىل يف العام ١٩٩٤م بعنوان «الرقص من السيد د» ،ثم نرش كتابه عن جتربته كطبيب يف أفريقيا
والتي جم ّد فيه فيتغنشتاين .له عمود رأي أسبوعي يف الصحافة اهلولندية .ترجم ونرش بعض أعامل
إيمييل ديكسون إىل اهلولندية.
-2لودفيغ فيتغنشتاين فيلسوف لغوي نمساوي ،ولد يف فيينا عاصمة النمسا (تويف ١٩٥١م).
64
كانت «نعم» هي الكلمة اإلنجليزية األوىل .تعرفت عليها يف كتاب
للص ْب َية عن رعاة البقر واهلنود .كان اسم الصبي اهلندي الرزين (الريشة ِ
البيضاء) ،و اسم راعي البقر املتهور (عني النرس) .وكنا ننطق راعي البقر
بشكل خاطئ؛ فكنا نقول (كوي((( بوي) ،رغم أنه ال يشء خجول ( )coyيف
مشهد رعاة البقر أو ثقافتهم ح ًقا .كام ساهم يف سوء نطقنا أننا مل نربط االسم
بأي يشء بقري ( ،)cowألنه كان من املستحيل علينا أن نتخيل صورة أرع َن
ومتحمسا بجوار ً
صارخا ممتط جوا َده ،ويومئ بحبله يف دوامة من الغبارٍ
ً
صورة البقرة اهلولندية ،مرضب املثل يف البطء واهلدوء أثناء مشيها يف حقول
أنت عزيزيت البقرة ،سيكون مشهد الرصاخ األحالم اهلولندية .مسكينة ِ
مكدرا لصفوك املعتاد عىل الكسل .ولكن «نعم» التي قاهلا (الريشةً والغضب
البيضاء) كانت ذات معنى رمزي يل ،ألهنا أول ما نطقته باإلنجليزية .رافقت
تلك الـ «نعم» قوة ورجولة ،وعزيمة أصيلة عىل االستمرار بوقار« .الريشة
البيضاء وعني النرس» مل يكن هلذه املعاين داللة كبرية باهلولندية ،سوى إهنا
جاءت يف ذهن مؤلفها جاي يب ناوي((( -والذي أظن أن جتربة حياته ال
تؤهله ألن يعرف الفرق بني رعاة البقر وبني مواقف السيارات -جاءته
الفكرة حني رأى مجو ًعا ذات ألوان شتى تصارع لشق طريقها نحو الشواطئ
النورماندية عام 1944م وقد جلبوا معهم السجائر ،والعلكة ،وطر ًقا
يكون خلطة للصبي راعي للتعامل مع الفتيات؛ فمن هذا املصدر حاول أن ّ
-2يظهر يل أن الكاتب هنا خلط بني األب ( )Jواالبن ( ،)Pومها كاتبني هولنديني ،خاصة أن
االبن كان قد أكمل سلسلة قصة والده بعد وفاته يف العام ١٩٥٨م .تقع القصة يف ٦٣جزء .كتب
األب عرشين منها ،والباقي كانت من تأليف االبن.
65
البقر ،باإلضافة إىل ما كان يعرفه من وثائقيات الرباري.
نعم!
مل أكن أعرف كيف أنطقها ألين مل أكن حينها قد رأيت احلرف ( )yأبدً ا،
ربام حاولت حينها أن أنطقه ( )iبدال عن (.)y
متثلت اإلنجليزي ُة يل فقط يف صورة جنود جيولون ِ يف العام 1952م
الشوارع ،ليس كام جاهلا النازيون املجانني ،بل كانوا حيملون نية اخلري وروح
دائم ما يكرسون رسمية التدرج العسكري للحصول عىل بعض احلرية .كانوا ً
املرح أو بعض الرشاب .ومل يكونوا حيملون أي ذخرية يف أسلحتهم .وقد
أحببت حينها أغنية «زهرة تكساس الصفراء(((» ،مع نغمتها شبه العسكرية،
صوت احلزن يف «توم دويل(((»،
َ وطبقات صوت الطبلة فيها .كام أحببت
لكني كنت أسمعها عىل أهنا «ع ّلق قبعتك ،توم دويل» ،والسبب ربام كان
قرهبا من بعض األمثال البولندية حول تعليق القبعة؛ ثم سمعت السطر
اآلخر من األغنية وكأهنا «صبي جيد أنت ،إىل اللقاء» .تشكلت صورة
هذا الصبي اجليد والذي نزع قبعته عن رأسه ليكون حمل تقدير جمموعة
من الرجال كبار السن .ثم كذلك جاء تينييس إيرين فورد وأغنيته« :أدين
بحيايت ملستودع الرشكة» .ومن هذه األغنية تشكلت لدي فكرة أن اإلنسان
طويل يف الرباري األمريكية ،فإنه سيتحول إىل هبيمة مسكينة ال ً إن عاش
تستطيع التحدث مع العامل؛ بل تفهم لغة املطارق فحسب.
كل هذا احلامس حول تلك األمور كان يمثل رصخ ًة بعيد ًة جدً ا من صبي
كان قد دخل بعدها مرحلة ما مع ذكورته؛ وهذا الطرح املخترص غري املقصود
-1أغنية فلكلورية أمريكية تعود ملنتصف القرن التاسع عرش ،عدّ ها البعض من أهم مئة أغنية
غربية ،وغناها كثريون بإصدارات خمتلفة.
-2توم دويل أغنية للفرقة الشعبية األمريكية ،الثالثي كنغستون ،ظهرت األغنية يف العام ١٩٥٨م.
66
يعرض لون حالتي البني ،حني بدأت أقتحم عامل الذكورة .تنقلت عملية
االقتحام هذه من عامل حكايات الصغار وراعي البقر ،وخالل نكد املراهقة،
ثم إىل حرية الشباب ،حتى انتهت يب إىل حلظة من اليقني غري املهزوز ،الذي
سأتكلم عنه يف وقت الحق .ومن هناك إىل األسفل يف منحدر سحيق .ولكي
أبني الصورة للقراء ،أقول أين كنت أصارع يف سبيل هبوطي ذلك ومل يكن
األمر جمرد انزالق.
أمرا مش ِّتتًا ،كان من الصعب تذكره رغم أنه يدور حول نسيت أن أذكر ً
ما ذكرته ساب ًقا؛ كان الشاب اهلولندي يف النصف الثاين من القرن العرشين
مطال ًبا أن يبني لنفسه حصنًا جيدً ا يتحصن به من العامل مستخد ًما القرميد
اإلنجليزي :قرميد احللفاء.
ُ
أختيل نفيس دو ًما يف عامل اللغة يف تلك املرحلة من حيايت ،كنت
ً
مقابل إنجليز ًيا لكل مفردة هولندية اإلنجليزيةُ .
أختيل دو ًما أنني أالمس
وذلك -فقط -عرب التحديق ذهن ًيا يف روحها املحلقة ،ومن ثم إدخاهلا يف
سحري داخيل لتنضج مثل تعبري إنجليزي مثايل ملا أريد قوله .ما زالتّ فرن
أشباح بعض تلك الكلامت تسكن العلية املوجودة يف دماغي؛ كنت أظنها
يو ًما إنجليزية صحيحة .ومل يكن هذا اجلهد الكيميائي اللغوي عرب رمي قطع
من احلديد اهلولندي ،وانتظار سبائك الذهب اإلنجليزية يف املقابل سخي ًفا
عىل اإلطالق .فكثري من املفردات اهلولندية مرتبطة باإلنجليزية ،وهنا أنا ال
أتكلم برطانة لسانية أو بتأثيل متقن؛ بل أتكلم فقط عن كلامت تتشابه يف
أساسا من فكرة
ً شكلها ويف صوهتا ،وكانت مغرية ومربكة لصبي مل يقرتب
مثل مفردة «فتاة» اإلنجليزيةالسيطرة عىل الكلامت .فلن تتقاطع يف ذهني ً
شكل ونط ًقا ()girl, meisje؛ ويف يف املقابل
ً مع اهلولندية الختالفهام التام
تبدو مفردة «خادمة منزلية» يف اللغتني وكأهنام توأم يف مظهرمها ونطقهام
67
( ،)maid, meidلكن املعنى قد يكون خمتل ًفا وبشكل خطر كذلك؛ إذ إن
كلمة «خادمة» اهلولندية ال تدل عىل اخلادمة التي تسكن املنزل ،أو حتى التي
تعمل داخله؛ بل تدل املفردة عىل فتاة شوارع وليست فتاة فحسب ،ممتعة أو
حتى ممتعة جدً ا ،وربام جتاوزت كل احلدود املتصورة.
كل هذا التلعثم مع الكلامت اإلنجليزية وأصواهتا كان ساب ًقا عىل إتقان
القراءة والكتابة ،حيث كانت تلك الكلامت حترض يف منزلنا عرب األغاين،
فعل .ال أذكر أي مفردة من فيلم «روي وإال فلم يكن أحد يتكلم اإلنجليزية ً
مؤخرا فقط أن اسم حصانه كان ً روجر» الذي شاهدناه يف منزلنا ،واكتشفت
فيلم وثائق ًيا عن راعي البقر املشهور الذي كان
«تريغر»وذلك حني شاهدت ً
جيلس بفخر بجوار حصانه املحبوب؛ لكن راعي البقر بدا ممتل ًئا نو ًعا ما يف
الفيلم الوثائقي ،مما جعلني أشعر باألسى ألجل املسكني تريغر.
لدهان
نشأت يف أرسة هولندية كاثوليكية؛ فأمي ابنة ملزارع ،وأيب ابن ُّ
منزل يف بلدة صغرية يف الضواحي يف ثالثينيات القرن قروي؛ وبنيا سو ًيا ً
العرشين .نشأنا حتت ما تبقى من سقف نرصانية القرون الوسطى .ومل ندرك
متأخرا بالطبع .وكنا متورطني ولكن مطمئنني يف سكنانا ،حتى ً ذلك إال
اخلمسينيات ،وكأننا نسخة من القرون الوسطى ،ولكن يف القرن التاسع
عرش .كانت الكاثوليكية اهلولندية يف انحسار ،ولكنها كانت كذلك بعيدة
عن زحام اجلموع املستعجلة التي تعرب الطرق الفكرية الرسيعة يف أوروبا.
كان فيتغنشتاين قد تويف حينها ،وأصبح بيكيت((( قامة بحجم نوبل ،ولكن
حمريا.
لغزا ً
يف سياقنا الديني ما زال التعليم العايل اهلولندي ً
مل نكن نعلم أننا حتت احلصار .ما الذي جيعلني أقول هذا؟ حني غنى لنا
-1صمويل بيكيت كاتب وشاعر وناقد إيرلندي ،كان يكتب باإلنجليزية والفرنسية (تويف
١٩٨٩م).
68
ٍ
هتديد؛ إذ بقي كل متثال يف كنائسنا املطرب بريي كومو((( مل يكن يشكل أي
يف مكانه حني غنى كومو أغنياته .مل يكن جيذبني ألفيس((( يف مرحلة ما قبل
انضاممه إىل اجليش ،احلقيقة أنني مل أكن أدرك حتى وجوده إىل أن أصبح
بدينًا .ثم جاءت فرقة «بيتلز(((» يف العام 1963م ،وحتت اهنامر أصواهتم
نسينا مجي ًعا شأن األصنام يف كنائسنا وخرجنا خارج أسوارها سعداء؛
ولقطع الشك باليقني حول خروجنا من احلصار تلقينا جرعة أبعدتنا كثريا
عن خلفياتنا (حيث كنا نجلس حس ًّيا وثقاف ًيا) من ِق َب ِل «رولنغ ستونز(((».
جلوسا يف الكنيسة ،وعىل حد علمي إنه املكان الذي ً لقد تركنا آباءنا وراءنا
ما زالوا حينها يتسكعون فيه.
يعتقد الرجال اهلولنديون من أبناء جييل أهنم كانوا قد صارعوا كاألبطال
نقاشا عني ًفا مع من يكربوهنم
كي يتخلصون من براثن الكنيسة .وإن دخلوا ً
سنًا -وليس مع الرب نفسه -ينتهي هبم األمر منترصين دو ًما .احلقيقة أن
هذا املشهد ذاته كان سيحدث لو أهنم كانوا دخلوا الرصاع يف الثالثينيات،
لكن باإلضافة إىل النفي االجتامعي الذي كان سيحدث هلم دون حماكمة
عادلة ،وذلك بوصفهم حياولون إسقاط املجتمع املقدس .ولكنه العام
1963م حيث املروج املعشوشبة« :عدد ال متناهي من السطو عىل البنك(((»
كان يلوح لنا.
لقد سحبت بيتلز البساط من حتت الرجولة عديمة االبتسامة ،من حتت
69
أبطال «يوم الدال(((» ،الذين أبقوا سجائرهم مشتعلة بنار العدو وأفواههم
مشغولة بمضغ العلكة ،حتى حني كانوا حيرقون األبرياء بقنابلهم التي غطت
أمرا فظي ًعا ،ولكن كان ال بد من القيام به» .يمكن للمرء أن
كل أملانيا« .كان ً
حيشو كل أعامله الفظيعة إذن داخل أغنية لفرقة بيتلز.
عيل حني ذكرت «توم دويل» و«مستودع الرشكة» ،وذلك ربام اختلط األمر ّ
بسبب احسايس بالطمأنينة لـ «األحد» املشمس يف «سحر اللحظات» .لكني
فهمت حقيق ًة كلامت أغاين بيتلز« .أريد أن أمسك يدك» ،مل يكن أبدً ا ً
شطرا
مستعص ًيا عىل الفهم ،وإن كنت ذات مرة أسأت فهم «أحبيني وافعيل» حيث
فعل .كانت إنجليزية ظننت أن الكلمة «افعيل» ( )doهي اسم فتاة وليست ً
بيتلز هي التي قادتني نحو اللغة الصحيحة .قبل أن تالمسني أغانيهم ،كانت
جوا عا ًما وليست لغة حمملة بالرسائل والكلامت .منذ اإلنجليزية بالنسبة يل ًّ
ذلك احلني ،والفرصة تراودين بأنني سأقول «أنا» باإلنجليزية يو ًما ما.
حني انتقلت إلنجلرتا يف العام 1968م كانت خيوط فريا لني((( ال تزال
مثل لـ رولنغ ستونز معلقة يف اهلواء ،وهو أمر ال يتصوره املرء وهو يستمع ً
وأغنيتهم «اقفز جاك» ،والتي أطلقت للجمهور يف صيف ذلك العام .لكن
أمر ال يمكنتلك اخليوط كانت متثل جاذبي ًة للمكان يف تلك األيام ،وهو ٌ
وصفه .احلرب العاملية الثانية انتهت بالفعل؛ جمرد سديم بسيط اآلن عىل
أخريا .كان
ً آخر معدات القتال من تلك الطرق ُقلت ُ منحدرات دوفر .ن ْ
ٍ
ببشاعة من الطريق ياف ًعا ،وكأنه خت ّلق للتو من العدم؛ لكنه ما لبث أن ُط ِر َق
-1يوم الدال ٦ D-Dayيونيو ١٩٤٤م ،اليوم الذي احتل به احللفاء شامل فرنسا ويعدُّ بداية
عمليات التغيري يف احلرب العاملية الثانية.
-2مغنية إنجليزية كان هلا صيت خالل احلرب العاملية الثانية حتى أطلق عليها لقب «حمبوبة
القوات».
70
أوالد هذه احلرب ،الذين كانوا عىل وشك أن ينحروا يف فيتنام ذلك احلني؛
يف فيتنام اغتيل سحر نورماندي(((.
كان أول ما لفت انتباهي يف إنجلرتا أن صغار السن مل يكونوا يستوعبون
غالبية أغاين بوب ديالن((( ،مثل حايل متا ًما .تنازلت حينها عن فرضيتي يف
(((
أن أغنية «اليك رولنغ ستونز» كانت بمثابة التقدير ألسلوب مايك جاغر
يف احلياة ،لكني مل أضع فرضية أخرى مكاهنا .كنت أعتقد أن نصوص ديالن
مشكلة نو ًعا ما؛ فهي إما سطحية وغري منطقية ،أو كاملة وعبقرية.
كثريا من األسئلة بني يدي
برغم وصية أخي يل بأن ال أفعل! كنت أطرح ً
كل فتاة إنجليزية حتادثني ،فور ما يبلغ حديثنا مخس دقائق :هذه جاءت من
لندن ،واألخرى تسكن يف كورنوول ،والثالثة متفوقة يف دراستها .كنت ً
نادل
كثريا وبشكل مزعج ظننت معه أنني يف الفندق املحيل ،وأهذر باإلنجليزية ً
أبدو أمريك ًيا يف هلجتي ،تلك اللهجة التي كان ألهلها بقايا مجيل لتحريرهم
للقارة األوروبية ،ولكنها مل تبدُ حمبوبة جدً ا يف تلك األيام بسبب فيتنام .كان
اسم عائلتي ينطق كايزر بسبب شهرة عل ٍم حيمل االسم هبذا النطق .وكنت
أتلقى بسبب طريقة نطق اإلنجليز السم عائلتي الكثري من التعاطف ظانني
أنني نمساوي ،بسبب اخليانة التي تلقاها أساليف النمساويون! أو ربام كان
نمساوي ألهنم لطفاء ،فهم يف احلقيقة مل يريدوا تلويثي
ّ الناس يقولون أنني
رب ُت هلم وبسالم تامبأي عالقة مع األملان .وهلؤالء املتنعمني بجهلهم ع ّ
ّ
«النمساوي واألملاين تعني اليشء ذاته ،ولكن ال بأس».
ّ ً
قائل:
-1انتصار األمريكان ونزوهلم عىل شواطئ نورماندي كمخلصني ألوروبا ذهب بريقه حني
حاربوا كمعتدين عىل فيتنام.
-2بوب ديالن مغن وشاعر غنائي أمريكي فاز بجائزة نوبل لألدب يف العام ٢٠١٦م.
-3مايك جاغر مغن إنجليزي ،قائد و مؤسس فرقة رولنغ ستونز.
71
مل يبدُ أن بعض اإلنجليز عىل دراية بأن هناك لغ ًة تسمى اهلولندية
مطل ًقا .ذات مرة ،أثناء تناول الشاي يف منزل أحد القساوسة ،وهو والد
أحد األصدقاء ،سألتني أم صديقي يف أكثر نربة يمكنني ختيلها من اللطف
واألدب« :أتساءل :هل لديكم أنتم اهلولنديون لغة خاصة؟» ولتأكيد سؤاهلا
فعل نتكلم حزمة كبرية من هلجات ولغات كثرية مجعها املتضمن رأ ًيا ،فنحن ً
جمموعة من اللصوص عرب سنوات كثرية؛ فرسقوها من الرومان ،والكلتيني،
والفريزيني ،والفايكنغ ،والفرانكيني ،والساكسونيني .من ألفاظ هؤالء مجي ًعا
و ّلفنا -نحن القرود املحليني -ما نسميه اليوم لغتنا ،اهلولندية .لقد كنت
غاض ًبا ،مستهجنًا سؤاهلا رغم لطفه فأجبتها« :ال يا سيديت! ليس لدينا لغة.
نحن ننبح عىل بعضنا البعض من وراء األشجار!» أخذين صاحبي للحديقة
لتهدئتي بينام أخذ األب زوجته ليبقيها بعيدً ا عن هجومي املتوحش ،والذي
مل يكن يف احلسبان.
ذات مرة وجهتني صديقتي احلميمة إىل طريق جيد للخروج من املضيق
كثريا
املربك عند تعدد األصوات واألشكال للكلامت ،قالت« :ال تفكر ً
يف املعاين املختلفة بني الكلامت املتشاهبة؛ حاول فقط أن متيز الفرق بينها
يف النطق» .هي بذلك تذكرين باملقولة القديمة أن اإلنجليزية ال تُكتب كام
تنطق ،وهي احلالة التي مل حتملها خميلة أي إنسان عن لغته األم .مل أمتكن
أبدً ا من الصوت يف ( ،)thالذي بدا سخي ًفا جدً ا حني كنت أحاول الغناء مع
مريي هوبكنز يف أغنيتها «تلك كانت األيام يا صديقي» .وبالرغم من أنني مل
مزعجا
ً أحتول إىل باحث عن املرح فقط ،إال إنني وبكل تأكيد أصبحت ً
رجل
كادحا يف سريي يف هذا الطريق األجنبي .خيرس كل ً بطريقة غري مرغوب هبا
من ال يتقن لغة ثانية ثالثني إىل أربعني درجة من اختبار معدل الذكاء (،)IQ
ويصعب عىل املتعاملني حتمل هذا اهلبوط دون أن يرض بغرورهم املسترت.
72
حييطني الكثري من األخيار من متحدثي اللغة اإلنجليزية ،وقد ساعدوين
قدمي جمد ًدا .لكني رسعان ما أقع يف الفخ جمد ًدا :فخ عبادة
ّ ألقف عىل
األصنام(((!
يتطلب األمر سنوات بسيطة حتى تتكون عالق ٌة من الصداقة بني متعلم
اللغة وبني القوالب اجلاهزة فيها ،والقائمة تطول لكنها لن تكون شاملة.
يفقد املتعلم حينها التمييز بني تعبري دراج عتيق وبني جوهرة من اإلبداع
الشخيص ألحدهم .يف بداية هذه املرحلة وجدت تعبريات بديعة ،فرحت
هبا وكانت هبجة يل ،لكني أدركت فيام بعد أهنا ميتة ،خارج نطاق التداول:
مثل مسامري األبواب القديمة.
هناك أمر آخر أدركته برسعة وهو أنه من املمكن تصنيف الناس
اجتامع ًيا ،وذلك بالتدقيق يف سامع لغتهم .عاطفي ،متعال ،فخور ،قنوع من
الطبقة الكادحة ،غضوب من الطبقة الكادحة ،طموح من الطبقة الكادحة،
صلب ،عقالين ،متعلم ،فنان ،مزارع ،وماليني أخرى من االحتامالت
التي نع ّلب الناس اجتامع ًيا داخلها باستخدام اللغة ،ومطلقني أحكامنا أو
ختبطاتنا يف الظنون .كل ذلك قابل للتعلم الرسيع يف أي لغة أوروبية .كنت
قد استشكلت األمر بسبب أننا يف قومي نستخدم طبقات مشاهبة .أقول هذا
عن أوروبا ألنني عند إقامتي يف أفريقيا بوصفي طبي ًبا ،مل أجد هذه العالمات
اللغوية .كان بإمكاين اإلخبار إن كان حمدثي مزار ًعا من خالل عبقريته يف
متوجها إ ّيل مطل ًقا.
ً لباسه ،أو عنايته بجسده ،أو من وجهه الذي ربام ال يكون
ال أذكر نصف الكتب التي قرأت باإلنجليزية .لكني اآلن منغمس مع
عمل تشاتوبريان((( «ذكريات من وراء القرب»؛ أقوم بالبحث عن معاين
73
املفردات ،وأتفكر يف التعبريات ،ثم قد ال أصل إىل أي نتيجة .كام أنني ما أزال
أحتفظ بنسختي من «يوليسيس(((» والتي قرأهتا يف عامي الثاين يف إنجلرتا،
1970م ،حينها ع ّلمت وأنا منزعج عىل كل مفردة مل أفهمها .كانت القائمة
طويلة جدً ا ،وتتضمن كلامت بسيطة جدً ا .ما تزال قائمتي كذلك .وحتى
الكلامت التي حني تذاكيت وشككت بكوهنا ال تعني معناها السطحي
الواضح ،اتضح أهنا تعني ذلك متا ًما.
ً
سافل، كان هناك بعض الكلامت التي بحثت عنها بالنظر عال ًيا وليس
أدون املعنى الذي أعتقد أنه وجه الكلمة احلقيقي،
فقط كي أتذكرها! كنت ّ
ثم بعد ذلك أبحث عن معناها يف املعجم؛ أشعر هبذه الطريقة أنني أملك
عدة حلول ألغلق السبيل عىل جهودي الكيميائية القديمة ،والتي كنت
أحاول من خالهلا أن أعرف املقابل اإلنجليزي ألي كلمة هولندية بطريقة
غيبية ساموية.
فعل من شدة االختالفحني أنظر إىل بعض أمثلة قائمتي املذكورة ،أتفاجأ ً
بني مظهر الكلامت اهلولندية وقبيالهتا اإلنجليزية .لن يستطيع ناطق
اإلنجليزية ختمني املقابل اهلولندي أبدً ا .وهبذا أعني إىل أي مدى اإلنجليزية
فعل لغة جرمانية؟ أعني تيوتونك(((؛ أي أهنا مترسبة من عمق الغابات بني ً
ساحل بحر الشامل من جهته الغربية ،وحتى حدود بولندا الرشقية .يف ذلك
الزمان ،وقبل جميء الرومان ومعهم القبائل املعتدية .كانت كثري من الكلامت
اإلنجليزية تنتمي إىل الغزاة املعتدين ،خاصة الرومان واإلغريق؛ فهي ال
١٨٤٨م).
-1يوليسيس (عوليس) رواية للكاتب اآليرلندي جيمز جويس.
-2اسم آخر لفرع اللغات اجلريمانية ،والتي تنتمي له اإلنجليزية حسب تصنيف اللسانيات ،من
ثم إىل أرسة اللغات اهلندو-أوروبية.
74
فعل لتلك الغابات .هناك فارق بني استخدام اإلنجليزي لكلامت تنتمي ً
مثل :علم اإلنسان ،وعلم النفس ،والديموقراطية معتقدً ا أهنا مفردات
تنتمي له ،وبني كيفية تعامل اهلولندي مع تلك اإلغريقيات والالتينيات .يف
اهلولندية هذه الكلامت كالطيور الغريبة ،هلا حظرية خاصة وخمتلفة؛ بينام يف
اإلنجليزية فقد غرقت تلك الكلامت يف لغة الناس العامة ألسباب تارخيية
ربام .وقد أصبحت هذه املفردات القادمة من حوض األبيض املتوسط اآلن
تتبخرت يف اإلنجليزية وكأهنا االحتامل اللغوي الوحيد واملطلق .فكلمة تاريخ
مثل هي نفسها اهلولندية ،مع اختالف بسيط يف التهجئ ة (�his اإلنجليزية ً
،)tory, historieلكن لدينا يف اهلولندية باإلضافة هلذا الزيف القادم من
اجلنوب مفردة أخرى ،مفردة أصيلة تنتمي لنا ،والسبب يف عدم استخدامنا
كثريا مع اإلنجليزية ،وقد يزعم أحدهم ُ
تتواطأ ً هلا هو خدعة العاملية ،والتي
التصور
ّ أن تلك العاملية املنشودة ال حتتوهيا املفردة اهلولندية .أظن أن سوء
هذا هو عامل رئيس من عوامل انتشار وتبجيل اإلنجليزية يف بالدي.
إن أول قراءة واعية يل باإلنجليزية كانت لكتاب راسل((( «تاريخ
الفلسفة الغربية» .كنت يف غالب العام 1969م أعمل يف غسل الصحون يف
مطبخ لقلعة قديمة يف ديفون اسمها قرص دارتينغتون ،كانت ملكيتها تعود
للملك هنري الثامن ،وكانت القلعة حتتوي ضمن ما كانت حتتويه عىل ٍ
كلية
لآلداب .كنت أغسل الصحون بينام كانت صديقتي احلميمة يف ذات الوقت
دروسا يف الدراما والرقص .وكان من ضمن جهودي الغبية لصعود ً حترض
(((
مرتفعات الفلسفة ووعورة صخورها أن أحرضت كتاب كارل ياسربز
-1برتنارد راسل الفيلسوف والريايض والناقد واملؤرخ اإلنجليزي املعروف (تويف ١٩٧٠م).
-2كارل ياسربز أستاذ الطب النفيس والفيلسوف األملاين (تويف ١٩٦٩م).
75
مرتمجا للهولندية .مل يكن هذا اجلهد ناف ًعا أبدً ا .مل أستطع فهم
عن كانت((( ً
الكتاب ،وشعرت أنني مرفوض يف ذلك احلقل .باملقابل بدأت أرعى
املشاعر املحبطة جتاه حصن الفلسفة املنيع ،والذي كنت عىل أمل أن أقابل
الناس داخل أسواره ،الناس الذين حياولون دراسة األسئلة امللحة لإلنسان،
وربام اإلجابة عنها .لكن مل يؤذن يل بالدخول.
ال للدخول .وذات يوم ،كنت عىل وشك اإلصابة مل أستطع أن أجد سبي ً
عثرت عىل كتاب
ُ بحالة من الكدر ،ويف مكتبة العائلة يف قرص دارتينغتون
قمت للحلم جمد ًدا؛
«تاريخ الفلسفة الغربية» لراسل .ومن داخل قلعة النكد ُ
ً
مهرول جتاهي ،وبتلوحية واحدة من يده بدد راسل جاء هذا الرجل الرشيق
كل قلقي وشكوكي .بسحره املتصايب ،وبنكتته الالذعة ،وفوق ذلك كله
مرورا بخمسة وعرشين قرنًا من
ً بذكائه الفائق جال يب عرب رحلة ال تنسى
الفكر الغريب .لقد كانت قراءته مرحية جدً ا ،وذلك ألنه شخص ًيا كان يف
معارضا للفالسفة الذين حتدّ ث عنهم.
ً منارصا أو
ً ساحات املعارك تلك ،إما
مل أقرأ أبدً ا ألي أحد مثل راسل يف علمه املبهر ،ويف موثوقيته وظرافته يف
الوقت نفسه .هنا بعض األمثلة من مقوالته« :كان إراسموس((( حم ًّبا لألدب
بشكل ال يرجى برؤه منه ،وال تثريب عليه فيه» .وعن ميكافييل(((« :لقد
جرت العادة أن يصدم اجلميع» .وعن سبينوزا(((« :لقد تفوق عليه البعض
قدرا يف اجلانب األخالقي .وكنتيجة يف اجلانب الفكري؛ لكنه ظل األعىل ً
-1إيامنويل كانط ( كانت) الفيلسوف األملاين املعروف ،آخر فالسفة عرص التنوير (تويف ١٨٠٤م).
-2دسيدريوس إراسموس فيلسوف هولندي من رواد احلركة اإلنسانية يف أوروبا وكان صاحب
جهد تربوي عظيم (تويف ١٥٣٦م).
-3نيكولو ميكافييل الفيلسوف اإليطايل وصاحب نظريات الواقع السيايس مؤلف الكتاب فائق
الشهرة «األمري» (تويف ١٥٢٧م).
-4باروخ سبينوزا الفيلسوف اهلولندي (تويف ١٦٧٧م).
76
رشا مرو ًعا» .وعن
طبيعية ،ظل يف حياته وإىل قرن من الزمان بعد موته ُيعدُّ ً
مؤثرا؛ وكان هيوم عاق ً
ل لكن هيوم وروسو « :كان روسو جمنونًا لكنه كان ً
(((
دون أي أتباع(((».
علمت الح ًقا أن تاريخ راسل كان قد هتافت عند وصوله للقرن التاسع
متسمرا يف منتصف ً عرش ،ولكننا لسنا معنيني هبذا هنا .املهم أنني حني كنت
خويف أمام قلعة احلكمة الغربية املبجلة ،كان من قدري السعيد أن يكون
برتنارد راسل هو من رحب يب عند ذلك املدخل .لقد كان مض ّي ًفا ظري ًفا
وحف ًيا؛ حتى أولئك الذين مل يعبأ هبم أحد يف تلك احلفلة ،تكون صحبة
الع َوض .ما زلت أعتز بنسختي من كتابه ،عليها رسمته برتنارد هلم نعم ِ
مرتد ًيا بدلته ،بقلم الرصاص للفنان روبن غوثري.
ال أعرف يف هولندا ً
رجل مثله يف العلم والنباهة واملتعة .أكره قول ذلك
ألنني ال أريد التقليل من قدر بالدي .لكني سأقول ذلك بأخف ما يمكنني:
يف الواقع أن هناك مستوى فظي ًعا من الكتابة الباهتة داخل اجلسد األكاديمي
اهلولندي ،هذا الواقع كان موجو ًدا لعقود مضت .وأخشى أنه سيظل
موجو ًدا لعقود سوف تأيت.
يف هولندا يصعب عىل املرء -عىل سبيل املثال -أن يمر عىل أعالم مثل:
غيلبريت موري ،وجاي يب بوري ،وفرانسيس كونفورد ،ومورايس بوورا،
و إتش دي إف كيتو ،وموسيس فينايل ،وبينجامني جويت ،ودبليو كاي يس
-1ديفيد هيوم فيلسوف ومؤرخ اسكتلندي (تويف ١٧٧٦م) .جان جاك روسو فيلسوف «فرنيس»
(تويف .)١٧٧٨
-2حاولت البحث عن هذه املقولة ضمن كتاب رسل ،لكن مل أجدها .وأخشى أن الكاتب قد
اختلط عليه املصدر.
77
غورثي(((؛ هذا ذكر ألسامء جاءت رسيعة عىل البال وإال فالقائمة تطول .كان
هلؤالء األعالم تعليقات عبقرية ،وترمجات مبدعة من التاريخ الكالسيكي
والفلسفة .أما قراءة أفالطون باهلولندية يف الستينيات ،فكانت تتطلب مشقة
عظيمة لسلوك درب ممتلئة باللغة غري الناضجة :لغة صحيحة قواعد ًيا،
لكن ال روح فيها وال أمل؛ منبثقة جز ًما من اهلولندية املحلية للمرتمجني،
تاركة القارئ مع ما يشبه لفائف املومياء .يف املقابل كنت قد ُأ ُ
رست متا ًما
حينام قرأت أفالطون باإلنجليزية .احلكمة ،والزي ،والتغزل ،واألسواق،
والباحات ،والشخصيات ،والنكتة ،كلها كانت مزهرة كالربيع باإلنجليزية،
بشكل ال يأذن للقارئ باهلرب .قرأت مجهورية أفالطون يف صيف العام
1969م ،وكانت من أعظم النصوص التي صافحتُها عىل الورق وما تزال.
ولن أزعجكم هنا باحلديث عن تفاصيل نظام التعليم يف هولندا ،لكني
سأذكر معلومة عنه .يفتقر التعليم يف هولندا إىل جمرد احتامل العالقة الواسعة
والعميقة مع الثقافات القديمة ،وهو األمر الذي يتفوق به بكل اعتزاز نظام
نشأت
ُ التعليم العام اإلنجليزي .يف هولندا وحميطها املتواضع فكر ًيا ،والذي
ٌ
مدفون يف علبة زجاجية تارخيية قد غطاها الغبار. فيه ،أفالطون وبكل أسى
وبحلول العام 1970م تفوقت معرفتي باإلنجليزية كل مستوى توصلت
له باألملانية والفرنسية .ويف بعض املواطن الفكرية ،أظن أن إنجليزيتي فاقت
حتى هولنديتي .وصلت احلالة إىل أن ترسبت اإلنجليزية إىل داخيل ،لدرجة
بعضا.
أنني حني أرى أرسيت يف املنام ،فأين أراهم يتحدثون هبا مع بعضهم ً
مل أكن أظن أن ذاك الصوت األجنبي قادر عىل السفر إىل هذا العمق يف روح
اإلنسان .كانت إنجليزيتي حينها فعل ًيا دون لكنة أجنبية ،وإن كان أصحاب
التدقيق السمعي قد صنفوين هلج ًيا من جنوب أفريقيا ،وهي اللهجة التي
78
أساسا .وحني عرفت عنها الح ًقا ،علمت أن حكمهم كان ً مل أكن أعرفها
دقي ًقا ،كأهنم كانوا يعرفونني؛ فاللكنة اجلنوب أفريقية بالنسبة للرجل
اهلولندي تشبه متا ًما لكنة اهلولندي الذي مل خيرت أو يم ّيز متعمدً ا هلجة من
اللهجات اإلنجليزية؛ متا ًما كام يتصارع اإلنجليز والفرنسيون حني يتعمد كل
منهم حتريف صوت لغة اآلخر لييسء إليه.
مجا إىل اإلنجليزية األمر أنني خضت جلة اللغة اإلنجليزية .فقد قرأت مرت ً
كل من كانت ،وشوبنهاور ،ونيتشه((( ،واألهم بالنسبة ّإيل فيتغنشتاين ً
وكتابه «مصنف منطقي فلسفي(((» ،بالرغم من إمكانيتي لغو ًيا من التعامل
مع أعامهلم مجيعا بلغتها األصلية ،األملانية .ولكن كان لقراءيت هلذه األعامل
باإلنجليزية بعض التبعات؛ فقد كنت أظ ّن أن فيتغنشتاين كان فيلسو ًفا
إنجليز ًيا بخلفية فيناوية غامضة ،سببها فقط سفره كل عام لفيينا حلضور
عيد امليالد .وهذه نظرة سطحية جدً ا لفيتغنشتاين بال شك ،الذي علمت
الح ًقا أنه مفكر فيناوي اختذ عىل مضض من بريطانيا ً
حمل إلقامته املؤقتة؛ كام
كان حال كثري من مفكري فيينا يف الثالثينيات خاصة إن كانوا هيو ًدا.
أمرا غب ًيا بعض اليشء ،ذلك كانت قراءة هؤالء الفالسفة باإلنجليزية ً
ألهنا قادتني ألخطاء يف تقييم بعض زوايا أفكارهم .وقد حدث خالف هذا
الواقع أثناء قراءيت لرتمجة سكوت مونكريف((( لربوست(((؛ فأنا مل أفقد
الكثري منه عند قراءيت له باإلنجليزية ،كام كان واقع األملانية أو كام كان الواقع
79
لو تُرجم إىل اهلولندية يف ذلك الوقت .ويعود السبب يف ذلك إىل وجود
تقاطعات اجتامعية عريضة جدً ا بني الفرنسيني واإلنجليز يف أواخر القرن
التاسع عرش فيام خيص كون املرء فنانًا ،أو نخبو ًيا ،أو أدي ًبا ،أو متأن ًقا ،أو
عضوا يف نادي الفروسية ،أو صاحب صالون اجتامعي ،أو سليل بيت نبيل، ً
أو خاد ًما ،أو حتى موظ ًفا من الطبقة الوسطى يقوم ألداء عمله كل صباح .مل
يكن بوسع اهلولندية رشح كل ما سبق دون مزيد من عالمات الرتقيم ،كي
يتضح انتامؤه للمعسكر السيايس والثقايف العاملي يف ذلك الوقت .مل تكن
ألي منهام معأساسا ّ ً تلك الروابط بني لندن وباريس واضحة أو موجودة
أمسرتدام .ومل يكن يف البال أن يل َقى أي كاتب هولندي حفاوة يف أميان((( كام
وجد راسكن((( من بروست .مل يكن هذا املثال لبيان حالة الكتّاب اهلولنديني
يف ذلك الزمن ،ولكنه تعبري لبيان حالة العالقات الدولية يف ذلك الزمن.
فكم روائي من فنلندا ،أو ليتوانيا ،أو التفيا ،أو الباسك كان سيتقدم لنيل
جائزة عاملية يف ذلك الزمان؟!
يف العام 1972م ،وبعد خترجي بشهادة يف الفلسفة عدت إىل أمسرتدام
ألدرس الطب .لقد غبت يف إنجلرتا خلمسة أعوام ،وكانت عوديت تشكل يل
اخلوف املطلق! بعد وصويل بقليل ،جلست عىل مقاعد الدراسة أمام مشهد
ألستاذ الطب ،والذي كان يكتب فعل ًيا باإلنجليزية عىل السبورة يف قاعة
الدرس؛ كان يكتب عن األسباب التي جتعل أطباء الرعاية األولية حييلون
املرىض إىل املستشفيات التخصصية:
ألننا ال نعلم ...
ألننا ال نستطيع ...
80
ألننا نحتاج الدعم يف ...
ثم ما لبث بعد كتابته اجلميلة حتى أثبت غباءه بتشدقه ومبالغته يف نطق
هذه اجلمل الثالث رغم بساطتها.
يف هولندا ،ومناطق أخرى كثرية من العامل ،كان لعبادة األصنام التي
ذكرهتا آن ًفا هذا الوقع املقيت من كون اإلنجليزية متسيدة للمشهد العاملي.
يف جمال عميل الطبي ،هناك نزعة مؤسفة نحو استخدام اإلنجليزية وتعبرياهتا
عند احلديث عن أمر يمكننا قوله وبوضوح تام بلغتنا .فلامذا يقال (the blue
)toe syndromeلوصف حالة املريض إن كان لديه مشكلة يف الدورة
الدموية؟! لقد ختىل األطباء عن الالتينية ليأرسوا أنفسهم باإلنجليزية،
وذلك ليغلفوا حمتواهم اململ لكثري من املفاهيم بغالف ربام يكون أقل ملالً.
( )irritable bowel syndromeهو التشخيص حلالة يمكن للهولندية
وصفها وبكل سهولة ،ولكنها حينئذ ستفقد بريقها اإلكلينيكي والذي حيافظ
عىل أن يكون املريض جان ًبا يف حني حيمي هؤالء األطباء مضارهبم عرب هذه
التعبريات «الفاخرة».
أيضا بطبيعة احلال( :داونلود،
سيتبنى الناس تعبريات احلاسب اآليل ً
تشات ،أونالين ،إيميل ،أبديت ،وغريها) .ولكن اإلنجليزية هنا ستظلم
حتت وطأة ترصيفات األفعال اهلولندية؛ املايض من فعل التحميل سيكون
( )ge-downloadأو حتى ( )downgeloadمع التوصية بعدم حماولة
نطقها! وللاميض من التصفح ستحصل عىل ( .)surfteثم ما رأيكم هبذه
( ),downloadized, surfetted, croshed, be-mailedكترصيفات
لألفعال اإلنجليزية؟
أعلم أهنا قبيحة .وأقبح منها بكثري ما يوجد يف كثري من رسائل الدكتوراه
التي كتبت يف هولندا ولكن باإلنجليزية .وأنا ال هيمني يف احلقيقة إن كان
81
موضوع الدراسة هو الذرة ،أو اجلسور ،أو األسنان ،أو الرشايني ،أو أشعة
بعضا من شخصية غاما ،ولكن الذي هيمني هو أن الكتابة جيب أن تتضمن ً
كاتبها لتمنحها بعض احلياة ،والذي ّ
يشل هذه احلياة هو تداول اإلنجليزية
هبذه الشكل املزعج .ال يدرك الناس هذا ،لذلك هم يستخدمون اإلنجليزية
وكأن لغتنا لغة ميتة كاإلسبارانتو((( ،وبمخرجات ال حياة فيها كذلك.
ولكن األقبح من هذا كله حني يظن اهلولنديون أهنم يتكلمون اإلنجليزية
بطالقة ،مدفوعني إىل ذلك الظن عرب تشجيع ناطقي اإلنجليزية هلم بقول:
أي إنجليزي من علم بأن هذا اإلطراء ال يناله ّ
«إنجليزيتك رائعة جدً ا»ً .
شهدت مذبح
ُ إنجليزي آخر إطال ًقا .تعلمت هذا الدرس بأمل شديد حني
أحد الزمالء يف أحد الربامج عىل قناة البي يب يس .مشى املسكني ،بكل
وضوح
َ واضحا
ً أمرا
براءة ،نحو االستديو يف حوار حول ما ظنّه صاحبنا ً
الشمس يف رائعة النهار :موضوع القتل الرحيم .كان لودوفيك كينيدي ِ
مديرا للحوار؛ وكانت دام سيسييل
هناك ليساعده؛ وكان مايكل إغناتيف ً
سانديرس -القديسة العذراء حلركة اهلوسبيك((( -يف الطرف املقابل معها
طبيبا أعصاب بريطانيان متغطرسان؛ كانوا يتكلمون بنظرة متعالية ملؤها
الغرور .قالوا لزمييل املسكني« :إنك تقتل مريضك بسبب جهلك باملامرسة
الطبية الصحيحة» .هنا ،مل تكن لغة صاحبي املسكني سيئة لدرجة عجزه عن
قول «إن الرشايني التاجية تقع عىل جدار القلب»؛ أو قول «إن عمي ديك
جزارا»! ولكن لكي يتمكن من رصاع هؤالء القوم ،كان بحاجة ً
فعل ً كان
إىل أن يتكلم اللغة؛ أن يعيش مشاعر كلامهتا ،تلك الكلامت التي خذلته متام
مفعم بصالح مقصده ومحاسته ،لكنه كان ً
مكبل بافتقاره للغة. اخلذالن .كان ً
82
مرو ًعا ،كيف
درسا ّ
لقد ّقزموه كام لو كان جمم ًعا للبصاق .لكن ذلك كان ً
يفتقر املرء إىل كلامت قليلة رغم امتالئه بالكالم الكثري؟ هناك فرق شاسع
بني أن ّ
تدل إنسانًا عىل طريقه إىل حمطة القطار باإلنجليزية ،وبني أن تدله عىل
الطريق إىل أفالطون .يتجاهل هذا األمر أحيانًا الناطقون بلغة خريطة املدينة.
أحتاج أن أجتهد لكي أحافظ عىل إنجليزيتي لكوين أعيش يف هولندا.
أنا أقابل الكثري من الناس ممن يتكلم القليل من اإلنجليزية ،واحلديث
معهم مل يكن باملستوى الذي يساعدين فعليا عىل حتسني مستواي اللغوي.
لذا فقد كانت برامج التلفزيون والقراءة والسينام هي السبيل الوحيدة ملقابلة
اإلنجليزية الصحيحة .وهلذا فإن مستوى ما أستقبله من اإلنجليزية ال بأس
به؛ لكن ما أرسله من اإلنجليزية كان حيتاج إىل مزيد اجلهد ألحافظ عىل
لياقته؛ أخشى أنني لن أمتكن من ذلك.
بدت الكتابة اإلنجليزية ابتداء وكأنني أحاول حرث ساحة من الرخام:
أي يشء يف املقابل. أمر مستحيل التحصيل ،وإفساد ملواد نافعة دون ّ
لكني اآلن أكتب باإلنجليزية وأنا أشعر بارتياح تام ،وهو شعور ال أجده
عند الكتابة باهلولندية .مل ال؟! حسنًا ،املسألة هي كالفارق بني رجل يقف
طبيع ًيا عىل قائمتيه االثنتني ،وبني كلب استعراض يقف كذلك عىل اثنتني
من قوائمه يف السريك .لن يتكلم أحد بإعجابه بأسلوب رجل يف مشيه عىل
كل كاتب فحلم ّ
ُ رجلني؛ لكن الكل سيصفق للكلب عىل هذا العمل النادر.
يالحظ ناطقو اللغة األصليون أنه كلب؛َ أجنبي يكتب باإلنجليزية هو ّأل
وأن يقول أحدهم لآلخر يف الوقت نفسه« :أحب أسلوبه يف امليش».
كتفي أحيانا باستياء،
ّ مرتاحا أم ال ،فأنا ال زلت أهز
ً لكن ..سواء أكنت
ألنني مضطر للبس هذا الرداء الغريب لكي يؤذن يل! أستطيع العيش
نلت استعطافكم ولفت أنظاركم إىل ما فاتكم من الكتاب
واحلالة هذه إن ُ
83
أساسا رشح مناقبهم ،إال بمثل
ً اهلولنديني؛ حتديدً ا هؤالء الذين ال أستطيع
قدريت عىل التصفري ألبني ألحدهم تفوق جيمي هيندريكس((( يف عزف
القيثارة .ولكن وبرغم عجزي احلايل عن الرشح ،إال إنني أستطيع اجلزم
ً
فعل بتفوقهم.
وبالرغم من طول صحبتي مع اللغةّ ،
أظل ال أعرف سبييل يف مناطق
كثرية من اإلنجليزية .أنا هنا ال أحتدث فقط عن األسوار واألرسار صعبة
الفهم ،بل وكذلك عن النجارة وقطع غيار السيارات وصيانتها ،أو عن
مصطلحات الشحن وأسامء الطيور :لطاملا اختلطت عيل أسامء الزرزور
والغطاس والسامن والكروان والشنقب .أنا يف اإلنجليزية رجل احلاممة
والبطة((( فقط.
أنا -وبإجياز شديد -لست ناط ًقا أصل ًيا لإلنجليزية ،وال هيمني أن أكون.
84
الفرنسية دون دموع
لوك سانت
(((
طفل من اجلزء الناطق بالفرنسية يف بلجيكا كنت ًوالدي حني ُّ هاجرت مع
ُ
إىل الواليات املتحدة .كان االنتقال استجابة للظروف االقتصادية ،وقد كان
والدي عاطف ًيا منذ بدايته؛ وقليلة هي املرات التي حاوال ّ وقعه شديدً ا عىل
خال يف املحيط اجلديد .مل تكن أمي تعرف اإلنجليزية فيها أن حيظيا بقلب ٍ
آنذاك ،وكان أيب معتمدً ا عىل بقايا قليلة من ذاكرة دراسته الثانوية ،كام كان
أيب خيلط بني اإلنجليزية وبني األملانية الثقيلة عىل اللسان ،التي اكتسبها حني
لوالدي قليل من األصدقاء
ّ نشأ يف قريته القريبة جدً ا من احلدود اللغوية .كان
املقربني الذين يتكلمون الفرنسية .كان هذا العزل أشد وطأة عىل أمي ،فهي
غري متعلمة ،ومن أرسة ريفية شديدة املحافظة؛ كام كانت دائمة البقاء
يف املنزل ،عىل عكس أيب املتنوع يف طبيعته ،الذي كان خيتلط باألمريكيني
وغريهم من املهاجرين يف عمله .لذلك فقد وقعت أمي حتت سيطرة كل
رمز أو مظهر يأخذها إىل الفرنسية ماد ًيا كان أم معنو ًيا يف احلياة األمريكية،
-1لوك سانت ( )Luc Santeأستاذ الكتابة وتاريخ التصوير يف جامعة ( )Brad Collegeيف
نيويورك (علام أنه مل يتخرج من اجلامعة يوما وال يملك أي درجة علمية) .كاتب أمريكي/
بلجيكي ،نرش عدة كتب منها «احلياة البطيئة» و«الدليل» ،وسريته الذاتيه بعنوان «مصنع احلقائق».
آخر كتبه كان بعنوان «باريس األخرى» .كام أن له مسامهات كثرية أدبية وثقافية منشورة يف جملة
( )The New York Review of Booksالشهرية.
85
فتبتهج لساعات طويلة عند رؤية اسم ذي أصول فرنسية يف إعالن جتاري. ُ
كانت ضحكة أمي هي العالمة البارزة جلولتنا يف السيارة حني تقرأ وبسعادة
الكلامت الفرنسية عىل جانب الطريق:
!Chez Pierre
!Masion de Beau
86
جدً ا .مل يعد لدينا عائلة قريبة يف بلجيكا .كنا وحدنا ،ومن ثم كان قرار مكان
إقامتنا عائدً ا إىل وفرة الفرصة حيث كانت .هذا القرار مل يرفع من معنويات
العائلة .فبعد فقد أجدادي حاول والداي أن حيافظا عىل املظهر البلجيكي يف
منزلنا ،ولكن محاسهام مل يدم طويالً ،ومن ثم انتقل اجلو العام ملنزلنا وبتدرج
وخفية بعيدً ا عن رمزيته .ويف ظالل الروح ذاهتا ،تقدمت لغة العائلة لتكون
خلي ًطا متنو ًعا .ورغم أن النحو والنطق ظال فرنسيني ،فقد أصبح الكالم
بعمومه franglaisفرنس ًيا/إنجليز ًيا.
انفصلت الفرنسية عن أساساهتا -بالنسبة يل -كام فعلت كثري من مظاهر
احلياة يف بيتنا؛ لقد انفصلت هذه املظاهر عن صلتها بعامل أوسع مما هي عليه،
وبدت تلك العاطفة كأهنا بدعة ابتدعها والدايْ كأهنا تدور يف حلقة مفرغة؛
ليصونا غربتي بني أقراين .لكن تلك البدعة خلقت وحلسن احلظ عالقة
بيني وبني األطفال الناطقني بالفرنسية يف العامل كله :متلك عمتي وزوجها
دكان صحف يف قرية صغرية جدً ا ،وكانا قد أهدياين اشرتاكًا يف جملة الرسوم
املفضلة عندي يف بلجيكا .لقد قرأت سبارو((( أسبوع ًيا ولعرش سنوات؛
مل تكن تلك املجلة جاذبة فقط عرب تعاملها مع اللغة احلية يف الشارع بل
بتقديم نكهة احلياة اليومية يف بلجيكا ،التي كانت رسيعة التحول ،أرسع مما
ظنه والداي .مل يكن هلذه الرسوم األسبوعية أي منافس أمريكي؛ كل عدد
كان حيتوي عىل سلسلة من رشائط الرسوم ،وصفحات مطوية ملجموعة
من املغامرات ،وألعاب ،ومسابقات ،وحكايات تعليمية ،وقصص خيالية
مل أمعن النظر يف حيايت كلها يف نصوص كام فعلت معها .مل تكن القصص
متجها نحو أسلوب الرسم املرافق هلا؛
ً مها يل حينها بقدر ما كان شغفي
ذاهتا ًّ
وقد أثر هذا يف طريقة قراءيت وتعاميل مع الفنون الح ًقا ،إذ كنت أزدري كل
-1تعد سبارو واحدة من أشهر جمالت الرسوم اهلزلية باللغة الفرنسية وتصدر يف بلجيكا.
87
األعامل اجلادة يف ظاهرها وأسلوهبا الفني الواقعي ،يف مقابل تفضييل لكل ما
هو مجوح ومضحك .كانت رشائط الرسوم اهلزلية أكثر أجزاء املجلة متر ًدا
بم َلك َِة الفرنسية يف إنتاج األلعاب اللغوية،
يف استخداماهتا اللغوية ،حمتفية َ
خاصة ألعاب التورية والتالعب اللفظي.
إن التالعب اللفظي والتورية هي األساس الذي يتعلم من خالله أطفال
املدارس الناطقني بالفرنسية .ربام كان هذا واقع اإلنجليزية أو غريها من
اللغات كذلك؛ فلذلك كانت األحجيات واأللغاز جز ًءا من حياة النشء.
أستطيع أن أؤرخ حلقيقة غمر اإلنجليزية يل حني استطعت أن أستوعب ُ
موضع الدعابة يف بعض النكات .لكن وبرغم هذا فإن التورية والتالعب
اللفظي خمتلف يف الفرنسية ،وذلك ألهنا لغة صارمة وحمددة ،وليست مرتامية
األطراف وهائلة كاإلنجليزية؛ كام أن الفرنسية أنيقة وكافية وكأهنا حمرك
ثنائي احلركة ،وليست مثل اإلنجليزية التي تشبه آلة روب غولدبريغ(((.
ليس يف الفرنسية بالرضورة أصواتًا أقل من اإلنجليزية ،ولكن النظام الذي
حيكم ترتيبها وتواترها جيعل ظهورها ً
قابل للتنبؤ؛ لذلك كانت لدينا وفرة
من التشابه الصويت يف العبارات واجلمل والتي فاضت هبا أدبيات الرسيالية،
وجعلت أفكار الفرويدية وما بعد الفرويدية أكثر جاذبية يف العامل الناطق
بالفرنسية:
Les dents, la bouche. Laid dans la bouche. La dents la
bouchent. L’aidant la bouche
إن الشبه يف الصوت واضح بني هذه العبارات ،وهي تعني عىل التوايل:
قبيح يف الفم .خنقها الس ّن .مساعدهتا ختنقها .ال حيتاج أحدٌ
الفم ،األسنانٌ .
-1آلة معقدة جدا وذات تصميم متعب ،صممت لتحصل عىل نتيجة ضئيلة فصارت مرضب
مثل حني يسلك اإلنسان ً
سبيل صع ًبا للحصول عىل يشء يسري.
88
قادرا عىل مالحظة الشبه بني هذه
إىل تزكية من جاك الكان حتى يكون ً
(((
العبارات ،كام أن هذا التشابه قد يبني مقدرة اللغة عىل دع ِم رسعة حركة
الفكرة سواء كانت دنيوية أم غيبية .لدى األطفال غريزة فطرية إلدراك
ذلك ،خاصة حني تكون نشأهتم كاثوليكي ًة ،ألهنم حينها يكونون قد جربوا
أدق تفاصيل االنصياع!
السنافر Les Schtroumpfsأشهر شخصيات جملة سبارو عامل ًيا؛
خملوقات صغرية عفريتية زرقاء ،تعيش يف قرية مساكنها من نبات الفطر.
يف ظهورهم باإلنجليزية بدا السنافر وقد ُأشبعوا لطافة وظرافة؛ لكنهم
بالفرنسية كانوا قد اجتنبوا هذا ال َقدَ َر مستعينني بلغتهم ،التي كانت تعتمد
أساسا- ً عىل استعامهلم املتواصل لكلمة schtroumpfسنفور -املبتدعة
وحال وصيغة تعجب .استوعب هذا االستخدام ً ً
وفعل وصفة اسم لتكون ً
وكبارا ،دون احلاجة إىل تعليقات وتوضيحات. ً صغارا
ً كل القراء، اللغوي ُّ
وضا حل بسخرية ليكون ِع ً كانت السهولة تكمن يف أن هذا االستخدام قد ّ
عن املفردات غري القابلة للتصنيف القواعدي يف الفرنسية املحكية ،والتي
حرة يف تنقالهتا يف الكالم مثل.machin((( ,truc, chose : كانت بدورها ّ
األمر الذي فعلته مفردة سنفور يف احلقيقة هو أهنا أثبتت قدرة كلامت -قد
يراها البعض سخيفة -عىل أن تضع ما هو ممنوع االستخدام يف كالمنا وكتابتنا
فعل عن حقيقة املفردة التي حلت «السنفرة» حملها ،ألن املعنى بغض النظر ً
واضحا جلي ًا من السياق .إن مفردات مثل ،truc, choseكانت ستقوم ً كان
بالدور نفسه ،لكنها كلامت حيادية رمادية! يف حني كانت املفردات املشتقة
من سنفور ختاطب العقل الباطن كأهنا يشء حمسوس ،وكان شكلها الغريب
89
يفتح الباب لكل املعاين التي وإن مل يدركها عقل الطفل ،لكنه يستطيع أن
يتخيلها مع كل ما يرافقها من حرية وغموض.
مل تكن كل التالعبات اللفظية خميفة بالطبع .فسلسلة إصدارات
ذوي القبعات من بالد ْ أسرتيكس((( (حكايات مات وجيف الرفيقني
الغال((() ،والتي كانت شخصيات احلكايات فيها تُعرض بوضوح من
خالل ترصيف أسامئها؛ كان بعض األسامء غال ًّيا [نسبة إىل بالد الغال]
بوضوح واآلخر يبني عدائية حامله فهو روماين بالرضورة .كانت شفرات
هذه األسامء ورموزها منترشة يف كل السلسلة الفكاهية؛ وكان فك رموز
بعضها حيتاج بعض التامرين البدنية حيث يمكث القارئ أسبو ًعا أو أسبوعني
حتى تتفكك له الرموز كأهنا أرقام رسية لقفل .يف املقابل كانت مغامرات
تان تان((( ،الصحفي البلجيكي الشاب ،قد أظهرت وبشكل متكرر الكابتن
سكريا غضو ًبا ،لكنه طيب القلب .كان الكابتن ً هادوك ،البحار العتيق
أرشارا ،أو
ً هادوك كثري الوقوع عىل مؤخرته ،شتا ًما حني يرى من يظنهم
الذين خيربون الطبيعة ،أو حني متر سيارة مرسعة فرتشق ماء الشارع عليه،
أو حني ترضبه الكرة التي يلعب هبا األطفال يف الشارع .كان معجم شتائمه
مهم:
درسا ً
يدوي كأنه انفجار للغة مقيدة سجينة .تقدم لنا هذه الرسومات ً
ٌ
ومأذون أن اللغة يمكن أن تكون أداة مرح ،لكنه ليس بالرضورة مرح آمن
ومعكرا للصفو .إن توظيف اللغة ً مرحا جاحمًا ،وفوضو ًيا،
به؛ بل قد يكون ً
أمرا مقصو ًداَ ،ب ِّينًا حتى ألولئك
أمرا اعتباط ًيا ،بل كان ً
يف الرسومات مل يكن ً
90
األطفال يف الثامنة من أعامرهم .لذا فإن الفائدة املرجوة من هذا الدرس هي
أن املرح يمكن حتصيله من خالل التأسيس املدريس العميق واملنطق القوي
الدقيق.
دروسا عن أمهية الدقة خالل مراحل حيايت كلها؛ و
ً كنت قد تلقيت
كانت أغلب الدروس من أيب بالذات .كان أيب قد توقف عن الدراسة يف
مضطرا كي يعمل؛ وكان جدي قد مر بالتجربة نفسها؛ يف حني
ً الرابعة عرشة
كان جد أيب أم ًّيا .بالرغم من هذه الظروف كان أيب وجدي قارئني عظيمني.
مل يكن بيتنا خيلو أبدً ا من زاوية مزدمحة بالكتب ،والتي كان غالبها قد رافق
عظيم فحسب ،بل كان ً أرسيت حني هجرهتا عرب املحيط .مل يكن أيب قارئًا
يعيد القراءة بكثرة للامدة نفسها .كانت أشكال الكتب اخلارجية تعرب برص ًيا
يل يف طفولتي عن التنوع؛ فبعضها كان ذا جتليد داكن فاخر ،وبعضها كان
كنت أخاهلا حتوي األرسار املقدسة لتقاليد البالغني ذا غالف ورقي براق؛ ُ
والدي ،أنظر إليها
ّ وحياهتم مجي ًعا .وبعدما باعت أرسيت منزهلا بعد وفاة
اليوم فأرى أن العناوين كلها تنتمي ملجموعات األكثر مبي ًعا :كانت مثل
أواخر
َ تلك الكتب املعروضة عىل رفوف غالب متاجر الكتب يف بلجيكا
أواخر اخلمسينيات .كانت الكتب الرباقة من إصدارات َ األربعينيات وحتى
مريأباوت دار النرش اللغوية األدبية الفرنسية نظرية بنغوين اإلنجليزية ،والتي
كان من قدرها أن يكون مقرها الرئيس يف بلدتنا يف بلجيكا ،تلك املدينة التي
مل تكن قط واجهة قرائية أو ثقافية.
إذن فإنه من املحتمل أن حمتويات مكتبة أيب كانت تشابه متا ًما كثريا من
املكتبات يف منازل أبناء الطبقة الوسطى يف بلجيكا يف ذلك الوقت ،وهي اليوم
متأل كذلك رفوف متاجر الكتاب املستعمل .مل يكن من بينها أي إصدار نادر
وال حتى أي إصدار بارييس مؤثر .بعضها كان يعدّ أدب ًيا ،لكنه غال ًبا ينتمي
91
للحقبة ذاهتا .لكنها يف احلقيقة كانت خمتارات منتقاة عن متييز دقيق ،وكانت
كلها تشرتك يف عنرص األسلوب .أعني أهنا كانت كلها مميزة يف أسلوهبا ْ
وإن
مل ْ جتتمع حتت مظلة واحدة .كان من بينها كتب الرواية والتاريخ والرحالت
روت َ
غليل أيب من القراءة ول ّب ْت واملالحم والكوميديا؛ بجملتها كانت قد َأ ْ
هنمه .كان أيب يرص عىل le mot justeأي أن كلمة واحدة -كلمة واحدة نداء ِ
َ
رب بدقة عن فكرة حمددة ضمن معطيات حمددة .إن دائم أن تع َ
فقط -تصلح ً
فكرة األسلوب عند أيب تتكون من رشطني :اجلامل والدقة ،ومها أمران
كل من حكايات متداخالن بطبيعة احلال .تضمنت جمموعته الكالسيكية ًّ
الفونتني((( ،وكوميديا موليري((( ،وقصائد فيكتور هوغو((( ،ومرسحيات
إدموند روستان((( خاصة مرسحية سريانو دو برجراك((( .كان أيب دائم
ُ
يشتاق االستشهاد واالقتباس من هذه املجموعة؛ ألهنا مناسبة أحيانًا ،وألنه
إىل ذكراها أحيانًا أخرى.
ويف مرحلة مبكرة من حيايت غرس أيب ّيف نموذج الذائقة عىل رشطه
األسلويب ،كام هو يف هناية مرسحية سريانو دو برجراك .حيترض البطل ً
قائل
عىل مسمع من رفاقه« :إن شي ًئا واحدً ا نق ًيا ،ال يشوبه الدنس ،سآخذه معي
رغم عنك [أهيا املوت]» .يرفع حينئذ سيفه ً
قائل« :هذا اليشء هو ،»... ً
-1جان دي الفونتني كاتب وشاعر فرنيس يعد من القالئل الذين عرفوا أرسار الفرنسية ،وأشهر
من كتب القصص اخلرافية يف األدب الفرنيس (تويف ١٦٩٥م).
-2جون باتيست بوكالن ولقبه موليري كاتب كوميدي مرسحي وشاعر فرنيس (تويف ١٦٧٣م).
-3فيكتور هوغو شاعر وكاتب وأديب فرنيس يعد من أشهر وأهم أدباء فرنسا وقد ترمجت أعامله
إىل غالب اللغات احلية (تويف ١٨٨٥م).
-4إدموند روستان شاعر وأديب ومرسحي فرنيس (تويف .)١٩١٨
-5مرسحية عظيمة إلدموند روستان ترمجت إىل العربية بعنوان «الشاعر» وقد ترمجها األديب
الكبري مصطفى لطفي املنفلوطي.
92
فيقع سيفه من يده ويسقط البطل بني يدي رفاقه .تنحني روكسان وتقبل
جبينه ،وتسأله« :ما هو ذلك اليشء يا سريانو؟» يفتح سريانو عينيه ،فريى
روكسان فيبتسم ويقول« :حريتي واستقاليل»؛ ثم ت ُ
ُسدل الستارة .كلمة
panacheتعني حرف ًيا تلك الريشة التي توضع عىل القبعات التي يعتمرها
الرجال املحرتمون يف القرن السابع عرش؛ ولكنها كذلك تعني ما تعنيه يف
اإلنجليزية من إظهار العزة ،مع زيادة يف تلك الداللة :احلرية واالستقالل.
س يف حياة سريانو؛ جاءت بوصفها جاءت لعبة املفردات هنا عند ِ
آخر َن َف ٍ
إظهارا
ً رمزا مثال ًيا للبطولة ،أي
كم وجاءت بوصفها ً تعبريا يدل عىل الفطنة ًّ
ً
علمت أن
ُ تذكرت هذا النص ذات مرة ،حني ُ للقيم الرفيعة يف مفردة واحدة.
املتعلمني املبتدئني ملصارعة الثريان يسمون أنفسهم :تالميذ املجد .واحلقيقة
أن اإلسبانيني مل يكونوا قادرين عىل رؤية قمة املجد كام يراها الفرنسيون،
ِ
اللغة وحدَ ها. لبوس
املوت مرتد ًيا َ
َ حني يواجه املجدُ
إن اجلامل والدقة حليفان بالرضورة؛ يدالن سوي ًا عىل وجود احلقيقة .إن
هذه املس ّلمة تبدو أوضح ما تكون يف حكايات جان دي الفونتني .كل ناطق
ُ
«رزق املدّ احني عىل أولئك الذين ينصتون هلم»، بالفرنسية يستطيع أن ينشد:
من حكاية الغراب والثعلب .كنت أعرف تلك الكلامت كوحدة لغوية كاملة
وكأهنا منقوشة يف ذهني قبل حتى أن أدرك داللة كل مفردة عىل حدة .كانت
العبارة كأهنا آية من نص ديني كام كانت كأهنا حكمة يف الوقت نفسه .وحني
بلغت من العمر ما يؤهلني إلدراك مراد العبارة الدقيق ،وجدت أن موسيقى
ُ
أبلغ من حكمتها .كان ذلك يف العرشينات من عمري ،وكنت أعمل اجلملة ُ
كات ًبا؛ حينها وقعت عىل رسالة من فلوبري((( إىل جورج ساند((( ،وقد جاء
93
فيها:
حني يقع قلمي يف السجع املبتذل أو التكرار اليسء ،أعلم يقينًا أنني
أختبط يف الغلط .وعند البحث أجد ضالتي؛ أعني التعبري الدقيق،
أتبني فيام بعد أنه متناغم
تعبريا واحدً ا فقط؛ ثم ُ ً دائم
الذي يكون ً
مسيطرا عىل
ً تغيب املفردة أبدً ا إذا كان املرء
ُ صوت ًيا كذلك .ال
فكرته .فهل ثمة نظام ذايت تعمل من خالله اللغة يف ملءالفراغات
هبذه الدقة؟ وإن مل يكن ثمة نظام وال قاعدة ،فكيف ينتهي األمر
دو ًما إىل إن املفردة الدقيقة دالل ًيا هي ذاهتا املفردة الدقيقة موسيق ًيا؟
أو بعبارة أخرى :ملاذا ينتهي أعظم إجياز ألي فكرة يف أن يكون بيتًا
من الشعر؟
مل يكن أيب أبدً ا قد قرأ فلوبري ،لكنه كان قد نقل إ ّيل شي ًئا من روحه ،ومر ّد
ذلك إىل أن الكثري قد نرشوا فكرة فلوبري كتاب ًيا وشفو ًيا؛ كام أن مفهوم اجلامل
قرأت رسالة
ُ والدقة موجود بالفرنسية حتى قبل أن يعرب عنه فلوبري .وحني
فلوبري أصبحت بالنسبة يل بمثابة النص املقدس.
وبالرغم من حماولتي البعد عن مكتبة أيب ،إال إين ال يمكن أن ُأغفل أثرها
مشا ًء بني تلك املختارات .كان امللل رفيق أفكار بعضالنفيس عيل؛ لقد كنت ّ
تلك الكتب :مطوالت تسلق اجلبال لفريزن روش((( ،وفكاهات الفالحني
آلرثر ماسون((( ،واحلكايات الطنانة عن أخالق النبالء الكاثوليكيني
جلان دي الفونتني .يف املقابل كانت قصص اجلريمة من أهم ثمرات تلك
94
علم إهنا كانت األبغض إىل أيب ،وهو مل يقرأها قط! كانت قصص الرفوف؛ ً
اجلريمة تصلنا بالربيد من عمتي وزوجها -ومها شخصان رائعان جدً ا-
منتجا غري ذي قيمة ،لذا كان إرساهلا لنا
ً الكتب ك َّلها
َ لكنهام كانا يعدّ ان
بمثابة التخلص اليسري منها .كانت هذه القصص إىل جانب جمالت األطفال
صغريا .أما باإلنجليزية فقد
ً نصيبي املخصص للقراءة بالفرنسية حني كنت
كانت غالب حماوالت القراءة املبكرة متقدمة عىل سني ،يف وحماولة لتوافق
مستوى املوسيقى التي كنت أستمع إليها .وكانت هذه فجوة تشكلت بني
مستوى اللغتني يف طفولتي.
ثم عند بلوغي السن املناسبة ،سافرنا إىل مونرتيال((( يف كندا حلضور
ألي منا يف زيارة بلد ناطق بالفرنسية
معرض دويل؛ كانت تلك هي املرة األوىل ّ
كنت يومها يف شوق ومحاسة لزيارة حمالت خالل األعوام األربعة املاضيةُ .
بيع الكتب كام هي محاستي للمعرض نفسه .وإن مل ختني الذاكرة ،فإن مكتب َة
وسط املدينة كانت أول نقطة توقف جلولتنا .ال أذكر اآلن إن كان يف نيتي ِ
حمدد قبل الولوج إىل املكتبة ،ولكني خرجت بصحبة كتابني. رشاء أي عنوان ٍ
ُ َّ
كان أحد الكتابني خمتارات من الكوميديا السوداء من حترير أندريه بريتون(((،
خيارا رائ ًعا حلسن احلظ .الكوميديا السوداء؛ كنت أتصور أن ً الذي كان
خياري ذا عالقة باألسلوب األديب الذي ُولدَ عىل يدي ليني بروس((( وغريه
من الكوميديني األمريكيني الذين كانوا مصدر الكثري من الغضب يف الشارع
األمريكي حينها .كان الكتاب الثاين جملدً ا سميكًا من الشعر الفرنيس من
95
مهتم بالشعر ،ولكني حني ق ّلبت إصدارات مريأباوت .مل أكن أيامي تلك ً
شكل ومضمون ًا .عند الليل ،كنت مستلق ًيا
وقعت عىل يشء خمتلف ًُ الكتاب
عىل فرايش يف غرفة الفندق ،فتحت الكتاب عىل صفحة ،ووقع نظري عىل
السطر:
A la fin tu est las de ce monde ancient
نفسك عند النهاية متع ًبا من هذا العامل القديم» ..سطر من قصيدة
«وجتدُ َ
لغيوم أبولينري((( كانت القصيدة قد افتتحت بكلمة «جمال».
ثم تقول القصيدة« :يا أيتها الراعية ،يا برج إيفل ،إن لقطيع اجلسور ثغا ٌء
حزي ٌن هذا الصباح» .ختاطبني القصيدة بشكل مبارش؛ ختاطبني أنا وال أحد
شارع حزي ٌن ،وأنت
ٌ مضت يف صفحتها الثانية« :هناْ سواي ،كام جاء حني
واألبيض فقط» .كان هذا واقع َ َ
األزرق جمرد طفل صغري ..تُلبسك أ ُّمك
ضمري املخاطب tuيف تلك القصيدة طفولتي ُ المس
َ طفولتي متا ًما؛ لقد
[أنت] بعينيك احلزينتني ،الغارقتني بالدمع،واستدعاها عىل الفور« .تشاهد َ
فقرا َء املهاجرين ..يؤمن املهاجرون باهلل ،ويصلون ألجل املرأة التي ترضع
كنت يف ذلك املكان روائ ُحهم ممرات حمطة القديس الزار(((»ُ . أطفاهلا ..متأل ِ
ورأيت ذلك بأم عيني .بدت القصيد ُة وكأنا يف ٍ
هلفة إىل احلداثة ُ ذات يوم،
ّ ِّ
وكأنا مرشئب ٌة إىل اليقني الديني من ناحية أخرى. ٍ
ويف حرية منها؛ كام بدت ّ
حي لذلك األسى الذي أمحله يف داخيل عن ذلك الزمان. بدت كأهنا مشهد ّ
ولكن األمر كان أعظم .لقد كانت القصيدة رشيقة جدً ا؛ موزونة مع بعض
املرونة ،كأنام كتبت مرة أخرى لتُغنّى .عباراهتا منظومة دون عالمات ترقيم،
لكنها كانت واضحة احلدود واملعاين؛ و كان نحوها بسي ًطا قري ًبا من حديث
-1غيوم أبولينري شاعر وقاص وروائي وناقد فني فرنيس (تويف ١٩١٨م).
-2هي إحدى املحطات الست الكربى التي يتداخل فيها نظام النقل العام يف باريس.
96
العادي؛ وأسامء مع ّلمة((( باألحرف العلوية مثل حبات الكرز يف علبةّ الناس
حركات مفاجئة خالل الزمان واملكان ،ثم ٌ الشوكوالتة .كان يف القصيدة
ختتفي مثلام ختتفي األشياء بني يدي عارض اخلدع البرصية .أضواء ودوران
متنيت أن يقدِّ م هذا العامل احلديث يل
ُ مستمرة يف تقديم الدهشة ،متا ًما مثلام
بلطف حمسوس ظل يتجدد كلام حلقت يب القصيدة بعيدً ا.
أصبحت فرنس ًيا حداث ًيا ،وأزعم أنني ظللت كذلك ُ يف تلك الساعة،
بالرغم من بعض الشكليات التي مل تكن .كانت اللغة الفرنسية قادرة عىل
أن تثري الدهشة واملفاخر بشكل مل يكن ممكنًا يف بعض اللغات ،أو هكذا
بدت يل .يف قصيدة ألندريه بريتون بعنوان :االحتاد احلر L’union libre
والتي تعدّ من أكثر النصوص جمونًا يف األدب كله ،جاءت أوصاف حمبوبة
الشاعر بالفرنسية بطريقة ال تتأتّى لإلنجليزية أبدً ا .مل تكن ترمجة القصيدة
إىل اإلنجليزية قبيحة ،لكنها كانت خالية من السحر واملوسيقى .كانت شدة
حساسية اإلنجليزية جتاه النصوص املاجنة سب ًبا لغياب السحر واملوسيقى؛
و كانت سالسل احلرير التي يتشكل منها تركيب حروف اجلر وأسامئها يف
مصدرا للسحر وقوته .ال شك يف أن اللغات تتفاوت؛ وأنه ليس ً الفرنسية
من العدل قياس تفاوت اللغات ذلك بميزان واحد ،ولكن وبالرغم من ذلك
فإن الشعر الفرنيس حني يرتجم إىل اإلنجليزية فإن اإلصدار اإلنجليزي يبدو ّ
خاملِ ،
خشن ًا ،ال جاذبية فيه عىل اإلطالق. ً دو ًما
Ma femme à la langue d’hostie poignardée
ٌ
لسان مثل لسان املضيف [صاحب الدار] املطعون» ..نجد «المرأيت
-1املقصود هنا هو أسامء األعالم حني توسم باألحرف العلوية (الشكل الكبري للحرف
الروماين).
97
هنا عبارة hostie poignardéeوالتي تستدعي قصة استحالة الشكلني
(((
تصور العنفجلسد املسيح إىل رغيف أبيض من اخلبز .إن العبارة الفرنسية ّ
املوجود يف القصة بمحاكاته صوت ًيا :ففي حني تأيت كلمة hostieيف هدوء تام،
تتغافلها كلمة poignardéeذات املقاطع الصوتية الثالثة .كأن القارئ يرى
اخلنجر poignardبعينه حني يقرأ .يف املقابل نجد الرتمجة اإلنجليزية للعبارة
« »stabbed hostال تتضمن أي شاعرية سوى حماولتها أن َ
تنقل الفكرة يف
أقل من مجلة؛ ولكأهنا حماولة لإلبالغ عرب أجهزة الراديو يف سيارات الرشطة
عن جريمة قتل لعامل يف مطعم يقع عىل الطريق الرسيع؛ كام أهنا خترج مثل
أي صدى بعد حلظة كتلة خشنة من األصوات .مل ترتك العبارة اإلنجليزية َّ
من انتهائها.
لقد فتحت يل الفرنسية با ًبا إىل الشعر .يف سنوات دراستي كنت أقرأ
دائم ،كام كنت أحاول كتابته باإلنجليزية ،ويعود ذلك إىل عدم إيامين
الشعر ً
بتمكني من دقائق وطرائف اللغة الفرنسية .وبطبيعة احلال ،انتهى يب األمر
أن أحببت الشعر اإلنجليزي كذلك ،ولكنه حب خمتلف .لو ُط َ
لب مني يو ًما
إنشاد الشعر ،فإن أول ما سيكون عىل لساين وبتلقائية تامة هو:
J’ai tendu des cordes de clocher à clocher; des guirlandes de
fenêtre à fenêtre; des chaînes d’or d’étoile à étoile, et je danse
-Rambaud
ٍ
نافذة إىل أخرى؛ برج آخر؛ وأكاليل من ٍ
كنيسة إىل ٍ «مددت ً
حبال من ِ
برج ُّ
وسالسل ذهبية بني كل نجمة وأخرى ،وها أنا أرقص» -رامبو(((.
98
وعند منتصف املرحلة اجلامعية توقفت عن كتابة الشعر هنائ ًيا .لقد فقدت
اليقني بموهبتي .لكن احلقيقة تكمن يف أنني وجدت أن املوسيقى األصيلة
لصوت اللغة األمريكية((( تكمن يف النثر ،يف كتابات كل من داشيل هاميت،
ورايموند تشاندلر ،وجيمز كاين(((« .لقد رموين من عىل شاحنة األعالف
عند الظهرية تقري ًبا» .كانت هذه هي مجلة االفتتاح لرواية «ساعي الربيد يقرع
اجلرس دو ًما مرتني»؛ َب َل َغ ْت هذه اجلمل ُة بكلامهتا التسع أعىل مناقب الكتابة
األمريكية .كانت كلامت حمايدة غري متك ّلفة ،موجزة جدً ا وسطحية كذلك؛
كانت اجلمل ُة وكأهنا تشكل خارطة مدينة كاملة بمحطات وقودها ومواقف
حافالهتا وحاناهتا ،وممرات املشاة املليئة بقصاصات دوالرات قديمة،
وأعقاب السجائر ،وآثار البصاق :أشياء كنت أراها كل يوم يف منظومة حياة
كانت تتحدى األدب وتتوعده يف حال جتاوز خطوط «األدب» املرسومة.
لقد شكلت اجلملة كل التنوع واجلامليات للجامعة التي كنت فيها جند ًيا شبه
معارض ،ولكنها جسدت دون شك انقاليب التام عىل الفرنسية التي ظننت
أين أعرف كل يشء عنها.
لقد كانت املسألة مهمة ألنني حني استوعبت أمر اإلنجليزية والفرنسية
كنت يف باريس ،حيث كنت ملتح ًقا يف برنامج صيفي برعاية من الكلية التي
أدرس فيها ،التي كانت بطبيعة احلال جادة وسباقة بشكل منقطع النظري يف
تساءلت ذات مرة يف باريس :ما الذي
ُ دراسة ظاهرة الفكر النقدي الفرنيس.
أفعله هنا؟ كنت يف العام الذي سبق هذا الربنامج قد درست يف قسم اللغة
الفرنسية مادة عن السرييالية ،املوضوع الذي اهتممت به عىل الدوام .ولكن
99
عرش دقائق من أول لقاء حتى كنت غائ ًبا عن عامله
يف باريس ،ما إن مضت ُ
متا ًما .كان املعلم باريس ًيا حديث االنتقال إىل املدينة؛ بدأ املعلم برسم خرائط
وابل من املراجع واملصادر واالقتباسات،ذهنية معقدة تشبه األلغاز ،يرافقها ٌ
ومصطلحات يونانية األصل صعبة النطق والسامع ،وبعض التالعب
باأللفاظ -وهذا األخري يشء أحبه وأقدره -لكنها مل تكن مضحكة تلك
املرة ،بل كانت سمج ًة جدً ا .كان الدرس يشبه مشهد جمموعة من األكاديميني
يرقصون عىل مرسح ملهى لييل لغرض توضيح موضوع معريف .وبحكم
سخريتي املزمنة من الرياضيات ،فإن تلك اخلرائط الذهنية تسببت يل باهللع،
الذي ازداد بسبب التقريرات العلمية ،أو الدعاوى الزائفة .مل أكن حينها قد
أساسا بالسرييالية؟
ً سمعت قط بالكان أو دريدا((( ،ولكن ما عالقة ذلك
بدا يل األمر غري مرتابط أبدً ا .بشكل أو آخر مضت تلك السنة ،بعالمات مل
تكن مرضية وال خمزية .أظنني التحقت بالربنامج الصيفي فقط ألقنع نفيس
بالسفر إىل باريس ألغراض تعليمية .لكنها كانت مغامرة مدفوعة التكاليف.
جيا عجي ًبا :فأستاذ مادة تاريخ اآلداب كان ً
رجل متثبتا كان الربنامج مز ً
من أقواله .لكن الذي أتذكره جيدً ا كأنه أمامي اآلن هو املختص بالرواية
احلديثة؛ كان يقيض الوقت املخصص لدراسة قصة «مدام بافوري» يف حماولته
الخرتاع بعض التالعبات اللفظية عرب أسامء الشخصيات واملفردات الواردة
يف الرواية ،كان يلوكها يف فهمه لتكون ما يريد ،طائع ًة أو كارهة .لكنني كنت
سئمت تلك املتعة اللغوية املزعومة؛ بل
ُ ضقت ذر ًعا باألالعيب اللفظية،
ُ قد
وذهبت
ُ أخذت نفيس
ُ ً
وتفصيل. كنت حينها قد سئمت من الفرنسية مجلة
-1جاك دريدا فيلسوف فرنيس ،جزائري املولد ،صاحب النظرية التفكيكية (تويف ٢٠٠٤م).
100
Rue (((
إىل غالينياين((( :متجر الكتب اإلنجليزية العريق عىل شارع ريفويل
وابتعت بعض الكتب األمريكية ،غالبها مؤلف من كلامت ذات ُ ،de Rivoli
مقطع صويت واحد! لكني حني أرجع اآلن إىل أوراق مالحظايت حول تلك
العناوين والكتب ،أجد أن اختيارايت كانت كلها مدفوعة بروح فرنسية،
كانت تلك الروح سيديت يف ذلك الوقت عىل وجه التحديد .يف املقابل
اقرتاب الغريب األجنبي ،وكان َ كان اقرتايب من رواية اجلريمة األمريكية
مدفو ًعا بمختارات Noire((( Série؛ كان مدفو ًعا بتلك الفكرة عن األفالم
األمريكية التي كان يروج هلا النقاد يف جملة [كراسة ] Ciné� Cahiers du
(((ma؛ وكذلك كان اقرتايب من رواية اجلريمة األمريكية مدفو ًعا بحامس
سارتر((( جتاه أعامل فوكنر((( التي وصفها بأهنا تشبه املنظر الذي يراه املرء عرب
ورغم عني ،كنت دائم احلب لألناقة ً الزجاج اخللفي للسيارة أثناء مسريها.
شبعت هبا مظاهر الفكر الفرنسية .كنت مفتونًا بنزعة اللغة الفرنسية ْ التي ُأ
تقديرا
ً نحو َل ْوي الكلامت والعبارات والقصص من كل مرشب ثم منحها
وإعجا ًبا كأهنا أعجوبة؛ كأهنا تلك اخلرقة امللطخة بالزيت حني توضع يف
مبتهجا وحمب ًطا من اآلداب الفرنسية
ً إطار مجيل وخلفية بيضاء .لقد كنت
-1غالينياين أو Librairie Galignaniهي دار لبيع الكتب اإلنجليزية يف باريس ،وهي شهرية
معلم سياح ًيا.
وتعد ً
-2شارع ريفويل شارع بارييس شهري ،وما زال السياح يزورونه لشهرته حتى يومنا هذا.
Noire Série -3اسم مستعار لدار نرش فرنسية اعتنت بقصص اجلريمة وكان هلا جمموعة
خمتارة اشتهرت باسمها.
-4جملة سينامئية فنية تعنى باألفالم تصدر باللغة الفرنسية ،تأسست يف العام ١٩٢٨م.
-5جان بول سارتر كاتب وأديب وفيلسوف فرنيس (تويف ١٩٨٠م).
-6ويليام فوكنر كاتب وشاعر أمريكي يعد من أهم األدباء يف القرن العرشين ،نال جائزة نوبل يف
األدب يف العام ١٩٤٩م (تويف ١٩٦٢م).
101
بالقدر ذاته .كان لدي إعجاب غري ناج ٍم عن القراءة بالرضورة ،فقد كنت
وهم ذلك األثر
أرى أثر الفرنسية عىل كل عنوان ،أو باألحرى كنت أرى َ
غامضا .إن اإلعجاب بالفرنسية كان يطال ً وكأن شي ًئا ما بدا رفيع املستوى أو
حتى القرارات املطبعية الرصفة :األحرف املتناثرة كأهنا مالحظات معلقة
عىل باب ثالجة ،أو حتى القطعة النثرية اجلامدة دون عالمات ترقيم وال
فواصل لفقراهتا ،التي استمرت حتى شكلت جملدً ا رقي ًقا.
فقدت تواصيل مع الفرنسية ُ حني عوديت من ذلك الربنامج البارييس،
جمد ًدا .وكان انقطاع التواصل شاهدً ا جديدً ا عىل عالقة املد واجلزر مع
الفرنسية خالل مراحل حيايت؛ كانت كأهنا قمر يف مدار كوكب كبري جدً ا .مل
تطأ قدمي بال ًدا فرنسية خلمس عرشة سنة؛ ثم توالت زيارايت سنو ًيا لعقد من
الزمان بحجة مجع مادة للبحث والكتابة .أقمت بعض الصداقات خالل تلك
لدي عادات مرتبطة باملكان. الزيارات ،وأصبح يل حار ٌة وجريان ،ون ََم ْت ّ
فعلت ذلك ألستعيد طالقتي الفرنسية يف وقت قيايس ،ولكنني اكتشفت
أن الفرنسية أصبحت فرنسيات كثر .كانت لغة اإلعالم والدعايات واللغة
التي تنطق هبا أفواه غالب ساكني املدينة واملتغلغلني خالهلا خمتلفة جدً ا عن
إن هذه الفرنسية صغريا والتي قرأت هبا كذلكّ . ً تلك اللغة التي تعلمتها
اجلديدة عبقرية ،وهادئة ،ومتفوقة ومتفاعلة مع التقنية احلديثة والسوق
العاملية وأغراض البحث واملال .وكنت أعلم أن هلا ندًّ ا أمريك ًيا ،والذي
كنت بدوري أجتنبه عن قصد بل كنت أسخر منه أحيانًا .لكن هذا النوع
كلامتا إىل
ُ تسللت
ْ وكلم
ّ اجلديد من الفرنسية كان مثل صفعة بالنسبة يل.
ٍ
فكرة ما، لساين حني أفتقر إىل اختيار لفظي خيدمني بشكل ودود ألعرب عن
لكأن األمر كله دجل وخداع؛ وكأنني أمسكت نفيس ّ يعرتيني شعور يسء
متلبسا بربطة عنق مصنوعة من الذهب ،خائنًا لطبقة كنت أنتمي هلا يو ًما ما، ً
102
كأنني هجرهتا فجأة مهام يكن معنى اهلجر هنا .حتى تلك الكلامت الرضورية
بدت كأهنا أكاذيب رغم احلاجة إليها؛ إهنا لغة
التي تنتمي هلذه اللغة اجلديدة ْ
قت َ
داخل معمل. -وبصورة بينة -كانت قد خت ّل ْ
هذا وقد كنت قد انغمست إىل حد ما يف اللهجة العامية la tongue
أمرا
[ verteاللسان األخرض كام يسميه عامة الفرنسيني] .مل تكن اللهجات ً
كثريا يف منتصف العرشين من عمري حني تعرضت هلا ً
ُ عيل ،فقد
جديدً ا ّ
تعاملت يف القارتني مع أوالد أرس أكاديمية متطرفة يف انتامئها الفرنيس؛
كانوا مولعني جدً ا بالـ verlanوهي هلجة تعتمد عىل التالعب الصويت يف
أساسها ثم استحالت بقدرة قادر إىل يشء رفيع وأنيق ،كام كانوا يقضون
طويل وهم يتحدثون بلهجة نزالء السجن السوقية دون أدنى جهد ً وقتهم
أو حماولة منهم إلفهامي وإرشاكي يف ذلك احلديث؛ كنت أشعر باإلقصاء
املتعمد واخلروج زمنًا عن موضة الشباب التي ينتمون هلا .لكن الرطانة
السوقية بعد عقد أو عقدين جتاوزت هؤالء الشباب لتتغلغل يف أحاديث كل
ترش ْبتها خالل قراءيت لقصص اجلريمة الصادرة يف
الناس ويف كل يوم؛ وقد ّ
اخلمسينيات والستينيات .إن نزعة اللغة الشوارعية يف أمريكا كانت لغرض
خفي عن يشء حمدد يتعلقسد احلاجة عند عجز املفردات عن التعبري بشكل ّ
عادة بمجتمع اجلريمة ،بل بعامل اجلنس واملخدرات بشكل خاص .يف املقابل
كانت نشأة اللغة الشوارعية الفرنسية -وإن كانت مرتبطة بمجتمع اجلريمة
كذلك -مبنية عىل انعدام اهليبة وعىل كشف املستور .إن اللغة الفرنسية
مواز يتعمد السخرية من الربوتوكوالت الرسمية ٍ الشوارعية عامل لفظي
ولغة األسياد .وبخالف نظريهتا األمريكية فإن للشوارعية الفرنسية معجم
مفردات لكل الكلامت «العادية» مثل الباب ،والطاولة ،وكأس املاء .بعض
103
هذه املفردات قديمة جدً ا ،بل بائدة تنتمي إىل زمن فرانسيس فيلون((( أو
الروما [الغجر]؛ ومتتد رسقات هي أقدم؛ وبعض املفردات مو ّلد من لغة ّ
الشوارعية الفرنسية إىل اللغات األخرى ،وذلك لتثبت اختالفها عن
الفرنسية الرسمية ،تلك التي قدمت دو ًما تربعاهتا الكريمة مانحة اللغات
األخرى من مستودعها املعجمي الثري .هذه اللغة لغة رمزية بامتياز ،وهذا
هو شأن الشارع؛ كام أهنا ذات موسيقى محاسية ومتغطرسة ،وإيقاع متقطع:
Quand le bruit se répand que la poule tape aux fafs dans un
coin, vous voyez les tapis se vider de tous les tricards
الصوت بأن
ُ هذه الكلامت قد تعني حرف ًيا شي ًئا مثل« :حني ينترش
الدجاجة ألجل الورقة يف الزاوية ،سرتى حينها أن السجاد سيزيل عن نفسه
فعل هي :حني ينترش خرب كل املحتالني» .ولكن الرسالة التي تقوهلا الكلامت ً
تدقيق أفراد الرشطة عىل بطاقات اهلويات يف اجلوار ،فإنه جيب عىل املفرج
بعض الرضا بعد استخدامي عنهم برشوط أن خيتفوا عىل الفور .لقد بلغني ُ
هلذه العامية السوقية بالرغم من قلة هذا االستخدام يف األساس .بدا يل األمر
وكأن اإلنجليزية األمريكية والفرنسية قد تزاوجتا وأنجبتا لسانًا جديدً ا مع
منافع اللغتني ،دون التبجح املوجود يف كلتيهام.
لقد كانت اللغة الفرنسية لغة الدبلوماسية الدولية حينًا من الدهر ،ولكنه
ول وانقىض .هي اآلن بالكاد تكافح كي تظل مرتبطة ببعض مظاهر زمان ّ
الطغيان األنجلو-ساكسوين الفرنسية ً
قرسا ((( ُ رب
الفنون اجلميلة .لقد أج َ
-1فرانسيس فيلون شاعر وكاتب فرنيس ولد يف باريس ،تويف شا ًبا وربام كان يف استخدام اسمه
يف هذا السياق إملاحة إىل أن غالب مستخدمي اللغة العامية السوقية هم من جمتمعات الشباب
(تويف ١٤٣٦م).
-2األنجلو-ساكسونيون هم القبائل اجلرمانية التي هاجرت من شامل أوروبا واستوطنت
104
تسببت حال ُة التضاؤل
ْ عىل الرتاجع مرة تلو األخرى ،ويف موقع تلو اآلخر.
هذه باستياء عىل صعيد األرياف والطبقات العليا من رجال املال والوجهاء
نادرا
يف فرنسا .وآداب الفرنسية يف يومنا هذا ال ترتجم إىل اإلنجليزية إال ً
خبت بني جمتمعات ْ وبطريقة عشوائية .ثم إن رومانسية الشعر الفرنيس قد
علم إن اآلداب الفرنسية نفسها تتحمل الشباب األمريكية وبشكل ملحوظ؛ ً
إثم هذا الواقع جزئ ًيا وذلك لدقة فروق عباراهتا ولغتها املعقدة والتي ال
يدركها ناطقو اإلنجليزية البسطاء .إن للفرنسية طرافة غامضة حيث أعيش
يف الضواحي األمريكية .إهنا لغتي األم التي ال أعتقد أنني سألتقي يو ًما ما
صغريا؛ لقد كانت أداة طبقي ًة وهذا
ً أحدً ا ينطقها بالطريقة ذاهتا التي تعلمتها
الواقع قد تغري متا ًما ،كام أنني اآلن ال أملك أي ارتباط هبا .أنا ال أستخدمها
ال عن استخدامها يوم ًيا؛ ولكنها -وبالرغم من اليو َم بشكل أسبوعي فض ً
ذلك كله -تصبغ كل قرار أختذه بطريقة عجيبة ،فتعينني عىل جتاوز الوحشة
غالب أيامي دونَ أشعر هبا يف األرض التي تربيت فيها وقضيت عليها ُ التي
أن أنثر أوراق شعوري بالغربة أمام أحد .إن الفرنسية هي ذايت املستورة؛
تلك التي مل تتكشف قط حتى لألصدقاء .أشعر أحيانًا بأهنا كلها ملكي
وحدي دون سواي.
بريطانيا وتشكلت معهم نشأة اللغة اإلنجليزية وتشكلت امتداداهتم مدارس فكرية وثقافية وقوة
حضارية سياسية غالبة يف عاملنا املعارص.
105
استهالل
توماس الكور
(((
يظهر أنني أمحل وال ًء خاصة للغة األملانية منذ طفولتي ومع بدايات
حماواليت أن أنطق بام تراه عيني .حفزين والداي عىل تع ّلم الرتكية حني كنت
يف الثالثة لكي أمتكن من خماطبة الذين كنت ألعب معهم يف إسطنبول حيث
كان يقيم والداي اهلاربان من هتلر ،لكني مل أكن أستجيب .أظنني كنت
أقول يف نفيس :فليتعلموا هم اللغة األملانية .كانت الرتكية يف نظري ist eine
hässliche Spracheلغة قبيحة .أصبحت مشاعري حول الكالم باألملانية
وحول هويتي األوروبية أقوى كلام أضعفت الظروف روابطي الواقعية
معها ،مع أملانيا ومع أوروبا ،والتي تقطعت متا ًما.
إن اللغة األملانية هي لغتي األم .وهنا أعني ما يعنيه غالب الناس أي أهنا
لغتي األوىل ،لكنني كذلك أقصد أهنا اللغة التي كنت أختاطب هبا مع أمي
106
وجديت وبعض النساء من صديقاهتن .مل يكن ثمة ختاطب يف عاملي حينها مع
الرجال وال منهم .فكانت األملانية بالنسبة يل لغة أجد هبا ذايت ،وأرسيت ،كام
حارض أحيانًا ومنيس أحيانًا أخرى؛ عامل
ٌ كانت لغة لعامل حقيقي لكنه مفقود،
يسك ُن بشكل كامل يف خميلتي ،لكنه السبيل الوحيد الذي أبكي به فراق أيب
وأمي وأحباهبام.
مل أتكلم إال األملانية حتى غادرنا تركيا يف نوفمرب من العام 1949م.
كام كانت وقفتنا الرسيعة يف لندن بصحبة بعض األقارب كلها باألملانية،
وكذلك كانت األسابيع القليلة األوىل يف نيويورك .سك َن خايل أوتو وزوجته
يف ماهناتن يف حي لليهود األملان .بعد استقرارنا يف غرب فرجيينيا كانت أمي
تزور عائلة خايل بني احلني واآلخر ،ويف كل مرة كانت تتذمر حول واقعهم
املنعزل .أستطيع فهم ما عنته .مل أر يف املقابل أرسة تقطعت هبم أوارص لغتهم
األم مثل حال أرسيت يف القرى والبلدات الصغرية التي نشأت هبا .يف الواقع
والدي كانا يدركان أهنام يعيشان يف حالة من الشتات ()diaspora
ّ ال أظن أن
ألنه ما من أحد ٍ
متاح يتذمرون عنده باألملانية ،أو يعربون لديه عن أساهم
وفقدهم.
بعد وصولنا لنيويورك انتقلنا للعيش لبضعة أشهر عند عمتي قري ًبا
تعمل متعهدة بإقامة الطالب األجانب حينها. من جامعة تكساس .كانت ُ
انتقلت عمتي هذه وزوجها من أملانيا إىل يوغوسالفيا حني وصل هتلر إىل
السلطة ،وعندما هاجم هتلر بلغراد((( استطاعا أن يشقا طريقهام جنو ًبا
حتى بلغا ألبانيا عىل أمل أن يقعا يف أرس اإليطاليني الرمحاء ال األملان القتلة.
نجحت خطتهام وأقاما داخل معسكر فرتة احلرب حتى العام 1942م ثم
أطلق الفيلق الربيطاين الثامن رساحهام ،وانضام إليه بصفتهام مرتمجني واجتها
107
بمعيته ً
شامل .إىل أن انتهى هبام املطاف يف تكساس طل ًبا للرزق ،حينها كانا
قد اكتسبا بعض اإليطالية واليوغوسالفية وبعض اإلنجليزية العامية ،ومها
أساسا يتقنان الفرنسية والالتينية بمستوى عال جدً ا .وكان لقائي هبام أول
ً
تواصل -كتبت له النجاة واالستمرار -يل مع اإلنجليزية.
أتذكر أنني مل أكن سعيدً ا بسبب تعلمي للغة ثانية يف أوستن((( .أتذكر
والدي ومها ينسبان يل أقواالً ُي ُ
قال إهنا كانت كلاميت األوىل باللغة اجلديدة(((:
« ،»me no eat fruitمل أصدقهام يف احلقيقة ألنني ال أتذكر أنني مل أحب
الفاكهة ذات يوم .لكنني ال أستطيع إنكار ذلك ألن عادات العائلة ال تسمح
والدي.
َّ بتكذيب
وبعد مرحلة مزدمحة من احلياة انتقلنا أنا وأمي وجديت أليب وأخي
األصغر ،والتحقنا بأيب يف غرب فرجينيا حيث استقرت أموره مع عمله
كأخصائي خمتربات يف مستشفى خاص بني حقول الفحم .كان صديق
أيضا أخصائي ًا للمختربات عرب وكالة لعائلتنا من إسطنبول قد عمل هناك ً
إغاثة هيودية .ال أذكر أنني كلمت أحدً ا باإلنجليزية يف ذلك املكان ألشهر،
وإنجليزية أمي كانت سيئة لذا مل نتمكن من لقاء أحد من اجلريان .لكن
اخلالة بيبا وزوجها اخلال بيرت -أصدقاءنا من إسطنبول -كانا يسكنان عىل
بعد ثالثني مي ً
ال تقري ًبا ،وعند لقائهام فإننا مجيعا نتكلم األملانية .ثم انتقلنا إىل
بلوفيلد «املدينة املك ّيفة» حني جييء الفحم من اجلنوب الغريب لفرجينيا ،من
حقول الفحم القاري ،إىل نورفوك حيث تقع أكرب ساحة توزيع حلموالت
قطار الغرب .هناك بدأت رحلتي اجلادة لتعلم اإلنجليزية .مل أختذ حينها
موق ًفا عدوان ًيا من اللغة ،لكن لكنتي األملانية كانت دو ًما مدعاة للسخرية،
108
واستمرت لسنوات بعد ذلك .وخال ًفا حلال أخي األصغر ،الذي يصغرين
بثالث سنوات ،مل أمتكن من إتقان اللكنة املحلية أبدً ا؛ وحتى اليوم ما زلت
أبدو أجنب ًيا يف بعض مظاهر النطق.
أدركت يف بلوفيلد أن األملانية كانت لغة يتكلمها عدد كبري من الناس،
إىل جانب أيب وأمي وبعض أصدقائهام .مل أعلم أهنا كذلك ،كنت أخاهلا
رموزا تواصلية خاصة بأرسيت .كان هذا االكتشاف الثوري كالتايل :كنت ً
كثريا عن
وأخي نتشاجر بالكالم باللغة األملانية أمام البقال الذي ال يبعد ً
منزلنا؛ كان عمر أخي يومها ثالث سنوات وعمري ست سنوات .كانت
القضية بيننا تدور حول عدد احللوى التي سأشاركه إياها .عندها جاءت
سيدة وقالت لنا باألملانية :سأعطي كل واحد منكام ً
مال ليكون له نصيبه
اخلاص من احللوى .ال أتذكر إن كنا قد اشرتينا فع ً
ال احللوى أم ال ،لكني
أذكر جيدً ا محاستي الكتشاف أن هناك من ينتمي لفصيلتنا اللغوية .كنت
أركض ناحية البيت برسعة ألبلغهم باألخبار العظيمة.
كانت املرأة تدعى فرو بريسلر .سألتنا عن مكان بيتنا فأخربهتا ،ثم زارتنا.
كانت فرو متزوجة من هري بريسلر ،والذي كان يعاين من مرض جلدي يف
يديه مما جيعلهام محراوين .كان يعمل يف إصالح األجهزة الكهربائية البسيطة.
كانا فقريين؛ وقد كانت فرو من اجلنوب األملاين ،من الكاثوليك .وأصبحت
فيام بعد صديقة أمي املقربة ،والزائرة الدائمة ملنزلنا؛ كام كانت ترعانا حني
يغيب والداي ألي ظرف ألكثر من ليلة.
كانت هناك ناطقة ثالثة باألملانية يف بلوفيلد ،فرو سنيلنغ ،والتي تزوجت
كثريا؛
بعد احلرب من سكّري من غرب فرجينيا .كنت أصحب فرو األخرية ً
مل أكن أحاول جعل األملانية لغة عامة حليايت ،لكن حماولتي أن أكون صب ًيا
أملان ًيا صاحلًا قد فشلت .كانت الصدمة حني جاءت أم فرو من أملانيا للزيارة.
109
تذكرت أن أخاطبها باألسلوب الرسمي قائال ،Sieوهوُ التقيت هبا،
ُ وعندما
األمر الذي قيل يل أن أفعله .ولكني نسيت يف املقابل أن أنحنيMach eine« .
ِ
«انحن» .مل ،»Verbeugungهذا ما قالته أمي غري راضية أبدً ا عىل هفويت:
واضحا عىل وجهها أهنا مل حتبذ ترصيف غري
ً تنطق أم فرو بأي يشء لكنه بدا
املهذب.
اآلن ..أصبح هناك جمموعة من الغرباء يتكلمون األملانية يف عاملي.
كنت أدرك أهنم غرباء ألنني كنت أنادهيم بأسامئهم مثل فرو وهري ،وليس
باخلال واخلالة ،وهو أمر كنت أفعله مع غالب من أعرف ممن يتكلم
األملانية من البالغني .كنت أدعو أصدقاء األرسة البالغني من األمريكيني
واضحا .إيدي وجيني وهيزل ً بأسامئهم كذلك ،وهذا كان تفري ًقا لغو ًيا
كانوا مجي ًعا ببساطة ينتمون إىل عامل آخر متا ًما؛ عامل له أعرافه وقوانينه
التي تناسبه .مل أستطع أن أنادي البالغني من األملان بأسامئهم حتى بلغت
عندئذ .حدثت الكارثة عند حصويل ٍ سهل حتى العرشين ،ومل يكن األمر ً
عىل عمل يف بريكيل((( وكنت مشاركًا يف جلنة مع اثنني من الزمالء األكرب
متعلم إىل حد اإلرساف ،وكان عىلٌ سنًا :بول ألكساندر((( ،وهو رجل وقور
عالقة أرسية بعيدة بنا (صديق خاص ومقرب من قريب لنا باملصاهرة)؛
ونيكوالس رايسانوفيسكي((( ،املؤرخ الرويس الشهري .كانت وظيفة اللجنة
أن تقرر رصف أموال لدعم مشاريع بحثية لطالب الدراسات العليا .مل أكن
أستطع نداء ألكساندر بـ «اخلال بول» ،وهو أمر كنت قد فعلته لعدة مرات
-1عندما يطلق اسم بريكيل (إحدى مدن املنطقة املجاورة لسان فرانسيسكو) فإن املقصود هو فرع
جامعة كاليفورنيا فيه وهي جامعة عريقة.
-2أستاذ التاريخ واألدب املقارن يف جامعة كاليفورنيا ،بريكيل (تويف ١٩٧٧م).
-3أستاذ التاريخ الرويس ،وتاريخ الفكر األورويب يف جامعة كاليفورنيا ،بريكيل (تويف ٢٠١١م).
110
مع «اخلال نكوالس» ،ومل يكن يف األمر غرابة أبدً ا .كام كان من الصعب
أن ينادي الزميل زميله بدرجته العلمية «بروفيسور» ،لذا فاألمر انتهى إىل
نكوالس وبول ،لكنه تطلب صمتًا ذهن ًيا قبل كل نداء .وما زالت هذه
احلواجز غري املحسوسة تؤرقني.
كان لقاعدة األسامء هذه بعض االستثناءات .وكنا مجي ًعا ندعو صديقتني
مقربتني ألمي من أيام إسطنبول بأسامء الشهرة التي كان الكبار ينادوهنام هبا:
ديكه أو دي ديكه die Dickeأي البدينة ،والتي أظنها كانت بدينة ذات
يوم؛ أما األخرى فكانت Schweinchenأي اخلنزيرة الصغرية ،وأظنه كان
حماكاة ساخرة السمها احلقيقي .Schwerineكانت اخلنزيرة الصغرية أحيانًا
دائم ديكه.
«اخلالة بوال» لكن ديكه ظلت ً
شكّلت األملانية عا ًملا تربطني به معرفة محيمية وإن كنت ال أعرفه عىل
اإلطالق! إن إدراكي للعامل والناس خارج حميط أرسيت كان ضباب ًيا ،مل أكن
أفهم كيف هلؤالء الناس أن يعيشوا ويعملوا مستعملني لغتنا «اخلاصة».
ثم وبالرغم من ملكتي األملانية املمتازة إال إنني كنت أعاين يف حال احلاجة
عيل .كان األمر للتفريق بني اخلاص والعام .مل تكن مسألة األلقاب يسرية ّ
يسري بالعادة ،وبالرغم من ذلك فإنني كنت أحتاج أن أمترن ُ داخل أرسيت
وأن أتنبه للظرف الرسمي .كان زوج ديكه من الطبقة العالية ،وهذا حكم ال
نجحت،
ُ أساسا له ،لكنهم نبهوين أن أحسن الترصف يف حرضته؛ وقد
أعلم ً
ولكن وقعت بعض اهلنّات البسيطة ،املحرجة.
يف الثانية عرشة سافرت أنا وأهيل إىل بوسطن ،وزرنا حمل اجلزار هري
لوالدي وإن كان بعيدً ا
ّ ثايسون ،الذي كان مصدر متويل الطعام األملاين
عنا .كان يوفر اللحوم كل فرتة إىل بلوفيلد ،مغلفة ومربدة بواسطة الثلج،
ويوصلها عرب حافالت النقل اجلامعيkaiserjagdwurst, leberwurst, :
111
blutwurstوغريها من أنواع الـ wurstsالسجق التي أستطيع نطقها لكني
ال أستطيع كتابة حروفها مطل ًقا .يف ذلك املتجر كان التعريف بالنفس عادة
دائم ما أستخدم الـ duخمط ًئا هبا ً
بدل عن الـ ،sieومل يكن دارجة ،وكنت ً
كثريا؛ أحيانا كانت تتنمى أن
كثريا ،كام كان حيرج أمي ًذلك يعجب اجلزار ً
تبتلعها األرض(((.
وتستمر مشكلة األملانية يف اختيار ارتفاع الصوت ونربته واملسافة بني
املتكلم واملخاطب .وتبني يل أنني أعاين دائم بأن أكون واقعا وال بد يف ٍ
غلط ً ً
ما .كانت «مامي» زوجة عامل خمتربات هنغاري كنا نزورهم بني احلني
كنت feldwebelأي الرقيب (الرتبة واحلني ،تقول يل إنني أتكلم كأنني ُ
العسكرية) ،وهي الكلمة التي ال أعرف معناها ،ألهنا مل تكن جز ًءا من
خطابنا األرسي ،ومل ألعبها مع أحد من األطفال باألملانية .ومما ال شك فيه
أن هذا التعليق مل يكن تعلي ًقا إجياب ًيا .وحني كنت ألتقي باألساتذة املهاجرين
يف اجلامعة من الغرباء الناطقني باألملانية ،كنت دائم االضطراب وبعيدً ا عن
القدر الصحيح من املساحة املسموح هبا.
إن أملانيتي وأملانية أرسيت لغة مبتورة بشكل كامل عن أملانيا وعن كل
ما جرى يف أملانيا منذ الثالثينيات .وكان االستثناء الوحيد هو حضورنا
ملرسحية أملانية يف نيويورك .كل الذين يتكلمون األملانية يف عاملي هم أناس
جيا عجي ًبا
ال يربطهم بمنابع األملانية أي رابط لعقود من الزمان .كانوا مز ً
من املهاجرين؛ بعضهم ناطق أصيل لألملانية ،وبعضهم من ثقافة عاشت يف
ظالل األملانية .حني انتقلنا للسكن يف بيكييل يف العام 1956م ،كان فيها
زوجان فقط يتكلامن األملانية :ومها أوكرانيان من األرثوذوكس .كان الرجل
-1يف األملانية هناك أداتان لنداء املخاطب وحيدد االختيار مستوى الرسمية بني طريف احلديث:
duلغري الرسمية و sieللرسمية.
112
قد تلقى تعليمه يف كلية الطب يف أملانيا؛ وزوجته تتكلم األملانية بلكنة روسية
ثقيلة :وهي امرأة حساسة مفعمة بالعاطفة والرومانسية .أما يف الصيف
فكان بعض األقارب يزوروننا يف كوخنا قرب البحرية يف غرب فرجينيا.
كام كان هناك رفيقات أمي من إسطنبول وبعض صديقات شباهبا من أملانيا،
وقبل ذلك كانت هنالك قريبة جديت التي تتكلم األملانية مع نكهة بولندية.
ويف اجلوار كان يقطن بعض اهلنغاريني ،وممرضة نمساوية كانت عىل عالقة
خمبزا يف
بزميل أليب وكانت تزوره دو ًما .وماكس وزوجته ،اللذان يملكان ً
وشم منٌ بلدة بوالسكي يف فرجينيا بالقرب من بحريتنا ،وكان عىل كليهام
( )(((Auschwitzأوشفتز؛ مل يكن من الواضح دافعهام للكالم باألملانية
مع أمي ،واحلقيقة أنه مل يكن موضع تساؤل يل آنذاك .لكنهام كانا يتكلامن
باليدشية مع خايل أوتو عند زياراته لنا .كان عا ًَلا لغو ًيا بالغ الغرابة.
أسهب يف ذكريات الطفولة ألن اللغة األملانية يل هي لغة الذاكرة ولغة
النسيان؛ هي استهالل لغوي .إن األملانية قبل كل يشء هي رابطي بذايت
قبل بلوغي النزعات اجلسدية .فأنا ال أعرف معنى الشهوة باألملانية؛ وال
أعرف أي كلامت عامية تعرب عن عامل العالقة مع اجلنس اآلخر ،بل وال أي
كلامت عامية من لغة الشارع حقيق ًة .أنا ال أعرف كيف تبدو الرغبة اجلسدية
باألملانية .إن فكرة التأثري اللغوي الكبري عىل املراهق بسبب حاجاته اجلسدية
وعالقته هبذه احلاجات لغو ًيا مع أبناء جيله هي أمر مفقود لدي متا ًما
ٍ
كقطعة من الكهرمان ،ليس باألملانية .فاألملانية عندي لغة بريئة ،متجمدة
يف عالقتها التارخيية بام قبل احلرب ،بل كذلك بطفولتي .إهنا لغة عوجلت
مشاعرها سلفا.
واألملانية كذلك لغة حتمل فيها الكلامت دالالت مشاهد حمددة .فكلمة
-1من املعسكرات التي كان اليهود حيبسون فيها ويعذبون ويستعبدون يف فرتة احلكم النازي.
113
بذور الكمون - kümmelعىل سبيل املثال -صفة لنوع من اخلبز يؤكل مع
اللحم البقري اململح والكبد املقطعة ،لكنها بالنسبة يل تصف رج ً
ال كان
فقريا جيلس أمام
رجل ً يصيبني بالرعب يف صغري؛ ً der kümmel mann
العامرة التي نسكن يسأل املارة املال ،وكان يف وجهه آثار من اجلدري .إن
مقدار ما حصل يل يف حيايت باألملانية ال يأذن لدالالت الكلامت العامة كام
يستخدمها الناس أن تعني اليشء ذاته بالنسبة يل.
تبني أن كل الكلامت قوية الداللة كانت قد جاءتني من أمي ،بينام جاءت
دائم ما أربط كلمة Snaft
التعبريات والرمزيات من أيب .وكنت يف ذهني ً
التي تعني لطيف أو رقيق بأمي ،بالرغم من أن املقولة التي حترض يف ذهني
مبارشة عند ذكرها ليس هلا عالقة بأمي .هتمس الكلمة يف مسمعي وعقيل بـ
«أنشودة الفرح» لشيلر(((.
Wo dein sanfter Flügel weilt .
جناحك اللطيف »..تأخذين هذه الكلمة ليوم مولدي من َ يرتاح
ُ ُ
«حيث
كل عام ،يف السادس من سبتمرب؛ يف املساء من ذلك اليوم -منذ بدأت أتذكر
جالسا مع أيب عىل األريكة ،أتعلق
ً األشياء حتى بلغت العارشة تقري ًبا -أكون
بذراعه بلطف ونحن نستمع لسيمفونية بيتهوفن التاسعة((( .يف أول سنواتنا
يف فرجينيا كنا نستمع هلا بتسجيل عزف فورتوانغلر((( ،ثم جددنا اإلصدار
114
طويال ،وعز ًفا معجزا ،يرافقه إيقاع
ً مع توسكانيني((( ،الذي كان إصدار ًا
جامح ،يبدو أرسع من إصدار فورتوانغلر ،اإلصدار األملاين .لكن طقوس
مساء يوم ميالدي مل تتغري حني تغري عازف املقطوعة .أنوار خافتة ،ال يقطع
االستامع للسمفونية التاسعة die Neunteفيها كال ٌم من أي فرد من أفراد
العائلة؛ كنت أنا وأيب وحدنا .كنت أتساءل أحيانًا كيف استطاع األملان من
والدي أن
ّ جيل ما قبل مشغالت أسطوانات املوسيقى الرخيصة أي جيل
يتعلموا احرتام وتقدير «التاسعة» التي تعني بيتهوفن نفسه دون زيادة يف
رب عىل أداة التعريف dieثم يرققون والدي يشددون الن َ
ّ الكالم .كان جيل
نطق االسم Neunteولكن هذا ال يكون إال مع بيتهوفن؛ فهم ال ينطقوهنا
هكذا مع السيمفونية التاسعة لشوبرت((( أو السيمفونية التاسعة ملالر(((.
لكني ال أعلم إن كان أبناء جييل سينطقون الكلامت بالطريقة ذاهتا التي كان
ينطقها جيل أيب وأمي؛ أو أن جييل سيتعلم كيف يشعر بام أشعر به عند سامع
الكلامت .وكام هو حال غالب األملانية معي ،فإنني أعرف هاتني الكلمتني
أملاين إال من عائلتي.
بعزلة تامة عن كل ما هو ّ
إن كلمة Geborenوهي صفة تعني مولود تنتمي ألمي ،فهي -وال
أحد سواها يف حياهتا أو بعد وفاهتا -من كانت تناديني بعبارهتا العفوية
املتكررة يف كل ذكرى ليوم مولديmein einziger Erstgeborener :؛
يا مولودي البكر الوحيد .أما الالحقة الرصفية leinوالتي تضاف لالسم
أيضاْ .
وإن كان أيب يناديني أحيانًا بـ كأداة للتصغري ،فهي تنتمي ألمي ً
-1أرتورو توسكانيني موسيقي إيطايل كان من أشهر موسيقيي هناية القرن التاسع عرش وبداية
العرشين (تويف ١٩٥١م).
-2فرانز شوبرت موسقار نمساوي أ ّلف ألف مقطوعة موسيقية رغم رحيله شا ًبا (تويف ١٨٢٨م).
-3غوستاف مالر موسيقار وقائد أوكسرتا نمساوي (تويف ١٩١١م).
115
Thomasleinلكن أمي كانت تفعل ذلك دائام .تومي -كام كنت أدعى يف
اسم باهتًا! توماس-لني اسم سخي ًفا؛ وتوم كان ًدائم ً
غرب فرجينيا -كان ً
حلوا جدا .األمر املحزن trauringكانت كذلك من كلامت أمي ،وإن كان ً
كانت يف الواقع أسعد من أيب بكثري .كانت أمي تعجز أن َتُدَّ ن َف َسها يف الغناء
وإن كانت حتبه؛ كانت حتب أن تغني أغنية اسمها ،die Loreleiبمعنى
«اإلغواء» ،من كلامت شاعرها املفضل هاينريش هاينه((( .ما زلت أحتفظ
غالب أيام حياهتا
َ بنسختها من أعامله الشعرية الكاملة ،والتي كانت تقرأ منها
عىل طاولتها الليلية.
Ich weiß nicht, was soll es bedeuten
-4هاينرش هاينه شاعر رومانيس وناقد أملاين ،اشتهر بكتابه القصيدة عىل نمط األغنية وقد حلن
بعض قصائده وغنيت (تويف ١٨٥٦م).
116
دعوى اجلهل هذه ساعدت جديت بالتامدي يف خياالهتا الالدنيوية والتي كانت
تنميها طيلة حياهتا بعيدً ا عن العامل اخلارجي املحيط .مل تكن خترج بعيدً ا عن
األرسة طيلة سنواهتا يف أمريكا :أي عىل مدى ثالث وعرشين سنة .ولدت
جديت يف العام 1873م ،وكانت البنت الصغرى بني ستة أطفال .التحقت
باملدرسة لفرتة كافية لتعلم الفرنسية بشكل جيد؛ وكانت تعزف البيانو
بإتقان؛ عاشت حياهتا هي وجدي ألجل املوسيقى ،التي كانا يعزفاهنا سو ًيا.
وقد تعلام موسيقى برامز((( يف فرتة مبكرة من حياهتام ،كام تعلام أعاملً ألعالم
تعرفت عىل تارخيهام املوسيقي من ُ املوسيقى األملان يف القرن التاسع عرش.
دفرت مذكراهتام اليومية اخلاص بحفالت املوسيقى ،الذي ورثته عن أيب عند
وفاته .كانت جديت حرفية ماهرة تستطيع القيام بكل أعامل اخلياطة والتطريز؛
لكنها يف املقابل مل تكن قادرة -أو مل تفعل رغبة منها -عىل أن تطهو بيضة
واحدة .وقد عاشت يف أملانيا حتى ديسمرب من العام 1939م ،عىل األرض
التي تقف عليها اآللة العزيزة عليها جدً ا ،البيانو .يف أمريكا كان مظهر لباس
جديت جيعلها وكأهنا قادمة من قرون قديمة جدً ا ،غري مدركة وال آهبة بالعامل
الذي حوهلا وال بتحوالته .كانت تعلم عن مقتل أقراهنا يف أملانيا ،وكانت
تلك األخبار تؤرقها حتى بلغت اخلامسة والتسعني من عمرها .كانت أغلب
خيااليت األوىل عن املفردات األملانية تدور حول عامل جديت إذ ارتبطت هبا
كلامت مثلEs geht rapide bergab :؛ وهي عبارة قالتها هي عن نفسها:
«بعض األشياء تنهار برسعة» .تتحدث عن نفسها يو َم كانت يف السبعني،
وها قد بلغت أواخر التسعني وبدأت تصاب باجلنون.
كانت األملانية لغة التواصل احلرصية فيام بيني وبني أمي حتى وفاهتا .ومنذ
ذلك الوقت ،العام 1992م ،مل أتكلم األملانية باالعتياد والعفوية نفسهام.
-1يوهان برامز موسيقار أملاين يعد امتدا ًدا لبيتهوفن (تويف ١٨٩٧م).
117
كنت أتكلم اإلنجليزية مع أيب ،فهي لغة البالغني ،اللغة التي أتكلم هبا عن
العلوم والطب والسياسة .وإنجليزية أيب كانت بالفعل أفضل بمراحل من
مؤخرا أن لكنته األملانية كانت شديدة
ً إنجليزية أمي ،ولكنني اكتشفت
استمعت لتسجيل خمترص بصوته عن ترشيح اجلثث. ُ وذلك حني
وكام جاء آن ًفا ،فهناك بعض االستثناءات حلالة العزل اللغوي هذه .فمن
األمور اخلاصة بالبالغني التي كنت أعرفها باللغة األملانية كان العدد غري
الكبري للسجع الذي تأيت به بعض األقوال املأثورة Sprichwörterوالتي
متنيت أن ألفظ الوابل اجلميل لتلك العبارات
سمعتها يف الغالب من أيب .كم ُ
كام يفعل األملان ً
فعل .وأعرف كذلك الشتائم التي يقوهلا أيب أحيانًاmit :
،der dummheit kämpfen götter selbst vergebensكانت كبرية جدا
حني خترج منه« :يا للغباء الذي حتى اآلهلة حتاربه عب ًثا» .كام وجب -عند
أيب -ترتيل فلسفات كانط((( عن احلتمية بالصوت والتبجيل .كنت أحب
صوهتا وإن مل أكن قد فهمتها إال فيام بعد ،وبمنطق خمتلف كذلك!
كان أيب «يستهل» غضبه قائال Donnerwetter :والتي تعني «طقس
يمأله الرعد» ،ثم ينفجر غاض ًبا ويقول« noch ein mal :مر ًة أخرى؟!»
كانت هذه العبارات الغاضبة تصدر عادة من أيب حني تبلغه أمي عن سوء
ترصفاتنا ،يتبع تلك اللعنات بعبارة ein machtwort :التي تعني حرف ًيا
«كلمة القوة» ولكني أظنها عبارة حتذير من ذاته اخلارقة .وبام أن إحدى
العبارات الكبرية داخل أرستنا كانت «»quod licet Jovi, non licet bovi
مسموحا به لثور((( ،إذن
ً مسموحا به جلوبتري ليس
ً التي تعني أن ما كان
-1إيامنويل كانط (كانت) الفيلسوف األملاين الشهري ،آخر الفالسفة املؤثرين يف احلضارة
األوروبية احلديثة وآخر فالسفة عرص التنوير (تويف ١٨٠٤م).
-2أسامء لشخصيات من آهلة األساطري اليونانية القديمة.
118
فإن خليط الطقس املمتلئ رعدً ا ،وكلامت القوة حيمل الكثري من الرعب
واإلرهاب األسطوري .كانت املقولة الالتينية عن جوبتري وثور تستخدم
مسموحا له بالوصول ً دو ًما إلثبات غلطي يف فهم قول كانط .فإن كان
متأخرا يف حني أننا مجي ًعا نعلم أن فعل التأخر ال يمكن تربيره باعتباره قانونًا
ً
عندئذ املقولة عن جوبتري العجوز لنستشهد هبا .كنت ٍ كون ًيا ،كنا نستخدم
أتصور أن االستشهاد بالعبارة بمثابة التنصل من القوانني الكونية ،لكنني مل
أنجح بام كنت أحاول فعله عند استخدامي هذه اجلدلية.
الشتائم الوحيدة التي أعرفها كانت تلك التي يقوهلا أيب ،وهي ظريفة
قائلWas glaubst du das ich, ein : بسخافة .أحيانا يقرتب من أمي ً
شخصا خيرج مملكات ً Dukatenscheisserكأنه يقول« :ماذا تظنينني؟
[ثروات] كفضالت من مؤخرته!» كان يقول ذلك كل شهر حني يقرتب
متوترا بسبب الوضع املادي وذلك ألنه
ً موعد سداد فواتري .يكون أيب حينها
وحيد دون مساندة من أحد لو ُق ِدر وفشل يف إدارة الوضع؛ لكنه بالطبع كان
يعلم أن زوجته مقتصدة وامرأة بارعة يف تدبري شؤون األرسة .وكان لديه
بعض الشتائم اخلاصة عند ذكر أسامء بعض األدباء األملان ،التي مل أحاول
التلفظ هبا يف العامل اخلارجي ولن أفعل؛ ولست أدري إن كان هلا معنى آخر
خارج حميط العائلة.
ثمة كلمتان أشعر بانتامئهام أليب وأمي سو ًيا ،وأن هلام صدى يف الكون:
.unsinn, vernunftigومرة أخرى فأنا ال أدري إن كان األملان من أبناء
جييل يشعرون جتاه هذه الكلامت بالشعور نفسه .لكن الذي أعرفه أن هلا
خاصا خياطبني ،وهذا األثر هو أثر داخل لغتي اخلاصة فقط Un� . صدى ً
كثريا ما
،sinnبمعنى غباء أو سخافة ،وهلا عدة استخدامات وإن كانت ً
تستخدم للحشو اللغوي فقط .ولكنها مفردة من القالئل التي رافقتني من
119
طفولتي وحتى بعد بلوغي« .ال ترتكب محاق ًة [شي ًئا غب ًيا]»؛ كان ً
تنبيها يسبق
دو ًما اخلروج يف موعد غرامي .مل يكن هذا التنبيه يوجه لقياديت للسيارة ،التي
كانت ممارسة مثالية معصومة من اخلطأ؛ لكنه يوجه إىل «الوقوف» عىل جانب
أحد مئات الطرق امللتوية حول مناطق التعدين التي كنا نسكن بجوارها! مل
أساسا يف بيكييل لصغر البلدة وقلة سكاهنا ،لكن ربامً تكن احلامقات متوفرة
كانت النصيحة حتمل معنى واحدً ا حمددا .كانت عبارة unsinnوعبارة sei
مسؤول» -أي يف ترصفاتك -هي الكلامت ً vernunftigوالتي تعني «كن
األملانية الوحيدة التي ارتبطت عندي بالعالقة مع اجلنس اآلخر .ال شك
ً
مسؤول أن هلا دالالت أخرى يف أبواب احلياة كلها ،لكن! أن يكون املرء
يعني أن يكون حتت سيطرة املنطق يف كل السياقات ،لكن وبحكم غياب أي
توجيهات أخرى لفرتة ما بعد «االحتالم» فإن جرسها اخلاص ما زال يرن يف
رأيس حول العالقات اجلسدية مع اجلنس.
وأنا وإن كنت أتواصل مع أيب باإلنجليزية إال إن شعوري بأن األملانية لغ ٌة
أحسست وبقوة أثناء نشأيت أن أيب مل يدرك
ُ للفقد كان قد جاء ابتدا ًء من عنده.
حقيقة معنى أن يعيش اإلنسان يف ثقافة خمتلفة .أمي يف املقابل ،وبالرغم من
إنجليزيتها املحطمة قواعد ًيا ومتكنها األملاين كانت تتفاعل بمستوى حسن
مع اجلوار .وقعت هلا نكتة حقيقية بسبب سوء الفهم عند امتحان اجلنسية.
عضوا يف احلزب االشرتاكي .كان ً قالت ja, ja :حني سئلت عام إن كانت
ذلك مبن ًيا عىل نصيحة الكثري من األصدقاء يف أن جتيب بـ «نعم» عند كل
سؤال ال تفهم معناه .كان كل من بيكييل وبلوفيلد زاخرة باستخدامات توين
الكور اخلاطئة للكلامت ،لكن هذا مل يمنعها من االندماج .غري أن أيب مل
يكن مهتد ًيا هلذا كله .فقد كان يرتجم حدث خترجي من الثانوية إىل abitur
الذي وإن كان حيمل داللة التخرج من الثانوية إال أنه حيمل معان خاصة
120
حول شكل االحتفالية وحمتوياهتا :الشمبانيا ،والفواكه املنقوعة باخلمور.
مل يكن األمر حسب ما توقعه أصدقائي من املدرسة .كان كذلك حياول
عند االحتفال بمناسبة رأس السنة أن يلزم اجلميع بلبس البدالت الرسمية
ً
مقبول متا ًما. واالستامع إىل بيتهوفن .وهذا كذلك مل يكن
مل يكن أيب يدرك شكل الفرتة التي عاشها بعد هتلر .كان حيفظ أغنيات
التخرج من اجلامعة باألملانية؛ وحفظتها أنا معه .كام كان حيتفظ بصورة له مع
زمالئه من اجلامعة بزي رسمي موحد وهم حيملون الرماح .احلقيقة أن لديه
أثر جرح ناتج عن املبارزة بالرمح يف أعىل جبهته .مل ينتبه قط أن أ ًّيا من هذا
حمط للسخرية .ربام كان حال أيب هذا جز ًءا من اسرتاتيجية مشرتكة غريب أو ٌّ
ٌ
والدي يف حماولة ختفيف وطأة األمل الذي تسبب به فقدمها ألرضهام؛ فال ّ بني
مها انصهرا يف املجتمع اجلديد متا ًما ،وال مها هائامن يف الشتات كام كان حال
الكثري من الناس .لقد استوطنا فقاع ًة ،يتكلامن لغ ًة ويأكالن طعا ًما ويستمعان
ورثت عنهام أملانيتي كام ورثت
ُ إىل املوسيقى كام ال يفعل أحدٌ ممن يف جوارمها.
بعضا من ثقافتهام األوتوقراطية.
ً
ال أريد هنا أن أزعم أنني ال أعرف باألملانية إال ما يعرفه األطفال ،بل
أنا قادر عىل اخلوض يف جمال األعامل واملوضوعات الكبرية كذلك باألملانية.
ولكنني حني أقوم باألملانية بام يقوم به الكبار فإنني أحتاج إىل حضور ذهني
والدي
ّ كبري .أنا أدرك اهلوة بني احلارض وبني حينئذ؛ و«حينئذ» هنا تعني حياة
وطفولتي .مل يزر أيب أملانيا منذ غادرها قط ،أما أمي فزارهتا مر ًة واحدة فقط
يف العام 1955م لزيارة صديقة كبرية يف السن قررت العودة إىل أملانيا.
لكنها كانت حمارصة بكابوس أحاديث سائق سيارة األجرة عن حسنات
النازيني ،وأن األمريكيني أساؤوا فهم فرتة هتلر .مل تزرها مرة أخرى! إذن
فقد جاهد والداي أن ّ
يظل أملانيني دون وجود تواصل حقيقي مع أملانيا .كانا
121
يرشبان النبيذ األملاين؛ ويامرسان طقوس عيد امليالد األملانية بتعليق الشموع
عىل الشجرة (حتى نبههام أحد اجلريان أن األمريكيني يقطعون األشجار
قبل شهر من عيد امليالد وهذا قد جيعلها يابسة بعض اليشء وقد يعرضهام
للحريق!) .مل يستمعا إال للموسيقى األملانية؛ كانت أوبرا البارسيفال((( دائ ًم
(((
مناسبة لعيد الفصح .وكانا جيزمان بغلط الفرنسيني حني احتلوا راينالند
يف العام ،1920كام كانا عنيدين حول كثري من القضايا األخرى .لقد كانت
طفولتي منتجا لعالقة أب وأم هيوديني ،كانا أطفاال من هيود القرن التاسع
عرش .وقد ظال يتخيالن أرض غوته((( وشيلر دون فهم لواقعها أو تارخيها
املعارص.
أول زيارايت ألملانيا كانت يف العام 1992م ،حني بلغت السابعة
سائحا ومل أكن أختاطب مع الناس إال ً واألربعني من عمري .زرهتا بصفتي
حول خدمات الضيافة والفنادق والفعاليات السياحية .أول مرة نطقت هبا
باألملانية شي ًئا ليس ذا عالقة بالسياحة وال باألرسة كان حد ًثا كأنه بيان أنني
أختذ من األملانية لغة يف حيايت العامة كذلك .كان ذلك يف صيف 1995م
سؤال إىل أحد اإلعالميني ،والذي ً وجهت
ُ يف مؤمتر يف فرانكفورت.
فهمني متاما بدوره ،وأجاب عن تساؤيل .وكنت أمهس لزوجتي برتمجات
ملحارضات الزمالء ،واستحسنت ذلك .وخالل الزيارات املتتالية بدأت
أقدم حمارضايت باألملانية ،بطلب من اجلهات املستضيفة حينًا ،ولرغبتي يف
والدي أحيانًا كثرية.
ّ استدعاء اللغة ألجل ذكرى
أحب أن أكون يف أملانيا :إهنا العودة إىل املكان واللغة والثقافة والتقاليد
-1قطعة موسيقية كالسيكية شهرية من تأليف املوسيقي األملاين ريتشارد فاغنر (تويف ١٨٨٣م).
-2االسم القديم ألملانيا الغربية وقد يشمل أملانيا كلها.
-3يوهان غوته الشاعر العلم األملاين (تويف ١٨٣٢م).
122
التي مل يتوقف والداي عن احلنني إليها واحلداد عىل فقدها .كان الناس
فيها متعلمني ومثقفني وكرماء عىل الصعيد الشخيص .لكنني مل أكن أمحل
أي أبعاد خيالية ختص املكان أو اللغة .يف العام 1995م زرت أنا وزوجتي
مسقط رأس أمي ،بلدة هان موندن ،عىل هنر فيزر ،وهي مدينة صغرية ال
يتجاوز سكاهنا الثالثني أل ًفا وليست بعيدة من هانوفر .كانت تلك املنطقة
حمور قوة النازيني الشعبية .وبدا بيت جديت متا ًما كام هو يف الصور ،مل يتغري
فيه يشء عىل اإلطالق .وكان هنر فيزر جيري برسعة عىل مقربة من املزرعة
التي كان يريب هبا جدي -تاجر احلبوب -بعض األبقار وبعض الدواجن.
الباب ،فأط ّل ْت عيل عجوز من النافذة .سألتها إن كانت تسكنَ طرقت
ُ
البيت منذ زمن طويل ،فأجابت بنعم .قلت هلا أن أجدادي سكنوا املنزل
يو ًما .فقالت :هذا مستحيل! ثم تراجعت سائلة :من هم أجدادك؟ أخربهتا
أن اسم عائلتهم هو وينبريغ .قالت.ach ja, die Juden. Feine leute :
نجارا ،واشرتى البيتً أناسا طيبني .كان أبوها
أجل أجل ..اليهود كانوا ً
من جدي يف مطلع األربعينيات قبل أن ُين َقل جدي إىل معكرسات التعذيب.
دلتني العجوز عىل أماكن السباحة يف النهر؛ كانت أمي حتب السباحة حبا
عظيام وكانت حتدثني بالكثري عن هنر فيزر وصعوبة التعامل مع تياراته
الرسيعة .كام دلتني العجوز عىل مدرسة الفتيات الكاثوليكية التي درست
فيها أمي .طلبت منها أن ألتقط صورة يل مطال عىل النافذة نفسها .كنت
وجداي عىل
ّ أحتفظ بصورة للمنزل وجدّ ا أمي واقفان عىل نافذة العل ّية،
النافذة الوسطى ،أمي وأشقاؤها عىل النافذة التي تطل منها حمدّ ثتي .ثم بدت
املرأة وكأهنا مل تعد تفهم أملانيتي ،فانتهى احلديث .ال بد وأنني قد بالغت يف
حماولتي الستدعاء الكثري من الذكريات.
123
ُ
إحياء األصل
(((
نغوغي وا ثيونغو
متدّ َد عىل بطنه فوق طاولة مرتفعة يف ساحة الطابور وبحرضة مجيع
الطالب ومنسويب املدرسة .أمسك معلامن رأسه وساقيه وثبتاه جيدً ا عىل
الطاولة ،ودعاه أحدمها بـ «القرد» عند اجللدة الثالثة بالسوط .وما كانا
ليفلتاه مهام رفع صوته برصاخه املرعب ،ومهام تلوى من األمل« .ارصخ أهيا
القرد» .رسي ًعا ما متزق رسواله ومأل د ُمه املكان؛ وانتثر عىل مالبس اللذين
كانا يمسكانه ،وكان ذلك هو السبب الوحيد إلطالق رساحه .بالكاد
استطاع النهوض ليميش ،وبالكاد استطاع البكاء ،ثم مىض؛ مىض لكي ال
ُيرى أبدً ا يف املدرسة احلكومية لتلك املقاطعة وال يف غريها .مل يكن يل علم
متلبسا يف
ً بسبب ذلك كله؛ ماذا كان خطؤه يا ترى؟! لقد ألقي القبض عليه
حادثة وهو يتكلم الغيكويو داخل حميط املدرسة ،ليس ملرة وال اثنتني ،بل
لعدة مرات .ولكن كيف اكتشف املعلمون جريمته؟!
كان الكالم باللغات األفريقية داخل املدرسة يعدّ جريمة .وإن وجد أحد
124
أي لغة أفريقية ،فإنه ينقل شهادته هذه وكأهنا «دليل الطالب ً
زميل له يتكلم ّ
مادي» إىل زميل آخر ليشرتي صمته عن «جريمة» كان قد شهدها ودوهنا
كامل يومهم ،بل ويمكرون ضده! هكذا يتجسس األطفال عىل بعضهم َ
بعضا يف رشك اجلريمة :الكالم باللغة املوبوءة .وتثبت التهمة يف ليوقعوا ً
هناية املطاف عىل طالب ال يملك ما يقايض به من شهادات اجلرائم ،فيكون
مذن ًبا يف نظر املدرسة مستح ًقا للعقاب .كان الطالب الذي تلقى َو ْق َع السوط
عىل ظهره يف القصة السابقة قد ِس ْي َق إىل تلك العقوبة مرات عديدة ،وكأنه
متعمدً ا حتريم الغيكويو يف املدرسة .وكان املعلمون بدورهم
ّ كان يتحدى
دائم يستشهدون به كمثال يتوعدون به بقية الطالب. ً
كان هذا جز ًءا من الواقع يف كينيا يف مخسينيات القرن املايض .مستعمرة
بريطانية ،ومستوطنة ضخمة يقطنها البيض يف قلب أرضها الزراعية:
أسموها فيام بعد املرتفعات البيضاء .وبرغم كوهنا مستعمرة منذ العام
ال للرصاع؛ فقد كانت املواجهات دائمة 1895م إال إن كينيا كانت دو ًما حم ً
بني جيوش املحتل املستعمر واملعارضني الوطنيني .وبلغ الرصاع ذروته بني
التف الكينيون حول
الطرفني يف املواجهات املسلحة يف اخلمسينيات ،حني َّ
ماو ماو ،أو (أرض كينيا وجيشها احلر) كام جيب أن يسمى .حينها استوطن
الكينيون األدغال واجلبال وشنّوا حرب عصابات ضد دولة االحتالل .رافق
اندالع املعارك ازديا ٌد يف الوعي الثقايف :أغنيات ،وقصائد ،وصحف يومية
تعزز اللغات األفريقية .نتج عن هذه احلركة واملعارك أن منعت اللغات
األفريقية من النرش كام منعت من احلضور يف املحافل .وشمل منع اللغات
َ
احلديث هبا يف املدارس يف حماولة إلبطال مفعوهلا. األفريقية هذا
التحقت يف العام 1957م بابتدائية كاماندورا ،وهي منشأة تبشريية .ومع
ازدياد الوعي الوطني ،ظهرت إشاعات تفيد بتعمد هذه املدارس ّأل تقدم
125
تعليم حقيق ًيا؛ ومن ذلك أهنم كانوا ال يعلموننا اإلنجليزية بشكل
ألطفاهلا ً
كاف .لذلك انسحب بعضنا من الدراسة يف املدرسة التبشريية والتحقنا
بمدرسة مانغو ،وهي مدرسة وطنية تعتني بتاريخ وثقافة األفارقة .أما فيام
خيص الدين ،فقد انحازت بعض املدارس الوطنية -والتي تسمي نفسها
باملستقلة -إىل الكنيسة األرثوذكسية لرتبط نفسها بالتقليد املتني للمسيحية
يف مرص وأثيوبيا ،باحثني عن القرون األوىل من عمر الديانة املسيحية.
صغريا جدً ا ألفهم هذا الربط؛ كل ما كنت أدركه أنني سألتحقً كنت
باملدرسة التي ستعلمنا اإلنجليزية بشكل «أعمق» باإلضافة إىل مواد ولغات
أخرى ،وبالتحديد الغيكويو .ال أتذكر إن كانت اإلنجليزية يف هذه املدرسة
الوطنية «أعمق» منها يف املدرسة السابقة -أشك حقيقة إن كان بينهام أي
اختالف يف منهجية تعليم اإلنجليزية -ولكن ما أستطيع تذكره هو أن
كاف ألستعرض أمام الفصل استحسان منهج الغيكويو كان جيدً ا بشكل ٍ
املعلمني« .هكذا جيب أن ُيكتب بالغيكويو»؛ قاهلا املعلم بعد أن قرأ ما كتبت
عال خماط ًبا طالب الفصل .وهلذا مل يكن ثمة تعارض بني الغيكويو بصوت ٍ
تقديرا عىل
ً واإلنجليزية يف تلك الفرتة من تعليمي األويل إذ ينال الطالب
إتقانه إحدامها أو كليهام.
مل تَد ْم حالة التعايش السلمي يف قاعات الدراسة بني اإلنجليزية
طويل .فقد تغري الوضع بعد سنوات قليلة حني ُأغلقت هذه ً والغيكويو
املدارس األفريقية الوطنية املستقلة؛ وبعثت بعضها من جديد لتديرها
حكومة املستعمر .كانت مانغو إحدى هذه املدراس املبعوثة من جديد؛ وكان
الرتكيز عىل احتقار الغيكويو بوصفه متطل ًبا ساب ًقا الكتساب اإلنجليزية
أحد أهم مظاهر هذا البعث .كان تف ّلت الغيكويو من عقاهلا أكرب ما يرعب
إدارة املدرسة اجلديدة .فيسحق الطالب جلدً ا -وهو يرصخ بأعىل صوت-
126
ليخرجوه من ظلامت الغيكويو إىل نور العلم باإلنجليزية.
ّعت باإلنجليزية رغم قسوة كل تلك األحكام ،لكن مشهد رصاخ
متت ُ
الطالب ظل يطاردين حتى خارج أسوار املدرسة كلام تكلمت بالغيكويو،
عيل معلمي يو ًما حني أحسنت الكتابة هبا .ربام كان املعلموناللغة التي أثنى ّ
عىل خطأ ،خاصة وأهنم خرسوا وظائفهم مجي ًعا حني قرر املستعمر إعالن
أمهية اإلنجليزية .وكان املعلمون اجلدد كلهم أفارقة ،كلهم من السود ،كلهم
من أبناء الغيكويو؛ مدججني بكل ما يساعدهم لريبطوا بني كل ما هو سلبي
وبني كل اللغات األفريقية .كان من ضمن عتادهم صناعة مفهوم اآلثم
رب بأنه محار .كانت حرب استنزاف لغو ًيا ،حيث يع ّلق الطالب اآلثم بطاقة خت ُ
أي ثقة أو اعتزاز بتلك اللغات .ومل أعد أؤمن بقدرة لغتي عىل أن مل ِ
تبق ّ
متعلم وعرص ًيا .كان
ً تعلمني شي ًئا؛ أو عىل األقل بقدرهتا أن جتعل مني إنسانًا
الدّ ُم نصيب أولئك الطالب الذين تكلموا بالغيكويو؛ وكان املجد نصيب
نشأت عىل أن أباعد
ُ اآلخرين الذين أظهروا متكنهم من اإلنجليزية .هذا وقد
بيني وبني الدّ ِم وبيني وبني ولغتي ،باح ًثا عن املجد املالزم إلتقان اإلنجليزية.
وكانت اجلوائز .فاألداء اإلنجليزي املتميز يعقبه النجاح والرتقي يف
سلم التعليم .كان إتقاين لإلنجليزية هو ما أخرجني من مانغو ،الواقعة حتت
وصاية املستعمر ،إىل ثانوية احللفاء((( ،أكثر مدارس األفارقة نخبوية حينها،
األدب
َ ومنها إىل كلية جامعة ماكريري يف كامباال-أوغندا ،حيث َد َر ْس ُت
اإلنجليزي.
كنت يف ماكريري يف السيتينيات ،ذروة إعالن الدول اإلفريقية
ُ
-1اسم «احللفاء» هنا هو االسم اإلنجليزي وليس اسام من اللغات املحلية ،وفيه مفارقة أن
اسم أجنب ًيا رغم عدم التحفظ عىل أسامء األعالم/األماكن املحلية لتسمية
حتمل مدرسة نخبوية ً
املدارس.
127
كتبت حينها ما عنونته الحقا ُ استقالهلا من االستعامر :دولة تلو األخرى؛
تبك يا ولدي» ،وغريها من القصص القصرية بـ «النهر الذي بينهم» و»ال ِ
أعامل إنجليزية .وحني التحقت بجامعة ليدز يف ً واملرسحيات؛ كانت كلها
كتبت «حب ُة قمح» .لقد أسعدتني جدً ا حماولة الغناء ورسم ألوان ُ إنجلرتا
ومالمح حيايت بالكلمة اإلنجليزية .كنت أثناء كتابتي لرواية «حب ُة قمح»
غال ًبا يف غرفتي يف بدنغتون؛ مبنى سكن الطالب بجوار تالل يورك-
شاير((( ،موطن أحداث «مرتفعات وذرنغ» لربونتي((( .كنت أستمع إىل
طاحما إىل أن أنسج عرب حركة سيمفونية بيتهوفن اخلامسة((( يف ذلك املكان ً
أردت أن أصعد بالكلامت اإلنجليزية ُ مشاهبة لربونتي قطع ًة ناعمة سلسة.
إىل أعىل قمة جبل التجربة اإلنسانية .لكن ملاذا اخرتت اإلنجليزي َة وسيلة
فعل مسألة اختيار ،حيث إنه من الطبيعي جدً ا اآلن يل؟ وهل كانت املسألة ً
وبالنظر إىل تعليمي وكل ما حيارصين يف املدرسة يف أفريقيا وخارجها أن
عشريا ،رغب ًة وفطرةً ،للكتابة باإلنجليزية،
ً أصبحت
ُ أكتب باإلنجليزية .لقد
رئيسا يف أعاميل.
حتى وإن كان أمر االستقالل عن املستعمر موضو ًعا ً
كنت غار ًقا يف كتابايت كلها يف حياة الغيكويو والشعب األفريقي وثقافته.
حمور اهتامم أعاميل وكتابتي.
كان تارخيهم وبخاصة رصاعهم ضد املستعمر َ
-1مقاطعة ( )Yorkshireالتارخيية يف شامل إنجلرتا ،وكانت تسمى مقاطعة يورك ساب ًقا؛ وتسمى
أحيانًا اآلن يوركس ( )Yorksلغرض االختصار يف التسمية.
-2إمييل برونتي شاعرة وروائية إنجليزية (توفيت ١٨٤٨م) ،و«مرتفعات ويذرينغ» هي روايتها
الوحيدة والتي تعترب من كالسيكيات األدب اإلنجليزي .من اإلحياءات الذكية لذكر ثيونغو هلذا
العمل حتديدً ا هو يف افتتاحيته بحكاية عن ثالثني سنة مضت ،وهي مدة ختص عالقة ثيونغو
بالغيكويو .كام أن يف الرواية حكاية عن العنرص األجنبي ،والغربة ،والنفي ،واحلب ،والعذاب،
والرصاع ،وهي كلها واقع يف حياة ثيونغو كام هي أحداث الرواية.
-3السم هذه السيمفونية حتديدً ا «رضبة القدر» عالقة بقصة ثيونغو مع الغيكويو.
128
ولكن نقاش هذا التاريخ وهذه الثقافة جيب أن يكون عرب الغيكويو واللغات
األفريقية األخرى .مل يكن حماربو املاو ماو ضد حكومة االستعامر اإلنجليزي
يف خمابئهم يف اجلبال واألدغال خيططون باإلنجليزية؛ بل كانوا يتكلمون
كتبت عنهم رغم ذلك ُ بالغيكويو والسواحيلية واللغات الكينية األخرى.
وصنعت
ُ سمعت أصواهتم بالغيكويو ُ وكأهنم كانوا يتكلمون اإلنجليزية.
ضجيجا باإلنجليزية .ما الذي كنت أفعله؟! كان ذلك بالطبع ترمجة ً منها
نصا أصل ًيا .فام الذيذهنية .هذا يعني أن لكل رواية كتبتها باإلنجليزية ً
حدث هلذا األصل يا ترى؟! خاصة وأنه موجود يف ذهني فقط وليس بصيغة
األصل ،والسبيل الوحيدة املؤدية إليه هي اإلنجليزية؟ ُ مكتوبة .هل ُف ِقدَ
لقد ارتدت لغة الغيكويو وثقافتها وتارخيها قنا ًعا إنجليز ًيا بام كسبت يداي
املتعلمتان.
هيم هنا كم عدد أولئك الذين يتكلمون أؤمن أن لكل لغة عبقريتها .وال ُّ
سلبت الكثري
ُ هذه اللغة أو تلك فعامد عبقرية اللغة ليس عىل األرقام .لقد
سلبت
ُ من عبقرية الغيكويو ألضيف هذه العبقرية املغتصبة إىل اإلنجليزية.
منتجا عبقر ًيا للغة ،ألثري به شكل أخرى.
ً
يف املقابل ،ليست اللغة جمرد جمموعة مصفوفة من األصوات .بل اللغة
هي الناس الذين يتكلموهنا .ومل تكن قضية كتابتي كام هي يف ظاهرها
فحسب :أي أنني أثريت اإلنجليزية عىل حساب الغيكويو .لقد كان األمر
قدرتم
َ سلبت من الناس الذين صنعوا الغيكويو وعبقريتها ُ يف حقيقته أنني
عىل قراءة واستدعاء تارخيهم إال عرب لسان املستعمر األجنبي .مل أكن أفكر
نارشا باإلنجليزية،
مبتهجا حني أرى نفيس ً
ً هبذا يف بداية الطريق فقد كنت
والصحافة اإلنجليزية تستعرض أعاميل يف أفريقيا أو خارجها .لكن السؤال
أكتب ملن؟!
ُ الذي بدأ يؤرقني هو :أنا
129
بعت رواية «حبة قمح» يف العام 1967م .كنت يف بريوت ،لبنان ،حني ُط ْ
قرأت صحيفة لندن أوبزيرفر((( والتي احتفت بالرواية يف عددها الصادر ُ
عمت موجة الدفء العاطفية املراجعات يف الصحف األخرى .ومل آنذاكّ .
خيفف كل اإلطراء يف املراجعات عىل الرواية من إحسايس جتاه تبعات الشكل
واستبعدت يف لقاء يل مع
ُ عدت إىل ليدز
ُ أمرا متع ًبا.
اللغوي للرواية ،لقد كان ً
فعلت
ُ صحيفة طالبية أنني سأكتب رواية أخرى بعد رواية حبة قمح .ملاذا
ذلك؟ ألنني أعرف متا ًما من هم الذين أكتب عنهم وهلم .إن الناس الذين
كتبت عنهم ليسوا يف موضع يؤهلهم ُ أكتب عنهم وأقوهلا بلسان مبني مثلام
لقراءة قصة حياهتم إال بلغتهم .ثم حني أعدت النظر يف األمر ،وجدت أن
الصدمة ليست فقط يف كتابتي عنهم بلغة أخرى ،بقدر ما كانت بقراري
ّأل أكتب جمد ًدا .فلامذا مل أقل أنني سأكتب عنهم بلغتهم :السبيل الوحيدة
آمنت أن اإلنجليزية هي
ُ التي يستطيعها أبطال احلكاية؟ بدا األمر وكأنني
األداة الوحيدة التي أملكها إليصال األدب الذي أريد .ما هو اخليار الذي
يقوله لسان حال جوايب؟ يقول :اكتب باإلنجليزية أو ال تكتب أبدً ا! لكنني
احتجت بعد ذلك إىل روايتي التالية «بتالت الدّ م» التي أصدرت يف العام
1977م .كانت الرواية باإلنجليزية مط ّعمة ببعض املفردات من الغيكويو
أرصح عرب النص نفسه بالتعارض بني موقفي ومن السواحيلية؛ كأنني ّ
السابق وبني ممارستي.
لقد غري حدثان يف حيايت عالقتي باإلنجليزية وبالغيكويو .يف العام
دعيت للعمل يفُ 1976م حني كنت أستا ًذا لألدب يف جامعة نريويب،
مركز كامرييثو اإلجتامعي للرتبية والثقافة .وكانت كامرييثو قرية تبعد قرابة
-1لندن أوبزيرفر هي الصحيفة الشقيقة األقدم للغارديان وكانت قد بدأت النرش يف العام
١٧٩١م.
130
رتا عن نريويب .كان العمل ملرشوع تعليمي ،وتثقيفي؛ يقدم الثالثني كيلوم ً
موا ًدا يف الثقافة والقراءة والكتابة .وكأن الفكرة تبرش بأن يصبح األداء
املرسحي وسيلة واقعية لتحصيل اهلدفني م ًعا :حمو األمية وزيادة الوعي
ّ
والثقافة .يتكلم أهل قرية كامرييثو الغيكويو ،ومل يكن ثمة سبيل للعمل سو ًيا
إال من خالل لغة املجتمع نفسها .وكانت تلك هي املرة األوىل يف حيايت،
التي أجربت هبا عىل مواجهة لغة الغيكويو حلاجة عملية .كانت (نغاهيكا
شئت» -مرسحية كتبتها ُ نديندا) والتي تعني باإلنجليزية «سأتزوج متى
باملشاركة مع نغوغي وا ِمري((( -النتيجة املبارشة واألوىل للعمل يف القرية؛
حارين .ولك ّن حكومة ما استقبل جمتمع القرية املرسحية بحفاوة وترحيب ّ
بعد االستعامر استقبلت العمل بشكل عدائي جدً ا .كان عرض املرسحية يف
يوم 11من نوفمرب عام 1977م ،ويف يوم 31من ديسمرب اعتقلتني احلكومة
كتبت الكثري
ُ الكينية وأودعتني سج َن كاميتي فائق التأمني واحلراسة .وقد
يوميات كاتب
ُ عن هذه التجربة يف كتبي ،وبشكل خاص يف كتايب «املعت َقل:
يف السجن».
كانت هنالك قرابة الثالثني سنة من احلكايات التي مل أذكرها فيام بني
حادثة كامرييثو يف العام 1977م وبني جتربتي يف املدرسة االبتدائية .منذ
كتابتي بالغيكويو يف املدرسة االبتدائية الوطنية ،مانغو ،كانت املرسحية يف
يب بالغيكويو.
قرية كامرييثو هي املرة األوىل التي أنخرط فيها جد ًيا بعمل كتا ٍّ
يف ابتدائية مانغو حصلت عىل تقدير املعلمني والطالب ،وبعد سنوات يف
كامرييثو كان املجتمع رائع ًا كذلك .وكانت تبعة التصفيق للغيكويو يف
املدرسة االبتدائية كبرية :من تسلط حكومة املستعمر عىل املدرسة ،ونرش
الرعب بني أوالدها حني تكلموا لغتهم األم .ورصاخ ذلك الصبي الذي
-1كاتب مرسحي كيني ،نُفي إىل زيمبابوي ،وظل هبا حتى وفاته يف العام ٢٠٠٨م.
131
أرغم عىل ترك املدرسة .كام كانت التبعة لتصفيق أهل كامرييثو أن ُس ِجن ُْت؛
ُفيت من بلدي بعدها.
ردت من كل قاعة للدرس ،ون ُ ُط ُ
قد يقول قائل إن تواصيل مع أهل كامرييثو كان هو سبب إعادة تواصيل
حد ما .لقد استعاد القرويون مع عبقرية الغيكويو؛ وهذا القول صحيح إىل ٍ
ٌ
تعلمت
ُ إيامهنم بلغتهم؛ أبقوها عىل قيد احلياة بمواصلة استخدامها .لقد
الكثري ،والكثري جدً ا منهم .ولكن احلقيقة أن الزنزانة رقم 16يف السجن فائق
التأمني واحلراسة كانت هي موطن وصايل مع عبقرية الغيكويو .سجنتني
حكومة أفريقية لكتابتي بلغة أفريقية؛ ملاذا؟ أجربين السؤال عىل تكرار النظر
عيل أن أجد ً
سبيل يف اللغة ،واالستعامر ،والعالقة بينهام .كان من الواجب ّ
ألختلط باللغة التي سجنت بسببها .مل يكن األمر متعل ًقا باحلنني؛ ومل أكن
عيل أن أتواصل مع اللغة نفسها ألنجو بنفيس؛ أحاول أن أبدو عاطف ًيا .كان ّ
كتبت -عندها -يف السجن أول ُ وكان ذلك رض ًبا من النضال واملقاومة.
رواية عىل اإلطالق بالغيكويو ،كتبتها عىل ورق املرحاض ،يف غرفة «جمانية»
ُرشت رواية (سايتاين موثارابايني)مقدمة من حكومة ما بعد االستعامر .ن ْ
يف العام 1980م؛ أتبعتها بعد ذلك بسنتني برتمجتها اإلنجليزية «شيطان
عىل الصليب» ،والتي هتف هلا النقاد األدبيون يف الصحافة اإلنجليزية؛
قت هذه احلفاوة من النقاد -وللمرة األوىل -بمراجعة جمتمعها األصيل ُسبِ ْ
وحفاوته .قبل ذلك وعند خروجي من السجن يف العام 1978م ،قررت
أنني لن أكتب الرواية باإلنجليزية إال عرب الرتمجة من األصل املوجود
كتاب ًة بالغيكويو .منذ ذلك احلني ،أصبحت الغيكويو اللغة األول ّية ألعاميل
قرارا ً
قابل إلعادة النظر. االبداعية .ومل يكن ً
انتهيت
ُ ثم تبعت «شيطان عىل الصليب» رواي ُة (ماتيغاري((() ،وها أنا
-1اسم حميل لرواية لثيونغو ،وهي حتكي قصة فلكلورية بأسلوب ساخر.
132
للتو((( من كتابة مسودة عمل بدأته يف مايو من العام 1997م .حني تصدر
ّ
رواية (موروغي وا كاغوغو) ستكون أطول عمل روائي بلغة الغيكويو.
وسيكون عنوان الرتمجة اإلنجليزية حال صدورها «ساحر الغراب(((».
كان األمر األكثر أمهية يف هذه القصة هو رشوق شمس روائيني آخرين
ٍ
جديدْ .
وإن كان وشعراء وكتاب مرسحيني بلغة الغيكويو .إهنا والد ُة ٍ
أدب
هلذا التقليد بداية واضحة مكانًا وزمانًا ،فإهنا الزنزانة رقم 16يف سجن
كاميتي فائق التأمني واحلراسة ،يف كينيا ،بني العامني 1977م و1978م.
دت فيه أزمة الصبي وربام كانت البداية أقدم من ذلك ،يف اليوم الذي ِ
شه ُ
ورصاخه .وعند حماولتي اهلروب من أن أكون يف مأزقه ،أظنني كنت أركض
إىل قدره متا ًما .كانت عبقرية اللغة وحدها هي ما أبقاين عىل قيد احلياة ألرس َد
احلكاية.
-1التوقيت هنا حييل إىل موعد كتابة املقالة وهو العام ٢٠٠٤م.
« -2ساحر الغراب» رواية للكاتب صدرت عام ٢٠٠٦م أي بعد ٢٠سنة من روايته السابقة.
133
ذاتي المنقسمة
(((
نيكوالس باباندريو
134
شيكاغو األنجلو-ساكسونية .حني انتقلنا إىل اليونان من كالفورنيا مطلع
الستينيات ليامرس أيب العمل السيايس ،كانت اإلنجليزية ملجئي؛ كانت
السبيل الذي أجاهد من خالله ضد ضياع هوية طفولتي كامل ًة.
يف مرسحية ريتشارد الثاين لشكسبري ،كان جواب الدوق توماس موبراي
عىل عقوبة نفيه من إنجلرتا أن قال« :لقد حبست لساين يف فمي» ،ثم يصف
ً
متكامل، «وأي جرح غائر هو» .لكن حالتي بالطبع مل تكن سجنًا ّ ذلك ً
قائل:
والسبب كان يف وفرة اإلمدادات من الكتب ،كام أن اإلنجليزية كانت لغتنا
تشبثت بقوة بإنجليزيتي؛ هذا يعني أنني قرأت الكثري منُ داخل املنزل .لقد
الكتب الربيطانية وهذا جعلني عار ًفا ببعض خصائص اللهجة وعباراهتا،
كام تعرفت عىل كتب الرسومات اهلزلية وساعدتني يف التغلب عىل أخي
األصغر أثناء اللعب .فكنت أرصخ به أثناء مصارعتنا بعبارات مثل zap,
كثريا حني أكتشفكنت أبتهج ً powأو عبارة kablooeyحني أجهز عليهُ .
كلامت جديدة ،خاصة إن كانت من لغة الشارع العامة .حني سألني أمريكي
مراهق ذات مرة عن مكان احلامم كي يستطيع أن «يترسب» ،leak a take
لت أجسادنا مثل سفن خربة يترسب كدت أجن من السعادة؛ عندها خت ّي ُ
انتقلت عائل ٌة أمريكية إىل اجلوار تعلمت أن عبارة «يارجل»
ْ منها املاء .وحني
manيمكن أن تلقى يف أي مكان من اجلملة كام يشاء املتكلم ،وأن cool
تعني.(((well, cool, man :
لكن اليونانية كانت متأل املكان كله ،فكانت لغة الدراسة ملواد علوم
اهلندسة والرياضيات واجلغرافيا ،يف شكلها اللغوي املسمى ب ـ �kathar
evousaوتعني النظيفة أو النقية .أحرضت اليونانية يف معيتها رشيط حياهتا
الثقايف ً
كامل :الرهبان الذي أحرقهم الرتك أحيا ًء والنساء حني ينتحرن من
135
شاهق اجلبال قبل أن يقعن بيد العدو؛ وجرس آرتا الذي ذكرين دو ًما بقصة
هنارا ليعاود االهنيار ليلً .كذلك
سيزيف ،حيث كانوا يصلحون اجلرس ً
(((
حترض حكايات احلرب العاملية الثانية يف معية اللغة اليونانية حيث قام عميل
لألملان بقطع رؤوس املقاومني الرسيني وبيعها لألملان كام يباع امللفوف.
وحني وضعت احلرب أوزارها ،ألقي القبض عىل الرجل وسلخ جلده ً
كامل
بشفرات احلالقة ،ثم دفن يف كثيب رمل.
مل أكن ألطيق الصرب وأنا أحلم بالعودة إىل «الديار» ألخرب أصحايب
عن احلمل الصغري الذي اختذناه حيوانًا ألي ًفا داخل منزلنا ،وال عن االهنيار
الشديد لقنطرة مضيق كورينث ،وكذلك عن سمكة القرش التي رأيتها
معلقة يف سنارة صيد األسامك يف جزيرة هيدرا .كنت أحترق شو ًقا ألخربهم
عن طعم املشويات اليونانية مع اخلبز ،وعن الريقات املتدلية من عىل أغصان
أشجار األَ ْرز .مل يكن يف احلقيقة ثمة أصدقاء يف تلك اجلهة من العامل ،لكنني
شعرت بحاجة متلكتني كي أخرب أحدً ا ما عن عامل خمتلف عن الواليات
املتحدة .أدركت بعد سنوات أن ذلك العامل ،أي الواليات املتحدة ،هو مكان
جنبي يف كل مكان وزمان.
ّ محلته بني
حني كان أيب وجدي يرويان قصصهام ،كانت هناك مجوع مذهلة تستمع
هلام .لقد أذهلتني تلك اجلموع ،كام كنت قد تعلمت من أيب وجدي الرسد
باألسلوب اليوناين« .إن اليونان لليونانيني ،املسيحيني الربوتستانتينني
الكالثوليكيني» ،هكذا كان جدي يرشق الطغاة حني كان حتت اإلقامة
اجلربية .وبرغم صغر سني حينها ،إال أنني تعجبت من قدرته عىل دمج
ثالثة ديانات داخل عبارة واحدة مؤثرة .وقال مرة يف عباراته التي يمزج هبا
-1سيزيف شخصية من األساطري اليونانية وكان ماكر ًا حاول خداع املوت ،فعاقبته اآلهلة أن
حيمل صخرة تتدحرج كلام وصل هبا إىل القمة.
136
ملك الناس قط» .وقال يف َ
امللوك دو ًما؛ ومل ينزع ٌ الناس
«ينزع ُ
ُ األشياء بإجياز:
أخرى« :تتشدق الديكتاتوريات باالتفاق؛ ووحدها الديموقراطيات تأذن
كبريا أن أحتدث
محلتني عب ًئا ً باخلالف» .إن بالغة الرجلني -أيب وجديّ -
محل شا ًقا إىل احلد الذي مل
اليونانية بمستوى يفوق مستوى عامة الناس .كان ً
مبكرا يف معسكر املمكن كثريا؛ مما جعلني ألقي بنفيس ً
أستطع البذل يف سبيله ً
ال املستحيل.
كبريا ،جملدً ا سميكًا،
والدي كتا ًبا ً
ّ أتذكر أنني مرة اخرتت من مكتبة
قرأت يف
ُ معتقدً ا -بالطبع -أن األسمن هو األغنى؛ فانتهى يب األمر أن
عيل نطقرجل يستحيل ّ التاسعة من عمري قصة حياة معامري كان قد كتبها ٌ
اسمه األول ،أو حتى جمرد حماولة ذلك! هربت برسعة من ذلك إىل مغامرات
بيغيل ورس باليتون اخلامس((( ،كام قرأت أوالد هاردي وكل كتب الفتيات
التي استطعت حتصيلها من أختي غيل-صوفيا .كنت أرفض ندا َءها باسمها
وندائها بغيل-صوفيا .كانت ِ جمر ًدا ،وأرص عىل إضافة النكهة األمريكية
اسم بنكهة أمريكية ،يف حني كانت أسامء البقية
أختي هي الوحيدة التي حتمل ً
يونانية دون نكهات أخرى :جورج ،وآندي ،ونيك.
وقد كان عرايب((( اخلاص من جعلني أفكر دائ ًم باللغة بالشكل الذي
أمارسه؛ إذ كان يسألني أحيانًا« :ملاذا تسمى امللعقة ملعقة؟» فكنت أجيب
مثلام يفعل األطفال« :هذا سخيف جدً ا! تسمى ملعقة ألهنا ملعقة ،وتلك
شوكة ،إذن تسمى شوكة».
137
مل أكن أفهم حينها معنى أن يكون عرايب من حمبي ماغريت(((؛ أحببت
العراب:
عرايب ألنني كنت أظن أنه كان يمثل متا ًما ما ينبغي أن يكون عليه ّ
بدلة رسمية ،وربطة عنق أنيقة ،وقبعة ،وعصا ،وشارب خمفف وحمدد،
وذائقة أرستقراطية مميزة.
«أتعلم ما الذي يعنيه اسمك؟» ..سألني ذات مرة ونحن يف غرفة الطعام
يف منزلنا.
«اسمي ..حسنًا! اسمي نيك فهو إذن يعني نيك»؛ لكنه بادرين ً
قائل:
كامل وليس النسخة القصرية منه ،أتعرف ح ًقا ماذا
ً «أريد معنى اسمك
يعني؟»
أنا« :أنت تعني نيكوالس إذن؟»
العراب« :يف اسمك تركيب من كلمتني؛ أتستطيع رؤيتهام؟»
أنا« :ال».
العراب« :نيك باإلضافة إىل الوس ،وهذا يعني :انتصار الشعب».
فعل .نظرت مبارشةأرسارا ً ٍ
عندئذ أن األسامء اليونانية حتمل تبني يل
ً
وبسهولة إىل اسم أخي جورج ،جيو تعني األرض ،وأورج تعني الفعل
َح َرث؛ هكذا يكون اسم جورج يعني املزارع ،الذي حيرث األرض .أما آندي
وشعره األشقر والذي مل يكن يتكلم إال اليونانية فكان اسمه يعني ببساطة:
رجل .أما صوفيا فلم يكن يف اسمها أي توليف؛ صوفيا تعني احلكمة .هذه
األسامء البسيطة مل تكن ممتعة فال أرسار فيها وال ألغاز.
- 1رينيه ماغريت رسام سرييايل بلجيكي ،وكان يعد من الفنانني األذكياء الذين حيفزون الفكر
عرب أعامهلم الفنية.
138
كان اسم زوجة اخلباز ممت ًعا يف اللعبة :يوفوين .حني دخلت أختي علينا
ورغيف اخلبز بيدها ،رصخت عال ًيا« :يووو -فوين! أجزم أنك اشرتيت
هذا الرغيف من السيدة الصوت-اجلميل!» وكان اسم صديقي ألكساندر،
أي :رجل-معرتض .كنت أشعر بتفوق يف ممارسة لعبة األسامء تلك .أخذين
الغرور مرة فجئت إىل أمي -التي كانت تتعثر باليونانية -متحد ًيا إياها أن
عم فأتت بكلمة الرسي .قدمت يل أمي ُط ً
ّ يت بكلمة ال أستطيع معرفة معناها
تأ َ
سهلة وأجبتها مبارشة .ثم جاءت بكلمة ال أنساها أبدً ا وكنت قد تعجبت
حينها من معرفة أمي هلا رغم طوهلا! كانت eleemosynaryهي الكلمة.
أعلنت هزيمتي مبارشة ،فقالت أمي« :اذهب وابحث عنها يف املعجم».
فاكتشفت وأنا مبتهج أن ثمة جذور يونانية يف الكلمة eleimosini :والتي
تدل بشكل أو بآخر عىل االرتباط بالصدقة والرب.
بدأت رحلة البحث عن املفردات اإلنجليزية ذات اجلذور اليونانية،
خاصة تلك التي ال يتصور املرء أهنا كذلك .ووضعت قائمة بتلك املفردات.
عىل سبيل املثال كلمة مقربة cemeteryوالتي تعني يف اليونانية kimitirio
بكل بساطة :مكان النوم .وكلمة رشطة policeوالتي يعرفها العامل كله
جاءت من أصلها اليوناين .polisكام أن كلمة نطاق zoneيونانية يف أصلها
لكن معناها يف اليونانية يدل عىل كل ما يرتديه اإلنسان عىل وسطه ،احلزام.
وها أنا أشارككم كلمتي املفضلة ضمن تلك القائمة .كلمة كارثة disaster
هي األخرى من أصل يوناين وتعني يف أصلها :عدم التوافق مع النجوم!
األمر أين أصبحت مصدر إزعاج ألهيل مع لعبة الكلامت هذه،
ُ بلغ يب
ً
حماول نطقها كام هي يف ٍ
وعال حيث كنت أردد الكلامت بصوت مزعج
أصلها .أو يف املقابل كنت أزعم تصحيح نطقهم «القبيح» لبعض املفردات
139
فها أنا ذا املصاب األول يف عائلتي بمرض التهاب الكلامت(((.
«أبتي ،توقف عن إصدار هذا الصوت املزعج »!cacophony
«أماه ،هذا اللحم املشوي سيكون ً
ثقيل عىل املريء »!esophagus
«ال أستطيع الرتكيز مع هذه الضوضاء susurrusالتي تصدر من تقليب
أوراق اجلريدة».
«أبتي ،أنت أحيانًا والد فخم/مغرور »!pompous
كان ملثل هذه العبارات أن تفقأ عيني وذلك أن أيب منذ جميئنا من أمريكا
إىل اليونان وهو يعرب عن عدم ارتياحه لثقافة مراعاة نفسية الطفل يف الرتبية
األمريكية ،وبدأ يميل ناحية الرتبية اليونانية التقليدية؛ كنا نسميها أحيانا
سيطرة العثامنيني ،والتي تطبق بمساعدة الـ ((( zoniعىل مؤخراتنا! كانت
عملية فعالة!
كنزا
مبتهجا بصحبة أسامء األعالم األفراد ،وجدت ً
ً وبعد فرتة قضيتها
ثمينًا حيث مل أحتسب :أسامء العائالت اليونانية .فكنت أترجم األسامء
بصورة لتبدو مضحكة يف شكلها اإلنجليزي :فأصبح Mister Kalovelonis
يدعى السيد اإلبرة اجليدة ،وكذلك Mister Kalambokisأصبح صاحب
السمو السيد ذرة .وكانت بعض األسامء مضحكة جدً ا يل وألختي حيث كنا
نتشاقى مع أسامء بعض رفيقات أختي يف املدرسة .لكن بعض األسامء مل تكن
ذات داللة واضحة رغم صوهتا املضحك واملشجع عىل البحث.
-1الكلامت التالية شديدة التقعر وال ينطقها الناس يف كالمهم اليومي ،جاءت لتبني شدة عالقة
ساخرا بالتهاب الكلامت.
ً الكاتب باملعجم يف طفولته ،لذلك سمى الكاتب احلالة
Zoni -2جاءت بمعنى احلزام وقد ذكرت سل ًفا فاستخدمها الكاتب مرة أخرى بطرافة ليحيل
إىل ما سبق ذكره.
140
تكرارا صوت ًيا ،papa ،فجدنا
ً كان اسم عائلتنا Papandreouيتضمن
قسيسا وهذا ما يفرس وجود البابا! أما اسم عائلة أحد مساعدي ً األول كان
أيب فكان فيه تكرار زائد ،papapa ،ومل أستطع فك شفرته رغم املتعة التي
ترافق نطقه .Papapanayotouكنت أتغنى باسمه طر ًبا وأنا أميش داخل بيتنا
مما جعل أفراد األرسة مجي ًعا يفعلون اليشء ذاته .حتى إن أمي كانت تشعر
بالتعاطف معه دون مربر فتقول أحيانًا« :يا للمسكني السيد بابابانايوتو!»
حريصا أن يعرفه يب .ويف احلقيقة
ً زارنا مساعد أيب مرة يف بيتنا ،وكان أيب
كبريا حني نطق اسم مساعده بزيادة «با» إضافيةكان أيب قد قدم يل معرو ًفا ً
السمه فقال :بابا -با -بانايوتو .ال أظن حامل االسم أدرك لذة هذا التحريف
الذي طال اسمه ،والذي كنت أجد أنا حالوته يف املقابل .استمرت سعاديت
بمعرفة رس ذلك االسم ألسابيع ،وكنت أرى ابتسامة أيب اللطيفة ألجيل .لقد
«لساين العائلة» باإلمجاع.
ّ أصبحت
ويف أثناء زمن الديكتاتورية احلاكمة لليونان يف الفرتة الواقعة بني 1967
وحتى 1974م ،كان والدي قد اعتقل .عندها طلبنا من بعض أقارب
أرستنا من جهة أمي أن يزورونا يف اليونان .زارنا قريب ألمي ،وهو ضابط
برتبة عقيد حائز عىل الكثري من األنواط العسكرية ،وكان للتو عائدً ا من
ساحة القتال يف فيتنام .كنا نسري بجواره يف شوارع أثينا ،وهو فارع الطول
يف كامل أهبته العسكرية ،متجاهلني حظر التجول؛ كنا نسري يف معيته لنتمكن
أخريا من الوقوف أمام سجن إيفريوف حيث كان أيب .مل تكن تلك حالة ً
من البهجة املجردة فقط ،بل كانت كأهنا ممارسة للثأر ،كام عززت فكرة أن
اإلنجليزية كانت أقدر عىل توفري احلامية لنا من اليونانية.
انتقلنا إىل السويد يف العام 1968م ،بعد خروج والدي من املعتقل بتدخل
141
مبارش من الرئيس جونسن((( والذي نُقل عنه أنه قال بلهجته التكساسية
عفو النظام
اجلنوبية« :أخرجوا ابن السافلة هذا من السجن» ،فحينها نال أيب ُ
الديكتاتوري!
كنت أشعر أنني -وأنا يف الثانية عرشة -قد أطلق رساحي يف أستوكهومل(((،
ً
مندهشا فانغمست بحامس -ولكن لوقت قصري -يف إنجليزية السويد .كنت
من وقاحة صور النساء شبه العاريات املعلقة عىل كل ركن بقالة يف املدينة؛
كام أدهشني تكوين مفرديت مدخل وخمرج ،اللتني كانتا متآلن املكان :بكل
جرأة كانتا infartو .utfartمل تكن مرحلة املراهقة سوى حالة من املتعة يف
وحل من القذارة ،وكان كل يشء سوى ذلك كأنه أمر أخروي ينظر فقط إىل
املوت أو ما وراءه! لذلك كانت كلمتي املفضلة يف السويدية هي اإلمساك،
شكرا لك!
والتي كانت تعني يف احلني نفسه ً ،ferstoppining
انتهى املطاف بنا يف كندا يف آخر سنة من عقد الستينيات ،وحتت حكومة
رئيس الوزراء بيري ترودو((( الذي منح أيب حق اللجوء السيايس برشط عدم
جتاوز احلد يف نقده للواليات املتحدة األمريكية؛ وهو الرشط الذي مل يتمكن
دائم
أيب من العمل بموجبه قط! لقد كان األمر شديد الغرابة ،حيث كنت ً
أشعر أن كندا هي موطني؛ والكنديني يتكلمون كام نتكلم ،ولكن األمر
املبهج أهنم ال يتكلمون مثلنا متا ًما .فكان هناك اختالف يف عبارات لعب
كرة السلة ،واملعدات ،والطرق؛ كام كانت أداة اجلمع sختتفي أحيانًا .وكانت
-1ليندون جونسن هو الرئيس السادس والثالثون للواليات املتحدة األمريكي ،وهو من احلزب
الديموقراطي؛ كان حكمه يف الفرتة من ١٩٦٣م وحتى ١٩٦٩م (تويف ١٩٧٣م).
-2عاصمة السويد.
- 3بيري ترودو رئيس وزراء كندا يف الفرتة من ١٩٦٨م وحتى ١٩٧٩م ،ثم عاد بعد أشهر منتخ ًبا
مرة أخرى يف الفرتة من ١٩٨٠م وحتى ١٩٨٤م (تويف ٢٠٠٠م).
142
أداة ملكية yourتلقى أمام كل ما هو داخل حتت التصنيف الذكوري من
األشياء .وكان لدهيم آلة جترش الثلج ،snowblowerتزيل الثلج وبعض
احلجارة ،وربام بعض احليوانات الصغرية؛ وبعض املجرمني كام يف أفالم
(((
مغامرات جيمز بوند .ويف نسخة حمدثة للكندية من الدكتور جيفاغو
بدل عن .snowmobileسنرى ً ski-doos
التحقت باملدرسة يف أرياف أونتاريو ،التي مل أعلم قط عن سبب اختيار
أيب هلا لتكون مقامنا يف كندا .وفيها تعلمت أن مقبض املنجل يسمى .snath
أيضا أن فراشات Viceroyتشبه متا ًما فراشات ،Monarchs وتعلمت ً
تعلمت أن النبيل السيد
ُ لكن نمط حركة طرياهنا هو املختلف والفارق .كام
سرتاثكونا((( كان قد دشن انتهاء مرشوع قطار املحيط اهلادي الكندي يف
السابع من نوفم رب 1885م .وأن املستنقعات swampsتسمى عندهم �mus
kegs؛ وصوت اخلطوات فوقها تسمى دو ًّيا ،والفقاعات داخل املاء املتجمد
تبدو ككرات كريستالية .كام تعلمت يف كندا أن بإمكان قرص لعبة اهلوكي
أن يتحرك برسعة مئة ميل يف الساعة بحسب قوة الرضبة! كنا يف سيارتنا عىل
الطريق 13يف مدينة كنغ ستي ذات ظهرية باردة جدً ا ،ومررنا بمحاذاة
مقربة صغرية وإذا بالصلبان متجهة نحو العلو ومثقلة باجلليد كأهنا قرون
يت وجهي شطر أمي ً
قائل« :أماه ،أريدكم أن تدفنونني غزالن متجمدةَ .و ّل ُ
هنا حني أموت؛ ال يف كاليفورنيا وال يف اليونان وال السويد ،بل هنا فقط:
يف كنغ ستي يف أونتاريو» .مل أرها تبكي قط لكالم قلته مثلام فعلت حينها.
يف كندا كان لقائي األول بلغة ثالثة ،لغة كنت أعرفها بعض اليشء وإن
-1رواية للكاتب الرويس بوريس باسرتناك وكانت أحداثها تدور يف شتاءات روسيا املثلجة.
-2رجل أعامل كندي ،اسكتلندي املولد ،وكان مشاركًا يف امتدادات اإلمرباطورية الربيطانية
ومؤسسا لعدة رشكات (تويف ١٩١٤م).ً وحاكم ملقاطعات
ً يف القرنني التاسع عرش والعرشين،
143
مل أكن تعلمتها بشكل رسمي .إهنا اإلنجليزية التي يتكلمها اجليل اليوناين
األول الذي نشأ يف كندا؛ إهنا اللغة التي يسميها جمتمعنا متعدد الثقافة بـ
((( Gringlishغرينغليش .يف الغرينغليشية يقحم املتكلم األسامء أو األفعال
اإلنجليزية يف اجلملة اليونانية .فتصبح مجلة مثل Will you park the carيف
تستحيل مجلة مثل How manyُ الغرينغليشية Tha kanis park to caroكام
blocks away do you liveإىل Posa blockya makria
مزيج من اسمي ٌ مل أحبذ قط كلمة غرينغليش ،حني بدت يل وكأهنا
علمني من األرشار :غريندل و غرينش(((! يف املقابل أفضل استخدام كلمة
من إبداعي ال ختلو -ربام -من بعض السخرية وإن كانت دقيقة يف داللتها:
،Dinereseالداينريية (لغة املطاعم) .يتكلم الناس هذه اللغة يف املطاعم
شامل وحتى فلوريدا جنوب ًا ،بل حتى يف أشهرها عىل اليونانية من شيكاغو ً
اإلطالق :مطعم نيبتون يف أستوريا((( القابع بأناقة حتت جرس تريبوبو .شعب
اليونان The Greek Peopleعبارة أحبها أيب دو ًما تصبح يف الداينريية The
فليحي
َ .Greek Peepحيب اليونانيون الـ «بيب(((» .يا «بيب» العامل احتدوا.
الـ «بيب» .هكذا يفعل اليونانيون رسيعو احلديث.
كثريا لتذكره ،فقد حدث حني كنت يف أما مشهد املحادثة الذي أضحك ً
اجلامعة؛ حينها جاء إىل اجلامعة يوناين يوناين [حديث القدوم من اليونان]،
كان قد تعلم إنجليزيته من كتب الدراسات القانونية التي قرأها ،وكان يعمل
144
أجريا بوقت جزئي لدى حمل بيتزا يوناين يف نيو هيفني((( .يف ذلك املكانً
كان هذا الشاب قد التقى بأمريكا دون حروف مقطعة وال هتجئة .كانت
(((
145
العامل اليوناين« :كوكب هي الكلمة اليونانية القديمة والتي تعني
متسكع يا سيدي .أنا أعرف أصويل جيدً ا؛ أنا من آرتا ،يف غرب اليونان،
جرسا ذات يوم!»
حيث بنى الناس ً
الزبون« :صه! اركب قاربك وعد أدراجك من حيث جئت أينام كان
ذلك».
صغريا يف بيتنا كانت هي
ً إنه ملن املفارقة بمكان أن اليونانية التي تعلمتها
كثريا
ومفتاحا ألبواب الكثري من أماكن اللهو ،فقد خلقت يل ً ً جواز سفري
من العالقات أيام اجلامعة ،خاصة مع أولئك الذين تبدأ أسامء عائالهتم بـ
Papaوتنهي بـ .opoulosلقد قدمت يل إذنًا دون سؤال لكثري من مواضع
اللهو املاجن من األندية الليلة التي يملكها يونانيون .لكنها مل تكن كذلك
لعامل املطعم اليوناين!
كثريا ليس
دعيت ً
ُ إن عبء اليونانية الذي يقع عىل كاهيل وبشدة هو أنني
َ
ألمثل أيب وأكون مثله متاما؛ أيب الذي كان منذ السبعينيات الرقم لذايت ولكن
ً
حماول إدخال الفارق واألهم يف املعارضة اليونانية ،والذي انحنى ظهره
االشرتاكية إىل اليونان .لقد حرضت ( caucusesمؤمترات حزبية يف قربص)
دائم أساعد الطالب اليونانيني يف جامعة ييل متطو ًعا ،وشاركت يف وكنت ً
حمافل كثرية جلمع التربعات لصالح املجتمع اليوناين/األمريكي يف مدن
عكازا لوالدي أثناء صعوده إىل السلطة .وكان ثمةً أمريكية كثرية .لقد كنت
(((
ربا عىل زيارته بني احلني واحلني؛ إنه قرص الكريستال
مكان أجد نفيس جم ً
يف أستوريا يف منطقة كوينز .يف هذا املكان كنت أجد املزيج الكامل ملظاهر
اإلجهاض اللغوي اليوناين األمريكي .لقد كان قرص الكريستال ً
حافل بكثري
146
من اللقاءات السياسية ،وحفالت الزفاف ،واجتامعات األعياد والرقص
والغناء ،وحمافل تعميد األطفال .أدركت الح ًقا أن قرص كريستال حقيق ًيا
رصح الكريستال الذيُ قد ُش ّيد قبل حوايل مئة ومخسني عاما يف إنجلرتا« .إنه
ال يمكن تدمريه» ،كام قال دوستويفسكي((( يف «مذكرات من العامل السفيل».
وبالرغم من عدم اتصايل حاليا بأي شكل مع أستوريا ،وبالرغم من فقد
مغمورا
ً أستوريا للكثري من مظاهر هويتها اليونانية ،إال أنني أجد نفيس
باملعنى غري املبارش مع ما قاله الكاتب الرويس ،حتى وإن كان هذا املعنى من
الضآلة الشديدة بمكان.
بلغت سن التاسعة والعرشين كنت قد حتصلت عىل لغة جديدة. ُ وحني
فقد علمتني درجة الدكتوراه يف االقتصاد كل ما جيب معرفته عن :دالة
التكاليف اللوغاريتمية؛ التغاير يف مصفوفات االنحراف املعياري؛ مقدرات
مربعات املراحل الثالث الصغرى.
عدت
ُ مل أكن أزور اليونان خالل دراستي إال يف الصيف ،وحني انتهيت
إليها ألداء خدمة التجنيد اإللزامية يف أواخر الثامنينيات؛ بعد أسبوع واحد
من مناقشة أطروحة الدكتوراه يف مقاعد جامعة مرحية من جامعات رابطة
اآليفي(((.
هكذا انتهي يب املطاف إيل جزيرة ليموس شامل اليونان ،جمندً ا يف قطاع
الطريان العسكري اليوناين .كنت أستطيع جتنب اخلدمة العسكرية مستخد ًما
جنسيتي األمريكية ،لكن هذا ما ال جيب أن يفعله الوطنيون؛ وقد أحببت
-1فيودور دوستويفسكي كاتب وروائي وصحفي رويس ،يعد من أشهر الكتاب عامل ًيا (تويف
١٨٨١م).
-2رابطة ودوري ريايض تنتمي له أعرق ثامن جامعات أمريكية وهي األقدم كذلك وبدأت
تشتهر أكاديم ًيا هبذا االسم ،ومنها جامعة برينستن العريقة التي خترج منها الكاتب.
147
أن أرتدي الزي العسكري املوحد وأمحل السالح أكثر من حبي قراءة مقالة
علمية اقتصادية أخرى .كام كان لدي سبب آخر :كنت أختيلني أجد فجأة
ذاك الضابط الذي اعتقل أيب ليلة االنقالب ،الذي وجه سالحه يف وجهي
أيضا .أرستني تلك الفكرة .لكنه اجتامع مل يكن ليحصل واق ًعا مع حينها ً
األسف الشديد .بل يف املقابل كنا جنو ًدا يف جيش بالد واحدة نحيي بعضنا
البعض :أنا واملنتمني لليمني املتطرف.
كانت اجلزيرة حمارصة بالصخور الربكانية؛ وكانت موطن بوسيدون(((.
َق َطن الثكنات العسكرية جمموعة من الشباب الصغار يف الثامنة عرشة من
أعامرهم؛ وكان كل واحد منهم يتكلم هلجة يونانية حملية ختتلف عن األخرى
دعي ُ
يقول شعرت بينهم وكأنني مهرج دخيل ٌ
وأخ توأ ٌم كاذبٌّ ، ُ بشكل ّبي.
أنه ابن رئيس الوزراء .وقد كنت يف ذلك الوقت أفكر وأكتب باإلنجليزية.
ووزيرا للدفاع؛ مما جيعله القائد العام لكل القوات
ً رئيسا للوزراء
وكان أيب ً
العسكرية .وكوين ابنًا لقائد وطني ،فاجلميع يتوقع مني أن أكون بشكل
خبريا يف كل الشؤون اليونانية :أن أعرف كل أبطال الثورة ورموزها؛تلقائي ً
ّ
وأن أعرف أسامء الوزراء احلاليني والسابقني واحلقائب التي استلموها
أي
والسنوات التي خدموا خالهلا؛ واألسوأ عىل اإلطالق أن ال يصدر مني َّ
خطأ إمالئي يف أي وثيقة أكتب هبا حر ًفا!
وبرصف النظر عن كل الضغوط التي كنت أواجهها ،كان ثمة أمر إجيايب
عظيم ملريض بالتهاب الكلامت مثيل :رطانة العسكريني؛ هلجة العسكريني
اليونانيني.
كنت يف
«من السهل أن تزعم استعدادك لتلقي رضبة من اخللف إن َ
148
احلقيقة حتمل ظهر غريك ال ظهرك» ،هكذا سمعت جند ًيا يقول بعد املجيء
من احلراسة يف ليلة باردة جدً ا .ورصخ جندي آخر عند كدمه أصبع رجله
بقائمة الرسير ً
ليل« :فليذهب احلامر الذي أكل سعفة املسيح وهو يف طريقه
إىل النارصة إىل اجلحيم» .وكان بعضهم يذكر «أذن مريم العذراء» حني
يسقط سالحه يف إملاحة إىل أن محلها باملسيح حسب اعتقاد الكنيسة كان
سام ًعا عرب فتحة األذن.
هذه اللغة بني اجلنود ال تعني أهنم كانوا جيهلون تراثهم متا ًما! لكن اجليش
خاصا وهلجته ختصه: كان شار ًعا ً
«كيف يا ترى كان أوديسوس((( يتجسس عىل الطرواديني؟»
«من خالل فتحة الرشج اخلشبية للحصان اخلشبي!»
كنا كذلك نستخدم عبارات وجمازات وكلامت رسية منبثقة من اليونانية
الرتاثية املعيارية ،لغة كنا نظن أن العدو الرتكي الذي كان عىل بعد مخسني
رتا لن يدرك مغزاها أبدً ا حتى وإن اجتهد يف ذلك.
كيلوم ً
كانت فكرة أن أدعى أمام ألف جندي يف الساحة ألتلو الصلوات
اإلنجيلية تشكل يل خويف األكرب .كان هذا اهلاجس خييفني ألنني أضعت
بعضا من تلك الكلامت أو بأي لغة تقال إثر الرتحال من بلد آلخر .يف كل
اسم من اختياره بعشوائية
ليلة يف امليدان ،نصطف بانضباط ،فينادي القائد ً
فيطلب من «سعيد احلظ» أن يتلو الصلوات .وخالل انتظار سامعنا لالسم،
كنت أجتهد يف تذكر ألفاظ الدعاء ،وكنت أمأل الفراغات اليونانية التي
مل تسعفني ذاكريت هبا باأللفاظ اإلنجليزية من الصلوات ثم أترمجها إىل
-1أوديسوس هو ملك أيثاكا يف األساطري اليونانية وكان قد ترك بالده ملشاركة اليونانيني احلرب
عىل طروادة وهو صاحب فكرة خدعة احلصان.
149
اليونانية .لكن هذه اللعبة مل تكن سهلة حتت وطأة ضغط اخلدمة العسكرية
وقو ًفا بجوار ألف جسد يمألها الشهيق والزفري .وحلسن احلظ ،مل َ
أدع قط
وكأن النجوم مل تكن أبدً ا يف حالة تناسق كارثية.
كل هذا التاريخ كان وسادة لغوية وثرية أضع رأيس عليها كل ليلة حني
أخريا أن أكتب؛ كنت أرى أن احتكاك اللغتني تسبب يف منحي شي ًئا
قررت ً
ُ
عظيم ،وهو قدرة حتويل املعنى الزهيد إىل معنى جمازي ثري .فأصبحت ً
صورة الشخص الذكي اللامح يف ذهني مثل «خملب النرس» ،كام أصبح
حكيم« :ال تتجهم يف
ً الرجل الطويل «صديقا لشجرة األَ ْرز» ...وأصبحت
وجه أسفل درجات السلم ،ألنك ستحتاجها للوصول إىل قرصك».
الناس يف جزيرة كريت،
ُ وجدت مقط ًعا شعر ًيا مقفى ذات مرة يتداوله
وحاولت ترمجته:
واخلوف
ُ بعض البرش ،أما أنا فيذبلني األمل ُ ُ
السنون واحلروب َ تُذبِل
الشمس سكّيني ،لكن ح ًّبا صغريا
ُ ُ
وتأكل الريح ثيايب،
ُ ُتلك
ُ
يأكل داخيل
كان الناس يف اليونان مثل كنز ذهبي منثور عىل التالل« .أستطيع سامع
الرائحة املاحلة» ،هكذا قالت امرأة قروية ذات مرة حني أتت الرياح برائحة
البحر .لقد أرستني بمزجها للحواس؛ ثم أدركت الح ًقا أهنا كانت ً
مثال ح ًيا
ملا يسميه الفالسفة «املحاسة» ،أو «احلس املشرتك» ،ويعني أن تزحف حاس ٌة
بانسيابية نحو أختها .ومن األمثلة األدبية عىل ذلك قول نابوكوف يف سريته
الذاتية املعنونة بـ «تكلمي أيتها الذكريات» حيث أخرب أنه كان يرى األلوان
ترافق نطق أصوات احلروف؛ اخلاصية التي كان يسميها هو «السامع امللون»
أو audition coloreكام يف الفرنسية والتي أظنها أكثر أناقة.
150
قديم اسمها
حدثتني جديت صوفيا ذات مرة عن اسم فتاة كانت تعرفها ً
.Eulaliaوأخربتني أن االسم ينقسم إىل قسمني :مطلعه euبمعنى جيد
كثريا أثناء بحثي
أو مجيل ،ثم laliaبمعنى كالم .وهو اسم بدأت أجده ً
وقراءايت ألجل الكتابة خاص ًة يف ما يكتبه سكان واليات اجلنوب يف أمريكا.
ويف احلقيقة قابلت مرة فتاة تدعى Eulaliaيف جزيرة سريوس والتي زامحت
كنائسها السامء وكأهنا تتنافس ملزيد من املساحة يف فضاء اجلزيرة .كنت يف
مزدحم» الذي كتبته باإلنجليزية
ٌ «قلب
ٌ لقاء عام أعرض من خالله كتايب
وترجم إىل اليونانية الح ًقا .كان اجلمع معقول العدد ،وال أنسى أن اسم
حضورا جيدً ا ،ومن ذلك كان هذا اجلمع
ً العائلة الذي أمحله يضمن يل دو ًما
الذي حرض ليشاركني تدشني كتايب وقراءة بعض صفحاته.
كبريا يف السن ،قسطنطني ،ليقرأ جز ًءا من الكتاب أحرض املنسقون ً
ممثل ً
عىل اجلمهور .كان يقرأه وكأنه مرسحية تراجيدية من الرتاث اليوناين،
فكان خيفض صوته حينًا ويرفعه حين ًا آخر؛ وكان التصفيق واالحتفاء
بأدائه حارين .جلس قسطنطني بجواري حني كان البعض يتحدثون عن
الكتاب يف إحدى فقرات الربنامج ،فبدأ احلديث معي وكأننا مل نكن عىل
آمل أن يدفعه ذلك إىل خفض صوته. فانحنيت ناحيته ً
ُ املرسح أمام الناس،
ضغط قسطنطني عىل فخذي بحامسة مفاجئة وقال« :أترى تلك الفتاة
هناك؟ نعم هناك هناك؛ ذات الشعر الداكن والعينني اجلميلتني؟ أتراها؟
كانت لدهيا صعوبة يف النطق ،وقد ساعدهتا يف ختطي ذلك عرب أربع سنوات
من دروس تقويم اللسان» .كان ذلك هو لقائي الوحيد بـ ،Eulaliaوكانت
هي الوحيدة التي عرفتها حقيقة وحتمل ذلك االسم .وقعت هلا نسختها من
كتايب ،وفعلت ذلك بإهداء اجتهدت أن يبدو فن ًّيا مثل زهرة .كانت بالفعل
طويل ًة ،ذات شعر داكن اللون ،مجيلة ،كام كانت حسنة النطق ،لبقة حتسن
151
اختيار املفردات؛ متام ًا مثلام جيب أن تكون كل من حتمل اسمها .مل أرها قط
إال تلك املرة.
إن مفردة laliaيف اليونانية تعني الصوت ،أو اللغة ،أو اللسان .ويف
السويدية مفردة talaتعني الفعل تكلم؛ ويف الدنامركية lalleتعني ثرثرة
اإلنسان الثمل أو الفاقد لوعيه جزئ ًيا .ملا بدأت تعلم اإلسبانية وجدت
صدى الكلمة يف hablaالتي تعني خطبة ،وسمعت صدي ًقا برازيل ًيا يقول
falaaبمعنى يتكلم .ويف الفرنسية يسمون الكالم البسيط غري املتكلف �par
.lerوحتى parlanceاإلنجليزية ،أسلوب أو تعبري .إهنا تلك الـ .la
يف إحدى زيارات الصيف إىل اليونان أثناء سنوات الدراسة زرت جزيرة
سكياثوس املليئة بأشجار الصنوبر .أخذين أحد صيادي األسامك إىل شاطئه
املفضل .Lalaria ،سألته« :ملاذا سمي الالريا؟» أجابني الرجل ،كام يفعل
كل اليونانيون« :أترى تلك الصخور؟» وأشار إىل صخور بيضاوية مثل
بيضة النعام ،وكانت حتارص الساحل ،ثم قال« :حني يرضب موج البحر
هذه الصخور تنطق وتغني هي بـ ال ال ال ال؛ أغمض عينيك وأنصت».
أعتقد أن كل أفراد أرسيت أصابتهم جراح اللغة بشكل أو بآخر .فأخي
جورج وصفه أحد معارضيه ذا ًّما إياه بأنه «أول وزير خارجية لبالدنا تعلم
لغتنا اليونانية كلغة ثانية» .وأمي مل تكن تقبل أن تظهر يف لقاءات تلفزيونية
خشية أن ختلط بني املذكر واملؤنث يف اللغة رغم أهنا أمضت عقو ًدا من الزمن
قائدة حلركة حقوق املرأة يف اليونان .أما أختي فكانت قد هربت من هذا كله
إىل كندا ،وابنها الصغري يتكلم «الكندية» بطالقة .وكان أخي األصغر آندي
يراجع كل كلمة من املحتمل أن ينطقها يف املدرسة خشية أن يقع يف خطأ يف
النطق أو القواعد .أيب ،وما أدراك ما أيب ،لقد أمىض عمره حيمل عىل عاتقة
ٌ
«متأمرك» جدً ا؛ كان متمكنًا من كلتا عبء اخلوف من أن يصفه الناس بأنه
152
مكدرا
ً اللغتني بطالقة .وكان الفرد الوحيد يف أرستنا الذي ال أذكر له موق ًفا
خيص اللغة رغم ختوفه املبالغ فيه.
أما أنا! فاآلن ،أشعر بأن االنقسام كنز حتصلت عليه .تلعب اإلنجليزية
دو ًما دور الباب إىل كل ما ّملا يكتشف بعد ،نحو تلك التضاريس لليونان التي
يف خميلتي ،لليونان التي أمحلها يف ذاكريت :يونان طفولتي.
153
ُ ّ ٌ ٌ
شفاف ،وأزرق ،وشقائق النعمان
إم جاي فيتزجيرالد
(((
يف مطلع العام 1959م ،حني كنا نسكن يف بلدة ساحلية صغرية عىل
شاطيء ليغوريا((( ،أنتجت قناة تلفزيونية إيطالية فيل ًم وثائق ًيا عن أرستنا
بعنوان Una Famiglia Americana in Italia :أي «عائل ٌة أمريكية يف
إيطاليا».
كان قرار هيئة اإلذاعة والتلفزيون اإليطالية ،والوليدة يومها ،بتسجيل
قرارا يشبه اهلجامت املرتدة ،فهو عن عائلة أمريكية يف إيطاليا مقابل
الفيلمً ،
جربت عىل االنتقال واهلجرة إىل الواليات
ْ آالف األرس اإليطالية التي ُأ
املتحدة .أتصور أن ذلك كان أحد األسباب الكثرية ،لكن اختيار أرسيت
حتديدً ا أظنه كان ألننا مل نكن يف احلقيقة نعيش كام يعيش العاملون األجانب
يف ميالن ،و فلورانس ،وروما يف جمتمعات أمريكية مغرتبة قد تكون صغرية
أو كبرية؛ لكننا كنا نسك ُن يف حالة من االندماج والتعايش يف بلدة صغرية
-1إم جاي فيتزجريالد ( )MJ. Fitzgeraldكاتبة أمريكية حاصلة عىل املاجستري يف اإلنجليزية
وترأس مركز الكتابة اإلبداعية يف جامعة مينيسوتا األمريكية ،والتي قدمت هبا كأستاذة عدة مواد
يف الكتابة والدراسات األوروبية .هلا عدة روايات ،وهلا قصة نرشهتا جملة( (�Literary Imagina
154
اسمها الفانتو ،كنا األمريكيني الوحيدين الذين مروا يف تلك البلدة لعام
كامل.
سبب وجيه آخر لذلك االختيار هو أن بال ًدا حيبها األطفال ينبغي أن تكون
املكان الذي جيتمع فيها ستة أطفال يشبهون صغار البط حيث ال اختالف
بينهم لتقارب أعامرهم؛ سبع سنوات هي الفاصل بني أكربنا سنًا وأصغرنا.
كنا ثالثة ِصبية وثالث فتيات؛ لنا الوجوه ذاهتا ،وشعرنا متشابه ،وكنا كسائر
أطفال الدنيا مؤهلني لقرصة عىل خدودنا ترافقها عالمات التعجب التي
يفرتض أهنا تعرب عن اللطف! أربعة منا التحقوا باملدرسة؛ صب ّيان يف قسم
البنني يف مدرسة احلي االبتدائية ،وأنا يف اجلهة املقابلة يف قسم البنات،
التحقت أختنا الكربى
ْ ذي املمرات املزخرفة باللونني األبيض واألخرض.
بمدرسة داخلية يف ترينيتا ري مونتي يف روما ،الذي يعد مكانًا خاصا جدً ا
تديره راهبات فرنسيات ،عدد الطالبات فيها ال يتجاوز املئة كلهن ينتمني
لعائالت من قمة الطبقة الوسطى ،ويقيم غالب تلك العائالت يف اجلنوب
الفقري نسب ًيا :كاالبريا ،بوليا ،بازيليكاتا ،كامبانيا ،سيسليا (صقل ّية) ،مع أقلية
حلقت بأختي
ُ من اإلقليم الشاميل بل حتى من إقليم التسيو((( بعظمته! حني
وانضممت إىل املدرسة يف العام 1963م.كان يف املدرسة طالبتان أمريكيتان
وقد ذهبت بصحبتهام ذات مرة إىل القنصلية األمريكية يف حزن شديد للتوقيع
عىل دفرت التعازي بعد حادثة الثاين والعرشين من نوفمرب((( .أختي يف املقابل
مل يكن معها أي أمريكيات حني بدأت يف العام 1958م.
جامعي Il Professoreدافعا آخرا الختيار
ّ وربام كان عمل أيب كأستاذ
-1التسيو هو اإلقليم الذي يضم العاصمة اإليطالية روما ،لذا فهو مقر للطبقات الثرية والوجاهة
االجتامعية.
-2املقصود هنا هو حادثة اغتيال الرئيس األمريكي اخلامس والثالثني جون فيتزجريالد كينيدي.
155
عائلتنا موضو ًعا ومادة للفيلم .كان أيب يقيض يومه ويؤدي عمله يف املنزل
يف كثري من األوقات ،مما جيعله يبدو وكأنه عاطل ليس لديه ما يعمله .وقد
كتب قصيدة عن أحد إخويت ،و كانت تدور حول تبجح أخي وتفاخره عىل
أصدقائه حني سألوه عن وجود أيب يف املنزل طوال النهار ،فأجاهبم متباه ًيا:
ليل!» كان املكتب الذي ينجز أيب «ألن أيب il babboيسطو عىل املنازل ً
ّ
به دراساته وترمجاته ألوديسة هومريوس((( مكانًا مقدّ ًسا ال يمكن اقتحام
حرمته؛ لكنه كان يأذن أحيانًا بمنح امتياز الزيارة لبعضنا .وكان تدبري شؤون
املنزل واألرسة عب ًئا عىل كاهل أمي وحدها مع مساعدة اخلادمتني اللتني
تقيامن معنا يف املنزل :ماريا وأليس .كل واحدة منهن تزور أرسهتا مرة واحدة
يف الشهر يف قرى جبلية ومعها عرشة دوالرات هدية ألرسهتا.
كثريا.
وألشهر طويلة -أو كام بدت يل -تر ّدد فريق التلفزيون عىل بيتنا ً
كانوا يزورننا عىل الدوام والتوايل أليام وأسابيع ،يغادرون ثم يعودون
جمد ًدا .أتذكر جيدً ا حني طلبوا مني امليش عىل السلم الصخري املؤدي إىل
كثريا .من
باحة منزلنا اخللفية حيث بستان الزيتون والعنب ،وتكرار املشهد ً
طول بقائهم وكثرة توجيهاهتم أصبحت قادرة عىل اجللوس دون حراك يف
املدرسة ،مطيعة ألوامر االنضباط! صوروين وأيب ونحن نعزف Für Elise
دخلت كثريا باندفاع وخرجت من مكتب أيب ألجل جلسات ُ عىل البيانو(((.
تصوير البيانو؛ تط ّلب األمر قبل ذلك ساعات طويلة لتجهيز وضعية البيانو
للتصوير.
توقفت عن أخذ دروس العزف عىل البيانو بعد ذلك بقليل ،قبل أشهر
-1هومريوس الشاعر اليوناين األسطوري صاحب امللحمتني :األوديسة واإللياذة (تويف يف القرن
الثامن قبل امليالد).
-2من أشهر مقطوعات املوسيقار بيتهوفن.
156
من جلوسنا فيام بعد يف منزل القسيس ملشاهدة الوثائقي .وكام تنبأ أيب حني
تنهد ُمتع ًبا من عنادي حني كنت أقول« :ال أريد ،أكرهها ،وال أبايل هبا!»
ها أنا ذا اليوم نادمة عىل توقفي بقدر حدة كرهي لثقل دم السلم املوسيقي
حينئذ؛ يكون اإلهبام األيمن عىل األيرس لنحصل عىل صوت اإليقاع
السلم بشكل ممل مل يبدُ أنه سيتوقف قري ًبا .وأنا عىل يقني تام
َ املوزون ،ونكرر
ورصخت باإليطالية حني أردت التوقف عن ُ وأرصيت،
ُ جتهمت،
ُ اآلن أنني
دروس العزف ،وأن أيب عرب عن أسفه وخيبته باإلنجليزية .ال أمحل ذكريات
مشاهبة من التداخل اللغوي إال حني كان والداي حياوالن ّأل نفهم مرادمها
أمر ما؛ عند ذلك يكتبون ما يريدون باإلنجليزية .كنا نفهم نطقهام من نقاش ٍ
اإلنجليزي متا ًما ،ولكن مسألة الكتابة والقراءة باإلنجليزية كانت نقطة
ضعفنا حتى بلغنا املراهقة وبدأنا باالنتقال إىل العامل الناطق باإلنجليزية.
يف بدايات العام 1959م ،قبل بداية الدراسة ،انتقلنا للعيش يف
فلورانس ،واستأجرنا الـ ،piano nobileالطابق الرئيس من بناية قديمة؛
كان سكن القسيس مالص ًقا للكنيسة الصغرية ،التي بدت بسبب صغر
حجمها ومالصقتها لبنايتنا وكأهنا جناح من البناية .أتذكر مثل حلم -يف
آخر العام 1959م ،أو 1960م -املطر والربد اخلفيف؛ اجتمعنا يف الردهة
الرئيسة مع بعض األصحاب الذين مل يكن لدهيم جهاز تلفزيون يف ذلك
نجلس عىل األريكة البالية وبعضنا عىل كرايس اخلشب الصلبة ُ الوقت،
وآخرون عىل األرضية ملشاهدة الفيلم الوثائقي .يرشف والداي القليل من
رشاب اخلرشوف الكحويل ،كان رشا ًبا مساعدا عىل اهلضم digestiveيقدَّ م
بعد العشاء عادة لدى العائالت «الكريمة» فيام ينالنا نحن األطفال نصيبنا
من احللوى caramelleمع حتفظ ّبي يف نظرات أمي ،لكنها كانت عاجزة
توجب أن تقدم احللوىُ عن مصارعة عادات الضيافة اإليطالية ،التي كانت
157
لألطفال يف اللقاءات واملناسبات.
مل يبق يف ذاكريت إال مظهر ذلك املكان بعمومه ،أما تلك احللوى بطول
إنش واحد وبطعم الفواكه ،صلبة من اخلارج وطرية من الداخل مغلفة
برقاقة بالستيكية جمعدة فأثرها ال ينسى .كانت تلك احللوى موجودة لدى
كل ب ّقال ومطعم يف املنطقة ،لكني مل أكن أعلم عنها قبل تناويل هلا يف تلك
قبل بام يف ذلك كل مذاق حلو عرفته من ُ الليلة ،وهي بدورها طغت عىل ّ
احللوى املفضلة لدي «منتينه» :حلوى صلبة تأيت بنكهات متنوعة وما زالت
حتى يومنا هذا تباع يف الفانتو .مل تعد تؤثر كلمة حلوى candyاإلنجليزية
عىل مزاجي الذوقي أبدً ا ،يف املقابل جتيء كلمة caramelleاإليطالية لتأخذين
إىل ذلك املذاق احللو ،تلك القرشة الصلبة التي تداعب األسنان َف َ ِت ُّق شي ًئا
فشي ًئا أثناء حتريكها يف الفم حتى بلوغ قلبها الطري.
أما الفيلم الوثائقي فلم أشاهده مرة أخرى إال بعد مخس وعرشين سنة،
مريضا بالرسطان ،وبدأ معركته العالجية ضد ً شخص األطباء أيب حني ّ
طوال بصحبته يف صيف العام ً قضيت أيا ًما
ُ انتشاره من الرئتني إىل الكبد.
متسلحا بالعالج الكياموي
ً 1984م حني كان يصارع يف معركته اخلارسة
واإلشعاعي .نجح أخي يف احلصول عىل نسخة من الفيلم الوثائقي من
أرشيف هيئة اإلذاعة والتلفزيون اإليطالية ،ثم حول صيغتها إىل نظام أرشطة
الفيديو ،ونسخ منها عد ًدا من النسخ .جاء أخي بنسخة أليب يف ظهرية صيفية
مجيلة جدً ا :كانت الشمس مرشق ًة عىل الستائر القامشية دون أن جتد سبيلها
أبيضا يمأل هدوء غرفة أيب املريض. نورا ً املبارش إىل الغرفة ،فكانت تعطي ً
أحطت أنا وأخي أبانا وهو مستلق عىل رسيره الذي يمكن رفعه وخفضه ُ
قليل ،ساقاه ممدودتان عىل طرف حسب حاجة املريض وراحته .انتهض أيب ً
الرسير ،ورأسه وظهره مسنودان عىل طرف الرسير املرتفع ،ثم شاهدنا سوي ًا
158
الثالثني دقيقة من اإلصدار األصيل حلياتنا قبل مخس وعرشين سنة.
كان األمر األكثر مفاجأة ودهشة يف تلك املشاهدة الثانية للفيلم هو
والدي .لكن الفرق بينهام يكم ُن يف أن أمي كانت ّ املستوى املتدين إليطالية
فجعلت من أخطائها وسيلة ْ ترجتل سبيلها بشجاعة أثناء الكالم دون ترددُ
لبيان مرادها وتفهيم املقابل؛ أما أيب فكان معتمدً ا اعتام ًدا ً
كامل عىل مالحظاته
املكتوبة ،والتي كان يقرأ منها أثناء حديثه مع املقابل ،وكان نطقه سي ًئا بشكل
هت مذهول ًة أنني
ال يوصف .أثناء مرافقتي أليب يف هدأة ضياء الصيف ،تن ّب ُ
كربت وبعدما عدنا إىل الواليات املتحدة ،مل أسمع أيب يتكلم اإليطالية ُ حينام
قط ،وإن كان يستذكر بعد العبارات لغرض املجامالت الرسمية بالرغم
من أن نطقه هلا كان عص ّيا عىل الفهم والرتمجة .أنا كذلك مل أبادره بالكالم
باإليطالية منذئذ .أما أمي فكانت دائمة التن ّقل بني اللغتني ،تقفز من هذه إىل
تلك بسهولة ورشاقة .كانت اللكنة األجنبية بينة يف حديثها ،وهو األمر الذي
مل يؤثر عىل واقعها فقد كانت تستخدمها كلام استطاعت إىل ذلك ً
سبيل.
دققت النظر يف أيب وأنا بجواره عىل رسير مرضه الذي مل يكن ليقوم منه. ُ
كان أنفه اجلميل معقو ًفا كام مل يكن من قبل متوس ًطا مالحمه التي بدت هزيلة
أضحت داكنة ،وعيناه غارقتني يف حميطهام؛ كام كان إهبام
ْ جدً ا؛ خرض ُة عينيه
يده يف راحة من إشارته التي مل تكن تفارقهُ :صن ُْع دائرة بالتالقي مع األصبع
الوسطى وإصدار صوت بضغط لسانه عىل أعىل حلقه عندما يريد أن يعلن
تقريره ألمر ما .كان انتقالنا عائدين إىل الواليات املتحدة قبل عرشين سنة،
ي أيب يف جامعة هارفارد؛ عرشون سنة منذ يف خريف العام 1965م حني ُع ّ َ
تفرق أوالده األربعة الكبار يف مدارس داخلية يف دول أربعة خمتلفة .الطفولة
يف إيطاليا ،كانت هي األساس والتجربة واالنطباع الذي شكّل غالب حيايت
فيام بعد؛ إحدى عرشة سنة بني أكتوبر من العام 1953م وأكتوبر 1964م
159
كثريا،
والدي :مرحلة تشبثت هبا أمي ً ّ كانت مرحلة فاصلة رسيعة يف حياة
ونفض أيب يده منها رسي ًعا .ربام مل يتكلم أيب اإليطالية معنا مطل ًقا؟ ربام كان
يتكلم اإلنجليزية فقط ،وكان يكفيه أن يفهم ما نقوله نحن باإليطالية أثناء
احلديث؟
حني انتهينا من مشاهدة الفيلم ،ابتسم أيب ابتسامة خفيفة ،وزفر زفرة
عميقة ،لكنه مل يعقب بيشء .كنت حمرجة من عدم متكنه من لغة كنت
أتكلمها كام أتكلم اإلنجليزية اآلن ،وهذا ما منعني من سؤاله عام إذا كان
قد تكلم اإليطالية يو ًما .وبالرغم من أن أيب شاهد الفيلم مرات عديدة بعد
ذلك مع أخويت الذين كانوا يبادرونه بالزيارة كام كنت أفعل ،إال إنني وإياه
مل نشاهد الفيلم سوي ًا مرة أخرى ،مل نفعل يف ذلك الصيف الذي قضيت معه
أيا ًما عديدة ،وال عند بداية احرتاق أوراق اخلريف الذي تزامن مع جميئي من
إنجلرتا طريانًا فقط ألكون معه .شاهدت الفيلم وحدي مرة واحدة فقط بعد
ذلك .ولربام سأشاهده مرة أخرى قبل انتهائي من كتابة هذه املقالة .تنتابني
رغبة قوية ّأل أفعل ،ربام بسبب شعوري بالعار بسبب حياتنا الرغيدة :عار
تو ّلد من رحم اللباقة السياسية ،التي أنظر إليها دو ًما بريبة شديدة .أو ربام ال
ٍ
ضبابية مثل خويف من أمل احلنني أرغب بمشاهدته ألسباب أعجز عن بياهنا:
وواضحة مثل أمل فقد أيب .أما اآلن فاألمر يتطلب شجاع ًة أعظم بعد فقد ٍ
مؤخرا ألمي .أتذكر مشاهدها يف ذلك الفيلم بضفائرها املجدّ لة عىل طريقة
اهلنود احلمر ،وقد التقطنا بعض الصور معها عىل شواطئ ليفانتو وسيسرتي
ليفانتي(((.
قبل وفاة أيب ،اجتمعنا ذات يوم حول رسيره وحتدثنا عن الفيلم متذكرين
تلك األيام اخلوايل ،والتي كانت الرابط الوحيد بيننا مجي ًعا .كان الكالم
160
يو َمها كالمنا نحن األوالد وليس كالم أيب .وأنا أكتب اآلنُ ،أ ُ
درك أن أيب
أراد بقراره العيش يف إيطاليا أن جيدَ لنا بيئة خمتلفة عن البيئة التي عاش فيها
صغريا ،بيئ ًة بعيدة قدر املستطاع عن دياره ،حيث ُولد وترعرع :زرقة البحرً
املتوسط ،نور الدفء وانعكاساته املبهرة عىل املاء ،منحدرات وتربة بساتني
الزيتون ،تلك األرض التي يظهر عىل وجهها املزيد من احلجارة كلام نزل
كل يوم ليبني ً
منزل per fare عليها املطر ،ليجمعه ابن جارنا املزارع املجنون َّ
،una casaويرعى األشجار ويقطف الزيتون والعنب ،الرائحة الالذعة
رقصا
املالزمة للحظرية الكبرية حيث كنا ندوس العنب مبتهجني ونعرصه ً
بأقدامنا ،العطر الرقيق لشجرة امليموزا ،وشجرة املشمش التي كنا نتسلقها،
وشجرة الكوبية التي كنا نصنع التيجان من أوراقها ،وأشجار املاغنوليا
والصنوبر املنترشة يف كل مكان .فام هو وجه الشبه بني كل هذا وبني الوسط
الغريب البعيد عن البحر يف الواليات املتحدة ،ذلك املكان الذي مل أعلم عنه
شي ًئا إال أن الذرة تنمو عال ًيا بمقدار ارتفاع رأس الفيل؟! وما هو وجه الشبه
بني طفولتنا املليئة بشجار األشقاء واألصدقاء ،وبني أرسة صغرية نشأ أيب
فيها شاهدً ا عىل فقد مل يستطع فهمه وهو طفل :موت أمه وأخيه؟!
إنه بالفعل سبيل خمتلف وبيئة خمتلفة .إنه عامل خمتلف مل أستطع رؤيته
إال حني حاولت أن أفهم بصفتي أ ًّما ،كيف ستؤثر وفايت عىل حياة ابني،
جرتني إىل ذلك الوسط الغريب البعيد عن البحر خاصة وأن دائرة األيام قد ّ
برجيل ،ليس بعيدً ا من مسقط رأس أيب يف مدينة
ّ وأنا أرصخ مقاوم ًة وأركل
سيربينغفيلد يف والية إيلينويز األمريكية ،املكان الذي عاش فيه طفولته يف
بدل عنأب مريض ،يف شتاءات متلؤها دهشة الثلج ً صحبة مفردة وحيدة مع ٍ
صيفيات من الغطس يف دهشة البحر .البحر !..تعجز األلفاظ عدا اإليطالية
azzurroعن احتواء وصف عمق ُزرقته .إن الكلمة األنجليزية blueأزرق
161
عمل املسكنات واملهدئات لألمل عاجز ًة عن العالج عند ِ مثلتعمل إال َ
ُ ال
حماولتي للتعبري عن زرقة البحر التي عرفتها يف طفولتي؛ يف املقابل تستدعي
azzurroكل تلك الذاكرة العنيفة التي وكأهنا تلكمني باحلدة ذاهتا بقبضتها
كل ٍ
مرة أنطقها هبا. عىل معديت يف ِّ
أظن وأنا أكتب الساع َة وأتذكرين وأيب ونحن نشاهد Una famiglia
Americana in Italiaيف تلك الظهرية املشمسة أن أيب -ربام -مل يغادر
الوسط الغريب األمريكي قط؛ وأن أمي -يف املقابل -غادرت تكساس حقيقة
واختارت حياة أخرى أرادهتا هي .أظن أيب وجد نفسه -دون إرادة حقيقة
متنقل من سيربينغفيلد إىل تشوت ،ثم إىل هارفارد ،فنيويورك ،ثم نيو- ً منه-
إنجالند ،ثم إىل إيطاليا؛ متا ًما مثلام أظنني مل أغادر إيطاليا ،بل وجدت نفيس
متنقل ًة بني دولة وأخرى ،مدفوع ًة باحلاجة التي ال خيار يل وال رغبة فيها.
قررت ّأل أتكلم باإليطالية أو
ُ لكن ماذا عن «اخليار» الذي اختذته حني
قرارا اختذته يف يقظة للطموحقرارا متعمدً ا دون شكً ،
أقرأ هبا؟ كان ذلك ً
عيل أن أختار إحدى اللغتني؛ لكن ملاذا مل أخرت
اجلاد يف أن أكون كاتبة .كان ّ
اإليطالية؟ عند السادسة عرشة من عمري ،وحني اختذت قرار الكتابة،
كانت اإلنجليزية واإليطالية متوازيتني ،وإن كان ثمة ميزة إضافية فإنني
كنت أكثر طالقة ومتكنًا من اإليطالية .استمرت إنجليزيتي تعاين من لكنتي
اإليطالية حتى بعد التحاقي بمدرسة داخلية إنجليزية لسنتني ،واستمرت
كتابتي اإلنجليزية تتضمن أخطا ًء بسبب احلضور الدائم لقواعد بناء اجلملة
اإليطالية والالتينية.
كنت دو ًما قارئة هنمة ،وإن مل يكن ذلك جز ًءا من طفولتي املبكّرة؛
لقد ُ
كنت يف السابعة كنت أتناول وجبة قرائية خفيفة الدسمPiccole : حني ُ
162
( Donne, Piccole Donne Crescono, I ragazziنساء صغريات)(((،
وهايدي((( .ويف الثامنة قرأت رواية قلب((( ،Coureربام مئة مرة .ويف
العارشة قرأت باإليطالية جملدً ا للطالبات قبل سن املراهقة وموضوعه عن
املدارس الداخلية اإلنجليزية ،اشرتيته من كشك لبيع الصحف والكتب
يقع يف اجلادة التي تؤدي إىل مسكننا يف فلورانس؛ كانت قيمته مخسمئة
لرية ،وأظنني رسقتها من حقيبة أمي .وحني انتقلنا إىل بريوجيا((( يف خريف
قرأت كل كتاب من الكتب التي خ ّل َفها صاحب املنزل عند ُ العام 1961م،
نسخ من الثالثينيات ملؤلفات إيميليو انتقاله منه؛ كانت الكتب قرابة املئةٌ :
ل بلحية رومانسيات ملؤلفني منسيني ،جاء يف إحداها أن رج ً
ٌ سالغاري(((،
ٍ
امرأة حي ّبها ...مل أقرأ يف الثانية عرشة وعاممة أسلم عند حممد((( ألجل
املخطوبون((( وال السيد دون غيسالدو((( ،بل وال حتى اإللياذة؛ ومل أقرأ
املختارات املطلوبة منا يف السنة األوىل من املدرسة الداخلية كلها .مل أقرأ
كذلك أعامل تشيزاري بافيزي ،وليوناردو شاشا ،وجورجيو باساين ،ودينو
-1عمل (سلسلة) روائي مثايل لألطفال من تأليف الروائية األمريكية لويزا ماي ألكوت (توفيت
١٨٨٨م).
-2هايدي رواية أطفال للروائية السويرسية يوهانا شبريي (توفيت ١٩٠١م) ،وكان شعارها أهنا
«قصة لألطفال وألولئك الذين حيبون األطفال» وهي من أكثر الكتب مبي ًعا يف تاريخ الكتاب
املطبوع مطل ًقا ،وقد أنتجت مسلسل رسوم متحركة وعرض باللغة العربية.
-3رواية أطفال للروائي اإليطايل إدموندو دي إيميكس (تويف ١٩٠٨م).
-4مدينة يف يف إقليم أومربيا وسط إيطاليا.
-5روائي وكاتب قصص مغامرات إيطايل (تويف ١٩١١م).
-6املقصود هنا هو النبي حممد صىل اهلل عليه وسلم نبي اإلسالم وخاتم املرسلني.
-7رواية تارخيية إيطالية من ثالثة جملدات (وقد يكون اخلطيبان ترمجة أدق لعنوان الرواية)
للكاتب والشاعر اإليطايل ألساندرو مانزوين (تويف ١٨٧٣م).
-8رواية للكاتب اإليطايل جيوفاين فريغا (تويف ١٩٢٢م).
163
بوزايت ،وال حتى إيتالو كالفينو ،الذي كان كتابه «حكايات شعبية إيطالية»
دافع قصتي األوىل «ال َط ْو َية» ،التي كتبتها ألقرر أنني كاتبة عىل مستوى
خلق رغبة الكتابة لدي بشكل ّبي كان كتا ًبا الطموح .أما الكتاب الذي َ
قرأته وأنا يف الثالثة عرشة خالل األشهر الثامنية عرش التي قضيتها يف املدرسة
الداخلية يف روما؛ رواية من ثالثة جملدات مرتمجة من األملانية إىل اإليطالية،
رض من اجلامل والتناظر :عن عازفة كامن موهوبة ي و ُم ٍ كانت عىل مستوى َب ِّ ٍ
رجل يكربها بسبع عرشة سنة، من النمسا تتزوج وهي يف السابعة عرشة ً
يرزقان بفتاتني توأم يبلغان السابعة عرشة يف بداية املجلد الثاين حيث تلتقيان
بشابني توأم وتتزوج كل واحدة منهام بشاب من التوأم .وعند بداية املجلد
الثالث يبلغ أطفال كل أرسة السابعة عرشة ،ومتيض القصة الطويلة هكذا
حتى تنتهي بالفتاة من املجلد األول ،التي غدت امرأة كبرية (ليست بعيدة
عن عمري احلايل) تعزف الكامن عند وفاة زوجها وهو يف الثامنة والستني،
فتسمعها بنتاها وهن يف الرابعة والثالثني وأحفادها الذين يف السابعة عرشة.
كتبت روايتي األوىل يف العام 1963م .كتبتها باإليطالية بكل تأكيد.
ُ
عن عازف بيانو موهوب حيترض من اللوكيميا؛ يلتقي الفتى بفتاة ملتحقة
حب حمكوم بمدرسة داخلية جماورة للمشفى الذي يرقد فيه ،فيبدأ بينهام ٌّ
عليه باملوت سل ًفا وإن كان للتو قد أزهر ...أو أهنا -ربام -هي التي كانت
حتترض من اللوكيميا بينام كانت تتجلد وتتعزى بجامل عزفه الذي كانت ُ
تسمعه من معهد املوسيقى املجاور للمشفى الذي ترقد فيه .كانت رواية
قصرية كتبتها عىل دفرت الدراسة بمساعدة اثنتني من الزميالت خالل الليايل
الطويلة من الدراسة ،ثم نسختها بمشقة أثناء العطالت املدرسية عىل
الشعر،
َ كتبت
ُ اآللة الكاتبة (أوليفيتي((( )22اخلاصة بأيب .حينها كنت قد
-1من أشهر العالمات التجارية يف صناعة اآلالت الكاتبة حتى يومنا هذا والرقم ٢٢يرمز ألحد
164
باإليطالية كذلك ،وكنت أتلقى نقدً ا من الصديقات يف املدرسة وكان يرتاوح
حول كونه ،mi piace, bella, carina :أحببته ،لطيف ،مجيل.
ثم جاءت األيام العجاف يف املدرسة الداخلية .فاملدرسة مل يكن فيها
مكتبة ،بل خمتارات عشوائية ،موزعة عىل أرفف بعشوائية هنا وهناك حول
ِ
يمض الوقت رسي ًعا حتى قرأهتا كلها ومل يعد لدي مرفقات املدرسة؛ ومل
جديد مل أقرأه .ويف مقابل رضاي يف طفولتي يف أن أكرر ما سبق يل قراءته
فإنني َ
اآلن ال أريد إال كتا ًبا جديدً ا لكل يوم جديد .حتى وجودي أثناء
العطالت يف املنزل مل يكن أفضل ً
حال من واقع املدرسة .كان يف منزل أرسيت
الكثري من األرفف وعليها الكثري من الكتب اإلنجليزية مستحيلة القراءة،
لكن املخزون اإليطايل كان ضعي ًفا جدً ا ورسعان ما انقىض .مل يكن ثمة كشك
يف بريوجيا ألتزود منه بكتاب أو جملة من األموال التي أرسقها من أمي؛
فالقرية مل يكن هبا إال حمل بقالة هزيل يرتاده الكثري من الذباب ،وحمل آخر
يوفر حاجيات املنزل التي حتتاجها عامة األرس وبعض املجالت التي كان
عيل رشاؤها .أتذكر حماولتي الفاشلة يف خفض رسعة قراءيت للكتاب
حمر ًما ّ
اجلميل « Le cinque Sorelle d’Americaمخس أخوات أمريكيات(((»،
كنت أخشى ّأل أجد ما أقرأه عند انتهائي منه.
ُ
ويف مركز املدينة al centroكنا نبطئ سرينا ذها ًبا وجيئ ًة عىل شوارعها
احلجرية يف أول املساء .كان عىل ذلك الشارع متجران لبيع الكتب ،لكنها
تشف غلييل إذ كانت غالب الكتب إما تشبه الكتاب الذي اشرتيته حني ِ مل
رسقت اللريات من أمي ،وإما روايات للكبار مل تكن تغريني حينها .احللقة
اجلديدة من سلسلة ماندادوري األصفر ،قصة البحث والتحقيق يف قضية
إصدارات اآللة.
-1قصة خيالية للفتيات للكاتبة واملمثلة األمريكية جانيت المربت (توفيت ١٩٧٣م).
165
وبدت مغرية إىل حد ما .ولكني ْ نافست الكثري من القصص
ْ قتل غامضة،
كنت سألتهمها يف عرشين دقيقة ونحن يف طريقنا إىل املنزل ،واحلقيقة أنني
أخذت السلسلة كاملة ومل أمتكن من النوم حتى أهنيتها ،مل أمتكن من النوم
حتى ُح ّلت القضية .ثم متدد الوقت حتى أصبح رسمدً ا دون قراءة .مل تكن
املجالت وإصدارات املعلومات األسبوعية وجمالت الصور الساخرة لتشبع
هنمي القرائي أبدً ا ،ال أجد نفيس غارقة فيها كام أفعل حني أقرأ الرواية .كانت
دائم يف اجلوار حيث كان أخويت يقرؤوهنا ،وبالرغم من عدم هذه اإلصدرات ً
مالءمتها يل إال أنني قرأهتا كلها .ثم قرأت أعامل جاك لندن((( بتوصية من
صديقتي لوسيانا ،لكني مل أستمتع هبا أبدً ا فلم تكن املغامرات دافعا يل نحو
القراءة عىل اإلطالق ،كنت أمتنى أن تعطيني القراء ُة الرومانسي َة.
ومع حلظة التقلبات اجلسدية ،عند ثاين سنة من مراهقتي ،وعند انحسار
طفولتي بشكل رسيع ،وهو أمر مل أندم عليه قط ،التحقت بام طال االنتظار
شو ًقا له :مدرسة داخلية يف إنجلرتا .مل يكن علينا يف تلك املدرسة ارتداء
الزي املوحد الرمادي وال ربطات العنق املضحكة ،ولكن كان جيب أن
انغمست هناك يف والئم الليل
ُ نرتدي قبعة وسرتة رسمية .وبطبيعة احلال
املتأخرة من الكعك املدهون بزبدة الـ «مريمايت(((» ،متجرع ًة إياه بعصري
التفاح الكحويل الذي مل أستسغه لكني حاولت ادعاء ذلك ،وكذلك
بمرشوب البرية التي مل أستطع حتى ادعاء استساغتها .كام أنني واجهت
بعض املتاعب بسبب تدخيني داخل غرفتي يف سكن املدرسة .لكن النقلة
العظيمة للمدرسة الداخلية اإلنجليزية مل تكن اجتامعي ًة ،فبشكل أو بآخر
-1روائي أمريكي اتسمت أعامله برؤاه السياسية حول االشرتاكية ورصاع الطبقات (تويف
١٩١٦م).
-2زبدة حامضة تصنع من اخلمرية وبقايا الشعري املستخدم يف تصنيع رشاب البرية.
166
كنت إنسانة انطوائية .كانت النقلة أدبي ًة .قرأنا «حلم منتصف ليلة صيف»
حت بالرضا عىل كل ذرة وكذلك قرأنا الرائعة «روميو وجولييت» والتي َم َس ْ
أي كتاب قرأتهمن قلبي احلامل العاطفي احلميم .وقرأنا «جني آير»ّ .ملا يبلغ ُّ
أي من األبطال الرومانسيني لروايات بعدُ ما بلغته مني «جني آير» .مل يكن ٌّ
الثالثينيات التي كانت تقبع يف عل ّية منزلنا أو حتى شخصيات القصص يف
املجالت املصورة كفي ًفا أو معا ًقا بأي مظهر من مظاهر اإلعاقة ،لذلك فإن
شاعرا
ً احلامسة التي متلكتني منذ سن الثانية عرشة جتاه ليوباردي((( -ألنه كان
أخريا عند قراءة «جني آير» .ثم عظيم وأحدبا -بلغت من القراءة ما يرضيها ً ً
وقعت يف
ُ البائس ،كيف قرأت «مرتفعات وذرنغ»ٍ .
إيه يا هيثكليف ،أهيا ُ
ُ
ٍ
وروح متيمني وتائهني! ٍ
بقلب ح ّب َك كام فعلت كاثرين؟! كالنا َ
فعل
تركت وحدي متبتل ًة يفُ كانت تلك املدرسة الداخلية بيئتي املثالية .لقد
الرف وكلها حتمل كت ًبا
ِّ الرف تلو
ّ دفء ونور وبيئة صديقة .كان يف املكتبة
خصيصا :جورجيت هاير ،أغاثا كريستي ،شارلوت برونتي، ً كأنام ُأ ّلفت يل
عيل كاثلني وينسور ،إيمييل برونتي((( .وألمتكن من اقتحام هذه الكتب كان ّ
أن أتعلم القراءة باإلنجليزية بالرسعة التي تعلمت هبا الكالم باإلنجليزية
بدأت مع باتريشا هايسميث ودوروثي سايرز، ُ بعد أشهر من الصمت.
قرأت «كربياء وهوى» رائعة جني أوستن((( الثورية ُ وعند هناية السنة الثانية
-1جاكومو ليوباردي شاعر وكاتب إيطايل ،عانى من املرض الذي أهنكه صغريا ورافقه حتى
وفاته يف العام ١٨٣٧م وهو يف الثامنة والثالثني.
2كاتبات إنجليزيات من أشهر الكاتبات يف األدب اإلنجليزي مع اختالف زمن كل واحدة
منهن :جورجيت هاير (توفيت ١٩٤٧م)؛ أغاثا كريستي (توفيت ١٩٧٦م)؛ شارلوت برونتي
(توفيت ١٨٥٥م)؛ كاثيلني وينسور (توفيت ٢٠٠٣م)؛ إيمييل برونتي (توفيت ١٨٤٨م).
-3الروائية اإلنجليزية الشهرية برواياهتا الست التي تنتقد هبا حياة طبقة اإلقطاعيني وروايتها
كربياء وهوى هي األشهر (توفيت ١٩١٨م).
167
والطاغية يف اخليال؛ فأتبعتها باألفق الذي يشبه املحيط سع ًة يف «مدل مارش»
جلورج إليوت((( ثم «أنتوين وكليوبرتا» لشكسبري و»الليلة الثانية عرشة»
تقع فيوال وأخوها التوأم يف احلب فتنتهي القصة الطويلة بمجلداهتا حيث ُ
الثالثة كام جيب أن تنتهي عند هناية عامي الثاين عرش يف املدرسة ،ترافقني لغ ٌة
تعكس متا ًما تلك الدراما املفرطة التي تسك ُن قلبي.
إن العودة إىل النصوص اإليطالية بعد التهام هذه الوجبة الدسمة كان
بمثابة العودة إىل تناول اخلبز باحلليب بعد تناول الكعك الغني بالزبدة .لقد
أحببت ثراء اللغة اإلنجليزية بالصفات والتي بدت مرتاكمة حتى إن املرء
ليستطيع الغوص داخلها ،يف مقابل تكرار االستخدام نفسه حيث يكون
السياق وحده هو احلكم يف بيان الفروق البسيطة ،وهذا الواقع يعدّ من
أحببت املبالغة التي حتتوهيا اإلنجليزية ،تداخل اللغة
ُ أوجه قوة اإليطالية.
ببعضها والتواءاهتا ،وأحببت قيمتها الباروكية((( .أغلب الكنائس ،والفنون
البرصية ،بل وحتى تلوحيات الناس ولغة جسدهم باروكية يف إيطاليا؛ ولكن
اللغة نفسها مل تكن كذلك :إهنا عميقة ،يكمن مجاهلا يف سحر صوهتا ويف
أناقتها .حني جيتهد املتكلم يف اإليطالية ليثري اللغة فتزل قدمه باستخدام
خاطئ خلطاب أو مفردة فكأن اللغة تنزوي عىل نفسها متمنع ًة ،فاقد ًة ملواطن
عمل وجهدً ا،قواها .يف املقابل فإن بساطة اإلنجليزية وأناقتها تتطلب ً
عذاب عىل
ٌ متعم ٍد ال جرس هلا وال فتنة ،وكأهنا ٍ
فاألصوات فيها دون جهد ّ
َ
لسان فتاة ترى ذاهتا املتحمسة ُ
يشحذ اللسان .وما أمجله من عذاب ذلك الذي
-1جورج إليوت هو االسم الذكوري املستعار للكاتبة والروائية اإلنجليزية ماري آن إيفانس
(توفيت ١٨٨٠م).
-2نسبة إىل العرص الباروكي املمتد من أواخر القرن السادس عرش وحتى أوائل القرن الثامن
عرش والذي سادت فيها فنون برصية وصفت بالغرابة وربام السطحية والوضوح وإن تعلقت
بمضامني رمزية.
168
تعب عن مشاعرها بمفردات والدرامية بكل شفافية يف هذه اللغة؛ وها هي ّ ُ
متنوعة ال مفردة يتيمة .عند السادسة عرشة ،مل يكن ثمة تنافس بني اللغتني!
كانت اإلنجليزية لغة املنطق واإلحساس؛ واللغة التي أكتب هبا قصائد ثرية
بمفرداهتا كام كان يفعل ديالن توماس(((؛ وروايات غنية بمشاعرها مثل
«فيليت(((»؛ ومرسحيات قوية مثل «الصبي والعربة» لكريستفور فراي(((.
هربت من اإليطالية حاملة معي ِو ْز ًرا من اهلمة والطموح ،متغذية
ُ لقد
والدي الغن ّية وإن مل أدرك يو ًما بوعي ووضوح أهنا كانت لغتهام.
ّ عىل لغة
ارحتلت بصحبة اإلنجليزية عرش سنني ،وانتهى يب املطاف هاجر ًة طموحيُ
األول؛ فأنا مل أعد أرغب بالكتابة ألمتاهى مع شارلوت برونتي وال ديالن
(((
توماس أو كريستوفر فراي .بل مل أعد أرغب أن أشبه فرجينيا وولف
أو جيمس جويس((( أو نابوكوف؛ وال حتى وليم غولدنغ((( أو يت إس
أليوت((( .لقد انتهي يب املطاف يرافقني شعور أن أقطف من كل بستان زهر ًة
دون أن يكون يل وجهة أحاول الوصول إليها ،مرشدة .رافقني هذا الشعور
حتى قرأت باإليطالية «ستون قصة» لدينو بوزايت ثم ثالثية «أسالفنا» و»لو
169
مسافرا يف ليلة شتاء» إليتالو كالفينو ،والعمل األهم له كذلك «حكايات
ً أن
أردت أن أكتب باإلنجليزية ولكن بروح ولكنة ُ شعبية إيطالية» .عندها
إيطالية .ربام مل يكن الشعور أن أكتب اإلنجليزية بلكنة إيطالية فقط؛ بل أن
ألقي كل ما عرفته عن اإلنجليزية ابتداء ،كل تلك املظاهر الباروكية ،ثم
أكتب باإلنجليزية كام لو أهنا كانت اإليطالية .استطعت عندها ،حيث أسكن
يف لندن ،أن أكتب أول جمموعة قصصية يل« :الراقصة عىل احلبل» وكانت
أغلب القصص من إهلام كالفينو وبوزايت .وأثناء تنقاليت من ساوثهامبتون
وإليها ((( ،كتبت روايتي «الطوية»ُ .أصدر الكتابان سويا بعد أشهر قليلة من
وفاة أيب يف يناير 1985م ،بعد أقل من عام من جلوسنا سو ًيا حني شاهدنا
«عائل ٌة أمريكية يف إيطاليا» حني صدمني ضعف إيطالية أيب .والسؤال اآلن،
وصلت إىل هناية الدائرة؟
ُ هل
ال ..إن هناية حياة أيب كانت بداية حليايت بوصفي كاتبة؛ فأنا مل أكن يف دائرة
إعصارا .لقد بدا دور اإليطالية يف كل
ً بأي حال ،إإل إن كانت تلك الدائرة
ما سبق أكثر تعقيدً ا حتى حينام عدت إىل بريوجويا يف العام 1986م .أعلنت
نفيس حينها كاتب ًة مستقل ًة ،معتقدة أنني أستطيع العيش بام يدخل ماد ًيا من
الكتابة والرتمجة ،مع تقديم بعض الدروس اخلاصة لإلنجليزية .لكنني عند
ذلك االنتقال مل أشعر أنني يف وطني ،ومل أجد األسلوب الذي ظننت أين
سأجده مثلام وجدته عند كتابة أعاميل األوىل .لقد فعلت اإلنجليزية َّيف ما
(((
ال يمكن فهمه وال سرب غوره .كنت أشاهد املرتفعات اخلرضاء ألومربيا
نحو قمم اجلبال الزرقاء ،فقررت يف حلظة أن أخلع عني اللكنة اإليطالية ،أن
أهجر احلاجة إىل أن أكتب باإلنجليزية وكأهنا اإليطالية .كتبت حينها روايتي
170
«حالة امللوك» والتي كانت متأثرة بـ «كربياء وهوى» ،أي بأكثر األدباء
اإلنجليز إنجليزي ًة.
أدركت أن العيش يف إنجلرتا مل يمثل
ُ انتهيت من كتابة الرواية،
ُ حني
علمت كذلك أن العيش يف إيطاليا مل يكن ً
عيشا يف ُ العيش يف الوطن ،كام
الوطن ،وإن كنت أجد رزقي هناك؛ ثم وجدت نفيس أمام التحدي األكرب:
اهلجرة إىل الواليات املتحدة ،ديار أيب يف الوسط الغريب .مل أكن حينئذ قد
زرت إال الساحل الرشقي ألمريكا ،وكان بقائي يف معية أيب يف صيف
1984م أطول فرتة أقمتها يف أمريكا.
اآلن شاهد ٌة عىل نفيس وأنا أحاول أن أتك ّيف مع عامل جيتمع فيهوها أنا ذا َ
التاريخ والزمان بشكل مدهش؛ مع عامل يتزاوج فيه نظام التعليم مع املرجعية
األوروبية يف عالقة رائعة ومهينة يف الوقت نفسه؛ يف عامل ُت َعدُّ فيه اإليطالية
(لغة طفولتي ،واللغة الوحيدة التي أعرف هبا أناشيد الطفولة) غريب ًة!
لكنني ال أظن األمر كان بالغرابة ذاهتا التي رآنا هبا اإليطاليون يف العام
1957م ،حني صوروا حياتنا اليومية يف تلك البلدة الصغرية التي مل تشاهد
حينها حياة عائلة أمريكية قط؛ بلدة صغرية مل تكن تدرك كيف ألطفال
أمريكيني أن يتكلموا اإليطالية كأهنم من أوالدها .فهل اكتملت دائرة حيايت
مع هذه الغرابة والتي ختاطب كل من عاش يو ًما يف بالد ومل يكن من أهلها:
إيطال ًيا أم صومال ًيا يعيش هنا يف الواليات املتحدة؛ أو أمريك ًيا أم آسيو ًيا
يف إيطاليا؛ أو إيطال ًيا يعيش يف الصومال .ولكن بخالف وجود آسيوي-
أمريكي ،وصومايل-أمريكي ،وإيطايل-أمريكي ،فإين مل أشعر باالنتامء نحو
أي جمموعة من هؤالء؛ فأنا ال أستطيع القول بأنني إيطالية يف إيطاليا ،وال أنا
«إنجليزية» هنا وال يف إنجلرتا .وال أنا قادرة عىل وصف نفيس بأين أمريكية،
ألنني ببساطة لست كذلك .لقد ُقدّ َر عيل أن أحيا ممتطية تلك الثقافات
171
الثالث التي ترشبتها ،وإن كنت ال أشعر بسكينة الوطن إال بواحدة منها.
لقد اكتشفت أن هذا هو مغزى كالمي حني قلت أن أيب مل يغادر أبدً ا
سيربنغفيلد كام أنني مل أغادر أبدً ا إيطاليا .إن من شأن جتربة الطفولة أن
تشكل جز ًءا كبريا من احلياة الح ًقا ،ويف حاالت معينة هي تشكل احلياة
كاملة .فكم ابتعد أيب يا ترى من تلك الطفولة واملكان اهلادئ ،املنعزل ،كثري
قادرا
التفكر واملنحدر من ثقافة أمريكية من القرن التاسع عرش؛ مل يكن أيب ً
وال حتى راغ ًبا أن يتحرر من تلك الثقافة ،تلك الثقافة التي شكلت حياته
كاملة فيام بعد يف كل ارتفاع وهبوط خالل احلياة الفكرية للقرن العرشين.
األرض
َ وأنا مهام ابتعدت عن إيطاليا أو أظن نفيس كذلك ،سأظل أجد
عيل قوله وعمله يف كل موقف.
واللغة تطالن عيل لتخرباين بالذي ينبغي ّ
دائم -تلك اللغة التي مل أعد قادرة عىل الكتابة هبا
الوطن أصبح -كام كان ً
باالنسيابية ذاهتا التي تنتابني مع اإلنجليزية .أشعر مع اإليطالية اآلن بانسداد
كالذي يصيب رأس قلم احلرب ،فها هو املاء والطحني impastataمعجون
بني األصابع ،ورغم داللة هذه الكلمة إال أهنا ال تسمن وال تغني من جوع
ألهنا ال خترب الناطقني باإلنجليزية شي ًئا وذلك ألهنم مل يشاهدوا املزارعني
contadineيو ًما وهم جيهزون وليمة الزفاف بصنع املاكرونة الطازجة ،وال
يستطيعون يف احلقيقة مشاهدة تلك األيدي العاملة واملشققة وهي تضيف
إىل مزيج العجني بعض مكوناته ليصل إىل تلك الدرجة من التامسك التي
جيب أن يصل إليها ،والتي حتمل الكلمة داللتها كاملة وبينة.
إن الوطن هو الكلامت .فكلمة شفاف limpidoوالتي ال تبدو عرجاء
رفضت تلك اللكن َة اإليطالي َة
ْ limpمثل مقابلتها اإلنجليزية limpidحني
القوي َة املتمثل َة يف الصوت األخري .oتلك الكلمة اإليطالية حتمل كامل
الداللة عىل نقاء هواء أيام اخلريف بعد أول رياح البحر العنيفة التي أرهقت
172
نفسها وهي تصطد ُم بتلك املنحدرات الصلبة ،يف ذلك النقاء يكون وقت
قطاف أواخر العنب .عندها تعود السامء azzurroمرة أخرى يف الوقت
الذي توضع فيه الشباك أسفل أشجار الزيتون يف آخر املوسم من كل عام،
حتى إذا ما هبت الرياح مرة أخرى هتزه فينحدر عىل املرتفع املائل الذي ُأعدّ
هو بدوره ليجمع حبات الزيتون يف أخدودها األخري .يتوقع الناس حينها
احتامل االهنيارات األرضية! كم هي مرعبة كلمة االهنيار بشقيها الثلجي
واألريض باإليطالية ،frana, valanga :حني يقطع االهنيار جز ًءا من الطريق
أساسا ليزحف هبا باجتاه الفانتو.
الضيق ً
الوط ُن هو كلمة incendioوالتي تتضمن محول ًة داللي ًة ال تستطيعها
كلمة «النار» جمردة :إهنا مشهد الغابة يف اجلهة األخرى من اخلليج ،عىل ذلك
اللهب عاليا نحو السامء
ُ اجلبل بني ال فانتو ومونرتيسو((( ،ذلك اللظى؛ يرتفع
حالكة السواد ،تنقطها نجومها ببصيص نور برتقايل من النار .واألصوات،
ليست صافرات اإلنذار ،إنام أجراس الكنائس ورصخات الناس وصداهم،
وخلف ذلك كله صوت اهنيار األخشاب حني تأكلها النار؛ ورائحة الدخان
جتول متجاوزة اخلليج التي تسكن كل املكان أليام بعد احلريق ،بل ألسابيعُ ،
نول وجوهنا شطر اخلليج ،يبدو ُ
اجلبل حلي ًقا ،عار ًيا. نحو منزلنا .يف كل مرة ّ
تنم األشجار بعد احلريق إال بعض شجريات ظهرت عىل وجه األرض مل ُ
بعد زمن من مغادرتنا؛ واآلن فقط -بعد مخس وأربعني سنة -متكنت بعض
أشجار الصنوبر واللوز من صبغ اجلبل ببعض اخلرضة.
شقائق النّعامن ،التي تستدعي بجالء تام تلك
ُ الوط ُن هو كلمة ،papvaro
األهزوجة التي كانت ُت َغنى يف احلقول ذات زمان؛ يف تلك احلقول تتبخرت
زهور شقائق النعامن بني أعواد القش التي تدغدغ األرجل ،فيغني الناس:
173
Lo sai che i papaveri
174
مرر َن به
كل الفتيات الاليت ّ
قلن« :يا له من منزل مجيل يف كندا».
مل تكن هذه األغاين تعرض مطل ًقا عىل اإلذاعة ،بل كان الناس يستمعون
هلا يف احلقول ،يرافقها عزف الرجال عىل األكورديون واهلريمونيكا .فهل
عت يف خم ّيلتي ،أم كانت سلسلة من كانت هذه الذكرى لظهرية طويلة ُطبِ ْ
النزهات بصحبة ماريا وأليس وعشيقيهام القرو َي ْي؟ ال أتذكر التفاصيل،
ٍ
ظهرية استدعت أمامي رائحة القش ،ومشهدَ ْ لكن األهازيج والكلامت
ملؤها التشاقي واملزاح واملرح واللعب والغناء والرقص الذي انطلق حني
خف وهج الظهرية ليستمر ليال حتت ضوء ِ
اخل َرق املشبعة بوقود البارافني َ
ً
مشاعل .ال تستطيع أي كلمة إنجليزية ص لتكون ِِ
وامللفوفة عىل رؤوس الع ّ
أبدً ا أن تأخذين إىل موطن طفولتي.
175
مفرد ٌ
وجمع ٌ
ها-يون جانغ
(((
عسري
ٌ إن احلديث باستخدام ضمري املتكلم املفرد باللغة الكورية أمر
وليس من السهولة بمكان .اجلملة البسيطة «أنا أريد تفاح ًة» إن ت ْ
ُرمجت إىل
الكوري إىل يشء مثل
ُّ الكورية كلم ًة كلم ًة ستبدو شديدة الغرابة .سيرتمجها
«إنه ملن اجليد احلصول عىل تفاحة» .جتنب استخدام الضمري «أنا» ليس ً
خلل
لغو ًيا عىل اإلطالق؛ ويف املقابل ستبدو اجلملة ألطف نو ًعا ما بدونه .يندر
شخصا كور ًيا يكتب أو يقول ً
مجل متتالية تبدأ بـ «أنا فعلت ً جدً ا أن جتد
كذا» و«أنا تركت كذا» .فالضمري أنا يبدو إىل الناظر يف الكورية خمتب ًئا خلف
الكواليس ألول وهلة.
أما حني حيتاج الكوري إىل احلديث عن امللكية القواعدية فإنه سيستخدم
ضمري اجلمع ال ضمري املفرد .بالدي ،وأهيل ،وحاريت ،كلها تعبريات مل َي ْعت َِد
الكوريون عليها وإن كان املتكلم واحدً ا .تزداد أمهية هذه املامرسة حني يكون
احلديث يف سياق األرسة ،حتى وإن كان املتكلم هو الولد الوحيد لألرسة
فإنه سيقول :أبونا ،وأ ُّمنا؛ لن يكون الضمري املضاف مفردا أبدً ا.
أنا أم عزباء ،لكني حني أحتدث الكورية أقول :ابننا .ويف اإلنجليزية
-1ها-يون جانغ ( )Ha-Yun Jungكاتبة كورية .هلا مقاالت ثقافية وأدبية يف عدة جمالت أدبية
وصحف يومية .عملت كباحثة ومرتمجة للكورية يف جامعة ويسكانسون-ماديسون األمريكية.
176
أكون عرضة ألن أقول لصديقة قد ألتقيها يف حمل القهوة شي ًئا مثل :نحتاج
إىل أن نذهب لنحرض الدواء البننا .ثم أدرك مبارشة من نظرة االستغراب
إشكال عويصا عىل األذن األمريكية. ً عىل وجهها أن ما قلته قد خيلق
قائل« :يا للمسكينة ،مل تتجاوز أزمة طالقها بعد»؛ هكذايتعاطف البعض ً
مستمعي حني أستخدم ضمري اجلمع.
ّ يظن
كان يل يو ًما ما أخ ،لكنه تويف .وبالرغم من حدث وفاته ،فأنا ال زلت
ُّ
وسيظل أخي بعد أقول «أمنا» بالكورية كام أقول «أبونا» الراحل كذلك.
فقده كام كان يف حياته «أخانا الصغري».
ربام كان هذا من دافع اختياري لإلنجليزية لغ ًة للكتابة دون اللغة التي
لدت هبا.
ُو ُ
وصلت عائلتنا إىل بانكوك يف تايالند يف العام 1975م .وقد كان يف
قارس يف سيئول((( ،تلك املدينة التي أمضيت هبا عندئذ أعوام و ِ
داعنا شتا ٌء
ٌ َ
حيايت التسعة والنصف ،ولكن وبمجرد أن وطأت أقدامنا األرض خارج
ب أخي األصغر صالة املطار يف بانكوك حتى مألت الرطوبة مناخرناَ .ق َّط َ
رفعت أنا
ُ وجهه من وهج الشمس .كانت عيناه رقيقتني جدً ا .يف املقابل
وجهي ناحية النور وأحسست بالدفء وهو يمأل املكان كله .كان صي ًفا
حقيق ًّيا يف تايالند بالرغم من أنه كان منتصف نوفمرب؛ هكذا رشح أيب احلالة
يل وألخي بحامسة شديدة.
استمر
ّ لكن احلقيقة أنه كان صي ًفا ،صي ًفا ً
حارا جدً ا ،عىل مدار العام؛ بل
طيلة ثالث سنوات متتالية ،وهي الفرتة التي أقمنا هبا يف بانكوك .تلك
-1سيئول عاصمة كوريا اجلنوبية ،وهناك اختالف يف طريقة كتابتها العربية حيث تكتب كذلك
سول أو سيول.
177
فصل واحد ُخ ِل َق من احلرارة
السنوات الثالث ستظل عالقة يف خميلتي وكأهنا ٌ
واملطر .هذه احلالة املناخية جعلت كل يشء حويل ينمو برسعة :العشب،
واحلرشات ،واألوركيدات اجلميلة ،وأشجار جوز اهلند التي تعانق السامء،
والسحلية احلمراء النارية التي تبدو وكأهنا تورمات الطفح اجللدي عند
اختبائها بني احلشائش! يف هذه البيئة نشأت أنا كذلك ،يف طفرة مفاجئة،
فأصبحت أسك ُن جسد أنثى مل أعتده ومل أكن أعرفه حني وصولنا.
ُ
أقمنا يف جممع سكني مغلق خمصص للعاملني األجانب :مساحات
خرضاء ،ومالعب تنس ،وأجنحة للخدم ،وجدران وأرضيات إسمنتية،
وغرفة خمصصة لغسيل املالبس لكل وحدة سكنية .ورغم غرابة تصميم
احلي الذي كنا نسكنه يف هذا املكان اجلديد ،إال إنه مل يكن خمتل ًفا ً
كثريا عن ّ
سيئول .كنا نسكن يف منزل عىل نمط املستعمرات اليابانية :خمتبئ مثل عش
طائر بني شبكة ملتوية من الطرق املؤدية إىل املرتفعات؛ أبوابه تأذن باخلروج
فقط ناحية منزل جدي وجديت وأعاممي وعاميت؛ حمارصون بغرف اخلدم
والسائقني .مقفلة تلك األبواب علينا وعىل الترصفات والطقوس املالئمة
بدت حياتنا سيان ،سواء أكنا يف ديارنا أم كنا يف اجلهة األخرى من بحر
فقط! ْ
جنوب الصني.
والدي .كان احلفلّ نشأت وأخي عىل سامع حكايات حفل زفاف ُ
متزامنًا مع بلوغ جدي أليب وجدي ألمي ذروة منصبيهام الرفيعني ،ورشفه
باحلضور رئيس الوزراء حينها ومجع من كبار الوجهاء والوزراء؛ أزعم أنه
تسبب بزحام شديد يف وسط املدينة .كان جدي ألمي مؤسس الثانوية األكثر
نخبوي ًة يف سيئول ومديرها؛ كان يراها املثال الكوري عىل نموذج إيتون(((.
-1إيتون مدرسة بنني إنجليزية عريقة أسسها امللك هنري السادس ملك إنجلرتا يف العام
١٤٤٠م.
178
كان أيب أحد طالب تلك الثانوية ،وكان كذلك واحدً ا من أولئك الذين
تنافسوا عىل التفاتة بنات مدير املدرسة اخلمس اجلميالت وانتباههن ،حيث
كل من أمي كانت تقط ُن األرسة منزالً داخل حرم مدرسة األوالد .خترج ٌّ
وأيب من أعرق اجلامعات ثم تزوجا .أما جدي أليب فكان رجل قانون ً
وممثل
جليش نظام حزب بارك تشونغ ِه ْي((( احلاكم .كل ما أتذكره عن األرسة أنني
وأخي كنا ندعى بأوالد وأحفاد كذا وكذا من األلقاب التي كنا نظنها نعمة
ستأخذ بأيدينا خالل رحلة احلياة؛ وبأن موقعنا الراقي يف هذا العامل كان قد
ووضعت معامله.
ُحدّ َد لنا ُ
كان أيب ملح ًقا جتار ًيا يف سفارة كوريا اجلنوبية يف بانكوك ،وكان حينها يف
منتصف الثالثني من عمره؛ وكان يتطلع إىل مستقبل مرشق أمامه يف العمل
احلكومي .أمي يف املقابل كانت زوجته القصرية اجلميلة ،حتمل درجة علمية
وتنسج وتقرأ للدكتور
ُ يف األدب اإلنجليزي؛ كانت تقيض يومها وهي ُ
تطبخ
ل مه ًم ملزادات القطع
سبوك((( ،الذي بدوره حني زار بانكوك ،كان عمي ً
دائم ملتجر جيم تومبسون(((.
وزائرا ً
ً مشهورا،
ً ومقامرا
ً األثرية والتحف،
كانت اإلنجليزية هي لغة مدرسة روامرودي العاملية ،املدرسة التي
أسسها بعض اآلباء املخ ّلصني حني جاؤوا مبرشين باملسيحية يف تايالند.
-1رئيس كوريا اجلنوبية الذي توىل مقاليد احلكم بعد االنقالب العسكري يف العام ١٩٦٢م،
حاكم حتى اغتياله يف العام ١٩٧٩م.
ً وحكم بقبضة من حديد وظل
-2الدكتور بنجامني سبوك طبيب أطفال أمريكي ،ومؤلف شهري عن رعاية األطفال .بيع من
أحد كتبه أكثر من مخسني مليون نسخة مرتمجا إىل ٤٢لغة .كان من املفارقة أن يكتب الرجل
مقامرا ورب أموال جشع (تويف
ً ً
خمجل حيث كان عن األمومة لكن وجوده خارج حميطه كان
١٩٩٨م).
-3متاجر جيم تومبسون من أشهر متاجر املالبس يف تايالند حيث استغل مؤسسها جودة احلرير
التايالندي واحتكر صناعته لفرتة.
179
اسم املدرسة يعني «احتاد القلوب» يف اللغة التايالندية .وكان جمتمع
كبريا جدً ا؛ فلألمريكيني مدرستهم اخلاصة،املوظفني األجانب يف بانكوك ً
والربيطانيني كذلك ،وللفرنسيني مدرسة ،وأخرى لليابانيني .لذلك ،كان
طالب روامرودي عامليون حقيق ًة ،مع تركيز من العامل الثالث :األغلبية
من أوالد األرس الثرية من تايالند والصني ،وجمموعة من اهلند والفلبني
وإسكندينافيا ،مع عدد من هنا وهناك من الكتلة األوروبية الرشقية.
وبصفتي قادمة من أرسة تناهض االشرتاكية بتطرف من حقبة بارك تشونغ
هي ،أذكر أنني كنت أحيانًا أفقد القدرة عىل الرتكيز أو احلديث أو حتى النظر
روماين.
ّ لدبلومايس
ّ إىل نيكوال ،طالب واسع العينني وناعم الشعر ،كان ابنًا
إسمنتي ،وسور إسمنتي حيارص املبنى
ّ وكانت املدرسة عبارة عن مكعب
ويشكل باحاته .كان املبنى تارخي ًيا مرف ًقا تاب ًعا لكنيسة املخ ّلص املقدسة،
املالكة ساب ًقا لتلك األرايض وما جاورها .كان لبناء الكاتدرائية سقف مائل
عظيم يزينه القرميد األزرق واألمحر ،ومطعم بالذهب؛ يشبه قصور امللوك
ومعابد البوذيني التي متأل بانكوك .كان الفرق بينها أهنا كنيسة ،أي أهنا مليئة
املعشق ومتاثيل املسيح .وعىل واجهة املبنى تقف جمموعة بالصلبان والزجاج ّ
من األبواب كلها تؤدي إىل صالة الكنيسة الرئيسة حيث صفوف املقاعد.
كانت تلك األبواب مفتوح ًة عىل الدوام ،فتدخل الرياح وخترج حتى وإن
حارا حار ًقا .كان كل يشء أجنب ًيا غري ًبا يل ،كام هي غرابة أولئك
كان يو ًما ً
صغار جيعلني وجو ُدهم
ٌ الطلبة الذين كانوا ال يشبهون الناس يف كوريا!
باهتة غري مرئية :آذاهنم مثقوبة ،وأذرعتهم يملؤها الشعر ،يضعون قالئد من
رؤوسهم عامئم بربطة
َ الذهب ،وتكسوهم رائحة الزيوت العطرية ،وتعلو
كالقبضة .إهنم السيخ وأعينُهم الدائرية!
مل يكن يف املدرسة أي طالب أمريكي ،ولكن املنهج كان أمريك ًيا ،وكذلك
180
كان مدير املدرسة السيد ماكسويل صاحب صوت جهوري كالزئري ،وبطن
ودائري يعتيل حزام بنطاله كالبالون! وكان اآلباء واألخوات((( يتلون
ّ كبري
علينا الصلوات مبارشة بعد رفع العلم التايالندي .تعرفنا يف املدرسة
عىل واليات أمريكا اخلمسني ،وعاصمة كل والية؛ كام درسنا عن لويس
وكالرك((( وبول ريفري((( ،وكان أغلبنا مل يزر الواليات املتحدة قط .يف حصة
املوسيقى ،كنا مع معلمتنا الفلبينية ندرس ونغني جلون هينري وأغنيتيه:
أشيائي املفضلة واجلميلة أمريكا.
مقسم ًة
ّ بدأت دروس اإلنجليزية بكتاب مصور يعرض الكلامت ْ
واستوعبت دون جهد يذكر
ُ برتتيبها اهلجائي .كنت يف التاسعة من عمري،
كل معاين الكلامت وقواعد تركيب اجلملةَ ،ب ْيدَ أن الصعوبة كانت يف نطق َّ
كبريا .مل
وحضورا ذهن ًيا ً
ً تلك األصوات الغريبة؛ لقد تطلب األمر جهدً ا
يت بقدر ما اإلنجليزية؛ فكانت تبدو باملقارنة مع وهج صو ٌّ
ٌ يكن للكورية
اإلنجليزية رتيبة جدً ا ،فكل مقطع صويت له الطول ذاته والنربة ذاهتا .كام
أساسا يف الكورية f, r, v, z, th :وغريها، ً مل تكن بعض األصوات موجودة
شفتي حماول ًة أن
ّ فاحتجت إىل أن أشد عىل معديت ،وألوي حلقي ،وأز ّم
ُ
أحرك لساين دون توقف .كانت عملية رس ّية ذاتية ،فاألمر كله كان يتم
داخل فمي وبكتامن تام .ثم بدأت أحاول اجلهر بالكلامت وربطها باحلرف
يف مطلعها ،مثل uلكلمة ،um-brel-laولكني كنت مشغولة بتذكري نفيس
-1اآلباء هم قساوسة الكنيسة الرجال ،واألخوات هو اللقب الذي يطلق عىل الطاقم النسائي
(الراهبات) العامل يف الكنيسة.
-2مها مرييوذر لويس (تويف ١٩٠٨م) ووليم كالرك (تويف ١٨٣٨م) مسكشفا الوسط والشامل
الغريب األمريكي.
مشهورا بصناعة الفضة وارتباطه
ً -3بول ريفري رجل صناعة وسيايس ووطني أمريكي ،كان
بالسياسة األمريكية يف فرتة حياته (تويف ١٨١٨م).
181
بالفرق بني صوت احلرفنيr, l :؛ ثم أتوه وأفقد السيطرة حني أحاول تذكر
موقع النرب عىل احلروف .كنت أخاطب نفيس قائلة« :كيف ستكررين نطق
هذه الكلمة؟ كيف ستخرج هذه األصوات من فمك وبرسعة عند املقطع
الثاين؟ صويت يبدو وكأنني عىل وشك أن أتقيأ!» وعند كل صباح ،وعند
الشمس
َ االصطفاف للطابور عىل تلك األرض التي وكأهنا قد امتصت
وحرارهتا ،وقدماي متعرقتان بسبب تلك اجلوارب البيضاء ،أقف مستمع ًة
النسيابية كالم السيد ماكسويل؛ أنصت بدقة لكل تفاصيل الكلامتa-an :
،an-nou-ncmentثم أجاهد نفيس ألشارك اجلميع يف تالوة الصلوات،
عيني ،متفوه ًة بالكلامت ألمارس نطقها
ّ جامع ًة يدي إىل بعضهام ،مغمض ًة
كنت ال أفهم معناها .فأنا ال أعرف من هو هذا «األب» الذي نخاطبه
وإن ُ
وال من أين جاء!
أما ما تبقى من هذه الدولة ،خارج أسوار بيتنا واملدرسة واملتاجر احلديثة،
فلم نشاهد أنا وأخي إال ما هو داخل سيارتنا الفولفو املك ّيفة وسائقها اخلاص
ولوحة أرقامها اخلاصة بالدبلوماسيني .يف طريق املدرسة ذها ًبا وإيا ًبا ،كنا
نشاهد الكثري من الدخان والزحام؛ شوارع مكتظة بعربات التوك توك ذات
العجالت الثالث؛ شاحنات مز ّينة برسومات نساء شبه عاريات؛ حافالت
مزعجة وبعض ركّاهبا متعلقني حيث ما تيرس هلم ،متسببني بميالن العربة.
األطفال املحل ّيون ،حيارصون السيارات عند كل إشارة مرور :يبيعون
الزهور ،وينظفون الزجاج ،ويطلبون املال .وعند فتحنا لزجاج السيارة
ولو للحظة خاطفة فإن الروائح الرطبة للعامل اخلارجي تعصف بنا :روائح
األطعمة ،و العرق والدخان ،وروائح املانجا احللوة والبخور .واملنظر البشع
للطيور املسلوخة وهي معلقة بكامل تفاصيلها دون تقطيع عىل واجهة
بعض املطاعم ،وإن كانت رائحتها تثري الشهية .لكن أمي ال تأذن لنا مطل ًقا
182
برشاء أي طعام من الشارع .تؤم ُن أمي أن كل تلك األطعمة غري موثوقة
خاصة حني أصيب أخي بتحسس جلدي بسبب أسامك أكلناها يف مطعم
بدت تلك الشوارع حمفوفة باخلطر واملوت ،لكنها يف الوقت نفسه ذات يومْ .
تنبض باحلياة ،متا ًما مثل بعض األزهار الفاتنة التي ال تولد إال بعد
كانت ُ
موس ٍم من العواصف والرياح.
بعد وصولنا املذكور إىل بانكوك ،راودتني كوابيس ومنامات مزعجة.
ويدي ألجاهد وأبعد
ّ رجيل
ّ كنت أستيقظ يف منتصف الليل باكي ًة وأنا أحرك
العدد الكبري من الديدان واألفاعي التي متيش عىل جسدي .كان رسيري
يمتأل هبا ،وكنت أشعر أين أغرق بينها أكثر كلام حاولت أن أبعدها عني.
لزجا ،وكأنه من إفرازات تلك
حني أفتح عيني أجد العرق عىل جسدي ً
املخلوقات اللزقة والتي ليس هلا وجه وال مالمح .كانت املعارك يف تلك
الليايل ،معاركي وحدي؛ ليال مظلمة ورطبة مثل ثقب يف باطن األرض.
مل يالحظ أحدٌ أي يشء .وعند الصباح ،حني نتجه أنا وأخي إىل املدرسة
أرى ضفادع ميت ًة عىل الطرقات ،مدهوسة وملتصقة باألسفلت من إطارات
السيارات العائدة متأخرة يف الليل ،ورغم قرب العهد إال أهنا تكون جافة
متيبسة من الشمس احلارة ،رقيقة جدا وكأهنا قصاصات ورق.
يسب أي مرور لذكر
دائم ّ
املوت من أيب ،كان قد انكمش وكان ً
ُ حني دنا
مريضا».
تايالند .كان يقول« :ذلك احلر الشديد هو الذي طرحني ً
احلواس
َّ تسلب
ُ إن الكبد حني مترض فإهنا ال تُظهر ذلك عرب األمل ،بل
لذاهتا ،وتسلب الطاقة البدنية ،وتسلب أبسط مظاهر األمل يف احلياة .لقدّ
التذوق فقىض عقو ًدا من الزمن يتحدثّ سلب التهاب الكبد من أيب حالوة
عن الطعام بحنني مؤمل .مل يكن حيب احلديث عن الطعام التايالندي ،فكان
يعتقد حتى قبل تشخيصه باملرض أن كثرة الطعام اجلديد الذي مل يعهده قبل
183
جميئنا إىل تايالند كانت من أسباب تدهور عافيته .جمرد ذكر صلصة األسامك،
وعشبة العطرة ،واألرز طويل احلبة ،وماء جوز اهلند ،يصيب أيب بالغثيان،
ً
عاجل أم آجالً، كان ذكر تلك األطعمة يذكر جسدَ ه باملرض الذي سيقتله
وأصبحت صفراء قبيحة مثل لون فاكهة
ْ ذاك املرض الذي تص ّل ْ
بت معه كبده
منتنة متعفنة.
يف أول إجازة صيفية مرت عىل فرتة إقامتنا يف بانكوك ،كان أيب يتناول
الغداء معنا يف املنزل فيغط يف قيلولته ،ثم يقوم عىل مضض ليعود إىل السفارة
حني هتدأ حرارة منتصف اليوم قليالً .كان يظن أن سبب حالة اخلمول التي
يعانيها هو قلة احلركة والتامرين البدنية ،لذا فقد بدأ يامرس بعض الرياضة
حتت الشمس ،ويلعب الغولف يف هناية األسبوع؛ قال فيام بعد« :لقد كنت
جاهل حيث َأ َعن ُْت خاليا املرض لتتكاثر داع ًيا
ً أنتحر ببطئ ،كنت
ُ عمل ًّيا
إياها الحتالل كامل بدين».
شهرا ً
كامل كان أيب يكثر من اإلجازات املرضية حتى إنه قىض ذات مرة ً
راقدً ا عىل رسير املرض يف املستشفى .مل يكن يريد حضور حفل الغداء
الرسمي ترحي ًبا بالسفري اجلديد وعائلته؛ لكن عدم احلضور مل يكن خيار ًا
متاحا!
ً
كان حمل إقامة السفري ً
منزل حدي ًثا فيه حجرات بيضاء اللون عريضة،
ونوافذ زجاجية طويلة ّ
تطل عىل احلديقة واملسبح ،وكان للبيت مدخل مرتفع
السقف فيه صخور غريبة الشكل ملتوية ،معروضة بوصفها قط ًعا فنية .كنت
من أكرب األطفال احلارضين سنًا ،وبرفقة فتاتني أخريني ،ذهبنا نستكشف
املنزل وحجراته الشاسعة والفارغة .تساءلنا :ملاذا ُص ّممت هذه احلجرات
ممرا رخام ًيا مرتفع السقف حيث
هبذا احلجم؟ وما حاجتها يا ترى؟ دخلنا ً
وجدنا ِصبي ًة ينظرون إىل يشء ما -أو أحد ما -ويومئون نحوه ويضحكون.
184
لقد كان ذلك اليشء هو أيب! كان مستلق ًيا عىل كريس ،ذراعاه عىل ذراعي
الكريس ،وأصابع يديه متشابكة ومرمية أمامه ،ورأسه منحن وكأنه يف حال
نائم.
خشوع؛ كان منظره مهي ًبا وكئي ًبا وكأنه كان يصيل ،لكنه يف احلقيقة كان ً
مل يستطع املسكني مقاومة التعب خالل تلك املناسبة دون أن يأخذ قيلولته.
رب
ورغم علمي بتعبه ،كنت أريد أن أصفعه ألوقظه! خلفه لوحة معلقة تع ُ
عن (الال يشء) بمعنى الكلمة؛ رسم ٌة لدرجات اللون األزرق فقط .كان
منعزل عن كل يشء ،غري قادر عىل البقاء بصحبة أحد ،بل كان ً أيب حينها
بالكاد مستجم ًعا نفسه ليلقيها يف تلك الزاوية النائية .كان أخي يلعب مع
الصبية يف ذلك املمر ،مشاركًا إياهم التهكم والضحك .ال أظنه كان بقية ِ
فانرصفت عن ذلك املكان ،وكأن ذلك الرجل
ُ يعلم حقيقة ما جيري .أما أنا،
ال يعني يل شي ًئا عىل اإلطالق.
بقيت أنا
ُ تويف جدي أليب فسافر والداي حلضور مراسم جنازته بينام
وأخي يف بانكوك لظروف الدراسة؛ كنت يف الصف اخلامس وأخي يف
الصف الثالث .كنا نحرض املدرسة ونؤدي واجباتنا املنزلية ونشاهد «رجل
الستة ماليني دوالر» و«مالئكة تشاريل» ،وكانت خادمتنا ،وونغ ،تقدم لنا
وجبات الطعام بانتظام.
سألت أمي عن أسباب عدم حضورنا للجنازة ،كانت جتيب بأن ُ حني
األمر كان مفاج ًئا وملي ًئا بالتفاصيل التي ال نستطع فهمها .مل نكن أنا وأخي
قادرين عىل إدراك ما عنته وفاة جدي ألرستنا .لقد كان جدي يف الرابعة
والثامنني عند وفاته ،رب أرسة كبرية تقارب الثالثني عد ًدا :زوجتان،
وأخوان ،وثالثة عرش ً
طفل ،وأرامل وأطفال ألربعة بنني وبنتني كان قد
فقدهم أثناء احلرب الكورية((( .قبل مخس سنوات من وفاته ،اختذ جدي
-1احلرب الكورية اندلعت بني الكوريتني لثالث سنوات :بني منتصف العام ١٩٥٠م وحتى
185
موق ًفا سياس ًيا غري متوقع حني عارض عالنية -بصفته رئيس جملس احلزب
احلاكم -اإلصالحات الدستورية التي تقدم هبا الرئيس بارك تشونغ هي
والتي كانت ستضمن بدورها فرتة رئاسية رابعة وخامسة للرئيسُ .م ّر َر
القانون بطبيعة احلال ،ونال جدي احرتا ًما سياس ًيا رفي ًعا ،لكنه واجه بعض
مال ،سوى احلمل الثقيل الدعاوى القانونية .حني تويف جدي مل يرتك كثري ٍ
َ
ملجده السيايس.
ً
تسجيل مرئ ًيا بعد عودتنا إىل كوريا بفرتة قرر والداي أن نشاهد أنا وأخي
صامتًا ملراسم اجلنازة .كنا نجلس يف الغرفة التي اختذها جدي مكت ًبا له لعقود
طويلة .كانت الغرفة ذات يوم مليئة باملجلدات القديمة التي عالها الغبار،
وجدراهنا مزينة برواق من النقوش اجلميلة .أما اليوم فجدراهنا يعلوها
الورق الرخيص الرديء الذي مل يستطع حتى تغطية البقع التي عليها؛ وعىل
رفوف املكتبة قطع من األلعاب واألحجيات وزجاجات جوين ولكر(((.
أخذ عمي األكرب ذلك املكتب ،بل واملنزل كله ،وخالل مخس سنوات من
حدث وفاة جدي أعلن عمي إفالسه بشكل رسمي وفقد كل يشء يملكه
رأيت كل أفراد عائلتنا؛
ُ واملنزل ضمن القائمة .يف فيلم اجلنازة الصامت،
ورأيت النساء يرتدين اهلانبوك((( hanbokالقطني األبيض ،والرجال
يف بدالهتم السوداء وقبعات اجلنائز املخروطية؛ رأيتهم ينتحبون وكأهنم
خائفون ،وكأن اجلنازة مل تكن هناي ًة ألمر ما بل بداية أمر مرعب يرتقبونه.
بدا وجه أيب متجعدً ا وكأن مالحمه :عينيه ،وأنفه ،وشفتيه ،قد غريت موقعها
منتصف العام ١٩٥٣م؛ كانت كوريا الشاملية مدعومة من االحتاد السوفيتي والصني ،وكوريا
اجلنوبية مدعومة من الواليات املتحدة األمريكية.
-1من أشهر الرشكات املنتجة للخمور لكنها ال تعد رشكة فاخرة وال ثمينة املنتجات.
-2اهلانبوك لباس تقليدي للنساء يف كوريا ،وهو موجود يف أماكن آسيوية أخرى ولكن لكل بيئة
طريقة وثقافة يف ألوانه ومعانيها وطريقة تفصيله ولباسه.
186
حدقت بوجهه كثريا عىل الشاشة ،مذهولة من وجهه غري ُ عىل خارطة وجهه.
املألوف ،ورغم أن التسجيل كان صامتًا ،إال أنني كنت أسمع صوت عويله
ٌ
حيوان قد اشتد عليه األمل .كانت تلك هي املرة األوىل التي أراه يبكي. وكأنه
عودة إىل الوراء قليالً ،حني كنا يف بانكوك دون والدَ ينا ،توفيت السيدة
تشانتي .معلمة من اهلند تدرس املرحلة الثانوية؛ كانت ترتدي لباس الساري
اهلندي اجلميل بألوان داكنة ،وتضع جمموعة كبرية من أساور الذهب الرقيقة
يف ذراعها؛ كان لألساور صوتًا رنانًا حني متيش .أتذكر أين رأيتها يف مطعم
املدرسة بضعة أيام قبل سامع خرب وفاهتا؛ كانت تضع مكياجا فاتنا حول
عينيها كعادهتا؛ كانت واسعة اخلُطى حني متيش ولكنها متيش برشاقة وكأهنا
تتزلج فوق األرض دون أن تطأها .كان موهتا فجأة ،بجلطة دماغية.
ذهبت املدرسة كاملة إىل الكاتدرائية ألداء واجب الوداع واالحرتام
للسيدة تشانتي .اصطفت فصول الطالب صفوفا يف ممرات الكنيسة
أوسط مقدمة املبنى .مل ِ
أدر ما الذي َ يتقدمون واحدً ا تلو اآلخر حتى بلغوا
شمس الصباح صبغة من ُ ألقت
ْ عيل فعله عند وصويل إىل هناك. يتوجب ّ
النور عىل مداخل الكنيسة وصحنها .مل أزر هذا املكان من الكنيسة قط .مل
يكن بالظلمة التي كنت أختيلها ،لكن اهلواء كان شديدً ا ورط ًبا؛ كنت أشعر
وذراعي،
ّ ساعدي
ّ بقشعريرة صامتة تقطر عىل جبيني بغزارة ،فتنزل عىل
الريح إىل الداخل ،محلت
ُ وعىل رقبتي من اخللف حتى ظهري .حني عصفت
معها شي ًئا رقي ًقا من احلرارة التي بدأت للتو موعدها اليومي يف اخلارج.
وقفت ..مقابل املذبح ،حيث ُوضع التابوت .كانت السيدة تشانتي
ُ
مستلقية عىل قامش الساتان األبيض ،مرتدية لفافة ساري جديدة ،لوهنا
اعتقدت
ُ بنفسجي كوجه السيدة تشانتي .ويف منخارهيا وضع قطن أبيض.
أن السيدة تشانتي امليتة قد قامت للتو وارتَدَ ْت لباسها للمرة األخرية،
187
وبعضا من أمحر الشفاه ،وعقدت بانسيابية عقدة شعرها من ً ووضعت حل َّيها
اخللف ،ثم عادت واستلقت داخل تابوهتا وأغمضت عينيها مسلم ًة أمرها
بدت وكأهنا حية ترزق ،بالرغم إىل املوت يف تنهيدة ملؤها التعبري عن التفاهةْ .
من اضمحالهلا الواضح والذي أصابني بالغثيان .اآلن أتساءل عام إذا كان
جدي خالل جنازته يف حالة تشبه حالة السيدة تشانتي ،عندما دفنوه حتت
األرض احلي ُة الطري ُة داخلها.
ُ تضمه
ّ األرض يف قرب كوري تقليدي ،حيث
فأومأت بعالمة الصليب أمام جسدها ُ أما ما جرى يف جنازة السيدة تشانتي،
انرصفت راجعة إىل
ُ ألنني مل أكن أعرف ما الذي ينبغي عمله سوى ذلك ،ثم
عيني حينها.
ضوء النهار الذي أعمى ّ
بلغت جسد ًيا يف السنة األخرية لنا يف تايالند ،وكنت أطول الفتيات يف
ُ
تركت شعري يطول ،فاستحالت قصة شعر األوالد التي كانت ُ الصف.
عيل أمي إىل كثافة جاحمة خالل وقت قصري جدً ا.
تفرضها ّ
ُأذن يل حينها أن أحرض احلفالت التي يقيمها األصدقاء خالل فرتة النهار
وأن أستخدم سيارات األجرة وحيدةً .كانت حفلة الرقص األوىل فقطْ ،
ملدرستنا عىل األبواب ،قري ًبا من عيد امليالد ،فكانت ّ
حمل اهتامم الفتيات
وأحاديثهن .لكنني كنت سأغادر قبل ذلك املوعد .آخر حفلة حرضهتا كانت
حفلة صاخبة لعيد ميالد الصديقة الفلبينية ،ماريسا ،يف منزل أرسهتا الشبيه
بالقصور وحدائقه العظيمة .كان ملاريسا أشقاء يكربوهنا سنًا ،وأصدقاؤهم
كانوا مدعوين للحفلة .ومما أرعبني وعكّر صفوي كان الفتى تشاي-وين،
طالب يف الصف الثامن من تايوان؛ كان حيدّ ُق يب لدرجة أخافتني وأشعرتني
بنطال من اجلينز وقميص مزارعني ً بخ ّفة يف الوقت نفسه! كنت أرتدي
أبيضا.
ً
وهج الظهرية خرجنا إىل احلديقة خاصة
اقرتب املسا ُء وانخفض ُ
َ وحني
188
بعدما أصابنا ُ
امللل ألننا مل نكن نفعل شي ًئا عدا ارتشاف املرشوبات الغازية
واالستامع لفرقة بوين إم((( .كانت للحديقة ظاللً وارفة لوجود األشجار
الكبرية؛ جتولت يف الباحة املرصوفة مرتدد ًة أن أطأ بقدمي العشب الكثيف.
«أفعى!» ..صاح أحدهم وهو يومئ ناحية شجرة موز كبرية أوراقها
ثامرا صغرية.
كاملجاديف وأغصاهنا حتمل ً
ُ
تتحرك كلها؛ مل أمتكن من رؤية األفعى ،ولكن بدت احلديقة وكأهنا
بدت أوراق األشجار وكأهنا كلها ذات جسد من حلم ودم؛ واألزهار كأهنا
من احلكايات اخلرافية ،هلا أفواه عظيمة وتلتهم الكائنات احلية .مل أستطع
حراكًا! أحسست أنني يف أحد أحالمي التي كنت أراها؛ أغرق يف حوض من
جترن
األفاعي والديدان وهي ملتفة عىل جسدي العاجز عن املقاومة وهي ّ
إىل األسفل.
جتمهر الصبية والفتيات عند الشجرة يف حني كان األوالد األكرب سنًا
يرمون احلجارة والعيدان باجتاه األفعى .كان اجلميع مستمت ًعا كام يبدو،
وحتول رصاخ الفتيات إىل ضحك ،والصبية هيتفون .كأن األمر برمته جز ٌء
معدٌّ سل ًفا كفقرة من هذه االحتفالية.
أخريا ،قال أحدهم« :وجدهتا!»؛ رفع تشاي-وين األفعى السوداء عالي ًا، ً
وكان جلدها الم ًعا وكانت ملتوية عىل نفسها .نظر إ ّيل نظر ًة ملؤها السعادة
والفخر ،ترافقها ابتسامة بريئة .عندها أدرت وجهي ناحية البوابة الرئيسة،
مستحث ًة رجيل عىل امليض إىل اخلارج باجتاه الشارع املزدحم .أوقفت أول
سيارة أجرة ،وبمجرد ما أغلقت باب السيارة حتى قرع تشاي-وين سقف
أنت بخري؟» رددت عليه أن السيارة وكان بالكاد يلتقط أنفاسه قائال« :هل ِ
189
ذلك كان «مقززا!» وبالغت يف بيان شعوري بالقرف .اعتذر ً
قائل« :آسف
..آسف» ورفع يديه ليؤكد يل أنه ال حيمل شي ًئا.
أخربت سائق األجرة عن وجهتي ،وساومته باللغة التايالندية ألبني
له سيطريت عىل بعض الكلامت واحلروف؛ كأنني أخربه أنني أجنبية أتكلم
اإلنجليزية« .ودا ًعا» ،قلتها لتشاي-وين ،وما أن ابتعدت سيارة األجرة
قليل حتى شعرت ببعض االستياء من ترصيف مع تشاي-وين حيث تركته ً
بائسا.
حمرجا ً
ً
عند عودتنا إىل كوريا يف نوفمرب من العام 1978م ،واستقبلنا الرب ُد الذي
مل أكن ذقته منذ ثالث سنوات ،كان يلسعنا بشدة .نوفمرب هو الشهر ذاته
الذي غادرنا فيه سيئول ،لكن الربد هذه املرة بدا غري ًبا حتى إنني كنت
أخشى أن أتنفس .جتمدت أصابع قدمي وهي داخل حذائي الريايض؛ ومل
أمتكن من اإلحساس بأي رائحة يف اهلواء ،كأن هذا الربد الشديد قد ضاق
بالروائح ومل يرتك هلا مكانًا يف حميطه.
كل الذين نعرفهم كانوا قد انتقلوا ليسكنوا شق ًقا يف العامرات الشاهقة
احلديثة جنوب سيئول؛ حولت هذه الثقافة النصف اجلنويب من العاصمة
العريقة ذات التاريخ املمتد إىل مخسمئة سنة إىل النصف «احلديث» .انتقلنا
حي مكون من مئتي بناية
والدي إىل شقة ذات ثالث حجرات يف بانبوّ ، ّ مع
رمادية متطابقة متا ًما .أقمنا مجي ًعا يف الطابق األول من البناية رقم 65لثالث
املقسم إىل مربعات صغرية حمكمة عرشة سنة ،حمارصون يف ذلك املستطيل ّ
االغالق وكأهنا حاويات مفرغة من اهلواء .إن مل ختني الذاكرة فإن لون الشقة
دائم مرتبة ،فكل يشء يف موقعه بل كانت دائم تراب ًّيا وفيها ستائر كبرية؛ ً
كان ً
نادرا ما تنقل من أماكنها؛ فكؤوس النبيذ الفضية املنقوشة عليها
األشياء ً
رسومات الفيلة والتي كانت أمي قد اشرتهتا من تايالند ،ظلت يف مكاهنا
190
ٌ
أسنان دون أي استخدام لسنوات طويلة ،حتى أصبحت سوداء وكأهنا
دامهها التسوس.
كان يومي األول يف املدرسة الثانوية يف شهر مارس .مضت ثالثة أشهر
منذ جميئنا من تايالند ،لكن الطقس ما زال بار ًدا ،ومل أكن أشعر بالراحة
مع تلك الطبقات من املالبس الداخلية الثقيلة ،وفوقها ذلك الزي املوحد
املزعج :تنورة وسرتة رياضية سوداء .كانت عيناي متورمتان من بكاء الليلة
املاضية بسبب اضطراري لقص شعري ليتوافق مع أنظمة الدراسة :ال ينبغي
أن ينزل الشعر أسفل من األذن أكثر من سنتيمرت واحد .كنت يف الفصل
مع سبعني فتاة أخرى؛ كلنا نرتدي املالبس نفسها ،واألحذية نفسها ،ولنا
مفرق ومثبت بنفس الطريقة ،حتى إن رقابنا من اخللف شكل شعر متامثل ّ
خمرضة من أثر ماكينة احلالقة األلكرتونية .وصورة خميفة للرئيس بارك تشانغ
ّ
هي معلقة فوق السبورة وبجواره ،taegeuk-kiالعلم الوطني الذي حيمل
اسمه داللة (العلو املطلق).
الطالبات األكرب سنًا كمسؤوالت عن التزام بقية
ُ ويف كل صباح ،تقف
الطالبات بالنظام ،فيكون التفتيش عىل الشعر والزي املدريس املوحد .ويف
كل يوم أشعر أن إحداه ّن سوف تنظر خاليل وترى ما بداخيل من الشعور
وإن كنت ملتزمة خارج ًيا ،فتجذبني خارج الصف قائل ًة« :ملاذا ال تشبهني
البقية؟ ملاذا ال تلتزمني مثل البقية؟»
عدت إليها جمد ًدا كانت لغة هرمية سلطوية تتضمن ترشي ًفا
ُ الكورية التي
وتسليم آلخرين .وحيث أنني مل أعد تلك
ً لبعض األشخاص وتواض ًعا
كنت أمارسهالطفلة الربيئة ذات السنوات التسع ،فإن أسلوب الكالم الذي ُ
مالئمُ .أذكّر نفيس باستمرار أن عالقتي بطرف املحادثةً قبل سفرنا مل يعد
فعل أم سوى ذلك .بدأت ضمريا أم ً
ً املقابل ستحدد معامل كل كلمة أنطقها:
191
أتعلم جمد ًدا ما يمكن قوله وما ال يمكن قوله .وحني تؤنبنا معلم ٌة ّ
فإن الرد
املناسب بالكورية دو ًما هو« :إنه خطأي ،أنا املذنبة» .حماولة الرشح والتفسري
تعدُّ من سوء األدب .يف الكورية ال أعلم كيف أعرب عن األشياء التي
أشتاق إليها يف بانكوك :احلر ،واأللوان ،والرقص الذي مل أحرض احتفاليته،
والطريقة التي نظر تشاي-وين إيل هبا يف تلك احلديقة.
والدروس اإلنجليزية بدأت من مستوى الصفر؛ أحرف اهلجاء من
جديد.
?see-saw-seen, I-we, you-you, he-she-they, what is your name
صحيح أننا عدنا إىل حيث كانت تعيش أرستنا؛ ولكن األمر بدا وكأننا
خطأ يف مكان غريب أو يف حياة أخرى .كل يشء كان خمتلفا .وحني ً نزلنا
أراد أيب امليض قد ًما يف الطريق الذي سلكه أبوه قبله ،استقال من العمل
احلكومي ّ
ورشح نفسه يف انتخابات املجلس الوطني ،لكنه خرس املحاولة .مل
يعد بإمكانه أن يستعيد املجد القديم؛ عالوة عىل ذلك خرس أيب ماله وعافيته
وروابطه ببقية أفراد األرسة .أما أمي فبدأت تنال منها نوبات االكتئاب
الطويلة؛ حتولت مع حاالت متطرفة من األمل غري املربر والتي مل تساعدها
بدورها إال عىل االهنيار .قرر األطباء أن أمي مصابة بمرض ثنائية القطب،
وكثريا حينام كنت أعود من املدرسة إىل املنزل أجدها منوم ًة يف املستشفى.
ً
كانت ترقد يف املستشفى ألسابيع ،وأحيانا ألشهر حتى تعود إىل املنزل
وأصابعها ترتعدُ ،وكالمها متقطع غري مفهوم ،وشعرها أشعث أغرب.
مل نعدْ كام كنا ،ومل نعدْ نحن «نحن» .بدأت أنا وأخي نفعل ما كنا نفعله
ً
منعزل خلف أبواب سو ًيا لنميض خالل احلياة ،ولكن ّ
كل منا وحده ،وحيدً ا
غرفته.
192
بدأت أكتب يوميايت باإلنجليزية .مل أعد أتكلم اإلنجليزية ألخاطب هبا
مؤخرا ،قررت أن
ً أضحت لغة خاصة يل بمفردي وبشكل كامل. ْ أحدً ا؛ لقد
أبحث يف دفرت مذكرايت األصفر القديم القابع يف صندوق محلته معي الح ًقا
خالل املدن ،والواليات ،والدول ،والقارات التي مررت هبا .األمر الذي
أذهلني هو أن كل ما أكتبه كان جمر ًدا من التفاصيل والرشح ،مع ندرة يف
ذكر أي صديق أو قريب؛ كانت كتابايت مليئة باجلمل التي تبدأ بالضمري «أنا»
شعرت به «أنا» عىل الورق .بدت
ُ لتسكب دون تراجع أو غموض كل ما
مصدرا واحدً ا وهو ذايت أنا ،وكأنني مكان منعزل بعيدً الكلامت وكأن هلا
عن العامل كله ،مكان ال يمكن ألي أحد وال أي يشء أن جيد ً
سبيل ليقتحمه.
صباحا
ً استيقظت
ُ يف اخلامس والعرشين من سبتمرب من العام 1982م،
ووجدت أمي ملقاة عىل األرض فاقدة للوعي ،وبجوارها قنينة سم مكافح
للفئران .حني عدت من املستشفى بعد إسعافها ،أغلقت الباب وجلست عىل
َ
حدث!» ُ
أصدق ما أعلم من أين أبدأ وال
مكتبي وكتبت باإلنجليزية« :ال ُ
استمرت حماوالت أمي لالنتحار مع موجات اهلوس واالندفاع التي
ترافقها عند كل فقد.
وقبل ثالثة أسابيع من ذكرى وفاة أيب الثانية ،وجدنا أخي الذي كان
مفقو ًدا ألكثر من شهر ،ميتًا ،متجمدً ا ،متصل ًبا يف سيارته وهو يف الثامنة
والعرشين من عمره .كانت سيارته يف ساحة مواقف سيارات بجوار هنر
هان((( ،عىل بعد عرشة دقائق بالسيارة من بيتنا يف بانبو ،حيث كانت أمي
تنتظره وتنتظره وتنتظره .كنت تلك الليلة يف بوسطن ،وركبت الطائرة ذاهبة
إىل سيئول ،طارت الطائرة فوق املجرات البيضاء التي تعلو أالسكا ،حيث مل
-1من أهم األهنار يف كوريا اجلنوبية ،يمر بعاصمتها سيئول وهو رابع أكرب هنر يف شبه اجلزيرة
الكورية.
193
ً
حامل يف شهري الرابع. يكن ثمة صيف أبدً ا .كنت
وتستمر احلياة ،وها أنا ذا ال أشعر بنفيس كاملة بالكورية وال باإلنجليزية.
كل لغة مكملة ألختها؛ كل واحدة منهام عالة عىل األخرى ومفتقرة بدت ّ
أمحل خويف الدائم ّأل أكون مفهومة حني أستخدم لغة إىل خصائصها .وأنا ُ
تعلم
واحدة فقط« :هل تدرك -أهيا القارئ -ما الذي أحاول قوله هنا؟ هل ُ
من أنا؟»
194
ُيتم الكاتب
لويس بيغلي
(((
مسودة رواية جديدة كنت قد أهنيت ّ يف أواخر صيف العام 2002مُ ،
بعنوان «حطام سفينة» .تكون جعجعة دور النرش بطيئ ًة حني ال يتوقعون أن
متطر عليهم الرواية ذه ًبا ،لذا فقد وصلتني مالحظات املحررين ُقبيل عطلة
عيد امليالد بقليل .قمت بالتعديالت املطلوبة خالل فرتة العطلة باإلضافة
كنت قد رسقتها من عميل يف املحاماة .كانت هناك لبعض الساعات التي ُ
مالحظة واحدة ختص البناء اللغوي ،وكان التعامل معها ً
سهل .أما البقية
فكانت من النوع املحري ،تلك التي تدعوك إىل الستجابة هلا أو إىل جتاهلها
واملع َّلمة بقلم الرصاص .بعض ّ
القراء املوهوبني ال يستطيع أحيانًا مقاومة
متميزا بشكل
ً اخلربشة عىل هوامش النص ،وهذا النوع من التحرير يكون
مبهر .ولكن هذا النوع رغم مجاله يستهلك وقتًا وجهدً ا عظيمني للتعامل
معه؛ بل ويرتك الكاتب يف حالة من اليأس والقنوط والوسوسة ،وقد يضعه
يف حالة عزلة أكثر مما اعتاد عليه .انتعشت روحي ً
قليل بعد قراءيت للرواية
مجيل .ولكن تعكرييف مسودهتا النهائية .شعرت وملرة أخرى أن ما كتبته كان ً
-1لويس بيغيل ( )Louis Begleyروائي وحمام أمريكي/بولندي .درس لويس يف جامعة هارفارد
وفيها نال لدرجته اجلامعية والدراست العليا يف القانون .له عدة روايات منها «حطام سفينة»
(٢٠٠٣م) ،وروايته التي يعدها البعض شبه سرية ذاتيه بعنوان «الكذب يف زمن احلروب» والتي
نرشت باإلنجليزية والبولندية.
195
هذا الصفو ال يتطلب أكثر من أن يقرر املرء اجللوس للقراءة جمد ًدا يف حماولة
أخرية للتعامل مع بعض رتوش احلبكة أو اخلط الزمني ،والتي ستتابعها
حمررة أعاميل ،تلك الص ّيادة املاهرة واملوهوبة فطر ًيا بحاسة ال ختذهلا أبدً ا.
أدرك متاما أسباب بطئي وعدم يقيني ،كام إنني ال أخلطها مع الشكوك التي
هتاجم كل الروائيني عند تسليم نسخهم النهائية إىل النارشين ،العمل الذي
غريك .حتى تلك اللحظة، يشابه يف ظالميته أن تتخىل عن ذريتك ليتبناهم ُ
يكون الكاتب ملكًا عىل حزمة أوراقه التي رافقته يف رحلة ح ّفتها رعايته
وإخالصه .وفجأة ،وداع إىل األبد :خيرج الكتاب إىل أيدي الغرباء ،الذين
يملكون مطلق احلرية يف طريقة معاملته .هل سيحتفون به أم سيعادونه؟ هل
سيفهمونه؟ وكل ما يمكنك فعله هو أن تتمنى له احلظ السعيد .قد يفضل
(((
الكاتب أحيانًا احلرج يف أن يقف عار ًيا يف زحام الظهرية يف تايمز سكوير
عىل أن يكون كتابه (ابنه) يف هذا املأزق.
إن الرتبة اخلصبة التي ّ
جتذر هبا قلقي هذا هي يف احلقيقة عالقتي املتزعزعة
مع اللغة اإلنجليزية .األمر هو كالتايل :البولندية هي لغتي األم .وألسباب
وأحداث ال سلطان يل عليها ،فإين أكتب باإلنجليزية ،هلذا فأنا كاتب يتيم.
بدأت تعلمها حني كنت ُ مل تكن اإلنجليزية يل لغة أوىل وال حتى ثانية؛ إذ
يف الثانية عرش تأه ًبا ملغادرة بولندا .هناك كان مولدي قبل سبعني سنة من
يومنا هذا ،ومن هناك غادرت يف أكتوبر من العام 1946م ،قري ًبا من يوم
مولدي الثالث عرش .كانت فرنسا هي املحطة التالية .أقمنا يف باريس ألشهر
قليلة ،ثم انتقلنا إىل نيويورك يف فرباير من العام 1947م .منذ ذلك التاريخ،
أصبحت نيويورك هي الوطن والسكنى برغم بعض الغياب لغرض
الدراسة ،واخلدمة العسكرية ،أو بعض رحالت العمل مع رشكة املحاماة
196
التي انضممت هلا الح ًقا.
مل حيدث أن عدت لزيارة بولندا حتى العام 1994م ،حني سافرت إىل
وارسو((( يف رحلة عمل قانونية .تتالت الزيارات بعد ذلك إىل وارسو،
وكانت كلها رحالت هادئة ورسيعة .وكانت إحدى تلك الرحالت يف العام
1995م بصفتي كات ًبا .وسبب الزيارة هو نرش الرتمجة البولندية لروايتي
األوىل «الكذب يف زمن احلروب» والتي نرشت للمرة األوىل بأصلها
اإلنجليزي يف العام 1991م .كانت الرواية عن حياة صبي هيودي وعمته
خالل احلرب العاملية الثانية؛ واسم الصبي ماكيك (((( .)Maciekورغم أن
الرواية مل تكن سرية ذاتية ،إال إن مغامرات الفتى ماكيك كانت تشابه حيايت
كثريا .ويتبني هذا الشبه خاصة يف الفوىض التي عانت منها مراحل تعليمه.ً
دروسا
ً قبل وصولنا إىل نيويورك ،مل يتجاوز التعليم الذي تلقيته يف وارسو
متقطعة أثناء فرتة احلرب؛ كانت معلمتي اخلاصة امرأة ال تنسى ،ختاطر
درست يف مدرسة نظامية لعام درايس ُ بحياهتا ألجل تلك الدروس .كام
يف كراكوف((( مبارشة بعد احلرب .كانت البولندية هي اللغة التي رافقت
تلك األحداث ،واللغة التي كنت أنا وأمي وأيب نتكلمها ،متا ًما مثل ماكيك
وعمته .أما اللغة الوحيدة التي تعلمتها أثناء احلرب فكانت األملانية .لكن
تثور حني أحتاجها للرضورة .وتعلمت بعض أملانيتي اليوم يف سبات عميق؛ ُ
الروسية يف رشق بولندا ،يف فرتة االحتالل السوفييتي لرشق بولندا يف سبتمرب
من العام 1939م ،وبني خرق األملان مليثاق مولوتوف-ريبنرتوب(((يف العام
197
1941م ،الذي قام الفريماخت((( بإزاحة القوات الروسية خارج بولندا ،بل
وجتاوز عطشهم حدود األرايض الروسية .لكنني نسيت الروسية متا ًما؛ ثم
جاءت الفرنسية الح ًقا .ومن املفارقة أن الفرنسية هي اللغة املرحية يل ،وهي
التي أخاطب هبا زوجتي ،حيث إهنا لغتها األم ،وهي لغة خطابنا الودود
واحلميمي.
أما اللغة البولندية فظل وصاهلا متينًا .ما زلت أحتدث هبا مع أمي،
وخادمتها البولندية ،وأحيانًا مع الذين ألتقيهم من البولنديني يف نيويورك.
حني كنت يف وارسو ،مل خيطر ببايل أن أتكلم اإلنجليزية أو الفرنسية مع
البولنديني حتى وإن كان بعضهم متمكنًا من إحدى اللغتني أو كلتيهام .كان
استخدام البولندية فطر ًيا .وكان من النادر جدً ا أن ال أرى الكوابيس عن
احلرب يف منامي؛ كانت تلك الكوابيس باللغة البولندية وباطراد .وحني أقوم
بحساب يشء يف ذهني ،أو حني أعدّ كاسات النبيذ عىل الطاولة للرتتيب قبل
جميء الضيوف ،فإين أفعل ذلك بالبولندية وأنتقل إىل اإلنجليزية فقط حني
أنتبه إىل غرابة فعيل .واألغاين التي أغنيها وأنا أحارب نوبات النوم أثناء قيادة
السيارة كلها أغان فلكلورية أو عسكرية بولندية تعلمتها يف طفولتي؛ كام
عيل
إنني ما زلت أتذكر مئات أبيات الشعر البولندية مما كانت تفرض أمي ّ
حفظه .يف األسبوع املايض تلقيت رسالة مؤثرة من طالبة يف الثانية عرشة من
سكان وارسو؛ ختربين أهنا قرأت «الكذب يف زمن احلروب» مع جدّ ها ،كام
ختربين بأهنا شاهدت «عازف البيانو» للمخرج رومان بوالنسكي((( .كانت
198
الفتاة قد طرحت بعض األسئلة الصعبة عن الوحشية التي تضمنها كال
العملني ،كام عربت عن أملها يف أن أجيب عن األسئلة بالبولندية إن كنت
مبارشا للفتاة ،واستعنت بصديق بولندي ً ما زلت أتذكرها .كتبت جوا ًبا
لرياجع الرسالة إن كانت حتتوي عىل بعض األخطاء .أخربين صديقي أن
كثريا يف
الرسالة خالية من األخطاء .كان إغفال بعض الكلامت أو احلروف ً
الرسالة كام أفعل ذلك باإلنجليزية؛ ويعود ذلك -ربام -إىل أنني أقول ما
أريد قوله يف ذهني أرسع من كتابتي له يدو ًيا أو آل ًيا .بالطبع مل أتوقف أبدً ا
ونثرا .وكان من أعظم ما تعرفت عليه من شعرا ًعن قراءة األدب البولندي ً
األدب خالل العقدين املاضيني أعامل الشاعر البولندي زبيغنيف هربرت(((،
والكاتب املرسحي ڤيتولد غومربوڤيتش((( الذي تربع عىل قمة األدب يف
القرن الواحد والعرشين .و ُب َع ْيد غومربوڤيتش ومن جيل هربرت جييء
كاتب القصة القصرية واملقالة غوستاف هريلنغ-غرودزينسكي((( والذي
سنحت يل الفرصة بمراجعة منتخبات من قصصه القصرية؛ للرجل موقع
رفيع بني عصبة األدباء.
تكون التغريات الثقافية ،أحيانًا ،أقل رسع ًة من املتوقع .يف لقاء مع
القراء يف وارسو عام 1995م قرأت فيه بعض فقرات من «الكذب يف
زمن احلروب» ،ثم طلب مني أحد احلضور أن أتلو عليهم قصيد ًة خمتارة
انطلقت أقرأ
ُ من حمفوظات الطفولة .ودون حلظة تردد ،وبضحكة سعيدة
أبياتًا بالبولندية حتكي عن رجال قبيحني وبدناء؛ يف عربة القطار ،يغطيهم
199
لذيذا :يأكلون السجق .)kielbasy( ،كانت هذه ً الشحم ويأكلون دهنًا
القصيدة املبهجة جلوليان تويم((( ،الشاعر البولندي العظيم ،والذي كان يف
بحب كل األطفال ّ ذروة نشاطه بني احلربني العامليتني؛ حيفظ هذه القصيدة
يف بولندا من أبناء جييل برصف النظر عن مستوى تعليم والدهيم .أصابني
محايس أثناء إلقاء القصيدة ببعض اخلوف واحلزن ،حيث ال تزال تلك الفرتة
وخشيت أن يكون شعوري غري ًبا أو حتى
ُ من زمن احلرب ح ّية يف ذاكريت؛
غب ًيا يف نظر مجهور بولندي من حقبة ما بعد احلرب الباردة .لكن املفاجأة
والبهجة اجتمعا حني بدأ اجلمهور يتغنى معي بأبيات القصيدة ،بصوت
ونربة واحدة .إن املايض الذي عشته ما زال ح ًيا يف حارضهم.
قد يدفع الفضول قارئًا للسؤال عن إنجليزيتي .إهنا ممتازة وال شك .فقد
كان تعليمي كله يف الواليات املتحدة ،بعد مغادرة بولندا .وحني كنت يف
السنة األخرية من الثانوية العامة يف العام 1949م ،كنت أكتب بمستوى
جيد جدً ا ،حتى إنني فزت بمسابقة للقصة القصرية عىل مستوى املدينة
من تنظيم جامعة نيويورك .كانت اجلائزة جملدً ا فاخرا بغالف جلدي متميز
لكتاب أوكسفورد للشعر اإلنجليزي ،الذي قمت بدوري بإهدائه الح ًقا إىل
املحب لألدب ،الذي قام بدوره بإغراقه باملاء حني أراد أن يسرتخي يفّ ابني
احلامم وهو يقرأ الشعر .كان األدب اإلنجليزي ختصيص يف املرحلة اجلامعية،
وكنت دو ًما ما أختار كتابة القصة القصرية لتقديم واجبايت يف دروس الكتابة
قلت حينها أنه ليس لدي ما اإلبداعية .لكني توقفت يف ربيع السنة الثالثة؛ ُ
جاهزا ألكتبً أقوله .ربام أكون أكثر دقة وأقل لط ًفا إن اعرتفت أنني مل أكن
ما أستطيع الوقوف بجواره وأسميه حقيقتي .بعد ذلك كنت قد انخرطت
يف دراسة القانون ،والذي يلزم الطالب وبشكل كبري بمامرسة كتابة رسائل
-1جوليان تويم شاعر بولندي ،كان من أعظم رموز األدب يف بولندا (تويف ١٩٥٣م).
200
استشارات قانونية ،وملخصات ،وعقود ،وخطط ،وكانت الكتابة يف هذا
املسار تعتمد عىل ما يقرره أكابر املهنة من اشرتاطات جودة الكتابة .لذا
مل أكن فعل ًيا مستجدً ا يف ذلك الطريق بسبب عالقتي السابقة مع الكتابة.
أكملت أول رواية يل يف العام 1989م ،وكنت حينها يف السادسة واخلمسني.
ُ
كنت يف احلقيقة أصقل مهارايت دون تقاعس طوال هذه السنني ،وإن كان
تم بشكل غري تقليدي .وكان انضاممي للخدمة العسكرية يف اجليش األمر قد ّ
مهم ساعد عىل جتويد إنجليزيتي بشكل كبري ،بل وساهم يف
عامل ًاألمريكي ً
كنت جند ًيا،
جعلها لغتي األفضل واللغة الوحيدة التي أكتب هبا خيااليتُ .
وأب ًا لثالثة أطفال أمريكيني :ولد اثنان منهم قبل بلوغي الثالثني ،واألخري
بعدها بأشهر .لوال أنني عشت جتربة رطانة السياق العسكري واق ًعا،
وتعلمت لغة احلضانة ومالعب األطفال حقيقة ،ملا كانت إنجليزيتي مثل
اجتهدت يف حماوالت تأديبها وتنميقها؛ كانت ستبدو َ
مثل ُ ما هي عليه مهام
جثة يف ثياب أنيقة.
ِ
املوت((( (rigor ختشبخيربين الناس أن ما أكتبه ال يعاين من أعراض ّ
أكتب ببطئ ومشقة ،أتوقف ُ ،)mortisلكن هذا ال يغري من واقع أنني
بعد كل كلمة أكتبها .أكتب وأشطب ،وأبدّ ل مرات عديدة؛ أكرر العملية
مع كل مجلة وكل فقرة أكتبها قبل أن أمتكن من جتاوزها وامليض قد ًما .إن
أسلوب ترولوب((( يف كتابته ملجموعة روايات «بارسيرش» يف عربة النقل،
-1التخشب املويت أو ختشب املوت هو االصطالح العلمي الذي يوصف به جسد امليت يف
مرحلته الثالثة ،أي عند تصلب العضالت وعدم القدرة عىل حتريكها .ويستخدم هذا التشخيص
يف الطب الرشعي ملعرفة وقت الوفاة بدقة أكرب وربام كذلك سببها.
-2أنتوين ترولوب روائي إنجليزي مكثر ،كان منهجه هو االستمرار يف الكتابة وختصيص وقت
هلا فكان يكتب من اخلامسة صباحا حتى الثامنة ،وإن انتهى من رواية يف املنتصف ،ال يتوقف بل
يستهل أخرى؛ كان لرواياته أصداء يف منتصف القرن العرشين (تويف ١٨٨٢م).
201
ولوح للكتابة عىل حجره ،دون احلاجة ملحو يشء أو تعديله قبل تسليم
نسخته إىل النارش ،يصيبني بالتقدير للرجل ،وبعض احلسد الذي يرافقه
القنوط .أستطيع أنا كذلك أن أعمل هبذه الرسعة عند كتابة ورقة قانونية
قدمي ثابتة عىل األرض .وهنا ّ أو مقالة؛ لكن كتابة الرواية يتطلب أن أبقي
ال تقع املالمة عىل مثاليتي وعدم رضاي وحدمها؛ يبدو يل األمر أنني حني
فضل عن الثقة بالنفس التي حيتاجها أكتب باإلنجليزية فإنني أفقد عفويتيً ،
الكاتب ليح ّلق أو ليتجاوز احلدود .أدرك أنني أسيطر عىل جتاوزايت بني احلني
واآلخر ،ولكن املسؤول عن هذا التوتر كله هو الفعل «أسيطر» نفسه .هذه
األمور ليست طارئة لتكون حتت السيطرة .واحلق أنني رغم هذا االنغامس
يف اإلنجليزية منذ ما يزيد عن مخسة ومخسني سنة ،ما زلت غري واثق متا ًما مما
أريد كتابته ،خاصة عند املحاولة األوىل .وال عزاء يل يف أن أمتكن أحيانًا مما
أريد من الرضبة األوىل .ويف هذا السياق ،أنا ال أشبه ابن بالدي جوزيف
كونراد .لدى كونراد الكثري من العذر فهو مل يتعلم اإلنجليزية إال عند
الواحدة والعرشين ،كام أنه نرش أول رواياته «محاقة العمدة» وهو يف الثامنة
فاعل نش ًطا .يف املقابل لدينا متكن فالديمري
والثالثني ،واستمر بني هذا وذاك ً
نابوكوف من اإلنجليزية وهو حكاية أخرى بذاهتا .لقد كانت اإلنجليزية
بشكل أو بآخر لغة نابوكوف األوىل .قرأ نابوكوف باإلنجليزية قبل أن يقرأ
بالروسية .إن التمكن وإتقان لسان «متحرض» ،مثل الفرنسية يف العادة ،ومن
ثم هجر لسان «العوام» الح ًقا وإغراقه يف األول كجزء من النشأة ،كان
دارجا خالل القرن العرشين بني أفراد الطبقة العليا من األرس السالفية. ً
كان هناك الكثري من املربيات اإلنجليزيات والفرنسيات الاليت رعني أطفال
أرسة نابوكوف .كان فالديمري يف السابعة حني انتبه والده أن ابنه متأخر جدً ا
يف معرفة لسانه األصيل ،ومن ثم تعاقد مع معلم مدرسة من القرية لينضم
لألرسة ليعلم أوالده القراءة والكتابة بالروسية.
202
مسودة أحدث روايايت .لقد كان سبب فلنعد اآلن إىل معانايت مع تبييض ّ
املحرر كان قد استشكل لعدة مرات معرفتي املعجمية ّ املعاناة املبارش هو أن
بالكلامت ،ومدى قدريت عىل التعبري عن ذايت باإلنجليزية .مل تكن املسألة
أنه مل يكن عىل حق دو ًما .كان األمل يكمن يف املقارنة بني إدراكه الفطري
ملا قد يقوله املرء عاد ًة للتعبري عام أردت قوله أنا فيام وبني ظنوين :حاجتي
لتلمس مواضع قدمي ألجد الطريق ،وامتحاين لكل مجلة بقراءهتا بصوت
مرتفع .لدى حمرري حقه الثابت بالوراثة يف استدعاء قدراته يف لغته األم
عم أستطيعه متى ما احتاجها ،أما أنا فال أملك ذلك احلق .وبرصف النظر ّ
وما ال أستطيعه ،فأنا أشعر بعدم امتالكي للعفوية واحلرية بصفتي مؤل ًفا حني
الكتابة باإلنجليزية ،اللغة التي متكنت منها متا ًما وأنا يف الرابعة عرشة .وكم
كتبت الرواية بلغتي األم،
هو مثري إن استطعت اإلجابة عن التساؤل :ماذا لو ُ
البولندية؟ والذي وهو سؤال بطبيعة احلال ال يمكن اإلجابة عنه بشكل
رض .ولكن وبرغم ضعف احتامل اإلجابة عن التساؤل السابق ،فأنا أظن ُم ٍ
أن حمبتي للبولندية وحضورها الدائم يف إدراكي ويف عقيل الباطن مؤرش
إجيايب.
والدي مل هيجرا
ّ األصعب هو إن كنت ً
فعل سأغدو كات ًبا لو أن ُ والسؤال
ُركت أجسادهم دون كرامة وال دفن حني بولندا هر ًبا من مشاهد أهلنا الذين ت ْ
قتلتهم الستالينية املتوحشة .ماذا لو أهنام اختارا الراحة -وإن كانت عرضة
مفلس ْي مغادرين
للخطر -والبقاء يف كراكوف؛ ماذا لو أهنام مل يغامرا باهلجرة َ
لبولندا وأنا معهم يف العام 1946م؟ ال أظن مهارة الروائي تستطيع أن تثمر
أمرا معتمدً ا عىل
وحدها دون أن حتارصها الظروف؛ فكتابة الرواية ليست ً
املوهبة املجردة كام هو حال املوسيقى أو العلوم ،لكنها أمر أشبه باملوهبة
الرياضية البدنية .أؤمن أن تأخري يف كتابة الرواية كان نتيجة جنوحي للسلم
203
متأخرا كذلك ،وكان لذلك املايض صبغة مؤثرة يف ً مع املايض ،والذي جاء
ذايت .فقد كانت بعض مظاهر املايض حمرمة عىل النقاش العام العلني يف
بولندا فيام بعد احلرب حتت النظام الشيوعي؛ ومن أهم تلك األحداث
كان إعدامات األملان لليهود البولنديني خالل احلرب العاملية الثانية ،وسوء
معاملة عامة البولنديني ملواطنيهم من اليهود ،ونحر ما يقارب ثالثة ماليني
هيودي منهم .استمرت أحداث املايض حمرمة حتى التسعينيات ،بل ربام إن
(((
التحريم بقي جزئ ًيا حتى ثار عليه وكرس حاجزه املؤرخ جان يت غروس
يف كتابه «اجلريان :تدمري املجتمع اليهودي يف جدفابني ،بولندا» ،الذي كان
مهتم باملذبحة املنظمة يف العام 1941م يف البلدة الصغرية جدً ا ،جدفابني .لقد
ً
ِ
نصف القرية الكاثولوكي نص َفها اآلخر اليهودي؛ ُقت َل 1600هيود ًّيا
ُ أعدم
بوحش ّية بالغة .تال نرش كتاب غروس جدل عنيف يف بولندا ،وقد استدعى
كثريا من القضايا إىل الفضاء العام مستبعدً ا كل أساطري التحريم! ُ
اجلدل ً هذا
قبل كتاب غروس كان اجلو العام بعد احلرب يف بولندا يمنع اليهو َد الذين
نجوا من القتل دون مغادرة البالد وأولئك الذين ُولدوا بعد احلرب -خاصة
الذين نالوا بعض الشهرة يف احلياة العامة -من الترصيح يف أي سياق ويف أي
مستوى بيهوديتهم والد ًة أو إيامنًا ،وذلك ليتجنبوا أدنى مستوى من املضايقة
وإن كانت واهنة وضعيفة جدً ا ألن نجاحاهتم تكون عرضة للخطر حينها.
وإنه ملؤمل جدً ا حني يتذكر املرء ا ّدعاءنا أننا بولنديون كاثوليكيون كي
نتمكن من العبور والنجاة من احلصار اجلامعي ومن ثم املوت املؤكد حتت
االحتالل األملاين .مؤمل جدً ا أن يقوم األبناء بذلك بصحبة آبائهم ،واآلباء
بصحبة أبنائهم .ال أستطيع إدارك كيف قادتني تلك الظروف إىل مهارة
الكتابة :إىل أن أكون روائ ًيا؛ إذ كان من املحتمل أن تصنع مني تلك الظروف
204
شي ًئا آخر متا ًما وباجتاه آخر متا ًما ،شي ًئا يتجاوز حب اللغة والكتب .ويف
احلقيقة أنا ال أعلم عن أي هيودي بولندي من جييل من األدباء أو الروائيني
أو الشعراء املعروفني؛ فإما أهنم -إن وجدوا -مغمورون أو أن هويتهم
اليهودية مل تكن بين ًة يل .واملقارنة تبدو صادمة إذا نظرنا إىل األدباء من اليهود
البولنديني يف الفرتة فيام بني احلربني العامليتني؛ سيجد املتأمل حينها أعال ًما
كبارا يف األدب مثل جوليان تويم و هريلنغ-غرودزينسكي ،اللذين ذكرهتم ً
آن ًفا ،كام أن هناك جوزيف ِوتلني .ربام مل يكن للصمت األديب ليهود بولندا
(((
أي ميزة حقيقية؛ فليس هناك منطق مبني عىل اهلوية الوطنية للكاتب يف متيزه
وتقدمه ،ويف هذا السياق إن كان الكاتب هيود ًيا أو غري هيودي فإن هذا ال
أمهية له ّإل إن استخدم الكاتب يف عمله ماد ًة هيودية بالرضورة .ألن القدر
فطري.
ّ هو ما جيعل اإلنسان هيود ًّيا وليس يف األمر امتياز
ويف حالتي ،فقد كتبت روايتي األوىل يف موضوع هيودي يف جوهره
اكتويت منها أنا وأرسيت.
ُ وهو النجاة من املوت خالل احلرب .إهنا فكرة
كنت أعتقد أن الكتابة يف موضوعات أخرى غري احلرب يف بولندا كان
عارا .لقد اكتملت تلك املهمة ،فلم يعد ً
مستحيل؛ بل أظنني كنت أراه ً
هم للمسألة اليهودية أو البولندية .وخارج ذلك السياق ،حاولت يف
عندي ّ
روايايت معاجلة موضوعات تتعدى حدود الوطن والدين ،بل وحتى احلدود
االجتامعية؛ تلك القضايا التي تؤثر بنا مجي ًعا ملجرد أننا برش؛ من قبيل فقد
احلبيب ،وعمق الوحدة ،التي يستطيع إيروس((( وحده حتريرنا منها أحيانًا؛
وعشوائية املآيس حني حتدث فينا وعلينا؛ والرضر الذي نسببه للعالقات
تقديرا مني ملا سيخدم
ً األكثر أمهية يف حياتنا .يكون اختيار املحيط العام
205
أيضا. القصة التي أريد حكايتها بشكل أفضل ،والذي أعرفه إىل حد ٍ
كاف ً
لذا فإن الشخصيات جتد نفسها فجأة يف الساحل الغريب للواليات املتحدة،
أو يف فرنسا وإيطاليا ،يف جزيرة يونانية ،أو الربازيل ،ويف طوكيو وبكني.
ورغم هذه املحاوالت ،ال أظنني حتررت فعال من تأثري بولندا .لكنني
أتساءل إن كان هذا التأثري هو ً
فعل تأثري اللغة البولندية أو األدب البولندي؟
مرة ،خاصة بعد تصميمي للمحيط طرحت هذا السؤال عىل نفيس غري ٍ ُ لقد
ً (((
العام حلكايتي «الكذب يف زمن احلروب» .كانت روايتي األوىل أبدوعة
مع بعض قصاصات من أحداث حيايت ،أو أجزاء سمعتها عن تعاسات
األخرين من رسديات احلرب الشفوية ،أثناء احلرب أو ُبعيدها بقليل .وحني
كل األماكن التي أعرفها يف نسيت تضاريس ّ ُ كتبت عنها ،اكتشفت أنني
ولدت هبا؛ بل إن حتى تلك الذكرى البسيطة ُ بولندا ،باستثناء البلدة التي
احتجت واحلالة هذه
ُ كانت قد مزقت إىل ما هو أصغر وأكثر تروي ًعا .لذا فقد
كل من مدينة وارسو ومدينة لفيف((( ألستطيع رسم مسار إىل مراجعة خرائط ٍّ
رحلة الصبي وعمته .أتذكر جيدً ا كل ما هو داخل املدينة ،كان سبب معرفتي
اجليدة ببساطة هو أن جتنّب االعتداء أو االعتقال يلزم منه أن يكون من جيول
صغريا ليبدو األمر يف ظاهره روتينا عاد ّيا.
ً شوارع املدينة امرأة شابة أو صب ًيا
كان هناك -مع بالغ األسف -بعض املشاهد اخلارجية يف روايتي ،منظر تلك
حراثة بحرب األسيد املشاهد حمفور عىل جلدي متا ًما مثل الرسالة التي كتبتها ّ
عىل ظهر ذلك السجني «يف مستوطنة العقاب» لكافكا(((.
-1أبدوعة مفردة جتمع معنى الرواية واخليال سو ًيا ،وهي ترمجة األستاذ أيب يعرب املرزوقي
لكلمة ( )fictionاإلنجليزية.
-2مدينة أوكرانية تعدُّ أكرب مدن غرب أوكرانيا.
-3فرانز كافكا كاتب تشيكي هيودي كان يكتب باألملانية (تويف ١٩٢٤م).
206
كان هناك ثمة ذكريات سعيدة جدً ا وكان بإمكاين استحضارها ،لكني مل
أضمنها يف «الكذب يف زمن احلروب» ألهنا ولعدة أسباب مل تكن مالئمة.
كانت تلك الذكريات حني زرنا جدي وجديت يف ملكيتهام الصغرية يف
أرياف بولندا .اكتشفت الح ًقا أن ثمة تشاب ٌه بني مظهر حياة أجدادي وبني
كتاب كنت قد قرأته بعد هناية احلرب العاملية الثانية ملحمة «الغزوة اللتوانية
األخرية» الشعرية آلدم متسكيفيتش((( التي حتدث فيها الشاعر عن حياة
نبالء األرياف الليتوانية كام يذكرها من محلة نابليون عىل روسيا.
وجدت راب ًطا بني وصفه لألرياف وبني صورة بيت جدي يف خميلتي،
ذلك البيت اخلشبي الصغري ،الذي عبثت به أحوال الطقس .كانت ليتوانيا
جز ًءا من بولندا قبل احلرب العاملية األوىل؛ لقد ظلت كذلك منذ تعميد
أمريها يوغيال ((( يف العام 1386م ،والذي استوىل بخدعة بسيطة تلقائ ًيا
عىل عرش بولندا ،حني تزوج من ابنة ملك هنغاريا يادفيجا((( يبني هذا
االستطراد التارخيي أسباب عجز الطالب البولندي الطبيعي عىل التفريق بني
ليتوانيا وبولندا حني يقرأ «الغزوة اللتوانية األخرية» .وعىل أية حال ،إن كان
هذا الطالب البولندي هو أنا ،وبام أملكه من ماض مميز ،فإنني كنت قد قفزت
قفزة أعظم .لقد كان ثمة أمر يف مرثية متسكيفيتش يطاردين وكأنني معزوفة
ض ّلت طريقها؛ كان ذلك اليشء -طال أم قرص -نداءات من املايض ،من
الصيف واخلريف يف منزل جدي وجديت الريفي .كان ً
عمل بطول ًيا استثنائ ًيا
ناب ًعا من تعظيم الذات ،أو التعاطف ،أو اخليال .وإال فام وجه الشبه بني بيت
-1آدم متسكيفيتش شاعر وكاتب مقالة ودراما بولندي ،يعد شاعر الوطن يف بولندا (تويف
١٨٥٥م).
-2يوغيال الليتواين ،مؤسس أرسة جاغلون ،كان دوقا عىل ليتوانيا ثم ملكا عىل بولندا حني تزوج
من يادفيجا مكلة بولندا (تويف ١٤٣٤م).
-3يادفيجا أول أنثى ترتبع عىل عرش ممكلة بولندا (توفيت ١٣٩٩م).
207
متواضع يملكه هيودي بولندي كادح يتاجر باملواد الزراعية ،وبني احلياة يف
بيت من اخليال لشخصية أرستقراطية رائعة ونخبوية ،والتي كانت حمور عمل
متسكيفيتش وهي شخصية القايض سوبليكا .ما هو حجم اخليال يا ترى يف
«الغزوة اللتوانية األخرية» وما هو حجم الذكريات؟ كان الشاعر قد ولد
يف العام 1798م .ووقعت األحداث التي وصفها يف ملحمته بني العامني
الروس عىل
ُ 1811و1812م ،أي حينام كان صب ًيا .يف العام 1824م حكم
متسكيفيتش بالنفي لنشاطه الثوري ،ومل يرجع بعدها أبدً ا .كم كان بإمكانه
يا ترى أن يتذكر يف عمل أمتّه بعد عرشين سنة من الواقعة؟ ما هي مادة تلك
القط ِع التي استطاع أن يصمم من خالهلا تفاصيله املبهرة؟ كيف استطاع ِ
أن ينسج أوصاف طبيعة األرياف ،وجمتمع بائد بصيده وشجاعته وقتاله؟
اجلواب يكمن يف أن التفريق بني الذاكرة واخليال أمر ضبايب وربام كان غري
ذي أمهية للشاعر وللروائي عىل حد سواء .إن األمر املهم يكمن يف اإلغراء،
يف قوة اجلذب التي يامرسها املكان واللغة باإلضافة إىل األدب.
كان متسكيفيتش قد كتب ،بكل تأكيد ،بالبولندية وهي لغته األم .إذ مل
فعل مع «الغزوةتكن الطبقة العليا تتكلم الليتوانية .وربام كان هذا هو ما فعلته ً
كنت يف احلادية عرشة ،ثم أعدت صياغتها الح ًقا يف اللتوانية األخرية» حني ُ
عبسن السادسة واخلمسني حني كتبت «الكذب يف زمن احلروب» ،ربام ّ
كل ذلك عن عالقتي املستمرة بمسقط رأيس وبالدي .كانت الكلامت وما
حتمله من حياة هي املادة اخلام لتلك العالقة .لذلك ففي رائعة غومربوڤيتش
«فريدريك» ،وحتديدً ا حني وصف الراوي العليم فجأة املدرسة التي كان قد
استطعت أن أجد الذكريات الدفينة لوحشية بعض ُ ظمأ فيها خالل كابوسه،
الطالب واملعلمني يف مدرستي يف كراكوف .وحني كان الراوي مع قريبه
يتحاوران بتلذذ حول متعة الرجل حني يلطم خدمه واحلاملني واحلالقني عىل
208
فعت
وجوههم :أي كل من ال يستطيع رد اللطمة له ،تذكرت حينها حني ُص ُ
عىل وجهي وأنا طفل ،وحني ُص ِف َع آخرون .مل أقرأ «فريدريك» إال يف أواخر
الثامنينيات .ربام كان أكثر عج ًبا أين قد وجدت قبل «فريدريك» وص ًفا ملثل
أرصح
هذه الصفعات عىل الوجه يف فصل درايس -يف بولندا بالتأكيد وإن مل ّ
بذلك -كان الوصف يف قصة قصرية كتبتها واج ًبا ملادة اللغة اإلنجليزية يف
املدرسة التي التحقت هبا يف العام 1948م ،حني انتقلنا إىل نيويورك.
حيث جيلس الكاتب جيب أن تعلق لوحة عىل اجلدار املواجه للمكتبُ ، ُ
مطرز
ٌ أمر يقول« :جتنّب االستنتاجات النهائية»
للكتابة؛ عىل هذه اللوحة ٌ
بلغة مناسبة! ومع ذلك فأنا ال أقدر عىل مقاومة تكرار سؤايل لنفيس عن
ُ
سأفضل البقاء يف بولندا بعد احلرب عىل أعمق مشاعري .هل كنت يا ترى
صغري جدً ا ،أو -وعرب ألفاظ
ٌ بولندي
ٌّ وطني
ٌّ اهلجرة ،أو املنفى ،كام قد يسميه
طفل تربى عىل حب بالده؟ ُأ ّ
محل قناعتي بعدم العودة إىل أكثر تواض ًعاٌ -
زائرا جز ًءا من مسؤولية توقيت زياريت األوىل هلا ،أي تأخرها
بولندا بوصفي ً
حتى العام 1994م؛ وتتحمل باقي املسؤولية املخاوف من عدم قانونية
والدي لبولندا ،والتي ال أساس هلا سوى خداع السلطات، ّ طريقة مغادرة
لكنها كانت مرعب ًة :هل كنا سنخرج منها جمددا إن زرناها! وهل كنت
سأفضل إن كانت بعض االحتامالت ممكنة أن أكون كات ًبا باللغة البولندية؟
أساسا،
ً إن اجلواب عىل التساؤل األول يسري جدً ا .إن كنت مل أغادر بولندا
فأنا لن أكون ما أنا عليه اليوم .وأنا لست عىل يقني إن كنت سأحب ذلك
احلظ آهل ٌة يقظة ال تسرتيح أبدً ا ،وتعربد بحال
الشخص الذي قد أكونه .إن َّ
سأ ْق ِدم عىل االعرتاف أننيأولئك الذين يبدون عىل قدر من السعادة .وأنا ُ
وبأن كانت حيايت كام هي وكام ْ أصبحت أمريك ًيا،
ُ أعدّ نفيس حمظو ًظا بأن
القلب.
َ تفطر
أصبحت .لكن حماولة اإلجابة عن السؤال الثاين هي ما ُ
209
ألستقر يف بولندا .لكن هذه املشاعر كانت قد َ كنت أشعر أن عيل َد ْينًا
تبخرت مع الوقت ،التي اجتاحت بدورها كل البولنديني الذين كانوا يف ْ
سن يؤهلهم لتحمل مسؤولية ما حدث أثناء احلرب العاملية الثانية وما مل
حيدث .وأنا أحتفظ عىل حكمي بخصوص البولنديني الذين يقيمون اليو َم
يف بولندا .لقد كانت اللغة البولندية مور ًدا للمتعة املخففة التي أشعر هبا ،كام
مصدرا لألمل حيث أبدو جاحدً ا حلبي األول .لكن احلقيقة الواضحة ً كانت
حمظوظ بشكل كبري بأين روائي أمريكي ،أكتب ٌ هي أنني أشعر بأنني -جمد ًدا-
بلغة مجيلة تقدمني لكثري من القراء؛ أكتب بلغة أعدّ ها ملكًا يل ،رغم كل ما
ذكرت عني وعنها .ويف هذا السياق حتديدً ا فإن حايل خمتلفة جدً ا عن حال ُ
حني وصفها يف تذييله عىل «لوليتا»: نابوكوف َ
مها ألي أحدإن مأسايت ،التي ال يمكن وال جيب أن تكون ً ّ
استبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خري:
ُ سواي ،هي أنني قد
اللغ َة اإلنجليزي َة األدنى ،اخلالية من أدوات مثل املرآة العجيبة
والستائر املخملية السوداء الطويلة وما يرافقها من تقاليد
الثري،
ّ وخياالت ،استبدلتها بمعجم أمثايل الفطري ،لساين
املطي ِع بال حدود وبال قيود ،لغتي الروسية :تلك التي يستخدمها
الساحر من أبنائها ،مرتد ًيا سرتته ذات الذيل الطائر ،ليتجاوز
بسحره مساحات التقاليد كلها بطريقته اخلاصة.
إهنا مأساة بكل تأكيد ،لكنّها مبطن ٌة يف انتصار .أعرف روايات نابوكوف
شبعت جهدً ا
ْ الروسية عرب ترمجاهتا اإلنجليزية ،وبام أن الرتمجات كانت قد ُأ
عيل التفريق بني اللغة اإلنجليزية التي ظهرت
من نابوكوف نفسه فإنه يصعب ّ
هبا الرتمجة وبني اللغة اإلنجليزية التي استخدمها نابوكوف حني كتب بعد
210
والدته الثانية ،باإلنجليزية؛ ابتداء من «حياة سباستيان نايت احلقيقية(((»
الصادرة يف العام 1941م .إن كال املجموعتني من أعامل نابوكوف تتضمن
فاخر من اللغة.
ٌ حت ًفا فنية من السحر وحساسية الذات ،حييط هبا إطار ٌ
أنيق
هل كانت بعض صفات أسلوبه يف الروسية خمتلفة؟ أعجز عن اإلجابة.
وألنني عاجز فأنا سأعمل بوصية نابوكوف نفسه ،سأنظر بجدية إىل املأساة
ألن جراح نابوكوف العاطفية كانت يقينًا وواق ًعا ،كام هي اجلراح التي
املهجرين ،برصف النظر عن خصوصية الظروف والعواقب. ّ أصابت كل
إن اجلرح واحدٌ ولن يندمل أبدً ا ،حتى وإن ردد املرء قول نابوكوف ،وهو
ما أقوم به بقسوة« :إن الفرصة التي منحني إياها القدر أعطتني يف حالة من
كنت ألفوهتا بالدنيا».
تذكر املايض ركلة مفقد ًة للوعي ،وما ُ
211
اللغة األم بين شريحتين من خبز الحبوب
غاري شتاينغارت
(((
عدت إىل مسقط رأيس يف روسيا مل أمتكن من النوم لعدّ ِة أيام .كانت
ُ حني
اللغة الروسية حمارصة للمكان كله ،وتكرار صوت الراء يدغدغ باطن
كل امرأة عجوز تغني ألسباطها هي جديت الراحلة .وكل رجل قدمي .كانت ّ
ويمر بسيارته الفولغا((( عىل وزجته ٍ
غارق يف مهومه اجلادة متجهم املالمح
ّ
وكل شاب يافع يكيل الشتائم للغرب ليأخذها من مقر عملها كان هو أيبّ .
بصحبة أصدقائه وهم حيتسون اجلعة آخر الضحى يف «حديقة الصيف(((»
كان أنا .كأنني سقطت من حافة العامل املألوف بأجهزته اللوحية((( ،ومتاجره
الكالسيكية البغيضة ،وحاناته ذات املظهر الفرنيس الكاريبي يف بروكلني؛
وإذا يب عائدٌ إىل ديار آل شتاينغارت البدائية ،كأنني داخل كابوس ّ
يرن فيه
212
كل صوت ساكن بام يشبه اللكامت عىل كبدي ،وكل صوت ع ّلة غريب ُ
جيعل ّ
ٌ
مشتاق قد رأى حمبوبه. جنبي يرفان كأنني
َّ
مستلق عىل رسير غرفة الفندق أصاب مسمعي أمل ٌ من تلك اللغة ٍ وأنا
الرسيعة والكلامت الغبية ألغنية «ال تزعجني رجا ًء» ...كانت املغنية فتاة
متلؤها البهجة تغني عىل قناة روسيا املوسيقية قائل ًة« :أنا ذاهبة إىل منزل ماما».
وكأنام كنت يف حفرة من زمن االحتاد السوفييتي ،وأنا أستمع لعامالت
بعضا« :لريا أيتها الساقطة ،أعيدي يل
الفندق الاليت يرصخن ببعضهن ً
العرشين روبل التي أخذهتا!»
«أنت السافلة يا فريا!» هكذا ردت الزميلة عىل زميلتها .كانت تلك
الكلامت كأهنا تعويذات تتىل دون توقف وأنا أحاول أن أغرق يف وساديت
اهلزيلة البالية واملستعملة منذ زمن برجينيف((( .وباملناسبة فإن لريا وفريا مها
قريبتاي العزيزتان ،مها كل يشء يل يف روسيا .خرجت إىل املمر وقلت هلام
بالروسية :لريا ،فريا ،هذه عرشون روبل لكل واحدة منكام .أيتها السيدتان يا
عزيزتاي ،هيا لنرشب بعض الشاي والكونياك يف حانة الفندق يف األسفل.
كنت يف فندق غريب -فلنقل ماريوت موسكو عىل سبيل املثال- لو ُ
فإنني سأكون اآلن أحاول ضبط صوت وحدة التكييف املركزي يف الغرفة
حمارصا بأرضيات اخلشب الفاخرة ً متجاهل كل ما هو رويس يف ذهني،ً
وامللمعة ،واملناشف الدافئة عىل الرف اخلاص هبا ،وكل اخلدمات التي
بطاقات
ٌ تصنّف حتت درجة رجال األعامل« .ضيفنا العزيز» ...ختاطبني هبا
باإلنجليزية ،ثم تقول« :إن رضاك هو هدفنا األول»؛ لكن احلقيقة إنني أرى
حني أفتح نافذة الغرفة مباين صلبة املنظر تعود إىل حقبة االحتاد السوفييتي
-1ليونيد برجينيف رئيس االحتاد السوفييتي يف الفرتة من ١٩٦٤م و١٩٨٢م (تويف ١٩٨٢م).
213
حيث الكثري من النساء حيملن اسم لريا وفريا ويرصخن بأعىل أصواهتن؛
وجدّ ات يغنني ألسباطهن؛ وشباب يف الساحات ترافقهم زجاجات اجلعة
والكثري من الشتائم.
عندما أريد النوم ،أخاطب نفيس باإلنجليزية ً
قائل« :مرح ًباwas’ ..
.upما الذي ستفعله يوم اخلميس؟ أحتاج إىل زيارة العيادة النفسية من
الساعة 4:00حتى 4:45ثم أستطيع أن أكون يف مركز املدينة عند اخلامسة
والنصف .ومتى تنتهي من عملك؟» أكرر هذه الكلامت مع صديقي اخليايل
كثريا يف حماولة بائسة ألستعيد توازين األمريكي وإحسايس بالواقع،
اجلديد ً
حيث تتكفل العيادة النفسية ومخسة أكواب من رشاب املارتيني احلامض
هبموم املايض كاملة! أكرر« :ومتى تنتهي من عملك؟ ومتى تنتهي من
عملك؟ ومتى تنتهي من عملك؟» لكنها ال تسمن وال تغني من جوع!
«ال تزعجني رجا ًء ..أنا ذاهبة إىل منزل ماما».
«لريا أيتها الساقطة ،أعيدي يل العرشين روبل التي أخذهتا!»
انطلق النشيدُ الوطني القديم لالحتاد السوفييتي يتمتم
َ وخلتم اهلوان
عرب قناة موجودة يف مؤخرة ذاكريت؛ عرب منحدرات صغرية وأبواب خفية
تربط ميمنة دماغي بالبطني األيرس ،وعربه تستمر أجزا ٌء من هويتي األصلية
بالتدفق.
طائر النورس يرفرف بجناحيه
ينادينا إىل واجبنا
روا ًدا وأصدقاء َّ
وكل الرفاق
فلننطلق إىل الرحلة أمامنا ...
214
ومتسطح مثل سمكة هنّاش أمحر مقدمة يف مطعم
ٌ مشطور من املنتصف
ٌ
يف احلي الصيني ،متلؤين أصوات الـ ً kh, she
بدل عن الزنجبيل والثوم،
مستلق عىل رسيري يف غرفة الفندق يف موسكو أو يف سانت ٍ وها أنا ذا
رقيق متقطعٍ، ٍ
أمهس للسقف بصوت ٍ بطرسربغ حزي ٌن أكابد وعثاء السفر،
ُ
أحاول بجنون تسمية األشياء باللغة الروسية لعلها تكون اللغة نافعة :كيف
أطلب حساء الشعري مع الفطر ،كيف أصف الطريق لسائق سيارة األجرة
ليأخذين إىل ذلك القرب املنيس ،أو حتى كيف أخطط النقالب لعله يسهم
أخريا بصناعة دولة تنويرية.khhh, shhh, rrrr . ً
أخريا يف بالدي.
إنني ً
великий могучий русский язык
215
أتسمعنا يا نيل أرمسرتونغ(((؟
( – 1934العلامء السوفييت اخرتعوا أول مفاعل متسلسل)
إذن ،هنا بدأت احلكاية!
( –1974يف بناية AMUR-BAIKALبدأت أول جذوع لسكة
القطارات)
حسنًا! ما الذي تعنيه هذه العبارة هنا؟! لكنها عبارة مجيلة يف صوهتا:
Bailkalهو اسم لعلم عىل رأسه نار من شهرهتا ،فهي البحرية السيبريية
الشهرية (وإن كانت ملوثة يف يومنا هذا) ،هي أسطورة من احلكاية الروسية؛
أما Amurفأظنه اسم و ّلدته اللغة الروسية بكل فخر من الفرنسية ،ربام
(احلقيقة هو اسم إقليم رويس من أقىص الرشق).
كنت يومها يف اخلامسة ،وأشعر بضيق يف حذائي ،ما الذي يمكن أن
منبهرا ،وكان
ً فغرت فميُ يلقيه دب أو جمموعة قنادس سوفييتية عىل كتفي،
«سينعق الغراب هنا يو ًما ما» .وأنا يف قمة
ُ وحمذرا إياي:
ً منبها
أيب يقول يل ً
دهشتي .فمحطة القطار وجدراهنا العريضة والعاملون الثوريون بصدورهم
العريضة ،وردهاهتا احلجرية والرخامية التي متتد ملساحات شاسعة كانت
فعل .والكلامت! لقد كان لتلك الكلامت قوة ليس لإلقناع مثرية للدهشة ً
فقط ،بل كان هلا أثر واقعي بالغ وعظيم عىل طفل يف اخلامسة من عمره،
منبهرا بالعلوم وخياالهتا« .نحن أولئك» الغرباء احلكامء
ً كان من قبل رؤيتها
الذين نزلنا إىل األرض .وهذه هي اللغة التي نتكلم هبا« .اللسان الرويس
القوي العظيم».
يف املقابل ،كان القطار امليلء بعرق الرفاق قد اقرتب من املحطة ليأخذنا
-1رائد فضاء أمريكي يعد أول رجل خطا برجله عىل سطح القمر (تويف ٢٠١٢م).
216
شامل إىل متحف هريميتاج أو متحف دوستويفسكي((( .ولكن ما فائدة ً
احلقيقة الكئيبة من عرض «عودة االبن الضال» لرامربانت((( أو حتى أواين
قضاء حاجة الروائيني الكبار ،يف حني أن مستقبل اجلنس البرشي جمرد متا ًما
من أرساره ،موجود ها هنا ألجل أن ُيرى« .اخرتع العلامء السوفييت أول
مفاعل متسلسل» .إن عىل املرء أن يتجاهل ما يرتديه البرش من حوله من
خرق البوليسرت البالية ،والقطار السوفييتي الفريد من نوعه يطلق رائحة
نادرا ما يغتسلون ومتتصهم أنفاقاملاليني من طبقة العامل الكادحة الذين ً
الرخام العظيمة كل يوم .ها هو األمر ،أهيا الطفل ،مكتوب بحروف نحاسية
كبرية .ما الذي تريده أكثر من هذا؟
وبعد ما يقارب السنتني ،يف كوينز نيويورك ،ها أنا أقتحم واق ًعا جديدً ا
وخمتل ًفا .أقف وسط قطيع من الصبية ،نرتدي قبعات وقمصان بيضاء ،بينام
الفتيات بجوارنا يف ثياب طويلة ،ننتحب يف صالة نتلوها بلغة قديمة .كان
الكبار يف املشهد منتبهني لنا ليتأكدوا أن تالوتنا منسجمة حلنًا وصوتًا؛ وهذا
متاحا،Sh’ima Yisrael .
خيارا ً
ً يعني أن عدم املشاركة يف النحيب مل يكن
كنت أقوهلا طائ ًعا.Adonai Elheinu, Adonai Echad ،
«اسمع يا إرسائيل ،إن الرب هو إهلنا ،إل ٌه واحد» .مل أكن أعرف ما الذي
كانت تعنيه الكلامت العربية ،لكني كنت أنظر يف الرتمجة اإلنجليزية لتلك
علم أنني حينها مل أكن أعرف اإلنجليزية كذلك .لكنني كنت الصالةً ،
الصوت :كان ثمة حزن عميق يف كيفية ترضعنا إىل القدير .إن ما كنا
َ أفهم
-1متحف هريميتاج يف مدينة سانت بطرسربغ يعدّ من أكرب متاحف العامل وأقدمها عىل االطالق؛
ومتحف دوستويفسكي هو متحف أديب كان عبارة عن شقة عاش فيها األديب الرويس
دوستويفسكي.
-2رامربانت هرمنسزون فان راين فنان هولندي صاحب معرفة بنظريات الضوء والظالل (تويف
١٦٦٩م).
217
نفعله -كام كنت أعتقد -هو الدعاء .ونحن ،أفراد أرسة ،لسنا غريبني عىل
الدعاء أبدً ا .فنحن الجئون هيود من االحتاد السوفييتي يف الواليات املتحدة.
واسمعوا هذه النكتة :الجئون ،refugees ،تشبه !refu(((-Jewsفقراء،
عالة عىل رمحة اآلخرين :بطاقات متوين غذائي من احلكومة األمريكية،
مساعدات مالية من منظامت دعم الالجئني ،مالبس مستعملة لشخصيات
عت من اليهود األمريكيني األبطال اخلارقني يف السينام ،قطع أثاث مهرتئة ُج ْ
جالس يف مطعم املدرسة العربية ،حتارصين تلك اجلدران ٌ اللطفاء .وأنا
املرعبة ملبنى املدرسة :قطعة هندسية حديثة ،رمادية اللون ،ال جتاور شي ًئا،
امللون .وأستاذنا احلاخام البدين ينضح عر ًقا ،وبقيةمطعمة ببعض الزجاج ّ
أجورا كافية مقابل ما يقومونً طاقم التدريس من الشباب الذين ال يتقاضون
به من عمل .أما الطالب فهم جمموعة من املزعجني ،البعيدين كل البعد عن
االنضباط من أوالد العائالت اليهودية األمريكية .وكالنا ،أنا واملدرسة،
حتارصنا أمريكا :جمتمع كبري تقوده يدُ اإلعالم ،وجمتمع سعيد باآلالت
التي تسهل حياته .صورة هذا املجتمع ولغته هي أداة التواصل املشرتك بني
شعوب العامل أمجع؛ أما روائح عطورهم الزهرية وابتساماهتم اليسرية فهي
جالس وحدي عىل طاولة ٌ أمر يتجاوز قدريت عىل االستيعاب .وها أنا هنا
قميصا رويس الصنع متزينًاً الغداء ،صغري البدن وكبري النظارات ،مرتد ًيا
باملربعات .وما الذي أفعله؟ أحتدث إىل نفيس.
ُ
أحتدث إىل نفيس بالروسية.
هل يا ترى كنت أقول هلا – 1959« :وصل صاروخ الفضاء الرويس إىل
سطح القمر»؟ هذا وار ٌد جدً ا .أم هل كنت أحاول إحصاء مقتنيات قرص
-1الطرفة هنا هي يف التشابه يف السجع يف ختام نطق كلمة الجئني وهيود باللغة اإلنجليزية.
218
أثبت فيه ذكائي قبل سنة واحدة فقط فورونتسوفسكي يف يالطا((( الذي ُّ
أمام كل املجموعة السياحية التي رافقتنا (عندها منحتني أمي حبها املطلق)
قلت أن القرص كان قد بني ليشبه مالمح اجلبال املجاورة كنت يومها قد ُ
أمهس لنفيس مغن ًيا من أناشيد
ُ أيضا .أم يا هل ترى كنت له؟ وهذا ممكن ً
وجدت طريقها فيام بعد إىل إحدى قصيص التي كتبتها: ْ الطفولة أنشود ًة
فلتبق السامء صافي ًة ..وأبقى
فلتبق أمي إىل األبد َ ..
َ «فلتبق الدنيا مشمس ًة ..
َ
أنا إىل األبد»؟ ممكن جدً ا .ألن ما أحتاجه اآلن يف هذا العامل األجنبي احلزين
هي أمي ،املرأة التي خاطت وجوه القطط عىل سرتيت الدافئة ،وإال لكنت
أضعت علبة الصمغ ودفرت املالحظات وأقالمي ُ أضعت تلك القطط كام ُ قد
امللونة التي كانت جيب أن ترافقني خالل رحلة الصف األول االبتدائي.
باإلضافة إىل أمي وأيب وذلك الطفل اللطيف ابن األمريكيني املتفتحني
اللذين أغرياه باللعب معي كان ثمة يشء آخر حقيقي يف حيايت وهو أن اللغة
الروسية صديقتي .صديقتي التي أشعر بالراحة بجوارها .وهي تعرف عني
أشياء ال يعرفها هؤالء األشقياء املزعجون حويل الذين يسخرون مني كلام
تغنيت بأصوات الصفري السالفية وحيدً ا ،وهم لن يفهموما أبدً ا .الروسية
مالمح اجلبال املجاورة
َ مالمح قرص فورونتسوفسكي ُ تدرك معنى أن تشبه
له .تعرف الروسية متا ًما معنى التفتيش الذايت الكامل يف مطار لينيغراد ،حينام
ينزع مفتش اجلامرك قبعات العابرين ويتحسسها بح ًثا عن األملاس ّ
املهرب.
تعرف الروسية أن «العلامء السوفييت اخرتعوا أول مفاعل متسلسل» يف عام
1934م .كل هذا تعرفه اللغة الروسية القوية العظيمة .كل هذا هتمس به
منطرح يف الليل عىل فرايش ويطاردين أرق الطفولة.ٌ الروسية يل وأنا
-1مدينة ساحلية مجيلة يف شبه جزيرة القرم ويعدّ قرص فورونتسوفسكي أحد أمجل معاملها وهناك
الكثري من بيوت القيارصة والطبقات النبيلة بنيت فيها جلامهلا.
219
بدأ املعلمون بالتدخل يف حالتي .طلبوا مني التخلص من بعض «لبايس»
قليل ،وأن أكف عن الكالم بالروسية: أهذب شعري األشعث ً الرويس ،وأن ّ
طفلعيت إىل اللعب مع ابن األرسة املتفتحة وكان ً «كن أكثر طبيعي ًة»ُ .د ُ
تائها يف «أدغال» رشقي كوينز .ذهبنا سو ًيا إىل
ودو ًدا حس َن التغذية ،ويبدو ً
تناولت قطعة وكأنني استنشقتها فإذا بخيط كثيف لزج من ُ حمل بيتزا .وحني
جبنة الربجمان قد وقف يف حلقي .حاولت مستخد ًما غالب أصابع يدي أن
حاولت اإليامء طل ًبا للمساعدةПомогите، .
ُ غصصت!
ُ أخرج اجلبن .لقد
،Helpفمي ..فمي ..النجدة ..فأنا غارق يف عامل من اجلبنة الال متناهية!
وكأين بالالفتة اجلديدة عىل جدار حمطة قطار لينيغراد تقول – 1979« :أول
جلست
ُ يغص يف حمل رأساميل للبيتزا» .حني انتهت األزمةطفل سوفييتي ّ
اللعاب وبقايا الربجمان .هذه ليست سبيل للحياة!
ُ ويداي ترتعدان ،يغطيني
ُصنع من احلبوب .ونحن وإن كنا فقراء
وقعت يف غرام الرقائق التي ت ُ
ُ ثم
عاجزين عن رشاء ال ُل َعب ،إال إننا ال بد لنا من أن نأكل .وكانت رقائق
احلبوب طعا ًما .كان طعم احلبوب فيها ب ّينًا ،وكانت سهلة التحضري وخفيفة
عىل املعدة ،يرافقها طعم من الفاكهة املزيفة .إهنا تشبه أمريكا .كان ولعي
برقائق احلبوب شديدا ألن كل صندوق منها يأيت باهلدايا يف داخله ،وهذه
كانت معجزة مل يسبق يل رؤيتها .يش ٌء َ
مقابل ال يشء! كان اسم النوع املفضل
عندي Honey Combsصندوق عليه صورة طفل أبيض صحيح البنية،
مريضا بالربو ،أصبح هذا الطفل مثاالً حيتذى به بالنسبة يل،
ً كنت
وألين ُ
متجها نحو السامء .يف كل علبة من رقائق احلبوبً كان عىل دراجة هوائية
هذه كنت أحصل عىل لوحة صغرية حتاكي لوحة املرور لتسجيل السيارات؛
يضعها األطفال عىل خلفية دراجاهتم اهلوائية .كانت أصغر بكثري من
وكثريا ما حصلت
ً اللوحات احلقيقية لكنها كانت جيدة ومرضية ومقنِعة.
220
عىل اللوحة اخلاصة بوالية ميتشيغان ،كان تصميهام بسي ًطا :حروف بيضاء
عىل خلفية سوداء .كنت أهتجأ الكلمة وأصبعي يمر عىل كل حرف منها،
عال ،فينتهي يب األمر أن أنطق كل صوت بشكل خاطئ. أنطقها بصوت ٍ
وحني مجعت كمية من تلك اللوحات ،كنت أمسكها بيدي كام يفعل
الكبار بأوراق اللعب ،أرميها أحيانًا عىل سطح رسيري البايل ،ثم أمجعها
وأضمها إىل صدري بشدة دون احلاجة ملربر .كنت أخبئها مثل كنز حتت
وساديت ،ثم أحتسسها بيدي هبوس .كل لوحة منها كانت فريدة جدً ا بالنسبة
شعارا مثل «أرض األلبان األمريكية» وبعضها يقول ً يل .بعضها كان حيمل
ملح جدً ا
«احلياة بحرية أو املوت» .لكن اليشء الذي كنت أحتاجه بشكل ٍّ
يف تلك اللحظة هو أن أمتلك دراج ًة هوائية حقيقية.
أردت
ُ لقد كانت املسافة يف أمريكا بني األمنية وبلوغها قصرية جدً ا.
دراجة هوائية ،إذن سيعطيني بعض أثرياء األمريكيني واحدة؛ أليسوا مجيعا
ال حصلت عىل واحدة قبيحة وصدئة واملكابح فيها ال تعمل؛ أثرياء؟! فع ً
وضعت
ُ أساسا لكي أتذمر؟ أليست الدراجة؟ً ولكن ما الذي كنت أريده
واحدة من اللوحات عىل خلفية الدراجة ،وبدأت أقيض غالب أيامي أفكر
أي لوحة أستخدم لكل يوم :فلوريدا املشمسة وامللئية باحلمضيات ،أم
فريمونت املثلجة .وهذه كانت حكاية أمريكا :فرصة االختيار.
يف مقابل ذلك كانت خيارايت مع األصدقاء حمدودة جدا؛ لكن كانت هناك
طفلة عوراء تسكن يف بنايتنا ،وكنا نعترب أنفسنا أصدقاء إىل حد ما .كانت
ضئيلة ،مليئة بالكدمات ،فقرية مثلنا متا ًما .مل نكن نثق ببعضنا يف البداية ،لكن
مهاجرا ،وواقعها باعتبارها عوراء جيعلنا متعادلني. ً واقعي باعتباري ً
طفل
كثريا
أيضا دراجة نصف حمطمة مثل التي عندي .كانت تقع ً
وكان لدهيا ً
من عىل الدراجة وتصاب بمزيد من اخلدوش والكدمات ،وتنهال سبا ًبا
221
حني تدمي راحة يدها؛ تقول اإلشاعة أهنا فقدت عينها يف حادثة سقوط
من الدراجة .رأتني صديقتي ذات مرة وأنا عىل دراجتي العرجاء ،ولوحة
علبة رقائق احلبوب عليها ،فصاحت يب« :ميتشيغان ..ميتشيغان!» فأكملت
ً
خمتال باحلروف اإلنجليزية مبتسم وأنا أدندن بجرس الدراجة،
ً طريقي
امللصقة عىل خلفية الدراجة حتت مؤخريت! ميتشيغان! ميتشيغان! تلك
اللوحة ذات السطح األزرق الداكن املائل للسواد ،مثل لون عني صديقتي
السليمة .ميتشيغان ،يا له من اسم أمريكي لذيذ .كم هو حمظوظ ذاك الذي
يسكن تلك الديار.
بطل روايتي األوىل ُ
«دليل كان فالديمري غريشكن الشاب املهاجر املكافح َ
الرويس» وكان يشاركني يف كثري من صفات شخصيتي ،خاصة نزعته
ّ املبتدئ
إىل عد النقود باللغة الروسية ،و هي كام يعرض الكتاب لغة الشوق والوطن
يضيف هنا -لغة اخلوف. ُ واألم ،وكذلك هي لغة النقود .كام أهنا -وأنا من
فيلفظ كتل ًة من املال ،فإين
ُ حني أكون عند جهاز رصف النقود اآليل ()ATM
عند استعدادي الستقبال تلك النقود وعدها ،أترك اإلنجليزية بالكلية .إن
فقد الدوالرات األمريكية كان يشكل اخلوف الرئيس يف حياة املهاجر ،لذا
فإن عدّ ها باللغة الروسية خيفف من عبء ذلك اخلوف .بناء عىل هذا املنطق،
يقوم اخليايل فالديمري غريشكن واحلقيقي غاري شتاينغارت بعدّ حزمة املال
اخلرضاء ،والتي متثل قيمتنا وحتصيلنا يف األرض اجلديدة هكذا:
восемь десять долларов, сто долларов, сто двадцать
долларов
دوالرا ...
ً دوالرا ،مئة دوالر ،مئة وعرشون
ً ثامنية عرش
أيضا ،خاصة تلك التي كانت مترشبة كان أغلب أحالمي باللغة الروسية ً
بالرعب .رأيت ذات ليلة عىل سبيل املثال أنني قادم عىل ماهناتن وكانت داكنة
222
اللون ومظلمة؛ وعىل بناياهتا دروع أجسام حرشات ضخمة احلجم ،وكان
هناك حرشات أخرى ذات قرون استشعار كبرية جدً ا و تطلق هتديدات« .ما
سألت عابر ًة مل أشك أهنا أمريكية وكانت شابة ،مخنت من
ُ الذي جيري؟»
لباسها أهنا قد تكون من الطبقة الوسطى.
أجابتني بالروسية قائل ًة ничево :أي« :ال يشء!» رافقت إجابتها هزة
زوجا
لكتفيها بأسلوب السالفيني الال مبايل عند الضجر .ثم الحظت كأن ً
استيقظت عندها ِ
فز ًعا ُ من حرشات غريبة خترج من القرب من فكها السفيل.
وأنا أقول .. боже мой, боже мой :يا إهلي يا إهلي.
هيز عاملي ،إن انخفض صوت حمرك الطائرة فجأة يف وعند أي خوف ّ
وسط الرحلة ،أو حني يتجه ناحيتي رجل ضخم بمنخارين كمنخاري قاتل،
فإن أول ما ينطق به عقيل ولساين هو за что :بمعنى :ملاذا؟ ملاذا أنا بالذات؟
وملاذا اآلن حتديدً ا؟ ملاذا ينبغي عيل املوت ميتة كهذه؟ هل هذا من العدل؟
هذه األسئلة مل تكن أبدً ا موجهة إىل السامء ،بل موجهة إىل اللغة الروسية
نفسها ،تلك التي حتدث خالهلا كل األشياء املرعبة بشكل ال يمكن جتنبه وال
يمكن فهمه.
بعد جميئنا إىل الواليات املتحدة ،كان كثري من رفاقنا املهاجرين قادرين
عىل التكيف وقد فارقوا برسعة فائقة لغاهتم التي ولدوا هبا ،حتى إهنم يغنون
ملايكل جاكسون بدقة ملحوظة وثقة عالية .السبب يف إنني كنت أحلم،
وأفكر ،وأرتعد خو ًفا ،وأعد النقود باللغة الروسية يعود إىل سلسلة من
أرص والداي عىل
صغارا .إذ ّ
ً القرارات التي كان والداي قد اختذاها حينام كنا
أمرا ال يقبل النقاش
أن اللغة التي نتكلمها يف املنزل هي الروسية فقط؛ وكان ً
وال املجاملة .ويف حني كنت أحاول احلفاظ عىل لغتي الروسية ،كان والداي
جياهدان يف معافسة احلياة مع اللغة اجلديدة فكانا يشعران بعظيم فائدة عند
223
االستامع لطفل يثرثر باإلنجليزية عىل طاولة الطعام.
ُظهر اإلنجليزي ُة َ
رأسها بشكل أو كان منزلنا روس ًيا حتى النخاع ،وحني ت ُ
بآخر ،فإهنا ُت ُ
فظ كتاب ًة عىل إحدى األوراق املستعملة التي كان أيب يراجع
عليها دروس احلاسب .كنت أمسك تلك األوراق بالدهشة ذاهتا التي كنت
أمسك هبا اللوحات من صناديق رقائق احلبوب .كنت مفتونًا باإلحساس
بالورقة :خشونة ملمسها ،ولوهنا ،وكوهنا أمريكي ًة ،وبالكلامت والتعبريات
التي قيدها أيب عليها :كلمة إنجليزية عىل وجه الورقة ،ومقابلها الرويس
عىل الوجه اآلخر .أتذكر اآلن دون سبب خيص هذه الكلامت :صناعة
،промышленностьإبريق الشاي ،чайникسكتة قلبية ،инфаркт
الرمزية ،символизмالرهن العقاري ،ипотекаوأخريا ..حظرية
.ранчо
أما السبب اآلخر للحالة اللغوية التي أعيشها فكان اقتصاد ًيا .مل تكن
وبدل عن مشاهدة مسلسل املغامرات أرستنا قادرة عىل رشاء جهاز تلفزيونً ،
التفت إىل خمتارات من أعامل أنطون تشيخوف(((: ُّ The Dukes of Hazzard
ثامنية جملدات ما زلت أحتفظ هبا يف مكتبتي اخلاصة .حتى حني وجدنا جهاز
تلفزيون (باألبيض واألسود) من إنتاج زينيث((( مرم ًيا يف حاوية القاممة ،مل
مسموحا يل أن أجلس ملشاهدته أكثر من نصف ساعة يف األسبوع ،وهو ً يكن
الوقت الذي مل يكن كاف ًيا لفهم سبب ظهور اخلارق َه ْل ْك((( باللون األخرض
-1أنطون تشيخوف أديب وكاتب مرسحي وطبيب رويس يعدّ أفضل من كتب القصة القصرية
مطل ًقا (تويف ١٩٠٤م).
-2من أقدم أسامء الرشكات األمريكية إنتاجا ألجهزة التلفزيون.
-3اخلارق هلك هو من األبطال اخلارقني من إنتاج جمموعة مارفن ،وهو الذي يدعى بالعربية
«الرجل األخرض».
224
تارة وبغريه تارة أخرى .دون التلفزيون مل يكن ثمة ما يمكن احلديث عنه مع
بقية األوالد يف املدرسة مطل ًقا .لقد تبني يل أن هؤالء اخلنازير املزعجني ال
هيتمون أبدً ا بعنوان مثل «عنب الثعلب» أو «السيدة صاحبة الكلب»((( .إنه
خترج من فم طفل وهيملن املستحيل يف مطلع الثامنينيات أن يسمع املرء مجل ًة ُ
ليست مرتبطة بصورة تلفزيونية.
وجدت نفيس يف هناية املطاف معا ًقا من جهتني ،فأنا أعيش يف عامل ال ُ
أتكلم أ ًّيا من اللغتني الفاعلتني واقع ًيا داخله :اللغة اإلنجليزية ،واللغة التي
ال تقل عنها أمهية ،لغة التلفزيون.
قررت الكتابة باإلنجليزية ،كام قررت أن ُ وذات يوم يف ذلك الزمان،
أستمتع بذلك .قررت أن أكتب للسبب ذاته الذي يكتب ألجله األطفال:
أي الوحدة ،وامللل ،أو لإلثارة الطاغية التي تدعو لبناء عامل بامدة احلرف
والكلمة ،عامل ال حتدد معامله األرسة أو املدرسة .والسبب األخري كان هد ًفا
ربا ومناد ًيا« :اسمع يا
حمور ًيا بالنسبة يل .خالل خشوعي يف الصالة متص ً
دعوت اإلله أن يتوالين برمحته وأن يبعد عني صغار اليهود يف
ُ إرسائيل» ...
املدرسة العربية وسخريتهمّ :أل يسخروا من مالبيس وال من جبيني رسيع
التعرق ،وال من واقع فقري وكوين روس ًيا يف العامل األمريكي املتأللئ .لكنني
قررت أن أفعل شي ًئا.
كتبت حينها تورايت اخلاصة .أسميتها غروناه (عىل غرار توراة)؛ حاكيت
ُ
يف صياغة االسم اللقب الذي كان يعريين به الطالب وهو لشخصية تلفزيونية
مل أشاهدها قط .كانت الغروناه نسخة فاجرة من العهد القديم .كانت حتتوي
عىل الكثري من األرقام واألغاين والنبوءات املغناة والكثري من املجون .أظن
225
فخورا هبا.
ً أن هنري ميلر((( سيكون
بت الغروناه عىل ورق مطوي قديم ،وقد اجتهدت يف طباعتها من كُتِ ْ
طالب املدرسة العربية
ُ َ
استقبل األسفل إىل األعىل كي حتاكي التوراة احلقيقية.
الغروناه بسيل من النقد ،يف كل االجتاهات .كان الطالب قد سئموا أسلوب
التلقني للتوارة والتلمود يف املدرسة ،كام سئموا من الصلوات التي تتىل قبل
الغداء وبعده ،وسئموا من احلاخام األمحق الذي يزعم أن ما حصل لليهود
يف أوروبا هو عقوبة هلم بسبب تساهلهم يف أكل حلم اخلنزير اللذيذ .بدأ
الكل يتحدث عن الغروناه ويقتبسون منها .لكن هذا مل جيعل مني حمبو ًبا أو
مقبوالً كصديق ألي من الطالب .وحده تلفزيون سوين بخزانة خشبية من
السوق يستطيع فعل ذلك .لكن انتشار الغروناه ساعد عىل جتاوزي لفكرة
عدم متكني من االنضامم لنادي غريبي األطوار يف املدرسة إىل أن أصنف
غريب أطوار مقبول .قل يل بربك ،هل هناك يشء ال تستطيعه الكتابة؟
أخذت الغروناه بيدي إىل هناية الطريق مع الروسية بوصفها لغتيِ
األساسية ،ودلتني عىل بداية مرحلة االندماج مع اإلنجليزية األمريكية.
جماورا
ً لقد كنت أريد أن أكون حمبو ًبا مهام كلفني الثمن ،األمر الذي جعلني
ملنطقة اجلنون فعل ًيا .لقد بذلت غالب وقتي يف الكتابة ،ساعات املدرسة
قصصا
ً كتبت
ُ والوقت الذي كان ينبغي لنا فيه مراجعة أحكام التلمود.
قصصا كانت تثرينا لنضحك من حياتنا التافهة،
ً ألصدقاء املدرسة وعنهم،
قصصا ً قصصا مليئة بتقاطعات مع شخصيات تلفزيونية مل أشاهدها قط، ً
تقطع الصلة بأي طيف ما زال يزورين لروسيا التي تركتها خلفي أو حتى
خصص أحدُ املعلمني ألوراق تشيخوف التي بدأ الغبار يعلوها عىل الرفّ .
-1رسام وأديب أمريكي اشتهر بعدم رضاه عن اإلنتاج األديب وبمحاولته لكرس الروتني وتغيري
أشكال املنتج األديب (تويف ١٩٨٠م).
226
بعضا من قصيص عىل الطالب يف الفصل، وقتًا من مادة اإلنجليزية ألقرأ ً
ُ
فيضحك الطالب وهيتفون يل مقدرين العمل الذي أقوم به .يا له من نرص
عظيم للكلمة املكتوبة يف تلك الزاوية من كوينز.
طويل ،فمامرستي للكتابة يف سن ما قبل املراهقة توقفت ومل ً مل يدم األمر
تستمر .يف ذلك الوقت بدأت ظروف أرسيت بالتحسن ،فنحن مل نعد فقراء
كام كنا ،واستطعنا رشاء تلفزيون سوين ذي الشاشة الكبرية (سبع وعرشون
بوصة) بقيمة ألف دوالر .أظن أن وصول التلفزيون إىل بيتنا كان أسعد حلظة
أدرت
ُ أحسست أنني أصبحت مواطنًا أمريك ًيا حقيق ًيا.
ُ أخريا
يف حيايت كلهاً .
مفتاح التشغيل ومل أطف ْئ ُه بعدها قط .كام إنني مل أكتب حر ًفا واحدً ا لعرش
سنوات منذ وصول التلفزيون.
لقد بدأت رحلة كتابة مقالتي هذه تزامنا مع رحلة طويلة جفاها النعاس
إىل روسيا املعارصة ،رحلة غمرهتا أصوات مضطربة من اللغة األم ،وقد
بلغت النهاية حيث جيب عىل الطفل يف داخيل أن يو ّدع اللغة التي شكّلت له ُ
كامل ذات يوم .لكن الذاكرة ،التي تعدّ ها الثقافة الروسية جمرد غطاء عا ًملا ً
ٍ
واه للحنني ،تسألني متوسل ًة هناية خمتلفة ملقالتي.
قررت أن أختم املشوار يف مكان آخر ،يف مكان يسمى مستوطناتُ لذلك
آن ماسون ألكواخ القش يف جبال كاتسكيل((( .حتى أفقر الروس ال يستطيع
العيش دون дачаبيت ريفي صيفي ،لذا فحني حيل شهر يونيو ،نذهب ومعنا
جمموعة من العائالت الروسية ونستأجر واحدة من تلك األكواخ ذات
التصاميم الكبرية .كنا أنا وأمي نتسلل إىل املنتجع املجاور لنسرتق النظر
إىل هيود أمريكيني ،أجسامهم ضخمة وقد َص َب َغتْهم الشمس بسمرة وقد
-1سلسلة جبال تقع يف اجلنوب الرشقي لوالية نيويورك األمريكية ،وفيها غابات وحياة برية
ثرية.
227
استلقوا عىل ظهورهم بجوار مسبح املنتجع األولومبي احلجم ،أو كنا نتسلل
ليل نحو مرسح العروض لنشاهد نيل دايموند((( يف فيلم «مغني اجلاز» .لقدً
كانت تلك -ربام -أعظم زفرة زفرهتا يف حيايت؛ ثم أخذت عهدً ا عىل نفيس
أن أعمل بجد واجتهاد كي أوفر حياة رغيدة مثل هذه ألوالدي (كان ذلك
املنتجع قد أقفل بعد عهدي به كام إنني مل أرزق بأطفال).
أما حالتنا يف مستوطنتنا ،آن ماسون ،فقد استمتعنا دون احلاجة إىل
ّسع لستة من األطفال الروس يف كل مشاهدة مغني اجلاز ،واملسبح الصغري يت ُ
مرة .أما آن ماسون مالكة املكان ،فهي سيدة كبرية يف السن ،ضخمة ،ثرثارة
تتكلم اليدشية .كنا نرى ثياهبا الواسعة جدً ا معلقة يف خزانة مالبسها .كان
غالب زوار املكان يف أيام األسبوع الصيفية من األطفال السوفييت ،ترافقهم
اس ُت ْئ ِم َّن عليهم .أما اآلباء واألمهات فهم يف نيويورك،
اجلدات الاليت ْ
ساخر،
ٌ يعملون ألجل لقمة العيش .كان األطفال حيبون زوج آن ماسون:
هنم لصحف قصري ،ذو حلية محراء ،واسمه مارفن؛ كان قارئًا ً
ٌ عظيم البطن،
األحد الساخرة .وكانت آن وزوجها يأخذاننا إىل مطعم قريب لتناول بعض
رشائح اللحم والبطاطس املهروسة .وكانت طاولة السلطات املفتوحة
بالكامل للضيوف عالمة بارزة للرأساملية ،لكننا كنا ننتظر االنقضاض عليها
بشوق عظيم.
كانت املستوطنة عىل سفح التل ،ويف أسفلها جدول ماء صغري لكنه
ساحر ومجيل ،وفيه كنت أنا وأيب نصطاد السمك ،حتى إننا اصطدنا سمكة
ال أعرف اسمها باإلنجليزية ،لكننا نسميها بالروسية сигوبحسب معجم
أوكسفورد الرويس-اإلنجليزي فهي سمكة تعيش يف املاء العذب وتنتمي
ألرسة الساملون .يف الناحية األخرى من اجلدول مزرعة تنتج أساطني التبن
228
أعال ًفا للحيوانات ،يملك احلقل بولندي متطرف يف معاداته للسامية ،والذي
زعمت
ْ لن يتورع عن مهامجتنا مجي ًعا مع كلبه إن اقرتبنا من أمالكه؛ أو هكذا
اجلدّ ات.
صباحا بنية إطعامنا الفواكه وجبن
ً كنا نقيض صيفنا واجلدات يطاردننا
فتبح أصواهتن وهن ينادين علينا لنلبساملزارع الطازج .أما يف املساءّ ،
مالبسنا الدافئة لنحتمي من برودة اجلبال.
كان هؤالء األطفال هم املسافة األقرب التي اقرتبتها من أبناء بالدي.
كامل .أصبحت بعض الفتيات كنت أتطلع أن أكون بمعيتهم خالل العام ً
-دون شك -بالغات ومجيالت مجاال ال يقبل املقارنة ،وجوههن صغرية
ودائرية بمالمح أسيوية-أوروبية ،وأردافهن رشيقة ينضجن بنعومة رويدً ا
رويدا .أما األمر الذي كنت أحبه فيهن هو أصواهتن املبحوحة احلامسية ،وهن
تطو ُق األفعال اإلنجليزية أو العكس.
يلقني األسامء الروسية كاحلبال التي ّ
وطازجا ،حتى قررت أن أكتب الشعر املغنى ً وما زال نجاح الغروناه داف ًئا
ٍ
أغان من أكثر أغاين الثقافة األمريكية أللبوم موسيقي :أدخل الروسية عىل
انتشار ًا وشهرة .ظهر صوت الراء rrrأكثر جاذبية حينها مما كنا نظن .عند
حاكيت صورة بروس سربينغستني((( عىل غالف ُ تصميم غالف األلبوم
ألبومه «مولو ٌد يف الـ »USAفارتديت اجلينز والقميص ،ووضعت قبعتي يف
جيب اجلينز اخللفي لتبدو واضحة ،وقد طلبت من الفتيات أن يلتففن حويل
عند التقاط الصورة ،وهن يرتدين تنورات مجيلة وسرتات ،ويضعن شي ًئا
لدت يفناعام من الزينة« .مولو ٌد يف الـ »(((USSRكان اسم ألبومنا ....لقد ُو ُ
لـ ـيـ ـنـ ـغـ ـراد.
229
انتظرنا عطلة هناية األسبوع ،حتى حيرض اآلباء العاملون وهم متعبني من
أعامهلم األمريكية .يكون الرجال حينها متأهبون لينزعوا عنهم قمصاهنم
ويولوا صدورهم ناحية السامء ،والنساء يتكلمن بصوت منخفض عن
أزواجهن .ثم نتزاحم يف سيارة صغرية نحو أقرب مدينة حيث يوجد صالة
سينام لعرض األفالم القديمة مقابل دوالرين وسلة الفشار الكبرية مع الزبدة
بعضا
السيئة بنصف دوالر .حني نعود ملستوطنتنا ،نجلس يف أحضان بعضنا ً
ونناقش فكرة فيلم «إي يت الكائن الفضائي عىل األرض» .تساءلت حينها
عن سبب عدم امتداد مغامرة القصة إىل خارج حميط األرض ،إىل كوكب
صديقنا متجعد البرشة ،إىل مسقط رأسه ووطنه احلقيقي.
يستمر نقاشنا الرويس-األمريكي حتى تنري نجوم الليل عيني ثور
صاحب حقل التبن املعادي للسامية ،أما جداتنا فيتحاورن بصوت منخفض
عن وجبات طعام اليوم التايل وتستمر مههمتهن حتى بعد خلودهن للنوم.
غدً ا مباراة ودية يف التنس األريض ،فسيكون يو ًما طويالً .أما بعد الغد
فسيكون اليوم الذي يستلم فيه مارفن الصحف الساخرة كي نضحك سوي ًا
عىل بيتيل بييل وغارفيلد((( .ال يتطلب األمر أن أفهم كل يشء ألضحك،
فالضحك كالسعادة ال ت ُ
ُدرك أسباهبا غال ًبا.
-1شخصيات أمريكية كرتونية ساخرة كانت تظهر قصصهام عىل صفحات املجالت.
230
بوزويل والسيدة ميلر
جيمز كامبيل
(((
حني سلك جيمز بوزويل((( الطريق املخترص من اسكتلندا إىل لندن يف
العام 1762م ،باح ًثا عن الثروة ومؤل ًفا من بعد ذلك كتابه «حياة [صمويل]
جونسون» ،احتاج بوزويل جلواز سفر يعرب به احلدود .وبعد عبوره احلدود،
تصور بوزويل أنه بحصوله عىل ختم العبور قد حصل عىل ما سيغري من ّ
حياته كلها إىل األفضل .كان التغيري إىل األفضل معيش ًيا هو غاية بوزويل
العظمى يف احلياة؛ ويف سبيل تلك الغاية ،كان بوزويل مستعدً ا أن ينزع عن
ذاته جالفة «جيمي» االسكتلندية ،ليحل حملها لطافة «جيمز» املتأنجلزة(((.
صافحت بوزويل ذكرى مفاجئة لبالده ،مل
ْ يف لندن وذات ريح جنوبية،
ِ
لسان السيدة ميلر قع
أيضا« .لقد كان َو ُ
تكن يف حسبانه ومل يكن راغ ًبا هبا ً
الغالسكوي((( عىل جسدي كالعذاب» ،هكذا كتب يف مذكراته ليوم 17
-1جيمز كامبيل ( )James Campbellكاتب وباحث ونارش اسكتلندي .عمل حمررا أدبيا يف
املجلة الفصلية ( )New Edinburgh Reviewلسنوات .نرش سرية الروائي والناقد االجتامعي
بولدون بعنوان «حديث عىل األبواب» (١٩٩١م) ،كام نرش (١٩٨٤م) كتابه عن ِ األمريكي جيمز
اسكتلندا بعنوان «البالد املخف ّية :رحلة عرب اسكتلندا».
-2كاتب سرية ويوميات اسكتلندي تعد السرية التي كتبها لألديب اإلنجليزي صمويل جونسون
(تويف ١٧٨٤م) أعظم سرية كتبت باإلنجليزية (تويف ١٧٩٥م).
-3أي املتقربة واملتشبهة بأفعال اإلنجليز ،أهل إنجلرتا.
-4نسبة إىل غالسكو مدينة شامل اسكتلندا.
231
يأذن «قررت حينها ّأل أتناول طعامي بتاتًا يف ّ
أي مكان ُ ُ مارس 1763م.
المرأة اسكتلدنية من الغرب أن تتغذى فيه معنا».
ال بد وأن تلك املرأة االسكتلندية من الغرب كانت قد أحدثت جلب ًة
صفو قبيحة جدً ا .كام يقرتح بوزويل أنه جيب ّأل يعكّر ُ
نباح البهائم املتوحشة َ
طاولة النخب وأناقتها .نالحظ هنا أنه بينام يتناول ( )dinesبوزويل طعامه،
فإن السيدة ميلر تتغذى ( .)feedsومن املفاجآت أن السيدة ميلر هي زوجة
توماس ميلر ،نبيل اسكتلندا األول ومندوب العرش الربيطاين فيها ،وهو
أعىل منصب اعتباري قانوين يف البالد .البد أن السيدة ميلر كانت تعدُّ نفسها،
أيضا ،فر ًدا من الطبقة العليا ،أي النخبة .إن قصة انزعاج ويعدها آخرون ً
بوزويل وإحراجه ختربنا أنه مل يكن مستغر ًبا يف منتصف القرن الثامن عرش
جنسا لغو ًيا يسمى االسكتلندية القديمة،
أن يتكلم علية القوم يف اسكتلندا ً
وهو جنس عام يعرب عن اللهجة التي كافحت عرب الزمن لتدوم منذ العصور
الوسطى وحتى يومنا هذا .وحني أراد بوزويل أن يتجنب مشاهبة السيدة
قليل ،ويتكلم بصورة خمتلفة.ميلر ،كان عليه فقط أن جيتهد ً
ولكن كيف كانت السيدة ميلر تتحدث؟ كانت تقول ( )affوتعني
بدل عن ()out؛ كام كانت السيدة ميلر تقول (ben ( ،)offوتقول (ً )oot
)the hooseوتعني داخل املنزل ،و( )greetanلتقول بكاء .مل متانع
السيدة ميلر أن تبدو غريبة أو تلقائية أثناء عشائها ،لكن بوزويل والذين
معه كانوا حياولون إظهار رقيهم بإبقاء مرافقهم بعيدة عن الطاولة .كانت
خاصا ،وهو ما حاول بوزويل جاهدً ا حموه من تستخدم ً
أمثال وبنا ًء نحو ًيا ً
حياته لسنوات .قالت وهي تتفكر يف ازدراء املتعجرف بوزويل ويف عينيه
عاجز عن التفريق بني املرأة الغنية والفقرية» .ثم
ٌ الناقمتني« :أظن أن جيمي
أكملت تناول وجبتها اللذيذة .كانْ نفس ِك» ثم ِ
رصخت قائلة« :ال ُت ْغضبي َ
232
األمر بالنسبة لبوزويل وصحبه أن السيدة ميلر عاجزة عن إدراك الفرق بني
كلامت مثل )those, they( :أو حتى ( ،)thaeفهي هبذا عاجزة عن نطق
مثل عند احلديث عن احلرف البسيط aوهلذا مل حتاول التلفظ باسم التفاح ً
التفاحات ( )applesالتي عىل طاولتها .تقول،)thon ashet yonder( :
حني تريد احلديث عن الطبق ،بمعنى «ذاك الطبق الدائري الذي هناك».
بدأت السيدة تتكلم بسخرية عن أبيها والعائلة وطفلها الصغري الذي كان
وسيم ( ،)bonnyوإن كان ينقصه الذكاء .حني حتاول السيدة ميلر أن تنطقً
الصوت aفإهنا خترجه من املخرج اخلاطئ ،فكلمة ماء ( )waterتُعجز لسان
السيدة ملري لتصبح ( .)waa’erولك أن تتخيل أن يتكرر هذا الغلط يف كل
الصوت بوزويل وملاذا كان له أثر
ُ الكلامت اإلنجليزية لتتصور كيف أوجع
العذاب.
مل يكن من املسموح للسيدة ميلر العودة إىل الطاولة وإال فإن بوزويل
يرفض متا ًما اجللوس عليها .قبل أسابيع قليلة من هذه احلادثة كان بوزويل
قد رأى أن من احلكمة واملصلحة االجتامعية أن يتجنب لقاء أبناء بلده مطل ًقا
عند جميئهم إىل لندن قاصدين منزله .خاصة أولئك الذين يتسببون له باحلرج
بحديثهم بـ «لسان غالسكو الفظيع».
أعرف السيدة ميلر جيدً ا .وأستطيع سامع ما تقوله بوضوح تام .مع بعضُ
التغريات يف أصوات الع ّلة ،وبعض االرتفاع أو االنخفاض يف األصوات
احلنجرية الوقفية((( ،فإن امتداد ذرية السيدة ميلر اليوم يف غالسكو يتكلمون
متا ًما كام تكلمت قبل قرنني ونصف من الزمان .متثل طريقة السيدة ميلر
الكالم الطبيعي يف غرب اسكتلندا؛ بينام كان بوزويل يلمع أطباقه وهيذب
-1األصوات احلنجرية الوقفية التي تشبه يف خمرجها وصفتها صوت اهلمزة يف اللغة العربية.
233
مظهره ليتكلم ( ،)suddronأي ( )southernاللهجة اجلنوبية((( .واألمر
اليوم أشبه بالتقليعة بني الكثري من سيدات املجتمع االسكتلندي وسادته.
ينحدر بوزويل من أرسة مرفهة من مالك العقار واملحامني من املناطق
الزراعية يف اجلنوب الغريب ،وكان قد التحق بجامعة غالسكو .تلقى
دروسا يف اخلطابة وتقويم اللسان يف أدنربه عىل يد توماس شرييدان ،والدً
الكاتب املرسحي ريتشارد برينسيل ،وال شك أن توماس كان يعرف
(((
234
فاللبق الذي ينطق «غالسكو» خيرج إىل فضاء املدينة متجنبا التواصل مع كل
من ينطق «غليسكا» .إذ يتخذ كالمها موق ًفا اجتامع ًيا بمجرد أن ّ
يتفوه اآلخر
بكلمة.
قد يعامل السيد غالسكو السيد غليسكا بيشء من التعايل والسخرية
الدافئة؛ يشء ُيقصدُ به املتعة .يف املقابل قد حياول السيد غليسكا املبالغة يف
طريقة نطقه للمفردات ليامحك نده .وقد يظن السيد غالسكو أن اآلخر
يقول غليسكا ألنه عاجز طبيع ًيا عن نطق غالسكو .والذي يظهر أن الندين
ال يعرفان أن الكلمة يف القرن الرابع عرش واخلامس عرش كانت تكتب
( ،)Glescuولربام وافق نطقها أحرفها متا ًما «غليسكو» و هي طريقة ُ
متزج
بني نطق كل من بوزويل والسيدة ميلر سويا.
إن االنقسام اللغوي الذي تطور يف القرن السادس عرش مراف ًقا االحتاد
تسبب بانقسام حتى عىل صعيد َ بني العرشني امللكيني يف إنجلرتا واسكتلندا
األفراد .ال يوجد متثيل يعرب عن هذه الثنائية وهذا االنقسام يف اللسان
نفسه .يف كالمه اليومياالسكتلندي مثل ما عرب عنه واق ًعا الشاعر الوطني ُ
ويف شعره وأدبه ،كان لروبرت برينز((( هلجتان :االسكتلندية القديمة
وكثريا ما كان جياور بينهام يف اجلملة الواحدة ،أو يف
ً واإلنجليزية املعيارية.
املقطع الشعري الواحد ،كام فعل يف كلامته املشهورة:
The best-laid schemes o’ mice an’ men
-1روبرت برينز شاعر وكاتب أغنية اسكتلندي ،كان يدعى الشاعر الوطني (تويف ١٧٩٦م).
235
قصيدة «إىل فأرة» مثل كثري من قصائد برينز كُتبت باملزاوجة بني
تفوقت النكهة االسكتلندية رغم قلة االسكتلندية واإلنجليزية ،وإن ّ
مفرداهتا املشاركة .وهذا كان أيضا واقع برينز يف كالمه اليومي .ففي رسالة
كتبها إىل مزارع من جريانه يف آيرشاير (وهي املقاطعة التي ينتمي هلا بوزويل،
ميل جنوب غرب غالسكو) ،كانت الكلامت كلها من وتقع عىل بعد مخسني ً
اللهجة االسكتلندية وإن ختللتها بعض اإلنجليزية املعيارية .يف الوقت نفسه
قادرا عىل أن يتكيف مع خطاب آخر متى ما دعت الظروف إىل كان برينز ً
ذلك .فحني التقى مع رجال ونساء يف صالة للفنون يف أدنربه وأراد الكتابة
هلم مود ًعا كاتبهم بصوت خمتلف عىل اإلطالق .كذلك كانت رسائله إىل
ختتلف متا ًما عن مكاتباته إىل النساء،
ُ رفاقه من زمالء املدرسة من الرجال
خاصة أولئك الاليت يك َّن هد ًفا لعاطفته.
الكثري من الفوارق اللهجية املبنية عىل االختالف ُ يف االسكتلندية
اجلغرايف ،والسيد برينز وبالده آيرشاير والسيدة ميلر ومدينتها غليسكا ليسا
إال اثنني من هذه اللهجات الكثرية .وكل هذه اللهجات مرتبطة ببعضها،
وبمجموعها تشكّل االسكتلندية ،كام إهنا مجيعا مرتبطة باإلنجليزية املعيارية.
خيارا شائ ًعا أيام برينز وبوزويل ،لكنه قبل مئتني
كان استخدام االسكتلندية ً
أمرا كونيا يشمل اجلميع. ومخسني سنة من زمنهام كان ً
خالل املئة واخلمسني عا ًما املاضيةُ ،أعلن عن موت االسكتلندية أو
اضمحالهلا وتالشيها؛ أو ربام كان ذلك األمل بمثابة خماض البعث من جديد.
لقد بذر روبرت لويس ستيفينسن((( ،الذي ولد ألرسة من الطبقة الوسطى
يف العام 1850م ،الكثري من االسكتلندية التي اكتسبها من اخلدم واملزارعني
-1روبرت لويس ستيفنسن كاتب وروائي وشاعر اسكتلندي ،القى إعجا ًبا عامل ًيا أشهر أعامله
جزيرة الكنز (تويف ١٨٩٤م).
236
لتنمو يف شعره ورسائله ،بل حتى يف قصصه القصرية؛ و كان يعلم أن فعله
كان بمثابة احلنني اللغوي .كان ستيفينسن يستحرض شخصية جده يف
القصص ،الذي قال عنه برينز« :من أواخر الذين تكلموا االسكتلندية وهو
رجل رفيع الشأن» .لقد صاغت قصص آيرشاير الشعبية يف وقتنا احلارض
صورة «األصدقاء» و«الرشقيني» حني خاطبت عابر ًة األطليس أقاربنا
املهاجرين يف أمريكا الشاملية ،والذين مل يعودوا يتكلمون بكلامت مثل ما
كتب برينز جلاره املزارع ،أو مثل ما ضمن قصيدته «أيتها الفأرة» ،بالرغم من
بعدهم الشديد عن موطن نسيجهم املميز .وكأن املساحة تضيق عىل اللهجة،
كلام اقرتب الناس من بعضهم؛ ألنه ينبغي لنا أن نخاطب اجلريان بلغة نثق
أهنم سيفهموهنا.
ومع ذلك كله ،فإن االسكتلندية ما زالت عىل قيد احلياة .إهنا معارصة
الصبية والفتيات يف شوارع غالسكو اليومبشكل ربام مل يالحظه الكثري .إن ِ
-عىل سبيل املثال -جيدون لغة األنشودة الشعبية واألغاين الراقصة مألوفة
هلم ،بل ولربام تكلموا كام مل يتكلم الكبار.
إن األدب االسكتلندي دائم النقاش والذكر ملسألة الثنائية واالزدواجية.
فرواية «الدكتور جيكل والسيد هايد» لستيفنسن -عىل سبيل املثل -وغريها
من القصص والقصائد تطرح مسألة العاملني أو الواقعني :واقع األشباح
مهم للغة التي كُتب هبا
ملظهر ٌ
ٌ والسحرة والوحوش وواقعنا .إن الثنائيات
عدد ال يستهان به من األدب االسكتلندي بأجناسه .هناك تعبري قاله يف
األصل الشاعر إدوين موير((( واقتبسه الكثري عنه حتى أصبح وكأنه من
املسلامت ،وهو أن عاطفة كتّاب االسكتلندية يف الزمن املعارص اسكتلندية،
حيسون ويشعرون عرب هذه اللغة؛ لكنهم يف املقابل يفكرون بلغة أخرىفهم ّ
237
وهي اإلنجليزية.
إن اخلالف بني العنرصين مستمر حتى يومنا هذا يف اسكتلندا .وقد
ظهر بشكل جيل يف صالون بيتنا يف اجلهة اجلنوبية من غالسكو يف أواخر
اخلمسينيات وأوائل الستينيات .كنا أرسة من الطبقة العاملة حيدونا األمل يف
والدي
ّ نشأت يرافقني حرص بالغ من ُ أن نكون من الطبقة الوسطى .وقد
عىل أن أتكلم «بشكل صحيح» (أو قل كام يتكلم الناس الذين ال يتكلمون
بشكل صحيح حني يقولون speak politeويقصدون تكلم بلطف((().
ولكنني يف منتصف مراهقتي مارست ثورة خاصة ،وبدأت رحلة العودة إىل
االسكتلندية القديمة .مل أكن أدرك يومها أن هذا اسمها يف احلقيقة ،لكنها
اللهجة التي كنت أسمعها حويل .كنت أتساءل إن كان ثمة يشء يف «غلظة»
الكالم يبادر أعاصري املراهقة بالرضا .كان موقف أهيل مثل موقف بوزويل،
ويف املقابل كنت أنا مثل السيدة ميلر متا ًما .وكانت املصادفة أنني يف تلك
األثناء تعرفت عىل جمموعة من األصدقاء من املناطق الفقرية يف غالسكو،
يقال عنها أهنا سيئة السمعة تسمى غوربالز((( .مل يكن يف أصدقائي ما
ُ
تعمل عملها يستحقون أن يوصفوا معه بالسمعة السيئة ،لكن «اجلغرافيا»
يف تقسيم السمعة يف املدن الكبرية ،وغالسكو واحدة منها .كل مساء ينتبه
متجاوزا تلك األشجار املهذبة
ً عيل حني أسري
كل من هيتم ألمري وخيشى ّ
متجها نحو تلك البنايات املليئة بالوحدات السكنية،
ً واملنظمة يف شارعنا،
واحلاويات ،والساحات ،ومداخل األقبية .ولكنني لست مثل بوزويل ،فقد
حني يتكلم املعياريون اإلنجليزية جيب أن يقال politely speakوليس polite speak -1
وهذا كان مقصد الكاتب.
-2غوربالز حي كان يقع باملقربة من املصانع يف غالسكو فغلب عليه سكن الطبقة العاملة واملنازل
فيه يف بنايات حلفظ املساحة.
238
كنت أبدل لساين أثناء الطريق .كنت أترك معطفي اإلنجليزي ( ،)jacketثم
أرتدي معطفي االسكتلندي ()ma jaiket؛ خمل ًفا غالسكو ورائي ومتجها
إىل غليسكا.
مل يكن من املألوف أن يكون ملراهق لغة لساحات اللعب ،ولغة أخرى
حتول األمر
لقاعات الدراسة؛ واحدة للشارع وأخرى لصالون املنزل .ثم ّ
إىل حدث درامي ليكون املفصل الذي جيعل االختيار بني الظلمة والنور
واجبا كام يف ثنائيات القصص وعواملها .أمي ،التي ال ختتلف يف يشء عن
األمهات حولنا والتي مل تسمع ببوزويل يو ًما ،تدرك متا ًما واقع «لسان
والدي حني يرققان أصواهتام وأصوات أطفاهلام،ّ غالسكو الفظيع» .إن
ٌ
أجيال من اخلانعني؛ كانا حياوالن النهوض ،أو كام يفعالن ما فعلته قبلهام
يقول بوزويل ليتمكنا من بلوغ رشف خدمة طاوالت طعام النخبة .لكن
شوارع غالسكو كانت مليئة بمن مل ينهض ،وأنى هلم ذلك .لقد كانوا فقراء؛
دون عمل؛ ويرشبون الكثري من اخلمر ويرتكبون بعض املخالفات القانونية.
هل يا ترى كان هؤالء الناس عاجزين عن حماولة التصالح مع نطق تلك
األصوات ،أصوات إنجليزية امللكة؟! «من سيوفر لك وظيفة وأنت تتكلم
مر!
هبذا الشكل؟» شعار يرفع يف وجه كل من وقع ضحية لواقع ّ
أناسا حمرتمني؛ أولئك الذين مل يتمكنوا من قول ()ground لقد كانوا ً
لكنهم قالوا ()grun؛ أولئك الذين عجزوا عن /ou/يف ( )houseوعن
/ea/يف ( ،)breadفقالوا ( )hooseو()bried؛ الذين قالوا ( )hameوهم
يقصدون ()home؛ الذين كان من العسري عليهم أن يكملوا نطق أبسط
الكلامت مثل ( ،)of, all, dadفقالوا ( .)’o’, a’, adلكن هؤالء الناس كانوا
غال ًبا يف الضواحي ،يف األرياف حيث يسكن حبيب أمي وأخوها اخلال
مبهجا
ً وييل ،الراعي واملزارع وييل .يف ذلك املكان يعدّ اللسان االسكتلندي
239
للقلب .Hertsome :يف األرياف تبدو االسكتلندية صح ّي ًة أكثر من غريها؛
متا ًما مثل احلليب والبيض حني يقدم يف الريف ،جملو ًبا مبارشة من املزرعة إىل
طاولة اإلفطار ،فيكون طعمه ّ
ألذ.
كان عىل الناس حتى يكونوا مقبولني بلساهنم االسكتلندي أن يكونوا يف
األرياف ،أو أن يكونوا من العجزة ،حيث تكون جذورهم يف القرن التاسع
ناقشت هذه الشؤون
ُ عرش ،مثل جدي وجديت .كان من الغرابة مرة أنني
السياسية/اللغوية مع أختي أثناء زيارتنا جدي وجديت ،اللذين ولدا يف
يف زمن روبرت لويس ستيفنسن؛ وقد رحبا بنا عند الوصول هبذا اللسان
القديم ،)c’wa ben the hoose( .هكذا قالت جديت لتدعونا إىل «داخل
املنزل» .مطر الصيف الرقيق كانت تسميه ( ،)smirrواألطفال املبللون
( .)fair drookitكانت جديت كبقية جيلها ،تتكلم باإلنجليزية لكنها تنزلق
بانسيابية وطبيعية نحو اللغة القديمة .تدعو جديت الصبية و الفتيات (chiels
،)and quinesوكانت تسمي فتحة ترصيف املياه ( ،)stankوإن كانت
خارج املنزل تكون ( .)scunnerجييء عىل لساهنا بعفوية مجيلة الكثري من
مفردات برينز فتقول ( )bideوتعني يسكن ،وتقول ( )tholeوتعني جياهد.
مل تسمع جديت يو ًما عن هيو ماكديارميدز((( ،لكنها قط ًعا كانت ستفهم شعره
وتطرب له.
ُأرسلت أخوايت الكبار كحال كثري من الفتيات إىل معلمة للخطابة
َ
وجياهدن ويترصف َن خارج لغتهن وكالمهن بأقىص وتقويم اللسان ليسك ّن
ن يرتاقصن ماشيات خارج املنزل ويقلن (how-now-brown- ما يكون .ك ّ
التمرن عىل التشبه باللسان القويم.
ّ متثييل مرسحي من قبيل
ّ )cowيف أداء
-1كريستيفور غريف وكان يكتب باسم الشهرة هيو ماكديارميدز ،شاعر وصحايف ورجل
سياسة اسكتلندي (تويف ١٩٧٨م).
240
متذكرا أستاذه شايريدين.
ً أظن أن بوزويل كان سيبتسم فرحا ملشهدهن
متتلك أمي وبوزويل الكثري من احلجج الصحيحة وهذا يشمل التعليم،
والقبول االجتامعي ،وفرض االحرتام .لكن «األدب» يقف إىل صفي
مؤخرا أن اللغة التي يتكلم هبا رفاقي يف
ً وصف السيدة ميلر .لقد أدركت
غروبالز ،وجدي وجديت ،وخايل وييل ومعه عصا الراعي ،ويتكلمها كل
الصبية والفتيات يف آيرشاير ويف اسكتلندا كلها مل تكن لغة فاسدة أبدً ا .كل
اللهجات املحلية ،بام فيها غليسكا ،هي هلجات منحدرة من االسكتلندية
القديمة؛ اللغة التي استخدمها شعراء القرن التاسع عرش العظامء :ويليام
دونبار وروبريت هنريسون((( .الصبية والفتيات يف الشوارع املجاورة مل
يقولوا ( )thae aipplesألهنم عاجزون عن نطق ( ،)these applesأو ألهنم
مصابون باحلرج؛ بل كانوا حيافظون -أدركوا ذلك أم مل يدركوا -عىل
االسكتلندية القديمة التي نجت خالل قرون من حماوالت قتلها عىل يد
دروس اخلطابة وتقويم اللسان .إن هذه املالمح هلذا اللسان كانت يف زمن
مىض هي الغالب السائد لعموم أرض اسكتلندا.
هل أنا اآلن ذو عاطفة اسكتلندية وتفكري إنجليزي؟ ربام ،ألكون جز ًءا
أي منها أن أكون «أصيالً».
من معركة أو مناظرة أو حتى متعة إن تطلب ٌ
أو ألنني أريد أن أتداخل مع الطبيعة واألطفال واحليوانات .إن الكلامت
االسكتلندية متلك قدرة عىل جذيب إليها .والشعر االسكتلندي يبهجني
أشعر منه،
َ
(((
بشكل ال يقدر عليه سواه .كان دونبار دائم الرتديد بأن تشورس
1دونبار شاعر اسكتلندي عظيم من «املؤسسني» ومن شعراء البالط امللكي (تويف ١٥٣٠م).
هنريسون كذلك من شعراء اسكتلندا «املؤسسني» (تويف ١٥٠٠م).
-2جيفري تشورس شاعر إنجليزي من العصور الوسطى من أهم الشعراء يف األدب اإلنجليزي
(تويف ١٤٠٠م).
241
لكن دونبار خياطبني كام مل يفعل تشورس قط ولن يقدر أبدً ا .إنه يشبهني .إن
اللغة التي يكتب هبا دونبار وبعض أخوته الشعراء الذي جاؤوا بعده بخمسة
قرون جتيء وكأهنا نصف ذكرى ،مرصة أن تكون اللغة األوىل وإن ُأ ِخ َذ
يعج بأمواج من األشياء مكانا .إن املرور بمحطة قطارات غالسكو اليوم ّ ُ
املألوفة؛ اللغة التي تسود يف جو املحطة حتمل جتارب مل أدرك أهنا حية؛ كأهنا
كانت غامضة ،مسترتة خلف اجلدران التي شيدت لتفرق بني اسكتلندا
وإنجلرتا.
حني انتقلت للسكنى يف لندن عند بلوغي سن الثالثني أعرتف أنني فعلت
مت لساين! مل أكن فظي ًعا كام زعم كام بوزويل عن السيدة
قو ُ
ما فعل بوزويلّ :
مسجل ،كانت ً ميلر ،لكنني كنت أشعر بيشء ما .حني أسمع صويت وكالمي
حدة اللكنة وقوهتا تفاجئني جدً ا .لكنها تالشت مع الوقت .مل أتعمد ذهاهبا،
فعل أملك صوت ًا ولسانًا
ومل أروعها لتستعجل الرحيل .أعتذر لنفيس ألنني ً
ّنزا ًعا إىل التقليد بشكل طبيعي .إنني أنزع إىل أن أشابه أولئك الذين أمتنى أن
أكون مفهو ًما هلم؛ لذلك أظن صويت االسكتلندي مل يذهب بعيدً ا ،بل هو
خمتبئ حتت تلك املالبس اجلنوبية.
املفارقة يف أرستنا تكمن يف أنني حني ارحتلت بلكنتي جنو ًبا ،ارحتل
والداي إىل الناحية األخرى متا ًما .يف السنوات األخرية بدأ أيب يعرب عن آرائه
السياسية بلسان غري لسانه املعتاد .مل أشهده يتكلم هكذا منذ بدأت عمليات
إدانتي بسبب أصدقائي الذين كنت أصحبهم .كان يتذمر ويشتم السياسيني
بلسانه اإلنجليزي .لكنه يف سنواته األخرية وبعد انتقاله إىل أطراف املرتفعات
الشاملية ،بني الناس الذين يتكلمون درجة ناعمة من االسكتلندية احلديثة،
وجد أيب نفسه وقد تغريت أصوات الع ّلة لديه؛ بدأت تتجه إىل الشوارع
التي نشأ هبا ،غري بعيد عن الشوارع التي وصمت بسوء السمعة يف غوربالز.
242
أهبجني صوته االسكتلندي .كانت عودته إىل صداقته مع لسانه اآلخر مرحية
وممتعة.
يف املقابل ال ينتاب أمي شعور سلبي مطل ًقا حيال البقاء مع «غالسكو».
وذات يوم ،يف مرض أيب الذي تويف فيه ،رفض أيب االستجابة ألمر الطبيب
بأخذ الدواء ،كام هدد الطبيب بأنه سيذهب خارج املنزل يف حني إنه ممنوع
من ذلك طبيا .جلست أمي عىل كرسيها املعتاد مرهق ًة ،ثم أدارت وجهها
نحوي.
( ،)Thrawnأظنها قالت ذلك! ثم سألتني« :أهذه هي الكلمة؟» كانت
أمي تسأل فعال ،لكن دقتها يف اختيار املفردة كانت مبهرة ،فالكلمة تعني
حرف ًيا «ملتوي» لكنها تعني جماز ًيا الشخص الصلب والعنيد .نعم ،إهنا
الكلمة بعينها .مل أسمعها قط تقوهلا من قبل؛ ال بد وأهنا كانت قد خبأهتا
للحظة املناسبة.
أما بوزويل ،بعد سنوات من غلظته عىل السيدة ميلر ،فقد كان يف لندن،
يرتب لزواجه من امرأة اسكتلندية وجيهز نفسه للعمل حمام ًيا .يف ورقة من
مذكراته ،يف يوم الثالثني من مارس من العام 1772م ،ذكر أنه كان مع
كامل. ً
انتقال ً جونسون يف أحد بيوت القهوة يتفكر يف االنتقال من اجلنوب
«مل يعارض السيد جونسون الفكرة ،وقال أنني سأستعيد لكنتي االسكتلندية
رسي ًعا» .ها هو بوزويل يشق لنفسه طري ًقا .فبعد عرشة سنوات من رؤيته
للسيدة ميلر ،وبالرغم من كل الدروس التي تلقاها ليقوم لسانه ،ما زال
جيمي يف احلقيقة يتكلم بلسانه األول.
243
ٌ
هوامش لحياة مزدوجة
آيريل دورفمان
(((
244
مفردات اللغتني سو ًيا و .....اخرت ما شئت من االستعارات أهيا القارئ .املهم أنني حني قررت
أن أكتب مذكرايت ،كان هذان القسامن من دماغي ،أو هذان اللسانان قد سدّ ا تلك الفجوة التي
أسميها ()cabeza؛ أو أسميها رأيس؛ قررت حينها أن أعلن اهلدنة ،أن أوقف حرب الشكاية
فعل يف حاجة أن تنجو كلتا اللغتني من املنفى .أردهتام أن تعمال سو ًيا؛والتذمر هذه ،ألنني كنت ً
أن تتناوبا :مرة باإلنجليزية ومرة أخرى باإلسبانية .أحتاجهام سو ًيا ألجل مواجهة الديكتاتورية
أردت أن أمتكن
ُ يف تشييل؛ أريد أن أرفع سقف احتامالت أن ُأسمع الناس قصة األرض املنهوبة؛
من إقناع ضعف عدد من يمكنني إقناعهم حول العامل بلسان واحد .كان الفضل لتلك اهلدنة
يف أن آمنت أنني أستطيع اآلن السيطرة عىل قصة حيايت؛ أستطيع اآلن إقفاهلا بطريقة ال تتضمن
الرصاع مع اجلدران أو حماولة الغوص فيها.
وحني بدأت كتابة اجلملة األوىل يف تلك السرية بإحدى اللغتني -اإلنجليزية عىل سبيل املثال -مل
تكن اإلسبانية صبورة حتى ترصفت بقلة أدب ،وذلك بحجب الكلامت كام لو ك ّن أجنبيات،
الزوجات أزواجه َّن بالطالق عند اخلالف :إن
ُ كام لو كانت حالة من اخليانة اللغوية .وكام هتدد
فعلت هذا أو هذا فأنا خارجة من هنا وحياتك .وإن عكست احلكاية وحاولت الكتابة باإلسبانية
فإن اإلنجليزية لن تتسامح مع تلك اخليانة كذلك .من الواضح ( )qlaro que siأنني أستخدم
استعارات هنا .ليست اللغتان شخصيتني عىل خشبة املرسح ،لكني وبمنحهام حياة حقيقية
عيل ،كام أحاول أن أعرب عن شعوري
مستقلة ،فأنا أحاول فقط أن أعرب عن تسلطهام االستثنائي ّ
حني حتاوالن مقاطعة كتابتي بمثال واضح جدً ا.)muy simple( :
إذن ،هل سبب هذا انقطاعًا يف عميل؟
متى ما كتبت شيئًا عن حيايت بإحدى اللغتني بدا زائ ًفا ( ،)falsoأو خمادعًا (.)fraudulento
باملناسبة فإن يف اإلسبانية جتيء هذه الالحقة ( )lento-وكأهنا تدلل عىل خديعة بطيئة مثابرة؛
خديعة ّ
متط نفسها داخل عقل اإلنسان؛ بينام اخلديعة اإلنجليزية ( )fraudulentكام أفهمها فورية
يقص كل زيادة من اخلديعة نفسها.
وقاطعة؛ كأهنا ال تسمح بغفراهنا ،وكأن صوهتا األخري (ّ )t
ليس يف ذايت اإلنجليزية أي يشء ( )lento-وال قري ًبا منها .وبسبب الغرية ( )celosال تسمح أي
لغة لألخرى باجتياز االمتحان حني أكتب شيئًا عىل الورق؛ يصيبانني بالشلل.
عشيقتي ( )amantesيا ترى؟
ّ فام هو حمل اعرتاض
ّ
أذنت كل واحدة منهام لألخرى حق كتابة الفقرة ،حفاوة الفقرة ،لكن برشط أل يكون ْ لقد
ربا عن األخرى بأي حال .قالت كلتامها :أنا التي سأقص احلكاية ألهنا
أي منهام خ ً
املكتوب بلغة ٍّ
245
حدثت يل أنا .ويمكنني القول إذن أنني أنا من خيتار كيف يقول احلكاية ألهنا فعل ًيا حدثت يل أنا،
أي لكام سو ًيا ،لش ّقي نفيس املسكينة؛ لكنهام جتادالنني قائلتني :لكن ماحدث لك ال يمكن التعبري
عنه ابتداء إال بلغة واحدة فقط .وإن كانت لكل لغة قدرة هائلة عىل استيعاب األخرى ،لكنهام
تتزامحان حلظ َة النطق :واحدة هي التي سوف تقول .مرت تسعة أشهر؛ تسعة أشهر بائسة ،مكبلة
بالواقع املرير :مل أستطع كتابة كلمة واحدة بأي منهام؛ مل أستطع املحاولة بالكتابة بلغة دون الشعور
بخيانتي لألخرى .مل تكن تلك الرغبة بالكتابة نزوة رسيعة؛ مل تكن مقالة جلريدة نيويورك تايمز،
والتي كانت جيب أن تكون باإلنجليزية؛ كام مل تكن لـ ( )El Paisيف مدريد والتي كانت جيب أن
تكون باإلسبانية .كذلك مل تكن املسألة رواية ( ،)Konfidenzوالتي ظلت لفرتة باإلسبانية حتى
عيل أن أصححها
قررت ترمجتها لإلنجليزية ،كام دلتني بدورها عىل بعض األخطاء التي كان جيب ّ
أمرا خيص ال َقرار واالستقرار
باإلسبانية .كان أمر الكتابة عن سرييت شديد احلساسية واجلدية؛ ً
سواء مع اللغتني أو مع إحدامها دون األخرى ،حتى وإن أعطيت األولوية إلحدامها ،أو أعطيت
رأسا يف هرم التسلط أو ( )una primogenitureأن تكون طفلتي أنوا ًطا من الفخر ،أو كانت ً
أرأيت لو
َ البكر املدللة .سأفضل واحدة عىل األخرى -فقط -ألرسد حكاية عالقتهام ومشاكلهام.
أن دولتني متحاربتني وصلتا لطريق مسدود ،وذات هدنة وجدتا أن معاهدة السالم النهائية بينهام
حتم ،ستدخالن احلرب جمد ًدا ومن الغد .أليس كذلك؟ هذه جيب أن تكتب بلغة واحدة فقط؛ ً
املرة ستكون احلرب اجلديدة بسبب لغة كتابة الرشوط ،وترسيم احلدود ،وتقدير تكاليف إعادة
اإلعامر ،وتبادل اجلنود من األرسى .فمن يدري حني تكتب النسخة النهائية أي ثغرات قانونية،
أو أي مجل مبهمة ،أو تفاصيل سيقوم اخلصم بتهريبها إىل وثيقة املعاهدة.
بلغت؛ بت ليلة من الليايل دون راحة أو نوم ،ثم ُ سأخربكم عن حجم اهلذيان والتوتر الذي
أخذت ورق ًة وخربشت بعض الكلامت عىل وجهها ........بالفرنسية .لغة بالكاد أمتتم هبا،
بالكاد أجاهد نفيس لكتابة كلمة واحدة هبا؛ ألستام تريدان أدا ًة حمايدةً؟ بعض دماغي خاطبني
بالسؤال ذاته )Quieres neutralidad( :أهذا هو احلياد؟ نعم ،إن ما أحتاجه هو طرف حمايد
ومحيمي؛ لن يكون يل أي
ّ غري منحاز؛ ولكن الفرنسية ال تقدر أن تكتب نيابة عني بشكل أنيق
ذكريات واحلالة هذه.
لقد أنقذين جنون الفجر حينها .لقد وصلت ألقىص قعر اهلوة فال مزيد من اهلبوط .يف الصباح
التايل ،قلت يف قرارة نفيس :كفى ()basta؛ لقد بلغ السيل الزبى! لقد بلغت مبلغًا جيب عيل أن
لغتي من هو املسؤول والقائد هنا .قلت هلام :إن مل خت ّليا بيني وبني اختيار اللغة التي سأكتب
أخرب ّ
هبا فسينتهي األمر يب يف مستشفى لألمراض العقلية؛ حينئذ لن تكون كلاميت إنجليزية وال إسبانية،
246
ببساطة شديدة :كان ثمة يوم من مايض حيايت ،يوم قبل سنوات عدة يف
أموت ،ولكني مل أمت(((.
َ سانتياقو التشيلية((( ،كان يفرتض يف ذلك اليوم أن
لك أن يكون لك إصدارك ،)dejar que re-escribas por entero el libroبمعنى :سأسمح ِ
اخلاص من قصة حيايت.
قيلت ِ
فخا ،وأظن إسبانيتي تعلم ذلك ،لكنها مل تبال .أظنها كانت تدرك أن القصة إن ْ لقد كان ً
حتول فيها.
بطريقة ما ،إن قلتها باإلنجليزية ،فإهنا ستصبح ثابتة ال ّ
وانتهى األمر مثلام ظنت اإلسبانية ،فحني كتبت مذكرايت باإلنجليزية ،ثم حاولت إعادة كتابتها
باإلسبانية جمار ًيا سبيل القصة ونحوها واكتشافاهتا ،بل وتاريخ أحداثها التي صاغتها اللغة
املنافسة؛ أصبحت الكلامت اإلسبانية عندها فائض ًة ،تسبح يف البيت الذي بنته اإلنجليزية.
ومع ذلك فقد تغري ذلك البيت حني امتأل باألسبانية.
مل يكن الكتاب هو الكتاب نفسه!
-1عاصمة تشييل ،وقد ذكرها الكاتب هبذه الصياغة ليميزها عن أخواهتا يف االسم يف بالد أخرى
(املرتجم).
-2انظروا يف السطور األوىل من النص اإلسباين ،حيث أقول :إن كنت أكتب هذه القصة ،وإن
قادرا عىل رسدها ،فإن ذلك ألن إنسانًا آخر كان قد مات بدالً عنّي ،قبل سنوات طويلة
كنت ً
مضت يف سانتياقو التشيلية.
كلفني األمر بضعة أسابيع ألدرك أنه ليس من السهل أن أقحم الكلامت اإلنجليزية بسالسة يف
اإلسبانية ،وأن اإلسبانية ستطالبني بأن أيف بوعدي الذي قطعته عىل نفيس بأن أسمح هلا بإصدارها
اخلاص من احلكاية.
ّ
أترون كيف أطالت اإلسبانية وعقدت تلك اجلملة اإلنجليزية ،املخترصة والبسيطة التي ذكرهتا
مطلع مقالتي؟ بدأت اجلملة اإلسبانية بأداة رشط ( ،)siجاعل ًة من الوجود كله حالة ظرفية،
تضيف أداة رشط أخرى ( ،)siلترشح لنا بشكل غامض حجم اإلعاقة التي تسببت هبا هذه ُ ثم
ً
العملية .واألمر األصعب كذلك هو أن اإلسبانية ألزمتني بموت أحدهم بدل عني؛ كان جيب
أن يلعب إنسان آخر دور امليت ،إن مل أفعل أنا .ال أستطيع تذكّر سالمتي ونجايت باإلسبانية
247
كان ذلك هو املكان :دار املوت((( .يف ذلك املكان ُأ ِص ْب ُت بااللتهاب
ذات ليلة سبت من شهر فرباير من العام 1954م ،كان والداي قد الرئوي َ
مرة منذ وصولنا إىل الواليات املتحدة .احلقيقة أنني خرجا بمفردمها ألول ّ
استخدمت الفعل « ُأ ِص ْب ُت» هبذه الصياغة متعمدً ا ومدركًا ملا قد يعرتي داللة
الترصيف من غموض؛ ذلك ألنني مل أكن عىل يقني إن كان املرض هو الذي
دخلفاظ عىل حياة الصبيُ ،أ ِ وللح ِ
ِ عيل ،أم كنت أنا الذي دعوته. اعتدى ّ
أي كلمة إسبانية إطال ًقا .ملمعزول يف جناح ال يتكلم فيه أحدٌ ّ ً املستشفى؛
248
الصبي والديه لثالثة أسابيع ،إال يف أوقات الزيارة القصرية ومن خلف
ُّ َير
زجاجي(((.
ّ ٍ
حجاب
عيل والداي ما جرى مرات كثرية ،حتى ُخ ّيل إ ّيل أنني أنا من كان
قص ّ َّ
يتذكر احلدث بتفاصيله ،لكن هذا اخليال تالشى؛ ألنني كنت كالذي وصل
فأصبح حتت رمحة أولئك الذين شاهدوا العرض َ متأخرا ً
قليل، ً قاعة السينام
من بدايته )te internaron en ese hospital( .لقد أدخلوك املستشفى؛
هكذا قالتها أمي وهي تنتقي كلامهتا وكأهنا تتكلم اإلسبانية للمرة األوىل ،ثم
أكملت ((((« .. )no nos acordamos del nambreاملستشفى الذي ال أذكر
-1هل انتبهتم لضمري الغائب؟ خلق املسافة! وكأن أدايت ،وشبحي ،وخمليص كلها اجتمعت يف
( )distanicaاملسافة .ها أنا أحاول أن أعزي نفيس عن حقيقة أن شخصيتي اإلنجليزية املوازية
هي التي تتحدث دو ًما عام حصل ( )elل ُه (ضمري الغائب) ،لذلك الغائب )nino ese( ،ذلك
الطفل.
مل أكن هناك؛ أعني هنا أنني أنا كاتب هذه الكلامت اإلنجليزية ،مل أكن هناك أبدً ا حني بدأ الفصل
رب عن عزهاتتمتم بأدب ،طالب ًة إيامء ًة نحوها ،خت ُ
ُ الثاين من الذكريات .هل كانت اإلسبانية
املايض؟ تبني يل فيام بعد أن اإلسبانية نفسها مل تكن تعلم ،.مل تكن تتذكر ما الذي حدث بعد ذلك؛
وأهنا كانت يتيمة كاإلنجليزية متا ًما ،كام شعر ذلك الطفل يف ذلك املشهد .سيقول السطر القادم
والدي مها من أخربين بقية القصة مرات عديدة.
ّ أن
-2أظنني استمعت للقصة باإلسبانية ،ألنني أتذكرها برسد أمي للحكاية والذي كانت تستخدم
معه صيغة الزمن املستقبل ،الذي كانت هي نفسها تلجأ إليه لتهرب من هويتها التي كانت
تعيش يف اليديشية ،اللغة التي تسمعها حتوم عند رأسها منذ أن كانت طفلة مهاجرة من أوروبا
إىل األرجنتني .كانت رحلتها عىل باخرة من هامبيغ يف أملانيا وحتى األرجنتني ،هربت قبل أربع
سنوات من احلرب العاملية األوىل التي سحقت القارة التي ُولِدَ ْت هبا.
وهذه لعبة أستخدمها كذلك يف مذكرايت هذه ،وبعض كتابايت الصحفية وروايايت -ليست جمرد
أسلوب كتايب .فأنقلب فجأة من لغة إىل أخرى ،دون ترمجة؛ دون أدنى مساعدة للقارئ؛ أنت
مهاجرا يف
ً وحدك يف هذه الرحلة أهيا القارئ ،كام كنت أنا؛ مثل سفينة حمطمة يف عرض البحر؛
واقعي وأثناء رحلتي مع الكلامت التي ال أفهمها أحيانًا .مذاق بسيط يف أن تكون جمرو ًفا بتيار
لغة إنسان آخر .أو ربام -يف حال مذكرايت -هي وسيلة ليسكن روع اإلسبانية ،اللغة التي بدأت
249
اسمه اآلن» ..ثم أخرباين أن اجلناح كان فار ًغا ،أبيض اللون ،وبار ًدا جدً ا.
أخرباين أهنام شهدا دموعي جتري عىل خدي يف كل زيارة؛ وأين كنت أحاول
والدي قريبني جدً ا وبعيدين
ّ رأيت
ُ الزجاجي.
ّ أن أملسهم من وراء احلاجز
جدً ا يف الوقت نفسه؛ كانا يتحدثان يل باإلسبانية بكلامت مل أكن أسمعها.
ثم يرحالن عند هناية الزيارة ،وأعود وحيدً ا ومعي أمل ُ رئتي .أدركت حينها،
ما أدركه اآلن ،مدى رقتي وهشاشتي ،وأن احلياة قد تنتهي يف ملحة برص
أدركت ذلك وأنا طفل باللغة ُ كنت قد
كام يكرس عود رقيق من عىل شجرةُ .
اإلسبانية؛ وكل الذين حويل من البالغني كانوا من األطباء وطاقم التمريض.
كانوا مجي ًعا يتكلمون معي بلغة ال أفهمها .لغة كان عيل فيام بعد تعلمها،
اسمها اإلنجليزية .فبأي لغة كان جيب عيل الرد؟ وبأي لغة كان يمكنني
الرد؟
مضت ثالثة أسابيع ،وجاء والداي الستالم ابنهام((( من املستشفى،
تسببت هلام
ُ سليم يف بدنه ولكن مع احتاملية بعض اجلنون يف عقله! لقد
ً
فعل حيث مل أكن أستجيب أو أجيب عن أسئلتهام باإلسبانية ،كنت بالقلق ً
أجيب باإلنجليزية فقط ً
قائل« :ال أفهمكام» ..تقول أمي أنني كنت أردد هذا
ولدت
ُ اجلواب .من تلك اللحظة وأنا أرفض نطق كلمة واحدة باللغة التي
أحداث احلكاية يف الواقع هبا ،ولكن ُطلب منها فيام بعد أن جتلس يف ركن ٍ
ناء عىل الطاولة حتى
حيني موعد إقحامها يف زحام خيانات الرتمجة.
كثريا يف العديد من الكتابات اإلسبانية يف األمريكتني؛ كانوا
وجدت هذه احليلة مستخدمة ً
حيقنون الكثري من الكلامت التي تنتمي للغات أخرى يف كتاباهتم دون أي إيضاح يف املتن أو
اهلامش ،جمربين قراءهم أن خيمنوا املعنى من السياق ،رافضني أن يفلتوا قبضتهم عليهم .يسء
جدً ا إن مل تكن تفهم هذه اللغة أو تلك؛ ملاذا ال تتعلم لغة جديدة؟!
-1يف هذه اجلملة حاولت أن أجد الوسط ،أو التقاطع يف ذهني ،وكأنني أحاول أن أصلح بني
اإلسبانية التي حدث املشهد هبا ،وبني اإلنجليزية التي كتب احلدث هبا :فهام (والداي) ولكنه
(ابنهام)؛ كأنني أحاول أن أكون يف كل مواضع نحو اجلملة.
250
هبا ،وبكل صالبة رأس وثبات وإرصار.
مل أنطق بكلمة إسبانية واحدة منذ خروجي من املستشفى ،وملدة عرش
سنوات(((.
-1ربام أستطيع اآلن أن أبني السبب األكرب الختياري أن تكون اإلنجليزية هي لغة مذكرايت.
مقسم إىل ثنائيتني تتناوبان
«متجها إىل اجلنوب ،متطل ًعا إىل الشامل :رحلة ثنائي اللغة» وهي كتاب ّ
ً
عىل فصوله .جمموعة تستهل احلكاية بأين كدت أن أقتل يف االنقالب العسكري يف العام ١٩٧٣م،
وتستمر أحداثها خمرب ًة عن نجايت من القتل يف عدة مواضع حتى جاء قرار النفي :الوضع الذي
يعني أنني سأعيش بعيدً ا عن تشييل ،وبالرضورة سأكون ثنائي اللغة .أما املجموعة الثانية فتستهل
احلكاية عند مولدي يف األرجنني ،والديت يف اإلسبانية .وعند هناية الفصل األول ،أي حني
استبدلت اإلنجليزية باإلسبانية ،تستمر احللقة بعرض خطة القدر يل يف أن ينتهي يب األمر جمد ًدا
ُ
يف أمريكا الالتينية ،حيث لساين األم .خترب كيف انتظرين ذلك اليوم الذي كان جيب أن أموت
فيه لكني مل أمت يف تشييل .واألمر املؤمل املشرتك بني املجموعتني هو حصار املوت يل ،سواء يف
طفل ،أم يف شوارع سانتياقو حني أصبحت شا ًبا .واحلقيقة أنني عشت مشفى نيويورك حني كنت ً
اللحظات املؤملة من املجموعتني باإلسبانية؛ فلامذا أكتب باإلنجليزية؟
أعتقد أن السبب أنه كان من األفضل أن أتعامل مع املأساة يف أن أضعها يف اإلطار املحدد
للمفردات اإلنجليزية ،ألحارص األمل ،ألرى تلك املشاهد بطريقة غري مبارشة .وكانت اإلنجليزية
أتكشف،كاملرآة االفرتاضية التي تريني األحداث من زاوية أخرى ،وبإضاءة خمتلفة :أن أعرتفّ ،
أجتىل ،أتعامل مع املسافة ،أعامل نفيس وكأهنا كائن خيايل .كنت أحيانًا وأنا أحاول إعادة الكتابة
باإلسبانية أصاب باإلعياء والغثيان والتعب؛ أقول لنفيس :كيف جترأت عىل كتابة مثل هذا؟
لقد كنت عاريا أمام جنون قادين أن ينتهي يب األمر بمثل هذه األفكار اخلاصة ،اخلاصة جدً ا.
واجهت خالهلام املوت مبارشة مها احلافة التي ابتدأت عالقتي مع ُ وكان هذان احلدثان اللذان
أمهات ()las maders
ٌ اإلنجليزية عندها ،وهي اللغة التي أكتب هبا اآلن .كأن حادثتا املوت
أنجبن سو ًيا لغتي هذه .أو ربام كانتا ( ،)padersربام كانت الكلامت اإلنجليزية؛ أباء لقحوا عقيل
هبذه اللغة .ومهام يكن جنس اللغة ،فاألمر حقيقي فعالً .أن يكشف اإلنسان عن أصوله ،أن
يرحتل اإلنسان إىل حيث بدأ كل يشء ،لربام نحتاج لسانًا خمتل ًفا ليساعدنا عىل القيام بذلك .نحاول
بديل ،نمنحه الثقة لنخربه بالقصة التي ملا نحكها بعد .ال يمكن لإلنسان أن شخصا ً
ً أن نخلق
يسافر إىل حيث أصوله دون احلاجة إىل مرتجم داخل نفسه .وأظن هذه اللحظة كانت هي حلظة
الصلح املطلق بني اللغتني ،اآلن وأنا أكتب هذا الكالم حتديدً ا .وحقيقة أنني أكتب اآلن تعدّ ً
دليل
251
هناك((( ،عىل طرف لساين ،ويف حدود قدريت عىل الوصول للكلامت
اإلسبانية ،التي ال أعلم كيف تشكّلت ،كان ثمة حتد حقيقي يف انتظاري:
الناس الذين يتكلمون اللغة وحيرسون جمدها وإرثها وجتربتها .كنت أشعر
بحصار تلك األشياء جلسدي ،وأهنا تتطلب كلامت أسميها هبا .استحوذت
اإلسبانية -واحلالة تلك -عىل مستقبيل.
(((
يف اإلسبانية تعيش كلامت غارسيا لوركا((( التي سأهدهيا ألنجيليكا
الح ًقا« :)verde que te quiero verde( :أعشقك وأعشق تلك اخلرضة».
كلامت كويفيدو((( التي كنت سأغنيها لبالديmire( :
ُ كام تعيش يف اإلسبانية
« :)los muros de la patria miaوأبرص جدران أرض آبائي تتهاوى».
وكلامت نريودا التي كنت سأخاطب الثور َة هباsude a nacer conmi�( (:
« :)goاهنض ،وتعال لن ُْو َلد سو ًّيا يا أخي» .وكذلك كلامت بورخيس التي
«نمور من
ٌ سأمهس هبا يف أذن الزمان:)los tigers de la memoria( :
مرة أخرى» .وسأدرك مرة أخرى الذاكرة ،معها أحاول أن أرعب املوت ّ
أن كلمة «أمل» باإلسبانية ( ،)esperanzaالتي خيتبئ بني مقاطعها الصوتية
الصوت الذي يدل عىل االنتظار ()esperar؛ كيف يكون هذا التنبؤ باخليبة،
ُ
والدعوة إىل احلذر ،أن تأمل ولكن أن ال تأمل! ال تبالغ يف أملك ألن جتارب
252
أولئك الذين صاغوا هذه املقاطع الصوتية ختربنا أننا انتهينا؛ بأننا قد اعتدى
التاريخ((( علينا!
حمل تعجبي فحسب ،بل كنت أتع ّلم عربها كيف مل تكن اإلسبانية ّ
أيضا .فمن أيام املايض التي تزورين -كنت يف السادسة
أمتلص من مسؤوليتي ً
عرشة -وكانت املرة األوىل التي أحسست هبا أن اإلسبانية ختاطبني؛ كانت
قد تسللت إىل عادايت وممارسايت اليومية .حدث ذلك يف حصة مادة النجارة،
قبيحا غريب الشكل كنت جمسم ًً حني حطمت بالرضبة القاضية باملطرقة
التفت ناحية معلم النجارة ،وقلت له
ُّ قد صنعته؛ سقط متهاو ًيا مبارشة؛
كتفي :)se rompio( :لقد ّ
تكس! باإلسبانية وأنا أهز ّ
حتركت شفاه معلمي ووجهه يتم ّعر غض ًبا وقال ( ،)se, se, seثم أتبعها
بقوله« :كل يشء يف هذه البالد هو كذلك؛ هو الذي حت ّطم ،حدث ذلك
قدرا؛ ملاذا -بحق اجلحيم -ال تقول إنك أنت الذي كرسته؛ إنك أخفقت. ً
أصبحت فجأ ًة
ُ قلها اآلن ،حتمل تبعة عملك ومسؤوليتك أهيا الصبي!» لقد
خت بسبب حماولتي االختباء وراء شكل حمدد للغة. ناط ًقا باإلسبانية؛ ُ
وو ّب ُ
ابتكارا شخص ًيا؛ هرعت
ً دارجا وليس
بشكل عفوي متا ًما ،استخدمت شي ًئا ً
-1ال أتذكر أول انتقال لغوي يف حيايت ،أي من الال-لغة إىل اإلسبانية؛ كام ال أتذكر االنتقال
سبيل ألكتب عن جتربتهام .ولكن ً الثاين :من اإلسبانية إىل اإلنجليزية .لذا كان عيل أن أبتدع
االنتقال الثالت إىل اإلسبانية هو الذي يستحق أن أعرب عنه ،مع أن ذلك ال يعني أنني أعلم متا ًما
كيف حدث؛ أو أنني كنت واع ًيا لالنتقال أو األحداث التي تسببت به مبارشة .كانت جتربة
طويلة ،مغرية ،جتاذبني فيها الذهاب واإلياب :جتاوزات وجتاوزات لكثري من حدود دماغي.
ً
مستقبل لذا فعند احلديث عنه ،فأنا ال أركز عىل حدث واحد؛ إنام حماولة للتسديد واملقاربة ألفهم
سيكون جمده كله لإلسبانية .وكأنه كان يناديني( (�llamandome todos esos anos de ex
253
هار ًبا داخل اللغة؛ وتوحدّ ت معها(((.
أصبحت واع ًيا بعد ذلك بالطرق امللتوية التي من خالهلا تأذن اللغ ُة
للمخلصني من أبنائها بأن يلقوا مسؤولياهتم من عىل أكتافهم وحيملوها
اآلخرين؛ كثرة أشكال املبني للمجهول وكثرة توظيفه ..أشكال ختترصها
مجيعا عبارة «كان من الرضوري أن ُي ْف َعل كذا »....بعد سنوات من رؤية هذا
االستعامل كدت أن أفقد عقيل .فالناس من حويل كلهم ،دون كلل أو ملل،
يف غرفة مغلقة مليئة بدخان السجائر يناقشون ما الذي يفرتض أن يكون يف
ليغي من حاله! لكن ومع مزيد من كل يشء دون أن حيرك أحد منهم ساكنًا ّ
التعمق يف اللغة ،تع ّلمت أن هذه التعقيدات واالحتامالت واألنامط والطرق
يمكن هلا أن تكون فضيلة ومزية ،ومصدر غنى للغة نفسها .لقد تأتى يل أن
أستكشف نظام األفعال يف اإلسبانية والذي يعدّ األغنى بني اللغات يف العائلة
الكربى :اهلندو-أوروبية .كام أحببت االستخدام السائل ملفهوم الزمن،
والذي يبدو كاللعبة يف اإلسبانية .أحببت اجلمل الرشط ّية يف اإلسبانية؛ كأن
اجلمل الرشطية تعيش يف األذهان حال ًة من النقاء ،بعيدً ا عن حاالت الزمن
حيل عليها بعد؛ ذلك الزمن املع َّطل داخل حالة االنتظار ،الزمن الذي ّملا ّ
الذي حييا يف األذهان ،وإن مل تسنح له الفرصة بأن يكون جز ًءا من الوجود
-1هنا جاءت اإلنجليزية لنجديت! إن حضور هذه اللغة يف داخيل -اآلن ومن قبل -مل يكن
يأذن يل أن أختبئ كام أشاء ،أو كام استطاع الرفاق اآلخرون .ال أقصد هنا -كذلك -أن الناطقني
باإلنجليزية أقل مهارة يف املراوغة عند مواجهة املسؤولية من أولئك الناطقني باإلسبانية.
فكسينجر (السيايس واملفكر األمريكي) يتكلم بمهارة لغته األجنبية -اإلنجليزية -كام يفعل
بيونشيه (الديكتاتور التشييل) باإلسبانية ليتجنبا مواجهة هتم اجلرائم ،التي ُيقال إهنام ارتكباها
ضد اإلنسانية .أن تكون ثنائي اللغة ال يقلل من هول اخلوف الذي يتعرض له اإلنسان .ليس
ثمة عالقة بني لغة معينة وكسل أو فعالية الناطقني هبا؛ كام أنه ليس ثمة عالقة بني أي لغة وبني
احلث عىل الكذب أو الصدق .لكن إن كان لدى املرء نزعة إىل الكذب ،فإن قدرته عىل الكذب
تتضاعف إن كان يتكلم لغتني ،وهي رضبة عنيفة يف وجه احلقيقة.
254
احلقيقي عىل خط التاريخ .يطارد هذا اخليار املحتمل لعوامل متخ ّيلة
ّ املادي
ّ
يف تلك احلقيقة الصلبة يف قلوبنا ،والعالقة يف سجنها هناك يف عبارات كـ
«اليوم» و»اآلن»((( ..
فعل ملا كان حيدث لعقيل .كانت عملية ويف زحام هذا كله ،مل أكن مدركًا ً
دقيق ًة ،وماكرة ،ومتسرتة؛ فقد تسللت الرتاكيب واملفردات إىل وعيي بخفة
وبراعة فأحالتني دون أن أشعر إىل شخص نشط مع كلتا اللغتني .رغم أنني
مل أكن أسمح منذ البداية للغتي اجلديدة بأن تقتحم أي حوار مع أختها
األقدم .لقد كنت أرفض بعناد أن أقارن بني املزايا املشرتكة بينهام ،فام الذي
يمكن أن تقدمه إحدى اللغتني وال تستطيعه األخرى .كانت احلالة وكأن
ومعزول عن الذي استوطنته األخرى ً كل لغة استوطنت مكانًا خمتل ًفا متا ًما
يف دماغي .أو ربام وكأنام كنت أنا نفيس «إدواردين(((» اثنني ،واحدٌ لكل
منفصل عن شخصيته؛ كل ً لغة؛ كل منهام يعيش بمعزل عن عامل اآلخر،
منهام يتجاهل صاحبه ،وخيشى إفساده له .مل أحاول يو ًما -بل حتى إنني مل
أفكر يف -أن أزاوج بينهام :فلربام كان يف ذلك حماولة لقياس أدائهام وخلق
منطقة حمايدة هلام للنظر يف أي ظاهرة سو ًيا :مساحة مشاعة بينهام ليسكنا
فيها داخيل .كان ذلك سيشكل اعرتا ًفا ال رجعة فيه بأين «ثنائي اللغة» وكان
صغريا عىل فهمها
ً عيل با ًبا من أسئلة اهلوية ،التي كنت ذلك بدوره سيفتح ّ
-1لربام كانت اإلنجليزية هي اللغة التي كتبت هبا مذكرايت ،لكن -ودون شك -مجالياهتا
فعل ،ولكن كام كان إسبانية/التينية .وكأهنا حالة لغوية يف الظل لواقع حيايت ،ليس كام حدث يل ً
شخص آخر متا ًما،
ٌ من املمكن أن حيدث كذلك .كأهنا حيايت ،التي تبدو مثل هوامش ملتن كتبه
نفخر هبوامشنا كام لو أهنا كانت اختيارنا احلر؛ كام لو
ُ شخص أكثر قوة وسلطة .نحن الالتينيني:
ٌ
أن التاريخ مل يفرض علينا هذه اهلامشية.
-2خالل هويس بأن أكون أمريك ًيا والتخيل متا ًما عن ماضيي اإلسباين ،كنت قد أسميت نفيس
اسم جديدً ا ،إدوارد .ما زال أصدقائي القليلون من مرحلة املراهقة ينادونني إد (اختصار إدوارد).
ً
255
وأقل حكمة من أن أواجهها :من هذا الذي يتكلم اإلسبانية؟ أهو الشاب
يتغي أبدً ا برصف النظر عن
نفسه الذي يتكلم اإلنجليزية؟ هل هناك ما ال ّ
اللغة املستخدمة؟ وأي اللغتني أكثر أهل ّي ًة لتخرب عن قصة ما؟ ثم كيف يتغري
اجلسد يف تفاعله حني التبديل من لغة إىل أخرى؟ أهو جسد خمتلف؟ ظلت
هذه األسئلة تزورين لسنوات عدة ،وأنا أحاول إنكار وجودها؛ اآلن فقط
أعرتف أهنا هنا((( .أسئلة لو تعرضت هلا يف بداية رحلتي نحو «ثنائيتي»
رافضا أن يكون هلا صوت ً لكنت تنازلت ،أو اغتلت اإلسبانية جمد ًدا،
لمت إسبانيتي بذلك ومل متانع ،بل تعاونت معي؛ كانت سعيدة يسمع .و َع ْ
-1غالب هذه الفقرة مل يكن مكتو ًبا يف النسخة األصل .لكن صديقي جون غلوسامن ،املحرر
لدى النارش (فرار ،سرتاس) ،كان يؤمن أنني أحتاج يف مذكرايت أن أكتب عن بدايات شعوري
بأين ثنائي اللغة ،بدايات حماولة التعايش مع ذلك الواقع .متى انترصت اإلسبانية؟ متى تنازلت
اإلنجليزية؟ كيف -بحق اجلحيم -حصل كل ذلك؟ وما كتبته حينها جوا ًبا عىل تساؤله املرشوع
كان بحجم ما استطعت أن أدرك ،فقد كان األمر بعيدً ا وكان جوايب عىل قدر شجاعتي وقدريت
عىل التعمق يف ذلك املايض .بعض األسئلة خطري جدً ا؛ وكأن عشيقتي تسألني إن كانت عالقتي
احلميمية معها ألذ وأفضل من تلك التي أمارسها مع زوجتي الرشعية! كان الصلح بني اللغتني
وكنت عىل حذر من أي يشء قد يعكر صفو ذلك ُ قابل للكرس يف أي حلظة. هشا ً رقي ًقا جدً اً ،
الصلح اهلش .كان ثمة شخص آخر داخيل يقرر موعد حضور اإلنجليزية وموعد حضور
اإلسبانية .غال ًبا ما كان هذا التوقيت ُي َق َر ُر يل ،وال أقرره أنا.
حني أحاول اإلجابة عىل هذا السؤال ،الذي يوحي إ ّيل أنا ،أقول :أكتب باإلسبانية إن كنت أكتب
لـ ( )Revista Procesoيف املكسيك؛ وأكتب باإلنجليزية إن كنت أكتب للواشنطن بوست.
أتكلم اإلسبانية مع طالب الدراسات العليا؛ وأستخدم اإلنجليزية مع طالب املرحلة اجلامعية.
ولكن هناك مواطن أو حلظات عزلة خالل أيامي ،وحني أكون وحيدً ا إال من( (�mis dos idi
أي واحدة ستنال اهتاممي ً
كامل .وأنا ال ،)omasفأحتاج أن أقرر وحدي أ ّي ًا منهام سأستخدم؛ ّ
أحاول أن أسأل نفيس -عند ذلك -عن كيفية توصيل لقرار ما ،أو كيف ختطف إحدامها برسعة
شديدة أصابعى لتُشغَلها عىل لوحة املفاتيح؛ أو حتى كيف تأرس ذهني ببطء وسكينة وأنا أحدق
يف األشجار خالل امليش .ال أريد أن أعرف ،وال أريد ترشي ًعا يربر تلك اللحظات؛ ال أريد إال أن
بدل من التحديق داخله. أكون تلقائيا؛ أريد أن أستكشف العمق الذي أحبً ،
256
أن استوطنت رأيس مرة أخرى بأي حال؛ مل حتاول قط لفت األنظار .مل
حتاول بغباء أن تتبجح بنرصها حني تظهر إحدى مفرداهتا فجأة داخل مجلة
إنجليزية ،عند عدم وجود أي مقابل إنجليزي يسعف املوقف .مل تطلب مني
إسبانيتي أن أناقش سبب حاجتي لتلك الكلمة حتديدً ا رغم وجود مستودع
ضخم لإلنجليزية عىل لساين .مل تسألني :ملاذا كانت تلك املفردة أو تلك
غري قابلة للرتمجة أو االستبدال؟ لقد تسللت إسبانيتي إىل داخيل ،وترصفت
بحكمة حتى متكنت مني متا ًما .ببساطة شديدة ،لقد ن ََم ْت ،ثم ن ََم ْت ،ثم
ن ََم ْت(((.
-1هذا هو القدر الذي أعرفه .وهي ما زالت تنمو ،مثل اإلنجليزية متا ًما .حتى حني ال أستخدم
إحدامها ،حني تكون إحدامها عىل هامش حيايت متا ًما ،تواصل هذه اللغة -سواء أكانت اإلنجليزية
نموها كام تواصل سلطاهنا .ويف هذه اللحظة حتديدً ا ،وأنا أحاول أن أعرب وأكتب،
أم اإلسبانيةّ -
حتجم خياراتهتمس إسبانيتي يل باقرتاحات وتوجيهات؛ ترمي بالقوايف عىل طريقي حماولة أن ّ
منافستها .أما أنا فكأنام خلقت بينهام لغ ًة ،ليست هذه متا ًما وال تلك ،ولكنها يشء خمتلف إىل حد
ما ( .)ambos creciendoأقسم إنه حلق ،أو أرجو ذلك.
Juro que es cierto
257
ّ
اليدشية لغتي
(((
ليونارد مايكلز
بارييس
ّ كنت أميش بمحاذاة شارع مالور((( ( )rue Malherذات صباح
يف السبعينيات ،وإذا بمجموعة من الشيوخ يتجادلون رافعني أصواهتم
فعل معرفة موضوع حديثهم .لكن مستوى وملوحني بأيدهيم .أردت ً
فرنسيتي اخلاص بالدراسات العليا كان يساعدين فقط أن أقرأ لكتّاب
عظامء ،بيد أنه مل يكن جيدً ا إىل احلد الذي يؤهلني إىل الدخول يف حديث
احلي .حني أصبحت بموازاة هؤالء الشيوخ، أو نقاش حا ٍم كهذا مع ب ّقال ّ
فهمت ما يقولون .يا إهلي لقد اكتسبت
ُ شعرت بصدمة وهبجة عظيمتني .فقد
املسمى الفرنسية املحكية .ثم كانت الصاعقة! كان الشيوخ كام
ّ ذلك اليشء
أدركت الح ًقا يتجادلون باليدش ّية.
شخيص وبشدة ،وإن كان غري
ّ تباطأ املشهد وكأنه حلم .لقد بدا وكأنه
-1ليونارد مايكلز ( )Leonard Michaelsروائي وكاتب قصة قصرية ومقالة أمريكي هيودي.
نال درجة الدكتوراه يف األدب اإلنجليزي من جامعة ميتشيغان ،ثم انتقل إىل كاليفورنيا ليقيم
هبا ويعمل أستاذا يف جامعة كاليفورنا بريكيل .بعد تقاعده من اجلامعة كان دائم االنتقال بني
كاليفورنيا وإيطاليا وتفرغ للكتابة .له عدة كتبه منها« :أماكن للذهاب» و«كنت سأنقذهم لو
استطعت» و«ألشعر هبذه األشياء» وجمموعات قصيية أخرى .تويف ليونارد يف مايو من العام
٢٠٠٣م.
258
شخيص .لقد د ّبت احلياة يف املعنى يف داخيل .مل أكن أترجم ما يقولون؛ مل
ّ
نور أمامي ،لقد حصل يش ٌء ما ،وإن مل يكن ثمة يش ٌء
أفعل شي ًئا أبدً ا .أضاء ٌ
حصل!
يناقش الفالسفة «الفهم» وكأنه وظيفة ذهنية مستقلة ،يف حني يتكلمون
اليوم عن نظريات املعرفة وعلوم اإلدراكُ .ينظر إىل «الفهم» يف اختبارات
الذكاء اآلي كيو((( ( )IQ Testsبوصفه موضوع املناظرة حول قيمة ما .كام
نعرف الفهم بعفوية عرب وسائل غري حمصورة يف حياتنا اليومية .وحني جعلنيّ
«الفهم» ،يف احلادثة الباريسية ،أتساءل حول مقولة ديكارت املشهورة« :أنا
أفكر ،إذن أنا موجود»؛ هل كانت تلك املقولة ح ّقا يف حاله فقط ،ال يف حايل
أنا؟ فأنا أفضل قول« :أنا موجود ،إذن أنا أفكر»؛ وأزيدُ عليها« :إذن أنا
أتكلم».
مل أكن أتكلم إال اليدش ّية حتى بلغت اخلامسة .وكانت كافية لتؤسس
تفكريي ،وتكون رفيقته اخلالدة .ثم تعلمت اإلنجليزية التي حاولت أن
أحاكي من خالهلا طريقة تفكري ناطقيها .استمر حديس وصورة تعبريي
يديش ّيا إىل حد ما .أستطيع بيان ذلك باملقاربة عرب املثال ،هبذه النكتة مثالً:
ب :ما هو اليشء األخرض ،الذي يع َّلق عىل اجلدار ،ويص ِّفر؟
حل ْ ُ
ا َ
الطالب :ال أدري.
احلرب :سمكة الرنكة.
الطالب :لربام كانت سمكة الرنكة خرضاء ،ولربام علقت عىل
اجلدار؛ لكنها ال تص ّفر قط ًعا.
259
احلرب :إذن هي ال تص ّفر.
هذه النكتة موروثة عرب اليدشية ،وليست يف أي لغة أخرى .إهنا مضحكة،
أيضا مثل كل قصص كافكا .هنا جيب أن أعرتف أنني ال وليست مضحكة ً
علم لدي عن باقي اللغات .لربام كانت هناك نكات مشاهبة هلذه يف الروسية
أو األملانية ،لكن هذه اللغات وغريها ال متتلك تارخيًا يشبه تاريخ اليدشية
نجت عرب القرون رغم تقتيل أهلها وشتاهتم.
حيث ْ
أشار العامل والناقد بينجامني هارشاف((( يف كتابه «املعنى يف اليدشية» أن
أي معنى حمددnu, epes, tockeh,( : اللغة حتتوي عىل مفردات ال حتمل ّ
.)shoynمفردات تقتحم الكالم لتعرب عن الشعور ،وكأهنا تنهيدات .تدل
هذه املفردات دون معنى حقيقي هلا عىل أشياء مثل :جدً ا ،وح ًقا ،وحسنًا.
كام يبني هارشاف أن يف اليدش ّية مفردات وتعبريات ذات داللة ب ّينة لكنها
عص ّية عىل الرتمجة .شفافة ،وسهلة الفهم ،لكنها واألمر رس بيننا ليست ذات
منطق خيدم بناء اخلطاب ،بل وسيلة كي ختدم اليدش ّي ُة الكال َم من خالهلا.
تكون هذه املفردات بني الكائن الذي حيمل اسم املتكلم ،وبني الذي يتكلم
موضوعي .ومن األمثلة عىل هذه التعبريات أنّ مع اآلخرين فعل ًيا بشكل
أقول :إن حاصل رضب العدد مخسة يف مخسة هو مخسة وعرشون ،وهي ال
تص ّفر(((!
دائم يف إنجليزيتي .أفكر هذه اللحظة وأنا أظن أن اليدشية موجودة ً
أكتب باإلنجليزية بتيارات من اليدشية اخلفية جتري من حتتي .إن َأن َْص ُّت
فعل لسمعتها .إن عبارة هذه اللحظة ( )this momentبنطقها ،مقطع ً
-1بينجامني هارشاف عامل هيودي باللغات واآلداب ،وكان قد عمل أستاذا يف عدة جامعات
عاملية ،ألف الكثري من الكتب باإلنجليزية والعربية.
-2متثيل بالنكتة السابقة (احلرب والطالب والسمكة).
260
صويت مشدد يتبعه آخران مهمالن .وتتجىل هذه العبارة وكأهنا سمكة
الرنكة ،معلق ًة عىل حبل ُم ْث َق ٍل بعبارة «أكتب باإلنجليزية» ،ثم جييء
اإلعالن« :أفكر بتيارات اليدشية اخلفية جتري من حتتي» .انتهت اجلملة
فعل صوت تيارات من اليدشية ،وربام وهي هتز كتفيها؛ فلربام كنت أسمع ً
كتب هذه اجلملة أي إنسان يعرف كنت ال أسمع شي ًئا .كان من املمكن أن َي َ
أي أمم ِ ّي((( َح ِ
سن الرتبية .هناك الكثري اإلنجليزية؛ ولكن ربام لن يكتبها ُّ
من الدراما يف اجلملة ،ولربام كانت معكرة للصفو مثلام تفعل املوسيقى يف
املطاعم واملصاعد .تُلز ُم هذه اجلملة قارئها أن يبقى يف حالة تالطم ،وكأن
ما قلتُه معقد جدً ا ،شعور يتطلب كتابة نوتة غنائية .هناك نوع من احلميمية
القرسية مع القارئ؛ أفرتض أهنا محيمية هيودية يف جنسها .ويف كتابات شون
جنسا آيرلند ًيا من هذه احلميمية.
أوكييس األمجل ،ستجد ً
(((
األممي هو أحد أوصاف اليهود لكل من هو غري هيودي ،وهم يستخدمون الكثري من املفردات ّ -1
لتدل عىل ذات املعنى لكنها تتفاوت يف سلبية أو إجيابية دالالهتا وإحياءاهتا (األغيار مثاال).
-2شون أوكييس كان كاتبا اشرتاكيا إيرلنديا ،أول من ألف مرسحية تتكلم عن الطبقة العاملة يف
دبلن (تويف ١٩٦٤م).
-3ميشيل دي مونتني كاتب فرنيس مؤثر يف عرص النهضة ويعد رائد كتابة املقالة احلديثة يف أوروبا
(تويف ١٥٩٢م).
261
منطق املقاالت يشكله عقل مونتني وشعوره؛ ومل يشكله ادعاء دقة التسلسل
املنطقي .يقول مونتني أن مقاالته تشاهبه متا ًما .تقول صديق ٌة من األمميني عن
الكتابات التي مل حتبها« :مل يكن ثمة أحد يف ذلك املنزل» .ال حيتاج املرء أن
رمت
يكون من ذرية اليهود مثل مونتني وفيتغنشتاين ليدرك املعنى الذي ْ
إليه.
مل أتعلم اإلنجليزية حتى بلغت اخلامسة ألن أمي مل تكن تتكلم
اإلنجليزية .سافر أيب عائدً ا إىل بولندا ليبحث عن زوجة له .ثم عاد
وبصحبته فتاة ذات سبعة عرش ربي ًعا ،هلا جديلة سوداء طويلة .وألنه ظن أن
الرجال كانوا سيتحرشون هبا ،منعها والدي من أن تذهب حلضور دروس
اإلنجليزية .تعلمت أمي اإلنجليزية من مذاكرهتا دروس االبتدائية معي.
أما أنا فكنت قبل بلوغ اخلامسة وبعدها عرض ًة ألمراض الصدر ،مما جعلني
طريح فراش املرض لكثري من الوقت يف شقتنا الصغرية رشق منهاتن حيث
متكنت من لعب الكرة أو
ُ ال يتكلم الناس إال اليدشية .مرت سنوات حتى
ركوب الدراجة اهلوائية جمد ًدا .يف رصاعات اللعب مع األطفال ،كانت أي
فتاة قادرة عىل أن تربحني رض ًبا .كنت سهل االنقياد ،حيث مل يكن يل طاقة
اليديش.
ّ وال رسعة تساعدين .وكان كل ما أملكه لساين
ظلت اليدشية عا ًَلا ً
كامل يل لزمن طويل .ويف هذا العامل ال جتتمع العائلة
لتناول بعض املرشوبات الكحولية واحلديث قبل العشاء .ال مرشوبات
طول :نقد ،وحترش ،وتبادل كحولية ،بل جمرد حديث طويل جدً ا ،مثل اليوم ً
آراء ،وغيبة ،ونكتة .وقد يكون حدي ًثا كئي ًبا أحيانًا .قد تبدو األحاديث قبل
أمرا غري مستساغ .كانت املرة األوىل التي استمتعت بحديث مثل العشاء ً
هذا يف جامعة ميتشيغان قرابة العام 1956م .كان من عاديت حينها أن أزور
صدي ًقا يل يف شقته بعد حضور املحارضات يف اجلامعة .كان كالسيك ًيا،
262
يش ّغل املوسيقى عىل جهاز الفونوغراف ،موسيقى كالسيكية لعازف واحد
وآلة واحدة .وحني يقرتب موعد خروجنا للعشاء ،كنت أشعر بحامسة
وانتشاء بسبب احلديث واملوسيقى الرائعة .وكنت غال ًبا ما أكون َث ِم ًل،
عيل كذلك .إن احلديث مع مجاعتي من اليهود ليس وهي جتربة جديدة ّ
له سامت طقوسية ،وال اشرتاطات مجالية .مل أتعلم يو ًما كيف أصقل تلك
املهارات التي قد تفصل اإلنسان عن ذاته ،حتس ًبا ألي احتامل إهانة قد يسببها
لآلخرين .واألمر حقيقة أن كل يشء كان يعترب شخص ًيا يف جمتمعي.
تعلمت يف دائرة احلديث داخل عائلتي أن خارج عامل الطفولة اليدش ّية ُ
ٍ
أعامل يوجد برابرة ليس لدهيم الكثري ليتفوهوا به ،لكنهم قادرون عىل أداء
كأعامل السباكة .هؤالء الربابرة مغرمون باحليوانات والذهاب إىل السباحة، ِ
كل مشاكلهم كام حيبون رشب اخلمر واجلدال والشجار .كان مفتاح حل ِّ
هو أن ( )hut geharget yiddinيقتلوا اليهود .وكان من املستحيل جتاوز
تعلمت أن أقوم بأعامل السباكةُ هذه األخرية .ومثلام يفعل الناس مجي ًعا،
رت كثريا .لكن كل يشء آخر يف احلياة، وس ِك ُوامتلكت كل ًبا وق ّط ًةَ ،
ُ بنفيس،
واإلنجليزية أوهلا ،بدا وكأنه ابتعاد دون إدارك عن فكرة قتل اليهود ،الفكرة
شاعر عىل قناة البيٌ التي ناولتني إياها يدش ّيتي يف الطفولة املبكرة .حني قال
قلت ( )epesوما يب يس إنه يريد رمي اليهود بالرصاص يف الضفة الغربيةُ ،
اجلديد؟ إن صالحه وحريته يف أن يقول ما يريد كلها تأذن له أن يؤمن بأنه
جمرد حديث باإلنجليزية ،اللغة التي تشكّل معادا ُة السامية قواعد ِ
نحوها ،أو
كام يقول فيتغنشتاين« :شكل من أشكال احلياة» .لكن وعىل أية حال هناك
وضوحا يف اآلونة األخرية .األمر اجلديد أن عملية قتل ً أمر جديد ،أو أكثر
الناس حال ٌة هستريي ٌة
َ شكل جديدً ا وهو العزل .تأخذ ً اليهود بدأت تأخذ
التارخيي القديم يف كره اليهود أصبح حمل نقاش ّ حني يشعرون أن حقهم
263
ووجهة نظر .وحماولة رضب األمثلة ستكون مثل النبش يف عش الدبابري.
يمكننا احلديث عن الفرنسية دون احلاجة إىل نقل محولتها ومحولة أهلها
الثقيلة من رمزيتها التارخيية ،والثقافية ،والوطنية .باملقابل يستحيل احلديث
عن اليدشية مثل ذلك إال يف النطاق العلمي الضيق ،ومع تقييدات كثرية
متنع احلديث عن تفاصيل املامرسة اللغوية .ازدهرت اليدشية يف عدة دول،
مع أنه يمكن احلديث -نظر ًيا فقط -عن حدود جغرافية هلا .وأصل معنى
كلمة اليدشية بحسب بعض الآلراء هو «بال حدود» .وبحسب رأي آخر فإن
جيل.
«شعب بال أرض» ،وهنا تتضح تلك احلدود الال مرئية بشكل ّ ٌ معناها
هناك ازدراء متبادل بني اليهود الشموليني واليهود اليهود((( .وهي معضلة
قديمة فقد انقلب اليهود عىل اليهود يف زمن حماكم التفتيش اإلسبانية .وعند
التاجر أنطونيو النرصاين اجلديد ،وشايلوك
َ شكسبري يف «تاجر البندقية» نجد
اليهودي املؤمن بالعهد القديم .كان رطل اللحم يف احلكاية مبالغة غريبة
للرتميز للختان ،والذي كانت وظيفته تذكري أنطونيو بأصوله وهو القائل:
«ال أعلم يف احلقيقة مل َ أنا حزي ٌن جدً ا».
يف أول حضور يل للعبة البيسبول ،وأثناء متارين اإلمحاء قبل البدء رمى
الالعب العظيم هانك غرينبريغ الكرة باجتاه اجلمهور الواقف تشجي ًعا له،
والذين كان أكثرهم من املراهقني .مددت يدي متعطشا أن أمسك بالكرة
وفعل كان ذلك .أخذت الكرة معي إىل املنزل،ً بني تلك األيدي املتحمسة،
وكانت الثروة املادية الوحيدة التي كنزهتا يف حيايت .مل أملك أي لعبة أطفال
يو ًما .كنت أحلم يف ليايل عيد امليالد أين أميش يف صالة منزلنا وأجد ألعابا
كثرية )tokeh( .ح ًقا؟ نعم ح ًقا .إن كان هناك ناد لدعم املحبطني يف موسم
-1حماولة للتفرين بني اليهودي املتدين (اليهود اليهود) ،وأصحاب النظرة السياسية األحادية من
اليهود السياسيني (الشموليني عىل حد تعبريه).
264
عيد امليالد ،لكنت أنا من قادته .جعلتني تلك الكرة ممتنّا وكأنني أمريكي
حقيقي .كان ذلك قبل وقوعي يف غرام الشقراء اخليالية ،التي متنح اجلنسية
(((
ذقت ()traif
األمريكية لليهود .حينها كنت يف اخلامسة عرشة .كنت قد ُ
وقبل ذلك بزمن توقفت عن استخدام اليدشية إال حني عملت كنادل يف
فنادق جبال كاتسكيل((( .كان ما تبقى من اليدشية كاف ًيا كي أفهم النكتة،
واإلطراء ،والشتائم ،وبعض األسئلة ،عند دخول الضيوف إىل صالة الطعام.
ففي جبال كاتسكيل قد يقول النادل شي ًئا مثل من هنا متر ()vildeh chayes
سيايس باليدشية.
ٍ ٍ
حلديث ذهبت ألستمع
ُ احليوانات الربية .ذات مساء
أدركت أنه بمقدور اليدشية أن ُ فهمت القليل من تلك املحارضة ،لكني
ُ
شعرت حينها وكأين أجنبي عن ُ تكون لغة حتليل علمي وحوارات فكرية.
احلضور ،يعرتيني يشء من العار أنني لست مثلهم أو منهم.
كان بعض أفراد عائلتي يتكلمون البولندية باإلضافة إىل اليدشية،
وبعضهم يتكلم العربية والروسية .وألن أيب عمل حينًا من الدهر يف باريس
فإنه متمكن من بعض الفرنسية ،أما أمي فمتمكنة من البولندية حيث كانت
قد درست املرحلة الثانوية يف بولندا ،لكنها ترفض متعمد ًة استخدامها.
جعلت ذكريات البوغروم((( من البولندية لغ ًة غري قابلة لالستخدام .وعرب
ْ
سمعت قصة أبيها ،جدي ،الذي كان خيا ًطا يصنع ُ اإلنجليزية واليدشية
بدالت الزي الرسمي للجيش البولنديَ .ع ِم َل ذات مرة ليله كله لينهي
بدلة ،ورفض صاحبها اجلندي عند الصباح دفع ثمنهاّ .لوح جدي بمقصه
265
مهد ًدا اجلندي بأنه سيتلف بدلته إن مل يدفع .عند ذلك دفع اجلندي ما عليه.
ثم أعدم األملان جدي وزوجته وإحدى بناتهُ .سج َن الضباط البولنديون يف
اختذت هذه الفقر ُة من أول ٍ
مجلة ْ غابة كاتني((( ثم قتلوا مجي ًعا عىل يد ستالني.
شكل الـ ( )geshichteأو القصة كامَ فيها وحتى بلوغها العربة يف آخرها
يف اليدشيةّ .إل إن هذه القصة قيلت باإلنجليزية ،وكانت حقيق ّي ًة بفضلها
وحدَ ها.
واضحا ،ويستمر
ً كنت يف معقل((( لغتي اليدشية أخشى الفشل يف أن أكون
الثقب األسو ُد ما بداخله تأيت
ُ قتل هيود ()hut geharget yiddin؛ وكام ُ
يلفظ
أرسلت وزارة
ْ الدعابة ،والفكر ،واملعنى ،والال معنى ،من ذاكرة القتل هذه.
ذهبت أنا
ُ اخلارجية األمريكية يف العام 1979م كتّا ًبا أمريكيني إىل أوروبا.
تفاجأت حينها
ُ إىل بولندا وألقيت حمارضات يف وارسو وبوزنان وكراكوف.
بمدى تشاهبنا ،كام زاد املستوى الفكري للبولنديني من دهشتي ،الذين أصبح
البعض منهم أصدقاء ،وزارين بعضهم يف أمريكا الحقا .كان من ضمن
البولنديني الذي مل ألتق هبم بعد تلك الزيارة امرأة من كراكوف :هلا عينان
زرقاوان مجيلتان ،ومالمح تشبه مالمح أمي .كنت متأكدً ا من أهنا هيودية
بالرغم من لبسها للصليب حني رأيتها .مل أرد أن أزعجها باألسئلة ،ومل أشأ
أن أعرف قصتها .بل مل أستطع حتى إمعان النظر فيها .وبرغم كراهتي لكلمة
سمعت أهنا تستخدم من قبل بعض األصدقاء ُ ( )shiskaاألممية((( ،والتي
املعادين للسامية أكثر من استخدام اليهود هلا ،إال إنني شعرت يف عمق ذايت
أن الكلمة تنطبق عىل تلك املرأة بالرغم من إيامين بيهوديتها.
-1هو اسم غابة ُأعدم فيها عدد كبري من الضباط واجلنود البولنديني.
-2تعترب نيويورك ً
معقل لليدشية يف الواليات املتحدة.
-3استخدام آخر لوصف األنثى غري اليهودية.
266
إن اليدشية حتمل تقديرا حتى لال معنى كام أرشت سال ًفا .فإن كانت املرأة
يف كراكوف كاثوليكية ،فحينها تكون شبح الال معنى الذي يطاردين؛ أنا الفتى
اليهودي البولندي العابر يف تلك اللحظة بصفتي كات ًبا أمريك ًيا .ونحن نقول
يف أمثالنا« :إذا نسيت إنك هيودي ،فسيذكّرك أحد األمميني بذلك» ،ولكن
مؤخرا إذا نيس
ً أخذت أبعا ًدا أخرى.
ْ فكرة نسيان بعض األمور كانت قد
هيودي آخر بذلك .وهنا قد تكون العالقة والصداقة ٌ اليهودي نفسه فسيذكّره
عرضة للتلف .ومن األمثلة املتطرفة عىل ذلك أنني كنت يف جدل عقيم مع
هيودي ستاليني ،والذي ظل ستالين ًيا ،بالرغم من األدلة القاطعة والعديدة
التي تثبت أن ستالني كان قد قتل الكثري من اليهود فقط ألهنم هيود .كان
هوياتم الشخصيةُ صاحبي ومن عىل شاكلته يفضلون املوت عىل أن تتزعزع
بأن« :كان ستالني ً
رجل أو املتومهة .كان ثمة وجه هيودي للجنون ينادي ْ
صاحلًا ،ولكن ذائقته املوسيقية كانت سيئ ًة» .بمثل هذه العقلية الشيطانية
كان النازيون يستهلكون مواردهم الطبيعية وجهود جيوشهم لقتل اليهود،
حتى وإن كان اجليش الرويس عىل األبواب .ألن هؤالء اليهود كان ينبغي
أن يموتوا عىل أي حال ...إلخ .يؤكد ترتليانوس((( أحد اآلباء املؤسسني
جوهري يف
ّ للكنيسة النرصانية يف القرن الثاين أن األمر الال معقول [الغيبي]
أخاذة ،ومرعبة يف تطبيقاهتا عىل مسألة اإليامن .لقد كانت حذاقته السياسية ّ
ب اإليامن بعقالنيةالواقع يف الوقت نفسه .فكلام تضاعف عدد املؤمنني ،ص ُع َ
بأي يشء.
تكمن املفارقات كأسلوب إدراكي يف كل زوايا اليدشية .وربام كانت
املسألة جين ّية ،وربام فرست لنا رس حمبة اليهود للنكتة .فالتحليق من
-1ترتليان أو ترتليانوس نرصاين أمازيغي ،اكتسب شهرته بسبك عبارة «الثالوث» ورشحه
للعقيدة النرصانية (تويف ٢٣٠م).
267
فورا عالقة مع املستمع .كان هوبز((( يسمياإلحساس إىل الذكاء خيلق ً
شاهدت الكوميد َيني
ُ الضحك بـ «املجد املفاجئ» ،وهذا تعبري فاخر .لكني
اليهود َيني :ليني بروس ومارون كوهني ينحدران عرب الضحك بجمهور
ملهى لييل نحو شجار معيب ومتشنج .حني كنت أعمل يف فنادق جبال
كاتستل الحظت أن الكوميديان ( )tumlerوالعربيد ،هو من ختلت النساء
ألجله عن ذواهتن .يقول جريي لويس وهو كوميديان سابق يف مقابلة
تلفزيونية أنه كان حيصل عىل أربع نساء يف اليوم حني كان يف ذروة جمده.
وعىل خالف جريي لويس كانت حنّه أرندت((( تفضل القطيعة مع جمتمعها
اليهودي وتارخيه .استخدمت حنّه املفردة املتعجرفة «تافه» لتصف حدث
مقتل املاليني من اليهود .قالت يف إحدى رسائلها املتأخرة أهنا استمرت
«سليمة القلب» رغم كل سوء املعاملة التي طالتها بسبب استخدامها لتلك
املفردة.
هرب األعامم والعامت واألخوال واخلاالت من بولندا مهاجرين إىل َ
ُ
أستيقظ الواليات املتحدة .كانوا يقيمون معنا إىل أن جيدوا هلم سكنًا مناس ًبا.
صغارا نائمني عىل أرض ّية صالة املنزل .كانت عمتي ً أحيانًا ألجد هيو ًدا
راحل،ٌ زوج
احلال نائمة عىل األرضيةٌ . األرملة مويل تسهر الليل لينتهي هبا ُ
وأوالد متزوجون ومشغولون .كانت وحيدةً .كنا نخصص هلا األريكة مع
غطاء ووسادة ،لكنها كانت ترفض ذلك الرتف! مل ترد أن تكون ثقيلة عىل
مالبسها أدنى مساحة للتخزين، ُ ُ
تشغل أحد بأي حال أو أي شكل .ولكي ال
شعورا
ً كل مالبسها .كان كانت تلبس فستانني أو ثالثة فوق بعضها ،أو حتى َّ
مؤملا أن نرى العمة مويل منطوية ناحية اجلدار صباحا .كانت بطول أمي:
-1توماس هوبز الفيلسوف اإلنجليزي وأحد مؤسيس الفلسفة احلديثة (تويف ١٦٧٩م).
-2باحثة وكاتبة سياسية أمريكية هيودية من أصول أملانية (توفيت ١٩٧٥م).
268
يشع ذكا ًء وحزنًا .مل أرها تضحك قط،مخس أقدام تقري ًبا ،وهلا وج ٌه مجيل ُّ
أحيانا تقهق ُه هبدوء ،وربام ابتسمت يل وهي متازحني .كانت ُّ
حتك ()krotz
ظهري كل ليلة حتى أغط يف نوم عميق ،وكام كانت تغني يل .يف البداية كان
الغناء كله باليدشية ،ثم دخلت اإلنجليزية وشاركتنا.
Label, gay fressen
Lenny, go eat
269
اإلنجليزي يف جامعة هارفارد .فذهب هذان الوالدان إىل كيرتيدج((( العامل
الشكسبريي العظيم وسأاله« :أتعتقد أن لكنة ابننا اليدشية تعدّ منقص ًة؟»
فأطلقها كيرتيدج مدوي ًة [بلكنة بولندية]ّ )vot akcent( :
«أي لكنة تتحدثان
عنها؟»
حني كنت ً
طفل كنت أعرف هيود ًيا واحدً ا فقط ممن هيتم أن يكون (bella
دائم ما يظهر
ووسيم جدً ا ،وكان ً
ً )figuraذا سمت حسن .كان طبي ًبا حمرت ًما
مرتد ًيا بدلة فاخرة ،وبرغم كل هذه اجلامليات كان متمكنًا من اليدشية.
كانت عيادته يف ح ّينا ،لذا فقد كان يقصد أيب كل صباح يف حمل احلالقة
ليحلق حليته .ويف املقابل كان عامل نتف ريش الدجاج يف زاوية الشارع
رجل صاخ ًبا ،يشتم زبائنه بألفاظ مضحكة ونابية باليدشية كذلك .ابن هذا ً
علم من أعالم جامعة إم آي يت((( .وهذه معجزة يعرب األخري أصبح الح ًقا ً
جر العربات»؛ يقصدون أنه الناس عنها بقوهلم «انط َلق عال ًيا [عال شأنه] من ّ
انطلق من فقر اليدشية إىل املال ،أو إىل الطبقة الرفيعة التي ينتمي هلا أساتذ ُة
اجلامعات .و ّل ْت أيا ٌم كهذه .يف الستينيات قام بعض الفتية اليهود معارضني
مقاصد إيرفينج هاو((( يف كتابه «عامل آبائنا»؛ كانوا هيتفون أن «اقتلوا اآلباء».
كان التطبيق دمو ًيا ومطر ًدا مع مفارقات اليدشية التي مل يعودوا يتكلموهنا.
ارتديت مالبس أنيقة للخروج ،تقول يل أمي« :ملاذا أنت ()fapitzed
ُ إن
أي متأنق جدً ا؟» هناك دعوة دائمة يف اليدشية إىل أن يبدو اإلنسان أفضل من
-1جورج كيرتيدج أستاذ األدب اإلنجليزي يف جامعة هارفارد ،كان عا ًملا بأعامل شكسبري (تويف
١٩٤١م).
-2معهد ماساتشوستس للتقنة MITيف بوسطن ،يعد من أكرب جامعات العامل وأعرقها يف التقنية
ويف غريها من العلوم.
-3ناقد اجتامعي وأديب هيودي أمريكي (تويف ١٩٩٣م).
270
كونه جمرد هيودي وناقد لكل يشء كذلك .يرصخ الرجل عال ًيا إن أراد التبول
أو املعارشة اجلنسية .وتظهر املرأة عارية أمام زوجها فتقول« :ليس لدي ما
ألبسه» فريد عليها« :اذهبي واحلقي فأنت تبدين كاملرشدين» .كان هنري
آدمز((( يشري إىل «الضحك الساخر لدى اليهود» .إنه من السهل بمكان أن
جتد السخرية صادرة عن اليهود ،ولكن عبارة آدمز بغض النظر عن خبثها
تتعارض مع فكرة كراهية الذات وخوفها التي كانت ملهمة لعداء ُ وغبائها
السامية بني املثقفني ،حتى اليهود منهم .كان عزرا باوند((( يصف هراءه
املعادي للسامية بالغباء ،وكأن العالقة بني الغباء والرش بدت بينة وظاهرة.
وأشكال متعددة .بعض هذهً متحررا،
ً إن للضحك اليهودي أسلو ًبا
ني حول اليدشية .حني بلغت سن احللم، األشكال يبدو سخيفا ،وكأنه ُب َ
بدل من صابون اليد .فاشرتيت أردت أن أستخدم الشامبو لغسيل شعري ً ُ
قارورة من بريك((( .رآين أيب وقال يل باليدشية« :ال تستخد ُم إال األفضل
محلت درسه الذي أراد تبليغي إياه بصورة غري مبارشة يف قلبي ُ دائم» .لقد
ً
دو ًما ،رغم إنني مل أرجع إىل استخدام صابون اليد لغسيل شعري .ولكن
ما عالقة هذا كله باليدشية؟ إن العالقة كبرية جدً ا بالنسبة يل ألهنا ختاطبني
بالسؤال املصريي وإن كان صوت خطاهبا منخفضا جدً ا :من أنت؟
لقد حفظت بعض اليدشية ،وإن كان هذا البعض -مع كل أسف -ال
يزيد عن أغنيات العمة مويل .لكن ما اخلري الذي قد حتمله اليدشية يل؟ كنت
-1هنري آدمز كاتب ومؤرخ أمريكي ،تعد سريته الذاتية من أروع ما كتب يف السرية الذاتية (تويف
١٩١٨م).
-2عزرا باوند شاعر وناقد أمريكي من رواد حركة احلداثة (تويف ١٩٧٢م).
-3اسم عالمة جتارية كانت ذائعة الصيت لشامبو شعر نسائي.
271
ضب طوق أمني من الرشطة مؤخرا يف روما أثناء أيام األعياد العالية ؛ ُ
(((
ً
ألي اعتداء .وعندوالسكان اليهود حول املعبد يف أحد األحياء حترزا ّ
تفاجأت من
ُ حماولتي عبور أحد احلواجر أوقفني أحد السكان اليهود .لقد
أنه مل يستطع إدارك أين هيودي .قلت له أنا من شعب اهلل املختار ،فأجابني
بأن أرين جواز سفرك .حدث يل موقف مشابه هلذا من َق ُبل مع هيود مغاربة
يف فرنسا .تذكرت حينها وتساءلت عن حال سبينوزا إذ كان معلمه لالتنية
أملان ًيا ،كام أن أول جريدة تنرش باليدشية كانت قد صدرت حني وفاته .أتراه
كان يعرف اليدشية؟ أنا متيقن من معرفتي املتواضعة باليدشية ،لكن هذه
ً
واتصال بذايت من اليدشية التي ال أستطيع الكالم هبا تبدو أكثر طبيع ّي ًة
درست الشعرا َء اإلنجليز .كان ثمة شطر لتي إس أليوت ُ اإلنجليزية .هلذا
زل ،تصدّ ع ،أو شي ًئا كهذا .كلامت يتصور املرء يقول فيه كلامت مثل :اندلقّ ،
أنه لن يواجه مشكلة معها أبدً ا .ومع مقوالت إليوت املشهورة حول كراهيته
ألي هيودي إن كان مرتد ًيا الفرو ،أتساءل :من يا ترى سريبط بني ذلك وبني
عمل أرسة إليوت يف صناعة الفراء ،والذين كانوا متا ًما مثل أسالف أمي يف
أحب إليوت غروتشو ماركس((( اليهودي ،ولكن هل تفكّر إليوت يا فيينا؟ َّ
ترى عند كتابته لرباعياته األربع((( وصورها املدهشة عن القديس الصليبي
يوحنا(((؟ هل تفكّر بأن ذلك الراهب ،الناسك ،العبقري ،حنطي البرشة قد
يكون هيود ًيا؟
كانت أول كلامت نطقتها التوارة« :ليكن النور» .كان هذا النور هو
272
الفهم والبصرية وليس نور البرص جمر ًدا .نقول يف اليدشية «إن قتل إنسان
العال» .وهذا يعني أن اإلنسان مل يعد جمرد جسد ،كام مل يعد أداة جمد َ كقتل
افرتايض مثل النور ،وهو كذلك ليس عا ًملا مضي ًئاَ .ط َر َح هذه الفكرة عىل ما
أظن سبينوزا بتفصيل يف كتابه «األخالق» .فاألخالق من لوازم الوجود.
وربام كانت الفكرة كذلك يف « الرتاكتاتوس» عند فيتغنشتاين« :العامل هو كل
يشء؛ هذه هي احلال» .ولكن ما هي احلال؟ إن كانت احلال هي أن احلقائق
األمر يبدو يدش ًّيا أم سبينوز ًّيا؟ ربام كان هذا
َ مقيدة بالقيم ،فهل جيعل ذلك
هو السبب أن كتّاب اليهود مل يكتبوا عن القتل كام فعل النصارى .حتى
بريمو ليفي((( والذي كان القتل موضوعه األعظم مل يرسم بكلامته البشاعة
املرافقة للقتل كام قد يتوقع املرء.
أما فيام خيص كتابايت أنا فإن يد اليدشية اخلف ّية أبقتني بعيدً ا من جمرد فكرة
االقرتاب من الكتابة بشكل حسن عن الشخصيات القاتلة .إن أقرب ما
متكنت الوصول إليه فيام خيص القتل كان يف قصة «حديقة تروتسكي(((»،
قرأت دراس ًة
تبنيت فيها نرب ًة يدشي ًة للحديث عن حياة الرجل .كنت قد ُ والتي ُ
نفسي ًة انتهت إىل أن تروتسكي كان يامرس القتل لرييض لينني((( ،والذي كان
يعدّ ه تروتسكي مثاال حيتذى به بمثابة الوالد .إن كان سلوك تروتسكي يف
تصورت .كانت
ُ حقيقته كام ذكرت هذه الدراسة ،فإن األمر أسوأ بكثري مما
كنت أريد خملصا أن ُأقدّ ر تروتسكي لعبقريته، دافع كتابتي للقصةُ . اخليبة َ
وشجاعته ،وقدراته األدبية غري العادية .كانت دقة وصفه لقص العشب عىل
-1بريمو ليفي أحد اليهود الناجني من اهلوليكوست ،كيميائي وكاتب إيطايل (تويف ١٩٨٧م).
-2قصة من تأليف الكاتب عن حياة ليون تروتسكي املنظر املاركيس الثائر (تويف ١٩٤٠م).
-3فالديمري لينني الزعيم السيايس املاركيس مؤسس االحتاد السوفيتي (تويف ١٩٢٤م).
273
ف املشهد نفسه ودقته لدى تولستوي((( يف سبيل املثال من اجلامل مثل وص ِ
َ ْ
«آنا كارنينا» .وقد تكون يف اليدش ّية بعض الوحشية إىل حد ما عىل سبيل
وتغوط يف البحر» ،لكن
املثال ( )gay koken aff yamوالتي تعني «اذهب ّ
حني يكون القتل هو املوضوع ،فأين هم الكتاب اليهود مقارن ًة بشكسبري،
وويبستري ،ومارك توين ،وفالنري أوكونور ،وكورماك ماكارثي ،وإملور
ليونارد؟ إن قصة إبراهيم وابنه إسحاق يف التوراة ،والتي تشكل أمهية كبرية
ِ
قطعت الطريق عىل القتل ،وهي اليوم مهم ٌة يف الديانات الثالث ،كانت قد
يف سياق معاجلة اإلرهاب الديني املعارص عند أبناء هذه الديانات.
موت أحد اآلباء واسمه ()Ganz بحدث ِِ (((
بدأت قص ٌة لبرينارد ماالمود
ْ
حتمل داللة هذه املفردة يف اليدشية معنى الشمول( :مجيع ،اليشء ُ غانز.
كلموت العامل كله .كان ُّموت غانز جماز ًيا َ
كامل ،كل يشء) .وهكذا محل ُ ً
كتب
يشء قد قتل .ومل يكن بمقدور ماالمود تسمية هذا األب بغانز لو أنه َ
ومدمرا لكل اجلد ّية
ً قصته باليدش ّية .ألن األمر سيبدو حينها مضحكًا جدً ا
ً
متمثل يف موت التي تريدها القصة .لقد كان موت األب أو موت العامل كله
إنسان هو سبب حزن هاملت املفرط؛ وهي احلالة خيشاها اليهو ُد دو ًما لسبب
جاء يف املرسحية نفسها« :كيف يبدو كل ما يف هذا العامل مره ًقا ،وشاح ًبا،
وعديم اجلدوى» .وبسبب موت هاملت األب يبدو هاملت االبن َ وباهتًا،
باكرا يف الفصل األول عن مسري هاملت نحو ميتًا كذلك .تتحدث املرسحية ً
قربه وكأنه نكتة؛ ثم يفتتح الفصل اخلامس ،ودون مقدمات ،هباملت يف
فعل داخل قرب .وبمناسبة احلديث عن احلزن ،فإن زيغموند املقربة ،فيقفز ً
فرويد كان قد حلق شكسبري يف كتابه «احلداد والسوداوية» .فكام أن هاملت
-1ليو تولتسوي مفكر وروائي رويس من عاملقة األدب الرويس (تويف ١٩١٠م).
-2برينادر ماالمود أحد أهم الكتاب اليهود األمريكان يف القرن العرشين (تويف ١٩٨٦م).
274
طلب أن تنظر أمه إىل صورة أبيه ،فإن فرويد يعطي أمهية كربى ملا تبقيه
الصورة من آثار وتوجيه للرتكيز الفكري .وها أنا أعود جمد ًدا ليدش ّيتي،
حني أردت ذات مرة أن أكتب عن موت أيب ،كنت قد ألزمت حزين أن
أخذت» .عادة ما
ُ يظل يف نطاق صور حمدودة ورثاء بسيط« :هو أعطى؛ وأنا
تكون مجلتي القصرية ناقدة لنفسها ،كام أنه ليست ذات عالقة بأعامل الكتّاب
الذين اشتهروا بكتابة اجلملة القصرية .مجلتي القصرية هي ابنة لنزعة اليدشية
لالختصار وهي حتاول أن ختتطف املقابل اإلنجليزي.
قادرا عىل كتابة ما
كانت مجلة شكسبري القصرية تدهشني دو ًما .مل أكن ً
يشبهها .يضحكني هذا االعرتاف دو ًما .يقول بواب املعبد وهو يرضب عىل
ب ،والذي كان يقول دائم ما كان يسمعه احلَ ْ ُ
صدره« :يا إهلي ،إنني ال يشء»ً .
دو ًما« :انظروا إىل من يزعم أنه ال يشء» .كال الرجلني مضحك .عىل الكاتب
اليهودي أن يكون دو ًما عىل حذر ،فالفارق بني العاطفة الشديدة والسخرية
ضئيل جدً ا مثل خطوة عنكبوت واحدة.
كانت أمي حني ختاطبني دائمة التنقل بني اإلنجليزية إىل اليدشية داخل
وقادرا عىل
ً قادرا عىل مغادرة اإلنجليزية،
اجلملة الواحدة .إذا كان املعنى ً
معاودة الظهور يف اليدشية ،فهل جيب واحلالة هذه أن تكون للمعنى عالقة
خاصة بأي لغة منهام؟ يقول اللسانيون أن كل ما يمكن قوله باألملانية عىل
سبيل املثال فإنه يمكن قوله بالرضورة بالسواحيلية ،والتي هي عربية بشكل
أو بآخر .لكن يأبى الشعراء أن يقبلوا فكرة اللسانيني هذه عن املساواة
اللغوية؛ أما املتطرفون الدينيون فقد يصل األمر هبم إىل قتل من يتفوه
هبذا االفرتاض .أؤمن بشكل مطلق أن عالقة املعنى باللغة أقل من عالقته
تنطق ،وتتكلمُ باملوسيقى ،لكن تدفق املوسيقى املشاعري هو ما جعلها
بدرجات خمتلفة .لذلك فإن املعنى يف الرواية والشعر هو أقرب للموسيقى.
275
إن احلديث عن قصة مثل ما عند غوغول ونابوكوف يشعرك أهنا تقول:
ال ال دو ال ال ال((( .لكن الكلمة تبقى أداة القصة الرئيسة ،كام هي حاجة
القصة .وهذه الوحدة قد يدركها اإلنسان يف كل يشء يف الطبيعة .مثلام أن
املوسيقى هي معنى القصة ،يكون املادي والشعوري وجهان لليشء ذاته.
فبكل عنارصها التي اجتمعت من األملانية ،والعربية ،واآلرامية ،والالتينية،
واإلسبانية ،والبولندية ،والروسية ،والرومانية ،فإن فاليدشية تبدو وكأهنا
جمازا .إن شع ًبا قد جاء من هنا وهناك؛ ملزم أن يتبنى الكثري (كل يشء) ً ّ
ليكون ذاته؛ كام هو ملزم كذلك بأن يعيد الكثري جدً ا هلذا العامل .وإهنا ملفارقة
ّ
بشعة من مفارقات الرش أن يصبح هذا الشعب مكونًا رضور ًيا ملشهد القتل
يف العامل.
يف اخلامسة ،كنت أذهب إىل املدرسة يف مبنى فيكتوري ضخم وكئيب
عىل بعد شارع من حينا يف قرية نيكرباكر((( .عبور ذلك الشارع يشبه
االرحتال من النعيم إىل اجلحيم .مل أكن أنبس ببنت شفة يف قاعة الدرس ،بل
ً
حماول جتنب نظرة املعلمة الرشيرة .كانت املعلمة قد أجلس وحيدً ا وبعيدً ا،
لوالدي بأين سوف أنتقل إىل فصل خاص ّ شخصتني متخل ًفا ،وكتبت رسالة
حيث سأكون أسعد ،وحيث أستطيع لعب تنس الطاولة طوال اليوم .مل تكن
أمي قادرة عىل قراءة الرسالة ،فعرضتها عىل جارة لنا من تكساس ،اسمها
لني نيشنز .كانت جارتنا لني أمريكية حقيق ّية .تفاخر بأهنا حتمل جينات هندية
أصيلة ،وإن كانت شقراء وبارزة الوجنتني؛ كام كان هلا قوام ونعومة تؤهلها
أن تكون عارضة أزياء .تطلب منّا أحيانًا أن ننظر داخل فمها ،لنشاهد مثالية
أسناهنا .كانت هذه املميزات جتعل لني تؤمن بأصوهلا األمريكية .وكانت لني
276
كثريا
مغرمة يب جدً ا بالرغم من أنني مل أشاركها احلديث يو ًما .كنت أقيض ً
املحرم .كام كنت
ّ من الوقت يف شقتها :أتصفح كتب الفنون ،وآكل الطعا َم
أحتدث إىل زوجها :وهو تاجر فراء وناشط يساري ،ويعرف اليدشية.
كانت لني تؤمن أنني أذكي من أكون متخل ًفا ،فذهبت إىل مديرة الدرسة
وهو األمر الذي مل تكن أمي لتجرؤ عىل فعله ،وطلبت منها أن ختترب ذكائي
بشكل احرتايف .والندهاشها بحضور لني الذي يشبه كاثرين هيبورن(((،
وافقت املديرة عىل طلبها .رتبت املديرة مع اإلخصائي النفيس يف املدرسة
يت مع جمموعة طالب إىل مرحلة أكرب من عمري ليختربين .بعد االختبار ،ر ّق ُ
بسنة .كان ضمن طالب الفصل اجلديد صبي اسمه بونفيغليو وفتاة اسمها
إيستريفيز .أذكر االسمني ألن ترتيبنا يف اجللوس كان مبنيا عىل درجات
اختبارات الذكاء .كان بونفيغليو األول ثم إيستريفيز ثم أنا؛ كانت إيستريفيز
طفلة ال تستطيع حتى طلب اإلذن لتذهب إىل دورة املياه .يف ذلك الفصل
سحرا
ً األعىل اضطررت إىل الكتابة والكالم باإلنجليزية .وكأن األمر كان
وحدث بني عشية وضحاها؛ يظهر أنني كنت أعرف عن اإلنجليزية أكثر مما
ظننت .حني سألت أمي عن ذلك قالت« :بالطبع أنت تعرف اإلنجليزية،
لقد تعلمتها من الشاحنات» .قصدت أمي أنني حني كنت طريح فراش
املرض ،كنت أطل عىل الشارع من النافذة وأقرأ الكلامت املكتوبة عىل
جانبي الشاحنات؛ أي أنني علمت نفيس اإلنجليزية .مع األسف ،لقد
قادرا عىل تعلم أي لغة من
أحرقت احلمى الكثري من دماغي ،فأنا مل أعد ً
الشاحنات .يتعلم األطفال اللغة برسعة مدهشة .وملرة أخرى وبرضب من
رضوب املجاز ،فإن اليدشية كانت لغة األطفال الذين جتولوا آلالف السنني
حيصلون لغ ًة دون فائدة ملموسة. يف كابوس طويل؛ ّ
277
أذكر جيدً ا بصمة أصابعي عىل أول كتاب مدريس أمسكته بيدي ،كام
حمم ًل بكل إنجليزي أذكر جيدً ا عدم يقيني املرعب من أن يكون هذا املعنى ّ
أمر مل يكن سائ ًغا أبدً ا .ما
غريب ،وقد يفرتس كل ما الزم لغتي اليدشيةٌ .
سطر
الذي يمكن أن يقرتحه األسلوب اليديش يف مقابل اإلنجليزي .بدا يل ٌ
معارضا لليدشية )goyish( ،غري هيودي:
ً (((
من قصيدة لواالس ستيفينز
It is the word pejorative that hurts
278
عبقريتها ذات الفاعلية يف اجلملة التي أكتبها ،ولكن هذا ال يتعلق يب شخص ًيا.
إن متعة التعقيد ،والفرحة بالبالهة ،إىل جانب فكرة ما هو اجليد وما هو غري
اجليد ،كل ذلك يف اليدشية .فإن تكلمت اليدشية يف مجلتي ،فاملتكلم إذن
فضل من أن أكون أنا وحدي املتكلم. ليس أناً ،
حني ُسئل لورد باملرستون((( عن اختياره إن مل يكن ُولد إنجليز ًيا،
فأجاب« :إنجليزي»! .تذكرين إجابته بنكتة .تقول النكتة إن هيود ًيا يرى
نفسه يف املرآة بعد أن لبس بدلة فاخرة لدى خياط راق يف لندن« .هل كل
يشء عىل ما يرام؟» يسأله اخلياط .يقول اليهودي باك ًياvee lost de em�( (:
« )pireلقد أضاعوا اإلمرباطورية» .حتاول النكتة خماطبة الغضب املجنون
لليهودي
ّ الذي أثر يف طبيعة اليدشية؛ كام تبني النكتة بوضوح أن سؤال اهلوية
ليس ً
متثيل بار ًعا ومتقنًا دو ًما ،كام هو حال السيد باملرستون.
-1لورد باملرستون سيايس إنجليزي ،كان رئيس الوزراء يف منتصف القرن التاسع عرش (تويف
١٨٦٥م).
279
280
المحتويات
اللغة األم بني رشحيتني من خبز احلبوب :غاري شتاينغارت ٢١٢ ............
281
ٌ
هوامشحلياةمزدوجة:آيريلدورفامن ٢٤٤ ................................
282
283
284