You are on page 1of 5

‫الجزء األول‪ :‬تكريس مبدأ الشرعية اإلجرائية‬

‫تتجلى أهمية مبدأ شرعية اإلجراءات الجزائية من خالل تكريسه تشريعيا(أ) و‬


‫قضائيا(ب)&‬

‫أ‪ :‬التكريس التشريعي‬

‫قد تقضي المصلحة اإلجتماعية الحد من حريات األفراد‪ ،‬و يقدر المشرع حدود‬
‫هذه المصلحة بوصفه السلطة الممثلة إلرادة المجتمع و سيادته‪ .‬و يعبر عن هذه‬
‫الحدود قانون العقوبات من خالل مبدأ "شرعية الجرائم و العقوبات"‪ .‬و عندما‬
‫تباشر الدولة اإلجراءات الالزمة لكشف الحقيقة و تقرير حقها في العقاب& يبدو‬
‫خطر المساس بالحرية الفردية من خالل مباشرة هذه اإلجراءات‪ .‬و لذلك يتعين‬
‫على المشرع أن يتدخل في هذه الحالة لكي يقرر الحدود التي تتطلبها المصلحة‬
‫االجتماعية للمساس بالحرية من خالل اإلجراءات الجنائية‪ ،‬و السلطة التشريعية‬
‫هي التي تملك وحدها تقرير القيم االجتماعية‪ ،‬و جوهر الحرية الشخصية التي ال‬
‫يجوز المساس بها على اإلطالق‪ ،‬و الشروط الالزمة لتحقيق التوازن بين مصالح‬
‫المجتمع و حقوق الفرد‪.‬‬

‫و بناء على ذلك فإن القانون وحده هو الذي يحدد اإلجراءات& الجزائية منذ تحريك‬
‫الدعوى الجزائية حتى صدور حكم بات فيها‪ ،‬و هو الذي ينظم إجراءات التنفيذ‬
‫العقابي بوصفها المجال الطبيعي للمساس بالحرية تنفيذا للحكم القضائي‪.‬‬

‫و يعد هذا المبدأ تعبيرا عن أحد ركائز الشرعية الدستورية في اإلجراءات‬


‫الجزائية‪.‬‬
‫و تطبيقا لهذا المبدأ قضت محكمة النقض الفرنسية بأن المشرع‪-‬وحده‪-‬يملك سلطة‬
‫‪1‬‬
‫المساس بحرية األفراد‬

‫إن قانونية اإلجراءات الجزائية تفترض أن تصدر كافة القواعد التي تحدد هذه‬
‫اإلجراءات& عن المشرع كونها تمس من الحرية الشخصية‪ ،‬و خطورة اإلجراءات&‬
‫الجزائية على الحرية الشخصية تقتضي أن ال تنظم هذه اإلجراءات& منذ اللحظة‬
‫التي تقع فيها الجريمة و حتى صدور الحكم و تنفيذه بأداة أخرى غير القانون‪.‬‬

‫فكل إجراء يتخذ في أي مرحلة من المراحل قبل ارتكاب الجريمة يجب أن يكون‬
‫محكوما بالقانون‪ ،‬و ال يجوز ألي شخص سواء كان القاضي أو اإلدعاء العام أن‬
‫يبتدع إجراءات معينة لتطبق في أي مرحلة منها‪ ،‬فالقانون وحده هو الذي يجب‬
‫أن يحكم هذه اإلجراءات ألن الحريات& الشخصية مصونة بموجب أحكام الدستور‬
‫‪2‬‬
‫و بهذا ال يجوز تنظيمها إال بموجب القانون‬

‫يقع على عاتق السلطة التشريعية وضع القواعد الجزائية العقابية ة التنفيذية و‬
‫اإلجرائية على حد سواء‪ .‬فاالجراءات& الجزائية هي كالقواعد العقابية‪ ،‬ال بد من‬
‫تنظيهما في نصوص معلنة‪ ،‬طالما أنها تلزم األفراد االمتثال إلجراءات& الدعوى‬
‫الجزائية من ضبط و تفتيش و تحقيق و محاكمة‪ ،‬اذ أن كل هذه اإلجراءات& تمس‬
‫من حقوق األفراد و حرياتهم مما يوجب ضرورة النص على النظام اإلجرائي‬
‫الجزائي‪ &،‬ألن اإلجراءات& الجزائية في أي دولة تعكس صورة لحقوق و حريات‬
‫أفراد تلك الدولة‪ .‬فالتنظيم اإلجرائي إذا يضمن حقوق المتهم و حريته‪،‬و يوازن‬
‫بينها و بين مصلحة المجتمع؛ذلك أن نظام اإلجراءات الجزائية هو من النظم‬
‫المنظمة للحريات‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪Cass 1 er février 1956. D. 1956 p 365‬‬
‫‪2‬‬
‫د‪.‬احمد فتحي سرور‪ ،‬الشرعية و اإلجراءات الجنائية‪ ،‬دار النهضة العربية القاهرة ‪ 1977‬ص ‪34‬‬
‫إن مبدأ الشرعية اإلجرائية الجزائية يفرض ان تكون اإلجراءات الجزائية‬
‫منصوصا عليها بنص‪ ،‬و واضحة‪ ،‬و مبينا فيها السلطة المناط بها اتخاذ اإلجراء‬
‫و يعمل بها على افتراض براءة المتهم‪ ،‬و تكون تحت إشراف قضائي‪ ،‬فإذا صدر‬
‫حكم نهائي بإدانة المتهم سقطت براءته‪ ،‬و اصبح المساس بحقوقه و حريته أمرا‬
‫مشروعا في حدود ما نص عليه الحكم الصادر و حدود الشرعية التنفيذية‪.‬‬

‫تعتبر الشرعية اإلجرائية أصال أساسيا في أصول المحاكمات& الجزائية و ال تفل‬


‫اهميتها عن أهمية الشرعية العقابية و التجريمية‪ ،‬حيث ال تصلح الشرعية العقابية‬
‫الجزائية إذا لم تستكمل بالشرعية اإلجرائية الجزائية‪ .‬فالشرعية العقابية وحدها ال‬
‫تكفي لحماية الفرد من خطر التجريم و العقاب اذا أمكن القلض عليه و حبسه و‬
‫اتخاذ اإلجراءات& الالزمة لمحاكمته مع افتراض إدانته‪ ،‬ألن كل إجراء& يتخذ ضد‬
‫الفرد دون افتراض براءته يؤدي الى تحمله عبء إثبات براءته‪ ،‬فإذا عجز آعتبر‬
‫مسؤوال عن جريمة لم تصدر عنه‪.‬‬

‫لذلك فإن الشرعية اإلجرائية تتطلب وجود نص مكتوب و معلن‪ ،‬و سن هذا النص‬
‫يكون من قبل السلطة التشريعية في الدولة‪ ،‬فالسلطة التشريعية هي وحدها‬
‫المخولة بسن اإلجراءات الجزائية واجبة اآلتباع و التنفيذ‪ ،‬ألن اإلجراءات‬
‫الجزائية تشكل قيدا على حقوق و حريات األفراد‪ ،‬فال بد من تنظيمها في نصوص‬
‫مكتوبة طالما أنها تلزم األفراد اإلمتثال إلجراءات الدعوى الجزائية‪ ،‬فلكي‬
‫تحضى اإلجراءات الجزائية بالشرعية يجب أن تكون صادرة عن السلطة‬
‫المختصة بالتشريع في الدولة و أن تكون في شكل قواعد مكتوبة‪ .‬فكل إجراء‬
‫يتخذ منذ وقوع الجريمة إلى حين صدور حكم نهائي فيها يجب أن يكون محكوما‬
‫بنص قانوني‪-‬قاعدة قانونية‪ -‬ذلك أن التشريع المكتوب هو مصدر كل عمل‬
‫إجرائي‪.‬‬
‫يرتكز أساس مبدأ الشرعية اإلجرائية على ما تتمتع به قواعد القانون من صفة‬
‫العمومية و التجريد‪ ،‬و في أنه يصدر من سلطة تمثل الشعب‪ .‬و صفة عمومية‬
‫القانون و تجريده هي بذاتها ضمان أساسي ألنها تؤكد أن القيود الواردة على‬
‫الحريات& ال تستند إلى إعتبار شخصي‪ .‬و ينبثق مبدأ انفراد المشرع بتنظيم قواعد‬
‫اإلجراءات& الجزائية من مبدأ أن القانون وحده هو المنظم للحريات‪ ،‬و ذلك‬
‫باعتبار أن اإلجراءات& الجزائية تنطوي على مساس بالحريات‪ &،‬هذا باالضافة إلى‬
‫أن قواعد اإلجراءات الجزائية في حقيقة األمر تعتبر من المبادئ العامة التي تحكم‬
‫قانون العقوبات‪ ،3‬باعتبار أنه ال يمكن تطبيق قواعد قانون العقوبات بغير‬
‫قانون اإلجراءات& الجزائية‪.‬‬

‫و قد عينت كثير من الدساتير بإيضاح هذا المبدأ على غرار الدستور التونسي في‬
‫فصله ‪ ،115‬مثال ذلك الدستور الياباني‪ ،‬تلدستور الهندي‪ ،‬الدستور اإليطالي و‬
‫كذلك كل من الدستورين المصري و الفرنسي‪.‬‬

‫يمكن القول إذا أن اإلجراءات الجزائية يجب أن يكون مصدرها الوحيد هو‬
‫التشريع‪ ،‬و ذلك لمساسها بالحقوق و الحريات‪ ،‬و ال يجوز للمشرع أن يتنازل عن‬
‫اختصاصه بتحديد قواعد اإلجراءات الجزائية بجميع أنواعها‪ ،‬و ذلك التصالها‬
‫بالحرية الشخصية للمواطنين‪ ،‬فإذا جاء القانون و فوض السلطة المكلفة بتنفيذ‬
‫القانون أو تطبيقه في وضع قواعد إجرائية معينة‪ ،‬فإنه يكون مخالفا للدستور‪.‬‬

‫إن للنظام اإلجرائي الجزائي طبيعة مزدوجة تتجسد في تنظيم الحرية و الحقوق‬
‫الشخصية من جهة‪ ،‬و التنظيم القضائي من جهة أخرى‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫‪V.GARRABOS ;le domaine de l'autorité de loi du règlement en matière pénale, thése , paris 1970 ,p 30‬‬

You might also like