Professional Documents
Culture Documents
الغريب
الغريب
اندية الشتيوي
روايـ ـ ـة
Copyright © 2018
اندية الشتيوي
الغريب
رواية
tuniment@gmail.com
www.facebook.com/momentunis
www.p4bsite.wordpress.com
The views and opinions expressed by the author do not represent the views,
beliefs or opinions of Moment B&P Enterprises and its employees.
طبعة تونس
2
To Mum,
3
4
“By writing I put order to the world, give it a
handle so I can grasp it.
I write to record what others erase when I
speak, to rewrite the stories, to rewrite the
stories others have miswritten about me, about
yo,to discover myself, to preserve myself, to
achieve my self-autonomy”.
Gloria Anzaldúa
5
6
1
فتحت عينيها ،وهي تواري ضوءا خفيا تسلّل من جزء من الستارة هاتفا
تتفرس يف املكان وكأنّه غريب عنها ،أريكتان ومرآة بقدوم يوم جديد .بقيت ّ
وسرير تستلقي عليه وهدوء يعم املكان .اآلن بدأت تفهم أين هي اآلن ّإّنا
تتذ ّكر أّنا يف النزل وأّنا ليست مبنزهلا .على ما تذكر أ ّّنا كانت ابحلانة وبعدها
ال تذكر ما حصل .كيف وصلت إىل غرفتها ،إ ّّنا ال تدري .تتعثّر ابلزربية
تتفرس يف شكلها ،شعرها منفوش
هتب حنو املرآة ّ الصغرية احملاذية للسريرّ ،
وهي مبعثرة كليا ،مالبسها الّيت ارتدهتا البارحة موضوعة على حافة السرير وكل
ما تلبسه ليس إالّ مالبس داخلية شفافة مبعثرة هي األخرى .ال تدري مىت
وصلت إىل غرفتها أو كيف نزعت مالبسها وانمت.
كل ما تتذ ّكره اآلن ّأّنا شربت بعض املشروابت الكحولية وفقدت وعيها أل ّّنا
ال تذكر ما حد بعدها،كيف وصلت إىل هنا ،إ ّّنا ال تدري.
اجلوال تفتحه .ال ب ّد أ ّن مكاملات عديدة قد وصلتها وهي
أسرعت هلاتفها ّ
الّيت ال تعلم ما حصل .فعال اتصاالت عديدة :والدهتا ،زوجها ،وصديقتها
جنوى الّيت تسأل عنها دائما.كانت أروى قد تعمدت إغالق هاتفها منذ ليلة
البارحة واختفت وال أحد يعرف مكاّنا.كل ما تعرفه هو أّنا أخذت سيارهتا
وغادرت بعد شجار عنيف مع حممود زوجها واختارت أن تقضي الليلة بعيدا
عن كل شيء ،يرتشفها الوجع دون استئذان وهي الّيت تفتّش يف اجلوانب
القصيّة عمن يلملم جراحها فال جتد .يبقى أن تلعن الوجود والناّس واملقربني
لتستأثر أبلواّنا وتغرد نغما شجيّا يسكنها لألبد.
7
ذهبت اىل غرفة االستحمام .حاولت أن تغسل وجهها وتتخلص من بقااي
ماكياج ليلة البارحة ،الكحل املتسرب هنا يقبع بني جفنيها ،يظلّل بقااي عتمة
تصرخ من جوفها وأمحر شفاه ابهت يتلوى على شفاهها فاضحا اهتزازها.
ولكنها فجأة وجدت بقااي أمحر شفاه على رقبتها .رسوم شفاه تتلوى على
البياض اهلادئ بني صدغيها وأسفل رقبتها .وانتفضت" :من قبّلين؟ أتراين
أي ذاكرة عرجاء تستنشق الفراغ
كنت مع شخص ما البارحة؟" إ ّّنا ال تذكرّ .
تلم
فرتميها يف البياض وهي حتاول أن تفهم ما حد البارحة ال تستطيع أن ّ
مبا حد ؟ "أإذا كنت برفقة أحدهم فهذا يعين أنّه الشخص الذي نز ي
أين قد منت معه؟" ارجتّت وبدأت األسئلة حتاصرها ،تر ّج
مالبسي؟ هل يعقل ّ
بداخلها أسئلة دون جواب ،واحلرية بدأت أتكلها.
يستفزين سوى الفراغ .أهيم بني
ّ أان أروى .أرتوي من عطش أسئليت فال
شىت فال أدرك من أان .أان الّيت جئت ألزر شجين بني ثنااي احتماالت ّ
حيطان نزل ما ،ألتقي أحدهم وأانم معه وأنسى من أكون وماذا فعلت .دائرة
أردد آهايت
الشك تطفو على سطح تفكريي .يبقى أن أعلم مىت ّ من احلرية و ّ
جمرد نكرة تعاند مشوخ الوحدة والضيا
أأتمل من أكون اآلنّ ،
دفعة واحدة كي ّ
بال أمل.
2
يطل السيّد حممود العابد من سياّرته ،يرتدي أنفته ويهتف بكربايئه الف ّذ ّ
ليهب إىل مكتبه .ما إن يدخل إىل مقر شركته حىت تفتح يستقل املصعد ّّ
سكرتريته الباب ليدخل إىل مكتبه .السكرترية أبانقتها املعهودة تبتسم ابتسامة
8
أحضر لك القهوة سي حممود؟" .ولكنه على غري عادته ينظر ماكرة" :هل ّ
إليها ابزدراء ويقول "فيما بعد ..ال اتّصاالت وال زايرات ملكتيب يف الساعة
القادمة" .متتطي السكرترية عفوها" :حاضر".
فزه وتغادر وختتفي كما
مرت على سي حممود ،كيف ألروى أن تست ّ ليلة طويلة ّ
حيلو هلا؟ كيف هلا أن تعاند بشموخها وتتجاهله ّمرة واحدة وختتفي ،ال تعريه
تردد وكم أراد
أي اهتمام؟ كيف هلا أن ختتفي؟ طيلة الليلة وهو يف ّكر فيها ،كم ّ
أبمها ليسأل عنها ولكنه مل يرد أن حيرج نفسه .طيلة الليل وهو
أن يتصل ّ
حياول االتصال اها وهاتفها مغلق.كيف هلا أ ن تتحداه؟
أخذ هاتفه واتصل اها .اهلاتف يرن .استبشر خريا ولكنّها ال جتيب .ف ّكر أن
ورجح أن يتّصل اها يف وقت الحق .يف مجيع
يكتب هلا رسالة ،ولكنّه تراجع ّ
ترد بعد أن صفعها
ترد أل ّّنا غاضبة منه .كيف هلا أن ّ
األحوال هي لن ّ
بقسوة؟
3
تربجت وتفننّت واعرتضتين يف اهو الدار أبحضاّنا وقبلها
ّأمي بكحلها العادي ّ
ي بعينني دافئتني
هتتف ي وتفتخر.كم كان النجاح مجيال وأنت معي .نظرت إ ّ
خترجك اي حبيبيت" .وأان من فرط انفعااليت
وقالت" :دمت فخرا ي ،مبارك ّ
مهمت على أطراف وجهها أقبلها شغفا وحبا ونقاء.كان جناحي وكانت ّأمي
وكان لطعم احلياة خالهلا حالوة سكر وعسل.كنت وقتها أدرك أن للفرح
طعما ما.كان منزلنا املتواضع عبارة عن خليّة حنل يسكنها جرياننا وهم
يباركونين مبتسمني ،ضاحكني وكنت أان يف اجلمع الغفري أستجمع قواي بعد
9
أن خارت من الضغط النفساين الذي كنت أعانيه .ليلتها مل أمن ومل
أستطع،كنت أنتظر رسالة أس أم أس حىت تصل .أختيّلها ،أختيّل أرقاما وكتابة
وهلعا يسكنين ومل أتفطن عندما أخذين النعاس يف ساعات الفجر األوىل.
وبعدها ّنضت على صوتك ،أنت من يبشرين ابلنتيجة أوال وبثثت الفرحة يف
داخلي فأينعت ونضج االحساس بيننا .مسافة حب ش ّقت مسافة زمن ومل
ترحل .ضياء ابن اخلالة صفيّة ،ابن جرياننا وزميلي ابلدراسة والفصل واملقعد
الساعات الّيت ال
وحىت يف ّ
والطريق الذي نعتاده عودة إىل املنزل وابملشرب ّ
ندرس فيها .يهيئ ضياء مسافة ي قربه فننتهي يف حديقة املعهد أين يرسم ي
قلبا حيتوي امسي وامسه .وكما العادة وكما يفاجئين دائما أرسل أس أم أس قبلي
ليستلم نتيجيت وجنحنا معا .وهلّل حبّنا يرتنح على أفئدتنا املوصدة.كان كل
احلي أيضا وحىت اخلالة صفيّة وأمي اللّتان كانتا تتهامسان
شيء جيمعنا وكان ّ
النقي علنا أمام أعني الناس.كانت اخلالة
وتنتظران اليوم الّذي يسري فيه حبّنا ّ
صفيّة تناديين ابنيت وكلّما زرهتا ابملنزل كانت ختبئ ي الشكالطة واحللوى أل ّّنا
حىت عندما أتتيها هديّة ال تليق
تعرف أبين أحبّهما وتقول ي ":أنت ابنيت"ّ .
يهب ضياء
بسنّها تعطيها ي.كانت حتب رفقيت فنجلس لنحتسي الشاي مث ّ
فامحر خجال وأطأطئ برأسي وتعلّق اخلالة صفية" :ليس هناك ما فجأة ّ
ختفينه،كلّنا نعرف ".وتبدأ يف الضحكّ .أمي حبدسها وذكائها املعهود ،كانت
تقول ي" :لن جتدي أفضل من ضياء ،ابن حينا وتربية يدينا" .عندها تؤكد
"إن شاء هللا سيكون من نصيبك" .وليت كان كالم أمي ودعواهتا مستجابة،
وليتين مل أبتعد عنك اي ضياء .ليت العامل كان مبنتهى البساطة كما كانت
أمنياتنا ابملعهد وليت تفكريان كان حمصورا ابلفروض والنتائج الدراسية
10
وحكاايت الزمالء والنكت على األساتذة .ليت العامل كان أبسط وليتك اآلن
معي لكنّنا بتنا فتات أشقياء.
4
ّأمي لن تسعفها االبتسامات وال الزغاريد وال احلمد والشكر هلل عندما مسعت
خبرب محلي .كل التعابري لن تستطيع أن تستويف فرحتها ،فرحت قبال كما كان
ينم عن احلمل يف
يف نتيجة الباكالوراي ولكن ليس اهذا الشكل .رمبا فرحها ال ّ
حد ذاته ،بل يف انتظاري خلرب كهذا منذ سنوات ،مخس سنوات وأان أنتظر،
حىت زوجي الّذي أصبحت عالقيت به وها قد جاء احلمل ،مل أكن أتوقعه وال ّ
فاترة يف اآلونة األخرية .فرحت أمي ألّنا تدرك أن األشياء اجلميلة ال أتتيين
على عجل .أمي رونق اخليال يف امتدادي مع الزمن ،هي من ترسم عثرايت
على خطوطه ،تتفرس يف وقوعي واحتضاري جلراحه وال متلك شيئا سوى أن
وتتمّن أن يسعفين القدر يوما
تدعوي .نعم إّنا أمي الّيت تقف على خسارايت ّ
فأبتسم ابتسامة عريضة من قليب فقط.كانت تزغرد وكنت أان أبكي من ش ّدة
الفرح .مل أصدق عندما أخربين الطبيب أبنّين حامل منذ شهرين وتساءلت:
"هل سيفرح حممود عندما يعلم؟" .أمي تفاءلت وقالت أب ّن وجود طفل بيننا
قد يزيل الثغرات وسوء التفاهم واجلدال املستمر وقد حيصل االستقرار" .وجود
طفل بينكما هو ترميم للهوة السحيقة الّيت بينكما" .مث أردفت" :أريده أن
يكون مثلك وسيما وال شك أ ّن عيناه ستكوانن زرقاوان مثل أبيه ،سيكون
مميّزا".
11
صمت وتساءلت" :كيف سيكون طفلي؟ هل سيكون أنثى أم ذكرا؟" إن
تتجر من خيباهتا فتوشك للهالك
كأمها ،أن ّكانت أنثى ال أريدها أن تتأ ّمل ّ
ولكن إن كان صبيّا فال بد أنّه سيكون أسعد ،اجملتمع الّذي نعيش فيه
يشرعه لألنثى.
ويشر له ما ال ّسيكون أرحم عليه سيعطيه دون مقابل ّ
ببساطة اجملتمع الشرقي ذكوري وللذكور أن حتيا ولالان أن متوت.
إذنسأختار امسا البين ،سأنتقي له امسا مجيال ومعربا ،سيكون حبييب وسأخلق
منه صورة للرجل املثاي ،صورة ختتلف عن أبيه املتعجرف وأيب التائه .سيكون
ابين وأان الذي سأشكله معّن ومجاال.
أرد
وفجأة ر ّن جرس اهلاتف ،إنه حممود كالعادة سيسألين أين أكون وكعاديت ّ
يغري شيئا .وكأنّين مل أبد حتمسا ألعلمه
بتثاقل عندما أكلمه كأن الطّفل لن ّ
متر الصطحايب يف
السار ورددت بسرعة" :أان عند ّأمي ،ميكنك أن ّ ابخلرب ّ
ظرف ساعة من اآلن" .صمت وأردف "أوكي" .مكاملتنا كانت كغريبني
أعجل بذكر حاجيت سواءيبحثان عن فنون الصمت أكثر من الكالم ،أان ّ
كانت ماال أو قضاء شأن أو معلومة أريد متريرها وهو كان يكتفي "بنعم،
وحىت يف أوقات الطّعام.كنت
أوكي ،حاضر" .أصبحنا غريبني يف بيتنا وفراشنا ّ
أتعمد دائما تفاديه ،وهو ومنذ أن اختفيت عن أنظاره ليومني عندما ذهبت
ّ
ويظل
يستفزين فأهرب عن انظريه ّ ّ إىل النزل أصبح يتفادى أن يثري غضيب أو
هو يف موقفه ال ّذليل يتسلّل وراء خياي .لرّمبا جيدين يف فوضاان اآليلة إىل
السابق يتناقش معي يف مسألة عالقتنا احلميمية ،يتّهمينال ّدمار..كان يف ّ
ينفك أن ينعتين أببشع النعوت وأنّين لست أبنثى .أذكر
ابلربود اجلنسي ،ال ّ
12
أنّين كلّما تفاديته يف الفراش كان يفرض نفسه علي يقبّلين رغما عين وأان اّليت
عين تلك الليلة وينقطععين .فريحل ّ أكره رائحته ولعاب لسانه وفمه أص ّده ّ
أحس بطعنات تسكن
الكالم أايما .أذكر أنّه عندما يقول ي لست أبنثى ّ
قليب وأحسب أنّه ال يفهمين ،ال يعرف أبنّين أنثى وألف أنثى .ال يعرف سوى
بضع حركات حيوانية أمسيها اغتصايب.كيف له أن يشعر يب وهو الذي ال
حىت
يعرف شيئا عين ،من أكون ،ماذا أخبئ يف القلب املرهف هذا .ال يعرف ّ
ماذا أحب وماذا أكره .يعرف فقط أنّه سوى زوجي وأنّه يتحتّم علينا بواجب
الزواج هذا أن ننخرط يف منظومة حيوانيّة نوقع من خالهلا صريورتنا
عقد ّ
حب أو تفاهم ضمن الطقوس االجتماعية لزوج وزوجة ال جيمع بينهما ّ
وانسجام.
علي كان قد صفعين ليلتها ألنين رفضت معاشرته .قال حبكم غضبه وحنقه ّ
ي كالما جارحا ،أهانين وأحسست أبنّه كان حياول مرارا وتكرارا حىت أخضع
املرة يبدو أنّه ال جمال للصرب
مرة حياول وأان أص ّده ولكن هذه ّ
لرغباته .يف كل ّ
مرة يصفعين فيها .قال ي
أكثر ،فقد أعصابه وصفعين بقسوة .كانت ّأول ّ
الزواج؟ هذا واجبك حنوي .أنت لست ابمرأة .أنت ال ":ماذا تريدين من ّ
شيء ،أان أكرهك ماذا تريدين أكثر؟ ملاذا تزوجتين إذن؟"
كانت دموعي تسيل وقلت له ":انتهت عالقتنا منذ ذلك اليوم ،وأنت تعرف
ماذا أعين بذلك اليوم .ال أستطيع أن أساحمك ما حييت" .وحلظتها أخذت
حقيبيت ،ال أدري ما رميت فيها وأخذت سيّاريت ورحلت .مل أكن أنوي العودة
13
وقتها سوى أ ّن ّأمي ومكاملاهتا املتكررة أنت يب عن ذلك ،خفت أن تزورين
ابملنزل وال جتدين فأضطر لشرح تفاصيل ال أريد الغوص فيها.
واآلن وهذا الطفل الّذي يتخبّط بني أحشائي ،هل أعلمه به؟ ال أدري ،لرّمبا
لدي أسبايب ولكن أمي لن تصمت ،ستخربه أكيد ولكن كيف سيتقبل اخلرب؟ ّ
ردة فعله بل أن يكون الطّفل ليس طفله.
ال أدري .ولكن خويف ليس من ّ
5
يف امتداد الظل رمستك أنثى وكنت ترتسمني على أوراقي ،أخطك ،أبث فيك
من ل ّذة االشتهاء اهلائم لصنع كائن يشبهين .نقيّة ،مورقة ،متناهية األنوثة،
تشبهينين ولكنك لست أان .ستكونني مثالية عابثة على الظالل املرسومة هنا
وهنا ،أنت من تشبهينيين كم أحبّك.
يتمرد على كتفيها ،صورةختلع ثواها ،فستان أمحر يهمس بلفحات أنثىّ ،
النتهاء آخر .هتم أبخذ قميص نومها ترميه على جسد منهك ابملتعة أثقله
حبيبها مصطفى ابرتسامات قـُبَ ٍل مازالت تسكن مسام جلدها .أشبعها قـُبَال
وهو يعرف كم حتتاج إىل مهساته كي ترجتف .وهترب القبلة سباقة الشتهاء
آخر ترتبه ملوعد ليلة قادمة .تندس يف السرير ،كما العادة أيخذها احلنني إىل
تتمرد
انسي آخر تنتظره بشغف .هي من أيخذها عامله إىل البعيدّ ، موعد روم ّ
بدالل أمام زوجها الذي يضيء ضوءا خافتا يذ ّكرها بعيد ميالدها ويضع خامتا
يدسه ابصبعها مث يرميها على الفراش لليلة محراء أخرى .فاتن من األملاس ّ
الزواج وال ّدالل أيضا ،أمام فانوس
تلعب طقوس الغرام كلّها ،اخليانة واحلب و ّ
خافت لليلة كاملة .احلبيب فكرة مؤجلة تسكنها مبوعد قادم والزوج أاث من
14
ويليب حاجياهتا ،وهو الّذي يبذل أاث املنزل ال ميلك سوى أن يعبدها ّ
قصارى جهده الرضائها.كان يعتقد دائما أ ّّنا حتبّه .مل يعلم بعد أن بينهما
ينسل بني قبلة وقبلتني وحضن ومهسة وكلمة "أحبّك" .مصطفى ّ مصطفى
األايم.
ساكن بينهما كالطّفل الغرير الذي يتغذى مع ّ
هكذا هي فاتن صنع أسطوري المرأة ترتّب مواعيد الصدفة وتتح ّكم فيها.
تتعاىل على الواقع لتحكم فيه ،وتنهال على القدر لتصفعه ،هتيم بدالهلا على
الطرفني وتبدو واثقة أ ّّنا تدير الك ّفة لصاحلها دائما.
يدخل حممود كعادته دائما حىت أ ّن سالمه كان جافا .يراين يف الغرفة اجملاورة
مين" :كعادتك مع بتعجب ويسخر ّ ي ّ أتص ّفح األوراق وأكتب .ينظر إ ّ
أي هراء هذا؟" .يدحجين بنظرة احتقار وميسك بك اي فاتن ،أنت األوراقّ ،
املرسومة على ورقي ،من خططتها ابنفعاي ،امرأة من انر ،امرأة أسطورية أنت
يسخر منك حممود .ينظر إىل الورقة وإىل تشظيّات خطّي املبعثر مث يرميها
على املكتب ويقول "تعيشني يف عامل آخر ،أنت حاملة" .نعم ،رماك حممود اي
تتمرد ،أن تقسم رجولته
فاتن ،مل يعلم بعد ماذا إبمكان امرأة أن تفعل ،أن ّ
نصفني ،أن يكون نصفا منسياّ تتالعب به امرأة وهو الّذي يعتقد أنه من
سيتمرد عليك .أنت اي فاتن يرميك! هو ال يعرف من تكونني ،ال يعرف أنّك
ّ
وإي .رماك اي فاتن .هل كان يعلم أنّه يستطيع أن
مين ّ أدايت لالنتقام ،أنّك ّ
يقاوم مجالك وفتنتك اي فاتن؟ لو كان يعلم ملا رماك ،ملا رماين ،ملا كنت
هكذا .ليتين أكون فاتن!
15
6
تسبقين شهد إىل البهو ،ترتنّح خبطواهتا األوىل لتستقل احلياةّ .أمي حني رأهتا
مرة أطلقت زغرودة من الفرحة هاتفة أبن شهد قد كربت وشارفت ألول ّ
متشي ّ
سنتها األوىل .شهد حبيبيت ومرآيت يف احلياة ،أراها متأل هذا البيت الفسيح ل ّذة
من احلياة بعد أن غاب حبوره ونشوته .أروح أان كاجملنونة أتبعها ،أخاف أن
تسقط ،ما زلت أخاف عليها أكثر من روحي فأان مستع ّدة ألمنحها روحي
إن رغبت .شهد حبيبيت ،أنت من ترمسني االبتسامة على وجهي .أمتّن أن
تكوين متألقة وانجحة وحمظوظة .فلتشبهيين يف كل شيء ولكن ال تشبهيين
ظ قد بدأ يرافقها .شهد
يف حظّي .شهد ومنذ أن ولدت أظن أ ّن سوء احل ّ
ومنذ عشرة أشهر ال تعيش إالّ على أشباه وجوه نسائية غريبة ،أان و ّأمي
وجنوى .شهد مل تعرف صوات رجاليّا وال وجها رجاليّا ،ال تعرف نربة صوت
رجل ،ال تعرف حليته ،يديه الكبريتني ،ك ّفه الغليظة ،نظرته احلادجة ،ال تعرف
حىت .لقد اختفى منذ يوم مولدها ماذا يعين رجل .شهد ال تعرف أابها ّ
ظ وقد تربيت على وانقطعت أخباره .شهد حبيبيت ،من أين لك أن تعريف احل ّ
حىت اآلن ال نعرف إن كان يتما حقيقيّا
الفقدان واليتم واخلذالن منذ البداية؟ ّ
أم مزحة من مزحات الزمن يلعبها أبوك مع مغامراته .حبيبيت شهد ،ليتين
أاترجح على أرجوحة الزمن ألمأل الكفة الفارغة وأراك ختطني خطواتك مع
أبيك .تندس يدك الصغرى يف ك ّفه فيسلك معك خطواتك األوىل وحيملك
بني ذراعيه ويشبعك تقبيال .ليتين أعرف كيف أنّه نسيك كما نسيين منذ زمن
أظن أبنّك حتملني لعنيت وأنت تبتسمني اآلن وتضحكني يف هذا البهو
طويلّ .
16
متردي فبعضنا مكسور فينا بسبب التخاذل
متردي عزيزيتّ ،
وأان ال أطالكّ .
واجلنب واالستسالم ،تعاي لعلّك تتحديّن واقعك وترمسني البسمة يف عنق
الظّالم .جتنّدي فالعامل الذي ستعيشني فيه لن يرمحك .أنت من متشني
ي ،خذي بعضه وانسيابه حلنا
خطواتك األوىل اليوم حتّركي ببعضك املشدود إ ّ
متردي اي شهد.للحياةّ .
ي ّأمي نظرهتا احلزينة املعهودة وهي تقول" :إىل مىت ستظلّني وحدك
نظرت إ ّ
اهذه الفيلال ،تعاي إىل منزلنا املتواضع سنعيش هناك وال أظن أبنك ستسمعني
شيئا عن حممود" .وافقتها فليس ابمكاين غري ذلك .فعال ماذا أفعل يف فيلال
لوحدي رفقة رضيعة أخاف عليها من هلوسايت واضطراابيت؟ ماذا أصنع
ابلذكرايت املتلفة وأوراق حممود ومالبسه وكتبه املص ّففة على الرفوف؟ ماذا
أصنع بذكرايت معطوبة تواري حتفها للسقوط؟ ماذا تراين أفعل ابلذكرايت
حي أم ميّت؟ لطيلة أشهراملنصوبة أمامي وأان ال أعلم أين يكون؟ هل هو ّ
اختفت أخبار حممود بعد أن مسعته تلك الليلة وهو يكلّم شخصا جبهازه
مرتددا دون عادته ،كان يقول" :سنلتقي غدا إن شاء هللا على
اخللوي .بدا ّ
أبين مل أمسعه .كنت فقط أسأله إن
الساعة الثامنة صباحا" .مسعته وتظاهرت ّ
ألحضر له العشاء .ابلرغم من أنّه كان دائما ابردا معي
ّ حيس ابجلو
كان ّ
أحس أبنّه متشوق
حتسنت عالقتنا بعض الشيء وكنت ّ لكن يف الفرتة األخرية ّ
األبوة .كما قالت ّأمي ،إ ّن الطّفل فعال يساهم
لرؤية ابنته وأن يعرف إحساس ّ
يف س ّد الثغرات واحملافظة على األسرة .صحيح أنّين مل أعشقه يوما وأنّه كان
الريبة .ربَّت على
علي يف فرتات ما وأوقات كثرية لكن انتابين شعور من ّ
قاسيا ّ
17
كتفه واصطحبته إىل الصالون أين جلسنا لنتفرج على التلفاز .بدا وامها،
شاردا وفهمت من قلقه أنّه يعاين من ورطة ما .بعدها أخربته أبنّين سأدخل
متحمسا ويف نفس
علي الطبيب .وبدا حممود ّ إىل املستشفى غدا كما أشار ّ
تعرفت عليه وحتدثت إليه
الوقت رأيت حنينا دافئا يف عينيه ذ ّكرين به عندما ّ
مرة .رأيت أنّه قلق بشأين أيضا ،أحسست أبنّنا قريبان من بعضنا. ألول ّ
ّ
أمسكت بيده ودلفت إ ىل صدره أحبث عن حضن داىفء اشتقت اليه منذ
زمن بعيد.
7
رتّبت أروى أشياءها .مل تبق سوى حقيبة املاكياج ومعطفها املستلقي على
أريكة الغرفة .جيب أن ترحل وتعود إىل عاملها ،مل يبق سوى أن تواجه
مشاكلها بعد أن هربت عنها لليلة يف ظل التيه الطويل ،بعد أن غابت عن
الوعي ومل تعد تتذ ّكر شيئا .لن يبقى هلا سوى أن تواري حلظات الضيا
وتضعها يف ملف للنسيان .مل أمسع ،مل أر ،مل أتكلم .وأضافت ومل ألتقي أحدا،
مل يقبّلين أحد ..مل ..مل ..مل أمن مع أحد ،وإن حصل األمر فأان قد أخطأت
وانتهى األمر .أان ساعود اآلن إىل حيايت العاديّة ومن رآين البارحة حىت يف
الالوعي فهو ال يعرفين .ال يعرفين أحد يف هذا املكان.
حاالت ّ
تعرفت إىل شخص ما ابلصدفة وقبّلها ولكن الفكرة مل تربحها .هل فعال ّ
ط األمحروأخذها إىل غرفتها وال تدري ماذا حصل بعدها؟ أتراها جتاوزت اخل ّ
أم أ ّن التجاوز جائز ومشرو بعد الزواج؟ يف ّناية األمر تبقى مغامرة وانتهت
عند تلك الليلة وتلك الساعة وذاك املكان.
18
نظرت إىل ساعتها .متام احلادية عشر والنصف .جيب أن تسلّم الغرفة .خطر
هلا وهي انزلة للقاء عون االستقبال أن تسأله عن الرجل الّذي كان برفقتها
ترددت .كيف ستسأله وما الّذي ستقوله حتديدا؟ كيف هلا أن البارحة ،ولكنّها ّ
ختفي خطأها بدهاء أنثوي ممزوج ابلعفوية؟ سلّمته املفتاح قائلة" :كنت يف
أمتّن أن تكوين قد أمضيت ّناية أسبو ورد العونّ " :
الغرفة رقم ّ ."484
كل شيء كان ممتازا ،سأزوركم إن شاء هللا يف فرصة الحقة".
وردتّ " :
رائقة"ّ .
وترددت كيف ستسأله عن الرجل الذي كان يرافقها
"مرحبا بك سيّديت"ّ .
البارحة ولكنّها مل تتجرأ .أخذت حقيبتها وبدأت هتم ابلرحيل حني استوقفها
عون االستقبال فجأة" :سيّديت هناك من ترك لك شيئا ..تفضلي" .تفاجأت،
هل ميكن أن تكون هذه مفاجاة من مفاجآت القدر حيث جاء اجلواب
جاهزا وهي من كانت تبحث عنه .وق ّدم هلا العون صندوقا مغلّفا يبدو أنّه
أجلت األمر إىل السيارة.ترددت يف فتحه مث قاومت فضوهلا و ّ هديّة مثينةّ ،
ودعت العون وشكرته وغادرت.ّ
ويف السيّارة أزالت الغالف وفتحت اهلديّة .اّنا عبارة عن صندوق خشيب
مزركش فتحته فإذا ابملوسيقى تنبعث هادئة ومثرية ،وعلى اجلانب األيسر
للصندوق وجدت بطاقة كتب عليها "كنت رائعة ليلة البارحة ،اي لك من
امرأة مثرية .انصر أمحد" .اكتظت مالمح أروى ابجلز وهي تقرأ تلك
تدل أب ّّنا قد أمضت معه ليلة محراء،
الكلمات ،إ ّّنا فعال منزعجة .كلماته ّ
انتقاء كلماته كان هادفا ،كان ابعثا لالاثرة ...وامسه هذا هو امسه انصر أمحد
محيمي جديد .اي خيبيت ،لقد أصبحت ّ ورقم هاتفه ،ال بد أنّه يرتّب للقاء
19
طعما يصطاده الرجال يف احلاانت الليليّة .أان بتخاذل أهرب من قسوة زوجي
ألخونه دون قصد وأصبح امرأة غري شريفة ،أصبح هلوا ومثن صندوق فارغ
يرتدد على
ميتلىء بفوضاي الّيت يوقع خواءها هذا انصر أمحد .اسم ملا البدّ ،
حيتل الوعيي وينسيين
الرغبةّ ، مواجعي فيسكنها إنساان خائبا يرتب ملواعيد ّ
وجعي لساعات ولكن حيل وجعا أكثر أملا من الداخل ويعتليين .هو انصر
أمحد يرديين يف صندوق لشهواته .انصر أمحد ما زال يشتهيين ،يشتهي األنثى
يصمم على إاثرة األنثى الّيت
الثائرة بداخلي ،هو اهلائم حذوي البارحة كان ّ
حتتلّين والّيت مل يرها حممود ألنّه مل يرين البتة ،مل يرين مطلقا .ترى ماذا فعل هذا
انصر أمحد يب وأان املتم ّددة على الفراش خاوية من كل شيء؟ ترى من أي
ّندي اللذين
جزء بدأ يعدد قسمات أنوثيت ،أمن شفيت أم من خصري أم من َّ
ينتفضان لغزو جديد؟ هل تشابكت يداه ويداي وأان يف الغياب؟ هل قبّل
ردد على مسمعي املتعب الصدغني أم احللمتني أم الفخذين أم ماذا؟ هل ّ
"كم أنت شهية"؟
8
أأتمل
أيّة امرأة أان مرميّة على أريكة بصالون فخم وفيلال لرجل فاحش الثراء؟ ّ
الساعة الثامنة حىت يعود .أرميه بقبالت ابردة على وجنتيه،
يومي أنتظره على ّ
متر على سبيل العابرين كأ ّّنا معالق يرمي عليه
يتخلّلين بقبلة على جبيين ّ
معطفه أو كرسي جيلس عليه ليخلع نعله .وتكون قبلته من ضمن األاث
اليومي دون إحساس يذكر ،يرميين بكلمة من صميم الصريورة الزمنية "لباس؟"
أفسر،
وأجيب "لباس" كما كنت دائما .مل أكن أستطيع أن أقول أكثر ،أن ّ
20
أصرح ،أن أفتّت هذا القلب املكلوم .مل أستطع أن أخربه أبنّين أريد شيئاأن ّ
آخر ،أريده أن حيس يب ،بكينونيت ،يب أان ،أبنّين امرأة من هشيم أنوثة مل أيبه
هلا يوما .وكالعادة يذهب إىل غرفة الطعام أانوله ما طبخت ،أيكله بنهم،
يتل ّذذ طبخي وال يتل ّذذين ،يلتهم كل ما ابلصحون مث ينصرف .كنا أنكل دون
أن نتحد ،يف داخلي كالم كثري.كنت أمتّن أن أسأله عن جديده ،أن أمسع
أبين
منه أنه يشتاقين وهو يف العمل ،أن يسألين كيف أقضي يومي ،أن أجيبه ّ
أشتاقه ،وهل فعال أشتاقه؟ أان دائما ترتسم بذاكريت حلظة لقائنا صدفة أبحد
املقاهي عندما اعرتاه شعور غريب وهو يراين ألتف حول أوراق ال حصر هلا
عندما كنت أع ّد رسالة خترجي .من فرط دهشته نزل إىل أسفل الطاولة جيمع
أوراقي املشتّتة كذاكريت متاما ،محلها ومجعها وق ّدمها ي وشكرته.كانت
ابتسامته دافئة يومها وكم أحسست ابرتياح كبري وهو يصافحين ويقول" :أان
حممود العابد ،رجل أعمال" وابدرته اببتسامة دافئة" :أان أروى التليلي،
يتأملين من
طالبة" .ومل يزعجين بعدها ،اختار ركنا من الكافيترياي وبقي ّ
ي
بعيد.كان يركز نظره على حركايت وتركيزي ال غري .وكنت أعلم أنّه ينظر إ ّ
حىت
فأحاول أن أجتاهل ذلك وبعدها غادرت وبقيت عيناه تتبع ظلّي ّ
اختفيت.
كانت الكافيترياي مكاين املفضل ،هادئة هي تطل على البحر ،كنت أستمتع
ابلنظر إىل البحر بني الفينة واألخرى .أان من تتالطم عندها بوادر أنوثة
يلوح بصداه ويذكر امرأة أخرى كانت أان.كنت يف
صارخة يصرخ البحر حىت ّ
خترجي بكل شغف .أتساءل أي الثالثة والعشرين من عمري وكنت أرتقب يوم ّ
21
اضع ليلتقط مشرو َ خترٍج مل َير النور بعد؟
رجل هذا يف هذا املركز املرموق يتو ُ
تصرفك معي .كنت صدفة مجيلة ومازلت أذكر أنّين انبهرت بلقائك وحسن ّ
لدي إحساسا مجيال ،رّمبا منيّت عندي إحساسا ابلطموح
وأذكر أنّك خلّفت ّ
وقتها ،أن أكون مثلك يوما ،امرأة انجحة.
قصة مجيلة قد
تزوجنا عن ّتزوجنا،كنا قد ّ
مسّيتك حبييب يف يوم ما رّمبا عندما ّ
نستطيع أن نسميها حبّا .ولكن هل كان حبّا فعال؟ عندما أراك وأراين يعلو
اهلوة
عين ،أ ّن ّ
ي أنّك غريب ّبنا الصمت على مائدة العشاء .اليوم خييّل إ ّ
أتملي أخال أنّين
سحيقة بيننا ومازالت تكرب أكثر .عندما أنظر إليك مبنتهى ّ
مع غريب .أنت وحدك اي حممود أصبحت تتباعد أكثر فأكثر فتألّف بني
بعدك والزمن حلظة خماتلة تنفض غبار ما تب ّقى بيين وبينك .وهل تب ّقى شيء
اي حممود؟ هل أنّك الرجل الذي مازال سيحس بعذوبيت عندما اكتشفها
أين مازلت سأستطعم جسدك هذا بعد أن تعطلت لغة االشتهاء غريك؟ وهل ّ
بيننا؟
نعم أصبحت أحس ببعدك أكثر .حنن ال نتحد ،ال نتبادل أطراف
احلديث .مل نعد كما كنّا قبل الزواج ،شيء ما اّنار والزلت أحبث عن طريقة
الصالحه .كنت أحس ابلتعب ،بفراغ كبري وكنت ال أستطيع أن أخربك مبا
لدي ،ال أستطيع التعبري عن
أحس أو رّمبا أعجز فعال عن البوح مبا ّ
إحساسي بعد ،ال أستطيع أن أصرخ يف وجهك وأقول لك فلتعد كما كنت،
كما عهدتك ،مل أنت بعيد عين؟ مل أحس أنّين ال أعرفك مطلقا؟ أشتاق
للكائن الذي كنته ،أشتاق لشخص كنت أرى أبنّه يشبهين ،يتفحص
22
تفاصيلي ،يقلبين بني ذراعيه بكل دفء ويدرك نقاط خويف ودفئي وحياول أن
يستلهم من شخصيته النمطية قبسا إلشعال اإلحساس يف داخلي .ليتك تتّقد
من جديد فتطفئ هلب أنوثيت و ختمد هذا احلنني املتدفّق حنو رجل يدرك
ط يده على جسدي. تفاصيلي ويعرف كيف حي ّ
يف غرفتنا نكون مثل غريبني ،أنت تنام بسرعة وأان يثقلين األرق لساعات.
كنت أحتاج دفأك ،قبالتك وأنت كنت ابردا ،ال مباليا يب .أغرق يف قراءة
رواية لساعات حىت أانم وعندما أستيقظ صباحا ال أجدك ،أجد مكانك
شاغرا ابلسرير كما هو العهد بيين وبني ذايت .كنت أفتّش عنك وقتها وأجد
أنّك قد غادرت ابكرا ج ّدا .كنت تغيب وتبتعد يوما فأكثر وأان ال أفهم ما
هلذه املرأة املسكونة داخلي أين تسري وأين املفر وما العمل؟ هل هذه حياة؟
علي هكذا؟ ما الذي طرأ وما الذي
أين حممود الذي عرفت؟ مل أنت تقسو ّ
شىت ومع األايم تغيب
تغري فجأة؟ تغيب األسئلة ظمأى تفتّش عن إجاابت ّ ّ
ابتساميت وأصبح امراة معطوبة عرجاء.
9
كنت أقود السيارة والصندوق اخلشيب إىل جانيب ،كلّما ملسته انبعثت املوسيقى
تبشر مبواجعي وأتنيب ضمريي .وهذا االسم الذي أهداين إ ّايه ،رجل نكرة
ط على جسدي ،آاثراحتل خوائي وزلزل أفكاري للحظات .رجل جمهول ح ّ
حل يف مواطن جزعها وكان معي
قبالته حتتلين .هو اهلائم يف سراديب أنوثيت ّ
بنفس الغرفة.كم أان محقاء.
23
أستغرب أنّين ال أذكر شيئا اآلن ،ال شيء على االطالق .مث أبدأ يف اسرتجا
األحدا .أذكر اآلن أين كنت يف احلانة ،كنت أجلس وحدي ّأوال ،أهيم
بنظرايت وسط احلانة والرجال املرموقون حيدجونين بنظراهتم وأيكلون ما تبقى
حيضر ي كأس ويسكي من أنوثيت املنهكة .أذكر أنّين طلبت من النادل أن ّ
حىت رأيت ّسيدا وقورا أييت ليشعل
وتناولت سيجارة .وما إن مهمت ابشعاهلا ّ
سيجاريت .دهشت وومجت وقال هو بنربة صافية" :سيديت ،هل ي أن
أجالسك؟" .مل أكن قد ّقررت حىت أن أمسح له ابجللوس حىت وجدت أنّه
يتأملين بشغف وأحسست ابخلجل .على ما
أخذ كرسيا وجلس حذوي وراح ّ
أي طابق توجد غرفيت
أذكر سألين إن كنت قد أتيت وحدي إىل النزل ويف ّ
عرفين بنفسه ،نعم كان انصر أمحد ،هذا هو امسه.كنت قلّما وعلى ما أذكر ّ
أتكلم ،بل أكتفي بكلمة أو كلمتني ،كانت رأسي مثقلة وبقااي شجاري مع
حممود مازالت عالقة بذهين .كنت أريد اجللوس لوحدي ولكنّه مل يرتكين البتّة،
كان يشتهيين بنظراته وكنت أتظاهر بتجاهلها .مل يهدأ ابله إّال عندما دعاين
ملراقصته وجذبين من خصري والتصق يب ،مث تناغمت مع االيقا وغبت أان يف
منسي وال أذكر بعد ذلك شيئا.كنت وقتها قد تناولت كأسي اخلامسة
ّ عامل
من الويسكي وغبت يف البياض .فعال ال أدري ما حد بعدها .األكيد أنّين
فقدت وعيي فحملين إىل غرفيت وال أدري ماذا فعل معي .هل قبّلين فقط؟ أم
أين وجدت نفسي مبعثرة يف الصباح،أنّه جتاوز ذلك بكثري؟ كل ما أعرفه هو ّ
حىت مالبسي الداخليّة مل تكن عادية .األرجح أنّه قضى وطره مين وأنّين خنت
حممود ،لألسف خنت حممود دون قصد .نعم خنتك اي حممود و كان هناك
رددت كثريا أّنا منهكة
رجل يعبث جبسدي غريك ،وقّع عليه إعجابه أبنوثة ّ
24
وال تصلح للحب .انصر أمحد اعرتف ضمنيا أبنين امرأة صاحلة للرغبة ،صاحلة
لالشتهاء.
ما إن اقرتبت من املدينة ههممت ابخفاء الصندوق ،حاولت أتثيث مكياجي
حىت أخفي مشاعر االنزعاج والقلق ومن مث واصلت السياقة حىت وصلت إىل
املنزل .كان اهلدوء يعم املكان ،جيب أن أكون مستعدة ملواجهة حممود ،لن
يظل صامتا هذه املرة بعد أن حتديته أكثر .كل شيء كان على وتريته،
الصالون منظم ،حىت املطبخ وكأن حممود ليس هنا .تسلّلت إىل غرفيت
أبين خبري
أبمي بعدها وأعلمتها ّ
واستلقيت على السرير ،ال أثر حملمود .اتصلت ّ
علي وبعدها منت .كنت أريد شيئا من اهلدوء قبل هبوب عاصفة
وأن ال تقلق ّ
جديدة ،كنت أريد أن أستعد ملواجهة حممود وكم أحس ابلشفقة عليه ،كنت
أود منه أن يصفعين جم ّددا ألنّين خنته .لو كان يعلم أنّين خنته دون قصد ،نعم
خنتك اي حممود وملس جسدي رجل غريك .وضع عليه ارتسام رجولة ما
ووقّعها بصندوق خشيب يبعث املوسيقى احلاملة ،ليتك تسمعها لتحصي نواتت
قبله على جسدي وتعلم أنّين أنثى يشتهيها الرجال.
11
أروى التليلي .اي لك من أنثى ال متلك أن تفهم نفسها وماذا حتب ،ختلطني
كل القوالب واألفكار واألحاسيس شىت وتلتهمينها كأ ّّنا قالب جاهز للهضم
حىت على أيّة طاولة جتلسني أو
وأنت اليت ال تعرفني مىت يبدأ موعد األكل أو ّ
أي شوكة متسكني حىت ختتاري طبقك املفضل .فعال هذه أنت هي أنت اي ّ
أروى ،خلطة من نساء ومن أجيال خمتلفة ،أجد فيك خطوط والدتك تتبعثر
25
على مالحمك املنزعجة ،نظرات ّأمك مازالت مرسومة يف تلك العينني الباهتتني
وأنت اليت تفتشني عن طريقك وال جتدين .أبفقك أنثى منزعجة أخرى ترتّب
ملواعيد احلب ،تراتده فجأة فيهرب منها .ترسم عبوره عرب سنني حياهتا فال
حب الطفولة
يظهر .يف كل رجل ترين حبّا ،أيّهم حبّك اي أروى؟ هل هو ّ
حب حممودعلى مقاعد قسم الباكالوراي أم حب نبيل أايم الكلية أم هو ّ
زوجك؟ أيّهم حبّك اي أروى؟
على مالحمك أيضا أرى تلك الطفلة القلقة ،الطفلة احملتاجة ،الطفلة املشتاقة
ألبيها ،أبوك الذي ال تتذ ّكرين حىت قسماته ،غاب يف زحام السنني لعشر
سنوات وكنت قد بدأت يف نسيانه حني ظهر من جديد .وحني عاد مات
بداخلك الشعور أنّك حتتاجينه .مل تلوميه ،مل تصرخي ،مل تبكي.كنت فقط
حىت.
تفتشني عن شعور ما امسه إحساسك حنوه .ما الذي تغري؟ ال تعرفني ّ
أبمك أكثر لتخربيها كم اشتقت إليه ولكنك
تودين االلتصاق ّ
كنت رمبا وقتها ّ
ال حتسنني .ما عساك تقولني؟ نعم هذه أنت اي أروى مزيج من انفعاالت
بكت على مشارف سنني حياتك ،جزء مكسور فيك ما زال يبكي إىل اآلن،
هناك شرخ ما مبتور .أنت ال تعرفني كيف ميكنك ترميم كل ذلك ولكنك
تعومني يف دوامة دون قا .
11
كان قد مضى على احلادثة أكثر من شهر ،عندما عدت إىل املنزل حاولت
وتتغري عالقيت مبحمود .على ما أذكر مل يزعجين بعدها ومل حياول
أتغري ّ
أن ّ
أتودد إليه بني الفينة واألخرى
حىت .كانت عالقتنا هادئة وكنت ّاستفزازي ّ
26
رومانسي أو أفاجئه يف املكتب أوأرسل إليه رسالة رومانسية ما.كنت
ّ بعشاء
الزلت أأت ّمل من أتنيب الضمري.كانت اللوحة تعيد ارتسامها أمامي ،صورة
ذلك الرجل وكيف كنت معه وكيف فقدت وعيي وكيف عانقته وكيف رّمبا
منت معه على فراش واحد .إنه رجل جمهول ظهر يف حيايت وأحس ابلندم أنّين
استهرتت حلظتها.
على ما أذكر عندما جاء حممود إىل املنزل ووجدين مرميّة على الفراش أنه وجم
حلظتها عندما رآين .مل يصرخ بوجهي ومل يعاتبين .ألقى السالم
وسألين":لباس؟" .كنت خائفة منه وأجبت" :أان خبري" .صمت حلظة مث قال:
"قلقت كثريا عليك ولكن أين كنت؟" نظرت إليه مث قلت" :أان آسفة ،كنت
عند صديقة ي" .صمت حممود ،غادر الغرفة ،واّنرت ابلبكاء بعدها.
ابلرغم أنّين كنت أبذل جهدا يف عالقيت معه إالّ أنّه كان ابردا معي ،مل أحس
أبنّين أسرتجعه أو أك ّفر عن ذنيب الذي اقرتفته .يومها أحسست ابلتعب وكنت
تصورت أبنّين أعاين من مشكلة يف معديت وف ّكرت بزايرة طبيب.
أتقيأ كثرياّ ،
كانت مفاجأيت كبرية عندما أعلمين طبييب أبنّين ال أعاين من مشكلة مبعديت.
علي أن أقوم ببعض التحاليل للتأكد .عندما عدت بعد يومني أخربين اقرتح ّ
ابملفاجأة أنين حامل واقرتح علي اسم طبيب نساء حىت أاتبع فحوص فرتة
احلمل ابنتظام .تفاجأت ابخلرب ،مل أتصور أبدا أنّين سأمحل بعد كل هذه
املدة ،مخس سنوات .بعد مخس سنوات أمحل طفال وسأصبح ّأما .ولكن
السؤال الذي كنت أطرحه على نفسي هل الطفل ابن حممود أم ابن ذلك
27
الرجل الغريب الذي التقيته ورمبا منت معه يف ذلك النزل؟ فعال ال أعرف قد
يكون الطفل الذي جبويف مثرة خطيئة أان الوحيدة املسؤولة عنها.
ما إن خرجت من عند الدكتور فكرت ابالتصال بنجوى صديقيت احلميمة،
ليس ي شخص أشكو له أو أبوح له غريها .اقرتحت عليها أن نلتقي
بكافيترياي ابملدينة .جنوى ،مستود أسراري ،جيب أن أحتد إليها ،جيب أن
أعرف ماذا أفعل.
علي ،ال أستطيع أن أرّكز ،ال أستطيع أن ّأختذ
دخلت الكافيترياي .القلق يبدو ّ
قرارا .ماذا سأفعل دون جنوى ،جيب أن أحت ّد إليها لكي أعرف ماذا أفعل.
حبل ما .وجاءت جنوى حتمل بني خطواهتا قلقا آخر، علي ّجيب أن تشري ّ
عيناها تشريان إىل أسئلة كثرية وقالت ي" :ما بك؟ لباس؟ لباس؟"
-لست خبري ،أان حامل.
-مربوك عزيزيت ،ألف مربوك وأخريا.
-جنوى أان ال أعرف إن كان الطفل ابن حممود.
-ماذا تقصدين؟
-هل تذكرين تلك الليلة اليت قضيتها ابلنزل ،أشك أبين منت مع رجل غريب.
-ماذا تقولني؟ ماذا دهاك؟
تعرفت على أحدهم وشربت معه يف احلانة وفقدت
-هذه هي احلقيقةّ ،
وعيي ،ال أذكر ما حصل بعدها.
28
-كيف ال تذكرين؟
-عندما استيقظت صباحا وجدت نفسي يف وضع سيء وال اعرف رمبا
اصطحبين إىل الغرفة فقط ،رمبا قبّلين أو رمبا أكثر.
-األمر يبدو يف غاية التعقيد ،كان عليك أالّ تستهرتي.
-تعرفني ،تشاجرت مع حممود وصفعين وذهبت إىل ّأول نزل اعرتضين،
وحصل ما حصل ،مل أقصد ولكنين كنت يف حالة نفسية سيئة.
-وماذا حصل بعدها؟
-ترك ي هديّة عند مصلحة االستقبال وترك ي امسه ورقم هاتفه.
-إذن ميكنك االتصال به ،لتعريف ما حصل.
-ولكن هل سأتّصل به ألسأله إن كان قد انم معي ،ال أستطيع ذلك.
-أعرف .يف الوقت احلاي حاوي أن تكوين هادئة لتسيطري على االمور،
افرحي أوال ستكونني ّأما قبل كل شيء ،أخربي اخلالة زكية وحممود فلعل
الطفل يغري الكثري يف حياتك.
علي ،ال
يغري من األمر شيئا ،الندم وأتنيب الضمري يسيطران ّ
-ولكن هذا لن ّ
أستطيع أن أكذب أكثر ،ال أستطيع أن أنظر يف عيين حممود ،ال أستطيع..
ال أستطيع.
قامت جنوى بتهدئيت وذهبنا سوية إىل منزل ّأمي وأخربهتا ،طارت من الفرح
وغمرتين ابلقبل وقالت أبنّنا سنحتفل سويّة إىل حني أييت حممود.
29
12
مازلت أذكر حني دلفت من الباب يومها ،مل أعرفك أو رّمبا عرفتك
وانسحبت هراب من مواجهتك .هرعت إىل ّأمي ،اندسست بني أحضاّنا
سألتين" :ما بك؟" ومل أجب .عندما خرجت إىل البهو ،رأيتك ،كنت كائنا
ما ،قد أمسّيك الكثري ولكنّين لن أعثر على كلمة والدي .نسيتك وأنت الذي
تداولتك السنون كلّها فتعبنا حبثا عنك وانتهينا ،رمبا مللنا من ترميم ذاكرتنا
بصورتك فارأتينا أن ننساك ونعيش .حىت ّأمي ومجت ،مل تكن لديها القدرة
الصمت وكل هذه الربودة اليت
لتحادثك ،بعد كل هذه السنني وكل هذا ّ
حق تعود؟ ألتطلب منها أن تنسى أم أنأبي ّ
رمستها على وجهها وحمياهاّ .
ترمم ما بقي ،أن ترتّب ملواعيد رغبة جديدة علىتتذ ّكر؟ أن تسامح ،أن ّ
جف من االشتياق أو ترتّب لقبلة هاربة سطا عليها الزمن
مشارف جسد ّ
بصريورته؟ ّأمي ،الفتاة احلاملة دائما ،اندثرت يف سنوات غيابك وحلّت بني
جدران بيتها تلتهم الضيا املستمر لقصة حب عاشتها معك فانسحبت
وتركتها للوهمّ .أمي مازالت حتلم أبن تربّت على كتفها وتقطف هلا وردة من
بستان ما تضعها على شعرها وترسم قبلة على جبينها وحتميها بني ذراعيك.
ّأمي اليت تركتها دون تفسري تعود اآلن لتورق من جديد بني أحضاّنا .أنت
من كسرت قلبها فوهبت عمرها ي وكانت حتدثين دائما عنك وتقول أبنّك
ستظل والدي مهما حد .
كنت أحس بوجعها .هي اليت ختفي دموعها بني طيات حرارة البصل ،توز
امحرار عينيها على قسمات ماضيها وأايم زواجها األوىل وذكرايهتا معكّ .أمي
30
ونتأملها
كنت أحس بوجعها وصمتها وكنا غالبا ما نضع صورتك قبالتنا ّ
ونقول لك كم نشتاقك .اليوم ما عاد فيها أن تسأل ،أن تشتاق أو حتلم.
متسمرا ال تتكلم
اليوم هي مزيج من كل االنفعالت وأان وهي نقف نتأملّك ّ
مرعلى
وحنن كذلك .الشيب يعلو رأسك ،يتسلّل بني ثنااي عمرك فاضحا كم ّ
ذلك اجلسد وعلى تلك الروح ونزيد يف دهشتنا أان و ّأمي ال نقوى على شيء،
أنظر إليك أكثر وأقول" :عسالمة" ومل أقو أن أقول كلمة "اباب" ،مل أستطع،
خذلين الكالم وخذلتين اللغة .ليتين كنت قادرة على فضح صميت ألخربك كم
عين وكأنّين ال
اشتقتك وكم أريد أن أرمتي بني أحضانك ولكنّين أراك غريبا ّ
أعرفك.
رميت حقيبتك على األرض واقرتبت منك ،قبّلتك قبلتني ومل اسأل أكثر.
محلت احلقيبة ووضعتها يف غرفيت وقلت لك تفضلّ .أما ّأمي فلم تتكلم،
بقيت تنظر إليك وأنت تدخل إىل غرفة اجللوس وكأ ّّنا ستهم بطردك .كيف
لك أن تدخل بيتها بعد كل هذه السنني .أنت من أصبحت غريبا لديها ال
تقوى أن تستقبلك جم ّددا ال يف منزهلا وال بني أحضاّنا من جديد .أبعد
الرحيل مازلت تفتّش عن تذكرة للعبور العكسي؟ ليس سهال أن توقّع جتاوز
ّ
وتردد وهتافت
احلدود بتذكرة للعابرين ،توقّع دخولك بعد اخلروج خبذالن ّ
جريء!
13
كم كنت تعين ي ،وكم حلمت أن نواصل كتابة أحالمنا على ورق أخضر،
حيب احلقيقية اليت مازالت تطاردين إىل اآلن
قصة ّ
ينمو كل يوم ويكرب .نبيلّ ،
31
مل أنسها ومل أنسك يوما .مازلت تعيش بيين وبني حممود ،ال متوت أنت اي
نبيل .والزلت إىل اآلن اي نبيل حتتل جزءا ما من حيايت ،ختتفي يف اهلمس
حرا هناك حيث أعيشك من جديد. الداخلي املؤدي إىل مواقع احلنني ّ
حاولت أن أنساك ومل أستطع وال أدري إن كان حممود قد أحس بوجودك
يوما.كنت كقطعي املبعثرة وهلفيت املزعوجة اليت تبحث عنك عند انتهاء
الدروس .كنت ارتسامي املشتّت يف ردهات الكليّة حني ترنو عيناي حبثا
عنك ،للقائك واالرتواء من حبّك.كنا نلتقي يوميا وكنت ال أمل لقاءك،
ندرس معا ،نذهب إىل املكتبة ،إىل املطعم اجلامعي مث نراتد مشرب الكلية
يوميّا لنرتوي أكثر .مازال صدى صوتك يرن يف أذين وأنت تلقي ي قصائد
درويش ومسيح القاسم ومظفر النواب ،وكنت أعشق نربة صوتك اليت مازالت
تعيش داخلي إىل اآلن.
حبييب أنت .أنت احلب احلقيقي الذي لن ميوت .نبيل مل يكن فقط حبييب،
يلون حيايت فتصبح ربيعا خمضرا إىل األبد.
كان شعاري وقدويت ولوين الذي ّ
بعد غياب والدي أصبح نبيل مركز حيايت ،رمبا ليس مركزها فقط بل كل
عوضه نبيل
شيء.كل ما فقدته يف غياب والدي وكل الفراغ الذي عشته ّ
وأضاف الكثري إىل حيايت فأصبحت أعيش جنّيت بني ذراعيه.
مازلت أذكر قبلك اي نبيل وقبضة يدك وهي حتمل ك ّفي وذراعيك املفتوحتني
ألين ال
حىت أين مل أعد أطيق حممود ّ الستقباي ،مازلت خبياي إىل اآلن ّ
أستطيع أن أانم سوى على صوتك احلنون.
32
كنت تطلب مين أن أغين لك األغنيات وأن أنشد لك فريورز وأميمة اخلليل
وكنت تعزف على العود وأنت ترافقين.كنت أتناغم مع غزل العود وأرحل حنو
عامل جيمعنا حنن االثنني .ترتّب على اللحن الشجي قسمايت األنثوية وتنظم من
مواجعي حلنا ووترا رومانسيا هائما بني ذراعيك حبييب.
وكنت أنت اي نبيل وتظل دائما ترافقين اآلن .أتسلل بني الفينة واالخرى ألقرأ
ما كنت تكتب ي أو ما عزفت .أعيشك وأان مع حممود .لو كان يعلم أنك
تعيش بيننا ،لو كان يعلم بوجودك ،لو كان يعلم أنّين أخونه اكثر.
14
املنمقة
بعد أن زففت اخلرب إىل ّأمي وحممود حاولت االسرتسال يف الكذبة ّ
وأبنين امرأة شريفة ،حامل يف شهرها الثاين تعيش على وقع انتظار طفل لكن
لألسف مل تكن تعرف من يكون أبوه .يف احلقيقة مل أستشر جنوى هذه املرة
املرة القادمة .خطويت مل تكن مدروسة ولكنّها كانت
خبصوص ما سأفعله يف ّ
مرة واحدة .عدت للصندوق اخلشيب وحبثت عن الرقم ضرورية حلسم األمر ّ
وفضلت
وقررت االتصال به .يف البداية خشيت أن أتصل ّ املكتوب ابلبطاقة ّ
أن أكتب رسالة ولكن ماذا سأكتب فيها ،سأحاول أن أكتب شيئا بسيطا،
سالما رّمبا ،حتية جمانية ليس هلا عالقة مبا حصل ليلتها .وبدأت يف انتقاء
كلمايت شيئا فشيئا ليس إال الستفزاز هذا الشخص .جيب أن أرتّب لقاء
وأعرف ما حصل ليلتها .وكتبت له "صباح النور سيد انصر ،أمتّن أن تكون
أبلف خري .أان السيدة أروى اليت التقيتها بنزل أفروديت ابحلمامات منذ ما
يزيد على شهرين ،شكرا على اهلدية ،هذا لطف منك .يوم سعيد" .أعرف أ ّن
33
رساليت كانت غريبة ومرتبكة ألّنا أتيت بعد شهرين من لقاء هذا الرجل،
وأعرف أبنّه سيشعر بذلك .هل عساه يتذكرين وهو الذي على ما يبدو رجل
مرموق وكثري احلركة ،ال بد أنه يلتقي العديد من النساء وال ريب أنه يهدي كل
امرأة تعجبه هدية ،فأين أان منهن؟ هل سيذكر ّأاي منهن أان؟
كنت أعيش حلظات عصيبة وأان أنتظر الرد .ماذا سيقول؟ هل سيذكرين؟ هل
سيتفاعل مع رساليت؟ هل سيطلب رؤييت؟ على كل ال أنتظر سوى أن ألقاه
وأساله ما حصل ليلتها .ال أستطيع أن أظل على انر ،ال أقوى على هذا
االحساس القاتل الذي يعذبين كل يوم .جيب أن أاتكد من أن الطفل ابن
حممود إذ مل أعد أقوى على هذه الفوضى اليت بداخلي .إّنا تكرب كل يوم وأان
اليت أسبح داخلها .ينتابين إحساس ابلضيا ،ال أستطيع حتديد هدف أو رسم
ط عليه .كلما رأيت حممود متحمسا للطفل إال وحزنت .صحيح مل أح ّ
أسرتجعه كما كنت أمتّن ولكن مبجرد رؤيته وهو حيضر غرفة الطفل جيعلين
أحس أبنّين أخطات يف ح ّقه كثريا.
مازلت أذكر عندما جاء هو ومهندس الديكور ،أدخله إىل الغرفة احملاذية
لغرفتنا ،كان يتفقان لتجهيزها .دخلت عليهما وسلّمت على السيد
وابتسمت.كنت أرى حممود سعيدا ،كان متحمسا الستقبال ابنه اوابنته وكان
يتشاور مع مهندس الديكور وعندما غادر هذا األخري نظرت إىل حممود
وسألته ":هل تريد بنتا أم صبيا؟" كان يتفادى النظر يف عيين "اللي جييبو ريب
مربوك" .حلظتها كنت أمتّن أن أقرتب منه ،أن ألتهم من قبالته ودفئه القليل.
كل سيشبهلك الطفل كثريا".عندما اكتفيت أبن ربّت على كتفه وقلت" :على ّ
34
ي يف صمت مل يقو على إضافة شيء ابتعدت كنت أعرف أبنه ينظر إ ّ
ط االعتزاز
آخر،كالعادة أيكله حت ّفظه .ليس للرجل الشرقي أن يتجاوز خ ّ
حب .كنت أعرف أنّك حتبّين اي حممود وتشتاقين
فيفيض مبا يف القلب من ّ
وأنّك تكابر.
رد فتشجعت واتصلت ابلرقم ولكن انتظرت طيلة اليوم ومل أحصل على ّ
لألسف كان مغلقا ،الرقم الذي كان سيساعدين على معرفة احلقيقة مغلق أو
غريه صاحبه واهذا فقد أضعت خط اليقني .جيب أن أستسلم اآلن ليس رّمبا ّ
حل سوى أن أحتمل مسؤولية أخطائي .أان املرأة الفوضوية جيب أن أرتّب ي ّ
ما تبقى من هذه املبتورة مين ،اجملروحة ،املقصوصة اجلناحني أان ،أان من أحضر
نفسي ألمومة دون هويّة أتيت على عجل.
15
تردد ما جبويف دون أن تتكلّم ،سكنايت
أروى ،مرآيت اليت تعكسين ،روحي اليت ّ
شىت .وأان اليت أمجع شتات
اليت تتكلّم دون حراك ،كل احتمااليت اليت تضيع ّ
نفسي بني أركان الوجود حبثا عن سعادهتا وسعاديت .ليتين أستطيع أن
أسعدك ،أن أهديك السعادة ما استطعت ،ولكنين ال أقدر.
منذ أن أجنبتك اي أروى أحسست أبنّين أضفي على الوجود قطعة مين تكاد
وخاصة
ّ تشبهين يف كل شيء .مل أكن أذكر أنك كنت تشبهني أابك البتة .هلذا
بعد أن غادران أستطيع أن أمسّيك ابنيت ،ابنيت وحدي.كنت تعكسني الكثري
وحىت فوضاي.كنت دائما حتاولني مين ،وكنت أرى فيك صوريت وصويت ّ
35
إخفاء حزنك كما أفعل أان .كنت أواري أوراقي املبعثرة وأبتسم حىت أرى
حىت أسعد أان.
السعادة على وجهك.كنت تفعلني مثلي حتاولني إخفاء قلقك ّ
أذكر أنّين مررت أبوقات عصيبة عندما اختفى أبوك.كنت يف الثالثة عشر من
عمرك ،عندما بدأت تتفتحني كزهرة ّفواحة تستقطبني من حولك وكنت أان
أراقبك حبذر وأنت تكربين وحدك ،سقطت بتالتك وأنت تبحثني عن ظل
لوالدك الذي ضا يف الغياب .أبوك الذي كان حيتل جزءا من وجودان اختفى
يوما وكنت أحاول أن أس ّد الفراغ الذي ترك .مازلت أذكر حني كان جيلب
لك اهلدااي يوم العيد ،وحيملك بني ذراعيه وميازحك ويرى فيك دنياه ،كنت
أمله وكنت أذكر أنّه كان زوجا طيبا وأاب حنوان.اّنرت بعد اختفائه ،مل أكن
أظن أنّين سأقوى على انتظاره وعلى استجما براكيين الفائضة كي أقوى ّ
على تربية طفلة مازالت تتعثّر خبطاها يف دروب احلياة حني اختفيت فجأة من
حياهتا.كنت الزلت أذكر عودتك كل ستّة أشهر من إيطاليا ،تظل معنا قرابة
عشرين يوما أو شهرا تروينا من حنانك ومتتّعنا اهداايك ولطفك وأنسك .ترتكنا
بعدها لننتظر لستة أشهر أخرى.كنت أحبث فيك عن دفء مركون هناك،
تعودت عليه منذ أن تزوجتك.كنت أعرف أنّك رجل طيب ومل أشك يوما
عين ،رسائلك مازلت أحتفظ
أبنّك ستنساين وترحل فجأة .أخبارك ال تنقطع ّ
اها ،هداايك ،طرودك ،وصول احلواالت ،صوتك على اهلاتف مازلت أذكره
متقطّعا ابحلنني إىل الوطن واحلنني إىل حضين .ولكنك اختفيت فجأة وتركتين
أصار قدري اجلديد ،أصارعه كي أصنع من أروى امرأة تقوى على مصارعة
36
وجودها هي األخرى .ولكن أيّة امرأة خلقت منك اي أروى ،هل أنت فعال
امرأة متماسكة وقوية أم أنّك فوضوية االحساس مثلي تكابرين فقط؟
ما زلت أذكر شروخك العاطفيةّ ،أوهلا خذالن أبيك واثنيها قصتك مع ابن
اجلريان والثالثة كانت مع نبيل ،الذي اختفى ايضا يف ظروف غامضة .هكذا
املر الكثري وخذلك كل من أحببت .رحلوا
جترعت من ّ هي سلسلة عذاابتكّ ،
دون عودة وكنت تنتظرين ومازلت كذلك ،لعلّك إىل ح ّد الساعة مازلت
خاصة بعد أن عاد أبوك بعد عشر سنوات ،فلم ال
تنتظرين عودة أحدهمّ ،
يعود اآلخرون؟ الراحلون يعودون ما دام يف الطرف اآلخر أشخاص آخرون
حىت حيسون اهمينتظروّنم ،يتأملّون عودهتم ،لعلّهم ابلتخاطر الروحي ّ
يتغري.
فيسرعون ألحضاّنم كما عاد أبوك .عاد إىل حضين كما كان يوما ومل ّ
حىت ،عاد كأنّه مل يرحل.
عاد بنفس احلنني ونفس الوترية واإليقا ّ
واآلن أنت مع حممود ،ال أعرف الكثري عنه ،كنت كثريا ما تبالغني يف إخفاء
وجعك.كنت أعرف أنّك تعانني ،رّمبا ليس من حممود يف ح ّد ذاته بل من
املاضي الذي حتملني على كتفيك كأنّه عبء ثقيل .هرعت إىل حممود امرأة
مثقلة ابلوجع ،معطوبة الوجدان ،منكسرة القلب ،رميت أبوجاعك عليه.مل
تسأي نفسك يوما إن كنت قد شفيت بعد .هل شفيت كما شفيت أان من
وجع أبيك .للزمن تراتيبه وأوجاعه ومداواته أيضا وأنت مل تسعفي نفسك كي
تشفي من ماضيك .تومهت أنّك تعشقينه ورميت بنفسك يف منظومة الزواج
كي تقنعي نفسك أبنك امرأة متوازنة وأنّك يف برستيج ما تؤثثني لعامل حممود
العابد .تسكنني فيال وتركبني أفخم السيارات وتلبسني أفخر املالبس ولكنّك
37
كنت تكذبني ،نعم تكذبني على نفسك وتدخلني الناموس االجتماعي
القذر .الكل من األصدقاء واألصحاب واجلريان يقولون ي" :صحة ليك،
ريب يهنّيها ،راجل لباس عليه" .وكنت أرد
بنتك خذات ماخذة اللّي هياّ ،
ريب يهناها".
"نعم ،ابنيت حمظوظةّ ،
كنت أعلم أنك كنت تعانني وقلبك حيمل الكثري من األسى .مل أقو على
التدخل أكثر يف شؤون حياتك ،أردتك أن تتحملي مسؤولية اختياراتك
وتتجاوزي كل املواقف لوحدك.
كنت أرى تلك االبتسامة احلزينة على وجهك ،كنت حتاولني التظاهر
ابلسعادة .كلما جئتين ،حتدثينيين عن املطاعم والنزل اليت زرهتا مع حممود ،عن
املالبس اليت اشرتاها لك واجملوهرات اليت أهداك إايّها وكنت جتهلني أنّين أرى
أي مطاعم ونزل وجموهرات تتحدثني اي ابنيت وأنت اليت حزنك بني طياهتا .عن ّ
السعادة ال تشرتى ابملال وأنّين اراك جيدا .لست سعيدة ومل
تدركني جيدا أ ّن ّ
ولن تكوين مع حممود.
أنت تعلمني أنّين أراك جيدا ،هلذا كنت توارين حزنك وتتجنبني النظر يف عيين
مباشرة .مل أرد التدخل حىت تفتحي قلبك .كنت بني الفينة واالخرى أحتاور
مع جنوى صديقتك احلميمة ،أحاول أن أفهم ما الذي كان حيصل ابلضبط.
جنوى كانت تعطيين إجاابت سطحية ولكنّين فهمت أ ّن حياتكما ابردة
ينقصها الكثري ومتنيت أن تنعمي ابلسعادة .ومل خيب أملي حىت مسعت خبرب
محلك ،وأتكدت أ ّن عالقتكما ستسرتجع رونقها من جديد وتتجذر أكثر
فأكثر.
38
حممود مل يكن رجال سيئا ،على األقل حسب ما أعرفه عن الرجال.كنت أذكر
اليوم الذي جئتين لتحدثيين عنه.كنت سعيدة وقلت ي" :لقد وجدت رجل
تعرفت عليه صدفة وأان
أحالمي" سألتك" :من يكون حبيبيت؟" وأجبتينّ " :
أعرفه منذ بضعة أشهر ،إنّه رجل أعمال ،حتدثنا وأحس بتجاوب معه".
سألتك" :هل حتبينه؟" .صمت مث قلت" :أظن ذلك" .مث أضفت" :لقد
عرض علي الزواج ويريد أن يراك"
-هل أنت متاكدة؟
-نعم ابلتاكيد
جدي ،عملي وال جانب للهزل أو ّ عندما قابلت حممود الحظت أنّه رجل
إضاعة الوقت عنده ،رجل أعمال ،وقته مدروس ،مواعيده مضبوطة ،منظّم
جدا ،كل مهه أن يتزوج ويبين أسرة .وحصل وتزوجت يف غضون أشهر ومتنيت
أين كنت أشك أبنّكما ستتفامهان .أروى أان
لك السعادة من كل قليب ابلرغم ّ
أعرفك جيّدا ،حساسيّتك الزائدة مشكلة وال أدري إن كان حممود قادرا على
استيعااها وفهمها.
16
متر الشهور وأان أتل ّذذ مشرو االحساس ابألمومة ،بطين بدأت تنتفخ واجلنني
الذي بداخلي يكرب شيئا فشيئا ،يبشر بوجوده املرتقب .يف كل يوم يكرب ومعه
مين ،سيشبهين كثريا كما سيشبه أابه،
يكرب إحساسي أبنّين أعيش مع كائن ّ
األايم أن أنسى ما حصل وأرّكز على هذا
لعلّه سيشبه أابه النكرة .حاولت مع ّ
39
سيغري حيايت ،مل اعد أهتم أبخطائي وماضي وكل فوضاي .ما املولود الذي ّ
يهمين سوى أن أستقر وأوفّرهلذه األسرة أسباب اهلدوء والسكينة لعلّنا أان ّ
وحممود ننجح يف أن نكون زوجا انجحا ومتفامها.كانت حياتنا وتريية ابلرغم
أ ّن حممود كان سعيدا اهذا املولود املنتظر إالّ أنّه مل يكن يتحد كثريا ،كان
صمته هو كالمه ونظراته هي تعابريه اليت يتكتّم يف إخراجها ،مل أعد أابي فقد
تعودت .رّمبا خسران بعضنا منذ زمن بعيد ،رّمبا منذ أن صفعين ،رّمبا منذ أنّ
أحسه حنوه ابلضبط ،أي شعور اي
حىت ما الذي ّ
خنته وهوال يعلم .ال أفهم ّ
تعودت وجوده؟ هل هو أنيس يتناول معي الغداء
ترى ،هل هو كقطع األاث ّ
والعشاء فقط؟ هل هو أاث اجتماعي احتجته يوما كي أؤثث أسرة ضمن
أين أكرهه؟ هل أحبّه؟ ال أظن
صريورة اجتماعية منكوبة؟ فعال ال أعرف .هل ّ
الشكل ،أان ال أحن إليه،
احلب ال ميكن أن يكون اهذا ّ
أتصورّ .أين أحبّه ،ال ّ ّ
حىت.
ال أشتاقه ،ال أنتظره بشغف ،ال أشتاق إىل قبله،ال أحن لذراعيه ّ
ابلنهاية أان ال أحبّه.
كالعادة إذن أمضي معظم وقيت ابملنزل كزوجات االرستقراطيني بني الكتب
واجملالت أو أنغمس يف كتابة أشعاري وقصصي .كنت أزور ّأمي بني الفينة
واألخرى .ويف اآلونة األخرية كانت تزورين هي حىت ال أتعب يف التنقل
إليها.كانت تساعدين يف شؤوين وحتدثين عن أيب وعن عالقتها به .فرحت من
كأّنا مراهقة ترتّب ملواعيد غرامية .عاد أيب إليها مثقال ابحلنني وكأنّه مل
أجلها و ّ
يربحها البتّة .أما هو فلم يكن يزورين كثريا ،كنت أطمئن عليه من خالل
والديت ويف بعض األحيان أهاتفه.
40
أما جنوى فكانت تزورين دائما ،تسألين عن أحواي مع حممود وخت ّفف من
ضجري ومن الروتني القاتل الذي أعيشه .جنوى ،صديقيت منذ الطفولة ،درسنا
معا منذ املدرسة االبتدائية إىل الثانوية .انفصلنا بعدها يف اجلامعة ،دخلت أان
التصرف ولكن عالقتنا مل تنقطع .حنن
ّ كلية اآلداب ودرست هي علوم
متقاربتان يف العمر ،إالّ أن جنوى تعاين من فراغ كبري ،كل حياهتا مرتبطة
ابلعمل ،ليس هلا أنشطة أو حبيب أو خطيب يف حياهتا.كانت تعاين من فراغ
حتس به .مل تكن حمظوظة ال يف احلب وال يف الزواج.
عاطفي وتشكو ي ما ّ
وتويف زوجها إثر حاد .ومنذ ذلك الوقت وهي تتأ ّمل
تزوجت منذ سنتني ّّ
أبّنا ال
أحس ّ
أحس بوجعها ّ
وجتد صعوبة يف بناء حياهتا من جديد .بقدر ما ّ
حىت
حتمل نفس فوضاي بل هي إنسانة منظّمة حتسب لكل أوان مساحتهّ ،
مساحة احلزن هلا قداسة عندها .تقول ي" :أان سأحفظ مساحة حزين كفرتة
ال حمدودة وعندما أدرك أنّين جتاوزهتا سأتطلّع إىل أتثيث حيايت من جديد
أين مل أوافقها يف ذلك إال أنّين
كامرأة واضحة املعامل واألهداف" .ابلرغم ّ
تعرفت على حىت وإن ّ
احرتمت رأيها ،ال تبدو مستع ّدة للحب مطلقا ّ
أحدهم.كانت تنصحين ابحملافظة على حممود وأن أسلك سبال كي أعرب إليه
وأتسلّل إىل قلبه من جديد ،ولكنّين كنت أجتاهل االمر.
أمتّن أن
ذات مساء تل ّقيت رسالة من رقم ال أعرفه ،كانت تقول "صباح الوردّ ،
تكوين أبلف خري .امرأة عالية االحساس أنت ،دمت كذلك" .تفاجأت
ابلرسالة وذعرت ،مخّنت بشيء واحد وهو أ ّن الرجل الذي أرسلها هو من
التقيت ابلنزل .حاولت أن أرتّب نفسي ،عاودت قراءة الرسالة ،الرقم خمتلف،
41
إنّه ليس نفس الرقم الذي أرسلت إليه رساليت منذ بضعة اشهر .رمبا كان
مسافرا ،فهو رجل أعمال وقد تل ّقى رساليت وأجابين اآلن عندما استلمها .مل
أف ّكر بشيء سوى أن ألتقي هذا الرجل وأعرف ما حصل ابلضبط .سأحاول
وقررت أن أجيبه":صباح النور ،شكرا لرسالتك بقية يوم
ترتيب موعد معهّ .
طيب .شكرا لتغزلك يب" وأجاب" :أنت امرأة تستحقني األفضل .أان مل أقل
سوى احلقيقة" .كالمه كان يفضح إعجابه يب .كم أحسست بداخلي أنّين
يهز كياين من جديد ،أحس أبنّين امرأة ملتهبة تفيض أنوثة
يف حاجة لكالم ّ
وابلرغم من حاجيت ملعرفة احلقيقة
ورونقا وحممود مل يعد يراين .أحسست أبنّه ّ
إالّ أنّه رمى بسهامه حنوي ليوقظ امرأة غابت يف دهاليز الروتني فلم يعد من
يف من جديد ،شيء ال أعرف ما يف األنثى اليت بداخلي .استيقظ شيء ّ يوقظ ّ
أمسّيه ،رّمبا أان اليت كنت قبال ،املرأة الضائعة اليت تسرتجع رمادها لتحيا من
جديد ،أان اليت قتلين حممود أستيقظ من جديد ،امرأة تفوح أنوثتها لتمأل
مساحة الكون حضورا اخر.
17
كنت أستجمع ذايت أمام املرآة ،أضع املساحيق على الطاولة اجملاورة ،أختار
األلوان خلسة والعطر برفق وأان مع حممود .لو كان يعلم أنّين أرتّب ملوعد ما،
مع رجل ما ،يف مكان ما وأان األنثى املهزوزة أبنوثيت أروي مسام لوين ومهسي
بفائض من االحساس العاي أق ّدس فيه نفسي اليت تتهافت الستقبال شيء
ما .كهذه البطن اليت تنتفخ وتكرب كل يوم ،كذلك مشاعري مع هذا الغريب،
ويعرب ي عن
تقفز دقات قليب وهتفو لكل رسالة يرسلها ،يسأل عن أحواي ّ
42
شوقه وحنانه ،وكم كنت أحتاجه وكم كان حيتاجين هو اآلخر .يف اللّحظة
الفاصلة اليت يغادر فيها حممود ،أرحل إىل غرفيت أتسلّل بني أركاّنا .هنا أفتح
أي لون أصبح لشكلي اآلن؟ أأتمل وجهي يف املرآةّ ،
اخلزانة ألختار ما ألبسّ ،
تسميها أم أان امرأة تتداخل
لقصة ال تعرف ما ّهل أان امرأة تفيض شوقا وهلفة ّ
هرموانهتا لرتسل نبضا من أمومة مرتقبة أتيت كل يوم .أمام هذه الفوضى اليت
بداخلي أرتسم أان أروى بكل تلك التفاصيل اهلامدة اليت تتداعى على تعابري
أأتمل هذا التداعي الذي خلّفه
وجهي فليكن ،أان املزركشة برؤاي املزدوجة ّ
أبين أصبحت
أي امرأة خلقت؟ أظن ّ حممود .أيّة امرأة قد خلّفتها اي حممود أو ّ
أين أسألك اآلن أيّة امرأة أصبحت اي
فرنكستاين الذي خلقته بيديك وها ّ
خالقي .اي من شكلتين فلم أعد أفهم ما أفعل سوى أن ألوذ وسط أحالمي
وواقعي وأعيش وال أدري من أكون .مل أعد أفهم من أكون أو من أصبحت،
ال أدري ولكنّين أعيش.
أحب األسود ،إنه أنيق ،األجدر أنّين جيب أن أقابله
اخرتت ثواب أسود ،كنت ّ
تستفزين ،عيناي
ّ األول .هاهي املراهقة اجملنونة
أبانقة ال مثل هلا .إنّه اللقاء ّ
احلب يف
هتب الرتشاف ّ تلمعان من جنون قادم وأان أرجتف كمن هي مراهقة ّ
هزات االنفعاالت التائهة هنا وهنا .حاولت
سويعات الغفلة وأركان احلومة بني ّ
أن أكون أكثر هدوءا وأكثر احتواء لكل ما أحس به .أخربت جنوى أبنّين
سأقابل الغريب ،كانت تصفين ابجملنونة وتقول ي "مشرو أمومة أم مشرو
حب؟" وكنت أجيبها "ال عيب يف ذلك عزيزيت ،تعرفني جنوين ،فليكن
مشرو بطل من روااييت ،قد أكتبه يوما" .وتضيف جنوى" :اعنت بنفسك
43
متزوجة أم
وحاوي إخفاء البطن اليت تظهر.هل ستخربينه أبنّك مطلّقة ،أم ّ
عزابء؟" "عزيزيت سيأيت السيناريو .كم أعشق هذه اللّعبة اليت ال أدري كيف
ستنتهي".
-أنت مغامرة عزيزيت ،أخربيين ما سيحصل فيما بعد.
وانطلقت ألؤثث ملغامريت .ركبت السيّارة واجتهت حنو الكافيترياي اليت أعطاين
امسها .ال أذكر أنّين ارتدهتا يوما .ووصلت .وضعت السيّارة واجتهت إىل
الداخل ،اخرتت ركنا قصيّا وأمسكت اهاتفي أفتح بعض التطبيقات كي
أحتاشى فراغ االنتظار.كنت يف أاهى حلّيت وعطري الذي يفوح كان ميأل أرجاء
ترددت يف البداية مث طلبت عصريا
الفضاء .جاء النّادل وقال" :ماذا تشربني؟" ّ
وقلت يف نفسي لعلّين أشغل نفسي بشربه ريثما أييت هذا الغريب وأتفادى
نظرات الشبان.كانوا أيكلونين بنظراهتم وخلت أنّين أستجمع ثقيت بنفسي
أكثر ،أان امرأة فاتنة بدأت أتداعى من الرماد وألتفت إىل هذه األنثى الصارخة
يف .كم أفسد حممود من كياين وجعل منه فتات امرأة ،كم كان متجاهال لتلك ّ
املرأة اليت كنت أان.
أأتمل البحر ،كان أنيسي حلظتها ،غبت يف حركات امل ّد مازلت مبكاينّ ،
والزجر وأسراب النوارس اليت تعود إىل دايرها ،وأان مىت أعود إىل دايري وأان ال
أريد العودة؟ وهل ي داير بعد اآلن؟ كم أحس أبنّين ال أريد أن أعود ،أن أرى
أستفزه أكثر ،أن اطلب منه أن حيبّين أكثر وحيس يب .طالت حممود و ّ
الساعات وأان أنتظر على مائدة شوق أعددهتا منذ م ّدة ،خطّطت هلا، ّ
أخطت هلا زركشة وعطرا وفستاان وانتظارا يفرتش كرسيّا لثال ساعات .أنتظر
44
غريبا أود أن أسأله من يكون أكثر ،أطلب منه أن حيبّين أكثر وماذا حصل يف
رجحت أنّه أتى ومل يعرفين أو نسي تفاصيل وجهي أوتلك الليلة يف النزلّ .
تردد يف اجمليء أوعدل عنه.االحتماالت كثرية حىت ،أو رّمبا ّرّمبا مل أيت ّ
الزاهي.
أحس بوخز ما ،مرميّا على تراتيل فستاين ّ
واالجاابت ال حصر هلا وأان ّ
أان املرأة اليت ال تنتظر شيئا ،أنتظر اخلواء .وأان يف حرييت ويف متام استعدادي
كي أّنض وسط اجلمو اليت حتوم يب أيتيين النادل بباقة ورد ويسلّمها ي
قائال" :هل أنت السيدة أروى؟ وصلتك هذه الباقة" .ورود محراء تشتعل هلفة،
أشتم عبقها وألتهم البطاقة املدسوسة بداخلها" :مجيلة
احيتّ ،
أرميها على ر ّ
كعادتك ،أنيقة كذلك ،امرأة من ذهب" .هذا كان حمتوى البطاقة ،أخذت
الباقة والبطاقة ورحلت.
18
مضت أشهر على اختفاء حممود ،مازلت أذكر تلك الليلة اليت قبّلين فيها بكل
شغف ،ج ّدد معي عهدا كأنّه رسالة ودا .حلظتها أحسست أبنّين أسرتجعه
من جديد ،حممود الذي عرفت يف الكافيترياي ،يوما ما عندما كان يرتّب
أوراقي املبعثرة ويناولين إ ّايها ،أو رّمبا كان ينظّم بقاايي املهرتئة اليت تركها
مين
عاشقون رحلوا يف صمت وضيا .كان أيخذ من فتايت وأشالئي ليصنع ّ
ترددها وكالمها
امرأة من جديد ،يرّكب قطعها ويصلح عطبها املؤثث حلركات ّ
األول
ونظراهتا التائهة .ليلتها وعندما كنت بني أحضانه خلتين أسرتجع اللقاء ّ
مرت وأان أستغربواللّهفة األوىل لقبلة ضائعة مازلت أحبث عنها .أشهر ّ
حىت
عين؟ أمل يشتقين؟ هل نسيين فعال؟ هل أحبّين فعال ّ
غيابه.كيف مل يسأل ّ
45
مين بكثري .عندما
أهم ّ
عملي وحياته ومشاريعه ّ أظن،هو ّ
يشتاقين جبنون؟ ال ّ
خري أن
رجحت أبنّه قد سافر ورّمبا لن يعود .حممود ّ
مرت شهور على اختفائه ّ
ّ
فحىت زوجي رحل.
يرحل كما رحل االخرون ،رحيل آخر يزداد إىل سجالّيتّ ،
حىت ،أو
أين لعنة ترافق من اقرتنت به ،ال مكان للبقاء معي أو للتأثيث ّ
يبدو ّ
حىت لاللتزام .ال مكان المرأة مهزوزة بلعنة الشؤم أن حتضن ما تبقى من ّ
الرحيل األخري ،رّمبا غنّيت ملن أحببت
وعشاقها.كأنّين مسكونة برتاتيل ّ
أحبااها ّ
تتحرك وال تربح مكاّنا ،أان
الرحيال" فرحلوا وبقيت أان ،أان اليت ال ّ
"أسالك ّ
اليت أبقى وحدي وأبقى وحدي فقط ..مجيل أن يرحل عنك أحبابك واألمجل
عندما تعرف أب ّّنم راحلون.كأّنم قد جاؤوا للحظات عابرة ،أثّثوا حياتك على
شكل ما ،ش ّكلوا منك قالبا معيّنا و أضفوا أو أنقصوا مث غابوا يف زحام احلياة
لتبقى أنت تتجر أمل غيااهم فقط.
كنت أذكر تلك الليلة ،حممود كان دافئا على غري عادته ،يربّت على كتفي،
يقبّلين بني الفينة واألخرى ،يوصيين أبن أعتين بنفسي وأالّ أخاف من الوالدة
وأنّه حيبّين .نعم ،حممود جالس بعينني مرتبكتني ويعرتف ي أبنّه حيبّين وأبنّين
غالية لديه وأكثر مما أتصور .حينها انتفضت:
-ولكن مل مل أحلظ ذلك؟ أنت مل تعاملين يوما وكأنّك تعشقين.
-أنت مل تفهمي ،مل تفهمي أبدا.
واحتواين اهدوء وخلت أبنّين سأؤسس معك ملرحلة جديدة وأرى حيايت
بشكل آخر ولكنّك خذلتين ومل تقل أبنّك راحل وأنّين سأمكث هنا وحدي
أنتظر عودتك أان وشهد.
46
كنّا ابملنزل أان و ّأمي وشهد ،اعتنت يب ّأمي حىت متاسكت بعد النفاس .جنوى
كعادهتا ال تفارقين وهتتم بكل صغرية وكبرية .كلّفتها يف تلك الفرتة أبن تبحث
عنك يف الشركة وتتواصل مع أصدقائك الذين أعرف بعضهم لعلّنا نستطيع أن
نتواصل معك ونعرف أخبارك.
األايم متضي وأان أصار
انقطعت أخبارك ومل أجد طريقة كي أتّصل بكّ ،
مصريي وحدي ،أفتّش عن طريق من دونك .تكرب شهد كل يوم وكلّما كربت
يزيد قلقي كل يوم ،ستسألين عنك عندما ال جتدك حذوها .ستفتّش عن
تفاصيل وجه أبيها الذي ترى آاثره على حمياها خيتزل أاب وأملا ووجعا .ماذا
تراين سأقول هلا يوما؟ رحل أبوك ألنّين مل أعشقه أو رّمبا مل أحسن أن أحبّه
للحب واإلحساس ّ وأفهمه ،أو رحل أبوك ألنّه وجد امرأة مهرتئة ال مكان
فيها .امرأة خارج قوانني الطبيعة ،تغوص يف فوضاها فال تدرك سطح األشياء.
امرأة مل تفهم ماذا كان يقول زوجها بعينني هائمتني وصمت متواصل.لعلّين
شرقي املعادن .ال أصلح أن أكون امرأة ألنّين
فاشلة يف تفكيك شفرة رجل ّ
تركته يرحل وتركتك دون أب.
19
مرت على احلادثة ثالثة ّأايم ،مازلت أحتفظ فيها ابلبطاقة والورود ،أخبئها يف
ّ
مكان يعجز أن جيده حممود .حممود كعادته يرمقين بنفس النظرة ونفس
هم له سوى أن أيكل ويطّلع على األخبار وينام وأان أجالسه
التجاهل ،ال ّ
ليسرح شعرها أو
كدمية مجيلة تنتظر أن يلقي عليها صاحبها نظرة اهتمام ّ
يناوهلا دفئا ما .يف الفراش يغوص هو يف نوم عميق وأبقى أان أفتّش عن
47
أتردد بني الفينة واألخرى أين
أحالمي .شوق عارم يدفعين إىل ذلك الغريبّ ،
يكون ومل مل أيت؟ مل مل أيت وهو يعرف أبنّين أنتظر رؤيته بفارغ الصرب؟ ملَ مل
ي؟ أشتاقه وأشتاق رسائله وأريد أن أح ّدثه وأراسله وأراه.
يقابلين ويتح ّد إ ّ
أغوص يف أتماليت .يف بعض االحيان يرمقين حممود ويسألين" :أمل تنامي بعد؟"
أحس أبنّين لست على ما يرام ،ال تنزعج سأكون أرد" :إ ّّنا اهلرموانتّ ،
ّ
خبري" .أّنض من الفراش ،األرق يالزمين ،أذهب إىل املطبخ ألشرب كأسا من
حىت أانم.
املاء مث أذهب إىل قاعة اجللوس ،أختار ركنا قصيّا وأفتح التلفاز ّ
يهمه إن منت أو بقيت على حممود كالعادة يعود إىل نومه وأحالمه فال ّ
قلقي.كنت أقول يف نفسي لو كان يعلم أ ّن رجال أصبح بيننا ،رجال آخر غري
اهلوة أكثر ،رجل عرف من أان ،رجل رّمبا
نبيل ،رجل يفصل بيين وبينه ويعمق ّ
منت بني ذراعيه لليلة كاملة .يف حلظات أستشعر هذا الغريب ،هذا انصر
إي يف الفراش ليوقّع حضوره هنا ،يرتوي من مسامي ،يعجل أمحد ،يتسلّل ّ
بنشويت لتأيت كما أشتهيها ،يلتهم شغفي به ،يطفئ توقي واشتياقي إليه .ها
احلب بني براثن القلب حني يغافلنا .يغافلين بيين
هو هنا ينتصب هنا كما ّ
وبني حممود ،يثبّت اشتياقه علناً ،لعلّين أنتشي.
أمضيت ليليت يف الصالون وعندما ّنضت صباحا مل أجد حممود .كان قد
غادر .إ ّّنا العاشرة صباحا ،أتفطّن فجأة إىل رسالة من ذاك الغريب" :صباح
النور ،لك يف القلب بساتني ورد وحب" .وابتسمت ،أحسست وكأنّه بدأ
عين لثالثة ّأايم ،لقد بدأت أتعلّق اهذا
يتسرب يف روحي ،لون آخر قد غاب ّ
الغريب أكثر ممّا جيب .وأجبته":صباح النور ،شكرا لرقتّك" .حاولت أن أكون
48
متح ّفظة بعض الشيء .ليس من اجلدير أن أكشف له عن شوقي العارم وعن
تعلّقي به .حاولت أالّ أطرح أسئلة وأعلّق أو أستفسر عن غيابه مث سألين:
"هل أعجبتك الباقة؟ أظن أب ّّنا تتماشى مع فستانك األسود ،كنت رائعة".
عندما سألين عن ابقة الورد أجبته" :إ ّّنا رائعة شكرا لك" .وحينها فهمت أبنّه
وفضل أن ينسحب ولكن مل،
أتمل هيأيت وشكلي ومكياجي ّ رآين من ركن ماّ ،
ال اعرف.
مل أستفسر أكثر عن عدم ظهوره وقدومه بدل ابقة الورد بل تواصل حديثنا
أورط نفسي شيئا فشيئا دون
وحب ومثالة عشق وأان ّ
عاداي ،كلّه عبارات شوق ّ
ّ
أن اعرف إىل أين سأصل مع هذا الغريب.
21
اتصلت يب جنوى صباحا تسأل عن أحواي مث اقرتحت أن نذهب سويّة إىل
عرض مسرحي سيقام مساء على الساعة التاسعة .يف احلقيقة ،حيايت
أصبحت روتينية فأان ال أخرج إالّ عند الضرورة لقضاء شأن أو حلضور اند
أفضل أن أبقى ابملنزل
اديب ال أكثر .ليس ي أصدقاء أو صديقات كثر وكنت ّ
املتكرر من املنزل وال
يفضل خروجي ّ على أن تزيد مشاكلي مع حممود فهو ال ّ
حىت ذلك الغريب بقي وتصرفايت غري املتوقّعةّ .
يتمّن أن أعود إىل ممارسايت ّ
ّ
سري ميطرين رسائل غرامية وأشواقا متسلّلة دون أن حياول اقرتاح
جمرد عاشق ّ
ّ
يفضل فقط أن نتحد هكذا وأان خجلت من أن أقوم لقاء بيننا ،كان ّ
فضلت أن تظل العالقة هكذا على أن ابستفزازه أكثر .ويف بعض األحيان ّ
أنساق يف جنوين أكثر.يف احلقيقة ،أحس بوخز يف بعض األحيان وأرى أبنّين
49
ابلغت يف كل ما فعلته .أليس حراي يب أن انتبه هلذا الطفل الذي ينمو بداخلي
حب جديد .وحممود ،أان أخدعه
وأستع ّد الحتضانه وتربيته بدل االنسياق يف ّ
جم ّددا ،أحبث عن صورة موهومة للحب .أليس جديرا يب أن أصلح عالقيت
معه؟ وحلظتها ف ّكرت ابالتصال به وأن أقرتح عليه كي يذهب معنا .على كل
حال جيب أن يعلم أنّين سأخرج ليال رفقة جنوى ولكن أن يرافقنا هي مبادرة
طيّبة ألن يشاركين شيئا ما فنحن مل خنرج سويّة منذ م ّدة .إال أ ّن حممود اعتذر
وقال ي" :استمتعي أنت ،أان ال أستطيع احلضور معك ،لدي اجتما ".
وانكسر شيء ما يف جويف ،أحسست بوخز ما ،أحسست أبنّين أفشل من
عين ملسافات طوال.
جديد يف اسرتجاعه وأنّه بعيد ّ
علي ما ألبس وما سأضع من ماكياج ،ص ّففت مساء جاءت جنوى ،اقرتحت ّ
ي شعري وذهبنا.فعال ،كنت مشتاقة للعروض الثقافية والفنية واملسرح فين
املفضل .كنت غالبا ما أراتد املسارح عندما كنت طالبة ،وكنت قد مارست
فنونه لبضع سنني مث ابتعدت .أستاذي يف املسرح كان يقول ي":أنت لوحة
مسرحية حبتة ،كل شيء مرسوم على حميّاك وآالمك ستصنع منك جنمة".
كنت أسعد وأفتخر بشهادته ورّمبا لو واصلت طريقي يف املسرح ألصبحت
الزواج وابتعدت عن كل شيء .بقيت
جنمة فعال ولكنّين انصهرت يف مؤسسة ّ
فقط شذرات كتاابيت املتقطعة اليت مل تر النور وابلطبع كل هذا ال يعين شيئا
حملمود فقد كان يقول أبنّين جمنونة .أتوه بني الرواايت والكتب وأاتثر ابملوسيقى
والسينما واملسرح ،يقول ي أنت حاملة ،وأان ال أتّسع ألحالمك.
50
فضلنا املقاعد الوسطية ،العرض مل يبدأ بعد وتفكريي غاص يف دخلنا القاعةّ ،
حنني ال قا لهّ ،أايم دراسيت الطالبية ،الورشات املسرحية ،زمالئي يف املسرح،
جسدت دور ّأم ثكلى املسرحية اليت مثلّت فيها وكنت البطلة ،عندما ّ
وحتصلت على جائزة خمصوصة.كنت أذكر املوسيقى املصاحبة للنص وأبدعت ّ
الذي ّأديته والدور الذي غصت فيه ،رّمبا أبدعت ألنّين كنت امرأة تستم ّد
إبداعها من آالمها كما كان يقول أستاذي.
وبدأ العرض ،كنت شغوفة الكتشاف هذا العمل .غصت يف التفاصيل
املشهدية واملمثلني والنص واملوسيقى املصاحبة واألضواء .كان عاملا مزركشا،
أين أشارك فيه وأقف على خشبة املسرح وأهذي أكثر .لو كنت هناك خلت ّ
لتقمصت دور امرأة جمنونة محلوها إىل مستشفى األمراض العقلية أل ّّنا حتب يف
وتربر أفعاهلا
املرات ّ زمن الالحب أو دور امرأة مستهرتة ختون زوجها آالف ّ
كأمي ،أنابنّه قانون جتربة ال أكثر .نعم ال أستطيع أن أكون امرأة تقليدية ّ
أين لو كنت مكاّنا ملا أكبت معاانيت على سبيل الصمت واخلضو .أظن ّ
تركت فضاء بقليب كي اعيد رجال هجرين منذ عقد .ال مكان للذين رحلوا ،ال
سبيل ألن يعودوا إلينا إذا كانوا قد قطعوا حبال الوصل ،ال مكان ألن جن ّدد
يتغري وأ ّن القلب غري
العهد معهم اذا كانوا يعتقدون أب ّن الشعور واحد ال ّ
نرمم ما بداخلنا عزاء ملن يعودون
متحول ،ال سبيل ألن نعيد ما كسر ،أن ّّ
ابحثني عن أنفسهم لدينا ،خيفة أن جيدوا من تعلّقت اهم قلوبنا فجأة.
نتعود على وتريةللرحيل وجه واحد ،فهو رحيل دون عودة ،لذا دعوان ّ ّ
حىت ال تف ّككوا عادة اختفائكم وتزعجوا سكوننا وهدوءان يوما.
غيابكمّ ،
51
ألّنا ج ّددت يف شيئا مجيال ،كنت قد ابتعدت عنه
فعال ،أشكر جنوى ّ
لسنوات .مازلت أسرح مع وقع املمثلني على الركح وانظري يستلهمان
حركاهتم وأقواهلم وأختيّل نفسي بينهم .فجأة ير ّن هاتفي ،رسالة من الغريب،
اشتقته ،ولكن أي مكان له يف املسرح؟ رّمبا هو جنوين املرتقب ،جنوين اآلخر
يكمل هذه اللوحة الرّاننة معي أان .يقول" :أان أحضر املسرحية ،لقد
الذي ّ
رأيتك منذ قليل سأنتظرك خارجا إن أردت" .مل أص ّدق أنّه هنا وأنّه يشاركين
خاصة
الفن الرابع ،مل أستطع أن أمتالك نفسي ،ف ّكرت أبن أراه اآلن ّ
حب ّ
أين سأغتنم الفرصة كي نتح ّد .تركت جنوى ،أخربهتا أبنّين سأذهب إىل
وّ
احلمام .شيء ما كان يدفعين للتهافت خارجا كي أراه ،فعال اشتقته .عندما
ّ
بعيين ،نسيت شكله فعال ،مل أره منذ أشهر ،منذ
خرجت بقيت أفتّش عنه ّ
حادثة النزل ووقتها كنت يف حالة سكر ،فأان ال أتذكر تفاصيله كما جيب.
ولكنّين سأعرفه ابحساسي .وجدت شابّني خارجا ،كاان اتبعني هليئة املسرح
تصورت أبنّه سيهاتفين ولكنّين مل
ومل أجد أحدا غريمها .نظرت إىل هاتفيّ ،
يرد على
أين أنتظره ابلباب الرئيسي .ومل ّ
أنتظر أكثر بعثت له رسالة مفادها ّ
رساليت ومهمت ابالتصال به ،جاءت الرنّة خجولة تكتسح مساحات الفراغ،
وأان أحبث عنها ومن أين أتيت ،رنّة حتمل قليب إىل مساحات جوفاء لتعرب
أين أقع على
شىت تضيع يف الغياب املستمر والشكوك املدويّة .وها ّ
احتماالت ّ
يتمشى ،معطفه األسود يغطّي جسده ابلكامل ،أانظل رجل ّ الرنّة وصاحبهاّ ،
يلوح ابلودا ،يتمشى بضع خطوات ،يتجاهل ظل ّ
ال أرى من السواد سوى ّ
اتصاي ويدلف يف الغياب ،يفتح ابب سيارة سوداء ،يركب هو السيارة ،يفتح
ظل
أتفرس مالحمه ولكنّه يغيب يف ّ
بناظري كي ّ
ّ شبّاك السيّارة ،أراين أهفو إليه
52
سواد قبّعته فال أرى سوى قبّعة وشال أسودين ،يرحالن يف حلظات وأظل أان
وامجة ،أحاول أن أفهم ،مل يرحل هذا الغريب؟
يل ّفين ضيا ويستنشقين آخر ،وأان أغوص يف تراتيل رحيل آخر ،رجل أيىب أالّ
أجر انظري وقطعيراين ،أالّ يستجمع حلظات احلب واللقاء والشغف معيّ .
الرحيل املسرتسلة معي ،أحاول أن أستجمع هدوئي حىت أعود إىل القاعة.
شاب ويقول" :هذه الباقة لك ،تركها لك السيد الذي غادر يهب حنوي ّّ
اآلن" .آخذ الباقة ،أرى البطاقة ،أقرأها" :بعد ليلة رائقة كهذه ال يسعين سوى
األخاذة ،دمت أنثى" .أصمت كالعادة أن أراك يف حلى الورود والرائحة ّ
ودغدغة التساؤالت ال تصمت جويف .يزلزلين هذا الرجل الذي يطرز من
يستفز هدوئي وهذا
ّ اليومي،
ّ احتواءايت مهسا لديه ،فائضا يسدله على خوائي
لدي ،يعربد
الشوق اهلائم الذي يراودين عن أاني ،يدغدغ مساحات اجلنون ّ ّ
يف مسامي ،يستفزين ويرحل إىل لقاء اخر.
أين
ولكن هل لرحيلك رجو أم هو رحيل كما رحل الذين سبقوك؟ هل ّ
سأفتح األبواب لك دائما كي تعود أم أوصدها فليس للراحلني رجو ؟ أم هل
تفصل من تفاصيلي امرأة أخرى منزوعة
أتركك تتالعب مبساحات وجداينّ ،
الوعي ،امرأة هتفو كاجملانني تفتّش عن احلب وسط الفن واحللم والذكرى،
ختيط من ثوب ذاكريت مساحة لك تستقر فيها ،أتيت على عجل ،حتط
ابلذاكرة املثقوبة كخواء يعربد يف مجوحها وهي املشطورة من بقااي سنني ال
سبيل لرجوعها.
53
أي عينني ستنظران إىل حممود .لعلّه سريى
كيف سأعود اليوم إىل البيت و ّ
ط .امرأة غاصت يف ماضيها ،ال مكان ألروى اليوم الليلة امرأة ما عرفها ق ّ
األن لست زوجة حممود العابد ،لست من يطوقين البيت والعقد والسرير
السالفة ،أاني الفنّانة ،اجملنونة
والقبل االصطناعية .أان أحن إىل أروى ّ
ط على كل مجيل .وأنت أيّها والعاشقة ،أاني اليت تولد من اخلراب لتح ّ
ستكملين ،فتعال أيّها الغريب وال ترحل .لقد
ّ الغريب ،أنت الصورة الزهيّة اليت
سريحب اهم القلب ويرنو هلم الشعور.
الرحيل ،أنت ممن ّ غريت قانون نظريّة ّ
ّ
مكانك يف القلب هنا ،فعد أيّها الغريب.
21
مخسة أش هر متر على محلي ،بطين بدأت تنتفخ واجلنني الذي بداخلي بدأ
مياطل الزمن كي يفرض وجوده بيين أو بيين وبني حممود .حممود كعادته يطمئن
يهتم بتغذييت ومواعيدي مع الطبيب ،يقتين أشياءعلي بني احلني واالخرّ ،
ّ
للرضيع ويضعها بغرفة الطفل اليت اختار هلا ديكورا رائعا .كان يقوم بواجبه
أمرن عقلي
كزوج وكأب مستقبلي وأان أحاول أن أأتقلم مع الظروف وأن ّ
الباطن على استيعاب الروتينية الزوجيّة اليت جيب أن أنقاد إليها .يف مجيع
األحوال جيب أن أعتين بطفلي وأحس بنعمة األمومة ورّمبا أحاول أن أفهم
حممود أكثر وأصلح عالقيت به ،لعلّين أعشقه يوما .أعرف أبنّين اقرتفت أخطاء
يف ح ّقه ورّمبا من أبشعها أنّين أمحل طفال ليس من صلبه ولكنّين سأحاول
إصالح ما تب ّقى ،لعلّنا نعود كما كنّا يوما.
54
يومها أخربته أبنّين على موعد مع الطبيب ،اقرتح أن أييت الصطحايب
علي وعلى اجلنني ،بدا زوجا صاحلا وقتها .كل شيء كان على ما
واالطمئنان ّ
يرام واشكر هللا أنّين مل أعاين من مشاكل صحية قد تؤرقين .حممود كان سعيدا
مبا قاله الطبيب وأ ّن اجلنني خبري ،وتساءلت يف نفسي كيف ميكن أن يكون
مستقرا وحتمله امرأة جمنونة مثلي تعيش على األحالم واجلنون والذكرى؟ ال ب ّد
أنّه سيحمل جينات جنوين هذه ويقلّدين أو رّمبا يشبه أحد أبويه الغريب
الذي ال أعرف عنه شيئا أو حممود يف جديّته ومثابرته .غادران الطبيب
واقرتحت على حممود أبن يقلّين إىل مكتب جنوى .مل أشأ أن أعود إىل املنزل
أأتخر قليال ألنّين سأحضر حفل توقيع لصديقة كاتبة
مباشرة وأخربته أبنّين قد ّ
نعرفها أان وجنوى .مل يبد اعرتاضا فقط أوصاين أبن انتبه لنفسي.
منذ م ّدة مل أحضر حفالت توقيع ،كانت على األقل فرصة ألرى أصدقائي
الكتّاب وأتبادل معهم بعض األخبار عن االصدارات والكتب والنشر .لطاملا
ف ّكرت ابلنشر ولكن كتايب مل يكتمل بعد ،مازالت تشوبه حركات التقطع
الرتدد .رّمبا قد أفعل بعد الوالدة .من جهتها كانت جنوى حتثين على الكتابة
و ّ
لدي أسلوب وخيال راقيني .تقول أبنّين
والنشر ،تقول أبنّين كاتبة استثنائية و ّ
فنّانة ،رّمبا ما كان يقوله حممود وأسلوبه يف السخرية من كتاابيت حطّم شعورا
أين مل أعد أقوى على أن
بداخلي ،أحسست فعال أب ّن شيئا ما قد سلب م ّين و ّ
أين قد أشفى عندما أكتب إّال أنّينأكتب كما كنت من قبل .وابلرغم من ّ
تركت سبيل الشفاء هذا واحتويت نفسي داخل الفراغ ،مش ّددة على أنّه ال
سبيل ألن أعود كما كنت .صحيح أ ّن اهتمامات حممود خمتلفة ،فقد كان
55
أين كنت أمتّن أن يقرأ شيئا مما أكتب
يهتم ابلكتب التارخيية والسياسية إالّ ّ
ويقدر ما أفعل .اان امرأة حتتاج ألن ترى من مجيع االجتاهات وأن يكون
مقراب ،يشاركين ما لديه
حممود ليس جمرد زوج ،متنّيت أن يكون صديقا ّ
وأشاركه ما لدي.
ذهبت أان وجنوى إىل القاعة ،كانت مزدمحة ،احلقيقة وصلنا متأخرتني بعض
الشيء .سلّمنا على صديقتنا وابركنا هلا هذا االصدار ،وبعدها جلسنا.
احلضور كان غفريا والصحفيون واالعالميون كانوا هناك للتهليل اهذا الكتاب
ومواكبة إصداره .مضت الساعة األوىل بني تقدمي الكتاب ومراجعته من طرف
أكادميني ومناقشة مواضيعه ،مث يف النهاية بدأت صديقيت بتوقيع كتااها
وإهداء نسخ منه ألصدقائها واحلضور .حصلت على نسخيت وكنت متحمسة
لقراءهتا ،ابركت هلا جمددا وكتبت ي إهداء وبعدها غادرت أان وجنوى.
عندما وصلنا إىل املنزل مل يكن حممود هناك .ويف سويعات انتظاري له فكرت
أبن أبدأ بقراءة رواية صديقيت .قرأت إهداءها":إىل صديقيت العزيزة أروى،
أهديك هذه النسخة من رواييت اجلديدة وأان أثق متام الثقة يف ذائقتك األدبية،
أمتّن أن تعجبك ،أان ابنتظار مولودك االديب ،دمت مبدعة عزيزيت ،حتيايت، ّ
أمساء" .راقين ما كتبت ،فعال اجلو مالئم كي أعود من جديد لكتاابيت
األول بفارغ الصرب.
وإبداعي ،كل شيء حي ّفزين وأصدقائي ينتظرون كتايب ّ
وبدأت ألقي نظرة على الكتاب ،النسخة مجيلة يف غاية االبدا ،الغالف
والصورة والعنوان "الغريب" وشبح رجل مظلل ابألزرق واسم صديقيت يتهافت
مشوق .إّال أنّه فجأة
على الظل ،مائة وعشرون صفحة وعشرة فصول ،كتاب ّ
56
وقع نظري على كتابة أخرى يف ّناية الرواية ،كانت كتابة ابحلرب اجلاف .إنّه
أبّنا ميكن أن تكونط آخر .اسغربت وف ّكرت ّ ط صديقيت ،إنه خ ّ
ليس خ ّ
نسخة مغالطة وليست ي ،مث بدأت ابلقراءة" :كوقع هذه الرواية ستكونني
خملوطة ابالحساس الفياض واحللم اهلارب والذكرى القاسية ولكنك ستظّلني
األنثى اليت تعجبين واليت حتتل مسامي دائما ،اشتقتك" .وذعرت مما قرأت ،إنّه
هو ،إنّه الغريب ،يعود للتسلّل إىل حيايت ،ميطرين كلمات مث يرحل ،كيف
توصل إ ىل نسخيت وكيف كتب هذه الكلمات؟ أين كان؟ هل كان معي حبفل
التوقيع ولكنّين مل أره؟ ملاذا مل يتّصل يب وكيف عرف أين أكون؟ هل هو يتبعين
عين كل شيء؟ ملاذا يتالزم وجوده بوجودي؟ ملاذا مل حي ّدثين مباشرة.
ويعرف ّ
أعجز عن التعبري عن كل ما خياجلين اآلن ،الغريب هنا يف حضوري ،يف
الغياب ،يف التسلّل العرضي ألاني فجأة عن هذا الوجود ،يف املماطالت
املستفزة لروتينية احلياة ،يف الالتوقعات احملسوسة على أنني اتفه ،يف الوقع
لتعرب ،يف
الغريب الذي ال حيمل مسفونيّة ،يف تراتيل احلروف عندما تتماهى ّ
عجز اللّغة وخواءها ،يف ضيا املعّن والكلمة ،يف تواتري أان بني اللّعبة
الشىت هنا وهناك.
واحتماالهتا ،يف يقيين وشك وترييت ،يف االحتماالت ّ
أراك حتتلين بني أركان أاني ،تعربد بني األجنحة القصيّة ،ترّمن ترنيمة حلم ما
وتستفز مهسي كي يبحث عنك .وهاهي رسالتك ّ يف احلياة
وحتتفي ،توقظ ّ
أمتّن أن تعجبك نسختك على اهلاتف أتيت من خلف مساحات الفراغ " ّ
ويعجبك االهداء" .عيناي ما زالتا تغوصان هنا وهناك حبثا عن املعّن ،أفتّش
أي لعبة أنساق فيها وال أمل؟ ويعود حممود إىل املنزل.
عنك بيين وبني نفسيّ .
57
22
أستفيق بعد مدة النفاس على جزعي وتوتري وعلى القلق الذي ميتد يوما بعد
آخر .األايم متر وأان وحدي ،ال شيء سوى رضيعة توقّع حبثها عن أبيها
بصراخ مستمر ،أسكتها عنه أبن أانوهلا ثديي حىت متتص حلييب وتنام.شهد
ومنذ ّأايمها األوىل تعرب عن قلقها مثلي ،تستشيط من لعبة احلياة والقدر
أين
كأمها ،شقاءا مستمرا ،نعم ،ابلرغم ّ
وكأ ّّنا تدرك متاما أ ّن قدرها قد يكون ّ
ال أمتّن ذلك .يبدأ شقاؤك منذ حلظة والدتك ،إذ مل يكن والدك معنا .ولدت
حىت دون أن يرى جسمك الطري وعينيك املغمضتني ،دون أن يشتم ربيعك ّ
وحسك الربيء ،دون أن أن خيتار لك امسا ،أو يسجلك ابلبلدية ،دون
اللبين ّ
أن يشهد على أبوته .اختفى كجبان ما ،ال يهمه سوى الرحيل وكفى وعلى
أعقابه يرتك ّأما مثقلة ابل ّدمع ورضيعة بني أحضاّنا .ما ترك لك سوى هذه
الغرفة ،غرفة مزركشة ابأللوان واللعب ،فارغة من االحساس واملعّن.كم
أمضيت من شهر وأنت جتهزها اي حممود ،أتثّث ألبوتك القادمة ،تزيد وتنقص
حتملها تباشريا حارة ومحاسا ال مثل له .واليوم أنت بعيد وغائب،
كل يومّ ،
حترك ساكنا إن كنت أان خبري أم ال ،إن كانت شهد خبري أم ال ،ال
أنت ال ّ
هتمك سوى نفسك ،حتمل قلقك وترحل دون تفسري .واليوم أجدين أغوص
يف ضيا ال قا له ،أيكلين استفزازي ،أتّصل بك فأجد رقمك مغلقا ،أتّصل
ابلشركة فال أجد خربا عنك .جنوى بطريقتها حاولت أن جتد أخبارا عنك وأان
أجدين أحتار كيف تنساين بعد تلك الليلة ،بعد أن أ ّكدت أبنّك حتبّين وأنّين
أعين لك الكثري .أعرف أبنّين أخطأت يف حقك كثريا ولكنّين أمتّن أن نبدأ من
58
جديد ،أن جن ّدد عهدا من أجل شهد ،من أجلي أان ،من أجل أن نرتّب أاني
املبعثرة .
مرت األشهر كذلك وشهد تكرب كل يوم ،أخاف أن تكربي أكثر اي شهد
وتسأليين عن أبيك ،عن حممود فما عساي أجيبك .أنت تستمر يف الغياب
وأان أستمر يف الضيا واخلرب املعلق يف نشرة األخبار يعلن أبنّك رجل أعمال
تورطك
متورط يف قضااي فساد ورشوة وأ ّن عديد التجاوزات اليت قمت اها قد ّ
ّ
أكثر فأكثر للمثول أمام القضاء واحملاسبة .مل أص ّدق يف البداية ،أيعقل أن
تفسر
تكون من رجال األعمال الفاسدين .ورفعت من صوت التلفاز واملذيعة ّ
تبني أ ّن عددا من رجال األعمال التونسيني اخلرب وتشرح التفاصيل أكثرّ " :
متورطون يف قضااي فساد ومن بينهم السيد حممود العابد ،رجل األعمال
تسجل ضده عديد التجاوزات وهو املشهور الذي ميلك شركات عقاريةّ ،
مطلوب للمثول أمام القضاء .ويف انتظار القبض على السيد حممود العابد
علي ،مل أكن أتصور أب ّن
وتبقى التحرايت جارية".كان اخلرب مثل صاعقة تنزل ّ
مربراآلن فقد اختفى
ورجحت أب ّن اختفائه ّ
متورط يف مثل هذه القضااي ّ
حممود ّ
منذ أشهر وأظن أبنّه هارب من العدالة حبكم خوفه من أن يود ابلسجن
وحياكم ،لذلك اختفى حىت يهرب وجيد حياة اخرى ،فحياته هنا ستكون يف
حىت ،رحلتخطر .اآلن فهمت ملاذا اختفيت بتلك الطريقة دون أن ختربين ّ
دومنا ودا لتظفر بنفسك وكفى .ما عساك تفعل معي وأان ال أستطيع أن
أنقذك من براثن السجن أو أن أؤثث معك لغد جديد .اخرتت أن ترحل حىت
ترتّب حياتك من جديد ،رّمبا يف منطقة معزولة ما من هذا البلد أو يف بلد
59
اخر حيميك أكثر مين وحيبك رمبا ،احلب الذي مل أستطع أن أمنحه لك
يوما .هكذا خسرتك ولألبد وهكذا عشت خلمس سنوات مع رجل أجهل
من يكون .وهكذا يلبسين القدر رداء جديدا ،أنزوي بطريف ألبسه حزان جديدا
لرحيل اخر وأبقى أان مرسومة النسيان ،تضعين أنت يف صندوق ذكرايتك
القدمية ،تنظر إليها كل ساعة ،تستحضرها ومتضي فلم يعد ي مكان مكان
شك.
بينك .سرتحل دون عودة ال ّ
23
مل ادرك بعد أبنّين عشت أكثر من مخس سنوات مع شخص أكاد ال أعرفه
البتّة .أين حممود الذي يتحد عن القيم واملبادئ ورفعة األخالق والنزاهة
وغريها .أين يكون؟ ال ب ّد أنّه كائن خرايف صنعته خميّليت وأضفت عليه بريقا
من األحالم فأضحى أمامي مالكا ابهتا ،أراه أان فقط .حممود العابد ،اسم
متورط يف قضااي
ليتبني أبنّه ّ
يتوسط مجلة من رجال األعمال املرموقني يف البلد ّ
ّ
فساد ورشوة وتبييض أموال .حممود العابد ،اسم يتواتر بني الفينة واألخرى
على حمطات القنوات التونسية فاضحا خرااب آخر تتورط فيه أنت ومن
يف زلزاال مازلت ال أعرف منتهاه.
يشبهك ،أنت كأعقاب هذه الثورة حتد ّ
حيتل أطراف حيايت .بدوت ي رجال مرموقا
أين كنت أعيش يف ضباب ّ هتيّأ ي ّ
وهكذا كانت بداية إعجايب بك ،مازلت أذكر كيف كنت تنتقد السياسة
الرشوة والفساد ،كنت من رواد الطريق السوي ،كنت
احلاليّة وأساليب التحيّل و ّ
تقول أبنّك لست مثلهم وأنّك خمتلف وتريد أن تنجح بسبل نزيهة .ترى كم
من قنا كنت تلبس اي حممود؟ أكاد أقول أبنّين كنت أعيش مع شبح ال غري.
60
صحيح مل نتّفق يف العديد من األشياء ولكنّين كنت أؤمن بنزاهتك وهذا ما
كان جيعلين أحرتمك على األقل ،نعم كنت أحرتمك على األقل.
يف ظل التيه الذي كنت أحس به قررت ّأال أحبث عنك جمددا فالشرطة
والقانون مها اللذان سيبحثان عنك وحياسبانك .ما عساي أفعل مع رجل
األايم وأفصل ذايت عن عاملك فما
نصف رجولته قد سلب .سأدعك أنت و ّ
عاد جيمعنا شيء .اآلن فهمت أبنّك اختفيت لتلك األسباب اليت كنت
أجهلها ،ف ّكرت أبن تنقذ نفسك وتنسى اجلميع .ما عساك تفعل مع امرأة
أمضت سنوات زواجها معك على القلق واحلرية والالتفاهم؟ هل ستعود إليها؟
ال أظن فما عاد ينفع أن كنت حتبّين فعال كما تقول وأان ال أفهم .رّمبا وجب
ط .وهذه الصغرية اليت تعوي كل يوم، التسليم أبنّنا ال نتفاهم ولن نتفاهم ق ّ
أسكنها بني طيّايت وأغدق عليها حلييب .هي ذلك اجلزء املبتور منك ،الذي
تركته ورحلت ،ستحمل امسك ال أكثر .هذه هي الذكرى اليت خلّفتها اي
حممود ،وجه طفوي بريء وابتسامة حائرة وقلق وانتظار ال أكثر.
وقررت حلظتها أن أفتّش عن حممود العابد ،ليس ابقتفاء أثرك ولكن ابلبحث
ّ
فيك ،بني طيّاتك ،بني كتبك ومكتبك وأوراقك ،بني هذا الفضاء الفسيح
الذي أثّثته ي ورحلت ،لعلّين أكتشف تفاصيل أخرى عن ماضيك وحياتك
وأعمالك أيضا ،لعلّين أجد أكثر من قنا تتخفى وراءه حىت أحب هذا
املالك .بدأت مبكتبتك ،عبارة عن مائة كتاب أو أكثر كلّها مص ّففة بطريقة
مرة وهي تواجهين كل يوم ولكنّين مل أخرتألول ّ
رائعة ،أحسست وكأنّين أراها ّ
هتمين ،أذواقنا خمتلفة ،أنت
ّأاي منها ألقرأه يوما .كتبك اي عزيزي ال تغريين وال ّ
61
احب األدب والشعر .لذا
حتب السياسة وعلم االجتما والعلوم السياسية وأان ّ
ّ
أبين رأيت بعض العناوين لكتب فلسفية ورّمبا
أظن ّ
لك مكتبتك وي مكتبيتّ ،
ديواان لنزار قباين مما أربك توقعايت .حممود يقرأ عن الفلسفة وعن الشعر؟ رمبا
ط اجلديّة اليت تنسج هذه االختيارات .حاولت أن كسرت هذه العناوين خ ّ
أفتحها مجيعها وأتص ّفحها لعلّين أجد شيئا ،خيطا ما ،لوان معيّنا ،تفصيال
جيعلين أكتشفك أكثر .معظم الكتب كانت فارغة ،البعض كان حيتوي على
أوراق نقدية لعمالت أجنيبية ،ال ب ّد أنك حتتفظ اها ما دمت كثري األسفار،
وفرغت من املكتبة .ال شيء ميكن أن يدلّين من تكون اي حممود ،مل أكن اظن
أبنّك كثري التعقيد هكذا ،مرّكب البسيطة وغامض أكثر مما اعتقدت .ذهبت
املفضل دائما ،صحيح مل تكن تبقى به كثريا ولكنّك
إىل املكتب ،مكانك ّ
كنت حتبّه ،تضع فيه دفاترك القدمية ،أوراقك ،شهاداتك اليت تعلقها ،حتفك
املفضلة اليت تبتاعها من بلدان متنوعة وصوريت عند ّأول لقاء مجعنا.كنت قد
اختطفت ي صورة وأان مل أحلظ ،وضعتها هنا على مكتبك ،ال بد أنّك كنت
تتأملين وأنت جتلس هنا ،تتساءل حتما أي قدر وضعك يف متاهيت فأضحيت
ّ
اتئها مثلي .املكتب على حاله ،يف نظامه وهدوئه .وجدت أوراقا من
خمصصة لذلك منظمة ابلشهر والسنة،
األرشيف ،كنت تضعها يف صناديق ّ
أين فهمت تفاصيلها كثريا ،عقود بيع ،شراء عندما فتحتها وقرأهتا ال أذكر ّ
مسجلة
وتراخيص وتفاصيل هتمك وهتم عملك.كنت أتوقّع أن أجد خمالفة ّ
ابمسك ،شكوى ،قضية ابحملكمة إالّ أ ّن كل شيء كان على ما يرام.
62
يف أدراج املكتب كنت تضع سجائرك املفضلة ،ألبومات صور لوالديك
وإخوتك ،فواتري املاء والكهرابء واهلاتف.كم كنت منظّما ،كل شيء يف
مكانه .يف الدرج األوسط كنت تضع دفرت الشيكات وأوراقك البنكية وبعض
األوراق اخلاصة كشهادة امليالد ووصول مشرتايت كثرية كلها مسجلة
ابلتفصيل :مع ّدات للمكتب ،سرير الطفل ،سيارة جديدة ،عقار ابلعاصمة،
كل
أرض فالحية ،مواد بناء ،أاث ،هاتف خلوي جديد وعقد من املاسّ .
املشرتايت بدت يف غاية العادية ولكن ملن يكون عقد األملاس هذا؟ هل هو
يرتجى حبا ليس له أمل ،أظن أبنّه
لعشيقة حممود؟ أظن ذلك فلن يبقى حممود ّ
معها اآلن ،كان سيهديها العقد ورّمبا يعيش معها اآلن ونسيين وانتهى األمر.
أتسس فيها حياتك مع امرأة
أان خلقت للنسيان وأنت ترحل إىل دنيا جديدة ّ
أخرى ،مع لون ما ،مع بداية جديدة أغيب فيها أان .ال بد أنّك سعيد معها
مين ،أان اليت جئتك خبسارايت،
وال بد أنّك حتبّها ،رّمبا علّمتك احلب أحسن ّ
أباني املعطوبة ،محّلتك أكثر مما جيب وخسرتك إىل األبد .امض إليها فقد
مين .نعم أفضل مين .رمبا احلب على قواعده ،رمبا تستحقك أفضل ّتعلّمك ّ
رأت فيك ما مل أره ،أان اليت أجنبت لك طفلة مجيلة لن تراها أبدا ،ألنّين
دفعتك خارجا وأودعتك قفص النسيان .امض إليها وال تعد.
يف آخر الدرج أيضا كان هناك صندوق خشيب ،كان مغلقا حبكمة ووجدت
أبنّه مقفل مبفتاح صغري جدا .ولكن أين ميكن أين يكون املفتاح؟ أحسست
ابلرغم أنّين خنته عديد
ابليأس فجأة .فكرة أن يكون حملمود عشيقة أربكتين ّ
املرات ولكنّين أحسست أبنّين خسرته واىل األبد .حممود لن يعود ،هذا تفصيل
ّ
63
من التفاصيل اليت كنت أود أن أعرفها عنك أكثر ،لقد خنتين وخنتك وانتهى
وابلرغم من شغفي ابلغريب إالّ
األمر .ولكن أنت خنتين ورحلت معها ّأما أان ّ
حىت .أعرف أبنّين جمنونة وكفى ولكنّين أحتاجك الآلن.
أنّين مل أف ّكر اهجرانك ّ
حاولت أن أحبث عن املفتاح ،أين تراه يكون؟ أين خبأّه حممود؟ يف األدراج ال
أظن ،حممود خيتار األماكن بدقّة وحىت األركان الصغرية يتقن استغالهلا وهلا
قيمة لديه .حبثت بني األوراق والدفاتر ،بني التحف واهلدااي ولكين مل أجد
شيئا .املفتاح صغري جدا وال بد أنّه قد وضعه يف مكان سري جدا أو محله
معه على األرجح ليبقى الصندوق مغلقا ،منطواي على أسرار أخرى .ال ب ّد أ ّن
الصندوق حيمل سرا آخر .حمملة األقالم أيضا كانت فارغة وحتت املكتب
وفوق املكتب واملكتبة ،ال شيء ،مل يبق سوى األلبوم ،حبثت فيه ،كلّها صور،
ال مكان لشيء آخر غري الصور .بقيت على حرييت ،واجهتين صوريت فوق
املكتب ،ما أحالها وما أحالين وقتها ،كانت مأخوذة بكل تلقائية ،مازلت
أذكر ذلك اليوم ،ابتسامة مرسومة على وجهي وتلقائية ال مثيل هلا .أعجبتين
وتغريت .حممود عرف هذه الفتاة وأحبها أروى اليت كنت إ ّايها ،كنت هكذا ّ
وليست أان ،لقد أصبحت شخصا آخر .بقيت أقلّبها وأتفحص كائنا كان
أان ،أقلّبها بني زوااي اإلطار ذات اليمني وذات اليسار ،أقلّبها وأقلّب ما حتتوي
من أروى األمس .هذه أان ،كنت كذلك ،يوما ما ،ما أحالين .فعال ،كنت
وتصورت أبنّك ستعيش معها سعادة ال مثيل صائبا عندما عشقت تلك الفتاة ّ
هلا .نعم هذه أروى اليت أحبّها حممود ،رّمبا تغريت فعال ومل أعد أاني السالفة.
64
فعال حنن نتغري وال ننتبه لذلك .رمبا تغريان حنن االثنني فلم نعد منشي على
طريق واحدة ،لذا ال ألومك اي حممود فأنت أحببت من كنت أان.
نعم مل تكن تراين كما أان اآلن .مل تكن حتس ابلفوضى املؤسسة ألطرايف
وابجلنون اهلاذي هنا وهناك .مل تكن ترى سوى قشوري ال أكثر ،يبدو أنّين
سين .مل
لبست األقنعة أيضا كي أحصل على زوج كالفتيات مجيعا يف مثل ّ
أكشف لك يوما أن خرااب يتوسط داخلي ويتواتر دون رجعة ،يربكين شيئا
ط ،أان املرأة املتكئة على أرجوحة قلقي أخفي واقعا مل
فشيئا فال أعرف توازان ق ّ
تره أنت وكنت برباءة األطفال أحدثك عن احلب واالحساس واالنفعال
يف احلب .أان لبست واهلمس ومل أخربك أبنّين موجوعة برحيل آخرين قتلوا ّ
األقنعة كذلك أقنعتك أبنّين متوازنة ،أبنّين أنبض حبّا وحياة .عفوا حممود
لست من يلبس األقنعة فقط أان أيضا لبستها.
وأتملت صوريت أحسست بشيء .فتحته .أخرجت حركت االطار ّ كلّما ّ
الورق اخللفي لالطار وأزلته وكان شيئا ما هنا .وكان املفتاح هناك ،صغريا
سرا ،حتمل مفتاحا موضوعا بكل دقة يف ركن ما .صوريت كصاحبتها حتمل ّ
حنو احلقيقة .سارعت بفتح الصندوق ،كانت دهشيت حينما وجدت عقد
املاس هناك واستغربت مل ترتكه هنا .حذوه وجدت شرحية هاتف ال ب ّد ّأّنا
قدمية وأ ّن حممود ال يستعملها كثريا .بدا األمر يف غاية الغرابة ،فأان أعرف أرقام
أجراها،
حممود الثالثة فما عساه يفعل اهذه الشرحية؟ ساقين فضوي ألن ّ
وضعتها ابجلوال وفتحتها .البياانت كلها عادية ولكن عندما دخلت إىل
بياانت الرسائل وجدت العديد منها ،سواء املرسلة أواملقبولة ،بدأت أقرأ
65
بعضها "شكرا لرقّتك ،إىل اللقاء"" ،أين أنت ،أان انتظرك عند ابب املسرح"،
"شكرا لالهداء ،إنّه يف غاية الرقة" .وجزعت .أ ّّنا رسائلي اليت كنت أرسلها
إىل ذلك الغريب! "أين أنت اشتقتك ،أمتّن أن يعجبك االهداء وتعجبك
الرواية" .وغدا تواتر الوقع الغرييب أكثر ،يبدو أ ّن الغريب كان أكثر من مألوف
لدي ،أكثر من العادي واليومي والسائد ،أكثر مما أعتقد .يبدو أنّين مل أرّ
أكثر مما يتوجب أن أفعل ،كما قال حممود يوما "أنت مل تفهمي ،مل تفهمي كم
أحبّك" .غدا حممود فتات ذكرى تستجمع حضورها معي اآلن وأان اليت ال
أقوى على مصارحة نفسي ابحلقيقة .أنتفض مذعورة أحبث عن تفصيل يقول
أبنّين لست مع الغريب مباشرة .أان اليت كنت أحبث عنه دائما يف التفاصيل
اليومية يف حب ابهت ورسالة هاتفية ،أرتوي من حضوره االفرتاضي والغائب
يتأمل تفاصيلي عندما أرنو ألن ألقي جزأه اآلخر
مرة ،أراه يعيش معي هناّ ، ّ
يف لقاء عشوائي ما .أان اليت مل أرك مطلقا ،أعتذر اي حممود ،مل أرك اي حممود
بكل جوارحي .فشلت أبن أعشقك يوما وعشقت نصفك املتخفي وراء رداء
الغريب.
24
أروى حبيبييت ،أنت دوما بقليب ومل تربحيه قط .حبيبيت أروى لو تعلمني كم
أحبّك ،لو تعلمني كم أمتّن أن أحضنك اآلن وأقبّلك وأرويك من حناين الذي
مل أحسن يوما كيف أوصله إليك.كنت أحملك من بعيد أنت تفيضني أنوثة
وكنت أكابر وأعاملك بربود يف أغلب األحيان .ال أقوى على البوح لك بكل
تغري وما حصل
ما أمحله لك من مشاعر ،من أجلك فقط اي أروى أريد أن أ ّ
66
علي.
تغريت .منذ أن عرفتك وأان أحصي درجات التغيري اليت طرأت ّ هو أنّين ّ
العملي ،املنظم ،السبّاق إىل إبرام الصفقات ومجع
ّ أان حممود العابد ،الرجل
األموال واالجتماعات والسفر والشراكات ،صاحب الفيلال الفاخرة والسيارة
الفخمة ،رجل يتوسط جناحا ماداي وآخر اجتماعيا ولكنّين كنت فارغا من
الداخل ،كنت أجوف ،كنت نصف رجل واكتملت حني التقيتك.
عذرا اي أروى لقد أحببتك ولبست أقنعنة كثرية كنت من خالهلا أحاول أن
هزتين من الداخل ،كنت فقط
أعثر على املرأة اليت التقيتها ّأول مرة ،امرأة ّ
أي امرأة تكونني وما عساي أفعل كي أسعدك. أحاول أن أفهم ّ
كلّنا خسارات اي أروى ،كلّنا نتوءات مبثوثة على صفحاتنا ،كلّنا عيوب وكلّنا
ازدواجيات متواترة تواري جانبا وتفضح آخر ،وأنت كنت حبيبيت وستظلني
وأان اعرف أبنّين كنت قاسيا عليك يف بعض األحيان.
أان الرجل املنكسر من احلياة ف ّكرت أبنّين سأجد راحيت لديك ،كل األحالم
اليت حلمت اها ،شكل املرأة ووجداّنا ،عمق إحساسها ،أنوثتها .ال أدري مل
رأيت فيك املرأة اليت أحبث عنها طيلة حيايت ،أنت حبيبيت وأان أنتمي إليك.
أبين بعيد اي أروى ،أان مل أبتعد عنك يوما ،كنت دائما قريبا منك،
ال تظين ّ
أحرسك بعيين ،أتتبّع خطواتك ،أحلظ ابتسامتك وغضبك ،أحاول فقط أن
أراقبك من بعيد وكفى .ال ب ّد أنّك تسألني وتسائلني نفسك أين ذاك الغريب
وكيف اختفى وأين .أان كنته اي حبيبيت ،أان الذي مل أحسن كيف أحبّك
بشكلي وشخصييت فف ّكرت أبن أقتبس شخصية ما ،أش ّكلها على حنو ما،
أرّكبها على مقاسك حىت حتبّيها وتتعلقي اها .أان حممود العابد ،لست املناسب
67
ولن أكون كي حتبيين لكن أن اكون الغريب املتدي من خلف ستار الغموض
خريت أن
مشوق قد أكون عندها حلمك املنتظر .نعمّ ،
والغرابة يف شكل ّ
ألبس شكال من أشكال التخفي خلف الرسائل اهلاتفية أو من خالل إهداء
متسلّل لصفحات رواية أو يف موعد على ضفاف اهلروب كما حصل عند
ابب املسرح .كنت لطاملا أضعف كي أكشف لك عمن أكون ولكنّين أتراجع
كي تواصلي احللم.
لطاملا كنت أرى استعدادك للقاء الغريب هذا ،ولطاملا كنت أغار منه .ختتارين
له أمجل الفساتني واملاكياج والعطور ،تتأنقني ملالقاته ،توارين االبتسامة بني
وتتعرفني عليه أكثر .كنت
شفتيك وحتاوليني إخفاء فرحتك النّك سرتينه ّ
تقولني ي ابنّك ستبقني ابلبيت أو سرتين صديقتك جنوى والواقع انّك
ستقابلينه.كم أنت حمظوظ أيّها الغريب ،تسرق زوجيت مين لتحتفي ابحلب
وكأ ّّنا مراهقة أتثّث ملواعيد غرامية شيّقة .يف زاوية ما رأيتك هناك ،عند ّأول
لقاء مرتّب بيننا ،أو بينك وبني الغريب ،فستان ضيّق ومثري ،شعرك املتمرد
كان يتدىل على كتفيك وماكياجك كان مثريا كذلك.كم كنت أمتّن أن تتزيّين
ي كذلك وأن تربزي ي مفاتنك أكثر وابلطبع مل أجرؤ على أن آيت أو أغازلك
مباشرة ،فقط أرسلت لك ابقة الورد وعدت أدراجي .كنت أحلظ قلقك
وانتظارك ،انتظرتين لثال ساعات.كم أنت حمظوظ ايّها الغريب ،تنتظرك
متل .تسرعني بعدها إىل املنزل ،حتملني ابقة الورد
أروى لثال ساعات وال ّ
أبرر غيايب بعد
أظل أان على صميت ،أحاول أن ّ وجترين معك خيبة أمل .و ّّ
يومني أوثالثة برسالة لطيفة .أعود إىل املنزل مساء ألجدك تقومني بدورك على
68
حتضرين ي العشاء ،جتلسني إىل جانيب تسلّمني
ما يرام ،يف هيئتك العادية ّ
علي بقبلتني ابردتني ،حتاولني إخفاء عبوسك وأان أعرف أبنّك مستاءة من
ّ
تشرد على ثال ساعات انتظار.
خيبة امل ومن لقاء ّ
أجترأ على سؤالك أين امضيت يومك ،أكتفي ابلكلمات البسيطة "لباس،
ال ّ
حىت على
أجترأ على ملسك أو ّلباس" وكفى .عندما آوي إىل فراشي ال ّ
أحس ابخلوف من أن تنفري مين ،أن حتسي أبنّين سألزمك
تقبيلك ،كنت ّ
أظل أان على
على أن تعاشريين ،أن تستائي وترحلي كما فعلت قبال وختتفي و ّ
قلق أحبث عنك.كنت فعال أخاف أن ترحلي وترتكيين ،كنت أكتفي أبن
أربّت على كتفك او أطبع قبلة على جبينك وكنت تتجاهلينيين اببتسامة
تتمنني حلظتها أن أييت الغريب ليحضنك ويقبّلك بشغف.
ابردة .لرمبا كنت ّ
ليتك كنت تعرفني كم أحببتك بعنف عندما كنت الغريب؟
مازلت أذكر حني كنت تتتسلّلني إىل الصالون ،حتملني معك هاتفك لتكتيب
ط يف نوم عميق واحلال
إليه ،ترتكينين مرميّا على السرير ،تظنني أبنّين انئم ،أغ ّ
أنّين كنت أكتب إليك وأان معك بنفس البيت .أالطفك بعذب الكالم وكنت
تستسلمني ي ،امرأة ش ّفافة بكل تضاريسها وانفعاالهتا وتلقائيتها وجنوّنا،
امرأة كانت كليّا ي وكفى .نعم ،كنت تستسلمني ي بكل تلقائيتك
تتعرين على الضفة األخرى كامرأة فاتنة
إي أمجل الكالمّ ، وعفويتك ،ختطّني ّ
حىت ،امرأة حاولت أان منذ سنني أن اف ّكك شفراهتا ومل أستطع
ومثرية وعاشقة ّ
أين ف ّككتها بلباس الغريب ،الوجه اآلخر حملمود العابد.
وها ّ
69
كنت أسعد اهذا االجناز ،ألنّين أصبحت جزءا من حياتك االخرى ،أان أيضا
أصبحت ذاات أخرى ،تتسلّل من املكتب وتلغي كل التزاماهتا ملالقاتك عند
ابب املسرح .كنت أراقب وصولك ووجودك ابملقاعد الوسطية ،كنت أعرف
أبنّك شغوفة بعامل الفن الرابع ،كنت أحاول فقط أن أقرتب منك أكثر ،أن
أحسسك أبنّين أحب املسرح مثلك .أتذ ّكر أبنّك هرعت للبحث عين ،هتبني
ّ
تتشوقني للقائه .وكنت أان
حبا ،تسرعني اخلطى ،تلهثني لرؤية الغريب هذاّ ،
أهرب منك حىت ال تعريف من أكون ،كنت أمتّن أن أصارحك ولكنّين كالعادة
أترك لك الباقة وأرحل ،أتركك على وقع انتظار جديد.
الرتدد والغياب أنزوي بني طّياتك ،ابحثا عنك ،أحن إليك وأان اآلن بني ّ
ابألبوة .نعم ،كنت
وأنت معي ،كنت سعيدا أكثر ألنّك ستهدينين إحساسا ّ
أرى أبنّك ستكونني ّأما مثاليّةّ ،أما عاشقةّ ،أما جمنونة رّمبا.
وأهديتين شهد ،ها أان أراكما ،حترسكما عيناي ،تشتاقكما روحي اليت تظلّل
ي وال تعرفين وكنت أنت
على كونيكما .أراها شهد تصرخ معلنة خوفها ،حتن إ ّ
حبيبيت تنتظرينين على أمل ،خيّبت أملك ،أعرف أبنّك تتمنّني أن نعود كما
كنّا قبال نعم ،أن نعود منصهرين كما كنّا يف زمن ما .مازلت أذكر ليلتنا
ي بعنف وقلت لك أبنّين أحبّك وأنّك مل تفهمي .مل أقو
األخرية ،ضممتك إ ّ
على إخفاء مشاعري أكثر ،أان اعشقك ،صارحتك ورحلت ،رحلت
وأوجعتك وأنت اآلن تزيلني القنا بعد اآلخر ،تفك ّكني شفرايت ،رّمبا ليست
أقنعة كثرية ولكنّين أحببتك كثريا وكنت صادقا وكفى.
70
أان االّن يف الربزخ ،أأترجح بني املوت واحلياة أظلّل عليك بروحي ،إ ّين أراك
هائمة ،أرى تفاصيلك اليومية ،أشتاقك وكفى .أان حممود العابد أرحل بكل
أقنعيت وحسنايت ومساوئي ،أرحل دون عودة ،أرحل ويف قليب امرأة ومالك
ونصفي اآلخر غريب .أحبّك جبنون ومن جديد .أان راحل اآلن دون أن
تعريف من أكون ،رجل خبطاايي ،أرى تفاصيل حيايت أمامي من حلظة الوالدة
ترتدد يف جويف وكنت أنت أمجلها اي حبيبيت.
إىل اآلن ّ
25
وأنت أيّها القارىء هل ف ّككت شفرة احلكاية؟ هل فهمت معانيها
ومقاصدها؟ هل غصت يف دهاليز الرموز لتفهم ما حيصل للشخوص وأنواهتا
والنفوس واهتزازاهتا؟ هل فهمت من يكون الغريب؟ أم انّك أضحيت غريبا
بني سطور هذه الرواية؟
ستزيد الغرابة أكثر عندما تكتشف أنّين أان من حبكت الرواية وربطت
أحداثها ،ف ّككت أسرارها وحت ّكمت بشخوصها ،وها أان أقف على قلقي
ألواصل سرد األحدا كما جيب أن تكون ،رّمبا كما كنت أريدها أو على
األقل كما أمتناها.
حممود غاب يف ضيا آخر وهو الذي اختفى ملدة أشهر اختار أن يبتعد عن
أروى .أذكر أ ّن صديقيت العزيزة قد صارحتين حبريهتا إزاء ما حيصل فلم تكن
تتصور أبنّه خذهلا هو اآلخر .أروى املهزوزة ابخلذالن والضيا والرحيل املبكر
تتجر املرارة تلو األخرى .ومل أكن أقوى على فعل شيء، لألشياء ما زالت ّ
حاولت أن أساعدها ،حبثت عنه وحاولت االتصال به ولكن دون
71
جدوى.كانت املفاجأة عندما نشر امسه ضمن رجال األعمال املتّهمني يف
قضااي الرشوة والفساد وحينها استخلصنا أان وأروى أبنّه ال ب ّد خارج البالد.
عندما غاصت أروى يف حزّنا كنت إىل جانبها ،أحسست أب ّّنا تتهافت على
أي عوامل كان
سراب قد ضا منها و ّأّنا كانت تعيش مع طيف من صنعهاّ .
خيفيها حممود ومل تعرفها .وهي اآلن حتن إليه وهي تعرف أنّه لن يعود،
تنسحب حنو عاملها ،تالعب صغريهتا وتصمت .كنت أنزف حزان عليها،
متنيت أن أراها سعيدة ولو للحظة ،مسكينة أنت اي أروى ،مىت ينتهي
عذابك؟ منذ أن عرفتك وأنت على شكلك تلبسني القلق واحلرية والسؤال .ال
جمال ألن تسعدي أو خترجي من فوضاك .ليتين أستطيع أن أساعدك.
ي ،كنت ترجوين مازلت أذكر حني اتصلت يب من رقم أجنيب وحتدثت إ ّ
ألساعدك ولكي ترى أروى من جديد .قلت ي أبنّك بفرنسا وأنّك ال جترؤ
على أن تتّصل اها خشية أن تص ّدك .قلت ي أبنّك حتبّها وأنّك ال تقوى على
العيش من دوّنا وتود مين أن أحت ّد إليها حىت تصفح عنك وتلحق بك إىل
أمس احلاجة إليها ،طلبت
هناك .استمعت إىل كل ما تقول ،كنت يف ّ
حتضر نفسها وأنّك ستشرتي هلا التذاكر.
مساعديت وأردتين أن أقنعها أبن ّ
طلبت مين أن أح ّدد التاريخ وأنّك ستتّصل يب مرة اخرى لتحديد اتريخ احلجز
والسفر.
أان وعلى عكس ما كنت دائما ،كذبت .أردت أن أترك شيئا لنفسي ،أن
اف ّكر أباننيّة ،أن أدفعك خارجا وأصمت يف ختاذل .مل تفوز أنت يف النهاية
كل األمل الذي سبّبته ألروى وأان من كنت معها دائما ،يف حلظات حياهتا،
بعد ّ
72
يف انكاساراهتا وجنوّنا ،دموعها وفرحها ترتكين؟ آسفة اي حممود ،ال يسعين أن
أعطيك تذكرة للعبور إىل قلبها من جديد .آسفة اي أروى ،كذبت عليك
خريت أن أراك تتعذبني ولكنّين
وأخربتك أبنّين مل أتّصل بزوجك .صحيح ّ
سعيدة ألنّك ستبقني معي.كنت أعرف أنّين إذا أخربتك عنه أبنّك سرتحلني
خاصة بعد أن عرفت أبنّه الغريب الرومانسي الذي كان
حنوه بكل شوق ّ
يطاردك .ال أظن أبنّك ستخسرين فرصة التأسيس حلب جديد .ولكنّين كنت
أعرف أبنّه هو الغريب ومنذ حادثة املسرح .كنت قد رأيته صدفة عندما
أتخرت نوعا ما ،مل أفهم ملاذا بقيت كل ذلك
حلقت بك يومها ،كنت قد ّ
الوقت .قبل أن أجدك رأيته يدنو من ركن ما ،يسرتق النظر إليك مث يهرول
حنو سيارته وخيتفي ،نعم كان هو .عرفت احلقيقة ومل أتكلّم .عذرا اي أروى ،مل
مين ،ال أريده أن حيتلاكن أريدك أن تعلمي أبنّه هو .خفت أن يفت ّكك ّ
املكان األكرب بقلبك ،أن حيتلّه الطيف رّمبا ،اهلائم الغائب بني الطرقات
والفكر والصدف .هكذا رّمبا أقبل بوجوده ولكن أن يتحول إىل شخص
وحضور فهذا إشكال حقيقي.
واآلن ال أحس بندم حقيقي ،كل ما يهمين هو أنّك ومعي ومعي وحدي.
ي وأنظر إليك ،ال حاجز بيننا
أقامسك أشيائي وتقامسينين أشياءك ،تنظرين إ ّ
بعد اآلن .رّمبا وبعد هذه السنني الطوال أخشى أن أصارحك مبشاعري
ولكنها احلقيقة اليت تفنّنت يف إخفائها واآلن أتفنّن يف إخراجها .ال مكان ألن
أخفيها أكثر.
73
أنت امرأة من ذهب وال أحد يعرف قيمتك غريي .أان أحبّك .لعل كل
اخلسارات اليت حصلت لك ألكون أان الراحبة فقط يف النهاية .لعلّك مل
تفهمي مل أان دائمة احلضور معك ،حاضرة يف غيابك وحضورك ،أوليك كل
اهتمامي وفكري وأكثر .إنّه احلب احلقيقي الذي تبحثني عنه اي أروى .إنّه
تردد ،دون أن أجرحك وكفى .أعطيتك دون أن أان ،أان اليت أحببتك دون ّ
أبين سآخذ جزءا من حقوقي عليك وهو أن تبقي إىل أظن ّ
آخذ شيئا .واآلن ّ
جانيب و ّأال ترحلي فأان لن أرحل عنك ابدا.
أعرف أبنّك ال تستلهمني ما أقول ،رمبا أقوله من دون وعي ورمبا من
جوارحي املسكونة بك .نعم ،أان هنا أعرتف أبنّين أحبّك وأنّين أريد أن أظل
معك دائما ،لن أرحل عنك أبدا .سأظلّل كونك ابالزهار واأللوان والعطاء
واحلب الالمتناهي .فقط كوين ي.
اآلن وأنت تتم ّددين على هذا السرير ،تفتحني عينيك وتتأملّني الفراغ الذي
أمشطه وأغدق عليك حناين وأعرتف لك يهز غرفة املستشفى أالعب شعرك و ّ
حبيب ولكن كيف ستفهمني؟ ال أظن أبنّك ستسمعني وتعني ما أقول .بعد أن
ّ
اكتشفت احلقيقة عن الغريب وحممود وبعد أن مسعت خبرب وفاته إثر جلطة
دماغية حادة صدمت اي أروى وأحسست أبنّك قد خسرت كل شيء وأنّك
مل تق ّدري الرجل الذي كان أمامك .مل تريه أو رمبا رأيته بعينيك فقط وليس
بروحك.
ولكن أين لك أن تعريف إذا كان اآلخر ال ينعكس بصورته احلقيقية لغاية يف
ترتدد يف جوفه ويرتسم عاراي بعيدا عن كل
التحفظ؟ ّأال يفضح أنواته اليت ّ
74
حبيب لك ومل
زيف؟ ولكن كيف ي أن ألوم حممود إذا كنت أان نفسي أحتفظ ّ
أقو يوما على أن أصارحك .خفت أن أخسرك اي حبيبيت .مل تكن أنت
الغريب الوحيد اي حممود ،ف ّكلنا غرابء وكفى!
(متت)
75
76
كيف جاءت هذه الرواية؟
كلحظة عفوية يف حيايت ،ولدت هذه الرواية .مل أفكر يوما بكتابة أو نشر
رواية ،ولكنها أتت على كل حال .وكما قال صديقي الشاعر العراقي
حكمت احلاج حني اطالعه عليها خمطوطا ،أ ّّنا جاءت مثل ملعة برق من ركام
التجربة احلياتية .نعم ،وهي كذلك .جاءت نتيجة لتهافت وامتزاج ّلني بني
انفعااليت الشخصية واختيارايت .إذ أتثرت مبسلسل أمريكي أدخلين عاملا من
الغرائبية والتشويق ،وهذا ما حاولت صنعه يف رواييت هذه .كنت كلما أّني
مقطعا أحس ابالرتياح أكثر ،أغوص يف عامل شخوصي ،أختيل حركاهتا،
انفعاالهتا وعواملها.كم هو مجيل أن تكتب رواية وكم هو مجيل أن تصوغ من
آالمك عاملا يسكنه اآلخرون داخل طقوس مجيلة من اإلبدا .هذا ما متخض
عنه عاملي.
هذا العمل هو عبارة عن جتربيت األوىل يف عامل الرواية وهو أيضا جتربيت األوىل
يف عامل النشر.
تدور أحدا الرواية حول امرأة تعيش اغرتااب انجتا عن سلسلة أحدا مرت
اها يف ماضيها واليت تعيش بعضها راهناً بسبب زوجها الذي ال يستطيع أن
يفهمها .تتمزق أروى بني عامل أحالمها وبني العامل الراكد لزوجها حممود الذي
ال حيس اها .تتطور األحدا وتزداد تعقيدا حني تتهور البطلة وختون زوجها
وحتمل بطفل جتهل والده.كما أّنا تظل تطارد طيفا تظن أبنه والد طفلها.
تنتهي الرواية بوجود شخصيات أخرى تعيش اغرتااب كذلك ،وتساهم من غري
أن تعي موقفها ،يف دفع األحدا حنو اهلاوية.
77
78
79
80