You are on page 1of 80

‫الغـريـب‬

‫اندية الشتيوي‬

‫روايـ ـ ـة‬

‫مومنت™ للكتب والنشر‬


‫سلسلة كتب إبشراف حكمت احلاج‬

‫تصدر عن دار مومنت للكتب والنشر‬

All rights reserved

Moment, Books & Publications™

United Kingdom - Tunisia

Copyright © 2018

‫اندية الشتيوي‬

‫الغريب‬

‫رواية‬

tuniment@gmail.com

www.facebook.com/momentunis

www.p4bsite.wordpress.com

The views and opinions expressed by the author do not represent the views,
beliefs or opinions of Moment B&P Enterprises and its employees.

Cover Design: Hikmat Alhadjj

‫طبعة تونس‬

2
To Mum,

For those who can’t speak, for those who


keep silent, for those who can’t cross the
border.

3
4
“By writing I put order to the world, give it a
handle so I can grasp it.
I write to record what others erase when I
speak, to rewrite the stories, to rewrite the
stories others have miswritten about me, about
yo,to discover myself, to preserve myself, to
achieve my self-autonomy”.

Gloria Anzaldúa

5
6
‫‪1‬‬

‫فتحت عينيها‪ ،‬وهي تواري ضوءا خفيا تسلّل من جزء من الستارة هاتفا‬
‫تتفرس يف املكان وكأنّه غريب عنها‪ ،‬أريكتان ومرآة‬ ‫بقدوم يوم جديد‪ .‬بقيت ّ‬
‫وسرير تستلقي عليه وهدوء يعم املكان‪ .‬اآلن بدأت تفهم أين هي اآلن ّإّنا‬
‫تتذ ّكر أّنا يف النزل وأّنا ليست مبنزهلا‪ .‬على ما تذكر أ ّّنا كانت ابحلانة وبعدها‬
‫ال تذكر ما حصل‪ .‬كيف وصلت إىل غرفتها‪ ،‬إ ّّنا ال تدري‪ .‬تتعثّر ابلزربية‬
‫تتفرس يف شكلها‪ ،‬شعرها منفوش‬
‫هتب حنو املرآة ّ‬ ‫الصغرية احملاذية للسرير‪ّ ،‬‬
‫وهي مبعثرة كليا‪ ،‬مالبسها الّيت ارتدهتا البارحة موضوعة على حافة السرير وكل‬
‫ما تلبسه ليس إالّ مالبس داخلية شفافة مبعثرة هي األخرى‪ .‬ال تدري مىت‬
‫وصلت إىل غرفتها أو كيف نزعت مالبسها وانمت‪.‬‬
‫كل ما تتذ ّكره اآلن ّأّنا شربت بعض املشروابت الكحولية وفقدت وعيها أل ّّنا‬
‫ال تذكر ما حد بعدها‪،‬كيف وصلت إىل هنا‪ ،‬إ ّّنا ال تدري‪.‬‬
‫اجلوال تفتحه‪ .‬ال ب ّد أ ّن مكاملات عديدة قد وصلتها وهي‬
‫أسرعت هلاتفها ّ‬
‫الّيت ال تعلم ما حصل‪ .‬فعال اتصاالت عديدة‪ :‬والدهتا‪ ،‬زوجها‪ ،‬وصديقتها‬
‫جنوى الّيت تسأل عنها دائما‪.‬كانت أروى قد تعمدت إغالق هاتفها منذ ليلة‬
‫البارحة واختفت وال أحد يعرف مكاّنا‪.‬كل ما تعرفه هو أّنا أخذت سيارهتا‬
‫وغادرت بعد شجار عنيف مع حممود زوجها واختارت أن تقضي الليلة بعيدا‬
‫عن كل شيء‪ ،‬يرتشفها الوجع دون استئذان وهي الّيت تفتّش يف اجلوانب‬
‫القصيّة عمن يلملم جراحها فال جتد‪ .‬يبقى أن تلعن الوجود والناّس واملقربني‬
‫لتستأثر أبلواّنا وتغرد نغما شجيّا يسكنها لألبد‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ذهبت اىل غرفة االستحمام‪ .‬حاولت أن تغسل وجهها وتتخلص من بقااي‬
‫ماكياج ليلة البارحة‪ ،‬الكحل املتسرب هنا يقبع بني جفنيها‪ ،‬يظلّل بقااي عتمة‬
‫تصرخ من جوفها وأمحر شفاه ابهت يتلوى على شفاهها فاضحا اهتزازها‪.‬‬
‫ولكنها فجأة وجدت بقااي أمحر شفاه على رقبتها‪ .‬رسوم شفاه تتلوى على‬
‫البياض اهلادئ بني صدغيها وأسفل رقبتها‪ .‬وانتفضت‪" :‬من قبّلين؟ أتراين‬
‫أي ذاكرة عرجاء تستنشق الفراغ‬
‫كنت مع شخص ما البارحة؟" إ ّّنا ال تذكر‪ّ .‬‬
‫تلم‬
‫فرتميها يف البياض وهي حتاول أن تفهم ما حد البارحة ال تستطيع أن ّ‬
‫مبا حد ؟ "أإذا كنت برفقة أحدهم فهذا يعين أنّه الشخص الذي نز ي‬
‫أين قد منت معه؟" ارجتّت وبدأت األسئلة حتاصرها‪ ،‬تر ّج‬
‫مالبسي؟ هل يعقل ّ‬
‫بداخلها أسئلة دون جواب‪ ،‬واحلرية بدأت أتكلها‪.‬‬
‫يستفزين سوى الفراغ‪ .‬أهيم بني‬
‫ّ‬ ‫أان أروى‪ .‬أرتوي من عطش أسئليت فال‬
‫شىت فال أدرك من أان‪ .‬أان الّيت جئت ألزر شجين بني ثنااي‬ ‫احتماالت ّ‬
‫حيطان نزل ما‪ ،‬ألتقي أحدهم وأانم معه وأنسى من أكون وماذا فعلت‪ .‬دائرة‬
‫أردد آهايت‬
‫الشك تطفو على سطح تفكريي‪ .‬يبقى أن أعلم مىت ّ‬ ‫من احلرية و ّ‬
‫جمرد نكرة تعاند مشوخ الوحدة والضيا‬
‫أأتمل من أكون اآلن‪ّ ،‬‬
‫دفعة واحدة كي ّ‬
‫بال أمل‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫يطل السيّد حممود العابد من سياّرته‪ ،‬يرتدي أنفته ويهتف بكربايئه الف ّذ‬ ‫ّ‬
‫ليهب إىل مكتبه‪ .‬ما إن يدخل إىل مقر شركته حىت تفتح‬ ‫يستقل املصعد ّ‬‫ّ‬
‫سكرتريته الباب ليدخل إىل مكتبه‪ .‬السكرترية أبانقتها املعهودة تبتسم ابتسامة‬
‫‪8‬‬
‫أحضر لك القهوة سي حممود؟"‪ .‬ولكنه على غري عادته ينظر‬ ‫ماكرة‪" :‬هل ّ‬
‫إليها ابزدراء ويقول "فيما بعد‪ ..‬ال اتّصاالت وال زايرات ملكتيب يف الساعة‬
‫القادمة"‪ .‬متتطي السكرترية عفوها‪" :‬حاضر"‪.‬‬
‫فزه وتغادر وختتفي كما‬
‫مرت على سي حممود‪ ،‬كيف ألروى أن تست ّ‬ ‫ليلة طويلة ّ‬
‫حيلو هلا؟ كيف هلا أن تعاند بشموخها وتتجاهله ّمرة واحدة وختتفي‪ ،‬ال تعريه‬
‫تردد وكم أراد‬
‫أي اهتمام؟ كيف هلا أن ختتفي؟ طيلة الليلة وهو يف ّكر فيها‪ ،‬كم ّ‬
‫أبمها ليسأل عنها ولكنه مل يرد أن حيرج نفسه‪ .‬طيلة الليل وهو‬
‫أن يتصل ّ‬
‫حياول االتصال اها وهاتفها مغلق‪.‬كيف هلا أ ن تتحداه؟‬
‫أخذ هاتفه واتصل اها‪ .‬اهلاتف يرن‪ .‬استبشر خريا ولكنّها ال جتيب‪ .‬ف ّكر أن‬
‫ورجح أن يتّصل اها يف وقت الحق‪ .‬يف مجيع‬
‫يكتب هلا رسالة‪ ،‬ولكنّه تراجع ّ‬
‫ترد بعد أن صفعها‬
‫ترد أل ّّنا غاضبة منه‪ .‬كيف هلا أن ّ‬
‫األحوال هي لن ّ‬
‫بقسوة؟‬
‫‪3‬‬
‫تربجت وتفننّت واعرتضتين يف اهو الدار أبحضاّنا وقبلها‬
‫ّأمي بكحلها العادي ّ‬
‫ي بعينني دافئتني‬
‫هتتف ي وتفتخر‪.‬كم كان النجاح مجيال وأنت معي‪ .‬نظرت إ ّ‬
‫خترجك اي حبيبيت"‪ .‬وأان من فرط انفعااليت‬
‫وقالت‪" :‬دمت فخرا ي‪ ،‬مبارك ّ‬
‫مهمت على أطراف وجهها أقبلها شغفا وحبا ونقاء‪.‬كان جناحي وكانت ّأمي‬
‫وكان لطعم احلياة خالهلا حالوة سكر وعسل‪.‬كنت وقتها أدرك أن للفرح‬
‫طعما ما‪.‬كان منزلنا املتواضع عبارة عن خليّة حنل يسكنها جرياننا وهم‬
‫يباركونين مبتسمني‪ ،‬ضاحكني وكنت أان يف اجلمع الغفري أستجمع قواي بعد‬
‫‪9‬‬
‫أن خارت من الضغط النفساين الذي كنت أعانيه‪ .‬ليلتها مل أمن ومل‬
‫أستطع‪،‬كنت أنتظر رسالة أس أم أس حىت تصل‪ .‬أختيّلها‪ ،‬أختيّل أرقاما وكتابة‬
‫وهلعا يسكنين ومل أتفطن عندما أخذين النعاس يف ساعات الفجر األوىل‪.‬‬
‫وبعدها ّنضت على صوتك‪ ،‬أنت من يبشرين ابلنتيجة أوال وبثثت الفرحة يف‬
‫داخلي فأينعت ونضج االحساس بيننا‪ .‬مسافة حب ش ّقت مسافة زمن ومل‬
‫ترحل‪ .‬ضياء ابن اخلالة صفيّة‪ ،‬ابن جرياننا وزميلي ابلدراسة والفصل واملقعد‬
‫الساعات الّيت ال‬
‫وحىت يف ّ‬
‫والطريق الذي نعتاده عودة إىل املنزل وابملشرب ّ‬
‫ندرس فيها‪ .‬يهيئ ضياء مسافة ي قربه فننتهي يف حديقة املعهد أين يرسم ي‬
‫قلبا حيتوي امسي وامسه‪ .‬وكما العادة وكما يفاجئين دائما أرسل أس أم أس قبلي‬
‫ليستلم نتيجيت وجنحنا معا‪ .‬وهلّل حبّنا يرتنح على أفئدتنا املوصدة‪.‬كان كل‬
‫احلي أيضا وحىت اخلالة صفيّة وأمي اللّتان كانتا تتهامسان‬
‫شيء جيمعنا وكان ّ‬
‫النقي علنا أمام أعني الناس‪.‬كانت اخلالة‬
‫وتنتظران اليوم الّذي يسري فيه حبّنا ّ‬
‫صفيّة تناديين ابنيت وكلّما زرهتا ابملنزل كانت ختبئ ي الشكالطة واحللوى أل ّّنا‬
‫حىت عندما أتتيها هديّة ال تليق‬
‫تعرف أبين أحبّهما وتقول ي‪ ":‬أنت ابنيت"‪ّ .‬‬
‫يهب ضياء‬
‫بسنّها تعطيها ي‪.‬كانت حتب رفقيت فنجلس لنحتسي الشاي مث ّ‬
‫فامحر خجال وأطأطئ برأسي وتعلّق اخلالة صفية‪" :‬ليس هناك ما‬ ‫فجأة ّ‬
‫ختفينه‪،‬كلّنا نعرف‪ ".‬وتبدأ يف الضحك‪ّ .‬أمي حبدسها وذكائها املعهود‪ ،‬كانت‬
‫تقول ي‪" :‬لن جتدي أفضل من ضياء‪ ،‬ابن حينا وتربية يدينا"‪ .‬عندها تؤكد‬
‫"إن شاء هللا سيكون من نصيبك"‪ .‬وليت كان كالم أمي ودعواهتا مستجابة‪،‬‬
‫وليتين مل أبتعد عنك اي ضياء‪ .‬ليت العامل كان مبنتهى البساطة كما كانت‬
‫أمنياتنا ابملعهد وليت تفكريان كان حمصورا ابلفروض والنتائج الدراسية‬
‫‪10‬‬
‫وحكاايت الزمالء والنكت على األساتذة‪ .‬ليت العامل كان أبسط وليتك اآلن‬
‫معي لكنّنا بتنا فتات أشقياء‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫ّأمي لن تسعفها االبتسامات وال الزغاريد وال احلمد والشكر هلل عندما مسعت‬
‫خبرب محلي‪ .‬كل التعابري لن تستطيع أن تستويف فرحتها‪ ،‬فرحت قبال كما كان‬
‫ينم عن احلمل يف‬
‫يف نتيجة الباكالوراي ولكن ليس اهذا الشكل‪ .‬رمبا فرحها ال ّ‬
‫حد ذاته‪ ،‬بل يف انتظاري خلرب كهذا منذ سنوات‪ ،‬مخس سنوات وأان أنتظر‪،‬‬
‫حىت زوجي الّذي أصبحت عالقيت به‬ ‫وها قد جاء احلمل‪ ،‬مل أكن أتوقعه وال ّ‬
‫فاترة يف اآلونة األخرية‪ .‬فرحت أمي ألّنا تدرك أن األشياء اجلميلة ال أتتيين‬
‫على عجل‪ .‬أمي رونق اخليال يف امتدادي مع الزمن‪ ،‬هي من ترسم عثرايت‬
‫على خطوطه‪ ،‬تتفرس يف وقوعي واحتضاري جلراحه وال متلك شيئا سوى أن‬
‫وتتمّن أن يسعفين القدر يوما‬
‫تدعوي‪ .‬نعم إّنا أمي الّيت تقف على خسارايت ّ‬
‫فأبتسم ابتسامة عريضة من قليب فقط‪.‬كانت تزغرد وكنت أان أبكي من ش ّدة‬
‫الفرح‪ .‬مل أصدق عندما أخربين الطبيب أبنّين حامل منذ شهرين وتساءلت‪:‬‬
‫"هل سيفرح حممود عندما يعلم؟"‪ .‬أمي تفاءلت وقالت أب ّن وجود طفل بيننا‬
‫قد يزيل الثغرات وسوء التفاهم واجلدال املستمر وقد حيصل االستقرار‪" .‬وجود‬
‫طفل بينكما هو ترميم للهوة السحيقة الّيت بينكما"‪ .‬مث أردفت‪" :‬أريده أن‬
‫يكون مثلك وسيما وال شك أ ّن عيناه ستكوانن زرقاوان مثل أبيه‪ ،‬سيكون‬
‫مميّزا"‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫صمت وتساءلت‪" :‬كيف سيكون طفلي؟ هل سيكون أنثى أم ذكرا؟" إن‬
‫تتجر من خيباهتا فتوشك للهالك‬
‫كأمها‪ ،‬أن ّ‬‫كانت أنثى ال أريدها أن تتأ ّمل ّ‬
‫ولكن إن كان صبيّا فال بد أنّه سيكون أسعد‪ ،‬اجملتمع الّذي نعيش فيه‬
‫يشرعه لألنثى‪.‬‬
‫ويشر له ما ال ّ‬‫سيكون أرحم عليه سيعطيه دون مقابل ّ‬
‫ببساطة اجملتمع الشرقي ذكوري وللذكور أن حتيا ولالان أن متوت‪.‬‬
‫إذنسأختار امسا البين‪ ،‬سأنتقي له امسا مجيال ومعربا‪ ،‬سيكون حبييب وسأخلق‬
‫منه صورة للرجل املثاي‪ ،‬صورة ختتلف عن أبيه املتعجرف وأيب التائه‪ .‬سيكون‬
‫ابين وأان الذي سأشكله معّن ومجاال‪.‬‬
‫أرد‬
‫وفجأة ر ّن جرس اهلاتف‪ ،‬إنه حممود كالعادة سيسألين أين أكون وكعاديت ّ‬
‫يغري شيئا‪ .‬وكأنّين مل أبد حتمسا ألعلمه‬
‫بتثاقل عندما أكلمه كأن الطّفل لن ّ‬
‫متر الصطحايب يف‬
‫السار ورددت بسرعة‪" :‬أان عند ّأمي‪ ،‬ميكنك أن ّ‬ ‫ابخلرب ّ‬
‫ظرف ساعة من اآلن"‪ .‬صمت وأردف "أوكي"‪ .‬مكاملتنا كانت كغريبني‬
‫أعجل بذكر حاجيت سواء‬‫يبحثان عن فنون الصمت أكثر من الكالم‪ ،‬أان ّ‬
‫كانت ماال أو قضاء شأن أو معلومة أريد متريرها وهو كان يكتفي "بنعم‪،‬‬
‫وحىت يف أوقات الطّعام‪.‬كنت‬
‫أوكي‪ ،‬حاضر"‪ .‬أصبحنا غريبني يف بيتنا وفراشنا ّ‬
‫أتعمد دائما تفاديه‪ ،‬وهو ومنذ أن اختفيت عن أنظاره ليومني عندما ذهبت‬
‫ّ‬
‫ويظل‬
‫يستفزين فأهرب عن انظريه ّ‬ ‫ّ‬ ‫إىل النزل أصبح يتفادى أن يثري غضيب أو‬
‫هو يف موقفه ال ّذليل يتسلّل وراء خياي‪ .‬لرّمبا جيدين يف فوضاان اآليلة إىل‬
‫السابق يتناقش معي يف مسألة عالقتنا احلميمية‪ ،‬يتّهمين‬‫ال ّدمار‪..‬كان يف ّ‬
‫ينفك أن ينعتين أببشع النعوت وأنّين لست أبنثى‪ .‬أذكر‬
‫ابلربود اجلنسي‪ ،‬ال ّ‬

‫‪12‬‬
‫أنّين كلّما تفاديته يف الفراش كان يفرض نفسه علي يقبّلين رغما عين وأان اّليت‬
‫عين تلك الليلة وينقطع‬‫عين‪ .‬فريحل ّ‬ ‫أكره رائحته ولعاب لسانه وفمه أص ّده ّ‬
‫أحس بطعنات تسكن‬
‫الكالم أايما‪ .‬أذكر أنّه عندما يقول ي لست أبنثى ّ‬
‫قليب وأحسب أنّه ال يفهمين‪ ،‬ال يعرف أبنّين أنثى وألف أنثى‪ .‬ال يعرف سوى‬
‫بضع حركات حيوانية أمسيها اغتصايب‪.‬كيف له أن يشعر يب وهو الذي ال‬
‫حىت‬
‫يعرف شيئا عين‪ ،‬من أكون‪ ،‬ماذا أخبئ يف القلب املرهف هذا‪ .‬ال يعرف ّ‬
‫ماذا أحب وماذا أكره‪ .‬يعرف فقط أنّه سوى زوجي وأنّه يتحتّم علينا بواجب‬
‫الزواج هذا أن ننخرط يف منظومة حيوانيّة نوقع من خالهلا صريورتنا‬
‫عقد ّ‬
‫حب أو تفاهم‬ ‫ضمن الطقوس االجتماعية لزوج وزوجة ال جيمع بينهما ّ‬
‫وانسجام‪.‬‬
‫علي كان قد صفعين ليلتها ألنين رفضت معاشرته‪ .‬قال‬ ‫حبكم غضبه وحنقه ّ‬
‫ي كالما جارحا‪ ،‬أهانين وأحسست أبنّه كان حياول مرارا وتكرارا حىت أخضع‬
‫املرة يبدو أنّه ال جمال للصرب‬
‫مرة حياول وأان أص ّده ولكن هذه ّ‬
‫لرغباته‪ .‬يف كل ّ‬
‫مرة يصفعين فيها‪ .‬قال ي‬
‫أكثر‪ ،‬فقد أعصابه وصفعين بقسوة‪ .‬كانت ّأول ّ‬
‫الزواج؟ هذا واجبك حنوي‪ .‬أنت لست ابمرأة‪ .‬أنت ال‬ ‫‪":‬ماذا تريدين من ّ‬
‫شيء‪ ،‬أان أكرهك ماذا تريدين أكثر؟ ملاذا تزوجتين إذن؟"‬
‫كانت دموعي تسيل وقلت له‪ ":‬انتهت عالقتنا منذ ذلك اليوم‪ ،‬وأنت تعرف‬
‫ماذا أعين بذلك اليوم‪ .‬ال أستطيع أن أساحمك ما حييت"‪ .‬وحلظتها أخذت‬
‫حقيبيت‪ ،‬ال أدري ما رميت فيها وأخذت سيّاريت ورحلت‪ .‬مل أكن أنوي العودة‬

‫‪13‬‬
‫وقتها سوى أ ّن ّأمي ومكاملاهتا املتكررة أنت يب عن ذلك‪ ،‬خفت أن تزورين‬
‫ابملنزل وال جتدين فأضطر لشرح تفاصيل ال أريد الغوص فيها‪.‬‬
‫واآلن وهذا الطفل الّذي يتخبّط بني أحشائي‪ ،‬هل أعلمه به؟ ال أدري‪ ،‬لرّمبا‬
‫لدي أسبايب ولكن أمي لن تصمت‪ ،‬ستخربه أكيد ولكن كيف سيتقبل اخلرب؟‬ ‫ّ‬
‫ردة فعله بل أن يكون الطّفل ليس طفله‪.‬‬
‫ال أدري‪ .‬ولكن خويف ليس من ّ‬
‫‪5‬‬
‫يف امتداد الظل رمستك أنثى وكنت ترتسمني على أوراقي‪ ،‬أخطك‪ ،‬أبث فيك‬
‫من ل ّذة االشتهاء اهلائم لصنع كائن يشبهين‪ .‬نقيّة‪ ،‬مورقة‪ ،‬متناهية األنوثة‪،‬‬
‫تشبهينين ولكنك لست أان‪ .‬ستكونني مثالية عابثة على الظالل املرسومة هنا‬
‫وهنا‪ ،‬أنت من تشبهينيين كم أحبّك‪.‬‬
‫يتمرد على كتفيها‪ ،‬صورة‬‫ختلع ثواها‪ ،‬فستان أمحر يهمس بلفحات أنثى‪ّ ،‬‬
‫النتهاء آخر‪ .‬هتم أبخذ قميص نومها ترميه على جسد منهك ابملتعة أثقله‬
‫حبيبها مصطفى ابرتسامات قـُبَ ٍل مازالت تسكن مسام جلدها‪ .‬أشبعها قـُبَال‬
‫وهو يعرف كم حتتاج إىل مهساته كي ترجتف‪ .‬وهترب القبلة سباقة الشتهاء‬
‫آخر ترتبه ملوعد ليلة قادمة‪ .‬تندس يف السرير‪ ،‬كما العادة أيخذها احلنني إىل‬
‫تتمرد‬
‫انسي آخر تنتظره بشغف‪ .‬هي من أيخذها عامله إىل البعيد‪ّ ،‬‬ ‫موعد روم ّ‬
‫بدالل أمام زوجها الذي يضيء ضوءا خافتا يذ ّكرها بعيد ميالدها ويضع خامتا‬
‫يدسه ابصبعها مث يرميها على الفراش لليلة محراء أخرى‪ .‬فاتن‬ ‫من األملاس ّ‬
‫الزواج وال ّدالل أيضا‪ ،‬أمام فانوس‬
‫تلعب طقوس الغرام كلّها‪ ،‬اخليانة واحلب و ّ‬
‫خافت لليلة كاملة‪ .‬احلبيب فكرة مؤجلة تسكنها مبوعد قادم والزوج أاث من‬
‫‪14‬‬
‫ويليب حاجياهتا‪ ،‬وهو الّذي يبذل‬ ‫أاث املنزل ال ميلك سوى أن يعبدها ّ‬
‫قصارى جهده الرضائها‪.‬كان يعتقد دائما أ ّّنا حتبّه‪ .‬مل يعلم بعد أن بينهما‬
‫ينسل بني قبلة وقبلتني وحضن ومهسة وكلمة "أحبّك"‪ .‬مصطفى‬ ‫ّ‬ ‫مصطفى‬
‫األايم‪.‬‬
‫ساكن بينهما كالطّفل الغرير الذي يتغذى مع ّ‬
‫هكذا هي فاتن صنع أسطوري المرأة ترتّب مواعيد الصدفة وتتح ّكم فيها‪.‬‬
‫تتعاىل على الواقع لتحكم فيه‪ ،‬وتنهال على القدر لتصفعه‪ ،‬هتيم بدالهلا على‬
‫الطرفني وتبدو واثقة أ ّّنا تدير الك ّفة لصاحلها دائما‪.‬‬
‫يدخل حممود كعادته دائما حىت أ ّن سالمه كان جافا‪ .‬يراين يف الغرفة اجملاورة‬
‫مين‪" :‬كعادتك مع‬ ‫بتعجب ويسخر ّ‬ ‫ي ّ‬ ‫أتص ّفح األوراق وأكتب‪ .‬ينظر إ ّ‬
‫أي هراء هذا؟"‪ .‬يدحجين بنظرة احتقار وميسك بك اي فاتن‪ ،‬أنت‬ ‫األوراق‪ّ ،‬‬
‫املرسومة على ورقي‪ ،‬من خططتها ابنفعاي‪ ،‬امرأة من انر‪ ،‬امرأة أسطورية أنت‬
‫يسخر منك حممود‪ .‬ينظر إىل الورقة وإىل تشظيّات خطّي املبعثر مث يرميها‬
‫على املكتب ويقول "تعيشني يف عامل آخر‪ ،‬أنت حاملة"‪ .‬نعم‪ ،‬رماك حممود اي‬
‫تتمرد‪ ،‬أن تقسم رجولته‬
‫فاتن‪ ،‬مل يعلم بعد ماذا إبمكان امرأة أن تفعل‪ ،‬أن ّ‬
‫نصفني‪ ،‬أن يكون نصفا منسياّ تتالعب به امرأة وهو الّذي يعتقد أنه من‬
‫سيتمرد عليك‪ .‬أنت اي فاتن يرميك! هو ال يعرف من تكونني‪ ،‬ال يعرف أنّك‬
‫ّ‬
‫وإي‪ .‬رماك اي فاتن‪ .‬هل كان يعلم أنّه يستطيع أن‬
‫مين ّ‬ ‫أدايت لالنتقام‪ ،‬أنّك ّ‬
‫يقاوم مجالك وفتنتك اي فاتن؟ لو كان يعلم ملا رماك‪ ،‬ملا رماين‪ ،‬ملا كنت‬
‫هكذا‪ .‬ليتين أكون فاتن!‬

‫‪15‬‬
‫‪6‬‬
‫تسبقين شهد إىل البهو‪ ،‬ترتنّح خبطواهتا األوىل لتستقل احلياة‪ّ .‬أمي حني رأهتا‬
‫مرة أطلقت زغرودة من الفرحة هاتفة أبن شهد قد كربت وشارفت‬ ‫ألول ّ‬
‫متشي ّ‬
‫سنتها األوىل‪ .‬شهد حبيبيت ومرآيت يف احلياة‪ ،‬أراها متأل هذا البيت الفسيح ل ّذة‬
‫من احلياة بعد أن غاب حبوره ونشوته‪ .‬أروح أان كاجملنونة أتبعها‪ ،‬أخاف أن‬
‫تسقط‪ ،‬ما زلت أخاف عليها أكثر من روحي فأان مستع ّدة ألمنحها روحي‬
‫إن رغبت‪ .‬شهد حبيبيت‪ ،‬أنت من ترمسني االبتسامة على وجهي‪ .‬أمتّن أن‬
‫تكوين متألقة وانجحة وحمظوظة‪ .‬فلتشبهيين يف كل شيء ولكن ال تشبهيين‬
‫ظ قد بدأ يرافقها‪ .‬شهد‬
‫يف حظّي‪ .‬شهد ومنذ أن ولدت أظن أ ّن سوء احل ّ‬
‫ومنذ عشرة أشهر ال تعيش إالّ على أشباه وجوه نسائية غريبة‪ ،‬أان و ّأمي‬
‫وجنوى‪ .‬شهد مل تعرف صوات رجاليّا وال وجها رجاليّا‪ ،‬ال تعرف نربة صوت‬
‫رجل‪ ،‬ال تعرف حليته‪ ،‬يديه الكبريتني‪ ،‬ك ّفه الغليظة‪ ،‬نظرته احلادجة‪ ،‬ال تعرف‬
‫حىت‪ .‬لقد اختفى منذ يوم مولدها‬ ‫ماذا يعين رجل‪ .‬شهد ال تعرف أابها ّ‬
‫ظ وقد تربيت على‬ ‫وانقطعت أخباره‪ .‬شهد حبيبيت‪ ،‬من أين لك أن تعريف احل ّ‬
‫حىت اآلن ال نعرف إن كان يتما حقيقيّا‬
‫الفقدان واليتم واخلذالن منذ البداية؟ ّ‬
‫أم مزحة من مزحات الزمن يلعبها أبوك مع مغامراته‪ .‬حبيبيت شهد‪ ،‬ليتين‬
‫أاترجح على أرجوحة الزمن ألمأل الكفة الفارغة وأراك ختطني خطواتك مع‬
‫أبيك‪ .‬تندس يدك الصغرى يف ك ّفه فيسلك معك خطواتك األوىل وحيملك‬
‫بني ذراعيه ويشبعك تقبيال‪ .‬ليتين أعرف كيف أنّه نسيك كما نسيين منذ زمن‬
‫أظن أبنّك حتملني لعنيت وأنت تبتسمني اآلن وتضحكني يف هذا البهو‬
‫طويل‪ّ .‬‬

‫‪16‬‬
‫متردي فبعضنا مكسور فينا بسبب التخاذل‬
‫متردي عزيزيت‪ّ ،‬‬
‫وأان ال أطالك‪ّ .‬‬
‫واجلنب واالستسالم‪ ،‬تعاي لعلّك تتحديّن واقعك وترمسني البسمة يف عنق‬
‫الظّالم‪ .‬جتنّدي فالعامل الذي ستعيشني فيه لن يرمحك‪ .‬أنت من متشني‬
‫ي‪ ،‬خذي بعضه وانسيابه حلنا‬
‫خطواتك األوىل اليوم حتّركي ببعضك املشدود إ ّ‬
‫متردي اي شهد‪.‬‬‫للحياة‪ّ .‬‬
‫ي ّأمي نظرهتا احلزينة املعهودة وهي تقول‪" :‬إىل مىت ستظلّني وحدك‬
‫نظرت إ ّ‬
‫اهذه الفيلال‪ ،‬تعاي إىل منزلنا املتواضع سنعيش هناك وال أظن أبنك ستسمعني‬
‫شيئا عن حممود"‪ .‬وافقتها فليس ابمكاين غري ذلك‪ .‬فعال ماذا أفعل يف فيلال‬
‫لوحدي رفقة رضيعة أخاف عليها من هلوسايت واضطراابيت؟ ماذا أصنع‬
‫ابلذكرايت املتلفة وأوراق حممود ومالبسه وكتبه املص ّففة على الرفوف؟ ماذا‬
‫أصنع بذكرايت معطوبة تواري حتفها للسقوط؟ ماذا تراين أفعل ابلذكرايت‬
‫حي أم ميّت؟ لطيلة أشهر‬‫املنصوبة أمامي وأان ال أعلم أين يكون؟ هل هو ّ‬
‫اختفت أخبار حممود بعد أن مسعته تلك الليلة وهو يكلّم شخصا جبهازه‬
‫مرتددا دون عادته‪ ،‬كان يقول‪" :‬سنلتقي غدا إن شاء هللا على‬
‫اخللوي‪ .‬بدا ّ‬
‫أبين مل أمسعه‪ .‬كنت فقط أسأله إن‬
‫الساعة الثامنة صباحا"‪ .‬مسعته وتظاهرت ّ‬
‫ألحضر له العشاء‪ .‬ابلرغم من أنّه كان دائما ابردا معي‬
‫ّ‬ ‫حيس ابجلو‬
‫كان ّ‬
‫أحس أبنّه متشوق‬
‫حتسنت عالقتنا بعض الشيء وكنت ّ‬ ‫لكن يف الفرتة األخرية ّ‬
‫األبوة‪ .‬كما قالت ّأمي‪ ،‬إ ّن الطّفل فعال يساهم‬
‫لرؤية ابنته وأن يعرف إحساس ّ‬
‫يف س ّد الثغرات واحملافظة على األسرة‪ .‬صحيح أنّين مل أعشقه يوما وأنّه كان‬
‫الريبة‪ .‬ربَّت على‬
‫علي يف فرتات ما وأوقات كثرية لكن انتابين شعور من ّ‬
‫قاسيا ّ‬

‫‪17‬‬
‫كتفه واصطحبته إىل الصالون أين جلسنا لنتفرج على التلفاز‪ .‬بدا وامها‪،‬‬
‫شاردا وفهمت من قلقه أنّه يعاين من ورطة ما‪ .‬بعدها أخربته أبنّين سأدخل‬
‫متحمسا ويف نفس‬
‫علي الطبيب‪ .‬وبدا حممود ّ‬ ‫إىل املستشفى غدا كما أشار ّ‬
‫تعرفت عليه وحتدثت إليه‬
‫الوقت رأيت حنينا دافئا يف عينيه ذ ّكرين به عندما ّ‬
‫مرة‪ .‬رأيت أنّه قلق بشأين أيضا‪ ،‬أحسست أبنّنا قريبان من بعضنا‪.‬‬ ‫ألول ّ‬
‫ّ‬
‫أمسكت بيده ودلفت إ ىل صدره أحبث عن حضن داىفء اشتقت اليه منذ‬
‫زمن بعيد‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫رتّبت أروى أشياءها‪ .‬مل تبق سوى حقيبة املاكياج ومعطفها املستلقي على‬
‫أريكة الغرفة‪ .‬جيب أن ترحل وتعود إىل عاملها‪ ،‬مل يبق سوى أن تواجه‬
‫مشاكلها بعد أن هربت عنها لليلة يف ظل التيه الطويل‪ ،‬بعد أن غابت عن‬
‫الوعي ومل تعد تتذ ّكر شيئا‪ .‬لن يبقى هلا سوى أن تواري حلظات الضيا‬
‫وتضعها يف ملف للنسيان‪ .‬مل أمسع‪ ،‬مل أر‪ ،‬مل أتكلم‪ .‬وأضافت ومل ألتقي أحدا‪،‬‬
‫مل يقبّلين أحد‪ ..‬مل‪ ..‬مل‪ ..‬مل أمن مع أحد‪ ،‬وإن حصل األمر فأان قد أخطأت‬
‫وانتهى األمر‪ .‬أان ساعود اآلن إىل حيايت العاديّة ومن رآين البارحة حىت يف‬
‫الالوعي فهو ال يعرفين‪ .‬ال يعرفين أحد يف هذا املكان‪.‬‬
‫حاالت ّ‬
‫تعرفت إىل شخص ما ابلصدفة وقبّلها‬ ‫ولكن الفكرة مل تربحها‪ .‬هل فعال ّ‬
‫ط األمحر‬‫وأخذها إىل غرفتها وال تدري ماذا حصل بعدها؟ أتراها جتاوزت اخل ّ‬
‫أم أ ّن التجاوز جائز ومشرو بعد الزواج؟ يف ّناية األمر تبقى مغامرة وانتهت‬
‫عند تلك الليلة وتلك الساعة وذاك املكان‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫نظرت إىل ساعتها‪ .‬متام احلادية عشر والنصف‪ .‬جيب أن تسلّم الغرفة‪ .‬خطر‬
‫هلا وهي انزلة للقاء عون االستقبال أن تسأله عن الرجل الّذي كان برفقتها‬
‫ترددت‪ .‬كيف ستسأله وما الّذي ستقوله حتديدا؟ كيف هلا أن‬ ‫البارحة‪ ،‬ولكنّها ّ‬
‫ختفي خطأها بدهاء أنثوي ممزوج ابلعفوية؟ سلّمته املفتاح قائلة‪" :‬كنت يف‬
‫أمتّن أن تكوين قد أمضيت ّناية أسبو‬ ‫ورد العون‪ّ " :‬‬
‫الغرفة رقم ‪ّ ."484‬‬
‫كل شيء كان ممتازا‪ ،‬سأزوركم إن شاء هللا يف فرصة الحقة"‪.‬‬
‫وردت‪ّ " :‬‬
‫رائقة"‪ّ .‬‬
‫وترددت كيف ستسأله عن الرجل الذي كان يرافقها‬
‫"مرحبا بك سيّديت"‪ّ .‬‬
‫البارحة ولكنّها مل تتجرأ‪ .‬أخذت حقيبتها وبدأت هتم ابلرحيل حني استوقفها‬
‫عون االستقبال فجأة‪" :‬سيّديت هناك من ترك لك شيئا‪ ..‬تفضلي"‪ .‬تفاجأت‪،‬‬
‫هل ميكن أن تكون هذه مفاجاة من مفاجآت القدر حيث جاء اجلواب‬
‫جاهزا وهي من كانت تبحث عنه‪ .‬وق ّدم هلا العون صندوقا مغلّفا يبدو أنّه‬
‫أجلت األمر إىل السيارة‪.‬‬‫ترددت يف فتحه مث قاومت فضوهلا و ّ‬ ‫هديّة مثينة‪ّ ،‬‬
‫ودعت العون وشكرته وغادرت‪.‬‬‫ّ‬
‫ويف السيّارة أزالت الغالف وفتحت اهلديّة‪ .‬اّنا عبارة عن صندوق خشيب‬
‫مزركش فتحته فإذا ابملوسيقى تنبعث هادئة ومثرية‪ ،‬وعلى اجلانب األيسر‬
‫للصندوق وجدت بطاقة كتب عليها "كنت رائعة ليلة البارحة‪ ،‬اي لك من‬
‫امرأة مثرية‪ .‬انصر أمحد"‪ .‬اكتظت مالمح أروى ابجلز وهي تقرأ تلك‬
‫تدل أب ّّنا قد أمضت معه ليلة محراء‪،‬‬
‫الكلمات‪ ،‬إ ّّنا فعال منزعجة‪ .‬كلماته ّ‬
‫انتقاء كلماته كان هادفا‪ ،‬كان ابعثا لالاثرة‪ ...‬وامسه هذا هو امسه انصر أمحد‬
‫محيمي جديد‪ .‬اي خيبيت‪ ،‬لقد أصبحت‬ ‫ّ‬ ‫ورقم هاتفه‪ ،‬ال بد أنّه يرتّب للقاء‬

‫‪19‬‬
‫طعما يصطاده الرجال يف احلاانت الليليّة‪ .‬أان بتخاذل أهرب من قسوة زوجي‬
‫ألخونه دون قصد وأصبح امرأة غري شريفة‪ ،‬أصبح هلوا ومثن صندوق فارغ‬
‫يرتدد على‬
‫ميتلىء بفوضاي الّيت يوقع خواءها هذا انصر أمحد‪ .‬اسم ملا البد‪ّ ،‬‬
‫حيتل الوعيي وينسيين‬
‫الرغبة‪ّ ،‬‬ ‫مواجعي فيسكنها إنساان خائبا يرتب ملواعيد ّ‬
‫وجعي لساعات ولكن حيل وجعا أكثر أملا من الداخل ويعتليين‪ .‬هو انصر‬
‫أمحد يرديين يف صندوق لشهواته‪ .‬انصر أمحد ما زال يشتهيين‪ ،‬يشتهي األنثى‬
‫يصمم على إاثرة األنثى الّيت‬
‫الثائرة بداخلي‪ ،‬هو اهلائم حذوي البارحة كان ّ‬
‫حتتلّين والّيت مل يرها حممود ألنّه مل يرين البتة‪ ،‬مل يرين مطلقا‪ .‬ترى ماذا فعل هذا‬
‫انصر أمحد يب وأان املتم ّددة على الفراش خاوية من كل شيء؟ ترى من أي‬
‫ّندي اللذين‬
‫جزء بدأ يعدد قسمات أنوثيت‪ ،‬أمن شفيت أم من خصري أم من َّ‬
‫ينتفضان لغزو جديد؟ هل تشابكت يداه ويداي وأان يف الغياب؟ هل قبّل‬
‫ردد على مسمعي املتعب‬ ‫الصدغني أم احللمتني أم الفخذين أم ماذا؟ هل ّ‬
‫"كم أنت شهية"؟‬
‫‪8‬‬
‫أأتمل‬
‫أيّة امرأة أان مرميّة على أريكة بصالون فخم وفيلال لرجل فاحش الثراء؟ ّ‬
‫الساعة الثامنة حىت يعود‪ .‬أرميه بقبالت ابردة على وجنتيه‪،‬‬
‫يومي أنتظره على ّ‬
‫متر على سبيل العابرين كأ ّّنا معالق يرمي عليه‬
‫يتخلّلين بقبلة على جبيين ّ‬
‫معطفه أو كرسي جيلس عليه ليخلع نعله‪ .‬وتكون قبلته من ضمن األاث‬
‫اليومي دون إحساس يذكر‪ ،‬يرميين بكلمة من صميم الصريورة الزمنية "لباس؟"‬
‫أفسر‪،‬‬
‫وأجيب "لباس" كما كنت دائما‪ .‬مل أكن أستطيع أن أقول أكثر‪ ،‬أن ّ‬

‫‪20‬‬
‫أصرح‪ ،‬أن أفتّت هذا القلب املكلوم‪ .‬مل أستطع أن أخربه أبنّين أريد شيئا‬‫أن ّ‬
‫آخر‪ ،‬أريده أن حيس يب‪ ،‬بكينونيت‪ ،‬يب أان‪ ،‬أبنّين امرأة من هشيم أنوثة مل أيبه‬
‫هلا يوما‪ .‬وكالعادة يذهب إىل غرفة الطعام أانوله ما طبخت‪ ،‬أيكله بنهم‪،‬‬
‫يتل ّذذ طبخي وال يتل ّذذين‪ ،‬يلتهم كل ما ابلصحون مث ينصرف‪ .‬كنا أنكل دون‬
‫أن نتحد ‪ ،‬يف داخلي كالم كثري‪.‬كنت أمتّن أن أسأله عن جديده‪ ،‬أن أمسع‬
‫أبين‬
‫منه أنه يشتاقين وهو يف العمل‪ ،‬أن يسألين كيف أقضي يومي‪ ،‬أن أجيبه ّ‬
‫أشتاقه‪ ،‬وهل فعال أشتاقه؟ أان دائما ترتسم بذاكريت حلظة لقائنا صدفة أبحد‬
‫املقاهي عندما اعرتاه شعور غريب وهو يراين ألتف حول أوراق ال حصر هلا‬
‫عندما كنت أع ّد رسالة خترجي‪ .‬من فرط دهشته نزل إىل أسفل الطاولة جيمع‬
‫أوراقي املشتّتة كذاكريت متاما‪ ،‬محلها ومجعها وق ّدمها ي وشكرته‪.‬كانت‬
‫ابتسامته دافئة يومها وكم أحسست ابرتياح كبري وهو يصافحين ويقول‪" :‬أان‬
‫حممود العابد‪ ،‬رجل أعمال" وابدرته اببتسامة دافئة‪" :‬أان أروى التليلي‪،‬‬
‫يتأملين من‬
‫طالبة"‪ .‬ومل يزعجين بعدها‪ ،‬اختار ركنا من الكافيترياي وبقي ّ‬
‫ي‬
‫بعيد‪.‬كان يركز نظره على حركايت وتركيزي ال غري‪ .‬وكنت أعلم أنّه ينظر إ ّ‬
‫حىت‬
‫فأحاول أن أجتاهل ذلك وبعدها غادرت وبقيت عيناه تتبع ظلّي ّ‬
‫اختفيت‪.‬‬
‫كانت الكافيترياي مكاين املفضل‪ ،‬هادئة هي تطل على البحر‪ ،‬كنت أستمتع‬
‫ابلنظر إىل البحر بني الفينة واألخرى‪ .‬أان من تتالطم عندها بوادر أنوثة‬
‫يلوح بصداه ويذكر امرأة أخرى كانت أان‪.‬كنت يف‬
‫صارخة يصرخ البحر حىت ّ‬
‫خترجي بكل شغف‪ .‬أتساءل أي‬ ‫الثالثة والعشرين من عمري وكنت أرتقب يوم ّ‬

‫‪21‬‬
‫اضع ليلتقط مشرو َ خترٍج مل َير النور بعد؟‬
‫رجل هذا يف هذا املركز املرموق يتو ُ‬
‫تصرفك معي‪ .‬كنت صدفة مجيلة‬ ‫ومازلت أذكر أنّين انبهرت بلقائك وحسن ّ‬
‫لدي إحساسا مجيال‪ ،‬رّمبا منيّت عندي إحساسا ابلطموح‬
‫وأذكر أنّك خلّفت ّ‬
‫وقتها‪ ،‬أن أكون مثلك يوما‪ ،‬امرأة انجحة‪.‬‬
‫قصة مجيلة قد‬
‫تزوجنا عن ّ‬‫تزوجنا‪،‬كنا قد ّ‬
‫مسّيتك حبييب يف يوم ما رّمبا عندما ّ‬
‫نستطيع أن نسميها حبّا‪ .‬ولكن هل كان حبّا فعال؟ عندما أراك وأراين يعلو‬
‫اهلوة‬
‫عين‪ ،‬أ ّن ّ‬
‫ي أنّك غريب ّ‬‫بنا الصمت على مائدة العشاء‪ .‬اليوم خييّل إ ّ‬
‫أتملي أخال أنّين‬
‫سحيقة بيننا ومازالت تكرب أكثر‪ .‬عندما أنظر إليك مبنتهى ّ‬
‫مع غريب‪ .‬أنت وحدك اي حممود أصبحت تتباعد أكثر فأكثر فتألّف بني‬
‫بعدك والزمن حلظة خماتلة تنفض غبار ما تب ّقى بيين وبينك‪ .‬وهل تب ّقى شيء‬
‫اي حممود؟ هل أنّك الرجل الذي مازال سيحس بعذوبيت عندما اكتشفها‬
‫أين مازلت سأستطعم جسدك هذا بعد أن تعطلت لغة االشتهاء‬ ‫غريك؟ وهل ّ‬
‫بيننا؟‬
‫نعم أصبحت أحس ببعدك أكثر‪ .‬حنن ال نتحد ‪ ،‬ال نتبادل أطراف‬
‫احلديث‪ .‬مل نعد كما كنّا قبل الزواج‪ ،‬شيء ما اّنار والزلت أحبث عن طريقة‬
‫الصالحه‪ .‬كنت أحس ابلتعب‪ ،‬بفراغ كبري وكنت ال أستطيع أن أخربك مبا‬
‫لدي‪ ،‬ال أستطيع التعبري عن‬
‫أحس أو رّمبا أعجز فعال عن البوح مبا ّ‬
‫إحساسي بعد‪ ،‬ال أستطيع أن أصرخ يف وجهك وأقول لك فلتعد كما كنت‪،‬‬
‫كما عهدتك‪ ،‬مل أنت بعيد عين؟ مل أحس أنّين ال أعرفك مطلقا؟ أشتاق‬
‫للكائن الذي كنته‪ ،‬أشتاق لشخص كنت أرى أبنّه يشبهين‪ ،‬يتفحص‬

‫‪22‬‬
‫تفاصيلي‪ ،‬يقلبين بني ذراعيه بكل دفء ويدرك نقاط خويف ودفئي وحياول أن‬
‫يستلهم من شخصيته النمطية قبسا إلشعال اإلحساس يف داخلي‪ .‬ليتك تتّقد‬
‫من جديد فتطفئ هلب أنوثيت و ختمد هذا احلنني املتدفّق حنو رجل يدرك‬
‫ط يده على جسدي‪.‬‬ ‫تفاصيلي ويعرف كيف حي ّ‬
‫يف غرفتنا نكون مثل غريبني‪ ،‬أنت تنام بسرعة وأان يثقلين األرق لساعات‪.‬‬
‫كنت أحتاج دفأك‪ ،‬قبالتك وأنت كنت ابردا‪ ،‬ال مباليا يب‪ .‬أغرق يف قراءة‬
‫رواية لساعات حىت أانم وعندما أستيقظ صباحا ال أجدك‪ ،‬أجد مكانك‬
‫شاغرا ابلسرير كما هو العهد بيين وبني ذايت‪ .‬كنت أفتّش عنك وقتها وأجد‬
‫أنّك قد غادرت ابكرا ج ّدا‪ .‬كنت تغيب وتبتعد يوما فأكثر وأان ال أفهم ما‬
‫هلذه املرأة املسكونة داخلي أين تسري وأين املفر وما العمل؟ هل هذه حياة؟‬
‫علي هكذا؟ ما الذي طرأ وما الذي‬
‫أين حممود الذي عرفت؟ مل أنت تقسو ّ‬
‫شىت ومع األايم تغيب‬
‫تغري فجأة؟ تغيب األسئلة ظمأى تفتّش عن إجاابت ّ‬ ‫ّ‬
‫ابتساميت وأصبح امراة معطوبة عرجاء‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫كنت أقود السيارة والصندوق اخلشيب إىل جانيب‪ ،‬كلّما ملسته انبعثت املوسيقى‬
‫تبشر مبواجعي وأتنيب ضمريي‪ .‬وهذا االسم الذي أهداين إ ّايه‪ ،‬رجل نكرة‬
‫ط على جسدي‪ ،‬آاثر‬‫احتل خوائي وزلزل أفكاري للحظات‪ .‬رجل جمهول ح ّ‬
‫حل يف مواطن جزعها وكان معي‬
‫قبالته حتتلين‪ .‬هو اهلائم يف سراديب أنوثيت ّ‬
‫بنفس الغرفة‪.‬كم أان محقاء‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫أستغرب أنّين ال أذكر شيئا اآلن‪ ،‬ال شيء على االطالق‪ .‬مث أبدأ يف اسرتجا‬
‫األحدا ‪ .‬أذكر اآلن أين كنت يف احلانة‪ ،‬كنت أجلس وحدي ّأوال‪ ،‬أهيم‬
‫بنظرايت وسط احلانة والرجال املرموقون حيدجونين بنظراهتم وأيكلون ما تبقى‬
‫حيضر ي كأس ويسكي‬ ‫من أنوثيت املنهكة‪ .‬أذكر أنّين طلبت من النادل أن ّ‬
‫حىت رأيت ّسيدا وقورا أييت ليشعل‬
‫وتناولت سيجارة‪ .‬وما إن مهمت ابشعاهلا ّ‬
‫سيجاريت‪ .‬دهشت وومجت وقال هو بنربة صافية‪" :‬سيديت‪ ،‬هل ي أن‬
‫أجالسك؟"‪ .‬مل أكن قد ّقررت حىت أن أمسح له ابجللوس حىت وجدت أنّه‬
‫يتأملين بشغف وأحسست ابخلجل‪ .‬على ما‬
‫أخذ كرسيا وجلس حذوي وراح ّ‬
‫أي طابق توجد غرفيت‬
‫أذكر سألين إن كنت قد أتيت وحدي إىل النزل ويف ّ‬
‫عرفين بنفسه‪ ،‬نعم كان انصر أمحد‪ ،‬هذا هو امسه‪.‬كنت قلّما‬ ‫وعلى ما أذكر ّ‬
‫أتكلم‪ ،‬بل أكتفي بكلمة أو كلمتني‪ ،‬كانت رأسي مثقلة وبقااي شجاري مع‬
‫حممود مازالت عالقة بذهين‪ .‬كنت أريد اجللوس لوحدي ولكنّه مل يرتكين البتّة‪،‬‬
‫كان يشتهيين بنظراته وكنت أتظاهر بتجاهلها‪ .‬مل يهدأ ابله إّال عندما دعاين‬
‫ملراقصته وجذبين من خصري والتصق يب‪ ،‬مث تناغمت مع االيقا وغبت أان يف‬
‫منسي وال أذكر بعد ذلك شيئا‪.‬كنت وقتها قد تناولت كأسي اخلامسة‬
‫ّ‬ ‫عامل‬
‫من الويسكي وغبت يف البياض‪ .‬فعال ال أدري ما حد بعدها‪ .‬األكيد أنّين‬
‫فقدت وعيي فحملين إىل غرفيت وال أدري ماذا فعل معي‪ .‬هل قبّلين فقط؟ أم‬
‫أين وجدت نفسي مبعثرة يف الصباح‪،‬‬‫أنّه جتاوز ذلك بكثري؟ كل ما أعرفه هو ّ‬
‫حىت مالبسي الداخليّة مل تكن عادية‪ .‬األرجح أنّه قضى وطره مين وأنّين خنت‬
‫حممود‪ ،‬لألسف خنت حممود دون قصد‪ .‬نعم خنتك اي حممود و كان هناك‬
‫رددت كثريا أّنا منهكة‬
‫رجل يعبث جبسدي غريك‪ ،‬وقّع عليه إعجابه أبنوثة ّ‬
‫‪24‬‬
‫وال تصلح للحب‪ .‬انصر أمحد اعرتف ضمنيا أبنين امرأة صاحلة للرغبة‪ ،‬صاحلة‬
‫لالشتهاء‪.‬‬
‫ما إن اقرتبت من املدينة ههممت ابخفاء الصندوق‪ ،‬حاولت أتثيث مكياجي‬
‫حىت أخفي مشاعر االنزعاج والقلق ومن مث واصلت السياقة حىت وصلت إىل‬
‫املنزل‪ .‬كان اهلدوء يعم املكان‪ ،‬جيب أن أكون مستعدة ملواجهة حممود‪ ،‬لن‬
‫يظل صامتا هذه املرة بعد أن حتديته أكثر‪ .‬كل شيء كان على وتريته‪،‬‬
‫الصالون منظم‪ ،‬حىت املطبخ وكأن حممود ليس هنا‪ .‬تسلّلت إىل غرفيت‬
‫أبين خبري‬
‫أبمي بعدها وأعلمتها ّ‬
‫واستلقيت على السرير‪ ،‬ال أثر حملمود‪ .‬اتصلت ّ‬
‫علي وبعدها منت‪ .‬كنت أريد شيئا من اهلدوء قبل هبوب عاصفة‬
‫وأن ال تقلق ّ‬
‫جديدة‪ ،‬كنت أريد أن أستعد ملواجهة حممود وكم أحس ابلشفقة عليه‪ ،‬كنت‬
‫أود منه أن يصفعين جم ّددا ألنّين خنته‪ .‬لو كان يعلم أنّين خنته دون قصد‪ ،‬نعم‬
‫خنتك اي حممود وملس جسدي رجل غريك‪ .‬وضع عليه ارتسام رجولة ما‬
‫ووقّعها بصندوق خشيب يبعث املوسيقى احلاملة‪ ،‬ليتك تسمعها لتحصي نواتت‬
‫قبله على جسدي وتعلم أنّين أنثى يشتهيها الرجال‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫أروى التليلي‪ .‬اي لك من أنثى ال متلك أن تفهم نفسها وماذا حتب‪ ،‬ختلطني‬
‫كل القوالب واألفكار واألحاسيس شىت وتلتهمينها كأ ّّنا قالب جاهز للهضم‬
‫حىت على أيّة طاولة جتلسني أو‬
‫وأنت اليت ال تعرفني مىت يبدأ موعد األكل أو ّ‬
‫أي شوكة متسكني حىت ختتاري طبقك املفضل‪ .‬فعال هذه أنت هي أنت اي‬ ‫ّ‬
‫أروى‪ ،‬خلطة من نساء ومن أجيال خمتلفة‪ ،‬أجد فيك خطوط والدتك تتبعثر‬

‫‪25‬‬
‫على مالحمك املنزعجة‪ ،‬نظرات ّأمك مازالت مرسومة يف تلك العينني الباهتتني‬
‫وأنت اليت تفتشني عن طريقك وال جتدين‪ .‬أبفقك أنثى منزعجة أخرى ترتّب‬
‫ملواعيد احلب‪ ،‬تراتده فجأة فيهرب منها‪ .‬ترسم عبوره عرب سنني حياهتا فال‬
‫حب الطفولة‬
‫يظهر‪ .‬يف كل رجل ترين حبّا‪ ،‬أيّهم حبّك اي أروى؟ هل هو ّ‬
‫حب حممود‬‫على مقاعد قسم الباكالوراي أم حب نبيل أايم الكلية أم هو ّ‬
‫زوجك؟ أيّهم حبّك اي أروى؟‬
‫على مالحمك أيضا أرى تلك الطفلة القلقة‪ ،‬الطفلة احملتاجة‪ ،‬الطفلة املشتاقة‬
‫ألبيها‪ ،‬أبوك الذي ال تتذ ّكرين حىت قسماته‪ ،‬غاب يف زحام السنني لعشر‬
‫سنوات وكنت قد بدأت يف نسيانه حني ظهر من جديد‪ .‬وحني عاد مات‬
‫بداخلك الشعور أنّك حتتاجينه‪ .‬مل تلوميه‪ ،‬مل تصرخي‪ ،‬مل تبكي‪.‬كنت فقط‬
‫حىت‪.‬‬
‫تفتشني عن شعور ما امسه إحساسك حنوه‪ .‬ما الذي تغري؟ ال تعرفني ّ‬
‫أبمك أكثر لتخربيها كم اشتقت إليه ولكنك‬
‫تودين االلتصاق ّ‬
‫كنت رمبا وقتها ّ‬
‫ال حتسنني‪ .‬ما عساك تقولني؟ نعم هذه أنت اي أروى مزيج من انفعاالت‬
‫بكت على مشارف سنني حياتك‪ ،‬جزء مكسور فيك ما زال يبكي إىل اآلن‪،‬‬
‫هناك شرخ ما مبتور‪ .‬أنت ال تعرفني كيف ميكنك ترميم كل ذلك ولكنك‬
‫تعومني يف دوامة دون قا ‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫كان قد مضى على احلادثة أكثر من شهر‪ ،‬عندما عدت إىل املنزل حاولت‬
‫وتتغري عالقيت مبحمود‪ .‬على ما أذكر مل يزعجين بعدها ومل حياول‬
‫أتغري ّ‬
‫أن ّ‬
‫أتودد إليه بني الفينة واألخرى‬
‫حىت‪ .‬كانت عالقتنا هادئة وكنت ّ‬‫استفزازي ّ‬
‫‪26‬‬
‫رومانسي أو أفاجئه يف املكتب أوأرسل إليه رسالة رومانسية ما‪.‬كنت‬
‫ّ‬ ‫بعشاء‬
‫الزلت أأت ّمل من أتنيب الضمري‪.‬كانت اللوحة تعيد ارتسامها أمامي‪ ،‬صورة‬
‫ذلك الرجل وكيف كنت معه وكيف فقدت وعيي وكيف عانقته وكيف رّمبا‬
‫منت معه على فراش واحد‪ .‬إنه رجل جمهول ظهر يف حيايت وأحس ابلندم أنّين‬
‫استهرتت حلظتها‪.‬‬
‫على ما أذكر عندما جاء حممود إىل املنزل ووجدين مرميّة على الفراش أنه وجم‬
‫حلظتها عندما رآين‪ .‬مل يصرخ بوجهي ومل يعاتبين‪ .‬ألقى السالم‬
‫وسألين‪":‬لباس؟"‪ .‬كنت خائفة منه وأجبت‪" :‬أان خبري"‪ .‬صمت حلظة مث قال‪:‬‬
‫"قلقت كثريا عليك ولكن أين كنت؟" نظرت إليه مث قلت‪" :‬أان آسفة‪ ،‬كنت‬
‫عند صديقة ي"‪ .‬صمت حممود‪ ،‬غادر الغرفة‪ ،‬واّنرت ابلبكاء بعدها‪.‬‬
‫ابلرغم أنّين كنت أبذل جهدا يف عالقيت معه إالّ أنّه كان ابردا معي‪ ،‬مل أحس‬
‫أبنّين أسرتجعه أو أك ّفر عن ذنيب الذي اقرتفته‪ .‬يومها أحسست ابلتعب وكنت‬
‫تصورت أبنّين أعاين من مشكلة يف معديت وف ّكرت بزايرة طبيب‪.‬‬
‫أتقيأ كثريا‪ّ ،‬‬
‫كانت مفاجأيت كبرية عندما أعلمين طبييب أبنّين ال أعاين من مشكلة مبعديت‪.‬‬
‫علي أن أقوم ببعض التحاليل للتأكد‪ .‬عندما عدت بعد يومني أخربين‬ ‫اقرتح ّ‬
‫ابملفاجأة أنين حامل واقرتح علي اسم طبيب نساء حىت أاتبع فحوص فرتة‬
‫احلمل ابنتظام‪ .‬تفاجأت ابخلرب‪ ،‬مل أتصور أبدا أنّين سأمحل بعد كل هذه‬
‫املدة‪ ،‬مخس سنوات‪ .‬بعد مخس سنوات أمحل طفال وسأصبح ّأما‪ .‬ولكن‬
‫السؤال الذي كنت أطرحه على نفسي هل الطفل ابن حممود أم ابن ذلك‬

‫‪27‬‬
‫الرجل الغريب الذي التقيته ورمبا منت معه يف ذلك النزل؟ فعال ال أعرف قد‬
‫يكون الطفل الذي جبويف مثرة خطيئة أان الوحيدة املسؤولة عنها‪.‬‬
‫ما إن خرجت من عند الدكتور فكرت ابالتصال بنجوى صديقيت احلميمة‪،‬‬
‫ليس ي شخص أشكو له أو أبوح له غريها‪ .‬اقرتحت عليها أن نلتقي‬
‫بكافيترياي ابملدينة‪ .‬جنوى‪ ،‬مستود أسراري‪ ،‬جيب أن أحتد إليها‪ ،‬جيب أن‬
‫أعرف ماذا أفعل‪.‬‬
‫علي‪ ،‬ال أستطيع أن أرّكز‪ ،‬ال أستطيع أن ّأختذ‬
‫دخلت الكافيترياي‪ .‬القلق يبدو ّ‬
‫قرارا‪ .‬ماذا سأفعل دون جنوى‪ ،‬جيب أن أحت ّد إليها لكي أعرف ماذا أفعل‪.‬‬
‫حبل ما‪ .‬وجاءت جنوى حتمل بني خطواهتا قلقا آخر‪،‬‬ ‫علي ّ‬‫جيب أن تشري ّ‬
‫عيناها تشريان إىل أسئلة كثرية وقالت ي‪" :‬ما بك؟ لباس؟ لباس؟"‬
‫‪-‬لست خبري‪ ،‬أان حامل‪.‬‬
‫‪-‬مربوك عزيزيت‪ ،‬ألف مربوك وأخريا‪.‬‬
‫‪-‬جنوى أان ال أعرف إن كان الطفل ابن حممود‪.‬‬
‫‪-‬ماذا تقصدين؟‬
‫‪-‬هل تذكرين تلك الليلة اليت قضيتها ابلنزل‪ ،‬أشك أبين منت مع رجل غريب‪.‬‬
‫‪-‬ماذا تقولني؟ ماذا دهاك؟‬
‫تعرفت على أحدهم وشربت معه يف احلانة وفقدت‬
‫‪-‬هذه هي احلقيقة‪ّ ،‬‬
‫وعيي‪ ،‬ال أذكر ما حصل بعدها‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫‪-‬كيف ال تذكرين؟‬
‫‪-‬عندما استيقظت صباحا وجدت نفسي يف وضع سيء وال اعرف رمبا‬
‫اصطحبين إىل الغرفة فقط‪ ،‬رمبا قبّلين أو رمبا أكثر‪.‬‬
‫‪-‬األمر يبدو يف غاية التعقيد‪ ،‬كان عليك أالّ تستهرتي‪.‬‬
‫‪-‬تعرفني‪ ،‬تشاجرت مع حممود وصفعين وذهبت إىل ّأول نزل اعرتضين‪،‬‬
‫وحصل ما حصل‪ ،‬مل أقصد ولكنين كنت يف حالة نفسية سيئة‪.‬‬
‫‪-‬وماذا حصل بعدها؟‬
‫‪-‬ترك ي هديّة عند مصلحة االستقبال وترك ي امسه ورقم هاتفه‪.‬‬
‫‪-‬إذن ميكنك االتصال به‪ ،‬لتعريف ما حصل‪.‬‬
‫‪-‬ولكن هل سأتّصل به ألسأله إن كان قد انم معي‪ ،‬ال أستطيع ذلك‪.‬‬
‫‪-‬أعرف‪ .‬يف الوقت احلاي حاوي أن تكوين هادئة لتسيطري على االمور‪،‬‬
‫افرحي أوال ستكونني ّأما قبل كل شيء‪ ،‬أخربي اخلالة زكية وحممود فلعل‬
‫الطفل يغري الكثري يف حياتك‪.‬‬
‫علي‪ ،‬ال‬
‫يغري من األمر شيئا‪ ،‬الندم وأتنيب الضمري يسيطران ّ‬
‫‪-‬ولكن هذا لن ّ‬
‫أستطيع أن أكذب أكثر‪ ،‬ال أستطيع أن أنظر يف عيين حممود‪ ،‬ال أستطيع‪..‬‬
‫ال أستطيع‪.‬‬
‫قامت جنوى بتهدئيت وذهبنا سوية إىل منزل ّأمي وأخربهتا‪ ،‬طارت من الفرح‬
‫وغمرتين ابلقبل وقالت أبنّنا سنحتفل سويّة إىل حني أييت حممود‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫‪12‬‬
‫مازلت أذكر حني دلفت من الباب يومها‪ ،‬مل أعرفك أو رّمبا عرفتك‬
‫وانسحبت هراب من مواجهتك‪ .‬هرعت إىل ّأمي‪ ،‬اندسست بني أحضاّنا‬
‫سألتين‪" :‬ما بك؟" ومل أجب‪ .‬عندما خرجت إىل البهو‪ ،‬رأيتك‪ ،‬كنت كائنا‬
‫ما‪ ،‬قد أمسّيك الكثري ولكنّين لن أعثر على كلمة والدي‪ .‬نسيتك وأنت الذي‬
‫تداولتك السنون كلّها فتعبنا حبثا عنك وانتهينا‪ ،‬رمبا مللنا من ترميم ذاكرتنا‬
‫بصورتك فارأتينا أن ننساك ونعيش‪ .‬حىت ّأمي ومجت‪ ،‬مل تكن لديها القدرة‬
‫الصمت وكل هذه الربودة اليت‬
‫لتحادثك‪ ،‬بعد كل هذه السنني وكل هذا ّ‬
‫حق تعود؟ ألتطلب منها أن تنسى أم أن‬‫أبي ّ‬
‫رمستها على وجهها وحمياها‪ّ .‬‬
‫ترمم ما بقي‪ ،‬أن ترتّب ملواعيد رغبة جديدة على‬‫تتذ ّكر؟ أن تسامح‪ ،‬أن ّ‬
‫جف من االشتياق أو ترتّب لقبلة هاربة سطا عليها الزمن‬
‫مشارف جسد ّ‬
‫بصريورته؟ ّأمي‪ ،‬الفتاة احلاملة دائما‪ ،‬اندثرت يف سنوات غيابك وحلّت بني‬
‫جدران بيتها تلتهم الضيا املستمر لقصة حب عاشتها معك فانسحبت‬
‫وتركتها للوهم‪ّ .‬أمي مازالت حتلم أبن تربّت على كتفها وتقطف هلا وردة من‬
‫بستان ما تضعها على شعرها وترسم قبلة على جبينها وحتميها بني ذراعيك‪.‬‬
‫ّأمي اليت تركتها دون تفسري تعود اآلن لتورق من جديد بني أحضاّنا‪ .‬أنت‬
‫من كسرت قلبها فوهبت عمرها ي وكانت حتدثين دائما عنك وتقول أبنّك‬
‫ستظل والدي مهما حد ‪.‬‬
‫كنت أحس بوجعها‪ .‬هي اليت ختفي دموعها بني طيات حرارة البصل‪ ،‬توز‬
‫امحرار عينيها على قسمات ماضيها وأايم زواجها األوىل وذكرايهتا معك‪ّ .‬أمي‬

‫‪30‬‬
‫ونتأملها‬
‫كنت أحس بوجعها وصمتها وكنا غالبا ما نضع صورتك قبالتنا ّ‬
‫ونقول لك كم نشتاقك‪ .‬اليوم ما عاد فيها أن تسأل‪ ،‬أن تشتاق أو حتلم‪.‬‬
‫متسمرا ال تتكلم‬
‫اليوم هي مزيج من كل االنفعالت وأان وهي نقف نتأملّك ّ‬
‫مرعلى‬
‫وحنن كذلك‪ .‬الشيب يعلو رأسك‪ ،‬يتسلّل بني ثنااي عمرك فاضحا كم ّ‬
‫ذلك اجلسد وعلى تلك الروح ونزيد يف دهشتنا أان و ّأمي ال نقوى على شيء‪،‬‬
‫أنظر إليك أكثر وأقول‪" :‬عسالمة" ومل أقو أن أقول كلمة "اباب"‪ ،‬مل أستطع‪،‬‬
‫خذلين الكالم وخذلتين اللغة‪ .‬ليتين كنت قادرة على فضح صميت ألخربك كم‬
‫عين وكأنّين ال‬
‫اشتقتك وكم أريد أن أرمتي بني أحضانك ولكنّين أراك غريبا ّ‬
‫أعرفك‪.‬‬
‫رميت حقيبتك على األرض واقرتبت منك‪ ،‬قبّلتك قبلتني ومل اسأل أكثر‪.‬‬
‫محلت احلقيبة ووضعتها يف غرفيت وقلت لك تفضل‪ّ .‬أما ّأمي فلم تتكلم‪،‬‬
‫بقيت تنظر إليك وأنت تدخل إىل غرفة اجللوس وكأ ّّنا ستهم بطردك‪ .‬كيف‬
‫لك أن تدخل بيتها بعد كل هذه السنني‪ .‬أنت من أصبحت غريبا لديها ال‬
‫تقوى أن تستقبلك جم ّددا ال يف منزهلا وال بني أحضاّنا من جديد‪ .‬أبعد‬
‫الرحيل مازلت تفتّش عن تذكرة للعبور العكسي؟ ليس سهال أن توقّع جتاوز‬
‫ّ‬
‫وتردد وهتافت‬
‫احلدود بتذكرة للعابرين‪ ،‬توقّع دخولك بعد اخلروج خبذالن ّ‬
‫جريء!‬
‫‪13‬‬
‫كم كنت تعين ي‪ ،‬وكم حلمت أن نواصل كتابة أحالمنا على ورق أخضر‪،‬‬
‫حيب احلقيقية اليت مازالت تطاردين إىل اآلن‬
‫قصة ّ‬
‫ينمو كل يوم ويكرب‪ .‬نبيل‪ّ ،‬‬
‫‪31‬‬
‫مل أنسها ومل أنسك يوما‪ .‬مازلت تعيش بيين وبني حممود‪ ،‬ال متوت أنت اي‬
‫نبيل‪ .‬والزلت إىل اآلن اي نبيل حتتل جزءا ما من حيايت‪ ،‬ختتفي يف اهلمس‬
‫حرا هناك حيث أعيشك من جديد‪.‬‬ ‫الداخلي املؤدي إىل مواقع احلنني ّ‬
‫حاولت أن أنساك ومل أستطع وال أدري إن كان حممود قد أحس بوجودك‬
‫يوما‪.‬كنت كقطعي املبعثرة وهلفيت املزعوجة اليت تبحث عنك عند انتهاء‬
‫الدروس‪ .‬كنت ارتسامي املشتّت يف ردهات الكليّة حني ترنو عيناي حبثا‬
‫عنك‪ ،‬للقائك واالرتواء من حبّك‪.‬كنا نلتقي يوميا وكنت ال أمل لقاءك‪،‬‬
‫ندرس معا‪ ،‬نذهب إىل املكتبة‪ ،‬إىل املطعم اجلامعي مث نراتد مشرب الكلية‬
‫يوميّا لنرتوي أكثر‪ .‬مازال صدى صوتك يرن يف أذين وأنت تلقي ي قصائد‬
‫درويش ومسيح القاسم ومظفر النواب‪ ،‬وكنت أعشق نربة صوتك اليت مازالت‬
‫تعيش داخلي إىل اآلن‪.‬‬
‫حبييب أنت‪ .‬أنت احلب احلقيقي الذي لن ميوت‪ .‬نبيل مل يكن فقط حبييب‪،‬‬
‫يلون حيايت فتصبح ربيعا خمضرا إىل األبد‪.‬‬
‫كان شعاري وقدويت ولوين الذي ّ‬
‫بعد غياب والدي أصبح نبيل مركز حيايت‪ ،‬رمبا ليس مركزها فقط بل كل‬
‫عوضه نبيل‬
‫شيء‪.‬كل ما فقدته يف غياب والدي وكل الفراغ الذي عشته ّ‬
‫وأضاف الكثري إىل حيايت فأصبحت أعيش جنّيت بني ذراعيه‪.‬‬
‫مازلت أذكر قبلك اي نبيل وقبضة يدك وهي حتمل ك ّفي وذراعيك املفتوحتني‬
‫ألين ال‬
‫حىت أين مل أعد أطيق حممود ّ‬ ‫الستقباي‪ ،‬مازلت خبياي إىل اآلن ّ‬
‫أستطيع أن أانم سوى على صوتك احلنون‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫كنت تطلب مين أن أغين لك األغنيات وأن أنشد لك فريورز وأميمة اخلليل‬
‫وكنت تعزف على العود وأنت ترافقين‪.‬كنت أتناغم مع غزل العود وأرحل حنو‬
‫عامل جيمعنا حنن االثنني‪ .‬ترتّب على اللحن الشجي قسمايت األنثوية وتنظم من‬
‫مواجعي حلنا ووترا رومانسيا هائما بني ذراعيك حبييب‪.‬‬
‫وكنت أنت اي نبيل وتظل دائما ترافقين اآلن‪ .‬أتسلل بني الفينة واالخرى ألقرأ‬
‫ما كنت تكتب ي أو ما عزفت‪ .‬أعيشك وأان مع حممود‪ .‬لو كان يعلم أنك‬
‫تعيش بيننا‪ ،‬لو كان يعلم بوجودك‪ ،‬لو كان يعلم أنّين أخونه اكثر‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫املنمقة‬
‫بعد أن زففت اخلرب إىل ّأمي وحممود حاولت االسرتسال يف الكذبة ّ‬
‫وأبنين امرأة شريفة‪ ،‬حامل يف شهرها الثاين تعيش على وقع انتظار طفل لكن‬
‫لألسف مل تكن تعرف من يكون أبوه‪ .‬يف احلقيقة مل أستشر جنوى هذه املرة‬
‫املرة القادمة‪ .‬خطويت مل تكن مدروسة ولكنّها كانت‬
‫خبصوص ما سأفعله يف ّ‬
‫مرة واحدة‪ .‬عدت للصندوق اخلشيب وحبثت عن الرقم‬ ‫ضرورية حلسم األمر ّ‬
‫وفضلت‬
‫وقررت االتصال به‪ .‬يف البداية خشيت أن أتصل ّ‬ ‫املكتوب ابلبطاقة ّ‬
‫أن أكتب رسالة ولكن ماذا سأكتب فيها‪ ،‬سأحاول أن أكتب شيئا بسيطا‪،‬‬
‫سالما رّمبا‪ ،‬حتية جمانية ليس هلا عالقة مبا حصل ليلتها‪ .‬وبدأت يف انتقاء‬
‫كلمايت شيئا فشيئا ليس إال الستفزاز هذا الشخص‪ .‬جيب أن أرتّب لقاء‬
‫وأعرف ما حصل ليلتها‪ .‬وكتبت له "صباح النور سيد انصر‪ ،‬أمتّن أن تكون‬
‫أبلف خري‪ .‬أان السيدة أروى اليت التقيتها بنزل أفروديت ابحلمامات منذ ما‬
‫يزيد على شهرين‪ ،‬شكرا على اهلدية‪ ،‬هذا لطف منك‪ .‬يوم سعيد"‪ .‬أعرف أ ّن‬

‫‪33‬‬
‫رساليت كانت غريبة ومرتبكة ألّنا أتيت بعد شهرين من لقاء هذا الرجل‪،‬‬
‫وأعرف أبنّه سيشعر بذلك‪ .‬هل عساه يتذكرين وهو الذي على ما يبدو رجل‬
‫مرموق وكثري احلركة‪ ،‬ال بد أنه يلتقي العديد من النساء وال ريب أنه يهدي كل‬
‫امرأة تعجبه هدية‪ ،‬فأين أان منهن؟ هل سيذكر ّأاي منهن أان؟‬
‫كنت أعيش حلظات عصيبة وأان أنتظر الرد‪ .‬ماذا سيقول؟ هل سيذكرين؟ هل‬
‫سيتفاعل مع رساليت؟ هل سيطلب رؤييت؟ على كل ال أنتظر سوى أن ألقاه‬
‫وأساله ما حصل ليلتها‪ .‬ال أستطيع أن أظل على انر‪ ،‬ال أقوى على هذا‬
‫االحساس القاتل الذي يعذبين كل يوم‪ .‬جيب أن أاتكد من أن الطفل ابن‬
‫حممود إذ مل أعد أقوى على هذه الفوضى اليت بداخلي‪ .‬إّنا تكرب كل يوم وأان‬
‫اليت أسبح داخلها‪ .‬ينتابين إحساس ابلضيا ‪ ،‬ال أستطيع حتديد هدف أو رسم‬
‫ط عليه‪ .‬كلما رأيت حممود متحمسا للطفل إال وحزنت‪ .‬صحيح مل‬ ‫أح ّ‬
‫أسرتجعه كما كنت أمتّن ولكن مبجرد رؤيته وهو حيضر غرفة الطفل جيعلين‬
‫أحس أبنّين أخطات يف ح ّقه كثريا‪.‬‬
‫مازلت أذكر عندما جاء هو ومهندس الديكور‪ ،‬أدخله إىل الغرفة احملاذية‬
‫لغرفتنا‪ ،‬كان يتفقان لتجهيزها‪ .‬دخلت عليهما وسلّمت على السيد‬
‫وابتسمت‪.‬كنت أرى حممود سعيدا‪ ،‬كان متحمسا الستقبال ابنه اوابنته وكان‬
‫يتشاور مع مهندس الديكور وعندما غادر هذا األخري نظرت إىل حممود‬
‫وسألته ‪":‬هل تريد بنتا أم صبيا؟" كان يتفادى النظر يف عيين "اللي جييبو ريب‬
‫مربوك"‪ .‬حلظتها كنت أمتّن أن أقرتب منه‪ ،‬أن ألتهم من قبالته ودفئه القليل‪.‬‬
‫كل سيشبهلك الطفل كثريا"‪.‬عندما‬ ‫اكتفيت أبن ربّت على كتفه وقلت‪" :‬على ّ‬

‫‪34‬‬
‫ي يف صمت مل يقو على إضافة شيء‬ ‫ابتعدت كنت أعرف أبنه ينظر إ ّ‬
‫ط االعتزاز‬
‫آخر‪،‬كالعادة أيكله حت ّفظه‪ .‬ليس للرجل الشرقي أن يتجاوز خ ّ‬
‫حب‪ .‬كنت أعرف أنّك حتبّين اي حممود وتشتاقين‬
‫فيفيض مبا يف القلب من ّ‬
‫وأنّك تكابر‪.‬‬
‫رد فتشجعت واتصلت ابلرقم ولكن‬ ‫انتظرت طيلة اليوم ومل أحصل على ّ‬
‫لألسف كان مغلقا‪ ،‬الرقم الذي كان سيساعدين على معرفة احلقيقة مغلق أو‬
‫غريه صاحبه واهذا فقد أضعت خط اليقني‪ .‬جيب أن أستسلم اآلن ليس‬ ‫رّمبا ّ‬
‫حل سوى أن أحتمل مسؤولية أخطائي‪ .‬أان املرأة الفوضوية جيب أن أرتّب‬ ‫ي ّ‬
‫ما تبقى من هذه املبتورة مين‪ ،‬اجملروحة‪ ،‬املقصوصة اجلناحني أان‪ ،‬أان من أحضر‬
‫نفسي ألمومة دون هويّة أتيت على عجل‪.‬‬
‫‪15‬‬
‫تردد ما جبويف دون أن تتكلّم‪ ،‬سكنايت‬
‫أروى‪ ،‬مرآيت اليت تعكسين‪ ،‬روحي اليت ّ‬
‫شىت‪ .‬وأان اليت أمجع شتات‬
‫اليت تتكلّم دون حراك‪ ،‬كل احتمااليت اليت تضيع ّ‬
‫نفسي بني أركان الوجود حبثا عن سعادهتا وسعاديت‪ .‬ليتين أستطيع أن‬
‫أسعدك‪ ،‬أن أهديك السعادة ما استطعت‪ ،‬ولكنين ال أقدر‪.‬‬
‫منذ أن أجنبتك اي أروى أحسست أبنّين أضفي على الوجود قطعة مين تكاد‬
‫وخاصة‬
‫ّ‬ ‫تشبهين يف كل شيء‪ .‬مل أكن أذكر أنك كنت تشبهني أابك البتة‪ .‬هلذا‬
‫بعد أن غادران أستطيع أن أمسّيك ابنيت‪ ،‬ابنيت وحدي‪.‬كنت تعكسني الكثري‬
‫وحىت فوضاي‪.‬كنت دائما حتاولني‬ ‫مين‪ ،‬وكنت أرى فيك صوريت وصويت ّ‬

‫‪35‬‬
‫إخفاء حزنك كما أفعل أان‪ .‬كنت أواري أوراقي املبعثرة وأبتسم حىت أرى‬
‫حىت أسعد أان‪.‬‬
‫السعادة على وجهك‪.‬كنت تفعلني مثلي حتاولني إخفاء قلقك ّ‬
‫أذكر أنّين مررت أبوقات عصيبة عندما اختفى أبوك‪.‬كنت يف الثالثة عشر من‬
‫عمرك‪ ،‬عندما بدأت تتفتحني كزهرة ّفواحة تستقطبني من حولك وكنت أان‬
‫أراقبك حبذر وأنت تكربين وحدك‪ ،‬سقطت بتالتك وأنت تبحثني عن ظل‬
‫لوالدك الذي ضا يف الغياب‪ .‬أبوك الذي كان حيتل جزءا من وجودان اختفى‬
‫يوما وكنت أحاول أن أس ّد الفراغ الذي ترك‪ .‬مازلت أذكر حني كان جيلب‬
‫لك اهلدااي يوم العيد‪ ،‬وحيملك بني ذراعيه وميازحك ويرى فيك دنياه‪ ،‬كنت‬
‫أمله وكنت أذكر أنّه كان زوجا طيبا وأاب حنوان‪.‬اّنرت بعد اختفائه‪ ،‬مل أكن‬
‫أظن أنّين سأقوى على انتظاره وعلى استجما براكيين الفائضة كي أقوى‬ ‫ّ‬
‫على تربية طفلة مازالت تتعثّر خبطاها يف دروب احلياة حني اختفيت فجأة من‬
‫حياهتا‪.‬كنت الزلت أذكر عودتك كل ستّة أشهر من إيطاليا‪ ،‬تظل معنا قرابة‬
‫عشرين يوما أو شهرا تروينا من حنانك ومتتّعنا اهداايك ولطفك وأنسك‪ .‬ترتكنا‬
‫بعدها لننتظر لستة أشهر أخرى‪.‬كنت أحبث فيك عن دفء مركون هناك‪،‬‬
‫تعودت عليه منذ أن تزوجتك‪.‬كنت أعرف أنّك رجل طيب ومل أشك يوما‬
‫عين‪ ،‬رسائلك مازلت أحتفظ‬
‫أبنّك ستنساين وترحل فجأة‪ .‬أخبارك ال تنقطع ّ‬
‫اها‪ ،‬هداايك‪ ،‬طرودك‪ ،‬وصول احلواالت‪ ،‬صوتك على اهلاتف مازلت أذكره‬
‫متقطّعا ابحلنني إىل الوطن واحلنني إىل حضين‪ .‬ولكنك اختفيت فجأة وتركتين‬
‫أصار قدري اجلديد‪ ،‬أصارعه كي أصنع من أروى امرأة تقوى على مصارعة‬

‫‪36‬‬
‫وجودها هي األخرى‪ .‬ولكن أيّة امرأة خلقت منك اي أروى‪ ،‬هل أنت فعال‬
‫امرأة متماسكة وقوية أم أنّك فوضوية االحساس مثلي تكابرين فقط؟‬
‫ما زلت أذكر شروخك العاطفية‪ّ ،‬أوهلا خذالن أبيك واثنيها قصتك مع ابن‬
‫اجلريان والثالثة كانت مع نبيل‪ ،‬الذي اختفى ايضا يف ظروف غامضة‪ .‬هكذا‬
‫املر الكثري وخذلك كل من أحببت‪ .‬رحلوا‬
‫جترعت من ّ‬ ‫هي سلسلة عذاابتك‪ّ ،‬‬
‫دون عودة وكنت تنتظرين ومازلت كذلك‪ ،‬لعلّك إىل ح ّد الساعة مازلت‬
‫خاصة بعد أن عاد أبوك بعد عشر سنوات‪ ،‬فلم ال‬
‫تنتظرين عودة أحدهم‪ّ ،‬‬
‫يعود اآلخرون؟ الراحلون يعودون ما دام يف الطرف اآلخر أشخاص آخرون‬
‫حىت حيسون اهم‬‫ينتظروّنم‪ ،‬يتأملّون عودهتم‪ ،‬لعلّهم ابلتخاطر الروحي ّ‬
‫يتغري‪.‬‬
‫فيسرعون ألحضاّنم كما عاد أبوك‪ .‬عاد إىل حضين كما كان يوما ومل ّ‬
‫حىت‪ ،‬عاد كأنّه مل يرحل‪.‬‬
‫عاد بنفس احلنني ونفس الوترية واإليقا ّ‬
‫واآلن أنت مع حممود‪ ،‬ال أعرف الكثري عنه‪ ،‬كنت كثريا ما تبالغني يف إخفاء‬
‫وجعك‪.‬كنت أعرف أنّك تعانني‪ ،‬رّمبا ليس من حممود يف ح ّد ذاته بل من‬
‫املاضي الذي حتملني على كتفيك كأنّه عبء ثقيل‪ .‬هرعت إىل حممود امرأة‬
‫مثقلة ابلوجع‪ ،‬معطوبة الوجدان‪ ،‬منكسرة القلب‪ ،‬رميت أبوجاعك عليه‪.‬مل‬
‫تسأي نفسك يوما إن كنت قد شفيت بعد‪ .‬هل شفيت كما شفيت أان من‬
‫وجع أبيك‪ .‬للزمن تراتيبه وأوجاعه ومداواته أيضا وأنت مل تسعفي نفسك كي‬
‫تشفي من ماضيك‪ .‬تومهت أنّك تعشقينه ورميت بنفسك يف منظومة الزواج‬
‫كي تقنعي نفسك أبنك امرأة متوازنة وأنّك يف برستيج ما تؤثثني لعامل حممود‬
‫العابد‪ .‬تسكنني فيال وتركبني أفخم السيارات وتلبسني أفخر املالبس ولكنّك‬

‫‪37‬‬
‫كنت تكذبني‪ ،‬نعم تكذبني على نفسك وتدخلني الناموس االجتماعي‬
‫القذر‪ .‬الكل من األصدقاء واألصحاب واجلريان يقولون ي‪" :‬صحة ليك‪،‬‬
‫ريب يهنّيها‪ ،‬راجل لباس عليه"‪ .‬وكنت أرد‬
‫بنتك خذات ماخذة اللّي هيا‪ّ ،‬‬
‫ريب يهناها"‪.‬‬
‫"نعم‪ ،‬ابنيت حمظوظة‪ّ ،‬‬
‫كنت أعلم أنك كنت تعانني وقلبك حيمل الكثري من األسى‪ .‬مل أقو على‬
‫التدخل أكثر يف شؤون حياتك‪ ،‬أردتك أن تتحملي مسؤولية اختياراتك‬
‫وتتجاوزي كل املواقف لوحدك‪.‬‬
‫كنت أرى تلك االبتسامة احلزينة على وجهك‪ ،‬كنت حتاولني التظاهر‬
‫ابلسعادة‪ .‬كلما جئتين‪ ،‬حتدثينيين عن املطاعم والنزل اليت زرهتا مع حممود‪ ،‬عن‬
‫املالبس اليت اشرتاها لك واجملوهرات اليت أهداك إايّها وكنت جتهلني أنّين أرى‬
‫أي مطاعم ونزل وجموهرات تتحدثني اي ابنيت وأنت اليت‬ ‫حزنك بني طياهتا‪ .‬عن ّ‬
‫السعادة ال تشرتى ابملال وأنّين اراك جيدا‪ .‬لست سعيدة ومل‬
‫تدركني جيدا أ ّن ّ‬
‫ولن تكوين مع حممود‪.‬‬
‫أنت تعلمني أنّين أراك جيدا‪ ،‬هلذا كنت توارين حزنك وتتجنبني النظر يف عيين‬
‫مباشرة‪ .‬مل أرد التدخل حىت تفتحي قلبك‪ .‬كنت بني الفينة واالخرى أحتاور‬
‫مع جنوى صديقتك احلميمة‪ ،‬أحاول أن أفهم ما الذي كان حيصل ابلضبط‪.‬‬
‫جنوى كانت تعطيين إجاابت سطحية ولكنّين فهمت أ ّن حياتكما ابردة‬
‫ينقصها الكثري ومتنيت أن تنعمي ابلسعادة‪ .‬ومل خيب أملي حىت مسعت خبرب‬
‫محلك‪ ،‬وأتكدت أ ّن عالقتكما ستسرتجع رونقها من جديد وتتجذر أكثر‬
‫فأكثر‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫حممود مل يكن رجال سيئا‪ ،‬على األقل حسب ما أعرفه عن الرجال‪.‬كنت أذكر‬
‫اليوم الذي جئتين لتحدثيين عنه‪.‬كنت سعيدة وقلت ي‪" :‬لقد وجدت رجل‬
‫تعرفت عليه صدفة وأان‬
‫أحالمي" سألتك‪" :‬من يكون حبيبيت؟" وأجبتين‪ّ " :‬‬
‫أعرفه منذ بضعة أشهر‪ ،‬إنّه رجل أعمال‪ ،‬حتدثنا وأحس بتجاوب معه"‪.‬‬
‫سألتك‪" :‬هل حتبينه؟"‪ .‬صمت مث قلت‪" :‬أظن ذلك"‪ .‬مث أضفت‪" :‬لقد‬
‫عرض علي الزواج ويريد أن يراك"‬
‫‪-‬هل أنت متاكدة؟‬
‫‪-‬نعم ابلتاكيد‬
‫جدي‪ ،‬عملي وال جانب للهزل أو‬ ‫ّ‬ ‫عندما قابلت حممود الحظت أنّه رجل‬
‫إضاعة الوقت عنده‪ ،‬رجل أعمال‪ ،‬وقته مدروس‪ ،‬مواعيده مضبوطة‪ ،‬منظّم‬
‫جدا‪ ،‬كل مهه أن يتزوج ويبين أسرة‪ .‬وحصل وتزوجت يف غضون أشهر ومتنيت‬
‫أين كنت أشك أبنّكما ستتفامهان‪ .‬أروى أان‬
‫لك السعادة من كل قليب ابلرغم ّ‬
‫أعرفك جيّدا‪ ،‬حساسيّتك الزائدة مشكلة وال أدري إن كان حممود قادرا على‬
‫استيعااها وفهمها‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫متر الشهور وأان أتل ّذذ مشرو االحساس ابألمومة‪ ،‬بطين بدأت تنتفخ واجلنني‬
‫الذي بداخلي يكرب شيئا فشيئا‪ ،‬يبشر بوجوده املرتقب‪ .‬يف كل يوم يكرب ومعه‬
‫مين‪ ،‬سيشبهين كثريا كما سيشبه أابه‪،‬‬
‫يكرب إحساسي أبنّين أعيش مع كائن ّ‬
‫األايم أن أنسى ما حصل وأرّكز على هذا‬
‫لعلّه سيشبه أابه النكرة‪ .‬حاولت مع ّ‬

‫‪39‬‬
‫سيغري حيايت‪ ،‬مل اعد أهتم أبخطائي وماضي وكل فوضاي‪ .‬ما‬ ‫املولود الذي ّ‬
‫يهمين سوى أن أستقر وأوفّرهلذه األسرة أسباب اهلدوء والسكينة لعلّنا أان‬ ‫ّ‬
‫وحممود ننجح يف أن نكون زوجا انجحا ومتفامها‪.‬كانت حياتنا وتريية ابلرغم‬
‫أ ّن حممود كان سعيدا اهذا املولود املنتظر إالّ أنّه مل يكن يتحد كثريا‪ ،‬كان‬
‫صمته هو كالمه ونظراته هي تعابريه اليت يتكتّم يف إخراجها‪ ،‬مل أعد أابي فقد‬
‫تعودت‪ .‬رّمبا خسران بعضنا منذ زمن بعيد‪ ،‬رّمبا منذ أن صفعين‪ ،‬رّمبا منذ أن‬‫ّ‬
‫أحسه حنوه ابلضبط‪ ،‬أي شعور اي‬
‫حىت ما الذي ّ‬
‫خنته وهوال يعلم‪ .‬ال أفهم ّ‬
‫تعودت وجوده؟ هل هو أنيس يتناول معي الغداء‬
‫ترى‪ ،‬هل هو كقطع األاث ّ‬
‫والعشاء فقط؟ هل هو أاث اجتماعي احتجته يوما كي أؤثث أسرة ضمن‬
‫أين أكرهه؟ هل أحبّه؟ ال أظن‬
‫صريورة اجتماعية منكوبة؟ فعال ال أعرف‪ .‬هل ّ‬
‫الشكل‪ ،‬أان ال أحن إليه‪،‬‬
‫احلب ال ميكن أن يكون اهذا ّ‬
‫أتصور‪ّ .‬‬‫أين أحبّه‪ ،‬ال ّ‬ ‫ّ‬
‫حىت‪.‬‬
‫ال أشتاقه‪ ،‬ال أنتظره بشغف‪ ،‬ال أشتاق إىل قبله‪،‬ال أحن لذراعيه ّ‬
‫ابلنهاية أان ال أحبّه‪.‬‬
‫كالعادة إذن أمضي معظم وقيت ابملنزل كزوجات االرستقراطيني بني الكتب‬
‫واجملالت أو أنغمس يف كتابة أشعاري وقصصي‪ .‬كنت أزور ّأمي بني الفينة‬
‫واألخرى‪ .‬ويف اآلونة األخرية كانت تزورين هي حىت ال أتعب يف التنقل‬
‫إليها‪.‬كانت تساعدين يف شؤوين وحتدثين عن أيب وعن عالقتها به‪ .‬فرحت من‬
‫كأّنا مراهقة ترتّب ملواعيد غرامية‪ .‬عاد أيب إليها مثقال ابحلنني وكأنّه مل‬
‫أجلها و ّ‬
‫يربحها البتّة‪ .‬أما هو فلم يكن يزورين كثريا‪ ،‬كنت أطمئن عليه من خالل‬
‫والديت ويف بعض األحيان أهاتفه‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫أما جنوى فكانت تزورين دائما‪ ،‬تسألين عن أحواي مع حممود وخت ّفف من‬
‫ضجري ومن الروتني القاتل الذي أعيشه‪ .‬جنوى‪ ،‬صديقيت منذ الطفولة‪ ،‬درسنا‬
‫معا منذ املدرسة االبتدائية إىل الثانوية‪ .‬انفصلنا بعدها يف اجلامعة‪ ،‬دخلت أان‬
‫التصرف ولكن عالقتنا مل تنقطع‪ .‬حنن‬
‫ّ‬ ‫كلية اآلداب ودرست هي علوم‬
‫متقاربتان يف العمر‪ ،‬إالّ أن جنوى تعاين من فراغ كبري‪ ،‬كل حياهتا مرتبطة‬
‫ابلعمل‪ ،‬ليس هلا أنشطة أو حبيب أو خطيب يف حياهتا‪.‬كانت تعاين من فراغ‬
‫حتس به‪ .‬مل تكن حمظوظة ال يف احلب وال يف الزواج‪.‬‬
‫عاطفي وتشكو ي ما ّ‬
‫وتويف زوجها إثر حاد ‪ .‬ومنذ ذلك الوقت وهي تتأ ّمل‬
‫تزوجت منذ سنتني ّ‬‫ّ‬
‫أبّنا ال‬
‫أحس ّ‬
‫أحس بوجعها ّ‬
‫وجتد صعوبة يف بناء حياهتا من جديد‪ .‬بقدر ما ّ‬
‫حىت‬
‫حتمل نفس فوضاي بل هي إنسانة منظّمة حتسب لكل أوان مساحته‪ّ ،‬‬
‫مساحة احلزن هلا قداسة عندها‪ .‬تقول ي‪" :‬أان سأحفظ مساحة حزين كفرتة‬
‫ال حمدودة وعندما أدرك أنّين جتاوزهتا سأتطلّع إىل أتثيث حيايت من جديد‬
‫أين مل أوافقها يف ذلك إال أنّين‬
‫كامرأة واضحة املعامل واألهداف"‪ .‬ابلرغم ّ‬
‫تعرفت على‬ ‫حىت وإن ّ‬
‫احرتمت رأيها‪ ،‬ال تبدو مستع ّدة للحب مطلقا ّ‬
‫أحدهم‪.‬كانت تنصحين ابحملافظة على حممود وأن أسلك سبال كي أعرب إليه‬
‫وأتسلّل إىل قلبه من جديد‪ ،‬ولكنّين كنت أجتاهل االمر‪.‬‬
‫أمتّن أن‬
‫ذات مساء تل ّقيت رسالة من رقم ال أعرفه‪ ،‬كانت تقول "صباح الورد‪ّ ،‬‬
‫تكوين أبلف خري‪ .‬امرأة عالية االحساس أنت‪ ،‬دمت كذلك"‪ .‬تفاجأت‬
‫ابلرسالة وذعرت‪ ،‬مخّنت بشيء واحد وهو أ ّن الرجل الذي أرسلها هو من‬
‫التقيت ابلنزل‪ .‬حاولت أن أرتّب نفسي‪ ،‬عاودت قراءة الرسالة‪ ،‬الرقم خمتلف‪،‬‬

‫‪41‬‬
‫إنّه ليس نفس الرقم الذي أرسلت إليه رساليت منذ بضعة اشهر‪ .‬رمبا كان‬
‫مسافرا‪ ،‬فهو رجل أعمال وقد تل ّقى رساليت وأجابين اآلن عندما استلمها‪ .‬مل‬
‫أف ّكر بشيء سوى أن ألتقي هذا الرجل وأعرف ما حصل ابلضبط‪ .‬سأحاول‬
‫وقررت أن أجيبه‪":‬صباح النور‪ ،‬شكرا لرسالتك بقية يوم‬
‫ترتيب موعد معه‪ّ .‬‬
‫طيب‪ .‬شكرا لتغزلك يب" وأجاب‪" :‬أنت امرأة تستحقني األفضل‪ .‬أان مل أقل‬
‫سوى احلقيقة"‪ .‬كالمه كان يفضح إعجابه يب‪ .‬كم أحسست بداخلي أنّين‬
‫يهز كياين من جديد‪ ،‬أحس أبنّين امرأة ملتهبة تفيض أنوثة‬
‫يف حاجة لكالم ّ‬
‫وابلرغم من حاجيت ملعرفة احلقيقة‬
‫ورونقا وحممود مل يعد يراين‪ .‬أحسست أبنّه ّ‬
‫إالّ أنّه رمى بسهامه حنوي ليوقظ امرأة غابت يف دهاليز الروتني فلم يعد من‬
‫يف من جديد‪ ،‬شيء ال أعرف ما‬ ‫يف األنثى اليت بداخلي‪ .‬استيقظ شيء ّ‬ ‫يوقظ ّ‬
‫أمسّيه‪ ،‬رّمبا أان اليت كنت قبال‪ ،‬املرأة الضائعة اليت تسرتجع رمادها لتحيا من‬
‫جديد‪ ،‬أان اليت قتلين حممود أستيقظ من جديد‪ ،‬امرأة تفوح أنوثتها لتمأل‬
‫مساحة الكون حضورا اخر‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫كنت أستجمع ذايت أمام املرآة‪ ،‬أضع املساحيق على الطاولة اجملاورة‪ ،‬أختار‬
‫األلوان خلسة والعطر برفق وأان مع حممود‪ .‬لو كان يعلم أنّين أرتّب ملوعد ما‪،‬‬
‫مع رجل ما‪ ،‬يف مكان ما وأان األنثى املهزوزة أبنوثيت أروي مسام لوين ومهسي‬
‫بفائض من االحساس العاي أق ّدس فيه نفسي اليت تتهافت الستقبال شيء‬
‫ما‪ .‬كهذه البطن اليت تنتفخ وتكرب كل يوم‪ ،‬كذلك مشاعري مع هذا الغريب‪،‬‬
‫ويعرب ي عن‬
‫تقفز دقات قليب وهتفو لكل رسالة يرسلها‪ ،‬يسأل عن أحواي ّ‬

‫‪42‬‬
‫شوقه وحنانه‪ ،‬وكم كنت أحتاجه وكم كان حيتاجين هو اآلخر‪ .‬يف اللّحظة‬
‫الفاصلة اليت يغادر فيها حممود‪ ،‬أرحل إىل غرفيت أتسلّل بني أركاّنا‪ .‬هنا أفتح‬
‫أي لون أصبح لشكلي اآلن؟‬ ‫أأتمل وجهي يف املرآة‪ّ ،‬‬
‫اخلزانة ألختار ما ألبس‪ّ ،‬‬
‫تسميها أم أان امرأة تتداخل‬
‫لقصة ال تعرف ما ّ‬‫هل أان امرأة تفيض شوقا وهلفة ّ‬
‫هرموانهتا لرتسل نبضا من أمومة مرتقبة أتيت كل يوم‪ .‬أمام هذه الفوضى اليت‬
‫بداخلي أرتسم أان أروى بكل تلك التفاصيل اهلامدة اليت تتداعى على تعابري‬
‫أأتمل هذا التداعي الذي خلّفه‬
‫وجهي فليكن‪ ،‬أان املزركشة برؤاي املزدوجة ّ‬
‫أبين أصبحت‬
‫أي امرأة خلقت؟ أظن ّ‬ ‫حممود‪ .‬أيّة امرأة قد خلّفتها اي حممود أو ّ‬
‫أين أسألك اآلن أيّة امرأة أصبحت اي‬
‫فرنكستاين الذي خلقته بيديك وها ّ‬
‫خالقي‪ .‬اي من شكلتين فلم أعد أفهم ما أفعل سوى أن ألوذ وسط أحالمي‬
‫وواقعي وأعيش وال أدري من أكون‪ .‬مل أعد أفهم من أكون أو من أصبحت‪،‬‬
‫ال أدري ولكنّين أعيش‪.‬‬
‫أحب األسود‪ ،‬إنه أنيق‪ ،‬األجدر أنّين جيب أن أقابله‬
‫اخرتت ثواب أسود‪ ،‬كنت ّ‬
‫تستفزين‪ ،‬عيناي‬
‫ّ‬ ‫األول‪ .‬هاهي املراهقة اجملنونة‬
‫أبانقة ال مثل هلا‪ .‬إنّه اللقاء ّ‬
‫احلب يف‬
‫هتب الرتشاف ّ‬ ‫تلمعان من جنون قادم وأان أرجتف كمن هي مراهقة ّ‬
‫هزات االنفعاالت التائهة هنا وهنا‪ .‬حاولت‬
‫سويعات الغفلة وأركان احلومة بني ّ‬
‫أن أكون أكثر هدوءا وأكثر احتواء لكل ما أحس به‪ .‬أخربت جنوى أبنّين‬
‫سأقابل الغريب‪ ،‬كانت تصفين ابجملنونة وتقول ي "مشرو أمومة أم مشرو‬
‫حب؟" وكنت أجيبها "ال عيب يف ذلك عزيزيت‪ ،‬تعرفني جنوين‪ ،‬فليكن‬
‫مشرو بطل من روااييت‪ ،‬قد أكتبه يوما"‪ .‬وتضيف جنوى‪" :‬اعنت بنفسك‬

‫‪43‬‬
‫متزوجة أم‬
‫وحاوي إخفاء البطن اليت تظهر‪.‬هل ستخربينه أبنّك مطلّقة‪ ،‬أم ّ‬
‫عزابء؟" "عزيزيت سيأيت السيناريو‪ .‬كم أعشق هذه اللّعبة اليت ال أدري كيف‬
‫ستنتهي"‪.‬‬
‫‪-‬أنت مغامرة عزيزيت‪ ،‬أخربيين ما سيحصل فيما بعد‪.‬‬
‫وانطلقت ألؤثث ملغامريت‪ .‬ركبت السيّارة واجتهت حنو الكافيترياي اليت أعطاين‬
‫امسها‪ .‬ال أذكر أنّين ارتدهتا يوما‪ .‬ووصلت‪ .‬وضعت السيّارة واجتهت إىل‬
‫الداخل‪ ،‬اخرتت ركنا قصيّا وأمسكت اهاتفي أفتح بعض التطبيقات كي‬
‫أحتاشى فراغ االنتظار‪.‬كنت يف أاهى حلّيت وعطري الذي يفوح كان ميأل أرجاء‬
‫ترددت يف البداية مث طلبت عصريا‬
‫الفضاء‪ .‬جاء النّادل وقال‪" :‬ماذا تشربني؟" ّ‬
‫وقلت يف نفسي لعلّين أشغل نفسي بشربه ريثما أييت هذا الغريب وأتفادى‬
‫نظرات الشبان‪.‬كانوا أيكلونين بنظراهتم وخلت أنّين أستجمع ثقيت بنفسي‬
‫أكثر‪ ،‬أان امرأة فاتنة بدأت أتداعى من الرماد وألتفت إىل هذه األنثى الصارخة‬
‫يف‪ .‬كم أفسد حممود من كياين وجعل منه فتات امرأة‪ ،‬كم كان متجاهال لتلك‬ ‫ّ‬
‫املرأة اليت كنت أان‪.‬‬
‫أأتمل البحر‪ ،‬كان أنيسي حلظتها‪ ،‬غبت يف حركات امل ّد‬ ‫مازلت مبكاين‪ّ ،‬‬
‫والزجر وأسراب النوارس اليت تعود إىل دايرها‪ ،‬وأان مىت أعود إىل دايري وأان ال‬
‫أريد العودة؟ وهل ي داير بعد اآلن؟ كم أحس أبنّين ال أريد أن أعود‪ ،‬أن أرى‬
‫أستفزه أكثر‪ ،‬أن اطلب منه أن حيبّين أكثر وحيس يب‪ .‬طالت‬ ‫حممود و ّ‬
‫الساعات وأان أنتظر على مائدة شوق أعددهتا منذ م ّدة‪ ،‬خطّطت هلا‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أخطت هلا زركشة وعطرا وفستاان وانتظارا يفرتش كرسيّا لثال ساعات‪ .‬أنتظر‬

‫‪44‬‬
‫غريبا أود أن أسأله من يكون أكثر‪ ،‬أطلب منه أن حيبّين أكثر وماذا حصل يف‬
‫رجحت أنّه أتى ومل يعرفين أو نسي تفاصيل وجهي أو‬‫تلك الليلة يف النزل‪ّ .‬‬
‫تردد يف اجمليء أوعدل عنه‪.‬االحتماالت كثرية‬ ‫حىت‪ ،‬أو رّمبا ّ‬‫رّمبا مل أيت ّ‬
‫الزاهي‪.‬‬
‫أحس بوخز ما‪ ،‬مرميّا على تراتيل فستاين ّ‬
‫واالجاابت ال حصر هلا وأان ّ‬
‫أان املرأة اليت ال تنتظر شيئا‪ ،‬أنتظر اخلواء‪ .‬وأان يف حرييت ويف متام استعدادي‬
‫كي أّنض وسط اجلمو اليت حتوم يب أيتيين النادل بباقة ورد ويسلّمها ي‬
‫قائال‪" :‬هل أنت السيدة أروى؟ وصلتك هذه الباقة"‪ .‬ورود محراء تشتعل هلفة‪،‬‬
‫أشتم عبقها وألتهم البطاقة املدسوسة بداخلها‪" :‬مجيلة‬
‫احيت‪ّ ،‬‬
‫أرميها على ر ّ‬
‫كعادتك‪ ،‬أنيقة كذلك‪ ،‬امرأة من ذهب"‪ .‬هذا كان حمتوى البطاقة‪ ،‬أخذت‬
‫الباقة والبطاقة ورحلت‪.‬‬
‫‪18‬‬
‫مضت أشهر على اختفاء حممود‪ ،‬مازلت أذكر تلك الليلة اليت قبّلين فيها بكل‬
‫شغف‪ ،‬ج ّدد معي عهدا كأنّه رسالة ودا ‪ .‬حلظتها أحسست أبنّين أسرتجعه‬
‫من جديد‪ ،‬حممود الذي عرفت يف الكافيترياي‪ ،‬يوما ما عندما كان يرتّب‬
‫أوراقي املبعثرة ويناولين إ ّايها‪ ،‬أو رّمبا كان ينظّم بقاايي املهرتئة اليت تركها‬
‫مين‬
‫عاشقون رحلوا يف صمت وضيا ‪ .‬كان أيخذ من فتايت وأشالئي ليصنع ّ‬
‫ترددها وكالمها‬
‫امرأة من جديد‪ ،‬يرّكب قطعها ويصلح عطبها املؤثث حلركات ّ‬
‫األول‬
‫ونظراهتا التائهة‪ .‬ليلتها وعندما كنت بني أحضانه خلتين أسرتجع اللقاء ّ‬
‫مرت وأان أستغرب‬‫واللّهفة األوىل لقبلة ضائعة مازلت أحبث عنها‪ .‬أشهر ّ‬
‫حىت‬
‫عين؟ أمل يشتقين؟ هل نسيين فعال؟ هل أحبّين فعال ّ‬
‫غيابه‪.‬كيف مل يسأل ّ‬

‫‪45‬‬
‫مين بكثري‪ .‬عندما‬
‫أهم ّ‬
‫عملي وحياته ومشاريعه ّ‬ ‫أظن‪،‬هو ّ‬
‫يشتاقين جبنون؟ ال ّ‬
‫خري أن‬
‫رجحت أبنّه قد سافر ورّمبا لن يعود‪ .‬حممود ّ‬
‫مرت شهور على اختفائه ّ‬
‫ّ‬
‫فحىت زوجي رحل‪.‬‬
‫يرحل كما رحل االخرون‪ ،‬رحيل آخر يزداد إىل سجالّيت‪ّ ،‬‬
‫حىت‪ ،‬أو‬
‫أين لعنة ترافق من اقرتنت به‪ ،‬ال مكان للبقاء معي أو للتأثيث ّ‬
‫يبدو ّ‬
‫حىت لاللتزام‪ .‬ال مكان المرأة مهزوزة بلعنة الشؤم أن حتضن ما تبقى من‬ ‫ّ‬
‫الرحيل األخري‪ ،‬رّمبا غنّيت ملن أحببت‬
‫وعشاقها‪.‬كأنّين مسكونة برتاتيل ّ‬
‫أحبااها ّ‬
‫تتحرك وال تربح مكاّنا‪ ،‬أان‬
‫الرحيال" فرحلوا وبقيت أان‪ ،‬أان اليت ال ّ‬
‫"أسالك ّ‬
‫اليت أبقى وحدي وأبقى وحدي فقط‪ ..‬مجيل أن يرحل عنك أحبابك واألمجل‬
‫عندما تعرف أب ّّنم راحلون‪.‬كأّنم قد جاؤوا للحظات عابرة‪ ،‬أثّثوا حياتك على‬
‫شكل ما‪ ،‬ش ّكلوا منك قالبا معيّنا و أضفوا أو أنقصوا مث غابوا يف زحام احلياة‬
‫لتبقى أنت تتجر أمل غيااهم فقط‪.‬‬
‫كنت أذكر تلك الليلة‪ ،‬حممود كان دافئا على غري عادته‪ ،‬يربّت على كتفي‪،‬‬
‫يقبّلين بني الفينة واألخرى‪ ،‬يوصيين أبن أعتين بنفسي وأالّ أخاف من الوالدة‬
‫وأنّه حيبّين‪ .‬نعم‪ ،‬حممود جالس بعينني مرتبكتني ويعرتف ي أبنّه حيبّين وأبنّين‬
‫غالية لديه وأكثر مما أتصور‪ .‬حينها انتفضت‪:‬‬
‫‪-‬ولكن مل مل أحلظ ذلك؟ أنت مل تعاملين يوما وكأنّك تعشقين‪.‬‬
‫‪-‬أنت مل تفهمي‪ ،‬مل تفهمي أبدا‪.‬‬
‫واحتواين اهدوء وخلت أبنّين سأؤسس معك ملرحلة جديدة وأرى حيايت‬
‫بشكل آخر ولكنّك خذلتين ومل تقل أبنّك راحل وأنّين سأمكث هنا وحدي‬
‫أنتظر عودتك أان وشهد‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫كنّا ابملنزل أان و ّأمي وشهد‪ ،‬اعتنت يب ّأمي حىت متاسكت بعد النفاس‪ .‬جنوى‬
‫كعادهتا ال تفارقين وهتتم بكل صغرية وكبرية‪ .‬كلّفتها يف تلك الفرتة أبن تبحث‬
‫عنك يف الشركة وتتواصل مع أصدقائك الذين أعرف بعضهم لعلّنا نستطيع أن‬
‫نتواصل معك ونعرف أخبارك‪.‬‬
‫األايم متضي وأان أصار‬
‫انقطعت أخبارك ومل أجد طريقة كي أتّصل بك‪ّ ،‬‬
‫مصريي وحدي‪ ،‬أفتّش عن طريق من دونك‪ .‬تكرب شهد كل يوم وكلّما كربت‬
‫يزيد قلقي كل يوم‪ ،‬ستسألين عنك عندما ال جتدك حذوها‪ .‬ستفتّش عن‬
‫تفاصيل وجه أبيها الذي ترى آاثره على حمياها خيتزل أاب وأملا ووجعا‪ .‬ماذا‬
‫تراين سأقول هلا يوما؟ رحل أبوك ألنّين مل أعشقه أو رّمبا مل أحسن أن أحبّه‬
‫للحب واإلحساس‬ ‫ّ‬ ‫وأفهمه‪ ،‬أو رحل أبوك ألنّه وجد امرأة مهرتئة ال مكان‬
‫فيها‪ .‬امرأة خارج قوانني الطبيعة‪ ،‬تغوص يف فوضاها فال تدرك سطح األشياء‪.‬‬
‫امرأة مل تفهم ماذا كان يقول زوجها بعينني هائمتني وصمت متواصل‪.‬لعلّين‬
‫شرقي املعادن‪ .‬ال أصلح أن أكون امرأة ألنّين‬
‫فاشلة يف تفكيك شفرة رجل ّ‬
‫تركته يرحل وتركتك دون أب‪.‬‬
‫‪19‬‬
‫مرت على احلادثة ثالثة ّأايم‪ ،‬مازلت أحتفظ فيها ابلبطاقة والورود‪ ،‬أخبئها يف‬
‫ّ‬
‫مكان يعجز أن جيده حممود‪ .‬حممود كعادته يرمقين بنفس النظرة ونفس‬
‫هم له سوى أن أيكل ويطّلع على األخبار وينام وأان أجالسه‬
‫التجاهل‪ ،‬ال ّ‬
‫ليسرح شعرها أو‬
‫كدمية مجيلة تنتظر أن يلقي عليها صاحبها نظرة اهتمام ّ‬
‫يناوهلا دفئا ما‪ .‬يف الفراش يغوص هو يف نوم عميق وأبقى أان أفتّش عن‬

‫‪47‬‬
‫أتردد بني الفينة واألخرى أين‬
‫أحالمي‪ .‬شوق عارم يدفعين إىل ذلك الغريب‪ّ ،‬‬
‫يكون ومل مل أيت؟ مل مل أيت وهو يعرف أبنّين أنتظر رؤيته بفارغ الصرب؟ ملَ مل‬
‫ي؟ أشتاقه وأشتاق رسائله وأريد أن أح ّدثه وأراسله وأراه‪.‬‬
‫يقابلين ويتح ّد إ ّ‬
‫أغوص يف أتماليت‪ .‬يف بعض االحيان يرمقين حممود ويسألين‪" :‬أمل تنامي بعد؟"‬
‫أحس أبنّين لست على ما يرام‪ ،‬ال تنزعج سأكون‬ ‫أرد‪" :‬إ ّّنا اهلرموانت‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫خبري"‪ .‬أّنض من الفراش‪ ،‬األرق يالزمين‪ ،‬أذهب إىل املطبخ ألشرب كأسا من‬
‫حىت أانم‪.‬‬
‫املاء مث أذهب إىل قاعة اجللوس‪ ،‬أختار ركنا قصيّا وأفتح التلفاز ّ‬
‫يهمه إن منت أو بقيت على‬ ‫حممود كالعادة يعود إىل نومه وأحالمه فال ّ‬
‫قلقي‪.‬كنت أقول يف نفسي لو كان يعلم أ ّن رجال أصبح بيننا‪ ،‬رجال آخر غري‬
‫اهلوة أكثر‪ ،‬رجل عرف من أان‪ ،‬رجل رّمبا‬
‫نبيل‪ ،‬رجل يفصل بيين وبينه ويعمق ّ‬
‫منت بني ذراعيه لليلة كاملة‪ .‬يف حلظات أستشعر هذا الغريب‪ ،‬هذا انصر‬
‫إي يف الفراش ليوقّع حضوره هنا‪ ،‬يرتوي من مسامي‪ ،‬يعجل‬ ‫أمحد‪ ،‬يتسلّل ّ‬
‫بنشويت لتأيت كما أشتهيها‪ ،‬يلتهم شغفي به‪ ،‬يطفئ توقي واشتياقي إليه‪ .‬ها‬
‫احلب بني براثن القلب حني يغافلنا‪ .‬يغافلين بيين‬
‫هو هنا ينتصب هنا كما ّ‬
‫وبني حممود‪ ،‬يثبّت اشتياقه علناً‪ ،‬لعلّين أنتشي‪.‬‬
‫أمضيت ليليت يف الصالون وعندما ّنضت صباحا مل أجد حممود‪ .‬كان قد‬
‫غادر‪ .‬إ ّّنا العاشرة صباحا‪ ،‬أتفطّن فجأة إىل رسالة من ذاك الغريب‪" :‬صباح‬
‫النور‪ ،‬لك يف القلب بساتني ورد وحب"‪ .‬وابتسمت‪ ،‬أحسست وكأنّه بدأ‬
‫عين لثالثة ّأايم‪ ،‬لقد بدأت أتعلّق اهذا‬
‫يتسرب يف روحي‪ ،‬لون آخر قد غاب ّ‬
‫الغريب أكثر ممّا جيب‪ .‬وأجبته‪":‬صباح النور‪ ،‬شكرا لرقتّك"‪ .‬حاولت أن أكون‬

‫‪48‬‬
‫متح ّفظة بعض الشيء‪ .‬ليس من اجلدير أن أكشف له عن شوقي العارم وعن‬
‫تعلّقي به‪ .‬حاولت أالّ أطرح أسئلة وأعلّق أو أستفسر عن غيابه مث سألين‪:‬‬
‫"هل أعجبتك الباقة؟ أظن أب ّّنا تتماشى مع فستانك األسود‪ ،‬كنت رائعة"‪.‬‬
‫عندما سألين عن ابقة الورد أجبته‪" :‬إ ّّنا رائعة شكرا لك"‪ .‬وحينها فهمت أبنّه‬
‫وفضل أن ينسحب ولكن مل‪،‬‬
‫أتمل هيأيت وشكلي ومكياجي ّ‬ ‫رآين من ركن ما‪ّ ،‬‬
‫ال اعرف‪.‬‬
‫مل أستفسر أكثر عن عدم ظهوره وقدومه بدل ابقة الورد بل تواصل حديثنا‬
‫أورط نفسي شيئا فشيئا دون‬
‫وحب ومثالة عشق وأان ّ‬
‫عاداي‪ ،‬كلّه عبارات شوق ّ‬
‫ّ‬
‫أن اعرف إىل أين سأصل مع هذا الغريب‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫اتصلت يب جنوى صباحا تسأل عن أحواي مث اقرتحت أن نذهب سويّة إىل‬
‫عرض مسرحي سيقام مساء على الساعة التاسعة‪ .‬يف احلقيقة‪ ،‬حيايت‬
‫أصبحت روتينية فأان ال أخرج إالّ عند الضرورة لقضاء شأن أو حلضور اند‬
‫أفضل أن أبقى ابملنزل‬
‫اديب ال أكثر‪ .‬ليس ي أصدقاء أو صديقات كثر وكنت ّ‬
‫املتكرر من املنزل وال‬
‫يفضل خروجي ّ‬ ‫على أن تزيد مشاكلي مع حممود فهو ال ّ‬
‫حىت ذلك الغريب بقي‬ ‫وتصرفايت غري املتوقّعة‪ّ .‬‬
‫يتمّن أن أعود إىل ممارسايت ّ‬
‫ّ‬
‫سري ميطرين رسائل غرامية وأشواقا متسلّلة دون أن حياول اقرتاح‬
‫جمرد عاشق ّ‬
‫ّ‬
‫يفضل فقط أن نتحد هكذا وأان خجلت من أن أقوم‬ ‫لقاء بيننا‪ ،‬كان ّ‬
‫فضلت أن تظل العالقة هكذا على أن‬ ‫ابستفزازه أكثر‪ .‬ويف بعض األحيان ّ‬
‫أنساق يف جنوين أكثر‪.‬يف احلقيقة‪ ،‬أحس بوخز يف بعض األحيان وأرى أبنّين‬

‫‪49‬‬
‫ابلغت يف كل ما فعلته‪ .‬أليس حراي يب أن انتبه هلذا الطفل الذي ينمو بداخلي‬
‫حب جديد‪ .‬وحممود‪ ،‬أان أخدعه‬
‫وأستع ّد الحتضانه وتربيته بدل االنسياق يف ّ‬
‫جم ّددا‪ ،‬أحبث عن صورة موهومة للحب‪ .‬أليس جديرا يب أن أصلح عالقيت‬
‫معه؟ وحلظتها ف ّكرت ابالتصال به وأن أقرتح عليه كي يذهب معنا‪ .‬على كل‬
‫حال جيب أن يعلم أنّين سأخرج ليال رفقة جنوى ولكن أن يرافقنا هي مبادرة‬
‫طيّبة ألن يشاركين شيئا ما فنحن مل خنرج سويّة منذ م ّدة‪ .‬إال أ ّن حممود اعتذر‬
‫وقال ي‪" :‬استمتعي أنت‪ ،‬أان ال أستطيع احلضور معك‪ ،‬لدي اجتما "‪.‬‬
‫وانكسر شيء ما يف جويف‪ ،‬أحسست بوخز ما‪ ،‬أحسست أبنّين أفشل من‬
‫عين ملسافات طوال‪.‬‬
‫جديد يف اسرتجاعه وأنّه بعيد ّ‬
‫علي ما ألبس وما سأضع من ماكياج‪ ،‬ص ّففت‬ ‫مساء جاءت جنوى‪ ،‬اقرتحت ّ‬
‫ي شعري وذهبنا‪.‬فعال‪ ،‬كنت مشتاقة للعروض الثقافية والفنية واملسرح فين‬
‫املفضل‪ .‬كنت غالبا ما أراتد املسارح عندما كنت طالبة‪ ،‬وكنت قد مارست‬
‫فنونه لبضع سنني مث ابتعدت‪ .‬أستاذي يف املسرح كان يقول ي‪":‬أنت لوحة‬
‫مسرحية حبتة‪ ،‬كل شيء مرسوم على حميّاك وآالمك ستصنع منك جنمة"‪.‬‬
‫كنت أسعد وأفتخر بشهادته ورّمبا لو واصلت طريقي يف املسرح ألصبحت‬
‫الزواج وابتعدت عن كل شيء‪ .‬بقيت‬
‫جنمة فعال ولكنّين انصهرت يف مؤسسة ّ‬
‫فقط شذرات كتاابيت املتقطعة اليت مل تر النور وابلطبع كل هذا ال يعين شيئا‬
‫حملمود فقد كان يقول أبنّين جمنونة‪ .‬أتوه بني الرواايت والكتب وأاتثر ابملوسيقى‬
‫والسينما واملسرح‪ ،‬يقول ي أنت حاملة‪ ،‬وأان ال أتّسع ألحالمك‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫فضلنا املقاعد الوسطية‪ ،‬العرض مل يبدأ بعد وتفكريي غاص يف‬ ‫دخلنا القاعة‪ّ ،‬‬
‫حنني ال قا له‪ّ ،‬أايم دراسيت الطالبية‪ ،‬الورشات املسرحية‪ ،‬زمالئي يف املسرح‪،‬‬
‫جسدت دور ّأم ثكلى‬ ‫املسرحية اليت مثلّت فيها وكنت البطلة‪ ،‬عندما ّ‬
‫وحتصلت على جائزة خمصوصة‪.‬كنت أذكر املوسيقى املصاحبة للنص‬ ‫وأبدعت ّ‬
‫الذي ّأديته والدور الذي غصت فيه‪ ،‬رّمبا أبدعت ألنّين كنت امرأة تستم ّد‬
‫إبداعها من آالمها كما كان يقول أستاذي‪.‬‬
‫وبدأ العرض‪ ،‬كنت شغوفة الكتشاف هذا العمل‪ .‬غصت يف التفاصيل‬
‫املشهدية واملمثلني والنص واملوسيقى املصاحبة واألضواء‪ .‬كان عاملا مزركشا‪،‬‬
‫أين أشارك فيه وأقف على خشبة املسرح وأهذي أكثر‪ .‬لو كنت هناك‬ ‫خلت ّ‬
‫لتقمصت دور امرأة جمنونة محلوها إىل مستشفى األمراض العقلية أل ّّنا حتب يف‬
‫وتربر أفعاهلا‬
‫املرات ّ‬ ‫زمن الالحب أو دور امرأة مستهرتة ختون زوجها آالف ّ‬
‫كأمي‪ ،‬أن‬‫ابنّه قانون جتربة ال أكثر‪ .‬نعم ال أستطيع أن أكون امرأة تقليدية ّ‬
‫أين لو كنت مكاّنا ملا‬ ‫أكبت معاانيت على سبيل الصمت واخلضو ‪ .‬أظن ّ‬
‫تركت فضاء بقليب كي اعيد رجال هجرين منذ عقد‪ .‬ال مكان للذين رحلوا‪ ،‬ال‬
‫سبيل ألن يعودوا إلينا إذا كانوا قد قطعوا حبال الوصل‪ ،‬ال مكان ألن جن ّدد‬
‫يتغري وأ ّن القلب غري‬
‫العهد معهم اذا كانوا يعتقدون أب ّن الشعور واحد ال ّ‬
‫نرمم ما بداخلنا عزاء ملن يعودون‬
‫متحول‪ ،‬ال سبيل ألن نعيد ما كسر‪ ،‬أن ّ‬‫ّ‬
‫ابحثني عن أنفسهم لدينا‪ ،‬خيفة أن جيدوا من تعلّقت اهم قلوبنا فجأة‪.‬‬
‫نتعود على وترية‬‫للرحيل وجه واحد‪ ،‬فهو رحيل دون عودة‪ ،‬لذا دعوان ّ‬ ‫ّ‬
‫حىت ال تف ّككوا عادة اختفائكم وتزعجوا سكوننا وهدوءان يوما‪.‬‬
‫غيابكم‪ّ ،‬‬

‫‪51‬‬
‫ألّنا ج ّددت يف شيئا مجيال‪ ،‬كنت قد ابتعدت عنه‬
‫فعال‪ ،‬أشكر جنوى ّ‬
‫لسنوات‪ .‬مازلت أسرح مع وقع املمثلني على الركح وانظري يستلهمان‬
‫حركاهتم وأقواهلم وأختيّل نفسي بينهم‪ .‬فجأة ير ّن هاتفي‪ ،‬رسالة من الغريب‪،‬‬
‫اشتقته‪ ،‬ولكن أي مكان له يف املسرح؟ رّمبا هو جنوين املرتقب‪ ،‬جنوين اآلخر‬
‫يكمل هذه اللوحة الرّاننة معي أان‪ .‬يقول‪" :‬أان أحضر املسرحية‪ ،‬لقد‬
‫الذي ّ‬
‫رأيتك منذ قليل سأنتظرك خارجا إن أردت"‪ .‬مل أص ّدق أنّه هنا وأنّه يشاركين‬
‫خاصة‬
‫الفن الرابع‪ ،‬مل أستطع أن أمتالك نفسي‪ ،‬ف ّكرت أبن أراه اآلن ّ‬
‫حب ّ‬
‫أين سأغتنم الفرصة كي نتح ّد ‪ .‬تركت جنوى‪ ،‬أخربهتا أبنّين سأذهب إىل‬
‫وّ‬
‫احلمام‪ .‬شيء ما كان يدفعين للتهافت خارجا كي أراه‪ ،‬فعال اشتقته‪ .‬عندما‬
‫ّ‬
‫بعيين‪ ،‬نسيت شكله فعال‪ ،‬مل أره منذ أشهر‪ ،‬منذ‬
‫خرجت بقيت أفتّش عنه ّ‬
‫حادثة النزل ووقتها كنت يف حالة سكر‪ ،‬فأان ال أتذكر تفاصيله كما جيب‪.‬‬
‫ولكنّين سأعرفه ابحساسي‪ .‬وجدت شابّني خارجا‪ ،‬كاان اتبعني هليئة املسرح‬
‫تصورت أبنّه سيهاتفين ولكنّين مل‬
‫ومل أجد أحدا غريمها‪ .‬نظرت إىل هاتفي‪ّ ،‬‬
‫يرد على‬
‫أين أنتظره ابلباب الرئيسي‪ .‬ومل ّ‬
‫أنتظر أكثر بعثت له رسالة مفادها ّ‬
‫رساليت ومهمت ابالتصال به‪ ،‬جاءت الرنّة خجولة تكتسح مساحات الفراغ‪،‬‬
‫وأان أحبث عنها ومن أين أتيت‪ ،‬رنّة حتمل قليب إىل مساحات جوفاء لتعرب‬
‫أين أقع على‬
‫شىت تضيع يف الغياب املستمر والشكوك املدويّة‪ .‬وها ّ‬
‫احتماالت ّ‬
‫يتمشى‪ ،‬معطفه األسود يغطّي جسده ابلكامل‪ ،‬أان‬‫ظل رجل ّ‬ ‫الرنّة وصاحبها‪ّ ،‬‬
‫يلوح ابلودا ‪ ،‬يتمشى بضع خطوات‪ ،‬يتجاهل‬ ‫ظل ّ‬
‫ال أرى من السواد سوى ّ‬
‫اتصاي ويدلف يف الغياب‪ ،‬يفتح ابب سيارة سوداء‪ ،‬يركب هو السيارة‪ ،‬يفتح‬
‫ظل‬
‫أتفرس مالحمه ولكنّه يغيب يف ّ‬
‫بناظري كي ّ‬
‫ّ‬ ‫شبّاك السيّارة‪ ،‬أراين أهفو إليه‬
‫‪52‬‬
‫سواد قبّعته فال أرى سوى قبّعة وشال أسودين‪ ،‬يرحالن يف حلظات وأظل أان‬
‫وامجة‪ ،‬أحاول أن أفهم‪ ،‬مل يرحل هذا الغريب؟‬

‫يل ّفين ضيا ويستنشقين آخر‪ ،‬وأان أغوص يف تراتيل رحيل آخر‪ ،‬رجل أيىب أالّ‬
‫أجر انظري وقطع‬‫يراين‪ ،‬أالّ يستجمع حلظات احلب واللقاء والشغف معي‪ّ .‬‬
‫الرحيل املسرتسلة معي‪ ،‬أحاول أن أستجمع هدوئي حىت أعود إىل القاعة‪.‬‬
‫شاب ويقول‪" :‬هذه الباقة لك‪ ،‬تركها لك السيد الذي غادر‬ ‫يهب حنوي ّ‬‫ّ‬
‫اآلن"‪ .‬آخذ الباقة‪ ،‬أرى البطاقة‪ ،‬أقرأها‪" :‬بعد ليلة رائقة كهذه ال يسعين سوى‬
‫األخاذة‪ ،‬دمت أنثى"‪ .‬أصمت كالعادة‬ ‫أن أراك يف حلى الورود والرائحة ّ‬
‫ودغدغة التساؤالت ال تصمت جويف‪ .‬يزلزلين هذا الرجل الذي يطرز من‬
‫يستفز هدوئي وهذا‬
‫ّ‬ ‫اليومي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫احتواءايت مهسا لديه‪ ،‬فائضا يسدله على خوائي‬
‫لدي‪ ،‬يعربد‬
‫الشوق اهلائم الذي يراودين عن أاني‪ ،‬يدغدغ مساحات اجلنون ّ‬ ‫ّ‬
‫يف مسامي‪ ،‬يستفزين ويرحل إىل لقاء اخر‪.‬‬
‫أين‬
‫ولكن هل لرحيلك رجو أم هو رحيل كما رحل الذين سبقوك؟ هل ّ‬
‫سأفتح األبواب لك دائما كي تعود أم أوصدها فليس للراحلني رجو ؟ أم هل‬
‫تفصل من تفاصيلي امرأة أخرى منزوعة‬
‫أتركك تتالعب مبساحات وجداين‪ّ ،‬‬
‫الوعي‪ ،‬امرأة هتفو كاجملانني تفتّش عن احلب وسط الفن واحللم والذكرى‪،‬‬
‫ختيط من ثوب ذاكريت مساحة لك تستقر فيها‪ ،‬أتيت على عجل‪ ،‬حتط‬
‫ابلذاكرة املثقوبة كخواء يعربد يف مجوحها وهي املشطورة من بقااي سنني ال‬
‫سبيل لرجوعها‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫أي عينني ستنظران إىل حممود‪ .‬لعلّه سريى‬
‫كيف سأعود اليوم إىل البيت و ّ‬
‫ط‪ .‬امرأة غاصت يف ماضيها‪ ،‬ال مكان ألروى اليوم‬ ‫الليلة امرأة ما عرفها ق ّ‬
‫األن لست زوجة حممود العابد‪ ،‬لست من يطوقين البيت والعقد والسرير‬
‫السالفة‪ ،‬أاني الفنّانة‪ ،‬اجملنونة‬
‫والقبل االصطناعية‪ .‬أان أحن إىل أروى ّ‬
‫ط على كل مجيل‪ .‬وأنت أيّها‬ ‫والعاشقة‪ ،‬أاني اليت تولد من اخلراب لتح ّ‬
‫ستكملين‪ ،‬فتعال أيّها الغريب وال ترحل‪ .‬لقد‬
‫ّ‬ ‫الغريب‪ ،‬أنت الصورة الزهيّة اليت‬
‫سريحب اهم القلب ويرنو هلم الشعور‪.‬‬
‫الرحيل‪ ،‬أنت ممن ّ‬ ‫غريت قانون نظريّة ّ‬
‫ّ‬
‫مكانك يف القلب هنا‪ ،‬فعد أيّها الغريب‪.‬‬
‫‪21‬‬
‫مخسة أش هر متر على محلي‪ ،‬بطين بدأت تنتفخ واجلنني الذي بداخلي بدأ‬
‫مياطل الزمن كي يفرض وجوده بيين أو بيين وبني حممود‪ .‬حممود كعادته يطمئن‬
‫يهتم بتغذييت ومواعيدي مع الطبيب‪ ،‬يقتين أشياء‬‫علي بني احلني واالخر‪ّ ،‬‬
‫ّ‬
‫للرضيع ويضعها بغرفة الطفل اليت اختار هلا ديكورا رائعا‪ .‬كان يقوم بواجبه‬
‫أمرن عقلي‬
‫كزوج وكأب مستقبلي وأان أحاول أن أأتقلم مع الظروف وأن ّ‬
‫الباطن على استيعاب الروتينية الزوجيّة اليت جيب أن أنقاد إليها‪ .‬يف مجيع‬
‫األحوال جيب أن أعتين بطفلي وأحس بنعمة األمومة ورّمبا أحاول أن أفهم‬
‫حممود أكثر وأصلح عالقيت به‪ ،‬لعلّين أعشقه يوما‪ .‬أعرف أبنّين اقرتفت أخطاء‬
‫يف ح ّقه ورّمبا من أبشعها أنّين أمحل طفال ليس من صلبه ولكنّين سأحاول‬
‫إصالح ما تب ّقى‪ ،‬لعلّنا نعود كما كنّا يوما‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫يومها أخربته أبنّين على موعد مع الطبيب‪ ،‬اقرتح أن أييت الصطحايب‬
‫علي وعلى اجلنني‪ ،‬بدا زوجا صاحلا وقتها‪ .‬كل شيء كان على ما‬
‫واالطمئنان ّ‬
‫يرام واشكر هللا أنّين مل أعاين من مشاكل صحية قد تؤرقين‪ .‬حممود كان سعيدا‬
‫مبا قاله الطبيب وأ ّن اجلنني خبري‪ ،‬وتساءلت يف نفسي كيف ميكن أن يكون‬
‫مستقرا وحتمله امرأة جمنونة مثلي تعيش على األحالم واجلنون والذكرى؟ ال ب ّد‬
‫أنّه سيحمل جينات جنوين هذه ويقلّدين أو رّمبا يشبه أحد أبويه الغريب‬
‫الذي ال أعرف عنه شيئا أو حممود يف جديّته ومثابرته‪ .‬غادران الطبيب‬
‫واقرتحت على حممود أبن يقلّين إىل مكتب جنوى‪ .‬مل أشأ أن أعود إىل املنزل‬
‫أأتخر قليال ألنّين سأحضر حفل توقيع لصديقة كاتبة‬
‫مباشرة وأخربته أبنّين قد ّ‬
‫نعرفها أان وجنوى‪ .‬مل يبد اعرتاضا فقط أوصاين أبن انتبه لنفسي‪.‬‬
‫منذ م ّدة مل أحضر حفالت توقيع‪ ،‬كانت على األقل فرصة ألرى أصدقائي‬
‫الكتّاب وأتبادل معهم بعض األخبار عن االصدارات والكتب والنشر‪ .‬لطاملا‬
‫ف ّكرت ابلنشر ولكن كتايب مل يكتمل بعد‪ ،‬مازالت تشوبه حركات التقطع‬
‫الرتدد‪ .‬رّمبا قد أفعل بعد الوالدة‪ .‬من جهتها كانت جنوى حتثين على الكتابة‬
‫و ّ‬
‫لدي أسلوب وخيال راقيني‪ .‬تقول أبنّين‬
‫والنشر‪ ،‬تقول أبنّين كاتبة استثنائية و ّ‬
‫فنّانة‪ ،‬رّمبا ما كان يقوله حممود وأسلوبه يف السخرية من كتاابيت حطّم شعورا‬
‫أين مل أعد أقوى على أن‬
‫بداخلي‪ ،‬أحسست فعال أب ّن شيئا ما قد سلب م ّين و ّ‬
‫أين قد أشفى عندما أكتب إّال أنّين‬‫أكتب كما كنت من قبل‪ .‬وابلرغم من ّ‬
‫تركت سبيل الشفاء هذا واحتويت نفسي داخل الفراغ‪ ،‬مش ّددة على أنّه ال‬
‫سبيل ألن أعود كما كنت‪ .‬صحيح أ ّن اهتمامات حممود خمتلفة‪ ،‬فقد كان‬

‫‪55‬‬
‫أين كنت أمتّن أن يقرأ شيئا مما أكتب‬
‫يهتم ابلكتب التارخيية والسياسية إالّ ّ‬
‫ويقدر ما أفعل‪ .‬اان امرأة حتتاج ألن ترى من مجيع االجتاهات وأن يكون‬
‫مقراب‪ ،‬يشاركين ما لديه‬
‫حممود ليس جمرد زوج‪ ،‬متنّيت أن يكون صديقا ّ‬
‫وأشاركه ما لدي‪.‬‬
‫ذهبت أان وجنوى إىل القاعة‪ ،‬كانت مزدمحة‪ ،‬احلقيقة وصلنا متأخرتني بعض‬
‫الشيء‪ .‬سلّمنا على صديقتنا وابركنا هلا هذا االصدار‪ ،‬وبعدها جلسنا‪.‬‬
‫احلضور كان غفريا والصحفيون واالعالميون كانوا هناك للتهليل اهذا الكتاب‬
‫ومواكبة إصداره‪ .‬مضت الساعة األوىل بني تقدمي الكتاب ومراجعته من طرف‬
‫أكادميني ومناقشة مواضيعه‪ ،‬مث يف النهاية بدأت صديقيت بتوقيع كتااها‬
‫وإهداء نسخ منه ألصدقائها واحلضور‪ .‬حصلت على نسخيت وكنت متحمسة‬
‫لقراءهتا‪ ،‬ابركت هلا جمددا وكتبت ي إهداء وبعدها غادرت أان وجنوى‪.‬‬
‫عندما وصلنا إىل املنزل مل يكن حممود هناك‪ .‬ويف سويعات انتظاري له فكرت‬
‫أبن أبدأ بقراءة رواية صديقيت‪ .‬قرأت إهداءها‪":‬إىل صديقيت العزيزة أروى‪،‬‬
‫أهديك هذه النسخة من رواييت اجلديدة وأان أثق متام الثقة يف ذائقتك األدبية‪،‬‬
‫أمتّن أن تعجبك‪ ،‬أان ابنتظار مولودك االديب‪ ،‬دمت مبدعة عزيزيت‪ ،‬حتيايت‪،‬‬ ‫ّ‬
‫أمساء"‪ .‬راقين ما كتبت‪ ،‬فعال اجلو مالئم كي أعود من جديد لكتاابيت‬
‫األول بفارغ الصرب‪.‬‬
‫وإبداعي‪ ،‬كل شيء حي ّفزين وأصدقائي ينتظرون كتايب ّ‬
‫وبدأت ألقي نظرة على الكتاب‪ ،‬النسخة مجيلة يف غاية االبدا ‪ ،‬الغالف‬
‫والصورة والعنوان "الغريب" وشبح رجل مظلل ابألزرق واسم صديقيت يتهافت‬
‫مشوق‪ .‬إّال أنّه فجأة‬
‫على الظل‪ ،‬مائة وعشرون صفحة وعشرة فصول‪ ،‬كتاب ّ‬
‫‪56‬‬
‫وقع نظري على كتابة أخرى يف ّناية الرواية‪ ،‬كانت كتابة ابحلرب اجلاف‪ .‬إنّه‬
‫أبّنا ميكن أن تكون‬‫ط آخر‪ .‬اسغربت وف ّكرت ّ‬ ‫ط صديقيت‪ ،‬إنه خ ّ‬
‫ليس خ ّ‬
‫نسخة مغالطة وليست ي‪ ،‬مث بدأت ابلقراءة‪" :‬كوقع هذه الرواية ستكونني‬
‫خملوطة ابالحساس الفياض واحللم اهلارب والذكرى القاسية ولكنك ستظّلني‬
‫األنثى اليت تعجبين واليت حتتل مسامي دائما‪ ،‬اشتقتك"‪ .‬وذعرت مما قرأت‪ ،‬إنّه‬
‫هو‪ ،‬إنّه الغريب‪ ،‬يعود للتسلّل إىل حيايت‪ ،‬ميطرين كلمات مث يرحل‪ ،‬كيف‬
‫توصل إ ىل نسخيت وكيف كتب هذه الكلمات؟ أين كان؟ هل كان معي حبفل‬
‫التوقيع ولكنّين مل أره؟ ملاذا مل يتّصل يب وكيف عرف أين أكون؟ هل هو يتبعين‬
‫عين كل شيء؟ ملاذا يتالزم وجوده بوجودي؟ ملاذا مل حي ّدثين مباشرة‪.‬‬
‫ويعرف ّ‬
‫أعجز عن التعبري عن كل ما خياجلين اآلن‪ ،‬الغريب هنا يف حضوري‪ ،‬يف‬
‫الغياب‪ ،‬يف التسلّل العرضي ألاني فجأة عن هذا الوجود‪ ،‬يف املماطالت‬
‫املستفزة لروتينية احلياة‪ ،‬يف الالتوقعات احملسوسة على أنني اتفه‪ ،‬يف الوقع‬
‫لتعرب‪ ،‬يف‬
‫الغريب الذي ال حيمل مسفونيّة‪ ،‬يف تراتيل احلروف عندما تتماهى ّ‬
‫عجز اللّغة وخواءها‪ ،‬يف ضيا املعّن والكلمة‪ ،‬يف تواتري أان بني اللّعبة‬
‫الشىت هنا وهناك‪.‬‬
‫واحتماالهتا‪ ،‬يف يقيين وشك وترييت‪ ،‬يف االحتماالت ّ‬
‫أراك حتتلين بني أركان أاني‪ ،‬تعربد بني األجنحة القصيّة‪ ،‬ترّمن ترنيمة حلم ما‬
‫وتستفز مهسي كي يبحث عنك‪ .‬وهاهي رسالتك‬ ‫ّ‬ ‫يف احلياة‬
‫وحتتفي‪ ،‬توقظ ّ‬
‫أمتّن أن تعجبك نسختك‬ ‫على اهلاتف أتيت من خلف مساحات الفراغ " ّ‬
‫ويعجبك االهداء"‪ .‬عيناي ما زالتا تغوصان هنا وهناك حبثا عن املعّن‪ ،‬أفتّش‬
‫أي لعبة أنساق فيها وال أمل؟ ويعود حممود إىل املنزل‪.‬‬
‫عنك بيين وبني نفسي‪ّ .‬‬

‫‪57‬‬
‫‪22‬‬
‫أستفيق بعد مدة النفاس على جزعي وتوتري وعلى القلق الذي ميتد يوما بعد‬
‫آخر‪ .‬األايم متر وأان وحدي‪ ،‬ال شيء سوى رضيعة توقّع حبثها عن أبيها‬
‫بصراخ مستمر‪ ،‬أسكتها عنه أبن أانوهلا ثديي حىت متتص حلييب وتنام‪.‬شهد‬
‫ومنذ ّأايمها األوىل تعرب عن قلقها مثلي‪ ،‬تستشيط من لعبة احلياة والقدر‬
‫أين‬
‫كأمها‪ ،‬شقاءا مستمرا‪ ،‬نعم‪ ،‬ابلرغم ّ‬
‫وكأ ّّنا تدرك متاما أ ّن قدرها قد يكون ّ‬
‫ال أمتّن ذلك‪ .‬يبدأ شقاؤك منذ حلظة والدتك‪ ،‬إذ مل يكن والدك معنا‪ .‬ولدت‬
‫حىت دون أن يرى جسمك الطري وعينيك املغمضتني‪ ،‬دون أن يشتم ربيعك‬ ‫ّ‬
‫وحسك الربيء‪ ،‬دون أن أن خيتار لك امسا‪ ،‬أو يسجلك ابلبلدية‪ ،‬دون‬
‫اللبين ّ‬
‫أن يشهد على أبوته‪ .‬اختفى كجبان ما‪ ،‬ال يهمه سوى الرحيل وكفى وعلى‬
‫أعقابه يرتك ّأما مثقلة ابل ّدمع ورضيعة بني أحضاّنا‪ .‬ما ترك لك سوى هذه‬
‫الغرفة‪ ،‬غرفة مزركشة ابأللوان واللعب‪ ،‬فارغة من االحساس واملعّن‪.‬كم‬
‫أمضيت من شهر وأنت جتهزها اي حممود‪ ،‬أتثّث ألبوتك القادمة‪ ،‬تزيد وتنقص‬
‫حتملها تباشريا حارة ومحاسا ال مثل له‪ .‬واليوم أنت بعيد وغائب‪،‬‬
‫كل يوم‪ّ ،‬‬
‫حترك ساكنا إن كنت أان خبري أم ال‪ ،‬إن كانت شهد خبري أم ال‪ ،‬ال‬
‫أنت ال ّ‬
‫هتمك سوى نفسك‪ ،‬حتمل قلقك وترحل دون تفسري‪ .‬واليوم أجدين أغوص‬
‫يف ضيا ال قا له‪ ،‬أيكلين استفزازي‪ ،‬أتّصل بك فأجد رقمك مغلقا‪ ،‬أتّصل‬
‫ابلشركة فال أجد خربا عنك‪ .‬جنوى بطريقتها حاولت أن جتد أخبارا عنك وأان‬
‫أجدين أحتار كيف تنساين بعد تلك الليلة‪ ،‬بعد أن أ ّكدت أبنّك حتبّين وأنّين‬
‫أعين لك الكثري‪ .‬أعرف أبنّين أخطأت يف حقك كثريا ولكنّين أمتّن أن نبدأ من‬

‫‪58‬‬
‫جديد‪ ،‬أن جن ّدد عهدا من أجل شهد‪ ،‬من أجلي أان‪ ،‬من أجل أن نرتّب أاني‬
‫املبعثرة ‪.‬‬
‫مرت األشهر كذلك وشهد تكرب كل يوم‪ ،‬أخاف أن تكربي أكثر اي شهد‬
‫وتسأليين عن أبيك‪ ،‬عن حممود فما عساي أجيبك‪ .‬أنت تستمر يف الغياب‬
‫وأان أستمر يف الضيا واخلرب املعلق يف نشرة األخبار يعلن أبنّك رجل أعمال‬
‫تورطك‬
‫متورط يف قضااي فساد ورشوة وأ ّن عديد التجاوزات اليت قمت اها قد ّ‬
‫ّ‬
‫أكثر فأكثر للمثول أمام القضاء واحملاسبة‪ .‬مل أص ّدق يف البداية‪ ،‬أيعقل أن‬
‫تفسر‬
‫تكون من رجال األعمال الفاسدين‪ .‬ورفعت من صوت التلفاز واملذيعة ّ‬
‫تبني أ ّن عددا من رجال األعمال التونسيني‬ ‫اخلرب وتشرح التفاصيل أكثر‪ّ " :‬‬
‫متورطون يف قضااي فساد ومن بينهم السيد حممود العابد‪ ،‬رجل األعمال‬
‫تسجل ضده عديد التجاوزات وهو‬ ‫املشهور الذي ميلك شركات عقارية‪ّ ،‬‬
‫مطلوب للمثول أمام القضاء‪ .‬ويف انتظار القبض على السيد حممود العابد‬
‫علي‪ ،‬مل أكن أتصور أب ّن‬
‫وتبقى التحرايت جارية"‪.‬كان اخلرب مثل صاعقة تنزل ّ‬
‫مربراآلن فقد اختفى‬
‫ورجحت أب ّن اختفائه ّ‬
‫متورط يف مثل هذه القضااي ّ‬
‫حممود ّ‬
‫منذ أشهر وأظن أبنّه هارب من العدالة حبكم خوفه من أن يود ابلسجن‬
‫وحياكم‪ ،‬لذلك اختفى حىت يهرب وجيد حياة اخرى‪ ،‬فحياته هنا ستكون يف‬
‫حىت‪ ،‬رحلت‬‫خطر‪ .‬اآلن فهمت ملاذا اختفيت بتلك الطريقة دون أن ختربين ّ‬
‫دومنا ودا لتظفر بنفسك وكفى‪ .‬ما عساك تفعل معي وأان ال أستطيع أن‬
‫أنقذك من براثن السجن أو أن أؤثث معك لغد جديد‪ .‬اخرتت أن ترحل حىت‬
‫ترتّب حياتك من جديد‪ ،‬رّمبا يف منطقة معزولة ما من هذا البلد أو يف بلد‬

‫‪59‬‬
‫اخر حيميك أكثر مين وحيبك رمبا‪ ،‬احلب الذي مل أستطع أن أمنحه لك‬
‫يوما‪ .‬هكذا خسرتك ولألبد وهكذا عشت خلمس سنوات مع رجل أجهل‬
‫من يكون‪ .‬وهكذا يلبسين القدر رداء جديدا‪ ،‬أنزوي بطريف ألبسه حزان جديدا‬
‫لرحيل اخر وأبقى أان مرسومة النسيان‪ ،‬تضعين أنت يف صندوق ذكرايتك‬
‫القدمية‪ ،‬تنظر إليها كل ساعة‪ ،‬تستحضرها ومتضي فلم يعد ي مكان مكان‬
‫شك‪.‬‬
‫بينك‪ .‬سرتحل دون عودة ال ّ‬

‫‪23‬‬
‫مل ادرك بعد أبنّين عشت أكثر من مخس سنوات مع شخص أكاد ال أعرفه‬
‫البتّة‪ .‬أين حممود الذي يتحد عن القيم واملبادئ ورفعة األخالق والنزاهة‬
‫وغريها‪ .‬أين يكون؟ ال ب ّد أنّه كائن خرايف صنعته خميّليت وأضفت عليه بريقا‬
‫من األحالم فأضحى أمامي مالكا ابهتا‪ ،‬أراه أان فقط‪ .‬حممود العابد‪ ،‬اسم‬
‫متورط يف قضااي‬
‫ليتبني أبنّه ّ‬
‫يتوسط مجلة من رجال األعمال املرموقني يف البلد ّ‬
‫ّ‬
‫فساد ورشوة وتبييض أموال‪ .‬حممود العابد‪ ،‬اسم يتواتر بني الفينة واألخرى‬
‫على حمطات القنوات التونسية فاضحا خرااب آخر تتورط فيه أنت ومن‬
‫يف زلزاال مازلت ال أعرف منتهاه‪.‬‬
‫يشبهك‪ ،‬أنت كأعقاب هذه الثورة حتد ّ‬
‫حيتل أطراف حيايت‪ .‬بدوت ي رجال مرموقا‬
‫أين كنت أعيش يف ضباب ّ‬ ‫هتيّأ ي ّ‬
‫وهكذا كانت بداية إعجايب بك‪ ،‬مازلت أذكر كيف كنت تنتقد السياسة‬
‫الرشوة والفساد‪ ،‬كنت من رواد الطريق السوي‪ ،‬كنت‬
‫احلاليّة وأساليب التحيّل و ّ‬
‫تقول أبنّك لست مثلهم وأنّك خمتلف وتريد أن تنجح بسبل نزيهة‪ .‬ترى كم‬
‫من قنا كنت تلبس اي حممود؟ أكاد أقول أبنّين كنت أعيش مع شبح ال غري‪.‬‬
‫‪60‬‬
‫صحيح مل نتّفق يف العديد من األشياء ولكنّين كنت أؤمن بنزاهتك وهذا ما‬
‫كان جيعلين أحرتمك على األقل‪ ،‬نعم كنت أحرتمك على األقل‪.‬‬
‫يف ظل التيه الذي كنت أحس به قررت ّأال أحبث عنك جمددا فالشرطة‬
‫والقانون مها اللذان سيبحثان عنك وحياسبانك‪ .‬ما عساي أفعل مع رجل‬
‫األايم وأفصل ذايت عن عاملك فما‬
‫نصف رجولته قد سلب‪ .‬سأدعك أنت و ّ‬
‫عاد جيمعنا شيء‪ .‬اآلن فهمت أبنّك اختفيت لتلك األسباب اليت كنت‬
‫أجهلها‪ ،‬ف ّكرت أبن تنقذ نفسك وتنسى اجلميع‪ .‬ما عساك تفعل مع امرأة‬
‫أمضت سنوات زواجها معك على القلق واحلرية والالتفاهم؟ هل ستعود إليها؟‬
‫ال أظن فما عاد ينفع أن كنت حتبّين فعال كما تقول وأان ال أفهم‪ .‬رّمبا وجب‬
‫ط‪ .‬وهذه الصغرية اليت تعوي كل يوم‪،‬‬ ‫التسليم أبنّنا ال نتفاهم ولن نتفاهم ق ّ‬
‫أسكنها بني طيّايت وأغدق عليها حلييب‪ .‬هي ذلك اجلزء املبتور منك‪ ،‬الذي‬
‫تركته ورحلت‪ ،‬ستحمل امسك ال أكثر‪ .‬هذه هي الذكرى اليت خلّفتها اي‬
‫حممود‪ ،‬وجه طفوي بريء وابتسامة حائرة وقلق وانتظار ال أكثر‪.‬‬
‫وقررت حلظتها أن أفتّش عن حممود العابد‪ ،‬ليس ابقتفاء أثرك ولكن ابلبحث‬
‫ّ‬
‫فيك‪ ،‬بني طيّاتك‪ ،‬بني كتبك ومكتبك وأوراقك‪ ،‬بني هذا الفضاء الفسيح‬
‫الذي أثّثته ي ورحلت‪ ،‬لعلّين أكتشف تفاصيل أخرى عن ماضيك وحياتك‬
‫وأعمالك أيضا‪ ،‬لعلّين أجد أكثر من قنا تتخفى وراءه حىت أحب هذا‬
‫املالك‪ .‬بدأت مبكتبتك‪ ،‬عبارة عن مائة كتاب أو أكثر كلّها مص ّففة بطريقة‬
‫مرة وهي تواجهين كل يوم ولكنّين مل أخرت‬‫ألول ّ‬
‫رائعة‪ ،‬أحسست وكأنّين أراها ّ‬
‫هتمين‪ ،‬أذواقنا خمتلفة‪ ،‬أنت‬
‫ّأاي منها ألقرأه يوما‪ .‬كتبك اي عزيزي ال تغريين وال ّ‬

‫‪61‬‬
‫احب األدب والشعر‪ .‬لذا‬
‫حتب السياسة وعلم االجتما والعلوم السياسية وأان ّ‬
‫ّ‬
‫أبين رأيت بعض العناوين لكتب فلسفية ورّمبا‬
‫أظن ّ‬
‫لك مكتبتك وي مكتبيت‪ّ ،‬‬
‫ديواان لنزار قباين مما أربك توقعايت‪ .‬حممود يقرأ عن الفلسفة وعن الشعر؟ رمبا‬
‫ط اجلديّة اليت تنسج هذه االختيارات‪ .‬حاولت أن‬ ‫كسرت هذه العناوين خ ّ‬
‫أفتحها مجيعها وأتص ّفحها لعلّين أجد شيئا‪ ،‬خيطا ما‪ ،‬لوان معيّنا‪ ،‬تفصيال‬
‫جيعلين أكتشفك أكثر‪ .‬معظم الكتب كانت فارغة‪ ،‬البعض كان حيتوي على‬
‫أوراق نقدية لعمالت أجنيبية‪ ،‬ال ب ّد أنك حتتفظ اها ما دمت كثري األسفار‪،‬‬
‫وفرغت من املكتبة‪ .‬ال شيء ميكن أن يدلّين من تكون اي حممود‪ ،‬مل أكن اظن‬
‫أبنّك كثري التعقيد هكذا‪ ،‬مرّكب البسيطة وغامض أكثر مما اعتقدت‪ .‬ذهبت‬
‫املفضل دائما‪ ،‬صحيح مل تكن تبقى به كثريا ولكنّك‬
‫إىل املكتب‪ ،‬مكانك ّ‬
‫كنت حتبّه‪ ،‬تضع فيه دفاترك القدمية‪ ،‬أوراقك‪ ،‬شهاداتك اليت تعلقها‪ ،‬حتفك‬
‫املفضلة اليت تبتاعها من بلدان متنوعة وصوريت عند ّأول لقاء مجعنا‪.‬كنت قد‬
‫اختطفت ي صورة وأان مل أحلظ‪ ،‬وضعتها هنا على مكتبك‪ ،‬ال بد أنّك كنت‬
‫تتأملين وأنت جتلس هنا‪ ،‬تتساءل حتما أي قدر وضعك يف متاهيت فأضحيت‬
‫ّ‬
‫اتئها مثلي‪ .‬املكتب على حاله‪ ،‬يف نظامه وهدوئه‪ .‬وجدت أوراقا من‬
‫خمصصة لذلك منظمة ابلشهر والسنة‪،‬‬
‫األرشيف‪ ،‬كنت تضعها يف صناديق ّ‬
‫أين فهمت تفاصيلها كثريا‪ ،‬عقود بيع ‪،‬شراء‬ ‫عندما فتحتها وقرأهتا ال أذكر ّ‬
‫مسجلة‬
‫وتراخيص وتفاصيل هتمك وهتم عملك‪.‬كنت أتوقّع أن أجد خمالفة ّ‬
‫ابمسك‪ ،‬شكوى‪ ،‬قضية ابحملكمة إالّ أ ّن كل شيء كان على ما يرام‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫يف أدراج املكتب كنت تضع سجائرك املفضلة‪ ،‬ألبومات صور لوالديك‬
‫وإخوتك‪ ،‬فواتري املاء والكهرابء واهلاتف‪.‬كم كنت منظّما‪ ،‬كل شيء يف‬
‫مكانه‪ .‬يف الدرج األوسط كنت تضع دفرت الشيكات وأوراقك البنكية وبعض‬
‫األوراق اخلاصة كشهادة امليالد ووصول مشرتايت كثرية كلها مسجلة‬
‫ابلتفصيل‪ :‬مع ّدات للمكتب‪ ،‬سرير الطفل‪ ،‬سيارة جديدة‪ ،‬عقار ابلعاصمة‪،‬‬
‫كل‬
‫أرض فالحية‪ ،‬مواد بناء‪ ،‬أاث ‪ ،‬هاتف خلوي جديد وعقد من املاس‪ّ .‬‬
‫املشرتايت بدت يف غاية العادية ولكن ملن يكون عقد األملاس هذا؟ هل هو‬
‫يرتجى حبا ليس له أمل‪ ،‬أظن أبنّه‬
‫لعشيقة حممود؟ أظن ذلك فلن يبقى حممود ّ‬
‫معها اآلن‪ ،‬كان سيهديها العقد ورّمبا يعيش معها اآلن ونسيين وانتهى األمر‪.‬‬
‫أتسس فيها حياتك مع امرأة‬
‫أان خلقت للنسيان وأنت ترحل إىل دنيا جديدة ّ‬
‫أخرى‪ ،‬مع لون ما‪ ،‬مع بداية جديدة أغيب فيها أان‪ .‬ال بد أنّك سعيد معها‬
‫مين‪ ،‬أان اليت جئتك خبسارايت‪،‬‬
‫وال بد أنّك حتبّها‪ ،‬رّمبا علّمتك احلب أحسن ّ‬
‫أباني املعطوبة‪ ،‬محّلتك أكثر مما جيب وخسرتك إىل األبد‪ .‬امض إليها فقد‬
‫مين‪ .‬نعم أفضل مين‪ .‬رمبا‬ ‫احلب على قواعده‪ ،‬رمبا تستحقك أفضل ّ‬‫تعلّمك ّ‬
‫رأت فيك ما مل أره‪ ،‬أان اليت أجنبت لك طفلة مجيلة لن تراها أبدا‪ ،‬ألنّين‬
‫دفعتك خارجا وأودعتك قفص النسيان‪ .‬امض إليها وال تعد‪.‬‬
‫يف آخر الدرج أيضا كان هناك صندوق خشيب‪ ،‬كان مغلقا حبكمة ووجدت‬
‫أبنّه مقفل مبفتاح صغري جدا‪ .‬ولكن أين ميكن أين يكون املفتاح؟ أحسست‬
‫ابلرغم أنّين خنته عديد‬
‫ابليأس فجأة‪ .‬فكرة أن يكون حملمود عشيقة أربكتين ّ‬
‫املرات ولكنّين أحسست أبنّين خسرته واىل األبد‪ .‬حممود لن يعود‪ ،‬هذا تفصيل‬
‫ّ‬

‫‪63‬‬
‫من التفاصيل اليت كنت أود أن أعرفها عنك أكثر‪ ،‬لقد خنتين وخنتك وانتهى‬
‫وابلرغم من شغفي ابلغريب إالّ‬
‫األمر‪ .‬ولكن أنت خنتين ورحلت معها ّأما أان ّ‬
‫حىت‪ .‬أعرف أبنّين جمنونة وكفى ولكنّين أحتاجك الآلن‪.‬‬
‫أنّين مل أف ّكر اهجرانك ّ‬
‫حاولت أن أحبث عن املفتاح‪ ،‬أين تراه يكون؟ أين خبأّه حممود؟ يف األدراج ال‬
‫أظن‪ ،‬حممود خيتار األماكن بدقّة وحىت األركان الصغرية يتقن استغالهلا وهلا‬
‫قيمة لديه‪ .‬حبثت بني األوراق والدفاتر‪ ،‬بني التحف واهلدااي ولكين مل أجد‬
‫شيئا‪ .‬املفتاح صغري جدا وال بد أنّه قد وضعه يف مكان سري جدا أو محله‬
‫معه على األرجح ليبقى الصندوق مغلقا‪ ،‬منطواي على أسرار أخرى‪ .‬ال ب ّد أ ّن‬
‫الصندوق حيمل سرا آخر‪ .‬حمملة األقالم أيضا كانت فارغة وحتت املكتب‬
‫وفوق املكتب واملكتبة‪ ،‬ال شيء‪ ،‬مل يبق سوى األلبوم‪ ،‬حبثت فيه‪ ،‬كلّها صور‪،‬‬
‫ال مكان لشيء آخر غري الصور‪ .‬بقيت على حرييت‪ ،‬واجهتين صوريت فوق‬
‫املكتب‪ ،‬ما أحالها وما أحالين وقتها‪ ،‬كانت مأخوذة بكل تلقائية‪ ،‬مازلت‬
‫أذكر ذلك اليوم‪ ،‬ابتسامة مرسومة على وجهي وتلقائية ال مثيل هلا‪ .‬أعجبتين‬
‫وتغريت‪ .‬حممود عرف هذه الفتاة وأحبها‬ ‫أروى اليت كنت إ ّايها‪ ،‬كنت هكذا ّ‬
‫وليست أان‪ ،‬لقد أصبحت شخصا آخر‪ .‬بقيت أقلّبها وأتفحص كائنا كان‬
‫أان‪ ،‬أقلّبها بني زوااي اإلطار ذات اليمني وذات اليسار‪ ،‬أقلّبها وأقلّب ما حتتوي‬
‫من أروى األمس‪ .‬هذه أان‪ ،‬كنت كذلك‪ ،‬يوما ما‪ ،‬ما أحالين‪ .‬فعال‪ ،‬كنت‬
‫وتصورت أبنّك ستعيش معها سعادة ال مثيل‬ ‫صائبا عندما عشقت تلك الفتاة ّ‬
‫هلا‪ .‬نعم هذه أروى اليت أحبّها حممود‪ ،‬رّمبا تغريت فعال ومل أعد أاني السالفة‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫فعال حنن نتغري وال ننتبه لذلك‪ .‬رمبا تغريان حنن االثنني فلم نعد منشي على‬
‫طريق واحدة‪ ،‬لذا ال ألومك اي حممود فأنت أحببت من كنت أان‪.‬‬
‫نعم مل تكن تراين كما أان اآلن‪ .‬مل تكن حتس ابلفوضى املؤسسة ألطرايف‬
‫وابجلنون اهلاذي هنا وهناك‪ .‬مل تكن ترى سوى قشوري ال أكثر‪ ،‬يبدو أنّين‬
‫سين‪ .‬مل‬
‫لبست األقنعة أيضا كي أحصل على زوج كالفتيات مجيعا يف مثل ّ‬
‫أكشف لك يوما أن خرااب يتوسط داخلي ويتواتر دون رجعة‪ ،‬يربكين شيئا‬
‫ط‪ ،‬أان املرأة املتكئة على أرجوحة قلقي أخفي واقعا مل‬
‫فشيئا فال أعرف توازان ق ّ‬
‫تره أنت وكنت برباءة األطفال أحدثك عن احلب واالحساس واالنفعال‬
‫يف احلب‪ .‬أان لبست‬ ‫واهلمس ومل أخربك أبنّين موجوعة برحيل آخرين قتلوا ّ‬
‫األقنعة كذلك أقنعتك أبنّين متوازنة‪ ،‬أبنّين أنبض حبّا وحياة‪ .‬عفوا حممود‬
‫لست من يلبس األقنعة فقط أان أيضا لبستها‪.‬‬
‫وأتملت صوريت أحسست بشيء‪ .‬فتحته‪ .‬أخرجت‬ ‫حركت االطار ّ‬ ‫كلّما ّ‬
‫الورق اخللفي لالطار وأزلته وكان شيئا ما هنا‪ .‬وكان املفتاح هناك‪ ،‬صغريا‬
‫سرا‪ ،‬حتمل مفتاحا‬ ‫موضوعا بكل دقة يف ركن ما‪ .‬صوريت كصاحبتها حتمل ّ‬
‫حنو احلقيقة‪ .‬سارعت بفتح الصندوق‪ ،‬كانت دهشيت حينما وجدت عقد‬
‫املاس هناك واستغربت مل ترتكه هنا‪ .‬حذوه وجدت شرحية هاتف ال ب ّد ّأّنا‬
‫قدمية وأ ّن حممود ال يستعملها كثريا‪ .‬بدا األمر يف غاية الغرابة‪ ،‬فأان أعرف أرقام‬
‫أجراها‪،‬‬
‫حممود الثالثة فما عساه يفعل اهذه الشرحية؟ ساقين فضوي ألن ّ‬
‫وضعتها ابجلوال وفتحتها‪ .‬البياانت كلها عادية ولكن عندما دخلت إىل‬
‫بياانت الرسائل وجدت العديد منها‪ ،‬سواء املرسلة أواملقبولة‪ ،‬بدأت أقرأ‬

‫‪65‬‬
‫بعضها "شكرا لرقّتك‪ ،‬إىل اللقاء"‪" ،‬أين أنت‪ ،‬أان انتظرك عند ابب املسرح"‪،‬‬
‫"شكرا لالهداء‪ ،‬إنّه يف غاية الرقة"‪ .‬وجزعت‪ .‬أ ّّنا رسائلي اليت كنت أرسلها‬
‫إىل ذلك الغريب! "أين أنت اشتقتك‪ ،‬أمتّن أن يعجبك االهداء وتعجبك‬
‫الرواية"‪ .‬وغدا تواتر الوقع الغرييب أكثر‪ ،‬يبدو أ ّن الغريب كان أكثر من مألوف‬
‫لدي‪ ،‬أكثر من العادي واليومي والسائد‪ ،‬أكثر مما أعتقد‪ .‬يبدو أنّين مل أر‬‫ّ‬
‫أكثر مما يتوجب أن أفعل‪ ،‬كما قال حممود يوما "أنت مل تفهمي‪ ،‬مل تفهمي كم‬
‫أحبّك"‪ .‬غدا حممود فتات ذكرى تستجمع حضورها معي اآلن وأان اليت ال‬
‫أقوى على مصارحة نفسي ابحلقيقة‪ .‬أنتفض مذعورة أحبث عن تفصيل يقول‬
‫أبنّين لست مع الغريب مباشرة‪ .‬أان اليت كنت أحبث عنه دائما يف التفاصيل‬
‫اليومية يف حب ابهت ورسالة هاتفية‪ ،‬أرتوي من حضوره االفرتاضي والغائب‬
‫يتأمل تفاصيلي عندما أرنو ألن ألقي جزأه اآلخر‬
‫مرة‪ ،‬أراه يعيش معي هنا‪ّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫يف لقاء عشوائي ما‪ .‬أان اليت مل أرك مطلقا‪ ،‬أعتذر اي حممود‪ ،‬مل أرك اي حممود‬
‫بكل جوارحي‪ .‬فشلت أبن أعشقك يوما وعشقت نصفك املتخفي وراء رداء‬
‫الغريب‪.‬‬
‫‪24‬‬
‫أروى حبيبييت‪ ،‬أنت دوما بقليب ومل تربحيه قط‪ .‬حبيبيت أروى لو تعلمني كم‬
‫أحبّك‪ ،‬لو تعلمني كم أمتّن أن أحضنك اآلن وأقبّلك وأرويك من حناين الذي‬
‫مل أحسن يوما كيف أوصله إليك‪.‬كنت أحملك من بعيد أنت تفيضني أنوثة‬
‫وكنت أكابر وأعاملك بربود يف أغلب األحيان‪ .‬ال أقوى على البوح لك بكل‬
‫تغري وما حصل‬
‫ما أمحله لك من مشاعر‪ ،‬من أجلك فقط اي أروى أريد أن أ ّ‬

‫‪66‬‬
‫علي‪.‬‬
‫تغريت‪ .‬منذ أن عرفتك وأان أحصي درجات التغيري اليت طرأت ّ‬ ‫هو أنّين ّ‬
‫العملي‪ ،‬املنظم‪ ،‬السبّاق إىل إبرام الصفقات ومجع‬
‫ّ‬ ‫أان حممود العابد‪ ،‬الرجل‬
‫األموال واالجتماعات والسفر والشراكات‪ ،‬صاحب الفيلال الفاخرة والسيارة‬
‫الفخمة‪ ،‬رجل يتوسط جناحا ماداي وآخر اجتماعيا ولكنّين كنت فارغا من‬
‫الداخل‪ ،‬كنت أجوف‪ ،‬كنت نصف رجل واكتملت حني التقيتك‪.‬‬
‫عذرا اي أروى لقد أحببتك ولبست أقنعنة كثرية كنت من خالهلا أحاول أن‬
‫هزتين من الداخل‪ ،‬كنت فقط‬
‫أعثر على املرأة اليت التقيتها ّأول مرة‪ ،‬امرأة ّ‬
‫أي امرأة تكونني وما عساي أفعل كي أسعدك‪.‬‬ ‫أحاول أن أفهم ّ‬
‫كلّنا خسارات اي أروى‪ ،‬كلّنا نتوءات مبثوثة على صفحاتنا‪ ،‬كلّنا عيوب وكلّنا‬
‫ازدواجيات متواترة تواري جانبا وتفضح آخر‪ ،‬وأنت كنت حبيبيت وستظلني‬
‫وأان اعرف أبنّين كنت قاسيا عليك يف بعض األحيان‪.‬‬
‫أان الرجل املنكسر من احلياة ف ّكرت أبنّين سأجد راحيت لديك‪ ،‬كل األحالم‬
‫اليت حلمت اها‪ ،‬شكل املرأة ووجداّنا‪ ،‬عمق إحساسها‪ ،‬أنوثتها‪ .‬ال أدري مل‬
‫رأيت فيك املرأة اليت أحبث عنها طيلة حيايت‪ ،‬أنت حبيبيت وأان أنتمي إليك‪.‬‬
‫أبين بعيد اي أروى‪ ،‬أان مل أبتعد عنك يوما‪ ،‬كنت دائما قريبا منك‪،‬‬
‫ال تظين ّ‬
‫أحرسك بعيين‪ ،‬أتتبّع خطواتك‪ ،‬أحلظ ابتسامتك وغضبك‪ ،‬أحاول فقط أن‬
‫أراقبك من بعيد وكفى‪ .‬ال ب ّد أنّك تسألني وتسائلني نفسك أين ذاك الغريب‬
‫وكيف اختفى وأين‪ .‬أان كنته اي حبيبيت‪ ،‬أان الذي مل أحسن كيف أحبّك‬
‫بشكلي وشخصييت فف ّكرت أبن أقتبس شخصية ما‪ ،‬أش ّكلها على حنو ما‪،‬‬
‫أرّكبها على مقاسك حىت حتبّيها وتتعلقي اها‪ .‬أان حممود العابد‪ ،‬لست املناسب‬
‫‪67‬‬
‫ولن أكون كي حتبيين لكن أن اكون الغريب املتدي من خلف ستار الغموض‬
‫خريت أن‬
‫مشوق قد أكون عندها حلمك املنتظر‪ .‬نعم‪ّ ،‬‬
‫والغرابة يف شكل ّ‬
‫ألبس شكال من أشكال التخفي خلف الرسائل اهلاتفية أو من خالل إهداء‬
‫متسلّل لصفحات رواية أو يف موعد على ضفاف اهلروب كما حصل عند‬
‫ابب املسرح‪ .‬كنت لطاملا أضعف كي أكشف لك عمن أكون ولكنّين أتراجع‬
‫كي تواصلي احللم‪.‬‬
‫لطاملا كنت أرى استعدادك للقاء الغريب هذا‪ ،‬ولطاملا كنت أغار منه‪ .‬ختتارين‬
‫له أمجل الفساتني واملاكياج والعطور‪ ،‬تتأنقني ملالقاته‪ ،‬توارين االبتسامة بني‬
‫وتتعرفني عليه أكثر‪ .‬كنت‬
‫شفتيك وحتاوليني إخفاء فرحتك النّك سرتينه ّ‬
‫تقولني ي ابنّك ستبقني ابلبيت أو سرتين صديقتك جنوى والواقع انّك‬
‫ستقابلينه‪.‬كم أنت حمظوظ أيّها الغريب‪ ،‬تسرق زوجيت مين لتحتفي ابحلب‬
‫وكأ ّّنا مراهقة أتثّث ملواعيد غرامية شيّقة‪ .‬يف زاوية ما رأيتك هناك‪ ،‬عند ّأول‬
‫لقاء مرتّب بيننا‪ ،‬أو بينك وبني الغريب‪ ،‬فستان ضيّق ومثري‪ ،‬شعرك املتمرد‬
‫كان يتدىل على كتفيك وماكياجك كان مثريا كذلك‪.‬كم كنت أمتّن أن تتزيّين‬
‫ي كذلك وأن تربزي ي مفاتنك أكثر وابلطبع مل أجرؤ على أن آيت أو أغازلك‬
‫مباشرة‪ ،‬فقط أرسلت لك ابقة الورد وعدت أدراجي‪ .‬كنت أحلظ قلقك‬
‫وانتظارك‪ ،‬انتظرتين لثال ساعات‪.‬كم أنت حمظوظ ايّها الغريب‪ ،‬تنتظرك‬
‫متل‪ .‬تسرعني بعدها إىل املنزل‪ ،‬حتملني ابقة الورد‬
‫أروى لثال ساعات وال ّ‬
‫أبرر غيايب بعد‬
‫أظل أان على صميت‪ ،‬أحاول أن ّ‬ ‫وجترين معك خيبة أمل‪ .‬و ّ‬‫ّ‬
‫يومني أوثالثة برسالة لطيفة‪ .‬أعود إىل املنزل مساء ألجدك تقومني بدورك على‬

‫‪68‬‬
‫حتضرين ي العشاء‪ ،‬جتلسني إىل جانيب تسلّمني‬
‫ما يرام‪ ،‬يف هيئتك العادية ّ‬
‫علي بقبلتني ابردتني‪ ،‬حتاولني إخفاء عبوسك وأان أعرف أبنّك مستاءة من‬
‫ّ‬
‫تشرد على ثال ساعات انتظار‪.‬‬
‫خيبة امل ومن لقاء ّ‬
‫أجترأ على سؤالك أين امضيت يومك‪ ،‬أكتفي ابلكلمات البسيطة "لباس‪،‬‬
‫ال ّ‬
‫حىت على‬
‫أجترأ على ملسك أو ّ‬‫لباس" وكفى‪ .‬عندما آوي إىل فراشي ال ّ‬
‫أحس ابخلوف من أن تنفري مين‪ ،‬أن حتسي أبنّين سألزمك‬
‫تقبيلك‪ ،‬كنت ّ‬
‫أظل أان على‬
‫على أن تعاشريين‪ ،‬أن تستائي وترحلي كما فعلت قبال وختتفي و ّ‬
‫قلق أحبث عنك‪.‬كنت فعال أخاف أن ترحلي وترتكيين‪ ،‬كنت أكتفي أبن‬
‫أربّت على كتفك او أطبع قبلة على جبينك وكنت تتجاهلينيين اببتسامة‬
‫تتمنني حلظتها أن أييت الغريب ليحضنك ويقبّلك بشغف‪.‬‬
‫ابردة‪ .‬لرمبا كنت ّ‬
‫ليتك كنت تعرفني كم أحببتك بعنف عندما كنت الغريب؟‬
‫مازلت أذكر حني كنت تتتسلّلني إىل الصالون‪ ،‬حتملني معك هاتفك لتكتيب‬
‫ط يف نوم عميق واحلال‬
‫إليه‪ ،‬ترتكينين مرميّا على السرير‪ ،‬تظنني أبنّين انئم‪ ،‬أغ ّ‬
‫أنّين كنت أكتب إليك وأان معك بنفس البيت‪ .‬أالطفك بعذب الكالم وكنت‬
‫تستسلمني ي‪ ،‬امرأة ش ّفافة بكل تضاريسها وانفعاالهتا وتلقائيتها وجنوّنا‪،‬‬
‫امرأة كانت كليّا ي وكفى‪ .‬نعم‪ ،‬كنت تستسلمني ي بكل تلقائيتك‬
‫تتعرين على الضفة األخرى كامرأة فاتنة‬
‫إي أمجل الكالم‪ّ ،‬‬ ‫وعفويتك‪ ،‬ختطّني ّ‬
‫حىت‪ ،‬امرأة حاولت أان منذ سنني أن اف ّكك شفراهتا ومل أستطع‬
‫ومثرية وعاشقة ّ‬
‫أين ف ّككتها بلباس الغريب‪ ،‬الوجه اآلخر حملمود العابد‪.‬‬
‫وها ّ‬

‫‪69‬‬
‫كنت أسعد اهذا االجناز‪ ،‬ألنّين أصبحت جزءا من حياتك االخرى‪ ،‬أان أيضا‬
‫أصبحت ذاات أخرى‪ ،‬تتسلّل من املكتب وتلغي كل التزاماهتا ملالقاتك عند‬
‫ابب املسرح‪ .‬كنت أراقب وصولك ووجودك ابملقاعد الوسطية‪ ،‬كنت أعرف‬
‫أبنّك شغوفة بعامل الفن الرابع‪ ،‬كنت أحاول فقط أن أقرتب منك أكثر‪ ،‬أن‬
‫أحسسك أبنّين أحب املسرح مثلك‪ .‬أتذ ّكر أبنّك هرعت للبحث عين‪ ،‬هتبني‬
‫ّ‬
‫تتشوقني للقائه‪ .‬وكنت أان‬
‫حبا‪ ،‬تسرعني اخلطى‪ ،‬تلهثني لرؤية الغريب هذا‪ّ ،‬‬
‫أهرب منك حىت ال تعريف من أكون‪ ،‬كنت أمتّن أن أصارحك ولكنّين كالعادة‬
‫أترك لك الباقة وأرحل‪ ،‬أتركك على وقع انتظار جديد‪.‬‬
‫الرتدد والغياب أنزوي بني طّياتك‪ ،‬ابحثا عنك‪ ،‬أحن إليك‬ ‫وأان اآلن بني ّ‬
‫ابألبوة‪ .‬نعم‪ ،‬كنت‬
‫وأنت معي‪ ،‬كنت سعيدا أكثر ألنّك ستهدينين إحساسا ّ‬
‫أرى أبنّك ستكونني ّأما مثاليّة‪ّ ،‬أما عاشقة‪ّ ،‬أما جمنونة رّمبا‪.‬‬
‫وأهديتين شهد‪ ،‬ها أان أراكما‪ ،‬حترسكما عيناي‪ ،‬تشتاقكما روحي اليت تظلّل‬
‫ي وال تعرفين وكنت أنت‬
‫على كونيكما‪ .‬أراها شهد تصرخ معلنة خوفها‪ ،‬حتن إ ّ‬
‫حبيبيت تنتظرينين على أمل‪ ،‬خيّبت أملك‪ ،‬أعرف أبنّك تتمنّني أن نعود كما‬
‫كنّا قبال نعم‪ ،‬أن نعود منصهرين كما كنّا يف زمن ما‪ .‬مازلت أذكر ليلتنا‬
‫ي بعنف وقلت لك أبنّين أحبّك وأنّك مل تفهمي‪ .‬مل أقو‬
‫األخرية‪ ،‬ضممتك إ ّ‬
‫على إخفاء مشاعري أكثر‪ ،‬أان اعشقك‪ ،‬صارحتك ورحلت‪ ،‬رحلت‬
‫وأوجعتك وأنت اآلن تزيلني القنا بعد اآلخر‪ ،‬تفك ّكني شفرايت‪ ،‬رّمبا ليست‬
‫أقنعة كثرية ولكنّين أحببتك كثريا وكنت صادقا وكفى‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫أان االّن يف الربزخ‪ ،‬أأترجح بني املوت واحلياة أظلّل عليك بروحي‪ ،‬إ ّين أراك‬
‫هائمة‪ ،‬أرى تفاصيلك اليومية‪ ،‬أشتاقك وكفى‪ .‬أان حممود العابد أرحل بكل‬
‫أقنعيت وحسنايت ومساوئي‪ ،‬أرحل دون عودة‪ ،‬أرحل ويف قليب امرأة ومالك‬
‫ونصفي اآلخر غريب‪ .‬أحبّك جبنون ومن جديد‪ .‬أان راحل اآلن دون أن‬
‫تعريف من أكون‪ ،‬رجل خبطاايي‪ ،‬أرى تفاصيل حيايت أمامي من حلظة الوالدة‬
‫ترتدد يف جويف وكنت أنت أمجلها اي حبيبيت‪.‬‬
‫إىل اآلن ّ‬
‫‪25‬‬
‫وأنت أيّها القارىء هل ف ّككت شفرة احلكاية؟ هل فهمت معانيها‬
‫ومقاصدها؟ هل غصت يف دهاليز الرموز لتفهم ما حيصل للشخوص وأنواهتا‬
‫والنفوس واهتزازاهتا؟ هل فهمت من يكون الغريب؟ أم انّك أضحيت غريبا‬
‫بني سطور هذه الرواية؟‬
‫ستزيد الغرابة أكثر عندما تكتشف أنّين أان من حبكت الرواية وربطت‬
‫أحداثها‪ ،‬ف ّككت أسرارها وحت ّكمت بشخوصها‪ ،‬وها أان أقف على قلقي‬
‫ألواصل سرد األحدا كما جيب أن تكون‪ ،‬رّمبا كما كنت أريدها أو على‬
‫األقل كما أمتناها‪.‬‬
‫حممود غاب يف ضيا آخر وهو الذي اختفى ملدة أشهر اختار أن يبتعد عن‬
‫أروى‪ .‬أذكر أ ّن صديقيت العزيزة قد صارحتين حبريهتا إزاء ما حيصل فلم تكن‬
‫تتصور أبنّه خذهلا هو اآلخر‪ .‬أروى املهزوزة ابخلذالن والضيا والرحيل املبكر‬
‫تتجر املرارة تلو األخرى‪ .‬ومل أكن أقوى على فعل شيء‪،‬‬ ‫لألشياء ما زالت ّ‬
‫حاولت أن أساعدها‪ ،‬حبثت عنه وحاولت االتصال به ولكن دون‬
‫‪71‬‬
‫جدوى‪.‬كانت املفاجأة عندما نشر امسه ضمن رجال األعمال املتّهمني يف‬
‫قضااي الرشوة والفساد وحينها استخلصنا أان وأروى أبنّه ال ب ّد خارج البالد‪.‬‬
‫عندما غاصت أروى يف حزّنا كنت إىل جانبها‪ ،‬أحسست أب ّّنا تتهافت على‬
‫أي عوامل كان‬
‫سراب قد ضا منها و ّأّنا كانت تعيش مع طيف من صنعها‪ّ .‬‬
‫خيفيها حممود ومل تعرفها‪ .‬وهي اآلن حتن إليه وهي تعرف أنّه لن يعود‪،‬‬
‫تنسحب حنو عاملها‪ ،‬تالعب صغريهتا وتصمت‪ .‬كنت أنزف حزان عليها‪،‬‬
‫متنيت أن أراها سعيدة ولو للحظة‪ ،‬مسكينة أنت اي أروى‪ ،‬مىت ينتهي‬
‫عذابك؟ منذ أن عرفتك وأنت على شكلك تلبسني القلق واحلرية والسؤال‪ .‬ال‬
‫جمال ألن تسعدي أو خترجي من فوضاك‪ .‬ليتين أستطيع أن أساعدك‪.‬‬
‫ي‪ ،‬كنت ترجوين‬ ‫مازلت أذكر حني اتصلت يب من رقم أجنيب وحتدثت إ ّ‬
‫ألساعدك ولكي ترى أروى من جديد‪ .‬قلت ي أبنّك بفرنسا وأنّك ال جترؤ‬
‫على أن تتّصل اها خشية أن تص ّدك‪ .‬قلت ي أبنّك حتبّها وأنّك ال تقوى على‬
‫العيش من دوّنا وتود مين أن أحت ّد إليها حىت تصفح عنك وتلحق بك إىل‬
‫أمس احلاجة إليها‪ ،‬طلبت‬
‫هناك‪ .‬استمعت إىل كل ما تقول‪ ،‬كنت يف ّ‬
‫حتضر نفسها وأنّك ستشرتي هلا التذاكر‪.‬‬
‫مساعديت وأردتين أن أقنعها أبن ّ‬
‫طلبت مين أن أح ّدد التاريخ وأنّك ستتّصل يب مرة اخرى لتحديد اتريخ احلجز‬
‫والسفر‪.‬‬
‫أان وعلى عكس ما كنت دائما‪ ،‬كذبت‪ .‬أردت أن أترك شيئا لنفسي‪ ،‬أن‬
‫اف ّكر أباننيّة‪ ،‬أن أدفعك خارجا وأصمت يف ختاذل‪ .‬مل تفوز أنت يف النهاية‬
‫كل األمل الذي سبّبته ألروى وأان من كنت معها دائما‪ ،‬يف حلظات حياهتا‪،‬‬
‫بعد ّ‬

‫‪72‬‬
‫يف انكاساراهتا وجنوّنا‪ ،‬دموعها وفرحها ترتكين؟ آسفة اي حممود‪ ،‬ال يسعين أن‬
‫أعطيك تذكرة للعبور إىل قلبها من جديد‪ .‬آسفة اي أروى‪ ،‬كذبت عليك‬
‫خريت أن أراك تتعذبني ولكنّين‬
‫وأخربتك أبنّين مل أتّصل بزوجك‪ .‬صحيح ّ‬
‫سعيدة ألنّك ستبقني معي‪.‬كنت أعرف أنّين إذا أخربتك عنه أبنّك سرتحلني‬
‫خاصة بعد أن عرفت أبنّه الغريب الرومانسي الذي كان‬
‫حنوه بكل شوق ّ‬
‫يطاردك‪ .‬ال أظن أبنّك ستخسرين فرصة التأسيس حلب جديد‪ .‬ولكنّين كنت‬
‫أعرف أبنّه هو الغريب ومنذ حادثة املسرح‪ .‬كنت قد رأيته صدفة عندما‬
‫أتخرت نوعا ما‪ ،‬مل أفهم ملاذا بقيت كل ذلك‬
‫حلقت بك يومها‪ ،‬كنت قد ّ‬
‫الوقت‪ .‬قبل أن أجدك رأيته يدنو من ركن ما‪ ،‬يسرتق النظر إليك مث يهرول‬
‫حنو سيارته وخيتفي‪ ،‬نعم كان هو‪ .‬عرفت احلقيقة ومل أتكلّم‪ .‬عذرا اي أروى‪ ،‬مل‬
‫مين‪ ،‬ال أريده أن حيتل‬‫اكن أريدك أن تعلمي أبنّه هو‪ .‬خفت أن يفت ّكك ّ‬
‫املكان األكرب بقلبك‪ ،‬أن حيتلّه الطيف رّمبا‪ ،‬اهلائم الغائب بني الطرقات‬
‫والفكر والصدف‪ .‬هكذا رّمبا أقبل بوجوده ولكن أن يتحول إىل شخص‬
‫وحضور فهذا إشكال حقيقي‪.‬‬
‫واآلن ال أحس بندم حقيقي‪ ،‬كل ما يهمين هو أنّك ومعي ومعي وحدي‪.‬‬
‫ي وأنظر إليك‪ ،‬ال حاجز بيننا‬
‫أقامسك أشيائي وتقامسينين أشياءك‪ ،‬تنظرين إ ّ‬
‫بعد اآلن‪ .‬رّمبا وبعد هذه السنني الطوال أخشى أن أصارحك مبشاعري‬
‫ولكنها احلقيقة اليت تفنّنت يف إخفائها واآلن أتفنّن يف إخراجها‪ .‬ال مكان ألن‬
‫أخفيها أكثر‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫أنت امرأة من ذهب وال أحد يعرف قيمتك غريي‪ .‬أان أحبّك‪ .‬لعل كل‬
‫اخلسارات اليت حصلت لك ألكون أان الراحبة فقط يف النهاية‪ .‬لعلّك مل‬
‫تفهمي مل أان دائمة احلضور معك‪ ،‬حاضرة يف غيابك وحضورك‪ ،‬أوليك كل‬
‫اهتمامي وفكري وأكثر‪ .‬إنّه احلب احلقيقي الذي تبحثني عنه اي أروى‪ .‬إنّه‬
‫تردد‪ ،‬دون أن أجرحك وكفى‪ .‬أعطيتك دون أن‬ ‫أان‪ ،‬أان اليت أحببتك دون ّ‬
‫أبين سآخذ جزءا من حقوقي عليك وهو أن تبقي إىل‬ ‫أظن ّ‬
‫آخذ شيئا‪ .‬واآلن ّ‬
‫جانيب و ّأال ترحلي فأان لن أرحل عنك ابدا‪.‬‬
‫أعرف أبنّك ال تستلهمني ما أقول‪ ،‬رمبا أقوله من دون وعي ورمبا من‬
‫جوارحي املسكونة بك‪ .‬نعم‪ ،‬أان هنا أعرتف أبنّين أحبّك وأنّين أريد أن أظل‬
‫معك دائما‪ ،‬لن أرحل عنك أبدا‪ .‬سأظلّل كونك ابالزهار واأللوان والعطاء‬
‫واحلب الالمتناهي‪ .‬فقط كوين ي‪.‬‬
‫اآلن وأنت تتم ّددين على هذا السرير‪ ،‬تفتحني عينيك وتتأملّني الفراغ الذي‬
‫أمشطه وأغدق عليك حناين وأعرتف لك‬ ‫يهز غرفة املستشفى أالعب شعرك و ّ‬
‫حبيب ولكن كيف ستفهمني؟ ال أظن أبنّك ستسمعني وتعني ما أقول‪ .‬بعد أن‬
‫ّ‬
‫اكتشفت احلقيقة عن الغريب وحممود وبعد أن مسعت خبرب وفاته إثر جلطة‬
‫دماغية حادة صدمت اي أروى وأحسست أبنّك قد خسرت كل شيء وأنّك‬
‫مل تق ّدري الرجل الذي كان أمامك‪ .‬مل تريه أو رمبا رأيته بعينيك فقط وليس‬
‫بروحك‪.‬‬
‫ولكن أين لك أن تعريف إذا كان اآلخر ال ينعكس بصورته احلقيقية لغاية يف‬
‫ترتدد يف جوفه ويرتسم عاراي بعيدا عن كل‬
‫التحفظ؟ ّأال يفضح أنواته اليت ّ‬
‫‪74‬‬
‫حبيب لك ومل‬
‫زيف؟ ولكن كيف ي أن ألوم حممود إذا كنت أان نفسي أحتفظ ّ‬
‫أقو يوما على أن أصارحك‪ .‬خفت أن أخسرك اي حبيبيت‪ .‬مل تكن أنت‬
‫الغريب الوحيد اي حممود‪ ،‬ف ّكلنا غرابء وكفى!‬

‫(متت)‬

‫‪75‬‬
76
‫كيف جاءت هذه الرواية؟‬
‫كلحظة عفوية يف حيايت‪ ،‬ولدت هذه الرواية‪ .‬مل أفكر يوما بكتابة أو نشر‬
‫رواية‪ ،‬ولكنها أتت على كل حال‪ .‬وكما قال صديقي الشاعر العراقي‬
‫حكمت احلاج حني اطالعه عليها خمطوطا‪ ،‬أ ّّنا جاءت مثل ملعة برق من ركام‬
‫التجربة احلياتية‪ .‬نعم‪ ،‬وهي كذلك‪ .‬جاءت نتيجة لتهافت وامتزاج ّلني بني‬
‫انفعااليت الشخصية واختيارايت‪ .‬إذ أتثرت مبسلسل أمريكي أدخلين عاملا من‬
‫الغرائبية والتشويق‪ ،‬وهذا ما حاولت صنعه يف رواييت هذه‪ .‬كنت كلما أّني‬
‫مقطعا أحس ابالرتياح أكثر‪ ،‬أغوص يف عامل شخوصي‪ ،‬أختيل حركاهتا‪،‬‬
‫انفعاالهتا وعواملها‪.‬كم هو مجيل أن تكتب رواية وكم هو مجيل أن تصوغ من‬
‫آالمك عاملا يسكنه اآلخرون داخل طقوس مجيلة من اإلبدا ‪ .‬هذا ما متخض‬
‫عنه عاملي‪.‬‬
‫هذا العمل هو عبارة عن جتربيت األوىل يف عامل الرواية وهو أيضا جتربيت األوىل‬
‫يف عامل النشر‪.‬‬
‫تدور أحدا الرواية حول امرأة تعيش اغرتااب انجتا عن سلسلة أحدا مرت‬
‫اها يف ماضيها واليت تعيش بعضها راهناً بسبب زوجها الذي ال يستطيع أن‬
‫يفهمها‪ .‬تتمزق أروى بني عامل أحالمها وبني العامل الراكد لزوجها حممود الذي‬
‫ال حيس اها‪ .‬تتطور األحدا وتزداد تعقيدا حني تتهور البطلة وختون زوجها‬
‫وحتمل بطفل جتهل والده‪.‬كما أّنا تظل تطارد طيفا تظن أبنه والد طفلها‪.‬‬
‫تنتهي الرواية بوجود شخصيات أخرى تعيش اغرتااب كذلك‪ ،‬وتساهم من غري‬
‫أن تعي موقفها‪ ،‬يف دفع األحدا حنو اهلاوية‪.‬‬
‫‪77‬‬
78
79
80

You might also like