Professional Documents
Culture Documents
فرنسا المعاصرة
فرنسا المعاصرة
مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين ظهرت قضايا مهمة أججت الصراع الدولي في أوربا ،ومع أن الفترة ما بين
1870و 1914لم تشهد أي حرب دولية ،إال أنها عرفت بعصر السلم المسلح بسبب تنافس دول القارة فيما بينها للسيطرة على
أسواق التجارة العالمية واقتسام مناطق النفوذ ،وكانت النتيجة أن انقسمت أوربا إلى معسكرين متقابلين ،تكوَّ ن األول من ألمانيا
والنمسا وبلغاريا ،وانضمت إليه الدولة العثمانية .في حين تكوَّ ن الثاني من بريطانيا وفرنسا وروسيا ،وانضم إليها وقت الحرب دول
أخرى بلغ عددها 23دولة ،وكيفما كان فقد خاضت فرنسا الحرب العالمية األولى وعلى رأسها ريمون بوانكاريه R.Poincaré
وخرجت منها منتصرة سنة ، 1918غير أن اقتصادها الذي كان على حافة االنهيار سبب أزمات داخلية معقدة استمرت فترة طويلة،
وزاد من مشكالتها خسائرها البشرية التي قدرت بنحو 1350000من القتلى ،إلى جانب 3440000من الجرحى ،و446000
من األسرى ،أدخلت البالد في أزمة خانقة استمرت إلى ما بعد عام 1929فانتهز اليسار الفرنسي هذه المسألة في االنتخابات العامة
وتمكن من تشكيل حكومة راديكالية برئاسة إدوار هيريو ،E.Herriotأخفقت بدورها في تجاوز تلك األزمة ،فشكلت حكومة وحدة
وطنية سنة 1934ضمت عناصر من أقصى اليمين وأخرى من أقصى اليسار برئاسة دوميرغ Doumergueمهدت لحكومة ليون
بلوم Leon Blumالتي سقطت عام 1938بسبب موقفها المتخاذل من الحرب األهلية األسبانية التي أعادت النظام الملكي إلى
إسبانيا.
دخلت فرنسا الحرب العالمية الثانية إلى جانب بريطانيا وعلى رأس حكومتها إدوار داالدييه ،E.Daladierغير أن قواتها التي اكتفت
بتحصينات ماجينو ، Maginotلم تصمد أمام الهجوم األلماني ،إذ سرعان ما دخلت القوات األلمانية إلى باريس ووقعت مع حكومتها
اتفاقا ً لوقف إطالق النار سنة 1940كان من نتائجه أن انقسم الفرنسيون بين مؤيد ومعارض ،ففي حين ش َّكل الجنرال بيتان Pétain
حكومة فيشي الموالية أللمانيا ،غادر دوغول De Gaulleإلى لندن ،ومن هناك وجه نداءه الشهير إلى الفرنسيين يدعوهم فيه إلى
متابعة القتال ضد القوات األلمانية ،وقام بتشكيل لجنة وطنية كانت نواة الحكومة المؤقتة التي تابعت أعمال المقاومة المسلحة ضد
الجيش األلماني ،وفي عام 1944تمكنت قوات ديغول ومعها قوات بريطانية وأمريكية من طرد األلمان من األراضي الفرنسية.
بعد نهاية الحرب صوت الفرنسيون لمصلحة حكومة برلمانية فاز فيها تحالف اليسار وحركة الجمهوريين ،لتبدأ الجمهورية الرابعة
عهدها برئاسة فانسان أوريول .V.Auriolاستمرت الجمهورية الرابعة ما بين سنة 1945وسنة 1958تعرضت فيها السياسة
الفرنسية لمتغيرات وانقسامات أدت إلى ظهور قوى جديدة مثل القوة العمالية ،والتجمع من أجل الجمهورية في الوقت الذي كانت
تواجه فيه الحكومة تحديات صعبة تمثلت بالوضع االقتصادي شبه المنهار ،إلى جانب ثورات التحرر التي اشتعلت في المناطق التي
كانت تسيطر عليها فرنسا كثورتي المغرب وتونس ( ،)1952والجزائر ( ،)1954وثورات الهند الصينية التي أجبرت الرئيس
منديس فرانس M.Franceعلى توقيع اتفاق جنيف القاضي بانسحاب الجيش الفرنسي من ڤييتنام في أعقاب هزيمته في معركة ديان
بيان فو ، Dien Bien Phuولهذه األسباب وغيرها حل البرلمان الفرنسي وتشكلت حكومة جديدة ترأسها السياسي االستعماري
المعروف غي موليه Guy Molletالذي كان من نتائج سياسته الرعناء ،والسيما تورطه في حرب السويس ،أن مهد لعودة دوغول
إلى السلطة بمساعدة بعض الضباط سنة 1958ليضع هذا األخير أساس الجمهورية الخامسة ،ويؤسس لحزب االتحاد من أجل
الجمهورية الجديدة (الدوغوليين) الذي سيطر العديد من أفراده على مجمل الحياة السياسية عن طريق االستفتاء الشعبي ،وأقر ديغول
باستقالل الجزائر على الرغم من وجود تيار معارض بين صفوف أتباعه حاولوا التمرد عليه بل واغتياله عبر ما يعرف بمنظمة
الجيش السري ،إال أن ديغول استمر في تطبيق نهجه السياسي المستقل عن سياسة الواليات المتحدة واالتحاد السوڤييتي ،متحرراً من
العقدة االستعمارية ،وموثقا عالقاته بدول العالم الثالث ،وفي عهده اعترفت فرنسا بالصين الشعبية وعارضت سياسة الواليات المتحدة
في ڤييتنام ،وعملت جاهدة على منع دخول بريطانيا إلى السوق األوربية المشتركة لكونها رأس الجسر الذي يمكن أن تعبر منه
الواليات المتحدة إلى القارة األوربية .وقد استمر ديغول على النهج نفسه إلى أن استقال من منصبه سنة 1969في أعقاب ثورة
طالبية قادتها بعض العناصر من األوساط اليسارية ،مدعومة بعناصر عمالية ،لكن تياره استمر بالحكم عبر فوزه باالنتخابات
البرلمانية وأوصل جورج بومبيدو G.Pompidouإلى سدة الرئاسة .ومن أجل التخفيف من حدة المواجهة مع الخصوم السياسيين
أدخل بومبيدو بعض اإلصالحات على نهج سلفه ،ولكن بعد وفاته بدأ الضعف يدب في أوصال التيار الديغولي وتمكن الجمهوريون
المستقلون المنشقون عن ذلك التيار بزعامة فاليري جيسكار ديستان V.Giscard D’Estaingمن الفوز بانتخابات الرئاسة ،وصار
ديستان رئيسا ً للجمهورية وجاك شيراك J.Chiracالمتحالف معه رئيسا ً للوزارة ،بيد أن الرئيس المنتخب دخل في خالفات مع رئيس
حكومته أسفرت عن استقالة األخير من منصبه مما زاد في حدة األزمة السياسية واالقتصادية ،والتي استغلها مرشح اليسار فرانسوا
ميتران F.Mitterrandفمهدت لوصوله إلى رئاسة الجمهورية عام .1981ومع أن ميتران قام ببعض التحسينات واإلصالحات
وتوسيع قاعدة تمثيل العمال ،غير أنه لم يتمكن من ح َّل مشكلة البطالة المتفاقمة على مدى فترتين من رئاسته ،األمر الذي أثر في
شعبية التيار اليساري ،فأخذ يسجل تراجعا ً في األوساط السياسية خاصة بعد انحيازه الواضح لسياسة الواليات المتحدة والتعاطف
الملحوظ مع دولة إسرائيل ،في حين تميزت عالقته مع االتحاد السوڤييتي آنذاك باالنكماش والبرود ،وللخروج من هذا المأزق عاد
شيراك إلى رئاسة الوزارة مرة ثانية لتحكم فرنسا من قِ َب ل رئيسين ،فيما عرف بتجربة التعايش (رئيس جمهورية يساري ،ورئيس
حكومة يميني) ومع ذلك استمرت األزمة ،وزادت نسبة البطالة على 3ماليين عاطل عن العمل حتى نهاية عهد ميتران .ففقد
اليساريون أملهم في انتخابات ، 1995وعاد الديغوليون إلى السلطة من جديد بزعامة جاك شيراك الذي بدأ مشروعه السياسي
بالبحث عن موقع دولي يليق بفرنسا في محاولة للتخلص من هيمنة القطب الواحد ،ويبدو أن هذه المحاولة تضاءلت في الفترة األخيرة
بعدما أقنعت حكومة الواليات المتحدة باريس بأن انقسام الغرب في مواجهة الشرق لم يعد ممكنا ً بعد اليوم ،وأن صدام المواقف لن
[]7
يكون في مصلحة مواءمة المصالح فتراجعت حكومة شيراك عن بعض الثوابت على النحو الذي بات معروفا ً عند الجميع.