You are on page 1of 368

‫تأليف‬

‫محمد عبده غانم العربي‬


‫الجزء األول‬

‫مراجعة وتدقيق‪ :‬الدكتور‬

‫مظهر عمارة – أستاذ علم اللغة بجامعة القاهرة‬


‫حقوق الطبع محفوظة للمؤلف‬
‫وال يجوزطبع الكتاب أو نشره إال بإذن مسبق‬
‫من املؤلف‬
‫كلمـــــــــة شـــــــــكر‬
‫الشكر هلل أوال على توفيقه وفضله‪ ،‬ثم للحبيب الغالى‪ /‬نواف الخنشلي‬
‫الذى كان السبب الرئيسي بعد هللا في كل هذا الخير‪،‬‬

‫ثم لعمي‪ /‬ناجي الخنشلي‬

‫والحبيب‪ /‬صدام الخنشلي‬

‫والشيخ‪ /‬عبد هللا يحيى العربي‬

‫واألستاذ الفاضل‪ /‬أحمد صالح الصفاري‬

‫والشيخ‪ /‬عبد هللا عبد القوي الصايدي‬

‫واألستاذ المربي‪ /‬قايد أحمد محمد العربي‬

‫واألستاذ القدير‪ /‬محمد المنتصر‬

‫واألخ الغالى‪ /‬إسماعيل أحمد البنا‬

‫والشيخ ‪ /‬نصر جوبح‬

‫والشيخ‪ /‬سالم أبو علي‬

‫والغالى‪ /‬نافع المنتصر الذي بذل جهداً كبي اًر في الطبع واإلخراج‪.‬‬

‫والشكر موصول للدكتور‪ /‬مظهر عمارة‪ ،‬أستاذ علم اللغة – بجامعة‬


‫القاهرة‪ ،‬والذي تولى المراجعة اللفظية واللغوية للكتاب‪.‬‬
‫إهــــــــــــــداء‬
‫أهدي هذا العمل المتواضع إلى روح والدي الغالي الذي غيبه الموت‪،‬‬
‫والذي لم ينقطع دعاؤه لى وعيناه تفيض بالدمع في كل وقت خاصة إذا‬
‫رآني خطيباً أو محاضراً‪ ،‬رحمة اهلل تغشاه‪.‬‬
‫كما أهديه ألمي الغالية التي بفضل دعائها كان هذا اإلنجاز متعنا اهلل‬
‫بصحتها وجمال عافيتها‪.‬‬
‫كذلك أهديه ألخي الغالي عادل أبو حمير وأخي الغالي أحمد أبو العز‬
‫وكذلك لزوجتي الغالية وأخواتي الغاليات‪.‬‬
‫كما أهديه ألبنائي وبناتي فلذات كبدي ومشروع حياتي (عبد الرحمن‬
‫وأسامه والبراء وإلياس والوليد وزبيدة وشيماء ومارية)‪.‬‬
‫كما أهديه أيض اً إلى روح الفقيدين الراحلين‪ :‬الفقيد الراحل الشيخ‪ /‬لطف‬
‫محمد أحمد العربي‪ ،‬والذي كانت تربطني به عالقة خاصة فقد عرفه‬
‫الكثير بشجاعته وكرمه ووفاءه وصدقه عليه رحمة اهلل والفقيد الراحل‬
‫العميد‪ /‬غانم العربي‪ ،‬والذى أحببته كثيراً لمحبته لي ولمواقفه الرجولية‬
‫في محاربة الظلم طوال حياته سواءً عندما كان عضواً لمجلس النواب‬
‫عن مديرية السبرة في التسعينات أو عند توليه مدير إدارة المنشآت‬
‫الحكومية في محافظة لحج عليه رحمة اهلل‪.‬‬
‫كما أهديه أخيراً لجيل الدعوة (الذين يبلغون رساالت اهلل ويخشونه وال‬
‫يخشون أحدًا إال اهلل وكفى باهلل حسيبًا)‪.‬‬
‫مقدم ـ ــة‬
‫إن الحمد هلل نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه‪ ،‬ونعوذ باهلل من شرور‬
‫أنفسنا ومن سيئات أعمالنا‪ ،‬من يهده اهلل فال مضل له‪ ،‬ومن يضلل فال هادي‬
‫له‪ ،‬ونشهد أن ال اله إال اهلل‪ ،‬وأن محمدًا عبده ورسوله‪ ،‬صلى اهلل عليه وعلى‬
‫آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا‪ ،‬وبعد‪...‬‬
‫فإنني ال أدعي أنني أتيت بما لم يأت به األوائل‪ ،‬ولكنني أقول جازمًا إن هذه‬
‫الدرر لها من اسمها نصيب كونها حصيلة مختصرة لخطب ومحاضرات‬
‫عشتها طوال عشرين عامًا أو يزيد‪ ،‬لذا سبكت كلماتها‪ ،‬وحبّرت جملها‪،‬‬
‫وانتقيت ألفاظها كما يُنتقى أطايب التمر‪.‬‬
‫نعم عشتها في أرض المهجر بعيدًا عن األهل واألوطان في لحظات استثنائية‬
‫لم تكن في الحسبان يومًا‪ ،‬وهو ما أعطاها نكهة خاصة‪ ،‬حيث كانت الخلوة‬
‫معها وبها‪ ،‬فشعرت حينها بفضل اهلل علىًّ‪ ،‬ومن ثم كتبتها‪ ،‬وإلى جيل الدعوة‬
‫ورجاالت المعروف سطرتها بطريقة جميلة‪ ،‬حيث عشت األلفاظ القرآنية‬
‫مبينًا مدلوالتها اللغوية‪ ،‬ومستخرجًا دررها الذهبية التي تسلى الخاطر‪ ،‬وتزيل‬
‫الغش والغبش عن عيون الناظر‪.‬‬
‫ومما ال شك فيه فإن القارئ لن يالحظ ألسباب نزول اآليات ذكرًا إال نادرًا‬
‫كونها لها كتبها ومؤلفاتها ومواقعها ورجاالتها‪ ،‬بل حاولت جاهدًا أن أجعل‬
‫هذه الدرر رسائل نادرة تربي وتُعلى وتقود وتهدي كون واقعنا الذي نحياه‬
‫ح من يعيش معها‬ ‫يحتاج إلى قيادة وتربية وهداية‪ .‬وال شك أن هذه الدرر ستمن ُ‬
‫بعقله وقلبه أُنسًا بعد وحشة‪ ،‬وأمالً بعد يأس بل ستأخذ بيده ليكون فاعالً بحق‬
‫ومطمئنًا لموعود اهلل بصدق‪.‬‬
‫ومما تجدر اإلشارة إليه أنني وقفت مع سورة الفاتحة كاملة مستخرجًا منها‬
‫دررها الحسان‪ ،‬مقتطفًا بعد ذلك من كل سورة زهرات من زهراتها اليانعة‬
‫الجامعة بطريقة تجمع بين جمال المحتوى وروعة المنتقَى‪ ،‬حيث يشعر قارئ‬
‫الدرر من خالل تنقله بين ثناياها بوجوب انتقاله من طور التالوة والترتيل‬
‫إلى طور العمل بالتنزيل كون هذا هو المراد من قراءة القرآن من قبل أهله‬
‫وحامليه‪.‬‬
‫ويبقى لجمال الدرر بريقها ورونقها كونها اكتست الثياب‪ ،‬واحتست الصواب‬
‫من هدي القرآن وجالله‪ .‬كما كان لي وقفات متكررة مع تفسير ابن كثير‬
‫والطبري وصاحب الظالل والزمخشري وفتح القدير والقرطبي والكثير‬
‫الكثير من التفاسير‪ ،‬كما كان لي أيضًا وقفات مع جهابذة اللغة سماعًا وقراءةً‬
‫حيث كونت من خاللهم ألفاظي ودرري بشكل عام دون إيراد تفاصيل ما‬
‫قالوه‪ ،‬بل صغته بطريقتي‪ ،‬وعبرت عنه بقلمي‪ ،‬ومزجته بالواقع العملي عله‬
‫يهدي ويقود لبلوغ المقصود‪ .‬كذلك يتواصل جمال الدرر من خالل‬
‫اإلستعارات اللفظية‪ ،‬والتي يجب حملها على أفضل محمل بعيدًا عن التأويل‬
‫أو التشبيه كوني أردت الجمال ال أكثر‪.‬‬
‫كما أن لهذه الدرر أخوات ستأتي تباعًا حيث إن هذا هو مجلدها األول‪ ،‬وفي‬
‫قادم األيام إن شاء اهلل ستأتي األخريات إن كان لنا في العمر بقية‪.‬‬
‫وأخيرًا هذا جهد بشري إن أصبت فيه الحق فهو من الحق سبحانه‪ ،‬وإن‬
‫أخطأت فهو من نفسي ومن الشيطان‪ ،‬واهلل أسأل أن ينفع بهذه الدرر كاتبها‬
‫وقارئها ومحبها وناشرها‪ ،‬ودعواتكم لي‪.‬‬
‫ألني أموت ويُبقي الدهر ما كتبت يديا* فياليت من قرأ كتابي دعا ليا‬
‫وقد تم الفراغ من كتابة الجزء األول منها في جمهورية مصر العربية ليلة‬
‫األحد ‪ 21‬جماد آخر الموافق ‪ ،2020/2/15‬وصلى اهلل وسلم على سيدنا‬
‫محمد وعلى آله وصحبه وسلم‪.‬‬
‫كتبها الفقير إلى عفو ربه‪ /‬محمد عبده غانم العربي‬
‫‪-3-‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ن‬
‫الرحْمـ ِ‬
‫ب الْعَالَمِينَ{‪َّ }2‬‬
‫هلل َر ِ‬
‫ن الرَّحِيمِ{‪ }1‬الْحَمْ ُد ِ‬
‫الرحْم ِ‬
‫هلل َّ‬
‫(بِسْ ِم ا ِ‬
‫ك نَعْبُ ُد وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{‪ }5‬اهدِنَــــا‬
‫ك َيوْمِ الدِينِ{‪ }4‬إِيَّا َ‬
‫الرحِيمِ{‪ }3‬مَالِ ِ‬
‫َّ‬
‫علَيهِمْ وَ َال‬
‫ب َ‬
‫علَيهِمْ غَي ِر المَغضُو ِ‬
‫ت َ‬
‫ن أَنعَم َ‬
‫ط الَّذِي َ‬
‫صرَا َ‬
‫ط المُستَقِيمَ{‪ِ }6‬‬
‫صرَا َ‬
‫ال ِ‬
‫الضَّالِينَ{‪.1()}7‬‬
‫إنها سورة الفاتحة التي سميت بهذا االسم كون اهلل افتتح كالمه بها‪ .‬نعم إنها‬
‫رسالة الحمد التي يجب أن تتعلمها الجماعة المنقذة واألمة الهادية كي يصبح‬
‫حمد اهلل في البدء وفي الختام هو شعارها ودثارها على مستوى الفرد‬
‫والمجتمع واألمة‪ .‬إنه الحمد الذي يربي الذوات البشرية على الثناء الجميل‬
‫لتبقى الحياة جميلة بجمال حمد اهلل فيها حتى إذا غاب هذا الحمد غاب لغيابه‬
‫كل جمال‪ .‬وال شك في أنها أعظم سور القرآن كونها مقسومة بين العبد وبين‬
‫ربه‪ .‬إنها القسمة التي حددتها السماء كون األرض بناسها وأهلها فقيرة‬
‫محتاجة للسماء ال قدرة لها على البقاء لحظة دون لطف اهلل ولطائفه‪ .‬إنها‬
‫روعة العبادة وجمال العابد تتجسد في فاتحة الكتاب التي جمعت بين ثناياها‬
‫ن واحد كما هو معلوم‪ .‬ويزداد الجمال‬ ‫دعاء العبادة ودعاء المسألة في آ ٍ‬
‫ويتضح الكمال من خالل أم القرآن‪ ،‬وذلك من خالل التناسق العجيب من‬
‫بدايتها وحتى نهايتها في صورة إبداعية ممتعة جمعت بين دعاء العبادة من‬
‫بدايتها وحتى قوله‪" :‬إياك نعبد"‪ ،‬ثم ختمت بدعاء المسألة في قوله‪" :‬وإياك‬
‫ال‬
‫نستعين" حتى النهاية بصورة إيحائية تشي بوجوب اإلتيان بدعاء العبادة أو ً‬
‫قبل التوجه صوب دعاء المسألة‪ ،‬وهو إيحاء دقيق ونفيس‪ .‬وحتى نتذوق هذه‬
‫الروعة وذاك الجمال في أم القرآن دعونا ننتقل إلى جمال الخطاب الخالد بين‬
‫العبد والرب في لحظات تعبدية متكررة غاية في الجمال والجالل من خالل‬

‫سورة الفاتحة‪ ،‬من أولها إلى اآلية رقم ‪.7‬‬ ‫(‪)1‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪-4-‬‬

‫الحديث القدسي الذي يرويه الحبيب محمد عن ربه "أن اهلل يقول قسمت‬
‫الصالة بيني وبين عبدي نصفين‪ ،‬ولعبدي ما سأل‪ ،‬فإذا قال العبد الحمد هلل‬
‫رب العالمين قال اهلل حمدني عبدي‪ ،‬فإذا قال العبد الرحمن الرحيم قال اهلل‬
‫ى عبدي‪ ،‬فإذا قال العبد مالك يوم الدين قال اهلل مجّدني عبدي‪ ،‬فإذا‬ ‫أثنى عل ّ‬
‫قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال اهلل هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما‬
‫سأل‪ ،‬فإذا قال العبد إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير‬
‫المغضوب عليهم وال الضالين قال اهلل هذا لعبدي ولعبدي ما سأل‪ .‬إنه الجمال‬
‫الذي يتوقف عنده كل جمال‪ ،‬والخير الذي تستمد منه الجماعة المنقذة واألمة‬
‫الهادية كل خير يتحدث عن نفسه‪ ،‬ويُفصح عن ذاته في كل لحظة وفي كل‬
‫حين تاركًا الحسرة كل الحسرة لمن حُرم هذا الجمال بكل جماله وجالله‪ ،‬لذا‬
‫كانت هذه الفاتحة مع خواتيم سورة البقرة هما النور الذي لم يؤته اهلل أحدًا من‬
‫العالمين من قبل‪ ،‬بل كرم اهلل به نبيه وأمته دون العالمين‪ ،‬ولذا كانت أيضًا‬
‫ف لمن‬ ‫ف ودواء وا ٍ‬ ‫السبع المثاني والقرآن العظيم إضافة إلى أنها عالج شا ٍ‬
‫قرأها بنية الشفاء كقراءة الصحابي الجليل على ذلك الملدوغ في حي من أحياء‬
‫العرب الذي برئ فور قراءتها بإذن اهلل‪ .‬ومما ال شك فيه فإن جمالها وعظمتها‬
‫يكمنان أيضًا في أن قراءتها ركن من أركان الصالة التي ال تصح إال بها‪،‬‬
‫وهذا معلوم ومعروف‪ .‬إنها السورة التي جمعت أحكام الدين مجمالً تاركة‬
‫التفاصيل كي تأتي تباعًا في بقية السور‪ .‬نعم إنها السورة القائدة‪ ،‬واألم الجامعة‬
‫التي ال يذوق عبد حالوة القرآن ما لم تكن هي القائدة حتى إذا غابت عن العبد‬
‫عندئ ٍذ تغيب عنه كل حالوة‪ ،‬وتفارقه كل طاعة‪ .‬إنها السورة التي نزلت مرة‬
‫في مكة وأخرى في المدينة كي تنفرد من بين السور بهذا الفضل‪ ،‬وما ذلك‬
‫إال ألنها تحوي ميزات للقرآن المكي وأخرى للقرآن المدني كون الحديث عن‬
‫يوم الدين هو حديث تتميز به السور المكية‪ ،‬بينما إياك نعبد وإياك نستعين‬
‫حديث عن الجانب التعبدي‪ ،‬وهو من ميزات القرآن المدني كما قال علماء‬
‫‪-5-‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫التفسير‪ .‬وحتى نتذوق جمال الفاتحة وروعتها‪ ،‬ونستنشق عبيرها وعبرها‬


‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين" هذه اآلية تحوي في‬ ‫ننتقل مباشرة إليها‪ ،‬فقوله "اْل َح ْم ُد هّلل َر ِهب اْل َعاَلم َ‬
‫طياتها الجمال كله؛ إنه جمال الحمد الذي جاء محصورًا بألف والم كي يعبر‬
‫عن كمال الحمد هلل الذي هو كامل الصفات بذاته وأفعاله‪ .‬إنه الكمال المطلق‬
‫الذي ال قدرة للذوات البشرية على التكهن به أو الوصول إليه البتة ألنها‬
‫يعتريها النقص في ذاتها وأفعالها‪ .‬وال شك في أن بدء السورة – بل القرآن‬
‫كله – بسورة الفاتحة المفتتحة بالحمد فيه إيحاء بوجوب حمدًا هلل في بداية كل‬
‫أمر‪ .‬إنه الحمد الذي يمأل المكان أُنسًا‪ ،‬وينشر في الزمان سكينة‪ ،‬ويُسبغ على‬
‫الحال والمآل بركة وخيراً‪ .‬ومما ال شك فيه أن اهلل حمد نفسه قبل أن يأمر‬
‫الخلق بحمده كونه سبحانه كامل الذات والصفات واألفعال‪ ،‬ويحتاج إليه –‬
‫سبحانه – كل شئ‪ ،‬وال يحتاج هو إلى شئ‪ ،‬جلت قدرته‪ ،‬وتقدست أسماؤه‪،‬‬
‫ولذا جاء التعبير "بأل" في قوله "الحمد هلل"‪ ،‬وليس حمدًا هلل‪ ،‬وذلك لإليحاء‬
‫بهذا الكمال‪ .‬كما أنه ينبغي على الخليقة كلها أن تعي أنه ال يجوز لها أن تحمد‬
‫نفسها‪ ،‬بل تحمد خالقها كونها مفتقرة إليه سبحانه‪ ،‬ومحتاجة إليه جل شأنه‪،‬‬
‫ومَنْ كان هذا حاله وذاك شأنه فكيف يجوز له أن يحمد نفسه الفقيرة‪ ،‬ويعتمد‬
‫على ذاته الحقيرة‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب أن تتجه صوب السماء دائمًا بعيدة‬
‫كل البعد عن األرض كي توجه الحمد الكامل والثناء التام نحو خالق السماء‪،‬‬
‫وذلك في أخذها وعطائها كون كل نعمة تحياها الجماعة المنقذة واألمة الهادية‬
‫إنما هي من اهلل وباهلل‪ ،‬وليس للذوات البشرية غير األخذ واالكتساب ال أكثر‪.‬‬
‫ويتواصل جمال الفاتحة الشافية الكافية والسبع المثاني والقرآن العظيم الذي‬
‫آتاه اهلل وخص به نبيه الكريم وأمته وذلك من خالل قوله "هلل"؛ حيث الالم‬
‫هنا توحي باستحقاق اهلل لذلك الحمد‪ ،‬وذلك لجملة المعاني التي سبق ذكرها‬
‫وغيرها كثير أيضًا‪ .‬إنه االستحقاق الذي جاء نتيجة لكمال إلهي ال يساويه‬
‫كمال‪ ،‬وال يخطر على بال البتة‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪-6-‬‬

‫ومما ينبغي ذكره هنا أن ذكر لفظ الجاللة "اهلل" وتقديمه على الرب في قوله‬
‫"رب العالمين" لم يكن تقديمًا خاويًا من المعاني‪ ،‬أو ترفًا لغويًّا فارغ‬
‫المضمون كما يصنع البشر في التقديم والتأخير‪ ،‬كال إنه التقديم الموحي بأن‬
‫هذا االسم العظيم هو األساس الذي تعود إليه كل أسماء اهلل الحسنى‪ ،‬لذا كان‬
‫هو إسم اهلل األعظم على األرجح‪ ،‬وإن قال الغير خالف ذلك فهو قول مرجوح‬
‫ال راجح‪ ،‬فكان تقديمه لهذا المعنى‪ .‬كما أن هناك معنى آخر يمكن فهمه من‬
‫خالل سياق هذا التقديم وهو علم اهلل األزلي بأن قضية األلوهية هي القضية‬
‫التي سيسقط في مفهومها وفهمها الكثير من الخلق‪ ،‬لذا كان هذا التقديم كي ال‬
‫يحدث هذا السقوط‪ ،‬بل تتجه الخليقة – كل الخليقة – صوب اهلل حامدة عابدة‬
‫ومستعينة هادية‪ .‬ثم يتواصل جمال الفاتحة التي جمعت كل أصول الدين كونها‬
‫أم القرآن – كما هو معلوم – وذلك من خالل قوله "رب العالمين"‪ ،‬حيث‬
‫جاء ذكر الرب هنا بعد ذكر اإلله‪ ،‬وذلك لإليحاء بأن هذا اإلله الذي يستحق‬
‫العبادة هو الذي ملك وخلق ودبر‪ ،‬وهو الرب كونه تجتمع فيه صفات ثالث‬
‫هى الخلق والملك والتدبير‪ .‬إنه اإليحاء الذي يشي بأن المعبود الذي يجب أن‬
‫تخضع له القلوب – كل القلوب – هو من خلق ويخلق‪ ،‬وملك ويملك‪ ،‬ودبر‬
‫ويدبر‪ ،‬وهو اهلل سبحانه جلت قدرته‪ ،‬وتقدست أسماؤه‪ ،‬بينما غيره مخلوق‬
‫مملوك‪ .‬إنه اإليحاء الدقيق الموحي بواحدية االعتراف وواحدية المعبود كون‬
‫بعض الخلق – كما هو معلوم – يعترف بربوبية اهلل‪ ،‬ولكن عبادته تخالف‬
‫اعترافه‪ ،‬فكان الجمع بين لفظ "اهلل" مع لفظ "الرب" في مكان واحد‬
‫وبطريقة منظمة ومبدعة ومرتبة ممتعة لهذا الغرض‪ ،‬وهو معنى دقيق ونفيس‬
‫ينبغي تأمله والوقوف عنده لجماله ونفاسته‪ .‬ويتواصل جمال الفاتحة الشافية‬
‫التي يُستشفى بها من كل داء وذلك من خالل لفظ "العالمين"‪ ،‬إنها ألوهية‬
‫اهلل وربوبيته لكل العالمين‪ ،‬وليس للناس فقط كون العالمين مشتق من لفظ‬
‫‪-7-‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫"عالم" الذي يعني كل ما سوى اهلل‪ .‬إنه اإليحاء الدقيق بسقوط ربوبية الذوات‬
‫البشرية كلها كي تبقى ربوبية اهلل هى الربوبية الحقة وما سواها من الدعاوى‬
‫األدمية إنما هى محض افتراء ال أكثر كونها ال تخلق‪ ،‬بل هى مخلوقة‪ ،‬وال‬
‫تملك حقيقة بل هى مملوكة‪ ،‬وال قدرة لها على أن تدبر‪ ،‬بل هى مدبرة "بفتح‬
‫الباء ال بكسرها"‪ .‬إنها ربوبية اهلل التي أوحت للذوات البشرية – كل الذوات‬
‫– بأنها فقيرة بذاتها ضعيفة بأصلها تستمد غناها وقوتها وحياتها ممن غناه‬
‫ذاتي‪ ،‬وقوته مطلقة‪ ،‬وحياته دائمة‪ ،‬وهو اهلل سبحانه وتعالى‪ .‬وبعد هذه المقدمة‬
‫ال ومبنى جاءت األوصاف العلية‬
‫الجميلة لفظًا ومعنى‪ ،‬والصادقة شك ً‬
‫ال على جمال‪ ،‬وقداسة‬
‫والصفات القدسية كي تضفي على مشاهد الحمد جما ً‬
‫على قداسة‪ ،‬وذلك من خالل قوله "الرحمن الرحيم"‪ ،‬إنهما اسمان وصفتان‬
‫لإلله الرب المسبوق بالذكر‪ ،‬والذي يوحي مجئ الرحمن الرحيم عقب اسم‬
‫الربوبية بأن ربوبية اهلل على خلقه ربوبية رحمة وإحسان وعطف وإنعام‪،‬‬
‫وهو استنتاج دقيق بال شك‪ .‬إنها ربوبية اهلل الذي يرحم المخلوق‪ ،‬ويحسن‬
‫إليه‪ ،‬ويتواله‪ ،‬ويعطف عليه في صورة ال قدرة للعقل البشري على تخيل كنه‬
‫تلك الرحمة‪ ،‬وعظمة ذلك العطف إطالقًا‪.‬‬
‫ومما ال شك فيه فإن العبد مأمور بأن يتعبد اهلل بأسمائه وصفاته – كما هو‬
‫معلوم – لذا كان إطالق لفظ "رب" مجازًا على قائد األسرة وكبيرها – كان‬
‫ال "رب األسرة" أو رب الدار – يوحي بوجوب إدارة تلك األسرة‬
‫يقال مث ً‬
‫وهذه الدار برحمة وشفقة بعيدًا عن القسوة والغلظة‪ ،‬وذلك تعبدًا هلل الرحمن‬
‫الرحيم سبحانه وتعالى‪ .‬والمالحظ هنا هو جمال السياق في التقديم والتأخير‬
‫وذلك من خالل ذكر "الرحمن" أوالً‪ ،‬ثم "الرحيم" ثانيًا كون الرحمن هو‬
‫ذو الرحمة الواسعة التي وسعت الخلق جميعًا في دار الدنيا دون تمييز‪ ،‬بينما‬
‫الرحيم خاصة بعباد اهلل المؤمنين‪ .‬إنه التقديم للرحمة األوسع التي شملت كل‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪-8-‬‬

‫الخلق ومنهم المؤمنون؛ وذلك كي تُقبل الخليقة – كل الخليقة – عليه وتستجير‬


‫ال يتبادر إلى الذهن‬
‫به سبحانه وتعالى‪ .‬ومما ال شك فيه أن هناك إيحاءًا جمي ً‬
‫مباشرة وذلك فور قراءة اآلية‪ ،‬إنه اإليحاء الذي يشي بجمال المؤمن وهو‬
‫يتعبد اهلل باسم "الرحمن" من خالل رحمته بالخلق – كل الخلق – وشفقته‬
‫ال عن رحمته‬
‫عليهم‪ ،‬وتمنِّي الخير لهم رحمة بحالهم جميعًا دون تمييز‪ ،‬فض ً‬
‫الخاصة بعباد اهلل المؤمنين‪ .‬إنها الدعوة الصريحة التي تنطلق من خالل سورة‬
‫الفاتحة الكافية الشافية لعباد اهلل المؤمنين قبل غيرهم كي يكونوا دعاة سلم‬
‫وسالم‪ ،‬ورحمة وإحسان‪ ،‬ليس تصنعًا كما يصنع دعاة التنظير والتطوير‪ ،‬بل‬
‫تعبدًا كون سورة الفاتحة تعلن الرحمة بالخليقة والخلق‪ ،‬وترفض رفضًا قاطعًا‬
‫ثقافة الكراهية والقسوة تحت أي مسمى أو مبرر أيًّا كان ذلك المبرر أو ذلك‬
‫المسمى‪ ،‬إنه خُلق القرآن الذي يجب أن ينطلق المؤمنون من خالله كي تأنس‬
‫الخليقة بعد وحشة‪ ،‬وتشبع بعد جوع‪ ،‬وتأمن بعد خوف‪.‬‬
‫ومما ينبغي ذكره هنا – ونحن نعيش في رحاب سورة الفاتحة التي هي أم‬
‫القرآن – أن نقول إن الفظاظة والقسوة والكراهية والغلظة في الطباع األدمية‬
‫المسلمة إن لم تهذبها الفاتحة فهذا ال يعنى أبدًا أن الخلل في الفاتحة‪ ،‬بل يكمن‬
‫الخلل قطعًا في هذه الذوات األدمية التي لم تُسلم قيادها للفاتحة حقًّا‪ ،‬ولم تُخضع‬
‫أرضها للشافية صدقًا‪ ،‬بل هو السرد لمجرد السرد‪ ،‬والقراءة لذات القراءة ال‬
‫أكثر‪ ،‬ومن ثم يتطلب األمر مراجعة حقيقية للتعامل مع الفاتحة كي تؤتي‬
‫الطباع أكلها‪ ،‬وتحسن القلوب للفاتحة وفادتها‪ .‬إنها الوفادة التي تعني تسليم‬
‫الذات البشرية للفاتحة كي تصلح شأنها‪ ،‬وتقوي ضعفها‪ ،‬وتصلح اعوجاجها‬
‫كون إصالح الشأن‪ ،‬وتقوية الضعف‪ ،‬وإصالح االعوجاج هي غاية القراءة‬
‫والقرآن بدءًا بفاتحة الكتاب‪ ،‬وانتهاءًا بسورة الناس‪ .‬ثم ينتقل السياق القرآني‬
‫بكل سالسة وسهولة كعادة القرآن المعروفة عندما يُبرز األحداث‪ ،‬ويتحدث‬
‫‪-9-‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫عن الوقائع بطريقته الجميلة وواقعيته المشهودة‪ ،‬وذلك من خالل الحديث عن‬
‫ال "مالك يوم الدين"‪ ،‬وفي قراءة متواترة أيضًا‬
‫يوم الجزاء والحساب قائ ً‬
‫"ملك يوم الدين"‪.‬‬
‫وقبل الحديث عن هذه اآلية الكريمة يجدر بنا أن نذكر السر من وراء ذكر‬
‫"يوم الدين" وذلك عقب قوله "الرحمن الرحيم" مباشرة ال بعد "رب‬
‫العالمين"‪ ،‬إنه اإليحاء بأن يوم الدين هو يوم الرحمات الذي تُستر فيه‬
‫العورات‪ ،‬وتُقال فيه العثرات‪ .‬إنه يوم الكرم اإللهي الذي يسبغ اهلل فيه على‬
‫خلقه المقصرين وعباده المذنبين الستر والرحمة والعفو والمكرمة‪ ،‬لذا جاء‬
‫ذكره بعد "الرحمن الرحيم" لهذا المعنى‪ ،‬وهو معنى نفيس‪ ،‬واستنتاج لطيف‬
‫بال شك‪ .‬والجميل هنا أن ورود قراءتين متواترتين في قوله "مالك" وملك‬
‫"لم يكن عبثيًّا كحال البشر عندما يعبثون بالمترادفات اللفظية‪ ،‬حاشا وكال‪،‬‬
‫بل الورود هنا يحمل معنى دقيقًا كون الملك في اللغة هو من له سلطات‬
‫مطلقة‪ ،‬وتحت إمرته رعية مسيَّرة‪ ،‬بينما المالك قد يمتلك ممتلكات دون أن‬
‫تكون له – في الغالب – سلطات مطلقة كحال الملك‪ ،‬فجيء بالقراءتين‬
‫ن واحد‪ ،‬بينما العبد‬
‫المتواترتين لإليحاء بأن اهلل وحده هو الملك والمالك في آ ٍ‬
‫إذا توفرت له سلطة وملك غابت عنه سلطات وممالك‪ ،‬وهى تعابير لطيفة‬
‫وإيحاءات دقيقة تقود العبد إلى رحاب الرب بكل سالسة وواقعية وحب‪.‬‬
‫ويتواصل الجمال القرآني في نفس اآلية وذلك عندما كان التخصيص بـ "يوم‬
‫الدين"‪ ،‬مع اعتقادنا الجازم بأن اهلل مالك للدنيا ومالك لآلخرة الذي هو "يوم‬
‫الدين"‪ ،‬إنه التخصيص الذي يشي بأن يوم الدين هو اليوم الذي تنتهي عنده‬
‫ممالك البشر‪ ،‬وسلطاتهم‪ ،‬وممتلكاتهم كون كل تلك المفردات كانت في الدنيا‬
‫لعبيد ملكهم اهلل إياها‪ ،‬ولكن السواد منهم نازعوا اهلل بها‪ ،‬وتجاوزوا حدوده‬
‫بسببها‪ ،‬فجاء يوم الدين لتظهر األمور على حقيقتها‪ ،‬وتوضع النقاط فوق‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 10 -‬‬

‫حروفها بطريقة هى األوضح حقاًّ‪ ،‬واألصدق واقعًا‪ ،‬واألشد وقعًا على قلوب‬
‫الخليقة والخلق‪ .‬إنها الحقيقة التي تنتظر الخلق هناك في موقف مهيب تتساقط‬
‫عنده كل مسميات األرض التي لطالما وضعت لنفسها ألقابًا‪ ،‬وأحاطت نفسها‬
‫وذاتها بأنساب تجاوزت من خاللها ما أُمرت به‪ ،‬فكان لزامًا عليها أن تعيش‬
‫يوم الدين بكل مالبساته وأحداثه‪ ،‬وتنظر إليه عيانًا بكل تفصيالته وتجلياته‬
‫كي تعرف حقيقتها كون يوم الدين هو يوم الحقائق كما هو معلوم‪ .‬نعم إنها‬
‫الحقيقة التي يجب أن تعيها الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهى تصارع طغاة‬
‫األرض ومجرميها وهى أن يومًا ويومًا واحدًا فقط هو باالنتظار‪ ،‬ومن ثم‬
‫تتحرك وكلها ثقة بعدالة اهلل المنتظرة التي ال تحابي أحدًا‪ ،‬وال تنتقص من أحدٍ‬
‫أيًا كان هذا األحد‪ .‬كما أن تعريف هذا اليوم بألف والم "الدين" يشي‬
‫بخصوصية هذا اليوم‪ ،‬وتميزه تميزًا ال مجال لعقول الذوات البشرية أن‬
‫تتخيله‪ ،‬أو تستشعر فصوله وأحداثه‪ ،‬تلك الفصول واألحداث التي ستعرض‬
‫هناك بصورة غاية في الدقة والوضوح للعالمين دون تمييز أو انتقاء كون‬
‫العدالة – والعدالة وحدها – هى من ستقرر الحال والمآل لذلك الكم الهائل من‬
‫الخليقة والخلق‪ .‬إنه يوم الجزاء العادل الذي سيقف فيه الخلق والخليقة صفًّا‬
‫واحدًا في مشهد من مشاهد يوم القيامة التي لطالما تحدث عنه القرآن في أكثر‬
‫من سورة وآية كي يتم االستعداد له ويتحرك الخلق والخليقة إليه بزاد‪ .‬وبعد‬
‫أن يكون العبد قد حمد ربه بشهادة الرب سبحانه لعبده عند قراءته الحمد اهلل‬
‫رب العالمين‪ ،‬وأثنى عليه بقوله "الرحمن الرحيم"‪ ،‬ومجده بقوله "مالك يوم‬
‫ال آخر بعد هذا الحمد والثناء والتمجيد‪ ،‬وذلك‬
‫الدين" ينتقل سياق اآليات انتقا ً‬
‫من خالل قوله "إياك نعبد وإياك نستعين"‪ ،‬حيث توحي هذه اآلية بإيحاءات‬
‫كثيرة منها‪ :‬أن العبادة واالستعانة ال تتأتيان إال من قبل أرضية إيمانية تعرف‬
‫اهلل حق المعرفة‪ ،‬ومن ثم كان الحمد والثناء والتمجيد هلل أوالً‪ ،‬ثم االتجاه نحوه‬
‫‪- 11 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫لعبادته بعد ذلك ثانيًا في إشارة واضحة إلى هذا المعنى الذي ذكرناه‪ .‬وال شك‬
‫في أن الحمد والثناء من بداية السورة هو عبادة أيضًا‪ ،‬ولكن هذا السياق يشي‬
‫بمعرفة مسبقة تلتها عبادة هلل خالصة‪ ،‬وهو المعنى الذي تأكد بشكل واضح‬
‫من خالل تقديم المفعول به الذي هو "إياك" في العبادة واالستعانة على حد‬
‫سواء‪ .‬إنه اإليحاء الدقيق واللطيف الذي يوحي بوجوب اإلخالص هلل في‬
‫العبادة واالستعانة حيث يوحي التقديم هنا بهذا المعنى‪ .‬كما أن ذكر العبادة بعد‬
‫الحمد الوارد في بداية السورة لإليحاء بأن من مقتضيات الحمد الحقيقي عبادة‬
‫اهلل‪ .‬إنه الرفض القاطع لعبادة اللسان الخالية من عبادة الجوارح والجنان‪،‬‬
‫والتي ظهرت في الماضى وتتكرر بكل آفاتها وسلبياتها من قبل بعض‬
‫الحامدين هلل بألسنتهم‪ ،‬والمخالفين له في سلوكهم وحياتهم في الحاضر‪ ،‬فكان‬
‫السياق المعبر والمعجز بهذه الصورة في هذه السورة إلنهاء هذا العبث‬
‫التعبدي والملق اإلبليسي من قبل هذا الفريق العابث‪ .‬ولسنا هنا ممن يرمون‬
‫بالتُّهم جزافًا‪ ،‬بل إن سياق اآلية‪ ،‬وانسياب األلفاظ يوحي بهذا المعنى لمن تأمل‬
‫وعقل‪ .‬كما أن اللفظ المعجز في قوله "نعبد" يوحي بتوجه جماعي‪ ،‬وليس‬
‫"أعبد" ذو التوجه الفردي‪ .‬إنها الدعوة الصريحة لعبادة اهلل في إطار الجماعة‬
‫بعيدًا عن العزلة واالنعزال‪ .‬نعم إنها الحقيقة التي يجب أن تستوعبها الجماعة‬
‫المنقذة واألمة الهادية وهى تتجه نحو ربها بصورة جماعية غاية في الجمال‬
‫والجالل كون عبادتها الجماعية في المسجد تنتظرها قيادة جماعية للحق فور‬
‫الخروج من المسجد ألن االجتماع األول أساس أصيل لالجتماع الثاني كي‬
‫تبدأ الحياة الجماعية من المسجد‪ ،‬ومن ثم تعود إليه‪.‬‬
‫ومما ال شك فيه فإن غياب هذه المعاني من قبل العباد ينعكس سلبًا على العبادة‬
‫نفسها حيث تتحول حينها إلى طقوس جسدية خالية من روح الحياة وحياة‬
‫الروح‪ ،‬بل هى إلى الموات والموت أقرب منها إلى الحياة‪ .‬ومما ينبغي ذكره‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 12 -‬‬

‫هنا أن العبادة ليست صالة وصيامًا وزكاة وحجًّا فحسب كما يتوهم بعض‬
‫العباد‪ ،‬بل هى كل ما يحبه اهلل ويرضاه من األقوال واألفعال الظاهرة‬
‫والباطنة‪ ،‬لذا كان التعبير بـ "إياك نعبد" لهذا االعتبار‪ ،‬ولم يكن "إياك‬
‫ال حتى ال يعتقد معتقد أن الدين هو صالة فحسب كما سبق وأشرنا‬
‫نصلي" مث ً‬
‫لمفهومها ومحتواها‪ .‬كما أن "إياك نعبد" فيها إيجاء بلذة العبادة وقيمتها‬
‫ومفعولها في إطار الجماعة حتى إذا انسلخ العابد عن الجماعة‪ ،‬وسولت له‬
‫نفسه العزلة واالنعزال عندئ ٍذ تغيب عنه لذة العبادة‪ ،‬وتفارقه حالوة الطاعة‪،‬‬
‫بل تتحول عبادته إلى ترف تعبدي وخواء قيمي ليس إال‪.‬‬
‫وفي الحقيقة فإن "إياك نعبد" اختصرت المشهد الحياتي للخليقة كلها‪ ،‬حيث‬
‫حصرت العبادة – كل العبادة – هلل وهلل فقط كي يعيش العباد أحرارًا ال‬
‫يستعبدهم الطين‪ ،‬وال يستبد بهم اللعين أيًّا كان هذا اللعين سواء اللعين‬
‫الشيطاني من الجن أو أوليائه وخدامه من اإلنس‪ .‬نعم إنها السورة األولى التي‬
‫حررت المخلوق ليبقى على الدوام حصرًا على الخالق ال تستعبده الشهوة‪،‬‬
‫وال تحكمه اللذة‪ ،‬بل يتجه بقلبه وقالبه نحو السماء فى إطار الجماعة كي يبقى‬
‫حرًّا في حركته‪ ،‬وحيًا كريمًا في أخذه وعطائه‪ ،‬وشجاعًا مقدامًا في ذهابه‬
‫وإيابه‪ ،‬ال تستعبده الشهوة‪ ،‬وال تسقطه الفتنة ما استمرت حياته‪ .‬إنها الحقيقة‬
‫األولى واألخيرة التي يجب استيعابها من قبل الجماعة المنقذة واألمة الهادية‬
‫وذلك من خالل "إياك نعبد"‪ ،‬وهى حقيقة إخالصها مع أفرادها اهلل‪ ،‬وليس‬
‫للدنيا أيًا كانت هذه الدنيا كي تنال رحمة الرحمن الرحيم بتمكين يُحمد فيه اهلل‪،‬‬
‫ويُشكر جل في عاله‪ .‬كما أن التعبير بقوله "نعبد" بصيغة المضارع فيه‬
‫إحياء واضح لعبودية مستمرة ال تقبل التذبذب وال االنقطاع تحت أي مسمى‪.‬‬
‫إنها التربية العقدية التي تؤسسها الفاتحة ليبقى العابد على صلة مستمرة‬
‫بالمعبود ال يشغله شاغل‪ ،‬وال يحول بينه وبين ربه حائل ما لم سقط في أتون‬
‫‪- 13 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫العضب اإللهي والضالل البشري مع المغضوب عليهم والضالين‪ ،‬وهو معنى‬


‫نفيس وجميل‪ ،‬بل غاية في الجمال والنفاسة‪ .‬ثم جاء التخصيص مرة أخرى‬
‫في قوله "وإياك نستعين"؛ وذلك إليحاءات كثيرة منها‪ :‬أن "إياك نعبد"‬
‫تطرد الرياء‪" ،‬وإياك نستعين" تطرد الكبرياء كما قال علماؤنا األجالء‪،‬‬
‫والجميل هنا هو تقديم العبادة على االستعانة كون العبادة أعم من االستعانة‪،‬‬
‫بينما االستعانة أخص‪ .‬كما أن الدين في حقيقته هو عبادة واستعانة واتباع كما‬
‫سيأتي الحقًا في قوله "إهدنا"‪ ،‬وهذا هو الذي قادنا إلى القول بأن الفاتحة‬
‫جمعت الدين كله في هذه السورة الشافية كما أن العبادة ليست باألمر الهيِّن‬
‫ط العابد في‬
‫كون الدنيا والشيطان والنفس والهوى كلها مفردات مثبطة تُسْقِ ُ‬
‫وكرها وتحبسه في شراكها فكانت االستعانة باهلل وطلب الغوث منه هما الملجأ‬
‫والمالذ‪ ،‬وهذا معنى نفيس ينبغي تأمله والوقوف عنده‪ ،‬وتزداد "وإياك‬
‫ال من خالل اإليحاء الملموس بين ثنايا اآلية والمتمثل‬
‫ال وجال ً‬
‫نستعين" جما ً‬
‫بضعف جماعي وافتقار أرضي هلل سبحانه‪ ،‬وهو المعنى المشار إليه سابقاً‬
‫عند قولنا أن "وإياك نستعين" تطرد الكبرياء‪ .‬إنه فقر األرض وحاجتها إلى‬
‫عون السماء وقوتها كي تستمر في المسير دون تذبذب أو إبطاء حتى تصل‬
‫إلى عالم الغيوب صحيحة سليمة وعابدة أمينة‪ .‬ومما ال شك فيه فإن طريق‬
‫العبادة طريق بعيد المسافات‪ ،‬ومحاط بالبالء والعقبات‪ ،‬تلك العقبات الموجودة‬
‫في النفس البشرية المتواكلة والراغبة قطعًا في التملص والهروب من‬
‫المسئولية‪ ،‬والمساءلة‪ ،‬والجنوح للنوم والغفلة من جهة‪ ،‬وعداوة الخارج‬
‫المتزمتة والغير قابلة لصراط اهلل المستقيم ورجاله من جهة أخرى‪ ،‬كلها‬
‫عقبات وغيرها كثير ال انتصار عليها‪ ،‬وال قدرة ألحد على تجاوزها ما لم‬
‫يكن اهلل هو الموفق والمعين‪ ،‬لذا كان تخصيص االستعانة باهلل وحده دون‬
‫غيره لهذا المعنى ولهذا األمر‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 14 -‬‬

‫كما أن "نستعين" جاءت أيضًا بصيغة المضارع لإليحاء باستعانة مستمرة‬


‫دائمة بمن يملك مقاليد الخلق ونواصيهم وهو رب العالمين‪ ،‬وبعد عبادة‬
‫وإخالص واستعانة دون وسواس أو خناس جاءت اآلية بعد ذلك طالبة الكنز‬
‫الثمين وذلك من خالل قوله "اهدنا الصراط المستقيم"‪ ،‬حيث توحي هذه‬
‫الجملة القرآنية بإيحاءات كثيرة منها‪ :‬أن الهداية تُطلب من اهلل في السماء‪ ،‬وال‬
‫تُشترى من عبيد األرض كونها ليست سلعة تباع في أسواق النخاسة كما هو‬
‫حال المعروضات والمنتجات‪ .‬إنها الهداية بكل مفرداتها‪ ،‬والحقيقة الصادقة‬
‫بكل تجلياتها تُطلب من المأل األعلى حيث الكمال والجالل‪ ،‬ال من األرض‬
‫حيث الخلل والنقصان‪ ،‬والجميل هنا أن يأتي طلب الهداية بعد جولة واسعة‬
‫من الحمد والثناء وذلك لإليحاء بأن كل ذلك تم ويتم بهداية اهلل وتوفيقه وكرمه‬
‫وفضله على عباده وخلقه بعد أن يكون العباد قد أخذوا بأسباب الهداية من‬
‫جهة‪ ،‬ثم إعالنهم االفتقار لخالقهم وحاجتهم الدائمة لعونه وهدايته من جهة‬
‫أخرى‪ .‬كما أن طلب الهداية والهدى بعد هذا الجو اإليماني الملئ بالحمد‬
‫والثناء والعبادة والصفاء يوحي بمعنى غاية في الدقة والنفاسة وهو أن طُالَّب‬
‫ال‬
‫الهداية والهدى عليهم أن ينطلقوا إلى مواقع الهدى كي يهتدوا‪ ،‬وليس مقبو ً‬
‫شرعًا أن يظلوا قابعين في مواقع الردى دون حراك يُذكر أو جهد للنجاة‬
‫يُشكر‪ .‬إنه الرد الحاسم على ذلك الفريق العابث الذي يريد الهداية ويتمناها‬
‫بينما هو غارق حتى النخاع في السفاهة والغواية‪ ،‬وأنَّى لغارق اختار لنفسه‬
‫الغرق دون أن يفكر لحظة كيف يساعد نفسه أو ينقذ ذاته كي تناله رحمة‬
‫الرحمن الرحيم وهداية رب العالمين أن ينجو ؟ كما أن ذكر الهداية والهدى‬
‫في هذا الموقع فيه إيحاء دقيق آخر وهو أن الثبات على الهداية يتطلب البقاء‬
‫في جو إيماني تعبدي جماعي ال يفتر عن العبادة‪ ،‬وال يغفل عن الطاعة ما لم‬
‫يكن العكس صحيحًا وهو معنى دقيق جدَّا ينبغي تأمله والوقوف عنده لدقته‪.‬‬
‫‪- 15 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ومما ال شك فيه فإن القلوب – كل القلوب – بين إصبعين من أصابع الرحمن‬


‫يقلبها كيف يشاء‪ ،‬لذا كان طلب الهداية دائمًا ومستمرًا في كل صالة كون‬
‫الفاتحة ركنًا من أركان الصالة ال تتم صالة عبد إال بقراءتها سواء في صالة‬
‫الفريضة أو النافلة كما هو معلوم‪ .‬إنها الحقيقة الكبيرة التي يجب أن تحياها‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهى تعيش في الحياة الدنيا ودنيا الحياة تهدي‬
‫وتهتدي كي تبقى وتسود وتصل المقصود‪ .‬نعم إنها األفواه المؤمنة التي يجب‬
‫عليها حتمًا طلب الهداية صباحًا ومسا ًء وفي كل حين وهى ترى السقوط‬
‫البشري واإلنحالل القيمي في مستنقع الرذيلة وفي حمأة الشهوة يفعل فعله في‬
‫الخليقة والخلق بطريقة مخيفة‪ ،‬وبوسائل مختلفة متنوعة‪.‬‬
‫ومما ينبغي ذكره هنا أن الهداية درجات ومواقع وصفات‪ ،‬فمن اهتدى لحقيقة‬
‫من الحقائق هو بحاجة إلى اإلرتقاء في سلم الهداية والهدى على الدوام ما بقي‬
‫حيًّا حتى يصل إلى اهلل‪ ،‬ولذا كان الطلب وكان اللجوء في كل حال لهذا المعنى‬
‫أيضًا‪ .‬ويالحظ هنا طلب الهداية بلفظ جماعي "اهدنا"‪ ،‬وليس طلبًا فرديًا كأن‬
‫ال "اهدني"‪ ،‬إنه اإليحاء الدقيق بحاجة الجماعة المنقذة واألمة‬
‫يكون السياق مث ً‬
‫الهادية كلها إلى هداية اهلل وتوفيقه كي تبقى وتقوى‪ ،‬وما لم يحدث ذلك فال‬
‫بقاء وال قوة كون الحياة بغير هداية اهلل وتوفيقه إنما هى حياة عبثية محكوم‬
‫عليها بالضياع والفشل في البدء وفي الختام‪ ،‬وجاء طلب الهداية هنا طلبًا‬
‫مخصصًا بالصراط المستقيم‪ ،‬وذلك لإليحاء بأن هناك صراطًا آخر هو‬
‫صراط شيطاني معوج‪ .‬إنه صراط األبالسة وطريق العتاولة الذين يتحركون‬
‫بشهواتهم وأفرادهم‪ ،‬ويدعون بوسائلهم وأدواتهم لنشر خبثهم وخبائثهم دون‬
‫توقف كون المغضوب عليهم والضالين – كما سيأتي معنا الحقًا – كانوا على‬
‫صراطهم المعوج الذي أودى بهم إلى حيث هم اآلن‪ .‬وقد وردت في قراءة‬
‫الصراط التي معناها الطريق – كما هو معلوم – قراءتان بالصاد كما هى‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 16 -‬‬

‫هنا‪ ،‬وبالسين "السراط"‪ ،‬وكلتاهما متواترتان تواترًا معروفًا ومعلومًا أيضًا‪،‬‬


‫وتظهر الدقة اللفظية هنا من خالل قوله "اهدنا الصراط المستقيم" دون‬
‫الحاجة إلى حرف الجر كأن يكون السياق مثالً "اهدنا إلى الصراط‬
‫المستقيم"‪ ،‬حيث جاء الفعل متعديًا بنفسه دون الحاجة إلى حرف الجر‪ ،‬وذلك‬
‫كى يشمل هذا الطلب الهدايتين معًا؛ هداية الداللة واإلرشاد‪ ،‬والهداية التوقيفية‬
‫كون الهداية هدايتين كما هو معلوم‪ ،‬وهذا من بالغة القرآن المعروفة عندما‬
‫يواصل جماله‪ ،‬وينشر دقائقه‪ .‬إنها الرسالة الدقيقة – والدقيقة جدًا – التي يجب‬
‫فهمها من خالل هذا الحذف والتعبير‪ ،‬وذلك إيحاء بوجوب االبتعاد عن كثرة‬
‫األلفاظ والحواشي أثناء الخطاب‪ ،‬واإلتيان بألفاظ مختصرة تحقق المراد‪،‬‬
‫وتهدي العباد دون ملل أو إطالة‪ ،‬ثم يتواصل الجمال القرآني كعادته في‬
‫التوضيح والتوصيف من خالل قوله "صراط الذين أنعمت عليهم"‪ ،‬حيث‬
‫تحوى هذه األلفاظ الكثير من الجماليات ومنها‪ :‬واحدية الصراط المستقيم الذي‬
‫سار عليه جيل التمكين األول من عهد نبى اهلل آدم حتى اللحظة‪ .‬إنه طريق‬
‫الحق والصدق الذي ال تتغير أصوله‪ ،‬وال يتذبذب رجاله على اإلطالق‪.‬‬
‫والمالحظ هنا تكرار لفظ الصراط مرة أخرى ولكن بغير أل التعريف في‬
‫قوله "صراط الذين"‪ ،‬وذلك لإليحاء بواحدية الصراط المستقيم الذي سار‬
‫عليه الصالحون باألمس‪ ،‬وما زال باقيًا اليوم بنقائه وصفائه ووضوحه‬
‫وبهائه‪ ،‬وهو المعنى الذي سبق أن أشرنا إليه سابقًا‪ .‬كما أن قوله "أنعمت‬
‫عليهم" فيه إيحاء دقيق يوحي بأن الثبات على هذا الصراط لم يكن من نعمة‬
‫العبد وقدرته‪ ،‬وال من خالل ذكائه وحرصه فحسب‪ ،‬بل بتوفيق اهلل وعونه‬
‫وجوده وكرمه‪ .‬إنها الحقيقة التي تضعها الفاتحة في عقول وقلوب المريدين‬
‫كي ينطلقوا صوب السماء طالبين العون ممن بيده مقاليد السماء واألرض‬
‫ونواصي العباد والخلق تاركين األرض بضعفها ووضعها لذاتها الفقيرة‬
‫‪- 17 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫المتجهة حتمًا كذلك نحو الرب بصيغة الحال والمقال‪ .‬ومما ينبغي ذكره هنا‬
‫أن لفظ "عليهم" ورد بكسر الهاء وهى قراءتنا‪ ،‬كما ورد اللفظ بضم الهاء‬
‫أيضًا وهى قراءة متواترة مشهورة‪ .‬إنها السعة اللفظية التي خاطبت العقول‬
‫بلغاتها ولهجاتها في لحظات التنزيل وذلك في صورة مبدعة ممتعة إيحاءً‬
‫بجمال المنزِّل وجمال التنزيل في آن واحد‪ ،‬وهذه اإلشارة الدقيقة يجب على‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية استشعارها من خالل هذه القراءة وهى‬
‫ضرورة مخاطبة كل قوم وكل شريحة على حسب أفهامهم ومستوى عقولهم‬
‫كي تصل الرسالة‪ ،‬وتتضح المقالة بطريقة سهلة وبألفاظ معبرة تأسيًا بهذه‬
‫القراءة وبهذا القرآن‪ ،‬والمالحظ هنا أن اآلية األخيرة من الفاتحة لخصت‬
‫وبكل وضوح مشارب الخلق ومشربهم وذلك من خالل "الذين أنعمت‬
‫عليهم" كصنف أول والمغضوب عليهم كصنف ثانٍ‪ ،‬والضالين كصنف‬
‫أخير وثالث‪ .‬إنها اإليحاءات التي تشي بضرورة أن يكون أصحاب الصراط‬
‫المستقيم هم القادة والقدوة مرتبة ورتبة ومكانة ومكانًا كون بداية السورة إلى‬
‫هنا إيحاءات بمؤهالت القيادة وحقيقة القادة كما هو معلوم‪ .‬إنها المؤهالت‬
‫العقدية‬
‫الكفيلة دون شك بتربية دقيقة وأحقية مؤكدة لقيادة األرض – كل األرض –‬
‫نحو السماء بعيدًا عن سيطرة المغضوب عليهم والضالين في كل مكان‬
‫وفي كل عصر‪.‬‬
‫ومما ال شك فيه فإن الذين أنعم اهلل عليهم هنا هم الحامدون لربهم‪ ،‬والمثنون‬
‫على خالقهم‪ ،‬والممجدون لمن بيده نهواصيهم‪ .‬إنهم العابدون له سبحانه‪،‬‬
‫والمستعينون المعتمدون عليه جل شأنه في كل شؤونهم من الذين أنعم اهلل‬
‫عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا‪ .‬نعم‬
‫إنها األجيال الصالحة والمصلحة المتعاقبة على مر السنين التي كانت – وما‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 18 -‬‬

‫زالت – صمام األمن واألمان لسكان األرض من شرور المغضوب عليهم‬


‫والضالين حتى تقوم الساعة‪ .‬ومما ينبغي تداركه هنا قبل الختام هو القول بأن‬
‫الذين أنعم اهلل عليهم من الخلق هم من عرف الحق وعمل به‪ ،‬بينما المغضوب‬
‫عليهم هم اليهود كونهم عرفوا الحق ولكنهم حادوا عنه عنادًا وكبرًا‪ ،‬بينما‬
‫أولئك الضالون هم الذي قادهم الجهل‪ ،‬وتحكم بمصائرهم الجاهلون وهم‬
‫النصارى‪ .‬كما أن هذا التقسيم الرباني للخليقة والخلق يبقى هو األصل‪ ،‬وال‬
‫يمنع أن يكون الغضب اإللهي عامًّا في كل من تكبر عن الحق ولو كان من‬
‫غير اليهود‪ ،‬وكذلك الحال في الضالين أيضًا كما هو معلوم‪ ،‬وهو استنتاج‬
‫حسن ومقبول‪ ،‬ثم بعد هذه الجولة الجميلة عبادة‪ ،‬والعظيمة شأنًا‪ ،‬والثابتة دينًا‬
‫تأتي السنة المحمدية باعتبارها مقيدة للمطلق‪ ،‬ومخصصة للعام‪ ،‬وموضحة‪4‬‬
‫للمجمل تأتي هنا هذه المرة واضع ًة النقاط على الحروف من خالل قول اإلمام‬
‫والمأموم على حد سواء "آمين" بكسر الميم المخففة ال بتضعيفها (المشددة)‬
‫كون التخفيف يحمل معنى "اللهم استجب"‪ ،‬بينما التشديد يغير المعنى تمامًا‬
‫فتصبح "آمّين"‪ ،‬أي قاصدين ومتجهين"‪ .‬إنه الصوت الجماعي الذي يهز‬
‫أركان الكون كل الكون طالبًا من رب الكون االستجابة والعون في مشهد‬
‫تعبدي جماعي غاية في الجمال والجالل يتكرر دائمًا في جنبات الكون‬
‫وجيناته‪ ،‬وذلك حتى يحين رحيل الحياة‪ ،‬وينتهي دون عودة عمر األحياء‪ .‬إنه‬
‫الصوت الجماعي الذي هز أركان الكون في الماضي‪ ،‬فأسلم الكائن والكون‬
‫ألحقيته في السيادة والقيادة‪ ،‬وما زال تأمين اليوم يفعل فعله وإن تأخر صداه‬
‫ال كون أهله لم يستشعروا َقدْره‪ ،‬ولم يعرفوا قيمته بع ُد نتيجة للغفلة‬
‫قلي ً‬
‫المستحكمة من جهة‪ ،‬والشهوات المحيطة المتربصة من جهة أخرى‪ ،‬ولكن‬
‫حتمًا ستأتي ثماره‪ ،‬وتتحقق حقيقته وأحقيته في السادة والقيادة ما بقيت حياة‪،‬‬
‫وعاش على ظهر البسيطة أحياء‪.‬‬
‫‪- 21 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫خ ِر وَمَا هُم بِ ُمؤْمِنِينَ{‪}8‬‬


‫هلل وَبِالْ َيوْمِ اآل ِ‬
‫س مَن يَقُو ُل آمَنَّا بِا ِ‬
‫ن النَّا ِ‬
‫(وَمِ َ‬
‫سهُم وَمَا يَشْ ُعرُونَ{‪.)2()}9‬‬
‫ِال أَنفُ َ‬
‫ن إ َّ‬
‫ن آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُو َ‬
‫اهلل وَالَّذِي َ‬
‫ن َّ‬ ‫ُيخَادِعُو َ‬
‫هذا هو الصنف الثالث الذي تحدثت عنه سورة البقرة حديثًا واضحًا ال لبس‬
‫فيه‪ ،‬وذلك بعد الحديث عن صنفين‪ ،‬األول هم أهل اإليمان‪ ،‬والذين يمثلون‬
‫عطر الحياة وجمالها‪ ،‬وروعة الدنيا وكمالها حيث ال تكتمل الحياة إال بهم‪،‬‬
‫وال يستأنس األحياء إال بوجودهم‪ ،‬وذلك في بداية السورة‪ ،‬ثم الصنف الثاني‬
‫وهم الكفار‪ ،‬وقد تناولتهم السورة هنا بآيتين كونهم معروفين وواضحين‪،‬‬
‫فالصنف األول وهم المؤمنون يمثلون النهار بضوئه وجماله‪ ،‬والصنف الثاني‬
‫وهم الكفار يمثلون الليل بسواده وظلمته‪ ،‬وإلى هنا فإن التمييز معلوم‪ ،‬واألمر‬
‫في الصنفين واضح ومحسوم‪ ،‬ولكن الصنف الثالث الذي نتناوله بالحديث هنا‬
‫هم المنافقون الذين يدعون أنهم نهار مشرق‪ ،‬ولكنهم في حقيقة األمر ليل‬
‫معتم‪ ،‬وظالم مطبق‪.‬‬
‫نعم إنهم بوجوههم الكالحة‪ ،‬وأشكالهم المتلونة كون الواحد منهم ال وجه له‪،‬‬
‫بل يملك وجوهًا مزيفة يغيرها في الساعة والحين كلما تحركت شهوته‪،‬‬
‫وتراءت هنا أو هناك مصالحه‪ .‬إنهم المنافقون الذين جاء اشتقاق اسمهم من‬
‫النفق الذي ال تدرك غوره‪ ،‬وال تعرف حقيقته وسره‪ .‬نعم إنهم الصنف األسوء‬
‫حاالً‪ ،‬واألخطر مكانًا وزمانًا‪ ،‬لذا أسهبت اآليات في الحديث عنهم أكثر من‬
‫غيرهم كي يتم الحذر منهم‪ ،‬وعدم الركون إليهم كونهم ال يحكمهم دين‪ ،‬وال‬
‫يقيدهم مبدأ‪ ،‬إنهم مخادعون ومخادعون فقط‪ ،‬هذا شعارهم وسلوكهم ودينهم‬
‫وديدنهم‪ ،‬فالمنافق يأكل معك ويخدعك‪ ،‬ثم يشرب ماءك‪ ،‬ويتغطى بمتاعك‬
‫حتى يجد الفرصة لخسته ودناءته فيطعنك‪ .‬نعم إذا وجدك صالحًا لبس لك‬

‫من سورة البقرة‪ :‬اآليات ‪.9 – 8‬‬ ‫(‪)2‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 22 -‬‬

‫ثوب الصالح‪ ،‬وأكثر أمامك من الذكر والتسبيح واالنشراح حتى إذا غفلت‬
‫عنه مكر بك وراح‪ ،‬ال يهمه العيب‪ ،‬وال يستحي من الشيب‪ ،‬وال يخجل إذا‬
‫افتُضح أمره من الكيد‪ .‬لقد أخذتهم الغفلة حتى أوصلتهم إلى مخادعة اهلل في‬
‫السماء‪ ،‬فصارت حياتهم كلها خداع ومخادعة‪ .‬إنه السلوك الممقوت‪ ،‬والسيرة‬
‫السيئة لهذا الصنف السيئ بكلماته المنمقة‪ ،‬وشعاراته البراقة‪ ،‬والذين أنتن‬
‫المكان وفسد الزمان من سوء فعلهم وخبث طويتهم‪ .‬ومما ينبعي ذكره هنا أن‬
‫هذا الصنف السيئ أخالقًا‪ ،‬والتائه دينًا والمريض قلبًا‪ ،‬والناكث عهدًا كان‬
‫كذلك حتى مع نبي اهلل محمد في دالل ٍة تحمل العمى بكل صوره‪ ،‬والضالل‬
‫بكل أشكاله‪ ،‬وما زال هذا الصنف القبيح النفاقي يخالط القوم ويكرر خداعه‬
‫دون توقف‪ .‬ولسنا ممن يكفر منافقي اليوم القانطين‪ ،‬ولكن ما أريد قوله هو‬
‫أن أعمالهم اليوم شبيهة بأعمالهم في األمس‪ ،‬وإن اختلفت دوافع األمس عن‬
‫دوافع اليوم كون الدافع باألمس كان كفرًا‪ ،‬بينما دافع اليوم قد يكون انتقامًا‪،‬‬
‫ولكن يبقى اإلجرام إجرامًا بغض النظر عمن صدر عنه‪ ،‬والغريب في هذا‬
‫النفاق أنه عندما أسقط القوم بعمالته وخداعه سقط بسقوطه كونه ال بقاء له إال‬
‫بقومه‪ ،‬ولكنه لحقارته‪ ،‬وذهاب غيرته ورجولته لم يعد يهمه ذلك السقوط‬
‫فالدنيئ ال تضره الدناءة‪ ،‬والسيئ ال تضره السيئات كونه صار ثوبًا أسودًا‬
‫هيأ نفسه لتحمل كل سواد‪ ،‬والتأقلم مع كل كذب وعناد‪ ،‬فال ضير عنده أن‬
‫ال عن الدين‬
‫يبقى في األسفل والقاع كونه منزوع الرجولة واإلنسانية فض ً‬
‫واآلدمية‪ .‬وفي الوقت الذي تتحرك فيه عظمة العظماء لمحاولة الصعود‬
‫والخروج من القاع يحاول هذا الصنف أن يصنع مع العظماء نفس الصنيع‬
‫مع أنه هو من أسقط الجميع بخداعه‪ ،‬وما زال يسقطهم بمكره وغبائه‪ .‬ومن‬
‫عجائب أمرهم أنهم يقولون ويكثرون من القول كما أخبر اهلل عنهم‪ ،‬ولكن‬
‫سلوكهم يفضح قولهم‪ ،‬وخداعهم يكشف سرهم كما أسلفنا‪ ،‬فهم وإن خدمتهم‬
‫‪- 23 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫األماني واألوضاع بعض الوقت فلن يكون لهم ما يريدون كل الوقت‪ ،‬بل إن‬
‫حفرة كبيرة بحجم خداعهم تنتظرهم‪ ،‬وسيقعون بها حتمًا ألن اهلل حكم بذلك‬
‫ال "وما يخدعون إال أنفسهم وما يشعرون"‪ ،‬فقد حفروا للناس حفرًا‪ ،‬فمنهم‬
‫قائ ً‬
‫من وقع‪ ،‬ومنهم من نجا‪ ،‬بينما هم سيقعون في الحفرة المنتظرة دون نجاة‪،‬‬
‫فال تظنن أن الخداع والنفاق نجاة‪ ،‬وإياك أن تعتقد أن سياسة الواقع تقتضي‬
‫ذلك‪ ،‬ال واهلل‪ ،‬فبئست السياسة الخداع والنفاق‪ ،‬وبئس السياسي المخادع‬
‫المنافق‪ ،‬فكن صريحًا صادقًا‪ ،‬وسياسيًّا أمينًا‪ ،‬واحذر من التلون وتعدد الوجوه‪،‬‬
‫واعلم أن من عاش بوجوه متعددة مات من غير وجه‪..‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 24 -‬‬

‫ض خَلِيفَ ًة قَالُواْ أَ َتجْ َعلُ فِيهَا مَن‬


‫علٌ فِي ا َألرْ ِ‬
‫ك لِلْمَالَئِكَ ِة إِنِي جَا ِ‬
‫( َوإِذْ قَا َل رَبُّ َ‬
‫س لَكَ قَا َل إِنِي أَعْلَمُ مَا‬
‫ك وَنُقَدِ ُ‬
‫ن نُسَبِحُ ِبحَمْدِ َ‬
‫ك الدِمَاء وَ َنحْ ُ‬
‫يُفْسِ ُد فِيهَا وَيَسْفِ ُ‬
‫َال تَعْلَمُونَ{‪.)3()}30‬‬
‫هكذا ينقل لنا القرآن هذا الحوار الذي جرى هناك في األزل قبل أن نُخلق أو‬
‫نكون شيئًا يُذكر‪ .‬نعم إنه الحوار الذي حمل في طياته كرامة اإلنسان وشرفه‬
‫وعلمه وعلوه في صورة أظهرته هناك في عالم المالئكة مخلوقًا كريمًا وعالمًا‬
‫كبيرًا‪ ،‬ولن نخوض هنا في خالفات األولين‪ ،‬وال في جدال مع علمائنا‬
‫الالحقين في شرح اآلية ألفاظًا ودالالت لغوية كون ذلك الخالف لم يُجد نفعًا‪،‬‬
‫بل أضاع روح النص من األفهام‪ ،‬وأخرجنا من المعنى المراد إلى شعاب‬
‫بعيدة في واد‪ ،‬بل تعالوا إلى اآلية كي نعيش جوها الدافئ حيث نلمس بين‬
‫ثناياها حوارًا رائعًا‪ ،‬وجوا هادئًا يسكب على القلوب سكينة‪ ،‬وعلى األرواح‬
‫راحة‪ ،‬وعلى الحياة واألحياء بردًا وسالمًا‪ .‬نعم يحصل لنا ذلك الدفء مرتين‪،‬‬
‫األولى عند قراءتنا لآلية‪ ،‬والثانية عند تعاملنا؛ فعندما نشعر هنا في خالفاتنا‬
‫البيئية والبشرية بالقلب الكبير الذي يستوعب اآلراء دون تقبيح أو تجريح‬
‫تأسيًا منا بالجو الحواري الرائع بين الخالق سبحانه والمخلوق في هذه اآلية‬
‫عندها يكتمل الدفء‪ ،‬وتفارقنا كل وحشة‪ .‬إنه الحوار كقيمة أصيلة كانت هناك‬
‫في السماء‪ ،‬واتضح من خالل تلك القيمة الكثير من الحقائق والحكم للمالئكة‬
‫هناك‪ ،‬ولنا نحن البشر هنا كون الحوار هو القيمة الوحيدة واآلمنة للخليقة في‬
‫التعامل والتعايش لتبقى الحياة‪ ،‬ويأمن األحياء‪ .‬وال شك في أن هذه القيمة‬
‫األصيلة دينًا‪ ،‬والراقية علمًا‪ ،‬والمتميزة سلوكًا وخُُلقًا هى القادرة دون غيرها‬
‫على االرتقاء بهذه الخليقة شريطة توفر العلم بحقائق األشياء ومآالت األمور‪،‬‬

‫سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.30‬‬ ‫(‪)3‬‬


‫‪- 25 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫فإذا كان اهلل وهو العلي األعلى سبحانه يحاور مالئكته بهذه الصورة فهذا‬
‫يعني ضرورة أن ينزل األقوى عتادًا‪ ،‬واألكثر علمًا هنا إلى مستوى من دونه‬
‫محاورًا وموضحًا كي ال يكون في األرض فساد‪ ،‬فليس صحيحًا أن نخفي ما‬
‫ال أن يحل الخصام والشقاق فيفسد ذات بيننا‪ ،‬بل‬
‫يعتلج في صدورنا‪ ،‬وال مقبو ً‬
‫تأتي هذه القيمة في الوسط لهذه األمة الوسط في تناسق عجيب يجمع بين‬
‫جمال البدايات وروعة النهايات‪ .‬نعم إنها القيمة التي غابت في حياتنا كأمة‬
‫تقرأ هذا الحوار‪ ،‬ولكنها لألسف أمة تقرأ لذات القراءة‪ ،‬وال تتعدى هذا‬
‫المعنى‪ ،‬لذا كانت المحصلة المرة هى الفساد‪ ،‬وسفك الدماء في صورة تحمل‬
‫توحشًا إنسانيًا مخيفًا‪ ،‬وصراعًا بينيًّا عنيدًا يأبى التالقي أو البقاء‪ ،‬وهى نفس‬
‫الصورة التي حملت مالئكة اهلل على االستفهام عن سر هذا المخلوق كون‬
‫الفساد وسفك الدماء مسلكه وسلوكه‪ ،‬وذلك من خالل رؤيتهم لسلوك الشياطين‬
‫حيث غابت هذه القيمة في ذلك السلوك الشيطاني المتمرد‪ ،‬وال شك في أنها‬
‫عندما يتكرر غيابها تعود الشيطنة‪ ،‬ويتكرر الشيطان مرتديًا ثوب االفتراس‬
‫الحيواني في شكل المخلوق اآلدمي‪ .‬إنها الحياة بكل مالبساتها‪ ،‬واألحياء بكل‬
‫تصوراتهم وأطماعهم يحتاجون إلى هذه القيمة في تسيير أمورهم وحل‬
‫خالفاتهم حتى ال تحل الشيطنة‪ ،‬وتزرع الفتنة من جديد‪ ،‬فالحياة بكل‬
‫تفصيالتها ال يقودها إال العقل الذي يحمل هذه القيمة ما لم تحوَّل البشر – كما‬
‫أسلفنا – إلى شياطين في صورة آدميين‪ ،‬وتتضح هنا رحمة اهلل بمالئكته‪،‬‬
‫وإحسانه إليهم‪ ،‬فلم يهزأ بهم لجهلهم‪ ،‬وال غضب عليهم لسؤالهم‪ ،‬بل وضح‬
‫سبحانه لهم‪ ،‬وبين في رسالة واضحة لهذا الخليفة المستخلف هنا في األرض‬
‫كيف يحاور إذا أراد الحوار‪ ،‬وكيف يتحدث إذا أراد الحديث في صورة تحمل‬
‫الرحمة بكل معانيها‪ ،‬لذا كان لزامًا علينا أن نتعبد هلل بهذه القيمة‪ ،‬وبهذا السلوك‬
‫كوننا نتعبد هلل بأسمائه وصفاته جل شأنه‪ ،‬وتقدست أسماؤه‪ ،‬فالحوار من أجل‬
‫توضيح الحقائق وإزالة اللبس عبادة من العبادات الموصلة إلى رضوان اهلل‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 26 -‬‬

‫وجنته‪.‬‬
‫والمالحظ هنا أنه وبعد\ أن كشف اهلل لمالئكته السر والحكمة من هذا‬
‫االستخالف عندها كان استغفار المالئكة وتسبيحهم تنزيهًا هلل‪ ،‬واعترافًا منهم‬
‫بعلمه وحكمته سبحانه فيما كان وفيما هو كائن‪ .‬نعم إنه الحوار القائم على‬
‫الحقائق الواضحة والبراهين الساطعة ليكون اإلقناع الواقعي والتسليم‬
‫المنطقي هو الثمرة بينما الحوار الذي ينعدم فيه الدليل هو في الحقيقة عبث‬
‫وقتي‪ ،‬وجهد مضني‪ ،‬وتالعب شيطاني ليس إال‪ .‬إ ًذا لم يكن القرآن لينقل إلينا‬
‫هذا الحوار كي نختلف حول األلفاظ والمسميات‪ ،‬ونترك األهداف والغايات‪،‬‬
‫حاشا وكال‪ ،‬بل الهدف هو أن نعيش هذه الروح‪ .‬إنها روح الحوار القائم على‬
‫أساس العلم والفهم والتوضيح بعيدًا عن العنف والجهل والتقبيح‪ ،‬واعلم مرة‬
‫أخرى أن اهلل لم يعنف مالئكته عند استفهامهم عنك‪ ،‬كما أنه لم يحتقرهم عند‬
‫جهلهم بك‪ ،‬بل حاورهم – وهو العلي األعلى سبحانه – حتى أبان لهم بعلمه‬
‫جهلهم‪ ،‬وفي كل ذلك تعليم لك كيف تقول إذا أردت القول‪ ،‬وكيف تحاور‬
‫عندما يكون الحوار‪ ،‬وحسبك في هذه اآلية هذه القيمة األصيلة فهى أساس‬
‫كل القيم حيث كانت هناك في السماء‪ ،‬واألصل أن تسود هنا في األرض‪.‬‬
‫‪- 27 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫علَى الْخَاشِعِينَ{‪.)4()}45‬‬
‫(وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّالَةِ َوإ َِّنهَا لَكَبِيرَةٌ إِالَّ َ‬
‫إنها الوصفة اإللهية لألمة المحمدية نجدها هنا في سورة البقرة‪ ،‬وفي هذه‬
‫اآلية بالتحديد‪ .‬إنها اآلية التي حَ َوتْ العالج لكل قلق‪ ،‬والهدوء من كل أرق‪،‬‬
‫والراحة من كل تعب‪ ،‬والفرح من كل حزن‪ ،‬فالصبر مع الصالة توأمان لحياة‬
‫سعيدة هنا تمتد لراحة أبدية هناك‪ ،‬فهذه الحياة مليئة باألدواء واألوجاع‬
‫والمتاعب واألطماع‪ ،‬وحتى ال تُسقطك أوجاعها‪ ،‬وال تخدعك أطماعُها كان‬
‫العالج هو الصبر والصالة‪ .‬نعم هى كذلك كون االنغماس هنا في عالم الطين‬
‫– والطين فقط – بعيدًا عن الصبر والصالة إنما هو سقوط في وحل الشهوة‬
‫المؤقتة‪ ،‬وشراك المتعة الحيوانية اآلنية التي تسلخ اإلنسان من إنسانيته‪،‬‬
‫وتجرده من كرامته‪ ،‬فتدعه هناك عاريًا من كل قيمة‪ ،‬ومسلوبًا لثوب العزة‬
‫والكرامة‪ ،‬وال شك في أن هذا االنسالخ يزداد شؤمًا كلما أوغل اإلنسان في‬
‫عالم الطين والشهوة تاركًا روحه هناك تغرق وتغرق بعيدًا عن عالمها‬
‫الروحي‪ ،‬عندئذ تستعبده اللذة‪ ،‬وتذله الشهوة كون الطينة وحدها بدون الروح‬
‫ال تكرم ذاتًا‪ ،‬وال تستر جسدًا‪ ،‬فيكون السقوط لهذا العبد‪ ،‬وهو األمر الذي ال‬
‫يريده اهلل لعبده‪ .‬نعم فالرب سبحانه يحب عبده‪ ،‬وال يريد له أن يسقط في دنيا‬
‫تنتهي به فجأة في شهوة مؤقتة هنا أو هناك‪ ،‬بينما ينتظره في عالم اآلخرة‬
‫نعيمًا ال ينفد‪ ،‬وقرة عين ال تنقطع‪ ،‬لذا كان األمر اإللهي هنا باالستعانة بالصبر‬
‫والصالة حتى ال يسقط هنا فيحرم النعيم هناك‪ ،‬وحتى تتمكن الروح من‬
‫اإلفالت من أسر الشهوات الدنيوية الدنيئة واللذائذ المؤقتة اآلنية التي خلقت‬
‫الختباره وجذبه‪ ،‬وحتى ال يؤسر هنا فيخسر النعيم هناك كان البد له من هذين‬
‫الجناحين‪ ،‬جناح الصبر وجناح الصالة كي يرتقي بهما بذاته‪ ،‬ويستعلى بقلبه‬
‫وقالبه في عالم القيم الروحية األصيلة‪ .‬والمالحظ هنا أن ذكر الصبر تقدم‬

‫سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.45‬‬ ‫(‪)4‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 28 -‬‬

‫على ذكر الصالة ألنه ال يصلي إال صابر يحبس نفسه عن الشهوة‪ ،‬ويصبرها‬
‫على الطاعة‪ ،‬كما أن اهلل هنا لم يقل استعينوا بالصبر واستعينوا بالصالة‪ ،‬ال‬
‫لم يقل ذلك حتى ال يفرق بينهما‪ ،‬بل جعل الصبر والصالة شيئًا واحدًا‪ ،‬فال‬
‫صبر إال بصالة‪ ،‬وال صالة إال بصبر‪ .‬إنهما الجناحان اللذان تُحلِّق بهما في‬
‫عالم الملكوت منتصرًا على شهوات الجسد الخسيسة‪ ،‬ومتعاليًا على مطالب‬
‫النفس الرخيصة في صورة تحمل سموًّا روحيًّا وعلوًّا أخالقيًّا تحوم حول‬
‫الثريا هناك ال حول الثرى هنا‪ ،‬ويبقى التحليق هناك حول الثريا لهذه الروح‬
‫بهذين الجناحين باقيًا‪ ،‬وصاحبه في سماء القيم ثابتًا ما بقي الجناحان يرفرفان‬
‫حتى إذا انكسر أحدهما أو كالهما عندها يحدث السقوط في الطين والوحل‬
‫من جديد‪ ،‬ويكون هذه المرة سقوطًا مدويًّا هنا حتى يصل مداه إلى جهنم هناك‬
‫ما لم يحدث في األمر مراجعة‪ .‬ومما ينبغي ذكره هنا أن التحليق بجناحي‬
‫الصبر والصالة في عالم القيم يكون ثقيالً على تلك األرواح الخاوية‪ ،‬وصعبًا‬
‫على تلك األنفس المتفلتة‪ ،‬والتي أَلِ َفتْ واعتادت على حياة الوحل الطيني‬
‫الخسيس‪ ،‬ولم تذق بعد حالوة القرب الروحي النفيس في صورة تعكس‬
‫اآلدمية المنحطة عندما تستعبدها الشهوة‪ ،‬وتقيدها اللذة‪ ،‬وقد ذكر ذلك الثقل‬
‫وتلك الصعوبة في قوله سبحانه "وإنها لكبيرة"‪ ،‬فالصالة بجناحها السامي‬
‫والعالي ثقيلة على من ألف واعتاد حياة العبث األخالقي‪ ،‬والسقوط الروحي‪،‬‬
‫واالنهزام القيمي‪ ،‬وال شك في أن سقوط وانكسار هذا الجناح يسقط ويكسر‬
‫جناح الصبر فيهوى عندئذ هذا اإلنسان إلى الوحل من جديد متفلتًا من كل‬
‫قيمة‪ ،‬ومنسلخًا من كل فضيلة‪ ،‬فال قيمة لمن سقط من عالم القيم والفضائل‬
‫إلى عالم المحن والرذائل‪ ،‬أما األرواح العالية إيمانًا والكبيرة أخالقًا فهي تبقى‬
‫محلقة هناك في عالم الملكوت تنعم بقرب الرب سبحانه‪ ،‬بينما أجسادهم فقط‬
‫هى التي تعايش الخلق حتى يحين رحيلها كى تستقر بين يدي الخالق‪ .‬إن‬
‫الخاشعين وحدهم هم من يذوقون تلك الحالوة‪ ،‬وتسبح أرواحهم في عالم‬
‫‪- 29 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫الروح لقربهم من ربهم في جنة الدنيا هنا قبل جنة اهلل في اآلخرة هناك‪،‬‬
‫فاستعن بالصبر والصالة في دنيا الحياة وفي عالم األحياء لتبقى روحك عالية‪،‬‬
‫وهمتك متقدة‪ ،‬واعلم أن حياتك ال تتم إال بجناحي الصبر والصالة‪ ،‬فإياك إياك‬
‫أن تترك جناحيك أو أحدهما فتندم‪ ،‬ولكن بعد ذهاب كل شئ‪..‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 30 -‬‬

‫ت مَا‬
‫َن وَالسَّلْوَى ُكلُواْ مِن طَيِبَا ِ‬
‫علَيْكُ ُم الْم َّ‬
‫علَيْكُ ُم الْغَمَا َم َوأَن َزلْنَا َ‬
‫( َوظََّللْنَا َ‬
‫سهُمْ َيظْلِمُونَ{‪.)5()}57‬‬
‫ظلَمُونَا َولَـكِن كَانُواْ أَنفُ َ‬
‫َر َزقْنَاكُمْ وَمَا َ‬
‫وهكذا كانت النعم اإللهية لبني إسرائيل‪ ،‬تلك األمة الشقية في ذلك الزمن البعيد‬
‫من عمر هذه الحياة‪ .‬نعم فالغمام‪ ،‬والمن‪ ،‬والسلوى إضافة إلى حجر محمول‬
‫معهم يتفجر منه الماء كلما احتاجوا وأرادوا‪ ،‬هذه نعم توالت عليهم دفعة‬
‫واحدة‪ ،‬فالسماء تخدمهم بغمامها فتظلهم كلما اشتد الحر عليهم في تلك‬
‫الصحاري الملتهبة‪ ،‬فإذا جاء المساء أرسل اهلل إليهم السلوى؛ وهو طائر كثير‬
‫اللحم‪ ،‬وجميل المذاق ليكون عشاءهم‪ ،‬فإذا ناموا وجاء الصباح الباكر أنزل‬
‫اهلل عليهم المن‪ ،‬فوق األشجار‪ ،‬وهو طعام حلو المذاق كالعسل‪ .‬إنها نعم‬
‫عظيمة‪ ،‬ولكنها كما سيأتي وقعت في أي ٍد لئيمة كون الفضل يحتاج إلى كريم‬
‫ليبقى‪ ،‬فإذا وقع الفضل في يد عديم الفضل فإنه سرعان ما يزول ويفنى‪ .‬هكذا‬
‫يعرض لنا القرآن السلوك اإلسرائيلي قديمًا في تعامله مع اهلل ونعمه‪ ،‬ثم مع‬
‫أنبيائه ورسله في صورة تحمل خبثًا ال حدود له‪ ،‬وذلك حتى ال نرهق أنفسنا‬
‫في استرضائهم والتودد إليهم‪ .‬نعم لقد خدمتهم السماء بظلها‪ ،‬والنعم بروعتها‬
‫وجمالها‪ ،‬ومع ذلك لم يعبدوا ربًّا ولم يقبلوا دينًا‪ ،‬ولم يشكروا نعمًا في صورة‬
‫تفضح جنسًا خبيثًا تطاول خبثه‪ ،‬وتعالى شره حتى رفض التعايش مع السماء‬
‫المظللة له بغمامها‪ ،‬والمهدية له فضلها ونعمها‪ .‬وال شك في أن يهود اليوم هم‬
‫االمتداد الطبيعي ليهود األمس طبعًا وخبثًا وعنادًا ومكرًا كون العقلية هي‬
‫ال وقلبًا‪،‬‬
‫ذاتها‪ ،‬والتركيبة الخسيسة هى نفسها‪ .‬إنه الجنس الممسوخ عق ً‬
‫والمتوحش سلوكًا وفكرًا في الماضي‪ ،‬وهذا شأنه كذلك في الحاضر‪ ،‬حيث‬
‫ابتُلي به نبي اهلل موسى باألمس‪ ،‬وبقي هذا الجنس الخبيث لتُبتلى به األمة‬
‫المحمدية اليوم‪ ،‬ومن العبث أن يتكرر االسترضاء لجنس رفض التعايش مع‬

‫سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.57‬‬ ‫(‪)5‬‬


‫‪- 31 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫السماء‪ ،‬وقد أظلته بغمامها‪ ،‬وتكاثر بين يديه مَنَّها وَسَلْوَاها‪ ،‬ولكن عمى اليوم‬
‫يكرر نفسه‪ ،‬ويقود ذاته من جديد وبصورة فجة ومفضوحة طالبًا التعايش‬
‫والبقاء مع من هو عدو لألرض والسماء‪ ،‬وال شك في أن هذا االسترضاء‬
‫الممقوت لذلك الجنس األشد مقتًا هو سقوط من غير ثمن‪ ،‬وعطايا لعبَّاد وثن‬
‫يسقط فيه الطالب‪ ،‬وقد كان قبل ذلك كريمًا‪ ،‬ويتعالى فيه المطلوب‪ ،‬وقد كان‬
‫قبل ذلك ممسوخًا كونه لن يجدي نفعًا‪ ،‬ولن يدفع شرًّا‪ .‬ومما ينبغي اإلشارة‬
‫إليه هنا أن التمرد على اهلل من جهة‪ ،‬وعدم شكره على نعمه من جهة أخرى‬
‫ليس أمرًا خاصًّا باليهود‪ ،‬وإن كانوا هم األسوأ نفوسًا‪ ،‬واألخبث طباعًا‪،‬‬
‫واألشد مكرًا بال شك‪ ،‬ولكن في الحقيقة تتشارك النفوس البشرية الخبث‬
‫والتمرد والنكران والجحود‪ ،‬ولو بنسب متفاوتة‪ .‬وذلك على حسب قربها‬
‫وبعدها من اهلل كون الذي يؤدب النفوس ويهذبها هو دين اهلل‪ ،‬ودين اهلل فقط‪،‬‬
‫ما لم تسقط في وحل الطمع‪ ،‬وتغرق في بحر الجشع كما يقال‪ ،‬فكلما أكَلَت‬
‫وتجاوزت في األكل‪ ،‬وشربت واستطالت في الشرب‪ ،‬وجمعت وكنزت‬
‫ازدادت نهمًا وطمعًا كمن يشرب من ماء البحر كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا‬
‫حتى يقتله الشرب‪ .‬ومما ال شك فيه فإن اهلل لم يذكر لنا سقوط بني إسرائيل‬
‫هنا أمام نعمة الغمام والمن والسلوى كى نتلوه لمجرد التالوة فقط‪ ،‬بل ذكره‬
‫لنا لنعلم أن نعم اهلل تحتاج قلوبًا شاكرة‪ ،‬وألسنة ذاكرة‪ ،‬وأيادي كريمة معطاءة‬
‫وإال فإنها لن تبقى‪ ،‬بل هى بال شك إلى غيرك مغادرة‪ .‬كما أن في اآلية معنى‬
‫دقيقًا آخر نلمسه بين ثناياها وهو أن ثبات القلب وسكونه وأنسه وراحته ال‬
‫توفره أبدًا نعم األرض وغمام السماء ما لم يكن اهلل هو مطلبه وغايته وحبيبه‬
‫وأنيسه‪ ،‬فما لم يكن ذلك فلن يستقر للعبد حال‪ ،‬ولن يقر له قرار ولو أظلته‬
‫السماء بغمامها‪ ،‬وجاءته الدنيا بكل نعيمها‪ ،‬بل سيتكرر عناده‪ ،‬وتتمدد مطالبه‬
‫وطمعه كحال من سبقه سواء بسواء حتى يهلك‪ .‬لذا فمن يستقبل نعم اهلل صباحًا‬
‫ومساءًا َكمَن وَسَلْوى بني إسرائيل ثم يجحدها‪ ،‬ويبخل على عباد اهلل بها فهو‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 32 -‬‬

‫في الحقيقة يتشبه بذلك الجنس الخبيث طبعًا‪ ،‬والشحيح نفسًا‪ ،‬وكما فقد اليهود‬
‫المن والسلوى باألمس بسبب سوء فعلهم سيفقد كل بخيل مَنَّه وَسَلْوَاه اليوم؛‬
‫ألن النعم ال يقيدها إال الشكر‪ ،‬وال يمحقها إال البخل والكفر‪ ،‬فعندما تغادرك‬
‫هذه النعمة مرتحلة من دارك ومستقرة بدار غيرك فاعلم أنك أنت من هيأ لها‬
‫ذلك الرحيل بظلمك لنفسك‪ ،‬وعدم شكرك لربك‪ ،‬وهو األمر الذي حكم به اإلله‬
‫العدل سبحانه في ختام هذه اآلية بقوله "وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم‬
‫يظلمون"‪.‬‬
‫‪- 33 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫( َوإِذْ َأخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَ َرفَعْنَا َفوْقَكُ ُم الطُّو َر خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّ ٍة وَاسْمَعُواْ قَالُواْ‬
‫سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا َوأُشْرِبُواْ فِي ُقلُو ِبهِ ُم الْ ِعجْ َل بِكُفْرِهِمْ ُقلْ بِئْسَمَا يَأْ ُمرُكُمْ بِهِ‬
‫إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ ُّمؤْمِنِينَ{‪.)6()}93‬‬
‫هذه هى اللغة الوحيدة التي يفهمها هذا الجنس اإلسرائيلي الماكر‪ .‬إنها لغة‬
‫القوة‪ ،‬والقوة فقط‪ ،‬فقد نقل إلينا‪ ،‬وسُجل لنا بكل وضوح كيف نفهم اللغة التي‬
‫يؤمن بها هذا الصنف المخادع‪ ،‬فبعد أن أظلهم الغمام هناك‪ ،‬وتساقط عليهم‬
‫المن صباحًا‪ ،‬وجاءهم السلوى مسا ًء في صورة تحمل كرم اهلل وفضله‬
‫وجدناهم بئس القوم كفرًا وعنادًا‪ ،‬حيث تلذذوا بالنعمة‪ ،‬وكفروا بالمنعم في‬
‫صورة بائسة تحمل كل معاني اللؤم والخسة لعقول أثقلها الكبر‪ ،‬ونفخها‬
‫الغرور‪ ،‬وهو بال شك سلوك تكرر هناك مرارًا‪ ،‬ومازال يتكرر هنا كون‬
‫السجية واحدة‪ ،‬والطبيعة السمجة متقاربة‪ .‬إنها الصورة البائسة ألرباب الحيل‬
‫وعباد الشهوات من بني إسرائيل وهم يتعللون بثقل تكاليف التوراة بحجج‬
‫واهية‪ ،‬وأعذار باطلة يتوارثها أصحاب الهمم الحيوانية الدنيئة‪ ،‬وأرباب‬
‫العزائم األنثوية الرخوة بعضهم عن بعض‪ .‬وأمام هذا التفلت األخالقي‬
‫المتكرر‪ ،‬والنكوص التعبدي المتغور من قوم هم أسوأ الخليقة خُلُقًا على‬
‫اإلطالق يبرز الجبل هذه المرة بأحجاره وأشجاره وترابه بأمر ربه‪ ،‬وذلك‬
‫لحسم المشكلة‪ ،‬وإنهاء القضية التي طالت وأخذت وقتًا كافيًا مع من ال يستحق‬
‫إال القتل‪ ،‬والقتل بالجبل‪ .‬نعم إنه جبل الطور الذى نُزع ثم رُفع لتأديب الرؤوس‬
‫التي أظلها الغمام من قبل‪ ،‬وأكلت المن والسلوى من بعد‪ ،‬ولكن دون جدوى‪.‬‬
‫ومما ينبغي ذكره هنا كي تتضح الصورة‪ ،‬ويكتمل المشهد أن جبل الطور تم‬
‫نزعه وقلعه من جذوره‪ ،‬ثم رفعه بعد ذلك كون كلمة "نتقنا" الواردة في آية‬
‫أخرى توحي بهذا المعنى‪ ،‬فالنتق هو القلع والنزع للشئ‪ ،‬فبعد قلعه تم رفعه‬
‫وهم يشاهدون‪ ،‬ولكنها مشاهدة المخدر عقالً‪ ،‬والقاسي قلبًا‪ .‬نعم إنها المشاهدة‬

‫سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.93‬‬ ‫(‪)6‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 34 -‬‬

‫الفارغة من عيون خائنة بلغت خيانتها عنان السماء‪ ،‬فلم يعد تنفعها الرؤية‪،‬‬
‫وال تساعدها المشاهدة كونها فقدت فاعليتها بذنوب أوحشت الزمان‪ ،‬وأنتنت‬
‫لجيفتها المكان‪ ،‬ولك أن تتخيل األمر والجبل معلق فوق رؤوسهم في السماء‬
‫في صورة تبرز قوة اهلل وعظمته وقدرته ومشيئته الغالبة والقاهرة في آن‬
‫واحد جل في عاله‪ ،‬وأمام هذا الحدث الغير المتوقع في عالم الحياة ودنيا‬
‫األحياء سجد القوم سجودًا على نصف جباههم اليسرى بينما النصف اآلخر‬
‫يترقب سقوط الجبل فوق رؤوسهم في صورة تحمل مكر الساجد وعبثه وخبثه‬
‫وخوفه‪ .‬إنها العقول التي تجاوزت الضالل مكانًا‪ ،‬وتطاولت فيه زمانًا وحاالً‬
‫بحيث لم تعد تجدي معها لغة الخطاب ال في صورة الترهيب‪ ،‬وال في صورة‬
‫الترغيب‪ ،‬بل الذي يُجدي معها هو لغة القوة‪ ،‬والقوة فقط‪ ،‬وال شك في أن‬
‫عظمة الحدث جعلت يهود عندئذ يعلنون التزامهم بالتوراة‪ ،‬وخضوعهم لنبي‬
‫اهلل موسى‪ ،‬فأعاد اهلل الجبل إلى مكانه في صورة تحمل رحمة اهلل بعباده‪،‬‬
‫ولطفه بخلقه‪ ،‬وما هى إال فترة بسيطة حتى عادوا لعنادهم‪ ،‬وأعلنوها صراحة‬
‫كما نقل ذلك عنهم القرآن بقولهم "سمعنا وعصينا" في صورة أخرى تعبر‬
‫عن الحقيقة الكاملة لذلك الجنس العنيد على مدار التاريخ‪.‬‬
‫وخالصة القول هنا أن قوله "خذوا ما آتيناكم بقوة تحوي دالالت كثيرة ومنها‬
‫أن الحق قوي بذاته‪ ،‬وأن األيادي المرتعشة ضعفًا‪ ،‬والهزيلة جسمًا‪ ،‬والخاوية‬
‫ال أن تصلح شأنها‪ ،‬ومن ثم تتجه نحو الحق ألخذه‪ .‬كما أن لفظ‬ ‫إيمانًا عليها أو ً‬
‫"خذوا" يشي بوجوب العمل الجماعي المنظم بعيدًا عن العشوائية المتفلتة‬
‫والفردية المقيتة التي ال تبني أمة‪ ،‬وال تحرس حقًّا‪ .‬والجميل هنا هو مجئ لفظ‬
‫القوة منكرًا لإليحاء بوجوب توفر كل أنواع القوة‪ ،‬والتي بها ومن خاللها‬
‫ينتصر الحق ويسود‪ ،‬ومما ال شك فيه في نهاية هذه االستراحة المختصرة‬
‫التنبيه إلى أن من لم يكتب اهلل له الهداية فلن يهتدي ولو قلعت الجبال بين يديه‬
‫ورآها منزوعة من مكانها بأم عينيه‪.‬‬
‫‪- 35 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫َمرُ‬
‫َد َأحَدُهُمْ َلوْ يُع َّ‬
‫ن أَشْرَكُواْ َيو ُّ‬
‫ن الَّذِي َ‬
‫علَى حَيَا ٍة وَمِ َ‬
‫س َ‬
‫ص النَّا ِ‬
‫( َولَ َتجِد ََّنهُمْ أَحْرَ َ‬
‫َاهلل بَصِيرٌ بِمَا‬
‫َم َر و ُّ‬
‫ن الْعَذَابِ أَن يُع َّ‬
‫ف سَنَ ٍة وَمَا ُه َو بِ ُمزَحْ ِزحِ ِه مِ َ‬
‫َألْ َ‬
‫يَعْ َملُونَ{‪.)7()}96‬‬
‫هكذا يستمر الحديث هنا عن بني إسرائيل في أطول سورة في القرآن وهى‬
‫سورة البقرة‪ ،‬بل إن أكثر من ثلث السورة تناول أخبارهم ومكرهم‪ ،‬وكشف‬
‫حيلهم وضعفهم‪ ،‬وذلك في إشارة دقيقة وخفية تتضح من خالل سياق اآليات‬
‫إلى أنهم هم الالعبون األساسيون‪ ،‬والصانعون العبثيون ألحداث التاريخ هناك‬
‫في الماضي‪ ،‬وسيظل دورهم أيضًا هو نفسه هنا في الحاضر‪ ،‬ولكنه ال يعدو‬
‫كونه دورًا قائمًا على إفساد الزمان والمكان والمقام والحال عن طريق الحيل‬
‫والمكر ليس إال‪ ،‬بل لن نتجاوز إذا قلنا إنهم هم من يمثل نقيض الحق أي‬
‫الباطل في هذه الحياة‪ ،‬وأن كل باطل ومنكر يظهر هنا أو هناك – وبصوره‬
‫المختلفة – سنجدهم وراءه إما بشكل مباشر وواضح أو بطريقة غير مباشرة‬
‫متسترة خفية‪ .‬ودعونا اآلن نعود للحياة في ظالل هذه اآلية الكاشفة والفاضحة‬
‫لنقطة الضعف لدى هذا الجنس البشري الماكر وهى أنهم يقدسون الحياة الدنيا‬
‫حد الحرص الال متناهي بغض النظر عن نوع هذه الحياة وشكلها‪ ،‬فهم يفرون‬
‫ال وزماناً‪ ،‬وهذا هو السر‬ ‫ال وحا ً‬
‫من الموت‪ ،‬ويريدون حياة كيفما كانت شك ً‬
‫في تنكير اللفظ القرآني هنا بقوله‪" :‬على حياة"‪ .‬نعم فلخستهم يملكون القدرة‬
‫الفائقة على التكيف مع األحداث‪ ،‬فعندما تكون الجولة عليهم وليست لهم‬
‫ال – وبشكل مخزٍ ومبتذل – حرصًا‬ ‫يجيدون المسكنة التي ضربت عليهم أص ً‬
‫منهم على حياة‪ ،‬وعندما تكون الجولة لهم عندئ ٍذ يظهرون عربدتهم وفسادهم‬
‫بشكل يتجاوز كل حد‪ ،‬ويفوق كل وصف‪ ،‬والتاريخ البشري بأحداثه المتنوعة‪،‬‬
‫وفصوله المتعددة سواء في الماضى أو في الحاضر يكشف أمرهم في كال‬
‫الحالين‪ .‬ومما ينبغي اإلشارة إليه هنا أن تقديسهم وعبادتهم وحرصهم على‬

‫سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.96‬‬ ‫(‪)7‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 36 -‬‬

‫البقاء هنا كيفما كان ذلك البقاء إنما هو ناتج عن سوء أفعالهم‪ ،‬لذا يخشون‬
‫الموت خوفًا مما ينتظرهم هناك من العذاب والنكال‪ .‬وبالمناسبة فلسنا في‬
‫معزل عن هذا السلوك المقدس لهذه الحياة على حساب الحياة اآلخرة فإن من‬
‫ضل بسبب جهله كان به شبه من النصارى وهم الضالون‪ ،‬ومن ضل بسبب‬
‫عناده ومكره كان به شبه من اليهود وهم المغضوب عليهم‪ ،‬وذلك على حد‬
‫تفسير علمائنا األكابر‪ ،‬وال شك هنا – حتى نكون صرحاء مع ذواتنا – أننا‬
‫جمعنا على أنفسنا نحن وليس غيرنا ذنوب الضالين الناتجة عن جهلنا بكثير‬
‫من القضايا مع ذنوب المغضوب عليهم الناتجة عن مكرنا ببعضنا‪ ،‬وعنادنا‬
‫لبعضنا‪ ،‬فظهر فينا تقديس الحياة المشابه لتقديس بني إسرائيل مع الفارق فقط‬
‫في دوافع التقديس بين دافع الكفر هناك‪ ،‬ودافع الضالل أو العناد هنا‪ ،‬لكن‬
‫المحصلة هى أن الحرص على الحياة واحد كون هذا التقديس المقزز‬
‫والمتجاوز للحد هو نتيجة طبيعية للذنوب والمعاصي بغض النظر عن هذا‬
‫المذنب أو ذاك العاصي‪ .‬وحتى ال نذهب بعيدًا عن روح اآلية ومحتواها يبقى‬
‫الهروب من سيئات الذات ومما كسبت األيدي هو نوع من العبث غير المجدي‬
‫سواء ممن نزلت اآلية فيهم وهم اليهود ومعهم الذين أشركوا أو من تشبه‬
‫بضاللهم وعنادهم من سائر األمم حتى لو عمر هذا العبد ألف عام كون القدوم‬
‫على اهلل ال مفر منه وال مهرب‪ ،‬كما أن األماني دائمًا كما هى هنا في اآلية‬
‫تُراوح مكانها‪ ،‬وتتدثر بذاتها الفارغة‪ ،‬وتبقى على الدوام باطلة كونها ال تغير‬
‫واقعًا‪ ،‬وال تطيل عمرًا‪ .‬فاستشعر ما سبق واعلم أن الحرص على البقاء هنا‪،‬‬
‫والغفلة عن دار البقاء هناك في دار البقاء الحقيقي إنما هو سلوك المغضوب‬
‫عليهم ومعهم الضالون‪ ،‬واحذر من األماني الفارغة‪ ،‬وعليك بإطالة عمرك‬
‫بصناعة عمر آخر وجديد لك إن أردت‪ ،‬وذلك عن طريق ولد صالح ربيته‪،‬‬
‫أو عمل صالح عملته‪ ،‬أو صدقة جارية تركتها‪ ،‬وما سوى ذلك لن يُجدي نفعًا‪،‬‬
‫ولن يطيل عمرًا كونها أماني فارغة تشابه أماني أهل الكتاب هنا‪ ،‬وينعدم‬
‫نفعها هناك‪.‬‬
‫‪- 37 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ن يَدَيْهِ‬
‫هلل مُصَدِق ًا لِمَا بَيْ َ‬
‫نا ِ‬‫ك ِبإِذْ ِ‬
‫علَى َقلْبِ َ‬
‫َزلَ ُه َ‬
‫ن عَ ُدوّا ِلجِبْرِي َل َفإِنَّ ُه ن َّ‬
‫( ُقلْ مَن كَا َ‬
‫وَهُدًى وَبُشْرَى ِللْ ُمؤْمِنِينَ{‪.)8()}97‬‬
‫وهكذا يستمر العقل اليهودي هنا في توزيع العداوات‪ ،‬ونسج الخالفات‬
‫بطريقته المعتادة‪ ،‬وهويته المفضلة‪ .‬إنه العقل الذي لم يستوعب بعد قواعد‬
‫الحب وقواعد العداء كونه ال تسيره القواعد‪ ،‬وال تحكمه األصول‪ ،‬بل تسيره‬
‫األهواء الفارغة والنزعات اإلبليسية الصرفة‪ ،‬وهذا شأن كل عقل فقد صلته‬
‫باهلل‪ ،‬وسلم قيادته للشيطان‪ ،‬عندئ ٍذ يبلغ هذا العقل في السفه مبلغًا يتجاوز‬
‫األرض حتى يصل مدى سفاهته إلى السماء كما هو الحال هنا‪ ،‬والعجيب في‬
‫هذا العقل المتجاوز لسفه األرض أنه سأل نبي اهلل محمدًا عن الملك الذي ينزل‬
‫عليه بوحي السماء‪ ،‬فكان جواب الحبيب محمد عليهم إنه جبريل‪ ،‬فرد السفه‬
‫والطيش عليه بالقول معذرة لن نؤمن بك كون جبريل الذي ينزل بالصواعق‬
‫ال‬
‫والعذاب هو الذي يأتيك‪ ،‬فلو كان ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والغيث بدي ً‬
‫عن جبريل آلمنا بك وأسلمنا‪ .‬إنه السفه اإلنساني اإلسرائيلي القائد لكل سفه‪،‬‬
‫والعابث بكل عقل‪ ،‬والمتفلت من كل خلق ودين يُفصح عن نفسه هنا بصورته‬
‫الرثة كونه يريد دينًا يساير سفهه‪ ،‬ويخدم نزوته ورغبته في صورة تحمل‬
‫تفلتًا أخالقيًّا سافرًا‪ ،‬وتخبطًا عقديًّا واضحًا ال يستحي من الخالق‪ ،‬وال يقبل‬
‫التعايش مع المخلوق‪ ،‬وهو سلوك ليس خاصًّا بهذا الجنس البشري الماكر‪،‬‬
‫وإن كان هذا الجنس هو القائد والحامي لهذا التفلت‪ ،‬إال أن األمر يتعداه‬
‫ويصبح تفلتًا يشمل كل ضال سواء هنا عند من نزلت بشأنهم اآلية أو هناك‬
‫ممن ضل الطريق من غيرهم‪ .‬نعم إنها العقول عندما تضل فتعبر عن ضاللها‬
‫بهذا التخبط حتى يصبح حبها لألشخاص واألشكال واألعمال والمعتقدات‬
‫غير محكوم بدين أو مبدأ‪ ،‬بل هو الحب الفارغ الخالي من قيم السماء األصيلة‪،‬‬

‫سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.97‬‬ ‫(‪)8‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 38 -‬‬

‫والملئ بقيم األرض النتنة‪ ،‬ومصالح النفس الضيقة واآلنية المؤقتة المحكومة‬
‫بشهوة البطن أو الفرج على حد سواء‪ ،‬وتظل هذه االنتقائية هى السائدة‬
‫والباقية في هذا العقل االنتقائي والضال ما لم يحرر نفسه بعقيدة السماء‬
‫الصافية‪ ،‬ورسالة اإلسالم الخالدة‪ ،‬ويحتكم في حبه وكرهه ألصول الشرع‪،‬‬
‫وليس لنزعات الهوى ومصالح الدنيا‪ ،‬وما لم يحدث ذلك التصحيح لقواعد‬
‫الحب والكره والوالء فإن هذه العداوة غير المنضبطة تستمر في انتقائيتها‬
‫وعبثها حتى تُسقط صاحبها في كل شهوة‪ ،‬وتوقعه في كل بلية‪ ،‬وال شك في‬
‫أن عداوة مالئكة اهلل من قبل اليهود هناك في اآلية يشابه عداوة غيرهم ألولياء‬
‫اهلل الصالحين هنا في واقع اليوم وإن اختلفت دوافع العداوتين‪ ،‬وحصيلة‬
‫النتيجتين كون هذا العداء السافر سواء للمالئكة في الماضي أو للصالحين‬
‫الذين جمعوا بين اإليمان والعمل الصالح في الحاضر هو عداء هلل سواء‬
‫بسواء؛ ألنه من عادى أولياء اهلل اليوم فقد بارز اهلل بالمحاربة كما فعل اليهود‬
‫باألمس‪ .‬لذا ال تدع عاطفة القلب‪ ،‬وهوى النفس‪ ،‬ومصالح الذات هى من تحدد‬
‫حبك ووالءك وعداوتك وكرهك‪ ،‬بل اجعل المبدأ والدين والقيم واألخالق هى‬
‫الحاكم لعاطفتك والحارسة لذاتك وشخصيتك‪ ،‬واحذر من عداوة الصالحين‬
‫فإنها عداوة هلل ومبارزة له ال قدرة لك على االنتصار فيها‪ ،‬واعلم أن سفه‬
‫اليهود وضالل عقولهم قادهم إلى كل بلية‪ ،‬فاحذر من ضالل العقول فإنه سيف‬
‫مسلط مسلول‪.‬‬
‫‪- 39 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫علَيْكُم مِنْ خَيْرٍ‬


‫َز َل َ‬
‫ن أَن يُن َّ‬
‫ب وَ َال الْمُشْرِكِي َ‬
‫ن كَ َفرُواْ مِنْ أَهْ ِل الْكِتَا ِ‬
‫َد الَّذِي َ‬
‫(مَّا َيو ُّ‬
‫مِن رَّبِكُمْ وَاهللُّ َيخْتَصُّ ِب َرحْمَتِ ِه مَن يَشَا ُء وَاهللُّ ذُو الْفَضْ ِل الْ َعظِيمِ{‪.)9()}105‬‬
‫ال تظن أو تعتقد بعد هذه اآلية أن يهوديًّا أو نصرانيًّا أو مشركًا يريد لك الخير‬
‫كمسلم أبدّا ال في اآلجل وال في العاجل‪ ،‬بل هى إرادة الشر‪ ،‬والشر فقط‪،‬‬
‫بشهادة اهلل‪ .‬إنها اإلرادة العالمية الموحدة والمستمرة العاملة على إبقاء الشر‬
‫بمفرداته الخبيثة ووسائله القاتلة هى الحاكمة للمجتمع المسلم في حاضر اليوم‪،‬‬
‫وضمان بقائه كذلك في المستقبل‪ ،‬وحتى تتضح هذه الحقيقة في األذهان اليوم‬
‫وغدّا جاء التعبير القرآني بصيغة المضارع "ما يود"‪ ،‬وذلك في إشارة‬
‫واضحة إلى الكره المستمر‪ ،‬والعداء المستحكم لقلوب الكفرة لكل مسلم موحد‬
‫على وجه األرض‪ ،‬وحتى يبقى الجوع والفقر والقتل كمفردات قاتلة هى‬
‫اآلمرة والناهية في بالد اإلسالم اليوم‪ ،‬وذلك مصداقًا لآلية اآلنفة الذكر كان‬
‫البد ألهل الكتاب والذين أشركوا من تأسيس المنظمات العالمية والمجالس‬
‫الدولية ليتم تقنين الظلم وتوزيعه على ديار المسلمين هنا وهناك بصورة‬
‫منظمة‪ ،‬وبقرارات دولية معتمدة‪ ،‬وذلك ليستوطن الشر‪ ،‬وينعدم الخير‪ .‬إنها‬
‫الصورة البائسة التي تحمل قبحًا عالميًّا‪ ،‬وإجرامًا دوليًّا مفضوحًا يقنن القتل‪،‬‬
‫ويحمي القاتل‪ ،‬ولكن في الحقيقة تبقى هذه هى إرادة أولئك الكفرة الواردة هنا‬
‫في هذه اآلية‪ ،‬فال غرابة إذًا من هذا اإلجرام‪ ،‬وإنما تكمن الغرابة في مسلم‬
‫يقرأ هذه اآلية ثم يلهث صباحًا ومساءًا باحثًا عن خير وسالم وأمن ووئام مع‬
‫مَنْ أخبرنا اهلل عنهم بقوله "ما يود الذين كفروا من أهل الكتاب وال المشركين‬
‫أن ينزل عليكم من خير من ربكم"‪ ،‬وذلك في تناقض مؤسف بين هذا المسلم‬
‫الالهث والنص القرآني الكاشف‪ ،‬ومما ال شك فيه فإن هذا الالهث تم ترويضه‬
‫هناك حتى غابت لديه هذه الحقائق القرآنية هنا‪ ،‬فتغيرت لديه الموازين‪،‬‬

‫سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.105‬‬ ‫(‪)9‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 40 -‬‬

‫وغابت عنه الحقائق في صورة تحمل العمى بكل صوره‪ ،‬والضالل في أسوأ‬
‫أحواله‪ ،‬حيث صار في عداوة مع اآلية‪ ،‬فكان عقابه أن لهثه هناك أصبح‬
‫عادة‪ ،‬وخوفه من الكفار صار عبادة‪ ،‬ويبقى اللهث مستمرًّا هنا‪ ،‬واإلرادة‬
‫الخبيثة عاملة هناك ما بقي القرار بيد الالهث‪ ،‬واألمر بيد الخبيث في صورة‬
‫مشينة تعبر عن ذل الالهث وغفلته‪ ،‬وخبث الكافر وسطوته‪ ،‬وأمام هذه الحالة‬
‫البائسة والموغلة في البؤس هنا‪ ،‬والسطوة المستحكمة إلرادة الشر هناك‪،‬‬
‫والممانعة ألي خير ينزل على المسلمين من ربهم تبقى رحمة اهلل هى الحرة‬
‫الطليقة البعيدة عن غفلة هذا أو سطوة ذاك‪ ،‬والقادمة من األعلى من هناك من‬
‫السماء كي توقف العبث‪ ،‬وتستأصل الخبث بجنود في األرض هم قدر اهلل‬
‫وإرادته في صورة تحمل نصر اهلل وغوثه لمن أرهقهم الظلم‪ ،‬وأسهرهم األلم‪.‬‬
‫نعم إنها رحمة اهلل التي ال قدرة لليهود وال للنصارى وال للذين أشركوا أن‬
‫يمنعوها بسالحهم‪ ،‬أو يحبسوها بقراراتهم‪ ،‬فهى حتمًا ستنزل – كما وعد اهلل‬
‫– في اللحظات الحاسمة كي تحسم األمر بعد أن يأخذ وقته‪ ،‬وينتهي دوره‪،‬‬
‫ولكن يبقى السؤال في أي بلد وعلى أي قلب ستنزل تلك الرحمة‪ ،‬وتحل تلك‬
‫البركة كي يأتي الخالص ؟‪ .‬إنه األمر الغيبي الذي اختص اهلل بعلمه هناك‪،‬‬
‫ولكنها حتما ستنزل‪.‬‬
‫‪- 41 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫خرَا ِبهَا‬
‫هلل أَن يُذْ َك َر فِيهَا اسْمُ ُه وَسَعَى فِي َ‬
‫(وَمَنْ َأظْلَ ُم مِمَّن مَّنَ َع مَسَاجِ َد ا ِ‬
‫خزْيٌ َوَلهُمْ فِي‬
‫ن لهُمْ فِي الدُّنْيَا ِ‬
‫ِال خَآئِفِي َ‬
‫خلُوهَا إ َّ‬
‫ن َلهُمْ أَن يَدْ ُ‬
‫ك مَا كَا َ‬
‫ُأوْلَـئِ َ‬
‫عظِيمٌ{‪.)10()}114‬‬
‫خرَةِ عَذَابٌ َ‬
‫اآل ِ‬
‫من هناك من مكة بدأت هذه المعركة بصورة مختلفة هذه المرة كوننا اعتدنا‬
‫على محاربة الساجد فقط‪ ،‬بينما اتجه الظلم هنا إلى محاربة مكان السجود‬
‫أيضًا‪ .‬نعم إنها الحرب القديمة والجديدة على المساجد لمحو أثر السجود وبيت‬
‫الساجد في صورة متأصلة تحمل العداء حتى لألرض والتراب اللذين يذكر‬
‫فيهما وعليهما اسم اهلل‪ .‬إنها الحرب القديمة واآلثمة على بيوت اهلل في صورة‬
‫بدأت هناك‪ ،‬وما زالت تتكرر هنا‪ .‬نعم إنها المحاولة القديمة للفصل بين الساجد‬
‫ومسجده كي يسقط هذا الساجد من عين اهلل في السماء‪ ،‬ثم يتتابع عندها سقوطه‬
‫في األرض‪ ،‬كون المؤمن عندما ينفصل عن مسجده يسهل اصطياده‪ ،‬ومن‬
‫ثم ترويضه وإفساده‪ .‬نعم فقد بدأت عملية الفصل هذه مع المنع المصاحب‬
‫للخراب في تلك اللحظات التي منعت قريشًا نبي اهلل محمدًا من الصالة عند‬
‫الكعبة في المسجد الحرام‪ ،‬ومن حينها جاء هذا السؤال وبهذه الصيغة‬
‫االستفهامية الموحية بفداحة هذه الخطوة الظالمة واآلثمة كونها تفرق بين‬
‫المؤمن ومحرابه‪ ،‬والساجد ومسجده بصورة إجرامية فادحة‪ .‬إنه الظلم عندما‬
‫يعجز عن محاربة الساجد‪ ،‬وثنيه عن دينه وسجوده‪ ،‬فإنه لخسته وعظيم شره‬
‫يلجأ إلى خراب مكان السجود ومحراب الساجد‪ .‬إنها الخطة اإلجرامية القادمة‬
‫من هناك بصورتها الخبيثة أهدافًا‪ ،‬والشنيعة سلوكًا‪ ،‬والمتجاوزة حدًّا مازالت‬
‫تفعل بكل ساجد فعلها اليوم كما فعلت بسيد الساجدين فعلها باألمس‪ .‬نعم إنه‬
‫الظلم القديم شكالً‪ ،‬والمتجدد حاالً‪ ،‬والمتعدي زمانًا ومكانًا والذي لم يعرف‬
‫في الماضي حرمة المسجد ولو كان المسجد الحرام‪ ،‬وال عرف قداسة الساجد‬

‫(‪ )10‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.114‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 42 -‬‬

‫ولو كان محمدًا خير األنام في صورة تحمل العبث البشري‪ ،‬والظلم اإلنساني‬
‫عندما يطلق لذاته المجنونة العنان كي تعبث بالشعيرة‪ ،‬وتتالعب بالشعائر‬
‫بصورة فاحشة‪ ،‬بل موغلة في الفحش‪ .‬إنه العبث البشري كونه في الماضي‬
‫ترك الكذب والزور يطوف حول الكعبة‪ ،‬بينما منع البر والصدق من ذاك‬
‫الطواف في سعي واضح لخراب بيت اهلل هناك‪ ،‬ويتكرر السعي السيئ اليوم‬
‫ب لبيوت اهلل هنا‪ ،‬وذلك إما خراب حسي بهدمها‪ ،‬أو معنوي بمنع األكفاء‬
‫بخرا ٍ‬
‫منها وتركها بيد الجهالء دينًا وعلمًا وفهمًا‪ ،‬وكال الخرابين خراب‪ ،‬وكال‬
‫العملين في نهايته سراب‪ .‬فتعالوا مرة أخرى لنعيش في ظالل هذه اآلية‪،‬‬
‫ونتابع عواقب هذا السراب‪ ،‬ونتائج ذلك الخراب‪ .‬إنه المنع للساجد من التلذذ‬
‫بمكان سجوده في اللحظات الزمنية المعتمة‪ ،‬وذلك لكي يفصل عن مسجده‬
‫لتبدأ مرحلة السقوط كون المؤمن – كما أسلفنا – بغير مسجده سهل المنال‪،‬‬
‫وضعيف الدين والمآل‪ ،‬فبعد أن عجز الظالم عن صد الساجد عن سجوده‪،‬‬
‫وإبعاده عن دينه عندئذ لجأ إلى خراب محرابه‪ ،‬بل أراد أن يجمع بين محاربة‬
‫الساجد ومكان سجوده ليتسنى له بعد ذلك العبث والمكر والتكبر والفخر‪ .‬إنها‬
‫اللحظات التي ينتشي فيها الظلم ظنًّا منه أنه ينتصر‪ ،‬وما علم لسوء فعله أنه‬
‫يهزم بخرابه هذا ويندحر‪ .‬نعم فكما سقطت قريش في الماضي عندما منعت‬
‫نبي اهلل من الصالة في المسجد الحرام سيسقط أتباعها في الحاضر‪ ،‬وإن‬
‫ال بسبب غفلة الساجد وتقصيره‪ ،‬لكن سقوط ذلك‬
‫تفاوت السقوط‪ ،‬وتأخر قلي ً‬
‫المانع والساعي آتٍ ال محالة‪ ،‬لذا كان السؤال هنا "ومن أظلم" بغير جواب‬
‫كي تظل الدنيا تسأل‪ ،‬وتواصل السؤال مشنعة لهذا الفعل‪ ،‬وغاضبة على هذا‬
‫الفاعل ما بقيت الحياة‪ .‬ومما ال شك فيه أن مساجد اهلل وهى تحوي في رحابها‬
‫الساجدين‪ ،‬وتجمع بين أعمدتها المسبحين‪ ،‬وذلك في صورة جماعية منظمة‬
‫يغيظ الظالمين‪ ،‬ويؤرق ليلهم كونه تعظيًما هلل الواحد بصورته المرتبة‪،‬‬
‫وألفاظه الموحدة التي تبعث في نفوسهم القوة والعزة‪ ،‬وفي عقولهم الحكمة‬
‫‪- 43 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫والفكرة‪ ،‬وفي حياتهم الشجاعة والعزيمة‪ ،‬وهو ما يخيف الظالم هنا كما أخافه‬
‫باألمس هناك‪ .‬لذا كان توجه هذا الظالم للمنع الجائر‪ ،‬والتخريب البائر لتلك‬
‫الرحاب المقدسة كي يقتل في نفوس الساجدين العزة‪ ،‬ويُميت في عقولهم‬
‫الحكمة والفكرة‪ ،‬ويمحو بمكره وسفهه من األرض تعظيم الرب‪ ،‬ويُبقي فيها‬
‫فقط تعظيم العبد في صورة تحمل المقت بكل مفرداته‪ ،‬والهوان بكل حاالته‪.‬‬
‫نعم إنه الهوان كونها حربًا خاسرة‪ ،‬إذ خسر الرهان ذلك المانع‪ ،‬وارتفع اسم‬
‫اهلل في المكان شامخًا ساطعًا‪ ،‬وتستمر خسارة المانعين لمساجد اهلل أن يذكر‬
‫فيها اسمه والساعين في خرابها‪ ،‬وذلك بسقوطهم مع أسمائهم في الماضي‪،‬‬
‫مع خسارة السقوط المتكررة هنا في الحاضر‪ .‬إنه الخزي لهم والخراب‬
‫لبيوتهم بحسب خرابهم‪ ،‬وال يظلم ربك أحدًا‪ .‬ومما ال شك فيه أن المعركة‬
‫عندما تصبح معركة مساجد بقا ًء وعدمًا‪ ،‬عندئ ٍذ تكون بداية النهاية لسقوط ذلك‬
‫المانع والمخرب قد بدأت شريطة تحرك الساجد غضبًا منه على استهداف‬
‫محرابه ومكان سجوده‪ ،‬فال يظنن أن المحاربين لمساجد اهلل ينتصرون أو أنهم‬
‫بفعلهم يرتفعون‪ ،‬بل يسقطون‪ ،‬وإلى الخزي والبوار يسيرون‪ ،‬فاحذر أن تكون‬
‫أنت ممن يمنع مساجد اهلل بسوء فعلك‪ ،‬وقلة علمك‪ ،‬وجفاف روحك‪ ،‬وعليك‬
‫أن تًحسِّن أداءك‪ ،‬وتطور ذاتك‪ ،‬وتجعل مسجدك بيتًا هلل يطمئن فيه الخائف‪،‬‬
‫ويهتدي فيه الضال‪ ،‬ويأنس فيه المستوحش‪ ،‬كل ذلك يكون بجميل طرحك‪،‬‬
‫وحسن أخالقك‪ ،‬وروعة تالوتك‪ ،‬وصدق عبادتك‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 44 -‬‬

‫هلل ُه َو‬
‫ِن هُدَى ا ِ‬
‫( َولَن َترْضَى عَنكَ الْ َيهُو ُد وَالَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِ َع مِلَّ َتهُمْ ُقلْ إ َّ‬
‫هلل مِن وَلِيٍّ‬
‫نا ِ‬‫ك مِ َ‬
‫ن الْ ِعلْمِ مَا لَ َ‬
‫ك مِ َ‬
‫ت أَهْوَاءهُم بَعْ َد الَّذِي جَاء َ‬
‫ن اتَّبَعْ َ‬
‫الْهُدَى َولَئِ ِ‬
‫وَ َال نَصِيرٍ{‪.)11()}120‬‬
‫كل تلك التفاهمات واإلتفاقات التي تتم مع هذين الصنفين اليهود أوالً‪،‬‬
‫والنصارى ثانيًا بغرض التعايش معهم‪ ،‬ونيل رضاهم لن تجدي نفعًا‪ ،‬ولن‬
‫تحقق رضًى كون رضاهم لن يتحقق أبدًا إال باتباع ملتهم‪ ،‬وملتهم فقط‪ ،‬فهذه‬
‫هى الحقيقة التي كشفها القرآن عنهم منذ اللحظة األولى التي رفض فيها حُيي‬
‫بن أخطب دعوة اإلسالم هناك في األيام األولى للدعوة‪ ،‬فمن يومها تأصلت‬
‫العداوة‪ ،‬وتأسست المفاصلة‪ .‬إنها حقيقة األمس وكذلك هى اليوم‪ ،‬وستستمر‬
‫غدا‪ ،‬فالقلوب التي لم ترض عن نبينا باألمس هى نفسها بخبثها ومكرها لم‬
‫ولن ترضى عنا اليوم‪ ،‬فال فائدة إذًا من هذه التفاهمات‪ ،‬وال قيمة البتة لتلك‬
‫االسترضاءات‪ .‬إنها إذًا عداوة دين ال دنيا‪ ،‬وخالف منهج ال مهج‪ ،‬وصراع‬
‫قيم وأفكار ال صراع تجارة أو عقار‪ .‬إنه الصراع القائم والكائن‪ ،‬والمستمر‬
‫والدائم بصورته الحقيقية الظاهرة‪ ،‬وبوسائله الخفية والمتنوعة‪ ،‬والمالحظ هنا‬
‫تقديم اليهود على النصارى في العداوة كونهم هم من قاد العداوة باألمس‪ ،‬وهم‬
‫من يقودونها اليوم‪ ،‬والنصارى لهم تبع‪ .‬كما أن تلك اآلية لم يتكرر فيها لفظ‬
‫الرضى كأن يقول ولن ترضى عنك اليهود‪ ،‬ولن ترضى عنك النصارى‪ ،‬بل‬
‫اكتفى بذكر الرضى مرة واحدة كون رضاهم وقصدهم واحدًا‪ ،‬وما يراه اليهود‬
‫يتبعهم فيه النصارى‪ ،‬وهو الظاهر اليوم والواضح دون شك‪ .‬إذًا هى العداوة‬
‫المنظمة والموحدة الباحثة عن المكانة والمكان‪ ،‬والمتربصة بالمسلم في‬
‫الزمان والحال في صورة تظهر خبثًا لكل مسلم على حدة كون اللفظ جاء هنا‬
‫بقوله "عنك" وليس عنكم كي يشعرنا بمدى خبثهم على الحبيب محمد وعلى‬

‫(‪ )11‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.120‬‬


‫‪- 45 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ال على حده‪ ،‬وعدم رضاهم ولو عن وجود مسلم واحد في هذه‬
‫أتباعه ك ً‬
‫ال عن‬
‫األرض‪ .‬نعم هم كذلك لن يرضوا بوجود مسلم واحد‪ ،‬وواحد فقط‪ ،‬فض ً‬
‫أمة كبيرة من الناس تكبر اهلل هنا‪ ،‬وتوحده هناك في صورة تحمل كمال‬
‫الهداية‪ ،‬وعظمة الهدى‪ ،‬ورعاية الهادي‪ ،‬لذا لم يرضوا‪ ،‬ولن يرضوا حتى‬
‫آخر نفس مادام ذلك التكبير باقيًا‪ ،‬لذا كان األذى منهم بعد عدم الرضى لكل‬
‫مسلم هنا أو هناك عامًّا وشامالً‪ ،‬فمن لم يقتل يفتن‪ ،‬ومن لم يُفتن أو يُقتل‬
‫يُحارب ويُتهم‪ ،‬وذلك في صورة تحمل خبثًا ال يوصف‪ ،‬وإجرامًا عظيمًا لم‬
‫يُعرف مثله حتى تتبع ملتهم‪ ،‬وملتهم فقط‪ .‬إذًا هى الحرب المشتعلة زمانًا‬
‫ال ما بقي الحق برجاله هنا ثابتون‪ ،‬وإلى‬
‫ال ومآ ً‬
‫ومكانًا‪ ،‬وغير المتوقفة حا ً‬
‫الكعبة المشرفة متجهون‪ .‬وأمام هذه العداوات المنتظمة والمؤامرات العالمية‬
‫المتتابعة يبرز الهدى‪ ،‬وتبقى الهداية‪ ،‬ويعلو الحق‪ ،‬وتتوارى األهواء‬
‫والغواية‪ .‬نعم يبرز الهدى كخيار وحيد للنجاة من حبال الهوى كون هدى اهلل‬
‫هو الهدى‪ ،‬وما سواه ضالل وعمى‪ ،‬ولكنها األهواء الزائفة‪ ،‬والملل األرضية‬
‫المنحرفة تتبدى هنا أيضًا كي تكون هى الدليل والبديل‪ ،‬والمعبودة في الغداة‬
‫وفي األصيل في صورة فجة‪ ،‬ووقاحة بالغة كون الفارس غائباً‪ ،‬والميدان‬
‫متركًا وسائبًا‪.‬‬
‫وفي الحقيقة فإن من حق هذه األهواء كما تريد هى ال كما نريد نحن أن تعلن‬
‫عن نفسها‪ ،‬وأن تفخر بليلها وظالمها كون أعين أمة الهداية أصابتها الغشاوة‪،‬‬
‫فلم تعد ترى ظالمًا‪ ،‬فقد فقدت إحساسها يوم ضعفت صلتها بربها وخالقها‪.‬‬
‫إنها الغشاوة التي جعلتها تترك الفرس والميدان في صورة محزنة‪ ،‬وبطريقة‬
‫مخزية‪ ،‬ولكن رغم األلم من ذلك التخلي‪ ،‬والبحث عن ذلك الترضي المخزي‬
‫يبقى هدى اهلل هو الهدى‪ ،‬ونوره هو الحقيقة في البداية والمنتهى‪ ،‬وإن توارى‬
‫حامله قليالً‪ ،‬لكنه سرعان ما يعود ويقود‪ ،‬ويرتفع ويسود ولو بعد حين‪ ،‬وما‬
‫ينبغي اإلشارة إليه هنا أنه من العبث بعد هذا البيان أن يتحرك الهدى طالبًا‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 46 -‬‬

‫وصل الهوى في صورة مهينة تحمل هوان الزمان‪ ،‬وعبث الشيطان في إنسان‬
‫يتغابى مرارًا‪ ،‬ويتذلل بين يدي الهوى أطوارًا كون ذلك الطلب واالسترضاء‬
‫والتماهي واالسترخاء بصورته المشينة لن يجدي نفعًا لهذا المسترخي‪ ،‬بل‬
‫يزداد هوانه‪ ،‬ويظهر أمام العيان إذالله‪ .‬كما ينبغي هنا أن نشير إلى أن اللقاء‬
‫بين األهواء الطالبة للبقاء‪ ،‬والحريصة على االستعالء مع الهدى غير ممكن‬
‫البتة كون الهدى والهوى ال يلتقيان‪ ،‬فالهدى نهار‪ ،‬بينما الهوى ليل‪ ،‬وال يمكن‬
‫أن يلتقي النهار بجماله وضيائه مع الليل بسواده وظالمه‪ ،‬بل إنه إذا حضر‬
‫أحدهما رحل اآلخر‪ ،‬فإما أن تكون أنت النهار بدينك‪ ،‬وإما أن ترضى الهوى‬
‫فتصبح ليالً دامسًا بعمائك‪ ،‬وال يوجد خيار ثالث هنا أبدًا‪ ،‬وعليك أن تعلم هنا‬
‫وفي أوساط هذه المعركة المستمرة أنك أنت بدينك ونبيك وكتابك وقبلتك‬
‫األعلى واألقوى واألصدق واألهدى‪ ،‬وأن والية اهلل ونصره تغنيانك عن كل‬
‫والية ونصير‪ ،‬بينما الهوى واألهواء التي تريد قلبك وقالبك هى األشقى حاالً‪،‬‬
‫والمتوارية زمانًا ومكانًا‪ ،‬وإن كانت لها الجولة اآلن‪ ،‬ولكنها انتفاشة مؤقتة‬
‫ستزول سريعاً كونها زبدًا ليس إال‪ ،‬والعجيب الغريب في آن واحد هو تهافت‬
‫الضعفاء إيمانًا‪ ،‬والجهالء علمًا على استرضاء الهوى حرصًا على البقاء في‬
‫صورة نالوا بها الخزي هنا‪ ،‬والمقت من اهلل في السماء هناك في صورة تحمل‬
‫ذل الطالب‪ ،‬وعبث المطلوب كون الطالب والمطلوب هنا أهواءً‪ ،‬وكل هوى‬
‫إلى زوال وإن تطاولت به الليالي واأليام‪ ،‬وعليك أن تعلم هنا أن الهوى لن‬
‫يدعك ودينك ولو أعطيته سفهًا ثروتك وأرضك كونه يريد قلبك وعاءً‬
‫ألهوائه‪ ،‬ومستقرًّا لملته ليعبث في األرض ويسود‪ ،‬ويفسد فيها ويقود‪ ،‬وبئس‬
‫العبد من سلم قلبه لسفهاء األرض وأعداء الهدى والعرض‪ ،‬فابحث عن رضى‬
‫ربك فإنك إن أرضيته هو وحده رضي عنك‪ ،‬وأرضى عنك الناس‪ ،‬وإن‬
‫أسخطته سخط عليك‪ ،‬وأوكل أمرك إلى الناس‪ ،‬فتُهان بعد كرامة‪ ،‬وتُذل بعد‬
‫عز‪ ،‬وتشقى بعد سعادة‪..‬‬
‫‪- 47 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫س إِمَام ًا قَا َل وَمِن‬


‫ك لِلنَّا ِ‬
‫علُ َ‬
‫ُن قَا َل إِنِي جَا ِ‬
‫َمه َّ‬
‫ت َفأَت َّ‬
‫( َوإِ ِذ ابْ َتلَى إِبْرَاهِي َم رَبُّ ُه بِ َكلِمَا ٍ‬
‫عهْدِي الظَّالِمِينَ{‪.)12()}124‬‬
‫ُذرِيَّتِي قَالَ َال يَنَالُ َ‬
‫من هنا ومن عمق االبتالءات والكلمات كانت البداية‪ .‬نعم فرب بداية مؤلمة‬
‫لنبي هنا أو لصالح تقي هناك كانت هى المقدمة لنهاية مشرقة‪ .‬إنها االبتالءات‬
‫التي ال تتوقف كون الحياة ابتال ًء بذاتها‪ ،‬واختبارًا في أصلها‪ ،‬ففي اللحظات‬
‫التي يرتب فيها العبد حاضره ليأمن‪ ،‬ومستقبله لينعم ظنًّا منه أن كل شئ على‬
‫ما يرام فجأة يهجم عليه البالء من حيث ال يحتسب‪ ،‬وذلك حتى يعلم من ال‬
‫يعلم أن األمن الحقيقي ليس هنا في هذه الدار‪ ،‬بل هناك في الجنة دار القرار‪،‬‬
‫وحتى تتضح القضية أكثر نقف هنا مع أبي األنبياء وخليل األرض والسماء‬
‫وهو يعيش االبتالءات الضخمة‪ ،‬والمشاكل البشرية الصعبة مع الظالمين‬
‫هناك في الخارج‪ ،‬ومع كفر أبيه ومشاكله األسرية فيما بعد هنا في الداخل كي‬
‫نعرف أن العظماء سوا ًء أكانوا أنبياء أو صادقين أولياء هم من تصنعهم‬
‫ال كي يجيدوا صناعتها فيما بعد ثانيًا‪ ،‬ثم نعلم بعد ذلك أن السعادة‬
‫األحداث أو ً‬
‫ليست بانعدام المشاكل واألزمات هنا في هذه الدار‪ ،‬فهذا محال‪ ،‬بل السعادة‪،‬‬
‫والسعادة فقط‪ ،‬تكمن في التغلب على مشاكل الحياة‪ ،‬ومكر األحياء بثبات‬
‫وهمة وصبر وعزيمة‪ .‬ومما ينبغي ذكره هنا أن الذي يبتلي الخلق كل الخلق‬
‫ليسوا البشر كونهم هم موقع البالء‪ ،‬بل الذي يبتلي الخلق هو الرب سبحانه‪،‬‬
‫فهو يربيك بالبالء كي يغدق عليك النعماء‪ ،‬حيث يقول هنا "وإذ ابتلى إبراهيم‬
‫ربه"‪ ،‬فجئ بلفظ الرب هنا في إشارة إلى هذا المعنى‪ ،‬فالبالء إذًا لك تربية‬
‫ليعطيك بعد منع‪ ،‬ويضحكك بعد بكاء‪ ،‬ويسعدك بعد شقاء‪ ،‬فإن تعجلت‬
‫وسخِطت سقطت‪ ،‬ومن الخير حُرمت‪ ،‬وإن ثبت وباهلل اعتصمت ساق اهلل لك‬
‫من الخير أضعاف ما أخذ منك كونه الكريم سبحانه الذي ليس لكرمه حد‪،‬‬

‫(‪ )12‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.124‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 48 -‬‬

‫وهنا وحتى ال نذهب بعيدًا علينا معرفة أن أشد أنواع البالء الذي واجهه خليل‬
‫اهلل في بداية حياته هو إلقاؤه في النار‪ ،‬وفي نهاية عمره هو األمر له بذبح‬
‫ولده وفلذة كبده بيده بعد أن حرم لذة البنوة زمنًا طويالً‪ ،‬وعمرًا كامالً‪ ،‬وبين‬
‫هذين االمتحانين العظيمين صوالت وجوالت وأسفار وتنقالت بأمر رب‬
‫األرض والسماوات ما بين أرض العراق والشام ومصر ومكة في حياة مليئة‬
‫باألحداث والملمات‪ ،‬والمشاكل واألزمات‪ ،‬ولكنه الخليل الذي لم تهزمه تلك‬
‫األحداث رغم قساوتها‪ ،‬ولم تسقطه رغم فحشها وكثرتها كونه كان األكثر‬
‫إيمانًا‪ ،‬واألصدق توجهًا‪ ،‬فقد كان أكبر من األحداث‪ ،‬بل ارتقى بها‪ ،‬وصعد‬
‫من خاللها ليكون بعد ذلك أبًا لألنبياء‪ ،‬وإمامًا مطلقًا لألتقياء‪ .‬فتعالوا لنقترب‬
‫ال حيث هناك النار المشتعلة التي أوقدت من قبل الباطل الذي لجأ إلى هذه‬
‫قلي ً‬
‫ال في التاريخ لحياتي الطويل في إشارة‬
‫اللغة البائسة القاتلة‪ ،‬بل األسوأ قت ً‬
‫واضحة إلى عهر الباطل وخبثه وقساوته ومكره في تعامله مع الحق ودعاته‪،‬‬
‫ولو كان أولئك الدعاة أنبيا ًء كون هذا الباطل ال يفرق في طريقه بين نبي‬
‫وولي‪ ،‬بل إن عهره وسفهه ال يفرق‪ ،‬وال يرحم‪ ،‬وال يعرف القيم‪ ،‬وال يفهم‬
‫كونه سفهًا‪ ،‬والسفه ال يعلم‪.‬‬
‫وحتى ال نذهب بعيدًاعن محتوى اآلية نعود إليها كى نستقي من معينها العذب‬
‫الزالل ما يُذهب الظمأ‪ ،‬ويروى األكباد‪ ،‬فقوله‪َ ( :‬وإِ ِذ ابْ َتلَى إِبْرَاهِي َم رَبُّهُ‬
‫س إِمَام ًا قَا َل وَمِن ُذرِيَّتِي قَالَ َال يَنَالُ‬
‫ك لِلنَّا ِ‬
‫علُ َ‬
‫ُن قَالَ إِنِي جَا ِ‬
‫ت َفأَتَمَّه َّ‬
‫بِ َكلِمَا ٍ‬
‫عهْدِي الظَّالِمِينَ{‪ .)13()}124‬تحمل في طياتها لطائف كثيرة ودالالت جميلة‬
‫َ‬
‫منها‪ :‬أن الذي يبتلي الخليقة والخلق ليس الذوات نفسها‪ ،‬بل اهلل خالقها هو‬
‫الذي يبتلي ويختبر ليمحص الذين آمنوا ويمحق الكافرين‪ .‬كما أن القضية‬
‫المهمة هنا هى أن األنبياء هم أكثر الناس ابتال ًء لكونهم األكثر علمًا‪ ،‬واألشد‬

‫(‪ )13‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.124‬‬


‫‪- 49 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫خشية‪ ،‬واألعظم خوفًا من اهلل سبحانه‪ ،‬لذا كان البالء في حقهم عظيمًا‪ ،‬إذ ال‬
‫مقارنة مع من هو دونهم فيما قابلوه البتة‪ .‬كما أن قوله "بكلمات" تحوي دالئل‬
‫كثيرة ولطائف جميلة منها‪ :‬أن ابتالء الخليل كان بكلمات محتواها إفعل وال‬
‫تفعل‪ .‬إنها الكلمات التي استوعبها الخليل جيدًا‪ ،‬ومن ثم تعامل معها بصدق‬
‫وإخالص‪ ،‬فأتى بالمأمور‪ ،‬واجتنب المحظور‪ ،‬ولم يتعد الحدود حتى غدًا أمة‬
‫ال لربه نتيجة لهذه الطاعة‪ .‬نعم إنها الكلمات التي ارتقى بها‪ ،‬ومن‬
‫بذاته‪ ،‬وخلي ً‬
‫ال هلل في السماء‪ ،‬وإماما للناس في األرض‪،‬‬
‫خاللها نبي اهلل إبراهيم ليصبح خلي ً‬
‫ومما ال شك فيه فإن الجماعة المنقذة واألمة الهادية عندما تحيا مع كلمات‬
‫الوحي اإللهي بحيث تأتي باألوامر‪ ،‬وتجتنب الناهي‪ ،‬وال تتعدى الحدود عندئذٍ‬
‫سترتقي هنا تمامًا كما ارتقى الخليل هناك‪ ،‬وستصبح أمة تقود وتسود كما‬
‫أراد لها ربها ورسولها أن تكون‪ ،‬وهناك لفتة جميلة توحي بها هذه الكلمات‬
‫وهى أن األشخاص تؤهلهم وتربيهم وترفع شأنهم وقدرهم الكلمات بمضمونها‬
‫ومحتواها‪ ،‬وليس الشعارات بأشكالها وذواتها شريطة أن تكون تلك الكلمات‬
‫منبعها السماء وليس األرض‪ ،‬والنقل وليس العقل‪ ،‬والهدى وليس الهوى كون‬
‫أوامر اهلل ونواهيه ليست بأكثر من كلمات افعل وال تفعل – كما هو معلوم ‪-‬‬
‫‪ ،‬وهى لمسة لطيفة ينبغي تأملها بعمق‪ .‬وقد اختلف العلماء كثيرًا في محتوى‬
‫هذه الكلمات التي ابتُلي بها الخليل بين قائل أنها سنن الفطرة‪ ،‬وآخرون قالوا‬
‫هي أوامر اهلل ونواهيه‪ ،‬والحق أنها تشمل كل ما أمر اهلل به خليله ونهاه عنه‬
‫دون تحديد كون مجيء لفظ "كلمات" منكرة ومنونة في آن واحد يوحي بكثرة‬
‫االبتالءات والكلمات وقوتها‪ ،‬حيث شملت ابتالءات له على مستوى البيت‬
‫تمثلت بكفر أبيه‪ ،‬وابتالءات على مستوى المحيط المجتمعي تمثلت بقوم كفرة‬
‫يعبدون األصنام‪ ،‬كما أُمر بمقارعة نمرود زمانه الذي ادعى الربوبية بكل‬
‫حماقة وطيش‪ ،‬وليس هذا فحسب‪ ،‬بل أُمر بعد ذلك بمفارقة أبيه وقومه‪،‬‬
‫والتبرؤ منهم جميعًا بسبب كفرهم وعنادهم‪ .‬إنها العقيدة بصفاتها ونقائها هى‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 50 -‬‬

‫وحدها التي تحدد نوعية العالئق األسرية والوالءات المجتمعية بعيدًا بعيدًا‬
‫ال عندما‬
‫عن عالقة الطين والنسب‪ .‬ومما ال شك فيه فإن الحديث قد يكون سه ً‬
‫يكون تنظيرًا تحكمه الكلمات بعيدًا عن الحياة العملية‪ ،‬ولكن الحقائق تظهر‬
‫ال كما حدث مع الخليل ولو ببعض‬
‫للعيان بعد ذلك عندما يكون االبتالء حاص ً‬
‫مالبساته‪ .‬وفي الحقيقة فإن العبد عندما يعيش لربه‪ ،‬ولربه فقط‪ ،‬عندئذ سيجد‬
‫لذة وهو ينعم بقرب الرب وإن تنكرت له األرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬بناسها وأهلها‬
‫كونها ليست بأكثر من تراب في البدء وفي الختام‪ .‬والعجيب أن كلمات اهلل‬
‫لخليله لم تتوقف هنا‪ ،‬بل بعد أمره بمجابهة نمرود زمانه كانت النار‪ ،‬والنار‬
‫فقط‪ ،‬هى من تنتظره عقابًا له على صدقه وقوة حجته في واحدة من أسوأ‬
‫الخطط اإلجرامية المرتكبة في حق األنبياء على اإلطالق‪ .‬إنها همجية الطغاة‬
‫التى ال تفرق أبدًا بين نبي وولي كون طغيانها أعمى بصرها وبصيرتها‪ ،‬ومن‬
‫ثم أصبحت عدوانيتها متوحشة‪ ،‬وبشكل سافر‪ .‬وبعد هذه الجولة العظيمة شأناً‬
‫يأتي األمر اإللهي له بوجوب مفارقة أرض بابل بلد األهل واألقارب‪،‬‬
‫والتحرك الفوري ودون تأخر صوب بيت المقدس‪ ،‬ثم مصر حتى استقر به‬
‫المقام في نهاية المطاف في وا ٍد غير ذي زرع في بالد الحجاز‪ ،‬والعجيب أنه‬
‫ما إن وصل إلى هناك بعد طول سفر وكثير معاناة حتى جاءه األمر اإللهي‬
‫بضرورة ترك زوجته مع رضيعها إسماعيل هناك في وا ٍد ال جليس فيه وال‬
‫أنيس‪ ،‬والعودة مرة أخرى إلى بالد الشام‪ .‬إنها حياة األسفار ومفارقة الديار‪،‬‬
‫وقطع الفيافي والقفار عندما يتطلبها الحال والمقال نصر ًة للحق‪ ،‬ودعوة‬
‫للصدق‪ ،‬وانتصارًا للمبدأ بأمر اهلل‪ ،‬عندئ ٍذ تهون المتاعب أيًا كانت وكيفما‬
‫تكون‪ ،‬ومما ال شك فيه فإن الخليل تكررت رحالته وتنقالته بين بالد الحجاز‬
‫وبالد الشام حتى جاءه أمر اهلل في نهاية المطاف بوجوب التحرك صوب بالد‬
‫الحجاز‪ ،‬وبناء بيت اهلل هناك بمعية ولده إسماعيل الذي كان حينها فتى يمأل‬
‫السمع والبصر للخليل وأمه على حد سواء‪ ،‬والعجيب في حياة الخليل أنه ما‬
‫‪- 51 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫إن أكمل بناء البيت العتيق مع ولده الوحيد الذي رزق به بعد عمر طويل حتى‬
‫ال بوجوب ذبحه في واحدة من أعظم االبتالءات التي لم‬
‫جاءه األمر اإللهي لي ً‬
‫تتكرر في حق نبي آخر على اإلطالق‪ ،‬وكون رؤيا األنبياء وحي – كما هو‬
‫معلوم – فقد تحرك الخليل مباشرة لتنفيذ األمر دون أن يسأل ربه لماذا وكيف‬
‫وما السبب ؟ إنه حب اهلل عندما يخالط شغاف القلوب عندئذ ال تبالي تلك‬
‫القلوب بشيئ من متاع الدنيا وزينتها أيًّا كان ذلك المتاع‪ ،‬وأيًّا كانت تلك الزينة‪.‬‬
‫وحتى تكتمل روعة الطاعة وجمال الهداية التي عاشها الخليل ننتقل إلى‬
‫القرآن وهو ينقل لنا كعادته جمال المشهد ومشهد الجمال في اللوحة‬
‫اإلبراهيمية المليئة بدروس جعلت له األحقية المؤكدة في اإلمامة المطلقة‬
‫للناس حتى ينتهي عمر الدنيا‪ ،‬وذلك من خالل قوله "فأتمهن"‪ ،‬إنه التمام‬
‫الكامل والوفاء الشامل والتنفيذ المطلق لكل األوامر اإللهية التي طلبت منه‪،‬‬
‫ال في اللفظ "أتمهن" يوحي بالتنفيذ‬
‫ووجهت إليه كون مجيء الفاء متص ً‬
‫المباشر والكامل لكل األوامر التي أمر بها ودون تأخر أو إبطاء‪ .‬إنه الفوز‬
‫الحقيقي والفالح الحقيقي يفرض نفسه‪ ،‬ويتحدث عن ذاته‪ ،‬وذلك عندما تتجه‬
‫تلك الذات صوب السماء تاركة الدنيا بناسها وأهلها طالبة ما عند اهلل ال ما‬
‫عند الخلق‪ ،‬وباحثة – وبكل صدق وإخالص – عن رضا اهلل‪ ،‬وعن رضا اهلل‬
‫فقط‪ .‬نعم إنها شهادة السماء وحدها التي تضع النقاط على الحروف معلنة‬
‫لألرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬وبكل وضوح نتيجة ذلك الكم الهائل من البالء على‬
‫الخليل إبراهيم‪ .‬إنها شهادة الرضا وشهادة الفوز وشهادة الفالح التي لم تأت‬
‫من فراغ كما يعتقد أولئك الذين يريدون تمكينًا وانتصارًا دون جهد أو معاناة‪.‬‬
‫نعم كانت المعاناة‪ ،‬وكانت األسفار‪ ،‬وكانت الحوارات في الليل والنهار هناك‬
‫في بابل‪ ،‬وكانت النار بلهيبها وطيشها هى السالح األرعن من قبل متكبر‬
‫جبار‪ ،‬وكان فراق األهل‪ ،‬وكل تلك المفردات وغيرها كثير كانت كلها تتبدى‬
‫وتظهر بين يدي الخليل بين الحين والحين عله يستسلم‪ ،‬ولكنه انتصر عليها‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 52 -‬‬

‫بعزيمته وإيمانه وتوكله ويقينه‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب أن تعيها الجماعة‬
‫المنقذة واألمة الهادية حتى تواصل سيرها متغلبة على عقبات الطريق‪،‬‬
‫وعدوانيته‪ ،‬ولصوصيته حتى تصل إلى التمكين كما وصل الخليل‪ ،‬وبعد كل‬
‫ال وجالالً‬
‫تلك المعاناة جاء القول من هناك من السماء كي يمأل الدنيا جما ً‬
‫وفرحًا واستبشارًا‪ ،‬وذلك من خالل قول الرب للخليل "قال إني جاعلك للناس‬
‫إمامًا"‪ ،‬إنه التكريم اإللهي الذي جاء عقب ذلك الكم الهائل من االبتالءات‬
‫والمتاعب في إشارة واضحة إلى أن بعد التعب راحة‪ ،‬وبعد العسر يسرًا‪،‬‬
‫وبعد الشدة رخاءً‪ ،‬وبعد اإلبعاد والطرد تمكينًا شريطة الصبر والمصابرة‬
‫واالستمرار والمثابرة‪ ،‬ويكتمل الجمال بهذا التعيين اإللهي واالصطفاء‬
‫الرباني من خالل قوله "إماماً"‪ ،‬فورود اللفظ منكرًا ومنونًا يوحي بأن الخليل‬
‫إمام يمتلك كل مؤهالت اإلمامة‪ .‬إنها اللفتة الدقيقة التي يجب أن تعيها الجماعة‬
‫المنقذة واألمة الهادية وهى تختار إمامها وقائدها كي يكون معيار اإلمامة‬
‫والقياد=ة فيها ليس معيارًا خاويًا تتحكم به األمزجة واألهواء‪ ،‬بل الدين‬
‫والرجولة والمواقف والشجاعة والتضحية واألمانة كلها مفردات يجب أن‬
‫تكون حاضرة في أئمة الهدى وقادة الهداية الذين تسلم لهم زمام األمور ومقاليد‬
‫الدور وإال كان السقوط في البداية واالنتكاسة البئيسة في النهاية‪ .‬ويتواصل‬
‫ال لربه "قال ومن ذريتي"‪،‬‬
‫الجمال من خالل الطلب الذي تقدم به الخليل قائ ً‬
‫إنه الحرص المشروع على أن تكون هذه اإلمامة وهذا االصطفاء في ذريته‬
‫ونسله من خالل هذا الطلب الواضح لنبي عاش مع اهلل وهلل وباهلل في كل‬
‫أطوار حياته‪ ،‬وهنا كان الرد واضحًا أيما وضوح على الخليل من خالل قوله‬
‫تعالى‪" :‬قال ال ينال عهدي الظالمين"‪ ،‬إنها الصراحة التي ال تقبل المجاملة‬
‫تُعلن من هناك من السماء حتى تعي األرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬أن األنفس المتفلتة‪،‬‬
‫واألهواء الشاردة‪ ،‬والذوات المتعدية الظالمة ال مكان لها وال عهد في ميزان‬
‫السماء ولو كانت من أصالب األنبياء‪ ،‬كما أنه إيحاء بأنه في الوقت الذي‬
‫‪- 53 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫سيكون فيه من ذريته صالحون‪ ،‬كذلك سيكون هناك ظالمون‪ ،‬ومن ثم فهؤالء‬
‫الظالمون القادمون من نسله حتمًا لن ينالوا عهد اهلل باإلمامة أبدًا‪ .‬إنه الرفض‬
‫القاطع والصريح الموحي بعدم قبول الظلمة أئمة يحكمون ويتحكمون كون‬
‫ظلمهم أفقدهم األهلية في القيادة والسيادة كما هو واضح ومعلوم من خالل‬
‫محتوى اآلية‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 54 -‬‬

‫ك أَنتَ‬
‫ت َوإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَق ََّبلْ مِنَّا إِنَّ َ‬
‫ن الْبَيْ ِ‬
‫( َوإِذْ َيرْفَ ُع إِبْرَاهِي ُم الْ َقوَاعِ َد مِ َ‬
‫السَّمِيعُ الْ َعلِيمُ{‪.)14()}127‬‬
‫إنها أسعد لحظات العمر تلك التي تتحرك فيها بقدميك أو ترفع فيها يديك كي‬
‫تصنع معروفًا‪ ،‬أو تبني هلل بيتًا‪ .‬نعم إنه العمر الجديد لك والذكرى المباركة‬
‫والخالدة المستمدة من هناك من قيم السماء في صورتها الرائعة وأنوارها‬
‫الساطعة تظل بركتها هنا وأجرها العظيم عند اهلل هناك‪ ،‬ومما يزيد تلك‬
‫الصورة بهاءً‪ ،‬وذلك المشهد جماالً تلك اللوحة الفنية الجميلة التي تجمع األب‬
‫مع االبن في تناسق عجيب وتكامل مهيب في البر واإلحسان‪ ،‬والعمل‬
‫واإلتقان‪ ،‬هذا الجمال وتلك الروعة ظهرا هنا في عمل الخليل إبراهيم عليه‬
‫السالم مع ولده إسماعيل وهما يرفعان قواعد البيت كي ترتفع حينها‪ ،‬وتظل‬
‫مرتفعة وعالية‪ ،‬وشامخة ثابتة باقية ما بقيت الحياة‪ ،‬ليس هذا فحسب‪ ،‬بل‬
‫ويرتفع معها‪ ،‬ويعلو بعلوها كل متجه إليها إلى آخر أيام الدنيا‪ ،‬ولكونها‬
‫بصمات استثنائية غاية في الجالل والجمال فقد تأثر الحجر الذي وقف عليه‬
‫نبي اهلل‪ ،‬ونُقش على ظهره األثر‪ .‬نعم إنه األثر لتلك القدم اإلبراهيمية التي‬
‫جابت العراق والشام ومصر وأخيرًا مكة هنا في وا ٍد غير ذي زرع‪ ،‬كل ذلك‬
‫من أجل اهلل وطلب رضاه‪ ،‬إذًا فال غرابة أن نجد الحجر وهو الجندي الصامت‬
‫يشارك في الحدث معلنًا نحت القدم كتعبير جميل لروعة االفتتاح لمشروع‬
‫إلهي هو مهوى األفئدة‪ ،‬وموطن العبادة‪ ،‬ومكان التوجه والقيادة‪ .‬إنه المعروف‬
‫الذي يتحدث عن نفسه‪ ،‬ويعبر عن ذاته بلغته الخاصة دون طلب أو إشارة من‬
‫صاحبه‪ .‬نعم إنه البناء لقواعد البيت الحرام‪ ،‬والتي ستكون قبلة جامعة لألمة‬
‫المسلمة القادمة في صورة تعبدية تحمل صدق العابد وواحدية المعبود‪،‬‬
‫والمالحظ هنا التعبير بالمضارع في قوله "يرفع" رغم أن البناء قد رفع وتم‪،‬‬

‫(‪ )14‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪127‬‬


‫‪- 55 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ولكن الهدف بهذا التعبير أن يظل القارئ يستشعر الباني بجهده‪ ،‬والبناء‬
‫بروعته‪ ،‬وكأنه يرى المشهد أمامه اآلن وإبراهيم قائمًا يرفعه بمعونة إسماعيل‬
‫لتظل هذه المناسبة قائمة بجمالها وبركتها‪ ،‬وذلك كعادة القرآن في جمال‬
‫التصوير والبيان‪ ،‬كما أنها إشارة دقيقة أيضًا توحي ببقاء ذلك البناء مرفوعاً‬
‫وعاليًا بصورته الحسية كونه ما زال يرفع‪ ،‬وسيظل يرفع بصورته تلك حسًّا‬
‫ومعنى رغم الدعوات الفاشلة والمستمرة لهدم قواعده ولو هدمًا معنويًّا إن‬
‫عجزت حسيًّا‪ ،‬ولكن أنى لهم ذلك‪ ،‬والفعل مضارع والدعاء باقٍ‪ ،‬والذي يعنينا‬
‫هنا في مسألة البناء أيضًا هو أن الخليل رفع أعمدة البيت الحرام كون أساس‬
‫البيت كان موجودًا من قبله سوا ًء بفعل آدم عليه السالم على حد قول بعض‬
‫العلماء‪ ،‬أو بفعل مالئكة اهلل بأمر اهلل‪ ،‬والجميل هنا أن علم الجيولوجيا يقول‬
‫إن األرض في زمن من األزمنة غُمرت بالماء‪ ،‬فلم يعد فيها يابسة البتة‪ ،‬ثم‬
‫بعد زمن طويل حدثت انفجارات هائلة في قاع المحيط أدت إلى ترسبات‬
‫ضخمة مكونة السالسل الجبلية البركانية القائمة بأمر اهلل‪ ،‬وعندما أذن اهلل‬
‫بانحسار الماء بعد زمن كان أول مكان في الظهور على وجه األرض هو‬
‫مكان الكعبة‪ ،‬حيث ظهر المكان حينها على شكل أكمة صغيرة كأول مكان‬
‫ظهر على وجه األرض‪ ،‬حيث يؤيد هذا الكالم في هذا الظهور حديث ورد‬
‫في هذا الخصوص‪ ،‬ثم أمرت المالئكة بتأسيس القواعد‪ ،‬وتحديد المواقع كما‬
‫أسلفنا‪ ،‬وبعيدًا عن هذا الموضوع وخروجًا من خالفات جمة بهذا الخصوص‬
‫نعود هنا إلى رفع القواعد ألساسات كانت موجودة من قبل الخليل‪ ،‬حيث أمره‬
‫اهلل برفعها بعد إخباره لولده بأمر ربه‪ ،‬وطلب إعانته في هذا األمر‪ ،‬فبادر‬
‫الولد سامعًا ومطيعًا ألمر الوالد‪ ،‬وهو شأن كل ولد بار بوالده‪ ،‬والعجيب‬
‫ن واح ٍد هنا هو الدعاء المتصل بالبناء في إشارة واضحة إلى‬
‫والجميل في آ ٍ‬
‫وجوب الجمع بين األمرين‪ ،‬بين عمل المعروف ودعاء اهلل بقبوله‪ ،‬فالبد من‬
‫العمل والحركة‪ ،‬وصنع المعروف‪ ،‬ثم دعاء اهلل أن يقبل عملك‪ ،‬ويرفع في‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 56 -‬‬

‫العاملين أجرك وذكرك إذ ال قبول لداع يدعو دون أن يعمل ويتحرك‪ ،‬كما أنه‬
‫ال اعتماد على العمل – وإن كان مسجدًا – دون اهلل‪ ،‬فالعمل بذاته ال يقبل ما‬
‫لم يصحبه اإلخالص هلل في الباطن‪ ،‬ودعاء اهلل بالقبول كونه سبحانه هو‬
‫المتفضل والمنعم في الظاهر والباطن كما ورد هنا في هذه اللوحة الخالدة‪.‬‬
‫فبادر وارفع قواعد دينك بعملك وهمتك‪ ،‬وتقدم لصنع المعروف بيدك السخية‬
‫تارة‪ ،‬ومتحركًا بقدميك نحو اليتامى والمساكين وأعمال البر تارة أخرى‪ ،‬ثم‬
‫دع هذه البصمات وال تتحدث بها مفتخرًا‪ ،‬بل دعها فهي التي ستحدث عنك‬
‫هنا في الدنيا‪ ،‬كما ستنتظر قدومك هناك في اآلخرة‪ ،‬وكن حذرًا من االعتماد‬
‫على العمل دون اهلل ولو كان مسجدًا‪ ،‬بل اعمل ثم اسأل اهلل لك قبول عملك‬
‫كونه صاحب الفضل واإلحسان عليك من قبل ومن بعد‪ ،‬واجعل أهلك وأقرب‬
‫الناس لك شركاءك في صنع المعروف كي يكونوا أهلك هنا وأهلك في اآلخرة‬
‫عند اهلل هناك‪.‬‬
‫‪- 57 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ُن‬
‫ال تَمُوت َّ‬
‫ن فَ َ‬
‫اهلل اصْطَفَى لَكُ ُم الدِي َ‬
‫ِن َّ‬‫ِي إ َّ‬
‫ب يَا بَن َّ‬
‫( َووَصَّى بِهَا إِبْرَاهِي ُم بَنِي ِه وَيَعْقُو ُ‬
‫إَالَّ َوأَنتُم مُّسْلِمُونَ{‪.)15()}132‬‬
‫عندما يكون إسالمك هو أحب شئ في حياتك‪ ،‬وأغلى ما ملكته في عمرك‪،‬‬
‫فذقت حالوته في حلك وترحالك‪ ،‬وشدتك ورخائك عندئذ وبدون شك سيكون‬
‫هو وصيتك ألحب الناس إلى قلبك وهم أهلك وأوالدك‪ ،‬وذلك في آخر أيام‬
‫حياتك وأنت تودع الدنيا وتستقبل اآلخرة كون اإلنسان في لحظاته األخيرة‬
‫من عمره يوصي أحب الناس إلى قلبه بأحب األشياء في نفسه‪ ،‬وهذا هو الذي‬
‫نلمسه هنا في وصية الخليل إبراهيم عليه السالم لبنيه وهو يودع الدنيا‬
‫ويستقبل اآلخرة‪ .‬نعم فلقد اجتمعت تلك المفردات العظيمة اآلنفة الذكر في نبي‬
‫اهلل إبراهيم حيث كان اإلسالم أغلى شئ في حياته‪ ،‬بل هو من فضَّل أن يُلقى‬
‫ال بين البلدان‬
‫في النار على أن يتركه أو يتراجع عنه‪ ،‬وعاش حياة األسفار متنق ً‬
‫واألقطار‪ ،‬وقاطعًا الصحاري والبراري والقفار‪ ،‬وذلك من أجل نشره‬
‫وتعليمه‪ .‬إنها الحالوة التي ذاقها في كل تلك اللحظات‪ ،‬وعاشها في كل تلك‬
‫األزمات والحاالت‪ ،‬حيث أنسته كل ألم‪ ،‬وأزالت عنه كل حزن‪ ،‬فأصبحت‬
‫تنقالته في البلدان سياحة‪ ،‬وجهاده وتضحياته هنا وهناك من أجل اهلل راحة‪،‬‬
‫ال أو عبدًا‬
‫وهذا شأن كل من يذوق حالوة القرب من اهلل سواء كان نبيًّا مرس ً‬
‫هلل صالحًا‪ .‬إنها جنة الدنيا عاشها األنبياء‪ ،‬وشاركهم في تلك الجنة األولياء‬
‫واألتقياء‪ ،‬فكانت هى الحياة بحق‪ ،‬والجنة األولى بصدق‪ ،‬وال شك في أنك‬
‫عندما تكون مع اهلل عندئذٍ سيكون اهلل معك‪ ،‬فإذا كان اهلل معك يسر لك كل‬
‫عُسْرٍ‪ ،‬وفرج عنك كل هم‪ ،‬وكشف عنك كل كرب‪ ،‬ليس هذا فحسب‪ ،‬بل تأتيك‬
‫العزة كونك تعيش مع العزيز‪ ،‬وتحيط بك القوة والمنعة كونك تستمدها من‬
‫القوي‪ ،‬وذلك في صورة تحمل سعادة الدنيا هنا‪ ،‬ورضى اهلل في اآلخرة هناك‪،‬‬

‫(‪ )15‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.132‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 58 -‬‬

‫كل تلك المفردات الجميلة وغيرها كثير هى التي حملت الخليل هنا أن يوصي‬
‫أوالده وبنيه بالتمسك بالملة النقية‪ ،‬والحنيفية السمحة كي يذوقوا تلك الحالوة‪،‬‬
‫ويعيشوا تلك السعادة‪ ،‬وينالوا شرف الدنيا وعز اآلخرة كون المسلم ال شرف‬
‫له وال عز وال كرامة له وال فوز إال بدينه‪ ،‬وبدينه فقط‪ ،‬وهو الذي أراده‬
‫الخليل هنا‪ ،‬ومما ال شك فيه فإن تخليد هذه الوصية وذكرها هنا ليس لمجرد‬
‫التالوة فحسب‪ ،‬بل لإليحاء بعظمة الوصايا التي تخلد الموصي في الدنيا هنا‪،‬‬
‫وترفعه عند اهلل في اآلخرة هناك‪ ،‬وذلك عندما تكون وصية دين ال دنيا‪ ،‬كما‬
‫أن الوصية هى تعبير نهائي‪ ،‬وملخص ختامي يعبر عن حقيقة الموصي هل‬
‫هو ابن دين أم ابن دنيا‪ ،‬فإن كان ابنًا لألول فال شك في أنه من ذرية إبراهيم‪،‬‬
‫وإن كان ابنًا للثانية كان من الظالمين الذين حرمهم اهلل عهده بظلمهم ألنفسهم‪،‬‬
‫وغفلتهم عن ربهم من خالل قول اهلل لخليله "ال ينال عهدي الظالمين"‪ ،‬ومن‬
‫هنا‪ ،‬ومن خالل هذه الخاتمة لكل موصي تتضح وتتمايز ذرية إبراهيم من‬
‫ذرية الظالمين الغافلين بكل وضوح حيث توضح النهايات هنا وبجالء حقيقة‬
‫االنتماءات‪ ،‬وصدق التوجهات أمن ذرية إبراهيم أنت أم من أهل الضالالت‬
‫؟ إنها اعترافات مصغرة تنساب من األنفس البشرية المغادرة معبرة عن‬
‫حقيقة االنتماء الذي يتجلى هنا بوصايا ختامية تلخص نوعية الحياة‪ ،‬ومعادن‬
‫األحياء‪ ،‬وهذا هو المعنى النفيس والدقيق جدًّا في هذا الموضع‪ ،‬وأنت بال شك‬
‫من يختار لنفسه نوع البنوة هنا كي تلحق بحقيقة األبوة هناك‪ ،‬ومما يالحظ‬
‫ال أو عبدًا صالحًا‬
‫هنا من هذه الوصية أن عظمة المؤمن سواء كان نبيًّا مرس ً‬
‫ال ينتهي دينه بموته‪ ،‬وال يرحل صالحه برحيله‪ ،‬بل يوصي ببقاء ذلك الدين‬
‫والصالح بعد موته كونه هو الحياة لألحياء‪ ،‬والسعادة لألبناء‪ ،‬وهو الذي ظهر‬
‫هنا بتوارث هذه الوصية الخالدة والنفيسة المعبرة عن الذرية الصالحة بتكرار‬
‫الوصية من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم في تسلسل جميل لذرية طيبة نالت‬
‫ال على جمال‪ ،‬وتأتي‬
‫جمال الباطن مع جمال الظاهر كون اإلسالم جما ً‬
‫‪- 59 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫المحصلة النهائية للحياة الحقيقية لمن يموت على اإلسالم هنا بقول اهلل على‬
‫لسان يعقوب اآلخذ لهذا الدين من أبيه إسحاق وجده إبراهيم بقوله "إن اهلل‬
‫اصطفى لكم الدين فال تموتن إال وأنتم مسلمون"‪ ،‬وهذا ال يعني أبدًا أن‬
‫المسلم هنا يعرف زمان موته‪ ،‬ووقت احتضاره ورحيله‪ ،‬فليس هذا المراد‬
‫البتة‪ ،‬بل المراد هنا كن مسلمًا صادقًا ثابتًا كصدق وثبات أبيك إبراهيم الذي‬
‫وصى حتى إذا جاءك الموت كما جاء ألبيك عندئذٍ تثبت كثباته‪ ،‬وتوصي‬
‫أبناءك كوصيته‪ ،‬فعش حياتك بدينك‪ ،‬وتلذذ بصبرك واستقامتك‪ ،‬وكن على‬
‫صلة دائمة بخالقك‪ ،‬ولتكن وصيتك نفيسة وعظيمة كوصية أبيك إبراهيم الذي‬
‫ي كي تنال إمامته‪ ،‬وتنتمى لذريته‪..‬‬
‫وَفَّ َ‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 60 -‬‬

‫ن مِن بَعْدِي‬
‫ت إِذْ قَالَ لِبَنِي ِه مَا تَعْبُدُو َ‬
‫ب الْ َموْ ُ‬
‫ض َر يَعْقُو َ‬
‫شهَدَاء إِذْ حَ َ‬
‫(أَمْ كُنتُمْ ُ‬
‫ق ِإلَـه ًا وَاحِدًا وَ َنحْنُ‬
‫ك إِبْرَاهِي َم َوإِسْمَاعِي َل َوإِسْحَا َ‬
‫ك َوإِلَـ َه آبَائِ َ‬
‫قَالُواْ نَعْبُ ُد ِإلَـهَ َ‬
‫لَ ُه مُسْلِمُونَ{‪.)16()}133‬‬
‫قد ال يتسنى للكثيرين هذا اللقاء‪ ،‬والثبات مع األبناء فور حضور الموت كون‬
‫البضاعة مزجاة‪ ،‬والقلوب في ملهاة ما لم تتدارك العبد رحمات السماء‪ .‬نعم‬
‫إنها اللحظات الحاسمة والحاسمة جدًّا حيث تتكشف فيها حقيقة الحياة‪،‬‬
‫واهتمامات األحياء في صورة غاية في الوضوح كون الموت هنا هو‬
‫الحاضر‪ ،‬بينما الحياة أخذت في االنسحاب والغياب‪ .‬نعم إنه االنسحاب‬
‫الزماني لها كون عمرها انتهى في حياة هذا العبد لتبدأ حياة جديدة عنوانها‬
‫ال وزماناً‪ ،‬إال أن مقدمات‬
‫اآلخرة هي األطول مكثًا‪ ،‬واألعلى قدرًا‪ ،‬واألهم حا ً‬
‫الحياة الجديدة والقادمة من هناك من عالم اآلخرة تبدأ في حقيقتها من هنا كون‬
‫التوفيق الختامي هذا يعقبه بداية مضيئة تستمر في إضاءتها في الحياة‬
‫البرزخية دهرًا حتى تكتمل تلك اإلضاءة بالنور التام يوم القيامة زمانًا ومكانًا‬
‫وحاالً‪ ،‬وحتى ال نذهب بعيدًا تعالوا نعيش أجواء اآلية وفي ظاللها كون الموت‬
‫هنا هو الحاضر في مشهد مهيب‪ ،‬وفي لحظات زمنية فارقة‪ .‬إنها الصورة‬
‫الحقيقية للذرية اإلبراهيمية الصالحة تظهر هنا في اجتماع استثنائي ونهائي‬
‫في آن واحد كون أنه ليس بعد الموت لقاء‪ ،‬بل ساعات الفراق‪ ،‬والفراق‬
‫النهائي‪ ،‬دون رجعة أو عودة‪.‬‬
‫ومما ينبغي ذكره هنا أيضًا هو أن هذا اللقاء وما حواه هو تطبيق عملي‬
‫للوصية األولى للخليل إبراهيم عليه السالم التي أخذت بالظهور هنا كي تعبر‬
‫عن حقيقة الحب في امتثال أمر المحبوب قوالً وفعالً‪ ،‬فليس من الحب في شئ‬
‫أن تدعي حبًّا ألب أو أخ صالحين‪ ،‬ثم ال تكون أنت صالحًا‪ ،‬بل مفارقًا‬

‫(‪ )16‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.133‬‬


‫‪- 61 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫الطريق‪ ،‬ومغيرًا السبيل في صورة تعبر عن حب مزور إما تقوده المصلحة‪،‬‬


‫أو تحدده المنفعة‪ ،‬والمنفعة فقط‪ ،‬أما الحب هنا فقد تجلى في جمال االتباع‪،‬‬
‫وروعة االنتفاع‪ .‬نعم إنه كذلك كونه انتفاعًا دينيًّا يحوي نعيم الدنيا واآلخرة‪،‬‬
‫والعجيب هنا في هذا اللقاء أن يتقدم ذكر المفعول به الذي هو يعقوب على‬
‫الفاعل الذي هو الموت في صورة مخالفة لما اعتدناه من قواعد في تقدم‬
‫الفاعل على المفعول‪ ،‬وما ذاك إال لمعنى دقيق نلمسه هنا من خالل السياق‪،‬‬
‫حيث إن يعقوب قد سبق ملك الموت في االستعداد لهذه اللحظات‪ ،‬فلم يفاجئه‬
‫الموت بحضوره كما يحدث للكثيرين من أهل الغفلة‪ ،‬بل إن يعقوب هو من‬
‫سبقه باستعداده‪ .‬إنها النبوة هنا تجاوزت هذه الحياة‪ ،‬وعملت للحياة األخرى‬
‫رغم شدة البالء‪ ،‬وعظم العناء الذي يحياه األنبياء‪ .‬إنَّها همم الصالحين‪،‬‬
‫ال لهذا الموقف مهتدية ومقتدية‪ ،‬ولم‬
‫وعزائم المتقين تتسابق دائمًا‪ ،‬وتستعد حا ً‬
‫يتأخر عن هذا الموقف واالقتداء سوى أصحاب المبادئ الرخوة ومن أخذتهم‬
‫الدنيا دون رجعة‪ ،‬أما النبي يعقوب هنا فرغم ذلك الحزن الذي عشناه معه في‬
‫سورة يوسف وهو يصارع ألم الفراق‪ ،‬وحياة التآمر والشقاق في ظل حس ٍد‬
‫عبث بإخوة البيت واألسرة والدين في لحظات الغفلة الطويلة والممتدة ألكثر‬
‫من عشرين عامًا‪ ،‬وهو خالف يتكرر في األسر واإلخوة واألفراد عندما يسقط‬
‫دين القوم على حساب دنياهم‪ ،‬نعم فقد ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم‬
‫كون األحزان المتتابعة والمصائب األسرية المستمرة توهن العظم‪ ،‬وتشعل‬
‫شيب الرأس‪ ،‬وهو الذي بدا ظاهرًا في عافية يعقوب وجسمه اللذين هدهما‬
‫األلم‪ ،‬وحاصرهما الشيب والسقم‪ ،‬ولكن رغم ذلك الواقع الذي كان ألمًا‪ ،‬وألمًا‬
‫فقط‪ ،‬إال أن الثقة بربه‪ ،‬واألمل بخالقه لم يفارقان قلبه لحظة‪ ،‬ولم يقعداه عن‬
‫العبادة والرضا ساعة‪ ،‬بل عاش األمل رغم األلم‪ ،‬والسعادة بربه رغم الحزن‬
‫في صورة تعكس حقيقة المؤمن الصادق الذي يقابل مكر الزمان وحيل‬
‫األقارب واإلخوان بصبر جميل‪ ،‬وعمل أمين حتى يتجاوز المحنة‪ ،‬ويغادر‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 62 -‬‬

‫الفتنة‪ .‬فالمحنة التي عاشها نبي اهلل يعقوب أرهقت جسمه‪ ،‬وسلبته عافيته‪،‬‬
‫وهو شأن المصائب على الدوام‪ ،‬ولكنها لم تأخذ دينه‪ ،‬ولم توهن إيمانه سواءً‬
‫عند البالء أو عندما جاءه الفضل والرخاء‪ ،‬فقد وجدناه الشاكر الساجد الحامد‬
‫السحَر أبدًا كي يستغفر فيه ربه‪ ،‬ويتخلص فيه من‬
‫لربه والعابد الذي لم يترك َّ‬
‫عذابات البشر‪ .‬فتعالوا كي نختصر المشهد‪ ،‬ونرى كيف تجلت هنا روعة‬
‫النهايات رغم متاعب وأحزان البدايات‪ ،‬فقد تجلت تلك الروعة في حرص‬
‫األب يعقوب على دين األبناء حتى النهاية‪ ،‬وذلك في إشارة واضحة لكل أب‬
‫يريد سعادة حقيقية لذرية حقيقية ال وهمية كون الذرية الحقيقية هى تلك التي‬
‫يحكمها الدين‪ ،‬بينما ذرية الدنيا إنما هى ذرية وهمية‪ ،‬ووهمية فقط‪ ،‬كونها‬
‫تنتهي بها الدنيا هنا بخالفات ونزاعات ال تدع للمعروف مكانًا‪ ،‬وال تلحق‬
‫صاحبها هناك في اآلخرة حاالً‪ ،‬وحتى ال تكون الذرية هنا وهمًا ال حقيقة كان‬
‫السؤال عن المعبود قبل الفراق في صورة تعكس خوف األب على دين ذريته‬
‫كي يكونوا حقيقة ال وهمًا‪ .‬وما ينبغي اإلشارة إليه هنا أن القرآن وهو يخلد‬
‫هذه الوصايا في تلك اللحظات الزمنية الفارقة لألبناء عند حلول األجل بالذات‬
‫كون الوصية حينها لها وقعها على النفوس‪ ،‬فالفراق هنا نهائي‪ ،‬والرحيل‬
‫أبدي‪ ،‬لذا تبقى تلك الوصية خالدة في قلوب األبناء األوفياء تحركهم على‬
‫الدوام‪ ،‬وتخاطب قلوبهم كلما توالت األيام‪ ،‬وما ينبغي تداركه هنا هو أن اهتمام‬
‫األب بدين أبنائه ال يعني أبدًا عدواة الدنيا وتركها‪ ،‬ليس هذا هو القصد وال‬
‫المراد‪ ،‬بل القصد هو أن صالح دين الذرية يعني – وبدون شك – صالح‬
‫دنياهم‪ ،‬فإذا فسد الدين فسدت الدنيا بال شك‪ ،‬ويظهر هنا جمال المشهد‪ ،‬وتكتمل‬
‫صورته‪ ،‬وذلك برد األبناء على تساؤل أبيهم بقول اهلل على لسانهم "قالو نعبد‬
‫إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق"‪ ،‬إنه الفخر بالدين‪ ،‬والدين فقط‪،‬‬
‫وليس هذا فحسب‪ ،‬بل وتجديد للبيعة واالنتماء‪ ،‬وذلك بقولهم "إلهًا واحدًا ونحن‬
‫له مسلمون" بصورة ضمنية واضحة تشرح صدر األب‪ ،‬وتُرضي الخالق‬
‫‪- 63 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫الرب‪ ،‬فتعهَّد دين أبنائك بالرعاية في البداية وفي النهاية‪ ،‬واحذر أن تكون‬
‫ذريتك وأبناؤك وهمًا ال حقيقة كون الوهم يبقى هنا فقط بقا ًء مُزريا‪ ،‬وال يلحقك‬
‫في آخرتك‪ ،‬بينما الذرية الحقيقية تفارقهم هنا‪ ،‬ثم يكون اللحاق بك إلى جنة‬
‫اهلل هناك‪ ،‬واعلم أن الدين هو الحارس لك‪ ،‬والضامن لذريتك‪ ،‬واحذر من دنيا‬
‫تجمعها لذريتك من غير دين‪ ،‬فإنك إن فعلت تكون بذلك قد أسأت‪ ،‬وإلى الدنيا‬
‫ركنت‪ ،‬وهو عين الشقاء ورأس البالء‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 64 -‬‬

‫ت والصَّالَةِ الْوُسْطَى َوقُومُواْ هللِ قَانِتِينَ{‪.)17()}238‬‬


‫الصلَوَا ِ‬
‫علَى َّ‬
‫(حَا ِفظُواْ َ‬
‫لن يكون المؤمن قائمًا هلل بحق‪ ،‬ومطيعًا له بصدق ما لم يحافظ على صالته‪،‬‬
‫فإن لم يفعل كانت عبادته كذبًا تعبديًّا‪ ،‬وملقًا شيطانيًّا سرعان ما ينتهي كذبه‬
‫هنا‪ ،‬ويُفضح غدًا بين يدي اهلل هناك‪ ،‬وحتى نعيش في ظالل هذه اآلية‪،‬‬
‫ونستقي من معينها الروح والراحة كون الصالة روحًا وراحة بال شك‪ ،‬فتعالوا‬
‫إلى ألفاظها ومحتواها‪ ،‬فكلها جمال ألفاظ ومحتوى‪ ،‬فكلمة "حافظوا" هنا‬
‫تحمل دالالت جمة‪ .‬إنه األمر اإللهي الذي جاء من هناك ليحمل السعادة بكل‬
‫معانيها‪ ،‬وينشر السكينة بكل تفصيالتها كونه يأمر صراحة باتصال األرض‬
‫بالسماء‪ ،‬والمخلوق بالخالق في عبادة تزهو بروعتها‪ ،‬وتكاد تضئ بروحها‬
‫وراحتها‪ ،‬وثانيًا‪" :‬حافظوا" هذه توحي بمعنى دقيق جدًّا ونفيس‪ ،‬بل في غاية‬
‫النفاسة‪ ،‬حيث توحي الكلمة بأن اإلنسان هو المسؤول األول واألخير عن‬
‫نفسه‪ ،‬وعن تصرفاته‪ ،‬وعن صالته‪ ،‬وليس هذا الشيطان أو ذاك اإلنسان‪ .‬نعم‬
‫إنها الكلمة التي توحي بقدرة اإلنسان الكاملة‪ ،‬ومشيئته المستقلة التي تؤهله‬
‫ألن يكون ملكًا في صورة إنسان بعبادته وتقواه‪ ،‬أو شيطانًا رجيمًا بعبثه‬
‫وهواه‪ .‬كما توحي هذه الكلمة بالحقيقة األخرى وهى أن المطلوب هنا ليس‬
‫الصالة فحسب‪ ،‬بل المحافظة عليها‪ ،‬وهنا تكون اآلية قد وضعت النقاط على‬
‫الحروف‪ ،‬فال مجال أبدًا لصالة عبثية تأتي بصاحبها يومًا في األسبوع‪ ،‬أو‬
‫شهرًا في السنة‪ ،‬ثم يتوالى غيابه بعد ذلك تائهًا هناك في مهاوي الردى‪،‬‬
‫ومواقع الخنا في صورة تحمل الضياع بكل صوره‪ ،‬والعبث بكل جزئياته‪.‬‬
‫كما توحي هذه الكلمة بأن المحافظة على الصالة هنا أمر واجب التطبيق فال‬
‫ال عن تركها‪،‬‬‫مجال أبدا لتقديمها أو تأخيرها بغير عذر شرعي مقبول‪ ،‬فض ً‬
‫ومن يخرج عن هذا األمر فهو الضائع دينًا‪ ،‬والعاجز همة‪ ،‬والمخالف شرعًا‪،‬‬
‫ال وماالً‪ .‬أيضًا يتكرر الجمال اللفظي الموحي بروعة‬ ‫والخاسر نفسًا وأه ً‬

‫(‪ )17‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.238‬‬


‫‪- 65 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫المحتوى هنا‪ ،‬ويكاد هذا الجمال يضئ‪ ،‬حيث توحي اآلية بوجوب المحافظة‬
‫الجماعية على هذه الشعيرة العظيمة‪ ،‬فال مجال هنا لالنعزال الممقوت هناك‬
‫في الزوايا المظلمة بحجة االنقطاع عن الناس للعبادة‪ .‬إنها اآلية التي أوقفت‬
‫في الماضي والحاضر وكذلك في المستقبل عبث الفردية التعبدية المشحونة‬
‫بالفكر االنعزالي الهروبي الذي يحول العابد إلى شيطان يخنس عن الواقع‬
‫المجتمعي في صورة مقززة ومزرية‪ ،‬فاآلية هنا جعلت المحافظة على هذه‬
‫الشعيرة مسئولية جماعية كي يحصل األنس العام‪ ،‬وتنطلق الهمم والعزائم في‬
‫عمل جماعي غاية في الروعة والجمال‪ .‬إنه التقديس الواضح هنا للعمل‬
‫الجماعي كونه األجمل شكالً‪ ،‬واألكثر بركة‪ ،‬واألقوى ثباتًا‪ ،‬واألصح عبادة‬
‫وشرعًا‪ ،‬ويزداد الجمال هنا عندما يأتي اللفظ بعد ذلك بقوله "على الصلوات"‬
‫حيث توحي األلف والالم هنا بحصر وقصر المحافظة على الصالة بشروطها‬
‫وأركانها وسننها وأوقاتها وإال كان العبث والضياع هو المآل والمصير‬
‫للصالة وللمصلي على حد سواء‪ ،‬وال شك في أن الصالة إذا أصبحت أمرًا‬
‫ثانويًّا في حياة الفرد أو المجتمع دل ذلك على انقالب في الخلقة‪ ،‬وانتكاس في‬
‫الفطرة‪ ،‬وضياع للمجتمع واألمة وهو األمر الذي ال يحبه اهلل وال يرضاه‬
‫لعباده وخلقه‪ .‬لذا ليست هذه الحالة التي يحياها فرد هنا أو هناك بعيدًا عن‬
‫الصالة والمصلين طبيعيَّة‪ ،‬بل هى حالة َمرَضيَّة نفسية تُسقط صاحبها عاجالً‬
‫أو آجال في وحل الشهوات ومستنقع النزوات لينتهي به األمر بعد ذلك في‬
‫الخسارة الجمعية لدينه ودنياه‪ ،‬ويتواصل الجمال هنا بالتخصيص بعد التعميم‬
‫وذلك بطريقة هى إلى اإلبهام أقرب كون كلمة "الوسطى" هنا جعلت علماءنا‬
‫ال حول المقصود‬ ‫يصولون ويجولون‪ ،‬ويضعون أكثر من عشرين قو ً‬
‫بالوسطى في حركة علمية رائعة‪ ،‬وإن كان أغلبهم قد حط رحاله عند المغرب‬
‫والفجر‪ ،‬إال أن اإلبهام يبقى سيد الموقف كإبهام ليلة القدر‪ ،‬وساعة الجمعة‪،‬‬
‫وذلك لكى يجتهد هذا المؤمن في المحافظة على هذه الشعيرة كلها سواء ما‬
‫عمم منها أو ما جاء مخصصًا في صورة تحمل مسابقة العبد هنا لنيل رضى‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 66 -‬‬

‫المعبود هناك‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن معنى أصيالً موجودًا هنا وهو‬
‫أن الوسط في العدد ال يكون إال في العدد الفردي‪ ،‬بينما العدد الزوجي ال وسط‬
‫له البتة‪ ،‬وفي هذا إثبات آخر على أن الصلوات خمس‪ ،‬وخمس فقط‪ ،‬كونها‬
‫فردية‪ ،‬لذا كان لها صالة وسطى‪ ،‬كما أنه وقبل االنتقال إلى تعلق هذه اآلية‬
‫بما قبلها وبما بعدها ال ننسى الجمال اآلخر الموجود في التعبير هنا حيث لم‬
‫ال حافظوا على الصلوات‪ ،‬وحافظوا على‬ ‫يتكرر الفعل حافظوا كأن يقول مث ً‬
‫الصالة الوسطى‪ ،‬بل اكتفى بفعل واحد وذلك كون المحافظة على الصلوات‬
‫واحدًا‪ ،‬فال قبول لتجزئة تلك المحافظة بحيث تبلغ نسبة المحافظة على فرض‬
‫أعلى النسب‪ ،‬بينما يصل اإلهمال في فرض آخر إلى أدنى النسب‪ .‬إنه‬
‫االحتياط الشرعي المقدس مكانًا وزمانًا يظهر هنا ليحفظ العبادة من الضياع‬
‫واإلهمال‪ ،‬ويصون العابد من السقوط واالنحالل‪ ،‬وال شك في أن هذا العابد‬
‫إذا قدس فرضًا وترك فرضًا آخر عندئ ٍذ يكون ذلك التقديس ممقوتًا ومعبرًا‬
‫عن وضع غير طبيعي البتة يحياه هذا العابد‪ .‬إنه الوضع االستثنائي الموبوء‬
‫والمقطوع والمشغول حتى النخاع في الممنوع‪ .‬ومن اللطائف التي ينبغي‬
‫اإلشارة إليها هنا ونحن نعيش في ظالل هذه اآلية‪ ،‬والتي قد تغيب عن األذهان‬
‫هو أن األمر بالمحافظة على الصالة جاء عقب الحديث عن الطالق مباشرة‪،‬‬
‫وهذا من دقائق التشريع ورحمة المشرع جل في عاله‪ .‬إنها اإلشارة الواضحة‬
‫الموحية بارتباط االختالل األسري الحاصل‪ ،‬والتفكك المجتمعي النازل‬
‫هناك‪ ،‬والمتكرر هنا‪ ،‬والمتمثل بالطالق باختالل الجانب التعبدي للفرد‬
‫والمجتمع على حد سواء‪ ،‬فعندما تضيع الصالة وتصبح أمرًا ثانويًّا في حياة‬
‫المسلم‪ ،‬بل ومتروكة في بعض األحيان‪ ،‬عندئ ٍذ يكون الضياع األسري‬
‫والتفكك المجتمعي هو القادم والحاضر بال شك‪ ،‬إنه الطالق المتوحش هنا‬
‫والمنتشر هناك‪ ،‬فيوم أن ساءت عالقة المخلوق بالخالق انعكست تلك اإلساءة‬
‫على عالقة المخلوق بالمخلوق كون الوفاق ال يتم‪ ،‬واألنس ال يكتمل أبدًا إلى‬
‫بدين عموده الصالة‪ .‬كما أنها إشارة أخرى – وهى دقيقة أيضًا – توحي بأن‬
‫‪- 67 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫المحافظة على الصالة في أوقاتها من قبل المجموع هى العالج الحقيقي‬


‫إليقاف ذلك التفلت األسري‪ ،‬والتفكك المجتمعي المخيف الذي يتربص بالبيت‬
‫واألسرة والمجتمع على حد سواء‪ .‬إنها القلوب الضعيفة إيمانًا‪ ،‬والتائهة حاالً‪،‬‬
‫والمتقلبة مكانًا وزمانًا تبحث عن األنس هناك بعد أن أضاعته هنا يوم أن‬
‫تركت محرابها‪ .‬نعم إنه األنس المفقود الذي فقدته في عالقتها األسرية‬
‫ال عن العالئق الخارجية‪ ،‬والذي لن تجده أبدًا ما لم تعد إلى‬ ‫الداخلية‪ ،‬فض ً‬
‫محراب الصالة أدا ًء ومحافظةً‪ ،‬فإن لم تحدث هذه العودة كان االنحدار نحو‬
‫ال هو المصير المخزي‪ ،‬والمآل المزري‬ ‫المجهول مكانًا وزمانا ومقامًا وحا ً‬
‫سواء بسواء‪.‬‬
‫ومما ينبغي ذكره هنا أيضًا قبل الختام هو أن الصالة المطلوبة ليست صالة‬
‫األبدان فحسب – كما يعتقد البعض – كون البدن ال قدرة له على مواجهة‬
‫الصعاب‪ ،‬واالتصال بمن خلق الخلق من تراب إذ البد من صالة القلب وذلك‬
‫بخشوعه وخوفه‪ ،‬وخضوعه وقنوته‪ ،‬وهذا هو الذي أرادته اآلية هنا في‬
‫ختامها‪ ،‬وحتى يتحقق ذلك كان البد على المصلي الذي يتجه صوب محرابه‬
‫أن يخلع دنياه من قلبه كما يخلع حذاءه من قدمه قبل الدخول على ربه كما‬
‫عبر عن ذلك أحد صالحي هذه األمة في الزمن البعيد‪ .‬نعم فخاتمة اآلية تشي‬
‫بهذا المعنى كون الصالة التي يجتمع فيها القلب والبدن كفيلة بانتشال العبد‬
‫من وسط الزحام‪ ،‬زحام األهواء واألطماع‪ ،‬والذي تبدَّى هنا حتى قلب حياة‬
‫المجتمع رأسًا على عقب‪ .‬فاجعل الصالة عالجك من كل هم‪ ،‬واعلم أن ضياع‬
‫األنس من حياتك‪ ،‬والطمأنينة من قلبك‪ ،‬والسكينة من بيتك إنما حدث كل ذلك‬
‫يوم أصبحت الصالة أمرًا ثانويًّا تقديمًا وتأخيرًا‪ ،‬وحفاظًا وتركًا‪ .‬فكان كل ذلك‬
‫الضياع‪ ،‬فأوقفه إذًا بهذا العالج‪ ،‬واجعل نفسك وبيتك محرابًا للمناجاة وذلك‬
‫لكي يرضى عنك الرب‪ ،‬فإذا رضى عنك عندئ ٍذ سيرضيك ويعطيك‪ ،‬ويؤنسك‬
‫ويؤويك‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 68 -‬‬

‫علَيْهَا قُل هللِ‬


‫س مَا وَالَّهُمْ عَن قِبْلَ ِتهِ ُم الَّتِي كَانُواْ َ‬
‫ن النَّا ِ‬
‫(سَيَقُو ُل السُّ َفهَاء مِ َ‬
‫ط مُّسْتَقِيمٍ{‪.)18()}142‬‬
‫صرَا ٍ‬
‫ب يَهْدِي مَن يَشَا ُء ِإلَى ِ‬
‫الْمَشْرِقُ وَالْمَغْ ِر ُ‬
‫عندما يكون السفه صاحب الكلمة والقرار‪ ،‬وبيده الثروة والمال عندئ ٍذ سيقول‪،‬‬
‫وسيستمر في القول‪ ،‬ولكنه القول المنافي للحقيقة‪ ،‬والمجانب للصواب‪،‬‬
‫والساقط حتمًا في التراب كونه سفهًا ال يسيِّره عقل‪ ،‬وال يضبطه نقل‪ ،‬بل‬
‫السفه‪ ،‬والسفه فقط‪ ،‬المتفلت من كل قيد‪ ،‬وليس هذا فحسب‪ ،‬بل سيتجاوز هذا‬
‫السفه األرض هنا معارضًا ورافضًا وحى السماء القادم من هناك من العلي‬
‫األعلى‪ ،‬وذلك في صورة مغلفة ومعبرة عن عمى البصر والبصيرة في آن‬
‫واحد‪ .‬إنه السفه بصورته المقززة الخبيثة والموغلة في الخَبَث والخبث‪،‬‬
‫والمتجاوزة لكل حد أو وصف‪ ،‬وهذا السفه هو الذي قاد السفهاء هنا‪ ،‬وتجاوز‬
‫بهم األرض اعتراضًا منه على حكم اهلل بتحويل القبلة من بيت المقدس في‬
‫الشام إلى البيت الحرام بمكة وذلك بعد سبعة عشر شهرًا من قدوم النبي الكريم‬
‫إلى المدينة المنورة‪ .‬هذا السفه وذلك االعتراض تمثل بقدوم جماعة من اليهود‬
‫على رسول اهلل قائلين يا محمد ما والك عن قبلتك التي كنت عليها وأنت تزعم‬
‫أنك على ملة إبراهيم ودينه‪ ،‬فارجع إلى قبلتك التي كنت عليها نتبعك‪ ،‬ونصدق‬
‫بك‪ ،‬فإن لم ترجع فال تصديق وال تسليم‪ .‬إنهم السفهاء باعتراضهم هذا يمثلون‬
‫سفهاء ذلك الزمان كما هو حال سفهاء اليوم وذلك بآرائهم النتنة‪ ،‬وعقولهم‬
‫القاصرة‪ ،‬وأهوائهم المتقلبة كون السفه‪ ،‬والسفه وحده هو الذي يقودهم ليس‬
‫إال‪ .‬ومما ينبغي اإلشارة إليه هنا أن قوله تعالى "سيقول السفهاء من الناس"‬
‫لها إيحاءات كثيرة‪ ،‬ومدلوالت جمة‪ ،‬ولكننا سنذكر هنا بعضًا من تلك‬
‫اإليحاءات تاركين الباب مفتوحًا للعقول كي تستنتج الكثير والكثير من‬
‫المفاهيم المهمة واإليحاءات الهادفة‪ ،‬ومن تلك المدلوالت هنا أن المعترضين‬

‫(‪ )18‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.142‬‬


‫‪- 69 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫هنا هم اليهود‪ ،‬ومع ذلك لم يسمهم القرآن‪ ،‬بل قال السفهاء وذلك كون السفه‬
‫هو حالهم على الدوام‪ ،‬وقائدهم واإلمام‪ ،‬وثانيًا‪ :‬جاء بلفظ السفه أيضًا كي‬
‫يشمل غير اليهود‪ ،‬فكل معارض أو متحرك من دون نقل يقوده‪ ،‬وعقل‬
‫يحكمه‪ ،‬وواقع يؤيده‪ ،‬ويسوقه كل من يتفلت من تلك المفردات الثالث اآلنفة‬
‫الذكر إنما هو سفيه يقوده السفه كما قاد غيره باألمس وإن كان مسلمًا بالهوية‬
‫واالنتماء‪ ،‬وثالثا‪ :‬علينا أن نعي ونفهم أن االعتراض على أحكام الشرع‪،‬‬
‫وتطويع النصوص وتأويلها لتخدم الظالمين‪ ،‬وتبرر اإلجرام للحاكمين إنما‬
‫هو من أعمال السفهاء‪ ،‬والسفهاء فقط‪ ،‬ورابعًا‪ :‬علينا أن ندرك أن اليهود‬
‫أعلنوا عداواتهم الواضحة لقبلتنا من أول يوم عاشه المسلمون هناك في‬
‫ال من بيت المقدس‪،‬‬
‫المدينة‪ ،‬وتوجهوا فيه إلى الكعبة في أول صالة وذلك بد ً‬
‫عندئ ٍذ بدأ العداء‪ ،‬وتأسس الخالف‪ ،‬وأخذ مكانه محاربًا تارة‪ ،‬ومخادعًا أخرى‬
‫حتى تعود القبلة إلى هناك‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن التعبير بصيغة‬
‫المضارع بقوله "سيقول" دل على أن القرآن تحدث عن سفههم الذي سيقولونه‬
‫قبل أن يقولوه‪ ،‬والعجيب هنا أن هؤالء السفهاء بلغ بهم السفه حدًّا ال يمكن‬
‫وصفه بحال‪ ،‬حيث كان بإمكانهم أال يقولوا‪ ،‬وتكون لهم الحجة الوجيهة في‬
‫المعارضة واالحتجاج خصوصًا أن اآلية انتشرت حينها في أوساطهم معلنة‬
‫سفههم المنتظر‪ ،‬واعتراضهم المدبر‪ ،‬ولكن كون السفه أعمى‪ ،‬والسفهاء هم‬
‫أبناء لذلك العمى فقد قالوا سفههم ونفذوا اعتراضهم ليكونوا على الدوام هم‬
‫األكذب قوالً‪ ،‬واألسقم رأيًا‪ ،‬واألفسد حاالً‪ ،‬واألسوأ مكانًا وزمانًا‪ .‬كما أنه ال‬
‫مانع في اآلية أبدّا أن يكون التعبير بصيغة المضارع للداللة على أن السفه‬
‫والسفهاء سيستمرون بذلك السفه اليوم وغدًا كما كان حالهم باألمس‪ ،‬بل‬
‫ال ومكانًا وزمانًا‬
‫وسيكون لهؤالء السفهاء اليوم اعتراضاتهم المفضوحة حا ً‬
‫كحال إخوان السفه باألمس سواء بسواء‪ ،‬وسيجد السفهاء لهم أنصارًا وأعوانًا‬
‫كون السفه هو من ألقى بظالله وظله على واقع الحياة ودنيا األحياء‪ .‬إنه الواقع‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 70 -‬‬

‫المبعثر هنا‪ ،‬والمتلون بأفكاره وأناسه‪ ،‬والمتعدد بأشكاله وألوانه يعلن عن‬
‫نفسه‪ ،‬ويعبر عن ذاته وسفهه بكل وقاحة ودونما أي حياء أو اعتبار لقيمة أو‬
‫دين‪ .‬وكون السفهاء هم من الناس‪ ،‬فهذا المسمى يوحي مرة أخرى بقدرة‬
‫السفهاء على التغلغل في أوساط الناس متلبسين بثيابهم وألسنتهم ودينهم‬
‫ولغتهم‪ ،‬وذلك لكي يمرروا سفههم‪ ،‬ويواصلوا خداعهم كونهم منهم وفيهم‪،‬‬
‫وهنا تكمن الخطورة‪ ،‬ويشتد الخطر‪ ،‬لذا كان لهذا السفه المفضوح – كما‬
‫حمَلَته الذين هم من الناس‬
‫أسلفنا – أنصارًا وأعوانًا رغم تكشفه وتبذله بسبب َ‬
‫لغة وشكالً وزمانًا وحاالً‪ ،‬ومع ذلك يبقى أن نقول إن أنصار هذا السفه‪،‬‬
‫وأولئك السفهاء‪ ،‬هم في الحقيقة صنيعة الضالل القديم الذي أحدثه ذاك السفه‬
‫بعمائه‪ ،‬وحرسه بثروته وأمواله كي يكون كأله ومرعاه ومركبه ومرساه‪.‬‬
‫ومما ينبغي التركيز عليه هنا أيضًا أن السفه والسفهاء يجعلون من النصوص‬
‫الشرعية مطية لهم لتمرير سفههم‪ ،‬وذلك بتأويل منقوص لألحكام‪ ،‬واعتراض‬
‫مغلف للقواعد العِظام في صورة تكشف خطورة هذا السفه على الدين والدنيا‬
‫معًا‪ ،‬وذلك من خالل مقارنة سفهاء األمس وهم يظهرون حرصهم الزائف‬
‫على الدين من خالل االعتراض على تغيير القبلة‪ .‬إنه الخداع المفضوح الذي‬
‫ظهر هناك‪ ،‬ويتكرر اليوم هنا‪ ،‬ويتكشف بروائحه المنتنة‪ ،‬وأفكاره المضللة‪،‬‬
‫وأطروحاته السقيمة كونه أبكم ال ينطق‪ ،‬وأصم ال يسمع‪ ،‬وأعمى ال يبصر‬
‫إال ما أُشرب من هواه‪ ،‬ولسنا في هذه اآلونة بمنأى عن هذا السفه الذي يصول‬
‫ويجول‪ ،‬وأيضًا – ودون حياء – يقول‪ ،‬فلسنا في منأى أبدًا‪ ،‬بل نعايش مكرَه‪،‬‬
‫ونقرأ كذبه وزوره‪ ،‬ولكننا على يقين من أنه سفه سيزول عندما تنتهي‬
‫العواطف الزائفة في أوساطنا‪ ،‬وتتحرك الطاقات الكامنة في أمتنا‪ .‬ويستمر‬
‫السفهاء في خداعهم وإغرائهم وذلك من أجل تمرير سفههم من خالل خطابهم‬
‫المغشوش تارة‪ ،‬والمغري تارة أخرى‪ ،‬حيث ظهرت تلك المخادعة هنا في‬
‫هذه اآلية وذلك بقول اهلل على ألسنتهم "ما والهم عن قبلتهم"‪ ،‬فلم يقولوا ما‬
‫‪- 71 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫والهم عن القبلة‪ ،‬بل نسبوا القبلة للنبي وأصحابه بهدف اإلغراء‪ ،‬كأن تقول‬
‫لفالن من الناس ِل َم تركت دارك؟ وذلك لتحريك الحمية في قلبه عندما تشعره‬
‫بتملكه للشئ الذي تركه‪ .‬نعم إنه خطاب العواطف ظهر هناك فسقط فور‬
‫ظهوره كون رجال محمد الكريم حينها لم تعد العواطف هى من تسيرهم‪،‬‬
‫وتملك عقولهم‪ ،‬بل الشرع‪ ،‬والشرع وحده‪ ،‬هو الحاكم‪ ،‬واآلمر الناهي‪ .‬إنها‬
‫الرجولة التي تبلغ كمالها عندما تتحرر من خطاب العواطف الزائفة‪ ،‬وتجعل‬
‫رضى اهلل هو الغاية والمراد‪ ،‬عندها تسقط أمام هذه الرجولة لغة العاطفة‪،‬‬
‫وتعلو لغة الحق والصدق والدين في صورة تحمل القوة في أعلى صورها‪،‬‬
‫والرجولة في أسمى معانيها‪ .‬واليوم تتحرك لغة العواطف الزائفة هنا كما‬
‫تحركت باألمس هناك‪ ،‬وذلك بهدف الخداع‪ ،‬والخداع فقط‪ ،‬دون مراعاة‬
‫لحرمة أو دين‪ .‬نعم إنه الضالل يحرك ذاته‪ ،‬ويجند سفهه ليبقى حاكمًا وله‬
‫ن واحد‪ .‬لذا‬
‫الكلمة والقول في صورة تحمل سفاهة القول وسفاهة الفعل في آ ٍ‬
‫حتمًا سيسقط السفه كونه زبدًا‪ ،‬والزبد سيذهب جفا ًء وإن تأخر ذاك الذهاب‬
‫ال بسبب دور السفهاء الموغل في األجساد‪ ،‬والمسيطر على األنفاس بالقوة‬
‫قلي ً‬
‫والسطوة‪ ،‬ولكنه حتمًا سيسقط ويزول كونه يحمل عوامل سقوطه بيده‪ ،‬وأمام‬
‫هذا السفه‪ ،‬وحيل السفهاء تبقى الهداية هى هداية السماء في وسط هذا الزحام‬
‫المغري تارة‪ ،‬والمهدد الباغي تارة أخرى‪ ،‬يقذفها اهلل في قلوب من يحب من‬
‫خلقه‪ ،‬ويسقط في السفه والسفهاء من علم اهلل فيه السفه‪ ،‬وسبق في علمه أنه‬
‫من السفهاء‪ .‬فاجعل الشرع في كل حياتك هو القائد والحاكم في أخذك وعطائك‬
‫وتعبدك وعبادتك‪ ،‬وكن حذرًا من خطاب العواطف المغلوط الذي يقوده‬
‫السفهاء بهدف اإلضالل واإلذالل‪ ،‬واعلم أنه ال نجاة للعبد من سفه الزمان‬
‫وسفهاء األيام إال باالعتصام بحبل اهلل كونه هو الحبل الوثيق الذي ال تنفصم‬
‫عراه‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 72 -‬‬

‫( َولَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ ا َأللْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{‪.)19()}179‬‬


‫هكذا هى الحياة سريعة الزوال‪ ،‬ومختصرة الفعال‪ ،‬وموجزة الحال كإيجاز‬
‫هذه اآلية‪ .‬نعم إنه اإليجاز المعجز في هذه اآلية‪ ،‬والبعيد عن الخلل‪ ،‬والخالي‬
‫قطعًا من الملل والزلل‪ ،‬فالحياة رغم قصرها إال أن ما يشوبها من تكدير وآالم‬
‫ب بهائها‪ ،‬ويفسد ليلها ونهارها‪ ،‬وذلك ما لم يكن الدين‬
‫ومتاعب وأحزان ُيدْ ِه ُ‬
‫هو الحاكم‪ ،‬وشرعه هو القائم‪ .‬ومما ينبغي ذكره هنا قبل الحديث عن هذه‬
‫اآلية هو أن نعلم أن أعظم جرم ارتكب على ظهر هذه األرض منذ أن أُهبط‬
‫األب آدم – عليه السالم – إليها هو القتل‪ .‬نعم إنها تلك اللحظات المؤسفة التي‬
‫سقط فيها – ومن خاللها – األخ هابيل بفعل التهور النفسي والسقوط القيمي‬
‫ال وزمانًا‪،‬‬
‫من قبل األخ اآلخر قابيل في لحظات الضعف البشري الممقوت حا ً‬
‫والذي توالى من خالله السقوط تباعًا في قتل األنفس‪ ،‬وسفك الدماء في واحدة‬
‫من أسوأ الذنوب‪ ،‬وأشدها عنتًا‪ ،‬وأعظمها جرمًا عند اهلل هناك في السماء‪،‬‬
‫وعند الخليقة هنا في األرض‪ .‬وبما أن شرع اهلل جعل من أحيا نفسًا من خالل‬
‫معروف قدمه‪ ،‬أو إحسان فعله فكأنما أحيا الناس جميعًا‪ ،‬وذلك لعظم هذه‬
‫النفس عند خالقها كونها بنيانه هنا في األرض ال يجوز هدمه إال بحق كما‬
‫أمر اهلل‪ ،‬كذلك من كرر فعلة قابيل النكراء والمنكرة بقتل نفس ظلمًا فكأنما‬
‫قتل الناس جميعًا‪ ،‬وحتى ال تتكرر مأساة قابيل اليوم كما حدثت باألمس فتفسد‬
‫الحياة‪ ،‬ويتبعثر نظام األحياء‪ ،‬أوجب اهلل القصاص حفاظًا على األنفس من‬
‫االمتهان اآلدمي‪ ،‬والعبث اإلنساني الخالي من قيم السماء‪ .‬إنها اللحظات التي‬
‫يُقتل فيها القاتل لتبقى الحياة كريمة بشرع اهلل كون الشرع إذا غاب غابت معه‬
‫كرامة األحياء بال شك‪ ،‬فعندما يكون القصاص من القاتل عندئ ٍذ لن يتجرأ أحد‬
‫على قتل أحد‪ ،‬هذا بخالف األمر عندما يصبح القاتل حرًّا طليقًا يتحرك هنا‬

‫(‪ )19‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.179‬‬


‫‪- 73 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫وهناك وكأن أمرًا لم يكن‪ ،‬عندئ ٍذ تفسد الحياة‪ ،‬ويضيق األحياء ذرعًا بأنفسهم‬
‫وحياتهم‪ .‬ومما الشك فيه فإن المؤمن ال يزال في سعة من دينه ما لم يصب‬
‫دمًا حرامًا‪ ،‬فإذا أصاب ذاك الدم الحرام يكون بسوء فعلته قد تجاوز سعة اهلل‪،‬‬
‫وضيَّق على نفسه في األرض بعد أن جاءه ضيق السماء كون القتل يجرح‬
‫القلب جرحًا ال يجبره إال إراحته من الحياة ودنيا األحياء‪ .‬نعم إنه الضيق‬
‫بمفهومه الشامل يحيط بالقاتل من كل جانب عندئ ٍذ تظلم السماوات واألرض‬
‫في وجهه‪ ،‬وتظل تلك الظلمات وذلك الضيق يطاردانه في ليله ونهاره‪ ،‬فلم‬
‫تعد حياته حياة‪ ،‬بل ينعكس ضيقه وجرح قلبه على سلوكه‪ ،‬فيصبح شريرًا ال‬
‫يسلم منه حجر أو شجر‪ ،‬فضالً عن الخلق أو البشر‪ ،‬ويظل ذلك حاله وتلك‬
‫فعاله حتى يُقتل عندها تبدأ حياة غيره‪ ،‬وقد يستغرب البعض من هذا الكالم إذ‬
‫كيف يكون القتل حياة للقاتل ؟ والجواب هنا يكمن في أن قابيل في الماضي‬
‫البعيد عندما قتل أخاه فارقه األنس في ليله ونهاره‪ ،‬وأحاطت به الوحشة في‬
‫سره وعلنه‪ ،‬وهدت جسمه األمراض في قلبه وبدنه‪ ،‬وهذا هو شأن كل قاتل‬
‫على الدوام حيث يطارده شؤم القتل حيثما حل وحيثما ارتحل‪ .‬إنه العذاب هنا‬
‫قبل أن ينتقل للعقاب هناك ما لم يطهر بقصاص هو حكم السماء العادل‪،‬‬
‫والعادل بال شك‪ ،‬ويتعاظم األمر ويتكاثر الضيق‪ ،‬وتستوحش الحياة‪ ،‬ويضيق‬
‫األحياء عندما يتكاثر القتلة هنا وهناك حتى يكون الغضب اإللهي عندها هو‬
‫األقرب‪ ،‬واالنتقام هو األسرع‪ ،‬لذا كان تطهير القاتل بالقتل هو الحياة له هناك‬
‫بين يدي اهلل بعد أن أفسد حياته هنا كون الحدود زواجر وجوابر ال كما قال‬
‫بعض أهل العلم إنها واحدة دون األخرى‪ ،‬نعم زواجر تزجر من تسول له‬
‫نفسه االعتداء فتوقف اعتداءه‪ ،‬وجوابر في اآلخرة تجبر جرمه بعد أن ظل‬
‫قلبه مجروحًا يصاحبه ذاك الجرح سرًّا وعلنًا حتى كان القصاص عالجه‬
‫حيث ال عالج لجبر قلبه إال هذا‪ .‬إن هذه اآلية تمثل اإليجاز الرائع الذي‬
‫اختصر متطلبات الحياة‪ ،‬وأمان األحياء من عبث الشياطين وفسادهم بكلمات‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 74 -‬‬

‫قليلة‪ ،‬وتعبيرات واضحة وسهلة‪ ،‬حيث حوت في طياتها حياة األمن وأمن‬
‫الحياة‪ ،‬والذي سيظهر من خالل بعض الوقفات التي سنوردها هنا مع‬
‫االختصار ما أمكن‪ ،‬ومنها أوالً‪ :‬التقديم الحاصل في قوله تعالى "ولكم" وكأن‬
‫حياة المجموع هنا مرهونة بالقصاص من هذا القاتل الذي أوحش الحياة‪،‬‬
‫وأخاف األحياء بفعله‪ ،‬وإال فال حياة‪ ،‬حيث إن شؤم القاتل‪ ،‬وعظم جرمه يحيط‬
‫باألمة الساكتة عن هذا الجرم‪ ،‬فهو ينغص حياتها‪ ،‬ويوحش ليلها ونهارها‪.‬‬
‫وال شك في أننا هنا لسنا بعيدين عن هذه الوحشة‪ ،‬بل تطاردنا اليوم هنا‬
‫وهناك‪ ،‬ونشعر بها حتى أنها حرمتنا لذة الحياة‪ ،‬وسعادة األحياء‪ ،‬وما ذاك إال‬
‫ألن قتلة األنفس المعصومة آمنون‪ ،‬بل وحاكمون في صورة تحمل السقوط‬
‫القيمي الذي انحدرت إليه‪ ،‬ووقعت فيه أمة الهداية بعد أن فارقت الهدى‪،‬‬
‫وحُرمت التقوى‪ ،‬وستظل تلك الوحشة بكل مفرداتها الموحشة تطاردنا هنا ما‬
‫بقينا على هذا الحال‪ .‬إنه الدم المظلوم يحاصر القاتل‪ ،‬ويعاتب الساكت‪،‬‬
‫ويتردد بلونه وشكله على كل مسلم طالبًا النصرة واالنتصار‪ ،‬ورافضًا‬
‫المغادرة واالعتذار‪ ،‬ولسان حاله بلونه وشكله إما أن تنتصري لي يا أمة‬
‫الهداية‪ ،‬وإما أن نرحل معًا حتى تزول الظلمة والغواية‪ .‬وحتى ال نستطرد‬
‫بعيدًا عن موضوعنا تعالوا لنعود كي نعيش في ظالل اآلية‪ ،‬فالتقديم هنا –‬
‫كما أسلفنا – يوحي بأنه ال حياة وال استقرار للجميع أبدًا‪ ،‬وبدون استثناء ألحد‪،‬‬
‫إال بالقصاص من القتلة وذلك عند حدوث جريمة القتل‪ .‬إنها الحقيقة التي‬
‫ينبغي أن تحياها األمة المسلمة والمجتمع المسلم كونهما حراس الشريعة‬
‫ودعاتها‪ ،‬فإذا غاب هذا الحارس‪ ،‬وتنكص الطريق ذاك الداعي عندئ ٍذ تختل‬
‫موازين الحياة‪ ،‬ويسود الظلم حتى يصل مداه بقتل األنفس المعصومة دون‬
‫رادع أو مانع‪ ،‬فتسقط الحياة حينها في شراك االنتقامات‪ ،‬ويسقط لسقوطها‬
‫األحياء في وحل الثارات‪ ،‬فإذا وصل الحال إلى هذه الحياة عندئ ٍذ تغيب الحياة‬
‫بمعناها الشامل كون الحياة في اإلسالم ليست حياة العبث كما يظن البعض‬
‫‪- 75 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ال أو عنادًا ومكرًا‪ ،‬بل هى حياة القيم‪ ،‬وأغلى قيمة هنا هى هذا اإلنسان‬
‫جه ً‬
‫بلحمه ود=مه‪ ،‬حتى إذا سقطت هذه القيمة‪ ،‬وأُريق هذا الدم واستُرخص عندئذٍ‬
‫تسقط هذه األمة عند سقوط أول قطرة دم‪ .‬وحتى ال تصل أمة الهداية إلى هذا‬
‫المآل‪ ،‬وحتى ال تحرم الحياة الطيبة التى أرادها ربها لها كان لزامًا عليها أن‬
‫حكَم والحاكم‪ ،‬حيث جئ بالقصاص‬
‫يكون القصاص هنا بمعناه الواضح هو ال َ‬
‫هنا معرفًا باأللف والالم وذلك في إيحاء دقيق لوجوب أن يكون قصاصًا‬
‫ال أركانه حتى ال يكون قصاصًا تقوده األهواء‬
‫مستوفيًا شروطه‪ ،‬ومستكم ً‬
‫واألمزجة‪ ،‬وتتحكم به السياسات النزقة كأن يُقتل غير القاتل‪ ،‬أو يُقتل شخصٌ‬
‫دون استيفاء الشروط واألركان كما هو حاصل اليوم في غالب األحيان‪ .‬إنها‬
‫النصوص الشرعية المقدسة مكانًا‪ ،‬والمحروسة زمانًا‪ ،‬والحافظة لألنفس‬
‫حاالً‪ ،‬فها هى تظهر هنا بقداستها الوضيئة‪ ،‬وأحكامها الرادعة حيث ال مجال‬
‫أبدًا للمساس بقدسيتها‪ ،‬أو التالعب بأحكامها ومآالتها تبعًا لرغبات هذا أو‬
‫نزوات ذاك‪ .‬والجميل هنا أن يُعرَّف القصاص‪ ،‬وتُنكر الحياة‪ ،‬وذلك في إشارة‬
‫واضحة إلى أن الحياة الشاملة الهنيئة‪ ،‬والطيبة المباركة ال تكون بمجرد‬
‫القصاص فحسب‪ ،‬بل البد من قصاص منضبط بشروطه وأركانه‪ ،‬وإال كان‬
‫األمر عبثًا ليس إال‪ .‬إنها قوانين السماء المكتملة األركان‪ ،‬والرصينة في‬
‫األحكام‪ ،‬وغير القابلة البتة لعبث األيدي البشرية القاصرة بزيادة أو نقصان‪.‬‬
‫ويكتمل الجمال هنا‪ ،‬وتتسع آفاقه‪ ،‬وتتنوع أشكاله ومآالته عندما نصل إلى‬
‫كلمة الحياة في هذه اآلية‪ ،‬وقد جاءت هنا منكرة بدون ألف والم‪ ،‬بل بلفظ‬
‫"حياة" كي يفيد هذا التنكير جمال الحياة بكل معانيها‪ ،‬والسعادة بكل تفاصيلها‬
‫ومجاالتها‪ ،‬وذلك عندما يكون القصاص بشروطه وأركانه‪ ،‬والقصاص فقط‬
‫هو الحكم والحاكم ينتظر كل قاتل‪ .‬نعم إنها السعادة القادمة من هناك من‬
‫السماء تنزل إلى األرض مسرعة إلى دنيا الناس في صورة تحمل الرحمة‬
‫اإللهية بأسمى صورها‪ ،‬والرعاية الربانية بأجمل ما فيها تحل في قلوب تطبق‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 76 -‬‬

‫شرع اهلل دون تواكل أو اتكال كي يُؤمنهم بعد خوف‪ ،‬وتسعدهم بعد شقاء‪.‬‬
‫ويتواصل جمال الحياة وروعة األحياء عندما يكون أولو األلباب هم‬
‫ال لما صدر من أوامر‬
‫الحاضرون والمعنيون في الخطاب‪ ،‬وهم المطبقون فع ً‬
‫في الكتاب‪ ،‬وكأن اآلية تشي بأن هذه العقول الراجحة هى وحدها دون غيرها‬
‫من يقع على عاتقها تنفيذ األحكام‪ ،‬وتأديب السفهاء‪ ،‬وأطرهم على الحق أطرا‬
‫حتى يكتمل جمال الحياة‪ .‬كما توجد لفتة أخرى ودقيقة هنا وهى أن القصاص‬
‫كقضية كبيرة ترتكز عليها الحياة وجودًا وعدمًا ال تخلو مع األيام‪ ،‬وتكالب‬
‫الزمان من معارض لهذا الحكم‪ ،‬ومتخل عن هذا الشرع تحت تبريرات معينة‪،‬‬
‫ومغالطات محتملة‪ ،‬فحتى ال يحدث سقوط جراء تلك األطروحات المحادة هلل‬
‫ال وفعالً‬
‫وللرسول كان النداء ألولي األلباب كون وجودهم أمرًا ونهيًا‪ ،‬وقو ً‬
‫ن واحد للقيام بهذا الحد‪ ،‬وتطبيقه‪ ،‬والمحافظة‬
‫هو الضامن والحارس في آ ٍ‬
‫عليه‪ ،‬فإن غابت تلك العقول عندئ ٍذ يغيب لغيابها الحق والعدل‪ ،‬ويسود الظلم‬
‫والجور‪ ،‬بل تغيب حينها الحياة بمعناها الجميل وذوقها األصيل‪ .‬إنه المعنى‬
‫الدقيق الكامن بين السطور‪ ،‬والذي ينبغي التنبيه له‪ ،‬واالعتبار به‪ .‬وتأتي اآلية‬
‫بعد ذلك كي توضح قبل الختام وبطريقة هادئة ودقيقة أن األمة التي ترى أن‬
‫التقوى تتحقق بأداء الصالة والصيام والزكاة والحج بينما القاتل يصول‬
‫ويجول في أنحائها‪ ،‬بل وقد يكون هو الحاكم لها‪ ،‬والمتحدث نيابة عنها‪ ،‬وهى‬
‫راضية ساكتة هى أمة ميتة الضمير‪ ،‬ومخدرة اإليمان‪ ،‬بل ال إيمان لها وال‬
‫ضمير كونها تتخفى بالصالة والزكاة‪ ،‬وتُخلي مسؤوليتها عن القتلة والبغاة‪.‬‬
‫إنه الهروب المشين‪ ،‬والتخفي اللئيم الذي يطيل من عمر هذه المتاهة طوالً‬
‫وعرضاً‪ ،‬ويُبقي القتلة يسودون الناس زمانًا وعمقًا في ظل حياة هى للموات‬
‫أقرب‪ .‬نعم إنها اللفتة األخيرة هنا‪ ،‬والتي توحي – كما قلنا – بأن من التقوى‬
‫حفظ الدماء كونها األمان لحياة مكتملة األركان يسودها األمن‪ ،‬ويحرسها‬
‫اإليمان‪ ،‬وما سوى ذلك إنما هو هروب وتخفي يقود األمة إلى دفع أثمان‬
‫‪- 77 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫باهظة تباعًا من ذاتها ودمها كونها – كما أسلفنا – تتخفى بالصالة لتنال التقوى‬
‫تاركة القتلة والبغاة في المرتبة األعلى‪ .‬إذًا "فلعلكم تتقون" جاءت هنا كتعبير‬
‫حقيقي عن أمة تقية تنتصر للمقتول من القاتل أيًّا كان هذا القاتل بكل شجاعة‬
‫وحزم كونها أمة مؤتمنة على خير كتاب‪ ،‬وأشرف خطاب‪ .‬نعم فالتقوى هذه‬
‫المرة جاءت من هنا معلنة أنه ال كمال لألتقياء صراحة دون حفظ الدماء‪،‬‬
‫وإال فهى التقوى المنقوصة‪ ،‬بل والمتستِّرة الخفية من قول الحقيقة‪ ،‬وتنفيذ‬
‫الحق في صورة غاية في المعصية والذنب‪ ،‬فيكون الحال حينها ال كمال وال‬
‫تقوى‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 78 -‬‬

‫ن مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ‬


‫علَى الَّذِي َ‬
‫ب َ‬
‫علَيْكُ ُم الصِيَا ُم كَمَا كُ ِت َ‬
‫ب َ‬
‫ن آمَنُواْ كُ ِت َ‬
‫(يَا أ َُّيهَا الَّذِي َ‬
‫تَتَّقُونَ{‪.)20()}183‬‬
‫هكذا في السنة الثانية من الهجرة جاءت هذه الهدية الروحية والروحانية لألمة‬
‫المحمدية ممثلة بنعمة الصيام‪ .‬نعم إنها نعمة الصيام التي تنقل المؤمن من‬
‫عالم الطين إلى عالم المالئكة في صورة تحمل روعة التكليف المغمور بجمال‬
‫التشريف في لوحة فنية غاية في الروعة والجمال‪ .‬إنها روعة الصيام في‬
‫شكله وهيئته وصورته وروحانيته تتجلى وتظهر هنا فيستأنس لظهورها‬
‫المكان والزمان‪ ،‬والمقام والحال‪ .‬إنها الروحانية القادمة من هناك من الكريم‬
‫سبحانه في احتفائية إلهية فُتحت لها أبواب الجنان‪ ،‬وغلقت لقدومها أبواب‬
‫النيران‪ ،‬ونادى المنادي من قبل الكريم سبحانه يا باغي الخير أقبل ويا باغي‬
‫الشر أقصر في صورة مباركة تحمل كرم السماء المتدفق المدرار على أهل‬
‫األرض أخيارًا وأشرارًا معلنة فتح الباب‪ ،‬وعتق الرقاب لكل تائب‪ .‬وحتى‬
‫تكتمل الصورة هنا‪ ،‬ويستأنس الزمان والمكان‪ ،‬فتحل بركة الصيام‪ ،‬وتلتقي‬
‫معًا وسويًّا مع جمال الصائم أُغلقت أبواب النار‪ ،‬وصفدت شياطين الجان‪،‬‬
‫وعانقت األرض السماء في لحظات تعبدية وأيام استثنائية بلغت في الحسن‬
‫منتهاه‪ ،‬وفي الثواب أعاله‪ ،‬وفي قرب العبد من ربه مبتغاه‪ .‬إنه القرب الذي‬
‫يغمر الحياة‪ ،‬ويسود األحياء في تلكم اللحظات الروحانية التي يسودها جمال‬
‫الروح وروح الجمال مكونة لوحة فنية تعبدية غاية في الحسن والجمال لهذه‬
‫الطاعة‪ ،‬ولهذا القرب‪ .‬وحتى ال نستطرد بعيدًا تعالوا لنعود إلى رحاب اآلية‬
‫كي نعيش في ظاللها‪ ،‬ونستقي الخير من كلماتها وحروفها ليذهب الظمأ‪،‬‬
‫وتبتل العروق‪ ،‬ويثبت األجر إن شاء اهلل تعالى‪ ،‬فهى بانتظارنا‪ .‬وما ينبغي‬
‫ذكره في البداية هو أن افتتاح هذه اآلية بهذا النداء الخالد يحمل من الدالالت‬
‫الكثير والكثير‪ ،‬ومنها أن النداء مع التنبيه من خالل قوله "يا أيها" توحي‬

‫(‪ )20‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.183‬‬


‫‪- 79 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫بأهمية األمر كون المؤمن مهما بلغ إيمانه يحتاج إلى تنبيه بين الحين والحين‬
‫ألنه بشر‪ ،‬وليس مَلكًا‪ ،‬كما أن توجيه النداء صوب القلب فيه إيحاء بأن خطاب‬
‫ال مقدم على خطاب العقل‪ .‬إنه اإليمان والصدق الذي يجب أن يتحرك‬ ‫القلب أو ً‬
‫ال في داخل هذا القلب كي يتحرك العقل مباشرة بعد ذلك صوب الميدان‬ ‫أو ً‬
‫بهمة وعزيمة‪ ،‬فمن غير الحكمة أن تكلف شخصًا ما بعمل ما بطريقة عقلية‬
‫جافة ولو كانت شرعية‪ .‬لذا كان التكليف هنا مسبوقًا بتحريك العاطفة اإليمانية‬
‫تعليمًا للخلق بوجوب مخاطبة الروح قبل االتجاه صوب العقل كي يتعاونا معًا‬
‫وسويًّا في التنفيذ بسهولة ومحبة ويسر‪ .‬إنه نداءٌ للعاطفة الممتلئة إيمانًا‪ ،‬وليس‬
‫لتلك العاطفة الخاوية الفارغة‪ ،‬أو تلك السادرة الخالية من قيم السماء كون‬
‫خالئها وخوائها ال يؤهلها أب ًد لهذه التكاليف‪ .‬نعم إنه خطاب الروح – كما‬
‫أسلفنا – لتستعد قبل خطاب العقل كي تنفذ في إشارة واضحة للخطاب الفعال‬
‫والمكتمل األركان إذا ما أردنا للتكاليف أن تؤدَّى‪ ،‬وللحقوق أن تُصان‪ .‬ومعلوم‬
‫لدينا أن اإلسالم ال يقبل عاطفة خاوية تسرح وتمرح بعيدًا بعيدًا من غير‬
‫هدف‪ ،‬كما أنه ال يقبل أيضًا أوامر قاسية جافة من غير روح تحركها‪ ،‬وتنفخ‬
‫فيها الحياة‪ .‬لذا كان البد من عاطفة جياشة هادفة تقودها روح إيمانية صادقة‬
‫ليتواصل الجمال‪ ،‬ويتعانق الكمال‪ .‬كما أن توجيه األمر للمؤمنين خاصة‬
‫يوحي بأن األمور العظام ال يُوجَّه بتنفيذها والقيام بها إال أهل اإليمان‪ ،‬وأهل‬
‫اإليمان فقط‪ .‬ثم بعد خطاب الروح ينتقل األمر وبكل هدوء وسالسة إلى األمر‬
‫التكليفي المطلوب تنفيذه‪ ،‬وذلك بعد القاعدة المعدة‪ ،‬والتوطئة المسبقة الممثلة‬
‫بإيمان يحمله رجال مؤمنون هم أهل اإليمان ورجال األعمال‪ ،‬فجملة "كتب‬
‫عليكم الصيام" توحي هنا بأمور كثيرة منها أن فريضة الصيام أمر الزم ال‬
‫مجال فيه للمؤمن كي يفكر أو يستفسر‪ ،‬بل عليه أن ينفذ األمر فورًا ودون‬
‫تفكير أو تأويل كون األمر قد فُرض وحُسم من قِبل السماء‪ ،‬وما على األرض‬
‫إال أن تسمع وتطيع‪ .‬كما أن التعبير بقوله "عليكم" هنا يوحي بتعميم األمر‬
‫على كل المؤمنين كونه هو األصل‪ ،‬ومن يتم استثناؤهم ألعذار شرعية فيما‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 80 -‬‬

‫بعد سيكون لهم شأن آخر‪ ،‬وذلك كون اليسر والتيسير من محاسن الشريعة‬
‫ومقاصد التشريع كما هو معلوم‪ .‬كما توحي كلمة "عليكم" بحاجة الجماعة‬
‫المنقذة واألمة الهادية دون استثناء لتزكية السماء كون الضعف البشري ينتاب‬
‫الجماعة المؤمنة واألمة الهادية‪ ،‬لذا كان الصيام‪ ،‬وكانت التزكية‪ .‬نعم إنها‬
‫النفس البشرية الضعيفة في خلقتها‪ ،‬والفقيرة في ذاتها بحاجة ماسة إلى عون‬
‫السماء كي تتغلب على ضعفها‪ ،‬وتتجاوز فقرها كي تواصل سيرها نحو ربها‬
‫دون تأخر أو إبطاء‪ .‬ومما ال شك فيه هنا أن نقول إنه على قدر تزكية األمة‬
‫الهادية لذاتها وأفرادها تكون كلمتها‪ ،‬ويكون تمكينها‪ .‬ثم يتواصل الجمال‪،‬‬
‫وينساب الكمال بطريقة هادئة جميلة وذلك من خالل لفظ "الصيام" حيث جاء‬
‫معرفًا بألف والم؛ وذلك لإليحاء بأن الصيام المطلوب ليس ذاك الصيام العبثي‬
‫الملتزم نهارًا والعابث بذاته وروحه ليالً‪ ،‬بل المراد هو الصيام المهذب‬
‫للنفوس والقلوب معًا‪ ،‬الجامع بين الشروط واألركان‪ ،‬والمحقق قطعًا لصيام‬
‫البطون والفروج مع الجوارح والقلوب‪ ،‬وذلك في صورة إيمانية تعبر عن‬
‫توجه موحد بين القلب والنفس والعقل من جهة‪ ،‬والبطن والفرج وسائر‬
‫الجوارح من جهة أخرى في توجه صادق نحو السماء‪ ،‬وذلك قبل العودة مرة‬
‫أخرى إلى عالم األرض‪ .‬إنها الصورة الحقيقية للجماعة المنقذة واألمة الهادية‬
‫وقد ارتقت بذاتها‪ ،‬وانتصرت على أهوائها معلنة لألرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬أن‬
‫حياة الروح هى األهنأ واألسمى واألعلى األبقى على الدوام‪ .‬نعم إنها روحانية‬
‫الصيام العبقة‪ ،‬والتي تمثلت هنا في روحانية الصائم وروحه وهو يمأل الحياة‬
‫أنسًا‪ ،‬ويشارك الكون تسبيحًا‪ ،‬ويعانق السماء دعا ًء بكبد ظامئ‪ ،‬وبطن جائع‪،‬‬
‫ف هو أطيب عند اهلل من ريح المسك‪ .‬نعم إنها مدرسة الصيام التي يجب‬ ‫وخلو ٍ‬
‫أن تتعلم من خاللها الجماعة المنقذة واألمة الهادية كيف تربي ذاتها‪ ،‬وتزكي‬
‫أفرادها لترتقي وبشكل جماعي نحو السماء معلنة بلسان الحال والمقال أن‬
‫البطون التي لم تترب على الجوع والظمأ‪ ،‬ولم تتجاوز حياة الشهوات واألنا‬
‫هى بطون طينية ال ينتصر بها حق‪ ،‬وال تعلو بها راية‪ ،‬وال يحقق اهلل بها‬
‫‪- 81 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫تمكين‪ .‬ومما ال شك فيه هنا أن األمة الهادية عليها أن تعيد للصيام حقيقته التي‬
‫غابت منذ قرون كون غيابها عن مركز القيادة والقرار أفقد العبادات حقيقتها‪،‬‬
‫وجعلها خاوية المعاني‪ ،‬ضعيفة المباني‪ ،‬وهو ما يستدعي إعادة النظر فيها‬
‫كي تعود هذه العبادات بمظهرها ومخبرها وشكلها ومحتواها آخذة القلوب‬
‫مرة أخرى من العالم المادي الطيني إلى العالم المالئكي العلوي كي تسمو من‬
‫جديد بعد سنوات القحط والشدة‪ .‬ويجدر بنا أن نذكِّر بأن الصيام هنا ليس معناه‬
‫ترك المفطرات الحسية التي اعتادت األجساد عليها طوال العام فحسب – كما‬
‫يظن العوام من الصائمين – تاركين الجوارح والقلوب تمرح نهارًا‪ ،‬وتعبث‬
‫ليالً‪ ،‬بل المطلوب من األمة الهادية أن تُعيد إلى هذه الشعيرة مكانها ومكانتها‬
‫وروحها وروحانيتها من خالل صيام عام يشمل صيامًا حسيًّا معروفًا مع‬
‫صيام معنوي تتجه فيه الجوارح‪ ،‬كل الجوارح‪ ،‬نحو ربها عابدة تائبة‪،‬‬
‫ومسبحة خاشعة في ليلها ونهارها في رحلة تعبدية هى األكثر بركة‪ ،‬واألعظم‬
‫أنسًا‪ ،‬واألهنأ عمرًا‪ ،‬واألعز حاالً‪ ،‬واألجمل مكانًا وزمانًا‪ .‬إنها المدرسة‬
‫الربانية التى ال تتجاوز الشهر حتمًا‪ ،‬ولكنها باستطاعتها إن صدقت الذات أن‬
‫تتعلم منها اإلخالص لربها‪ ،‬والمراقبة الدائمة لخالقها‪ ،‬والتزكية القلبية لذاتها‬
‫كي تواصل السير والمسير قائدة قادرة‪ ،‬ومتمكنة ظافرة‪ .‬ومما ال شك فيه فإن‬
‫للصيام إيحاءات كثيرة ومنها أن التزام الصائم بوقت اإلمساك ووقت اإلفطار‬
‫– كما علمه دينه وعقيدته – يقوده نحو االلتزام الحتمي والحرفي بأوامر اهلل‬
‫كون المؤمن يسيره دينه ال دنياه‪ ،‬وعقيدته ال هواه كما هو معلوم‪ .‬كما أن‬
‫الصيام كونه عبادة خالصة هلل ليس للنفس فيه حظ يوحي بوجوب تجرد‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية لربها في كل جزئيات حياتها‪ .‬إنه التجرد الذي‬
‫غاب كثيرًا عن حياة األمة الهادية حتى استفحل الشر في أوساطها‪ ،‬وغاب‬
‫النور في أركانها‪ ،‬وأبى العجز والخور أن يتجاوز حيطان دورها وديارها‪،‬‬
‫ومن ثم كان الصيام مدرسة التجرد‪ ،‬وأستاذًا للمتجردين لهذه الحكمة‪ ،‬ولهذا‬
‫األمر‪ .‬كما أن نزول القرآن في شهر الصيام مع مدارسة جبريل للحبيب محمد‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 82 -‬‬

‫له كل ليلة فيه إيحاء خاص بوجوب إعادة النظر في تعامل الجماعة المنقذة‬
‫واألمة الهادية مع القرآن‪ ،‬إنها حقيقة القرآن التي يجب أن تكون لألمة الهادية‬
‫معه جلسات وخلوات خاصة وهادفة كي تسود وتقود لتبلغ المقصود‪ ،‬وإال فال‬
‫سيادة وال قيادة‪ .‬كما أن فتح أبواب الجنان‪ ،‬وإغالق أبواب النيران فيه إيحاء‬
‫آخر بوجوب فتح أبواب الخير لدى األمة الهادية‪ ،‬وغلق كل أبواب الشر في‬
‫حياتها وسلوكها وأخذها وعطائها‪ .‬إنها الحقائق التي يجب أن تتحول إلى‬
‫ال‬
‫برنامج عمل في حياة األمة الصائمة كي تعيد تشكيل ذواتها وحياتها تشكي ً‬
‫يؤهلها لنيل الرحمات‪ ،‬وتجاوز العثرات‪ .‬كما أن عتق الرقاب من قبل خالق‬
‫الخلق من تراب في شهر الصيام فيه إيحاء بوجوب التغافر البيني‪ ،‬والتعايش‬
‫المجتمعي الذي ينبغي أن تحياه الجماعة المنقذة واألمة الهادية كي يستأنس‬
‫الكون بعد وحشة‪ ،‬ويأمن بوجودها بعد خوف‪ ،‬ويشبع في ظل قيادتها بعد‬
‫جوع‪ .‬كما أن قيام الليل في ليالي الصيام يوحي بإعادة النظر في سلوك‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية في كل ليالي حياتها كون األمة العابثة بليلها‬
‫هى أمة إلى الموات أقرب منها إلى الحياة كما هو معلوم‪ .‬إنه الليل الذي ينبغي‬
‫أن تجعله األمة الهادية مدرسة أخرى لتزكية ذواتها‪ ،‬وتطهير نهارها‪ ،‬والبوح‬
‫وبكل صد\ق بمكنونات صدورها ودقائق حياتها بين يدي ربها كون ثلث الليل‬
‫األخير هو محطة تقال فيه العثرات‪ ،‬وتستجاب فيه الدعوات‪ ،‬وتُقضى فيه‬
‫ال يليق بجالل اهلل سبحانه‬‫الحاجات‪ .‬إنه وقت التنزل اإللهي الذي يكون نزو ً‬
‫دون تشبيه أو تمثيل أو تعطيل‪ .‬نعم إنه الليل بجماله وهدوئه وروعته وسكونه‬
‫كان وما يزال دأب الصالحين ما بقيت الحياة‪ ،‬وعاش على ظهر البسيطة‬
‫أحياء‪ .‬كما أن انتصار الحق على الباطل في أول صراع مسلح بين الطرفين‬
‫ال عن مواقع أخرى خاضتها‬ ‫ال بغزوة بدر‪ ،‬فض ً‬ ‫كان في شهر الصيام متمث ً‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهى صائمة‪ .‬إنه اإليحاء بأن شهر الصيام هو‬
‫شهر الجهاد ما بقيت األمة مجاهدة صادقة‪ ،‬ومهتدية هاديه‪ .‬كما أن ليلة القدر‬
‫والتي هى خير من ألف شهر فيها إيحاء بكرم اهلل العميم على خلقه‪ ،‬وتفضله‬
‫‪- 83 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫على عباده‪ ،‬وذلك لإليحاء بأن الحياة فرص من يتركها دون أخذ فاأليام‬
‫ستتركه وحيدًا دون أن يحقق شيئًا أو يبني عزًّا‪ ،‬وهذا ال يعني أن الفرص‬
‫متروكة ليأخذها من يستحقها ومن ال يستحقها‪ ،‬بل ما أعنيه هنا أن الموفق هو‬
‫من يغتنم النفحات اإللهية والعطايا الربانية كون اهلل ال يوفق لها إال من علم‬
‫صدقه وتقواه كما هو معلوم‪ .‬إنها المفردات التي يجب أن تحياها الجماعة‬
‫المنقذة واألمة الهادية وهى تعيش مع الصيام كي تبلغ مرحلة التقوى كون‬
‫التقوى طريقها واضح من هنا أيضًا كما هو من خالل سائر العبادات‪ .‬ثم‬
‫يستمر الجمال من خالل روعة السبك وجمال التعبير وذلك حتى يخف‬
‫التكليف‪ ،‬وتكتمل صورته بقوله "كما كتب على الذين من قبلكم"‪ ،‬وذلك كون‬
‫الصيام ليس عبادة خاصة بهذه األمة‪ ،‬بل هو تزكية قديمة لمن كانوا قبلنا‪ ،‬ألن‬
‫ن واح ٍد‬
‫تزكية األنفس وتطهيرها بالصيام هو منهج سماوي قديم وجديد في آ ٍ‬
‫بدأ من لدن آدم وبقي حتى اللحظة يشق طريقه‪ ،‬ويعلن عن نفسه هنا‪ ،‬وسيظل‬
‫كذلك ما بقيت الحياة كونه فرضًا عظيمًا في تزكية الحياة‪ ،‬وتطهير األحياء‪.‬‬
‫ولكن ما ينبغي ذكره هنا أن صيام هذه األمة هو األكمل عددًا‪ ،‬واألعظم أجرًا‪،‬‬
‫واألقل عنتًا ومشقة كونها األمة الخاتمة للنبي الخاتم المؤهلة للقيادة والريادة‬
‫في صورتها التعبدية الجماعية‪ ،‬وقيمها الروحية األصيلة‪ .‬إنها األمة الوسط‬
‫بين األمم‪ ،‬ورجاالتها ودعاتها هم الرجال الوسط المتميزون والحاملون لقيم‬
‫الس ماء بين الرجال‪ ،‬وذلك في صورة جميلة مباركة تحمل غيثًا هنيئًا لتُنبت‬
‫األرض كل خير‪ ،‬ويزول عن ظهرها كل ويل‪ ،‬وهنا وحتى ال يظن ظان أن‬
‫الصيام فُرض لمجرد الصيام فقط جاء التوضيح والبيان في روعة الختام في‬
‫صورة تختصر المشهد اإليماني الجميل في صورته وشكله وروحانيته‬
‫وروحه بالقول "لعلكم تتقون"‪ ،‬فهنا تُحط الرحال‪ ،‬وتُعقد اآلمال‪ ،‬ويوضح‬
‫المقال كون التقوى إذًا هى المطلوب‪ .‬نعم فلعلكم تتقون هو الهدف من الصيام‪.‬‬
‫إنها الحقيقة التي يجب أن نلمسها هنا من خالل ختام هذه اآلية وهى وجوب‬
‫أن تكون الجماعة المنقذة واألمة الهادية تسير وفق أهداف مرحلية تقودها‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 84 -‬‬

‫لنتائج محددة معلومة‪ ،‬بدايتها تعبدية‪ ،‬ونهايتها كذلك تعبدية كمعادلة الصيام‬
‫تمامًا في البدء وفي الختام‪ ،‬وهو معنى نفيس نلمسه من خالل سياق اآلية‬
‫ومحتواها‪ .‬إنه التهديف الحقيقي واإليجابي لكل حركة وتحرك‪ ،‬ولكل جهد‬
‫وجهاد يظهر هنا من خالل سياق اآلية‪ ،‬وذلك بعي ًد عن التخمينات الخيالية‪،‬‬
‫واالنفعاالت العاطفية‪ .‬نعم فهذا التكليف هذه هى مهمته بالدرجة األولى وهى‬
‫إصالح موجه للقلب والنفس بشكل خاص‪ .‬إنه إصالح موجه للداخل كي تقوى‬
‫هذه النفس على الثبات أمام مغريات وفتن الخارج‪ ،‬لذا كان الصيام عالجًا‬
‫للقسوة والشهوة والشبهة كون هذه األدواء الثالثة هى المهلكة للعبد هنا‪،‬‬
‫والفاضحة له بين يدي اهلل هناك‪ .‬كما أن صالح الباطن هو العنوان األساسي‬
‫لصالح الظاهر‪ ،‬بل هو أصله وأساسه‪ .‬والجميل في ثنايا هذه اآلية ونحن‬
‫نعيش معها وفي ظاللها اللفتة الدقيقة هنا والمتمثلة بتحقق التقوى‪ ،‬ولكن في‬
‫إطار العبادة الجماعية كون العبادة الفردية ال تحقق تقوى‪ ،‬وال تحدث تزكية‪،‬‬
‫وهو السر القائم بين عليكم في البداية وتتقون في النهاية في إشارة دقيقة ودقيقة‬
‫جدًّا إلى بركة العمل الجماعي الخالي من الذاتية واألنا‪ .‬إنه السر الكامن هنا‬
‫والذي ينبغي التنبه له واإلشادة به كونه ال يتضح إال من خالل السياق‪ .‬نعم‬
‫إنه الصيام الذي جاء هذه المرة هنا كمنهج إلهي وتربوي فعال يهذب النفس‪،‬‬
‫ويعيد للروح حياتها وتقواها‪ ،‬وللبدن صحته وقواه‪ ،‬وللقلب سكنه ومأواه وسط‬
‫زحمة الحياة ومتطلبات األحياء‪.‬‬
‫‪- 85 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬
‫ن‬
‫ع إِذَا دَعَا ِ‬
‫ب دَعْوَةَ الدَّا ِ‬
‫سَألَكَ عِبَادِي عَنِي َفإِنِي َقرِيبٌ ُأجِي ُ‬
‫( َوإِذَا َ‬
‫َفلْيَسْ َتجِيبُواْ لِي وَلْ ُيؤْمِنُواْ بِي لَعََّلهُمْ َيرْشُدُونَ{‪.)21()}186‬‬

‫عندما تضيق بك الحياة‪ ،‬وتتوالى عليك األحزان‪ ،‬وتشعر بهجر القريب‪،‬‬


‫وعداوة البعيد عندئ ٍذ ارفع رأسك نحو السماء‪ ،‬واعلم أن هناك ربًّا هو أرحم‬
‫بك من نفسك لن يتركك وحدك‪ ،‬فقط استجب له‪ ،‬واستقم على دينه تجده أمامك‪.‬‬
‫ومما تجدر اإلشارة إليه هنا هو مجئ هذه اآلية متوسطةً الحديث عن الصيام‬
‫في داللة واضحة على أن الصائم دعوته ال ترد‪ ،‬وذلك من كرم اإلله سبحانه‪.‬‬
‫إنها اللحظات الروحانية التي يصبح فيها العبد مالئكيًّا في عبادته‪ ،‬وربانيًّا في‬
‫صيامه واستجابته‪ ،‬وذلك حين يتحرر طائعًا من طينة األرض ومطالبها‬
‫وشهواتها‪ ،‬ويتجه بقلبه وقالبه نحو السماء في صورة تعبدية غاية في‬
‫اإلخالص والخالص‪ .‬إنه اإلخالص الذي يسوق العبد نحو الرب‪ ،‬وذلك‬
‫للخالص من دنس الحياة ورفث األحياء‪ .‬نعم فالرفث الذي أخذ العبد بعيدًا‬
‫بعيدًا حتى أنساه نفسه‪ ،‬وجعله يبحث عن ربه الذي هو أقرب إليه من حبل‬
‫وريده هو الذي يسعى للخالص منه‪ ،‬واالبتعاد عنه ليعود إلى ربه طاهرًا من‬
‫كل خبث كما ولد‪ .‬إنها الغفلة التي تفعل فعلها‪ ،‬والتي ال خالص منها إال‬
‫بالتوجه من جديد نحو السماء في صورة تعبدية خالصة‪ .‬وحتى نتذوق حالوة‬
‫اآلية وجمالها تعالوا لنعيش في ظاللها كي يذهب ظمأ الحياة‪ ،‬ورفث األحياء‪،‬‬
‫فإلى مفردات اآلية إذًا فقوله "وإذا سألك عبادي عني فإني قريب" هذه البداية‬
‫الجميلة تحمل دالالت رائعة حيث جاء التعبير بإذا‪ ،‬وليس بإن كون إذا تدل‬
‫على كثرة حصول الشيء بينما إن تدل على ندرته‪ .‬إنه التعبير البليغ الذي‬
‫يدل على تحرر الجماعة المؤمنة واألمة الهادية الكامل من دنس األرض‪،‬‬
‫وذلك في كل حياتها‪ ،‬وهى تتجه صوب السماء طالبة الغوث منه وحده سبحانه‬

‫(‪ )21‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.186‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 86 -‬‬

‫دون سواه كلما نزل بها الكرب‪ ،‬أو حل بها البالء‪ .‬ويزداد هذا المعنى وضوحًا‬
‫من خالل الكلمة األخرى "عبادي" بالياء وليس "عباد" بدونها‪ ،‬ويشي هذا‬
‫التعبير بهذا المعنى‪ ،‬وهو معنى نفيس جدًّا فتأمله‪ .‬والمالحظ هنا هذا التناسق‬
‫الذي نلمسه في اآلية من خالل تكرار الياء‪ ،‬إنه التناسق العجيب والتكامل‬
‫المهيب وذلك من خالل – عبادي – عني – فإني – لي – بي‪ .‬إنه التناسق‬
‫الذي يقود الجماعة نحو السماء كي تتحرر من تراب األرض‪ ،‬وطينتها‬
‫وشهواتها في صورة جمالية مبدعة‪ .‬نعم إنها الياء التي تُشعِر بقرب الرب من‬
‫عبده المحتاج‪ ،‬وذلك في لحظات االفتقار‪ ،‬وساعات اإلضطرار‪ .‬كما تشي‬
‫هذه الياء أيضًا بمعنى دقيق ونفيس وهو وجوب اإلخالص الكامل هلل والتجرد‬
‫التام له‪ ،‬فال يجوز أبدًا أن تأخذ األرض بطينتها السفلى هذا المخلوق المكرم‬
‫على المالئكة بالنفخة العليا‪ .‬إنه اإلفتقار الجماعي الذي يجب أن تتمثله‬
‫الجماعة العاملة لهذا الدين كي تُجاب الدعوة‪ ،‬وتُكشف الغمة‪ ،‬ويستمر التكريم‬
‫اإللهي لها هنا في الدنيا ليكتمل النعيم به بعد ذلك هناك في األُخرى‪ .‬لذا سيظهر‬
‫هذا المعنى جليًّا من خالل سياق اآلية فيما بعد‪ .‬ويزداد القرب هنا‪ ،‬وتتساقط‬
‫الحواجز ليبقى العبد بين يدي الرب دون واسطة‪ ،‬وذلك من خالل قوله "فإني‬
‫قريب" دون الحاجة إلى لفظ فقل لهم إنى قريب‪ .‬إنها رحمات اهلل تتجلى هنا‬
‫ليبقى العبد خالصًا للرب في ظاهره وباطنه‪ ،‬وقلبه وقالبه‪ ،‬ال تحكمه الشهوة‪،‬‬
‫وال تُسيِّره الرغبة‪ .‬وحتى ال يشعر هذا العبد بالبعد والهجر‪ ،‬بل يستشعر‬
‫عمومية القرب اإللهي والحفظ السماوي والكرم الرباني جاء اللفظ بقوله‬
‫"قريب" للداللة على كل تلك المفردات اآلنفة الذكر‪ .‬إنه التنكير هنا ليكتمل‬
‫قرب السماء وفرجها المستمر لكرب األرض ومكرها في صورة هى األمثل‬
‫واألكمل واألسرع واألشمل على الدوام‪ .‬نعم إنها لحظات األنس تكتمل‬
‫صورتها هنا ليشعر العبد برعاية الرب له في حله وترحاله‪ ،‬وعسره ويسره‪،‬‬
‫وفقره وغناه‪ ،‬كل ذلك نلمسه من خالل روعة الكلمات وجمال العبارات‪ .‬ثم‬
‫‪- 87 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ع إذا دعان"‪،‬‬
‫يتوالى األنس من خالل اللفظ القرآني التالي "أجيب دعوة الدا ِ‬
‫حيث تظهر هنا دالالت غاية في الروعة والجمال إذ قدَّم الدعوة على الداعي‬
‫في إشارة دقيقة إلى سرعة إجابة الدعوة بغض النظر عن الداعي وشخصه‬
‫ولونه‪ ،‬أو جنسه وموقعه‪ .‬كما أنها إشارة دقيقة إلى إجابة د=عوة المضطر‬
‫ل كان هذا المضطر‪ ،‬إنه الغوث اإللهي الخالي من روتين البشر‬
‫على أي حا ٍ‬
‫وتعقيداتهم‪ ،‬والداعي بطريقة دقيقة إلى االهتمام بالمحتوى والمعنى كون‬
‫التقوى في تعامل السماء هي األصل‪ ،‬وليس األقوى كما هو معلوم في قوانين‬
‫األرض وطينتها‪ .‬كما أن السياق هنا كان يقتضي أن يكون اللفظ هو "أجيب‬
‫دعوتهم" كون الجملة في البداية وإذا سألك عبادي عني – جماعية‪ ،‬ولكن‬
‫جاء السياق بصورة جمالية هى األبلغ من خالل "أجيب دعوة الداع"‪ ،‬وذلك‬
‫لإليحاء بإعطاء كل فرد سؤله وحاجته هذا أوالً‪ ،‬وثانيًا‪ :‬في إشارة دقيقة أخرى‬
‫توحي بأن اهلل سبحانه ال ينس من يسأله من خلقه‪ ،‬وال تشغله حاجة الجماعة‬
‫عن حاجة كل عبد على – حدة كونه – جل شأنه‪ ،‬وتقدست أسماؤه – ال يشغله‬
‫شأن عن شأن‪ .‬إنها الطمأنينة الكاملة تظهر هنا من خالل السياق وجمال‬
‫التعبير ليأنس كل سائل‪ ،‬ويسكن كل محتاج‪ ،‬فزحمة الحياة‪ ،‬ومطالب األحياء‬
‫لن تؤخر سؤلك‪ ،‬ولن تشغل اهلل عنك – حاشاه سبحانه‪ .‬ثم يتوالى الجمال‪،‬‬
‫ويتواصل الكمال في توضيح تام ألسباب استجابة الدعاء وذلك من خالل قوله‬
‫سبحانه "فليستجيبوا لي"‪ ،‬حيث تحمل هذه الجملة دالالت باهرة‪ ،‬وتوحي‬
‫بلطائف دقيقة منها‪ :‬أن االستجابة ألوامر اهلل تحتاج إلى عزيمة صادقة وإرادة‬
‫قوية لذا جاء بالم األمر هنا بعد الفاء الموحية بوجوب الصلة بين الدعاء‬
‫والنقاء واالستقامة واالستجابة‪ ،‬فالنفوس التي تريدُ مُنَاها في البداية عليها‬
‫طاعة موالها في البداية والنهاية وإال كان الخلل في الداعي ال في المدعو‪،‬‬
‫وفي األرض ال في السماء‪ ،‬وفي المخلوق ال في الخالق سبحانه‪ .‬كما أن اللفظ‬
‫جاء بصيغة المضارع "يستجيبوا"‪ ،‬وثالثا‪ :‬جاء األمر موجها للجماعة وليس‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 88 -‬‬

‫للفرد‪ .‬إنه األمر الصريح للجماعة المؤمنة بوجوب االستجابة الدائمة لمنهج‬
‫السماء وأوامرها‪ ،‬فال مجال أبدًا للتعامل مع ذلك المنهج بمزاجية أرضية‬
‫عاجزة‪ ،‬أو انتقائية فلسفية مُلْهية‪ .‬إنه الرفض اإللهي الواضح لعبود=ية‬
‫الحاجة‪ ،‬وخشوع اللحظة الممزوج بدموع النشوة المؤقتة المؤدية لالنتكاسة‬
‫من جديد في حمأة الرذيلة ومستنقع الخطيئة‪ .‬إن المنهج السماوي يريد من‬
‫أتباعه استجابة صحيحة صافية كصفاء السماء ال يحدها مكان‪ ،‬وال يغيرها‬
‫زمان‪ ،‬وال يكيفها سلطان‪ ،‬ما لم كانت استجابة عبثية ال مكان لها في السماء‪،‬‬
‫وال قبول لها في األرض‪ ،‬بل عبث‪ ،‬وعبث فقط‪ .‬كما أن هذه االستجابة لن‬
‫تؤتي أكلها‪ ،‬وتحقق مراد اهلل منها ما لم تكن جماعية كون االستجابة الفردية‬
‫ألوامر اهلل دون جماعة تقود وتأمر‪ ،‬وتدير وتحكم هو عبث يضاف إلى العبث‬
‫السابق ليس إال‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه أيضًا أن التقييد الوارد هنا بقوله‬
‫ص وحصر االستجابة بمنهج واحد‪ ،‬ورب واحد‪ ،‬وخالق واحد هو‬
‫ص َ‬
‫"لي" خَ َ‬
‫اهلل كون االستجابة لمناهج األرض الوضعية إنما هى استجابة لعبث األرض‬
‫ال فوق‬
‫ومكرها‪ ،‬وطينتها ودنسها‪ .‬ثم جاءت الجملة التالية كي تضيف جما ً‬
‫الجمال‪ ،‬وذلك بقوله "وليؤمنوا بي"‪ ،‬فاالستجابة هناك استجابة للمنهج‪ ،‬وهنا‬
‫إيمان كامل‪ ،‬ورضا تام بما يقرره ويختاره بعد ذلك من أنزل هذا المنهج‪،‬‬
‫وأمر به وهو اهلل سبحانه‪ .‬وجاءت الم األمر هنا وبصيغة المضارع لإليحاء‬
‫بوجوب الرضا الجماعي الدائم والمستمر من قبل الجماعة المؤمنة بما يختاره‬
‫اهلل لها بعد استجابتها له‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب أن يعيها الجميع وهى أن‬
‫األمر قد ال يتحقق كما دعت الجماعة‪ ،‬وخططت‪ ،‬وعملت‪ ،‬بل قد يختار اهلل‬
‫لها عكس ما أرادت كونه سبحانه يعلم ما يُصلح عباده وما يُفسدهم‪ ،‬لذا كان‬
‫وجوب اإليمان بما يختاره اهلل هنا هو الخاتمة والخاتم‪ .‬وجاء التخصيص هنا‬
‫بقوله "وليؤمنوا بي" كون البعض قد يؤمن بما يقوله المرجفون هنا وهناك‪،‬‬
‫فكان هذا التخصيص حتى ال يقع السقوط الفردي الذي ينعكس سلبًا على‬
‫‪- 89 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫السلوك الجماعي للجماعة المنقذة‪ ،‬وال شك في أن األمر موجه للفرد أيضًا‬


‫في هذه الجماعة بوجوب اإليمان بما يختاره اهلل له بعد األخذ بكل تلك األسباب‬
‫الشرعية‪ ،‬فليس من الضرورة أن يتحقق سؤلك ومرادك كونه قد يكون ضرره‬
‫بك وبدينك دون علمك‪ ،‬لذا لعلهم يرشدون اختصرت المسألة‪ ،‬وختمت‬
‫القضية‪ ،‬فالرشد للجماعة والفرد على حد سواء يكمن في سؤال اهلل‪،‬‬
‫واإلخالص له‪ ،‬واالستجابة لدينه‪ ،‬واإليمان بعد ذلك بقضائه وقدره‪ ،‬واختياره‬
‫لعبده وعباده‪ .‬إنه الرشد الحقيقي الذي ال يكتمل أبدًا إال عندما تكون االستجابة‬
‫للمنهج اإللهي جماعية‪ ،‬والتسليم هلل كذلك أيضًا‪ ،‬وإال كانت الجماعة المنقذة‬
‫بعيدة عن الرشد في البداية‪ ،‬ومتأخرة عن الركب في النهاية‪ ،‬ولن تصل حتى‬
‫تعود إلى رشدها المنضبط باستجابة كاملة للمنهج‪ ،‬ورضا تام بما يختاره لها‬
‫من أنزل هذا المنهج‪ .‬فاتجه نحو السماء في كل شؤونك‪ ،‬وَأخِْلصْ له في‬
‫الدعاء‪ ،‬واستجب له فيما أمر‪ ،‬وانته عما نهاك عنه وزجر‪ ،‬وعليك بعد كل‬
‫ذلك أن تؤمن بما اختاره ورضيه لك كونه سبحانه هو األعلم بك وبما‬
‫يصلحك‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 90 -‬‬

‫اهلل ُيحِبُّ‬
‫ِن َّ‬‫التهْلُكَةِ َوَأحْسِ ُنوَاْ إ َّ‬
‫هلل وَالَ ُتلْقُواْ ِبأَيْدِيكُمْ ِإلَى َّ‬
‫( َوأَنفِقُواْ فِي سَبِي ِل ا ِ‬
‫الْ ُمحْسِنِينَ{‪.)22()}195‬‬
‫إنها اللحظات التي يتخلى فيها الرب عن العبد فيسقط عندها في سوء التدبير‬
‫ظنًّا منه أنه النجاة‪ ،‬ولكنه في الحقيقة الهلكة‪ ،‬والهلكة ال غير‪ .‬إنها اآلية التي‬
‫صححت المفاهيم المغلوطة لدى الكثير ممن يتخبطون في مهاوي الهالك‬
‫وطرق الهالكين سواء لسوء الفهم الذي استشرى باألمس‪ ،‬وكان الوحي حينها‬
‫يتنزل‪ ،‬أو تكرر ذلك الفهم السيئ اليوم‪ ،‬فقد جاءت اآلية توضح الحقيقة الكاملة‬
‫للسقوط متى وكيف من جانب‪ ،‬ومبينة طرق النجاة من جانب آخر‪ .‬نعم إنها‬
‫لحظات الضعف البشري التي تنتاب العبد سواء هناك يوم تنزل الوحي اإللهي‬
‫– كما أسلفنا – فنزلت اآلية لتدارك الموقف‪ ،‬ومعالجة الضعف حتى ال‬
‫يستشري‪ ،‬فتسقط بسقوطه أمة هى خير أمة‪ .‬إنه التصوير الحقيقي للنفس‬
‫البشرية الشحيحة في ذاتها‪ ،‬والبخيلة في أصلها ما لم تتربى‪ ،‬ظهرت باألمس‬
‫هناك‪ ،‬ويتكرر ظهورها – وبشكل كبير – اليوم هنا‪ .‬إنها النفس الضعيفة خلقة‬
‫والبخيلة ذاتًا تظهر هنا وهى تقود صاحبها إلى الهالك المحقق من خالل بخلها‬
‫وشحها من جهة‪ ،‬ونومها وغفلتها من جهة أخرى‪ ،‬وأيًا ما كان هذا األمر أو‬
‫ذاك فكله إلقاء باليد إلى التهلكة ليس إال‪ .‬وبغض النظر عن اختالف العلماء‬
‫حول سبب نزول هذه اآلية كون بعض اآليات تتعدد أسباب نزولها – كما هو‬
‫معلوم – عند علماء األصول‪ ،‬إال أن الحقيقة الظاهرة هنا‪ ،‬والتي ال خالف‬
‫حولها البتة هى أن العبد بغير توفيق الرب مخذول‪ ،‬فالبخل والجبن وترك‬
‫الجهاد والسكوت عن قول كلمة الحق كلها مفردات مقززة في حروفها‪ ،‬ومنتنة‬
‫في معانيها‪ ،‬وإلقاء باليد والنفس إلى التهلكة في مآالتها‪ ،‬وإن ظن العبد عكس‬
‫ذلك فهو من تلبيس إبليس‪ .‬لذا وجدنا أبو أيوب األنصاري يقول – وهو‬

‫(‪ )22‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.195‬‬


‫‪- 91 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫الصحابي الكبير فينا معشر األنصار – نزلت هذه اآلية عندما أعز اهلل دينه‬
‫فقلنا في أنفسنا اآلن نستصلح أرضنا‪ ،‬وحسبنا ما قدمنا‪ ،‬فنزلت اآلية حينها‬
‫ق برنامج عمل‪ ،‬وصيحة إنذار إلى قيام الساعة توقظ الغافل الذي حدثته‬
‫كي تَب َ‬
‫نفسه‪ ،‬وأخذته وظيفته وأرضه وماله وتجارته عن اهلل والدار اآلخرة معلنة‬
‫أن هذا هو إلقاء باليد إلى التهلكة وإن اختلفت الطرق‪ ،‬وتعددت األعذار‪،‬‬
‫وحتى ال يستمر ذلك اإللقاء المخيف في الهلكة والهالك جاءت اآلية هنا كي‬
‫تصحح المسار مرة أخرى‪ ،‬وتعيد لهذا اإلنسان رشده وصوابه كون اإلنسان‬
‫ببخله وجبنه يفقد صوابه ورشده‪ ،‬ويهلك ذاته ونفسه‪ ،‬ويخسر دنياه وآخرته‬
‫وإن تأول لنفسه‪ .‬وحتى ال يتسرب ذلك التأويل المبطن فيقعد العبد عن مهمته‬
‫ودوره كمؤمن ينتظر إيمانه منه الكثير والكثير جاءت اآلية آمرة الجميع‪،‬‬
‫وذلك لبركة الجماعة أوالً‪ ،‬وألن عوائق الطريق تحتاج إلى الجماعة لفظاً‬
‫ومعنى وسندًا ومتنًا‪ ،‬فاألمر الجماعي هنا فيه داللة واضحة على وجوب‬
‫تحرك الجميع دون استثناء ألحد‪ ،‬وذلك للنجاة من الهلكة كل وفق قدرته‬
‫واستطاعته وملكه وممتلكاته سوا ًء بإنفاق المال والجاه‪ ،‬أو العلم والنفس‪ ،‬وأي‬
‫توقف عن واحدة مما سبق يجعل ذلك المتوقف يلقي بنفسه إلى التهلكة وإن لم‬
‫يشعر‪ ،‬وحتى تكتمل النجاة هنا‪ ،‬ويسعد في اللقاء بين يدي اهلل هناك هذا المنفق‬
‫أو المجاهد‪ ،‬وذاك العالم أو اآلمر الناهي البد من اإلخالص هلل وحده‪ ،‬ما لم‬
‫كان إلقا ًء باليد إلى التهلكة بطريقة مركبة ومخزية‪.‬‬
‫ومما ينبغي ذكره هنا أيضًا أن امتالك المال هو امتحان كبير للنفس‪ ،‬حيث‬
‫يسقط الكثير في وحل الشح والبخل واختالق األعذار كما عبر عن ذلك أبو‬
‫أيوب األنصاري – رضى اهلل عنه – بنفسه‪ ،‬وهو الصحابي الكبير‪ ،‬وذلك ما‬
‫لم تتدارك رحمة اهلل هذا العبد اليوم كما تداركت رحمات اهلل أبو أيوب‬
‫باألمس‪ .‬ويزداد جمال اإلنفاق وروعة المنفق في آن واحد وذلك عندما يصل‬
‫بعطائه وعمله إلى مرتبة اإلحسان الذي ال يكون كذلك ما لم يتوج إحسانه هذا‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 92 -‬‬

‫بنفائس أربع وهى اإلسرار والتعجيل والمداومة واإلخالص عندها َتنَال محبة‬
‫الخلق في األرض بعد أن أحبك اهلل في السماء‪ .‬إنه منهج السماء الجميل شكالً‪،‬‬
‫والواضح لفظًا ومعنى يأخذ تلك األيدي الضعيفة وينتشلها من بين ركام‬
‫البخل‪ ،‬ودرن الشح‪ ،‬وسوءات الدنيا‪ ،‬ويرفعها إلى هناك حيث الخلود الدائم‪،‬‬
‫والرضى الكامل بعيدًا عن متاعب الحياة ومشاغل األحياء‪ ،‬فال تظنن بعد ذلك‬
‫أن الحرص القاتم‪ ،‬والبخل القائم رجولة وذكاء‪ ،‬بل هو الهالك لألنفس‪،‬‬
‫والتقييد لأليدى بدأت بها هنا وسيُستكمل القيد عند\ اهلل هناك ما لم تحدث‬
‫المراجعة‪ .‬فكن كريمًا بمالك وعلمك وجاللة قدرك لعلك تنجو‪.‬‬
‫‪- 93 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫علَى مَا فِي َقلْبِ ِه‬


‫اهلل َ‬
‫ك قَوْلُ ُه فِي الْحَيَا ِة الدُّنْيَا وَيُشْهِ ُد َّ‬
‫س مَن يُعْجِبُ َ‬
‫ن النَّا ِ‬
‫(وَمِ َ‬
‫َد الْخِصَامِ{‪.)23()}204‬‬
‫وَ ُه َو َأل ُّ‬
‫هكذا يتوالى السقوط لهذا الصنف البائس من الناس الذي اهتم بظاهره بينما‬
‫ترك باطنه وقلبه للشيطان يعبث به‪ ،‬ويسكن فيه‪ .‬إنه الخذالن المخيف الذي‬
‫بدأ هنا في صورة هى األشد خوفًا‪ ،‬واألكثر مقتّا‪ ،‬واألخزى حاالً‪ ،‬واألسؤأ‬
‫مقاالً‪ .‬نعم إنه الخذالن اإللهي لهذا العابث المصاحب لكل هذا العبث يظهر‬
‫هنا جليًّا في إنسان لم يعد يملك شيئًا من ذاته البتة كونه أصبح شيطانًا في‬
‫صورة إنسان‪ ،‬بل إن إنسانيته هنا أصبحت للتمويه والتلبيس ليس إال‪ .‬وهذه‬
‫هى الحقيقة عندما يتخلى الرب عن العبد‪ ،‬عندنئ ٍذ يكون السقوط في كل بلية‪،‬‬
‫والعبث في كل رزية‪ ،‬وحتى ال يأخذنا الحديث بعيدًا عن ظالل اآلية نعود‬
‫مرة أخرى إلى السياق فقوله "يعجبك قوله" هنا تكشف اآلية وبكل وضوح‬
‫القدرة الفائقة‪ ،‬والفائقة جدًا‪ ،‬لهذا الصنف الدنئ من الناس على التمثيل‬
‫والمخادعة حد اإلعجاب‪ .‬نعم فقد يعجبك قوله ونصائحه وفكره وقنواته‬
‫ولسانه وعباراته كل ذلك فقط ليملك عقلك‪ ،‬ويخلط عليك فكرك‪ ،‬والعجيب‬
‫لكي نحذر أن اللفظ هنا جاء بصيغة المضارع "يعجبك"‪ ،‬وذلك لإليحاء‬
‫بوجود هذا الصنف وبشكل مستمر في كل منطقة وجماعة‪ ،‬وفي كل بلد وأمة‪.‬‬
‫إنه الصنف الفاسد دينًا‪ ،‬والخائن أمانة‪ ،‬والكاذب حديثًا‪ ،‬والماكر فكرًا وسلوكًا‬
‫يستمر في الظهور والقول ليميز اهلل بظهوره وقوله الخبيث من الطيب‪ ،‬والحق‬
‫من الباطل‪ ،‬والعاقل الرزين من الغبي المهين‪ .‬وال تستغرب أبدًا عندما تعلم‬
‫أن برامج ودورات ولقاءات ومؤتمرات تعقد لتربية هذا الصنف الخسيس‬
‫ليستمر في خسته‪ ،‬ويتمادى في قوله لتُطعن به األمة أفرادًا وجماعات‪.‬‬
‫ولتتضح خسارة هذا النفاق من جهة‪ ،‬و َنحْذَره من جهة أخرى كان التعبير هنا‬

‫(‪ )23‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.204‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 94 -‬‬

‫دقيقًا حيث حصر الخداع بقوله "في الحياة الدنيا"‪ ،‬وذلك في إشارة واضحة‬
‫إلى أن خداعه محصور في حياته فقط‪ ،‬وينتهي بنهايته كون الخداع زَبَد‪،‬‬
‫والزبد ال أصل له وال جذور‪ ،‬وثانيًا أن هذا الصنف ليس له في اآلخرة صلة‬
‫أو نسب كون األعمال الصالحة هى الصلة والنسب‪ ،‬وهذا مقطوع صلته‪،‬‬
‫ومقطوع نسبه بسوء فعله‪ ،‬ودناسة بضاعته‪ ،‬وثالثًا أن الحياة الدنيا هى الشغل‬
‫الشاغل لهذا الصنف وذلك بسبب جحوده وكفره أو عناده ومكره‪ .‬إن اإلسالم‬
‫ال يقبل أبدًا المسلم الغبي الذي تغريه الكلمة‪ ،‬وتخدعه العبارة‪ ،‬بل يريد مسلمًا‬
‫فطنًا‪ ،‬وذكيًّا عاقالً‪ .‬لذا فإن مما تجدر اإلشارة إليه في هذه الوقفة المقتضبة أن‬
‫هذا الخداع وذاك اإلعجاب قد يتجاوز المكان‪ ،‬ويستغرق بعض الزمان‪،‬‬
‫ويحتوي بعض األقران مع األسف بسبب تلبسه باآليات القرآنية‪ ،‬واألحاديث‬
‫النبوية‪ ،‬والنصائح الشيطانية‪ .‬نعم يتلبس بها تلبسًا كونه ال يؤمن بها أصالً‪،‬‬
‫أو أنه يؤمن بها تالوة وال يقبلها نظامًا وسلوكًا‪ ،‬لذا لبسها وحفظها يخدع بها‬
‫ال وشرابًا وأخذًا وعطاءًا ليس إال‪ .‬ومما ينبغي ذكره هنا أيضًا أن‬
‫ويمكر أك ً‬
‫هذا التلبس يلجأ إليه هذا الصنف وذلك عندما ينتشر الصالح المجتمعي العام‪،‬‬
‫والذى يكون – في الغالب – صالحًا منقوصًا لم يستوعب بعد حقيقة الدين‬
‫وسلوك المتدينين‪ ،‬ومن ثم يسهل احتواؤه وتقييده من قبل هذا الصنف المزور‬
‫ن واحد‪ ،‬لذا كانت اإلشارة في قوله تعالى "ويشهد اهلل على‬
‫والمتلبس في آ ٍ‬
‫ما في قلبه" هى إشارة لهذه اللفتة التي تم ذكرها حيث جعل هذا الصنف من‬
‫الدين مادة لإلغواء واإلغراء فقط‪ ،‬وحتى ال تحصل الخديعة بتلك الكلمات‪،‬‬
‫ويستمر اإلعجاب حد االنخداع بتلك الحكم والمواعظ والعبارات جاءت اآلية‬
‫مختصرة المشهد وموضحة المقصد وذلك بقوله تعالى "وهو ألد الخصام‬
‫وإذا تولى‪ "...‬إلى نهاية اآليات‪ .‬هذه هى حقيقة المنافقين هناك‪ ،‬وكذلك هو‬
‫حالهم هنا‪ ،‬لذا كانت العقول الغبية هى التي تقبل الخديعة من المخاصم األلد‪،‬‬
‫وتتماهى مع المخادع باسم اآليات ونصائح الشيطان‪ ،‬فتسقط هناك‪ ،‬ويتكرر‬
‫‪- 95 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫سقوطها هنا رغم هذا الكشف والتوضيح‪ .‬إنه التوضيح الختامي والبيان‬
‫النهائي لهذا الصنف المتلبس حتى ال ينخدع بتلبسه وإعجابه أح ًد كونه إذا‬
‫خدع وصل خداعه وخصامه إلى كل نفس‪ ،‬لذا فمن يُخدع بعد هذا التوضيح‬
‫فعليه إذًا أن يدفع ثمن غبائه وعاقبة إعجابه‪ ،‬وال قبول أبدًا لالحتجاج بالقدر‬
‫للهروب من الغباء والفشل‪ ،‬فاألقدار ال تخدم المغفلين األغبياء أيًّا كانوا‪ .‬فكن‬
‫مؤمنًا حريصًا‪ ،‬وذكيًّا فطنًا‪ ،‬واحذر أن يزرع فيك المنافقون والمجرمون‬
‫إفكهم وخططهم وخرابهم‪ ،‬وعليك قبل أن تستمع لنصيحة الناصح أن تعرف‬
‫سلوكه ووالءه وهدفه وغايته‪ ،‬فالزمان اليوم ال مكان فيه لألغبياء‪ ،‬وال موقع‬
‫فيه للمخدوعين البلداء‪ ،‬واعلم أن من عجز عن الوقيعة بك وبدينك وأهلك‬
‫بالقوة قد يأتي إليك بالحيلة وذلك كما وضحت اآليات‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 96 -‬‬

‫هلل وَاهللُّ َرؤُوفٌ‬


‫ت ا ِ‬
‫س مَن يَشْرِي نَفْسَ ُه ابْتِغَاء َمرْضَا ِ‬
‫ن النَّا ِ‬
‫(وَمِ َ‬
‫بِالْعِبَادِ{‪.)24()}207‬‬
‫ال أن الدنيا حظوظ فحسب‪ ،‬فيظل منتظرًا حظه‬
‫من الخطأ أن يظن البعض جه ً‬
‫حتى يأتي دون أن يكون له عمل أو إقدام ناسبًا عجزه وفشله لألقدار‪ ،‬وهذا‬
‫هو عين الفشل بال شك‪ .‬لذا كانت هذه اآلية هى الرد القاصم لهذا الفهم اآلثم‪.‬‬
‫نعم فأنت أنت وليس غيرك على اإلطالق من يرتقي بنفسه إلى األعلى‪ ،‬وأنت‬
‫أنت من يدع نفسه تسقط وتستمر في سقوطها حتى تصل إلى القاع‪ ،‬وتعالوا‬
‫كي نعيش في ظالل هذه اآلية التي تعطينا األمان بعد الخوف‪ ،‬والسعادة بعد‬
‫الحزن‪ ،‬والراحة بعد التعب‪ ،‬واألمل بعد األلم‪ .‬نعم فقد عشنا مع الصنف‬
‫السابق المنتن رائحةً‪ ،‬والمكدر عيشًا‪ ،‬والساقط أخالقًا وفكرًا حتى شعرنا‬
‫بالخوف‪ ،‬وكدنا لضعفنا أن نسلم للعجز‪ ،‬ولكن هذه اآلية جاءت لتعيد التوازن‬
‫للحياة ولألحياء‪ ،‬ففي الوقت الذي يوجد فيه المعجب بنفسه‪ ،‬والمنافق بقلبه‪،‬‬
‫والفاسد بأخذه وعطائه‪ ،‬فإن الصادق في قوله‪ ،‬والبائع هلل نفسه موجود كي‬
‫يوقف عبث ذاك ومكره‪ ،‬ويستأصل فساده وبغيه‪ ،‬لذا ما إن أكمل الحديث‬
‫عنهم حتى كانت البشارة هذه‪ ،‬فتعالوا لآلية إذًا كي نعيش في ظاللها‪ ،‬ونستقي‬
‫الماء البارد من معينها‪ ،‬فقوله تعالى هنا "ومن الناس" فيه إيحاءات كثيرة‬
‫ضا الصادق‬
‫ومنها أنه كما وُجد من الناس المنافق فيما سلف فاطمئن فها هنا أي ً‬
‫الذي يوقف اهلل به عبث المنافق‪ ،‬ثانيًا فيه داللة على أن الفساد والنفاق مهما‬
‫انتشر نظامه‪ ،‬وتكاثر أنصاره‪ ،‬وسعى ظلمًا وزورًا إلهالك الحرث والنسل‪،‬‬
‫واإلفساد في األرض‪ ،‬والقضاء على الحق وحملته‪ ،‬فهذا ال يعني أبدًا قدرته‬
‫على إزالة الحق‪ ،‬بل إن جرائمه هى من تُوجد للحق رجاالً‪ ،‬وللصدق دعاة‪،‬‬
‫فالساحة ال تخلو أبدًا من الصادقين‪ ،‬بل هم موجودون الستئصال الخبث‪،‬‬

‫(‪ )24‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.207‬‬


‫‪- 97 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫وإيقاف العبث‪ ،‬ولو خلت الساحة منهم لقامت الساعة‪ ،‬وثالثًا بدأ اهلل بالحديث‬
‫عن الصنف النفاقي هناك‪ ،‬ثم أعقبه بهذا الحديث عن الصادقين هنا في إشارة‬
‫واضحة إلى أن المنافقين هم األكثر عددًا‪ ،‬واألشد خطرًا‪ ،‬لذا قدمهم في الذكر‪،‬‬
‫ورابعًا فيه إشارة إلى أن العاقبة للحق‪ ،‬فبعد العسر يأتي اليسر‪ ،‬وبعد الظالم‬
‫يشرق النور‪ ،‬وبعد اإلفساد المنتن واإلهالك المحزن للحرث والنسل يأتي‬
‫اإلصالح المنقذ‪ ،‬فيعيد الحق إلى نصابه‪ ،‬والنهر إلى مجراه‪ .‬كما أن كلمة ومن‬
‫الناس هناك في اإلضالل‪ ،‬وتكرُّرها هنا في االستقامة واإلجالل فيها إشارة‬
‫إلى أن اإلنسان هو اإلنسان‪ ،‬وهو من يملك قرار نفسه بنفسه‪ ،‬فال يستطيع‬
‫اآلخر إفسادك إال عندما تمكنه أنت من نفسك‪ ،‬والعكس صحيح‪ ،‬فباإلمكان أن‬
‫يكون هذا اإلنسان منافقًا خالصًا‪ ،‬كما يمكنه أن يكون مؤمنًا صادقًا‪ ،‬وجاء‬
‫تخصيص النفس بقوله "يشري نفسه" بالذكر هنا لإليحاء بأن االنتصار‬
‫عليها أوالً‪ ،‬وتحريرها من شره الطمع والخوف هو المقدمة الحقيقية للنصر‬
‫بال شك‪ .‬كما أن هناك إشارة دقيقة‪ ،‬ودقيقة جدًّا‪ ،‬تُستخلص من سياق اآليات‬
‫وترابطها كون المناسبات قائمة بين اآلية السابقة والتي تليها كما هو حاصل‬
‫أيضًا بين مقدمة السورة وخاتمتها كما يقول علماء األصول‪ ،‬حيث توحي‬
‫كلمة "يشري نفسه" بأن فساد المنافقين المتمثل بإهالكهم للحرث والنسل‪،‬‬
‫واإلفساد في األرض‪ ،‬وعدم قبولهم للنصيحة والحق فيما مضى‪ ،‬هذا كله ال‬
‫يوقفه أبدًا أنصاف المؤمنين‪ ،‬وال أنصاف الصادقين والمجاهدين‪ ،‬فهؤالء‬
‫ليسوا مؤهلين للتمكين‪ ،‬وإيقاف عبث أولئك وفسادهم‪ ،‬بل يوقفه أناس باعوا‬
‫أنفسهم كاملة هلل‪ ،‬وهلل فقط‪ ،‬فلم يعد لهم مطلب أو مقصد إال رضى اهلل كون‬
‫كلمة يشري نفسه أي باع نفسه كلها كاملة غير منقوصة هلل‪ ،‬حيث تشي اآلية‬
‫بهذا المعنى النفيس في ابتغاء مرضات اهلل‪ .‬نعم فهؤالء هم من يوقف عبث‬
‫أولئك‪ ،‬وهم موجودون في أوساط الناس‪ ،‬وإن كانوا قلة‪ ،‬بدليل ذكرهم هنا‬
‫عقب ذكر أولئك هناك كما أسلفنا‪ .‬وبعد هذه الجولة المتكاملة من الصراع بين‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 98 -‬‬

‫الصنفين جاءت اآلية بخاتمة رائعة تحمل في طياتها عطف اإلله وبره ولطفه‬
‫بخلقه بقوله "واهلل رؤف بالعباد" بمعنى أنه سبحانه من رأفته بخلقه ورحمته‬
‫بعباده حفظُه ولطفُه بجنوده الصادقين رغم قوة المنافقين‪ ،‬وسعيهم الحثيث‬
‫لالستئصال الكامل‪ ،‬والقضاء التام على الحق ورجاله‪ ،‬ولكنه سبحانه حفظهم‬
‫واختارهم لنصرة هذا الحق‪ ،‬وتطهير الخلق من عبث النفاق وشرور المنافقين‬
‫بهؤالء الذي يشرون أنفسهم‪ .‬نعم فرغم حملة التطهير الممنهج للحق ورجاله‬
‫إال أن النتيجة كانت ظهور هذه األنفس الطاهرة والمطهرة من وسط الركام‬
‫الملئ باألحداث‪ ،‬والمثقل باألوجاع في هذه الظروف االستثنائية الصعبة‬
‫إلحقاق الحق‪ ،‬وإبطال الباطل‪ .‬فكما ظهر صهيب الرومي من وسط اإلجرام‬
‫المكي والمكر القرشي هناك‪ ،‬والذي نزلت هذه اآلية كي تبارك بيعه‪ ،‬وتثبت‬
‫صدقه هو وبقية إخوانه سيتكرر ذلك الظهور هنا كون هذه األمة المحمدية‬
‫مكتوبًا بنواصيها الخير والصدق واإلخالص إلى يوم القيامة‪ .‬فاطمئن واعلم‬
‫أن قوة الباطل وشدة بأسه كفيلة بإخراج رجال هم أشد بأسًا‪ ،‬وأعظم صدقًا‪،‬‬
‫فهكذا علمتنا األيام‪ ،‬كما ينبغي‪ ،‬بل يجب‪ ،‬أن تعلم أنك أنت أنت من يستطيع‬
‫تحرير ذاته‪ ،‬والرقي بنفسه إلى أعلى ذرا المجد‪ ،‬كما أنك أنت أنت من يسقط‬
‫نفسه إلى أسفل القاع ولك الخيار‪.‬‬
‫‪- 99 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫خَلوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ‬


‫ن َ‬
‫خلُواْ الْجَنَّ َة َولَمَّا َيأْتِكُم مَّ َث ُل الَّذِي َ‬
‫(أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْ ُ‬
‫ن آمَنُواْ مَعَ ُه مَتَى نَصْرُ‬
‫الْ َبأْسَاء وَالضَّرَّاء َو ُزلْ ِزلُواْ حَتَّى يَقُو َل الرَّسُو ُل وَالَّذِي َ‬
‫ِن نَصْ َر اهللِ قَرِيبٌ{‪.)25()}214‬‬
‫هلل أَال إ َّ‬
‫ا ِ‬
‫هكذا هى مصارحة السماء لألرض وذلك من البداية‪ ،‬فالبأساء‪ ،‬والضراء‪،‬‬
‫والزلزلة مفردات ثالث تلخص المشهد الحياتي الذي ينتظر الصادقين هنا قبل‬
‫الولوج إلى جنان الخلد هناك؛ فاألولى فقر وحاجة وشدة‪ ،‬والثانية أسقام‬
‫وأوجاع وعلة‪ ،‬والثالثة هى الجمع بين األمرين معاً مع مؤامرات وحصار‬
‫وأزمة‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب استيعابها واالستعداد لها سلفًا‪ ،‬فال مجال أبدًا‬
‫في قيم السماء للمواراة أو التورية‪ ،‬وال مكان للتخمينات أو التغطية‪ ،‬بل‬
‫الوضوح‪ ،‬والوضوح فقط‪ ،‬هو منهج اإلسالم في التعامل مع أتباعه كون‬
‫اإلسالم – كما هو معلوم – ال يؤمن بلغة المفاجآت‪ ،‬وال يقوم أبدًا على ثقافة‬
‫التوقعات‪ .‬إنها حقيقة المنهج اإللهي تعبر عن نفسها هنا تاركة المجال مفتوحًا‬
‫أمام السالك ليختار لنفسه الطريق بكامل حريته‪ ،‬ودون ضغط أو إكراه‪ .‬ومما‬
‫ينبغي ذكره في البداية كذلك أن هذا الوضوح وتلك المصارحة ليس عبثًا أبدًا‬
‫كون العبث ال وجود له أساسًا في تشريع السماء‪ ،‬بل الهدف من هذا التوضيح‬
‫ومن تلك المصارحة ارتقاء السالك إلى مستوى هذه القيم التي يؤمن بها‪،‬‬
‫ويجاهد في سبيلها‪ ،‬هذا من جهة‪ ،‬ومن جهة أخرى كي يستعد هذا السالك لهذا‬
‫الطريق من البداية كونه طريقًا بعيدًا‪ ،‬وحمل ثقيل‪ ،‬وعقبته كؤود‪ ،‬وناقده‬
‫بصير‪ .‬نعم إنه الطريق الممتد طوالً‪ ،‬والعميق زمنًا‪ ،‬واألكثر بال ًء وامتحانًا‪،‬‬
‫ولكنه رغم ذلك هو الطريق الوحيد المأمون العواقب‪ ،‬والمضمون النتائج‬
‫كون الرب سبحانه هو اآلمر والناهي فيه‪ .‬وفي الحقيقة فإن مشاكل الحياة‪،‬‬
‫وتربص األحياء هى التي تأخذ العبد بعيدًا بعيدًا حتى تنسيه هذه الحقيقة في‬

‫(‪ )25‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.214‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 100 -‬‬

‫لحظات الغفلة والتيه عندئذٍ يحدث تنمره أحيانًا‪ ،‬وتسخُّطُه أحيانًا أخرى وذلك‬
‫عندما تتكشف هذه العوائق معلنة عن نفسها بكل قوة وصرامة ومتحدية له‬
‫بكل خبث ودناءة‪ ،‬وحتى ال يتسرب الخوف فيأخذ المؤمن إلى بعيد من هذه‬
‫العوائق كان استدعاء من قبلنا كمثال حي يُحيى عزائمنا وعزائم من بعدنا‪.‬‬
‫نعم فمن قبلنا مسَّتهم البأساء في األحوال‪ ،‬ومستهم الضراء في األبدان‪،‬‬
‫وزلزلوا في األهل واألوطان‪ ،‬ولكنهم كانوا األقوى إيمانًا‪ ،‬واألعز مكانة‬
‫ومكانًا‪ ،‬فتجاوزوا بإيمانهم وعزتهم كل بلية‪ ،‬وانتصروا عند كل محنة ورزية‬
‫حتى وصل الحق إلينا غضًّا طريًّا كما أُنزل‪ ،‬لم تضعفه البأساء‪ ،‬ولم توقفه‬
‫الضراء‪ ،‬ولم تحاصره الزلزلة‪ .‬إنها األدوات الرخيصة التي فشلت في‬
‫الماضي‪ ،‬وسيصيبها الفشل في الحاضر أمام من جعلوا رضى اهلل والجنة‬
‫نصب أعينهم‪ .‬وجاء تقديم البأساء هنا على الضراء وعلى الزلزلة كونها‬
‫األكثر واألشمل حيث يصل أثرها للجميع‪ ،‬ثم تليها في األثر الضراء كونها‬
‫نتيجة حتمية لها‪ .‬إنها الوسائل الدنيئة للباطل‪ ،‬والعوائق الخبيثة للمنكر تتشكل‬
‫هنا‪ ،‬وتظهر من جديد عند كل حق يرفع‪ ،‬وفي أي مكان وزمان وذلك بغية‬
‫اإلطفاء للحق بكل سذاجة وغباء‪ .‬وفي الحقيقة فإن تلك البأساء مع الضراء‬
‫والزلزلة هى التى تربي وتعلم وتوقظ وتفهم كون الجماعة واألمه التي ال‬
‫تربي أفرادها األحداث وال اآلالم ليسوا مؤهلين قطعًا ألخذ الراية‪ ،‬وقيادة‬
‫الرأي‪ ،‬فكانت هذه المفردات القليلة في حروفها والمتعبة جدًّا في مآالتها هى‬
‫المربية هنا كما فعلت في الماضي هناك‪ .‬ومع ذلك وبصراحة كصراحة‬
‫المنهج ووضاءته فإن السقوط في وحل تلك العوائق الثالث‪ ،‬والمفردات‬
‫الخباث يحدث لدى البعض حتمًا كونها هى المربية – كما أسلفنا وقلنا‪ ،‬ولكنه‬
‫السقوط الفردي الذي ال يعبر عن حقيقة الجماعة الصادقة واألمة الهادية‬
‫الثابتة أمام تلك العوائق الثالث‪ ،‬والتي هى من ستواصل السير هنا كما‬
‫واصلت في الماضي هناك دون تلفت أو التواء‪ .‬والمعلوم أن األعداء هناك‬
‫‪- 101 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫في الماضي – كما هو حاصل هنا في الحاضر – يعملون على إفساد األحوال‬
‫ال بالفقر والشدائد بغية محاصرة الحق وأهله‪ ،‬فعندما تسقط هذه الورقة‬
‫أو ً‬
‫تستمر الشدة والفقر حتى يظهر أثرها على البدن‪ .‬فتكون الضراء‪ ،‬ثم يتوالى‬
‫الحصار ويستمر من قبل المجرمين العار‪ ،‬فتكون الزلزلة عندئذ وهى‬
‫مواصلة البأساء لتبقى الضراء في صورة وحشية تحمل في طياتها خبث‬
‫الباطل ومكره وفساده وفحشه‪ .‬وتظهر هنا صورة تلك العوائق ظهورًا مخيفًا‬
‫في الماضي عندما ارتفع صوت الحق معلنًا خوفه كتعبير يحمل ضعف البشر‬
‫أيًّا كان أولئك البشر ولو كانوا أنبياءً‪ .‬نعم ظهر ذلك الخوف من خالل تلك‬
‫ال باستفهام مأل أركان الزمان هناك‪ ،‬ووصل‬
‫الصيحة القديمة الجديدة ممث ً‬
‫صداه إلى هنا‪ ،‬وذلك في تعبير يشي بخوف المؤمن من تطاول الباطل ومكره‪،‬‬
‫وغياب الحق ونوره‪ .‬نعم إنها الصيحة القديمة الجديدة في آن واحد‪ ،‬فكونها‬
‫صيحة قديمة ألنها قدمت من هناك‪ ،‬وجديدة كونها تتكرر هنا في هذه الجملة‬
‫"حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر اهلل"‪ ،‬وإن كانت صيحة‬
‫اليوم هى صيحة مفردة من مؤمنين فقدوا هدى الرسول أو قصروا‪ ،‬ولكن‬
‫محصلة البأساء تكرر التساؤل في لحظات الضعف البشري القاصر أمام‬
‫المكر البشري النازل في صورته المتوحشة والموحشة في نفس الوقت‪ .‬وهنا‬
‫تأتي البشارة الوضيئة شكالً‪ ،‬والعظيمة حاالً‪ ،‬والحقيقة مكانًا وزمانًا‪ ،‬تأتي من‬
‫هناك من بعيد من وسط تلك البأساء‪ ،‬ومن أعماق تلك الضراء‪ ،‬ومن داخل‬
‫تلك الزلزلة معلنة سقوط البؤس بكل مفرداته القذرة وأدواته المخزية سقوطًا‬
‫مدويًا مع صانعيه في صورة تحمل روعة الحق وهو يظهر من جديد من‬
‫داخل الركام‪ ،‬ومن وسط ذلك الزحام‪ .‬نعم فجملة "أال إن نصر اهلل قريب"‬
‫اختصرت كل المشهد‪ ،‬وحوت في طياتها جمال الحق وروعة الحقيقة التي‬
‫تسقط أمامها كل بأساء‪ ،‬وتتوارى عندها كل ضراء‪ ،‬حيث قدمت النتيجة هنا‬
‫وهى النصر على لفظ اهلل‪ ،‬وذلك إلدخال األنس في القلوب كونها افتقدت هذا‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 102 -‬‬

‫المعنى الكبير زمنًا طويالً‪ ،‬ثم جاءت إضافة اهلل إلى النصر لإلشعار بأنه‬
‫سبحانه هو من نصر في الماضي‪ ،‬والحال كذلك في الحاضر‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫مجئ الجملة دون تحديد كأن يقول أال إن نصر اهلل لهم قريب كونهم هم من‬
‫مستهم البأساء‪ ،‬بل جاءت هكذا لإلشعار بأن نصره سبحانه قريب دائمًا‪،‬‬
‫وسيتحقق حتمًا عندما تحل البأساء‪ ،‬وتتولد بسببها الضراء شريطة أن يقابل‬
‫هذا ثباتًا من قبل المؤمنين‪ ،‬وأخذًا باألسباب من قبل الصادقين‪ .‬فاثبت أحد‬
‫ال في الثبات‪ ،‬واعلم أن هذه الضربات التي اتحدت في صورتها اليوم‬
‫وكن جب ً‬
‫مُحاول ًة إطفاء نور اهلل ستُهزم حتمًا‪ ،‬وسيعلو صوت الحق‪ ،‬وسيواصل هذا‬
‫الحق سيره عبر الزمان متجاوزًا المكان والمقام والحال شاء من شاء وأبى‬
‫من أبى‪ .‬واعلم أن الذين يريدون سكنى الجنان من خالل زوايا المساجد فقط‬
‫بعيدًا عن كلمة الحق هنا وهناك‪ ،‬وخوفًا من مس البأساء والضراء والزلزلة‬
‫هم أبعد الناس عن الجنة‪ ،‬وأقرب الناس إلى النار‪.‬‬
‫‪- 103 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫خ َرجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ ُألُوفٌ حَذَ َر الْ َموْتِ فَقَالَ َلهُمُ اهللُّ‬
‫ن َ‬
‫(َألَمْ َت َر ِإلَى الَّذِي َ‬
‫ِن أَكْ َث َر النَّاسِ الَ‬
‫س َولَـك َّ‬
‫علَى النَّا ِ‬
‫ِن اهللَّ لَذُو فَضْ ٍل َ‬
‫مُوتُواْ ثُمَّ َأحْيَاهُمْ إ َّ‬
‫يَشْ ُكرُونَ{‪.)26()}243‬‬
‫عندما تخلو الرؤوس من العقول‪ ،‬والقلوب من قيم الحق‪ ،‬وتخلو الجماعة‬
‫واألمة من قائد فذ عندئ ٍذ تكون التصرفات الممقوتة‪ ،‬والهروب البائس من قيم‬
‫الحق هو السيد والسائد واإلمام والقائد في واحدة من أسوأ التصرفات في حياة‬
‫هذا الفرد الطائش ضمن تلك الجماعة الطائشة‪ .‬نعم عند\ما يكون األمر كذلك‬
‫حينها ستُسجل تلك السيئة الجماعية لتكون الدرس والعبرة ما بقيت الحياة‪ .‬إنه‬
‫العبث والجبن الحياتي يتكشفان هنا مرة أخرى في السلوك اإلسرائيلي الموغل‬
‫في المخازي واإلجرام والقادم من هناك من الزمن البعيد والبعيد جدًّا في‬
‫صورة تحمل خفة العقل‪ ،‬وبالدة الفكر في هذا الخروج المذكور‪ ،‬والذي كان‬
‫هروبًا جماعيًّا من الموت ليس إال‪ .‬إنها الحماقة هنا تتبدى في صورة مبتذلة‬
‫وهى تفر من القدر‪ ،‬وتتجاوز في الحذر حتى وقعت في ذات القدر‪ .‬نعم إنها‬
‫األلوف الخائنة هناك‪ ،‬والمتكررة هنا تظهر عارية من كل قيمة سوى القيم‬
‫الرخيصة‪ ،‬والمواقف الرذيلة كونها فقدت قيمتها يوم أن غفلت عن خالقها‪.‬‬
‫وحتى نتذوق حالوة العرض هنا في قصتنا هذه تعالوا كي نعود إليها لنعيش‬
‫مع ألفاظها ومعانيها آخذين في االعتبار كالم المفسرين حولها‪ ،‬ولكن بشكل‬
‫مقتضب‪ ،‬فإلى القصة إذًا‪ :‬العجيب في البداية مجئ التعبير القرآني بلفظ "ألم‬
‫تر" مع أن النبي الكريم لم ير ذلك الخروج البائس لتلك األلوف البائسة شكالً‪،‬‬
‫والمفلسة دينًا‪ ،‬والساقطة أخالقًا‪ ،‬فعلماؤنا يقولون إن معنى ألم تر أي ألم تعلم‪،‬‬
‫ولكن لن نتوقف عند هذا المعنى‪ ،‬بل نضيف ونذكر معاني أُخرىَ‪ ،‬حيث جاء‬
‫بهذا التعبير المعبر عنه برؤيا العين هنا للداللة على أنه سبحانه هو الذي رأى‬

‫(‪ )26‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.243‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 104 -‬‬

‫وعلم ذلك الخروج‪ ،‬فلحقيقته وصدقه فكأنك قد رأيته‪ ،‬وثالثًا أن التعبير بهذه‬
‫الطريقة يجعل ذلك الخروج البائس حيًّا ليؤخذ الدرس منه حتى تظهر فيه‬
‫إرادة اهلل الغالبة‪ ،‬ومشيئته النافذة‪ ،‬وتتوقف العقول الفارغة والموغلة في‬
‫الحذر حد الجبن كونه ما شاء اهلل كان‪ ،‬وما لم يشأ لم يكن‪ .‬نعم إنها المشيئة‬
‫اإللهية النافذة التي سقطت أمامها هذه األلوف الفارغة عقالً‪ ،‬والخاوية قلبًا‪،‬‬
‫وأسقطت معها كذلك الحذر الزائف‪ ،‬والتصرف الطائش لهذه الجموع‪ ،‬وذلك‬
‫كما سيأتي الحقًا‪ .‬ويظهر جمال القرآن هنا وهو ينقل هذا الخروج بطريقة‬
‫غاية في الوضوح كون الفعل "خرجوا" يوحي بمعنى غاية في الدقة‬
‫واألهمية‪ ،‬إنه اإليحاء بحركة جماعية نظمها العمى‪ ،‬وقادها الهوى‪ .‬نعم إنه‬
‫الخروج الجماعي الموحي بقدرة الباطل الفائقة على تجييش العواطف الفارغة‬
‫لخدمته‪ ،‬وتنفيذ حذره ومآربه في صورة مذهلة‪ ،‬حيث تزداد فاعلية ذلك‬
‫التجييش من خالل التعبير القرآني اآلتي وهو قوله "من ديارهم"‪ ،‬فهذه الكلمة‬
‫توحي بنجاح ذلك التجييش األرعن نجاحًا فائقًا إلى درجة أن هذه الجموع‬
‫تركت ديارها‪ ،‬والتي هى ملكها‪ ،‬والمتصرفة فيها كون اللفظ يوحي بهذا‬
‫المعنى‪ .‬إنه الباطل بمفاهيمه العقيمة وآرائه السقيمة يتكشف هناك‪ ،‬ويظهر‬
‫عبثه وتحكمه في تلك الجموع الغافلة عندما خلت له الساحة تمامًا من كل‬
‫عاقل حصيف‪ ،‬فكان هذا تصرفه‪ ،‬وذلك الخروج الممقوت هو خطته وقناعته‬
‫حتى أودى بنفسه وجموعه إلى الهالك المحقق‪ .‬وفي الحقيقة فإن تلك النهاية‬
‫هى المآل المنتظر لكل جمع تائهه وغافل ما بقيت الحياة وإن تأخر المصير‬
‫ال عن مصير أولئك‪ ،‬وتأتي الجملة هنا لتوضيح عدد ذلك السفه الخارج‬
‫هنا قلي ً‬
‫في صورته المزرية والمخزية في تناسق عجيب‪ ،‬وذلك في قوله تعالى "وهم‬
‫ألوف"‪ ،‬حيث تذكر الروايات أن قرية من قرى بني إسرائيل خافوا الطاعون‪،‬‬
‫فخرجوا هروبًا من الموت‪ ،‬ورغب ًة في الحياة حتى وصلوا إلى مكان بعيد‪،‬‬
‫وهم أربعة آالف‪ ،‬فكان عقابهم أن جازاهم اهلل بنقيض قصدهم‪ ،‬فقال لهم اهلل‬
‫‪- 105 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫موتوا فماتوا جميعاً‪ ،‬وصاروا عظامًا بالية‪ ،‬وبعد حين مر بجثثهم نبي من‬
‫األنبياء فطلب من اهلل إحياءهم‪ ،‬فأمره اهلل أن ينادي تلك األشالء الممزقة‬
‫والعظام البالية‪ ،‬فناداها بأمر اهلل تعالى فتجمعت‪ ،‬واكتست لحمًا وعصبًا‬
‫وجلدًا‪ ،‬ثم نادى األرواح لتسكن كل روح بجسد صاحبها بأمر اهلل تعالى‪،‬‬
‫فسكنت تلك األرواح أجسادها‪ ،‬فقامت تتحرك بأمر ربها‪ ،‬ونبي اهلل يرى‬
‫ويشاهد‪ ،‬وهنا تتجلى – وبكل وضوح – قدرة اهلل الكاملة في اإلحياء واإلماتة‬
‫في صورتها العجيبة‪ .‬إنها قدرة اهلل التي ال يقف أمامها شئ‪ ،‬بل يبقى التسليم‪،‬‬
‫والتسليم فقط‪ ،‬هو النهاية والمآل‪ .‬وبغض النظر عن دعاوى ذلك الهروب هل‬
‫هو من الطاعون أم مخافة الخصوم واألعداء على قول بعض المفسرين‪،‬‬
‫فالموقف المخزي هنا هو هروبهم من الموت بتلك الصورة البائسة‪ .‬ومما ال‬
‫شك فيه هنا فإن هاجس الموت‪ ،‬والرغبة في البقاء‪ ،‬والحذر حد الجبن يبقى‬
‫مطاردًا للعقول الفارغة‪ ،‬والقلوب الخاوية هنا كما فعل بعقول وقلوب األمس‬
‫هناك‪ ،‬ولن تتحرر العقول والقلوب معًا سوا ًء اليوم أو غدًا إال باتصالها‬
‫ن واحد‪ .‬إنَّه االتصال بالمعبود‪ ،‬واإلقدام من أجله سبحانه إقدامًا‬
‫وإقدامها في آ ٍ‬
‫ال يعود إلى الوراء وإال كان االتصال زائفًا‪ ،‬والعبادة تملقًا‪ .‬وحتى ال يظن‬
‫ظان أن ذلك الخروج البائس قد حقق مراده فقد جاء الرد سريعًا‪ ،‬وبتناسق‬
‫عجيب‪ ،‬وذلك بقوله سبحانه "فقال لهم اهلل موتوا"‪ ،‬إنها القوة اإللهية التي‬
‫حسمت الجدل‪ ،‬وأوقفت الحيل بكلمة‪ ،‬وبكلمة فقط‪ ،‬لينتهي األمر بموت تلك‬
‫الجموع في وا ٍد من وديان بني إسرائيل هناك غير مأسوف عليهم‪ .‬إنه األمر‬
‫الرباني الحاسم للجدل فعل فعله هناك‪ ،‬ويستمر ذلك الفعل هنا باقيًا ما بقيت‬
‫الحياة إليقاف العبث‪ ،‬وقطع الخبث‪ ،‬وذلك عندما يحين وقته‪ ،‬ويأخذ حقه من‬
‫ال هنا يتضح‬
‫ى دقيقًا وجمي ً‬
‫الضالل واإلضالل‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه أن معن ً‬
‫من خالل السياق وهو أن حكم السماء يتدخل إليقاف عبث األرض عندما‬
‫يصبح الخروج على قيم السماء خروجًا جماعيًّا‪ ،‬عندئ ٍذ تتدخل قوة السماء‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 106 -‬‬

‫لحسم الموقف سوا ًء كما حدث هناك أو كما يتكرر حدوثه اليوم هنا‪ ،‬وذلك‬
‫كون الخروج الفردي عن القيم المثلى ال يعجل أخذ السماء إال عندما يتمادى‬
‫ذلك الخروج ويتطاول مجاهرًا بخروجه‪ ،‬ومسرورًا بسوء فعلته‪ ،‬ومنظما‬
‫بجرمه وجرائمه‪ ،‬آخذًا بالتشكل ليصبح هو الجماعة‪ ،‬عندئ ٍذ يكون موعد األخذ‬
‫ال لحكمة يعلمها اهلل سبحانه‪ ،‬لكنه حتمًا سيؤخذ‪ .‬وال‬
‫قد قرب وإن تأخر قلي ً‬
‫يظن ظان أن الخارجين اليوم عن قيم الحق والعدل ال يتناولهم هذا الخروج‬
‫بعقابه ووعده ووعيده‪ ،‬بل كل خارج عن قيم الحق والعدل حكمه حكم هذا‬
‫الخارج هنا في هذه اآلية – وإن بقي مستقرًّا في مكانه – كون العبرة ليست‬
‫بانتقال الجسد فحسب‪ ،‬بل للقلب انتقال وتنقل يؤجر عليه ويثاب أو يحاسب‬
‫عليه ويُعاقب وإن اختلف األمر قليالً‪ .‬وال شك في أنه يناله من الموت المعنوي‬
‫ما يناله وذلك قبل نزول الموت الحسي ولو بعد حين‪ .‬إن هذا المعنى الدقيق‬
‫هو الذي نلمسه هنا من خالل السياق‪ ،‬والذي ينبغي التنبه له‪ ،‬واإلشارة إليه‬
‫لنفاسته‪ .‬وهنا قضية ينبغي اإلشارة إليها بمناسبة الحديث عن هذا الخروج‬
‫الممقوت وهى أن الخروج من بين ظهراني الخصوم بهدف اإلعداد والتزود‬
‫والترتيب ومن ثم العودة للمنازلة ال يعتبر أبدًا خروجًا محظورًا كخروج بين‬
‫إسرائيل هذا خصوصًا إذا كان الخصم لدودًا‪ ،‬وقد تمكن من كل شيء‪ ،‬وآل‬
‫إليه أمر كل شيء‪ ،‬عندئ ٍذ يكون اإلفالت منه نصرًا بحد ذاته كما حدث ذلك‬
‫مع نبي اهلل محمد ليلة الهجرة‪ .‬إنما يعاب الخروج‪ ،‬ويذم هذا الخارج عندما‬
‫يكون خروجه خوفًا من الموت‪ ،‬ومن الموت فقط‪ ،‬ورغبة في البقاء‪ ،‬وفي‬
‫البقاء فقط‪ ،‬عندئ ٍذ يكون خروجه اليوم كخروج بني إسرائيل باألمس سواءً‬
‫بسواء وإن اختلفت مدد اإلقامة هناك في العذاب والنكال كما أسلفنا‪ .‬وتأتي‬
‫خاتمة اآلية هنا لتوضيح المعنى الجميل وذلك بقوله تعالى "إن اهلل لذو فضل‬
‫على الناس ولكن أكثر الناس ال يشكرون"‪ ،‬إنه التوضيح الختامي لتلك‬
‫الحقيقة الغائبة لدى كثير من الناس‪ .‬إنَّها حقيقة الفضل العظيم الذين ينتظر من‬
‫‪- 107 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫سلم حياته ومماته هلل ال إلى الحذر والجبن والخوف كون األول ينتظره نعيمًا‬
‫ال ينفد‪ ،‬وقرة عين ال تنقطع حيث إن النعيم األكمل حاالً‪ ،‬واألشرف مكانًا‪،‬‬
‫واألدوم بقا ًء يكون هناك في اآلخرة‪ ،‬هذا إن اصطفاه ربه‪ ،‬فإن أحياه وأخره‬
‫هنا حتى يستكمل رزقه كان الفضل أيضًا في نفسه وماله وأهله ال يعده عاد‪،‬‬
‫ص كون كرم اهلل وفضله ليس له حد‪ ،‬وأما الذي سلم نفسه‬
‫وال يحصيه مح ٍ‬
‫للحذر فال كمال وال شرف وال بقاء وال ترف‪ ،‬بل عليه أن ينتظر موتة السوء‬
‫لحذره وخوفه كموتة بني إسرائيل وإن اختلفت مدد اإلقامة‪ .‬وتأتي النهاية‬
‫الشاهدة على حال الكثير من الناس رغم هذا الوضوح هنا معلنة أن الكثير‬
‫منهم لم يع الحقيقة كاملة‪ ،‬بل مازال يعيش الوهم‪ ،‬والوهم فقط‪ ،‬كون الحذر‬
‫الزائف والتصرف الطائش هو من يقوده متخفيًّا وراءه‪ ،‬وتائهًا معه في صورة‬
‫تحمل عمى البصر والبصيرة‪ .‬إنها الغفلة الجامحة التي سيطرت وسطرت‬
‫حبائلها حتى أخذت اللب‪ ،‬وأعمت القلب‪ ،‬وجعلت مصير هذا الحذر كمصير‬
‫أولئك األقوام الغافلين هناك دون عبرة أو اعتبار ليتفق المصير‪ ،‬ويتساووا‬
‫معًا في السعير‪ .‬فإياك إياك والكثرة الملهية‪ ،‬والجموع الغافلة‪ ،‬فإنها تقتل‬
‫حماسة الرجال‪ ،‬وتذهب بنخوة األبطال‪ ،‬واعلم أن اإلقدام في أرض الوغى ال‬
‫يقتل الرجال‪ ،‬كما أن التخفي والتستر في الزوايا المظلمة والغرف المعتمة ال‬
‫يطيل في األعمار أبدًا‪ ،‬فكن مسلمًا فطنًا‪ ،‬وخذ من الماضي عبرة‪ ،‬واعلم أنه‬
‫إن لم يكن من الموت بد فمن العيب أن تموت جبانًا‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 108 -‬‬

‫إل مِن بَنِي إِسْرَائِي َل مِن بَعْ ِد مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ َّلهُمُ ابْ َعثْ لَنَا‬
‫(َألَمْ َت َر ِإلَى الْمَ ِ‬
‫علِيمٌ بِالظَّالِمِينَ{‪.)27()}246‬‬
‫هلل ‪ ....‬وَاهللُّ َ‬
‫َملِك ًا نُّقَا ِتلْ فِي سَبِي ِل ا ِ‬
‫عندما يؤول أمر أمة من األمم إلى المأل سلمًا وحربًا عندئ ٍذ يكون السقوط فقط‬
‫هو المآل والمصير‪ ،‬وحتى تكون هذه القاعدة أكثر وضوحًا تعالوا لنعيش مع‬
‫اآلية التي تكشف عن هذه الخطيئة التي عاشت هناك في الماضي البعيد‬
‫بمفرداتها الخبيثة‪ ،‬ونتائجها المأساوية المخزية‪ ،‬والتي فعلت فعلها هناك‪،‬‬
‫ومازالت تتكرر هذه الخطيئة بفعلها هنا‪ ،‬وبشكل فج ومقزز‪ ،‬ويأتي االستفهام‬
‫لجذب االنتباه هنا كون هذه الخطيئة تستحق التأمل والنظر حتى ال تبقى تُكرِّر‬
‫خطأها وخطتها‪ .‬إنه المأل بحروفه القليلة‪ ،‬وسيئاته الكثيرة يستمر بلغته القديمة‬
‫الجديدة المتكررة في آن واحد‪ ،‬وذلك حفاظًا على شهواته ونزواته التي ألفها‬
‫منذ القدم‪ ،‬مدافعًا عنها‪ ،‬ومتصدرًا المواقف من أجلها‪ ،‬ولكن هذه المرة كان‬
‫هذا الموقف المخزي بعد رحيل نبي اهلل موسى عليه السالم‪ ،‬وبطريقة القرآن‬
‫الجميلة في نقل األحداث واألقوال نقترب اآلن إلى هذا القول الذي يحمل‬
‫معاني عدة‪ ،‬ففي قوله "إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل اهلل"‪،‬‬
‫فاأللفاظ هنا توحي بغياب الجانب التربوي في الخطاب لنرى سالطة اللسان‬
‫الواضحة‪ ،‬والواضحة جدًّا‪ ،‬والمعبرة هنا عن ثقافة المأل القاصرة والخالية‬
‫من معاني األدب والحياء بالقول األرعن هناك بألفاظه المقرفة‪ ،‬ومعانيه‬
‫السمجة المنبوذة‪ .‬وهنا تظهر مجموعة من اإليحاءات المهمة ومنها أن كلمة‬
‫"قالوا" توحي بتوحد صف المأل صفًّا واحدًا خوفًا على ذهاب مكانهم‬
‫ومكانتهم من تهديد العمالقة الذين كانوا يسيطرون حينها على بيت المقدس‪.‬‬
‫إنه الصنف األكثر غباءً‪ ،‬واألشد جهالً‪ ،‬واألقل وعيًا يتصدر المشاهد‬
‫المصيرية منظمًا وموحدًا في واحدة من أسوأ المفردات في تاريخ األمم‬

‫(‪ )27‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.246‬‬


‫‪- 109 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫والشعوب‪ .‬وثانيًا‪ :‬يشي اللفظ بأن ألسنتهم جميعًا تنطلق بالخطاب مرة واحدة‪،‬‬
‫وبطريقة غوغائية خالية من أي عقل أو منطق‪ ،‬فهم مجتمعون وموحدون في‬
‫ظاهرهم‪ ،‬ولكن في أوساطهم كلهم يريد أن يتكلم في آن واح ٍد ليُظهر شرفه‬
‫على غيره أمام نبي اهلل‪ ،‬فرائحة الهرج والمرج في خطابهم تكاد تصل إلى‬
‫هنا‪ ،‬ولك أن تتخيل الموقف‪ ،‬وثالثًا‪ :‬يشي اللفظ أيضًا بالعالقات البينيَّة القوية‪،‬‬
‫والقوية جدًّا‪ ،‬التي تجمع المأل هناك في الماضي كما هو الحال كذلك في‬
‫الحاضر كون المصالح المشتركة المتمثلة بحب السيطرة‪ ،‬وامتالك الثروة‬
‫والشرف والسيادة كلها مفردات تجمع تلك البطون المنتفخة‪ ،‬والرؤوس التائهة‬
‫التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور‪ ،‬ورابعًا‪ :‬يشي اللفظ هنا وبشكل شديد‬
‫الوضوح بسيطرة المأل الكاملة على القرار والديار‪ ،‬فأصبحوا هم المتحدثين‬
‫عن عامة شعب بني إسرائيل بطريقة عبثية وسمجة – كما أسلفنا ‪ ،-‬تزداد‬
‫وقاحة هذا المأل وتتطاول متاهتهم هنا بتعبيراتهم الطائشة كون كلمة "لنبي‬
‫لهم" وليس لنبيهم مباشرة عبرت عن اختالف في العقيدة والفكر والرؤية‪،‬‬
‫وهي الحقيقة التي تجلت فيما بعد من خالل األحداث‪ .‬كما توحي هذه األلفاظ‬
‫بكثرة األنبياء المرسلين إلى تلك األمة الضالة دينًا‪ ،‬والطائشة عقالً‪ ،‬والساقطة‬
‫أخالقًا ولفظًا‪ .‬ويتواصل السقوط األخالقي للمأل هنا‪ ،‬ويتبدى لنا معنى جميل‬
‫ال يقود‬
‫غاية في الجمال‪ ،‬حيث يسقط حياؤهم هنا جملة وهم يطلبون رج ً‬
‫المعارك والقتال كونهم في حقيقتهم ليسوا رجاالً‪ ،‬بل بطونًا منتفخة‪ ،‬ومنتفخة‬
‫فقط‪ ،‬كما أن لفظ "لنا" يوحي بوقاحة المأل حيث عبروا عن طبعهم الرث‪ ،‬فلم‬
‫يقولوا ابعث معنا كون هذا اللفظ يقتضي المساواة‪ ،‬بل قالوا ابعث لنا كونهم‬
‫يريدون ملكًا يملكونه هم كما يملكون أمتعتهم‪ .‬إنها النظرة المفضوحة‪ ،‬والثقافة‬
‫القاصرة‪ ،‬والنظرة الدونية للغير تعتمل هنا في خلد المأل‪ ،‬وتخرج بهذه‬
‫الطريقة المبتذلة الخالية من الحصافة والرصانة واألدب والشهامة‪ .‬نعم إنها‬
‫لغة أمالكي وأتباعي وحقوقي الشاملة تظهر هنا‪ ،‬ففي عرفهم أنهم يملكون‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 110 -‬‬

‫الحجر والشجر والبشر ليس إال‪ ،‬ثم أرادوا في نهاية القول أن يُلبسوا خطابهم‬
‫لباسًا دينيًّا كي يُخفوا خبثهم وحقيقتهم‪ ،‬ولكن بطريقة مفضوحة سلفًا‪ ،‬وذلك‬
‫بقولهم "نقاتل في سبيل اهلل"‪ ،‬إنه التلبس المكشوف‪ ،‬والخداع المعروف‬
‫يتكشف مرة أخرى مُظهرًا صدقَه ودينَه كي يُلقي ويُلهي في وقت واحد؛ نعم‬
‫يلقي غيره في أتون الحرب باسم الدين كون في سبيل اهلل حضرت هنا‪،‬‬
‫ويلهيهم به أيضًا في نفس الوقت‪ .‬إنه الخبث الذي أحدث كل هذا العبث هناك‬
‫في الماضي البعيد‪ ،‬وما زال يعبث هنا بوسائله وأدواته‪ .‬واآلن وأمام هذا‬
‫الطلب الموغل في السفه‪ ،‬والمتجاوز لحدود األدب‪ ،‬والمغلف بغالف الدين‬
‫يأتي الرد اإللهى على لسان نبيه‪ ،‬هنا مناسبًا‪ ،‬ومناسبًا جدًّا‪ ،‬لهذه العقول "قال‬
‫هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أال تقاتلوا"‪ ،‬إنها لغة المصارحة والمكاشفة‬
‫تظهر هنا بألفاظها القوية‪ ،‬وإيقاعاتها الشديدة موجهة نحوهم‪ ،‬كاشف ًة – وبكل‬
‫صراحة – أنهم أهل القول‪ ،‬وليسوا رجال الفعل‪ ،‬فتلك هي حقيقتهم‪ ،‬وذلك هو‬
‫شأنهم‪ .‬إن هذه الجملة تكشف خدعه عظيمة يمارسها المأل‪ ،‬إنها خدعة جهنمية‬
‫تتكشف هنا من خالل سياق اآليات متمثلة بالبحث عن قيادة وأتباع يقوم المأل‬
‫بترتيبهم وإعدادهم‪ ،‬ومن ثم االنسحاب وتركهم يقاتلون هناك‪ ،‬ويضحون هنا‪،‬‬
‫بينما يقتصر دور المنسحب على التوجيه من بعيد‪ ،‬وله بعد ذلك يُحسب النصر‬
‫واالنتصار‪ ،‬فهكذا إذًا كانت خطة المأل باألمس‪ ،‬وما زالت هى خططهم اليوم‬
‫سواء بسواء‪ .‬إنها المخادعة المكشوفة‪ ،‬والمؤامرة المفضوحة تعبر عن نفسها‪،‬‬
‫وتعلن عن ذاتها الدنسة أمام األنبياء بتلك الطريقة الوقحة ينقلها لنا القرآن‬
‫بطريقة واضحة حتى ال يتكرر الخداع‪ ،‬وتستمر المخادعة‪ ،‬لذا كاشفهم النبي‬
‫صراحة كون هذا الصنف ال يجوز أبدًا مماراته أو مداراته على اإلطالق‪.‬‬
‫وتكشف اآلية هنا مرة أخرى سياسة المأل الزائفة‪ ،‬ووعودهم الكاذبة‪ ،‬حيث‬
‫أكدت على أن وفاءهم وصدقهم وجهادهم وبذلهم مزورٌ ومتلبسٌ بالدين مرة‬
‫أخرى بقوله "وما لنا أال نقاتل في سبيل اهلل وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا"‪.‬‬
‫‪- 111 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫إنها اللغة التي جمعت بين الدين وتجييش العواطف بذكر الديار واألبناء‪،‬‬
‫ولكنها البضاعة التي ستسقط بمجرد سماع طبول الحرب‪ ،‬وذلك كما سيأتي‬
‫معنا الحقًا‪ .‬وهنا وبعد هذا الحوار كتب اهلل القتال‪ ،‬وبعث طالوت ملكًا‪ ،‬فكانت‬
‫النتيجة المتوقعة هى انسحابهم من ميدان المعركة قبل بدايتها‪ ،‬ولم يثبت منهم‬
‫سوى القليل‪ ،‬والقليل جدًّا‪ .‬نعم فمن صنعهم النعيم والترف‪ ،‬وألفوا القصور‪،‬‬
‫واللهث خلف الشرف المنقوص والممقوت ليس إال‪ ،‬هؤالء ليسوا رجاالً‬
‫للوغى‪ ،‬ولن يكونوا كذلك أبدًا سواء هناك في الماضي أو هنا اليوم في‬
‫الحاضر‪ .‬وتأتي اآلية في الختام لتوضيح حقيقة في غاية األهمية وهى أن‬
‫هؤالء ظلمة كونهم تركوا األعداء يأخذون أرضهم وبالدهم‪ ،‬ويقتلون‬
‫ويفرقون بين اآلباء واألبناء في واحدة من أسوأ المظالم‪ ،‬ومع ذلك لم ينتصروا‬
‫لحقوقهم‪ ،‬ولم تتحرك رجولتهم أو شرفهم على حسب دعواهم ومحبتهم‬
‫للشرف كونهم يريدون شرفًا دون تضحية‪ ،‬فهم ظالمون إذًا بهذا االعتبار‪،‬‬
‫هذا أوالً‪ ،‬وثانيًا ال يَحسب من يكون هذا شأنه‪ ،‬والخداع خطته أن يخفى ذلك‬
‫على اهلل وإن خفي على بعض الخلق‪ ،‬فالخالق سبحانه يعلم حقيقة هذا الظالم‬
‫المخادع‪ ،‬وسيفضحه في حينه ووقته وزمانه‪ ،‬كما فضح هؤالء المأل باألمس‪،‬‬
‫ستستمر إذًا الفضيحة تالحق مأل اليوم لتفعل بهم هنا ما فعلته بهم هناك‪ ،‬فكن‬
‫حذرًا من المأل‪ ،‬واعلم أن تصدرهم المواقف واألحداث هى عالمة السقوط‬
‫كونهم ال تسيرهم العقول والقيم‪ ،‬بل الشهوات واألموال وحب النعم ولو على‬
‫حساب شرفهم وكرامتهم‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 112 -‬‬

‫ك‬
‫ن لَ ُه الْ ُملْ ُ‬
‫ت َملِك ًا قَاُل َواْ أَنَّى يَكُو ُ‬
‫ث لَكُمْ طَالُو َ‬
‫اهلل قَدْ بَ َع َ‬
‫( َوقَا َل َلهُمْ نَب ُِّيهُمْ إِنَّ َّ‬
‫اهلل اصْطَفَا ُه‬
‫ِن َّ‬‫ن الْمَا ِل قَا َل إ َّ‬
‫ت سَعَ ًة مِ َ‬
‫ك مِنْ ُه َولَمْ ُيؤْ َ‬
‫َق بِالْ ُملْ ِ‬
‫ن َأح ُّ‬
‫علَيْنَا وَ َنحْ ُ‬
‫َ‬
‫َاهلل يُؤْتِي ُملْكَ ُه مَن يَشَاءُ وَاهللُّ وَاسِعٌ‬
‫علَيْكُمْ َوزَادَ ُه بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ و ُّ‬
‫َ‬
‫علِيمٌ{‪.)28()}247‬‬
‫َ‬
‫عندما يريد اهلل أن يرفعك بما حباك من علم وفضل فإنه ودون علمك يُحوج‬
‫الخلق إليك ال لشيء إال ليظهر قدرك‪ ،‬ويصلح بك ما اعوج بغيرك‪ .‬نعم يتضح‬
‫هذا كله وغيره من خالل هذه اآلية التي نعيشها‪ ،‬ونسعد باللقاء معها‪ .‬إنها‬
‫الشدائد التي تأتي من هنا وهناك ليرفع اهلل بها أقوامًا لم يكن لهم ذكر أو خبر‪،‬‬
‫ويسقط بها أقوامًا مأل ذكرهم وخبرهم الزمان والمكان‪ ،‬وحتى نتبين األمر‪،‬‬
‫وتتضح القضية نواصل المسير مع هذه اآلية لنعرف بها ومن خاللها التاريخ‬
‫البشري بأشخاصه وذواته وأحداثه وصفاته‪ ،‬فجملة "إن اهلل قد بعث لهم‬
‫طالوت ملكًا" هذا هو خطاب السماء األشرف قدرًا‪ ،‬واألكمل حكمًا‪ ،‬واألصح‬
‫ذكرًا‪ ،‬واألصدق خبرًا يظهر هنا بروعته وجماله وشرفه وكماله‪ .‬إنها‬
‫اإليحاءات المربية‪ ،‬والمعاني المعبرة تنطلق من خالل السياق كاشفة لحقائق‬
‫ينبغي أن تظهر وتبقى‪ ،‬وألخرى ينبغي أن تتوارى وتفنى‪ ،‬وأول تلك‬
‫اإليحاءات أن نبي اهلل هنا أراد أن يربط قومه باهلل مباشرة من خالل إشعارهم‬
‫أن الذي اختار هذا الملك وبعثه هو اهلل‪ ،‬وهذا يعني أنه ال مجال لالعتراض‬
‫على اإلطالق‪ ،‬وثانيًا‪ :‬أن اهلل عندما يختار أمرًا ما فإن كل خيارات البشر‬
‫يجب أن تسقط أمام ذلك الخيار ولو جاء مخالفًا لألهواء والرغبات‪ ،‬وثالثًا‪:‬‬
‫أن عطايا الرب عندما تكون استجابة لطلب العبد عندئ ٍذ إما أن ترفعه إن آمن‬
‫وشكر‪ ،‬وإما أن تفضحه إن عاند وكفر كون العطايا هى في حقيقتها ابتالءً‬
‫ليس إال‪ ،‬ورابعًا‪ :‬أن حسابات السماء هناك تختلف عن حسابات األرض هنا‬
‫حيث يتضح هذا األمر وغيره من خالل سياق اآليات كما سيأتي الحقًا‪ ،‬وحتى‬

‫(‪ )28‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪247‬‬


‫‪- 113 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ال نذهب بعيدًا نعود لنرى ونسمع رد المأل "قالوا أنى يكون له الملك علينا‬
‫ونحن أحق بالملك منه"‪ ،‬هذا إذًا هو رد األرض ومنطقها‪ ،‬ورؤيتها‪ .‬إنه الرد‬
‫المخزي‪ ،‬والمنطق المؤذي‪ ،‬نعم هو مخ ٍز كونه يرفض أمر السماء‪ ،‬وهو مؤذٍ‬
‫كونه تعرضًا واضحًا لنبي اهلل باألذى واللجاج‪ ،‬والملفت للنظر هنا هو‬
‫المحاولة البائسة لهؤالء المأل األشد بؤسًا‪ ،‬واألسوأ فكرًا‪ ،‬وجاءت كلمة "لكم"‬
‫من قبل النبي ليتوافق الجواب مع السؤال حتى ينتهي اإلشكال‪ ،‬ويستقيم الحال‪،‬‬
‫ولكن أنَّى هذا مع قوم هم الصم وهم البكم في آن واحد‪ ،‬والمالحظ هنا أنهم‬
‫أخرجوا الموضوع عن السياق لتتضح للدنيا حقيقة كذبهم‪ ،‬وخبث طويتهم‪،‬‬
‫ال عن لنا‪ ،‬إنها المحاولة الدنيئة الختالق‬
‫وذلك عندما أدخلوا دعوى علينا بدي ً‬
‫الخالف بغية التنصل من التبعات في صورة تعبر عن همجية ال حدود لها‪.‬‬
‫إنها الهمجية التي تمادت هناك وترعرت حتى أصبحت هى السمة الغالبة‪،‬‬
‫والصفة المتوارثة لكل مأل في كل زمان ومكان‪ .‬ويظهر المرض‪ ،‬ويزداد‬
‫تكشفًا من خالل قولهم "ونحن أحق بالملك منه"‪ ،‬إنها األحقية الزائفة في‬
‫الملك والتملك تتجلى هنا في صورة اعتراضية على خيار السماء‪ .‬نعم إنها‬
‫األحقية التي أنتنت المكان هناك‪ ،‬وأمرضت الزمان‪ ،‬وفرقت األحوال‬
‫ليتواصل مرض تلك األحقية العارية من منطق الحق والعدل إلى آخر الزمان‬
‫في صورة غاية في السفه والطيش دون وجه حق‪ .‬إنها حقارة األرض عندما‬
‫تتطاول بمائها وطينها على السماء بعلوها ونورها في صورة هى األكثر‬
‫غباءًا‪ ،‬واألشد وقاحة من قوم بلغ بهم الغباء منتهاه‪ ،‬والعناد أعاله‪ .‬ومما تجدر‬
‫اإلشارة إليه هنا أن جملة ونحن أحق بالملك منه توحي بعشوائية تلك األحقية‬
‫الزائفة كونهم لم يحددوا أيًّا منهم يمكن أن يكون ملكًا ولو من باب العناد‬
‫المعلوم‪ ،‬واللجاج المحسوم – ولو جدالً – كما أسلفنا‪ .‬إنها عشوائية العقول‬
‫ال‬
‫والقلوب وعشوائي ُة الضمائر اجتمعت فيهم مكونة عشوائية ال حدود لها شك ً‬
‫ومقامًا وحاالً‪ .‬والمالحظ في سلوك هذا المأل المخزي أنهم يريدون مسئولية‬
‫دون أن تكون لها تبعاتها‪ ،‬بل يريدونها مسئولية فارغة المحتوى‪ ،‬وعديمة‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 114 -‬‬

‫الجدوى‪ .‬نعم يريدونها مسئولية استعراضية خالية من أية قيمة أو دين‪،‬‬


‫فحسبهم تصدرهم المشهد وكفى‪ .‬وال شك في أن قوانين السماء المقدسة ال‬
‫تقبل البتة هذه الرؤية‪ ،‬وال تتماشى أبدًا مع هذه األحقية كونها أحقية عبثية ال‬
‫يُبنى عليها عمل‪ ،‬وال ترتكز عليها قيم‪ ،‬ويزداد المأل بؤسًا وسقوطًا وهم‬
‫يبررون أحقيتهم بالملك في صورة مبطنة من خالل قولهم "ولم يؤت سعة‬
‫من المال"‪ ،‬إنها المبررات المتناقضة تمامًا مع قيم السماء وتقييمها‪ ،‬وذلك‬
‫من خالل القراءة المادية البحتة لألشخاص واألحوال‪ .‬إنه منطق المال الذي‬
‫أفسد األمة باألمس‪ ،‬ومازال يفسدها اليوم‪ ،‬ويعبر هذا القول في هذا الموضع‬
‫عن القيمة الطينية السفلى الخالية من قيم الرجال‪ ،‬ورجال القيم‪ ،‬كون المال‪،‬‬
‫والمال فقط‪ ،‬هو مقياس األرض في صورتها الحالية الرثة‪ ،‬وتقييماتها اآلنية‬
‫المغلوطة‪ ،‬وهو مقياس خاطئ على كل حال‪ .‬إنها لغة الطين الفقيرة حاالً‪،‬‬
‫والمنتكسة مكانًا وزمانًا عندما تتطاول نحو العلياء دون أن تكون لها قواعد‬
‫أو جذور‪ ،‬لذا سرعان ما تسقط وتبور‪ .‬وهنا لفتة دقيقة تتضح من خالل قولهم‬
‫"ولم يؤت" فهذا اللفظ يشير إلى قطيعتهم الكاملة مع السماء‪ ،‬حيث جعلوا‬
‫مصدر اإليتاء للملك هنا مجهول الهوية‪ ،‬والمصدر كهويتهم المجهولة تمامًا‪،‬‬
‫وألفاظهم الفجة‪ ،‬وتقديراتهم الخاطئة‪ .‬إنه العبث اللفظي‪ ،‬والسقوط الجمعي‬
‫ال أنتن المكان والزمان‪،‬‬‫لمأل األمس يتكشف هنا في صورة مبتذلة تحمل جه ً‬
‫وعبث بالمقام والحال‪ ،‬وهى نهاية كل مأل سواء مأل األمس الجاهل‪ ،‬أو مأل‬
‫اليوم الغافل‪ .‬وفي الحقيقة إنه شأن العبد عندما يغفل عن الرب عندئ ٍذ تتملكه‬
‫األهواء‪ ،‬وتحكمه المطامع واإلغواء حتى تسقطه في الوحل الطيني‪ ،‬فيذهب‬
‫غير ما سوف عليه‪ .‬إنها الجريمة القديمة ذات الطابع المادي البحت تريد أن‬
‫تتصدر المشهد بجهلها الفاحش‪ ،‬وتفكيرها البائس‪ ،‬ولكن دون جدوى‪ ،‬فعندما‬
‫يصبح المال‪ ،‬والمال فقط‪ ،‬هو المقياس في التعاطي بعيدًا عن قيم الحق والعدل‬
‫ال وعرضًا‪ ،‬وعبث بها‬ ‫عندئ ٍذ يكون السقوط القيمي قد تمكن من األمة طو ً‬
‫زمانًا وحاالً‪ ،‬وأمام هذا المقياس البشري الفج والخاطئ مع ذلك اللجاج‬
‫‪- 115 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫المتجاوز لكل عقل ومنطق تأتي قيم السماء وحكمها وعدالتها ونورها معلنة‬
‫قيم االصطفاء الحقيقية المناسبة للمكان والزمان واألعمال‪ .‬إنها البسطة في‬
‫العلم والجسم هى المناسبة لهذه المسئولية‪ ،‬ولهذا الملك كون الجهل العلمي‬
‫يتبعه بال شك هزال جسدي‪ ،‬وكالهما يعبران عن جسم مريض وأعمى‪ ،‬وأنى‬
‫ألعمى أن يقود‪ ،‬ولمريض أن يسود‪ .‬والمالحظ هنا الجمع بين بسطة العلم‬
‫ن واحد‪ ،‬مع تقديم بسطة العلم على بسطة الجسم كون القوة‬ ‫وبسطة الجسم في آ ٍ‬
‫العلمية هى التي تولد قوة جسدية صحيحة ومتوازنة‪ ،‬وليست قيم الطين السفلية‬
‫هى من تفعل ذلك‪ .‬كما أن المأل قد يملكون بسطة األجسام‪ ،‬ولكنها في الحقيقة‬
‫بسطة اللحم والدم الخالية من قيم العلم والفهم التي تسقط وال تثبت أمام قيم‬
‫السماء األكمل هديًا‪ ،‬واألشرف حاالً‪ ،‬واألصدق خيرًا‪ ،‬بل ال مقارنة البتة بين‬
‫قيم النور وقيم الطين ال في شكلها‪ ،‬وال في مآالتها‪ .‬ثم تأتي روعة الختام‬
‫منسجمة تمامًا مع هذا المقام وذلك من خالل قوله "واهلل يؤتي ملكه من‬
‫يشاء"‪ ،‬إنها السماء بقيمها النورانية هى من تملك األمر‪ ،‬وهى من تعطيه‬
‫وتأخذه‪ ،‬بينما هذه األرض بناسها وترابها عليها أن تلزم حدودها‪ ،‬وتعرف‬
‫ال ومآالً‪ ،‬والمفطورة على‬ ‫قدرها كونها األسفل خلقة وخلقًا‪ ،‬واألفقر حا ً‬
‫الخضوع واالستسالم للخالق زمانًا ومكانًا‪ .‬نعم فعلى المأل في كل زمان‬
‫ومكان أن يفهموا هذه القيم‪ ،‬وأن يعوها تمامًا حتى يعرفوا قدرهم‪ ،‬وال‬
‫يتجاوزوا بعد اآلن حدودهم‪ ،‬واعلم أن دعاة األحقية في الحكم والملك في كل‬
‫زمان ومكان هم الداء الدوي‪ ،‬والموت الخفي في األمة‪ ،‬فكن حذرًا لمكرهم‪،‬‬
‫ومتنبهًا لكذبهم‪ ،‬واعلم أن مواقع اإلدارة والملك تتطلب علمًا وقوة وقدرات‬
‫وفتوة‪ ،‬وأن من يؤتي الملك والعلم والبسطة في الجسم هو اهلل‪ ،‬وأن المال‬
‫الخالي من قيم السماء وأصول الشهامة والرجولة يكون مدعاة للسفه والطيش‪،‬‬
‫والحماقة في العيش‪...‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 116 -‬‬

‫س‬
‫ب مِنْ ُه َفلَيْ َ‬
‫ش ِر َ‬
‫اهلل مُبْ َتلِيكُم بِ َن َه ٍر فَمَن َ‬
‫ِن َّ‬‫ت بِالْجُنُو ِد قَا َل إ َّ‬
‫ص َل طَالُو ُ‬
‫( َفلَمَّا فَ َ‬
‫ال‬
‫ِال َقلِي ً‬
‫شرِبُواْ مِنْ ُه إ َّ‬
‫غرْفَ ًة بِيَدِ ِه فَ َ‬
‫ف ُ‬
‫ن اغْ َترَ َ‬
‫ِال مَ ِ‬
‫مِنِي وَمَن لَّمْ َيطْعَمْ ُه فَإِنَّ ُه مِنِي إ َّ‬
‫ت‬
‫ن آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ الَ طَاقَ َة لَنَا الْ َيوْ َم بِجَالُو َ‬
‫مِنْهُمْ َفلَمَّا جَاوَزَ ُه ُهوَ وَالَّذِي َ‬
‫غلَ َبتْ فِئَةً كَثِيرَ ًة‬
‫هلل كَم مِن فِئَةٍ َقلِيلَةٍ َ‬
‫القُو ا ِ‬
‫ن أ ََّنهُم مُّ َ‬
‫ن يَظُنُّو َ‬
‫َوجُنودِ ِه قَالَ الَّذِي َ‬
‫َاهلل مَعَ الصَّا ِبرِينَ{‪.)29()}249‬‬
‫ن اهللِ و ُّ‬
‫ِبإِذْ ِ‬
‫سيكتب اهلل في السماء‪ ،‬وسيتحدث الناس في األرض عن ثباتك يوم أن سقط‬
‫الضعفاء‪ ،‬وعن كرمك يوم أن بخل اللؤماء‪ ،‬وعن خروجك وجهادك يوم أن‬
‫توارى الجبناء‪ ،‬فاألعمال الصالحة والسيرة الصاد=قة تاريخ حافل في البقاء‬
‫ال تُنسى أبدًا ال في األرض وال في السماء‪ .‬وحتى نجسد هذه القضية الكبيرة‬
‫شكالً‪ ،‬والعظيمة قدرًا‪ ،‬والصادقة خبرًا وذكرًا نعود إلى مصدر الكمال كالم‬
‫اهلل كي نعيش هذه المرة مع من زاده اهلل بسطة في العلم والجسم‪ .‬نعم تعالوا‬
‫لنرى بسطة العلم والجسم وهى تعلن عن نفسها‪ ،‬وتُظهر حقيقة تربيتها‬
‫وجهادها في صورة هى األصدق واألقوى واألعلم واألتقى في ميدان الجهاد‬
‫حينها‪ ،‬فقوله تعالى "فلما فصل طالوت بالجنود" هذه الجملة تحمل معاني‬
‫عدة ومنها أن حقيقة االبتالء بدأت صراحة بعد قطع المسافة الطويلة‪،‬‬
‫والطويلة جدًّا‪ ،‬في صحراء مترامية األطراف‪ .‬ومما ال شك فيه فإن السقوط‬
‫للسواد األعظم من بني إسرائيل قد بدأ منذ كُتب عليهم الجهاد‪ ،‬ولكننا لن‬
‫نتحدث عن هؤالء الذين فشلوا أمام التكاليف في بداية الطريق كونهم انتهى‬
‫أمرهم بسقوطهم هناك‪ ،‬ولكن دعونا نقف مع سياق اآليات وبالتحديد مع من‬
‫قبلوا أمر اهلل بداية لنعرف حقيقتهم نهاية‪ .‬إنه الفصل المشهود في ذلك اليوم‬
‫ن واحد‬
‫الموعود في واحد من أقوى التحركات القرآنية المربية والمعلمة في آ ٍ‬
‫في ذلك الماضي البعيد‪ ،‬وثانيًا‪ :‬أن طالوت فصل الجنود عن غيرهم‪ ،‬وتحرك‬

‫(‪ )29‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.249‬‬


‫‪- 117 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫بهم دون سواهم كونهم ما سُموا جندًا إال لقوتهم وصالبتهم‪ ،‬حيث أن أصل‬
‫الجند هو األرض الصلبة والقوية‪ ،‬لذا كان الخروج بهم‪ ،‬والتحرك معهم‬
‫باعتبار تلك الصفات ليس إال‪ ،‬وثالثًا‪ :‬أن وجود طالوت في مقدمة جيشه هو‬
‫الوضع الطبيعي والصحيح للقائد الصادق الذي يربي الجند بفعله ال بقوله كما‬
‫يحدث اليوم في كثير من المواقع واألحداث دون مسوغ إال الحذر‪ ،‬والحذر‬
‫غير المبرر في كثير من األحيان‪ .‬إنها البسطة الطالوتية الحقيقية التي سقطت‬
‫أمامها عبثية الطغاة وجهل البغاة في صورة تحمل حقيقة القائد األشرف علمًا‪،‬‬
‫واألقوى جسدًا وجسمًا‪ ،‬ويوحي سياق اآلية هنا بقدرة طالوت الفائقة على‬
‫إدارته لجنده‪ ،‬ومتابعته لعسكره في صورة مذهلة‪ .‬ومما ال شك فيه فإن تجربة‬
‫بني إسرائيل السابقة والمرة مع أنبيائهم تتطلب من طالوت هنا اختبار جيشه‬
‫ليتثبت لنفسه ولربه من حقيقة هذه اآلالف كون الكثرة العددية غير المنتقاة أو‬
‫غير المتربية تكون عبئًا على القادة‪ ،‬بل وعلى المبادئ واألمة في كثير من‬
‫األحيان‪ .‬لذا البد من اختبار وامتحان لتتم عملية الفرز والتصحيح قبل‬
‫الوصول إلى ميدان المعركة‪ ،‬وهنا لفتة لغوية بديعة تتمثل بقوله‪" :‬إن اهلل‬
‫مبتليكم" حيث أشعرهم بأن هذا األمر العسكري من اهلل‪ ،‬وأنه مبلغ فقط لهذا‬
‫األمر‪ ،‬وذلك لتتضح المسألة‪ ،‬وتقدر القضية‪ ،‬وتتجلى رحمة اهلل هنا عندما‬
‫يبتلي عباده‪ ،‬فعند ابتالئه سبحانه يترك لعباده منفذًا للحياة والبقاء‪ ،‬وموقعًا‬
‫ال وكرمًا منه‪ ،‬ويتمثل هذا الكرم اإللهي هنا بقوله‪" :‬إال‬
‫لألخذ والعطاء تفض ً‬
‫من اغترف غرفة بيده"‪ ،‬فيمنع الشرب الكامل‪ ،‬وتُستثنى الغرفة الواحدة باليد‬
‫الواحدة كون األكباد ظامئة‪ ،‬بل وظامئة جدًّا‪ .‬إنه االبتالء الكبير حاالً‪ ،‬والشديد‬
‫مكانًا يظهر هنا في هذه اللحظات االستثنائية الحرجة من عمر األمة‬
‫اإلسرائيلية الغافلة‪ .‬إن ثمانين ألفًا من الجند اآلن يسمعون هذا األمر‪ ،‬ولكن‬
‫القليل‪ ،‬والقليل جدًّا‪ ،‬من يصبر على هذا العطش‪ ،‬ويتماسك أمام هذا الظمأ‪.‬‬
‫إنه النهر العذب البارد الزالل يتجلى هنا أمام األعين الشاخصة‪ ،‬ويتحرك‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 118 -‬‬

‫بمياهه النقية الصافية أمام األكباد الظامئة في وقت بلغ منهم الظمأ مبلغه‪ .‬إنه‬
‫ابتالء للكبار إيمانًا‪ ،‬ولألقوى عقيدة‪ ،‬ولألصدق دينًا يتجلى هنا في صورته‬
‫هذه ليُحدث التمايز كي يتم تقرير ما سيتم بعد ذلك في أرض المعركة هناك‪.‬‬
‫إنها ابتالءات الحياة‪ ،‬واختبارات األحياء باقية ما بقيت الحياة بطرق مختلفة‪،‬‬
‫ووسائل شتى تتجدد مع تجدد كل صباح ليحيا من يحيا عن بينة‪ ،‬ويهلك من‬
‫يهلك عن بينة‪ ،‬والموفق هنا هو من تجاوزها بثبات ورضى وقناعة وهدى‪.‬‬
‫ومما ال شك فيه فإن المفاجأة الكبيرة أمام النهر كانت هى السيدة والسائدة‪،‬‬
‫حيث شرب السواد األعظم من ماء النهر حتى ارتوى في مخالفة واضحة‬
‫ألمر اهلل في السماء‪ ،‬وأمر القائد طالوت في األرض‪ .‬إنه السقوط المريع أمام‬
‫شهوات النفس في لحظات الغفلة البائسة‪ ،‬والتصرفات البهيمية الطائشة‬
‫ظهرت هنا في صورة حيوانية باهتة‪ .‬نعم فلقد شرب سبعة وسبعون ألفًا دفعة‬
‫واحدة‪ ،‬ولم يطع األمر وينتصر على نفسه وهواه سوى ثالثة آالف فقط هم‬
‫من اغترفوا بأيديهم كما صدر األمر لهم‪ .‬إنها الكثرة العددية الزائفة‪،‬‬
‫والجمهرة البشرية العابثة التي كبرت من دون تربية‪ ،‬وتحركت من غير‬
‫تزكية تعلن عن سقوطها‪ ،‬وتستسلم لذواتها في لحظات زمنية فارقة‪ .‬نعم حدث‬
‫ال تذكيرها بسوء فعلها‪ ،‬ولكن دون‬
‫كل ذلك السقوط والقائد طالوت ينظر محاو ً‬
‫جدوى‪ ،‬فالنفوس البائسة من الصعوبة بمكان أن تمنعها عن ورود بؤسها‬
‫سوا ًء هناك في الماضي أو حتى بؤس اليوم الحاضر الالهي‪ .‬إنها الكثرة‬
‫العددية الخاوية إيمانًا‪ ،‬والساقطة أخالقًا تستسلم لعاطفتها الرخيصة‪ ،‬ونزوتها‬
‫اآلنية الخبيثة‪ ،‬تارك ًة أوامر السماء وصالحي األرض دون حياء أو خوف‪،‬‬
‫وفي الحقيقة فإن هذه الكثرة هى الزبد الذاهب الذى يسقط في منتصف الطريق‬
‫دائمًا‪ ،‬ويسقط معه كل من اعتمد عليه سواء باألمس هناك‪ ،‬أو في الحاضر‬
‫هنا‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن إختبار كبار القادة للجند ومن دونهم من‬
‫القادة أمر الزم‪ ،‬وعمل مشروع على الدوام قبل تبوئهم المناصب سوا ًء كانت‬
‫‪- 119 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫تلك االختبارات أمنية على األسرار والمعلومات‪ ،‬أو عسكرية على الممتلكات‬
‫العامة والمعدات‪ ،‬أو كانت حتى مالية على األموال واألقوات‪ ،‬وال شك في‬
‫أن هذا السقوط سيتكرر من البعض هنا كما تكرر مع طالوت في الماضي‬
‫هناك‪ ،‬حيث ستجد هنا ظمأ األموال يفعل فعله مع صغار الهمم والعزائم‪ ،‬بل‬
‫ويتعدى ذلك الظمأ الملعون إلى المخازن والممتلكات‪ ،‬بل وحتى على الخطط‬
‫والمعلومات‪ ،‬وهو ما يؤخر النصر حتمًا‪ ،‬ولكن أنصار هذا الظمأ الملعون‬
‫سينكشفون حتمًا‪ ،‬ويذهب جفاءًا بكل سيئاته وسوآته وإن تأخر كشفه بعض‬
‫الوقت‪ .‬كما أنه سيظهر هنا عظماء يقتلهم الظمأ‪ ،‬وتحيط بهم الحاجة‪،‬‬
‫وتطاردهم الفاقة‪ ،‬وقد تركوا األهل واألبناء هناك بعيدًا‪ ،‬ومع ذلك هم األشرف‬
‫يدًا‪ ،‬واألطهر قلبًا‪ ،‬واألصدق عزمًا يستشهد أحدهم وحاجته في صدره لم يبح‬
‫بها ألحد كونه يريدها من ربه‪ ،‬ومن ربه فقط‪ ،‬وهؤالء بهم يتحقق النصر هنا‬
‫رغم قلتهم كما تحقق مع طالوت هناك بعد بالئهم‪ .‬ومما ينبغي ذكره أيضًا أن‬
‫هذا االبتالء بالعطش هنا لم يكن عبثيًّا أبدًا‪ ،‬بل هو درس كبير للمجاهدين‬
‫الصادقين في الثغور في كل زمان ومكان بأن الحصار من العدو عليك قد‬
‫يحدث ألمر ما‪ ،‬فال تجد من الماء إال ما تبل به ريقك‪ ،‬وقد ال تجد من الطعام‬
‫إال لقيمات معدودة طوال ليلك ونهارك‪ ،‬عندئ ٍذ سيكون صبرك هنا هو مقدمة‬
‫للنصر هناك رغم قلة العدد‪ ،‬وضعف العدة كما حدث تمامًا فيما بعد لقلة‬
‫طالوت سواء بسواء‪ .‬كما ينبغي أن نذكر هنا أن هذا السقوط الذي حدث في‬
‫الجيش أمام النهر لم يضعف مَنْ زاده اهلل بسطة في العلم والجسم‪ ،‬بل قواه‪،‬‬
‫فواصل سيره مع من آمن معه وهم ثالثة آالف كون العظماء ال يوقفهم‬
‫السقوط‪ ،‬وال تحبسهم األعذار‪ ،‬بل هم باهلل الكبير كبار‪ .‬ثم جاءت المحطة‬
‫األخيرة من االبتالء لهذا العدد أيضًا وذلك بعد رؤيتهم لجالوت وجنوده‪ ،‬وقد‬
‫أقبل بعشرات اآلالف‪ ،‬بل بمئات اآلالف في قول بعض التفاسير يتقدمهم‬
‫جالوت الطويل جدًّا‪ ،‬والمشهور في بيت المقدس وبالد الشام بقوته وعنفوانه‪،‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 120 -‬‬

‫عندئ ٍذ كان منطق الضعف هو الحاضر لدى الثالثة اآلالف قائلين "ال طاقة‬
‫لنا اليوم بجالوت وجنوده"‪ ،‬وكان هذا هو السقوط النهائي الذي واصل سيره‬
‫إلى هنا‪ ،‬ولم يستطع لضعف إيمانه مواصلة السير حتى النهاية كون النهاية‬
‫مع اهلل شريفة وكريمة‪ ،‬واألنفس الهينة اللئيمة ال تستحق ذلك التكريم أو ذاك‬
‫الشرف‪ .‬لذا فلتعد إذًا خائبة إلى ديارها هناك ليبقى فقط ثالث مئة وثالثة عشر‬
‫جنديًّا هم من ثبتو‪ ،‬وهم من صح إيمانهم من المجموع الكلي البالغ ثمانون ألفًا‬
‫في البداية‪ .‬إنها الغثائية العددية الفارغة تتساقط تباعًا دون حياء أو مراجعة‪.‬‬
‫وفي الحقيقة فإن هذا السقوط هو شأن كل غثائية فارغة من اإليمان في كل‬
‫زمان ومكان‪ .‬والجميل هنا أن هذا السقوط المتتابع لهذا الجيش الخاوي لم‬
‫يُسْقِط إيمان القائد الكبير طالوت‪ ،‬بل ظل ثابتًا كالجبل أمام هذا التهاوي‬
‫المخيف كون بسطته في العلم كفيلة بثباته‪ ،‬لعلمه أنه مع ربه‪ ،‬وأن ربه معه‬
‫وإن تركه الكون كله‪ .‬إنها الحقيقة التي تجلت مع القلة التي ثبتت‪ ،‬وبمعية اهلل‬
‫هنا هتفت ووثقت‪ ،‬ثم بكل قوة حذرت ونطقت "كم من فئة قليلة غلبت فئة‬
‫كثيرة بإذن اهلل واهلل مع الصابرين"‪ ،‬إنها الحقيقة التي ينبغي أن تترسخ في‬
‫العقول والقلوب هنا حيث ال خوف أبدًا‪ ،‬فمهما تساقط المتساقطون تبقى الفئة‬
‫الصادقة موجودة في كل مكان‪ ،‬وعالية الهمة في كل زمان‪ ،‬فكن أنت من هذه‬
‫القلة الصادقة‪ ،‬واعلم أن شرفك هو صدقك وثباتك‪ ،‬وأن رجولتك هى أمانتك‬
‫ووفاؤك‪ ،‬واحذر أن تشرب وتروي ظمأك المادي مما هو أمانة اهلل عندك‪،‬‬
‫واعلم أن النصر قادم مهما تساقط الضعفاء‪ ،‬وتآمر الخبثاء‪ ،‬وحسبك أن تقوم‬
‫بواجبك لتنال ما عند اهلل هناك‪ ،‬وليس ما عند الخلق هنا‪.‬‬
‫‪- 121 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫علَيْنَا صَبْرًا وَثَ ِبتْ َأقْدَامَنَا‬


‫ت وَجُنُودِ ِه قَالُواْ رَبَّنَا أَفْرِغْ َ‬
‫( َولَمَّا َب َرزُواْ لِجَالُو َ‬
‫علَى الْ َقوْمِ الْكَا ِفرِينَ{‪.)30()}250‬‬
‫صرْنَا َ‬
‫وَان ُ‬
‫ستستمر هذه الطائفة الصادقة إيمانًا‪ ،‬والقليلة عددًا في البروز أمام كل ظالم‬
‫هنا كما برزت في الماضي البعيد أمام جالوت هناك ما بقيت الحياة‪ .‬إنه التوجه‬
‫الجماعي نحو السماء في اللحظات الحاسمة طلبًا للمدد الرباني والعون اإللهي‬
‫كون النصر ال يحمكه أبدًا عدد األرض وعدتها‪ ،‬بل عون السماء ورعايتها‪.‬‬
‫نعم إنه البروز الحقيقي لحملة الحقيقة التي ينتظرها الزمان والمكان‪ ،‬والتي‬
‫انتصرت طوال الطريق حتى وصلت إلى هنا‪ ،‬فالواقع المؤلم سواء هناك‬
‫حينها في عهد الملك طالوت‪ ،‬أو واقعنا هنا يتطلب هذا البروز كون التخفي‬
‫من مكر الباطل وبطشه ال يحقق دينًا‪ ،‬وال ينشر صدقًا‪ ،‬وال يُرضي ربًّا‪ .‬لذا‬
‫لم يكن للقرآن أن ينقل لنا هذا اللقاء في صورته الواضحة هذه إال لكي يوضح‬
‫لنا هذه الحقيقة التي غابت عن األذهان كثيرًا‪ ،‬فكما حدث هذا البروز باألمس‬
‫فأوقف اهلل به مكر الباطل‪ ،‬وقطع دابره‪ ،‬فإن الصادقين هنا ينقصهم هذا‬
‫البروز بكل متطلباته وتفصيالته ليأتي النصر‪ ،‬ويقطع دابر الشر اليوم كما‬
‫قطعه باألمس‪ ،‬فالبروز هو المطلوب إذًا إلحقاق الحق وإبطال الباطل كون‬
‫الحق سيظل موجودًا‪ ،‬ولكنه مغمور حتى يبرز رجاله كرجال طالوت‪ .‬وحتى‬
‫ال نذهب بعيدًا عن مضمون اآلية ومحتواها نعود سريعًا كي نعيش في‬
‫ال‬
‫ظاللها‪ ،‬ونتفيأ الجمال والروعة والرجولة من معانيها‪ ،‬فهى تفوح جما ً‬
‫ورجولة وروعة‪ ،‬فإليها إذًا‪ ،‬إن قوله "ولما برزوا لجالوت وجنوده" هذه‬
‫الكلمات تحمل دالالت كثيرة ومنها‪ :‬أن الفئة الصادقة وإن كانت قليلة إال أنها‬
‫تبقى موجودة ال يخلو منها مكان‪ ،‬وال يغيبها زمان‪ ،‬وال يوقفها حال أو مقال‪،‬‬
‫فمهما أرعد الشيطان وأزبد‪ ،‬وحارب وخطط‪ ،‬إال أن هذه الفئة موجودة وجود‬

‫(‪ )30‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.250‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 122 -‬‬

‫الحياة‪ ،‬وباقية بقاء األحياء‪ ،‬وثانيًا‪ :‬أن البروز أمام الظالم إليقاف ظلمه‪ ،‬وقطع‬
‫دابره ال يمكن أن يتحقق إال في إطار الجماعة واألمة كون الصالح الفردي‬
‫ال يقوى أبدًا على هذا البروز مهما بلغ مبلغه بصاحبه‪ ،‬لذا كان التعبير بالبروز‬
‫الجماعي إيحاءًا لهذا المعنى في هذا المكان‪ ،‬وثالثًا‪ :‬أن وجهة الجماعة اتجهت‬
‫نحو السماء في صورة تحمل استغاثة جماعية مألت بأصواتها أرجاء الزمان‬
‫والمكان حتى كدنا ونحن هنا نستشعر ذلك االبتهال الجماعي بروعته وصدقه‬
‫في صورة أخرى توحي بأن النصر يأتي من هناك من السماء‪ ،‬وذلك بعد أن‬
‫تكون األرض برجالها الصادقين قد قدمت جهدها ونفسها حيث تشي اآلية‬
‫بهذا المعنى النفيس‪ .‬وينقلنا السياق القرآني بطريقته الفذة إلى الغاية من ذلك‬
‫االبتهال الجميل شكالً‪ ،‬والموحد هدفًا‪ ،‬والمتجرد قصدًا‪ ،‬وهو يتجاوز القوة‬
‫الجالوتية العابثة المنتفشة بكل ثقة وإخالص قائالً‪" :‬ربنا أفرغ علينا صبرًا‬
‫وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين"‪ ،‬إنه الفهم الواسع يتضح هنا‬
‫لدى هذه الفئة المؤمنة من خالل هذه الكلمات حيث قدمت طلب الصبر قبل‬
‫تثبيت األقدام وتحقيق النصر كون أنه ال تثبت األقدام‪ ،‬وال يتحقق النصر إال‬
‫بالصبر والتحمل‪ ،‬وبذل الجهد‪ ،‬وثانيًا‪ :‬قالت أفرغ‪ ،‬فاللفظ يدل على طلب‬
‫الصبر كله حتى يمأل كل ذواتهم كون العدو شديدًا بأسه‪ ،‬وكثيرًا عدده‪ ،‬ثم كان‬
‫تحديدهم لمكان تنزُّل الصبر بقولهم "علينا"‪ ،‬وليس لنا إيحاءًا بطلب الصبر‬
‫الذي يمأل أجسادهم وقلوبهم وحواسهم وحتى مكان أقدامهم وذواتهم‪ ،‬فاللفظ‬
‫علينا يشي بهذا المعنى‪ ،‬ثم يتواصل جمال الطلب وذلك بتنكير كلمة صبرًا‬
‫حيث جاء طلب الصبر هنا منكرا بقوله "صبراً"‪ ،‬وذلك في إشارة إلى طلب‬
‫الصبر بكل أنواعه المتمثل بالصبر على الطاعة‪ ،‬وعلى البالء‪ ،‬وعن‬
‫المعصية كون الموقف حينها يتطلب كل ذلك بكل تفصيالته وجزئياته‪ .‬إنها‬
‫الحقيقة التي يجب أن يستوعبها حملة المنهج السماوي وهم يحيون في هذا‬
‫الزمان‪ ،‬وقد أحاطت بهم الفتن‪ ،‬وتكالبت عليهم المحن‪ ،‬عندها البد من اللجوء‬
‫‪- 123 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫إلى عالم الغيوب طلبًا للصبر بكل أنواعه لتثبيت األقدام حتى تصل إلى ربها‬
‫بعد طول زحام‪ .‬نعم فكل هذه المفردات تحتاج إلى صبر يفرغه اهلل جملة‬
‫واحدة في هذه القلوب المجاهدة في تلك اللحظات الحاسمة بال شك‪ .‬ومما‬
‫ينبغي اإلشارة إليه هنا أن اإلجرام عندما يعلن عن ذاته‪ ،‬ويتجاوز حدوده‪،‬‬
‫ال وعرضًا عندئذٍ على الجماعة المؤمنة واألمة الهادية أن تقف‬
‫ويتطاول طو ً‬
‫عند هذه المعاني‪ ،‬وتعيش هذه اللحظات وذلك إعدادًا للعدة المستطاعة‪ ،‬ومن‬
‫ثم البروز بقوتها الحسية والمعنوية كي تصنع نصرًا كما صنعه طالوت‬
‫ورجاله‪ ،‬ثم على هذه الفئة الصادقة أن تعي أن قوة األرض الفارغة إيمانًا‬
‫ال مهما كثر عددها‪،‬‬
‫ال ومقا ً‬
‫والخاوية عقيدة‪ ،‬والبعيدة عن عون السماء حا ً‬
‫وتنوعت عدتها فهى مهزومة حتمًا‪ ،‬وذاهبة إلى الزوال جملة وإن تأخر ذلك‬
‫الذهاب قليالً‪ ،‬ولكنه حتمًا سيحدث‪ .‬وسيتضح لنا الحقًا حتمية ذلك الذهاب لهذا‬
‫الخبث الجالوتي والفساد األسطوري الذي كان سائدًا في ذلك الزمان البعيد‪،‬‬
‫وبطريقة لم تخطر على بال كون اهلل إذا أنزل نصره على عباده أدهشهم‬
‫بعطائه‪ ،‬وأكرمهم بجوده وفضله‪ .‬فاطلب من اهلل أن يفرغ عليك صبرًا كي‬
‫تقوى على متاعب األيام وغدر الزمان بفساده وحماقته‪ ،‬فال ثبات أمام كل تلك‬
‫المتاعب والفساد إال بصبر منه سبحانه‪ ،‬ورعاية منه جل شأنه‪..‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 124 -‬‬

‫ك وَالْحِكْمَ َة وَعَلَّمَ ُه مِمَّا‬


‫اهلل الْمُلْ َ‬
‫ت وَآتَاهُ ُّ‬
‫هلل َوقَتَ َل دَاوُو ُد جَالُو َ‬
‫نا ِ‬‫( َف َهزَمُوهُم ِبإِذْ ِ‬
‫اهلل ذُو فَضْلٍ‬
‫ِن َّ‬‫ض َولَـك َّ‬
‫ت ا َألرْ ُ‬
‫ض لَّفَسَ َد ِ‬
‫ضهُمْ بِبَعْ ٍ‬
‫س بَعْ َ‬
‫هلل النَّا َ‬
‫يَشَا ُء َوَلوْ َال َدفْ ُع ا ِ‬
‫علَى الْعَالَمِينَ{‪.)31()}251‬‬
‫َ‬
‫عندما يأذن اهلل برحيل الظلم بأشخاصه وذواته‪ ،‬وانتصار الحق بأهله ورجاله‪،‬‬
‫عندئ ٍذ يكون ذلك الرحيل وهذا االنتصار بطريقة ال تخطر على بال أحد أبدًا‪.‬‬
‫وحتى تتضح هذه القاعدة بشكل أكبر وأوضح نعود إلى سياق اآلية ففيها‬
‫بغيتنا‪ ،‬ومنها يتحقق مرادنا‪ ،‬فقوله تعالى‪" :‬فهزموهم"‪ ،‬فهذا اللفظ يشي بسقوط‬
‫تلك اآلالف الكافرة ديناً‪ ،‬والساقطة أخالقًا أمام القلة المؤمنة الصادقة‪ ،‬ويزداد‬
‫ال فهزموهم‪،‬‬
‫الجمال هنا عندما يأتي التعبير مقرونًا بالفاء وليس بالواو قائ ً‬
‫وليس وهزموهم‪ ،‬وذلك إيحاءًا بسرعة النصر الذي تحقق فور الدعاء السابق‪،‬‬
‫واالبتهال الصادق‪ .‬إنه الصدق في األحوال واألقوال يتجلى بنصر اهلل هنا في‬
‫واحدة من أكبر اآليات على مدار التاريخ البشري الطويل‪ ،‬وهنا مالحظة‬
‫دقيقة ونفيسة جدًّا نتطرق إليها على عجالة وهى أن الحروب التي تقوم على‬
‫هذه األرض هى على أشكال ثالثة‪ ،‬فمنها ما يكون بين الحق الطاهر النقي‬
‫والباطل الظاهر الجلي‪ ،‬فهذه الحرب ال تطول أبدًا حيث تحسم بنصر اهلل‬
‫المنزل على الفور كما حدث هنا‪ ،‬وهذا هو األصل كما سيأتي الحقًا في هذه‬
‫اآلية‪ ،‬وعندما تحدث حرب بين الحق والباطل فيطول أمدها‪ ،‬وتتشعب‬
‫أركانها‪ ،‬عندئ ٍذ تكون تلك اإلطالة لحكمة يعلمها اهلل إما في طرف الحق‪ ،‬وإما‬
‫في طرف الباطل‪ ،‬حيث لم يكتمل التمايز بعد‪ ،‬وثالثًا‪ :‬الحرب بين باطل‬
‫وباطل‪ ،‬وهذه تطول آخذة مكانًا وزمانًا كون معية اهلل غائبة عن الفريقين‪،‬‬
‫فتطول كي يأكل الخبث بعضه بعضًا حتى ينتهي هذا وذاك إيذانًا بحال جديد‬
‫يأذن اهلل به فيما بعد‪ .‬ومما ينبغي ذكره هنا أنه ال وجود لحرب على اإلطالق‬

‫(‪ )31‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.251‬‬


‫‪- 125 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫بين حق وحق‪ ،‬إنما تكون الحروب على تلك الشاكلة الثالثية التي ذكرناها‪،‬‬
‫والجميل هنا مجئ كلمتي "بإذن اهلل"‪ ،‬وذلك إشعار لهم ولمن بعدهم إلى قيام‬
‫الساعة بأن النصر ال يكون إال بعد أن يأذن اهلل‪ ،‬ومن المعلوم هنا أن هذا اإلذن‬
‫وذلك النصر الذي تفضل اهلل به على طالوت وجنده لم يتأت إال بعد ابتالءات‬
‫جمة سقط فيها الخبث تباعًا حتى أصبح الحق هو األكمل دينًا‪ ،‬واألنقى قلبًا‪،‬‬
‫واألوفى حاالً‪ ،‬واألصدق مقاالً‪ ،‬عندها أذن اهلل لنصره فتنزل على الفور‪ .‬إنه‬
‫اإلذن الذي يتباعد عن األرض‪ ،‬ويظل هناك في السماء طالما أن هذه األرض‬
‫تأبى بأهلها وطينها أن تصدق مع السماء بعلوها ونورها‪ ،‬عندئ ٍذ تكون لحظات‬
‫التيه الباحثة عن نصر هنا أو هناك‪ ،‬ولكنه الضياع المستمر دون جدوى‪،‬‬
‫والحقيقة المتيقنة التي يجب استيعابها من قبل حملة الحق أن ال مجال البتة‬
‫للبحث عن نصر في األرض مادامت السماء لم تأذن بعد‪ ،‬وأن ذلك اإلذن‬
‫يبقى بعيدًا بعيدًا حتى تصدق األرض بأهلها وناسها مع ربها‪ .‬ثم نالحظ أن‬
‫سياق اآلية هنا يشي بأقدار اهلل وحكمه وهى تفعل فعلها‪ ،‬وتحقق مراد اهلل فيها‬
‫بطريقة لم تخطر على بال طالوت وجنده أبدًا‪ ،‬حيث سجل القرآن الفاعل‬
‫والمفعول به بقوله "وقتل داوود جالوت"‪ ،‬إنها اللحظات الحاسمة التي هيأ‬
‫اهلل فيها سببًا بسيطًا إليقاف عبث جالوت ومكره وفساده وفحشه‪ ،‬حيث تحرك‬
‫داوود= بالمقالع الذي كان بيده واضعًا حجرًا بمقالعه هذا‪ ،‬ثم سمى اهلل‪،‬‬
‫ال بحجر لينتهي‬
‫ب جالوت‪ ،‬فوقع الحجر على رأسه‪ ،‬فسقط مقتو ً‬
‫ورمى صَوْ َ‬
‫األمر‪ ،‬ويُطوى الخبر‪ .‬إنها الحقيقة الكبيرة تعلن عن نفسها هناك‪ ،‬ويصل‬
‫صد\اها عبر القرون إلى هنا في صورة تحمل دالالت شتى ومنها أن الفئة‬
‫الصادقة عليها أن تفعل جهدها‪ ،‬وتبذل وسعها عندئ ٍذ سيأتي نصر اهلل بطريقة‬
‫ليست في حسبان أحد‪ ،‬ال في حساب القائد‪ ،‬وال في حساب المقود‪ ،‬وثانيًا‪:‬‬
‫ال‬
‫على العبد أن يستخدم ما يملكه من األسباب لدفع األذى عنه وعن أمته متوك ً‬
‫على اهلل‪ ،‬وسيجد من أمره عجبًا‪ ،‬وثالثًا‪ :‬وجوب أن ينسب كل جهد إلى‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 126 -‬‬

‫صاحبه‪ ،‬فالقرآن نقل إلينا الفاعل والمفعول تعليمًا منه لنا‪ ،‬فمن التزوير أن‬
‫تنسب البطوالت إلى غير أهلها عندئ ٍذ لن يأذن اهلل بنصره كونه ادعاء ما ليس‬
‫للنفس‪ ،‬وهو محض تزوير‪ ،‬وأنى يكون نصر لمزور كذاب‪ ،‬ورابعًا‪ :‬أن عمل‬
‫داود يشير إلى قضية مهمة جدًا وهى أن القائد الحقيقي هو الذي يعلن عن‬
‫ال لجماعته وأمته من وسط‬
‫نفسه من ميدان العمل‪ ،‬وعمل الميدان‪ ،‬منتش ً‬
‫الزحام‪ ،‬وظلمة اإلجرام‪ .‬إنها العقلية الفاعلة‪ ،‬والقدوة الصادقة المجاهدة تعبر‬
‫عن نفسها وهى تبدع بالمقالع لترفع أمتها وجماعتها من القاع‪ .‬إنها الرسالة‬
‫العظيمة التي تجاوزت المكان والزمان معلنة أن العظمة أفعال‪ ،‬وأن القيادة‬
‫انتشال‪ ،‬وأن الرجل هو من يعلن عن ذاته ونفسه بحسن عمله وجهده‪ ،‬وليس‬
‫بكالمه وقوله‪ .‬إنها الصيحة القديمة جدًّا على لغة القول‪ ،‬والباحثة على الدوام‬
‫عن لغة الفعل الفاعلة تتجسد هنا بمقالع داوود وهمته‪ ،‬وعزيمته وعزمه‬
‫ليرفع اهلل به هذه الفئة الصادقة والمحاصرة‪ .‬إنها األسباب التي يهيئها اهلل في‬
‫عالم الغيب هناك ليزيل بها عن عباده الصادقين العنت والمشقة تأتي في‬
‫اللحظات الحاسمة‪ ،‬وذلك بعد أن تكون األمة قد تطهرت من أوضار المادة‪،‬‬
‫وتجردت تمامًا من لغة المصلحة‪ ،‬وارتفعت بصدقها إلى مستوى منهجها‬
‫العالي والصافي معًا‪ .‬ومما ينبغي اإلشارة إليه هنا أن جيش جالوت سقط‬
‫بمجرد سقوط قائده‪ ،‬هذا لينتهي كل شئ بنهاية شخص واحد‪ .‬إنها الشخصنة‬
‫ال هناك سقطت اآلن سقوطًا موحدًا بمقالع‬
‫الجالوتية التي عبثت زمنًا طوي ً‬
‫داوود إيذانًا بواقع جديد سيشكله ذلك المقالع‪ ،‬وذلك بعد أن أذن اهلل بقلع الظالم‬
‫وظلمه‪ .‬إنها السلبية المقيتة‪ ،‬والعبودية الممقوتة انكشفت هنا عندما ربطت‬
‫مصير اآلالف بشخص واحد تبقى ببقائه‪ ،‬وتنتهي بموته‪ .‬ومن المعيب هنا أن‬
‫تبقى هذه العقلية الجالوتية بخطتها القاصرة‪ ،‬وتربيتها الفاجرة تعشعش في‬
‫عسكر المسلمين ودولهم في صورة غاية في السفه والطيش‪ ،‬بل قل غاية في‬
‫الغفلة والعمى‪ .‬إنها العلة التي ينبغي أال يُسمح ببقائها‪ ،‬وإال كان الحال كحال‬
‫‪- 127 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫جالوت وجنده وإن اختلفت الهتافات‪ ،‬وتغيرت الشعارات‪ .‬وينقلنا السياق‬


‫القرآني متحدثًا عن العطاء اإللهي لداوود بعد قتله للمجرم جالوت حيث جمع‬
‫اهلل له بين محبته له في السماء‪ ،‬ووضع القبول والحب له في األرض حيث‬
‫تزوج بنت طالوت‪ ،‬فورث عنه الملك‪ ،‬ومنحه اهلل النبوة ليجتمع له الملك‬
‫والنبوة في صورة هى األولى من نوعها في ذلك الزمن البعيد‪ .‬إنها األرض‬
‫عندما تقبل نحو السماء بنفسها وناسها يحدث كل ذلك‪ ،‬وذلك عندما يصْدُق‬
‫العبد على ظهرها كون األعمال الصادقة هى من تتحدث عن العبد‪ ،‬وتقود‬
‫الناس إليه ليس إال‪ .‬وتختم اآلية بخاتمة تناسب الحديث‪ ،‬وتوضح الحدث بقوله‪:‬‬
‫"ولوال دفع اهلل الناس بعضهم ببعض لفسدت األرض"‪ ،‬فلوال الفئة الصادقة‬
‫والمجاهدة هناك‪ ،‬والمتواجدة أيضًا هنا‪ ،‬والباقية ما بقيت الحياة‪ ،‬لوالها‬
‫لفسدت األرض من فعل المفسدين أمثال العقلية الجالوتية المجرمة‪ .‬إنها الفئة‬
‫القليلة عددًا‪ ،‬والصادقة أهدافًا‪ ،‬والطاهرة قلوبًا هى من توقف العبث‪،‬‬
‫وتستأصل الخبث كي تبقى الحياة‪ ،‬ويستمر األحياء‪ .‬وفي اللحظات التي ينفرد‬
‫فيها الشر فيمتلك الفرس والميدان‪ ،‬ويغيب الحق عن األرض غيابًا تامًا‪ ،‬عندئذٍ‬
‫تفسد األرض‪ ،‬بل وتقوم الساعة كون الفئة الصادقة هى األمان من غضب‬
‫السماء‪ ،‬فإذا انتهت قامت الساعة بال شك‪ ،‬لذا فهى باقية رغم األذى‪،‬‬
‫ومحفوظة مصانة رغم العِدا‪ ،‬وذلك حتى يأذن اهلل بزوال الحياة‪ ،‬وفناء‬
‫األحياء‪ .‬فاعمل باألسباب الشرعية في كل مجاالت حياتك يأتيك الفرج‬
‫لمشاكلك وأزماتك من حيث ال تحتسب‪ ،‬وأثبت رجولتك بأفعالك وإبداعك‪،‬‬
‫واحذر من التحدث بما تفعله‪ ،‬بل دع أعمالك هى من تتحدث عنك‪ ،‬وتدل‬
‫الناس عليك‪ ،‬فهى أفصح منك مقاالً‪ ،‬وأسرع إليك حاالً‪ ،‬واعلم أن الرجولة‬
‫والقيادة ومصدر النصح والريادة هى من نصيب من ينتشل نفسه وأسرته‬
‫ال من هو أزمة في‬
‫وأمته ما استطاع من حالهم وأزماتهم‪ ،‬وليس قائدًا وال عاق ً‬
‫نفسه‪ ،‬ومشكلة بذاته‪ ،‬بل هو جالوت من نوع آخر‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 128 -‬‬

‫ن كَ َفرُواْ َأوْلِيَآؤُهُ ُم‬


‫النوُ ِر وَالَّذِي َ‬
‫ت إِلَى ُّ‬
‫الظلُمَا ِ‬
‫ن ُّ‬‫جهُم مِ َ‬
‫ن آمَنُواْ يُخْرِ ُ‬
‫ِي الَّذِي َ‬
‫اهلل َول ُّ‬
‫( ُّ‬
‫ب النَّا ِر هُمْ فِيهَا‬
‫الظلُمَاتِ ُأوْلَـئِكَ أَصْحَا ُ‬
‫ن النُّو ِر ِإلَى ُّ‬
‫الطَّاغُوتُ ُيخْ ِرجُو َنهُم مِ َ‬
‫خَالِدُونَ{‪.)32()}257‬‬
‫عندما تكثر الفتن‪ ،‬وتتوالى المصائب والمحن‪ ،‬ويتسابق عبيد الدنيا في البحث‬
‫عن والية البشر طمعًا في األمن‪ ،‬ورغب ًة في الحفظ والبقاء‪ ،‬عندئ ٍذ اجعل اهلل‬
‫وليك‪ ،‬فجدد به إيمانك‪ ،‬ووثق به صلتك كي يخرجك من تلك الفتن‪ ،‬وينجيك‬
‫من تلك الباليا والمحن‪ ،‬فهو وحده دون غيره من يخرج المؤمنين من فتن‬
‫األعداء‪ ،‬ومكر األصدقاء‪ .‬والمالحظ هنا مجئ لفظ الجاللة في بداية اآلية‪،‬‬
‫وذلك في إشارة واضحة إلدخال السكينة في قلوب المؤمنين الصادقين وهم‬
‫يرون البحث المزرى‪ ،‬واالدعاء المخزي عن والية البشر في األصل والنسب‬
‫هنا في الدنيا بعيدًا عن والية اهلل هناك في الدين‪ .‬إنه العلم األزلي بالخلق‬
‫والخليقة يتجلى هنا بهذا التعبير القرآني قطعًا لدعاوى البشر المنتظرة‪،‬‬
‫ورؤيتهم القاصرة‪ ،‬فاآلية هنا حددت الوالية بالعمل ال بالنسب أو اللون‬
‫والوطن‪ .‬إنه المنهج السماوي الواضح الذي قطع الطريق مبكرًا على دعاة‬
‫األنساب الباطلة‪ ،‬والواليات األرضية المشبوهة‪ ،‬وذلك ليبقى اإليمان‪،‬‬
‫واإليمان فقط‪ ،‬هو محور الوالية‪ ،‬وأساس االصطفاء والهداية‪ ،‬وال شك في‬
‫ن واح ٍد أصيبت بها أمة الهداية والدعوة‪ .‬نعم هى‬
‫أن انتكاسة قديمة جديدة في آ ٍ‬
‫انتكاسة قديمة كون البحث عن والية اهلل تغير مسارها حيث تحول األمر من‬
‫بحث عن أصول اإليمان وشرائطه ومقتضياته إلى بحث مخزٍ‪ ،‬وعمل مزرٍ‬
‫تناول البحث عن والية اهلل في األنساب واألصالب‪ ،‬وهى نكسة جديدة أيضًا‬
‫كونها مازالت مستمرة تفعل فعلها هنا‪ ،‬وتسقط الخلق في وكرها مخلفة‬
‫وراءها المآسي واألحزان بصورة مؤلمة كما فعلت في الماضي هناك‪ .‬إنها‬

‫(‪ )32‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.257‬‬


‫‪- 129 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫الدعاوى المردودة شرعًا‪ ،‬والساقطة أخالقًا حيث إنه لو كانت الوالية بالنسب‬
‫– كما يدعيه دعاته – لكان أبو طالب مع أبي لهب هم أهل الوالية والنسب‪.‬‬
‫إنه التالعب اللفظي الممقوت الذي قاد األمة إلى الضياع واالنحراف العقدي‬
‫باألمس البعيد‪ ،‬وما زال يكرر ضياعه اليوم بألفاظه المنحرفة‪ ،‬وتأويالته‬
‫المغلوطة‪ .‬وحتى نتذوق حالوة اآلية‪ ،‬ونخرج من ترهات الماضي المخزي‪،‬‬
‫وتأويالت الحاضر المزري في هذا الشأن نعود لمفردات اآلية كي نستشعر‬
‫األمن‪ ،‬ونعيش السكينة في رحاب والية اهلل الكاملة بعيدًا عن التأويالت‬
‫القاصرة‪ ،‬واألفهام البشرية العابثة‪ .‬فتعالوا إذًا لنمضي في رحاب اآلية‬
‫بكلماتها النورانية‪ ،‬وأحرفها الذهبية لنستقي من معينها العذب حقيقة الوالية‪،‬‬
‫وأحقية الهداية‪ ،‬وذلك من خالل سياق اآلية الواضح البعيد عن التأويل‬
‫والتحريف كي يذهب ظمأ الخوف من والية القريب الزائفة‪ ،‬ومكر البعيد‬
‫القاتلة‪ ،‬فإلى اآلية إذًا‪ ،‬حيث يقول اهلل "اهلل ولي الذين آمنوا"‪ ،‬هكذا تبدأ‬
‫البشارة بوالية اهلل لكل مؤمن دون ذكر النسب أو البلد لتشمل الوالية اإللهية‬
‫كل مؤمن بغض النظر عن نسبه وبلده‪ ،‬أو لونه ونوعه في إشارة واضحة‬
‫إلى سقوط تلك المفردات جملة واحدة في ميزان السماء كون اإليمان‪،‬‬
‫واإليمان فقط‪ ،‬هو باعث الوالية الربانية‪ ،‬والرعاية اإللهية وكفى‪ ،‬وثانيا‪ :‬قوله‬
‫"يخرجهم من الظلمات إلى النور" هذه الكلمات تحمل في طياتها معانيٍ‬
‫ال – أن المؤمن ينتظره الكثير والكثير من‬
‫كثيرة‪ ،‬وإشارات دقيقة‪ ،‬ومنها أو ً‬
‫الظلمات والفتن‪ ،‬ويستهدفه الكثير والكثير من الخطط والمحن‪ ،‬حيث يشي‬
‫التعبير القرآني بهذا المعنى‪ ،‬ولكن اهلل يتولى إنقاذ عباده المؤمنين‪ ،‬وإخراج‬
‫أوليائه من كل ظلمة وفتنة‪ ،‬وثانيًا – اللفظ "يخرجهم" بصيغة المضارع‬
‫يوحي بتكرار إخراج المؤمنين من كل فتنة كون الظلمات الملقاة في طريق‬
‫أهل اإليمان متتالية ومستمرة بوسائل مختلفة‪ ،‬فكان اإلخراج والنجاة كذلك‬
‫ال من اهلل ونعمة‪ ،‬ثالثًا – يوحي اللفظ بخطط االستهداف الجماعي الموجه‬
‫فض ً‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 130 -‬‬

‫صوب المؤمنين الذين تجمعهم كلمة اهلل ودينه بصورة موحدة األهداف‪،‬‬
‫ومرتبة األعمال بعيدًا عن المؤمنين الذين تفرق بهم الشمل‪ ،‬وعبثت بهم‬
‫األهواء‪ ،‬فهؤالء ال يخيفون الطاغوت ال في الماضي وال حتى هنا في‬
‫الحاضر‪ ،‬فتفرقهم أعفى الطاغوت منهم‪ ،‬لذا كانت هذه هى الجماعة التي‬
‫يخرجها اهلل من الظلمات إلى النور‪ ،‬وليس غيرهم‪ ،‬ورابعًا – يوحي اللفظ بأن‬
‫الذي يخرج المؤمنين هو اهلل وحده‪ ،‬وليس ذواتهم‪ ،‬وال أشخاصهم‪ ،‬وال عقولهم‬
‫ال‬
‫وذكاؤهم‪ ،‬فهم حققوا اإليمان اعتقادًا بالجنان‪ ،‬وإقرارًا باللسان‪ ،‬وعم ً‬
‫بالجوارح واألركان‪ ،‬فكان اهلل مخرجهم من كل ظلمة‪ ،‬ومنجيهم من كل بلية‬
‫نتيج ًة لصدقهم‪ ،‬فاآلية تشي بأن إيمانهم المجرد من معية اهلل وعونه ال قدرة‬
‫له البتة على دفع الظلمات الموجهة والمعدة‪ ،‬بل بعد هذا اإليمان كان عون‬
‫اهلل وتوفيقه هو الذي أخذ بأيديهم حتى وصل بهم إلى أنه ال يضرهم من خذلهم‬
‫وال من خالفهم حتى تقوم الساعة غير األذى‪ ،‬واألذى فقط‪ .‬إنه اإلخراج‬
‫الجماعي‪ ،‬والنجاة الجماعية ألهل اإليمان من لؤم القريب وخبثه‪ ،‬ومن مكر‬
‫البعيد وحربه يكون على حسب اإليمان‪ ،‬حيث تكون األكمل حفظًا‪ ،‬واألتم‬
‫والية ونصرًا كلما كنت أصدق إيمانًا‪ ،‬وأكثر إخالصًا‪ ،‬وعكس ذلك هو‬
‫صحيح أيضًا‪ .‬ومما ال شك فيه هنا أن مفهوم اللفظ القرآني "يخرجهم" يوحي‬
‫بقدرة اآلخر على إدخال الضيق والمكر والشدة والعسر على عباد اهلل‬
‫المؤمنين ظنًّا منهم أنها النهاية لهذه الجماعة المؤمنة واألمة الهادية‪ ،‬ولكن‬
‫العاقبة الحسنة أن اهلل بلطفه يتداركهم‪ ،‬وبعينه يحرسهم‪ ،‬نعم تحدث الظلمة‪،‬‬
‫ولكنها سرعان ما تنجلي‪ ،‬ويعم الكرب‪ ،‬ولكنه ينجلي‪ ،‬بل وتكون أحيانًا‬
‫اآلزفة‪ ،‬ولكن اهلل يرسل لها كاشفة‪ ،‬وتواصل اآلية حديثها المعبر عن الباطل‬
‫بصيغة جماعية بقوله‪" :‬من الظلمات إلى النور"‪ ،‬حيث جمعت الظلمات‪،‬‬
‫وأُفرد النور في إشارة إلى تعدد الباطل بأشكاله وأشخاصه وطرقه ووسائله‬
‫وخططه ومؤامراته‪ .‬إنه الجمع مع االستمرار والتنوع في إشارة واضحة إلى‬
‫‪- 131 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫سنة الصراع المستمر وقتًا‪ ،‬والمتنقل مكانًا‪ ،‬ولكنه المنهزم حاالً‪ ،‬والزاهق‬
‫مآالً‪ .‬نعم إنهم األشخاص والذوات المتعددة األوجه‪ ،‬والمتنوعة الطرق‪،‬‬
‫والمتلونة المواقف بخططها الكثيرة‪ ،‬ووسائلها الدنيئة‪ ،‬وشعاراتها البراقة‪،‬‬
‫ظلمات بعضها فوق بعض تسقط بذاتها‪ ،‬ويخرج الحق ورجاله منها أقوى‬
‫عودًا‪ ،‬وأكثر صالبة‪ ،‬وأصح دينًا‪ ،‬وأهدى سبيالً‪ .‬ويأتي التعبير والحديث عن‬
‫الحق بكلمة مفردة وهو لفظ "النور"‪ .‬إنه الحق الواحد والواضح بألفاظه‬
‫ومعانيه‪ ،‬وجمله ومبانيه‪ ،‬وتعريفه مع إفراده يكفيه شرحًا‪ ،‬وحسبه من اهلل‬
‫مدحًا‪ ،‬ثم يكون ختام اآلية مناسبًا لبدايتها بقوله "والذين كفروا أولياؤهم‬
‫الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات"‪ ،‬وهكذا يفعل الطاغوت هنا‬
‫فعله في هذا الصنف‪ ،‬فهناك والية اهلل للمؤمنين‪ ،‬وهنا والية الطاغوت‬
‫للكافرين‪ .‬إنها الوالية الشيطانية العابثة تظهر بعبثها الواضح‪ ،‬وبؤسها‬
‫ال معكوسًا في صورة تعبر عن خسارة‬
‫الفاضح‪ ،‬وهى تنقل هذا الصنف نق ً‬
‫ليس معها ربح‪ ،‬وعن غواية ليس بعدها هداية‪ .‬نعم إنه المصير المخزي ينتظر‬
‫الوالية والولى ممثلة بالطاغوت ومعه أتباعه‪ ،‬حيث يجمعهم الخلود هناك في‬
‫جهنم مآل الكافرين‪ ،‬ومستقر والية الطغاة والظالمين‪ ،‬وللعاقل بعد هذا البيان‬
‫ل يُحشر‪ ،‬حيث ال بقاء بغير والية‬
‫أن يختار لنفسه أي والية يريد‪ ،‬ومع أي وا ٍ‬
‫البتة‪ ،‬ولكن يبقى الخالف في نوع الوالية والولي فقط‪ ،‬فاعلم أن والية اهلل ال‬
‫تُنال أبدًا باألنساب‪ ،‬وال باالنتماء دون إيمان‪ ،‬فلو كان االنتماء العاري من‬
‫العمل كافيًا لكان أبو لهب مع أبي طالب من كبار األولياء‪ ،‬ولكنه اإليمان باهلل‪،‬‬
‫وباهلل فقط‪ ،‬هو من يجعلك من أهل بيت النبوة‪ ،‬وما سوى ذلك شعارات تسقط‬
‫فور ظهورها‪ ،‬وتنتهي بمجرد رفعها‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 132 -‬‬

‫ك إِذْ قَا َل إِبْرَاهِي ُم رَ ِبيَ‬


‫َآج إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِ ِه أَنْ آتَا ُه اهللُّ الْ ُملْ َ‬
‫(َألَمْ َت َر ِإلَى الَّذِي ح َّ‬
‫اهلل َيأْتِي بِالشَّمْسِ‬
‫ِن َّ‬‫الَّذِي ُيحْيِـي وَيُمِيتُ قَا َل أَنَا ُأحْيِـي َوأُمِيتُ قَا َل إِبْرَاهِيمُ َفإ َّ‬
‫َاهلل َال َيهْدِي الْ َقوْمَ‬
‫ت الَّذِي كَ َف َر و ُّ‬
‫ب فَ ُب ِه َ‬
‫ن الْمَغْ ِر ِ‬
‫ت ِبهَا مِ َ‬
‫ق َفأْ ِ‬
‫ن الْمَشْرِ ِ‬
‫مِ َ‬
‫الظَّالِمِينَ{‪.)33()}258‬‬
‫عندما يغيب الدين عن الممالك والملوك‪ ،‬وتكون الدنيا فقط هى الحاضرة بكل‬
‫مفرداتها وزينتها عندئ ٍذ يكون الفساد وفقدان الصواب هو األمر الالزم‬
‫والسلوك القائم لهذا الملك‪ ،‬إنه السقوط القديم في وحل المُلك الخالي من الدين‬
‫والقيم يتكشف هنا بصورة بائسة‪ ،‬ويتعالى بصورة منحطة‪ ،‬ويعارض بطريقة‬
‫مكشوفة مغلوطة متجاوزًا األرض‪ ،‬ومتجهًا نحو السماء بكل سفاهة وطيش‪،‬‬
‫وحتى نعيش أجواء اآلية ليتضح لنا من خاللها الكثير والكثير من طيش‬
‫الملوك هناك في الماضي‪ ،‬وتقارب السلوك ألمثالهم هنا في الحاضر‪ ،‬مع‬
‫فارق بسيط في وضوح أولئك‪ ،‬ومخادعة هؤالء ليس إال‪ ،‬فإلى اآلية‪ ،‬فقوله‬
‫تعالى‬
‫"ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه"‪ ،‬أي ألم تعلم هذا أوالً‪ ،‬وثانيًا‪ :‬التعبير‬
‫بهذا اللفظ يشي باستمرار تكرار هذا السقوط في كل ملك ومالك جاءته الدنيا‬
‫وغاب عنه الدين‪ .‬نعم إنه المال بكل مفرداته وتوابعه يعبث ويستمر في العبث‬
‫عندما يخلو بعبيده وأساطينه سواء عبثه هناك أو تكرار عبثه هنا‪ ،‬ثم تنتقل‬
‫اآلية إلى كشف حقيقة ما جرى هناك في إيحاءات كثيرة ومنها – إن اسم‬
‫الموصول "الذي" بحروفه األربعة هو األكرم واألشرف لذا حل محل االسم‬
‫الذي تجاهله القرآن هنا لحماقته‪ ،‬وسوء فعله كعادة القرآن أحيانًا‪ ،‬وحتى‬
‫تتضح القضية حول هذا االسم المجهول يقول أصحاب السير إنه النمرود بن‬
‫كنعان ملكه اهلل الدنيا‪ ،‬فعاش فيها أربعمائة سنة‪ ،‬ولكن الدنيا أخذته بعيدًا‪،‬‬

‫(‪ )33‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.258‬‬


‫‪- 133 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫وأخرجته بمالها وزينتها حتى أسقطته في وحلها‪ ،‬فادعى الربوبية في عهد‬


‫الخليل إبراهيم الذي حصلت معه هذه المحاجة‪ ،‬والتي انتهت بهزيمته‪،‬‬
‫وسقوط حجته‪ ،‬ولكنه العناد والكبر يأبى لغة الحق في صورة تحمل سفهًا مأل‬
‫الزمان والمكان‪ .‬نعم فقد كانت النتيجة هى األمر بإخراج الخليل من بابل في‬
‫بالد العراق‪ ،‬فخرج الخليل مطرودًا‪ ،‬وبقي النمرود هناك كافرًا متكبرًا مع‬
‫قومه حتى أرسل اهلل إليهم البعوض الذى غطى السماء كما يقول أصحاب‬
‫السير‪ ،‬فأكل لحومهم ودماءهم‪ ،‬ولم يتبق سوى القليل منهم وعلى رأسهم‬
‫قائدهم الذى كانت نهايته بئيسة كبؤس قلبه وعقله‪ ،‬حيث أدخل اهلل بعوضة إلى‬
‫ال ونهارًا وال تهدأ أبدًا إال إذا ضُرب رأسه‬
‫رأسه‪ ،‬فكانت تتحرك في رأسه لي ً‬
‫بالنعال‪ .‬إنه التأديب اإللهي لذلك الرأس اإلجرامي الذي تعدى حدوده في‬
‫صورة عدوانية بائسة‪ ،‬حيث ظل على هذا الحال سنوات حتى مات من ضرب‬
‫النعال‪ .‬إنها الحقيقة الواضحة للنفس البشرية الخاوية دينًا‪ ،‬والساقطة أخالقًا‪،‬‬
‫ال عندما يأسرها الهوى‪ ،‬ويحكمها العمى‪ .‬ومما ينبغي ذكره هنا‬
‫والمغيبة عق ً‬
‫كي تتضح الصورة‪ ،‬ويكتمل المشهد فإنه رغم سقوط نمرود األمس إال أنه لم‬
‫ينته فكره وكبره بنهايته‪ ،‬بل هو سقوط يتكرر ويتجدد مع كل نفس تملك الدنيا‬
‫ويغيب عنها الدين ما بقيت الحياة‪ .‬نعم إذا غاب الدين عن الملك والممالك‬
‫والذي هو بمثابة الحارس الذي يمنع السقوط في المعاصي والوحل تكرر‬
‫النمرود من جديد ولو بصور مختلفة بعض الشئ‪ ،‬وتأتي دقة التعبير هنا بلفظ‬
‫"حاج" الذي يحمل السفه النمرودي الدال على عدم تكرر هذه المحاجة مرة‬
‫أخرى معه بسبب انقطاع حجته‪ ،‬وسقوط أوهامه‪ ،‬فالباطل دائمًا ال يحبذ‬
‫الحوار عندما يفتقد الحجة‪ ،‬بل يلجأ إلى القوة لتغطية عجزه‪ ،‬وإخافة قطيعه‬
‫ليس إال‪ .‬كما أن األلفاظ هنا توحي بأن الحوار كان مقتضبًا ومختصرًا جدًّا‬
‫ومقتصرًا على النمرود والخليل فقط دون مشاركة المأل كونهم أضحوا عبيدًا‬
‫ال رأي لهم وال كلمة‪ .‬إنها سياسة التضليل العقدي التي ترعرعت هناك حتى‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 134 -‬‬

‫استسلمت لغبائها العقول‪ ،‬فتماهت لضاللها‪ ،‬وقبلت بزورها حتى أصبحت‬


‫حقائق يؤمن بها أولئك الرعاع في صورة غاية في الضالل واإلضالل‪ .‬وفي‬
‫الحقيقة فإن تمييع العوام وإضاللهم هى سياسة قديمة جديدة يأخذها نمرود‬
‫اليوم من نمرود األمس‪ ،‬مع اختالف في الطريقة واألسلوب‪ ،‬حيث كان نمرود‬
‫ال وحاالً‪ ،‬بينما نماردة اليوم أعمالهم وواقعهم فقط‬
‫األمس واضحًا بفساده مقا ً‬
‫هى التي تكشف فسادهم وعقائدهم‪ ،‬بينما يبقى منطقهم ومقالهم هو المنطق‬
‫المخدر حاالً ومكانًا وزمانًا‪ .‬إنه التمييع المغلف هو الذي يحيا هنا‪ ،‬بينما التمييع‬
‫الواضح هو الذي كان سائدًا هناك‪ ،‬ورابعًا – قوله "في ربه"‪ ،‬حيث تعود هاء‬
‫الضمير هنا على أقرب مذكور – كما يقول علماء اللغة – وهو إبراهيم‪ ،‬وهذا‬
‫إيحاء واضح ودقيق جدًا‪ ،‬حيث يتضح من خالل هذا التعبير الموجز أن‬
‫النمرود لم يعد يعترف بوجود اهلل البتة‪ ،‬حيث الرب هنا هو رب إبراهيم‪،‬‬
‫وإبراهيم فقط‪ ،‬ثم تواصل اآلية كشف األحداث موضحة – وبشكل مختصر‬
‫– حقيقة الملك ومصدره من خالل قوله تعالى "أن آتاه اهلل الملك"‪ ،‬إنها‬
‫الحقيقة التي ينبغي أن يعيها الجميع سواء في الماضي هناك أو في الحاضر‬
‫هنا وهى أن حقيقة الملك ليست حقيقة أرضية ذاتية التملك‪ ،‬بل الملك عطاء‬
‫رباني يضعه اهلل اختبارًا حيث يشاء‪ ،‬وبدون مقابل من العبد الذي أوتيه حيث‬
‫اللفظ القرآني "آتاه" وليس أعطاه يشي بهذا المعنى كونك تقول أعطاني‬
‫فأعطيته‪ ،‬ولكن في اإليتاء ليس له مقابل‪ ،‬وهو المعنى هنا حيث يُعطي الرب‬
‫عبده عطا ًء دائمًا دون مقابل‪ ،‬فهو معنى نفيس فتأمله‪ .‬كما أن هنا معنى نفيسًا‬
‫آخر يتضح من خالل السياق وهو أن هذا العطاء الرباني ال يختص بدين أو‬
‫صالح‪ ،‬بل هو اختبار‪ ،‬واختبار فقط لكال الفريقين على حد سواء‪ ،‬ولكن‬
‫النتيجة الحتمية لهذا الملك هى االنتقال‪ ،‬ومن ثم الزوال‪ ،‬ومع هذه المقدمة في‬
‫اإليتاء الذي عرفنا قيمته يخبر اهلل عن األنفس اللئيمة‪ ،‬والعقول السقيمة ذات‬
‫المعادن النجسة‪ ،‬واألصول البشرية المنحطة في صورتها البئيسة‪ ،‬نعم إنها‬
‫‪- 135 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫األنفس اللئيمة طبعًا‪ ،‬والساقطة خلقًا‪ ،‬والبعيدة دينًا تتنكر لهذا العطاء‪ ،‬بل‬
‫ال للهدم في صورة عبثية مارقة‪،‬‬
‫وتجعل من عطاء اهلل بابًا للفساد‪ ،‬ومعو ً‬
‫وتحت دعاوى إبليسية كاذبة باألحقية والبقاء‪ ،‬وأمام هذه األنفس اللئيمة‬
‫المارقة يبقى الحق موجودًا‪ ،‬وكلمته هى العليا‪ ،‬وكلمة اللؤماء ومنكري العطاء‬
‫اإللهي هى السفلى ولو بعد حين‪ .‬فعندما نتأمل سياق اآلية يتضح لنا هذا‬
‫المعنى‪ ،‬فها هو الخليل حاضر في هذه البيئة الموبوءة‪ ،‬وفي تلك اللحظات‬
‫العقدية الحرجة من التاريخ البشري الطويل الممتد بسيئاته وسوآته بمثل‬
‫هؤالء الملوك‪ ،‬ثم ينقلنا السياق إلى بداية المناظرة حيث يتصدر الخليل ذلك‬
‫المشهد بقوله "ربي الذي يحي ويميت"‪ ،‬إنها اإلشارة التي ينبغي أال تغيب‬
‫أبدًا عن عقول حملة الحق وهم يصارعون السفه والطيش في معترك الحياة‬
‫ودنيا األحياء‪ ،‬فيظل سالح اإليمان ومنطقه وألفاظ اإليمان باهلل هى الحاضرة‬
‫على الدوام في النقاش والحوار والمناظرة‪ ،‬وهذا ال يعني أبدًا إغفال البعد‬
‫السياسي في هذا النقاش‪ ،‬بل ما يراد ذكره هنا هو تأصيل النقاش والحوار مع‬
‫ال شرعيًّا وعقديًّا محكومًا بأخالق الدين وقيمه‪ .‬إنها قوة اإليمان‬
‫اآلخر تأصي ً‬
‫اإلبراهيمية تتجلى هنا بقوة الطرح‪ ،‬وثبات الموقف‪ ،‬ووضوح الرؤية أمام‬
‫الباطل الضعيف حاالً‪ ،‬واألعمى طريقًا حيث كانت هذه هى البداية وبهذه‬
‫القوة‪ .‬إنها اإلشارة الواضحة التي ينبغي على حملة الحق استيعابها في وقوفهم‬
‫أمام الطغيان بكل أشكاله وألوانه وأشخاصه وأفكاره‪ ،‬فالحق والحقائق هى‬
‫وحدها التي ينبغي أن تقف وبكل صدق وثبات أمام الطغيان باألمس البعيد‬
‫وأمام كل طغيان في الحاضر القريب‪ ،‬وهنا ومن خالل الرد النمرودي العبثي‬
‫على حجة الخليل وذلك بقوله "أنا أحيي وأميت" تتضح قدرة الخليل الفائقة‬
‫ال ومبنى من البداية وبطريقة‬
‫على حبس النمرود لفظًا ومعنًى‪ ،‬وفضحه شك ً‬
‫قوية ومحكمة‪ ،‬فقد ألجأ الخصم إلى البحث عن الحيل والمخارج الضيقة من‬
‫بداية الطريق لينتهي به األمر إما باالستسالم واإلسالم‪ ،‬أو بفضحه بين األنام‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 136 -‬‬

‫ومن ناحية أخرى تتضح هنا وأمام حجة الخليل سياسة الطغيان القائمة على‬
‫التمويه والتتويه والمخادعة والخداع حيث جئ برجلين فقتل أحدهما مدعيًا‬
‫إماتته‪ ،‬والعفو عن اآلخر مدعيًا إحياءه‪ .‬إنه العبث بالدماء البشرية بهذه‬
‫الطريقة النزقة الخالية من كل القيم‪ ،‬وذلك حفاظًا على الملك والزعامة‪ ،‬وهى‬
‫الحقيقة التي تقوم عليها ممالك الظلم في كل زمان كون السقوط القيمي‬
‫الصارخ‪ ،‬والغياب األخالقي التام يظهر بكل وحشية‪ ،‬وهنا ومن خالل هذا‬
‫الرد ومحاولة الهروب من الهزيمة المتوقعة تتكشف لدينا سياسة المخادعة‬
‫التي ينبغي على حملة الحق معرفتها‪ ،‬واالستعداد المسبق للتعامل معها‪ ،‬وهى‬
‫أن الباطل يملك ما يقوله ألنصاره كي يشحذ به هممهم‪ ،‬ويكسب به والءهم‬
‫بسبب جهلهم‪ ،‬وهو ما يعني وجوب تحرك حملة الحق لمعرفته‪ ،‬ومن ثم كشف‬
‫زيفه‪ ،‬وفضح كذبه‪ .‬إن معرفة حقيقة الشُّبه التي يقوم عليها الباطل‪ ،‬ومن ثم‬
‫يستعلي بها على أنصاره ورعاعه‪ ،‬ويقودهم بها تغريرًا ومخادعة‪ ،‬وإضالالً‬
‫ومعاندة هى أولى الخطوات التي ينبغي معرفتها وتفنيدها في طريق النصر‬
‫والتمكين‪ ،‬لذا فإن هذه المعرفة هناك في بابل كانت في ذاكرة الخليل‪ ،‬فتعامل‬
‫ال "فإن‬
‫معها بلغة أخرى هى األقوى واألنكى لهذا الخصم في هذا الموقف قائ ً‬
‫اهلل يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب"‪ ،‬فالمعرفة المسبقة‬
‫ببضاعة الخصم وشبهه تقود حملة الحق حتمًا لتعرية هذا المخادع وكشفه‪،‬‬
‫وهذا هو الذي ظهر هنا من خالل هذه الجملة اإلبراهيمية التي أسكتت العبث‪،‬‬
‫وألجمت الخبث في حينه إلى يوم الدين‪ .‬ومما ينبغي اإلشارة إليه هنا هو أن‬
‫إبراهيم كان بإمكانه أن يبدأ بهذه الحجة الكبيرة من البداية وينتهي األمر‪،‬‬
‫حمَلة الحق بوجوب عدم إلقاء كل ما تملك من‬
‫ولكنها التربية اإللهية له ول َ‬
‫حجج وبراهين ومعطيات وأدلة ضد خصمك وعدوك‪ ،‬بل اجعل لكل دليل‬
‫وقته‪ ،‬ولكل برهان مكانه‪ ،‬ولكل حجة زمانها وزمامها‪ .‬إنها لغة االحتياط‬
‫اللفظي‪ ،‬والتريث الحججي‪ ،‬والتدرج البياني تظهر هنا بصورة غاية في‬
‫‪- 137 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫الروعة والجمال كون الهداية‪ ،‬والهداية فقط‪ ،‬هى المقصد والغاية قبل الكشف‬
‫والنكاية‪ ،‬مع وجوب أن يملك حملة الحق الكثير من البدائل عندما يكونون في‬
‫مثل هذا الموقف‪ .‬وتأتي نهاية هذا النمرود كاشفة حقيقة الباطل وخبثه وهو‬
‫يتهرب من الحقائق والحق طمعًا في الرياسة والملك‪ ،‬وحرصًا على البقاء‬
‫بلغة القوة والبهتان حيث انهزم وسكت‪ ،‬وأمر بإخراج الخليل من بابل حرصًا‬
‫على عقيدة القوم على حد زعمه‪ .‬نعم خرج الخليل من بين أظهرهم في رسالة‬
‫واضحة المعالم مفادها أن البالغ‪ ،‬والبالغ فقط‪ ،‬هو الواجب‪ ،‬وأن إقامة الحجة‬
‫الواضحة على اآلخر هى بداية النهاية‪ ،‬وأن مفارقة األوطان بعض الوقت‬
‫ضريبة يجب دفعها في لحظات استثنائية مؤقتة قبل العودة واألوبة‪ .‬ومما‬
‫ينبغي ذكره أن هذا اإلخراج سواء هناك‪ ،‬أو تكرره هنا هو سلوك رذيل وقديم‬
‫سرعان ما يسقط منفذوه‪ ،‬ويتالشى مناصروه‪ ،‬كما أن هذا اإلخراج لم ولن‬
‫يحمى الطغيان من السقوط على اإلطالق‪ ،‬بل سلوكه وحماقته هى المقدمة‬
‫العاجلة لسقوطه بال شك‪ .‬إنها النهاية المنتظرة‪ ،‬والتي جاءت بعد ذلك إلنهاء‬
‫هذا العبث‪ ،‬واستئصال ذاك الخبث عن طريق جيش من البعوض الذي مأل‬
‫السماء‪ ،‬وانقض على بابل إلسقاطها واستئصال خبثها إلى األبد‪ .‬نعم إنها‬
‫النهاية الحتمية لتلك الرؤوس التي نفخها الكبر‪ ،‬وأثقلها الغرور تنتهي هناك‬
‫ليلحق بعدها كل رأس تجاوز حده ولو بعد حين‪ ،‬فثق بربك‪ ،‬واعلم أن سياسة‬
‫الكذب والتزوير والمخادعة تنقطع حبالها‪ ،‬ويفضح أمرها‪ ،‬وأن كلمة اهلل تبقى‬
‫هى العليا دائمًا ولو كره الكافرون‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 138 -‬‬

‫ف ُتحْيِـي الْ َموْتَى قَا َل َأوَلَمْ ُتؤْمِن قَالَ َبلَى َولَـكِن‬


‫ب َأرِنِي كَيْ َ‬
‫( َوإِذْ قَالَ إِبْرَاهِي ُم رَ ِ‬
‫علَى كُ ِل جَ َبلٍ‬
‫ُم اجْعَلْ َ‬
‫ك ث َّ‬
‫ُن ِإلَيْ َ‬
‫صرْه َّ‬
‫ن الطَّيْ ِر فَ ُ‬
‫ِن َقلْبِي قَا َل فَخُذْ َأرْبَعَ ًة مِ َ‬
‫لِ َيطْمَئ َّ‬
‫عزِيزٌ حَكِيمٌ{‪.)34()}260‬‬
‫َن اهللَّ َ‬
‫ك سَعْياً وَاعْلَمْ أ َّ‬
‫ُن َيأْتِينَ َ‬
‫عه َّ‬
‫ُم ادْ ُ‬
‫جزْءًا ث َّ‬
‫مِنْهُنَّ ُ‬
‫أقصى ما يستطع فعله المخلوق هو أن يمنح غيره من أثر قدرته وقوته‪ ،‬وليس‬
‫إعطاؤه قدرته أو قوته‪ ،‬وذلك مساعدة وعونًا‪ ،‬بينما الخالق سبحانه يعطي‬
‫قدرته – كما هو الحال هنا – لمن شاء من خلقه‪ ،‬وذلك امتنانًا وتعليمًا وحلمًا‪.‬‬
‫إنه الفرق الكبير‪ ،‬والكبير جدًّا‪ ،‬والذي ال مكان وال مجال فيه للمقارنة البتة‪،‬‬
‫ولكن فقط أردنا المثال كي يتضح المقال كما يقال ليس إال‪ .‬وعند الحديث عن‬
‫سؤال الخليل هنا البد من ذكر تعلق هذه اآلية بما قبلها‪ ،‬حيث كانت قصة‬
‫العزير وتعجبه من كيفية إحياء اهلل للقرية الخاوية بعد موتها‪ ،‬فكانت نتيجة‬
‫السؤال إماتته مئة عام ثم بعثه بعد ذلك‪ ،‬وإظهار اهلل لقدرته في اإلحياء‬
‫واإلماتة وهو ينظر دون أن يكون له دور في الحدث‪ ،‬كما تفضل اهلل على‬
‫خليله هنا حيث منحه من قدرته ال لينظر فحسب كما هو الحال عند عزير‪،‬‬
‫بل هو بأمر اهلل الفاعل‪ ،‬وذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء‪ ،‬هذا أوالً‪ ،‬وثانيًا‪:‬‬
‫القصة التي سبقت هذه اآلية وهى موقف الخليل نفسه مع جبار بابل وكافرها‪،‬‬
‫والتي لمسنا فيها تفسير وعبث ذلك المحاجج وهو يزوِّر ويغير مفهوم اإلحياء‬
‫واإلماتة بطريقة عبثية مكشوفة كما هى عادة الطغاة دائمًا في تزوير الحقائق‪،‬‬
‫ولي أعناق النصوص وتأويلها بما يحقق عبثهم‪ ،‬ويُبقي طغيانهم‪ ،‬فكانت تلك‬
‫الحركة النمرودية بطريقة هى مدعاة للسخرية‪ ،‬وعالمة على السفه والطيش‬
‫بذلك التأويل المكشوف شكالً‪ ،‬والمفضوح لفظًا ومعنى‪ .‬لذا كانت هذه اللوحة‬
‫اإلعجازية والمنحة اإللهية للخليل بعد كل تلك المواقف واألحداث وغيرها‬
‫بمثابة التوضيح لها‪ ،‬ولكن بطريقة هى الحقيقة المطلقة التي تسقط أمامها كل‬

‫(‪ )34‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.260‬‬


‫‪- 139 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫دعوى‪ ،‬وتتوارى عندها كل فتوى‪ ،‬وبعد تلك الجولة جاءت هذه اآلية التي‬
‫نحن بصددها موضحة وشارحة لمفهوم اإلحياء واإلماتة من جانب‪،‬‬
‫وموضحة لقدرة الخالق جال في عاله وهو يمنح من قدرته لخليله في صورة‬
‫غاية في اإلعجاز والبيان من جانب آخر‪ ،‬فإلى اآلية إذًا‪ ،‬فقوله‪" :‬وإذ قال‬
‫إبراهيم رب أرني كيف تحيى الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى‪ ،‬ولكن ليطمئن‬
‫قلبي‪ ،"...‬إنه السؤال الذي أسقط ضعاف اإليمان هنا لسوء فهمهم‪ ،‬وسذاجة‬
‫بضاعتهم حيث قالوا إن الخليل بسؤاله هذا يشك في ربه‪ ،‬واألمر ليس كذلك‬
‫لعدة أسباب ومنها أوال – أن الخليل وبكل وضوح سأل عن الكيفية وليس عن‬
‫األصل‪ ،‬فلم يقل رب هل تحيى وتميت‪ ،‬بل قال كيف تحيى‪ ،‬والكيفية هنا ال‬
‫تتدخل في قضية اإليمان ال من قريب وال من بعيد‪ ،‬ثانيًا – لو كان األمر كما‬
‫يقول ضعاف اإليمان أن إبراهيم شك في اهلل لما منح اهلل له هذه القدرة فيما‬
‫بعد كون اهلل ال يمنح وال يعطي وال يتفضل على من يشك به كائنًا من كان‪،‬‬
‫ثالثًا – إبراهيم اختاره اهلل نبيًّا ورسوالً‪ ،‬وهو خليله في األرض‪ ،‬وهذا يعني‬
‫علم اهلل المسبق بإخالص باطنه وتصديقه لربه في كل أحواله وأقواله وأفعاله‬
‫وإال لما اختاره‪ ،‬ورابعًا – سبق ووقف الخليل موضحًا لجبار بابل الذي ادعى‬
‫ال له "ربي الذي يحيى‬
‫قدرته على اإلحياء واإلماتة هناك في بالد العراق قائ ً‬
‫ويميت"‪ ،‬مع علم الخليل أن صراحته تلك قد تحمل ذلك الدعى على قتله‪،‬‬
‫ولكن الخليل ال يبالي بنفسه كونه يقول الحق الذي يعتقده‪ ،‬ويؤمن به‪ ،‬فال‬
‫مواراة وال محاباة أن يموت على الحق الذي يعتقده‪ ،‬ويدعو إليه‪ ،‬فكيف إذًا‬
‫يقدم نفسه ورأسه هناك من أجل معتقده الواضح بربه في اإلحياء واإلماتة‪،‬‬
‫ثم يأتي ليشك هنا حاشاه وحاشاه‪ .‬هذه اإلجابات وغيرها التي ال يتسع المقام‬
‫لذكرها كلها تروي العليل‪ ،‬وتزيل شك من لم يفهم اآلية لقلة علمه وإال فالقضية‬
‫واضحة‪ .‬والعجيب هنا سؤال اهلل سبحانه للخليل بقوله "أو لم تؤمن"‪ ،‬وهذا‬
‫السؤال من اهلل جاء بهذه الصيغة الواضحة حتى ال يترك عديمي الفهم يذهبون‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 140 -‬‬

‫بعيدًا عن عقيدة إبراهيم الصافية النقية‪ ،‬فسؤال اهلل هذا لخليله للتوضيح للخلق‪،‬‬
‫ولكي يجعل اهلل الخليل يُسمع الدنيا حقيقة سؤله‪ ،‬وصحة معتقده‪ ،‬وليس جهالً‬
‫من الخالق جل في عاله‪ ،‬فحاشاه سبحانه أن يخفى عليه شئ وهو الذي يعلم‬
‫خائنة األعين وما تخفي الصدور‪ .‬إنها السماء تتحرك إلعادة الفهم السوي‬
‫لألرض‪ ،‬وذلك بعد الخدش والعبث الفارغ الذي ظهر هناك في بابل في‬
‫صورة غاية في الكذب والزور‪ .‬كما أنها إشارة دقيقة تتضح من خالل السياق‬
‫بضرورة توضيح كل ما أشكل على الخلق من قِبَل أهل العلم والخبرة كل في‬
‫مجاله وتخصصه‪ ،‬وذلك حتى ال يتوه الخلق في أوساط التائهين‪ .‬نعم فهذه‬
‫المعجزة وغيرها لن تتكرر‪ ،‬وما ذكرت هنا إال للتوضيح‪ ،‬وإيقاف عبث‬
‫العابثين سوا ًء أكان ذلك العبث لفظيًّا أو فعليًّا‪ ،‬فيبقى التوضيح بالحجج‬
‫والدالئل هو سالح اليوم كما كان هناك سواء بسواء‪ ،‬كما أنه اتضح ووضح‬
‫في هذا الزمان مع تقدم وسائل العلم الحديثة إمكانية استغالل تلك الوسائل في‬
‫البحث العلمي في الكون واإلنسان بما يحقق صدق الرسالة‪ ،‬وصدق المُرسِل‬
‫والمُرسَل‪ ،‬وذلك بكسر السين مرة لتدل على اهلل‪ ،‬وفتحها أخرى لتدل على‬
‫نبي اهلل‪ .‬إذًا فالسؤال هنا بقول اهلل إلبراهيم "أو لم تؤمن"‪ ،‬فكان الجواب‬
‫اإلبراهيمي "بلى"‪ ،‬أي أنا مؤمن بك يارب أنك أنت من تحيى‪ ،‬وأنت وحدك‬
‫من تُميت توضيحًا للخلق ليس إال‪ ،‬فما هو المطلوب إذًا من هذا السؤال ؟‬
‫المطلوب هو "ولكن ليطمئن قلبي"‪ ،‬أي ينشرح ويتمتع بكيفية اإلحياء‪ ،‬وذلك‬
‫حتى ال تتكرر دعاوى هذا األمر لدى طغاة الزمان حيث الحظ الخليل انطالء‬
‫هذا المعنى على قوم النمرود في بابل‪ ،‬فأصبح لديهم هناك مفهوم مغلوط عن‬
‫معنى اإلحياء واإلماتة‪ ،‬فحتى ال تتكرر تلك الدعاوى الباطلة أراد الخليل هنا‬
‫كشف هذه الحقيقة للدنيا كي تعرفها‪ ،‬وتعرف كنهها وحقيقتها‪ .‬نعم إنه إلهام‬
‫اهلل لخليله بهذا السؤال ليفضح من خالله دعاة ومزوري كيفية اإلحياء واإلماتة‬
‫أمثال النمرود ومن يأتي بعده ويحمل عقليته إلى األبد سواء بتلك الطريقة‬
‫‪- 141 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫السمجة هناك أو حتى بما يسمى اليوم بالطرق العلمية الحديثة هنا في هذا‬
‫الشأن كما يحدث تحت مسمى االستنساخ‪ ،‬والذي ال يعتبر خلقًا على اإلطالق‬
‫كما رُوج للموضوع في وسائل العصر الحديثة وبطريقة مفضوحة كفضيحة‬
‫النمرود باألمس مع بعض االختالف طبعًا‪ ،‬إذ أن ما يجري اليوم هو عملية‬
‫استنساخ كاسمها من أصل‪ ،‬وليس إحيا ًء من عدم‪ ،‬وهى لفتة مهمة فتأملها‪ .‬إذًا‬
‫فلنعد إلى اآلية لنرى اآلن قدرة القادر سبحانه وهو يُجري قدرته على يد عبده‬
‫وخليله إبراهيم لينتهي عبث األلفاظ في اإلحياء واإلماتة وإلى األبد‪" ،‬قال فخذ‬
‫أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ثم ادعهن‬
‫يأتينك سعيًا واعلم أن اهلل عزيز حكيم"‪ ،‬وهنا يتجلى أمامنا معنى في غاية‬
‫الدقة وهو القدرة اإللهية على منح عبده جزءًا من قدرته سبحانه في صورة‬
‫معجزة ومخالفة لفعل البشر وقدراتهم‪ ،‬وذلك في توضيح للقاعدة التي بدأنا‬
‫الحديث بها وهى أن قصارى ما يستطيع فعله المخلوق هو أن يساعدك إن‬
‫ال كونه ال يملكها حقيقة‪ ،‬بل ملكه اهلل إياها‬
‫أراد بأثر قدرته‪ ،‬وليس بقدرته أص ً‬
‫له وحده‪ ،‬وغير قابلة للتعدي كي يهديها لغيره كأن تكون عاجزًا عن حمل‬
‫ثقيل ما فيأتي من هو أقوى منك فيساعدك بحمل ثقيلك‪ ،‬وليس يمنحك قوته‬
‫وقدرته‪ ،‬بل بأثر تلك القوة والقدرة‪ ،‬بينما قوته وقدرته تبقى معه‪ ،‬وتبقى أنت‬
‫محتفظًا بعجزك ذاك‪ ،‬وال قدرة ألحد البتة أن يفعل كفعل اهلل مهما بلغ حبه‬
‫لك‪ ،‬وشفقته عليك‪ ،‬بينما منح اهلل هنا خليله هذه القدرة في اإلحياء واإلماتة‪،‬‬
‫فصار هو الفاعل‪ ،‬وتلك معجزة له بكرم من اهلل وفضله‪ .‬إنه التكريم اإللهي‬
‫ليدحض به الفكر الشيطاني النمرودي وهو يدعي ما ال يقدر عليه‪ ،‬فكانت يداه‬
‫المتسخة كاذبة‪ ،‬بينما كانت – بأمر اهلل – األيدي اإلبراهيمية هى الصادقة‬
‫هنا‪ ،‬والصادقة هناك‪ .‬نعم فكما ثبتت لسانه وجوارحه أمام النمرود وكذبه‪ ،‬فتم‬
‫إبعاده لصدقه‪ ،‬وقوة حجته كان هذا التكريم اإللهي له هنا وبهذه الصورة‬
‫الجمالية التي ال منتهى لجمالها وقدرتها كون أصلها في السماء‪ ،‬وفاعلها بأمر‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 142 -‬‬

‫اهلل في األرض ليبقى ذكره وصدقه في مسامع األيام وَُأذْن الزمان حتى ينتهي‬
‫عمر الدنيا‪ ،‬وهذا شأن المؤمن الصالح فإنه – وبدون شك – يخلد ذكراه في‬
‫األرض والسماء على قدر صالحه‪ .‬وقد بدأت اآلن العملية حيث أخذ إبراهيم‬
‫أربعة من الطير بأمر اهلل ال من البشر كما فعل القاتل النمرود‪ ،‬أو كما يفعل‬
‫قتلة اليوم‪ .‬إنها اإلشارة الواضحة والداعية من خالل السياق إلى تعظيم حرمة‬
‫النفس البشرية‪ ،‬وعدم جواز إزهاقها للتمثيل أو التجريب والتشريح وهى حية‬
‫سوية‪ ،‬ولو كانت هذه النفس ملكك سواء ذاتك أنت أو ولدك أو من تدير شأنهم‪،‬‬
‫وتتحمل مسؤليتهم‪ ،‬وذلك كما فعل القاتل النمرود هذا أوالً‪ ،‬وثانيًا‪ :‬جواز‬
‫التشريح الحيواني بعدد محدد‪ ،‬وليس بطريقة عبثية كونها طيور حيث أن‬
‫تحديد األربعة بهذا الشكل يشي بحرمة العبث حتى بالطير بغرض التمثيل‪،‬‬
‫أو دون حاجة ضرورية تذكر‪ ،‬بل يكون من قبل الفعل البشري إذا تطلب‬
‫األمر توضيحًا أو تعليمًا أو فائدة ما بطريقة محددة‪ .‬وهو ما يسمى بعلم‬
‫التشريح حاليًا من هذا المنطلق‪ .‬إنه التقديس للنفس من قبل الخالق سبحانه مع‬
‫أنه الخالق والمالك يفعل ما يشاء في ملكه‪ ،‬ولكنه يُعلِّم خلقه حرمة العبث‬
‫والتجاوز ولو كان األمر ملكك وتحت تصرفك سواء بالطير أو بغيره إال إذا‬
‫اقتضت الحاجة‪ .‬وهذا التقديس الرباني للنفس هنا‪ ،‬وعدم استخدامها بغرض‬
‫التمثيل يقابله ذلك العبث البشري المزري من قبل المخلوق عندما يفقد‬
‫صوابه‪ ،‬ويضل طريقه كما فعل النمرود هناك‪ .‬وتعالوا لنعود إلى سياق القصة‬
‫كونها باالنتظار لنتربى من خاللها‪ ،‬ونعرف قدرة الخالق سبحانه من خالل‬
‫محتواها‪ ،‬فبعد الذبح أُمر الخليل بوضع رؤوس الطيور األربعة بيده حيث‬
‫اللفظ القرآني "فصرهن"‪ ،‬أي قطعهن يشي بمعنى التقطيع مع االحتفاظ بجزء‬
‫منها وهى الرؤوس – كما ذكر ذلك المفسرون – كي تتم هذه اآلية العجيبة‪،‬‬
‫والعجيبة جدًّا‪ ،‬في لوحة فنية غاية في الروعة واإلعجاز‪ ،‬ثم أخذ الخليل‬
‫لحومها بعد خلطها حيث اللفظ القرآني "منهن" يشي بهذا المعنى‪ ،‬ثم قام‬
‫‪- 143 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫بوضع أجزاء من ذلك اللحم المخلوط على قمة كل جبل كي تبدأ المرحلة‬
‫األخيرة والعجيبة في قدرة اهلل الغالبة – جل شأنه‪ ،‬وتقدست أسماؤه – وهو‬
‫يمنحها لخليله ونبيه في صورة تكريمية مبدعة‪ ،‬وهنا جاء األمر اإلبراهيمي‬
‫األخير – كما علمه اهلل – بندائها بصوت عال حيث قال "أيتها الطيور‬
‫ى بأمر اهلل"‪ ،‬فتجمعت لحومها من كل جبل أمامه‪،‬‬
‫المذبوحة قومي وهلمي إل ّ‬
‫ثم أخذ ينظر ويشاهد ولحومها يتمايز بعضها عن بعض‪ ،‬فكل جزء ينضم إلى‬
‫صاحبه بطريقة ال قدرة ألحد على تخيل عظمتها‪ ،‬حتى إذا اكتمل التكوين‬
‫الجسماني لكل طير نُفخ في كل واحد منها الروح‪ ،‬وقامت متحركة نحو الخليل‬
‫ورؤوسها بيده‪ ،‬حيث اختلطت‪ ،‬ولم يعد الخليل قادرًا على تمييز رأس كل جثة‬
‫كون الطيور موحدة الهيئة‪ ،‬فكانت المعجزة األخرى بعدم تقبل كل جثة لرأس‬
‫ليس رأسها حتى أخذ كل طير رأسه‪ ،‬ثم عادت كما كانت بلحمها وعظامها‬
‫وعروقها ودمائها‪ ،‬ثم انطلقت في السماء ذاهبة من حيث أتت بعد مشهد يحمل‬
‫الكثير والكثير من العبر‪ .‬إنها الصورة الحقيقية لحقيقة البعث بعد الموت‪،‬‬
‫حيث يشير هذا الحدث إلى قدرة اهلل الغالبة على جمع هذا المخلوق اإلنساني‬
‫وغيره من مخلوقات اهلل بعد الموت‪ ،‬ولو تمزقت أجزاؤه‪ ،‬وتفرقت أشالؤه‬
‫هو وبقية المخلوقات‪ ،‬وذلك للحساب والجزاء في موقف ال يظلم ربك فيه‬
‫أحدًا‪ .‬إنها المعجزات التي أيد اهلل بها أنبياءه ورسله إلثبات صدقهم‪ ،‬وتأكيد‬
‫إرسالهم جاءت إلينا‪ ،‬وجُمعت لنا في هذا الكتاب القرآني الخالد لنحيا على‬
‫بصيرة‪ ،‬ونموت أيضًا على بصيرة‪ .‬ثم تُختم اآلية بما يناسب الحدث‪ ،‬ويُجمل‬
‫الحديث‪ ،‬وذلك بقوله "واعلم أن اهلل عزيز حكيم"‪ ،‬فكل ما تم إنما تم بعلم اهلل‬
‫وأمره كونه عزيزًا بأوامره‪ ،‬وحكيمًا في صنعه‪ ،‬يضع كل شئ بموقعه‬
‫ومكانه‪ ،‬فدع بعد ذلك أسئلة الشك‪ ،‬واعلم أن اهلل يجمع خلقه ومخلوقاته ليوم‬
‫عظيم وإن تناثرت أجزاؤهم‪ ،‬وتفتتت عظامهم‪ ،‬وأنه ال يمكن أبدًا أن يصير‬
‫جزء من عظامك آلخر‪ ،‬كما أنه لن يضيع جزء منك أبدًا حتى تلك القشرة‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 144 -‬‬

‫الجلدية الصغيرة التي قطعت منك عند ختانك تبعث معك لتنال ما ينال جسدك‬
‫ح َكمِ ِه النافذه‪ ،‬وإرادته الغالبة‬
‫من النعيم أو العذاب‪ .‬إنها عدالة اهلل المطلقة‪ ،‬و ِ‬
‫التي تسقط أمامها كل إرادة وحكم‪ ،‬واعلم أيضًا أن اآليات العلمية في هذا‬
‫الزمان في الكون واإلنسان والحيوان والنبات وكل ما خلق اهلل بابًا عظيمًا‬
‫إلحياء الفكر‪ ،‬وزيادة اإليمان‪ ،‬فال يفوتك النظر في هذا الباب لجماله‪ ،‬وروعة‬
‫مردوده اإليماني في زمان كهذا الذي نعيشه ونحياه‪.‬‬
‫‪- 145 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ن مَا أَنفَقُوُا مَنّا وَ َال أَذًى َّلهُمْ‬


‫ُم َال يُتْبِعُو َ‬
‫هلل ث َّ‬
‫ن أَمْوَاَلهُمْ فِي سَبِي ِل ا ِ‬
‫ن يُنفِقُو َ‬
‫(الَّذِي َ‬
‫علَيْهِمْ وَ َال هُمْ َيحْزَنُونَ{‪.)35()}262‬‬
‫خوْفٌ َ‬
‫َأجْرُهُمْ عِن َد رَ ِبهِمْ وَ َال َ‬
‫عندما تتحرر الجماعة المؤمنة واألمة الهادية من رق المادة‪ ،‬وشح النفس‪،‬‬
‫وطمع الذات‪ ،‬ويغدو اإلنفاق الخالي من المن واألذى هو ديدنها‪ ،‬وسلوك‬
‫أصيل في حياتها عند َئ ٍذ يزول عنها كل خوف‪ ،‬ويؤمِّنها اهلل من كل حزن‪ .‬إنها‬
‫اللفتة القرآنية الجامعة هنا تعبر عن الوضع المالي للمجتمع اإلسالمي النظيف‬
‫يدًا‪ ،‬والكريم عطاءًا‪ ،‬والرحيم قلبًا‪ ،‬والطاهر مكانًا وزمانًا في لوح ٍة غاية في‬
‫الجمال والكمال‪ ،‬وحتى نتذوق حالوة العطاء ننتقل إلى اآلية كي نعيش مع‬
‫ألفاظها المعبرة‪ ،‬وكلماتها النيرة لنتربى بها ومن خاللها كي نأمن بعد خوف‪،‬‬
‫ونسعد بعد حزن كون اإلنفاق المحكوم بالشرع هنا يزيل المخاوف‪ ،‬ويطفئ‬
‫األحزان‪ ،‬فإلى اآلية إذًا‪ ،‬فقوله "الذين ينفقون أموالهم في سبيل اهلل"‪ ،‬إنه‬
‫الترغيب الخالي من األمر في هذه اآلية بالذات يظهر بصورة مختصرة معبرًا‬
‫عن حقيقة الجماعة المؤمنة الكريمة السخية المعطاءة في صورة ذاتية بحتة‬
‫حيث جاء بقوله "ينفقون" بصيغة المضارع مع واو الجماعة الدالة على عطاء‬
‫جماعي مستمر‪ ،‬وهذا التعبير يدل على أن ذهاب الخوف‪ ،‬وحلول السعادة في‬
‫مجتمع اإليمان ال يكون أبدًا إال بهذا السلوك اإليجابي‪ ،‬والكرم المجتمعي‪.‬‬
‫وجاء التعبير القرآني الجميل بقوله "أموالهم حيث نسب المال لهم‪ ،‬ولم يقل‬
‫ن دقيقة توحي بأنهم ينفقون من خالص‬
‫ينفقون األموال‪ ،‬وفي هذه اإلضافة معا ٍ‬
‫أموالهم‪ ،‬ومن طيب قلوبهم كون النفس البشرية أحيانًا قد تنفق من مال هو في‬
‫الحقيقة ليس ملكها كأن تكون مؤتمنة عليه‪ ،‬أو ملكها‪ ،‬ولكنها تنفق الردئ منه‪،‬‬
‫فكان التعبير بهذا اللفظ ليزيل كل هذا الغبار وغيره بال شك‪ .‬ويزداد الموضوع‬
‫ال من خالل التقييد الرباني الواضح بقوله سبحانه "في سبيل اهلل"‪ ،‬إنها‬
‫جما ً‬

‫(‪ )35‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.262‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 146 -‬‬

‫دعوة السماء لمجتمع األرض كي يخلص في عطائه‪ ،‬ويصدق في نفقته‪ ،‬ال‬


‫يبغي بذلك العطاء طينة األرض وماءها‪ ،‬بل كرم السماء ونعيمها‪ .‬كما أن‬
‫كلمتي في سبيل اهلل تفتح الباب واسعًا وكأنها تنادي مجتمع األرض قائلة‬
‫لطالما هو في سبيل اهلل فال حرج إذًا أن تضعه حيث تشاء‪ .‬إنها الدعوة الخفية‬
‫التي تتضح من خالل السياق‪ ،‬وذلك بفتح الطرق الواسعة في أبواب الخير‪،‬‬
‫وعدم تقييد اإلنفاق في مكان واحد‪ ،‬أو في شخص واحد‪ ،‬أو حتى في مجال‬
‫واحد‪ ،‬فالتعبير يشي بكل تلك المعاني‪ ،‬ثم تتواصل التحذيرات السماوية‬
‫لمجتمع األرض المعطاء بصورة غاية في الروعة والجمال‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫التحذير الواضح لأليادي البيضاء من عبث الشيطان المتمثل بالمن واألذى‬
‫بعد اإلنفاق‪ ،‬والمنفق المنان هنا هو الذي يمن أي يذكر‪ ،‬ثم يعدد نفقته كلما‬
‫ال وهو المن‪ ،‬أو تشكيًّا وسبًّا إن خالفه من‬
‫رأى من أحسن إليه‪ ،‬وذلك إذال ً‬
‫أعطاه وهو األذى‪ ،‬لذا كان الربط بين لفظي اإلنفاق وفي سبيل اهلل في بداية‬
‫اآلية درءًا للمن واألذى الذي يبطل الصدقة في األرض‪ ،‬ويسقط المتصدق‬
‫من ع ين اهلل في السماء‪ .‬فكلما كان اإلنفاق خالصًا وفي سبيل اهلل كلما انتفى‬
‫وانتهى المن واألذى‪ ،‬والعكس أيضًا صحيح‪ ،‬ويبقى االحتراز اللفظي هنا هو‬
‫سيد الموقف كون المتحدث هو اهلل الذي يعلم البواطن والظواهر حيث نهى‬
‫عن المن واألذى بصورة غاية في الدقة حيث جاء باللفظين نكرتين بقوله "منًّا‬
‫وال أذًى"‪ ،‬ولم يقل ثم ال يتبعون ما أنفقوا المن واألذى‪ ،‬وذلك التعبير مع‬
‫التنكير يوحي بالرفض السماوي الواضح للمن واألذى تصريحًا أو تلميحًا‪.‬‬
‫إنها المحاذير السماوية والتعليمات اإللهية حتى ال يجتمع على هذا المحتاج‬
‫ذل الحاجة وذل الكلمة‪ ،‬هذا من ناحية‪ ،‬وحتى ال تبطل نفقة المنفق بمنه وأذاه‬
‫من ناحية أخرى‪ ،‬فكانت كل تلك المحاذير والتنبيهات حفاظًا على المشاعر‪،‬‬
‫ودرءًا للمخاطر‪ .‬ويبقى الجمال هنا قبل مغادرة هذه الوقفة بقول اهلل "ثم ال‬
‫يتبعون"‪ ،‬حيث توحي الكلمة بلطف اهلل وعفوه بهذا المنفق‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫‪- 147 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫عدم مؤاخذته إن بدر منه منًّا أو أذًى دون قصد أو تكرار‪ ،‬مع أن األصل هو‬
‫حصافة المنفق ورزانته كونه أراد اهلل بعطائه‪ ،‬وأراد اهلل فقط‪ ،‬وحتى تنتهي‬
‫حبائل الشيطان ووسوسته‪ ،‬ويغيب المن وأذيته‪ ،‬ويصدق المجتمع بعطائه‬
‫ونفقته جاء العطاء اإللهي هنا بقوله "لهم أجرهم عند ربهم وال خوف عليهم‬
‫وال هم يحزنون"‪ ،‬ثالث عطايا إلهية مقابل ثالث صفات بشرية‪ ،‬فعند اهلل‬
‫األجر مقابل اإلخالص في سبيل اهلل‪ ،‬ورحيل الخوف مقابل انتفاء المن في‬
‫العطاء‪ ،‬ومغادرة الحزن مقابل مغادرة األذى بعد العطاء‪ .‬إنه الترتيب‬
‫السماوي والتنظيم الرباني لهذه القضية بآدابها ومحاذيرها أخذًا وعطاءًا‪ .‬نعم‬
‫إنه الكرم اإللهي يظهر في ختام اآلية ليسكب الرضا والهناء على كل قلب‬
‫يحمل هم اآلخر‪ ،‬فيتحرك من فوره إلسعاده‪ ،‬فكان الجزاء من جنس العمل‪،‬‬
‫فقوله سبحانه في نهاية اآلية "وال هم يحزنون"‪ ،‬إنها السعادة وذهاب الحزن‬
‫بصيغة المضارع الدال على إسعاد قلبك على الدوام من قبل الخالق مادمت‬
‫تسعد من الخلق ما وسعك جهدك‪ ،‬فكما أسعدت غيرك بعطائك فالكريم في‬
‫السماء سيذهب حزنك‪ ،‬ويسعدك بعطائه‪ ،‬وفرق بين عطاء الرب وعطاء‬
‫العبد‪ .‬إنه الدواء اإللهي لذهاب المخاوف ورحيل األحزان عن األنفس‬
‫والبيوت واألسر واألمم يظهر هنا بصورة واضحة كون العطاء سعادة‬
‫حاضرة في الدنيا‪ ،‬ونعيمًا ينتظر في األخرى‪ ،‬بينما البخل شقاء هنا وعذاب‬
‫أليم عند اهلل هناك‪ ،‬وهذا هو السر الذي جعل األوائل كثيري النفقة‪ ،‬بل كلما‬
‫ألم بأحدهم خوف أو حزن بادر للنفقة والصدقة‪ ،‬فذهب حزنه‪ ،‬ورحل خوفه‪،‬‬
‫فاجعل الصدقة شعارك ولو بالقليل‪ ،‬واعلم أن أكثر الناس سعادة هم أصحاب‬
‫األيادي البيضاء‪ ،‬وإياك والمن واألذى بعد عطائك‪ ،‬فإنه ليس من شيم الرجال‬
‫أبدًا‪ ،‬بل أعط واترك ذلك خلفك حتى تلقاه غدّا بين يدي ربك‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 148 -‬‬

‫سرَةٍ َوأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ‬


‫ن ذُو عُسْرَ ٍة فَنَظِرَةٌ ِإلَى مَيْ َ‬
‫( َوإِن كَا َ‬
‫تَعْلَمُونَ{‪.)36()}280‬‬
‫عندما يحل في دارك اليسر‪ ،‬ويفارقك العسر فكن ذا مروءة ودين مع من لم‬
‫يفارقه العسر بعد‪ .‬إنها الحياة بكل مفرداتها وبجميع من فيها ال يخلو أحدٌ من‬
‫اإلعسار يومًا‪ ،‬لذا كان اإلنظار هنا قاعدة أصيلة من قواعد السماء ما بقيت‬
‫الحياة‪ ،‬وحتى ال تتحول الحياة إلى غابة من الوحوش البشرية المفترسة التي‬
‫يضيع فيها المحتاج في أتون الصراع‪ ،‬وفي زحمة التنافس على المتاع كانت‬
‫هذه اآلية بالذات عالجًا ناجعًا لتبقى الحياة آمنة يسودها التعاون‪ ،‬ويغمرها‬
‫التكامل في صورة إيمانية رائعة‪ .‬وحتى تتضح تلك المعاني‪ ،‬وتتحقق تلك‬
‫األماني‪ ،‬وتصبح واقعًا هنا ينتظر المؤمن أجرها عند اهلل هناك ننتقل لنعيش‬
‫مع مفردات اآلية ففيها ما يروي الظمأ‪ ،‬فإلى اآلية‪ ،‬فقوله تعالى "وإن كان‬
‫ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة" هذه اآلية بجمالها وروعة أسلوبها تحمل في‬
‫سياقها وبين ثناياها الكثير والكثير من الدرر والمعاني الدقيقة والجميلة‪ .‬إنها‬
‫اللمسة السماوية الحانية تظهر هنا في حروف ذهبية وكلمات نورانية وهى‬
‫تشارك نفسية المعسر عسره من فوق سبع سموات‪ ،‬وثانيًا – تعبر اآلية هنا‬
‫عن دائن ومدين دون تحديد الشخص أو القرابة‪ ،‬أو حتى الملة والدين‪ ،‬وذلك‬
‫بقوله "وإن كان" دون تحديد لشخص أو لون أو مكان أو قرابة أو ملة كون‬
‫العسر يحل في كل دار وزمان‪ ،‬ويعيشه كل أحد‪ ،‬هذا أوالً‪ ،‬وثانيًا جواز‬
‫التعامل المادي القائم على القرض المشروع ولو من غير المسلم بشرائطه‬
‫الشرعية‪ ،‬وتتحدث الدقة القرآنية هنا عن نفسها من خالل قوله "ذو عسرة"‪،‬‬
‫حيث جاء بلفظ ذو ليدل به على وجوب مصاحبة اإلنظار ما بقي اإلعسار‪،‬‬
‫فلم يقل اهلل وإن كان معسرًا‪ ،‬بل جاء بذلك اللفظ والتعبير كي تحمل اآلية‬
‫المعنى السابق الذكر هذا أوالً‪ ،‬وثانيًا تنكير كلمة عسرة كي يشير بها ومن‬

‫(‪ )36‬سورة البقرة‪ :‬اآلية رقم ‪.280‬‬


‫‪- 149 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫خاللها إلى إحاطة العسر بهذا المعسر من كل باب بحيث إنه ال يملك شيئًا يفك‬
‫به عسره وشدته وكون هذا المعسر قد بلغ به عسره إلى تلك المرحلة الحرجة‬
‫جاء التعبير فيما بعد دقيقًا وعميقًا ليس لدقته وعمقه حد‪ ،‬وذلك بقوله تعالى‬
‫"فنظرة"‪ ،‬حيث يوحي اللفظ بوجوب وسرعة اإلنظار مراعاة للوضع النفسي‬
‫لهذا المعسر‪ ،‬حيث اختصرت اآلية اللفظ معبرة بأقل لفظ‪ ،‬فلم يقل اهلل فليُنظروا‬
‫متحدثًا عن وسطاء للنظر في األمر‪ ،‬وال حتى بكلمة فليُنظر مشيرًا للدائن‬
‫ليعبر بذلك عن التفكير في األمر‪ ،‬بل أسقطت السماء كل تلك اآلراء‬
‫واالحتماالت كون الحال ال يتحمل التشديد والتفكير لنفس بشرية أتعبها‬
‫العسر‪ ،‬وحاصرتها الشدة‪ ،‬فاالنتقال إلى اإلنظار فور تأكد اإلعسار واجب‬
‫ديني‪ ،‬ومطلب سماوي ال يحتاج إلى تأخير أو تفكير‪ .‬ويتواصل الجمال اللفظي‬
‫والتعبير القرآني وهو يضع حلوالً تحفظ مال الدائن‪ ،‬وتُنفس كربة المديون‬
‫ن كثيرة‬ ‫بقوله "إلى ميسرة"‪ ،‬وليس إلى يسر‪ ،‬حيث يوحي هذا التعبير بمعا ٍ‬
‫ومنها أن الحديث هنا عن الحالة‪ ،‬وليس عن الشخص‪ .‬إنها الدعوة السماوية‬
‫للتعامل مع أزمات الناس وحاالتهم بغض النظر عن أشخاصهم وانتماءاتهم‬
‫كون اللفظ يوحي بأن الذي يحدد المساعدة في اإلنظار أو العون والصدقة‬
‫ليس الشخص بقرابته ومكانه ولونه ونوعه‪ ،‬بل حاجته وحالته‪ ،‬وذلك واضح‬
‫من خالل سياق اآلية من بدايتها حتى نهايتها‪ ،‬وهو معنى دقيق جدًّا فتأمله‪،‬‬
‫وثانيًا‪ :‬التعبير بقوله ميسرة يوحي بسرعة القضاء فور حدوث اليسر مباشرة‬
‫ودون مماطلة أو تأخير كون اللفظ يشي بهذا المعنى‪ ،‬وذلك حفاظًا على أموال‬
‫الناس من الضياع واإلهمال‪ ،‬فكما راعى اإلسالم حالة المعسر أيما مراعاة‪،‬‬
‫فكذلك حافظ على أموال أهل اليسر أيما حفاظ‪ .‬إنها الموازنة الشرعية تتحدث‬
‫عن نفسها‪ ،‬وتعبر عن ذاتها بصورة جمالية رائعة لشريعة هى األكمل دينًا‪،‬‬
‫واألدق تشريعًا‪ ،‬واألصلح مكانًا وزمانًا‪ .‬ثم ينتقل السياق في الحديث عن هذه‬
‫ألخْيَر واألفضل واألجمل‬ ‫العُسْرة المصاحبة لذلك المعسر إلى مرحلة هى ا َ‬
‫واألشمل‪ ،‬ولكنها المرحلة االختيارية‪ ،‬واالختيارية فقط‪ .‬إنها الصدقة على‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 150 -‬‬

‫المعسر سوا ًء بترك ما عنده كله أو بعضه لوجه اهلل‪ .‬إنها خيارات السماء‬
‫الصافية والنقية تدعو أهل اليسر جملة واحدة إلى أمرين اثنين في تعاملهم مع‬
‫أهل العسر هنا وهما‪ :‬إما اإلنظار والصبر وعدم المالحقة والتضييق حتى‬
‫تأتي الميسرة واليسر‪ ،‬وإما الصدقة‪ ،‬فاألول واجب وهو اإلنظار‪ ،‬والثاني‬
‫مستحب وهو الصدقة بالتنازل عن الدين بعضه أو كله‪ ،‬ولكنه هو األكمل‬
‫واألخُيَر بشهادة السماء‪ .‬نعم فكون المال محببًا إلى النفس حبًّا جمًّا جاء التعبير‬
‫بقوله "إن كنتم تعلمون" بمعنى أن هذه الصدقة التي تجاوزت اإلنظار‬
‫واإلمهال إلى التنازل عن المال هلل في الحال بعضه أو كله ال يقوم به ويفعله‬
‫إال من علم أن عند اهلل أجره‪ ،‬واستشعر عنده ثوابه وكرمه‪ ،‬وال شك في أن‬
‫المقرض هنا إذا استشعر قول نبيه "من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله اهلل‬
‫في ظله يوم ال ظل إال ظله"‪ ،‬عندئ ٍذ يبيع الدنيا‪ ،‬ويشتري اآلخرة ولو بجزء‬
‫من ماله إن لم يكن كله كما كان يفعل عظماء الماضي‪ .‬إنها اللمسة السماوية‬
‫الحانية اللطيفة تخاطب القلوب‪ ،‬وتحرك الضمائر كى ترتفع عن طينة‬
‫األرض السفلى بكل مفرداتها وزينتها‪ ،‬وتسمو نحو السماء بنقائها وجنتها‪،‬‬
‫ومما الشك فيه فإن تحول المؤمن إلى بشر طيني مادي يُضيِّق على المعسرين‬
‫في لحظات اإلعسار وزمن الفتن واإلدبار دون مراعاة لحرمة أو دين هو‬
‫سقوط في الوحل‪ ،‬وعالمة على معدن رخيص وسلوك عدواني بئيس على‬
‫اهلل في السماء‪ ،‬وعلى ضعاف الخلق في األرض‪ ،‬لكن هذا العدوان سرعان‬
‫ما يذهب صاحبه برخصه وبؤسه‪ ،‬وبخله وقسوته كون الخالق في السماء ال‬
‫يرحم أبدًا من ال يرحم الخلق في األرض‪ .‬فاجعل اليسر والتيسير على من‬
‫تداينهم شعارك ودثارك‪ ،‬واعلم أن من ضَيَّق على الناس وقت شدتهم ضيق‬
‫اهلل عليه‪ ،‬ومن نظر إليهم ورحم حال ضعيفهم ومعسرهم نظر اهلل إليه نظرة‬
‫رحمة ولطف به وبأهله وماله‪ ،‬فكن أنت هذا الرجل كي يجمع اهلل لك ما سبق‬
‫مع ظل يظلك به يوم القيامة هناك حيث ال ظل إال ظله‪.‬‬
‫‪- 153 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ك أَنتَ‬
‫ك َرحْمَ ًة إِنَّ َ‬
‫(رَبَّنَا َال ُتزِغْ ُقلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِن لَّدُن َ‬
‫الْوَهَّابُ{‪.)37()}8‬‬
‫عندما يكون سقوط العبد من داخله فلن تستطيع الدنيا مجتمعة إنقاذه ما لم‬
‫تتداركه رحمات السماء‪ .‬إنها اللمسة اإليمانية الجماعية تتجلى هنا في هذه‬
‫االستغاثة الموحدة وجهة‪ ،‬والصادقة قصدًا‪ ،‬والكبيرة باهلل ربًّا وخالقًا‪ .‬نعم ففي‬
‫اللحظات التي تختلط فيها األوراق‪ ،‬فيسقط هذا هنا‪ ،‬وينحرف اآلخر هناك‬
‫عندئ ٍذ يكون التوجه نحو السماء مخافة السقوط هو المالذ اآلمن‪ ،‬والمكان‬
‫الضامن للثبات حتى الممات‪ .‬والمالحظ هنا هو موقع هذا االبتهال حيث جاء‬
‫عقب الحديث عن اآليات المحكمات واآلخر المتشابهات في إشارة واضحة‬
‫إلى أن سقوط القلب سواء وقت تنزل القرآن هناك‪ ،‬أو ما يتكرر من سقوط‬
‫للبعض هنا إنما يكون بسبب إهمال األوامر الربانية تارة‪ ،‬أو اتباع الشبه‬
‫والمتشابه من األفكار واألقوال والمواقع تارة أخرى‪ .‬إنه الفراغ العقدي‪،‬‬
‫والخواء اإليماني يعصف بالقلب هنا فيرديه صريعًا حتى يدعه ال حراك له‬
‫وال حياة إال ما أشرب من هواه‪ ،‬وذلك في وحل الشبهات تارة‪ ،‬وفي مستنقع‬
‫الشهوات تارة أخرى‪ ،‬وذلك عندما يتخلى العبد عن الرب في واحدة من أسوأ‬
‫نكسات الحياة‪ ،‬وخسارة األحياء على اإلطالق‪ .‬وحتى تكون الصورة أكثر‬
‫وضوحًا تعالوا لنعيش أجواء االبتهال الجماعي‪ ،‬ونتذوق من خالل كلماته‪،‬‬
‫وروعة ألفاظه‪ ،‬وجمال سبكه الري بعد الظمأ‪ ،‬واألنس بعد الوحشة‪ ،‬واألمن‬
‫بعد الخوف كون اللجوء إلى عالم الغيوب وقت زيغ القلوب هو األمان‬
‫الكامل‪ ،‬واألنس التام بال شك‪ .‬فقوله "ربنا ال تزغ قلوبنا" يالحظ هنا تصدير‬
‫الدعاء غالبًا بالرب كون الدعاء يتطلب إجابة‪ ،‬واإلجابة من األفعال‪ ،‬واألفعال‬

‫(‪ )37‬من سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم ‪.8‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 154 -‬‬

‫عالقتها بالربوبية أكثر من عالقتها باأللوهية كما هو معلوم لدينا‪ ،‬لذا فإن‬
‫غالب األدعية يكون مصدرًا بالرب لهذا السبب‪ ،‬وهو معنى جميل ودقيق‬
‫فتأمله‪ ،‬وبعد هذا التصدير جاءت جملة "ال تزغ"‪ ،‬وهى جملة دعائية وإن‬
‫جاءت بصيغة النهى‪ ،‬فالالم هنا ال يقال فيها الم النهي أبدًا كما هو معلوم‬
‫عندنا في اللغة – بل يقال فيها هنا وفي هذا الموقع الم الدعاء كون النهي هو‬
‫الكف عن عمل شئ بطريقة االستعالء‪ ،‬وال يكون األمر كذلك في تعامل‬
‫المخلوق مع الخالق سبحانه‪ .‬إنه االحتياط اللفظي يتحدث عن ذاته هنا‪ ،‬ويعبر‬
‫عن نفسه في صورة هي األدق تعبيرًا‪ ،‬واألوضح مقاالً‪ ،‬واألصدق حاالً‪،‬‬
‫واألجمل مكانًا وزمانًا‪ ،‬ويتواصل الجمال من خالل تسليط الفعل على القلب‪،‬‬
‫وليس على السمع أو البصر أو أي جارحة أخرى‪ ،‬وذلك بقوله "ال تزغ‬
‫قلوبنا"‪ ،‬وما ذاك إال ألن القلب عليه مدار العمل‪ ،‬ومما ال شك فيه هنا – ومن‬
‫خالل هذا السياق – أننا عندما نرى إنحرافًا إنسانيًّا في األسماع واألبصار‬
‫والعقول واألفكار فالخلل لم يكن أبدًا في هذه األدوات‪ ،‬بل هو النتيجة الحتمية‬
‫للخلل القلبي‪ ،‬والخواء العقدي‪ ،‬والتفلت اإليماني في الداخل اإلنساني‪ ،‬والذي‬
‫نتج عنه كل هذا العبث‪ ،‬وأورث كل ذلك الخبث‪ .‬لذا كان سؤال اهلل بهذه‬
‫الطريقة والتخصيص حفاظًا على القلب من هذا االنحراف كونه هو موقع‬
‫الهداية إن ثبت‪ ،‬ومكان الغواية إن انحرف أو سكت‪ ،‬وال شك في أن المقصود‬
‫بسكوت القلب هنا – كما يعبر عن ذك علماء القلوب – هو انحرافه وموته‬
‫عندما يغفل عن ربه وخالقه‪ ،‬والمالحظ هنا وبشكل متكرر هو نا التكلم‬
‫الموحية بالروح الجماعية الخالية من األنا الفردية الممقوتة‪ ،‬وذلك بقوله‬
‫قلوبنا‪ ،‬وليس قلبي أنا‪ ،‬وكذلك بعد إذ هديتنا‪ ،‬وليس هديتني كون الهداية ال‬
‫طعم لها وال ذوق البتة ما لم تكن في إطار الجماعة المؤمنة والفئة الصادقة‬
‫التي تتحرك لدين اهلل هنا‪ ،‬وتعمل للحق هناك‪ .‬إنها الدعوة الواضحة لتذوق‬
‫‪- 155 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫حقيقة الهداية الربانية في إطار الجماعة المؤمنة العاملة كون الهداية الفردية‬
‫ال وزمانًا ولو بلغ صاحبها من العبادة‬
‫واألنا التعبدية ممقوتة شرعًا‪ ،‬وسلبية حا ً‬
‫ما بلغ‪ ،‬كما أن الـ "نا" في قوله‪" :‬بعد إذ هديتنا" توحي بطريقة دقيقة بأن من‬
‫يهدي العبد‪ ،‬ويصلح حاله ومآله هو الرب سبحانه‪ ،‬لذا كان اللجوء الجماعي‬
‫إليه هو المطلب والمآل‪ .‬ثم ينتقل السياق القرآني بطريقة سلسة ورائعة‪،‬‬
‫وبتعبير دقيق أيضًا من خالل قوله "وهب لنا من لدنك رحمة"‪ ،‬حيث جاء‬
‫بلفظ هب‪ ،‬وليس أعط كون الهبة تكون بغير عوض وبدون مقابل‪ .‬إنها الحقيقة‬
‫الواضحة تتجلى مرات ومرات في صور مختلفة‪ ،‬وفي مواقع شتى معلنة هنا‬
‫أن هداية اهلل لخلقه ورحمته بهم وعطاءه لهم هو العطاء الوحيد الذي يكون‬
‫عطا ًء طليقًا من أي قيد‪ ،‬ودون أدنى مقابل‪ ،‬فهو العطاء األجمل واألشمل‬
‫واألكمل‪ ،‬وكل عطاء سوى هذا العطاء مكانًا وزمانًا فصاحبه ينتظر عوضًا‬
‫بطريقة أو بأخرى‪ .‬إنه الكرم اإللهي الذي يغمر الخلق رغم الذنب والمخالفة‬
‫ال ورحمة منه سبحانه دون عوض كما أسلفنا‪،‬‬
‫كونه يأتي من السماء تفض ً‬
‫ويتواصل الحس الجماعي‪ ،‬والنفس اإليماني من البداية حتى النهاية في‬
‫صورة غاية في الترتيب والتنظيم من خالل اللفظ المحكم "لنا" بقوله "وهب‬
‫لنا"‪ ،‬وليس هب لي‪ ،‬إنه التأصيل الحقيقي للنفس البشرية وهى تتنازل عن‬
‫ال ليس لشيء غير البقاء‬
‫ال ومآ ً‬
‫ذاتها‪ ،‬وتنصهر في جماعتها دعا ًء وحا ً‬
‫والتزكية والنماء كون كل تلك المفردات النفيسة من التزكية والبقاء ال تدوم‪،‬‬
‫وال تتحقق إال بذلك االنصهار القائم على هجران الذات واألنا في إطار‬
‫الجماعة هنا‪ ،‬ثم تتزين اآلية بزينة جميلة قبل النهاية من خالل تحديدهم موقع‬
‫الطلب بقولهم "من لدنك"‪ ،‬إنه التصريح الواضح للجماعة المؤمنة واألمة‬
‫الهادية يظهر هنا في هذا اللفظ معبرًا عن تحررها الكامل من طينة األرض‬
‫ودنسها‪ ،‬وزينة الدنيا ورقها‪ ،‬وتعلقها الكامل بقيم السماء وعونها ورحماتها‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 156 -‬‬

‫كونها األنقى واألبقى‪ ،‬وذلك بعيدًا عن وصايا األرض وطينتها وقراراتها‬


‫كونها األسفل واألشقى‪ .‬وفي الحقيقة فإن من "لدنك" هو الذي حفظ في‬
‫الماضي هناك الجماعة المؤمنة واألمة الهادية‪ ،‬وجعلها حرة من كل قيد‬
‫أرضي‪ ،‬وهو كفيل بأن يجعلها كذلك اليوم كي تهتدي وتهدى في آن واحد‪ ،‬ثم‬
‫جاء طلب الرحمة هنا منكرة من قبل الجماعة المؤمنة في إشارة واضحة إلى‬
‫أن يشمل طلبهم كل رحمة ونعمة‪ ،‬وبطريقة مهذبة ومختصرة‪ .‬إنها التربية‬
‫اإليمانية لهذه الجماعة المؤمنة واألمة الهادية تظهر من خالل دعائها‪،‬‬
‫وأخوتها‪ ،‬وروعة خطابها الجامع والنافع في آنٍ واحد‪ ،‬ثم يأتي الختام في‬
‫الدعاء منسجمًا تمامًا مع البداية‪ ،‬وذلك بقوله "إنك أنت الوهاب"‪ ،‬وليس إنك‬
‫ال أو الغفور الرحيم‪ .‬إنه التناسق في الدعاء والثناء‪ ،‬فاللفظ‬
‫أنت الكريم مث ً‬
‫اآلنف الذكر هو "هب"‪ ،‬فال يناسب الهبة إال اسم الوهاب‪ .‬إنه التناسق‬
‫والتكامل في صورة غاية في الحسن والجمال في التعامل مع أسماء اهلل‬
‫الحسنى دعاءً وعبادة‪ ،‬وهذه اللمسة األخيرة في التعامل مع أسماء اهلل الحسنى‬
‫هنا تعتبر دعوة دقيقة لكيفية التعامل مع تلك األسماء كون ربنا سبحانه له‬
‫األسماء الحسنى فادعوه بها‪ ،‬لذا من يريد توبة من ربه فليقل يا تواب تب‬
‫علي‪ ،‬ومن يريد رزقًا فليقل يا رزاق أرزقني‪ ...‬وهكذا تكون الحياة في رحاب‬
‫ي كما عشنا هنا في هذه اللحظات مع الوهاب‬
‫األسماء الحسنى والصفات العُل َ‬
‫الذي يهب الخير لعباده سبحانه دون عوض أو مقابل‪.‬‬
‫‪- 157 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫َد َلوْ‬
‫س َو ٍء تَو ُّ‬
‫س مَّا عَ ِملَتْ مِنْ خَيْرٍ ُّمحْضَراً وَمَا عَ ِمَلتْ مِن ُ‬
‫( َيوْ َم َتجِ ُد كُلُّ نَفْ ٍ‬
‫ف بِالْعِبَادِ{‪.)38()}30‬‬
‫َن بَيْ َنهَا وَبَيْنَ ُه أَمَداً بَعِيدًا وَ ُيحَ ِذرُكُ ُم اهللُّ نَفْسَ ُه وَاهللُّ َرؤُو ُ‬
‫أ َّ‬
‫انتبه واحذر‪ ..‬فكل عمل وإن قل حتى مثاقيل الذر من خير أو شر ينتظر‬
‫قدومك‪ ،‬فظرف الزمان الذي تصدر اآلية هنا يشير إلى اليوم اآلخر الذي‬
‫ينتظر الجميع في موقف هو األطول زمانًا‪ ،‬واألعدل حكمًا‪ ،‬واألصدق حاالً‬
‫وماالً‪ .‬نعم إنه الموقف الذي تحضر فيه النفوس خالية من كل لقب‪ ،‬ومجردة‬
‫من كل نسب كي تقف وجهًا لوجه مع ما كسبت من خير أو شر‪ ،‬فالفعل "تجد"‬
‫يشي بظاهرة غير مألوفة البتة في دار الدنيا‪ ،‬حيث تظهر األعمال هناك –‬
‫كل األعمال – من خير أو شر بصورة مجسمة لها ثقل ووزن‪ ،‬ولها صورة‬
‫وفم‪ .‬إنها قدرة القادر تتجلى هناك كي تحدث المكاشفة‪ ،‬وتتوالى المعاتبة بين‬
‫النفوس من جهة‪ ،‬واألعمال من جهة أخرى‪ ،‬وتظهر هنا عدالة السماء المطلقة‬
‫من خالل التعبير القرآني بكلمتي "كل نفس"‪ ،‬وذلك إيحا ًء بحضور كل األنفس‬
‫المكلفة من إنس وجن للحساب والجزاء بصورة دقيقة‪ ،‬بل غاية في الدقة‬
‫والعدل‪ .‬إنه الحضور الجماعي للجميع‪ ،‬فال غياب لنفس‪ ،‬وال هروب لشخص‬
‫من هذا الموقف على اإلطالق‪ ،‬كما أن اللفظ يشي بحساب فردي لكل نفس‬
‫على حدة بعيدًا عن عشوائية البشر القاتمة‪ ،‬وحساباتهم القاصرة‪ ،‬ثم يأتي‬
‫التعبير بقوله "ما عملت من خير محضرًا" كي يحمل دالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫أن النفوس هى الدافعة الحقيقية والمركزية لنوعية العمل من خير أو شر‪،‬‬
‫فالنفوس الزكية تزكو بأعمالها وتسمو‪ ،‬على عكس النفوس الخسيسة التى‬
‫تسقط أعمالها وتخبو‪ ،‬لذا كان أطول قسم في القرآن في سورة الشمس إلثبات‬
‫هذه الحقيقة وهى تزكية النفس من عدمها‪ ،‬كما أن لفظ "عملت" يشي بسقوط‬

‫سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم ‪.30‬‬ ‫(‪)38‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 158 -‬‬

‫كل األعذار هناك‪ ،‬فال مكان أبدًا للتحايل‪ ،‬وتحميل الغير تبعات العمل سواءً‬
‫كان ذلك العمل خيرًا أو شرًّا‪ .‬إنها المسؤولية الفردية تظهر على حقيقتها بعيدًا‬
‫عن التدخالت‪ ،‬أو ثقافة التحايل في تحمل التبعات كما يحصل هنا في دار‬
‫الدنيا‪ ،‬ثم يتواصل جمال التعبير في رسم المشهد األخروي في صورته‬
‫العادلة‪ ،‬وذلك من خالل قوله "من خير محضرًا"‪ ،‬حيث جئ هنا بلفظ "من‬
‫خير" بصيغة النكرة "خير"‪ ،‬وذلك إيحاء آخر بعدالة السماء التي سجلت‬
‫وأحاطت‪ ،‬ومن ثم أحضرت كل خير عملته تلك النفس كون التنكير للخير هنا‬
‫دل على عمومية كل خير ولو كان همًّا همت به النفس في أغوارها‪ ،‬وعجزت‬
‫عن فعله في ظاهرها ومحيطها كونه همًّا في الخير‪ ،‬وفي الخير فقط‪ ،‬لذلك‬
‫ال يسيرًا‪ ،‬ويزداد‬
‫جئ به هكذا‪ .‬هذا فضالً عما تم فعله بالفعل ولو كان عم ً‬
‫ال في موقف اآلخرة هناك وهو يحوي في طياته عدالة السماء‬
‫المشهد جما ً‬
‫المطلقة‪ ،‬وقدرة القادر العظيمة‪ ،‬وذلك من خالل اإلتيان بكلمة "محضرًا"‪،‬‬
‫حيث جمعت هنا بين التنكير والتنوين‪ ،‬وذلك إيحاء بقدرة القادر على الجمع‬
‫الدقيق‪ ،‬والدقيق جدًّا‪ ،‬بين اإلحضار لألعمال وتجسيمها بصورة لم يعتادها‬
‫الخلق في حياتهم الدنيا‪ ،‬حيث تقف الصالة أمامك مثالً بصورة جميلة وحسنة‪،‬‬
‫بل غاية في الحسن والجمال وهى تشكر صنيعك‪ ،‬وتمدح فعلك‪ ،‬وذلك إن‬
‫أحسنت فعلها‪ ،‬ووفيت معها‪ ،‬أو تظهر بصورة رثة وموحشة وهى تذم فعلك‬
‫وتسئ تعاملك إن قصرت فيها‪ ،‬وأسأت التعامل معها‪ ،‬وقس على ذلك كل‬
‫عمل من خير أو شر‪ ،‬لذا كان التنكير والتنوين لإلحضار ليحمل هذا المعنى‪،‬‬
‫وهو معنى دقيق‪ ،‬ودقيق جدًّا‪ ،‬فتأمله‪ .‬ثم ينتقل السياق إلى العمل اآلخر‬
‫المناقض للخير تمامًا وهو الشر‪ ،‬ولكن قبل الحديث عنه دعونا هنا نتأمل قوله‬
‫"وما عملت من سوء"‪ ،‬حيث نسبت اآلية السوء للنفس‪ ،‬وليس آلخر أبدًا‪،‬‬
‫وهو معنى دقيق حيث توحي اآلية بأنه ال يمكن أبدًا في ذلك الموقف رمي‬
‫‪- 159 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫األعذار واختالقها وتحميلها لآلخر أيًّا كان هذا اآلخر‪ ،‬بل إن سوء تم إحضاره‬
‫بصورته المجسمة هناك كان قد تم ارتكابه باإلرادة الكاملة لصاحبه هنا‪ .‬إنها‬
‫اللحظات التي تنتهي فيها األعذار الكاذبة‪ ،‬وتسقط فيها األخبار المزيفة كي‬
‫تقف النفس على حقيقتها بصورتها الفردية‪ ،‬والفردية فقط‪ ،‬وهى تحمل كل‬
‫التبعات‪ ،‬وتسأل عن كل األعمال والخطرات‪ ،‬والعجيب هو التعبير عن الشر‬
‫المقابل للخير هنا بقوله "وما عملت من سوء"‪ ،‬وليس من شر كما كان‬
‫منتظرًا من سياق اآلية‪ ،‬إنه التعامل القرآني المعروف بجمال كلماته‪ ،‬ودقة‬
‫تعبيراته‪ ،‬حيث عبر عن السوء كونه النتيجة الحتمية للشر‪ ،‬فالسوء أي الشر‬
‫يسيئ لإلنسان ويؤلمه ويتعبه ويحزنه‪ ،‬فعبر عن النتيجة تاركًا المقدمة‬
‫المعلومة واضحة من خالل السياق‪ .‬إنها الصورة المؤلمة لحقيقة األنفس‬
‫المجرمة وهى تظهر هناك‪ ،‬وتشاهد شرورها‪ ،‬وسوء أعمالها وقد أحاطت بها‬
‫من كل جانب في صورة مجسمة هى األخبث شكالً‪ ،‬واألنتن ريحًا على‬
‫اإلطالق‪ ،‬حيث جمع لهذه النفس السيئة بين قبح المنظر ألعمال السوء‪ ،‬ونتانة‬
‫ن واحدٍ‪ ،‬لذا كان التمني‬
‫الرائحة‪ ،‬فكانت فعالً هى الفاضحة والكاشفة في آ ٍ‬
‫والتودد هو سيد الموقف هنا‪ ،‬وذلك من خالل قوله "تود لو أن بينها وبينه أمدًا‬
‫بعيدًا"‪ ،‬حيث أخافها قبح المنظر‪ ،‬وأنتنها نتانة المخبر‪ ،‬فتمنت مسافة المكان‪،‬‬
‫وبعد الزمان هروبًا من ذلك الحال‪ ،‬وهذا لم ولن يكون‪ ،‬وال نشك في أن هذا‬
‫التمني من قبل هذه األنفس السيئة يحمل معنًى دقيقًا وهو أن حياتها الدنيا كانت‬
‫قائمة على تناسى جرائمها‪ ،‬ومحاولة استبعادها مكانًا وزمانًا من خيالها كلما‬
‫تذكرتها كون جرائم المجرم تطارده في ليله ونهاره‪ ،‬ولكنه يعمل جاهدًا على‬
‫تناسيها وإبعادها‪ .‬إنه الصراع الذي يبقى معتلجًا في نفسه ما بقي حيًّا بال شك‪،‬‬
‫لذا تحاول نفسه هناك أن تتمنى ممارسة لغة اإلبعاد ألفعالها السيئة كما اعتادت‬
‫ال ومآالً‪ ،‬عندئذٍ‬
‫عليها في حياتها الدنيا‪ ،‬ولكن األمر اختلف مكانًا وزمانًا وحا ً‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 160 -‬‬

‫لم يتبق سوى اللقاء غير اإلرادي وغير االختياري بين األنفس الخبيثة‬
‫وأعمالها السيئة‪ .‬إنها الحقائق التي تم كشفها هنا قبل االنتقال إلى تلك الدار‬
‫هناك‪ ،‬وذلك لكى يتم االستعداد والمراجعة قبل التمني والمدافعة‪ ،‬ثم يأتي‬
‫سياق اآلية قبل ختامها للتحذير الواضح والجلي بقوله "ويحذركم اهلل نفسه"‪.‬‬
‫إنه التحذير اإللهي وبصيغة المضارع الدال على االستمرار‪ ،‬وذلك لفعل‬
‫الخيرات‪ ،‬واجتناب السيئات قبل القدوم عليه سبحانه‪ ،‬ثم تختم اآلية بقوله‬
‫"واهلل رؤوف بالعباد"‪ ،‬وجئ بلفظ رؤوف الذي هو شديد الرحمة إذ من‬
‫رأفته بخلقه أنه حذرهم قبل القدوم عليه‪ ،‬والوقوف بين يديه سبحانه حتى ال‬
‫تكون المفاجأة‪ ،‬فاستعد لهذا اللقاء‪ ،‬واعمل على تزكية نفسك‪ ،‬وتطهير ذاتك‬
‫بطاعة ربك‪ ،‬واعلم أنك مسؤول مسؤولية كاملة عن كامل تصرفاتك‪ ،‬وأن‬
‫أعمالك كلها تنتظر قدومك‪ ،‬فإما أن تمدح فعلك‪ ،‬وإما أن تسوءك وتثقل‬
‫ظهرك‪.‬‬
‫‪- 161 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ك سَمِي ُع‬
‫ك ُذرِيَّ ًة طَيِبَ ًة إِنَّ َ‬
‫ب َهبْ لِي مِن لَّدُنْ َ‬
‫ك دَعَا زَ َكرِيَّا رَبَّ ُه قَا َل َر ِ‬
‫(هُنَالِ َ‬
‫الدُّعَاء{‪.)39()}38‬‬
‫عندما تبتلى بالعلم وفقدان الذرية فال تيأس من كرم اهلل أبدًا‪ ،‬بل ادع اهلل وحده‬
‫أن يهبك ذرية صالحة كما وهب غيرك بعد حرمان وطول عمر‪ .‬إنها القضية‬
‫األهم والمطلب األعم في حياة الكائن البشري كون الولد أنس الحياة وزينتها‪،‬‬
‫وسلوى األيام وطيبها‪ ،‬ومما تجدر اإلشارة إليه أن هذه الزينة وذلك األنس ال‬
‫يتمان أبدًا إال بصالح الدين‪ ،‬وإال كان الولد فتنة ومحنة‪ ،‬وبلية ونقمة‪ .‬كما أن‬
‫ال كما هو الحال‬
‫فقدان الولد ليس عيباً‪ ،‬فقد ابتلي بذلك بعض األنبياء زمنًا طوي ً‬
‫هنا مع نبي اهلل زكريا‪ ،‬وإنما العيب أن ييأس العبد‪ ،‬أو يسخط من ابتالء الرب‪،‬‬
‫هذا أوالً‪ :‬وثانيًا‪ :‬أن يطلب العبد ذرية خالية من الصالح‪ ،‬وعارية من‬
‫االستقامة عندئ ٍذ يكون عقمه هو األسلم دينًا‪ ،‬واألطيب عيشًا كون الرضا‬
‫بالمقسوم هو عين العطاء بال شك‪ ،‬وحتى تتضح هذه القضية أكثر تعالوا‬
‫لنعيش في ظالل اآلية كي تتضح الصورة بروعتها‪ ،‬ويظهر االبتهال بجماله‬
‫ال ومكانًا‪ ،‬فقوله "هنالك‬
‫ومفرداته األكثر دقة‪ ،‬واألصدق تعبيرًا‪ ،‬واألشرف حا ً‬
‫دعا زكريا ربه"‪ ،‬إنها اإلشارة للمكان المقصود هنا وهو المحراب‪ ،‬وال يمنع‬
‫دخول الزمان أيضًا في هذه اإلشارة‪ ،‬كما يوحي اللفظ هنا بقيمة المحراب في‬
‫قلب المؤمن‪ ،‬ودوره في تزكية العبد عندما يتصل بالرب‪ ،‬وثانيًا جواز القياس‬
‫في المسائل الشرعية‪ ،‬فتكريم اهلل لمريم برزق البدن جعل نبي اهلل زكريا يتجه‬
‫نحو ربه طالبًا رزق الولد كونه رزقًا من أرزاق اهلل‪ ،‬وجاء بلفظ "دعا"‬
‫لإليحاء بافتقار األنبياء هلل تمامًا كغيرهم من الخلق كون الخلق كلهم فقراء إلى‬
‫الخالق سبحانه‪ ،‬ومما ال شك فيه فإن هذا اللفظ يوحي بوجوب األخذ باألسباب‬

‫(‪ )39‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم ‪.38‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 162 -‬‬

‫للحصول على الولد‪ ،‬ومنها الدعاء كون العالج الحسي دون عمل تعبدي هو‬
‫سقوط في الشرك بال شك‪ ،‬وجاء بذكر "زكريا" هنا وذلك في إشارة واضحة‬
‫إلى أن االبتالء في هذا األمر حدث لألنبياء كما يحدث لغيرهم من عباد اهلل‬
‫األولياء‪ ،‬فما سخطوا‪ ،‬وال يئسوا رغم نبوتهم‪ ،‬بل دعوا ربهم سبحانه‪ .‬إنها‬
‫الحياة المليئة بالمتاعب واألحزان واالبتالءات في النفس واألهل واألوطان‬
‫تعبر عن نفسها من خالل هذه اآليات في صورة تعبر عن حقيقة الحياة من‬
‫جهة‪ ،‬وصبر المؤمن‪ ،‬واتصاله بربه للحصول على المحبوب‪ ،‬ودفع المكروه‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬وقوله "دعا ربه"‪ ،‬وليس دعا اهلل كون إجابة الدعاء – في‬
‫الغالب – من أفعال الربوبية‪ ،‬لذا فإن الكثير من األدعية يتصدرها الرب وليس‬
‫اإلله كما هو معلوم‪ ،‬وال ننسى اللفتة اللغوية الجميلة هنا في هاء الضمير‬
‫المفرد في "ربه"‪ ،‬والعائدة على زكريا‪ ،‬وليس دعا الرب مثالً‪ ،‬وذلك لإليحاء‬
‫بالتوحيد الكامل‪ ،‬واألنس التام‪ ،‬والثقة المطلقة من قبل زكريا بربه وخالقه‪،‬‬
‫فربه وحده دون سواه من سيحقق مطلبه‪ ،‬ويجيب دعاءه‪ ،‬وهو ما كان‪.‬‬
‫ويتواصل الجمال القرآني في نقل المشهد التعبدي من خالل تتابع الطلب‪،‬‬
‫وروعة المناجاة من خالل قوله "رب هب لي من لدنك ذرية طيبة"‪ ،‬حيث‬
‫تحمل هذه الكلمات دالالت غاية في الجمال والجالل‪ ،‬فقوله "هب" وليس‬
‫أعطني يارب كون الهبة عطاء من غير عوض وال مقابل‪ .‬إنه التعبير الدال‬
‫على أن عطاء اهلل لعبده هو عطاء محاط بالتفضل واإلكرام والجود واإلنعام‬
‫دون مقابل من قبل هذا العبد‪ ،‬وجاء لفظ "لي" هنا وليس لنا‪ ،‬وذلك كون‬
‫المحروم من الولد هنا هو زكريا‪ ،‬فكان التخصيص لهذا المعنى‪ ،‬وثانيًا فيه‬
‫إيحاء دقيق بافتقار العبد الذاتي للغني سبحانه ذى الغنى الذاتي‪ ،‬وهو معنى‬
‫دقيق جدًّا فتأمله‪ .‬إنها ذاتية الفقر في العبد تقابلها ذاتية الغنى في المعبود –‬
‫جل في عاله – وهو معنى من أنفس المعاني لمن تأمله‪ .‬نعم إنها اللمسة التي‬
‫‪- 163 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ينبغي أال تغيب أبدًا عن شعور المؤمن وهو يعرض حاجته ونفسه وذله وفقره‬
‫بين يدي ربه بصورته الفردية‪ ،‬وذاتيته البشرية‪ ،‬وجاء بلفظ من لدنك‪ ،‬وذلك‬
‫إيحاء آخر بأن الولد هو هبة من عند اهلل‪ ،‬ومن عند اهلل فقط‪ ،‬وأن اإلنسان هو‬
‫سبب فقط‪ ،‬والمسبب وخالق األسباب هو اهلل وحده‪ ،‬وينتقل السياق في اآلية‬
‫هنا حتى تكتمل الروعة والجمال من خالل قوله "ذرية طيبة"‪ .‬إنَّه الطلب‬
‫ال ومعنى هى‬
‫المقيد وليس المطلق لمفهوم الذرية كون الذرية الطيبة شك ً‬
‫الطلب والمقصد‪ .‬إنها حصافة المؤمن تظهر هنا من خالل طلبه الدائم الذرية‬
‫المقيدة بالصالح كون مفهوم المخالفة في اآلية أن ذرية بدون صالح وتقوى‬
‫عدمها خير من وجودها‪ ،‬بل يصبح تمنِّي العقم هو الحال لمن ابتُلي بذرية‬
‫فاسدة كما هو معلوم عند كثير من الخلق‪ .‬ويزداد المعنى جماالً‪ ،‬والجمال‬
‫جالالً‪ ،‬وذلك بقوله "ذرية طيبة"‪ ،‬فتنكير ذرية يوحي بطلبه ذرية غير محددة‬
‫إذا كانت طيبة‪ ،‬وجاءت الطيبة هنا منكرة أيضًا لإليحاء بأن تكون هذه الطيبة‬
‫شاملة وعامة تشمل طيبة الباطن بالصدق واإلخالص والدين‪ ،‬وطيبة الظاهر‬
‫بالجمال والرجولة في العالمين‪ ،‬وال شك في أنه باجتماع طيبة الباطن مع‬
‫طيبة الظاهر في ذرية العبد تكون الزينة قد اكتملت‪ ،‬والنفس قد طابت‪ .‬ثم‬
‫ينساق الجمال ليتسق ختام اآلية مع بدايتها في صورة غاية في الروعة‬
‫والجمال‪ ،‬وذلك بقوله "إنك سميع الدعاء" كونه دعا في البداية فأثبت أن‬
‫ربه سيسمعه في النهاية‪ ،‬وهو ما كان‪ ،‬فال تيأس من حرمانك الولد والذرية‪،‬‬
‫بل ادع وخذ بكل سبب شرعي‪ ،‬مع ضرورة أن تعي وتفهم أن الذرية الصالحة‬
‫هى في الحياة نعمة ومغنم‪ ،‬وما سوى ذلك فتنة وبلية َوهَمٌّ‪ ،‬بل إن ذرية بغير‬
‫صالح ودِين تجعل العبد يتمنى العقم والحرمان‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 164 -‬‬

‫ك بِ َيحْيَـى مُصَدِق ًا‬


‫شرُ َ‬
‫اهلل يُبَ ِ‬
‫َن َّ‬‫ب أ َّ‬
‫صلِي فِي الْ ِمحْرَا ِ‬
‫(فَنَادَتْ ُه الْمَآلئِكَ ُة وَ ُه َو قَائِمٌ يُ َ‬
‫ن اهللِ وَسَيِداً وَحَصُورًا وَنَبِيّا مِنَ الصَّالِحِينَ{‪.)40()}39‬‬
‫بِ َكلِمَ ٍة مِ َ‬
‫عندما يكون محراب الصالة هو حياتك ومصدر إلهامك عندئ ٍذ لن تُترك‬
‫وحدك‪ ،‬بل سيحقق اهلل مرادك‪ ،‬وتتحرك مالئكة اهلل بأمره معك‪ .‬إنها الصالة‬
‫بجمالها وروعة محرابها تعلن عن نفسها‪ ،‬ويمأل صداها اآلفاق‪ ،‬بل وتتحرك‬
‫السماء بمالئكتها ملبية نداءها‪ ،‬ومنفذة – دون تأخير – دعاء صاحبها في‬
‫واحدة من أجمل عبادات األرض والسماء خشوعًا وخضوعًا بال شك‪ ،‬وحتى‬
‫تتضح تلك الروعة‪ ،‬ونعيش ذلك الجمال الروحي‪ ،‬واألنس التعبدي الذي عاشه‬
‫نبي اهلل زكريا حينها تعالوا لنلقي نظرة على هذه اآلية كي نحيا في ظاللها‪،‬‬
‫ونرتشف األنس كل األنس من معينها‪ ،‬فقوله "فنادته المالئكة وهو قائم‬
‫يصلي في المحراب" تحمل دالالت عدة‪ ،‬ومنها – أن نداء األرض الصادق‬
‫المنبعث من قلب صادق تتجاوب معه السماء بمالئكتها ولو بعد حين‪ .‬كما أن‬
‫اتصال الفعل نادى بالفاء يوحي بترتيب بشائر في األمر‪ ،‬مع إجابة – للطلب‬
‫دون تأخير‪ .‬إنها نداءات األرض الصادقة تقابلها بشائر السماء العاجلة في‬
‫صورة هي األصدق واألجمل واألروع واألكمل بين نداءات األرض وبشائر‬
‫السماء‪ ،‬وتزداد الروعة هنا عندما تكون مالئكة السماء هى جنود اهلل المبشرة‬
‫في صورة تعبدية غاية في الروعة والجمال‪ ،‬ويتوالى الجمال التعبدي من‬
‫خالل اآلية في قوله "وهو قائم يصلي في المحراب"‪ ،‬حيث يشي التعبير‬
‫"قائم" بالهمة العالية‪ ،‬والعزيمة الصادقة التي عاشها نبي اهلل زكريا هناك‪ .‬إنه‬
‫القيام الذي يجب أن يظل حيًا في حياة الجماعة المؤمنة واألمة الهادية كي‬
‫تهتز لها نداءات السماء اليوم كما اهتزت لنبي اهلل باألمس‪ ،‬وإن اختلفت‬

‫(‪ )40‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم ‪.39‬‬


‫‪- 165 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫المطالب‪ ،‬وتنوعت الحاجات‪ ،‬ولكن يبقى القيام‪ ،‬والقيام فقط‪ ،‬هو الركيزة‬
‫للقرب اإللهي‪ ،‬والنصر السماوي بال شك كون األمة النائمة لن تهتز لها‬
‫السماء ال في مطالبها الفردية‪ ،‬وال في حاجاتها الجماعية‪ .‬وقوله "وهو قائم‬
‫يصلي في المحراب" يشي بعظمة الصالة وقيمتها دون غيرها من العبادات‪،‬‬
‫وجاء بلفظ يصلي بصيغة المضارع لإليحاء باستمرارية إقامة الصالة من‬
‫قبل نبي اهلل زكريا‪ .‬إنها اللفتة الحقيقية لحقيقة الصالة مع المصلي وهو يحياها‪،‬‬
‫ويعيش معها كلما نادى المنادي وجوبًا‪ ،‬أو تحرك معها وفيها راحة واستحبابًا‬
‫ليتحقق الصفاء‪ ،‬ويتواءم النداء بين األرض والسماء في لحظات القرب‪،‬‬
‫وساعات التجلي‪ .‬كما أن اللفظ "يصلي" يوحي باالنتظام والدوام كون الصالة‬
‫المحكومة بالحاجة والمصلحة هى ضياع للصالة‪ ،‬وعبث من المصلي ليس‬
‫ال ما‬
‫إال‪ .‬وجاء تخصيص المحراب بالذكر ألمور ومنها – أن المحراب أو ً‬
‫سُمي محرابًا إال لكونه مكانًا إلعالن الحرب على الشيطان‪ ،‬وثانيًا‪ :‬يوحي‬
‫اللفظ بالمحافظة على مكان التعبد‪ ،‬والمداومة فيه على المناجاة والتعبد‪ .‬إنها‬
‫اللحظات الحقيقية التي تجعل الفرد في الجماعة المؤمنة فردًا سويًّا في عقيدته‪،‬‬
‫وصادقًا في توجهه ما بقي ملتزمًا في محرابه كون الجماعة التي يفقد أفرادها‬
‫محراب الصالة هى الجماعة األسوأ واألسوأ في كل حال‪ .‬ومما تجدر اإلشارة‬
‫إليه هنا أن المحراب ال يقصد به مقدمة المسجد كما يعتقد البعض‪ ،‬بل يقصد‬
‫مكان العبادة والصالة بشكل عام‪ ،‬وإن كان البعض يشير به إلى مقدمة‬
‫المسجد‪ ،‬ولكن المعنى األول أشمل‪ ،‬ومما ال شك فيه هنا أن الجماعة المؤمنة‬
‫تبقى مستجابة الدعوة ما بقى محرابها في سلم أولوياتها‪ ،‬فإذا غاب المحراب‬
‫عن الجماعة والفرد غابت االستجابة‪ ،‬وغابت معها الجماعة المنقذة واألمة‬
‫الهادية‪ .‬وال شك في أن هذا الغياب يستمر ويطول حتى تعود الجماعة بأفرادها‬
‫إلى المحراب ليكون منه ومن خالله بداية االنطالق ومنتهاه بصيغة المضارع‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 166 -‬‬

‫الوارد هنا سواء بسواء‪ ،‬ثم ينتقل السياق بعد هذا الوصف للصالة في‬
‫ال لبشارة السماء من قبل اهلل – جل في عاله – قائالً‬
‫المحراب متحدثًا وناق ً‬
‫"أن اهلل يبشرك بيحيى مصدق ًا بكلمة من اهلل وسيدًا وحصورًا ونبيّا من‬
‫الصالحين"‪ ،‬إنها البشارة المباركة لصالة المحراب‪ ،‬وقيام المحراب‪ ،‬وحياة‬
‫المحراب جاءت بهذه الصورة‪ ،‬وبهذه البشارة‪ ،‬وسميت بشارة بهذا االسم‬
‫كونها يظهر أثرها على البشرة من خالل الفرحة والسرور والغبطة والحبور‪.‬‬
‫نعم فقد تحقق الطلب وجاءت الذرية الطيبة التي أرادها نبي اهلل زكريا حيث‬
‫جمع اهلل له في ذريته هذه بين مولود سُمى "يحيى" تحيا القلوب بنبوته‪ ،‬وسيدًا‬
‫يسود الناس بكماله وأخالقه‪ ،‬وحصورًا مانعًا لنفسه عن كل نقيصة ورذيلة‬
‫كون الحصور هو الذي يمنع نفسه عن ارتكاب النقائص‪ ،‬وليس كما قال‬
‫البعض أنه ال همة له بالنساء إال إذا كان المقصود بالنساء الالتي ال تحل له‪،‬‬
‫فهذا أمر حق‪ ،‬أما لعاهة أو داء فهذا عيب في حق من سواه‪ ،‬فكيف به وهو‬
‫نبي‪ ،‬ثم جاء بعد ذلك بوصف النبوة إلتمام البشارة‪ ،‬وختمها بقوله "من‬
‫الصالحين"‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن مراتب الصالح أربعة‪ :‬النبوة‬
‫والصديقية والشهادة والصالح‪ ،‬فكان يحيى جامعًا لكل هذا الصالح حيث جئ‬
‫بلفظ من الصالحين تأكيدًا وتعميمًا كون كل نبي صالح‪ ،‬وليس العكس‪ ،‬فاجعل‬
‫محراب الصالة مالذك‪ ،‬واجعل الصالة زادك‪ ،‬واعلم أن اهلل ال يخذل أبدًا من‬
‫كانت حياته ال تنفك أبدًا بين صالته ومحرابه‪.‬‬
‫‪- 167 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ِن اهللَّ بِ ِه‬


‫شيْ ٍء َفإ َّ‬
‫ن وَمَا تُنفِقُواْ مِن َ‬
‫ِر حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا ُتحِبُّو َ‬
‫(لَن تَنَالُواْ الْب َّ‬
‫علِيمٌ{‪.)41()}92‬‬
‫َ‬
‫لن تدرك الجماعة المؤمنة واألمة الهادية حقيقة البر وكماله‪ ،‬وتحقق ما تحبه‬
‫حتى تقدم لربها‪ ،‬وتنفق من مالها األحب إليها‪ .‬إنها الحقيقة التي رسمها القرآن‬
‫وهو يأخذ بيد الجماعة المنقذة كي تسمو بنفسها‪ ،‬وترتفع بدينها‪ ،‬وهى تقدم‬
‫أَغْلَى ما لديها كي تصبح هى األحق بالبقاء‪ ،‬واألكرم في العطاء‪ ،‬وال شك في‬
‫أن تربية القرآن لهذه الجماعة تبدأ من هنا كون الجماعة التي تقدم لربها األسوأ‬
‫واألردأ هى جماعة غير مؤهلة لنصر السماء‪ ،‬وعونها وحفظها الرتباطها‬
‫بطينة األرض وشهواتها بصورة جعلتها تقدم هلل ما تكره‪ ،‬وتدخر لطينة‬
‫األرض ما تحب‪ .‬إنها المفارقة التي ينبغي أال تكون في حياة األمة المختارة‬
‫والجماعة المنقذة‪ ،‬بل ما يراد من هذه األمة هو أن تقدم نفسها من أجل ربها‪،‬‬
‫ال عن متاعها ومقتنيات حياتها‪ ،‬وإال كان الخير بعيدًا عنها حتى تصل‬ ‫فض ً‬
‫إلى هذه الحقيقة‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه هنا هو أن هذه اآلية عندما نزلت‬
‫على الحبيب محمد هناك في المدينة تحرك الصحابي أبو طلحة فور سماعه‬
‫إلى بيرحاء‪ ،‬فاجعلها حيث تشاء‪ ،‬وقد‬ ‫ال يا رسول اهلل إن أحب أموالي َّ‬ ‫لها قائ ً‬
‫كانت بيرحاء هذه حديقة مشهورة حينها بمائها العذب‪ ،‬ونخلها الكثير‪ ،‬فكانت‬
‫بيرحاء هناك هى السلوك الحقيقي لحقيقة المسلم الذي يعبر عن الجماعة‬
‫المنقذة واألمة الهادية في صورتها األنقى عطاءًا‪ ،‬واألكرم نفسًا‪ .‬إن بيرحاء‬
‫هناك ينبغي أن تتكرر هنا ليبقى الصفاء‪ ،‬ويستمر العطاء‪ ،‬وتصل الجماعة‬
‫المنقذة إلى ما تحب‪ ،‬وذلك عندما تقدم بيرحاء مرات ومرات في مواقع شتى‬
‫وصور مختلفة‪ .‬نعم فعندما يتكرر أبو طلحة في كل مكان وزمان وحال عندئ ٍذ‬
‫تكون الصورة في الجماعة واضحة‪ ،‬والرسالة في األمة حية بال شك‪ ،‬وعندما‬

‫(‪ )41‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم ‪.92‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 168 -‬‬

‫يغيب أبو طلحة في الجماعة المنقذة واألمة الهادية‪ ،‬وتصبح بيرحاء هى‬
‫وحدها من عاشت اآلية هناك‪ ،‬عندئ ٍذ يتأخر ما تحب األمة قدومه‪ ،‬ويتقدم ما‬
‫تتمنى األمة تأخره‪ ،‬وهنا نقول إنه يجب أن تكون الجماعة كلها أبا طلحة‪،‬‬
‫وذلك حتى تقوى وتبقى‪ ،‬إذًا هذه هى الصورة الحقيقية التي يريدها المنهج‬
‫السماوي من أفراد الجماعة المنقذة وهى تتعامل مع منهج السماء بصورة‬
‫غاية في السباق لتقديم األفضل واألكمل واألشرف واألجمل وذلك هلل‪ ،‬وهلل‬
‫فقط‪ ،‬وال شك في أن هذه التربية للجماعة بهذه الصورة ليست عبثية كون‬
‫العبث ال مكان له في تشريع السماء‪ ،‬بل هى تربية مقصودة يراد من خاللها‬
‫تزكية النفس كي تبدأ بتقديم األفضل مما تملك من مال ومتاع بداية‪ ،‬فإن فعلت‬
‫فإنها ستقدم نفسها من أجل ربها بعد ذلك نهاية‪ .‬إنها التربية اإللهية للجماعة‬
‫المنقذة تبدأ بخطوات متدرجة كي تصل بها إلى ما فيه كمالها وسيادتها هنا‪،‬‬
‫وسعادتها وراحتها عند اهلل هناك‪ ،‬وحتى نتذوق روعة العطاء تعالوا لنعيش‬
‫في ظالل اآلية‪ ،‬ونتنقل بين كلماتها‪ ،‬ونعيش مفرداتها حيث الجمال والكمال‪،‬‬
‫فقوله " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون"‪ ،‬هذه اآلية توحي بدالالت‬
‫كثيرة‪ ،‬ومنها – أن التعبير بلن وليس بال يوحي بعدم نيل حقيقة البر وكماله‬
‫ما لم يكن اإلنفاق مما يحبه المنفق ويهواه كون لن تدل على النفي المؤبد‬
‫لحدوث الشئ من عدمه عكس ال‪ ،‬وثانيًا تنالوا أي تدركوا‪ ،‬حيث جاء التعبير‬
‫بصيغة الجماعة في إشارة واضحة إلى أن كمال الجماعة وخيريتها يكمن في‬
‫أمرين اثنين؛ األول اإلنفاق وعدم البخل‪ ،‬وثانيًا – أن تكون تلك النفقة من‬
‫أفضل الموجود‪ .‬إنها دعوة السماء للجماعة المنقذة واألمة الهادية كي تتحرر‬
‫من الرق المادي ليتسنى لها قيادة األرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬نحو السماء ثم يأتي‬
‫ال آخر وذلك من خالل‬ ‫التعبير القرآني التالي بعد ذلك ليُضفي على المشهد جما ً‬
‫كلمة "البر"‪ ،‬حيث جاء البر معرفًا باأللف والالم وليس منكرًا كأن يقول مثالً‬
‫"تنالوا برًّا"‪ ،‬حيث أفاد التعريف هناك كمال البر وحقيقته‪ ،‬ولو قال "لن تنالوا‬
‫‪- 169 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫برًّا" وجاء بالبر منكرًا لكانت كل نفقة وعطاء يقدمه المؤمن ال يؤجر عليه‬
‫وال يثاب ما لم يكن مما يحب‪ .‬إنها رحمة اهلل بعباده وكرمه عليهم تتجلى هنا‬
‫في صورة تعبر عن لطفه بهم‪ ،‬ومراعاته لحالهم‪ .‬وبغض النظر عن اختالف‬
‫ن إنه الجنان‪،‬‬ ‫العلماء حول المقصود بالبر هنا بين قائل إنه اإلحسان‪ ،‬وثا ٍ‬
‫ث إنه أعلى مراتب التقوى‪ ،‬وراب ٍع أنه الخير كل الخير‪ ،‬ومع ذلك يبقى‬ ‫وثال ٍ‬
‫كمال الخير هو المقصود والمراد ليس إال‪ ،‬ثم جاء التعبير القرآني متناسقًا‬
‫بصورة مبدعة وذلك من خالل الجمال التالي في قوله "حتى تنفوا مما‬
‫تحبون"‪ ،‬إنها اإلشارة الدقيقة والواضحة إلى حرية الجماعة الكاملة والنافذة‬
‫في قدرتها على أن تبلُغ أعلى مراتب الكمال‪ ،‬وذلك من خالل كرمها في‬
‫العطاء‪ ،‬وجمالها في الوفاء‪ ،‬وذلك إن أرادت أن تكون كذلك‪ ،‬كما أن التعبير‬
‫بصيغة المضارع يوحي بأن بلوغ كمال البر في العطاء ال يكون من نصيب‬
‫الجماعة المنقذة ما لم يكن عطاؤها النوعي من األفضل واألكمل واألحب هو‬
‫ديدنها على الدوام‪ ،‬وسلوكها الحقيقي والمستمر بين األنام‪ ،‬وليس عطا ًء آنيًّا‬
‫يحدده الزمن والوقت‪ ،‬بل هو سلوك الجماعة وجمالها في هذا العطاء ما بقيت‬
‫الحياة‪ ،‬وإال فال كمال وال جمال‪ ،‬ويأتي اللفظ القرآني هنا ليكتمل الجمال مرة‬
‫أخرى‪ ،‬وذلك من خالل قوله "مما تحبون" في إشارة واضحة إلى وجوب أن‬
‫يكون الحب في الداخل البشري موجهًا نحو السماء‪ ،‬يعانقها بعطائه‪ ،‬ويسمو‬
‫نحوها بكرمه وسخائه‪ .‬إنها العواطف والغرائز التي ينبغي أن تتحرر من‬
‫طينة األرض وشهواتها‪ ،‬وتتجه بكليتها نحو السماء كي يكتمل الجمال كما‬
‫أراد له خالق الجمال‪ ،‬ثم تختم اآلية بقوله "وما تنفقوا من شئ فإن اهلل به‬
‫عليم"‪ ،‬حيث جئ بصيغة المضارع هنا لإليحاء بأن اهلل مطلع على الدوام‬
‫على كل نفقة صغيرة أو كبيرة سوا ًء كانت مما تحبه الجماعة أو تكرهه كون‬
‫تنكير الشئ هنا يشي بهذا المعنى‪ ،‬وذلك حتى تستشعر الجماعة المنقذة واألمة‬
‫الهادية علم اهلل المطلق الذي ال يخفى عليه شئ في األرض وال في السماء‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 170 -‬‬

‫فأنفق مما تحب إن أردت أن يعطيك اهلل ما تحب‪ ،‬فإن أنفقت مما تكره فاعلم‬
‫أن ما تحبه لن يصل إليك بعد حتى تصلح عطاءك‪.‬‬
‫‪- 171 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ِال وَأَنتُم‬
‫ُن إ َّ‬
‫َق تُقَاتِ ِه وَ َال تَمُوت َّ‬
‫اهلل ح َّ‬
‫(يَا أ َُّيهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ َّ‬
‫مُّسْلِمُونَ{‪.)42()}102‬‬
‫عندما تجمع الجماعة المنقذة واألمة الهادية بين اإليمان والتقوى تكون بذلك‬
‫قد حفظت نفسها من السقوط هنا‪ ،‬وحفظت خاتمتها كي تموت على اإلسالم‬
‫عندما تنتقل إلى اهلل هناك‪ .‬والجميل هنا في هذه اآلية هو الجمع بين مفردات‬
‫غاية في األهمية بغية التميز في الحياة هنا كأمة رائدة وجماعة منقذة‪ ،‬حيث‬
‫تم الجمع بين كل من – النداء – التنبيه – األمر – اإليمان – التقوى – اإلسالم‪،‬‬
‫وهى المفردات الحقيقية التي ترتكز عليها الجماعة المنقذة واألمة الهادية كي‬
‫تبقى األصلب عودًا‪ ،‬واألقوى وجودًا‪ .‬ومما ينبغي اإلشارة إليه هنا قبل‬
‫الحديث عن تلك المفردات القيمة هو التنبيه للطيفة دقيقة جدًّا وهى ارتباط هذه‬
‫اآلية بما قبلها وبما بعدها‪ ،‬نعم فما قبلها يوحي بأن الجمع هنا بين اإليمان‬
‫والتقوى هو دون غيره ما يعصم الجماعة من السقوط العقدي‪ ،‬والضالل‬
‫الشيطاني الذي قاد أممًا إلى الكفر والضياع هناك‪ ،‬كما أن هذه اآلية تتعلق‬
‫باآلية التي بعدها‪ ،‬بل هى أساسها كون اإليمان والتقوى في حياة هذه الجماعة‬
‫هما الركيزة األساسية لالعتصام الجماعي‪ ،‬والترابط األخوي وإال فال‬
‫اعتصام وال أخوة‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب أن تعيها أمة الهداية حتى ال تسرح‬
‫بعيدًا باحثة عن مسمى آخر كي تجتمع وتسود سواء كان هذا اآلخر مسمى‬
‫قوميًا أو وطنيًا أو أي مسمى آخر كون الهوية الوحيدة القادرة على تحقيق‬
‫االعتصام الحقيقي‪ ،‬والترابط األخوي هى اإليمان والتقوى فقط‪ ،‬وما سوى‬
‫ذلك من المسميات إنما هى دعوى جاهلية أثبتت فشلها في األمس‪ ،‬ويتكرر‬
‫فشلها اليوم‪ .‬ولكي نتذوق حالوة اآلية وجمال مفرداتها ننتقل سريعًا للحياة في‬

‫(‪ )42‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم ‪.102‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 172 -‬‬

‫ظاللها كون الحياة في ظالل القرآن هى الحياة الحقيقية‪ ،‬وما سوى تلك الحياة‬
‫إنما هو ضياع يقود إلى ضياع‪ ،‬فقوله "يا أيها الذين آمنوا اتقوا اهلل حق‬
‫تقاته" يحمل في طياته دالالت لطيفة وإيحاءات نفيسة‪ ،‬ومنها – أن جذب‬
‫انتباه السامع لما يراد قوله أمر في غاية األهمية إليصال الرسالة‪ ،‬وتحقيق‬
‫الغاية‪ ،‬فالنداء والتنبيه هنا يعبر عن هذا الغرض‪ ،‬وثانيًا توجيه األمر للمؤمنين‬
‫دون غيرهم يوحي بوجوب االنتقاء عندما يراد تحقيق أمر ما‪ ،‬وعلى قدر‬
‫أهمية األمر يكون االنتقاء والتخصيص‪ ،‬وال شك في أن مفهوم اإليمان وتحققه‬
‫في الفرد والجماعة هنا هو الذى يحقق التخصيص واالنتقاء في وقت واحد‬
‫كون اإليمان القائم على أساس الفهم العميق‪ ،‬والتخطيط الدقيق‪ ،‬والعمل‬
‫المتواصل هو الذي يحقق مراد الجماعة المنقذة واألمة الهادية بال شك‪ ،‬كما‬
‫أن الخطاب الموجه للمؤمنين هنا يوحي بالقدرة الفائقة على إحداث التغيير‬
‫في سلوك الفرد والجماعة على حد سواء‪ ،‬وذلك عندما يكون الخطاب للقلب‬
‫ن واح ٍد كون خطاب القلب والعاطفة دون تحديد الهدف والغاية‬
‫وللعقل في آ ٍ‬
‫منه هو عبث وعظي‪ ،‬وترف كالمي ليس إال‪ ،‬كما أن مخاطبة العقل بتنفيذ‬
‫األمر دون استثارة القلب بإيمانه ويقينه هو جفاف روحي‪ ،‬وفقر خطابي قلما‬
‫يحقق الهدف‪ ،‬ويوصل للغاية‪ ،‬وهذه لمسة قرآنية ينبغي الوقوف عندها كونها‬
‫تعلم الجماعة بأفرادها ومجموعها حقيقة الخطاب‪ ،‬وروعة البيان عندما تريد‬
‫خطابًا أو تبيانًا‪ .‬كما أن هنا لمسة أخرى في اآلية حيث طُلب من المؤمنين‬
‫تقوى اهلل في إشارة واضحة إلى أن اإليمان الحقيقي هو الذي يحمل الجماعة‬
‫على فعل المأمور‪ ،‬واجتناب المحظور‪ ،‬وأن يراك اهلل حيث أمرك‪ ،‬ويفتقدك‬
‫مخدرًا‪ ،‬والتصديق‬
‫حيث نهاك‪ ،‬وهو معنى من معاني التقوى وإال كان اإليمان َّ‬
‫ناقصًا‪ ،‬عندئ ٍذ يضيع المؤمن بين التخدير والنقص‪ .‬وبعيدًا عن اختالف العلماء‬
‫حول هذه اآلية بين قائل بالنسخ لها بقوله تعالى "ال يكلف اهلل نفسًا إال‬
‫‪- 173 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫وسعها"‪ ،‬وقوله "فاتقوا اهلل ما استطعتم"‪ ،‬وآخرين جعلوها آية محكمة‪ ،‬إال‬
‫أن العمل بتقوى اهلل قدر المستطاع هو المعنى المراد من خالل سياق اآلية‬
‫دون الدخول في خالفات العلماء هناك كون اإلتيان بالمأمور‪ ،‬وترك المحظور‬
‫مستطاعًا فعله؛ ألن اهلل ال يكلف عباده بما ال قدرة لهم على فعله البتة‪ ،‬وهى‬
‫خالصة نفيسة ينبغي اإلشارة إليها‪ ،‬والتأمل فيها‪ .‬وقبل الختام البد من اإلشارة‬
‫هنا إلى هذا الخطاب الموجه للجماعة وليس للفرد‪ ،‬وذلك كون الجماعة يُنتظر‬
‫منها القيام بواجب االستخالف في األرض إلحقاق الحق وإبطال الباطل‪ ،‬كما‬
‫أن اإليمان والتقوى ال يتحققان أصالً‪ ،‬وال يرسخان مكانًا إال بعبادة جماعية‬
‫بعيدًا عن الوحدة واالنعزال‪ .‬ثم تأتي النهاية هنا منسجمة تمامًا مع البداية في‬
‫صورة تعبدية رائعة‪ ،‬وذلك من خالل قوله "وال تموتن إال وأنتم مسلمون"‪،‬‬
‫حيث تحمل اآلية دالالت كثيرة‪ ،‬ومنها – عدم االكتفاء بأعمال اإليمان اعتقادًا‬
‫ال وعمالً لفترة محددة من الزمان كون التعبد الوقتي ليس مقبوالً‪ ،‬وال هو‬
‫وقو ً‬
‫مشروعًا‪ .‬إنها التربية الحقيقية للجماعة المنقذة واألمة الهادية تبدأ من هناك‬
‫من أول حياتها وهى تعبد اهلل ربًّا‪ ،‬وتنشر اإلسالم دينًا‪ ،‬وتقتدي بنبي اهلل رسوالً‬
‫حتى تنتهي حياتها‪ ،‬وتُقبض أنفاسها وهى ثابتة منهجًا‪ ،‬وصادقة توجهًا‪ ،‬وقائدة‬
‫مكانًا وزمانًا‪ ،‬وذلك دون تغيير أو تبديل‪ .‬نعم إنه ثبات الجماعة وإيمانها‬
‫وتقواها يظهر أثره‪ ،‬وينتشر خبره كي يمأل اآلفاق في صورة تحمل في طياتها‬
‫روعة الجمال في الموت على اإلسالم‪ ،‬وعلى اإلسالم فقط‪ ،‬وال شك في أن‬
‫المقدمة الصحيحة تعقبها نتيجة صحيحة‪ ،‬فمن صح إيمانه وتقواه في البداية‬
‫صح إسالمه في النهاية‪ ،‬وهذا هو السر في تقديم اإليمان والتقوى في البداية‪،‬‬
‫واألمر بالموت على اإلسالم في النهاية كون المسألة ليست مصادفة أبدًا‪ ،‬بل‬
‫ن‬
‫هى أعمال ومجاهدة‪ ،‬لذا كان التعبير القرآني بقوله "وال تموتن" يحمل معا ِ‬
‫كثيرة ومنها هذا‪ ،‬إذًا فأنت أنت دون غيرك من يختار هذه الموتة‪ ،‬ويحقق تلك‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 174 -‬‬

‫النهاية‪ ،‬نعم ال اختيار أبدًا لوقت الممات وساعته في سلوك الجماعة المنقذة‬
‫واألمة الهادية‪ ،‬ولكن يبقى االختيار هنا لنوعية الممات وصفته‪ ،‬وهى أن‬
‫تموت مسلمًا أو غير مسلم‪ ،‬وأن تختار الموت على اإلسالم هو الحق والحقيقة‬
‫التي يجب أن تكون‪ ،‬لذا كان قوله "إال وأنتم مسلمون" يوحي بهذا المعنى‪،‬‬
‫فاختر وسائل الخطاب ونوعه‪ ،‬وإذا أردت تحقيق أمر ما فخاطب القلب أوالً‪،‬‬
‫واستثر إيمانه ويقينه كي يستجيب العقل ليعمل ويقود‪ ،‬واعلم أن اإليمان هو‬
‫رأس مالك لتحيا على اإلسالم‪ ،‬وتموت عليه‪.‬‬
‫‪- 175 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫علَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ‬


‫هلل َ‬
‫تا ِ‬‫َرقُواْ وَاذْ ُكرُواْ نِعْ َم َ‬
‫هلل جَمِيع ًا وَ َال تَف َّ‬
‫(وَاعْتَصِمُواْ ِبحَبْ ِل ا ِ‬
‫ن‬
‫عَلىَ شَفَا حُفْرَ ٍة مِ َ‬
‫ن قُلُوبِكُمْ َفأَصْ َبحْتُم بِنِعْمَتِهِ ِإخْوَاناً وَكُنتُمْ َ‬
‫ف بَيْ َ‬
‫أَعْدَاء َفأَلَّ َ‬
‫ن اهللُّ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ َتهْتَدُونَ{‪.)43()}103‬‬
‫ك يُبَيِ ُ‬
‫النَّارِ َفأَنقَذَكُم مِنْهَا كَ َذلِ َ‬
‫من كرم الكريم سبحانه أنه يدلك عليه‪ ،‬ويحثك كي تصل إليه‪ .‬إنها اآلية التي‬
‫جمعت بين روعة البداية وحقيقة النعمة في النهاية‪ ،‬وليس هذا فحسب‪ ،‬بل‬
‫إنها دعت وبوضوح ال يقبل التعتيم كما يفعل البشر إلى االعتصام بحبل‬
‫السماء‪ ،‬ونوره‪ ،‬في صورة تحمل رحمة الخالق بالخلق التي ال يحدها حد‪،‬‬
‫وال يبلغها عد‪ .‬وحتى نعيش االعتصام بألفاظه ومحتواه ننتقل إلى اآلية مباشرة‬
‫ففيها الروعة والجمال‪ ،‬والشرف والكمال‪ ،‬فقوله "واعتصموا بحبل اهلل‬
‫جميعًا وال تفرقوا" في هذه األلفاظ القرآنية من الدالئل الكثير والكثير جدًا‪،‬‬
‫ومنها – أن هذه اآلية معطوفة على ما قبلها إذ إن من مقتضيات الموت على‬
‫اإلسالم االعتصام بحبل اهلل وحده‪ ،‬وترك الفرقة والشقاق‪ ،‬وتحقيق األخوة‬
‫باتفاق‪ ،‬كما أن اللفظ "واعتصموا" فعل أمر يشي بأن االعتصام بحبل اهلل‬
‫وعدم الفرقة يحتاجان إلى إرادة صادقة‪ ،‬وعزيمة قوية كون الشيطان وجنوده‬
‫يريدان عكس ذلك تمامًا‪ ،‬لذا كان األمر هنا لهذا السبب‪ .‬ومما تجدر اإلشارة‬
‫ال "وتمسكوا بحبل اهلل"‬
‫إليه هنا أن اختيار هذا اللفظ دون غيره كأن يقول مث ً‬
‫هذا االختيار للفظ واعتصموا أكثر دقة‪ ،‬وأجمل تعبيرًا كونه يوحي بأنه ال‬
‫خيار للجماعة المنقذة واألمة الهادية على اإلطالق؛ فإما االعتصام بحبل اهلل‪،‬‬
‫وإما الغرق الدنيوي والهالك الحياتي‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب على األمة أن‬
‫تعيها‪ ،‬وتؤمن بها‪ ،‬وتربي أفرادها عليها كي تنجو وتبقى وتسود وتحيا‪،‬‬
‫ال من خالل توجيه األمر باالعتصام للجماعة واألمة‬
‫ويزداد المشهد جما ً‬

‫(‪ )43‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم ‪.103‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 176 -‬‬

‫الهادية كلها‪ ،‬وليس للفرد كون االعتصام الفردي‪ ،‬والتعبد الشخصي دون‬
‫جماعة تسود وتحكم غرقًا محققًا ال يحقق دينًا‪ ،‬وال يُرضي ربًّا‪ .‬ومما تجدر‬
‫اإلشارة إليه هنا أيضًا أن االعتصام نوعان‪ :‬اعتصام باهلل‪ ،‬واعتصام بحبل‬
‫اهلل‪ ،‬فاألول معناه االستعانة باهلل‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬وطلب العون منه‪ ،‬بينما‬
‫االعتصام الثاني الذي ورد في سياق اآلية هنا فمعناه التمسك بدين اهلل وشرعه‬
‫وكتابه وهديه‪ ،‬وهو معنى دقيق‪ ،‬بل غاية في الدقة‪ ،‬لذا ينبغي تأمله والوقوف‬
‫عنده‪ ،‬فاالعتصام هنا والذي معناه التمسك بحبل اهلل هو الحقيقة التي يجب‬
‫على الجماعة المنقذة واألمة الهادية أن تعيشها‪ ،‬وتلتزم بها كي تحفظ ذاتها‬
‫من عبث اللئام‪ ،‬وفرقة األيام‪ ،‬وذلك من أجل أن تهدي وتهتدي‪ .‬وقد اختلف‬
‫ن إنه الدين‪،‬‬
‫علماؤنا حول المقصود بحبل اهلل هنا بين قائل إنه القرآن‪ ،‬وثا ٍ‬
‫ث بأن المقصود بحبل اهلل هو جماعة المسلمين‪ ،‬ولكن يبقى الدين هو‬
‫وثال ٍ‬
‫التفسير األشمل واألكمل كونه يجمع كل ما سبق‪ ،‬والجميل هنا هو تشبيه دين‬
‫اهلل بالحبل‪ ،‬وذلك لإليحاء بأمور كثيرة‪ ،‬ومنها – أن الحياة بحر كامل‪ ،‬وال‬
‫نجاة من الغرق فيها إال بحبل السماء الممتد من هناك‪ ،‬والذي طرفه بيد اهلل‪،‬‬
‫والطرف اآلخر هو هنا‪ .‬إنها اإلشارة الخفية التي تبدو هنا من خالل السياق‪،‬‬
‫والتي توحي بسقوط حبال األرض برجالها وناسها ليبقى حبل اهلل‪ ،‬وحبل اهلل‬
‫فقط‪ ،‬هو حبل النجاة‪ ،‬وما سواه إنما هي حفر لإليقاع والوقيعة ليس أكثر‪ .‬كما‬
‫ال واحدًا‪،‬‬
‫أن التعبير بالحبل يشي بقدرة كل أحد على التمسك به لينجو كونه حب ً‬
‫ال متعددة تشغل الطالب‪ ،‬وتعيق المطلوب‪ ،‬ولذا جاء مفردًا فلم يقل‬
‫وليس حبا ً‬
‫ال "واعتصموا بحبال اهلل" ال لم يقل هذا‪ .‬إنه اإلفراد الذي دل على‬
‫اهلل مث ً‬
‫وحدانية المعبود‪ ،‬وواحدية المنهج والمقصد حتى ال تنشغل‪ ،‬األمة بكثرة‬
‫الحبال كون الغريق الذي يريد النجاة إذا كثرت بين يديه الحبال ال يدري بأيها‬
‫يستمسك‪ ،‬فيكون الغرق‪ ،‬بينما الحبل الواحد مدعاة لالستمساك به دون‬
‫‪- 177 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫انشغال‪ ،‬ويتوالى جمال الحبل وروعته وقوته وطهارته وذلك من خالل‬


‫ال أرضية ستُلقى‬
‫إضافته هلل بقوله "بحبل اهلل"‪ .‬إنها اإلشارة الموحية بأن حبا ً‬
‫هنا وهناك بهدف التشويه والتمويه والمخادعة والتتويه‪ ،‬فحتى ال تتوه‬
‫ال والمقطوعة مكانًا وزمانًا‬
‫الجماعة واألمة أو تنخدع بحبال الدنيا الضعيفة حا ً‬
‫كان هذا التقييد‪ .‬نعم فحتى ال تقع تلك الخديعة والمخادعة للجماعة المنقذة‬
‫كانت اإلضافة هنا توحى بهذا المعنى‪ .‬إنه الحبل األقوى واألبقى واألطهر‬
‫واألزكى وما سواه من حبال األرض إنما هى حبال ضعيفة مقطوعة ومنتهية‬
‫مبخوسة أثبتت فشلها باألمس‪ ،‬وينتظرها الفشل‪ ،‬كل الفشل‪ ،‬اليوم كونها‬
‫ال ومكانًا‪ .‬كما أن نسبة الحبل إلى اهلل‬
‫مقطوعة سندًا‪ ،‬وفارغة متنًا‪ ،‬وفقيرة حا ً‬
‫يبعث في القلب طمأنينة في النجاة‪ ،‬وثقة في الحياة‪ ،‬وهو معنى دقيق‪ ،‬ودقيق‬
‫جدًّا‪ ،‬ينبغي تأمله والوقوف عنده‪ ،‬ثم تأتي كلمة "جميعًا" هنا لتضفي على‬
‫ال فوق الجمال‪ ،‬حيث كان باإلمكان االكتفاء بقوله "واعتصموا‬
‫المعنى جما ً‬
‫بحبل اهلل" دون اإلشارة إلى "جميعًا"‪ ،‬عندها سنجد اعتصامًا وتمسكًا بالمنهج‬
‫التعبدي‪ ،‬وتفرُّقًا مخيفًا في السلوك العملي والتعامل الحياتي‪ ،‬وحتى ال يحدث‬
‫هذا االنفصام العبثي والسلوك المزري في حياة الجماعة جئ بلفظ جميعًا‬
‫ليكتمل المشهد‪ ،‬ويتحقق المقصد كون الحبل ما أفرد بضم الهمز ووحد إال‬
‫لهذا الهدف‪ .‬إنه االحتياط اللفظي غاية في اإلبداع واإلمتاع حيث جئ به ليتم‬
‫الجمع بين االعتصام من جهة‪ ،‬وعدم االفتراق والتمزق من جهة أخرى‪ ،‬وال‬
‫شك في أنه أمر معيب‪ ،‬وسلوك محزن ال يرضاه أحد في توحد المنهج والملة‪،‬‬
‫واختالف التوجه والوجهة‪ .‬إنه األمر الذي ال يريده منزل الحبل وموحده‬
‫وفارضه وميسرة سبحانه‪ ،‬ويتواصل الجمال ويستمر من خالل مجئ كلمة‬
‫جميعًا منكرة منزوعة األلف والالم‪ ،‬وذلك لإليحاء بوجوب تمسك الجميع‬
‫بحبل اهلل الواحد غير القابل للتعدد أو التجزئة‪ ،‬وذلك بغض النظر عن اختالف‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 178 -‬‬

‫األشكال واألوطان كون األمر إذا نُكِّر دل على عموميته كما هو معلوم عند‬
‫أهل اللغة‪ ،‬ثم يتواصل السبك القرآني في رسم المشهد بطريقة رائعة‪ ،‬وذلك‬
‫من خالل قوله تعالى "واذكروا نعمة اهلل عليكم إذ كنتم أعدا ًء فألف بين‬
‫قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم‬
‫منها"‪ ،‬إنها العودة بالعقل والحس والشعور جملة واحدة إلى الماضي القريب‬
‫بآالمه وأحزانه‪ ،‬وفرقته وعدوانه‪ ،‬وذلك الستلهام الدروس‪ ،‬وأخذ العبر‪ ،‬ومن‬
‫ثم العودة من جديد للحياة في ظل حبل اهلل المتين‪ ،‬وصراطه المستقيم‪ ،‬وال‬
‫شك في أن نعمة اهلل هنا يقصد بها نعمة الدين التي أزالت العداوة والعدوان‬
‫في صورة رائعة وسريعة بعد حروب متتالية بين أرباب األسرة الواحدة‬
‫ال من خالل قوله "فألف‬
‫واألصل الواحد‪ ،‬ويزداد المشهد جماالً‪ ،‬والجمال كما ً‬
‫بين قلوبكم"‪ ،‬حيث خص القلوب بالذكر في إشارة واضحة إلى أن االعتصام‬
‫الحقيقي بحبل اهلل الواحد تظهر حقيقته‪ ،‬وينتشر أثره من خالل تأليف القلوب‬
‫وتوحدها‪ .‬إنها اللمسة الحقيقية للمنهج الحقيقي‪ ،‬والحبل الحقيقي‪ ،‬والتمسك‬
‫الحقيقي تظهر هنا من خالل قلوب الجماعة المنقذة واألمة الهادية وقد توحدت‬
‫في الهدف والمقصد بعد عداء وعناء‪ .‬كما أن تخصيص القلوب بالذكر يوحي‬
‫بأن االعتصام بحبل اهلل هو الذي يملك القدرة دون غيره على تأليف القلوب‬
‫مع األبدان جملة واحدة‪ ،‬وما سواه من حبال األرض تقف عاجزة عن هذا‬
‫التأليف إذ أنها تجمع األبدان‪ ،‬واألبدان فقط‪ ،‬بينما تظل القلوب ممزقة‬
‫األوصال‪ ،‬ومفرقة الشمل‪ ،‬وهو معنى نفيس ونفيس جدًّا‪ .‬ثم يتواصل التعبير‬
‫بقوله "وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها"‪ .‬إنها الحقيقة األولى‬
‫قبل معرفة حبل السماء وهديها حيث كانت الهاوية والحفرة هى المكان‬
‫والمآل‪ ،‬وهو ما يوحي به اللفظ القرآني "على شفا حفرة"‪ .‬نعم فكلمة "حفرة"‬
‫تعبر عن المصير الذي كان ينتظر الجماعة المنقذة واألمة الهادية لوال رحمة‬
‫‪- 179 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫اهلل ولطفه وحفظه ورعايته‪ .‬إنها الحفرة التي كانت معدة كي تبتلع في جوفها‬
‫كل تلك األمة برجالها وناسها‪ ،‬ولوال حبل اهلل‪ ،‬وحبل اهلل فقط‪ ،‬لفعلت تلك‬
‫الحفرة فعلها كما أسلفنا‪ ،‬ومما ال شك فيه هنا فإن هذه الحفرة تبقى بلفظها‬
‫ومعناها تلتهم في جوفها‪ ،‬وتُسقط في وكرها كل من ابتعد عن حبل اهلل وهديه‪.‬‬
‫إنها الحفرة الباقية هنا‪ ،‬والمنتظرة كى تلتهم حبال األرض بناسها وأهلها ما‬
‫بقيت الحياة‪ ،‬وتعلق بتلك الحبال الواهية أحياء‪ ،‬ثم تأتي النهاية منسجمة تمامًا‬
‫مع روعة البداية من خالل قوله تعالى "كذلك يبين اهلل لكم آياته لعلكم‬
‫تهتدون"‪ .‬إنه التبيان الواضح للجماعة كي تعتصم بحبل اهلل‪ ،‬وبحبل اهلل‬
‫وحده‪ ،‬وتترك حبال األرض المهترئة حتى ال تسقط من جديد في حفر‬
‫األعداء‪ ،‬ومكر األصدقاء كون الحفرة معدة‪ ،‬وحبال السقوط ممتدة‪ ،‬فاعتصم‬
‫بحبل اهلل وهديه‪ ،‬ودع حبال األرض فهى ليست بأكثر من حفر لاللتهام‬
‫والسقوط ليس إال‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 180 -‬‬

‫ُم الَ‬
‫ِال أَذًى َوإِن يُقَا ِتلُوكُمْ ُيوَلُّوكُ ُم األَدُبَا َر ث َّ‬
‫(لَن يَضُرُّوكُمْ إ َّ‬
‫صرُونَ{‪.)44()}111‬‬
‫يُن َ‬
‫بين األذى وفرار أهل الكتاب يبقى المسلمون محفوظين على الدوام من كل‬
‫ضر إال ما يصيبهم من أذى‪ ،‬ومن أذى فقط‪ ،‬ما بقى دينهم صادقًا‪ ،‬وعهدهم‬
‫مع اهلل محفوظًا‪ .‬إنها الحقيقة التى مألت الزمان والمكان‪ ،‬واختصرت المقام‬
‫والحال‪ ،‬وسكبت الطمأنينة واألنس على قلوب عباد اهلل المؤمنين منذ نزلت‬
‫هذه اآلية الكافية الشافية وحتى يرث اهلل األرض ومن عليها‪ .‬نعم إنها المعركة‬
‫المستمرة بين أهل الكتاب من جهة‪ ،‬والجماعة المنقذة واألمة الهادية من جهة‬
‫أخرى تلخصها اآلية بهذا الوضوح‪ ،‬وليس هذا فحسب‪ ،‬بل تعلن اآلية نتائجها‬
‫سلفًا حتى تعي الجماعة حقيقة المعركة وطبيعتها من البداية حتى النهاية‪،‬‬
‫وحتى تتضح حقيقة المعركة ونتائجها ننتقل كي نعيش في ظالل اآلية ففيها‬
‫من الدقائق واللطائف ما يروي الظمأن‪ ،‬ويرغم الشيطان ويدحره بقوة البيان‬
‫سواء شياطين اإلنس من اليهود والنصارى‪ ،‬أو شياطين الجن‪ ،‬فكلهم يخنسون‬
‫ال برجال يحبون الموت كما يحب أولئك الحياة‪ ،‬وفي‬
‫عندما يكون الحق متمث ً‬
‫البداية البد من اإلشارة إلى حقيقة مهمة وهى ارتباط هذه اآلية بما قبلها حيث‬
‫يقول علماء التفسير إن لكل آية ارتباط بما قبلها وبما بعدها من حيث المعنى‪،‬‬
‫وليس هذا فحسب‪ ،‬بل وارتباط مقدمة السورة بنهايتها بصورة إبداعية‬
‫معجزة‪ ،‬وقبل هذه اآلية كان الحديث هناك عن الركائز األساسية لخيرية هذه‬
‫األمة‪ ،‬والتي تمثلت بأمرها بالمعروف‪ ،‬ونهيها عن المنكر‪ ،‬وإيمانها باهلل‪،‬‬
‫ف تمامًا عن الجماعة ما بقيت محافظة‬
‫ومما ال شك فيه هنا فإن الضر منت ٍ‬
‫على تلك الركائز اآلنفة الذكر حتى إذا تخلت عنها أو عن بعضها نالها من‬

‫(‪ )44‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم ‪.111‬‬


‫‪- 181 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫الضر بحسب تخليها‪ .‬نعم فكأن اهلل يقول ما دمتم تأمرون بالمعروف‪ ،‬وتنهون‬
‫عن المنكر‪ ،‬وتؤمنون باهلل فلن يضركم أهل الكتاب‪ ،‬وإنما هو أذى‪ ،‬وأذى‬
‫فقط‪ ،‬فاثبتوا وتثبتوا‪ .‬وحتى نتذوق جمال اآلية وروعتها ننتقل إليها‪ ،‬فقوله "لن‬
‫يضروكم إال أذى" توحى بلطائف كثيرة ودقائق جميلة حيث يوحى جمال‬
‫التعبير من البداية بحفظ اهلل للجماعة في النهاية كون التعبير بلن وليس بال‪،‬‬
‫ال ال يضروكم إال أذىً‪ ،‬فالتعبير بلن يوحي بأبدية الحفظ‬
‫كأن يقول اهلل مث ً‬
‫وتأكده ما بقيت الجماعة ملتزمة بركائز البقاء‪ ،‬وقواعد السماء كون لن تدل‬
‫على هذا المعنى عكس ال‪ ،‬وهى من لطائف اللغة الدقيقة‪ ،‬وتعبيراتها المعجزة‪،‬‬
‫ثم يأتي التعبير بالفعل المضارع بعد لن بقوله "يضروكم" ليثبت ذلك المعنى‬
‫ويؤكده‪ .‬إنها الراحة النفسية التي تمأل صدور أهل الحق ودعاته وهم يتلون‬
‫هذه اآلية في لحظات روحانية رائعة‪ ،‬وقد تجلت لهم الحقيقة‪ ،‬واتضحت بين‬
‫أيديهم القضية من البداية حتى النهاية‪ ،‬ومما ال شك فيه هنا فإن إشارة خفية‬
‫تظهر هنا من خالل سياق اآلية توحي باستمرار االستهداف وتنوعه‪ ،‬وبقائه‬
‫وتكرره‪ ،‬وذلك من قبل أهل الكتاب‪ ،‬ولكن نتائجه معلومة‪ ،‬وحقيقته محسومة‪.‬‬
‫إنها هزيمة االستهداف وسقوطه ما بقيت الجماعة المؤمنة محتفظة بصفاتها‬
‫ن واح ٍد كون سياق اآلية يوحي بهذا المعنى‪ .‬نعم إنها‬
‫كأمة منقذة وموحدة في آ ٍ‬
‫وحدة المنهج والفكر واألرض والسماء كلها تغرد باتجاه واحد صوب السماء‬
‫طالبة النجاة من عبث الحياة‪ ،‬وأذية األحياء‪ ،‬وليس هذا فحسب‪ ،‬بل هو التوجه‬
‫التعبدي الممزوج بروعة الهداية‪ ،‬وجمال النهاية‪ .‬إنه األمر بالمعروف‪،‬‬
‫والنهى عن المنكر‪ ،‬واإليمان الصادق باهلل واالعتصام الجماعي بحبل واحد‬
‫هو حبل اهلل‪ ،‬كل ذلك يفهم من خالل اآليات السابقة تباعًا‪ ،‬وتم تتويجه هنا‬
‫كنتيجة حتمية ألمة ال يضرها من خذلها وال من خالفها حتى يأتي أمر اهلل‪.‬‬
‫إنها اآليات القرآنية بألفاظها وأجراسها تحدثت تباعًا عن قلوب ائتلفت‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 182 -‬‬

‫وتوحدت‪ ،‬وباهلل وحده اعتصمت‪ ،‬وبه استعانت‪ ،‬وعليه توكلت‪ ،‬ثم أمرت‬
‫ونهت‪ ،‬وباهلل في السماء آمنت‪ ،‬وهنا في هذه اآلية استقرت وحفظت‪ ،‬وحتى‬
‫ال يظنن ظان أن هناك تعارضًا بين اآلية وواقع الجماعة اليوم كون اآلية تنفي‬
‫الضر‪ ،‬بينما الضر يحيط بالجماعة واألمة كإحاطة السوار بالمعصم‪ ،‬لكن‬
‫األمر في الحقيقة واضح‪ ،‬وال تعارض البتة كون ما نزل الضر إال عندما‬
‫تخلت الجماعة المنقذة واألمة الهادية – ولو جزئيًا – عن واجبها في هداية‬
‫الخلق‪ ،‬وإعادتهم إلى الخالق‪ ،‬عندئ ٍذ تجمعت هذه الخليقة ليكون الضر‪ ،‬والضر‬
‫وحده‪ ،‬هو الحاصل والحاضر‪ ،‬والذي سيزول حتمًا فور المراجعة وإن تأخر‬
‫األمر قليالً‪ ،‬لكن الضر حتمًا سيزول‪ .‬والعجيب أن هناك من العلماء الكبار‬
‫من قال بنسخ هذه اآلية ليخرج من عتب الواقع ومآسيه‪ ،‬ولكنه خروج غير‬
‫مبرر وال مقبول كون الحقيقة تشهد بأن السواد األعظم من العلماء الكبار لم‬
‫يقل بنسخها‪ ،‬بل هى محكمة‪ ،‬وما يحدث في دنيا الجماعة من ضر ناتج عن‬
‫مخالفات كثيرة جمعت على األمة الضر واألذى في وقت واحد معًا‪ ،‬كما‬
‫ينبغي أن نذكر هنا ونشير سريعًا إلى الخالف الذي وقع بين علمائنا حول‬
‫الفرق بين الضر واألذى بين قائل إن الضر يكون حسيًّا‪ ،‬بينما األذى يكون‬
‫معنويًا كالسخرية واالستهزاء‪ ،‬وآخرين جعلوا الضر هو ذهاب مصالح الدين‬
‫والدنيا معًا‪ ،‬بينما األذى يكون قوليًّا‪ ،‬وبين قائل إن األذى يكون حسيًّا ومعنويًّا‬
‫مع انتفاء الضر المقصود به ذهاب الدين واإليمان كون ذهابه هو أعظم الضر‬
‫وأشده‪ ،‬بل هو الضر كله‪ ،‬وكل أذى دونه يهون‪ ،‬وال شك في أن المعاني‬
‫متقاربة‪ ،‬ويبقى المعنى األقرب هو أن الضر يكون حسيًّا‪ ،‬بينما يكون األذى‬
‫معنويًّا‪ ،‬وال بأس بالرأى اآلخر الذي هو قبل هذا‪ ،‬والذى يعتبر قريبًا أيضاً‪،‬‬
‫ال كذلك‪ ،‬وفي الحقيقة فإن األذى يبقى هو الشيئ اليسير الذي يصيب‬
‫ومقبو ً‬
‫الجماعة المنقذة ما بقيت صادقة‪ .‬إنه األذى الذي يتناول األفراد والجماعة‬
‫‪- 183 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫بالتشويه والتتويه والتضليل والتخذيل سواءً على مستوى أفرادها أو قياداتها‬


‫على حد سواء‪ ،‬ولكن كل ذلك األذى يبقى محصورًا ومحبوسًا ال يتعدى ذاته‬
‫وإن غير لباسه‪ ،‬ثم يتواصل التعبير القرآني المعجز والمعبر عن ندرة‬
‫المواجهة المسلحة بين أهل الكتاب وأمة الهداية‪ ،‬وذلك من خالل التعبير بأن‬
‫في قوله "وإن يقاتلوكم يولوكم األدبار" التي تدل على ندرة حدوث الشئ‪،‬‬
‫وليس بإذ أو إذا الدالة على كثرة حدوث الشئ‪ .‬إنها اإلشارة الواضحة والدقيقة‬
‫على ندرة المواجهة العسكرية بين المؤمنين من جهة‪ ،‬وأهل الكتاب من جهة‬
‫أخرى‪ ،‬وذلك عندما تكون الجماعة ملتزمة بركائز عزها‪ ،‬ومنهج ربها كون‬
‫هذه األمة منصورة بالرعب مسافات طويلة ما بقيت ملتزمة – كما أسلفنا –‬
‫وهادية مهتدية‪ ،‬ويكتمل الجمال من خالل التعبير بفعل مضارع وهو قوله‬
‫"يقاتلوكم" الدال على التجدد‪ .‬إنها اإلشارة الموحية بسقوطهم‪ ،‬فهم وإن حدثت‬
‫منهم محاولة في المستقبل بهدف اإلسقاط وإلحاق الضرر بالجماعة المنقذة‬
‫واألمة الهادية إال أن الهزيمة تلحقهم على الدوام كونهم ال يقاتلونكم جميعًا إال‬
‫في قرى محصلة أو من وراء جدر‪ ،‬ويزداد األمر سوءًا في حقهم وذلك من‬
‫خالل قوله "يولوكم األدبار"‪ ،‬إنها األدبار النتنة هى التي تظهر هنا في صورة‬
‫غاية في القذارة والسقوط وهى تفر في وجهة واحدة‪ ،‬وصوب مكان واحد‬
‫كفرار القطيع في الصحاري المتباعدة كون التعبير يوحي بهذا المعنى‪ ،‬ولك‬
‫أن تتخيل الحدث والحادث‪ .‬ثم تأتي النهاية هنا مناسبة للبداية في صورة هى‬
‫األجمل شكالً‪ ،‬واألصدق خبرًا‪ ،‬واألعلى مكانًا وزمانًا‪ ،‬وذلك من خالل قوله‬
‫"ثم ال ينصرون"‪ ،‬إنها الحقيقة التي يجب أن تستوعبها أمة الهداية حتى‬
‫تواصل سيرها دون تباطؤ أو التفات‪ .‬نعم إنها حقيقة الهزائم المتتالية ألهل‬
‫الضالل تظهر في ختام اآلية لتكون رائعة في النهاية كما كانت سواء بسواء‬
‫في البداية‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 184 -‬‬

‫ن إِن كُنتُم ُّمؤْمِنِينَ{‪.)45()}139‬‬


‫(وَ َال َتهِنُوا وَ َال َتحْزَنُوا َوأَنتُ ُم األَعَْلوْ َ‬
‫لن يجد الوهن وال الحزن طريقه إلى الجماعة المنقذة واألمة الهادية ما بقيت‬
‫صادقة اإليمان حتى إذا ضعف باهلل إيمانها تسرب إليها الوهن‪ ،‬وحل في‬
‫ساحتها الحزن‪ ،‬وسقطت من جديد في وحل الفتن بقدر غفلتها‪ .‬إنها مصارحة‬
‫ال لشكوك‬
‫السماء لألرض تتجلى هنا بصورة واضحة حتى ال تدع مجا ً‬
‫األرض ووهنها وحزنها ومتاعبها أن تترعرع أو تبقى دون مسوغ أو سبب‪،‬‬
‫فإما إيمان صادق يجعل الجماعة هى األعلى واألبقى‪ ،‬وإما ضعف يسقط‬
‫الجماعة في مهاوى الردى‪ ،‬وال شئ غير ذلك بشهادة اآلية‪ .‬والمالحظ هنا أن‬
‫هذه اآلية كانت تعبيرًا سماويًّا واضحًا يوم أحد‪ ،‬حيث نزلت كي تضع النقاط‬
‫على الحروف‪ ،‬وتزيل النقاب عن ذلك الوهن الذي حدث‪ ،‬والحزن الذي مكث‬
‫ال عظامًا‬
‫برهة من الزمن جراء أحداث ذلك اليوم الدامي‪ ،‬وال شك في أن رجا ً‬
‫سقطوا يوم أحد كانوا ضحية لمخالفة فردية حدثت هناك لدى فريق الرماة في‬
‫جبل أحد‪ ،‬ولكن الحقيقة أيضًا والتي أراد اهلل لها أن تتضح هناك‪ ،‬ويتربى من‬
‫خاللها الصف هى أن المخالفة الفردية ألمر القائد في وسط الجماعة يدفع‬
‫ثمنها الصف‪ ،‬كل الصف‪ ،‬لذا البد من الحذر واالنتباه‪ .‬وحتى نعيش أجواء‬
‫الحدث – ولو من بعيد – كون التفصيل ليس مكانه هنا ننتقل وبدون مقدمات‬
‫إلى مفردات اآلية ففيها من المعاني واللفتات البديعة ما يجعل الجماعة هى‬
‫األحق بالبقاء‪ ،‬واألكرم تحت السماء‪ ،‬فقوله "وال تهنوا وال تحزنوا" يحمل‬
‫دالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ ،‬حرمة الوهن والحزن مهما حدث للجماعة واألمة من‬
‫ال أبدًا أن تتقوقع الجماعة حول مصابها إن أصيبت يومًا ما‪،‬‬
‫بالء‪ ،‬فليس مقبو ً‬
‫وتقعد عن مواصلة السير‪ ،‬بل عليها مراجعة أسباب المصاب‪ ،‬ومعرفة مآالته‬

‫(‪ )45‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم ‪.139‬‬


‫‪- 185 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫وعواقبه من جهة‪ ،‬وتصحيح المسار ومتابعة السير من جهة أخرى‪ .‬كما أن‬
‫التعبير هنا في قوله "وال تهنوا" جاء نهيًا بصيغة المضارع ليوحي بوجوب‬
‫ال لمفارقة الوهن‪ ،‬وعدم قبوله أو االستسالم له تحت أي‬
‫االستعداد مستقب ً‬
‫مسمى‪ ،‬ولقد جاء النهي للجماعة بشكل عام لإليحاء بأن السيادة للجماعة ال‬
‫تتم إال بالتخلص من الضعف والوهن الذي أصابها بشكل عام‪ ،‬فالتبعات‬
‫الكبيرة المنتظرة تحتاج إلى عزائم جماعية موحدة ال تقبل الوهن‪ ،‬وال تتعايش‬
‫مع الحزن‪ .‬ويستمر الجمال في التعبير من خالل تقديم النهى عن الوهن‬
‫للتخلص المستقبلي من الحزن كون الوهن – في الغالب – هو الداعي للحزن‬
‫على الماضي بال شك‪ ،‬كما أن الوهن والحزن هما الداء الدوي‪ ،‬والموت‬
‫الظاهر والخفي للجماعة سواء هناك حين نزلت اآلية أو حتى هنا في هذه‬
‫اللحظات وهذا الزمن‪ ،‬ثم جاء السياق وبطريقة القرآن المبدعة والجميلة للنهى‬
‫عن الحزن وذلك في قوله "وال تحزنوا"‪ ،‬حيث يكون الحزن على أمور‬
‫ماضية في الغالب‪ .‬إنه الحزن الذي خيم على الجماعة المنقذة يوم أحد‪،‬‬
‫فتحركت السماء إلزالته‪ ،‬وعدم قبوله‪ ،‬أو التوقف عنده‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫التذكير بقوله فيما بعد "إن كنتم مؤمنين"‪ ،‬إنها اإلشارة الموحية وبكل صدق‬
‫وصراحة إلى أن اإليمان الحقيقي والتصديق العقدي بموعود اهلل هو وحده‬
‫الذى يزيل الوهن في البداية‪ ،‬ويطرد الحزن في النهاية‪ ،‬وإال كان الوهن مع‬
‫الحزن السائد والسيد‪ ،‬فقوله "إن كنتم مؤمنين" أزالت اللبس‪ ،‬وضمدت‬
‫الجراح هناك‪ ،‬وما زالت تضمد جراح اليوم وجراح الغد بكل واقعية وصدق‬
‫شريطة التوضيح واالعتراف باألخطاء لتصحيحها‪ .‬إنها مصارحة المنهج‬
‫لحامليه حتى ال يأخذهم الوهن‪ ،‬ويستبد بهم الحزن فيأخذهم بعيدًا بعيدًا بينما‬
‫الدنيا تنتظر نورهم‪ ،‬وتشتاق إلى لقياهم‪ ،‬ومما ال شك فيه هنا فإن قوله "إن‬
‫كنتم مؤمنين" تحمل دالالت كثيرة كما أسلفنا‪ ،‬ومنها‪ :‬أنه ال قرابة تربط‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 186 -‬‬

‫األرض بالسماء البتة سواء قرابة نسب أو عرق أو جنس أو لون أو مكان‪،‬‬
‫كل تلك المفردات ال مكان لها في قيم السماء ومنهجها بل اعتقاد باهلل وعمل‪،‬‬
‫وإال كان الوهن وكان الحزن‪ ،‬كما أن اللفظ يوحي بأن الضعف الجماعي أو‬
‫حتى الفردي والذاتي‪ ،‬وكذلك الحزن ال يطردان من ساحة الجماعة ومن قلوب‬
‫أفرادها وقالبهم إال باإليمان باهلل‪ ،‬وباإليمان باهلل فقط‪ ،‬وأي سالح مهما كان‬
‫قويًّا ولكنه خال من اإليمان فإنما هو اإليغال في الوهن‪ ،‬واالستمرار في‬
‫الحزن ليس إال‪ ،‬وثانيًا إن عزة الجماعة وسر بقائها عالية المكانة والمكان‬
‫إنما هو باإليمان باهلل ربًّا‪ ،‬وباإلسالم دينًا‪ ،‬وبمحمد نبيًّا ورسوالً دون تلعثم أو‬
‫التواء‪ ،‬وقد جاء تخصيص اإليمان دون اإلسالم كون لفظ اإلسالم هنا يدخل‬
‫تحته ضمنيًّا‪ ،‬وثانيًا إن اإليمان ارتقاء وتصديق ينقل المسلم إلى مصاف‬
‫الصادقين األوفياء الذين يغلبون بإيمانهم الوهن‪ ،‬ويتخلصون من الحزن‪ ،‬كما‬
‫أن اللفظ الجماعي في قوله "إن كنتم مؤمنين" يوحي بأن إزالة الوهن‪،‬‬
‫ومفارقة الحزن عن الجماعة ال يتم أبدًا بإيمان فردي‪ ،‬وتعبد شخصي أيًّا كان‬
‫ذلك الفرد العابد أو الشخص الزاهد‪ ،‬بل بتصديق جماعي‪ ،‬وتعبد جماعي‪،‬‬
‫وانطالقة جماعية تقودها السماء وترعاها‪ ،‬وعلى منهجها يكون مجراها‬
‫ومرساها‪ .‬إنها الحقائق التي ال يجوز أبدًا إهمالها أو الغفلة عنها وذلك حتى‬
‫ال يطول في الجماعة الوهن‪ ،‬ويقتل عزمها ورجالها الحزن‪.‬‬
‫‪- 187 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ن النَّاسِ‬
‫ك األيَّا ُم نُدَا ِوُلهَا بَيْ َ‬
‫َس الْ َقوْ َم َقرْحٌ مِثْلُ ُه وَ ِتلْ َ‬
‫(إِن يَمْسَسْكُمْ َقرْحٌ فَقَدْ م َّ‬
‫َاهلل َال ُيحِبُّ‬
‫شهَدَاء و ُّ‬
‫ن آمَنُواْ وَي ََّتخِذَ مِنكُمْ ُ‬
‫اهلل الَّذِي َ‬
‫ُّ‬ ‫َولِيَعْلَ َم‬
‫الظَّالِمِينَ{‪.)46()}140‬‬
‫عندما تصاب الجماعة بقرح هنا أو بالء هناك إنما يريد اهلل أن يصطفي منها‬
‫الشهداء ليرفع ذكرها في األرض والسماء‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب أن‬
‫تستوعبها الجماعة من البداية حتى ال تصاب بالحيرة والشك عند حدوث‬
‫القرح كون يوم أحد قد جسد هذه الحقيقة‪ ،‬كل ذلك لتطمئن الجماعة هنا عندما‬
‫يتكرر الحدث – ولو ببعض مالبساته – كون االصطفاء واالجتباء واردًا ما‬
‫بقيت الحياة‪ ،‬وتحرك األحياء‪ .‬وحتى نعيش هذه المعاني الدقيقة بما تحمل من‬
‫جمال وجالل وروعة وكمال ننتقل إلى اآلية ففيها من اللطائف الحسان ما‬
‫يثبِّت اهلل به الحجة‪ ،‬ويسكن به الجنان‪ ،‬فقوله "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم‬
‫قرح مثله "هذه الجملة تحمل دالالت كثيرة ومنها أنها جاءت لتسلية المؤمنين‬
‫حدْ‪ .‬إنها مواساة السماء لألرض كي تصبر وتحتسب وتثبت‬
‫عما أصابهم يوم ُأ ُ‬
‫وتعتقد أن كل شئ بقدر‪ ،‬وأن األيام دول‪ .‬كما أن التعبير بإن وليس بإذ كأن‬
‫ال "إذ يمسسكم قرح"‪ ،‬وذلك كون إن تدل على ندرة‬
‫يكون سياق اآلية مث ً‬
‫حدوث الشئ‪ ،‬بينما إذ تدل على كثرته‪ .‬إنها رحمات اهلل تتجلى هنا على‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهى تعيش قرحًا آلم القلوب‪ ،‬وأرهق األجساد‪،‬‬
‫وذلك كعادة القرآن الجمالية في التصوير كون الحدث وإن حصل إال أنه‬
‫سيكون بهيئته ومآالته في قادم األيام نادرًا‪ ،‬وليس مستمرًّا‪ ،‬وذلك بغرض‬
‫االصطفاء واالبتالء‪ ،‬ثم مجئ اللفظ "يمسسكم" وليس يمسسهم كونهم هم من‬
‫عايش القرح هناك في أحد‪ ،‬ولسنا نحن هنا‪ ،‬وذلك لإليحاء بأن قرح أحد مسنا‬

‫(‪ )46‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم ‪.140‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 188 -‬‬

‫أيضًا كما مسهم كون الجسد واحدًا بآالمه وآماله وعواقبه ومآالته‪ .‬إنه الجرح‬
‫النفسي الذي يعتمل هنا في النفوس والقلوب كلما ذكر يوم أحد بأحداثه وآالمه‪،‬‬
‫كما أن التعبير بصيغة المضارع يوحي بأن القرح سيتكرر وقوعه وإن كان‬
‫ال كما أسلفنا‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه‬
‫ال وحا ً‬
‫بشكل نادر زمانًا ومكانًا ورجا ً‬
‫أن مجئ القرح منكرًا يوحي أيضًا بعموميته وشموله‪ .‬إنه القرح الذي عاشته‬
‫مكة‪ ،‬كل مكة‪ ،‬في البداية‪ ،‬ثم تكرر حدوثه في أهل المدينة‪ ،‬كل المدينة‪ ،‬في‬
‫النهاية‪ ،‬وهو معنى نفيس ودقيق يالحظ من خالل تنكير القرح في كال الحالين‪،‬‬
‫ويتواصل رسم المشهد ونقله من خالل مجئ لفظ "القوم" الموحي بأن يوم‬
‫ُأحد كان حربًا بين القوم الذين يجمعهم المكان واللغة‪ ،‬ولكن فرقتهم المبادئ‬
‫والملة‪ ،‬وهنا يتضح أكثر فأكثر السر في التعبير القرآني بلفظ إن يمسسكم‬
‫وليس إذ كون حرب من هذا النوع وإن تكرر حدوثها إال أنها تبقى نادرة‪،‬‬
‫وهو معنى دقيق‪ ،‬ودقيق جدًّا‪ ،‬يجب تأمله والوقوف عنده‪ .‬إنه الجرح الذي‬
‫ابتليت به الجماعة المنقذة من قبل األقربين هناك نتيجة للكبر والكفر والعناد‪،‬‬
‫وهو ما قد يتكرر حدوثه وتكرره من األقربين هنا وإن اختلفت األسباب‬
‫والدواعي بعض الشئ‪ .‬إنه االحتياط الذي ينبغي على الجماعة التنبه له من‬
‫البداية حتى تتالفى حدوثه في النهاية‪ ،‬ثم ينتقل السياق القرآني بروعته وجماله‬
‫وفصاحته وجالله ليضع النقاط على الحروف في صورة غاية في الدقة‬
‫والروعة‪ ،‬وذلك من خالل اإلقرار التام بقاعدة هى أم القواعد‪ ،‬وذلك في قوله‬
‫"وتلك األيام نداولها بين الناس"‪ ،‬حيث تحمل هذه الجملة دالالت كثيرة‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬أن دوام الحال من المحال‪ .‬إنها سنة التداول في األحوال والمآالت بين‬
‫األمم واألقوام‪ ،‬فتارة ينتصر هذا‪ ،‬وأخرى ذاك‪ .‬إنها اللفتة الدقيقة الموحية بأن‬
‫هذا االنتصار تارة‪ ،‬والهزيمة أخرى في حق المؤمنين هو الذي يحفظ التوازن‬
‫للجماعة كون انتصارها على الدوام ال يمنع حدوث البطر واألشر فيها‪ ،‬كما‬
‫‪- 189 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫أن انهزامها المستمر كذلك يزرع اليأس والقنوط في داخلها‪ ،‬فكان هذا‪ ،‬وهذا‬
‫هو عين الصواب ليتم التطهير والتربية واالصطفاء والتزكية‪ .‬إنها الحقيقة‬
‫التي تجعل الجماعة تراجع سيرها‪ ،‬وتتفقد ذاتها كلما أصابها القرح هنا أو‬
‫اآلالم هناك‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن مداولة األيام كما يكون بين األقوام‬
‫يكون كذلك في ذاتية الشخص الواحد حيث تمر عليه الشدة‪ ،‬ثم يعقبها الرخاء‪،‬‬
‫وينعم بالصحة‪ ،‬وفجأة يداهمه المرض‪ .‬إنها اللحظات التي يأمن فيها العبد‬
‫ال بصحته تارة‪ ،‬وبماله تارة أخرى‪،‬‬
‫مكر السماء‪ ،‬فيغفل عن طاعة ربه انشغا ً‬
‫عندئ ٍذ يأتيه المرض فجأة كي يعود إلى ربه‪ ،‬ويحتمي بخالقه‪ ،‬وال شك في أن‬
‫ن واحد هو الذي يكشف حقيقته‪ ،‬ويوضح‬
‫تقلب العبد بين المتناقضات كلها في آ ٍ‬
‫شكره عند النعماء‪ ،‬وصبره عند الضراء كونه – كما أسلفنا – ال يدوم فرحه‪،‬‬
‫ال حتى ال يأمن‬
‫وال يستمر حزنه‪ ،‬بل إذا فرح صباحًا طرقت النوائب داره لي ً‬
‫إال عندما يستقر في دار األمن عند اهلل هناك‪ ،‬وليس بدار المخاوف هنا‪ .‬كما‬
‫أن التعبير بقوله "وتلك األيام" يوحي بأن األيام قصيرة ومعدودة كونها‬
‫محصورة ومقصورة بأل التعريف‪ ،‬وذلك حتى يستسهل المبتلى األلم إن وجد‪،‬‬
‫وال يحزن على النعيم إن فقد‪ .‬إنها الحقيقة التي توحي بمحدودية البقاء في دار‬
‫الفناء هنا قبل االنتقال إلى دار البقاء الحقيقية هناك في صورة تحمل سرعة‬
‫االنقضاء‪ ،‬وروعة االنتهاء‪ ،‬وحتى ال يظنن ظان أن ظلمًا هنا أو هناك يحدث‬
‫جراء ذلك التداول جاء التعبير في قوله "نداولها" كي يضفي على المشهد‬
‫ال ينتفي فيه كل ظلم أو هضم‪ .‬إنه اإليحاء بعدالة السماء‬
‫ال سماويًّا عاد ً‬
‫جما ً‬
‫المطلقة أثناء مبادلة األيام واألحوال سواء في حق األمم واألقوام أو حتى في‬
‫حق األشخاص واألفراد كون عدالة اهلل هى التي تعمل عملها‪ ،‬وما على‬
‫األرض إال التسليم والرضا‪ ،‬ثم يأتي التعبير في قوله "بين الناس" وليس بين‬
‫المؤمنين لتشمل سنة التداول كل الناس بغض النظر عن الملة والدين‪ ،‬كما أن‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 190 -‬‬

‫تخصيص الناس بالذكر من بين سائر المخلوقات كونهم هم المكلفين والذين‬


‫يجري عليهم القلم والقدر المترتب عليه الثواب والعقاب‪ ،‬ثم ينتقل سياق اآلية‬
‫بصورة بديعة ورائعة من خالل توضيح الحكمة اإللهية من ذلك التداول من‬
‫خالل قوله "وليعلم اهلل الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء واهلل ال يحب‬
‫الظالمين"‪ ،‬حيث تحمل هذه الجملة دالالت كثيرة ومنها‪ :‬اإليحاء بأن علم اهلل‬
‫قسمان علم أزلي سابق يشمل علمه ما كان وما سيكون كيف يكون‪ ،‬حيث قدر‬
‫مقادير الخلق قبل أن يخلقهم بخمسين ألف سنة‪ ،‬وكان عرشه على الماء‪،‬‬
‫وثانيًا علم يترتب عليه الثواب والجزاء ألن العلم السابق ال يترتب عليه الجزاء‬
‫ألنه لم يوجد حينها‪ ،‬وعندما وجد اآلن ترتب هذا العلم ليكون الجزاء والثواب‪،‬‬
‫وهو معنى دقيق ونفيس‪ ،‬وقوله "الذين آمنوا" هذه األلفاظ تحمل دالالت مهمة‬
‫حيث كان االبتالء بمداولة األيام بين الناس عامًّا وجاء التخصيص هنا في‬
‫إشارة دقيقة إلى أن المؤمنين هم من يثبتون أمام االبتالء دون غيرهم‪ .‬إنها‬
‫الحقيقة التي يجب على الجماعة المنقذة واألمة الهادية أن تستوعبها‪ ،‬وتؤهل‬
‫أفرادها لها كونها الضامن الوحيد للثبات أمام المتغيرات المتتابعة‪،‬‬
‫واالبتالءات المستمرة‪ ،‬وإال كان السقوط في وحل الشك ومنعطفات الطريق‬
‫هو النهاية والمآل‪ ،‬ثم ينتقل السياق القرآني لذكر الحكمة من مداولة األيام بين‬
‫الناس بقوله "ويتخذ منكم شهداء"‪ ،‬إنه اصطفاء السماء واختيارها لخيرة أهل‬
‫األرض ليكونوا هم الشهداء‪ ،‬وذلك ال يتم قطعًا إال عندما يكون القرح‪ .‬إنها‬
‫اإلشارة الدقيقة لحقيقة المعركة التي يجب معرفة بدايتها ومنعطفاتها حتى ال‬
‫تتفاجأ الجماعة أفرادًا وقادة عندما تقدم خيرة رجالها في ميدان المعركة كما‬
‫حدث يوم أحد سوا ًء بسواء‪ .‬ومما ينبغي ذكره هنا أن نعيمًا ال ينفد وقرة عين‬
‫ال تنقطع أعدها اهلل للشهداء هناك‪ ،‬فكيف سيصلون‪ ،‬إن لم يكن هنا قرح كقرح‬
‫أحد ولو تغيرت أسبابه بعض الشئ‪ ،‬وقد جاء التعبير في بقوله "ويتخذ"‬
‫‪- 191 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫بصيغة المضارع في إشارة واضحة لهذا المعنى‪ .‬إنها استمرارية الشهادة‬


‫واالصطفاء تشق طريقها‪ ،‬وتواصل سيرها بإذن ربها دون توقف أو التواء‬
‫كون يوم أحد لن يكون هو آخر أيام االصطفاء‪ ،‬بل سيستمر االصطفاء حتى‬
‫تقوم الساعة‪ ،‬ويزداد الجمال‪ ،‬ويظهر الكمال في هذا اللفظ "يتخذ" حيث يوحي‬
‫أيضًا بأن اهلل هو الذي يختار الشهداء ويؤهلهم ليكرمهم بعطائه‪ ،‬ويسكنهم‬
‫بجنانه‪ ،‬وأن الذي ال يريده اهلل شهيدًا حتى وإن تقدم الصفوف سيعود مرة‬
‫أخرى ألهله ما لم َيخْ َترْه اهلل‪ ،‬فالسماء وحدها إذًا هى من تختار الشهداء بعلوها‬
‫ونقائها‪ ،‬وليس لألرض بطينها وناسها سوى االستعداد في البداية‪ ،‬والتسليم‬
‫في النهاية‪ ،‬وال شئ غير هذا‪ ،‬ثم جاء التعبير المبدع في قوله "منكم"‪ ،‬وليس‬
‫يتخذكم شهدا ًء لإليحاء بدالالت كثيرة ومنها‪ :‬أن الشهداء ال يكونون أبدًا من‬
‫الظالمين المفسدين‪ ،‬بل منكم أنتم أيها الصادقون إيمانًا‪ ،‬والثابتون دينًا‪ ،‬كما‬
‫أن التبعيض يوحي باصطفاء البعض فقط ليبقى اآلخرون حراسًا للدماء التي‬
‫اختيرت حتى ال تحدث الخيانة‪ ،‬وحماة لألعراض كي تُحفظ من اإلهانة‪ ،‬ثم‬
‫تأتي النهاية منسجمة تمامًا مع البداية في صورة مبدعة‪ ،‬وذلك من خالل قوله‬
‫"واهلل ال يحب الظالمين"‪ ،‬إنها اإلشارة إلى أن اهلل ال يحب الظالمين‪ ،‬ولذلك‬
‫ال يصطفي منهم شهداء البتة حيث أعادهم إلى بيوتهم من منتصف الطريق‬
‫يوم أحد لظلمهم‪ ،‬وخبث طويتهم ليكونوا مع الخوالف‪ ،‬وال شك في أن العودة‬
‫من منتصف الطريق كانت هناك‪ ،‬وسيتكرر ذلك الهروب هنا من قبل‬
‫الظالمين ما بقي ظلمهم وخبثهم‪ ،‬كما أنها إشارة واضحة توحي بأن الظلم مانع‬
‫من موانع االصطفاء اإللهي‪ ،‬واالجتباء الرباني‪ .‬ومما ينبغي ذكره قبل النهاية‬
‫أن قوله "واهلل ال يحب الظالمين" جاءت بهذه األلفاظ والخاتمة حتى ال يظنن‬
‫ظان أن اهلل عندما حقق للمشركين الظالمين هناك بعض االنتصار قد أحبهم‪،‬‬
‫بل هى سنة التداول والتدافع التي تحدث عنها القرآن ليكون أجر الجهاد‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 192 -‬‬

‫والثبات معلومًا من جهة‪ ،‬وليتخذ اهلل شهداء ويطهر عباده من رجس الظالمين‬
‫من جهة أخرى‪.‬‬
‫‪- 193 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫علَى‬
‫ت َأوْ قُ ِتلَ ان َقلَبْتُمْ َ‬
‫سلُ َأ َفإِن مَّا َ‬
‫خَلتْ مِن قَبْلِ ِه الرُّ ُ‬
‫(وَمَا ُمحَمَّدٌ إِالَّ رَسُولٌ قَدْ َ‬
‫ى عَقِبَيْ ِه َفلَن يَضُرَّ اهللَّ شَيْئ ًا وَسَ َيجْزِي اهللُّ‬
‫علَ َ‬
‫أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَن َقِلبْ َ‬
‫الشَّا ِكرِينَ{‪.)47()}144‬‬
‫الذين يرتبطون باألشخاص والذوات‪ ،‬وليس بالمبادئ والرساالت يسقطون‬
‫فور رحيل تلك الذوات إن لم يسبقوهم‪ .‬إنها الحقيقة التي أرادت غزوة أحد‬
‫معالجتها حتى تتوقف هناك دون تكرارها هنا‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه أن‬
‫هذه اآلية نزلت يوم أحد‪ ،‬وذلك عندما صاح الشيطان في ميدان المعركة‬
‫ال إن محمدًا قد قتل‪ .‬إنه الصوت اإلبليسي الذي تجاوز –‬
‫بأعلى صوته قائ ً‬
‫وبشكل سافر – الوسوسة المعروفة في تلك اللحظات الحاسمة من عمر‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية‪ ،‬ومما ينبغي ذكره هنا أن ذلك الصوت‬
‫اإلبليسي ظهر صراحة هنا في أحد كما ظهر ليلة العقبة ويوم بدر كونها‬
‫لحظات حاسمة كان لها ما بعدها مما جعل الشيطان يخرج عن صمته‪،‬‬
‫ويتجاوز ذاته في صورة عبثية شيطانية بئيس ًة وهى حقيقة تتكرر هنا حيث‬
‫يتحرك أبالسة الزمان مباشرة دون واسطة عندما يشعرون بصدق الجماعة‬
‫المنقذة‪ ،‬وواحدية األمة الهادية‪ ،‬وال شك في أن ذلك الصوت قد أحدث في‬
‫صف الجماعة ضجة أفقدت الكثيرين من أبناء الجماعة وعيهم وعقلهم‪ ،‬حيث‬
‫تشتت الشمل‪ ،‬فمنهم من فكر في العودة إلى دين اآلباء واألجداد‪ ،‬ومنهم من‬
‫ترك سالحه وفَرَّ صوب المدينة‪ ،‬وآخرون فقدوا وعيهم وسقطوا نحو األرض‬
‫في ذهول ال حدود له‪ ،‬بينما رسول اهلل محمد هناك وقد أَثْخَنتْه الجراح‪ ،‬وآلمه‬
‫القرح بعد كسر رباعيته‪ ،‬وخروج الدم من وجنتيه‪ ،‬يصيح في الجموع الشاردة‬
‫أيها الناس أنا محمد رسول اهلل‪ .‬إنها اإلشاعة اإلبليسية النجسة التي فعلت‬

‫(‪ )47‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم ‪.144‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 194 -‬‬

‫فعلها‪ ،‬حيث فرقت الصف‪ ،‬وشتتت الشمل‪ ،‬وقتلت العزائم‪ ،‬وتركت رسول‬
‫األمة هناك يعاني القرح‪ ،‬ويقاوم الجرح مع قليل ممن ثبتوا وأوفوا‪ .‬ومما‬
‫ينبغي ذكره هنا أن اإلشاعة كانت وستبقى في اللحظات االستثنائية الحاسمة‬
‫هى سالح الشيطان وجنده يفرق بها الصف‪ ،‬ويشتت بها الشمل‪ ،‬ويقتل بها‬
‫العزائم كما فعل يوم أحد سواء بسواء ما لم تتنبه الجماعة المنقذة واألمة‬
‫الهادية إلى مثل هذا السالح‪ ،‬ويحذر األفراد والجند‪ .‬ومما ينبغي ذكره هنا أن‬
‫ثلة من الصحابة الكبار هم من ثبت أمام ذلك الصوت النشاز في تلك اللحظات‬
‫الشداد‪ .‬إنها الثلة التي تربت واستوعبت التربية والمنهج‪ ،‬وعرفت الهدف‬
‫والمقصد هى من أسقطت اإلشاعة‪ ،‬وانتصرت للهدف‪ ،‬وقاتلت للمبدأ بلسان‬
‫حالها وشعارها "إذا كان محمد قد مات فقاتلوا حتى تموتوا على ما مات‬
‫عليه"‪ ،‬بينما أولئك الضعاف تربيةً‪ ،‬والقليلو الفهم تركوا سالحهم‪ ،‬وسلموا‬
‫عقولهم في سابقة خطيرة كانت ستودي بحياة القائد والجماعة لوال لطف اهلل‬
‫وحفظه‪ .‬إنها اإلشاعة برائحتها النتنة‪ ،‬وصورتها القذرة‪ ،‬ومآالتها الخبيثة‬
‫فعلت فعلها الخسيس في لحظات الغفلة والتيه‪ ،‬وحتى نستشعر تلك المعاني‬
‫مجتمعة ننتقل إلى الحياة في ظالل اآلية ففيها من اللطائف والجمال ما يفوق‬
‫الوصف والخيال‪ ،‬فقوله "وما محمد إال رسول قد خلت من قبله الرسل"‪،‬‬
‫هكذا هى القضية وبكل وضوح‪ .‬إنه محمد باسمه‪ ،‬واسمه فقط‪ ،‬يموت كما‬
‫مات الرسل قبله كونه لم يخلق كي يُعبد أو ُيخَلَّد‪ ،‬بل خُلق ليؤدي مهمة‪ ،‬ويبلغ‬
‫رسالة‪ ،‬ثم يرحل وتبقى الرسالة هنا ما بقيت الحياة‪ ،‬وجئ بلفظ الرسول وليس‬
‫النبي كون كل رسول نبي‪ ،‬وليس العكس‪ .‬ومما ال شك فيه هنا فإن "إال" لم‬
‫تعد هنا أداة استثناء كما هو معلوم عند أهل اللغة كون أركان االستثناء‬
‫المعروفة منعدمة‪ ،‬بل األداة هنا أداة حصر وقصر كونها حصرت محمدًا‬
‫عليه السالم في الرسالة‪ ،‬والرسالة فقط‪ .‬إنه اإليحاء الدقيق برحيل ذاته‪ ،‬وخلود‬
‫‪- 195 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫رسالته بأبي وأمي هو عليه الصالة والسالم‪ ،‬ويزداد هذا األمر وضوحًا من‬
‫خالل السياق في اآلية التالية في قوله "قد خلت من قبله الرسل"‪ ،‬أي ماتت‬
‫من قبله الرسل فهو التساوي برحيل الذوات وبقاء الرساالت‪ ،‬ومما ال شك‬
‫فيه هنا أن جملة "وما محمد إال رسول قد خلت من قبله الرسل" توحي‬
‫وبشكل دقيق يُفهم من خالل السياق أن النبي محمدًا هو النبي الخاتم‪ ،‬ورسالته‬
‫هى الرسالة الخاتمة والناسخة لما قبلها كون أولئك الرسل قبله وهو جاء‬
‫بعدهم‪ ،‬ولم يأت بعده رسول البتة‪ ،‬ثم ينتقل السياق القرآني بكل جمال وروعة‬
‫وبطريقة القرآن المعهودة بعد تلك الجملة المختصرة موضوعًا‪ ،‬والمقررة‬
‫رسالة‪ ،‬والموضحة منهجًا ودينًا حيث يأتي بعدها العتاب اللطيف بطريقة‬
‫ال "أفإن مات أو قتل انقلبتم على‬
‫استفهامية غاية في اللطافة والعُتب قائ ً‬
‫أعقابكم"‪ ،‬إنه العتاب الذي هز أركان الزمان‪ ،‬وحرك مشاعر األنام‪ ،‬وأزاح‬
‫اللثام – وإلى األبد – عن أولئك الذين يعبدون أشخاصًا في األرض ال ربًّا في‬
‫السماء‪ .‬نعم إنه االنقالب المزري‪ ،‬والسقوط المخزي لمن تحكمهم اإلشاعات‪،‬‬
‫وتخيفهم المعضالت يستمر في الظهور‪ ،‬ويتوالى في السطور كلما كان‬
‫التشبث بالذوات على حساب المبادئ والرساالت‪ ،‬ويظهر هذا المعنى ويتضح‬
‫من خالل قوله "انقلبتم على أعقابكم"‪ .‬كما أن كل من يوالى شخصًا أو‬
‫جماعة دون اهلل هو منقلب فطرةً ودينًا وأرضًا وسما ًء وإن زين ألفاظه‪،‬‬
‫وأخفى قصده‪ ،‬ولكن خاتمته ستفضح عبوديته ومعبوده طال الزمان أو قصر‪،‬‬
‫لذا كان اللفظ المذكور‪ .‬وال شك في أن انقالب الفطرة يتكرر ويستمر مع كل‬
‫من يترك المنهج والنهج والرسالة والرسول سواء انقلب بفعل اإلشاعة أو‬
‫بفعل الشهوة‪ ،‬فكالهما منقلب‪ ،‬ويستمر اللفظ القرآني في قوله "انقلبتم على‬
‫أعقابكم" بتوضيح دالالت كثيرة أيضًا‪ ،‬ومنها‪ :‬أن التمسك بالذوات وإن كانوا‬
‫ال عن غيرهم فقط‪ ،‬وترك المبادئ والرساالت ال يعصم من‬
‫أنبيا ًء فض ً‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 196 -‬‬

‫االنقالب والسقوط‪ ،‬بل هو عالمة على حتمية ذلك االنقالب المشؤوم‪،‬‬


‫والسقوط المحتوم‪ .‬إنه اإليحاء الدقيق الذي يظهر من خالل تركيب الجملة‬
‫ومآالتها‪ .‬نعم إنها الحقيقة التي ينبغي أن تعيها الجماعة المنقذة أفرادًا وقادة‪،‬‬
‫وهى أن االرتباط بالذوات سواء كانوا قادة أو غيرهم ال يعصم البتة من‬
‫االنقالب على الجماعة في األرض يومًا ما‪ ،‬وذلك بعد السقوط من عين اهلل‬
‫في السماء‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه هنا هو مجئ لفظ انقلبتم موحيًا بانقالب‬
‫جماعي في حال ترك المنهج السماوي‪ ،‬كما أن قوله على أعقابكم وليس‬
‫ال وقت انقالبه حتى‬
‫وجوهكم" كون المنقلب هذا لم يكن على الصواب أص ً‬
‫يسقط على وجهه‪ ،‬بل كان سيره وفهمه ومعتقده وتعبده على غير القبلة‬
‫والوجهة والدين والملة‪ ،‬لذا انقلب إلى الوراء كون حياته معكوسة أصالً‪،‬‬
‫ال وزمانًا‪ ،‬كما جئ بلفظ العقب كونه مؤخرة القدم – كما هو‬
‫ومنكوسة حا ً‬
‫معلوم – لتوضيح حقيقة عباد الذوات ومكانهم األسفل حاالً‪ ،‬والمزري مكانًا‬
‫هناك في المؤخرة السفلى‪ ،‬والمؤخرة فقط‪ ،‬حيث أسفل القدم المالصق‬
‫لألرض‪ ،‬والقريب جدًا من التراب‪ ،‬كما توحي الجملة بلطيفة دقيقة أخرى‬
‫تشير إلى أن الجماعة التي ارتبطت بطينة األرض وقيمها ال قدرة لها على‬
‫الوقوف واالستمرار في السير أبدًا ما لم ترتبط بقيم السماء ومنهجها‪ ،‬وإال‬
‫كان االنقالب هو المنتظر والمآل‪ ،‬ثم يتواصل الجمال والكمال القرآني – على‬
‫حد سواء – في صورة جمالية مبدعة وذلك من خالل قوله "ومن ينقلب على‬
‫عقبيه فلن يضر اهلل شيئاً"‪ ،‬حيث تحمل هذه الجملة إيحاءات كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن‬
‫انقالب الجماعة لن يضر اهلل على اإلطالق‪ ،‬بل سيعود الضرر على كل فرد‬
‫على حدة في هذه الجماعة المنقلبة‪ ،‬حيث إن التعبير الفردي هنا بعد التعبير‬
‫الجماعي هناك يوحي بهذا المعنى‪ ،‬وهو معنى نفيس ودقيق لمن تأمله‪ ،‬ووقف‬
‫عنده‪ ،‬كما أن اللفظ القرآني "ينقلب" جاء بصيغة المضارع للداللة على أن‬
‫‪- 197 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫كل منقلب في كل زمان ومكان لن يضر اهلل شيئًا بل سيضر نفسه‪ ،‬ونفسه‬
‫فقط‪ ،‬كونه فقد عون اهلل وحفظه وكرمه ولطفه‪ .‬إنها المسؤلية الفردية التي‬
‫يجب على رجاالت الجماعة المنقذة واألمة الهادية أن تعيها وتستوعبها حتى‬
‫ال يكون ارتباطها بالذوات واألشخاص تهتدي بهدايتهم‪ ،‬وتنحرف بسقوطهم‬
‫هو ديدنها‪ ،‬بل االرتباط يكون بالمنهج أمرًا ونهيًا وأخذًا وعطاءًا‪ .‬إنه اإلرتباط‬
‫المطلق بمنهج السماء‪ ،‬بينما ارتباط األرض باألرض قادة وأفرادًا يكون‬
‫ارتباطًا مقيدًا بقدر طاعتهم لربهم‪ ،‬وقربهم منه‪ ،‬وإال فال طاعة وال ارتباط‪،‬‬
‫ثم يأتي ختام اآلية منسجمًا تمامًا مع بدايتها وذلك في قوله تعالى "وسيجزي‬
‫اهلل الشاكرين"‪ ،‬حيث توحي هذه الجملة بإيحاءات كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬مجئ السين‬
‫متصلة بالفعل المضارع يجزي‪ ،‬وليس سوف يجزي‪ ،‬يوحي بسرعة وفورية‬
‫جزاء اهلل سبحانه لمن ثبت‪ ،‬ولم تغلبه اإلشاعة أو تسقطه الشهوة كون السين‬
‫توحي في اللغة بهذا المعنى‪ ،‬كما أن مجئ الفعل مضارعًا يوحي كذلك‬
‫باستمرارية الجزاء اإللهي للثابتين غير المنقلبين جزا ًء ال يعلم كنهه وحقيقته‬
‫إال اهلل‪ .‬إنه الجزاء المستمر حاالً‪ ،‬والباقي مكانًا‪ ،‬والمتصل زمانًا في صورة‬
‫توحي بكرم اهلل ولطفه وحفظه ورعايته‪ ،‬ويزداد الجمال هنا من خالل مجئ‬
‫لفظ الجاللة "اهلل"‪ ،‬وذلك لالستئناس والتشويق‪ .‬إنه اهلل الذي سيجزي جزا ًء‬
‫يدهش العقول‪ ،‬ويشرح الصدور‪ ،‬وليس غيره من يفعل ذلك‪ ،‬وتختم اآلية‬
‫بذكر الشاكرين كونهم عرفوا قدر نعمة الثبات فوفوا وصدقوا‪ ،‬وإلى اهلل أنابوا‪،‬‬
‫وعليه توكلوا‪ ،‬فكانوا بحق هم الشاكرين الموفين والمستحقين للعطاء وكرم‬
‫السماء‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 198 -‬‬

‫ن كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَا َبهُمْ فِي سَبِي ِل اهللِ‬


‫ِي قَا َت َل مَعَ ُه رِبِيُّو َ‬
‫(وَ َكأَيِن مِن نَّب ٍّ‬
‫ِب الصَّا ِبرِينَ{‪.)48()}146‬‬
‫َاهلل ُيح ُّ‬
‫وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ و ُّ‬
‫على الجماعة المنقذة واألمة الهادية عدم الجزع أو الضعف جراء ما يصيبها‬
‫في سبيل اهلل من األلم والقرح كون طريق الشهادة والشهداء هو طريق األنبياء‬
‫والصالحين على مدار التاريخ البشري الطويل‪ .‬إنها تسلية السماء لألرض‬
‫كي تواصل السير في طريق الجهاد والعمل دون التفات أو التواء مادام األمر‬
‫في سبيل اهلل‪ ،‬وفي سبيل اهلل فقط‪ .‬إنها التسلية التي جاءت بصورة جمالية‬
‫مبدعة‪ ،‬وبطريقة شرعية واضحة‪ ،‬وذلك من خالل استحضار الماضي القديم‬
‫لألمم المجاهدة في ذلك الزمن البعيد‪ ،‬والبعيد جدًّا‪ ،‬لتحيا الجماعة‪ ،‬وتستقر‬
‫األمة دون ضعف أو وهن‪ .‬وحتى نعيش روعة التسلية‪ ،‬وجمال التهنئة ننتقل‬
‫إلى مفردات اآلية حيث الجمال والجالل‪ ،‬فقوله "وكأين من نبي قائل معه‬
‫ربيون كثير" هذه الجملة تحمل دالالت كثيرة وإيحاءات مهمة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن‬
‫لفظ كأين يوحي بكثرة األنبياء واألقوام الذين بذلوا أنفسهم في سبيل اهلل دون‬
‫ضعف أو وهن كون اللفظ "كأين" معناه كثير‪ .‬إنها األكثرية األصدق حاالً‪،‬‬
‫واألشجع مقاالً‪ ،‬واألزكى ظاهرًا وباطنًا تتجلى هنا في صورة نبوية غاية في‬
‫الشجاعة واإلقدام‪ ،‬ويزداد جمال التعبير بذكر األنبياء مباشرة قبل غيرهم‪،‬‬
‫وذلك في إشارة إلى أمور كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن األنبياء هم في مقدمة الصفوف‬
‫جهادًا ودعوة‪ ،‬كما أن دماءهم هى أول دماء تسفك في سبيل اهلل‪ .‬إنها الحقيقة‬
‫التي يجب على الجماعة المنقذة واألمة الهادية أن تعيها وتستوعبها وهى‬
‫تصارع الطواغيت‪ ،‬وتقدم في سبيل ذلك الصراع أغلى ما تملك من رجاالتها‬
‫وقادة العمل فيها كون األنبياء هم سادة القوم في الجهاد هناك‪ ،‬وأتباعهم يجب‬

‫(‪ )48‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم ‪.146‬‬


‫‪- 199 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫أن يكونوا هم السادة هنا‪ ،‬ثم يواصل القرآن نقل المشهد الجهادي المتواصل‬
‫عبر القرون البشرية الممتدة بصورة غاية في الروعة واإلبداع من خالل‬
‫قوله "قاتل معه ربيون كثير"‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن اللفظ "قاتل"‬
‫فيه قراءتان؛ "قاتل"‪ ،‬وقراءة أخرى "قُتل"‪ ،‬وذلك بضم القاف‪ ،‬فعلى القراءة‬
‫األولى قاتل يكون النبي قد قاتل دون أن يقتل‪ ،‬وعلى القراءة الثانية يكون‬
‫النبي قد قُتل‪ ،‬وقتل معه الكثير من أصحابه‪ .‬إنها اإلشارة الدقيقة لحقيقة‬
‫المعركة القائمة بين الحق المتصدر للمعركة بقيادة األنبياء من جهة‪ ،‬وبين‬
‫الباطل بقيادة الطواغيت من جهة أخرى‪ ،‬والتي تنتهي عادة بانتصار النبي‬
‫ومن معه على أساس القراءة األولى‪ ،‬أو استشهاده ومن معه على أساس‬
‫القراءة الثانية‪ .‬إنها الحقيقة التي سمعها رجاالت أحد في الماضي البعيد هناك‪،‬‬
‫وهم يعانون ذلك القرح المؤلم‪ ،‬فطابت عندئ ٍذ النفوس‪ ،‬وانشرحت الصدور‪،‬‬
‫ويجب على رجاالت اليوم سماعها أيضًا كي تطيب أنفسهم هنا كما طابت‬
‫أنفس القوم هناك كون القرح يتكرر‪ ،‬واأللم يتواصل ليتم االصطفاء‪ ،‬ويتحقق‬
‫االبتالء بطيب نفس وراحة بال‪ .‬كما أن ذكر األنبياء قبل غيرهم يوحي‬
‫بحضور القدوات الكبار في مقدمة الصفوف تحركًا وتخطيطًا بطريقة تقدرها‬
‫الجماعة‪ ،‬وترعاها األمة كونهم عندما يغيبون عن واقع المعركة يتأخر‬
‫النصر‪ ،‬ويغيب االنتصار‪ ،‬وال شك في أن المتأمل لهذه اآلية يستشعر عربدة‬
‫الباطل في الماضي وهو يقتل األنبياء صفوة الخلق ودعاة الحق ومعه أنصاره‬
‫ومناصروه‪ ،‬وذلك في صورة غاية في السفه والطيش‪ .‬إنها حقيقة الباطل‪،‬‬
‫وحماقته‪ ،‬تتكشف هنا معلنة عن قبح المنظر‪ ،‬وسفاهة المخبر‪ ،‬وهو يوجه‬
‫سيفه األرعن صوب صفوة الخلق دون حياء أو خجل‪ ،‬فكيف بمن دونهم إذًا‬
‫؟‪ ،‬وال شك في أن تلك الرعونة كانت تعمل عملها مع األنبياء هناك‪،‬‬
‫وستتواصل مع أتباعهم هنا دون شك‪ ،‬وهو األمر الذي ينبغي فهمه‪،‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 200 -‬‬

‫واالستعداد له كون المعركة مستمرة‪ ،‬ويد العدو ممتدة‪ .‬ويستمر القرآن في‬
‫نقل المشهد الجهادي الرائع‪ ،‬وتصوير الجماعة المنقذة وهى تقاتل هناك في‬
‫ميدان المعركة جنبًا إلى جنب مع نبيها في صورة غاية في الرجولة والثبات‪،‬‬
‫وذلك من خالل قوله "ربيون كثير"‪ ،‬وال شك في أن لفظ الربيون هنا نسبة‬
‫إلى الرب‪ ،‬ولكن الراء كسرت كونها تغيرت عند النسبة‪ ،‬واللفظ نفسه يحمل‬
‫دالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن المفسرين اختلفوا كثيرًا في المقصود بالربيين هنا‬
‫فمنهم من قال هم من جمعوا بين صغار العلم وكباره‪ ،‬ومنهم من قال إنهم‬
‫الخواص صدقًا وإخالصًا‪ ،‬ومنهم من قال هم أكثر الناس علمًا وفهمًا‪ ،‬وكلها‬
‫ن متقاربة توحي بأن رجال المواقف هم من يجمعون بين الصدق والعلم‬
‫معا ٍ‬
‫واإلخالص‪ .‬إنها اللفتة الدقيقة التي توحي – وتتضح من خالل السياق –‬
‫بحقيقة الرجال الذي تعتمد عليهم الجماعة المنقذة واألمة الهادية عند المهمات‬
‫الصعبة‪ .‬إنها الربانية التي ينبغي على الجماعة أن تتمثلها وتحياها‪ ،‬وتربي‬
‫نفسها وأفرادها عليها كي تصل إلى مستواها‪ ،‬فيحصل بها الثبات هنا كما‬
‫حدث مع األنبياء هناك‪ ،‬وإال فال نصر وال ثبات‪ ،‬بل وهن وضعف وسبات‪،‬‬
‫ثم يتواصل الجمال القرآني في ذكر صفات هؤالء الربانيين بقوله "فما وهنوا‬
‫لما أصابهم في سبيل اهلل وما ضعفوا وما استكانوا"‪ ،‬إنها اإلشارة الدقيقة‬
‫الموحية بأن الربانية‪ ،‬والربانية فقط‪ ،‬هى التى تحفظ الجماعة من الجبن‬
‫والخوف والذل‪ ،‬وما لم يكن القائد والجند ربانيين عندئ ٍذ يجتمع عليهم الوهن‬
‫والضعف والذل‪ ،‬وذلك بقدر نقص ربانيتهم‪ .‬ويالحظ هنا أن الوهن هو بداية‬
‫الضعف في الداخل النفسي‪ ،‬ثم يكون الضعف بعد ذلك عالمة الوهن في‬
‫السلوك الخارجي‪ ،‬ثم تكون االستكانة التي هى الذل والخضوع خاتمة الوهن‬
‫والضعف‪ ،‬وحتى تكون الصورة أكثر وضوحًا جئ بقوله "في سبيل اهلل"‪،‬‬
‫وذلك تلخيصًا وذكرًا للضامن الوحيد الذي به ومن خالله ينتفي كل وهن‪،‬‬
‫‪- 201 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ويزول كل ضعف واستكانة‪ ،‬وذلك عندما يكون الجهاد والعمل خالصًا هلل‬
‫وفي سبيله‪ ،‬ال في أي سبيل آخر أيًّا كان هذا اآلخر‪ ،‬ثم تأتي النهاية منسجمة‬
‫تمامًا مع البداية كحال القرآن دائمًا في رسم الصورة من بدايتها وحتى النهاية‪،‬‬
‫وذلك من خالل قوله "واهلل يحب الصابرين"‪ ،‬إنه الجهاد بكل وسائله وطرقه‬
‫يحتاج إلى هذا الصبر‪ ،‬وال شك في أن الصبر الذي عاشه الربانيون هناك مع‬
‫أنبيائهم حتى انتصروا تارة‪ ،‬وقتل األنبياء ومن معهم في سبيل اهلل تارة‬
‫أخرى‪ ،‬كل ذلك تم كون الصبر على الطاعة وعن المعصية وعلى البالء‬
‫واألقدار كان حاضرًا معهم على الدوام‪ ،‬فأحبهم اهلل ونصرهم لصبرهم تارة‪،‬‬
‫واختارهم شهداء أصفياء إلى جواره تارة أخرى‪ .‬ومما يالحظ هنا مجئ‬
‫التعبير القرآني بصيغة المضارع في قوله "يحب"‪ ،‬وذلك للداللة على محبة‬
‫اهلل للصابرين في كل وقت وحين‪ ،‬كما أنها لفتة دقيقة توحي بأن طريق الجهاد‬
‫طريق يحتاج إلى صبر كامل يجمع بين أنواع الصبر الثالثة كي تنال الجماعة‬
‫محبة اهلل وعونه ونصره وحفظه‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 202 -‬‬

‫ك‬
‫ب الَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِ َ‬
‫غلِيظَ الْقَلْ ِ‬
‫ت فَظّا َ‬
‫ن اهللِ لِنتَ لَهُمْ وَ َلوْ كُن َ‬
‫(فَبِمَا َرحْمَ ٍة مِ َ‬
‫علَى اهللِ‬
‫َكلْ َ‬
‫ت فَ َتو َّ‬
‫عزَمْ َ‬
‫ف عَنْهُمْ وَاسْتَغْ ِفرْ َلهُمْ وَشَا ِورْهُمْ فِي األَمْ ِر فَإِذَا َ‬
‫فَاعْ ُ‬
‫اهلل ُيحِبُّ الْمُتَوَ ِكلِينَ{‪.)49()}159‬‬
‫ِن َّ‬‫إ َّ‬
‫لن تؤلف الناس حولك‪ ،‬ولن تقربهم منك‪ ،‬وتحببهم فيك‪ ،‬ولو على مستوى‬
‫ال عن إخوانك وأمتك ما لم تكن لينًا رحيمًا‪ .‬إنها الرحمة‬
‫أسرتك وأهلك‪ ،‬فض ً‬
‫اإللهية التي قُذفت هناك في قلب الحبيب محمد فوصلت إلينا هنا‪ ،‬وستظل‬
‫تواصل طريقها اليوم وغدا حتى يرث اهلل األرض ومن عليها‪ ،‬ومما ال شك‬
‫فيه فإن هذه اآلية هى القاعدة الحقيقية في تعامل القائد مع المقود‪ ،‬والكبير مع‬
‫ال يقود إلى تأليف القلوب واحتوائها قبل جمع األجساد وتوحيدها‬
‫الصغير تعام ً‬
‫كون القلوب إذا اجتمعت بصدق صنعت المعجزات‪ ،‬وأعجزت المغريات‬
‫صدقًا وثباتًا‪ .‬إنها ثورة القرآن القديمة الجديدة على القلوب القاسية‪ ،‬واأللسن‬
‫البذيئة تتجلى هنا حتى تتوارى القسوة بكل مفرداتها‪ ،‬وتغيب البذاءة بكل‬
‫أشكالها ليحصل التكامل األخوي والتعاون المجتمعي كما أرادت السماء‪،‬‬
‫وحتى نتذوق ذلك التكامل المبني على الرحمة واللين ننتقل إلى اآلية كي‬
‫نعيش في ظاللها‪ ،‬ونتذوق األنس من خاللها‪ ،‬فكلها أنس‪ ،‬فقوله "فبما رحمة‬
‫من اهلل لنت لهم"‪ ،‬فبما أي بسبب‪ ،‬وجئ بالرحمة هنا منكرة للداللة على‬
‫عموم رحمة اهلل لنبيه‪ ،‬وشمولها لكل جوانب تعامله كون التنكير يفيد هذا‬
‫المعنى‪ ،‬وظهرت الدقة في الجمال هنا من خالل تقديم الرحمة في بداية اآلية‬
‫لتوضيح دور القلب الرحيم في تحقيق التكامل المجتمعي‪ ،‬والتعاون األخوى‪.‬‬
‫إنها اإلشارة الدقيقة إلى دور الرحمة دون غيرها في تأليف القلوب‪ ،‬وحتى ال‬
‫تذهب القلوب بعيدًا باحثة عن الرحمة دون جدوى هنا أو هناك في طينة‬

‫(‪ )49‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم ‪.159‬‬


‫‪- 203 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫األرض القاسية ومكوناتها الصلبة جاء التعبير في قوله "من اهلل"‪ ،‬وهى‬
‫اإلشارة الواضحة والموحية صراحة بالمصدر الحقيقي للرحمة واللين‪ ،‬وذلك‬
‫حتى تتجه القلوب نحو السماء طالبة الرحمة من هناك بكل صراحة وصدق‪،‬‬
‫ثم جاء بذكر اللين بعد الرحمة لإليحاء بأن اللين ال يوجد أبدًا ما لم تسبقه‬
‫رحمة تمأل القلب والعقل على حد سواء‪ ،‬كما أن لفظ "لهم" جاء دون‬
‫تخصيص واضح لإليحاء بأن الرحمة واللين يجب أن يكونا لكل أحد‪ ،‬ثم‬
‫يتواصل الجمال القرآني في رسم المعالم الحقيقية للشخصية القيادية المنتمية‬
‫للجماعة المنقذة واألمة الهادية‪ ،‬وذلك من خالل قوله "ولو كنت فظًّا غليظ‬
‫القلب النفضوا من حولك"‪ ،‬إنه الخطاب الموجه للحبيب محمد‪ ،‬وأمته معه‪،‬‬
‫كونه اإلمام والقائد القدوة إلى قيام الساعة‪ ،‬وذلك لإليحاء الدقيق بأن العلم‬
‫الخالي من الرحمة واللين لن يطلبه‪ ،‬ولن يريده أحد‪ ،‬ولو كان حامله نبيًّا‬
‫ال عن غيره‪ ،‬والدقيق هنا هو تقديم الفظاظة على الغلظة كون‬
‫ال فض ً‬
‫مرس ً‬
‫الفظاظة تخص اللسان‪ ،‬بينما الغلظة تخص القلب‪ ،‬فقدم اللسان على القلب‬
‫كون خرابها تعبير عن خرابه‪ ،‬ألنها المعبرة عنه‪ ،‬والناطقة باسمه‪ .‬إنه‬
‫التحذير الدقيق من خطورة الفظاظة والغلظة حتى ال يتفرق الشمل‪ ،‬ويتمزق‬
‫الصف‪ ،‬ويُترك القائد أو العالم أو حتى رب األسرة وحيدًا منبوذًا يتعلم فن‬
‫التثاؤب في الزوايا المظلمة نتيجة لفظاظة لسانه‪ ،‬وقساوة قلبه‪ .‬ثم يتواصل‬
‫التحذير من خطورة الفظاظة والغلظة‪ ،‬وذلك من خالل قوله "النفضوا من‬
‫حولك"‪ ،‬حيث تحمل هذه الجملة دالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬الترك الجماعي‪،‬‬
‫والخروج الكلي عن كل غليظ قاس كون كلمة "النفضوا تعني لخرجوا جميعًا‪.‬‬
‫إنها الحاجة الماسة للرحمة واللين حتى ال ينفض عن القائد جنده‪ ،‬وعن رب‬
‫البيت أبنائه وأهله كون القضية رغم خصوصيتها يراد منها التحذير من‬
‫الفظاظة والغلظة حتى ال يحدث االنفضاض‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب أن‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 204 -‬‬

‫يستوعبها القادة في الجماعة المنقذة واألمة الهادية قبل غيرهم حتى ال ينفض‬
‫الناس عنهم في واحدة من أسوأ السيئات المجتمعية الخطيرة‪ ،‬وجاء التعبير‬
‫الدقيق أيضًا عن خطورة هذه الفظاظة والغلظة من خالل قوله "من حولك"‪،‬‬
‫وليس منك‪ ،‬وذلك كون من حولك أبلغ كونها تشير إلى أن الرجل الفظ والغليظ‬
‫ال عن الجلوس معه‪ .‬إنه االنفضاض الذي‬
‫يكره الناس االقتراب منه‪ ،‬فض ً‬
‫تجاوز الذات ليصل إلى تجاوز المكان والزمان والحال في صورة غاية في‬
‫الدقة والنفاسة‪ ،‬وهو معنى دقيق ودقيق جدًّا يجب تأمله‪ ،‬والوقوف عنده‬
‫لنفاسته ودقته‪ ،‬ثم تنتقل اآلية في صورة غاية في الجمال واإلبداع وذلك‬
‫بطريقة القرآن المعروفة في اإلبداع واإلمتاع من خالل قوله "فاعف عنهم‬
‫واستغفر لهم وشاورهم في األمر"‪ ،‬إنها الداللة الموحية بأن العفو واالستغفار‬
‫والمشاورة ال تكون أبدًا إال من صفات القائد الرحيم اللين‪ ،‬بينما القائد الفظ‬
‫الغليظ تنتفي عنه هذه الصفات الثالث‪ .‬إنها اإلشارة الواضحة لحقيقة القيادة‬
‫الناجحة والقائمة على هذه األسس الثالثة المتمثلة في القلب المتسامح عما‬
‫أصاب ذاته أوالً‪ ،‬ثم استغفار اهلل عما بدر في حقه ثانيًا‪ ،‬ثم المشاورة فيما يريد‬
‫فعله ثالثًا‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب أن يتمثلها المسلم الحقيقي في الجماعة المنقذة‬
‫كون كل فرد فيها هو قائد ومسؤول ولو حتى على أهله وذويه في أقل‬
‫األحوال‪ .‬ومما ينبغي ذكره هنا أن كلمة "فاعف عنهم" توحي بوجوب تنازل‬
‫ال بال شك‪،‬‬
‫القائد عن أي تقصير بدر في حقه كون التقصير سيكون حاص ً‬
‫فوجب العفو شريطة اإلصالح واالنطالق والمراجعة‪ .‬إنه العفو الذي يراد‬
‫منه الخير‪ ،‬وليس المشجع للشر‪ ،‬وال شك في أن العفو كله خير إال ما ندر‪،‬‬
‫والنادر ال حكم له كما هو معلوم عند أرباب البصر والبصائر‪ ،‬كما أن‬
‫االستغفار لهم يراد به استغفار اهلل لهم عما بدر من تقصير في حق اهلل‪ .‬فاألول‬
‫عفو عما بدر من تقصير في حقه‪ ،‬وهنا استغفار عما بدر من تقصير في حق‬
‫‪- 205 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫اهلل‪ ،‬إنه القلب الرحيم الذي تريده السماء أن يكون بهذه الصورة األكثر جماالً‪،‬‬
‫ال وماالً‪ ،‬ثم يتواصل الجمال القرآني في رسم‬
‫واألصدق مقاالً‪ ،‬واألخلص حا ً‬
‫الصورة الرائعة للشخصية القيادية النافعة‪ ،‬وذلك من خالل قوله "وشاورهم‬
‫في األمر"‪ ،‬حيث تحمل هذه الجملة دالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬وجوب مشاورة‬
‫القائد للجند‪ ،‬بل ومشاورة كل من تبوأ مسؤولية ما بغض النظر عن موقعه‬
‫ومكانه ألنه ما خاب من استشار‪ ،‬وال ندم من استخار‪ ،‬كما أن اآلية توحي‬
‫بتكامل الجماعة المنقذة‪ ،‬وذلك من خالل مبدأ الشورى الموحي بهذا المعنى‪.‬‬
‫إنه الرفض الواضح لالستبداد القيادي‪ ،‬واإلذالل المجتمعي‪ ،‬والدعوة‬
‫الصريحة إلى وجوب المشاورة في كل ما يهم الجماعة المنقذة واألمة الهادية‪،‬‬
‫وذلك حتى يتحمل كل فرد فيها واجبه ومسؤوليته بعد المشاورة والشورى‪.‬‬
‫إنها النتيجة الحقيقية للرحمة المودعة في قلب القائد والمسؤول تتجلى تباعًا‬
‫سواء في العفو واالستغفار هناك‪ ،‬أو في الشورى والمشاورة هنا‪ ،‬ويتواصل‬
‫الجمال من خالل قوله "في األمر"‪ ،‬والمقصود به الشأن الذي ال نص فيه‪،‬‬
‫وأما ما ورد فيه نص قطعي فال مجال فيه للشورى‪ ،‬وهو ما استدعى التعبير‬
‫بلفظ "األمر"‪ ،‬وليس "وشاورهم في األوامر"‪ ،‬ثم يأتي الختام مكتسيًا الجمال‬
‫كله من خالل قوله "فإذا عزمت فتوكل على اهلل إن اهلل يحب المتوكلين"‪،‬‬
‫حيث تحمل هذه الجملة الكثير من الدالالت‪ ،‬ومنها‪ :‬أن مجيئها عقب الشورى‬
‫يوحي بوجوب االعتماد على اهلل بعد المشاورة‪ ،‬وليس االعتماد على الشورى‬
‫كونها سببًا فقط ليس أكثر‪ .‬إنه األمر بعدم االعتماد إطالقًا على قوى األرض‪،‬‬
‫وآرائها‪ ،‬وخططها بعيدًا عن السماء‪ ،‬بل االعتماد على اهلل في السماء بعد‬
‫الشورى‪ ،‬وعلى اهلل فقط‪ ،‬وال شك في أن هناك خالفًا ورد بين العلماء حول‬
‫العزم والتوكل‪ ،‬هل يكون قبل المشاورة أو بعدها‪ ،‬وال شك في أن االعتماد‬
‫على اهلل يكون قبل وأثناء وبعد‪ ،‬ولكن كلما كان العزم بعد مشاورة ودراسة‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 206 -‬‬

‫كلما كان أكثر بركة‪ ،‬وأعظم نفعًا‪ ،‬وهو الهدف من ذكر العزم والتوكل بعد‬
‫المشاورة والشورى‪ .‬إنه التنظيم الدقيق لألعمال والعزائم الذي يجب أن تحياه‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية في عالم القيم‪ ،‬وذلك حتى تبقى وتقوى‪ ،‬كما‬
‫أن التعبير بإذا وليس بإن في قوله "فإذا عزمت" يوحي بكثرة العزم بعد‬
‫مشاورة‪ ،‬مع وجود عزم وعمل – وإن كان نادرًا – دون مشاورة إذا لم يترتب‬
‫على ذلك العزم ضرر يلحق الجماعة‪ ،‬وهو معنى نفيس يجمع بين أقوال‬
‫العلماء في العزم هل هو قبل المشاورة أو بعدها‪ ،‬فجاء التعبير بهذه الدقة‬
‫يوحي بهذا المعنى‪ ،‬وهو تأمل غاية في الدقة أيضًا‪ ،‬وأما قوله "واهلل يحب‬
‫المتوكلين"‪ ،‬فهو مدح السماء بعلوها ونقائها لهذه الجماعة المنقذة عندما تتوكل‬
‫على اهلل بعد المشاورة والشورى‪ .‬إنها الصفات الحقيقية للرحماء تتجلى هنا‬
‫في لين الجانب‪ ،‬ورحمة القلب‪ ،‬وسعة الصدر‪ ،‬والغفران‪ ،‬والتجاوز‪،‬‬
‫والشورى‪ ،‬والتكامل‪ ،‬ثم االعتماد على اهلل الذي قذف الرحمة في القلوب‪،‬‬
‫والثبات في األمور من قبل ومن بعد جلت قدرته‪ ،‬وتقدست أسماؤه‪.‬‬
‫‪- 207 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫(َأ َولَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا ُقلْ ُهوَ مِنْ عِن ِد أَنْفُسِكُمْ‬
‫علَى ُك ِل شَيْءٍ قَدِيرٌ{‪.)50()}165‬‬
‫ِن اهللَّ َ‬
‫إ َّ‬
‫عندما تصاب الجماعة المنقذة واألمة الهادية بالبالء هنا‪ ،‬أو النكسة هناك‪،‬‬
‫فليس من الصواب أبدًا أن ينسب ذلك البالء للسماء‪ ،‬بل األنفس‪ ،‬واألنفس‬
‫وحدها‪ ،‬هى التي تتحمل تبعات تقصيرها‪ ،‬وعاقبة مخالفتها‪ .‬إنها األنفس‬
‫المخالفة ألوامر ربها في لحظات ضعفها وشرودها تذوق عاقبة تلك المخالفة‬
‫في صورة عادلة‪ ،‬وعادلة جدًّا‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن هذه اآلية‬
‫تحكي الواقع الذي آل إليه أمر الجماعة المنقذة عند حدوث القرح يوم أحد‬
‫حين فقدت بعض رجاالتها‪ ،‬وقادة العمل فيها في معركة كان قائدها محمد‬
‫رسول اهلل – صلى اهلل عليه وسلم ‪ ،-‬حيث حصل هذا التعجب الذي سنعيشه‬
‫من خالل حياتنا في ظالل اآلية عند االنتقال إليها‪ ،‬فقوله "أو لما أصابتكم‬
‫مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا"‪ ،‬حيث تحوي هذه الجملة في طياتها‬
‫الكثير من الدالالت والدقائق‪ ،‬ومنها‪ :‬أن كلمتي "أصابتكم مصيبة" توحيان‬
‫بعظمة القرح الذي تمكن من الجماعة حينها‪ ،‬حيث أصابها إصابة بالغة كادت‬
‫أن تودي بحياة النبي القائد لوال عصمة اهلل له من القتل‪ ،‬كما أن هذين اللفظين‬
‫يدالن على سنة االبتالء الذي تتعرض له الجماعة المنقذة في حياتها‪ ،‬وطريق‬
‫سيرها‪ ،‬والذي سيستمر حتمًا ما بقيت المخالفة في الصف – ولو من بعض‬
‫أفرادها – كما حدث يوم أحد سوا ًء بسواء‪ ،‬وجاء ذكر المصيبة هنا منكرًا‬
‫ن واح ٍد لإليحاء بعموميتها لكل أفراد الجماعة‪ ،‬كما أن التنوين‬
‫ومنونًا في آ ٍ‬
‫يوحي بشدة وقعها على قلوب وعقول الجماعة كلها إلى درجة حدوث التعجب‬
‫من هذا البالء‪ .‬إنها المصائب التي نزلت هناك‪ ،‬ويتكرر حدوثها هنا نتيجة‬

‫(‪ )50‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم ‪.165‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 208 -‬‬

‫للمخالفات أحيانًا‪ ،‬والغفلة المستحكمة دون مبرر أحيانًا أخرى‪ ،‬كما أن اللفظ‬
‫جاء موجهًا للجماعة بهذا التعبير‪ ،‬كون اآلية نزلت حينها فخاطبتهم بكل‬
‫صراحة ودون تلعثم أو التواء في إشارة واضحة إلى حقيقة المنهج السماوي‬
‫الذي ال يؤمن بغير الصراحة في التربية والتزكية من جانب‪ ،‬واإليحاء‬
‫بواحدية المصيبة على قلوب الجماعة اليوم من جانب آخر‪ .‬إنه التوصيف‬
‫الحقيقي لما حدث باألمس‪ ،‬والذي استقبلته الجماعة بكل رضا‪ ،‬وذلك حتى ال‬
‫يتكرر حدوثه اليوم بكل تفصيالته ومالبساته كون المصاب سيتكرر – كما‬
‫أسلفنا – كلما تكررت المخالفة‪ ،‬واستمرت المعصية‪ ،‬كما أن هذا التوصيف‪،‬‬
‫وهذه المصارحة يجب أن تعيشهما الجماعة المنقذة واألمة الهادية حتى‬
‫تصحح سيرها لتستمر في المسير إذ ال عيب في المخالفة‪ ،‬وإنما العيب في‬
‫عدم االعتراف بها‪ ،‬أو تحميلها للغير‪ ،‬ويالحظ هنا عالج السماء لقرح األرض‬
‫ومصابها يوم أحد‪ ،‬وذلك من خالل تذكيره سبحانه للجماعة بنصر يوم بدر‪،‬‬
‫حيث قُتل من المشركين سبعون‪ ،‬وأُسر سبعون‪ ،‬وهو المعنى المقصود بقوله‬
‫"قد أصبتم مثليها"‪ ،‬وليس قد "أصبتم مثلها" كونهم يوم أحد فقدوا فقط سبعين‬
‫رجالً‪ ،‬ولم يحدث أن أسر منهم أحد‪ ،‬وهو معنى دقيق يعلمنا كيف نتعامل مع‬
‫من ينزل به البالء‪ ،‬أو تحل به الضراء‪ ،‬حيث تذكره بعظيم لطف اهلل به كونه‬
‫أعطاه الكثير‪ ،‬ولم يأخذ أو يعاقبه جراء معصيته بغير القليل‪ .‬إنه اللطف اإللهي‬
‫يتجلى هنا بالجماعة المنقذة واألمة الهادية حيث يكون بالؤها محفوفًا بلطف‬
‫السماء‪ ،‬ورحماتها‪ ،‬كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا في صورة هى األكرم حاالً‪،‬‬
‫واألشرف مكانًا وزمانًا على الدوام‪ .‬كما أن لفظ "أصابتكم" هناك‪ ،‬و "أصبتم"‬
‫هنا يوحي بمعنى دقيق‪ ،‬ودقيق جدًّا‪ ،‬إنه الدور الحقيقي للذات البشرية سلبًا في‬
‫األولى‪ ،‬وإيجابًا في الثانية‪ ،‬فعندما خالفوا في أحد كانت المصيبة فيهم‪ ،‬وعند‬
‫انتفاء المخالفة في بدر كانت المصيبة في غيرهم‪ ،‬فهم األسباب سواء هناك‬
‫‪- 209 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫أو هنا‪ ،‬مع الفارق في الطاعة والمعصية ليس إال‪ .‬إنها الذوات البشرية‬
‫واألنفس اآلدمية التي يجب أن تتحمل العواقب سلبًا وإيجابًا بكل صراحة‬
‫وصدق‪ ،‬ودون تلعثم أو التواء‪ .‬وبعد الحديث عن المصاب والمصيبة التي‬
‫عاشتها الجماعة هناك ينقلنا القرآن كعادته إلى معايشة الوضع النفسي والرد‬
‫المجتمعي للجماعة جراء نزول ذلك القرح‪ ،‬وذلك بذكر الداء والدواء في وقت‬
‫واحد كما هى عادة القرآن البليغة في التوضيح والتشخيص بغية العالج‪ ،‬حيث‬
‫ذكر الداء وهو "قلتم أنى هذا"‪ ،‬والدواء وهو "قل هو من عند أنفسكم"‪ ،‬والبد‬
‫أن نذكر هنا أن قوله تعالى "قلتم أنى هذا" تحمل دالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن‬
‫هذا تعجب من الصحابة‪ ،‬وليس إنكارًا لقدر اهلل كما يظن بعض ضعاف‬
‫النفوس من الناس كون الصحابة وهم سادة الخلق لم ولن ينكروا قدر اهلل يومًا‬
‫ما‪ ،‬وإنما كان مجرد استغراب وتعجب يوحي بحقيقة الضعف البشري للذات‬
‫اآلدمية عند حدوث الصدمة‪ ،‬ونزول البلية‪ ،‬ولكن هذا الضعف سرعان ما‬
‫يزول‪ ،‬وينتهي على الفور‪ .‬إنه الضعف البشري المتكرر للذات اآلدمية كلما‬
‫حدثت المخالفة‪ ،‬وسقطت األنفس مرة أخرى في الشهوة والنزوة‪ ،‬وال شك في‬
‫أن جملة "أنى هذا" تتكرر في الجماعة المنقذة واألمة الهادية كلما نزل بها‬
‫قرح هنا‪ ،‬أو مصاب هناك ناسية أن اهلل يقول "قل هو من عند أنفسكم"‪ ،‬حيث‬
‫تحمل هذه الجملة الكثير من الدالالت‪ ،‬ومنها‪ :‬أن استغراب يوم أحد رسول‬
‫اهلل منزه عنه كونه مأمورًا بقوله "قل"‪ ،‬إنها اإلشارة الدقيقة لوجوب سعة فهم‬
‫القائد‪ ،‬وعدم سقوطه في شراك تأويالت األرض السفلى‪ ،‬ووجوب ارتقائه‬
‫على الدوام لنقاء السماء العليا بمنهجها ونهجها‪ ،‬وال شك في أن القائد في‬
‫الجماعة المنقذة ينبغي أن يكون األرجح عقالً‪ ،‬واألكثر وعيًا‪ ،‬واألصح إيمانًا‪،‬‬
‫واألقوى شكيمة وعزمًا حتى يأخذ بيد الجماعة عندما تتراءى جملة "أنى هذا"‬
‫في داخلها‪ ،‬وفي داخل ضعاف المؤمنين منها ليصحح فيهم حقيقة المشكلة‪،‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 210 -‬‬

‫وسبب البلية‪ ،‬ومن ثم يقودهم ويعود بهم إلى الحق من جديد‪ .‬كما أن قوله "قل‬
‫هو من عند أنفسكم" إيجاء بأن كل سقوط عاشته الجماعة باألمس‪ ،‬ويتكرر‬
‫حدوثه اليوم إنما سببه األنفس‪ ،‬واألنفس فقط‪ .‬إنها األرض بناسها وأنفسها هى‬
‫من تتحمل عاقبة المخالفة‪ ،‬وليست السماء بعلوها ونقائها‪ .‬ومما ال شك فيه أن‬
‫السر في تخصيص األنفس بالذكر دون غيرها فيه إشارة – كما أسلفنا – إلى‬
‫أن نكسة الجماعة تأتي من داخلها‪ ،‬وذلك عندما تضعف نفوس رجاالتها‪،‬‬
‫وتسقط فجأة في وحل المادة‪ ،‬ومستنقع الشهوة في لحظات الغفلة واالرتكاس‬
‫في الحمأة المنتنة‪ ،‬عندئ ٍذ تحدث المصيبة‪ ،‬وتحل البلية في الجماعة كلها‪ ،‬كما‬
‫أن اآلية توحي بأن ترك المعصية والمخالفة تتوسع وتستشرى داخل الصف‬
‫أيًّا كانت تلك المعصية أو المخالفة دون عالج ستقود الصف حتمًا إلى نكسات‬
‫وباليا ال تحمد عقباها‪ ،‬وهو ما يستدعي تربية األنفس حتى ال يتكرر القرح‪،‬‬
‫ويستفحل الجرح‪ ،‬وهو السر في ذكر الداء والدواء في اآلية هنا‪ .‬إنها الخطيئة‬
‫التي ينبغي على األرض أال تنسبها للسماء زورًا وبهتانًا‪ ،‬بل حقيقتها وحقها‬
‫أن تكون األنفس‪ ،‬واألنفس وحدها‪ ،‬بطينتها هى المسؤولة عن كل خطيئة‬
‫وبلية‪ .‬ومما ال شك فيه فإن هذه الخطيئة تزداد وتتعاظم عندما تستمر تبرئة‬
‫النفس‪ ،‬وتزكية الذات بصورة فجة‪ ،‬وطريقة مستفزة‪ ،‬وتصبح ثقافة "أنى هذا"‬
‫هى ديدن الجماعة للهروب من تبعات السقوط‪ ،‬عندئذٍ‪ ،‬وعندئ ٍذ فقط‪ ،‬يستدعي‬
‫األمر سرعة المراجعة ليتم التدارك والتزكية بعد تخلية وتربية‪ ،‬وإال تكرر‬
‫القرح‪ ،‬وتوسع الجرح‪ ،‬ثم يأتي ختام اآلية منسجمًا تمامًا مع بدايتها كعادة‬
‫القرآن في رسم مشاهد األحداث في البداية والمنتهى‪ ،‬وذلك من خالل قوله‬
‫"إن اهلل على كل شئ قدير"‪ ،‬حيث تحمل هذه الجملة دالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫أن من يخالف أمر السماء عاقبته أن يُترك لألرض كي تفعل به ما فعلت يوم‬
‫أحد ب َقدَر ومقادير مكتوبة ومعلومة‪ .‬إنها األرض بوحشيتها ووحوشها تتخطى‬
‫‪- 211 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫كل القيم‪ ،‬وتتجاوز كل المحاذير بصورة هى األسوأ حاالً‪ ،‬واألنكى مكانًا‬


‫وزمانًا‪ ،‬وذلك عندما تتخلى السماء تاركة المخالف والمخالفة لمآلهما المحتوم‬
‫ليأخذ قدره جراء فعله وقدرته‪ .‬إنها عدالة اهلل التي ال تُحابي أحدًا‪ ،‬بل تقدر‬
‫مقادير الخلق دون ظلم أو هضم‪ ،‬وهو ما يستدعي اإليمان الكامل بقدرة اهلل‬
‫القادر‪ ،‬ومشيئته النافذة في خلقه وعباده كونه سبحانه على كل شئ قدير‪ .‬فاعلم‬
‫أن كل بالء فبما كسبت األنفس‪ ،‬واألنفس وحدها‪ ،‬هى التي تتحمل عاقبة‬
‫كسبها‪ ،‬وأن األيام دول‪ ،‬وأن مصائب األيام وأحداث الزمان إما عقاب لمخالفة‬
‫حدثت‪ ،‬وإما اصطفاء لمنزلة عند اهلل أعدت‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 212 -‬‬

‫شوْهُمْ َفزَادَهُمْ إِيمَان ًا َوقَالُواْ‬


‫س قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْ َ‬
‫ِن النَّا َ‬
‫س إ َّ‬
‫ن قَا َل لَهُ ُم النَّا ُ‬
‫(الَّذِي َ‬
‫اهلل وَنِعْمَ الْوَكِيلُ{‪.)51()}173‬‬
‫حَسْبُنَا ُّ‬
‫لن يجدي التخذيل نفعًا‪ ،‬ولن تحقق اإلشاعة هدفًا ما دامت الجماعة المنقذة‬
‫واألمة الهادية باهلل مؤمنة‪ ،‬وعليه متوكلة‪ ،‬وبأسباب النصر والغلبة آخذة‪ ،‬بل‬
‫أن إيمانها يسقط إشاعات اآلخر ومكره‪ ،‬ويفضح سفهه وزيفه‪ ..‬إنها اإلشاعة‬
‫اإلبليسية بمفرداتها الخبيثة‪ ،‬وأدواتها اللعينة تتبدى هنا معلنة عن قبح في‬
‫الهوية محاول ًة التخذيل بكل حماقة وطيش‪ .‬نعم إنها األرض بأسوأ ما فيها‬
‫تحاول جاهدة دون حياء أو خجل أن تعارض السماء كي يستوطن الخبث‪،‬‬
‫ويستمر العبث في لحظات التجمهر الكاذب‪ ،‬والتحزب السائب‪ .‬إنه التحزب‬
‫القرشي الطائش الخالي من قيم السماء‪ ،‬والملئ بكل سيئات األرض وسوآتها‪،‬‬
‫والذي هدد جيش اإلسالم في حمراء األسد ظنًّا منه بفاعلية تهديده‪ ،‬وجدوى‬
‫وعيده في واحدة من أخطر مراحل التهديد في التاريخ البشري الطويل‪ ،‬وحتى‬
‫نعيش ذلك الحدث – ولو ببعض مالبساته وتفصيالته – ننتقل للحياة في ظالل‬
‫ال أو حديثًا فقوله "الذين‬
‫ال لم يدع ألحد تساؤ ً‬
‫اآلية كونها قد نقلت الصورة نق ً‬
‫قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم"‪ ،‬هذه الجملة تحوي في‬
‫طياتها الكثير والكثير من الدالالت‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الكفر لم يتحرك يومًا بشكل‬
‫عشوائي البتة‪ ،‬بل يتحرك بشكل جماعي‪ ،‬وبطريقة مدروسة ومنظمة‪ ،‬وهو‬
‫ما يوحي به اللفظ القرآني هنا وبكل وضوح‪ ،‬كما أن قوله "قال لهم" يوحي‬
‫بتحرك هذا الفريق تحركًا مباشرًا صوب رجاالت الحق وحملته كي يوقفوا‬
‫عزمهم كون اللفظ "لهم" يوحي بالمواجهة الصريحة‪ ،‬والتخذيل الواضح‪،‬‬
‫والتخصص الدنئ في التهويل والتخذيل من خالل االستهداف المباشر‪،‬‬

‫(‪ )51‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم ‪.173‬‬


‫‪- 213 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫والمباشر دون مواراة‪ ،‬سواء بشكل جماعي كما ورد هنا‪ ،‬أو بشكل فردي‬
‫ضمن االستهداف الجماعي المتوقع‪ ،‬والمتوقع بالفعل‪ .‬إنه الكفر مع النفاق في‬
‫صورته البئيسة‪ ،‬وأدواته الرخيصة يظهر هناك‪ ،‬ويتجدد ظهوره هنا‪،‬‬
‫وسيستمر بهذا العمل ما بقيت حياة‪ ،‬وتحرك أحياء‪ .‬ويتواصل الجمال القرآني‬
‫البديع في نقل الصورة كعادته في النقل والتصوير‪ ،‬وذلك من خالل مجئ لفظ‬
‫"الناس" الموحي بأن الكفار والمنافقين هم ناس‪ ،‬ولكن جئ بهم هنا مُعرَّفون‬
‫بألف والم ألمور كثيرة منها أنهم ليسوا من بعيد أبدًا‪ ،‬وأنهم غير معروفين‪،‬‬
‫بل هم معروفون‪ ،‬ويعاشرون الحق‪ ،‬ويرونه‪ ،‬ولكنهم يطعنونه‪ ،‬ويحاربونه‪،‬‬
‫فاللفظ يوحي بأن المخذل وحامل اإلشاعة أحيانًا قد يكون من أقرب الناس‬
‫إليك‪ ،‬وممن عاشرتهم وعاشروك في بعض األحايين‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب‬
‫على الجماعة المنقذة واألمة الهادية أن تنتبه إليها‪ ،‬وتحذر منها وهى تعايش‬
‫هذا الفريق الدنئ خلقًا‪ ،‬والساقط إنسانية‪ ،‬والعديم شرفًا‪ ،‬والتائه دينًا‪ ،‬وذلك‬
‫حتى ال تسقطها اإلشاعة‪ ،‬وتقتلها السذاجة كون اإلشاعات ليست سالح الكفرة‬
‫وحدهم‪ ،‬بل هى سالح المنافقين كذلك‪ ،‬ثم تنتقل اآلية بكل سالسة وهدوء إلى‬
‫ذكر محتوى اإلشاعة هذه‪ ،‬وذلك من خالل قوله "إن الناس قد جمعوا لكم"‪،‬‬
‫حيث تحوي هذه الجملة الكثير من الدالالت‪ ،‬ومنها‪ :‬احتواء اإلشاعة على كل‬
‫المؤكدات كى تؤدي غرضها الدنئ في التخذيل والتهويل‪ ،‬وهو معنى دقيق‬
‫يوحي بقدرة الباطل الفائقة على اإلرجاف‪ ،‬حيث جئ "بإن"‪ ،‬وتعريف لفظ‬
‫"الناس"‪ ،‬وحرف "قد"‪ ،‬والفعل الماضي جمعوا‪ ،‬وليس المضارع يجمعوا؛‬
‫وذلك لإليحاء بأن الجمع جاهز‪ ،‬وقد انتهوا من إعداده وجمعه بالفعل‪ ،‬ولم‬
‫يتبق سوى التحرك لالستئصال‪ ،‬ثم التخصيص من خالل قوله "لكم"‪ ،‬إنها‬
‫االحتياطات اللفظية‪ ،‬والترتيبات اإلبليسية المسبقة تظهر هنا‪ ،‬وقد أَعدت‬
‫نفسها‪ ،‬ووزعت مهامها؛ ففريق يخذل‪ ،‬واآلخر يستأصل‪ .‬نعم إنها الرسالة‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 214 -‬‬

‫التي ينبغي على الجماعة مرة أخرى استيعابها‪ ،‬واإلعداد المسبق لدحرها‪،‬‬
‫وفضح أفرادها‪ ،‬وكشف خطرها ومخاطرها كون اإلشاعات تسقط األمم‪،‬‬
‫وتقتل في الصفوف القيم إن لم يُنتبه لها‪ ،‬وتُعد العدة لكشفها‪ ،‬وتفنيد كذبها‬
‫وزورها‪ .‬وينقل لنا القرآن وقاحة الكفر والنفاق على حد سواء‪ ،‬وذلك من‬
‫خالل تصريحهم الواضح بهدفهم ومبتغاهم‪ ،‬فلفظ "فاخشوهم" هو الهدف الذي‬
‫أرادوه‪ ،‬وصرحوا به‪ ،‬ومن أجله حشدوا كل ذلك الكم الهائل‪ ،‬والهائل جدًّا‪،‬‬
‫من المؤكدات في داللة واضحة على جلد الباطل‪ ،‬وهمته وحرصه على إنجاح‬
‫باطله‪ ،‬وتحقيق مكره بكل الوسائل والطرق‪ ،‬والمالحظ هنا مجئ كلمة‬
‫ال كون الخشية تجمع بين غايتي الخوف‬
‫"فاخشوهم"‪ ،‬وليس فخافوا منهم مث ً‬
‫ن واحدٍ‪ ،‬بينما الخوف قد يوجد لدى الجماعة أحيانًا في ظروف‬
‫والخضوع في آ ٍ‬
‫ما‪ ،‬ولكن ال تصاحبه نية الخضوع واالستسالم‪ ،‬بينما الخشية تجمع كل‬
‫مفردات االستسالم والرضوخ‪ .‬إنه اإلعداد لألفراد واأللفاظ‪ ،‬واالختيار‬
‫المدروس لألوقات واألحداث‪ ،‬وذلك لإلبقاء على الخبث والخبثاء حكامًا‬
‫ال منظمًا يوازي ويتجاوز ذلك الخبث‪ ،‬ويفضح‬
‫وحاكمين‪ ،‬وهو ما يستدعي عم ً‬
‫ويردع ذلك العبث‪ ،‬والمالحظ هنا مجئ "فاخشوهم" بصيغة األمر ليس إيحاءً‬
‫هنا بالفرض واإلكراه‪ ،‬بل هو اإليحاء بالحرص المزيف على الحق ورجاله‬
‫ومحبيه وحماته‪ ،‬وال شك في أن حاملي اإلشاعات على الدوام يظهرون التودد‬
‫والخوف على من يراد تخذيله وخذالنه‪ ،‬وهو ما يستدعي الحذر والتوضيح‬
‫والتربية والتصحيح لما يقال وينشر حتى ال تنتصر اإلشاعة‪ .‬وبعد كل ذلك‬
‫الجهد من قبل الكفر بعدته وعتاده‪ ،‬وبالغته وأدواته ينقل لنا القرآن – وبكل‬
‫وضوح – الرد المفحم للجماعة المنقذة من خالل شهادة السماء لهم‪ ،‬ووصف‬
‫حالتهم‪" ،‬فزادهم إيمانًا"‪ ،‬حيث تحمل هذه الجملة دالالت كثيرة‪ ،‬منها‪ :‬أن‬
‫اإلشاعة لم تنل منهم على اإلطالق كونه جاء بالفاء وليس بالواو كأن يقول‬
‫‪- 215 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ال وزادهم إيمانًا للداللة على أنهم بمجرد سماعهم الخبر لم يلتفتوا إليه‬
‫مث ً‬
‫إطالقًا‪ ،‬ولم يشغلوا أنفسهم به‪ ،‬بل رفضوا التسليم والخوف والخشية من‬
‫ترتيبات البشر القاصرة‪ ،‬ولجأوا إلى رب البشر بكل شجاعة وثبات‪ .‬إنه‬
‫اإليمان باهلل‪ ،‬وباهلل وحده‪ ،‬هو الذي حفظ الجماعة من السقوط هناك في وحل‬
‫اإلشاعة‪ ،‬ومستنقع الفتنة‪ ،‬وهو الذي سيفعل ذلك هنا بال شك‪ .‬ومما تجدر‬
‫اإلشارة إليه هنا أن قوله "فزادهم" يوحي بأن اإليمان موجود مسبقًا في إشارة‬
‫واضحة إلى وجود التربية اإليمانية المسبقة لهذا الموقف‪ ،‬ولهذه األحداث‪.‬‬
‫إنها حقيقة التربية تظهر آثارها عند الفتن‪ ،‬ويتضح رجاالتها وقت المحن‪،‬‬
‫وهو ما يستدعي تربية مسبقة قبل نزول المحنة كي يتكرر الثبات هنا كما‬
‫وجدناه يوم حمراء األسد هناك‪ .‬ويزداد جمال التصوير في نقل الحقائق من‬
‫خالل مجئ اللفظ القرآني "إيمانًا" منكرًا ومنونًا‪ ،‬وليس معرَّفا كأن يقول فزاد‬
‫اإليمان لديهم‪ ،‬أو دون تنوين‪ ،‬وذلك لإليحاء بأن تصديقهم باهلل تصديقّا عامًا‬
‫في كل األوقات واألحوال والشدائد واألزمات‪ ،‬وأنه سبحانه لن يتركهم‪ ،‬ولن‬
‫يختار إال ما فيه خيرهم ونفعهم‪ ،‬كما أن التنوين يوحي بقوة إيمانهم التي تهزم‬
‫كل قوة‪ ،‬وتسقط أمامها كل محنة وبلية‪ ،‬وهو الذي حدث بالفعل‪ .‬ومما ال شك‬
‫فيه هنا أن قوة اإليمان أوالً‪ ،‬مع اإلعداد للمستطاع من العتاد والسالح ثانيًا‬
‫هو الذي عاشته الجماعة المنقذة واألمة الهادية حينها‪ ،‬وهو الذي ينبغي أن‬
‫تعيشه هنا كذلك‪ ،‬ثم يأتي ختام اآلية منسجمًا تمامًا مع بدايتها‪ ،‬فكون البداية‬
‫ال هدفه االستئصال للحق وحملته‪ ،‬فكانت النهاية هى لجوء‬
‫تهديدًا وتخذي ً‬
‫األرض بأطهر من فيها للسماء للتغلب على خبث األرض‪ ،‬وفحشها‪ ،‬وسفهها‪.‬‬
‫نعم إنه الختام الذي أعلنته األرض بطهارتها وطهرها من خالل "وقالوا حسبنا‬
‫اهلل ونعم الوكيل"‪ .‬في حمراء األسد رغم الجراح المؤلمة‪ ،‬واألحداث الدامية‬
‫التي حدثت قبل يوم فقط من حادثة التهويل والتخذيل هذه‪ .‬إنها الرسالة العاجلة‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 216 -‬‬

‫لألمة الهادية كي تجعل حسبنا اهلل ونعم الوكيل هى السالح في نهاية أمرها‬
‫بعد األخذ بكل أسباب النصر والغلبة‪.‬‬
‫‪- 217 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ن‬
‫ن ُأجُورَكُمْ َيوْمَ الْقِيَامَ ِة فَمَن ُزحْ ِزحَ عَ ِ‬
‫س ذَآئِقَ ُة الْمَوْتِ َوإِنَّمَا ُتوَفَّوْ َ‬
‫ُل نَفْ ٍ‬
‫(ك ُّ‬
‫ع الْ ُغرُورِ{‪.)52()}185‬‬
‫ِال مَتَا ُ‬
‫خ َل الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَا ُة الدُّنْيَا إ َّ‬
‫النَّارِ َوأُدْ ِ‬
‫كل نفس وإن طال عمرها البد وأن تذوق الموت لتنتقل من عالم المتاع الفاني‬
‫إلى عالم البقاء األبدي‪ .‬إنها الحقيقة الحاضرة هنا بألفاظها ومعانيها‪ ،‬والغائبة‬
‫لدى العقول ال لشئ سوى جهلها وغفلتها ليس إال‪ .‬نعم إنها الحقيقة التي‬
‫فضحت الحياة‪ ،‬كل الحياة‪ ،‬ووضعت حدًّا فاصال لحياة هى األقل نعيمًا‪،‬‬
‫ال لتبدأ حياة أخرى هناك في عالم آخر هو األوسع‬
‫واألشد بؤسًا‪ ،‬واألسوأ حا ً‬
‫ال على اإلطالق‪ ،‬وحتى نعيش هذه الحقيقة المنتظرة‪،‬‬
‫مدًى‪ ،‬واألكمل حاالً ومآ ً‬
‫واللحظة الحاسمة التي ستواجهها كل نفس دون استثناء أو انتقاء ننتقل إلى‬
‫اآلية ففيها من البالغة والجمال ما يكفي ويُغني‪ ،‬فقوله (كل نفس ذائقة الموت)‬
‫هذه الجملة تحمل دالالت كثيرة ودقيقة‪ ،‬بل غاية في الدقة والوضوح‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫أن األنفس‪ ،‬كل األنفس دون استثناء أو انتقاء‪ ،‬ستموت حتمًا‪ ،‬وتنتقل إلى عالم‬
‫آخر يقينًا وجزمًا‪ .‬إنه العالم الذي يختلف تمامًا عن عالم الحياة هذا كمًّا وكيفًا‬
‫ال ومآالً‪ ،‬وجاء التعبير بليغًا بلفظ "ذائقة"‪ ،‬حيث يوحي هذا اللفظ بأن‬
‫وحا ً‬
‫للموت طعمًا‪ ،‬وطعمًا مؤكدًا بال شك‪ .‬إنه الطعم المر الذي ال قدرة ألحد على‬
‫وصف مرارته‪ ،‬والذي يكون من نصيب من عاش بعيدًا عن حالوة العبادة‬
‫وأوامر المعبود‪ ،‬كما يكون ذلك الطعم حلوًا لمن ذاق حالوة العبادة‪ ،‬وعاش‬
‫في كنف المعبود‪ .‬إنه الطعم الذي تصنعه النفس لذاتها بعيدًا عن التأويالت‬
‫الفارغة أو التخرصات المتفلتة كي تختم به سيرتها وسيرها دون شك‪ ،‬كما‬
‫أن الجمال يظهر جليًّا أيضًا من خالل عدم الفصل بين الذوق والموت كأن‬
‫ال "كل نفس ذائقة للموت"‪ ،‬ال لم يكن السياق كذلك كون الم‬
‫يكون السياق مث ً‬

‫(‪ )52‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم ‪.185‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 218 -‬‬

‫الجر توحي بالفصل بين الموت وصفته المتمثلة بالذوق‪ ،‬الذي يُشعر بأن‬
‫الموت ال طعم له أحيانًا‪ ،‬وال ذوق كون أداة الفصل تغير في المعنى كما هو‬
‫ل لإليحاء بحقيقة الموت المؤلمة‪،‬‬
‫معلوم عند العرب‪ ،‬ولكن جئ باللفظ بال فص ٍ‬
‫ال حقيقيًا‪ ،‬واستعدادًا إيمانيًّا كي تذوق النفس حالوة الموت ال‬
‫والتي تنتظر عم ً‬
‫مرارته‪ ،‬وهو معنى غاية في الدقة والجمال‪ .‬ومما ينبغي اإلشارة إليه هنا أن‬
‫الموت ال يعني أبدًا فناء النفس كما يتصور البعض‪ ،‬بل الموت هو مفارقة‬
‫النفس لهذا البدن فقط ليحدث الموت والفناء للبدن اآلدمي‪ ،‬بينما ترحل النفس‬
‫مباشرة إلى عالم آخر لتبقى هناك في سعادة إن كانت من أهل السعادة‪ ،‬أو في‬
‫شقاوة إن كانت من أهل الشقاء‪ ،‬وذلك حتى يحين اللقاء من جديد بعد البعث‬
‫لتكتمل الحياة‪ ،‬ويجازى األحياء‪ ،‬وهو معنى دقيق أيضًا ينبغي تأمله‪،‬‬
‫والوقوف عنده لدقته‪ ،‬ثم يتواصل الجمال القرآني بصورة مبدعة وبألفاظ‬
‫مُقْ ِنعَة وهو يقول "وإنما توفون أجوركم يوم القيامة"‪ ،‬إنه اإليحاء الدقيق‪،‬‬
‫والدقيق جدًا‪ ،‬والذي يالحظ من خالل السياق‪ ،‬حيث إن اللفظ "توفون" يوحي‬
‫بأن األنفس تُجزَى بما فعلت هنا‪ ،‬فعمل الصالحات يجد العامل أثرها في هيئته‬
‫وشكله وحياته وأهله‪ ،‬وكذلك السيئات أيضًا‪ ،‬ولكنه الجزاء األولي المحدود‬
‫ى بكل تجليات‬
‫كمًّا وكيفًا وحاالً وزمانًا‪ ،‬بينما يكون الجزاء األوفىَ‪ ،‬واألوف َ‬
‫الوفاء‪ ،‬هناك يوم القيامة حيث التمام والجالل والعدالة المطلقة والكمال‪ ،‬وهو‬
‫ما يوحي به اللفظ اآلنف "توفون"‪ ،‬إنها الحقيقة التي تجعل األمة الهادية‬
‫والجماعة المنقذة تستشعر أن الجزاء األوفى‪ ،‬والنعيم األبقى ليس هنا‪ ،‬وإن‬
‫كان جزءًا يسيرًا منه هنا – كما أسلفنا –‪ ،‬ولكن الكمال والتمام يكون هناك‪،‬‬
‫وهو ما يستدعي العمل والحركة والجد والمثابرة دون تلفت أو التواء أو‬
‫استبطاء للجزاء‪ .‬إنه التفلت وااللتواء الذي ال يجوز أبدًا أن يصاحب الجماعة‬
‫الهادية وهى تستشعر أن الجزاء األوفى ليس هنا‪ ،‬ولن يكون أبدًا هنا‪ ،‬بل هو‬
‫‪- 219 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫هناك في عالم هو األكمل واألجمل على اإلطالق‪ ،‬وهو ما يستدعي النظر‬


‫ال فوق الجمال عندما‬
‫إلى هناك‪ ،‬وليس إلى هنا‪ ،‬ويزداد الجمال القرآني جما ً‬
‫جاء بلفظ "أجوركم"‪ ،‬وليس "وإنما توفون األجر" مثالً‪ ،‬حيث يوحي هذا‬
‫التعبير بدالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬اإليحاء بأن العمل كلما كان في إطار الجماعة‬
‫ومعها كلما كان أوفى وأجدى‪ ،‬وهو معنى نفيس يالحظ من خالل السياق‪،‬‬
‫كما أن جهاد غيرك وعمله لن يصلك ما لم تكن أنت سببًا به أو معه‪ ،‬فلكل‬
‫ال كون اللفظ "أجوركم" يوحي بهذا المعنى‪.‬‬
‫ال ومكانًا ومآ ً‬
‫أجره المستقل به حا ً‬
‫كما أن اللفظ يوحي بأن النتائج غدًا بين يدي اهلل ستكون معلنة هناك أمام‬
‫الجميع ليعرفها الجميع‪ ،‬ويراها‪ ،‬ويطلع عليها دون خفاء‪ .‬ثم يتواصل التعبير‬
‫القرآني بطريقته المعهودة وهو يوضح حقيقة الفوز‪ ،‬وذلك من خالل قوله‬
‫"فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز"‪ ،‬إنها الجملة الموحية بالحقيقة‬
‫التي ينبغي على كل أفراد األمة الهادية والجماعة المنقذة التنبه لها‪ ،‬والعمل‬
‫الدؤوب من أجل تحقيق الزحزحة المفضية إلى دخول الجنة‪ .‬ومن المعلوم‬
‫هنا أن لفظ الزحزحة في لغة العرب يوحي بالدفع عن الشئ‪ ،‬ولكن ببطء‬
‫شديد‪ ،‬ومما ال شك فيه أن استخدام هذا اللفظ هنا جئ كون النار محفوفة‬
‫بالشهوات‪ ،‬وأن النفس تتجاوز هذه الشهوات بصعوبة وبطء شديد‪ ،‬لذا كلما‬
‫كان العابد يعبد ربه في إطار الجماعة المنقذة واألمة الهادية كلما تجاوز‬
‫الزحزحة‪ ،‬وأصبح أكثر قربًا من الجنة‪ ،‬وأبعد مكانًا عن النار‪ ،‬والعكس أيضًا‬
‫صحيح‪ ،‬ثم يأتي ختام اآلية منسجمًا مع بدايتها من خالل قوله "وما الحياة‬
‫الدنيا إال متاع الغرور"‪ ،‬وذلك حتى تعرف كل نفس تذوق الموت أن الحياة‬
‫الحقيقية هى ما بعد الموت‪ ،‬وأما ما قبله ليس بأكثر من متاع زائل سرعان ما‬
‫يذهب ويزول‪ ،‬وكأنه لم يكن‪ ،‬وجاءت تسمية الدنيا بهذا االسم الموحي بدنوها‬
‫زمنًا‪ ،‬ودنوها قدرًا من اآلخرة‪ ،‬وذلك حتى ال يحدث االغترار بها‪ .‬نعم فدنوها‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 220 -‬‬

‫زمنًا كونها قبل اآلخرة‪ ،‬وأما دنوها قدرًا فكون موضع سوط أحدكم في الجنة‬
‫خيرًا من الدنيا وما فيها‪ ،‬وهو ما يستدعي حتمًا عدم االغترار بها‪ ،‬مع وجوب‬
‫االستعداد للموت قبل نزوله‪ ،‬والشوق للقاء اهلل بحسن العمل قبل لقائه‪.‬‬
‫‪- 221 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫اهلل لَعَلَّكُمْ‬
‫ن آمَنُواْ اصْ ِبرُواْ وَصَا ِبرُواْ َورَابِطُواْ وَاتَّقُواْ َّ‬
‫(يَا أ َُّيهَا الَّذِي َ‬
‫تُفِْلحُونَ{‪.)53()}200‬‬
‫ال فالح للجماعة المنقذة واألمة الهادية إال إذا اتصف أفرادها والمنتمون إليها‬
‫بصفات أربع وهى‪ :‬الصبر‪ ،‬والمصابرة‪ ،‬والمرابطة‪ ،‬وتقوى اهلل كون‬
‫المعركة طويلة األمد‪ ،‬ومتعددة األوجه‪ ،‬وإال فال فالح البتة‪ .‬إنها القواعد‬
‫المؤهلة للتمكين في األرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬واألصول المميزة لجيل النصر‬
‫في عالم تتقاذفه األهواء‪ ،‬وتتنازعه الشهوات‪ .‬نعم إنها الشهوات التي أرادت‬
‫وتريد على الدوام أن تكون لها الكلمة والميدان في عالم غابت فيه قيم السماء‬
‫األصيلة‪ ،‬وحضرت فيه قيم الطين النتنة‪ ،‬والتي آن اآلوان اليوم – كما فعل‬
‫بها في األمس – إليقاف عبثها‪ ،‬وتحجيم تمددها من خالل جيل النصر القادم‪،‬‬
‫والقادم بالفعل‪ .‬وحتى نتذوق مؤهالت هذا الجيل المنقذ تعالوا لنعيش مفردات‬
‫اآلية ففيها من الروعة والجمال الكثير والكثير‪ ،‬فقوله "ياأيها الذين آمنوا" هذا‬
‫النداء الخاص يحمل دالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن األمر المطلوب تنفيذه مهم‬
‫للغاية‪ ،‬وال يحتمل التأخير أو التسويف ألنه إما أن تكون أو ال تكون‪ ،‬وكون‬
‫األمر كذلك فقد جئ بالنداء والمنادى وهاء التنبيه‪ ،‬كل ذلك لجذب االنتباه‬
‫وتشويق المخاطب ليدع المشاغل جانبًا‪ ،‬ويُقبل على ربه منصتًا‪ ،‬وذلك هو‬
‫الحال عند كل أمر يوجه للمؤمنين كما هو معلوم‪ .‬إنها السماء عندما تخاطب‬
‫صفوة أهل األرض فال بد على تلك الصفوة عندئ ٍذ من ترك المشاغل جانبًا‬
‫ن واحد لسماع ذلك الخطاب األكمل واألشرف‬
‫ليتم االستيعاب واالستعداد في آ ٍ‬
‫على اإلطالق‪ ،‬ثم ينتقل النداء صوب المؤمنين مباشرة كونهم هم دون غيرهم‬
‫من يعي ويفهم ويصدق ويعلم‪ .‬إنه اإليحاء بأن المؤمن الذي خالط اإليمان‬

‫(‪ )53‬سورة آل عمران‪ :‬اآلية رقم (‪.)200‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 222 -‬‬

‫بشاشة قلبه‪ ،‬واختلط بلحمه ودمه هو من ينتظر منه التحرك الفوري مع اهلل‬
‫كون القلوب الخالية من قيم السماء‪ ،‬ووحيها‪ ،‬ومنهجها ال يُنتظر منها الصبر‬
‫وال المصابرة‪ ،‬وال الرباط أو المرابطة كونها خالية جوفاء ال تمسك ماءً‪ ،‬وال‬
‫تنبت كألً‪ .‬نعم إنها اإلشارة الدقيقة‪ ،‬والدقيقة جدًّا‪ ،‬للجماعة المنقذة واألمة‬
‫الهادية كي تربي ذاتها وأفرادها على قيم السماء ووحيها كي تملك القدرة‬
‫الحقيقية على الصبر والمصابرة والمرابطة مع تقوى اهلل ألن المعركة طويلة‬
‫األمد‪ ،‬متعددة األوجه‪ ،‬وتتطلب دون شك المؤهالت األربع إلحقاق الحق‪،‬‬
‫وإبطال الباطل‪ ،‬كما أن في هذا النداء الخاص لفتة بديعة يجب على الجماعة‬
‫التنبه لها وهى وجوب االصطفاء للمهام‪ ،‬وليس العشوائية كون المهام النبيلة‬
‫ال ال يتصدى لها إال الكبار دينًا‪ ،‬والعظماء‬
‫أصالً‪ ،‬والعظيمة شأنًا‪ ،‬والكبيرة حا ً‬
‫مبادئًا سواء بسواء‪ .‬كما أن النداء وُجه للجماعة‪ ،‬وليس لفرد ما‪ ،‬ولو كان نبي‬
‫اهلل‪ ،‬وذلك لإليحاء بأن إحقاق الحق ال يمكن أن يكون إال بجماعة ترعاها‬
‫وتقودها السماء‪ ،‬وال قدرة للفرد أيًّا كان ذلك الفرد إحقاق الحق‪ ،‬وإبطال‬
‫الباطل كما هو معلوم‪ .‬إنها دعوة السماء الواضحة‪ ،‬والواضحة جدًّا‪ ،‬لعمل‬
‫جماعي منظم بعيدًا عن الفردية المقيتة‪ ،‬واالنعزالية المميتة‪ ،‬ثم ينتقل سياق‬
‫اآلية صوب األمر األول لتنفيذه وهو قوله "اصبروا"‪ ،‬حيث يوحي اللفظ بأن‬
‫النفس مجبولة على عدم الصبر إال إذا كان األمر لها من األعلى لتستوعب‬
‫وتصبر‪ ،‬كما أن رضا اهلل وجنته مدعاة أيُّما مدعاة للصبر والتحمل‪ .‬إنه الخيار‬
‫الوحيد الذي يجب على كل فرد من أفراد الجماعة المنقذة واألمة الهادية‬
‫استيعابه حتى ال يقتلهم االستعجال‪ ،‬ويوقف سيرهم األنذال‪ ،‬وجاء األمر هنا‬
‫بالصبر الجماعي كون التهور الفردي واالستعجال دون الجماعة قد يجلب‬
‫على الجماعة العذاب والنكال‪ ،‬وهو ما ال تريده السماء‪ ،‬ولم تأمر به‪ .‬ويكمن‬
‫الجمال هنا في تقديم األمر بالصبر على ما سيأتي كون المصابرة والمرابطة‬
‫‪- 223 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫وتقوى اهلل ال تتحقق إال من صابر محتسب‪ ،‬بينما المستعجل يتوقف عن السير‬
‫حتمًا‪ ،‬ويقتله استعجاله حاالً‪ .‬إنه اإليحاء بوجوب االنتصار على الذات أوالً‪،‬‬
‫ومن ثم يكون االنتصار على العدو ثانيًا‪ ،‬وإال كانت الهزيمة‪ ،‬وكان الفشل‪.‬‬
‫ومما ال شك فيه أن الصبر هذا هو أمر خاص في النفس فهي مأمورة أن‬
‫تصبر عليه وتستوعبه‪ ،‬بينما األمر الثاني المراد فعله هو قوله "وصابروا"‬
‫يتصل بخصمك وعدوك الذي صبر ويصبر على حربك وأذيتك دون يأس‪،‬‬
‫عندئ ٍذ فإن المطلوب أمام هذا الخصم هو المصابرة‪ ،‬وهى المغالبة في الصبر‬
‫والتحمل حتى يسقطه صبرك‪ ،‬وتردعه عزيمتك‪ ،‬وال شك في أن أفراد‬
‫الجماعة المنقذة كلما استوعبوا هذه الحقيقة كلما عظمت مصابرتهم‪ ،‬وتواصل‬
‫هلل صبرهم‪ .‬إنها اإلشارة الدقيقة والموحية والتي يجب على الجماعة المنقذة‬
‫واألمة الهادية فردًا فردًا استيعابها أيضًا‪ ،‬وهى أن الخصم لم ولن ييأس في‬
‫صدك‪ ،‬والوقيعة بك وبجماعتك وأمتك‪ ،‬بل هو صابر ومصابر على باطله‬
‫ومكره مع أنه األسوأ حاالً‪ ،‬واألفسد دينًا‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب إدراكها لتعي‬
‫الجماعة حجم مصابرة العدو وصبره رغم باطله ومكره – كما أسلفنا ‪ ،-‬وهو‬
‫ما يستدعي إذًا مغالبته بالمصابرة‪ .‬وال شك في أن الصبر والمصابرة هنا‬
‫يجتمعان مع الفريقين فريق الهدى وفريق الضالل‪ ،‬بل قد يكون فريق الضالل‬
‫أكثر صبرًا في بعض األحايين‪ ،‬ولكن الذي يمد فريق الهدى بعامل البقاء‬
‫والنصر في النهاية هو تقوى اهلل‪ ،‬وهو المؤهل الرابع في اآلية‪ ،‬والذي يفتقده‬
‫فريق الضالل دون شك‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه هنا هو أنه على قدر تقوى‬
‫اهلل يكون الصبر‪ ،‬وتكون المصابرة‪ ،‬ويكون الرباط أيضًا‪ ،‬حيث إن المقصود‬
‫بالرباط هنا هو إشعار العدو بأنك مستعد على الدوام لمنازلته‪ .‬إنها المنازلة‬
‫التي تكون أحب للصابر والمصابر والمرابط من نفسه وأهله والناس أجمعين‬
‫كونها هلل‪ ،‬وفي اهلل‪ ،‬ومن أجله‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أيضًا أن تأخير‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 224 -‬‬

‫المرابطة في الذكر مع ذكر وجوب الصبر والمصابرة قبلها يوحي بأن‬


‫المرابطة والرباط في أرض النزال والجهاد قد تطول أحيانًا لحكمة يعلمها‬
‫اهلل‪ ،‬وهو ما يستدعي التزود بزادي الصبر والمصابرة اللذين ذكرا قبلها‪ ،‬وهو‬
‫معنى دقيق ينبغي تأمله والوقوف عنده‪ ،‬ثم تختم اآلية بما يناسب المقام‪ ،‬حيث‬
‫جئ بالتعميم بعد التخصيص كما هو شأن القرآن دائمًا لإليحاء بأن الصبر‬
‫والمصابرة والمرابطة لم ولن تبق وتستمر ويُوفق صاحبها ما لم يكن اهلل‪،‬‬
‫واهلل فقط‪ ،‬هو المطلب والمراد‪ ،‬لذا قال "واتقوا اهلل"‪ ،‬وقوله لعلكم تفلحون‪،‬‬
‫تلخيص جميل لطريق الفالح في الدنيا واآلخرة‪ ،‬وذلك بعد ذكر مؤهالت‬
‫الفالح الواضحة كل الوضوح‪ .‬إنها الحقيقة الواضحة التي يجب على الجماعة‬
‫السير فيها لنيل الفالح الذي يحقق النصر في الدنيا‪ ،‬ورضا اهلل في األخرى‬
‫دون تأخير‪.‬‬
‫‪- 227 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫جهَا‬
‫ق مِنْهَا َزوْ َ‬
‫خلَ َ‬
‫س وَاحِدَ ٍة َو َ‬
‫خلَقَكُم مِن نَّفْ ٍ‬
‫س اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي َ‬
‫(يَا أ َُّيهَا النَّا ُ‬
‫ِن‬
‫ن بِ ِه وَا َألرْحَامَ إ َّ‬
‫َث مِنْهُمَا ِرجَا ًال كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اهللَّ الَّذِي تَسَاءلُو َ‬
‫وَب َّ‬
‫علَيْكُمْ َرقِيباً{‪.)54()}1‬‬
‫اهلل كَانَ َ‬
‫َّ‬
‫إنها واحدية األصل البشري آلدم تعلن عن نفسها بصورة واضحة تاركة‬
‫معيار التفاضل بين البشر هو تقوى اهلل‪ ،‬وتقوى اهلل فقط‪ .‬إنها الحقيقة التي‬
‫أعلنتها السماء منذ األزل البعيد ليحصل التكامل البشري والتعاون اإلنساني‬
‫كون واحدية المنشأ للكائن البشري هو آدم‪ ،‬وآدم فقط‪ ،‬وليس القرد الذي تطور‬
‫من خالل تراكم السنين‪ ،‬وامتداد األعمار كما قالت نظريات السفه‪ ،‬وفكر‬
‫السفهاء‪ .‬إنها النفس اآلدمية األولى التي خلقها اهلل بيده‪ ،‬ونفخ فيها من روحه‪،‬‬
‫وأسجد لها مالئكته‪ ،‬وعلمها أسماء كل شئ كي ترقى وتبقى‪ .‬نعم إنه الرقي‬
‫المالزم للنفس البشرية في عالمها األرضي الذي يتوحد فيه المعبود إلها كما‬
‫توحد فيه سبحانه خالقًا ليبقى التكريم مصاحبًا لتلك النفس ما بقيت واحدية‬
‫المعبود مع حقيقة السجود‪ .‬ومما ال شك فيه فإن النظرية األرضية التي جعلت‬
‫اإلنسان قردًا في بداية النشأة‪ ،‬ومن ثم تطور إلى هذه الصورة مع مرور‬
‫السنين – على حد زعمها – كانت النظرية المنحطة فكرًا‪ ،‬والساذجة قوالً‪،‬‬
‫والباطلة لفظًا ومعنى كونها لم تعرف هذه اآلية أو أنها عرفتها بالفعل ولكنها‬
‫لغبائها ضلت وتاهت بعيدًا بعيدًا في وديان الضالل‪ .‬إنه الضالل الذي أراد‬
‫يومًا ما أن يطمس الحقيقة‪ ،‬ويحارب الحق ظنًّا منه لجهله وغبائه أن الحقائق‬
‫تُطمس‪ .‬وحتى نعيش هذه المعاني القرآنية بكل تجلياتها الواضحة ننتقل إلى‬
‫اآلية ففيها من روائع البيان ما يُغني‪ ،‬فقوله "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي‬
‫خلقكم من نفس واحدة" هذه الجملة القرآنية تحمل دالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن‬

‫(‪ )54‬سورة النساء‪ :‬اآلية رقم ‪.1‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 228 -‬‬

‫هذا النداء العام يوحي بحقيقة العبودية الجماعية للجنس البشري كافة دون‬
‫تمييز أو انتقاء كون الخلق‪ ،‬كل الخلق‪ ،‬أمام شريعة اهلل سواء‪ ،‬فهو خالقهم‬
‫وهم عبيده‪ .‬ومما ال شك فيه هنا فإن هذا النداء العام مما يميز القرآن المكي‬
‫كون كل ما نزل قبل الهجرة مكيًّا ولو نزل في غير مكة‪ ،‬كما أن ما نزل من‬
‫القرآن بعد الهجرة يعتبر قرآنا مدنيًّا ولو نزل بغير المدينة‪ ،‬حيث أن المعيار‬
‫في التمييز بين ما نزل بمكة والمدينة هو عامل الزمن‪ ،‬وليس عامل المكان‬
‫كما هو معلوم عند علماء التفسير‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب أن تستوعبها‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهى تشكل خطابها‪ ،‬وتحدد قواعد سيرها بما‬
‫يتواءم مع مراحل التربية وعمر المتربي‪ ،‬كما أنه اإليحاء الدقيق‪ ،‬والدقيق‬
‫جدًّا‪ ،‬الستيعاب الخطاب المناسب لكل مرحلة بما يحقق األهداف‪ ،‬ويواكب‬
‫المتغيرات دون اإلخالل بالقواعد واألصول دون شك‪ .‬ومما ال شك فيه هنا‬
‫أن نذكر أن خطاب السماء لألرض في العهد المكي كان خطابًا عقديًّا واضحًا‬
‫ال ليأتي الخطاب المدني فيما بعد خطابًا تشريعيًا‬
‫يراد منه التربية العقدية أو ً‬
‫كون التشريعات السماوية ال ينفذ أوامرها‪ ،‬ويتجنب نواهيها‪ ،‬وال يتعدى‬
‫حدودها إال من عرف ربه‪ .‬إنها الحقيقة التي ينبغي التنبه لها‪ ،‬واإلشارة إليها‬
‫ال كما كانت في مكة سواء بسواء‪ ،‬وهذا ال يعني أبدًا‬
‫لتكون التربية العقدية أو ً‬
‫أن الجماعة المنقذة واألمة الهادية تعيش عهدًا مكيًّا بكل مالبساته‪ ،‬وإنما القصد‬
‫أن تبقى التربية العقدية القائمة على المنهج الوسط الذي تحكمه المراحل‪،‬‬
‫ويسوده التدرج هى السيد والسائد‪ .‬ومما ال شك فيه هنا أيضًا أن الناس سُموا‬
‫ناسًا كونهم يأنس بعضهم بعض‪ ،‬ويتعايش بعضهم مع بعض‪ ،‬وال يكون‬
‫االنعزال واالنطواء بعيدًا عن الناس إال لآلحاد من الناس ليس إال كون‬
‫االنعزال مرضًا‪ ،‬أو يقود للمرض دون شك‪ ،‬ثم يتواصل الجمال القرآني آمرًا‬
‫الجنس البشري بتقوى اهلل من خالل قوله "اتقوا ربكم"‪ ،‬إنه األمر بأن يجعل‬
‫‪- 229 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫الناس‪ ،‬كل الناس‪ ،‬بينهم وبين عذاب اهلل وقاية كون التقوى هذا هو معناها‪،‬‬
‫وجئ بلفظ ربكم في البداية‪ ،‬وليس لفظ "اهلل" كون الحديث هنا يتناول قضية‬
‫الخلق والنشأة‪ ،‬وهما من صفات الربوبية‪ ،‬وهو معنى دقيق ينبغي تأمله‪،‬‬
‫والوقوف عنده‪ ،‬ثم يتواصل جمال السماء وخطابها لألرض من خالل إقرار‬
‫واحدية النشأة البشرية كون الجميع يعودون ألب واحد هو آدم‪ ،‬وآدم فقط‪،‬‬
‫وذلك من خالل قوله "الذي خلقكم من نفس واحدة"‪ ،‬والعجيب هنا قوله "من‬
‫نفس واحدة"‪ ،‬ولم يقل الذي خلقكم من آدم‪ ،‬مع أن المقصود بالنفس هو آدم‪،‬‬
‫وذلك لإليحاء الدقيق بأن القيمة البشرية ليست للذات الجسدية دون الروح‬
‫كون الروح أو النفس شيئًا واحدًا‪ ،‬وهما األساس في التكوين اإلنساني‪،‬‬
‫فالحديث هنا عن حقيقة اإلنسان وهى نفسه‪ ،‬وليس اسمه كون قيمة العبد بنفسه‬
‫وروحه‪ ،‬وليست قيمته باسمه وجسده‪ ،‬وال شك في أن الروح تبقى قيمتها كلما‬
‫اتصلت على الدوام بخالقها حتى إذا تركته وانشغلت بطينتها سقطت في وحل‬
‫الطين األرضي النتن‪ ،‬وسقط معها لسقوطها اسمها وكنيتها وذاتها‪ ،‬وحتى ال‬
‫يحدث السقوط للبدن والنفس معاً كان الحديث عن النفس كون النفس العزيزة‬
‫دينًا‪ ،‬والصادقة وجهة‪ ،‬والكبيرة مبدأً‪ ،‬والحقيقة مكانًا وواقعًا هى التي ترفع‬
‫ال‬
‫صاحبها إلى السماء علوُّا ونقاءًا وصدقًا بغض النظر عن الذات لونًا وطو ً‬
‫وعرضًا‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن نذكر أن هذه النفس األولى خلقة‬
‫وخلقًا مرت بمراحل عند خلقها وتكوينها حيث كانت المرحلة األولى ترابية‬
‫من كل تراب األرض‪ ،‬وظلت على ذلك زمنًا‪ ،‬ثم خلطت بالماء فأصبحت‬
‫طينًا الزبًا أي متماسكًا‪ ،‬وظلت على ذلك زمنًا حتى أصبحت كالحمأ المسنون‬
‫أسوداً‪ ،‬ثم شكلت وتركت زمنًا حتى أصبحت كالفخار‪ ،‬وظلت كذلك زمنًا‪ ،‬ثم‬
‫نفخت فيها الروح بعد ذلك ليتحرك هذا المخلوق الكريم نشأةً‪ ،‬والعظيم خلقة‪،‬‬
‫والمميز علمًا في آية من آيات اهلل الباهرة التي ال حدود لها‪ .‬إنها سنة التدرج‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 230 -‬‬

‫والتأني التي ينبغي على الجماعة المنقذة واألمة الهادية األخذ بها من خالل‬
‫النظر في مراحل خلق اإلنسان اآلدمي وهى تسود وتقود كي تبلغ المقصود‪.‬‬
‫وينقلنا القرآن بطريقته السلسة والجميلة في التعبير والتصوير – كما هو‬
‫معلوم – وذلك من خالل قوله "وخلق منها زوجها"‪ ،‬حيث توحي هذه األلفاظ‬
‫القرآنية بدالالت غاية في الروعة‪ ،‬ومنها‪ :‬قوله "وخلق" وليس أخرج كون‬
‫حواء خُلقت من أعلى ضلعه خَلْقًا ولم تَخرج من موضع آخر منه إخراجًا –‬
‫ق منها بقدرته سبحانه ما لم يكن موجودًا‪ ،‬وال شك‪،‬‬
‫كما هو معلوم ‪ ،-‬وإنما خَلَ َ‬
‫أن هنا معنى آخر في خلق حواء آلدم حيث يوحي هذا الخلق بأن الرجل ال‬
‫حياة له وال بقاء إال بزوجة تؤنسه ويؤنسها‪ .‬إنه التزواج في كل شئ في هذا‬
‫لكون ليبقى الواحد المتفرد الذي ال زوج له هو اهلل‪ ،‬واهلل فقط‪ ،‬جل شأنه‪،‬‬
‫وتقدست أسماؤه‪ ،‬وهو معنى نفيس أيضًا‪ .‬كما أن قوله "منها" يوحي بأن‬
‫الزوجة جزء منك‪ ،‬وذلك ليحصل األنس بين الجنسين كونها خلقت من لحمك‬
‫ودمك‪ ،‬ولم تخلق من شئ مختلف عنك‪ .‬ومما ال شك فيه فإن خلقها من الضلع‬
‫األيمن‪ ،‬بل من أعاله‪ ،‬وليس من أسفل الجسم كأن تكون من الفخذين أو من‬
‫أسفل القدم تكريم لها‪ ،‬وإيحاء بأن أعلى الجسم وبالتحديد أعلى الضلع يبقى‬
‫مستورًا‪ ،‬ومستورًا على الدوام في إيحاء بوجوب سترها لنفسها وذاتها كونها‬
‫خلقت من مكان مستور في الجسم البشري غالبًا‪ ،‬فكان عليها أن تظل مستورة‬
‫حية ومستورة ميتة‪ ،‬كما أن خلقتها لم تكن من الفخذ مع أن اهلل قادر على ذلك‬
‫لإليحاء بأن المرأة ليست للشهوة فحسب‪ ،‬بل هناك العواطف والمشاعر‬
‫واألحاسيس‪ ،‬أوالً‪ ،‬لذا خُلقت من أعلى الجسم وبالقرب من الصدر‪ ،‬ثم تأتي‬
‫الشهوة ثانيًا تكملة لحياة عاطفية غاية في الروعة والجمال حتى إذا غابت تلك‬
‫العاطفة الجيَّاشة‪ ،‬والرحمة المؤنسة غابت معها الشهوة في كثير من األحيان‪،‬‬
‫وهو معنى دقيق أيضًا ينبغي تأمله‪ ،‬والوقوف عنده‪ ،‬كما أن قوله تعالى "وخلق‬
‫‪- 231 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫منها زوجها" يوحي أيضًا بأن فطرة اهلل في الخلقة البشرية للمرأة واحدة‪ ،‬إنها‬
‫الخلقة الواحدة للجنس األنثوي الذي ال يختلف من امرأة ألخرى في هذه‬
‫األرض‪ ،‬وذلك في أساسيات الخلقة حتى يعي الرجال هذه الفطرة‪ ،‬فيقنع كل‬
‫منهما بزوجه كون الخلقة واحدة للصنفين كما أسلفنا‪ .‬كما أن هناك معنى دقيقًا‬
‫يمكن مالحظته من خالل السياق القرآني وإن كان بعيدًا نوعًا ما عن موضوع‬
‫اآلية إال أن هذا ال يمنع أبدًا االستفادة من هذا المعنى وهو كلما كان اختيار‬
‫القائد من نفس فصيلته ومجتمعه وتخصصه للقيادة والعمل كلما كان أكثر‬
‫وئامًا وتعايشًا وإنتاجًا‪ .‬إنها الحقيقة التي ينبغي أن تعيها الجماعة المنقذة واألمة‬
‫الهادية وهى تختار القادة كي تشق طريقها في دروب الحياة وميدان األحياء‪،‬‬
‫ثم ينتقل السياق القرآني للحديث عن نتيجة التزاوج الذي تم بين النفس األولى‬
‫آدم والنفس المخلوقة منه حواء ومنها‪ :‬أن لفظ "بث" أي نشر‪ ،‬ويقصد به اهلل‬
‫كونه سبحانه هو من نشر كل هذا الكم الهائل من الناس من نفسين في البداية‪،‬‬
‫وليس آدم بقوته وزوجه هما من فعال هذا‪ .‬إنه اإليحاء الدقيق بأن الذي يهب‬
‫الذرية هو اهلل‪ ،‬وما األزواج إال سبب من األسباب ليس إال‪ ،‬ثم يأتي الجمال‬
‫من خالل قوله "رجاالً كثيرًا ونساءًا" حيث جئ بكلمة رجاالً نكرة وكذلك‬
‫نسا ًء لإليحاء بكثرة ذريتهما‪ ،‬واختالف الرجال والنساء في الصفات الثانوية‪،‬‬
‫والطباع البشرية‪ ،‬ويزداد الجمال القرآني هنا من خالل قوله في الرجال‬
‫كثيرًا‪ ،‬ولم يقل ذلك في النساء لإليحاء بأن الكثرة في الرجال عز ومنعة‪ ،‬بينما‬
‫الكثرة في النساء عالة وضعف‪ ،‬ثم يتواصل الجمال من خالل قوله "واتقو اهلل‬
‫الذي تساءلون به واألرحام"‪ ،‬حيث توحي هذه األلفاظ بدالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫أن تكرار األمر بتقوى اهلل يوحي بأن الحياة المجتمعية والعالئق البشرية‬
‫والقرابات األسرية‪ ،‬وكل تلك المفردات قد تأخذ العبد نحوها‪ ،‬فكان التذكير‬
‫مرة أخرى بوجوب تقوى اهلل حتى ال تضيع النفس في تلك المتاهات تاركة‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 232 -‬‬

‫اهلل خلفها‪ ،‬ومتاهاتها بين يديها‪ ،‬وجئ هنا بلفظ الجاللة "اهلل" بينما في المقدمة‬
‫جئ بلفظ الرب‪ ،‬وذلك اإليحاء هنا بأن تقوى اهلل كما هى من مقتضيات‬
‫الربوبية فهى أيضًا هنا من مقتضيات األلوهية‪ ،‬وذلك كي ال يشتغل العبد هنا‬
‫بعبادة غير اهلل خاصة وقد كثرت ذريته‪ ،‬وتعددت مطالبهم‪ ،‬فكان التذكير‬
‫بوجوب عبادة اهلل وتقواه ليعين ويصلح الذرية واألرحام والنشئ حتى ال‬
‫تحدث المتاهة‪ .‬نعم حتى ال تحدث تلك المتاهة المخيفة في وسط ذلك الزحام‬
‫البشري كان األمر بتكرار تقوى اهلل ألنه المنقذ وحده دون سواء من تلك‬
‫المتاهة‪ .‬إنها الحقيقة التي ينبغي أن تتنبه لها الجماعة المنقذة واألمة الهادية‬
‫ال وعرضًا حتى ال تنشغل بذلك‬
‫وهى تعيش وسط الزحام البشري المنتشر طو ً‬
‫الزحام عن اهلل‪ ،‬ثم يتواصل السياق القرآني بطريقته الفريدة وحروفه‬
‫الموسيقية وهو يعبر عن الفقر البشري األرضي للخالق اإلله المعبود في‬
‫السماء‪ ،‬وذلك من خالل قوله "الذي تساءلون به واألرحام"‪ ،‬حيث ورد في‬
‫تس اءلون قراءتان‪ ،‬هذه والثانية بتشديد السين‪ ،‬والمعنى اتقوا اهلل الذي يسأل‬
‫بعضكم بعضًا به كأن تقول أسألك باهلل أال أعطيتني كذا‪ ،‬فوجب البذل إذا‬
‫سُئلت باهلل ما لم يكن شيئًا حرامًا‪ ،‬وقوله "واألرحام" ورد باألرحام قراءتان‬
‫هذا بالفتح‪ ،‬وأخرى بالكسر‪ ،‬فعند الفتح تكون معطوفة على اهلل‪ ،‬أي اتقوا هلل‬
‫في األرحام ال تضيعوها‪ ،‬وال تفرطوا بحقها‪ ،‬ومما ال شك فيه هنا أن األرحام‬
‫جمع رحم وهم القرابة الذين يجب أن يكون لهم المكانة والمكان في دين العامل‬
‫ودنيا العمال‪ .‬إنهم العمال الذين لم تشغلهم الذرية أبدًا عن ربهم وأرحامهم‬
‫مهما كانت الحياة‪ ،‬ومهما تغافل األحياء‪ .‬ومما يجب التنبيه إليه هنا أن العرب‬
‫ال أسألك باهلل وبالرحم‪ ،‬أو‬
‫جرت عادتهم أنه كان يسأل بعضهم بعضًا قائ ً‬
‫يقولون أسألك بالرحم أال فعلت كذا‪ ،‬حيث كانوا يعظمون األرحام‪ ،‬فذكرهم‬
‫اهلل بوجوب تعظيم ما كانوا يعظمونه‪ .‬إنها المآثر الجميلة التي لم تغب هناك‪،‬‬
‫‪- 233 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫والتي يجب أن تكون هنا‪ .‬ومما ال شك فيه فإن القراءة الثانية بكسر األرحاِم‬
‫تكون معطوفة على الضمير به الوارد بعد تساءلون‪ ،‬وهو ما يؤيد هذا التعظيم‪.‬‬
‫وفي الحقيقة فإن الجماعة المنقذة واألمة الهادية لن تسود وتقود أبدًا ما لم تكن‬
‫مجموعة أفرادها يتقون اهلل في أنفسهم‪ ،‬ويتقون اهلل في أرحامهم كون الجماعة‬
‫التي يقطع أفرادها أرحامهم أو بعضهم هى األسوأ دينًا‪ ،‬واألبعد نصرًا‪ ،‬واألقل‬
‫تمكينًا بال شك‪ ،‬وهو ما يستدعي إعادة النظر في هذه القضية ألهميتها عاجالً‬
‫ال آجالً‪ ،‬ثم تختم اآلية ختامًا يناسب المقام‪ ،‬ويعالج علل المكان والزمان من‬
‫خالل قوله "إن اهلل كان عليكم رقيبًا"‪ ،‬إنها مراقبة السماء لألرض بعد هذا‬
‫التوضيح هل قمتم بواجبكم نحو ربكم‪ ،‬وواجبكم نحو أرحامكم أم قصرتم‬
‫وأضعتم ؟‪ ،‬إنها الحقيقة األخيرة في هذه اآلية الكريمة التي أُفتتحت بها سورة‬
‫النساء لتكون المراقبة اإللهية للعباد حاضرة على الدوام‪ ،‬مجازية أهل الوفاء‬
‫لوفائهم‪ ،‬ومهددة منذرة أهل الضياع لضياعهم وتضييعهم‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 234 -‬‬

‫اهلل‬
‫علَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا َّ‬
‫خلْ ِفهِمْ ُذرِيَّ ًة ضِعَاف ًا خَافُواْ َ‬
‫ن َلوْ َترَكُواْ مِنْ َ‬
‫ش الَّذِي َ‬
‫( َولْ َيخْ َ‬
‫َولْيَقُولُواْ َقوْ ًال سَدِيداً{‪.)55()}9‬‬
‫تقوى اهلل والقول السديد من قبل اآلباء هى ضمانة السماء األزلية لحفظ الذرية‬
‫واألبناء من الضياع بعد الوفاة‪ ..‬إنها الحقيقة التي غابت كثيرًا لدى الكثير‬
‫والكثير من الخلق في عالم تتجاذبه الشهوات‪ ،‬وتتنازعه المغريات‪ .‬إنها‬
‫ن واحدٍ‪ ،‬والتي قادت الكثير من الخلق‬
‫المغريات الخداعة والمخادعة في آ ٍ‬
‫لجمع المال الحرام بغية إسعاد الذرية بكل حماقة وطيش‪ .‬ومما ال شك فيه فإن‬
‫هذه الحماقة فعلت فعلها األرعن في الجماعة المنقذة واألمة الهادية على حين‬
‫غرة حتى أفقدتها قداستها وقدسيتها كأمة منقذة ردحًا من الزمن‪ ،‬وهو ما‬
‫يستدعي سرعة النظر في األمر تقييمًا ومراجعة حتى ال يستمر الفراغ القاتل‪،‬‬
‫واالنشغال الباطل‪ .‬وحتى نتذوق حالوة هذه الضمانة السماوية وهى تضع‬
‫النقاط على الحروف بصورة غاية في الدقة والوضوح ننتقل إلى مفردات‬
‫اآلية كي نعيش الضمانة السماوية بكل تجلياتها النورانية‪ ،‬وحروفها الموسيقية‬
‫المنسجمة تمامًا مع مفرداتها ومحتواها‪ ،‬فقوله "وليخش الذين لو تركوا من‬
‫خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم" هذه الجملة تحمل دالالت كثيرة‪ ،‬وتعبر عن‬
‫إيحاءات جمة غاية في الروعة والجمال‪ ،‬فقوله "وليخش" الواو حسب ما‬
‫قبلها "ليخش" هنا فعل أمر‪ ،‬إنها السماء تتدخل هنا بلغة األمر كون الموضوع‬
‫المراد عالجه والتحذير منه أمرًا مهمًّا ال يحتمل التورية أو التأخير‪ .‬إنه‬
‫الحرص األبوي على الذرية مخافة الضياع بعد الممات‪ ،‬والذي يتطلب حتمًا‬
‫هذا النوع من الخشية المقترنة باألمر‪ ،‬وذلك حتى يتم الحفظ‪ ،‬ويستقر‬
‫المحفوظ‪ ،‬والمالحظ هنا التعبير لألمر بالخشية وليس بالخوف كأن يكون‬

‫(‪ )55‬سورة النساء‪ :‬اآلية رقم ‪.9‬‬


‫‪- 235 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ال "وَلَْيخَفْ الذين لو تركوا"‪ ،‬وذلك كون الخشية تتضمن الخوف‬


‫السياق مث ً‬
‫على شئ مستقبلي‪ ،‬بينما الخوف ال يتضمن هذا المعنى‪ ،‬كما أن لفظ الخشية‬
‫يتطلب علمًا وفقهًا‪ .‬إنها الحقيقة تتجلى هنا من خالل التناسق اللفظي‪،‬‬
‫واالحتراز الكالمي كون هذه الخشية ال تتحقق إال من قبل عبد عالم وفاهم‬
‫بدليل األمر بالتقوى والقول السديد الذي سيأتي األمر به الحقًا‪ .‬ومما ال شك‬
‫فيه فإن هذه الخشية بكل تجلياتها هى الضمانة السماوية المؤكدة لفظًا‪ ،‬والثابتة‬
‫دينًا‪ ،‬والمتحققة مكانًا وزمانًا وحاالً‪ ،‬وإال كان السقوط في البداية وخسارة‬
‫الذرية في النهاية‪ ،‬والجميل هنا مجئ األمر بالخشية لكل خائف يخشى األيام‬
‫واألحوال على ذريته الضعاف بعد مماته دون أن يوجه األمر لطائفة معينة‪،‬‬
‫وذلك كون الخوف المعني هنا يعيشه الكثير والكثير من الخلق‪ ،‬لذا كان عدم‬
‫ال دون شك‪ ،‬ثم يتواصل السياق‬
‫التخصيص هو األنسب ذكرًا‪ ،‬واألصدق حا ً‬
‫القرآني الرائع بألفاظه وكلماته‪ ،‬والدقيق بأهدافه ومآالته‪ ،‬والصادق قطعًا‬
‫بأخباره وأحواله‪ ،‬وذلك من خالل قوله "تركوا"‪ ،‬حيث يوحي هذا اللفظ‬
‫القرآني بإيحاءات كثيرة ومدلوالت جمة‪ ،‬ومنها اإليحاء الدقيق بضعف‬
‫اإلنسان‪ ،‬وفقره‪ ،‬واستسالمه وهو يرحل منفردًا تاركًا دنياه خلف ظهره بدون‬
‫اختياره أو رضاه‪ .‬إنه الترك االختياري قطعًا يظهر هنا معلنًا عن نفسه كحقيقة‬
‫واقعة ينبغي على رجاالت الجماعة المنقذة واألمة الهادية إدراكها قبل غيرهم‬
‫حتى تتحقق الخشية المطلوبة هنا كونها هى األصح دينًا‪ ،‬واألعلى منهجًا‪،‬‬
‫واألسلم طريقًا لحفظ الذرية كما سبق وقلنا‪ ،‬وهو ما سيتضح معنا الحقًا من‬
‫ال وروعة‪ ،‬ثم يتواصل الجمال القرآني‬
‫خالل سياق اآلية وهى تنساب جما ً‬
‫كعادته في نقل األحداث‪ ،‬وتوضيح الحقائق‪ ،‬وشرح المفاهيم كي تتضح المعالم‬
‫للجماعة حتى تواصل سيرها نحو ربها دون تأخر أو إبطاء‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫قوله "من خلفهم" حيث إن حرف الجر والمجرور هنا يوحيان بالعالقة‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 236 -‬‬

‫الحميمية‪ ،‬والحميمية جدًّا‪ ،‬بين التارك والمتروك‪ .‬إنه التعبير الدقيق الذي‬
‫نلمسه من خالل السياق القرآني‪ ،‬والذي أوحى بانتهاء تلك العالقة تمامًا فور‬
‫الوفاة بين التارك الذي هو األب‪ ،‬والمتروك الذين هم الذرية الضعاف لتبدأ‬
‫حياة جديدة لذرية حدد معالمها األب الراحل سلبًا أو إيجابًا‪ ،‬وهو ما توحي به‬
‫هذه اآلية الكريمة بكل وضوح‪ ،‬وال شك هنا‪ ،‬أن تلك العالقة اآلنية انتهت‬
‫بالوفاة‪ ،‬ولكن تبقى تقوى اهلل وكلمة الحق التي عاشها ذلك العبد مع الخلق هى‬
‫من تدافع عنه في ذريته من بعده‪ .‬إنه كرم السماء ورحماتها ال تنتهي عن‬
‫الصادقين بمجرد الوفاة‪ ،‬بل تبقى تفعل فعلها بأمر ربها في ذريته الالحقين‪،‬‬
‫وهو معنى دقيق جدًّا ينبغي تأمله والوقوف عنده لنفاسته‪ ،‬ثم يأتي التعبير‬
‫القرآني اآلخر معلنا عن نفسه ودقته وهو قوله "ذرية ضعافًا"‪ ،‬حيث جئ‬
‫بالذرية منكرة ومنونة‪ ،‬وكذلك الضعاف أيضًا‪ ،‬وال شك في أن تنكير الذرية‬
‫هنا يوحي بعمومية هذا الخوف المستشري لدى كل صاحب ذرية‪ .‬إنه الخوف‬
‫على المستقبل الغائب الذي لم يأت بعد‪ ،‬والذي يتردد في صدور الكثيرين من‬
‫ال ومكانًا وزمانًا‪ .‬كما أن تنكير كلمة ضعافًا وتنوينها‬
‫الخلق كمًّا وكيفًا وحا ً‬
‫ع هذا التنكير الباب مفتوحًا‬
‫أيضًا يوحي بحال الذرية المتروكة من جهة‪ ،‬ويد ُ‬
‫لكل ضعف ينتاب هذه الذرية سوا ًء كان ضعفًا بدنيًّا أو نفسيًّا أو غيره‪ .‬إنه‬
‫الضعف الشامل الذي يحيط بهذه الذرية من كل حدب وصوب‪ ،‬وحتى يتم‬
‫التغلب على هذا الضعف في ذرية ضعيفة وجب النظر في مفردات هذه اآلية‬
‫حتى نصل إلى النهاية‪ ،‬ثم يستمر الجمال القرآني في اختيار األلفاظ المتناسقة‬
‫والدقيقة جدًا حتى الوصول إلى النهاية‪ ،‬وذلك من خالل قوله "خافوا عليهم"‪،‬‬
‫ال عن‬
‫وهنا تتوقف األقالم‪ ،‬ويعجز البيان بكل أشكاله وألوانه وأركانه متسائ ً‬
‫المفعول به للفعل "ليخش"‪ ،‬نعم فلكل فعل فاعل ومفعول‪ ،‬ولكن هنا ال يوجد‬
‫ال خافوا عليهم الفقر أو الجوع أو‬
‫مفعول به على اإلطالق‪ ،‬فلم يقل القرآن مث ً‬
‫‪- 237 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫الحاجة أو غيرها‪ ،‬وإنما ليخش دون ذكر ما هو الذي يُخشى‪ ،‬وما هو الداء‬
‫المنتظر للذرية والذي يجب الخشية منه حتى ال يحدث‪ .‬إنها بالغة السماء‬
‫وإعجازها تترك الباب مفتوحًا أمام كل العاهات المنتظرة للذرية المحاطة‬
‫بالمال الحرام من قبل الكسب المشؤوم لألب الذي ظن أنه بكسبه الحرام يزيل‬
‫ذلك الضعف لذريته‪ ،‬ولكنه في الحقيقة ظلمهم بكسبه‪ ،‬وعرضهم لغضب اهلل‬
‫بماله‪ .‬ومما ال شك فيه هنا فإن الكسب المشؤوم من قبل األب كان هدفه اإلغناء‬
‫والغنى‪ ،‬واألمان والهنا‪ ،‬ولكنه من الباب المشؤوم‪ ،‬والمشؤوم دون شك‪ .‬ومما‬
‫ينبغي ذكره هنا‪ ،‬والتنبيه عليه‪ ،‬ونحن نعيش في ظالل هذه اآلية‪ ،‬والتي أتمنى‬
‫أن يصل هذا الظل الفواح لهذه اآلية الكريمة لكل صاحب ذرية حتى يعيش‬
‫ضمانة السماء هذه بعيدًا عن تزلفات األرض‪ ،‬وخبثها‪ ،‬واالرتقاء نحو السماء‬
‫ونقائها‪ ،‬ليكون التآلف والتكامل بين الرجل وذريته تآلفًا بدايته هنا‪ ،‬ونهايته‬
‫في جنة اهلل هناك‪ ،‬وحتى تكون العدالة حاضرة هنا في هذا التوضيح البد من‬
‫ذكر أن كل كسب حرام يكون األهل ممثلين بالزوجة والذرية شركاء فيه وبه‬
‫كون القناعة غابت عن الجميع‪ ،‬وخوف اهلل فارق الجميع‪ ،‬وإن كان األب‬
‫يحمل الوزر األكبر في هذه الحياة‪ ،‬وفي هذا المال‪ .‬وقبل أن ننتقل للشطر‬
‫اآلخر من اآلية يجدر بنا هنا أن نذكر أن هذه اآلية لها عالقة وطيدة بما قبلها‬
‫وبما بعدها‪ ،‬وليس هذا فحسب‪ ،‬بل إن محتواها ال يتضح تمامًا ما لم يتم هذا‬
‫الربط‪ ،‬وال شك في أن ما قبلها من اآليات تحدث عن أموال اليتامى‪ ،‬وحرمة‬
‫أكلها‪ ،‬وكذلك عن أموال الورثة‪ ،‬ووجوب أخذ كل وارث حقه ذكرًا كان أو‬
‫أنثى دون زيادة أو نقصان‪ ،‬وهو ما وضحته أكثر بعد ذلك اآلية التي تلت هذه‬
‫اآلية‪ ،‬وال شك في أن البلية التي تحدث هنا‪ ،‬وسبق وحدثت في الماضي هناك‪،‬‬
‫ومازالت تتكرر هي سقوط البعض سقوطًا ماديًّا‪ ،‬وذلك بأخذهم أموال اليتامى‬
‫ظلمًا من جهة‪ ،‬أو احتيالهم على شركائهم في الميراث من جهة أخرى تحت‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 238 -‬‬

‫يافطات مزورة‪ ،‬ودعاوى باطلة‪ ،‬كل ذلك المال المشؤوم حرصًا منه على‬
‫مستقبل ذريته الضعاف إلزالة ضعفهم‪ ،‬فكان البالء له ولهم من سوء كسبه‬
‫أن ينتظرهم الضياع والضعف ما بقى المال المشؤوم معهم‪ ،‬وال شك في أن‬
‫كل كسب حرام يتم جمعه ينعكس سلبًا على حياة الذرية دينًا ودنيا‪ .‬إنها‬
‫الخسارة المنتظرة هنا تالحق الذرية‪ ،‬وتحيط بهم من كل مكان هناك‪ ،‬وهو‬
‫أمر معلوم ومشاهد لكل ذي بصيرة وعقل‪ ،‬ومما ال شك فيه فإن ثروات البشر‬
‫المكنوزة‪ ،‬والتي جمعت من غير حل‪ ،‬على العاقل أن ينتظر رحيلها من بين‬
‫أيدي أهلها‪ ،‬بل يكون الخراب والدمار واألوجاع هى الحاضرة في هذا المال‬
‫بين يدي هذه الذرية‪ ،‬وحتى ال يحدث كل هذا الضياع للذرية وجبت الخشية‬
‫من هذا المال‪ ،‬والتحرك الفوري دون إبطاء أو تأخر صوب الضمانة الحقيقية‬
‫لحفظ الذرية من الهوان وهى في قوله "فليتقوا اهلل وليقولوا قوالً سديدًا"‪ ،‬وال‬
‫ال‬
‫شك في أن هذه الجملة اختصرت المشهد مكانًا وزمانًا‪ ،‬وأسعدت القلوب حا ً‬
‫ومآالً‪ ،‬وضمنت الذرية أرضًا وسماءً‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب على الجماعة‬
‫المنقذة واألمة الهادية أن تستوعبها كي تحفظ الذرية هنا في الدنيا‪ ،‬ويكون‬
‫اللقاء معها عند اهلل في جنته في اآلخرة‪ ،‬وذلك بتقوى اهلل أوالً‪ .‬كما أن األمر‬
‫هنا بتقوى اهلل جاء بصيغة األمر كون النفوس تجبن أحيانًا‪ ،‬وتبخل أحيانًا‬
‫أخرى من أجل الذرية‪ ،‬فكان البد من هذا األمر حتى تتحرر النفوس من هذه‬
‫القيود األرضية التي يجب أن تنكسر حتى تتحرر ذواتها من رق األرض‪،‬‬
‫وشهواتها‪ ،‬وتنطلق دون قيد نحو السماء تعطي دون بخل‪ ،‬وتتقي ربها دون‬
‫ملل‪ .‬ومما ال شك فيه فإن العبد عندما يتقي اهلل في الناس صغارًا وكبارًا‬
‫وذكورًا وإناثًا فإنه سبحانه يقيض له بعد وفاته من يتقى اهلل في ذريته الصغار‬
‫والكبار سواء بسواء‪ ،‬والعكس صحيح‪ ،‬وال يظلم ربك أحدًا‪ .‬إنها الحقيقة‬
‫الوحيدة‪ ،‬والوحيدة فقط‪ ،‬والتي يجب أال تغيب عن هذه الجماعة‪ ،‬وهذه األمة‪،‬‬
‫‪- 239 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫فإن غابت ألمر ما وجبت العودة واالستيقاظ من جديد حتى ال تذهب قداسة‬
‫الذرية بمال حرام هو في حقيقته أليتام تارة‪ ،‬أو لورثة آخرين تارة أخرى‪،‬‬
‫فكان االستحواذ عليه أبلسة حاضرة‪ ،‬ومغامرة خاسرة تحت مسميات باطلة‪،‬‬
‫وتأويالت فاجرة دون مسوغ أو دين‪ .‬ثم ختمت اآلية هذا األمر بخاتمة غاية‬
‫في الروعة والجمال تناسب البداية حيث يكون القول السديد والصائب والعادل‬
‫والخالص هلل دون خوف دائمًا هو الضمانة الحقيقية لحفظ ذرية العبد بعد‬
‫مماته من الضياع‪ .‬إنها الحقيقة األخيرة التي تدحض تفكير البعض‪،‬‬
‫وسياستهم‪ ،‬وخططهم الداعية إلى التزلف في القول‪ ،‬والنفاق في الفعل‪،‬‬
‫والتضليل في الفكر بغية توفير رزق الذرية وقوتهم‪ ،‬وهو ما يخالف هذه‬
‫الضمانة السماوية الداعية – بكل صراحة ووضوح – إلى القول السديد‬
‫والعادل‪ ،‬وعدم المداهنة والنفاق حتى تتولى السماء حفظ الذرية في األرض‪،‬‬
‫وال شك هنا في أن التقوى أمر عام يشمل القول والفعل بدون شك‪ ،‬ولكنها‬
‫جاءت بهذا التخصيص بعد تعميم زيادة في التوضيح‪ ،‬وتثبيتًا لكل صاحب‬
‫ذرية حتى ال تخيفه كلمة الحق على مستقبل ذريته كما يروج شياطين اإلنس‪،‬‬
‫ويوحي بذلك شياطين الجن‪ ،‬بل أن كلم َة الحق هذه هى الضمانة السماوية‬
‫لحفظه مع ذريته‪ ،‬وما سوى ذلك إنما هو ضياع وخسارة ليس إال‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 240 -‬‬

‫ال‬
‫الش َهوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْ ً‬
‫ن َّ‬‫ن يَتَّبِعُو َ‬
‫علَيْكُمْ وَ ُيرِي ُد الَّذِي َ‬
‫َاهلل ُيرِي ُد أَن يَتُوبَ َ‬
‫(و ُّ‬
‫ق اإلِنسَانُ ضَعِيفاً{‪.)56()}28‬‬
‫خلِ َ‬
‫اهلل أَن يُخَفِفَ عَنكُمْ َو ُ‬
‫عظِيماً{‪ُ }27‬يرِي ُد ُّ‬
‫َ‬
‫تقف الجماعة المنقذة واألمة الهادية دائمًا بين إرادتين مستمرتين تعمالن دون‬
‫توقف‪ ،‬بين إرادة السماء‪ ،‬ومنهجها من جهة‪ ،‬وبين إرادة األرض وشهواتها‬
‫ن واح ٍد بين إرادتين‬
‫من جهة أخرى‪ .‬إنها المعركة المستمرة والمستعرة في آ ٍ‬
‫ووجهتين‪ .‬نعم إنها الحقيقة التي يجب على كل فرد من أفراد الجماعة المنقذة‬
‫واألمة الهادية استيعابها حتى ال تسقطه شهوات األرض السفلى عن إرادة‬
‫السماء العليا في لحظات الغفلة والتيه‪ .‬وحتى نعيش إرادة السماء وتوبتها‬
‫بروعتها وجمالها ننتقل إلى اآليتين سريعًا‪ ،‬فقوله "واهلل يريد أن يتوب عليكم"‬
‫هذه الجملة تحمل في طياتها الكثير من الدالالت‪ ،‬ومنها‪ :‬أن اآلية معطوفة‬
‫على ما قبلها بالواو مما يعني أن األحداث‪ ،‬كل األحداث‪ ،‬التي تجري في عالم‬
‫الحياة ودنيا األحياء يريد اهلل بها ومن خاللها أن يعيد األرض الشاردة بناسها‬
‫وأهلها إليه‪ .‬ومما ال شك فيه هنا فإن األرض بشهواتها وناسها أخذت من‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية الكثير والكثير‪ ،‬فكانت األحداث المتتابعة التي‬
‫تصيب الجماعة هنا وهناك ليست أحداثًا عبثية‪ ،‬كال بل يريد اهلل منها للجماعة‬
‫أن تعود إليه كي تقود األرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬نحو السماء‪ ،‬ال لتعيش لألرض‪،‬‬
‫ولألرض وحدها‪ ،‬تارك ًة منهج اهلل بعيدًا عنها‪ ،‬والجميل هنا في اآلية هو مجئ‬
‫ال عن اسم اإلشارة "هو"‪ ،‬وذلك للتشويق‪ ،‬وإدخال‬
‫االسم الظاهر "اهلل" بد ً‬
‫الطمأنينة في النفوس كي ترجع إليه وتعود دون تأخير كونه سبحانه وتعالى‬
‫يريد وينادي باسمه وذاته جلت قدرته‪ ،‬وتقدست أسماؤه‪ .‬كما أن مجئ لفظ‬
‫ال "وربكم يريد أن يتوب‬
‫اإلله هنا وليس لفظ الرب كأن يكون السياق مث ً‬

‫(‪ )56‬سورة النساء‪ :‬اآليتان (‪.)28 ،27‬‬


‫‪- 241 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫عليكم" لإليحاء بأن التوبة حاصلة من قبل السماء ما بقيت الجماعة المنقذة‬
‫واألمة الهادية هلل عابدة كون لفظ اإلله هنا هو الذي تؤلهه القلوب وتعبده‪،‬‬
‫وهو معنى نفيس ودقيق ينبغي تأمله والوقوف عنده‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب‬
‫على كل فرد أن يستشعرها‪ ،‬ويتحرك من فوره نحو ربه كي يتوب عليه‪ ،‬وإال‬
‫فال توبة وال تخفيف كما سيأتي معنا من خالل سياق اآليات الحقًا‪ .‬ومما ال‬
‫شك فيه فإن هذه اإلرادة اإللهية هى اإلرادة الشرعية كون اهلل يريد لعباده‪،‬‬
‫كل عباده‪ ،‬أن يقبلوا نحوه كي يتوب عليهم‪ .‬ويزداد جمال اآلية من خالل‬
‫التعبير بصيغة المضارع الدال على التجدد واالستمرار "يريد" لإليحاء بأن‬
‫باب السماء مفتوح للتوبة على الدوام دون تحديد وقت أو زمن‪ ،‬وهو معنى‬
‫نفيس ودقيق أيضًا‪ .‬كما أن التعبير بميم الجمع في قوله "عليكم" يوحي بأنه‬
‫ال قداسة ألحد‪ ،‬وال عصمة على اإلطالق‪ ،‬بل الجميع معرض للوقوع في‬
‫الخطأ والذنب كون الضعف مالزمًا لهذا المخلوق اآلدمي كما سيأتي معنا‬
‫الحقًا أيضًا‪ .‬وبعد هذه المقدمة الواضحة معنى‪ ،‬والصادقة وجهة‪ ،‬والحقيقة‬
‫دينًا وشرعًا في بداية هذه اآلية تأتي الجملة الثانية في اآلية نفسها "ويريد‬
‫ال عظيمًا"‪ ،‬حيث توحي هذه الجملة‬
‫الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا مي ً‬
‫بإيحاءات كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الخالف بين قيم السماء النظيفة وقيم األرض النتنة‬
‫هو خالف دائم ومستمر كون التعبير بالفعل المضارع كان هناك كما هو هنا‪،‬‬
‫كما أن قوله "ويريد الذين يتبعون الشهوات" يشير إلى معنى في غاية الدقة‬
‫وهو أن أتباع الشهوات‪ ،‬وعبادها‪ ،‬ليسوا عشوائيين‪ ،‬بل هم منظمون ومرتبون‬
‫ومعدون لهذه المهمة كون التعبير عنهم بواو الجمع يوحي بتوحدهم ووحدتهم‬
‫ن واحد صباح‬
‫لهذه المهمة‪ .‬إنها مهمة اإلضالل واإلغواء مع اإلغراء في آ ٍ‬
‫مساء ألفراد الجماعة المنقذة واألمة الهادية بكل الطرق والوسائل دون توقف‪.‬‬
‫نعم إنها الحقيقة التي يجب أن يفهمها صفوة األرض‪ ،‬وحملة قيم السماء وهم‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 242 -‬‬

‫يتحركون هنا وهناك‪ .‬والعجيب هنا ونحن نعيش في ظالل هذه اآلية أن من‬
‫أسقطتهم شهوة األرض‪ ،‬وطينها‪ ،‬ومتاعها بعيدًا بعيدًا عن قيم السماء‪،‬‬
‫ونقاءها‪ ،‬ونعيمها ال يكتفون بسقوطهم وحدهم‪ ،‬بل يكوّنون حلفًا لالستهداف‬
‫واالستقطاب‪ .‬إنها الحقيقة األخرى التي يجب أن تفهمها الجماعة المنقذة‬
‫واألمة الهادية بكل تفصيالتها ومكوناتها وأفرادها‪ ،‬وهى حقيقة استهدافها من‬
‫قبل اآلخر بكل الطرق والوسائل‪ ،‬وبشكل مستمر ودائم استهدافًا لقيمها وقمتها‬
‫ورجالها ورجولتها حتى يتساوى السقوط في العفن‪ .‬ويتواصل الجمال القرآني‬
‫في التوصيف والتعريف بعبَّاد الشهوات فاضحًا مآربهم‪ ،‬وذلك من خالل قوله‬
‫ال عظيمًا"‪ ،‬حيث تكشف هذه الكلمات السماوية حقائق كثيرة‪،‬‬
‫"أن تميلوا مي ً‬
‫ال‬
‫ومنها‪ :‬أن كلمة "تميلوا"‪ ،‬توحي باستهداف عباد الشهوات لكل الفئات رجا ً‬
‫ونساءً‪ ،‬وقادة وأتباعًا دون تمييز أو استثناء ألحد‪ ،‬وهو ما يستدعي التحصين‬
‫المستمر‪ ،‬والتوعية الدائمة بخطورة ذلك العبث‪ ،‬وأهداف دعاة ذاك الخبث‪،‬‬
‫وال شك في أن السقوط في وحل الشهوات سيكون نصيبًا مؤكدًا لمن لم يترب‬
‫ال في ظل األوضاع المتعبة‪ ،‬واألحداث المتتابعة‪.‬‬
‫دينيَّا‪ ،‬ولمن لم يحمل عق ً‬
‫وقبل أن ننتقل للكلمة األخرى في اآلية يجدر بنا هنا أن نشير إلى السر البالغي‬
‫ال "ويريد الذين يتبعون‬
‫في قوله "تميلوا" وليس تكفروا كأن يكون السياق مث ً‬
‫الشهوات أن تكفروا"‪ ،‬مع أن الميل هو االنحراف عن الحق‪ ،‬والتوجه صوب‬
‫الباطل بدون شك‪ ،‬ومن يبعدك عن الفضائل هو في الحقيقة يسقطك في الرذائل‬
‫شئت أم أبيت‪ .‬إنها بالغة القرآن‪ ،‬ودقته وهو يعبر عن تزوير عباد الشهوات‬
‫وهم يرتدون ثياب الوعظ أحيانًا‪ ،‬وثياب التقدم ومواكبة العصر أحيانًا أخرى‬
‫حتى يتم اإلسقاط واالنحراف للحق وحملته بطريقة الميل المتدرج الذي‬
‫يوصل صاحبه إلى القاع حتى ال يشعر بسقوطه إال بعد حين‪ .‬وجاء التأكيد‬
‫في قوله "تميلوا ميالً" مع التنوين لكشف حرصهم المستمر على اإلسقاط‬
‫‪- 243 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫الجماعي للجماعة واألمة إسقاطًا ال يرجى بعده قيام‪ ،‬حيث أن وصف الميل‬
‫بقوله "عظيمًا" في نهاية اآلية هنا يوحي بهذا المعنى‪ .‬ومما ال شك فيه فإن‬
‫الجماعة هنا بكل أفرادها ورجاالتها تحتاج لالنتباه والحذر من الخداع اللفظي‬
‫الذي يقود إلى السقوط األخالقي‪ ،‬واالنحراف العقدي تحت مسميات عصرية‬
‫دون شعور‪ ،‬فكما كان التعبير عن الميل يراد من خالله السقوط الذي ال حدود‬
‫له هنا‪ ،‬فسيبقى هذا الميل هو اللغة المعبرة لإلسقاط واالحتواء بألفاظ عصرية‬
‫ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب‪ ،‬وهو ما يدعو مرة أخرى للحيطة والحذر‬
‫من قبل الكل دون استثناء‪ ،‬ثم تأتي اآلية األخرى ملخصة لكل ما سبق‬
‫وبطريقة جميلة كعادة القرآن دائمًا بجماله‪ ،‬وذلك من خالل قوله "يريد اهلل أن‬
‫يخفف عنكم وخلق اإلنسان ضعيفًا" إنها رحمات السماء‪ ،‬ولطفها وهى تتدارك‬
‫هذا المؤمن كي تنتشله مرة أخرى من وسط الركام‪ ،‬ركام الشهوات‪ ،‬وركام‬
‫ن واحدٍ‪ ،‬وذلك حتى ال تقوده الشهوات إلى حيث تريد األرض‪،‬‬
‫األتباع في آ ٍ‬
‫بل حيث تريد السماء‪ .‬إنها إرادة اهلل الخالصة في البداية والنهاية‪ ،‬بينما إرادة‬
‫األرض الخاسرة بقيت في الوسط محاصرة بين إرادتين إلهيتين حتى تبقى‬
‫إرادة األرض هى اإلرادة المهزومة حاالً‪ ،‬والضعيفة مكانًا وزمانًا‪ ،‬بل‬
‫وجاثمة ال حراك فيها وال حياة إال ما أشربت من هوى‪ .‬وال شك في أن هذه‬
‫اآلية كانت وستبقى ما بقيت الحياة هى البلسم الشافى لجراح الجماعة المنقذة‬
‫واألمة الهادية وهى تقابل جراحات األعداء ومكر األصدقاء‪ ،‬كل ذلك "يريد‬
‫اهلل أن يخفف عنكم"‪ ،‬فال يأس مهما عظم الحدث‪ ،‬وال استسالم مهما تعاظم‬
‫الخبث‪ ،‬فكالهما سواء الحدث أو الخبث إلى زوال كونهما زبدًا‪ ،‬وال شئ أكثر‬
‫من الزبد‪ ،‬ثم تُختم اآلية بتقرير ختامي عن حقيقة هذا اإلنسان من خالل قوله‬
‫"وخلق اإلنسان ضعيفًا"‪ ،‬إنه الضعف المالزم لإلنسان‪ ،‬كل إنسان‪ ،‬فيغفل‬
‫أحيانًا‪ ،‬وتأخذه شهوات األرض أحيانًا أخرى‪ ،‬وهو ما يستدعي منه اللجوء‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 244 -‬‬

‫إلى السماء‪ ،‬واالتصال بها دون انقطاع البتة ليقوى أمام شهوات األرض‪،‬‬
‫وذلك حتى ال تسقطه هذه األرض بشهواتها وناسها بسبب ضعفه المالزم له‬
‫كما سبق‪..‬‬
‫‪- 245 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ك‬
‫ك وَمَا أُن ِزلَ مِن قَبْلِ َ‬
‫ن أ ََّنهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُن ِزلَ ِإلَيْ َ‬
‫ن َيزْعُمُو َ‬
‫( َألَمْ َت َر ِإلَى الَّذِي َ‬
‫ن أَن يَ َتحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ َوقَدْ أُ ِمرُواْ أَن يَكْ ُفرُواْ بِ ِه وَ ُيرِي ُد الشَّيْطَانُ‬
‫ُيرِيدُو َ‬
‫أَن يُضَِّلهُمْ ضَالَ ًال بَعِيداً{‪.)57()}60‬‬
‫االحتكام إلى منهج السماء والكفران بطواغيت األرض هو التعبير الحقيقي‬
‫عن صدق اإليمان‪ ،‬وتوحيد الديان‪ .‬إنه الصدق الذي يجعل العبد يتجه نحو‬
‫شريعة اهلل ودينه في كل صغيرة وكبيرة‪ ،‬وإال كان الضالل واتباع الشيطان‬
‫وإن ادعى العبد الهدى واتباع القرآن‪ .‬ومما ال شك فيه هنا فإن قضية الحاكمية‬
‫ليست قضية ثانوية في حياة الجماعة المنقذة واألمة الهادية‪ ،‬بل هى قضية‬
‫عقدية بامتياز كون اإلله في السماء سبحانه – كما هو معلوم – له الخلق‬
‫واألمر‪ ،‬فال ينبغي أبدًا أن يكون اهلل هو الخالق بينما اآلمر واألمر لغيره‪ .‬إنها‬
‫الحقيقة التي ينبغي فهمها والدعوة إليها‪ ،‬وعبادة اهلل على أساسها‪ ،‬وإال فال‬
‫عبادة وال دعوة‪ ،‬بل هو ضالل شيطاني‪ ،‬وملق تعبدي كما صرحت بذلك‬
‫اآلية بكل وضوح‪ .‬وحتى نفهم القضية أكثر فأكثر ننتقل مباشرة كي نعيش في‬
‫رحاب اآلية الكريمة وهى تنقلنا بين ثناياها بكل سالسة وهدوء موضحة‬
‫السلوك النفاقي العفن الموغل في العفن‪ ،‬والغارق حتى النخاع في عبادة‬
‫الوثن‪ ،‬حيث يقول اهلل "ألم تر إلى الذين يزعمون"‪ ،‬فهذه الجملة تحمل في‬
‫طياتها الكثير من الدالالت والدقائق‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الزعم يقصد به مطلق الكالم‬
‫– كقول أم هاني‪ .‬لرسول اهلل – صلى اهلل عليه وسلم – يارسول اهلل زعم علي‬
‫ت يا أم هانئ‪.‬‬
‫أنه قاتل رجل قد أجرته‪ ،‬فقال نبي اهلل لها قد أجرنا من أجر ِ‬
‫ومما ال شك فيه – كما يقول أهل اللغة – إن الزعم يطلق كثيرًا على الكالم‬
‫المشوب بالكذب‪ ،‬وإن أريد به أحيانًا مطلق الكالم كما أسلفنا‪ ،‬والحقيقة هنا أن‬

‫(‪ )57‬سورة النساء‪ :‬اآلية رقم ‪.60‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 246 -‬‬

‫الزعم الوارد هنا هو زعم باطل في البداية‪ ،‬ومفضوح تمامًا في النهاية كون‬
‫السماء فضحت هذا االدعاء الكاذب‪ ،‬والتدين السائب‪ .‬إنه الفريق النفاقي الذي‬
‫أراد أن يعبث بمنهج السماء‪ ،‬وعقيدتها‪ ،‬ورسولها في ذلك الزمن البعيد ظنًّا‬
‫منه لسفهه وفساده أن سياسته وعبثه سيمران دون حساب‪ ،‬وهو الذي ما كان‬
‫ولن يكون‪ ،‬والعجيب هنا هو افتتاح اآلية بهذا التعجب االستفهامي "ألم تر"‪،‬‬
‫إنه تعجب السماء من هذا السفه‪ ،‬ومن هؤالء السفهاء‪ .‬إنه السفه الذي يدعي‬
‫عبودية المعبود في السماء‪ ،‬ثم يهرول مسرعًا لالحتكام لطواغيت األرض‪،‬‬
‫وقوانينها‪ ،‬وفسادها تاركًا خلفه – وبكل حماقة وسفه – منهج السماء ورسالتها‪.‬‬
‫ويزداد الجمال هنا من خالل كلمة "يزعمون"‪ ،‬حيث توحي هذه الكلمة‬
‫إيحاءات كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن اهلل ذكر سلوكهم ومنطقهم وفعلهم دون ذكر ذواتهم‬
‫ال "ألم تر إلى المنافقين"‪ ،‬وذلك كون الزعم الباطل‪،‬‬
‫كأن يكون السياق مث ً‬
‫واالدعاء الكاذب هو عنوانهم‪ ،‬والدليل عليهم‪ .‬إنه السقوط التعبدي المشوب‬
‫بكذب األرض‪ ،‬وضاللها عندما يتدثر به فريق سقط من عين اهلل هناك‪ ،‬فعبث‬
‫به طين األرض هنا بعد أن تخلت عن هذا الفريق الكاذب السماء‪ .‬كما أن‬
‫التعبير بواو الجماعة يوحي بقدرة النفاق الفائقة على تسويق زعمه وكذبه‬
‫بطريقة جماعية منظمة‪ ،‬ومرتبة موحدة‪ ،‬وهو ما يستدعي االنتباه والحذر من‬
‫قبل الجماعة المنقذة واألمة الهادية من مكر هذا الفريق النفاقي المتلبس‪ .‬كما‬
‫أن التعبير بصيغة المضارع "يزعمون" يوحي بأن الصف النفاقي سيتكرر‬
‫زعمه‪ ،‬وكذبه‪ ،‬وطاغوته تكررًا مستمرًا ما بقيت الحياة‪ ،‬ثم ينقلنا السياق‬
‫القرآني لتوضيح مادة الزعم ومحتواه‪ ،‬وذلك من خالل قوله "أنهم آمنوا بما‬
‫أنزل إليك وما أنزل من قبلك"‪ ،‬حيث توحي هذه الكلمات بإيحاءات كثيرة‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬أن التلبس بالدين والتدين ظاهرًا فقط دون اإليمان به باطنًا سلوك نفاقي‬
‫ن واحدٍ‪ .‬إنه قديم كونه ظهر مباشرة في العهد المدني عندما‬
‫قديم وجديد في آ ٍ‬
‫‪- 247 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫أصبح للمسلمين دولة وقوة‪ ،‬بينما لم يكن موجودًا في العهد المكي كون الكفر‬
‫حينها كان هو صاحب الدولة والقوة‪ ،‬وهو جديد هنا كون الطاغوت برجاله‬
‫وأدواته ومنطقه ومناطقة يعيش ويحيا ويدعي ويهوى كما فعل باألمس‪ .‬إنه‬
‫النفاق حين يجعل اإليمان والدين لباسه كي يستر تمرده‪ ،‬ويُخفي مكره‪ ،‬ولكنه‬
‫سرعان ما يُفتضح أمره‪ ،‬ويُهتك ستره عندما تمر األحداث‪ .‬كما أن الجملة‬
‫توحي بقدرة المنافقين على التوسع في الفهم والعلم من أجل التلبيس والتشويش‬
‫ليس إال‪ .‬إنها الحقيقة اإلبليسية الخبيثة التي ظهرت من خالل ادعائهم اإليمان‬
‫بما أنزل على محمد وهو القرآن‪ ،‬وما أنزل من قبله من كتب حيث يوحي هذا‬
‫العلم بقدرة النفاق على التوسع في الفهم والعلم بغية التلبيس والتشويش كما‬
‫أسلفنا‪ .‬إنه التشويش الذي يقوده النفاق متسلحًا بثقافة واسعة‪ ،‬واطالع أوسع‬
‫كي يجيد المكر والتشويش‪ .‬ثم يتواصل الجمال القرآني في فضح هذا الفريق‬
‫المنتن رائحةً‪ ،‬والخبيث طوية‪ ،‬والكاذب دينًا‪ ،‬وذلك من خالل قوله تعالى‬
‫عنهم "يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به"‪ ،‬حيث‬
‫تحدثنا كتب التفسير عن أن المنافقين بعد دعواهم السابقة باإليمان جاءت‬
‫المواقف العملية إلثبات ذلك اإليمان وهى المشاكل الحياتية والمجتمعية‬
‫والقضايا التعبدية‪ .‬نعم جاءت كل تلك المفردات فتحرك هذا الفريق كى يتحاكم‬
‫إلى كعب بن األشرف اليهودي ليحكم بينهم‪ ،‬وعندما دعوا إلى اهلل ورسوله‬
‫ليتولى الحكم رفضوا وذهبوا إلى الطاغوت اليهودي حينها‪ .‬إنها األنفس‬
‫الخبيثة التي توالى الخبث ولو كان يهوديًّا‪ ،‬وتأبى الطيب ولو كان نبيًّا‪ .‬ومما‬
‫ال شك فيه فإن هذه الجملة القرآنية تحوي الكثير من الدالالت‪ ،‬ومنها‪ :‬أن‬
‫الفعلين المضارعين هنا "يريدون "و "يتحاكموا" يوحيان بالسلوك المستمر‬
‫لهذا الفريق‪ .‬إنها الحركة النفاقية المهرولة على الدوام نحو الطاغوت أيًّا كان‬
‫هذا الطاغوت سواء كان حاكمًا في أمة مغلوبة أو قائدًا لجماعة منكوبة‪ .‬إنها‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 248 -‬‬

‫حقيقة النفاق تسوق أهلها نحو الطغاة سوقًا حتى ينكشف أمرهم‪ ،‬ويهتك بكل‬
‫وضوح سترهم‪ .‬كما أن الفعل "يريدون" يوحي بالحب الخفي للطاغوت في‬
‫بواطن النفاق‪ ،‬وسلوك المنافقين‪ .‬إنه الحب األرعن واألعمى يقود الذوات‬
‫العفنة والعقول الغبية لطواغيت األرض كي تستعبد وتشقى وتذل وتخزى‪.‬‬
‫كما أن التعبير بواو الجماعة يوحي كذلك بجماعة نفاقية مرتبة في خطواتها‪،‬‬
‫ومحددة ألهدافها ومآالت توجهها‪ ،‬وهو ما يستدعي أمة مسلمة تعي وتفهم‬
‫وتحذر وتعلم وتخطط للمغنم والمغرم‪ ،‬وإال كان هذا السيل الجارف من النفاق‬
‫هو السيد والسائد والحاكم والقائد‪ .‬ثم ينقلنا القرآن من خالل روعة التعبير‬
‫وجمال التصوير إلى قوله "أن يتحاكموا إلى الطاغوت"‪ ،‬إنه الطاغوت الذي‬
‫جاء من الفعل طغى أي تجاوز الحد فكل من يتجاوز حده مع اهلل وشرعه فهو‬
‫طاغوت من الطواغيت سواء كان حاكمًا ألمة أو قائدًا لجماعة‪ .‬إنه الطاغوت‬
‫الذي يهوى العبث‪ ،‬ويستهوي الخبث سواء طاغوت األمس بأحجاره‬
‫وأشخاصه‪ ،‬أو طاغوت اليوم بأفكاره وذواته‪ .‬نعم إنه الطاغوت الذي يقف‬
‫دائمًا أمام منهج السماء‪ ،‬وشريعتها‪ ،‬ونورها بكل أدواته الخبيثة‪ ،‬وإمكانياته‬
‫الضخمة كي يعزل السماء عن األرض ليفسد ناسها وأهلها‪ ،‬وال شك في أن‬
‫القضية هنا ال تقبل القسمة وال التجزئة‪ ،‬فإما عبادة اهلل واالحتكام لشرعه‬
‫ومنهجه‪ ،‬وإما الطاغوت‪ ،‬والطاغوت فقط‪ ،‬الذي أمرت األرض بالكفران به‪،‬‬
‫وال شيء غير هذا‪ .‬إنها الحقيقة التي عرفها جيل األمس وهو يحارب طواغيت‬
‫األرض بكل أشكالها ومسمياتها‪ ،‬والتي ينبغي أن يعرفها جيل اليوم كذلك‬
‫ليواصل السير‪ ،‬ويتابع المسير‪ ،‬ثم يأتي ختام اآلية ملخصًا لحقيقة الطاغوت‪،‬‬
‫ال بعيدًا"‪ ،‬إنه‬
‫وعباده‪ ،‬وأنصاره قائالً‪" :‬ويريد الشيطان أن يضلهم ضال ً‬
‫التوافق بين اإلرادتين‪ ،‬إرادة آدميَّة منكوسة ظهرت في البداية‪ ،‬وإرادة‬
‫شيطانية ملعونة ظهرت هنا في النهاية مكونة إرادة موحدة في الخبث‬
‫‪- 249 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫والخبائث اسمها الشيطان‪ ،‬والشيطان فقط‪ .‬نعم فمن يريد الطاغوت ويحبه‪،‬‬
‫ويتماهى مع الطاغوت الذي تجاوز حده في الظلم والضالل هو في حقيقة‬
‫أمره منزوع اإلرادة اآلدمية الطاهرة‪ ،‬ومتلبس بإرادة شيطانية ملعونة‪ .‬ومما‬
‫ال شك فيه هنا فإن ُمحِبي الطواغيت ال يحملون إيمانًا صادقًا‪ ،‬وال يتبعون‬
‫محمدًا نبيًّا‪ ،‬وال يعبدون اهلل ربًّا في هذا التحاكم‪ ،‬بل الشيطان‪ ،‬والشيطان‬
‫وحده‪ ،‬هو من يقودهم‪ ،‬ويتصرف بأمرهم‪ .‬إنه الشيطان بإرادته المستمرة‪،‬‬
‫وحركته الدائمة يريد ألنصاره الضالل واإلضالل بعد أن سلب إرادتهم‪،‬‬
‫وعاش في ذواتهم‪ ،‬وتمكن من باطنهم وبواطنهم‪ ،‬ويأتي التعبير بليغًا هنا من‬
‫خالل قوله "ويريد الشيطان"‪ ،‬حيث يشمل الشيطان هنا شيطان الجن أوالً‪،‬‬
‫وشيطان اإلنس ثانيًا‪ :‬كون الطاغوت اآلدمي أصبح شيطانًا في صورة إنسان‪.‬‬
‫إنه التعاون الثنائي بين شيطانين يملكان من األعوان الكثير للضالل‬
‫واإلضالل في وسط الحياة ودنيا األحياء كي يبقى الطاغوت‪ ،‬ويستمر‬
‫الطغيان‪ ،‬وقوله "أن يضلهم"‪ ،‬أي يبعدهم ويخرجهم من الطريق المستقيم‬
‫الواضح إلى طريق مظلم ملت ٍو فاضح كي يضيعوا ويتيهوا‪ .‬إنه الضياع والتيه‬
‫الذي عُرفت بدايته‪ ،‬ولكن ال يُعلم كيف ستصبح نهايته‪ ،‬بل هو الضالل البعيد‪،‬‬
‫ال ومكانًا وزمانًا تاركة اآلية هذا البعد المكاني‬
‫ال ومآ ً‬
‫والبعيد بالفعل‪ ،‬حا ً‬
‫والزماني للضالل واإلضالل الشيطاني بعيدًا بعيدًا هكذا دون تحديد‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 250 -‬‬

‫ت أَ ِو ان ِفرُواْ جَمِيعاً{‪.)58()}71‬‬
‫ن آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَان ِفرُواْ ثُبَا ٍ‬
‫(يَا أ َُّيهَا الَّذِي َ‬
‫كلما ارتقت الجماعة المنقذة واألمة الهادية في سلم الهداية والهدى كلما عظم‬
‫استهدافها‪ ،‬ومن ثم وجب عليها أخذ الحيطة والحذر كي تحافظ على رقيها‬
‫التعبدي‪ ،‬وإرثها الوجودي‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب استيعابها حتى ال تؤخذ‬
‫الجماعة على حين غرة فيسقط رقيها‪ ،‬ويذهب إرثها‪ ،‬والعجيب هنا هو مجئ‬
‫هذه اآلية عقب الحديث عن المكانة والمكان اللذين ينتظران من يطيع اهلل‬
‫ورسوله‪ ،‬وذلك في إشارة واضحة مفادها أن االرتقاء في سلم الهداية واالتباع‬
‫كما هو فضل عظيم من اهلل يؤتيه من يشاء من خلقه إال أن هذا الفضل يقابله‬
‫مكرٌ بشري عظيم أيضاً‪ ،‬وذلك كي تتم سنة المدافعة واالبتالء سواء بسواء‪،‬‬
‫وهو ما يستدعي الحيطة والحذر من خالل النفركي تتم مدافعة القدر بالقدر‬
‫كما سيتضح معنا الحقًا‪ .‬كما أن هنا لفتة أخرى يمكن فهمها من خالل عالقة‬
‫هذه اآلية بما قبلها وهى أن المكانة والمكان المنتظرَين هناك للمؤمنين يتطلبان‬
‫النفر والجهاد والعمل واالستعداد هنا‪ ،‬وإال فال مكانة وال مكان‪ ،‬وحتى نعيش‬
‫روعة اآلية بجمالها وجاللها ننتقل إلى رحابها‪ ،‬بل ونغوص في أعماقها حيث‬
‫الدرر الحسان‪ ،‬واللطائف العظام‪ ،‬فقوله "يا أيهاالذين آمنوا" هذا النداء‬
‫الخاص الموجه من قبل اهلل في السماء لطائفة معينة من الخلق يوحي بدالالت‬
‫كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن أهل اإليمان هم دون غيرهم من يقع على عاتقهم تنفيذ‬
‫األوامر‪ ،‬واجتناب النواهي‪ ،‬وعدم تعدي الحدود‪ .‬إنها القلوب التي صدَّقت‬
‫بربها‪ ،‬وآمنت بخالقها هى وحدها من يوكل إليها أمر السماء كي تحيى به‬
‫موات األرض الذي استفحل حاالً‪ ،‬وتمدد مكانًا‪ ،‬وطال أمده زمانًا‪ ،‬والذي‬
‫يجب أن يتوقف وينحصر حتى تحيا األرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬بوحي السماء‪.‬‬

‫(‪ )58‬سورة النساء‪ :‬اآلية رقم ‪.71‬‬


‫‪- 251 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ومما ال شك فيه هنا فإن اإليمان إذا ذكر منفردًا دخل فيه اإلسالم كما هو‬
‫الحال هنا‪ ،‬بينما إذا ذكر االثنان معًا في موقع ما دل اإلسالم حينها على‬
‫األعمال الظاهرة‪ ،‬بينما يقصد باإليمان عندئ ٍذ األعمال الباطنة كما هو معلوم‬
‫عند علماء األصول‪ ،‬والجميل هنا في بداية هذه اآلية هو تصدرها بياء النداء‪،‬‬
‫والمنادى‪ ،‬وهاء التنبيه‪ .‬إنه الحشد الهائل‪ ،‬والهائل جدًّا‪ ،‬لكل المفردات التي‬
‫تحقق الغرض‪ ،‬وتأخذ بيد السامع وعقله وقلبه ليستوعب الخطاب أيما‬
‫استيعاب كون األمر مهمًّا‪ ،‬ومهمًّا بالفعل‪ .‬إنها الدقة اللغوية الموحية بضرورة‬
‫انتقاء األلفاظ والكلمات والحروف والنداءات‪ ،‬وذلك لتحقيق األهداف وبلوغ‬
‫الغايات‪ ،‬فال عشوائية‪ ،‬وال ارتجالية‪ ،‬بل ترتيب وتنظيم‪ .‬ومما ال شك فيه هنا‬
‫فإن حشد كل هذه المفردات للمؤمنين بالذات يوحي بأنهم هم المعنيون ‪ -‬كما‬
‫أسلفنا – بتنفيذ أوامر السماء لتحيا األرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬حياة ربانية بعيدة‬
‫عن طين األرض‪ ،‬وعبوديتها‪ ،‬وانحطاطها‪ .‬إنه إيحاء جميل يشير إلى األهمية‬
‫القصوى لتربية الجماعة المنقذة لذواتها وأفرادها تربية إيمانية واقعية حتى‬
‫يتسنى لها بعد ذلك تنفيذ األوامر‪ ،‬واجتناب النواهي‪ ،‬وعدم تعدى الحدود‪ ،‬وإال‬
‫كانت مخالفة األوامر‪ ،‬واتباع الرغبات‪ ،‬والسقوط في وحل الشهوات في إطار‬
‫الجماعة هو السيد والسائد‪ ،‬وهو ما ال تريده السماء وال ترضاه‪ .‬إنها الضرورة‬
‫الحتمية التي يجب أن تنطلق من خاللها الجماعة إلصالح الذوات من الداخل‪،‬‬
‫ال حتى يكون الصفاء الروحي والوصف الرباني هو المعلم‬
‫ومن الداخل أو ً‬
‫والعَلَم‪ ،‬وال شك في أنها اللفتة التي يجب أن تكون حاضر ًة في أدبيات الجماعة‬
‫واألمة حتى تنطلق صادقة في البداية كي يُحمد فعلها في النهاية‪ ،‬وإال كانت‬
‫البداية مؤلمة والنهاية محزنة‪ ،‬وهنا لفتة بليغة يتم فهمها من خالل سياق اآلية‬
‫وهى أن خطاب القلب‪ ،‬والحديث الموجه للقلب كفيل بدفع الذوات للعمل‪ ،‬وإال‬
‫كانت الذات حجرًا يصعب تحريكه‪ ،‬وكائنًا بشريًّا طينيًّا يستحيل فهمه‪ .‬إنه‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 252 -‬‬

‫الخطاب الروحي الذي يجب أن يخاطب الروح‪ ،‬ويأخذ بيدها كي تصعد إلى‬
‫األعلى‪ ،‬وإلى األعلى دائمًا‪ ،‬كون مصدرها هو العلو مكانة ومكانًا‪ .‬إنها‬
‫الحقيقة المستوحاة من خطاب السماء كي تتعلم األرض كيف تخاطب إذا ما‬
‫أرادت بالفعل الخطاب‪ ،‬كما أن النداء مع التنبيه لألمر المطلوب تنفيذه جاء‬
‫بصيغة الجماعة‪ ،‬حيث جئ بواو الجماعة "الذين آمنوا" لإليحاء بأن الحركة‬
‫الجماعية هى التي ستوقف االستهداف الجماعي للجماعة المنقذة واألمة‬
‫ال بالفعل كلما اجتمعت كلمةً‪ ،‬وتوحدت‬
‫الهادية كون االستهداف سيكون حاص ً‬
‫صفًّا‪ ،‬وانتظمت عبادة وشرعًا‪ .‬ويزداد الجمال‪ ،‬ويتضح المقال أكثر فأكثر من‬
‫خالل قوله "خذوا حذركم"‪ .‬إنها االحتياطات األمنية المطلوبة التي يجب أن‬
‫تأخذ بها الجماعة واألمة حتى ال تسقطها الغفلة‪ ،‬ويقتل حياتها وحياءها السفلة‪،‬‬
‫وجاء اللفظ "خذوا" بهذا التعبير البليغ‪ ،‬وليس "اأخذوا"‪ ،‬حيث حذفت‬
‫الهمزتان هنا للتخفيف من ناحية‪ ،‬ولإلسراع في أخذ الحيطة والحذر من ناحية‬
‫أخرى كون اآلخر متربصًا بإيمانك‪ ،‬ومراقبًا لجماعتك‪ ،‬ومنتظرًا فقط لثغرة‬
‫من ثغراتك كي ينفث سمه‪ ،‬وينشر فكره‪ ،‬ويحقق هدفه ومراده‪ .‬وبما أن اآلخر‬
‫ال‬
‫والمتأخر مكانًا ومكانة يريد دائمًا أن يكون المقدم والمتقدم دون أن يكون أه ً‬
‫لذلك‪ ،‬لذا كان األمر بوجوب األخذ بالحيطة والحذر كي تبقى الجماعة في‬
‫المقدمة مكانة ومكانًا كونها هي دون غيرها التي تملك أهلية المكانة‪ ،‬وأحقية‬
‫المكان‪ .‬ومما ال شك فيه فإن لمسة دقيقة تفهم هنا من خالل سياق اآلية وهى‬
‫أن اإليمان المجرد من الحيطة والحذر والعمل هو إيمان مزيف ال قيمة له في‬
‫السماء‪ ،‬وال يدفع عن صاحبه مكروهًا في األرض كونه إيمانًا مخدًرا فاقدًا‬
‫ن واحدٍ‪ .‬ومما ال شك فيه فإن هذا النوع من اإليمان هو‬
‫للفعل والفاعلية في آ ٍ‬
‫الذي تريده األرض عندما تنفصل عن السماء‪ ،‬وتعاديها‪ ،‬وتغفل عنها في‬
‫لحظات التيه البشري‪ ،‬والتخبط الشيطاني‪ .‬نعم إنه اإليمان المخدر لفظًا‪،‬‬
‫‪- 253 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ال هو الذي تريده األرض‪ ،‬وهو غير المقبول قطعًا‬


‫والتائه معنًى‪ ،‬والفاسد حا ً‬
‫في السماء‪ ،‬والجميل هنا تقديم األخذ على الحذر لإليحاء بأن اإلنسان هو‬
‫وحده الذي يتحمل تبعات السقوط عندما ترك الفعل فاصطاده الفاعل‪ .‬وال شك‬
‫في أن الحذر المطلوب يكون بفعل الصالحات‪ ،‬ومجانبة السيئات من ناحية‪،‬‬
‫واالستعداد الجهادي المستمر من ناحية أخرى ليكون الحذر كامالً‪،‬‬
‫واالستعداد حاصالً‪ .‬ومما ال شك فيه هنا فإن عمل الصالحات دون استعداد‬
‫جهادي هو نوع من السفه والعبث‪ ،‬كما أن االستعداد الجهادي دون صالحات‬
‫ال شيطانيًّا‪ ،‬وتحركًا إبليسيًّا ليس إال‪ ،‬وال نريد أن ندخل هنا في‬
‫يكون عم ً‬
‫خالفات العلماء حول مفهوم الحذر‪ ،‬وهل يغني عن القدر ؟‪ ،‬إنه السؤال الذي‬
‫أخذ من عمر األجيال الكثير من الوقت‪ ،‬والكثير الكثير من الجهد‪ ،‬حيث إن‬
‫لباب األمر في هذه القضية هو أن الجماعة المنقذة مطالبة بمدافعة األقدار‬
‫باألقدار ال أكثر‪ .‬إنه األخذ باألسباب‪ ،‬ومن ثم االعتماد على مسبب األسباب‬
‫بعد ذلك وهو اهلل سبحانه الناصر والمعين‪ .‬ويتواصل الجمال القرآني وهو‬
‫ينساب كجمال الصباح لفظًا ومعنى من خالل قوله "انفروا ثبات أو انفروا‬
‫جميعًا"‪ ،‬حيث توحي هذه الجملة بإيحاءات كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الحيطة والحذر‬
‫هنا ليست كالمًا فحسب‪ .‬إنها أفعال تنفذ‪ ،‬وخطط تدبج‪ ،‬وسلوكيات تعتمل‪،‬‬
‫ال ليس إال‪ .‬كما أن النفر الفردي طيشٌ‬
‫وإال كان الحذر مزيفًا‪ ،‬واإلعداد خيا ً‬
‫وسفه ال ينصر حقًّا‪ ،‬وال ينشر دينًا‪ ،‬بل النفر الجماعي المحكوم بمقاصد الشرع‬
‫ومصالح الشارع‪ ،‬لذا كان األمر بالنفر جماعيًّا بشكل مجزأ‪ ،‬أو جماعيًّا مطلقًا‪.‬‬
‫ظ األرضُ‬
‫إنها الجملة التي فصلت نوعية الحذر الذي تريده السماء حتى تُحفَ َ‬
‫ف األرضِ‪ ،‬ومكرها‪ ،‬وعبثها‪ .‬إن فعل األمر الموجه للجماعة‬
‫من استهدا ِ‬
‫"انفروا" يوحي بالحركة الجماعية المنظمة حاالً‪ ،‬والمتلزمة دينًا‪ ،‬واآلخذة‬
‫بالحيطة والحذر مكانًا وزمانًا كي تبقى وترقى كون النفر الفردي مرفوضًا‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 254 -‬‬

‫ال مكانًا وزمانًا‪ .‬والجميل هنا هو األمر بالنفر كون األنفس المؤمنة‬
‫دينيًّا‪ ،‬وفاش ً‬
‫تحتاج إلى من يوقظها فتنفر‪ ،‬ويؤهلها فتعبر‪ ،‬وإال كان النفر لآلخر على‬
‫حسابها بدون شك‪ ،‬ثم جاء تفصيل النفر هنا ثبات جمع "ثبة" بضم الثاء وفتح‬
‫الباء بمعنى جماعات صغيرة‪ .‬إنه التقدير المتروك لمؤمني األرض كي‬
‫يحددوا هم كيف ينفروا جماعات جماعات مجزأة‪ ،‬أو ينفروا جميعًا بشكل‬
‫مطلق‪ .‬إنها الحقيقة المتروكة للجماعة كي تحدد هى كيف تنفر مجاهدة مجتهدة‬
‫دون توقف أو تعثر‪ .‬نعم إنه منهج السماء الرافض للغفلة‪ ،‬والداعي على الدوام‬
‫لالستعداد والمنازلة حتى إذا افتقدت الجماعة لهذه المعاني سقطت حينها أمةً‪،‬‬
‫وتعثرت رقيًّا‪ ،‬وانحدرت مكانًا‪ ،‬وبقيت غارقة في السفه زمانًا‪.‬‬
‫‪- 255 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫َي إِذْ لَمْ أَكُن‬


‫عل َّ‬
‫اهلل َ‬
‫َن َفإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَ َم ُّ‬
‫ِن مِنكُمْ لَمَن لَّيُ َبطِئ َّ‬
‫( َوإ َّ‬
‫َن َكأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ ُه‬
‫ن اهلل لَيَقُول َّ‬
‫شهِيداً{‪َ }72‬ولَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِ َ‬
‫مَّ َعهُمْ َ‬
‫عظِيماً{‪.)59()}73‬‬
‫َموَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَ َعهُمْ فَ َأفُوزَ فَوْزاً َ‬
‫سيظل النفاق بذاته وأشخاصه هو الداء الدوي‪ ،‬والمرض الخفي في وسط‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية ما بقي الحق‪ ،‬وما تحركت الحقيقة‪ .‬إنه الداء‬
‫س هي الخسيسة طبعًا‪،‬‬
‫الذي ظهر هناك في المدينة المنورة معلنًا عن نف ٍ‬
‫والباطلة دينًا‪ ،‬والمتلونة شكالً‪ ،‬والمتذبذبة مواقفًا‪ ،‬والمتربصة مكانًا وزمانًا‬
‫دون حياء أو خجل‪ ،‬والجميل هنا هو مجئ هذه اآلية عقب اآلية التي دعت‬
‫صراحة الجماعة المؤمنة واألمة الهادية إلى النفير ثبات بضم الثاء وفتح الباء‬
‫أو جميعًا‪ ،‬وذلك لإليحاء بخطورة هذا الفريق المندس في صف الجماعة‪،‬‬
‫والذي يجب أخذ الحذر منه عند النفير‪ ،‬وإال فال عير وال نفير‪ .‬إنه المعنى‬
‫الكبير الذي يجب أخذه هنا كون الفريق النفاقي مندسًّا‪ ،‬ويعيش في إطار‬
‫الجماعة‪ ،‬ويعلم مداخلها ومخارجها كما توحي هذه اآلية بهذا المعنى‪ .‬وحتى‬
‫نعيش جمال اآليتين هاتين بكل اإليحاءات واللطائف واإلشارات ننتقل إليهما‬
‫سريعا‪ ،‬فقوله "وإن منكم لمن ليبطئن"‪ ،‬فهذه الكلمات النورانية تحمل في‬
‫طياتها الكثير والكثير من الدالالت‪ ،‬ومنها‪ :‬أن هذا النموذج النفاقي السيئ‬
‫سمعةً‪ ،‬والساقط أخالقًا يتكرر وجوده‪ ،‬إنه الوجود النفاقي الذي عاش هناك‬
‫مع الجماعة باألمس ونبي األمة يُربي ويُعلِّم يتكرر وجوده اليوم‪ ،‬وسيبقى‬
‫متواجدًا حيث يوحي اللفظ القرآني بهذا المعنى من خالل قوله "وإن منكم"‪،‬‬
‫ولو كان سينتهي هذا النموذج السيئ لكان الخطاب بلفظ آخر‪ ،‬كما أن قوله‬
‫"ليبطئن" حيث إن مجيء الفعل المضارع يوحي بتكرار هذا الفريق الخسيس‬

‫(‪ )59‬سورة النساء‪ :‬اآليتان رقما ‪.73 ،72‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 256 -‬‬

‫طبعًا‪ ،‬والمتواجد مكانًا‪ ،‬والمعمر زمانًا‪ ،‬والسيء أخالقًا أيضًا‪ ،‬والعجيب هنا‬
‫هو قوله "وإن منكم" وليس "وإن فيكم" كون التعبير األول يوحي بأن هذا‬
‫ال حتى‬
‫الصنف يملك القدرة الفائقة على التخفي في وسط الجماعة تخفيًا مذه ً‬
‫ال ومظهرًا ومنطقًا‪ ،‬حيث أن التعبير بمنكم وليس بفيكم يحمل‬
‫صار منكم شك ً‬
‫كل هذه المعاني‪ ،‬ويجمع كل تلك المفردات‪ ،‬وهو ما يستدعي الحيطة والحذر‬
‫الدائمين من هذا الفريق‪ .‬كما أن المؤكدات المتكررة هنا والمتمثلة بإن‪ ،‬وقوله‬
‫"منكم"‪ ،‬ثم الم التأكيد في قوله "ليبطئن"‪ ،‬ثم نون التوكيد الثقيلة‪ ،‬أى الحشد‬
‫الهائل‪ ،‬والهائل جدًّا من المؤكدات يوحي بحرص هذا الفريق على التخفي‬
‫المشين‪ ،‬والتستر المهين من جهة‪ ،‬مع بقاء التخذيل والتثبيط من الداخل‪ ،‬ومن‬
‫الداخل بالفعل‪ ،‬قائمًا من جهة أخرى‪ ،‬وهو ما يستدعي الحيطة والحذر مرة‬
‫أخرى‪ .‬إنها مؤكدات السماء الواضحة لفظًا‪ ،‬والثابتة دينًا‪ ،‬وذلك حتى ال تركن‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية لكل أحد‪ ،‬بل تربي وتُعلِّم وتفهم تمام الفهم أين‬
‫تضع لبناتها ؟‪ ،‬وكيف تحفظ صفها وصفوتها من هذا االختراق‪ .‬وجاء التعبير‬
‫هنا بقوله "ليبطئن" الذي يعني التثبيط والتخذيل والتعويق‪ .‬إنه المعنى الواسع‬
‫ن واحد‪ ،‬وذلك في لحظات النفير‬
‫الذي يشمل تثبيط النفس‪ ،‬وتثبيط الغير في آ ٍ‬
‫استعدادًا من قبل الجماعة لحركة العير‪ .‬إنها الحركة التي تفضح هذا الفريق‬
‫النفاقي فيثبط ويعوِّق ويخوِّف ويفرِّق دون مراعاة لقيم أو دين أو وازع من‬
‫ال عن‬
‫إنسانية أو ضمير‪ .‬نعم إنه الفريق الذي افتقد إلنسانيته كإنسان‪ ،‬فض ً‬
‫دينه‪ ،‬وتشبثه بمسمى اإليمان ليبقى خاويًا وخاليًا من كل قيمة أو دين‪ ،‬ثم ينقلنا‬
‫القرآن بطريقته الرائعة دائمًا في التعبير والتصوير من خالل قوله "فإن‬
‫أصابتكم مصيبة قال قد أنعم اهلل علي إذ لم أكن معهم شهيدً"‪ ،‬حيث توحي هذه‬
‫األلفاظ بدالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬حتمية نزول المصائب على الجماعة المنقذة‬
‫واألمة الهادية بهدف االبتالء واالصطفاء ليس إال‪ .‬ومما ال شك فيه هنا فإن‬
‫‪- 257 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫التعبير بإن المعبرة عن ندرة المصائب يعني أنها نازلة دون شك وإن ندرت‪،‬‬
‫وذلك للهدف اآلنف الذكر كون إن الساكنة في لغة العرب تدل على ندرة‬
‫حدوث الشيء عكس إذًا تمامًا كما هو معلوم عند أهل اللغة‪ ،‬وأرباب البالغة‪،‬‬
‫وهو معنى نفيس ينبغي تأمله والوقوف عنده‪ .‬إنها ندرة المصائب النازلة على‬
‫الجماعة المنقذة كون غالب ما تبتلى به الجماعة من متاعب وآالم ليست‬
‫مصائب أبدًا‪ ،‬بل غالبها والسواد األعظم منها مطهرات للجماعة ومؤهالت‪،‬‬
‫وإن بدا للجماعة واألمة عكس ذلك‪ .‬ومما ال شك فيه هنا فإن الجملة القرآنية‬
‫اآلنفة الذكر توحي بسقوط النفاق والمنافقين في وحل المعصية ومستنقع‬
‫الرذيلة سقوطًا مزرياً‪ ،‬وذلك من خالل قوله "فإن أصابتكم مصيبة"‪ ،‬حيث‬
‫جيء بمصيبة هنا منكرة لإليحاء بسقوط هذا الفريق الدنيء كلما حصلت‬
‫للجماعة مصيبة‪ ،‬أي مصيبة‪ ،‬دون تحديد لحجمها أو شكلها‪ .‬إنه الفريق‬
‫المنتظر للمصائب والنكسات‪ ،‬والمتربص الفخور لخسته باألحداث والسيئات‬
‫كي يعلنها‪ ،‬ويتعامل معها‪ ،‬ويخوض فيها بعد أن يكون قد صنعها أو شارك‬
‫الخصم فيها كما أوحت اآلية في البداية‪ ،‬وذلك من خالل تثبيطهم وتبطيئهم‪،‬‬
‫ثم يتواصل الجمال القرآني في كشف هذه النماذج الساقطة دينًا‪ ،‬والسافلة خلقًا‬
‫من خالل قوله في نفس اآلية "قال قد أنعم اهلل علي‪ ،"...‬حيث توحي هذه‬
‫األلفاظ بتستر هذا الفريق الخبيث بالدين بغية اإلضالل واإلخالل‪ .‬إنه‬
‫اإلضالل لضعاف اإليمان‪ ،‬ومن لم تكتمل تربيتهم بعد من جهة‪ ،‬واإلخالل‬
‫بتماسك الصف من جهة أخرى بهذه اللغة‪ ،‬وهذا اللسان‪ ،‬والعجيب هنا قوله‬
‫"علي" حيث يوحي اإلفراد هنا بذاتية النفاق النتنة وهى تختبئ لوحدها دون‬
‫اعتبار لغيرها كونها متفلتة ذاتًا‪ ،‬وساقطة خلقًا‪ ،‬وباطلة دينًا‪ .‬ومما ال شك فيه‬
‫هنا فإن للمصائب والنوائب التي تصاب بها الجماعة واألمة فوائد جمة ومنها‬
‫انكشاف عورة المنافقين‪ ،‬وسقوط أقنعة المنتفعين‪ ،‬وهو مشاهد ومعلوم ليبقى‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 258 -‬‬

‫الصف نقيًّا‪ ،‬والنقاء ظاهرًا ال خواء فيه وال خفاء‪ .‬إنه الظهور الحقيقي بنظافته‬
‫ونظامه يظهر ويتعالى بظهوره دون كبر حتى يُسقط كل خبث‪ ،‬ويدفن بحقيقته‬
‫كل عبث‪ ،‬ثم تأتي اآلية التالية موضحة حصول النعمة للجماعة المنقذة واألمة‬
‫الهادية هنا بعد أن عاشت المصيبة هناك ليتكشف النفاق مرة أخرى بأمنياته‬
‫الزائفة‪ ،‬وشعاراته البائرة‪ ،‬وذلك من خالل قوله "ولئن أصابكم فضل من اهلل‬
‫ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا"‪،‬‬
‫حيث توحي هذه اآلية بإيحاءات كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن المصائب ال تدوم وال‬
‫تستمر على الجماعة المنقذة واألمة الهادية‪ ،‬بل هى لحظات فقط وتنقشع‬
‫سحابتها معلنة عن ربيع يمأل جماله الضراب واآلكام‪ .‬إنه ربيع القلوب‪،‬‬
‫ونورها‪ ،‬عندما يأتي فضل اهلل الذي ال حد له وال عد‪ ،‬بل هو فضل واسع‬
‫يشمل المكان والزمان والذوات واألحوال لينعم البائس‪ ،‬ويأنس الخائف‪،‬‬
‫ويشبع الجائع‪ .‬نعم إنه الربيع بجمال السماء‪ ،‬وفتحها‪ ،‬يتجلى بخيراته على‬
‫صفوة أهل األرض في لحظات التكريم اإللهي والكرم الرباني‪ ،‬وهنا كما‬
‫أسلفنا وقلنا فيما مضى تنكشف عورة المنافقين‪ ،‬وتُفضح خبايا المنتفعين مرة‬
‫تمن زائف مرده وحده‬
‫أخرى وهم يرددون األماني المخادعة داخل الصف في ٍّ‬
‫"يا ليتني كنت معهم" هكذا بهذا اللفظ المفضوح "معهم"‪ ،‬إنه اللفظ الموحي‬
‫بقطيعة واضحة بينهم وبين أهل اللفظ‪ .‬إنها قطيعة في المنهج والنهج والمسلك‬
‫والسلوك والحال والمآل تكشفها األحداث دون مواربة‪ ،‬ثم تختم اآلية ختامًا‬
‫يوضح تهافت هذا السفه النفاقي هناك‪ ،‬وتكرر فعله هنا وهو يتحدث عن الفوز‬
‫دون أن تكون له مكانة أو مكان في إحداثه‪ .‬إنه الفوز الذي يريده النفاق فوزًا‬
‫بعيدًا بعيدًا عن الجنة هناك‪ ،‬بل يراد به فوز المناصب والمراتب ليس إال‪ .‬نعم‬
‫إنه الفوز الدنيوي هنا والمنقطع عن اآلخرة هناك كون النفاق عمى يُعمي أهله‬
‫فال يرون سوى الدنيا والدنيا فقط‪.‬‬
‫‪- 259 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬
‫خرَ ِة وَمَن يُقَا ِتلْ فِي‬
‫ن الْحَيَا َة الدُّنْيَا بِاآل ِ‬
‫ن يَشْرُو َ‬
‫هلل الَّذِي َ‬
‫( َفلْيُقَا ِتلْ فِي سَبِي ِل ا ِ‬
‫عظِيماً{‪.)60()}74‬‬
‫ف ُنؤْتِي ِه َأجْراً َ‬
‫سوْ َ‬
‫سَبِي ِل اهللِ فَيُقْ َتلْ أَو يَغِْلبْ فَ َ‬

‫ال يكون جهاد الجماعة المنقذة واألمة الهادية في سبيل اهلل حقًّا وصدقًا إال إذا‬
‫باعت الدنيا‪ ،‬واشترت اآلخرة‪ .‬إنها الحقيقة التي حسمها الوحي منذ األيام‬
‫األولى من عمر الدولة اإلسالمية الناشئة هناك في مدينة الحبيب محمد –‬
‫صلى اهلل عليه وسلم –‪ ،‬وذلك حتى تتمايز الصفوف‪ ،‬وتتضح السبل‪ .‬إنها‬
‫الصفوف التي تفرقت في الماضي البعيد‪ ،‬وجاء الوحي ليوحد سرها وسيرها‬
‫كي تتجه كلها نحو السماء مستمدة من هناك العون والغلبة على فساد األرض‪،‬‬
‫ومكرها‪ ،‬وعدوانيتها‪ .‬وحتى نعيش روعة هذه المعاني وجمالها ننتقل مباشرة‬
‫إلى اآلية ففيها الروعة والجمال بكل تجلياته‪ ،‬فقوله "فليقاتل في سبيل اهلل‬
‫الذين يشرون الحياة الدنيا باآلخرة"‪ ،‬ال شك في أن هذه اآلية لها عالقة‬
‫واضحة باآلية التي قبلها والتي وجدنا فيها النفاق بكل سيئاته وسوآته يتربص‬
‫الدوائر بالجماعة واألمة‪ ،‬ويعبث باأللفاظ والمعاني عبثًا مقززًا من خالل‬
‫التثبيط في البداية‪ ،‬والتمني الكاذب والمفضوح في النهاية‪ .‬نعم فحتى يزول‬
‫كل هذا العبث النفاقي من الصفوف المجاهدة كانت هذه اآلية تدعو صراحة‬
‫إلى التجرد الكامل هلل في البداية‪ ،‬وطلب رضاه في النهاية‪ ،‬وقوله "فليقاتل في‬
‫سبيل اهلل" دعوة سماوية صريحة لتصحيح الذات البشرية من الداخل من بداية‬
‫الطريق‪ .‬نعم إنه التصحيح للذوات كي تخلص جهادها هلل‪ ،‬وهلل فقط‪ ،‬حتى يتم‬
‫تحقيق األهداف‪ ،‬والوصول لعظيم الغايات‪ ،‬وال شك في أن الم األمر المتصلة‬
‫بالفعل المضارع "يقاتل" لإليحاء بأمر اهلل الدائم بالقتال المخلص والخالص‬
‫هلل‪ ،‬كما أن األمر يوحي بداللة مهمة تتضح من خالل السياق مفادها أن األنفس‬

‫(‪ )60‬سورة النساء‪ :‬اآلية رقم ‪.74‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 260 -‬‬

‫لكي تخلص جهادها لربها‪ ،‬وتتخلص من ذرات األرض‪ ،‬وشهواتها‪ ،‬تحتاج‬


‫إلى مجاهدة كبيرة كون الخالص ليس باألمر السهل كما يتصور البعض‪ .‬نعم‬
‫ليس باألمر السهل كون الشيطان والدنيا والنفس والهوى كل هذه المفردات‬
‫المثبطة تتراءى عند النزال‪ ،‬وتظهر وقت العراك مثبطة مفسدة‪ ،‬وملهية‬
‫عابثة‪ ،‬ويبقى جمال التعبير هنا هو السيد والسائد‪ ،‬وذلك من خالل قوله "في‬
‫سبيل اهلل"‪ ،‬إنها الحقيقة التي يجب أن يستشعرها المقاتل‪ ،‬ويعيشها المجاهد‬
‫في كل لحظة وحين حتى ال تسقطه الدنيا‪ ،‬ويعبث بنيته الدنيويون‪ ،‬وال شك‬
‫في أن "في سبيل اهلل" هنا أسقط المقاتلون الذي يقاتلون حمية للذات والعروبة‬
‫والتراب بعيدًا عن الدين والقيم واألخالق‪ .‬نعم فعندما يكون القتال من أجل‬
‫األرض فقط‪ ،‬وانتصارًا للذات والعروبة بعيدًا عن الدين يكون هذا القتال في‬
‫سبيل الشيطان ال في سبيل اهلل‪ ،‬وإن تأول أصحابه ألنفسهم‪ .‬إِنَّ ُه التأويل‬
‫الكاذب‪ ،‬والتفسير المجانب‪ ،‬لذا البد من تصويب المسألة‪ ،‬وتحقيق القضية‬
‫حتى تتضح الرؤية‪ ،‬ويستقيم الرأي لكل مجاهد‪ .‬نعم فعندما يكون القتال من‬
‫أجل تحرير األرض عليه أال يكون لذات األرض‪ ،‬وإنما تحرير األرض حتى‬
‫تحكم بوحي السماء‪ .‬إنه القتال الذي يحرك الجماعة المنقذة واألمة الهادية كي‬
‫تقاتل من أجل تحرير أرضها ووطنها من كهنوت البشر‪ ،‬وظلمهم‪ ،‬ليبقى‬
‫الحاكم في هذه األرض هو وحي السماء‪ ،‬ومنهجها‪ ،‬عندئ ٍذ يكون في سبيل‬
‫اهلل‪ ،‬وفي سبيل اهلل حقًّا‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب فهمها وتذكرها حتى يكون‬
‫الجهاد في سبيل اهلل ومن أجله ال من أجل الذوات أو الجمادات أيًّا كان أولئك‬
‫الذوات‪ ،‬وأيا كانت تلك الجمادات‪ .‬ثم ينتقل سياق اآلية لالشتراط الواضح‬
‫لحقيقة هى المهمة لفظًا ومعنى‪ ،‬والباقية مكانًا وزمانًا وحاالً‪ .‬إنها حقيقة البيع‬
‫بين العبد والرب تتمثل في قوله "الذي يشرون الحياة الدنيا باآلخرة"‪ ،‬حيث‬
‫توحي هذه الجملة بدالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن كلمة "يشرون" هنا معناها‬
‫‪- 261 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫يبيعون‪ ،‬كما أن التعبير جاء بواو الجماعة لإليحاء بأن قتال األعداء ال يقوم‬
‫به فرد أيًّا كان هذا الفرد إذ البد من جماعة شريطة أن تكون كل هذه الجماعة‬
‫مخلصة خالصة كما سبق وأشرنا إليه‪ .‬إنها الجماعة واألمة التي يقع على‬
‫عاتقها تحرير األرض كل األرض من كل سلطان غير سلطان اهلل لتحيا بعد‬
‫موت‪ ،‬وتأمن بعد خوف‪ ،‬وجاء التعبير هنا بليغًا من خالل قوله "الحياة الدنيا"‪،‬‬
‫وليست الدنيا فقط‪ ،‬بل الحياة الدنيا‪ ،‬حيث يوحي هذا التعبير بوجوب تحرير‬
‫المجاهد لقلبه وذاته من كل الدنيا بناسها وأهلها ومتاعها ومتعتها كي يشتري‬
‫اآلخرة شرا ًء نقيًّا وصادقًا ال تشوبه شائبة‪ ،‬وال تفسده غائبة كون الحياة‬
‫المنسوبة للدنيا تحمل كل هذه المعاني‪ ،‬كما أن لفتة جميلة‪ ،‬بل في غاية الجمال‪،‬‬
‫هنا تتضح من خالل السياق وهى أن اإلخالص المطالب به المجاهد ال يتحقق‬
‫دينًا‪ ،‬وال يكون واقعًا ما لم يبيع هذا المجاهد الدنيا‪ ،‬كل الدنيا‪ ،‬ويخرجها من‬
‫قلبه وقالبه بكل رضا‪ ،‬وهنا حقيقة البد من اإلشارة إليها وهى أن المجاهد‬
‫الذي يقاتل منتظرًا الثمن‪ ،‬ويتربص متى تنتهي المحن‪ ،‬ويعد األيام والليالي‬
‫متى ستأتي المغانم والنعم هو في الحقيقة مجاهد عاطل‪ ،‬ومقاتل باطل ساقته‬
‫الظروف‪ ،‬وجاءت به الحاجة‪ ،‬ومن ثم ال يستقيم به الصف‪ ،‬وال يتحقق به‬
‫النصر‪ ،‬وال ترفع به المبادئ‪ ،‬بل يكون عائقًا في غالب األحيان‪ ،‬وحجر عثرة‬
‫أمام النصر واالنتصار في قادم األيام‪ .‬وألن قضية القتال في سبيل اهلل‪ ،‬وفي‬
‫سبيل اهلل فقط‪ ،‬هى القضية المحورية واألساسية في منهج السماء يالحظ أن‬
‫هذا الشرط تكرر ذكره مرة أخرى في نهاية هذه اآلية أيضًا‪ ،‬بل وتكرر ذكر‬
‫القتال المشروط هذا في آيتين عقب هذه اآلية مباشرة‪ ،‬كل ذلك لإليحاء‬
‫هلل منذ البداية حتى يتحقق نصر اهلل في النهاية‪ ،‬لذا يقول‬
‫بوجوب اإلخالص ِ‬
‫اهلل في نهاية هذه اآلية "ومن يقاتل في سبيل اهلل فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه‬
‫أجرًا عظيمًا"‪ ،‬ومما ال شك فيه أن هذه النهاية جاءت منسجمة تمامًا مع تلك‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 262 -‬‬

‫البداية‪ ،‬وتحمل دالالت جمة‪ ،‬ومنها‪ :‬اإليحاء بوجوب صدق النية في الجهاد‬
‫في البداية والنهاية‪ .‬إنه اإليحاء الذي يدلل من خالل السياق بصدق البعض‬
‫في البداية‪ ،‬ثم يصابون باليأس واإلحباط في النهاية نتيجة لحدوث أمر ما‬
‫داخل الصف‪ ،‬ولتأخر النصر لحدث ما‪ ،‬ومن ثم تنقلب النيات‪ ،‬وتختلف‬
‫األمنيات‪ ،‬لذ كان هذا االشتراط في هذا المكان بالتحديد لهذا األمر حتى ال‬
‫يحدث هذا االنقالب المخزي في الذات المجاهدة فتُهزم من داخلها‪ ،‬ومن ثم‬
‫كان هذا االشتراط في البداية والنهاية ليكون المجاهد هو األصدق دينًا‪،‬‬
‫واألعلى مكانة‪ ،‬واألصح نية‪ ،‬واألكثر صبرًا كونه في سبيل اهلل‪ ،‬وفي سبيل‬
‫اهلل فقط‪ ،‬كما أن التعبير جاء بصيغة المضارع ودون تحديد الذوات أو‬
‫تسميتها‪ .‬إنها رسالة السماء بوجوب اإلخالص الدائم والمستمر هلل في أرض‬
‫الرباط دون تحديد لذات أو فرد أو وقت كون اإلخالص واجب الجميع‪،‬‬
‫ومطلبًا سماويًّا من الجميع‪ ،‬وال يقبل اهلل غيره من الجميع في كل األحوال‬
‫واألزمان‪ ،‬وقوله "فيقتل أو يغلب"‪ ،‬حيث قدم القتل قبل الغلبة كون المعركة‬
‫البد وأن يسقط فيها قتلى‪ ،‬ويصطفي اإلله فيها شهداء هذا أوالً‪ ،‬كما أن تقديم‬
‫القتل يوحي بجدية المعركة حتى يدخل فيها المجاهد وقد عرف حقيقتها‬
‫وضريبتها قبل دخولها‪ .‬إنها األنفس والدماء ضريبة األرض لنيل الخلود في‬
‫السماء‪ ،‬كما أن الجمع بين األمرين القتل أو الغلبة فيه إشارة إلى أن هذه هى‬
‫حقيقة المعركة التي يجب أن يحملها المجاهد‪ .‬إنها باختصار الشهادة أو النصر‬
‫وال مفردات ُأخَر‪ ،‬وال مطالب أُخريات‪ ،‬فال مجال في ميدان الجهاد لكثير‬
‫كالم غير هذا الكالم‪ ،‬ثم كان الجزاء من هناك من السماء‪ ،‬وليس من األرض‬
‫حتى ال يبقى المجاهد أسيرًا لألهواء األرضية تفسد جهاده إن كانت الغلبة‬
‫لمطالب مادية طينية أو يتحسر على ما أصابه إن كانت الهزيمة نفسية حسية‪،‬‬
‫وحتى ال يحدث شيء من هذا كان هذا اإلعالن الصريح والفصيح‪" .‬فسوف‬
‫‪- 263 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫نؤتيه أجرًا عظيماً"‪ ،‬حيث يوحي اللفظ بأن األجر العظيم ليس هنا‪ ،‬بل عنده‬
‫هناك كون الفرق بين فسنؤتيه وفسوف نؤتيه كبيرًا كما هو معلوم في لغة‬
‫العرب‪ ،‬فاألولى تعني في لغة العرب قرب الزمان‪ ،‬وعكسها الثانية‪ ،‬فكانت‬
‫فسوف نؤتيه لتأخير الجزاء العظيم عنده سبحانه وبحمده‪ ،‬وهذا ال يعني أبدًا‬
‫أن فضل اهلل ال يكون للمنتصر هنا‪ ،‬بل إن األجر العظيم سيكون هناك‪ ،‬وغير‬
‫العظيم سيكون هنا‪ ،‬كما أن اللفظ "نؤتيه" بهذه اللغة الجميلة‪ ،‬وبهذا التعبير‬
‫الفواح يسكب الطمأنينة على قلب المجاهد حتى يأمن ويعلم أن األرض وإن‬
‫ال غير منقوص‪،‬‬
‫انتقصت حقه يومًا ما فاهلل في السماء سيعطيه أجره كام ً‬
‫فليأمن وليرض وليثبت وليطمئن‪ ،‬وجاء التعبير باألجر العظيم منكرًا ومنونًا‬
‫ن واح ٍد لإليحاء بعظمة الجزاء الذي ال قدرة لألرض‪ ،‬كل األرض‬
‫في آ ٍ‬
‫مجتمعة‪َ ،‬تخَيَّله أبدًا‪..‬‬
‫‪- 267 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ن‬
‫ط وَ َال يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآ ُ‬
‫شهَدَاء بِالْقِسْ ِ‬
‫ن هللِ ُ‬
‫ن آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِي َ‬
‫(يَا أ َُّيهَا الَّذِي َ‬
‫اهلل خَبِيرٌ بِمَا‬
‫ِن َّ‬‫اهلل إ َّ‬
‫ب لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ َّ‬
‫َال تَعْدِلُواْ اعْ ِدلُواْ ُه َو َأقْ َر ُ‬
‫علَى أ َّ‬
‫َقوْ ٍم َ‬
‫تَعْ َملُونَ{‪.)61()}8‬‬
‫إن ميزان العدل والعدالة في التعامل سواء مع األنصار أو الخصوم هو‬
‫الضمانة الفعلية لحفظ الجماعة المنقذة واألمة الهادية من االندثار والسقوط‪.‬‬
‫ن‬
‫إنه العدل الذي يتجاوز الذات معلنًا عن قداسة الكلمة‪ ،‬وقداسة الحقيقة في آ ٍ‬
‫واحدٍ‪ ،‬وذلك أينما كانت تلك الكلمة‪ ،‬وحيثما وجدت تلك الحقيقة بعيدًا عن‬
‫تعصبات األرض‪ ،‬وحساباتها‪ ،‬وتقديراتها السفلى أيًّا كانت هذه األرض كون‬
‫ميزان السماء بعدالته العليا‪ ،‬وقداسته المثلى هو الميزان األصدق كلمةً‪،‬‬
‫ال وزمانًا‪ .‬إنه الميزان الذي يعبر‬
‫واألعلى شأنًا‪ ،‬واألحق مكانًا‪ ،‬واألصلح حا ً‬
‫– وبكل صدق – عن الذات المؤمنة وهى تقدس العدالة والعدل في تعاملها‬
‫المجتمعي‪ ،‬وتحركها الذاتي‪ ،‬وتعبدها الرباني في صورة غاية في الشفافية‬
‫والوضوح‪ ،‬وبعيدًا بعيدًا عن تزلفات الطين‪ ،‬وقرابات الدم‪ ،‬وعالقات النسب‪.‬‬
‫ال وروعة‬ ‫وحتى نتذوق هذا الوضوح في صورته الجميلة ومعانيه األكثر جما ً‬
‫ننتقل إلى اآلية الكريمة كي نرى اللوحة الفنية المرسومة هناك كي نغوص‬
‫في األعماق‪ ،‬ونتذوق مرارًا مرارًا حكمة الخالق في هذه اللوحة القرآنية‬
‫المبدعة‪ ،‬فقوله "يا أينها الذين آمنوا"‪ ،‬ال شك في أن هذا التخصيص اإللهي‬
‫لهذه الصفوة من الخلق توحي بأن اإليمان ليس دعاوى دون عمل وسلوك‬
‫كون البعض يظن هذا الظن‪ ،‬بل اإليمان اعتقاد وإقرار وعمل‪ ،‬ومما ال شك‬
‫فيه فإن النداء بالياء هنا‪ ،‬والمنادى‪ ،‬وهاء التنبيه‪ ،‬والتذكير بصفة اإليمان لها‬
‫ن كثيرة بال شك‪ .‬نعم فكل هذه الجزئيات المجتمعة هنا توحي بوجوب‬ ‫معا ٍ‬

‫(‪ )61‬سورة المائدة‪ :‬اآلية رقم ‪.8‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 268 -‬‬

‫التحرك اإليماني الفوري صوب األمر الرباني لتنفيذه على الفور دون تأخر‬
‫أو إبطاء كون اإليمان هو الذي يدفع لهذا التنفيذ‪ ،‬وهذه الطاعة‪ ،‬ولذا كان‬
‫الخطاب والنداء ألهله وحامليه‪ .‬إذًا تربية الذات البشرية من الداخل هو‬
‫األساس قبل إعطاء األوامر سواء كانت هذه الذات لقريب في إطار البيت‬
‫واألسرة‪ ،‬أو في إطار الجماعة واألمة كون الذوات الخالية من معاني اإليمان‬
‫ال إال ما أشربت من هوى‪ ،‬وهو‬ ‫هى ذوات خاوية ال تمسك ماءً‪ ،‬وال تنبت ك ً‬
‫معنى دقيق ينبغي تأمله والوقوف عنده‪ ،‬ثم ينتقل السياق القرآني بكل سالسة‬
‫وانسياب غاية في الجمال بعد هذا النداء والتنبيه والتشريف الوصفي اإليماني‬
‫صوب األمر المراد تحقيقه بقوله "كونوا قوامين هلل"‪ ،‬حيث تحمل هذه الجملة‬
‫القرآنية دالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الجماعة المنقذة واألمة الهادية تحتاج بعد‬
‫التربية اإليمانية إلى حركة جماعية تحت قيادة موحدة تقودها إلى اهلل‪ ،‬وإلى‬
‫اهلل فقط‪ ،‬كما توحي هذه اآلية‪ ،‬وهى لفتة دقيقة تُفهم من خالل هذا السياق‬
‫القرآني‪ ،‬والجميل هنا هو األمر اإللهي بوجوب التحرك الجماعي وليس‬
‫الفردي كون واو الجماعة في "كونوا" توحي بوجوب تحرك الجماعة‪ ،‬كل‬
‫الجماعة‪ ،‬مع أمر السماء الداعي للعدالة والعدل مع الذات سواء كانت هذه‬
‫الذات قريبة أو بعيدة‪ ،‬وليس هذا فحسب‪ ،‬بل ومع من نحب ومع من نكره‬
‫أيضًا كون ميزان السماء – كما هو معلوم – ال يقبل المجاملة‪ ،‬وال يحابي‬
‫القرابة‪ ،‬وال يغض الطرف عن المحسوبية‪ ،‬وال يؤمن بلغة المخاتلة‪ ،‬بل هو‬
‫الوضوح بكل تجلياته‪ ،‬والعدل بأجمل صوره‪ .‬إنه العدل الذي يجب أن يقود‬
‫األرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬نحو السماء بعيدًا بعيدًا عن شهوات األرض بناسها‬
‫وذاتها‪ ،‬وجاء التعبير عجيبًا هنا في قوله "قوامين" وليس "قائمين" وكون‬
‫التعبير األول يحمل معنى المبالغة في القوامة العادلة‪ ،‬وعدم التهاون تحت أي‬
‫مسمى‪ ،‬وأي ظرف‪ .‬إنها القوامة الحافظة دائمًا لقوام الجماعة واألمة حتى ال‬
‫تسقط في أتون المجامالت كون سقوط عدلها وشهادتها هو سقوط لذاتها‬
‫‪- 269 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫وهويتها‪ .‬ومما ال شك فيه فإن عدالة أفراد الجماعة‪ ،‬وصدق مواقفهم‪،‬‬


‫والشجاعة في اإلدالء بشهاداتهم بعيدًا عن محاباة األقارب واألباعد هو‬
‫العنوان األبرز في التميز والظهور لهؤالء األفراد في إطار الجماعة المنقذة‬
‫واألمة الهادية بال شك‪ ،‬لذا وحتى ال يحدث السقوط ألمة الشهادة‪ ،‬وأرباب‬
‫العدالة كان األمر هنا الزمًا وبصورة جماعية تحمل ألفاظ المبالغة بصورة‬
‫جميلة مبدعة‪ ،‬ثم يتواصل التعبير من خالل قوله "هلل"‪ ،‬حيث إن الالم هنا‬
‫لإليحاء بوجوب إخالص القيام والقوامة هلل‪ ،‬وهلل فقط‪ ،‬كون التحرك نحو العدل‬
‫ال وعمالً يراد به أحيانًا السماء مباشرة‪ ،‬وفي أحيان أخرى يراد به ثناء‬ ‫قو ً‬
‫األرض السفلي‪ ،‬وهو ما ال تريده السماء‪ ،‬وال ترضاه من أهل اإليمان وعباد‬
‫الرحمن‪ ،‬وهذا المعنى النفيس سيتضح كثيرًا معنا الحقًا‪ ،‬كما أن وجوب‬
‫اإلخالص هنا من خالل هذه الالم يوحي بأن العبد كلما كان أكثر إخالصًا هلل‬
‫كلما كان أكثر عدالً‪ ،‬والعكس صحيح أيضًا‪ ،‬وهو ما يستدعي من الجماعة‬
‫المنقذة واألمة الهادية البدء بتطهير ذواتها من شوائب الدنيا كي تتعلق قلوب‬
‫رجاالتها بالسماء ال باألرض‪ ،‬وبالقيم السماوية ال بالرذائل األرضية‪ .‬وبعد‬
‫هذه اللمسة الجميلة تتواصل اللمسات القرآنية بجمالها وجاللها من خالل قوله‬
‫"شهداء بالقسط"‪ ،‬فهناك القوامة هلل تحوي القيام الخالص له بكل معاني القيام‪،‬‬
‫ومنها العدل دون شك‪ ،‬وهنا جاء األمر بالتخصيص بقوله "شهداء بالقسط"‪،‬‬
‫أى شهداء بالعدل كون القسط هو العدل كما هو معلوم‪ .‬ومما ال شك فيه فإن‬
‫اآلية من بدايتها إلى هنا رسالة واضحة عامة توحي بوجوب تميز الجماعة‬
‫المنقذة بصفة العدل بعد وجوب إخالصها لربها دون شك‪ ،‬واآلن تنطلق اآلية‬
‫بواو العطف لتوضيح قضية هي المعيار أيضًا في صحة المعتقد‪ ،‬وفهم العقيدة‬
‫من قبل الجماعة واألمة‪ ،‬وذلك من خالل التنبيه الواضح على كيفية التعامل‬
‫مع الخصم‪ .‬نعم فحتى يعرف الخصم صدق منهج الجماعة وجماله‪ ،‬ويعرف‬
‫كذلك صحة سيرها ومسارها جاء األمر من هناك من السماء بوجوب العدل‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 270 -‬‬

‫ال في الفعل‪ ،‬وذلك من خالل قوله "وال يجر منكم‬ ‫ال في القول‪ ،‬وعد ً‬
‫معه عد ً‬
‫شنئان قوم على أن ال تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"‪ ،‬حيث تحمل هذه‬
‫الجملة الكثير من الدالالت‪ ،‬ومنها‪ :‬وجوب العدل في الشهادة والحكم والحوار‬
‫مع الخصم سوا ًء أكان مسلمًا طرأ الخالف معه ألمر ما‪ ،‬أو كان كافرًا خالف‬
‫الملة والدين‪ .‬إنها أخالق اإلسالم تظهر في حياة الجماعة المنقذة واألمة‬
‫الهادية صادقة عادلة‪ ،‬وشاهدة منصفة في دنيا الناس فتمألها أنسًا بعد وحشة‪،‬‬
‫وصالحًا بعد فساد‪ ،‬وأمنًا بعد خوف‪ .‬ومما ال شك فيه فإن العدل مع الخصم‬
‫بإعطائه حقه‪ ،‬وذكر محاسنه‪ ،‬والنظر فيها‪ ،‬وعدم إغفالها قد يسوق إلى هدايته‬
‫ب الجماعة المنقذة‬‫وتوبته إن اهتدى‪ ،‬وتخفيف مكره وشره إن بغى‪ ،‬وحس ُ‬
‫واألمة الهادية رضا ربها في تعاملها وعدلها قبل ذلك وبعده كون العدل أصالً‬
‫خيرًا كله‪ ،‬وال يمكن أن يأتي بغير الخير‪ ،‬وهو مجرب معلوم‪ .‬وجاء التعبير‬
‫بقوله "وال يجر منكم شنئان قوم‪ ،‬أي ال يحملنكم كره قوم‪ ،‬أي قوم سواء كانوا‬
‫مسلمين منكم اختلفتم معهم‪ ،‬أو كفارًا بعيدون عنكم حيث جئ بلفظ قوم هنا‬
‫منكرًا ليشمل أي قوم بغض النظر عن أشكالهم وألوانهم‪ ،‬أو بلدانهم‬
‫ومعتقداتهم‪ ،‬وذلك بصيغة المضارع لإليحاء بوجوب العدل معهم في كل‬
‫األحوال كون العدل في منهج الجماعة دينًا الزمًا‪ ،‬وليس طقسًا عابرًا‪ .‬إنه‬
‫التوفيق اإللهي الذي يوفق إليه من يشاء من الخلق في تعامله مع اآلخر بعدالة‬
‫وعدل‪ ،‬فيكسب رضا اهلل في السماء‪ ،‬ومحبة الخلق في األرض كون الشهادة‬
‫بالعدل محبوب صاحبها وإن بدا في بداية األمر مكروهًا في نظر اآلخر‪ ،‬لكن‬
‫ما هى إال أيام حتى تظهر عدالته بنورها وأنوارها دون أمر أو طلب كون‬
‫العدالة دينًا‪ ،‬والدين نور على نور‪ .‬ومما ينبغي ذكره هنا أن هذه اآلية جاءت‬
‫عقب آية مسبوقة بآية الوضوء تتحدث عن فروض الوضوء المطلوبة عند‬
‫القيام للصالة‪ .‬إنه اإليحاء بأن الجماعة المنقذة واألمة الهادية كلما كانت‬
‫طاهرة بوضوئها وصالتها كلما كانت أكثر عدالً‪ ،‬وأصح دينًا‪ ،‬وأكمل رجولة‬
‫‪- 271 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫بال شك حتى إذا قصرت في صالتها‪ ،‬وعبثت بوضوئها انعكس ذلك العبث‬
‫على سلوكها وشهادتها وعدلها بدون شك‪ ،‬وهو معنى نفيس ينبغي تأمله‬
‫والوقوف عند لنفاسته‪ ،‬ثم جاء األمر مرة أخرى ألهمية العدل‪ ،‬وتحريك‬
‫ال ثابتًا في حياة الجماعة واألمة من خالل‬ ‫النفوس لجعله سلوكًا واقعًا‪ ،‬وعم ً‬
‫قوله "اعدلوا هو أقرب للتقوى"‪ ،‬حيث تحمل هذه الجملة الكثير من الدالالت‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬أن اآلية توحي بأن التعامل مع الخصوم يجعل النفوس الضعيفة دينًا‪،‬‬
‫والقليلة علمًا‪ ،‬واألقل فهمًا تسقط أمام الخصم أحيانًا‪ ،‬فتغمطه حقه‪ ،‬وتخفي‬
‫حسناته‪ ،‬وذلك في لحظات الضعف البشري‪ ،‬واالنفعال العاطفي‪ ،‬وهو ما ال‬
‫ينبغي فعله‪ ،‬وال يُقبل فاعله‪ ،‬فكان األمر هنا لهذه الحكمة‪ ،‬ولهذا الغرض‪،‬‬
‫والجميل هنا هو قوله "هو أقرب للتقوى"‪ ،‬ولم يقل "هو التقوى" كون عدالة‬
‫البعض قد تكون من أجل اهلل في السماء أجرًا وثوابًا‪ ،‬وقد تكون من أجل الخلق‬
‫في األرض مدحًا وثناءً‪ ،‬فكان األقرب للتقوى من كان عدله للخالق‪ ،‬واألبعد‬
‫عنها من أراد بعدله المخلوق‪ ،‬ثم يأتي األمر قبل ختام اآلية مناسبًا أيما مناسبة‬
‫لبدايتها بقوله "واتقوا اهلل"‪ ،‬إنه اإليحاء بأن هذا العدل بصفته وأوصافه‪،‬‬
‫ورجاالته وأنصاره ال يتم‪ ،‬وال ينفذ ما لم يكن خوف اهلل‪ ،‬وخوف اهلل فقط‪ ،‬هو‬
‫السيد والسائد في الصف اإليماني‪ ،‬والمجتمع الرباني كون معنى التقوى هو‬
‫الخوف من الجليل‪ ،‬والعمل بالتنزيل‪ ،‬والرضا بالقليل‪ ،‬واالستعداد ليوم‬
‫الرحيل كما عرفه اإلمام علي – كرم اهلل وجهه –‪ ،‬ومما يالحظ أن هذه اآلية‬
‫ورد فيها ما يقارب ثالثة أوامر لتأكيد وجوب العدل‪ ،‬بينما كان يكفي الجماعة‬
‫المنقذة واألمة الهادية األمر األول في بدايتها‪ .‬إنها النفوس الضعيفة خلقة‪،‬‬
‫والعالم بضعفها خالقها احتاجت كل هذه األوامر المتتابعة حتى ال تغفل كون‬
‫العدل هو عنوان دينها‪ ،‬وحقيقة هويتها‪ ،‬فإذا غاب عنها سقطت الجماعة‬
‫واألمة من عين اهلل في السماء‪ ،‬فإذا حدث هذا السقوط سقطت من أعين الخلق‬
‫في األرض‪ ،‬وهو ما ال يريده اهلل لخير أمة‪ ،‬وأكرم جماعة‪ ،‬ثم ختمت اآلية‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 272 -‬‬

‫بختام يناسب هذه القضية الكبيرة شأنًا‪ ،‬والعظيمة دينًا بقوله "إن اهلل خبير بما‬
‫تعملون"‪ ،‬إنها مراقبة السماء‪ ،‬وعلمها‪ ،‬واطالعها على نوايا الجماعة واألمة‬
‫بعد هذه األوامر‪ ،‬وهو ما يستدعي االلتزام وعدم التفريط من قبل المأمور ما‬
‫بقيت الحياة وعاش األحياء‪.‬‬
‫‪- 273 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ن الزَّكَاةَ‬
‫ن يُقِيمُونَ الصَّالَةَ وَ ُيؤْتُو َ‬
‫ن آمَنُواْ الَّذِي َ‬
‫اهلل َورَسُولُهُ وَالَّذِي َ‬
‫(إِنَّمَا َولِيُّكُ ُم ُّ‬
‫حزْبَ اهللِ هُ ُم‬
‫ن آمَنُواْ َفإِنَّ ِ‬
‫اهلل َورَسُولَهُ وَالَّذِي َ‬
‫َل َّ‬‫وَهُمْ رَاكِعُونَ{‪ }55‬وَمَن يَ َتو َّ‬
‫الْغَالِبُونَ{‪.)62()}56‬‬
‫إن الحب والنصرة والمودة هى الوالية الحقيقية هلل ولرسوله وللمؤمنين كي‬
‫تتحقق الغلبة والتمكين في األرض بعيدًا عن والية األرض القائمة على مودة‬
‫الطين والقرابة والنسب‪ ،‬والمصالح والمنافع والرتب إنه الوالء الذي تدخل‬
‫وحي السماء منذ الوهلة األولى لتقييمه وتوجيهه ليكون وال ًء ال تتحكم به‬
‫الذوات البشرية الطينية‪ ،‬أو تستهويه المصالح النفعية‪ ،‬بل ليكون وال ًء تحكمه‬
‫قيم السماء‪ ،‬ومنهجها‪ ،‬ووحيها‪ .‬ومما ال شك فيه فإن هذه اآلية الكريمة‬
‫حصرت الوالية في ثالثة‪ ،‬وفي ثالثة فقط‪ ،‬هم اهلل ورسوله والمؤمنون كى‬
‫تكون الجماعة المنقذة واألمة الهادية على بينة من أمرها‪ ،‬فال تعطي حبها‬
‫ونصرتها لشواذ األرض‪ ،‬ومفسديها‪ ،‬ورعاعها‪ .‬إنها الحقيقة التي حفظت في‬
‫الماضي لألمة هويتها‪ ،‬وهى التي ستحفظ اليوم وغدا نفس الهوية للجماعة‬
‫المنقذة واألمة الهادية‪ ،‬وحتى نعيش جمال اآليتين ننتقل مباشرة إليهما‪ ،‬ففيهما‬
‫كمال المعنى‪ ،‬وجمال المبنى‪ ،‬فقوله "إنما وليكم اهلل ورسوله والذين آمنوا"‪،‬‬
‫هذه الجملة القرآنية تحمل في طياتها الكثير والكثير من الدالالت واإليحاءات‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬أداة الحصر "إنما" التي حصرت الحب والمودة والنصرة لثالثة فقط‬
‫هم اهلل ورسوله والمؤمنون‪ .‬إنه الحصر الذي قطع الطريق أمام العواطف‬
‫المتفلتة‪ ،‬والقرابات الطينية الضعيفة حتى ال تعبث بحبها ووالئها دون رابط‬
‫أو قيد‪ .‬ومما ال شك فيه هنا فإن الجماعة المنقذة واألمة الهادية ما لم تحرر‬
‫والءها وحبها ونصرتها تحريرًا حقيقيًّا فإنها ستظل رهينة العواطف المتفلتة‪،‬‬

‫(‪ )62‬سورة المائدة‪ :‬اآليتان ‪.56 ،55‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 274 -‬‬

‫والوالءات الطينية الضيقة تعبث بحاضرها ومستقبلها على حد سواء‪ .‬ومما‬


‫ينبغي قوله هنا أن هذا الحصر جاء هنا كون اهلل يعلم بحال خلقه‪ ،‬وأنه سيأتي‬
‫من يجادل في الوالية والوالء‪ ،‬فجاء بهذا الحصر إلسكات األفواه الضالة‬
‫القادمة من هناك من بين الركام الطيني‪ ،‬والتعصب الفكري النتن الذي‬
‫سيحاول جاهدًا لَي النصوص وتطويعها لتخدم مذهبه بعيدًا عن وحي السماء‪،‬‬
‫وحتى ال يحدث هذا العبث كان هذا الحصر هو السيد والسائد في آنٍ واحد‪،‬‬
‫ال من خالل قوله "وليكم" بهذا اللفظ الواحد غير القابل‬
‫ثم جاء التعبير جمي ً‬
‫ال "إنما الولي لكم هو اهلل‪ ،"...‬بل "وليكم" بهذا اللفظ‬
‫للتجزيئ‪ ،‬فلم يقل اهلل مث ً‬
‫المعجز الموحي بوجوب اتصال كاف الخطاب وميم الجمع بالولي مباشرة‬
‫الذي هو اهلل ورسوله والمؤمنون‪ ،‬فال والية‪ ،‬وال محبة‪ ،‬وال مودة‪ ،‬وال نصرة‬
‫لكافر أو منافق أو فاسق كون الشواذ واحدًا من هؤالء الثالثة الذين يتفاوتون‬
‫– بدون شك – بتمردهم‪ ،‬وبعدهم عن اهلل‪ .‬إنها الوالية التي يجب أن تُحرر‬
‫من كل رابط أو قيد سوا ًء كان الرابط أسريًا أو عشائريًّا أو حزبيًّا كون‬
‫المتجاوز لحدود الشرع بعد اإلنذار واإلعذار تحرم مناصرته ومحبته كما هو‬
‫معلوم‪ ،‬ثم جاء الترتيب للوالية التي عرفنا معناها بأنها المحبة والنصرة بذكر‬
‫اهلل أوالً كونه سبحانه وبحمده له الخلق واألمر‪ ،‬ثم نبيَّه ثانيًا باعتباره المبلغ‬
‫عن اهلل‪ ،‬ثم المؤمنين ثالثًا باعتبارهم جند اهلل ورسوله في األرض‪ .‬إنه الترتيب‬
‫الذي يجب أن تحياه الجماعة المنقذة واألمة الهادية في حبها ونصرتها حتى‬
‫تكون لها الغلبة والتمكين في األرض كون هذه الغلبة مقيدة بهذا الوالء كما‬
‫سيأتي معنا الحقًا‪ .‬ومما ال شك فيه هنا فإن األمة عندما تختزل حبها ووالءها‬
‫ونصرتها ومودتها في القرابة والطين بعيدًا عن العقيدة والدين تكون بهذا‬
‫الوالء قد فقدت هويتها‪ ،‬وخالفت دينها‪ ،‬وحرمت نفسها وناسها الغلبة في‬
‫األرض‪ ،‬وذلك برضاها وبكامل اختيارها‪ .‬إنه االختيار الشيطاني الذي عبث‬
‫‪- 275 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫باألمة في الماضي البعيد‪ ،‬وما زال يمارس عبثه حتى اللحظة في األمة الوسط‬
‫إال من رحم اهلل‪ ،‬وجاء ترتيب الرسول الكريم في المرتبة الثانية حيث تكون‬
‫محبته ونصرته ليست بألفاظ تقال‪ ،‬وال بقصائد تدبج‪ ،‬بل باتباع سنته‪ ،‬والسير‬
‫على هديه‪ ،‬واقتفاء أثره في كل صغيرة وكبيرة‪ ،‬ثم يتواصل الجمال القرآني‬
‫وهو يضع النقاط على الحروف في صورة مبدعة‪ ،‬وطريقة منسقة تنساب‬
‫ال وروعة من خالل وصف المؤمنين الذين تكون لهم النصرة والمحبة‬
‫جما ً‬
‫والمودة كونهم في المرتبة الثالثة بعد اهلل ورسوله‪ .‬نعم فليس كل أح ٍد تتم محبته‬
‫ومودته‪ ،‬بل القضية مقيدة بقيود سماوية بعيدة كل البعد عن قيود األرض‪ ،‬وال‬
‫شك في أن قيود السماء في حقيقتها ليست أبدًا كقيود األرض الخاضعة لألهواء‬
‫الضالة‪ ،‬والنزوات المتفلتة‪ ،‬بل هى وحدها التي تحفظ الذات البشرية من‬
‫التفلت والضياع‪ ،‬وتصون الكرامة اآلدمية من حياة الرعاع‪ ،‬لذا جاءت‬
‫االحتياطات السماوية المحيطة بالحال‪ ،‬والعالمة قطعًا بالمآل كي تعبر عن‬
‫نفسها هنا من خالل االشتراطات التعبدية الواضحة للمؤمنين الذين يجب‬
‫ال لذا‬
‫مودتهم ونصرتهم كون اإليمان – كما هو معلوم – إقرارًا واعتقادًا وعم ً‬
‫قال "الذين آمنوا"‪ ،‬ثم وضح صفاتهم وأعمالهم بقوله "الذين يقيمون الصالة‬
‫ويؤتون الزكاة وهم راكعون"‪ ،‬حيث تحوي هذه الكلمات القرآنية معاني جمة‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الحفاظ على الصالة بشروطها وأركانها وسننها هى العالمة األولى‬
‫على صدق االنتماء‪ ،‬حيث إن لفظ اإلقامة يوحي بهذا المعنى‪ .‬إنه االنتماء‬
‫للسماء وليس لألرض‪ ،‬وللقيم العليا ال لشعارات األرض السفلى‪ ،‬وذلك حتى‬
‫يكون المؤمن هو األصدق انتماءًا‪ ،‬واألحق نصرًا‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه‬
‫هنا هو أن ذكر الصالة أوالً قبل غيرها يوحي بأنها هى دون غيرها التي تعبر‬
‫عن الوالء الحقيقي والصادق هلل كل يوم خمس مرات من قبل هذه الصفوة‬
‫المختارة كونها الميزان الذي يوزن به األفراد والجماعات‪ ،‬فمن حفظ صالته‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 276 -‬‬

‫حفظ والءه‪ ،‬ومن عبث بصالته كان عابثًا قطعًا بوالئه‪ ،‬وحتى ال تتخذ الصالة‬
‫وسيلة للتمويه والتغرير من قبل البعض وقت الحاجة كون البعض يلتزم بها‪،‬‬
‫ويحافظ عليها وقت حاجته لها وألهلها‪ ،‬وحتى ال يقع هذا التمويه جاء التعبير‬
‫بصيغة المضارع في قوله "يقيمون" الدال على االستمرار والدوام‪ .‬إنه‬
‫الرفض القاطع لعباد المنفعة ومصلى المصلحة العابثين بصالتهم‪ ،‬والذين ال‬
‫يعرفونها إال وقت الحاجة‪ ،‬ووقت الحاجة فقط‪ .‬ثم تأتي الصفة الثانية من خالل‬
‫قوله "ويؤتون الزكاة"‪ ،‬حيث يوحي هذا اللفظ بأن المؤمنين الصادقين ال‬
‫يكتفون بالصالة فحسب‪ ،‬بل حتى األموال ال تستعبدهم وال تأخذ وقتهم‬
‫وجهدهم‪ ،‬فهم دائمًا يؤتون الزكاة طيبِّة بها نفوسهم‪ .‬إنه الجمع بين تزكية‬
‫األبدان بالصالة‪ ،‬وتزكية األموال بالزكاة كي تجتمع فيهم طيبة األرواح‪،‬‬
‫وطيبة األموال حتى تستقر أرواحهم في ديار الطيبين في جنان الخلد هناك‬
‫حيث ينتهي كل خبث‪ ،‬ويغيب تمامًا كل خبيث‪ .‬كما أن تأدية الزكاة فيه إيحاء‬
‫يُفهم من خالل السياق وهو أن المؤمنين عليهم أن يسعوا ليكونوا أغنياء‪ ،‬فال‬
‫مكان أبدًا في دنيا الناس للعاطلين أو الكسالى‪ ،‬وهو معنى غاية في النفاسة‬
‫والجمال يُفهم من خالل السياق‪ .‬كما توحي اآلية بمعنى آخر دقيق‪ ،‬ودقيق‬
‫جدًّا‪ ،‬وهو أن تحرير الوالء ال يكون هلل ولرسوله وللمؤمنين حقًّا وصدقًا إال‬
‫بتحرر الجماعة المنقذة واألمة الهادية من رق المال‪ ،‬وشح النفس‪ ،‬وهذا ال‬
‫يعنى أبدًا االبتعاد عن المال‪ ،‬بل المطلوب في الجماعة المنقذة واألمة الهادية‬
‫أفرادًا وقادة أن يكونوا أغنياء‪ ،‬فقد أثنى اهلل على المؤمنين الصادقين بأنهم‬
‫يؤتون الزكاة‪ ،‬وقطعًا لو كانوا فقراء لما أدوا زكاة‪ ،‬وهو ما يستدعي قطعًا‬
‫وجوب التحرر المالي‪ ،‬واالكتفاء الذاتي بكل طريقة مشروعة كون الفقر‬
‫والحاجة طريقَين موحشَين يخدشان الوالء‪ ،‬ويسقطان الوالية الصادقة هلل‬
‫ولرسوله وللمؤمنين في كثير من األحيان‪ .‬أما الرق الذي ينبغي أن تتحرر‬
‫‪- 277 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫منه الجماعة المنقذة واألمة الهادية فهو رقان؛ رق يقود لبيع الوالء مقابل‬
‫المال‪ ،‬ورق آخر يستعبده المال بعد جمعه‪ ،‬وكالهما يخالفان حقيقة اإليمان‪،‬‬
‫وصدق المؤمنين‪ ،‬ثم يتواصل جمال التعبير الموحي بكمال التصوير وذلك‬
‫من خالل قوله "وهم راكعون"‪ ،‬حيث توحي هذه الصفة بتواضع المؤمنين هلل‬
‫رغم صالتهم وزكاتهم كون الركوع هنا ليس المقصود به أبدًا ركوع الصالة‬
‫الذي هو االنحناء المعروف‪ ،‬بل هو الخضوع التام هلل كونه يُعبَّر في اللغة‬
‫عن الخضوع بالركوع‪ .‬ومما سبق فإن هذه الصفات الثالث توحي بوجوب‬
‫نصرة ومحبة أهل هذه الصفات بغض النظر عن أشكالهم وألوانهم وأوطانهم‪.‬‬
‫إنها عقيدة السماء التي ال تؤمن أبدًا بحواجز األرض المصطنعة‪ ،‬ومسمياتها‬
‫المقززة‪ ،‬وشعاراتها النتنة‪ ،‬بل هو اإليمان بجماله ورجاله وأنصاره وصفاته‬
‫حيثما كان وكان أهله كان الحب وكانت النصرة‪ .‬وبعد هذه المقدمة من خالل‬
‫روعة اآلية بجمالها وجاللها جاءت اآلية الثانية معلنة – وبكل صراحة‬
‫وصدق – حقيقة هذا الحب والنصرة‪ ،‬وعاقبته وثماره بلغة واضحة ودون‬
‫تلعثم أو التواء‪ ،‬وذلك من خالل قوله "ومن يتول اهلل ورسوله والذين منوا فإن‬
‫حزب اهلل هم الغالبون"‪ ،‬إنها السكينة والطمأنينة تعلنها آيات السماء‪ ،‬ووحيها‪،‬‬
‫ومنهجها لهذا الحزب الكبير‪ ،‬والكبير جدًّا‪ ،‬والذي ال قدرة لقوى األرض‪ ،‬كل‬
‫األرض مجتمعة‪ ،‬أن تقف في وجهه‪ ،‬أو تخطط ضده كونه حزب اهلل‪ ،‬وحزب‬
‫اهلل هو الغالب على الدوام‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليها هنا هو أن التعبير جاء‬
‫بصيغة المضارع في قوله "ومن يتول" لإليحاء بأن ثبات الوالء هلل ولرسوله‬
‫وللمؤمنين دون تذبذب أو التواء هو ضمانة السماء النتصار األرض‪ ،‬وال‬
‫شك في أن هذا اإليحاء يوحي بحدوث ابتالءات تفرز سقوطًا لذوات بشرية‬
‫في مستنقع الوالءات الطينية في لحظات ما‪ ،‬لذا كان اشتراط السماء بصيغة‬
‫المضارع لمن يثبت على الدوام بعيدًا عن تقلبات األيام‪ .‬ثم تختم اآلية – كما‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 278 -‬‬

‫أسلفنا وقلنا – بتوصيف رائع لهذا الحب الدائم والوالء المستمر بين اهلل‬
‫ورسوله والمؤمنين‪ ،‬وذلك بوصفهم "فإن حزب اهلل هم الغالبون"‪ ،‬إنه الحزب‬
‫الغالب الذي يعيش في األرض وقلبه في السماء‪ ،‬ويتحرك في األرض وهمته‬
‫في العلياء‪ ،‬وهنا يجب قبل الختام اإلشارة إلى قضية مهمة وهى قضية الحزبية‬
‫حيث تاهت األمة الهادية تبعًا لتيه بعض رجاالتها ومنظريها في هذا اللفظ‪،‬‬
‫وفي هذا الموضوع‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه هنا هو أن هناك من حرم الحزبية‬
‫لفظًا‪ ،‬وآخر اعترف بها لفظًا وحرمها معنى‪ ،‬وثالثًا أحلها مطلقاً‪ ،‬ورابعًا‬
‫حرمها مطلقاً‪ ،‬إنه التيه الذي أخذ وقتًا كبيرًا من عمر أمة الهداية‪ ،‬وما زال‬
‫يأخذ من عمرها حتى اللحظة نتيجة للغفلة تارة‪ ،‬والكبر والعناد تارة أخرى‪.‬‬
‫إنه العبث الفكري‪ ،‬والضياع المذهبي الذي أخذ من األمة الهادية الكثير من‬
‫وقتها وجهدها في قضية محسومة في القرآن‪ ،‬وواضحة معالمها أيما وضوح‪،‬‬
‫واختصارًا فعلى الجماعة المنقذة‪ ،‬واألمة الهادية أفرادًا وجماعات أن تتعامل‬
‫مع الحزبية كتعامل القرآن معها‪ ،‬حيث أن من ينكر الحزبية لفظًا ومسمًّى فقد‬
‫أنكر صريح القرآن‪ ،‬حيث ورد ذكر الحزب في القرآن‪ ،‬وذكرت سورة‬
‫بأكملها بسورة األحزاب هذا أوالً‪ ،‬وثانيًا أن الحزبية في القرآن لم تحرم مطلقًا‪،‬‬
‫ولم تحل مطلقًا‪ ،‬بل ذكرت ممدوحة عندما كان التحزب‪ ،‬أي التجمع من أجل‬
‫اهلل ورسوله ونصرة الحق كما هو الحال في هذه اآلية "ومن يتول اهلل ورسوله‬
‫والذين آمنوا فإن حزب اهلل هم الغالبون"‪ ،‬وذكرت مذمومة عندما حدث نسيان‬
‫هلل ولرسوله بسببها‪ ،‬حيث أصبحت تجمعًا في الباطل‪ ،‬وللباطل فقط‪ ،‬عندئذٍ‬
‫ذمها اهلل‪ ،‬وذم أهلها من خالل قوله "استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اهلل‬
‫أولئك حزب الشيطان أال إن حزب الشيطان هم الخاسرون"‪ ،‬لذا فهذه هى‬
‫ال وتحريمًا‪ ،‬حيث ال تحلل الحزبيَّة أو تحرَّم‬
‫نظرة القرآن لهذه القضية تحلي ً‬
‫لذاتها‪ ،‬بل لمحتواها ودواعيها‪ .‬ومما ال شك فيه فإن الباطل اليوم يتحرك في‬
‫‪- 279 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫إطار حزبي منظم له برامجه وخططه وقياداته وأفراده‪ ،‬وله ميزانياته‬


‫وممتلكاته‪ ،‬كل ذلك التنظيم والتخطيط بطريقة مرتبة وموحدة لتسويق الباطل‪،‬‬
‫وإعالء كلمته وكالمه ومنهجه ونهجه‪ ،‬وهو ما يستدعى مِنْ الجماعة المنقذة‬
‫واألمة الهادية أن يكون لها حزبها المنظم بقيادته ورجاله وخططه وأفراده‬
‫حيث ال يوقف العبث المنظم إال عمالً حزبيًّا منظمًا‪ ،‬وإال كان السقوط ألمة‬
‫الهداية في مستنقع العشوائية في البداية‪ ،‬وظلمات الغواية في النهاية‪ .‬ومما ال‬
‫فإن األخطاء ستظهر هنا وهناك‪ ،‬ولكن ما ينبغي قوله هو سرعة‬
‫شك فيه َّ‬
‫المعالجة‪ ،‬والدقة في التصويب والمراجعة بحيث يكون التحزب قائمًا على‬
‫نصرة الحق‪ ،‬والدعوة إليه‪ ،‬وعدم التعصب في الباطل تحت أي مسمى كي‬
‫تتحقق الغلبة والتمكين لعباد اهلل الصالحين وحزبه المفلحين كما قال اهلل‪ ،‬وكما‬
‫أراد‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 280 -‬‬

‫ن َمرْيَمَ َذلِكَ‬
‫ن دَاوُو َد وَعِيسَى ابْ ِ‬
‫علَى لِسَا ِ‬
‫ن كَ َفرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِي َل َ‬
‫ن الَّذِي َ‬
‫(لُعِ َ‬
‫س مَا‬
‫ن عَن مُّن َك ٍر فَ َعلُو ُه لَبِئْ َ‬
‫بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ{‪ }78‬كَانُواْ َال يَتَنَا َهوْ َ‬
‫كَانُواْ يَفْ َعلُونَ{‪.)63()}79‬‬
‫العصيان واالعتداء على الغير – وعدم التناهي عن فعل المنكرات جرائم‬
‫ثالث‪ .‬أسقطت بني إسرائيل باألمس‪ ،‬وهى من ستسقط من يفعل فعلهم اليوم‪.‬‬
‫إنها اللعنة التي توارثها كفار بني إسرائيل كابرًا عن كابر بسبب معاصيهم‬
‫وعدوانهم من جهة‪ ،‬وعدم نهيهم عن المنكر والمنكرات من جهة أخرى‪ .‬ومما‬
‫ينبغي ذكره هنا أن كفار بني إسرائيل جمعوا الجرائم اآلنفة الذكر فلُعنوا على‬
‫لسان نبي اهلل داود في أول أمرهم‪ ،‬ثم خُتمت لعنتهم على لسان آخر أنبيائهم‬
‫وهو عيسى – عليه السالم – لهذه الجرائم‪ ،‬ولتلك األعمال‪ .‬إذًا هم واقعون‬
‫بين لعنتين وغضبين‪ ،‬فأسفي كيف يرجى سالم مع مالعين من قبل اهلل في‬
‫السماء‪ ،‬والحال كذلك على ألسنة أنبيائهم في األرض ؟‪ .‬وحتى نعيش مع‬
‫هاتين اآليتين عن قرب‪ ،‬ونعرف حقيقة األمة الملعونة هذه دعونا ننتقل إلى‬
‫اآليتين لنعيش المعاني التي أوردتها هذه اآلية بلغة فصيحة وواضحة‪ ،‬فقوله‬
‫"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم"‪ ،‬هذه‬
‫الجملة القرآنية تحمل دالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الفعل الماضي المبني‬
‫ُسم فاعله يوحي بتأصل اللعنة في هذه األمة الكافرة من‬
‫للمجهول أو الذي لم ي َّ‬
‫بني إسرائيل منذ القدم‪ .‬إنها اللعنة التي أحاطت بهم فجعلتهم األرذل خلقًا‪،‬‬
‫ال على اإلطالق‪ .‬نعم إنها التعاسة والجبن اللذين‬
‫واألسوأ سيرة‪ ،‬واألتعس حا ً‬
‫ال ينفكان عنهم أبدًا‪ ،‬وما نراه من استئساد لهم اليوم ال يعبر عن رجولتهم‬
‫قطعًا كون رجال العقيدة غابوا عن الميدان‪ ،‬ولو ُوجِدوا لما كان لهم المكانة‬

‫(‪ )63‬سورة المائدة‪ :‬اآليتان ‪.79 ،78‬‬


‫‪- 281 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫والمكان‪ .‬ومن المعلوم هنا أن اآليتين وقعتا بين آيات تتحدث عن مكر وسفه‬
‫وتمرد هؤالء الكفرة بالغلو تارة‪ ،‬وبالوالء للكافرين خوفًا وطمعًا تارة أخرى‬
‫حتى كفروا وسقطوا‪ .‬كما أن اللعن جئ به هنا وبذكره حتى ال تغتر الجماعة‬
‫المنقذة واألمة الهادية بهم من جهة‪ ،‬وحتى ال تسلك مسلكهم الذي أودى بهم‬
‫إلى هذا اللعن‪ ،‬وذلك الطرد من رحمة اهلل من جهة أخرى‪ ،‬وهو معنى نفيس‬
‫جدًّا ينبغي تأمله‪ ،‬والوقوف عنده لنفاسته‪ .‬ومما ال شك فيه فإن أمة الهداية‬
‫عندما تغيب عنها هذه المعاني‪ ،‬أو تُغيَّب بفعل فاعل فإنها تتوه بالبحث عن‬
‫سالم ووئام مع مالعين لعنوا في السماء‪ ،‬وتكرر لعنهم على ألسنة أنبيائهم في‬
‫األرض‪ ،‬وهذا هو السر في المحاولة المستميتة إلبعاد أمة الهداية عن قرآنها‬
‫وربها ليحصل لها التيه والخذالن‪ ،‬وهو ما حصل بالفعل‪ .‬وما ينبغي التنبيه‬
‫إليه هو أن اللعن هنا وإن خُصَّت به هذه الطائفة الملعونة إال أنه يتناول كل‬
‫من ارتكب ماارتكبوا ولو من غيرهم كما سيأتي معنا الحقًا‪ .‬نعم فاللعن ليس‬
‫خاصًّا بهم وحدهم وإن كانوا هم األكثر لعنًا‪ ،‬واألشد بؤسًا‪ ،‬واألفلس دينًا‪،‬‬
‫ولكنه يتناول أيضًا كل جماعة أو أمة جمعت بين المعاصي والعدوان على‬
‫اآلخرين من جهة‪ ،‬و ُترِك التناهي عن المنكر من جهة أخرى‪ .‬ويتواصل‬
‫الجمال القرآني وهو ينقل حقيقة المشهد والشاهد في آنٍ واحدٍ‪ .‬إنه مشهد اللعن‪،‬‬
‫ومشهد الالعن وهو هنا نبيان كريمان هما داود وعيسى – عليهما السالم –‪.‬‬
‫ومما ال شك فيه فإن تخصيص داود بالذكر كونه أول أنبيائهم ثم هو من سبح‬
‫ال وهي الجبال والطير‪ ،‬بينما من يملكون عقوالً‬
‫معه بحمد اهلل من ال يملك عق ً‬
‫من بني إسرائيل كفروا واعتدوا وتمادوا فكان اللعن‪ ،‬وكان الطرد‪ .‬إنها حكمة‬
‫اهلل وقدرته تفعل فعلها بأمر ربها عندما يحيد عن الطريق صاحب العقل‪ ،‬بينما‬
‫يسلكه من ال عقل له‪ ،‬وتكرر الحال كذلك مع نبي اهلل عيسى الذي أحيا اهلل‬
‫على يديه موتى من قبورهم فلم يؤمن أكثرهم فكان أيضًا الطرد‪ ،‬وكان اإلبعاد‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 282 -‬‬

‫ومما ال شك فيه كذلك فإن الموت ليس لألجساد فحسب‪ ،‬بل هو للقلوب أيضًا‬
‫ال على‬
‫كما هو حال بني إسرائيل هنا‪ ،‬وهو األشد خطورة‪ ،‬واألسوأ حا ً‬
‫اإلطالق‪ .‬إنها الحالة البئيسة لهذا المخلوق عندما ال تُجدي معه النصيحة‪ ،‬وال‬
‫تصلحه الكلمة حتى يسقط غريقًا في وديان الضالل غير مأسوف عليه كحال‬
‫هؤالء سواء بسواء‪ ،‬ثم جاء التخصيص في اآلية بلعن الكفار منهم لإليحاء‬
‫بأن منهم مسلمين مؤمنين بال شك‪ ،‬وإن كان السواد األعظم منهم ملعونين في‬
‫ذلك الزمن البعيد‪ ،‬ومعلوم أنهم نسبوا إلى إسرائيل الذي هو يعقوب عليه‬
‫السالم النبي المبارك‪ ،‬وفي ذلك إشارة إلى أن النسب ال يرفع صاحبه ما لم‬
‫يتحرك هذا الصاحب بنفسه وعقله وذاته ولُبِّه عن مواطن اللعن‪ ،‬ومواقع‬
‫الملعونين‪ ،‬وإال سقط ملعونًا دون شفاعة النسب ولو كان نسبه يقوده إلى نبي‬
‫ال عن صالح من الصالحين‪ .‬كما أن معنى‬
‫من األنبياء كما هو الحال هنا‪ ،‬فض ً‬
‫نفيسًا آخر يفهم هنا من خالل نسبتهم إلى إسرائيل الذي هو يعقوب عليه السالم‬
‫– في أرجح األقوال – وهو إيحاء بأن سقوط األحفاد واألبناء إن حدث ال‬
‫ال عن صالحين أولياء‬
‫يعتبر عيبًا بحق اآلباء ولو كان أولئك اآلباء أنبياء‪ ،‬فض ً‬
‫كون قاعدة السماء العليا تحصر الخطأ سواء كان خطأ عقديًّا أو أخالقيًّا في‬
‫أضيق دوائره‪ ،‬وهى دوائر مرتكبيه‪ ،‬ومرتكبيه فقط‪ ،‬وليس كما تصنع قوانين‬
‫األرض السفلى‪ .‬وبغض النظر عن المقصود باللسان هنا هل هو اللسان‬
‫المعروف‪ ،‬أو يقصد به الكتاب‪ ،‬فاألرجح أنهم لعنوا في السماء‪ ،‬ولعنوا على‬
‫ألسنة أنبيائهم في الزبور واإلنجيل أيضًا‪ .‬إنه اللعن الذي أحاط بهم‪ ،‬وتوالى‬
‫عليهم في صورة تحمل غضب اهلل في السماء‪ ،‬وغضب األنبياء والخلق في‬
‫األرض في رسالة واضحة المعالم ألمة الهداية كي تأخذ حذرها‪ ،‬وتقوم على‬
‫الفور بواجبها‪ .‬ثم يتواصل السياق القرآني موضحًا أسباب اللعن والطرد من‬
‫ال "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون"‪ ،‬حيث تشير‬
‫رحمة اهلل بطريقة واضحة قائ ً‬
‫‪- 283 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫"ذلك" إلى اللعن‪ ،‬والباء في قوله "بما" بمعنى بسبب‪ ،‬فالباء هنا سببية‪ .‬إنها‬
‫عدالة السماء الشارحة لألسباب كي َتعَْلمَ األرض بناسها وأهلها أن اهلل ال‬
‫يعاقب أحدًا إال بسبب المخالفة‪ .‬نعم إنها المخالفة وسوء التدبير‪ ،‬والغباء في‬
‫التفكير هى التي تدفع السماء لخذالن العبد في األرض‪ ،‬ومن الحماقة قطعًا‬
‫بعد هذا البيان أن ينسب الفاشلون فشلهم لألقدار دون أن يعلموا أن عملهم‬
‫وفكرهم هو من أوقعهم‪ ،‬وفي الحضيض أسقطهم‪ ،‬وجئ هنا بواو الجمع في‬
‫قوله "بما عصوا" حيث توحي الواو بأن المعصية لم تكن فردية حتى تعفو‬
‫السماء وتتسامح‪ ،‬بل كانت المعصية جماعية‪ ،‬وجماعية بامتياز‪ .‬إنه اإليحاء‬
‫اآلخر الموحي بأن في المعاصي الفردية مهلة حتى إذا غدت المعاصي‬
‫جماعية كان الغضب‪ ،‬وكانت العقوبة‪ ،‬ويزداد التوضيح‪ ،‬ويتوالى التصريح‬
‫من خالل قوله "وكانوا يعتدون"‪ .‬ومما ال شك فيه فإن االعتداء على اآلخرين‬
‫هو معاصي أيضًا‪ ،‬ولكن جئ بذكر الخاص الذي هو هذا االعتداء بعد ذكر‬
‫العام الذي هو العصيان لإليحاء بخطر االعتداء على اآلخرين‪ ،‬والذي يعجِّل‬
‫بنزول الغضب اإللهي واألخذ الرباني‪ .‬إنها حقيقة السماء وأحقيتها في األخذ‪،‬‬
‫واألخذ المؤكد‪ ،‬عندما تتطاول األرض بأخبث من فيها على خلق اهلل أخذًا‬
‫وسلبًا‪ ،‬عندها‪ ،‬وعندها فقط‪ ،‬تكون بداية النهاية لهذه الجماعة‪ ،‬وتلك الجموع‪.‬‬
‫ومما ال شك فيه هنا فإن ذكر االعتداء على اآلخرين جاء بعد قوله "بما‬
‫عصوا" لإليحاء بأنه ال يعتدي على اآلخرين إال إنسان عاص فاجر‪ ،‬أو‬
‫جماعة عاصية فاجرة‪ ،‬وهو معنى دقيق ونفيس ينبغي تأمله أيضًا‪ .‬كما أن‬
‫تخصيص االعتداء بواو الجماعة في قوله "وكانوا يعتدون" فيه إشارة توحي‬
‫بخطورة االعتداء الجماعي على اآلخرين – كما أسلفنا – وأن الجمع الوارد‬
‫بين المعاصي الذاتية والعدوانية المجتمعية على اآلخرين هو إشعار بقرب‬
‫هالك تلك الجماعة بال شك‪ ،‬ويزداد الوضوح عندما جاء التعبير بصيغة‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 284 -‬‬

‫المضارع "يعتدون" لإليحاء بعدوان جماعي على الخلق والخليقة بشكل‬


‫مستمر ودائم‪،‬دون توقف‪ ،‬لذا كان اللعن‪ ،‬وكان الطرد‪.‬‬
‫إنه الجرم الجماعي الذي أخذ على عاتقه إفساد حياة الناس‪ ،‬ودينهم‪ ،‬وحياتهم‬
‫في صورة غاية في الوحشية والسقوط‪ .‬نعم إنه سقوط القِيَم‪ ،‬والقائم به منهم‬
‫وفيهم بعيدًا عن أنبيائهم األطهار في صورة فجة وبطريقة فاحشة حتى صاروا‬
‫جماعة بئيسة ال تعرف معروفًا‪ ،‬وال تنكر منكرًا‪ ،‬ثم يتواصل التوضيح‬
‫القرآني معلنًا مرة أخرى عن السبب الثالث في لعن وطرد كفار بني إسرائيل‪،‬‬
‫وذلك من خالل قوله "كانوا ال يتناهون عن منكر فعلوه لبئس ما كانوا‬
‫يفعلون"‪ ،‬إنه التعبير القرآني الجامع بين الفعل الماضي "كانوا" الدال على‬
‫تأصل السفه فيهم‪ ،‬وفي أخالقهم الدنيئة‪ ،‬مع واو الجماعة الموحية بجماعة‬
‫مارقة دينًا وأخالقًا‪ ،‬ثم جاء التعبير بالمضارع في قوله "ال يتناهون"‪ ،‬وكلها‬
‫مفردات توحي بسقوط جماعي مستمر ومخ ٍز لتلك الجماعة العابثة عبر‬
‫القرون‪ .‬إنها الحركة الشيطانية اإلسرائيلية الرافضة لصوت العقل والنقل في‬
‫ن واحد‪ ،‬والالهثة عبثًا وراء النزوات واألهواء بصورة دائمة ودون توقف‪.‬‬
‫أٍ‬
‫نعم إنه السقوط الجماعي لتلكم األمة الكافرة في وسط األمة اإلسرائيلية‬
‫ال دون إنكار‬
‫الكبيرة‪ ،‬والذي أصبح سقوطًا مفضوحًا وقتًا ومكانًا وزمانًا وحا ً‬
‫أو تحذير منهم‪ .‬كما أن قوله "عن منكر" حيث إن التنكير هنا يوحي بكثرة‬
‫المنكرات المرتكبة من قبل الجماعة الساقطة دون تناهٍ‪ .‬إنها األخالقيات‬
‫البشرية الهابطة تعلن عن نفسها هنا في هذا السياق القرآني المعجز كي تحذر‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية من هذا السقوط ومن ذاك العمل‪ ،‬ثم تختم اآلية‬
‫بقوله "لبئس ما كانوا يفعلون"‪ ،‬إنه الذم اإللهي‪ ،‬والغضب الرباني الثابت دون‬
‫تغيير لكل من يجمع بين المعاصي والعدوان‪ ،‬وترك األمر بالمعروف والنهي‬
‫عن المنكر سواء كان من بني إسرائيل الذين نزلت فيهم اآلية أو من غيرهم‬
‫‪- 285 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫كون القاعدة الشرعية لدى جمهور العلماء من المفسرين وغيرهم أن العبرة‬


‫بعموم اللفظ ال بخصوص السبب‪ ،‬وثمة قضية البد من ذكرها هنا وهى أن‬
‫األمر بالمعروف والنهى عن المنكر هو الركيزة األساسية لدى الجماعة‬
‫المنقذة واألمة الهادية كونه هو الذي حفظ الجماعة واألمة من السقوط‬
‫باألمس‪ ،‬وهو نفسه الذي سيقوم بنفس العمل اليوم تحاشيًا لعوامل السقوط في‬
‫األرض‪ ،‬وثمة أمور وشروط ينبغي معرفتها لكل آمر بالمعروف ونا ٍه عن‬
‫المنكر حتى ينجو بنفسه وأمته من اللعن والطرد كون كل من يجمع بين تلكم‬
‫الصفات اآلنفة الذكر ملعونًا ومطرودًا من رحمة اهلل بغض النظر – كما أسلفنا‬
‫– عن شكله ولونه وانتمائه‪ ،‬وحتى ال يحدث هذا السقوط والغضب كان البد‬
‫من معرفة أمور لدى اآلمر والناهي ومنها‪ :‬أن يعرف المعروف وكذلك‬
‫المنكر‪ ،‬هذا أوالً‪ ،‬وثانيًا أن يتدرج في أمره ونهيه مع كونه قدوة في قوله‬
‫وفعله‪ ،‬مع ضرورة الحكمة والصبر واإلخالص هلل‪ ،‬والشعور بأن واجبه‬
‫األمر والنهي وليست عليه النتيجة والثمرة‪ .‬إنه البالغ‪ ،‬والبالغ فقط‪ ،‬بشرائطه‬
‫السابقة‪ ،‬وقواعده المعروفة وما سوى ذلك من الهداية والقبول يكون على اهلل‬
‫الذي له الخلق واألمر‪.‬‬
\
‫‪- 289 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ن‬
‫ت رَبِنَا وَنَكُو َ‬
‫ب بِآيَا ِ‬
‫َد وَ َال نُكَ ِذ َ‬
‫علَى النَّا ِر فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا ُنر ُّ‬
‫ى إِذْ ُوقِفُواْ َ‬
‫( َوَلوْ َترَ َ‬
‫ن مِن قَبْ ُل وَ َلوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا‬
‫ن الْ ُمؤْمِنِينَ{‪َ }27‬بلْ بَدَا َلهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُو َ‬
‫مِ َ‬
‫ُنهُواْ عَنْهُ َوإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ{‪.)64()}28‬‬
‫على الرغم من تمرد الكفار على اهلل في دار الدنيا إال أن تمردهم لن يستمر‪،‬‬
‫بل ينتظرهم الوقوف على النار بشدتها وعنفوانها ليكشف اهلل سترهم‪ ،‬ويخرج‬
‫ضعفهم من أول نظرة لها وقبل أن يقعو فيها‪ .‬إنها النظرة التي لم تعد تجدي‬
‫نفعًا أو تغير واقعًا كونها جاءت متأخرة‪ ،‬ومتأخرة جدًّا‪ .‬نعم جاءت متأخرة‬
‫بعد أن ذهبت الدنيا دون أن تجدي تلك النظرات الخائنة نفعًا‪ ،‬أو تصلح حاالً‬
‫كونها كانت نظرات مزيفة غرتها الدنيا بناسها وأهلها حتى جاءت اآلخرة‬
‫بعذابها وأهوالها‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه هنا قبل الحديث المفصل عن تلك‬
‫ال بديعًا‪ ،‬وصورتها‬
‫الوقفة ننبه إلى أن هذه الوقفة التي نقلتها سورة األنعام نق ً‬
‫تصويرًا رائعًا لم تكن وقفة اختيارية البتة‪ ،‬بل كانت وقفة اضطرارية بأمر‬
‫مالئكي ألقوام عاشوا حياتهم آمرين بالباطل‪ ،‬وناهين عن المعروف حتى جاء‬
‫أمر اهلل‪ .‬نعم واآلن جاء أمر اهلل في األخرة كي تنزع عنهم اإلرادة لتمضي‬
‫بهم الحياة في دار الهوان هناك في النار وهم مسلوبو اإلرادة ومنزوعو‬
‫الكرامة بعد عمر طويل في الضالل واإلضالل‪ ،‬ولكى نعيش هذا الحدث الذي‬
‫ال للفضول ننتقل إلى اآليتين ففيهما الكثير من‬
‫يذهل العقول‪ ،‬ويدع حدًّا فاص ً‬
‫الدالالت واإليحاءات التي تسوق المؤمنين إلى اهلل سوقًا‪ ،‬وذلك خوفًا من‬
‫عذابه‪ ،‬وطمعًا بجنته ورحمته‪ ،‬فقوله "ولو ترى إذ وقفوا على النار"‪ ،‬هذه‬
‫الجملة القرآنية تحمل دالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الخطاب هنا موجه للنبي‬
‫الكريم‪ ،‬ولكل من يصل إليه الخطاب الذي جيء به من أجل إقرار الحقيقة‬

‫(‪ )64‬سورة األنعام‪ :‬اآليتان ‪.28 ،27‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 290 -‬‬

‫المنتظرة هناك‪ ،‬والتي تنتظر الكفرة سواء كفرة األمس الذين عايشوا الرسالة‪،‬‬
‫ثم كفروا بها‪ ،‬أو كفرة اليوم الذين يكذبون آيات اهلل ورسوله والدار اآلخرة‪،‬‬
‫هذا أوالً‪ ،‬وثانيًا‪ :‬أن هذا الخطاب يقرر حقيقة النار‪ ،‬وأنها موجودة‪ ،‬وثالثًا‪ :‬فيه‬
‫عظة وعبرة تجعل المؤمنين أكثر حذرًا‪ ،‬وأصدق عبادة وإخالصًا هلل خوفًا‬
‫من غضبه‪ ،‬وطمعًا برحمته كما أسلفنا‪ .‬ومما ال شك فيه فإن العبرة هنا هى‬
‫المطلوبة من ناحية‪ ،‬ومن ناحية أخرى في اآليتين إنذار وتحذير للكافرين من‬
‫المآل المنتظر‪ ،‬كما أن الفعل المبني للمجهول هنا "وُقفوا" يوحي – كما أسلفنا‬
‫– أن هذه الوقفة اضطرارية‪ ،‬وليست اختيارية‪ ،‬وذلك قبل السقوط‬
‫االضطراري أيضًا في قعرها‪ .‬إنها الوقفة المصحوبة بنظرات ملؤها الحسرة‬
‫والندامة كونهم ينظرون إلى النار وهى تحتهم‪ ،‬بينما هم على متنها حفاة عراة‬
‫ال ينتظرهم لباسهم وطعامهم فيها‪ ،‬والذي أُعد لهم منذ آالف األعوام‪ .‬ومما‬
‫غر ً‬
‫ينبغي ذكره هنا هذا المعنى الدقيق الذي يتم فهمه من خالل السياق وهو أن‬
‫تلك الوقفة خاصة بهم في اآلخرة‪ ،‬بينما الوقفة للصالحين ينبغي أن تكون هنا‬
‫في الدنيا‪ ،‬وذلك للعظة واالعتبار كون أن من لم يقف الوقفة هنا معتبرًا فإنه‬
‫يخشى عليه أن يكون ممن يقف ذك الموقف هناك‪ ،‬كون قلوب العباد كما هو‬
‫معلوم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء‪ ،‬ومما ينبغي قوله‬
‫هنا هو أنه من الخطأ الفادح أن يظن البعض أن الموقف خاص بالكافرين‪،‬‬
‫ومن ثم ال يتم تأمله وال الوقوف عنده وال اإلستعداد للنجاة منه‪ ،‬بل أن الجماعة‬
‫المنقذة واألمة الهادية أفرادًا وجماعات يجب أن تكون لهم وقفة بل وقفات عند‬
‫هذه اآليات – كما أسلفنا وقلنا – وذلك كي تتحرك القلوب نحو السماء عبادة‬
‫ال وصدقًا‪ ،‬وإال اتجهت القلوب نحو األرض‪ ،‬وعندئ ٍذ تكون‬
‫وإخالصًا وتوك ً‬
‫ال‬
‫االنتكاسة المخزية‪ ،‬والوقفة المذلة وإن اختلفت عن وقفات الكافرين شك ً‬
‫وزمانًا‪ ،‬كما أن واو الجماعة "توحي" بتوقيف جماعي في لحظات حرجة‬
‫‪- 291 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫لجماعات يلعن بعضها بعضًا‪ ،‬ويسب بعضها بعضًا‪ ،‬وذلك على متن جهنم‬
‫في صورة غاية في المذلة والعار والخزى والبوار‪ ،‬كما أن الفعل يوحى‬
‫بسلبهم اإلرادة حيث ذهب وقت االختيار وولى‪ ،‬وجاءت اآلن مرحلة‬
‫االضطرار بكل تفصيالتها ومآالتها وعواقبها‪ ،‬وتوحي كلمة "على النار"‬
‫بأنهم مع النار أصبحوا وجهًا لوجه‪ .‬إنها المقابلة التي لطالما أنكروها‪،‬‬
‫ورفضوا االعتراف بحقيقتها‪ ،‬واآلن جاء وقت الحقيقة ولكن بعد أن ذهب كل‬
‫شئ‪ ،‬كما يالحظ مجئ النار معرفة‪ ،‬وذلك لإليحاء بأنها هى النار التي أخبروا‬
‫بها‪ ،‬فكفروا‪ ،‬وكذبوا‪ ،‬واآلن هى تحتهم تنتظر سقوطهم بعد انتظارها لهم آالف‬
‫األعوام‪ .‬إنها النار بظلمتها وسالسلها وأصواتها ولهيبها‪ ،‬وحسبها تعريفًا أنها‬
‫غضب اهلل لمن أغضب اهلل‪ .‬إنها النار التي يجب أن تكون حاضرة اآلن في‬
‫األفكار والعقول كي يتم التخلص منها فيما بعد‪ ،‬ما لم كان العكس صحيحًا‬
‫بغض النظر عن مدى اإلقامة فيها لمن مات مسلمًا كونها ال يخلد فيها سوى‬
‫الكافر‪ ،‬والكافر فقط‪ ،‬وهذه لفتة بديعة يجب تأملها والوقوف عندها‪ .‬واآلن‬
‫نعود كي نسمع ردهم أثناء وقوفهم على النار كي نتعظ ونحذر "فقالوا ياليتنا‬
‫نرد وال نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين"‪ ،‬إنها األمنية الجماعية‬
‫وبصوت واحد كون الواو في "قالوا" توحى بهذا المعنى‪ ،‬كما أن الفاء‬
‫"المتصلة في قالوا تدل على التعقيب‪ ،‬أي بمجرد الرؤية فقط قبل السقوط‬
‫اعترفوا بكل أخطائهم‪ ،‬وتمنوا العودة بغية الصالح واإلصالح‪ .‬نعم إنه القول‬
‫الباطل دينًا‪ ،‬والساقط حجة‪ ،‬والمتروك حاالً‪ ،‬والمهمل مكانًا وزمانًا كونه جاء‬
‫متأخرًا‪ ،‬ومتأخرًا جدًّا‪ ،‬كما أسلفنا‪ .‬إنه التمني المحال كون التمني ينقسم إلى‬
‫قسمين‪ ،‬محال وعسير‪ ،‬فهذا هو المحال كونه غير قابل للتحقيق‪ ،‬بينما العسير‬
‫هو الذي يمكن تحقيقه ولكن بصعوبة كما يقول علماؤنا‪ ،‬والعجيب أن محتوى‬
‫هذه األمنية الجماعية يوحي بالقدرة الفائقة التي كان يتمتع بها فريق الضالل‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 292 -‬‬

‫واإلضالل في قلب الحقائق من جهة‪ ،‬وفهمها من جهة أخرى في دار الدنيا‪.‬‬


‫نعم يظهر ذلك من خالل محاولتهم البائسة والمخادِعة بكسر الدال وهم على‬
‫متن جهنم من خالل قولهم "فقالوا ياليتنا نرد وال نكذب بآيات ربنا ونكون من‬
‫المؤمنين"‪ ،‬إنها اإلطالة في الحديث والتفصيل في التعريف كونهم أرادوا‬
‫ثالثة أمور‪ :‬العودة إلى حياتهم السابقة وديارهم العامرة‪ ،‬ثانيًا وعدوا بأنهم لن‬
‫يكذبوا مرة أخرى‪ ،‬وثالثًا أنهم سيكونون من المؤمنين‪ .‬ومما ال شك فيه فإن‬
‫هذه المطالب واألماني المتأخرة وهم على متن جهنم‪ ،‬وقبل أن يتم إسقاطهم‬
‫فيها‪ ،‬توحي بأنهم كانوا يعرفون آيات اهلل كونهم أرادوا العودة لمعرفتهم بأن‬
‫العمل بها هو هناك‪ ،‬بينما الجزاء أصبح هنا‪ ،‬كما أن نسبة اآليات إلى الرب‬
‫سبحانه يوحي بمعرفتهم بأن اآليات التي رفضوها باسمها ووصفها وقدسيتها‬
‫وقداستها تحت مسميات إختلقوها بغية الضالل واإلضالل اآلن اعترفوا بأنها‬
‫هلل لفظًا ومعنى‪ ،‬وشكالً ومبنى‪ ،‬وليست لغيرة على اإلطالق كما كانوا يقولون‪،‬‬
‫كما أن قولهم "ونكون من المؤمنين" توحي بأنهم عرفوا المؤمنين‪ ،‬ورأوا‬
‫صدقهم إسما وصفة‪ ،‬لذا تمنوا ووعدوا بأن يكونوا كذلك‪ ،‬كما أن هنا معنى‬
‫دقيقًا‪ ،‬ودقيقًا جدًّا‪ ،‬يفهم من خالل السياق وهو أن الكفار لديهم القدرة على‬
‫تصنيف المجتمع المسلم‪ ،‬فهم يعرفون المسلم الذي ال يحمل من اإلسالم سوى‬
‫الهوية‪ ،‬والهوية فقط‪ ،‬من المؤمن الذي صدق بإسالمه‪ ،‬وارتقى بإيمانه‪ ،‬لذا‬
‫تمنوا وهم على متن جهنم العودة ليكونوا مؤمنين ال مسلمين كونهم عرفوا‬
‫مرتبة اإليمان‪ ،‬وصفات المؤمنين‪ ،‬وهذا يعنى أن لديهم تصنيفًا بعدد المؤمنين‬
‫من مجموع تعداد المسلمين‪ ،‬ومن خالله يحكمون‪ ،‬وعلى أساسه يتعاملون‪،‬‬
‫وهو معنى دقيق‪ ،‬ودقيق جدًّا‪ ،‬ينبغي تأمله‪ ،‬والوقوف عنده‪ ،‬كما أن ما سبق‬
‫ال في األعم الغالب‪ ،‬وسيظل كذلك‬
‫يوحي بأن كفر الكافرين كان عنادًا ال جه ً‬
‫حاله وحال أهله ما بقيت الحياة‪ .‬وما ينبغي قوله هنا هو أن ثقافة المرء وعلمه‬
‫‪- 293 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫وعقله وفهمه إن لم تقده مجتمعة إلى اهلل فبئست الثقافة‪ ،‬وبئس المثقف‪ .‬واآلن‬
‫وبعد تلك األماني الباطلة‪ ،‬والثقافة المتأخرة جاء التعبير القرآني مرة أخرى‬
‫متحدثًا عن حقيقة أخرى دون أي اعتبار لطرحهم وأطروحاتهم كونها‬
‫أطروحات ال تستحق ردًّا‪ ،‬وليس لها اعتبار النتفاء مكانها وزمانها‪ ،‬وهو ما‬
‫يستدعي العمل في دار العمل بعيدًا عن األماني الباطلة‪ ،‬والتصورات‬
‫الخاطئة‪ ،‬لذا سيكون الرد عليها مختصرًا ولكن في آخر اآلية كون زمن‬
‫التكاليف والقول قد ذهب وقته‪ ،‬وانقضى زمانه‪ ،‬ولم يتبق سوى وقت الجزاء‪،‬‬
‫والجزاء فقط‪ .‬ويتواصل السياق القرآني بطريقته المعهودة وتعبيراته الفريدة‬
‫مخبرًا عنهم "بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل"‪ ،‬إنها المكاشفة النهائية‬
‫والفضيحة المدوية بعيدًا بعيدًا عن أمانيهم الكاذبة تعلن من جديد أمام أعينهم‬
‫والنار تحتهم تنتظر أجسادهم الرثة‪ ،‬ووجوههم المظلمة‪ ،‬وألسنتهم المكذبة‪،‬‬
‫وقلوبهم القاسية‪ ،‬فلم يعد في الوقت متسع‪ ،‬ولم يعد للحجج مكان‪ ،‬فقد بدا لهم‬
‫– وبكل وضوح – ما كانوا يخفونه عن الناس‪ ،‬بينما رب الناس يعلمه‪ ،‬واآلن‬
‫فقط انكشف الغطاء‪ ،‬وسقطت األقنعة ليكون الجزاء من جنس العمل‪ ،‬ثم تأتي‬
‫النهاية معلنة كذب دعواهم‪ ،‬وسقوط مطلبهم‪ ،‬ورد أمنيتهم بقوله سبحانه "ولو‬
‫ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون"‪ ،‬إنها المكاشفة النهائية تتوالى في‬
‫لحظات حاسمة وهى تفضح الكفر بعقائده وأشخاصه وبواطنه وحقائقه حتى‬
‫ال تدع تلك المكاشفة مجاالً لكثرة الكالم فيما ال فائدة منه‪ ،‬وال طائل من ورائه‪.‬‬
‫ومما ال شك فيه فإن قوله "وإنهم لكاذبون" توضح حقيقة الكفر وبواطن الكفرة‬
‫وقد رأوا الحشر والموقف‪ ،‬وختامًا النار بأهوالها ونكالها‪ ،‬ومع ذلك تبقى‬
‫البواطن النجسة نجسة مابقيت حية غير قابلة للطهارة أو التطهير البتة‪ .‬إنها‬
‫الحقيقة التي يجب أن تعيها الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهى تتعامل مع‬
‫هذه البواطن الكافرة‪ ،‬والتي َكذَ َبتْ‪ ،‬وستظل كاذبة غير صادقة ما بقيت حية‪،‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 294 -‬‬

‫وما بقي أحياء‪ .‬إنها الكاذبة عقيدةً‪ ،‬والكاذبة سلوكًا‪ ،‬والكاذبة أخالقًا‪ ،‬ولن‬
‫تصدق يومًا‪ ،‬وحتى لو ماتت ثم رأت النار رأي العين لبقيت كاذبة‪ ،‬وهو ما‬
‫يستدعي الحيطة والحذر من هذا الكفر‪ ،‬ومن هؤالء الكفار‪ .‬وأخيرًا البد من‬
‫اإلشارة إلى قضية جدًا مهمة وهى أن القرآن عندما نقل هذا الكذب الصريح‬
‫لهذا الكفر الصريح فهذا ال يعني أبدًا ونحن نرى تعاملهم أحيانًا بشئ من‬
‫الصدق أنهم صادقون خالف ما أخبر اهلل عنهم‪ ،‬وإنما المقصود بكذبهم هو‬
‫كذب عقائدهم‪ ،‬والذي يتمخض عنه بدون شك كذب سلوكهم‪ ،‬لذا فإن ما نراه‬
‫من تعاملهم المصبوغ بشئ من األخالق أحيانًا إنما يراد منه تسويق كذبهم‬
‫وعقائدهم بأخالق مفتعلة حينًا‪ ،‬ومزورة حينًا آخر‪.‬‬
‫‪- 295 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ب ُك ِل شَيْ ٍء حَتَّى إِذَا َف ِرحُواْ بِمَا‬


‫علَيْهِمْ أَبْوَا َ‬
‫( َفلَمَّا نَسُواْ مَا ذُ ِكرُواْ بِ ِه فَ َتحْنَا َ‬
‫ظلَمُواْ‬
‫ن َ‬
‫أُوتُواْ َأخَذْنَاهُم بَغْتَ ًة َفإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ{‪ }44‬فَ ُقطِ َع دَا ِبرُ القوم الَّذِي َ‬
‫وَالْحَمْ ُد هللِ رَبِ الْعَالَمِينَ{‪.)65()}45‬‬
‫إذا رأيت نعم اهلل على عبده تترى وهو مقيم على معاصيه فاعلم أن اهلل‬
‫يستدرجه حتى إذا أمن أخذه بغتة دون سابق إنذار‪ .‬إنه االستدراج المصاحب‬
‫لألخذ المباغت الذي يحيط بعبيد السوء وعباد السيئات‪ .‬نعم إنها الحقيقة التي‬
‫تتكرر على مستوى األفراد كما هى على مستوى الجماعات والدول سواء‬
‫بسواء‪ .‬وحتى نعيش مع اآليتين دعونا نغوص في المفردات حيث جمال‬
‫التعبير‪ ،‬وروعة التصوير‪ ،‬فقوله "فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب‬
‫كل شئ"‪ ،‬هذه الجملة القرآنية تحمل دالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن قوله "فلما"‬
‫توحي بأن العقاب اإللهي سببه على الدوام هو نسيان البشر‪ ،‬ومكرهم‪،‬‬
‫وفسادهم‪ .‬إنه النسيان الذي يتجاوز نسيان اللحظة إلى نسيان الغفلة المتجاوز‬
‫للمكان والزمان والحال كون النسيان األول معفيًا عنه‪ ،‬بينما النسيان الثاني‬
‫هو النسيان األنكي واألشقى واألدهى‪ .‬إنه النسيان الذي يتجاوز به العبد السماء‬
‫وينكب على األرض‪ ،‬وعلى األرض فقط‪ ،‬بذاتها ولذاتها‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫بوحيها ونهجها‪،‬‬
‫ويزداد السوء‪ ،‬وتتعاظم السيئات عندما جاء التعبير بواو الجماعة في قوله‬
‫"نسوا"‪ ،‬إنه النسيان الجماعي لوحي السماء‪ ،‬ومنهجها‪ ،‬كون النسيان الفردي‬
‫ال يعجل باألخذ الجماعي‪ ،‬وهو ما يوحي به اللفظ القرآني بروعته وجماله‬
‫ودقته وداللته‪ ،‬وجيء بحرف "ما" التي بمعنى الذي لإلشارة إلى محتوى‬
‫س تجاوز‬
‫النسيان الذي أودى بالماضي‪ ،‬وما زال يفعل فعله بالحاضر بكل نا ٍ‬
‫نسيانه الحال والمكان والزمان كون قوله "ما ذكروا به" يقصد بها األحداث‬

‫(‪ )65‬سورة األنعام‪ :‬اآليتان ‪.45 ،44‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 296 -‬‬

‫التي حدثت أمام أعينهم لغيرهم علهم يعتبرون بها من جهة‪ ،‬ووحي السماء‬
‫الذي هو ذكرى لكل الناس من جهة أخرى‪ .‬إنه النسيان المركب الذي تجاوز‬
‫أحداث الزمان‪ ،‬وحقائق األيام‪ ،‬ومنهج الرحمن دون ذكرى أو اعتبار‪ .‬نعم إنه‬
‫العمى المصاحب للنعم الذي قتل الكثير باألمس‪ ،‬وما زال هو نفسه يقتل الكثير‬
‫والكثير اليوم‪ .‬ومما ال شك فيه فإن الظَّلمة عندما يرون األحداث تأخذ غيرهم‪،‬‬
‫ال ظنًّا منهم أنهم في مأمن‬
‫وتذل سواهم‪ ،‬فإنهم بسبب ظلمهم يزدادون ضال ً‬
‫حتى يحل األخذ بدارهم‪ ،‬والقطع النهائي لدابرهم وهم غافلون‪ .‬إنه الظلم الذي‬
‫أعمى بصائر السابقين‪ ،‬وهو الذي يفعل فعله اليوم بظلم الالحقين‪ ،‬ويزداد‬
‫جمال التعبير لتوضيح سذاجة القوم وبالدتهم‪ ،‬وذلك من خالل مجئ واو‬
‫الجماعة مرة أخرى في قوله "ما ذكروا"‪ ،‬إنه اإليحاء الدقيق بالعمى الجماعي‬
‫كون الذكرى وجهت للقوم‪ ،‬كل القوم‪ ،‬فلم تجد قلبًا سليمًا‪ ،‬وال عقالً واعيًا‪ ،‬وال‬
‫فهما لبيبًا لدى القوم‪ ،‬كل القوم‪ ،‬مما يوحي بالبالدة الجماعية‪ ،‬والسقوط‬
‫الجماعي المؤهل لألخذ دون بقاء أو تأخير‪ ،‬ويتواصل الجمال القرآني‬
‫بروعته وجماله وهو يعدد النعم التي ال يحدها باب‪ ،‬وال يحصيها كتاب‪ ،‬وذلك‬
‫من خالل قوله "فتحنا عليهم أبواب كل شئ"‪ ،‬حيث توحي هذه الجملة بدالالت‬
‫كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن نعم اهلل في مكان مغلق ال قدرة ألحد أيًّا كان هذا األحد فتحها‬
‫ما لم يأذن بفتحها الفتاح‪ ،‬كما أن لفظ "فتحنا"‪ ،‬وليس أعطينا‪ ،‬يوحي بكثرة‬
‫النعم المفتوحة صوب العصاة‪ ،‬والتي ال يمكن إحصاؤها أو عدها‪ .‬إنها النعم‬
‫التي ال ينبغي أبدًا أن تشغل الجماعة المنقذة واألمة الهادية عن واجبها في‬
‫إحقاق الحق‪ ،‬وإزهاق الباطل كون الدنيا بطينها وناسها ليست أبدًا هى الجزاء‬
‫الحقيقي لصفوة الخلق‪ ،‬ودعاة الحق‪ ،‬بل هى دنيا كاسمها يعطيها خالقها لمن‬
‫يحب ولمن ال يحب‪ ،‬وهو المعنى الذي يجب استشعاره والتنبه له في زحمة‬
‫الحياة وسلوك األحياء‪ ،‬كما أن اللفظ يوحي بحقارة الدنيا بما فيها وبمن فيها‪،‬‬
‫‪- 297 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ولو لم تكن كذلك لما فتحها للعصاة بهذا الحد وبدون عد‪ .‬إنها المتع الدنيوية‪،‬‬
‫والنعم األرضية التي ال قيمة لها في السماء كونها خالية من نعمة الرضا‪،‬‬
‫ونعمة القناعة‪ ،‬ونعمة الطمأنينة كونها متعًا دنيوية طينية خالية من نعمة‬
‫الوحي السماوية األهنأ واألبقى واألصح واألسمى‪ ،‬وقوله "عليهم" توحي‬
‫بخصوصية نعم اهلل عليهم‪ ،‬وهو ما يستدعي الحذر عندما تحل النعمة‪،‬‬
‫وتتوالى العطية‪ ،‬وليس االغترار واألشر كما هو حال هؤالء‪ ،‬ويتوالى الجمال‬
‫القرآني وهو يصور النعم تصويرًا غاية في الروعة والجمال من خالل قوله‬
‫"أبواب كل شئ"‪ ،‬حيث توحي هذه الكلمات بعدة معانٍ‪ ،‬ومنها‪ :‬أن نعم اهلل‬
‫متعددة‪ ،‬وليست محصورة كون لفظ األبواب يوحي بهذا المعنى‪ ،‬كما أن هذا‬
‫اللفظ يوحي بأن كل نعم ًة لها باب‪ ،‬وبابها مغلق ال يقدر على فتحه إال خالقه‪،‬‬
‫و خالقه فقط‪ ،‬وهو ما يعني التوجه نحوه سبحانه ليفتح للعبد العطاياً‪ ،‬ويمنع‬
‫عنه الرزايا‪ ،‬كما أن اللفظ يوحي بأن هذا الباب ال يمكن أن يظل مفتوحًا إلى‬
‫األبد‪ ،‬فهو البد أن يغلق يومًا ما سواء بمعصية العبد كما هو الحال هنا‪ ،‬حيث‬
‫يتم الفتح الكامل لألبواب بغية االستدراج المؤقت‪ ،‬ومن ثم تغلق فورًا عند‬
‫األخذ كي تفتح آلخرين‪ ،‬أو أنها تغلق عن العبد بوفاته وموته‪ ،‬وإذا كان صالحًا‬
‫تفتح له األبواب األكثر اتساعًا‪ ،‬واألبقى حاالً‪ ،‬واألكمل نعيمًا هناك حيث جنان‬
‫الخلد في روضات الجنات‪ ،‬وكون الفتح لألبواب كان استدراجًا للعصاة وجدنا‬
‫التعبير يواصل التصوير الجمالي من خالل قوله "كل شئ"‪ ،‬إنه التعبير‬
‫الموحي بتتابع النعم الطينية‪ ،‬والطينية فقط‪ ،‬بعيدًا بعيدًا عن النعم الروحية التي‬
‫ال تكتمل الحياة‪ ،‬دونها‪ .‬نعم إنها األرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬من مال وجاه وصحة‬
‫وأوالد وسعة رزق وتتابع عطاء‪ .‬إنه التتابع للنعم الخالية من البركة‪ ،‬والفتح‬
‫المؤذن باإلغالق الحتمي عند صدور األمر اإللهي‪ .‬نعم إنها الحقيقة التي يجب‬
‫أن تعيها الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهي ترى النعيم المادي والترف‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 298 -‬‬

‫الدنيوي بعيدًا عنها‪ ،‬بل في أيدي غيرها ممن ال دين لهم وال قيم‪ ،‬عندئ ٍذ يعلمون‬
‫أن الحياة ليست بهذه األهمية كون الحياة الحقيقية تكمن في حياة األرواح‬
‫بمنهج السماء‪ ،‬ووحيها‪ ،‬بينما ترف العصاة وفرحهم سرعان ما يزول‬
‫وينتهي‪ ،‬ويؤول للصالحين إن صدقوا‪ ،‬وعلى ربهم توكلوا‪ ،‬وبعد كل هذه‬
‫النعم‪ ،‬وهذا الحال‪ ،‬وذلك العطاء ينقلنا السياق القرآني كعادته بجمال التصوير‬
‫ودقة التعبير وهو يوضح الحالة النفسية لهؤالء القوم األتعس حاالً‪ ،‬واألسوأ‬
‫دينًا‪ ،‬واألرذل أخالقًا‪ ،‬والدنيا تفرحهم بطينها وناسها‪ ،‬وذلك من خالل قوله‬
‫"حتى إذا فرحوا بما أوتوا"‪ ،‬حيث توحي هذه األلفاظ بإيحاءات كثيرة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫قوله حتى وليس فلما فرحوا كون الفاء هنا لو جاءت ألوحت باألخذ السريع‪،‬‬
‫بينما حتى توحي بمعنى الغاية والترك لهؤالء القوم في النعيم فترة قبل األخذ‬
‫المباغت‪ .‬إنه الترك واإلبقاء عليهم صحيحو األجساد‪ ،‬كثيرو النعم‪ ،‬عظيمو‬
‫الجاه‪ ،‬آمنون الشر‪ ،‬مستورو الحال زمنًا طويالً‪ ،‬وعمرًا مديدًا حتى يغمرهم‬
‫الفرح‪ ،‬ويحيط بهم األنس‪ ،‬ويظنون عندئ ٍذ أنهم والبقاء سيان ال يفترقان‪ .‬إنه‬
‫الفرح المبتور المُخفي وراءه كل وحشة‪ ،‬والذي يظهر هنا في صورة عابثة‪،‬‬
‫وفي لحظات عاطفية عابرة في رسالة عاجلة للجماعة المنقذة واألمة الهادية‬
‫كي تستشعر أن الفرح المنقوص الذي ال يحويه دين‪ ،‬وال يقوده يقين‪ ،‬وال‬
‫يحكمه دليل‪ ،‬هو فرح مفضوح سرعان ما ينقلب أهله إلى األحزان والمنون‬
‫كون الفرح الحقيقي كما تعرفه الجماعة واألمة هو بفضل اهلل وبرحمته التي‬
‫تغني عن كل شئ‪ ،‬ومن كل شئ‪ .‬وينقلنا القرآن إلى خاتمة األفراح المنقوصة‬
‫عمرًا‪ ،‬والسيئة حاالً‪ ،‬وهى تنتهي في لحظات سريعة كي ُتغْلَق األبواب‬
‫المفتوحة هنا لتُفتَح أبواب األخذ اإللهي المنتهية حتمًا إلى دار بأبوابها السبعة‬
‫هناك حيث الهوان والبوار‪ ،‬والخزى الجماعي والعار‪ .‬إنها خاتمة االستدراج‬
‫تأتي هنا كي تعلم الجماعة المنقذة واألمة الهادية هذه الحقيقة‪ ،‬فتعيش بها ولها‬
‫‪- 299 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫دون أن تستدرجها نعمة‪ ،‬أو تغريها فرحة سواءً على مستوى أفرادها كأفراد‪،‬‬
‫أو حالها كجماعة وأمة كون الزوال ينتظر الفرح المنقوص الخالي من قيم‬
‫الروح‪ ،‬والملئ فقط بقيم الطين‪ ،‬ومتعه وذواته‪ .‬إنها النهاية المحتومة‪،‬‬
‫والفرحة اليتيمة تظهر هنا من خالل قوله "أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون"‪،‬‬
‫إنه األخذ المباغت الذي ترك القرآن لنا نوعيته وشكله وطريقته دون تحديد‬
‫كون األخذ يكون بطرق مختلفة‪ .‬إنه األخذ بطريقة مباشرة من السماء‬
‫بصواعق وزالزل‪ ،‬أو بطريقة غير مباشرة‪ ،‬وذلك بسلبهم ما معهم على أيدي‬
‫غيرهم‪ ،‬فيبيتون جوعى بعد شبع‪ ،‬وأذالء بعد عز‪ ،‬وموتى بعد حياة‪ .‬إنه األخذ‬
‫الذي تُرك هكذا دون تحديد الشكل والكيف ليبقى أهله مجهولي النهاية كما‬
‫كانوا تمامًا مجهولي البداية‪ ،‬وجاء التعبير المعجز والمعبر عن ضعف هؤالء‬
‫القوم من خالل قوله "وهم مبلسون"‪ ،‬أي يائسون من النجاة‪ ،‬ومن البقاء‪،‬‬
‫وذلك بعد الفرح المنقوص‪ ،‬والعبث المنحوس بغيرهم‪ ،‬فقد جاء وقتهم اآلن‬
‫كى يستسلموا لمن بيده األمر والنهي‪ .‬إنه االستسالم اإلجباري ألقوام كانت‬
‫نهايتهم شبيهة تمامًا بطريقة عيشهم‪ ،‬ثم تختم اآلية بختام يناسب البداية من‬
‫خالل اآلية التالية‪ ،‬وذلك بقوله "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد هلل رب‬
‫العالمين"‪ ،‬إنه القطع النهائي لسيرة هؤالء‪ ،‬ومكرهم‪ ،‬وظلمهم لتنتهي بهم‬
‫الحياة‪ ،‬وينسى شرهم وذكرهم األحياء كون لفظ القطع يوحي بهذا المعنى‪،‬‬
‫كما أن بناء الفعل للمجهول "فقطع" دون أن يحدد القاطع لهذا الدابر‪ ،‬ولهذا‬
‫الناسي‪ ،‬ولهذا الغافل بهذه الصورة تاركًا المجال مفتوحًا سوء للقطع المباشر‬
‫كما كان الحال في األخذ غير الموضح الشكل والطريقة من قبل اهلل‪ ،‬أو للقطع‬
‫غير المباشر عن طريق نصر اهلل لعباده الصالحين‪ ،‬وحزبه المفلحين ليتولوا‬
‫هم بأمر اهلل وحكمه قطع هذا الدابر بأشكاله وذواته وأنصاره ورجاله وحُكْمِ ِه‬
‫وأدواته‪ .‬نعم جاء بلفظ القطع لتأنس الجماعة المنقذة واألمة الهادية بعد وحشة‪،‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 300 -‬‬

‫ال‬
‫وتطمئن بعد خوف كون قطع دابر الظلمة‪ ،‬وإنهاء حكمهم وتحكمهم حاص ً‬
‫وحادثًا‪ ،‬والقضية هى قضية وقت ال أكثر‪ .‬إنها الحقيق التي يجب أن تصبر‬
‫عليها ولها الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهى ترى أعمار الظلمة ومكرهم‬
‫يطول دون أخذ رغم فسادهم‪ ،‬عندئ ٍذ يعلمون أنه االستدراج ال أكثر‪ ،‬وعما‬
‫قريب يأتي األخذ‪ ،‬واألخذ المباغت بدون شك‪ ،‬وهذا ال يعني أبدًا عدم القيام‬
‫بواجب الدعوة حتى يأتي أمر السماء بقطع الدابر الذي أفسد‪ ،‬ومازال كذلك‪،‬‬
‫بل الواجب العمل والحركة دون استعجال النتائج‪ ،‬وترك العواقب والنهايات‬
‫للسماء‪ ،‬فهى وحدها التي تحدد زمن وطريقة األخذ‪ ،‬وليست األرض مَنْ تفعل‬
‫ذلك‪ ،‬ثم ختمت اآلية بحمد وثناء اهلل على ذاته كونه – جلت قدرته‪ ،‬وتقدست‬
‫أسماؤه – ال يعجزه شيء‪ ،‬وال يحتاج إلى شئ‪ ،‬بل الجميع مفتقر له‪ ،‬ومحتاج‬
‫إليه‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب أن تعيها الجماعة المنقذة واألمة الهادية عندما‬
‫ترى مكر اهلل‪ ،‬وأخذه للظالمين سواء بطريقة مباشرة‪ ،‬أو على أيديهم‪ ،‬عندئذٍ‬
‫عليها أن تحمد اهلل ال أن تحمد ذاتها‪ ،‬وال جهدها‪ ،‬وال خططها كون اهلل‪ ،‬واهلل‬
‫وحده‪ ،‬هو الذي أخذ‪ ،‬وهو الذي قطع‪ ،‬وما العباد بجهودهم وجهادهم إال أسباب‬
‫ال أكثر‪ ،‬وهو معنى نفيس‪ ،‬بل غاية في النفاسة نلحظه في ختام هذه اآلية‬
‫المختومة بهذا الحمد‪.‬‬
‫‪- 301 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ق بِكُمْ عَن سَبِيلِ ِه‬


‫صرَاطِي مُسْتَقِيم ًا فَاتَّبِعُو ُه وَالَ تَتَّبِعُواْ السُّبُ َل فَتَفَرَّ َ‬
‫َن هَـذَا ِ‬
‫( َوأ َّ‬
‫َذلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ{‪.)66()}153‬‬
‫لن يصلح لألمة حال‪ ،‬ولن يجتمع لها شمل ما لم يكن صراط اهلل المستقيم في‬
‫حياتها هو السيد والسائد‪ ،‬والمنهج والقائد‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب اإليمان بها‪،‬‬
‫والعمل من خاللها من قبل أفراد الجماعة المنقذة واألمة الهادية حتى ال تضل‬
‫بعد هداية‪ ،‬ويذهب ريحها وراحتها بعد سعادة‪ ،‬ومما ال شك فيه فإن السبل‬
‫الشيطانية عندما تكون هى القائدة والقائد عندئ ٍذ تكون الفرقة واالفتراق هى‬
‫السيدة والسائد سواء بسواء‪ ،‬كما أنه من المعلوم كذلك أن صراط اهلل المستقيم‬
‫ليس كلمات تقال‪ ،‬وال شعارات تردد‪ ،‬بل هو شريعة وشعائر ومنهاج ونهج‪،‬‬
‫لذا كانت هذه اآلية معطوفة على مجموعة من الوصايا اإللهية الداعية إلى‬
‫تحرر القلب البشري‪ ،‬والفكر اإلنساني‪ ،‬والضمير اآلدمي من هوى األرض‪،‬‬
‫وفسادها‪ ،‬واالتجاه الجماعي بكل مكوناته ومكنوناته نحو السماء كي يرسم‬
‫اللوحة الحقيقية للصراط المستقيم في األرض‪ .‬إنه االتجاه الوحيد والقادر دون‬
‫ال يحفظ لها وزنها وتوازنها‬
‫غيره على إصالح الذات اإلنسانية إصالحًا متكام ً‬
‫بعيدًا عن لغة التخمينات العبثية‪ ،‬والثقافات اإلبليسية التي أثبتت فشلها سواء‬
‫في الماضي البعيد أو في حاضرنا القريب‪ .‬وحتى تتذوق حالوة اآلية وجمالها‬
‫ننتقل مباشرة لنعيش في ظاللها‪ ،‬ونتنسم الروح والريحان في أفيائها‪ ،‬فقوله‬
‫"وأن هذا صراطي مستقيما" توحي هذه األلفاظ بدالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن‬
‫واو العطف توحي بأن هذه الجملة معطوفة على ما قبلها‪ .‬إنه العطف القائم‬
‫والدال على مجموعة من القيم السماوية الحافظة لألرض من عبث األرض‪.‬‬
‫نعم إنه العبث البشري الطيني المتفلت من القيم‪ ،‬والمتعصب دون وجه حق‬

‫(‪ )66‬سورة األنعام‪ :‬اآلية رقم ‪.153‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 302 -‬‬

‫للطين‪ ،‬لذات الطين فحسب‪ .‬إنه الطين الذي فقد قيمته يوم أن أخذته السبل‬
‫بعيدًا بعيدًا حتى أعمت بصره وبصيرته حينًا من الدهر‪ ،‬وال يزال هذا العمى‬
‫يفعل فعله‪ ،‬وسيظل كذلك ما بقيت السبل قائمة‪ ،‬ودعائها على صدور ضعاف‬
‫الخليقة جاثمة‪ ،‬لذا كان العطف هنا إيحا ًء بأن صراط اهلل المستقيم ليس صراطًا‬
‫خاويًا ال روح فيه كما هو حال سبل الشيطان وضالالته‪ ،‬بل هو الصراط‬
‫القويم دينًا‪ ،‬والواضح شرعًا‪ ،‬والوسطيّ عبادةً‪ ،‬واألحق بالبقاء واإلتباع إنه‬
‫الصراط الذي يحوي الوصايا التسع بجمالها وجاللها وروعتها وكمالها‪ .‬نعم‬
‫فجمالها كونها تُجمِّل باطن العبد وظاهره وتطهر أخذه وعطاءه وتصلح دنياه‬
‫وآخرته‪ ،‬أما جاللها فكونها وصايا ذو الجالل المطلق سبحانه وتعالى‪ .‬ومما‬
‫ال شك أن الصراط يحوى غير هذه الوصايا ولكن تُعتبر هذه الوصايا هي‬
‫القواعد التعبدية واألساسات التشريعية التي ينطلق المؤمن بها ومن خاللها‬
‫مع سائر القيم نحو السماء تاركًا األرض بشهواتها خلف ظهره‪.‬‬
‫وال شك في أن القيم السماوية العليا هذه هى التي يجب على الجماعة المنقذة‬
‫واألمة الهادية السير على أساسها‪ ،‬ودعوة األرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬بأهلها‬
‫وناسها كي تتبعها كونها الصراط الذي يملك الحقوق الحصرية الحقيقية في‬
‫السيادة والقيادة‪ ،‬وما سواه من النظريات والقيم األرضية األخرى ال تعدو أن‬
‫تكون سوى سبل شيطانية إبليسية ال أكثر‪ .‬وقد جاء اسم اإلشارة "هذا" هنا‬
‫لإليحاء الصريح بهذه القيم النبيلة‪ ،‬والوصايا السماوية الخالدة كونها هى‬
‫الحقيقة وما سواها َوهْم والنور وما سواها ظالم لذا ال يجوز أن تبحث الجماعة‬
‫المنقذة واألمة الهادية عن طريق غير هذا الطريق‪ ،‬وال عن منهج غير هذا‬
‫المنهج كون منهج السماء بمحتواه هذا وقيمه هذه كفيل دون غيره بإحياء‬
‫األرض بعد موات‪ ،‬وإشباعها بعد جوع‪ ،‬وتأمينها بعد خوف‪ ،‬وإال كان العكس‬
‫صحيحًا‪ ،‬والمآل القبيح واقعًا‪ .‬كما أن الياء في قوله "صراطي" إيحاء بأن‬
‫‪- 303 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫هذه أوامر سماوية ال أرضية‪ ،‬ونقلية ال عقلية‪ .‬إنها الحقيقة الداعية التباع هذه‬
‫األوامر وتنفيذ تلك الوصايا كونها أوامر سماوية مقدسة ووصايا ربانية ملزمة‬
‫غير قابلة للتأويل أو التعطيل أو التحريف والتبديل تحت أي مسمى كون الياء‬
‫توحي بهذا المعنى‪ ،‬وهو معنى نفيس ينبغي تأمله‪ ،‬والوقوف عنده‪ ،‬كما أن‬
‫الياء تبعث في القلب الحي همة وهمم وأمانة وإيمان تدفعه للعمل واالتباع‪،‬‬
‫والتمسك واالستماع‪ ،‬والمالحظ أن صفة الصراط "مستقيماً" هنا جيء بها‬
‫منكرة لإليحاء بأن صراط اهلل مستقيم كامل االستقامة سواء في ألفاظه‬
‫ومعانيه‪ ،‬أو في أحكامه ومبانيه‪ .‬إنها االستقامة الكاملة بما تحويه األلفاظ من‬
‫المعاني حتى تعي الجماعة المنقذة واألمة الهادية هذا الصراط فتسير عليه‪،‬‬
‫وتتمسك به تاركة وراءها وخلف ظهرها سبل الشيطان وضالالته كون أن‬
‫غير هذا السبيل السماوي هو سبل شيطانية‪ ،‬ونظريات إبليسية ال أكثر‪ ،‬كما‬
‫أن هنا معنى غاية في الروعة والجمال يفهم من خالل سياق اآلية وهو أن‬
‫هذا الصراط المستقيم بهذه األوصاف واألحوال غير المعوجة في األلفاظ‬
‫والمعاني‪ ،‬وال في األحوال والمباني يوحي بأن السالك لهذا الصراط‬
‫والمتمسك به ال يعوَّج‪ ،‬وال يَضِل كون الصراط مستقيمًا ال عوج فيه‪ ،‬عندئذٍ‬
‫سيصبح السالك كذلك‪ ،‬وهو معنى دقيق ونفيس أيضًا‪ .‬واآلن وبعد توضيح‬
‫المعنى الكبير من واو العطف مع لطائف األلفاظ وجمال العبارات ينتقل‬
‫السياق القرآني بنا مباشرة إلى تحديد الهدف والغاية من تشريع هذه القيم‪،‬‬
‫وذلك من خالل قوله "فاتبعوه وال تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله"‪ ،‬إنها‬
‫الحقيقة الكبرى التي ينبغي استيعابها من قبل الجماعة المنقذة واألمة الهادية‬
‫وهى أن ثقافة التنظير واالفتخار بالمنهج والمحتوى الخالية من العمل‬
‫والتطبيق غير مقبولة البتة ما لم يكن العمل بتلك القيمة وذلك المنهج هو السيد‬
‫والسائد‪ .‬إنها ثقافة الكالم‪ ،‬وثقافة الطرح‪ ،‬وثقافة الجدال‪ ،‬كلها ثقافات جوفاء‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 304 -‬‬

‫ال قيمة لها في ميزان السماء وحكمها ما لم يكن العمل بها هو األصالة‬
‫واألصل‪ ،‬لذلك بعد ذكر القيم جاء األمر هنا بالعمل واالتباع‪ ،‬وذلك في إشارة‬
‫واضحة للجماعة المنقذة واألمة الهادية كي تخرج من طور التنظير إلى طور‬
‫التطبيق‪ ،‬كما نلمس إيحاءات كثيرة هنا‪ ،‬ومنها‪ :‬أن التمسك الفردي واالعتصام‬
‫الذاتي بالصراط المستقيم بعيدًا عن العمل الجماعي ال ينجي صاحبه من‬
‫السقوط في أتون السبل اإلبليسية‪ ،‬ومستنقعات البدع الشيطانية كون واو‬
‫الجماعة هنا توحي بوجوب التمسك الجماعي بصراط اهلل المستقيم المتمثل‬
‫بقيم السماء ووحيها كما هو معلوم‪ .‬إنها ثورة القرآن الواضحة منذ القدم‪،‬‬
‫الرافضة على الدوام لثقافة االنعزال والتقوقع بعيدًا عن الناس تحت مسميات‬
‫العبادة والتعبد الموبوء‪ ،‬كما أن الفاء في قوله "فاتبعوه" توحي بوجوب االتباع‬
‫الفوري دون تأخر أو إبطاء كون اآلمر هنا هو اهلل‪ ،‬فال مجال للتفكير في هذا‬
‫األمر كون السبل اإلبليسية تنتظر المتساقطين والمترددين البتالعهم على‬
‫الفور‪ ،‬فكان وجوب السير على صراط اهلل المستقيم لهذا المعنى‪ ،‬وما من شك‬
‫في أن العلماء اختلفوا في تعريف الصراط‪ ،‬فمنهم من قال هو القرآن‪ ،‬ومنهم‬
‫من قال هو اإلسالم‪ ،‬وآخرون قالوا هو النبي الكريم‪ ،‬وال شك في أنها كلها‬
‫حق وصدق‪ ،‬ولكن يبقى اإلسالم هو القول الذي يجمع كل األقوال دون شك‪.‬‬
‫وما ينبغي قوله أيضًا هو أن هذا الصراط الصادق دينًا‪ ،‬والواضح شريعة‬
‫وشرعًا لن ينفرد في الحياة كون العدو إبليس المعروف بسبله ودعوته ورجاله‬
‫ودعاته لن يبقى ساكنًا وال ساكتًا‪ ،‬بل سيتحرك على الفور‪ ،‬وهو متحرك‬
‫بالفعل‪ ،‬لذا قال اهلل "وال تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله"‪ ،‬حيث تحمل هذه‬
‫الجملة دالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الفعل المضارع تتبعوا والمسبوق بال الناهية‬
‫يوحي بقدرة الشيطان الفائقة على التلبيس‪ ،‬وهو ما استدعى األمر السماوي‬
‫باالنتباه الدائم والمستمر كون الشيطان بسبله ودعاته لن يتوقف‪ ،‬ولن يسكن‪،‬‬
‫‪- 305 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫كما أن الجملة توحي بأن صراط اهلل واحد‪ ،‬وسبل الشيطان متعددة‪ ،‬حيث إن‬
‫كلمة "السبل" في نهاية اآلية هنا تقابل "صراطي مستقيمًا" في بدايتها‪ ،‬كما‬
‫أن السبل وسبيله أيضًا تشير لهذا المعنى‪ .‬إنها السبل الشيطانية براياتها‬
‫المتعددة‪ ،‬وقياداتها المتنوعة‪ ،‬وضالالتها المختلفة تعلن عن نفسها حيثما وجد‬
‫الصراط المستقيم‪ ،‬ووجد عليه سالكون‪ .‬نعم إنها السبل المختلفة شكالً‪،‬‬
‫والباطلة دينًا‪ ،‬والساقطة أخالقًا تكرر ذاتها‪ ،‬وتنشر إفكها دون حياء أو خجل‬
‫على مدار التاريخ البشري الطويل مستهدفة صراط اهلل المستقيم بمبادئه وقيمه‬
‫ورجاالته ودعاته‪ ،‬وهو ما يستدعي الحيطة والحذر من خالل تخلية واضحة‬
‫لألنفس تتبعها تزكية هادفة‪ ،‬ويالحظ التعبير القرآني الدقيق من خالل قوله‬
‫"فتفرق بكم عن سبيله"‪ ،‬حيث توحي هذه الجملة بدالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن‬
‫قوله "فتفرق" وليس" فتفرقوا "هذا التعبير يوحي بامتالك السبل الشيطانية‬
‫للذوات البشرية عندما يسقطون في أتونها‪ ،‬ويقعون في أحضانها‪ .‬إنه الخطر‬
‫الجسيم الذي تمثله سبل الشيطان‪ ،‬وبدعه‪ ،‬وضالالته‪ ،‬وشبهاته كون كل تلك‬
‫المفردات وردت في تفسير معنى "السبل"‪ ،‬وهو ما يستدعي الحذر المقرون‬
‫بالتربية حتى ال يسقط أفراد الجماعة المنقذة واألمة الهادية في أحضان تلك‬
‫السبل‪ ،‬ومن ثم يكون من الصعوبة بمكان إعادتهم من أحضانها إلى الحضن‬
‫الشرعي الدافئ حاالً‪ ،‬والصادق دينًا‪ ،‬ومما ال شك فيه هنا فإن تفرق الجماعة‬
‫المنقذة واألمة الهادية يكون ناتجًا عن اتباعها السبل المتفلتة‪ ،‬والضالالت‬
‫المنحرفة التي أودت بها إلى هذا الحال‪ ،‬كما أن اتباع السبل الشيطانية عاقبتها‬
‫وخيمه أيضًا كونها تفصل العبد عن صراط اهلل المستقيم كما يفصل الرأس‬
‫عن الجسد‪ ،‬حيث يوحي حرف الجر "عن" بهذا المعنى‪ .‬إنه الفصل المخيف‬
‫للقيم‪ ،‬والذي يدع المفصول ميت الشعور‪ ،‬وميت الضمير‪ ،‬وميت القلب في‬
‫الحال والمال‪ ،‬ثم تختم اآلية ختامًا يناسب البداية‪ ،‬وذلك من خالل قوله "ذلكم‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 306 -‬‬

‫وصاكم به لعلكم تتقون" حيث توحي "ذلكم" بمجموع الوصايا اإللهية السابقة‬
‫الذكر كونها وصايا السماء لألرض كي تبقى وتحيا كون حياة األرض‪ ،‬كل‬
‫األرض‪ ،‬ليست بمآكلها ومشاربها كما يعتقد البعض‪ ،‬بل حياتها بربها ودينها‪،‬‬
‫وإال كانت حياتها ناقصة‪ ،‬وعاقبتها بائسة‪ ،‬كما أن الفعل الماضي وصاكم فعل‬
‫مضعف والتضعيف يوحي بقيمة الوصايا‪ ،‬إنها الوصايا التي تحفظ لألرض‬
‫شرفها وكرامتها حتى ال تخترقها سبل الشيطان‪ ،‬أو يعبث بحياتها من جديد‬
‫هبل األصنام‪ ،‬ثم جاءت "لعلكم تتقون" معلنة أن الوصايا اآلنفة الذكر ليست‬
‫وصايا جوفاء‪ ،‬وال هى مفردات عمياء ال تجد طريقًا‪ ،‬وال تسكن قلبًا‪ ،‬بل هى‬
‫قيم دينية عظيمة‪ ،‬ومن عظمتها أنها تقود العباد إلى مراتب األولياء‪ ،‬ومصاف‬
‫األتقياء كما أراد اهلل لها أن تفعل‪.‬‬
‫‪- 307 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ال ٍل‬
‫ك فِي ضَ َ‬
‫ك َو َقوْمَ َ‬
‫( َوإِذْ قَا َل إِبْرَاهِي ُم ألَبِي ِه آ َز َر أَت ََّتخِ ُذ أَصْنَام ًا آلِهَ ًة إِنِي َأرَا َ‬
‫مُّبِينٍ{‪.)67()}74‬‬
‫كن مؤدبًا في خطابك‪ ،‬وحكيمًا في انتقاء ألفاظك وكلماتك عند مخاطبة أبيك‬
‫ولو كان على غير هدى‪ .‬إنها الحقيقة التي عاشها نبي اهلل إبراهيم هناك مع‬
‫والده الكافر‪ ،‬والتي أوضحت وبجالء تام عظمة البالء الذي واجهه الخليل في‬
‫مسيرته الدعوية ورسالته السماوية‪ .‬إنه بالء كفر األب‪ ،‬وضالله‪ ،‬ومحاربته‬
‫لرسالة االبن ونبوته في واحدة من أعظم المشاكل األسرية واالختالفات‬
‫العقدية التي واجهت أنبياء اهلل ورسله على مستوى البيت واألسرة‪ .‬نعم إنه‬
‫االختبار الحقيقي والكبير الذي يواجهه األبناء أحيانًا عندما تكون الهداية‬
‫والهدى هذه المرة من نصيب األبناء‪ ،‬وليست من نصيب اآلباء كما هو‬
‫مشهور‪ .‬ومما ال شك فيه فإن أفراد الجماعة المنقذة واألمة الهادية قد يواجهون‬
‫في بعض األحايين تصديًّا أُسريًّا داخليًّا لدعوتهم‪ ،‬وطريقة سيرهم من قبل‬
‫آبائهم وذويهم‪ ،‬ليس ألن اآلباء كفار كحال آزر هنا‪ ،‬بل مسلمون‪ ،‬ولكنه‬
‫اإلسالم المتوارث عن اآلباء واألجداد ليس في لحظات القوة والعلم‪ ،‬بل في‬
‫لحظات الضعف المغمور بالجهل والبدع‪ ،‬والذي يُظهر اإلسالم حينها بمظهر‬
‫غير مظهره‪ ،‬ومن ثم يتكرر االختبار للجيل أفرادًا وجماعات في التعامل مع‬
‫هذه المشكلة‪ ،‬ومع هذا اإلشكال‪ ،‬وال شك في أن اختبارًا من هذا النوع قد‬
‫ظهر في كثير من البيوت واألسر فكان السقوط في بعض األحيان هو السيد‬
‫والسائد نتيجة للبعد القيمي والعلمي لقيم السماء ووحيها من تلك العقول‬
‫والمعقول في آن واحد‪ ،‬وال شك في أن خطاب الخليل ألبيه هنا يعتبر نبراسًا‬
‫ال من هذا النوع‬
‫للجماعة المنقذة واألمة الهادية عندما يقابل أفرادها أحيانًا إشكا ً‬

‫(‪ )67‬سورة األنعام‪ :‬اآلية رقم ‪.74‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 308 -‬‬

‫أو قريبًا منه في الوسائل والطرق ليس إال‪ ،‬ومن المعلوم أن الخطاب‬
‫اإلبراهيمي هنا كان ناجحًا بغض النظر عن نتائجه كون النجاح ليس مقصورًا‬
‫على تحقيق الغايات‪ ،‬والوصول بنجاح إلى النهايات‪ ،‬بل قد يكون النجاح‬
‫بمجرد البالغ‪ ،‬والخروج من هذه المشكلة بأقل خسارة‪ ،‬وأقل كلفة كحال‬
‫الخليل هنا‪ .‬نعم فكونك تتميز‪ ،‬وتثبت‪ ،‬وتتعامل بحكمة وهدوء وروية مع أبيك‬
‫أو حتى مع محيطك الذي تحيا فيه تكون بكل هذه المفردات قد حققت نجاحًا‬
‫بشهادة السماء وإن قالت األرض غير هذا‪ ،‬فالقول ما قالت السماء وحكمت‬
‫ال ما قالت األرض وكتبت‪ ،‬ومما ال شك فيه فإن نقل السماء لهذه المشكلة‬
‫األسرية الكبيرة‪ ،‬والحديث عنها في أعظم كتاب عرفته األرض يوحي‬
‫بدالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن بيوت األنبياء عانت كثيرًا‪ ،‬وتألمت كثيرًا‪ ،‬وهو ما‬
‫يلقي على بيوت األتباع الهدوء والسكينة عندما تخيم عليها المشاكل‪ ،‬أو تحيط‬
‫بها األزمات‪ ،‬كما أن مشكلة الخليل األسرية توحي بأن خالفات األسرة والبيت‬
‫عندما تقابل داعية الحق تكون بمثابة التحدي واالختبار لدعوته وثباته‪،‬‬
‫ال‬
‫ورجولته ومنهاجه ليُعرف أيهم يسقط‪ ،‬وأيهم يبقى ؟ وحتى ال نسترسل طوي ً‬
‫هنا قبل الولوج في صلب اآلية ومحتواها دعونا نذكر أن بيت الخليل إبراهيم‬
‫جمع بين المشاكل العقدية متمثلة بكفر أبيه من ناحية‪ ،‬وبين المشاكل الزوجية‬
‫بين الضرائر متمثلة بهاجر وسارة غير القابلتين على اإلطالق للحياة معًا‬
‫وسويًّا خصوصًا بعد أن حملت هاجر بإسماعيل‪ ،‬ومن ثم والدته كما هو معلوم‬
‫في طبيعة النساء في غالب األحيان‪ ،‬وهو ما تطلب منه بيتًا آخر‪ ،‬ومسؤولية‬
‫أخرى‪ ،‬هذا باإلضافة إلى المشاكل الخارجية المتمثلة بالبيئة الكافرة والعابدة‬
‫لألصنام‪ ،‬والتي يعتبر آزر صانعًا من صناعها‪ ،‬وعابدًا مشهورًا من عبادها‪.‬‬
‫إنها المفردات المؤلمة‪ ،‬والمشاكل األسرية والمجتمعية الكبيرة والمتداخلة‬
‫سواء في داخل البيت الصغير‪ ،‬أو في المحيط المجتمعي الكبير‪ ،‬كلها عاشها‬
‫‪- 309 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫الخليل‪ ،‬ولم تسقطه البتة‪ ،‬أو تقعده‪ ،‬بل تنقل وسافر وناظر وحاور في صورة‬
‫رجولية غاية في اإلبداع واإلمتاع والشجاعة واإلقناع من البداية حتى النهاية‪.‬‬
‫إنها رجولة المواقف ومواقف الرجال هى التي تتحدث‪ ،‬ويكون لها المكانة‬
‫والمكان عندما تتلقى تعاليمها من السماء ال من األرض‪ ،‬ومن الوحي ال من‬
‫العقل‪ ،‬ومن الهدى ال من الهوى‪ ،‬عندئ ٍذ تبقى‪ ،‬وتظل باقية بقيمها ومبادئها‬
‫وإن رحلت ذوات األرض جميعًا‪ .‬ومما ال شك فيه هنا فإن المعنى الكبير‬
‫والدقيق الذي يفهم من خالل سياق اآلية يوحي بأن صدق العقيدة‪ ،‬ووضوح‬
‫ال أو عبدًا صالحًا القدرة‬
‫العبادة هما اللذان يكسبان العبد سوا ًء كان نبيًّا مرس ً‬
‫على الثبات أمام مشاكل الداخل أو أخواتها في الخارج بدون شك‪ ،‬وهو معنى‬
‫نفيس ينبغي تأمله‪ ،‬والوقوف عنده إذ إن الخليل لم تصبه هذه الحملة الشرسة‬
‫من التضليل والتجهيل بالهوس النفسي أو السقوط القيمي‪ ،‬حاشاه أن يكون‬
‫كذلك وهو النبي المصطفى‪ ،‬والخليل المجتبى‪ ،‬وكذلك يبقى حال كل من‬
‫يتصل بخالق األرض والسماء بدون شك‪ .‬وحتى نواصل الحياة في رحاب‬
‫الجمال نعود لآلية حتى نتذوق الحالوة والجمال من جديد‪ ،‬فقوله "وإذ قال‬
‫إبراهيم ألبيه آزر"‪ ،‬حيث توحي هذه الجملة بإيحاءات كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن‬
‫"قال" فعل ماض كون القول كان هناك مع أبيه فانتهى‪ ،‬ولكن صورة القول‪،‬‬
‫وشكله‪ ،‬والحكمة في القول بقيت وذكرت‪ .‬إنها اإلشارة الدقيقة لذهاب الذوات‬
‫ال عن أن يكون‬
‫ال أو فعالً‪ ،‬فض ً‬
‫وبقاء األثر الجميل سواء كان هذا الجميل قو ً‬
‫القول رسالة ودينًا‪ ،‬وهو معنى دقيق ونفيس ينبغي تأمله‪ ،‬كما أن ذكر إبراهيم‬
‫هنا دون وصف‪ ،‬بل إبراهيم مباشرة فيه إيحاء بأن األشخاص ترفعهم قيمهم‬
‫وقولهم‪ ،‬وتُعرف بهم مواقفهم ووقفتهم‪ ،‬وليس األلقاب وحدها التي تفعل ذلك‪،‬‬
‫كما أن ذكر إبراهيم النبي مع أبيه الكافر هنا يوحي بأن صالح األبناء وضالل‬
‫اآلباء أو العكس عندما يحدث ال يعتبر عيبًا أبدًا في حق األبناء كما هو الحال‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 310 -‬‬

‫هنا‪ ،‬أو في حق اآلباء في غير هذا المكان‪ ،‬وذلك كون الهداية تتوالها السماء‬
‫وحدها دون أن يكون لألرض بناسها وأهلها شأن في ذلك اللهم إال مجرد‬
‫التبليغ والبالغ ال أكثر‪ ،‬ومن ثم تصبح قاعدة القواعد بعد البالغ والتبليغ كل‬
‫نفس بما كسبت رهينة دون أن ينقص ذلك من قدر أحد شيئًا كائنًا من كان هذا‬
‫األحد‪ ،‬وهو معنى جميل أيضًا يفهم من خالل السياق‪ ،‬ثم يأتي التعبير واضحًا‬
‫من خالل قوله "ألبيه" حيث هنا إيحاءات كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن اختالف الدين ال‬
‫يغير النسب‪ ،‬وال يؤثر فيه‪ ،‬وإنما يغير المآل والمنقلب‪ ،‬كما أن قول إبراهيم‬
‫هنا يوحي بأن قداسة الدين أكبر من قداسة الذات ولو كانت هذه الذات أبًا أو‬
‫ابنًا كون الدين هو األعلى مكانًا‪ ،‬واألصدق حاالً‪ ،‬واألولى اتباعًا‪ ،‬ومن ثم‬
‫كانت النصيحة‪ ،‬وكان التوجيه‪ ،‬كما أن تكرار الحوار بحكمة بالغة وشفقة‬
‫واضحة بين االبن الخليل واألب الكافر فيما يقارب سبعة مواضع غير هذا‬
‫الموضع يوحي بوجوب اإلحسان لألب في القول والنصح والتوجيه بعيدًا عن‬
‫القوة والبطش‪ .‬إنها الحكمة التي يجب أن يحياها دعاة اليوم ورجال اليوم وهم‬
‫يحيون في رحاب آيات السماء‪ ،‬وذلك عندما يتكرر الخالف في اإلطار‬
‫األسري والذات المجتمعي‪ .‬وبعيدًا عن الخالف الذي خاضه علماؤنا حول‬
‫ب الخليل أو عمه كونه يطلق في اللغة على العم أب فإننا سنتعامل‬
‫آزر هل هو أ ُ‬
‫بإجماع المفسرين الذين أخذوا بظاهر اآلية دون الولوج إلى ما قال غيرهم‬
‫كونه هو المعنى األقرب بدون شك‪ .‬إنه األب الذي كان عقبة كؤودًا أمام‬
‫الخليل‪ ،‬ولكنها العقبة التي لم تحطم الخليل أبدًا‪ ،‬بل أحسن الخليل رعايتها‪،‬‬
‫وتحمل خشونتها وقسوتها من بداية األمر حتى نهايته في صورة غاية في‬
‫البر والحكمة‪ ،‬والصبر والرحمة‪ .‬نعم إنها الرسالة التي ينبغي أن تعيها‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهى تقابل عقبات الطريق ومشاكلها‪،‬‬
‫وخالفات البيوت ومعاناتها كي تتعامل مع تلك العقبات هنا كما تعامل معها‬
‫‪- 311 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫الخليل هناك‪ ،‬والمالحظ هنا أن الخليل توجه بالنصح الحكيم لوالده من خالل‬
‫قوله "أتتخذ أصناما آلهة" بطريقة االستفهام‪ .‬إنه األدب الذي تجلى في روعة‬
‫األلفاظ المختارة‪ ،‬والكلمات المعبرة بعيدًا عن التأنيب والتجريح‪ ،‬أو السخرية‬
‫في التوضيح‪ .‬إنها شفقة االبن النبي تتجلى في روعتها وراعيها وهو يحاور‬
‫بحكمة بالغة األب الكافر في مجرى الحياة ومرساها عسى أن تخرج سفينة‬
‫البيت إلى ساحل الحياة ومرفأ األحياء‪ ،‬ثم يتواصل التوضيح بصورة جمالية‬
‫رائعة من خالل قوله "إني أراك وقومك في ضالل مبين"‪ ،‬حيث توحي هذه‬
‫الجملة بدالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن الجزء األول من اآلية هو تحديد للمشكلة‬
‫"أتتخذ أصنامًا آلهة"‪ ،‬بينما الجزء األخير منها هو الحكم عليها"‪ ،‬إني أراك‬
‫وقومك في ضالل مبين"‪ ،‬إنه الحس الدعوي الذي ينبغي أن يحمله أفراد‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهم يقابلون عقبات الحياة ومشاكل األحياء‪،‬‬
‫والذي يتطلب فهم العقبات من حيث ماهيتها وأسبابها ومآالتها‪ ،‬ومن ثم الحكم‬
‫عليها بعد هذا الفهم وذاك اإللمام‪ ،‬وقوله "إنى أراك" وليس "أنا أراك"‪ ،‬وذلك‬
‫كون التعبير إني يوحي بتواضع االبن مع أبيه‪ ،‬بينما أنا يوحي بالكبر والعلو‬
‫والقوة‪ ،‬وحاشا الخليل أن يجمع مفردات الكبر‪ ،‬وألفاظ القوة والعلو وهو‬
‫يخاطب أباه الذي أطعمه ورباه وإن كان كافراً‪ .‬إنه الجناح الذي يجب أن يبقى‬
‫منخفضًا على الدوام بين يدي األب بغض النظر عن الدين والمذهب أو المعتقد‬
‫والمقصد‪ ،‬ومما ال شك فيه فإن الفهم السوي لقيم السماء‪ ،‬ومنهجها‪ ،‬هو الذي‬
‫يوجد هذه العقلية الطاهرة دينًا‪ ،‬والحكيمة قوالً على الدوام‪ ،‬كما أن البعد‬
‫والتباعد عن قيم السماء أيضًا هو الذي يوجد العقلية القاسية دينًا‪ ،‬والمتفلتة‬
‫أخالقًا‪ ،‬والمعتدية سلوكًا على كل أحد دون اعتراف بفضل أو فضيلة‪ ،‬كما أن‬
‫قوله "أراك" يوحي بوجوب رؤية المنكر ومالحظته‪ ،‬وعدم التخمين أو الشك‪.‬‬
‫إنها الحقيقة التي يجب أن يكون االنطالق من خاللها لتغييرها كون خلط‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 312 -‬‬

‫األوراق‪ ،‬والدخول في متاهات‪ ،‬وخلق الخالفات في إطار البيت أو األسرة‬


‫واألمة على أمور عادية‪ ،‬أو شكوك ظنية‪ ،‬هو ضياع للجهود‪ ،‬وقتل للجنود‬
‫في معارك وهمية ليس إال‪ ،‬ثم يختم الحكم بعد التخصيص "أراك" بتعميم‬
‫أوسع من خالل قوله "وقومك في ضالل مبين"‪ ،‬حيث توحي هذه الخاتمة‬
‫لآلية بأمور منها‪ :‬أن األلفاظ توحي بأن األب مع القوم كلهم على ملة واحدة‬
‫وهي الكفر‪ ،‬ومع ذلك تحرك الخليل دون خوف من مآالت القوم‪ ،‬وحكمهم‪،‬‬
‫وأذيتهم كون كل تلك المفردات األرضية تسقط تباعًا أمام حكم السماء‪،‬‬
‫وقوتها‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب على الجماعة المنقذة واألمة الهادية استيعابها‬
‫عندما تواجه األرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬بناسها وأهلها‪ ،‬وذلك حتى تبقى ثابتة‬
‫كثبات الخليل‪ ،‬وصادقة كصدقه سواء بسواء‪.‬‬
‫‪- 315 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ِال أَن قَالُواْ َأخْرِجُوهُم مِن َقرْيَتِكُمْ إ َِّنهُمْ أُنَاسٌ‬


‫ب قَوْمِ ِه إ َّ‬
‫ن جَوَا َ‬
‫(وَمَا كَا َ‬
‫َهرُونَ{‪.)68()}82‬‬
‫يَ َتط َّ‬
‫لن يقبل العهر التعايش مع الطهر ما بقيت الحياة‪ .‬إنها الحقيقة القادمة من هناك‬
‫من أغوار التاريخ البشري الطويل يحكيها القرآن بكل بساطة ويسر حتى‬
‫تتضح القضايا‪ ،‬وتتمايز السرايا‪ .‬إنها قضايا الحق والعدل والطهر‪ ،‬كلها‬
‫قضايا شقت طريقها في الماضي‪ ،‬وما زالت تواصل سيرها في الحاضر‪،‬‬
‫وستستمر كذلك في المستقبل حتى تصل بذاتها وأهلها إلى مبتغاها حيث‬
‫الرضوان اإللهي والعدل السماوي‪ ،‬ومن الغريب جدًّا أن ينتهي الوقت لدى‬
‫البعض في محاولة التوفيق بغية التعايش بين قيم السماء النقية وقيم األرض‬
‫النتنة رغم مصارحة المنهج السماوي ألهله بعدم جدوى هذا التوفيق كون قيم‬
‫األرض بذاتها وناسها قيمًا طينية بحتة تحكمها اللذة‪ ،‬وتقودها الشهوة‪،‬‬
‫وتسيرها المصلحة مما يجعلها غير قابلة البتة للتعايش مع قيم السماء الصافية‬
‫شكالً‪ ،‬والعادلة منهجًا‪ ،‬والصادقة دينًا‪ .‬وحتى تتضح كل تلك المفردات اآلنفة‬
‫الذكر دعونا ننتقل إلى وحي السماء وهو يحدثنا عن حقيقة الصراع وأدواته‬
‫وأهدافه وغاياته في صورة واضحة ال تلعثم فيها وال التواء‪ ،‬فقوله "وما كان‬
‫جواب قومه إال أن قالوا أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون"‪ ،‬حيث‬
‫تحمل هذه اآلية الكريمة من الدالالت واللطائف الكثير‪ ،‬ومنها‪ :‬حتمية المعركة‬
‫واستمرارها ما بقيت الحياة بين قيم السماء النظيفة وقيم األرض الطينية النتنة‬
‫حيث إن كلمتي "جواب قومه" توحيان بهذا المعنى‪ .‬إنه الجواب األرعن الذي‬
‫تمادى في غيه زمانًا‪ ،‬وتحدى الطهر مكانًا‪ ،‬وتجاوز حدوده حاالً‪ ،‬وأراد‬
‫ال وعرضًا في لحظات السقوط القيمي‬
‫االستئثار بالفرس والميدان طو ً‬

‫(‪ )68‬سورة األعراف‪ :‬اآلية رقم ‪.82‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 316 -‬‬

‫واالنحالل األخالقي لمجتمع العهر‪ .‬إنه االنحالل الذي عاشته تلك األمة‬
‫اللوطية التي دأبت في حياتها على إتيان الرجال شهوة من دون النساء في‬
‫لحظات التيه األرضي والضياع القيمي‪ ،‬ويالحظ هنا مجيء كلمة "قومه"‬
‫لإليحاء بضياع القوم‪ ،‬كل القوم‪ .‬إنه الضياع الذي أراده المأل هناك كي تبقى‬
‫لهم السيادة والقيادة ولو على حساب الشرف والكرامة‪ ،‬كما أن مقدمة اآلية‬
‫"وما كان جواب قومه" توحي بحركة الطهر المستمرة متمثلة بنبي اهلل لوط‬
‫ومن معه الستئصال العهر الذي طغى وتكبر‪ ،‬وأفسد وانحدر‪ .‬إنه االنحدار‬
‫الذي استمر في السقوط تباعًا حتى وصل إلى القاع‪ ،‬وإلى القاع المزري حاالً‪،‬‬
‫والمخزي سلوكًا‪ ،‬والذي تحركت الجماعة المؤمنة حينها متمثلة بنبي اهلل لوط‬
‫ومن معه لتدارك األمر‪ .‬نعم إنه التدارك الموحي برحمة اهلل القادمة من هناك‬
‫من السماء كي تسبق غضب اهلل ومقته وعذابه وأخذه‪ ،‬كما أن موقف الجماعة‬
‫المنقذة هنا يوحي بأن شناعة الذنب ال يجوز أبدًا أن تكون مسوغًا للهروب‬
‫من تحمل المسؤولية‪ ،‬بل القيام بواجب النصح والتوجيه‪ ،‬وتدارك ما يمكن‬
‫تداركه‪ ،‬وإصالح ما يمكن إصالحه هو من أولويات الجماعة المنقذة واألمة‬
‫الهادية في كل عصر‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب على الجماعة المنقذة واألمة‬
‫الهادية استيعابها والتحرك الدائم وفق الممكن النتشال من سقطوا‪ ،‬وإصالح‬
‫من أفسدوا كون مقدمة اآلية هنا توحي بهذا المعنى‪ .‬وحتى نتعرف على حماقة‬
‫العهر تعالوا لمعرفة محتوى القول األرعن لهؤالء البلداء عقوالً‪ ،‬والساقطين‬
‫أخالقًا‪ ،‬والمنحرفين ديناً وهم يعبرون عن حماقتهم من خالل قولهم‬
‫"أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون"‪ ،‬حيث تحوي هذه الجملة دالالت‬
‫كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن لفظ "أخرجوهم" يوحي بسياسة اإلبعاد والتهجير المتبعة‬
‫لدى العهر سواء كان عهرًا سياسيًّا أو أخالقيًّا كما هو الحال هنا‪ .‬إنها ثقافة‬
‫االستبداد القائمة على اإلبعاد والقادمة من هناك في صورة بئيسة من أنفس‬
‫‪- 317 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫خسيسة‪ .‬إنها الخسة المتوارثة يحملها مجتمع العهر كابرًا عن كابر منذ أول‬
‫الخليقة وحتى نهاية الحياة‪ .‬كما أن اللفظ يوحي بأن ثقافة الحوار لدى مجتمع‬
‫العهر – إن وجدت أحيانًا – فليست سوى ألعوبة مؤقتة سرعان ما تنتهي ليحل‬
‫قرار "أخرجوهم" محلها كون العهر ال يقبل حوارًا لمعرفته المسبقة بعدم‬
‫جدواه في خدمة عهره‪ ،‬واستمرار باطله‪ ،‬وهو ما يستدعي وجود البدائل‬
‫المعدة مسبقًا من قبل أهل الحق ورجاله للتعامل مع هذا الحال‪ .‬كما أن لفظ‬
‫"أخرجوهم" يوحي بأن الباطل رغم شناعته‪ ،‬وسوء بضاعته قد يُمنح زمنًا‬
‫تكون له فيه الصولة والجولة‪ ،‬وهو ما يستدعي الحركة والعمل من قبل‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية كي تزيحه من مركز القيادة‪ ،‬وموقع القائد‪ .‬كما‬
‫أن اللفظ يوحي بعدم قابلية الباطل ألي أحد ما لم يؤمن بباطله‪ ،‬ويخضع لمنكره‬
‫كون األمر باإلخراج جاء عامًّا بصيغة الجمع كي يشمل كل طاهر مطهر‬
‫دون استثناء‪ .‬إنها رداءة الخبث‪ ،‬وحماقته‪ ،‬وحقيقته وهو يتعالى على الطهر‬
‫في لحظات التيه وزمان التائهين‪ ،‬وهذا التيه سينتهي حتماً‪ ،‬ويُقطع دابره‬
‫قطعًا‪ ،‬وذلك بعد أن تقوم الجماعة المنقذة واألمة الهادية بواجبها ودورها‪ .‬ثم‬
‫يتواصل الجرم‪ ،‬ويتعاظم اإلجرام من خالل قولهم "من قريتكم"‪ ،‬حيث يوحي‬
‫هذا التعبير بإيحاءات كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬اعتقاد الباطل أنه هو المالك لكل شيء‪،‬‬
‫بينما المخالف له مملوك ال يملك شيئًا‪ .‬إنه االعتقاد األرعن الذي واجه‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية هناك‪ ،‬وما زال هو نفسه يواجهها اليوم هنا في‬
‫صورته البئيسة‪ ،‬وأدواته الخسيسة‪ .‬نعم إنها عقلية االستبداد ولغة االستعباد‬
‫تعبر عن نفسها ظنًّا منها لحماقتها أنها تملك القرار والديار‪ ،‬كما أن لفظ "من‬
‫قريتكم" وليس "من القرية" هو بمثابة التعبئة النفسية والتحشيد اإلجرامي‬
‫لدفع العوام بحمية الملكية المزورة للدفاع عن قريتهم التي يملكونها دون‬
‫غيرهم‪ .‬إنه الخطاب اإلعالمي المغشوش الذي يحرك العواطف الجاهلة‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 318 -‬‬

‫علمًا‪ ،‬والمغيبة عقالً‪ ،‬والساقطة أخالقاً‪ ،‬والتائهة دينًا كي تنتحر مدافعة عن‬
‫مُلْكِها (بضم الميم وسكون الالم) الزائف‪ ،‬ومالكها المزيف كي تكتشف في‬
‫النهاية أنها لم تكن سوى أدوات رخيصة ال أكثر‪ ،‬ثم يتواصل الجمال القرآني‬
‫وهو ينقل لألرض حقيقة الطهر‪ ،‬ورجاله‪ ،‬ودعاته من خالل قوله "إنهم أناس‬
‫يتطهرون"‪ ،‬حيث تحمل هذه الكلمات القرآنية الكثير من الدالالت‪ ،‬ومنها‪ :‬أن‬
‫الباطل يعرف حقيقته الباطلة‪ ،‬ورؤاه الساذجة‪ ،‬وأدبياته المنحطة‪ ،‬ويعترف‬
‫حقيق ًة بطهر اآلخر‪ ،‬ونظافته‪ ،‬ونقائه‪ .‬إنها الشهادة التي نطقت بها ألسنة العهر‬
‫وأدواته‪ ،‬وتحدثت بها وسائل الباطل وقياداته في لحظات انفعالية واضحة‬
‫معبرة عن طهر النبي لوط ومن معه‪ ،‬وجيء باللفظ هنا بصورة المضارع‬
‫"يتطهرون"‪ ،‬وذلك لإليحاء بأن طهارة الحق وحملته هناك كانت مستمرة‬
‫ودائمة‪ ،‬ولم يحدث لها أن تلطخت أو سقطت رغم بقائها في مجتمع سقط‬
‫بأخالقه وآدميته حتى وصل القاع‪ .‬إنها الشهادة القادمة من هناك من ألسنة‬
‫الباطل‪ ،‬والمؤكدة على قدرة الجماعة المنقذة واألمة الهادية على حفظ ذاتها‬
‫وأفرادها من السقوط‪ ،‬وذلك عندما تعيش في مجتمع فقد قيمه وقيمته‪ ،‬كما أن‬
‫اللفظ يوحي بأن طهارة األطهار في مجتمع عاهر ليست مقبولة لدى العهر‬
‫كونه ال يقبل الطهر‪ ،‬وال يتعايش مع الطاهرين‪ ،‬وهو ما يستدعي أخذ الحيطة‬
‫والحذر من قبل األطهار حفاظًا على طهرهم وطهارتهم‪.‬‬
‫‪- 319 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫علَيْهِم َّمطَرًا‬
‫طرْنَا َ‬
‫ن الْغَا ِبرِينَ{‪َ }83‬وأَمْ َ‬
‫ِال امْ َرأَتَ ُه كَا َنتْ مِ َ‬
‫( َفأَنجَيْنَا ُه َوأَهْلَ ُه إ َّ‬
‫ف كَانَ عَاقِبَ ُة الْمُجْرِمِينَ{‪.)69()}84‬‬
‫ظرْ كَيْ َ‬
‫فَان ُ‬
‫حتمًا لن يُترك (بضم الياء وسكون التاء) الطهر لعربدة العهر حتى النهاية‪،‬‬
‫بل ستأتي لحظات النهاية كي تتدخل السماء إلزالة العبث‪ ،‬وإنهاء الخبث بعد‬
‫طول صبر‪ ،‬وكثير معاناة‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب استيعابها‪ ،‬واإليمان بها‬
‫حتى ال يتسرب اليأس إلى قلوب الصالحين وأفئدة المجاهدين وهم يرون‬
‫المعركة بطولها وعرضها لم تحسم بعد‪ .‬إنه الحسم الذي سيتأخر بعض الوقت‬
‫حتى يكتمل التمايز؛ تمايز الصفوف‪ ،‬وتمايز الرجال‪ ،‬وتمايز النيات‬
‫والمواقف قبل الحسم النهائي‪ ،‬والنصر الرباني‪ .‬وحتى نعيش روعة النصر‬
‫بجماله وروعته تعالوا إلى اآليتين ففيهما كمال الروعة‪ ،‬وروعة الكمال‪ ،‬فقوله‬
‫"فأنجيناه وأهله إال امرأته كانت من الغابرين"‪ ،‬هذه اآلية تحمل دالالت جمة‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬أن الفاء هنا توحي بلطف اهلل الظاهر والخفي الذي تدخل مباشرة لحسم‬
‫المعركة‪ ،‬وإنهاء المنازلة‪ .‬إنه اللطف اإللهي الذي يتدخل في الوقت المناسب‬
‫بعيدًا عن تقديرات البشر‪ ،‬وتخطيطهم‪ ،‬ورؤيتهم‪ ،‬وذلك في اللحظات‬
‫االستثنائية الحرجة من عمر الجماعة المنقذة واألمة الهادية‪ ،‬ومما ال شك فيه‬
‫فإن الحدث بكل مالبساته جاء تفصيله في كثير من اآليات‪ ،‬حيث إن جبريل‬
‫مع ميكائيل وإسرافيل تحركوا بعد أن تشبهوا بصور نورانية صالحة‪،‬‬
‫وانطلقوا صوب ديار لوط بعد أن استضافهم نبي اهلل إبراهيم‪ ،‬وجاء لهم بعجل‬
‫حنيذ ظنًّا منه أنهم ضيوف قادمون من بالد بعيدة كعادته في قرى الضيفان‪،‬‬
‫وبعد الحوار الذي جرى بينه وبينهم لينتهي األمر ببشارتهم له ولزوجته‬
‫بإسحاق‪ ،‬ومن وراء إسحاق يعقوب‪ ،‬عندئ ٍذ كانت نهاية الرحلة إلى ديار لوط‪،‬‬

‫(‪ )69‬سورة األعراف‪ :‬اآليتان رقم ‪.84 ،83‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 320 -‬‬

‫وبالتحديد إلى بيت النبي لوط مباشرة‪ .‬إنها الرحلة التي ستُنهي عبث القوم‬
‫وجرائمهم التي تجاوزت حدها‪ ،‬وبلغت مداها‪ ،‬إنه الحد الذي حددته السماء‬
‫بعيدًا عن تقديرات األرض بناسها وأهلها‪ ،‬والذي سيصل إليه كل جرم‪،‬‬
‫وسينتهي عنده كل إجرام كي تبدأ مراحل النهاية‪ ،‬وتتشكل من جديد معالم‬
‫الهداية‪ .‬إنها الهداية والهدى اللذان سيكونان قطعًا لهما الكلمة والكالم‪ ،‬والفرس‬
‫والميدان‪ ،‬ولكن بعد زوال العارض‪ ،‬واألخذ العاجل للمعارض‪ .‬نعم وصل‬
‫المالئكة الكرام في صورة بشرية غاية في الحسن والجمال‪ ،‬ودخلوا على لوط‬
‫بعد أن حاول نبي اهلل صرفهم عن بيته وقريته حفاظًا عليهم من رجس القوم‬
‫وسفههم‪ ،‬عندئ ٍذ كان جوابهم له "إنا رسل ربك لن يصلوا إليك"‪ ،‬وبدأت‬
‫األوامر له من خالل قول اهلل" فأسر بأهلك بقطع من الليل وال يلتفت منكم أحد‬
‫إال امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب"‪،‬‬
‫إنها النهاية التي تنتظر اإلجرام بكل أدواته ورجاالته وخططه وإمكانياته‬
‫سواء بتدخل السماء بشكل مباشر كما حدث هنا مع قوم لوط‪ ،‬أو بطريقة غير‬
‫مباشرة عن طريق جند اهلل في األرض كما حدث في كثير من المواقع‪،‬‬
‫ومازال يحدث‪ .‬ومما ينبغي ذكره هنا أن لحظات األخذ هذه جاءت بعد أن‬
‫بذل نبي اهلل جهده في هدايتهم دون جدوى‪ ،‬وال غرابة في أن نجد أثر‬
‫المعاصي فيهم تستفحل‪ ،‬وتنتشر‪ ،‬حيث كانت النتيجة كفرهم بنبيهم مع‬
‫استمرارهم وإمعانهم بجرائمهم‪ ،‬بل اإلمعان في الجرائم والجرم‪ ،‬بالتحرك‬
‫الجماعي لفاقدي البصر والبصيرة لطرد الطهر وأهله ليبقى العهر وسدنته‪.‬‬
‫إنه العهر الذي أراد أن يستقل بالديار والقرار‪ ،‬ويستأثر – دون وجه حق –‬
‫باألموال واألشجار‪ ،‬وحتى ال يحدث هذا االستئثار جاء األمر اإللهي بإيقافه‪،‬‬
‫ودقت بالفعل ساعة الصفر الجتثاثه‪ .‬إنها النهاية الحتمية التي سيؤول إليها كل‬
‫خبث‪ ،‬ويجتث من على وجه األرض كل عبث‪ ،‬وإن تأخر االجتثاث لحكمة‬
‫‪- 321 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫يعلمها اهلل بعض الوقت‪ ،‬لكنه حتمًا سيأتي‪ ،‬ومما ال شك فيه فإن وصول هؤالء‬
‫الضيوف في صورة بشرية غاية في الحسن نهاراً‪ ،‬ودخولهم منزل نبي اهلل‬
‫لوط في وضح النهار‪ ،‬كل ذلك جعل النبي يعيش في حالة نفسية حرجة‬
‫خصوصًا بعد قدوم قومه نحوهم لإليقاع بهم‪ ،‬والعبث بكرامتهم كعادتهم مع‬
‫أشباههم‪ .‬إنها المواقف الحرجة التى عاشها أنبياء اهلل هناك‪ ،‬والتي ينبغي أن‬
‫يستشعر حرجها رجاالت الجماعة المنقذة واألمة الهادية كي ال يستفزهم‬
‫العهر‪ ،‬وال يطفئ جذوة حماسهم القهر‪ .‬إنه قهر الفساد بظلمه وظالماته‬
‫وأربابه وأدواته‪ ،‬والذي حتما سينتهي مكره‪ ،‬ويزول شره‪ ،‬ولكن بعد أن يأخذ‬
‫ال عدا امرأته‬
‫وقته‪ .‬وهنا جاء األمر للنبي بالخروج الفوري من داره مع أهله لي ً‬
‫التي وإن خرجت معه إال أنه سيصيبها ما أصابهم كونها على ملة قومها‪،‬‬
‫ومجيء الفاء في قوله "فأنجيناه" يشمل األمرين معًا‪ ،‬كون اهلل نجاه من مكرهم‬
‫بأضيافه‪ ،‬كما نجاه بعد ذلك من عذاب السماء الذي حل بديار قومه بعد صبر‬
‫وطول معاناة‪ ،‬ويوحي "فأنجيناه" بغرق محقق كان قد ألم بنبي اهلل لوط عليه‬
‫السالم‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب على الجماعة المنقذة واألمة الهادية أن‬
‫تستوعبها‪ ،‬وتعيش بها‪ ،‬وهى أن النجاة ستكون حاصلة في اللحظات الحاسمة‪،‬‬
‫تلك اللحظات التي تتخلى فيها األرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬بناسها وأهلها‪ ،‬وتنتهي‬
‫عندها الحيل‪ ،‬كل الحيل‪ ،‬ويعتقد السالك حينها أن الغرق محقق‪ ،‬والكرب‬
‫مطبق‪ ،‬عندئ ٍذ تتحرك السماء بأمر ربها إلحقاق الحق‪ ،‬وإبطال الباطل‪ ،‬لتكون‬
‫النجاة‪ ،‬وذلك بعد صدق مناجاة‪ ،‬ثم يستمر التعبير يشق طريقه بسهولة ويسر‬
‫وهو يرسم المشهد‪ ،‬وينقل الحدث من خالل قوله "وأهله"‪ ،‬إنه التعبير المعبر‬
‫عن رعاية السماء وحفظها ألهله الذين آمنوا معه‪ .‬إنها الحقيقة التي تسكب‬
‫الطمأنينة واألنس في قلوب السالكين وهم يرون بأعينهم كيف يتولى اهلل‬
‫حفظهم مع أهلهم في نهاية المطاف‪ .‬إنه الحفظ الذي يجعل ذرية الصالحين‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 322 -‬‬

‫من أنبياء وأولياء محفوظة من عبث المجرمين‪ ،‬وتطاول المفسدين كي تسكن‬


‫النفوس‪ ،‬وتطيب الخواطر‪ ،‬التي لن تسكن قطعًا ما لم ير الصالحون ذراريهم‬
‫محفوظة‪ ،‬وأعراضهم مصونة‪ ،‬وهو األمر الذي تتواله السماء دون شك‪،‬‬
‫ومما ال شك فيه هنا فإن هذا الحفظ ال يعني أبدًا النجاة من بين ظهراني‬
‫اإلجرامي فحسب‪ ،‬بل يكون أحيانًا أيضًا بالثبات على المبدأ حتى النهاية بين‬
‫يدي اإلجرام نفسه‪ ،‬وذلك لرفع المكانة‪ ،‬واستحقاق الدرجة‪ ،‬ثم يواصل القرآن‬
‫نقل الحقيقة كاملة دون اجتزاء كون منهج السماء منهجًا صريحًا ال يتعامل‬
‫بلغة المخاتلة‪ ،‬وال يقبل ثقافة المغالطة كعادة مناهج األرض‪ ،‬بل إن منهج‬
‫السماء ينقل حقيقة البيت النبوي بمحتواها ومستواها معلنًا حقيقة الزوجة‬
‫الخائنة دينًا‪ ،‬والكافرة ملة‪ ،‬والمقتولة حاالً‪ ،‬والمعذبة بعد ذلك مكانًا وزمانًا‪.‬‬
‫إنها الحقيقة التي ال تُنقص أبدًا من قيمة السالك وهو يرى تنكص الطريق من‬
‫ال أو عبدًا صالحًا كون‬
‫قبل أقرب المقربين له سواء كان السالك نبيًّا مرس ً‬
‫الهداية قطعًا ليست أمرًا حصريًّا تملكها األرض‪ ،‬بل هي بتوفيق السماء قبل‬
‫ذلك وبعد ذلك‪ ،‬وجاء التعبير هنا في قوله "إال امرأته" وليست إال زوجته‬
‫كون الزوجة هى التي يكون فيها التكامل العقدي‪ ،‬واالنسجام الحياتي‪ ،‬والذي‬
‫كان منعدمًا في حياة نبي اهلل لوط مع هذه المرأة كما هو معلوم‪ ،‬كما أن اآلية‬
‫فيها معنى غاية في الدقة وهو أن االنسجام الحياتي بين الرجل وأهله ال يمكن‬
‫تحققه بكل كنوز األرض ما لم يكن الدين‪ ،‬والدين وحده‪ ،‬هو السيد والسائد‪،‬‬
‫وهو معنى يفهم من خالل السياق‪ ،‬كما أن غياب الدين من حياة الزوجين يفتح‬
‫الباب على مصراعيه لكل بلية وبلوى‪ ،‬وهو ما نلمسه – بكل وضوح هنا –‬
‫من خالل المعاناة التي توالت على النبي لوط من قبل امرأته هذه‪ ،‬كذلك أن‬
‫الحدث يوحي بأن الخائن سيلقى حتفه حتمًا وإن تأخر قليالً‪ ،‬لكنه لن ينجو‬
‫دائمًا‪ ،‬وستوقعه خيانته يومًا ما‪ ،‬ومما ال شك فيه فإن الخيانة هنا لم تكن خيانة‬
‫‪- 323 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫عرض البتة‪ ،‬بل خيانة دين‪ ،‬حيث إنها كفرت بربها‪ ،‬وأنكرت رسالة زوجها‬
‫ابتالءً واختبارًا لنبي اهلل هنا كما حدث لعمه نبي اهلل إبراهيم مع أبيه هناك‬
‫كون الروايات تتحدث عن أن لوطًا ‪ -‬عليه السالم – هو ابن أخ إبراهيم عليه‬
‫السالم‪ .‬إنها التسليَّة التي يجب أن تتذكرها الجماعة المنقذة واألمة الهادية‬
‫عندما يُبتلى أحد رجاالتها بهذا االبتالء‪ ،‬عندئ ٍذ ال تموت العزيمة‪ ،‬وال تمرض‬
‫العزائم‪ .‬وبعيدًا عن خالفات العلماء حيث كان لبعض المفسرين كالم حول‬
‫مكان هالك هذه المرأة الخائنة إال أن األصوب واألرجح خروجها مع بناتها‬
‫وزوجها‪ ،‬ولكن األمر الصادر من قبل النبي لوط كان هو السير والخروج‬
‫من القرية ليالً‪ ،‬وعدم االلتفات إلى الوراء كون العذاب سينزل على القوم‪،‬‬
‫ومن يلتفت سيصيبه ما أصابهم‪ .‬إنها المرأة الخائنة التي خالفت أمر نبي اهلل‬
‫طوال عمرها‪ ،‬وحتمًا ستخالفه في نهاية عمرها‪ ،‬وهو ما كان‪ ،‬حيث التفتت‬
‫مولولة نحو قومها عند سماعها العذاب والنكال في اللحظات الحاسمة التي‬
‫رفع فيها جبريل بأمر ربه قرى قوم لوط إلى السماء‪ ،‬فتعالت األصوات في‬
‫ليلة مظلمة موحشة‪ ،‬ثم جعل اهلل عاليها سافلها‪ ،‬وأمطر عليهم حجارة من‬
‫سجيل‪ .‬إنها الحجارة الجهنمية التي تساقطت على رؤوس القوم‪ ،‬كل القوم‪،‬‬
‫دون أن تخطئ أحدًا ومنهم امرأته الملتفتة الكافرة‪ ،‬والتي "كانت من‬
‫الغابرين"‪ ،‬أي الباقين في العذاب‪ .‬إنها النهاية المخزية للمرأة المتفلتة دينًا‪،‬‬
‫والساقطة عقيد ًة سواء كانت في بيت نبي هناك‪ ،‬أو في بيت صالح هنا كون‬
‫المآل واحدًا لكل متفلت‪ ،‬ثم يتواصل جمال التعبير‪ ،‬وروعة التصوير‪ ،‬وهو‬
‫ينقل لنا صورة العذاب – كما أسلفنا وقلنا ‪ ،-‬وذلك من خالل قوله "وأمطرنا‬
‫عليهم مطرًا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين"‪ ،‬حيث تحوي هذه الجملة‬
‫الكثير من الدالالت‪ ،‬ومنها‪ :‬أن كلمة "وأمطرنا" توحي بكثافة األحجار‬
‫المتساقطة على من أسقطتهم أنفسهم المنحرفة دينًا‪ ،‬والساقطة أخالقًا‪ .‬إنها‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 324 -‬‬

‫الحجارة التي كُتبت عليها أسماء القتلة جميعًا‪ ،‬قتلة األخالق‪ ،‬وقتلة القيم‪ ،‬وقتلة‬
‫الفطر السوية تحركت السماء لقتلهم في ليلة مظلمة‪ ،‬بل غاية في اإلظالم‪،‬‬
‫وجاء تكرار لفظ المطر هنا لإليحاء بتتابع الحجارة التي أصابت الرؤوس‬
‫الخائنة دينًا‪ ،‬والخبيثة طبعًا‪ ،‬كما أن تقييد المطر بقوله عليهم يوحي بإحاطة‬
‫الحجارة بهم إحاطة لم يسلم منها أحد‪ .‬إنها اللفتة البديعة التي يجب أخذها من‬
‫هذا التعبير وهى أن الغضب اإللهي عندما يحين وقته عندئ ٍذ لن يستطيع‬
‫المجرمون الفرار منه أبدًا كونه يحيط بهم دون غيرهم إحاطة السوار‬
‫بالمعصم‪ .‬إنها عدالة اهلل التي كانت هناك‪ ،‬وستكون يومًا هنا بدون شك‪ .‬ومما‬
‫ال شك فيه هنا فإن تحرك السماء بهؤالء الجنود جاء نتيجة لغياب المسلمين‬
‫كون البيت الوحيد الذي آمن بنبي اهلل لوط هو بيته‪ ،‬بل لم يكتمل إيمانه حيث‬
‫ُد من قد ٍر لمواجهة أقدار الشر‬
‫كانت امرأته على ملة قومها‪ ،‬لذا لم يكن هناك ب ًّ‬
‫ال من‬
‫في تلك اللحظة غير أقدار السماء مباشرة بهذا العذاب‪ ،‬وليس مقبو ً‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية أبدًا أن تنتظر أقدار السماء كي تتدخل‬
‫بحجارتها المنضودة اليوم كما فعلت تلك الحجارة بأمر ربها باألمس كونها‬
‫اليوم بعددها وعدتها هى قدر اهلل في األرض‪ ،‬وذلك إن جاهدت‪ ،‬واتقت‪،‬‬
‫وعلى اهلل توكلت‪ ،‬ثم كان ختام اآلية مناسبًا تمامًا لبدايتها‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫قوله "فانظر كيف كان عاقبة المجرمين"‪ ،‬إنها الحقيقة التي يجب على‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية النظر فيها وهى تصارع العتاة‪ ،‬وتجاهد الطغاة‬
‫حتى تواصل سيرها دون تلفت أو التواء‪ .‬إنه السير والسائر متالزمان على‬
‫الدوام دون توقف‪ ،‬والعبرة دائمًا ليست بالنظر إلى المعركة قبل نهايتها‪ ،‬بل‬
‫تقاس المعارك بعواقبها وخواتيمها‪ ،‬وهو الذي تريده اآلية هنا كون المعركة‬
‫مع المجرمين وإن طالت لحكمة يعلمها اهلل‪ ،‬إال أن نهاية اإلجرام مؤكدة كونه‬
‫زبدًا والزبد سيذهب جفاءً دون شك‪.‬‬
‫‪- 325 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬
‫اهلل مِنْهَا وَمَا يَكُو ُ‬
‫ن‬ ‫هلل كَذِب ًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْ َد إِذْ نَجَّانَا ُّ‬
‫علَى ا ِ‬‫(قَ ِد افْ َترَيْنَا َ‬
‫علَى اهللِ‬
‫علْم ًا َ‬
‫شيْ ٍء ِ‬‫ُل َ‬
‫اهلل رَبُّنَا وَسِ َع رَبُّنَا ك َّ‬
‫ِال أَن يَشَا َء ُّ‬ ‫لَنَا أَن نَّعُو َد فِيهَا إ َّ‬
‫ت خَيْ ُر الْفَا ِتحِينَ{‪.)70()}89‬‬
‫َكلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ َقوْمِنَا بِالْحَقِ َوأَن َ‬
‫َتو َّ‬

‫إن اإليمان العميق‪ ،‬والفهم الدقيق‪ ،‬والعمل المتواصل هو من يحفظ للجماعة‬


‫المنقذة واألمة الهادية ذاتها وأفرادها من السقوط العقدي‪ ،‬والتهديد العبثي في‬
‫ال بالفعل‪،‬‬
‫كل حال‪ .‬إنه اإليمان العميق الذي ظهر شامخًا كالجبل‪ ،‬إن لم يكن جب ً‬
‫أمام المأل التائه دينًا‪ ،‬والساقط قيمًا‪ ،‬والمنحل أخالقًا في لحظات التهديد‬
‫والوعيد والطرد والتشريد‪ ،‬كما أن الفهم الدقيق لحقيقة المعركة ومتطلباتها‪،‬‬
‫وعوائق الطريق ومنحدراتها‪ ،‬ومآالت األمور ونتائجها‪ ،‬كل تلك المفردات‬
‫الدقيقة‪ ،‬والدقيقة جدًّا‪ ،‬كانت واضحة أيَّما وضوح لدى أفراد الجماعة المنقذة‬
‫من قوم نبي اهلل شعيب وهم يقابلون حملة التهديد والوعيد هذه‪ .‬إنه الفهم الدقيق‬
‫الذي تجاوز العواطف اآلنية‪ ،‬والحسابات األرضية بناسها وأهلها‪ ،‬واتجه‬
‫سريعًا ودون أدني تلكؤ أو إبطاء نحو السماء معلنًا أن الحكم الفصل‪ ،‬والكلمة‬
‫الفصل‪ ،‬والقول الفصل هو الذي أتى وسيأتي دائمًا من هناك‪ ،‬ومن هناك فقط‪.‬‬
‫وحتى تتضح روعة الكلمات‪ ،‬وجمال العبارات ننتقل إلى اآلية بجمالها‬
‫ال‬
‫وجاللها كي نرتوي من معينها‪ ،‬ونأنس من خاللها وهى تضع حدًّا فاص ً‬
‫لعبث المأل‪ ،‬ومكره‪ ،‬فقوله "قد افترينا على اهلل كذبًا إن عدنا في ملتكم"‪ ،‬هذه‬
‫الجملة تحوي في طياتها الكثير من الدالالت‪ ،‬ومنها‪ :‬أن هذه اآلية مرتبطة‬
‫بما قبلها‪ ،‬بل هى مكملة لها كونها أجابت عن التهديد‪ ،‬وأسقطت بعظمتها‬
‫ال كونه‬
‫الوعيد‪ .‬إنه الجواب الذي مأل الدنيا جماالً‪ ،‬والجمال بهاءً‪ ،‬والبهاء كما ً‬
‫يصفع الباطل ويربيه‪ ،‬ويوقف عبثه ويطويه‪ ،‬كما أن هذه اآلية تعتبر منهج‬

‫(‪ )70‬سورة األعراف‪ :‬اآلية رقم ‪.89‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 326 -‬‬

‫ال ينبغي أن تعيشه الجماعة المنقذة‪ ،‬واألمة الهادية عند كل تهديد‬


‫حياة متكام ً‬
‫يقابلها‪ ،‬أو وعيد يتربص بها الدوائر‪ .‬إنه الثبات غير القابل البتة للغة التهديد‬
‫الخشنة‪ ،‬والرافض على الدوام لثقافة االنبطاح المزرية يعبر عن نفسه هنا‪،‬‬
‫ويتحدث عن ذاته بلغة هى األصدق قوالً‪ ،‬واألعلى سندًا‪ ،‬واألصح منهجًا‪.‬‬
‫ويزداد الجمال‪ ،‬ويتواصل الكمال من خالل جمال التصوير‪ ،‬وروعة التعبير‬
‫في قوله "قد افترينا على اهلل"‪ ،‬إنه اهلل الذي استقرت حقيقته في القلوب‪ ،‬ومن‬
‫ثم أصبح الخوف منه وحده هو المانع من السقوط في وحل الملل الكاذبة دينًا‪،‬‬
‫والمنحرفة وجهةً‪ ،‬والسافلة مكانًا‪ ،‬والضائعة زمانًا وحاالً‪ .‬نعم إنه الخوف من‬
‫اهلل ال من المأل‪ ،‬ومن وعيده وعذابه ال من وعيد المأل وعذابهم كونهم أرادوا‬
‫مقابلة الحجة بالقوة‪ ،‬والنور بالظلمة‪ ،‬والكلمة بالمحنة بصورة غاية في‬
‫السفاهة والسفه‪ .‬إنها الحقيقة المقدسة التي ظهرت هناك في منطق الجماعة‪،‬‬
‫وثقافتها‪ ،‬وهى تقابل تهديد األرض في تلك اللحظات الزمنية الغابرة‪ .‬إنها‬
‫معرفة اهلل‪ ،‬واإليمان به‪ ،‬والتوكل عليه‪ ،‬واالنطراح بين يديه‪ ،‬كلها مفردات‬
‫نطقت بها ألسنة الجماعة هناك‪ ،‬فكان الثبات دون التفات من البداية حتى‬
‫النهاية‪ .‬وبعيدًا عن خالف المفسرين عن صاحب هذا المنطق والرد المفحم‬
‫هل هو نبي اهلل باعتباره متحدثًا عن قومه‪ ،‬ومعبرًا عن أتباعه‪ ،‬أم أنه منطقهم‬
‫جميعًا بلسان واحد أيًا كان الجواب‪ ،‬فالذي يهمنا أن الرد كان تعبيرًا حقيقيًّا‬
‫يعبر عن إيمان الجماعة‪ ،‬وفهمها‪ ،‬وعزيمتها كون القرآن بصراحته المعهودة‬
‫ال يثني أبدًا على من لم يستحق الثناء على اإلطالق كما هو معلوم‪ ،‬كما أن‬
‫الرد القرآني يعلم الجماعة المنقذة واألمة الهادية كيف يجب عليها أن ترد‬
‫أباطيل اآلخر‪ ،‬وافتراءاته‪ ،‬وثرثراته‪ .‬إنه الرد العقدي اإليماني الممزوج‬
‫بعقيدة السماء‪ ،‬ووحيها‪ ،‬والبعيد كل البعد عن الردود األرضية الجافة‪ ،‬أو‬
‫االنفعاالت الوجدانية الطائشة كون الردود الجافة التي ال تحرك العواطف‪،‬‬
‫‪- 327 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫وال تلهب العزائم هي ردود سمجة ساذجة‪ ،‬وميتة تائهة‪ ،‬وجيء بلفظ "قد‬
‫افترينا على اهلل"‪ ،‬وليس قد كذبنا على اهلل "كون االفتراء هو اختالق الكذب‬
‫بطريقة متعمدة ومسبقة "بتشديد الباء"‪ ،‬إنه اإليحاء الذي يفهم من خالل‬
‫السياق بأن االفتراء واختالق األكاذيب على اهلل هو سلوك أصحاب الملل‬
‫األرضية‪ ،‬والمناهج األرضية‪ ،‬وليس من طباع أهل الحق أن يكونوا كذلك‬
‫أبدًا‪ ،‬وجيء بلفظ "على اهلل"‪ ،‬وليس على ربنا "كون الخالف هنا يتمحور‬
‫حول المعبود الذي تؤلهه القلوب‪ ،‬وتعبده‪ ،‬وتحبه‪ ،‬وهو تعبير دقيق حيث لو‬
‫كان الخالف معهم حول وجود اهلل من عدمه – كما هو شأن الملحدين‬
‫المنكرين لوجود اهلل – لكان اللفظ "على ربنا"‪ ،‬ثم يستمر الجمال القرآني في‬
‫سرد الردود من خالل قوله "إن عدنا في ملتكم"‪ ،‬إنه الفهم الدقيق ألطروحات‬
‫اآلخر‪ ،‬وثقافته‪ ،‬ومفرداته كونهم قالوا لهم "أو لتعودن في ملتنا"‪ ،‬ومن ثم‬
‫رصدوها بدقة‪ ،‬وقاموا بالرد عليها ردًّا مختصرًا مفيدًا يكسوه الجمال‬
‫والجالل‪ .‬إنه جمال اإليمان‪ ،‬وجالل األفهام تحركا معًا وسويًّا في صورة‬
‫رائعة‪ ،‬بل غاية في الروعة والجمال‪ ،‬مكونان ردًّا مفحمًا‪ ،‬وجوابا شافيًا‪،‬‬
‫وجيء بلفظ "في ملتكم"‪ ،‬وليس "في الملة"‪ ،‬حيث يشي التعبير األول‬
‫باحتقارهم مع ملتهم‪ ،‬وذلك رد يقابل تهديدهم السابق‪ ،‬وغباءهم الماحق‪ ،‬كما‬
‫أن لفظ "في ملتكم" يوحي بأن ملتهم هى الملة الباطلة‪ ،‬وشريعتهم هي الشريعة‬
‫الساقطة‪ ،‬وهى خاصة بهم وحدهم‪ ،‬ولن يُسمح لهم أن يتجاوزوا بها حدهم‬
‫وحدودهم كون الكاف والميم في ملتكم توحي بهذا المعنى‪ ،‬ويتواصل الجمال‪،‬‬
‫ويستمر الكمال من خالل قوله "بعد إذ نجانا اهلل منها"‪ ،‬إنه اإليحاء الخفي‬
‫بالقدرة الفائقة التي تمتلكها تلك الملل الباطلة‪ ،‬والشعارات األرضية الزائفة‬
‫على امتالك العقول والقلوب ما لم تتدخل رحمات اهلل ولطفه ونصره وحفظه‪.‬‬
‫إنها الحقيقة التي يجب معرفتها‪ ،‬والحذر منها كون سبل الباطل وشرائعه مع‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 328 -‬‬

‫شعاراته وشعره كلها أهواء عاصفة سحرت ألباب الضعاف في الماضي‪ ،‬وما‬
‫زالت هى نفسها تمارس سحرها بفئة الضعاف في الحاضر‪ ،‬وسيستمر‬
‫سحرها كذلك في المستقبل‪ ،‬ولن ينجو من هذا السحر إال من عصمه اهلل‬
‫ونجاه‪ ،‬والمالحظ هنا أن لفظ "نجانا" يوحي بأن الغرق كان قد أوشك أن‬
‫يغمر الجميع بظلمه وضالله ومكره وظلماته لوال لطف اهلل‪ ،‬ولطف اهلل فقط‪،‬‬
‫وجيء بلفظ "اهلل" في قوله "إذ نجانا اهلل منها" لإليحاء بأن اهلل وحده هو الذي‬
‫يتدارك العبد بلطفه‪ ،‬ويستره بحفظه كما سبق وأشرنا إليه‪ .‬إنها الحقيقة المعبرة‬
‫عن اإليمان العميق الذي تحلت به الجماعة المنقذة‪ ،‬واألمة الهادية هناك‪ ،‬وهى‬
‫ترد الفضل في النجاة من الباطل هلل وليس للذات‪ .‬نعم إنه الدرس الذي ينبغي‬
‫أن تعيه الجماعة بأفرادها ورجاالتها وهى تعيش في أوساط القوم بآرائهم‬
‫المختلفة‪ ،‬ومشاربهم المتعددة‪ ،‬وتوجهاتهم الباطلة‪ ،‬ومن ثم عليها أن تحمد اهلل‬
‫على هدايته لها‪ ،‬ولطفه بها قبل ذلك‪ ،‬وأثناءه‪ ،‬وبعده‪ ،‬ثم يتواصل الجمال من‬
‫خالل قوله "وما يكون لنا أن نعود فيها إال أن يشاء اهلل ربنا"‪ ،‬إنها األلفاظ‬
‫التي قطعت على األرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬بناسها وأهلها الطريق تمامًا في‬
‫اإلقناع بالعودة للمذهب القديم‪ ،‬والملة القديمة كون القضية هنا قضية السماء‬
‫ال األرض‪ ،‬وق ضية دين ال دنيا‪ ،‬وملة ال مال‪ ،‬لذا كان المرجع في األمر هلل‪،‬‬
‫وهلل فقط‪ ،‬حتى ينتهي الهراء‪ ،‬وتستسلم للحق والحقيقة األهواء‪ ،‬وتكمن روعة‬
‫الحديث هنا في أن القضية لم تعد أبدًا قضية النبي شعيب في العودة للملة من‬
‫عدمها‪ ،‬بل أصبحت القضية قضية عقيدة تتصل باهلل مباشرة‪ .‬إنها لغة الدين‬
‫التي تأبى عبودية الذوات‪ ،‬وقداستها بعيدًا عن اهلل كون العبيد‪ ،‬كل العبيد‪،‬‬
‫مفطورين على عبادة المعبود في السماء‪ ،‬ومن ثم أصبح الدفاع عن المعبود‬
‫في األرض واجب الذوات المؤمنة دون استثناء‪ .‬إنها الحقيقة التي يجب على‬
‫الجماعة المنقذة‪ ،‬واألمة الهادية أن تربي ذواتها وأفرادها عليها وهي عقيدة‬
‫‪- 329 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫أن األمر هلل من قبل ومن بعد‪ ،‬وما على الخلق‪ ،‬كل الخلق‪ ،‬سوى االمتثال‬
‫والخضوع دون تنكص أو رجوع‪ ،‬وتوحي الجملة هنا بأن الخلق في تدينهم‬
‫والتزامهم تحت مشيئة اهلل وتوفيقه‪ ،‬فإذا شاء هداهم ووفقهم‪ ،‬وإذا شاء خذلهم‬
‫وأضلهم‪ ،‬وهو ما يستدعي اللجوء إليه‪ ،‬واالنطراح بين يديه‪ ،‬وجاء التعبير‬
‫عن الملة هنا بالضمير الذي هو الهاء في قولهم "أن نعود فيها"‪ ،‬وليس أن‬
‫نعود في الملة أو في ملتكم"‪ ،‬إنه اإليحاء الدقيق بكراهة المؤمنين الصادقين‬
‫ألباطيل اآلخر‪ ،‬وملله وشعاراته لدرجة كرههم أن يُنسًبوا لها‪ ،‬أو تنسب إليهم‬
‫لمجرد النسبة في التمثيل ال أكثر‪ .‬إنها االحترازات اللفظية للجماعة المنقذة‪،‬‬
‫واألمة الهادية‪ ،‬والمنبثقة من عقيدة هى األصدق دينًا‪ ،‬واألصح وجهة‪،‬‬
‫واألكمل شرعًا‪ ،‬واألحق بالبقاء مكانًا وزمانًا تعبر عن ذاتها‪ ،‬وينطلق أهل اهلل‬
‫من خاللها‪ ،‬ثم تنساب اآلية بجمال التعبير‪ ،‬وكمال التصوير مرة أخرى من‬
‫خالل قوله "وسع ربنا كل شئ علماً‪ ،‬إنه الرد الحقيقي لمصدر العلم الذي هو‬
‫اهلل سبحانه كونه يعلم من يستحق الهداية فيكرمه بها كي يحيا كريمًا‪ ،‬ومن‬
‫يستحق الضاللة فيضله كي يحيا مهانًا‪ .‬إنه فخر العبد بالرب أمام أرباب‬
‫األرض‪ ،‬وكهنوتها‪ ،‬ومستبديها في صورة غاية في الجالل والجمال‪ ،‬وهو‬
‫الذي ينبغي أن تحياه الجماعة المنقذة‪ ،‬واألمة الهادية‪ ،‬وتدعو إليه هنا كما‬
‫دعت وافتخرت به الجماعة هناك‪ .‬ثم يأتي التوضيح قبل الختام لحقيقة‬
‫ومصدر القوة التي انطلقت من خاللها الجماعة المنقذة‪ ،‬واألمة الهادية وهى‬
‫ترد األباطيل‪ ،‬وترفض االستسالم‪ ،‬وذلك من خالل قول اهلل على ألسنتهم‬
‫"على اهلل توكلنا"‪ ،‬إنه االعتماد على اهلل‪ ،‬وتفويض األمر إليه‪ ،‬حيث يوحي‬
‫سياق اآلية بتهديد مستمر عاشته الجماعة هناك وهى تقف بجانب نبيها شعيب‪،‬‬
‫فلم يكن لها من معقل تلجأ إليه‪ ،‬وتعتمد في أخذها وعطائها عليه قبل ذلك‬
‫وبعده غير التوكل على اهلل‪ .‬إنه التوكل الذي يدع األرض‪ ،‬كل األرض‪،‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 330 -‬‬

‫عاجزة كل العجز عن إلحاق الضرر بمن فوض هلل أمره‪ ،‬وألقى بين يديه‬
‫سبحانه حياته وموته‪ .‬ثم تأتي اآلية لتختم هذه الجولة المختصرة جدًّا‪،‬‬
‫والجامعة لهذه المفردات الجميلة‪ ،‬واإليحاءات الثمينة‪ ،‬من خالل قوله "ربنا‬
‫افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين"‪ ،‬إنه اإليحاء بصعوبة‬
‫الطريق ووعورته‪ ،‬وشدة المغاليق التي وضعها لصوص الملل الكاذبة‪،‬‬
‫والشعارات الزائفة في الطريق‪ ،‬ومن ثم ال قدرة لألرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬على‬
‫أن تصنع شيئًا أمام هذه المغاليق‪ ،‬فكان اللجوء إلى السماء كونها هى وحدها‬
‫التي تملك القدرة على فتح ما أُغلق‪ ،‬والحكم بالحق فيما عُلِّق‪ ،‬والنصر على‬
‫الباطل نصرًا مطبقًا‪ ،‬إنها الحقيقة التي يجب أن تسمعها األرض‪ ،‬كل األرض‪،‬‬
‫بناسها وأهلها عندما تغفل مكتفية بذاتها دون اهلل‪ ،‬فعليها عندئ ٍذ أن تسمع وبكل‬
‫صراحة ووضوح "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق" من هذا الكتاب‪ ،‬وتنتظر‬
‫بعد ذلك من اهلل فصل الخطاب‪.‬‬
‫‪- 333 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬
‫علَيْهِمْ آيَاتُ ُه‬
‫جَلتْ ُقلُوبُهُمْ َوإِذَا ُتلِ َيتْ َ‬
‫اهلل َو ِ‬
‫ن إِذَا ذُ ِك َر ُّ‬ ‫ن الَّذِي َ‬‫(إِنَّمَا الْ ُمؤْمِنُو َ‬
‫َكلُونَ{‪ }2‬الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّالَةَ وَمِمَّا َر َزقْنَاهُمْ‬ ‫علَى َربِهِمْ َي َتو َّ‬ ‫زَادَتْهُمْ ِيمَاناً َو َ‬
‫ن حَقّا َلهُمْ َدرَجاتٌ عِنْ َد رَ ِبهِمْ وَمَغْ ِفرَةٌ َو ِرزْقٌ‬‫ك هُ ُم الْمُؤْمِنُو َ‬ ‫ُينفِقونَ }‪ {3‬أُولئِ َ‬
‫َكرِيم }‪.)71(){4‬‬

‫ليس مؤمنًا حقًّا من لم يتصف بهذه الصفات الخمس وإن ادعى اإليمان‪ .‬إنها‬
‫الحقيقة التي تولت السماء وحدها توصيفها‪ ،‬وتحديد محتواها بعيدًا عن‬
‫األرض كون األرض بأهلها وناسها ليس من حقها سوى الخضوع‬
‫واالستسالم‪ ،‬كما أن اآلية بهذا التوصيف توحي بأن الكثير من الخلق يدّعون‬
‫اإليمان دون أن يكون لهم نصيب من عمل‪ ،‬وهو ادعاء فارغ ال يمت إلى‬
‫حقيقة اإليمان بصلة‪ ،‬ومن ثم كان هذا التوصيف لوضع النقاط على الحروف‬
‫بعيدًا عن ثقافة المجاملة‪ ،‬أو لغة المخاتلة التي تتعامل بها األرض بذاتها‬
‫وأفرادها‪ ،‬ومما ال شك فيه هنا فإن اآليات اآلنفة الذكر لها عالقة وثيقة بما‬
‫قبلها كون تقوى اهلل‪ ،‬وإصالح ذات البين‪ ،‬وطاعة اهلل ورسوله ال يمكن أن‬
‫تتحقق ما لم يكن التصديق بموعود اهلل هو السيد والسائد‪ ،‬وما لم يكن األمر‬
‫كذلك فإن السقوط في حمأة الرذيلة‪ ،‬ومستنقع الشهوة سيكون هو المعتبر‬
‫والقائم‪ .‬إنها اللفتة التي تحتاجها على الدوام الجماعة المنقذة‪ ،‬واألمة الهادية‬
‫كي تواصل قيادتها للبشر كما أراد لها ربها أن تفعل وتقود‪ ،‬ال كما حكمت‬
‫الشهوات واليهود‪ .‬وحتى نتذوق حالوة اآليات وروعتها ننتقل إليها‪ ،‬ففيها‬
‫الكمال‪ ،‬والروعة والجمال‪ ،‬فقوله "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اهلل وجلت‬
‫قلوبهم"‪ ،‬حيث أن مجئ "إنما" أداة الحصر يوحي بإثبات الحكم على من تم‬
‫ذكرهم‪ ،‬ونفيه عمن عداهم كما هو معلوم في لغة العرب من هذه األداة‪ .‬إنهم‬
‫المؤمنون هنا بصفاتهم وبصماتهم اجتمعت فيهم الصفات‪ ،‬وتزينت واكتملت‬
‫بجمالهم البصمات‪ .‬إنها صفات الباطن المتمثلة بالوجل‪ ،‬وزيادة اإليمان‪ ،‬ثم‬

‫(‪ )71‬سورة األنفال‪ :‬اآلية رقم (‪.)4 ،3 ،2‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 334 -‬‬

‫بعد ذلك البصمات الخارجية متمثلة باالعتماد الباطني والظاهري على اهلل‪،‬‬
‫مع إقامة الصالة‪ ،‬وإنفاق األموال كما سيأتي معنا الحقًا‪ ،‬وجاءت واو الجماعة‬
‫هنا في قوله "المؤمنون" لإليحاء بواحدية العمل واالعتقاد لهذا الصف‬
‫اإليماني الصادق دينًا‪ ،‬والملتزم شرعًا في صورة غاية في الجمال والجالل‪،‬‬
‫ثم جاء قوله "إذا ذكر اهلل"‪ ،‬وليس "إن ذكر اهلل"‪ ،‬وذلك كون إذا تدل على‬
‫كثرة الحدوث وتكرره عكس إن الساكنة الدالة على ندرة حدوث الشيء‪ .‬إنها‬
‫القلوب المؤمنة التي تخضع وتخشع كلما ذكر اهلل دون تحديد للمكان أو الزمان‬
‫أو الذاكر والحال‪ .‬نعم إنها القلوب التي تجاوزت األرض بترابها وأربابها‪،‬‬
‫وانطلقت نحو السماء متحررة من كل قيد‪ ،‬ومتلهفة بشوق يمأل اآلفاق لمالقاة‬
‫عالم الغيوب جل في عاله في لحظات التجلي‪ ،‬وسويعات التخلي‪ ،‬ويزداد‬
‫الجمال هنا عندما جاء التعبير بقوله "إذا ذكر اهلل"‪ ،‬حيث جاء الفعل "ذُكر"‬
‫مبنيًّا للمجهول "لإليحاء بأن المؤمنين دائمًا بمجرد سماعهم ذكر اهلل فإن‬
‫ال‬
‫قلوبهم تخضع وتخشع دون النظر للذاكر‪ .‬إنها الحقيقة التي تضع حدًّا فاص ً‬
‫لمن ال يريد سماع الموعظة أو الذكر من غير شيخه ورجال مذهبه‪ .‬إنها‬
‫الصيحة القرآنية الرافضة لثقافة االنتقائية في التعليم والتوجيه‪ ،‬والداعية دائمًا‬
‫للخضوع واالستسالم ألوامر اهلل ونواهيه بغض النظر عن اآلمر والناهي‪،‬‬
‫وجاء التقييد هنا بذكر لفظ الجاللة "اهلل" لإليحاء بأن اهلل فقط هو من تخضع‬
‫له قلوب المؤمنين في إشارة إلى أن المؤمن إذا أريد تخويفه وزجره عند‬
‫حدوث غفلة ما يكون ذلك بتذكيره باهلل‪ ،‬وباهلل فقط‪ ،‬إن كان مؤمنًا حقًّا‪ .‬ومما‬
‫ال شك فيه فإنها لفتة جميلة كبقية اللفتات اآلنفة الذكر‪ ،‬والتي ينبغي تأملها‪،‬‬
‫والوقوف عندها لجمالها وجاللها‪ ،‬ثم يتواصل جمال التعبير من خالل قوله‬
‫"وجلت قلوبهم"‪ ،‬حيث جيء بلفظ الوجل الذي هو أعلى درجات الخوف‬
‫والخشية‪ ،‬ثم واصل التعبير القرآني انسيابه الجميل‪ ،‬وتناسقه األصيل عند‬
‫قوله "قلوبهم"‪ ،‬إنها القلوب كونها األساس في الصالح‪ ،‬ومحور االرتكاز في‬
‫‪- 335 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫الفالح‪ ،‬والعالمة المؤكدة على الفوز والنجاح في صورة مختصرة مبدعة‪.‬‬


‫ومما ال شك فيه فإن ميزان المؤمن في صحة قلبه هو ِذكْر ربه‪ ،‬فإن خشع‪،‬‬
‫ولذكر اإلله خضع كان حيًّا كامل الحياة‪ ،‬وإن تكبر‪ ،‬ولذكر اإلله منع كان‬
‫ميتًا‪ ،‬وهذا هو األمر الذي ينبغي تأمله أيضًا‪ ،‬واستشعار الحال به ومن خالله‬
‫حتى تتضح القضية‪ ،‬وتتمايز الهوية‪ ،‬ثم يتواصل الجمال من خالل قوله "وإذا‬
‫تليت عليهم آياته زادتهم إيمانا"‪ ،‬حيث أن التعبير بإذا‪ ،‬وليس إن‪ ،‬والفعل‬
‫الماضي المبني للمجهول "تليت" يوحيان بكثرة وتكرر سماعهم آليات اهلل‬
‫وهى تُتلى‪ ،‬ومن ثم يزداد باهلل إيمانهم‪ ،‬وتعلو بحمد اهلل ألسنتهم دون النظر‬
‫للشخص أيًّا كان هذا الشخص التالي والذاكر‪ .‬إنها الحقيقة المتكررة والرافضة‬
‫لتقديس األشخاص والذوات كون القداسة هنا للذكر واآليات‪ ،‬وليس للذاكر‬
‫والذوات‪ ،‬ومن ثم وجب تقديس اهلل عند سماع كالمه وذكره بغض النظر عن‬
‫اعتبارات األرض‪ ،‬ومسمياتها وحواجزها المخالفة لمنهج السماء ووحيها‪،‬‬
‫وجاء التعبير بقوله "زادتهم إيمانا"‪ ،‬حيث جاء اإليمان منكرًا لإليحاء بأن‬
‫تالوة القرآن وسماعه يبعثان الخير في جوارح المؤمن كلها‪ .‬إنه اإليمان الذي‬
‫يمأل الظاهر والباطن جماالً وروعة‪ ،‬وإيمانًا ومَنَعة‪ ،‬كما أن هذه الجملة توحي‬
‫– وبكل وضوح – بأن اإليمان يزيد وينقص‪ ،‬فكون زيادته تكون بتالوة القرآن‬
‫وسماعه‪ ،‬فكذلك يكون نقصانه بهجره ونسيانه‪ ،‬ثم يتواصل الجمال اإليماني‬
‫وهو يتحول إلى برنامج عملي من خالل قوله "وعلى ربهم يتوكلون"‪ ،‬حيث‬
‫يوحي تقديم الجار والمجرور هنا بحصر التوكل على اهلل‪ ،‬وعلى اهلل فقط‪.‬‬
‫إنها اإلشارة الواضحة والموحية باعتماد المؤمنين على اهلل في أخذهم‬
‫وعطائهم‪ ،‬وذهابهم وإيابهم‪ ،‬وليس على الذات أيًا كانت هذه الذات‪ .‬ومما تجدر‬
‫اإلشارة إليه هنا أن التوكل مسبوق بقلب وجل‪ ،‬وإيمان زائد لإليحاء بأن القلب‬
‫المغشوش‪ ،‬واإليمان الخاوي ال مكان له في التوكل‪ ،‬وال نصيب له في‬
‫التفويض‪ ،‬وهو معنى نفيس يفهم من خالل سياق اآلية‪ .‬إنها األرضية الحقيقية‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 336 -‬‬

‫للتوكل‪ ،‬والتي تعتبر القاعدة الصلبة التي ينطلق من خاللها المؤمن متوك ً‬
‫ال‬
‫على اهلل ال يخشى األعادي‪ ،‬وال يهاب الردى‪ ،‬كما أن مجيء لفظ التوكل‬
‫بصيغة المضارع "يتوكلون" مع واو الجماعة لإليحاء بدوام توكلهم‬
‫واعتمادهم الجماعي على اهلل‪ .‬إنه التوكل الذي ال تحكمه األرض بناسها‬
‫وأهلها‪ ،‬وال تسيطر عليه الناس برغباتها ولذاتها‪ ،‬بل هو التوكل الذي ينطلق‬
‫من القلب صوب السماء مباشرة تاركًا األرض بحساباتها القاصرة‪ ،‬وثقافتها‬
‫المتعثرة ألصحاب الهمم الرخيصة‪ ،‬والعزائم الرخوة تقيدهم وتقودهم إلى ما‬
‫ال فائدة فيه‪ ،‬وال طائل من ورائه حتى النهاية‪ .‬وبعد هذه التوطئة الجميلة في‬
‫ذاتها ومحتواها ينقلنا السياق القرآني بطريقته الجميلة المعهودة صوب الثمار‬
‫اإليمانية األخرى لإليحاء بأن اإليمان ليس اعتقادًا محاصرًا في داخل الذات‪،‬‬
‫بل هو سلوك عملي يحرك المخلوق في األرض كي يرضى عنه الخالق في‬
‫السماء‪ ،‬وذلك من خالل قوله "الذين يقيمون الصالة ومما رزقناهم ينفقون"‪،‬‬
‫إنه اإليمان الذي يدفع المؤمن صوب المسجد كي يعيش فيه الساجد هناك‬
‫لحظات التجلي‪ ،‬وروعة التحلي بعيدًا عن ضوضاء الحياة‪ ،‬وعبث األحياء‪،‬‬
‫نعم فقوله "الذين يقيمون الصالة"‪ ،‬هذه األلفاظ توحي بدالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫أن اإليمان بعد االعتقاد واإلقرار يتحول إلى عمل‪ ،‬وإال كان إيمانًا مخدرًا‪،‬‬
‫واعتقادًا باطالً‪ ،‬ويزداد جمال التعبير هنا من خالل قوله "يقيمون بصيغة‬
‫المضارع مع واو الجماعة‪ ،‬إنه اإليحاء بأن المؤمنين ليسوا ممن يعبثون‬
‫بصالتهم أبدًا‪ ،‬بل هم محافظون عليها دون انقطاع بكامل شروطها وأركانها‬
‫وواجباتها‪ .‬إنها الصالة المستقيمة التي ال اعوجاج بها‪ ،‬بل هى الكاملة دينًا‪،‬‬
‫ال في صورة تعبدية‬ ‫والثابتة فريضة‪ ،‬والحاضرة مكانًا‪ ،‬والباقية زمانًا وحا ً‬
‫خالصة ال تشوبها شائبة‪ ،‬ويزداد جمالها بواو الجماعة الموحية بإقامتها مع‬
‫الجماعة كون واو الجماعة توحي بهذا المعنى‪ .‬إنها صالة الجماعة التي قادت‬
‫الجماعة المنقذة‪ ،‬واألمة الهادية باألمس‪ ،‬وهى نفسها التي ستكرر القيادة اليوم‬
‫‪- 337 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ما بقيت قائمة‪ ،‬ومما ال شك فيه هنا فإن المحافظة على صالة الجماعة دون‬
‫تخلف أو إبطاء ترتبط ارتباطًا وثيقًا بصحة القلب ومرضه‪ .‬إنه القلب الذي‬
‫كلما صحت حياته‪ ،‬وانتظم خوفه‪ ،‬وثبت باهلل صدقه كلما دفع صاحبه إلى‬
‫المساجد دفعًا‪ ،‬والعكس صحيح أيضًا‪ ،‬ثم يتواصل الجمال من خالل قوله‬
‫"ومما رزقناهم ينفقون"‪ ،‬إنها حقيقة العبادة‪ ،‬وروعة العابد تتجلى هنا من‬
‫خالل عدم االكتفاء بالصالة‪ ،‬بل ظهور حقيقتها من خالل قوله "ومما رزقناهم‬
‫ينفقون"‪ ،‬حيث قدم قوله "ومما رزقناهم" على قوله "ينفقون"‪ ،‬ولم يقل يقيمون‬
‫الصالة‪ ،‬وينفقون األموال على نفس إيقاع الصالة‪ ،‬بل جاء التعبير هنا مختلفاً‬
‫حيث قدم "ومما رزقناهم"‪ ،‬وذلك إليحاءات كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن نفقة المؤمنين‬
‫نفقة خالصة طاهرة‪ ،‬وليست النفقة المغشوشة في كسبها واكتسابها‪ ،‬حيث إن‬
‫قوله "ومما رزقناهم يوحي بهذا المعنى‪ ،‬وهو معنى خفي يعرف من خالل‬
‫السياق وروعته‪ ،‬كما أن التعبيريوحي أيضًا بأن المؤمنين ليسوا فقراء‪ ،‬وال‬
‫ينبغي أن يكونوا كذلك‪ ،‬بل هم ذوو ثروة ومال‪ ،‬لذا فمما رزقهم اهلل توحي‬
‫بأنهم ليسوا بخالء البتة‪ ،‬بل المؤمن هو األكرم يدًا‪ ،‬واألشرف عطاءً‪،‬‬
‫واألصدق بذالً‪ ،‬واأليسر حاالً‪ .‬إنه اإليحاء الذي ال يقبل الكسل‪ ،‬وال يرضى‬
‫بالعاطلين‪ ،‬بل إيحاء يحرك المشاعر الكامنة‪ ،‬والمعاشر المؤمنة لطلب‬
‫األرزاق التي يسوقها الرزاق لتستقيم الحياة‪ ،‬ويعيش األحياء كما كتب اهلل‬
‫وأراد‪ ،‬وجاء قوله "ينفقون" بصيغة المضارع ليكتمل الجمال‪ ،‬ويتواصل‬
‫الكمال في رسم صورة جمالية مبدعة تعانق السماء وليس األرض‪ ،‬وتطلب‬
‫الثريا وليس الثرى‪ ،‬وذلك من خالل السخاء في العطاء‪ .‬إنه اإليحاء بكرم‬
‫المؤمنين‪ ،‬وسخائهم‪ ،‬وعطائهم الذي ال توقفه األحوال‪ ،‬وال تغيره األزمان‪،‬‬
‫بل عطاؤهم باق ما بقي الخير في أيديهم‪ .‬إنها دعوة سماوية واضحة للجماعة‬
‫المنقذة‪ ،‬واألمة الهادية كي تتمثل إيمانًا ال يقبل البخل‪ ،‬وتعيش سخا ًء ال يعرف‬
‫الشح‪ ،‬وتحمل قلوبًا تعيش للخلق في األرض كي تُرضي الخالق في السماء‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 338 -‬‬

‫في صورة جماعية مبدعة‪ .‬وبعد هذه البصمات اإليمانية الصادقة دينًا‪،‬‬
‫والحقيقة واقعًا‪ ،‬والكبيرة وزنًا جاء الحكم اإللهي كي يوقِّع بصمته من خالل‬
‫قوله "أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم"‪،‬‬
‫إنه الحكم الذي لم يأت جزافًا كما تعمل محاكم األرض السفلى وهى تتعامل‬
‫بثقافة المجاملة‪ ،‬ولغة المخاتلة الخالية من معاني الحياة‪ ،‬وحياة المعاني‪ ،‬بل‬
‫ال للدعاوى المغرضة‪ ،‬والثقافات المتفلتة‬ ‫جاء الحكم هنا كي يضع حدًّا فاص ً‬
‫التي جعلت اإليمان كلمات وشعارات ال تمت لواقع الحياة ودنيا األحياء بصلة‪،‬‬
‫ومجيء المؤكدات هنا المتمثلة ب أولئك‪ ،‬والضمير هم‪ ،‬وأل التعريف في‬
‫المؤمنين كلها إلثبات أن المؤمنين حق اإليمان هم من جمع بين هذه الصفات‬
‫الخمس المتمثلة ب‪ :‬خضوع وخشوع القلب عند ذكر اهلل – زيادة اإليمان عند‬
‫تالوة القرآن – التوكل واالعتماد على الرحمن – إقامة الصالة – ومما رزقهم‬
‫اهلل ينفقون‪ ،‬إنها الصفات الخمس المحددة لحقيقة اإليمان والرجال المؤمنين‪،‬‬
‫بينما أولئك الذين افتقدوا هذه الصفات ليسوا مؤمنين حقًّا‪ ،‬بل هو الهراء‬
‫والكذب‪ ،‬والعبث واللعب ليس إال‪ ،‬وهنا يأتي مسك الختام ليكون شاهدًا على‬
‫روعة المقام من خالل قوله "لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم"‬
‫كون كرم القلوب هنا ال يساويه أبدًا إال كرم عالم الغيوب هناك‪ ،‬فعلى هذه‬
‫القلوب أن تطمئن وتهدأ فلن يذهب خشوعها وإيمانها وتوكلها وصالتها‬
‫وكرمها سدى عند أكرم األكرمين‪ ،‬بل الدرجات والمغفرة والرزق الكريم في‬
‫انتظارهم في جنان الخلد حيث الخلود األبدي‪ ،‬والنعيم السرمدي‪..‬‬
‫‪- 339 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬
‫ن الْمَآلئِكَ ِة‬
‫ف مِ َ‬
‫ب لَكُمْ أَنِي مُمِدُّكُم ِبَألْ ٍ‬
‫ن رَبَّكُمْ فَاسْ َتجَا َ‬
‫(إِذْ تَسْتَغِيثُو َ‬
‫ُمرْ ِدفِينَ{‪.)72()}9‬‬

‫عندما يشتد الكرب‪ ،‬وتنقطع الحيل‪ ،‬عندئ ٍذ تكون االستغاثة باهلل وحده هى‬
‫الملجأ والمالذ‪ .‬إنها اآلية التي نقلت المشهد الحياتي والنفسي الذي عاشته‬
‫الجماعة المنقذة‪ ،‬واألمة الهادية هناك في بدر مع نبيها ورسولها الكريم في‬
‫لحظات الشدة والعسر‪ .‬إنه العسر الذي باغت الجماعة حينها بجيش قرشي‬
‫جبْ بهدف االستئصال‪ ،‬واالعتقال للنبي وجماعته دون سابق إنذار أو احترام‬ ‫َل ِ‬
‫لقرابة النسب والدار‪ .‬نعم إنه الجيش الذي خرج رياءً وبطرًا معدًّا ومتوعدًا‬
‫الجماعة المنقذة‪ ،‬واألمة الهادية في بداية تكوينها وتكونها كي يستأصل ويعتقل‬
‫بطريقة وحشية متوحشة‪ .‬ومما تجدر اإلشارة إليه هنا قبل الولوج في رحاب‬
‫اآلية أن نذكِّر بأن الشدائد والكروب ليست جديدة على الجماعة المنقذة واألمة‬
‫الهادية‪ ،‬بل هى قديمة قدم الصراع القائم بين الخبيث والطيب‪ ،‬ومتجددة‬
‫بطرائق مختلفة ووسائل شتى حتى تقوم الساعة‪ .‬كما ينبغي أن نذكر أيضًا‬
‫أمرًا في غاية األهمية وهو أن شدائد اليوم‪ ،‬وكربه وأزماته مقارنة بشدائد‬
‫األمس‪ ،‬وكربه‪ ،‬وأزماته‪ ،‬والنبي بين ظهراني القوم ليست شيئًا كون شدائد‬
‫ال ألن المعادلة حينها لم تكن‬‫األمس كانت هى األشد وقعًا‪ ،‬واألخطر حاالً ومآ ً‬
‫متوازنة البتة‪ ،‬بل إن الحبيب محمدًا لخص المشهد حينها بكلمات غاية في‬
‫ال "اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن‬ ‫االختصار واالعتذار للرب سبحانه قائ ً‬
‫تعبد في األرض أبداً"‪ .‬وحتى نتذوق حالوة المشهد في تلك اللحظات‬
‫االستثنائية من عمر األمة المحمدية دعونا ننتقل مباشرة لنعيش في ظالل‬
‫اآلية ففيها الجمال والكمال‪ ،‬فقوله "إذ تستغيثون ربكم"‪ ،‬هذه األلفاظ توحي‬
‫بدالالت كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن هذه اآلية مرتبطة بما قبلها ارتباطًا وثيقًا‪ ،‬بل هى‬

‫(‪ )72‬سورة األنفال‪ :‬اآلية رقم (‪.)9‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 340 -‬‬

‫طوق النجاة إلحقاق الحق وإبطال الباطل ألن اآلية السابقة وما قبلها تحدثت‬
‫عن إحقاق الحق وإبطال الباطل‪ ،‬فكانت االستغاثة باهلل هنا هى الباب الوحيد‬
‫إلحقاق الحق‪ ،‬وذلك بعد األخذ بأسباب األرض وإمكانياتها الممكنة‪ ،‬وهو‬
‫معنى نفيس يفهم من خالل الربط بين اآليات القرآنية كما هو مالحظ ومعلوم‪،‬‬
‫ومجئ "إذ" الظرفية الزمنية هنا توحي بأن الزمن كان شاهدًا على تلك‬
‫اللحظات االستثنائية الصعبة التي عاشتها الجماعة هناك‪ ،‬والتي ال ولن تنسىَ‬
‫طوال تاريخ جهاد األمة الطويل وهى تخوض غمار المعارك المتواصلة كى‬
‫توقف عبث الطغيان‪ ،‬وجرائم الطغاة‪ .‬إنها األيام الخالدة زمانًا‪ ،‬والباقية مكانًا‬
‫كي تبقى الدروس حاضرة في األذهان دون شرود أو نسيان‪ ،‬ثم يتواصل‬
‫جمال التعبير القرآني وهو ينقل مشهدًا من مشاهد العبودية الحقة الذي تجلى‬
‫هناك في وادي بدر في لحظات االبتهال الجماعي الذي اتجه صوب السماء‬
‫تاركًا وادي بدر لحكم السماء وعدالتها كي تتدخل لحسم المعركة‪ ،‬وإنهاء‬
‫الملحمة‪ ،‬وذلك من خالل قوله بعد إذ "تستغيثون ربكم"‪ ،‬وليس تدعون ربكم‬
‫كون الدعاء عامًا‪ ،‬بينما االستغاثة خاصة‪ .‬إنها االستغاثة المشتقة من الغوث‪،‬‬
‫والذي هو طلب العون والحاجة دون تأخير كون الكرب شديدًا‪ ،‬والعدو عنيدًا‪.‬‬
‫إنه كرب يوم بدر بكل مالبساته‪ ،‬حيث خرجت مكة حينها بقدها وقديدها‬
‫ال ليسوا‬
‫بجيش كبير بلغ ألف مقاتل كي يستأصل ثالث مئة وبضع عشرة رج ً‬
‫مستعدين لقتال البتة‪ .‬إنها اللحظات التي لم يكن للجماعة المنقذة‪ ،‬واألمة‬
‫الهادية حينها كثير خيارات‪ ،‬بل القتال أو االستسالم‪ ،‬وفي حال خيارها األول‬
‫فالمعادلة مختلة كمًّا وكيفًا‪ ،‬وفي حال الخيار اآلخر عندئ ٍذ لم يتبق غير القتل‪،‬‬
‫والقتل المؤكد كون مكة حينها قد ألفت القتل‪ ،‬واستسهلت الدم انتصارًا‬
‫لغرورها‪ ،‬ودفاعًا عن مكانها ومكانتها‪ .‬إنه الباطل عندما يتحرك بقده وقديده‪،‬‬
‫تحركُه يوم بدر هناك‪ ،‬أو تحركاته المستمرة هنا كون‬ ‫ومكره وبغيه سواء ُّ‬
‫واحدية الحركة والهدف والمطلب والمقصد لم ولن تتغير إطالقًا كون القتل‬
‫‪- 341 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ن واحدٍ ال يوقف عبثها‪ ،‬ويلجم غرورها‬ ‫واالستئصال ثقافةً قديمة جديدة في آ ٍ‬


‫سوى رجاالت الجماعة المنقذة واألمة الهادية بإيمان عميق‪ ،‬وتخطيط دقيق‪،‬‬
‫ال‬
‫وعمل متواصل‪ ،‬وإال كانت الهزيمة واالنهزام‪ ،‬ومما ال شك فيه فإن حا ً‬
‫كهذا جعل الحبيب محمدًا يستشير‪ ،‬ثم يرتب الصفوف بعد االستشارة‪ ،‬ومن‬
‫ثم يوزع المهام حسب التخصصات والقدرات بطريقة فذة‪ ،‬وعبقرية نادرة‪.‬‬
‫إنها الصفوف التي قبلت الحرب على الخضوع واالستسالم لعدو متكبر جبار‬
‫رغم عدم تكافؤ القوة‪ ،‬وتوازن القوى‪ ،‬وبما أن األمر خطير‪ ،‬جد خطير‪ ،‬كونه‬
‫إما أن تكون‪ ،‬وإما أن ال تكون‪ ،‬فعند=ئ ٍذ كانت االستغاثة الجماعية الممزوجة‬
‫بالدعاء والبكاء في وادي بدر طوال الليل بعد ترتيب محكم‪ ،‬مكانًا وزمانًا‬
‫وحاالً‪ ،‬وبعيدا عن خالفات المفسرين الذين اختلفوا في كيفية هذه االستغاثة‬
‫بين قائل إن الرسول الكريم أخذ يناجي ربه‪ ،‬ويبكي رافعًا يديه حتى سقط‬
‫رداؤه وهو يقول "اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في األرض أبدًا‪" ،‬اللهم‬
‫إن قريشًا خرجت تحادك وتحاد رسولك اللهم فأحنهم الغداة‪ ،‬اللهم نصرك‬
‫الذي وعدتني‪ ،‬والصحابة يؤمنون خلفة بصوت جماعي اهتز له المكان‬
‫والزمان والحال‪ ،‬ومن يقول إن الصحابة رأوا رسول اهلل يبتهل‪ ،‬ومن ثم‬
‫تحركوا جميعًا يبتهلون مثله‪ ،‬وأيًّا كان الرأي فالجميع استغاث‪ ،‬وإلى اهلل لجأ‬
‫وخاف‪ .‬إنه المشهد الذي يجب أن تحياه الجماعة المنقذة واألمة الهادية عندما‬
‫تنقطع بها السبل‪ ،‬ويضيق بها الحال‪ ،‬ويتآمر عليها األنذال على مستوى الفرد‬
‫والمجتمع واألمة على حد سواء‪ ،‬وإن كان األمر في مواطن الجهاد آكد وأشد‪،‬‬
‫ومما ال شك فيه فإن السين في "تستغيثون" توحي بالمبالغة في االستغاثة‪.‬‬
‫إنها المبالغة التي تجاوزت الحال واللسان إلى دموع خضبت اللحي‪ ،‬وفعلت‬
‫فعلها في مشهد تعبدي تحركت له أبواب السماء دون تأخر أو إبطاء‪ ،‬كما أن‬
‫واو الجماعة هنا توحي بأن االستغاثة الجماعية هى األقرب لتفريج الكرب‬
‫كونها توحي بتوبة جماعية‪ ،‬واستشعار جماعي بالخطر الماحق‪ ،‬والعدو‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 342 -‬‬

‫الفاسق‪ ،‬كما أن اآلية فيها إيحاء بعبودية األنبياء لربهم‪ ،‬وافتقارهم لخالقهم‪،‬‬
‫وأنهم ال يملكون ألنفسهم ضرًّا وال نفعًا كونه ما شاء اهلل كان‪ ،‬وما لم يشأ لم‬
‫يكن كما هو معلوم‪ ،‬كما أن استغاثة الحبيب هنا فيها إيحاء بأن القائد عليه أن‬
‫يكون األصدق توبة‪ ،‬واألكثر خوفاً‪ ،‬واألقرب دمعة‪ ،‬واألخشع قلبًا كي تحصل‬
‫الريادة‪ ،‬وتواصل الجماعة المنقذة واألمة الهادية القيادة‪ ،‬وهو معنى في غاية‬
‫النفاسة يفهم من خالل سياق اآلية‪ .‬إنها أمانة القيادة تتجلى هنا عندما يتوجه‬
‫القائد نحو السماء معلنًا أن الذوات البشرية‪ ،‬كل البشرية‪ ،‬ال قدرة لها على أن‬
‫تحقق نصرًا ما لم يكن اهلل وحده هو الناصر والمعين‪ ،‬وإال كانت الهزيمة‪،‬‬
‫وكان الخسران‪ ،‬كما أن الحال في استغاثة بدر يوحي بأن االستغاثة لن تكون‬
‫مجدية البتة ما لم تأت ضمن جهد وجهاد وترتيب وإعداد‪ ،‬وإال كانت ملقاً‬
‫ال مزرياً‪ ،‬ويتواصل الجمال‪ ،‬ويتنافس الكمال في رحاب اآلية‬ ‫تعبديًّا‪ ،‬وتواك ً‬
‫تنافسًا يفيض على القلوب سكينة وهدوءًا من خالله قوله "ربكم"‪ ،‬وليس لفظ‬
‫الجاللة "اهلل كأن يكون السياق مثالً" إذ تستغيثون اهلل"‪ ،‬وذلك كون "ربكم"‬
‫يندرج تحت توحيد الربوبية الذي معناه ومحتواه توحيد العبد ربه بأفعاله‪،‬‬
‫وذلك بأن يشهد العبد بأن اهلل هو الخالق والرازق والمحيى والمميت والناصر‬
‫والمعين‪ ،‬بينما توحيد األلوهية هو توحيد العبادة الذي معناه ومحتواه هو أن‬
‫توحد اهلل بأفعالك أنت‪ ،‬فتتجه بها نحوه وحده‪ ،‬فكان ذكر الرب مناسبًا لهذا‬
‫المعنى‪ ،‬وهو معنى نفيس ينبغي تأمله‪ ،‬والوقوف عنده‪ .‬إنها الحقيقة الموحية‬
‫بأن التنظيم والترتيب‪ ،‬وإن كان دقيقًا‪ ،‬إال أنه دون عون اهلل مهزوم‪ ،‬لذا كانت‬
‫االستغاثة بالرب‪ ،‬هنا كون إجابة الدعاء في الغالب من أفعال الربوبية كما‬
‫أسلفنا‪ .‬وبعد هذا الجو اإليماني الذي نلحظه من خالل السياق وقد تعالت‬
‫األصوات هناك في بدر في ليلة مظلمة باردة‪ ،‬وقد اختلط البكاء بالدعاء‪ ،‬جاء‬
‫الجواب سريعًا من خالل قوله "فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من المالئكة‬
‫مردفين"‪ ،‬حيث تحمل هذه الجملة الكثير من الدالالت واإليحاءات‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪- 343 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫أن الفاء وليس حرفًا آخر لإليحاء باستجابة مباشرة دون تأخير كون الفاء في‬
‫لغة العرب توحي بهذا المعنى‪ .‬إنها االستجابة التي غيرت مجرى األحداث‪،‬‬
‫وقلبت المعادلة في وادي بدر رأسًا على عقب‪ ،‬وجعلت العدوان المكي‬
‫ال وعرض ًا طيلة‬
‫المنتشي كبرًا‪ ،‬والمتحرك ريا ًء وبطرًا‪ ،‬والعابث بالحياة طو ً‬
‫السنوات الماضية يتقهقر مهزومًا‪ ،‬ويسقط مأزومًا‪ ،‬ويخسر الجولة مدحورًا‬
‫في واحدة من أعظم نكسات الباطل في تاريخ الصراع البشري الطويل بين‬
‫قوى الخير من جهة‪ ،‬وقوى الشر من جهة أخرى‪ .‬إنها الرسالة التي ينبغي‬
‫على الجماعة المنقذة واألمة الهادية استشعارها وهى تعيش في واقع متبلد‬
‫أخالقيًّا‪ ،‬ومتذبذب دينيًّا‪ ،‬ومقهور سياسيًّا نتيجة لالنهزام العقدي‪ ،‬والسقوط‬
‫القيمي الذي تعيشه األرض‪ ،‬وذلك لغياب الجماعة المنقذة عن مسرح الحدث‪،‬‬
‫ومواقع األحداث‪ ،‬ومن ثم عليها في ظل هذا الوضع أن تستشعر أن القضية‬
‫الفاصلة في هذه المعركة ليست قضية القوة المادية وحدها‪ ،‬وال األكوام‬
‫البشرية المنتفخة ريا ًء وبطرًا معها من يحدد سير المعترك‪ ،‬ونتائج المعركة‪،‬‬
‫بل التربية العقدية‪ ،‬واإلعداد وفق االستطاعة هما من يحددان حقيقة المعترك‪،‬‬
‫ونتائج المعركة كون النصر ليس لقوى األرض أيًّا كانت هذه القوى أن تحدده‪،‬‬
‫أو تتحكم به‪ ،‬بل اهلل وحده هو من يحدد ذلك جل شأنه‪ ،‬وتقدست أسماؤه‪ ،‬لذا‬
‫كانت االستغاثة به بعد األخذ بأسباب األرض هى المعتمد والمالذ‪ ،‬كما أن‬
‫مجيء السين في الفعل توحي بصدق القوم والتزامهم‪ ،‬ونقائهم مع الحبيب‬
‫الكريم في تلك اللحظات المشهودة‪ ،‬واأليام المباركة من عمر الجماعة المنقذة‬
‫واألمة الهادية‪ ،‬ولذا كانت الفاء رسالة السماء لألرض حينها كي تأنس بعد‬
‫وحشة‪ ،‬وتطمئن بعد خوف‪ .‬إنه اإليحاء الذي يشي بقرب السماء من األرض‬
‫عندما تصدق األرض‪ ،‬وتجاهد‪ ،‬وتضحي وإن كان هؤالء هم األقل عددًا‪،‬‬
‫واألضعف عدة‪ ،‬ولكن حسبهم جهدهم وجهادهم‪ ،‬وبذلهم المستطاع‪،‬‬
‫وعطاؤهم‪ ،‬فكان النصر‪ ،‬وكان االنتصار‪ ،‬ثم جاء التعبير الذي يفيد‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 344 -‬‬

‫التخصيص من خالل قوله "لكم"‪ ،‬حيث يوحي هذا التخصيص بأن النصر لم‬
‫يكن خاصًّا بنبي اهلل وحده‪ ،‬بل هو نصر جماعي لنبي اهلل وأمته كون انتصار‬
‫رسول اهلل هو انتصار للمشروع بشكل عام‪ ،‬ولذا جاء التخصيص لكم أنتم‬
‫دون غيركم يا من عشتم الحدث‪ ،‬وصارعتم األحداث‪ .‬إنها اللحظات التي‬
‫أصبحت فيها الجماعة المنقذة في وادي بدر هى الجماعة المنتظر منها حمل‬
‫المشروع‪ ،‬والمحافظة عليه‪ ،‬ومن ثم تبليغه إلى األجيال الالحقة ليستمر‬
‫المشروع قائمًا بمنهجه ونهجه‪ ،‬وأصوله وثوابته‪ ،‬قائمًا مقاومًا ال يقبل‬
‫السقوط‪ ،‬وال يرضى بغير بلوغ المقصود‪ ،‬ويزداد الجمال‪ ،‬ويتواصل الكمال‬
‫من خالل تفنيد محتوى االستجابة وأشكالها وذلك من خالل قوله "أني ممدكم‬
‫بألف من المالئكة مردفين"‪ ،‬حيث توحي هذه الجملة بدالالت كثيرة ومنها‪:‬‬
‫ال "أنه ممدكم"‪ ،‬حيث يشي‬ ‫لفظ "أني"‪ ،‬وليس أنه "كأن يكون السياق مث ً‬
‫التعبير "أني" بقرب الرب من العبد عندما يصدق هذا العبد‪ ،‬ويلوذ بهذا الرب‪.‬‬
‫إنه الصدق الذي يتجاوز األرض‪ ،‬كل األرض‪ ،‬بناسها وأهلها تاركًا مغريات‬
‫األرض جانبًا‪ ،‬ومتجهًا صوب الرب بقلبه وقالبه‪ ،‬عندئ ٍذ يكون الجواب "أني"‪،‬‬
‫وليس "أنه"‪ ،‬كما أن اللفظ "أني" يوحي بسعة ملك اهلل‪ ،‬وقدرته التامة‪ ،‬وقوته‬
‫المطلقة كون المدد المالئكي ليست حركته من تلقاء نفسه أبدًا‪ ،‬بل تحرُّكه وفق‬
‫أوامر الرب سبحانه‪ ،‬فهو اآلمر لكل من في السموات واألرض‪ ،‬وغيره‬
‫مأمور‪ ،‬وجاء التعبير بقوله "ممدكم" لإليحاء بأن المالئكة كانوا مددًا إضافيًّا‬
‫لجند موجودين‪ .‬إنها اإلشارة الدقيقة‪ ،‬والدقيقة جدًّا‪ ،‬والموحية بأن نصر اهلل‬
‫ومدده ال يمكن أن يكون مددًا لمن لم يبن جيشًا‪ ،‬ولم يحرك ساكنًا‪ .‬نعم إن‬
‫المدد اإللهي ال يكون قطعًا إال لمن تحرك في الميدان‪ ،‬ومن ثم داهمه العدو‬
‫بأكثر منه عددًا‪ ،‬وأقوى منه عدة‪ ،‬عندها‪ ،‬وعندها فقط‪ ،‬يكون المدد اإللهي‬
‫قائمًا شريطة االستغاثة الجماعية المعبرة عن صدق اللجوء‪ ،‬وإخالص‬
‫الالجئ‪ ،‬إنه الرفض القاطع لعبثية االنتظار لنصر اهلل وعونه دون بذل‬
‫‪- 345 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫األسباب‪ ،‬والتحرك الجماعي كما أمر اهلل بطرق كل باب‪ ،‬ليكون المدد هنا‬
‫كما تحقق يوم بدر هناك‪ ،‬ويتواصل الجمال القرآني في تحديد نوعية المدد‬
‫وعدده‪ ،‬وذلك من خالل قوله "بألف من المالئكة مردفين" لإليحاء بأمور‬
‫كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن التحديد بألف له معنى دقيق‪ ،‬ودقيق جدًّا‪ ،‬كون الملك الواحد‬
‫من مالئكة السماء كان كافيًا لتغيير مسار المعركة‪ ،‬والتحكم بمآالتها ونتائجها‬
‫ألن جناحًا واحدًا فقط من أجنحة جبريل كان كافيًا لحسم المعركة‪ ،‬وإنهاء‬
‫المعمعة‪ ،‬لكن القضية التي أرادها اهلل هنا هى قضية تكثير العدد كون عدد‬
‫ال مقارنة بخصومهم القابعين هناك في‬ ‫المستغيثين باهلل حينها كان عددًا قلي ً‬
‫أسفل الوادي‪ ،‬ومن ثم كان هذا التحديد لهذه الحكمة‪ ،‬ولذاك األمر‪ .‬إنهم مالئكة‬
‫اهلل الذين خُلقوا خصيصًا لنصرة المؤمنين في األرض‪ ،‬وذلك عندما تضيق‬
‫األرض بالمؤمنين‪ ،‬وتتآمر عليهم‪ ،‬عندئ ٍذ على رجاالت الجماعة المنقذة‬
‫واألمة الهادية أن تكون لهم مع سورة األنفال وقفات وتأمالت ودراسات‬
‫وخلوات‪ ،‬كما أن تخصيص المدد بالمالئكة لإليحاء بجنود اهلل في السماء كما‬
‫هم كذلك في األرض‪ ،‬وذلك لتثبيت المؤمنين في كل العصور‪ ،‬إنهم جنود اهلل‬
‫في السماء واألرض الذين ال حصر لهم‪ ،‬وذلك حتى ال يستوحش المؤمن‬
‫عندما تصاب األرض من حوله بالبطر واألشر‪ ،‬بل يثبت‪ ،‬ويثبت مستشعرًا‬
‫أن صدقه مع ربه سيقيض له جنودًا ليسوا بشرًا يكثرون عدده‪ ،‬ويقوون‬
‫عدته‪ ،‬ويحسمون معه معركته‪ ،‬كل ذلك بأمر اهلل وحكمته‪ ،‬وقدره وقدرته‪.‬‬
‫وجاء التعبير الختامي منسجمًا تمامًا مع سياق اآلية وهى تضع النقاط على‬
‫الحروف مكونة لوحة فنية غاية في اإلبداع واإلمتاع‪ ،‬وذلك من خالل قوله‬
‫"مردفين"‪ ،‬والذي يعنى متتابعين أي يتبع بعضهم بعضًا‪ .‬إنه الرفض القاطع‬
‫لثقافة العشوائية التي تتعامل بها األرض عندما تتفلت من وحي السماء‪ ،‬ومن‬
‫ثم كان هذا التنظيم المحكم لمالئكة اهلل وهى تتحرك صوب األرض بهذا‬
‫التخطيط العميق‪ ،‬والترتيب الدقيق رسالة واضحة المعالم للجماعة المنقذة‪،‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 346 -‬‬

‫واألمة الهادية كي تدع العشوائية جانبًا في حياتها وجيشها‪ ،‬وتنطلق وفق نظام‬
‫محكم تحكمه المراحل‪ ،‬وتسيره الخطوات حتى يصل إلى منتهاه‪ ،‬ويحقق‬
‫مراده ومبتغاه‪.‬‬
‫‪- 347 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ن وَيَمْ ُكرُ‬
‫ك أَوْ يَقْ ُتلُوكَ َأوْ ُيخْ ِرجُوكَ وَيَمْ ُكرُو َ‬
‫ن كَ َفرُواْ لِيُثْبِتُو َ‬
‫ك الَّذِي َ‬
‫( َوإِذْ يَمْ ُك ُر بِ َ‬
‫اهللُّ وَاهللُّ خَيْرُ الْمَا ِكرِينَ{‪.)73()}30‬‬
‫السجن والقتل والنفي مفردات قديمة استخدمها طغاة األمس‪ ،‬وما زالت واردة‬
‫من قبل طغاة اليوم دون توقف‪ .‬إنها المفردات الخسيسة التي عبرت عنها دار‬
‫الندوة باألمس بصورة غاية في الوقاحة والقبح‪ .‬الوقاحة التي استهدفت الحبيب‬
‫محمدًا في صورة عدوانية مكشوفة‪ ،‬وبطريقة وحشية مفضوحة كونها لم تراع‬
‫الرسالة وال الرسول‪ ،‬نعم إنها الوحشية التي لم تراع بالفعل ذات الحبيب محمد‬
‫وصدقه ورسالته وطهره‪ ،‬بل أعلنت عن نفسها هناك بصورة مبتذلة فاحشة‪،‬‬
‫وبطريقة سيئة ماكرة كي تعلم الدنيا‪ ،‬كل الدنيا‪ ،‬حقيقة اإلجرام‪ ،‬وثقافة‬
‫ال عما سواه – وحتى‬
‫ال نبيًّا‪ ،‬فض ً‬
‫المجرمين التي لن تستثنى أحدًا ولو كان رسو ً‬
‫نعرف كل تلك الحقائق‪ ،‬ونعيش عن قرب مع مآالت تلك المفردات الثالث‬
‫تعالوا إلى اآلية حيث إن التصوير مع روعة التعبير يوضحان الحقيقة‪،‬‬
‫ويرسمان الواقعة بصورة واقعية دون تلعثم أو التواء‪ ،‬فقوله "وإذ يمكر بك‬
‫الذين كفروا"‪ ،‬فالواو تشي بعالقة هذه اآلية بما قبلها‪ ،‬إنها تقوى اهلل‪ ،‬وتقوى‬
‫اهلل فقط‪ ،‬هى التي تحفظ الجماعة من المكر البشري واإلجرام األرضي‪ .‬إنها‬
‫الحقيقة التي ال يجوز إغفالها أو التساهل بها كونها هى التي توقف المكر‬
‫وتبطله‪ ،‬وإال كانت الجولة للمكر‪ ،‬والدائرة للماكرين‪ ،‬ثم جاءت "إذ" الظرفية‬
‫هنا المعبرة عن الزمان لإليحاء بشهادة الزمان شهادة كاملة غير منقوصة‪،‬‬
‫وذلك لسيئات الماكرين‪ ،‬وسوآت المجرمين‪ .‬إنه الزمان بليله ونهاره هو الذي‬
‫ستكون له كلمة الفصل أيضًا هناك بين يدي اهلل ليفضح المكر القرشي‪،‬‬
‫واالعتداء المكي الذي أراد الوقيعة بالرسالة والرسول في لحظات المطاردة‪،‬‬

‫(‪ )73‬سورة األنفال‪ :‬اآلية رقم ‪.30‬‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 348 -‬‬

‫وسويعات المكايدة‪ ،‬ثم يتواصل الجمال القرآني كعادته وهو ينقل الحدث كامالً‬
‫بصورة دقيقة‪ ،‬وذلك من خالل قوله "يمكر بك"‪ ،‬حيث يحمل هذا اللفظ الكثير‬
‫من الدالالت‪ ،‬ومنها‪ :‬التعبير بالمكر‪ ،‬وليس بالكيد كون المكر هنا كان تدبيرًا‬
‫خفيًّا إللحاق الضرر بالممكور به الذي هو النبي الكريم‪ ،‬بينما الكيد هو تدبير‬
‫أيضًا‪ ،‬ولكنه قد يكون خفيًّا‪ ،‬وقد يكون علنًا‪ .‬إنه المكر الذي تخفَّى هناك في‬
‫دار الندوة في ذلك الزمن البعيد من عمر الجماعة المنقذة واألمة الهادية‪،‬‬
‫والذي أراد باجتماعة هناك أن تبقى له المكانة والمكان‪ ،‬والفرس والميدان‬
‫دون وجه حق‪ ،‬وذلك كما سيتضح األمر الحقًا‪.‬‬
‫كما أن التعبير بصيغة المضارع "يمكر" يوحي بأن اآلية فضحت المجتمعين‬
‫وقت اجتماعهم كون الفعل المضارع يوحي بحصول الحدث أثناء زمان‬
‫التكلم‪ ،‬وليس قبله كما هو حال الفعل الماضي‪ ،‬وال فور التكلم كما هو حال‬
‫فعل األمر‪ .‬إنه اهلل الحافظ الذي عنده مفاتيح الغيب التي ال يعلمها غيره‪،‬‬
‫"ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إال يعلمها وال حبة في ظلمات‬
‫األرض وال رطب وال يابس إال في كتاب مبين"‪ ،‬نعم إنه اهلل من كشف‬
‫وكاشف‪ ،‬وفضح ونافح‪ ،‬ومن ثم أخبر رسوله بحقيقة االجتماع‪ ،‬ونوايا‬
‫المجتمعين‪ .‬إنها النوايا القرشية الخبيثة طبعًا‪ ،‬والمجرمة فعالً‪ ،‬والسيئة سلوكًا‪،‬‬
‫والباطلة دينًا فُضحت في وقتها‪ ،‬وسقطت في حينها كي تواصل الجماعة‬
‫سيرها دون توقف‪ ،‬كما أن التعبير بصيغة المضارع "يمكر" يوحي باستمرار‬
‫المكر برسول اهلل إلى قيام الساعة‪ ،‬وقد يقول قائل وكيف يكون المكر برسول‬
‫اهلل بينما رسول اهلل قد لحق بالرفيق األعلى منذ ما يربو على ألف وأربعمائة‬
‫وأربعين سنة ؟؟؟‪.‬‬
‫فالجواب هنا نفيس ودقيق‪ ،‬ويستحق التوقف عنده كثيرًا ليعرف القريب‬
‫والبعيد أن المكر بكل مسلم من قبل المجرمين هو مكر برسول اهلل كونهم‬
‫‪- 349 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫أتباعه وجنوده‪ ،‬وأمته وإخوانه‪ ،‬ومن ثم من يمكر بالجند هو يمكر بالقائد‬


‫سوا ًء كان القائد حيًّا أو ميتًا‪ ،‬ولذا كان التعبير بالمضارع لهذه اللطيفة ولذاك‬
‫المعنى‪ ،‬وهي لفتة نفيسة‪ ،‬بل غاية في الدقة والنفاسة‪ ،‬وجاء التخصيص هنا‬
‫في قوله "بك"‪ ،‬وذلك لإليحاء باإلجماع القرشي على واحدية الهدف‬
‫ن واحدٍ‪ .‬إنه االستهداف المرتب مكانًا‪ ،‬والمعد زمانًا‪ ،‬والذي‬
‫والمستهدف في آ ٍ‬
‫أراد الرسالة والرسول ليستمر العبث‪ ،‬ويتواصل الخبث‪ .‬إنه االجتماع الذي‬
‫تشكل في دار الندوة هناك في األيام األولى للدعوة‪ ،‬وما زال مستمرًّا في‬
‫التشكل واالنعقاد هنا‪ ،‬وذلك لتنفيذ مؤامراته تحت شعارات مختلفة‪ ،‬ويافطات‬
‫كثيرة متنوعة‪ ،‬وهو ما يستدعي أخذ الحيطة والحذر على الدوام‪.‬‬
‫ثم يتواصل الجمال القرآني كاشفًا الحقيقة‪ ،‬وموضحًا للحق من خالل وضع‬
‫النقاط على الحروف بصورة دقيقة‪ ،‬وذلك بتحديد أطراف المكر‪ ،‬وقادته‪،‬‬
‫ال "الذين كفروا"‪ ،‬إنها الحقيقة التي جعلت‬
‫وخطط الماكرين‪ ،‬وأهدافهم قائ ً‬
‫المكر صفة الكفار‪ ،‬ومنهجهم‪ ،‬وثقافتهم وذلك حتى تعي الجماعة المنقذة‬
‫واألمة الهادية األمر‪ ،‬فال تختلط عليها األوراق كون كفرة األمس هم من قاد‬
‫المكر في تلك الندوة‪ ،‬وهم مستمرون قطعًا في مكرهم في دار ندوة اليوم‪ .‬إنها‬
‫الدار السيئة السمعة والصيت‪ ،‬والتي انتهى أمرها ببيعها بشرية خمر ال أكثر‬
‫كي تستشعر الجماعة واألمة مآالت مؤتمرات اإلجرام‪ ،‬وعواقب ممتلكات‬
‫المجرمين‪ ،‬ومما ال شك فيه فإن المكر سيبقى مستمرًّا – كما أسلفنا – ولكن‬
‫هذا ال يعنى أن يكون المكر من قبل الكفار فقط‪ ،‬بل سيكون المكر من قبل‬
‫المسلمين ببعضهم البعض في كثير من األحيان‪ ،‬ولكن بتخطيط كفري‪،‬‬
‫وترتيب إبليسي‪ ،‬ثم يتواصل السياق القرآني‪ ،‬وينساب جماالً وروعة من‬
‫خالل كشف محتوى االجتماع‪ ،‬وأهداف المجتمعين‪ ،‬وذلك من خالل قوله‬
‫"ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك"‪.‬‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 350 -‬‬

‫إنها المفردات التي اجتمعت في دار الندوة‪ ،‬ومن ثم تمحور الحديث حولها‪،‬‬
‫وحولها فقط‪ ،‬وال شك في أن هذا االجتماع السري في تلك اللحظات الحاسمة‬
‫قد جاء بعد تواتر األنباء عن لقاء سري كان قد جمع الحبيب محمدًا مع رجال‬
‫من ساكني يثرب أعلنوا إسالمهم ليلة العقبة‪ ،‬ومن ثم بايعوا الحبيب على‬
‫السمع والطاعة‪ ،‬والتضحية بالنفس والنفيس‪ ،‬مع االنتظار لساعة الصفر التي‬
‫من خاللها سينتقل الحبيب مهاجرًا إليهم لتبدأ مرحلة جديدة لها ما بعدها من‬
‫الجهد والجهاد‪ ،‬وهو ما كان فيما بعد‪ ،‬ومما ال شك فيه فإن االستخبارات‬
‫القرشية حينها لم تكن لتغفل لحظة عن الدفاع عن مكانها ومكانتها الزائفة‪ ،‬بل‬
‫كانت دقيقة في الرصد والمتابعة في كل اللحظات واألوقات‪ ،‬ومن ثم‬
‫استطاعت تلك العيون كشف اللقاء الذي تم هناك في العقبة في جنح الظالم‬
‫رغم االحتياطات المحمدية الدقيقة في تحديد المكان والزمان على حد سواء‪.‬‬
‫إنها الرسالة التي يجب على رجاالت الجماعة المنقذة واألمة الهادية أن‬
‫يستوعبوها حتى يعوا أنهم ليسوا متروكين البتة‪ ،‬بل تُرصد حركاتهم‪ ،‬ويتابع‬
‫أفرادهم‪ ،‬وهو ما يستدعي المزيد من الحيطة والحذر حتى يسقط المكر‪،‬‬
‫ويتعرى الماكرون‪.‬‬
‫كما أن الوقوف عند هذه اآلية يقود الجماعة واألمة إلى ضرورة العمل‬
‫والحركة قبل الوصول للنضج‪ ،‬وقطف الثمرة‪ ،‬وإال ضاعت الثمار‪ ،‬وغاب‬
‫النضج في وضح النهار‪ ،‬ثم ينتقل السياق القرآني للحديث عن الخيار األول‬
‫الذي ثم طرحه هناك‪ ،‬وذلك من خالل قوله "ليثبتوك"؛ إنه الخيار األول الذي‬
‫تم طرحه في صباح ذلك اليوم اآلثم‪ ،‬والمتمثل بوجوب سجن الحبيب محمد‬
‫كون اإلثبات هنا المقصود به السجن‪ .‬إنها مفردة السجن اللعينة التي عرفتها‬
‫األرض منذ زمن بعيد‪ ،‬والتي جعلها الطغاة وسيلتهم وسالحهم بصورة غاية‬
‫في الظلمة واإلظالم وهم يقيدون ويحبسون ويغيبون قادة الحق ودعاته‪،‬‬
‫‪- 351 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ورجال الجهاد وحماته دون مراعاة لقداسة الرسالة أو قدسية الرسول‪.‬‬


‫ومما ال شك فيه فإن مفردة السجن اللعينة هدفها اللعين هو الفصل بين قادة‬
‫المبادئ والمقود من خالل السجن‪ .‬إنه إبعاد الرسول عن الناس‪ ،‬وإبعاد الناس‬
‫عن الرسول ليبقى السجن والسجان هما الحاجز الماكر‪ ،‬والعدو الفاجر في‬
‫لحظات المكر البشري‪ ،‬والعدوان اإلجرامي‪ ،‬والعجيب أن هذه المفردة اللعينة‬
‫المتمثلة بالسجن لقيت إجماعًا عامًّا من قبل المجتمعين باستثناء ي ٍد كانت قابعة‬
‫هناك في زاوية من زوايا الدار هى التي رفضت الخطة‪ ،‬وأسقطت المفردة‪.‬‬
‫إنه إبليس الذي لم يكتف بالوسوسة كعادته‪ ،‬بل شارك المجتمعين اجتماعهم‬
‫في صورة سراقة بن مالك كون األمر لم تعد تجدي فيه الوسوسة‪ ،‬بل تجاوزها‬
‫بحضور الذات اإلبليسية بشكل مباشر‪ ،‬وبكل فجاجة وقبح‪.‬‬
‫ومما ال شك فيه فإن إبليس برر رفضه للسجن من خالل اعتقاده الجازم بأن‬
‫أمر الرسالة والرسول سيخرجان من تحت الباب‪ ،‬ومن ثم أقنع المجتمعين‬
‫كونه صاحب خبرة في الفساد واإلفساد بالعدول عن السجن إلى رأي آخر‪،‬‬
‫كما أن التعبير بصيغة المضارع بعد الالم "يثبتوك يوحي ببقاء مفردة السجن‬
‫اللعينة مطروحة في جدول المكر البشري دون توقف‪ .‬إنها الخطط اإلبليسية‬
‫التي لن تتوقف عن المكر والكيد ما بقيت حياة‪ ،‬وتحرك أحياء‪ ،‬ثم ينتقل السياق‬
‫القرآني كاشفًا خطط الندوة‪ ،‬ومكرها من خالل قوله "أو يقتلوك"‪ ،‬حيث توحي‬
‫هذه الكلمة بإيحاءات كثيرة‪ ،‬ومنها‪ :‬أن ثقافة القتل بالنسبة للمجرمين ثقافة‬
‫أساسية تعبر عن مشروع إجرامي ال يقوم إال على الدماء واألشالء‪ ،‬كما أن‬
‫اللفظ يوحي بتجاوز الماكرين لكل الخطوط‪ ،‬واستهدافهم األرعن لكل الذوات‬
‫دون تفرقة بين ذات وأخرى ولو كانت إحدى الذوات نبيًّا مرسالً‪ .‬إنها األيدي‬
‫اآلثمة تعبر عن آثامها‪ ،‬وتسرح وتمرح في جرائمها دون مراجعة منذ بداية‬
‫الصراع بين األب آدم والعدو إبليس حتى اللحظة‪ ،‬كما أن اللفظ "يقتلوك"‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 352 -‬‬

‫جاء بصيغة المضارع لإليحاء بأن خيار قتل المصلحين‪ ،‬والتخلص منهم‬
‫خيار باق ومستمر ما بقي المصلحون يتحركون‪ ،‬وإلى اهلل يدعون‪ ،‬كما أن‬
‫الكاف في الفعل "يقتلوك" توحي بعملية االستهداف المركزة لرأس الهرم‬
‫القيادي بغية التخلص النهائي من الشريعة والمشروع‪ ،‬وهو ما يدفع الجماعة‬
‫المنقذة واألمة الهادية إلى أخذ الحيطة والحذر كي تحفظ قيادتها‪ ،‬وتدفع المكر‬
‫عن رجاالتها‪.‬‬
‫ومما تجدر اإلشارة إليه أن خيار القتل هنا كان خيارًا أخيرًا تبناه أبو جهل‪،‬‬
‫ومن ثم أجمعت الدار عليه بعد تصديق الشيطان عليه بدون شك‪ ،‬ولكن جيء‬
‫به بين خياري السجن والنفي كون الدار انقسمت على نفسها بين الخيارين‪،‬‬
‫ومن ثم جاء أبو جهل بهذا الخيار الذي أنهى النزاع‪ ،‬ووحد اللعاع كحل وسط‬
‫َأجْ َم َع عليه الطرفان المختلفان‪ ،‬كما أن صيغة المضارع وكاف الخطاب‬
‫يوحيان بأن استهداف الحبيب باألمس كان لذاته ورسالته‪ ،‬ثم هو مستمر‬
‫لجنوده ورجاله‪ ،‬وكأنه استهداف له بالفعل‪.‬‬
‫ومما تجدر اإلشارة إليه هنا هو أن تستشعر الجماعة المنقذة واألمة الهادية‬
‫معية اهلل الحافظة والمؤيدة‪ ،‬وذلك حتى ال تخيفها ثقافة القتل‪ ،‬ومكر القتلة كون‬
‫األمر ليس عبثيًّا بيد األرض تعبث به كيفما شاءت‪ ،‬ومتى شاءت‪ ،‬بل األمر‬
‫هلل من قبل ومن بعد يحيى من كتبت له الحياة‪ ،‬ويميت بمكر الماكرين من كُتب‬
‫عليه الموت‪ ،‬ثم يتواصل السرد الدقيق لمجريات األحداث سردًا غاية في‬
‫الدقة‪ ،‬وذلك من خالل قوله "أو يخرجوك"‪ ،‬حيث يحمل هذا اللفظ الكثير من‬
‫الدالالت‪ ،‬ومنها‪ :‬إن ثقافة اإلخراج والطرد واإلبعاد للمصلحين ثقافة قديمة‬
‫قدم الصراع‪ .‬إنها الثقافة المنتفشة سفهًا‪ ،‬والمنزوعة أخالقًا‪ ،‬والمتكررة حاالً‬
‫ومكانًا وزمانًا تعبر عن نفسها‪ ،‬وتفصح عن ذاتها بلغة سافرة ظنًّا منها لسفهها‬
‫أنها وحدها دون غيرها التي تملك القرار‪ ،‬وتحكم الديار‪.‬‬
‫‪- 353 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫ومما ال شك فيه فإن ثقافة اإلبعاد هذه فشلت في الماضي البعيد‪ ،‬وما زال‬
‫فشلها يتكرر في الحاضر القريب كون القيم والمبادئ ال يتحكم بها الطين أيًّا‬
‫كان هذا الطين‪ ،‬بل القلوب واألفئدة هى التي تتحكم وتقود‪ ،‬وتبلغ المقصود‪،‬‬
‫ومما تجدر اإلشارة إليه أن التعبير بصيغة المضارع "أو يخرجوك" يوحي‬
‫باستمرار هذه الثقافة المنحطة خلقًا‪ ،‬والباطلة دينًا في طرد وإبعاد الصفوة من‬
‫الخلق عن ديارهم ليتسنى للماكرين العبث دون عتب‪.‬‬
‫ومما يالحظ هنا أن المفردات اللعينة الثالث التي يتعامل بها الطغاة في كل‬
‫عصر جاء التعبير بها من خالل واو الجماعة (ليثبتوك – أو يقتلوك – أو‬
‫يخرجوك)‪ ،‬إنه اإليحاء الصريح بالقدرة الفائقة التي يتمتع بها الماكرون وهم‬
‫يتحدون بصورة منظمة‪ ،‬وبطريقة موحدة تخطيطًا وتنفيذًا‪ .‬نعم إنه المكر‬
‫الجماعي الذي ينطلق وفق خطط معدة‪ ،‬وبرامج محددة‪ ،‬وهو ما يستدعي‬
‫ال إسالميًّا منظمًا من قبل الجماعة المنقذة واألمة الهادية كي تحفظ ذاتها‪،‬‬
‫عم ً‬
‫وتصون حاضرها ومستقبلها‪ ،‬وإال ضاع الحاضر‪ ،‬وتاهت الجماعة واألمة‬
‫في مستقبل مجهول الهوية والهدى‪ .‬إنها خطط األرض بذواتها القذرة‪،‬‬
‫وأدواتها الخسيسة تحركت باألمس‪ ،‬وما زال تحركها قائمًا اليوم‪ ،‬وسيستمر‬
‫كذلك كي تواصل البقاء رغم فقدانها مؤهالته كما هو معلوم‪ ،‬وحتى تسقط‬
‫خطط األرض القذرة بأدواتها العفنة‪ ،‬ووسائلها الرخيصة البد من تحرك‬
‫الجماعة المنقذة واألمة الهادية وفق الممكن كي تدرأ الخطر‪ ،‬وتوقف األَشَر‪،‬‬
‫وذلك كما تحرك جيل األمس سواء بسواء‪.‬‬
‫وأمام مكر البشر الذي تزول الجبال الراسيات منه‪ ،‬ومن مآالته جاء التعبير‬
‫ن واح ٍد كي يحسم المعركة‪ ،‬وينهي المهزلة‪،‬‬
‫القرآني فصيحًا وصريحًا في آ ٍ‬
‫وذلك من خالل قوله "ويمكرون ويمكر اهلل واهلل خير الماكرين"‪ ،‬حيث تحمل‬
‫هذه الجملة الكثير من الدالالت‪ ،‬ومنها‪ :‬أن كلمة "ويمكرون" بصيغة‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 354 -‬‬

‫المضارع مع واو الجماعة لإليحاء باستمرار المكر الجماعي وليس الفردي‪،‬‬


‫والمنظم وليس العشوائي‪ ،‬كل ذلك حتى تأخذ الجماعة المنقذة واألمة الهادية‬
‫حذرها كون العمل الفردي والتحرك العشوائي أمام المكر الجماعي اآلنف‬
‫الذكر ليس دينًا‪ ،‬بل عبثًا محققًا‪ ،‬وسفهًا مطبقًا‪.‬‬
‫وجاءت خاتمة اآلية كي تسكب الطمأنينة على النفوس الخائفة‪ ،‬وتحيى‬
‫العزيمة في النفوس الرخوة‪ ،‬وتشد على األيدي المتوضئة كي تواصل سيرها‬
‫دون التفات البتة لتحركات الباطل‪ ،‬ومكره‪ ،‬ومؤامراته كون قوله "ويمكر اهلل‬
‫واهلل خير الماكرين" قد اختصر المشهد بكل مالبساته‪ ،‬وأوقف العبث بكل‬
‫أدواته‪ ،‬وأسقط الخبث مع كل رجاالته‪ ،‬ومما ال شك فيه فإن خالفًا قد حصل‬
‫هنا حول مكر اهلل هل هو صفة من صفات اهلل بحيث يمكن وصف اهلل بأنه‬
‫الماكر مثالً‪ ،‬أم أن المكر هنا مجازي ال أكثر ؟؟‪ ،‬وفي الحقيقة فإن الخالف‬
‫حول هذه القضية يعتبر خالفًا واسعًا بين من ينفي جملة‪ ،‬ويؤول جملة‪،‬‬
‫وغيرهم تحدث في األمر دون علم أو أدنى إحاطة‪ ،‬وهو ما يستدعي القول‬
‫باختصار إن المكر ال ينسب إلى اهلل على إطالقه كأن يقال اهلل ماكر مثالً‪ ،‬بل‬
‫يذكر المكر في حق اهلل مقيدًا للمقابلة والمشاكلة‪ ،‬وذلك في الحالة التي وصف‬
‫اهلل بها نفسه هنا‪ ،‬حيث قابل مكر البشر بمكره سبحانه‪ ،‬فهو مكر مقيد بمكر‬
‫آدمي من باب المشاكلة والمقابلة ليكون الجزاء من جنس العمل ال أكثر‪ ،‬وال‬
‫شك في أن مكر األرض عندما يتحرك بذواته وأدواته عليه أن يعي تمامًا أن‬
‫مكر اهلل سيوقفه بقوته وعنفوانه‪ ،‬وسيبطله بقوته وقدرته‪ ،‬نعم وباختصار فكما‬
‫أبطل اهلل مكر مكة باألمس فلن يمر مكر الماكرين اليوم‪.‬‬
‫‪- 357 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫فهرس السور واآليات‬


‫رقم‬ ‫رقم‬ ‫اسم‬
‫اآليــــــــــــــة‬
‫الصفحة‬ ‫اآلية‬ ‫السورة‬

‫"بِسْمِ اهللِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ{‪ }1‬الْحَمْدُ هللِ رَبِ‬


‫‪3‬‬ ‫‪7 -1‬‬ ‫الفاتحة‬
‫الْعَالَمِينَ{‪"...}2‬‬

‫‪21‬‬ ‫‪9–8‬‬ ‫"وَ ِمنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاهللِ َوبِا ْل َيوْمِ اآلخِرِ‪"...‬‬ ‫البقرة‬

‫‪24‬‬ ‫‪30‬‬ ‫الئِكَةِ‪"...‬‬


‫"وَِإذْ قَالَ ر َُّبكَ لِلْ َم َ‬ ‫البقرة‬

‫‪27‬‬ ‫‪45‬‬ ‫الةِ‪"...‬‬


‫ِالصبْ ِر وَالصَّ َ‬
‫ستَعِينُو ْا ب َّ‬
‫"وَا ْ‬ ‫البقرة‬

‫‪30‬‬ ‫‪57‬‬ ‫"وَظَلَّ ْلنَا عََليْكُمُ الْغَمَامَ‪"...‬‬ ‫البقرة‬

‫‪33‬‬ ‫‪93‬‬ ‫خ ْذنَا مِيثَا َقكُ ْم وَرَ َف ْعنَا َفوْ َقكُمُ الطُّورَ‪"...‬‬
‫"وَِإذْ أَ َ‬ ‫البقرة‬

‫‪35‬‬ ‫‪96‬‬ ‫حيَاةٍ‪"...‬‬


‫س عَلَى َ‬
‫جد ََّنهُمْ أَحْرَصَ النَّا ِ‬
‫"وََلتَ ِ‬ ‫البقرة‬

‫‪37‬‬ ‫‪97‬‬ ‫جبْرِيلَ‪"...‬‬


‫عدُوّا لِ ِ‬
‫ن َ‬
‫"قُلْ مَن كَا َ‬ ‫البقرة‬

‫‪39‬‬ ‫‪105‬‬ ‫ب َوالَ الْمُشْرِكِينَ‪"...‬‬


‫"مَّا َيوَدُّ َّالذِينَ كَفَرُواْ ِمنْ أَ ْهلِ الْ ِكتَا ِ‬ ‫البقرة‬

‫‪41‬‬ ‫‪114‬‬ ‫جدَ اهللِ أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ‪"...‬‬


‫"وَ َمنْ أَظْلَمُ مِمَّن َّمنَعَ مَسَا ِ‬ ‫البقرة‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 358 -‬‬

‫رقم‬ ‫رقم‬ ‫اسم‬


‫اآليــــــــــــــة‬
‫الصفحة‬ ‫اآلية‬ ‫السورة‬

‫‪44‬‬ ‫‪120‬‬ ‫"وَلَن تَ ْرضَى عَنكَ ا ْل َيهُودُ وَالَ النَّصَارَى‪"...‬‬ ‫البقرة‬

‫‪47‬‬ ‫‪124‬‬ ‫َمهُنَّ‪"...‬‬


‫"وَِإذِ ا ْبتَلَى ِإبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ َفَأت َّ‬ ‫البقرة‬

‫‪54‬‬ ‫‪127‬‬ ‫ت وَإِسْمَاعِيلُ‪"...‬‬


‫عدَ ِمنَ ا ْل َبيْ ِ‬
‫"وَِإ ْذ يَرْ َفعُ ِإبْرَاهِيمُ الْ َقوَا ِ‬ ‫البقرة‬

‫‪57‬‬ ‫‪132‬‬ ‫" َووَصَّى ِبهَا ِإبْرَاهِيمُ َبنِيهِ َويَعْقُوبُ‪"...‬‬ ‫البقرة‬

‫‪60‬‬ ‫‪133‬‬ ‫الْ َموْتُ‪"...‬‬ ‫حضَ َر يَعْقُوبَ‬


‫"أَمْ كُنتُمْ شُ َهدَاء ِإذْ َ‬ ‫البقرة‬

‫‪64‬‬ ‫‪238‬‬ ‫الةِ ا ْلوُسْطَى‪"...‬‬


‫والص َ‬
‫َّ‬ ‫"حَا ِفظُو ْا عَلَى الصَّ َلوَاتِ‬ ‫البقرة‬

‫‪68‬‬ ‫‪142‬‬ ‫سيَقُولُ السُّ َفهَاء ِمنَ النَّاسِ‪"...‬‬


‫" َ‬ ‫البقرة‬

‫‪72‬‬ ‫‪179‬‬ ‫حيَاةٌ يَاْ أُولِيْ األَ ْلبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‪"...‬‬


‫"وَلَكُمْ فِي الْ ِقصَاصِ َ‬ ‫البقرة‬

‫‪78‬‬ ‫‪183‬‬ ‫صيَامُ‪"...‬‬


‫ب عََليْكُمُ ال ِ‬
‫"يَا أ َُّيهَا َّالذِينَ آ َمنُواْ كُتِ َ‬ ‫البقرة‬

‫‪85‬‬ ‫‪186‬‬ ‫عنِي َفإِنِي َقرِيبٌ‪"...‬‬


‫عبَادِي َ‬
‫ك ِ‬
‫"وَِإذَا سَأََل َ‬ ‫البقرة‬

‫‪90‬‬ ‫‪195‬‬ ‫التهْلُكَةِ‪"...‬‬


‫هلل وَ َال تُلْقُواْ بَِأ ْيدِيكُمْ إِلَى َّ‬
‫سبِيلِ ا ِ‬
‫"وَأَنفِقُواْ فِي َ‬ ‫البقرة‬

‫‪93‬‬ ‫‪204‬‬ ‫حيَاةِ الدُّ ْنيَا‪"...‬‬


‫جبُكَ َقوْلُهُ فِي الْ َ‬
‫"وَ ِمنَ النَّاسِ مَن يُعْ ِ‬ ‫البقرة‬

‫‪96‬‬ ‫‪207‬‬ ‫"وَ ِمنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ‪"...‬‬ ‫البقرة‬


‫‪- 359 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫رقم‬ ‫رقم‬ ‫اسم‬


‫اآليــــــــــــــة‬
‫الصفحة‬ ‫اآلية‬ ‫السورة‬

‫‪99‬‬ ‫‪214‬‬ ‫س ْبتُمْ أَن َتدْخُلُواْ الْجَنَّةَ‪"...‬‬


‫"أَمْ حَ ِ‬ ‫البقرة‬

‫‪103‬‬ ‫‪243‬‬ ‫"أَلَ ْم تَرَ إِلَى َّالذِينَ خَرَجُواْ مِن ِديَارِهِ ْم وَهُمْ أُلُوفٌ‪"...‬‬ ‫البقرة‬

‫‪108‬‬ ‫‪246‬‬ ‫"أَلَ ْم تَرَ إِلَى الْ َمإلِ مِن َبنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَ ْعدِ مُوسَى‪"...‬‬ ‫البقرة‬

‫‪112‬‬ ‫‪247‬‬ ‫"وَقَالَ َلهُ ْم نَب ُِّيهُمْ إِنَّ اهللَّ َقدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً‪"...‬‬ ‫البقرة‬

‫‪116‬‬ ‫‪249‬‬ ‫صلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ‪"...‬‬


‫" َفلَمَّا َف َ‬ ‫البقرة‬

‫‪121‬‬ ‫‪250‬‬ ‫ت وَجُنُودِهِ‪"...‬‬


‫"وَلَمَّا بَرَزُواْ لِجَالُو َ‬ ‫البقرة‬

‫‪124‬‬ ‫‪251‬‬ ‫هلل وَ َق َتلَ دَاوُودُ جَالُوتَ‪"...‬‬


‫" َفهَزَمُوهُم بِِإ ْذنِ ا ِ‬ ‫البقرة‬

‫‪128‬‬ ‫‪257‬‬ ‫اهلل وَلِيُّ َّالذِينَ آ َمنُو ْا يُخْرِجُهُم مِنَ‪"...‬‬


‫" ُّ‬ ‫البقرة‬

‫‪132‬‬ ‫‪258‬‬ ‫"أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِهِ‪"...‬‬ ‫البقرة‬

‫‪138‬‬ ‫‪260‬‬ ‫حيِـي الْ َم ْوتَى‪"...‬‬


‫ف تُ ْ‬
‫"وَِإذْ قَالَ ِإبْرَاهِيمُ رَبِ أَ ِرنِي َكيْ َ‬ ‫البقرة‬

‫‪145‬‬ ‫‪262‬‬ ‫سبِيلِ اهللِ‪"...‬‬


‫ن يُنفِقُونَ أَ ْموَاَلهُمْ فِي َ‬
‫" َّالذِي َ‬ ‫البقرة‬

‫‪148‬‬ ‫‪280‬‬ ‫ن ذُو عُسْ َرةٍ َفنَظِ َرةٌ إِلَى َميْسَ َرةٍ‪"...‬‬
‫"وَإِن كَا َ‬ ‫البقرة‬

‫‪153‬‬ ‫‪8‬‬ ‫آل عمران "ر ََّبنَا َال تُ ِزغْ قُلُو َبنَا بَ ْعدَ ِإذْ َه َد ْيتَنَا‪"...‬‬

‫‪157‬‬ ‫‪30‬‬ ‫حضَراً‪"...‬‬


‫خيْرٍ مُّ ْ‬
‫ُل نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ ِمنْ َ‬ ‫آل عمران " َيوْ َم تَ ِ‬
‫جدُ ك ُّ‬
‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 360 -‬‬

‫رقم‬ ‫رقم‬ ‫اسم‬


‫اآليــــــــــــــة‬
‫الصفحة‬ ‫اآلية‬ ‫السورة‬

‫‪161‬‬ ‫‪38‬‬ ‫آل عمران "هُنَاِل َ‬


‫ك َدعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ‪"...‬‬

‫‪164‬‬ ‫‪39‬‬ ‫آل عمران " َفنَا َدتْهُ الْمَآلئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِي فِي الْمِحْرَابِ‪"...‬‬

‫‪167‬‬ ‫‪92‬‬ ‫آل عمران "لَن َتنَالُواْ ا ْلبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّو َ‬
‫ن‪"...‬‬

‫‪171‬‬ ‫‪102‬‬ ‫آل عمران "يَا أ َُّيهَا َّالذِينَ آ َمنُواْ اتَّقُواْ اهللَّ ح َّ‬
‫َق تُقَاتِهِ‪"...‬‬

‫‪175‬‬ ‫‪103‬‬ ‫ح ْبلِ اهللِ جَمِيعًا وَ َال تَفَرَّقُواْ‪"...‬‬ ‫آل عمران "وَا ْ‬
‫ع َتصِمُو ْا بِ َ‬

‫‪180‬‬ ‫‪111‬‬ ‫آل عمران "لَن َيضُرُّوكُمْ إِالَّ َأذًى‪"...‬‬

‫‪184‬‬ ‫‪139‬‬ ‫آل عمران "وَ َال َت ِهنُوا وَ َال تَحْ َزنُوا وَأَنتُمُ األَعَْل ْونَ‪"...‬‬

‫‪187‬‬ ‫‪140‬‬ ‫آل عمران "إِن يَمْسَسْكُمْ َقرْحٌ َف َقدْ مَسَّ الْ َقوْمَ َقرْحٌ ِمثْلُهُ‪"...‬‬

‫‪193‬‬ ‫‪144‬‬ ‫آل عمران "وَمَا مُح َّ‬


‫َمدٌ إِالَّ رَسُولٌ َقدْ خَلَتْ مِن َقبْلِهِ الرُّسُلُ‪"...‬‬

‫‪198‬‬ ‫‪146‬‬ ‫آل عمران "وَكََأيِن مِن َّنبِيٍّ قَا َتلَ مَعَهُ ِربِيُّونَ َكثِيرٌ‪"...‬‬

‫‪202‬‬ ‫‪159‬‬ ‫آل عمران " َفبِمَا رَحْمَةٍ ِمنَ اهللِ لِنتَ َلهُمْ‪"...‬‬

‫‪207‬‬ ‫‪165‬‬ ‫آل عمران "َأوَلَمَّا َأصَا َبتْكُم ُّمصِيبَةٌ َقدْ َأ َ‬


‫ص ْبتُم ِمثَْل ْيهَا‪"...‬‬

‫‪212‬‬ ‫‪173‬‬ ‫آل عمران " َّالذِينَ قَالَ َلهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ َقدْ جَ َمعُواْ لَكُمْ‪"...‬‬

‫‪217‬‬ ‫‪185‬‬ ‫س ذَآئِقَةُ الْ َموْتِ‪"...‬‬ ‫آل عمران "ك ُّ‬


‫ُل نَفْ ٍ‬
‫‪- 361 -‬‬ ‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬

‫رقم‬ ‫رقم‬ ‫اسم‬


‫اآليــــــــــــــة‬
‫الصفحة‬ ‫اآلية‬ ‫السورة‬

‫‪221‬‬ ‫‪200‬‬ ‫آل عمران "يَا أ َُّيهَا َّالذِينَ آ َمنُواْ ا ْ‬


‫صبِرُواْ وَصَابِرُو ْا وَرَابِطُواْ‪"...‬‬

‫"يَا أ َُّيهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ َّالذِي خَلَقَكُم مِن نَّفْسٍ‬


‫‪227‬‬ ‫‪1‬‬ ‫النساء‬
‫ح َدةٍ‪"...‬‬
‫وَا ِ‬

‫‪234‬‬ ‫‪9‬‬ ‫"وَ ْليَخْشَ َّالذِينَ َل ْو تَرَكُواْ ِمنْ خَلْ ِفهِ ْم ذُرِيَّ ًة ضِعَافاً‪"...‬‬ ‫النساء‬

‫‪240‬‬ ‫‪28 - 27‬‬ ‫ب عََليْكُمْ‪"...‬‬


‫"وَاهللُّ يُرِيدُ أَن َيتُو َ‬ ‫النساء‬

‫‪245‬‬ ‫‪60‬‬ ‫ن يَ ْزعُمُونَ أ ََّنهُمْ آ َمنُو ْا بِمَا أُن ِزلَ إَِل ْيكَ‪"...‬‬
‫"أَلَ ْم تَرَ إِلَى َّالذِي َ‬ ‫النساء‬

‫‪250‬‬ ‫‪71‬‬ ‫"يَا أ َُّيهَا َّالذِينَ آ َمنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ‪"...‬‬ ‫النساء‬

‫‪255‬‬ ‫‪73 - 72‬‬ ‫طئَنَّ‪"...‬‬


‫"وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن َّليُبَ ِ‬ ‫النساء‬

‫الد ْنيَا‬
‫حيَاةَ ُّ‬
‫سبِيلِ اهللِ َّالذِينَ يَشْرُونَ الْ َ‬
‫" َف ْليُقَا ِتلْ فِي َ‬
‫‪259‬‬ ‫‪74‬‬ ‫النساء‬
‫بِاآلخِرَةِ‪"...‬‬

‫‪267‬‬ ‫‪8‬‬ ‫"يَا أ َُّيهَا َّالذِينَ آ َمنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ هللِ شُ َهدَاء بِالْقِسْطِ‪"...‬‬ ‫المائدة‬

‫‪273‬‬ ‫‪56 - 55‬‬ ‫َالذِينَ آ َمنُواْ‪"...‬‬


‫اهلل وَرَسُولُهُ و َّ‬
‫"إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ ُّ‬ ‫المائدة‬

‫‪280‬‬ ‫‪79 - 78‬‬ ‫"لُ ِعنَ َّالذِينَ كَفَرُواْ مِن َبنِي إِسْرَائِيلَ‪"...‬‬ ‫المائدة‬

‫‪289‬‬ ‫‪28 - 27‬‬ ‫"وََل ْو تَرَىَ ِإ ْذ وُ ِقفُو ْا عَلَى النَّارِ‪"...‬‬ ‫األنعام‬


‫الدرر الذهبية من كالم رب البرية‬ ‫‪- 362 -‬‬

‫رقم‬ ‫رقم‬ ‫اسم‬


‫اآليــــــــــــــة‬
‫الصفحة‬ ‫اآلية‬ ‫السورة‬

‫‪295‬‬ ‫‪45 - 44‬‬ ‫" َفلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِرُو ْا بِهِ‪"...‬‬ ‫األنعام‬

‫‪301‬‬ ‫‪153‬‬ ‫َاتبِعُوهُ‪"...‬‬


‫ستَقِيماً ف َّ‬
‫"وَأَنَّ هَـذَا صِرَاطِي مُ ْ‬ ‫األنعام‬

‫‪307‬‬ ‫‪74‬‬ ‫صنَاماً آِلهَةً‪"...‬‬


‫خذُ َأ ْ‬
‫"وَِإذْ قَالَ ِإبْرَاهِيمُ َألبِيهِ آزَرَ َأتَتَّ ِ‬ ‫األنعام‬

‫‪315‬‬ ‫‪82‬‬ ‫جوَابَ َقوْمِهِ إِالَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم‪"...‬‬


‫"وَمَا كَانَ َ‬ ‫األعراف‬

‫‪319‬‬ ‫‪84 - 83‬‬ ‫ج ْينَاهُ وَأَهْلَهُ إِالَّ امْرََأتَهُ كَانَتْ ِمنَ الْغَابِرِينَ‪"...‬‬
‫" َفأَن َ‬ ‫األعراف‬

‫‪325‬‬ ‫‪89‬‬ ‫ن عُ ْدنَا فِي مَِّلتِكُم‪"...‬‬


‫" َقدِ ا ْفتَ َر ْينَا عَلَى اهللِ َكذِباً ِإ ْ‬ ‫األعراف‬

‫‪333‬‬ ‫‪4 ،3 ،2‬‬ ‫اهلل وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‪"...‬‬


‫"إِنَّمَا الْمُؤْ ِمنُونَ َّالذِينَ ِإذَا ذُكِرَ ُّ‬ ‫األنفال‬

‫‪339‬‬ ‫‪9‬‬ ‫ستَجَابَ لَكُمْ‪"...‬‬


‫ستَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَا ْ‬
‫"ِإ ْذ تَ ْ‬ ‫األنفال‬

‫‪347‬‬ ‫‪30‬‬ ‫"وَِإ ْذ يَمْكُرُ ِبكَ َّالذِينَ كَفَرُواْ لِيُ ْث ِبتُوكَ‪"...‬‬ ‫األنفال‬

You might also like