Professional Documents
Culture Documents
والغالى /نافع المنتصر الذي بذل جهداً كبي اًر في الطبع واإلخراج.
ن
الرحْمـ ِ
ب الْعَالَمِينَ{َّ }2
هلل َر ِ
ن الرَّحِيمِ{ }1الْحَمْ ُد ِ
الرحْم ِ
هلل َّ
(بِسْ ِم ا ِ
ك نَعْبُ ُد وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ{ }5اهدِنَــــا
ك َيوْمِ الدِينِ{ }4إِيَّا َ
الرحِيمِ{ }3مَالِ ِ
َّ
علَيهِمْ وَ َال
ب َ
علَيهِمْ غَي ِر المَغضُو ِ
ت َ
ن أَنعَم َ
ط الَّذِي َ
صرَا َ
ط المُستَقِيمَ{ِ }6
صرَا َ
ال ِ
الضَّالِينَ{.1()}7
إنها سورة الفاتحة التي سميت بهذا االسم كون اهلل افتتح كالمه بها .نعم إنها
رسالة الحمد التي يجب أن تتعلمها الجماعة المنقذة واألمة الهادية كي يصبح
حمد اهلل في البدء وفي الختام هو شعارها ودثارها على مستوى الفرد
والمجتمع واألمة .إنه الحمد الذي يربي الذوات البشرية على الثناء الجميل
لتبقى الحياة جميلة بجمال حمد اهلل فيها حتى إذا غاب هذا الحمد غاب لغيابه
كل جمال .وال شك في أنها أعظم سور القرآن كونها مقسومة بين العبد وبين
ربه .إنها القسمة التي حددتها السماء كون األرض بناسها وأهلها فقيرة
محتاجة للسماء ال قدرة لها على البقاء لحظة دون لطف اهلل ولطائفه .إنها
روعة العبادة وجمال العابد تتجسد في فاتحة الكتاب التي جمعت بين ثناياها
ن واحد كما هو معلوم .ويزداد الجمال دعاء العبادة ودعاء المسألة في آ ٍ
ويتضح الكمال من خالل أم القرآن ،وذلك من خالل التناسق العجيب من
بدايتها وحتى نهايتها في صورة إبداعية ممتعة جمعت بين دعاء العبادة من
بدايتها وحتى قوله" :إياك نعبد" ،ثم ختمت بدعاء المسألة في قوله" :وإياك
ال
نستعين" حتى النهاية بصورة إيحائية تشي بوجوب اإلتيان بدعاء العبادة أو ً
قبل التوجه صوب دعاء المسألة ،وهو إيحاء دقيق ونفيس .وحتى نتذوق هذه
الروعة وذاك الجمال في أم القرآن دعونا ننتقل إلى جمال الخطاب الخالد بين
العبد والرب في لحظات تعبدية متكررة غاية في الجمال والجالل من خالل
الحديث القدسي الذي يرويه الحبيب محمد عن ربه "أن اهلل يقول قسمت
الصالة بيني وبين عبدي نصفين ،ولعبدي ما سأل ،فإذا قال العبد الحمد هلل
رب العالمين قال اهلل حمدني عبدي ،فإذا قال العبد الرحمن الرحيم قال اهلل
ى عبدي ،فإذا قال العبد مالك يوم الدين قال اهلل مجّدني عبدي ،فإذا أثنى عل ّ
قال العبد إياك نعبد وإياك نستعين قال اهلل هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما
سأل ،فإذا قال العبد إهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير
المغضوب عليهم وال الضالين قال اهلل هذا لعبدي ولعبدي ما سأل .إنه الجمال
الذي يتوقف عنده كل جمال ،والخير الذي تستمد منه الجماعة المنقذة واألمة
الهادية كل خير يتحدث عن نفسه ،ويُفصح عن ذاته في كل لحظة وفي كل
حين تاركًا الحسرة كل الحسرة لمن حُرم هذا الجمال بكل جماله وجالله ،لذا
كانت هذه الفاتحة مع خواتيم سورة البقرة هما النور الذي لم يؤته اهلل أحدًا من
العالمين من قبل ،بل كرم اهلل به نبيه وأمته دون العالمين ،ولذا كانت أيضًا
ف لمن ف ودواء وا ٍ السبع المثاني والقرآن العظيم إضافة إلى أنها عالج شا ٍ
قرأها بنية الشفاء كقراءة الصحابي الجليل على ذلك الملدوغ في حي من أحياء
العرب الذي برئ فور قراءتها بإذن اهلل .ومما ال شك فيه فإن جمالها وعظمتها
يكمنان أيضًا في أن قراءتها ركن من أركان الصالة التي ال تصح إال بها،
وهذا معلوم ومعروف .إنها السورة التي جمعت أحكام الدين مجمالً تاركة
التفاصيل كي تأتي تباعًا في بقية السور .نعم إنها السورة القائدة ،واألم الجامعة
التي ال يذوق عبد حالوة القرآن ما لم تكن هي القائدة حتى إذا غابت عن العبد
عندئ ٍذ تغيب عنه كل حالوة ،وتفارقه كل طاعة .إنها السورة التي نزلت مرة
في مكة وأخرى في المدينة كي تنفرد من بين السور بهذا الفضل ،وما ذلك
إال ألنها تحوي ميزات للقرآن المكي وأخرى للقرآن المدني كون الحديث عن
يوم الدين هو حديث تتميز به السور المكية ،بينما إياك نعبد وإياك نستعين
حديث عن الجانب التعبدي ،وهو من ميزات القرآن المدني كما قال علماء
-5- الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ومما ينبغي ذكره هنا أن ذكر لفظ الجاللة "اهلل" وتقديمه على الرب في قوله
"رب العالمين" لم يكن تقديمًا خاويًا من المعاني ،أو ترفًا لغويًّا فارغ
المضمون كما يصنع البشر في التقديم والتأخير ،كال إنه التقديم الموحي بأن
هذا االسم العظيم هو األساس الذي تعود إليه كل أسماء اهلل الحسنى ،لذا كان
هو إسم اهلل األعظم على األرجح ،وإن قال الغير خالف ذلك فهو قول مرجوح
ال راجح ،فكان تقديمه لهذا المعنى .كما أن هناك معنى آخر يمكن فهمه من
خالل سياق هذا التقديم وهو علم اهلل األزلي بأن قضية األلوهية هي القضية
التي سيسقط في مفهومها وفهمها الكثير من الخلق ،لذا كان هذا التقديم كي ال
يحدث هذا السقوط ،بل تتجه الخليقة – كل الخليقة – صوب اهلل حامدة عابدة
ومستعينة هادية .ثم يتواصل جمال الفاتحة التي جمعت كل أصول الدين كونها
أم القرآن – كما هو معلوم – وذلك من خالل قوله "رب العالمين" ،حيث
جاء ذكر الرب هنا بعد ذكر اإلله ،وذلك لإليحاء بأن هذا اإلله الذي يستحق
العبادة هو الذي ملك وخلق ودبر ،وهو الرب كونه تجتمع فيه صفات ثالث
هى الخلق والملك والتدبير .إنه اإليحاء الذي يشي بأن المعبود الذي يجب أن
تخضع له القلوب – كل القلوب – هو من خلق ويخلق ،وملك ويملك ،ودبر
ويدبر ،وهو اهلل سبحانه جلت قدرته ،وتقدست أسماؤه ،بينما غيره مخلوق
مملوك .إنه اإليحاء الدقيق الموحي بواحدية االعتراف وواحدية المعبود كون
بعض الخلق – كما هو معلوم – يعترف بربوبية اهلل ،ولكن عبادته تخالف
اعترافه ،فكان الجمع بين لفظ "اهلل" مع لفظ "الرب" في مكان واحد
وبطريقة منظمة ومبدعة ومرتبة ممتعة لهذا الغرض ،وهو معنى دقيق ونفيس
ينبغي تأمله والوقوف عنده لجماله ونفاسته .ويتواصل جمال الفاتحة الشافية
التي يُستشفى بها من كل داء وذلك من خالل لفظ "العالمين" ،إنها ألوهية
اهلل وربوبيته لكل العالمين ،وليس للناس فقط كون العالمين مشتق من لفظ
-7- الدرر الذهبية من كالم رب البرية
"عالم" الذي يعني كل ما سوى اهلل .إنه اإليحاء الدقيق بسقوط ربوبية الذوات
البشرية كلها كي تبقى ربوبية اهلل هى الربوبية الحقة وما سواها من الدعاوى
األدمية إنما هى محض افتراء ال أكثر كونها ال تخلق ،بل هى مخلوقة ،وال
تملك حقيقة بل هى مملوكة ،وال قدرة لها على أن تدبر ،بل هى مدبرة "بفتح
الباء ال بكسرها" .إنها ربوبية اهلل التي أوحت للذوات البشرية – كل الذوات
– بأنها فقيرة بذاتها ضعيفة بأصلها تستمد غناها وقوتها وحياتها ممن غناه
ذاتي ،وقوته مطلقة ،وحياته دائمة ،وهو اهلل سبحانه وتعالى .وبعد هذه المقدمة
ال ومبنى جاءت األوصاف العلية
الجميلة لفظًا ومعنى ،والصادقة شك ً
ال على جمال ،وقداسة
والصفات القدسية كي تضفي على مشاهد الحمد جما ً
على قداسة ،وذلك من خالل قوله "الرحمن الرحيم" ،إنهما اسمان وصفتان
لإلله الرب المسبوق بالذكر ،والذي يوحي مجئ الرحمن الرحيم عقب اسم
الربوبية بأن ربوبية اهلل على خلقه ربوبية رحمة وإحسان وعطف وإنعام،
وهو استنتاج دقيق بال شك .إنها ربوبية اهلل الذي يرحم المخلوق ،ويحسن
إليه ،ويتواله ،ويعطف عليه في صورة ال قدرة للعقل البشري على تخيل كنه
تلك الرحمة ،وعظمة ذلك العطف إطالقًا.
ومما ال شك فيه فإن العبد مأمور بأن يتعبد اهلل بأسمائه وصفاته – كما هو
معلوم – لذا كان إطالق لفظ "رب" مجازًا على قائد األسرة وكبيرها – كان
ال "رب األسرة" أو رب الدار – يوحي بوجوب إدارة تلك األسرة
يقال مث ً
وهذه الدار برحمة وشفقة بعيدًا عن القسوة والغلظة ،وذلك تعبدًا هلل الرحمن
الرحيم سبحانه وتعالى .والمالحظ هنا هو جمال السياق في التقديم والتأخير
وذلك من خالل ذكر "الرحمن" أوالً ،ثم "الرحيم" ثانيًا كون الرحمن هو
ذو الرحمة الواسعة التي وسعت الخلق جميعًا في دار الدنيا دون تمييز ،بينما
الرحيم خاصة بعباد اهلل المؤمنين .إنه التقديم للرحمة األوسع التي شملت كل
الدرر الذهبية من كالم رب البرية -8-
عن الوقائع بطريقته الجميلة وواقعيته المشهودة ،وذلك من خالل الحديث عن
ال "مالك يوم الدين" ،وفي قراءة متواترة أيضًا
يوم الجزاء والحساب قائ ً
"ملك يوم الدين".
وقبل الحديث عن هذه اآلية الكريمة يجدر بنا أن نذكر السر من وراء ذكر
"يوم الدين" وذلك عقب قوله "الرحمن الرحيم" مباشرة ال بعد "رب
العالمين" ،إنه اإليحاء بأن يوم الدين هو يوم الرحمات الذي تُستر فيه
العورات ،وتُقال فيه العثرات .إنه يوم الكرم اإللهي الذي يسبغ اهلل فيه على
خلقه المقصرين وعباده المذنبين الستر والرحمة والعفو والمكرمة ،لذا جاء
ذكره بعد "الرحمن الرحيم" لهذا المعنى ،وهو معنى نفيس ،واستنتاج لطيف
بال شك .والجميل هنا أن ورود قراءتين متواترتين في قوله "مالك" وملك
"لم يكن عبثيًّا كحال البشر عندما يعبثون بالمترادفات اللفظية ،حاشا وكال،
بل الورود هنا يحمل معنى دقيقًا كون الملك في اللغة هو من له سلطات
مطلقة ،وتحت إمرته رعية مسيَّرة ،بينما المالك قد يمتلك ممتلكات دون أن
تكون له – في الغالب – سلطات مطلقة كحال الملك ،فجيء بالقراءتين
ن واحد ،بينما العبد
المتواترتين لإليحاء بأن اهلل وحده هو الملك والمالك في آ ٍ
إذا توفرت له سلطة وملك غابت عنه سلطات وممالك ،وهى تعابير لطيفة
وإيحاءات دقيقة تقود العبد إلى رحاب الرب بكل سالسة وواقعية وحب.
ويتواصل الجمال القرآني في نفس اآلية وذلك عندما كان التخصيص بـ "يوم
الدين" ،مع اعتقادنا الجازم بأن اهلل مالك للدنيا ومالك لآلخرة الذي هو "يوم
الدين" ،إنه التخصيص الذي يشي بأن يوم الدين هو اليوم الذي تنتهي عنده
ممالك البشر ،وسلطاتهم ،وممتلكاتهم كون كل تلك المفردات كانت في الدنيا
لعبيد ملكهم اهلل إياها ،ولكن السواد منهم نازعوا اهلل بها ،وتجاوزوا حدوده
بسببها ،فجاء يوم الدين لتظهر األمور على حقيقتها ،وتوضع النقاط فوق
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 10 -
حروفها بطريقة هى األوضح حقاًّ ،واألصدق واقعًا ،واألشد وقعًا على قلوب
الخليقة والخلق .إنها الحقيقة التي تنتظر الخلق هناك في موقف مهيب تتساقط
عنده كل مسميات األرض التي لطالما وضعت لنفسها ألقابًا ،وأحاطت نفسها
وذاتها بأنساب تجاوزت من خاللها ما أُمرت به ،فكان لزامًا عليها أن تعيش
يوم الدين بكل مالبساته وأحداثه ،وتنظر إليه عيانًا بكل تفصيالته وتجلياته
كي تعرف حقيقتها كون يوم الدين هو يوم الحقائق كما هو معلوم .نعم إنها
الحقيقة التي يجب أن تعيها الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهى تصارع طغاة
األرض ومجرميها وهى أن يومًا ويومًا واحدًا فقط هو باالنتظار ،ومن ثم
تتحرك وكلها ثقة بعدالة اهلل المنتظرة التي ال تحابي أحدًا ،وال تنتقص من أحدٍ
أيًا كان هذا األحد .كما أن تعريف هذا اليوم بألف والم "الدين" يشي
بخصوصية هذا اليوم ،وتميزه تميزًا ال مجال لعقول الذوات البشرية أن
تتخيله ،أو تستشعر فصوله وأحداثه ،تلك الفصول واألحداث التي ستعرض
هناك بصورة غاية في الدقة والوضوح للعالمين دون تمييز أو انتقاء كون
العدالة – والعدالة وحدها – هى من ستقرر الحال والمآل لذلك الكم الهائل من
الخليقة والخلق .إنه يوم الجزاء العادل الذي سيقف فيه الخلق والخليقة صفًّا
واحدًا في مشهد من مشاهد يوم القيامة التي لطالما تحدث عنه القرآن في أكثر
من سورة وآية كي يتم االستعداد له ويتحرك الخلق والخليقة إليه بزاد .وبعد
أن يكون العبد قد حمد ربه بشهادة الرب سبحانه لعبده عند قراءته الحمد اهلل
رب العالمين ،وأثنى عليه بقوله "الرحمن الرحيم" ،ومجده بقوله "مالك يوم
ال آخر بعد هذا الحمد والثناء والتمجيد ،وذلك
الدين" ينتقل سياق اآليات انتقا ً
من خالل قوله "إياك نعبد وإياك نستعين" ،حيث توحي هذه اآلية بإيحاءات
كثيرة منها :أن العبادة واالستعانة ال تتأتيان إال من قبل أرضية إيمانية تعرف
اهلل حق المعرفة ،ومن ثم كان الحمد والثناء والتمجيد هلل أوالً ،ثم االتجاه نحوه
- 11 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
لعبادته بعد ذلك ثانيًا في إشارة واضحة إلى هذا المعنى الذي ذكرناه .وال شك
في أن الحمد والثناء من بداية السورة هو عبادة أيضًا ،ولكن هذا السياق يشي
بمعرفة مسبقة تلتها عبادة هلل خالصة ،وهو المعنى الذي تأكد بشكل واضح
من خالل تقديم المفعول به الذي هو "إياك" في العبادة واالستعانة على حد
سواء .إنه اإليحاء الدقيق واللطيف الذي يوحي بوجوب اإلخالص هلل في
العبادة واالستعانة حيث يوحي التقديم هنا بهذا المعنى .كما أن ذكر العبادة بعد
الحمد الوارد في بداية السورة لإليحاء بأن من مقتضيات الحمد الحقيقي عبادة
اهلل .إنه الرفض القاطع لعبادة اللسان الخالية من عبادة الجوارح والجنان،
والتي ظهرت في الماضى وتتكرر بكل آفاتها وسلبياتها من قبل بعض
الحامدين هلل بألسنتهم ،والمخالفين له في سلوكهم وحياتهم في الحاضر ،فكان
السياق المعبر والمعجز بهذه الصورة في هذه السورة إلنهاء هذا العبث
التعبدي والملق اإلبليسي من قبل هذا الفريق العابث .ولسنا هنا ممن يرمون
بالتُّهم جزافًا ،بل إن سياق اآلية ،وانسياب األلفاظ يوحي بهذا المعنى لمن تأمل
وعقل .كما أن اللفظ المعجز في قوله "نعبد" يوحي بتوجه جماعي ،وليس
"أعبد" ذو التوجه الفردي .إنها الدعوة الصريحة لعبادة اهلل في إطار الجماعة
بعيدًا عن العزلة واالنعزال .نعم إنها الحقيقة التي يجب أن تستوعبها الجماعة
المنقذة واألمة الهادية وهى تتجه نحو ربها بصورة جماعية غاية في الجمال
والجالل كون عبادتها الجماعية في المسجد تنتظرها قيادة جماعية للحق فور
الخروج من المسجد ألن االجتماع األول أساس أصيل لالجتماع الثاني كي
تبدأ الحياة الجماعية من المسجد ،ومن ثم تعود إليه.
ومما ال شك فيه فإن غياب هذه المعاني من قبل العباد ينعكس سلبًا على العبادة
نفسها حيث تتحول حينها إلى طقوس جسدية خالية من روح الحياة وحياة
الروح ،بل هى إلى الموات والموت أقرب منها إلى الحياة .ومما ينبغي ذكره
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 12 -
هنا أن العبادة ليست صالة وصيامًا وزكاة وحجًّا فحسب كما يتوهم بعض
العباد ،بل هى كل ما يحبه اهلل ويرضاه من األقوال واألفعال الظاهرة
والباطنة ،لذا كان التعبير بـ "إياك نعبد" لهذا االعتبار ،ولم يكن "إياك
ال حتى ال يعتقد معتقد أن الدين هو صالة فحسب كما سبق وأشرنا
نصلي" مث ً
لمفهومها ومحتواها .كما أن "إياك نعبد" فيها إيجاء بلذة العبادة وقيمتها
ومفعولها في إطار الجماعة حتى إذا انسلخ العابد عن الجماعة ،وسولت له
نفسه العزلة واالنعزال عندئ ٍذ تغيب عنه لذة العبادة ،وتفارقه حالوة الطاعة،
بل تتحول عبادته إلى ترف تعبدي وخواء قيمي ليس إال.
وفي الحقيقة فإن "إياك نعبد" اختصرت المشهد الحياتي للخليقة كلها ،حيث
حصرت العبادة – كل العبادة – هلل وهلل فقط كي يعيش العباد أحرارًا ال
يستعبدهم الطين ،وال يستبد بهم اللعين أيًّا كان هذا اللعين سواء اللعين
الشيطاني من الجن أو أوليائه وخدامه من اإلنس .نعم إنها السورة األولى التي
حررت المخلوق ليبقى على الدوام حصرًا على الخالق ال تستعبده الشهوة،
وال تحكمه اللذة ،بل يتجه بقلبه وقالبه نحو السماء فى إطار الجماعة كي يبقى
حرًّا في حركته ،وحيًا كريمًا في أخذه وعطائه ،وشجاعًا مقدامًا في ذهابه
وإيابه ،ال تستعبده الشهوة ،وال تسقطه الفتنة ما استمرت حياته .إنها الحقيقة
األولى واألخيرة التي يجب استيعابها من قبل الجماعة المنقذة واألمة الهادية
وذلك من خالل "إياك نعبد" ،وهى حقيقة إخالصها مع أفرادها اهلل ،وليس
للدنيا أيًا كانت هذه الدنيا كي تنال رحمة الرحمن الرحيم بتمكين يُحمد فيه اهلل،
ويُشكر جل في عاله .كما أن التعبير بقوله "نعبد" بصيغة المضارع فيه
إحياء واضح لعبودية مستمرة ال تقبل التذبذب وال االنقطاع تحت أي مسمى.
إنها التربية العقدية التي تؤسسها الفاتحة ليبقى العابد على صلة مستمرة
بالمعبود ال يشغله شاغل ،وال يحول بينه وبين ربه حائل ما لم سقط في أتون
- 13 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
المتجهة حتمًا كذلك نحو الرب بصيغة الحال والمقال .ومما ينبغي ذكره هنا
أن لفظ "عليهم" ورد بكسر الهاء وهى قراءتنا ،كما ورد اللفظ بضم الهاء
أيضًا وهى قراءة متواترة مشهورة .إنها السعة اللفظية التي خاطبت العقول
بلغاتها ولهجاتها في لحظات التنزيل وذلك في صورة مبدعة ممتعة إيحاءً
بجمال المنزِّل وجمال التنزيل في آن واحد ،وهذه اإلشارة الدقيقة يجب على
الجماعة المنقذة واألمة الهادية استشعارها من خالل هذه القراءة وهى
ضرورة مخاطبة كل قوم وكل شريحة على حسب أفهامهم ومستوى عقولهم
كي تصل الرسالة ،وتتضح المقالة بطريقة سهلة وبألفاظ معبرة تأسيًا بهذه
القراءة وبهذا القرآن ،والمالحظ هنا أن اآلية األخيرة من الفاتحة لخصت
وبكل وضوح مشارب الخلق ومشربهم وذلك من خالل "الذين أنعمت
عليهم" كصنف أول والمغضوب عليهم كصنف ثانٍ ،والضالين كصنف
أخير وثالث .إنها اإليحاءات التي تشي بضرورة أن يكون أصحاب الصراط
المستقيم هم القادة والقدوة مرتبة ورتبة ومكانة ومكانًا كون بداية السورة إلى
هنا إيحاءات بمؤهالت القيادة وحقيقة القادة كما هو معلوم .إنها المؤهالت
العقدية
الكفيلة دون شك بتربية دقيقة وأحقية مؤكدة لقيادة األرض – كل األرض –
نحو السماء بعيدًا عن سيطرة المغضوب عليهم والضالين في كل مكان
وفي كل عصر.
ومما ال شك فيه فإن الذين أنعم اهلل عليهم هنا هم الحامدون لربهم ،والمثنون
على خالقهم ،والممجدون لمن بيده نهواصيهم .إنهم العابدون له سبحانه،
والمستعينون المعتمدون عليه جل شأنه في كل شؤونهم من الذين أنعم اهلل
عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا .نعم
إنها األجيال الصالحة والمصلحة المتعاقبة على مر السنين التي كانت – وما
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 18 -
ثوب الصالح ،وأكثر أمامك من الذكر والتسبيح واالنشراح حتى إذا غفلت
عنه مكر بك وراح ،ال يهمه العيب ،وال يستحي من الشيب ،وال يخجل إذا
افتُضح أمره من الكيد .لقد أخذتهم الغفلة حتى أوصلتهم إلى مخادعة اهلل في
السماء ،فصارت حياتهم كلها خداع ومخادعة .إنه السلوك الممقوت ،والسيرة
السيئة لهذا الصنف السيئ بكلماته المنمقة ،وشعاراته البراقة ،والذين أنتن
المكان وفسد الزمان من سوء فعلهم وخبث طويتهم .ومما ينبعي ذكره هنا أن
هذا الصنف السيئ أخالقًا ،والتائه دينًا والمريض قلبًا ،والناكث عهدًا كان
كذلك حتى مع نبي اهلل محمد في دالل ٍة تحمل العمى بكل صوره ،والضالل
بكل أشكاله ،وما زال هذا الصنف القبيح النفاقي يخالط القوم ويكرر خداعه
دون توقف .ولسنا ممن يكفر منافقي اليوم القانطين ،ولكن ما أريد قوله هو
أن أعمالهم اليوم شبيهة بأعمالهم في األمس ،وإن اختلفت دوافع األمس عن
دوافع اليوم كون الدافع باألمس كان كفرًا ،بينما دافع اليوم قد يكون انتقامًا،
ولكن يبقى اإلجرام إجرامًا بغض النظر عمن صدر عنه ،والغريب في هذا
النفاق أنه عندما أسقط القوم بعمالته وخداعه سقط بسقوطه كونه ال بقاء له إال
بقومه ،ولكنه لحقارته ،وذهاب غيرته ورجولته لم يعد يهمه ذلك السقوط
فالدنيئ ال تضره الدناءة ،والسيئ ال تضره السيئات كونه صار ثوبًا أسودًا
هيأ نفسه لتحمل كل سواد ،والتأقلم مع كل كذب وعناد ،فال ضير عنده أن
ال عن الدين
يبقى في األسفل والقاع كونه منزوع الرجولة واإلنسانية فض ً
واآلدمية .وفي الوقت الذي تتحرك فيه عظمة العظماء لمحاولة الصعود
والخروج من القاع يحاول هذا الصنف أن يصنع مع العظماء نفس الصنيع
مع أنه هو من أسقط الجميع بخداعه ،وما زال يسقطهم بمكره وغبائه .ومن
عجائب أمرهم أنهم يقولون ويكثرون من القول كما أخبر اهلل عنهم ،ولكن
سلوكهم يفضح قولهم ،وخداعهم يكشف سرهم كما أسلفنا ،فهم وإن خدمتهم
- 23 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
األماني واألوضاع بعض الوقت فلن يكون لهم ما يريدون كل الوقت ،بل إن
حفرة كبيرة بحجم خداعهم تنتظرهم ،وسيقعون بها حتمًا ألن اهلل حكم بذلك
ال "وما يخدعون إال أنفسهم وما يشعرون" ،فقد حفروا للناس حفرًا ،فمنهم
قائ ً
من وقع ،ومنهم من نجا ،بينما هم سيقعون في الحفرة المنتظرة دون نجاة،
فال تظنن أن الخداع والنفاق نجاة ،وإياك أن تعتقد أن سياسة الواقع تقتضي
ذلك ،ال واهلل ،فبئست السياسة الخداع والنفاق ،وبئس السياسي المخادع
المنافق ،فكن صريحًا صادقًا ،وسياسيًّا أمينًا ،واحذر من التلون وتعدد الوجوه،
واعلم أن من عاش بوجوه متعددة مات من غير وجه..
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 24 -
فإذا كان اهلل وهو العلي األعلى سبحانه يحاور مالئكته بهذه الصورة فهذا
يعني ضرورة أن ينزل األقوى عتادًا ،واألكثر علمًا هنا إلى مستوى من دونه
محاورًا وموضحًا كي ال يكون في األرض فساد ،فليس صحيحًا أن نخفي ما
ال أن يحل الخصام والشقاق فيفسد ذات بيننا ،بل
يعتلج في صدورنا ،وال مقبو ً
تأتي هذه القيمة في الوسط لهذه األمة الوسط في تناسق عجيب يجمع بين
جمال البدايات وروعة النهايات .نعم إنها القيمة التي غابت في حياتنا كأمة
تقرأ هذا الحوار ،ولكنها لألسف أمة تقرأ لذات القراءة ،وال تتعدى هذا
المعنى ،لذا كانت المحصلة المرة هى الفساد ،وسفك الدماء في صورة تحمل
توحشًا إنسانيًا مخيفًا ،وصراعًا بينيًّا عنيدًا يأبى التالقي أو البقاء ،وهى نفس
الصورة التي حملت مالئكة اهلل على االستفهام عن سر هذا المخلوق كون
الفساد وسفك الدماء مسلكه وسلوكه ،وذلك من خالل رؤيتهم لسلوك الشياطين
حيث غابت هذه القيمة في ذلك السلوك الشيطاني المتمرد ،وال شك في أنها
عندما يتكرر غيابها تعود الشيطنة ،ويتكرر الشيطان مرتديًا ثوب االفتراس
الحيواني في شكل المخلوق اآلدمي .إنها الحياة بكل مالبساتها ،واألحياء بكل
تصوراتهم وأطماعهم يحتاجون إلى هذه القيمة في تسيير أمورهم وحل
خالفاتهم حتى ال تحل الشيطنة ،وتزرع الفتنة من جديد ،فالحياة بكل
تفصيالتها ال يقودها إال العقل الذي يحمل هذه القيمة ما لم تحوَّل البشر – كما
أسلفنا – إلى شياطين في صورة آدميين ،وتتضح هنا رحمة اهلل بمالئكته،
وإحسانه إليهم ،فلم يهزأ بهم لجهلهم ،وال غضب عليهم لسؤالهم ،بل وضح
سبحانه لهم ،وبين في رسالة واضحة لهذا الخليفة المستخلف هنا في األرض
كيف يحاور إذا أراد الحوار ،وكيف يتحدث إذا أراد الحديث في صورة تحمل
الرحمة بكل معانيها ،لذا كان لزامًا علينا أن نتعبد هلل بهذه القيمة ،وبهذا السلوك
كوننا نتعبد هلل بأسمائه وصفاته جل شأنه ،وتقدست أسماؤه ،فالحوار من أجل
توضيح الحقائق وإزالة اللبس عبادة من العبادات الموصلة إلى رضوان اهلل
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 26 -
وجنته.
والمالحظ هنا أنه وبعد\ أن كشف اهلل لمالئكته السر والحكمة من هذا
االستخالف عندها كان استغفار المالئكة وتسبيحهم تنزيهًا هلل ،واعترافًا منهم
بعلمه وحكمته سبحانه فيما كان وفيما هو كائن .نعم إنه الحوار القائم على
الحقائق الواضحة والبراهين الساطعة ليكون اإلقناع الواقعي والتسليم
المنطقي هو الثمرة بينما الحوار الذي ينعدم فيه الدليل هو في الحقيقة عبث
وقتي ،وجهد مضني ،وتالعب شيطاني ليس إال .إ ًذا لم يكن القرآن لينقل إلينا
هذا الحوار كي نختلف حول األلفاظ والمسميات ،ونترك األهداف والغايات،
حاشا وكال ،بل الهدف هو أن نعيش هذه الروح .إنها روح الحوار القائم على
أساس العلم والفهم والتوضيح بعيدًا عن العنف والجهل والتقبيح ،واعلم مرة
أخرى أن اهلل لم يعنف مالئكته عند استفهامهم عنك ،كما أنه لم يحتقرهم عند
جهلهم بك ،بل حاورهم – وهو العلي األعلى سبحانه – حتى أبان لهم بعلمه
جهلهم ،وفي كل ذلك تعليم لك كيف تقول إذا أردت القول ،وكيف تحاور
عندما يكون الحوار ،وحسبك في هذه اآلية هذه القيمة األصيلة فهى أساس
كل القيم حيث كانت هناك في السماء ،واألصل أن تسود هنا في األرض.
- 27 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
علَى الْخَاشِعِينَ{.)4()}45
(وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّالَةِ َوإ َِّنهَا لَكَبِيرَةٌ إِالَّ َ
إنها الوصفة اإللهية لألمة المحمدية نجدها هنا في سورة البقرة ،وفي هذه
اآلية بالتحديد .إنها اآلية التي حَ َوتْ العالج لكل قلق ،والهدوء من كل أرق،
والراحة من كل تعب ،والفرح من كل حزن ،فالصبر مع الصالة توأمان لحياة
سعيدة هنا تمتد لراحة أبدية هناك ،فهذه الحياة مليئة باألدواء واألوجاع
والمتاعب واألطماع ،وحتى ال تُسقطك أوجاعها ،وال تخدعك أطماعُها كان
العالج هو الصبر والصالة .نعم هى كذلك كون االنغماس هنا في عالم الطين
– والطين فقط – بعيدًا عن الصبر والصالة إنما هو سقوط في وحل الشهوة
المؤقتة ،وشراك المتعة الحيوانية اآلنية التي تسلخ اإلنسان من إنسانيته،
وتجرده من كرامته ،فتدعه هناك عاريًا من كل قيمة ،ومسلوبًا لثوب العزة
والكرامة ،وال شك في أن هذا االنسالخ يزداد شؤمًا كلما أوغل اإلنسان في
عالم الطين والشهوة تاركًا روحه هناك تغرق وتغرق بعيدًا عن عالمها
الروحي ،عندئذ تستعبده اللذة ،وتذله الشهوة كون الطينة وحدها بدون الروح
ال تكرم ذاتًا ،وال تستر جسدًا ،فيكون السقوط لهذا العبد ،وهو األمر الذي ال
يريده اهلل لعبده .نعم فالرب سبحانه يحب عبده ،وال يريد له أن يسقط في دنيا
تنتهي به فجأة في شهوة مؤقتة هنا أو هناك ،بينما ينتظره في عالم اآلخرة
نعيمًا ال ينفد ،وقرة عين ال تنقطع ،لذا كان األمر اإللهي هنا باالستعانة بالصبر
والصالة حتى ال يسقط هنا فيحرم النعيم هناك ،وحتى تتمكن الروح من
اإلفالت من أسر الشهوات الدنيوية الدنيئة واللذائذ المؤقتة اآلنية التي خلقت
الختباره وجذبه ،وحتى ال يؤسر هنا فيخسر النعيم هناك كان البد له من هذين
الجناحين ،جناح الصبر وجناح الصالة كي يرتقي بهما بذاته ،ويستعلى بقلبه
وقالبه في عالم القيم الروحية األصيلة .والمالحظ هنا أن ذكر الصبر تقدم
على ذكر الصالة ألنه ال يصلي إال صابر يحبس نفسه عن الشهوة ،ويصبرها
على الطاعة ،كما أن اهلل هنا لم يقل استعينوا بالصبر واستعينوا بالصالة ،ال
لم يقل ذلك حتى ال يفرق بينهما ،بل جعل الصبر والصالة شيئًا واحدًا ،فال
صبر إال بصالة ،وال صالة إال بصبر .إنهما الجناحان اللذان تُحلِّق بهما في
عالم الملكوت منتصرًا على شهوات الجسد الخسيسة ،ومتعاليًا على مطالب
النفس الرخيصة في صورة تحمل سموًّا روحيًّا وعلوًّا أخالقيًّا تحوم حول
الثريا هناك ال حول الثرى هنا ،ويبقى التحليق هناك حول الثريا لهذه الروح
بهذين الجناحين باقيًا ،وصاحبه في سماء القيم ثابتًا ما بقي الجناحان يرفرفان
حتى إذا انكسر أحدهما أو كالهما عندها يحدث السقوط في الطين والوحل
من جديد ،ويكون هذه المرة سقوطًا مدويًّا هنا حتى يصل مداه إلى جهنم هناك
ما لم يحدث في األمر مراجعة .ومما ينبغي ذكره هنا أن التحليق بجناحي
الصبر والصالة في عالم القيم يكون ثقيالً على تلك األرواح الخاوية ،وصعبًا
على تلك األنفس المتفلتة ،والتي أَلِ َفتْ واعتادت على حياة الوحل الطيني
الخسيس ،ولم تذق بعد حالوة القرب الروحي النفيس في صورة تعكس
اآلدمية المنحطة عندما تستعبدها الشهوة ،وتقيدها اللذة ،وقد ذكر ذلك الثقل
وتلك الصعوبة في قوله سبحانه "وإنها لكبيرة" ،فالصالة بجناحها السامي
والعالي ثقيلة على من ألف واعتاد حياة العبث األخالقي ،والسقوط الروحي،
واالنهزام القيمي ،وال شك في أن سقوط وانكسار هذا الجناح يسقط ويكسر
جناح الصبر فيهوى عندئذ هذا اإلنسان إلى الوحل من جديد متفلتًا من كل
قيمة ،ومنسلخًا من كل فضيلة ،فال قيمة لمن سقط من عالم القيم والفضائل
إلى عالم المحن والرذائل ،أما األرواح العالية إيمانًا والكبيرة أخالقًا فهي تبقى
محلقة هناك في عالم الملكوت تنعم بقرب الرب سبحانه ،بينما أجسادهم فقط
هى التي تعايش الخلق حتى يحين رحيلها كى تستقر بين يدي الخالق .إن
الخاشعين وحدهم هم من يذوقون تلك الحالوة ،وتسبح أرواحهم في عالم
- 29 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
الروح لقربهم من ربهم في جنة الدنيا هنا قبل جنة اهلل في اآلخرة هناك،
فاستعن بالصبر والصالة في دنيا الحياة وفي عالم األحياء لتبقى روحك عالية،
وهمتك متقدة ،واعلم أن حياتك ال تتم إال بجناحي الصبر والصالة ،فإياك إياك
أن تترك جناحيك أو أحدهما فتندم ،ولكن بعد ذهاب كل شئ..
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 30 -
ت مَا
َن وَالسَّلْوَى ُكلُواْ مِن طَيِبَا ِ
علَيْكُ ُم الْم َّ
علَيْكُ ُم الْغَمَا َم َوأَن َزلْنَا َ
( َوظََّللْنَا َ
سهُمْ َيظْلِمُونَ{.)5()}57
ظلَمُونَا َولَـكِن كَانُواْ أَنفُ َ
َر َزقْنَاكُمْ وَمَا َ
وهكذا كانت النعم اإللهية لبني إسرائيل ،تلك األمة الشقية في ذلك الزمن البعيد
من عمر هذه الحياة .نعم فالغمام ،والمن ،والسلوى إضافة إلى حجر محمول
معهم يتفجر منه الماء كلما احتاجوا وأرادوا ،هذه نعم توالت عليهم دفعة
واحدة ،فالسماء تخدمهم بغمامها فتظلهم كلما اشتد الحر عليهم في تلك
الصحاري الملتهبة ،فإذا جاء المساء أرسل اهلل إليهم السلوى؛ وهو طائر كثير
اللحم ،وجميل المذاق ليكون عشاءهم ،فإذا ناموا وجاء الصباح الباكر أنزل
اهلل عليهم المن ،فوق األشجار ،وهو طعام حلو المذاق كالعسل .إنها نعم
عظيمة ،ولكنها كما سيأتي وقعت في أي ٍد لئيمة كون الفضل يحتاج إلى كريم
ليبقى ،فإذا وقع الفضل في يد عديم الفضل فإنه سرعان ما يزول ويفنى .هكذا
يعرض لنا القرآن السلوك اإلسرائيلي قديمًا في تعامله مع اهلل ونعمه ،ثم مع
أنبيائه ورسله في صورة تحمل خبثًا ال حدود له ،وذلك حتى ال نرهق أنفسنا
في استرضائهم والتودد إليهم .نعم لقد خدمتهم السماء بظلها ،والنعم بروعتها
وجمالها ،ومع ذلك لم يعبدوا ربًّا ولم يقبلوا دينًا ،ولم يشكروا نعمًا في صورة
تفضح جنسًا خبيثًا تطاول خبثه ،وتعالى شره حتى رفض التعايش مع السماء
المظللة له بغمامها ،والمهدية له فضلها ونعمها .وال شك في أن يهود اليوم هم
االمتداد الطبيعي ليهود األمس طبعًا وخبثًا وعنادًا ومكرًا كون العقلية هي
ال وقلبًا،
ذاتها ،والتركيبة الخسيسة هى نفسها .إنه الجنس الممسوخ عق ً
والمتوحش سلوكًا وفكرًا في الماضي ،وهذا شأنه كذلك في الحاضر ،حيث
ابتُلي به نبي اهلل موسى باألمس ،وبقي هذا الجنس الخبيث لتُبتلى به األمة
المحمدية اليوم ،ومن العبث أن يتكرر االسترضاء لجنس رفض التعايش مع
السماء ،وقد أظلته بغمامها ،وتكاثر بين يديه مَنَّها وَسَلْوَاها ،ولكن عمى اليوم
يكرر نفسه ،ويقود ذاته من جديد وبصورة فجة ومفضوحة طالبًا التعايش
والبقاء مع من هو عدو لألرض والسماء ،وال شك في أن هذا االسترضاء
الممقوت لذلك الجنس األشد مقتًا هو سقوط من غير ثمن ،وعطايا لعبَّاد وثن
يسقط فيه الطالب ،وقد كان قبل ذلك كريمًا ،ويتعالى فيه المطلوب ،وقد كان
قبل ذلك ممسوخًا كونه لن يجدي نفعًا ،ولن يدفع شرًّا .ومما ينبغي اإلشارة
إليه هنا أن التمرد على اهلل من جهة ،وعدم شكره على نعمه من جهة أخرى
ليس أمرًا خاصًّا باليهود ،وإن كانوا هم األسوأ نفوسًا ،واألخبث طباعًا،
واألشد مكرًا بال شك ،ولكن في الحقيقة تتشارك النفوس البشرية الخبث
والتمرد والنكران والجحود ،ولو بنسب متفاوتة .وذلك على حسب قربها
وبعدها من اهلل كون الذي يؤدب النفوس ويهذبها هو دين اهلل ،ودين اهلل فقط،
ما لم تسقط في وحل الطمع ،وتغرق في بحر الجشع كما يقال ،فكلما أكَلَت
وتجاوزت في األكل ،وشربت واستطالت في الشرب ،وجمعت وكنزت
ازدادت نهمًا وطمعًا كمن يشرب من ماء البحر كلما ازداد شربًا ازداد عطشًا
حتى يقتله الشرب .ومما ال شك فيه فإن اهلل لم يذكر لنا سقوط بني إسرائيل
هنا أمام نعمة الغمام والمن والسلوى كى نتلوه لمجرد التالوة فقط ،بل ذكره
لنا لنعلم أن نعم اهلل تحتاج قلوبًا شاكرة ،وألسنة ذاكرة ،وأيادي كريمة معطاءة
وإال فإنها لن تبقى ،بل هى بال شك إلى غيرك مغادرة .كما أن في اآلية معنى
دقيقًا آخر نلمسه بين ثناياها وهو أن ثبات القلب وسكونه وأنسه وراحته ال
توفره أبدًا نعم األرض وغمام السماء ما لم يكن اهلل هو مطلبه وغايته وحبيبه
وأنيسه ،فما لم يكن ذلك فلن يستقر للعبد حال ،ولن يقر له قرار ولو أظلته
السماء بغمامها ،وجاءته الدنيا بكل نعيمها ،بل سيتكرر عناده ،وتتمدد مطالبه
وطمعه كحال من سبقه سواء بسواء حتى يهلك .لذا فمن يستقبل نعم اهلل صباحًا
ومساءًا َكمَن وَسَلْوى بني إسرائيل ثم يجحدها ،ويبخل على عباد اهلل بها فهو
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 32 -
في الحقيقة يتشبه بذلك الجنس الخبيث طبعًا ،والشحيح نفسًا ،وكما فقد اليهود
المن والسلوى باألمس بسبب سوء فعلهم سيفقد كل بخيل مَنَّه وَسَلْوَاه اليوم؛
ألن النعم ال يقيدها إال الشكر ،وال يمحقها إال البخل والكفر ،فعندما تغادرك
هذه النعمة مرتحلة من دارك ومستقرة بدار غيرك فاعلم أنك أنت من هيأ لها
ذلك الرحيل بظلمك لنفسك ،وعدم شكرك لربك ،وهو األمر الذي حكم به اإلله
العدل سبحانه في ختام هذه اآلية بقوله "وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم
يظلمون".
- 33 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
( َوإِذْ َأخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَ َرفَعْنَا َفوْقَكُ ُم الطُّو َر خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّ ٍة وَاسْمَعُواْ قَالُواْ
سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا َوأُشْرِبُواْ فِي ُقلُو ِبهِ ُم الْ ِعجْ َل بِكُفْرِهِمْ ُقلْ بِئْسَمَا يَأْ ُمرُكُمْ بِهِ
إِيمَانُكُمْ إِن كُنتُمْ ُّمؤْمِنِينَ{.)6()}93
هذه هى اللغة الوحيدة التي يفهمها هذا الجنس اإلسرائيلي الماكر .إنها لغة
القوة ،والقوة فقط ،فقد نقل إلينا ،وسُجل لنا بكل وضوح كيف نفهم اللغة التي
يؤمن بها هذا الصنف المخادع ،فبعد أن أظلهم الغمام هناك ،وتساقط عليهم
المن صباحًا ،وجاءهم السلوى مسا ًء في صورة تحمل كرم اهلل وفضله
وجدناهم بئس القوم كفرًا وعنادًا ،حيث تلذذوا بالنعمة ،وكفروا بالمنعم في
صورة بائسة تحمل كل معاني اللؤم والخسة لعقول أثقلها الكبر ،ونفخها
الغرور ،وهو بال شك سلوك تكرر هناك مرارًا ،ومازال يتكرر هنا كون
السجية واحدة ،والطبيعة السمجة متقاربة .إنها الصورة البائسة ألرباب الحيل
وعباد الشهوات من بني إسرائيل وهم يتعللون بثقل تكاليف التوراة بحجج
واهية ،وأعذار باطلة يتوارثها أصحاب الهمم الحيوانية الدنيئة ،وأرباب
العزائم األنثوية الرخوة بعضهم عن بعض .وأمام هذا التفلت األخالقي
المتكرر ،والنكوص التعبدي المتغور من قوم هم أسوأ الخليقة خُلُقًا على
اإلطالق يبرز الجبل هذه المرة بأحجاره وأشجاره وترابه بأمر ربه ،وذلك
لحسم المشكلة ،وإنهاء القضية التي طالت وأخذت وقتًا كافيًا مع من ال يستحق
إال القتل ،والقتل بالجبل .نعم إنه جبل الطور الذى نُزع ثم رُفع لتأديب الرؤوس
التي أظلها الغمام من قبل ،وأكلت المن والسلوى من بعد ،ولكن دون جدوى.
ومما ينبغي ذكره هنا كي تتضح الصورة ،ويكتمل المشهد أن جبل الطور تم
نزعه وقلعه من جذوره ،ثم رفعه بعد ذلك كون كلمة "نتقنا" الواردة في آية
أخرى توحي بهذا المعنى ،فالنتق هو القلع والنزع للشئ ،فبعد قلعه تم رفعه
وهم يشاهدون ،ولكنها مشاهدة المخدر عقالً ،والقاسي قلبًا .نعم إنها المشاهدة
الفارغة من عيون خائنة بلغت خيانتها عنان السماء ،فلم يعد تنفعها الرؤية،
وال تساعدها المشاهدة كونها فقدت فاعليتها بذنوب أوحشت الزمان ،وأنتنت
لجيفتها المكان ،ولك أن تتخيل األمر والجبل معلق فوق رؤوسهم في السماء
في صورة تبرز قوة اهلل وعظمته وقدرته ومشيئته الغالبة والقاهرة في آن
واحد جل في عاله ،وأمام هذا الحدث الغير المتوقع في عالم الحياة ودنيا
األحياء سجد القوم سجودًا على نصف جباههم اليسرى بينما النصف اآلخر
يترقب سقوط الجبل فوق رؤوسهم في صورة تحمل مكر الساجد وعبثه وخبثه
وخوفه .إنها العقول التي تجاوزت الضالل مكانًا ،وتطاولت فيه زمانًا وحاالً
بحيث لم تعد تجدي معها لغة الخطاب ال في صورة الترهيب ،وال في صورة
الترغيب ،بل الذي يُجدي معها هو لغة القوة ،والقوة فقط ،وال شك في أن
عظمة الحدث جعلت يهود عندئذ يعلنون التزامهم بالتوراة ،وخضوعهم لنبي
اهلل موسى ،فأعاد اهلل الجبل إلى مكانه في صورة تحمل رحمة اهلل بعباده،
ولطفه بخلقه ،وما هى إال فترة بسيطة حتى عادوا لعنادهم ،وأعلنوها صراحة
كما نقل ذلك عنهم القرآن بقولهم "سمعنا وعصينا" في صورة أخرى تعبر
عن الحقيقة الكاملة لذلك الجنس العنيد على مدار التاريخ.
وخالصة القول هنا أن قوله "خذوا ما آتيناكم بقوة تحوي دالالت كثيرة ومنها
أن الحق قوي بذاته ،وأن األيادي المرتعشة ضعفًا ،والهزيلة جسمًا ،والخاوية
ال أن تصلح شأنها ،ومن ثم تتجه نحو الحق ألخذه .كما أن لفظ إيمانًا عليها أو ً
"خذوا" يشي بوجوب العمل الجماعي المنظم بعيدًا عن العشوائية المتفلتة
والفردية المقيتة التي ال تبني أمة ،وال تحرس حقًّا .والجميل هنا هو مجئ لفظ
القوة منكرًا لإليحاء بوجوب توفر كل أنواع القوة ،والتي بها ومن خاللها
ينتصر الحق ويسود ،ومما ال شك فيه في نهاية هذه االستراحة المختصرة
التنبيه إلى أن من لم يكتب اهلل له الهداية فلن يهتدي ولو قلعت الجبال بين يديه
ورآها منزوعة من مكانها بأم عينيه.
- 35 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
َمرُ
َد َأحَدُهُمْ َلوْ يُع َّ
ن أَشْرَكُواْ َيو ُّ
ن الَّذِي َ
علَى حَيَا ٍة وَمِ َ
س َ
ص النَّا ِ
( َولَ َتجِد ََّنهُمْ أَحْرَ َ
َاهلل بَصِيرٌ بِمَا
َم َر و ُّ
ن الْعَذَابِ أَن يُع َّ
ف سَنَ ٍة وَمَا ُه َو بِ ُمزَحْ ِزحِ ِه مِ َ
َألْ َ
يَعْ َملُونَ{.)7()}96
هكذا يستمر الحديث هنا عن بني إسرائيل في أطول سورة في القرآن وهى
سورة البقرة ،بل إن أكثر من ثلث السورة تناول أخبارهم ومكرهم ،وكشف
حيلهم وضعفهم ،وذلك في إشارة دقيقة وخفية تتضح من خالل سياق اآليات
إلى أنهم هم الالعبون األساسيون ،والصانعون العبثيون ألحداث التاريخ هناك
في الماضي ،وسيظل دورهم أيضًا هو نفسه هنا في الحاضر ،ولكنه ال يعدو
كونه دورًا قائمًا على إفساد الزمان والمكان والمقام والحال عن طريق الحيل
والمكر ليس إال ،بل لن نتجاوز إذا قلنا إنهم هم من يمثل نقيض الحق أي
الباطل في هذه الحياة ،وأن كل باطل ومنكر يظهر هنا أو هناك – وبصوره
المختلفة – سنجدهم وراءه إما بشكل مباشر وواضح أو بطريقة غير مباشرة
متسترة خفية .ودعونا اآلن نعود للحياة في ظالل هذه اآلية الكاشفة والفاضحة
لنقطة الضعف لدى هذا الجنس البشري الماكر وهى أنهم يقدسون الحياة الدنيا
حد الحرص الال متناهي بغض النظر عن نوع هذه الحياة وشكلها ،فهم يفرون
ال وزماناً ،وهذا هو السر ال وحا ً
من الموت ،ويريدون حياة كيفما كانت شك ً
في تنكير اللفظ القرآني هنا بقوله" :على حياة" .نعم فلخستهم يملكون القدرة
الفائقة على التكيف مع األحداث ،فعندما تكون الجولة عليهم وليست لهم
ال – وبشكل مخزٍ ومبتذل – حرصًا يجيدون المسكنة التي ضربت عليهم أص ً
منهم على حياة ،وعندما تكون الجولة لهم عندئ ٍذ يظهرون عربدتهم وفسادهم
بشكل يتجاوز كل حد ،ويفوق كل وصف ،والتاريخ البشري بأحداثه المتنوعة،
وفصوله المتعددة سواء في الماضى أو في الحاضر يكشف أمرهم في كال
الحالين .ومما ينبغي اإلشارة إليه هنا أن تقديسهم وعبادتهم وحرصهم على
البقاء هنا كيفما كان ذلك البقاء إنما هو ناتج عن سوء أفعالهم ،لذا يخشون
الموت خوفًا مما ينتظرهم هناك من العذاب والنكال .وبالمناسبة فلسنا في
معزل عن هذا السلوك المقدس لهذه الحياة على حساب الحياة اآلخرة فإن من
ضل بسبب جهله كان به شبه من النصارى وهم الضالون ،ومن ضل بسبب
عناده ومكره كان به شبه من اليهود وهم المغضوب عليهم ،وذلك على حد
تفسير علمائنا األكابر ،وال شك هنا – حتى نكون صرحاء مع ذواتنا – أننا
جمعنا على أنفسنا نحن وليس غيرنا ذنوب الضالين الناتجة عن جهلنا بكثير
من القضايا مع ذنوب المغضوب عليهم الناتجة عن مكرنا ببعضنا ،وعنادنا
لبعضنا ،فظهر فينا تقديس الحياة المشابه لتقديس بني إسرائيل مع الفارق فقط
في دوافع التقديس بين دافع الكفر هناك ،ودافع الضالل أو العناد هنا ،لكن
المحصلة هى أن الحرص على الحياة واحد كون هذا التقديس المقزز
والمتجاوز للحد هو نتيجة طبيعية للذنوب والمعاصي بغض النظر عن هذا
المذنب أو ذاك العاصي .وحتى ال نذهب بعيدًا عن روح اآلية ومحتواها يبقى
الهروب من سيئات الذات ومما كسبت األيدي هو نوع من العبث غير المجدي
سواء ممن نزلت اآلية فيهم وهم اليهود ومعهم الذين أشركوا أو من تشبه
بضاللهم وعنادهم من سائر األمم حتى لو عمر هذا العبد ألف عام كون القدوم
على اهلل ال مفر منه وال مهرب ،كما أن األماني دائمًا كما هى هنا في اآلية
تُراوح مكانها ،وتتدثر بذاتها الفارغة ،وتبقى على الدوام باطلة كونها ال تغير
واقعًا ،وال تطيل عمرًا .فاستشعر ما سبق واعلم أن الحرص على البقاء هنا،
والغفلة عن دار البقاء هناك في دار البقاء الحقيقي إنما هو سلوك المغضوب
عليهم ومعهم الضالون ،واحذر من األماني الفارغة ،وعليك بإطالة عمرك
بصناعة عمر آخر وجديد لك إن أردت ،وذلك عن طريق ولد صالح ربيته،
أو عمل صالح عملته ،أو صدقة جارية تركتها ،وما سوى ذلك لن يُجدي نفعًا،
ولن يطيل عمرًا كونها أماني فارغة تشابه أماني أهل الكتاب هنا ،وينعدم
نفعها هناك.
- 37 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ن يَدَيْهِ
هلل مُصَدِق ًا لِمَا بَيْ َ
نا ِك ِبإِذْ ِ
علَى َقلْبِ َ
َزلَ ُه َ
ن عَ ُدوّا ِلجِبْرِي َل َفإِنَّ ُه ن َّ
( ُقلْ مَن كَا َ
وَهُدًى وَبُشْرَى ِللْ ُمؤْمِنِينَ{.)8()}97
وهكذا يستمر العقل اليهودي هنا في توزيع العداوات ،ونسج الخالفات
بطريقته المعتادة ،وهويته المفضلة .إنه العقل الذي لم يستوعب بعد قواعد
الحب وقواعد العداء كونه ال تسيره القواعد ،وال تحكمه األصول ،بل تسيره
األهواء الفارغة والنزعات اإلبليسية الصرفة ،وهذا شأن كل عقل فقد صلته
باهلل ،وسلم قيادته للشيطان ،عندئ ٍذ يبلغ هذا العقل في السفه مبلغًا يتجاوز
األرض حتى يصل مدى سفاهته إلى السماء كما هو الحال هنا ،والعجيب في
هذا العقل المتجاوز لسفه األرض أنه سأل نبي اهلل محمدًا عن الملك الذي ينزل
عليه بوحي السماء ،فكان جواب الحبيب محمد عليهم إنه جبريل ،فرد السفه
والطيش عليه بالقول معذرة لن نؤمن بك كون جبريل الذي ينزل بالصواعق
ال
والعذاب هو الذي يأتيك ،فلو كان ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والغيث بدي ً
عن جبريل آلمنا بك وأسلمنا .إنه السفه اإلنساني اإلسرائيلي القائد لكل سفه،
والعابث بكل عقل ،والمتفلت من كل خلق ودين يُفصح عن نفسه هنا بصورته
الرثة كونه يريد دينًا يساير سفهه ،ويخدم نزوته ورغبته في صورة تحمل
تفلتًا أخالقيًّا سافرًا ،وتخبطًا عقديًّا واضحًا ال يستحي من الخالق ،وال يقبل
التعايش مع المخلوق ،وهو سلوك ليس خاصًّا بهذا الجنس البشري الماكر،
وإن كان هذا الجنس هو القائد والحامي لهذا التفلت ،إال أن األمر يتعداه
ويصبح تفلتًا يشمل كل ضال سواء هنا عند من نزلت بشأنهم اآلية أو هناك
ممن ضل الطريق من غيرهم .نعم إنها العقول عندما تضل فتعبر عن ضاللها
بهذا التخبط حتى يصبح حبها لألشخاص واألشكال واألعمال والمعتقدات
غير محكوم بدين أو مبدأ ،بل هو الحب الفارغ الخالي من قيم السماء األصيلة،
والملئ بقيم األرض النتنة ،ومصالح النفس الضيقة واآلنية المؤقتة المحكومة
بشهوة البطن أو الفرج على حد سواء ،وتظل هذه االنتقائية هى السائدة
والباقية في هذا العقل االنتقائي والضال ما لم يحرر نفسه بعقيدة السماء
الصافية ،ورسالة اإلسالم الخالدة ،ويحتكم في حبه وكرهه ألصول الشرع،
وليس لنزعات الهوى ومصالح الدنيا ،وما لم يحدث ذلك التصحيح لقواعد
الحب والكره والوالء فإن هذه العداوة غير المنضبطة تستمر في انتقائيتها
وعبثها حتى تُسقط صاحبها في كل شهوة ،وتوقعه في كل بلية ،وال شك في
أن عداوة مالئكة اهلل من قبل اليهود هناك في اآلية يشابه عداوة غيرهم ألولياء
اهلل الصالحين هنا في واقع اليوم وإن اختلفت دوافع العداوتين ،وحصيلة
النتيجتين كون هذا العداء السافر سواء للمالئكة في الماضي أو للصالحين
الذين جمعوا بين اإليمان والعمل الصالح في الحاضر هو عداء هلل سواء
بسواء؛ ألنه من عادى أولياء اهلل اليوم فقد بارز اهلل بالمحاربة كما فعل اليهود
باألمس .لذا ال تدع عاطفة القلب ،وهوى النفس ،ومصالح الذات هى من تحدد
حبك ووالءك وعداوتك وكرهك ،بل اجعل المبدأ والدين والقيم واألخالق هى
الحاكم لعاطفتك والحارسة لذاتك وشخصيتك ،واحذر من عداوة الصالحين
فإنها عداوة هلل ومبارزة له ال قدرة لك على االنتصار فيها ،واعلم أن سفه
اليهود وضالل عقولهم قادهم إلى كل بلية ،فاحذر من ضالل العقول فإنه سيف
مسلط مسلول.
- 39 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
وغابت عنه الحقائق في صورة تحمل العمى بكل صوره ،والضالل في أسوأ
أحواله ،حيث صار في عداوة مع اآلية ،فكان عقابه أن لهثه هناك أصبح
عادة ،وخوفه من الكفار صار عبادة ،ويبقى اللهث مستمرًّا هنا ،واإلرادة
الخبيثة عاملة هناك ما بقي القرار بيد الالهث ،واألمر بيد الخبيث في صورة
مشينة تعبر عن ذل الالهث وغفلته ،وخبث الكافر وسطوته ،وأمام هذه الحالة
البائسة والموغلة في البؤس هنا ،والسطوة المستحكمة إلرادة الشر هناك،
والممانعة ألي خير ينزل على المسلمين من ربهم تبقى رحمة اهلل هى الحرة
الطليقة البعيدة عن غفلة هذا أو سطوة ذاك ،والقادمة من األعلى من هناك من
السماء كي توقف العبث ،وتستأصل الخبث بجنود في األرض هم قدر اهلل
وإرادته في صورة تحمل نصر اهلل وغوثه لمن أرهقهم الظلم ،وأسهرهم األلم.
نعم إنها رحمة اهلل التي ال قدرة لليهود وال للنصارى وال للذين أشركوا أن
يمنعوها بسالحهم ،أو يحبسوها بقراراتهم ،فهى حتمًا ستنزل – كما وعد اهلل
– في اللحظات الحاسمة كي تحسم األمر بعد أن يأخذ وقته ،وينتهي دوره،
ولكن يبقى السؤال في أي بلد وعلى أي قلب ستنزل تلك الرحمة ،وتحل تلك
البركة كي يأتي الخالص ؟ .إنه األمر الغيبي الذي اختص اهلل بعلمه هناك،
ولكنها حتما ستنزل.
- 41 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
خرَا ِبهَا
هلل أَن يُذْ َك َر فِيهَا اسْمُ ُه وَسَعَى فِي َ
(وَمَنْ َأظْلَ ُم مِمَّن مَّنَ َع مَسَاجِ َد ا ِ
خزْيٌ َوَلهُمْ فِي
ن لهُمْ فِي الدُّنْيَا ِ
ِال خَآئِفِي َ
خلُوهَا إ َّ
ن َلهُمْ أَن يَدْ ُ
ك مَا كَا َ
ُأوْلَـئِ َ
عظِيمٌ{.)10()}114
خرَةِ عَذَابٌ َ
اآل ِ
من هناك من مكة بدأت هذه المعركة بصورة مختلفة هذه المرة كوننا اعتدنا
على محاربة الساجد فقط ،بينما اتجه الظلم هنا إلى محاربة مكان السجود
أيضًا .نعم إنها الحرب القديمة والجديدة على المساجد لمحو أثر السجود وبيت
الساجد في صورة متأصلة تحمل العداء حتى لألرض والتراب اللذين يذكر
فيهما وعليهما اسم اهلل .إنها الحرب القديمة واآلثمة على بيوت اهلل في صورة
بدأت هناك ،وما زالت تتكرر هنا .نعم إنها المحاولة القديمة للفصل بين الساجد
ومسجده كي يسقط هذا الساجد من عين اهلل في السماء ،ثم يتتابع عندها سقوطه
في األرض ،كون المؤمن عندما ينفصل عن مسجده يسهل اصطياده ،ومن
ثم ترويضه وإفساده .نعم فقد بدأت عملية الفصل هذه مع المنع المصاحب
للخراب في تلك اللحظات التي منعت قريشًا نبي اهلل محمدًا من الصالة عند
الكعبة في المسجد الحرام ،ومن حينها جاء هذا السؤال وبهذه الصيغة
االستفهامية الموحية بفداحة هذه الخطوة الظالمة واآلثمة كونها تفرق بين
المؤمن ومحرابه ،والساجد ومسجده بصورة إجرامية فادحة .إنه الظلم عندما
يعجز عن محاربة الساجد ،وثنيه عن دينه وسجوده ،فإنه لخسته وعظيم شره
يلجأ إلى خراب مكان السجود ومحراب الساجد .إنها الخطة اإلجرامية القادمة
من هناك بصورتها الخبيثة أهدافًا ،والشنيعة سلوكًا ،والمتجاوزة حدًّا مازالت
تفعل بكل ساجد فعلها اليوم كما فعلت بسيد الساجدين فعلها باألمس .نعم إنه
الظلم القديم شكالً ،والمتجدد حاالً ،والمتعدي زمانًا ومكانًا والذي لم يعرف
في الماضي حرمة المسجد ولو كان المسجد الحرام ،وال عرف قداسة الساجد
ولو كان محمدًا خير األنام في صورة تحمل العبث البشري ،والظلم اإلنساني
عندما يطلق لذاته المجنونة العنان كي تعبث بالشعيرة ،وتتالعب بالشعائر
بصورة فاحشة ،بل موغلة في الفحش .إنه العبث البشري كونه في الماضي
ترك الكذب والزور يطوف حول الكعبة ،بينما منع البر والصدق من ذاك
الطواف في سعي واضح لخراب بيت اهلل هناك ،ويتكرر السعي السيئ اليوم
ب لبيوت اهلل هنا ،وذلك إما خراب حسي بهدمها ،أو معنوي بمنع األكفاء
بخرا ٍ
منها وتركها بيد الجهالء دينًا وعلمًا وفهمًا ،وكال الخرابين خراب ،وكال
العملين في نهايته سراب .فتعالوا مرة أخرى لنعيش في ظالل هذه اآلية،
ونتابع عواقب هذا السراب ،ونتائج ذلك الخراب .إنه المنع للساجد من التلذذ
بمكان سجوده في اللحظات الزمنية المعتمة ،وذلك لكي يفصل عن مسجده
لتبدأ مرحلة السقوط كون المؤمن – كما أسلفنا – بغير مسجده سهل المنال،
وضعيف الدين والمآل ،فبعد أن عجز الظالم عن صد الساجد عن سجوده،
وإبعاده عن دينه عندئذ لجأ إلى خراب محرابه ،بل أراد أن يجمع بين محاربة
الساجد ومكان سجوده ليتسنى له بعد ذلك العبث والمكر والتكبر والفخر .إنها
اللحظات التي ينتشي فيها الظلم ظنًّا منه أنه ينتصر ،وما علم لسوء فعله أنه
يهزم بخرابه هذا ويندحر .نعم فكما سقطت قريش في الماضي عندما منعت
نبي اهلل من الصالة في المسجد الحرام سيسقط أتباعها في الحاضر ،وإن
ال بسبب غفلة الساجد وتقصيره ،لكن سقوط ذلك
تفاوت السقوط ،وتأخر قلي ً
المانع والساعي آتٍ ال محالة ،لذا كان السؤال هنا "ومن أظلم" بغير جواب
كي تظل الدنيا تسأل ،وتواصل السؤال مشنعة لهذا الفعل ،وغاضبة على هذا
الفاعل ما بقيت الحياة .ومما ال شك فيه أن مساجد اهلل وهى تحوي في رحابها
الساجدين ،وتجمع بين أعمدتها المسبحين ،وذلك في صورة جماعية منظمة
يغيظ الظالمين ،ويؤرق ليلهم كونه تعظيًما هلل الواحد بصورته المرتبة،
وألفاظه الموحدة التي تبعث في نفوسهم القوة والعزة ،وفي عقولهم الحكمة
- 43 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
والفكرة ،وفي حياتهم الشجاعة والعزيمة ،وهو ما يخيف الظالم هنا كما أخافه
باألمس هناك .لذا كان توجه هذا الظالم للمنع الجائر ،والتخريب البائر لتلك
الرحاب المقدسة كي يقتل في نفوس الساجدين العزة ،ويُميت في عقولهم
الحكمة والفكرة ،ويمحو بمكره وسفهه من األرض تعظيم الرب ،ويُبقي فيها
فقط تعظيم العبد في صورة تحمل المقت بكل مفرداته ،والهوان بكل حاالته.
نعم إنه الهوان كونها حربًا خاسرة ،إذ خسر الرهان ذلك المانع ،وارتفع اسم
اهلل في المكان شامخًا ساطعًا ،وتستمر خسارة المانعين لمساجد اهلل أن يذكر
فيها اسمه والساعين في خرابها ،وذلك بسقوطهم مع أسمائهم في الماضي،
مع خسارة السقوط المتكررة هنا في الحاضر .إنه الخزي لهم والخراب
لبيوتهم بحسب خرابهم ،وال يظلم ربك أحدًا .ومما ال شك فيه أن المعركة
عندما تصبح معركة مساجد بقا ًء وعدمًا ،عندئ ٍذ تكون بداية النهاية لسقوط ذلك
المانع والمخرب قد بدأت شريطة تحرك الساجد غضبًا منه على استهداف
محرابه ومكان سجوده ،فال يظنن أن المحاربين لمساجد اهلل ينتصرون أو أنهم
بفعلهم يرتفعون ،بل يسقطون ،وإلى الخزي والبوار يسيرون ،فاحذر أن تكون
أنت ممن يمنع مساجد اهلل بسوء فعلك ،وقلة علمك ،وجفاف روحك ،وعليك
أن تًحسِّن أداءك ،وتطور ذاتك ،وتجعل مسجدك بيتًا هلل يطمئن فيه الخائف،
ويهتدي فيه الضال ،ويأنس فيه المستوحش ،كل ذلك يكون بجميل طرحك،
وحسن أخالقك ،وروعة تالوتك ،وصدق عبادتك.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 44 -
هلل ُه َو
ِن هُدَى ا ِ
( َولَن َترْضَى عَنكَ الْ َيهُو ُد وَالَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِ َع مِلَّ َتهُمْ ُقلْ إ َّ
هلل مِن وَلِيٍّ
نا ِك مِ َ
ن الْ ِعلْمِ مَا لَ َ
ك مِ َ
ت أَهْوَاءهُم بَعْ َد الَّذِي جَاء َ
ن اتَّبَعْ َ
الْهُدَى َولَئِ ِ
وَ َال نَصِيرٍ{.)11()}120
كل تلك التفاهمات واإلتفاقات التي تتم مع هذين الصنفين اليهود أوالً،
والنصارى ثانيًا بغرض التعايش معهم ،ونيل رضاهم لن تجدي نفعًا ،ولن
تحقق رضًى كون رضاهم لن يتحقق أبدًا إال باتباع ملتهم ،وملتهم فقط ،فهذه
هى الحقيقة التي كشفها القرآن عنهم منذ اللحظة األولى التي رفض فيها حُيي
بن أخطب دعوة اإلسالم هناك في األيام األولى للدعوة ،فمن يومها تأصلت
العداوة ،وتأسست المفاصلة .إنها حقيقة األمس وكذلك هى اليوم ،وستستمر
غدا ،فالقلوب التي لم ترض عن نبينا باألمس هى نفسها بخبثها ومكرها لم
ولن ترضى عنا اليوم ،فال فائدة إذًا من هذه التفاهمات ،وال قيمة البتة لتلك
االسترضاءات .إنها إذًا عداوة دين ال دنيا ،وخالف منهج ال مهج ،وصراع
قيم وأفكار ال صراع تجارة أو عقار .إنه الصراع القائم والكائن ،والمستمر
والدائم بصورته الحقيقية الظاهرة ،وبوسائله الخفية والمتنوعة ،والمالحظ هنا
تقديم اليهود على النصارى في العداوة كونهم هم من قاد العداوة باألمس ،وهم
من يقودونها اليوم ،والنصارى لهم تبع .كما أن تلك اآلية لم يتكرر فيها لفظ
الرضى كأن يقول ولن ترضى عنك اليهود ،ولن ترضى عنك النصارى ،بل
اكتفى بذكر الرضى مرة واحدة كون رضاهم وقصدهم واحدًا ،وما يراه اليهود
يتبعهم فيه النصارى ،وهو الظاهر اليوم والواضح دون شك .إذًا هى العداوة
المنظمة والموحدة الباحثة عن المكانة والمكان ،والمتربصة بالمسلم في
الزمان والحال في صورة تظهر خبثًا لكل مسلم على حدة كون اللفظ جاء هنا
بقوله "عنك" وليس عنكم كي يشعرنا بمدى خبثهم على الحبيب محمد وعلى
ال على حده ،وعدم رضاهم ولو عن وجود مسلم واحد في هذه
أتباعه ك ً
ال عن
األرض .نعم هم كذلك لن يرضوا بوجود مسلم واحد ،وواحد فقط ،فض ً
أمة كبيرة من الناس تكبر اهلل هنا ،وتوحده هناك في صورة تحمل كمال
الهداية ،وعظمة الهدى ،ورعاية الهادي ،لذا لم يرضوا ،ولن يرضوا حتى
آخر نفس مادام ذلك التكبير باقيًا ،لذا كان األذى منهم بعد عدم الرضى لكل
مسلم هنا أو هناك عامًّا وشامالً ،فمن لم يقتل يفتن ،ومن لم يُفتن أو يُقتل
يُحارب ويُتهم ،وذلك في صورة تحمل خبثًا ال يوصف ،وإجرامًا عظيمًا لم
يُعرف مثله حتى تتبع ملتهم ،وملتهم فقط .إذًا هى الحرب المشتعلة زمانًا
ال ما بقي الحق برجاله هنا ثابتون ،وإلى
ال ومآ ً
ومكانًا ،وغير المتوقفة حا ً
الكعبة المشرفة متجهون .وأمام هذه العداوات المنتظمة والمؤامرات العالمية
المتتابعة يبرز الهدى ،وتبقى الهداية ،ويعلو الحق ،وتتوارى األهواء
والغواية .نعم يبرز الهدى كخيار وحيد للنجاة من حبال الهوى كون هدى اهلل
هو الهدى ،وما سواه ضالل وعمى ،ولكنها األهواء الزائفة ،والملل األرضية
المنحرفة تتبدى هنا أيضًا كي تكون هى الدليل والبديل ،والمعبودة في الغداة
وفي األصيل في صورة فجة ،ووقاحة بالغة كون الفارس غائباً ،والميدان
متركًا وسائبًا.
وفي الحقيقة فإن من حق هذه األهواء كما تريد هى ال كما نريد نحن أن تعلن
عن نفسها ،وأن تفخر بليلها وظالمها كون أعين أمة الهداية أصابتها الغشاوة،
فلم تعد ترى ظالمًا ،فقد فقدت إحساسها يوم ضعفت صلتها بربها وخالقها.
إنها الغشاوة التي جعلتها تترك الفرس والميدان في صورة محزنة ،وبطريقة
مخزية ،ولكن رغم األلم من ذلك التخلي ،والبحث عن ذلك الترضي المخزي
يبقى هدى اهلل هو الهدى ،ونوره هو الحقيقة في البداية والمنتهى ،وإن توارى
حامله قليالً ،لكنه سرعان ما يعود ويقود ،ويرتفع ويسود ولو بعد حين ،وما
ينبغي اإلشارة إليه هنا أنه من العبث بعد هذا البيان أن يتحرك الهدى طالبًا
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 46 -
وصل الهوى في صورة مهينة تحمل هوان الزمان ،وعبث الشيطان في إنسان
يتغابى مرارًا ،ويتذلل بين يدي الهوى أطوارًا كون ذلك الطلب واالسترضاء
والتماهي واالسترخاء بصورته المشينة لن يجدي نفعًا لهذا المسترخي ،بل
يزداد هوانه ،ويظهر أمام العيان إذالله .كما ينبغي هنا أن نشير إلى أن اللقاء
بين األهواء الطالبة للبقاء ،والحريصة على االستعالء مع الهدى غير ممكن
البتة كون الهدى والهوى ال يلتقيان ،فالهدى نهار ،بينما الهوى ليل ،وال يمكن
أن يلتقي النهار بجماله وضيائه مع الليل بسواده وظالمه ،بل إنه إذا حضر
أحدهما رحل اآلخر ،فإما أن تكون أنت النهار بدينك ،وإما أن ترضى الهوى
فتصبح ليالً دامسًا بعمائك ،وال يوجد خيار ثالث هنا أبدًا ،وعليك أن تعلم هنا
وفي أوساط هذه المعركة المستمرة أنك أنت بدينك ونبيك وكتابك وقبلتك
األعلى واألقوى واألصدق واألهدى ،وأن والية اهلل ونصره تغنيانك عن كل
والية ونصير ،بينما الهوى واألهواء التي تريد قلبك وقالبك هى األشقى حاالً،
والمتوارية زمانًا ومكانًا ،وإن كانت لها الجولة اآلن ،ولكنها انتفاشة مؤقتة
ستزول سريعاً كونها زبدًا ليس إال ،والعجيب الغريب في آن واحد هو تهافت
الضعفاء إيمانًا ،والجهالء علمًا على استرضاء الهوى حرصًا على البقاء في
صورة نالوا بها الخزي هنا ،والمقت من اهلل في السماء هناك في صورة تحمل
ذل الطالب ،وعبث المطلوب كون الطالب والمطلوب هنا أهواءً ،وكل هوى
إلى زوال وإن تطاولت به الليالي واأليام ،وعليك أن تعلم هنا أن الهوى لن
يدعك ودينك ولو أعطيته سفهًا ثروتك وأرضك كونه يريد قلبك وعاءً
ألهوائه ،ومستقرًّا لملته ليعبث في األرض ويسود ،ويفسد فيها ويقود ،وبئس
العبد من سلم قلبه لسفهاء األرض وأعداء الهدى والعرض ،فابحث عن رضى
ربك فإنك إن أرضيته هو وحده رضي عنك ،وأرضى عنك الناس ،وإن
أسخطته سخط عليك ،وأوكل أمرك إلى الناس ،فتُهان بعد كرامة ،وتُذل بعد
عز ،وتشقى بعد سعادة..
- 47 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
وهنا وحتى ال نذهب بعيدًا علينا معرفة أن أشد أنواع البالء الذي واجهه خليل
اهلل في بداية حياته هو إلقاؤه في النار ،وفي نهاية عمره هو األمر له بذبح
ولده وفلذة كبده بيده بعد أن حرم لذة البنوة زمنًا طويالً ،وعمرًا كامالً ،وبين
هذين االمتحانين العظيمين صوالت وجوالت وأسفار وتنقالت بأمر رب
األرض والسماوات ما بين أرض العراق والشام ومصر ومكة في حياة مليئة
باألحداث والملمات ،والمشاكل واألزمات ،ولكنه الخليل الذي لم تهزمه تلك
األحداث رغم قساوتها ،ولم تسقطه رغم فحشها وكثرتها كونه كان األكثر
إيمانًا ،واألصدق توجهًا ،فقد كان أكبر من األحداث ،بل ارتقى بها ،وصعد
من خاللها ليكون بعد ذلك أبًا لألنبياء ،وإمامًا مطلقًا لألتقياء .فتعالوا لنقترب
ال حيث هناك النار المشتعلة التي أوقدت من قبل الباطل الذي لجأ إلى هذه
قلي ً
ال في التاريخ لحياتي الطويل في إشارة
اللغة البائسة القاتلة ،بل األسوأ قت ً
واضحة إلى عهر الباطل وخبثه وقساوته ومكره في تعامله مع الحق ودعاته،
ولو كان أولئك الدعاة أنبيا ًء كون هذا الباطل ال يفرق في طريقه بين نبي
وولي ،بل إن عهره وسفهه ال يفرق ،وال يرحم ،وال يعرف القيم ،وال يفهم
كونه سفهًا ،والسفه ال يعلم.
وحتى ال نذهب بعيدًاعن محتوى اآلية نعود إليها كى نستقي من معينها العذب
الزالل ما يُذهب الظمأ ،ويروى األكباد ،فقولهَ ( :وإِ ِذ ابْ َتلَى إِبْرَاهِي َم رَبُّهُ
س إِمَام ًا قَا َل وَمِن ُذرِيَّتِي قَالَ َال يَنَالُ
ك لِلنَّا ِ
علُ َ
ُن قَالَ إِنِي جَا ِ
ت َفأَتَمَّه َّ
بِ َكلِمَا ٍ
عهْدِي الظَّالِمِينَ{ .)13()}124تحمل في طياتها لطائف كثيرة ودالالت جميلة
َ
منها :أن الذي يبتلي الخليقة والخلق ليس الذوات نفسها ،بل اهلل خالقها هو
الذي يبتلي ويختبر ليمحص الذين آمنوا ويمحق الكافرين .كما أن القضية
المهمة هنا هى أن األنبياء هم أكثر الناس ابتال ًء لكونهم األكثر علمًا ،واألشد
خشية ،واألعظم خوفًا من اهلل سبحانه ،لذا كان البالء في حقهم عظيمًا ،إذ ال
مقارنة مع من هو دونهم فيما قابلوه البتة .كما أن قوله "بكلمات" تحوي دالئل
كثيرة ولطائف جميلة منها :أن ابتالء الخليل كان بكلمات محتواها إفعل وال
تفعل .إنها الكلمات التي استوعبها الخليل جيدًا ،ومن ثم تعامل معها بصدق
وإخالص ،فأتى بالمأمور ،واجتنب المحظور ،ولم يتعد الحدود حتى غدًا أمة
ال لربه نتيجة لهذه الطاعة .نعم إنها الكلمات التي ارتقى بها ،ومن
بذاته ،وخلي ً
ال هلل في السماء ،وإماما للناس في األرض،
خاللها نبي اهلل إبراهيم ليصبح خلي ً
ومما ال شك فيه فإن الجماعة المنقذة واألمة الهادية عندما تحيا مع كلمات
الوحي اإللهي بحيث تأتي باألوامر ،وتجتنب الناهي ،وال تتعدى الحدود عندئذٍ
سترتقي هنا تمامًا كما ارتقى الخليل هناك ،وستصبح أمة تقود وتسود كما
أراد لها ربها ورسولها أن تكون ،وهناك لفتة جميلة توحي بها هذه الكلمات
وهى أن األشخاص تؤهلهم وتربيهم وترفع شأنهم وقدرهم الكلمات بمضمونها
ومحتواها ،وليس الشعارات بأشكالها وذواتها شريطة أن تكون تلك الكلمات
منبعها السماء وليس األرض ،والنقل وليس العقل ،والهدى وليس الهوى كون
أوامر اهلل ونواهيه ليست بأكثر من كلمات افعل وال تفعل – كما هو معلوم -
،وهى لمسة لطيفة ينبغي تأملها بعمق .وقد اختلف العلماء كثيرًا في محتوى
هذه الكلمات التي ابتُلي بها الخليل بين قائل أنها سنن الفطرة ،وآخرون قالوا
هي أوامر اهلل ونواهيه ،والحق أنها تشمل كل ما أمر اهلل به خليله ونهاه عنه
دون تحديد كون مجيء لفظ "كلمات" منكرة ومنونة في آن واحد يوحي بكثرة
االبتالءات والكلمات وقوتها ،حيث شملت ابتالءات له على مستوى البيت
تمثلت بكفر أبيه ،وابتالءات على مستوى المحيط المجتمعي تمثلت بقوم كفرة
يعبدون األصنام ،كما أُمر بمقارعة نمرود زمانه الذي ادعى الربوبية بكل
حماقة وطيش ،وليس هذا فحسب ،بل أُمر بعد ذلك بمفارقة أبيه وقومه،
والتبرؤ منهم جميعًا بسبب كفرهم وعنادهم .إنها العقيدة بصفاتها ونقائها هى
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 50 -
وحدها التي تحدد نوعية العالئق األسرية والوالءات المجتمعية بعيدًا بعيدًا
ال عندما
عن عالقة الطين والنسب .ومما ال شك فيه فإن الحديث قد يكون سه ً
يكون تنظيرًا تحكمه الكلمات بعيدًا عن الحياة العملية ،ولكن الحقائق تظهر
ال كما حدث مع الخليل ولو ببعض
للعيان بعد ذلك عندما يكون االبتالء حاص ً
مالبساته .وفي الحقيقة فإن العبد عندما يعيش لربه ،ولربه فقط ،عندئذ سيجد
لذة وهو ينعم بقرب الرب وإن تنكرت له األرض ،كل األرض ،بناسها وأهلها
كونها ليست بأكثر من تراب في البدء وفي الختام .والعجيب أن كلمات اهلل
لخليله لم تتوقف هنا ،بل بعد أمره بمجابهة نمرود زمانه كانت النار ،والنار
فقط ،هى من تنتظره عقابًا له على صدقه وقوة حجته في واحدة من أسوأ
الخطط اإلجرامية المرتكبة في حق األنبياء على اإلطالق .إنها همجية الطغاة
التى ال تفرق أبدًا بين نبي وولي كون طغيانها أعمى بصرها وبصيرتها ،ومن
ثم أصبحت عدوانيتها متوحشة ،وبشكل سافر .وبعد هذه الجولة العظيمة شأناً
يأتي األمر اإللهي له بوجوب مفارقة أرض بابل بلد األهل واألقارب،
والتحرك الفوري ودون تأخر صوب بيت المقدس ،ثم مصر حتى استقر به
المقام في نهاية المطاف في وا ٍد غير ذي زرع في بالد الحجاز ،والعجيب أنه
ما إن وصل إلى هناك بعد طول سفر وكثير معاناة حتى جاءه األمر اإللهي
بضرورة ترك زوجته مع رضيعها إسماعيل هناك في وا ٍد ال جليس فيه وال
أنيس ،والعودة مرة أخرى إلى بالد الشام .إنها حياة األسفار ومفارقة الديار،
وقطع الفيافي والقفار عندما يتطلبها الحال والمقال نصر ًة للحق ،ودعوة
للصدق ،وانتصارًا للمبدأ بأمر اهلل ،عندئ ٍذ تهون المتاعب أيًا كانت وكيفما
تكون ،ومما ال شك فيه فإن الخليل تكررت رحالته وتنقالته بين بالد الحجاز
وبالد الشام حتى جاءه أمر اهلل في نهاية المطاف بوجوب التحرك صوب بالد
الحجاز ،وبناء بيت اهلل هناك بمعية ولده إسماعيل الذي كان حينها فتى يمأل
السمع والبصر للخليل وأمه على حد سواء ،والعجيب في حياة الخليل أنه ما
- 51 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
إن أكمل بناء البيت العتيق مع ولده الوحيد الذي رزق به بعد عمر طويل حتى
ال بوجوب ذبحه في واحدة من أعظم االبتالءات التي لم
جاءه األمر اإللهي لي ً
تتكرر في حق نبي آخر على اإلطالق ،وكون رؤيا األنبياء وحي – كما هو
معلوم – فقد تحرك الخليل مباشرة لتنفيذ األمر دون أن يسأل ربه لماذا وكيف
وما السبب ؟ إنه حب اهلل عندما يخالط شغاف القلوب عندئذ ال تبالي تلك
القلوب بشيئ من متاع الدنيا وزينتها أيًّا كان ذلك المتاع ،وأيًّا كانت تلك الزينة.
وحتى تكتمل روعة الطاعة وجمال الهداية التي عاشها الخليل ننتقل إلى
القرآن وهو ينقل لنا كعادته جمال المشهد ومشهد الجمال في اللوحة
اإلبراهيمية المليئة بدروس جعلت له األحقية المؤكدة في اإلمامة المطلقة
للناس حتى ينتهي عمر الدنيا ،وذلك من خالل قوله "فأتمهن" ،إنه التمام
الكامل والوفاء الشامل والتنفيذ المطلق لكل األوامر اإللهية التي طلبت منه،
ال في اللفظ "أتمهن" يوحي بالتنفيذ
ووجهت إليه كون مجيء الفاء متص ً
المباشر والكامل لكل األوامر التي أمر بها ودون تأخر أو إبطاء .إنه الفوز
الحقيقي والفالح الحقيقي يفرض نفسه ،ويتحدث عن ذاته ،وذلك عندما تتجه
تلك الذات صوب السماء تاركة الدنيا بناسها وأهلها طالبة ما عند اهلل ال ما
عند الخلق ،وباحثة – وبكل صدق وإخالص – عن رضا اهلل ،وعن رضا اهلل
فقط .نعم إنها شهادة السماء وحدها التي تضع النقاط على الحروف معلنة
لألرض ،كل األرض ،وبكل وضوح نتيجة ذلك الكم الهائل من البالء على
الخليل إبراهيم .إنها شهادة الرضا وشهادة الفوز وشهادة الفالح التي لم تأت
من فراغ كما يعتقد أولئك الذين يريدون تمكينًا وانتصارًا دون جهد أو معاناة.
نعم كانت المعاناة ،وكانت األسفار ،وكانت الحوارات في الليل والنهار هناك
في بابل ،وكانت النار بلهيبها وطيشها هى السالح األرعن من قبل متكبر
جبار ،وكان فراق األهل ،وكل تلك المفردات وغيرها كثير كانت كلها تتبدى
وتظهر بين يدي الخليل بين الحين والحين عله يستسلم ،ولكنه انتصر عليها
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 52 -
بعزيمته وإيمانه وتوكله ويقينه .إنها الحقيقة التي يجب أن تعيها الجماعة
المنقذة واألمة الهادية حتى تواصل سيرها متغلبة على عقبات الطريق،
وعدوانيته ،ولصوصيته حتى تصل إلى التمكين كما وصل الخليل ،وبعد كل
ال وجالالً
تلك المعاناة جاء القول من هناك من السماء كي يمأل الدنيا جما ً
وفرحًا واستبشارًا ،وذلك من خالل قول الرب للخليل "قال إني جاعلك للناس
إمامًا" ،إنه التكريم اإللهي الذي جاء عقب ذلك الكم الهائل من االبتالءات
والمتاعب في إشارة واضحة إلى أن بعد التعب راحة ،وبعد العسر يسرًا،
وبعد الشدة رخاءً ،وبعد اإلبعاد والطرد تمكينًا شريطة الصبر والمصابرة
واالستمرار والمثابرة ،ويكتمل الجمال بهذا التعيين اإللهي واالصطفاء
الرباني من خالل قوله "إماماً" ،فورود اللفظ منكرًا ومنونًا يوحي بأن الخليل
إمام يمتلك كل مؤهالت اإلمامة .إنها اللفتة الدقيقة التي يجب أن تعيها الجماعة
المنقذة واألمة الهادية وهى تختار إمامها وقائدها كي يكون معيار اإلمامة
والقياد=ة فيها ليس معيارًا خاويًا تتحكم به األمزجة واألهواء ،بل الدين
والرجولة والمواقف والشجاعة والتضحية واألمانة كلها مفردات يجب أن
تكون حاضرة في أئمة الهدى وقادة الهداية الذين تسلم لهم زمام األمور ومقاليد
الدور وإال كان السقوط في البداية واالنتكاسة البئيسة في النهاية .ويتواصل
ال لربه "قال ومن ذريتي"،
الجمال من خالل الطلب الذي تقدم به الخليل قائ ً
إنه الحرص المشروع على أن تكون هذه اإلمامة وهذا االصطفاء في ذريته
ونسله من خالل هذا الطلب الواضح لنبي عاش مع اهلل وهلل وباهلل في كل
أطوار حياته ،وهنا كان الرد واضحًا أيما وضوح على الخليل من خالل قوله
تعالى" :قال ال ينال عهدي الظالمين" ،إنها الصراحة التي ال تقبل المجاملة
تُعلن من هناك من السماء حتى تعي األرض ،كل األرض ،أن األنفس المتفلتة،
واألهواء الشاردة ،والذوات المتعدية الظالمة ال مكان لها وال عهد في ميزان
السماء ولو كانت من أصالب األنبياء ،كما أنه إيحاء بأنه في الوقت الذي
- 53 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
سيكون فيه من ذريته صالحون ،كذلك سيكون هناك ظالمون ،ومن ثم فهؤالء
الظالمون القادمون من نسله حتمًا لن ينالوا عهد اهلل باإلمامة أبدًا .إنه الرفض
القاطع والصريح الموحي بعدم قبول الظلمة أئمة يحكمون ويتحكمون كون
ظلمهم أفقدهم األهلية في القيادة والسيادة كما هو واضح ومعلوم من خالل
محتوى اآلية.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 54 -
ك أَنتَ
ت َوإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَق ََّبلْ مِنَّا إِنَّ َ
ن الْبَيْ ِ
( َوإِذْ َيرْفَ ُع إِبْرَاهِي ُم الْ َقوَاعِ َد مِ َ
السَّمِيعُ الْ َعلِيمُ{.)14()}127
إنها أسعد لحظات العمر تلك التي تتحرك فيها بقدميك أو ترفع فيها يديك كي
تصنع معروفًا ،أو تبني هلل بيتًا .نعم إنه العمر الجديد لك والذكرى المباركة
والخالدة المستمدة من هناك من قيم السماء في صورتها الرائعة وأنوارها
الساطعة تظل بركتها هنا وأجرها العظيم عند اهلل هناك ،ومما يزيد تلك
الصورة بهاءً ،وذلك المشهد جماالً تلك اللوحة الفنية الجميلة التي تجمع األب
مع االبن في تناسق عجيب وتكامل مهيب في البر واإلحسان ،والعمل
واإلتقان ،هذا الجمال وتلك الروعة ظهرا هنا في عمل الخليل إبراهيم عليه
السالم مع ولده إسماعيل وهما يرفعان قواعد البيت كي ترتفع حينها ،وتظل
مرتفعة وعالية ،وشامخة ثابتة باقية ما بقيت الحياة ،ليس هذا فحسب ،بل
ويرتفع معها ،ويعلو بعلوها كل متجه إليها إلى آخر أيام الدنيا ،ولكونها
بصمات استثنائية غاية في الجالل والجمال فقد تأثر الحجر الذي وقف عليه
نبي اهلل ،ونُقش على ظهره األثر .نعم إنه األثر لتلك القدم اإلبراهيمية التي
جابت العراق والشام ومصر وأخيرًا مكة هنا في وا ٍد غير ذي زرع ،كل ذلك
من أجل اهلل وطلب رضاه ،إذًا فال غرابة أن نجد الحجر وهو الجندي الصامت
يشارك في الحدث معلنًا نحت القدم كتعبير جميل لروعة االفتتاح لمشروع
إلهي هو مهوى األفئدة ،وموطن العبادة ،ومكان التوجه والقيادة .إنه المعروف
الذي يتحدث عن نفسه ،ويعبر عن ذاته بلغته الخاصة دون طلب أو إشارة من
صاحبه .نعم إنه البناء لقواعد البيت الحرام ،والتي ستكون قبلة جامعة لألمة
المسلمة القادمة في صورة تعبدية تحمل صدق العابد وواحدية المعبود،
والمالحظ هنا التعبير بالمضارع في قوله "يرفع" رغم أن البناء قد رفع وتم،
ولكن الهدف بهذا التعبير أن يظل القارئ يستشعر الباني بجهده ،والبناء
بروعته ،وكأنه يرى المشهد أمامه اآلن وإبراهيم قائمًا يرفعه بمعونة إسماعيل
لتظل هذه المناسبة قائمة بجمالها وبركتها ،وذلك كعادة القرآن في جمال
التصوير والبيان ،كما أنها إشارة دقيقة أيضًا توحي ببقاء ذلك البناء مرفوعاً
وعاليًا بصورته الحسية كونه ما زال يرفع ،وسيظل يرفع بصورته تلك حسًّا
ومعنى رغم الدعوات الفاشلة والمستمرة لهدم قواعده ولو هدمًا معنويًّا إن
عجزت حسيًّا ،ولكن أنى لهم ذلك ،والفعل مضارع والدعاء باقٍ ،والذي يعنينا
هنا في مسألة البناء أيضًا هو أن الخليل رفع أعمدة البيت الحرام كون أساس
البيت كان موجودًا من قبله سوا ًء بفعل آدم عليه السالم على حد قول بعض
العلماء ،أو بفعل مالئكة اهلل بأمر اهلل ،والجميل هنا أن علم الجيولوجيا يقول
إن األرض في زمن من األزمنة غُمرت بالماء ،فلم يعد فيها يابسة البتة ،ثم
بعد زمن طويل حدثت انفجارات هائلة في قاع المحيط أدت إلى ترسبات
ضخمة مكونة السالسل الجبلية البركانية القائمة بأمر اهلل ،وعندما أذن اهلل
بانحسار الماء بعد زمن كان أول مكان في الظهور على وجه األرض هو
مكان الكعبة ،حيث ظهر المكان حينها على شكل أكمة صغيرة كأول مكان
ظهر على وجه األرض ،حيث يؤيد هذا الكالم في هذا الظهور حديث ورد
في هذا الخصوص ،ثم أمرت المالئكة بتأسيس القواعد ،وتحديد المواقع كما
أسلفنا ،وبعيدًا عن هذا الموضوع وخروجًا من خالفات جمة بهذا الخصوص
نعود هنا إلى رفع القواعد ألساسات كانت موجودة من قبل الخليل ،حيث أمره
اهلل برفعها بعد إخباره لولده بأمر ربه ،وطلب إعانته في هذا األمر ،فبادر
الولد سامعًا ومطيعًا ألمر الوالد ،وهو شأن كل ولد بار بوالده ،والعجيب
ن واح ٍد هنا هو الدعاء المتصل بالبناء في إشارة واضحة إلى
والجميل في آ ٍ
وجوب الجمع بين األمرين ،بين عمل المعروف ودعاء اهلل بقبوله ،فالبد من
العمل والحركة ،وصنع المعروف ،ثم دعاء اهلل أن يقبل عملك ،ويرفع في
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 56 -
العاملين أجرك وذكرك إذ ال قبول لداع يدعو دون أن يعمل ويتحرك ،كما أنه
ال اعتماد على العمل – وإن كان مسجدًا – دون اهلل ،فالعمل بذاته ال يقبل ما
لم يصحبه اإلخالص هلل في الباطن ،ودعاء اهلل بالقبول كونه سبحانه هو
المتفضل والمنعم في الظاهر والباطن كما ورد هنا في هذه اللوحة الخالدة.
فبادر وارفع قواعد دينك بعملك وهمتك ،وتقدم لصنع المعروف بيدك السخية
تارة ،ومتحركًا بقدميك نحو اليتامى والمساكين وأعمال البر تارة أخرى ،ثم
دع هذه البصمات وال تتحدث بها مفتخرًا ،بل دعها فهي التي ستحدث عنك
هنا في الدنيا ،كما ستنتظر قدومك هناك في اآلخرة ،وكن حذرًا من االعتماد
على العمل دون اهلل ولو كان مسجدًا ،بل اعمل ثم اسأل اهلل لك قبول عملك
كونه صاحب الفضل واإلحسان عليك من قبل ومن بعد ،واجعل أهلك وأقرب
الناس لك شركاءك في صنع المعروف كي يكونوا أهلك هنا وأهلك في اآلخرة
عند اهلل هناك.
- 57 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ُن
ال تَمُوت َّ
ن فَ َ
اهلل اصْطَفَى لَكُ ُم الدِي َ
ِن َِّي إ َّ
ب يَا بَن َّ
( َووَصَّى بِهَا إِبْرَاهِي ُم بَنِي ِه وَيَعْقُو ُ
إَالَّ َوأَنتُم مُّسْلِمُونَ{.)15()}132
عندما يكون إسالمك هو أحب شئ في حياتك ،وأغلى ما ملكته في عمرك،
فذقت حالوته في حلك وترحالك ،وشدتك ورخائك عندئذ وبدون شك سيكون
هو وصيتك ألحب الناس إلى قلبك وهم أهلك وأوالدك ،وذلك في آخر أيام
حياتك وأنت تودع الدنيا وتستقبل اآلخرة كون اإلنسان في لحظاته األخيرة
من عمره يوصي أحب الناس إلى قلبه بأحب األشياء في نفسه ،وهذا هو الذي
نلمسه هنا في وصية الخليل إبراهيم عليه السالم لبنيه وهو يودع الدنيا
ويستقبل اآلخرة .نعم فلقد اجتمعت تلك المفردات العظيمة اآلنفة الذكر في نبي
اهلل إبراهيم حيث كان اإلسالم أغلى شئ في حياته ،بل هو من فضَّل أن يُلقى
ال بين البلدان
في النار على أن يتركه أو يتراجع عنه ،وعاش حياة األسفار متنق ً
واألقطار ،وقاطعًا الصحاري والبراري والقفار ،وذلك من أجل نشره
وتعليمه .إنها الحالوة التي ذاقها في كل تلك اللحظات ،وعاشها في كل تلك
األزمات والحاالت ،حيث أنسته كل ألم ،وأزالت عنه كل حزن ،فأصبحت
تنقالته في البلدان سياحة ،وجهاده وتضحياته هنا وهناك من أجل اهلل راحة،
ال أو عبدًا
وهذا شأن كل من يذوق حالوة القرب من اهلل سواء كان نبيًّا مرس ً
هلل صالحًا .إنها جنة الدنيا عاشها األنبياء ،وشاركهم في تلك الجنة األولياء
واألتقياء ،فكانت هى الحياة بحق ،والجنة األولى بصدق ،وال شك في أنك
عندما تكون مع اهلل عندئذٍ سيكون اهلل معك ،فإذا كان اهلل معك يسر لك كل
عُسْرٍ ،وفرج عنك كل هم ،وكشف عنك كل كرب ،ليس هذا فحسب ،بل تأتيك
العزة كونك تعيش مع العزيز ،وتحيط بك القوة والمنعة كونك تستمدها من
القوي ،وذلك في صورة تحمل سعادة الدنيا هنا ،ورضى اهلل في اآلخرة هناك،
كل تلك المفردات الجميلة وغيرها كثير هى التي حملت الخليل هنا أن يوصي
أوالده وبنيه بالتمسك بالملة النقية ،والحنيفية السمحة كي يذوقوا تلك الحالوة،
ويعيشوا تلك السعادة ،وينالوا شرف الدنيا وعز اآلخرة كون المسلم ال شرف
له وال عز وال كرامة له وال فوز إال بدينه ،وبدينه فقط ،وهو الذي أراده
الخليل هنا ،ومما ال شك فيه فإن تخليد هذه الوصية وذكرها هنا ليس لمجرد
التالوة فحسب ،بل لإليحاء بعظمة الوصايا التي تخلد الموصي في الدنيا هنا،
وترفعه عند اهلل في اآلخرة هناك ،وذلك عندما تكون وصية دين ال دنيا ،كما
أن الوصية هى تعبير نهائي ،وملخص ختامي يعبر عن حقيقة الموصي هل
هو ابن دين أم ابن دنيا ،فإن كان ابنًا لألول فال شك في أنه من ذرية إبراهيم،
وإن كان ابنًا للثانية كان من الظالمين الذين حرمهم اهلل عهده بظلمهم ألنفسهم،
وغفلتهم عن ربهم من خالل قول اهلل لخليله "ال ينال عهدي الظالمين" ،ومن
هنا ،ومن خالل هذه الخاتمة لكل موصي تتضح وتتمايز ذرية إبراهيم من
ذرية الظالمين الغافلين بكل وضوح حيث توضح النهايات هنا وبجالء حقيقة
االنتماءات ،وصدق التوجهات أمن ذرية إبراهيم أنت أم من أهل الضالالت
؟ إنها اعترافات مصغرة تنساب من األنفس البشرية المغادرة معبرة عن
حقيقة االنتماء الذي يتجلى هنا بوصايا ختامية تلخص نوعية الحياة ،ومعادن
األحياء ،وهذا هو المعنى النفيس والدقيق جدًّا في هذا الموضع ،وأنت بال شك
من يختار لنفسه نوع البنوة هنا كي تلحق بحقيقة األبوة هناك ،ومما يالحظ
ال أو عبدًا صالحًا
هنا من هذه الوصية أن عظمة المؤمن سواء كان نبيًّا مرس ً
ال ينتهي دينه بموته ،وال يرحل صالحه برحيله ،بل يوصي ببقاء ذلك الدين
والصالح بعد موته كونه هو الحياة لألحياء ،والسعادة لألبناء ،وهو الذي ظهر
هنا بتوارث هذه الوصية الخالدة والنفيسة المعبرة عن الذرية الصالحة بتكرار
الوصية من يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم في تسلسل جميل لذرية طيبة نالت
ال على جمال ،وتأتي
جمال الباطن مع جمال الظاهر كون اإلسالم جما ً
- 59 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
المحصلة النهائية للحياة الحقيقية لمن يموت على اإلسالم هنا بقول اهلل على
لسان يعقوب اآلخذ لهذا الدين من أبيه إسحاق وجده إبراهيم بقوله "إن اهلل
اصطفى لكم الدين فال تموتن إال وأنتم مسلمون" ،وهذا ال يعني أبدًا أن
المسلم هنا يعرف زمان موته ،ووقت احتضاره ورحيله ،فليس هذا المراد
البتة ،بل المراد هنا كن مسلمًا صادقًا ثابتًا كصدق وثبات أبيك إبراهيم الذي
وصى حتى إذا جاءك الموت كما جاء ألبيك عندئذٍ تثبت كثباته ،وتوصي
أبناءك كوصيته ،فعش حياتك بدينك ،وتلذذ بصبرك واستقامتك ،وكن على
صلة دائمة بخالقك ،ولتكن وصيتك نفيسة وعظيمة كوصية أبيك إبراهيم الذي
ي كي تنال إمامته ،وتنتمى لذريته..
وَفَّ َ
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 60 -
ن مِن بَعْدِي
ت إِذْ قَالَ لِبَنِي ِه مَا تَعْبُدُو َ
ب الْ َموْ ُ
ض َر يَعْقُو َ
شهَدَاء إِذْ حَ َ
(أَمْ كُنتُمْ ُ
ق ِإلَـه ًا وَاحِدًا وَ َنحْنُ
ك إِبْرَاهِي َم َوإِسْمَاعِي َل َوإِسْحَا َ
ك َوإِلَـ َه آبَائِ َ
قَالُواْ نَعْبُ ُد ِإلَـهَ َ
لَ ُه مُسْلِمُونَ{.)16()}133
قد ال يتسنى للكثيرين هذا اللقاء ،والثبات مع األبناء فور حضور الموت كون
البضاعة مزجاة ،والقلوب في ملهاة ما لم تتدارك العبد رحمات السماء .نعم
إنها اللحظات الحاسمة والحاسمة جدًّا حيث تتكشف فيها حقيقة الحياة،
واهتمامات األحياء في صورة غاية في الوضوح كون الموت هنا هو
الحاضر ،بينما الحياة أخذت في االنسحاب والغياب .نعم إنه االنسحاب
الزماني لها كون عمرها انتهى في حياة هذا العبد لتبدأ حياة جديدة عنوانها
ال وزماناً ،إال أن مقدمات
اآلخرة هي األطول مكثًا ،واألعلى قدرًا ،واألهم حا ً
الحياة الجديدة والقادمة من هناك من عالم اآلخرة تبدأ في حقيقتها من هنا كون
التوفيق الختامي هذا يعقبه بداية مضيئة تستمر في إضاءتها في الحياة
البرزخية دهرًا حتى تكتمل تلك اإلضاءة بالنور التام يوم القيامة زمانًا ومكانًا
وحاالً ،وحتى ال نذهب بعيدًا تعالوا نعيش أجواء اآلية وفي ظاللها كون الموت
هنا هو الحاضر في مشهد مهيب ،وفي لحظات زمنية فارقة .إنها الصورة
الحقيقية للذرية اإلبراهيمية الصالحة تظهر هنا في اجتماع استثنائي ونهائي
في آن واحد كون أنه ليس بعد الموت لقاء ،بل ساعات الفراق ،والفراق
النهائي ،دون رجعة أو عودة.
ومما ينبغي ذكره هنا أيضًا هو أن هذا اللقاء وما حواه هو تطبيق عملي
للوصية األولى للخليل إبراهيم عليه السالم التي أخذت بالظهور هنا كي تعبر
عن حقيقة الحب في امتثال أمر المحبوب قوالً وفعالً ،فليس من الحب في شئ
أن تدعي حبًّا ألب أو أخ صالحين ،ثم ال تكون أنت صالحًا ،بل مفارقًا
الفتنة .فالمحنة التي عاشها نبي اهلل يعقوب أرهقت جسمه ،وسلبته عافيته،
وهو شأن المصائب على الدوام ،ولكنها لم تأخذ دينه ،ولم توهن إيمانه سواءً
عند البالء أو عندما جاءه الفضل والرخاء ،فقد وجدناه الشاكر الساجد الحامد
السحَر أبدًا كي يستغفر فيه ربه ،ويتخلص فيه من
لربه والعابد الذي لم يترك َّ
عذابات البشر .فتعالوا كي نختصر المشهد ،ونرى كيف تجلت هنا روعة
النهايات رغم متاعب وأحزان البدايات ،فقد تجلت تلك الروعة في حرص
األب يعقوب على دين األبناء حتى النهاية ،وذلك في إشارة واضحة لكل أب
يريد سعادة حقيقية لذرية حقيقية ال وهمية كون الذرية الحقيقية هى تلك التي
يحكمها الدين ،بينما ذرية الدنيا إنما هى ذرية وهمية ،ووهمية فقط ،كونها
تنتهي بها الدنيا هنا بخالفات ونزاعات ال تدع للمعروف مكانًا ،وال تلحق
صاحبها هناك في اآلخرة حاالً ،وحتى ال تكون الذرية هنا وهمًا ال حقيقة كان
السؤال عن المعبود قبل الفراق في صورة تعكس خوف األب على دين ذريته
كي يكونوا حقيقة ال وهمًا .وما ينبغي اإلشارة إليه هنا أن القرآن وهو يخلد
هذه الوصايا في تلك اللحظات الزمنية الفارقة لألبناء عند حلول األجل بالذات
كون الوصية حينها لها وقعها على النفوس ،فالفراق هنا نهائي ،والرحيل
أبدي ،لذا تبقى تلك الوصية خالدة في قلوب األبناء األوفياء تحركهم على
الدوام ،وتخاطب قلوبهم كلما توالت األيام ،وما ينبغي تداركه هنا هو أن اهتمام
األب بدين أبنائه ال يعني أبدًا عدواة الدنيا وتركها ،ليس هذا هو القصد وال
المراد ،بل القصد هو أن صالح دين الذرية يعني – وبدون شك – صالح
دنياهم ،فإذا فسد الدين فسدت الدنيا بال شك ،ويظهر هنا جمال المشهد ،وتكتمل
صورته ،وذلك برد األبناء على تساؤل أبيهم بقول اهلل على لسانهم "قالو نعبد
إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق" ،إنه الفخر بالدين ،والدين فقط،
وليس هذا فحسب ،بل وتجديد للبيعة واالنتماء ،وذلك بقولهم "إلهًا واحدًا ونحن
له مسلمون" بصورة ضمنية واضحة تشرح صدر األب ،وتُرضي الخالق
- 63 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
الرب ،فتعهَّد دين أبنائك بالرعاية في البداية وفي النهاية ،واحذر أن تكون
ذريتك وأبناؤك وهمًا ال حقيقة كون الوهم يبقى هنا فقط بقا ًء مُزريا ،وال يلحقك
في آخرتك ،بينما الذرية الحقيقية تفارقهم هنا ،ثم يكون اللحاق بك إلى جنة
اهلل هناك ،واعلم أن الدين هو الحارس لك ،والضامن لذريتك ،واحذر من دنيا
تجمعها لذريتك من غير دين ،فإنك إن فعلت تكون بذلك قد أسأت ،وإلى الدنيا
ركنت ،وهو عين الشقاء ورأس البالء.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 64 -
المحتوى هنا ،ويكاد هذا الجمال يضئ ،حيث توحي اآلية بوجوب المحافظة
الجماعية على هذه الشعيرة العظيمة ،فال مجال هنا لالنعزال الممقوت هناك
في الزوايا المظلمة بحجة االنقطاع عن الناس للعبادة .إنها اآلية التي أوقفت
في الماضي والحاضر وكذلك في المستقبل عبث الفردية التعبدية المشحونة
بالفكر االنعزالي الهروبي الذي يحول العابد إلى شيطان يخنس عن الواقع
المجتمعي في صورة مقززة ومزرية ،فاآلية هنا جعلت المحافظة على هذه
الشعيرة مسئولية جماعية كي يحصل األنس العام ،وتنطلق الهمم والعزائم في
عمل جماعي غاية في الروعة والجمال .إنه التقديس الواضح هنا للعمل
الجماعي كونه األجمل شكالً ،واألكثر بركة ،واألقوى ثباتًا ،واألصح عبادة
وشرعًا ،ويزداد الجمال هنا عندما يأتي اللفظ بعد ذلك بقوله "على الصلوات"
حيث توحي األلف والالم هنا بحصر وقصر المحافظة على الصالة بشروطها
وأركانها وسننها وأوقاتها وإال كان العبث والضياع هو المآل والمصير
للصالة وللمصلي على حد سواء ،وال شك في أن الصالة إذا أصبحت أمرًا
ثانويًّا في حياة الفرد أو المجتمع دل ذلك على انقالب في الخلقة ،وانتكاس في
الفطرة ،وضياع للمجتمع واألمة وهو األمر الذي ال يحبه اهلل وال يرضاه
لعباده وخلقه .لذا ليست هذه الحالة التي يحياها فرد هنا أو هناك بعيدًا عن
الصالة والمصلين طبيعيَّة ،بل هى حالة َمرَضيَّة نفسية تُسقط صاحبها عاجالً
أو آجال في وحل الشهوات ومستنقع النزوات لينتهي به األمر بعد ذلك في
الخسارة الجمعية لدينه ودنياه ،ويتواصل الجمال هنا بالتخصيص بعد التعميم
وذلك بطريقة هى إلى اإلبهام أقرب كون كلمة "الوسطى" هنا جعلت علماءنا
ال حول المقصود يصولون ويجولون ،ويضعون أكثر من عشرين قو ً
بالوسطى في حركة علمية رائعة ،وإن كان أغلبهم قد حط رحاله عند المغرب
والفجر ،إال أن اإلبهام يبقى سيد الموقف كإبهام ليلة القدر ،وساعة الجمعة،
وذلك لكى يجتهد هذا المؤمن في المحافظة على هذه الشعيرة كلها سواء ما
عمم منها أو ما جاء مخصصًا في صورة تحمل مسابقة العبد هنا لنيل رضى
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 66 -
المعبود هناك .ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن معنى أصيالً موجودًا هنا وهو
أن الوسط في العدد ال يكون إال في العدد الفردي ،بينما العدد الزوجي ال وسط
له البتة ،وفي هذا إثبات آخر على أن الصلوات خمس ،وخمس فقط ،كونها
فردية ،لذا كان لها صالة وسطى ،كما أنه وقبل االنتقال إلى تعلق هذه اآلية
بما قبلها وبما بعدها ال ننسى الجمال اآلخر الموجود في التعبير هنا حيث لم
ال حافظوا على الصلوات ،وحافظوا على يتكرر الفعل حافظوا كأن يقول مث ً
الصالة الوسطى ،بل اكتفى بفعل واحد وذلك كون المحافظة على الصلوات
واحدًا ،فال قبول لتجزئة تلك المحافظة بحيث تبلغ نسبة المحافظة على فرض
أعلى النسب ،بينما يصل اإلهمال في فرض آخر إلى أدنى النسب .إنه
االحتياط الشرعي المقدس مكانًا وزمانًا يظهر هنا ليحفظ العبادة من الضياع
واإلهمال ،ويصون العابد من السقوط واالنحالل ،وال شك في أن هذا العابد
إذا قدس فرضًا وترك فرضًا آخر عندئ ٍذ يكون ذلك التقديس ممقوتًا ومعبرًا
عن وضع غير طبيعي البتة يحياه هذا العابد .إنه الوضع االستثنائي الموبوء
والمقطوع والمشغول حتى النخاع في الممنوع .ومن اللطائف التي ينبغي
اإلشارة إليها هنا ونحن نعيش في ظالل هذه اآلية ،والتي قد تغيب عن األذهان
هو أن األمر بالمحافظة على الصالة جاء عقب الحديث عن الطالق مباشرة،
وهذا من دقائق التشريع ورحمة المشرع جل في عاله .إنها اإلشارة الواضحة
الموحية بارتباط االختالل األسري الحاصل ،والتفكك المجتمعي النازل
هناك ،والمتكرر هنا ،والمتمثل بالطالق باختالل الجانب التعبدي للفرد
والمجتمع على حد سواء ،فعندما تضيع الصالة وتصبح أمرًا ثانويًّا في حياة
المسلم ،بل ومتروكة في بعض األحيان ،عندئ ٍذ يكون الضياع األسري
والتفكك المجتمعي هو القادم والحاضر بال شك ،إنه الطالق المتوحش هنا
والمنتشر هناك ،فيوم أن ساءت عالقة المخلوق بالخالق انعكست تلك اإلساءة
على عالقة المخلوق بالمخلوق كون الوفاق ال يتم ،واألنس ال يكتمل أبدًا إلى
بدين عموده الصالة .كما أنها إشارة أخرى – وهى دقيقة أيضًا – توحي بأن
- 67 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
هنا هم اليهود ،ومع ذلك لم يسمهم القرآن ،بل قال السفهاء وذلك كون السفه
هو حالهم على الدوام ،وقائدهم واإلمام ،وثانيًا :جاء بلفظ السفه أيضًا كي
يشمل غير اليهود ،فكل معارض أو متحرك من دون نقل يقوده ،وعقل
يحكمه ،وواقع يؤيده ،ويسوقه كل من يتفلت من تلك المفردات الثالث اآلنفة
الذكر إنما هو سفيه يقوده السفه كما قاد غيره باألمس وإن كان مسلمًا بالهوية
واالنتماء ،وثالثا :علينا أن نعي ونفهم أن االعتراض على أحكام الشرع،
وتطويع النصوص وتأويلها لتخدم الظالمين ،وتبرر اإلجرام للحاكمين إنما
هو من أعمال السفهاء ،والسفهاء فقط ،ورابعًا :علينا أن ندرك أن اليهود
أعلنوا عداواتهم الواضحة لقبلتنا من أول يوم عاشه المسلمون هناك في
ال من بيت المقدس،
المدينة ،وتوجهوا فيه إلى الكعبة في أول صالة وذلك بد ً
عندئ ٍذ بدأ العداء ،وتأسس الخالف ،وأخذ مكانه محاربًا تارة ،ومخادعًا أخرى
حتى تعود القبلة إلى هناك .ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن التعبير بصيغة
المضارع بقوله "سيقول" دل على أن القرآن تحدث عن سفههم الذي سيقولونه
قبل أن يقولوه ،والعجيب هنا أن هؤالء السفهاء بلغ بهم السفه حدًّا ال يمكن
وصفه بحال ،حيث كان بإمكانهم أال يقولوا ،وتكون لهم الحجة الوجيهة في
المعارضة واالحتجاج خصوصًا أن اآلية انتشرت حينها في أوساطهم معلنة
سفههم المنتظر ،واعتراضهم المدبر ،ولكن كون السفه أعمى ،والسفهاء هم
أبناء لذلك العمى فقد قالوا سفههم ونفذوا اعتراضهم ليكونوا على الدوام هم
األكذب قوالً ،واألسقم رأيًا ،واألفسد حاالً ،واألسوأ مكانًا وزمانًا .كما أنه ال
مانع في اآلية أبدّا أن يكون التعبير بصيغة المضارع للداللة على أن السفه
والسفهاء سيستمرون بذلك السفه اليوم وغدًا كما كان حالهم باألمس ،بل
ال ومكانًا وزمانًا
وسيكون لهؤالء السفهاء اليوم اعتراضاتهم المفضوحة حا ً
كحال إخوان السفه باألمس سواء بسواء ،وسيجد السفهاء لهم أنصارًا وأعوانًا
كون السفه هو من ألقى بظالله وظله على واقع الحياة ودنيا األحياء .إنه الواقع
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 70 -
المبعثر هنا ،والمتلون بأفكاره وأناسه ،والمتعدد بأشكاله وألوانه يعلن عن
نفسه ،ويعبر عن ذاته وسفهه بكل وقاحة ودونما أي حياء أو اعتبار لقيمة أو
دين .وكون السفهاء هم من الناس ،فهذا المسمى يوحي مرة أخرى بقدرة
السفهاء على التغلغل في أوساط الناس متلبسين بثيابهم وألسنتهم ودينهم
ولغتهم ،وذلك لكي يمرروا سفههم ،ويواصلوا خداعهم كونهم منهم وفيهم،
وهنا تكمن الخطورة ،ويشتد الخطر ،لذا كان لهذا السفه المفضوح – كما
حمَلَته الذين هم من الناس
أسلفنا – أنصارًا وأعوانًا رغم تكشفه وتبذله بسبب َ
لغة وشكالً وزمانًا وحاالً ،ومع ذلك يبقى أن نقول إن أنصار هذا السفه،
وأولئك السفهاء ،هم في الحقيقة صنيعة الضالل القديم الذي أحدثه ذاك السفه
بعمائه ،وحرسه بثروته وأمواله كي يكون كأله ومرعاه ومركبه ومرساه.
ومما ينبغي التركيز عليه هنا أيضًا أن السفه والسفهاء يجعلون من النصوص
الشرعية مطية لهم لتمرير سفههم ،وذلك بتأويل منقوص لألحكام ،واعتراض
مغلف للقواعد العِظام في صورة تكشف خطورة هذا السفه على الدين والدنيا
معًا ،وذلك من خالل مقارنة سفهاء األمس وهم يظهرون حرصهم الزائف
على الدين من خالل االعتراض على تغيير القبلة .إنه الخداع المفضوح الذي
ظهر هناك ،ويتكرر اليوم هنا ،ويتكشف بروائحه المنتنة ،وأفكاره المضللة،
وأطروحاته السقيمة كونه أبكم ال ينطق ،وأصم ال يسمع ،وأعمى ال يبصر
إال ما أُشرب من هواه ،ولسنا في هذه اآلونة بمنأى عن هذا السفه الذي يصول
ويجول ،وأيضًا – ودون حياء – يقول ،فلسنا في منأى أبدًا ،بل نعايش مكرَه،
ونقرأ كذبه وزوره ،ولكننا على يقين من أنه سفه سيزول عندما تنتهي
العواطف الزائفة في أوساطنا ،وتتحرك الطاقات الكامنة في أمتنا .ويستمر
السفهاء في خداعهم وإغرائهم وذلك من أجل تمرير سفههم من خالل خطابهم
المغشوش تارة ،والمغري تارة أخرى ،حيث ظهرت تلك المخادعة هنا في
هذه اآلية وذلك بقول اهلل على ألسنتهم "ما والهم عن قبلتهم" ،فلم يقولوا ما
- 71 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
والهم عن القبلة ،بل نسبوا القبلة للنبي وأصحابه بهدف اإلغراء ،كأن تقول
لفالن من الناس ِل َم تركت دارك؟ وذلك لتحريك الحمية في قلبه عندما تشعره
بتملكه للشئ الذي تركه .نعم إنه خطاب العواطف ظهر هناك فسقط فور
ظهوره كون رجال محمد الكريم حينها لم تعد العواطف هى من تسيرهم،
وتملك عقولهم ،بل الشرع ،والشرع وحده ،هو الحاكم ،واآلمر الناهي .إنها
الرجولة التي تبلغ كمالها عندما تتحرر من خطاب العواطف الزائفة ،وتجعل
رضى اهلل هو الغاية والمراد ،عندها تسقط أمام هذه الرجولة لغة العاطفة،
وتعلو لغة الحق والصدق والدين في صورة تحمل القوة في أعلى صورها،
والرجولة في أسمى معانيها .واليوم تتحرك لغة العواطف الزائفة هنا كما
تحركت باألمس هناك ،وذلك بهدف الخداع ،والخداع فقط ،دون مراعاة
لحرمة أو دين .نعم إنه الضالل يحرك ذاته ،ويجند سفهه ليبقى حاكمًا وله
ن واحد .لذا
الكلمة والقول في صورة تحمل سفاهة القول وسفاهة الفعل في آ ٍ
حتمًا سيسقط السفه كونه زبدًا ،والزبد سيذهب جفا ًء وإن تأخر ذاك الذهاب
ال بسبب دور السفهاء الموغل في األجساد ،والمسيطر على األنفاس بالقوة
قلي ً
والسطوة ،ولكنه حتمًا سيسقط ويزول كونه يحمل عوامل سقوطه بيده ،وأمام
هذا السفه ،وحيل السفهاء تبقى الهداية هى هداية السماء في وسط هذا الزحام
المغري تارة ،والمهدد الباغي تارة أخرى ،يقذفها اهلل في قلوب من يحب من
خلقه ،ويسقط في السفه والسفهاء من علم اهلل فيه السفه ،وسبق في علمه أنه
من السفهاء .فاجعل الشرع في كل حياتك هو القائد والحاكم في أخذك وعطائك
وتعبدك وعبادتك ،وكن حذرًا من خطاب العواطف المغلوط الذي يقوده
السفهاء بهدف اإلضالل واإلذالل ،واعلم أنه ال نجاة للعبد من سفه الزمان
وسفهاء األيام إال باالعتصام بحبل اهلل كونه هو الحبل الوثيق الذي ال تنفصم
عراه.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 72 -
وهناك وكأن أمرًا لم يكن ،عندئ ٍذ تفسد الحياة ،ويضيق األحياء ذرعًا بأنفسهم
وحياتهم .ومما الشك فيه فإن المؤمن ال يزال في سعة من دينه ما لم يصب
دمًا حرامًا ،فإذا أصاب ذاك الدم الحرام يكون بسوء فعلته قد تجاوز سعة اهلل،
وضيَّق على نفسه في األرض بعد أن جاءه ضيق السماء كون القتل يجرح
القلب جرحًا ال يجبره إال إراحته من الحياة ودنيا األحياء .نعم إنه الضيق
بمفهومه الشامل يحيط بالقاتل من كل جانب عندئ ٍذ تظلم السماوات واألرض
في وجهه ،وتظل تلك الظلمات وذلك الضيق يطاردانه في ليله ونهاره ،فلم
تعد حياته حياة ،بل ينعكس ضيقه وجرح قلبه على سلوكه ،فيصبح شريرًا ال
يسلم منه حجر أو شجر ،فضالً عن الخلق أو البشر ،ويظل ذلك حاله وتلك
فعاله حتى يُقتل عندها تبدأ حياة غيره ،وقد يستغرب البعض من هذا الكالم إذ
كيف يكون القتل حياة للقاتل ؟ والجواب هنا يكمن في أن قابيل في الماضي
البعيد عندما قتل أخاه فارقه األنس في ليله ونهاره ،وأحاطت به الوحشة في
سره وعلنه ،وهدت جسمه األمراض في قلبه وبدنه ،وهذا هو شأن كل قاتل
على الدوام حيث يطارده شؤم القتل حيثما حل وحيثما ارتحل .إنه العذاب هنا
قبل أن ينتقل للعقاب هناك ما لم يطهر بقصاص هو حكم السماء العادل،
والعادل بال شك ،ويتعاظم األمر ويتكاثر الضيق ،وتستوحش الحياة ،ويضيق
األحياء عندما يتكاثر القتلة هنا وهناك حتى يكون الغضب اإللهي عندها هو
األقرب ،واالنتقام هو األسرع ،لذا كان تطهير القاتل بالقتل هو الحياة له هناك
بين يدي اهلل بعد أن أفسد حياته هنا كون الحدود زواجر وجوابر ال كما قال
بعض أهل العلم إنها واحدة دون األخرى ،نعم زواجر تزجر من تسول له
نفسه االعتداء فتوقف اعتداءه ،وجوابر في اآلخرة تجبر جرمه بعد أن ظل
قلبه مجروحًا يصاحبه ذاك الجرح سرًّا وعلنًا حتى كان القصاص عالجه
حيث ال عالج لجبر قلبه إال هذا .إن هذه اآلية تمثل اإليجاز الرائع الذي
اختصر متطلبات الحياة ،وأمان األحياء من عبث الشياطين وفسادهم بكلمات
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 74 -
قليلة ،وتعبيرات واضحة وسهلة ،حيث حوت في طياتها حياة األمن وأمن
الحياة ،والذي سيظهر من خالل بعض الوقفات التي سنوردها هنا مع
االختصار ما أمكن ،ومنها أوالً :التقديم الحاصل في قوله تعالى "ولكم" وكأن
حياة المجموع هنا مرهونة بالقصاص من هذا القاتل الذي أوحش الحياة،
وأخاف األحياء بفعله ،وإال فال حياة ،حيث إن شؤم القاتل ،وعظم جرمه يحيط
باألمة الساكتة عن هذا الجرم ،فهو ينغص حياتها ،ويوحش ليلها ونهارها.
وال شك في أننا هنا لسنا بعيدين عن هذه الوحشة ،بل تطاردنا اليوم هنا
وهناك ،ونشعر بها حتى أنها حرمتنا لذة الحياة ،وسعادة األحياء ،وما ذاك إال
ألن قتلة األنفس المعصومة آمنون ،بل وحاكمون في صورة تحمل السقوط
القيمي الذي انحدرت إليه ،ووقعت فيه أمة الهداية بعد أن فارقت الهدى،
وحُرمت التقوى ،وستظل تلك الوحشة بكل مفرداتها الموحشة تطاردنا هنا ما
بقينا على هذا الحال .إنه الدم المظلوم يحاصر القاتل ،ويعاتب الساكت،
ويتردد بلونه وشكله على كل مسلم طالبًا النصرة واالنتصار ،ورافضًا
المغادرة واالعتذار ،ولسان حاله بلونه وشكله إما أن تنتصري لي يا أمة
الهداية ،وإما أن نرحل معًا حتى تزول الظلمة والغواية .وحتى ال نستطرد
بعيدًا عن موضوعنا تعالوا لنعود كي نعيش في ظالل اآلية ،فالتقديم هنا –
كما أسلفنا – يوحي بأنه ال حياة وال استقرار للجميع أبدًا ،وبدون استثناء ألحد،
إال بالقصاص من القتلة وذلك عند حدوث جريمة القتل .إنها الحقيقة التي
ينبغي أن تحياها األمة المسلمة والمجتمع المسلم كونهما حراس الشريعة
ودعاتها ،فإذا غاب هذا الحارس ،وتنكص الطريق ذاك الداعي عندئ ٍذ تختل
موازين الحياة ،ويسود الظلم حتى يصل مداه بقتل األنفس المعصومة دون
رادع أو مانع ،فتسقط الحياة حينها في شراك االنتقامات ،ويسقط لسقوطها
األحياء في وحل الثارات ،فإذا وصل الحال إلى هذه الحياة عندئ ٍذ تغيب الحياة
بمعناها الشامل كون الحياة في اإلسالم ليست حياة العبث كما يظن البعض
- 75 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ال أو عنادًا ومكرًا ،بل هى حياة القيم ،وأغلى قيمة هنا هى هذا اإلنسان
جه ً
بلحمه ود=مه ،حتى إذا سقطت هذه القيمة ،وأُريق هذا الدم واستُرخص عندئذٍ
تسقط هذه األمة عند سقوط أول قطرة دم .وحتى ال تصل أمة الهداية إلى هذا
المآل ،وحتى ال تحرم الحياة الطيبة التى أرادها ربها لها كان لزامًا عليها أن
حكَم والحاكم ،حيث جئ بالقصاص
يكون القصاص هنا بمعناه الواضح هو ال َ
هنا معرفًا باأللف والالم وذلك في إيحاء دقيق لوجوب أن يكون قصاصًا
ال أركانه حتى ال يكون قصاصًا تقوده األهواء
مستوفيًا شروطه ،ومستكم ً
واألمزجة ،وتتحكم به السياسات النزقة كأن يُقتل غير القاتل ،أو يُقتل شخصٌ
دون استيفاء الشروط واألركان كما هو حاصل اليوم في غالب األحيان .إنها
النصوص الشرعية المقدسة مكانًا ،والمحروسة زمانًا ،والحافظة لألنفس
حاالً ،فها هى تظهر هنا بقداستها الوضيئة ،وأحكامها الرادعة حيث ال مجال
أبدًا للمساس بقدسيتها ،أو التالعب بأحكامها ومآالتها تبعًا لرغبات هذا أو
نزوات ذاك .والجميل هنا أن يُعرَّف القصاص ،وتُنكر الحياة ،وذلك في إشارة
واضحة إلى أن الحياة الشاملة الهنيئة ،والطيبة المباركة ال تكون بمجرد
القصاص فحسب ،بل البد من قصاص منضبط بشروطه وأركانه ،وإال كان
األمر عبثًا ليس إال .إنها قوانين السماء المكتملة األركان ،والرصينة في
األحكام ،وغير القابلة البتة لعبث األيدي البشرية القاصرة بزيادة أو نقصان.
ويكتمل الجمال هنا ،وتتسع آفاقه ،وتتنوع أشكاله ومآالته عندما نصل إلى
كلمة الحياة في هذه اآلية ،وقد جاءت هنا منكرة بدون ألف والم ،بل بلفظ
"حياة" كي يفيد هذا التنكير جمال الحياة بكل معانيها ،والسعادة بكل تفاصيلها
ومجاالتها ،وذلك عندما يكون القصاص بشروطه وأركانه ،والقصاص فقط
هو الحكم والحاكم ينتظر كل قاتل .نعم إنها السعادة القادمة من هناك من
السماء تنزل إلى األرض مسرعة إلى دنيا الناس في صورة تحمل الرحمة
اإللهية بأسمى صورها ،والرعاية الربانية بأجمل ما فيها تحل في قلوب تطبق
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 76 -
شرع اهلل دون تواكل أو اتكال كي يُؤمنهم بعد خوف ،وتسعدهم بعد شقاء.
ويتواصل جمال الحياة وروعة األحياء عندما يكون أولو األلباب هم
ال لما صدر من أوامر
الحاضرون والمعنيون في الخطاب ،وهم المطبقون فع ً
في الكتاب ،وكأن اآلية تشي بأن هذه العقول الراجحة هى وحدها دون غيرها
من يقع على عاتقها تنفيذ األحكام ،وتأديب السفهاء ،وأطرهم على الحق أطرا
حتى يكتمل جمال الحياة .كما توجد لفتة أخرى ودقيقة هنا وهى أن القصاص
كقضية كبيرة ترتكز عليها الحياة وجودًا وعدمًا ال تخلو مع األيام ،وتكالب
الزمان من معارض لهذا الحكم ،ومتخل عن هذا الشرع تحت تبريرات معينة،
ومغالطات محتملة ،فحتى ال يحدث سقوط جراء تلك األطروحات المحادة هلل
ال وفعالً
وللرسول كان النداء ألولي األلباب كون وجودهم أمرًا ونهيًا ،وقو ً
ن واحد للقيام بهذا الحد ،وتطبيقه ،والمحافظة
هو الضامن والحارس في آ ٍ
عليه ،فإن غابت تلك العقول عندئ ٍذ يغيب لغيابها الحق والعدل ،ويسود الظلم
والجور ،بل تغيب حينها الحياة بمعناها الجميل وذوقها األصيل .إنه المعنى
الدقيق الكامن بين السطور ،والذي ينبغي التنبيه له ،واالعتبار به .وتأتي اآلية
بعد ذلك كي توضح قبل الختام وبطريقة هادئة ودقيقة أن األمة التي ترى أن
التقوى تتحقق بأداء الصالة والصيام والزكاة والحج بينما القاتل يصول
ويجول في أنحائها ،بل وقد يكون هو الحاكم لها ،والمتحدث نيابة عنها ،وهى
راضية ساكتة هى أمة ميتة الضمير ،ومخدرة اإليمان ،بل ال إيمان لها وال
ضمير كونها تتخفى بالصالة والزكاة ،وتُخلي مسؤوليتها عن القتلة والبغاة.
إنه الهروب المشين ،والتخفي اللئيم الذي يطيل من عمر هذه المتاهة طوالً
وعرضاً ،ويُبقي القتلة يسودون الناس زمانًا وعمقًا في ظل حياة هى للموات
أقرب .نعم إنها اللفتة األخيرة هنا ،والتي توحي – كما قلنا – بأن من التقوى
حفظ الدماء كونها األمان لحياة مكتملة األركان يسودها األمن ،ويحرسها
اإليمان ،وما سوى ذلك إنما هو هروب وتخفي يقود األمة إلى دفع أثمان
- 77 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
باهظة تباعًا من ذاتها ودمها كونها – كما أسلفنا – تتخفى بالصالة لتنال التقوى
تاركة القتلة والبغاة في المرتبة األعلى .إذًا "فلعلكم تتقون" جاءت هنا كتعبير
حقيقي عن أمة تقية تنتصر للمقتول من القاتل أيًّا كان هذا القاتل بكل شجاعة
وحزم كونها أمة مؤتمنة على خير كتاب ،وأشرف خطاب .نعم فالتقوى هذه
المرة جاءت من هنا معلنة أنه ال كمال لألتقياء صراحة دون حفظ الدماء،
وإال فهى التقوى المنقوصة ،بل والمتستِّرة الخفية من قول الحقيقة ،وتنفيذ
الحق في صورة غاية في المعصية والذنب ،فيكون الحال حينها ال كمال وال
تقوى.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 78 -
بأهمية األمر كون المؤمن مهما بلغ إيمانه يحتاج إلى تنبيه بين الحين والحين
ألنه بشر ،وليس مَلكًا ،كما أن توجيه النداء صوب القلب فيه إيحاء بأن خطاب
ال مقدم على خطاب العقل .إنه اإليمان والصدق الذي يجب أن يتحرك القلب أو ً
ال في داخل هذا القلب كي يتحرك العقل مباشرة بعد ذلك صوب الميدان أو ً
بهمة وعزيمة ،فمن غير الحكمة أن تكلف شخصًا ما بعمل ما بطريقة عقلية
جافة ولو كانت شرعية .لذا كان التكليف هنا مسبوقًا بتحريك العاطفة اإليمانية
تعليمًا للخلق بوجوب مخاطبة الروح قبل االتجاه صوب العقل كي يتعاونا معًا
وسويًّا في التنفيذ بسهولة ومحبة ويسر .إنه نداءٌ للعاطفة الممتلئة إيمانًا ،وليس
لتلك العاطفة الخاوية الفارغة ،أو تلك السادرة الخالية من قيم السماء كون
خالئها وخوائها ال يؤهلها أب ًد لهذه التكاليف .نعم إنه خطاب الروح – كما
أسلفنا – لتستعد قبل خطاب العقل كي تنفذ في إشارة واضحة للخطاب الفعال
والمكتمل األركان إذا ما أردنا للتكاليف أن تؤدَّى ،وللحقوق أن تُصان .ومعلوم
لدينا أن اإلسالم ال يقبل عاطفة خاوية تسرح وتمرح بعيدًا بعيدًا من غير
هدف ،كما أنه ال يقبل أيضًا أوامر قاسية جافة من غير روح تحركها ،وتنفخ
فيها الحياة .لذا كان البد من عاطفة جياشة هادفة تقودها روح إيمانية صادقة
ليتواصل الجمال ،ويتعانق الكمال .كما أن توجيه األمر للمؤمنين خاصة
يوحي بأن األمور العظام ال يُوجَّه بتنفيذها والقيام بها إال أهل اإليمان ،وأهل
اإليمان فقط .ثم بعد خطاب الروح ينتقل األمر وبكل هدوء وسالسة إلى األمر
التكليفي المطلوب تنفيذه ،وذلك بعد القاعدة المعدة ،والتوطئة المسبقة الممثلة
بإيمان يحمله رجال مؤمنون هم أهل اإليمان ورجال األعمال ،فجملة "كتب
عليكم الصيام" توحي هنا بأمور كثيرة منها أن فريضة الصيام أمر الزم ال
مجال فيه للمؤمن كي يفكر أو يستفسر ،بل عليه أن ينفذ األمر فورًا ودون
تفكير أو تأويل كون األمر قد فُرض وحُسم من قِبل السماء ،وما على األرض
إال أن تسمع وتطيع .كما أن التعبير بقوله "عليكم" هنا يوحي بتعميم األمر
على كل المؤمنين كونه هو األصل ،ومن يتم استثناؤهم ألعذار شرعية فيما
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 80 -
بعد سيكون لهم شأن آخر ،وذلك كون اليسر والتيسير من محاسن الشريعة
ومقاصد التشريع كما هو معلوم .كما توحي كلمة "عليكم" بحاجة الجماعة
المنقذة واألمة الهادية دون استثناء لتزكية السماء كون الضعف البشري ينتاب
الجماعة المؤمنة واألمة الهادية ،لذا كان الصيام ،وكانت التزكية .نعم إنها
النفس البشرية الضعيفة في خلقتها ،والفقيرة في ذاتها بحاجة ماسة إلى عون
السماء كي تتغلب على ضعفها ،وتتجاوز فقرها كي تواصل سيرها نحو ربها
دون تأخر أو إبطاء .ومما ال شك فيه هنا أن نقول إنه على قدر تزكية األمة
الهادية لذاتها وأفرادها تكون كلمتها ،ويكون تمكينها .ثم يتواصل الجمال،
وينساب الكمال بطريقة هادئة جميلة وذلك من خالل لفظ "الصيام" حيث جاء
معرفًا بألف والم؛ وذلك لإليحاء بأن الصيام المطلوب ليس ذاك الصيام العبثي
الملتزم نهارًا والعابث بذاته وروحه ليالً ،بل المراد هو الصيام المهذب
للنفوس والقلوب معًا ،الجامع بين الشروط واألركان ،والمحقق قطعًا لصيام
البطون والفروج مع الجوارح والقلوب ،وذلك في صورة إيمانية تعبر عن
توجه موحد بين القلب والنفس والعقل من جهة ،والبطن والفرج وسائر
الجوارح من جهة أخرى في توجه صادق نحو السماء ،وذلك قبل العودة مرة
أخرى إلى عالم األرض .إنها الصورة الحقيقية للجماعة المنقذة واألمة الهادية
وقد ارتقت بذاتها ،وانتصرت على أهوائها معلنة لألرض ،كل األرض ،أن
حياة الروح هى األهنأ واألسمى واألعلى األبقى على الدوام .نعم إنها روحانية
الصيام العبقة ،والتي تمثلت هنا في روحانية الصائم وروحه وهو يمأل الحياة
أنسًا ،ويشارك الكون تسبيحًا ،ويعانق السماء دعا ًء بكبد ظامئ ،وبطن جائع،
ف هو أطيب عند اهلل من ريح المسك .نعم إنها مدرسة الصيام التي يجب وخلو ٍ
أن تتعلم من خاللها الجماعة المنقذة واألمة الهادية كيف تربي ذاتها ،وتزكي
أفرادها لترتقي وبشكل جماعي نحو السماء معلنة بلسان الحال والمقال أن
البطون التي لم تترب على الجوع والظمأ ،ولم تتجاوز حياة الشهوات واألنا
هى بطون طينية ال ينتصر بها حق ،وال تعلو بها راية ،وال يحقق اهلل بها
- 81 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
تمكين .ومما ال شك فيه هنا أن األمة الهادية عليها أن تعيد للصيام حقيقته التي
غابت منذ قرون كون غيابها عن مركز القيادة والقرار أفقد العبادات حقيقتها،
وجعلها خاوية المعاني ،ضعيفة المباني ،وهو ما يستدعي إعادة النظر فيها
كي تعود هذه العبادات بمظهرها ومخبرها وشكلها ومحتواها آخذة القلوب
مرة أخرى من العالم المادي الطيني إلى العالم المالئكي العلوي كي تسمو من
جديد بعد سنوات القحط والشدة .ويجدر بنا أن نذكِّر بأن الصيام هنا ليس معناه
ترك المفطرات الحسية التي اعتادت األجساد عليها طوال العام فحسب – كما
يظن العوام من الصائمين – تاركين الجوارح والقلوب تمرح نهارًا ،وتعبث
ليالً ،بل المطلوب من األمة الهادية أن تُعيد إلى هذه الشعيرة مكانها ومكانتها
وروحها وروحانيتها من خالل صيام عام يشمل صيامًا حسيًّا معروفًا مع
صيام معنوي تتجه فيه الجوارح ،كل الجوارح ،نحو ربها عابدة تائبة،
ومسبحة خاشعة في ليلها ونهارها في رحلة تعبدية هى األكثر بركة ،واألعظم
أنسًا ،واألهنأ عمرًا ،واألعز حاالً ،واألجمل مكانًا وزمانًا .إنها المدرسة
الربانية التى ال تتجاوز الشهر حتمًا ،ولكنها باستطاعتها إن صدقت الذات أن
تتعلم منها اإلخالص لربها ،والمراقبة الدائمة لخالقها ،والتزكية القلبية لذاتها
كي تواصل السير والمسير قائدة قادرة ،ومتمكنة ظافرة .ومما ال شك فيه فإن
للصيام إيحاءات كثيرة ومنها أن التزام الصائم بوقت اإلمساك ووقت اإلفطار
– كما علمه دينه وعقيدته – يقوده نحو االلتزام الحتمي والحرفي بأوامر اهلل
كون المؤمن يسيره دينه ال دنياه ،وعقيدته ال هواه كما هو معلوم .كما أن
الصيام كونه عبادة خالصة هلل ليس للنفس فيه حظ يوحي بوجوب تجرد
الجماعة المنقذة واألمة الهادية لربها في كل جزئيات حياتها .إنه التجرد الذي
غاب كثيرًا عن حياة األمة الهادية حتى استفحل الشر في أوساطها ،وغاب
النور في أركانها ،وأبى العجز والخور أن يتجاوز حيطان دورها وديارها،
ومن ثم كان الصيام مدرسة التجرد ،وأستاذًا للمتجردين لهذه الحكمة ،ولهذا
األمر .كما أن نزول القرآن في شهر الصيام مع مدارسة جبريل للحبيب محمد
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 82 -
له كل ليلة فيه إيحاء خاص بوجوب إعادة النظر في تعامل الجماعة المنقذة
واألمة الهادية مع القرآن ،إنها حقيقة القرآن التي يجب أن تكون لألمة الهادية
معه جلسات وخلوات خاصة وهادفة كي تسود وتقود لتبلغ المقصود ،وإال فال
سيادة وال قيادة .كما أن فتح أبواب الجنان ،وإغالق أبواب النيران فيه إيحاء
آخر بوجوب فتح أبواب الخير لدى األمة الهادية ،وغلق كل أبواب الشر في
حياتها وسلوكها وأخذها وعطائها .إنها الحقائق التي يجب أن تتحول إلى
ال
برنامج عمل في حياة األمة الصائمة كي تعيد تشكيل ذواتها وحياتها تشكي ً
يؤهلها لنيل الرحمات ،وتجاوز العثرات .كما أن عتق الرقاب من قبل خالق
الخلق من تراب في شهر الصيام فيه إيحاء بوجوب التغافر البيني ،والتعايش
المجتمعي الذي ينبغي أن تحياه الجماعة المنقذة واألمة الهادية كي يستأنس
الكون بعد وحشة ،ويأمن بوجودها بعد خوف ،ويشبع في ظل قيادتها بعد
جوع .كما أن قيام الليل في ليالي الصيام يوحي بإعادة النظر في سلوك
الجماعة المنقذة واألمة الهادية في كل ليالي حياتها كون األمة العابثة بليلها
هى أمة إلى الموات أقرب منها إلى الحياة كما هو معلوم .إنه الليل الذي ينبغي
أن تجعله األمة الهادية مدرسة أخرى لتزكية ذواتها ،وتطهير نهارها ،والبوح
وبكل صد\ق بمكنونات صدورها ودقائق حياتها بين يدي ربها كون ثلث الليل
األخير هو محطة تقال فيه العثرات ،وتستجاب فيه الدعوات ،وتُقضى فيه
ال يليق بجالل اهلل سبحانهالحاجات .إنه وقت التنزل اإللهي الذي يكون نزو ً
دون تشبيه أو تمثيل أو تعطيل .نعم إنه الليل بجماله وهدوئه وروعته وسكونه
كان وما يزال دأب الصالحين ما بقيت الحياة ،وعاش على ظهر البسيطة
أحياء .كما أن انتصار الحق على الباطل في أول صراع مسلح بين الطرفين
ال عن مواقع أخرى خاضتها ال بغزوة بدر ،فض ً كان في شهر الصيام متمث ً
الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهى صائمة .إنه اإليحاء بأن شهر الصيام هو
شهر الجهاد ما بقيت األمة مجاهدة صادقة ،ومهتدية هاديه .كما أن ليلة القدر
والتي هى خير من ألف شهر فيها إيحاء بكرم اهلل العميم على خلقه ،وتفضله
- 83 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
على عباده ،وذلك لإليحاء بأن الحياة فرص من يتركها دون أخذ فاأليام
ستتركه وحيدًا دون أن يحقق شيئًا أو يبني عزًّا ،وهذا ال يعني أن الفرص
متروكة ليأخذها من يستحقها ومن ال يستحقها ،بل ما أعنيه هنا أن الموفق هو
من يغتنم النفحات اإللهية والعطايا الربانية كون اهلل ال يوفق لها إال من علم
صدقه وتقواه كما هو معلوم .إنها المفردات التي يجب أن تحياها الجماعة
المنقذة واألمة الهادية وهى تعيش مع الصيام كي تبلغ مرحلة التقوى كون
التقوى طريقها واضح من هنا أيضًا كما هو من خالل سائر العبادات .ثم
يستمر الجمال من خالل روعة السبك وجمال التعبير وذلك حتى يخف
التكليف ،وتكتمل صورته بقوله "كما كتب على الذين من قبلكم" ،وذلك كون
الصيام ليس عبادة خاصة بهذه األمة ،بل هو تزكية قديمة لمن كانوا قبلنا ،ألن
ن واح ٍد
تزكية األنفس وتطهيرها بالصيام هو منهج سماوي قديم وجديد في آ ٍ
بدأ من لدن آدم وبقي حتى اللحظة يشق طريقه ،ويعلن عن نفسه هنا ،وسيظل
كذلك ما بقيت الحياة كونه فرضًا عظيمًا في تزكية الحياة ،وتطهير األحياء.
ولكن ما ينبغي ذكره هنا أن صيام هذه األمة هو األكمل عددًا ،واألعظم أجرًا،
واألقل عنتًا ومشقة كونها األمة الخاتمة للنبي الخاتم المؤهلة للقيادة والريادة
في صورتها التعبدية الجماعية ،وقيمها الروحية األصيلة .إنها األمة الوسط
بين األمم ،ورجاالتها ودعاتها هم الرجال الوسط المتميزون والحاملون لقيم
الس ماء بين الرجال ،وذلك في صورة جميلة مباركة تحمل غيثًا هنيئًا لتُنبت
األرض كل خير ،ويزول عن ظهرها كل ويل ،وهنا وحتى ال يظن ظان أن
الصيام فُرض لمجرد الصيام فقط جاء التوضيح والبيان في روعة الختام في
صورة تختصر المشهد اإليماني الجميل في صورته وشكله وروحانيته
وروحه بالقول "لعلكم تتقون" ،فهنا تُحط الرحال ،وتُعقد اآلمال ،ويوضح
المقال كون التقوى إذًا هى المطلوب .نعم فلعلكم تتقون هو الهدف من الصيام.
إنها الحقيقة التي يجب أن نلمسها هنا من خالل ختام هذه اآلية وهى وجوب
أن تكون الجماعة المنقذة واألمة الهادية تسير وفق أهداف مرحلية تقودها
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 84 -
لنتائج محددة معلومة ،بدايتها تعبدية ،ونهايتها كذلك تعبدية كمعادلة الصيام
تمامًا في البدء وفي الختام ،وهو معنى نفيس نلمسه من خالل سياق اآلية
ومحتواها .إنه التهديف الحقيقي واإليجابي لكل حركة وتحرك ،ولكل جهد
وجهاد يظهر هنا من خالل سياق اآلية ،وذلك بعي ًد عن التخمينات الخيالية،
واالنفعاالت العاطفية .نعم فهذا التكليف هذه هى مهمته بالدرجة األولى وهى
إصالح موجه للقلب والنفس بشكل خاص .إنه إصالح موجه للداخل كي تقوى
هذه النفس على الثبات أمام مغريات وفتن الخارج ،لذا كان الصيام عالجًا
للقسوة والشهوة والشبهة كون هذه األدواء الثالثة هى المهلكة للعبد هنا،
والفاضحة له بين يدي اهلل هناك .كما أن صالح الباطن هو العنوان األساسي
لصالح الظاهر ،بل هو أصله وأساسه .والجميل في ثنايا هذه اآلية ونحن
نعيش معها وفي ظاللها اللفتة الدقيقة هنا والمتمثلة بتحقق التقوى ،ولكن في
إطار العبادة الجماعية كون العبادة الفردية ال تحقق تقوى ،وال تحدث تزكية،
وهو السر القائم بين عليكم في البداية وتتقون في النهاية في إشارة دقيقة ودقيقة
جدًّا إلى بركة العمل الجماعي الخالي من الذاتية واألنا .إنه السر الكامن هنا
والذي ينبغي التنبه له واإلشادة به كونه ال يتضح إال من خالل السياق .نعم
إنه الصيام الذي جاء هذه المرة هنا كمنهج إلهي وتربوي فعال يهذب النفس،
ويعيد للروح حياتها وتقواها ،وللبدن صحته وقواه ،وللقلب سكنه ومأواه وسط
زحمة الحياة ومتطلبات األحياء.
- 85 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ن
ع إِذَا دَعَا ِ
ب دَعْوَةَ الدَّا ِ
سَألَكَ عِبَادِي عَنِي َفإِنِي َقرِيبٌ ُأجِي ُ
( َوإِذَا َ
َفلْيَسْ َتجِيبُواْ لِي وَلْ ُيؤْمِنُواْ بِي لَعََّلهُمْ َيرْشُدُونَ{.)21()}186
دون سواه كلما نزل بها الكرب ،أو حل بها البالء .ويزداد هذا المعنى وضوحًا
من خالل الكلمة األخرى "عبادي" بالياء وليس "عباد" بدونها ،ويشي هذا
التعبير بهذا المعنى ،وهو معنى نفيس جدًّا فتأمله .والمالحظ هنا هذا التناسق
الذي نلمسه في اآلية من خالل تكرار الياء ،إنه التناسق العجيب والتكامل
المهيب وذلك من خالل – عبادي – عني – فإني – لي – بي .إنه التناسق
الذي يقود الجماعة نحو السماء كي تتحرر من تراب األرض ،وطينتها
وشهواتها في صورة جمالية مبدعة .نعم إنها الياء التي تُشعِر بقرب الرب من
عبده المحتاج ،وذلك في لحظات االفتقار ،وساعات اإلضطرار .كما تشي
هذه الياء أيضًا بمعنى دقيق ونفيس وهو وجوب اإلخالص الكامل هلل والتجرد
التام له ،فال يجوز أبدًا أن تأخذ األرض بطينتها السفلى هذا المخلوق المكرم
على المالئكة بالنفخة العليا .إنه اإلفتقار الجماعي الذي يجب أن تتمثله
الجماعة العاملة لهذا الدين كي تُجاب الدعوة ،وتُكشف الغمة ،ويستمر التكريم
اإللهي لها هنا في الدنيا ليكتمل النعيم به بعد ذلك هناك في األُخرى .لذا سيظهر
هذا المعنى جليًّا من خالل سياق اآلية فيما بعد .ويزداد القرب هنا ،وتتساقط
الحواجز ليبقى العبد بين يدي الرب دون واسطة ،وذلك من خالل قوله "فإني
قريب" دون الحاجة إلى لفظ فقل لهم إنى قريب .إنها رحمات اهلل تتجلى هنا
ليبقى العبد خالصًا للرب في ظاهره وباطنه ،وقلبه وقالبه ،ال تحكمه الشهوة،
وال تُسيِّره الرغبة .وحتى ال يشعر هذا العبد بالبعد والهجر ،بل يستشعر
عمومية القرب اإللهي والحفظ السماوي والكرم الرباني جاء اللفظ بقوله
"قريب" للداللة على كل تلك المفردات اآلنفة الذكر .إنه التنكير هنا ليكتمل
قرب السماء وفرجها المستمر لكرب األرض ومكرها في صورة هى األمثل
واألكمل واألسرع واألشمل على الدوام .نعم إنها لحظات األنس تكتمل
صورتها هنا ليشعر العبد برعاية الرب له في حله وترحاله ،وعسره ويسره،
وفقره وغناه ،كل ذلك نلمسه من خالل روعة الكلمات وجمال العبارات .ثم
- 87 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ع إذا دعان"،
يتوالى األنس من خالل اللفظ القرآني التالي "أجيب دعوة الدا ِ
حيث تظهر هنا دالالت غاية في الروعة والجمال إذ قدَّم الدعوة على الداعي
في إشارة دقيقة إلى سرعة إجابة الدعوة بغض النظر عن الداعي وشخصه
ولونه ،أو جنسه وموقعه .كما أنها إشارة دقيقة إلى إجابة د=عوة المضطر
ل كان هذا المضطر ،إنه الغوث اإللهي الخالي من روتين البشر
على أي حا ٍ
وتعقيداتهم ،والداعي بطريقة دقيقة إلى االهتمام بالمحتوى والمعنى كون
التقوى في تعامل السماء هي األصل ،وليس األقوى كما هو معلوم في قوانين
األرض وطينتها .كما أن السياق هنا كان يقتضي أن يكون اللفظ هو "أجيب
دعوتهم" كون الجملة في البداية وإذا سألك عبادي عني – جماعية ،ولكن
جاء السياق بصورة جمالية هى األبلغ من خالل "أجيب دعوة الداع" ،وذلك
لإليحاء بإعطاء كل فرد سؤله وحاجته هذا أوالً ،وثانيًا :في إشارة دقيقة أخرى
توحي بأن اهلل سبحانه ال ينس من يسأله من خلقه ،وال تشغله حاجة الجماعة
عن حاجة كل عبد على – حدة كونه – جل شأنه ،وتقدست أسماؤه – ال يشغله
شأن عن شأن .إنها الطمأنينة الكاملة تظهر هنا من خالل السياق وجمال
التعبير ليأنس كل سائل ،ويسكن كل محتاج ،فزحمة الحياة ،ومطالب األحياء
لن تؤخر سؤلك ،ولن تشغل اهلل عنك – حاشاه سبحانه .ثم يتوالى الجمال،
ويتواصل الكمال في توضيح تام ألسباب استجابة الدعاء وذلك من خالل قوله
سبحانه "فليستجيبوا لي" ،حيث تحمل هذه الجملة دالالت باهرة ،وتوحي
بلطائف دقيقة منها :أن االستجابة ألوامر اهلل تحتاج إلى عزيمة صادقة وإرادة
قوية لذا جاء بالم األمر هنا بعد الفاء الموحية بوجوب الصلة بين الدعاء
والنقاء واالستقامة واالستجابة ،فالنفوس التي تريدُ مُنَاها في البداية عليها
طاعة موالها في البداية والنهاية وإال كان الخلل في الداعي ال في المدعو،
وفي األرض ال في السماء ،وفي المخلوق ال في الخالق سبحانه .كما أن اللفظ
جاء بصيغة المضارع "يستجيبوا" ،وثالثا :جاء األمر موجها للجماعة وليس
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 88 -
للفرد .إنه األمر الصريح للجماعة المؤمنة بوجوب االستجابة الدائمة لمنهج
السماء وأوامرها ،فال مجال أبدًا للتعامل مع ذلك المنهج بمزاجية أرضية
عاجزة ،أو انتقائية فلسفية مُلْهية .إنه الرفض اإللهي الواضح لعبود=ية
الحاجة ،وخشوع اللحظة الممزوج بدموع النشوة المؤقتة المؤدية لالنتكاسة
من جديد في حمأة الرذيلة ومستنقع الخطيئة .إن المنهج السماوي يريد من
أتباعه استجابة صحيحة صافية كصفاء السماء ال يحدها مكان ،وال يغيرها
زمان ،وال يكيفها سلطان ،ما لم كانت استجابة عبثية ال مكان لها في السماء،
وال قبول لها في األرض ،بل عبث ،وعبث فقط .كما أن هذه االستجابة لن
تؤتي أكلها ،وتحقق مراد اهلل منها ما لم تكن جماعية كون االستجابة الفردية
ألوامر اهلل دون جماعة تقود وتأمر ،وتدير وتحكم هو عبث يضاف إلى العبث
السابق ليس إال .ومما تجدر اإلشارة إليه أيضًا أن التقييد الوارد هنا بقوله
ص وحصر االستجابة بمنهج واحد ،ورب واحد ،وخالق واحد هو
ص َ
"لي" خَ َ
اهلل كون االستجابة لمناهج األرض الوضعية إنما هى استجابة لعبث األرض
ال فوق
ومكرها ،وطينتها ودنسها .ثم جاءت الجملة التالية كي تضيف جما ً
الجمال ،وذلك بقوله "وليؤمنوا بي" ،فاالستجابة هناك استجابة للمنهج ،وهنا
إيمان كامل ،ورضا تام بما يقرره ويختاره بعد ذلك من أنزل هذا المنهج،
وأمر به وهو اهلل سبحانه .وجاءت الم األمر هنا وبصيغة المضارع لإليحاء
بوجوب الرضا الجماعي الدائم والمستمر من قبل الجماعة المؤمنة بما يختاره
اهلل لها بعد استجابتها له .إنها الحقيقة التي يجب أن يعيها الجميع وهى أن
األمر قد ال يتحقق كما دعت الجماعة ،وخططت ،وعملت ،بل قد يختار اهلل
لها عكس ما أرادت كونه سبحانه يعلم ما يُصلح عباده وما يُفسدهم ،لذا كان
وجوب اإليمان بما يختاره اهلل هنا هو الخاتمة والخاتم .وجاء التخصيص هنا
بقوله "وليؤمنوا بي" كون البعض قد يؤمن بما يقوله المرجفون هنا وهناك،
فكان هذا التخصيص حتى ال يقع السقوط الفردي الذي ينعكس سلبًا على
- 89 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
اهلل ُيحِبُّ
ِن َّالتهْلُكَةِ َوَأحْسِ ُنوَاْ إ َّ
هلل وَالَ ُتلْقُواْ ِبأَيْدِيكُمْ ِإلَى َّ
( َوأَنفِقُواْ فِي سَبِي ِل ا ِ
الْ ُمحْسِنِينَ{.)22()}195
إنها اللحظات التي يتخلى فيها الرب عن العبد فيسقط عندها في سوء التدبير
ظنًّا منه أنه النجاة ،ولكنه في الحقيقة الهلكة ،والهلكة ال غير .إنها اآلية التي
صححت المفاهيم المغلوطة لدى الكثير ممن يتخبطون في مهاوي الهالك
وطرق الهالكين سواء لسوء الفهم الذي استشرى باألمس ،وكان الوحي حينها
يتنزل ،أو تكرر ذلك الفهم السيئ اليوم ،فقد جاءت اآلية توضح الحقيقة الكاملة
للسقوط متى وكيف من جانب ،ومبينة طرق النجاة من جانب آخر .نعم إنها
لحظات الضعف البشري التي تنتاب العبد سواء هناك يوم تنزل الوحي اإللهي
– كما أسلفنا – فنزلت اآلية لتدارك الموقف ،ومعالجة الضعف حتى ال
يستشري ،فتسقط بسقوطه أمة هى خير أمة .إنه التصوير الحقيقي للنفس
البشرية الشحيحة في ذاتها ،والبخيلة في أصلها ما لم تتربى ،ظهرت باألمس
هناك ،ويتكرر ظهورها – وبشكل كبير – اليوم هنا .إنها النفس الضعيفة خلقة
والبخيلة ذاتًا تظهر هنا وهى تقود صاحبها إلى الهالك المحقق من خالل بخلها
وشحها من جهة ،ونومها وغفلتها من جهة أخرى ،وأيًا ما كان هذا األمر أو
ذاك فكله إلقاء باليد إلى التهلكة ليس إال .وبغض النظر عن اختالف العلماء
حول سبب نزول هذه اآلية كون بعض اآليات تتعدد أسباب نزولها – كما هو
معلوم – عند علماء األصول ،إال أن الحقيقة الظاهرة هنا ،والتي ال خالف
حولها البتة هى أن العبد بغير توفيق الرب مخذول ،فالبخل والجبن وترك
الجهاد والسكوت عن قول كلمة الحق كلها مفردات مقززة في حروفها ،ومنتنة
في معانيها ،وإلقاء باليد والنفس إلى التهلكة في مآالتها ،وإن ظن العبد عكس
ذلك فهو من تلبيس إبليس .لذا وجدنا أبو أيوب األنصاري يقول – وهو
الصحابي الكبير فينا معشر األنصار – نزلت هذه اآلية عندما أعز اهلل دينه
فقلنا في أنفسنا اآلن نستصلح أرضنا ،وحسبنا ما قدمنا ،فنزلت اآلية حينها
ق برنامج عمل ،وصيحة إنذار إلى قيام الساعة توقظ الغافل الذي حدثته
كي تَب َ
نفسه ،وأخذته وظيفته وأرضه وماله وتجارته عن اهلل والدار اآلخرة معلنة
أن هذا هو إلقاء باليد إلى التهلكة وإن اختلفت الطرق ،وتعددت األعذار،
وحتى ال يستمر ذلك اإللقاء المخيف في الهلكة والهالك جاءت اآلية هنا كي
تصحح المسار مرة أخرى ،وتعيد لهذا اإلنسان رشده وصوابه كون اإلنسان
ببخله وجبنه يفقد صوابه ورشده ،ويهلك ذاته ونفسه ،ويخسر دنياه وآخرته
وإن تأول لنفسه .وحتى ال يتسرب ذلك التأويل المبطن فيقعد العبد عن مهمته
ودوره كمؤمن ينتظر إيمانه منه الكثير والكثير جاءت اآلية آمرة الجميع،
وذلك لبركة الجماعة أوالً ،وألن عوائق الطريق تحتاج إلى الجماعة لفظاً
ومعنى وسندًا ومتنًا ،فاألمر الجماعي هنا فيه داللة واضحة على وجوب
تحرك الجميع دون استثناء ألحد ،وذلك للنجاة من الهلكة كل وفق قدرته
واستطاعته وملكه وممتلكاته سوا ًء بإنفاق المال والجاه ،أو العلم والنفس ،وأي
توقف عن واحدة مما سبق يجعل ذلك المتوقف يلقي بنفسه إلى التهلكة وإن لم
يشعر ،وحتى تكتمل النجاة هنا ،ويسعد في اللقاء بين يدي اهلل هناك هذا المنفق
أو المجاهد ،وذاك العالم أو اآلمر الناهي البد من اإلخالص هلل وحده ،ما لم
كان إلقا ًء باليد إلى التهلكة بطريقة مركبة ومخزية.
ومما ينبغي ذكره هنا أيضًا أن امتالك المال هو امتحان كبير للنفس ،حيث
يسقط الكثير في وحل الشح والبخل واختالق األعذار كما عبر عن ذلك أبو
أيوب األنصاري – رضى اهلل عنه – بنفسه ،وهو الصحابي الكبير ،وذلك ما
لم تتدارك رحمة اهلل هذا العبد اليوم كما تداركت رحمات اهلل أبو أيوب
باألمس .ويزداد جمال اإلنفاق وروعة المنفق في آن واحد وذلك عندما يصل
بعطائه وعمله إلى مرتبة اإلحسان الذي ال يكون كذلك ما لم يتوج إحسانه هذا
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 92 -
بنفائس أربع وهى اإلسرار والتعجيل والمداومة واإلخالص عندها َتنَال محبة
الخلق في األرض بعد أن أحبك اهلل في السماء .إنه منهج السماء الجميل شكالً،
والواضح لفظًا ومعنى يأخذ تلك األيدي الضعيفة وينتشلها من بين ركام
البخل ،ودرن الشح ،وسوءات الدنيا ،ويرفعها إلى هناك حيث الخلود الدائم،
والرضى الكامل بعيدًا عن متاعب الحياة ومشاغل األحياء ،فال تظنن بعد ذلك
أن الحرص القاتم ،والبخل القائم رجولة وذكاء ،بل هو الهالك لألنفس،
والتقييد لأليدى بدأت بها هنا وسيُستكمل القيد عند\ اهلل هناك ما لم تحدث
المراجعة .فكن كريمًا بمالك وعلمك وجاللة قدرك لعلك تنجو.
- 93 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
دقيقًا حيث حصر الخداع بقوله "في الحياة الدنيا" ،وذلك في إشارة واضحة
إلى أن خداعه محصور في حياته فقط ،وينتهي بنهايته كون الخداع زَبَد،
والزبد ال أصل له وال جذور ،وثانيًا أن هذا الصنف ليس له في اآلخرة صلة
أو نسب كون األعمال الصالحة هى الصلة والنسب ،وهذا مقطوع صلته،
ومقطوع نسبه بسوء فعله ،ودناسة بضاعته ،وثالثًا أن الحياة الدنيا هى الشغل
الشاغل لهذا الصنف وذلك بسبب جحوده وكفره أو عناده ومكره .إن اإلسالم
ال يقبل أبدًا المسلم الغبي الذي تغريه الكلمة ،وتخدعه العبارة ،بل يريد مسلمًا
فطنًا ،وذكيًّا عاقالً .لذا فإن مما تجدر اإلشارة إليه في هذه الوقفة المقتضبة أن
هذا الخداع وذاك اإلعجاب قد يتجاوز المكان ،ويستغرق بعض الزمان،
ويحتوي بعض األقران مع األسف بسبب تلبسه باآليات القرآنية ،واألحاديث
النبوية ،والنصائح الشيطانية .نعم يتلبس بها تلبسًا كونه ال يؤمن بها أصالً،
أو أنه يؤمن بها تالوة وال يقبلها نظامًا وسلوكًا ،لذا لبسها وحفظها يخدع بها
ال وشرابًا وأخذًا وعطاءًا ليس إال .ومما ينبغي ذكره هنا أيضًا أن
ويمكر أك ً
هذا التلبس يلجأ إليه هذا الصنف وذلك عندما ينتشر الصالح المجتمعي العام،
والذى يكون – في الغالب – صالحًا منقوصًا لم يستوعب بعد حقيقة الدين
وسلوك المتدينين ،ومن ثم يسهل احتواؤه وتقييده من قبل هذا الصنف المزور
ن واحد ،لذا كانت اإلشارة في قوله تعالى "ويشهد اهلل على
والمتلبس في آ ٍ
ما في قلبه" هى إشارة لهذه اللفتة التي تم ذكرها حيث جعل هذا الصنف من
الدين مادة لإلغواء واإلغراء فقط ،وحتى ال تحصل الخديعة بتلك الكلمات،
ويستمر اإلعجاب حد االنخداع بتلك الحكم والمواعظ والعبارات جاءت اآلية
مختصرة المشهد وموضحة المقصد وذلك بقوله تعالى "وهو ألد الخصام
وإذا تولى "...إلى نهاية اآليات .هذه هى حقيقة المنافقين هناك ،وكذلك هو
حالهم هنا ،لذا كانت العقول الغبية هى التي تقبل الخديعة من المخاصم األلد،
وتتماهى مع المخادع باسم اآليات ونصائح الشيطان ،فتسقط هناك ،ويتكرر
- 95 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
سقوطها هنا رغم هذا الكشف والتوضيح .إنه التوضيح الختامي والبيان
النهائي لهذا الصنف المتلبس حتى ال ينخدع بتلبسه وإعجابه أح ًد كونه إذا
خدع وصل خداعه وخصامه إلى كل نفس ،لذا فمن يُخدع بعد هذا التوضيح
فعليه إذًا أن يدفع ثمن غبائه وعاقبة إعجابه ،وال قبول أبدًا لالحتجاج بالقدر
للهروب من الغباء والفشل ،فاألقدار ال تخدم المغفلين األغبياء أيًّا كانوا .فكن
مؤمنًا حريصًا ،وذكيًّا فطنًا ،واحذر أن يزرع فيك المنافقون والمجرمون
إفكهم وخططهم وخرابهم ،وعليك قبل أن تستمع لنصيحة الناصح أن تعرف
سلوكه ووالءه وهدفه وغايته ،فالزمان اليوم ال مكان فيه لألغبياء ،وال موقع
فيه للمخدوعين البلداء ،واعلم أن من عجز عن الوقيعة بك وبدينك وأهلك
بالقوة قد يأتي إليك بالحيلة وذلك كما وضحت اآليات.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 96 -
وإيقاف العبث ،ولو خلت الساحة منهم لقامت الساعة ،وثالثًا بدأ اهلل بالحديث
عن الصنف النفاقي هناك ،ثم أعقبه بهذا الحديث عن الصادقين هنا في إشارة
واضحة إلى أن المنافقين هم األكثر عددًا ،واألشد خطرًا ،لذا قدمهم في الذكر،
ورابعًا فيه إشارة إلى أن العاقبة للحق ،فبعد العسر يأتي اليسر ،وبعد الظالم
يشرق النور ،وبعد اإلفساد المنتن واإلهالك المحزن للحرث والنسل يأتي
اإلصالح المنقذ ،فيعيد الحق إلى نصابه ،والنهر إلى مجراه .كما أن كلمة ومن
الناس هناك في اإلضالل ،وتكرُّرها هنا في االستقامة واإلجالل فيها إشارة
إلى أن اإلنسان هو اإلنسان ،وهو من يملك قرار نفسه بنفسه ،فال يستطيع
اآلخر إفسادك إال عندما تمكنه أنت من نفسك ،والعكس صحيح ،فباإلمكان أن
يكون هذا اإلنسان منافقًا خالصًا ،كما يمكنه أن يكون مؤمنًا صادقًا ،وجاء
تخصيص النفس بقوله "يشري نفسه" بالذكر هنا لإليحاء بأن االنتصار
عليها أوالً ،وتحريرها من شره الطمع والخوف هو المقدمة الحقيقية للنصر
بال شك .كما أن هناك إشارة دقيقة ،ودقيقة جدًّا ،تُستخلص من سياق اآليات
وترابطها كون المناسبات قائمة بين اآلية السابقة والتي تليها كما هو حاصل
أيضًا بين مقدمة السورة وخاتمتها كما يقول علماء األصول ،حيث توحي
كلمة "يشري نفسه" بأن فساد المنافقين المتمثل بإهالكهم للحرث والنسل،
واإلفساد في األرض ،وعدم قبولهم للنصيحة والحق فيما مضى ،هذا كله ال
يوقفه أبدًا أنصاف المؤمنين ،وال أنصاف الصادقين والمجاهدين ،فهؤالء
ليسوا مؤهلين للتمكين ،وإيقاف عبث أولئك وفسادهم ،بل يوقفه أناس باعوا
أنفسهم كاملة هلل ،وهلل فقط ،فلم يعد لهم مطلب أو مقصد إال رضى اهلل كون
كلمة يشري نفسه أي باع نفسه كلها كاملة غير منقوصة هلل ،حيث تشي اآلية
بهذا المعنى النفيس في ابتغاء مرضات اهلل .نعم فهؤالء هم من يوقف عبث
أولئك ،وهم موجودون في أوساط الناس ،وإن كانوا قلة ،بدليل ذكرهم هنا
عقب ذكر أولئك هناك كما أسلفنا .وبعد هذه الجولة المتكاملة من الصراع بين
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 98 -
الصنفين جاءت اآلية بخاتمة رائعة تحمل في طياتها عطف اإلله وبره ولطفه
بخلقه بقوله "واهلل رؤف بالعباد" بمعنى أنه سبحانه من رأفته بخلقه ورحمته
بعباده حفظُه ولطفُه بجنوده الصادقين رغم قوة المنافقين ،وسعيهم الحثيث
لالستئصال الكامل ،والقضاء التام على الحق ورجاله ،ولكنه سبحانه حفظهم
واختارهم لنصرة هذا الحق ،وتطهير الخلق من عبث النفاق وشرور المنافقين
بهؤالء الذي يشرون أنفسهم .نعم فرغم حملة التطهير الممنهج للحق ورجاله
إال أن النتيجة كانت ظهور هذه األنفس الطاهرة والمطهرة من وسط الركام
الملئ باألحداث ،والمثقل باألوجاع في هذه الظروف االستثنائية الصعبة
إلحقاق الحق ،وإبطال الباطل .فكما ظهر صهيب الرومي من وسط اإلجرام
المكي والمكر القرشي هناك ،والذي نزلت هذه اآلية كي تبارك بيعه ،وتثبت
صدقه هو وبقية إخوانه سيتكرر ذلك الظهور هنا كون هذه األمة المحمدية
مكتوبًا بنواصيها الخير والصدق واإلخالص إلى يوم القيامة .فاطمئن واعلم
أن قوة الباطل وشدة بأسه كفيلة بإخراج رجال هم أشد بأسًا ،وأعظم صدقًا،
فهكذا علمتنا األيام ،كما ينبغي ،بل يجب ،أن تعلم أنك أنت أنت من يستطيع
تحرير ذاته ،والرقي بنفسه إلى أعلى ذرا المجد ،كما أنك أنت أنت من يسقط
نفسه إلى أسفل القاع ولك الخيار.
- 99 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
لحظات الغفلة والتيه عندئذٍ يحدث تنمره أحيانًا ،وتسخُّطُه أحيانًا أخرى وذلك
عندما تتكشف هذه العوائق معلنة عن نفسها بكل قوة وصرامة ومتحدية له
بكل خبث ودناءة ،وحتى ال يتسرب الخوف فيأخذ المؤمن إلى بعيد من هذه
العوائق كان استدعاء من قبلنا كمثال حي يُحيى عزائمنا وعزائم من بعدنا.
نعم فمن قبلنا مسَّتهم البأساء في األحوال ،ومستهم الضراء في األبدان،
وزلزلوا في األهل واألوطان ،ولكنهم كانوا األقوى إيمانًا ،واألعز مكانة
ومكانًا ،فتجاوزوا بإيمانهم وعزتهم كل بلية ،وانتصروا عند كل محنة ورزية
حتى وصل الحق إلينا غضًّا طريًّا كما أُنزل ،لم تضعفه البأساء ،ولم توقفه
الضراء ،ولم تحاصره الزلزلة .إنها األدوات الرخيصة التي فشلت في
الماضي ،وسيصيبها الفشل في الحاضر أمام من جعلوا رضى اهلل والجنة
نصب أعينهم .وجاء تقديم البأساء هنا على الضراء وعلى الزلزلة كونها
األكثر واألشمل حيث يصل أثرها للجميع ،ثم تليها في األثر الضراء كونها
نتيجة حتمية لها .إنها الوسائل الدنيئة للباطل ،والعوائق الخبيثة للمنكر تتشكل
هنا ،وتظهر من جديد عند كل حق يرفع ،وفي أي مكان وزمان وذلك بغية
اإلطفاء للحق بكل سذاجة وغباء .وفي الحقيقة فإن تلك البأساء مع الضراء
والزلزلة هى التى تربي وتعلم وتوقظ وتفهم كون الجماعة واألمه التي ال
تربي أفرادها األحداث وال اآلالم ليسوا مؤهلين قطعًا ألخذ الراية ،وقيادة
الرأي ،فكانت هذه المفردات القليلة في حروفها والمتعبة جدًّا في مآالتها هى
المربية هنا كما فعلت في الماضي هناك .ومع ذلك وبصراحة كصراحة
المنهج ووضاءته فإن السقوط في وحل تلك العوائق الثالث ،والمفردات
الخباث يحدث لدى البعض حتمًا كونها هى المربية – كما أسلفنا وقلنا ،ولكنه
السقوط الفردي الذي ال يعبر عن حقيقة الجماعة الصادقة واألمة الهادية
الثابتة أمام تلك العوائق الثالث ،والتي هى من ستواصل السير هنا كما
واصلت في الماضي هناك دون تلفت أو التواء .والمعلوم أن األعداء هناك
- 101 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
في الماضي – كما هو حاصل هنا في الحاضر – يعملون على إفساد األحوال
ال بالفقر والشدائد بغية محاصرة الحق وأهله ،فعندما تسقط هذه الورقة
أو ً
تستمر الشدة والفقر حتى يظهر أثرها على البدن .فتكون الضراء ،ثم يتوالى
الحصار ويستمر من قبل المجرمين العار ،فتكون الزلزلة عندئذ وهى
مواصلة البأساء لتبقى الضراء في صورة وحشية تحمل في طياتها خبث
الباطل ومكره وفساده وفحشه .وتظهر هنا صورة تلك العوائق ظهورًا مخيفًا
في الماضي عندما ارتفع صوت الحق معلنًا خوفه كتعبير يحمل ضعف البشر
أيًّا كان أولئك البشر ولو كانوا أنبياءً .نعم ظهر ذلك الخوف من خالل تلك
ال باستفهام مأل أركان الزمان هناك ،ووصل
الصيحة القديمة الجديدة ممث ً
صداه إلى هنا ،وذلك في تعبير يشي بخوف المؤمن من تطاول الباطل ومكره،
وغياب الحق ونوره .نعم إنها الصيحة القديمة الجديدة في آن واحد ،فكونها
صيحة قديمة ألنها قدمت من هناك ،وجديدة كونها تتكرر هنا في هذه الجملة
"حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر اهلل" ،وإن كانت صيحة
اليوم هى صيحة مفردة من مؤمنين فقدوا هدى الرسول أو قصروا ،ولكن
محصلة البأساء تكرر التساؤل في لحظات الضعف البشري القاصر أمام
المكر البشري النازل في صورته المتوحشة والموحشة في نفس الوقت .وهنا
تأتي البشارة الوضيئة شكالً ،والعظيمة حاالً ،والحقيقة مكانًا وزمانًا ،تأتي من
هناك من بعيد من وسط تلك البأساء ،ومن أعماق تلك الضراء ،ومن داخل
تلك الزلزلة معلنة سقوط البؤس بكل مفرداته القذرة وأدواته المخزية سقوطًا
مدويًا مع صانعيه في صورة تحمل روعة الحق وهو يظهر من جديد من
داخل الركام ،ومن وسط ذلك الزحام .نعم فجملة "أال إن نصر اهلل قريب"
اختصرت كل المشهد ،وحوت في طياتها جمال الحق وروعة الحقيقة التي
تسقط أمامها كل بأساء ،وتتوارى عندها كل ضراء ،حيث قدمت النتيجة هنا
وهى النصر على لفظ اهلل ،وذلك إلدخال األنس في القلوب كونها افتقدت هذا
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 102 -
المعنى الكبير زمنًا طويالً ،ثم جاءت إضافة اهلل إلى النصر لإلشعار بأنه
سبحانه هو من نصر في الماضي ،والحال كذلك في الحاضر ،وذلك من خالل
مجئ الجملة دون تحديد كأن يقول أال إن نصر اهلل لهم قريب كونهم هم من
مستهم البأساء ،بل جاءت هكذا لإلشعار بأن نصره سبحانه قريب دائمًا،
وسيتحقق حتمًا عندما تحل البأساء ،وتتولد بسببها الضراء شريطة أن يقابل
هذا ثباتًا من قبل المؤمنين ،وأخذًا باألسباب من قبل الصادقين .فاثبت أحد
ال في الثبات ،واعلم أن هذه الضربات التي اتحدت في صورتها اليوم
وكن جب ً
مُحاول ًة إطفاء نور اهلل ستُهزم حتمًا ،وسيعلو صوت الحق ،وسيواصل هذا
الحق سيره عبر الزمان متجاوزًا المكان والمقام والحال شاء من شاء وأبى
من أبى .واعلم أن الذين يريدون سكنى الجنان من خالل زوايا المساجد فقط
بعيدًا عن كلمة الحق هنا وهناك ،وخوفًا من مس البأساء والضراء والزلزلة
هم أبعد الناس عن الجنة ،وأقرب الناس إلى النار.
- 103 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
خ َرجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ ُألُوفٌ حَذَ َر الْ َموْتِ فَقَالَ َلهُمُ اهللُّ
ن َ
(َألَمْ َت َر ِإلَى الَّذِي َ
ِن أَكْ َث َر النَّاسِ الَ
س َولَـك َّ
علَى النَّا ِ
ِن اهللَّ لَذُو فَضْ ٍل َ
مُوتُواْ ثُمَّ َأحْيَاهُمْ إ َّ
يَشْ ُكرُونَ{.)26()}243
عندما تخلو الرؤوس من العقول ،والقلوب من قيم الحق ،وتخلو الجماعة
واألمة من قائد فذ عندئ ٍذ تكون التصرفات الممقوتة ،والهروب البائس من قيم
الحق هو السيد والسائد واإلمام والقائد في واحدة من أسوأ التصرفات في حياة
هذا الفرد الطائش ضمن تلك الجماعة الطائشة .نعم عند\ما يكون األمر كذلك
حينها ستُسجل تلك السيئة الجماعية لتكون الدرس والعبرة ما بقيت الحياة .إنه
العبث والجبن الحياتي يتكشفان هنا مرة أخرى في السلوك اإلسرائيلي الموغل
في المخازي واإلجرام والقادم من هناك من الزمن البعيد والبعيد جدًّا في
صورة تحمل خفة العقل ،وبالدة الفكر في هذا الخروج المذكور ،والذي كان
هروبًا جماعيًّا من الموت ليس إال .إنها الحماقة هنا تتبدى في صورة مبتذلة
وهى تفر من القدر ،وتتجاوز في الحذر حتى وقعت في ذات القدر .نعم إنها
األلوف الخائنة هناك ،والمتكررة هنا تظهر عارية من كل قيمة سوى القيم
الرخيصة ،والمواقف الرذيلة كونها فقدت قيمتها يوم أن غفلت عن خالقها.
وحتى نتذوق حالوة العرض هنا في قصتنا هذه تعالوا كي نعود إليها لنعيش
مع ألفاظها ومعانيها آخذين في االعتبار كالم المفسرين حولها ،ولكن بشكل
مقتضب ،فإلى القصة إذًا :العجيب في البداية مجئ التعبير القرآني بلفظ "ألم
تر" مع أن النبي الكريم لم ير ذلك الخروج البائس لتلك األلوف البائسة شكالً،
والمفلسة دينًا ،والساقطة أخالقًا ،فعلماؤنا يقولون إن معنى ألم تر أي ألم تعلم،
ولكن لن نتوقف عند هذا المعنى ،بل نضيف ونذكر معاني أُخرىَ ،حيث جاء
بهذا التعبير المعبر عنه برؤيا العين هنا للداللة على أنه سبحانه هو الذي رأى
وعلم ذلك الخروج ،فلحقيقته وصدقه فكأنك قد رأيته ،وثالثًا أن التعبير بهذه
الطريقة يجعل ذلك الخروج البائس حيًّا ليؤخذ الدرس منه حتى تظهر فيه
إرادة اهلل الغالبة ،ومشيئته النافذة ،وتتوقف العقول الفارغة والموغلة في
الحذر حد الجبن كونه ما شاء اهلل كان ،وما لم يشأ لم يكن .نعم إنها المشيئة
اإللهية النافذة التي سقطت أمامها هذه األلوف الفارغة عقالً ،والخاوية قلبًا،
وأسقطت معها كذلك الحذر الزائف ،والتصرف الطائش لهذه الجموع ،وذلك
كما سيأتي الحقًا .ويظهر جمال القرآن هنا وهو ينقل هذا الخروج بطريقة
غاية في الوضوح كون الفعل "خرجوا" يوحي بمعنى غاية في الدقة
واألهمية ،إنه اإليحاء بحركة جماعية نظمها العمى ،وقادها الهوى .نعم إنه
الخروج الجماعي الموحي بقدرة الباطل الفائقة على تجييش العواطف الفارغة
لخدمته ،وتنفيذ حذره ومآربه في صورة مذهلة ،حيث تزداد فاعلية ذلك
التجييش من خالل التعبير القرآني اآلتي وهو قوله "من ديارهم" ،فهذه الكلمة
توحي بنجاح ذلك التجييش األرعن نجاحًا فائقًا إلى درجة أن هذه الجموع
تركت ديارها ،والتي هى ملكها ،والمتصرفة فيها كون اللفظ يوحي بهذا
المعنى .إنه الباطل بمفاهيمه العقيمة وآرائه السقيمة يتكشف هناك ،ويظهر
عبثه وتحكمه في تلك الجموع الغافلة عندما خلت له الساحة تمامًا من كل
عاقل حصيف ،فكان هذا تصرفه ،وذلك الخروج الممقوت هو خطته وقناعته
حتى أودى بنفسه وجموعه إلى الهالك المحقق .وفي الحقيقة فإن تلك النهاية
هى المآل المنتظر لكل جمع تائهه وغافل ما بقيت الحياة وإن تأخر المصير
ال عن مصير أولئك ،وتأتي الجملة هنا لتوضيح عدد ذلك السفه الخارج
هنا قلي ً
في صورته المزرية والمخزية في تناسق عجيب ،وذلك في قوله تعالى "وهم
ألوف" ،حيث تذكر الروايات أن قرية من قرى بني إسرائيل خافوا الطاعون،
فخرجوا هروبًا من الموت ،ورغب ًة في الحياة حتى وصلوا إلى مكان بعيد،
وهم أربعة آالف ،فكان عقابهم أن جازاهم اهلل بنقيض قصدهم ،فقال لهم اهلل
- 105 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
موتوا فماتوا جميعاً ،وصاروا عظامًا بالية ،وبعد حين مر بجثثهم نبي من
األنبياء فطلب من اهلل إحياءهم ،فأمره اهلل أن ينادي تلك األشالء الممزقة
والعظام البالية ،فناداها بأمر اهلل تعالى فتجمعت ،واكتست لحمًا وعصبًا
وجلدًا ،ثم نادى األرواح لتسكن كل روح بجسد صاحبها بأمر اهلل تعالى،
فسكنت تلك األرواح أجسادها ،فقامت تتحرك بأمر ربها ،ونبي اهلل يرى
ويشاهد ،وهنا تتجلى – وبكل وضوح – قدرة اهلل الكاملة في اإلحياء واإلماتة
في صورتها العجيبة .إنها قدرة اهلل التي ال يقف أمامها شئ ،بل يبقى التسليم،
والتسليم فقط ،هو النهاية والمآل .وبغض النظر عن دعاوى ذلك الهروب هل
هو من الطاعون أم مخافة الخصوم واألعداء على قول بعض المفسرين،
فالموقف المخزي هنا هو هروبهم من الموت بتلك الصورة البائسة .ومما ال
شك فيه هنا فإن هاجس الموت ،والرغبة في البقاء ،والحذر حد الجبن يبقى
مطاردًا للعقول الفارغة ،والقلوب الخاوية هنا كما فعل بعقول وقلوب األمس
هناك ،ولن تتحرر العقول والقلوب معًا سوا ًء اليوم أو غدًا إال باتصالها
ن واحد .إنَّه االتصال بالمعبود ،واإلقدام من أجله سبحانه إقدامًا
وإقدامها في آ ٍ
ال يعود إلى الوراء وإال كان االتصال زائفًا ،والعبادة تملقًا .وحتى ال يظن
ظان أن ذلك الخروج البائس قد حقق مراده فقد جاء الرد سريعًا ،وبتناسق
عجيب ،وذلك بقوله سبحانه "فقال لهم اهلل موتوا" ،إنها القوة اإللهية التي
حسمت الجدل ،وأوقفت الحيل بكلمة ،وبكلمة فقط ،لينتهي األمر بموت تلك
الجموع في وا ٍد من وديان بني إسرائيل هناك غير مأسوف عليهم .إنه األمر
الرباني الحاسم للجدل فعل فعله هناك ،ويستمر ذلك الفعل هنا باقيًا ما بقيت
الحياة إليقاف العبث ،وقطع الخبث ،وذلك عندما يحين وقته ،ويأخذ حقه من
ال هنا يتضح
ى دقيقًا وجمي ً
الضالل واإلضالل .ومما تجدر اإلشارة إليه أن معن ً
من خالل السياق وهو أن حكم السماء يتدخل إليقاف عبث األرض عندما
يصبح الخروج على قيم السماء خروجًا جماعيًّا ،عندئ ٍذ تتدخل قوة السماء
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 106 -
لحسم الموقف سوا ًء كما حدث هناك أو كما يتكرر حدوثه اليوم هنا ،وذلك
كون الخروج الفردي عن القيم المثلى ال يعجل أخذ السماء إال عندما يتمادى
ذلك الخروج ويتطاول مجاهرًا بخروجه ،ومسرورًا بسوء فعلته ،ومنظما
بجرمه وجرائمه ،آخذًا بالتشكل ليصبح هو الجماعة ،عندئ ٍذ يكون موعد األخذ
ال لحكمة يعلمها اهلل سبحانه ،لكنه حتمًا سيؤخذ .وال
قد قرب وإن تأخر قلي ً
يظن ظان أن الخارجين اليوم عن قيم الحق والعدل ال يتناولهم هذا الخروج
بعقابه ووعده ووعيده ،بل كل خارج عن قيم الحق والعدل حكمه حكم هذا
الخارج هنا في هذه اآلية – وإن بقي مستقرًّا في مكانه – كون العبرة ليست
بانتقال الجسد فحسب ،بل للقلب انتقال وتنقل يؤجر عليه ويثاب أو يحاسب
عليه ويُعاقب وإن اختلف األمر قليالً .وال شك في أنه يناله من الموت المعنوي
ما يناله وذلك قبل نزول الموت الحسي ولو بعد حين .إن هذا المعنى الدقيق
هو الذي نلمسه هنا من خالل السياق ،والذي ينبغي التنبه له ،واإلشارة إليه
لنفاسته .وهنا قضية ينبغي اإلشارة إليها بمناسبة الحديث عن هذا الخروج
الممقوت وهى أن الخروج من بين ظهراني الخصوم بهدف اإلعداد والتزود
والترتيب ومن ثم العودة للمنازلة ال يعتبر أبدًا خروجًا محظورًا كخروج بين
إسرائيل هذا خصوصًا إذا كان الخصم لدودًا ،وقد تمكن من كل شيء ،وآل
إليه أمر كل شيء ،عندئ ٍذ يكون اإلفالت منه نصرًا بحد ذاته كما حدث ذلك
مع نبي اهلل محمد ليلة الهجرة .إنما يعاب الخروج ،ويذم هذا الخارج عندما
يكون خروجه خوفًا من الموت ،ومن الموت فقط ،ورغبة في البقاء ،وفي
البقاء فقط ،عندئ ٍذ يكون خروجه اليوم كخروج بني إسرائيل باألمس سواءً
بسواء وإن اختلفت مدد اإلقامة هناك في العذاب والنكال كما أسلفنا .وتأتي
خاتمة اآلية هنا لتوضيح المعنى الجميل وذلك بقوله تعالى "إن اهلل لذو فضل
على الناس ولكن أكثر الناس ال يشكرون" ،إنه التوضيح الختامي لتلك
الحقيقة الغائبة لدى كثير من الناس .إنَّها حقيقة الفضل العظيم الذين ينتظر من
- 107 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
سلم حياته ومماته هلل ال إلى الحذر والجبن والخوف كون األول ينتظره نعيمًا
ال ينفد ،وقرة عين ال تنقطع حيث إن النعيم األكمل حاالً ،واألشرف مكانًا،
واألدوم بقا ًء يكون هناك في اآلخرة ،هذا إن اصطفاه ربه ،فإن أحياه وأخره
هنا حتى يستكمل رزقه كان الفضل أيضًا في نفسه وماله وأهله ال يعده عاد،
ص كون كرم اهلل وفضله ليس له حد ،وأما الذي سلم نفسه
وال يحصيه مح ٍ
للحذر فال كمال وال شرف وال بقاء وال ترف ،بل عليه أن ينتظر موتة السوء
لحذره وخوفه كموتة بني إسرائيل وإن اختلفت مدد اإلقامة .وتأتي النهاية
الشاهدة على حال الكثير من الناس رغم هذا الوضوح هنا معلنة أن الكثير
منهم لم يع الحقيقة كاملة ،بل مازال يعيش الوهم ،والوهم فقط ،كون الحذر
الزائف والتصرف الطائش هو من يقوده متخفيًّا وراءه ،وتائهًا معه في صورة
تحمل عمى البصر والبصيرة .إنها الغفلة الجامحة التي سيطرت وسطرت
حبائلها حتى أخذت اللب ،وأعمت القلب ،وجعلت مصير هذا الحذر كمصير
أولئك األقوام الغافلين هناك دون عبرة أو اعتبار ليتفق المصير ،ويتساووا
معًا في السعير .فإياك إياك والكثرة الملهية ،والجموع الغافلة ،فإنها تقتل
حماسة الرجال ،وتذهب بنخوة األبطال ،واعلم أن اإلقدام في أرض الوغى ال
يقتل الرجال ،كما أن التخفي والتستر في الزوايا المظلمة والغرف المعتمة ال
يطيل في األعمار أبدًا ،فكن مسلمًا فطنًا ،وخذ من الماضي عبرة ،واعلم أنه
إن لم يكن من الموت بد فمن العيب أن تموت جبانًا.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 108 -
إل مِن بَنِي إِسْرَائِي َل مِن بَعْ ِد مُوسَى إِذْ قَالُواْ لِنَبِيٍّ َّلهُمُ ابْ َعثْ لَنَا
(َألَمْ َت َر ِإلَى الْمَ ِ
علِيمٌ بِالظَّالِمِينَ{.)27()}246
هلل ....وَاهللُّ َ
َملِك ًا نُّقَا ِتلْ فِي سَبِي ِل ا ِ
عندما يؤول أمر أمة من األمم إلى المأل سلمًا وحربًا عندئ ٍذ يكون السقوط فقط
هو المآل والمصير ،وحتى تكون هذه القاعدة أكثر وضوحًا تعالوا لنعيش مع
اآلية التي تكشف عن هذه الخطيئة التي عاشت هناك في الماضي البعيد
بمفرداتها الخبيثة ،ونتائجها المأساوية المخزية ،والتي فعلت فعلها هناك،
ومازالت تتكرر هذه الخطيئة بفعلها هنا ،وبشكل فج ومقزز ،ويأتي االستفهام
لجذب االنتباه هنا كون هذه الخطيئة تستحق التأمل والنظر حتى ال تبقى تُكرِّر
خطأها وخطتها .إنه المأل بحروفه القليلة ،وسيئاته الكثيرة يستمر بلغته القديمة
الجديدة المتكررة في آن واحد ،وذلك حفاظًا على شهواته ونزواته التي ألفها
منذ القدم ،مدافعًا عنها ،ومتصدرًا المواقف من أجلها ،ولكن هذه المرة كان
هذا الموقف المخزي بعد رحيل نبي اهلل موسى عليه السالم ،وبطريقة القرآن
الجميلة في نقل األحداث واألقوال نقترب اآلن إلى هذا القول الذي يحمل
معاني عدة ،ففي قوله "إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكًا نقاتل في سبيل اهلل"،
فاأللفاظ هنا توحي بغياب الجانب التربوي في الخطاب لنرى سالطة اللسان
الواضحة ،والواضحة جدًّا ،والمعبرة هنا عن ثقافة المأل القاصرة والخالية
من معاني األدب والحياء بالقول األرعن هناك بألفاظه المقرفة ،ومعانيه
السمجة المنبوذة .وهنا تظهر مجموعة من اإليحاءات المهمة ومنها أن كلمة
"قالوا" توحي بتوحد صف المأل صفًّا واحدًا خوفًا على ذهاب مكانهم
ومكانتهم من تهديد العمالقة الذين كانوا يسيطرون حينها على بيت المقدس.
إنه الصنف األكثر غباءً ،واألشد جهالً ،واألقل وعيًا يتصدر المشاهد
المصيرية منظمًا وموحدًا في واحدة من أسوأ المفردات في تاريخ األمم
والشعوب .وثانيًا :يشي اللفظ بأن ألسنتهم جميعًا تنطلق بالخطاب مرة واحدة،
وبطريقة غوغائية خالية من أي عقل أو منطق ،فهم مجتمعون وموحدون في
ظاهرهم ،ولكن في أوساطهم كلهم يريد أن يتكلم في آن واح ٍد ليُظهر شرفه
على غيره أمام نبي اهلل ،فرائحة الهرج والمرج في خطابهم تكاد تصل إلى
هنا ،ولك أن تتخيل الموقف ،وثالثًا :يشي اللفظ أيضًا بالعالقات البينيَّة القوية،
والقوية جدًّا ،التي تجمع المأل هناك في الماضي كما هو الحال كذلك في
الحاضر كون المصالح المشتركة المتمثلة بحب السيطرة ،وامتالك الثروة
والشرف والسيادة كلها مفردات تجمع تلك البطون المنتفخة ،والرؤوس التائهة
التي نفخها الكبر وأثقلها الغرور ،ورابعًا :يشي اللفظ هنا وبشكل شديد
الوضوح بسيطرة المأل الكاملة على القرار والديار ،فأصبحوا هم المتحدثين
عن عامة شعب بني إسرائيل بطريقة عبثية وسمجة – كما أسلفنا ،-تزداد
وقاحة هذا المأل وتتطاول متاهتهم هنا بتعبيراتهم الطائشة كون كلمة "لنبي
لهم" وليس لنبيهم مباشرة عبرت عن اختالف في العقيدة والفكر والرؤية،
وهي الحقيقة التي تجلت فيما بعد من خالل األحداث .كما توحي هذه األلفاظ
بكثرة األنبياء المرسلين إلى تلك األمة الضالة دينًا ،والطائشة عقالً ،والساقطة
أخالقًا ولفظًا .ويتواصل السقوط األخالقي للمأل هنا ،ويتبدى لنا معنى جميل
ال يقود
غاية في الجمال ،حيث يسقط حياؤهم هنا جملة وهم يطلبون رج ً
المعارك والقتال كونهم في حقيقتهم ليسوا رجاالً ،بل بطونًا منتفخة ،ومنتفخة
فقط ،كما أن لفظ "لنا" يوحي بوقاحة المأل حيث عبروا عن طبعهم الرث ،فلم
يقولوا ابعث معنا كون هذا اللفظ يقتضي المساواة ،بل قالوا ابعث لنا كونهم
يريدون ملكًا يملكونه هم كما يملكون أمتعتهم .إنها النظرة المفضوحة ،والثقافة
القاصرة ،والنظرة الدونية للغير تعتمل هنا في خلد المأل ،وتخرج بهذه
الطريقة المبتذلة الخالية من الحصافة والرصانة واألدب والشهامة .نعم إنها
لغة أمالكي وأتباعي وحقوقي الشاملة تظهر هنا ،ففي عرفهم أنهم يملكون
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 110 -
الحجر والشجر والبشر ليس إال ،ثم أرادوا في نهاية القول أن يُلبسوا خطابهم
لباسًا دينيًّا كي يُخفوا خبثهم وحقيقتهم ،ولكن بطريقة مفضوحة سلفًا ،وذلك
بقولهم "نقاتل في سبيل اهلل" ،إنه التلبس المكشوف ،والخداع المعروف
يتكشف مرة أخرى مُظهرًا صدقَه ودينَه كي يُلقي ويُلهي في وقت واحد؛ نعم
يلقي غيره في أتون الحرب باسم الدين كون في سبيل اهلل حضرت هنا،
ويلهيهم به أيضًا في نفس الوقت .إنه الخبث الذي أحدث كل هذا العبث هناك
في الماضي البعيد ،وما زال يعبث هنا بوسائله وأدواته .واآلن وأمام هذا
الطلب الموغل في السفه ،والمتجاوز لحدود األدب ،والمغلف بغالف الدين
يأتي الرد اإللهى على لسان نبيه ،هنا مناسبًا ،ومناسبًا جدًّا ،لهذه العقول "قال
هل عسيتم إن كتب عليكم القتال أال تقاتلوا" ،إنها لغة المصارحة والمكاشفة
تظهر هنا بألفاظها القوية ،وإيقاعاتها الشديدة موجهة نحوهم ،كاشف ًة – وبكل
صراحة – أنهم أهل القول ،وليسوا رجال الفعل ،فتلك هي حقيقتهم ،وذلك هو
شأنهم .إن هذه الجملة تكشف خدعه عظيمة يمارسها المأل ،إنها خدعة جهنمية
تتكشف هنا من خالل سياق اآليات متمثلة بالبحث عن قيادة وأتباع يقوم المأل
بترتيبهم وإعدادهم ،ومن ثم االنسحاب وتركهم يقاتلون هناك ،ويضحون هنا،
بينما يقتصر دور المنسحب على التوجيه من بعيد ،وله بعد ذلك يُحسب النصر
واالنتصار ،فهكذا إذًا كانت خطة المأل باألمس ،وما زالت هى خططهم اليوم
سواء بسواء .إنها المخادعة المكشوفة ،والمؤامرة المفضوحة تعبر عن نفسها،
وتعلن عن ذاتها الدنسة أمام األنبياء بتلك الطريقة الوقحة ينقلها لنا القرآن
بطريقة واضحة حتى ال يتكرر الخداع ،وتستمر المخادعة ،لذا كاشفهم النبي
صراحة كون هذا الصنف ال يجوز أبدًا مماراته أو مداراته على اإلطالق.
وتكشف اآلية هنا مرة أخرى سياسة المأل الزائفة ،ووعودهم الكاذبة ،حيث
أكدت على أن وفاءهم وصدقهم وجهادهم وبذلهم مزورٌ ومتلبسٌ بالدين مرة
أخرى بقوله "وما لنا أال نقاتل في سبيل اهلل وقد أُخرجنا من ديارنا وأبنائنا".
- 111 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
إنها اللغة التي جمعت بين الدين وتجييش العواطف بذكر الديار واألبناء،
ولكنها البضاعة التي ستسقط بمجرد سماع طبول الحرب ،وذلك كما سيأتي
معنا الحقًا .وهنا وبعد هذا الحوار كتب اهلل القتال ،وبعث طالوت ملكًا ،فكانت
النتيجة المتوقعة هى انسحابهم من ميدان المعركة قبل بدايتها ،ولم يثبت منهم
سوى القليل ،والقليل جدًّا .نعم فمن صنعهم النعيم والترف ،وألفوا القصور،
واللهث خلف الشرف المنقوص والممقوت ليس إال ،هؤالء ليسوا رجاالً
للوغى ،ولن يكونوا كذلك أبدًا سواء هناك في الماضي أو هنا اليوم في
الحاضر .وتأتي اآلية في الختام لتوضيح حقيقة في غاية األهمية وهى أن
هؤالء ظلمة كونهم تركوا األعداء يأخذون أرضهم وبالدهم ،ويقتلون
ويفرقون بين اآلباء واألبناء في واحدة من أسوأ المظالم ،ومع ذلك لم ينتصروا
لحقوقهم ،ولم تتحرك رجولتهم أو شرفهم على حسب دعواهم ومحبتهم
للشرف كونهم يريدون شرفًا دون تضحية ،فهم ظالمون إذًا بهذا االعتبار،
هذا أوالً ،وثانيًا ال يَحسب من يكون هذا شأنه ،والخداع خطته أن يخفى ذلك
على اهلل وإن خفي على بعض الخلق ،فالخالق سبحانه يعلم حقيقة هذا الظالم
المخادع ،وسيفضحه في حينه ووقته وزمانه ،كما فضح هؤالء المأل باألمس،
ستستمر إذًا الفضيحة تالحق مأل اليوم لتفعل بهم هنا ما فعلته بهم هناك ،فكن
حذرًا من المأل ،واعلم أن تصدرهم المواقف واألحداث هى عالمة السقوط
كونهم ال تسيرهم العقول والقيم ،بل الشهوات واألموال وحب النعم ولو على
حساب شرفهم وكرامتهم.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 112 -
ك
ن لَ ُه الْ ُملْ ُ
ت َملِك ًا قَاُل َواْ أَنَّى يَكُو ُ
ث لَكُمْ طَالُو َ
اهلل قَدْ بَ َع َ
( َوقَا َل َلهُمْ نَب ُِّيهُمْ إِنَّ َّ
اهلل اصْطَفَا ُه
ِن َّن الْمَا ِل قَا َل إ َّ
ت سَعَ ًة مِ َ
ك مِنْ ُه َولَمْ ُيؤْ َ
َق بِالْ ُملْ ِ
ن َأح ُّ
علَيْنَا وَ َنحْ ُ
َ
َاهلل يُؤْتِي ُملْكَ ُه مَن يَشَاءُ وَاهللُّ وَاسِعٌ
علَيْكُمْ َوزَادَ ُه بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ و ُّ
َ
علِيمٌ{.)28()}247
َ
عندما يريد اهلل أن يرفعك بما حباك من علم وفضل فإنه ودون علمك يُحوج
الخلق إليك ال لشيء إال ليظهر قدرك ،ويصلح بك ما اعوج بغيرك .نعم يتضح
هذا كله وغيره من خالل هذه اآلية التي نعيشها ،ونسعد باللقاء معها .إنها
الشدائد التي تأتي من هنا وهناك ليرفع اهلل بها أقوامًا لم يكن لهم ذكر أو خبر،
ويسقط بها أقوامًا مأل ذكرهم وخبرهم الزمان والمكان ،وحتى نتبين األمر،
وتتضح القضية نواصل المسير مع هذه اآلية لنعرف بها ومن خاللها التاريخ
البشري بأشخاصه وذواته وأحداثه وصفاته ،فجملة "إن اهلل قد بعث لهم
طالوت ملكًا" هذا هو خطاب السماء األشرف قدرًا ،واألكمل حكمًا ،واألصح
ذكرًا ،واألصدق خبرًا يظهر هنا بروعته وجماله وشرفه وكماله .إنها
اإليحاءات المربية ،والمعاني المعبرة تنطلق من خالل السياق كاشفة لحقائق
ينبغي أن تظهر وتبقى ،وألخرى ينبغي أن تتوارى وتفنى ،وأول تلك
اإليحاءات أن نبي اهلل هنا أراد أن يربط قومه باهلل مباشرة من خالل إشعارهم
أن الذي اختار هذا الملك وبعثه هو اهلل ،وهذا يعني أنه ال مجال لالعتراض
على اإلطالق ،وثانيًا :أن اهلل عندما يختار أمرًا ما فإن كل خيارات البشر
يجب أن تسقط أمام ذلك الخيار ولو جاء مخالفًا لألهواء والرغبات ،وثالثًا:
أن عطايا الرب عندما تكون استجابة لطلب العبد عندئ ٍذ إما أن ترفعه إن آمن
وشكر ،وإما أن تفضحه إن عاند وكفر كون العطايا هى في حقيقتها ابتالءً
ليس إال ،ورابعًا :أن حسابات السماء هناك تختلف عن حسابات األرض هنا
حيث يتضح هذا األمر وغيره من خالل سياق اآليات كما سيأتي الحقًا ،وحتى
ال نذهب بعيدًا نعود لنرى ونسمع رد المأل "قالوا أنى يكون له الملك علينا
ونحن أحق بالملك منه" ،هذا إذًا هو رد األرض ومنطقها ،ورؤيتها .إنه الرد
المخزي ،والمنطق المؤذي ،نعم هو مخ ٍز كونه يرفض أمر السماء ،وهو مؤذٍ
كونه تعرضًا واضحًا لنبي اهلل باألذى واللجاج ،والملفت للنظر هنا هو
المحاولة البائسة لهؤالء المأل األشد بؤسًا ،واألسوأ فكرًا ،وجاءت كلمة "لكم"
من قبل النبي ليتوافق الجواب مع السؤال حتى ينتهي اإلشكال ،ويستقيم الحال،
ولكن أنَّى هذا مع قوم هم الصم وهم البكم في آن واحد ،والمالحظ هنا أنهم
أخرجوا الموضوع عن السياق لتتضح للدنيا حقيقة كذبهم ،وخبث طويتهم،
ال عن لنا ،إنها المحاولة الدنيئة الختالق
وذلك عندما أدخلوا دعوى علينا بدي ً
الخالف بغية التنصل من التبعات في صورة تعبر عن همجية ال حدود لها.
إنها الهمجية التي تمادت هناك وترعرت حتى أصبحت هى السمة الغالبة،
والصفة المتوارثة لكل مأل في كل زمان ومكان .ويظهر المرض ،ويزداد
تكشفًا من خالل قولهم "ونحن أحق بالملك منه" ،إنها األحقية الزائفة في
الملك والتملك تتجلى هنا في صورة اعتراضية على خيار السماء .نعم إنها
األحقية التي أنتنت المكان هناك ،وأمرضت الزمان ،وفرقت األحوال
ليتواصل مرض تلك األحقية العارية من منطق الحق والعدل إلى آخر الزمان
في صورة غاية في السفه والطيش دون وجه حق .إنها حقارة األرض عندما
تتطاول بمائها وطينها على السماء بعلوها ونورها في صورة هى األكثر
غباءًا ،واألشد وقاحة من قوم بلغ بهم الغباء منتهاه ،والعناد أعاله .ومما تجدر
اإلشارة إليه هنا أن جملة ونحن أحق بالملك منه توحي بعشوائية تلك األحقية
الزائفة كونهم لم يحددوا أيًّا منهم يمكن أن يكون ملكًا ولو من باب العناد
المعلوم ،واللجاج المحسوم – ولو جدالً – كما أسلفنا .إنها عشوائية العقول
ال
والقلوب وعشوائي ُة الضمائر اجتمعت فيهم مكونة عشوائية ال حدود لها شك ً
ومقامًا وحاالً .والمالحظ في سلوك هذا المأل المخزي أنهم يريدون مسئولية
دون أن تكون لها تبعاتها ،بل يريدونها مسئولية فارغة المحتوى ،وعديمة
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 114 -
المتجاوز لكل عقل ومنطق تأتي قيم السماء وحكمها وعدالتها ونورها معلنة
قيم االصطفاء الحقيقية المناسبة للمكان والزمان واألعمال .إنها البسطة في
العلم والجسم هى المناسبة لهذه المسئولية ،ولهذا الملك كون الجهل العلمي
يتبعه بال شك هزال جسدي ،وكالهما يعبران عن جسم مريض وأعمى ،وأنى
ألعمى أن يقود ،ولمريض أن يسود .والمالحظ هنا الجمع بين بسطة العلم
ن واحد ،مع تقديم بسطة العلم على بسطة الجسم كون القوة وبسطة الجسم في آ ٍ
العلمية هى التي تولد قوة جسدية صحيحة ومتوازنة ،وليست قيم الطين السفلية
هى من تفعل ذلك .كما أن المأل قد يملكون بسطة األجسام ،ولكنها في الحقيقة
بسطة اللحم والدم الخالية من قيم العلم والفهم التي تسقط وال تثبت أمام قيم
السماء األكمل هديًا ،واألشرف حاالً ،واألصدق خيرًا ،بل ال مقارنة البتة بين
قيم النور وقيم الطين ال في شكلها ،وال في مآالتها .ثم تأتي روعة الختام
منسجمة تمامًا مع هذا المقام وذلك من خالل قوله "واهلل يؤتي ملكه من
يشاء" ،إنها السماء بقيمها النورانية هى من تملك األمر ،وهى من تعطيه
وتأخذه ،بينما هذه األرض بناسها وترابها عليها أن تلزم حدودها ،وتعرف
ال ومآالً ،والمفطورة على قدرها كونها األسفل خلقة وخلقًا ،واألفقر حا ً
الخضوع واالستسالم للخالق زمانًا ومكانًا .نعم فعلى المأل في كل زمان
ومكان أن يفهموا هذه القيم ،وأن يعوها تمامًا حتى يعرفوا قدرهم ،وال
يتجاوزوا بعد اآلن حدودهم ،واعلم أن دعاة األحقية في الحكم والملك في كل
زمان ومكان هم الداء الدوي ،والموت الخفي في األمة ،فكن حذرًا لمكرهم،
ومتنبهًا لكذبهم ،واعلم أن مواقع اإلدارة والملك تتطلب علمًا وقوة وقدرات
وفتوة ،وأن من يؤتي الملك والعلم والبسطة في الجسم هو اهلل ،وأن المال
الخالي من قيم السماء وأصول الشهامة والرجولة يكون مدعاة للسفه والطيش،
والحماقة في العيش...
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 116 -
س
ب مِنْ ُه َفلَيْ َ
ش ِر َ
اهلل مُبْ َتلِيكُم بِ َن َه ٍر فَمَن َ
ِن َّت بِالْجُنُو ِد قَا َل إ َّ
ص َل طَالُو ُ
( َفلَمَّا فَ َ
ال
ِال َقلِي ً
شرِبُواْ مِنْ ُه إ َّ
غرْفَ ًة بِيَدِ ِه فَ َ
ف ُ
ن اغْ َترَ َ
ِال مَ ِ
مِنِي وَمَن لَّمْ َيطْعَمْ ُه فَإِنَّ ُه مِنِي إ َّ
ت
ن آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ الَ طَاقَ َة لَنَا الْ َيوْ َم بِجَالُو َ
مِنْهُمْ َفلَمَّا جَاوَزَ ُه ُهوَ وَالَّذِي َ
غلَ َبتْ فِئَةً كَثِيرَ ًة
هلل كَم مِن فِئَةٍ َقلِيلَةٍ َ
القُو ا ِ
ن أ ََّنهُم مُّ َ
ن يَظُنُّو َ
َوجُنودِ ِه قَالَ الَّذِي َ
َاهلل مَعَ الصَّا ِبرِينَ{.)29()}249
ن اهللِ و ُّ
ِبإِذْ ِ
سيكتب اهلل في السماء ،وسيتحدث الناس في األرض عن ثباتك يوم أن سقط
الضعفاء ،وعن كرمك يوم أن بخل اللؤماء ،وعن خروجك وجهادك يوم أن
توارى الجبناء ،فاألعمال الصالحة والسيرة الصاد=قة تاريخ حافل في البقاء
ال تُنسى أبدًا ال في األرض وال في السماء .وحتى نجسد هذه القضية الكبيرة
شكالً ،والعظيمة قدرًا ،والصادقة خبرًا وذكرًا نعود إلى مصدر الكمال كالم
اهلل كي نعيش هذه المرة مع من زاده اهلل بسطة في العلم والجسم .نعم تعالوا
لنرى بسطة العلم والجسم وهى تعلن عن نفسها ،وتُظهر حقيقة تربيتها
وجهادها في صورة هى األصدق واألقوى واألعلم واألتقى في ميدان الجهاد
حينها ،فقوله تعالى "فلما فصل طالوت بالجنود" هذه الجملة تحمل معاني
عدة ومنها أن حقيقة االبتالء بدأت صراحة بعد قطع المسافة الطويلة،
والطويلة جدًّا ،في صحراء مترامية األطراف .ومما ال شك فيه فإن السقوط
للسواد األعظم من بني إسرائيل قد بدأ منذ كُتب عليهم الجهاد ،ولكننا لن
نتحدث عن هؤالء الذين فشلوا أمام التكاليف في بداية الطريق كونهم انتهى
أمرهم بسقوطهم هناك ،ولكن دعونا نقف مع سياق اآليات وبالتحديد مع من
قبلوا أمر اهلل بداية لنعرف حقيقتهم نهاية .إنه الفصل المشهود في ذلك اليوم
ن واحد
الموعود في واحد من أقوى التحركات القرآنية المربية والمعلمة في آ ٍ
في ذلك الماضي البعيد ،وثانيًا :أن طالوت فصل الجنود عن غيرهم ،وتحرك
بهم دون سواهم كونهم ما سُموا جندًا إال لقوتهم وصالبتهم ،حيث أن أصل
الجند هو األرض الصلبة والقوية ،لذا كان الخروج بهم ،والتحرك معهم
باعتبار تلك الصفات ليس إال ،وثالثًا :أن وجود طالوت في مقدمة جيشه هو
الوضع الطبيعي والصحيح للقائد الصادق الذي يربي الجند بفعله ال بقوله كما
يحدث اليوم في كثير من المواقع واألحداث دون مسوغ إال الحذر ،والحذر
غير المبرر في كثير من األحيان .إنها البسطة الطالوتية الحقيقية التي سقطت
أمامها عبثية الطغاة وجهل البغاة في صورة تحمل حقيقة القائد األشرف علمًا،
واألقوى جسدًا وجسمًا ،ويوحي سياق اآلية هنا بقدرة طالوت الفائقة على
إدارته لجنده ،ومتابعته لعسكره في صورة مذهلة .ومما ال شك فيه فإن تجربة
بني إسرائيل السابقة والمرة مع أنبيائهم تتطلب من طالوت هنا اختبار جيشه
ليتثبت لنفسه ولربه من حقيقة هذه اآلالف كون الكثرة العددية غير المنتقاة أو
غير المتربية تكون عبئًا على القادة ،بل وعلى المبادئ واألمة في كثير من
األحيان .لذا البد من اختبار وامتحان لتتم عملية الفرز والتصحيح قبل
الوصول إلى ميدان المعركة ،وهنا لفتة لغوية بديعة تتمثل بقوله" :إن اهلل
مبتليكم" حيث أشعرهم بأن هذا األمر العسكري من اهلل ،وأنه مبلغ فقط لهذا
األمر ،وذلك لتتضح المسألة ،وتقدر القضية ،وتتجلى رحمة اهلل هنا عندما
يبتلي عباده ،فعند ابتالئه سبحانه يترك لعباده منفذًا للحياة والبقاء ،وموقعًا
ال وكرمًا منه ،ويتمثل هذا الكرم اإللهي هنا بقوله" :إال
لألخذ والعطاء تفض ً
من اغترف غرفة بيده" ،فيمنع الشرب الكامل ،وتُستثنى الغرفة الواحدة باليد
الواحدة كون األكباد ظامئة ،بل وظامئة جدًّا .إنه االبتالء الكبير حاالً ،والشديد
مكانًا يظهر هنا في هذه اللحظات االستثنائية الحرجة من عمر األمة
اإلسرائيلية الغافلة .إن ثمانين ألفًا من الجند اآلن يسمعون هذا األمر ،ولكن
القليل ،والقليل جدًّا ،من يصبر على هذا العطش ،ويتماسك أمام هذا الظمأ.
إنه النهر العذب البارد الزالل يتجلى هنا أمام األعين الشاخصة ،ويتحرك
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 118 -
بمياهه النقية الصافية أمام األكباد الظامئة في وقت بلغ منهم الظمأ مبلغه .إنه
ابتالء للكبار إيمانًا ،ولألقوى عقيدة ،ولألصدق دينًا يتجلى هنا في صورته
هذه ليُحدث التمايز كي يتم تقرير ما سيتم بعد ذلك في أرض المعركة هناك.
إنها ابتالءات الحياة ،واختبارات األحياء باقية ما بقيت الحياة بطرق مختلفة،
ووسائل شتى تتجدد مع تجدد كل صباح ليحيا من يحيا عن بينة ،ويهلك من
يهلك عن بينة ،والموفق هنا هو من تجاوزها بثبات ورضى وقناعة وهدى.
ومما ال شك فيه فإن المفاجأة الكبيرة أمام النهر كانت هى السيدة والسائدة،
حيث شرب السواد األعظم من ماء النهر حتى ارتوى في مخالفة واضحة
ألمر اهلل في السماء ،وأمر القائد طالوت في األرض .إنه السقوط المريع أمام
شهوات النفس في لحظات الغفلة البائسة ،والتصرفات البهيمية الطائشة
ظهرت هنا في صورة حيوانية باهتة .نعم فلقد شرب سبعة وسبعون ألفًا دفعة
واحدة ،ولم يطع األمر وينتصر على نفسه وهواه سوى ثالثة آالف فقط هم
من اغترفوا بأيديهم كما صدر األمر لهم .إنها الكثرة العددية الزائفة،
والجمهرة البشرية العابثة التي كبرت من دون تربية ،وتحركت من غير
تزكية تعلن عن سقوطها ،وتستسلم لذواتها في لحظات زمنية فارقة .نعم حدث
ال تذكيرها بسوء فعلها ،ولكن دون
كل ذلك السقوط والقائد طالوت ينظر محاو ً
جدوى ،فالنفوس البائسة من الصعوبة بمكان أن تمنعها عن ورود بؤسها
سوا ًء هناك في الماضي أو حتى بؤس اليوم الحاضر الالهي .إنها الكثرة
العددية الخاوية إيمانًا ،والساقطة أخالقًا تستسلم لعاطفتها الرخيصة ،ونزوتها
اآلنية الخبيثة ،تارك ًة أوامر السماء وصالحي األرض دون حياء أو خوف،
وفي الحقيقة فإن هذه الكثرة هى الزبد الذاهب الذى يسقط في منتصف الطريق
دائمًا ،ويسقط معه كل من اعتمد عليه سواء باألمس هناك ،أو في الحاضر
هنا .ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن إختبار كبار القادة للجند ومن دونهم من
القادة أمر الزم ،وعمل مشروع على الدوام قبل تبوئهم المناصب سوا ًء كانت
- 119 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
تلك االختبارات أمنية على األسرار والمعلومات ،أو عسكرية على الممتلكات
العامة والمعدات ،أو كانت حتى مالية على األموال واألقوات ،وال شك في
أن هذا السقوط سيتكرر من البعض هنا كما تكرر مع طالوت في الماضي
هناك ،حيث ستجد هنا ظمأ األموال يفعل فعله مع صغار الهمم والعزائم ،بل
ويتعدى ذلك الظمأ الملعون إلى المخازن والممتلكات ،بل وحتى على الخطط
والمعلومات ،وهو ما يؤخر النصر حتمًا ،ولكن أنصار هذا الظمأ الملعون
سينكشفون حتمًا ،ويذهب جفاءًا بكل سيئاته وسوآته وإن تأخر كشفه بعض
الوقت .كما أنه سيظهر هنا عظماء يقتلهم الظمأ ،وتحيط بهم الحاجة،
وتطاردهم الفاقة ،وقد تركوا األهل واألبناء هناك بعيدًا ،ومع ذلك هم األشرف
يدًا ،واألطهر قلبًا ،واألصدق عزمًا يستشهد أحدهم وحاجته في صدره لم يبح
بها ألحد كونه يريدها من ربه ،ومن ربه فقط ،وهؤالء بهم يتحقق النصر هنا
رغم قلتهم كما تحقق مع طالوت هناك بعد بالئهم .ومما ينبغي ذكره أيضًا أن
هذا االبتالء بالعطش هنا لم يكن عبثيًّا أبدًا ،بل هو درس كبير للمجاهدين
الصادقين في الثغور في كل زمان ومكان بأن الحصار من العدو عليك قد
يحدث ألمر ما ،فال تجد من الماء إال ما تبل به ريقك ،وقد ال تجد من الطعام
إال لقيمات معدودة طوال ليلك ونهارك ،عندئ ٍذ سيكون صبرك هنا هو مقدمة
للنصر هناك رغم قلة العدد ،وضعف العدة كما حدث تمامًا فيما بعد لقلة
طالوت سواء بسواء .كما ينبغي أن نذكر هنا أن هذا السقوط الذي حدث في
الجيش أمام النهر لم يضعف مَنْ زاده اهلل بسطة في العلم والجسم ،بل قواه،
فواصل سيره مع من آمن معه وهم ثالثة آالف كون العظماء ال يوقفهم
السقوط ،وال تحبسهم األعذار ،بل هم باهلل الكبير كبار .ثم جاءت المحطة
األخيرة من االبتالء لهذا العدد أيضًا وذلك بعد رؤيتهم لجالوت وجنوده ،وقد
أقبل بعشرات اآلالف ،بل بمئات اآلالف في قول بعض التفاسير يتقدمهم
جالوت الطويل جدًّا ،والمشهور في بيت المقدس وبالد الشام بقوته وعنفوانه،
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 120 -
عندئ ٍذ كان منطق الضعف هو الحاضر لدى الثالثة اآلالف قائلين "ال طاقة
لنا اليوم بجالوت وجنوده" ،وكان هذا هو السقوط النهائي الذي واصل سيره
إلى هنا ،ولم يستطع لضعف إيمانه مواصلة السير حتى النهاية كون النهاية
مع اهلل شريفة وكريمة ،واألنفس الهينة اللئيمة ال تستحق ذلك التكريم أو ذاك
الشرف .لذا فلتعد إذًا خائبة إلى ديارها هناك ليبقى فقط ثالث مئة وثالثة عشر
جنديًّا هم من ثبتو ،وهم من صح إيمانهم من المجموع الكلي البالغ ثمانون ألفًا
في البداية .إنها الغثائية العددية الفارغة تتساقط تباعًا دون حياء أو مراجعة.
وفي الحقيقة فإن هذا السقوط هو شأن كل غثائية فارغة من اإليمان في كل
زمان ومكان .والجميل هنا أن هذا السقوط المتتابع لهذا الجيش الخاوي لم
يُسْقِط إيمان القائد الكبير طالوت ،بل ظل ثابتًا كالجبل أمام هذا التهاوي
المخيف كون بسطته في العلم كفيلة بثباته ،لعلمه أنه مع ربه ،وأن ربه معه
وإن تركه الكون كله .إنها الحقيقة التي تجلت مع القلة التي ثبتت ،وبمعية اهلل
هنا هتفت ووثقت ،ثم بكل قوة حذرت ونطقت "كم من فئة قليلة غلبت فئة
كثيرة بإذن اهلل واهلل مع الصابرين" ،إنها الحقيقة التي ينبغي أن تترسخ في
العقول والقلوب هنا حيث ال خوف أبدًا ،فمهما تساقط المتساقطون تبقى الفئة
الصادقة موجودة في كل مكان ،وعالية الهمة في كل زمان ،فكن أنت من هذه
القلة الصادقة ،واعلم أن شرفك هو صدقك وثباتك ،وأن رجولتك هى أمانتك
ووفاؤك ،واحذر أن تشرب وتروي ظمأك المادي مما هو أمانة اهلل عندك،
واعلم أن النصر قادم مهما تساقط الضعفاء ،وتآمر الخبثاء ،وحسبك أن تقوم
بواجبك لتنال ما عند اهلل هناك ،وليس ما عند الخلق هنا.
- 121 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
الحياة ،وباقية بقاء األحياء ،وثانيًا :أن البروز أمام الظالم إليقاف ظلمه ،وقطع
دابره ال يمكن أن يتحقق إال في إطار الجماعة واألمة كون الصالح الفردي
ال يقوى أبدًا على هذا البروز مهما بلغ مبلغه بصاحبه ،لذا كان التعبير بالبروز
الجماعي إيحاءًا لهذا المعنى في هذا المكان ،وثالثًا :أن وجهة الجماعة اتجهت
نحو السماء في صورة تحمل استغاثة جماعية مألت بأصواتها أرجاء الزمان
والمكان حتى كدنا ونحن هنا نستشعر ذلك االبتهال الجماعي بروعته وصدقه
في صورة أخرى توحي بأن النصر يأتي من هناك من السماء ،وذلك بعد أن
تكون األرض برجالها الصادقين قد قدمت جهدها ونفسها حيث تشي اآلية
بهذا المعنى النفيس .وينقلنا السياق القرآني بطريقته الفذة إلى الغاية من ذلك
االبتهال الجميل شكالً ،والموحد هدفًا ،والمتجرد قصدًا ،وهو يتجاوز القوة
الجالوتية العابثة المنتفشة بكل ثقة وإخالص قائالً" :ربنا أفرغ علينا صبرًا
وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين" ،إنه الفهم الواسع يتضح هنا
لدى هذه الفئة المؤمنة من خالل هذه الكلمات حيث قدمت طلب الصبر قبل
تثبيت األقدام وتحقيق النصر كون أنه ال تثبت األقدام ،وال يتحقق النصر إال
بالصبر والتحمل ،وبذل الجهد ،وثانيًا :قالت أفرغ ،فاللفظ يدل على طلب
الصبر كله حتى يمأل كل ذواتهم كون العدو شديدًا بأسه ،وكثيرًا عدده ،ثم كان
تحديدهم لمكان تنزُّل الصبر بقولهم "علينا" ،وليس لنا إيحاءًا بطلب الصبر
الذي يمأل أجسادهم وقلوبهم وحواسهم وحتى مكان أقدامهم وذواتهم ،فاللفظ
علينا يشي بهذا المعنى ،ثم يتواصل جمال الطلب وذلك بتنكير كلمة صبرًا
حيث جاء طلب الصبر هنا منكرا بقوله "صبراً" ،وذلك في إشارة إلى طلب
الصبر بكل أنواعه المتمثل بالصبر على الطاعة ،وعلى البالء ،وعن
المعصية كون الموقف حينها يتطلب كل ذلك بكل تفصيالته وجزئياته .إنها
الحقيقة التي يجب أن يستوعبها حملة المنهج السماوي وهم يحيون في هذا
الزمان ،وقد أحاطت بهم الفتن ،وتكالبت عليهم المحن ،عندها البد من اللجوء
- 123 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
إلى عالم الغيوب طلبًا للصبر بكل أنواعه لتثبيت األقدام حتى تصل إلى ربها
بعد طول زحام .نعم فكل هذه المفردات تحتاج إلى صبر يفرغه اهلل جملة
واحدة في هذه القلوب المجاهدة في تلك اللحظات الحاسمة بال شك .ومما
ينبغي اإلشارة إليه هنا أن اإلجرام عندما يعلن عن ذاته ،ويتجاوز حدوده،
ال وعرضًا عندئذٍ على الجماعة المؤمنة واألمة الهادية أن تقف
ويتطاول طو ً
عند هذه المعاني ،وتعيش هذه اللحظات وذلك إعدادًا للعدة المستطاعة ،ومن
ثم البروز بقوتها الحسية والمعنوية كي تصنع نصرًا كما صنعه طالوت
ورجاله ،ثم على هذه الفئة الصادقة أن تعي أن قوة األرض الفارغة إيمانًا
ال مهما كثر عددها،
ال ومقا ً
والخاوية عقيدة ،والبعيدة عن عون السماء حا ً
وتنوعت عدتها فهى مهزومة حتمًا ،وذاهبة إلى الزوال جملة وإن تأخر ذلك
الذهاب قليالً ،ولكنه حتمًا سيحدث .وسيتضح لنا الحقًا حتمية ذلك الذهاب لهذا
الخبث الجالوتي والفساد األسطوري الذي كان سائدًا في ذلك الزمان البعيد،
وبطريقة لم تخطر على بال كون اهلل إذا أنزل نصره على عباده أدهشهم
بعطائه ،وأكرمهم بجوده وفضله .فاطلب من اهلل أن يفرغ عليك صبرًا كي
تقوى على متاعب األيام وغدر الزمان بفساده وحماقته ،فال ثبات أمام كل تلك
المتاعب والفساد إال بصبر منه سبحانه ،ورعاية منه جل شأنه..
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 124 -
بين حق وحق ،إنما تكون الحروب على تلك الشاكلة الثالثية التي ذكرناها،
والجميل هنا مجئ كلمتي "بإذن اهلل" ،وذلك إشعار لهم ولمن بعدهم إلى قيام
الساعة بأن النصر ال يكون إال بعد أن يأذن اهلل ،ومن المعلوم هنا أن هذا اإلذن
وذلك النصر الذي تفضل اهلل به على طالوت وجنده لم يتأت إال بعد ابتالءات
جمة سقط فيها الخبث تباعًا حتى أصبح الحق هو األكمل دينًا ،واألنقى قلبًا،
واألوفى حاالً ،واألصدق مقاالً ،عندها أذن اهلل لنصره فتنزل على الفور .إنه
اإلذن الذي يتباعد عن األرض ،ويظل هناك في السماء طالما أن هذه األرض
تأبى بأهلها وطينها أن تصدق مع السماء بعلوها ونورها ،عندئ ٍذ تكون لحظات
التيه الباحثة عن نصر هنا أو هناك ،ولكنه الضياع المستمر دون جدوى،
والحقيقة المتيقنة التي يجب استيعابها من قبل حملة الحق أن ال مجال البتة
للبحث عن نصر في األرض مادامت السماء لم تأذن بعد ،وأن ذلك اإلذن
يبقى بعيدًا بعيدًا حتى تصدق األرض بأهلها وناسها مع ربها .ثم نالحظ أن
سياق اآلية هنا يشي بأقدار اهلل وحكمه وهى تفعل فعلها ،وتحقق مراد اهلل فيها
بطريقة لم تخطر على بال طالوت وجنده أبدًا ،حيث سجل القرآن الفاعل
والمفعول به بقوله "وقتل داوود جالوت" ،إنها اللحظات الحاسمة التي هيأ
اهلل فيها سببًا بسيطًا إليقاف عبث جالوت ومكره وفساده وفحشه ،حيث تحرك
داوود= بالمقالع الذي كان بيده واضعًا حجرًا بمقالعه هذا ،ثم سمى اهلل،
ال بحجر لينتهي
ب جالوت ،فوقع الحجر على رأسه ،فسقط مقتو ً
ورمى صَوْ َ
األمر ،ويُطوى الخبر .إنها الحقيقة الكبيرة تعلن عن نفسها هناك ،ويصل
صد\اها عبر القرون إلى هنا في صورة تحمل دالالت شتى ومنها أن الفئة
الصادقة عليها أن تفعل جهدها ،وتبذل وسعها عندئ ٍذ سيأتي نصر اهلل بطريقة
ليست في حسبان أحد ،ال في حساب القائد ،وال في حساب المقود ،وثانيًا:
ال
على العبد أن يستخدم ما يملكه من األسباب لدفع األذى عنه وعن أمته متوك ً
على اهلل ،وسيجد من أمره عجبًا ،وثالثًا :وجوب أن ينسب كل جهد إلى
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 126 -
صاحبه ،فالقرآن نقل إلينا الفاعل والمفعول تعليمًا منه لنا ،فمن التزوير أن
تنسب البطوالت إلى غير أهلها عندئ ٍذ لن يأذن اهلل بنصره كونه ادعاء ما ليس
للنفس ،وهو محض تزوير ،وأنى يكون نصر لمزور كذاب ،ورابعًا :أن عمل
داود يشير إلى قضية مهمة جدًا وهى أن القائد الحقيقي هو الذي يعلن عن
ال لجماعته وأمته من وسط
نفسه من ميدان العمل ،وعمل الميدان ،منتش ً
الزحام ،وظلمة اإلجرام .إنها العقلية الفاعلة ،والقدوة الصادقة المجاهدة تعبر
عن نفسها وهى تبدع بالمقالع لترفع أمتها وجماعتها من القاع .إنها الرسالة
العظيمة التي تجاوزت المكان والزمان معلنة أن العظمة أفعال ،وأن القيادة
انتشال ،وأن الرجل هو من يعلن عن ذاته ونفسه بحسن عمله وجهده ،وليس
بكالمه وقوله .إنها الصيحة القديمة جدًّا على لغة القول ،والباحثة على الدوام
عن لغة الفعل الفاعلة تتجسد هنا بمقالع داوود وهمته ،وعزيمته وعزمه
ليرفع اهلل به هذه الفئة الصادقة والمحاصرة .إنها األسباب التي يهيئها اهلل في
عالم الغيب هناك ليزيل بها عن عباده الصادقين العنت والمشقة تأتي في
اللحظات الحاسمة ،وذلك بعد أن تكون األمة قد تطهرت من أوضار المادة،
وتجردت تمامًا من لغة المصلحة ،وارتفعت بصدقها إلى مستوى منهجها
العالي والصافي معًا .ومما ينبغي اإلشارة إليه هنا أن جيش جالوت سقط
بمجرد سقوط قائده ،هذا لينتهي كل شئ بنهاية شخص واحد .إنها الشخصنة
ال هناك سقطت اآلن سقوطًا موحدًا بمقالع
الجالوتية التي عبثت زمنًا طوي ً
داوود إيذانًا بواقع جديد سيشكله ذلك المقالع ،وذلك بعد أن أذن اهلل بقلع الظالم
وظلمه .إنها السلبية المقيتة ،والعبودية الممقوتة انكشفت هنا عندما ربطت
مصير اآلالف بشخص واحد تبقى ببقائه ،وتنتهي بموته .ومن المعيب هنا أن
تبقى هذه العقلية الجالوتية بخطتها القاصرة ،وتربيتها الفاجرة تعشعش في
عسكر المسلمين ودولهم في صورة غاية في السفه والطيش ،بل قل غاية في
الغفلة والعمى .إنها العلة التي ينبغي أال يُسمح ببقائها ،وإال كان الحال كحال
- 127 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
الدعاوى المردودة شرعًا ،والساقطة أخالقًا حيث إنه لو كانت الوالية بالنسب
– كما يدعيه دعاته – لكان أبو طالب مع أبي لهب هم أهل الوالية والنسب.
إنه التالعب اللفظي الممقوت الذي قاد األمة إلى الضياع واالنحراف العقدي
باألمس البعيد ،وما زال يكرر ضياعه اليوم بألفاظه المنحرفة ،وتأويالته
المغلوطة .وحتى نتذوق حالوة اآلية ،ونخرج من ترهات الماضي المخزي،
وتأويالت الحاضر المزري في هذا الشأن نعود لمفردات اآلية كي نستشعر
األمن ،ونعيش السكينة في رحاب والية اهلل الكاملة بعيدًا عن التأويالت
القاصرة ،واألفهام البشرية العابثة .فتعالوا إذًا لنمضي في رحاب اآلية
بكلماتها النورانية ،وأحرفها الذهبية لنستقي من معينها العذب حقيقة الوالية،
وأحقية الهداية ،وذلك من خالل سياق اآلية الواضح البعيد عن التأويل
والتحريف كي يذهب ظمأ الخوف من والية القريب الزائفة ،ومكر البعيد
القاتلة ،فإلى اآلية إذًا ،حيث يقول اهلل "اهلل ولي الذين آمنوا" ،هكذا تبدأ
البشارة بوالية اهلل لكل مؤمن دون ذكر النسب أو البلد لتشمل الوالية اإللهية
كل مؤمن بغض النظر عن نسبه وبلده ،أو لونه ونوعه في إشارة واضحة
إلى سقوط تلك المفردات جملة واحدة في ميزان السماء كون اإليمان،
واإليمان فقط ،هو باعث الوالية الربانية ،والرعاية اإللهية وكفى ،وثانيا :قوله
"يخرجهم من الظلمات إلى النور" هذه الكلمات تحمل في طياتها معانيٍ
ال – أن المؤمن ينتظره الكثير والكثير من
كثيرة ،وإشارات دقيقة ،ومنها أو ً
الظلمات والفتن ،ويستهدفه الكثير والكثير من الخطط والمحن ،حيث يشي
التعبير القرآني بهذا المعنى ،ولكن اهلل يتولى إنقاذ عباده المؤمنين ،وإخراج
أوليائه من كل ظلمة وفتنة ،وثانيًا – اللفظ "يخرجهم" بصيغة المضارع
يوحي بتكرار إخراج المؤمنين من كل فتنة كون الظلمات الملقاة في طريق
أهل اإليمان متتالية ومستمرة بوسائل مختلفة ،فكان اإلخراج والنجاة كذلك
ال من اهلل ونعمة ،ثالثًا – يوحي اللفظ بخطط االستهداف الجماعي الموجه
فض ً
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 130 -
صوب المؤمنين الذين تجمعهم كلمة اهلل ودينه بصورة موحدة األهداف،
ومرتبة األعمال بعيدًا عن المؤمنين الذين تفرق بهم الشمل ،وعبثت بهم
األهواء ،فهؤالء ال يخيفون الطاغوت ال في الماضي وال حتى هنا في
الحاضر ،فتفرقهم أعفى الطاغوت منهم ،لذا كانت هذه هى الجماعة التي
يخرجها اهلل من الظلمات إلى النور ،وليس غيرهم ،ورابعًا – يوحي اللفظ بأن
الذي يخرج المؤمنين هو اهلل وحده ،وليس ذواتهم ،وال أشخاصهم ،وال عقولهم
ال
وذكاؤهم ،فهم حققوا اإليمان اعتقادًا بالجنان ،وإقرارًا باللسان ،وعم ً
بالجوارح واألركان ،فكان اهلل مخرجهم من كل ظلمة ،ومنجيهم من كل بلية
نتيج ًة لصدقهم ،فاآلية تشي بأن إيمانهم المجرد من معية اهلل وعونه ال قدرة
له البتة على دفع الظلمات الموجهة والمعدة ،بل بعد هذا اإليمان كان عون
اهلل وتوفيقه هو الذي أخذ بأيديهم حتى وصل بهم إلى أنه ال يضرهم من خذلهم
وال من خالفهم حتى تقوم الساعة غير األذى ،واألذى فقط .إنه اإلخراج
الجماعي ،والنجاة الجماعية ألهل اإليمان من لؤم القريب وخبثه ،ومن مكر
البعيد وحربه يكون على حسب اإليمان ،حيث تكون األكمل حفظًا ،واألتم
والية ونصرًا كلما كنت أصدق إيمانًا ،وأكثر إخالصًا ،وعكس ذلك هو
صحيح أيضًا .ومما ال شك فيه هنا أن مفهوم اللفظ القرآني "يخرجهم" يوحي
بقدرة اآلخر على إدخال الضيق والمكر والشدة والعسر على عباد اهلل
المؤمنين ظنًّا منهم أنها النهاية لهذه الجماعة المؤمنة واألمة الهادية ،ولكن
العاقبة الحسنة أن اهلل بلطفه يتداركهم ،وبعينه يحرسهم ،نعم تحدث الظلمة،
ولكنها سرعان ما تنجلي ،ويعم الكرب ،ولكنه ينجلي ،بل وتكون أحيانًا
اآلزفة ،ولكن اهلل يرسل لها كاشفة ،وتواصل اآلية حديثها المعبر عن الباطل
بصيغة جماعية بقوله" :من الظلمات إلى النور" ،حيث جمعت الظلمات،
وأُفرد النور في إشارة إلى تعدد الباطل بأشكاله وأشخاصه وطرقه ووسائله
وخططه ومؤامراته .إنه الجمع مع االستمرار والتنوع في إشارة واضحة إلى
- 131 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
سنة الصراع المستمر وقتًا ،والمتنقل مكانًا ،ولكنه المنهزم حاالً ،والزاهق
مآالً .نعم إنهم األشخاص والذوات المتعددة األوجه ،والمتنوعة الطرق،
والمتلونة المواقف بخططها الكثيرة ،ووسائلها الدنيئة ،وشعاراتها البراقة،
ظلمات بعضها فوق بعض تسقط بذاتها ،ويخرج الحق ورجاله منها أقوى
عودًا ،وأكثر صالبة ،وأصح دينًا ،وأهدى سبيالً .ويأتي التعبير والحديث عن
الحق بكلمة مفردة وهو لفظ "النور" .إنه الحق الواحد والواضح بألفاظه
ومعانيه ،وجمله ومبانيه ،وتعريفه مع إفراده يكفيه شرحًا ،وحسبه من اهلل
مدحًا ،ثم يكون ختام اآلية مناسبًا لبدايتها بقوله "والذين كفروا أولياؤهم
الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات" ،وهكذا يفعل الطاغوت هنا
فعله في هذا الصنف ،فهناك والية اهلل للمؤمنين ،وهنا والية الطاغوت
للكافرين .إنها الوالية الشيطانية العابثة تظهر بعبثها الواضح ،وبؤسها
ال معكوسًا في صورة تعبر عن خسارة
الفاضح ،وهى تنقل هذا الصنف نق ً
ليس معها ربح ،وعن غواية ليس بعدها هداية .نعم إنه المصير المخزي ينتظر
الوالية والولى ممثلة بالطاغوت ومعه أتباعه ،حيث يجمعهم الخلود هناك في
جهنم مآل الكافرين ،ومستقر والية الطغاة والظالمين ،وللعاقل بعد هذا البيان
ل يُحشر ،حيث ال بقاء بغير والية
أن يختار لنفسه أي والية يريد ،ومع أي وا ٍ
البتة ،ولكن يبقى الخالف في نوع الوالية والولي فقط ،فاعلم أن والية اهلل ال
تُنال أبدًا باألنساب ،وال باالنتماء دون إيمان ،فلو كان االنتماء العاري من
العمل كافيًا لكان أبو لهب مع أبي طالب من كبار األولياء ،ولكنه اإليمان باهلل،
وباهلل فقط ،هو من يجعلك من أهل بيت النبوة ،وما سوى ذلك شعارات تسقط
فور ظهورها ،وتنتهي بمجرد رفعها.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 132 -
األنفس اللئيمة طبعًا ،والساقطة خلقًا ،والبعيدة دينًا تتنكر لهذا العطاء ،بل
ال للهدم في صورة عبثية مارقة،
وتجعل من عطاء اهلل بابًا للفساد ،ومعو ً
وتحت دعاوى إبليسية كاذبة باألحقية والبقاء ،وأمام هذه األنفس اللئيمة
المارقة يبقى الحق موجودًا ،وكلمته هى العليا ،وكلمة اللؤماء ومنكري العطاء
اإللهي هى السفلى ولو بعد حين .فعندما نتأمل سياق اآلية يتضح لنا هذا
المعنى ،فها هو الخليل حاضر في هذه البيئة الموبوءة ،وفي تلك اللحظات
العقدية الحرجة من التاريخ البشري الطويل الممتد بسيئاته وسوآته بمثل
هؤالء الملوك ،ثم ينقلنا السياق إلى بداية المناظرة حيث يتصدر الخليل ذلك
المشهد بقوله "ربي الذي يحي ويميت" ،إنها اإلشارة التي ينبغي أال تغيب
أبدًا عن عقول حملة الحق وهم يصارعون السفه والطيش في معترك الحياة
ودنيا األحياء ،فيظل سالح اإليمان ومنطقه وألفاظ اإليمان باهلل هى الحاضرة
على الدوام في النقاش والحوار والمناظرة ،وهذا ال يعني أبدًا إغفال البعد
السياسي في هذا النقاش ،بل ما يراد ذكره هنا هو تأصيل النقاش والحوار مع
ال شرعيًّا وعقديًّا محكومًا بأخالق الدين وقيمه .إنها قوة اإليمان
اآلخر تأصي ً
اإلبراهيمية تتجلى هنا بقوة الطرح ،وثبات الموقف ،ووضوح الرؤية أمام
الباطل الضعيف حاالً ،واألعمى طريقًا حيث كانت هذه هى البداية وبهذه
القوة .إنها اإلشارة الواضحة التي ينبغي على حملة الحق استيعابها في وقوفهم
أمام الطغيان بكل أشكاله وألوانه وأشخاصه وأفكاره ،فالحق والحقائق هى
وحدها التي ينبغي أن تقف وبكل صدق وثبات أمام الطغيان باألمس البعيد
وأمام كل طغيان في الحاضر القريب ،وهنا ومن خالل الرد النمرودي العبثي
على حجة الخليل وذلك بقوله "أنا أحيي وأميت" تتضح قدرة الخليل الفائقة
ال ومبنى من البداية وبطريقة
على حبس النمرود لفظًا ومعنًى ،وفضحه شك ً
قوية ومحكمة ،فقد ألجأ الخصم إلى البحث عن الحيل والمخارج الضيقة من
بداية الطريق لينتهي به األمر إما باالستسالم واإلسالم ،أو بفضحه بين األنام.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 136 -
ومن ناحية أخرى تتضح هنا وأمام حجة الخليل سياسة الطغيان القائمة على
التمويه والتتويه والمخادعة والخداع حيث جئ برجلين فقتل أحدهما مدعيًا
إماتته ،والعفو عن اآلخر مدعيًا إحياءه .إنه العبث بالدماء البشرية بهذه
الطريقة النزقة الخالية من كل القيم ،وذلك حفاظًا على الملك والزعامة ،وهى
الحقيقة التي تقوم عليها ممالك الظلم في كل زمان كون السقوط القيمي
الصارخ ،والغياب األخالقي التام يظهر بكل وحشية ،وهنا ومن خالل هذا
الرد ومحاولة الهروب من الهزيمة المتوقعة تتكشف لدينا سياسة المخادعة
التي ينبغي على حملة الحق معرفتها ،واالستعداد المسبق للتعامل معها ،وهى
أن الباطل يملك ما يقوله ألنصاره كي يشحذ به هممهم ،ويكسب به والءهم
بسبب جهلهم ،وهو ما يعني وجوب تحرك حملة الحق لمعرفته ،ومن ثم كشف
زيفه ،وفضح كذبه .إن معرفة حقيقة الشُّبه التي يقوم عليها الباطل ،ومن ثم
يستعلي بها على أنصاره ورعاعه ،ويقودهم بها تغريرًا ومخادعة ،وإضالالً
ومعاندة هى أولى الخطوات التي ينبغي معرفتها وتفنيدها في طريق النصر
والتمكين ،لذا فإن هذه المعرفة هناك في بابل كانت في ذاكرة الخليل ،فتعامل
ال "فإن
معها بلغة أخرى هى األقوى واألنكى لهذا الخصم في هذا الموقف قائ ً
اهلل يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب" ،فالمعرفة المسبقة
ببضاعة الخصم وشبهه تقود حملة الحق حتمًا لتعرية هذا المخادع وكشفه،
وهذا هو الذي ظهر هنا من خالل هذه الجملة اإلبراهيمية التي أسكتت العبث،
وألجمت الخبث في حينه إلى يوم الدين .ومما ينبغي اإلشارة إليه هنا هو أن
إبراهيم كان بإمكانه أن يبدأ بهذه الحجة الكبيرة من البداية وينتهي األمر،
حمَلة الحق بوجوب عدم إلقاء كل ما تملك من
ولكنها التربية اإللهية له ول َ
حجج وبراهين ومعطيات وأدلة ضد خصمك وعدوك ،بل اجعل لكل دليل
وقته ،ولكل برهان مكانه ،ولكل حجة زمانها وزمامها .إنها لغة االحتياط
اللفظي ،والتريث الحججي ،والتدرج البياني تظهر هنا بصورة غاية في
- 137 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
الروعة والجمال كون الهداية ،والهداية فقط ،هى المقصد والغاية قبل الكشف
والنكاية ،مع وجوب أن يملك حملة الحق الكثير من البدائل عندما يكونون في
مثل هذا الموقف .وتأتي نهاية هذا النمرود كاشفة حقيقة الباطل وخبثه وهو
يتهرب من الحقائق والحق طمعًا في الرياسة والملك ،وحرصًا على البقاء
بلغة القوة والبهتان حيث انهزم وسكت ،وأمر بإخراج الخليل من بابل حرصًا
على عقيدة القوم على حد زعمه .نعم خرج الخليل من بين أظهرهم في رسالة
واضحة المعالم مفادها أن البالغ ،والبالغ فقط ،هو الواجب ،وأن إقامة الحجة
الواضحة على اآلخر هى بداية النهاية ،وأن مفارقة األوطان بعض الوقت
ضريبة يجب دفعها في لحظات استثنائية مؤقتة قبل العودة واألوبة .ومما
ينبغي ذكره أن هذا اإلخراج سواء هناك ،أو تكرره هنا هو سلوك رذيل وقديم
سرعان ما يسقط منفذوه ،ويتالشى مناصروه ،كما أن هذا اإلخراج لم ولن
يحمى الطغيان من السقوط على اإلطالق ،بل سلوكه وحماقته هى المقدمة
العاجلة لسقوطه بال شك .إنها النهاية المنتظرة ،والتي جاءت بعد ذلك إلنهاء
هذا العبث ،واستئصال ذاك الخبث عن طريق جيش من البعوض الذي مأل
السماء ،وانقض على بابل إلسقاطها واستئصال خبثها إلى األبد .نعم إنها
النهاية الحتمية لتلك الرؤوس التي نفخها الكبر ،وأثقلها الغرور تنتهي هناك
ليلحق بعدها كل رأس تجاوز حده ولو بعد حين ،فثق بربك ،واعلم أن سياسة
الكذب والتزوير والمخادعة تنقطع حبالها ،ويفضح أمرها ،وأن كلمة اهلل تبقى
هى العليا دائمًا ولو كره الكافرون.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 138 -
دعوى ،وتتوارى عندها كل فتوى ،وبعد تلك الجولة جاءت هذه اآلية التي
نحن بصددها موضحة وشارحة لمفهوم اإلحياء واإلماتة من جانب،
وموضحة لقدرة الخالق جال في عاله وهو يمنح من قدرته لخليله في صورة
غاية في اإلعجاز والبيان من جانب آخر ،فإلى اآلية إذًا ،فقوله" :وإذ قال
إبراهيم رب أرني كيف تحيى الموتى قال أو لم تؤمن قال بلى ،ولكن ليطمئن
قلبي ،"...إنه السؤال الذي أسقط ضعاف اإليمان هنا لسوء فهمهم ،وسذاجة
بضاعتهم حيث قالوا إن الخليل بسؤاله هذا يشك في ربه ،واألمر ليس كذلك
لعدة أسباب ومنها أوال – أن الخليل وبكل وضوح سأل عن الكيفية وليس عن
األصل ،فلم يقل رب هل تحيى وتميت ،بل قال كيف تحيى ،والكيفية هنا ال
تتدخل في قضية اإليمان ال من قريب وال من بعيد ،ثانيًا – لو كان األمر كما
يقول ضعاف اإليمان أن إبراهيم شك في اهلل لما منح اهلل له هذه القدرة فيما
بعد كون اهلل ال يمنح وال يعطي وال يتفضل على من يشك به كائنًا من كان،
ثالثًا – إبراهيم اختاره اهلل نبيًّا ورسوالً ،وهو خليله في األرض ،وهذا يعني
علم اهلل المسبق بإخالص باطنه وتصديقه لربه في كل أحواله وأقواله وأفعاله
وإال لما اختاره ،ورابعًا – سبق ووقف الخليل موضحًا لجبار بابل الذي ادعى
ال له "ربي الذي يحيى
قدرته على اإلحياء واإلماتة هناك في بالد العراق قائ ً
ويميت" ،مع علم الخليل أن صراحته تلك قد تحمل ذلك الدعى على قتله،
ولكن الخليل ال يبالي بنفسه كونه يقول الحق الذي يعتقده ،ويؤمن به ،فال
مواراة وال محاباة أن يموت على الحق الذي يعتقده ،ويدعو إليه ،فكيف إذًا
يقدم نفسه ورأسه هناك من أجل معتقده الواضح بربه في اإلحياء واإلماتة،
ثم يأتي ليشك هنا حاشاه وحاشاه .هذه اإلجابات وغيرها التي ال يتسع المقام
لذكرها كلها تروي العليل ،وتزيل شك من لم يفهم اآلية لقلة علمه وإال فالقضية
واضحة .والعجيب هنا سؤال اهلل سبحانه للخليل بقوله "أو لم تؤمن" ،وهذا
السؤال من اهلل جاء بهذه الصيغة الواضحة حتى ال يترك عديمي الفهم يذهبون
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 140 -
بعيدًا عن عقيدة إبراهيم الصافية النقية ،فسؤال اهلل هذا لخليله للتوضيح للخلق،
ولكي يجعل اهلل الخليل يُسمع الدنيا حقيقة سؤله ،وصحة معتقده ،وليس جهالً
من الخالق جل في عاله ،فحاشاه سبحانه أن يخفى عليه شئ وهو الذي يعلم
خائنة األعين وما تخفي الصدور .إنها السماء تتحرك إلعادة الفهم السوي
لألرض ،وذلك بعد الخدش والعبث الفارغ الذي ظهر هناك في بابل في
صورة غاية في الكذب والزور .كما أنها إشارة دقيقة تتضح من خالل السياق
بضرورة توضيح كل ما أشكل على الخلق من قِبَل أهل العلم والخبرة كل في
مجاله وتخصصه ،وذلك حتى ال يتوه الخلق في أوساط التائهين .نعم فهذه
المعجزة وغيرها لن تتكرر ،وما ذكرت هنا إال للتوضيح ،وإيقاف عبث
العابثين سوا ًء أكان ذلك العبث لفظيًّا أو فعليًّا ،فيبقى التوضيح بالحجج
والدالئل هو سالح اليوم كما كان هناك سواء بسواء ،كما أنه اتضح ووضح
في هذا الزمان مع تقدم وسائل العلم الحديثة إمكانية استغالل تلك الوسائل في
البحث العلمي في الكون واإلنسان بما يحقق صدق الرسالة ،وصدق المُرسِل
والمُرسَل ،وذلك بكسر السين مرة لتدل على اهلل ،وفتحها أخرى لتدل على
نبي اهلل .إذًا فالسؤال هنا بقول اهلل إلبراهيم "أو لم تؤمن" ،فكان الجواب
اإلبراهيمي "بلى" ،أي أنا مؤمن بك يارب أنك أنت من تحيى ،وأنت وحدك
من تُميت توضيحًا للخلق ليس إال ،فما هو المطلوب إذًا من هذا السؤال ؟
المطلوب هو "ولكن ليطمئن قلبي" ،أي ينشرح ويتمتع بكيفية اإلحياء ،وذلك
حتى ال تتكرر دعاوى هذا األمر لدى طغاة الزمان حيث الحظ الخليل انطالء
هذا المعنى على قوم النمرود في بابل ،فأصبح لديهم هناك مفهوم مغلوط عن
معنى اإلحياء واإلماتة ،فحتى ال تتكرر تلك الدعاوى الباطلة أراد الخليل هنا
كشف هذه الحقيقة للدنيا كي تعرفها ،وتعرف كنهها وحقيقتها .نعم إنه إلهام
اهلل لخليله بهذا السؤال ليفضح من خالله دعاة ومزوري كيفية اإلحياء واإلماتة
أمثال النمرود ومن يأتي بعده ويحمل عقليته إلى األبد سواء بتلك الطريقة
- 141 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
السمجة هناك أو حتى بما يسمى اليوم بالطرق العلمية الحديثة هنا في هذا
الشأن كما يحدث تحت مسمى االستنساخ ،والذي ال يعتبر خلقًا على اإلطالق
كما رُوج للموضوع في وسائل العصر الحديثة وبطريقة مفضوحة كفضيحة
النمرود باألمس مع بعض االختالف طبعًا ،إذ أن ما يجري اليوم هو عملية
استنساخ كاسمها من أصل ،وليس إحيا ًء من عدم ،وهى لفتة مهمة فتأملها .إذًا
فلنعد إلى اآلية لنرى اآلن قدرة القادر سبحانه وهو يُجري قدرته على يد عبده
وخليله إبراهيم لينتهي عبث األلفاظ في اإلحياء واإلماتة وإلى األبد" ،قال فخذ
أربعة من الطير فصرهن إليك ثم اجعل على كل جبل منهن جزءًا ثم ادعهن
يأتينك سعيًا واعلم أن اهلل عزيز حكيم" ،وهنا يتجلى أمامنا معنى في غاية
الدقة وهو القدرة اإللهية على منح عبده جزءًا من قدرته سبحانه في صورة
معجزة ومخالفة لفعل البشر وقدراتهم ،وذلك في توضيح للقاعدة التي بدأنا
الحديث بها وهى أن قصارى ما يستطيع فعله المخلوق هو أن يساعدك إن
ال كونه ال يملكها حقيقة ،بل ملكه اهلل إياها
أراد بأثر قدرته ،وليس بقدرته أص ً
له وحده ،وغير قابلة للتعدي كي يهديها لغيره كأن تكون عاجزًا عن حمل
ثقيل ما فيأتي من هو أقوى منك فيساعدك بحمل ثقيلك ،وليس يمنحك قوته
وقدرته ،بل بأثر تلك القوة والقدرة ،بينما قوته وقدرته تبقى معه ،وتبقى أنت
محتفظًا بعجزك ذاك ،وال قدرة ألحد البتة أن يفعل كفعل اهلل مهما بلغ حبه
لك ،وشفقته عليك ،بينما منح اهلل هنا خليله هذه القدرة في اإلحياء واإلماتة،
فصار هو الفاعل ،وتلك معجزة له بكرم من اهلل وفضله .إنه التكريم اإللهي
ليدحض به الفكر الشيطاني النمرودي وهو يدعي ما ال يقدر عليه ،فكانت يداه
المتسخة كاذبة ،بينما كانت – بأمر اهلل – األيدي اإلبراهيمية هى الصادقة
هنا ،والصادقة هناك .نعم فكما ثبتت لسانه وجوارحه أمام النمرود وكذبه ،فتم
إبعاده لصدقه ،وقوة حجته كان هذا التكريم اإللهي له هنا وبهذه الصورة
الجمالية التي ال منتهى لجمالها وقدرتها كون أصلها في السماء ،وفاعلها بأمر
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 142 -
اهلل في األرض ليبقى ذكره وصدقه في مسامع األيام وَُأذْن الزمان حتى ينتهي
عمر الدنيا ،وهذا شأن المؤمن الصالح فإنه – وبدون شك – يخلد ذكراه في
األرض والسماء على قدر صالحه .وقد بدأت اآلن العملية حيث أخذ إبراهيم
أربعة من الطير بأمر اهلل ال من البشر كما فعل القاتل النمرود ،أو كما يفعل
قتلة اليوم .إنها اإلشارة الواضحة والداعية من خالل السياق إلى تعظيم حرمة
النفس البشرية ،وعدم جواز إزهاقها للتمثيل أو التجريب والتشريح وهى حية
سوية ،ولو كانت هذه النفس ملكك سواء ذاتك أنت أو ولدك أو من تدير شأنهم،
وتتحمل مسؤليتهم ،وذلك كما فعل القاتل النمرود هذا أوالً ،وثانيًا :جواز
التشريح الحيواني بعدد محدد ،وليس بطريقة عبثية كونها طيور حيث أن
تحديد األربعة بهذا الشكل يشي بحرمة العبث حتى بالطير بغرض التمثيل،
أو دون حاجة ضرورية تذكر ،بل يكون من قبل الفعل البشري إذا تطلب
األمر توضيحًا أو تعليمًا أو فائدة ما بطريقة محددة .وهو ما يسمى بعلم
التشريح حاليًا من هذا المنطلق .إنه التقديس للنفس من قبل الخالق سبحانه مع
أنه الخالق والمالك يفعل ما يشاء في ملكه ،ولكنه يُعلِّم خلقه حرمة العبث
والتجاوز ولو كان األمر ملكك وتحت تصرفك سواء بالطير أو بغيره إال إذا
اقتضت الحاجة .وهذا التقديس الرباني للنفس هنا ،وعدم استخدامها بغرض
التمثيل يقابله ذلك العبث البشري المزري من قبل المخلوق عندما يفقد
صوابه ،ويضل طريقه كما فعل النمرود هناك .وتعالوا لنعود إلى سياق القصة
كونها باالنتظار لنتربى من خاللها ،ونعرف قدرة الخالق سبحانه من خالل
محتواها ،فبعد الذبح أُمر الخليل بوضع رؤوس الطيور األربعة بيده حيث
اللفظ القرآني "فصرهن" ،أي قطعهن يشي بمعنى التقطيع مع االحتفاظ بجزء
منها وهى الرؤوس – كما ذكر ذلك المفسرون – كي تتم هذه اآلية العجيبة،
والعجيبة جدًّا ،في لوحة فنية غاية في الروعة واإلعجاز ،ثم أخذ الخليل
لحومها بعد خلطها حيث اللفظ القرآني "منهن" يشي بهذا المعنى ،ثم قام
- 143 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
بوضع أجزاء من ذلك اللحم المخلوط على قمة كل جبل كي تبدأ المرحلة
األخيرة والعجيبة في قدرة اهلل الغالبة – جل شأنه ،وتقدست أسماؤه – وهو
يمنحها لخليله ونبيه في صورة تكريمية مبدعة ،وهنا جاء األمر اإلبراهيمي
األخير – كما علمه اهلل – بندائها بصوت عال حيث قال "أيتها الطيور
ى بأمر اهلل" ،فتجمعت لحومها من كل جبل أمامه،
المذبوحة قومي وهلمي إل ّ
ثم أخذ ينظر ويشاهد ولحومها يتمايز بعضها عن بعض ،فكل جزء ينضم إلى
صاحبه بطريقة ال قدرة ألحد على تخيل عظمتها ،حتى إذا اكتمل التكوين
الجسماني لكل طير نُفخ في كل واحد منها الروح ،وقامت متحركة نحو الخليل
ورؤوسها بيده ،حيث اختلطت ،ولم يعد الخليل قادرًا على تمييز رأس كل جثة
كون الطيور موحدة الهيئة ،فكانت المعجزة األخرى بعدم تقبل كل جثة لرأس
ليس رأسها حتى أخذ كل طير رأسه ،ثم عادت كما كانت بلحمها وعظامها
وعروقها ودمائها ،ثم انطلقت في السماء ذاهبة من حيث أتت بعد مشهد يحمل
الكثير والكثير من العبر .إنها الصورة الحقيقية لحقيقة البعث بعد الموت،
حيث يشير هذا الحدث إلى قدرة اهلل الغالبة على جمع هذا المخلوق اإلنساني
وغيره من مخلوقات اهلل بعد الموت ،ولو تمزقت أجزاؤه ،وتفرقت أشالؤه
هو وبقية المخلوقات ،وذلك للحساب والجزاء في موقف ال يظلم ربك فيه
أحدًا .إنها المعجزات التي أيد اهلل بها أنبياءه ورسله إلثبات صدقهم ،وتأكيد
إرسالهم جاءت إلينا ،وجُمعت لنا في هذا الكتاب القرآني الخالد لنحيا على
بصيرة ،ونموت أيضًا على بصيرة .ثم تُختم اآلية بما يناسب الحدث ،ويُجمل
الحديث ،وذلك بقوله "واعلم أن اهلل عزيز حكيم" ،فكل ما تم إنما تم بعلم اهلل
وأمره كونه عزيزًا بأوامره ،وحكيمًا في صنعه ،يضع كل شئ بموقعه
ومكانه ،فدع بعد ذلك أسئلة الشك ،واعلم أن اهلل يجمع خلقه ومخلوقاته ليوم
عظيم وإن تناثرت أجزاؤهم ،وتفتتت عظامهم ،وأنه ال يمكن أبدًا أن يصير
جزء من عظامك آلخر ،كما أنه لن يضيع جزء منك أبدًا حتى تلك القشرة
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 144 -
الجلدية الصغيرة التي قطعت منك عند ختانك تبعث معك لتنال ما ينال جسدك
ح َكمِ ِه النافذه ،وإرادته الغالبة
من النعيم أو العذاب .إنها عدالة اهلل المطلقة ،و ِ
التي تسقط أمامها كل إرادة وحكم ،واعلم أيضًا أن اآليات العلمية في هذا
الزمان في الكون واإلنسان والحيوان والنبات وكل ما خلق اهلل بابًا عظيمًا
إلحياء الفكر ،وزيادة اإليمان ،فال يفوتك النظر في هذا الباب لجماله ،وروعة
مردوده اإليماني في زمان كهذا الذي نعيشه ونحياه.
- 145 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
عدم مؤاخذته إن بدر منه منًّا أو أذًى دون قصد أو تكرار ،مع أن األصل هو
حصافة المنفق ورزانته كونه أراد اهلل بعطائه ،وأراد اهلل فقط ،وحتى تنتهي
حبائل الشيطان ووسوسته ،ويغيب المن وأذيته ،ويصدق المجتمع بعطائه
ونفقته جاء العطاء اإللهي هنا بقوله "لهم أجرهم عند ربهم وال خوف عليهم
وال هم يحزنون" ،ثالث عطايا إلهية مقابل ثالث صفات بشرية ،فعند اهلل
األجر مقابل اإلخالص في سبيل اهلل ،ورحيل الخوف مقابل انتفاء المن في
العطاء ،ومغادرة الحزن مقابل مغادرة األذى بعد العطاء .إنه الترتيب
السماوي والتنظيم الرباني لهذه القضية بآدابها ومحاذيرها أخذًا وعطاءًا .نعم
إنه الكرم اإللهي يظهر في ختام اآلية ليسكب الرضا والهناء على كل قلب
يحمل هم اآلخر ،فيتحرك من فوره إلسعاده ،فكان الجزاء من جنس العمل،
فقوله سبحانه في نهاية اآلية "وال هم يحزنون" ،إنها السعادة وذهاب الحزن
بصيغة المضارع الدال على إسعاد قلبك على الدوام من قبل الخالق مادمت
تسعد من الخلق ما وسعك جهدك ،فكما أسعدت غيرك بعطائك فالكريم في
السماء سيذهب حزنك ،ويسعدك بعطائه ،وفرق بين عطاء الرب وعطاء
العبد .إنه الدواء اإللهي لذهاب المخاوف ورحيل األحزان عن األنفس
والبيوت واألسر واألمم يظهر هنا بصورة واضحة كون العطاء سعادة
حاضرة في الدنيا ،ونعيمًا ينتظر في األخرى ،بينما البخل شقاء هنا وعذاب
أليم عند اهلل هناك ،وهذا هو السر الذي جعل األوائل كثيري النفقة ،بل كلما
ألم بأحدهم خوف أو حزن بادر للنفقة والصدقة ،فذهب حزنه ،ورحل خوفه،
فاجعل الصدقة شعارك ولو بالقليل ،واعلم أن أكثر الناس سعادة هم أصحاب
األيادي البيضاء ،وإياك والمن واألذى بعد عطائك ،فإنه ليس من شيم الرجال
أبدًا ،بل أعط واترك ذلك خلفك حتى تلقاه غدّا بين يدي ربك.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 148 -
خاللها إلى إحاطة العسر بهذا المعسر من كل باب بحيث إنه ال يملك شيئًا يفك
به عسره وشدته وكون هذا المعسر قد بلغ به عسره إلى تلك المرحلة الحرجة
جاء التعبير فيما بعد دقيقًا وعميقًا ليس لدقته وعمقه حد ،وذلك بقوله تعالى
"فنظرة" ،حيث يوحي اللفظ بوجوب وسرعة اإلنظار مراعاة للوضع النفسي
لهذا المعسر ،حيث اختصرت اآلية اللفظ معبرة بأقل لفظ ،فلم يقل اهلل فليُنظروا
متحدثًا عن وسطاء للنظر في األمر ،وال حتى بكلمة فليُنظر مشيرًا للدائن
ليعبر بذلك عن التفكير في األمر ،بل أسقطت السماء كل تلك اآلراء
واالحتماالت كون الحال ال يتحمل التشديد والتفكير لنفس بشرية أتعبها
العسر ،وحاصرتها الشدة ،فاالنتقال إلى اإلنظار فور تأكد اإلعسار واجب
ديني ،ومطلب سماوي ال يحتاج إلى تأخير أو تفكير .ويتواصل الجمال اللفظي
والتعبير القرآني وهو يضع حلوالً تحفظ مال الدائن ،وتُنفس كربة المديون
ن كثيرة بقوله "إلى ميسرة" ،وليس إلى يسر ،حيث يوحي هذا التعبير بمعا ٍ
ومنها أن الحديث هنا عن الحالة ،وليس عن الشخص .إنها الدعوة السماوية
للتعامل مع أزمات الناس وحاالتهم بغض النظر عن أشخاصهم وانتماءاتهم
كون اللفظ يوحي بأن الذي يحدد المساعدة في اإلنظار أو العون والصدقة
ليس الشخص بقرابته ومكانه ولونه ونوعه ،بل حاجته وحالته ،وذلك واضح
من خالل سياق اآلية من بدايتها حتى نهايتها ،وهو معنى دقيق جدًّا فتأمله،
وثانيًا :التعبير بقوله ميسرة يوحي بسرعة القضاء فور حدوث اليسر مباشرة
ودون مماطلة أو تأخير كون اللفظ يشي بهذا المعنى ،وذلك حفاظًا على أموال
الناس من الضياع واإلهمال ،فكما راعى اإلسالم حالة المعسر أيما مراعاة،
فكذلك حافظ على أموال أهل اليسر أيما حفاظ .إنها الموازنة الشرعية تتحدث
عن نفسها ،وتعبر عن ذاتها بصورة جمالية رائعة لشريعة هى األكمل دينًا،
واألدق تشريعًا ،واألصلح مكانًا وزمانًا .ثم ينتقل السياق في الحديث عن هذه
ألخْيَر واألفضل واألجمل العُسْرة المصاحبة لذلك المعسر إلى مرحلة هى ا َ
واألشمل ،ولكنها المرحلة االختيارية ،واالختيارية فقط .إنها الصدقة على
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 150 -
المعسر سوا ًء بترك ما عنده كله أو بعضه لوجه اهلل .إنها خيارات السماء
الصافية والنقية تدعو أهل اليسر جملة واحدة إلى أمرين اثنين في تعاملهم مع
أهل العسر هنا وهما :إما اإلنظار والصبر وعدم المالحقة والتضييق حتى
تأتي الميسرة واليسر ،وإما الصدقة ،فاألول واجب وهو اإلنظار ،والثاني
مستحب وهو الصدقة بالتنازل عن الدين بعضه أو كله ،ولكنه هو األكمل
واألخُيَر بشهادة السماء .نعم فكون المال محببًا إلى النفس حبًّا جمًّا جاء التعبير
بقوله "إن كنتم تعلمون" بمعنى أن هذه الصدقة التي تجاوزت اإلنظار
واإلمهال إلى التنازل عن المال هلل في الحال بعضه أو كله ال يقوم به ويفعله
إال من علم أن عند اهلل أجره ،واستشعر عنده ثوابه وكرمه ،وال شك في أن
المقرض هنا إذا استشعر قول نبيه "من أنظر معسرًا أو وضع عنه أظله اهلل
في ظله يوم ال ظل إال ظله" ،عندئ ٍذ يبيع الدنيا ،ويشتري اآلخرة ولو بجزء
من ماله إن لم يكن كله كما كان يفعل عظماء الماضي .إنها اللمسة السماوية
الحانية اللطيفة تخاطب القلوب ،وتحرك الضمائر كى ترتفع عن طينة
األرض السفلى بكل مفرداتها وزينتها ،وتسمو نحو السماء بنقائها وجنتها،
ومما الشك فيه فإن تحول المؤمن إلى بشر طيني مادي يُضيِّق على المعسرين
في لحظات اإلعسار وزمن الفتن واإلدبار دون مراعاة لحرمة أو دين هو
سقوط في الوحل ،وعالمة على معدن رخيص وسلوك عدواني بئيس على
اهلل في السماء ،وعلى ضعاف الخلق في األرض ،لكن هذا العدوان سرعان
ما يذهب صاحبه برخصه وبؤسه ،وبخله وقسوته كون الخالق في السماء ال
يرحم أبدًا من ال يرحم الخلق في األرض .فاجعل اليسر والتيسير على من
تداينهم شعارك ودثارك ،واعلم أن من ضَيَّق على الناس وقت شدتهم ضيق
اهلل عليه ،ومن نظر إليهم ورحم حال ضعيفهم ومعسرهم نظر اهلل إليه نظرة
رحمة ولطف به وبأهله وماله ،فكن أنت هذا الرجل كي يجمع اهلل لك ما سبق
مع ظل يظلك به يوم القيامة هناك حيث ال ظل إال ظله.
- 153 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ك أَنتَ
ك َرحْمَ ًة إِنَّ َ
(رَبَّنَا َال ُتزِغْ ُقلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَ َهبْ لَنَا مِن لَّدُن َ
الْوَهَّابُ{.)37()}8
عندما يكون سقوط العبد من داخله فلن تستطيع الدنيا مجتمعة إنقاذه ما لم
تتداركه رحمات السماء .إنها اللمسة اإليمانية الجماعية تتجلى هنا في هذه
االستغاثة الموحدة وجهة ،والصادقة قصدًا ،والكبيرة باهلل ربًّا وخالقًا .نعم ففي
اللحظات التي تختلط فيها األوراق ،فيسقط هذا هنا ،وينحرف اآلخر هناك
عندئ ٍذ يكون التوجه نحو السماء مخافة السقوط هو المالذ اآلمن ،والمكان
الضامن للثبات حتى الممات .والمالحظ هنا هو موقع هذا االبتهال حيث جاء
عقب الحديث عن اآليات المحكمات واآلخر المتشابهات في إشارة واضحة
إلى أن سقوط القلب سواء وقت تنزل القرآن هناك ،أو ما يتكرر من سقوط
للبعض هنا إنما يكون بسبب إهمال األوامر الربانية تارة ،أو اتباع الشبه
والمتشابه من األفكار واألقوال والمواقع تارة أخرى .إنه الفراغ العقدي،
والخواء اإليماني يعصف بالقلب هنا فيرديه صريعًا حتى يدعه ال حراك له
وال حياة إال ما أشرب من هواه ،وذلك في وحل الشبهات تارة ،وفي مستنقع
الشهوات تارة أخرى ،وذلك عندما يتخلى العبد عن الرب في واحدة من أسوأ
نكسات الحياة ،وخسارة األحياء على اإلطالق .وحتى تكون الصورة أكثر
وضوحًا تعالوا لنعيش أجواء االبتهال الجماعي ،ونتذوق من خالل كلماته،
وروعة ألفاظه ،وجمال سبكه الري بعد الظمأ ،واألنس بعد الوحشة ،واألمن
بعد الخوف كون اللجوء إلى عالم الغيوب وقت زيغ القلوب هو األمان
الكامل ،واألنس التام بال شك .فقوله "ربنا ال تزغ قلوبنا" يالحظ هنا تصدير
الدعاء غالبًا بالرب كون الدعاء يتطلب إجابة ،واإلجابة من األفعال ،واألفعال
عالقتها بالربوبية أكثر من عالقتها باأللوهية كما هو معلوم لدينا ،لذا فإن
غالب األدعية يكون مصدرًا بالرب لهذا السبب ،وهو معنى جميل ودقيق
فتأمله ،وبعد هذا التصدير جاءت جملة "ال تزغ" ،وهى جملة دعائية وإن
جاءت بصيغة النهى ،فالالم هنا ال يقال فيها الم النهي أبدًا كما هو معلوم
عندنا في اللغة – بل يقال فيها هنا وفي هذا الموقع الم الدعاء كون النهي هو
الكف عن عمل شئ بطريقة االستعالء ،وال يكون األمر كذلك في تعامل
المخلوق مع الخالق سبحانه .إنه االحتياط اللفظي يتحدث عن ذاته هنا ،ويعبر
عن نفسه في صورة هي األدق تعبيرًا ،واألوضح مقاالً ،واألصدق حاالً،
واألجمل مكانًا وزمانًا ،ويتواصل الجمال من خالل تسليط الفعل على القلب،
وليس على السمع أو البصر أو أي جارحة أخرى ،وذلك بقوله "ال تزغ
قلوبنا" ،وما ذاك إال ألن القلب عليه مدار العمل ،ومما ال شك فيه هنا – ومن
خالل هذا السياق – أننا عندما نرى إنحرافًا إنسانيًّا في األسماع واألبصار
والعقول واألفكار فالخلل لم يكن أبدًا في هذه األدوات ،بل هو النتيجة الحتمية
للخلل القلبي ،والخواء العقدي ،والتفلت اإليماني في الداخل اإلنساني ،والذي
نتج عنه كل هذا العبث ،وأورث كل ذلك الخبث .لذا كان سؤال اهلل بهذه
الطريقة والتخصيص حفاظًا على القلب من هذا االنحراف كونه هو موقع
الهداية إن ثبت ،ومكان الغواية إن انحرف أو سكت ،وال شك في أن المقصود
بسكوت القلب هنا – كما يعبر عن ذك علماء القلوب – هو انحرافه وموته
عندما يغفل عن ربه وخالقه ،والمالحظ هنا وبشكل متكرر هو نا التكلم
الموحية بالروح الجماعية الخالية من األنا الفردية الممقوتة ،وذلك بقوله
قلوبنا ،وليس قلبي أنا ،وكذلك بعد إذ هديتنا ،وليس هديتني كون الهداية ال
طعم لها وال ذوق البتة ما لم تكن في إطار الجماعة المؤمنة والفئة الصادقة
التي تتحرك لدين اهلل هنا ،وتعمل للحق هناك .إنها الدعوة الواضحة لتذوق
- 155 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
حقيقة الهداية الربانية في إطار الجماعة المؤمنة العاملة كون الهداية الفردية
ال وزمانًا ولو بلغ صاحبها من العبادة
واألنا التعبدية ممقوتة شرعًا ،وسلبية حا ً
ما بلغ ،كما أن الـ "نا" في قوله" :بعد إذ هديتنا" توحي بطريقة دقيقة بأن من
يهدي العبد ،ويصلح حاله ومآله هو الرب سبحانه ،لذا كان اللجوء الجماعي
إليه هو المطلب والمآل .ثم ينتقل السياق القرآني بطريقة سلسة ورائعة،
وبتعبير دقيق أيضًا من خالل قوله "وهب لنا من لدنك رحمة" ،حيث جاء
بلفظ هب ،وليس أعط كون الهبة تكون بغير عوض وبدون مقابل .إنها الحقيقة
الواضحة تتجلى مرات ومرات في صور مختلفة ،وفي مواقع شتى معلنة هنا
أن هداية اهلل لخلقه ورحمته بهم وعطاءه لهم هو العطاء الوحيد الذي يكون
عطا ًء طليقًا من أي قيد ،ودون أدنى مقابل ،فهو العطاء األجمل واألشمل
واألكمل ،وكل عطاء سوى هذا العطاء مكانًا وزمانًا فصاحبه ينتظر عوضًا
بطريقة أو بأخرى .إنه الكرم اإللهي الذي يغمر الخلق رغم الذنب والمخالفة
ال ورحمة منه سبحانه دون عوض كما أسلفنا،
كونه يأتي من السماء تفض ً
ويتواصل الحس الجماعي ،والنفس اإليماني من البداية حتى النهاية في
صورة غاية في الترتيب والتنظيم من خالل اللفظ المحكم "لنا" بقوله "وهب
لنا" ،وليس هب لي ،إنه التأصيل الحقيقي للنفس البشرية وهى تتنازل عن
ال ليس لشيء غير البقاء
ال ومآ ً
ذاتها ،وتنصهر في جماعتها دعا ًء وحا ً
والتزكية والنماء كون كل تلك المفردات النفيسة من التزكية والبقاء ال تدوم،
وال تتحقق إال بذلك االنصهار القائم على هجران الذات واألنا في إطار
الجماعة هنا ،ثم تتزين اآلية بزينة جميلة قبل النهاية من خالل تحديدهم موقع
الطلب بقولهم "من لدنك" ،إنه التصريح الواضح للجماعة المؤمنة واألمة
الهادية يظهر هنا في هذا اللفظ معبرًا عن تحررها الكامل من طينة األرض
ودنسها ،وزينة الدنيا ورقها ،وتعلقها الكامل بقيم السماء وعونها ورحماتها
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 156 -
َد َلوْ
س َو ٍء تَو ُّ
س مَّا عَ ِملَتْ مِنْ خَيْرٍ ُّمحْضَراً وَمَا عَ ِمَلتْ مِن ُ
( َيوْ َم َتجِ ُد كُلُّ نَفْ ٍ
ف بِالْعِبَادِ{.)38()}30
َن بَيْ َنهَا وَبَيْنَ ُه أَمَداً بَعِيدًا وَ ُيحَ ِذرُكُ ُم اهللُّ نَفْسَ ُه وَاهللُّ َرؤُو ُ
أ َّ
انتبه واحذر ..فكل عمل وإن قل حتى مثاقيل الذر من خير أو شر ينتظر
قدومك ،فظرف الزمان الذي تصدر اآلية هنا يشير إلى اليوم اآلخر الذي
ينتظر الجميع في موقف هو األطول زمانًا ،واألعدل حكمًا ،واألصدق حاالً
وماالً .نعم إنه الموقف الذي تحضر فيه النفوس خالية من كل لقب ،ومجردة
من كل نسب كي تقف وجهًا لوجه مع ما كسبت من خير أو شر ،فالفعل "تجد"
يشي بظاهرة غير مألوفة البتة في دار الدنيا ،حيث تظهر األعمال هناك –
كل األعمال – من خير أو شر بصورة مجسمة لها ثقل ووزن ،ولها صورة
وفم .إنها قدرة القادر تتجلى هناك كي تحدث المكاشفة ،وتتوالى المعاتبة بين
النفوس من جهة ،واألعمال من جهة أخرى ،وتظهر هنا عدالة السماء المطلقة
من خالل التعبير القرآني بكلمتي "كل نفس" ،وذلك إيحا ًء بحضور كل األنفس
المكلفة من إنس وجن للحساب والجزاء بصورة دقيقة ،بل غاية في الدقة
والعدل .إنه الحضور الجماعي للجميع ،فال غياب لنفس ،وال هروب لشخص
من هذا الموقف على اإلطالق ،كما أن اللفظ يشي بحساب فردي لكل نفس
على حدة بعيدًا عن عشوائية البشر القاتمة ،وحساباتهم القاصرة ،ثم يأتي
التعبير بقوله "ما عملت من خير محضرًا" كي يحمل دالالت كثيرة ،ومنها:
أن النفوس هى الدافعة الحقيقية والمركزية لنوعية العمل من خير أو شر،
فالنفوس الزكية تزكو بأعمالها وتسمو ،على عكس النفوس الخسيسة التى
تسقط أعمالها وتخبو ،لذا كان أطول قسم في القرآن في سورة الشمس إلثبات
هذه الحقيقة وهى تزكية النفس من عدمها ،كما أن لفظ "عملت" يشي بسقوط
كل األعذار هناك ،فال مكان أبدًا للتحايل ،وتحميل الغير تبعات العمل سواءً
كان ذلك العمل خيرًا أو شرًّا .إنها المسؤولية الفردية تظهر على حقيقتها بعيدًا
عن التدخالت ،أو ثقافة التحايل في تحمل التبعات كما يحصل هنا في دار
الدنيا ،ثم يتواصل جمال التعبير في رسم المشهد األخروي في صورته
العادلة ،وذلك من خالل قوله "من خير محضرًا" ،حيث جئ هنا بلفظ "من
خير" بصيغة النكرة "خير" ،وذلك إيحاء آخر بعدالة السماء التي سجلت
وأحاطت ،ومن ثم أحضرت كل خير عملته تلك النفس كون التنكير للخير هنا
دل على عمومية كل خير ولو كان همًّا همت به النفس في أغوارها ،وعجزت
عن فعله في ظاهرها ومحيطها كونه همًّا في الخير ،وفي الخير فقط ،لذلك
ال يسيرًا ،ويزداد
جئ به هكذا .هذا فضالً عما تم فعله بالفعل ولو كان عم ً
ال في موقف اآلخرة هناك وهو يحوي في طياته عدالة السماء
المشهد جما ً
المطلقة ،وقدرة القادر العظيمة ،وذلك من خالل اإلتيان بكلمة "محضرًا"،
حيث جمعت هنا بين التنكير والتنوين ،وذلك إيحاء بقدرة القادر على الجمع
الدقيق ،والدقيق جدًّا ،بين اإلحضار لألعمال وتجسيمها بصورة لم يعتادها
الخلق في حياتهم الدنيا ،حيث تقف الصالة أمامك مثالً بصورة جميلة وحسنة،
بل غاية في الحسن والجمال وهى تشكر صنيعك ،وتمدح فعلك ،وذلك إن
أحسنت فعلها ،ووفيت معها ،أو تظهر بصورة رثة وموحشة وهى تذم فعلك
وتسئ تعاملك إن قصرت فيها ،وأسأت التعامل معها ،وقس على ذلك كل
عمل من خير أو شر ،لذا كان التنكير والتنوين لإلحضار ليحمل هذا المعنى،
وهو معنى دقيق ،ودقيق جدًّا ،فتأمله .ثم ينتقل السياق إلى العمل اآلخر
المناقض للخير تمامًا وهو الشر ،ولكن قبل الحديث عنه دعونا هنا نتأمل قوله
"وما عملت من سوء" ،حيث نسبت اآلية السوء للنفس ،وليس آلخر أبدًا،
وهو معنى دقيق حيث توحي اآلية بأنه ال يمكن أبدًا في ذلك الموقف رمي
- 159 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
األعذار واختالقها وتحميلها لآلخر أيًّا كان هذا اآلخر ،بل إن سوء تم إحضاره
بصورته المجسمة هناك كان قد تم ارتكابه باإلرادة الكاملة لصاحبه هنا .إنها
اللحظات التي تنتهي فيها األعذار الكاذبة ،وتسقط فيها األخبار المزيفة كي
تقف النفس على حقيقتها بصورتها الفردية ،والفردية فقط ،وهى تحمل كل
التبعات ،وتسأل عن كل األعمال والخطرات ،والعجيب هو التعبير عن الشر
المقابل للخير هنا بقوله "وما عملت من سوء" ،وليس من شر كما كان
منتظرًا من سياق اآلية ،إنه التعامل القرآني المعروف بجمال كلماته ،ودقة
تعبيراته ،حيث عبر عن السوء كونه النتيجة الحتمية للشر ،فالسوء أي الشر
يسيئ لإلنسان ويؤلمه ويتعبه ويحزنه ،فعبر عن النتيجة تاركًا المقدمة
المعلومة واضحة من خالل السياق .إنها الصورة المؤلمة لحقيقة األنفس
المجرمة وهى تظهر هناك ،وتشاهد شرورها ،وسوء أعمالها وقد أحاطت بها
من كل جانب في صورة مجسمة هى األخبث شكالً ،واألنتن ريحًا على
اإلطالق ،حيث جمع لهذه النفس السيئة بين قبح المنظر ألعمال السوء ،ونتانة
ن واحدٍ ،لذا كان التمني
الرائحة ،فكانت فعالً هى الفاضحة والكاشفة في آ ٍ
والتودد هو سيد الموقف هنا ،وذلك من خالل قوله "تود لو أن بينها وبينه أمدًا
بعيدًا" ،حيث أخافها قبح المنظر ،وأنتنها نتانة المخبر ،فتمنت مسافة المكان،
وبعد الزمان هروبًا من ذلك الحال ،وهذا لم ولن يكون ،وال نشك في أن هذا
التمني من قبل هذه األنفس السيئة يحمل معنًى دقيقًا وهو أن حياتها الدنيا كانت
قائمة على تناسى جرائمها ،ومحاولة استبعادها مكانًا وزمانًا من خيالها كلما
تذكرتها كون جرائم المجرم تطارده في ليله ونهاره ،ولكنه يعمل جاهدًا على
تناسيها وإبعادها .إنه الصراع الذي يبقى معتلجًا في نفسه ما بقي حيًّا بال شك،
لذا تحاول نفسه هناك أن تتمنى ممارسة لغة اإلبعاد ألفعالها السيئة كما اعتادت
ال ومآالً ،عندئذٍ
عليها في حياتها الدنيا ،ولكن األمر اختلف مكانًا وزمانًا وحا ً
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 160 -
لم يتبق سوى اللقاء غير اإلرادي وغير االختياري بين األنفس الخبيثة
وأعمالها السيئة .إنها الحقائق التي تم كشفها هنا قبل االنتقال إلى تلك الدار
هناك ،وذلك لكى يتم االستعداد والمراجعة قبل التمني والمدافعة ،ثم يأتي
سياق اآلية قبل ختامها للتحذير الواضح والجلي بقوله "ويحذركم اهلل نفسه".
إنه التحذير اإللهي وبصيغة المضارع الدال على االستمرار ،وذلك لفعل
الخيرات ،واجتناب السيئات قبل القدوم عليه سبحانه ،ثم تختم اآلية بقوله
"واهلل رؤوف بالعباد" ،وجئ بلفظ رؤوف الذي هو شديد الرحمة إذ من
رأفته بخلقه أنه حذرهم قبل القدوم عليه ،والوقوف بين يديه سبحانه حتى ال
تكون المفاجأة ،فاستعد لهذا اللقاء ،واعمل على تزكية نفسك ،وتطهير ذاتك
بطاعة ربك ،واعلم أنك مسؤول مسؤولية كاملة عن كامل تصرفاتك ،وأن
أعمالك كلها تنتظر قدومك ،فإما أن تمدح فعلك ،وإما أن تسوءك وتثقل
ظهرك.
- 161 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ك سَمِي ُع
ك ُذرِيَّ ًة طَيِبَ ًة إِنَّ َ
ب َهبْ لِي مِن لَّدُنْ َ
ك دَعَا زَ َكرِيَّا رَبَّ ُه قَا َل َر ِ
(هُنَالِ َ
الدُّعَاء{.)39()}38
عندما تبتلى بالعلم وفقدان الذرية فال تيأس من كرم اهلل أبدًا ،بل ادع اهلل وحده
أن يهبك ذرية صالحة كما وهب غيرك بعد حرمان وطول عمر .إنها القضية
األهم والمطلب األعم في حياة الكائن البشري كون الولد أنس الحياة وزينتها،
وسلوى األيام وطيبها ،ومما تجدر اإلشارة إليه أن هذه الزينة وذلك األنس ال
يتمان أبدًا إال بصالح الدين ،وإال كان الولد فتنة ومحنة ،وبلية ونقمة .كما أن
ال كما هو الحال
فقدان الولد ليس عيباً ،فقد ابتلي بذلك بعض األنبياء زمنًا طوي ً
هنا مع نبي اهلل زكريا ،وإنما العيب أن ييأس العبد ،أو يسخط من ابتالء الرب،
هذا أوالً :وثانيًا :أن يطلب العبد ذرية خالية من الصالح ،وعارية من
االستقامة عندئ ٍذ يكون عقمه هو األسلم دينًا ،واألطيب عيشًا كون الرضا
بالمقسوم هو عين العطاء بال شك ،وحتى تتضح هذه القضية أكثر تعالوا
لنعيش في ظالل اآلية كي تتضح الصورة بروعتها ،ويظهر االبتهال بجماله
ال ومكانًا ،فقوله "هنالك
ومفرداته األكثر دقة ،واألصدق تعبيرًا ،واألشرف حا ً
دعا زكريا ربه" ،إنها اإلشارة للمكان المقصود هنا وهو المحراب ،وال يمنع
دخول الزمان أيضًا في هذه اإلشارة ،كما يوحي اللفظ هنا بقيمة المحراب في
قلب المؤمن ،ودوره في تزكية العبد عندما يتصل بالرب ،وثانيًا جواز القياس
في المسائل الشرعية ،فتكريم اهلل لمريم برزق البدن جعل نبي اهلل زكريا يتجه
نحو ربه طالبًا رزق الولد كونه رزقًا من أرزاق اهلل ،وجاء بلفظ "دعا"
لإليحاء بافتقار األنبياء هلل تمامًا كغيرهم من الخلق كون الخلق كلهم فقراء إلى
الخالق سبحانه ،ومما ال شك فيه فإن هذا اللفظ يوحي بوجوب األخذ باألسباب
للحصول على الولد ،ومنها الدعاء كون العالج الحسي دون عمل تعبدي هو
سقوط في الشرك بال شك ،وجاء بذكر "زكريا" هنا وذلك في إشارة واضحة
إلى أن االبتالء في هذا األمر حدث لألنبياء كما يحدث لغيرهم من عباد اهلل
األولياء ،فما سخطوا ،وال يئسوا رغم نبوتهم ،بل دعوا ربهم سبحانه .إنها
الحياة المليئة بالمتاعب واألحزان واالبتالءات في النفس واألهل واألوطان
تعبر عن نفسها من خالل هذه اآليات في صورة تعبر عن حقيقة الحياة من
جهة ،وصبر المؤمن ،واتصاله بربه للحصول على المحبوب ،ودفع المكروه
من جهة أخرى ،وقوله "دعا ربه" ،وليس دعا اهلل كون إجابة الدعاء – في
الغالب – من أفعال الربوبية ،لذا فإن الكثير من األدعية يتصدرها الرب وليس
اإلله كما هو معلوم ،وال ننسى اللفتة اللغوية الجميلة هنا في هاء الضمير
المفرد في "ربه" ،والعائدة على زكريا ،وليس دعا الرب مثالً ،وذلك لإليحاء
بالتوحيد الكامل ،واألنس التام ،والثقة المطلقة من قبل زكريا بربه وخالقه،
فربه وحده دون سواه من سيحقق مطلبه ،ويجيب دعاءه ،وهو ما كان.
ويتواصل الجمال القرآني في نقل المشهد التعبدي من خالل تتابع الطلب،
وروعة المناجاة من خالل قوله "رب هب لي من لدنك ذرية طيبة" ،حيث
تحمل هذه الكلمات دالالت غاية في الجمال والجالل ،فقوله "هب" وليس
أعطني يارب كون الهبة عطاء من غير عوض وال مقابل .إنه التعبير الدال
على أن عطاء اهلل لعبده هو عطاء محاط بالتفضل واإلكرام والجود واإلنعام
دون مقابل من قبل هذا العبد ،وجاء لفظ "لي" هنا وليس لنا ،وذلك كون
المحروم من الولد هنا هو زكريا ،فكان التخصيص لهذا المعنى ،وثانيًا فيه
إيحاء دقيق بافتقار العبد الذاتي للغني سبحانه ذى الغنى الذاتي ،وهو معنى
دقيق جدًّا فتأمله .إنها ذاتية الفقر في العبد تقابلها ذاتية الغنى في المعبود –
جل في عاله – وهو معنى من أنفس المعاني لمن تأمله .نعم إنها اللمسة التي
- 163 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ينبغي أال تغيب أبدًا عن شعور المؤمن وهو يعرض حاجته ونفسه وذله وفقره
بين يدي ربه بصورته الفردية ،وذاتيته البشرية ،وجاء بلفظ من لدنك ،وذلك
إيحاء آخر بأن الولد هو هبة من عند اهلل ،ومن عند اهلل فقط ،وأن اإلنسان هو
سبب فقط ،والمسبب وخالق األسباب هو اهلل وحده ،وينتقل السياق في اآلية
هنا حتى تكتمل الروعة والجمال من خالل قوله "ذرية طيبة" .إنَّه الطلب
ال ومعنى هى
المقيد وليس المطلق لمفهوم الذرية كون الذرية الطيبة شك ً
الطلب والمقصد .إنها حصافة المؤمن تظهر هنا من خالل طلبه الدائم الذرية
المقيدة بالصالح كون مفهوم المخالفة في اآلية أن ذرية بدون صالح وتقوى
عدمها خير من وجودها ،بل يصبح تمنِّي العقم هو الحال لمن ابتُلي بذرية
فاسدة كما هو معلوم عند كثير من الخلق .ويزداد المعنى جماالً ،والجمال
جالالً ،وذلك بقوله "ذرية طيبة" ،فتنكير ذرية يوحي بطلبه ذرية غير محددة
إذا كانت طيبة ،وجاءت الطيبة هنا منكرة أيضًا لإليحاء بأن تكون هذه الطيبة
شاملة وعامة تشمل طيبة الباطن بالصدق واإلخالص والدين ،وطيبة الظاهر
بالجمال والرجولة في العالمين ،وال شك في أنه باجتماع طيبة الباطن مع
طيبة الظاهر في ذرية العبد تكون الزينة قد اكتملت ،والنفس قد طابت .ثم
ينساق الجمال ليتسق ختام اآلية مع بدايتها في صورة غاية في الروعة
والجمال ،وذلك بقوله "إنك سميع الدعاء" كونه دعا في البداية فأثبت أن
ربه سيسمعه في النهاية ،وهو ما كان ،فال تيأس من حرمانك الولد والذرية،
بل ادع وخذ بكل سبب شرعي ،مع ضرورة أن تعي وتفهم أن الذرية الصالحة
هى في الحياة نعمة ومغنم ،وما سوى ذلك فتنة وبلية َوهَمٌّ ،بل إن ذرية بغير
صالح ودِين تجعل العبد يتمنى العقم والحرمان.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 164 -
المطالب ،وتنوعت الحاجات ،ولكن يبقى القيام ،والقيام فقط ،هو الركيزة
للقرب اإللهي ،والنصر السماوي بال شك كون األمة النائمة لن تهتز لها
السماء ال في مطالبها الفردية ،وال في حاجاتها الجماعية .وقوله "وهو قائم
يصلي في المحراب" يشي بعظمة الصالة وقيمتها دون غيرها من العبادات،
وجاء بلفظ يصلي بصيغة المضارع لإليحاء باستمرارية إقامة الصالة من
قبل نبي اهلل زكريا .إنها اللفتة الحقيقية لحقيقة الصالة مع المصلي وهو يحياها،
ويعيش معها كلما نادى المنادي وجوبًا ،أو تحرك معها وفيها راحة واستحبابًا
ليتحقق الصفاء ،ويتواءم النداء بين األرض والسماء في لحظات القرب،
وساعات التجلي .كما أن اللفظ "يصلي" يوحي باالنتظام والدوام كون الصالة
المحكومة بالحاجة والمصلحة هى ضياع للصالة ،وعبث من المصلي ليس
ال ما
إال .وجاء تخصيص المحراب بالذكر ألمور ومنها – أن المحراب أو ً
سُمي محرابًا إال لكونه مكانًا إلعالن الحرب على الشيطان ،وثانيًا :يوحي
اللفظ بالمحافظة على مكان التعبد ،والمداومة فيه على المناجاة والتعبد .إنها
اللحظات الحقيقية التي تجعل الفرد في الجماعة المؤمنة فردًا سويًّا في عقيدته،
وصادقًا في توجهه ما بقي ملتزمًا في محرابه كون الجماعة التي يفقد أفرادها
محراب الصالة هى الجماعة األسوأ واألسوأ في كل حال .ومما تجدر اإلشارة
إليه هنا أن المحراب ال يقصد به مقدمة المسجد كما يعتقد البعض ،بل يقصد
مكان العبادة والصالة بشكل عام ،وإن كان البعض يشير به إلى مقدمة
المسجد ،ولكن المعنى األول أشمل ،ومما ال شك فيه هنا أن الجماعة المؤمنة
تبقى مستجابة الدعوة ما بقى محرابها في سلم أولوياتها ،فإذا غاب المحراب
عن الجماعة والفرد غابت االستجابة ،وغابت معها الجماعة المنقذة واألمة
الهادية .وال شك في أن هذا الغياب يستمر ويطول حتى تعود الجماعة بأفرادها
إلى المحراب ليكون منه ومن خالله بداية االنطالق ومنتهاه بصيغة المضارع
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 166 -
الوارد هنا سواء بسواء ،ثم ينتقل السياق بعد هذا الوصف للصالة في
ال لبشارة السماء من قبل اهلل – جل في عاله – قائالً
المحراب متحدثًا وناق ً
"أن اهلل يبشرك بيحيى مصدق ًا بكلمة من اهلل وسيدًا وحصورًا ونبيّا من
الصالحين" ،إنها البشارة المباركة لصالة المحراب ،وقيام المحراب ،وحياة
المحراب جاءت بهذه الصورة ،وبهذه البشارة ،وسميت بشارة بهذا االسم
كونها يظهر أثرها على البشرة من خالل الفرحة والسرور والغبطة والحبور.
نعم فقد تحقق الطلب وجاءت الذرية الطيبة التي أرادها نبي اهلل زكريا حيث
جمع اهلل له في ذريته هذه بين مولود سُمى "يحيى" تحيا القلوب بنبوته ،وسيدًا
يسود الناس بكماله وأخالقه ،وحصورًا مانعًا لنفسه عن كل نقيصة ورذيلة
كون الحصور هو الذي يمنع نفسه عن ارتكاب النقائص ،وليس كما قال
البعض أنه ال همة له بالنساء إال إذا كان المقصود بالنساء الالتي ال تحل له،
فهذا أمر حق ،أما لعاهة أو داء فهذا عيب في حق من سواه ،فكيف به وهو
نبي ،ثم جاء بعد ذلك بوصف النبوة إلتمام البشارة ،وختمها بقوله "من
الصالحين" .ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن مراتب الصالح أربعة :النبوة
والصديقية والشهادة والصالح ،فكان يحيى جامعًا لكل هذا الصالح حيث جئ
بلفظ من الصالحين تأكيدًا وتعميمًا كون كل نبي صالح ،وليس العكس ،فاجعل
محراب الصالة مالذك ،واجعل الصالة زادك ،واعلم أن اهلل ال يخذل أبدًا من
كانت حياته ال تنفك أبدًا بين صالته ومحرابه.
- 167 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
يغيب أبو طلحة في الجماعة المنقذة واألمة الهادية ،وتصبح بيرحاء هى
وحدها من عاشت اآلية هناك ،عندئ ٍذ يتأخر ما تحب األمة قدومه ،ويتقدم ما
تتمنى األمة تأخره ،وهنا نقول إنه يجب أن تكون الجماعة كلها أبا طلحة،
وذلك حتى تقوى وتبقى ،إذًا هذه هى الصورة الحقيقية التي يريدها المنهج
السماوي من أفراد الجماعة المنقذة وهى تتعامل مع منهج السماء بصورة
غاية في السباق لتقديم األفضل واألكمل واألشرف واألجمل وذلك هلل ،وهلل
فقط ،وال شك في أن هذه التربية للجماعة بهذه الصورة ليست عبثية كون
العبث ال مكان له في تشريع السماء ،بل هى تربية مقصودة يراد من خاللها
تزكية النفس كي تبدأ بتقديم األفضل مما تملك من مال ومتاع بداية ،فإن فعلت
فإنها ستقدم نفسها من أجل ربها بعد ذلك نهاية .إنها التربية اإللهية للجماعة
المنقذة تبدأ بخطوات متدرجة كي تصل بها إلى ما فيه كمالها وسيادتها هنا،
وسعادتها وراحتها عند اهلل هناك ،وحتى نتذوق روعة العطاء تعالوا لنعيش
في ظالل اآلية ،ونتنقل بين كلماتها ،ونعيش مفرداتها حيث الجمال والكمال،
فقوله " لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون" ،هذه اآلية توحي بدالالت
كثيرة ،ومنها – أن التعبير بلن وليس بال يوحي بعدم نيل حقيقة البر وكماله
ما لم يكن اإلنفاق مما يحبه المنفق ويهواه كون لن تدل على النفي المؤبد
لحدوث الشئ من عدمه عكس ال ،وثانيًا تنالوا أي تدركوا ،حيث جاء التعبير
بصيغة الجماعة في إشارة واضحة إلى أن كمال الجماعة وخيريتها يكمن في
أمرين اثنين؛ األول اإلنفاق وعدم البخل ،وثانيًا – أن تكون تلك النفقة من
أفضل الموجود .إنها دعوة السماء للجماعة المنقذة واألمة الهادية كي تتحرر
من الرق المادي ليتسنى لها قيادة األرض ،كل األرض ،نحو السماء ثم يأتي
ال آخر وذلك من خالل التعبير القرآني التالي بعد ذلك ليُضفي على المشهد جما ً
كلمة "البر" ،حيث جاء البر معرفًا باأللف والالم وليس منكرًا كأن يقول مثالً
"تنالوا برًّا" ،حيث أفاد التعريف هناك كمال البر وحقيقته ،ولو قال "لن تنالوا
- 169 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
برًّا" وجاء بالبر منكرًا لكانت كل نفقة وعطاء يقدمه المؤمن ال يؤجر عليه
وال يثاب ما لم يكن مما يحب .إنها رحمة اهلل بعباده وكرمه عليهم تتجلى هنا
في صورة تعبر عن لطفه بهم ،ومراعاته لحالهم .وبغض النظر عن اختالف
ن إنه الجنان، العلماء حول المقصود بالبر هنا بين قائل إنه اإلحسان ،وثا ٍ
ث إنه أعلى مراتب التقوى ،وراب ٍع أنه الخير كل الخير ،ومع ذلك يبقى وثال ٍ
كمال الخير هو المقصود والمراد ليس إال ،ثم جاء التعبير القرآني متناسقًا
بصورة مبدعة وذلك من خالل الجمال التالي في قوله "حتى تنفوا مما
تحبون" ،إنها اإلشارة الدقيقة والواضحة إلى حرية الجماعة الكاملة والنافذة
في قدرتها على أن تبلُغ أعلى مراتب الكمال ،وذلك من خالل كرمها في
العطاء ،وجمالها في الوفاء ،وذلك إن أرادت أن تكون كذلك ،كما أن التعبير
بصيغة المضارع يوحي بأن بلوغ كمال البر في العطاء ال يكون من نصيب
الجماعة المنقذة ما لم يكن عطاؤها النوعي من األفضل واألكمل واألحب هو
ديدنها على الدوام ،وسلوكها الحقيقي والمستمر بين األنام ،وليس عطا ًء آنيًّا
يحدده الزمن والوقت ،بل هو سلوك الجماعة وجمالها في هذا العطاء ما بقيت
الحياة ،وإال فال كمال وال جمال ،ويأتي اللفظ القرآني هنا ليكتمل الجمال مرة
أخرى ،وذلك من خالل قوله "مما تحبون" في إشارة واضحة إلى وجوب أن
يكون الحب في الداخل البشري موجهًا نحو السماء ،يعانقها بعطائه ،ويسمو
نحوها بكرمه وسخائه .إنها العواطف والغرائز التي ينبغي أن تتحرر من
طينة األرض وشهواتها ،وتتجه بكليتها نحو السماء كي يكتمل الجمال كما
أراد له خالق الجمال ،ثم تختم اآلية بقوله "وما تنفقوا من شئ فإن اهلل به
عليم" ،حيث جئ بصيغة المضارع هنا لإليحاء بأن اهلل مطلع على الدوام
على كل نفقة صغيرة أو كبيرة سوا ًء كانت مما تحبه الجماعة أو تكرهه كون
تنكير الشئ هنا يشي بهذا المعنى ،وذلك حتى تستشعر الجماعة المنقذة واألمة
الهادية علم اهلل المطلق الذي ال يخفى عليه شئ في األرض وال في السماء.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 170 -
فأنفق مما تحب إن أردت أن يعطيك اهلل ما تحب ،فإن أنفقت مما تكره فاعلم
أن ما تحبه لن يصل إليك بعد حتى تصلح عطاءك.
- 171 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ِال وَأَنتُم
ُن إ َّ
َق تُقَاتِ ِه وَ َال تَمُوت َّ
اهلل ح َّ
(يَا أ َُّيهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ َّ
مُّسْلِمُونَ{.)42()}102
عندما تجمع الجماعة المنقذة واألمة الهادية بين اإليمان والتقوى تكون بذلك
قد حفظت نفسها من السقوط هنا ،وحفظت خاتمتها كي تموت على اإلسالم
عندما تنتقل إلى اهلل هناك .والجميل هنا في هذه اآلية هو الجمع بين مفردات
غاية في األهمية بغية التميز في الحياة هنا كأمة رائدة وجماعة منقذة ،حيث
تم الجمع بين كل من – النداء – التنبيه – األمر – اإليمان – التقوى – اإلسالم،
وهى المفردات الحقيقية التي ترتكز عليها الجماعة المنقذة واألمة الهادية كي
تبقى األصلب عودًا ،واألقوى وجودًا .ومما ينبغي اإلشارة إليه هنا قبل
الحديث عن تلك المفردات القيمة هو التنبيه للطيفة دقيقة جدًّا وهى ارتباط هذه
اآلية بما قبلها وبما بعدها ،نعم فما قبلها يوحي بأن الجمع هنا بين اإليمان
والتقوى هو دون غيره ما يعصم الجماعة من السقوط العقدي ،والضالل
الشيطاني الذي قاد أممًا إلى الكفر والضياع هناك ،كما أن هذه اآلية تتعلق
باآلية التي بعدها ،بل هى أساسها كون اإليمان والتقوى في حياة هذه الجماعة
هما الركيزة األساسية لالعتصام الجماعي ،والترابط األخوي وإال فال
اعتصام وال أخوة .إنها الحقيقة التي يجب أن تعيها أمة الهداية حتى ال تسرح
بعيدًا باحثة عن مسمى آخر كي تجتمع وتسود سواء كان هذا اآلخر مسمى
قوميًا أو وطنيًا أو أي مسمى آخر كون الهوية الوحيدة القادرة على تحقيق
االعتصام الحقيقي ،والترابط األخوي هى اإليمان والتقوى فقط ،وما سوى
ذلك من المسميات إنما هى دعوى جاهلية أثبتت فشلها في األمس ،ويتكرر
فشلها اليوم .ولكي نتذوق حالوة اآلية وجمال مفرداتها ننتقل سريعًا للحياة في
ظاللها كون الحياة في ظالل القرآن هى الحياة الحقيقية ،وما سوى تلك الحياة
إنما هو ضياع يقود إلى ضياع ،فقوله "يا أيها الذين آمنوا اتقوا اهلل حق
تقاته" يحمل في طياته دالالت لطيفة وإيحاءات نفيسة ،ومنها – أن جذب
انتباه السامع لما يراد قوله أمر في غاية األهمية إليصال الرسالة ،وتحقيق
الغاية ،فالنداء والتنبيه هنا يعبر عن هذا الغرض ،وثانيًا توجيه األمر للمؤمنين
دون غيرهم يوحي بوجوب االنتقاء عندما يراد تحقيق أمر ما ،وعلى قدر
أهمية األمر يكون االنتقاء والتخصيص ،وال شك في أن مفهوم اإليمان وتحققه
في الفرد والجماعة هنا هو الذى يحقق التخصيص واالنتقاء في وقت واحد
كون اإليمان القائم على أساس الفهم العميق ،والتخطيط الدقيق ،والعمل
المتواصل هو الذي يحقق مراد الجماعة المنقذة واألمة الهادية بال شك ،كما
أن الخطاب الموجه للمؤمنين هنا يوحي بالقدرة الفائقة على إحداث التغيير
في سلوك الفرد والجماعة على حد سواء ،وذلك عندما يكون الخطاب للقلب
ن واح ٍد كون خطاب القلب والعاطفة دون تحديد الهدف والغاية
وللعقل في آ ٍ
منه هو عبث وعظي ،وترف كالمي ليس إال ،كما أن مخاطبة العقل بتنفيذ
األمر دون استثارة القلب بإيمانه ويقينه هو جفاف روحي ،وفقر خطابي قلما
يحقق الهدف ،ويوصل للغاية ،وهذه لمسة قرآنية ينبغي الوقوف عندها كونها
تعلم الجماعة بأفرادها ومجموعها حقيقة الخطاب ،وروعة البيان عندما تريد
خطابًا أو تبيانًا .كما أن هنا لمسة أخرى في اآلية حيث طُلب من المؤمنين
تقوى اهلل في إشارة واضحة إلى أن اإليمان الحقيقي هو الذي يحمل الجماعة
على فعل المأمور ،واجتناب المحظور ،وأن يراك اهلل حيث أمرك ،ويفتقدك
مخدرًا ،والتصديق
حيث نهاك ،وهو معنى من معاني التقوى وإال كان اإليمان َّ
ناقصًا ،عندئ ٍذ يضيع المؤمن بين التخدير والنقص .وبعيدًا عن اختالف العلماء
حول هذه اآلية بين قائل بالنسخ لها بقوله تعالى "ال يكلف اهلل نفسًا إال
- 173 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
وسعها" ،وقوله "فاتقوا اهلل ما استطعتم" ،وآخرين جعلوها آية محكمة ،إال
أن العمل بتقوى اهلل قدر المستطاع هو المعنى المراد من خالل سياق اآلية
دون الدخول في خالفات العلماء هناك كون اإلتيان بالمأمور ،وترك المحظور
مستطاعًا فعله؛ ألن اهلل ال يكلف عباده بما ال قدرة لهم على فعله البتة ،وهى
خالصة نفيسة ينبغي اإلشارة إليها ،والتأمل فيها .وقبل الختام البد من اإلشارة
هنا إلى هذا الخطاب الموجه للجماعة وليس للفرد ،وذلك كون الجماعة يُنتظر
منها القيام بواجب االستخالف في األرض إلحقاق الحق وإبطال الباطل ،كما
أن اإليمان والتقوى ال يتحققان أصالً ،وال يرسخان مكانًا إال بعبادة جماعية
بعيدًا عن الوحدة واالنعزال .ثم تأتي النهاية هنا منسجمة تمامًا مع البداية في
صورة تعبدية رائعة ،وذلك من خالل قوله "وال تموتن إال وأنتم مسلمون"،
حيث تحمل اآلية دالالت كثيرة ،ومنها – عدم االكتفاء بأعمال اإليمان اعتقادًا
ال وعمالً لفترة محددة من الزمان كون التعبد الوقتي ليس مقبوالً ،وال هو
وقو ً
مشروعًا .إنها التربية الحقيقية للجماعة المنقذة واألمة الهادية تبدأ من هناك
من أول حياتها وهى تعبد اهلل ربًّا ،وتنشر اإلسالم دينًا ،وتقتدي بنبي اهلل رسوالً
حتى تنتهي حياتها ،وتُقبض أنفاسها وهى ثابتة منهجًا ،وصادقة توجهًا ،وقائدة
مكانًا وزمانًا ،وذلك دون تغيير أو تبديل .نعم إنه ثبات الجماعة وإيمانها
وتقواها يظهر أثره ،وينتشر خبره كي يمأل اآلفاق في صورة تحمل في طياتها
روعة الجمال في الموت على اإلسالم ،وعلى اإلسالم فقط ،وال شك في أن
المقدمة الصحيحة تعقبها نتيجة صحيحة ،فمن صح إيمانه وتقواه في البداية
صح إسالمه في النهاية ،وهذا هو السر في تقديم اإليمان والتقوى في البداية،
واألمر بالموت على اإلسالم في النهاية كون المسألة ليست مصادفة أبدًا ،بل
ن
هى أعمال ومجاهدة ،لذا كان التعبير القرآني بقوله "وال تموتن" يحمل معا ِ
كثيرة ومنها هذا ،إذًا فأنت أنت دون غيرك من يختار هذه الموتة ،ويحقق تلك
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 174 -
النهاية ،نعم ال اختيار أبدًا لوقت الممات وساعته في سلوك الجماعة المنقذة
واألمة الهادية ،ولكن يبقى االختيار هنا لنوعية الممات وصفته ،وهى أن
تموت مسلمًا أو غير مسلم ،وأن تختار الموت على اإلسالم هو الحق والحقيقة
التي يجب أن تكون ،لذا كان قوله "إال وأنتم مسلمون" يوحي بهذا المعنى،
فاختر وسائل الخطاب ونوعه ،وإذا أردت تحقيق أمر ما فخاطب القلب أوالً،
واستثر إيمانه ويقينه كي يستجيب العقل ليعمل ويقود ،واعلم أن اإليمان هو
رأس مالك لتحيا على اإلسالم ،وتموت عليه.
- 175 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
الهادية كلها ،وليس للفرد كون االعتصام الفردي ،والتعبد الشخصي دون
جماعة تسود وتحكم غرقًا محققًا ال يحقق دينًا ،وال يُرضي ربًّا .ومما تجدر
اإلشارة إليه هنا أيضًا أن االعتصام نوعان :اعتصام باهلل ،واعتصام بحبل
اهلل ،فاألول معناه االستعانة باهلل ،والتوكل عليه ،وطلب العون منه ،بينما
االعتصام الثاني الذي ورد في سياق اآلية هنا فمعناه التمسك بدين اهلل وشرعه
وكتابه وهديه ،وهو معنى دقيق ،بل غاية في الدقة ،لذا ينبغي تأمله والوقوف
عنده ،فاالعتصام هنا والذي معناه التمسك بحبل اهلل هو الحقيقة التي يجب
على الجماعة المنقذة واألمة الهادية أن تعيشها ،وتلتزم بها كي تحفظ ذاتها
من عبث اللئام ،وفرقة األيام ،وذلك من أجل أن تهدي وتهتدي .وقد اختلف
ن إنه الدين،
علماؤنا حول المقصود بحبل اهلل هنا بين قائل إنه القرآن ،وثا ٍ
ث بأن المقصود بحبل اهلل هو جماعة المسلمين ،ولكن يبقى الدين هو
وثال ٍ
التفسير األشمل واألكمل كونه يجمع كل ما سبق ،والجميل هنا هو تشبيه دين
اهلل بالحبل ،وذلك لإليحاء بأمور كثيرة ،ومنها – أن الحياة بحر كامل ،وال
نجاة من الغرق فيها إال بحبل السماء الممتد من هناك ،والذي طرفه بيد اهلل،
والطرف اآلخر هو هنا .إنها اإلشارة الخفية التي تبدو هنا من خالل السياق،
والتي توحي بسقوط حبال األرض برجالها وناسها ليبقى حبل اهلل ،وحبل اهلل
فقط ،هو حبل النجاة ،وما سواه إنما هي حفر لإليقاع والوقيعة ليس أكثر .كما
ال واحدًا،
أن التعبير بالحبل يشي بقدرة كل أحد على التمسك به لينجو كونه حب ً
ال متعددة تشغل الطالب ،وتعيق المطلوب ،ولذا جاء مفردًا فلم يقل
وليس حبا ً
ال "واعتصموا بحبال اهلل" ال لم يقل هذا .إنه اإلفراد الذي دل على
اهلل مث ً
وحدانية المعبود ،وواحدية المنهج والمقصد حتى ال تنشغل ،األمة بكثرة
الحبال كون الغريق الذي يريد النجاة إذا كثرت بين يديه الحبال ال يدري بأيها
يستمسك ،فيكون الغرق ،بينما الحبل الواحد مدعاة لالستمساك به دون
- 177 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
األشكال واألوطان كون األمر إذا نُكِّر دل على عموميته كما هو معلوم عند
أهل اللغة ،ثم يتواصل السبك القرآني في رسم المشهد بطريقة رائعة ،وذلك
من خالل قوله تعالى "واذكروا نعمة اهلل عليكم إذ كنتم أعدا ًء فألف بين
قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم
منها" ،إنها العودة بالعقل والحس والشعور جملة واحدة إلى الماضي القريب
بآالمه وأحزانه ،وفرقته وعدوانه ،وذلك الستلهام الدروس ،وأخذ العبر ،ومن
ثم العودة من جديد للحياة في ظل حبل اهلل المتين ،وصراطه المستقيم ،وال
شك في أن نعمة اهلل هنا يقصد بها نعمة الدين التي أزالت العداوة والعدوان
في صورة رائعة وسريعة بعد حروب متتالية بين أرباب األسرة الواحدة
ال من خالل قوله "فألف
واألصل الواحد ،ويزداد المشهد جماالً ،والجمال كما ً
بين قلوبكم" ،حيث خص القلوب بالذكر في إشارة واضحة إلى أن االعتصام
الحقيقي بحبل اهلل الواحد تظهر حقيقته ،وينتشر أثره من خالل تأليف القلوب
وتوحدها .إنها اللمسة الحقيقية للمنهج الحقيقي ،والحبل الحقيقي ،والتمسك
الحقيقي تظهر هنا من خالل قلوب الجماعة المنقذة واألمة الهادية وقد توحدت
في الهدف والمقصد بعد عداء وعناء .كما أن تخصيص القلوب بالذكر يوحي
بأن االعتصام بحبل اهلل هو الذي يملك القدرة دون غيره على تأليف القلوب
مع األبدان جملة واحدة ،وما سواه من حبال األرض تقف عاجزة عن هذا
التأليف إذ أنها تجمع األبدان ،واألبدان فقط ،بينما تظل القلوب ممزقة
األوصال ،ومفرقة الشمل ،وهو معنى نفيس ونفيس جدًّا .ثم يتواصل التعبير
بقوله "وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها" .إنها الحقيقة األولى
قبل معرفة حبل السماء وهديها حيث كانت الهاوية والحفرة هى المكان
والمآل ،وهو ما يوحي به اللفظ القرآني "على شفا حفرة" .نعم فكلمة "حفرة"
تعبر عن المصير الذي كان ينتظر الجماعة المنقذة واألمة الهادية لوال رحمة
- 179 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
اهلل ولطفه وحفظه ورعايته .إنها الحفرة التي كانت معدة كي تبتلع في جوفها
كل تلك األمة برجالها وناسها ،ولوال حبل اهلل ،وحبل اهلل فقط ،لفعلت تلك
الحفرة فعلها كما أسلفنا ،ومما ال شك فيه هنا فإن هذه الحفرة تبقى بلفظها
ومعناها تلتهم في جوفها ،وتُسقط في وكرها كل من ابتعد عن حبل اهلل وهديه.
إنها الحفرة الباقية هنا ،والمنتظرة كى تلتهم حبال األرض بناسها وأهلها ما
بقيت الحياة ،وتعلق بتلك الحبال الواهية أحياء ،ثم تأتي النهاية منسجمة تمامًا
مع روعة البداية من خالل قوله تعالى "كذلك يبين اهلل لكم آياته لعلكم
تهتدون" .إنه التبيان الواضح للجماعة كي تعتصم بحبل اهلل ،وبحبل اهلل
وحده ،وتترك حبال األرض المهترئة حتى ال تسقط من جديد في حفر
األعداء ،ومكر األصدقاء كون الحفرة معدة ،وحبال السقوط ممتدة ،فاعتصم
بحبل اهلل وهديه ،ودع حبال األرض فهى ليست بأكثر من حفر لاللتهام
والسقوط ليس إال.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 180 -
ُم الَ
ِال أَذًى َوإِن يُقَا ِتلُوكُمْ ُيوَلُّوكُ ُم األَدُبَا َر ث َّ
(لَن يَضُرُّوكُمْ إ َّ
صرُونَ{.)44()}111
يُن َ
بين األذى وفرار أهل الكتاب يبقى المسلمون محفوظين على الدوام من كل
ضر إال ما يصيبهم من أذى ،ومن أذى فقط ،ما بقى دينهم صادقًا ،وعهدهم
مع اهلل محفوظًا .إنها الحقيقة التى مألت الزمان والمكان ،واختصرت المقام
والحال ،وسكبت الطمأنينة واألنس على قلوب عباد اهلل المؤمنين منذ نزلت
هذه اآلية الكافية الشافية وحتى يرث اهلل األرض ومن عليها .نعم إنها المعركة
المستمرة بين أهل الكتاب من جهة ،والجماعة المنقذة واألمة الهادية من جهة
أخرى تلخصها اآلية بهذا الوضوح ،وليس هذا فحسب ،بل تعلن اآلية نتائجها
سلفًا حتى تعي الجماعة حقيقة المعركة وطبيعتها من البداية حتى النهاية،
وحتى تتضح حقيقة المعركة ونتائجها ننتقل كي نعيش في ظالل اآلية ففيها
من الدقائق واللطائف ما يروي الظمأن ،ويرغم الشيطان ويدحره بقوة البيان
سواء شياطين اإلنس من اليهود والنصارى ،أو شياطين الجن ،فكلهم يخنسون
ال برجال يحبون الموت كما يحب أولئك الحياة ،وفي
عندما يكون الحق متمث ً
البداية البد من اإلشارة إلى حقيقة مهمة وهى ارتباط هذه اآلية بما قبلها حيث
يقول علماء التفسير إن لكل آية ارتباط بما قبلها وبما بعدها من حيث المعنى،
وليس هذا فحسب ،بل وارتباط مقدمة السورة بنهايتها بصورة إبداعية
معجزة ،وقبل هذه اآلية كان الحديث هناك عن الركائز األساسية لخيرية هذه
األمة ،والتي تمثلت بأمرها بالمعروف ،ونهيها عن المنكر ،وإيمانها باهلل،
ف تمامًا عن الجماعة ما بقيت محافظة
ومما ال شك فيه هنا فإن الضر منت ٍ
على تلك الركائز اآلنفة الذكر حتى إذا تخلت عنها أو عن بعضها نالها من
الضر بحسب تخليها .نعم فكأن اهلل يقول ما دمتم تأمرون بالمعروف ،وتنهون
عن المنكر ،وتؤمنون باهلل فلن يضركم أهل الكتاب ،وإنما هو أذى ،وأذى
فقط ،فاثبتوا وتثبتوا .وحتى نتذوق جمال اآلية وروعتها ننتقل إليها ،فقوله "لن
يضروكم إال أذى" توحى بلطائف كثيرة ودقائق جميلة حيث يوحى جمال
التعبير من البداية بحفظ اهلل للجماعة في النهاية كون التعبير بلن وليس بال،
ال ال يضروكم إال أذىً ،فالتعبير بلن يوحي بأبدية الحفظ
كأن يقول اهلل مث ً
وتأكده ما بقيت الجماعة ملتزمة بركائز البقاء ،وقواعد السماء كون لن تدل
على هذا المعنى عكس ال ،وهى من لطائف اللغة الدقيقة ،وتعبيراتها المعجزة،
ثم يأتي التعبير بالفعل المضارع بعد لن بقوله "يضروكم" ليثبت ذلك المعنى
ويؤكده .إنها الراحة النفسية التي تمأل صدور أهل الحق ودعاته وهم يتلون
هذه اآلية في لحظات روحانية رائعة ،وقد تجلت لهم الحقيقة ،واتضحت بين
أيديهم القضية من البداية حتى النهاية ،ومما ال شك فيه هنا فإن إشارة خفية
تظهر هنا من خالل سياق اآلية توحي باستمرار االستهداف وتنوعه ،وبقائه
وتكرره ،وذلك من قبل أهل الكتاب ،ولكن نتائجه معلومة ،وحقيقته محسومة.
إنها هزيمة االستهداف وسقوطه ما بقيت الجماعة المؤمنة محتفظة بصفاتها
ن واح ٍد كون سياق اآلية يوحي بهذا المعنى .نعم إنها
كأمة منقذة وموحدة في آ ٍ
وحدة المنهج والفكر واألرض والسماء كلها تغرد باتجاه واحد صوب السماء
طالبة النجاة من عبث الحياة ،وأذية األحياء ،وليس هذا فحسب ،بل هو التوجه
التعبدي الممزوج بروعة الهداية ،وجمال النهاية .إنه األمر بالمعروف،
والنهى عن المنكر ،واإليمان الصادق باهلل واالعتصام الجماعي بحبل واحد
هو حبل اهلل ،كل ذلك يفهم من خالل اآليات السابقة تباعًا ،وتم تتويجه هنا
كنتيجة حتمية ألمة ال يضرها من خذلها وال من خالفها حتى يأتي أمر اهلل.
إنها اآليات القرآنية بألفاظها وأجراسها تحدثت تباعًا عن قلوب ائتلفت
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 182 -
وتوحدت ،وباهلل وحده اعتصمت ،وبه استعانت ،وعليه توكلت ،ثم أمرت
ونهت ،وباهلل في السماء آمنت ،وهنا في هذه اآلية استقرت وحفظت ،وحتى
ال يظنن ظان أن هناك تعارضًا بين اآلية وواقع الجماعة اليوم كون اآلية تنفي
الضر ،بينما الضر يحيط بالجماعة واألمة كإحاطة السوار بالمعصم ،لكن
األمر في الحقيقة واضح ،وال تعارض البتة كون ما نزل الضر إال عندما
تخلت الجماعة المنقذة واألمة الهادية – ولو جزئيًا – عن واجبها في هداية
الخلق ،وإعادتهم إلى الخالق ،عندئ ٍذ تجمعت هذه الخليقة ليكون الضر ،والضر
وحده ،هو الحاصل والحاضر ،والذي سيزول حتمًا فور المراجعة وإن تأخر
األمر قليالً ،لكن الضر حتمًا سيزول .والعجيب أن هناك من العلماء الكبار
من قال بنسخ هذه اآلية ليخرج من عتب الواقع ومآسيه ،ولكنه خروج غير
مبرر وال مقبول كون الحقيقة تشهد بأن السواد األعظم من العلماء الكبار لم
يقل بنسخها ،بل هى محكمة ،وما يحدث في دنيا الجماعة من ضر ناتج عن
مخالفات كثيرة جمعت على األمة الضر واألذى في وقت واحد معًا ،كما
ينبغي أن نذكر هنا ونشير سريعًا إلى الخالف الذي وقع بين علمائنا حول
الفرق بين الضر واألذى بين قائل إن الضر يكون حسيًّا ،بينما األذى يكون
معنويًا كالسخرية واالستهزاء ،وآخرين جعلوا الضر هو ذهاب مصالح الدين
والدنيا معًا ،بينما األذى يكون قوليًّا ،وبين قائل إن األذى يكون حسيًّا ومعنويًّا
مع انتفاء الضر المقصود به ذهاب الدين واإليمان كون ذهابه هو أعظم الضر
وأشده ،بل هو الضر كله ،وكل أذى دونه يهون ،وال شك في أن المعاني
متقاربة ،ويبقى المعنى األقرب هو أن الضر يكون حسيًّا ،بينما يكون األذى
معنويًّا ،وال بأس بالرأى اآلخر الذي هو قبل هذا ،والذى يعتبر قريبًا أيضاً،
ال كذلك ،وفي الحقيقة فإن األذى يبقى هو الشيئ اليسير الذي يصيب
ومقبو ً
الجماعة المنقذة ما بقيت صادقة .إنه األذى الذي يتناول األفراد والجماعة
- 183 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
وعواقبه من جهة ،وتصحيح المسار ومتابعة السير من جهة أخرى .كما أن
التعبير هنا في قوله "وال تهنوا" جاء نهيًا بصيغة المضارع ليوحي بوجوب
ال لمفارقة الوهن ،وعدم قبوله أو االستسالم له تحت أي
االستعداد مستقب ً
مسمى ،ولقد جاء النهي للجماعة بشكل عام لإليحاء بأن السيادة للجماعة ال
تتم إال بالتخلص من الضعف والوهن الذي أصابها بشكل عام ،فالتبعات
الكبيرة المنتظرة تحتاج إلى عزائم جماعية موحدة ال تقبل الوهن ،وال تتعايش
مع الحزن .ويستمر الجمال في التعبير من خالل تقديم النهى عن الوهن
للتخلص المستقبلي من الحزن كون الوهن – في الغالب – هو الداعي للحزن
على الماضي بال شك ،كما أن الوهن والحزن هما الداء الدوي ،والموت
الظاهر والخفي للجماعة سواء هناك حين نزلت اآلية أو حتى هنا في هذه
اللحظات وهذا الزمن ،ثم جاء السياق وبطريقة القرآن المبدعة والجميلة للنهى
عن الحزن وذلك في قوله "وال تحزنوا" ،حيث يكون الحزن على أمور
ماضية في الغالب .إنه الحزن الذي خيم على الجماعة المنقذة يوم أحد،
فتحركت السماء إلزالته ،وعدم قبوله ،أو التوقف عنده ،وذلك من خالل
التذكير بقوله فيما بعد "إن كنتم مؤمنين" ،إنها اإلشارة الموحية وبكل صدق
وصراحة إلى أن اإليمان الحقيقي والتصديق العقدي بموعود اهلل هو وحده
الذى يزيل الوهن في البداية ،ويطرد الحزن في النهاية ،وإال كان الوهن مع
الحزن السائد والسيد ،فقوله "إن كنتم مؤمنين" أزالت اللبس ،وضمدت
الجراح هناك ،وما زالت تضمد جراح اليوم وجراح الغد بكل واقعية وصدق
شريطة التوضيح واالعتراف باألخطاء لتصحيحها .إنها مصارحة المنهج
لحامليه حتى ال يأخذهم الوهن ،ويستبد بهم الحزن فيأخذهم بعيدًا بعيدًا بينما
الدنيا تنتظر نورهم ،وتشتاق إلى لقياهم ،ومما ال شك فيه هنا فإن قوله "إن
كنتم مؤمنين" تحمل دالالت كثيرة كما أسلفنا ،ومنها :أنه ال قرابة تربط
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 186 -
األرض بالسماء البتة سواء قرابة نسب أو عرق أو جنس أو لون أو مكان،
كل تلك المفردات ال مكان لها في قيم السماء ومنهجها بل اعتقاد باهلل وعمل،
وإال كان الوهن وكان الحزن ،كما أن اللفظ يوحي بأن الضعف الجماعي أو
حتى الفردي والذاتي ،وكذلك الحزن ال يطردان من ساحة الجماعة ومن قلوب
أفرادها وقالبهم إال باإليمان باهلل ،وباإليمان باهلل فقط ،وأي سالح مهما كان
قويًّا ولكنه خال من اإليمان فإنما هو اإليغال في الوهن ،واالستمرار في
الحزن ليس إال ،وثانيًا إن عزة الجماعة وسر بقائها عالية المكانة والمكان
إنما هو باإليمان باهلل ربًّا ،وباإلسالم دينًا ،وبمحمد نبيًّا ورسوالً دون تلعثم أو
التواء ،وقد جاء تخصيص اإليمان دون اإلسالم كون لفظ اإلسالم هنا يدخل
تحته ضمنيًّا ،وثانيًا إن اإليمان ارتقاء وتصديق ينقل المسلم إلى مصاف
الصادقين األوفياء الذين يغلبون بإيمانهم الوهن ،ويتخلصون من الحزن ،كما
أن اللفظ الجماعي في قوله "إن كنتم مؤمنين" يوحي بأن إزالة الوهن،
ومفارقة الحزن عن الجماعة ال يتم أبدًا بإيمان فردي ،وتعبد شخصي أيًّا كان
ذلك الفرد العابد أو الشخص الزاهد ،بل بتصديق جماعي ،وتعبد جماعي،
وانطالقة جماعية تقودها السماء وترعاها ،وعلى منهجها يكون مجراها
ومرساها .إنها الحقائق التي ال يجوز أبدًا إهمالها أو الغفلة عنها وذلك حتى
ال يطول في الجماعة الوهن ،ويقتل عزمها ورجالها الحزن.
- 187 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ن النَّاسِ
ك األيَّا ُم نُدَا ِوُلهَا بَيْ َ
َس الْ َقوْ َم َقرْحٌ مِثْلُ ُه وَ ِتلْ َ
(إِن يَمْسَسْكُمْ َقرْحٌ فَقَدْ م َّ
َاهلل َال ُيحِبُّ
شهَدَاء و ُّ
ن آمَنُواْ وَي ََّتخِذَ مِنكُمْ ُ
اهلل الَّذِي َ
ُّ َولِيَعْلَ َم
الظَّالِمِينَ{.)46()}140
عندما تصاب الجماعة بقرح هنا أو بالء هناك إنما يريد اهلل أن يصطفي منها
الشهداء ليرفع ذكرها في األرض والسماء .إنها الحقيقة التي يجب أن
تستوعبها الجماعة من البداية حتى ال تصاب بالحيرة والشك عند حدوث
القرح كون يوم أحد قد جسد هذه الحقيقة ،كل ذلك لتطمئن الجماعة هنا عندما
يتكرر الحدث – ولو ببعض مالبساته – كون االصطفاء واالجتباء واردًا ما
بقيت الحياة ،وتحرك األحياء .وحتى نعيش هذه المعاني الدقيقة بما تحمل من
جمال وجالل وروعة وكمال ننتقل إلى اآلية ففيها من اللطائف الحسان ما
يثبِّت اهلل به الحجة ،ويسكن به الجنان ،فقوله "إن يمسسكم قرح فقد مس القوم
قرح مثله "هذه الجملة تحمل دالالت كثيرة ومنها أنها جاءت لتسلية المؤمنين
حدْ .إنها مواساة السماء لألرض كي تصبر وتحتسب وتثبت
عما أصابهم يوم ُأ ُ
وتعتقد أن كل شئ بقدر ،وأن األيام دول .كما أن التعبير بإن وليس بإذ كأن
ال "إذ يمسسكم قرح" ،وذلك كون إن تدل على ندرة
يكون سياق اآلية مث ً
حدوث الشئ ،بينما إذ تدل على كثرته .إنها رحمات اهلل تتجلى هنا على
الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهى تعيش قرحًا آلم القلوب ،وأرهق األجساد،
وذلك كعادة القرآن الجمالية في التصوير كون الحدث وإن حصل إال أنه
سيكون بهيئته ومآالته في قادم األيام نادرًا ،وليس مستمرًّا ،وذلك بغرض
االصطفاء واالبتالء ،ثم مجئ اللفظ "يمسسكم" وليس يمسسهم كونهم هم من
عايش القرح هناك في أحد ،ولسنا نحن هنا ،وذلك لإليحاء بأن قرح أحد مسنا
أيضًا كما مسهم كون الجسد واحدًا بآالمه وآماله وعواقبه ومآالته .إنه الجرح
النفسي الذي يعتمل هنا في النفوس والقلوب كلما ذكر يوم أحد بأحداثه وآالمه،
كما أن التعبير بصيغة المضارع يوحي بأن القرح سيتكرر وقوعه وإن كان
ال كما أسلفنا .ومما تجدر اإلشارة إليه
ال وحا ً
بشكل نادر زمانًا ومكانًا ورجا ً
أن مجئ القرح منكرًا يوحي أيضًا بعموميته وشموله .إنه القرح الذي عاشته
مكة ،كل مكة ،في البداية ،ثم تكرر حدوثه في أهل المدينة ،كل المدينة ،في
النهاية ،وهو معنى نفيس ودقيق يالحظ من خالل تنكير القرح في كال الحالين،
ويتواصل رسم المشهد ونقله من خالل مجئ لفظ "القوم" الموحي بأن يوم
ُأحد كان حربًا بين القوم الذين يجمعهم المكان واللغة ،ولكن فرقتهم المبادئ
والملة ،وهنا يتضح أكثر فأكثر السر في التعبير القرآني بلفظ إن يمسسكم
وليس إذ كون حرب من هذا النوع وإن تكرر حدوثها إال أنها تبقى نادرة،
وهو معنى دقيق ،ودقيق جدًّا ،يجب تأمله والوقوف عنده .إنه الجرح الذي
ابتليت به الجماعة المنقذة من قبل األقربين هناك نتيجة للكبر والكفر والعناد،
وهو ما قد يتكرر حدوثه وتكرره من األقربين هنا وإن اختلفت األسباب
والدواعي بعض الشئ .إنه االحتياط الذي ينبغي على الجماعة التنبه له من
البداية حتى تتالفى حدوثه في النهاية ،ثم ينتقل السياق القرآني بروعته وجماله
وفصاحته وجالله ليضع النقاط على الحروف في صورة غاية في الدقة
والروعة ،وذلك من خالل اإلقرار التام بقاعدة هى أم القواعد ،وذلك في قوله
"وتلك األيام نداولها بين الناس" ،حيث تحمل هذه الجملة دالالت كثيرة،
ومنها :أن دوام الحال من المحال .إنها سنة التداول في األحوال والمآالت بين
األمم واألقوام ،فتارة ينتصر هذا ،وأخرى ذاك .إنها اللفتة الدقيقة الموحية بأن
هذا االنتصار تارة ،والهزيمة أخرى في حق المؤمنين هو الذي يحفظ التوازن
للجماعة كون انتصارها على الدوام ال يمنع حدوث البطر واألشر فيها ،كما
- 189 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
أن انهزامها المستمر كذلك يزرع اليأس والقنوط في داخلها ،فكان هذا ،وهذا
هو عين الصواب ليتم التطهير والتربية واالصطفاء والتزكية .إنها الحقيقة
التي تجعل الجماعة تراجع سيرها ،وتتفقد ذاتها كلما أصابها القرح هنا أو
اآلالم هناك .ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن مداولة األيام كما يكون بين األقوام
يكون كذلك في ذاتية الشخص الواحد حيث تمر عليه الشدة ،ثم يعقبها الرخاء،
وينعم بالصحة ،وفجأة يداهمه المرض .إنها اللحظات التي يأمن فيها العبد
ال بصحته تارة ،وبماله تارة أخرى،
مكر السماء ،فيغفل عن طاعة ربه انشغا ً
عندئ ٍذ يأتيه المرض فجأة كي يعود إلى ربه ،ويحتمي بخالقه ،وال شك في أن
ن واحد هو الذي يكشف حقيقته ،ويوضح
تقلب العبد بين المتناقضات كلها في آ ٍ
شكره عند النعماء ،وصبره عند الضراء كونه – كما أسلفنا – ال يدوم فرحه،
ال حتى ال يأمن
وال يستمر حزنه ،بل إذا فرح صباحًا طرقت النوائب داره لي ً
إال عندما يستقر في دار األمن عند اهلل هناك ،وليس بدار المخاوف هنا .كما
أن التعبير بقوله "وتلك األيام" يوحي بأن األيام قصيرة ومعدودة كونها
محصورة ومقصورة بأل التعريف ،وذلك حتى يستسهل المبتلى األلم إن وجد،
وال يحزن على النعيم إن فقد .إنها الحقيقة التي توحي بمحدودية البقاء في دار
الفناء هنا قبل االنتقال إلى دار البقاء الحقيقية هناك في صورة تحمل سرعة
االنقضاء ،وروعة االنتهاء ،وحتى ال يظنن ظان أن ظلمًا هنا أو هناك يحدث
جراء ذلك التداول جاء التعبير في قوله "نداولها" كي يضفي على المشهد
ال ينتفي فيه كل ظلم أو هضم .إنه اإليحاء بعدالة السماء
ال سماويًّا عاد ً
جما ً
المطلقة أثناء مبادلة األيام واألحوال سواء في حق األمم واألقوام أو حتى في
حق األشخاص واألفراد كون عدالة اهلل هى التي تعمل عملها ،وما على
األرض إال التسليم والرضا ،ثم يأتي التعبير في قوله "بين الناس" وليس بين
المؤمنين لتشمل سنة التداول كل الناس بغض النظر عن الملة والدين ،كما أن
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 190 -
والثبات معلومًا من جهة ،وليتخذ اهلل شهداء ويطهر عباده من رجس الظالمين
من جهة أخرى.
- 193 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
علَى
ت َأوْ قُ ِتلَ ان َقلَبْتُمْ َ
سلُ َأ َفإِن مَّا َ
خَلتْ مِن قَبْلِ ِه الرُّ ُ
(وَمَا ُمحَمَّدٌ إِالَّ رَسُولٌ قَدْ َ
ى عَقِبَيْ ِه َفلَن يَضُرَّ اهللَّ شَيْئ ًا وَسَ َيجْزِي اهللُّ
علَ َ
أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَن َقِلبْ َ
الشَّا ِكرِينَ{.)47()}144
الذين يرتبطون باألشخاص والذوات ،وليس بالمبادئ والرساالت يسقطون
فور رحيل تلك الذوات إن لم يسبقوهم .إنها الحقيقة التي أرادت غزوة أحد
معالجتها حتى تتوقف هناك دون تكرارها هنا .ومما تجدر اإلشارة إليه أن
هذه اآلية نزلت يوم أحد ،وذلك عندما صاح الشيطان في ميدان المعركة
ال إن محمدًا قد قتل .إنه الصوت اإلبليسي الذي تجاوز –
بأعلى صوته قائ ً
وبشكل سافر – الوسوسة المعروفة في تلك اللحظات الحاسمة من عمر
الجماعة المنقذة واألمة الهادية ،ومما ينبغي ذكره هنا أن ذلك الصوت
اإلبليسي ظهر صراحة هنا في أحد كما ظهر ليلة العقبة ويوم بدر كونها
لحظات حاسمة كان لها ما بعدها مما جعل الشيطان يخرج عن صمته،
ويتجاوز ذاته في صورة عبثية شيطانية بئيس ًة وهى حقيقة تتكرر هنا حيث
يتحرك أبالسة الزمان مباشرة دون واسطة عندما يشعرون بصدق الجماعة
المنقذة ،وواحدية األمة الهادية ،وال شك في أن ذلك الصوت قد أحدث في
صف الجماعة ضجة أفقدت الكثيرين من أبناء الجماعة وعيهم وعقلهم ،حيث
تشتت الشمل ،فمنهم من فكر في العودة إلى دين اآلباء واألجداد ،ومنهم من
ترك سالحه وفَرَّ صوب المدينة ،وآخرون فقدوا وعيهم وسقطوا نحو األرض
في ذهول ال حدود له ،بينما رسول اهلل محمد هناك وقد أَثْخَنتْه الجراح ،وآلمه
القرح بعد كسر رباعيته ،وخروج الدم من وجنتيه ،يصيح في الجموع الشاردة
أيها الناس أنا محمد رسول اهلل .إنها اإلشاعة اإلبليسية النجسة التي فعلت
فعلها ،حيث فرقت الصف ،وشتتت الشمل ،وقتلت العزائم ،وتركت رسول
األمة هناك يعاني القرح ،ويقاوم الجرح مع قليل ممن ثبتوا وأوفوا .ومما
ينبغي ذكره هنا أن اإلشاعة كانت وستبقى في اللحظات االستثنائية الحاسمة
هى سالح الشيطان وجنده يفرق بها الصف ،ويشتت بها الشمل ،ويقتل بها
العزائم كما فعل يوم أحد سواء بسواء ما لم تتنبه الجماعة المنقذة واألمة
الهادية إلى مثل هذا السالح ،ويحذر األفراد والجند .ومما ينبغي ذكره هنا أن
ثلة من الصحابة الكبار هم من ثبت أمام ذلك الصوت النشاز في تلك اللحظات
الشداد .إنها الثلة التي تربت واستوعبت التربية والمنهج ،وعرفت الهدف
والمقصد هى من أسقطت اإلشاعة ،وانتصرت للهدف ،وقاتلت للمبدأ بلسان
حالها وشعارها "إذا كان محمد قد مات فقاتلوا حتى تموتوا على ما مات
عليه" ،بينما أولئك الضعاف تربيةً ،والقليلو الفهم تركوا سالحهم ،وسلموا
عقولهم في سابقة خطيرة كانت ستودي بحياة القائد والجماعة لوال لطف اهلل
وحفظه .إنها اإلشاعة برائحتها النتنة ،وصورتها القذرة ،ومآالتها الخبيثة
فعلت فعلها الخسيس في لحظات الغفلة والتيه ،وحتى نستشعر تلك المعاني
مجتمعة ننتقل إلى الحياة في ظالل اآلية ففيها من اللطائف والجمال ما يفوق
الوصف والخيال ،فقوله "وما محمد إال رسول قد خلت من قبله الرسل"،
هكذا هى القضية وبكل وضوح .إنه محمد باسمه ،واسمه فقط ،يموت كما
مات الرسل قبله كونه لم يخلق كي يُعبد أو ُيخَلَّد ،بل خُلق ليؤدي مهمة ،ويبلغ
رسالة ،ثم يرحل وتبقى الرسالة هنا ما بقيت الحياة ،وجئ بلفظ الرسول وليس
النبي كون كل رسول نبي ،وليس العكس .ومما ال شك فيه هنا فإن "إال" لم
تعد هنا أداة استثناء كما هو معلوم عند أهل اللغة كون أركان االستثناء
المعروفة منعدمة ،بل األداة هنا أداة حصر وقصر كونها حصرت محمدًا
عليه السالم في الرسالة ،والرسالة فقط .إنه اإليحاء الدقيق برحيل ذاته ،وخلود
- 195 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
رسالته بأبي وأمي هو عليه الصالة والسالم ،ويزداد هذا األمر وضوحًا من
خالل السياق في اآلية التالية في قوله "قد خلت من قبله الرسل" ،أي ماتت
من قبله الرسل فهو التساوي برحيل الذوات وبقاء الرساالت ،ومما ال شك
فيه هنا أن جملة "وما محمد إال رسول قد خلت من قبله الرسل" توحي
وبشكل دقيق يُفهم من خالل السياق أن النبي محمدًا هو النبي الخاتم ،ورسالته
هى الرسالة الخاتمة والناسخة لما قبلها كون أولئك الرسل قبله وهو جاء
بعدهم ،ولم يأت بعده رسول البتة ،ثم ينتقل السياق القرآني بكل جمال وروعة
وبطريقة القرآن المعهودة بعد تلك الجملة المختصرة موضوعًا ،والمقررة
رسالة ،والموضحة منهجًا ودينًا حيث يأتي بعدها العتاب اللطيف بطريقة
ال "أفإن مات أو قتل انقلبتم على
استفهامية غاية في اللطافة والعُتب قائ ً
أعقابكم" ،إنه العتاب الذي هز أركان الزمان ،وحرك مشاعر األنام ،وأزاح
اللثام – وإلى األبد – عن أولئك الذين يعبدون أشخاصًا في األرض ال ربًّا في
السماء .نعم إنه االنقالب المزري ،والسقوط المخزي لمن تحكمهم اإلشاعات،
وتخيفهم المعضالت يستمر في الظهور ،ويتوالى في السطور كلما كان
التشبث بالذوات على حساب المبادئ والرساالت ،ويظهر هذا المعنى ويتضح
من خالل قوله "انقلبتم على أعقابكم" .كما أن كل من يوالى شخصًا أو
جماعة دون اهلل هو منقلب فطرةً ودينًا وأرضًا وسما ًء وإن زين ألفاظه،
وأخفى قصده ،ولكن خاتمته ستفضح عبوديته ومعبوده طال الزمان أو قصر،
لذا كان اللفظ المذكور .وال شك في أن انقالب الفطرة يتكرر ويستمر مع كل
من يترك المنهج والنهج والرسالة والرسول سواء انقلب بفعل اإلشاعة أو
بفعل الشهوة ،فكالهما منقلب ،ويستمر اللفظ القرآني في قوله "انقلبتم على
أعقابكم" بتوضيح دالالت كثيرة أيضًا ،ومنها :أن التمسك بالذوات وإن كانوا
ال عن غيرهم فقط ،وترك المبادئ والرساالت ال يعصم من
أنبيا ًء فض ً
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 196 -
كل منقلب في كل زمان ومكان لن يضر اهلل شيئًا بل سيضر نفسه ،ونفسه
فقط ،كونه فقد عون اهلل وحفظه وكرمه ولطفه .إنها المسؤلية الفردية التي
يجب على رجاالت الجماعة المنقذة واألمة الهادية أن تعيها وتستوعبها حتى
ال يكون ارتباطها بالذوات واألشخاص تهتدي بهدايتهم ،وتنحرف بسقوطهم
هو ديدنها ،بل االرتباط يكون بالمنهج أمرًا ونهيًا وأخذًا وعطاءًا .إنه اإلرتباط
المطلق بمنهج السماء ،بينما ارتباط األرض باألرض قادة وأفرادًا يكون
ارتباطًا مقيدًا بقدر طاعتهم لربهم ،وقربهم منه ،وإال فال طاعة وال ارتباط،
ثم يأتي ختام اآلية منسجمًا تمامًا مع بدايتها وذلك في قوله تعالى "وسيجزي
اهلل الشاكرين" ،حيث توحي هذه الجملة بإيحاءات كثيرة ،ومنها :مجئ السين
متصلة بالفعل المضارع يجزي ،وليس سوف يجزي ،يوحي بسرعة وفورية
جزاء اهلل سبحانه لمن ثبت ،ولم تغلبه اإلشاعة أو تسقطه الشهوة كون السين
توحي في اللغة بهذا المعنى ،كما أن مجئ الفعل مضارعًا يوحي كذلك
باستمرارية الجزاء اإللهي للثابتين غير المنقلبين جزا ًء ال يعلم كنهه وحقيقته
إال اهلل .إنه الجزاء المستمر حاالً ،والباقي مكانًا ،والمتصل زمانًا في صورة
توحي بكرم اهلل ولطفه وحفظه ورعايته ،ويزداد الجمال هنا من خالل مجئ
لفظ الجاللة "اهلل" ،وذلك لالستئناس والتشويق .إنه اهلل الذي سيجزي جزا ًء
يدهش العقول ،ويشرح الصدور ،وليس غيره من يفعل ذلك ،وتختم اآلية
بذكر الشاكرين كونهم عرفوا قدر نعمة الثبات فوفوا وصدقوا ،وإلى اهلل أنابوا،
وعليه توكلوا ،فكانوا بحق هم الشاكرين الموفين والمستحقين للعطاء وكرم
السماء.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 198 -
أن يكونوا هم السادة هنا ،ثم يواصل القرآن نقل المشهد الجهادي المتواصل
عبر القرون البشرية الممتدة بصورة غاية في الروعة واإلبداع من خالل
قوله "قاتل معه ربيون كثير" .ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن اللفظ "قاتل"
فيه قراءتان؛ "قاتل" ،وقراءة أخرى "قُتل" ،وذلك بضم القاف ،فعلى القراءة
األولى قاتل يكون النبي قد قاتل دون أن يقتل ،وعلى القراءة الثانية يكون
النبي قد قُتل ،وقتل معه الكثير من أصحابه .إنها اإلشارة الدقيقة لحقيقة
المعركة القائمة بين الحق المتصدر للمعركة بقيادة األنبياء من جهة ،وبين
الباطل بقيادة الطواغيت من جهة أخرى ،والتي تنتهي عادة بانتصار النبي
ومن معه على أساس القراءة األولى ،أو استشهاده ومن معه على أساس
القراءة الثانية .إنها الحقيقة التي سمعها رجاالت أحد في الماضي البعيد هناك،
وهم يعانون ذلك القرح المؤلم ،فطابت عندئ ٍذ النفوس ،وانشرحت الصدور،
ويجب على رجاالت اليوم سماعها أيضًا كي تطيب أنفسهم هنا كما طابت
أنفس القوم هناك كون القرح يتكرر ،واأللم يتواصل ليتم االصطفاء ،ويتحقق
االبتالء بطيب نفس وراحة بال .كما أن ذكر األنبياء قبل غيرهم يوحي
بحضور القدوات الكبار في مقدمة الصفوف تحركًا وتخطيطًا بطريقة تقدرها
الجماعة ،وترعاها األمة كونهم عندما يغيبون عن واقع المعركة يتأخر
النصر ،ويغيب االنتصار ،وال شك في أن المتأمل لهذه اآلية يستشعر عربدة
الباطل في الماضي وهو يقتل األنبياء صفوة الخلق ودعاة الحق ومعه أنصاره
ومناصروه ،وذلك في صورة غاية في السفه والطيش .إنها حقيقة الباطل،
وحماقته ،تتكشف هنا معلنة عن قبح المنظر ،وسفاهة المخبر ،وهو يوجه
سيفه األرعن صوب صفوة الخلق دون حياء أو خجل ،فكيف بمن دونهم إذًا
؟ ،وال شك في أن تلك الرعونة كانت تعمل عملها مع األنبياء هناك،
وستتواصل مع أتباعهم هنا دون شك ،وهو األمر الذي ينبغي فهمه،
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 200 -
واالستعداد له كون المعركة مستمرة ،ويد العدو ممتدة .ويستمر القرآن في
نقل المشهد الجهادي الرائع ،وتصوير الجماعة المنقذة وهى تقاتل هناك في
ميدان المعركة جنبًا إلى جنب مع نبيها في صورة غاية في الرجولة والثبات،
وذلك من خالل قوله "ربيون كثير" ،وال شك في أن لفظ الربيون هنا نسبة
إلى الرب ،ولكن الراء كسرت كونها تغيرت عند النسبة ،واللفظ نفسه يحمل
دالالت كثيرة ،ومنها :أن المفسرين اختلفوا كثيرًا في المقصود بالربيين هنا
فمنهم من قال هم من جمعوا بين صغار العلم وكباره ،ومنهم من قال إنهم
الخواص صدقًا وإخالصًا ،ومنهم من قال هم أكثر الناس علمًا وفهمًا ،وكلها
ن متقاربة توحي بأن رجال المواقف هم من يجمعون بين الصدق والعلم
معا ٍ
واإلخالص .إنها اللفتة الدقيقة التي توحي – وتتضح من خالل السياق –
بحقيقة الرجال الذي تعتمد عليهم الجماعة المنقذة واألمة الهادية عند المهمات
الصعبة .إنها الربانية التي ينبغي على الجماعة أن تتمثلها وتحياها ،وتربي
نفسها وأفرادها عليها كي تصل إلى مستواها ،فيحصل بها الثبات هنا كما
حدث مع األنبياء هناك ،وإال فال نصر وال ثبات ،بل وهن وضعف وسبات،
ثم يتواصل الجمال القرآني في ذكر صفات هؤالء الربانيين بقوله "فما وهنوا
لما أصابهم في سبيل اهلل وما ضعفوا وما استكانوا" ،إنها اإلشارة الدقيقة
الموحية بأن الربانية ،والربانية فقط ،هى التى تحفظ الجماعة من الجبن
والخوف والذل ،وما لم يكن القائد والجند ربانيين عندئ ٍذ يجتمع عليهم الوهن
والضعف والذل ،وذلك بقدر نقص ربانيتهم .ويالحظ هنا أن الوهن هو بداية
الضعف في الداخل النفسي ،ثم يكون الضعف بعد ذلك عالمة الوهن في
السلوك الخارجي ،ثم تكون االستكانة التي هى الذل والخضوع خاتمة الوهن
والضعف ،وحتى تكون الصورة أكثر وضوحًا جئ بقوله "في سبيل اهلل"،
وذلك تلخيصًا وذكرًا للضامن الوحيد الذي به ومن خالله ينتفي كل وهن،
- 201 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ويزول كل ضعف واستكانة ،وذلك عندما يكون الجهاد والعمل خالصًا هلل
وفي سبيله ،ال في أي سبيل آخر أيًّا كان هذا اآلخر ،ثم تأتي النهاية منسجمة
تمامًا مع البداية كحال القرآن دائمًا في رسم الصورة من بدايتها وحتى النهاية،
وذلك من خالل قوله "واهلل يحب الصابرين" ،إنه الجهاد بكل وسائله وطرقه
يحتاج إلى هذا الصبر ،وال شك في أن الصبر الذي عاشه الربانيون هناك مع
أنبيائهم حتى انتصروا تارة ،وقتل األنبياء ومن معهم في سبيل اهلل تارة
أخرى ،كل ذلك تم كون الصبر على الطاعة وعن المعصية وعلى البالء
واألقدار كان حاضرًا معهم على الدوام ،فأحبهم اهلل ونصرهم لصبرهم تارة،
واختارهم شهداء أصفياء إلى جواره تارة أخرى .ومما يالحظ هنا مجئ
التعبير القرآني بصيغة المضارع في قوله "يحب" ،وذلك للداللة على محبة
اهلل للصابرين في كل وقت وحين ،كما أنها لفتة دقيقة توحي بأن طريق الجهاد
طريق يحتاج إلى صبر كامل يجمع بين أنواع الصبر الثالثة كي تنال الجماعة
محبة اهلل وعونه ونصره وحفظه.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 202 -
ك
ب الَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِ َ
غلِيظَ الْقَلْ ِ
ت فَظّا َ
ن اهللِ لِنتَ لَهُمْ وَ َلوْ كُن َ
(فَبِمَا َرحْمَ ٍة مِ َ
علَى اهللِ
َكلْ َ
ت فَ َتو َّ
عزَمْ َ
ف عَنْهُمْ وَاسْتَغْ ِفرْ َلهُمْ وَشَا ِورْهُمْ فِي األَمْ ِر فَإِذَا َ
فَاعْ ُ
اهلل ُيحِبُّ الْمُتَوَ ِكلِينَ{.)49()}159
ِن َّإ َّ
لن تؤلف الناس حولك ،ولن تقربهم منك ،وتحببهم فيك ،ولو على مستوى
ال عن إخوانك وأمتك ما لم تكن لينًا رحيمًا .إنها الرحمة
أسرتك وأهلك ،فض ً
اإللهية التي قُذفت هناك في قلب الحبيب محمد فوصلت إلينا هنا ،وستظل
تواصل طريقها اليوم وغدا حتى يرث اهلل األرض ومن عليها ،ومما ال شك
فيه فإن هذه اآلية هى القاعدة الحقيقية في تعامل القائد مع المقود ،والكبير مع
ال يقود إلى تأليف القلوب واحتوائها قبل جمع األجساد وتوحيدها
الصغير تعام ً
كون القلوب إذا اجتمعت بصدق صنعت المعجزات ،وأعجزت المغريات
صدقًا وثباتًا .إنها ثورة القرآن القديمة الجديدة على القلوب القاسية ،واأللسن
البذيئة تتجلى هنا حتى تتوارى القسوة بكل مفرداتها ،وتغيب البذاءة بكل
أشكالها ليحصل التكامل األخوي والتعاون المجتمعي كما أرادت السماء،
وحتى نتذوق ذلك التكامل المبني على الرحمة واللين ننتقل إلى اآلية كي
نعيش في ظاللها ،ونتذوق األنس من خاللها ،فكلها أنس ،فقوله "فبما رحمة
من اهلل لنت لهم" ،فبما أي بسبب ،وجئ بالرحمة هنا منكرة للداللة على
عموم رحمة اهلل لنبيه ،وشمولها لكل جوانب تعامله كون التنكير يفيد هذا
المعنى ،وظهرت الدقة في الجمال هنا من خالل تقديم الرحمة في بداية اآلية
لتوضيح دور القلب الرحيم في تحقيق التكامل المجتمعي ،والتعاون األخوى.
إنها اإلشارة الدقيقة إلى دور الرحمة دون غيرها في تأليف القلوب ،وحتى ال
تذهب القلوب بعيدًا باحثة عن الرحمة دون جدوى هنا أو هناك في طينة
األرض القاسية ومكوناتها الصلبة جاء التعبير في قوله "من اهلل" ،وهى
اإلشارة الواضحة والموحية صراحة بالمصدر الحقيقي للرحمة واللين ،وذلك
حتى تتجه القلوب نحو السماء طالبة الرحمة من هناك بكل صراحة وصدق،
ثم جاء بذكر اللين بعد الرحمة لإليحاء بأن اللين ال يوجد أبدًا ما لم تسبقه
رحمة تمأل القلب والعقل على حد سواء ،كما أن لفظ "لهم" جاء دون
تخصيص واضح لإليحاء بأن الرحمة واللين يجب أن يكونا لكل أحد ،ثم
يتواصل الجمال القرآني في رسم المعالم الحقيقية للشخصية القيادية المنتمية
للجماعة المنقذة واألمة الهادية ،وذلك من خالل قوله "ولو كنت فظًّا غليظ
القلب النفضوا من حولك" ،إنه الخطاب الموجه للحبيب محمد ،وأمته معه،
كونه اإلمام والقائد القدوة إلى قيام الساعة ،وذلك لإليحاء الدقيق بأن العلم
الخالي من الرحمة واللين لن يطلبه ،ولن يريده أحد ،ولو كان حامله نبيًّا
ال عن غيره ،والدقيق هنا هو تقديم الفظاظة على الغلظة كون
ال فض ً
مرس ً
الفظاظة تخص اللسان ،بينما الغلظة تخص القلب ،فقدم اللسان على القلب
كون خرابها تعبير عن خرابه ،ألنها المعبرة عنه ،والناطقة باسمه .إنه
التحذير الدقيق من خطورة الفظاظة والغلظة حتى ال يتفرق الشمل ،ويتمزق
الصف ،ويُترك القائد أو العالم أو حتى رب األسرة وحيدًا منبوذًا يتعلم فن
التثاؤب في الزوايا المظلمة نتيجة لفظاظة لسانه ،وقساوة قلبه .ثم يتواصل
التحذير من خطورة الفظاظة والغلظة ،وذلك من خالل قوله "النفضوا من
حولك" ،حيث تحمل هذه الجملة دالالت كثيرة ،ومنها :الترك الجماعي،
والخروج الكلي عن كل غليظ قاس كون كلمة "النفضوا تعني لخرجوا جميعًا.
إنها الحاجة الماسة للرحمة واللين حتى ال ينفض عن القائد جنده ،وعن رب
البيت أبنائه وأهله كون القضية رغم خصوصيتها يراد منها التحذير من
الفظاظة والغلظة حتى ال يحدث االنفضاض .إنها الحقيقة التي يجب أن
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 204 -
يستوعبها القادة في الجماعة المنقذة واألمة الهادية قبل غيرهم حتى ال ينفض
الناس عنهم في واحدة من أسوأ السيئات المجتمعية الخطيرة ،وجاء التعبير
الدقيق أيضًا عن خطورة هذه الفظاظة والغلظة من خالل قوله "من حولك"،
وليس منك ،وذلك كون من حولك أبلغ كونها تشير إلى أن الرجل الفظ والغليظ
ال عن الجلوس معه .إنه االنفضاض الذي
يكره الناس االقتراب منه ،فض ً
تجاوز الذات ليصل إلى تجاوز المكان والزمان والحال في صورة غاية في
الدقة والنفاسة ،وهو معنى دقيق ودقيق جدًّا يجب تأمله ،والوقوف عنده
لنفاسته ودقته ،ثم تنتقل اآلية في صورة غاية في الجمال واإلبداع وذلك
بطريقة القرآن المعروفة في اإلبداع واإلمتاع من خالل قوله "فاعف عنهم
واستغفر لهم وشاورهم في األمر" ،إنها الداللة الموحية بأن العفو واالستغفار
والمشاورة ال تكون أبدًا إال من صفات القائد الرحيم اللين ،بينما القائد الفظ
الغليظ تنتفي عنه هذه الصفات الثالث .إنها اإلشارة الواضحة لحقيقة القيادة
الناجحة والقائمة على هذه األسس الثالثة المتمثلة في القلب المتسامح عما
أصاب ذاته أوالً ،ثم استغفار اهلل عما بدر في حقه ثانيًا ،ثم المشاورة فيما يريد
فعله ثالثًا .إنها الحقيقة التي يجب أن يتمثلها المسلم الحقيقي في الجماعة المنقذة
كون كل فرد فيها هو قائد ومسؤول ولو حتى على أهله وذويه في أقل
األحوال .ومما ينبغي ذكره هنا أن كلمة "فاعف عنهم" توحي بوجوب تنازل
ال بال شك،
القائد عن أي تقصير بدر في حقه كون التقصير سيكون حاص ً
فوجب العفو شريطة اإلصالح واالنطالق والمراجعة .إنه العفو الذي يراد
منه الخير ،وليس المشجع للشر ،وال شك في أن العفو كله خير إال ما ندر،
والنادر ال حكم له كما هو معلوم عند أرباب البصر والبصائر ،كما أن
االستغفار لهم يراد به استغفار اهلل لهم عما بدر من تقصير في حق اهلل .فاألول
عفو عما بدر من تقصير في حقه ،وهنا استغفار عما بدر من تقصير في حق
- 205 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
اهلل ،إنه القلب الرحيم الذي تريده السماء أن يكون بهذه الصورة األكثر جماالً،
ال وماالً ،ثم يتواصل الجمال القرآني في رسم
واألصدق مقاالً ،واألخلص حا ً
الصورة الرائعة للشخصية القيادية النافعة ،وذلك من خالل قوله "وشاورهم
في األمر" ،حيث تحمل هذه الجملة دالالت كثيرة ،ومنها :وجوب مشاورة
القائد للجند ،بل ومشاورة كل من تبوأ مسؤولية ما بغض النظر عن موقعه
ومكانه ألنه ما خاب من استشار ،وال ندم من استخار ،كما أن اآلية توحي
بتكامل الجماعة المنقذة ،وذلك من خالل مبدأ الشورى الموحي بهذا المعنى.
إنه الرفض الواضح لالستبداد القيادي ،واإلذالل المجتمعي ،والدعوة
الصريحة إلى وجوب المشاورة في كل ما يهم الجماعة المنقذة واألمة الهادية،
وذلك حتى يتحمل كل فرد فيها واجبه ومسؤوليته بعد المشاورة والشورى.
إنها النتيجة الحقيقية للرحمة المودعة في قلب القائد والمسؤول تتجلى تباعًا
سواء في العفو واالستغفار هناك ،أو في الشورى والمشاورة هنا ،ويتواصل
الجمال من خالل قوله "في األمر" ،والمقصود به الشأن الذي ال نص فيه،
وأما ما ورد فيه نص قطعي فال مجال فيه للشورى ،وهو ما استدعى التعبير
بلفظ "األمر" ،وليس "وشاورهم في األوامر" ،ثم يأتي الختام مكتسيًا الجمال
كله من خالل قوله "فإذا عزمت فتوكل على اهلل إن اهلل يحب المتوكلين"،
حيث تحمل هذه الجملة الكثير من الدالالت ،ومنها :أن مجيئها عقب الشورى
يوحي بوجوب االعتماد على اهلل بعد المشاورة ،وليس االعتماد على الشورى
كونها سببًا فقط ليس أكثر .إنه األمر بعدم االعتماد إطالقًا على قوى األرض،
وآرائها ،وخططها بعيدًا عن السماء ،بل االعتماد على اهلل في السماء بعد
الشورى ،وعلى اهلل فقط ،وال شك في أن هناك خالفًا ورد بين العلماء حول
العزم والتوكل ،هل يكون قبل المشاورة أو بعدها ،وال شك في أن االعتماد
على اهلل يكون قبل وأثناء وبعد ،ولكن كلما كان العزم بعد مشاورة ودراسة
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 206 -
كلما كان أكثر بركة ،وأعظم نفعًا ،وهو الهدف من ذكر العزم والتوكل بعد
المشاورة والشورى .إنه التنظيم الدقيق لألعمال والعزائم الذي يجب أن تحياه
الجماعة المنقذة واألمة الهادية في عالم القيم ،وذلك حتى تبقى وتقوى ،كما
أن التعبير بإذا وليس بإن في قوله "فإذا عزمت" يوحي بكثرة العزم بعد
مشاورة ،مع وجود عزم وعمل – وإن كان نادرًا – دون مشاورة إذا لم يترتب
على ذلك العزم ضرر يلحق الجماعة ،وهو معنى نفيس يجمع بين أقوال
العلماء في العزم هل هو قبل المشاورة أو بعدها ،فجاء التعبير بهذه الدقة
يوحي بهذا المعنى ،وهو تأمل غاية في الدقة أيضًا ،وأما قوله "واهلل يحب
المتوكلين" ،فهو مدح السماء بعلوها ونقائها لهذه الجماعة المنقذة عندما تتوكل
على اهلل بعد المشاورة والشورى .إنها الصفات الحقيقية للرحماء تتجلى هنا
في لين الجانب ،ورحمة القلب ،وسعة الصدر ،والغفران ،والتجاوز،
والشورى ،والتكامل ،ثم االعتماد على اهلل الذي قذف الرحمة في القلوب،
والثبات في األمور من قبل ومن بعد جلت قدرته ،وتقدست أسماؤه.
- 207 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
(َأ َولَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَـذَا ُقلْ ُهوَ مِنْ عِن ِد أَنْفُسِكُمْ
علَى ُك ِل شَيْءٍ قَدِيرٌ{.)50()}165
ِن اهللَّ َ
إ َّ
عندما تصاب الجماعة المنقذة واألمة الهادية بالبالء هنا ،أو النكسة هناك،
فليس من الصواب أبدًا أن ينسب ذلك البالء للسماء ،بل األنفس ،واألنفس
وحدها ،هى التي تتحمل تبعات تقصيرها ،وعاقبة مخالفتها .إنها األنفس
المخالفة ألوامر ربها في لحظات ضعفها وشرودها تذوق عاقبة تلك المخالفة
في صورة عادلة ،وعادلة جدًّا .ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن هذه اآلية
تحكي الواقع الذي آل إليه أمر الجماعة المنقذة عند حدوث القرح يوم أحد
حين فقدت بعض رجاالتها ،وقادة العمل فيها في معركة كان قائدها محمد
رسول اهلل – صلى اهلل عليه وسلم ،-حيث حصل هذا التعجب الذي سنعيشه
من خالل حياتنا في ظالل اآلية عند االنتقال إليها ،فقوله "أو لما أصابتكم
مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا" ،حيث تحوي هذه الجملة في طياتها
الكثير من الدالالت والدقائق ،ومنها :أن كلمتي "أصابتكم مصيبة" توحيان
بعظمة القرح الذي تمكن من الجماعة حينها ،حيث أصابها إصابة بالغة كادت
أن تودي بحياة النبي القائد لوال عصمة اهلل له من القتل ،كما أن هذين اللفظين
يدالن على سنة االبتالء الذي تتعرض له الجماعة المنقذة في حياتها ،وطريق
سيرها ،والذي سيستمر حتمًا ما بقيت المخالفة في الصف – ولو من بعض
أفرادها – كما حدث يوم أحد سوا ًء بسواء ،وجاء ذكر المصيبة هنا منكرًا
ن واح ٍد لإليحاء بعموميتها لكل أفراد الجماعة ،كما أن التنوين
ومنونًا في آ ٍ
يوحي بشدة وقعها على قلوب وعقول الجماعة كلها إلى درجة حدوث التعجب
من هذا البالء .إنها المصائب التي نزلت هناك ،ويتكرر حدوثها هنا نتيجة
للمخالفات أحيانًا ،والغفلة المستحكمة دون مبرر أحيانًا أخرى ،كما أن اللفظ
جاء موجهًا للجماعة بهذا التعبير ،كون اآلية نزلت حينها فخاطبتهم بكل
صراحة ودون تلعثم أو التواء في إشارة واضحة إلى حقيقة المنهج السماوي
الذي ال يؤمن بغير الصراحة في التربية والتزكية من جانب ،واإليحاء
بواحدية المصيبة على قلوب الجماعة اليوم من جانب آخر .إنه التوصيف
الحقيقي لما حدث باألمس ،والذي استقبلته الجماعة بكل رضا ،وذلك حتى ال
يتكرر حدوثه اليوم بكل تفصيالته ومالبساته كون المصاب سيتكرر – كما
أسلفنا – كلما تكررت المخالفة ،واستمرت المعصية ،كما أن هذا التوصيف،
وهذه المصارحة يجب أن تعيشهما الجماعة المنقذة واألمة الهادية حتى
تصحح سيرها لتستمر في المسير إذ ال عيب في المخالفة ،وإنما العيب في
عدم االعتراف بها ،أو تحميلها للغير ،ويالحظ هنا عالج السماء لقرح األرض
ومصابها يوم أحد ،وذلك من خالل تذكيره سبحانه للجماعة بنصر يوم بدر،
حيث قُتل من المشركين سبعون ،وأُسر سبعون ،وهو المعنى المقصود بقوله
"قد أصبتم مثليها" ،وليس قد "أصبتم مثلها" كونهم يوم أحد فقدوا فقط سبعين
رجالً ،ولم يحدث أن أسر منهم أحد ،وهو معنى دقيق يعلمنا كيف نتعامل مع
من ينزل به البالء ،أو تحل به الضراء ،حيث تذكره بعظيم لطف اهلل به كونه
أعطاه الكثير ،ولم يأخذ أو يعاقبه جراء معصيته بغير القليل .إنه اللطف اإللهي
يتجلى هنا بالجماعة المنقذة واألمة الهادية حيث يكون بالؤها محفوفًا بلطف
السماء ،ورحماتها ،كمًّا وكيفًا وزمانًا ومكانًا في صورة هى األكرم حاالً،
واألشرف مكانًا وزمانًا على الدوام .كما أن لفظ "أصابتكم" هناك ،و "أصبتم"
هنا يوحي بمعنى دقيق ،ودقيق جدًّا ،إنه الدور الحقيقي للذات البشرية سلبًا في
األولى ،وإيجابًا في الثانية ،فعندما خالفوا في أحد كانت المصيبة فيهم ،وعند
انتفاء المخالفة في بدر كانت المصيبة في غيرهم ،فهم األسباب سواء هناك
- 209 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
أو هنا ،مع الفارق في الطاعة والمعصية ليس إال .إنها الذوات البشرية
واألنفس اآلدمية التي يجب أن تتحمل العواقب سلبًا وإيجابًا بكل صراحة
وصدق ،ودون تلعثم أو التواء .وبعد الحديث عن المصاب والمصيبة التي
عاشتها الجماعة هناك ينقلنا القرآن كعادته إلى معايشة الوضع النفسي والرد
المجتمعي للجماعة جراء نزول ذلك القرح ،وذلك بذكر الداء والدواء في وقت
واحد كما هى عادة القرآن البليغة في التوضيح والتشخيص بغية العالج ،حيث
ذكر الداء وهو "قلتم أنى هذا" ،والدواء وهو "قل هو من عند أنفسكم" ،والبد
أن نذكر هنا أن قوله تعالى "قلتم أنى هذا" تحمل دالالت كثيرة ،ومنها :أن
هذا تعجب من الصحابة ،وليس إنكارًا لقدر اهلل كما يظن بعض ضعاف
النفوس من الناس كون الصحابة وهم سادة الخلق لم ولن ينكروا قدر اهلل يومًا
ما ،وإنما كان مجرد استغراب وتعجب يوحي بحقيقة الضعف البشري للذات
اآلدمية عند حدوث الصدمة ،ونزول البلية ،ولكن هذا الضعف سرعان ما
يزول ،وينتهي على الفور .إنه الضعف البشري المتكرر للذات اآلدمية كلما
حدثت المخالفة ،وسقطت األنفس مرة أخرى في الشهوة والنزوة ،وال شك في
أن جملة "أنى هذا" تتكرر في الجماعة المنقذة واألمة الهادية كلما نزل بها
قرح هنا ،أو مصاب هناك ناسية أن اهلل يقول "قل هو من عند أنفسكم" ،حيث
تحمل هذه الجملة الكثير من الدالالت ،ومنها :أن استغراب يوم أحد رسول
اهلل منزه عنه كونه مأمورًا بقوله "قل" ،إنها اإلشارة الدقيقة لوجوب سعة فهم
القائد ،وعدم سقوطه في شراك تأويالت األرض السفلى ،ووجوب ارتقائه
على الدوام لنقاء السماء العليا بمنهجها ونهجها ،وال شك في أن القائد في
الجماعة المنقذة ينبغي أن يكون األرجح عقالً ،واألكثر وعيًا ،واألصح إيمانًا،
واألقوى شكيمة وعزمًا حتى يأخذ بيد الجماعة عندما تتراءى جملة "أنى هذا"
في داخلها ،وفي داخل ضعاف المؤمنين منها ليصحح فيهم حقيقة المشكلة،
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 210 -
وسبب البلية ،ومن ثم يقودهم ويعود بهم إلى الحق من جديد .كما أن قوله "قل
هو من عند أنفسكم" إيجاء بأن كل سقوط عاشته الجماعة باألمس ،ويتكرر
حدوثه اليوم إنما سببه األنفس ،واألنفس فقط .إنها األرض بناسها وأنفسها هى
من تتحمل عاقبة المخالفة ،وليست السماء بعلوها ونقائها .ومما ال شك فيه أن
السر في تخصيص األنفس بالذكر دون غيرها فيه إشارة – كما أسلفنا – إلى
أن نكسة الجماعة تأتي من داخلها ،وذلك عندما تضعف نفوس رجاالتها،
وتسقط فجأة في وحل المادة ،ومستنقع الشهوة في لحظات الغفلة واالرتكاس
في الحمأة المنتنة ،عندئ ٍذ تحدث المصيبة ،وتحل البلية في الجماعة كلها ،كما
أن اآلية توحي بأن ترك المعصية والمخالفة تتوسع وتستشرى داخل الصف
أيًّا كانت تلك المعصية أو المخالفة دون عالج ستقود الصف حتمًا إلى نكسات
وباليا ال تحمد عقباها ،وهو ما يستدعي تربية األنفس حتى ال يتكرر القرح،
ويستفحل الجرح ،وهو السر في ذكر الداء والدواء في اآلية هنا .إنها الخطيئة
التي ينبغي على األرض أال تنسبها للسماء زورًا وبهتانًا ،بل حقيقتها وحقها
أن تكون األنفس ،واألنفس وحدها ،بطينتها هى المسؤولة عن كل خطيئة
وبلية .ومما ال شك فيه فإن هذه الخطيئة تزداد وتتعاظم عندما تستمر تبرئة
النفس ،وتزكية الذات بصورة فجة ،وطريقة مستفزة ،وتصبح ثقافة "أنى هذا"
هى ديدن الجماعة للهروب من تبعات السقوط ،عندئذٍ ،وعندئ ٍذ فقط ،يستدعي
األمر سرعة المراجعة ليتم التدارك والتزكية بعد تخلية وتربية ،وإال تكرر
القرح ،وتوسع الجرح ،ثم يأتي ختام اآلية منسجمًا تمامًا مع بدايتها كعادة
القرآن في رسم مشاهد األحداث في البداية والمنتهى ،وذلك من خالل قوله
"إن اهلل على كل شئ قدير" ،حيث تحمل هذه الجملة دالالت كثيرة ،ومنها:
أن من يخالف أمر السماء عاقبته أن يُترك لألرض كي تفعل به ما فعلت يوم
أحد ب َقدَر ومقادير مكتوبة ومعلومة .إنها األرض بوحشيتها ووحوشها تتخطى
- 211 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
والمباشر دون مواراة ،سواء بشكل جماعي كما ورد هنا ،أو بشكل فردي
ضمن االستهداف الجماعي المتوقع ،والمتوقع بالفعل .إنه الكفر مع النفاق في
صورته البئيسة ،وأدواته الرخيصة يظهر هناك ،ويتجدد ظهوره هنا،
وسيستمر بهذا العمل ما بقيت حياة ،وتحرك أحياء .ويتواصل الجمال القرآني
البديع في نقل الصورة كعادته في النقل والتصوير ،وذلك من خالل مجئ لفظ
"الناس" الموحي بأن الكفار والمنافقين هم ناس ،ولكن جئ بهم هنا مُعرَّفون
بألف والم ألمور كثيرة منها أنهم ليسوا من بعيد أبدًا ،وأنهم غير معروفين،
بل هم معروفون ،ويعاشرون الحق ،ويرونه ،ولكنهم يطعنونه ،ويحاربونه،
فاللفظ يوحي بأن المخذل وحامل اإلشاعة أحيانًا قد يكون من أقرب الناس
إليك ،وممن عاشرتهم وعاشروك في بعض األحايين .إنها الحقيقة التي يجب
على الجماعة المنقذة واألمة الهادية أن تنتبه إليها ،وتحذر منها وهى تعايش
هذا الفريق الدنئ خلقًا ،والساقط إنسانية ،والعديم شرفًا ،والتائه دينًا ،وذلك
حتى ال تسقطها اإلشاعة ،وتقتلها السذاجة كون اإلشاعات ليست سالح الكفرة
وحدهم ،بل هى سالح المنافقين كذلك ،ثم تنتقل اآلية بكل سالسة وهدوء إلى
ذكر محتوى اإلشاعة هذه ،وذلك من خالل قوله "إن الناس قد جمعوا لكم"،
حيث تحوي هذه الجملة الكثير من الدالالت ،ومنها :احتواء اإلشاعة على كل
المؤكدات كى تؤدي غرضها الدنئ في التخذيل والتهويل ،وهو معنى دقيق
يوحي بقدرة الباطل الفائقة على اإلرجاف ،حيث جئ "بإن" ،وتعريف لفظ
"الناس" ،وحرف "قد" ،والفعل الماضي جمعوا ،وليس المضارع يجمعوا؛
وذلك لإليحاء بأن الجمع جاهز ،وقد انتهوا من إعداده وجمعه بالفعل ،ولم
يتبق سوى التحرك لالستئصال ،ثم التخصيص من خالل قوله "لكم" ،إنها
االحتياطات اللفظية ،والترتيبات اإلبليسية المسبقة تظهر هنا ،وقد أَعدت
نفسها ،ووزعت مهامها؛ ففريق يخذل ،واآلخر يستأصل .نعم إنها الرسالة
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 214 -
التي ينبغي على الجماعة مرة أخرى استيعابها ،واإلعداد المسبق لدحرها،
وفضح أفرادها ،وكشف خطرها ومخاطرها كون اإلشاعات تسقط األمم،
وتقتل في الصفوف القيم إن لم يُنتبه لها ،وتُعد العدة لكشفها ،وتفنيد كذبها
وزورها .وينقل لنا القرآن وقاحة الكفر والنفاق على حد سواء ،وذلك من
خالل تصريحهم الواضح بهدفهم ومبتغاهم ،فلفظ "فاخشوهم" هو الهدف الذي
أرادوه ،وصرحوا به ،ومن أجله حشدوا كل ذلك الكم الهائل ،والهائل جدًّا،
من المؤكدات في داللة واضحة على جلد الباطل ،وهمته وحرصه على إنجاح
باطله ،وتحقيق مكره بكل الوسائل والطرق ،والمالحظ هنا مجئ كلمة
ال كون الخشية تجمع بين غايتي الخوف
"فاخشوهم" ،وليس فخافوا منهم مث ً
ن واحدٍ ،بينما الخوف قد يوجد لدى الجماعة أحيانًا في ظروف
والخضوع في آ ٍ
ما ،ولكن ال تصاحبه نية الخضوع واالستسالم ،بينما الخشية تجمع كل
مفردات االستسالم والرضوخ .إنه اإلعداد لألفراد واأللفاظ ،واالختيار
المدروس لألوقات واألحداث ،وذلك لإلبقاء على الخبث والخبثاء حكامًا
ال منظمًا يوازي ويتجاوز ذلك الخبث ،ويفضح
وحاكمين ،وهو ما يستدعي عم ً
ويردع ذلك العبث ،والمالحظ هنا مجئ "فاخشوهم" بصيغة األمر ليس إيحاءً
هنا بالفرض واإلكراه ،بل هو اإليحاء بالحرص المزيف على الحق ورجاله
ومحبيه وحماته ،وال شك في أن حاملي اإلشاعات على الدوام يظهرون التودد
والخوف على من يراد تخذيله وخذالنه ،وهو ما يستدعي الحذر والتوضيح
والتربية والتصحيح لما يقال وينشر حتى ال تنتصر اإلشاعة .وبعد كل ذلك
الجهد من قبل الكفر بعدته وعتاده ،وبالغته وأدواته ينقل لنا القرآن – وبكل
وضوح – الرد المفحم للجماعة المنقذة من خالل شهادة السماء لهم ،ووصف
حالتهم" ،فزادهم إيمانًا" ،حيث تحمل هذه الجملة دالالت كثيرة ،منها :أن
اإلشاعة لم تنل منهم على اإلطالق كونه جاء بالفاء وليس بالواو كأن يقول
- 215 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ال وزادهم إيمانًا للداللة على أنهم بمجرد سماعهم الخبر لم يلتفتوا إليه
مث ً
إطالقًا ،ولم يشغلوا أنفسهم به ،بل رفضوا التسليم والخوف والخشية من
ترتيبات البشر القاصرة ،ولجأوا إلى رب البشر بكل شجاعة وثبات .إنه
اإليمان باهلل ،وباهلل وحده ،هو الذي حفظ الجماعة من السقوط هناك في وحل
اإلشاعة ،ومستنقع الفتنة ،وهو الذي سيفعل ذلك هنا بال شك .ومما تجدر
اإلشارة إليه هنا أن قوله "فزادهم" يوحي بأن اإليمان موجود مسبقًا في إشارة
واضحة إلى وجود التربية اإليمانية المسبقة لهذا الموقف ،ولهذه األحداث.
إنها حقيقة التربية تظهر آثارها عند الفتن ،ويتضح رجاالتها وقت المحن،
وهو ما يستدعي تربية مسبقة قبل نزول المحنة كي يتكرر الثبات هنا كما
وجدناه يوم حمراء األسد هناك .ويزداد جمال التصوير في نقل الحقائق من
خالل مجئ اللفظ القرآني "إيمانًا" منكرًا ومنونًا ،وليس معرَّفا كأن يقول فزاد
اإليمان لديهم ،أو دون تنوين ،وذلك لإليحاء بأن تصديقهم باهلل تصديقّا عامًا
في كل األوقات واألحوال والشدائد واألزمات ،وأنه سبحانه لن يتركهم ،ولن
يختار إال ما فيه خيرهم ونفعهم ،كما أن التنوين يوحي بقوة إيمانهم التي تهزم
كل قوة ،وتسقط أمامها كل محنة وبلية ،وهو الذي حدث بالفعل .ومما ال شك
فيه هنا أن قوة اإليمان أوالً ،مع اإلعداد للمستطاع من العتاد والسالح ثانيًا
هو الذي عاشته الجماعة المنقذة واألمة الهادية حينها ،وهو الذي ينبغي أن
تعيشه هنا كذلك ،ثم يأتي ختام اآلية منسجمًا تمامًا مع بدايتها ،فكون البداية
ال هدفه االستئصال للحق وحملته ،فكانت النهاية هى لجوء
تهديدًا وتخذي ً
األرض بأطهر من فيها للسماء للتغلب على خبث األرض ،وفحشها ،وسفهها.
نعم إنه الختام الذي أعلنته األرض بطهارتها وطهرها من خالل "وقالوا حسبنا
اهلل ونعم الوكيل" .في حمراء األسد رغم الجراح المؤلمة ،واألحداث الدامية
التي حدثت قبل يوم فقط من حادثة التهويل والتخذيل هذه .إنها الرسالة العاجلة
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 216 -
لألمة الهادية كي تجعل حسبنا اهلل ونعم الوكيل هى السالح في نهاية أمرها
بعد األخذ بكل أسباب النصر والغلبة.
- 217 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ن
ن ُأجُورَكُمْ َيوْمَ الْقِيَامَ ِة فَمَن ُزحْ ِزحَ عَ ِ
س ذَآئِقَ ُة الْمَوْتِ َوإِنَّمَا ُتوَفَّوْ َ
ُل نَفْ ٍ
(ك ُّ
ع الْ ُغرُورِ{.)52()}185
ِال مَتَا ُ
خ َل الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَا ُة الدُّنْيَا إ َّ
النَّارِ َوأُدْ ِ
كل نفس وإن طال عمرها البد وأن تذوق الموت لتنتقل من عالم المتاع الفاني
إلى عالم البقاء األبدي .إنها الحقيقة الحاضرة هنا بألفاظها ومعانيها ،والغائبة
لدى العقول ال لشئ سوى جهلها وغفلتها ليس إال .نعم إنها الحقيقة التي
فضحت الحياة ،كل الحياة ،ووضعت حدًّا فاصال لحياة هى األقل نعيمًا،
ال لتبدأ حياة أخرى هناك في عالم آخر هو األوسع
واألشد بؤسًا ،واألسوأ حا ً
ال على اإلطالق ،وحتى نعيش هذه الحقيقة المنتظرة،
مدًى ،واألكمل حاالً ومآ ً
واللحظة الحاسمة التي ستواجهها كل نفس دون استثناء أو انتقاء ننتقل إلى
اآلية ففيها من البالغة والجمال ما يكفي ويُغني ،فقوله (كل نفس ذائقة الموت)
هذه الجملة تحمل دالالت كثيرة ودقيقة ،بل غاية في الدقة والوضوح ،ومنها:
أن األنفس ،كل األنفس دون استثناء أو انتقاء ،ستموت حتمًا ،وتنتقل إلى عالم
آخر يقينًا وجزمًا .إنه العالم الذي يختلف تمامًا عن عالم الحياة هذا كمًّا وكيفًا
ال ومآالً ،وجاء التعبير بليغًا بلفظ "ذائقة" ،حيث يوحي هذا اللفظ بأن
وحا ً
للموت طعمًا ،وطعمًا مؤكدًا بال شك .إنه الطعم المر الذي ال قدرة ألحد على
وصف مرارته ،والذي يكون من نصيب من عاش بعيدًا عن حالوة العبادة
وأوامر المعبود ،كما يكون ذلك الطعم حلوًا لمن ذاق حالوة العبادة ،وعاش
في كنف المعبود .إنه الطعم الذي تصنعه النفس لذاتها بعيدًا عن التأويالت
الفارغة أو التخرصات المتفلتة كي تختم به سيرتها وسيرها دون شك ،كما
أن الجمال يظهر جليًّا أيضًا من خالل عدم الفصل بين الذوق والموت كأن
ال "كل نفس ذائقة للموت" ،ال لم يكن السياق كذلك كون الم
يكون السياق مث ً
الجر توحي بالفصل بين الموت وصفته المتمثلة بالذوق ،الذي يُشعر بأن
الموت ال طعم له أحيانًا ،وال ذوق كون أداة الفصل تغير في المعنى كما هو
ل لإليحاء بحقيقة الموت المؤلمة،
معلوم عند العرب ،ولكن جئ باللفظ بال فص ٍ
ال حقيقيًا ،واستعدادًا إيمانيًّا كي تذوق النفس حالوة الموت ال
والتي تنتظر عم ً
مرارته ،وهو معنى غاية في الدقة والجمال .ومما ينبغي اإلشارة إليه هنا أن
الموت ال يعني أبدًا فناء النفس كما يتصور البعض ،بل الموت هو مفارقة
النفس لهذا البدن فقط ليحدث الموت والفناء للبدن اآلدمي ،بينما ترحل النفس
مباشرة إلى عالم آخر لتبقى هناك في سعادة إن كانت من أهل السعادة ،أو في
شقاوة إن كانت من أهل الشقاء ،وذلك حتى يحين اللقاء من جديد بعد البعث
لتكتمل الحياة ،ويجازى األحياء ،وهو معنى دقيق أيضًا ينبغي تأمله،
والوقوف عنده لدقته ،ثم يتواصل الجمال القرآني بصورة مبدعة وبألفاظ
مُقْ ِنعَة وهو يقول "وإنما توفون أجوركم يوم القيامة" ،إنه اإليحاء الدقيق،
والدقيق جدًا ،والذي يالحظ من خالل السياق ،حيث إن اللفظ "توفون" يوحي
بأن األنفس تُجزَى بما فعلت هنا ،فعمل الصالحات يجد العامل أثرها في هيئته
وشكله وحياته وأهله ،وكذلك السيئات أيضًا ،ولكنه الجزاء األولي المحدود
ى بكل تجليات
كمًّا وكيفًا وحاالً وزمانًا ،بينما يكون الجزاء األوفىَ ،واألوف َ
الوفاء ،هناك يوم القيامة حيث التمام والجالل والعدالة المطلقة والكمال ،وهو
ما يوحي به اللفظ اآلنف "توفون" ،إنها الحقيقة التي تجعل األمة الهادية
والجماعة المنقذة تستشعر أن الجزاء األوفى ،والنعيم األبقى ليس هنا ،وإن
كان جزءًا يسيرًا منه هنا – كما أسلفنا – ،ولكن الكمال والتمام يكون هناك،
وهو ما يستدعي العمل والحركة والجد والمثابرة دون تلفت أو التواء أو
استبطاء للجزاء .إنه التفلت وااللتواء الذي ال يجوز أبدًا أن يصاحب الجماعة
الهادية وهى تستشعر أن الجزاء األوفى ليس هنا ،ولن يكون أبدًا هنا ،بل هو
- 219 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
زمنًا كونها قبل اآلخرة ،وأما دنوها قدرًا فكون موضع سوط أحدكم في الجنة
خيرًا من الدنيا وما فيها ،وهو ما يستدعي حتمًا عدم االغترار بها ،مع وجوب
االستعداد للموت قبل نزوله ،والشوق للقاء اهلل بحسن العمل قبل لقائه.
- 221 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
اهلل لَعَلَّكُمْ
ن آمَنُواْ اصْ ِبرُواْ وَصَا ِبرُواْ َورَابِطُواْ وَاتَّقُواْ َّ
(يَا أ َُّيهَا الَّذِي َ
تُفِْلحُونَ{.)53()}200
ال فالح للجماعة المنقذة واألمة الهادية إال إذا اتصف أفرادها والمنتمون إليها
بصفات أربع وهى :الصبر ،والمصابرة ،والمرابطة ،وتقوى اهلل كون
المعركة طويلة األمد ،ومتعددة األوجه ،وإال فال فالح البتة .إنها القواعد
المؤهلة للتمكين في األرض ،كل األرض ،واألصول المميزة لجيل النصر
في عالم تتقاذفه األهواء ،وتتنازعه الشهوات .نعم إنها الشهوات التي أرادت
وتريد على الدوام أن تكون لها الكلمة والميدان في عالم غابت فيه قيم السماء
األصيلة ،وحضرت فيه قيم الطين النتنة ،والتي آن اآلوان اليوم – كما فعل
بها في األمس – إليقاف عبثها ،وتحجيم تمددها من خالل جيل النصر القادم،
والقادم بالفعل .وحتى نتذوق مؤهالت هذا الجيل المنقذ تعالوا لنعيش مفردات
اآلية ففيها من الروعة والجمال الكثير والكثير ،فقوله "ياأيها الذين آمنوا" هذا
النداء الخاص يحمل دالالت كثيرة ،ومنها :أن األمر المطلوب تنفيذه مهم
للغاية ،وال يحتمل التأخير أو التسويف ألنه إما أن تكون أو ال تكون ،وكون
األمر كذلك فقد جئ بالنداء والمنادى وهاء التنبيه ،كل ذلك لجذب االنتباه
وتشويق المخاطب ليدع المشاغل جانبًا ،ويُقبل على ربه منصتًا ،وذلك هو
الحال عند كل أمر يوجه للمؤمنين كما هو معلوم .إنها السماء عندما تخاطب
صفوة أهل األرض فال بد على تلك الصفوة عندئ ٍذ من ترك المشاغل جانبًا
ن واحد لسماع ذلك الخطاب األكمل واألشرف
ليتم االستيعاب واالستعداد في آ ٍ
على اإلطالق ،ثم ينتقل النداء صوب المؤمنين مباشرة كونهم هم دون غيرهم
من يعي ويفهم ويصدق ويعلم .إنه اإليحاء بأن المؤمن الذي خالط اإليمان
بشاشة قلبه ،واختلط بلحمه ودمه هو من ينتظر منه التحرك الفوري مع اهلل
كون القلوب الخالية من قيم السماء ،ووحيها ،ومنهجها ال يُنتظر منها الصبر
وال المصابرة ،وال الرباط أو المرابطة كونها خالية جوفاء ال تمسك ماءً ،وال
تنبت كألً .نعم إنها اإلشارة الدقيقة ،والدقيقة جدًّا ،للجماعة المنقذة واألمة
الهادية كي تربي ذاتها وأفرادها على قيم السماء ووحيها كي تملك القدرة
الحقيقية على الصبر والمصابرة والمرابطة مع تقوى اهلل ألن المعركة طويلة
األمد ،متعددة األوجه ،وتتطلب دون شك المؤهالت األربع إلحقاق الحق،
وإبطال الباطل ،كما أن في هذا النداء الخاص لفتة بديعة يجب على الجماعة
التنبه لها وهى وجوب االصطفاء للمهام ،وليس العشوائية كون المهام النبيلة
ال ال يتصدى لها إال الكبار دينًا ،والعظماء
أصالً ،والعظيمة شأنًا ،والكبيرة حا ً
مبادئًا سواء بسواء .كما أن النداء وُجه للجماعة ،وليس لفرد ما ،ولو كان نبي
اهلل ،وذلك لإليحاء بأن إحقاق الحق ال يمكن أن يكون إال بجماعة ترعاها
وتقودها السماء ،وال قدرة للفرد أيًّا كان ذلك الفرد إحقاق الحق ،وإبطال
الباطل كما هو معلوم .إنها دعوة السماء الواضحة ،والواضحة جدًّا ،لعمل
جماعي منظم بعيدًا عن الفردية المقيتة ،واالنعزالية المميتة ،ثم ينتقل سياق
اآلية صوب األمر األول لتنفيذه وهو قوله "اصبروا" ،حيث يوحي اللفظ بأن
النفس مجبولة على عدم الصبر إال إذا كان األمر لها من األعلى لتستوعب
وتصبر ،كما أن رضا اهلل وجنته مدعاة أيُّما مدعاة للصبر والتحمل .إنه الخيار
الوحيد الذي يجب على كل فرد من أفراد الجماعة المنقذة واألمة الهادية
استيعابه حتى ال يقتلهم االستعجال ،ويوقف سيرهم األنذال ،وجاء األمر هنا
بالصبر الجماعي كون التهور الفردي واالستعجال دون الجماعة قد يجلب
على الجماعة العذاب والنكال ،وهو ما ال تريده السماء ،ولم تأمر به .ويكمن
الجمال هنا في تقديم األمر بالصبر على ما سيأتي كون المصابرة والمرابطة
- 223 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
وتقوى اهلل ال تتحقق إال من صابر محتسب ،بينما المستعجل يتوقف عن السير
حتمًا ،ويقتله استعجاله حاالً .إنه اإليحاء بوجوب االنتصار على الذات أوالً،
ومن ثم يكون االنتصار على العدو ثانيًا ،وإال كانت الهزيمة ،وكان الفشل.
ومما ال شك فيه أن الصبر هذا هو أمر خاص في النفس فهي مأمورة أن
تصبر عليه وتستوعبه ،بينما األمر الثاني المراد فعله هو قوله "وصابروا"
يتصل بخصمك وعدوك الذي صبر ويصبر على حربك وأذيتك دون يأس،
عندئ ٍذ فإن المطلوب أمام هذا الخصم هو المصابرة ،وهى المغالبة في الصبر
والتحمل حتى يسقطه صبرك ،وتردعه عزيمتك ،وال شك في أن أفراد
الجماعة المنقذة كلما استوعبوا هذه الحقيقة كلما عظمت مصابرتهم ،وتواصل
هلل صبرهم .إنها اإلشارة الدقيقة والموحية والتي يجب على الجماعة المنقذة
واألمة الهادية فردًا فردًا استيعابها أيضًا ،وهى أن الخصم لم ولن ييأس في
صدك ،والوقيعة بك وبجماعتك وأمتك ،بل هو صابر ومصابر على باطله
ومكره مع أنه األسوأ حاالً ،واألفسد دينًا .إنها الحقيقة التي يجب إدراكها لتعي
الجماعة حجم مصابرة العدو وصبره رغم باطله ومكره – كما أسلفنا ،-وهو
ما يستدعي إذًا مغالبته بالمصابرة .وال شك في أن الصبر والمصابرة هنا
يجتمعان مع الفريقين فريق الهدى وفريق الضالل ،بل قد يكون فريق الضالل
أكثر صبرًا في بعض األحايين ،ولكن الذي يمد فريق الهدى بعامل البقاء
والنصر في النهاية هو تقوى اهلل ،وهو المؤهل الرابع في اآلية ،والذي يفتقده
فريق الضالل دون شك .ومما تجدر اإلشارة إليه هنا هو أنه على قدر تقوى
اهلل يكون الصبر ،وتكون المصابرة ،ويكون الرباط أيضًا ،حيث إن المقصود
بالرباط هنا هو إشعار العدو بأنك مستعد على الدوام لمنازلته .إنها المنازلة
التي تكون أحب للصابر والمصابر والمرابط من نفسه وأهله والناس أجمعين
كونها هلل ،وفي اهلل ،ومن أجله .ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أيضًا أن تأخير
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 224 -
جهَا
ق مِنْهَا َزوْ َ
خلَ َ
س وَاحِدَ ٍة َو َ
خلَقَكُم مِن نَّفْ ٍ
س اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي َ
(يَا أ َُّيهَا النَّا ُ
ِن
ن بِ ِه وَا َألرْحَامَ إ َّ
َث مِنْهُمَا ِرجَا ًال كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اهللَّ الَّذِي تَسَاءلُو َ
وَب َّ
علَيْكُمْ َرقِيباً{.)54()}1
اهلل كَانَ َ
َّ
إنها واحدية األصل البشري آلدم تعلن عن نفسها بصورة واضحة تاركة
معيار التفاضل بين البشر هو تقوى اهلل ،وتقوى اهلل فقط .إنها الحقيقة التي
أعلنتها السماء منذ األزل البعيد ليحصل التكامل البشري والتعاون اإلنساني
كون واحدية المنشأ للكائن البشري هو آدم ،وآدم فقط ،وليس القرد الذي تطور
من خالل تراكم السنين ،وامتداد األعمار كما قالت نظريات السفه ،وفكر
السفهاء .إنها النفس اآلدمية األولى التي خلقها اهلل بيده ،ونفخ فيها من روحه،
وأسجد لها مالئكته ،وعلمها أسماء كل شئ كي ترقى وتبقى .نعم إنه الرقي
المالزم للنفس البشرية في عالمها األرضي الذي يتوحد فيه المعبود إلها كما
توحد فيه سبحانه خالقًا ليبقى التكريم مصاحبًا لتلك النفس ما بقيت واحدية
المعبود مع حقيقة السجود .ومما ال شك فيه فإن النظرية األرضية التي جعلت
اإلنسان قردًا في بداية النشأة ،ومن ثم تطور إلى هذه الصورة مع مرور
السنين – على حد زعمها – كانت النظرية المنحطة فكرًا ،والساذجة قوالً،
والباطلة لفظًا ومعنى كونها لم تعرف هذه اآلية أو أنها عرفتها بالفعل ولكنها
لغبائها ضلت وتاهت بعيدًا بعيدًا في وديان الضالل .إنه الضالل الذي أراد
يومًا ما أن يطمس الحقيقة ،ويحارب الحق ظنًّا منه لجهله وغبائه أن الحقائق
تُطمس .وحتى نعيش هذه المعاني القرآنية بكل تجلياتها الواضحة ننتقل إلى
اآلية ففيها من روائع البيان ما يُغني ،فقوله "يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي
خلقكم من نفس واحدة" هذه الجملة القرآنية تحمل دالالت كثيرة ،ومنها :أن
هذا النداء العام يوحي بحقيقة العبودية الجماعية للجنس البشري كافة دون
تمييز أو انتقاء كون الخلق ،كل الخلق ،أمام شريعة اهلل سواء ،فهو خالقهم
وهم عبيده .ومما ال شك فيه هنا فإن هذا النداء العام مما يميز القرآن المكي
كون كل ما نزل قبل الهجرة مكيًّا ولو نزل في غير مكة ،كما أن ما نزل من
القرآن بعد الهجرة يعتبر قرآنا مدنيًّا ولو نزل بغير المدينة ،حيث أن المعيار
في التمييز بين ما نزل بمكة والمدينة هو عامل الزمن ،وليس عامل المكان
كما هو معلوم عند علماء التفسير .إنها الحقيقة التي يجب أن تستوعبها
الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهى تشكل خطابها ،وتحدد قواعد سيرها بما
يتواءم مع مراحل التربية وعمر المتربي ،كما أنه اإليحاء الدقيق ،والدقيق
جدًّا ،الستيعاب الخطاب المناسب لكل مرحلة بما يحقق األهداف ،ويواكب
المتغيرات دون اإلخالل بالقواعد واألصول دون شك .ومما ال شك فيه هنا
أن نذكر أن خطاب السماء لألرض في العهد المكي كان خطابًا عقديًّا واضحًا
ال ليأتي الخطاب المدني فيما بعد خطابًا تشريعيًا
يراد منه التربية العقدية أو ً
كون التشريعات السماوية ال ينفذ أوامرها ،ويتجنب نواهيها ،وال يتعدى
حدودها إال من عرف ربه .إنها الحقيقة التي ينبغي التنبه لها ،واإلشارة إليها
ال كما كانت في مكة سواء بسواء ،وهذا ال يعني أبدًا
لتكون التربية العقدية أو ً
أن الجماعة المنقذة واألمة الهادية تعيش عهدًا مكيًّا بكل مالبساته ،وإنما القصد
أن تبقى التربية العقدية القائمة على المنهج الوسط الذي تحكمه المراحل،
ويسوده التدرج هى السيد والسائد .ومما ال شك فيه هنا أيضًا أن الناس سُموا
ناسًا كونهم يأنس بعضهم بعض ،ويتعايش بعضهم مع بعض ،وال يكون
االنعزال واالنطواء بعيدًا عن الناس إال لآلحاد من الناس ليس إال كون
االنعزال مرضًا ،أو يقود للمرض دون شك ،ثم يتواصل الجمال القرآني آمرًا
الجنس البشري بتقوى اهلل من خالل قوله "اتقوا ربكم" ،إنه األمر بأن يجعل
- 229 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
الناس ،كل الناس ،بينهم وبين عذاب اهلل وقاية كون التقوى هذا هو معناها،
وجئ بلفظ ربكم في البداية ،وليس لفظ "اهلل" كون الحديث هنا يتناول قضية
الخلق والنشأة ،وهما من صفات الربوبية ،وهو معنى دقيق ينبغي تأمله،
والوقوف عنده ،ثم يتواصل جمال السماء وخطابها لألرض من خالل إقرار
واحدية النشأة البشرية كون الجميع يعودون ألب واحد هو آدم ،وآدم فقط،
وذلك من خالل قوله "الذي خلقكم من نفس واحدة" ،والعجيب هنا قوله "من
نفس واحدة" ،ولم يقل الذي خلقكم من آدم ،مع أن المقصود بالنفس هو آدم،
وذلك لإليحاء الدقيق بأن القيمة البشرية ليست للذات الجسدية دون الروح
كون الروح أو النفس شيئًا واحدًا ،وهما األساس في التكوين اإلنساني،
فالحديث هنا عن حقيقة اإلنسان وهى نفسه ،وليس اسمه كون قيمة العبد بنفسه
وروحه ،وليست قيمته باسمه وجسده ،وال شك في أن الروح تبقى قيمتها كلما
اتصلت على الدوام بخالقها حتى إذا تركته وانشغلت بطينتها سقطت في وحل
الطين األرضي النتن ،وسقط معها لسقوطها اسمها وكنيتها وذاتها ،وحتى ال
يحدث السقوط للبدن والنفس معاً كان الحديث عن النفس كون النفس العزيزة
دينًا ،والصادقة وجهة ،والكبيرة مبدأً ،والحقيقة مكانًا وواقعًا هى التي ترفع
ال
صاحبها إلى السماء علوُّا ونقاءًا وصدقًا بغض النظر عن الذات لونًا وطو ً
وعرضًا .ومما تجدر اإلشارة إليه هنا أن نذكر أن هذه النفس األولى خلقة
وخلقًا مرت بمراحل عند خلقها وتكوينها حيث كانت المرحلة األولى ترابية
من كل تراب األرض ،وظلت على ذلك زمنًا ،ثم خلطت بالماء فأصبحت
طينًا الزبًا أي متماسكًا ،وظلت على ذلك زمنًا حتى أصبحت كالحمأ المسنون
أسوداً ،ثم شكلت وتركت زمنًا حتى أصبحت كالفخار ،وظلت كذلك زمنًا ،ثم
نفخت فيها الروح بعد ذلك ليتحرك هذا المخلوق الكريم نشأةً ،والعظيم خلقة،
والمميز علمًا في آية من آيات اهلل الباهرة التي ال حدود لها .إنها سنة التدرج
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 230 -
والتأني التي ينبغي على الجماعة المنقذة واألمة الهادية األخذ بها من خالل
النظر في مراحل خلق اإلنسان اآلدمي وهى تسود وتقود كي تبلغ المقصود.
وينقلنا القرآن بطريقته السلسة والجميلة في التعبير والتصوير – كما هو
معلوم – وذلك من خالل قوله "وخلق منها زوجها" ،حيث توحي هذه األلفاظ
القرآنية بدالالت غاية في الروعة ،ومنها :قوله "وخلق" وليس أخرج كون
حواء خُلقت من أعلى ضلعه خَلْقًا ولم تَخرج من موضع آخر منه إخراجًا –
ق منها بقدرته سبحانه ما لم يكن موجودًا ،وال شك،
كما هو معلوم ،-وإنما خَلَ َ
أن هنا معنى آخر في خلق حواء آلدم حيث يوحي هذا الخلق بأن الرجل ال
حياة له وال بقاء إال بزوجة تؤنسه ويؤنسها .إنه التزواج في كل شئ في هذا
لكون ليبقى الواحد المتفرد الذي ال زوج له هو اهلل ،واهلل فقط ،جل شأنه،
وتقدست أسماؤه ،وهو معنى نفيس أيضًا .كما أن قوله "منها" يوحي بأن
الزوجة جزء منك ،وذلك ليحصل األنس بين الجنسين كونها خلقت من لحمك
ودمك ،ولم تخلق من شئ مختلف عنك .ومما ال شك فيه فإن خلقها من الضلع
األيمن ،بل من أعاله ،وليس من أسفل الجسم كأن تكون من الفخذين أو من
أسفل القدم تكريم لها ،وإيحاء بأن أعلى الجسم وبالتحديد أعلى الضلع يبقى
مستورًا ،ومستورًا على الدوام في إيحاء بوجوب سترها لنفسها وذاتها كونها
خلقت من مكان مستور في الجسم البشري غالبًا ،فكان عليها أن تظل مستورة
حية ومستورة ميتة ،كما أن خلقتها لم تكن من الفخذ مع أن اهلل قادر على ذلك
لإليحاء بأن المرأة ليست للشهوة فحسب ،بل هناك العواطف والمشاعر
واألحاسيس ،أوالً ،لذا خُلقت من أعلى الجسم وبالقرب من الصدر ،ثم تأتي
الشهوة ثانيًا تكملة لحياة عاطفية غاية في الروعة والجمال حتى إذا غابت تلك
العاطفة الجيَّاشة ،والرحمة المؤنسة غابت معها الشهوة في كثير من األحيان،
وهو معنى دقيق أيضًا ينبغي تأمله ،والوقوف عنده ،كما أن قوله تعالى "وخلق
- 231 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
منها زوجها" يوحي أيضًا بأن فطرة اهلل في الخلقة البشرية للمرأة واحدة ،إنها
الخلقة الواحدة للجنس األنثوي الذي ال يختلف من امرأة ألخرى في هذه
األرض ،وذلك في أساسيات الخلقة حتى يعي الرجال هذه الفطرة ،فيقنع كل
منهما بزوجه كون الخلقة واحدة للصنفين كما أسلفنا .كما أن هناك معنى دقيقًا
يمكن مالحظته من خالل السياق القرآني وإن كان بعيدًا نوعًا ما عن موضوع
اآلية إال أن هذا ال يمنع أبدًا االستفادة من هذا المعنى وهو كلما كان اختيار
القائد من نفس فصيلته ومجتمعه وتخصصه للقيادة والعمل كلما كان أكثر
وئامًا وتعايشًا وإنتاجًا .إنها الحقيقة التي ينبغي أن تعيها الجماعة المنقذة واألمة
الهادية وهى تختار القادة كي تشق طريقها في دروب الحياة وميدان األحياء،
ثم ينتقل السياق القرآني للحديث عن نتيجة التزاوج الذي تم بين النفس األولى
آدم والنفس المخلوقة منه حواء ومنها :أن لفظ "بث" أي نشر ،ويقصد به اهلل
كونه سبحانه هو من نشر كل هذا الكم الهائل من الناس من نفسين في البداية،
وليس آدم بقوته وزوجه هما من فعال هذا .إنه اإليحاء الدقيق بأن الذي يهب
الذرية هو اهلل ،وما األزواج إال سبب من األسباب ليس إال ،ثم يأتي الجمال
من خالل قوله "رجاالً كثيرًا ونساءًا" حيث جئ بكلمة رجاالً نكرة وكذلك
نسا ًء لإليحاء بكثرة ذريتهما ،واختالف الرجال والنساء في الصفات الثانوية،
والطباع البشرية ،ويزداد الجمال القرآني هنا من خالل قوله في الرجال
كثيرًا ،ولم يقل ذلك في النساء لإليحاء بأن الكثرة في الرجال عز ومنعة ،بينما
الكثرة في النساء عالة وضعف ،ثم يتواصل الجمال من خالل قوله "واتقو اهلل
الذي تساءلون به واألرحام" ،حيث توحي هذه األلفاظ بدالالت كثيرة ،ومنها:
أن تكرار األمر بتقوى اهلل يوحي بأن الحياة المجتمعية والعالئق البشرية
والقرابات األسرية ،وكل تلك المفردات قد تأخذ العبد نحوها ،فكان التذكير
مرة أخرى بوجوب تقوى اهلل حتى ال تضيع النفس في تلك المتاهات تاركة
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 232 -
اهلل خلفها ،ومتاهاتها بين يديها ،وجئ هنا بلفظ الجاللة "اهلل" بينما في المقدمة
جئ بلفظ الرب ،وذلك اإليحاء هنا بأن تقوى اهلل كما هى من مقتضيات
الربوبية فهى أيضًا هنا من مقتضيات األلوهية ،وذلك كي ال يشتغل العبد هنا
بعبادة غير اهلل خاصة وقد كثرت ذريته ،وتعددت مطالبهم ،فكان التذكير
بوجوب عبادة اهلل وتقواه ليعين ويصلح الذرية واألرحام والنشئ حتى ال
تحدث المتاهة .نعم حتى ال تحدث تلك المتاهة المخيفة في وسط ذلك الزحام
البشري كان األمر بتكرار تقوى اهلل ألنه المنقذ وحده دون سواء من تلك
المتاهة .إنها الحقيقة التي ينبغي أن تتنبه لها الجماعة المنقذة واألمة الهادية
ال وعرضًا حتى ال تنشغل بذلك
وهى تعيش وسط الزحام البشري المنتشر طو ً
الزحام عن اهلل ،ثم يتواصل السياق القرآني بطريقته الفريدة وحروفه
الموسيقية وهو يعبر عن الفقر البشري األرضي للخالق اإلله المعبود في
السماء ،وذلك من خالل قوله "الذي تساءلون به واألرحام" ،حيث ورد في
تس اءلون قراءتان ،هذه والثانية بتشديد السين ،والمعنى اتقوا اهلل الذي يسأل
بعضكم بعضًا به كأن تقول أسألك باهلل أال أعطيتني كذا ،فوجب البذل إذا
سُئلت باهلل ما لم يكن شيئًا حرامًا ،وقوله "واألرحام" ورد باألرحام قراءتان
هذا بالفتح ،وأخرى بالكسر ،فعند الفتح تكون معطوفة على اهلل ،أي اتقوا هلل
في األرحام ال تضيعوها ،وال تفرطوا بحقها ،ومما ال شك فيه هنا أن األرحام
جمع رحم وهم القرابة الذين يجب أن يكون لهم المكانة والمكان في دين العامل
ودنيا العمال .إنهم العمال الذين لم تشغلهم الذرية أبدًا عن ربهم وأرحامهم
مهما كانت الحياة ،ومهما تغافل األحياء .ومما يجب التنبيه إليه هنا أن العرب
ال أسألك باهلل وبالرحم ،أو
جرت عادتهم أنه كان يسأل بعضهم بعضًا قائ ً
يقولون أسألك بالرحم أال فعلت كذا ،حيث كانوا يعظمون األرحام ،فذكرهم
اهلل بوجوب تعظيم ما كانوا يعظمونه .إنها المآثر الجميلة التي لم تغب هناك،
- 233 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
والتي يجب أن تكون هنا .ومما ال شك فيه فإن القراءة الثانية بكسر األرحاِم
تكون معطوفة على الضمير به الوارد بعد تساءلون ،وهو ما يؤيد هذا التعظيم.
وفي الحقيقة فإن الجماعة المنقذة واألمة الهادية لن تسود وتقود أبدًا ما لم تكن
مجموعة أفرادها يتقون اهلل في أنفسهم ،ويتقون اهلل في أرحامهم كون الجماعة
التي يقطع أفرادها أرحامهم أو بعضهم هى األسوأ دينًا ،واألبعد نصرًا ،واألقل
تمكينًا بال شك ،وهو ما يستدعي إعادة النظر في هذه القضية ألهميتها عاجالً
ال آجالً ،ثم تختم اآلية ختامًا يناسب المقام ،ويعالج علل المكان والزمان من
خالل قوله "إن اهلل كان عليكم رقيبًا" ،إنها مراقبة السماء لألرض بعد هذا
التوضيح هل قمتم بواجبكم نحو ربكم ،وواجبكم نحو أرحامكم أم قصرتم
وأضعتم ؟ ،إنها الحقيقة األخيرة في هذه اآلية الكريمة التي أُفتتحت بها سورة
النساء لتكون المراقبة اإللهية للعباد حاضرة على الدوام ،مجازية أهل الوفاء
لوفائهم ،ومهددة منذرة أهل الضياع لضياعهم وتضييعهم.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 234 -
اهلل
علَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا َّ
خلْ ِفهِمْ ُذرِيَّ ًة ضِعَاف ًا خَافُواْ َ
ن َلوْ َترَكُواْ مِنْ َ
ش الَّذِي َ
( َولْ َيخْ َ
َولْيَقُولُواْ َقوْ ًال سَدِيداً{.)55()}9
تقوى اهلل والقول السديد من قبل اآلباء هى ضمانة السماء األزلية لحفظ الذرية
واألبناء من الضياع بعد الوفاة ..إنها الحقيقة التي غابت كثيرًا لدى الكثير
والكثير من الخلق في عالم تتجاذبه الشهوات ،وتتنازعه المغريات .إنها
ن واحدٍ ،والتي قادت الكثير من الخلق
المغريات الخداعة والمخادعة في آ ٍ
لجمع المال الحرام بغية إسعاد الذرية بكل حماقة وطيش .ومما ال شك فيه فإن
هذه الحماقة فعلت فعلها األرعن في الجماعة المنقذة واألمة الهادية على حين
غرة حتى أفقدتها قداستها وقدسيتها كأمة منقذة ردحًا من الزمن ،وهو ما
يستدعي سرعة النظر في األمر تقييمًا ومراجعة حتى ال يستمر الفراغ القاتل،
واالنشغال الباطل .وحتى نتذوق حالوة هذه الضمانة السماوية وهى تضع
النقاط على الحروف بصورة غاية في الدقة والوضوح ننتقل إلى مفردات
اآلية كي نعيش الضمانة السماوية بكل تجلياتها النورانية ،وحروفها الموسيقية
المنسجمة تمامًا مع مفرداتها ومحتواها ،فقوله "وليخش الذين لو تركوا من
خلفهم ذرية ضعافًا خافوا عليهم" هذه الجملة تحمل دالالت كثيرة ،وتعبر عن
إيحاءات جمة غاية في الروعة والجمال ،فقوله "وليخش" الواو حسب ما
قبلها "ليخش" هنا فعل أمر ،إنها السماء تتدخل هنا بلغة األمر كون الموضوع
المراد عالجه والتحذير منه أمرًا مهمًّا ال يحتمل التورية أو التأخير .إنه
الحرص األبوي على الذرية مخافة الضياع بعد الممات ،والذي يتطلب حتمًا
هذا النوع من الخشية المقترنة باألمر ،وذلك حتى يتم الحفظ ،ويستقر
المحفوظ ،والمالحظ هنا التعبير لألمر بالخشية وليس بالخوف كأن يكون
الحميمية ،والحميمية جدًّا ،بين التارك والمتروك .إنه التعبير الدقيق الذي
نلمسه من خالل السياق القرآني ،والذي أوحى بانتهاء تلك العالقة تمامًا فور
الوفاة بين التارك الذي هو األب ،والمتروك الذين هم الذرية الضعاف لتبدأ
حياة جديدة لذرية حدد معالمها األب الراحل سلبًا أو إيجابًا ،وهو ما توحي به
هذه اآلية الكريمة بكل وضوح ،وال شك هنا ،أن تلك العالقة اآلنية انتهت
بالوفاة ،ولكن تبقى تقوى اهلل وكلمة الحق التي عاشها ذلك العبد مع الخلق هى
من تدافع عنه في ذريته من بعده .إنه كرم السماء ورحماتها ال تنتهي عن
الصادقين بمجرد الوفاة ،بل تبقى تفعل فعلها بأمر ربها في ذريته الالحقين،
وهو معنى دقيق جدًّا ينبغي تأمله والوقوف عنده لنفاسته ،ثم يأتي التعبير
القرآني اآلخر معلنا عن نفسه ودقته وهو قوله "ذرية ضعافًا" ،حيث جئ
بالذرية منكرة ومنونة ،وكذلك الضعاف أيضًا ،وال شك في أن تنكير الذرية
هنا يوحي بعمومية هذا الخوف المستشري لدى كل صاحب ذرية .إنه الخوف
على المستقبل الغائب الذي لم يأت بعد ،والذي يتردد في صدور الكثيرين من
ال ومكانًا وزمانًا .كما أن تنكير كلمة ضعافًا وتنوينها
الخلق كمًّا وكيفًا وحا ً
ع هذا التنكير الباب مفتوحًا
أيضًا يوحي بحال الذرية المتروكة من جهة ،ويد ُ
لكل ضعف ينتاب هذه الذرية سوا ًء كان ضعفًا بدنيًّا أو نفسيًّا أو غيره .إنه
الضعف الشامل الذي يحيط بهذه الذرية من كل حدب وصوب ،وحتى يتم
التغلب على هذا الضعف في ذرية ضعيفة وجب النظر في مفردات هذه اآلية
حتى نصل إلى النهاية ،ثم يستمر الجمال القرآني في اختيار األلفاظ المتناسقة
والدقيقة جدًا حتى الوصول إلى النهاية ،وذلك من خالل قوله "خافوا عليهم"،
ال عن
وهنا تتوقف األقالم ،ويعجز البيان بكل أشكاله وألوانه وأركانه متسائ ً
المفعول به للفعل "ليخش" ،نعم فلكل فعل فاعل ومفعول ،ولكن هنا ال يوجد
ال خافوا عليهم الفقر أو الجوع أو
مفعول به على اإلطالق ،فلم يقل القرآن مث ً
- 237 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
الحاجة أو غيرها ،وإنما ليخش دون ذكر ما هو الذي يُخشى ،وما هو الداء
المنتظر للذرية والذي يجب الخشية منه حتى ال يحدث .إنها بالغة السماء
وإعجازها تترك الباب مفتوحًا أمام كل العاهات المنتظرة للذرية المحاطة
بالمال الحرام من قبل الكسب المشؤوم لألب الذي ظن أنه بكسبه الحرام يزيل
ذلك الضعف لذريته ،ولكنه في الحقيقة ظلمهم بكسبه ،وعرضهم لغضب اهلل
بماله .ومما ال شك فيه هنا فإن الكسب المشؤوم من قبل األب كان هدفه اإلغناء
والغنى ،واألمان والهنا ،ولكنه من الباب المشؤوم ،والمشؤوم دون شك .ومما
ينبغي ذكره هنا ،والتنبيه عليه ،ونحن نعيش في ظالل هذه اآلية ،والتي أتمنى
أن يصل هذا الظل الفواح لهذه اآلية الكريمة لكل صاحب ذرية حتى يعيش
ضمانة السماء هذه بعيدًا عن تزلفات األرض ،وخبثها ،واالرتقاء نحو السماء
ونقائها ،ليكون التآلف والتكامل بين الرجل وذريته تآلفًا بدايته هنا ،ونهايته
في جنة اهلل هناك ،وحتى تكون العدالة حاضرة هنا في هذا التوضيح البد من
ذكر أن كل كسب حرام يكون األهل ممثلين بالزوجة والذرية شركاء فيه وبه
كون القناعة غابت عن الجميع ،وخوف اهلل فارق الجميع ،وإن كان األب
يحمل الوزر األكبر في هذه الحياة ،وفي هذا المال .وقبل أن ننتقل للشطر
اآلخر من اآلية يجدر بنا هنا أن نذكر أن هذه اآلية لها عالقة وطيدة بما قبلها
وبما بعدها ،وليس هذا فحسب ،بل إن محتواها ال يتضح تمامًا ما لم يتم هذا
الربط ،وال شك في أن ما قبلها من اآليات تحدث عن أموال اليتامى ،وحرمة
أكلها ،وكذلك عن أموال الورثة ،ووجوب أخذ كل وارث حقه ذكرًا كان أو
أنثى دون زيادة أو نقصان ،وهو ما وضحته أكثر بعد ذلك اآلية التي تلت هذه
اآلية ،وال شك في أن البلية التي تحدث هنا ،وسبق وحدثت في الماضي هناك،
ومازالت تتكرر هي سقوط البعض سقوطًا ماديًّا ،وذلك بأخذهم أموال اليتامى
ظلمًا من جهة ،أو احتيالهم على شركائهم في الميراث من جهة أخرى تحت
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 238 -
يافطات مزورة ،ودعاوى باطلة ،كل ذلك المال المشؤوم حرصًا منه على
مستقبل ذريته الضعاف إلزالة ضعفهم ،فكان البالء له ولهم من سوء كسبه
أن ينتظرهم الضياع والضعف ما بقى المال المشؤوم معهم ،وال شك في أن
كل كسب حرام يتم جمعه ينعكس سلبًا على حياة الذرية دينًا ودنيا .إنها
الخسارة المنتظرة هنا تالحق الذرية ،وتحيط بهم من كل مكان هناك ،وهو
أمر معلوم ومشاهد لكل ذي بصيرة وعقل ،ومما ال شك فيه فإن ثروات البشر
المكنوزة ،والتي جمعت من غير حل ،على العاقل أن ينتظر رحيلها من بين
أيدي أهلها ،بل يكون الخراب والدمار واألوجاع هى الحاضرة في هذا المال
بين يدي هذه الذرية ،وحتى ال يحدث كل هذا الضياع للذرية وجبت الخشية
من هذا المال ،والتحرك الفوري دون إبطاء أو تأخر صوب الضمانة الحقيقية
لحفظ الذرية من الهوان وهى في قوله "فليتقوا اهلل وليقولوا قوالً سديدًا" ،وال
ال
شك في أن هذه الجملة اختصرت المشهد مكانًا وزمانًا ،وأسعدت القلوب حا ً
ومآالً ،وضمنت الذرية أرضًا وسماءً .إنها الحقيقة التي يجب على الجماعة
المنقذة واألمة الهادية أن تستوعبها كي تحفظ الذرية هنا في الدنيا ،ويكون
اللقاء معها عند اهلل في جنته في اآلخرة ،وذلك بتقوى اهلل أوالً .كما أن األمر
هنا بتقوى اهلل جاء بصيغة األمر كون النفوس تجبن أحيانًا ،وتبخل أحيانًا
أخرى من أجل الذرية ،فكان البد من هذا األمر حتى تتحرر النفوس من هذه
القيود األرضية التي يجب أن تنكسر حتى تتحرر ذواتها من رق األرض،
وشهواتها ،وتنطلق دون قيد نحو السماء تعطي دون بخل ،وتتقي ربها دون
ملل .ومما ال شك فيه فإن العبد عندما يتقي اهلل في الناس صغارًا وكبارًا
وذكورًا وإناثًا فإنه سبحانه يقيض له بعد وفاته من يتقى اهلل في ذريته الصغار
والكبار سواء بسواء ،والعكس صحيح ،وال يظلم ربك أحدًا .إنها الحقيقة
الوحيدة ،والوحيدة فقط ،والتي يجب أال تغيب عن هذه الجماعة ،وهذه األمة،
- 239 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
فإن غابت ألمر ما وجبت العودة واالستيقاظ من جديد حتى ال تذهب قداسة
الذرية بمال حرام هو في حقيقته أليتام تارة ،أو لورثة آخرين تارة أخرى،
فكان االستحواذ عليه أبلسة حاضرة ،ومغامرة خاسرة تحت مسميات باطلة،
وتأويالت فاجرة دون مسوغ أو دين .ثم ختمت اآلية هذا األمر بخاتمة غاية
في الروعة والجمال تناسب البداية حيث يكون القول السديد والصائب والعادل
والخالص هلل دون خوف دائمًا هو الضمانة الحقيقية لحفظ ذرية العبد بعد
مماته من الضياع .إنها الحقيقة األخيرة التي تدحض تفكير البعض،
وسياستهم ،وخططهم الداعية إلى التزلف في القول ،والنفاق في الفعل،
والتضليل في الفكر بغية توفير رزق الذرية وقوتهم ،وهو ما يخالف هذه
الضمانة السماوية الداعية – بكل صراحة ووضوح – إلى القول السديد
والعادل ،وعدم المداهنة والنفاق حتى تتولى السماء حفظ الذرية في األرض،
وال شك هنا في أن التقوى أمر عام يشمل القول والفعل بدون شك ،ولكنها
جاءت بهذا التخصيص بعد تعميم زيادة في التوضيح ،وتثبيتًا لكل صاحب
ذرية حتى ال تخيفه كلمة الحق على مستقبل ذريته كما يروج شياطين اإلنس،
ويوحي بذلك شياطين الجن ،بل أن كلم َة الحق هذه هى الضمانة السماوية
لحفظه مع ذريته ،وما سوى ذلك إنما هو ضياع وخسارة ليس إال.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 240 -
ال
الش َهوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْ ً
ن َّن يَتَّبِعُو َ
علَيْكُمْ وَ ُيرِي ُد الَّذِي َ
َاهلل ُيرِي ُد أَن يَتُوبَ َ
(و ُّ
ق اإلِنسَانُ ضَعِيفاً{.)56()}28
خلِ َ
اهلل أَن يُخَفِفَ عَنكُمْ َو ُ
عظِيماً{ُ }27يرِي ُد ُّ
َ
تقف الجماعة المنقذة واألمة الهادية دائمًا بين إرادتين مستمرتين تعمالن دون
توقف ،بين إرادة السماء ،ومنهجها من جهة ،وبين إرادة األرض وشهواتها
ن واح ٍد بين إرادتين
من جهة أخرى .إنها المعركة المستمرة والمستعرة في آ ٍ
ووجهتين .نعم إنها الحقيقة التي يجب على كل فرد من أفراد الجماعة المنقذة
واألمة الهادية استيعابها حتى ال تسقطه شهوات األرض السفلى عن إرادة
السماء العليا في لحظات الغفلة والتيه .وحتى نعيش إرادة السماء وتوبتها
بروعتها وجمالها ننتقل إلى اآليتين سريعًا ،فقوله "واهلل يريد أن يتوب عليكم"
هذه الجملة تحمل في طياتها الكثير من الدالالت ،ومنها :أن اآلية معطوفة
على ما قبلها بالواو مما يعني أن األحداث ،كل األحداث ،التي تجري في عالم
الحياة ودنيا األحياء يريد اهلل بها ومن خاللها أن يعيد األرض الشاردة بناسها
وأهلها إليه .ومما ال شك فيه هنا فإن األرض بشهواتها وناسها أخذت من
الجماعة المنقذة واألمة الهادية الكثير والكثير ،فكانت األحداث المتتابعة التي
تصيب الجماعة هنا وهناك ليست أحداثًا عبثية ،كال بل يريد اهلل منها للجماعة
أن تعود إليه كي تقود األرض ،كل األرض ،نحو السماء ،ال لتعيش لألرض،
ولألرض وحدها ،تارك ًة منهج اهلل بعيدًا عنها ،والجميل هنا في اآلية هو مجئ
ال عن اسم اإلشارة "هو" ،وذلك للتشويق ،وإدخال
االسم الظاهر "اهلل" بد ً
الطمأنينة في النفوس كي ترجع إليه وتعود دون تأخير كونه سبحانه وتعالى
يريد وينادي باسمه وذاته جلت قدرته ،وتقدست أسماؤه .كما أن مجئ لفظ
ال "وربكم يريد أن يتوب
اإلله هنا وليس لفظ الرب كأن يكون السياق مث ً
عليكم" لإليحاء بأن التوبة حاصلة من قبل السماء ما بقيت الجماعة المنقذة
واألمة الهادية هلل عابدة كون لفظ اإلله هنا هو الذي تؤلهه القلوب وتعبده،
وهو معنى نفيس ودقيق ينبغي تأمله والوقوف عنده .إنها الحقيقة التي يجب
على كل فرد أن يستشعرها ،ويتحرك من فوره نحو ربه كي يتوب عليه ،وإال
فال توبة وال تخفيف كما سيأتي معنا من خالل سياق اآليات الحقًا .ومما ال
شك فيه فإن هذه اإلرادة اإللهية هى اإلرادة الشرعية كون اهلل يريد لعباده،
كل عباده ،أن يقبلوا نحوه كي يتوب عليهم .ويزداد جمال اآلية من خالل
التعبير بصيغة المضارع الدال على التجدد واالستمرار "يريد" لإليحاء بأن
باب السماء مفتوح للتوبة على الدوام دون تحديد وقت أو زمن ،وهو معنى
نفيس ودقيق أيضًا .كما أن التعبير بميم الجمع في قوله "عليكم" يوحي بأنه
ال قداسة ألحد ،وال عصمة على اإلطالق ،بل الجميع معرض للوقوع في
الخطأ والذنب كون الضعف مالزمًا لهذا المخلوق اآلدمي كما سيأتي معنا
الحقًا أيضًا .وبعد هذه المقدمة الواضحة معنى ،والصادقة وجهة ،والحقيقة
دينًا وشرعًا في بداية هذه اآلية تأتي الجملة الثانية في اآلية نفسها "ويريد
ال عظيمًا" ،حيث توحي هذه الجملة
الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا مي ً
بإيحاءات كثيرة ،ومنها :أن الخالف بين قيم السماء النظيفة وقيم األرض النتنة
هو خالف دائم ومستمر كون التعبير بالفعل المضارع كان هناك كما هو هنا،
كما أن قوله "ويريد الذين يتبعون الشهوات" يشير إلى معنى في غاية الدقة
وهو أن أتباع الشهوات ،وعبادها ،ليسوا عشوائيين ،بل هم منظمون ومرتبون
ومعدون لهذه المهمة كون التعبير عنهم بواو الجمع يوحي بتوحدهم ووحدتهم
ن واحد صباح
لهذه المهمة .إنها مهمة اإلضالل واإلغواء مع اإلغراء في آ ٍ
مساء ألفراد الجماعة المنقذة واألمة الهادية بكل الطرق والوسائل دون توقف.
نعم إنها الحقيقة التي يجب أن يفهمها صفوة األرض ،وحملة قيم السماء وهم
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 242 -
يتحركون هنا وهناك .والعجيب هنا ونحن نعيش في ظالل هذه اآلية أن من
أسقطتهم شهوة األرض ،وطينها ،ومتاعها بعيدًا بعيدًا عن قيم السماء،
ونقاءها ،ونعيمها ال يكتفون بسقوطهم وحدهم ،بل يكوّنون حلفًا لالستهداف
واالستقطاب .إنها الحقيقة األخرى التي يجب أن تفهمها الجماعة المنقذة
واألمة الهادية بكل تفصيالتها ومكوناتها وأفرادها ،وهى حقيقة استهدافها من
قبل اآلخر بكل الطرق والوسائل ،وبشكل مستمر ودائم استهدافًا لقيمها وقمتها
ورجالها ورجولتها حتى يتساوى السقوط في العفن .ويتواصل الجمال القرآني
في التوصيف والتعريف بعبَّاد الشهوات فاضحًا مآربهم ،وذلك من خالل قوله
ال عظيمًا" ،حيث تكشف هذه الكلمات السماوية حقائق كثيرة،
"أن تميلوا مي ً
ال
ومنها :أن كلمة "تميلوا" ،توحي باستهداف عباد الشهوات لكل الفئات رجا ً
ونساءً ،وقادة وأتباعًا دون تمييز أو استثناء ألحد ،وهو ما يستدعي التحصين
المستمر ،والتوعية الدائمة بخطورة ذلك العبث ،وأهداف دعاة ذاك الخبث،
وال شك في أن السقوط في وحل الشهوات سيكون نصيبًا مؤكدًا لمن لم يترب
ال في ظل األوضاع المتعبة ،واألحداث المتتابعة.
دينيَّا ،ولمن لم يحمل عق ً
وقبل أن ننتقل للكلمة األخرى في اآلية يجدر بنا هنا أن نشير إلى السر البالغي
ال "ويريد الذين يتبعون
في قوله "تميلوا" وليس تكفروا كأن يكون السياق مث ً
الشهوات أن تكفروا" ،مع أن الميل هو االنحراف عن الحق ،والتوجه صوب
الباطل بدون شك ،ومن يبعدك عن الفضائل هو في الحقيقة يسقطك في الرذائل
شئت أم أبيت .إنها بالغة القرآن ،ودقته وهو يعبر عن تزوير عباد الشهوات
وهم يرتدون ثياب الوعظ أحيانًا ،وثياب التقدم ومواكبة العصر أحيانًا أخرى
حتى يتم اإلسقاط واالنحراف للحق وحملته بطريقة الميل المتدرج الذي
يوصل صاحبه إلى القاع حتى ال يشعر بسقوطه إال بعد حين .وجاء التأكيد
في قوله "تميلوا ميالً" مع التنوين لكشف حرصهم المستمر على اإلسقاط
- 243 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
الجماعي للجماعة واألمة إسقاطًا ال يرجى بعده قيام ،حيث أن وصف الميل
بقوله "عظيمًا" في نهاية اآلية هنا يوحي بهذا المعنى .ومما ال شك فيه فإن
الجماعة هنا بكل أفرادها ورجاالتها تحتاج لالنتباه والحذر من الخداع اللفظي
الذي يقود إلى السقوط األخالقي ،واالنحراف العقدي تحت مسميات عصرية
دون شعور ،فكما كان التعبير عن الميل يراد من خالله السقوط الذي ال حدود
له هنا ،فسيبقى هذا الميل هو اللغة المعبرة لإلسقاط واالحتواء بألفاظ عصرية
ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب ،وهو ما يدعو مرة أخرى للحيطة والحذر
من قبل الكل دون استثناء ،ثم تأتي اآلية األخرى ملخصة لكل ما سبق
وبطريقة جميلة كعادة القرآن دائمًا بجماله ،وذلك من خالل قوله "يريد اهلل أن
يخفف عنكم وخلق اإلنسان ضعيفًا" إنها رحمات السماء ،ولطفها وهى تتدارك
هذا المؤمن كي تنتشله مرة أخرى من وسط الركام ،ركام الشهوات ،وركام
ن واحدٍ ،وذلك حتى ال تقوده الشهوات إلى حيث تريد األرض،
األتباع في آ ٍ
بل حيث تريد السماء .إنها إرادة اهلل الخالصة في البداية والنهاية ،بينما إرادة
األرض الخاسرة بقيت في الوسط محاصرة بين إرادتين إلهيتين حتى تبقى
إرادة األرض هى اإلرادة المهزومة حاالً ،والضعيفة مكانًا وزمانًا ،بل
وجاثمة ال حراك فيها وال حياة إال ما أشربت من هوى .وال شك في أن هذه
اآلية كانت وستبقى ما بقيت الحياة هى البلسم الشافى لجراح الجماعة المنقذة
واألمة الهادية وهى تقابل جراحات األعداء ومكر األصدقاء ،كل ذلك "يريد
اهلل أن يخفف عنكم" ،فال يأس مهما عظم الحدث ،وال استسالم مهما تعاظم
الخبث ،فكالهما سواء الحدث أو الخبث إلى زوال كونهما زبدًا ،وال شئ أكثر
من الزبد ،ثم تُختم اآلية بتقرير ختامي عن حقيقة هذا اإلنسان من خالل قوله
"وخلق اإلنسان ضعيفًا" ،إنه الضعف المالزم لإلنسان ،كل إنسان ،فيغفل
أحيانًا ،وتأخذه شهوات األرض أحيانًا أخرى ،وهو ما يستدعي منه اللجوء
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 244 -
إلى السماء ،واالتصال بها دون انقطاع البتة ليقوى أمام شهوات األرض،
وذلك حتى ال تسقطه هذه األرض بشهواتها وناسها بسبب ضعفه المالزم له
كما سبق..
- 245 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ك
ك وَمَا أُن ِزلَ مِن قَبْلِ َ
ن أ ََّنهُمْ آمَنُواْ بِمَا أُن ِزلَ ِإلَيْ َ
ن َيزْعُمُو َ
( َألَمْ َت َر ِإلَى الَّذِي َ
ن أَن يَ َتحَاكَمُواْ إِلَى الطَّاغُوتِ َوقَدْ أُ ِمرُواْ أَن يَكْ ُفرُواْ بِ ِه وَ ُيرِي ُد الشَّيْطَانُ
ُيرِيدُو َ
أَن يُضَِّلهُمْ ضَالَ ًال بَعِيداً{.)57()}60
االحتكام إلى منهج السماء والكفران بطواغيت األرض هو التعبير الحقيقي
عن صدق اإليمان ،وتوحيد الديان .إنه الصدق الذي يجعل العبد يتجه نحو
شريعة اهلل ودينه في كل صغيرة وكبيرة ،وإال كان الضالل واتباع الشيطان
وإن ادعى العبد الهدى واتباع القرآن .ومما ال شك فيه هنا فإن قضية الحاكمية
ليست قضية ثانوية في حياة الجماعة المنقذة واألمة الهادية ،بل هى قضية
عقدية بامتياز كون اإلله في السماء سبحانه – كما هو معلوم – له الخلق
واألمر ،فال ينبغي أبدًا أن يكون اهلل هو الخالق بينما اآلمر واألمر لغيره .إنها
الحقيقة التي ينبغي فهمها والدعوة إليها ،وعبادة اهلل على أساسها ،وإال فال
عبادة وال دعوة ،بل هو ضالل شيطاني ،وملق تعبدي كما صرحت بذلك
اآلية بكل وضوح .وحتى نفهم القضية أكثر فأكثر ننتقل مباشرة كي نعيش في
رحاب اآلية الكريمة وهى تنقلنا بين ثناياها بكل سالسة وهدوء موضحة
السلوك النفاقي العفن الموغل في العفن ،والغارق حتى النخاع في عبادة
الوثن ،حيث يقول اهلل "ألم تر إلى الذين يزعمون" ،فهذه الجملة تحمل في
طياتها الكثير من الدالالت والدقائق ،ومنها :أن الزعم يقصد به مطلق الكالم
– كقول أم هاني .لرسول اهلل – صلى اهلل عليه وسلم – يارسول اهلل زعم علي
ت يا أم هانئ.
أنه قاتل رجل قد أجرته ،فقال نبي اهلل لها قد أجرنا من أجر ِ
ومما ال شك فيه – كما يقول أهل اللغة – إن الزعم يطلق كثيرًا على الكالم
المشوب بالكذب ،وإن أريد به أحيانًا مطلق الكالم كما أسلفنا ،والحقيقة هنا أن
الزعم الوارد هنا هو زعم باطل في البداية ،ومفضوح تمامًا في النهاية كون
السماء فضحت هذا االدعاء الكاذب ،والتدين السائب .إنه الفريق النفاقي الذي
أراد أن يعبث بمنهج السماء ،وعقيدتها ،ورسولها في ذلك الزمن البعيد ظنًّا
منه لسفهه وفساده أن سياسته وعبثه سيمران دون حساب ،وهو الذي ما كان
ولن يكون ،والعجيب هنا هو افتتاح اآلية بهذا التعجب االستفهامي "ألم تر"،
إنه تعجب السماء من هذا السفه ،ومن هؤالء السفهاء .إنه السفه الذي يدعي
عبودية المعبود في السماء ،ثم يهرول مسرعًا لالحتكام لطواغيت األرض،
وقوانينها ،وفسادها تاركًا خلفه – وبكل حماقة وسفه – منهج السماء ورسالتها.
ويزداد الجمال هنا من خالل كلمة "يزعمون" ،حيث توحي هذه الكلمة
إيحاءات كثيرة ،ومنها :أن اهلل ذكر سلوكهم ومنطقهم وفعلهم دون ذكر ذواتهم
ال "ألم تر إلى المنافقين" ،وذلك كون الزعم الباطل،
كأن يكون السياق مث ً
واالدعاء الكاذب هو عنوانهم ،والدليل عليهم .إنه السقوط التعبدي المشوب
بكذب األرض ،وضاللها عندما يتدثر به فريق سقط من عين اهلل هناك ،فعبث
به طين األرض هنا بعد أن تخلت عن هذا الفريق الكاذب السماء .كما أن
التعبير بواو الجماعة يوحي بقدرة النفاق الفائقة على تسويق زعمه وكذبه
بطريقة جماعية منظمة ،ومرتبة موحدة ،وهو ما يستدعي االنتباه والحذر من
قبل الجماعة المنقذة واألمة الهادية من مكر هذا الفريق النفاقي المتلبس .كما
أن التعبير بصيغة المضارع "يزعمون" يوحي بأن الصف النفاقي سيتكرر
زعمه ،وكذبه ،وطاغوته تكررًا مستمرًا ما بقيت الحياة ،ثم ينقلنا السياق
القرآني لتوضيح مادة الزعم ومحتواه ،وذلك من خالل قوله "أنهم آمنوا بما
أنزل إليك وما أنزل من قبلك" ،حيث توحي هذه الكلمات بإيحاءات كثيرة،
ومنها :أن التلبس بالدين والتدين ظاهرًا فقط دون اإليمان به باطنًا سلوك نفاقي
ن واحدٍ .إنه قديم كونه ظهر مباشرة في العهد المدني عندما
قديم وجديد في آ ٍ
- 247 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
أصبح للمسلمين دولة وقوة ،بينما لم يكن موجودًا في العهد المكي كون الكفر
حينها كان هو صاحب الدولة والقوة ،وهو جديد هنا كون الطاغوت برجاله
وأدواته ومنطقه ومناطقة يعيش ويحيا ويدعي ويهوى كما فعل باألمس .إنه
النفاق حين يجعل اإليمان والدين لباسه كي يستر تمرده ،ويُخفي مكره ،ولكنه
سرعان ما يُفتضح أمره ،ويُهتك ستره عندما تمر األحداث .كما أن الجملة
توحي بقدرة المنافقين على التوسع في الفهم والعلم من أجل التلبيس والتشويش
ليس إال .إنها الحقيقة اإلبليسية الخبيثة التي ظهرت من خالل ادعائهم اإليمان
بما أنزل على محمد وهو القرآن ،وما أنزل من قبله من كتب حيث يوحي هذا
العلم بقدرة النفاق على التوسع في الفهم والعلم بغية التلبيس والتشويش كما
أسلفنا .إنه التشويش الذي يقوده النفاق متسلحًا بثقافة واسعة ،واطالع أوسع
كي يجيد المكر والتشويش .ثم يتواصل الجمال القرآني في فضح هذا الفريق
المنتن رائحةً ،والخبيث طوية ،والكاذب دينًا ،وذلك من خالل قوله تعالى
عنهم "يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به" ،حيث
تحدثنا كتب التفسير عن أن المنافقين بعد دعواهم السابقة باإليمان جاءت
المواقف العملية إلثبات ذلك اإليمان وهى المشاكل الحياتية والمجتمعية
والقضايا التعبدية .نعم جاءت كل تلك المفردات فتحرك هذا الفريق كى يتحاكم
إلى كعب بن األشرف اليهودي ليحكم بينهم ،وعندما دعوا إلى اهلل ورسوله
ليتولى الحكم رفضوا وذهبوا إلى الطاغوت اليهودي حينها .إنها األنفس
الخبيثة التي توالى الخبث ولو كان يهوديًّا ،وتأبى الطيب ولو كان نبيًّا .ومما
ال شك فيه فإن هذه الجملة القرآنية تحوي الكثير من الدالالت ،ومنها :أن
الفعلين المضارعين هنا "يريدون "و "يتحاكموا" يوحيان بالسلوك المستمر
لهذا الفريق .إنها الحركة النفاقية المهرولة على الدوام نحو الطاغوت أيًّا كان
هذا الطاغوت سواء كان حاكمًا في أمة مغلوبة أو قائدًا لجماعة منكوبة .إنها
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 248 -
حقيقة النفاق تسوق أهلها نحو الطغاة سوقًا حتى ينكشف أمرهم ،ويهتك بكل
وضوح سترهم .كما أن الفعل "يريدون" يوحي بالحب الخفي للطاغوت في
بواطن النفاق ،وسلوك المنافقين .إنه الحب األرعن واألعمى يقود الذوات
العفنة والعقول الغبية لطواغيت األرض كي تستعبد وتشقى وتذل وتخزى.
كما أن التعبير بواو الجماعة يوحي كذلك بجماعة نفاقية مرتبة في خطواتها،
ومحددة ألهدافها ومآالت توجهها ،وهو ما يستدعي أمة مسلمة تعي وتفهم
وتحذر وتعلم وتخطط للمغنم والمغرم ،وإال كان هذا السيل الجارف من النفاق
هو السيد والسائد والحاكم والقائد .ثم ينقلنا القرآن من خالل روعة التعبير
وجمال التصوير إلى قوله "أن يتحاكموا إلى الطاغوت" ،إنه الطاغوت الذي
جاء من الفعل طغى أي تجاوز الحد فكل من يتجاوز حده مع اهلل وشرعه فهو
طاغوت من الطواغيت سواء كان حاكمًا ألمة أو قائدًا لجماعة .إنه الطاغوت
الذي يهوى العبث ،ويستهوي الخبث سواء طاغوت األمس بأحجاره
وأشخاصه ،أو طاغوت اليوم بأفكاره وذواته .نعم إنه الطاغوت الذي يقف
دائمًا أمام منهج السماء ،وشريعتها ،ونورها بكل أدواته الخبيثة ،وإمكانياته
الضخمة كي يعزل السماء عن األرض ليفسد ناسها وأهلها ،وال شك في أن
القضية هنا ال تقبل القسمة وال التجزئة ،فإما عبادة اهلل واالحتكام لشرعه
ومنهجه ،وإما الطاغوت ،والطاغوت فقط ،الذي أمرت األرض بالكفران به،
وال شيء غير هذا .إنها الحقيقة التي عرفها جيل األمس وهو يحارب طواغيت
األرض بكل أشكالها ومسمياتها ،والتي ينبغي أن يعرفها جيل اليوم كذلك
ليواصل السير ،ويتابع المسير ،ثم يأتي ختام اآلية ملخصًا لحقيقة الطاغوت،
ال بعيدًا" ،إنه
وعباده ،وأنصاره قائالً" :ويريد الشيطان أن يضلهم ضال ً
التوافق بين اإلرادتين ،إرادة آدميَّة منكوسة ظهرت في البداية ،وإرادة
شيطانية ملعونة ظهرت هنا في النهاية مكونة إرادة موحدة في الخبث
- 249 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
والخبائث اسمها الشيطان ،والشيطان فقط .نعم فمن يريد الطاغوت ويحبه،
ويتماهى مع الطاغوت الذي تجاوز حده في الظلم والضالل هو في حقيقة
أمره منزوع اإلرادة اآلدمية الطاهرة ،ومتلبس بإرادة شيطانية ملعونة .ومما
ال شك فيه هنا فإن ُمحِبي الطواغيت ال يحملون إيمانًا صادقًا ،وال يتبعون
محمدًا نبيًّا ،وال يعبدون اهلل ربًّا في هذا التحاكم ،بل الشيطان ،والشيطان
وحده ،هو من يقودهم ،ويتصرف بأمرهم .إنه الشيطان بإرادته المستمرة،
وحركته الدائمة يريد ألنصاره الضالل واإلضالل بعد أن سلب إرادتهم،
وعاش في ذواتهم ،وتمكن من باطنهم وبواطنهم ،ويأتي التعبير بليغًا هنا من
خالل قوله "ويريد الشيطان" ،حيث يشمل الشيطان هنا شيطان الجن أوالً،
وشيطان اإلنس ثانيًا :كون الطاغوت اآلدمي أصبح شيطانًا في صورة إنسان.
إنه التعاون الثنائي بين شيطانين يملكان من األعوان الكثير للضالل
واإلضالل في وسط الحياة ودنيا األحياء كي يبقى الطاغوت ،ويستمر
الطغيان ،وقوله "أن يضلهم" ،أي يبعدهم ويخرجهم من الطريق المستقيم
الواضح إلى طريق مظلم ملت ٍو فاضح كي يضيعوا ويتيهوا .إنه الضياع والتيه
الذي عُرفت بدايته ،ولكن ال يُعلم كيف ستصبح نهايته ،بل هو الضالل البعيد،
ال ومكانًا وزمانًا تاركة اآلية هذا البعد المكاني
ال ومآ ً
والبعيد بالفعل ،حا ً
والزماني للضالل واإلضالل الشيطاني بعيدًا بعيدًا هكذا دون تحديد.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 250 -
ت أَ ِو ان ِفرُواْ جَمِيعاً{.)58()}71
ن آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَان ِفرُواْ ثُبَا ٍ
(يَا أ َُّيهَا الَّذِي َ
كلما ارتقت الجماعة المنقذة واألمة الهادية في سلم الهداية والهدى كلما عظم
استهدافها ،ومن ثم وجب عليها أخذ الحيطة والحذر كي تحافظ على رقيها
التعبدي ،وإرثها الوجودي .إنها الحقيقة التي يجب استيعابها حتى ال تؤخذ
الجماعة على حين غرة فيسقط رقيها ،ويذهب إرثها ،والعجيب هنا هو مجئ
هذه اآلية عقب الحديث عن المكانة والمكان اللذين ينتظران من يطيع اهلل
ورسوله ،وذلك في إشارة واضحة مفادها أن االرتقاء في سلم الهداية واالتباع
كما هو فضل عظيم من اهلل يؤتيه من يشاء من خلقه إال أن هذا الفضل يقابله
مكرٌ بشري عظيم أيضاً ،وذلك كي تتم سنة المدافعة واالبتالء سواء بسواء،
وهو ما يستدعي الحيطة والحذر من خالل النفركي تتم مدافعة القدر بالقدر
كما سيتضح معنا الحقًا .كما أن هنا لفتة أخرى يمكن فهمها من خالل عالقة
هذه اآلية بما قبلها وهى أن المكانة والمكان المنتظرَين هناك للمؤمنين يتطلبان
النفر والجهاد والعمل واالستعداد هنا ،وإال فال مكانة وال مكان ،وحتى نعيش
روعة اآلية بجمالها وجاللها ننتقل إلى رحابها ،بل ونغوص في أعماقها حيث
الدرر الحسان ،واللطائف العظام ،فقوله "يا أيهاالذين آمنوا" هذا النداء
الخاص الموجه من قبل اهلل في السماء لطائفة معينة من الخلق يوحي بدالالت
كثيرة ،ومنها :أن أهل اإليمان هم دون غيرهم من يقع على عاتقهم تنفيذ
األوامر ،واجتناب النواهي ،وعدم تعدي الحدود .إنها القلوب التي صدَّقت
بربها ،وآمنت بخالقها هى وحدها من يوكل إليها أمر السماء كي تحيى به
موات األرض الذي استفحل حاالً ،وتمدد مكانًا ،وطال أمده زمانًا ،والذي
يجب أن يتوقف وينحصر حتى تحيا األرض ،كل األرض ،بوحي السماء.
ومما ال شك فيه هنا فإن اإليمان إذا ذكر منفردًا دخل فيه اإلسالم كما هو
الحال هنا ،بينما إذا ذكر االثنان معًا في موقع ما دل اإلسالم حينها على
األعمال الظاهرة ،بينما يقصد باإليمان عندئ ٍذ األعمال الباطنة كما هو معلوم
عند علماء األصول ،والجميل هنا في بداية هذه اآلية هو تصدرها بياء النداء،
والمنادى ،وهاء التنبيه .إنه الحشد الهائل ،والهائل جدًّا ،لكل المفردات التي
تحقق الغرض ،وتأخذ بيد السامع وعقله وقلبه ليستوعب الخطاب أيما
استيعاب كون األمر مهمًّا ،ومهمًّا بالفعل .إنها الدقة اللغوية الموحية بضرورة
انتقاء األلفاظ والكلمات والحروف والنداءات ،وذلك لتحقيق األهداف وبلوغ
الغايات ،فال عشوائية ،وال ارتجالية ،بل ترتيب وتنظيم .ومما ال شك فيه هنا
فإن حشد كل هذه المفردات للمؤمنين بالذات يوحي بأنهم هم المعنيون -كما
أسلفنا – بتنفيذ أوامر السماء لتحيا األرض ،كل األرض ،حياة ربانية بعيدة
عن طين األرض ،وعبوديتها ،وانحطاطها .إنه إيحاء جميل يشير إلى األهمية
القصوى لتربية الجماعة المنقذة لذواتها وأفرادها تربية إيمانية واقعية حتى
يتسنى لها بعد ذلك تنفيذ األوامر ،واجتناب النواهي ،وعدم تعدى الحدود ،وإال
كانت مخالفة األوامر ،واتباع الرغبات ،والسقوط في وحل الشهوات في إطار
الجماعة هو السيد والسائد ،وهو ما ال تريده السماء وال ترضاه .إنها الضرورة
الحتمية التي يجب أن تنطلق من خاللها الجماعة إلصالح الذوات من الداخل،
ال حتى يكون الصفاء الروحي والوصف الرباني هو المعلم
ومن الداخل أو ً
والعَلَم ،وال شك في أنها اللفتة التي يجب أن تكون حاضر ًة في أدبيات الجماعة
واألمة حتى تنطلق صادقة في البداية كي يُحمد فعلها في النهاية ،وإال كانت
البداية مؤلمة والنهاية محزنة ،وهنا لفتة بليغة يتم فهمها من خالل سياق اآلية
وهى أن خطاب القلب ،والحديث الموجه للقلب كفيل بدفع الذوات للعمل ،وإال
كانت الذات حجرًا يصعب تحريكه ،وكائنًا بشريًّا طينيًّا يستحيل فهمه .إنه
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 252 -
الخطاب الروحي الذي يجب أن يخاطب الروح ،ويأخذ بيدها كي تصعد إلى
األعلى ،وإلى األعلى دائمًا ،كون مصدرها هو العلو مكانة ومكانًا .إنها
الحقيقة المستوحاة من خطاب السماء كي تتعلم األرض كيف تخاطب إذا ما
أرادت بالفعل الخطاب ،كما أن النداء مع التنبيه لألمر المطلوب تنفيذه جاء
بصيغة الجماعة ،حيث جئ بواو الجماعة "الذين آمنوا" لإليحاء بأن الحركة
الجماعية هى التي ستوقف االستهداف الجماعي للجماعة المنقذة واألمة
ال بالفعل كلما اجتمعت كلمةً ،وتوحدت
الهادية كون االستهداف سيكون حاص ً
صفًّا ،وانتظمت عبادة وشرعًا .ويزداد الجمال ،ويتضح المقال أكثر فأكثر من
خالل قوله "خذوا حذركم" .إنها االحتياطات األمنية المطلوبة التي يجب أن
تأخذ بها الجماعة واألمة حتى ال تسقطها الغفلة ،ويقتل حياتها وحياءها السفلة،
وجاء اللفظ "خذوا" بهذا التعبير البليغ ،وليس "اأخذوا" ،حيث حذفت
الهمزتان هنا للتخفيف من ناحية ،ولإلسراع في أخذ الحيطة والحذر من ناحية
أخرى كون اآلخر متربصًا بإيمانك ،ومراقبًا لجماعتك ،ومنتظرًا فقط لثغرة
من ثغراتك كي ينفث سمه ،وينشر فكره ،ويحقق هدفه ومراده .وبما أن اآلخر
ال
والمتأخر مكانًا ومكانة يريد دائمًا أن يكون المقدم والمتقدم دون أن يكون أه ً
لذلك ،لذا كان األمر بوجوب األخذ بالحيطة والحذر كي تبقى الجماعة في
المقدمة مكانة ومكانًا كونها هي دون غيرها التي تملك أهلية المكانة ،وأحقية
المكان .ومما ال شك فيه فإن لمسة دقيقة تفهم هنا من خالل سياق اآلية وهى
أن اإليمان المجرد من الحيطة والحذر والعمل هو إيمان مزيف ال قيمة له في
السماء ،وال يدفع عن صاحبه مكروهًا في األرض كونه إيمانًا مخدًرا فاقدًا
ن واحدٍ .ومما ال شك فيه فإن هذا النوع من اإليمان هو
للفعل والفاعلية في آ ٍ
الذي تريده األرض عندما تنفصل عن السماء ،وتعاديها ،وتغفل عنها في
لحظات التيه البشري ،والتخبط الشيطاني .نعم إنه اإليمان المخدر لفظًا،
- 253 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ال مكانًا وزمانًا .والجميل هنا هو األمر بالنفر كون األنفس المؤمنة
دينيًّا ،وفاش ً
تحتاج إلى من يوقظها فتنفر ،ويؤهلها فتعبر ،وإال كان النفر لآلخر على
حسابها بدون شك ،ثم جاء تفصيل النفر هنا ثبات جمع "ثبة" بضم الثاء وفتح
الباء بمعنى جماعات صغيرة .إنه التقدير المتروك لمؤمني األرض كي
يحددوا هم كيف ينفروا جماعات جماعات مجزأة ،أو ينفروا جميعًا بشكل
مطلق .إنها الحقيقة المتروكة للجماعة كي تحدد هى كيف تنفر مجاهدة مجتهدة
دون توقف أو تعثر .نعم إنه منهج السماء الرافض للغفلة ،والداعي على الدوام
لالستعداد والمنازلة حتى إذا افتقدت الجماعة لهذه المعاني سقطت حينها أمةً،
وتعثرت رقيًّا ،وانحدرت مكانًا ،وبقيت غارقة في السفه زمانًا.
- 255 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
طبعًا ،والمتواجد مكانًا ،والمعمر زمانًا ،والسيء أخالقًا أيضًا ،والعجيب هنا
هو قوله "وإن منكم" وليس "وإن فيكم" كون التعبير األول يوحي بأن هذا
ال حتى
الصنف يملك القدرة الفائقة على التخفي في وسط الجماعة تخفيًا مذه ً
ال ومظهرًا ومنطقًا ،حيث أن التعبير بمنكم وليس بفيكم يحمل
صار منكم شك ً
كل هذه المعاني ،ويجمع كل تلك المفردات ،وهو ما يستدعي الحيطة والحذر
الدائمين من هذا الفريق .كما أن المؤكدات المتكررة هنا والمتمثلة بإن ،وقوله
"منكم" ،ثم الم التأكيد في قوله "ليبطئن" ،ثم نون التوكيد الثقيلة ،أى الحشد
الهائل ،والهائل جدًّا من المؤكدات يوحي بحرص هذا الفريق على التخفي
المشين ،والتستر المهين من جهة ،مع بقاء التخذيل والتثبيط من الداخل ،ومن
الداخل بالفعل ،قائمًا من جهة أخرى ،وهو ما يستدعي الحيطة والحذر مرة
أخرى .إنها مؤكدات السماء الواضحة لفظًا ،والثابتة دينًا ،وذلك حتى ال تركن
الجماعة المنقذة واألمة الهادية لكل أحد ،بل تربي وتُعلِّم وتفهم تمام الفهم أين
تضع لبناتها ؟ ،وكيف تحفظ صفها وصفوتها من هذا االختراق .وجاء التعبير
هنا بقوله "ليبطئن" الذي يعني التثبيط والتخذيل والتعويق .إنه المعنى الواسع
ن واحد ،وذلك في لحظات النفير
الذي يشمل تثبيط النفس ،وتثبيط الغير في آ ٍ
استعدادًا من قبل الجماعة لحركة العير .إنها الحركة التي تفضح هذا الفريق
النفاقي فيثبط ويعوِّق ويخوِّف ويفرِّق دون مراعاة لقيم أو دين أو وازع من
ال عن
إنسانية أو ضمير .نعم إنه الفريق الذي افتقد إلنسانيته كإنسان ،فض ً
دينه ،وتشبثه بمسمى اإليمان ليبقى خاويًا وخاليًا من كل قيمة أو دين ،ثم ينقلنا
القرآن بطريقته الرائعة دائمًا في التعبير والتصوير من خالل قوله "فإن
أصابتكم مصيبة قال قد أنعم اهلل علي إذ لم أكن معهم شهيدً" ،حيث توحي هذه
األلفاظ بدالالت كثيرة ،ومنها :حتمية نزول المصائب على الجماعة المنقذة
واألمة الهادية بهدف االبتالء واالصطفاء ليس إال .ومما ال شك فيه هنا فإن
- 257 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
التعبير بإن المعبرة عن ندرة المصائب يعني أنها نازلة دون شك وإن ندرت،
وذلك للهدف اآلنف الذكر كون إن الساكنة في لغة العرب تدل على ندرة
حدوث الشيء عكس إذًا تمامًا كما هو معلوم عند أهل اللغة ،وأرباب البالغة،
وهو معنى نفيس ينبغي تأمله والوقوف عنده .إنها ندرة المصائب النازلة على
الجماعة المنقذة كون غالب ما تبتلى به الجماعة من متاعب وآالم ليست
مصائب أبدًا ،بل غالبها والسواد األعظم منها مطهرات للجماعة ومؤهالت،
وإن بدا للجماعة واألمة عكس ذلك .ومما ال شك فيه هنا فإن الجملة القرآنية
اآلنفة الذكر توحي بسقوط النفاق والمنافقين في وحل المعصية ومستنقع
الرذيلة سقوطًا مزرياً ،وذلك من خالل قوله "فإن أصابتكم مصيبة" ،حيث
جيء بمصيبة هنا منكرة لإليحاء بسقوط هذا الفريق الدنيء كلما حصلت
للجماعة مصيبة ،أي مصيبة ،دون تحديد لحجمها أو شكلها .إنه الفريق
المنتظر للمصائب والنكسات ،والمتربص الفخور لخسته باألحداث والسيئات
كي يعلنها ،ويتعامل معها ،ويخوض فيها بعد أن يكون قد صنعها أو شارك
الخصم فيها كما أوحت اآلية في البداية ،وذلك من خالل تثبيطهم وتبطيئهم،
ثم يتواصل الجمال القرآني في كشف هذه النماذج الساقطة دينًا ،والسافلة خلقًا
من خالل قوله في نفس اآلية "قال قد أنعم اهلل علي ،"...حيث توحي هذه
األلفاظ بتستر هذا الفريق الخبيث بالدين بغية اإلضالل واإلخالل .إنه
اإلضالل لضعاف اإليمان ،ومن لم تكتمل تربيتهم بعد من جهة ،واإلخالل
بتماسك الصف من جهة أخرى بهذه اللغة ،وهذا اللسان ،والعجيب هنا قوله
"علي" حيث يوحي اإلفراد هنا بذاتية النفاق النتنة وهى تختبئ لوحدها دون
اعتبار لغيرها كونها متفلتة ذاتًا ،وساقطة خلقًا ،وباطلة دينًا .ومما ال شك فيه
هنا فإن للمصائب والنوائب التي تصاب بها الجماعة واألمة فوائد جمة ومنها
انكشاف عورة المنافقين ،وسقوط أقنعة المنتفعين ،وهو مشاهد ومعلوم ليبقى
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 258 -
الصف نقيًّا ،والنقاء ظاهرًا ال خواء فيه وال خفاء .إنه الظهور الحقيقي بنظافته
ونظامه يظهر ويتعالى بظهوره دون كبر حتى يُسقط كل خبث ،ويدفن بحقيقته
كل عبث ،ثم تأتي اآلية التالية موضحة حصول النعمة للجماعة المنقذة واألمة
الهادية هنا بعد أن عاشت المصيبة هناك ليتكشف النفاق مرة أخرى بأمنياته
الزائفة ،وشعاراته البائرة ،وذلك من خالل قوله "ولئن أصابكم فضل من اهلل
ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزًا عظيمًا"،
حيث توحي هذه اآلية بإيحاءات كثيرة ،ومنها :أن المصائب ال تدوم وال
تستمر على الجماعة المنقذة واألمة الهادية ،بل هى لحظات فقط وتنقشع
سحابتها معلنة عن ربيع يمأل جماله الضراب واآلكام .إنه ربيع القلوب،
ونورها ،عندما يأتي فضل اهلل الذي ال حد له وال عد ،بل هو فضل واسع
يشمل المكان والزمان والذوات واألحوال لينعم البائس ،ويأنس الخائف،
ويشبع الجائع .نعم إنه الربيع بجمال السماء ،وفتحها ،يتجلى بخيراته على
صفوة أهل األرض في لحظات التكريم اإللهي والكرم الرباني ،وهنا كما
أسلفنا وقلنا فيما مضى تنكشف عورة المنافقين ،وتُفضح خبايا المنتفعين مرة
تمن زائف مرده وحده
أخرى وهم يرددون األماني المخادعة داخل الصف في ٍّ
"يا ليتني كنت معهم" هكذا بهذا اللفظ المفضوح "معهم" ،إنه اللفظ الموحي
بقطيعة واضحة بينهم وبين أهل اللفظ .إنها قطيعة في المنهج والنهج والمسلك
والسلوك والحال والمآل تكشفها األحداث دون مواربة ،ثم تختم اآلية ختامًا
يوضح تهافت هذا السفه النفاقي هناك ،وتكرر فعله هنا وهو يتحدث عن الفوز
دون أن تكون له مكانة أو مكان في إحداثه .إنه الفوز الذي يريده النفاق فوزًا
بعيدًا بعيدًا عن الجنة هناك ،بل يراد به فوز المناصب والمراتب ليس إال .نعم
إنه الفوز الدنيوي هنا والمنقطع عن اآلخرة هناك كون النفاق عمى يُعمي أهله
فال يرون سوى الدنيا والدنيا فقط.
- 259 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
خرَ ِة وَمَن يُقَا ِتلْ فِي
ن الْحَيَا َة الدُّنْيَا بِاآل ِ
ن يَشْرُو َ
هلل الَّذِي َ
( َفلْيُقَا ِتلْ فِي سَبِي ِل ا ِ
عظِيماً{.)60()}74
ف ُنؤْتِي ِه َأجْراً َ
سوْ َ
سَبِي ِل اهللِ فَيُقْ َتلْ أَو يَغِْلبْ فَ َ
ال يكون جهاد الجماعة المنقذة واألمة الهادية في سبيل اهلل حقًّا وصدقًا إال إذا
باعت الدنيا ،واشترت اآلخرة .إنها الحقيقة التي حسمها الوحي منذ األيام
األولى من عمر الدولة اإلسالمية الناشئة هناك في مدينة الحبيب محمد –
صلى اهلل عليه وسلم – ،وذلك حتى تتمايز الصفوف ،وتتضح السبل .إنها
الصفوف التي تفرقت في الماضي البعيد ،وجاء الوحي ليوحد سرها وسيرها
كي تتجه كلها نحو السماء مستمدة من هناك العون والغلبة على فساد األرض،
ومكرها ،وعدوانيتها .وحتى نعيش روعة هذه المعاني وجمالها ننتقل مباشرة
إلى اآلية ففيها الروعة والجمال بكل تجلياته ،فقوله "فليقاتل في سبيل اهلل
الذين يشرون الحياة الدنيا باآلخرة" ،ال شك في أن هذه اآلية لها عالقة
واضحة باآلية التي قبلها والتي وجدنا فيها النفاق بكل سيئاته وسوآته يتربص
الدوائر بالجماعة واألمة ،ويعبث باأللفاظ والمعاني عبثًا مقززًا من خالل
التثبيط في البداية ،والتمني الكاذب والمفضوح في النهاية .نعم فحتى يزول
كل هذا العبث النفاقي من الصفوف المجاهدة كانت هذه اآلية تدعو صراحة
إلى التجرد الكامل هلل في البداية ،وطلب رضاه في النهاية ،وقوله "فليقاتل في
سبيل اهلل" دعوة سماوية صريحة لتصحيح الذات البشرية من الداخل من بداية
الطريق .نعم إنه التصحيح للذوات كي تخلص جهادها هلل ،وهلل فقط ،حتى يتم
تحقيق األهداف ،والوصول لعظيم الغايات ،وال شك في أن الم األمر المتصلة
بالفعل المضارع "يقاتل" لإليحاء بأمر اهلل الدائم بالقتال المخلص والخالص
هلل ،كما أن األمر يوحي بداللة مهمة تتضح من خالل السياق مفادها أن األنفس
يبيعون ،كما أن التعبير جاء بواو الجماعة لإليحاء بأن قتال األعداء ال يقوم
به فرد أيًّا كان هذا الفرد إذ البد من جماعة شريطة أن تكون كل هذه الجماعة
مخلصة خالصة كما سبق وأشرنا إليه .إنها الجماعة واألمة التي يقع على
عاتقها تحرير األرض كل األرض من كل سلطان غير سلطان اهلل لتحيا بعد
موت ،وتأمن بعد خوف ،وجاء التعبير هنا بليغًا من خالل قوله "الحياة الدنيا"،
وليست الدنيا فقط ،بل الحياة الدنيا ،حيث يوحي هذا التعبير بوجوب تحرير
المجاهد لقلبه وذاته من كل الدنيا بناسها وأهلها ومتاعها ومتعتها كي يشتري
اآلخرة شرا ًء نقيًّا وصادقًا ال تشوبه شائبة ،وال تفسده غائبة كون الحياة
المنسوبة للدنيا تحمل كل هذه المعاني ،كما أن لفتة جميلة ،بل في غاية الجمال،
هنا تتضح من خالل السياق وهى أن اإلخالص المطالب به المجاهد ال يتحقق
دينًا ،وال يكون واقعًا ما لم يبيع هذا المجاهد الدنيا ،كل الدنيا ،ويخرجها من
قلبه وقالبه بكل رضا ،وهنا حقيقة البد من اإلشارة إليها وهى أن المجاهد
الذي يقاتل منتظرًا الثمن ،ويتربص متى تنتهي المحن ،ويعد األيام والليالي
متى ستأتي المغانم والنعم هو في الحقيقة مجاهد عاطل ،ومقاتل باطل ساقته
الظروف ،وجاءت به الحاجة ،ومن ثم ال يستقيم به الصف ،وال يتحقق به
النصر ،وال ترفع به المبادئ ،بل يكون عائقًا في غالب األحيان ،وحجر عثرة
أمام النصر واالنتصار في قادم األيام .وألن قضية القتال في سبيل اهلل ،وفي
سبيل اهلل فقط ،هى القضية المحورية واألساسية في منهج السماء يالحظ أن
هذا الشرط تكرر ذكره مرة أخرى في نهاية هذه اآلية أيضًا ،بل وتكرر ذكر
القتال المشروط هذا في آيتين عقب هذه اآلية مباشرة ،كل ذلك لإليحاء
هلل منذ البداية حتى يتحقق نصر اهلل في النهاية ،لذا يقول
بوجوب اإلخالص ِ
اهلل في نهاية هذه اآلية "ومن يقاتل في سبيل اهلل فيقتل أو يغلب فسوف نؤتيه
أجرًا عظيمًا" ،ومما ال شك فيه أن هذه النهاية جاءت منسجمة تمامًا مع تلك
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 262 -
البداية ،وتحمل دالالت جمة ،ومنها :اإليحاء بوجوب صدق النية في الجهاد
في البداية والنهاية .إنه اإليحاء الذي يدلل من خالل السياق بصدق البعض
في البداية ،ثم يصابون باليأس واإلحباط في النهاية نتيجة لحدوث أمر ما
داخل الصف ،ولتأخر النصر لحدث ما ،ومن ثم تنقلب النيات ،وتختلف
األمنيات ،لذ كان هذا االشتراط في هذا المكان بالتحديد لهذا األمر حتى ال
يحدث هذا االنقالب المخزي في الذات المجاهدة فتُهزم من داخلها ،ومن ثم
كان هذا االشتراط في البداية والنهاية ليكون المجاهد هو األصدق دينًا،
واألعلى مكانة ،واألصح نية ،واألكثر صبرًا كونه في سبيل اهلل ،وفي سبيل
اهلل فقط ،كما أن التعبير جاء بصيغة المضارع ودون تحديد الذوات أو
تسميتها .إنها رسالة السماء بوجوب اإلخالص الدائم والمستمر هلل في أرض
الرباط دون تحديد لذات أو فرد أو وقت كون اإلخالص واجب الجميع،
ومطلبًا سماويًّا من الجميع ،وال يقبل اهلل غيره من الجميع في كل األحوال
واألزمان ،وقوله "فيقتل أو يغلب" ،حيث قدم القتل قبل الغلبة كون المعركة
البد وأن يسقط فيها قتلى ،ويصطفي اإلله فيها شهداء هذا أوالً ،كما أن تقديم
القتل يوحي بجدية المعركة حتى يدخل فيها المجاهد وقد عرف حقيقتها
وضريبتها قبل دخولها .إنها األنفس والدماء ضريبة األرض لنيل الخلود في
السماء ،كما أن الجمع بين األمرين القتل أو الغلبة فيه إشارة إلى أن هذه هى
حقيقة المعركة التي يجب أن يحملها المجاهد .إنها باختصار الشهادة أو النصر
وال مفردات ُأخَر ،وال مطالب أُخريات ،فال مجال في ميدان الجهاد لكثير
كالم غير هذا الكالم ،ثم كان الجزاء من هناك من السماء ،وليس من األرض
حتى ال يبقى المجاهد أسيرًا لألهواء األرضية تفسد جهاده إن كانت الغلبة
لمطالب مادية طينية أو يتحسر على ما أصابه إن كانت الهزيمة نفسية حسية،
وحتى ال يحدث شيء من هذا كان هذا اإلعالن الصريح والفصيح" .فسوف
- 263 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
نؤتيه أجرًا عظيماً" ،حيث يوحي اللفظ بأن األجر العظيم ليس هنا ،بل عنده
هناك كون الفرق بين فسنؤتيه وفسوف نؤتيه كبيرًا كما هو معلوم في لغة
العرب ،فاألولى تعني في لغة العرب قرب الزمان ،وعكسها الثانية ،فكانت
فسوف نؤتيه لتأخير الجزاء العظيم عنده سبحانه وبحمده ،وهذا ال يعني أبدًا
أن فضل اهلل ال يكون للمنتصر هنا ،بل إن األجر العظيم سيكون هناك ،وغير
العظيم سيكون هنا ،كما أن اللفظ "نؤتيه" بهذه اللغة الجميلة ،وبهذا التعبير
الفواح يسكب الطمأنينة على قلب المجاهد حتى يأمن ويعلم أن األرض وإن
ال غير منقوص،
انتقصت حقه يومًا ما فاهلل في السماء سيعطيه أجره كام ً
فليأمن وليرض وليثبت وليطمئن ،وجاء التعبير باألجر العظيم منكرًا ومنونًا
ن واح ٍد لإليحاء بعظمة الجزاء الذي ال قدرة لألرض ،كل األرض
في آ ٍ
مجتمعةَ ،تخَيَّله أبدًا..
- 267 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ن
ط وَ َال يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآ ُ
شهَدَاء بِالْقِسْ ِ
ن هللِ ُ
ن آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِي َ
(يَا أ َُّيهَا الَّذِي َ
اهلل خَبِيرٌ بِمَا
ِن َّاهلل إ َّ
ب لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ َّ
َال تَعْدِلُواْ اعْ ِدلُواْ ُه َو َأقْ َر ُ
علَى أ َّ
َقوْ ٍم َ
تَعْ َملُونَ{.)61()}8
إن ميزان العدل والعدالة في التعامل سواء مع األنصار أو الخصوم هو
الضمانة الفعلية لحفظ الجماعة المنقذة واألمة الهادية من االندثار والسقوط.
ن
إنه العدل الذي يتجاوز الذات معلنًا عن قداسة الكلمة ،وقداسة الحقيقة في آ ٍ
واحدٍ ،وذلك أينما كانت تلك الكلمة ،وحيثما وجدت تلك الحقيقة بعيدًا عن
تعصبات األرض ،وحساباتها ،وتقديراتها السفلى أيًّا كانت هذه األرض كون
ميزان السماء بعدالته العليا ،وقداسته المثلى هو الميزان األصدق كلمةً،
ال وزمانًا .إنه الميزان الذي يعبر
واألعلى شأنًا ،واألحق مكانًا ،واألصلح حا ً
– وبكل صدق – عن الذات المؤمنة وهى تقدس العدالة والعدل في تعاملها
المجتمعي ،وتحركها الذاتي ،وتعبدها الرباني في صورة غاية في الشفافية
والوضوح ،وبعيدًا بعيدًا عن تزلفات الطين ،وقرابات الدم ،وعالقات النسب.
ال وروعة وحتى نتذوق هذا الوضوح في صورته الجميلة ومعانيه األكثر جما ً
ننتقل إلى اآلية الكريمة كي نرى اللوحة الفنية المرسومة هناك كي نغوص
في األعماق ،ونتذوق مرارًا مرارًا حكمة الخالق في هذه اللوحة القرآنية
المبدعة ،فقوله "يا أينها الذين آمنوا" ،ال شك في أن هذا التخصيص اإللهي
لهذه الصفوة من الخلق توحي بأن اإليمان ليس دعاوى دون عمل وسلوك
كون البعض يظن هذا الظن ،بل اإليمان اعتقاد وإقرار وعمل ،ومما ال شك
فيه فإن النداء بالياء هنا ،والمنادى ،وهاء التنبيه ،والتذكير بصفة اإليمان لها
ن كثيرة بال شك .نعم فكل هذه الجزئيات المجتمعة هنا توحي بوجوب معا ٍ
التحرك اإليماني الفوري صوب األمر الرباني لتنفيذه على الفور دون تأخر
أو إبطاء كون اإليمان هو الذي يدفع لهذا التنفيذ ،وهذه الطاعة ،ولذا كان
الخطاب والنداء ألهله وحامليه .إذًا تربية الذات البشرية من الداخل هو
األساس قبل إعطاء األوامر سواء كانت هذه الذات لقريب في إطار البيت
واألسرة ،أو في إطار الجماعة واألمة كون الذوات الخالية من معاني اإليمان
ال إال ما أشربت من هوى ،وهو هى ذوات خاوية ال تمسك ماءً ،وال تنبت ك ً
معنى دقيق ينبغي تأمله والوقوف عنده ،ثم ينتقل السياق القرآني بكل سالسة
وانسياب غاية في الجمال بعد هذا النداء والتنبيه والتشريف الوصفي اإليماني
صوب األمر المراد تحقيقه بقوله "كونوا قوامين هلل" ،حيث تحمل هذه الجملة
القرآنية دالالت كثيرة ،ومنها :أن الجماعة المنقذة واألمة الهادية تحتاج بعد
التربية اإليمانية إلى حركة جماعية تحت قيادة موحدة تقودها إلى اهلل ،وإلى
اهلل فقط ،كما توحي هذه اآلية ،وهى لفتة دقيقة تُفهم من خالل هذا السياق
القرآني ،والجميل هنا هو األمر اإللهي بوجوب التحرك الجماعي وليس
الفردي كون واو الجماعة في "كونوا" توحي بوجوب تحرك الجماعة ،كل
الجماعة ،مع أمر السماء الداعي للعدالة والعدل مع الذات سواء كانت هذه
الذات قريبة أو بعيدة ،وليس هذا فحسب ،بل ومع من نحب ومع من نكره
أيضًا كون ميزان السماء – كما هو معلوم – ال يقبل المجاملة ،وال يحابي
القرابة ،وال يغض الطرف عن المحسوبية ،وال يؤمن بلغة المخاتلة ،بل هو
الوضوح بكل تجلياته ،والعدل بأجمل صوره .إنه العدل الذي يجب أن يقود
األرض ،كل األرض ،نحو السماء بعيدًا بعيدًا عن شهوات األرض بناسها
وذاتها ،وجاء التعبير عجيبًا هنا في قوله "قوامين" وليس "قائمين" وكون
التعبير األول يحمل معنى المبالغة في القوامة العادلة ،وعدم التهاون تحت أي
مسمى ،وأي ظرف .إنها القوامة الحافظة دائمًا لقوام الجماعة واألمة حتى ال
تسقط في أتون المجامالت كون سقوط عدلها وشهادتها هو سقوط لذاتها
- 269 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ال في الفعل ،وذلك من خالل قوله "وال يجر منكم ال في القول ،وعد ً
معه عد ً
شنئان قوم على أن ال تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى" ،حيث تحمل هذه
الجملة الكثير من الدالالت ،ومنها :وجوب العدل في الشهادة والحكم والحوار
مع الخصم سوا ًء أكان مسلمًا طرأ الخالف معه ألمر ما ،أو كان كافرًا خالف
الملة والدين .إنها أخالق اإلسالم تظهر في حياة الجماعة المنقذة واألمة
الهادية صادقة عادلة ،وشاهدة منصفة في دنيا الناس فتمألها أنسًا بعد وحشة،
وصالحًا بعد فساد ،وأمنًا بعد خوف .ومما ال شك فيه فإن العدل مع الخصم
بإعطائه حقه ،وذكر محاسنه ،والنظر فيها ،وعدم إغفالها قد يسوق إلى هدايته
ب الجماعة المنقذةوتوبته إن اهتدى ،وتخفيف مكره وشره إن بغى ،وحس ُ
واألمة الهادية رضا ربها في تعاملها وعدلها قبل ذلك وبعده كون العدل أصالً
خيرًا كله ،وال يمكن أن يأتي بغير الخير ،وهو مجرب معلوم .وجاء التعبير
بقوله "وال يجر منكم شنئان قوم ،أي ال يحملنكم كره قوم ،أي قوم سواء كانوا
مسلمين منكم اختلفتم معهم ،أو كفارًا بعيدون عنكم حيث جئ بلفظ قوم هنا
منكرًا ليشمل أي قوم بغض النظر عن أشكالهم وألوانهم ،أو بلدانهم
ومعتقداتهم ،وذلك بصيغة المضارع لإليحاء بوجوب العدل معهم في كل
األحوال كون العدل في منهج الجماعة دينًا الزمًا ،وليس طقسًا عابرًا .إنه
التوفيق اإللهي الذي يوفق إليه من يشاء من الخلق في تعامله مع اآلخر بعدالة
وعدل ،فيكسب رضا اهلل في السماء ،ومحبة الخلق في األرض كون الشهادة
بالعدل محبوب صاحبها وإن بدا في بداية األمر مكروهًا في نظر اآلخر ،لكن
ما هى إال أيام حتى تظهر عدالته بنورها وأنوارها دون أمر أو طلب كون
العدالة دينًا ،والدين نور على نور .ومما ينبغي ذكره هنا أن هذه اآلية جاءت
عقب آية مسبوقة بآية الوضوء تتحدث عن فروض الوضوء المطلوبة عند
القيام للصالة .إنه اإليحاء بأن الجماعة المنقذة واألمة الهادية كلما كانت
طاهرة بوضوئها وصالتها كلما كانت أكثر عدالً ،وأصح دينًا ،وأكمل رجولة
- 271 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
بال شك حتى إذا قصرت في صالتها ،وعبثت بوضوئها انعكس ذلك العبث
على سلوكها وشهادتها وعدلها بدون شك ،وهو معنى نفيس ينبغي تأمله
والوقوف عند لنفاسته ،ثم جاء األمر مرة أخرى ألهمية العدل ،وتحريك
ال ثابتًا في حياة الجماعة واألمة من خالل النفوس لجعله سلوكًا واقعًا ،وعم ً
قوله "اعدلوا هو أقرب للتقوى" ،حيث تحمل هذه الجملة الكثير من الدالالت،
ومنها :أن اآلية توحي بأن التعامل مع الخصوم يجعل النفوس الضعيفة دينًا،
والقليلة علمًا ،واألقل فهمًا تسقط أمام الخصم أحيانًا ،فتغمطه حقه ،وتخفي
حسناته ،وذلك في لحظات الضعف البشري ،واالنفعال العاطفي ،وهو ما ال
ينبغي فعله ،وال يُقبل فاعله ،فكان األمر هنا لهذه الحكمة ،ولهذا الغرض،
والجميل هنا هو قوله "هو أقرب للتقوى" ،ولم يقل "هو التقوى" كون عدالة
البعض قد تكون من أجل اهلل في السماء أجرًا وثوابًا ،وقد تكون من أجل الخلق
في األرض مدحًا وثناءً ،فكان األقرب للتقوى من كان عدله للخالق ،واألبعد
عنها من أراد بعدله المخلوق ،ثم يأتي األمر قبل ختام اآلية مناسبًا أيما مناسبة
لبدايتها بقوله "واتقوا اهلل" ،إنه اإليحاء بأن هذا العدل بصفته وأوصافه،
ورجاالته وأنصاره ال يتم ،وال ينفذ ما لم يكن خوف اهلل ،وخوف اهلل فقط ،هو
السيد والسائد في الصف اإليماني ،والمجتمع الرباني كون معنى التقوى هو
الخوف من الجليل ،والعمل بالتنزيل ،والرضا بالقليل ،واالستعداد ليوم
الرحيل كما عرفه اإلمام علي – كرم اهلل وجهه – ،ومما يالحظ أن هذه اآلية
ورد فيها ما يقارب ثالثة أوامر لتأكيد وجوب العدل ،بينما كان يكفي الجماعة
المنقذة واألمة الهادية األمر األول في بدايتها .إنها النفوس الضعيفة خلقة،
والعالم بضعفها خالقها احتاجت كل هذه األوامر المتتابعة حتى ال تغفل كون
العدل هو عنوان دينها ،وحقيقة هويتها ،فإذا غاب عنها سقطت الجماعة
واألمة من عين اهلل في السماء ،فإذا حدث هذا السقوط سقطت من أعين الخلق
في األرض ،وهو ما ال يريده اهلل لخير أمة ،وأكرم جماعة ،ثم ختمت اآلية
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 272 -
بختام يناسب هذه القضية الكبيرة شأنًا ،والعظيمة دينًا بقوله "إن اهلل خبير بما
تعملون" ،إنها مراقبة السماء ،وعلمها ،واطالعها على نوايا الجماعة واألمة
بعد هذه األوامر ،وهو ما يستدعي االلتزام وعدم التفريط من قبل المأمور ما
بقيت الحياة وعاش األحياء.
- 273 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ن الزَّكَاةَ
ن يُقِيمُونَ الصَّالَةَ وَ ُيؤْتُو َ
ن آمَنُواْ الَّذِي َ
اهلل َورَسُولُهُ وَالَّذِي َ
(إِنَّمَا َولِيُّكُ ُم ُّ
حزْبَ اهللِ هُ ُم
ن آمَنُواْ َفإِنَّ ِ
اهلل َورَسُولَهُ وَالَّذِي َ
َل َّوَهُمْ رَاكِعُونَ{ }55وَمَن يَ َتو َّ
الْغَالِبُونَ{.)62()}56
إن الحب والنصرة والمودة هى الوالية الحقيقية هلل ولرسوله وللمؤمنين كي
تتحقق الغلبة والتمكين في األرض بعيدًا عن والية األرض القائمة على مودة
الطين والقرابة والنسب ،والمصالح والمنافع والرتب إنه الوالء الذي تدخل
وحي السماء منذ الوهلة األولى لتقييمه وتوجيهه ليكون وال ًء ال تتحكم به
الذوات البشرية الطينية ،أو تستهويه المصالح النفعية ،بل ليكون وال ًء تحكمه
قيم السماء ،ومنهجها ،ووحيها .ومما ال شك فيه فإن هذه اآلية الكريمة
حصرت الوالية في ثالثة ،وفي ثالثة فقط ،هم اهلل ورسوله والمؤمنون كى
تكون الجماعة المنقذة واألمة الهادية على بينة من أمرها ،فال تعطي حبها
ونصرتها لشواذ األرض ،ومفسديها ،ورعاعها .إنها الحقيقة التي حفظت في
الماضي لألمة هويتها ،وهى التي ستحفظ اليوم وغدا نفس الهوية للجماعة
المنقذة واألمة الهادية ،وحتى نعيش جمال اآليتين ننتقل مباشرة إليهما ،ففيهما
كمال المعنى ،وجمال المبنى ،فقوله "إنما وليكم اهلل ورسوله والذين آمنوا"،
هذه الجملة القرآنية تحمل في طياتها الكثير والكثير من الدالالت واإليحاءات،
ومنها :أداة الحصر "إنما" التي حصرت الحب والمودة والنصرة لثالثة فقط
هم اهلل ورسوله والمؤمنون .إنه الحصر الذي قطع الطريق أمام العواطف
المتفلتة ،والقرابات الطينية الضعيفة حتى ال تعبث بحبها ووالئها دون رابط
أو قيد .ومما ال شك فيه هنا فإن الجماعة المنقذة واألمة الهادية ما لم تحرر
والءها وحبها ونصرتها تحريرًا حقيقيًّا فإنها ستظل رهينة العواطف المتفلتة،
باألمة في الماضي البعيد ،وما زال يمارس عبثه حتى اللحظة في األمة الوسط
إال من رحم اهلل ،وجاء ترتيب الرسول الكريم في المرتبة الثانية حيث تكون
محبته ونصرته ليست بألفاظ تقال ،وال بقصائد تدبج ،بل باتباع سنته ،والسير
على هديه ،واقتفاء أثره في كل صغيرة وكبيرة ،ثم يتواصل الجمال القرآني
وهو يضع النقاط على الحروف في صورة مبدعة ،وطريقة منسقة تنساب
ال وروعة من خالل وصف المؤمنين الذين تكون لهم النصرة والمحبة
جما ً
والمودة كونهم في المرتبة الثالثة بعد اهلل ورسوله .نعم فليس كل أح ٍد تتم محبته
ومودته ،بل القضية مقيدة بقيود سماوية بعيدة كل البعد عن قيود األرض ،وال
شك في أن قيود السماء في حقيقتها ليست أبدًا كقيود األرض الخاضعة لألهواء
الضالة ،والنزوات المتفلتة ،بل هى وحدها التي تحفظ الذات البشرية من
التفلت والضياع ،وتصون الكرامة اآلدمية من حياة الرعاع ،لذا جاءت
االحتياطات السماوية المحيطة بالحال ،والعالمة قطعًا بالمآل كي تعبر عن
نفسها هنا من خالل االشتراطات التعبدية الواضحة للمؤمنين الذين يجب
ال لذا
مودتهم ونصرتهم كون اإليمان – كما هو معلوم – إقرارًا واعتقادًا وعم ً
قال "الذين آمنوا" ،ثم وضح صفاتهم وأعمالهم بقوله "الذين يقيمون الصالة
ويؤتون الزكاة وهم راكعون" ،حيث تحوي هذه الكلمات القرآنية معاني جمة،
ومنها :أن الحفاظ على الصالة بشروطها وأركانها وسننها هى العالمة األولى
على صدق االنتماء ،حيث إن لفظ اإلقامة يوحي بهذا المعنى .إنه االنتماء
للسماء وليس لألرض ،وللقيم العليا ال لشعارات األرض السفلى ،وذلك حتى
يكون المؤمن هو األصدق انتماءًا ،واألحق نصرًا .ومما تجدر اإلشارة إليه
هنا هو أن ذكر الصالة أوالً قبل غيرها يوحي بأنها هى دون غيرها التي تعبر
عن الوالء الحقيقي والصادق هلل كل يوم خمس مرات من قبل هذه الصفوة
المختارة كونها الميزان الذي يوزن به األفراد والجماعات ،فمن حفظ صالته
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 276 -
حفظ والءه ،ومن عبث بصالته كان عابثًا قطعًا بوالئه ،وحتى ال تتخذ الصالة
وسيلة للتمويه والتغرير من قبل البعض وقت الحاجة كون البعض يلتزم بها،
ويحافظ عليها وقت حاجته لها وألهلها ،وحتى ال يقع هذا التمويه جاء التعبير
بصيغة المضارع في قوله "يقيمون" الدال على االستمرار والدوام .إنه
الرفض القاطع لعباد المنفعة ومصلى المصلحة العابثين بصالتهم ،والذين ال
يعرفونها إال وقت الحاجة ،ووقت الحاجة فقط .ثم تأتي الصفة الثانية من خالل
قوله "ويؤتون الزكاة" ،حيث يوحي هذا اللفظ بأن المؤمنين الصادقين ال
يكتفون بالصالة فحسب ،بل حتى األموال ال تستعبدهم وال تأخذ وقتهم
وجهدهم ،فهم دائمًا يؤتون الزكاة طيبِّة بها نفوسهم .إنه الجمع بين تزكية
األبدان بالصالة ،وتزكية األموال بالزكاة كي تجتمع فيهم طيبة األرواح،
وطيبة األموال حتى تستقر أرواحهم في ديار الطيبين في جنان الخلد هناك
حيث ينتهي كل خبث ،ويغيب تمامًا كل خبيث .كما أن تأدية الزكاة فيه إيحاء
يُفهم من خالل السياق وهو أن المؤمنين عليهم أن يسعوا ليكونوا أغنياء ،فال
مكان أبدًا في دنيا الناس للعاطلين أو الكسالى ،وهو معنى غاية في النفاسة
والجمال يُفهم من خالل السياق .كما توحي اآلية بمعنى آخر دقيق ،ودقيق
جدًّا ،وهو أن تحرير الوالء ال يكون هلل ولرسوله وللمؤمنين حقًّا وصدقًا إال
بتحرر الجماعة المنقذة واألمة الهادية من رق المال ،وشح النفس ،وهذا ال
يعنى أبدًا االبتعاد عن المال ،بل المطلوب في الجماعة المنقذة واألمة الهادية
أفرادًا وقادة أن يكونوا أغنياء ،فقد أثنى اهلل على المؤمنين الصادقين بأنهم
يؤتون الزكاة ،وقطعًا لو كانوا فقراء لما أدوا زكاة ،وهو ما يستدعي قطعًا
وجوب التحرر المالي ،واالكتفاء الذاتي بكل طريقة مشروعة كون الفقر
والحاجة طريقَين موحشَين يخدشان الوالء ،ويسقطان الوالية الصادقة هلل
ولرسوله وللمؤمنين في كثير من األحيان .أما الرق الذي ينبغي أن تتحرر
- 277 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
منه الجماعة المنقذة واألمة الهادية فهو رقان؛ رق يقود لبيع الوالء مقابل
المال ،ورق آخر يستعبده المال بعد جمعه ،وكالهما يخالفان حقيقة اإليمان،
وصدق المؤمنين ،ثم يتواصل جمال التعبير الموحي بكمال التصوير وذلك
من خالل قوله "وهم راكعون" ،حيث توحي هذه الصفة بتواضع المؤمنين هلل
رغم صالتهم وزكاتهم كون الركوع هنا ليس المقصود به أبدًا ركوع الصالة
الذي هو االنحناء المعروف ،بل هو الخضوع التام هلل كونه يُعبَّر في اللغة
عن الخضوع بالركوع .ومما سبق فإن هذه الصفات الثالث توحي بوجوب
نصرة ومحبة أهل هذه الصفات بغض النظر عن أشكالهم وألوانهم وأوطانهم.
إنها عقيدة السماء التي ال تؤمن أبدًا بحواجز األرض المصطنعة ،ومسمياتها
المقززة ،وشعاراتها النتنة ،بل هو اإليمان بجماله ورجاله وأنصاره وصفاته
حيثما كان وكان أهله كان الحب وكانت النصرة .وبعد هذه المقدمة من خالل
روعة اآلية بجمالها وجاللها جاءت اآلية الثانية معلنة – وبكل صراحة
وصدق – حقيقة هذا الحب والنصرة ،وعاقبته وثماره بلغة واضحة ودون
تلعثم أو التواء ،وذلك من خالل قوله "ومن يتول اهلل ورسوله والذين منوا فإن
حزب اهلل هم الغالبون" ،إنها السكينة والطمأنينة تعلنها آيات السماء ،ووحيها،
ومنهجها لهذا الحزب الكبير ،والكبير جدًّا ،والذي ال قدرة لقوى األرض ،كل
األرض مجتمعة ،أن تقف في وجهه ،أو تخطط ضده كونه حزب اهلل ،وحزب
اهلل هو الغالب على الدوام .ومما تجدر اإلشارة إليها هنا هو أن التعبير جاء
بصيغة المضارع في قوله "ومن يتول" لإليحاء بأن ثبات الوالء هلل ولرسوله
وللمؤمنين دون تذبذب أو التواء هو ضمانة السماء النتصار األرض ،وال
شك في أن هذا اإليحاء يوحي بحدوث ابتالءات تفرز سقوطًا لذوات بشرية
في مستنقع الوالءات الطينية في لحظات ما ،لذا كان اشتراط السماء بصيغة
المضارع لمن يثبت على الدوام بعيدًا عن تقلبات األيام .ثم تختم اآلية – كما
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 278 -
أسلفنا وقلنا – بتوصيف رائع لهذا الحب الدائم والوالء المستمر بين اهلل
ورسوله والمؤمنين ،وذلك بوصفهم "فإن حزب اهلل هم الغالبون" ،إنه الحزب
الغالب الذي يعيش في األرض وقلبه في السماء ،ويتحرك في األرض وهمته
في العلياء ،وهنا يجب قبل الختام اإلشارة إلى قضية مهمة وهى قضية الحزبية
حيث تاهت األمة الهادية تبعًا لتيه بعض رجاالتها ومنظريها في هذا اللفظ،
وفي هذا الموضوع .ومما تجدر اإلشارة إليه هنا هو أن هناك من حرم الحزبية
لفظًا ،وآخر اعترف بها لفظًا وحرمها معنى ،وثالثًا أحلها مطلقاً ،ورابعًا
حرمها مطلقاً ،إنه التيه الذي أخذ وقتًا كبيرًا من عمر أمة الهداية ،وما زال
يأخذ من عمرها حتى اللحظة نتيجة للغفلة تارة ،والكبر والعناد تارة أخرى.
إنه العبث الفكري ،والضياع المذهبي الذي أخذ من األمة الهادية الكثير من
وقتها وجهدها في قضية محسومة في القرآن ،وواضحة معالمها أيما وضوح،
واختصارًا فعلى الجماعة المنقذة ،واألمة الهادية أفرادًا وجماعات أن تتعامل
مع الحزبية كتعامل القرآن معها ،حيث أن من ينكر الحزبية لفظًا ومسمًّى فقد
أنكر صريح القرآن ،حيث ورد ذكر الحزب في القرآن ،وذكرت سورة
بأكملها بسورة األحزاب هذا أوالً ،وثانيًا أن الحزبية في القرآن لم تحرم مطلقًا،
ولم تحل مطلقًا ،بل ذكرت ممدوحة عندما كان التحزب ،أي التجمع من أجل
اهلل ورسوله ونصرة الحق كما هو الحال في هذه اآلية "ومن يتول اهلل ورسوله
والذين آمنوا فإن حزب اهلل هم الغالبون" ،وذكرت مذمومة عندما حدث نسيان
هلل ولرسوله بسببها ،حيث أصبحت تجمعًا في الباطل ،وللباطل فقط ،عندئذٍ
ذمها اهلل ،وذم أهلها من خالل قوله "استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر اهلل
أولئك حزب الشيطان أال إن حزب الشيطان هم الخاسرون" ،لذا فهذه هى
ال وتحريمًا ،حيث ال تحلل الحزبيَّة أو تحرَّم
نظرة القرآن لهذه القضية تحلي ً
لذاتها ،بل لمحتواها ودواعيها .ومما ال شك فيه فإن الباطل اليوم يتحرك في
- 279 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ن َمرْيَمَ َذلِكَ
ن دَاوُو َد وَعِيسَى ابْ ِ
علَى لِسَا ِ
ن كَ َفرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِي َل َ
ن الَّذِي َ
(لُعِ َ
س مَا
ن عَن مُّن َك ٍر فَ َعلُو ُه لَبِئْ َ
بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ{ }78كَانُواْ َال يَتَنَا َهوْ َ
كَانُواْ يَفْ َعلُونَ{.)63()}79
العصيان واالعتداء على الغير – وعدم التناهي عن فعل المنكرات جرائم
ثالث .أسقطت بني إسرائيل باألمس ،وهى من ستسقط من يفعل فعلهم اليوم.
إنها اللعنة التي توارثها كفار بني إسرائيل كابرًا عن كابر بسبب معاصيهم
وعدوانهم من جهة ،وعدم نهيهم عن المنكر والمنكرات من جهة أخرى .ومما
ينبغي ذكره هنا أن كفار بني إسرائيل جمعوا الجرائم اآلنفة الذكر فلُعنوا على
لسان نبي اهلل داود في أول أمرهم ،ثم خُتمت لعنتهم على لسان آخر أنبيائهم
وهو عيسى – عليه السالم – لهذه الجرائم ،ولتلك األعمال .إذًا هم واقعون
بين لعنتين وغضبين ،فأسفي كيف يرجى سالم مع مالعين من قبل اهلل في
السماء ،والحال كذلك على ألسنة أنبيائهم في األرض ؟ .وحتى نعيش مع
هاتين اآليتين عن قرب ،ونعرف حقيقة األمة الملعونة هذه دعونا ننتقل إلى
اآليتين لنعيش المعاني التي أوردتها هذه اآلية بلغة فصيحة وواضحة ،فقوله
"لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داود وعيسى بن مريم" ،هذه
الجملة القرآنية تحمل دالالت كثيرة ،ومنها :أن الفعل الماضي المبني
ُسم فاعله يوحي بتأصل اللعنة في هذه األمة الكافرة من
للمجهول أو الذي لم ي َّ
بني إسرائيل منذ القدم .إنها اللعنة التي أحاطت بهم فجعلتهم األرذل خلقًا،
ال على اإلطالق .نعم إنها التعاسة والجبن اللذين
واألسوأ سيرة ،واألتعس حا ً
ال ينفكان عنهم أبدًا ،وما نراه من استئساد لهم اليوم ال يعبر عن رجولتهم
قطعًا كون رجال العقيدة غابوا عن الميدان ،ولو ُوجِدوا لما كان لهم المكانة
والمكان .ومن المعلوم هنا أن اآليتين وقعتا بين آيات تتحدث عن مكر وسفه
وتمرد هؤالء الكفرة بالغلو تارة ،وبالوالء للكافرين خوفًا وطمعًا تارة أخرى
حتى كفروا وسقطوا .كما أن اللعن جئ به هنا وبذكره حتى ال تغتر الجماعة
المنقذة واألمة الهادية بهم من جهة ،وحتى ال تسلك مسلكهم الذي أودى بهم
إلى هذا اللعن ،وذلك الطرد من رحمة اهلل من جهة أخرى ،وهو معنى نفيس
جدًّا ينبغي تأمله ،والوقوف عنده لنفاسته .ومما ال شك فيه فإن أمة الهداية
عندما تغيب عنها هذه المعاني ،أو تُغيَّب بفعل فاعل فإنها تتوه بالبحث عن
سالم ووئام مع مالعين لعنوا في السماء ،وتكرر لعنهم على ألسنة أنبيائهم في
األرض ،وهذا هو السر في المحاولة المستميتة إلبعاد أمة الهداية عن قرآنها
وربها ليحصل لها التيه والخذالن ،وهو ما حصل بالفعل .وما ينبغي التنبيه
إليه هو أن اللعن هنا وإن خُصَّت به هذه الطائفة الملعونة إال أنه يتناول كل
من ارتكب ماارتكبوا ولو من غيرهم كما سيأتي معنا الحقًا .نعم فاللعن ليس
خاصًّا بهم وحدهم وإن كانوا هم األكثر لعنًا ،واألشد بؤسًا ،واألفلس دينًا،
ولكنه يتناول أيضًا كل جماعة أو أمة جمعت بين المعاصي والعدوان على
اآلخرين من جهة ،و ُترِك التناهي عن المنكر من جهة أخرى .ويتواصل
الجمال القرآني وهو ينقل حقيقة المشهد والشاهد في آنٍ واحدٍ .إنه مشهد اللعن،
ومشهد الالعن وهو هنا نبيان كريمان هما داود وعيسى – عليهما السالم –.
ومما ال شك فيه فإن تخصيص داود بالذكر كونه أول أنبيائهم ثم هو من سبح
ال وهي الجبال والطير ،بينما من يملكون عقوالً
معه بحمد اهلل من ال يملك عق ً
من بني إسرائيل كفروا واعتدوا وتمادوا فكان اللعن ،وكان الطرد .إنها حكمة
اهلل وقدرته تفعل فعلها بأمر ربها عندما يحيد عن الطريق صاحب العقل ،بينما
يسلكه من ال عقل له ،وتكرر الحال كذلك مع نبي اهلل عيسى الذي أحيا اهلل
على يديه موتى من قبورهم فلم يؤمن أكثرهم فكان أيضًا الطرد ،وكان اإلبعاد.
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 282 -
ومما ال شك فيه كذلك فإن الموت ليس لألجساد فحسب ،بل هو للقلوب أيضًا
ال على
كما هو حال بني إسرائيل هنا ،وهو األشد خطورة ،واألسوأ حا ً
اإلطالق .إنها الحالة البئيسة لهذا المخلوق عندما ال تُجدي معه النصيحة ،وال
تصلحه الكلمة حتى يسقط غريقًا في وديان الضالل غير مأسوف عليه كحال
هؤالء سواء بسواء ،ثم جاء التخصيص في اآلية بلعن الكفار منهم لإليحاء
بأن منهم مسلمين مؤمنين بال شك ،وإن كان السواد األعظم منهم ملعونين في
ذلك الزمن البعيد ،ومعلوم أنهم نسبوا إلى إسرائيل الذي هو يعقوب عليه
السالم النبي المبارك ،وفي ذلك إشارة إلى أن النسب ال يرفع صاحبه ما لم
يتحرك هذا الصاحب بنفسه وعقله وذاته ولُبِّه عن مواطن اللعن ،ومواقع
الملعونين ،وإال سقط ملعونًا دون شفاعة النسب ولو كان نسبه يقوده إلى نبي
ال عن صالح من الصالحين .كما أن معنى
من األنبياء كما هو الحال هنا ،فض ً
نفيسًا آخر يفهم هنا من خالل نسبتهم إلى إسرائيل الذي هو يعقوب عليه السالم
– في أرجح األقوال – وهو إيحاء بأن سقوط األحفاد واألبناء إن حدث ال
ال عن صالحين أولياء
يعتبر عيبًا بحق اآلباء ولو كان أولئك اآلباء أنبياء ،فض ً
كون قاعدة السماء العليا تحصر الخطأ سواء كان خطأ عقديًّا أو أخالقيًّا في
أضيق دوائره ،وهى دوائر مرتكبيه ،ومرتكبيه فقط ،وليس كما تصنع قوانين
األرض السفلى .وبغض النظر عن المقصود باللسان هنا هل هو اللسان
المعروف ،أو يقصد به الكتاب ،فاألرجح أنهم لعنوا في السماء ،ولعنوا على
ألسنة أنبيائهم في الزبور واإلنجيل أيضًا .إنه اللعن الذي أحاط بهم ،وتوالى
عليهم في صورة تحمل غضب اهلل في السماء ،وغضب األنبياء والخلق في
األرض في رسالة واضحة المعالم ألمة الهداية كي تأخذ حذرها ،وتقوم على
الفور بواجبها .ثم يتواصل السياق القرآني موضحًا أسباب اللعن والطرد من
ال "ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون" ،حيث تشير
رحمة اهلل بطريقة واضحة قائ ً
- 283 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
"ذلك" إلى اللعن ،والباء في قوله "بما" بمعنى بسبب ،فالباء هنا سببية .إنها
عدالة السماء الشارحة لألسباب كي َتعَْلمَ األرض بناسها وأهلها أن اهلل ال
يعاقب أحدًا إال بسبب المخالفة .نعم إنها المخالفة وسوء التدبير ،والغباء في
التفكير هى التي تدفع السماء لخذالن العبد في األرض ،ومن الحماقة قطعًا
بعد هذا البيان أن ينسب الفاشلون فشلهم لألقدار دون أن يعلموا أن عملهم
وفكرهم هو من أوقعهم ،وفي الحضيض أسقطهم ،وجئ هنا بواو الجمع في
قوله "بما عصوا" حيث توحي الواو بأن المعصية لم تكن فردية حتى تعفو
السماء وتتسامح ،بل كانت المعصية جماعية ،وجماعية بامتياز .إنه اإليحاء
اآلخر الموحي بأن في المعاصي الفردية مهلة حتى إذا غدت المعاصي
جماعية كان الغضب ،وكانت العقوبة ،ويزداد التوضيح ،ويتوالى التصريح
من خالل قوله "وكانوا يعتدون" .ومما ال شك فيه فإن االعتداء على اآلخرين
هو معاصي أيضًا ،ولكن جئ بذكر الخاص الذي هو هذا االعتداء بعد ذكر
العام الذي هو العصيان لإليحاء بخطر االعتداء على اآلخرين ،والذي يعجِّل
بنزول الغضب اإللهي واألخذ الرباني .إنها حقيقة السماء وأحقيتها في األخذ،
واألخذ المؤكد ،عندما تتطاول األرض بأخبث من فيها على خلق اهلل أخذًا
وسلبًا ،عندها ،وعندها فقط ،تكون بداية النهاية لهذه الجماعة ،وتلك الجموع.
ومما ال شك فيه هنا فإن ذكر االعتداء على اآلخرين جاء بعد قوله "بما
عصوا" لإليحاء بأنه ال يعتدي على اآلخرين إال إنسان عاص فاجر ،أو
جماعة عاصية فاجرة ،وهو معنى دقيق ونفيس ينبغي تأمله أيضًا .كما أن
تخصيص االعتداء بواو الجماعة في قوله "وكانوا يعتدون" فيه إشارة توحي
بخطورة االعتداء الجماعي على اآلخرين – كما أسلفنا – وأن الجمع الوارد
بين المعاصي الذاتية والعدوانية المجتمعية على اآلخرين هو إشعار بقرب
هالك تلك الجماعة بال شك ،ويزداد الوضوح عندما جاء التعبير بصيغة
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 284 -
ن
ت رَبِنَا وَنَكُو َ
ب بِآيَا ِ
َد وَ َال نُكَ ِذ َ
علَى النَّا ِر فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا ُنر ُّ
ى إِذْ ُوقِفُواْ َ
( َوَلوْ َترَ َ
ن مِن قَبْ ُل وَ َلوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا
ن الْ ُمؤْمِنِينَ{َ }27بلْ بَدَا َلهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُو َ
مِ َ
ُنهُواْ عَنْهُ َوإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ{.)64()}28
على الرغم من تمرد الكفار على اهلل في دار الدنيا إال أن تمردهم لن يستمر،
بل ينتظرهم الوقوف على النار بشدتها وعنفوانها ليكشف اهلل سترهم ،ويخرج
ضعفهم من أول نظرة لها وقبل أن يقعو فيها .إنها النظرة التي لم تعد تجدي
نفعًا أو تغير واقعًا كونها جاءت متأخرة ،ومتأخرة جدًّا .نعم جاءت متأخرة
بعد أن ذهبت الدنيا دون أن تجدي تلك النظرات الخائنة نفعًا ،أو تصلح حاالً
كونها كانت نظرات مزيفة غرتها الدنيا بناسها وأهلها حتى جاءت اآلخرة
بعذابها وأهوالها .ومما تجدر اإلشارة إليه هنا قبل الحديث المفصل عن تلك
ال بديعًا ،وصورتها
الوقفة ننبه إلى أن هذه الوقفة التي نقلتها سورة األنعام نق ً
تصويرًا رائعًا لم تكن وقفة اختيارية البتة ،بل كانت وقفة اضطرارية بأمر
مالئكي ألقوام عاشوا حياتهم آمرين بالباطل ،وناهين عن المعروف حتى جاء
أمر اهلل .نعم واآلن جاء أمر اهلل في األخرة كي تنزع عنهم اإلرادة لتمضي
بهم الحياة في دار الهوان هناك في النار وهم مسلوبو اإلرادة ومنزوعو
الكرامة بعد عمر طويل في الضالل واإلضالل ،ولكى نعيش هذا الحدث الذي
ال للفضول ننتقل إلى اآليتين ففيهما الكثير من
يذهل العقول ،ويدع حدًّا فاص ً
الدالالت واإليحاءات التي تسوق المؤمنين إلى اهلل سوقًا ،وذلك خوفًا من
عذابه ،وطمعًا بجنته ورحمته ،فقوله "ولو ترى إذ وقفوا على النار" ،هذه
الجملة القرآنية تحمل دالالت كثيرة ،ومنها :أن الخطاب هنا موجه للنبي
الكريم ،ولكل من يصل إليه الخطاب الذي جيء به من أجل إقرار الحقيقة
المنتظرة هناك ،والتي تنتظر الكفرة سواء كفرة األمس الذين عايشوا الرسالة،
ثم كفروا بها ،أو كفرة اليوم الذين يكذبون آيات اهلل ورسوله والدار اآلخرة،
هذا أوالً ،وثانيًا :أن هذا الخطاب يقرر حقيقة النار ،وأنها موجودة ،وثالثًا :فيه
عظة وعبرة تجعل المؤمنين أكثر حذرًا ،وأصدق عبادة وإخالصًا هلل خوفًا
من غضبه ،وطمعًا برحمته كما أسلفنا .ومما ال شك فيه فإن العبرة هنا هى
المطلوبة من ناحية ،ومن ناحية أخرى في اآليتين إنذار وتحذير للكافرين من
المآل المنتظر ،كما أن الفعل المبني للمجهول هنا "وُقفوا" يوحي – كما أسلفنا
– أن هذه الوقفة اضطرارية ،وليست اختيارية ،وذلك قبل السقوط
االضطراري أيضًا في قعرها .إنها الوقفة المصحوبة بنظرات ملؤها الحسرة
والندامة كونهم ينظرون إلى النار وهى تحتهم ،بينما هم على متنها حفاة عراة
ال ينتظرهم لباسهم وطعامهم فيها ،والذي أُعد لهم منذ آالف األعوام .ومما
غر ً
ينبغي ذكره هنا هذا المعنى الدقيق الذي يتم فهمه من خالل السياق وهو أن
تلك الوقفة خاصة بهم في اآلخرة ،بينما الوقفة للصالحين ينبغي أن تكون هنا
في الدنيا ،وذلك للعظة واالعتبار كون أن من لم يقف الوقفة هنا معتبرًا فإنه
يخشى عليه أن يكون ممن يقف ذك الموقف هناك ،كون قلوب العباد كما هو
معلوم بين إصبعين من أصابع الرحمن يقلبها كيف يشاء ،ومما ينبغي قوله
هنا هو أنه من الخطأ الفادح أن يظن البعض أن الموقف خاص بالكافرين،
ومن ثم ال يتم تأمله وال الوقوف عنده وال اإلستعداد للنجاة منه ،بل أن الجماعة
المنقذة واألمة الهادية أفرادًا وجماعات يجب أن تكون لهم وقفة بل وقفات عند
هذه اآليات – كما أسلفنا وقلنا – وذلك كي تتحرك القلوب نحو السماء عبادة
ال وصدقًا ،وإال اتجهت القلوب نحو األرض ،وعندئ ٍذ تكون
وإخالصًا وتوك ً
ال
االنتكاسة المخزية ،والوقفة المذلة وإن اختلفت عن وقفات الكافرين شك ً
وزمانًا ،كما أن واو الجماعة "توحي" بتوقيف جماعي في لحظات حرجة
- 291 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
لجماعات يلعن بعضها بعضًا ،ويسب بعضها بعضًا ،وذلك على متن جهنم
في صورة غاية في المذلة والعار والخزى والبوار ،كما أن الفعل يوحى
بسلبهم اإلرادة حيث ذهب وقت االختيار وولى ،وجاءت اآلن مرحلة
االضطرار بكل تفصيالتها ومآالتها وعواقبها ،وتوحي كلمة "على النار"
بأنهم مع النار أصبحوا وجهًا لوجه .إنها المقابلة التي لطالما أنكروها،
ورفضوا االعتراف بحقيقتها ،واآلن جاء وقت الحقيقة ولكن بعد أن ذهب كل
شئ ،كما يالحظ مجئ النار معرفة ،وذلك لإليحاء بأنها هى النار التي أخبروا
بها ،فكفروا ،وكذبوا ،واآلن هى تحتهم تنتظر سقوطهم بعد انتظارها لهم آالف
األعوام .إنها النار بظلمتها وسالسلها وأصواتها ولهيبها ،وحسبها تعريفًا أنها
غضب اهلل لمن أغضب اهلل .إنها النار التي يجب أن تكون حاضرة اآلن في
األفكار والعقول كي يتم التخلص منها فيما بعد ،ما لم كان العكس صحيحًا
بغض النظر عن مدى اإلقامة فيها لمن مات مسلمًا كونها ال يخلد فيها سوى
الكافر ،والكافر فقط ،وهذه لفتة بديعة يجب تأملها والوقوف عندها .واآلن
نعود كي نسمع ردهم أثناء وقوفهم على النار كي نتعظ ونحذر "فقالوا ياليتنا
نرد وال نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين" ،إنها األمنية الجماعية
وبصوت واحد كون الواو في "قالوا" توحى بهذا المعنى ،كما أن الفاء
"المتصلة في قالوا تدل على التعقيب ،أي بمجرد الرؤية فقط قبل السقوط
اعترفوا بكل أخطائهم ،وتمنوا العودة بغية الصالح واإلصالح .نعم إنه القول
الباطل دينًا ،والساقط حجة ،والمتروك حاالً ،والمهمل مكانًا وزمانًا كونه جاء
متأخرًا ،ومتأخرًا جدًّا ،كما أسلفنا .إنه التمني المحال كون التمني ينقسم إلى
قسمين ،محال وعسير ،فهذا هو المحال كونه غير قابل للتحقيق ،بينما العسير
هو الذي يمكن تحقيقه ولكن بصعوبة كما يقول علماؤنا ،والعجيب أن محتوى
هذه األمنية الجماعية يوحي بالقدرة الفائقة التي كان يتمتع بها فريق الضالل
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 292 -
وعقله وفهمه إن لم تقده مجتمعة إلى اهلل فبئست الثقافة ،وبئس المثقف .واآلن
وبعد تلك األماني الباطلة ،والثقافة المتأخرة جاء التعبير القرآني مرة أخرى
متحدثًا عن حقيقة أخرى دون أي اعتبار لطرحهم وأطروحاتهم كونها
أطروحات ال تستحق ردًّا ،وليس لها اعتبار النتفاء مكانها وزمانها ،وهو ما
يستدعي العمل في دار العمل بعيدًا عن األماني الباطلة ،والتصورات
الخاطئة ،لذا سيكون الرد عليها مختصرًا ولكن في آخر اآلية كون زمن
التكاليف والقول قد ذهب وقته ،وانقضى زمانه ،ولم يتبق سوى وقت الجزاء،
والجزاء فقط .ويتواصل السياق القرآني بطريقته المعهودة وتعبيراته الفريدة
مخبرًا عنهم "بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل" ،إنها المكاشفة النهائية
والفضيحة المدوية بعيدًا بعيدًا عن أمانيهم الكاذبة تعلن من جديد أمام أعينهم
والنار تحتهم تنتظر أجسادهم الرثة ،ووجوههم المظلمة ،وألسنتهم المكذبة،
وقلوبهم القاسية ،فلم يعد في الوقت متسع ،ولم يعد للحجج مكان ،فقد بدا لهم
– وبكل وضوح – ما كانوا يخفونه عن الناس ،بينما رب الناس يعلمه ،واآلن
فقط انكشف الغطاء ،وسقطت األقنعة ليكون الجزاء من جنس العمل ،ثم تأتي
النهاية معلنة كذب دعواهم ،وسقوط مطلبهم ،ورد أمنيتهم بقوله سبحانه "ولو
ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون" ،إنها المكاشفة النهائية تتوالى في
لحظات حاسمة وهى تفضح الكفر بعقائده وأشخاصه وبواطنه وحقائقه حتى
ال تدع تلك المكاشفة مجاالً لكثرة الكالم فيما ال فائدة منه ،وال طائل من ورائه.
ومما ال شك فيه فإن قوله "وإنهم لكاذبون" توضح حقيقة الكفر وبواطن الكفرة
وقد رأوا الحشر والموقف ،وختامًا النار بأهوالها ونكالها ،ومع ذلك تبقى
البواطن النجسة نجسة مابقيت حية غير قابلة للطهارة أو التطهير البتة .إنها
الحقيقة التي يجب أن تعيها الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهى تتعامل مع
هذه البواطن الكافرة ،والتي َكذَ َبتْ ،وستظل كاذبة غير صادقة ما بقيت حية،
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 294 -
وما بقي أحياء .إنها الكاذبة عقيدةً ،والكاذبة سلوكًا ،والكاذبة أخالقًا ،ولن
تصدق يومًا ،وحتى لو ماتت ثم رأت النار رأي العين لبقيت كاذبة ،وهو ما
يستدعي الحيطة والحذر من هذا الكفر ،ومن هؤالء الكفار .وأخيرًا البد من
اإلشارة إلى قضية جدًا مهمة وهى أن القرآن عندما نقل هذا الكذب الصريح
لهذا الكفر الصريح فهذا ال يعني أبدًا ونحن نرى تعاملهم أحيانًا بشئ من
الصدق أنهم صادقون خالف ما أخبر اهلل عنهم ،وإنما المقصود بكذبهم هو
كذب عقائدهم ،والذي يتمخض عنه بدون شك كذب سلوكهم ،لذا فإن ما نراه
من تعاملهم المصبوغ بشئ من األخالق أحيانًا إنما يراد منه تسويق كذبهم
وعقائدهم بأخالق مفتعلة حينًا ،ومزورة حينًا آخر.
- 295 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
التي حدثت أمام أعينهم لغيرهم علهم يعتبرون بها من جهة ،ووحي السماء
الذي هو ذكرى لكل الناس من جهة أخرى .إنه النسيان المركب الذي تجاوز
أحداث الزمان ،وحقائق األيام ،ومنهج الرحمن دون ذكرى أو اعتبار .نعم إنه
العمى المصاحب للنعم الذي قتل الكثير باألمس ،وما زال هو نفسه يقتل الكثير
والكثير اليوم .ومما ال شك فيه فإن الظَّلمة عندما يرون األحداث تأخذ غيرهم،
ال ظنًّا منهم أنهم في مأمن
وتذل سواهم ،فإنهم بسبب ظلمهم يزدادون ضال ً
حتى يحل األخذ بدارهم ،والقطع النهائي لدابرهم وهم غافلون .إنه الظلم الذي
أعمى بصائر السابقين ،وهو الذي يفعل فعله اليوم بظلم الالحقين ،ويزداد
جمال التعبير لتوضيح سذاجة القوم وبالدتهم ،وذلك من خالل مجئ واو
الجماعة مرة أخرى في قوله "ما ذكروا" ،إنه اإليحاء الدقيق بالعمى الجماعي
كون الذكرى وجهت للقوم ،كل القوم ،فلم تجد قلبًا سليمًا ،وال عقالً واعيًا ،وال
فهما لبيبًا لدى القوم ،كل القوم ،مما يوحي بالبالدة الجماعية ،والسقوط
الجماعي المؤهل لألخذ دون بقاء أو تأخير ،ويتواصل الجمال القرآني
بروعته وجماله وهو يعدد النعم التي ال يحدها باب ،وال يحصيها كتاب ،وذلك
من خالل قوله "فتحنا عليهم أبواب كل شئ" ،حيث توحي هذه الجملة بدالالت
كثيرة ،ومنها :أن نعم اهلل في مكان مغلق ال قدرة ألحد أيًّا كان هذا األحد فتحها
ما لم يأذن بفتحها الفتاح ،كما أن لفظ "فتحنا" ،وليس أعطينا ،يوحي بكثرة
النعم المفتوحة صوب العصاة ،والتي ال يمكن إحصاؤها أو عدها .إنها النعم
التي ال ينبغي أبدًا أن تشغل الجماعة المنقذة واألمة الهادية عن واجبها في
إحقاق الحق ،وإزهاق الباطل كون الدنيا بطينها وناسها ليست أبدًا هى الجزاء
الحقيقي لصفوة الخلق ،ودعاة الحق ،بل هى دنيا كاسمها يعطيها خالقها لمن
يحب ولمن ال يحب ،وهو المعنى الذي يجب استشعاره والتنبه له في زحمة
الحياة وسلوك األحياء ،كما أن اللفظ يوحي بحقارة الدنيا بما فيها وبمن فيها،
- 297 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ولو لم تكن كذلك لما فتحها للعصاة بهذا الحد وبدون عد .إنها المتع الدنيوية،
والنعم األرضية التي ال قيمة لها في السماء كونها خالية من نعمة الرضا،
ونعمة القناعة ،ونعمة الطمأنينة كونها متعًا دنيوية طينية خالية من نعمة
الوحي السماوية األهنأ واألبقى واألصح واألسمى ،وقوله "عليهم" توحي
بخصوصية نعم اهلل عليهم ،وهو ما يستدعي الحذر عندما تحل النعمة،
وتتوالى العطية ،وليس االغترار واألشر كما هو حال هؤالء ،ويتوالى الجمال
القرآني وهو يصور النعم تصويرًا غاية في الروعة والجمال من خالل قوله
"أبواب كل شئ" ،حيث توحي هذه الكلمات بعدة معانٍ ،ومنها :أن نعم اهلل
متعددة ،وليست محصورة كون لفظ األبواب يوحي بهذا المعنى ،كما أن هذا
اللفظ يوحي بأن كل نعم ًة لها باب ،وبابها مغلق ال يقدر على فتحه إال خالقه،
و خالقه فقط ،وهو ما يعني التوجه نحوه سبحانه ليفتح للعبد العطاياً ،ويمنع
عنه الرزايا ،كما أن اللفظ يوحي بأن هذا الباب ال يمكن أن يظل مفتوحًا إلى
األبد ،فهو البد أن يغلق يومًا ما سواء بمعصية العبد كما هو الحال هنا ،حيث
يتم الفتح الكامل لألبواب بغية االستدراج المؤقت ،ومن ثم تغلق فورًا عند
األخذ كي تفتح آلخرين ،أو أنها تغلق عن العبد بوفاته وموته ،وإذا كان صالحًا
تفتح له األبواب األكثر اتساعًا ،واألبقى حاالً ،واألكمل نعيمًا هناك حيث جنان
الخلد في روضات الجنات ،وكون الفتح لألبواب كان استدراجًا للعصاة وجدنا
التعبير يواصل التصوير الجمالي من خالل قوله "كل شئ" ،إنه التعبير
الموحي بتتابع النعم الطينية ،والطينية فقط ،بعيدًا بعيدًا عن النعم الروحية التي
ال تكتمل الحياة ،دونها .نعم إنها األرض ،كل األرض ،من مال وجاه وصحة
وأوالد وسعة رزق وتتابع عطاء .إنه التتابع للنعم الخالية من البركة ،والفتح
المؤذن باإلغالق الحتمي عند صدور األمر اإللهي .نعم إنها الحقيقة التي يجب
أن تعيها الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهي ترى النعيم المادي والترف
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 298 -
الدنيوي بعيدًا عنها ،بل في أيدي غيرها ممن ال دين لهم وال قيم ،عندئ ٍذ يعلمون
أن الحياة ليست بهذه األهمية كون الحياة الحقيقية تكمن في حياة األرواح
بمنهج السماء ،ووحيها ،بينما ترف العصاة وفرحهم سرعان ما يزول
وينتهي ،ويؤول للصالحين إن صدقوا ،وعلى ربهم توكلوا ،وبعد كل هذه
النعم ،وهذا الحال ،وذلك العطاء ينقلنا السياق القرآني كعادته بجمال التصوير
ودقة التعبير وهو يوضح الحالة النفسية لهؤالء القوم األتعس حاالً ،واألسوأ
دينًا ،واألرذل أخالقًا ،والدنيا تفرحهم بطينها وناسها ،وذلك من خالل قوله
"حتى إذا فرحوا بما أوتوا" ،حيث توحي هذه األلفاظ بإيحاءات كثيرة ،ومنها:
قوله حتى وليس فلما فرحوا كون الفاء هنا لو جاءت ألوحت باألخذ السريع،
بينما حتى توحي بمعنى الغاية والترك لهؤالء القوم في النعيم فترة قبل األخذ
المباغت .إنه الترك واإلبقاء عليهم صحيحو األجساد ،كثيرو النعم ،عظيمو
الجاه ،آمنون الشر ،مستورو الحال زمنًا طويالً ،وعمرًا مديدًا حتى يغمرهم
الفرح ،ويحيط بهم األنس ،ويظنون عندئ ٍذ أنهم والبقاء سيان ال يفترقان .إنه
الفرح المبتور المُخفي وراءه كل وحشة ،والذي يظهر هنا في صورة عابثة،
وفي لحظات عاطفية عابرة في رسالة عاجلة للجماعة المنقذة واألمة الهادية
كي تستشعر أن الفرح المنقوص الذي ال يحويه دين ،وال يقوده يقين ،وال
يحكمه دليل ،هو فرح مفضوح سرعان ما ينقلب أهله إلى األحزان والمنون
كون الفرح الحقيقي كما تعرفه الجماعة واألمة هو بفضل اهلل وبرحمته التي
تغني عن كل شئ ،ومن كل شئ .وينقلنا القرآن إلى خاتمة األفراح المنقوصة
عمرًا ،والسيئة حاالً ،وهى تنتهي في لحظات سريعة كي ُتغْلَق األبواب
المفتوحة هنا لتُفتَح أبواب األخذ اإللهي المنتهية حتمًا إلى دار بأبوابها السبعة
هناك حيث الهوان والبوار ،والخزى الجماعي والعار .إنها خاتمة االستدراج
تأتي هنا كي تعلم الجماعة المنقذة واألمة الهادية هذه الحقيقة ،فتعيش بها ولها
- 299 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
دون أن تستدرجها نعمة ،أو تغريها فرحة سواءً على مستوى أفرادها كأفراد،
أو حالها كجماعة وأمة كون الزوال ينتظر الفرح المنقوص الخالي من قيم
الروح ،والملئ فقط بقيم الطين ،ومتعه وذواته .إنها النهاية المحتومة،
والفرحة اليتيمة تظهر هنا من خالل قوله "أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون"،
إنه األخذ المباغت الذي ترك القرآن لنا نوعيته وشكله وطريقته دون تحديد
كون األخذ يكون بطرق مختلفة .إنه األخذ بطريقة مباشرة من السماء
بصواعق وزالزل ،أو بطريقة غير مباشرة ،وذلك بسلبهم ما معهم على أيدي
غيرهم ،فيبيتون جوعى بعد شبع ،وأذالء بعد عز ،وموتى بعد حياة .إنه األخذ
الذي تُرك هكذا دون تحديد الشكل والكيف ليبقى أهله مجهولي النهاية كما
كانوا تمامًا مجهولي البداية ،وجاء التعبير المعجز والمعبر عن ضعف هؤالء
القوم من خالل قوله "وهم مبلسون" ،أي يائسون من النجاة ،ومن البقاء،
وذلك بعد الفرح المنقوص ،والعبث المنحوس بغيرهم ،فقد جاء وقتهم اآلن
كى يستسلموا لمن بيده األمر والنهي .إنه االستسالم اإلجباري ألقوام كانت
نهايتهم شبيهة تمامًا بطريقة عيشهم ،ثم تختم اآلية بختام يناسب البداية من
خالل اآلية التالية ،وذلك بقوله "فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد هلل رب
العالمين" ،إنه القطع النهائي لسيرة هؤالء ،ومكرهم ،وظلمهم لتنتهي بهم
الحياة ،وينسى شرهم وذكرهم األحياء كون لفظ القطع يوحي بهذا المعنى،
كما أن بناء الفعل للمجهول "فقطع" دون أن يحدد القاطع لهذا الدابر ،ولهذا
الناسي ،ولهذا الغافل بهذه الصورة تاركًا المجال مفتوحًا سوء للقطع المباشر
كما كان الحال في األخذ غير الموضح الشكل والطريقة من قبل اهلل ،أو للقطع
غير المباشر عن طريق نصر اهلل لعباده الصالحين ،وحزبه المفلحين ليتولوا
هم بأمر اهلل وحكمه قطع هذا الدابر بأشكاله وذواته وأنصاره ورجاله وحُكْمِ ِه
وأدواته .نعم جاء بلفظ القطع لتأنس الجماعة المنقذة واألمة الهادية بعد وحشة،
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 300 -
ال
وتطمئن بعد خوف كون قطع دابر الظلمة ،وإنهاء حكمهم وتحكمهم حاص ً
وحادثًا ،والقضية هى قضية وقت ال أكثر .إنها الحقيق التي يجب أن تصبر
عليها ولها الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهى ترى أعمار الظلمة ومكرهم
يطول دون أخذ رغم فسادهم ،عندئ ٍذ يعلمون أنه االستدراج ال أكثر ،وعما
قريب يأتي األخذ ،واألخذ المباغت بدون شك ،وهذا ال يعني أبدًا عدم القيام
بواجب الدعوة حتى يأتي أمر السماء بقطع الدابر الذي أفسد ،ومازال كذلك،
بل الواجب العمل والحركة دون استعجال النتائج ،وترك العواقب والنهايات
للسماء ،فهى وحدها التي تحدد زمن وطريقة األخذ ،وليست األرض مَنْ تفعل
ذلك ،ثم ختمت اآلية بحمد وثناء اهلل على ذاته كونه – جلت قدرته ،وتقدست
أسماؤه – ال يعجزه شيء ،وال يحتاج إلى شئ ،بل الجميع مفتقر له ،ومحتاج
إليه .إنها الحقيقة التي يجب أن تعيها الجماعة المنقذة واألمة الهادية عندما
ترى مكر اهلل ،وأخذه للظالمين سواء بطريقة مباشرة ،أو على أيديهم ،عندئذٍ
عليها أن تحمد اهلل ال أن تحمد ذاتها ،وال جهدها ،وال خططها كون اهلل ،واهلل
وحده ،هو الذي أخذ ،وهو الذي قطع ،وما العباد بجهودهم وجهادهم إال أسباب
ال أكثر ،وهو معنى نفيس ،بل غاية في النفاسة نلحظه في ختام هذه اآلية
المختومة بهذا الحمد.
- 301 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
للطين ،لذات الطين فحسب .إنه الطين الذي فقد قيمته يوم أن أخذته السبل
بعيدًا بعيدًا حتى أعمت بصره وبصيرته حينًا من الدهر ،وال يزال هذا العمى
يفعل فعله ،وسيظل كذلك ما بقيت السبل قائمة ،ودعائها على صدور ضعاف
الخليقة جاثمة ،لذا كان العطف هنا إيحا ًء بأن صراط اهلل المستقيم ليس صراطًا
خاويًا ال روح فيه كما هو حال سبل الشيطان وضالالته ،بل هو الصراط
القويم دينًا ،والواضح شرعًا ،والوسطيّ عبادةً ،واألحق بالبقاء واإلتباع إنه
الصراط الذي يحوي الوصايا التسع بجمالها وجاللها وروعتها وكمالها .نعم
فجمالها كونها تُجمِّل باطن العبد وظاهره وتطهر أخذه وعطاءه وتصلح دنياه
وآخرته ،أما جاللها فكونها وصايا ذو الجالل المطلق سبحانه وتعالى .ومما
ال شك أن الصراط يحوى غير هذه الوصايا ولكن تُعتبر هذه الوصايا هي
القواعد التعبدية واألساسات التشريعية التي ينطلق المؤمن بها ومن خاللها
مع سائر القيم نحو السماء تاركًا األرض بشهواتها خلف ظهره.
وال شك في أن القيم السماوية العليا هذه هى التي يجب على الجماعة المنقذة
واألمة الهادية السير على أساسها ،ودعوة األرض ،كل األرض ،بأهلها
وناسها كي تتبعها كونها الصراط الذي يملك الحقوق الحصرية الحقيقية في
السيادة والقيادة ،وما سواه من النظريات والقيم األرضية األخرى ال تعدو أن
تكون سوى سبل شيطانية إبليسية ال أكثر .وقد جاء اسم اإلشارة "هذا" هنا
لإليحاء الصريح بهذه القيم النبيلة ،والوصايا السماوية الخالدة كونها هى
الحقيقة وما سواها َوهْم والنور وما سواها ظالم لذا ال يجوز أن تبحث الجماعة
المنقذة واألمة الهادية عن طريق غير هذا الطريق ،وال عن منهج غير هذا
المنهج كون منهج السماء بمحتواه هذا وقيمه هذه كفيل دون غيره بإحياء
األرض بعد موات ،وإشباعها بعد جوع ،وتأمينها بعد خوف ،وإال كان العكس
صحيحًا ،والمآل القبيح واقعًا .كما أن الياء في قوله "صراطي" إيحاء بأن
- 303 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
هذه أوامر سماوية ال أرضية ،ونقلية ال عقلية .إنها الحقيقة الداعية التباع هذه
األوامر وتنفيذ تلك الوصايا كونها أوامر سماوية مقدسة ووصايا ربانية ملزمة
غير قابلة للتأويل أو التعطيل أو التحريف والتبديل تحت أي مسمى كون الياء
توحي بهذا المعنى ،وهو معنى نفيس ينبغي تأمله ،والوقوف عنده ،كما أن
الياء تبعث في القلب الحي همة وهمم وأمانة وإيمان تدفعه للعمل واالتباع،
والتمسك واالستماع ،والمالحظ أن صفة الصراط "مستقيماً" هنا جيء بها
منكرة لإليحاء بأن صراط اهلل مستقيم كامل االستقامة سواء في ألفاظه
ومعانيه ،أو في أحكامه ومبانيه .إنها االستقامة الكاملة بما تحويه األلفاظ من
المعاني حتى تعي الجماعة المنقذة واألمة الهادية هذا الصراط فتسير عليه،
وتتمسك به تاركة وراءها وخلف ظهرها سبل الشيطان وضالالته كون أن
غير هذا السبيل السماوي هو سبل شيطانية ،ونظريات إبليسية ال أكثر ،كما
أن هنا معنى غاية في الروعة والجمال يفهم من خالل سياق اآلية وهو أن
هذا الصراط المستقيم بهذه األوصاف واألحوال غير المعوجة في األلفاظ
والمعاني ،وال في األحوال والمباني يوحي بأن السالك لهذا الصراط
والمتمسك به ال يعوَّج ،وال يَضِل كون الصراط مستقيمًا ال عوج فيه ،عندئذٍ
سيصبح السالك كذلك ،وهو معنى دقيق ونفيس أيضًا .واآلن وبعد توضيح
المعنى الكبير من واو العطف مع لطائف األلفاظ وجمال العبارات ينتقل
السياق القرآني بنا مباشرة إلى تحديد الهدف والغاية من تشريع هذه القيم،
وذلك من خالل قوله "فاتبعوه وال تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" ،إنها
الحقيقة الكبرى التي ينبغي استيعابها من قبل الجماعة المنقذة واألمة الهادية
وهى أن ثقافة التنظير واالفتخار بالمنهج والمحتوى الخالية من العمل
والتطبيق غير مقبولة البتة ما لم يكن العمل بتلك القيمة وذلك المنهج هو السيد
والسائد .إنها ثقافة الكالم ،وثقافة الطرح ،وثقافة الجدال ،كلها ثقافات جوفاء
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 304 -
ال قيمة لها في ميزان السماء وحكمها ما لم يكن العمل بها هو األصالة
واألصل ،لذلك بعد ذكر القيم جاء األمر هنا بالعمل واالتباع ،وذلك في إشارة
واضحة للجماعة المنقذة واألمة الهادية كي تخرج من طور التنظير إلى طور
التطبيق ،كما نلمس إيحاءات كثيرة هنا ،ومنها :أن التمسك الفردي واالعتصام
الذاتي بالصراط المستقيم بعيدًا عن العمل الجماعي ال ينجي صاحبه من
السقوط في أتون السبل اإلبليسية ،ومستنقعات البدع الشيطانية كون واو
الجماعة هنا توحي بوجوب التمسك الجماعي بصراط اهلل المستقيم المتمثل
بقيم السماء ووحيها كما هو معلوم .إنها ثورة القرآن الواضحة منذ القدم،
الرافضة على الدوام لثقافة االنعزال والتقوقع بعيدًا عن الناس تحت مسميات
العبادة والتعبد الموبوء ،كما أن الفاء في قوله "فاتبعوه" توحي بوجوب االتباع
الفوري دون تأخر أو إبطاء كون اآلمر هنا هو اهلل ،فال مجال للتفكير في هذا
األمر كون السبل اإلبليسية تنتظر المتساقطين والمترددين البتالعهم على
الفور ،فكان وجوب السير على صراط اهلل المستقيم لهذا المعنى ،وما من شك
في أن العلماء اختلفوا في تعريف الصراط ،فمنهم من قال هو القرآن ،ومنهم
من قال هو اإلسالم ،وآخرون قالوا هو النبي الكريم ،وال شك في أنها كلها
حق وصدق ،ولكن يبقى اإلسالم هو القول الذي يجمع كل األقوال دون شك.
وما ينبغي قوله أيضًا هو أن هذا الصراط الصادق دينًا ،والواضح شريعة
وشرعًا لن ينفرد في الحياة كون العدو إبليس المعروف بسبله ودعوته ورجاله
ودعاته لن يبقى ساكنًا وال ساكتًا ،بل سيتحرك على الفور ،وهو متحرك
بالفعل ،لذا قال اهلل "وال تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" ،حيث تحمل هذه
الجملة دالالت كثيرة ،ومنها :أن الفعل المضارع تتبعوا والمسبوق بال الناهية
يوحي بقدرة الشيطان الفائقة على التلبيس ،وهو ما استدعى األمر السماوي
باالنتباه الدائم والمستمر كون الشيطان بسبله ودعاته لن يتوقف ،ولن يسكن،
- 305 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
كما أن الجملة توحي بأن صراط اهلل واحد ،وسبل الشيطان متعددة ،حيث إن
كلمة "السبل" في نهاية اآلية هنا تقابل "صراطي مستقيمًا" في بدايتها ،كما
أن السبل وسبيله أيضًا تشير لهذا المعنى .إنها السبل الشيطانية براياتها
المتعددة ،وقياداتها المتنوعة ،وضالالتها المختلفة تعلن عن نفسها حيثما وجد
الصراط المستقيم ،ووجد عليه سالكون .نعم إنها السبل المختلفة شكالً،
والباطلة دينًا ،والساقطة أخالقًا تكرر ذاتها ،وتنشر إفكها دون حياء أو خجل
على مدار التاريخ البشري الطويل مستهدفة صراط اهلل المستقيم بمبادئه وقيمه
ورجاالته ودعاته ،وهو ما يستدعي الحيطة والحذر من خالل تخلية واضحة
لألنفس تتبعها تزكية هادفة ،ويالحظ التعبير القرآني الدقيق من خالل قوله
"فتفرق بكم عن سبيله" ،حيث توحي هذه الجملة بدالالت كثيرة ،ومنها :أن
قوله "فتفرق" وليس" فتفرقوا "هذا التعبير يوحي بامتالك السبل الشيطانية
للذوات البشرية عندما يسقطون في أتونها ،ويقعون في أحضانها .إنه الخطر
الجسيم الذي تمثله سبل الشيطان ،وبدعه ،وضالالته ،وشبهاته كون كل تلك
المفردات وردت في تفسير معنى "السبل" ،وهو ما يستدعي الحذر المقرون
بالتربية حتى ال يسقط أفراد الجماعة المنقذة واألمة الهادية في أحضان تلك
السبل ،ومن ثم يكون من الصعوبة بمكان إعادتهم من أحضانها إلى الحضن
الشرعي الدافئ حاالً ،والصادق دينًا ،ومما ال شك فيه هنا فإن تفرق الجماعة
المنقذة واألمة الهادية يكون ناتجًا عن اتباعها السبل المتفلتة ،والضالالت
المنحرفة التي أودت بها إلى هذا الحال ،كما أن اتباع السبل الشيطانية عاقبتها
وخيمه أيضًا كونها تفصل العبد عن صراط اهلل المستقيم كما يفصل الرأس
عن الجسد ،حيث يوحي حرف الجر "عن" بهذا المعنى .إنه الفصل المخيف
للقيم ،والذي يدع المفصول ميت الشعور ،وميت الضمير ،وميت القلب في
الحال والمال ،ثم تختم اآلية ختامًا يناسب البداية ،وذلك من خالل قوله "ذلكم
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 306 -
وصاكم به لعلكم تتقون" حيث توحي "ذلكم" بمجموع الوصايا اإللهية السابقة
الذكر كونها وصايا السماء لألرض كي تبقى وتحيا كون حياة األرض ،كل
األرض ،ليست بمآكلها ومشاربها كما يعتقد البعض ،بل حياتها بربها ودينها،
وإال كانت حياتها ناقصة ،وعاقبتها بائسة ،كما أن الفعل الماضي وصاكم فعل
مضعف والتضعيف يوحي بقيمة الوصايا ،إنها الوصايا التي تحفظ لألرض
شرفها وكرامتها حتى ال تخترقها سبل الشيطان ،أو يعبث بحياتها من جديد
هبل األصنام ،ثم جاءت "لعلكم تتقون" معلنة أن الوصايا اآلنفة الذكر ليست
وصايا جوفاء ،وال هى مفردات عمياء ال تجد طريقًا ،وال تسكن قلبًا ،بل هى
قيم دينية عظيمة ،ومن عظمتها أنها تقود العباد إلى مراتب األولياء ،ومصاف
األتقياء كما أراد اهلل لها أن تفعل.
- 307 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ال ٍل
ك فِي ضَ َ
ك َو َقوْمَ َ
( َوإِذْ قَا َل إِبْرَاهِي ُم ألَبِي ِه آ َز َر أَت ََّتخِ ُذ أَصْنَام ًا آلِهَ ًة إِنِي َأرَا َ
مُّبِينٍ{.)67()}74
كن مؤدبًا في خطابك ،وحكيمًا في انتقاء ألفاظك وكلماتك عند مخاطبة أبيك
ولو كان على غير هدى .إنها الحقيقة التي عاشها نبي اهلل إبراهيم هناك مع
والده الكافر ،والتي أوضحت وبجالء تام عظمة البالء الذي واجهه الخليل في
مسيرته الدعوية ورسالته السماوية .إنه بالء كفر األب ،وضالله ،ومحاربته
لرسالة االبن ونبوته في واحدة من أعظم المشاكل األسرية واالختالفات
العقدية التي واجهت أنبياء اهلل ورسله على مستوى البيت واألسرة .نعم إنه
االختبار الحقيقي والكبير الذي يواجهه األبناء أحيانًا عندما تكون الهداية
والهدى هذه المرة من نصيب األبناء ،وليست من نصيب اآلباء كما هو
مشهور .ومما ال شك فيه فإن أفراد الجماعة المنقذة واألمة الهادية قد يواجهون
في بعض األحايين تصديًّا أُسريًّا داخليًّا لدعوتهم ،وطريقة سيرهم من قبل
آبائهم وذويهم ،ليس ألن اآلباء كفار كحال آزر هنا ،بل مسلمون ،ولكنه
اإلسالم المتوارث عن اآلباء واألجداد ليس في لحظات القوة والعلم ،بل في
لحظات الضعف المغمور بالجهل والبدع ،والذي يُظهر اإلسالم حينها بمظهر
غير مظهره ،ومن ثم يتكرر االختبار للجيل أفرادًا وجماعات في التعامل مع
هذه المشكلة ،ومع هذا اإلشكال ،وال شك في أن اختبارًا من هذا النوع قد
ظهر في كثير من البيوت واألسر فكان السقوط في بعض األحيان هو السيد
والسائد نتيجة للبعد القيمي والعلمي لقيم السماء ووحيها من تلك العقول
والمعقول في آن واحد ،وال شك في أن خطاب الخليل ألبيه هنا يعتبر نبراسًا
ال من هذا النوع
للجماعة المنقذة واألمة الهادية عندما يقابل أفرادها أحيانًا إشكا ً
أو قريبًا منه في الوسائل والطرق ليس إال ،ومن المعلوم أن الخطاب
اإلبراهيمي هنا كان ناجحًا بغض النظر عن نتائجه كون النجاح ليس مقصورًا
على تحقيق الغايات ،والوصول بنجاح إلى النهايات ،بل قد يكون النجاح
بمجرد البالغ ،والخروج من هذه المشكلة بأقل خسارة ،وأقل كلفة كحال
الخليل هنا .نعم فكونك تتميز ،وتثبت ،وتتعامل بحكمة وهدوء وروية مع أبيك
أو حتى مع محيطك الذي تحيا فيه تكون بكل هذه المفردات قد حققت نجاحًا
بشهادة السماء وإن قالت األرض غير هذا ،فالقول ما قالت السماء وحكمت
ال ما قالت األرض وكتبت ،ومما ال شك فيه فإن نقل السماء لهذه المشكلة
األسرية الكبيرة ،والحديث عنها في أعظم كتاب عرفته األرض يوحي
بدالالت كثيرة ،ومنها :أن بيوت األنبياء عانت كثيرًا ،وتألمت كثيرًا ،وهو ما
يلقي على بيوت األتباع الهدوء والسكينة عندما تخيم عليها المشاكل ،أو تحيط
بها األزمات ،كما أن مشكلة الخليل األسرية توحي بأن خالفات األسرة والبيت
عندما تقابل داعية الحق تكون بمثابة التحدي واالختبار لدعوته وثباته،
ال
ورجولته ومنهاجه ليُعرف أيهم يسقط ،وأيهم يبقى ؟ وحتى ال نسترسل طوي ً
هنا قبل الولوج في صلب اآلية ومحتواها دعونا نذكر أن بيت الخليل إبراهيم
جمع بين المشاكل العقدية متمثلة بكفر أبيه من ناحية ،وبين المشاكل الزوجية
بين الضرائر متمثلة بهاجر وسارة غير القابلتين على اإلطالق للحياة معًا
وسويًّا خصوصًا بعد أن حملت هاجر بإسماعيل ،ومن ثم والدته كما هو معلوم
في طبيعة النساء في غالب األحيان ،وهو ما تطلب منه بيتًا آخر ،ومسؤولية
أخرى ،هذا باإلضافة إلى المشاكل الخارجية المتمثلة بالبيئة الكافرة والعابدة
لألصنام ،والتي يعتبر آزر صانعًا من صناعها ،وعابدًا مشهورًا من عبادها.
إنها المفردات المؤلمة ،والمشاكل األسرية والمجتمعية الكبيرة والمتداخلة
سواء في داخل البيت الصغير ،أو في المحيط المجتمعي الكبير ،كلها عاشها
- 309 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
الخليل ،ولم تسقطه البتة ،أو تقعده ،بل تنقل وسافر وناظر وحاور في صورة
رجولية غاية في اإلبداع واإلمتاع والشجاعة واإلقناع من البداية حتى النهاية.
إنها رجولة المواقف ومواقف الرجال هى التي تتحدث ،ويكون لها المكانة
والمكان عندما تتلقى تعاليمها من السماء ال من األرض ،ومن الوحي ال من
العقل ،ومن الهدى ال من الهوى ،عندئ ٍذ تبقى ،وتظل باقية بقيمها ومبادئها
وإن رحلت ذوات األرض جميعًا .ومما ال شك فيه هنا فإن المعنى الكبير
والدقيق الذي يفهم من خالل سياق اآلية يوحي بأن صدق العقيدة ،ووضوح
ال أو عبدًا صالحًا القدرة
العبادة هما اللذان يكسبان العبد سوا ًء كان نبيًّا مرس ً
على الثبات أمام مشاكل الداخل أو أخواتها في الخارج بدون شك ،وهو معنى
نفيس ينبغي تأمله ،والوقوف عنده إذ إن الخليل لم تصبه هذه الحملة الشرسة
من التضليل والتجهيل بالهوس النفسي أو السقوط القيمي ،حاشاه أن يكون
كذلك وهو النبي المصطفى ،والخليل المجتبى ،وكذلك يبقى حال كل من
يتصل بخالق األرض والسماء بدون شك .وحتى نواصل الحياة في رحاب
الجمال نعود لآلية حتى نتذوق الحالوة والجمال من جديد ،فقوله "وإذ قال
إبراهيم ألبيه آزر" ،حيث توحي هذه الجملة بإيحاءات كثيرة ،ومنها :أن
"قال" فعل ماض كون القول كان هناك مع أبيه فانتهى ،ولكن صورة القول،
وشكله ،والحكمة في القول بقيت وذكرت .إنها اإلشارة الدقيقة لذهاب الذوات
ال عن أن يكون
ال أو فعالً ،فض ً
وبقاء األثر الجميل سواء كان هذا الجميل قو ً
القول رسالة ودينًا ،وهو معنى دقيق ونفيس ينبغي تأمله ،كما أن ذكر إبراهيم
هنا دون وصف ،بل إبراهيم مباشرة فيه إيحاء بأن األشخاص ترفعهم قيمهم
وقولهم ،وتُعرف بهم مواقفهم ووقفتهم ،وليس األلقاب وحدها التي تفعل ذلك،
كما أن ذكر إبراهيم النبي مع أبيه الكافر هنا يوحي بأن صالح األبناء وضالل
اآلباء أو العكس عندما يحدث ال يعتبر عيبًا أبدًا في حق األبناء كما هو الحال
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 310 -
هنا ،أو في حق اآلباء في غير هذا المكان ،وذلك كون الهداية تتوالها السماء
وحدها دون أن يكون لألرض بناسها وأهلها شأن في ذلك اللهم إال مجرد
التبليغ والبالغ ال أكثر ،ومن ثم تصبح قاعدة القواعد بعد البالغ والتبليغ كل
نفس بما كسبت رهينة دون أن ينقص ذلك من قدر أحد شيئًا كائنًا من كان هذا
األحد ،وهو معنى جميل أيضًا يفهم من خالل السياق ،ثم يأتي التعبير واضحًا
من خالل قوله "ألبيه" حيث هنا إيحاءات كثيرة ،ومنها :أن اختالف الدين ال
يغير النسب ،وال يؤثر فيه ،وإنما يغير المآل والمنقلب ،كما أن قول إبراهيم
هنا يوحي بأن قداسة الدين أكبر من قداسة الذات ولو كانت هذه الذات أبًا أو
ابنًا كون الدين هو األعلى مكانًا ،واألصدق حاالً ،واألولى اتباعًا ،ومن ثم
كانت النصيحة ،وكان التوجيه ،كما أن تكرار الحوار بحكمة بالغة وشفقة
واضحة بين االبن الخليل واألب الكافر فيما يقارب سبعة مواضع غير هذا
الموضع يوحي بوجوب اإلحسان لألب في القول والنصح والتوجيه بعيدًا عن
القوة والبطش .إنها الحكمة التي يجب أن يحياها دعاة اليوم ورجال اليوم وهم
يحيون في رحاب آيات السماء ،وذلك عندما يتكرر الخالف في اإلطار
األسري والذات المجتمعي .وبعيدًا عن الخالف الذي خاضه علماؤنا حول
ب الخليل أو عمه كونه يطلق في اللغة على العم أب فإننا سنتعامل
آزر هل هو أ ُ
بإجماع المفسرين الذين أخذوا بظاهر اآلية دون الولوج إلى ما قال غيرهم
كونه هو المعنى األقرب بدون شك .إنه األب الذي كان عقبة كؤودًا أمام
الخليل ،ولكنها العقبة التي لم تحطم الخليل أبدًا ،بل أحسن الخليل رعايتها،
وتحمل خشونتها وقسوتها من بداية األمر حتى نهايته في صورة غاية في
البر والحكمة ،والصبر والرحمة .نعم إنها الرسالة التي ينبغي أن تعيها
الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهى تقابل عقبات الطريق ومشاكلها،
وخالفات البيوت ومعاناتها كي تتعامل مع تلك العقبات هنا كما تعامل معها
- 311 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
الخليل هناك ،والمالحظ هنا أن الخليل توجه بالنصح الحكيم لوالده من خالل
قوله "أتتخذ أصناما آلهة" بطريقة االستفهام .إنه األدب الذي تجلى في روعة
األلفاظ المختارة ،والكلمات المعبرة بعيدًا عن التأنيب والتجريح ،أو السخرية
في التوضيح .إنها شفقة االبن النبي تتجلى في روعتها وراعيها وهو يحاور
بحكمة بالغة األب الكافر في مجرى الحياة ومرساها عسى أن تخرج سفينة
البيت إلى ساحل الحياة ومرفأ األحياء ،ثم يتواصل التوضيح بصورة جمالية
رائعة من خالل قوله "إني أراك وقومك في ضالل مبين" ،حيث توحي هذه
الجملة بدالالت كثيرة ،ومنها :أن الجزء األول من اآلية هو تحديد للمشكلة
"أتتخذ أصنامًا آلهة" ،بينما الجزء األخير منها هو الحكم عليها" ،إني أراك
وقومك في ضالل مبين" ،إنه الحس الدعوي الذي ينبغي أن يحمله أفراد
الجماعة المنقذة واألمة الهادية وهم يقابلون عقبات الحياة ومشاكل األحياء،
والذي يتطلب فهم العقبات من حيث ماهيتها وأسبابها ومآالتها ،ومن ثم الحكم
عليها بعد هذا الفهم وذاك اإللمام ،وقوله "إنى أراك" وليس "أنا أراك" ،وذلك
كون التعبير إني يوحي بتواضع االبن مع أبيه ،بينما أنا يوحي بالكبر والعلو
والقوة ،وحاشا الخليل أن يجمع مفردات الكبر ،وألفاظ القوة والعلو وهو
يخاطب أباه الذي أطعمه ورباه وإن كان كافراً .إنه الجناح الذي يجب أن يبقى
منخفضًا على الدوام بين يدي األب بغض النظر عن الدين والمذهب أو المعتقد
والمقصد ،ومما ال شك فيه فإن الفهم السوي لقيم السماء ،ومنهجها ،هو الذي
يوجد هذه العقلية الطاهرة دينًا ،والحكيمة قوالً على الدوام ،كما أن البعد
والتباعد عن قيم السماء أيضًا هو الذي يوجد العقلية القاسية دينًا ،والمتفلتة
أخالقًا ،والمعتدية سلوكًا على كل أحد دون اعتراف بفضل أو فضيلة ،كما أن
قوله "أراك" يوحي بوجوب رؤية المنكر ومالحظته ،وعدم التخمين أو الشك.
إنها الحقيقة التي يجب أن يكون االنطالق من خاللها لتغييرها كون خلط
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 312 -
واالنحالل األخالقي لمجتمع العهر .إنه االنحالل الذي عاشته تلك األمة
اللوطية التي دأبت في حياتها على إتيان الرجال شهوة من دون النساء في
لحظات التيه األرضي والضياع القيمي ،ويالحظ هنا مجيء كلمة "قومه"
لإليحاء بضياع القوم ،كل القوم .إنه الضياع الذي أراده المأل هناك كي تبقى
لهم السيادة والقيادة ولو على حساب الشرف والكرامة ،كما أن مقدمة اآلية
"وما كان جواب قومه" توحي بحركة الطهر المستمرة متمثلة بنبي اهلل لوط
ومن معه الستئصال العهر الذي طغى وتكبر ،وأفسد وانحدر .إنه االنحدار
الذي استمر في السقوط تباعًا حتى وصل إلى القاع ،وإلى القاع المزري حاالً،
والمخزي سلوكًا ،والذي تحركت الجماعة المؤمنة حينها متمثلة بنبي اهلل لوط
ومن معه لتدارك األمر .نعم إنه التدارك الموحي برحمة اهلل القادمة من هناك
من السماء كي تسبق غضب اهلل ومقته وعذابه وأخذه ،كما أن موقف الجماعة
المنقذة هنا يوحي بأن شناعة الذنب ال يجوز أبدًا أن تكون مسوغًا للهروب
من تحمل المسؤولية ،بل القيام بواجب النصح والتوجيه ،وتدارك ما يمكن
تداركه ،وإصالح ما يمكن إصالحه هو من أولويات الجماعة المنقذة واألمة
الهادية في كل عصر .إنها الحقيقة التي يجب على الجماعة المنقذة واألمة
الهادية استيعابها والتحرك الدائم وفق الممكن النتشال من سقطوا ،وإصالح
من أفسدوا كون مقدمة اآلية هنا توحي بهذا المعنى .وحتى نتعرف على حماقة
العهر تعالوا لمعرفة محتوى القول األرعن لهؤالء البلداء عقوالً ،والساقطين
أخالقًا ،والمنحرفين ديناً وهم يعبرون عن حماقتهم من خالل قولهم
"أخرجوهم من قريتكم إنهم أناس يتطهرون" ،حيث تحوي هذه الجملة دالالت
كثيرة ،ومنها :أن لفظ "أخرجوهم" يوحي بسياسة اإلبعاد والتهجير المتبعة
لدى العهر سواء كان عهرًا سياسيًّا أو أخالقيًّا كما هو الحال هنا .إنها ثقافة
االستبداد القائمة على اإلبعاد والقادمة من هناك في صورة بئيسة من أنفس
- 317 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
خسيسة .إنها الخسة المتوارثة يحملها مجتمع العهر كابرًا عن كابر منذ أول
الخليقة وحتى نهاية الحياة .كما أن اللفظ يوحي بأن ثقافة الحوار لدى مجتمع
العهر – إن وجدت أحيانًا – فليست سوى ألعوبة مؤقتة سرعان ما تنتهي ليحل
قرار "أخرجوهم" محلها كون العهر ال يقبل حوارًا لمعرفته المسبقة بعدم
جدواه في خدمة عهره ،واستمرار باطله ،وهو ما يستدعي وجود البدائل
المعدة مسبقًا من قبل أهل الحق ورجاله للتعامل مع هذا الحال .كما أن لفظ
"أخرجوهم" يوحي بأن الباطل رغم شناعته ،وسوء بضاعته قد يُمنح زمنًا
تكون له فيه الصولة والجولة ،وهو ما يستدعي الحركة والعمل من قبل
الجماعة المنقذة واألمة الهادية كي تزيحه من مركز القيادة ،وموقع القائد .كما
أن اللفظ يوحي بعدم قابلية الباطل ألي أحد ما لم يؤمن بباطله ،ويخضع لمنكره
كون األمر باإلخراج جاء عامًّا بصيغة الجمع كي يشمل كل طاهر مطهر
دون استثناء .إنها رداءة الخبث ،وحماقته ،وحقيقته وهو يتعالى على الطهر
في لحظات التيه وزمان التائهين ،وهذا التيه سينتهي حتماً ،ويُقطع دابره
قطعًا ،وذلك بعد أن تقوم الجماعة المنقذة واألمة الهادية بواجبها ودورها .ثم
يتواصل الجرم ،ويتعاظم اإلجرام من خالل قولهم "من قريتكم" ،حيث يوحي
هذا التعبير بإيحاءات كثيرة ،ومنها :اعتقاد الباطل أنه هو المالك لكل شيء،
بينما المخالف له مملوك ال يملك شيئًا .إنه االعتقاد األرعن الذي واجه
الجماعة المنقذة واألمة الهادية هناك ،وما زال هو نفسه يواجهها اليوم هنا في
صورته البئيسة ،وأدواته الخسيسة .نعم إنها عقلية االستبداد ولغة االستعباد
تعبر عن نفسها ظنًّا منها لحماقتها أنها تملك القرار والديار ،كما أن لفظ "من
قريتكم" وليس "من القرية" هو بمثابة التعبئة النفسية والتحشيد اإلجرامي
لدفع العوام بحمية الملكية المزورة للدفاع عن قريتهم التي يملكونها دون
غيرهم .إنه الخطاب اإلعالمي المغشوش الذي يحرك العواطف الجاهلة
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 318 -
علمًا ،والمغيبة عقالً ،والساقطة أخالقاً ،والتائهة دينًا كي تنتحر مدافعة عن
مُلْكِها (بضم الميم وسكون الالم) الزائف ،ومالكها المزيف كي تكتشف في
النهاية أنها لم تكن سوى أدوات رخيصة ال أكثر ،ثم يتواصل الجمال القرآني
وهو ينقل لألرض حقيقة الطهر ،ورجاله ،ودعاته من خالل قوله "إنهم أناس
يتطهرون" ،حيث تحمل هذه الكلمات القرآنية الكثير من الدالالت ،ومنها :أن
الباطل يعرف حقيقته الباطلة ،ورؤاه الساذجة ،وأدبياته المنحطة ،ويعترف
حقيق ًة بطهر اآلخر ،ونظافته ،ونقائه .إنها الشهادة التي نطقت بها ألسنة العهر
وأدواته ،وتحدثت بها وسائل الباطل وقياداته في لحظات انفعالية واضحة
معبرة عن طهر النبي لوط ومن معه ،وجيء باللفظ هنا بصورة المضارع
"يتطهرون" ،وذلك لإليحاء بأن طهارة الحق وحملته هناك كانت مستمرة
ودائمة ،ولم يحدث لها أن تلطخت أو سقطت رغم بقائها في مجتمع سقط
بأخالقه وآدميته حتى وصل القاع .إنها الشهادة القادمة من هناك من ألسنة
الباطل ،والمؤكدة على قدرة الجماعة المنقذة واألمة الهادية على حفظ ذاتها
وأفرادها من السقوط ،وذلك عندما تعيش في مجتمع فقد قيمه وقيمته ،كما أن
اللفظ يوحي بأن طهارة األطهار في مجتمع عاهر ليست مقبولة لدى العهر
كونه ال يقبل الطهر ،وال يتعايش مع الطاهرين ،وهو ما يستدعي أخذ الحيطة
والحذر من قبل األطهار حفاظًا على طهرهم وطهارتهم.
- 319 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
علَيْهِم َّمطَرًا
طرْنَا َ
ن الْغَا ِبرِينَ{َ }83وأَمْ َ
ِال امْ َرأَتَ ُه كَا َنتْ مِ َ
( َفأَنجَيْنَا ُه َوأَهْلَ ُه إ َّ
ف كَانَ عَاقِبَ ُة الْمُجْرِمِينَ{.)69()}84
ظرْ كَيْ َ
فَان ُ
حتمًا لن يُترك (بضم الياء وسكون التاء) الطهر لعربدة العهر حتى النهاية،
بل ستأتي لحظات النهاية كي تتدخل السماء إلزالة العبث ،وإنهاء الخبث بعد
طول صبر ،وكثير معاناة .إنها الحقيقة التي يجب استيعابها ،واإليمان بها
حتى ال يتسرب اليأس إلى قلوب الصالحين وأفئدة المجاهدين وهم يرون
المعركة بطولها وعرضها لم تحسم بعد .إنه الحسم الذي سيتأخر بعض الوقت
حتى يكتمل التمايز؛ تمايز الصفوف ،وتمايز الرجال ،وتمايز النيات
والمواقف قبل الحسم النهائي ،والنصر الرباني .وحتى نعيش روعة النصر
بجماله وروعته تعالوا إلى اآليتين ففيهما كمال الروعة ،وروعة الكمال ،فقوله
"فأنجيناه وأهله إال امرأته كانت من الغابرين" ،هذه اآلية تحمل دالالت جمة،
ومنها :أن الفاء هنا توحي بلطف اهلل الظاهر والخفي الذي تدخل مباشرة لحسم
المعركة ،وإنهاء المنازلة .إنه اللطف اإللهي الذي يتدخل في الوقت المناسب
بعيدًا عن تقديرات البشر ،وتخطيطهم ،ورؤيتهم ،وذلك في اللحظات
االستثنائية الحرجة من عمر الجماعة المنقذة واألمة الهادية ،ومما ال شك فيه
فإن الحدث بكل مالبساته جاء تفصيله في كثير من اآليات ،حيث إن جبريل
مع ميكائيل وإسرافيل تحركوا بعد أن تشبهوا بصور نورانية صالحة،
وانطلقوا صوب ديار لوط بعد أن استضافهم نبي اهلل إبراهيم ،وجاء لهم بعجل
حنيذ ظنًّا منه أنهم ضيوف قادمون من بالد بعيدة كعادته في قرى الضيفان،
وبعد الحوار الذي جرى بينه وبينهم لينتهي األمر ببشارتهم له ولزوجته
بإسحاق ،ومن وراء إسحاق يعقوب ،عندئ ٍذ كانت نهاية الرحلة إلى ديار لوط،
وبالتحديد إلى بيت النبي لوط مباشرة .إنها الرحلة التي ستُنهي عبث القوم
وجرائمهم التي تجاوزت حدها ،وبلغت مداها ،إنه الحد الذي حددته السماء
بعيدًا عن تقديرات األرض بناسها وأهلها ،والذي سيصل إليه كل جرم،
وسينتهي عنده كل إجرام كي تبدأ مراحل النهاية ،وتتشكل من جديد معالم
الهداية .إنها الهداية والهدى اللذان سيكونان قطعًا لهما الكلمة والكالم ،والفرس
والميدان ،ولكن بعد زوال العارض ،واألخذ العاجل للمعارض .نعم وصل
المالئكة الكرام في صورة بشرية غاية في الحسن والجمال ،ودخلوا على لوط
بعد أن حاول نبي اهلل صرفهم عن بيته وقريته حفاظًا عليهم من رجس القوم
وسفههم ،عندئ ٍذ كان جوابهم له "إنا رسل ربك لن يصلوا إليك" ،وبدأت
األوامر له من خالل قول اهلل" فأسر بأهلك بقطع من الليل وال يلتفت منكم أحد
إال امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم إن موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب"،
إنها النهاية التي تنتظر اإلجرام بكل أدواته ورجاالته وخططه وإمكانياته
سواء بتدخل السماء بشكل مباشر كما حدث هنا مع قوم لوط ،أو بطريقة غير
مباشرة عن طريق جند اهلل في األرض كما حدث في كثير من المواقع،
ومازال يحدث .ومما ينبغي ذكره هنا أن لحظات األخذ هذه جاءت بعد أن
بذل نبي اهلل جهده في هدايتهم دون جدوى ،وال غرابة في أن نجد أثر
المعاصي فيهم تستفحل ،وتنتشر ،حيث كانت النتيجة كفرهم بنبيهم مع
استمرارهم وإمعانهم بجرائمهم ،بل اإلمعان في الجرائم والجرم ،بالتحرك
الجماعي لفاقدي البصر والبصيرة لطرد الطهر وأهله ليبقى العهر وسدنته.
إنه العهر الذي أراد أن يستقل بالديار والقرار ،ويستأثر – دون وجه حق –
باألموال واألشجار ،وحتى ال يحدث هذا االستئثار جاء األمر اإللهي بإيقافه،
ودقت بالفعل ساعة الصفر الجتثاثه .إنها النهاية الحتمية التي سيؤول إليها كل
خبث ،ويجتث من على وجه األرض كل عبث ،وإن تأخر االجتثاث لحكمة
- 321 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
يعلمها اهلل بعض الوقت ،لكنه حتمًا سيأتي ،ومما ال شك فيه فإن وصول هؤالء
الضيوف في صورة بشرية غاية في الحسن نهاراً ،ودخولهم منزل نبي اهلل
لوط في وضح النهار ،كل ذلك جعل النبي يعيش في حالة نفسية حرجة
خصوصًا بعد قدوم قومه نحوهم لإليقاع بهم ،والعبث بكرامتهم كعادتهم مع
أشباههم .إنها المواقف الحرجة التى عاشها أنبياء اهلل هناك ،والتي ينبغي أن
يستشعر حرجها رجاالت الجماعة المنقذة واألمة الهادية كي ال يستفزهم
العهر ،وال يطفئ جذوة حماسهم القهر .إنه قهر الفساد بظلمه وظالماته
وأربابه وأدواته ،والذي حتما سينتهي مكره ،ويزول شره ،ولكن بعد أن يأخذ
ال عدا امرأته
وقته .وهنا جاء األمر للنبي بالخروج الفوري من داره مع أهله لي ً
التي وإن خرجت معه إال أنه سيصيبها ما أصابهم كونها على ملة قومها،
ومجيء الفاء في قوله "فأنجيناه" يشمل األمرين معًا ،كون اهلل نجاه من مكرهم
بأضيافه ،كما نجاه بعد ذلك من عذاب السماء الذي حل بديار قومه بعد صبر
وطول معاناة ،ويوحي "فأنجيناه" بغرق محقق كان قد ألم بنبي اهلل لوط عليه
السالم .إنها الحقيقة التي يجب على الجماعة المنقذة واألمة الهادية أن
تستوعبها ،وتعيش بها ،وهى أن النجاة ستكون حاصلة في اللحظات الحاسمة،
تلك اللحظات التي تتخلى فيها األرض ،كل األرض ،بناسها وأهلها ،وتنتهي
عندها الحيل ،كل الحيل ،ويعتقد السالك حينها أن الغرق محقق ،والكرب
مطبق ،عندئ ٍذ تتحرك السماء بأمر ربها إلحقاق الحق ،وإبطال الباطل ،لتكون
النجاة ،وذلك بعد صدق مناجاة ،ثم يستمر التعبير يشق طريقه بسهولة ويسر
وهو يرسم المشهد ،وينقل الحدث من خالل قوله "وأهله" ،إنه التعبير المعبر
عن رعاية السماء وحفظها ألهله الذين آمنوا معه .إنها الحقيقة التي تسكب
الطمأنينة واألنس في قلوب السالكين وهم يرون بأعينهم كيف يتولى اهلل
حفظهم مع أهلهم في نهاية المطاف .إنه الحفظ الذي يجعل ذرية الصالحين
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 322 -
عرض البتة ،بل خيانة دين ،حيث إنها كفرت بربها ،وأنكرت رسالة زوجها
ابتالءً واختبارًا لنبي اهلل هنا كما حدث لعمه نبي اهلل إبراهيم مع أبيه هناك
كون الروايات تتحدث عن أن لوطًا -عليه السالم – هو ابن أخ إبراهيم عليه
السالم .إنها التسليَّة التي يجب أن تتذكرها الجماعة المنقذة واألمة الهادية
عندما يُبتلى أحد رجاالتها بهذا االبتالء ،عندئ ٍذ ال تموت العزيمة ،وال تمرض
العزائم .وبعيدًا عن خالفات العلماء حيث كان لبعض المفسرين كالم حول
مكان هالك هذه المرأة الخائنة إال أن األصوب واألرجح خروجها مع بناتها
وزوجها ،ولكن األمر الصادر من قبل النبي لوط كان هو السير والخروج
من القرية ليالً ،وعدم االلتفات إلى الوراء كون العذاب سينزل على القوم،
ومن يلتفت سيصيبه ما أصابهم .إنها المرأة الخائنة التي خالفت أمر نبي اهلل
طوال عمرها ،وحتمًا ستخالفه في نهاية عمرها ،وهو ما كان ،حيث التفتت
مولولة نحو قومها عند سماعها العذاب والنكال في اللحظات الحاسمة التي
رفع فيها جبريل بأمر ربه قرى قوم لوط إلى السماء ،فتعالت األصوات في
ليلة مظلمة موحشة ،ثم جعل اهلل عاليها سافلها ،وأمطر عليهم حجارة من
سجيل .إنها الحجارة الجهنمية التي تساقطت على رؤوس القوم ،كل القوم،
دون أن تخطئ أحدًا ومنهم امرأته الملتفتة الكافرة ،والتي "كانت من
الغابرين" ،أي الباقين في العذاب .إنها النهاية المخزية للمرأة المتفلتة دينًا،
والساقطة عقيد ًة سواء كانت في بيت نبي هناك ،أو في بيت صالح هنا كون
المآل واحدًا لكل متفلت ،ثم يتواصل جمال التعبير ،وروعة التصوير ،وهو
ينقل لنا صورة العذاب – كما أسلفنا وقلنا ،-وذلك من خالل قوله "وأمطرنا
عليهم مطرًا فانظر كيف كان عاقبة المجرمين" ،حيث تحوي هذه الجملة
الكثير من الدالالت ،ومنها :أن كلمة "وأمطرنا" توحي بكثافة األحجار
المتساقطة على من أسقطتهم أنفسهم المنحرفة دينًا ،والساقطة أخالقًا .إنها
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 324 -
الحجارة التي كُتبت عليها أسماء القتلة جميعًا ،قتلة األخالق ،وقتلة القيم ،وقتلة
الفطر السوية تحركت السماء لقتلهم في ليلة مظلمة ،بل غاية في اإلظالم،
وجاء تكرار لفظ المطر هنا لإليحاء بتتابع الحجارة التي أصابت الرؤوس
الخائنة دينًا ،والخبيثة طبعًا ،كما أن تقييد المطر بقوله عليهم يوحي بإحاطة
الحجارة بهم إحاطة لم يسلم منها أحد .إنها اللفتة البديعة التي يجب أخذها من
هذا التعبير وهى أن الغضب اإللهي عندما يحين وقته عندئ ٍذ لن يستطيع
المجرمون الفرار منه أبدًا كونه يحيط بهم دون غيرهم إحاطة السوار
بالمعصم .إنها عدالة اهلل التي كانت هناك ،وستكون يومًا هنا بدون شك .ومما
ال شك فيه هنا فإن تحرك السماء بهؤالء الجنود جاء نتيجة لغياب المسلمين
كون البيت الوحيد الذي آمن بنبي اهلل لوط هو بيته ،بل لم يكتمل إيمانه حيث
ُد من قد ٍر لمواجهة أقدار الشر
كانت امرأته على ملة قومها ،لذا لم يكن هناك ب ًّ
ال من
في تلك اللحظة غير أقدار السماء مباشرة بهذا العذاب ،وليس مقبو ً
الجماعة المنقذة واألمة الهادية أبدًا أن تنتظر أقدار السماء كي تتدخل
بحجارتها المنضودة اليوم كما فعلت تلك الحجارة بأمر ربها باألمس كونها
اليوم بعددها وعدتها هى قدر اهلل في األرض ،وذلك إن جاهدت ،واتقت،
وعلى اهلل توكلت ،ثم كان ختام اآلية مناسبًا تمامًا لبدايتها ،وذلك من خالل
قوله "فانظر كيف كان عاقبة المجرمين" ،إنها الحقيقة التي يجب على
الجماعة المنقذة واألمة الهادية النظر فيها وهى تصارع العتاة ،وتجاهد الطغاة
حتى تواصل سيرها دون تلفت أو التواء .إنه السير والسائر متالزمان على
الدوام دون توقف ،والعبرة دائمًا ليست بالنظر إلى المعركة قبل نهايتها ،بل
تقاس المعارك بعواقبها وخواتيمها ،وهو الذي تريده اآلية هنا كون المعركة
مع المجرمين وإن طالت لحكمة يعلمها اهلل ،إال أن نهاية اإلجرام مؤكدة كونه
زبدًا والزبد سيذهب جفاءً دون شك.
- 325 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
اهلل مِنْهَا وَمَا يَكُو ُ
ن هلل كَذِب ًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْ َد إِذْ نَجَّانَا ُّ
علَى ا ِ(قَ ِد افْ َترَيْنَا َ
علَى اهللِ
علْم ًا َ
شيْ ٍء ُِل َ
اهلل رَبُّنَا وَسِ َع رَبُّنَا ك َّ
ِال أَن يَشَا َء ُّ لَنَا أَن نَّعُو َد فِيهَا إ َّ
ت خَيْ ُر الْفَا ِتحِينَ{.)70()}89
َكلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ َقوْمِنَا بِالْحَقِ َوأَن َ
َتو َّ
وال تلهب العزائم هي ردود سمجة ساذجة ،وميتة تائهة ،وجيء بلفظ "قد
افترينا على اهلل" ،وليس قد كذبنا على اهلل "كون االفتراء هو اختالق الكذب
بطريقة متعمدة ومسبقة "بتشديد الباء" ،إنه اإليحاء الذي يفهم من خالل
السياق بأن االفتراء واختالق األكاذيب على اهلل هو سلوك أصحاب الملل
األرضية ،والمناهج األرضية ،وليس من طباع أهل الحق أن يكونوا كذلك
أبدًا ،وجيء بلفظ "على اهلل" ،وليس على ربنا "كون الخالف هنا يتمحور
حول المعبود الذي تؤلهه القلوب ،وتعبده ،وتحبه ،وهو تعبير دقيق حيث لو
كان الخالف معهم حول وجود اهلل من عدمه – كما هو شأن الملحدين
المنكرين لوجود اهلل – لكان اللفظ "على ربنا" ،ثم يستمر الجمال القرآني في
سرد الردود من خالل قوله "إن عدنا في ملتكم" ،إنه الفهم الدقيق ألطروحات
اآلخر ،وثقافته ،ومفرداته كونهم قالوا لهم "أو لتعودن في ملتنا" ،ومن ثم
رصدوها بدقة ،وقاموا بالرد عليها ردًّا مختصرًا مفيدًا يكسوه الجمال
والجالل .إنه جمال اإليمان ،وجالل األفهام تحركا معًا وسويًّا في صورة
رائعة ،بل غاية في الروعة والجمال ،مكونان ردًّا مفحمًا ،وجوابا شافيًا،
وجيء بلفظ "في ملتكم" ،وليس "في الملة" ،حيث يشي التعبير األول
باحتقارهم مع ملتهم ،وذلك رد يقابل تهديدهم السابق ،وغباءهم الماحق ،كما
أن لفظ "في ملتكم" يوحي بأن ملتهم هى الملة الباطلة ،وشريعتهم هي الشريعة
الساقطة ،وهى خاصة بهم وحدهم ،ولن يُسمح لهم أن يتجاوزوا بها حدهم
وحدودهم كون الكاف والميم في ملتكم توحي بهذا المعنى ،ويتواصل الجمال،
ويستمر الكمال من خالل قوله "بعد إذ نجانا اهلل منها" ،إنه اإليحاء الخفي
بالقدرة الفائقة التي تمتلكها تلك الملل الباطلة ،والشعارات األرضية الزائفة
على امتالك العقول والقلوب ما لم تتدخل رحمات اهلل ولطفه ونصره وحفظه.
إنها الحقيقة التي يجب معرفتها ،والحذر منها كون سبل الباطل وشرائعه مع
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 328 -
شعاراته وشعره كلها أهواء عاصفة سحرت ألباب الضعاف في الماضي ،وما
زالت هى نفسها تمارس سحرها بفئة الضعاف في الحاضر ،وسيستمر
سحرها كذلك في المستقبل ،ولن ينجو من هذا السحر إال من عصمه اهلل
ونجاه ،والمالحظ هنا أن لفظ "نجانا" يوحي بأن الغرق كان قد أوشك أن
يغمر الجميع بظلمه وضالله ومكره وظلماته لوال لطف اهلل ،ولطف اهلل فقط،
وجيء بلفظ "اهلل" في قوله "إذ نجانا اهلل منها" لإليحاء بأن اهلل وحده هو الذي
يتدارك العبد بلطفه ،ويستره بحفظه كما سبق وأشرنا إليه .إنها الحقيقة المعبرة
عن اإليمان العميق الذي تحلت به الجماعة المنقذة ،واألمة الهادية هناك ،وهى
ترد الفضل في النجاة من الباطل هلل وليس للذات .نعم إنه الدرس الذي ينبغي
أن تعيه الجماعة بأفرادها ورجاالتها وهى تعيش في أوساط القوم بآرائهم
المختلفة ،ومشاربهم المتعددة ،وتوجهاتهم الباطلة ،ومن ثم عليها أن تحمد اهلل
على هدايته لها ،ولطفه بها قبل ذلك ،وأثناءه ،وبعده ،ثم يتواصل الجمال من
خالل قوله "وما يكون لنا أن نعود فيها إال أن يشاء اهلل ربنا" ،إنها األلفاظ
التي قطعت على األرض ،كل األرض ،بناسها وأهلها الطريق تمامًا في
اإلقناع بالعودة للمذهب القديم ،والملة القديمة كون القضية هنا قضية السماء
ال األرض ،وق ضية دين ال دنيا ،وملة ال مال ،لذا كان المرجع في األمر هلل،
وهلل فقط ،حتى ينتهي الهراء ،وتستسلم للحق والحقيقة األهواء ،وتكمن روعة
الحديث هنا في أن القضية لم تعد أبدًا قضية النبي شعيب في العودة للملة من
عدمها ،بل أصبحت القضية قضية عقيدة تتصل باهلل مباشرة .إنها لغة الدين
التي تأبى عبودية الذوات ،وقداستها بعيدًا عن اهلل كون العبيد ،كل العبيد،
مفطورين على عبادة المعبود في السماء ،ومن ثم أصبح الدفاع عن المعبود
في األرض واجب الذوات المؤمنة دون استثناء .إنها الحقيقة التي يجب على
الجماعة المنقذة ،واألمة الهادية أن تربي ذواتها وأفرادها عليها وهي عقيدة
- 329 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
أن األمر هلل من قبل ومن بعد ،وما على الخلق ،كل الخلق ،سوى االمتثال
والخضوع دون تنكص أو رجوع ،وتوحي الجملة هنا بأن الخلق في تدينهم
والتزامهم تحت مشيئة اهلل وتوفيقه ،فإذا شاء هداهم ووفقهم ،وإذا شاء خذلهم
وأضلهم ،وهو ما يستدعي اللجوء إليه ،واالنطراح بين يديه ،وجاء التعبير
عن الملة هنا بالضمير الذي هو الهاء في قولهم "أن نعود فيها" ،وليس أن
نعود في الملة أو في ملتكم" ،إنه اإليحاء الدقيق بكراهة المؤمنين الصادقين
ألباطيل اآلخر ،وملله وشعاراته لدرجة كرههم أن يُنسًبوا لها ،أو تنسب إليهم
لمجرد النسبة في التمثيل ال أكثر .إنها االحترازات اللفظية للجماعة المنقذة،
واألمة الهادية ،والمنبثقة من عقيدة هى األصدق دينًا ،واألصح وجهة،
واألكمل شرعًا ،واألحق بالبقاء مكانًا وزمانًا تعبر عن ذاتها ،وينطلق أهل اهلل
من خاللها ،ثم تنساب اآلية بجمال التعبير ،وكمال التصوير مرة أخرى من
خالل قوله "وسع ربنا كل شئ علماً ،إنه الرد الحقيقي لمصدر العلم الذي هو
اهلل سبحانه كونه يعلم من يستحق الهداية فيكرمه بها كي يحيا كريمًا ،ومن
يستحق الضاللة فيضله كي يحيا مهانًا .إنه فخر العبد بالرب أمام أرباب
األرض ،وكهنوتها ،ومستبديها في صورة غاية في الجالل والجمال ،وهو
الذي ينبغي أن تحياه الجماعة المنقذة ،واألمة الهادية ،وتدعو إليه هنا كما
دعت وافتخرت به الجماعة هناك .ثم يأتي التوضيح قبل الختام لحقيقة
ومصدر القوة التي انطلقت من خاللها الجماعة المنقذة ،واألمة الهادية وهى
ترد األباطيل ،وترفض االستسالم ،وذلك من خالل قول اهلل على ألسنتهم
"على اهلل توكلنا" ،إنه االعتماد على اهلل ،وتفويض األمر إليه ،حيث يوحي
سياق اآلية بتهديد مستمر عاشته الجماعة هناك وهى تقف بجانب نبيها شعيب،
فلم يكن لها من معقل تلجأ إليه ،وتعتمد في أخذها وعطائها عليه قبل ذلك
وبعده غير التوكل على اهلل .إنه التوكل الذي يدع األرض ،كل األرض،
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 330 -
عاجزة كل العجز عن إلحاق الضرر بمن فوض هلل أمره ،وألقى بين يديه
سبحانه حياته وموته .ثم تأتي اآلية لتختم هذه الجولة المختصرة جدًّا،
والجامعة لهذه المفردات الجميلة ،واإليحاءات الثمينة ،من خالل قوله "ربنا
افتح بيننا وبين قومنا بالحق وأنت خير الفاتحين" ،إنه اإليحاء بصعوبة
الطريق ووعورته ،وشدة المغاليق التي وضعها لصوص الملل الكاذبة،
والشعارات الزائفة في الطريق ،ومن ثم ال قدرة لألرض ،كل األرض ،على
أن تصنع شيئًا أمام هذه المغاليق ،فكان اللجوء إلى السماء كونها هى وحدها
التي تملك القدرة على فتح ما أُغلق ،والحكم بالحق فيما عُلِّق ،والنصر على
الباطل نصرًا مطبقًا ،إنها الحقيقة التي يجب أن تسمعها األرض ،كل األرض،
بناسها وأهلها عندما تغفل مكتفية بذاتها دون اهلل ،فعليها عندئ ٍذ أن تسمع وبكل
صراحة ووضوح "ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالحق" من هذا الكتاب ،وتنتظر
بعد ذلك من اهلل فصل الخطاب.
- 333 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
علَيْهِمْ آيَاتُ ُه
جَلتْ ُقلُوبُهُمْ َوإِذَا ُتلِ َيتْ َ
اهلل َو ِ
ن إِذَا ذُ ِك َر ُّ ن الَّذِي َ(إِنَّمَا الْ ُمؤْمِنُو َ
َكلُونَ{ }2الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّالَةَ وَمِمَّا َر َزقْنَاهُمْ علَى َربِهِمْ َي َتو َّ زَادَتْهُمْ ِيمَاناً َو َ
ن حَقّا َلهُمْ َدرَجاتٌ عِنْ َد رَ ِبهِمْ وَمَغْ ِفرَةٌ َو ِرزْقٌك هُ ُم الْمُؤْمِنُو َ ُينفِقونَ } {3أُولئِ َ
َكرِيم }.)71(){4
ليس مؤمنًا حقًّا من لم يتصف بهذه الصفات الخمس وإن ادعى اإليمان .إنها
الحقيقة التي تولت السماء وحدها توصيفها ،وتحديد محتواها بعيدًا عن
األرض كون األرض بأهلها وناسها ليس من حقها سوى الخضوع
واالستسالم ،كما أن اآلية بهذا التوصيف توحي بأن الكثير من الخلق يدّعون
اإليمان دون أن يكون لهم نصيب من عمل ،وهو ادعاء فارغ ال يمت إلى
حقيقة اإليمان بصلة ،ومن ثم كان هذا التوصيف لوضع النقاط على الحروف
بعيدًا عن ثقافة المجاملة ،أو لغة المخاتلة التي تتعامل بها األرض بذاتها
وأفرادها ،ومما ال شك فيه هنا فإن اآليات اآلنفة الذكر لها عالقة وثيقة بما
قبلها كون تقوى اهلل ،وإصالح ذات البين ،وطاعة اهلل ورسوله ال يمكن أن
تتحقق ما لم يكن التصديق بموعود اهلل هو السيد والسائد ،وما لم يكن األمر
كذلك فإن السقوط في حمأة الرذيلة ،ومستنقع الشهوة سيكون هو المعتبر
والقائم .إنها اللفتة التي تحتاجها على الدوام الجماعة المنقذة ،واألمة الهادية
كي تواصل قيادتها للبشر كما أراد لها ربها أن تفعل وتقود ،ال كما حكمت
الشهوات واليهود .وحتى نتذوق حالوة اآليات وروعتها ننتقل إليها ،ففيها
الكمال ،والروعة والجمال ،فقوله "إنما المؤمنون الذين إذا ذكر اهلل وجلت
قلوبهم" ،حيث أن مجئ "إنما" أداة الحصر يوحي بإثبات الحكم على من تم
ذكرهم ،ونفيه عمن عداهم كما هو معلوم في لغة العرب من هذه األداة .إنهم
المؤمنون هنا بصفاتهم وبصماتهم اجتمعت فيهم الصفات ،وتزينت واكتملت
بجمالهم البصمات .إنها صفات الباطن المتمثلة بالوجل ،وزيادة اإليمان ،ثم
بعد ذلك البصمات الخارجية متمثلة باالعتماد الباطني والظاهري على اهلل،
مع إقامة الصالة ،وإنفاق األموال كما سيأتي معنا الحقًا ،وجاءت واو الجماعة
هنا في قوله "المؤمنون" لإليحاء بواحدية العمل واالعتقاد لهذا الصف
اإليماني الصادق دينًا ،والملتزم شرعًا في صورة غاية في الجمال والجالل،
ثم جاء قوله "إذا ذكر اهلل" ،وليس "إن ذكر اهلل" ،وذلك كون إذا تدل على
كثرة الحدوث وتكرره عكس إن الساكنة الدالة على ندرة حدوث الشيء .إنها
القلوب المؤمنة التي تخضع وتخشع كلما ذكر اهلل دون تحديد للمكان أو الزمان
أو الذاكر والحال .نعم إنها القلوب التي تجاوزت األرض بترابها وأربابها،
وانطلقت نحو السماء متحررة من كل قيد ،ومتلهفة بشوق يمأل اآلفاق لمالقاة
عالم الغيوب جل في عاله في لحظات التجلي ،وسويعات التخلي ،ويزداد
الجمال هنا عندما جاء التعبير بقوله "إذا ذكر اهلل" ،حيث جاء الفعل "ذُكر"
مبنيًّا للمجهول "لإليحاء بأن المؤمنين دائمًا بمجرد سماعهم ذكر اهلل فإن
ال
قلوبهم تخضع وتخشع دون النظر للذاكر .إنها الحقيقة التي تضع حدًّا فاص ً
لمن ال يريد سماع الموعظة أو الذكر من غير شيخه ورجال مذهبه .إنها
الصيحة القرآنية الرافضة لثقافة االنتقائية في التعليم والتوجيه ،والداعية دائمًا
للخضوع واالستسالم ألوامر اهلل ونواهيه بغض النظر عن اآلمر والناهي،
وجاء التقييد هنا بذكر لفظ الجاللة "اهلل" لإليحاء بأن اهلل فقط هو من تخضع
له قلوب المؤمنين في إشارة إلى أن المؤمن إذا أريد تخويفه وزجره عند
حدوث غفلة ما يكون ذلك بتذكيره باهلل ،وباهلل فقط ،إن كان مؤمنًا حقًّا .ومما
ال شك فيه فإنها لفتة جميلة كبقية اللفتات اآلنفة الذكر ،والتي ينبغي تأملها،
والوقوف عندها لجمالها وجاللها ،ثم يتواصل جمال التعبير من خالل قوله
"وجلت قلوبهم" ،حيث جيء بلفظ الوجل الذي هو أعلى درجات الخوف
والخشية ،ثم واصل التعبير القرآني انسيابه الجميل ،وتناسقه األصيل عند
قوله "قلوبهم" ،إنها القلوب كونها األساس في الصالح ،ومحور االرتكاز في
- 335 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
للتوكل ،والتي تعتبر القاعدة الصلبة التي ينطلق من خاللها المؤمن متوك ً
ال
على اهلل ال يخشى األعادي ،وال يهاب الردى ،كما أن مجيء لفظ التوكل
بصيغة المضارع "يتوكلون" مع واو الجماعة لإليحاء بدوام توكلهم
واعتمادهم الجماعي على اهلل .إنه التوكل الذي ال تحكمه األرض بناسها
وأهلها ،وال تسيطر عليه الناس برغباتها ولذاتها ،بل هو التوكل الذي ينطلق
من القلب صوب السماء مباشرة تاركًا األرض بحساباتها القاصرة ،وثقافتها
المتعثرة ألصحاب الهمم الرخيصة ،والعزائم الرخوة تقيدهم وتقودهم إلى ما
ال فائدة فيه ،وال طائل من ورائه حتى النهاية .وبعد هذه التوطئة الجميلة في
ذاتها ومحتواها ينقلنا السياق القرآني بطريقته الجميلة المعهودة صوب الثمار
اإليمانية األخرى لإليحاء بأن اإليمان ليس اعتقادًا محاصرًا في داخل الذات،
بل هو سلوك عملي يحرك المخلوق في األرض كي يرضى عنه الخالق في
السماء ،وذلك من خالل قوله "الذين يقيمون الصالة ومما رزقناهم ينفقون"،
إنه اإليمان الذي يدفع المؤمن صوب المسجد كي يعيش فيه الساجد هناك
لحظات التجلي ،وروعة التحلي بعيدًا عن ضوضاء الحياة ،وعبث األحياء،
نعم فقوله "الذين يقيمون الصالة" ،هذه األلفاظ توحي بدالالت كثيرة ،ومنها:
أن اإليمان بعد االعتقاد واإلقرار يتحول إلى عمل ،وإال كان إيمانًا مخدرًا،
واعتقادًا باطالً ،ويزداد جمال التعبير هنا من خالل قوله "يقيمون بصيغة
المضارع مع واو الجماعة ،إنه اإليحاء بأن المؤمنين ليسوا ممن يعبثون
بصالتهم أبدًا ،بل هم محافظون عليها دون انقطاع بكامل شروطها وأركانها
وواجباتها .إنها الصالة المستقيمة التي ال اعوجاج بها ،بل هى الكاملة دينًا،
ال في صورة تعبدية والثابتة فريضة ،والحاضرة مكانًا ،والباقية زمانًا وحا ً
خالصة ال تشوبها شائبة ،ويزداد جمالها بواو الجماعة الموحية بإقامتها مع
الجماعة كون واو الجماعة توحي بهذا المعنى .إنها صالة الجماعة التي قادت
الجماعة المنقذة ،واألمة الهادية باألمس ،وهى نفسها التي ستكرر القيادة اليوم
- 337 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ما بقيت قائمة ،ومما ال شك فيه هنا فإن المحافظة على صالة الجماعة دون
تخلف أو إبطاء ترتبط ارتباطًا وثيقًا بصحة القلب ومرضه .إنه القلب الذي
كلما صحت حياته ،وانتظم خوفه ،وثبت باهلل صدقه كلما دفع صاحبه إلى
المساجد دفعًا ،والعكس صحيح أيضًا ،ثم يتواصل الجمال من خالل قوله
"ومما رزقناهم ينفقون" ،إنها حقيقة العبادة ،وروعة العابد تتجلى هنا من
خالل عدم االكتفاء بالصالة ،بل ظهور حقيقتها من خالل قوله "ومما رزقناهم
ينفقون" ،حيث قدم قوله "ومما رزقناهم" على قوله "ينفقون" ،ولم يقل يقيمون
الصالة ،وينفقون األموال على نفس إيقاع الصالة ،بل جاء التعبير هنا مختلفاً
حيث قدم "ومما رزقناهم" ،وذلك إليحاءات كثيرة ،ومنها :أن نفقة المؤمنين
نفقة خالصة طاهرة ،وليست النفقة المغشوشة في كسبها واكتسابها ،حيث إن
قوله "ومما رزقناهم يوحي بهذا المعنى ،وهو معنى خفي يعرف من خالل
السياق وروعته ،كما أن التعبيريوحي أيضًا بأن المؤمنين ليسوا فقراء ،وال
ينبغي أن يكونوا كذلك ،بل هم ذوو ثروة ومال ،لذا فمما رزقهم اهلل توحي
بأنهم ليسوا بخالء البتة ،بل المؤمن هو األكرم يدًا ،واألشرف عطاءً،
واألصدق بذالً ،واأليسر حاالً .إنه اإليحاء الذي ال يقبل الكسل ،وال يرضى
بالعاطلين ،بل إيحاء يحرك المشاعر الكامنة ،والمعاشر المؤمنة لطلب
األرزاق التي يسوقها الرزاق لتستقيم الحياة ،ويعيش األحياء كما كتب اهلل
وأراد ،وجاء قوله "ينفقون" بصيغة المضارع ليكتمل الجمال ،ويتواصل
الكمال في رسم صورة جمالية مبدعة تعانق السماء وليس األرض ،وتطلب
الثريا وليس الثرى ،وذلك من خالل السخاء في العطاء .إنه اإليحاء بكرم
المؤمنين ،وسخائهم ،وعطائهم الذي ال توقفه األحوال ،وال تغيره األزمان،
بل عطاؤهم باق ما بقي الخير في أيديهم .إنها دعوة سماوية واضحة للجماعة
المنقذة ،واألمة الهادية كي تتمثل إيمانًا ال يقبل البخل ،وتعيش سخا ًء ال يعرف
الشح ،وتحمل قلوبًا تعيش للخلق في األرض كي تُرضي الخالق في السماء
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 338 -
في صورة جماعية مبدعة .وبعد هذه البصمات اإليمانية الصادقة دينًا،
والحقيقة واقعًا ،والكبيرة وزنًا جاء الحكم اإللهي كي يوقِّع بصمته من خالل
قوله "أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم"،
إنه الحكم الذي لم يأت جزافًا كما تعمل محاكم األرض السفلى وهى تتعامل
بثقافة المجاملة ،ولغة المخاتلة الخالية من معاني الحياة ،وحياة المعاني ،بل
ال للدعاوى المغرضة ،والثقافات المتفلتة جاء الحكم هنا كي يضع حدًّا فاص ً
التي جعلت اإليمان كلمات وشعارات ال تمت لواقع الحياة ودنيا األحياء بصلة،
ومجيء المؤكدات هنا المتمثلة ب أولئك ،والضمير هم ،وأل التعريف في
المؤمنين كلها إلثبات أن المؤمنين حق اإليمان هم من جمع بين هذه الصفات
الخمس المتمثلة ب :خضوع وخشوع القلب عند ذكر اهلل – زيادة اإليمان عند
تالوة القرآن – التوكل واالعتماد على الرحمن – إقامة الصالة – ومما رزقهم
اهلل ينفقون ،إنها الصفات الخمس المحددة لحقيقة اإليمان والرجال المؤمنين،
بينما أولئك الذين افتقدوا هذه الصفات ليسوا مؤمنين حقًّا ،بل هو الهراء
والكذب ،والعبث واللعب ليس إال ،وهنا يأتي مسك الختام ليكون شاهدًا على
روعة المقام من خالل قوله "لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم"
كون كرم القلوب هنا ال يساويه أبدًا إال كرم عالم الغيوب هناك ،فعلى هذه
القلوب أن تطمئن وتهدأ فلن يذهب خشوعها وإيمانها وتوكلها وصالتها
وكرمها سدى عند أكرم األكرمين ،بل الدرجات والمغفرة والرزق الكريم في
انتظارهم في جنان الخلد حيث الخلود األبدي ،والنعيم السرمدي..
- 339 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ن الْمَآلئِكَ ِة
ف مِ َ
ب لَكُمْ أَنِي مُمِدُّكُم ِبَألْ ٍ
ن رَبَّكُمْ فَاسْ َتجَا َ
(إِذْ تَسْتَغِيثُو َ
ُمرْ ِدفِينَ{.)72()}9
عندما يشتد الكرب ،وتنقطع الحيل ،عندئ ٍذ تكون االستغاثة باهلل وحده هى
الملجأ والمالذ .إنها اآلية التي نقلت المشهد الحياتي والنفسي الذي عاشته
الجماعة المنقذة ،واألمة الهادية هناك في بدر مع نبيها ورسولها الكريم في
لحظات الشدة والعسر .إنه العسر الذي باغت الجماعة حينها بجيش قرشي
جبْ بهدف االستئصال ،واالعتقال للنبي وجماعته دون سابق إنذار أو احترام َل ِ
لقرابة النسب والدار .نعم إنه الجيش الذي خرج رياءً وبطرًا معدًّا ومتوعدًا
الجماعة المنقذة ،واألمة الهادية في بداية تكوينها وتكونها كي يستأصل ويعتقل
بطريقة وحشية متوحشة .ومما تجدر اإلشارة إليه هنا قبل الولوج في رحاب
اآلية أن نذكِّر بأن الشدائد والكروب ليست جديدة على الجماعة المنقذة واألمة
الهادية ،بل هى قديمة قدم الصراع القائم بين الخبيث والطيب ،ومتجددة
بطرائق مختلفة ووسائل شتى حتى تقوم الساعة .كما ينبغي أن نذكر أيضًا
أمرًا في غاية األهمية وهو أن شدائد اليوم ،وكربه وأزماته مقارنة بشدائد
األمس ،وكربه ،وأزماته ،والنبي بين ظهراني القوم ليست شيئًا كون شدائد
ال ألن المعادلة حينها لم تكناألمس كانت هى األشد وقعًا ،واألخطر حاالً ومآ ً
متوازنة البتة ،بل إن الحبيب محمدًا لخص المشهد حينها بكلمات غاية في
ال "اللهم إن تهلك هذه العصابة فلن االختصار واالعتذار للرب سبحانه قائ ً
تعبد في األرض أبداً" .وحتى نتذوق حالوة المشهد في تلك اللحظات
االستثنائية من عمر األمة المحمدية دعونا ننتقل مباشرة لنعيش في ظالل
اآلية ففيها الجمال والكمال ،فقوله "إذ تستغيثون ربكم" ،هذه األلفاظ توحي
بدالالت كثيرة ،ومنها :أن هذه اآلية مرتبطة بما قبلها ارتباطًا وثيقًا ،بل هى
طوق النجاة إلحقاق الحق وإبطال الباطل ألن اآلية السابقة وما قبلها تحدثت
عن إحقاق الحق وإبطال الباطل ،فكانت االستغاثة باهلل هنا هى الباب الوحيد
إلحقاق الحق ،وذلك بعد األخذ بأسباب األرض وإمكانياتها الممكنة ،وهو
معنى نفيس يفهم من خالل الربط بين اآليات القرآنية كما هو مالحظ ومعلوم،
ومجئ "إذ" الظرفية الزمنية هنا توحي بأن الزمن كان شاهدًا على تلك
اللحظات االستثنائية الصعبة التي عاشتها الجماعة هناك ،والتي ال ولن تنسىَ
طوال تاريخ جهاد األمة الطويل وهى تخوض غمار المعارك المتواصلة كى
توقف عبث الطغيان ،وجرائم الطغاة .إنها األيام الخالدة زمانًا ،والباقية مكانًا
كي تبقى الدروس حاضرة في األذهان دون شرود أو نسيان ،ثم يتواصل
جمال التعبير القرآني وهو ينقل مشهدًا من مشاهد العبودية الحقة الذي تجلى
هناك في وادي بدر في لحظات االبتهال الجماعي الذي اتجه صوب السماء
تاركًا وادي بدر لحكم السماء وعدالتها كي تتدخل لحسم المعركة ،وإنهاء
الملحمة ،وذلك من خالل قوله بعد إذ "تستغيثون ربكم" ،وليس تدعون ربكم
كون الدعاء عامًا ،بينما االستغاثة خاصة .إنها االستغاثة المشتقة من الغوث،
والذي هو طلب العون والحاجة دون تأخير كون الكرب شديدًا ،والعدو عنيدًا.
إنه كرب يوم بدر بكل مالبساته ،حيث خرجت مكة حينها بقدها وقديدها
ال ليسوا
بجيش كبير بلغ ألف مقاتل كي يستأصل ثالث مئة وبضع عشرة رج ً
مستعدين لقتال البتة .إنها اللحظات التي لم يكن للجماعة المنقذة ،واألمة
الهادية حينها كثير خيارات ،بل القتال أو االستسالم ،وفي حال خيارها األول
فالمعادلة مختلة كمًّا وكيفًا ،وفي حال الخيار اآلخر عندئ ٍذ لم يتبق غير القتل،
والقتل المؤكد كون مكة حينها قد ألفت القتل ،واستسهلت الدم انتصارًا
لغرورها ،ودفاعًا عن مكانها ومكانتها .إنه الباطل عندما يتحرك بقده وقديده،
تحركُه يوم بدر هناك ،أو تحركاته المستمرة هنا كون ومكره وبغيه سواء ُّ
واحدية الحركة والهدف والمطلب والمقصد لم ولن تتغير إطالقًا كون القتل
- 341 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
الفاسق ،كما أن اآلية فيها إيحاء بعبودية األنبياء لربهم ،وافتقارهم لخالقهم،
وأنهم ال يملكون ألنفسهم ضرًّا وال نفعًا كونه ما شاء اهلل كان ،وما لم يشأ لم
يكن كما هو معلوم ،كما أن استغاثة الحبيب هنا فيها إيحاء بأن القائد عليه أن
يكون األصدق توبة ،واألكثر خوفاً ،واألقرب دمعة ،واألخشع قلبًا كي تحصل
الريادة ،وتواصل الجماعة المنقذة واألمة الهادية القيادة ،وهو معنى في غاية
النفاسة يفهم من خالل سياق اآلية .إنها أمانة القيادة تتجلى هنا عندما يتوجه
القائد نحو السماء معلنًا أن الذوات البشرية ،كل البشرية ،ال قدرة لها على أن
تحقق نصرًا ما لم يكن اهلل وحده هو الناصر والمعين ،وإال كانت الهزيمة،
وكان الخسران ،كما أن الحال في استغاثة بدر يوحي بأن االستغاثة لن تكون
مجدية البتة ما لم تأت ضمن جهد وجهاد وترتيب وإعداد ،وإال كانت ملقاً
ال مزرياً ،ويتواصل الجمال ،ويتنافس الكمال في رحاب اآلية تعبديًّا ،وتواك ً
تنافسًا يفيض على القلوب سكينة وهدوءًا من خالله قوله "ربكم" ،وليس لفظ
الجاللة "اهلل كأن يكون السياق مثالً" إذ تستغيثون اهلل" ،وذلك كون "ربكم"
يندرج تحت توحيد الربوبية الذي معناه ومحتواه توحيد العبد ربه بأفعاله،
وذلك بأن يشهد العبد بأن اهلل هو الخالق والرازق والمحيى والمميت والناصر
والمعين ،بينما توحيد األلوهية هو توحيد العبادة الذي معناه ومحتواه هو أن
توحد اهلل بأفعالك أنت ،فتتجه بها نحوه وحده ،فكان ذكر الرب مناسبًا لهذا
المعنى ،وهو معنى نفيس ينبغي تأمله ،والوقوف عنده .إنها الحقيقة الموحية
بأن التنظيم والترتيب ،وإن كان دقيقًا ،إال أنه دون عون اهلل مهزوم ،لذا كانت
االستغاثة بالرب ،هنا كون إجابة الدعاء في الغالب من أفعال الربوبية كما
أسلفنا .وبعد هذا الجو اإليماني الذي نلحظه من خالل السياق وقد تعالت
األصوات هناك في بدر في ليلة مظلمة باردة ،وقد اختلط البكاء بالدعاء ،جاء
الجواب سريعًا من خالل قوله "فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من المالئكة
مردفين" ،حيث تحمل هذه الجملة الكثير من الدالالت واإليحاءات ،ومنها:
- 343 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
أن الفاء وليس حرفًا آخر لإليحاء باستجابة مباشرة دون تأخير كون الفاء في
لغة العرب توحي بهذا المعنى .إنها االستجابة التي غيرت مجرى األحداث،
وقلبت المعادلة في وادي بدر رأسًا على عقب ،وجعلت العدوان المكي
ال وعرض ًا طيلة
المنتشي كبرًا ،والمتحرك ريا ًء وبطرًا ،والعابث بالحياة طو ً
السنوات الماضية يتقهقر مهزومًا ،ويسقط مأزومًا ،ويخسر الجولة مدحورًا
في واحدة من أعظم نكسات الباطل في تاريخ الصراع البشري الطويل بين
قوى الخير من جهة ،وقوى الشر من جهة أخرى .إنها الرسالة التي ينبغي
على الجماعة المنقذة واألمة الهادية استشعارها وهى تعيش في واقع متبلد
أخالقيًّا ،ومتذبذب دينيًّا ،ومقهور سياسيًّا نتيجة لالنهزام العقدي ،والسقوط
القيمي الذي تعيشه األرض ،وذلك لغياب الجماعة المنقذة عن مسرح الحدث،
ومواقع األحداث ،ومن ثم عليها في ظل هذا الوضع أن تستشعر أن القضية
الفاصلة في هذه المعركة ليست قضية القوة المادية وحدها ،وال األكوام
البشرية المنتفخة ريا ًء وبطرًا معها من يحدد سير المعترك ،ونتائج المعركة،
بل التربية العقدية ،واإلعداد وفق االستطاعة هما من يحددان حقيقة المعترك،
ونتائج المعركة كون النصر ليس لقوى األرض أيًّا كانت هذه القوى أن تحدده،
أو تتحكم به ،بل اهلل وحده هو من يحدد ذلك جل شأنه ،وتقدست أسماؤه ،لذا
كانت االستغاثة به بعد األخذ بأسباب األرض هى المعتمد والمالذ ،كما أن
مجيء السين في الفعل توحي بصدق القوم والتزامهم ،ونقائهم مع الحبيب
الكريم في تلك اللحظات المشهودة ،واأليام المباركة من عمر الجماعة المنقذة
واألمة الهادية ،ولذا كانت الفاء رسالة السماء لألرض حينها كي تأنس بعد
وحشة ،وتطمئن بعد خوف .إنه اإليحاء الذي يشي بقرب السماء من األرض
عندما تصدق األرض ،وتجاهد ،وتضحي وإن كان هؤالء هم األقل عددًا،
واألضعف عدة ،ولكن حسبهم جهدهم وجهادهم ،وبذلهم المستطاع،
وعطاؤهم ،فكان النصر ،وكان االنتصار ،ثم جاء التعبير الذي يفيد
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 344 -
التخصيص من خالل قوله "لكم" ،حيث يوحي هذا التخصيص بأن النصر لم
يكن خاصًّا بنبي اهلل وحده ،بل هو نصر جماعي لنبي اهلل وأمته كون انتصار
رسول اهلل هو انتصار للمشروع بشكل عام ،ولذا جاء التخصيص لكم أنتم
دون غيركم يا من عشتم الحدث ،وصارعتم األحداث .إنها اللحظات التي
أصبحت فيها الجماعة المنقذة في وادي بدر هى الجماعة المنتظر منها حمل
المشروع ،والمحافظة عليه ،ومن ثم تبليغه إلى األجيال الالحقة ليستمر
المشروع قائمًا بمنهجه ونهجه ،وأصوله وثوابته ،قائمًا مقاومًا ال يقبل
السقوط ،وال يرضى بغير بلوغ المقصود ،ويزداد الجمال ،ويتواصل الكمال
من خالل تفنيد محتوى االستجابة وأشكالها وذلك من خالل قوله "أني ممدكم
بألف من المالئكة مردفين" ،حيث توحي هذه الجملة بدالالت كثيرة ومنها:
ال "أنه ممدكم" ،حيث يشي لفظ "أني" ،وليس أنه "كأن يكون السياق مث ً
التعبير "أني" بقرب الرب من العبد عندما يصدق هذا العبد ،ويلوذ بهذا الرب.
إنه الصدق الذي يتجاوز األرض ،كل األرض ،بناسها وأهلها تاركًا مغريات
األرض جانبًا ،ومتجهًا صوب الرب بقلبه وقالبه ،عندئ ٍذ يكون الجواب "أني"،
وليس "أنه" ،كما أن اللفظ "أني" يوحي بسعة ملك اهلل ،وقدرته التامة ،وقوته
المطلقة كون المدد المالئكي ليست حركته من تلقاء نفسه أبدًا ،بل تحرُّكه وفق
أوامر الرب سبحانه ،فهو اآلمر لكل من في السموات واألرض ،وغيره
مأمور ،وجاء التعبير بقوله "ممدكم" لإليحاء بأن المالئكة كانوا مددًا إضافيًّا
لجند موجودين .إنها اإلشارة الدقيقة ،والدقيقة جدًّا ،والموحية بأن نصر اهلل
ومدده ال يمكن أن يكون مددًا لمن لم يبن جيشًا ،ولم يحرك ساكنًا .نعم إن
المدد اإللهي ال يكون قطعًا إال لمن تحرك في الميدان ،ومن ثم داهمه العدو
بأكثر منه عددًا ،وأقوى منه عدة ،عندها ،وعندها فقط ،يكون المدد اإللهي
قائمًا شريطة االستغاثة الجماعية المعبرة عن صدق اللجوء ،وإخالص
الالجئ ،إنه الرفض القاطع لعبثية االنتظار لنصر اهلل وعونه دون بذل
- 345 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
األسباب ،والتحرك الجماعي كما أمر اهلل بطرق كل باب ،ليكون المدد هنا
كما تحقق يوم بدر هناك ،ويتواصل الجمال القرآني في تحديد نوعية المدد
وعدده ،وذلك من خالل قوله "بألف من المالئكة مردفين" لإليحاء بأمور
كثيرة ،ومنها :أن التحديد بألف له معنى دقيق ،ودقيق جدًّا ،كون الملك الواحد
من مالئكة السماء كان كافيًا لتغيير مسار المعركة ،والتحكم بمآالتها ونتائجها
ألن جناحًا واحدًا فقط من أجنحة جبريل كان كافيًا لحسم المعركة ،وإنهاء
المعمعة ،لكن القضية التي أرادها اهلل هنا هى قضية تكثير العدد كون عدد
ال مقارنة بخصومهم القابعين هناك في المستغيثين باهلل حينها كان عددًا قلي ً
أسفل الوادي ،ومن ثم كان هذا التحديد لهذه الحكمة ،ولذاك األمر .إنهم مالئكة
اهلل الذين خُلقوا خصيصًا لنصرة المؤمنين في األرض ،وذلك عندما تضيق
األرض بالمؤمنين ،وتتآمر عليهم ،عندئ ٍذ على رجاالت الجماعة المنقذة
واألمة الهادية أن تكون لهم مع سورة األنفال وقفات وتأمالت ودراسات
وخلوات ،كما أن تخصيص المدد بالمالئكة لإليحاء بجنود اهلل في السماء كما
هم كذلك في األرض ،وذلك لتثبيت المؤمنين في كل العصور ،إنهم جنود اهلل
في السماء واألرض الذين ال حصر لهم ،وذلك حتى ال يستوحش المؤمن
عندما تصاب األرض من حوله بالبطر واألشر ،بل يثبت ،ويثبت مستشعرًا
أن صدقه مع ربه سيقيض له جنودًا ليسوا بشرًا يكثرون عدده ،ويقوون
عدته ،ويحسمون معه معركته ،كل ذلك بأمر اهلل وحكمته ،وقدره وقدرته.
وجاء التعبير الختامي منسجمًا تمامًا مع سياق اآلية وهى تضع النقاط على
الحروف مكونة لوحة فنية غاية في اإلبداع واإلمتاع ،وذلك من خالل قوله
"مردفين" ،والذي يعنى متتابعين أي يتبع بعضهم بعضًا .إنه الرفض القاطع
لثقافة العشوائية التي تتعامل بها األرض عندما تتفلت من وحي السماء ،ومن
ثم كان هذا التنظيم المحكم لمالئكة اهلل وهى تتحرك صوب األرض بهذا
التخطيط العميق ،والترتيب الدقيق رسالة واضحة المعالم للجماعة المنقذة،
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 346 -
واألمة الهادية كي تدع العشوائية جانبًا في حياتها وجيشها ،وتنطلق وفق نظام
محكم تحكمه المراحل ،وتسيره الخطوات حتى يصل إلى منتهاه ،ويحقق
مراده ومبتغاه.
- 347 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ن وَيَمْ ُكرُ
ك أَوْ يَقْ ُتلُوكَ َأوْ ُيخْ ِرجُوكَ وَيَمْ ُكرُو َ
ن كَ َفرُواْ لِيُثْبِتُو َ
ك الَّذِي َ
( َوإِذْ يَمْ ُك ُر بِ َ
اهللُّ وَاهللُّ خَيْرُ الْمَا ِكرِينَ{.)73()}30
السجن والقتل والنفي مفردات قديمة استخدمها طغاة األمس ،وما زالت واردة
من قبل طغاة اليوم دون توقف .إنها المفردات الخسيسة التي عبرت عنها دار
الندوة باألمس بصورة غاية في الوقاحة والقبح .الوقاحة التي استهدفت الحبيب
محمدًا في صورة عدوانية مكشوفة ،وبطريقة وحشية مفضوحة كونها لم تراع
الرسالة وال الرسول ،نعم إنها الوحشية التي لم تراع بالفعل ذات الحبيب محمد
وصدقه ورسالته وطهره ،بل أعلنت عن نفسها هناك بصورة مبتذلة فاحشة،
وبطريقة سيئة ماكرة كي تعلم الدنيا ،كل الدنيا ،حقيقة اإلجرام ،وثقافة
ال عما سواه – وحتى
ال نبيًّا ،فض ً
المجرمين التي لن تستثنى أحدًا ولو كان رسو ً
نعرف كل تلك الحقائق ،ونعيش عن قرب مع مآالت تلك المفردات الثالث
تعالوا إلى اآلية حيث إن التصوير مع روعة التعبير يوضحان الحقيقة،
ويرسمان الواقعة بصورة واقعية دون تلعثم أو التواء ،فقوله "وإذ يمكر بك
الذين كفروا" ،فالواو تشي بعالقة هذه اآلية بما قبلها ،إنها تقوى اهلل ،وتقوى
اهلل فقط ،هى التي تحفظ الجماعة من المكر البشري واإلجرام األرضي .إنها
الحقيقة التي ال يجوز إغفالها أو التساهل بها كونها هى التي توقف المكر
وتبطله ،وإال كانت الجولة للمكر ،والدائرة للماكرين ،ثم جاءت "إذ" الظرفية
هنا المعبرة عن الزمان لإليحاء بشهادة الزمان شهادة كاملة غير منقوصة،
وذلك لسيئات الماكرين ،وسوآت المجرمين .إنه الزمان بليله ونهاره هو الذي
ستكون له كلمة الفصل أيضًا هناك بين يدي اهلل ليفضح المكر القرشي،
واالعتداء المكي الذي أراد الوقيعة بالرسالة والرسول في لحظات المطاردة،
وسويعات المكايدة ،ثم يتواصل الجمال القرآني كعادته وهو ينقل الحدث كامالً
بصورة دقيقة ،وذلك من خالل قوله "يمكر بك" ،حيث يحمل هذا اللفظ الكثير
من الدالالت ،ومنها :التعبير بالمكر ،وليس بالكيد كون المكر هنا كان تدبيرًا
خفيًّا إللحاق الضرر بالممكور به الذي هو النبي الكريم ،بينما الكيد هو تدبير
أيضًا ،ولكنه قد يكون خفيًّا ،وقد يكون علنًا .إنه المكر الذي تخفَّى هناك في
دار الندوة في ذلك الزمن البعيد من عمر الجماعة المنقذة واألمة الهادية،
والذي أراد باجتماعة هناك أن تبقى له المكانة والمكان ،والفرس والميدان
دون وجه حق ،وذلك كما سيتضح األمر الحقًا.
كما أن التعبير بصيغة المضارع "يمكر" يوحي بأن اآلية فضحت المجتمعين
وقت اجتماعهم كون الفعل المضارع يوحي بحصول الحدث أثناء زمان
التكلم ،وليس قبله كما هو حال الفعل الماضي ،وال فور التكلم كما هو حال
فعل األمر .إنه اهلل الحافظ الذي عنده مفاتيح الغيب التي ال يعلمها غيره،
"ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إال يعلمها وال حبة في ظلمات
األرض وال رطب وال يابس إال في كتاب مبين" ،نعم إنه اهلل من كشف
وكاشف ،وفضح ونافح ،ومن ثم أخبر رسوله بحقيقة االجتماع ،ونوايا
المجتمعين .إنها النوايا القرشية الخبيثة طبعًا ،والمجرمة فعالً ،والسيئة سلوكًا،
والباطلة دينًا فُضحت في وقتها ،وسقطت في حينها كي تواصل الجماعة
سيرها دون توقف ،كما أن التعبير بصيغة المضارع "يمكر" يوحي باستمرار
المكر برسول اهلل إلى قيام الساعة ،وقد يقول قائل وكيف يكون المكر برسول
اهلل بينما رسول اهلل قد لحق بالرفيق األعلى منذ ما يربو على ألف وأربعمائة
وأربعين سنة ؟؟؟.
فالجواب هنا نفيس ودقيق ،ويستحق التوقف عنده كثيرًا ليعرف القريب
والبعيد أن المكر بكل مسلم من قبل المجرمين هو مكر برسول اهلل كونهم
- 349 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
إنها المفردات التي اجتمعت في دار الندوة ،ومن ثم تمحور الحديث حولها،
وحولها فقط ،وال شك في أن هذا االجتماع السري في تلك اللحظات الحاسمة
قد جاء بعد تواتر األنباء عن لقاء سري كان قد جمع الحبيب محمدًا مع رجال
من ساكني يثرب أعلنوا إسالمهم ليلة العقبة ،ومن ثم بايعوا الحبيب على
السمع والطاعة ،والتضحية بالنفس والنفيس ،مع االنتظار لساعة الصفر التي
من خاللها سينتقل الحبيب مهاجرًا إليهم لتبدأ مرحلة جديدة لها ما بعدها من
الجهد والجهاد ،وهو ما كان فيما بعد ،ومما ال شك فيه فإن االستخبارات
القرشية حينها لم تكن لتغفل لحظة عن الدفاع عن مكانها ومكانتها الزائفة ،بل
كانت دقيقة في الرصد والمتابعة في كل اللحظات واألوقات ،ومن ثم
استطاعت تلك العيون كشف اللقاء الذي تم هناك في العقبة في جنح الظالم
رغم االحتياطات المحمدية الدقيقة في تحديد المكان والزمان على حد سواء.
إنها الرسالة التي يجب على رجاالت الجماعة المنقذة واألمة الهادية أن
يستوعبوها حتى يعوا أنهم ليسوا متروكين البتة ،بل تُرصد حركاتهم ،ويتابع
أفرادهم ،وهو ما يستدعي المزيد من الحيطة والحذر حتى يسقط المكر،
ويتعرى الماكرون.
كما أن الوقوف عند هذه اآلية يقود الجماعة واألمة إلى ضرورة العمل
والحركة قبل الوصول للنضج ،وقطف الثمرة ،وإال ضاعت الثمار ،وغاب
النضج في وضح النهار ،ثم ينتقل السياق القرآني للحديث عن الخيار األول
الذي ثم طرحه هناك ،وذلك من خالل قوله "ليثبتوك"؛ إنه الخيار األول الذي
تم طرحه في صباح ذلك اليوم اآلثم ،والمتمثل بوجوب سجن الحبيب محمد
كون اإلثبات هنا المقصود به السجن .إنها مفردة السجن اللعينة التي عرفتها
األرض منذ زمن بعيد ،والتي جعلها الطغاة وسيلتهم وسالحهم بصورة غاية
في الظلمة واإلظالم وهم يقيدون ويحبسون ويغيبون قادة الحق ودعاته،
- 351 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
جاء بصيغة المضارع لإليحاء بأن خيار قتل المصلحين ،والتخلص منهم
خيار باق ومستمر ما بقي المصلحون يتحركون ،وإلى اهلل يدعون ،كما أن
الكاف في الفعل "يقتلوك" توحي بعملية االستهداف المركزة لرأس الهرم
القيادي بغية التخلص النهائي من الشريعة والمشروع ،وهو ما يدفع الجماعة
المنقذة واألمة الهادية إلى أخذ الحيطة والحذر كي تحفظ قيادتها ،وتدفع المكر
عن رجاالتها.
ومما تجدر اإلشارة إليه أن خيار القتل هنا كان خيارًا أخيرًا تبناه أبو جهل،
ومن ثم أجمعت الدار عليه بعد تصديق الشيطان عليه بدون شك ،ولكن جيء
به بين خياري السجن والنفي كون الدار انقسمت على نفسها بين الخيارين،
ومن ثم جاء أبو جهل بهذا الخيار الذي أنهى النزاع ،ووحد اللعاع كحل وسط
َأجْ َم َع عليه الطرفان المختلفان ،كما أن صيغة المضارع وكاف الخطاب
يوحيان بأن استهداف الحبيب باألمس كان لذاته ورسالته ،ثم هو مستمر
لجنوده ورجاله ،وكأنه استهداف له بالفعل.
ومما تجدر اإلشارة إليه هنا هو أن تستشعر الجماعة المنقذة واألمة الهادية
معية اهلل الحافظة والمؤيدة ،وذلك حتى ال تخيفها ثقافة القتل ،ومكر القتلة كون
األمر ليس عبثيًّا بيد األرض تعبث به كيفما شاءت ،ومتى شاءت ،بل األمر
هلل من قبل ومن بعد يحيى من كتبت له الحياة ،ويميت بمكر الماكرين من كُتب
عليه الموت ،ثم يتواصل السرد الدقيق لمجريات األحداث سردًا غاية في
الدقة ،وذلك من خالل قوله "أو يخرجوك" ،حيث يحمل هذا اللفظ الكثير من
الدالالت ،ومنها :إن ثقافة اإلخراج والطرد واإلبعاد للمصلحين ثقافة قديمة
قدم الصراع .إنها الثقافة المنتفشة سفهًا ،والمنزوعة أخالقًا ،والمتكررة حاالً
ومكانًا وزمانًا تعبر عن نفسها ،وتفصح عن ذاتها بلغة سافرة ظنًّا منها لسفهها
أنها وحدها دون غيرها التي تملك القرار ،وتحكم الديار.
- 353 - الدرر الذهبية من كالم رب البرية
ومما ال شك فيه فإن ثقافة اإلبعاد هذه فشلت في الماضي البعيد ،وما زال
فشلها يتكرر في الحاضر القريب كون القيم والمبادئ ال يتحكم بها الطين أيًّا
كان هذا الطين ،بل القلوب واألفئدة هى التي تتحكم وتقود ،وتبلغ المقصود،
ومما تجدر اإلشارة إليه أن التعبير بصيغة المضارع "أو يخرجوك" يوحي
باستمرار هذه الثقافة المنحطة خلقًا ،والباطلة دينًا في طرد وإبعاد الصفوة من
الخلق عن ديارهم ليتسنى للماكرين العبث دون عتب.
ومما يالحظ هنا أن المفردات اللعينة الثالث التي يتعامل بها الطغاة في كل
عصر جاء التعبير بها من خالل واو الجماعة (ليثبتوك – أو يقتلوك – أو
يخرجوك) ،إنه اإليحاء الصريح بالقدرة الفائقة التي يتمتع بها الماكرون وهم
يتحدون بصورة منظمة ،وبطريقة موحدة تخطيطًا وتنفيذًا .نعم إنه المكر
الجماعي الذي ينطلق وفق خطط معدة ،وبرامج محددة ،وهو ما يستدعي
ال إسالميًّا منظمًا من قبل الجماعة المنقذة واألمة الهادية كي تحفظ ذاتها،
عم ً
وتصون حاضرها ومستقبلها ،وإال ضاع الحاضر ،وتاهت الجماعة واألمة
في مستقبل مجهول الهوية والهدى .إنها خطط األرض بذواتها القذرة،
وأدواتها الخسيسة تحركت باألمس ،وما زال تحركها قائمًا اليوم ،وسيستمر
كذلك كي تواصل البقاء رغم فقدانها مؤهالته كما هو معلوم ،وحتى تسقط
خطط األرض القذرة بأدواتها العفنة ،ووسائلها الرخيصة البد من تحرك
الجماعة المنقذة واألمة الهادية وفق الممكن كي تدرأ الخطر ،وتوقف األَشَر،
وذلك كما تحرك جيل األمس سواء بسواء.
وأمام مكر البشر الذي تزول الجبال الراسيات منه ،ومن مآالته جاء التعبير
ن واح ٍد كي يحسم المعركة ،وينهي المهزلة،
القرآني فصيحًا وصريحًا في آ ٍ
وذلك من خالل قوله "ويمكرون ويمكر اهلل واهلل خير الماكرين" ،حيث تحمل
هذه الجملة الكثير من الدالالت ،ومنها :أن كلمة "ويمكرون" بصيغة
الدرر الذهبية من كالم رب البرية - 354 -
21 9–8 "وَ ِمنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاهللِ َوبِا ْل َيوْمِ اآلخِرِ"... البقرة
33 93 خ ْذنَا مِيثَا َقكُ ْم وَرَ َف ْعنَا َفوْ َقكُمُ الطُّورَ"...
"وَِإذْ أَ َ البقرة
103 243 "أَلَ ْم تَرَ إِلَى َّالذِينَ خَرَجُواْ مِن ِديَارِهِ ْم وَهُمْ أُلُوفٌ"... البقرة
108 246 "أَلَ ْم تَرَ إِلَى الْ َمإلِ مِن َبنِي إِسْرَائِيلَ مِن بَ ْعدِ مُوسَى"... البقرة
112 247 "وَقَالَ َلهُ ْم نَب ُِّيهُمْ إِنَّ اهللَّ َقدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكاً"... البقرة
132 258 "أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِهِ"... البقرة
148 280 ن ذُو عُسْ َرةٍ َفنَظِ َرةٌ إِلَى َميْسَ َرةٍ"...
"وَإِن كَا َ البقرة
153 8 آل عمران "ر ََّبنَا َال تُ ِزغْ قُلُو َبنَا بَ ْعدَ ِإذْ َه َد ْيتَنَا"...
164 39 آل عمران " َفنَا َدتْهُ الْمَآلئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِي فِي الْمِحْرَابِ"...
167 92 آل عمران "لَن َتنَالُواْ ا ْلبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّو َ
ن"...
171 102 آل عمران "يَا أ َُّيهَا َّالذِينَ آ َمنُواْ اتَّقُواْ اهللَّ ح َّ
َق تُقَاتِهِ"...
175 103 ح ْبلِ اهللِ جَمِيعًا وَ َال تَفَرَّقُواْ"... آل عمران "وَا ْ
ع َتصِمُو ْا بِ َ
184 139 آل عمران "وَ َال َت ِهنُوا وَ َال تَحْ َزنُوا وَأَنتُمُ األَعَْل ْونَ"...
187 140 آل عمران "إِن يَمْسَسْكُمْ َقرْحٌ َف َقدْ مَسَّ الْ َقوْمَ َقرْحٌ ِمثْلُهُ"...
198 146 آل عمران "وَكََأيِن مِن َّنبِيٍّ قَا َتلَ مَعَهُ ِربِيُّونَ َكثِيرٌ"...
202 159 آل عمران " َفبِمَا رَحْمَةٍ ِمنَ اهللِ لِنتَ َلهُمْ"...
212 173 آل عمران " َّالذِينَ قَالَ َلهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ َقدْ جَ َمعُواْ لَكُمْ"...
234 9 "وَ ْليَخْشَ َّالذِينَ َل ْو تَرَكُواْ ِمنْ خَلْ ِفهِ ْم ذُرِيَّ ًة ضِعَافاً"... النساء
245 60 ن يَ ْزعُمُونَ أ ََّنهُمْ آ َمنُو ْا بِمَا أُن ِزلَ إَِل ْيكَ"...
"أَلَ ْم تَرَ إِلَى َّالذِي َ النساء
الد ْنيَا
حيَاةَ ُّ
سبِيلِ اهللِ َّالذِينَ يَشْرُونَ الْ َ
" َف ْليُقَا ِتلْ فِي َ
259 74 النساء
بِاآلخِرَةِ"...
267 8 "يَا أ َُّيهَا َّالذِينَ آ َمنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ هللِ شُ َهدَاء بِالْقِسْطِ"... المائدة
280 79 - 78 "لُ ِعنَ َّالذِينَ كَفَرُواْ مِن َبنِي إِسْرَائِيلَ"... المائدة
295 45 - 44 " َفلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِرُو ْا بِهِ"... األنعام
319 84 - 83 ج ْينَاهُ وَأَهْلَهُ إِالَّ امْرََأتَهُ كَانَتْ ِمنَ الْغَابِرِينَ"...
" َفأَن َ األعراف
347 30 "وَِإ ْذ يَمْكُرُ ِبكَ َّالذِينَ كَفَرُواْ لِيُ ْث ِبتُوكَ"... األنفال