You are on page 1of 28

‫‪www.alanbiya.

org‬‬ ‫جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة الكلمة © ‪2016‬‬


‫صة النّبي دانيال‬
‫مدخل إلى ق ّ‬
‫صة إلى ما ورد في كتاب النّبي دانيال في الكتاب المقدّس‪.‬‬ ‫تستند هذه الق ّ‬
‫وقبل زمن النّبي دانيال‪ ،‬توعّد ﷲ بني يعقوب على لسان النبي إرميا وغيره‬
‫من اﻷنبياء أنّهم إن استمروا في ذنوبهم وضﻼلهم‪ ،‬فسيجعل ﷲ مملكتهم‬
‫سبي‪ّ .‬‬
‫لكن بني‬ ‫تنهزم وسيلقى أفراد شعبهم إ ّما الحتف أو اﻻنسياق إلى ال ّ‬
‫يعقوب لم يتوبوا‪ ،‬فح ّل عليهم هذا العقاب ودُ ّمرت مدينة القدس واحترق فيها‬
‫بيت ﷲ وحرمه القدسي‪ .‬كان دانيال )عليه السﻼم( أحد اليهود اﻷسرى‬
‫طبري في‬ ‫سبي إلى بابل ليسكن هناك‪ .‬ويخبرنا ال ّ‬ ‫اﻷوائل‪ ،‬وانساق في ال ّ‬
‫تاريخه كيف انتصر الملك نبوخذنصر )بخت نصر( على مصر‪ ،‬ث ّم "انطلق‬
‫سبي كثير من أهل فلسطين واﻷردن‪ ،‬فيهم دانيال وغيره من اﻷنبياء"‪.‬‬ ‫بال ّ‬
‫يروي كتاب النّبي دانيال عددا من القصص التي تتعلّق به وبرفاقه الثﻼثة‬
‫)الفصول ما بين ‪ 1‬و ‪ .(6‬وفي هذا الكتاب ت ّم تسجيل بعض الرؤى التي‬
‫تلقّاها النبي دانيال من ﷲ )الفصول ما بين ‪ 7‬و ‪ .(12‬وتكشف هذه الرؤى ّ‬
‫أن‬
‫تمردها على ﷲ ستنهزم أمام مملكة ﷲ الموعودة التي‬ ‫الممالك العظمى رغم ّ‬
‫تدوم إلى اﻷبد‪ .‬وانتهت هذه الرؤى في كتاب النّبي دانيال بإعﻼن صريح‬
‫طالحين‪.‬‬‫ل حقيقة النّشر والقيامة‪ ،‬حين يجازي ﷲ الصالحين منهم ويعاقب ال ّ‬
‫صنّف الباحثون كتاب النبي دانيال ضمن صنف أدبي يسمى بأدب النّهايات‪،‬‬
‫أن ﷲ يتد ّخل بمعجزات وعجائب عبر التاريخ لينصف عباده‬ ‫وفيه يأتي تأكيد ّ‬
‫والرؤى والنّبوءات لتحقيق أهدافه‪.‬‬ ‫الرموز ّ‬ ‫صالحين‪ .‬ويستخدم هذا اﻷدب ّ‬ ‫ال ّ‬
‫ويهدف كتاب النّبي دانيال إلى شدّ عزيمة كل من يتصفّحه ويستمع إليه‪،‬‬
‫القراء اﻷوائل الذين عاشوا في مرحلة هيمنت على‬ ‫فيبقى مخلصا وخاصة ّ‬
‫قومهم بعض الممالك العظمى المجاورة‪ ،‬واضطهدت بعض هذه القوى عباد‬
‫أن ملكوت ك ّل شيء وهو‬ ‫ﷲ وظلمتهم ولكن كان عليهم أن يعرفوا يقينا ّ‬
‫يدير مجرى أحداث البشريّة لكي يت ّمم مقاصده تعالى‪.‬‬
‫وورد في الفصل السابع من كتاب النبي دانيال في رؤيا للنبي وعد إلهي‬
‫أن هذا الوعد تحقّق بقدوم‬ ‫ويقر اﻹنجيل ّ‬
‫ّ‬ ‫بخصوص مجيء المملكة الربّانية‪.‬‬
‫سيدنا عيسى المسيح‪ ،‬فهو من رآه النّبي دانيال ووصفه بمن يشبه إنسانا قادما‬
‫في ظلل من الغمام الذي ينال من ﷲ سلطانا حتى يخدمه النّاس من ك ّل‬
‫شعوب واﻷمم واللّغات )أي أنّه سيد البشر(‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫بسم ﷲ تبارك وتعالى‬
‫سﻼم(‬ ‫صة النّ ّ‬
‫بي دانيال )عليه ال ّ‬ ‫ق ّ‬
‫) ‪(٦‬‬
‫النبي دانيال ورفاقه في خدمة ملك بابل‬
‫في السنة الثالثة من ُحكم يوياقيم ملك َيهوذا‪ ،‬زحف نَبوخذ نَصر)‪ (٧‬ملك بابل‬
‫ي على يوياقيم الملك‬ ‫على القدس وحاصرها‪ .‬وبأمر ﷲ انتصر الملك البابل ّ‬
‫ي‪ .‬ث ّم رجع إلى بابل حامﻼ معه آنية مقدّسة‬ ‫ي وجعله تحت سلطانه القو ّ‬ ‫اليهود ّ‬
‫ي‪.‬‬
‫ي‪ ،‬ووضعها في خزانة معبد إلهه الوثن ّ‬ ‫من أواني بيت ﷲ العل ّ‬
‫وذات يوم أمر ملك بابل كبير حاشيته أ ْشفَناز‪ ،‬أن يختار من بني يعقوب‬
‫شبابا‪ ،‬يكونون من العائلة الملكية أو من عائﻼت النبﻼء أنسابا‪ ،‬م ّمن جاؤوا‬
‫إلى بابل مع اﻷسرى‪ .‬وأوصاه الملك قائﻼً‪" :‬سيكون من تختارهم نشطين‬
‫أقوياء‪ ،‬ذوي وسامة أص ّحاء‪ ،‬ويجب أن يكونوا على درجة كبيرة من العلم‪،‬‬
‫صر واﻹدراك متب ّحرين‪ ،‬م ّما يجعلهم للخدمة في القصر الملكي‬ ‫وفي التب ّ‬
‫مؤ ّهلين‪ .‬وعلّمهم لغة بابل وآدابَنا"‪ .‬وأمر الملك أن يُقدﱠم إلى الشبّان ما يُقَدﱠم‬
‫لحاشيته من الطعام‪ ،‬وأن يسقوا مثلهم من الخمر ال ُمدام‪ ،‬وأمر بتدريبهم ثﻼث‬
‫ي ويقدّموا فيه الخدمات‪.‬‬ ‫سنوات‪ ،‬قبل أن يتأ ّهلوا للدخول إلى القصر الملك ّ‬
‫وكان من بين الشبّان المنتخبين أربعة شباب من عشيرة َيهوذا وهم‪ :‬دانيال‬
‫عزَ ْريا‪ .‬وقد أطلق عليهم كبير الحاشية‬ ‫سﻼم( و َحنانيا وميشائيل و َ‬ ‫)عليه ال ّ‬
‫شدْ َرخ‪ ،‬وميشائيل‬ ‫صر‪ ،‬و َحنانيا َ‬ ‫أسماء بابلية‪ .‬فس ّمى النبي دانيال َبل َ‬
‫طشا َ‬
‫عبد ناغو‪.‬‬ ‫ميشَخ‪ ،‬و َعزَ ْريا َ‬
‫سﻼم( أﻻّ يقرب ما يُقدﱠم إليه من طعام وشراب‪ ،‬ﻷنّهما‬ ‫وعزم دانيال )عليه ال ّ‬

‫) ‪(٦‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.21-1 :1‬‬
‫) ‪(٧‬‬
‫وهو معروف أيضا باسم َبختنصر‪.‬‬
‫محرمان عليهم كما جاء في الكتاب‪ (٨)،‬وطلب من كبير الحاشية أن يعف َي ُهم‬ ‫ّ‬
‫من ذلك‪ .‬وكان ﷲ قد جعل كبير الحاشية ينظر إلى النبي دانيال بلطف‬
‫ورضى‪ ،‬بيد أنّه انزعج من اقتراحه وأجابه‪" :‬لقد أمر موﻻي الملك أن‬
‫خف‬
‫تتناولوا جميعًا م ّما يُقدﱠم إليكم من الطعام والشراب‪ ،‬فإذا امتنعتم عنه‪ّ ،‬‬
‫وزنكم وأصبح شكلكم مختلفًا عن زمﻼئكم اﻵخرين‪ ،‬وإنّي أخشى أن يأمر‬
‫الملك بقطع رأسي ﻷنّي أهملت واجبي"‪.‬‬
‫ث ّم اتّجه النبي دانيال إلى المشرف الّذي وﻻّه كبير الحاشية عليه وعلى من‬
‫جربنا عشرة أيّام فقط‪ ،‬وﻻ تقدّم لنا‬ ‫معه من اﻷصدقاء‪ ،‬وقال له‪" :‬يا سيّدي‪ّ ِ ،‬‬
‫سوى الخضر والماء‪ ،‬وبعد ذلك قارن بيننا وبين بقية الشبّان الّذين يأكلون من‬
‫تقرر ما تشاء"‪ .‬فوافق المشرف على ما قاله‬ ‫طعام الملك‪ ،‬وتستطيع عندها أن ّ‬
‫وجرب اقتراحه عشرة أيّام‪ .‬وبعد انقضاء الفترة‬ ‫ّ‬ ‫سﻼم(‪،‬‬ ‫دانيال )عليه ال ّ‬
‫المحدّدة بدا النبي دانيال وزمﻼؤه الثﻼثة أحسن حاﻻً وأفضل صحةً من جميع‬
‫الشبّان الّذين كانوا من طعام القصر الملكي يأكلون‪ .‬فسمح لهم المشرف أن‬
‫ي من طعام وخمر‪ ،‬وأﻻّ يتناولوا إﻻّ‬ ‫يتركوا ما يقدّم لهم من القصر الملك ّ‬
‫الخضر والماء‪.‬‬
‫وأكرم ﷲ هؤﻻء الشباب‪ ،‬فتعلّموا ك ّل فروع الحكمة واﻵداب‪ ،‬وتميّز عنهم‬
‫الرؤى واﻷحﻼم‪.‬‬ ‫سﻼم‪ ،‬بكرامة تفسير ك ّل أنواع ّ‬ ‫النبي دانيال عليه ال ّ‬
‫شباب‬ ‫وعند انتهاء ما حدّده الملك من مدّة للتدريب‪ ،‬أحضر كبير الحاشية ال ّ‬
‫أن دانيال وأصحابه‬ ‫إلى بﻼط ملك بابل المهيب‪ .‬وحاورهم الملك وﻻحظ ّ‬
‫متفوقين‪ ،‬فاختارهم للخدمة في القصر وجعلهم من‬ ‫الثﻼثة كانوا على الجميع ّ‬
‫المقربين‪ .‬وكلّما استشارهم الملك في موضوع مهما استعصى‪ ،‬أظهروا من‬ ‫ّ‬
‫الحكمة والنُهى‪ ،‬ما يصل إلى عشرة أضعاف ما يتمتّع به جميع من في‬
‫ي‪،‬‬‫مملكته من سحرة وشيوخ روحانيين‪ .‬وظ ّل النبي دانيال في البﻼط الملك ّ‬
‫) ‪(٩‬‬
‫ي‪.‬‬‫كورش الفارس ّ‬‫إلى زمن سقوط بابل في سطوة الملك َ‬
‫) ‪(٨‬‬
‫الطعام والشراب محرمان ﻷنهما قدما إلى اﻷصنام واﻵلهة ّأوﻻً كقرابين وليسا مخصصين مباشرة لﻸكل‬
‫لذلك تنص التوراة على تحريمهما‪.‬‬
‫) ‪(٩‬‬
‫ظ ّل النبي دانيال في القصر الملكي خﻼل حكم الملك نَبوخذ نَصر والملك الذي خلفه إلى السنوات اﻷولى‬
‫من حكم الملك كورش الذي ينحدر من بﻼد فارس‪.‬‬
‫منام الملك نَبوخﺬ نصﺮ‬
‫) ‪(١‬‬

‫وفي السنة الثانية من ُحكم الملك نبوخذ نَصر وفي إحدى الليالي‪ ،‬رأى هذا‬
‫أرقته وأبعدت عنه النوم‪ .‬فاستدعى السحرة والشيوخ‬ ‫الملك منامات مزعجة ّ‬
‫الروحانيين‪ ،‬وال َع ّرافين والمن ّجمين‪ ،‬وعند حضورهم مجتمعين‪ ،‬طلب منهم‬
‫سرين‪ .‬وقال لهم‪" :‬رأيتُ مناما أزعجني‪ ،‬فهل فيكم من‬ ‫أن يكونوا لمنامه مف ّ‬
‫يقدّم لي تفسيرا يقنعني؟" فأجابه ال ُمن ِ ّجمون باللغة اﻵراميّة‪" :‬عاش ال َملك أبد‬
‫سرون"‪ .‬فأجابهم ال َملك‪" :‬إن لم‬ ‫اﻵبدين! يا موﻻنا‪ ،‬أخبرنا بالمنام ونحن له مف ّ‬
‫تخبروني بمحتوى ما رأيت في المنام وتفسيره‪ ،‬سآمر بتمزيقكم إربا إربا‪،‬‬
‫وأجعل بيوتكم مزابل ِخ َربا‪ ،‬وإن أخبرتموني بالمنام وتفسيره‪ ،‬وهبتكم عظيم‬
‫إن هذا هو قولي اﻷخير! فأخبروني بما‬ ‫الهدايا وأغرقتكم في الكرم والعطايا! ّ‬
‫سلوا إليه قائلين‪" :‬يا جﻼلة الملك‬
‫جاء في منامي وقدّموا لي التفسير"‪ .‬فتو ّ‬
‫رأيت في المنام‪ ،‬واسمع منا تفسير اﻷحﻼم"‪ .‬فأجابهم في‬ ‫َ‬ ‫العظيم‪ ،‬أخبرنا بما‬
‫صرامة ﻻ تلين‪" :‬إنّي على يقين‪ ،‬أنّكم تحاولون كسب مزيد من الوقت لعلّكم‬
‫تنجون‪ ،‬وأنّكم رأيتموني على قراري شديد التصميم! فإن لم تخبروني بما‬
‫ي متآمرون وإنّكم لخادعون كاذبون‪ ،‬إذ حسبتم‬ ‫رأيتُ ‪ ،‬فعقابكم وخيم‪ .‬فأنتم عل ّ‬
‫أني سأغيّر قراري بعد حين! هيّا أخبروني بما رأيتُ ﻷتأ ّكد أنّكم على تفسير‬
‫رؤياي قادرون"‪ .‬وقال المن ّجمون محت ّجين‪" :‬يا موﻻنا‪ّ ،‬‬
‫إن هذا ﻷمر‬
‫مستحيل! ﻻ يوجد على وجه اﻷرض من يستطيع قراءة أفكار الملك المع ّ‬
‫ظم!‬
‫وما من ملك مهما كانت عظمته وسلطانه طلب هذا اﻷمر من ساحر أو شيخ‬
‫إن ما تطلبه يا موﻻي محال‪ ،‬وما من أحد يمكنه أن‬ ‫ي أو من ّجم! ّ‬
‫روحان ّ‬
‫يخبرك بمضمون المنام إﻻّ اﻵلهة الّتي ﻻ تقيم مع اﻹنسان"‪.‬‬
‫فامتﻸ قلب الملك غضبا وبغضاء‪ ،‬وأمر بإعدام ك ّل حكماء بابل دون‬
‫ي دانيال ورفاقه باحثين‪ ،‬ﻹعدامهم مع‬ ‫استثناء‪ .‬فانطلق بعض الجنود عن النب ّ‬
‫بقية حكماء بابل الفاشلين‪ .‬وعندما انطلق أريوخ قائد الحرس الملكي لتنفيذ‬
‫صر‪ ،‬وسأله‪" :‬لماذا أصدر الملك هذا‬ ‫اﻷمر‪ ،‬خاطبه النبي دانيال بحكمة وتب ّ‬
‫الحكم الشديد‪ ،‬وكيف يعدم أصحاب الرأي الرشيد؟" فشرح أريوخ للنبي‬
‫) ‪(١‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.18-1 :2‬‬
‫دانيال أمر منام الملك وكيف عجز الروحانيّون عن تفسيره‪ .‬فانطلق النبي‬
‫دانيال ليرى الملك وطلَب منه مهلة حتى يخبره بك ّل ما رآه في المنام‬
‫وتفسيره‪ ،‬فوافق الملك على ذلك‪.‬‬
‫ث ّم عاد النبي دانيال إلى الدار وأخبر رفاقه الثﻼثة بالموضوع وما فيه من‬
‫يتضرعوا إلى ربّ العالمين ليرحمهم برحمته ويكشف‬ ‫ّ‬ ‫أخطار‪ ،‬وتر ّجاهم أن‬
‫سر هذا المنام فينجون‪ ،‬ومع سائر حكماء بابل ﻻ يعدمون‪.‬‬ ‫لهم ّ‬
‫)‪( ٢‬‬
‫النبي دانيال يفسﺮ المنام‬
‫السر للنبي دانيال في رؤيا‪ ،‬فسبّح بحمد ربّ العالمين‬‫ّ‬ ‫وفي تلك الليلة انكشف‬
‫وقال‪" :‬تبارك ﷲ من اﻷزل وإلى أبد اﻵبدين‪ ،‬إنّه ربّ الحكمة الجبّار المتين!‬
‫سبحان الّذي يسيّر مجرى الكون واﻷزمان‪ ،‬ويُنزل الملوك عن عروشهم‬
‫ويرفع آخرين إلى علو المقام‪ ،‬هو الّذي يمنح الحكمة للحكماء والفهم للفهماء!‬
‫سبحان الّذي يكشف اﻷسرار والمخفيّات‪ ،‬إنّه العليم بما يكمن في الظلمات‪،‬‬
‫اﻷولين‪ ،‬فلك‬‫وهو ذو النور الباهر‪ ،‬والضياء القاهر‪ .‬يا ﷲ‪ ،‬إنّك معبود آبائي ّ‬
‫وهبت لي الحكمة وقدرة التبيين‪،‬‬‫َ‬ ‫الحمد وإنّي لك من المسبّحين‪ ،‬ﻷنّك‬
‫فأوحيت لي بمضمون منام الملك العظيم!‬
‫َ‬ ‫واستجبت لطلبنا‪،‬‬
‫َ‬
‫واتّجه النبي دانيال إلى أريوخ قائد الحرس الذي ُكلّف بإعدام حكماء با ِبل‪،‬‬
‫وقال له‪" :‬إيّاك أن تنفّذ في حكماء بابل اﻹعدام! بل أدخلني ﻷمثل أمام الملك‬
‫عا إلى البﻼط الملكي وقال‬ ‫سر له ما رآه في المنام"‪ .‬فأدخله أريوخ ُمسر ً‬ ‫وأف ّ‬
‫لسيّده وموﻻه‪" :‬يا موﻻي‪ ،‬وجدتُ أحد اﻷسرى من بﻼد يَهوذا يريد أن يخبر‬
‫ظم عن رؤياه!" فالتفت الملك إلى النبي دانيال قائﻼً‪" :‬هل صحيح‬ ‫الملك المع ّ‬
‫ما تدّعيه؟ هل تستطيع أن تخبرني بمضمون ما رأيتُ في منامي وتقدّم لي ما‬
‫يعنيه؟" فأجابه النبي دانيال‪" :‬ﻻ يمكن لشيخ روحاني أو حكيم‪ ،‬أو ساحر أو‬
‫ولكن ﷲ ربّ العالمين‪ ،‬هو‬ ‫ّ‬ ‫السر لموﻻي العظيم!‬
‫ّ‬ ‫أحد المن ّجمين أن يبوح بهذا‬
‫السر الدفين‪ ،‬وقد أظهر ﷲ العﻼّم لموﻻي نَبوخذ نَصر ما‬ ‫ّ‬ ‫الّذي يكشف‬
‫رأيت في منامك‪ ،‬وبما أزعجك‬ ‫َ‬ ‫سيحدث في قادم اﻷيّام‪ .‬ها أنا سأخبرك بما‬
‫رأيت يا موﻻي‪ ،‬سيحدث في الزمن اﻵتي‪ ،‬وﷲ يكشف‬ ‫َ‬ ‫في نومك‪ّ :‬‬
‫إن ما‬
‫) ‪(٢‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.49-19 :2‬‬
‫السر ﻷنّي أفوق الناس‬ ‫ّ‬ ‫لعبده اﻷسرار والغيبيات‪ .‬وما كشف لي ﷲ تعالى هذا‬
‫حكمةً ونُهى‪ ،‬بل لكي تعلم أيّها الملك تفسير منامك وك ّل ما دار في أفكارك‬
‫رأيت في منامك تمثاﻻً ضخ ًما عظيما‪ ،‬ينتصب‬ ‫َ‬ ‫من رؤى‪ .‬يا موﻻي‪ ،‬لقد‬
‫أمامك بهيّا‪ ،‬وكان منظره رهيبًا‪ .‬رأسه من خالص الذهب‪ ،‬ومن فضّة صدره‬
‫وذراعاه‪ ،‬ومن نحاس بطنه وفخذاه‪ ،‬ومن حديد ساقاه‪ ،‬وقدماه خليط من‬
‫نظرت فيه‪ ،‬انقطع حجر من أحد الجبال من دون أن‬ ‫َ‬ ‫الحديد والخزف‪ ،‬ول ّما‬
‫طم التمثال‬ ‫ترى يدا تلقيه‪ ،‬فضرب التمثال من أسفله فسحق قدميه‪ .‬وتح ّ‬
‫وانهار‪ ،‬وأصبح كومة من حديد وخزف ونحاس وفضّة وذهب ومع الريح‬
‫ت كلﱡها مثل تبن بيدر في الصيف في هباء ونثار‪ .‬أ ّما الحجر‬ ‫طار‪ ،‬إذ أصب َح ْ‬
‫اﻷرض كامل اﻻحتﻼل‪.‬‬ ‫َ‬ ‫فتحول إلى جبل ضخم واحت ّل‬‫ّ‬ ‫سر التمثال‪،‬‬ ‫الّذي ك ّ‬
‫رأيت في منامك‪ .‬واﻵن سأخبرك بمعناه‪ .‬يا‬ ‫َ‬ ‫إن هذا مضمون ما‬ ‫"يا سيّدي‪ّ ،‬‬
‫ﻷن ربّ العالمين منحك ال ُملك‬ ‫جﻼلة الملك‪ ،‬أنت أعظم الملوك والحاكمين‪ّ ،‬‬
‫والعزة والقدرة والجﻼل‪ ،‬وجعلك مل ًكا على اﻷرض بالكمال‪ ،‬بما فيها من‬ ‫ّ‬
‫البشر والوحوش والطيور‪ ،‬فأنت الرأس الّذي من ذهب‪ .‬وبعد انتهاء‬
‫سلطانك‪ ،‬يأتي سلطان آخر‪ ،‬أق ّل شأنًا منك وأضعف‪ ،‬وبعد سقوطه تقوم‬
‫مملكة ثالثة كأنّها النحاس فتتسلّط على أنحاء اﻷرض‪ .‬وبعد تلك المملكة تأتي‬
‫مملكة رابعة تكون صلبة كالحديد‪ ،‬وستسحق ك ّل الممالك الّتي سبقتها‪ ،‬فكما‬
‫طم جميع تلك‬ ‫يسحق الحديد كل اﻷشياء‪ ،‬كذلك تسحق هذه المملكة وتح ّ‬
‫أن القدمين واﻷصابع خليط من خزف وحديد‪ ،‬ويعني‬ ‫ورأيت ّ‬
‫َ‬ ‫سابقة‪.‬‬
‫الممالك ال ّ‬
‫كقوة الحديد‪،‬‬
‫أن أمر المملكة غير متو ّحد سديد‪ ،‬وستبقى رغم ذلك قويّة ّ‬ ‫ّ‬
‫وتكون بعض اﻷجزاء من المملكة صلبة كالحديد وبعضها اﻵخر هش ينكسر‬
‫أن ملوك تلك المملكة‬ ‫ضا إلى ّ‬ ‫بسهولة كالخزف‪ .‬ويرمز هذا الخليط أي ً‬
‫سيسعون إلى تقويَة الدولة بتحالفات يقيمونها متصاهرين‪ ،‬ولكنّهم واهمون‪،‬‬
‫فالحديد ﻻ يتّحد مع الخزف وإليه ﻻ يستكين‪ .‬وفي أيّام تلك الممالك يقيم ربّ‬
‫العالمين مملكة ﻻ أحد يد ّمرها أو يهزمها‪ ،‬بل ستسحق جميع تلك الممالك‬
‫وتقضي عليها‪ ،‬بينما تثبُت هي إلى أبد اﻵبدين‪ .‬وهذا ما يرمز إليه الحجر‬
‫الّذي انقطع من الجبل من دون أن تلمسه يد‪ ،‬فسحق التمثال المصنوع من‬
‫إن ﷲ العظيم ينبّه جﻼلة الملك بما‬ ‫حديد ونحاس وخزف وفضّة وذهب‪ّ .‬‬
‫سيحدث في المستقبل‪ .‬وهذا هو منامك أيّها الجليل النبيه‪ ،‬وهذا تفسيره‬
‫صحيح ﻻ ريب فيه"‪.‬‬
‫وانحنى الملك نَبوخذ نَصر في الحال أمام النبي دانيال في احترام وتقدير‪،‬‬
‫ي‬
‫وأمر قومه أن يقدّموا له القرابين ويحرقوا له البخور‪ .‬وقال الملك للنب ّ‬
‫"إن ربّكم ربّ اﻷرباب ﻻ محالة‪ ،‬ويسود على جميع الملوك ويكشف‬ ‫دا نيال‪ّ :‬‬
‫اﻷسرار‪ ،‬ﻷنّه م ّكنك من أن تكشف الخبيء خلف اﻷستار"‪.‬‬
‫ث ّم وهب النبي دانيال كثيرا من الهدايا‪ ،‬ورفعه إلى منصب عا ٍل فوق البرايا‪،‬‬
‫سا على جميع حكماء الحاشية‪.‬‬ ‫إذ جعله واليًا على بابل العاصمة‪ ،‬وأقامه رئي ً‬
‫َدرخ وميشَخ وعبد ناغو مناصب‬ ‫وطلب دانيال من الملك أن يولّي رفاقه‪ ،‬ش َ‬
‫عالية وأن يجعلهم على إدارة شؤون با ِبل الحامية‪ ،‬أ ّما دانيال النبي‪ ،‬فظ ّل في‬
‫البﻼط الملكي‪.‬‬
‫)‪( ٣‬‬
‫الملك يأمﺮ بعبادة تمثال الﺬهب‬
‫وفي أحد اﻷيّام أمر الملك نَبوخذ نَصر رجاله أن يصنعوا تمثاﻻً من ذهب‪،‬‬
‫أذرع‪ ،‬وأوصى أن يُنصب في سهل دورا‬ ‫عا وعرضه ستّة ُ‬ ‫طوله ستّون ذرا ً‬
‫في وﻻية بابل‪ .‬ث ّم دعا باجتماع ك ّل المسؤولين‪ ،‬من ُ‬
‫الوﻻة ووجهاء الدولة‬
‫والزعماء والمستشارين‪ ،‬وأُمناء الخزينة والقضاة والضباط وغيرهم من‬
‫ظفين‪ ،‬حتى يقيم أمام التمثال حفل التدشين‪ .‬وعندما اجتمع ك ّل‬‫كبار المو ّ‬
‫سمع ُمنا ٍد ينادي بصوت عا ٍل‪" :‬أيّها‬‫المدعوين‪ ،‬أمام التمثال في هيبة ووقار‪ُ ،‬‬
‫ّ‬
‫الناس يا من تمثلّون ك ّل اﻷمم واللغات والشعوب‪ ،‬اسمعوا ما صدر عن‬
‫موﻻنا الملك ال َمهيب‪ ،‬من أمر وقرار‪ :‬إذا سمعتم جميع أصوات المعازف من‬
‫ومزمار‪ ،‬فاركعوا لتمثال الذﱠهب‬ ‫بوق وناي وقيثار‪ ،‬وصوت رباب وعود ِ‬
‫الّذي أقامه موﻻنا الملك ساجدين‪ .‬وك ّل َمن يرفض له السجود‪ ،‬يُلقى به في‬
‫الحال وسط أتون ذي نار ووقود‪ .‬وما أن سمع جميع ممثلي الشعوب‬
‫خروا لتمثال الذهب ساجدين‪.‬‬‫الحاضرين‪ ،‬أصوات تلك المعازف حتّى ّ‬

‫) ‪(٣‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.7-1 :3‬‬
‫) ‪(٤‬‬
‫دسيسة ض ّد رفاق النبي دانيال‬
‫وأخذ بعض المن ّجمين أمر الملك ذريعة‪ ،‬حتى يزرعوا بين أهل يهوذا‬
‫والملك الفرقة والوقيعة‪ ،‬فأقبلوا على الملك مردّدين‪" :‬عاش الملك أبد‬
‫اﻵبدين! يا موﻻنا‪ ،‬لقد صدر أمرك أن ك ّل َمن يسمع جميع أصوات المعازف‬
‫من بوق وناي وقيثار‪ ،‬ورباب وعود ومزمار‪ ،‬عليه أن يسجد لتمثال الذﱠهب‪،‬‬
‫فإن تولّى ألقي في نار ذات لهب‪ .‬وقد أقام جﻼلتكم على وﻻية بابل من أهل‬
‫عبدَ ناغو‪ ،‬لكنّهم رفضوا أمرك واستخفّوا به‪ ،‬ولم‬ ‫َدرخ وميشَخ و َ‬‫يهوذا‪ ،‬ش َ‬
‫) ‪(٥‬‬
‫يسجدوا لصنمك وﻻ اعترفوا به"‪.‬‬
‫الملك غضب شديد‪ ،‬على هؤﻻء النفر من أهل يهوذا‪ ،‬وأمرهم أن‬ ‫َ‬ ‫فعﻼ‬
‫يمثلوا أمامه‪ ،‬وأن يتلقّوا غضبه وكﻼمه‪ .‬وعند وصولهم قال لهم‪" :‬كيف‬
‫تتجرؤون وعن عبادة آلهتي تنكصون‪ ،‬كيف ترفضون السجود لتمثال الذهب‬ ‫ّ‬
‫الّذي نصبتُه وعليه تتكبّرون؟ ها أنّي أمنحكم فرصة أخيرة‪ ،‬ستسمعون اﻵن‬
‫تخروا‬
‫صوت البوق والناي والقيثار والرباب والعود والمزمار‪ ،‬وعليكم أن ّ‬
‫للتمثال ساجدين‪ .‬وإن رفضتم ذلك‪ ،‬تُلقون في لهيب اﻷتون‪ ،‬وهل ِمن إله‬
‫ينقذكم من قبضتي في ذلك الحين؟"‬
‫صر‪ ،‬إنّنا في غير حاجة إلى تبرير أو‬ ‫فأجابه الشبّان الثﻼثة‪" :‬يا نَبوخذ نَ ﱠ‬
‫تفسير‪ .‬نحن أيّها الملك عباد ﷲ‪ ،‬وهو ربّنا القدير‪ ،‬ينقذنا من اللهب‬
‫المستطير‪ ،‬ومن نفوذك الكبير‪ .‬وحتّى إن لم ين ِجنا‪ ،‬فإنّا لعبادة آلهتك‬
‫رافضون‪ ،‬وعن تمثالك الّذي نصبته بعيدون!"‬
‫) ‪(٦‬‬
‫الحكم بالموت على رفاق النبي دانيال‬
‫فاستشاط الملك غي ً‬
‫ظا وا ْكفَ َه ﱠر وجهه على رفاق النبي دانيال الثﻼثة غضبًا‪،‬‬
‫وأمر أن يُح ّمى اﻷتون سبعة أضعاف ما كان يُح ّمى لهبا‪ ،‬وأمر بعض الجنود‬
‫اﻷشداء من جيشه أن يقيّدوا الرفاق الثﻼثة ويلقوهم في اﻷتون المتو ّهج‬
‫) ‪(٤‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.18-8 :3‬‬
‫) ‪(٥‬‬
‫ﻻ توجد إشارة إلى أن النبي دانيال كان موجودا في المدينة زمن هذه الحادثة‪ .‬وهذه القصة مه ّمة ﻷنها‬
‫تؤكد أن ﷲ يحمي عباده الذين يتو ّكلون عليه‪.‬‬
‫) ‪(٦‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.25-19 :3‬‬
‫باللهيب‪ .‬فقيّدوهم تاركين ما عليهم من ثياب وألقوهم وسط السعير الرهيب‪.‬‬
‫ولقد كان الملك في أمره شديدا‪ ،‬بأن يُ َح ﱠمى اﻷتون ويُضرم أشدّ اﻹضرام‪،‬‬
‫ي دانيال‪ ،‬حينما اقتربوا من ذلك اللهيب!‬ ‫فمات الجنود الذين ألقوا رفاق النب ّ‬
‫بينما سقط الرفاق الثﱠﻼثة وسط النار مقيّدين‪.‬‬
‫شا وقال لرجال حاشيته مستفسرا‪" :‬ألم نلق بثﻼثة‬ ‫وفجأة ً اندفع الملك منده ً‬
‫رجال وسط النار مقيّدين؟" فأجابوه‪" :‬أجل‪ ،‬يا موﻻنا"‪ .‬فقال‪" :‬فكيف أرى‬
‫شون‪ ،‬ولم يلحقهم أذى‪ ،‬ورابعهم كأنّه إله‬ ‫أربعة رجال بﻼ قيد وسط النار يتم ّ‬
‫عظيم؟"‬
‫)‪( ٧‬‬
‫إطﻼق رفاق النبي دانيال‬
‫َدرخ وميشَخ وعبد ناغو‪ ،‬يا‬ ‫واقترب الملك من باب اﻷتون ونادى‪" :‬يا ش َ‬
‫الوﻻة ووجهاء‬ ‫عباد ﷲ تعالى‪ ،‬اُخرجوا من النار وتعالوا!" فخرجوا وأحاط ُ‬
‫الدولة والزعماء والمستشارون‪ ،‬بهؤﻻء الرفاق النّاجين‪ ،‬فوجدوا ّ‬
‫أن النار لم‬
‫ي ضرر‪ ،‬ولم تحترق منهم شعرة ولم يمسس ثوبهم شرر‪ ،‬بل ﻻ توجد‬ ‫تأتِهم بأ ّ‬
‫َدرخ وميشَخ وعبد ناغو‬ ‫عليهم حتّى رائحة النار‪ .‬فقال الملك‪" :‬تبارك ربّ ش َ‬
‫الّذي أرسل مﻼكه وأنقذ عباده الذين عليه يتو ّكلون‪ ،‬فقد خالفوا أمر الملك‪،‬‬
‫واختاروا الموت في النار على أن يكونوا لغير ربّهم ساجدين‪ .‬أنا الملك‪،‬‬
‫ي‪ ،‬لك ّل النّاس في مملكتي من ك ّل الشعوب واﻷمم واللغات‪:‬‬ ‫وإليكم أمري العل ّ‬
‫يتحول بيته‬
‫مزق إربًا إربًا و ّ‬ ‫َدرخ وميشَخ وعبد ناغو يُ ّ‬
‫ك ّل َمن استهان بربّ ش َ‬
‫إلى مرمى للنّفايات‪ .‬فﻼ إله غيره قادر على نجاة الناس بهذه الطريقة‬
‫العجيبة!"‬
‫َدرخ وميشَخ وعبد ناغو إلى مناصب أعلى في وﻻية بابل‪.‬‬ ‫ث ّم رفع الملك ش َ‬
‫) ‪(٨‬‬
‫الملك نَبوخﺬ نصﺮ يﺮى رؤيا ّ‬
‫مﺮة ثانية‬
‫غا إلى الناس في ك ّل أرجاء اﻷرض من‬ ‫وأرسل الملك نَبوخذ نَصر بﻼ ً‬
‫مختلف الشعوب واﻷمم واللغات‪:‬‬

‫) ‪(٧‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.30-26 :3‬‬
‫) ‪(٨‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.18-1 :4‬‬
‫س ﱡرني أن أُعلن الخوارق والمعجزات‪ ،‬تلك الّتي أجراها من‬ ‫"دُمتم سالمين‪ .‬ي ُ‬
‫أجلي ﷲ تعالى صاحب اﻵيات‪.‬‬
‫سلطانه يبقى على‬ ‫فما أعظم معجزاته وما أقوى آياته! ُملكه يدوم إلى اﻷبد و ُ‬
‫مدى اﻷجيال وال ُمدد‪.‬‬
‫أنا الملك نَبوخذ نَصر‪ ،‬كنتُ في قصري مقيما مرتا ًحا مطمئنًا سليما‪ .‬حتّى‬
‫أمرا بإحضار‬ ‫أفزعتني في إحدى الليالي رؤيا رأيتها في فراشي‪ .‬فأصدرتُ ً‬
‫سروا ما أفزعني في أحﻼمي‪ .‬وعند وصول السحرة‬ ‫حكماء بابل أمامي‪ ،‬ليف ّ‬
‫والمن ّجمين‪ ،‬والشيوخ الروحانيّين‪ ،‬أخبرت ُهم بمنامي‪ ،‬فعجزوا عن تفسيره‬
‫صر تي ّمنًا‬‫طشا ﱠ‬ ‫وشرحه وتعبيره‪ .‬وجاءني في النهاية دانيال الّذي س ّميته َبل َ‬
‫باسم إلهي‪ ،‬وكانت فيه روح اﻵلهة ذات القُدسيّة‪ ،‬فأخبرتُه بما رأيتُ في المنام‬
‫أن روح‬ ‫صر إنّك رئيس المستشارين الحكماء‪ ،‬وأنا أعلم ّ‬ ‫طشا ﱠ‬ ‫وقلتُ ‪" :‬يا بَل َ‬
‫سر يبقى عندك في الخفاء‪ .‬فأخبرني ما‬ ‫اﻵلهة ذات القدسيّة قد حلّت فيك‪ ،‬فﻼ ّ‬
‫هو تفسير رؤياي‪ .‬فبينما أنا نائم في فراشي‪ ،‬إذ بشجرة شامخة مرتفعة وسط‬
‫اﻷرض أبيّة‪ .‬نَ َمت أكثر فأكثر حتّى صارت كبيرة قويّة‪ ،‬وبلغ ارتفاعها إلى‬
‫السماء ليراها في أقاصي اﻷرض الناظرون‪ .‬فأوراقها جميلة بهيّة‪ ،‬وثمارها‬
‫وفيرة يأكل منها الناس أجمعون‪ ،‬وتحتها تستظ ّل الحيوانات الوحشيّة‪ ،‬وبين‬
‫شا‪ ،‬ومنها تقتات ك ّل المخلوقات طعاما‪.‬‬ ‫أغصانها تتّخذ طيور السماء أعشا ً‬
‫طاهرا وهتف بصوت‬ ‫ً‬ ‫"وأثناء منامي‪ ،‬رأيتُ مﻼ ًكا ينزل من السماء رقيبا‬
‫صوا أغصانها! وانثروا أوراقها وبدِّدوا‬ ‫مدويا ظاهرا‪ :‬اِقطعوا الشجرة وقُ ّ‬ ‫كان ّ‬
‫ثمارها ولتهجر الوحوش ظﻼلها ولتترك الطيور أغصانها! ولكن اُتركوا‬
‫الجذع والجذور‪ ،‬وقيّدوا الجذع وسط عشب الحقول بالنحاس والحديد‪ ،‬ودعوه‬
‫وليتحول عقله من‬‫ﱠ‬ ‫يتبلّل بندى السماء‪ ،‬ويرعى مع الوحوش والحيوانات‪،‬‬
‫غت المﻼئكة الرقباء اﻷطهار هذا‬ ‫إنسان إلى وحش مدّة سبع سنوات‪ (٩).‬وبلّ ْ‬
‫أن ﷲ تعالى هو المهيمن على البشر وممالكهم‬ ‫المنام‪ ،‬حتّى يعلم الجميع ّ‬
‫جمعاء‪ ،‬وهو الّذي يقيم عليها َمن يشاء‪ ،‬حتّى أدنى الناس البسطاء"‪.‬‬

‫) ‪(٩‬‬
‫اعتقد القدامى ّ‬
‫أن الرقم سبعة يحمل رمزية الكمال أو الشمولية أو اﻹتمام‪ ،‬ويعني هذا الرقم هنا العقاب‬
‫التا ّم‪.‬‬
‫سر لي‬
‫صر‪ .‬فف ّ‬ ‫إن هذا منامي الّذي رأيتُه يا َبل َ‬
‫طشا ﱠ‬ ‫أنا الملك نَبوخذ نَصر‪ّ ،‬‬
‫ﻷن روح‬‫رؤياي فقد عجز عنه الحكماء‪ .‬وأنت ﻻ ريب قادر على تفسيره ّ‬
‫اﻵلهة المقدّسة قد حلّت فيك"‪.‬‬
‫)‪( ١‬‬
‫النبي دانيال يفسﺮ المنام‬
‫سﻼم( فترة‪ ،‬وانزعج م ّما جاء في المنام‪ ،‬فبقي‬ ‫وذهل النبي دانيال )عليه ال ّ‬
‫صر‪ ،‬ﻻ يه ّمك مضمون المنام‪ ،‬وﻻ‬ ‫صامتا برهة حتى قال له الملك‪" :‬يا بَل َ‬
‫طشا ﱠ‬
‫ما فيه من غ ّم"‪ .‬فأجابه النبي دانيال‪" :‬يا سيّدي‪ ،‬ليت أحداث هذا المنام تتحقّق‬
‫رأيت شجرة تنمو وتقوى‪ ،‬وبلغ‬‫َ‬ ‫في مبغضيك‪ ،‬وتصيب أعاديك! أنت‬
‫ارتفاعها إلى السماء‪ ،‬حتّى رآها ك ّل الناس في أصقاع الدنيا‪ ،‬وكانت أوراقها‬
‫بهيّة‪ ،‬وثمارها وفيرة شهيّة‪ ،‬تأكل منها ك ّل المخلوقات‪ ،‬وتستظ ّل تحتها‬
‫الوحوش‪ ،‬وتتّخذ الطيور بين أغصانها أوكارا وأعشاشا‪ .‬هذه الشجرة يا‬
‫أصبحت عظيما قويا‪ ،‬وازدادت عظمة ملكك وبلغت إلى‬ ‫َ‬ ‫سيّدي هي أنت‪ .‬فقد‬
‫ورأيت أثناء منامك يا موﻻي‪ ،‬مﻼ ًكا‬‫َ‬ ‫السماء وامتدّ سلطانك إلى ك ّل اﻷرض‪.‬‬
‫طاهرا ويقول‪ :‬اِقطعوا هذه الشجرة واقضوا عليها‪،‬‬ ‫ً‬ ‫ينزل من السماء رقيبا‬
‫ولكن اتركوا في اﻷرض الجذع والجذور‪ ،‬وقيّدوا جذعها وسط عشب‬
‫الحقول بالنحاس والحديد‪ ،‬ودعوه يتبلّل بندى السماء‪ ،‬ليرعى مع الوحوش‬
‫والحيوانات‪ ،‬إلى أن تمضي عليه سبع سنوات‪ .‬وها أنا أخبرك يا موﻻي‬
‫إن ﷲ تعالى قد حكم عليك بهذا القضاء‪ .‬ستُطرد من‬ ‫الملك بتفسير هذا المنام‪ّ :‬‬
‫بين الناس لتقيم مع حيوانات البيداء‪ ،‬وسترعى العشب كالبهائم وتتبلّل من‬
‫بأن ﷲ تعالى يهيمن‬ ‫ندى السماء‪ ،‬وتمضي عليك سبع سنوات إلى أن تعترف ّ‬
‫على ممالك البشر ويقيم عليها من يشاء‪ .‬أ ّما بقاء جذع الشجرة وجذورها على‬
‫بأن ال ُملك وحده ربّ‬ ‫الثرى‪ ،‬فيعني أنّك ستردّ إلى مملكتك حينما تعترف ّ‬
‫اﻷرض والسماء‪ .‬أيّها الملك الجليل‪ ،‬اقبل نصحي ومشورتي‪ ،‬واترك آثامك‬
‫وخطاياك واستقم في أفعالك وارحم المساكين‪ ،‬ل ّعل هناءك يدوم"‪.‬‬

‫) ‪(١‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.27-19 :4‬‬
‫) ‪(٢‬‬
‫إذﻻل الملك نَبوخﺬ نصﺮ‬
‫التواب‪ ،‬فتحقّق ك ّل ما تنبأ به‬
‫ولكن الملك نَبوخذ نَصر لم يتُب إلى الكريم ّ‬
‫ّ‬
‫شرفة‬‫شى في ُ‬ ‫النبي دانيال من عقاب‪ .‬وبعد مرور حول كامل‪ ،‬كان الملك يتم ّ‬
‫شك وﻻ‬‫قصره في بابل‪ ،‬فأجال بنظره في المدينة بإعجاب‪ ،‬وقال بغير ّ‬
‫ارتياب‪" :‬ما أعظم مدينة بابل! إنّي بنيتُها باقتداري المتين‪ ،‬هي عاصمة‬
‫لمملكتي تُظهر جﻼلي وبهائي العظيم!")‪ (٣‬وفيما كان كﻼم الملك على لسانه‪،‬‬
‫اصغ إلى هذا اﻷمر‪ :‬قد‬ ‫ِ‬ ‫َصر‪،‬‬
‫هاتف من السماء‪" :‬أيّها الملك نَبوخذ ن ُ‬
‫ٌ‬ ‫خاطبه‬
‫زال عنك ملكك‪ ،‬فأنت اﻵن ذليل طريد‪ ،‬اخرج من بين الناس وأقم مع‬
‫الوحوش وارع العشب كما ترعي الثيران‪ ،‬كذلك تحيا سبع سنوات حتى‬
‫أن ﷲ تعالى هو صاحب الملك والسلطان‪ ،‬يهيمن على ممالك البشر‬ ‫تعترف ّ‬
‫طرد الملك من‬ ‫ويقيم عليها َمن يشاء"‪ .‬وفي تلك الساعة ح ّل عليه القضاء‪ ،‬ف ُ‬
‫العيش مع اﻹنسان‪ ،‬وطعم العشب كالثيران‪ ،‬وتبلﱠل جسمه من ندى السماء‪،‬‬
‫حتّى طال شعره وأصبح كريش النسور‪ ،‬ونمت أَظفاره وصارت كمخالب‬
‫الطيور‪.‬‬
‫) ‪(٤‬‬
‫نبوخﺬ نصﺮ يسبّﺢ ﷲ‬
‫وبعد قضائه تلك السنين‪ ،‬قال ملك بابل العظيم‪" :‬أنا نَبوخذ نَصر رفعتُ‬
‫بصري إلى السماء فعدتُ إلى صوابي‪ ،‬وسبّحتُ بحمد ﷲ المتعالي‪ ،‬ورفعتُ‬
‫ي الذي ﻻ يموت وم ّجدتُه ك ّل التمجيد‪ ،‬فسلطانه ﻻ يحدّ و ُملكه يدوم‬‫ذكر الح ّ‬
‫على مدى اﻷجيال والزمن المديد‪ ،‬وجميع س ّكان اﻷرض أمام عظمته ﻻ‬
‫يُقدّرون‪ ،‬يفعل كما يشاء بمﻼئكة السماء ومن هم في اﻷرض يسكنون‪ ،‬فﻼ‬
‫أحد يقدر أن يحت ّج ع ّما فعله وأن يردّ ما شاءه ﷲ الرشيد‪.‬‬
‫ي مملكتي وجﻼلي وبهائي‪.‬‬ ‫وعندما عدتُ إلى رشدي وصوابي‪ ،‬أعاد ﷲ عل ّ‬
‫وعاد جميع الوزراء والنبﻼء واستأنفوا خدمتي من جديد‪ ،‬واعتليتُ عرش‬

‫) ‪(٢‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.33-28 :4‬‬
‫) ‪(٣‬‬
‫قارن سورة فُ ّ‬
‫صلت‪.15 :‬‬
‫) ‪(٤‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.37-34 :4‬‬
‫مرة ً أخرى‪ ،‬وازدادت عظمتي‪ .‬وها أنا اﻵن‪ ،‬أنا نَبوخذ نَصر‪ ،‬أكبّر‬ ‫المملكة ّ‬
‫حق وعد ٌل‪ ،‬وهو القاهر فوق‬ ‫وأسبّح وأم ّجد ﷲ ملك العالمين! فك ّل ما يفعله ﱞ‬
‫) ‪(٥‬‬
‫ك ّل المتكبّرين"‪.‬‬
‫) ‪(٦‬‬
‫وليمة الملك بلشاصﺮ‬
‫ي العهد‬ ‫صر ول ّ‬‫وبعد مرور سنوات من ُحكم الملك نَبوخذ نَصر‪ ،‬أصبح َبلشا ﱠ‬
‫يتولّى أمور المملكة‪ (٧).‬وأقام في يوم وليمةً فاخرة ﻷلف من النبﻼء وشرب‬
‫خمرا معهم حتى اﻻنتشاء‪.‬‬‫ً‬
‫وعندما سلبت الخمر منه لبّه ونُهاه‪ ،‬أمر بإحضار آنية الذهب والفضّة الّتي‬
‫خمرا مع النبﻼء‬‫ً‬ ‫سلبها سلفه الملك نَبوخذ نَصر من بيت ﷲ‪ ،‬ليشرب فيها‬
‫صصة لعبادة ﷲ‪ ،‬فشرب فيها‬ ‫وزوجاته وجواريه‪ .‬وأحضروا له اﻵنية المخ ّ‬
‫ك ّل الحاضرين‪ ،‬وبينما كانوا يشربون الخمر‪ ،‬كانوا يسبّحون أصنامهم الّتي‬
‫اتّخذوها من ذهب وفضّة ونحاس وحديد وخشب وحجر‪.‬‬
‫وفي تلك اللحظة من الزمان‪ ،‬ظهرت أمامهم يد إنسان‪ ،‬وكتبت بجوار‬
‫اصفر وجهه واستولى عليه‬ ‫ّ‬ ‫المصباح على الجدار‪ ،‬وعندما رآها الملك‪،‬‬
‫خوف شديد‪ ،‬وارتعدت فرائصه وخارت قواه وأمر بإحضار المن ّجمين‪،‬‬
‫والسحرة والشيوخ الروحانيين وك ّل الّذين هم في العلم بالغيب ضالعون‪.‬‬
‫وعند وصولهم خاطبهم الملك قائﻼً‪َ " :‬من يقدر منكم أن يقرأَ ما ُكتب على‬
‫الجدار‪ ،‬ويكشف لي ما فيه من معاني وأسرار‪ ،‬أمنحه امتياز ارتداء‬
‫اﻷُرجوان وطوقًا من الذهب‪ ،‬وأرفعه إلى المرتبة الثالثة في مراتب أهل‬
‫ولكن الحكماء كانوا عن القراءة عاجزين‪ ،‬وعن فهمها وتفسيرها‬ ‫ّ‬ ‫المملكة!"‬
‫وأصفر وجهه من جديد‪ ،‬واضطرب‬ ‫ّ‬ ‫صر‬‫مردودين‪ .‬فاشتدّ قلق الملك بَلشا ﱠ‬
‫النبﻼء والحكماء‪.‬‬

‫) ‪(٥‬‬
‫انظر سورة آل عمران‪.26 :‬‬
‫) ‪(٦‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.12-1 :5‬‬
‫) ‪(٧‬‬
‫في تلك الفترة كان الملك نابونيدوس حاكما على مملكة بابل‪ ،‬وذات يوم توجّه إلى الجنوب حتى يقود‬
‫صر على كرسي العرش يدير شؤون المملكة إلى حين‬ ‫حروبا يستولي فيها على تجارة البخور‪ ،‬وترك ابنه بلشا ّ‬
‫عودته‪.‬‬
‫علمت الملكة اﻷ ّم بكل ما جرى‪ ،‬اتّجهت إلى قاعة الوليمة حيث‬‫ْ‬ ‫وعندما‬
‫الملك ومن معه من الحاشية والوزراء وقالت‪" :‬عاش الملك إلى اﻷبد! ﻻ‬
‫يصفر وجهك أيّها الملك العظيم‪ .‬في مملكتك رج ٌل حلّت فيه روح‬ ‫ّ‬ ‫تنزعج وﻻ‬
‫اﻵلهة ذات القُدسيّة‪ .‬فقد تميّز هذا الرجل‪ ،‬في أيّام ُحكم سلفك نَبوخذ نَصر‪،‬‬
‫صر‪ ،‬ﻻ نجدها إﻻّ عند اﻵلهة‪ ،‬وقد جعله سلفُك نَبوخذ نَصر‬ ‫بفهم وحكمة وتب ّ‬
‫سا للمن ّجمين‪ ،‬وللسحرة والشيوخ الروحانيين‪ ،‬إنّه دانيال الحكيم‪ ،‬الّذي‬‫رئي ً‬
‫صر‪ ،‬إنّه ذو قدرات خارقة في فهم اﻷحﻼم‬ ‫أطلق عليه سلفك الملك اسم بَل َ‬
‫طشا ﱠ‬
‫وفك اﻷلغاز وح ّل اﻷحاجي وتفسيرها‪ .‬فاستد ِعه حاﻻً حتى يخبرك بتفسير‬ ‫ّ‬
‫المكتوب وكشف الغيب المحجوب"‪.‬‬
‫)‪( ٨‬‬
‫سﺮ الكتابة‬
‫النبي دانيال يف ّ‬
‫وحضر أمام الملك النبي دانيال‪ ،‬وسأله الملك وقال‪" :‬هل أنت دانيال الّذي‬
‫أن روح اﻵلهة‬ ‫أحضرك سلفي الملك من بﻼد َيهوذا مع اﻷسرى؟ لقد بلغني ّ‬
‫ذات القُدسيّة قد حلّت فيك‪ ،‬وأنّه ﻻ يوجد من في الفهم والحكمة يضاهيك‪ .‬وقد‬
‫حاول اﻵن الحكماء ومن في بﻼطي من العلماء‪ ،‬ومن الشيوخ الروحانيين أن‬
‫ي قرؤوا هذه الكتابة ويُطلعوني على تفسيرها‪ ،‬فارتدّوا عن ذلك وكانوا‬
‫صر في تفسير أمور الغيب وح ّل العُقَد ّ‬
‫وفك‬ ‫عاجزين‪ .‬وبلغني أنّك متب ّ‬
‫كنت قادرا على قراءة هذا المكتوب على الجدار‪،‬‬ ‫الحجب‪ ،‬فدعني أرى إن َ‬
‫وتعلمني بما فيه من أخبار‪ ،‬وعندها سأمنحك امتياز ارتداء اﻷرجوان وطوقًا‬
‫من ذهب‪ ،‬وأجعلك في المرتبة الثالثة في المملكة"‪.‬‬
‫فأجابه النبي دانيال‪" :‬ﻻ أريد العطايا وﻻ الهدايا‪ ،‬اتركها لنفسك‪ ،‬أو امنحها‬
‫لغيري وسأقرأ لك الكتابة وأخبرك بتفسيرها‪ :‬أيّها الملك‪ ،‬لقد منح ﷲ تعالى‬
‫سلفك الملك نَبوخذ نَصر هذه المملكة بك ّل ما فيها من عظمة وبهاء وجﻼل‪.‬‬
‫وجعله عظي ًما حتى هابه الناس وارتعدوا أمامه من ك ّل اﻷمم والشعوب‬
‫واللغات‪ ،‬إذ كان يقتل َمن يشاء ويستبقي حيا َمن يشاء‪ ،‬ويُكرم َمن يشاء ويذ ّل‬
‫َمن يشاء‪ .‬ولكنّه تكبّر وتجبّر وأصبح قاهرا مستبدا‪ ،‬فأنزله ﷲ عن ُملكه‬
‫ونزع عنه جﻼله وبهاه‪ ،‬وطرده من بين الناس ونزع عنه نُهاه‪ ،‬وتساوى في‬
‫) ‪(٨‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.31-13 :5‬‬
‫ذلك مع الحيوان‪ ،‬وعاش مع الحمير الوحشيّة‪ ،‬وأكل العشب مع الثيران‪،‬‬
‫أن ﷲ تعالى يهيمن على ممالك‬ ‫وتبلﱠل جسمه من ندى السماء‪ ،‬حتى اعترف ّ‬
‫صر‪ ،‬فرغم علمك بك ّل ما‬ ‫البشر ويقيم عليها َمن يشاء‪ .‬وأنت خلفه يا بَلشا ﱠ‬
‫وأمرت‬
‫َ‬ ‫دت على ربّ العالمين‪،‬‬ ‫جرى‪ ،‬إﻻ أنّك لم تتواضع ّ تعالى‪ ،‬بل ّ‬
‫تمر َ‬
‫وشربت فيها الخمر‪ ،‬مع نبﻼئك وزوجاتك‬ ‫َ‬ ‫بإحضار آنية بيته المقدّس‬
‫ﱠحت أصنام الفضّة والذهب والنحاس والحديد والخشب‬ ‫وجواريك‪ ،‬وسب َ‬
‫والحجر‪ ،‬مع أنّها ﻻ تملك قدرة إدراك وﻻ سمع وﻻ بصر‪ .‬أ ّما أنت فما‬
‫أكرمت ﷲ الّذي يملك روح حياتك وهو بمصيرك عليم! ولذلك أرسل ﷲ‬
‫عليكم تلك اليد لتكتب هذه الرسالة‪ .‬وكلماتها الثﻼثة هي‪ :‬معدود‪ ،‬موزون‬
‫أن ﷲ قد عدّ أيّام ُحكمك وأنهاها بعد الحسبان‪.‬‬ ‫وقسمان)‪ (٩‬وتعني كلمة معدود ّ‬
‫أن ﷲ وضعك في الميزان فوجد أعمالك إلى‬ ‫وتعني كلمة موزون ّ‬
‫أن ﷲ قسم مملكتك قسمين ووهب قسما‬ ‫النقصان‪ (١).‬وتعني كلمة قسمان ّ‬
‫لمملكة ماداي وقسما لمملكة الفُرس‪.‬‬
‫صر أن يُل ِبسوا النبي دانيال اﻷُرجوان ويُق ِلّدوه طوق‬‫وفي الحال أمر بَلشا ﱠ‬
‫ذهب‪ ،‬وينادوا به الحاكم الثالث في المملكة‪ .‬ولكنّه لقي مصرعه في تلك الليلة‬
‫على أيدي جيش المادايين‪ .‬واستولى داريوس من مملكة ماداي على مملكة‬
‫)‪(٢‬‬
‫بابل وقد بلغ من عمره الثانية والستّين‪.‬‬
‫) ‪(٣‬‬
‫النبي دانيال في جب اﻷسود‬
‫سم بﻼد بابل إلى مئة‬
‫قرر الملك داريوس‪ ،‬بعد اعتﻼء عرش المملكة‪ ،‬أن يق ّ‬ ‫ّ‬
‫وعشرين وﻻية‪ ،‬وأقام على ك ّل منها واليًا يديرها‪ ،‬واختار إلى جانب الوﻻة‬

‫) ‪(٩‬‬
‫في اللغة اﻵرامية اﻷصلية لكتاب النبي دانيال‪ ،‬كان ما ُكتب‪َ " :‬منَا‪ ،‬تقيل وفَ ْرسين"‪.‬‬
‫) ‪(١‬‬
‫انظر سورة اﻷنبياء‪.47 :‬‬
‫) ‪(٢‬‬
‫تشير الجداول القديمة التي سجلت أسماء ملوك اليونان والفرس القدامى وزمن حكمهم إلى وجود‬
‫امبراطور يُدعى داريوس‪ ،‬ولكنّه حكم بعد زمن الملك كورش‪ .‬ويبدو أن داريوس المذكور في كتاب النبي‬
‫دانيال هو من مملكة ماداي وقد ّ‬
‫وﻻه الملك كورش مدينة بابل بعد أن انتصر فيها‪ ،‬وحدث هذا في السنوات‬
‫اﻷولى للحكم الفارسي‪.‬‬
‫) ‪(٣‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.28-1 :6‬‬
‫سﻼم( واثنين آخرين ليكونوا جمي ًعا وزراء على الوﻻة‬ ‫دانيال )عليه ال ّ‬
‫يشرفون ولمصالح الملك راعون‪ .‬وسرعان ما أثبت النبي دانيال بقدراته‬
‫تفوقه على كل الوﻻة والوزراء‪ ،‬فعزم الملك أن يجعل له سلطانا على‬ ‫الفائقة ّ‬
‫ي‬‫صدون أ ّ‬ ‫شؤون المملكة جمعاء‪ ،‬فثارت غيرة الوزراء والوﻻة‪ ،‬وأخذوا يتر ّ‬
‫هفوة تصدر عن دانيال في إدارة المملكة‪ ،‬ولكنّهم لم يعثروا على أي دليل‬
‫ﻷن النبي دانيال كان صادقًا أمينًا على البﻼد‪ .‬وقال‬ ‫على اﻹهمال أو الفساد‪ّ ،‬‬
‫أخيرا هؤﻻء الرجال‪" :‬ﻻ يمكن إدانته إﻻﱠ إذا كان اﻷمر يتعلّق بفرائض‬ ‫ً‬
‫الشريعة في ديانة دانيال"‪.‬‬
‫فاتّجه إلى الملك هؤﻻء المتآمرون وقالوا له‪" :‬عاش الملك داريوس! نحن‬
‫الوزراء والوﻻة والضباط والمستشارون والمسؤولون‪ ،‬رأينا أن يصدر الملك‬
‫العظيم‪ ،‬مرسو ًما يُنفﱠذ بحزم ﻻ يلين‪ ،‬وفيه يمنع منعًا باتًا مدّة ثﻼثين يو ًما‬
‫إنسان أو إل ٍه معبود‪ ،‬إﻻّ إليك أنت أيّها الملك‬
‫ٍ‬ ‫توجيه الصﻼة والدعاء نحو أي‬
‫المحمود‪ ،‬و َمن يخالف هذا المرسوم يُلقى في جبّ اﻷسود! واﻵن يا موﻻنا‪،‬‬
‫نرجو منك أن تصدر هذا المرسوم ال ُممضى‪ ،‬فيصبح ﻷهل ماداي والفُرس‬
‫من القوانين الّتي ﻻ تتغيّر وﻻ تُلغى"‪ .‬واستحسن الملك داريوس اقتراحهم‬
‫وأصدر المرسوم حاﻻً‪.‬‬
‫وعلم النبي دانيال باﻷمر‪ ،‬وبتوقيع المرسوم‪ ،‬ولكنّه لم يتردّد في الذهاب إلى‬
‫بيته‪ ،‬ودخل في ِعلّيّته حيث النوافذ تُفتح نحو القدس الشريف‪ ،‬فركع وصلّى‬
‫مرات وحمد ربّه الكريم‪.‬‬ ‫على عادته‪ .‬وفي يوم واحد أقام الصﻼة ثﻼث ّ‬
‫فاجتمع أولئك المتآمرون‪ ،‬واتّجهوا إلى دار النبي دانيال‪ ،‬فوجدوه يصلّي‬
‫لرحيم‪ .‬فأسرعوا إلى البﻼط وذ ّكروا الملك بالمرسوم الّذي‬ ‫ويستغيث ربّه ا ّ‬
‫أصدرت في النّاس مرسو ًما ﻻ يلين‪ ،‬فيه ّ‬
‫أن‬ ‫َ‬ ‫أصدره قائلين‪" :‬يا موﻻنا‪ ،‬أما‬
‫إنسان مدّة ثﻼثين يو ًما‪ ،‬يُلقى في جبّ اﻷسود؟"‬ ‫ٍ‬ ‫من صلّى لغيرك من إل ٍه أو‬
‫فأجاب الملك‪" :‬أجل‪ ،‬إنّه لمرسوم مبين‪ ،‬وإنّه من قوانين أهل ماداي والفرس‬
‫التي ﻻ تتغيّر وﻻ تُلغى"‪ .‬فقالوا‪" :‬فما بال دانيال‪ ،‬أحد اﻷسرى من بﻼد َيهوذا‬
‫ﻻ يكترث بجﻼلتك وﻻ بالمرسوم الّذي أصدرتموه‪ ،‬بل يصلّي ربّه في‬
‫مرات ويدعوه"‪.‬‬ ‫اليوم ثﻼث ّ‬
‫كثيرا عند سماع هذا الخبر‪ ،‬وعزم أن يجد طريقة ينقذ بها‬ ‫وانزعج الملك ً‬
‫النبي دانيال‪ ،‬فبذل ك ّل جهده قبل الغروب‪ (٤).‬أ ّما خصوم النبي دانيال فعادوا‬
‫أن قوانين‬ ‫إلى الملك مسرعين‪ ،‬وبإلحاح قائلين‪" :‬أيّها الملك الجليل‪ ،‬أنت تعلم ّ‬
‫أن ك ّل مرسوم يوقّع عليه الملك ﻻ تغيير فيه‬ ‫تنص على ّ‬ ‫ّ‬ ‫أهل ماداي والفرس‬
‫وﻻ تبديل!"‬
‫وأمر الملك في النهاية باعتقال النبي دانيال وإلقائه في جبّ اﻷسود‪ .‬وقال‬
‫"إن ربّك الّذي تعبده بك ّل إخﻼص مدى حياتك‪ ،‬وحده قادر‬ ‫الملك لدانيال‪ّ :‬‬
‫حجرا‪ ،‬وسدّوا به مدخل الجبّ ‪ ،‬وختمه‬ ‫ً‬ ‫على نجاتك!" وأحضر رجال الملك‬
‫الملك بخاتمه وخاتم نبﻼئه حتّى ﻻ يجرؤ أحد على إنقاذ النبي دانيال‪ .‬ث ّم عاد‬
‫قصره وقضى الليلة دون طعام‪ ،‬ورفض ك ّل أنواع التسلية ولم‬ ‫ِ‬ ‫الملك إلى‬
‫يستطع أن ينام‪.‬‬
‫وهرع الملك عند طلوع الفجر الجديد‪ ،‬إلى جبّ اﻷسود‪ ،‬ونادى عند وصوله‬
‫ي القيّوم‪ ،‬هل‬ ‫سؤال‪" :‬يا دانيال يا عبد ﷲ الح ّ‬‫النبي دانيال وألقى عليه بتل ّهف ال ّ‬
‫استطاع ربّك الّذي تعبده بك ّل وفاء أن ينجيك من أنياب اﻷسود؟" فردّ دانيال‬
‫سؤال‪" :‬عاش الملك إلى اﻷبد! إن ربّي ببراءتي عليم‪ ،‬فأرسل لسدّ‬ ‫على ال ّ‬
‫) ‪(٥‬‬
‫بحق الملك العظيم"‪.‬‬‫أفواه اﻷسود مﻼكه اﻷمين‪ ،‬فلم تؤذِني ﻷنّي لم أخطئ ّ‬
‫سوداء‪ ،‬فلم يجدوا‬ ‫الهوة ال ّ‬
‫فامتﻸ الملك سرورا‪ ،‬وأمر بإخراج النبي دانيال من ّ‬
‫ي أذى‪ ،‬ﻷنّه تو ّكل على ربّه تعالى‪ .‬وأمر الملك بإحضار الرجال‬ ‫على جسده أ ّ‬
‫الّذين كانوا على دانيال يتآمرون‪ ،‬ورموا بهم وزوجاتهم وأبنائهم في جبّ‬
‫اﻷسود‪ ،‬وما إن وصلوا إلى قاع الجبّ حتّى بطشت بهم اﻷسود‪ ،‬وافترستهم‬
‫ق عظ ًما من عظامهم في الوجود‪.‬‬ ‫ولم تب ِ‬
‫وأرسل الملك داريوس ﻻحقًا رسالة تُتلى على الناس من مختلف الشعوب‬
‫أمرا للناس في أنحاء‬ ‫واﻷمم واللغات‪ ،‬يقول فيها‪" :‬دمتم سالمين‪ .‬لقد أصدرتُ ً‬
‫ي الّذي ﻻ يموت‪،‬‬ ‫مملكتي بأن يهابوا ربّ دانيال خاشعين‪ ،‬ﻷنّه تعالى هو الح ّ‬
‫) ‪(٤‬‬
‫يبدو جليا أن انزعاج الملك لم يكن بسبب عصيان النبي دانيال ﻷوامره بل بسبب بوادر إيمانه باﻹله الذي‬
‫يعبده النبي دانيال‪ ،‬وهذا ما جعل الملك يبحث عن طريقة ينقذه بها‪ .‬وبقية الكلمات تكشف بوضوح بوادر إيمان‬
‫الملك با رب العالمين‪.‬‬
‫) ‪(٥‬‬
‫ذكر ابن كثير هذا الحدث مبنيا على رواية ابن أبي الدنيا إذ قال‪" :‬قال ضرا بختنصر أسدين فألقاهما في‬
‫جب‪ ،‬وجاء بدانيال فألقاه عليهما فلم يهيجاه‪ ،‬فمكث ما شاء ﷲ"‪.‬‬
‫و ُملكه ﻻ ينهزم أبدًا وسلطانه يدوم إلى أبد اﻵبدين‪ .‬إنّه ينقذ عباده وينصرهم‪،‬‬
‫ويجري معجزات وخوارق في السماوات واﻷرض‪ ،‬وهو الّذي أنقذ دانيال‬
‫من سطوة اﻷسود"‪.‬‬
‫كورش‬‫وظ ّل النبي دانيال متألقا طيلة ُحكم الملك داريوس و ُحكم الملك َ‬
‫ي‪ ،‬وكان من المفلحين‪.‬‬ ‫الفارس ّ‬
‫)‪( ٦‬‬
‫رؤيا النبي دانيال اﻷولى‪ :‬الحيوانات اﻷربعة‬
‫صر رؤى تأتيه‬ ‫ولقد كان للنبي دانيال في السنة اﻷولى من ُحكم الملك بَلشا ﱠ‬
‫في منامه‪ ،‬ث ّم س ّجل محتواها بعد ذلك بك ّل تفصيل‪:‬‬
‫"رأيتُ في تلك الليلة الليﻼء ريا ًحا‪ ،‬تهبّ من اﻻتجاهات اﻷربعة وتجتاح‬
‫ت ضخمة الواحد تلو‬ ‫البحر الواسع اجتياحا‪ ،‬وطلعت من البحر أربعة حيوانا ٍ‬
‫اﻵخر‪ ،‬ويختلف ك ّل واحد عن اﻵخر‪ّ .‬أولها كاﻷسد له جناحان كأجنحة‬
‫العقبان‪ ،‬وسرعان ما اقت ُ ِل َع منه الجناحان‪ ،‬بينما أنا أتأ ّمل اﻷمر‪ ،‬ث ّم ارتفع عن‬
‫اﻷرض ووقف على ِرجلَيه مثل إنسان‪ ،‬وحصل على عقل البشر‪ .‬ث ّم رأيتُ‬
‫حيوانًا آخر كالدبّ جنباه أحدهما أعلى من اﻵخر‪ ،‬وكان بين أنيابه ثﻼثة‬
‫أضلع هي له طعام‪ ،‬وسمعتُ صوتًا يأتيه بأمر‪" :‬هيّا ُك ْل مزيدًا من لحم‬
‫البش ر!" وثالث هذه الحيوانات كالفهد‪ ،‬نبتت على ظهره أربعة أجنحة كأجنحة‬
‫طيور‪ .‬وكان له أربعة رؤوس‪ ،‬ث ّم استلم سلطانًا عظي ًما‪ .‬أ ّما رابع هذه‬ ‫ال ّ‬
‫الحيوانات فكان صلبًا فظيعًا مريعًا‪ .‬وكان يفترس ضحاياه ويسحقهم بأنيابه‬
‫الحديدية الضخمة سحقًا شنيعا‪ ،‬ث ّم يدوس رفاتهم برجلَيه دوسا فظيعا‪.‬‬
‫ويختلف هذا الحيوان عن سائر الحيوانات الّتي قبله وكان لديه عشرة قرون‪.‬‬
‫وبينما كنتُ شاخصا إلى هذه القرون‪ ،‬إذا بقرن آخر صغير يطلع بينها‪،‬‬
‫فيزحزح ثﻼثة من القرون اﻷولى منها ويحت ّل مكانها في الحين‪ ،‬وكان لهذا‬
‫القرن عيون كعيون البشر وفم ينطق بغطرسة وتكبّر‪ .‬وبينما كنتُ أنظر إلى‬
‫صبت عروش‪ ،‬واستوى صاحب اﻷزل المهيب‪،‬‬ ‫هذا المشهد العجيب‪ ،‬نُ ِ‬
‫وتحلّى ب ُحلة ناصعة البياض كالثّلج‪ ،‬وكان شعر رأسه نقيا كالصوف‪،‬‬
‫وعرشه يتو ّهج كاللهيب‪ ،‬وتنبعث منه نار متو ّهجة‪ ،‬وكان مﻼيين المﻼئكة‬
‫) ‪(٦‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.14-1 :7‬‬
‫حافّين بعرشه يخدمونه‪ ،‬ويقف بين يديه مئات المﻼيين من البشر ينتظرونه‪.‬‬
‫وانعقدت جلسة القضاء في حضرة العزيز الجبّار‪ ،‬وفُتِحت الكتب واﻷسفار‪.‬‬
‫ورمي في النار المتّقدة‪ ،‬واحترق بسبب ما نطق به‬ ‫وقُتل الحيوان الرابع ُ‬
‫سلطان‪،‬‬ ‫قرنه من تكبّر وغطرسة‪ .‬أ ّما بقية الحيوانات فانتُزع منها ال ُملك وال ّ‬
‫الزمان‪.‬‬‫سمح لها أن تبقى على قيد الحياة إلى أجل مس ّمى من ّ‬ ‫و ُ‬
‫ظلَ ٍل ِمن الغَمام‪ .‬وأقبل‬‫ورأيتُ في الليلة نفسها‪ ،‬ما يُشبه اﻹنسان‪ ،‬قاد ًما في ُ‬
‫وقربوه‪ .‬فمنحه سلطانًا وجﻼﻻً ّ‬
‫وقوة ً‬ ‫على صاحب اﻷزل فأدنوه من حضرته ّ‬
‫ملكيّة حتّى يخدمه الناس من ك ّل الشعوب واﻷمم واللغات‪ .‬سلطانه ﻻ يحدّه‬
‫) ‪(٧‬‬
‫حدّ‪ ،‬ويدوم ملكه إلى اﻷبد‪ ،‬ومملكتُه ﻻ تُد ّمر و ُحكمه ﻻ يقهر‪.‬‬
‫) ‪(٨‬‬
‫تفسيﺮ الﺮؤى‬
‫كثيرا وأفزعتني هذه الرؤى‪ ،‬فأقبلتُ على‬ ‫ً‬ ‫"أ ّما أنا دانيال‪ ،‬فقد اضطربتُ‬
‫إن هذه‬‫أحد الحاضرين‪ ،‬وسألتُه عن معنى ما جرى‪ ،‬فشرح لي قائﻼً‪ّ :‬‬
‫الحيوانات اﻷربعة الضخمة ترمز إلى أربعة ممالك ستحكم في اﻷرض في‬
‫ولكن عباد ﷲ الصالحين سيفوزون بالمملكة الموعودة في‬ ‫ّ‬ ‫قادم اﻷزمان‪،‬‬
‫نهاية المطاف وسيدوم ُحكمهم إلى أبد اﻷبدين"‪.‬‬
‫طﻼع على حقيقة الحيوان الرابع ومعناه‪ ،‬فقد كان يرمز إلى‬ ‫ورغبتُ في اﻻ ّ‬
‫كثيرا عن بقية الحيوانات التي رأيتُها وكان مفزعا جدّا‪ ،‬فقد‬ ‫مملكة تختلف ً‬
‫افترس هذا الحيوان ضحاياه‪ ،‬بأسنان من حديد وأظفار من نحاس ث ّم داس‬
‫بأقدامه جثثهم‪ .‬وأردتُ أن أعرف أكثر عن القرون العشرة الّتي نبتت في‬
‫صةً عن القرن الصغير الّذي ظهر ونزع القرون‬ ‫رأس هذا الحيوان‪ ،‬وخا ّ‬
‫أن هذا القرن كان أه ّم القرون‪ ،‬إذ كان يحمل عيونًا بشريّة وف ًما‬ ‫الثﻼثة‪ ،‬ويبدو ّ‬
‫ينطق بتكبّر مبين‪ ،‬ورأيتُ هذا القرن يحارب عباد ﷲ المنذورين ويردّهم‬

‫) ‪(٧‬‬
‫اختار السيد المسيح أن يشير إلى نفسه بلقب "ابن اﻹنسان" )هنا "ما يُشبه إنسان"( يعني سيد البشر‪ ،‬لكي‬
‫يد ّل على شمولية رسالته وسلطانه‪ .‬وعندما سأله كبير اﻷحبار في المحكمة أمام المجلس اﻷعلى لليهود إذا كان‬
‫مين ﷲِ‬
‫عن َي ِ‬‫سا َ‬
‫سيِّدَ البَش َِر جال ً‬
‫وف ت ََرونَ َ‬
‫س َ‬‫حقّا هو المسيح المنتظر‪ ،‬فردّ باﻹيجاب قائﻼ‪)) :‬أ َجل‪ ،‬أنا هو‪ ،‬و َ‬
‫ﱠماء(( ]اﻹنجيل‪ ،‬مرقس ‪.[62 :14‬‬ ‫ست ََرونَهُ قا ِد ًما في ظُلَ ٍل ِمنَ الغ ِ‬
‫َمام ِمنَ الس ِ‬ ‫القَ ِ‬
‫دير‪ ،‬و َ‬
‫) ‪(٨‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.28-15 :7‬‬
‫مهزومين‪ ،‬حتّى جاء صاحب اﻷزل الحي القيّوم بإنصافه وعدله لعباد ﷲ‬
‫المصطفين‪ ،‬فقد آن اﻷوان أن يفوزوا بمملكة ﷲ اﻷبدية الموعودة للصالحين‪.‬‬
‫الحيوان الرابع رمز المملكة الرابعة الّتي‬
‫ُ‬ ‫وجاءني هذا التفسير أيضا‪" :‬هذا‬
‫ستهيمن على اﻷرض‪ ،‬وهي تختلف عن سائر الممالك‪ّ ،‬‬
‫إن فيها جبّارين‪،‬‬
‫سيلتهمون الدنيا بأكملها وسيدوسون ك ّل ما يعترض طريقهم ساحقين‪ .‬وترمز‬
‫القرون العشرة إلى عشرة ملوك يهيمنون على تلك المملكة ويحكمون‪.‬‬
‫وسيأتي بعدهم ملك آخر يختلف عن الّذين سبقوه‪ ،‬وسيطيح بثﻼثة منهم ولن‬
‫وسيستخف با تعالى ويضطهد عباده الصالحين‪ ،‬وسيسعى إلى‬ ‫ّ‬ ‫يوقفوه‪،‬‬
‫تغيير أعيادهم وشرائعهم‪ ،‬وطيلة ثﻼث سنوات ونصف يقع في سطوته‬
‫ي أحكاما‪ ،‬فيُنزع منه سلطانه‬ ‫الصالحون‪ .‬وبعدها تُصدر جلسةُ القضاء الربّان ّ‬
‫سلطان العظيم‪ ،‬لمن‬ ‫ويهلك ويُباد تما ًما‪ .‬ويمنح ﷲ تعالى ال ُملك اﻷعظم وال ّ‬
‫كانوا له منذورين‪ ،‬ويدوم ُملكهم إلى اﻷبد‪ ،‬ويخضع لهم جميع السﻼطين‬
‫ويخدمونهم صاغرين‪.‬‬
‫اصفر فيها وجهي‪ ،‬وقد‬‫ّ‬ ‫كثيرا حتّى‬
‫هكذا انتهت رؤياي‪ ،‬وقد أفزعتني ً‬
‫فضلتُ أن أجعل ك ّل هذه اﻷمور في قلبي طي الكتمان"‪.‬‬
‫)‪( ٩‬‬
‫الكبش والتيس في رؤيا للنبي دانيال‬
‫سﻼم(‪" :‬وفي السنة الثالثة من حكم الملك‬ ‫يقول النبي دانيال )عليه ال ّ‬
‫صر‪ ،‬رأيتُ رؤيا ثانية‪ .‬إذ وجدتُ نفسي فجأةً أقف على ضفاف نهر‬ ‫بَلشا ﱠ‬
‫أُوﻻي‪ ،‬في قلعة شوشة في وﻻية عيﻼم‪ .‬فنظرتُ حولي عند النهر فرأيتُ‬
‫شا له قرنان طويﻼن‪ ،‬أحدهما أطول من اﻵخر‪ ،‬رغم أنّه طلع بعده‪ .‬وكان‬ ‫كب ً‬
‫الكبش ينطح نحو جهات ثﻼث غربًا وشماﻻً وجنوبًا وﻻ حيوان يضاهيه‪ ،‬وﻻ‬
‫تنجو ضحاياه من سطوته فﻼ يفعل إﻻ ما يُرضيه‪ ،‬ولم يزدد بذلك إﻻّ تكب ًّرا‬
‫عجيبا‪.‬‬
‫تيس من جهة الغرب سريعا كالهواء‪،‬‬ ‫"وبينما انشغلتُ بما أرى‪ ،‬أقبل فجأة ً ٌ‬
‫واجتاز المسافة بسرعة حتى كاد يطير فوق الثّرى‪ ،‬وكان يحمل بين عينيه‬
‫بارزا‪ .‬فأسرع إلى الكبش العظيم‪ ،‬الّذي رأيته عند ضفاف النهر وهجم‬ ‫ً‬ ‫قرنًا‬
‫) ‪(٩‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.14-1 :8‬‬
‫وقوة ﻻ تلين‪ .‬ورأيتُه يصدم الكبش ويكسر له قرنيه‪ .‬ولم يقدر‬ ‫عليه بشراسة ّ‬
‫ضا وداسه التيس‪ ،‬ولم يتد ّخل أحد ﻹنقاذه‪.‬‬ ‫الكبش أن يتح ّمل الضربة‪ ،‬فسقط أر ً‬
‫ولكن قرنه الكبير انكسر في ذروة عظمته‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫وازداد التيس غطرسة وتكبّرا‪،‬‬
‫وبرزت مكانه أربعة قرون اتّجهت نحو جهات اﻷرض اﻷربع‪.‬‬
‫"وخرج من بين أحد القرون اﻷربعة قرن صغير‪ ،‬ث ّم امتدّ سلطانه نحو‬
‫قوته حتى هاجم نجوم‬ ‫الجنوب والشرق وأرض الميعاد المجيد‪ .‬واشتدّت ّ‬
‫السماء‪ ،‬وأوقع إلى اﻷرض نجوما وكواكب فداسها التيس القدير‪ .‬وتكبّر‬
‫وتجبّر حتّى تحدّى ﷲ العزيز القدير‪ ،‬فمنع اﻷضاحي اليومية ودنّس بيت ﷲ‬
‫صغير في ك ّل ما أراده من‬ ‫الحق أرضا‪ ،‬ونجح القرن ال ّ‬ ‫ّ‬ ‫َس الوثنيّة‪ ،‬وطرح‬
‫دَن َ‬
‫تستمر هذه المعاصي؟ متى‬ ‫ّ‬ ‫تدبير‪ ،‬وسمعتُ مﻼكا يسأل مﻼكا آخر‪ :‬حتّاما‬
‫يعود النّاس إلى بيت ﷲ وتقديمهم اليومي لﻸضاحي؟ متى يط ّهر حرم بيت‬
‫ﷲ من النّجاسة؟ متى تنتهي مذلّة عباد ﷲ ودوس الحرم الشريف؟ فأجابه‬
‫المﻼك اﻵخر‪" :‬يمضي ألفان وثﻼث مئة يوم على هذا الحال حتّى نهايته‪ ،‬ث ّم‬
‫يعود بيت ﷲ المقدّس إلى طهارته"‪.‬‬
‫) ‪(١‬‬
‫سﺮ الﺮؤيا‬
‫المﻼك جبﺮيل يف ّ‬
‫وقال النبي دانيال‪" :‬وعند انتهاء الرؤيا‪ ،‬حاولتُ أن أفهم ما جاء في المنام‬
‫ومعناه‪ ،‬وسعيت إلى إدراك كنهه ومغزاه‪ ،‬لكنّي رأيتُ أمامي فجأة ً كائنًا على‬
‫هيئة رجل‪ ،‬وسمعتُ صوت إنسان ينادي من جوار نهر أُوﻻي‪" :‬يا جبريل‬
‫سر لهذا الرجل رؤياه"‪ .‬فأقبل جبريل ووقف إلى جانبي‪ ،‬فارتعبتُ ووقعتُ‬ ‫ف ّ‬
‫أن ك ّل اﻷحداث الّتي جاءت في رؤياك‬ ‫ضا‪ .‬فقال لي‪ :‬يا ابن آدم‪ ،‬افهم ّ‬
‫أر ً‬
‫تتعلّق بنهاية ّ‬
‫الزمان‪.‬‬
‫ضا على وجهي‪ ،‬وأمسكني جبريل‬ ‫ي وهو يخاطبني فوقعتُ أر ً‬ ‫"وأغمي عل ّ‬
‫ي‪ ،‬سأخبرك باﻷحداث الّتي‬ ‫ي‪ ،‬وقال لي‪" :‬اِسمع‪ ،‬أيّها اﻹنس ّ‬‫وأوقفني على قدم ّ‬
‫سيستمر إلى أن يتحقّق الموعود‬
‫ّ‬ ‫إن غضب ﷲ‬ ‫ي‪ّ .‬‬
‫ستسبق نهاية العصر الحال ّ‬
‫إن الكبش صاحب القرنين يرمز إلى مملكة ماداي ومملكة‬ ‫في أجله المس ّمى‪ّ .‬‬
‫الفرس‪ .‬ويرم ز التيس إلى مملكة اليونان‪ ،‬ويرمز القرن الكبير الّذي يحمله‬
‫) ‪(١‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.27-15 :8‬‬
‫اﻷول‪ .‬أ ّما القرون اﻷربعة الّتي طلعت بعد انكسار‬ ‫بين عينيه إلى ملك اليونان ّ‬
‫اﻷول‪ ،‬فهي ترمز إلى ممالك أربع تقوم بعد تقسيم مملكة اليونان‪،‬‬ ‫القرن ّ‬
‫سلطان‪ .‬وفي أواخر أيّام ُحكمها‪ ،‬وعند‬ ‫قوتها في الحكم وال ّ‬‫ولكنّها لن تبلغ ّ‬
‫اشتداد عصيان رجالها‪ ،‬يقوم ملك شرس شديد المكر‪ ،‬ويصبح قويا‪ ،‬ولكن‬
‫القوة ليس منه‪ ،‬وينجح في إحﻼل الدمار الرهيب‪ ،‬ويقضي على‬ ‫مصدر ّ‬
‫العظماء‪ ،‬ويقهر عباد ﷲ الصالحين‪ .‬ويزداد تكبّره‪ ،‬فهو ماهر في مكر الناس‬
‫والقضاء عليهم وهم غافلون‪ .‬ويصل تكبّره درجة تحدّيه لربّ اﻷرباب‪ّ ،‬‬
‫لكن‬
‫قوة البشر‪.‬‬‫بقوة غير ّ‬‫ﷲ سيكسر شوكته ّ‬
‫وسيتوقّف تقديم اﻷضاحي ﻻ ريب على مدى ألفين وثﻼث مئة يوم كما جاء‬
‫وإن هذا سيتحقّق في المستقبل البعيد‪ ،‬وعليك اﻵن كتمان هذه‬ ‫في الرؤيا‪ّ ،‬‬
‫الرؤيا الكتمان الشديد"‪.‬‬
‫ويضيف النبي دانيال‪" :‬وبعد انتهاء الرؤيا‪ ،‬أصبت عدّة أيّام بالوهن والعياء‪.‬‬
‫ث ّم تعافيت وقمتُ لعملي في خدمة الملك‪ ،‬ولكنّي بقيت في اندهاش من الرؤيا‬
‫عاجزا عن فهمها وتفسيرها"‪.‬‬
‫) ‪(٢‬‬
‫تضﺮع النبي دانيال‬
‫ّ‬
‫سﻼم(‪" :‬وحينما اعتلى داريوس بن َح ْشوير من‬ ‫يقول النبي دانيال )عليه ال ّ‬
‫صى قراءة‬ ‫بﻼد ماداي عرش مملكة بابل في سنته اﻷولى‪ ،‬وبينما كنتُ أتق ّ‬
‫الكتب التي أنزلها ﷲ من السماء وأوحى‪ ،‬عثرتُ في الوحي الّذي جاء على‬
‫ي إرميا‪ ،‬أنّه قد آن للعقاب الّذي ح ّل على القدس أن ينهى‪ ،‬إذ قد‬ ‫لسان النب ّ‬
‫بالتضرع والدعاء‬
‫ّ‬ ‫قضى ﷲ أن تظ ّل لمدّة سبعين سنة في الردى‪ .‬فتو ّجهتُ‬
‫وبالصوم إلى ﷲ موﻻي المجيد‪ ،‬ولبستُ الخيش ووضعتُ الرماد على رأسي‬
‫من حزني الشديد‪ .‬وفي دعائي اعترفتُ بآثام قومي وبك ّل الذنوب‪ ،‬فقلتُ ‪:‬‬
‫"الله ّم‪ ،‬يا موﻻنا العظيم المهيب‪ ،‬إنّك لميثاقك دائم الوفاء‪ ،‬وإخﻼصك وسع‬
‫ك ّل الّذين يحبّونك والّذين هم بوصاياك عاملون‪ .‬أ ّما نحن يا ربّ فقد أذنبنا‬
‫متمردين‪ ،‬وعن وصاياك وأحكامك زائغين‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫الشر‪ ،‬وكنّا عليك‬
‫ّ‬ ‫وأثمنا وارتكبنا‬
‫وأبينا أن نسمع لعبادك اﻷنبياء‪ ،‬الّذين بلّغوا رسالتك إلى ملوكنا وآبائنا ولك ّل‬
‫) ‪(٢‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.19-1 :9‬‬
‫الزعماء‪ ،‬وغيرهم من أهل أرضنا أجمعين‪ .‬أيّها المولى‪ ،‬لقد عاملتَنا بك ّل‬
‫إخﻼص‪ ،‬أ ّما نحن فلنا سواد الوجه إلى يومنا هذا‪ ،‬وهذه العاقبة تشملنا جميعًا‬
‫من أهل يَهوذا وس ّكان القدس وك ّل بني إسرائيل المشتّتين‪ ،‬والذين دفعتهم في‬
‫جميع البلدان واﻷرجاء‪ ،‬عقابًا على أنّهم كانوا لك جاحدين‪ .‬أجل يا ﷲ‪ ،‬سواد‬
‫اﻷولين‪ ،‬ﻷنّنا في حقّك مذنبون‪ ،‬إنّما أنت‬ ‫الوجه لنا ولملوكنا وزعمائنا وآبائنا ّ‬
‫يا ربّنا وإلهنا فإنّك واسع الرحمة والغفران مع أنّنا أمامك عصاة‪ ،‬وانحرفنا‬
‫أوحيت بها‬
‫َ‬ ‫عن اﻹيمان والطاعات‪ ،‬عندما أمرتَنا أن نتّبع الشرائع الّتي‬
‫وتمردوا‬‫ّ‬ ‫صوا شريعتك وزاغوا عنها‪،‬‬ ‫لعبادك اﻷنبياء‪ .‬وجميع بني إسرائيل َع َ‬
‫عليك جاحدين‪ ،‬فحلّت علينا اللﱠعنات‪ ،‬تلك الّتي توعّدتَنا بها بك ّل صرامة في‬
‫قت إنذارك الموحى وأصابنا كما أصاب ك ّل‬ ‫كتاب عبدك النبي موسى‪ .‬فحقّ َ‬
‫فأنزلت على القدس عقابًا شديدًا لم ير النّاس له مثيﻼ عبر اﻷزمان‪.‬‬ ‫َ‬ ‫الزعماء‪،‬‬‫ّ‬
‫وهكذا حلّت علينا جميع المصائب التي وردت في كتاب النبي موسى وجميع‬
‫اللعنات‪ ،‬ورغم ذلك كلّه رفضنا السعي إلى مرضاتك‪ ،‬ورفضنا اﻻعتراف‬
‫بوفائك ورفضنا أن نكون تائبين‪ .‬يا ﷲ‪ ،‬إنّك على آثامنا ومعاصينا رقيب‪.‬‬
‫أرسلت علينا ك ّل هذا البﻼء‪ ،‬ﻷنّنا نستحقّه بسبب ما اقترفنا‬ ‫َ‬ ‫وحينما عاقبتنا‪،‬‬
‫من ذنوب‪ ،‬فأنت العدل الحق الحسيب‪.‬‬
‫ويضيف النبي دانيال‪" :‬يا ﷲ يا موﻻنا‪ ،‬يا َمن أعليت ذكرك عاليًا حين‬
‫أخرجت قومك من مصر بيد قديرة‪ ،‬ودام صيتك إلى هذا اليوم‪ ،‬لقد وأذنبنا‬ ‫َ‬
‫وارتكبنا أعماﻻ شريرة‪ .‬فيا ربّ ‪ ،‬إنّك تعاملنا بما يليق بوفائك بالوعود‪ ،‬فعن‬
‫القدس ُردّ غضبك الشديد‪ ،‬وعن الجبل المقدّس المجيد! انظر يا ﷲ إلى من‬
‫حولها من اﻷمم والشعوب‪ ،‬انظر إليهم إنّهم منها يسخرون‪ ،‬ومن أ ّمتك‬
‫اﻷولين! الله ّم اسمع دعائي!‬ ‫المصطفاة يستهزئون‪ ،‬بسبب آثامنا وآثام آبائنا ّ‬
‫انظر بعين الرضى إلى حرمك المقدّس الّذي‬ ‫ْ‬ ‫الله ّم استجب لندائي! الله ّم‬
‫تحول إلى خراب مريع‪ ،‬الله ّم أعد بناءه واجعل مقامه المقام الرفيع‪ .‬يا إلهي‬ ‫ّ‬
‫فاسمع دعائي‪ .‬وأنت البصير فانظر إلى معاناتنا وإلى‬ ‫ْ‬ ‫ي السميع‪،‬‬‫إنّك أنت العل ّ‬
‫الخراب الّذي ح ّل على المدينة المصطفاة‪ .‬إنّا نسألك الرحمة ﻻ ﻷنّنا لها أهل‪،‬‬
‫بل ﻷنّك أرحم الراحمين‪ .‬يا ربّ اِسم ْع دعائي! يا ربّ اِغفر لنا! يا ربّ ع ّجل‬
‫لنا برحمتك! أنزل علينا يا ربّ لطفك ورضاك! إنّك اصطفيت القدس مدينتك‬
‫واصطفيت هؤﻻء القوم ليرفعوا قدرك في العالمين!"‬
‫)‪( ٣‬‬
‫سﺮ النبوءة‬‫المﻼك جبﺮيل يف ّ‬
‫سﻼم(‪":‬وبينما كنتُ مأخوذًا في الصﻼة والدعاء‪،‬‬ ‫يقول النبي دانيال )عليه ال ّ‬
‫تضرعاتي إلى‬ ‫ّ‬ ‫واﻹعتراف بذنوبي وذنوب قومي بني يعقوب اﻵثمين‪ ،‬مو ّج ًها‬
‫ﷲ موﻻي ﻷجل إعادة بناء بيته المقدّس في القدس‪ ،‬جاءني المﻼك جبريل‬
‫طائرا مسرعا‪ ،‬وكان ذلك في وقت‬ ‫ً‬ ‫الّذي رأيته من قبل في الرؤيا‪ ،‬يقبل عل ّ‬
‫ي‬
‫سر لك الرؤيا‪.‬‬ ‫تقديم أضحية العصر‪ ،‬وقال لي‪" :‬يا دانيال‪ ،‬إنّي جئتُ إليك ﻷف ّ‬
‫تضرعاتك تصعد إليه‪ ،‬وأُرسلتُ ﻷخبرك‬ ‫ّ‬ ‫إن ﷲ استجاب لك حين بدأت‬ ‫ّ‬
‫بالوحي فأنت عند ﷲ حبيب عزيز‪ .‬فتأ ّمل فيها بينما أكشف لك عن معناها‬
‫المكنون‪".‬‬
‫وأضاف المﻼك جبريل‪" :‬إنّما حدّد ﷲ على شعبك ومدينتك المقدّسة سبعة‬
‫ي‪،‬‬‫أضعاف لسبعين سنةً تمضي كلﱡها للقضاء على المعصية وإنهاء إثم العص ّ‬
‫ي‪ ،‬تصديقًا لما جاء في رؤيا‬ ‫ويت ّم التكفير عن الذنب وإقامة اﻹنصاف اﻷبد ّ‬
‫شن بيت ﷲ المقدّس من جديد‪ .‬اِسمع يا دانيال واِفهم أنّه منذ‬ ‫ي‪ ،‬ث ّم يُد ﱠ‬
‫إرميا النب ّ‬
‫صدور اﻷمر بإعادة بناء القدس إلى حين مجيء المسيح الملك العظيم‪،‬‬
‫مرةً‪ ،‬فتعود لتُبنى‬ ‫مرات ث ّم سبع سنين اثنتين وستّين ّ‬ ‫تمضي سبع سنين سبع ّ‬
‫ستمر‬
‫ّ‬ ‫المدينة من جديد بشوارع وسور منيع شديد‪ ،‬رغم ك ّل الشدائد الّتي‬
‫مرة ً يُقتل المسيح المختار وكأنّه‬ ‫عليها‪ .‬وبعد مرور سبع سنين اثنتين وستّين ّ‬
‫شه المدينة وبيت ﷲ‬ ‫فتخرب جيو ُ‬
‫ّ‬ ‫لم يوفق في شيء‪ ،‬ث ّم يأتي حاكم جبّار‪،‬‬
‫المقدّس‪ ،‬فتأتي النهاية مثل سيل عظيم‪ ،‬بحرب تدوم وخراب محتوم‪ .‬ويقطع‬
‫هذا الحاكم عهدًا متينا مع الناس لمدّة سبع سنواتٍ‪ ،‬وفي منتصف هذه الفترة‬
‫فرهُ إلى أن تح ّل في‬ ‫يأمر بوقف تقديم اﻷضاحي في الحرم المقدّس‪ ،‬ويبلغ ُك ُ‬
‫س‪ (٤).‬وفي النهاية يلقى هذا المجرم من ﷲ‬ ‫والخراب المدنّ ُ‬
‫ُ‬ ‫بيت ﷲ النجاسةُ‬

‫) ‪(٣‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.27-20 :9‬‬
‫) ‪(٤‬‬
‫تحققت هذه النبوءة من النبي دانيال من خﻼل اﻷعمال الشنيعة التي ارتكبها الملك الوثني أنتياخوس‬
‫حول بيت ﷲ في القدس إلى معبد وثني‪ ،‬حيث قدّم اﻷضاحي إلى اﻹله زيوس‪ .‬وتحقّقت‬ ‫أبيفانيس الرابع‪ ،‬الذي ّ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬فسيدنا المسيح اقتبس من كﻼم النبي دانيال هذا بعد مرور مئات السنين‪ ،‬ومن خﻼله‬ ‫هذه النبوءة ّ‬
‫مصيره المحتوم"‪.‬‬
‫) ‪(٥‬‬
‫آخﺮ اﻷيّام‬
‫ثم قال المﻼك‪" :‬وينهض ميخائيل كبير المﻼئكة الّذي يحرس قومك في ذلك‬
‫ّ‬
‫ولكن َمن‬ ‫الحين‪ ،‬فيح ّل عليكم زمن شديد لم تروا له مثيﻼ في سالف العهود‪.‬‬
‫يُس ّجل اسمه من قومك في كتاب النجاة يكون من الناجين‪ ،‬وتُبعث من تحت‬
‫التراب الحشود‪ ،‬ليفوز بعضهم بحياة الخلود وينال بعضهم اﻵخر الخزي‬
‫والذ ّل وفيهما يُخلﱠدون‪ (٦).‬ويظهر نور أهل الفهم والحكمة كضياء اﻷفﻼك في‬
‫السماء‪ ،‬والّذين أرشدوا الناس وجعلوهم من المستقيمين‪ ،‬ينيرون السماء‬
‫كالنجوم إلى أبد اﻵبدين‪ .‬واﻵن يا دانيال‪ ،‬احفظ هذا الوحي واجعله في كتاب‬
‫الزمن اﻷخير‪ ،‬واعلم أن الناس ستضيق بهم سبل‬ ‫مكنون إلى حين حلول ّ‬
‫التفسير‪ ،‬رغم ازدياد المعرفة والتنوير"‪.‬‬
‫)‪( ٧‬‬
‫رؤيا النبي دانيال بجوار النهﺮ‬
‫وأضاف النبي دانيال قائﻼ‪" :‬ث ّم نظرتُ من حولي‪ ،‬ولمحتُ مﻼكين آخريْن‪،‬‬
‫يقف ك ﱞل منهما على ضفّة من ضفّتَي النهر متقابليْن‪ .‬وسأل أحدهما المﻼك‬
‫اﻵخر الّذي يرتدي ال ِكتّان‪ ،‬الواقف عند مجرى النّهر وقال له‪" :‬حتّام هذه‬
‫اﻷمور الغريبة‪ ،‬وهذه اﻷحداث العجيبة؟" فرفع المﻼك المتسربل بالكتّان إلى‬
‫ي الّذي ﻻ يموت‪" :‬هذه اﻷحداث العجيبة‬ ‫السماء يُمناه ويُسراه‪ ،‬وأقسم بالح ّ‬
‫تدوم ثﻼث سنوات ونصف وهذا كل مداها‪ .‬فعندما يت ّم تكسير شوكة قوم‬
‫المنذورين تنتهي هذه اﻷمور وتبلغ أقصاها"‪ .‬ومع أنّي سمعتُ كلمات‬
‫المﻼك‪ ،‬إﻻّ أنّني لم أفهم معناها‪ ،‬فقلتُ ‪" :‬يا سيّدي‪ ،‬ما مآل هذه اﻷمور وما‬
‫منتهاها؟" فأجاب المﻼك‪" :‬ﻻ عليك يا دانيال‪ ،‬اِذهب في أمان ﷲ‪ ،‬وما كشفتُه‬
‫ي الكتمان إلى حين حلول نهاية الزمان‪ .‬وستط ّهر هذه الشدائد‬ ‫لك اجعله ط ّ‬

‫أشار إلى دمار القدس من قبل الجيوش الرومانية التي دنّست بيت ﷲ )انظر اﻹنجيل‪ ،‬متّى ‪.(15 :24‬‬
‫) ‪(٥‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.4-1 :12‬‬
‫) ‪(٦‬‬
‫انظر سورة الح ّج‪.7 :‬‬
‫) ‪(٧‬‬
‫استنادا إلى كتاب النبي دانيال ‪.13-5 :12‬‬
‫الناس وتنقّيهم‪ ،‬أ ّما اﻷشرار فيظلّون في شرورهم قابعين‪ ،‬وﻻ أحد منهم يفهم‬
‫سبب هذه اﻷحداث وبمآلها جاهلون‪ ،‬وأ ّما أهل الحكمة فلمعناها يدركون‪.‬‬
‫ألف ومئتان وتسعون يو ًما من زمن منع تقديم اﻷضاحي وتشييد‬ ‫وستمر ٌ‬
‫ّ‬
‫ي النجس‪ .‬فهنيئًا للصامدين‪ ،‬الّذين هم على إيمانهم ثابتون‪ ،‬حتّى‬ ‫المقام الوثن ّ‬
‫ي‪ ،‬فكن‬‫ينقضي ألف وثﻼث مئة وخمسة وثﻼثون يو ًما! أ ّما أنت يا دانيال النب ّ‬
‫ي! ث ّم تموت وتُدفن‪ ،‬وبعدها تُبعث من َمرقدك‬ ‫صا حتى يأتي اﻷمر النهائ ّ‬ ‫مخل ً‬
‫) ‪(٨‬‬
‫حيا لتنال ثوابك عند انقضاء اﻷيّام"‪.‬‬

‫) ‪(٨‬‬
‫قارن تشبيه الوفاة بالنوم الذي ورد في سورة يس‪.52 :‬‬

You might also like