You are on page 1of 268

‫نيغـاتيـف‪..

‬‬
‫من ذاكرة املعتقالت ال�سيا�سيات‬
‫(رواية توثيقية)‬

‫‬
‫الكتاب‪ :‬نيغاتيف‪ :‬من ذاكرة املعتقالت ال�سيا�سيات‬
‫(رواية توثيقية)‬
‫ت أ�ليف‪ :‬روزا يا�سني ح�سن‬

‫الن�سان يف الفنون والآ داب (‪)12‬‬


‫�سل�سلة‪ :‬حقوق إ‬
‫الن�سان‬
‫النا�رش‪ :‬مركز القاهرة لدرا�سات حقوق إ‬
‫‪� 9‬ش ر�ستم‪ ،‬جاردن �سيتي‪ ،‬القاهرة‬
‫ت‪ )202+(27951112 :‬فاك�س‪)202+ (27921913 :‬‬
‫العنوان الربيدي‪� :‬ص‪.‬ب‪ 117:‬جمل�س ال�شعب‪ ،‬القاهرة‬
‫الربيد االلكرتوين‪info@cihrs.org :‬‬
‫املوقع االلكرتوين ‪www.cihrs.org :‬‬

‫ت�صميم الغالف‪ :‬الفنان‪ /‬متام عزام‬


‫إ�خراج فني‪ :‬ه�شام أ�حمد ال�سيد‬

‫اليداع بدار الكتب‪:‬‬


‫رقم إ‬
‫الرتقيم الدويل‪:‬‬

‫بطاقة فهر�سة‬
‫فهر�سة أ�ثناء الن�شر �إعداد الهيئة العامة لدار الكتب امل�صرية‬
‫�إدارة ال�شئون الفنية‬

‫ط‪ -1‬القاهرة‪ :‬مركز القاهرة لدراسات حقوق اإلنسان‪.2008 ،‬‬


‫الن�سان يف الفنون آ‬
‫والداب ‪)12‬‬ ‫‪ 272‬ص؛ ‪20‬سم‪( -‬سلسلة حقوق إ‬
‫روزا يا�سني ح�سن (م ؤ�لفة)‬
‫العنوان‪ :‬نيغاتيف ‪ :‬من ذاكرة املعتقالت ال�سيا�سيات‬
‫(رواية توثيقية)‬

‫آ‬
‫الراء الواردة بالكتاب ال تعرب بال�ضرورة عن‬
‫الن�سان‬
‫مركز القاهرة لدرا�سات حقوق إ‬

‫‬
‫�سل�سلة حقوق ا إلن�سان يف الفنون وا آلداب‬
‫(‪)12‬‬

‫نيغـاتيـف‬
‫من ذاكرة املعتقالت ال�سيا�سيات‬
‫(رواية توثيقية)‬

‫روزا يا�سني ح�سن‬

‫‬
‫مركز القاهرة لدرا�سات حقوق ا إلن�س���ان هو هيئة علمية وبحثية وفكرية‬
‫ت�ستهدف تعزيز حقوق ا إلن�سان يف العامل العربي‪ ،‬ويلتزم املركز يف‬
‫ذلك بكافة املواثيق والعهود وا إلعالنات العاملية حلقوق ا إلن�س���ان‪.‬‬
‫ي�س���عى املرك���ز لتحقيق هذا الهدف ع���ن طريق أالن�ش���طة أ‬
‫والعمال‬
‫البحثية والعلمية والفكرية‪ ،‬مبا يف ذلك البحوث التجريبية أ‬
‫والن�شطة‬
‫التعليمية‪.‬‬
‫يتبن���ى املركز لهذا الغر����ض برامج علمية وتعليمي���ة‪ ،‬ت�شمل القيام‬
‫بالبحوث النظرية والتطبيقية‪ ،‬وعق���د امل�ؤمترات والندوات واملناظرات‬
‫واحللق���ات الدرا�سية‪ .‬ويق���دم خدماته للدار�س�ي�ن يف جمال حقوق‬
‫ا إلن�سان ‪.‬‬
‫ال ينخرط املركز يف �أن�شطة �سيا�سية وال ين�ضم ألية هيئة �سيا�سية عربية‬
‫�أو دولي���ة ت�ؤثر عل���ى نزاهة �أن�شطته‪ ،‬ويتع���اون مع اجلميع من هذا‬
‫املنطلق‪.‬‬

‫امل�ست�شار أالكادميي‬ ‫املدير التنفيذي‬


‫حممد ال�سيد �سعيد‬ ‫معتز الفجريي‬
‫مدير املركز‬
‫بهي الدين ح�سن‬

‫‬
‫فهر�س‬
‫• مبثابة مقدمة‪9 ..........................................‬‬
‫• أ�نثى الكهف العارية‪ -‬التعذيب ‪27 .............................‬‬
‫‪29 .............................................1987‬‬
‫‪57 .............................................1984‬‬
‫أ‬
‫• احلرب النف�سية �وال‪ -‬االعتقال ‪71 .....................................‬‬
‫‪79 .............................................1982‬‬
‫‪87 ............................................. 1987‬‬
‫‪107 ............................................. 1992‬‬
‫‪115 .............................................1978‬‬
‫• الدخول �إىل مملكة اجلنون‪ :‬أ�مهات يف املعتقل‪125 .....................‬‬
‫‪147 ............................................. 1988‬‬
‫‪151 ............................................. 1993‬‬
‫• كثافة الزمن املتال�شية‪ :‬عامل التفا�صيل ال�صغرية ‪157 ..................‬‬
‫‪161 ....................................... 1990-1987‬‬
‫‪177 ....................................... 1991-1987‬‬
‫اليديولوجيات ‪187 .....................‬‬ ‫• املخترب الب�شري‪ :‬حني تغيب أ‬
‫‪191 ....................................... 1987-1983‬‬
‫‪207 ............................................. 1992‬‬
‫‪211 ....................................... 1998-1994‬‬
‫‪217 ............................................. 1988‬‬
‫• حب من وراء الق�ضبان‪ :‬تفا�صيل أ‬
‫النوثة والع�شق ‪231 ..................‬‬
‫• مبثابة خامتة ‪255 ..........................................‬‬
‫• ملحق‪� :‬صور لبع�ض املعتقالت أ‬
‫و�طفالهن‪263 .........................‬‬

‫‬

‫رواية توثيقية!!‬
‫ال �أعرف �إن كان ثمة ما ي�سمى‪ :‬رواية توثيقية!‬
‫لكني �أعتقد �أن التخييل هو الف�ضاء الذي تزهر فيه الروايات‪.‬‬
‫والتوثيق عك�س ذلك متام ًا‪� .‬أي �أن الدروب حتت ت أ�ثريه تكون‬
‫الجمل‬ ‫مر�سومة قبل البدء بالكتابة! بالتايل فالعامل التخييلي‪ ،‬أ‬
‫حمدد مب�سارب ال يحيد عنها‪،‬‬ ‫يف ال�رسد بر�أيي‪ ،‬هو يف التوثيق ّ‬
‫بنهايات منجزة �سلف ًا‪ ،‬وب�شخ�صيات معروفة وم ؤ�طرة خارج‬
‫تطور لغوي‪ ،‬ينبغي �أن يكون حراً‪ ،‬وخارج تنويعات ال�رسد‬
‫واحلكاية يعبث بهما اخليال اخل ّ‬
‫الق‪.‬‬

‫‬
‫المر كان هنا خمتلف ًا!‬ ‫لكن أ‬
‫يل الق�صة احلقيقية‪.‬‬‫ألن التخييل �سيعمل‪ ،‬كالعادة‪ ،‬على ّ‬
‫مبعنى �آخر �سيعمل على حقن ما حدث بنكهة ما مل يحدث‪،‬‬
‫بالتايل �ستبقى التجارب‪ ،‬املتاهات‪ ،‬احليوات‪ ،‬كل ما كان هناك‬
‫ومل يكت�شف‪ ،‬ومل يعرف عنه‪ ،‬قيد التخييل فح�سب‪ .‬وهذا ما‬
‫مل �أرده‪.‬‬
‫�ضحي بروعة التخييل الروائي‪ ،‬الذي ما‬ ‫كان علي �إذاً �أن �أ ّ‬
‫�شد املتحم�سني له‪ ،‬يف مقابل حفظ احلقيقة‪� ،‬أو لنقل‪،‬‬ ‫زلت من �أ ّ‬
‫مبعنى �أدق‪ ،‬حفظ التجربة‪.‬‬
‫ومل َ رواية؟!‬
‫رمبا ألن ما حدث هناك مل يحدث �إال لتكتب عنه‬
‫الروايات‪.‬‬
‫روزا يا�سني ح�سن‬

‫‬
‫مبثابة مقدمة‬

‫أو��سري غدا له ال�سجن حلدا‬


‫فهو حي يف حالة امللحود‬
‫البحرتي‬ ‫ ‬

‫‬
‫(�إين �أحت�صن يف هذه القلعة‪ ،‬و�أكابد هذا احل�صار‪ ،‬ال لكي‬
‫�أر�ضي �سلطان ًا �أو �أحمي �إمارة‪� ،‬إين هنا كي ال يقال يف قادم‬
‫اليام اجتاح تيمورلنك هذه البالد ومل يوجد من يقاوم‪)..‬‬ ‫أ‬
‫مقولة �أطلقها �أزدار �آمر قلعة دم�شق‪ :‬ال�شخ�صية امل ؤ�ثرة يف‬
‫م�رسحية �سعد اهلل ونو�س “منمنمات تاريخية”‪.‬‬
‫�ستتلخ�ص يف هذه املقولة‪ ،‬بر�أيي‪ ،‬فكرة �أ�سا�سية قد تنظم‬
‫ال من حيوات الدونكي�شوتيني الفدائيني‪ ،‬حيث‬ ‫ن�سق ًا كام ً‬
‫الالف ممن وقفوا يف وجه الطغاة على‬ ‫يندرج املئات ورمبا آ‬
‫مر الزمن‪ ،‬الذين كانوا باعتقادي موقنني �أن الطريق �إىل النهاية‬ ‫ّ‬
‫أ‬ ‫أ‬ ‫أ‬
‫قريب‪ ،‬و�ن ما ينتظرهم �إما �قبية ال�سجون املظلمة �و حبال‬
‫امل�شانق �أو الر�صا�ص الغادر‪.‬‬
‫جتربة املعار�ضة ال�سيا�سية يف بالد الديكتاتوريات‪ ،‬ومبختلف‬
‫�أطيافها‪ ،‬جزء ال يتجز�أ من هذا الن�سق‪� ،‬سواء بعملها ال�رسي �أو‬

‫‪10‬‬
‫العلني‪ ،‬هي التي عملت على ت أ�كيد مقولة بري�شت‪ :‬فغداً لن‬
‫يقولوا كان زمن ًا �صعب ًا‪ ،‬بل �سيقولون ملاذا �صمت ال�شعراء؟‪.‬‬
‫التجربة الن�سائية بني �صفوف املعار�ضة ت ؤ�كد �أي�ض ًا على‬
‫ذلك‪ ،‬وما جتربتها يف املعتقالت �إال ان�سحاب إلجهار ال�صوت‬
‫النوثة‪ ،‬مبعناها التاريخي‬ ‫تتحول أ‬
‫ّ‬ ‫يف زمن ال�صمت‪ ،‬حني‬
‫واملكر�س‪ ،‬لت�صبح قادرة على الوقوف يف وجه الطغيان‬ ‫ّ‬ ‫النظري‬
‫وظلمة املعتقالت‪.‬‬
‫كان من املمكن �أن ي�ستمر العمل بهذا الكتاب ل�سنوات‬
‫�أخرى! ذلك �أن عدد املعتقالت‪ ،‬اللواتي رحت �أكت�شفهن كل‬
‫يوم‪ ،‬كان يزداد ويزداد! هذا ما جعلني �أ�ضطر �إىل ح�رص العدد‬
‫الحاطة بالتجربة‬ ‫و�إال فلن ينتهي الكتاب‪ .‬فيما مل ميلكني وهم إ‬
‫ال يف كتاب واحد‪ ،‬ألنها‪ ،‬حقيقة‪ ،‬حتتاج �إىل كتب كي يتم‬ ‫كام ً‬
‫واف‪.‬‬
‫ر�صدها ب�شكل ٍ‬
‫�أثناء بحثي كنت �أ�صطدم على الدوام بالرعب املع�ش�ش يف‬
‫ال�سالميات‪،‬‬ ‫قلوب الكثريات من املعتقالت‪ ،‬خا�صة املعتقالت إ‬
‫للحاطة‬ ‫مما جعل جتربتهن تبدو‪ ،‬على الرغم من كل املحاوالت إ‬
‫بها‪ ،‬ناق�صة‪ ،‬ف أ�ية واحدة قابلتها منهن مل جتر ؤ� على الكالم‪ ،‬عدا‬
‫ا�ستثناءات قليلة جداً‪ ،‬و�سط هيمنة اخلوف القدمي يف دواخلها‪.‬‬
‫و�أعتقد �أن هناك ّ‬
‫بحق ما يربر ذلك اخلوف‪.‬‬
‫لذلك كان البد من اتباع �أ�ساليب خمتلفة لك�شف بع�ض‬
‫الكرث‬‫اجلوانب املتفرقة يف جتاربهن الغنية‪ ،‬ويف ك�شف احلقيقة أ‬

‫‪11‬‬
‫الخرى‪ .‬وعلى‬ ‫الن�ساين امل ؤ�مل‪ ،‬من كل التجارب أ‬ ‫غنى‪ ،‬مبعناها إ‬
‫اليديولوجيات تغيب يف املعتقل‪ ،‬وهذا‬ ‫الرغم من قناعتي �أن إ‬
‫ما حاولت �أن �أ�س ّلط ال�ضوء عليه‪� ،‬إال �أنها �ستبدو حا�رضة هنا‬
‫ال�سالميات‬ ‫ب�شكل �أو ب�آخر‪ ،‬ذلك �أن ما تعر�ضت له املعتقالت إ‬
‫خمتلف عما تعر�ضت له ال�شيوعيات (باعتبار �أن الكتلتني‬
‫ال�سا�سيتني للمعتقالت كانتا من هذين التيارين)‪.‬‬ ‫أ‬
‫لكن ثمة �أمر رافقني طيلة فرتة العمل كاد يتحول �إىل‬
‫هاج�س‪ ،‬وهو �أن �أختار بني �أمرين �أ�سا�سيني‪ :‬الوفاء للتجربة غري‬
‫العادية‪� ،‬أو الوفاء للكتابة‪.‬‬
‫الخرية إلمياين �أال جتربة ت�ستمر �إال‬ ‫�أنا �شخ�صي ًا اخرتت أ‬
‫تدون‪ ،‬وال�ضياع كتب على كل �شيء مل ينق�ش يف احلجر‪.‬‬ ‫حني ّ‬
‫الوىل‪ ،‬هو �أن‬ ‫ذلك �أن ما ا�ستحوذ على اهتمامي‪ ،‬منذ اللحظة أ‬
‫�أ�ستطيع �إخراج كتاب ممتع �إىل قارئ مفرت�ض‪ ،‬كتاب يحاول‬
‫�أن ينقل‪ ،‬لذلك القارئ �أي�ض ًا‪ ،‬بع�ض الويالت واالنتهاكات‬
‫التي ارتكبت بحق الن�ساء‪ ،‬والرجال على ال�سواء‪ ،‬دون �أن يعلم‬
‫بها‪.‬‬
‫تلخ�صت يف‬‫ّ‬ ‫لذلك قد يبدو لقارئ ما �أن جتربة كاملة‬
‫المر ال يعني‪ ،‬بكل ت أ�كيد‪،‬‬ ‫الكتاب بق�صة واحدة �أو ق�صتني!‪ .‬أ‬
‫ال من قيمة التجربة برمتها‪ ،‬ولكن رمبا كان له عالقة مبا‬ ‫تقلي ً‬
‫قلت قبل قليل‪ :‬الوفاء للكتابة فح�سب‪.‬‬
‫لطاملا ناو�شتني يف هذا املو�ضوع ت�سا ؤ�الت عدة‪:‬‬

‫‪12‬‬
‫مِ َل الكتابة عن ال�سجن؟‬
‫هل �سيحقق الن�ص اجلمال املطلوب؟‬
‫هل �س أ�غدو بعد القراءة كما كنت قبلها؟‬
‫اليطايل‪� ،‬إننا يف الكتابة بحاجة‬‫يرى �إيتالو كالفينو‪ ،‬الكاتب إ‬
‫الله احلداد القابع يف فوهات الرباكني‪،‬‬ ‫�إىل تركيز فولكان‪ ،‬إ‬
‫الله اخلفيف‬ ‫وحرفيته املهنية لت�سجيل مغامرات عطارد‪ ،‬إ‬
‫الر�شيق بقدميه املجنحتني‪.‬‬
‫�أ�سمح لنف�سي �أن �أ�ستعري القول هذا يف معر�ض حديثي‪ :‬كم‬
‫نحن يف حاجة �إىل حرفية اللغة ودالالتها الالمتناهية و�إىل نحت‬
‫الكلمات كي ن�ستطيع التعبري عن ذاكرة ال�سجون املع�ش�شة يف‬
‫�أرواحنا! وكم نحن يف حاجة �إىل �أمل ال�سجن وجتربته امل�شدودة‬
‫كوتر يف �أعماقنا كي نهب اللغة تلك احلقنة من الواقعية امل ؤ�ملة‬
‫النهاك!‬‫حد إ‬
‫ولن جتربة املعتقل جتربة من غري املمكن تدوينها‪ ،‬كما‬ ‫أ‬
‫ولن‬ ‫قلت �آنف ًا‪ ،‬يف كتاب‪ ،‬ولن ينجزها كاتب واحد بالت أ�كيد‪ ،‬أ‬
‫كل ما يدونه املرء يتحول‪� ،‬شاء �أم �أبى‪� ،‬إىل ن�سخة مم�سوخة بل‬
‫م�شوهة من املعي�ش‪ ،‬لذلك ينبغي معاملة الكتاب‪ ،‬وكل ما ميكن‬
‫�أن يكتب عن ال�سجون‪ ،‬كوم�ضات �ضوء تتواىل يف العتمة‪ ،‬لن‬
‫يت�ضح امل�شهد �إال بتوايل تلك الوم�ضات وتكثيفها يف جتارب‬
‫متعددة بتعدد م�سارات الطغاة‪ ،‬متنوعة بتنوع �أ�ساليب تعذيبهم‬
‫وقمعهم‪ ،‬وعميقة عمق �أقبية ال�سجون‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫لنعتربها �إذاً حماولة لتدوين جزء من تاريخ ن�سوي �سيا�سي‬
‫غيبت جتربة املعار�ضة عموم ًا ومبختلف‬
‫غيب �سنين ًا طويلة كما ّ‬ ‫ّ‬
‫�أطيافها‪.‬‬
‫باخت�صار‪ ،‬التجربة ال تقال بعيداً عن ظرفها إ‬
‫الن�ساين‪ .‬املهم‬
‫هو اخلروج من اجلحيم و�أننت ما زلنت مفعمات باحلب واحلياة‬
‫والرغبة بالفرح‪.‬‬
‫�إىل لينا‪ .‬و‪ ،‬عرفان ًا باجلميل يا �صديقتي‪.‬‬
‫�إىل ناهد‪ .‬ب وهند‪ .‬ق و�ضحى‪ .‬ع‪ ،‬ابت�ساماتكن �أ�ضاءت‬
‫الكثري من املناطق املعتمة داخلي‪.‬‬
‫�إىل كل ال�صبايا املعتقالت‪...‬‬
‫عليكن العمل كثرياً لف�ضح القليل من امل�سكوت عنه‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫يف كتابه “�أنت جريح” يرتجى الكاتب الرتكي �أوردال‬
‫�أوز ج�سده‪ ،‬بل�سان بطل روايته‪ ،‬كي ي�ساعده على االحتمال‬
‫يرتجاه كي ي�صمد كيما يحمله �سامل ًا �إىل منطقة‬ ‫�أثناء التحقيق‪ّ ،‬‬
‫المان هنا خمتلفة اختالف الزمان واملكان‬ ‫المان‪ .‬ومنطقة أ‬ ‫أ‬
‫وال�شخ�صية والتقنية امل�ستخدمة واخلامتة �أي�ض ًا!‬
‫حني ينتهي التعذيب ي�شكر معتقل �أوز ج�سده‪ ،‬من ّ‬
‫كل‬
‫قلبه‪ ،‬لتبد�أ حياة ال�سجن املتطاولة املمتدة‪.‬‬
‫هم�ست لينا‪.‬و() �أن كلمات �أوردال �أوز‪ ،‬وحدها‪ ،‬كانت‬
‫() لينا‪ .‬و ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ .1959‬اعتقلت يف �سنة ‪ 1987‬وحتى‬
‫�سنة ‪.1990‬‬

‫‪15‬‬
‫ترنّ يف �أذنها وهي تتلقى �رضبات الكرباج الال�سعة على باطن‬
‫قدميها‪ .‬بل�سانها كان بطل الرواية يرتجى ج�سدها �أن ا�صمد يا‬
‫ج�سدي‪ ،‬وبروحها كانت الرواية تنكتب كلمة كلمة!‬
‫الخرى ج�سدها‪ ،‬كما‬ ‫حني انتهى التعذيب �شكرت هي أ‬
‫فعل بطل «�أنت جريح» متام ًا‪.‬‬
‫لكن ما قر�أته لينا بدا �شديد الت أ�ثري قبل اعتقالها‪ ،‬وجعلها‬
‫حتول �إىل حكاية هزيلة وجمتز�أة‬‫ت�شهق منتحبة ل�ساعات ممتدة‪ّ ،‬‬
‫�إذا ما قورنت بالذي عا�شته داخل املعتقل خالل �سنوات‬
‫�سجنها الطويلة!‬
‫تتحول الكتابة يف مواجهة املعي�ش قزم ًا ال ي�ستطيع �أن يبلغ‬ ‫ّ‬
‫أ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫مبلغ الرجال‪� ،‬و م�سخا عاجزا ومثريا لل�ضحك‪ .‬لن ما تلم�سه‬‫أ‬
‫�أج�سادنا‪ ،‬مل�س احلقيقة‪ ،‬ال ميكن للغة‪ ،‬مهما فاحت منها رائحة‬
‫اجلواين‪.‬‬‫التجربة‪� ،‬أن جت�سده بعمقه ّ‬
‫‪-‬هذا ما يحدث متام ًا‪ ..‬تتغري كل نظرتنا �إىل احلياة بعد �أن‬
‫نخرج!‬
‫�أعقبت حديثها‪.‬‬
‫كلماتها تلك كانت �أ�شبه ب أ��سطورة �أورفيو�س()‪.‬‬
‫ذلك �أنه مل يكن قد م�ضى وقت طويل على زواجه من‬
‫حبيبته يوريد�س حني لدغتها �أفعى قابعة يف الع�شب‪.‬‬
‫ماتت وهي بعد عرو�س �شابة‪.‬‬
‫(‪ )2‬عازف القيثارة ال�ساحر يف أ‬
‫ال�سطورة اليونانية وهو ابن �أبولو وربة الفنون‬
‫كاليوبي‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫اللهة‬ ‫�صدح �أورفيو�س بحزنه لكل من يتنف�س الهواء من آ‬
‫والنا�س‪ ،‬فلم يجد �أحداً يبحث له عن زوجته يف �أقاليم املوتى‪.‬‬
‫حينئذ قرر �أن يهبط بنف�سه إلنقاذها من العامل ال�سفلي عن طريق‬
‫كهف مهجور وعميق‪.‬‬
‫هناك‪ ،‬يف جماهل املوت‪ ،‬وقف العا�شق �أمام عر�ش بلوتو‬
‫وبرو�رسبني‪ ،‬عزف على قيثارته‪ ،‬وغ ّنى باكي ًا وجده‪.‬‬
‫لهي العامل ال�سفلي‬ ‫كان غناء �أورفيو�س م ؤ�ثراً حتى �أن �إ ّ‬
‫�سمحا له با�صطحاب حبيبته �إىل عامل ال�ضوء‪ ،‬عرب ممرات الظالم‬
‫ال�شاهقة‪� ،‬رشيطة �أال يلتفت �إىل الوراء حتى يخرجا �إىل الهواء‬
‫الر�ضي‪.‬‬‫أ‬
‫�سار احلبيبان ب�صمت مطبق حتى اقرتبا من املخرج‪.‬‬
‫لكن هاج�س فقدانها من جديد جعل �أورفيو�س يلتفت �إىل‬
‫الوراء ليلقي نظرة على حبيبته‪ ،‬نظرة واحدة الغري‪.‬‬
‫البد‪.‬‬‫هكذا خ�رسها �إىل أ‬
‫هل يكون لظالم ال�سجون ظلمة العامل ال�سفلي!‬
‫ال�سلم ال�شاهق‪ ،‬يف�صل �صقيعها القا�سي عن دفء‬ ‫وذلك ّ‬
‫اخلارج‪ ،‬هو الدرب الطويل ذاته الذي يقطعه كل معتقل‬
‫ومعتقلة يف حماولة للتخل�ص من روا�سب االنك�سار أ‬
‫والمل!‬
‫روا�سب تراكمت على �أرواحهم خالل �سنوات ال�سجن!‪.‬‬
‫�ستبدو نظرة �أورفيو�س �إىل الوراء كنظرة املعتقل‪ /‬املعتقلة �إىل‬
‫�سنواته‪� /‬سنواتها املنق�ضية يف هواء ال�سجن الفا�سد!‪..‬‬

‫‪17‬‬
‫لكن رمبا كان ما من�ضيه يف ال�سجن يربجمنا لنوع من التهدمي‬
‫لذاتي()! وعلينا �أن نحارب �ضد هذا ال�شعور الذي يبقى معنا‬
‫حتى عندما نخرج من ال�سجن‪.‬‬
‫جمرد نب�شنا ملمار�سات القمع هو طريقة للخال�ص‬ ‫َمل ال يكون ّ‬
‫منها‪ ،‬طريقة ملقاومة ذاك التهدمي الذاتي ي أ�كلنا من جوانيتنا‪.‬‬
‫لكننا نكت�شف حني نخرج �أن احلكاية خمتلفة متام ًا‪.‬‬
‫نكت�شف �أن هناك مناطق من �أنف�سنا حرقت نهائي ًا ولي�س من‬
‫ال�سهل �أن نتابع احلياة معها‪ .‬تغدو تفا�صيل العي�ش بعد ال�سجن‬
‫خمتلفة متام ًا عما كانت قبله‪.‬‬
‫احلب غري احلب!‬
‫الفرح غري الفرح!‬
‫حتى للذة طعم خمتلف‪ ..‬ك أ�ن الروح ا�ستحالت �إىل روح‬
‫�أخرى!‬
‫رمبا كان �أهم ما ن�ستطيع فعله هو �أن نبقى �أنا�س ًا‪ ،‬بكل ما‬
‫تعنيه الكلمة من حياة وفاعلية‪� ،‬أن ن�سري �أبعد من طعم ذلك‬
‫الرماد الذي بقي يف �أفواهنا‪.‬‬
‫تبدل الكتابة طعم الرماد؟!‪.‬‬ ‫هل ّ‬
‫بدلت ذلك لدى الكاتبة امل�رصية فريدة النقا�ش ‪ ،‬وهي‬
‫()‬
‫رمبا ّ‬
‫البي�ض يف‬‫() هذا ما يراه الكاتب براينت برايتنباغ‪ :‬املعتقل يف �سجون النظام أ‬
‫جنوب �إفريقيا‪ ،‬وذلك يف مقالته‪ :‬يعلمنا ال�سجن �أننا �سجناء‪ .‬املن�شورة يف جملة‬
‫الكرمل‪ /‬ع ‪� 15‬سنة ‪.1985‬‬
‫() فريدة النقا�ش‪ ،‬ال�سجن‪ ..‬الوطن‪ ،‬دار الكلمة ودار الندمي‪ ،‬بريوت‬
‫‪.1980‬‬

‫‪18‬‬
‫�سجل جتربة املعتقل بقلم امر�أة عربية‪ ،‬بعد �أن �سجنت‬ ‫�أول من ّ‬
‫ال كمعتقلة �سيا�سية يف �سجون ال�سادات‪.‬‬ ‫طوي ً‬
‫ثمة جملة �أطلقتها النقا�ش يف الكتاب رمبا كانت تيمة‬
‫�أ�سا�سية يف بالد الطغاة‪ ،‬كل الطغاة‪:‬‬
‫(مل يعمل �أحد بال�سيا�سة من �أبناء جيلي ويفلت من جتربة‬
‫ال�سجن‪.‬‬
‫�أ�صبح ال�سجن �إذاً جزءاً من الوجدان الوطني العام)‪.‬‬
‫ال يف ال�سجون‬ ‫هذا ما ت ؤ�يده كاتبة �أخرى‪ ،‬اعتقلت طوي ً‬
‫املغربية‪ ،‬وهي فاطمة البويه()‪.‬‬
‫دونت البويه كتابها يف املعتقل‪ ،‬ثم ن�رشته بالعربية بعنوان‪:‬‬ ‫ّ‬
‫حديث العتمة‪ ،‬وبالفرن�سية بعنوان‪ :‬امر�أة ا�سمها ر�شيد‪.‬‬
‫ر�شيد هو اال�سم الذي �أطلق عليها يف املعتقل حني كانت‬
‫�صلبة كرجل!‪.‬‬
‫تقول فاطمة البويه �إن الدور أ‬
‫ال�سا�سي يف �إقناعها بالن�رش كان‬
‫مر �أكرث من ع�رشين‬ ‫للكاتبة املغربية فاطمة املرني�سي‪ ،‬بعد �أن ّ‬
‫عام ًا على كتابته‪ .‬واملرني�سي عملت كذلك على كتابة التاريخ‬
‫املغربي بعيون منا�ضالت و�سجينات �سيا�سيات �سابقات‪.‬‬
‫هل الكتابة عن «الوراء» كافية لتعود كل �أحالم ال�سجني‪/‬‬
‫ال�سجينة بعامل أ‬
‫اللوان �إىل رمادية العامل ال�سفلي؟‬
‫() يف مقابلة �أجراها معها �سامي كليب‪ ،‬من�شورة يف املوقع إ‬
‫اللكرتوين‪:‬‬
‫اجلزيرة نت‪ www.aljazeera.net /‬يف برنامج زيارة خا�صة عن التعذيب‬
‫يف ال�سجون املغربية‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫لي�ستحيل الولع بالقادم‪ ،‬الغريب برمته‪� ،‬إىل انتكا�سة‬
‫مريرة؟‬
‫البد با�صطحابه‬ ‫�أم هي حماولة لنب�ش ما دفن هناك وقتله �إىل أ‬
‫معنا �إىل النور؟!!‬
‫يهم‪.‬‬
‫ال ّ‬
‫لندع احلديث جانب ًا‪ ،‬ذلك �أن �رصاخ املحقق‪ ،‬الداخل‬
‫م�صم ًا‬
‫ّ‬ ‫للتو �إىل الغرفة‪� ،‬صعق ناهد‪.‬ب() وهو يقتحم املكان‬
‫مبهم ًا‪.‬‬
‫مرت دقائق على خروجه بعد انتهاء حفلة تعذيبها‬ ‫مل تكن قد ّ‬
‫بالدوالب()‪ ،‬حفلة ا�ستمرت �ساعات‪ .‬قدماها ال تكادان‬
‫يجمع حوا�سها كاملة‬ ‫الر�ض الباردة‪ ،‬و�أمل فظيع ّ‬ ‫حتمالنها على أ‬
‫واملدمى‪..‬‬
‫ّ‬ ‫يف �أ�سفلهما املنتفخ‬
‫كانت ترتنح جاهدة للوقوف‪� ..‬أو ما ي�شبه الوقوف‪.‬‬
‫الطمي�شة()‪ ،‬التي تغطي عينيها بالكامل‪ ،‬ال ترتك جما ًال‬ ‫ّ‬
‫ّ‬ ‫أ‬ ‫آ‬
‫�إال خليط نور رفيع �ت من ال�سفل‪ .‬العرق يت�سلل �إىل عينيها‪،‬‬
‫يكيل امللح حارق ًا داخلهما‪ ،‬ور ؤ�ية �ضبابية تلوح لطرف حذاء‬ ‫ّ‬
‫() ناهد‪ .‬ب‪ :‬معتقلة �سيا�سية �شيوعية من مواليد ‪ ،1958‬اعتقلت يف �أواخر‬
‫�سنة ‪ 1987‬وحتى نهاية �سنة ‪.1991‬‬
‫() و�سيلة للتعذيب عبارة عن دوالب �شاحنة جترب املعتقلة على اجللو�س فيه‬
‫ويكبله فا�سح ًا املجال للع�صي كي‬
‫ّ‬ ‫في�ضغط ج�سدها جامع ًا ر�أ�سها �إىل قدميها‪،‬‬
‫تطال �أ�سفل قدميها وبقية �أع�ضائها‪.‬‬
‫() الطمي�شة‪ :‬قطعة م�ستطيلة م�صنوعة من اجللد الكتيم‪ ،‬تغطى عينا املعتقل بها‬
‫لي�صبح يف �أ�رس ثان من العتمة املطبقة‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫ال�سود الغري‪.‬‬ ‫املحقق أ‬
‫�أجابت عن ال�س ؤ�ال للمرة العا�رشة بالمباالة كي تفهمه �أنها‬
‫عرفت �صوته ومل يخدعها‪:‬‬
‫‪ -‬ناهد‪..‬‬
‫‪ -‬ما هو عملك؟‬
‫‪ -‬مهند�سة!‪..‬‬
‫‪� -‬أنت مهند�سة!!‪� ..‬أنت عاهرة‪.‬‬
‫مل جتد ناهد نف�سها �إال وهي ت�صيح كمن ن�سي تعبه فج أ�ة‬
‫وكمم�سو�سة‪:‬‬
‫‪ -‬البلد كله يعرف من هم العواهر ومن هم غري الـ‪...‬‬
‫�أتت ال�رضبة جمنونة مباغتة على وجهها لت�سكتها متام ًا‪،‬‬
‫الر�ض العاري والقذر‪.‬‬‫وتلقيها بعيداً على بالط أ‬
‫ومرة حتاول الدخول‬ ‫تدر ناهد �إال ومقدمة حذاء عري�ضة ّ‬ ‫مل ِ‬
‫ب�رشا�سة يف فمها وهو ُيفتح على الرغم منها‪ .‬مل تكن متتلك �أية‬
‫طاقة على حتريك �أي جزء من ج�سدها امل�سجى كجثة المبالية‬
‫فيما �سيل ال�شتائم وحده ميور يف الغرفة‪ ،‬ويتوا�صل منها ًال‬
‫عليها‪.‬‬
‫يف املكان نف�سه كان ثمة فتاة �أخرى تدخل زمن االعتقال‬
‫تدعى هند‪.‬ق()‪.‬‬
‫() هند‪ .‬ق‪ :‬معتقلة �سيا�سية �شيوعية من مواليد ‪ 1956‬اعتقلت �أول مرة يف‬
‫�سنة ‪ 1982‬وحتى �سنة ‪ 1983‬ويف املرة الثانية من �سنة ‪ 1984‬وحتى �سنة‬
‫‪.1991‬‬

‫‪21‬‬
‫لكن �أول ما قامت بفعله هند حال دخولها �إحدى منفردات‬
‫المن‪ ،1‬وحاملا �أغلق ال�سجان الباب احلديدي‪� ،‬أن �رشعت‬ ‫فرع أ‬
‫تدقّ على جدران الزنزانة‪ ،‬تدقّ بهي�ستريية ع ّلها ت�صيب ولو‬
‫دقّة خافتة من منفردة جماورة على جدران منفردتها‪ ،‬ت�شعرها‬
‫امليت واملميت‪.‬‬‫بوجود حياة ما يف هذا الظالم ّ‬
‫�إنه اعتقالها الثاين‪ ،‬لذلك كانت تتكهن‪ ،‬من معرفتها‬
‫باملكان‪� ،‬أن املنفردات املجاورة مليئة باملعتقلني‪ .‬كانت ّ‬
‫حت�س‬
‫بالنفا�س والهمهمات املكبوتة‪.‬‬‫اجلو املحيط املحقون أ‬
‫بالفعل‪ ،‬بعد ثوان �أجابت على دقاتها اللهفة دقات �أخرى‬
‫على احلائط اليميني للمنفردة‪ .‬بد�أ احلديث بالدقات على‬
‫الفور‪ :‬لغة املعتقلني املعروفة‪.‬‬
‫�س أ�ل الطارق‪:‬‬
‫‪ -‬من �أنت؟ ما هي تهمتك؟‬
‫‪� -‬أنا واحدة‪.‬‬
‫‪� -‬أعرف �أنك وحدك!!‬
‫‪ -‬ال‪� ..‬أنا واحدة‪ ..‬بنت يعني‪.‬‬
‫الده�شة‪� ،‬أي التوقف عن الدق‪ ،‬هي ر ّد الفعل الوحيد بدر‬
‫عن الطارق املجاور‪ .‬يبدو �أنه فوجئ بوجود ن�ساء يف هذا‬
‫املكان! ذلك �أين كنت من �أوائل املعتقالت يف الفرع قبل �أن‬
‫تبد�أ حملة االعتقاالت امل�سعورة �سنة ‪.1987‬‬
‫الحاديث بيننا طوي ً‬
‫ال ذاك اليوم‪.‬‬ ‫ا�ستمرت أ‬

‫‪22‬‬
‫كلما ابتعدت خطوات ال�سجان �أهرع �إىل احلائط لهفة‬
‫ليعلو �صوت الدقات‪ ،‬وكلما اقرتبت خطواته الطارقة على‬
‫بالط كوريدور الفرع‪ ،‬املليء باملنفردات املتقابلة‪ ،‬تتال�شى‬
‫�أ�صوات الدقات‪ ..‬حتى راح اخلدر ي�ستقر يف �أطراف �أ�صابعي‬
‫وهي حتتك باحلائط العاري اخل�شن طيلة الوقت‪.‬‬
‫بعد �أيام ا�ستطاع الطارق �إخبار هند �أن هناك طاقة يف �أعلى‬
‫حمددة بال�شبك‬ ‫�سقف املنفردة‪ ،‬حتت ال�سقف امل�ستعار‪ ،‬وهي ّ‬
‫الخرى‪ .‬ت�ستطيع‬ ‫تطل على الفراغ فوق �سقف املنفردة أ‬ ‫ّ‬
‫املعتقلة‪� ،‬إذا ت�سلقت جدران املنفردة ال�ضيقة‪� ،‬أن ت�سمع �صوت‬
‫الخر الهام�س من هناك‪.‬‬ ‫آ‬
‫جنحت هند‪ ،‬بعد عدة �سقطات‪� ،‬أن تت�سلق املنفردة‪� ،‬ساعدها‬
‫ج�سدها النحيل على ذلك بو�ضع �ساقيها على حائطيها املتقابلني‬
‫حتى و�صلت �إىل �أعلى وا�ستمعت �إىل �صوت ال�شاب‪:‬‬
‫حممد‪.‬ع كان ا�سمه‪.‬‬
‫حاول الهرب من اجلي�ش �إىل تركيا‪ ،‬لكنهم ا�ستطاعوا القب�ض‬
‫عليه على احلدود لي ّتهم بالفرار من خدمة العلم‪ ،‬ويرمى هنا‬
‫منذ �ستة �أ�شهر‪.‬‬
‫حدثني عن جحيم عا�شه يف اجلي�ش‪ ،‬وعن جحيم كان‬ ‫ّ‬
‫ينتظره منذ حلظة �إلقاء القب�ض عليه وحتى جميئه �إىل هنا‪.‬‬
‫‪ -‬معك دخان؟!! �س أ�موت من �أجل �سيجارة‪ ..‬ولي�س‬
‫لدي نقود‪..‬‬

‫‪23‬‬
‫هم�س حممد من بعيد مرتجي ًا‪.‬‬
‫‪ -‬معي‪..‬‬
‫�أجبته �ضاحكة‪.‬‬
‫من خيوط البطانيات الع�سكرية العفنة‪ ،‬بالكاد تدر�أ برد‬
‫�آذار املجنون يف تلك ال�سنة‪ ،‬ا�ستطعت‪ ،‬تنفيذاً لتعليمات حممد‪،‬‬
‫ال ومتين ًا‪ ،‬ربطت �إليه �صابونة‪ ،‬كنت قد‬ ‫ال طوي ً‬‫�أن �أن�سج حب ً‬
‫ا�شرتيتها من ال�سجان‪ ،‬وربطت �إليها باكيت دخان “حمراء‬
‫ودخنت منه‬‫طويلة”‪ ،‬كنت قد ا�شرتيته �أي�ض ًا ب أ��ضعاف ثمنه ّ‬
‫ثالث �سجائر فح�سب يف الليل‪.‬‬
‫رميت احلبل والباكيت يف �آخره عرب الطاقة �إىل منفردة حممد‬
‫املجاورة‪.‬‬
‫الوىل‪ ،‬لكن يف الرمية الثانية انزلقت‬ ‫مل �أجنح يف املرة أ‬
‫ال�صابونة‪ ،‬ومعها احلبل والباكيت‪� ،‬إىل زنزانته‪.‬‬
‫بهذه الطريقة املبتكرة ا�ستطعنا‪ ،‬نحن االثنني‪� ،‬أن نتبادل‬
‫ال�شياء‪ :‬كربيت‪ ،‬حمارم‪ ،‬ر�سائل‪ ،‬و�أ�شياء �أخرى مل‬ ‫الكثري من أ‬
‫�أعد �أتذكرها جيداً‪.‬‬
‫ثم راح حممد يحرق �أعواد الثقاب بالع�رشات‪ّ ،‬‬
‫يكوم‬
‫ال�شحار تلة �صغرية يف زاوية منفردته ليكتب به كحرب‪� .‬أما‬
‫عيدان الثقاب فقد حتولت �إىل �أقالم نفي�سة‪ّ ،‬‬
‫تخط الر�سائل على‬
‫ورق كان يوم ًا ما �أغلفة لباكيتات الدخان‪.‬‬
‫يكتب‪ ،‬ثم يرمي ر�سائله امللتهبة �إ ّ‬
‫يل‪..‬‬

‫‪24‬‬
‫يكتب ويرمي‪.‬‬
‫ر�سائل ع�شق رائعة حتملني بعيداً عن قربي‪.‬‬
‫ر�سائل ع�شق حتيل عتمة وبرد منفردتي �إىل غرف حميمة‪،‬‬
‫حميمة ودافئة‪.‬‬
‫يف ذلك الوقت ا�ستطاع حممد‪ ،‬الذي مل �أر وجهه يوم ًا‪� ،‬أن‬
‫يجعلني عا�شقة ولهانة يف منفردة من�سية من فرع أ‬
‫المن‪.‬‬
‫باق هنا‪ ،‬و�أنت بالت أ�كيد �ستخرجني قريب ًا‪ ..‬وحينها‬ ‫‪� -‬أنا ٍ‬
‫وتتعريف عليهم‪ ،‬وتطمئنيهم عني‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�أمتنى �أن تذهبي �إىل �أهلي‪،‬‬
‫مر‬
‫الخرية‪ ،‬وكان قد ّ‬ ‫اليام أ‬
‫هذا ما قاله حممد واثق ًا يف أ‬
‫حوايل ال�شهر على اعتقال هند يف املنفردة املجاورة‪.‬‬
‫ذات �صباح جاء ال�سجان‪ ،‬رمى لها الفطور يف الق�صعة‬
‫جهزي نف�سك �ستنقلني �إىل �سجن الن�ساء(‪.)10‬‬ ‫ال‪ّ :‬‬ ‫املعدنية قائ ً‬
‫مل يكن للخرب وقعه الفرح املتوقع!‬
‫كان على هند �أن تو�صل �إىل حممد قرار انتقالها املفاجئ‪.‬‬
‫دقّت على حائط املنفردة لهفة قلقة لتخربه بتحقق ن�صف نبوءته‬
‫ال غري‪ ،‬وب أ�نها �ستخرج لكن �إىل �سجن الن�ساء‪.‬‬
‫مبا �أن حممد مل يكن ميتلك �أية نقود فقد عملت هند على‬
‫الوراق النقدية بال�صابونة‪،‬‬ ‫رمي ما تبقى معها له‪ .‬ربطت أ‬
‫وراحت حتاول قذفها عرب الطاقة دون �أن ت�ستطيع ذلك‪ ..‬كان‬
‫تتم املهمة ب�رسعة وقبل جميء ال�سجان‪ ،‬لكن توترها‬ ‫عليها �أن ّ‬
‫(‪ )10‬يق�صد �سجن الن�ساء املدين الذي كانت املعتقالت ال�سيا�سيات ي�سجن فيه‬
‫مع الق�ضائيات‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫المر �سوءاً‪.‬‬ ‫زاد أ‬
‫الخرى‪..‬‬ ‫رمتها مرة تلو أ‬
‫المر‪.‬‬ ‫الخرى‪ ..‬دون �أن ينجح أ‬ ‫مرة تلو أ‬
‫�أخرياً‪ ،‬قبل دخول ال�سجان بثوان‪ ،‬جنحت هند يف �إي�صال‬
‫هديتها الثمينة �إىل حممد قبل انتقالها‪.‬‬
‫لكنها ن�سيت يف ذلك اليوم م�سابح نوى الزيتون التي‬
‫�صنعتها طيلة ال�شهر املن�رصم‪ ،‬ن�سيت �أي�ض ًا ر�سائل حممد ّ‬
‫احلارة‬
‫لتظل �أكرث من �ست �سنوات‬
‫حتت البطانية الع�سكرية‪ .‬وخرجت ّ‬
‫الول‪ ،‬ومن ثم �سجن‬ ‫بعدها يف املعتقالت‪ :‬يف �سجن الن�ساء أ‬
‫الن�ساء الثاين‪.‬‬
‫�أما حممد‪ ،‬كما عرفت هند فيما بعد‪ ،‬فقد ظل حوايل �ست‬
‫المن‪ 1‬قبل �أن يطلق �رساحه يف‬‫ال يف فرع أ‬‫�سنوات بعدها معتق ً‬
‫�سنة ‪.1990‬‬

‫‪26‬‬
‫أ�نثى الكهف العارية‪..‬‬
‫التعذيب‬

‫‪27‬‬
28
‫‪1987‬‬

‫رمبا كانت جملة �إلهام �سيف الن�رص‪ ،‬القابعة يف نهاية‬


‫كتابه «�سجن �أبو زعبل»(‪ ،)11‬حقيقية ب�شكل ما‪ ،‬ورمبا ابتعد‬
‫عن ال�صواب من مل يجعلها ديدنه! فهو يرى �أن كافة �أ�شكال‬
‫التعذيب و�أهدافها‪ ،‬كذلك نف�سيات ال�سجانني و�شخ�صياتهم‪،‬‬
‫تكون دائم ًا مت�شابهة من مع�سكرات النازي �إىل مع�سكرات‬
‫اليابان �إىل مع�سكرات «بابا دوبولو�س» يف اليونان!‪.‬‬
‫المن‪ ،1‬منذ بداية‬ ‫المر ين�سحب �إىل هنا �أي�ض ًا‪� ،‬إىل فرع أ‬
‫�إذاً أ‬
‫االعتقاالت يف الن�صف الثاين من ال�سبعينيات وحتى يومنا‬
‫هذا‪.‬‬
‫(‪� )11‬إلهام �سيف الن�رص‪� ،‬سجن �أبو زعبل‪ ،‬دار الفكر اجلديد‪ ،‬بريوت ‪.1975‬‬

‫‪29‬‬
‫امل�شهد ذاته يتكرر مراراً‪ ،‬كما يقول �إلهام �سيف الن�رص‪،‬‬
‫لكن بتغيرّ ات طفيفة‪:‬‬
‫غرفة رمادية يتو�سد بالطها معتقل ّ‬
‫ملطخ بالدماء‪.‬‬
‫الر�ض‪ ،‬بركة خمتلطة بال�صديد‬ ‫غرفة ت�سبح فيها الدماء على أ‬
‫غيبه التعذيب عن الوعي‪.‬‬ ‫واملاء ي�سكب مراراً على �شاب ّ‬
‫معتقلون مرميون يف الكوريدورات وما تزال جروحهم‬
‫تنزف‪ ،‬يتنقل ال�سجانون واملحققون واجلالدون على �أرجلهم‬
‫و�أيديهم و�أجزائهم املنهكة‪.‬‬
‫الملانية(‪ )12‬هنا وهناك ويف كل مكان‪..‬‬ ‫الكرا�سي أ‬
‫الطمي�شات الكتيمة ب أ�لوانها القامتة مع ّلقة على اجلدران‪.‬‬
‫رائحة دم متخرث‪� ،‬أ ّنات مكبوتة‪� ،‬رصاخ‪ ،‬و�صياح‬
‫املحققني‪.‬‬
‫المن‪ 1‬باخت�صار‪.‬‬ ‫هذا هو فرع أ‬
‫للحط من النوع‬‫ّ‬ ‫الكثريون يرون التعذيب جمرد و�سيلة‬
‫الن�سان �إىل جمرد كائن مقهور بال �أي‬ ‫الن�ساين‪� ،‬أي حتويل إ‬ ‫إ‬
‫اعتبار ذاتي �أو كرامة‪ ،‬بالتايل ت�صبح غريزة البقاء‪ ،‬لي�س �إال‪،‬‬
‫ال�سا�سي لوجوده‪.‬‬ ‫املحرك أ‬
‫‪1987‬ع ّريت �إحدى املعتقالت ال�شيوعيات‬‫ُ‬ ‫يف يوم من �أيام‬
‫بثيابها الداخلية فيما كانت تُ�رضب بالكرباج �أمام املالزم‪،‬‬
‫(‪ )12‬الكر�سي أ‬
‫الملاين‪ :‬هو كر�سي دون جل�سة �أو م�سند‪ ،‬جمرد هيكل معدين‬
‫يجل�س فيه املعتقل‪ ،‬يقيد من يديه ورجليه‪ ،‬ويطوى ظهره باجتاه اخللف حتى‬
‫تتقطع �أنفا�سه‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫وتُ�رضب بعيون اجلالدين التي تلتهمها �شبقة مت�شهية لعريها‪.‬‬
‫وقت انتهى التعذيب رميت ال�صبية يف غرفة ال�سجان‬
‫ولي�س يف الزنزانة كما هي العادة‪ ،‬كانت الذريعة عدم وجود‬
‫�أماكن يف الزنازين‪ ،‬ولرمبا كانت ذريعة مقبولة و�سط هيجان‬
‫االعتقاالت ذاك الزمن‪.‬‬
‫ح�ست و�سط ظلمة الليل بحركة ال�سجان يف الغرفة‪ .‬كان‬ ‫�أ ّ‬
‫املبنى خالي ًا من العنا�رص كما بدا لها‪ .‬حفيف حركته يقرتب‬
‫منها‪ .‬ثم �أم�سك بيدها‪ ،‬وهو يومئ لها بال�سكوت‪ ،‬قبل �أن‬
‫الطباق عليها‪.‬‬ ‫يحاول ج�سده إ‬
‫على الرغم من �أنها مل تكن تقوى على �إ�صدار ن أ�مة‪ ،‬فج�سدها‬
‫المل والتعب‪ ،‬حاولت ال�صبية الهرب منه يف‬ ‫منهد حتت وقع أ‬‫ّ‬
‫جارة ج�سدها كخرقة‪ .‬وحني ح�رشها بني‬ ‫�أرجاء الغرفة ال�ضيقة ّ‬
‫ج�سده واجلدار ما كان منها �إال �أن بد�أت بال�رصاخ‪.‬‬
‫�رصخت و�رصخت‪.‬‬
‫حتى الت أ�مت جمموعة من ال�سجانة املناوبني يف الغرفة‬
‫و�أبعدوه عنها‪.‬‬
‫لكن تلك املعتقلة قررت �أال ت�صمت‪.‬‬
‫الخر‪ .‬وم�ساء‪ ،‬وقت‬ ‫يف اليوم التايل ا�شتكت للمالزم آ‬
‫الول على تعريتها‬ ‫ُطلبت من جديد �إىل التحقيق‪ ،‬عمل املالزم أ‬
‫ال وعيناه تتوعدان‪:‬‬ ‫كما أ‬
‫الم�س قائ ً‬
‫‪ -‬حتى ال تعيديها وت�شتكي مرة �أخرى‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ال�شيء الالفت‪ ،‬الذي ال يحدث �إال يف تلك أ‬
‫القبية‪� ،‬أن‬
‫الوقات‪� ،‬ضباط ًا ولي�سوا‬ ‫املعذبني كانوا �ضباط ًا يف معظم أ‬
‫جالدين!‬
‫�أما �أ�ساليب التعذيب فقد كانت كثرية ومبتكرة‪:‬‬
‫الوراق بني �أ�صابع �سحر‪.‬ب(‪� ،)13‬أ�شعلوها‬ ‫ُو�ضعت أ‬
‫م�ستمتعني ب�رصاخها وبرائحة جلدها املحروق‪.‬‬
‫بقية البنات‪ ،‬يف دفعة اعتقاالت ‪ُ ،1987‬ع ِّذبن بالكهرباء‬
‫ال ُو�ضعت يف الدوالب دون‬ ‫وبالدوالب‪ .‬حميدة‪.‬ت(‪ )14‬مث ً‬
‫ال‪ .‬يف‬‫�أن يلب�سوها البنطلون على الرغم من �رصاخها طوي ً‬
‫نهاية التعذيب تركت حميدة مرمية‪ ،‬وهي ما تزال م�ضغوطة‬
‫بالدوالب‪ ،‬فيما ال�سجان يقهقه �شامت ًا‪ :‬لقد ر�أيت كلوتك‪..‬‬
‫لونه �أبي�ض‪.‬‬
‫عذبت بها حميدة �أي�ض ًا ومعها غرناطة‪.‬‬ ‫ثمة طريقة مبتكرة ّ‬
‫تتلخ�ص يف و�ضع الر�أ�س يف �أداة الفلق‪ ،‬عو�ض ًا عن و�ضع‬
‫ج(‪ّ )15‬‬
‫القدمني فيها‪ ،‬يرفع ال�سجانون أ‬
‫الداة واملعتقلة فيها مما ي ؤ�دي‬
‫�إىل ان�ضغاط رقبتها بني حبلي الفلق حتى تو�شك �أن تختنق‪.‬‬
‫يحتقن وجهها حتى يزرق‪ ،‬وتبد�أ احل�رشجات بالت�صاعد‪.‬‬
‫(‪� )13‬سحر‪ .‬ب‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ .1957‬اعتقلت من �سنة ‪1979‬‬
‫وحتى �سنة ‪ ،1980‬ومن �سنة ‪ 1987‬وحتى �سنة ‪.1991‬‬
‫(‪ )14‬حميدة‪ .‬ت‪ :‬معتقلة �سيا�سية فل�سطينية من مواليد ‪ .1962‬اعتقلت من‬
‫�سنة ‪ 1987‬وحتى �سنة ‪.1990‬‬
‫(‪ )15‬غرناطة‪ .‬ج‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ ،1966‬اعتقلت �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى �سنة ‪.1991‬‬

‫‪32‬‬
‫الخرية‪.‬‬ ‫حينها فح�سب يرمونها �أر�ض ًا وهي يف �أنفا�سها أ‬
‫رمبا كانت ماهية التعذيب تتلخ�ص يف �إعادة ال�سجني‪/‬‬
‫الن�سان البدئية‬ ‫الولية‪ ،‬مركبات إ‬ ‫ال�سجينة �إىل مركباتهما أ‬
‫والفطرية‪ ،‬ليحوله‪ /‬يحولها �إىل رجل‪ /‬امر�أة كهف عاريني �إال‬
‫من ورقه ال�شجر‪� ،‬إن وجدت‪.‬‬
‫عاريني يف مواجهة قوى الطبيعة الغا�شمة واملبهمة متام ًا‬
‫على تف�سرياتهما البدائية والقا�رصة‪.‬‬
‫تتبدى ال�صورة كما يلي‪ :‬معتقل‪ /‬معتقلة �أعزل متام ًا �إال من‬
‫ذاكرة �أ�ضحت وبا ًال عليه‪ ،‬ذاكرة هي املربر الوحيد لكل هذا‬
‫اجلحيم امللقى فيه‪.‬‬
‫معتقل‪ /‬معتقلة �أعزل يف وجه التعذيب والقهر واخلوف‬
‫الطبيعي والغريزي من املوت‪..‬‬
‫�إذاً عمل التعذيب هنا على الغريزة‪ ..‬غريزة البقاء‬
‫فح�سب‪.‬‬
‫رمبا كان ذاك ال�ضابط الو�سيم يعبث بتلك الغريزة �أي�ض ًا‬
‫وقت غادر مكتبه‪ ،‬بعيونه اخل�رضاء وقامته ال�سامقة‪ ،‬لي�رضب‬
‫فتاة ملقاة على �أر�ض غرفته بالكرباج‪.‬‬
‫�رضبها و�رضبها حتى بد�أ باللهاث والت�صبب عرق ًا‪ ،‬حينئذ‬
‫النني‬ ‫رمى الكرباج من يده‪ ،‬تركها تئن ب�آخر طاقتها على أ‬
‫ليعود �إىل مكتبه هادئ ًا ك أ�ن �شيئ ًا مل يكن‪.‬‬
‫الظافر‪ ،‬ك أ��س‬ ‫على مكتبه كانت ت�صطف‪ :‬علبة تقليم أ‬

‫‪33‬‬
‫الوي�سكي والثلج بد�أ بالذوبان فيه‪ ،‬وزجاجة العطر‪.‬‬
‫يرت�شف ر�شفة من الك أ��س‪ ،‬مي�ضم�ض بها وهو يبت�سم �ساخراً‬
‫يبخ من‬ ‫رامق ًا الفتاة بغواية‪ ،‬ثم يزدرد الطعم الالذع واملمتع‪ّ ،‬‬
‫زجاجة العطر ويتن�سم رائحتها تزكم �أنف ال�صبية املرمية �أر�ض ًا‬
‫على الرغم من �أن رائحة الدم والقيح تفغم الفراغ املحيط‪.‬‬
‫�أخرياً يخرج ال�ضابط بهدوء �سيجارة من باكيت املارلبورو‪،‬‬
‫يدفعها من بعيد‪ ،‬من خلف مكتبه‪ ،‬مومئ ًا لل�صبية التي راحت‬
‫تراه غائم ًا من خلف حجب تن�سدل على عينيها �شيئ ًا ف�شيئ ًا‪..‬‬
‫ت�رشبني �سيجارة؟!!‪.‬‬
‫بالن�سبة �إىل �سناء‪.‬ح(‪ )16‬كان الدوالب �أول �شيء ينتظرها يف‬
‫المن‪ 1‬قبل التحقيق‪ ،‬وقبل �أن تُ�س أ�ل �أي �س ؤ�ال!‬ ‫فرع أ‬
‫رمبا ألنها من �أوائل املعتقالت يف حملة االعتقاالت الوا�سعة‬
‫يف ‪ ،1987‬حملة عملت ذات �صباح على اعتقالها يف �أحد‬
‫المن‬ ‫�أحياء العا�صمة ونقلها م�سحوبة من �شعرها �إىل �سيارات أ‬
‫ومن ثم �إىل مقر الفرع‪.‬‬
‫ال رمبا ا�ستفزهم‪ ،‬مل ين�سوه البتة و�أرادوا‬ ‫كان ثمة �أمر حدث قب ً‬
‫المن‬ ‫االنتقام‪ .‬كانت �سناء قد ا�ستطاعت الهرب من عنا�رص أ‬
‫قبل �سنة‪� ،‬أي يف حملة اعتقاالت ‪( 1986‬حملة اعتقاالت‬

‫(‪� )16‬سناء‪ .‬ح‪ :‬معتقلة �سيا�سية �شيوعية مواليد ‪ 1958‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى �سنة ‪. 1991‬‬

‫‪34‬‬
‫اللجان ال�شعبية)‪ ،‬حني دوهم بيت جميل‪.‬ح(‪ )17‬و�ألقي القب�ض‬
‫على جمموعة من ال�شباب املجتمعني فيه‪ ،‬فيما هربت �سناء مدعية‬
‫�أنها ابنة للجريان‪.‬‬
‫الول‪� :‬أم�سكني ال�ضابط من �شعري‪ ،‬وطفق‬ ‫اال�ستقبال أ‬
‫ي�رضب ر�أ�سي باجلدران بهي�ستريية‪.‬‬
‫كنت �أتطوح بني يديه كدمية قما�شية‪ ،‬اجلدران ال�صلدة‬
‫تتلقى ه�شا�شة ر�أ�سي قا�سية كما هي دوم ًا‪.‬‬
‫ح�س ب أ�ن دماغي �سيتطاير �إثر كل �رضبة‪.‬‬‫�أ ّ‬
‫ي�ضيع ر�أ�سي على ال�ضابط متعة التعذيب �ألقاين �أر�ض ًا‪،‬‬ ‫قبل �أن ّ‬
‫ليجعل ال�ساعات املبهمة القادمة تنق�ضي و�صدمات الكهرباء‬
‫ح�س ج�سدي بكليته يرتفع‬ ‫املتتالية على يدي ورجلي جتعلني �أ ّ‬
‫الر�ض فج أ�ة‪ ،‬وروحي ت�صعد معه وتهبط �آنة‬ ‫ثم يخبط على أ‬
‫على ق�ساوة البالط‪.‬‬
‫نهاية اقرتب مدير ال�سجن‪ ،‬الذي �أ�رشف على تعذيبي‬
‫بت�شف على �ساقي امل�شلولتني متام ًا‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫بنف�سه‪ ،‬وراح يتم�شى‬
‫رحت �أ�رصخ مبا تبقى يل من قوة على ال�رصاخ وهو يفرك‬
‫حذاءه على ركبتي ك أ�نه ميع�س �رص�صوراً‪� ،‬أو ك أ�نه يحاول هر�س‬
‫العظام القابعة حتت اجللد‪.‬‬
‫كنت �أح�س ب أ�ن العظام تنهر�س حق ًا‪.‬‬
‫‪ -‬عاهرة ‪ ..‬حقرية‪..‬‬
‫(‪ )17‬قا�ص �شيوعي معروف اعتقل من �سنة ‪� 1978‬إىل �سنة ‪1980‬وحني �أطلق‬
‫�رساحه هاجر �إىل فرن�سا وظل فيها حتى تويف هناك‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫�صاح يف �أذين‪.‬‬
‫لكني مل �أ�ستطع ال�سكوت حينها وهو يرمي ب�سيل ال�شتائم‪،‬‬
‫وحني رحت �أر ّد عليها ب�شتائم مماثلة �أقحم حذائه يف فمي وهو‬
‫بالقذع‪ ،‬ويعاود التعذيب ب�شكل �أ�شد‪.‬‬ ‫يعاود �شتمي أ‬
‫مرت �شهور طويلة ومل ينته تعذيب �سناء‪.‬‬
‫كلما �أتت دفعة من املعتقلني �أو املعتقالت اجلدد يعاودون‬
‫التحقيق معها‪ ،‬ا�ستجوابها من جديد‪ ،‬ومن ثم تعذيبها‪..‬‬
‫تعذيب‪ ..‬تعذيب‪..‬‬
‫اليام املتطاولة تلك جعلت طبيب الفرع ي�ضطر �إىل �إعطائها‬ ‫أ‬
‫تكف‬
‫ّ‬ ‫علبة مهدئ كي ت�ستطيع النوم‪ ،‬وعلبة ليرباك�س كي‬
‫معدتها‪ ،‬امللتهبة ب�شدة‪ ،‬عن �إقياء وت�شنج �أ�ضحى ال يحتمل‪.‬‬
‫يف اليوم الرابع لالعتقال ا�ستيقظت �سناء‪.‬ح �صباح ًا‪ ،‬كان‬
‫ج�سدها منهك ًا منهك ًا ّ‬
‫حد التال�شي‪.‬‬
‫الزنزانة خالية �إال من رائحة عفونة‪� ،‬أ�صوات ال�سجانة‬
‫ال�صباحية‪ ،‬بطانية ع�سكرية‪ ،‬وعلبة بال�ستيكية مدورة كانت‬
‫فيما م�ضى علبة للحالوة‪.‬‬
‫تدر �سناء َمل قامت‬ ‫جاء موعد �إخراجها �إىل التواليتات‪ .‬مل ِ‬
‫مبلء علبة احلالوة حتى حافتها باملاء! عادت �إىل الزنزانة ب أ�ناة‬
‫وهي حتاول �أال ت�سكب �أية قطرة منها على �أر�ض الكوريدور‪.‬‬
‫الن �إىل التعذيب‬ ‫�إىل املنفردة قفلت وهي تفكر �أنها �ست�ساق آ‬
‫كما كل أ‬
‫اليام ال�سابقة‪ .‬التعذيب �صباح ًا وم�سا ًء‪..‬‬

‫‪36‬‬
‫يريدونني �أن �أ�س ّلم �أكرم‪.‬ب(‪ ..)18‬من �أين �أعرف �أين هو‬
‫�أكرم؟!!!‬
‫هم�ست �سناء �إىل نف�سها‪.‬‬
‫�أح�ست ب أ�نها متعبة للغاية‪ ،‬ب أ�نها ال متتلك �أية طاقة على‬
‫التحمل وهي يف بئر عميق عميق وداكن على �شكل منفردة‪،‬‬
‫وب أ�ن ال نهاية لكل ذلك‪ ..‬ال نهاية‪.‬‬
‫فقدت الرغبة يف مراقبة االنعكا�سات على بقعة املاء التي‬
‫د�أبت على �سكبها وراء باب منفردتها رقم ‪ .10‬تلك البقعة‬
‫كانت كمر�آة تعك�س �صورة القادم من الكوريدور املواجه‬
‫الر�ض‪.‬‬ ‫وذلك عرب الفراغ املت�شكل �أ�سفل الباب املرتفع عن أ‬
‫�سناء كانت �أول من يلمح �أي قادم جديد �أو نزيل للمنفردات‬
‫من مر�آتها املائية العاك�سة‪ ،‬لتهم�س �إىل املنفردات املجاورة‬
‫باحلدث الطارئ‪.‬‬
‫لكن �سطوة علبة املهدئ وعلبة الليرباك�س‪ ،‬املو�ضوعتني �إىل‬
‫جانب البطانية‪ ،‬كانت هي ال�سيدة حلظتئذ‪.‬‬
‫�سطوة تناديها لالن�صياع‪.‬‬
‫�أ�صوات التعذيب تتناهى �إليها من غرف التحقيق يف الطابق‬
‫العلوي‪.‬‬
‫كم�سيرّ ة‪ّ ،‬قي�ض لها ذلك‪� ،‬أفرغت �سناء حبوب الدواء كلها‬
‫(‪� )18‬أكرم‪ .‬ب‪� :‬أحد املعتقلني ال�شيوعيني‪ .‬كان ع�ضواً يف املكتب ال�سيا�سي‬
‫الوىل من �سنة ‪ 1978‬وحتى‬ ‫للحزب وهو من مواليد ‪ 1956‬اعتقل يف املرة أ‬
‫‪ 1980‬ويف املرة الثانية يف �أب ‪ 1987‬و�أطلق �رساحه يف عام ‪.2001‬‬

‫‪37‬‬
‫يف فمها‪� ،‬رشبت بعدها كل املاء املوجود يف علبة احلالوة‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫بداية �أح�س�ست باخلدر يت�سلل �إىل ج�سدي‪.‬‬
‫كان باب املنفردة يفتح‪� ،‬شبح ال�سجان يقف بالباب ويريد‬
‫�أن ي أ�خذين �إىل التحقيق‪ .‬ال�صورة راحت تغيم �أمامي‪:‬‬
‫‪ -‬يريدونك فوق‪.‬‬
‫ح�س ب�سحنتي الغريبة وعيني‬ ‫هم�س ال�سجان‪ .‬رمبا �أ ّ‬
‫الغائمتني‪ .‬مل �أ�ستطع القيام‪� ،‬أجبته واهنة وب�صوت مبحوح‪:‬‬
‫الن �س أ�رتاح‪.‬‬ ‫‪� -‬رشبت كل احلبوب‪ ..‬آ‬
‫كنت �أ�شعر ب أ�ين �س أ�رتاح حق ًا‪.‬‬
‫انقطعت �أنفا�س ال�سجان قبل �أن ي�سابق َنف َْ�سه مهرو ًال �إىل‬
‫العلى‪ .‬كان ي�صيح ب أ�ن �سناء انتحرت‪� ،‬أ�سمع �صدى �صوته‬ ‫أ‬
‫يل وهو يرتدد يف أ‬
‫القبية‪.‬‬ ‫يتناهى �إ ّ‬
‫مل متر دقائق حتى كان مدير ال�سجن بباب املنفردة‪ ،‬ملحته‬
‫ك�شبح قبل �أن �أغيب عن الوعي متام ًا‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫ممدة على �رسير م�ست�شفى!‬ ‫حني ا�ستيقظت �سناء‪.‬ح كانت ّ‬
‫وثمة دكتور قبالتها ي�صيح ب أ�مل مغطي ًا عينيه بيديه‪:‬‬
‫‪ -‬ه ؤ�الء يهود‪ ..‬ما الذي فعلوه بج�سدك؟! جمرمني‬
‫�سفاحني‪.‬‬
‫الكدمات الزرقاء القامتة منت�رشة على ج�سد �سناء‪ ،‬متل ؤ�ه‬

‫‪38‬‬
‫كله‪ ،‬ذراعاها و�ساقاها متف�سختان‪ ،‬اجلروح عليها متقيحة‪،‬‬
‫ووجهها متورم حتى ال تكاد عيناها تظهران فيه‪.‬‬
‫يف ذلك اليوم‪ ،‬بعد غ�سل معدتها‪� ،‬أعيدت �سناء م�سا ًء �إىل‬
‫املنفردة‪ ..‬ومل يقم �أحد بتعذيبها!‬
‫مطم�شة �إىل غرفة التحقيق‪.‬‬ ‫يف �صباح اليوم الثاين �أخذوين ّ‬
‫و�صلوا �أ�رشطة الكهرباء �إىل معظم مناطق ج�سدي‪� :‬إىل‬
‫وذراعي‪ ،‬ثم �إىل بطني ليبد�أ‬‫ّ‬ ‫ر�سغي‬
‫ّ‬ ‫وذراعي‪� ،‬إىل‬
‫ّ‬ ‫مع�صمي‬
‫ّ‬
‫أ‬
‫التعذيب‪ .‬لده�شتي‪ ،‬بعد �قل من خم�س دقائق‪� ،‬سمعت �صوت‬
‫و�شو�شات وهم�سات يف الغرفة ثم فج أ�ة توقف التعذيب‪،‬‬
‫وخرج اجلميع‪.‬‬
‫على الرغم من الطمي�شة‪ ،‬تغطي عيني بالكامل‪� ،‬إال �أين‬
‫خيم على‬ ‫�أح�س�ست بعدم وجود �أحد حويل‪ .‬كان ال�صمت قد ّ‬
‫املكان!‬
‫ما يف حدا هون؟!!‬
‫�صحت‪ .‬لكن �أحداً مل يجب!‬
‫الطمي�شة بحفّها به‪،‬‬ ‫زحفت �إىل احلائط‪ ،‬حاولت �أن �أنزع ّ‬
‫خد�ش �سطحه اخل�شن خدي ووجنتي‪ ،‬لكني �أخرياً جنحت يف‬
‫نزعها‪.‬‬
‫كانت الغرفة فارغة متام ًا!‬
‫المن وهم‬ ‫من اخلارج ا�ستطعت �أن �أ�سمع �ضجة عنا�رص أ‬
‫وتعرفت على �صوت �أكرم‪.‬ب‪.‬‬ ‫ميرون يف الكوريدور‪ّ ،‬‬

‫‪39‬‬
‫�إذاً لقد �ألقوا القب�ض عليه‪.‬‬
‫بعد �أكرث من ربع �ساعة‪ ،‬و�أنا من�سية يف الغرفة‪ ،‬رحت‬
‫�أ�رضب على احلائط بكلتا يدي‪� ،‬أ�صيح‪� ،‬أزعق‪ ،‬حتى �أتى عن�رص‬
‫الطمي�شة للمرة أ‬
‫الوىل‪.‬‬ ‫و�أنزلني �إىل املنفردة بدون ّ‬
‫ألول مرة �أرى املمرات‪ ،‬الكوريدورات‪ ،‬ومتاهات الفرع‬
‫و�أنا �أعود �إىل منفردتي‪.‬‬
‫�أح�س أ‬
‫بالمر ككابو�س‪.‬‬
‫مل �أعرف كيف �أتى �أول الليل وعادوا ال�ستدعائي جمدداً‪.‬‬
‫مدير ال�سجن وجمموعة من ال�ضباط جمتمعني يف غرفة‪ .‬من‬
‫حتت الطمي�شة ا�ستطعت �أن �أملح وجيه‪.‬غ (زوربا)(‪ )19‬ملقى‬
‫على وجهه يئن‪ ،‬ج�سده مثخن باجلروح املفتوحة‪ ،‬الدماء‬
‫الر�ض يف بقعة كبرية تنت�رش حوله‪.‬‬ ‫تغطيه‪ ،‬وتن�سكب منه �إىل أ‬
‫الخري‪..‬‬ ‫كان يبدو يف النزع أ‬
‫المل ي�سكن �أناته لن‬ ‫لن �أن�سى هيئة زوربا ما حييت‪ .‬ذاك أ‬
‫يغيب �أبداً عن ذاكرتي‪ ..‬لن يغيب‪.‬‬
‫غ�صت �أي�ض ًا‬‫املنفردات املقابلة واملجاورة ملنفردة �سناء ّ‬
‫بالكثري من املعتقالت ال�سيا�سيات‪.‬‬
‫�إحداها كانت منفردة رقم ‪ ،9‬حيث كانت لينا‪.‬و‬

‫(‪ )19‬وجيه‪ .‬غ ‪ :‬من املعتقلني ال�شيوعيني‪ ،‬كان ع�ضواً يف املكتب ال�سيا�سي‬
‫حلزبه املعار�ض‪ ،‬اعتقل ملدة ‪� 15‬سنة ابتداء من �سنة ‪1987‬وحتى ‪ 2001‬وهو‬
‫من مواليد ‪.1948‬‬

‫‪40‬‬
‫و�أنطوانيت‪.‬ل(‪ )20‬حم�شورتني يف منفردة ت�ضيق مبعتقلة واحدة‪.‬‬
‫لطاملا تهام�ستا يف نهاية الليل مع املنفردة املقابلة رقم ‪،10‬‬
‫منفردة �سناء‪.‬‬
‫القدام وال�شحاحيط‪.‬‬ ‫‪�-‬أتعرفني‪ ..‬عامل املنفردات هو عامل أ‬
‫هم�ست لينا لرفيقتها وهي جاثية كالعادة على ركبتيها‪،‬‬
‫ت�سرتق النظر من حتت باب املنفردة احلديدي‪.‬‬
‫مير‪ ،‬ولينا تق�ضيه منبطحة تراقب‪ ،‬من خالل‬ ‫الوقت ّ‬
‫ال�سنتيمرتات القليلة الفا�صلة بني الباب أ‬
‫والر�ض‪� ،‬أقدام املارة‬
‫يف كوريدور الفرع‪� ،‬أقدام ال�سجانة واملعتقلني ع ّلها تلتقط‬
‫هوية �أحدهم‪.‬‬
‫�ضمت لينا و�أنطوانيت ألكرث من ‪ 33‬يوم ًا‪،‬‬ ‫املنفردة تلك ّ‬
‫الخرى‪.‬‬ ‫نامتا فيها (عقب ور�أ�س)‪ ،‬كل منهما حتت�ضن �أقدام أ‬
‫على الرغم من ذلك كان الو�ضع يف املنفردة �أكرث ر�أفة من‬
‫الر�ضي‪،‬‬ ‫ال‪ ،‬وملدة ‪ 12‬يوم ًا‪ ،‬يف غرفة يف الطابق أ‬
‫وجود لينا قب ً‬
‫طابق التعذيب والتحقيق‪.‬‬
‫هناك كانت ت�شعر �أنها يف م�سلخ حقيقي‪:‬‬
‫�أ�صوات التعذيب من حولها ترتفع ليل نهار‪ ،‬ال�رصاخ‬
‫والنني ورائحة �صديد حتا�رص روحها وهي تق�ضي الوقت‬ ‫أ‬
‫م�ستيقظة حتاول‪ ،‬كمازوخية‪ ،‬معرفة ال�شباب والبنات من‬
‫�أ�صواتهم‪ ،‬فيما تتواىل جل�سات التعذيب على الدوالب‬
‫(‪� )20‬أنطوانيت‪ .‬ل ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1967‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى �سنة ‪.1990‬‬

‫‪41‬‬
‫والكهرباء والكر�سي و‪ ...‬تتواىل وتتواىل‪.‬‬
‫يف ليلة من تلك الليايل �سمعت لينا �أحد ال�سجانة‪� ،‬أثناء‬
‫نوبة حرا�سته الليلة‪ ،‬يغني بل�سان �أحد امل�سجونني �أغنية �سميح‬
‫�شقري‪:‬‬
‫هي يا �سجانة!! هي يا عتم الزنزانة‪...‬‬
‫كان �صوته يتهدج وهو يئن‪:‬‬
‫لو ما �أمي تركتا بعيد‪..‬‬
‫ولو ما ا�شتقت ل�ضيعتنا‪..‬‬
‫ثم �صمت‪.‬‬
‫حت�س لينا ب أ�ن لل�سجان م�شاعر تختنق بروائح‬ ‫ألول مرة ّ‬
‫المل و�رصاخ التعذيب‪ ،‬و�أن‬ ‫الفرع‪� ،‬أذنني تتهالكان من �أنات أ‬
‫له �أحبة يحتاج �إىل قلبه ليحبهم‪.‬‬
‫ألول مرة تكت�شف لينا �أن لل�سجان قلب ًا‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫ذات يوم‪ ،‬يف وقت ما بني وجبة ال�صباح والظهر‪ ،‬دفع �أحد‬
‫العنا�رص الباب بغتة بحركة منت�رصة‪ .‬كانوا ثالثة‪ ،‬عيونهم تن�ضح‬
‫ب�زشرات ال�شماتة ونظرات الفرح‪.‬‬
‫اعتقلوا �أحد رفاقنا‪.‬‬
‫فكرت‪.‬‬
‫ُ‬
‫رمبا خطرت الفكرة ذاتها لرفيقتي �أنطوانيت‪ .‬لكنهم مل‬
‫�شدوين �إىل‬
‫طم�شوين‪ّ ،‬‬‫ينب�سوا بحرف‪� ،‬أخذوين فح�سب معهم‪ّ ،‬‬

‫‪42‬‬
‫فوق‪ ،‬وراحوا يجرجرونني على ال�سلم باجتاه غرف التحقيق‪.‬‬
‫كان ج�سدي يرتطم بكل درجة من الدرجات احلجرية‬
‫التي بدت يل �أنها لن تنتهي‪.‬‬
‫هناك‪ ،‬يف غرفة التحقيق الكبرية‪ ،‬نزعوا الطمي�شة عن‬
‫عيني‪.‬‬
‫كان �أكرث من خم�سة ع�رش �ضابط ًا متحلقني حول رجل جاث‬
‫على ركبتيه يف الو�سط‪ .‬رحت اقرتب من احللقة ودف�شاتهم يف‬
‫تقربني �أكرث‪.‬‬
‫ظهري ّ‬
‫الج�ساد تبتعد عن الو�سط‪ ،‬و�أنا �أتبني ال�صورة �أو�ضح‬ ‫أ‬
‫ف أ�و�ضح‪:‬‬
‫مدمى‪..‬‬
‫الرجل ّ‬
‫يداه مربوطتان �إىل الوراء‬
‫النهاك ال�شديد من التعذيب عليه‪..‬‬ ‫يت�ضح إ‬
‫�أ�ضحيت‪ ،‬وبدف�شة واحدة يف ظهري‪ ،‬وجه ًا لوجه معه‪..‬‬
‫كان عدنان‪ .‬م(‪ ..)21‬زوجي‪.‬‬
‫مل �أجد نف�سي �إال و�أنا منهارة على ركبتي �أمامه‪ ،‬زحفت‬
‫مدمى من املفرت�ض �أن يكون زوجي‪،‬‬ ‫ً‬ ‫�ضم رج ً‬
‫ال‬ ‫�ضمه‪ ،‬أل ّ‬
‫أل ّ‬
‫�شدوين بعيداً فيما كان عدنان ي�صيح‪:‬‬ ‫لكن العنا�رص ّ‬
‫‪ -‬ال تخايف لينا‪ ..‬ما بيخوفو‪ ..‬ال تخايف‪.‬‬
‫لبطوه على عينه‪.‬‬
‫(‪ )21‬عدنان‪ .‬م‪ :‬معتقل �سيا�سي �شيوعي اعتقل ملدة ‪� 15‬سنة من �سنة ‪1986‬‬
‫وحتى �سنة ‪ 2001‬وقد تنقل فيها بني عدة �سجون‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫�رصت �أ�سمع �صوت �رصاخه وركالتهم على ج�سده وهم‬
‫�صم مبنى‬ ‫ي�شدونني خارج ًا على الرغم من �رصاخي الذي ّ‬
‫الفرع برمته‪.‬‬
‫يف املنفردة كان و�ضع لينا �شبيه ًا بو�صف كولن ول�سن‬
‫أل�سلوب النازية أ‬
‫الملانية‪ ،‬فر�ض نظام �أ�سموه‪ :‬مل يعد �إن�سان ًا‪.‬‬
‫الن�سان نف�سه‪ ،‬بالتعذيب والقهر املتوا�صل‪� ،‬إال‬ ‫ال يجد إ‬
‫وهو يرتاجع عن �إن�سانيته حتى حيوانيته‪.‬‬
‫ال�سفل‪� ،‬أن ي ّتبعا ما‬ ‫العلى‪ ،‬ولينا يف أ‬ ‫كان على عدنان يف أ‬
‫�سبق و�أ�سميته غريزة البقاء‪� ،‬أي �أن يفكرا بالبقاء فح�سب‪ .‬دون‬
‫�أية تبعات �إن�سانية جانبية وثانوية يف ذلك الوقت‪.‬‬
‫كان عليهما �أن يجاهدا للعي�ش‪.‬‬
‫تركوها طيلة الليل لت�سمع �أ�صوات تعذيبه التي ت�صلها‬
‫بو�ضوح �شديد‪ ،‬جتلدها‪ ،‬تلذعها‪ ،‬تطبق اخلناق على �صدرها‪،‬‬
‫الخري‪.‬‬‫وحتاول �أن تنتزع نف�سها أ‬
‫طيلة الليل بقيت لينا متقوقعة على نف�سها يف الزنزانة بال‬
‫حراك‪.‬‬
‫بعد �أيام قليلة نقلت و�أنطوانيت �إىل املهجع رقم ‪ 6‬دون‬
‫حل بعدنان‪ ،‬ومن ثم نقلتا من جديد �إىل‬ ‫�أن تعرفا ماذا ّ‬
‫املزدوجات(‪.)22‬‬
‫(‪ )22‬املزدوجات عبارة عن �أربع زنازين �صغرية (‪ )1.80*1.60‬لها �سقيفة‬
‫واحدة‪ .‬تتقابل كل زنزانتني منهما‪ ،‬وبينهما الكوريدور واحلمام وحمرك‬
‫ال�سجان والباب اخلارجي املو�صد يطل على كوريدور ال�سجن‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫هناك كان ينتظرهما‪ ،‬كما كل املعتقالت‪ ،‬ما مل يتوقعنه‪.‬‬

‫التعذيب قد ي ؤ�دي �أي�ضاً �إىل اجلنون‪..‬‬


‫المن‪.1‬‬ ‫فكرة �أ�ضحت ثابتة يف ذهن معتقالت فرع أ‬
‫الفراج‬‫كيف �سي�ستطعن جميعهن‪ ،‬حتى بعد �سنوات من إ‬
‫عنهن‪ ،‬حمو جمد‪�.‬أ(‪ )23‬من الذاكرة؟!‬
‫كانت جمد فتاة طويلة ممتلئة اعتقلت بعد �أن مت اعتقال معظم‬
‫الفتيات من حزبها ال�شيوعي‪� .‬إال �أن �شيئ ًا وحيداً ظ ّلت جمد‪�.‬أ‬
‫تتذكره هو التعذيب‪ ،‬التعذيب بالكهرباء فح�سب!‬
‫الوىل ظ ّلت �ساهية‪ ،‬الهية عما حولها‪ ،‬متوحدة‬ ‫يف الفرتة أ‬
‫مع نف�سها والورق الذي كان ي أ�تي �إما تهريب ًا من بع�ض ال�سجانة‬
‫ال�سمر يلفّون به باكيتات الدخان‪.‬‬ ‫املتعاطفني �أو من الورق أ‬
‫(‪ )23‬جمد‪� .‬أ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1966‬اعتقلت يف �سنة ‪ 1989‬وكانت‬
‫يف ال�سنة الثالثة من درا�ستها اجلامعية‪ .‬واعتقلت �أختها على �إثرها (ميادة) وهي‬
‫يف ال�صف الثاين الثانوي‪ ،‬لتبقى �أ�شهر يف ال�سجن‪ ،‬ثم يطلق �رساحها‪ .‬بعد‬
‫االعتقال بثالثة �أ�شهر تلقت جمد �رضبة من قبل �أحد املحققني على ر�أ�سها‪،‬‬
‫�أدت �إىل حدوث كدمة دموية بالر�أ�س �سببت لها م�شاكل ع�صبية ونوبات �رصع‬
‫�شديدة يف الفرع‪� .‬صارت ت ؤ�خذ �إىل امل�شفى كل فرتة وتعود �إىل ال�سجن‪ .‬ثم‬
‫جلبوا �أمها لتجل�س معها مدة �شهر كامل �سجينة يف امل�ست�شفى‪ ،‬ألن و�ضع جمد‬
‫�أ�ضحى �صعب ًا للغاية‪� .‬أطلق �رساحها بعد �سنة و�شهرين من االعتقال وذلك �سنة‬
‫‪ .1990‬بقيت تتعالج من �سنة ‪ 1990‬وحتى �سنة ‪ ،1995‬ثم ا�ستطاعت‬
‫احل�صول على جواز �سفر على �أ�سا�س اخلروج �إىل بلد جماور ال�ستكمال العالج‪.‬‬
‫وهناك ا�ستطاعت �أن حتوز على اللجوء ال�سيا�سي يف �أوكرانيا‪ ،‬وهناك ح�صلت‬
‫على اللجوء ال�سيا�سي يف �أمريكا‪ .‬تعي�ش جمد‪� .‬أ آ‬
‫الن كالجئة �سيا�سية يف مدينة‬
‫المريكية‪.‬‬‫هيو�سنت أ‬

‫‪45‬‬
‫جمد والورق وقلم الر�صا�ص ‪.‬‬
‫ك أ�نها كانت تكتب النا�س‪ ،‬ت�ستعي�ض بالكتابة عن عالقتها‬
‫باملعتقالت يف الزنزانة‪ ،‬عن عالقتها بالعامل اخلارجي البعيد‪.‬‬
‫منكبة على الورق‬ ‫ّ‬ ‫قد متر �ساعات طويلة متوا�صلة وجمد‬
‫تكتب!‬
‫فج أ�ة بد�أت حاالت الهي�سترييا ت أ�تيها متباعدة‪ :‬نوبات طويلة‬
‫من ال�رصاخ املبهم والت�شنجات العنيفة يف يديها ورجليها‪.‬‬
‫النوبة قد متتد �أحيان ًا �أربع �ساعات �أو �أكرث يف مكان �ضيق‬
‫الج�ساد املتململة‪.‬‬‫كالزنازين حم�شور بع�رشات أ‬
‫يبح �صوتها‪ ،‬ومن ثم تهمد متام ًا‪..‬‬ ‫�ساعات من العواء حتى ّ‬
‫ح�س �أو‬
‫لتمتد �ساعات �أخرى من املوات‪ ،‬موات حقيقي بال ّ‬
‫حركة!‬
‫ثم ت�صحو‪ ..‬وتعود �إىل الكتابة‪.‬‬
‫تلك احلالة‪ ،‬حالة جمد امل ؤ�ملة‪ ،‬قد تعيد �إىل الذاكرة ما‬
‫كتبته فيلي�سيا الجنر يوم ًا‪ ،‬وهي �صاحبة الكتاب ال�شهري‪ :‬ب أ�م‬
‫عيني(‪.)24‬‬
‫كان هناك الكثري من حاالت التعذيب للمعتقلني الفل�سطينيني‬
‫ال�رسائيلية‪ .‬قاد التعذيب الكثري منهم �إىل املوت �أو‬‫يف ال�سجون إ‬
‫المثلة كان ا�سم �سامل جاد عيد‬ ‫اجلنون �أو العاهات الدائمة‪ .‬من أ‬
‫يلوح دوم ًا‪� :‬أ�صيب باجلنون ب�سبب التعذيب‪ ،‬وظل �سنوات‬
‫(‪ )24‬فيلي�سيا الجنر‪ ،‬ب أ�م عيني‪ ،‬م ؤ��س�سة أ‬
‫الر�ض للدرا�سات الفل�سطينية‪ ،‬العا�صمة‬
‫‪.1974‬‬

‫‪46‬‬
‫المرا�ض العقلية‪ .‬وقا�سم �أبو عكر تويف‬ ‫طويلة يف م�ست�شفى أ‬
‫ب�سبب التعذيب �أي�ض ًا‪ ..‬وحاالت كثرية �أخرى‪.‬‬
‫لكن التوتر انتقل ب�سبب حالة جمد‪�.‬أ �إىل كل الفتيات يف‬
‫املزدوجات‪ .‬احلالة تتطور من �سيء �إىل �أ�سو�أ‪ ،‬خا�صة حينما‬
‫�أخذت جمد‪ ،‬بعد طول مطالبات‪� ،‬إىل امل�ست�شفى للعالج حيث‬
‫كانت ال�صدمات الكهربائية هي العالج الوحيد!‬
‫�أعطيت ال�صدمات العالجية ملجد بطريقة التعذيب نف�سها!‬
‫تدهورت حالتها �أكرث ف أ�كرث‪ ،‬وهذه املرة فقدت النطق والقدرة‬
‫على امل�شي‪ .‬ثم �أعيدت �إىل املزدوجات نحيلة ب�شكل فظيع‪،‬‬
‫لكنها‪ ،‬هذه املرة‪ ،‬بكماء وتزحف‪.‬‬
‫المر �أ�شد �سوءاً مما �سبق‪ ،‬وجمد ت�شحط ج�سدها كل‬ ‫بدا أ‬
‫�صباح �إىل احلمام حماولة تهدئة نف�سها‪ ،‬تفتح الدو�ش البارد‬
‫عليها‪ ،‬وت�شهق متكومة كقطة حتت وابل املاء املثلج‪.‬‬
‫ثم بد�أت حماوالتها البتالع ل�سانها! خ�صو�ص ًا يف حلظات‬
‫الهي�سترييا‪ .‬لذا كان على ال�صبايا القريبات منها‪ ،‬اللواتي يعتنني‬
‫بها ب�شكل مبا�رش‪� :‬سونا‪�.‬س(‪ )25‬وحميدة‪.‬ت و�أنطوانيت‪.‬ل‪،‬‬
‫د�س �أ�صابعهن يف فمها‪� ،‬أو و�ضع‬‫�أن يد�أبن‪ ،‬كعادة يومية‪ ،‬على ّ‬
‫ملعقة فيه ليمنعنها من ابتالع ل�سانها بالفعل يف �إحدى حاالت‬
‫هيجانها‪.‬‬
‫�أحيان ًا كان ال�سجان �أحمد يعمل على مداعبة الفتيات يف‬
‫(‪� )25‬سونا‪� .‬س‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1963‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى �سنة ‪ 1990‬يف فرع أ‬
‫المن‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫املزدوجات مبزحاته الثقيلة‪ :‬يطفئ اللمبة ال�شاحبة يف �أعلى‬
‫ال�سقيفة املط ّلة على املزدوجات ب�شبك حديدي مما ي�شيع عتمة‬
‫طاغية مرهبة‪� ،‬إذا و�ضعت �إحداهن �إ�صبعها �أمام عينها لن‬
‫ت�ستطيع ر ؤ�يتها‪ ،‬ثم يعود لي�شعل ال�ضوء من جديد‪ ،‬ومن ثم‬
‫يطفئه‪ ،‬في�شعله‪ ...‬وهكذا‪.‬‬
‫ت�ضج يف الكوريدور!‬
‫ال�ضوء يوم�ض وقهقاته ّ‬
‫تنتهي املزحة بنوبة هي�سترييا �شديدة جتتاح جمد‪ ،‬وحالة‬
‫�شقيقة جمنونة مت�سك بر�أ�س لينا‪.‬و‪.‬‬
‫مع الزمن‪ ،‬حتت ت أ�ثري احلالة‪ ،‬راحت �أنطوانيت‪.‬ل‪ ،‬وكانت‬
‫على متا�س دائم مع جمد‪ ،‬تعاين من نوبات اختناق �شديدة‬
‫مت�سك برقبتها ومتنعها من التنف�س‪ ،‬ي�ضطر ال�سجانة على �إثرها‬
‫�إىل �إخراجها ملدة ما خارج الزنازين كي تعاود قدرتها على‬
‫التنف�س‪.‬‬
‫طفقت الت�شنجات تغزو يدي �سونا‪�.‬س ب�سبب مالزمتها‬
‫الدائمة �أي�ض ًا ملجد‪ .‬تلك الت�شنجات امتلكت فكيها �أي�ض ًا‪،‬‬
‫وحالة الكزاز املزمن راحت متنعها من الكالم بطالقة‪ ،‬و�أحيان ًا‬
‫متنعها متام ًا من الكالم‪.‬‬
‫بح‬ ‫تخربت فيه حبالها ال�صوتية وجعلت �صوتها �أ ّ‬‫لي أ�تي يوم ّ‬
‫حتى اليوم‪.‬‬
‫الوحيدة التي �صمدت كانت حميدة‪.‬ت و�إىل وقت‬
‫المر ب إ�طالق �رساح جمد‪�.‬أ للعالج يف‬ ‫لي�س بطويل فقد جاء أ‬

‫‪48‬‬
‫اخلارج‪.‬‬
‫بداً من بعث‬ ‫مل جتد املعتقالت‪ ،‬وطيلة فرتة مر�ض جمد‪ّ ،‬‬
‫ر�سائل ا�ستغاثة �إىل اخلارج كي يعرفن ما الذي ميكن �أن يعملنه‪.‬‬
‫ر�سائل كتبنها على ورق �سجائر احلمراء(‪ ،)26‬ثم ا�ستطاعت‬
‫المن‪ ،1‬وذلك �أثناء‬ ‫املعتقالت �إخراجها بالتهريب من فرع أ‬
‫�إحدى الزيارات النادرة إلحداهن‪.‬‬
‫كان ذلك يف �أوا�سط �سنة ‪:1990‬‬
‫(بد�أت حالة جمد يف املنفردة بعد االعتقال والتعذيب على‬
‫�شكل نوبة واحدة تاريخ ‪� 89/12/9‬رصاخ �شديد وبكاء �سبقها‬
‫�أمل يف الدماغ �شديد جداً و�شعور قبل خم�س �ساعات من النوبة‬
‫ب�شخ�صية �أخرى بداخلها‪ .‬تنكم�ش على نف�سها مطبقة ر�أ�سها‬
‫�إىل رجليها وانتهت النوبة ب إ�برة فو�ستان‪.‬‬
‫يف تاريخ ‪ 1990/1/16‬بد�أت احلالة من جديد بنوبة‬
‫�شديدة جداً‪� ..‬ضحك وبكاء مع هيجان ع�صبي وا�ضطراب‬
‫يف التنف�س‪ .‬بقيت ‪� 3‬ساعات ثم نقلت �إىل امل�شفى‪.‬‬
‫ا�ستمرت النوبات ‪ 15‬يوم ًا ب�شكل يومي‪ .‬نوبات �رصاخ‬
‫وبكاء‪.‬‬
‫انقطعت لتعود بت�سارع‪� -‬شعورها ب�شخ�صية �أخرى‬

‫(‪ )26‬مبا �أن الورق كان ممنوع ًا يف الفرع‪ ،‬فقد عملت املعتقالت‪ ،‬ومن قبلهن‬
‫املعتقلني‪ ،‬على نزع الورقة الداخلية لباكيت الدخان‪ ،‬الذي من املمكن �رشا ؤ�ه‬
‫يف الفرع‪ ،‬ثم تبلل باملاء حتى تنف�صل ال�سيلوفانه عن الورقة‪ ،‬ثم تن�شّ ف الورقة‬
‫ويكتب عليها‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫وانكما�ش و�أمل �شديد يف الدماغ‪.‬‬
‫الن �شديدة جداً قد ت�ستمر ل�ساعتني �أو �أكرث‬ ‫النوبات آ‬
‫مع �رصاخ وبكاء وهيجان ع�صبي �شديد جداً وت�شنجات يف‬
‫ال�ساقني واليدين الل�سان والفك وبالعيون‪.‬‬
‫ترافق النوبات التي قد ت�ستمر ل�ساعات حاالت ك�آبة‪،‬‬
‫ا�ستفزاز من �أقل حركة‪ ،‬كره �شديد للذات‪� ،‬شعور بالذل �شديد‪،‬‬
‫وحزن �شديد(‪.)27‬‬

‫يف جانب �آخر‪ ،‬رمبا يف زمن �آخر‪ ،‬كانت جتربة مغايرة تت�شكل‪..‬‬
‫كن رهائن‬ ‫ال�سالميات ّ‬ ‫على الرغم من �أن �أغلب املعتقالت إ‬
‫عن �أزواجهن‪� ،‬أو �أوالدهن‪� ،‬أو حتى �أقاربهن‪� ،‬إال �أن التعذيب‬
‫ال�شديد‪ ،‬االنتهاكات‪ ،‬واملعاملة املتميزة بق�سوتها جعلت‬
‫حمطمات!‪.‬‬‫معظمهن يخرجن ّ‬
‫ال�سالميات على التعري بلبا�سهن‬ ‫�أجربت الكثري من إ‬
‫الداخلي فح�سب‪ .‬يتم �إح�ضار ال�سجانني كي يتفرجوا عليهن‬
‫وهن عاريات‪ ،‬ي�سمعوهن الكلمات البذيئة التي يتفنن عنا�رص‬ ‫ّ‬
‫المن واجلالدون يف اخرتاعها‪.‬‬ ‫أ‬
‫�إحدى احلاجات �أجربت على التعري‪ ،‬و�أدخلوا �أخاها‬
‫خر مغ�شي ًا عليه‬
‫الخ ّ‬ ‫لرياها وهي على تلك احلال‪ .‬يقال �أن أ‬

‫(‪ )27‬كتبت هذه الر�سالة لينا‪ .‬و �إحدى معتقالت املزدوجات �إىل �أختها الطبيبة‬
‫يف اخلارج‪ ،‬لتخربهن بالذي عليهن فعله‪ .‬وكان عدد املعتقالت يف الزنزانة‬
‫ذلك الوقت �إ�ضافة �إىل جمد ‪ 13‬معتقلة يف مكان ي�ضيق بعدة معتقالت‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫على الفور‪.‬‬
‫‪ -‬احلرق بال�سجائر يف كافة �أنحاء اجل�سد‪.‬‬
‫‪... -‬‬
‫والرجل‪،‬‬ ‫اليدي أ‬ ‫‪ -‬الكهرباء على احللمات‪ ،‬على أ‬
‫واملناطق احل�سا�سة‪� ..‬أ�ساليب �أخرى كثرية‪.‬‬
‫احلاجة ب�صوت خفي�ض‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫هم�ست‬
‫‪ -‬هل هناك �أ�ساليب �أخرى؟!‬
‫ور�ش امللح مع املاء على �أر�ض‬
‫‪ -‬التعليق ل�ساعات طويلة‪ّ ،‬‬
‫الرجل و�إجبارهن‬ ‫املنفردات بعد ال�رضب املربح على باطن أ‬
‫على الوقوف حافيات‪ ..‬هذا غري ال�رضب باخليزرانة والع�صي‬
‫والدوالب‪ ..‬وغري التحر�ش الذي قد ي�صل �إىل االغت�صاب‪.‬‬
‫المر �إىل االغت�صاب؟‬‫‪ -‬هل و�صل أ‬
‫‪ -‬نعم‪� ..‬إحدى املعتقالت‪ ،‬كنت �أعرفها �صبية جميلة‬
‫من مدينة ال�شمال‪ ،‬يف الع�رشينيات من عمرها‪ ،‬كانت تدر�س‬
‫الدب العربي قبل �أن ت�سجن‪ ،‬تعر�ضت لالغت�صاب يف �أوائل‬ ‫أ‬
‫الثمانينيات وظلت ت�سعة �شهور بعد االعتداء عليها �شبه فاقدة‬
‫الوعي‪ ،‬ت�ستيقظ لتم�شي كالهائمة يف املهجع وهي عارية‪،‬‬
‫ومهملة كاملجانني‪.‬‬
‫ِ‬ ‫و�أحيان ًا ت�رسح م�ش ّعثة‬
‫‪ -‬كنت معها يف املهجع؟‬
‫‪ -‬كنت معها‪.‬‬
‫‪!!... -‬‬

‫‪51‬‬
‫ال وهي ت�رصخ‪ ،‬ثم تدخل يف نوبة من البكاء‬ ‫‪ -‬ت�ستيقظ لي ً‬
‫العايل‪ ..‬نوبة قد ال تنتهي حتى ال�صباح‪.‬‬
‫تد�س طرف حجابها‬ ‫احلاجة و�سهمت بعيداً وهي ّ‬ ‫ّ‬ ‫�سكتت‬
‫أ‬
‫البي�ض يف ياقة البلوزة القطنية‪.‬‬
‫يهربن ر�سالة‬‫�أتت ليلة وا�ستطاعت بع�ض املعتقالت �أن ّ‬
‫المر خماطرة ما بعدها خماطرة لكن‬ ‫طويلة �إىل اخلارج‪ .‬كان أ‬
‫الر�سالة خرجت ب�سالم(‪.)28‬‬
‫كتبت آ‬
‫كالتي متام ًا‪:‬‬
‫(كم ر�سالة كتبناها‪ .‬كتبناها ب أ�ناتنا‪ .‬بدموعنا‪ .‬بدمنا‪ ..‬ع ّلها‬
‫تلقى من ي�سمعها‪ .‬مل نكن ن�ستطيع �إر�سال حروف على ورق‬
‫ف أ�ر�سلنا �آهات وا�ست�رصخنا يف دجى الليل‪ ،‬ولكن من ي�سمعنا يف‬
‫ظلمتنا‪ ،‬ومل يتجاوز �صوتنا جدران ًا �سوداء وق�ضبان ًا حديدية‪.‬‬
‫رحمنا ربنا وا�ستطعنا �إر�سال هذه ال�سطور نلقي فيها‬
‫�شعاع ًا يعك�س للعامل ما يجري لنا نحن القابعات يف �أقبية‬
‫ال�سجون‪ ،‬تنهال علينا �ألوان العذاب ليل نهار‪ ،‬وي أ�تينا الزبانية‬
‫ثماىل متوح�شني‪ ..‬ليتهم ظلوا يعذبوننا كما بد ؤ�وا بال�سياط‬
‫والكهرباء‪..‬‬
‫ليتهم تركوا �أختنا تلفظ �أنفا�سها بعد ما القت من عذاب‬

‫العالمية وغري‬‫(‪ )28‬هنا جزء من الر�سالة التي و�صلت �إىل عدد من اجلهات إ‬
‫ال�سالمي يف الكويت بعد �أن‬ ‫العالمية يف البالد وقد ن�رشتها جملة املجتمع إ‬ ‫إ‬
‫ال�صل عند ال�شيخ الكويتي �أحمد القطان‪ .‬والر�سالة من�شورة‬‫نوهت بوجود أ‬
‫كما كتبت متام ًا‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫ومل ينتزعوا منها عفتها‪ ..‬ومل ينتزعوا منها عفتها‪..‬‬
‫ليتنا متنا قبل هذا وكنا ن�سي ًا من�سي ًا‪ ..‬قالتها مرمي العذراء دون‬
‫عذاب‪ ،‬دون وحو�ش ب�رشية ويف �أح�شائها روح من ربها‪..‬‬
‫فماذا نقول نحن؟ مباذا ندعو؟‬
‫ن�ست�رصخ العامل �أن ينقذنا من عذابنا‪ .‬ننادي ب أ�على �أ�صواتنا‪.‬‬
‫بكل جوارحنا‪..‬‬
‫كل ذرة فينا ت�رصخ وت�ستغيث‪ ..‬كل قطرة دم‪..‬‬
‫كل نب�ضة عرق‪ ..‬كل نف�س ي�صعد ويهبط‪..‬‬
‫ن�رصخ وامعت�صماه‪ ..‬وامعت�صماه‪ ..‬نادت بها امر�أة م�سلمة‬
‫واحدة فلبى لها رجال كرث‪ .‬ونحن هنا مئات من اللواتي‬
‫ي�سحقن‪ ..‬ي�سحقهن طغاة حاقدون‪ ..‬مئات يعذبن‪ ..‬يقتلن‬
‫يف كل حلظة ب أ�لف قتلة وال مينت‪..‬‬
‫�أال من معت�صم‪� ..‬أال من معت�صم‪..‬‬
‫�أال من م�سلم ين�رش (ن�ساء ي�سحقن)‪..‬‬
‫رباه ملن النداء‪ ..‬طال بنا البقاء‪� ..‬أيام و�شهور وتتلوها‬
‫�شهور ودماء املجرمني ت�رسي يف عروق جنني يف �أح�شائنا‪.‬‬
‫ماذا نفعل؟‬
‫رباه مل يجبنا �أحد فارحمنا‪ .‬ال نريد منكم �أن تنقذونا‪ .‬ال‬
‫نريد منكم �أن تنقذونا بل هدموا علينا ال�سجون‪..‬‬
‫�أفتوننا بقتل �أنف�سنا‪ ..‬وقتل ما يف بطوننا‪ .‬فلم نعد نقوى‬
‫على ما بنا‪..‬‬

‫‪53‬‬
‫ال ليل يقلنا‪ .‬وال نهار ينري ظلمة حياتنا‪ .‬يا عامل ا�ستفق طال‬
‫بك الرقاد‪ ،‬ونحن ال نعرف الرقاد‪..‬‬
‫يا عامل ا�ستفق‪..‬‬
‫لك يوم تقف فيه بني يدي اهلل لي�س أ�لك ربك ماذا فعلت؟‬
‫ماذا فعلت ملن انتهك عر�ضها؟‬
‫ماذا فعلت ملن فقدت وعيها من �صدمات الكهرباء؟‬
‫ماذا فعلت ملن علقت من قدميها بعد �أن نزع عنها حجابها‪،‬‬
‫وتناثرت عنها الثياب‪ ،‬و�رضبت بق�ضيب ثقيل من حديد‬
‫ف أ��سلمت وعيها لربها؟‬
‫ال تعلموا كم من ال�ساعات على هذه احلال‪ ..‬ماذا فعلت‬
‫�أيها العامل امل�سلم و�أختك هناك يف دوالب طويت فيه تنهال‬
‫عليها ال�سياط‪ ..‬ت�سيل دما ؤ�ها‪ ..‬تتورم �أخدادها‪ ..‬تفقد‬
‫�صوابها وال مغيث‪..‬‬
‫ماذا فعلت ملن عذبوا زوجها على مر�آها‪ ،‬وا�ستغاثت دمائه‬
‫فلم يجب �أحد‪ ،‬فانفجرت تبكي على دمائها؟‬
‫ماذا فعلت ملن �سيقت �إىل امل�ست�شفى بني املوت واحلياة بعد‬
‫�أن نهب حلمها ‪ 26‬مفرت�س ًا متوح�ش ًا؟‬
‫ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟‬
‫مباذا �ستجيب؟ ومن �أين لك �أن جتيب‪ ،‬و�أنت ال تزال يف‬
‫الرقاد‪� ..‬أال يا عامل ا�ستفيق وانت�شلنا من احلريق‪ ..‬انت�شلنا من‬
‫الغريق‪ ..‬فلقد جفت العروق وال نهار وال �رشوق يف وح�شة‬

‫‪54‬‬
‫واد �سحيق يف ظلمة بحر عميق‪..‬‬
‫ننادي‪ ..‬ننادي‪ ..‬ننادي‪ ..‬نلتم�س الطريق‪ ..‬هل من بريق‪..‬‬
‫هل من بريق)‪.‬‬
‫�أخواتكم املعذبات يف �سجون الطاغوت (‪)...‬‬
‫بعد �سنوات طويلة‪ ،‬حني ا�ستطاعت اللجوء �إىل �أوروبا‪،‬‬
‫كتبت هبة‪.‬د كتابها(‪ )29‬الذي يحكي بع�ض ًا من �أ�ساليب التعذيب‬
‫التي تعر�ضت لها‪:‬‬
‫(نادى املقدم نا�صيف على �أحدهم‪ ،‬وقال له‪ :‬اذهب‬
‫و�أح�رض لها بنطا ًال‪ ،‬و�أعطها �إياه‪ ،‬خ ّليها تن�سرت‪ ،‬و�ضعها على‬
‫ب�ساط الريح‪.‬‬
‫تقدم العن�رص مني‪ ،‬وطرحني على لوح من اخل�شب له �أحزمة‪،‬‬
‫وطوق بها رقبتي ور�سغي وبطني وركبي وم�شط رجلي‪ .‬وملا‬ ‫ّ‬
‫ت أ�كد من تثبيتي‪ ،‬رفع الق�سم ال�سفلي من لوح اخل�شب فج�ةأ‬
‫فبات كالزاوية القائمة‪ ،‬ووجدتني و�أنا بني الده�شة والرعب‬
‫مرفوعة الرجلني يف الهواء‪ ،‬وقد �سقط اجللباب عنهما ومل يعد‬
‫يغطيهما �إال اجلوارب وال�رسوال ال�شتوي الطويل‪ ،‬وال قدرة يل‬
‫على حتريك �أي من مفا�صل ج�سدي)‪.‬‬

‫(‪ )29‬هذه الفقرة من ف�صل معنون بب�ساط الريح كتبتها هبة ‪.‬د يف كتابها املن�شور‬
‫يف لندن «خم�س دقائق فح�سب‪ ..‬ت�سع �سنوات يف ال�سجون» الذي يتحدث‬
‫عن جتربتها يف املعتقل‪ .‬وهبة‪.‬د هي معتقلة �سيا�سية رهينة عن �أخيها النا�شط‬
‫ال�سالميني‪ .‬اعتقلت من �سنة ‪ 1980‬وحتى �سنة ‪ .1989‬والف�صل‬ ‫يف تنظيم إ‬
‫من�شور كما كتب متاما‪ً.‬‬

‫‪55‬‬
‫كتبت هبة‪ .‬د �أي�ض ًا‪:‬‬
‫(عائ�شة‪ ،‬وهي طبيبة من مدينة ال�شمال يف �سجن‪( ...‬معتقلة‬
‫ال�سالميني املالحقني)‪.‬‬ ‫ألنها قامت بعالج �شاب من إ‬
‫توىل التحقيق معها م�صطفى‪.‬ت‪ ،‬ف�س أ�لها يف البداية‪:‬‬
‫‪� -‬أتر�ضي �أن تبقي بال جلباب؟‬
‫‪ -‬ال طبع ًا‬
‫‪ -‬فما ر�أيك �أن تبقي بال جلباب؟‬
‫انتف�ضت تتطلع �إىل مكان تلج أ� �إليه‪ ،‬لكنه مل يرتك لها فر�صة‪،‬‬
‫وهجم عليها كالوح�ش‪ ،‬ي�صفعها وي�رضبها‪ ،‬وهو ميزق ثيابها‬
‫قطعة قطعة‪ ،‬وهي مكبلة تقاوم بكل ما �أوتيت من قوة دون �أن‬
‫ت�ستطيع الدفع‪ ..‬فلما مزق كل �شيء و�صل �إىل جواربها‪ ،‬وقال‬
‫لها‪� :‬س أ�تركهم عليك حتى ال تربدي‪.‬‬
‫ومر عليها بكافة �أنواع‬
‫و�أمر فمددوها على ب�ساط الريح‪ّ ،‬‬
‫التعذيب‪ :‬اخليزران والع�صي والكهرباء‪ ..‬عالوة على نزع‬
‫نظارتها الطبية وحرمانها من ا�ستعمالها فرتة من الزمن‪.‬‬
‫كبل يديها‬‫ثم �أتى دور عمر‪ ،‬ف أ�جل�سها على كر�سي وقد ّ‬
‫ورجليها من اخللف ببع�ضهم البع�ض‪ ،‬وجعل يطفئ �أعقاب‬
‫ال�سجائر يف �أعف منطقة ببدنها)‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫‪1984‬‬

‫‪ -‬ما يف نوم‪ ..‬اليوم �سنظل ن�رضبك حتى تعرتيف‪.‬‬


‫�صاح املحقق بعد �أن �أنزلوا هند‪.‬ق �إىل القبو‪ ،‬و�رشعوا‬
‫بالتحقيق معها‪.‬‬
‫ال�صوات حولها من هنا وهناك‪..‬‬ ‫الطمي�شة على عينيها‪ ،‬أ‬
‫ك أ�نهم كانوا يريدونها �أن ّ‬
‫جتن‪.‬‬
‫بالت أ�كيد كانوا يريدونها �أن ّ‬
‫جتن‪.‬‬
‫‪ -‬ت�ضعونها حتت دو�ش املاء الباردة بعد كل فلقة‪ ..‬و�إذا مل‬
‫جتلب ال�شباب ت�صلونها �إىل الكهرباء‪....‬‬

‫‪57‬‬
‫�رصخ ال�ضابط قبل �أن يغادر غرفة التعذيب ويرتكها لعدد‬
‫مبهم من العنا�رص كي يكملوا تعذيبها‪.‬‬
‫بد ؤ�وا بالدوالب‪ ،‬ح�رشوها فيه‪ ،‬راحت الع�صي تنهال‬
‫على قدميها و�ساقيها وج�سدها املطوي حتى كاد يغمى عليها‪.‬‬
‫وتنفيذاً ألوامر ال�ضابط �شحطوها‪ ،‬وهي �شبه فاقدة للوعي‪،‬‬
‫حتت املاء البارد‪.‬‬
‫يغيبني عن‬‫الكرة مرات‪ ..‬حني يكاد التعذيب ّ‬ ‫ّ‬ ‫�أعيدت‬
‫الوعي يعمل الدو�ش البارد على �إعادتي �إىل احلياة‪.‬‬
‫ال �أذكر �إال ج�سدي وهو ي�سبح يف ف�ضاء �آخر‪� .‬أمل فظيع‬
‫يجعلني �أتهاوى‪ ،‬ثم دفق ماء بارد كالثلج يعيدين من جديد �إىل‬
‫غرفة التعذيب‪.‬‬
‫علي‪ ،‬هم�س �إيل ب�صوت مبحوح‬ ‫�أخرياً �أ�شفق �أحد العنا�رص ّ‬
‫خافت بعد �أن �أ�صبحنا وحدنا‪:‬‬
‫‪ -‬ا�شلحي الفيلد لتلب�سيه بعد الدو�ش‪ ..‬وقفي �إىل‬
‫جانبي‪.‬‬
‫ما كان منه �إال �أن تركني �أتهاوى على احلائط‪ ،‬وعاد بعد‬
‫حلظات جالب ًا ق�صعة معدنية عب أ�ها باملاء‪ ،‬و�صار ّ‬
‫ير�شني بها‬
‫بلطف‪ .‬لكني مل �أ�ستطع �أن �أتبني وجهه من حتت الطمي�شة‪.‬‬
‫هم�س �إيل من جديد‪:‬‬
‫‪� -‬إذا قالوا لك قعدت حتت الدو�ش؟ تقولني نعم‬
‫قعدت‪..‬‬

‫‪58‬‬
‫ظلوا ي�رضبونني طيلة الليل‪.‬‬
‫يف �أول ال�صباح تركوين واقفة بال ا�سرتاحة يف غرفة‬
‫التحقيق‪ .‬كنت منهكة حتى املوت‪ ،‬لكن �إح�سا�سي من حتت‬
‫الر�ض‪.‬‬ ‫الطمي�شة بوجود مراقب منعني من االنهيار على أ‬
‫كان اجللو�س‪� ،‬أو حتى االتكاء‪ ،‬يعني عقاب ًا جديداً لي�س‬
‫حتمله بعد‪ .‬بقدرة ما ظل ج�سدي متما�سك ًا ومل‬ ‫با�ستطاعتي ّ‬
‫الجزاء املفككة تعب ًا و�أمل ًا‬ ‫الر�ض �إىل ع�رشات أ‬ ‫يت�شظ على أ‬
‫ّ‬
‫و�إح�سا�س ًا بالعجز �أمام كل ذلك القهر الالمنتهي‪.‬‬
‫حني دخل املحقق من جديد‪ ،‬م�صطحب ًا �شتائمه معه‪ ،‬وعلم‬
‫بعدم اعرتايف �صاح كاملم�سو�س‪:‬‬
‫‪ -‬ال تطعموا هذه الكلبة‪ ..‬ترمونها يف املنفردة‪ ،‬وجتعلون‬
‫�أر�ضها كلها ماء وبدون بطانيات‪..‬‬
‫‪!... -‬‬
‫‪ -‬باب املنفردة يبقى مفتوح ًا‪ ..‬ويظل عن�رص على‬
‫الباب‪ ..‬متنعونها من النوم والطمي�شة على عيونها‪ ،‬وحني جتل�س‬
‫ت�رضبونها حتى تقف‪ ..‬لن�شوف �أنا �أم هذه الكلبة‪..‬‬
‫‪... -‬‬
‫رميت يف املنفردة حافية‪.‬‬
‫كان حما ًال �أن يدخل �أي حذاء يف قدمي املنتفختني‬
‫واملتقرحتني‪ .‬امللح‪ ،‬املر�شو�ش على �أر�ض الزنزانة‪ ،‬ي�ستف ّز �أ�سفل‬
‫تركز هناك‪ ،‬ي�صعقني كل‬ ‫والمل‪ ،‬الذي ّ‬ ‫قدمي كال�سكاكني‪ ،‬أ‬

‫‪59‬‬
‫حد املوت‪.‬‬
‫حلظة حتى ي�صل ّ‬
‫ثم مل ؤ�وا الزنزانة باملاء‪ ،‬و�أجربوين على الوقوف حافية طيلة‬
‫الوقت يف �شتاء �آذار الذي كان ا�ستثنائي ًا مبطره وبرده يف تلك‬
‫ال�سنة‪� :‬سنة ‪.1984‬‬
‫يف اليوم الثالث لوقوف هند يف املنفردة‪ ،‬وحني مل تعرتف‪،‬‬
‫و�ضع اجلالدون الكهرباء بني �أ�صابع قدميها‪.‬‬
‫املتقرح غابت عن الوعي‪.‬‬ ‫بعد �رضبتني على اجللد ّ‬
‫وقت ا�ستيقظت كانت هند ممدة على طاولة معدنية عالية‬
‫البي�ض يدهن �أ�سفل قدميها باليود‪.‬‬‫ورجل يرتدي أ‬
‫رائحة اليود القا�سية تثري غثيانها‪� ،‬أمل عميق يت�ش ّعب من‬
‫ال�سفل مروراً ب أ�جزائها وحتى داخل ر�أ�سها‪ ،‬والطبيب‬ ‫أ‬
‫املتجهم �صامت طيلة الوقت مل ينطق بكلمة‪ .‬كانت هند تتمنى‬ ‫ّ‬
‫�أن يك ّلمها ذاك الرجل أ‬
‫البي�ض‪ ،‬ي�س أ�لها عن �أي �شيء‪� ،‬أو حتى‬
‫ي�شد �أزرها بنظرة‪ ،‬لرمبا ن�شلها هم�سه املتعاطف من �ضعف‬ ‫ّ‬
‫مقيم امتلكها‪.‬‬
‫مل يتنازل عن �صمته!‬
‫بعد �أن انتهى �أعيدت هند �إىل الزنزانة من جديد‪.‬‬
‫مع الوقت �صار ال�سجان يغادر باب الزنزانة لفرتات وجيزة‪.‬‬
‫المر الذي جعل هند جتل�س‪ ،‬ولو لدقائق‪ ،‬حني يذهب‪ ،‬وتعود‬ ‫أ‬
‫للوقوف وقت تقرتب خطواته يف كوريدور الفرع‪.‬‬
‫مع الزمن �صارت مت أ�كدة من �أنه يقوم بكل ذلك تعاطف ًا‬

‫‪60‬‬
‫معها‪ ،‬يجعل باب املنفردة موارب ًا بدل �أن يكون مفتوح ًا ب�شكل‬
‫الر�ض بقدميه عامداً‪،‬‬ ‫دائم! وحني يعود يعمل على خبط أ‬
‫فتتحامل هند على نف�سها وتقف‪ ،‬على الرغم من �أن �صدى‬
‫ت�ضج ب�صداها‬
‫ّ‬ ‫خطواته القادمة كانت �أ�شبه بخطوات فيل‬
‫جدران الفرع كلها‪.‬‬
‫اليام ا�ستطاعت هند �أن ت�شرتي من ال�سجان‪،‬‬ ‫خالل تلك أ‬
‫ببقايا نقود بقيت يف جيب الفيلد الع�سكري الذي ما تزال‬
‫ترتديه‪ ،‬باكيتني دخان حمراء‪ ،‬من�شفتني‪ ،‬وعلبة حمارم‬
‫تواليت‪.‬‬
‫الربعة فقد حتولت �إىل �سجادة واهية‪،‬‬ ‫�أما روالت املحارم أ‬
‫مل يكن املاء ي�صلها حتى تنقلب �إىل و�سادة �أ�سفنجية مبللة‪ ،‬تزيد‬
‫الربد يف ج�سدها بدل �أن تقيها منه‪..‬‬
‫الربد كان جمنون ًا جمنون ًا‪..‬‬
‫بعد �سبعة �أيام كنت ما �أزال متكئة يف زاوية املنفردة‪ ،‬ورمبا‬
‫ح�س بج�سدي يتال�شى‪� ،‬أ�شعر‬ ‫كان منظري يرثى له‪ :‬كنت �أ ّ‬
‫بهزاله بعد �أن راح �رسج البنطال ال يعلق بخ�رصي‪ .‬كنت �أ ّ‬
‫ح�س‬
‫ب�شفقة بع�ض ال�سجانني علي من رمقاتهم الطويلة‪.‬‬
‫دون طعام وال بطانيات‪.‬‬
‫الر�ض و�أنا بال حذاء‪..‬‬ ‫املاء ما زال يغطي أ‬
‫تقيحت وراحت تن ّز �صديدها‪.‬‬ ‫ركبتاي توجعانني‪ ،‬جروحي ّ‬
‫مرت �أيام طويلة دون �أن �أمتدد ولو لدقائق‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫فُتح الباب فج أ�ة‪ ،‬مل �أ�ستطع الوقوف من فوري فقد كان‬
‫�إنهاكي �أ�شبه باملوت‪ ،‬فكرت لثوان‪� :‬س أ�عاقب بالت أ�كيد‪..‬‬
‫�إال �أن ال�سجان‪ ،‬لده�شتي‪ ،‬مل يقل �أية كلمة ومل يقم ب أ�ي فعل‬
‫متكومة يف مكاين يف‬‫ّ‬ ‫�إال �أنه �أغلق الباب‪ .‬تنف�ست ال�صعداء و�أنا‬
‫الزاوية‪.‬‬
‫ال ثم عاد‪.‬‬ ‫غاب ال�سجان قلي ً‬
‫المن وقلوبهم احلجرية‪ ،‬يلعن‬ ‫ي�سب عنا�رص أ‬ ‫ّ‬ ‫كان ي�شتم‪،‬‬
‫زمن ًا رماه هنا وجعله يرى �صبية على هذه احلال‪.‬‬
‫ي�شتم وي�شتم‪..‬‬
‫الر�ض‪ ،‬ورمى‬ ‫جلب معه بطانيتني‪ :‬واحدة فر�شها على أ‬
‫بالخرى يل‪ .‬ثم قال قبل �أن يذهب‪:‬‬ ‫أ‬
‫‪� -‬ستنتهي دوريتي يف ال�ساعة ‪ ،6‬ال�صبح الزم تفيقي قبل‬
‫ما تخل�ص حتى ال يعرفوا �أين �أعطيتك البطانية‪.‬‬
‫مل �أ�صدق �أن ب إ�مكاين �أخرياً �أن �أمتدد! �أن �أنام كالب�رش العاديني‬
‫م�ستلقية‪ ،‬و�أتدثر �أي�ض ًا ببطانية!!‬
‫يا �إلهي!‪ ..‬كان احلدث �أكرب من �أحالمي‪.‬‬
‫ال �أذكر �إال �إين خالل ثوان غبت يف نوم عميق عميق‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫مرت عليها هنيهات‪،‬‬ ‫مل ت�ستيقظ هند �إال و�ساعات الليل قد ّ‬
‫وكان ثمة رجل يه ّزها بجنون �صائح ًا‪:‬‬
‫‪ -‬قومي يا(‪ 48 )30‬قومي يا ‪..48‬‬
‫(‪ )30‬رقم املنفردة امل�سجونة فيها‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫وهند ال ت�ستطيع اال�ستيقاظ‪..‬‬
‫�شد البطانية من حتتها‪،‬‬ ‫ح�س ب أ�ن ال�رصاخ لن يفيد ّ‬ ‫ملا �أ ّ‬
‫الخرى‪ ،‬وطفق يهرول يف الكوريدور قبل �أن يلمحه‬ ‫خطف أ‬
‫�أحدهم‪.‬‬
‫الر�ض الرطبة كانت هند‪ ،‬غواية النوم والتد ّثر‬ ‫مرمية على أ‬
‫ما تزال متتلكها‪ ،‬و�شعور االمتنان لل�سجان الغريب يغمرها‬
‫متام ًا‪.‬‬
‫بقيت هند‪.‬ق يف املنفردة خم�سة ع�رش يوم ًا بدون‬
‫بطانيات‪.‬‬
‫�سمحوا لها يف اليوم ال�سابع باخلروج �إىل احلمامات‪ ،‬حينئذ‬
‫ال‪ .‬كان التواليت بالن�سبة �إليها ترويح ًا‬ ‫ا�ستطاعت �أن تقعد قلي ً‬
‫عن النف�س‪.‬‬
‫الكل �صباح ًا فلم ت أ�كل‪،‬‬ ‫يف اليوم اخلام�س ع�رش جلبوا لها أ‬
‫مما حدا مبدير ال�سجن للمجيء‪ ،‬ووقف �صائح ًا �أمام املنفردة‪:‬‬
‫‪ -‬خري يا ‪ 48‬ملاذا ال ت أ�كلني؟‬
‫‪ -‬مل �أعد �أ�ستطيع التحمل بدون بطانيات‪.‬‬
‫هز ر�أ�سه وذهب‪.‬‬
‫بعد قليل جاء �أحد العنا�رص‪ ،‬الذي طاملا كان لطيف ًا مع هند‪،‬‬
‫ي�رصخ فرح ًا وهو يقرتب يف الكوريدور‪ ،‬حتى �أن �صوته �سمعه‬
‫جميع معتقلي املنفردات‪:‬‬
‫�سمحوا لك بالبطانيات‪� ..‬سمحوا لك بالبطانيات‪..‬‬

‫‪63‬‬
‫يومئذ �أعطاها ع�رش بطانيات ع�سكرية وعازلني(‪.)31‬‬
‫ألول مرة‪ ،‬بعد �أيام طويلة‪ ،‬تنام هند باطمئنان ل�ساعات‬
‫ال حتى ا�ستيقظت وقد ّ‬
‫حل‬ ‫متوا�صلة‪ .‬ويبدو �أنها �أغفت طوي ً‬
‫الليل يف طاقة الزنزانة ال�صغرية‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫مع الزمن ومن �أجزاء الفروج‪ ،‬الذي كانوا يدخلونه �إليها‬
‫كل حني‪� ،‬شفّت هند عظمة مدببة قا�سية‪� ،‬صارت ت�ستخدمها‪،‬‬
‫ال�سمنتي العاري‬ ‫ّ‬
‫لتحك على احلائط إ‬ ‫والوراق‪،‬‬ ‫القالم أ‬‫بغياب أ‬
‫ما يخطر لها‪.‬‬
‫ملت‬ ‫بذلك نق�شت هند كثرياً من اجلمل واخلرب�شات‪ ،‬أ‬
‫الغاين‬ ‫جدران الزنزانة بكل ما اعتمل يف روحها‪ ،‬بكل أ‬
‫والكلمات‪ ،‬بحاالت احلب الغام�ض‪ ،‬وباحلزن أ‬
‫والمل‪.‬‬
‫الثرية‪ :‬غاب‬ ‫�أما فوق الباب مبا�رشة فقد حفرت جملتها أ‬
‫نهار �آخر‪.‬‬
‫بالعظمة �أي�ض ًا عملت هند على نق�ش روزنامتها اخلا�صة التي‬
‫اليام املت�شابهة واملتكررة‪،‬‬‫ا�ستطاعت من خاللها معرفة مرور أ‬
‫املتكررة كدوامة ال بداية لها وال نهاية‪.‬‬
‫كانت الروزنامة تبد�أ بيوم االثنني‪ :‬يوم اعتقايل‪.‬‬
‫ومبا �إين مل �أكن ألتكهن مبدة اعتقايل فقد رحت‪ ،‬يف �صباح‬
‫كل اثنني‪� ،‬أ�شخط خط ًا �صغرياً عمودي ًا حتى ي�ستوعب حائط‬
‫(‪ )31‬العازل هو عبارة عن بطانية ع�سكرية �سميكة خميط �إليها عازل نايلوين‬
‫�سميك من �أ�سفلها‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫الخذة باالمتداد كل �أ�سبوع‪ .‬كما‬ ‫الزنزانة ال�ضيق روزنامتي آ‬
‫�أين حفرتها وراء الباب احلديدي حتى ال يلمحها ال�سجانون‬
‫حني يدخلون الزنزانة‪.‬‬
‫ال�سا�سي الذي كان علي �أن �أت أ�كد منه كل �صباح‪..‬‬ ‫ال�شيء أ‬
‫هو قدوم ال�صباح!‬
‫مل يكن ذلك �صعب ًا يف احلقيقة‪ ،‬على الرغم من غياب ال�شم�س‬
‫و�ضوء احلياة‪ ،‬ألن ال�صخب املجنون الذي يخلقه ال�سجانة كل‬
‫�صباح‪ ،‬وهم يفتحون ويغلقون �أبواب الزنازين احلديدية على‬
‫طول كوريدور ال�سجن الطويل‪ ،‬كان كافي ًا‪ ،‬ألن ذلك يعني‬
‫�أنهم يوزعون ق�صع الفطور على املعتقلني‪ ،‬وي أ�خذونهم‪ ،‬كل‬
‫بدوره‪� ،‬إىل اخلط(‪.)32‬‬
‫بقيت يف االعتقال الثاين �أكرث من �شهرين يف املنفردة ذاتها‪،‬‬
‫ُ‬
‫الول‪ ،‬وبعده �إىل �سجن الن�ساء‬‫ومن ثم ُنقلت �إىل �سجن الن�ساء أ‬
‫الثاين‪.‬‬
‫�أما هناك فقد كانت حياة جديدة‪ ..‬جديدة متام ًا!‬
‫بعد �سنتني من ذلك‪ ،‬يف �سنة ‪ ،1986‬اعتقلت ح�سيبة‪.‬‬
‫ع(‪.)33‬‬
‫مر �أكرث من ‪ 11‬يوم ًا حتى اكت�شف فرع ال�ضابطة الفدائية‬ ‫ّ‬
‫(‪ )32‬اخلط‪ :‬هو خروج املعتقلني ثالث مرات يف اليوم �إىل التواليتات‪.‬‬
‫الوىل‬‫(‪ )33‬ح�سيبة‪ .‬ع‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ ،1959‬اعتقلت للمرة أ‬
‫�سنة ‪ 1979‬وحتى �سنة ‪ 1980‬ويف املرة الثانية من �سنة ‪ 1986‬وحتى �سنة‬
‫‪.1991‬‬

‫‪65‬‬
‫الفل�سطينية هويتها‪ .‬كان هذا هو االعتقال الثاين لها وال�سنة ما‬
‫تزال يف بدايتها‪.‬‬
‫�إثر اكت�شافهم �أن ح�سيبة عملت على �إخفاء حقيقة هويتها‬
‫وال�سمال يف فمها‪،‬‬ ‫�صار العنا�رص يقحمون اخلرق الو�سخة أ‬
‫يغلقونه بتلك القاذورات حتى كادت تختنق‪.‬‬
‫ي�شف‪ ،‬فانهالوا عليها بالكابالت‬ ‫َ‬ ‫لكن غ ّلهم جتاهها مل‬
‫الخرى وهي‬ ‫الرباعية على قدميها و�ساعديها و�أجزاء ج�سدها أ‬
‫مقيدة مرمية �أر�ض ًا بحيث ال ت�ستطيع احلراك‪.‬‬
‫ّ‬
‫أ‬
‫كلما كان ج�سدها يو�شك على االنهيار‪� ،‬و تقرتب من‬
‫الغماء‪ ،‬يدلقون �سطول املاء عليها كي ت�ستيقظ‪.‬‬ ‫إ‬
‫ويعاودون التعذيب جمدداً‪.‬‬
‫كتكملة حلفلة التعذيب مت �صعق ح�سيبة بالكهرباء‪� .‬صعقت‬
‫مرات ومرات قبل �أن تبعث‪� ،‬شبه منهارة ج�سدي ًا‪� ،‬إىل فرع‬
‫المن‪ 2‬الع�سكري‪.‬‬ ‫أ‬
‫المن‪ 2‬كان ينتظر ح�سيبة ما هو �أكرب‪.‬‬ ‫يف فرع أ‬
‫االعتقاالت هناك على قدم و�ساق‪ ،‬الفرع مليء باملعتقلني‪،‬‬
‫المر الذي جعلهم يرمونني يف‬ ‫والزنازين متخمة على �آخرها أ‬
‫كوريدور الفرع‪.‬‬
‫�أفكر اليوم ب أ�ين ع�شت اجلحيم بكل معناه‪.‬‬
‫بقيت �أيام ًا بال نوم وال طعام‪ ،‬ال ميكنني �أن �أ�سمع �إال‬
‫�رصاخ املعتقلني وهم يعذبون بوح�شية‪ ،‬و�أ�صوات املحققني‬

‫‪66‬‬
‫أ‬
‫والنات‪..‬‬
‫أليام مل �أ ِع �شيئ ًا متمايزاً! كنت كمن �ألقي يف هيوىل لي�س‬
‫والطمي�شة على عيني ال‬‫ّ‬ ‫لها حتديد‪ ،‬هيوىل قامتة‪� ،‬أترنح فيها‬
‫ي�سمحون يل بخلعها‪.‬‬
‫ال �أذكر �إال دخويل �إىل غرفة التعذيب‪ّ ،‬‬
‫مطم�شة بالطبع‪،‬‬
‫عذب ل�ساعات‪ ،‬يحقق معي‪ ،‬ثم �أرمى يف الكوريدور حتى‬ ‫�أ ّ‬
‫موعد اجلل�سة التالية‪.‬‬
‫ح�س ب أ�ج�ساد املعتقلني واملعتقالت‪ ،‬امل�شلوحني مثلي على‬ ‫�أ ّ‬
‫الر�ض‪ ،‬حتيط بي من كل جانب‪.‬‬ ‫أ‬
‫دماء وماء و�صياح و�أ ّنات‪� ..‬إنه اجلحيم احلقيقي‪.‬‬
‫الملاين كان له ن�صيب �أي�ض ًا من ج�سدي‪ ،‬هذا ما‬ ‫الكر�سي أ‬
‫�أتذكره بدقة‪ ،‬على الرغم من �أن تفا�صيل التعذيب تغيب عني‬
‫الحيان‪ ،‬ال �أكاد �أ�ستح�رضها بدقة و�أنا يف ذاك اجلنون‬ ‫يف بع�ض أ‬
‫أليام‪.‬‬
‫ال‪ ،‬وهو يتم ّلخ بني �أيديهم‪،‬‬
‫�أذكر �شعري‪ ،‬وكان وقتها طوي ً‬
‫ي�رضبون ر�أ�سي باجلدار‪ ،‬ي�شحطونني على بالط الغرفة‪ ،‬ثم‬
‫ي�سلخونني بالكهرباء على فمي ول�ساين و�أ�صابع قدمي ويدي‪.‬‬
‫مل �أكن �أعرف من �أين ي أ�تيني ال�رضب‪ ،‬وال من �أين ت�صيبني‬
‫ل�سعات الكهرباء‪..‬‬
‫�أ�صوات يف كل مكان‪� ..‬أ�صوات‪� ..‬أ�صوات‪..‬‬

‫‪67‬‬
‫الر�ض‪.‬‬ ‫ك أ�ين دجاجة مذبوحة للتو تفرفر على أ‬
‫بعد �أكرث من �أربعة �أ�شهر يف املنفردة نقلت ح�سيبة �إىل مهجع‬
‫املعتقالت‪ .‬كان يف املهجع معتقلون من بعث العراق ومعتقلة‬
‫عرفاتية واحدة‪.‬‬
‫يومئذ ُ�أح�رض الطعام لهن وهو ق�صعة من الربغل لكل‬
‫الوقات‪ .‬على الرغم من اجلوع ال�شديد‬ ‫معتقلة كما يف معظم أ‬
‫واالنتظار امل�ضني للطعام تركت املعتقلتان ق�صعتيهما جانب ًا بعد‬
‫تذوق لقيمات قليلة منه‪ ،‬فيما راحت العرفاتية يف نوبة من‬
‫ال�سعال‪.‬‬
‫ثم جل�سن ده�شات يت أ� ّملن ح�سيبة التي ا�ستمرت ت أ�كل بنهم‬
‫�شديد ك أ�ن �شيئ ًا مل يكن‪.‬‬
‫الكل؟!‬‫‪ -‬كيف ت�ستطيعني أ‬
‫�س أ�لتها العرفاتية م�ستغربة‪.‬‬
‫الكل مالح كتري‪.‬‬ ‫‪ -‬أ‬
‫�أردفت معتقلة بعث العراق‪.‬‬
‫حلظتئذ فقط عرفت ح�سيبة �أن ثمة م�شكلة ما يف التذوق‬
‫لديها‪ ،‬وال بد �أن يكون ب�سبب ل�سعات الكهرباء على ل�سانها‪،‬‬
‫المر الذي مل تكت�شفه وحدها يف املنفردة طيلة �شهور‪ ،‬فلم‬ ‫أ‬
‫يكن هناك من يقول لها ب أ�ن الطعام مالح جداً‪.‬‬
‫المر �إىل �شهور �أخرى كي يعود �شعور ح�سيبة‬ ‫احتاج أ‬

‫‪68‬‬
‫بالطعوم تدريجي ًا‪.‬‬
‫دونتها ناهد‪.‬ب حاملا‬ ‫زمان الفرع ذاك و�أيامه الع�صيبة ّ‬
‫انتقلت �إىل �سجن الن�ساء‪.‬‬
‫كانت ت�شعر �أن كل ما حدث هناك �سين�سى �إن مل تكتبه‪،‬‬
‫اليام من الذاكرة مهما كان‬ ‫�سي�ضيع من احلقيقة‪ ،‬وتن�شله أ‬
‫را�سخ ًا‪.‬‬
‫دفرت مدر�سي �صغري ومهمل‪ ،‬ا�شرتته من الندوة ال�صغرية يف‬
‫�آخر باحة ال�سجن‪� ،‬أ�صبح ديوان ًا لكل ما ميكن �أن ت�شعر به‪،‬‬
‫حتلمه‪ ،‬يحدث لها �أو لغريها‪.‬‬
‫�سمته‪ :‬دفرت مذكراتي‪ .‬وعليه كتبت(‪:)34‬‬ ‫ّ‬
‫(�سمعنا �رصاخ انت�صار وت�صفيق‪ ،‬وهي عادتهم عند كل‬
‫اعتقال رفيق جديد يعتربونه مهم ًا‪ ،‬من نافذة فوق ال�سقيفة‬
‫مطلة على الطابق العلوي حيث يجري التحقيق‪.‬‬
‫ثم تال ال�ضجيج �رصخات �أمل ناجتة عن التعذيب‪� .‬رصنا‬
‫نطرق جدران الزنازين ع ّلنا نح�صل على ا�سم املعتقل اجلديد‪.‬‬
‫ال �إذ فتح باب املزدوجة‪ ،‬وطلبوا بثينة‪.‬‬ ‫ومل يدم بحثنا طوي ً‬
‫فتهاوينا مدركني �أنه نزار زوجها‪ ،‬وكانت قد �أخذت رهينة‬

‫(‪ )34‬معظم �أيام ال�سجن وتفا�صيله دونتها ناهد على ذلك الدفرت‪ ،‬وكذلك‬
‫وال�شعار‪ ،‬ليغدو الدفرت ذاك وثيقة‬ ‫الغاين أ‬ ‫مالحظاتها و�أفكارها وبع�ض أ‬
‫عن زمن االعتقال وتفا�صيله‪ .‬ومن ذاك الدفرت ا�ستعارت الرواية هذه الكثري‪.‬‬
‫واليوميات املن�شورة هي كذلك مرتوكة كما كتبت متام ًا‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫من �أجله‪ .‬وعندما عادت �أخربتنا ب أ�نهم عذبوها �أمامه(‪.)35‬‬
‫يف نف�س اليوم علمنا �أنهم اعتقلوا م�رض‪.‬ج(‪ ،)36‬وكنا قد‬
‫�سمعنا �أ�صوات تعذيبه‪ ،‬دون �أن ندري �أنه هو‪ ،‬ملدة ت�سع‬
‫�ساعات متوا�صلة‪).‬‬

‫المن �إىل غرفة التعذيب فوق‪،‬‬ ‫(‪� )35‬أخذت بثينة‪ .‬ت من الزنزانة يف قبو فرع أ‬
‫كان زوجها مربوط ًا من �ساعديه �إىل ال�سقف واجلالدون يبا�رشون بتعذيبه‪،‬‬
‫ج�سده مليء بالقروح والدماء والطمي�شة تغطي عينيه‪ .‬حاولت بثينة االقرتاب‬
‫لكن اجلالدين مل ي�سمحوا لها‪ ،‬ا�ستطاعت �أن تتمل�ص لثوان من بني �أيديهم‬
‫الحاطة بج�سده املعلق‬ ‫لرتمي الطمي�شة عن عيون نزار وترمتي �أر�ض ًا حماولة إ‬
‫لكنها مل تطل �سوى �ساقه لرتمي قبلة �رسيعة خاطفة على ركبته املدماة‪.‬‬
‫(‪ )36‬م�رض‪ .‬ج من مواليد ‪� 1960‬أحد املعتقلني ال�شيوعيني املعار�ضني‪ .‬كان‬
‫امل�س ؤ�ول عن منطقية املدينة ال�شمالية‪ .‬تويف �سنة ‪ 1987‬يف املعتقل حتت‬
‫التعذيب‪ ،‬وبعد ع�رش �ساعات فقط من اعتقاله ب�سبب حالة الربو التي كان‬
‫يعاين منها‪ .‬مل ت�س ّلم جثته �إىل �أهله حتى اليوم‪ ،‬ومل يعرتف ر�سمي ًا بعد مبقتله‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫احلرب النف�سية أ�و ً‬
‫ال‪..‬‬
‫االعتقـال‬

‫‪71‬‬
‫الغاين‪:‬‬‫أ‬
‫اخليالة‬
‫بكرا ملا بريجعوا ّ‬
‫برتجع يا حبيبي‪..‬‬
‫المن‪ 1‬قاهراً‬ ‫�صوت بثينة‪.‬ت ي�صدح يف ممرات فرع أ‬
‫(‪)37‬‬

‫ال�صمت الوح�شي‪ ،‬مالئ ًا حنايا اجلدران املوح�شة ب أ�لفة غريبة‬


‫متام ًا عنها‪.‬‬
‫بحق عنوان ًا ل�سنوات االعتقال حتى ال‬ ‫�صوت بثينة كان ّ‬
‫يكاد حدث يغيب عن مرمى �صوتها و�أغنياتها‪.‬‬
‫وقت ي أ�تي الليل‪ ،‬يغيب الرعب الذي يبثه عنا�رص أ‬
‫المن بني‬
‫الزنازين ويف الكوريدورات‪ ،‬تبد�أ بثينة الغناء من املزدوجات‬
‫التي كانت مليئة باملعتقالت‪ ،‬لري ّد عليها املعتقلون يف الزنازين‬
‫الخرى‪.‬‬ ‫أ‬
‫(‪ )37‬بثينة‪ .‬ت‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ ،1957‬اعتقلت كرهينة عن زوجها‬
‫يف �سنة ‪ 1987‬وحتى �سنة ‪.1990‬‬

‫‪72‬‬
‫�أغنيات تتواىل وتت�صاعد حتى ال�صباح‪.‬‬
‫ك أ�ن الغناء كان الو�سيلة الوحيدة إلعادة الروح �إىل مكانها‬
‫بعد �أن م�سخها املعتقل!‬
‫حتى ال�سجانة بكوا �أحيان ًا حتت ع�صف �أغنية ما! ولطاملا‬
‫ناجاها امل�ساعد «�أبو �شادي»‪:‬‬
‫ال‪� ..‬صوتك حلو‪ ..‬غ ّني قلي ً‬
‫ال‪.‬‬ ‫‪ -‬غ ّني قلي ً‬
‫يتمايل حتت �سطوة الطرب وهو قابع على كر�سي املراقبة‪،‬‬
‫تخ�ش مع‬
‫ّ‬ ‫ومفاتيح الزنازين تتحول بني يديه �إىل �آلة مو�سيقية‬
‫النغمات‪.‬‬
‫رمبا حتيل تلك الفكرة للذاكرة فيلم ًا كرتوني ًا من �إنتاج �رشكة‬
‫النكليزي‬ ‫والت ديزين لل�سينما‪ .‬الفيلم يحكي ق�صة املتمرد إ‬
‫ال�شهري روبن هود يف حربه �ضد امللك املزيف‪.‬‬
‫ظل مرابط ًا يف غابات �شريوود حتى‬ ‫روبن هود (الثعلب) ّ‬
‫(ال�سد) من حروبه وا�ستعادته الكر�سي‬ ‫عودة امللك ريت�شارد أ‬
‫امللكي من جديد‪.‬‬
‫يف ذاك الفيلم الكرتوين يعمل املتمردون يف الغابة على‬
‫ال�صلع)‪،‬‬ ‫(ال�سد أ‬‫الخ أ‬ ‫ت أ�ليف وتلحني �أغنية �ساخرة عن امللك أ‬
‫الطاغية الذي ا�ستوىل على العر�ش يف غياب �أخيه‪ ،‬وراح‬
‫الغنية �إىل الق�رص‬ ‫ي�ضطهد النا�س وي�رسق �أموالهم‪ .‬و�صلت أ‬
‫للغنيات �أجنحة يف العادة‪ .‬و�صلت بال�ضبط‬ ‫امللكي‪ ،‬ذلك �أن أ‬
‫ثم م�شهد معبرّ للغاية يغ ّني‬ ‫�إىل م�سمع جنود امللك‪ .‬لي أ�تي من ّ‬

‫‪73‬‬
‫فيه قائد جند امللك (الدب) أ‬
‫الغنية نف�سها التي تف�ضح الطاغية‬
‫وتهز�أ به‪ ،‬يغنيها وهو َط ِرب م أ�خوذ بنغماتها اللطيفة‪ ،‬في�سمعها‬
‫الخر الغناء بدوره‪.‬‬‫(احلية) منه ويبد�أ هو آ‬
‫الوزير ّ‬
‫رمبا كان أ‬
‫للغاين قوة ال ت�ستطيع �أية �سلطة �أن ّ‬
‫تقو�ضها‪.‬‬
‫للغاين �أجنحة قادرة على هزمية �أية جدران مهما علت‬ ‫أ‬
‫ع�صية على االخرتاق‪.‬‬‫وبدت ّ‬
‫للغاين مكان يف القلب ال عالقة له بانتماءاتنا‪ ،‬ذلك �أنها‬ ‫أ‬
‫تخاطب ذاك اجلزء العميق واملدفون يف داخل كل منا مهما‬
‫كان‪ ،‬ومهما اختلفت دوافعه و�آرا ؤ�ه واعتباراته وم�صاحله‪.‬‬
‫يف م�شهد لي�س ببعيد كانت بثينة‪.‬ت تغ ّني ذات ليل‪ ،‬وتر ّد‬
‫الخرى املقابلة حتى طلع‬ ‫عليها حميدة‪.‬ت من املزدوجات أ‬
‫ال�صبح حوايل ال�ساعة ال�ساد�سة‪.‬‬
‫حينئذ جاء ال�سجان م‪ ،‬امللقّب باحلمام الزاجل(‪ ،)38‬وهم�س‬
‫�إىل بثينة من وراء باب الزنزانة مت أ�ثراً‪:‬‬
‫‪ -‬كنت �أ�سمعك منذ بداية الليل‪.‬‬
‫الغنية التي حتبها‪ ..‬يا‬‫‪َ -‬مل مل تقل يل؟ كنت غ ّنيت لك أ‬
‫جبل البعيد‪.‬‬
‫(‪ )38‬كان ال�سجان م يد�أب على نقل الر�سائل بني املعتقلني داخل الفرع‪ ،‬و�إىل‬
‫�إي�صال ر�سائلهم املكتوبة وال�شفوية �إىل �أهاليهم وذويهم يف اخلارج‪ .‬حني‬
‫اكت�شف �أمره‪ ،‬قام مدير ال�سجن مبعاقبته وتعذيبه‪ ،‬وعمل على �رضبه ب�شكل‬
‫متوح�ش يف كوريدور الفرع ال�سفلي املطل على املنفردات والزنازين وعلى‬
‫م�سمع من املعتقلني واملعتقالت �إمعان ًا يف حتقريه‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫عرفت �أين �أ�سمعك ملا غ ّنيت مثلما غنيت اليوم‪ ..‬كان‬ ‫ِ‬ ‫‪ -‬لو‬
‫غناك حلو‪ ..‬حلو كتري‪.‬‬
‫حنا اجلودة �أي�ض ًا كان �رشيك ًا يف حفالت الغناء‪.‬‬
‫هو رجل لبناين فل�سطيني نحيل غزا ال�شيب كامل ر�أ�سه‬
‫ف أ��ضحى كتاج من ف�ضة مييزه‪.‬‬
‫كان حنا متهم ًا بتزوير جوازات �سفر‪ ،‬و�إدارة ال�سجن‬
‫ت�ستخدمه جللب املعلومات من بقية املعتقلني‪ .‬على الرغم‬
‫من �أن اجلميع‪ ،‬تقريب ًا‪ ،‬كان عارف ًا بوظيفة حنا املخابراتية �إال‬
‫�أن �صوته اجلميل‪ ،‬خ�صو�ص ًا حني يغني مواويل عبد الوهاب‬
‫وي�صدح يف كوريدورات الفرع‪ ،‬ين�سيهم �أي موقف م�سبق‬
‫منه‪:‬‬
‫بالبحر مل فتكم بالرب فتوين‬
‫بالترب مل بعتكم بالتنب بعتوين‪..‬‬
‫�أمام زنزانته رقم ‪ 201‬كان حنا ي�ستطيع اجللو�س على‬
‫كر�سيه بعد �أن ير�شو ال�سجانة مببلغ ما‪ .‬ككل ليلة كان يبد�أ بغناء‬
‫�شيفرته التي �صارت معروفة يف الفرع‪ :‬ر ّدي علي ك ّلميني‪.‬‬
‫حينئذ تر ّد بثينة‪ ،‬وقد فهمت ال�شيفرة وحفظتها‪ ،‬من الطاقة‬
‫على ال�سقيفة فوق املزدوجات‪ ،‬فيبدو �صوتها هادراً ك أ�نها‬
‫تغني يف مكرب لل�صوت‪.‬‬
‫ال�رس حتى يبكي‬ ‫ال�شجي آ‬
‫ّ‬ ‫يبد�أ الثنائي‪ ،‬بثينة وحنا‪ ،‬بالغناء‬
‫ال�سجن كله‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫لكن ذاك اليوم �أتى واكت�شف �أطباء ال�سجن �أن مر�ض‬
‫ال�رسطان طال كبد حنا اجلودة بالكامل‪ ،‬و�أن �أيامه غدت‬
‫معدودة‪ .‬جلبوه من امل�ست�شفى ليودع ال�سجن بكل نزالئه‪:‬‬
‫ال�سجانة واملعتقلني‪.‬‬
‫يحب دائم ًا‬
‫ّ‬ ‫و�ضعوا له الكر�سي يف الكوريدور‪ ،‬كما كان‬
‫طيلة �سني �سجنه‪ ،‬لكن هذه املرة بجانب مزدوجات ال�صبايا‪.‬‬
‫ومن هناك ا�ستطاعت املعتقالت ر ؤ�يته من ثقب الباب‪.‬‬
‫كل بدورها تتل�ص�ص عليه ثم ترتك الثقب لرفيقتها‪.‬‬
‫ال للغاية و�شاحب ًا ك�شبح‪.‬‬‫كان حنا اجلودة قد �أ�ضحى نحي ً‬
‫وقتئذ‪ ،‬وحاملا ملحته بثينة على هيئته املحزنة‪� ،‬صارت تناديه من‬
‫علي كلميني‪ .‬ال�شيفرة التي كان يناجيها بها‪.‬‬ ‫الداخل‪ :‬ردي ّ‬
‫ال على كر�سيه وال يرد‪.‬‬‫لكنه بقي �صامت ًا هزي ً‬
‫�أخرياً غ ّنت له بثينة‪:‬‬
‫قدي�ش حلوة هال�شيبة‬
‫بتنقّط ح�سن وهيبة‬
‫‪...‬‬
‫الخرية‪.‬‬‫وبكى حنا اجلودة للمرة أ‬
‫بعد يومني �أعيد �إىل امل�ست�شفى ومات هناك‪.‬‬
‫الغاين كتبت ناهد‪.‬ب يف مذكراتها‪:‬‬ ‫عن أ‬
‫الخرى للمقاومة وللتوا�صل مع‬ ‫(كان الغناء هو الو�سيلة أ‬
‫الزنازين �أي�ض ًا‪ .‬خا�صة �أن �أزواج بع�ض رفيقاتنا كانوا هناك‪.‬‬

‫‪76‬‬
‫بعد نوم احلرا�س كان �صوت بثينة ال�شجي يح�رض �أغاين فريوز‬
‫لعندنا فيغيب املكان والزمان‪ ،‬ونطري مع طيارة فريوز الورقية‪،‬‬
‫وجنل�س حتت العري�شة �سوا‪ ،‬والزنابق حدنا تعلو‪ ،‬ون�شم رائحة‬
‫الطيون يا �ستي‪ ،‬ون�سهر على ال�سطح كي ال ين�سانا القمر‪.‬‬
‫كانت جتل�س على ال�سقيفة فوق املزدوجات بجانب‬
‫النافذة املطلة على املمر‪ ،‬وتبد�أ الغناء لي�سمع زوجها ورفاقه يف‬
‫الزنازين‪..‬‬
‫يا حلو �شو بخاف �إين �ضيعك‪..‬‬
‫طلعنا على ال�شم�س طلعنا ع احلرية‪..‬‬
‫يا حرية يا طفلة وح�شية‪ ..‬يا حرية‪).‬‬

‫‪77‬‬
78
‫‪1982‬‬

‫مل يكن �أمام هند‪.‬ق(‪ ،)39‬يف فرتة اعتقالها الطويلة يف‬


‫المر الذي وهبها‬ ‫املنفردة‪� ،‬إال الغناء لفريوز ب�صوت خفي�ض‪ ،‬أ‬
‫احليز امل�ضغوط اخلانق واملوح�ش‬ ‫متعة لها مالمح اخلال�ص من ذاك ّ‬
‫كقرب‪.‬‬
‫رمبا كانت تغ ّني لنف�سها لي�س �إال‪.‬‬
‫واليام نفذت ذاكرتها متام ًا‪ ،‬كل ما كانت‬ ‫الغاين أ‬ ‫مع مرور أ‬
‫الغاين �ألقته يف هدوء زنزانتها‪� ،‬صاخب ًا �أو ناعم ًا‪،‬‬ ‫حتفظه من أ‬
‫(‪ )39‬اعتقلت هند‪ .‬ق �سبعة �أ�شهر يف املنفردة يف االعتقال أ‬
‫الول‪ ،‬و�شهرين يف‬
‫االعتقال الثاين‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫بنغمات �رسيعة �أو متهادية‪� ..‬ألقته كله!‬
‫لتذكر �أغنية جديدة‪.‬‬ ‫ثم بد�أت جتاهد ّ‬
‫رمبا مرت �ساعات وهند تق ّلب ذاكرتها بحث ًا‪ ،‬وحني تتذكر‬
‫�أغنية من�سية ت�شعر ب�سعادة غامرة وهي تدندنها ك أ�نها �أهديت‬
‫اللق يف خوائها‪.‬‬ ‫بث أ‬ ‫كتاب ًا جديداً يعمل على ّ‬
‫�إنه �أ�سلوب نف�سي ال غري‪� ،‬أنا مقتنعة بذلك‪.‬‬
‫االعتقال والتحقيق حرب نف�سية ال غري‪ ..‬وينبغي �أال �أ�سمح‬
‫ملعنوياتي باالنهيار‪.‬‬
‫يهد كياين بل احلرب النف�سية �أو ًال‪.‬‬ ‫مل يكن التعذيب هو ما ّ‬
‫يريدونني �أن �أنهار قبل �أن �أتلقى �صفعة واحدة‪� ،‬أن �أدخل‬
‫غرفة التعذيب و�أنا منهارة وحمطمة‪ ،‬بالتايل ي أ�تي ال�رضب تتمة‬
‫لالنهيار النف�سي‪.‬‬
‫بعد �أكرث من ‪ 45‬يوم ًا من �سجني يف املنفردة قمت ب�صنع‬
‫ال آلكل بها بدل‬ ‫ملعقة من عظم ظهر الفروج‪ ،‬ا�ستخدمتها طوي ً‬
‫املالعق املنفّرة التي كان ال�سجانة ي أ�تونني بها مع ق�صع الطعام‬
‫املعدنية‪.‬‬
‫اعتدت امللعقة‪� ،‬أحببتها‪� ،‬صارت جزءاً من عاملي ال�ضيق‪،‬‬
‫ال�شياء‪.‬‬ ‫جزءاً خا�ص ًا ومميزاً يف مكان ال حميمية فيه �إال مع أ‬
‫كانت تلك امللعقة من �أ�شيائي احلميمية هنا‪.‬‬
‫�أتى وقت بليت فيه مع اال�ستعمال‪ ،‬فبكيت‪ ..‬بكيت طوي ً‬
‫ال‬
‫ويخ�صني قد غاب‪.‬‬
‫ّ‬ ‫عليها‪� ،‬أح�س�ست ب أ�ن جزءاً دافئ ًا‬

‫‪80‬‬
‫احلرمان كان يحيط هند بكليتها‪.‬‬
‫المر كما و�صفته متام ًا‪ :‬حرب‪.‬‬ ‫احلرمان من كل �شيء‪ .‬كان أ‬
‫حرب ي ؤ�يدها �شعور �أليم بالوحدة واحل�صار والعجز‪ .‬لكن‬
‫الكرث �إيالم ًا كان حرمانها من رائحة القهوة أ‬
‫الثرية �إىل‬ ‫المر أ‬ ‫أ‬
‫قلبها‪.‬‬
‫مل يكن ل�صباحات الزنزانة معنى ال�صباحات وهي مت�ضي‬
‫دون رائحة خرجت من ذاكرتها لتحا�رصها يف كل دقيقة‪.‬‬
‫انح�رصت كل رغباتها يف حلظة بر�شفة من القهوة تفوح منها‬
‫رائحة الهيل ّ‬
‫املنكه‪.‬‬
‫ر�شفّة واحدة قد تخت�رص كل رغباتها‪ ،‬تك ّثفها‪.‬‬
‫جتر�أت ذات �صباح وقالت لل�سجان‪:‬‬
‫‪� -‬أنا على ا�ستعداد �أن �أعطيك كل ما معي من نقود‪ .‬فقط‬
‫اجلب يل فنجان ًا من القهوة‪� ..‬أيام طويلة مرت مل �أتن�شق فيها‬
‫رائحة القهوة‪ ..‬فنجان ًا واحداً فقط‪.‬‬
‫كانت متلك يف ذلك اليوم حوايل املئة لرية‪.‬‬
‫الوىل‪ ،‬نظر �إليها ال‬‫لكن ال�سجان مل ي�ستجب لها يف املرة أ‬
‫مبالي ًا‪ ،‬رمى لها الق�صعة‪ ،‬وخرج مغلق ًا الباب‪.‬‬
‫�صارت تطالبه بالقهوة كلما �أدخل لها الطعام‪� ،‬أو �أخرجها‬
‫�إىل التواليتات‪� ،‬أو فتح عليها الزنزانة‪ ..‬حتا�رصه بحنينها‬
‫العا�صف لر�شفة‪.‬‬
‫ذات يوم جاءين ظهراً‪� ،‬س أ�لني عن كا�سة ال�ستانل�س التي‬

‫‪81‬‬
‫�أ�رشب فيها‪.‬‬
‫‪ -‬وين كا�ستك يا ‪36‬؟‬
‫هم�س برقم زنزانتي وقد �صار هو ا�سمي‪.‬‬
‫لده�شتي �أخرج من وراء ظهره �إبريق ًا معدني ًا‪� ،‬سكب �سائ ً‬
‫ال‬
‫البني املعتق يف ك أ��سي‪ ،‬لت�صعد‬‫بني ًا له رائحة القهوة ولونها ّ‬
‫الهبلة(‪ )40‬حولها‪ ،‬وتعبق الرائحة يف الزنزانة ال�ضيقة‪.‬‬
‫رائحة نفاذة تف ّتح الروح حتى �أين خ�شيت �أن ّ‬
‫ي�شمها من يف‬
‫اخلارج‪ .‬كانت تلك �أثمن هدية قد تتلقاها امر�أة يف زنزانة‪ :‬ك أ��س‬
‫كامل من القهوة ال�ساخنة‪ ..‬يا �إلهي كم كانت �ساخنة و�شهية‬
‫ومليئة بالغواية!‬
‫ظللت �أرت�شف من القهوة حتى امل�ساء‪.‬‬
‫ر�شفة فر�شفة‪..‬‬
‫ك أ�ين كنت �أخ�شى �أن تنتهي‪ .‬كلما فُتح باب الزنزانة �أخبئ‬
‫كنزي وراء الفر�شة التي �أتو�سدها‪ ،‬ألعود �إليه من جديد‪� ،‬أتوحد‬
‫مع لذته‪ ،‬حال انغالق الباب‪.‬‬
‫بعد ت�سعة �أ�شهر يف املنفردة‪ ،‬بال زيارات وال �أغرا�ض‪ ،‬ومع‬
‫توقف التحقيق منذ وقت طويل كان الكيل قد فا�ض بهند‪ ،‬ومل‬
‫تعد تقوى على االحتمال‪.‬‬
‫ذات �صباح حني جلبوا لها الفطور �صاحت بال�سجان‪،‬‬
‫جمعتهما طيلة ال�شهور املا�ضية‪:‬‬ ‫بكل ما �أوتيت من قوة وحزم ّ‬
‫(‪ )40‬الهبلة‪ :‬دخان القهوة‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫‪� -‬أنا م�رضبة عن الطعام‪ ..‬اذهب وقل ملديرك‪.‬‬
‫ما كان من ال�سجان �إال �أن ذهب من فوره‪ ،‬لي أ�تي رئي�س‬
‫ال�سجانة‪� .‬أجابته اجلواب نف�سه فما كان من أ‬
‫الخري �إال �أن‬
‫ذهب م�رسع ًا لي أ�تي �ضابط جديد‪ ،‬وي�س أ�ل عن ال�سبب‪.‬‬
‫‪� -‬إما اعطوين كتب �أو جرايد‪.‬‬
‫قالت هند وهي تتكئ على احلائط يف زاوية الزنزانة‪.‬‬
‫‪� -‬أنت �سجينة وتريدين �أن تطلبي وتتغنجي؟ �أن�سيت �أنك‬
‫�سجينة؟‬
‫‪ -‬انقلوين �إىل مهجع الن�سوان �إذاً‪.‬‬
‫‪ -‬ومن قال لك �أن عندنا ن�سوان؟!!‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬عندكم ن�سوان‪..‬‬
‫‪ -‬وهل جنلب لك ن�ساء من ال�شارع حتى تفرحي؟!‬
‫�رصخ ال�ضابط �ساخراً بتك�شرية مرعبة على وجهه‬
‫الغا�ضب‪.‬‬
‫م�رصة فقد فا�ض الكيل بها حق ًا‪ .‬ت�سعة �أ�شهر‬ ‫لكنها كانت ّ‬
‫يف منفردة مل تكن لعبة باملرة‪.‬‬
‫�ضب �أغرا�ضي‪.‬‬
‫يف ال�ساعة الثالثة ظهراً قالوا يل �أن �أ ّ‬
‫مل يكن لدي الكثري‪ :‬ب�شكري وحمارم تواليت وكا�سة ميالمني‬
‫ودخان حمرا‪ .‬خالل دقائق كانوا ينقلونني �إىل مهجع ا�سمه‪:‬‬
‫املهجع ‪.11‬‬
‫تناهى �إىل �سمعي‪ ،‬و�أنا �أقرتب يف الكوريدور‪� ،‬صوت‬

‫‪83‬‬
‫و�شو�شات ناعمة كانت تت�صاعد وال�سجان يفتح يل الباب‪.‬‬
‫وان�سفحت �أمام ناظري جمموعة ن�ساء مبعرثات يف املهجع‪.‬‬
‫ال�سالميات!‬‫كان مهجع ًا للمعتقالت إ‬
‫مل �أكن �أت�صور البتة �أن هناك �سبع �إ�سالميات معتقالت قربي‬
‫الن �أ�صبحت �أنا املعتقلة الثامنة‬ ‫يف قبو الفرع وطيلة �شهور‪ .‬آ‬
‫بينهن‪.‬‬
‫يدمر الب�رش باملعنى الداخلي‪ .‬ال�سجون �أ�ساليب‬ ‫لكن ال�سجن ّ‬
‫ال�سو�أ‪ ،‬وكل ما عمل‬ ‫لقتل الب�رش يف الب�رش‪ُ .‬يغلق الباب فيفي�ض أ‬
‫الن�سان �أي‬‫املرء خارج ًا على �إخفائه �أو مداراته‪� ،‬أ�سو�أ ما يف إ‬
‫اجلانب الذي مل يفكر به يوم ًا‪ ،‬يخرج بكل و�ضوح‪.‬‬
‫النا�س عارية هناك �أمام بع�ضها‪ ،‬عارية متام ًا‪ ،‬والعري �صعب‬
‫�أمام النف�س فما بالك �أمام الغري‪.‬‬
‫ال�سالميات طلبها‬ ‫يف اليوم الثاين ملجيئها �إىل مهجع إ‬
‫ال�سالميات يطلقنه على مدير ال�سجن‪.‬‬ ‫(املعلم)‪ :‬ا�سم كانت إ‬
‫خاطبها (املعلم) بلهجة هادئة غري م أ�لوفة بعد �أن طلب من‬
‫احلاجب �أن يقدم لها ك أ��س ًا من الزهورات ال�ساخنة‪ .‬كانت املرة‬
‫الوىل التي ت�صعد �إىل‬ ‫الوىل التي تراه هند فيها‪ ،‬ألنها املرة أ‬ ‫أ‬
‫مكتبه دون �أن تكون الطمي�شة على عينيها‪.‬‬
‫‪ -‬ارحتت يف املهجع؟‬
‫‪ -‬كله �سجن‪.‬‬
‫ال�سالميات؟‬ ‫‪ -‬طيب‪ ..‬ما ر�أيك �أن تنا�ضلي بني إ‬

‫‪84‬‬
‫‪ -‬هذه لي�ست �شغلتي‪.‬‬
‫كان جواب هند على اقرتاح املعلم �أن تعمل خمربة و�سط‬
‫ال ي�رشح لها كيف‬ ‫ال�سالميات‪ .‬لكن مع ذلك ظل املدير طوي ً‬ ‫إ‬
‫وال�سالميون �أخط ؤ�وا‪،‬‬ ‫يجب �أن يعاقب املرء حني يخطئ‪ ،‬إ‬
‫وعليهم �أن يعاقبوا‪ .‬ورمبا كانت هذه و�سيلة كي تكفّر هند عن‬
‫�أخطائها بحق الوطن‪ ..‬وما �إىل ذلك من خطبة طويلة ا�ستمعت‬
‫�إليها هند مرغمة‪.‬‬
‫ن�صف �ساعة كاملة وهو يتكلم فيما ت�ستمتع هند بدفء‬
‫ال�سائل املحلى ينزل متهادي ًا �إىل ج�سدها‪.‬‬
‫نهاية احلديث كان وا�ضح ًا �أن املعلم �أ�سقط يف يده‪.‬‬
‫‪ -‬هل تريدين �شيئ ًا؟‬
‫�س أ�لها بجفاء هذه املرة‪ ،‬واعتقدت هند �أنه �سيعيدها على‬
‫الفور �إىل املنفردة‪.‬‬
‫‪� -‬أريد ت�شعيلة للدخان فقط‪.‬‬
‫‪ -‬اطلبي من ال�سجانة عندما حتتاجني �إليها‪.‬‬
‫‪ -‬كلما طلبت منه يتمايع ويتغالظ‪ ..‬يف احلقيبة التي جئت‬
‫بها ت�شعيلة‪ ..‬بدي �إياها ب�س‪.‬‬
‫‪ -‬وماذا �أي�ض ًا؟‬
‫‪ -‬كتب �أو جرايد وجمالت‪� ..‬س أ��صبح �أمية بعد فرتة �إذا‬
‫ظللت هكذا‪.‬‬
‫نزلت هند من مكتب املعلم‪ ،‬لكن �إىل املهجع ‪ 11‬ولي�س‬

‫‪85‬‬
‫�إىل الزنزانة‪ ،‬معها الت�شعيلة فقط‪ ،‬دون كتب وجمالت بالطبع‪..‬‬
‫لتظل حوايل ال�شهرين قبل �أن يطلق �رساحها من اعتقالها‬
‫الول‪.‬‬ ‫أ‬

‫‪86‬‬
‫‪1987‬‬

‫ال�ساعة اخلام�سة والن�صف �صباح ًا‪ :‬داهموا البيت‪.‬‬


‫الليلة الكانونية الباردة ما تزال تنفث �صقيعها مع اقرتاب‬
‫المن الع�سكري على الباب تكاد‬ ‫ال�رشوق‪ ،‬وخبطات عنا�رص أ‬
‫تخلعه‪.‬‬
‫كانوا يريدون نزار زوج بثينة‪.‬ت‪.‬‬
‫التي من‬ ‫لكنه كان قد �سبقهم‪ ،‬حاملا �سمع ب�ضجيجهم آ‬
‫�صمت املكان‪ ،‬وقفز من �رشفة البيت �إىل �رشفة اجلريان قبل �أن‬
‫تفتح زوجته الباب لهم ك أ�ن �شيئ ًا مل يكن‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫الربعني لوالدتها‪.‬‬ ‫ليلتئذ كانت بثينة قد �أمتّت اليوم أ‬
‫مدعية ا�ستيقاظي للتو‪� ،‬أ�شهر ال�ضابط‬ ‫فتحت الباب‪ّ ،‬‬ ‫ُ‬ ‫حني‬
‫المنية يف وجهي‪:‬‬ ‫الهوية أ‬
‫‪ -‬زوجي لي�س هنا‪.‬‬
‫بالطبع مل يكتفوا بكلمتي‪ ،‬دخلوا البيت من فورهم‬
‫بالع�رشات كالداخل �إىل �ساحة حرب‪ .‬ف ّت�شوا كل زاوية فيه‪،‬‬
‫بالدبيات‪ :‬البيانات واملنا�شري واملجالت‪...‬‬ ‫كان مليئ ًا أ‬
‫د�سوا الفر�شة وكانت ما تزال دافئة‪ ،‬هذا يعني �أن نزار مل‬ ‫ّ‬
‫يبتعد‪.‬‬
‫�أجربوين‪ ،‬بعد انتهائهم من التفتي�ش‪ ،‬على النزول من البيت‬
‫المن (�ستي�شن بي�ضاء) مع ابنتي‪ ،‬و�أنا ما زلت �أرتدي‬ ‫�إىل �سيارة أ‬
‫قمي�ص النوم يف برد كانون‪ ،‬مل يدعوين �أغيرّ ه‪� ،‬أو �أرمي ردا ًء ما‬
‫على ال�صغريتني‪.‬‬
‫الربعني يوم ًا بعد‪،‬‬ ‫ابنتي ال�صغرى راما‪ ،‬مل تكن تبلغ أ‬
‫الربع‬ ‫�شدها بقوة �إىل �صدري‪ ،‬فيما �أنزلوا الكربى النا‪ ،‬ذات أ‬ ‫�أ ّ‬
‫�سنوات‪ ،‬حافية باكية ورائي‪.‬‬
‫المن‪.1‬‬ ‫�أخذوهن على الفور �إىل فرع أ‬
‫هناك يف زنزانة يف جماهل الطابق ال�سفلي بقيت االبنتان مع‬
‫الم حتى �أقبل الليل حني �أتت جدتهما و�أخذتهما‪ .‬كان �أطول‬ ‫أ‬
‫مر على بثينة يف حياتها‪ ،‬ق�ضته يف حماولة حلماية الطفلتني‬ ‫نهار ّ‬
‫من الربد والوح�شة‪ ،‬ويف درء �شعور بالعجز الكامل راح ّ‬
‫يقطع‬

‫‪88‬‬
‫دواخلها‪.‬‬
‫�أما ال�صغريتان فقد ق�ضتا نهاراً من الرعب احلقيقي يف ذاك‬
‫املكان الغريب البارد واملوح�ش‪.‬‬
‫ظلت بثينة‪.‬ت �أكرث من خم�سة �أيام يف املنفردة‪ ،‬وهي نف�ساء‬
‫تنزف‪ .‬كان ال�سجانة ي�ضطرون �إىل �أخذها يومي ًا �إىل امل�ست�شفى‪،‬‬
‫ثم �إعادتها من جديد‪ ،‬ذلك �أن �شحوب وجهها‪ ،‬والدماء‬ ‫ومن ّ‬
‫املن�سابة‪ ،‬التي ّلوثت ثيابها والفر�شة وحتى �أر�ض املنفردة‪،‬‬
‫جعلتهم يرتعبون من �إمكانية موتها‪ .‬مل يكونوا بحاجة �إىل‬
‫�شهيدة جديدة‪ ،‬ويف الوقت نف�سه لن يطلقوا �رساحها قبل‬
‫�أن ي ؤ�تي اعتقالها ثماره‪� ،‬أي‪ :‬ال�ضغط على زوجها كي ي�س ّلم‬
‫نف�سه‪.‬‬
‫اليام اخلم�سة عانت بثينة ل�سنوات قادمة‬ ‫نتيجة تلك أ‬
‫تقرح يف الرحم‪� ،‬إ�ضافة �إىل الكثري من امل�شاكل الن�سائية‬ ‫من ّ‬
‫الخرى‪ ،‬جعلتها تخ�ضع ألكرث من عملية جراحية م�ستقبلية‪.‬‬ ‫أ‬
‫بثينة �أخذت كرهينة على الرغم من �أن زوجها اعتقل بعدها‬
‫ب�شهر واحد فقط‪.‬‬
‫مل يطلق �رساحها �إال بعد ذلك ب�سنوات ثالث‪.‬‬
‫يف ال�سنة ذاتها و�صلت دفعة من ال�صبايا املعتقالت يف مدينة‬
‫ال�شمال بعد اعتقالهن هناك مدة �شهر تقريب ًا‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫كن ثماين معتقالت هن‪ :‬مي‪.‬ح(‪� ،)41‬سحر‪.‬ب‪ ،‬لينا‪.‬ع(‪،)42‬‬ ‫ّ‬
‫أ‬
‫�أمرية‪.‬ح ‪ ،‬وفاء‪.‬ط �صاحبة ال�صوت اجلميل و�غاين �صباح‬
‫(‪)44‬‬ ‫(‪)43‬‬

‫فخري‪ ،‬حميدة‪.‬ت‪ ،‬هدى‪.‬ك(‪ .)45‬وغرناطة‪.‬ج‪.‬‬


‫مت نقلهن يف با�ص مع �أربعة من رفاقهن‪.‬‬
‫كان االنتقال �أ�شبه برحلة‪ ،‬ك أ�ن عنا�رص أ‬
‫المن يكفّرون �سلف ًا‬
‫عن �سني العذاب التي تنتظر ال�صبايا يف العا�صمة‪ .‬مل ي�ضعوا‬
‫الطمي�شات على عيونهن‪ ،‬كما جرت العادة‪ ،‬ومل يربطوا‬
‫�أيديهن بالكلب�شات‪ ..‬قاموا بكلب�شة ال�شباب فح�سب‪.‬‬
‫فر�صة جيدة كي يودعوا احلياة ملدة �أربع �سنوات قادمة‪.‬‬
‫غرناطة‪.‬ج‪ ،‬التي نقلت معهن من املدينة ال�شمالية حيث‬
‫اعتقلت‪ ،‬مل تكن قد بلغت احلادية والع�رشين من عمرها بعد‪،‬‬
‫تدر�س يف كلية الهند�سة امليكانيكية وذلك يف كانون الثاين �سنة‬
‫‪.1987‬‬
‫يف الليلة التي �سبقت يوم اعتقالها خرجت غرناطة يف‬
‫(‪ )41‬مي‪ .‬ح ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1957‬اعتقلت يف �سنة ‪1987‬وبقيت‬
‫مدة �سنتني ليطلق �رساحها ب�سبب و�ضعها ال�صحي‪.‬‬
‫(‪ )42‬لينا‪ .‬ع ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1966‬اعتقلت ملدة �سنة واحدة‬
‫كرهينة وذلك من �سنة ‪ 1987‬وحتى ‪.1988‬‬
‫(‪� )43‬أمرية‪ .‬ح ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ .1958‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى �سنة ‪.1991‬‬
‫(‪ )44‬وفاء‪ .‬ط ‪ :‬معتقلة �سيا�سية فل�سطينية من مواليد ‪ .1960‬اعتقلت يف �سنة‬
‫‪ 1987‬و�أطلق �رساحها بعد �ستة �أ�شهر‪.‬‬
‫أ‬
‫(‪ )45‬هدى‪ .‬ك ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ .1965‬اعتقلت �سنة ‪ 1987‬و�طلق‬
‫�رساحها بعد �ستة �أ�شهر‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫�صقيع ال�ساعة الثانية فجراً من بيت جدتها‪ .‬كان خالها قد‬
‫المن �س أ�ل عنها يف املدينة اجلامعية‬‫ات�صل منذ �ساعة وقال �إن أ‬
‫حيث ت�سكن‪ ،‬ومن ثم �س أ�ل يف بيت خالها يف املدينة نف�سها‪.‬‬
‫مل �أكن �أعرف ماذا �س أ�فعل؟‬
‫فتاة مثلي يف مدينة حمافظة كهذه املدينة‪ ،‬ويف وقت ع�صيب‬
‫كالثمانينيات‪ ،‬وبعد منت�صف الليل‪ ..‬ما الذي �س أ�فعله آ‬
‫الن؟!‬
‫نزلت �إىل ال�شارع‪ ،‬ومل �أجد نف�سي �إال و�أنا �أوقف �سيارة‬
‫تاك�سي ألذهب �إىل بيت �أ�صدقاء من املمكن �أن يكون بيتهم‬
‫�آمن ًا‪ .‬لكني مل �أجد �أحداً يف البيت‪ ،‬فلم يكن مني �إال �أن عدت‬
‫و�أوقفت �سيارة تاك�سي من جديد‪.‬‬
‫حتديقات �شوفري التاك�سي كانت حتا�رصين‪ ،‬جتربين على تربير‬
‫وجودي يف مثل هذا الزمان واملكان‪� .‬رصت �أ ؤ�لف ق�صة ما‬
‫تبدو مقنعة‪� :‬أين تعاركت مع زوجي يف الليل‪� ،‬أين هاربة منه‬
‫ومن بط�شه �إىل بيت �أهلي‪ ..‬وما �إىل ذلك‪.‬‬
‫حينها �س أ�لني ال�شوفري‪ :‬لوين بدك تروحي؟‬
‫مل يكن يف ذهني �شيء‪ ،‬رمبا كنت قد �أخذت التاك�سي ألترك‬
‫لنف�سي ف�سحة للتفكري‪ ..‬حينها تذكرت بيت �صديق حميم‪،‬‬
‫وتوجهت �إليه على الفور‪.‬‬
‫حني نزلت من ال�سيارة مل يكن هناك �أحد يف املنزل‪ ،‬م�شيت‬
‫ال‪ ،‬كان هناك بناية ببيت درج زجاجي‪ ،‬دخلت‬ ‫�إىل أ‬
‫المام قلي ً‬
‫�إليها وقعدت �إىل ال�صبح‪ .‬الربد كان �شديداً‪ .‬كلما �سمعت �صوت ًا‬

‫‪91‬‬
‫العلى ثم �أعود حاملا يختفي‪.‬‬ ‫مقرتب ًا �أ�صعد الدرجات �إىل أ‬
‫طل الفجر حتى كنت قد انهرت متام ًا‪ ،‬فقررت‬ ‫ما �أن �أ ّ‬
‫الذهاب �إىل بيت �أ�صدقاء �آخرين‪.‬‬
‫الباب اخلارجي هناك كان مغلق ًا‪ .‬هذه ر�سالة تعني �أن هناك‬
‫المن بالت أ�كيد‪.‬‬ ‫�أحداً يف الداخل‪ :‬رجال أ‬
‫على الرغم من ذلك فتحت البوابة‪ ،‬ودخلت من فوري‪،‬‬
‫كانت ال�ساعة قد بلغت ال�سابعة �صباح ًا‪.‬‬
‫ال‪.‬‬‫المن كانوا يف الداخل فع ً‬ ‫رجال أ‬
‫�أنا �أ�شبه بطفلة مت�رشدة يف الع�رشينيات‪ ،‬ترجتف من الربد‬
‫والتعب‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا تريدين قبل �أن نذهب؟‬
‫المن على غري عادته وقت االعتقال‪.‬‬ ‫�س أ�لني �ضابط أ‬
‫‪� -‬أريد �أن �أنام‪.‬‬
‫بالفعل تركني �أنام يف الداخل حوايل �ساعتني‪.‬‬
‫الغريب �أين ارمتيت بكامل مالب�سي على ال�رسير‪ ،‬وغرقت‬
‫يف نوم عميق خالل هنيهات على الرغم من كل اجلو املتوتر‬
‫املحيط بي‪ .‬يف التا�سعة متام ًا �أيقظني‪:‬‬
‫‪ -‬مل نعد ن�ستطيع الت أ�خر �أكرث من ذلك‪ ..‬يا اهلل‪.‬‬
‫قال ال�ضابط‪ ،‬ثم طلب مني �أن �أغيرّ ثيابي‪ .‬كنت �أرتدي‬
‫تنورة وجاكيت وكندرة‪ ،‬فلب�ست بنطلون وبوط �صديقي‪،‬‬
‫المن‪ 2‬الع�سكري‪.‬‬ ‫ومن ثم �أخذوين �إىل فرع أ‬

‫‪92‬‬
‫مل يكن �أمام ال�صبايا الثماين‪ ،‬املنقوالت بالبا�ص من مدينة‬
‫ال�شمال �إىل العا�صمة‪� ،‬إال �أن يغنني طيلة الطريق‪ .‬كانت مي‪.‬ح‪،‬‬
‫التي اعتقلت �سابق ًا يف فرع العا�صمة‪ ،‬تنقل �إليهن طيلة الوقت‬
‫�صورة مفزعة عن الو�ضع يف الفرع‪ ،‬هذا ما جعلهن خائفات‬
‫للغاية‪.‬‬
‫الو�ساخ والقذارة هناك‪ ،‬عن احل�رشات‬ ‫حدثتهن عن أ‬
‫العجيبة والفئران‪ ،‬عن الوح�شية التي �سيعاملن بها‪ .‬حدثتهن‬
‫�أي�ض ًا عن اعتقالها ال�سابق وقت �أتتها الدورة ال�شهرية‪ ،‬بعد �أيام‬
‫ير�ض ال�سجان �أن ي أ�تيها باملحارم الن�سائية‪،‬‬
‫من االعتقال‪ ،‬ومل َ‬
‫للمر‪ ،‬وجتلب معها‬ ‫ألنها‪ ،‬ح�سب قوله‪ ،‬كان ينبغي �أن حتتاط أ‬
‫الفوط قبل االعتقال!!‪.‬‬
‫ا�ضطرت مي وقتئذ �إىل ا�ستعمال اجلرائد التي �أتاها ال�سجان‬
‫بها بدل الفوط الن�سائية‪.‬‬
‫على الرغم من كل ذلك �أملت ال�صبايا بو�ضع مغاير قلي ً‬
‫ال‪.‬‬
‫ألن الفرع يف مدينة ال�شمال كان قذراً للغاية‪ ،‬وال يعقل �أن‬
‫يكون هناك �أقذر منه‪ .‬حتى �أن بع�ضهن كحميدة ا�ضطرت �إىل‬
‫الو�ساخ عملت على جعل البثور‬ ‫�أخذ م�ضادات حت�س�س‪ ،‬ألن أ‬
‫جتن يف ج�سدها‪� .‬إ�ضافة �إىل �أنهن ح�رشن‪ ،‬وهن حوايل‬ ‫احلمراء ّ‬
‫خم�س ع�رشة معتقلة‪ ،‬يف زنزانة �ضيقة مما جعلهن م�ضطرات‬
‫�إىل تق�سيم �أدوار النوم‪ ،‬ق�سم ينام بطريقة الت�سييف(‪ )46‬فيما‬
‫الخر دوره عند الباب‪.‬‬ ‫ينتظر الق�سم آ‬
‫(‪ )46‬تنام املعتقلة على جنبها وقدماها عند ر�أ�س زميلتها اخت�صاراً للم�سافة‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫الو�ضع كان مرهق ًا حق ًا‪ ،‬ازداد ب ؤ��سه بوجود حالة ع�صبية‬
‫زادت الطني بلة‪ :‬فتاة كردية �شابة تدر�س يف املعهد الطبي‪.‬‬
‫على الرغم من عدم قيام الفتاة ب أ�ي فعل �سيا�سي خارج ًا‪،‬‬
‫وعدم انت�سابها �إىل �أي ف�صيل معار�ض‪ ،‬فقد اعتقلت ب�رشا�سة‬
‫�سمي‪ :‬امل ؤ�مترات الطالبية تلك ال�سنة‬
‫وذلك بتهمة ح�ضورها ملا ّ‬
‫يف جامعة ال�شمال‪ ،‬حيث ا�شتعلت امل�شاكل بني طالب االحتاد‬
‫الوطني للطلبة‪ /‬حامل لواء ال�سلطة وبني طلبة املعار�ضة‪.‬‬
‫كانت تلك الفتاة من بني البنات الكثريات اللواتي �سقن يف‬
‫ذلك الوقت �إىل ال�سجون‪.‬‬
‫اعتقلت الفتاة مع �صديقها الكردي‪� :‬آزاد‪.‬‬
‫يف ذلك اليوم عملت العنا�رص على تعرية الفتى متام ًا‪ ،‬ومن‬
‫ثم ّ‬
‫عذبوه تعذيب ًا وح�شي ًا وملدة طويلة وهم يجربونها على مراقبة‬
‫ذلك‪ ،‬كلما حاولت �إغما�ض عينيها يجربونها على فتحهما‪،‬‬
‫ي�شدون �شعرها‪ ،‬ويعاجلونها‬ ‫يغر�سون �أ�صابعهم بني جفنيها‪ّ ،‬‬
‫ب�رضبة مباغتة جتربها على البحلقة!‬
‫دخلت الفتاة يف حالة من االنهيار الع�صبي‪ .‬ظلت بعدها‬
‫�أكرث من ع�رشة �أيام وهي ت�رضب �أبواب املهجع بيديها ورجليها‪،‬‬
‫وت�رصخ بجنون فيما املكان ال�ضيق‪ ،‬الذي ينوء باملعتقالت‬
‫املح�شورات‪ ،‬يهت ّز من �صدى �ضجيجها و�ضجيج ال�رضب‬
‫على �أبواب احلديد‪.‬‬
‫ظلت الفتاة الكردية ت�رصخ‪ ،‬تزعق‪ ،‬تخبط‪ ،‬ت�شتم‪ ،‬وتتلوى‬

‫‪94‬‬
‫يف �أر�ض الزنزانة حتى �أخرجوها منها‪ .‬لكن �إىل �أين؟ هذا ما‬
‫مل يعرفه �أحد!‬
‫و�صل البا�ص من مدينة ال�شمال �إىل �ساحة رئي�سة يف‬
‫العا�صمة‪ ،‬وهناك راحت ال�صبايا يغنني‪:‬‬
‫زينوا ال�ساحة‪ ..‬وال�ساحة لينا‪..‬‬
‫كن يحاولن بالغناء �أن يطردن �شبح ًا قبيح ًا الزمهن عن‬ ‫رمبا ّ‬
‫حرة كانت‬ ‫العا�صمة‪� ،‬أو كن يحاولن �أن ي�سرتجعنها كمدينة ّ‬
‫الحرار ويف هذه ال�ساحة بالذات‪.‬‬ ‫تزف أ‬‫ال ّ‬ ‫قب ً‬
‫متت اليوم ب�صلة لكل ما كانته‪.‬‬
‫تلك ال�ساحة ال ّ‬
‫التي املرعب حتى‬ ‫رمبا كن يحاولن حت�صني �أرواحهن من آ‬
‫المن‪ 2‬الع�سكري‪.‬‬ ‫و�صلن فرع أ‬
‫حملة االعتقاالت التي طالت �أطياف املعار�ضة كانت �آنذاك‬
‫المنية من معلومات كان‬ ‫يف �آخرها‪ ،‬وكل ما تريده ال�سلطات أ‬
‫تكهن مي‪.‬ح يف غري مكانه‪.‬‬ ‫مك�شوف ًا لها‪ ،‬لذا فقد كان ّ‬
‫و�ضعت ال�صبايا يف غرفة و�أغلق الباب‪.‬‬
‫ال�شد خ�صو�ص ًا �أنهن و�صلن بعد‬ ‫هنا بد�أت الرحلة أ‬
‫المر الذي جعل �إمكانية تقدمي الطعام م�ستحيلة‪،‬‬ ‫الع�شاء‪ ،‬أ‬
‫وهن جائعات‪ ..‬جائعات جداً‪ .‬لذا كان البد من جمع كل ما‬ ‫ّ‬
‫لهن بب�ضع‬‫معهن من نقود‪ ،‬و�إعطائها لل�سجان املناوب لي أ�تي ّ‬
‫زيتونات‪ ،‬ي�سددن بها رمقهن‪.‬‬
‫الربعة‪ ،‬الذين ُو�ضعوا يف الغرفة املجاورة‪ ،‬د�أبوا‬ ‫ال�شباب أ‬

‫‪95‬‬
‫على دق احلائط امل�شرتك‪ :‬كانوا جائعني �أي�ض ًا‪.‬‬
‫لكن ما كان متاح ًا لل�صبايا مل يكن متاح ًا لهم‪ ،‬لذا فقد‬
‫حاولت البنات ا�ستخدام متديدات الكهرباء غري املنجزة‪ ،‬التي‬
‫�أحدثت ثقب ًا يف احلائط بني الغرفتني‪ ،‬ليدخلن حبات الزيتون‬
‫حبة حبة يف الثقب‪ ،‬ثم ينتظرن ليتلقني بذورها بعد �أن ي أ�كلها‬
‫ال�شباب‪.‬‬
‫الن�سب كيال يكت�شف ال�سجانة بذر‬ ‫ما فعلنه كان احلل أ‬
‫الزيتون يف مهجع ال�شباب‪ ،‬وحينها �سيتعر�ضون للعقاب‬
‫امل ؤ�كد‪.‬‬
‫المن‪ 2‬الع�سكري كان كل �شيء ممنوع ًا حتى‬ ‫يف فرع أ‬
‫ال�صوات‪ ..‬عليك �أن تهم�سي هم�س ًا‪.‬‬ ‫أ‬
‫اجلدران �صماء لكنها تنقل �أية ن أ�مة‪.‬‬
‫�صم لكنهم يلتقطون تنهيدة النف�س‪.‬‬ ‫ال�سجانة ّ‬
‫�صم ال يرد �صوت ًا وال �ضجيج ًا‪.‬‬ ‫وباب احلديد �أ ّ‬
‫المن كان كل �شيء ممنوع ًا حتى احلياة‪ ،‬ورمبا كانت‬ ‫يف فرع أ‬
‫�أول أ‬
‫ال�شياء املمنوعة!‬
‫يف �صباح اليوم التايل �أخذوا �سحر‪.‬ب و�أمرية‪.‬ح‪ ،‬وتركوا‬
‫البقية يف الغرفة‪.‬‬
‫رميتا يف زنزانة م أ�لوفة بعد �أن �أخرجوهما من مزدوجة‬
‫�أخرى‪ ،‬قيل �أن اجلرب ا�ست�رشى فيها‪.‬‬
‫كانت الزنزانة اجلديدة زنزانة هند‪ .‬ق قدمي ًا‪ .‬مل تت أ�خر‬

‫‪96‬‬
‫�أمرية و�سحر باكت�شاف ذلك‪ ،‬فقد كانت مليئة بب�صمات هند‬
‫اخلا�صة‪ ،‬بالكتابات وبخرب�شات احلك والقلم‪ ،‬والروزنامة‬
‫على احلائط وراء الباب احلديدي‪ ،‬واجلملة املتوهجة التي‬
‫نق�شتها هند فوق الباب‪ :‬غاب نهار �آخر‪..‬‬
‫بث ال�سلوى يف روحيهما‬ ‫كان لتلك اجلملة قدرة ال�سحر يف ّ‬
‫القانطتني‪.‬‬
‫كل �شيء يف زنزانة هند على حاله‪ ،‬ك أ�ن ال�سنوات الثالث‬
‫متر على تلك اجلدران الوفية‪ .‬وزنزانة �أبي مهند‪ ،‬املعتقل‬ ‫مل ّ‬
‫الفل�سطيني الذي كان �سكرترياً ليا�رس عرفات‪ ،‬ما تزال على‬
‫حالها بجانب زنزانة هند‪ ،‬و�ساكنها ما يزال نف�سه‪ :‬ذاكرته‬
‫وميزاته الكثرية‪ ،‬دون بقية املعتقلني‪ ،‬ال‬ ‫متقدة حا�رضة‪ّ ،‬‬
‫البواب على الزنازين‬ ‫تزال‪ :‬زنزانته مفتوحة دائم ًا فيما تغلق أ‬
‫الحيان ليتم�شى ببيجامة الريا�ضة‬ ‫الخرى‪ ،‬يخرج يف بع�ض أ‬ ‫أ‬
‫املحرم بالطبع على باقي املعتقلني �إال‬
‫ّ‬ ‫يف الكوريدور‪ ،‬أ‬
‫المر‬
‫والهم لديه‬‫حني الذهاب �إىل اخلط‪ ،‬يدرد�ش مع العنا�رص‪ ،‬أ‬
‫راديو مفتوح دائم ًا‪ ،‬وب�صوت عال‪ ،‬على �صوت فل�سطني‪..‬‬
‫ال�صوت الوحيد و�سط �صمت الزنازين و�رصاخ ال�سجانة‬
‫وخبطات �أبواب احلديد‪.‬‬
‫�أول �أغنية �سمعتها �أمرية‪.‬ح‪ ،‬بعد زمن طويل من االعتقال‪،‬‬
‫كانت من راديو �أبي مهند‪ :‬ثوري ثوري‪ .‬حينئذ فقط علمت‪،‬‬
‫الرا�ضي املحتلة‪.‬‬‫هي و�سحر‪� ،‬أن انتفا�ضة ‪ 87‬قد قامت يف أ‬

‫‪97‬‬
‫�أما بقية ال�صبايا فقد نقلن �إىل املهجع رقم ‪.6‬‬
‫حميدة‪.‬ت كانت تعاين من �إدرار بول �شديد‪ ،‬واالعتقال زاد‬
‫المر الذي جعلها ال ت�ستطيع انتظار‬ ‫حالتها �سوءاً على �سوء‪ ،‬أ‬
‫الليل بطوله كي ي أ�تي ال�صباح‪ ،‬وبالتايل تدخل �إىل احلمامات‬
‫وقت ي�سوق ال�سجانة املعتقالت �إىل اخلط‪ .‬كما �إنها مل ت�ستطع‬
‫االعتياد‪ ،‬كما معظم املعتقالت‪ ،‬على التبول على مر�أى من‬
‫اجلميع يف علبة بال�ستيكية كانت خم�ص�صة فيما م�ضى ملعجون‬
‫اجللي‪.‬‬
‫تلك العلبة البال�ستيكية حتولت �إىل مرحا�ض �صغري متحرك‪:‬‬
‫لونه قامت وتفوح منه رائحة ن�شادر قاتلة تفغم املهجع بكامله‪.‬‬
‫كان ذلك يف املهجع قبل �أن تُنقل ال�صبايا �إىل املزدوجات‬
‫حيث احلمام من �ضمن الفراغ املغلق عليهن‪.‬‬
‫املهجع رقم ‪ 6‬كان حماط ًا بزنازين املعتقلني‪ .‬قبالته منفردة‬
‫فيها معتقل �شيوعي �شاب ا�سمه‪ :‬موري�س‪ ،‬فيما بقية الزنازين‬
‫مليئة بع�ساكر معاقبني‪.‬‬
‫مل يكن �أمام املعتقالت �إال طلب املعونة من رفيقهن املقابل‪،‬‬
‫�شق ال�رشاقة يف باب املهجع‪ ،‬وكان على‬ ‫وذلك عرب مناداته من ّ‬
‫موري�س م�ساعدة حميدة يف حمنتها ب أ�ية و�سيلة كانت‪ ،‬فامل�سكينة‬
‫المل‪ ،‬ومثانتها تكاد تنفجر!‪.‬‬ ‫كانت تتلوى من أ‬
‫بالفعل ا�ستطاع موري�س اخرتاع طريقة مبتكرة ّ‬
‫حلل‬
‫امل�شكلة‪ :‬نادى يف �صمت الليل على �سجني املنفردة املجاورة‬

‫‪98‬‬
‫له‪ ،‬وهو ع�سكري معاقب ب�سبب �رسقته ل�سيارة �ضابطه‬
‫�رشاقة الع�سكري كانت مفتوحة‪ ،‬بخالف‬ ‫وهربه بها‪ .‬ومبا �أن ّ‬
‫ب�شق النف�س‪ ،‬مترير حزامه‬ ‫ال�سيا�سيني‪ ،‬فقد ا�ستطاع موري�س‪ّ ،‬‬
‫يطوح باحلزام من �رشاقته‬ ‫اجللدي �إليه‪� .‬إثر ذلك راح الع�سكري ّ‬
‫�إىل باب املهجع املقابل‪ :‬مهجع املعتقالت‪ .‬ف�شلت حماوالت‬
‫عديدة يف جعل بكلة احلزام املعدنية تعلق باملزالج الذي يغلق‬
‫املهجع من اخلارج‪ .‬امتد الزمن واملحاوالت الفا�شلة تتاىل‪،‬‬
‫وحميدة يكاد يغمى عليها‪.‬‬
‫لكن اخلطة جنحت �أخرياً فقد َع ِلقت البكلة املعدنية باملزالج‪،‬‬
‫وا�ستطاع الع�سكري �أن ي�سحبه ويفتح باب املهجع‪.‬‬
‫بخفة قطة جمربة ت�سللت حميدة عرب الكوريدور‪ ،‬ال�صامت‬
‫امللحة ب�رسعة‪،‬‬
‫واملعتم‪� ،‬إىل احلمامات يف نهايته لتق�ضي حاجتها ّ‬
‫وتعود من فورها‪ ،‬وعلى ر ؤ�و�س �أ�صابعها‪� ،‬إىل املهجع الذي‬
‫المر‪،‬‬ ‫يغ�ص باملعتقالت املنتظرات واخلائفات لئال يكت�شف أ‬ ‫ّ‬
‫يتكهن ب�رشا�سته‪.‬‬
‫يكن ّ‬ ‫ويخ�ضعن ك ّلهن لعقاب جماعي مل ّ‬
‫‪...‬‬
‫بعد �أيام يف املنفردة نقلت �سحر و�أمرية �إىل املهجع ‪� 6‬أي�ض ًا‪،‬‬
‫حيث �صار عدد املعتقالت هناك حوايل �إحدى و�أربعني معتقلة‬
‫من تهم خمتلفة‪� :‬شيوعيات‪ ،‬عرفاتيات‪ ،‬بعث عراق‪ ،‬ودعارة‬
‫�سيا�سية‪ ،‬وذلك قبل �أن ينقل بع�ضهن �إىل املزدوجات يف فرع‬
‫المن‪ ،1‬حيث ق�ضني الثالث �سنوات القادمة‪ ،‬وينقل بع�ضهن‬ ‫أ‬

‫‪99‬‬
‫الربع القادمة‪.‬‬ ‫الخر �إىل �سجن الن�ساء ليق�ضني ال�سنوات أ‬ ‫آ‬
‫من ال�صعب و�صف ذاك ال�شوق الكبري الذي ا�ستقبلت‬
‫المن‪ .‬كان عددهن ت�سع �شيوعيات‬ ‫به املعتقالت يف فرع أ‬
‫الخريات‪ .‬الفرع ممتلئ‪ ،‬حتى‬ ‫فح�سب �إ�ضافة �إىل املعتقالت أ‬
‫التخمة‪ ،‬باملعتقلني واملعتقالت‪ .‬ال�شباب يف املزدوجات املقابلة‬
‫المر اجليد‪ ،‬الوحيد رمبا‪� ،‬أن املعتقالت ّ‬
‫كن‬ ‫ملزدوجاتهن‪ .‬أ‬
‫قادرات على ر ؤ�ية رفاقهن من ال�سقيفة فوق املزدوجة‪ ،‬وذلك‬
‫يطل على الكوريدور‬ ‫عن طريق �شبك الباب الفوقاين الذي ّ‬
‫املطل بدوره على �سقيفة مزدوجات ال�شباب‪.‬‬
‫تعر�ض‬‫حتدثت البنات لرفيقاتهن عن التعذيب ال�شديد الذي ّ‬
‫له املعتقلون قبل قدومهن‪ ،‬وذلك حني طالبوا بتح�سني اخلبز‬
‫(ما ا�صطلح على ت�سميته فيما بعد انتفا�ضة اخلبز)‪.‬‬
‫�رضبوهم ب�شكل م�سعور يف الكوريدور‪.‬‬
‫�شبحوهم ل�ساعات طويلة على �أبواب احلديد �أمام‬
‫اجلميع‪..‬‬
‫ميل الفرع‪ :‬عبا�س‪.‬ع‪� ،‬سمري‪.‬ح‪� ،‬أكرم‪.‬ب‪،‬‬ ‫كان �رصاخهم أ‬
‫فرج‪.‬ب‪ ،‬مازن‪�.‬ش‪ ،‬ورا�شد‪�.‬ص‪.‬‬
‫حينها جلب ال�سجانة �أكل الغداء للبنات يف املزدوجات‪،‬‬
‫فكوا ال�شباب عن ال�شبك‪.‬‬ ‫فرف�ضن �أن ي أ�كلن حتى ّ‬
‫بالن�سبة �إىل القادمات اجلدد كان جمرد �سماع الق�صة يحرك‬
‫�أمل ًا عميق ًا ال ي�ستطعن احتماله فما بالك باللواتي ع�شنه‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫انتفا�ضة اخلبز تلك �شهدتها ح�سيبة‪.‬ع �أي�ض ًا‪.‬‬
‫ي�ضج حولها حتى‬ ‫وحيدة يف منفردتها كانت‪ ،‬وما حدث ّ‬
‫اللحظة‪ :‬كانوا ي�رضبونهم بجنون‪ ..‬بجنون وهي منكم�شة‬
‫على نف�سها‪ ،‬حتاول �أن متنع �أ�صواتهم املت أ�ملة من الدخول �إىل‬
‫ر�أ�سها‪.‬‬
‫ال�رضاب‬ ‫مل ي أ�كل �أحد يف ذلك اليوم‪ ،‬كان يجب �أن ُيعلن إ‬
‫العام لكنها كانت حملة اعتقاالت م�سعورة و�أي ر ّد من هذا‬
‫القبيل �سي�شعل النريان �أكرث!‬
‫الم�ضى امل�شهر �أبداً يف وجه‬ ‫احلرب النف�سية هي ال�سالح أ‬
‫املعتقل‪ .‬رمبا هذا ما حدا باملحققني �إىل و�ضع املعتقالت يف جو‬
‫من الرعب والتحقري‪ :‬ل�ست بطلة‪ ..‬ل�ست �صامدة‪� ..‬أنت �شيء‬
‫�صغري �صغري جداً‪� ..‬أنت باخت�صار وبفي�ض كالم‪ :‬ال�شيء‪.‬‬
‫علي وقت‬ ‫تلك احلرب النف�سية كانت �أول حرب ّ‬
‫ت�شن ّ‬
‫اعتقايل حني رميت �إىل جانب مزدوجات البنات يف منفردة‬
‫حمايدة‪ ..‬وحدي وحدي‪..‬‬
‫مر �أكرث من �سنة على اعتقايل الثاين‪ ،‬وب�ضعة �أ�شهر‬ ‫كان قد ّ‬
‫على وجودي يف �سجن الن�ساء‪ ،‬حني �أعدت من جديد �إىل‬
‫المن‪ 1‬للتحقيق معي‪ .‬يبدو �أن جملة معلومات �إ�ضافية‬ ‫فرع أ‬
‫اكت�شفت‪� ،‬إثر حملة االعتقاالت الكبرية يف �سنة ‪،1987‬‬
‫المر‪ ،‬على ما‬ ‫و�أرادوا �أن يتحققوا مني ب� أش�نها‪� .‬أو رمبا كان أ‬
‫ت�رسبت من �سجن الن�ساء عن كوين �أتكلم‬ ‫يبدو‪ ،‬جمرد �أخبار ّ‬

‫‪101‬‬
‫ب أ��شياء لها عالقة بال�سيا�سة �أثناء زيارات ال�شبك‪� ..‬أو �شيء من‬
‫هذا القبيل‪.‬‬
‫ونيف‪.‬‬‫بقيت يف املنفردة �أربعة �أ�شهر ّ‬
‫الزنازين حويل مليئة باملعتقلني طيلة �شهور‪� ،‬أ�صوات‬
‫التعذيب ت�صلني يف كل وقت‪ ،‬يف ال�صباح وامل�ساء‪ ،‬يف الظهرية‬
‫وبعدها‪� ،‬رصاخ م ؤ�مل مينعني النوم والتفكري وحتى التنف�س‪.‬‬
‫يف تلك املنفردة كانت القوة النف�سية هي املهمة‪ ،‬القوة‬
‫المر باعتقادي �إىل‬ ‫حتول أ‬‫اليديولوجيات‪ّ .‬‬ ‫الداخلية ولي�ست إ‬
‫امتحان‪ ،‬امتحان حقيقي‪ ،‬وال توجد و�سائل تقاتلني بها �إال‬
‫اجل�سد‪..‬‬
‫علي �أن �أقاتل االعتقال والزنازين وبط�شهم‬ ‫�إذاً كان ّ‬
‫بج�سدي‪.‬‬
‫الكثريات مثل ح�سيبة حاربن االعتقال وال�سجن ب أ�ج�سادهن‬
‫ال البتة وخمالب الوحدة والعجز‬ ‫المر مل يكن �سه ً‬ ‫ال غري‪ .‬لكن أ‬
‫تنه�ش فيهن يوم ًا بعد يوم‪.‬‬
‫تخف وط أ�ة العنا�رص املراقبة يف‬
‫ّ‬ ‫يخيم‪،‬‬
‫حني كان الليل ّ‬
‫الحاديث احلميمة‬ ‫الكوريدورات‪ ،‬يبد�أ ليل املعتقلني‪ ،‬ليل من أ‬
‫وال�صوات امل أ�لوفة واحلب‪ ،‬ليل يجعل النهار اجلحيمي مي�ضي‬ ‫أ‬
‫بعيداً‪.‬‬
‫فاديا‪�.‬ش(‪ )47‬كح�سيبة‪ ،‬وغريها من املعتقلني‪ ،‬تنتظر الليل‬
‫(‪ )47‬فاديا‪� .‬ش‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1958‬اعتقلت منذ �أوائل �سنة‬
‫‪ 1988‬وحتى �سنة ‪.1991‬‬

‫‪102‬‬
‫بفارغ ال�صرب لتتحدث مع قاطني الزنازين املجاورة‪ ،‬وذلك من‬
‫تو�سد‬
‫الر�ض‪ّ .‬‬ ‫حتت الباب الذي يرتفع �سنتيمرتات قليلة عن أ‬
‫البواب‬ ‫ال�سمنت‪ ،‬وبعني واحدة تراقب أ‬ ‫ر�أ�سها �إىل �صلب إ‬
‫املو�صدة للمنفردات املقابلة‪ ،‬ترمي كلماتها ب�صوت هام�س‪،‬‬
‫وت�ستمع �إىل الدقّ على اجلدران امل�شرتكة بني مهجع املعتقالت‬
‫ومنفردات املعتقلني‪.‬‬
‫والحاديث‬ ‫كانت فاديا حتاول �أن حتيك‪ ،‬من الهم�سات أ‬
‫اخلافتة والطرقات‪� ،‬أم�سيات عذبة وحميمية على الرغم من‬
‫كل �شيء‪.‬‬
‫تبدد ظلمة‬ ‫يف ليل الزنازين ت�رشق �شم�س جديدة‪� ،‬شم�س ّ‬
‫الوحدة وال�صمت وقهر ال�سجون‪.‬‬
‫بعد كل تلك ال�شهور والتحقيق �أعيدت ح�سيبة‪.‬ع من‬
‫جديد �إىل �سجن الن�ساء‪ .‬كانت ت�صيح يف الكوريدور ب�صوت‬
‫يجرها ال�سجان من يدها‪:‬‬‫عال وهي تغادر الفرع ّ‬
‫‪� -‬أنا خارجة‪ ..‬هل هناك من يريد �شيئ ًا مني؟ �أنا ذاهبة �إىل‬
‫دوما هل‪...‬‬
‫مل ترد على �صياحها �إال النحنحات من املنفردات املتقابلة‪،‬‬
‫حتملها وعود املعتقلني‪.‬‬ ‫النحنحات املت�صاعدة والوجلة‪ ،‬وهي ّ‬
‫فيما �أ ّنات زوربا (وجيه‪.‬غ) ت�صاحبها وهي تغادر‪ ،‬وي�صاحبها‬
‫مدمى من‬ ‫حتى اللحظة �صوته املتعب وهو مرمي يف املنفردة ّ‬
‫لي‬ ‫أ‬
‫التعذيب‪ ،‬يطلب من ال�سجان كل حني طلبه الوحد‪� :‬ش ّع ّ‬

‫‪103‬‬
‫�سيجارة‪..‬‬

‫عن االعتقال كتبت ناهد‪ .‬ب يف مذكراتها‪:‬‬


‫(بعد انتهاء التحقيق �أنزلوين �إىل القبو �أي �سجن الفرع‪.‬‬
‫�أول ما بادرين و�أنا ما زلت على درجه تلك الرائحة الغريبة‬
‫الماكن‪ ،‬ولكن‬ ‫والفظيعة والتي ال يعرفها �إال من زار مثل هذه أ‬
‫مهوى ملدة �سنة كاملة‪.‬‬
‫ميكنني ت�شبيهها برائحة قن دجاج غري ّ‬
‫ثم بادرتني لوحة معلقة �أمام الدرج بحيث يقر ؤ�ها النازل‬
‫الية القر�آنية‪ :‬وما ظلمناهم‬ ‫ب�سهولة‪ ،‬لوحة مكتوب عليها آ‬
‫ولكن كانوا �أنف�سهم يظلمون(‪.)48‬‬
‫فابت�سمت يف �رسي وقلت مل يفتهم ا�ستثمار �أي �شيء‪.‬‬
‫بعد نهاية الدرج دخلنا يف ممر عري�ض تتوزع �أبواب املهاجع‬
‫على اليمني والي�سار يف �آخره حمامات الزنازين على ميينها ممر‬
‫�صغري يف�ضي �إىل ع�رش زنازين‪ ،‬وعلى ي�سارها ممر �صغري �آخر‬
‫يف�ضي �إىل ثمانية زنازين ومهجع جماعي �صغري ي�سمونه‬
‫‪.802‬‬
‫الزنازين اليمنى كانت مليئة بالن�ساء ال�شيوعيات والي�رسى‬
‫ب�شبابه‪ .‬وهنا �أي�ض ًا خدمتني الظروف ب أ�ن ال مكان يل يف‬
‫الزنازين كما هي عادتهم �أول االعتقال‪ ،‬فقد �أدخلوين �إىل‬
‫املهجع ‪ ،6‬وهو غرفة تقع على ي�سار املمر الرئي�سي‪ ،‬غرفة مربعة‬
‫�أظن �أن �ضلعها ي�ساوي ‪5‬م‪ ،‬ومقابل الباب يقع املرحا�ض‪.‬‬
‫(‪� )48‬سورة النحل‪ ،‬آ‬
‫الية ‪.118‬‬

‫‪104‬‬
‫دخلت �إىل الغرفة ووجدت فيها خم�س معتقالت هن‪� :‬آ�سيا‪،‬‬
‫رجاء‪ ،‬هتاف‪� ،‬أم ب�سام‪ ،‬ورقية‪ ،‬وعرفت فيما بعد �أنهن من نف�س‬
‫التهمة‪ .‬وكان و�ضعهن النف�سي �صعب ًا فقد تركن وراءهن �أطفا ًال‬
‫�صغاراً ورقية كانت حام ً‬
‫ال‪.‬‬
‫وا�صلنا احلياة ب أ�ق�صى ما ن�ستطيع من التحايل على هذه‬
‫الظروف ال�سيئة‪ .‬ابتدعنا طرق ًا للتوا�صل عرب اجلدران مع رفاقنا‬
‫يف الزنازين وكانت ت�ضم �أ�سامة وعدنان ونزار و‪� ..‬آخرين‪.‬‬
‫يف البداية كنا نكتب الكلمة بقطعة معدنية ويحاول الرفيق‬
‫الذن‬ ‫ال�صغاء بل�صق أ‬‫الخر �إدراكها عن طريق إ‬ ‫على الطرف آ‬
‫على اجلدار‪� ،‬إال �أنها كانت و�سيلة �صعبة وغري ناجحة يف‬
‫الحيان‪ .‬فابتكرنا طريقة �أخرى تعتمد على الطرق على‬ ‫بع�ض أ‬
‫احلائط عدد من الطرقات ي�ساوي موقع احلرف الذي نريده يف‬
‫الخبار‬ ‫البجدية مع فا�صل بني احلرف واحلرف وهكذا تبادلنا أ‬ ‫أ‬
‫ودارت �أحاديث طويلة‪).‬‬

‫�أما هبة‪ .‬د فقد كتبت بعد �سنوات طويلة عن االعتقال يف كتابها‪:‬‬
‫(اخلروج‪ ..‬لكن �إىل‪:)49(...‬‬
‫الفطار يف ال�سجن �إىل‬ ‫كنا نراقب خروج ال�شباب بعد إ‬
‫(‪ )49‬هذه الفقرة كتبتها هبة ‪.‬د يف كتابها املن�شور يف لندن «خم�س دقائق‬
‫فح�سب» الذي يتحدث عن جتربة ال�سجن‪ .‬وهي معتقلة �سيا�سية رهينة عن‬
‫ال�سالمي‪ ،‬اعتقلت من �سنة ‪ 1980‬وحتى �سنة‬ ‫�أخيها النا�شط يف التنظيم إ‬
‫‪.1989‬‬

‫‪105‬‬
‫اخلط‪ ،‬فيقبل بع�ضنا �إىل �شق يف طاقة بابنا تراقب ما يجري‬
‫وترتقب بع�ضهن �أن ترى �أخ ًا لها �أو قريب ًا بينهم‪ ..‬ومل تكن تلك‬
‫ال�صلة الوحيدة بيننا وبني ال�شباب‪ ،‬فلقد اكت�شفت البنات قبلنا‬
‫وجود فراغ ب�سيط حول �أنبوب التدفئة بني مهجعنا واملهجع‬
‫املجاور فطلنب من العنا�رص خرطوم ًا بحجة ا�ستعماله يف احلمام‬
‫ف أ�ح�رضوه لهن‪ ،‬فمددوه عرب الفراغ و�رصن يحادثن ال�شباب عربه‬
‫الخرى(‪ )50‬با�ستثنائنا‬ ‫�أو ميررن لهم املاء من خالله ألن املهاجع أ‬
‫مل تكن فيها حمامات �أو �صنابري مياه‪ ،‬ومل يكونوا ي�سمحون‬
‫ألحد بطلب ماء �أو الذهاب للحمام �إال يف املواعيد‪.‬‬
‫ذات يوم وبينما كانت احلاجة(‪ )51‬حتادث ال�شباب يف الزنزانة‬
‫النبوب �أتاها من وراء اجلدار �صوت �سائل منهم‬ ‫املجاورة عرب أ‬
‫ي�س أ�ل �إن كان بيننا حمويات‪ .‬فقالت له‪ :‬نعم‪ ..‬فقال لها‪ :‬يا‬
‫خالتي نحن من املدينة �أي�ض ًا و�سنخرج غداً �إفراج‪ ،‬فلو كانت‬
‫لدى �أي من احلمويات ر�سالة ألهاليهن اكتبوها و�ضعوها يف‬
‫�شق الطاقة ونحن �سن�سحبها ب إ�ذن اهلل �أثناء خروجنا �إىل اخلط‬
‫بطريقة ال ت�شعر العنا�رص ونو�صلها لهم‪..‬‬
‫والذي تبني فيما بعد �أن ه ؤ�الء ال�شباب امل�ساكني وعدوا‬
‫باخلروج يف اليوم التايل وبالفعل ولكن اخلروج كان يف احلقيقة‬
‫�إىل ‪).!...‬‬
‫ال�سالميني‪.‬‬
‫(‪ )50‬وكانت مليئة وقتها باملعتقلني إ‬
‫(‪ )51‬تق�صد باحلاجة والدتها التي كانت معتقلة يف نف�س املهجع مع ابنتها هبة‬
‫رهينتني عن ولدها خالد‪.‬‬

‫‪106‬‬
‫‪1992‬‬
‫المن و�سيلة لل�ضغط على �أ�رسة �ضحى‪.‬‬ ‫مل يعدم عنا�رص أ‬
‫ال�شكال‪ :‬بقوا �شهوراً طويلة يرتددون‬ ‫جربوا خمتلف أ‬ ‫ع ‪ّ .‬‬
‫(‪)52‬‬

‫تخفي ًا احرتازي ًا‪ ،‬منذ‬


‫ّ‬ ‫عليهم يف مدينة ال�شمال فيما هي متخفية‪،‬‬
‫�سنة ‪ 1987‬يف املدينة نف�سها‪.‬‬
‫ا�ستدعوا معظم رجال العائلة للتحقيق معهم ع�رشات‬
‫املرات‪� .‬رضبوا خالها وزوج �أختها �أثناء التحقيق معهما فيما‬
‫كان �أخوتها الثالثة معتقلني منذ �سنوات‪� :‬أ�سامة (اعتقل يف‬
‫�صيف ‪ ،)1982‬ومازن ومنري (اعتقال يف �شتاء ‪.)1983‬‬
‫كتكري�س ملجموعة ال�ضغوط على �أهل �ضحى‪ ،‬كي يعملوا‬
‫(‪� )52‬ضحى‪ .‬ع‪ :‬معتقلة �سيا�سية �شيوعية من مواليد ‪ ،1965‬اعتقلت يف �أوائل‬
‫�سنة ‪ 1993‬وحتى نهايات �سنة ‪.1998‬‬

‫‪107‬‬
‫المن‪� ،‬أخذوا �أختها ال�صغرى لينا‪.‬ع‬ ‫على ت�سليم ابنتهم �إىل أ‬
‫رهينة عن �ضحى لتبقى معتقلة ل�سنة كاملة من ‪ 1987‬بفرع‬
‫المن‪ 2‬بالعا�صمة‪.‬‬‫أ‬
‫الرهاب النف�سي على العائلة‪،‬‬ ‫المن يزيدون من إ‬ ‫كان عنا�رص أ‬
‫الم بات�صاالتهم �أو بزياراتهم املتالحقة‪:‬‬ ‫وهم ي�ضغطون على أ‬
‫الخرى‪.‬‬‫�س ّلمي �ضحى نعيد �إليك ابنتك أ‬
‫على الرغم من عدم تعاون أ‬
‫الم �أطلق �رساح لينا قبل �أن يتم‬
‫الخرية متخفية للقاء �أختها‪.‬‬ ‫القب�ض على �ضحى‪ ،‬لتذهب أ‬
‫ما بقي يف ذهني بعد تلك الزيارة هو تعب �أختي‪ ،‬نحولها‬
‫ال�شديد‪� ،‬شحوبها وخوفها‪ ..‬كانت نتائج التجربة عليها �سيئة‬
‫للغاية‪ ،‬هذا ما و�ضح يل متام ًا‪.‬‬
‫انقطعت �إثر ذلك عن ر ؤ�ية �أهلي لزمن طويل‪ ،‬ثم تزوجت‬
‫المن ا�ستطاع اعتقايل‬ ‫خالل هذه املدة من �أحد رفاقي‪ .‬لكن أ‬
‫بعد �أربع �سنوات ونيف من ذاك اليوم‪.‬‬
‫اعتقلت يف العا�صمة‬
‫ُ‬ ‫كان �صباح يوم من عام ‪ 1992‬وقت‬
‫ال حينذاك يف �شهري الثالث‪.‬‬ ‫وكنت حام ً‬
‫املوعد احلزبي كان مقرراً عند �أحد الفنادق ال�ضخمة‪.‬‬
‫�شيء داخلي غام�ض يخربين ب أ�ين �س أ�عتقل‪� .‬إىل اليوم ال �أعرف‬
‫ال�سبب الذي جعلني �أذهب �إىل املوعد! رمبا كنت مقتنعة �أن ما‬
‫�سيح�صل �سيح�صل‪ ،‬رمبا �أح�س�ست بالتعب‪ ،‬بالتعب ال�شديد‪،‬‬
‫من التخفي الطويل الذي ا�ستمر ل�سنوات طويلة ويف ظروف‬

‫‪108‬‬
‫غاية يف الق�سوة‪.‬‬
‫جل رفاقي يف‬ ‫حمالت االعتقال املتوالية طالت وقتئذ ّ‬
‫احلزب‪ ،‬حتى العدد القليل الذي بقي خارج ًا اعتقل م ؤ�خراً‪:‬‬
‫�أربعة من رفاقنا ال�شباب‪ ،‬وقبلهم خديجة‪ .‬د(‪ ،)53‬فيما ظللت‬
‫�أنا فح�سب خارج ًا‪.‬‬
‫جهز نف�سي للذهاب �إىل املوعد‪� ،‬أن ّ‬
‫علي‬ ‫فكرت‪ ،‬و�أنا �أ ّ‬
‫�رشب احلليب‪ ،‬ارتداء �سرتة ف�ضفا�ضة وكبرية‪ ،‬وعلي �أال �أحمل‬
‫�أية �أوراق قد ت�ستخدم �ضدي يف حال مت اعتقايل‪ .‬ويجب �أن‬
‫�أنزع املحب�س من يدي كي ال يعلموا �أين متزوجة‪ ،‬وبالتايل‬
‫يطالبونني بت�سليم زوجي �أي�ض ًا‪ ..‬يجب �أال يعلموا بزواجي‬
‫البتة‪.‬‬
‫ن�س �شيئ ًا‪ ،‬لكني خرجت دون �أن �أنزع‬ ‫اعتقدت �أين مل �أ َ‬
‫املحب�س‪ ..‬ن�سيته يف غمرة ارتباكي‪.‬‬
‫عند مدخل الفندق حا�رصين �أكرث من ع�رشة عنا�رص‪،‬‬
‫وراحوا ي�شدونني �إىل ال�سيارة‪ .‬كنت �أ�رصخ‪ ،‬و�أنا �أحمي بطني‬
‫بيدي‪ ،‬حماولة معرفة اجلهة التي �ستعتقلني‪ .‬بالفعل ا�ستجاب‬
‫النقيب امل�رشف على االعتقال و�أ�شهر بطاقته يف وجهي‪� :‬أمن‬
‫�سيا�سي‪.‬‬
‫كانت فرحة �إدارة ال�سجن ال تقدر بثمن وقد اعتقلت‬
‫الخرية يف احلزب‪.‬‬ ‫املحاربة أ‬
‫(‪ )53‬خديجة‪ .‬د‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1959‬اعتقلت للمرة أ‬
‫الوىل يف‬
‫‪ 1984‬ويف املرة الثانية من �سنة ‪� 1992‬إىل �سنة ‪1998‬‬

‫‪109‬‬
‫كنت �أ�شعر ب�سعادة غام�ضة و�أنا �أ�سمع با�سمي بعد كل تلك‬
‫قدر علي �أال �أ�سمع‪ ،‬طيلة �سنوات‬ ‫ال�سنوات‪� :‬ضحى‪.‬ع‪ ،‬وقد ّ‬
‫طويلة طويلة‪� ،‬إال ب�سل�سلة �أ�سمائي احلركية املتتالية‪.‬‬
‫ا�ستمر التحقيق مع �ضحى مدة ثمانية �أيام‪.‬‬
‫�أخفت فيهما حقيقة حملها وزواجها‪ ،‬وظلت كذلك حتى‬
‫نقلت �إىل �سجن الن�ساء‪ .‬حينها كان ال�ضغط قائم ًا على البلد‬
‫المر الذي‬ ‫لتوقيع الوثيقة العاملية ملنع التعذيب يف ال�سجون‪ ،‬أ‬
‫�أرخى بالقليل من امليزات عليها‪� ،‬إ�ضافة �إىل �أنهم مل يكونوا‬
‫يريدون منها ت�سليم �أحد‪ :‬اجلميع كان يف الداخل‪ ،‬فاملطلوب‬
‫هو اعتقالها فح�سب‪.‬‬
‫امل�شكلة كانت‪� ،‬أول حلظات االعتقال‪ ،‬هي التخل�ص من‬
‫ي�شع يف �إ�صبعها ك�شاهد ال يقبل الرتاجع‪.‬‬ ‫املحب�س الذي ّ‬
‫يف الطابق الثالث للفرع �أدخلوها �إىل غرفة الرائد‪ .‬مل يكن‬
‫من �ضحى �إال �أن ا ّدعت �إ�صابتها بنوبة ربو مفاج أ�ة‪ ،‬فكرة طارئة‬
‫خطرت لها‪ ،‬وو�سط �سعالها امل�سعور ارتبك العنا�رص وتبلبلوا‪،‬‬
‫ثم تركوها تخرج �إىل ال�رشفة ريثما يجلبون لها زجاجة بخاخ‬
‫الك�سجني‪.‬‬ ‫أ‬
‫كانت �ضحى تفكر ب�شيء واحد‪ :‬التخل�ص من املحب�س‬
‫فكرت لهنيهات بابتالع املحب�س‪ ،‬لكنها‪،‬‬ ‫ومفتاح البيت‪ّ .‬‬
‫ال�سفل‪.‬‬‫حني �أ�صبحت يف ال�رشفة‪ ،‬رمته من فورها �إىل أ‬
‫�إذاً مل يبق �إال مفتاح البيت‪.‬‬

‫‪110‬‬
‫‪� -‬إذا ا�ستجبت للتحقيق وكنت �إيجابية �سنخرجك غداً‪.‬‬
‫�ست�صدق �أقدم كذبة على‬
‫ّ‬ ‫قال الرائد وهو يعتقد �أن �ضحى‬
‫الطالق‪.‬‬ ‫إ‬
‫‪� -‬أريد �أن �أدخل احلمام‪.‬‬
‫كان جوابها‪.‬‬
‫هناك يف احلمام تخل�صت من املفتاح برميه يف احلفرة‪.‬‬
‫كل �شيء جيد حتى اللحظة‪ .‬تنف�ست �ضحى ال�صعداء وهي‬
‫تخرج من احلمام‪ ،‬وت�ستعد للقادم الذي كان غام�ض ًا ومظلم ًا‬
‫ورهيب ًا �أمامها‪.‬‬
‫بقيت يف الزنزانة مدة �شهرين‪.‬‬
‫مل �أعرف خالل تلك الفرتة الليل من النهار! عندما يفتح‬
‫باب الزنزانة �صباح ًا‪ ،‬لريمي ال�سجان الفطور �أمامي‪� ،‬أعرف �أن‬
‫تغطى‬ ‫ال�صباح �أتى‪ ،‬ف أ�ن�سل خيط ًا من البطانية الع�سكرية التي �أ ّ‬
‫بها‪ ،‬و�أخبئه حتت الفر�شة �إيذان ًا ببدء يوم جديد يف الزنزانة‪/‬‬
‫القرب‪.‬‬
‫يحتج ب�شدة على هذا الويل‬‫ّ‬ ‫علي‪ ،‬جنيني‬‫بد�أ احلمل ي�ضغط ّ‬
‫زجه فيه‪:‬‬ ‫�أ ّ‬
‫ح�س بج�سدي يتهاوى �شيئ ًا‬ ‫بالقياء ال تفارقني‪� .‬أ ّ‬ ‫رغبة إ‬
‫ف�شيئ ًا‪.‬‬
‫عفن ورطوبة ي�ستفزان �أنفا�سي يف كل حلظة!‬
‫حد‬ ‫الكل! كل ما يح�رضونه يل يبدو مقرف ًا ّ‬ ‫ال �أ�ستطيع أ‬

‫‪111‬‬
‫الغثيان ورائحته منفرة‪ ..‬خ�صو�ص ًا ق�صعات ال�ستانل�س تلك‪.‬‬
‫ال من �أ�سيد يطحن‬
‫احلرقة ت أ�كل معدتي‪ ،‬جتعلني �أعتقد �أن �سائ ً‬
‫جويف‪ ،‬يجعله يت�آكل ويتح ّلل‪.‬‬
‫واملاء بارد‪.‬‬
‫�شتاء قا�س للغاية‪.‬‬
‫اجلرذان وال�رصا�صري ت�سكن معي‪ ،‬تقا�سمني كل دقيقة من‬
‫وقتي‪ ،‬وكل فتات من طعامي‪ ..‬كان الو�ضع جحيمي ًا‪.‬‬
‫خمبئ ًا حتت �سرتتي التي‬
‫بطني يكرب �شيئ ًا ف�شيئ ًا لكنه بقي ّ‬
‫مازالت ف�ضفا�ضة‪ .‬هذا �أف�ضل ما فعلته قبل االعتقال‪� :‬أن ارتدي‬
‫�شيئ ًا ف�ضفا�ض ًا‪.‬‬
‫مر وقت مل �أقرب فيه طعامي املنفّر �صار العنا�رص‬ ‫حني ّ‬
‫يجلبون يل الفواكه ال�شهية ليت أ�كدوا من �أين غري م�رضبة عن‬
‫الطعام‪ .‬حتى �أن �إدارة ال�سجن بعثت يل يف يوم واحد‪� :‬أربع‬
‫تفاحات وثالث برتقاالت! قمت ب إ�عطاء ال�سجان ن�صفها‪.‬‬
‫تلك الفواكه بدت يل كهدايا مر�سلة من اجلنة‪ ،‬ذلك �أن الفاكهة‬
‫تقبلته معدتي املتقلبة يف تلك الفرتة‬ ‫هي ال�شيء الوحيد الذي ّ‬
‫و�أنا �أدخل �شهر حملي الرابع‪.‬‬
‫تدون حلظات ال�سجن واالعتقال‬ ‫يف �أغلب الكتب التي ّ‬
‫ي�صور املعتقل‪ /‬املعتقلة نف�سه‪� ،‬أو هناك من ّ‬
‫ي�صوره‪،‬‬ ‫ال�سيا�سي ّ‬
‫على �أنه بطل ال يقهر! نا�سني‪� ،‬أو متنا�سني‪� ،‬أنه �إن�سان‪ ،‬بكل ما‬
‫للكلمة من معانٍ ‪ ،‬ولي�س �صخراً �أ�صم‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫المر كثرياً من الدمياغوجية‪:‬‬ ‫يرى براينت برايتنباغ(‪� )54‬أن يف أ‬
‫«ندعي البطولة والقوة‪ ،‬ي�صري الواحد منا «�سوبرمان» يف‬ ‫ّ‬
‫الوقت الذي ي�ستحيل فيه �إال �أن يكون �ضعيف ًا‪� ،‬ضعيف ًا مبا تعنيه‬
‫كلمة �إن�سان»‪.‬‬
‫مل يكن �أمام �ضحى يف هذا املوقف �إال �أن تكون كذلك‪.‬‬
‫�أي �أن تعرتف بلحظات العذاب التي راحت تقهر دواخلها‬
‫املليئة بحياة جديدة‪ .‬من هذا املنطلق ف أ�ننا نكون �أكرث ذكاء حني‬
‫ن�رشح للنا�س تناق�ضات هذا العامل الفظيع‪ ،‬وما نقوم به يف تلك‬
‫املجاهل اخلانقة‪.‬‬
‫الكالم مع اجلنني كان ت�سلية �ضحى الوحيدة يف �شهري‬
‫الزنزانة‪ .‬حني نقلوا خديجة‪.‬د �إىل زنزانتها �صار الو�ضع‬
‫بوجودها �أكرث �إن�سانية‪� ،‬أ�ضحى هناك �إن�سان �آخر يقا�سمها‬
‫والمل‪ ،‬مل تعد الزنزانة‬ ‫والوجاع أ‬ ‫الهواء والطعام والكالم أ‬
‫يغ�ص ب أ�ملها ووحدتها وباجلرذان وال�رصا�صري‪.‬‬ ‫جمرد قرب ّ‬
‫نهاية نقلت �ضحى‪.‬ع وخديجة‪.‬د �إىل �سجن الن�ساء وذلك‬
‫يف �سنة ‪ ،1992‬لتظال هناك حتى �سنة ‪ 1998‬حيث �أطلق‬
‫�رساحهما‪.‬‬

‫(‪)54‬وذلك يف مقالته‪ :‬يعلمنا ال�سجن �أننا �سجناء‪ .‬املن�شورة يف جملة الكرمل‪ /‬ع‬
‫‪� 15‬سنة ‪1985‬‬

‫‪113‬‬
114
‫‪1978‬‬

‫بالحذية‪ ..‬ومن خمتلف أ‬


‫ال�شكال! �أحذية �أحذية‪،‬‬ ‫�إنها مليئة أ‬
‫وفقط �أحذية على بالط قذر‪.‬‬
‫�ضيق ومتبدل مل ت�ستطيع روزيت‪.‬ع(‪� )55‬أن ترى‬ ‫م�شهد ّ‬
‫�إاله من خالل الطمي�شة التي يع�صبون عينيها بها‪ .‬كانت جتاهد‬
‫لتلم�س �أثرا ما خمتلفا يف غرفة التحقيق‪� ،‬شيئا قد يبعث ظالل‬ ‫ّ‬
‫أ‬
‫طم�نينة يف روحها املرتقبة اخلائفة‪.‬‬
‫– �أتيت بالتنورة ولي�س بالبنطلون؟!‬
‫(‪)55‬روزيت‪ .‬ع‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1955‬اعتقلت من �سنة ‪1978‬‬
‫وحتى �سنة ‪ 1980‬ومن �سنة ‪� 1992‬إىل �سنة ‪.1993‬‬

‫‪115‬‬
‫�رصخ املحقق فيها‪.‬‬
‫تلوح يف داخل روزيت �ضاربة على جدران‬ ‫جملة كانت ّ‬
‫قلبها املرتعب‪ ،‬جملة عنت �أن حفلة التعذيب املعتادة �ستبد�أ‪.‬‬
‫المر بدا جلي ًا �أمام ناظريها حني �ألب�سوها بنطلون بيجاما‬ ‫أ‬
‫الج�ساد املتتالية القت‬ ‫رجايل له رائحة عفنة‪ ،‬ك أ�ن ع�رشات أ‬
‫فيه عذابها‪ ،‬وتركت فيه ذاكرتها ورائحة عرقها املت�صبب من‬
‫المل‪.‬‬ ‫أ‬
‫ثم راحت �أ�صوات متداخلة‪ ،‬ت�صدر عن �أحذية خمتلفة‪ ،‬تكيل‬
‫التي‪ .‬م�ضا�ضة‬ ‫ال�شتائم لها وهي تقف و�سط الغرفة يف مهب آ‬
‫ال�صوات‪،‬‬ ‫تتلم�س أ‬
‫االنتظار تقتلها‪ ،‬وال ميكنها �سوى �أن ّ‬
‫والهم كان �صوت ارتطام دوالب التعذيب الكاوت�شوكي‬ ‫أ‬
‫بالر�ض وقد �أح�رضوه للتو‪.‬‬ ‫أ‬
‫‪ -‬من امل ؤ�كد �أن الكبل الرباعي معه‪.‬‬
‫فكرت روزيت وهم ميطرونها ب أ��سئلة ال تنتهي‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫نقلت وبقية املعتقالت �إىل ال�سجن‬ ‫ُ‬ ‫بعد انتهاء التحقيق‬
‫ال�سيا�سي‪ .‬هناك يف غرفة علوية من ال�سجن‪ ،‬الذي كان يوم ًا ما‬
‫ق�رصاً للرئا�سة(‪ ،)56‬رمينا ل�سنوات طويلة‪.‬‬
‫كنا ع�رش معتقالت و�أنا معهن‪ .‬ثم ان�ضمت �إلينا ح�سيبة‪.‬‬

‫(‪)56‬ال�سجن الذي كان ق�رصا للرئا�سة يف �أحد عهود اجلمهورية وغدا �سجن ًا‬
‫�سيا�سي ًا يف ال�سبعينيات‪ .‬‬

‫‪116‬‬
‫الختني خلود‪.‬ع(‪ )57‬وهالة‪.‬‬ ‫ع لن�صبح �إحدى ع�رشة معتقلة‪ :‬أ‬
‫ع(‪ ،)58‬جنود‪.‬ي(‪ ،)59‬ليلى‪.‬ن(‪ ،)60‬فريوز‪.‬خ(‪� ،)61‬سناء‪.‬ك(‪،)62‬‬
‫راغدة‪.‬ع(‪ ،)63‬رنا‪�.‬س(‪ ،)64‬و�صباح‪.‬ع(‪.)65‬‬
‫بدا وا�ضح ًا �أن نوافذ الغرفة‪ /‬الزنزانة كانت فيما م�ضى‬
‫باللوان وتناغمات‬‫غاية يف اجلمال‪ :‬زجاج ق�رص بديع م�شغول أ‬
‫اللوان طليت بدهان غامق‪ ،‬ب�شكل‬ ‫القي�شاين‪ .‬لكن كل تلك أ‬
‫فظ وكيفما اتفق‪ ،‬ليمنعونا من ر ؤ�ية اخلارج‪ ،‬طم�ست كل‬
‫املعامل اجلميلة لتتحول �إىل نوافذ �سجن حقيقي‪ ،‬وتتحول كل‬
‫(‪ )57‬خلود‪ .‬ع‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1952‬اعتقلت من �سنة ‪1978‬‬
‫وحتى �سنة ‪.1980‬‬
‫(‪ )58‬هالة‪ .‬ع‪ :‬من مواليد ‪ 1956‬اعتقلت من �سنة ‪ 1978‬وحتى �سنة ‪1980‬‬
‫ثم هاجرت �إىل فرن�سا مع زوجها لي�ستقرا هناك منذ �سنة ‪1980‬‬
‫(‪ )59‬جنود‪ .‬ي‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1955‬اعتقلت من �سنة ‪1978‬‬
‫وحتى �سنة ‪.1980‬‬
‫(‪ )60‬ليلى‪ .‬ن‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1947‬اعتقلت �سنة ‪ 1978‬وقت‬
‫الوىل ومل يطلق �رساحها حتى �سنة ‪ 1980‬حيث‬ ‫ال�شهر أ‬ ‫كانت ابنتها عزة يف أ‬
‫اعتقل زوجها حتى �سنة ‪.1994‬‬
‫(‪ )61‬فريوز‪ .‬خ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد �سنة ‪ 1957‬اعتقلت من �سنة ‪1978‬‬
‫وحتى �سنة ‪.1980‬‬
‫ال�صل من مواليد ‪ 1957‬اعتقلت من‬ ‫(‪� )62‬سناء‪ .‬ك‪ :‬معتقلة �سيا�سية فل�سطينية أ‬
‫�سنة ‪ 1978‬وحتى �سنة ‪ ،1980‬ومن ثم توفيت يف نهايات الت�سعينيات‪.‬‬
‫(‪ )63‬راغدة‪ .‬ع‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد �سنة ‪ .1957‬اعتقلت من �سنة‬
‫‪ 1978‬وحتى �سنة ‪.1980‬‬
‫(‪ )64‬رنا‪� .‬س‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1955‬اعتقلت من �سنة ‪1978‬‬
‫وحتى ‪.1980‬‬
‫(‪� )65‬صباح‪ .‬ع‪ :‬معتقلة من مواليد �سنة ‪ 1958‬اعتقلت من �سنة ‪ 1978‬وحتى‬
‫‪.1980‬‬

‫‪117‬‬
‫الغرف الفارهة واملمرات وال�صاالت �إىل مهاجع وزنازين‪.‬‬
‫بي للق�رص اللهم �إال‬‫مبا�ض عريق و�أ ّ‬‫يذكر ٍ‬‫مل يعد هناك ما ّ‬
‫�أ�شباح مبهمة حت ّلق فوقه‪ ،‬تندب ما�ضيه وذاكرته املن�سية‪.‬‬
‫خ�شخ�شة مفاتيح ال�سجان‪:‬‬
‫�صوت عمل دوم ًا على زلزلة روحي‪� .‬أعتقد �أنه كان‬
‫يفعل ال�شيء ذاته مع املعتقالت جميعهن‪ ،‬خا�صة �إذا كانت‬
‫اخل�شخ�شة يف غري �أوقات اخلط ومواعيد جميء الطعام‪.‬‬
‫ذاك ال�صوت كان كافي ًا ليجعلنا نتجمد من الرعب‪ ،‬ننتظر‬
‫حاب�سات �أنفا�سنا متوج�سات‪ ،‬وقت يتناهى �إلينا مع قرع حذاء‬
‫ال�سجان �صاعداً الدرج �إىل الزنزانة يف الطابق العلوي‪ ..‬هذا‬
‫يعني �أن معتقلة جديدة �أ�ضيفت �إىل �سل�سلة املعتقالت اللواتي‬
‫رمني هنا‪ .‬رمبا تكون قد ُعذبت بوح�شية لرتمى عندنا يف‬
‫الزنزانة وهي �أ�شبه بجثة حيه مت أ�وهة‪ ..‬وتعود جروحنا لتتفتح‬
‫من جديد ونحن نراقب عذابها �أمامنا‪.‬‬
‫لن �أ�ستطيع �أن �أن�سى يوم ًا �أ�صوات التعذيب تزعق طوال‬
‫الوقت يف �أذين‪� ،‬أ�صوات مت ّزق هدوء الليل ووداعة احلي‬
‫ال�سكني املحيط بال�سجن‪.‬‬
‫عذب معتقل ذات يوم‪.‬‬ ‫ّ‬
‫كانت احلارة كلها ت�سمع �رصاخه و�أنينه‪� .‬أت�ساءل �إىل‬
‫البنية ال�سكنية املكتظة!‬ ‫اليوم كيف مل ينتف�ض النا�س يف تلك أ‬
‫ال�صوات‪.‬‬ ‫�أرواحهم كانت جتلد يف كل وقت على وقع تلك أ‬

‫‪118‬‬
‫ثم �صمت الرجل فج أ�ة‪ ،‬لريين بعد �ضجيجه هدوء غريب‬
‫ومريب‪� .‬آخر الليل‪ ،‬من ثقب باب الزنزانة‪ /‬الغرفة‪ ،‬ر�أينا‬
‫المن يحمالن جثته امللفوفة بالبطانية‪ ،‬كما‬ ‫عن�رصين من أ‬
‫الدراج ب�رسعة‪.‬‬ ‫يحمالن �سجادة عفنة‪ ،‬وينزالن أ‬
‫�أ�صوات التعذيب كانت حترمنا النوم لليالٍ طويلة‪ ،‬خ�صو�ص ًا‬
‫�أن حملة االعتقاالت كانت �شديدة ذاك الوقت‪ .‬مل مير يوم‬
‫دون �رصاخ �أمل‪� ،‬أو �شتائم جمنونة من العنا�رص‪� ،‬أو �ضجة ولغط‬
‫االعتقال والتعذيب‪.‬‬
‫الكثريات من معتقالت ذاك ال�سجن ما زلن يذكرن �رصاخ‬
‫المل الذي ي�صدر عن ح�سيبة‪.‬ع وهي حتت التعذيب‪ ،‬يتناهى‬ ‫أ‬
‫�إليهن حافراً يف �أوقاتهن و�أدمغتهن‪.‬‬
‫تركوها وقتئذ يف املنفردة ال�سفلية حتى الت أ�مت جروحها‬
‫وحروقها‪ ،‬ثم �أح�رضوها �إىل الزنزانة امل�شرتكة‪ .‬لكن �آثار‬
‫الكدمات الزرقاء‪ ،‬حروق ال�سجائر املطف أ�ة على ج�سدها‪،‬‬
‫ت�ضج �شاهدة على ما ح�صل يف أ‬
‫ال�سفل‪� ،‬أما‬ ‫ّ‬ ‫كانت ما تزال‬
‫�صوتها فقد بقي مبحوح ًا لفرتة طويلة بعدها‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫الهم بيوم‪ ،‬ب إ�طالق‬‫كانت روزيت قد حلمت‪ ،‬قبل احلدث أ‬
‫ر�صا�ص يف احلارات ال�ضيقة واملزدحمة املحيطة بال�سجن‪.‬‬
‫يف ذاك امل�ساء من �سنة ‪ 1978‬كانت املعتقالت جميع ًا‬
‫جال�سات يف الزنزانة العلوية يتل�ص�صن من فوق امل�ساحة‬

‫‪119‬‬
‫املعتمة‪ ،‬التي تغطي ال�شبابيك‪� ،‬إىل البيوت املحيطة وال�سجانة‬
‫املنت�رشين يف �أنحاء الق�رص مدججني ب�سالحهم‪ ،‬ي�سمعن �صوت‬
‫فريوز من م�سجلة اجلريان‪:‬‬
‫كملها‪.‬‬
‫جايني ع الدار‪ ..‬دار العز ّ‬
‫الغنية من ن�صيب روزيت‪.‬‬ ‫ويحظظن عليها‪ .‬كانت أ‬
‫والدار بالعيد م�ضوية منازلها‪..‬‬
‫يبدو �أن النبوءة حتققت‪ ،‬ففي اليوم التايل‪ ،‬وحاملا نزلت‬
‫املعتقالت �إىل التنف�س يف الباحة ال�سفلية‪ ،‬هم�س �أحد الرفاق‬
‫املطل على‬‫ّ‬ ‫املعتقلني يف الزنازين ال�سفلية‪ ،‬ومن �شباكه ال�ضيق‬
‫�ساحة التنف�س‪ ،‬ب أ�ن �أكرم‪.‬ب قد اعتقل‪.‬‬
‫هل كان عليها �أن تفرح �أم حتزن؟!‬
‫تطوحها بني جدران باحة التنف�س‪.‬‬ ‫م�شاعر خمتلطة راحت ّ‬
‫�أن يعتقل �أكرم يعني �أن الكارثة ح ّلت‪ .‬لكن اعتقاله يعني �أي�ض ًا‬
‫�أنها �ستلمح حبيبها �أخرياً وقد مرت �شهور طويلة دون �أن‬
‫تراه‪.‬‬
‫كان للق�سم ال�رشقي من ال�سجن‪ ،‬وهو عبارة عن بيت‬
‫اخلدمة واملونة واملطبخ‪� ،‬شبابيك على �ساحة التنف�س‪ .‬ال�ساحة‬
‫ت�شكل جزءاً من احلو�ش الكبري للق�رص اقتطعت منه مب�ساحة ال‬ ‫ّ‬
‫تتجاوز ‪� 5 ،4‬أمتار‪ .‬حني كان ي أ�تي وقت تنف�س املعتقالت‬
‫يغطي ال�سجانة �شبابيك زنازين املعتقلني ب أ�لواح من اخل�شب‬
‫حتى ينتهي الوقت املخ�ص�ص‪ ،‬بذلك ي�ضمنون �إجها�ض �أية‬

‫‪120‬‬
‫فكرة للتوا�صل مهما ق ّلت بني الرفاق‪.‬‬
‫يف ذلك اليوم‪ ،‬الذي عرفت فيه روزيت باعتقال �أكرم‪،‬‬
‫�أخرجه ال�سجان (ال�صديق) �إىل احلمام عرب ال�ساحة‪ ،‬ورمبا عمل‬
‫المر بحيث تكون روزيت يف وقت التنف�س‪.‬‬ ‫على توقيت أ‬
‫الوىل‪.‬‬ ‫حينها ر�أته للمرة أ‬
‫كان بعيداً ومتعب ًا‪ .‬مل ت�ستطع �أن تلم�سه على الرغم من‬
‫حماوالتها امل�ستميتة إلقناع ال�سجان بذلك‪ .‬حلظات وم�ضى‬
‫عراب احلب‬ ‫�أكرم داخل املبنى‪ .‬مع ذلك كان ذاك ال�سجان ّ‬
‫الذي راح ين�ضج هناك يف املعتقل‪.‬‬
‫بعد مدة من حماوالت اللقاء امل�ستمرة‪ ،‬والر�سائل عرب‬
‫ال�سجان ويف ف�سحات التنف�س‪ ،‬ا�ستطاع عمي �أن يجلب من‬
‫الكني�سة ورقة زواج كتبها اخلوري املتعاون!‬
‫جلب معها حمب�سني‪ ،‬حمب�سني �صغريين كانا ي�شكالن يل كل‬
‫�أملي‪ .‬ويف غرفة من غرف ال�سجن متت خطوبتنا �أنا و�أكرم يف‬
‫�سنة ‪.1979‬‬
‫لكن مل مي�ض وقت طويل بعدها حتى نقل �أكرم �إىل �سجن‬
‫�آخر‪ .‬بعد ذلك �صار ي ؤ�تى به لن�صف �ساعة كل �أ�سبوع �إىل‬
‫ال�سجن كي يراين‪ ،‬زيارة عا�شقني لن�صف �ساعة ال غري‪ ،‬لكنه‬
‫يف النهاية كان �أمراً رائع ًا �أن �أ�ستطيع ر ؤ�يته و�أنا يف ال�سجن!‬
‫ال�سبوع دقيقة بدقيقة‪� ،‬ساعة ب�ساعة‪ ،‬كي ت أ�تي ن�صف‬ ‫�أنتظر أ‬
‫ال�ساعة تلك‪ .‬ن�صف �ساعة فح�سب كانت قادرة على تخفيف‬

‫‪121‬‬
‫�ضغط الزنازين واالعتقال‪ ،‬ن�صف �ساعة كانت حتملني على‬
‫�أجنحة فرا�شات �إىل حلم جميل رحت �أر�سمه يف خيايل‪.‬‬
‫ن�صف �ساعة ثم يعاد به �إىل �سجنه من جديد‪.‬‬
‫ا�ستمر الو�ضع هكذا حتى بدايات �سنة ‪ 1980‬حني مت‬
‫�إطالق �رساحي و�رساح �أكرم من االعتقال أ‬
‫الول لنا‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫�ستمر �سنوات طويلة قبل �أن ت�ستدعى روزيت‪.‬ع من جديد‬
‫المن‪.1‬‬‫يف �سنة ‪� 1992‬إىل فرع أ‬
‫ال منذ �سنة ‪� ،1987‬أي بعد ثماين �سنوات‬ ‫كان زوجها معتق ً‬
‫الول‪.‬‬ ‫من �إطالق �رساحه أ‬
‫�سجن قب ً‬
‫ال‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يف ذلك الوقت مت ا�ستدعاء رفيقاتها‪ ،‬اللواتي‬
‫الخرى وب أ��شكال خمتلفة‪� .‬إحداهن �أخذوها من‬ ‫الواحدة تلو أ‬
‫العمل‪ ،‬الثانية مبذكرة �إح�ضار من البيت‪ ،‬والثالثة �ألقوا القب�ض‬
‫عليها يف ال�شارع‪ ،‬وهكذا‪ ..‬هذا ما جعل �إح�سا�س ًا �أكيداً‬
‫بقرب االعتقال يراودها‪.‬‬
‫كانت ت�شعر �أنها تنتظر دورها كمن ينتظر قرار �إعدامه يف‬
‫�سعري احلرب‪ .‬كلما دقّ الباب �أو �سمعت خطوات مقرتبة من‬
‫مدخل البيت تقول لنف�سها‪� :‬أتوا‪ .‬كانت تنتظر نهايتها ال غري‪.‬‬
‫المن‪1‬‬ ‫المر فقد ا�ستدعيت روزيت لرتاجع فرع أ‬ ‫مل يطل أ‬
‫وب�رسعة‪� .‬شعور عميق جعلها حتر�ص يف تلك الليلة على توديع‬
‫ابنتها بي�سان‪ ،‬ك أ�ن الزيارة الق�صرية تلك �ستطول‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫ال�صغرية كانت تبكي وتبكي بال توقف ك أ�نها ت�شعر بقرب‬
‫غياب �أمها‪ .‬وروزيت تو ّدعها مت�صنعة الهدوء واعدة �إياها‬
‫بعدم الت أ�خر‪:‬‬
‫‪� -‬ساعات و�أعود يا حبيبتي ال تبكي‪..‬‬
‫حني تركت منزل �أهلي‪ ،‬وذهبت تاركة ابنتي هناك‪ ،‬كنت‬
‫ح�س بقلبي يتفتت‬ ‫المر �سيطول �أكرث من �ساعات‪� ،‬أ ّ‬ ‫متيقنة �أن أ‬
‫الخرية‪ .‬كنت‬ ‫�إىل �أجزاء و�أنا �أرى مالمح بي�سان الباكية للمرة أ‬
‫حتملته تلك ال�صغرية دون ذنب‪ ،‬بالذي عانت منه‬ ‫�أفكر بالذي ّ‬
‫والن بغياب �أمها‪ .‬ابنتي ال�صغرية ُح ّملت فوق‬ ‫بغياب والدها‪ ،‬آ‬
‫طاقتها دون �أي ذنب �سوى �أنها ولدت يف هذا املكان ولهذين‬
‫أ‬
‫البوين!‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫المن‪ 1‬حتى امل�ساء‪.‬‬ ‫انتظرت روزيت يف فرع أ‬
‫تركوها يف املنفردة طيلة الوقت من�سية‪� ،‬أو تق�صدوا ن�سيانها‪،‬‬
‫كي يجعلها الرتقب �أكرث خوف ًا و�ضعف ًا‪.‬‬
‫�أ�صوات التعذيب وال�رصاخ حتا�رصها من كل �صوب‪.‬‬
‫املعتقلون ُي�رضبون ويعذبون يف املمرات وبني الزنازين‪.‬‬
‫على الرغم من �أن التعذيب‪ ،‬ح�سب العادة‪ ،‬كان يجري يف‬
‫ال�سفل بني الزنازين‪..‬‬ ‫العلى‪ ،‬يف غرف التعذيب ولي�س يف أ‬ ‫أ‬
‫المن‪ 1‬كان �أ�شبه بجحيم م�ستعر يف تلك الليلة الطويلة‬ ‫فرع أ‬
‫الطويلة‪.‬‬

‫‪123‬‬
‫كل حني كانت طاقة الباب احلديدي ال�ضيقة تُفتح‪،‬‬
‫وروزيت ت�سمع �صوت �رضبات قلبها الوجل‪ ،‬ينظر العن�رص‬
‫�إليها وهي قابعة يف الزاوية املعتمة ملتفة على نف�سها‪ ،‬وي�س أ�ل‪:‬‬
‫‪� -‬أنت امر�أة �أكرم‪.‬ب؟‪.‬‬
‫ته ّز بر�أ�سها ألن �صوتها بعد حني �أبى �أن يخرج من جوفها‪،‬‬
‫فيغلق ال�سجان الطاقة ومي�ضي‪ .‬يعود �سجان �آخر بعد فرتة لي�س أ�ل‬
‫ال�س ؤ�ال ذاته‪ ،‬ومي�ضي‪ ..‬وهكذا‪.‬‬
‫المر على هذه احلال‪ ،‬وبعد حتقيق ق�صري ُنقلت‬ ‫مل يطل أ‬
‫روزيت‪.‬ع �إىل املزدوجات لت�سجن مع بقية املعتقالت حتى‬
‫�سنة ‪.1993‬‬

‫‪124‬‬
‫الدخول �إىل مملكة اجلنون‪..‬‬
‫أ�مهات فى املعتقل‬

‫‪125‬‬
‫بلد ي�سجن فيه أالطفال ب�سبب جرائم آ�بائهم‪..‬‬
‫�إننا ندخل مملكة اجلنون‪.‬‬
‫مليكة �أوفقري (ال�سجينة)‬

‫خم�س و�أربعون معتقلة من ال�شيوعيات والعرفاتيات(‪ )66‬يف‬


‫المن‪.1‬‬‫املهجع رقم (‪ )6‬يف فرع أ‬
‫حد االختناق جعل املعتقالت ينق�سمن �إىل‬ ‫ال�ضيق ّ‬
‫ّ‬ ‫املكان‬
‫الخرى‬ ‫جمموعتني‪ :‬جمموعة تنام (ت�سييف)(‪ ،)67‬واملجموعة أ‬
‫الخريات كي‬ ‫ت�سهر عند الباب‪ ،‬تنتظر بفارغ ال�صرب ا�ستيقاظ أ‬
‫ي�ستطعن النوم‪.‬‬
‫كانت غرناطة‪.‬ج ومنى‪�.‬أ(‪ )68‬ت�سهران قريب ًا من فوهة‬
‫(‪ )66‬العرفاتيات‪ :‬ن�سبة �إىل يا�رس عرفات‪.‬‬
‫(‪ )67‬النوم ت�سييف لعدد كبري من املعتقلني يف مكان �ضيق يعني �أقدام أ‬
‫الوىل عند‬
‫�أقدام الثانية وهكذا‪ ..‬طريقة معروفة للمعتقلني ال�سيا�سيني‬
‫(‪ )68‬منى‪� .‬أ ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1958‬اعتقلت يف �سنة ‪ 1987‬وحتى‬
‫�سنة ‪1991‬‬

‫‪126‬‬
‫ال�شباك العالية املحددة بال�شبك املعدين‪ ،‬املط ّلة على �أر�ضية �ساحة‬
‫ال�سجن اخلارجية‪ ،‬تنكم�شان على نف�سيهما‪ ،‬كل منهما حتت�ضن‬
‫املق�سمة �إىل‬
‫ركبتيها وتراقب قطعة ال�سماء ال�صغرية الكحلية ّ‬
‫مربعات حديدية‪.‬‬
‫جلية للغاية‪ ،‬ونقية ب�شكل مثري لل�شجن‪..‬‬‫كانت ليلة ّ‬
‫غطى الفوهة القامتة وجه نوراين‪ ،‬مالك ظهر �أمام‬ ‫فج أ�ة ّ‬
‫ناظريهما ب�شكل خاطف وك أ�نه بعث �إليهما من ال�سماء حق ًا!‬
‫مرت هنيهات قبل �أن تكت�شف غرناطة ومنى �أن البدر‬ ‫ّ‬
‫أ‬
‫الذي ��رشق فج�ة كان وجه طفل‪ ،‬طفل حقيقي يف هذا املكان‬ ‫أ‬
‫القاحل كال�صحراء واملعتم كقرب‪.‬‬
‫كان عمره قريب ًا من عمر جمد‪ :‬ابن منى‪.‬‬
‫الم للحظات‪ ،‬كحلم �أو كطيف بعيد مل‬ ‫رمبا جت ّلى جمد �أمام أ‬
‫يغب لثانية واحدة عن خيالها الذي مل ي�ستطيعوا اعتقاله �أبداً‪.‬‬
‫ك أ�ن القدر بعثه �إليها كي ين�شلها من هذا العذاب‪.‬‬
‫�صارت منى حتاول التقرب منه‪ ،‬وقد بدا �أن قطعة من‬
‫قلبها تع ّلقت بوجه الطفل املطل من ال�شباك العايل‪ .‬ثم راحت‬
‫الخريات تتزاحمن حتت الفوهة العالية‪ ،‬م�رشئبات‬ ‫املعتقالت أ‬
‫ب أ�عناقهن جتاه الطفل‪ ،‬حماوالت‪ ،‬كل بدورها‪� ،‬أن تتحادث معه‬
‫تخيلت كل �أم منهن طفلها ماث ً‬
‫ال يف وجهه‪.‬‬ ‫�أي�ض ًا‪ .‬رمبا ّ‬
‫مل يجب الطفل‪ ،‬عيناه مفتوحتان على �سعتهما‪ ،‬الده�شة‬
‫الج�ساد والوجوه ت�رشئب‬ ‫تقطر منهما وهو يحاول تبينّ كتلة أ‬

‫‪127‬‬
‫�إليه‪ ،‬واللمبة ال�صفراء حتيلها �إىل تهوميات �ضبابية �شاحبة‬
‫كاملوت‪.‬‬
‫�أخرياً‪ ،‬بعد طول حماوالت‪ ،‬ا�ستطاعت منى �أن جتعله‬
‫يجيبها‪ ،‬ولكن بجملة واحدة‪:‬‬
‫‪ -‬ما الزم �إحكي معكون �أنتو جمرمات‪.‬‬
‫�صاح ال�صغري وهرب‪ .‬غاب فج أ�ة كما �أ�رشق‪.‬‬
‫حتطم يف داخلهن‪ ،‬بدا ذلك على وجوه‬ ‫ثمة �شيء ما ّ‬
‫ال�سجينات‪ ،‬وعلى مالمح منى وعينيها اللتني أ‬
‫امتلتا بالدمع‪.‬‬
‫عادت املعتقالت للجلو�س من جديد واالنتظار‪ ،‬كما‬
‫عادت منى وغرناطة �إىل الزنزانة‪ .‬لكن �شيئ ًا داخلي ًا مل يعد كما‬
‫كان‪ ،‬مل يعد البتة كما كان‪.‬‬
‫مل متر حلظات حتى رجع وجه ال�صغري من جديد لينري‬
‫الزنزانة من ال�شباك‪ .‬مل تكد منى تعي رجوعه حتى طفق يرمي‬
‫الزهار تنمو‬ ‫لهن بزهور �صغرية برية‪ ،‬برية و�صفراء‪ ،‬من تلك أ‬
‫المن‪.1‬‬ ‫يف كل مكان حتى يف باحة معتقل كفرع أ‬
‫كان يدخل كل زهرة على حدة من فراغات ال�شبك‬
‫احلديدي ال�صغرية والقا�سية لتتهادى الزهرة بغواية �إىل عمق‬
‫للم�ساك‬ ‫العلى‪ ،‬والفتيات يت�سابقن إ‬ ‫الزنزانة كنور ي�سقط من أ‬
‫به‪.‬‬
‫زهرة فزهرة فزهرة‪..‬‬
‫كان يبدو �أن ما لقّنه له والده ال�ضابط مل يكن كافي ًا جلعل‬

‫‪128‬‬
‫الطفل يبتعد عنهن كمجرمات‪ ..‬كن ي�شبهن �أمه �أي�ض ًا!‬
‫مرت دقائق فح�سب ا�ستطاعت منى خاللها �أن تعاود‬ ‫ّ‬
‫احلديث مع الطفل‪ ،‬لتخلق الكلمات حيا ًة جديدة يف فراغ‬
‫روحها‪ ،‬ولتجعل �صورة جمد ابنها تظلل �أوقاتها‪ ،‬قبل �أن‬
‫ت�سحب يد ثقيلة وجه الطفل من ال�شباك‪ ،‬ويعود الظالم من‬
‫المهات �إىل البكاء الذي ما‬ ‫جديد �إىل املهجع رقم ‪ ،6‬وتعود أ‬
‫انقطعن عنه‪.‬‬
‫المهات املعتقالت‪،‬‬ ‫المن كان هناك الكثري من أ‬‫يف فرع أ‬
‫حوايل ال�سبع �أمهات من �أ�صل اثنتي ع�رشة معتقلة‪ ،‬ظللن �أكرث‬
‫من ثالث �سنوات يف املعتقل بعيدات عن �أطفالهن‪ :‬دالل‪.‬‬
‫م(‪ ،)69‬لينا‪.‬و‪ ،‬رجاء‪.‬م(‪ ،)70‬بثينة‪.‬ت‪ ،‬منى‪�.‬أ‪ ،‬هتاف‪.‬ق(‪،)71‬‬
‫�آ�سيا‪�.‬ص(‪ ،)72‬منرية‪�.‬ص‪ ،‬و�سهام‪.‬م(‪.)73‬‬
‫منظمات يف �أي حزب‪،‬‬ ‫بع�ضهن مثل رجاء وبثينة مل يكن ّ‬
‫مع ذلك ق�ضني �سنوات طويلة يف ال�سجون‪.‬‬
‫(‪ )69‬دالل‪ .‬م ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1958‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى �سنة ‪ 1990‬ولديها ولدان‪.‬‬
‫(‪ )70‬رجاء‪ .‬م‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ .1960‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى �سنة ‪ 1991‬ظل زوجها وابنتها يف اخلارج‪.‬‬
‫(‪ )71‬هتاف‪ .‬ق‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ .1957‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى ‪ .1990‬بقي زوجها وطفالها خارج ًا‪.‬‬
‫(‪� )72‬آ�سيا‪� .‬ص‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1960‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى ‪ .1990‬تركت ابنتني �صغريتني يف اخلارج‪.‬‬
‫(‪� )73‬سهام‪ .‬م‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ .1957‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى ‪ 1990‬ولديها ولدان‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫امللقبة ب أ�م حديد‪ ،‬ولدان يف اخلارج‪ ،‬وزوجها‬ ‫لدى �سهام‪.‬م‪ّ ،‬‬
‫معتقل كذلك‪ .‬و�سهام لقّبت ب أ�م حديد ألن زوجها‪ ،‬وكان‬
‫�صديق ًا للحزب‪ ،‬بد�أ يوم ًا ببناء بيت جديد له‪ ،‬وكان احلزب‬
‫يحتاج �إىل بع�ض املال‪ ،‬فما كان منه �إال �أن باع احلديد ليتربع‬
‫بالمر قال فيها‪:‬‬ ‫بثمنه للحزب‪ .‬ثم كتب ر�سالة �إىل املعنيني أ‬
‫زوجتي لي�ست �أقل مني حما�سة لتقدمي م�ساعدة للحزب‪.‬‬
‫نتيجة لذلك دفعت �سهام (�أم حديد) ثمن حما�ستها ال�شفهية‬
‫ونيف من عمرها وعمر �أطفالها يف املعتقل‪.‬‬ ‫ثالث �سنوات ّ‬
‫البواب احلديدية توقظهن‬ ‫�صباح ًا حني كانت �أ�صوات أ‬
‫تلقي املعتقالت حتية ال�صباح على بع�ضهن‪:‬‬
‫�صباح �سندوي�شات اللبنة‪..‬‬
‫�صباح كوي ال�صداري‪..‬‬
‫لكن ال�صباحات كانت مت�ضي دون �أن ي�ستطعن تعوي�ض‬
‫الطفال عنهن‪ ،‬وغيابهن عن حياة �أطفال‬ ‫الغياب‪ :‬غياب أ‬
‫تركوا يف اخلارج بال �أمهات‪ ،‬ويف الغالب بال �آباء �أي�ض ًا‪.‬‬
‫والخري بالن�سبة �إىل معتقالت‬ ‫الول أ‬‫الغياب كان العذاب أ‬
‫المن‪ ،1‬خا�صة �أن الزيارات كانت قليلة بل نادرة يف‬ ‫فرع أ‬
‫الحيان‪.‬‬‫بع�ض أ‬
‫بالن�سبة �إىل بثينة‪.‬ت كان أ‬
‫المر ِّ‬
‫حمطم ًا‪.‬‬
‫ذلك �أن ابنتها راما �أبعدت عن �صدرها وهي تر�ضع بعد‪،‬‬
‫�أخذوها ومل تكن قد بلغت �شهرها العا�رش‪ .‬حينذاك كانت بثينة‬

‫‪130‬‬
‫المن‪ 1‬طيلة �أيام وتطالب براما‪ ،‬لكنهم‬ ‫ت�رصخ يف زنزانة فرع أ‬
‫مل يجلبوها بالطبع‪ .‬بقي �صدر بثينة‪ ،‬املمتلئ باحلليب‪ ،‬ي�ضغط‬
‫عليها ب�آالم �شديدة وابنتها بعيدة‪ ،‬حتى �سقطت مري�ضة حممومة‬
‫طيلة �أيام‪.‬‬
‫بعد �سنة ون�صف من االعتقال‪ ،‬وقت ُ�سمح ب أ�ول زيارة يف‬
‫المن‪ 1‬ألهل �سونا‪�.‬س‪ ،‬و�صلت مع الزيارة جمموعة من‬ ‫فرع أ‬
‫ال�صور �إىل جميع املعتقالت‪.‬‬
‫�رصت �آخذ ال�صور من احلقيبة ألوزعها على رفيقاتي‪.‬‬
‫�أ�ستلم ال�صورة‪� ،‬أنظر �إىل اخللف ألقر�أ اال�سم‪ ،‬ثم �أنادي با�سم‬
‫الخرية �إىل كنزها‪ ،‬وتتلقفه بولع‪ .‬وقت وقعت‬ ‫�صاحبتها لتقفز أ‬
‫تلك ال�صورة بني يدي مل �أعرف ملن‪� :‬صورة طفلة �صغرية‬
‫وجميلة‪ ،‬وال يوجد ا�سم خلف ال�صورة‪ .‬حينئذ �صحت و�أنا‬
‫�أرفعها‪:‬‬
‫‪ -‬ملني هال�صورة؟‪� .‬صورة طفلة �صغرية‪ ..‬ملني؟!‬
‫‪� -‬إنها �صورة ابنتك بثينة‪� ..‬صورة راما‪� ..‬أمل تعرفيها؟!!‬
‫�صاحت �إحدى الرفيقات اللواتي كن يعرفن ابنتي جيداً‪.‬‬
‫�صعقت‪ ،‬ثم �شعرت قلبي يتفتت ببطء و�أنا �أت أ�مل ال�صورة‬
‫من بني دموعي‪ .‬كان م ؤ�مل ًا للغاية اكت�شايف‪ :‬ال�صورة البنتي راما‬
‫حق ًا‪ ،‬العينان الناعمتان وال�ضحكة ال�ساحرة‪ .‬و�أنا مل �أتعرف‬
‫عليها؟!!‬
‫كنت �أ�سال نف�سي هل هناك �أم ال تعرف ابنتها؟!‬

‫‪131‬‬
‫مل �أ�ستطع ر ؤ�ية راما �إال بعد �سنتني ون�صف من اعتقايل حني‬
‫�سمحوا ب أ�ول زيارة يل‪ .‬جاء �أبي و�أمي و�أختي ومعهم �صغرية‬
‫يحملونها‪ .‬بحلقت بال�صغرية ومل �أعرفها من جديد‪ ،‬كانت‬
‫راما الطفلة التي كربت!‪� .‬أما ابنتي الكربى‪ :‬النا فلم يح�رضوها‬
‫�إىل املعتقل البتة‪ ،‬كنت م�صرّ ة �أال تت�شوه ذاكرتها الغ�ضة مب�شهد‬
‫اعتقايل يف ذاك املكان املقيت‪ ،‬ومل �أرها حتى خرجت يف �سنة‬
‫‪ ،1990‬وكانت النا قد جتاوزت الثامنة من عمرها‪.‬‬

‫من الفرع كتبت بثينة ر�سالة �إىل ابنتها(‪:)74‬‬


‫(للو�شة احللوة‪ :‬يا نور عيون ماما وبابا‪� ..‬صورتك و�إنت‬
‫رايحة عاملدر�سة بتجنن‪ ،‬و�صورتك و�إنت عم ترق�صي بعر�س‬
‫خالتك بتاخد العقل‪ ..‬هاملرة يا حلوة بدي �صورة و�إنت عم‬
‫تكتبي الوظيفة‪.‬‬
‫كيفك يا ماما‪ ..‬زعالنة منك كتري ألنك ل�سه نحيفة والظاهر‬
‫�إنك ما عم ت�رشبي حليب وما عم تاكلي منيح‪ .‬ت أ�خرت عليك‬
‫يا ماما ب�س ما ب إ�يدي‪ ..‬يال ياحلوة ا�صربي رح �إرجع لك �إنت‬
‫وراما �أكيد �أكيد‪ ..75‬انتظريني يا قمري رح ابعتلك مانطو كتري‬
‫حلو �إلك ولراما �إن �شاء اهلل يعجبك‪ ..‬وت�صوروا فيهم وابعثوا‬
‫(‪ )74‬جزء من ر�سالة من بثينة‪ .‬ت يف فرع أ‬
‫المن �إىل ابنتها النا خارج ًا كتبت يف‬
‫�أوائل �سنة ‪ 1989‬بعد حوايل �سنة ون�صف على االعتقال بقلم الر�صا�ص على‬
‫ورق باكيتات �سجائر احلمراء‪ .‬قام ال�سجان م الذي كانوا ي�سمونه‪ :‬احلمام‬
‫الزاجل بنقل هذه الر�سالة �إىل االبنة‪ .‬والر�سالة من�شورة كما كتبت متام ًا‪.‬‬
‫والب م�سافران خارج البالد‪.‬‬ ‫الم أ‬‫(‪ )75‬مبا �أن االبنتني كانتا قد �أخربتا ب أ�ن أ‬

‫‪132‬‬
‫يل ال�صور‪ ..‬وابعثي يل �صوف إلعمل لك طقم حلو‪� ..‬إنتي‬
‫�أ�رشي يل عليه عاجلورنال و�أنا بعمل لك �إياه‪..‬‬
‫�شفت بال�صور �سنوناتك اجلداد‪ ..‬دخيل عيونك و�سنانك‬
‫وقلبك يا النا‪� .‬رصت �صبية و�أكيد قربت ت�صريي بطويل‪..‬‬
‫بكره يا ماما برجع وبفهمك كل �شي‪� .‬أهم �شي يا حلوة ما‬
‫تن�سي �أبداً �أنو �أنا وبابا غبنا عنك من �شانك ومن �شان راما وكل‬
‫الطفال احللوين وال�شاطرين و�أنو نحن بدنا نرجع ب�س ما عم‬ ‫أ‬
‫يخلو ّنا‪..‬‬
‫�إذا �إجت تيتي لعندي (كلمات ممحوة) م�شتاقتلك كتري‬
‫وم�شتاقه لراما‪..‬‬
‫كيفك �إنت وياها يا �صبية �أكيد عم تعتني ب أ�ختك ألن �إنت‬
‫الكبرية‪.‬‬
‫اكتبي يل ر�سالة يا ماما بخطك احللو‪ ..‬على فكرة‪ ،‬خطك‬
‫حلو كتري و�أكيد �إنت �شاطرة باملدر�سة‪ ..‬بدي ياكي تطلعي‬
‫الوىل هاه‪ ..‬وبدي تبعتي يل اجلالء ب�س تاخديه‪.‬‬ ‫أ‬
‫النا‪ :‬ال تفكري �أبداً يا ماما �أن فينا نكون جنبك وما عم‬
‫نرجع‪ .‬كل �شي عم ي�صري غ�صب ع ّنا وع ّنك‪ ..‬وب�س �إرجع‬
‫بحكي لك كل �شي بالتف�صيل‪.‬‬
‫ل�سا عم غنيلك (عم تكرب الفرحة) و�إنت ل�سه‬ ‫النا‪� :‬أنا ّ‬
‫رفيقتي و�أنا رفيقتك‪ ..‬وهلق بغيابي الزم تيتي ونانا وجدو‬
‫وجوجو‪ ..‬يكونوا رفقاتك وحتكي لهم كل �شي عم تفكري‬

‫‪133‬‬
‫فيه‪ ..‬مئة بو�سة على خدودك وعيونك وعيون راما يا �أحلى‬
‫احللوين)‬
‫ماما وبابا‬
‫‪...‬‬
‫بعد �سنتني من االعتقال جاءت زيارة لدالل‪.‬م (�أم علي)‬
‫ورجاء‪.‬م على ال�شبك‪� :‬أي يف�صل بني املعتقلة والزوار حاجزان‬
‫من ال�شبك احلديدي‪ ،‬وبني احلاجزين م�سافة يتم�شى ال�سجان‬
‫فيها طيلة فرتة الزيارة‪.‬‬
‫الوالد ويروا �أمهاتهم‬ ‫يغ�ض ال�سجان النظر ليدخل أ‬‫عادة ما ّ‬
‫داخل ال�شبك‪ .‬دقائق قليلة تتن�شق فيها املعتقلة رائحة طفلها‬
‫وقوداً ل�شهور قادمة‪ ،‬ورمبا ا�ستطاع طفلها �أن يتمتع‪ ،‬لدقائق‬
‫ب�ضمة �أمه وحنانها على الرغم من حالة الرعب التي‬ ‫�أي�ض ًا‪ّ ،‬‬
‫تزرعها فيه رهبة املعتقل وحواجز ال�شبك و�رصاخ ال�سجانة‪.‬‬
‫هذا ما م ّنت دالل نف�سها به وهي تخرج للزيارة حماولة‬
‫ترتيب ثيابها على الدرجات القليلة الفا�صلة بني القبو والطابق‬
‫العلوي حيث ينتظرها �أوالدها‪.‬‬
‫حني خرجت �إىل ال�شبك متلهفة الهثة مل �أ َر �أحداً ينتظرين!‬
‫كان �أهل رجاء‪.‬م ينتظرون مقدمها من وراء ال�شبك‪� .‬س أ�لتهم‪:‬‬
‫‪� -‬أين �أوالدي؟؟‬
‫ب�صغريي‬
‫ّ‬ ‫�أجابوين �أنهم منعوا �سلفي و�سلفتي‪ ،‬وهما يعتنيان‬
‫بعد اعتقايل و�أبيهم‪ ،‬من الدخول �إىل الفرع‪ ،‬باعتبار �أنهما ال‬

‫‪134‬‬
‫القارب! والزيارة ممنوعة‬ ‫يعدان‪ ،‬ح�سب عرف ال�سجن‪ ،‬من أ‬ ‫ّ‬
‫والوالد أ‬
‫والبوين‪.‬‬ ‫للخوة أ‬ ‫�إال أ‬
‫فج أ�ة وقبل �أن �أقفل عائدة �إىل القبو نظرت خلفي ألرى‬
‫طفلي‪ ،‬مي التي مل تبلغ الرابعة وعلي الذي مل يبلغ ال�ساد�سة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫يدخالن وحيدين لزيارتي!‬
‫كانت �صدمة كبرية يل �أن ُيرتك �صغرياي ليدخال وحدهما‬
‫ميل وجهيهما ال�صغريين‪ ،‬وهما يلتفتان‬ ‫�إىل هذا اجلحيم‪ .‬الهلع أ‬
‫مينة وي�رسة ويبحثان عني‪ ،‬فيما ال يواجههما �إال ال�شبك‬
‫وال�سجانة وبكاء �أهل رجاء‪.‬‬
‫ماذا �أفعل؟ باهلل ماذا �أفعل؟‬
‫هل �أتركهما و�أهرب من هذا امل�شهد القا�سي كي ال يروين؟‬
‫ماذا �س أ�قول لهما؟‬
‫مل �أ�ستفق من ال�صدمة حتى كانت �سلفتي قد دخلت عنوة‬
‫وراء الولدين‪ ،‬يف اللحظة ذاتها هدر �صوت مدير ال�سجن‬
‫�صارخ ًا �أال تدخل‪ ،‬وانتهت الزيارة بخروج اجلميع‪.‬‬
‫�إىل املهجع املظلم واخلانق عدت‪.‬‬
‫ت�شو�ش الر ؤ�ية �أمامي‪ .‬رحت �أ�شتم و�أ ّ‬
‫�سب‬ ‫كانت الدموع ّ‬
‫ب�صوت عالٍ ألين كنت �س أ�موت اختناق ًا �إن مل �أفعل‪� .‬أ�شتم‬
‫اجلالدين القتلة ال�سفلة وال�سجان ي�سوقني �إىل املهجع‪ ،‬يحاول‬
‫جاهداً �أن يهدئني لئال ي�سمع مدير ال�سجن �رصاخي‪..‬‬

‫‪135‬‬
‫كان املفرت�ض بالزيارات �أن تكون �أ�شبه بطاقة نورانية تفتح‬
‫ال �أخ�رض وعطراً و�سط عفن �أيامها‪ ،‬لكنها‬ ‫�أمام ال�سجينة �سه ً‬
‫حتولت يف هذا املكان �إىل رحلة عذاب؟!‬
‫رحلة عذاب حقيقية خا�ضتها مرمي‪.‬ز(‪ )76‬كذلك‪.‬‬
‫المن‪ 1‬ومل تكن ابنتها‬ ‫كانت مرمي قد اعتقلت يف فرع أ‬
‫فداء قد بلغت اخلم�س �سنوات من عمرها بعد‪ .‬وفداء عا�شت‬
‫طيلة فرتة اعتقال �أمها يف بيت جدتها ألمها(‪ ،)77‬ومل ت�ستطع‬
‫ر ؤ�ية مرمي �إال بعد ثالثة �أ�شهر من بدء االعتقال حني �سمح لها‬
‫الوىل‪.‬‬‫بالزيارة للمرة أ‬
‫يف ذلك اليوم �أتت �أم مرمي و�أختها و�أخوها م�صطحبني‬
‫فداء معهم‪ .‬كانوا قد �أفهموا ال�صغرية �أن الفرع مكان عمل‬
‫�أمها اجلديد لي�س �إال‪ ،‬وعليها �أن ترى �أمها لدقائق كي تعود أ‬
‫الم‬
‫�إىل عملها من جديد‪.‬‬
‫اجلميع كان مقتنع ًا �أن فداء �صدقت ما قالوه! لكن �إىل‬
‫اليوم‪ ،‬وقد �أ�ضحت فداء �أم ًا يف اخلام�سة والع�رشين من عمرها‪،‬‬
‫و�صورة تلك الزيارة حمفورة يف ذاكرتها‪ ،‬ال يخد�ش دقتها �شيء‬
‫العوام‪:‬‬ ‫على الرغم من مرور أ‬

‫(‪ )76‬مرمي‪ .‬ز‪ :‬معتقلة �سيا�سية اعتقلت ملدة �ستة �أ�شهر من بداية �سنة ‪1988‬‬
‫وحتى �أوا�سطها‪.‬‬
‫(‪ )77‬كان والد فداء زوج مرمي معار�ض ًا �شيوعي ًا وقد اختفى منذ �سنة ‪1982‬‬
‫حني ذهب �إىل بلد جماور‪ .‬فيما بعد �رست �إ�شاعات �أن عماد قد ا�ست�شهد على‬
‫�أيدي ف�صائل م�سلحة هناك‪ .‬لكن احلقيقة ما زالت جمهولة‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫المن على الباب‪.‬‬ ‫عن�رص أ‬
‫الرائد يجل�س �إىل كر�سي يف و�سطهم‪ ،‬ي�سكتهم عندما ال‬
‫يعجبه احلديث‪ ،‬ويهز ر�أ�سه را�ضي ًا عندما يعجبه‪.‬‬
‫ووجه �أمها املتعب وال�شاحب وهي ت�ضمه‪.‬‬
‫المن‪ ،‬يرتب�صون بكل‬ ‫تغ�ص بعنا�رص أ‬
‫الزيارة كانت يف غرفة ّ‬
‫تنم عن �أحدهم‪.‬‬ ‫ن أ�مة تخرج من �أفواه الزائرين وكل حركة ّ‬
‫ا�ستمرت الزيارة ن�صف �ساعة تقريب ًا‪ ،‬ظ ّلت فداء فيها منكم�شة‬
‫تتح�س�سها فح�سب‪،‬‬ ‫ّ‬ ‫يف ح�ضن �أمها دون �أن تنب�س بكلمة‪،‬‬
‫ت�شتمها‪ ،‬وتراقب مالمح وجهها وهي تك ّلم الزائرين‪ ،‬وتطبع‬ ‫ّ‬
‫كل حني قبلة على وجه �صغريتها‪.‬‬
‫حني ُ�أمروا باملغادرة نزلت االبنة عن ح�ضن �أمها م�ست�سلمة‪،‬‬
‫د�ست اجلدة مبلغ ًا‬‫كانت تبكي ب�صمت وهي مت�سك بيدها فيما ّ‬
‫من املال يف يد ابنتها مرمي قبل الوداع‪.‬‬
‫فداء‪ ،‬التي كانت تلتقط كل ما يحدث كرادار‪� ،‬أخرجت‬
‫م�رصوفها اليومي من جيب اجلاكيت‪ ،‬لرية واحدة كانت اجلدة‬
‫وتلهف �إىل �أمها كما‬ ‫تهبها �إياها كل �صباح‪ ،‬ودفعتها ب�رسعة ّ‬
‫فعلت اجلدة متام ًا‪:‬‬
‫‪ -‬ماما‪ ..‬خذي هذه �أي�ض ًا حتى ت�شرتي فيها‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫المر خمتلف ًا كثرياً يف �سجن الن�ساء‪ .‬كان هناك �أي�ض ًا‬ ‫مل يكن أ‬
‫المر املختلف مت ّثل يف وجود بع�ض‬ ‫المهات‪ .‬لكن أ‬ ‫العديد من أ‬

‫‪137‬‬
‫الطفال والطفالت املعتقالت مع �أمهاتهن يف املعتقل!‪.‬‬ ‫أ‬
‫المهات ال�شيوعيات‪� :‬أمرية‪.‬ح‪ ،‬فاديا‪.‬‬ ‫كان هناك الكثري من أ‬
‫�ش‪� ،‬سحر‪.‬ب‪ ،‬رنا‪.‬م‪� ،‬أم �أكرم (زهرة‪.‬ك) وتالي ًا �ضحى‪.‬ع‪.‬‬
‫ال�سالميات!‬ ‫لكن أ‬
‫المر كان �أق�سى بالن�سبة �إىل املعتقالت إ‬
‫هناك �صغرية ا�سمها �سمية ابنة �سلوى‪.‬ح‪� ،‬إحدى املعتقالت‬
‫ال�سالميات‪� ،‬صار عمرها �سبع �سنوات وهي يف ال�سجن مع‬ ‫إ‬
‫ال�سالميات من‬ ‫الفراج عن إ‬ ‫�أمها‪ ،‬وظ ّلت معتقلة حتى وقت إ‬
‫الول ‪.1989‬‬ ‫�سجن الن�ساء‪ ،‬وذلك يف �شهر كانون أ‬
‫رمبا كانت تلك اجلملة التي ّ‬
‫خطتها �سمية ال�صغرية بيدها‬
‫المن‪ 2‬الع�سكري‪ ،‬حيث نقلوا‬ ‫على جدران الزنزانة يف فرع أ‬
‫ال�سالميات قبل وقت قليل من �إطالق �رساحهن‪ ،‬ما تزال‬ ‫إ‬
‫�شاهدة‪:‬‬
‫�أنا �سمية من مواليد �سجن‪� ...‬سكنت يف �سجون‪ ...‬و‪...‬‬
‫الم (�سلوى‪.‬ح) �أن‬ ‫مل يكن ثمة �أحد يف اخلارج ت�ستطيع أ‬
‫توكل �إليه تربية ال�صغرية‪ ،‬لذلك كان البد من �إبقائها معها يف‬
‫املعتقل‪.‬‬
‫جاءت ن�ساء تلك العائلة �إىل �سجن الن�ساء يف‪ ،1985‬بعد‬
‫�أن ق�ضني حوايل ال�سنتني يف ال�سجن ال�صحراوي‪� ،‬أم ح�سان‬

‫‪138‬‬
‫وحفيدتها وابنتاها‪� :‬سلوى‪.‬ح(‪ )78‬وي�رسى‪.‬ح(‪.)79‬‬
‫كن رهائن لزوجي االبنتني‪ :‬حممد‪�.‬ش زوج‬ ‫الربع ّ‬ ‫الن�ساء أ‬
‫الردن فيما بعد‪،‬‬ ‫ال�سالميني الذين هربوا �إىل أ‬
‫�سلوى‪ ،‬وهو من إ‬
‫ال�سالميني‪.‬‬ ‫وزوج ي�رسى الذي �أعدم �إثر حماكمات إ‬
‫عن ال�صغرية �سمية كتبت هبة‪.‬د يف كتابها‪ ،‬عنونت الف�صل‬
‫بـ‪ :‬والدة �أ�صغر املعتقالت‪:‬‬
‫(�سيقت �سلوى و�أمها و�أختها ومعهم ليلى �إىل (‪ )...‬وهناك‬
‫يف ذاك املكان املرعب‪ ،‬الذي كن يرين فيه مواكب املعتقلني‬
‫العدام‪ ،‬حان موعد والدة �سلوى‬ ‫ت�ساق �صباح كل يوم �إىل إ‬
‫دون �أن تكون لديهن �أية و�سيلة لذلك �أو حتى �أية مالب�س‬
‫للمولد القادم‪ .‬لكن اهلل رحمهن بوجود قابلة معتقلة معهن‬
‫ا�سمها رغداء �س‪.‬‬
‫متى جاء �سلوى الطلق كتمن اخلرب و�صياحها معه خ�شية‬
‫�أن يكون ذلك �سبب لعذاب جديد لها �أو حتى لهن!! حتى‬
‫�إذا ولدت �سمع �أحد احلرا�س على ال�سطح بكاء املولودة ف�س أ�ل‬
‫ف أ�خربنه‪ ،‬فجاء هذا ال�شاب الذي مل متت فيه بقايا إ‬
‫الن�سانية بعد‬
‫و�أدىل لهن علبة �صفيح فارغة وعود كربيت ف أ��شعلن من ثيابهن‬
‫ال�سالميات من مواليد �سنة ‪1962‬‬ ‫(‪� )78‬سلوى ‪.‬ح‪ :‬معتقلة من الرهائن إ‬
‫اعتقلت مع �أمها و�أختها �سنة ‪ ،1983‬وكانت حام ً‬
‫ال بابنتها �سمية التي ولدت‬
‫يف ال�سجن �سنة ‪ 1983‬و�أطلق �رساحها يف �سنة ‪1989‬‬
‫ال�سالميني من مواليد ‪ 1964‬اعتقلت‬ ‫(‪ )79‬ي�رسى ‪.‬ح‪ :‬معتقلة من رهائن إ‬
‫من �سنة ‪ 1983‬وحتى �سنة ‪ 1989‬حيث �أطلق �رساح جميع املعتقالت‬
‫ال�سالميات‪.‬‬‫إ‬

‫‪139‬‬
‫حمموا به املولودة‪ ،‬وروت أ‬
‫الم‬ ‫فيها ما يكفي لت�سخني ماء ّ‬
‫بنف�سها �إنهن ق�ص�صن لها احلبل ال�رسي بقطعة تنك اقتطعنها‬
‫من علبة ال�صفيح تلك!‬
‫غري �أن امل أ��ساة مل تنته بعد‪ ،‬واخلطر مل يبتعد عن هذه املولودة‬
‫الم �سمية‪ .‬وقد قامت �إحدى املعتقالت‬ ‫الربيئة التي �أ�سمتها أ‬
‫بالبالغ عن العن�رص فح�رض مدير ال�سجن املقدم في�صل غامن‬ ‫إ‬
‫والهانات والتهديدات‬ ‫ال من ال�شتائم إ‬ ‫وجعل ي�سمعهن �سي ً‬
‫كعادته ثم �أخرج عائدة ك ونزع عنها حجابها وجعل يدو�سه‬
‫بقدميه وال�شتائم ال تزال تتدفق من فمه املننت‪ ..‬فلما انتهى‬
‫وهد�أت نف�سه �أمر مبعاقبة املهجع كله ونقله �إىل “ال�سيلون”‬
‫وهو عبارة عن قبو كبري رطب ومعتم ال منف�س فيه م�سكون‬
‫بالعناكب وال�رصا�صري واحل�رشات‪ .‬وقتها كان عمر �سمية‬
‫ع�رشين يوم ًا فقط‪ ،‬وكان عليها �أن تنتقل �إىل ال�سيلون مع بقية‬
‫ال�سجينات‪ ،‬ف أ��صيبت امل�سكينة من حينها بربو مزمن مل ت�شف‬
‫منه �إىل آ‬
‫الن)‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫المر مغايراً �أي�ض ًا‪ .‬لكنها‬‫بالن�سبة �إىل �أمرية‪.‬ح مل يكن أ‬
‫الوىل بعد ثالث‬ ‫فكرت لهنيهات‪ ،‬وهي تلمح ابنتها �سنا للمرة أ‬
‫�سنوات على غيابها‪:‬‬
‫هل من املمكن �أن تكون هذه ابنتي؟‬
‫مل تكن تلك الطفلة الواقفة يف غرفة الزيارة‪ ،‬الالهثة من‬

‫‪140‬‬
‫اللهفة‪ ،‬ت�شبه �صورتها �أبداً‪� :‬صورة �صغرية مع ّلقة فوق فر�شة‬
‫نوم �أمرية على حائط املهجع العاري يف �سجن الن�ساء‪ .‬كنز‬
‫تهربه �إىل الداخل بعد �سنة من بدء‬ ‫ا�ستطاعت �أختها �سمر �أن ّ‬
‫االعتقال‪ ،‬وذلك يف زيارة ألهل ح�سيبة‪.‬ع وكانت معتقلة‬
‫معها يف �سجن الن�ساء‪.‬‬
‫فكرت من جديد‪.‬‬
‫ُ‬ ‫مل تكن ت�شبه ال�صورة �أبداً‪،‬‬
‫�صورة لفتاة لطيفة جعلتني �أتذكر �سنا ابنتي ب�شكلها اجلميل‬
‫والقدمي‪ .‬تلك ال�صورة عملت على هدم كل امل�سافات بيننا‪،‬‬
‫على خلق �شيء �شبيه باخلرافات بني روحي وروحها‪ ،‬كنت‬
‫ح�سها بني يدي و�أنا نائمة ويف �صحوي‪ ،‬ت�صاحبني يف كل‬ ‫�أ ّ‬
‫دقيقة من دقائق عي�شي‪..‬‬
‫ما الذي حدث لها يف غيابي؟‪.‬‬
‫تخفي و�سنتني من‬
‫ّ‬ ‫كانت �سنا قد بلغت ال�سابعة بعد �سنة من‬
‫اعتقايل‪ .‬طيلة فرتة الزيارة‪ ،‬التي ا�ستمرت حوايل ال�ساعة‪ ،‬وهي‬
‫جتل�س يف ح�ضن حرمت منه طيلة تلك الفرتة‪.‬‬
‫كنت �أحت�ضنها بكلتا يدي وهي تت�شبث بي بقوة‪ ،‬تدور‬
‫بعينيها ذات اليمني وال�شمال‪ .‬وجه يحمل خوف العامل كله‪،‬‬
‫ال�سئلة التي ال �إجابات لها‪،‬‬ ‫قلقه‪� ،‬شحوبه‪ ،‬وينوء بع�رشات أ‬
‫�أ�سئلة فوق طاقة طفل بعمرها‪ ،‬و�أنا �أغالب دموع ًا كانت م�صرّ ة‬
‫بعناد على الهطول �أمام �صغريتي و�أهلي‪.‬‬
‫نهاية الزيارة عدت من جديد �إىل املهجع‪.‬‬

‫‪141‬‬
‫كنت �أ�شعر باالختناق‪ ،‬يد �شبحية ثقيلة تطبق على رقبتي‬
‫حتى تكاد تقطع تنف�سي‪ .‬مل �أقدر على مداراة فجيعتي بطفلة‬
‫ظلمت بال رغبة �أو ق�صد‪ .‬فجيعة حقيقية‪..‬‬
‫حلظة دخويل املهجع ملحت رفيقتي متا�رض وجهي املحتقن‪.‬‬
‫عيني‪ ،‬وج�سدي �أ�شحطه �شحط ًا‬ ‫ح�س بالنار تخرج من ّ‬ ‫كنت �أ ّ‬
‫ك أ�ين �أنوء ب أ�ثقال فظيعة‪.‬‬
‫رمت جملتها كقنبلة يف وجهي‪ ..‬جملة جعلتني �أنفجر‬
‫ل�ساعات ببكاء طاملا كب ّته‪:‬‬
‫‪ -‬خرجك اهلل ال يردك‪ ..‬التي ت أ�تي بطفل �إىل احلياة تبقى‬
‫معه لرتبيه ال لرتميه هكذا‪..‬‬
‫على الرغم من ق�ساوة اجلملة �إال �أنها كانت حمقة!‬
‫كان غيابي عن �سنا �شبح ًا يطاردين منذ ذلك الوقت وحتى‬
‫اللحظة‪ ،‬على الرغم من �أين كنت‪ ،‬وال زلت‪ ،‬مقتنعة �أال يد يل‬
‫يف كل ما ح�صل!‬
‫للحبة يف اخلارج‪ ،‬من املواد القليلة‬ ‫رمبا كان �صنع الهدايا أ‬
‫املتوافرة يف املعتقل‪ ،‬طريقة ت�صعيدية للتعوي�ض عن غيابهم‪،‬‬
‫حب املعتقلة يف قطع �ستلم�سها �أيدي‬ ‫�أو رمبا طريقة لبث كل ّ‬
‫�أحبابها‪ ،‬وبهذا �سي�شعرون بكل ما ير�سله قلبها �إليهم‪.‬‬
‫هذا ما حدا ب أ�مرية‪ ،‬كغريها الكثري من املعتقالت‪� ،‬إىل �صنع‬
‫الهدايا البنتها يف اخلارج‪.‬‬
‫مير كطيف خفيف م�رسع يف املعتقل‪� ،‬ساعات تنق�ضي‬ ‫الوقت ّ‬

‫‪142‬‬
‫و�أمرية منكبة على حياكة ف�ستان ل�سنا‪� ،‬أو تطريز �شيء �آخر لها‪.‬‬
‫كل غرزة �صوف مثقلة باحلب‪ ،‬بال�شوق‪ ،‬وب أ�مل الفقد‪ .‬ومبا �أن‬
‫واليجابية تت�ضخم جداً يف املعتقل‪ ،‬فقد كانت‬ ‫امل�شاعر ال�سلبية إ‬
‫�أمرية تعمل ‪� 12‬ساعة �أحيان ًا دون �أن تعي وهي تفكر ب�سنا‪،‬‬
‫وب�سنا فقط‪ ،‬وكيف �ست�ستقبل �صغريتها هديتها هذه‪.‬‬
‫�أول هدية بعثتها �أمرية‪.‬ح البنتها كانت جزدان ًا من اخلرز‪،‬‬
‫نق�شت عليه ا�سم‪� :‬سنا‪� ،‬إ�ضافة �إىل بطة �صغرية �صنعتها جميلة‪.‬‬
‫(‪)81‬‬
‫ب(‪ ،)80‬وف�ستان ب�سنارة واحدة حاكته هند‪.‬ق‪� .‬أما وفاء‪�.‬إ‬
‫فقد بعثت معها ع�صفوراً �صغرياً م�صنوع ًا من اخلرز امللون‪ .‬كل‬
‫تلك الهدايا �أر�سلت �إىل �سنا من �سجن الن�ساء مع �سجينة ق�ضائية‬
‫جرى �إطالق �رساحها يف ذلك الوقت‪ُ .‬ح ّملت بكل ما ميكن‬
‫الم ورفيقاتها ل�صغرية وحيدة خارج ًا‪.‬‬ ‫�أن يخبئه قلب أ‬
‫لكن تلك الهدايا الثمينة مل ت�صل حتى اليوم!‬
‫‪...‬‬
‫يف �سجن الن�ساء كتبت هند‪.‬ق ق�صة تدور يف الفلك ذاته‪.‬‬
‫�أ�سمتها‪ :‬وراء الق�ضبان‪ .‬كانت حادثة حقيقية جرت معها‪،‬‬
‫(‪ )80‬جميلة‪ .‬ب‪ :‬معتقلة املنظمة ال�شيوعية العربية الوحيدة اعتقلت ب�صورة‬
‫متوا�صلة من �سنة ‪ 1975‬وحتى �سنة ‪ 1991‬منها قرابة ال�سبع �سنوات يف �أحد‬
‫ال�سجون ال�شمالية‪ ،‬ومن ثم نقلت �إىل �سجن الن�ساء بالعا�صمة‪ .‬وهي تقيم آ‬
‫الن‬
‫الرا�ضي الفل�سطينية املحتلة يف مدينة القد�س‪.‬‬‫يف أ‬
‫(‪ )81‬وفاء‪� .‬إ ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1956‬اعتقلت من �سنة ‪1986‬‬
‫وحتى �سنة ‪ 1991‬يف �سجن الن�ساء عانت من فرتة حتقيق طويلة وتعذيب‬
‫�شديد لعالقتها باملكتب ال�سيا�سي للحزب ومبطبعته �أي�ض ًا‪ ،‬وهي تعي�ش اليوم‬
‫يف �أملانيا‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫عملت على تدوينها يف دفرت �صغري ا�شرتته من الندوة يف‬
‫ال�سجن‪.‬‬
‫على ذلك الدفرت �ستكتب هند‪ ،‬خالل �سنوات �سجنها‬
‫الطويلة‪ ،‬الكثري من الق�ص�ص‪:‬‬
‫الطفال‬ ‫(�آه من أ‬
‫�آه من براءتهم‪ ،‬من �صفائهم و�شفافيتهم‪.‬‬
‫�آه من وجوههم الن�رضة ونظرتهم ال�صادقة‪ ..‬وقلبهم‬
‫البي�ض‪..‬‬‫أ‬
‫�آه‪ ..‬و�آه‪ ..‬و�ألف �آه‪.‬‬
‫اليوم جاءت �أختي لزيارتي يف ال�سجن‪ ,‬جاءت كطائر حزين‬
‫يحت�ضن �صغاره حتت جناحيه‪ .‬جاءت وكانت املفاج أ�ة!‬
‫ألول مرة �أ�شعر باالرتباك والعجز‪ ..‬و�أمام من؟؟ �أمام طفل‬
‫الثماين �سنوات‪.‬‬
‫الحرف‪،‬‬ ‫ألول مرة يعجز ل�ساين عن النطق‪ .‬ت�رشبكت أ‬
‫وت أ�ت أ� الل�سان و‪ ..‬و‪ ..‬نعم ‪ ..‬طفل الثماين �سنوات‪ ..‬يقلب‬
‫وي�شل تفكريي (و�أنا املنا�ضلة وراء الق�ضبان)!! ب�س ؤ�اله‬
‫ّ‬ ‫كياين‪،‬‬
‫احلزين الربيء‪:‬‬
‫‪ -‬خالتو لي�ش حطك ال�رشطي باحلب�س؟‬
‫كان ي�س أ�لني وحزن قا�س على وجهه‪ ،‬ودموع جتول يف‬
‫عينيه‪ ،‬ونظرة حارقة م ؤ�ملة لعيني‪.‬‬
‫اختل توازين‪ ،‬كدت �أتهاوى لوال التحامي بالق�ضبان‬

‫‪144‬‬
‫الباردة‪ .‬هرول ال�رشطي �صارخ ًا بوجه الرباءة الطفولية‪:‬‬
‫‪ -‬عمو ا�سكت‪ ..‬ويال روح من هون‪.‬‬
‫الهانة‪ ،‬وبرباءة الطفولة �أي�ض ًا �رصخ‬‫مل يتحمل الطفل هذه إ‬
‫يف وجه ال�رشطي‪:‬‬
‫‪ -‬يا حمار لي�ش حاب�س خالتي بدي اخدها معي ‪..‬‬
‫لي�شدين من وراء الق�ضبان‪.‬‬
‫ومد يده ال�صغرية ّ‬
‫والوجع‪ ،‬ونرته‬ ‫والقوى أ‬ ‫ال�رسع أ‬‫لكن يد ال�رشطي كانت أ‬
‫خارجا مع �أهلي‪ ،‬لتنتهي زيارتي و�صدى �س ؤ�اله‪:‬‬
‫خالتو لي�ش حمبو�سه؟‬
‫بال جواب‪)...‬‬

‫‪145‬‬
146
‫‪1988‬‬

‫الول ‪ 1988‬يف �سجن‬ ‫�أجنبت رنا‪.‬م(‪ ،)82‬يف ‪ 7‬ت�رشين أ‬


‫الوىل‪ :‬ماريا‪.‬‬ ‫الن�ساء‪ ،‬ابنتها أ‬
‫�أتى املخا�ض رنا �أول الليل بعد �أن �أغلقوا �أبواب املهاجع‪.‬‬
‫بد�أ كعادة �أي طلق مبغ�صات متباعدة وب أ�مل حممول‪ ،‬لكن «مية‬
‫الرا�س» راحت ت�سيل منذ �أول املخا�ض‪.‬‬
‫البواب حماوالت �إي�صال‬ ‫�صارت املعتقالت ي�رضبن على أ‬
‫�أ�صواتهن �إىل ال�سجانات البعيدات‪ ،‬لكن �أحداً مل ي�ستجب‪.‬‬
‫(‪ )82‬رنا‪ .‬م معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1963‬اعتقلت يف �أوائل �سنة ‪1988‬‬
‫وحتى �سنة ‪1991‬‬

‫‪147‬‬
‫مع مرور الوقت راح الطلق ي�شتد‪ ،‬ورنا مرمية على‬
‫المنو�سي ي�سيل با�ستمرار‪،‬‬ ‫الفر�شة يف �أق�صى املهجع‪ .‬ال�سائل أ‬
‫و�رصخات أ‬
‫المل تزداد تواتراً وقوة مع مرور الليل‪.‬‬
‫لكن �أحداً مل يرد على �صيحات اال�ستغاثة‪.‬‬
‫متر‪ ،‬وال�رصخات العديدة‪ ،‬املطالبة ب إ��سعاف رنا‪،‬‬
‫ال�ساعات ّ‬
‫تت�صاعد وتقوى من وراء �أبواب املهاجع املغلقة‪.‬‬
‫مل يعرهن �أحد اهتمام ًا حتى راحت ال�صيحات تت�صاعد من‬
‫مهاجع الق�ضائيات(‪ )83‬املجاورة مطالبات ب إ��سعاف رنا‪ .‬حني‬
‫ال�سعاف ويف ال�ساعة‬ ‫راحت املهاجع كلها تطالب بح�ضور إ‬
‫الثالثة والن�صف فجراً دخلت �سجانة هزيلة‪ ،‬مل ت�ستطيع ّ‬
‫حتمل‬
‫كل هذا ال�صياح امل�ستنجد‪� ،‬إىل مهجع ال�سيا�سيات حيث كانت‬
‫رنا‪.‬م تو�شك على الوالدة‪.‬‬
‫�أخذتها وحدها �إىل امل�ست�شفى‪ ،‬وقد راح و�ضعها يغدو‬
‫مقلق ًا لرفيقاتها‪ ،‬ومرعب ًا لل�سجينات البعيدات‪.‬‬
‫غابت رنا ال�ساعات الباقية من الليل‪ ،‬فيما املعتقالت‬
‫ينتظرنها يف و�ضع ال يح�سدن عليه‪ .‬يف ال�صباح عادت وهي‬
‫حتمل �صغرية على يديها لتنطلق الزغاريد يف كل املهاجع ويف‬
‫الباحة املليئة ب أ�كرث من ‪� 200‬سجينة ق�ضائية و�سيا�سية‪.‬‬

‫(‪ )83‬مبا �أن �سجن الن�ساء �سجن مدين فقد كانت املعتقالت م�سجونات مع‬
‫الق�ضائيات (املحكومات ب�سبب جرائم جنائية) من خمتلف التهم‪ :‬قتل‪ ،‬دعارة‪،‬‬
‫خمدرات‪...‬‬

‫‪148‬‬
‫جميء تلك ال�صغرية غدا عر�س ًا حقيقي ًا يف �سجن الن�ساء‪.‬‬
‫�أتت الطفلة ماريا ك�شعاع م�رشق اقتحم �سجن الن�ساء‪ .‬وقد‬
‫ا�ستطاعت‪ ،‬خالل �أيام‪� ،‬أن تخرج كل ذلك القهر املرتاكم من‬
‫دواخل املعتقالت‪ ،‬حتى �أن الق�ضائيات احتفلن على طريقتهن‬
‫اخلا�صة مبجيء �صغرية جديدة‪� ،‬أتت بعينني مفتوحتني‬
‫على �سعتهما ك أ�نهما حتاوالن اجتياف كل ما يحيط بها من‬
‫غمو�ض‪.‬‬
‫�أعطيت زاوية مهجع ال�سيا�سيات لرنا ور�ضيعتها على‬
‫فر�شتني متال�صقتني‪ ،‬وبقيتا يف تلك الزاوية طيلة الوقت الذي‬
‫ق�ضته ماريا ال�صغرية مع �أمها يف املعتقل‪� ،‬أي ما يقرب من ‪11‬‬
‫ال من فراغ‬ ‫�شهراً‪� .‬شهور حاولت فيها كل معتقلة �أن تردم قلي ً‬
‫راح يكرب كلما م�ضى الزمن وهي بعيدة عن �أطفالها‪.‬‬
‫كل معتقلة يف املهجع �صارت �أم ًا ملاريا‪.‬‬
‫بهذه املنا�سبة ُكتبت افتتاحية جملة‪ :‬اجلرح املكابر(‪� )84‬إثر‬
‫الوالدة‪:‬‬
‫(لك هذه الورود يا ماريا‪:‬‬
‫ماذا ميكننا �أن نقول؟!‬
‫�أنقول غمرتنا زقزقة الع�صافري‪ ،‬رائحة اليا�سمني‪� ،‬أ�رساب‬
‫ال�سنونو التي تب�رش بالربيع‪ ،‬ف�سحة �سماء تطل منها �شم�س‬
‫(‪ )84‬اجلرح املكابر‪ :‬جملة كانت املعتقالت ال�شيوعيات يكتبنها ويوزعنها على‬
‫ال�سجينات ب�شكل �رسي‪ .‬وقد عملت على حتريرها كل من‪ :‬رماح‪ .‬ب ‪،‬‬
‫وجدان‪ .‬ن‪ ،‬وناهد‪ .‬ب ‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫امل�ستقبل؟‪.‬‬
‫العمى‪ ،‬أ‬
‫اليدي ال�سوداء التي ال‬ ‫�أم نقول‪ ،‬لقد طالنا احلقد أ‬
‫تفرق بني الطفل وحجر ال�صوان‪.‬‬
‫غمرنا �شعور بالقهر والتحدي‪� ،‬شعور باحلزن واملرارة‪ .‬كل‬
‫ذلك جمتمع ًا قد ح�صل‪ ،‬جمعت كل تلك املعاين يف حلظة من‬
‫الزمن واحدة‪...‬‬
‫�شكراً‪� ..‬شكراً لك يا ماريا على حلظات فرح وم�شاعر حب‬
‫لبذرة نتجمع حولها‪ ،‬ن�سقيها ونرعاها‪ ،‬نعلمها ونتعلم منها‪.‬‬
‫لنقل لها‪� :‬آه يا ماريا كم حتتاجني‪ ،‬وكم نحتاج‪ ،‬وكم يحتاج‬
‫امل�ستقبل كي يزهر �إىل احلرية‪.‬‬
‫‪..‬احلرية حلم ومناخ و�صليب نحمله على ظهرنا ومن�ضي)‪.‬‬
‫�سجن الن�ساء ‪1988‬‬ ‫ ‬
‫‪...‬‬
‫لكن ال�سجن مل يكن بحال منا�سب ًا لرتبية �صغرية‪� .‬صارت‬
‫المرا�ض تتواىل على ماريا‪ .‬ت أ�مني احتياجاتها غدا �أ�صعب‬ ‫أ‬
‫ف أ��صعب‪ ،‬لذلك كان ال بد من انف�صالها عن �أمها احلقيقية‬
‫الخريات‪.‬‬ ‫و�أمهاتها أ‬
‫خرجت ماريا من املعتقل تاركة املهجع �أكرث فراغ ًا مما كان‬
‫قبل والدتها‪ ،‬لتبقى �أمها وحدها حوايل �سنتني ون�صف يف‬
‫�سجن الن�ساء قبل �أن يطلق �رساحها‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫‪1993‬‬

‫اليكو‪.‬‬‫ألول مرة ترى �ضحى‪.‬ع جنينها على إ‬


‫يف ال�شهر الثامن حلملها‪ ،‬اخلام�س العتقالها‪ ،‬جاءت �أول‬
‫زيارة �إىل املعتقالت يف �سجن الن�ساء‪.‬‬
‫كن وقتئذ �أربع معتقالت �شيوعيات‪ :‬تهامة‪.‬م(‪ )85‬وخديجة‪.‬‬
‫د وفدوى‪.‬م(‪� )86‬إ�ضافة �إىل �ضحى‪ ،‬ومعتقلة واحدة من حزب‬
‫العمال الكرد�ستاين‪ ،‬و�أم ب�سام العدل‪.‬‬
‫(‪ )85‬تهامة‪ .‬م ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1964‬اعتقلت ملدة �سنة تقريب ًا وذلك‬
‫يف �سنة ‪ 1992‬ثم �أطلق �رساحها ومتت حماكمتها وهي يف اخلارج‪.‬‬
‫(‪ )86‬فدوى‪ .‬م‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1960‬اعتقلت ملدة �سنة و�شهرين‬
‫تقريب ًا من �سنة ‪.1992‬‬

‫‪151‬‬
‫الزيارة جاءت لتهامة‪.‬م‪ .‬كانت �سعادة ما بعدها �سعادة‪،‬‬
‫رك�ضت �ضحى لهفة لرتى �أهل تهامة على ال�شبك فوقعت قبل‬
‫�أن ت�صل‪ ،‬وبد�أ النزيف على الفور‪.‬‬
‫ليومني كاملني ا�ستمر النزيف دون توقف‪ ،‬ثم راحت‬
‫�ضحى ت�شعر �أن جنينها توقف عن احلركة يف بطنها‪ .‬بعد‬
‫يومني جاءت طبيبة من م�شفى �سجن الن�ساء‪ ،‬وحاملا ك�شفت‬
‫حولتها على الفور �إىل امل�ست�شفى‪.‬‬
‫عليها ّ‬
‫اليكو‪ ..‬كانت تلك ال�سعادة‪،‬‬ ‫الوىل ترى اجلنني على إ‬ ‫للمرة أ‬
‫ال و�أيدي �صغرية تتحرك على ال�شا�شة‪ ،‬كفيلة‬ ‫وهي ترى �أرج ً‬
‫مر معها من �آالم طيلة‬
‫بجعلها تن�سى ال�سجن وال�سجانة وكل ما ّ‬
‫أ‬
‫ال�شهر ال�سابقة‪.‬‬
‫جاءين الطلق يف �سجن الن�ساء‪ ،‬ب�شكل مفاجئ ويف يوم‬
‫جمعة‪ ،‬وقد �صادف دوري يف الطبخ للمهجع كله(‪.)87‬‬
‫بد�أ الطلق منذ ال�صباح وا�ستمر طيلة النهار‪ .‬كنت ملقاة على‬
‫الفر�شة �أتلوى‪ ،‬وال�سائل املحيط باجلنني ين ّز مني وال من جميب‪.‬‬
‫ح�س ب�رصاخ ال�صبايا وهن يوا�صلن الطلبات إل�سعايف‬ ‫كنت �أ ّ‬
‫�إىل امل�ست�شفى‪� .‬إدارة ال�سجن املدين ال ت�ستطيع نقلي �إال مبوافقة‬
‫الفرع‪ ،‬والفرع يف يوم العطلة ال يجيب على الربقيات املتالحقة‬
‫يبعثها ال�سجن‪ ..‬ال جواب البتة‪.‬‬
‫(‪ )87‬يف ذلك الوقت �سنة ‪ 1993‬كان قد قل عدد املعتقالت ال�سيا�سيات يف‬
‫�سجن الن�ساء لذلك كان دور واحدة من ال�سيا�سيات يف كل يوم للطبخ ولي�س‬
‫اثنتني كما كان �سابق ًا‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫والخرى وقد راحت تتقارب‬ ‫كنت �أمتزق بني الطلقة أ‬
‫حتى مل يعد يف�صل بينها دقائق‪ ،‬مما حدا باملعتقالت يف املهجع‬
‫لل�رضب على الباب ب�شكل هي�ستريي‪ .‬كن ي�رصخن وي�رصخن‪،‬‬
‫ألين على ما يبدو كنت قد تعبت كثرياً‪.‬‬
‫بعد مدة �سمعت �إجابة ال�سجانة من وراء الباب وك أ�نه‬
‫�صوت من عامل �آخر‪:‬‬
‫‪ -‬ال ن�ستطيع �إخراجها على م�س ؤ�وليتنا حتى ال�ساعة‬
‫ال�ساد�سة �صباح ًا‪.‬‬
‫‪ -‬حتى ال�ساد�سة‪ ..‬تكون قد ماتت‪ ..‬الرحم ال يفتح‪.‬‬
‫�رصخت �إحداهن‪.‬‬
‫جوابها جعلني �أدخل يف دوامة رعب مرافقة ألملي‪.‬‬
‫نهاية‪ ،‬راحت املعتقالت يبكني‪ ،‬الو�ضع بدا ميئو�س ًا منه وما‬
‫من حل‪ ..‬حني جاء رد الفرع‪.‬‬
‫كانت ال�سوائل املحيطة باجلنني قد ذهبت كلها‪ ،‬وبد�أ اجلنني‬
‫ي�ضغط على ظهري‪ ،‬على فقرات ظهري ال�سفلية بال�ضبط‪،‬‬
‫المر جعلني ال �أ�ستطيع احلركة بعد‬ ‫دون �أن ي�ستطيع اخلروج‪ .‬أ‬
‫والدتي ملدة ‪ 40‬يوم ًا‪.‬‬
‫نقلت �إىل امل�ست�شفى �أخرياً‪ ،‬و�أنا �أح�س ب أ�ين بني املوت‬
‫واحلياة بعد �أن ا�ستمر الطلق طيلة النهار‪.‬‬
‫بعد �ساعتني ال غري عدت‪.‬‬
‫مل �أكن �أحمل فرحة �أم جديدة‪ ،‬ف�صغريتي ديانا نحيلة‬

‫‪153‬‬
‫للغاية‪ ،‬وثمة ت�شوه وا�ضح يف قدميها‪ .‬كنت �أ�شعر ب أ�ين �أحمل‬
‫ثمرة ظلمي لهذه ال�صغرية‪ ،‬و�أفكر‪ ،‬و�أنا �أفل�ش قماطها‪� ،‬أن هذا‬
‫الت�شوه رمبا كان من نق�ص الكل�س وفقر الدم ال�شديد الذي‬
‫عانيت منه طيلة �أ�شهر االعتقال‪� ،‬أو رمبا من اجللو�س اخلاطئ‬
‫�أثناء احلمل و�أنا �أحاول �إخفاء حقيقة حملي عن ال�سجانة‬
‫و�إدارة ال�سجن‪.‬‬
‫كانت �صغريتي امل�سكينة تغرز يف قلبي ع�رشات ال�سكاكني‬
‫كلما �أمعنت فيها �أكرث‪ .‬منهكة للغاية كنت‪� ،‬أ�شعر بالذنب‬
‫يكبلني‪ ..‬ما ذنب هذا املخلوق ال�صغري‪ ..‬ما ذنبه!!‬
‫حاملا دخلت �ضحى من باب ال�سجن �إىل الباحة بد�أت‬
‫البنات يزغردن ويبكني‪ ،‬ال�سيا�سيات والق�ضائيات على ال�سواء‪،‬‬
‫ويومئذ قمن بتنظيف باحة ال�سجن‪ :‬حو�ش البيت العربي قدمي ًا‪،‬‬
‫وطالنب بتمديد فرتة �إغالق �أبواب املهاجع‪ ،‬من ال�ساعة الثامنة‬
‫ال �إىل احلادية ع�رشة‪ ،‬كي ي�ستمتعن �أطول بال�ضيفة اجلديدة‬ ‫لي ً‬
‫القادمة‪.‬‬
‫الم تخ�شى �أن حتمل ال�صغرية لذا فقد ا�ستلمتها‬ ‫كانت أ‬
‫رفيقاتها عنها‪ ،‬ثم رحن يح�رضنها كي تر�ضعها فح�سب‪ ،‬ويعدن‬
‫�إىل �أخذها من جديد‪ ،‬و�ضحى ما تزال طريحة الفرا�ش‪.‬‬
‫للمومة هو كل ما ر�أته �ضحى يف‬ ‫الوجه امل ؤ�مل واحلزين أ‬
‫والخرية‪ .‬مل ت�ستطع �أن تفرح بتلك‬ ‫الوىل أ‬ ‫جتربة والدتها أ‬
‫القادمة �إىل هذا الوجود املرير‪ ،‬كان القلق والتوتر يحا�رصانها‬

‫‪154‬‬
‫ولي�س فرح الوالدة اجلديدة‪.‬‬
‫بعد ألي �سمحوا البراهيم‪ ،‬زوج �ضحى‪ ،‬بزيارتها ور ؤ�ية‬
‫طفلته ولكن عرب طاقة يف الباب‪ :‬تو�ضع كر�سي ل�ضحى من‬
‫الخر‪.‬‬‫هذا اجلانب وكر�سي لزوجها من اجلانب آ‬
‫�إبراهيم كان �سعيداً للغاية على الرغم من كل ح�صل‪ ،‬فرح ًا‬
‫وم�ستب�رشاً‪ ،‬و�ضحى منهكة وخائفة على ال�صغرية التي كان‬
‫يجب �أن ت ؤ�خذ �إىل امل�ست�شفى على الفور‪.‬‬
‫الطفال فوراً‪ ..‬و�ضع‬ ‫‪ -‬الزم تطلبي �أخذها �إىل م�ست�شفى أ‬
‫ابنتك غري جيد‪ ..‬الزم تعر�ضيها على طبيب عظمية‪.‬‬
‫كان كالم طبيب ال�سجن‪ ،‬بعد �أن ك�شف على ال�صغرية‪،‬‬
‫حا�سم ًا ومقلق ًا للغاية‪ .‬لذلك فقد ظل �إبراهيم‪ ،‬ألكرث من‬
‫�أ�سبوع‪ ،‬ي أ�تي بديانا كل عدة �ساعات �إىل ال�سجن ألر�ضعها‪،‬‬
‫ومن ثم يعود بها �إىل امل�ست�شفى‪.‬‬
‫متاثلت ال�صغرية لل�شفاء‪ ،‬ولكن قدميها ظلتا كما هما‪..‬‬
‫وحني غدا عمر ال�صغرية ثالثة �أ�شهر قُطعت زيارة والدها‪.‬‬
‫تلك القابلة ال�سجينة‪ ،‬واملتهمة بالقتل‪ ،‬كانت خري معني‬
‫يل‪ .‬تهتم بال�صغرية وحتممها‪� ،‬إ�ضافة �إىل م�ساعدة الرفيقات يف‬
‫المر الذي �ساعد على متاثل ال�صغرية لل�شفاء وا�ستعادة‬ ‫املهجع‪ ،‬أ‬
‫�صحتي رويداً رويداً‪.‬‬
‫لكن الو�ضع يف ال�سجن مل يكن منا�سب ًا لتظل ديانا فيه‪ .‬كان‬
‫ال يف ال�سجن مع �أمهاتهم‪ .‬يف‬ ‫هناك حوايل اثنني وثالثني طف ً‬

‫‪155‬‬
‫ال�صيف خ�صو�ص ًا ي�سود �ضجيج و�شجار و�سيول من ال�شتائم‬
‫املقذعة‪ .‬لذلك فقد ظلت ديانا معي يف املعتقل �سنة و�شهرين‬
‫قبل �أن تغادره‪ ،‬ثم �صارت تزورين مرة كل ‪ 15‬يوم ًا‪..‬‬
‫كان قراراً �صعب ًا �أن �أبعث بابنتي �إىل اخلارج‪ ،‬ألن الفراغ‬
‫الن متام ًا بعد رحيل ال�صغرية‪ .‬كانت‬ ‫واحلزن متكنا مني آ‬
‫متل فراغ ال�سجن ووح�شته‪ ،‬منذ حلظة اعتقايل وهي‬ ‫�صغريتي أ‬
‫يف �أح�شائي ت ؤ�ن�سني وحتى �ساعة ذهابها‪� ،‬ساعدتني على‬
‫احتمال جحيم املعتقل وهي يف بطني �أو على يدي‪.‬‬
‫بخروج ديانا فقط �أح�س�ست ب أ�ن ال�سجن قد بد�أ‪ ..‬بد�أ‬
‫ب�رشا�سة‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫توىل والد ديانا يف اخلارج تربيتها حتى �إطالق �رساح �أمها‬
‫ال حتى‬ ‫يف �سنة ‪ ،1998‬وخ�ضعت للعالج الفيزيائي طوي ً‬
‫متاثلت تقريب ًا لل�شفاء‪.‬‬

‫‪156‬‬
‫كثافة الزمن املتال�شية‪..‬‬
‫عامل التفا�صيل ال�صغرية‬

‫‪157‬‬
‫الول يف املعتقل �أو لنقل العدو أ‬
‫الكرب!‬ ‫الزمن هو اجلالد أ‬
‫ويتحور ليغدو فكرة مهيمنة‪،‬‬
‫ّ‬ ‫حني يعود بال �أية كثافة‪ ،‬يتبدل‬
‫ليغدو كل �شيء وال �شيء يف وقت واحد‪ ،‬ك أ�نه هيوىل تغ ّلف‬
‫والج�ساد‪ ،‬فريزح املعتقل‪ /‬املعتقلة يف قلبها دون �أن‬ ‫الرواح أ‬ ‫أ‬
‫ميايز التفا�صيل‪.‬‬
‫الزمن مباهيته هو الزمن املتبدل‪ ،‬املتطور‪ ،‬ورمبا املت أ�خر‪،‬‬
‫مبعنى �إنه الزمن‪ :‬الديناميكي‪ .‬يف املعتقل يغدو الزمن �ستاتيكي ًا‪.‬‬
‫فاملعتقل‪ /‬املعتقلة يكون خارج الزمن باملعنى الديناميكي فيما‬
‫هو يف �ستاتيكيا دائمة‪.‬‬
‫‪ -‬على الرغم من ذلك على يدفع �أتاوات الزمن باعتبار‬
‫متر على روحي وج�سدي ودماغي كما متر على‬ ‫�أن ال�سنوات ّ‬
‫�أي �إن�سانة يف داخل الزمن‪ /‬خارج املعتقل‪.‬‬
‫اعرت�ضت �أمرية‪ .‬ح على احلديث الدائر بني ال�صبايا‪ .‬كن‬
‫البدي‬ ‫يختلفن حول ماهية الزمن يف املعتقل‪ .‬ذاك اخلالف أ‬

‫‪158‬‬
‫الذي ظل دائراً بني معظم املعتقلني‪.‬‬
‫المر يختلف بني معتقلة ومعتقل ف�سنوات الزمن‬ ‫‪ -‬أ‬
‫كانت �أقل وط أ�ة علينا منها على املعتقلني‪ ،‬وذلك العتبارات‬
‫الطياف‬ ‫خمتلفة منها �أن �سنوات �سجن املعتقلني‪ ،‬بكافة أ‬
‫اليديولوجية‪ ،‬كانت �أكرث عدداً‪ ،‬أ‬
‫ولننا عموم ًا �سجنا �إما يف‬ ‫إ‬
‫المن‪ ،‬ل�سنوات �أق�صاها خم�س‪� ،‬أو يف ال�سجون املدنية‬ ‫فروع أ‬
‫مع املتهمات بجرائم جنائية! وتلك ال�سجون كانت ب�شكل من‬
‫ال�شكال جمرد ف�سحة م�ص ّغرة عن العامل ال�سفلي خارج ًا‪.‬‬ ‫أ‬
‫بع�ض املعتقالت كن يرين �أن عليهن �إم�ضاء ال�سجن‬
‫فح�سب‪ ،‬ألن عالقتهن مع �سجنهن جمرد عالقة تعداد ال غري‬
‫ولي�ست عالقة تعاي�ش البتة‪ .‬تلك املعتقلة رف�ضت التعاي�ش مع‬
‫�أمر‪� ،‬أو مكان‪� ،‬أجربت على التواجد فيه‪ ،‬و�سفحت جزءاً من‬
‫عمرها بني تفا�صيله التافهة‪ .‬بالتايل كان جمرد التعاي�ش معه‪،‬‬
‫�أو اعتبار �أن زمنه هو ف�سحة إلعادة تدوين حياتها اخلا�صة‪،‬‬
‫�أو جمرد حماوالتها لتطويع �ستاتيكية زمن اعتقالها هو قبول ملا‬
‫فر�ضه الطغاة عليها‪.‬‬
‫رمبا كانت تلك العالقة ال�سلبية مع الزمن جمرد و�سيلة‬
‫لالحتجاج‪ ..‬ورمبا ال‪.‬‬
‫تكت�شف املعتقلة بعد م�ضي �سنوات ال�سجن‪ ،‬الثقيلة والبطيئة‬
‫ك�سلحفاة عجوز‪� ،‬أنها كانت مت�شي على روحها حتى �أبلتها‪.‬‬
‫بع�ضهن ر�أين الزمن خمتلف ًا!‬
‫المر ك أ�نها يف حلبة للم�صارعة‪ ،‬لكن اخل�صم وح�ش لي�س‬ ‫بدا أ‬

‫‪159‬‬
‫الخر‪ ،‬ف إ�ما �ستعمل املعتقلة على هزم‬ ‫�إال‪ ،‬و�أحدهما �سيقتل آ‬
‫الزمن �أو على العك�س‪� ،‬سيعمل الزمن على هزمها �رش هزمية‪.‬‬
‫وقد اختفلت �أ�شكال الهزمية تلك من معتقلة �إىل �أخرى‪.‬‬
‫لكن يف كل احلاالت الزمن يف املعتقل‪� :‬إنه املطلق‪.‬‬
‫ثم ندخل دوامة التفا�صيل اليومية‪ ،‬تفا�صيل �صغرية تغدو‬
‫ال�سنان لكل معتقلة �أهم من‬ ‫فيها نقطة ال�شامبو ونقطة معجون أ‬
‫وجودها نف�سه‪ .‬امل�س أ�لة م ؤ�ذية حني تكون املواد قليلة للغاية‪.‬‬
‫جو املعتقل‪ ،‬خالفات على كل‬ ‫واخلالفات ال�صغرية ت�سمم ّ‬
‫�شيء‪ :‬على ف�صل الثياب الداخلية‪ ،‬التي كانت م�شرتكة‪ ،‬ثم‬
‫ف�صل الثياب اخلارجية‪ ،‬على ح�ص�ص الطعام‪ ...‬خالفات على‬
‫كل تف�صيل حياتي �صغري‪.‬‬
‫الحوال تربة جيدة إلن�ضاج‬ ‫ال�سجن مل يكن بحال من أ‬
‫عالقات �سوية بني املعتقالت‪ .‬معظمهن كن �شابات‪ ،‬يف‬
‫الع�رشينيات �أو الثالثينيات‪ ،‬ال يعرفن متى �سيطلق �رساحهن‪،‬‬
‫وال �إذا كان قطار الزواج �سيفوتهن وهن معتقالت‪ .‬احل�صار‬
‫يكبلهن‪ ،‬خوفهن على �أهاليهن و�أطفالهن‬‫ّ‬ ‫االجتماعي خارج ًا‬
‫وتوج�سهن من ر�أي املجتمع‪ ،‬ألنهن يف النهاية ن�ساء‪ ،‬ن�ساء يف‬
‫ّ‬
‫مكر�س‪.‬‬
‫جمتمع بطريركي ّ‬
‫�إح�سا�س بالذنب والت�شتت‪.‬‬
‫الم�ضى التي تنك�رس عندها‬ ‫الزمن يف املعتقل‪ :‬احلافة أ‬
‫الحالم‪ ،‬لتغدو املباراة يف النهاية من تنقذ �أحالمها‪ ،‬ومت�ضي‬ ‫أ‬
‫�أبعد من �سيف الزمن امل�س ّلط فوقها يف كل حركة‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫‪1990-1987‬‬

‫بارد قاتل وثقيل كان الزمن يف فرع أ‬


‫المن‪.1‬‬
‫المر املختلف عن �سجن الن�ساء حيث هناك جماالت متعددة‬ ‫أ‬
‫لتم�ضية الوقت‪.‬‬
‫المن‪ 1‬ال بد من اخرتاع �شيء ما للت�سلية غري‬ ‫يف فرع أ‬
‫الكالم‪ .‬ذلك �أن البقاء دون �أية فاعلية �شبيه باملوت‪ ،‬بل هو‬
‫�أكرث م�ضاء من املوت ألنه ينوجد يف كل ثانية من الفراغ‪.‬‬
‫ومبا �أن احلياة كانت ممنوعة هناك‪ ،‬وعلى املعتقلة �أن توقف‬
‫وجودها ك إ�ن�سانة ألنها فقط معتقلة يف الفرع‪ ،‬فقد كان البد‬

‫‪161‬‬
‫من التحايل على ذاك الزمن واملكان واجلالد‪.‬‬
‫ال�شياء التي قامت املعتقالت ب�صنعها هي �أحجار‬ ‫�أول أ‬
‫�شطرجن‪ ،‬من عجني اخلبز املبلل باملاء‪ ،‬جففوها لتغدو قا�سية‪،‬‬
‫الدوية القليلة التي قد تدخل الزنازين‬ ‫ومن ثم ّلونوها ب�صبغات أ‬
‫يف حاالت املر�ض ال�شديد‪ .‬قمن بعد ذلك بتطريز رقعة ال�شطرجن‬
‫البرة فقد ا�ستعرنها من‬ ‫من خيوط البطانيات الع�سكرية‪� .‬أما إ‬
‫�أحد ال�سجانني املتعاونني‪.‬‬
‫قمن بعمل موقدة من العجني كذلك‪ .‬خا�صة �أن فرتة طويلة‬
‫لهن خبز اجلي�ش ال�سميك‪ .‬كن‬ ‫مرت و�إدارة ال�سجن تقدم ّ‬ ‫ّ‬
‫يدهن‪.‬‬ ‫أ‬
‫طيعة بني � ّ‬ ‫ي أ�خذن ّلبه‪ ،‬يعج ّنه مع املاء حتى يغدو عجينة ّ‬
‫�شكلن جرن ًا �صغرياً‪ ،‬و�ضعن فيه زيت املازوال‪،‬‬ ‫من تلك العجينة ّ‬
‫الذي ي�شرتونه من �إدارة ال�سجن‪ ،‬ثم فتحن املحارم الن�سائية‬
‫لي�ستخرجن قطنها ويٍ�شعلنه يف اجلرن‪ ،‬ثم يعدن طبخ الطعام‬
‫الكل قلي ً‬
‫ال‪.‬‬ ‫ال بتح�سني أ‬‫الذي ي أ�تيهن‪ ..‬كان ذلك كفي ً‬
‫ي أ�تي ال�شتاء لتزداد �أو�ضاع الزنازين �سوءاً‪.‬‬
‫املياه الباردة‪� ،‬صيف ًا �شتا ًء‪ ،‬تزداد برودتها حتى تغدو‬
‫الج�ساد‪ ،‬وتتحول فوهات التهوية‪ ،‬التي‬ ‫ك�سكاكني تخ ّز أ‬
‫الر�ض‪ ،‬فوهات‬ ‫الوك�سجني املفقود يف زنازين حتت أ‬ ‫ت�ضخ أ‬
‫حد �سواء‪ .‬فالهواء البارد الذي ت أ�تي به‬ ‫للحياة واملوت على ّ‬
‫الج�ساد املرتاكمة دون �أية تدفئة‪ .‬لذلك كانت‬ ‫كفيل بتجميد أ‬
‫املعتقالت يف�ضلن �أحيان ًا �أن يغطني الفوهات بالبطانيات �أو‬

‫‪162‬‬
‫بالثياب حتى لو اختنقن‪ ..‬الربد كان جهنمي ًا‪.‬‬
‫النارة فكانت من �ضوء يف �أعلى ال�سقيفة ّ‬
‫يطل �شاحب ًا‬ ‫�أما إ‬
‫�إىل املزدوجة ال�سفلى من خالل ال�شبك يف �سقفها املفتوح‬
‫بدوره على ال�سقيفة‪.‬‬
‫يف �أول ال�شتاء الثاين على االعتقال �صار عدد ال�صبايا‬
‫ال�شيوعيات‪14‬معتقلة يف املزدوجات‪ ،‬وقد ان�ضمت �إليهن‬
‫�سناء‪.‬ح و�سامية‪.‬ح(‪� ،)88‬إ�ضافة �إىل عدد من الكتائبيات‬
‫والعرفاتيات املتبدالت ومعتقالت بعث العراق‪ ،‬فيما �أخذت‬
‫بقية املعتقالت ال�شيوعيات �إىل �سجن الن�ساء‪ ،‬وقبلهن كل‬
‫ال�سالميات‪.‬‬
‫املعتقالت إ‬
‫يف ذلك ال�شتاء �أتت تلك الهدية ك أ�نها قادمة من حلم بعيد!‬
‫هدية من �أثمن الهدايا التي تلقتها معتقالت الفرع‪.‬‬
‫كان املهجع املجاور لهن مهجع ال�شباب العرفاتية‪ ،‬ي�شرتك‬
‫املهجع واملزدوجات ببالوعة لل�رصف ال�صحي ت�صل بني‬
‫احلمامني يف الفراغني‪ .‬يف ذاك امل�ساء ا�ستطاع العرفاتيون‪ ،‬عرب‬
‫الدق بال�شيفرات على احلائط امل�شرتك‪� ،‬أن يخربوا البنات �إنهم‬
‫بعثوا لهن ب�شيء عرب البالوعة‪.‬‬
‫كانت الهدية ملفوف ًة بكي�س من النايلون وهي عبارة عن �آلة‬
‫اخرتعها ال�شباب لت�سخني املياه‪ :‬علبة طون فارغة مق�صو�صة‬
‫ك�صفيحتي معدن وفيها قطعتا بور�سالن وو�شيعة بينهما‪.‬‬
‫(‪� )88‬سامية‪.‬ح‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ ،1964‬اعتقلت من �أوائل �سنة ‪1988‬‬
‫وحتى �سنة ‪ .1990‬وكانت تدر�س الريا�ضيات يف اجلامعة حني اعتقلت‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫ما كان على املعتقالت �إال و�صل الو�شيعة �إىل �أ�سالك ال�ضوء‬
‫العارية يف �سقف ال�سقيفة فوق املزدوجات‪ ،‬ثم و�ضع آ‬
‫اللة يف‬
‫املاء لت�سخنه على الفور‪.‬‬
‫الوىل‪ ،‬بعد �أكرث من �سنة وثالثة �أ�شهر‪ ،‬التي‬ ‫�إنها املرة أ‬
‫الوىل التي ي�رشبن القهوة‬ ‫ت�ستحم فيها البنات مبياه دافئة‪ ،‬املرة أ‬
‫فيها �ساخنة ولي�ست باردة يف كا�سات ال�ستانل�س‪.‬‬
‫جل�سن متحلقات حول ركوة القهوة‪ ،‬رائحتها الزكية‬
‫وهبلتها تت�صاعد يف الزنزانة‪ ،‬ثم رحن يغنني وهن يتمتعن‬
‫مبذاقها ال�ساحر‪:‬‬
‫دارت القهوة وعنني بدها تدور‪..‬‬
‫علي وفنجاين مك�سور‪.‬‬ ‫دارت ّ‬
‫ال�رسي‪/‬‬
‫ّ‬ ‫فيما بعد راح ال�شباب العرفاتية يبعثون‪ ،‬عرب املمر‬
‫البالوعة‪ ،‬هدايا متعددة ملفوفة ب أ�كيا�س النايلون‪ ،‬يدف�شونها‬
‫بالنربيج‪ ،‬وي�سكبون املاء �إثرها لت�صل �إىل املزدوجات املجاورة‪:‬‬
‫ملب�س عرب البالوعة‪ ،‬قطع حلوى �أي�ض ًا‪ ،‬والكثري الكثري من‬ ‫قطع ّ‬
‫الغذية املحفوظة‪.‬‬ ‫معلبات أ‬
‫‪...‬‬
‫حتت وط أ�ة الزمن البطيء البطيء‪ ،‬الذي ي�شمت يف كل‬
‫ال�رضاب عن الطعام و�سيلة ال بد منها‪ ،‬ذلك‬ ‫حلظة فيهن‪� ،‬صار إ‬
‫�أن عبئه الثقيل قد يغدو �أكرث خفة مع وجود و�سيلة للتوا�صل مع‬
‫ال�رضاب قد ي ؤ�ثر على �إدارة ال�سجن‪،‬‬ ‫اخلارج‪ .‬كن يعتقدن �أن إ‬

‫‪164‬‬
‫وتقتنع ب إ�دخال اجلرائد �أو املجالت التي كانت ممنوعة منذ �أكرث‬
‫من �سنتني ون�صف‪.‬‬
‫الول‪ ،‬وكان �إ�رضاب ًا حتذيري ًا‪ ،‬ا�ستمر ليومني‬ ‫ال�رضاب أ‬‫بد�أ إ‬
‫ثم انتهى‪.‬‬
‫ال�رضاب الثاين‪ ،‬بعده ب أ�يام‪ ،‬فقد كان مفتوح ًا‪.‬‬ ‫�أما إ‬
‫تلبى مطالبهن‪،‬‬ ‫ال�رضاب حتى ّ‬ ‫اتفقت املعتقالت �أال يك�رسن إ‬
‫�أي ي�ضحي الطعام �أف�ضل‪ ،‬املعاملة �أف�ضل‪ ،‬وتُدخل �إليهن اجلرائد‬
‫واملجالت والكتب‪.‬‬
‫ال�رضاب نزل مدير ال�سجن �إىل املزدوجات‪،‬‬ ‫�إثر �إعالن ذلك إ‬
‫دخل كوح�ش �إىل الن�ساء هناك‪ ،‬ثم بد�أ ي�رضبهن بالكرباج‬
‫يرو الكرباج‬‫كاملجنون ذات اليمني وذات ال�شمال‪ ،‬وحني مل ِ‬
‫غليله راح ي�صفعهن بيديه‪ ،‬يركلهن بقدميه‪ ،‬ي�رصخ ومالمح‬
‫االنت�شاء والن�رص على وجهه‪.‬‬
‫يف نهاية حفلة ال�رضب �أم�سك ب إ�حدى املعتقالت‪ ،‬وهي هند‪.‬‬
‫ال و�أ�سود‪ ،‬لفّه على �ساعده‪،‬‬ ‫�أ(‪ ،)89‬وكان �شعرها طوي ً‬
‫ال م�سرت�س ً‬
‫و�صاح بال�سجان الذي يلوذ خلفه لي أ�تي ب�آلة ج ّز ال�شعر‪.‬‬
‫باللة من �شعر‬ ‫تردد ال�سجان‪ ،‬ويداه ترجتفان‪ ،‬وهو يقرتب آ‬
‫هند التي كانت تتك�رس ملتوية حتت �ساعده‪ .‬وحني و�ضعها‬
‫وهم باجلز �رصخت الفتاة متو�سلة‪ ..‬وتوقف‬ ‫�أخرياً على �شعرها ّ‬
‫ال�رضاب‪.‬‬ ‫إ‬
‫(‪ )89‬هند‪� .‬أ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1965‬اعتقلت من �سنة ‪ 1988‬وحتى‬
‫المن‪.‬‬ ‫�سنة ‪ 1990‬يف فرع أ‬

‫‪165‬‬
‫ال�رضابني �سمحت �إدارة ال�سجن ب إ�دخال جملة العربي‬ ‫بعد إ‬
‫فح�سب‪ ،‬وظلت املطبوعة الوحيدة التي تدخل الفرع حتى‬
‫نهاية االعتقال‪ .‬مع �أن تلك املجلة �أعانت املعتقالت‪ ،‬يف‬
‫حتمل الزمن البليد �إال �إنّ‬
‫ال�شهر الباقية من االعتقال‪ ،‬على ّ‬ ‫أ‬
‫كثريات منهن ال ي�ستطعن حتى اليوم ر ؤ�ية جملة العربي‪� :‬شكلها‬
‫�شبيه ب�شكل العفن املرتاكم على �أرواحهن طيلة �سنوات ال�سجن‬
‫القبية املظلمة هناك يف‬ ‫املم�ضة‪ ،‬ورائحتها ت�شبه رائحة أ‬
‫ّ‬ ‫الطويلة‬
‫المن‪.1‬‬ ‫فرع أ‬
‫‪...‬‬
‫من املهجع املجاور ملزدوجات املعتقالت‪ ،‬وهو ذاته مهجع‬
‫ال�شباب العرفاتية‪ُ ،‬رمي ذات ليلة جهاز راديو‪.‬‬
‫ال�ضيق‪ ،‬فوق الباب‬ ‫ّ‬ ‫كانت ال�ساعة الثانية فجراً‪ ،‬وال�شباك‬
‫احلديدي للمزدوجات‪ ،‬يحمل �إىل �صمت الزنزانة راديو‬
‫�صغرياً و�أحمر‪.‬‬
‫ثالث �سنوات انق�ضت مل ت�سمع واحدة منهن �سوى‬
‫�صوتها‪� ،‬أ�صوات رفيقاتها ورمبا غناءهن‪� ،‬رصاخ ال�سجانة‪،‬‬
‫املدوي‪ .‬هذه هي الذاكرة ال�صوتية‬ ‫البواب احلديدية ّ‬ ‫و�إغالق أ‬
‫املت�شكلة طيلة تلك الفرتة!‬
‫حني رمي الراديو يف ذاك الفجر التقطته لينا‪.‬و ذاهلة‪.‬‬
‫بدا الراديو ك أ�نه �أعطية بعثت فج أ�ة من الفردو�س! ومبا �أن‬
‫جميعهن كن نائمات فقد راحت لينا تق ّلب موجات الراديو‬

‫‪166‬‬
‫و�شات مت�صاعدة على طول املحطات‬ ‫وحدها‪ .‬مل ت�صلها �إال ّ‬
‫املغلقة يف ال�ساعة الثانية فجراً‪.‬‬
‫عند ال�ساعة ال�ساد�سة �صباح ًا‪ ،‬بعد �سهرة طويلة بانتظار‬
‫يبث �شيئ ًا ما‪� ،‬صوت منخف�ض لن‬‫جميء ال�صباح‪ ،‬بد�أ الراديو ّ‬
‫ي�ستطيع ال�سجانة �أن ي�سمعوه مهما كانوا قريبني‪ .‬بد�أت حمطة‬
‫ما ببث تالوة قر�آنية جميلة ب�صوت عبد البا�سط عبد ال�صمد‪،‬‬
‫ثم تهادى �صوت �ساحر ك�صوت املالئكة يف فراغ و�صمت‬
‫املزدوجات‪.‬‬
‫كان �صوت فريوز‪.‬‬
‫�صوت مالئكي ممتزج ب�صمت مقيم ينا�سب �صداها‬
‫امل�شع�شع‪:‬‬
‫�إنت أو�نا يا ما نبقى‬
‫نوقف على حدود ال�سهل‬
‫ثالث �سنوات مرت دون �صوت فريوز! يا �إلهي كم كانت‬
‫احلياة فقرية!‬
‫وهن‬
‫حملت لينا الراديو‪ ،‬و�صارت تدور على املعتقالت ّ‬
‫الخرية من‬‫فتهب أ‬
‫ّ‬ ‫نائمات‪ ،‬ت�ضع الراديو على �أذن كل واحدة‬
‫نومها ده�شة ك أ�نها ا�ستيقظت يف اجلنة‪.‬‬
‫وعلى خط ال�سما الزرقا‬
‫مر�سومي طريق النحل‬
‫هكذا �أيقظتهن معتقلة معتقلة على هديل فريوز ال�صباحي‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫الر�ض‪ ،‬يف منت�صف الزنزانة‪ ،‬ب�صوته‬ ‫و�ضعن الراديو على أ‬
‫الواطئ �إياه‪ ،‬واجتمعت ر ؤ�و�سهن حوله وهن منبطحات على‬
‫الر�ض مل�صقات �آذانهن �إليه! كان يوم ًا ال ين�سى يف تلك‬ ‫أ‬
‫املزدوجات!‬
‫المن‪ 1‬كان �شبيه ًا مبا قالته مليكة‬ ‫و�ضع ال�صبايا يف فرع أ‬
‫�أوفقري‪ ،‬وهي عا�شت مع عائلتها ع�رشين �سنة يف �سجون ملك‬
‫املغرب احل�سن الثاين‪ ،‬وذلك يف روايتها‪ :‬ال�سجينة‪ .‬تقول مليكة‬
‫�أن فرتات النهار كانت طويلة جداً ال نهاية لها‪� .‬أما عدوهم‬
‫ونح�س به‪ ،‬نقا�سي منه متوح�ش ًا‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الرئي�سي فكان الوقت‪ :‬نراه‪،‬‬
‫الن فنق�ضي يومنا بالت�سلية اململة‪ .‬متابعة �سري‬ ‫مهدداً‪� ...‬أما آ‬
‫ال‪ .‬ت�صفية الذهن‪ .‬تبدل‬ ‫ال�رصا�صري من ثقب آلخر‪ .‬النوم قلي ً‬
‫لون ال�سماء‪ ،‬والنهار يف طريقه �إىل النهاية‪.‬‬
‫ال يف‬ ‫المر يبدو متماث ً‬ ‫ما حتكيه مليكة عن الوقت يجعل أ‬
‫كل ال�سجون! ويجعل حياة ال�سجني‪ /‬ال�سجينة جمرد �رصاع مع‬
‫ال�شيطان أ‬
‫الكرب‪ :‬الزمن!‬

‫ع البطاطا البطاطا‪ ..‬يا عيني ع البطاطا‪..‬‬


‫�أهزوجة رائعة تن ّغمها ال�صبايا حني يكون الع�شاء بطاطا‪.‬‬
‫وعلى حلن �أغنية �صباح ال�شهرية‪ :‬ع الب�ساطة الب�ساطة تق�ضي‬
‫�ضمن‪ ،‬ب أ�كل‬
‫ّ‬ ‫المن‪ 1‬الليل وهن يغنني‪ ،‬فقد‬ ‫معتقالت فرع أ‬
‫البطاطا‪ ،‬ال�شبع الذي يفتقدنه ب�شكل دائم يف حال كان الع�شاء‬

‫‪168‬‬
‫ق�صعة �شوربا مع البح�ص مث ً‬
‫ال‪.‬‬
‫اللحم كان ي�ستحق احتفا ًال خا�ص ًا بقدومه حني ّ‬
‫يقدم �إليهن‬
‫ال�سبوع وبكميات قليلة للغاية‪ ،‬فيما الفطور‬ ‫ملرة واحدة يف أ‬
‫عبارة عن بي�ضة م�سلوقة فح�سب للمعتقلة‪� ،‬أو ملعقة لبنة‬
‫حمم�ضة‪� ،‬أو ملعقة مربى مع ع�رش زيتونات بالعدد‪� .‬أما الزعرت‬ ‫ّ‬
‫أ‬
‫كن ي�كلنه مع املاء ليقت�صدن بالزيت امل�شرتى‪.‬‬
‫فقد ّ‬
‫فيما بعد‪� ،‬أي بعد االعتقال ب�سنوات‪�ُ ،‬سمح ب إ�دخال الطعام‬
‫كن يحاولن حفظ الطعام‪ ،‬خا�صة يف‬ ‫مع الزيارات‪ .‬حينها ّ‬
‫ال�صيف‪ ،‬بو�ضعه يف ق�صعة معدنية‪ ،‬وغمره باملاء البارد طيلة‬
‫الوقت‪ .‬مع ذلك كن ي�ضطررن �أحيان ًا �إىل تناوله وهو ن�صف‬
‫فا�سد!‬
‫رمبا كان االن�شغال بكل تلك التفا�صيل الطعامية و�سيلة‬
‫�أي�ض ًا لتم�ضية ذلك الزمن الثقيل‪.‬‬
‫كل ما حدث يف املزدوجات‪ ،‬على مدار الزمن الذي‬
‫اعتقلت فيه لينا‪.‬و‪ ،‬حدا بها �أن تكتب �أكرث من ر�سالة(‪.)90‬‬
‫تقول يف �إحدها‪:‬‬
‫(ظروف �سجننا قا�سية جداً‪ ،‬حيث ال كتب فقد عادوا‬
‫ومنعوها‪ ..‬ال جرائد‪ -‬والتنف�س ح�سب مزاج مدير ال�سجن‪-‬‬
‫المن ألهلها بخط‬‫(‪ )90‬كتبت الر�سالتان لينا‪ .‬و يف �أوائل �سنة ‪ 1990‬يف فرع أ‬
‫�صغري للغاية على ورق �سجائر احلمراء وقد كان الورق ممنوع ًا وكتبت بقلم‬
‫ا�ستطاع �أحد ال�سجانني املتعاطفني متريره �إليها وقد هربت الر�سالة أ‬
‫الوىل‬
‫يف �إحدى الزيارات عند امل�صافحة‪� ،‬أما الثانية فقد ا�ستطاعوا متريرها عرب‬
‫أ‬
‫الغرا�ض‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫قد يكون �أ�سبوعي ًا �أو �شهري ًا‪ .‬ال وال‪ ..‬وال‪ ...‬ال �شيء �سوى‬
‫ميل حياتنا من جدراننا املوح�شة التي يغطيها الغ�سيل‬ ‫الفراغ أ‬
‫املن�شور �إىل قلوبنا التي �أيب�سها االنتظار‪.‬‬
‫(الكالم الباقي ممحو ب�سبب الرطوبة)‬
‫ويف ر�سالة ثانية تقول‪:‬‬
‫(�أحبتي الغوايل‪:‬‬
‫(‪)...‬‬
‫عدة �أج�ساد نائمة تعانق حلم ًا بعيداً‪ ،‬حت�ضن يف عيونها‬
‫الحبة واحلياة واجلمال‪ .‬البع�ض يقر�أ‪� ،‬إحداهن‬ ‫النائمة �صور أ‬
‫حتت�ضن �صور �أطفالها‪ ،‬تعانقهم يف ال�صور وحتادثهم‪ ،‬والبع�ض‬
‫يطبخ (رز جديد مع �إ�صالح فا�صولياء حب جا ؤ�وا به بال�سجن)‬
‫و�صاحبة زيارة اليوم تتحدث بحرارة عن تفا�صيل زيارتها‬
‫«رجاء» زوجها وطفلتها‪ .‬و�أنا �ضمن هذه ال�صورة ب أ�كملها‬
‫�أحدثكم‪.‬‬
‫انتقلنا �إىل بيتنا اجلديد‪.‬‬
‫الن خمتلف‪ -‬غرفة وا�سعة (‪)4*5‬م فيها حمام واثنتا‬ ‫بيتنا آ‬
‫ع�رشة فتاة من نف�س التهمة‪ .‬هذا م�سكننا اجلديد‪ -‬ننتظر الراديو‬
‫وامل�سجلة وقد �أ�صبح لدينا تلفزيون �أعارنا �إياه العميد‪.‬‬
‫(‪)...‬‬
‫ال «وليمة ألع�شاب البحر»حيدر‬ ‫لدينا كتب‪ ..‬قر�أت مث ً‬
‫حيدر و»مدن امللح» عبد الرحمن منيف والعديد من‬

‫‪170‬‬
‫الروايات‪ ،‬هذا غيرّ كثرياً من �ضعفنا النف�سي‪� ،‬أ�صبحت حياتنا‬
‫�أف�ضل مبا ال يقا�س مما كانت‪� .‬صحيح �إن �شوقنا للحياة كبري‪-‬‬
‫ولطفالنا لكن ظروفنا اجلديدة ت�ساعدنا على حتمل‬ ‫لكم‪ -‬أ‬
‫ال�سجن �أكرث‪)...‬‬
‫بعد ألي ا�ستطاع والد حميدة‪.‬ت �أن يزورها يف فرع‬
‫المن‪.1‬‬ ‫أ‬
‫مل تتوقع حميدة �أية زيارة من �أهلها‪ ،‬ألنها تعرف �أحوالهم‬
‫املادية ال�سيئة للغاية‪ ،‬وتعرف �أنه ال بد من و�ساطات ودفع‬
‫الهايل ر ؤ�ية بناتهن املرميات يف الفرع منذ‬ ‫�أموال كي ي�ستطيع أ‬
‫�شهور‪.‬‬
‫كان والدها قد ذهب �إىل املدينة ال�ساحلية ال�صغرية‪ ،‬حيث‬
‫يقطن ال�شخ�ص الذي �سي ؤ� ّمن له الوا�سطة‪ ،‬وهناك �أنهى كل‬
‫الخري‪ ،‬وبعد‬ ‫العمال املتعلقة بالتمديدات ال�صحية يف بيت أ‬ ‫أ‬
‫ع�رش �ساعات من العمل املتوا�صل �أعطاه الرجل ورقة ال�سماح‬
‫بالزيارة‪.‬‬
‫من هناك اجته �إىل العا�صمة على الفور لينتظر �أ�سبوع ًا كام ً‬
‫ال‬
‫قبل �أن ي�ستطيع زيارة ابنته حميدة‪.‬‬
‫طق قفل الباب احلديدي يوم اجلمعة ثالث طقات‪ ،‬هذا‬
‫يعني زيارة إلحدى املعتقالت‪.‬‬
‫وقف ال�سجان بالباب و�صاح‪ :‬حميدة‪.‬ت‪.‬‬
‫حني �سمعت ا�سمي مل �أتوقع �أية زيارة‪ ،‬رمبا كان جمرد �س ؤ�ال‬

‫‪171‬‬
‫وجواب ال غري‪ ،‬لكني ا�ستجبت لرغبة ال�صبايا يف �أن �ألب�س لبا�س‬
‫الزيارة الذي ترتديه كل معتقلة يف زيارتها‪.‬‬
‫كان �أجمل لبا�س لدينا‪ :‬بلوزة قطنية خ�رضاء وبنطال من‬
‫جينز بلون �أزرق حائل‪.‬‬
‫لب�ست الزي غري مقتنعة وخرجت وراء ال�سجان‪.‬‬
‫وقت ملحت والدي‪ ،‬من �شباك غرفة املدير املطلة على‬
‫الكوريدور‪ ،‬دف�شت ال�سجان ورك�ضت ألرمتي يف ح�ضنه‪.‬‬
‫يا اهلل كم كنت م�شتاقة له! م�شتاقة‪ ..‬م�شتاقة‪.‬‬
‫كان والدي متعب ًا وبدا �أكرث �شيخوخة مما هو عليه‪ .‬يا‬
‫�إلهي كم غيرّ ته تلك ال�شهور املا�ضية! كان وجهه قامت ًا ومليئ ًا‬
‫بالتجاعيد!‬
‫�أول �س ؤ�ال �س أ�له وهو يحت�ضنني بني ذراعيه‪:‬‬
‫‪ -‬هل اقرتب منك �أحدهم؟‬
‫قرب‪.‬‬ ‫‪ -‬ال يابا‪ ..‬ما حدا ّ‬
‫تنف�س الكهل ال�صعداء ك أ�نه ينتظر هذا اجلواب منذ �شهور‪..‬‬
‫وتهاوى على كر�سيه‪.‬‬
‫كان والدي يعرف �أين �أعاين منذ مراهقتي من م�شكلة مع‬
‫علي دائم ًا ت�رسيحه‪ .‬يف‬ ‫�شعري‪ .‬كان جمعداً للغاية‪ ،‬وي�صعب ّ‬
‫اخلارج كان قد جلب يل جهازاً لتملي�س ال�شعر‪� ،‬أما يف الفرع‬
‫كان قد غدا م�شعث ًا للغاية ومزعج ًا‪ .‬ابت�سم وهو يرمقه‪:‬‬
‫‪ -‬جلبت لك م�سب ً‬
‫ال لل�شعر يابا‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫الغرا�ض مبت�سم ًا‪ .‬كانت حقيبة متخمة‬ ‫وقدم يل حقيبة أ‬ ‫ّ‬
‫ف ّت�شها ال�سجانة كما مل يفت�شوا حقيبة من قبل‪.‬‬
‫احلقيبة‪ /‬الهدية كانت مليئة بباكيتات الدخان‪ ،‬بالثياب‪،‬‬
‫د�سها‬‫وبكنزات ال�صوف التي حاكتها والدتي‪ ،‬و‪ 500‬لرية ّ‬
‫والدي يف يدي �آخر الزيارة التي ا�ستمرت ع�رش دقائق ال غري‪.‬‬
‫يف املهجع اكت�شفت‪ ،‬حني فل�شت احلقيبة مع ال�صبايا‪� ،‬أن‬
‫م�سبل ال�شعر الذي جلبه والدي ما هو �إال بل�سم “دياميم”‬ ‫ّ‬
‫لت�رسيح ال�شعر بعد احلمام‪.‬‬
‫�آه يابا‪ ..‬كم كانت زيارتك �سبب ًا لتوليد �أمل م�ضاعف يف‬
‫داخلي‪� ،‬أمل احلنني واحلب والفراق‪� ..‬آه يابا‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫رمبا كانت العزلة‪ ،‬التي يفر�ضها ال�سجن علينا‪ ،‬جتربنا‬
‫حد‬
‫التوحد فيها ّ‬‫ّ‬ ‫على الرتكيز يف عي�ش هذه التجربة‪ ،‬وعلى‬
‫التماهي! هذه هي املفارقة! تتغري يف ال�سجن املفاهيم التي ك ّنا‬
‫ال‪ ،‬والكثري‬ ‫نعي�ش عليها من قبل‪ ،‬مفهوم الزمان واملكان مث ً‬
‫الخرى �شخ�صية كانت �أم عامة‪ .‬ما كنا جنده‬ ‫من املفاهيم أ‬
‫ال ي�صبح‬‫طبيعي ًا يف اخلارج يتغري فج أ�ة هنا! ما كنا جنده م�ستحي ً‬
‫المر جعل كتاب ًا �صغرياً‪ ،‬كديوان‬ ‫ممكن ًا‪ ،‬بل ممكن ًا جداً! هذا أ‬
‫وعل يف الغابة‪ ،‬يفتح �أبواب احلنني على‬ ‫ريا�ض ال�صالح احل�سني ٌ‬
‫م�رصاعيها‪ ،‬وميار�س لعبة الغواية التي ال تقاوم‪.‬‬
‫المن‪ 1‬قد ا�ستطعن تهريبه يف‬ ‫كانت املعتقالت يف فرع أ‬

‫‪173‬‬
‫�إحدى الزيارات‪.‬‬
‫معظمهن ع�شن‪ ،‬ومنهن غرناطة‪.‬ج‪� ،‬أجواء رومان�سية غريبة‬
‫مع الديوان‪ .‬قر�أته غرناطة‪ ،‬كغريها‪ ،‬ب أ��صوات تتناغم وتتهادى‬
‫للرواح‪ .‬وهي اليوم تتذكر �أنها �سكرت‪،‬‬ ‫ك أ�نها ترتّل �أهزوجة أ‬
‫ال �إحدى‬ ‫تدب يف �أنحائها فيما هي تقر�أ لي ً‬‫وراحت الن�شوة ّ‬
‫ق�صائد الديوان!‬
‫عا�شت حالة غريبة‪ ،‬وجدانية وعميقة‪ ،‬نامت فيها منى‪�.‬أ‬
‫على ح�ضنها‪ ،‬و�صارت تعبث ب�شعرها‪ ،‬وتقر�أ الديوان‪.‬‬
‫حتى يف ذلك املكان القذر ال ت�ستطيع املر�أة �أن تعي�ش بال‬
‫يف من جديد‪،‬‬ ‫بث احلب ّ‬ ‫حب! ذاك الديوان ال�صغري عمل على ّ‬
‫بعد �أن كادت تق�ضي عليه ال�شهور ال�سبعة يف أ‬
‫القبية‪� .‬سبعة‬
‫الر�ض بال �شم�س �أو هواء حتى �أن حلم املعتقالت‬ ‫�أ�شهر حتت أ‬
‫الوحيد‪ ،‬و�أنا منهن‪� ،‬أن يخرجن �إىل ال�ساحة كي يتن�سمن هواء‬
‫لي�س بفا�سد‪ ،‬ويرين �شم�س ًا كدن ين�سني �سطوعها والزنازين‬
‫مثقلة ب أ�ج�سادهن املتال�صقة‪.‬‬
‫بعد م�ضي تلك املدة �سمحوا لنا باخلروج �إىل ال�ساحة‬
‫الر�ضية ملدة ن�صف �ساعة فح�سب‪.‬‬ ‫أ‬
‫خرجنا �إىل ال�ساحة �أخرياً‪ ،‬غزالن انفلتت من عقالها وطفقت‬
‫العلى‪ .‬رك�ضنا على الدرجات‬ ‫تهرول على درج الفرع �إىل أ‬
‫وهبت تلك الن�سمة املنع�شة‪ ،‬كانت‬ ‫املف�ضية �إىل العامل اخلارجي ّ‬
‫تعم الباحة‪� ،‬صباح �صيفي م�رشق جعل من ال�صعب‬ ‫ال�شم�س ّ‬

‫‪174‬‬
‫علينا �أن نفتح عيوننا يف هذا ال�ضوء املبهر الرائع ّ‬
‫حد احللم‪.‬‬
‫�أم�سكنا ب أ�يدي بع�ضنا‪ ،‬و�رصنا ندور فرحات ك أ�طفال‪ ،‬ندور‬
‫م�شكالت حلقة كبرية جميع من فيها يقفز فرح ًا!‬
‫درنا ودرنا‪..‬‬
‫ت�سمرنا م�صدومات‪ ،‬ثمة �شيء يف النظرات كان‬ ‫فج أ�ة ّ‬
‫ينك�رس! ال�ضوء املبهر قام بك�شف ما مل يكن موجوداً يف عتمة‬
‫العامل ال�سفلي‪ ،‬ما مل نكن قادرات على التقاطه هناك يف الظالم‪:‬‬
‫العفن‪.‬‬
‫العفن يع�ش�ش بني جذور �شعورنا‪.‬‬
‫يف زوايا �أفواهنا‬
‫وعلى رمو�شنا!‬
‫العفن كان يغلفنا بكل تفا�صيلنا‪.‬‬
‫راحت ال�ضحكات تتال�شى وهي تطبق على العفن الذي‬
‫و�صل �إىل ما بني أ‬
‫ال�سنان!‬
‫النثى انك�رست داخلنا‪،‬‬ ‫المر �أن أ‬ ‫رمبا كان املحزن يف أ‬
‫ال�سفل كنا نعتقد �أنف�سنا جميالت‪،‬‬ ‫انك�رست ب�صورة قا�سية‪ .‬يف أ‬
‫الرواح‬‫مر‪ ،‬يف اخلارج بدا �أن العفن طال أ‬ ‫على الرغم من كل ما ّ‬
‫النثى دون �أن ندري‪ ..‬عفن‪ ..‬عفن‪.‬‬ ‫�أو ًال ثم تفا�صيل أ‬
‫بعد حوايل ال�سنة والن�صف ا�ستطاعت املعتقالت يف فرع‬
‫المن‪ ،1‬عرب �إحدى الزيارات النادرة‪ ،‬تهريب ملقط �شعر‬ ‫أ‬
‫ومر�آة �صغرية‪ ،‬بذلك ا�ستطعن نزع �شعر حواجبهن بعد كل‬

‫‪175‬‬
‫ال فقد �أو�صني على علبة علك كبرية ونزعن‬ ‫تلك املدة‪� .‬أما قب ً‬
‫�شعر �سيقانهن مب�ضغات العلك تلك‪.‬‬
‫بعد ذلك ب أ��شهر ا�ستطعن �إدخال قطع من العقيدة وم�شط‬
‫بال�ستيكي‪ ،‬كان �أ�شبه بنعمة �سماوية‪ ،‬جعلهن ّ‬
‫ي�رسحن �شعورهن‬
‫بعد �أ�شهر طويلة مل تعرف ر ؤ�و�سهن امل�شط فيها‪.‬‬

‫عن بع�ض تلك التفا�صيل كتبت مي‪.‬ح(‪:)91‬‬


‫(كان التنف�س �صعب ًا‪ ،‬ن�سينا ال�شم�س والقمر والهواء‪ ،‬انت�رش‬
‫بيننا اجلرب وااللتهابات اجللدية‪ ،‬فطلبوا جميع بطانيات‬
‫املهجع لتعقيمها بالد‪.‬د‪.‬ت‪ .‬ثم جاء دور تعقيمنا بال�شم�س‪.‬‬
‫خرجنا �صف ًا �أحادي ًا متجاوزين املهاجع امل�صطفة على جانبي‬
‫املمر‪ ،‬كنا نطرق على �أبواب املهاجع لن�صحي �ساكنيها‪.‬‬
‫ولول مرة عرفنا �أن للفرع باحة وحدائق‪،‬‬ ‫خرجنا �إىل الباحة أ‬
‫بحلقنا بوجوه بع�ضنا كانت ال�صدمة قا�سية مل نكن ن�شبه �أنف�سنا‪،‬‬
‫تعرفنا على وجوهنا ألول مرة‪� ،‬ألوان العيون وال�شعر والب�رشة مل‬
‫تكن كما هي يف املهجع‪.‬‬
‫ال�ساور التي �صنعناها من نوى الزيتون وخيوط‬ ‫�أما أ‬
‫البطانيات فقد �صدمنا لب�شاعة �ألوانها الظاهرة‪� ،‬أقبح �أنواع‬
‫اللوان‪ ،‬وقفنا بعجز �أمام �أ�شعة ال�شم�س ك أ�ننا جتمدنا‪ ،‬و�شعرنا‬‫أ‬
‫ال�ساور التي كنا نلب�سها)‪.‬‬‫بالقهر من ب�شاعة أ‬
‫(‪)91‬من كتابها الذي �أ�صدرته مي عن جتربة املعتقل بعنوان‪ :‬عينك على ال�سفينة‪.‬‬
‫وذلك يف �سنة ‪2006‬‬

‫‪176‬‬
‫‪1991-1987‬‬

‫يف �سجن الن�ساء كان الوقت �أخف وط أ�ة مبا �أنه كان �سجن ًا‬
‫مدني ًا يجمع الكثري من احلاالت املتباينة‪.‬‬
‫ال�سجن ذاك كان فيما م�ضى بيت ًا عربي ًا بحو�ش مك�شوف‬
‫فيه نافورة يف الو�سط و�أربعة �أحوا�ض كبرية للنباتات‪ ،‬د�أبت‬
‫�سالفة‪.‬ب‪ ،92‬املهند�سة الزراعية‪ ،‬على العمل فيها كعا�شقة‪،‬‬
‫تزرع الورد والليف و�أنواع النبات املختلفة‪ ،‬ترك�شها وت�سقيها‬
‫الربعة �إىل جنة حقيقية‪،‬‬ ‫الحوا�ض أ‬ ‫حولت أ‬ ‫كل يوم حتى ّ‬
‫(‪� )92‬سالفة‪ .‬ب ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1965‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى �سنة ‪.1991‬‬

‫‪177‬‬
‫تغطيها �شتاء بالنايلون‪ ،‬وترعاها ك أ�طفالها‪ ..‬حتى �أنها زرعت‬ ‫ّ‬
‫البقدون�س‪ ،‬ودعت ال�صبايا يف بع�ض االوقات ألكل التبولة‬
‫الطازجة‪.‬‬
‫الن�سان‪،‬‬‫يرى فكتور فرانكل (الوجودي الديني) �أن نوع إ‬
‫الذي يتحول �إليه ال�سجني‪ /‬ال�سجينة‪� ،‬إمنا يتم نتيجة لقرار‬
‫داخلي‪ ،‬قرار يتخذه ال�سجني‪ /‬ال�سجينة نف�سه‪ ،‬ولي�س جمرد‬
‫نتيجة ي�صريها ب�سبب ت أ�ثريات املع�سكر‪.‬‬
‫ماذا �س أ�كون؟‬
‫�إىل �أين �س أ��صل؟‬
‫ما الذي �ست�سفر عنه �سنوات ال�سجن؟‬
‫كانت �أ�سئلة مم�ضة ظلت تدور يف ذهن الكثريات من‬
‫املعتقالت ال�سيا�سيات يف ال�سجون‪.‬‬
‫هل كان القرار الداخلي هو الفي�صل يف عي�شهن تلك‬
‫ال�سنوات الطويلة يف املعتقل �أم ال؟!!‬
‫بهن �إىل اختالق الو�سائل لتزجية الوقت‪:‬‬ ‫رمبا ذلك ما حدا ّ‬
‫من القراءة‪� ،‬إىل �إ�صدار جملة (اجلرح املكابر) ‪� ،‬إىل جمموعة‬
‫(‪)93‬‬

‫م�رسحيات قامت املعتقالت بت أ�ليفها �أو اقتبا�سها ومتثيلها(‪،)94‬‬


‫�إىل احللقات الثقافية التي ا�ستمرت فرتة ال ب أ��س بها‪.‬‬

‫(‪� )93‬سبق وحتدثت عنها يف ف�صل �سابق‪.‬‬


‫(‪ )94‬عملن على م�رسحية �إب�سن‪ :‬حورية البحر‪ .‬وعلى م�رسحية بري�شت‪:‬‬
‫اال�ستثناء والقاعدة‪ .‬وعلى ن�صو�ص ل�سليمان غيبور ال�شهيد‪ .‬وعلى ن�صو�ص‬
‫�أخرى‪� .‬أما املمثالت فقد كن كرث ورمبا �أبرزهن كانت هند‪ .‬ق ورنا‪ .‬م‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫كانت اللجنة املوازية تقيم احللقات امل ؤ�لفة من حوايل‬
‫اثنتي ع�رشة معتقلة(‪ .)95‬نوق�شت العديد من املوا�ضيع يف تلك‬
‫احللقات الثقافية من تاريخ احلزب‪� ،‬إىل برنامج احلزب‪� ،‬إىل عدد‬
‫من املوا�ضيع الفكرية املتنوعة مثل اجتياح الكويت �أو قراءات‬
‫اليديولوجية‪،‬‬‫يف كتب ح�سني مروة وغريه‪ .‬لكن ال�صبغة إ‬
‫التي كانت حتيط تلك احللقات‪ ،‬جعلت الكثريات يبتعدن‬
‫اليديولوجيات‬ ‫عنها‪ ،‬و�أحيان ًا يتجننب ح�ضورها‪ ،‬وقد فقدت إ‬
‫غوايتها القدمية مع الزمن‪ ،‬وراحت تفا�صيل العي�ش ودواخل‬
‫الفكار‬ ‫الوىل يف العي�ش ولي�ست أ‬‫املعتقلة الدفينة حتتل املرتبة أ‬
‫الكربى‪.‬‬
‫كانت الرغبات يف املعتقل خمتلفة عن الرغبات خارج ًا‪.‬‬
‫المر هذا يتجلى فيما كتبته هند‪.‬ق على دفرتها يف �سجن‬ ‫أ‬
‫الن�ساء‪:‬‬
‫(رغبات‪:‬‬
‫الر�ض‪� :‬أريد �أن �أمتدد آلخري‪ ...‬لكن املكان �ضيق‬ ‫�أيتها أ‬
‫�أيها القمر‪� :‬أريد �أن �أفرد خاليا ج�سدي كلها‪ ...‬لكن املكان‬
‫�ضيق‬
‫�أيتها ال�شم�س‪� :‬أريد �أن �أفر�ش بع�ضي كله‪ ...‬لكن املكان �ضيق‬
‫�أيها البحر‪� :‬أريد �أن �أتبعرث يف �أعماقك‪ ...‬لكن املكان �ضيق‬
‫�ضيق‪ ...‬و�ضيق‪ ...‬و�ضيق‬
‫(‪ )95‬وهن‪ :‬ناهد‪ .‬ب ‪ ،‬ح�سيبة‪ .‬ع ‪� ،‬سحر‪ .‬ح‪� ،‬أمرية‪ .‬ح ‪� ،‬سمر‪� .‬ش‪ ،‬لينا‪ .‬م ‪،‬‬
‫رنا‪ .‬م ‪ ،‬فاديا‪� .‬ش ‪� ،‬سحر‪ .‬ب‪ ،‬وفاء‪� .‬إ ‪ ،‬وهند‪ .‬ق ‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫�أيها الكون‪� :‬أ�س أ�لك �أت�سمعني؟؟ �أين �أجد هذا املكان؟!‬
‫ج�سدي ينتف�ض ع�شق ًا‪ ،‬و�أريد مكان ًا لعا�شقني‬
‫لغجرية تعبة‪ ...‬وحبيب غائب وجمهول‬
‫واملكان �ضيق هنا‪� ..‬ضيق �ضيق و‪...‬‬
‫�ضيق هنا)‬
‫�سجن الن�ساء‬ ‫ ‬
‫‪1989/7/13‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬
‫يف يوم من �سنة ‪ 1990‬مت ا�ستدعاء جميع املعتقالت‬
‫العلى‪.‬‬ ‫المن‪� 1‬إىل ال�ساحة اخلارجية يف أ‬ ‫ال�شيوعيات من فرع أ‬
‫قر�أ ال�ضابط �أ�سماءهن جميع ًا با�ستئناء ا�سمني‪� :‬سناء‪.‬ح ومنى‪�.‬أ‪.‬‬
‫‪ -‬لي�ش ما مذكور �إ�سمي!!‬
‫�صاحت �سناء فيما كان ال�سجانة يحاولون ت�سيري املعتقالت‬
‫�إىل ال�سيارات‪.‬‬
‫�أم�سكت البنات بيدها يردنها معهن‪ ،‬و�أم�سكها مدير‬
‫ت�شد �إليها �أكرث‪.‬‬
‫الخرى كي يبقيها‪ ،‬كل جهة ّ‬ ‫ال�سجن باليد أ‬
‫�شعرت �سناء حينها �أنها �أ�شبه بطفل فقد �أمه‪ ،‬ك أ�نها رميت‬
‫وحيدة يف بئر دون قرار‪..‬‬
‫المن‪2‬‬ ‫و�ضعوهن يف �سيارات الفرع‪ ،‬وذهبوا بهن �إىل فرع أ‬
‫الع�سكري‪.‬‬
‫�أما �سناء فقد عادت وحدها �إىل املزدوجات‪ .‬كانت موح�شة‬
‫امتلت قبل قليل ببقية رفيقاتها‪ ،‬ب أ�ج�سادهن‬ ‫أ‬ ‫للغاية فيما‬

‫‪180‬‬
‫و�أ�صواتهن‪ ،‬بعبق وجودهن يف املكان اخلاوي‪ ،‬اخلاوي حد‬
‫الرعب‪.‬‬
‫الن ظلت وحدها مع العرفاتيات‪.‬‬ ‫آ‬
‫ح�ست به يكوي‬ ‫كانت تبكي بحرقة الوحدة والظلم الذي �أ ّ‬
‫داخلها‪.‬‬
‫اليام القادمة بعثت �سناء بكتابني �إىل عميد ال�سجن‪:‬‬ ‫خالل أ‬
‫َمل كان عليها �أن تبقى وحدها فيما جميعهن نقلن �إىل �سجن‬
‫الن�ساء؟ حيث اعتقدت �أن رفيقاتها نقلن �إليه‪.‬‬
‫لكن �أحداً مل يرد عليها‪.‬‬
‫يف املرة الثانية حني �س ّلمت الكتاب �إىل ال�سجان بادرها‪:‬‬
‫‪ -‬ر�أيت رفيقتك يف الطريق �أم�س‪.‬‬
‫اكت�شفت �سناء‪ ،‬مت أ�خرة‪� ،‬أن رفيقاتها �أطلق �رساحهن ومل‬
‫ينقلن‪ ،‬كما اعتقدت‪� ،‬إىل �سجن الن�ساء‪َ .‬مل هي هنا �إذاً؟!!‬
‫مل يكن �أمامها �إال التهديد باالنتحار من جديد‪� ،‬أو القيام‬
‫بحركات �شغب كالطب�ش على الباب احلديدي وال�رصاخ يف‬
‫الكوريدورات‪ .‬كان عليها فعل امل�ستحيل كي ال ترمى من�سية‬
‫ل�شهور طويلة �أخرى يف الفرع‪.‬‬
‫�أخرياً‪ ،‬مت نقل �سناء �إىل فرع ‪ 2‬حيث كانت منى‪�.‬أ وحدها‬
‫كذلك‪ .‬وهناك �أقامتا ملدة �شهرين تقريب ًا قبل �أن تُنقال �إىل �سجن‬
‫الن�ساء‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫يف دفرت مذكراتها(‪ )96‬كتبت ناهد‪ .‬ب‪:‬‬
‫(فج أ�ة دون مقدمات دخلت هذه الق�صيدة �إلينا‪.‬‬
‫اخرتقت �أ�سوار ال�سجن ونف�ضت غبار �أعوام طويلة‪ .‬لن‬
‫�أ�ستطيع و�صف ما حدث يل حني قر�أتها اليوم‪ .‬كنت �س أ�تعارك‬
‫مع البنات حويل حني مل يتفاعلوا معي يف حلظة اكت�شايف‬
‫وجود الق�صيدة يف ديوان نزار قباين جاء ب إ�حدى الزيارات‪.‬‬
‫ولكني جتنبت املعركة وحملت الديوان وانفعاالتي ورك�ضت‬
‫خارجة من الغرفة �أبحث عن رماح(‪.)97‬‬
‫وجدتها تقر�أ كتاب ًا �سيا�سي ًا‪ ،‬اقتلعتها منه‪ ،‬وجل�سنا نقر�أ‬
‫الجمل منها‬ ‫الق�صيدة‪ .‬كم هي جميلة‪ .‬ولكني تفاج أ�ت ب أ�ن أ‬
‫هي ق�صائد نزار عن بريوت و�أنا مل �أكن �أعرفها‪ ،‬وبد�أت �أ�س أ�ل‬
‫�أيهما �أجمل ق�صائده عن العا�صمة �أم عن بريوت‪...‬‬
‫تابعنا وت�شابكنا �أنا ورماح والق�صائد يف كتلة من امل�شاعر‬
‫ذات الزخم مل �أ�شعر به منذ زمن بعيد فقد كانت دواخلنا يف‬
‫المواج فيه �أم �أن كلمات الق�صائد‬ ‫تلك اللحظات بحر تتالطم أ‬
‫كانت تتدفق فينا بحيث مل يعد وجود ألج�سادنا؟ ال �أعرف‪ ،‬ما‬
‫�أعرفه �أننا �شكرنا ربنا ب أ�ن مقولة �شعر الر�أ�س يقف عند االنفعال‬
‫غري �صحيحة‪� ،‬أو كنا عندها �سنتحول �أمام من يراقبنا عن بعد‬
‫(‪ )96‬كتبتها ناهد‪ .‬ب يف �سجن الن�ساء‪ .‬وتتحدث اليوميات عن ق�صيدة نزار‬
‫قباين التي كتبها عن حادثة �شارع فردان‪ .‬وقد دخلت يف �إحدى الزيارات‬
‫يف كتاب له‪.‬‬
‫(‪ )97‬رماح‪ .‬ب ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1966‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى �سنة ‪1991‬‬

‫‪182‬‬
‫�إىل قنفذين مي�سكان كتاب ًا‪.‬‬
‫بعدها جاء الت أ�مني(‪ )98‬توجهنا كل �إىل غرفتها‪.‬‬
‫�أخذت رماح الديوان وقلبي معه وذهبت‪� .‬شعرت برغبة‬
‫جارفة بالبكاء‪ .‬اجتهت �إىل غرفتي ووجدت لينا(‪ )99‬بوجهي‬
‫�ضممتها وحكيت لها عن جمال تلك الق�صائد ب�صوت ي�شبه‬
‫البكاء‪ .‬ولكنه كان حدث ًا ق�صرياً جداً �إذ �أن باب املهجع الرابع‬
‫�سيقفل �أي�ض ًا‪).‬‬
‫‪1990/6/23‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬
‫فقد كتبت من فرع أ‬
‫المن ر�سالة �إىل �أهلها‬ ‫�أما بثينة‪ .‬ت‬
‫(‪)100‬‬

‫قالت فيها‪:‬‬
‫الحبة‪:‬‬ ‫(ماما احلبيبة‪ ..‬بابا احلبيب‪� ..‬أخوتي أ‬
‫بكل �شوق الع�صفور احلبي�س لك�رس ق�ضبان �سجنه و�إطالق‬
‫جناحيه للريح �أتوجه �إليكم‪ ،‬عرب هذه الطريقة الرائعة‪ ..‬ولن‬
‫�أوفر فر�صة �أطمئنكم بها‪ ،‬و�أطمئن عليكم‪.‬‬
‫مل الدنيا‪ ،‬وعبق‬ ‫جاء الربيع وتاله ال�صيف‪ ..‬ونوار أ‬
‫اليا�سمني وزهر الليمون يفوح على الطريق بني املوقف وبيتنا‪..‬‬
‫(‪ )98‬الت أ�مني‪ :‬هو وقت �إقفال �أبواب املهاجع يف �سجن الن�ساء‪ .‬وقد كان ال�سجن‬
‫والبواب‬‫عبارة عن بيت عربي قدمي �صيرّ ت غرفة مهاجع بعد �أن حددت النوافذ أ‬
‫بال�شبك احلديدي‪ .‬كان هناك مهاجع للق�ضائيات‪ :‬مهجع قتل‪ ،‬مهجع دعارة‪،‬‬
‫مهجع خمدرات‪ ،‬ومهاجع لل�سيا�سيات‪� :‬إ�سالميات و�شيوعيات‪.‬‬
‫أ‬
‫(‪ )99‬لينا‪ .‬م‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1961‬اعتقلت يف املرة الوىل �سنة‬
‫‪ 1984‬ويف املرة الثانية من �سنة ‪� 1987‬إىل �سنة ‪.1991‬‬
‫المن �أوائل �سنة ‪ 1989‬على ورق‬ ‫(‪ )100‬جزء من ر�سالة كتبت �أي�ض ًا يف فرع أ‬
‫ال�سجائر ومت �إي�صالها عرب ال�سجان م‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫ما �أخبار الطبيعة لديكم؟‪ ..‬كيف النارجنة والكبادة والليمونة‬
‫وامللي�سة واليا�سمني العراتلي‪ ..‬و‪ ..‬و‪ ..‬الخ؟ هل ال زالت تلك‬
‫ّ‬
‫أ‬
‫ال�شجار الرائعة التي ما زالت ت أ��رسين‪ ،‬هل ما زالت موجودة �أم‬
‫طالتها يد التغيري يف احلديقة‪ ..‬كيف �أ�شجار ال�رسو الرائعة على‬
‫�سور بيتنا؟ �أ�صبحت �أروع و�أ�شمخ حتم ًا‪� ..‬أ�شتاق لكل �شرب‬
‫يف اخلارج �أ�شتاق �إليكم‪ ..‬كيف زريعاتك يا بابا؟ هل ما زلت‬
‫جل وقتك مع أ‬
‫الخ�رض؟!‪.‬‬ ‫تق�ضي ّ‬
‫�أحبتي‪ :‬هل ت�ستمعون كل �صباح باهتمام لزقزقة ع�صافري‬
‫ال�صباح وهي ت ؤ�ذن ببداية نهار جديد هل ما زال بابا يقطف‬
‫كل �صباح باقة من �أزهار اليا�سمني ويزين بها الغرفة؟‪ ..‬هل‬
‫تراقبون بانتباه منو زهرة �صغرية (جملة ممحوة‪ ..)..‬تبدل‬
‫الف�صول و�أنواع الزهور‪ ،‬و�رشوق ال�شم�س‪ ،‬وبزوغ القمر‪،‬‬
‫ولون ال�سماء‪ ،‬وروعة الرتاب‪ ،‬ورائحة دخان ال�سيارات وزحمة‬
‫الطفال و�ضحكات الفرح‪ ،‬واحلكايا‬ ‫ال�شوارع‪ ،‬وعيون أ‬
‫اخلجولة تنتقل من فم �إىل فم ب�صوت هام�س والن�سمات العليلة‬
‫تدغدغ الروح وتبعث بها الن�شوة‪..‬؟ هل‪ ..‬وهل‪ ..‬وهل‪..‬؟!‬
‫�شوقي كبري لكم وللربيع واحلياة‪ ..‬و�شوقي كبري لربيعي‬
‫طفلتي‪ ،‬براعمي ال�صغرية تتفتح يوم ًا بعد يوم و�أنا‬
‫ّ‬ ‫اخلا�ص‪،‬‬
‫بعيدة‪.‬‬
‫ماما احلبيبة‪ :‬كل �شوق العامل لك‪ ..‬لعينيك احلنونتني‪،‬‬
‫ويديك الدافئتني‪� .‬أ�شتاقك كثرياً‪ ،‬ولي�س لدي بديل عنك‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫ال عني‪� .‬ضميهما بكل‬ ‫وت�شتاقني كثرياً وعندك النا وراما بدي ً‬
‫دفء �صدرك الذي يق�شعر بدين لذكراه‪ ..‬عو�ضي عني بهما‬
‫فهما بحاجة لك �أكرث‪ ..‬و�أكرث‪� ..‬أكالتك الطيبة تدغدغني‪،‬‬
‫والمان‪ .‬مل �أزل قوية‪ ،‬ومل تزل ب�سمتي‬ ‫تعيدين �إىل �أيام الطفولة أ‬
‫على �شفتي‪ ،‬ال تقلقي‪ ..‬ومل �أزل �أتذكركم و�أعيد‪� ،‬أنتم هروبنا‬
‫الوحيد هنا‪ ،‬و�أنتم بل�سم احلياة بالن�سبة �إلينا‪..‬‬
‫ي�سلموا �إيديك يا غالية على �أكالت الكبة والرز بفول‬
‫والبامياء والرز واللوبياء(‪ ،)101‬و�صلت جميعها �ساخنة و�أكلناها‬
‫مبا�رشة‪ ،‬و�أكل منها اجلميع‪ .‬الكميات التي تر�سلونها ممتازة‪،‬‬
‫تكفي غداء واحد م�شبع للجميع (‪ 18‬فتاة‪ 13 ،‬بنف�س التهمة)‬
‫فقط لو تكرثي من �أكالت الزيت ألنها تبقى لليوم الثاين فت�صبح‬
‫�أي�ض ًا غداء م�شبع‪.‬‬
‫كان احتفال رفيقاتي بي رائع ًا‪� ،‬رشبنا القهوة‪ ،‬وغنينا‬
‫الوىل التي ن أ�كل فيها التبولة‪ .‬بابا‪:‬‬ ‫ورق�صنا‪ ،‬وكانت تلك املرة أ‬
‫الغرا�ض على ورقة م�ستقلة طريقة رائعة ت�ضمن‬ ‫طريقة كتابة أ‬
‫و�صول كل �شيء‪..‬‬
‫(‪)102‬‬
‫�أبكتني علبة البهارات‪ ،‬هدية النا يف زيارة �سونا‬
‫الخرية‪� :‬رصخت عندما قر�أت ا�سمها على العلبة قبلتها‬ ‫قبل أ‬

‫(‪ )101‬الطعام الذي كان ي�سمح ب إ�دخاله يف الزيارات النادرة التي كان ي�سمح‬
‫بها للمعتقالت يف فرع أ‬
‫المن‪.‬‬
‫(‪ )102‬مبا �أن الزيارات مل تكن م�سموحة �إال الثنتني من املعتقالت لذلك فقد كان‬
‫الهايل يبعثون أ‬
‫الغرا�ض لبناتهن مع �أهل �سونا‪� .‬س‪.‬‬ ‫أ‬

‫‪185‬‬
‫كثرياً‪ ،‬فيدي النا ال�صغريتني احلبيبتني قد مل�ستاها‪ .‬ترى‪ ،‬ما‬
‫الغرا�ض التي تر�سل يل‪ ،‬هل‬ ‫هي معلومات النا عني وعن أ‬
‫تعرف �أنها يل؟ هل زاركم �أحد من البنات اللواتي خرجن‪،‬‬
‫والهم كيف كان رد فعل‬ ‫جوليا‪ ،‬زينب‪� ..‬أمينة‪ ..‬مي‪� ..‬إلخ‪ .‬أ‬
‫الخبار التي حملوها‪� ..‬أرجوكم �أخربوين‬ ‫النا جتاههم وجتاه أ‬
‫بالتف�صيل عن ذلك ألعرف �أين �أ�صبح موقعي بالن�سبة �إليها‪.‬‬
‫�أحبتي‪ :‬قلقي على نزار(‪ )103‬كبري‪ ..‬انقطاع �أخباره عني يكاد‬
‫يقتلني‪ ،‬ال خرب مطلق ًا منذ حزيران قبل املا�ضي‪� .‬أتوقع �أن �أهله‬
‫يتوا�صلون مع �أهايل املعتقلني معه يف (‪ )...‬ويطمئنون عليه‪.‬‬
‫طمئنوين عنه �أتو�سل �إليكم‪� ،‬إذا كان لديكم �أي خرب ال تبخلوا‬
‫علي‪� ..‬أر�سلوه كتابي ًا �أو �شفهي ًا‪ .‬ل�ست �أدري ملاذا تبخلون علي‬
‫ب أ�خباركم التف�صيلية‪� ،‬أخبار اجلميع‪� .‬أطالب بالتفا�صيل فت أ�تيني‬
‫�أخبار �رسيعة‪)..‬‬

‫(‪ )103‬نزار‪ .‬م‪� :‬أحد املعتقلني ال�شيوعيني وهو زوج بثينة‪ .‬ت اعتقل من‬
‫�سنة ‪ 1987‬وحتى �سنة ‪ 2001‬ويف ذلك الوقت كان قد نقل �إىل �سجن‬
‫ال�صحراء‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫املخترب الب�شري‪..‬‬
‫اليديولوجيات‬
‫حني تغيب إ‬

‫‪187‬‬
‫المن‪1‬‬ ‫نقل عدد كبري من املعتقالت ال�شيوعيات من فرع أ‬
‫�إىل �سجن الن�ساء فيما ظلت الباقيات يف الفرع‪.‬‬
‫ثم نقلت خم�س منهن فقط‪ ،‬وذلك يف �صيف ‪،1988‬‬
‫وهن‪� :‬آ�سيا‪�.‬ص‪ ،‬فاطمة‪.‬خ(‪،)104‬‬
‫المن‪ 2‬الع�سكري ّ‬ ‫�إىل فرع أ‬
‫هتاف‪.‬ق‪ ،‬ليلى‪.‬ع‪ ،‬ومنرية‪�.‬ص‪.‬‬
‫ظلت املعتقالت اخلم�س �أكرث من �سنة ون�صف يف فرع‬
‫المن‪ ،2‬ثم نقلن �إىل �سجن الن�ساء ليبقني حتى �إطالق �رساح‬ ‫أ‬
‫اجلميع يف �سنة ‪.1991‬‬
‫ال�سالميات هناك قبلهن ب�سنوات‪.‬‬ ‫فيما كانت املعتقالت إ‬
‫الوىل كانت يف �أماكن النوم!‬‫الزمة أ‬
‫أ‬
‫ففي املهجعني الثالث والرابع كانت الغالبية العظمى من‬
‫ال�سالميات وبع�ض املعتقالت بتهمة التج�س�س وحزب بعث‬ ‫إ‬
‫(‪ )104‬فاطمة‪ .‬خ‪ :‬معتقلة من مواليد ‪ 1963‬اعتقلت من �سنة ‪ 1987‬وحتى‬
‫�سنة ‪ ،1991‬تنقلت بني فروع أ‬
‫المن و�سجن الن�ساء‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫العراق‪ .‬كان على القادمات اجلدد �أن ينمن على ح�ساب‬
‫ال�سالميات مما �أدى �إىل الكثري من‬ ‫الفراغات بني فر�شات إ‬
‫اخلالفات وامل�شاحنات‪.‬‬
‫تكرب امل�شاكل ال�صغرية مع الزمن‪ ،‬ويتملك ال�سجينة‪ ،‬كما‬
‫يتملك ال�سجني‪� ،‬شعور مهيمن �أن جزءاً من روحها ت�آكلت‪.‬‬
‫الزمة الثانية بد�أت حني قدمت الدفعة اجلديدة من‬ ‫أ‬
‫املعتقالت‪ .‬فقد قدمن وقدم معهن قرار منع الزيارات على‬
‫الخريات‬ ‫ال�سيا�سيات فح�سب فيما كانت ال�سجينات أ‬
‫(الق�ضائيات‪ :‬قتل ودعارة وح�شي�ش و‪ )...‬يتمتعن بالزيارة‬
‫أ‬
‫ال�سبوعية با�ستمرار يف كل يوم �أربعاء‪.‬‬
‫عن ذاك املخترب الب�رشي‪ ،‬الذي راح يتو�ضح يف �سجن‬
‫الن�ساء وينيخ بثقله على اجلو‪ ،‬كتبت ناهد‪ .‬ب(‪:)105‬‬
‫(نيف وثالثون امر�أة جيء بنا كي نعي�ش حياة م�شرتكة‬ ‫ّ‬
‫ب�شكل ق�رسي‪.‬‬
‫جيء بنا من خمتلف �أرجاء البالد‪ ،‬يجمعنا العمل �أو حماولة‬
‫العمل يف ال�سيا�سة من املوقع الي�ساري املعار�ض(‪ .)106‬جيء بنا‬
‫الخرى‪ ،‬اختالفات يف العمر‬ ‫وكل منا حتمل اختالفاتها عن أ‬
‫والتجربة‪ ..‬اختالفات يف الن� أش�ة والرتبية والعادات اليومية‪..‬‬
‫المزجة وامليول ال�شخ�صية‪ .‬وهنا ابتد�أ‪ ،‬ما‬ ‫اختالفات يف أ‬
‫(‪ )105‬من يوميات كتبتها ناهد‪ .‬ب يف املعتقل (�سجن الن�ساء)‬
‫ال�سالميات يف �أواخر �سنة ‪ 1989‬وبقيت‬‫(‪ )106‬بعد �أن خرجت املعتقالت إ‬
‫الي�ساريات حتى نهاية ‪1991‬‬

‫‪189‬‬
‫�سميته يوم ًا‪ ،‬املخترب الب�رشي املركز والذي ال يتاح �إال يف مثل‬
‫الماكن‪.‬‬‫هذه أ‬
‫خمترب تخ�ضع فيه �شخ�صياتنا �إىل �أق�سى جتارب اجتماعية‬
‫ميكن �أن يخو�ضها الب�رش و�أق�سى و�أهم جتربة من هذه التجارب‪،‬‬
‫النا واكت�شافها‪ ،‬وال�شعور بالده�شة من‬ ‫هي جتربة املواجهة مع أ‬
‫اليجابية �أم ال�سلبية‪.‬‬
‫موا�صفاتها �سواء إ‬
‫كذلك كانت جتربة املواجهة مع التاريخ الذي انقطع يف‬
‫حلظة االعتقال‪ ،‬يف عملية مراجعة �أ ّدعي �أنها ال تتم يف عامل‬
‫احلرية‪ ،‬بالرتكيز والقوة التي تتم هنا‪).‬‬
‫بدون تاريخ‬ ‫ ‬

‫‪190‬‬
‫‪1987-1983‬‬
‫الول بقيت هند‪.‬ق‪ ،‬بعد �شهور املنفردة‬ ‫يف االعتقال أ‬
‫المن‪.1‬‬ ‫ال�سالميات بفرع أ‬
‫الت�سعة‪ ،‬ملدة �شهرين يف مهجع إ‬
‫كن �سبع ًا وهي الثامنة‪.‬‬
‫ال�سالميات يف املهجع ّ‬ ‫املعتقالت إ‬
‫منهن‪ :‬رجاء‪�.‬أ (�أم زهري)‪� ،‬أم خالد‪� ،‬أم �صالح‪ ،‬أ‬
‫والهم �شفاء‪.‬‬
‫ع(‪ ،)107‬ا�ستطاعت �أن تبني وهند عالقة وطيدة على الرغم من‬
‫كل امل�سافات بينهما‪.‬‬
‫كانت الليايل مت�ضي وهما حتاوالن تذكر بيوت ال�شعر‬
‫الغنيات وحماوالت الختالق اجلديد منها‪.‬‬ ‫و�إكمالها‪ ،‬تذكر أ‬
‫�شفاء �صبية مل تكن قد جتاوزت الع�رشين حني اعتقلت‬
‫ال�سالميات من مواليد ‪ 1961‬اعتقلت‬
‫(‪� )107‬شفاء‪ .‬ع‪ :‬معتقلة من املعتقالت إ‬
‫من �سنة ‪ 1981‬وحتى �سنة ‪ 1986‬بفرع أ‬
‫المن‪.‬‬

‫‪191‬‬
‫كرهينة عن زوجها‪ ،‬وكان �صديق ًا ألخيها‪ .‬كانت تدر�س‬
‫الدب العربي يف اجلامعة‪ ،‬وزواجها‪ ،‬الذي مل ي�ستمر �سوى‬ ‫أ‬
‫�سنة واحدة‪ ،‬انتهى باعتقالها وهرب زوجها �إىل بلد جماور‪.‬‬
‫هناك يف عتمة ال�سجون تعلمت هند �أال مكان‬
‫للراء امل�سبقة‪ ،‬كلها ترتاجع ل�صالح احلياة‬ ‫لليديولوجيات �أو آ‬ ‫إ‬
‫الن�سان‪ .‬يبقى الو�ضع �أن املعتقلة م�ضطرة ملعاي�شة �أنا�س‬ ‫وحقيقة إ‬
‫يف احليز ال�ضيق نف�سه من املكان �شاءت ذلك �أم �أبت‪.‬‬
‫�إن�سان إلن�سان ال غري‪ ..‬معتقلة ملعتقلة ال غري‪.‬‬
‫يف االعتقال الثاين �سنة ‪ 1984‬نقلت هند‪.‬ق‪ ،‬بعد �شهرين‬
‫ال�سالميات يف �سجن‬ ‫المن‪� ،1‬إىل مهجع املعتقالت إ‬ ‫يف فرع أ‬
‫الن�ساء املدين‪ ..‬كانت كالداخل �إىل حقل �ألغام‪.‬‬
‫ال�سالميات‪ ،‬حاملا ملحنها واجلة �إىل باحة ال�سجن‬ ‫راحت إ‬
‫الداخلية‪ ،‬يهم�سن لل�رشطي القادم بها �أال ي�ضعها يف مهجعهن‪،‬‬
‫�إذا كان عليه �أن ي�ضعها يف مهجع ما فلي�ضعها �إما يف مهجع‬
‫القتل �أو احل�شي�ش �أو الدعارة‪ ،‬ذلك �أن لفظة �شيوعية بالن�سبة‬
‫والحلاد‪.‬‬‫�إليهن كانت تعني �شيئ ًا واحداً‪ :‬الكفر إ‬
‫لكن ال�سجان‪ ،‬ل�سبب ما بالت أ�كيد‪ ،‬و�ضع هند يف مهجع‬
‫ال�سالميات‪ ،‬و�أغلق عليها الباب‪.‬‬ ‫إ‬
‫هناك ظلت هند حوايل ثالث �سنوات‪.‬‬
‫رمبا ي�ستطيع املرء �أن يداري حقيقته الداخلية �شهراً �أو‬
‫�شهرين‪ ،‬لكن من ال�صعب �أن يداريها ل�سنوات‪ .‬هناك يف‬

‫‪192‬‬
‫الن�سان‪ ،‬تنك�شف كل دواخله‪ ،‬كل ما حاول‬ ‫ال�سجن يتعرى إ‬
‫الهروب منه من م�شاكل داخلية تظهر �إىل ال�سطح‪ ،‬تتعرى‪،‬‬
‫الخرين‪.‬‬ ‫وتف�ضحه �أمام آ‬
‫ال�سالميات كان ي�ضم �أربع ع�رشة معتقلة وهي‬ ‫مهجع إ‬
‫العمار والطبقات‪ ،‬خمتلفات يف‬ ‫اخلام�سة ع�رشة‪ ،‬خمتلفات يف أ‬
‫مرت‬‫الخريات ّ‬ ‫المزجة والت�رصفات‪ ،‬والعالقة بينها وبني أ‬ ‫أ‬
‫مبخا�ضات طويلة وع�سرية حتى ا�ستقامت يف النهاية عالقات‬
‫ودية مع معظمهن‪.‬‬
‫معتقلتان‪ ،‬مل تتجاوزا الع�رشين من عمرهما‪� ،‬أ�صبحتا‬
‫�صديقتني لهند وراحتا تف�شيان �أ�رسارهما �أمامها‪.‬‬
‫ال�سالمية‪ ،‬وكانت يف ال�صف الثاين الثانوي حني‬ ‫تلك إ‬
‫الخرية‬‫اعتقلت‪� ،‬أ�ضحت �صديقة هند العزيزة‪ ،‬وكانت أ‬
‫�شكل منعطف ًا يف عالقتهما‪ :‬جلب‬ ‫حا�رضة يف ذاك اليوم الذي ّ‬
‫�أهل ال�صبية‪ ،‬يف �أول زيارة لهم‪ ،‬م�سجلة كانت �سعيدة بها‬
‫للغاية‪ ،‬و�أدارت قفلها لت�ستمع �إىل �أغنية ما وهي تدخل املهجع‬
‫عائدة من الزيارة‪ .‬كانت تتمايل حتت ع�صف �أحد أ‬
‫الحلان‬
‫حني خطفت �إحدى احلاجات امل�سجلة من يدها ورمتها على‬
‫الر�ض لتتحطم �إىل قطع‪:‬‬‫أ‬
‫‪ -‬هذه �أداة للف�سق‪ ..‬كان الزم اك�رسها‪.‬‬
‫�أجابت احلاجة على بكاء ال�صبية الهي�ستريي وعلى‬
‫ال�سالميات يف املهجع‪.‬‬ ‫اعرتا�ضات بع�ض إ‬

‫‪193‬‬
‫�أما ال�صغرية �سمية(‪ )108‬فقد �رصن مع الوقت يطلقن عليها‪:‬‬
‫بنت هند‪.‬‬
‫حني كان �أهل هند يزورونها كانوا ي أ�خذون ال�صغرية يف‬
‫م�شوار ق�صري حول مبنى ال�سجن‪ ،‬ذلك �أن ال�صغرية ون�ساء‬
‫عائلتها مل يكن ي أ�تيهن زيارات البتة‪ .‬لكن املفاجئ �أن �سمية‬
‫حد الرعب من العامل اخلارجي‪ ،‬تبقى طيلة فرتة‬ ‫كانت تخاف ّ‬
‫رحلتها منكم�شة تراقب اخلارج بتوج�س وريبة‪ ،‬وال يعود‬
‫وجهها ال�صغري �إىل �أمانه حتى تدخل باب ال�سجن من جديد‪.‬‬
‫جلبوا لل�صغرية املحرومة من الزيارات(‪� )109‬ألعاب ًا وكتب ًا‬
‫للطفال و�أرجوحة ن�صبت يف منت�صف املهجع‪.‬‬ ‫وكا�سيتات أ‬
‫و�أخرياً كانت الفرحة الكربى حني �أهديت دراجة هوائية‬
‫لتلعب بها يف باحة ال�سجن �أثناء فتح �أبواب املهاجع‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫الوىل من معتقالت �سنة ‪ 1987‬يف‬ ‫وقت قدمت الدفعة أ‬
‫المن‪� 1‬أ�صبح عدد ال�شيوعيات يف �سجن الن�ساء خم�س‬ ‫فرع أ‬
‫معتقالت وهن‪ :‬فاطمة‪.‬ع(‪� ،)110‬أم كرم (زهرة‪.‬ك)(‪،)111‬‬
‫(‪�)108‬سمية ابنة �سلوى ‪.‬ح التي �أوردت ق�صتها كام ً‬
‫ال يف ف�صول �سابقة‪.‬‬
‫(‪ )109‬حتى حني فتحت الزيارات مل يكن لتلك العائلة �أي قريب يف اخلارج‬
‫ليزورهم بعد �أن دمرت العائلة بالكامل‪.‬‬
‫(‪ )110‬فاطمة‪ .‬ع معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1964‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى ‪.1991‬‬
‫(‪ )111‬من �أكرب املعتقالت ال�شيوعيات من مواليد الثالثينيات اعتقلت من �سنة‬
‫‪ 1987‬وحتى �سنة ‪ 1991‬وتوفيت بعد �إطالق �رساحها‪.‬‬

‫‪194‬‬
‫�شفق‪.‬ع(‪ ،)112‬وح�سيبة‪.‬ع‪.‬‬
‫بداية‪ ،‬مت و�ضعهن يف مهجع القتل‪ ،‬وهناك بقيت ح�سيبة‬
‫أ‬
‫كالخريات �شهوراً طويلة‪.‬‬
‫ال�سالميات ي أ�تني من مهجعهن املجاور‬ ‫كانت املعتقالت إ‬
‫�إىل مهجع القتل لزيارتها‪ ..‬ن� أش�ت عالقات طيبة بني تلك‬
‫وال�سالميات‪� .‬أما ال�صديقة املقربة لها فقد كانت‬ ‫ال�شيوعية إ‬
‫طبيبة �أخوانية تكتب ال�شعر ا�سمها‪ :‬غزوة‪.‬ك ‪.‬‬
‫(‪)113‬‬

‫عزيزة‪.‬ج(‪ )114‬كانت تقود �صالة اجلماعة يف املهجع �إال �أن‬


‫تخط طريقها بينها وبني ح�سيبة على‬ ‫عالقة ما ا�ستطاعت �أن ّ‬
‫المر‪ .‬لكنه حدث‪.‬‬ ‫الرغم من ا�ستحالة أ‬
‫(‪� )112‬شفق‪ .‬ع (�شفيقة) معتقلة من مواليد ‪ 1959‬اعتقلت من �سنة ‪1986‬‬
‫وحتى �سنة ‪ 1989‬حيث �أطلق �رساحها بناء على تقرير اللجنة الطبية وب�سبب‬
‫المر بعد �أن اعتقلت تاركة ابنتها ال�صغرية‬‫و�ضعها النف�سي املرتدي‪ .‬وقد بد�أ أ‬
‫خارج ًا وزوجها املعتقل‪ ،‬ثم و�ضعت حوايل ال�شهرين يف املنفردة بعد اعتقالها‬
‫و�صارت تتطور وكان الت�شخي�ص هو ف�صام تق�ضي الوقت الطويل يف هدوء‬
‫�شديد ت�صفن وهي تفتح عينيها على �سعتهما ثم ي�صيبها حاالت هياج �شديدة‬
‫للدوية من نوباتها املتتالية حتى و�صل أ‬
‫المر �إىل �أن‬ ‫ومل مينع �أخذها املتزايد أ‬
‫حتمل �سكين ًا لتدافع عن نف�سها �ضد �أعداء وهميني ت�شعر �أنها حما�رصة �أمامهم‪.‬‬
‫(‪ )113‬غزوة ‪.‬ك‪ :‬معتقلة �سيا�سية �إ�سالمية وهي طبيبة من مواليد ‪ 1964‬اعتقلت‬
‫من �سنة ‪ 1981‬وحتى �سنة ‪.1989‬‬ ‫ج‬

‫(‪)114‬عزيزة ‪.‬ج‪ :‬معتقلة �إ�سالمية رهينة عن زوجها النقيب �إبراهيم اليو�سف‬


‫ال �سجنت يف‬ ‫منفذ عملية املدفعية‪ .‬اعتقلت مرتني يف املرة الثانية كانت حام ً‬
‫ثكنة هنانو‪ .‬ثم اعتقلت للمرة الثالثة حني كان ابنها �إ�سماعيل يف ال�شهر الثامن‬
‫من عمره وبقيا يف املنفردة يف �أحد ال�سجون ال�شمالية مدة �أربع �سنوات‪.‬‬
‫المن‪ 2‬الع�سكري ملدة ثمانية‬ ‫نقلت من ثم بعد عملية مترد يف ال�سجن �إىل فرع أ‬
‫�أ�شهر ثم �إىل �سجن الن�ساء‪� .‬أطلق �رساحها يف �سنة ‪.1991‬‬

‫‪195‬‬
‫حني كانتا تغ�سالن الثياب �سوية ت�س أ�لها ح�سيبة‪:‬‬
‫�سبعت الغ�سيل؟!‬ ‫‪ّ -‬‬
‫والمر م أ�خوذ عن‬ ‫كناية عن منط الغ�سيل باملاء �سبع مرات‪ ،‬أ‬
‫حديث للر�سول حممد‪.‬‬
‫ابت�سامة عزيزة كانت الرد الوحيد على ممازحة ح�سيبة‪.‬‬
‫ا�شرتكت املعتقلتان يف الكثري من �أ�شياء احلياة وتفا�صيل‬
‫الن�سان هو‬ ‫االعتقال اليومية‪ .‬ذلك �أن املعتقل يجعل داخل إ‬
‫الن�سان يف‬ ‫الهم‪ ،‬املزاج ال�شخ�صي هو احلاكم‪ ،‬ومعدن إ‬ ‫أ‬
‫اليديولوجيات‪.‬‬ ‫تفا�صيل عي�شه اليومي ولي�س إ‬
‫بعد ذلك مت نقل جميع املعتقالت ال�سيا�سيات بكافة‬
‫الخر‪.‬‬‫�أطيافهن �إىل �سجن الن�ساء املدين آ‬
‫ال�سالميات املهجع رقم ‪3‬و‪ ،4‬فيما‬ ‫هناك �أخذت إ‬
‫�أقامت ال�شيوعيات يف املهجع رقم ‪� .6‬أما املهجع ‪ 7‬فقد‬
‫كان لل�شيوعيات والق�ضائيات مع ًا‪ ،‬هذا ما جعل العالقة بني‬
‫ال�سجينات تعود �إىل �سابق عهدها فاترة نوع ًا ما‪ .‬لكن ذلك‬
‫مل مينع الطبيبة ال�شيوعية‪ :‬متا�رض‪.‬ع(‪ )115‬من �أن تكون طبيبة‬
‫ال�سالميات وال�شيوعيات والق�ضائيات ب�آن‪ .‬حني كانت‬ ‫إ‬
‫المن‪� ،1‬أو حني نقلت �إىل �سجن الن�ساء‪ ،‬مل متنعها‬ ‫يف فرع أ‬

‫(‪ )115‬متا�رض‪ .‬ع ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪� ،1961‬أخذت رهينة يف‬


‫�سنة‪ ،1987‬وكانت قد تخرجت من كلية الطب للتو‪ ،‬وملا رف�ضت التعاون‬
‫مع اجلهات أ‬
‫المنية‪ ،‬ومل تقم بت�سليم �صديقها املالحق‪ ،‬بقيت معتقلة حتى �سنة‬
‫‪ 1991‬حيث �أطلق �رساحها مع بقية املعتقالت من �سجن الن�ساء‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫تهمة املعتقلة املري�ضة‪� ،‬أي ًا كانت‪ ،‬من ال�سهر بجانبها ل�ساعات‬
‫طوال‪.‬‬
‫يف �سجن الن�ساء كتبت هند‪.‬ق ن�ص ًا حكت فيه عن بداية‬
‫ال�سالميات‪:‬‬ ‫العالقة بينها وبني املعتقالت إ‬
‫(كدوي فتح باب زنزانتي ‪ :‬تعي فوراً‪..‬‬
‫المن‪ 2‬الع�سكري ‪:‬‬ ‫ووجه ًا لوجه �رصت �أمام رئي�س فرع أ‬
‫‪� -‬شو يا هند‪� ,‬إلك عنا �ستة �شهور ما خدنا منك ال حق‬
‫وال باطل‪ .‬مفكرة �إذا ما حكيتي �شي راح نطلعك‪ ,‬واهلل‬
‫خللي ال�سجن ي أ�كل من حلمك �شقف‪� ..‬إنت واحده منا�ضله‪,‬‬
‫نا�ضجة ومثقفه‪ ,‬ب�س ناق�صك �شغله واحده‪ ,‬ناق�صك ثقافة‬
‫البطرونات (البرتونات) وال�رشاميط! راح ابعتك عا�سجن‬
‫الق�ضائيات ب�سجن الن�ساء م�شان تكملي ثقافتك‪� ,‬شو ر�أيك‬
‫؟ واهلل الرميكي رمية الكالب‪ ,‬وتختخ عظامك‪ ,‬وخليكي‬
‫مزتوته ليطلعو رفقاتك ال�شباب بال�سجن بتتطلعي معهم‪.‬‬
‫روحي تثقفي ب�سجن الن�ساء ونا�ضلي بني الربوليتاريا تبعكم‪,‬‬
‫الزرق ما يعرف‬ ‫دعارة وح�شي�ش وقتل و و‪ ...‬واهلل خللي اجلن أ‬
‫وينك‪ ...‬انقلعي ‪...‬خذوها‪.‬‬
‫عدت لزنزانتي �أ�ضحك يف عبي‪� .‬أخرياً انتهيت من التحقيق‬
‫والتعذيب‪ ،‬و�أ�صوات التعذيب �أي�ض ًا‪.‬‬
‫مل �أفكر بكلماته �أبداً‪� :‬سجن الن�ساء!!‪ ..‬م�ستحيل‪ .‬بادره‬
‫ال�سالميات �أما نحن‬‫مل حت�صل �سابق ًا‪ .‬هناك بع�ض ال�سيا�سيات إ‬

‫‪197‬‬
‫ال‪ .‬اعتربت كالمه نوعا من التهديد‪ ,‬كالم بكالم‪� .‬صار ذهني‬
‫كالزمربك‪� ,‬أكيد �سيخلي �سبيلي‪� ..‬إفراج‪ ,‬لي�ش أل‪ ,‬ما علي‬
‫�شي‪.‬‬
‫�أخذت نف�س ًا عميق ًا‪ ,‬حاولت اال�ستلقاء‪ ,‬ما كاد ج�سدي‬
‫الر�ض حتى اقتحم ال�سجان مملكتي‪:‬‬ ‫يالم�س أ‬
‫�ضبي غرا�ضك ويال قومي‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬‬
‫كلب�شوين‪ ,‬وو�ضعوا الطمي�شة على عيني‪� ,‬أدخلوين القف�ص‬
‫و�ساقوين ل�سجن الن�ساء‪.‬‬
‫الحياء فوق‪ :‬ال�شم�س‪ ,‬ال�سماء‪,‬‬ ‫كم ت�شوقت �إىل عامل أ‬
‫الطفال بلبا�سهم املدر�سي‪.‬‬‫ال�شجر‪ ,‬وجوه املارة‪ ,‬أ‬
‫ال�شياء يف طريقي‪ .‬تزاحمت‬ ‫مل ي�ستوقفني �أي من هذه أ‬
‫علي‪� :‬س أ�لتقي �أولئك‬ ‫أ‬
‫ال�سئلة‪ ،‬و�س ؤ�ال وحيد �أرعبني و�سيطر ّ‬
‫الن�سوة ؟!! ن�سوة الكتب والكتاب؟ ال ال ال �أ�صدق‪ .‬عامل‬
‫الكتب �شيء والواقع �شيء �آخر‪.‬‬
‫اق�شعر بدين‪ ,‬خوف‪ ,‬ذعر‪ ,‬توتر‪ ,‬ال �أ�صدق وجه ًا لوجه مع‬
‫عامل الن�سوة هذا ؟ ويف مكان واحد وزمن واحد‪ ,‬يف دوامتي‬
‫هذه!! جاءين �صوته ‪:‬‬
‫‪ -‬و�صلنا يال انزيل ‪.‬‬
‫ماذا ؟ و�صلنا! بهذه ال�رسعة‪ ,‬ثوان‪ ,‬م�ستحيل‪,‬عاد ال�صوت‬
‫�أقوى‪:‬‬
‫‪� -‬شو ما �سمعت‪ ,‬انزيل بقا‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫و‪ ..‬نزلت‪.‬‬
‫ا�ستقبلني ال�رشطي منفوخ ًا �أمامهم ي�سبق كالمه ج�سده‪:‬‬
‫‪ -‬خرجك‪� ,‬شو حم�سبي البلد �سايبه‪.‬‬
‫ختم �صك عبوديتي‪ ,‬و�أ�سلمني لدهاليز �سجن الن�ساء‪.‬‬
‫كم من �أبواب احلديد وال�شبك!!‬
‫ال �أعرف كيف �رصت يف باحة ال�سجن‪ ,‬تراجعت مذعورة‬
‫والت�صق ظهري ببابه‪ .‬تراك�ضت الن�سوة‪ ,‬وكبلهاء وقفت دون‬
‫حراك‪� ,‬ضممت كي�س �أغرا�ضي وع�رصته بيدي‪ ،‬ك أ�نني �أحمي‬
‫نف�سي من �شيء ما‪.‬‬
‫�أ�صواتهم تلت�صق بي‪� :‬سيا�سيه!! �شكال �سيا�سيه‪� ...‬شويف‬
‫ثيابها واهلل �سيا�سيه‪.‬‬
‫معهم حق‪ ،‬كيف ال‪ ..‬و�صلت يف �شهر �آب وكنت �ألب�س‬
‫بنطال جوخ وفيلد �شتوي‪ ,‬ولوين �أ�صفر باهت‪ ,‬و�شعر منفو�ش‪,‬‬
‫وكي�س �صغري فيه ممتلكاتي‪ :‬ك أ��س و�صحن ودخان ومن�شفة‪.‬‬
‫اليدي والوجوه‬ ‫تكومت الن�سوة فوقي‪ ،‬واختلطت أ‬
‫وال�صوات‪:‬‬ ‫أ‬
‫‪ -‬تهمتي ح�شي�ش‪..‬‬
‫‪� -‬أنا �رسقة‪ ..‬وهي دعارة‪..‬‬
‫‪� -‬أما �أنا قتل‪..‬‬
‫‪ -‬ال تخايف نحن ما منخوف‪..‬‬
‫‪ -‬هي كر�سي اقعدي ارتاحي‪..‬‬

‫‪199‬‬
‫‪ -‬بدك قهوة و ّال �شاي؟‪ ..‬بدك كا�سة مي؟‬
‫‪ -‬قدي�ش �إلك بال�سجن؟‪..‬‬
‫‪ -‬ما حدا معك‪..‬؟!!!‬
‫هطلت �أ�سئلتهم كالر�صا�ص و�أنا املذعورة‪� ,‬أتقلقز على‬
‫�أقدامي‪� ,‬أخافهم‪ ،‬ال �أريد مل�سهم وال كالمهم وال حتى‬
‫�ضيافتهم‪ .‬حاولت االبتعاد عنهم‪� ,‬أردت �أن �أ�رصخ ‪ :‬ح ّلوا‬
‫عني‪.‬‬
‫عرب�ش الكالم بحنجرتي واختنقت‪ ,‬فع�رصت كي�سي بكل‬
‫ما تبقى يل من قوة وهر�سته‪ ،‬مت�سكت به كغريق يتعلق بق�شه‪،‬‬
‫ون�سوة الكتب حويل يروحون وي أ�تون‪� .‬ضجيج‪� ،‬صخب‪،‬‬
‫وكالمهم يرتطم على ر�أ�سي على ج�سدي‪ ،‬ومل يعدين لر�شدي‬
‫�إال �صوت جهوري ووقح‪ :‬ك�ش ّبره وبعيد‪ ,‬ناق�صنا كافره‪,‬‬
‫حطها بالغرفة الثانية‪.‬‬
‫حل خويف وتوتري بني ه ؤ�الء الن�سوة ن�سوة الكتب‪,‬‬ ‫فج أ�ة ّ‬
‫وقع الكي�س من يدي‪ ,‬أللتفت باجتاه ال�صوت اللعني‪ ,‬وفهمت‬
‫ال�سالميات ال�سيا�سيات‪.‬‬ ‫كل �شيء‪ .‬كان ال�صوت من غرف إ‬
‫مقفلة كانت غرفهم حيث ال اختالط بالتنف�س‪ .‬ن�صف النهار‬
‫الخر للق�ضائيات‪ .‬لكنهن يرين كل‬ ‫لل�سيا�سيات‪ ،‬والن�صف أ‬
‫�شيء من �شبك �أبواب احلديد‪� .‬أذعن ال�رشطي وذهب للغرفة‬
‫الثانية‪� ,‬سبقه �صوت �آخر رمبا �أقوى ورمبا �أوقح‪:‬‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬حطها مع الق�ضائيات‪ ,‬مكانا مو عنا‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫ون�ساء الكتب مازالوا يحومون حويل‪� ,‬أ�سمع هم�س‬
‫كلماتهم‪:‬‬
‫‪ -‬يا حرام حلالها لو معا حدى‪ ,‬بكره بجننوها‪ ,‬يا حرام‪.‬‬
‫ج�سدي يرتنح‪� ,‬أذناي تلتقط �أن�صاف الكالم‪ ,‬وعيني‬
‫تراقب امل�شهد‪ ,‬وال�رشطي ال حول له وال قوة �أمام �سالطني‬
‫املال والدين‪ ,‬ون�سوة الكتب حويل‪ ,‬ون�سوة ال�سيا�سة يف‬
‫�أوكارها متلي على ال�رشطي مهمته‪ .‬و�أنا ‪� ..‬أين �أنا من هذا ؟‬
‫و�أي عامل من القذارة هذا؟؟!!‬
‫عند امل�ساء‪ ,‬وبعد �أن فر�ضت فر�ض ًا يف �إحدى غرف‬
‫ال�سالميات‪ ,‬تكور ج�سدي املتعب احلزين يف فرا�شي‪ ,‬وكي�سي‬ ‫إ‬
‫املقهور يالزمني ك�صديق يوا�سيني‪ ،‬ي ؤ�ازرين‪ ,‬ويحميني‪.‬‬
‫ويف عتمة الليل‪ ,‬هرب النوم مني‪ ,‬ف أ�خذت �أعد الثواين‪,‬‬
‫منتظرة بفارغ ال�صرب خيوط الفجر ألهرول عند ن�سوة الكتب‪,‬‬
‫نعم ن�سوة الكتب الت�صق بهم‪ ,‬و�أعتذر‪� ,‬أجل‪� ..‬أعتذر منهم‪.‬‬
‫ورمبا ‪...‬‬
‫رمبا‪� ...‬أبكي على �صدر �إحداهن)‬
‫�سجن الن�ساء ‪1984/8/17‬‬ ‫ ‬

‫المن‪ ،1‬ويف نهايات الثمانينيات‪ ،‬اعتقلت‬ ‫يف فرع أ‬


‫اللبنانيات العرفاتيات مع ال�شيوعيات والكتائبيات ومتهمات‬
‫بعث العراق واللواتي اتهمن بالدعارة ال�سيا�سية‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫كانت هناك �أختان‪ ،‬تبلغ �إحداهما ال�سابعة ع�رشة والثانية‬
‫ال�ساد�سة ع�رشة‪ ،‬ا�سمهما بديعة وماري‪.‬‬
‫فتاة مل تبلغ ال�ساد�سة ع�رشة بعد متهمة ب أ�نها عملت مع‬
‫القوات اللبنانية‪.‬‬
‫ال�سجن ال�سيا�سي كان تعبرياً حقيقي ًا عن ف�سيف�ساء املجتمع‬
‫بكل طوائفه و�أديانه‪ ،‬بكل اجتاهاته ال�سيا�سية والفكرية‬
‫واالجتماعية‪ ،‬ال�سجن‪ ،‬ويا لل�سخرية‪ ،‬كان نواة حقيقية‬
‫ملجتمع مدين حلم‪.‬‬
‫الربعينيات‪ ،‬ممتلئة ذات‬ ‫�أم حممود العرفاتية �سيدة يف نهاية أ‬
‫وجه جميل‪ ،‬تد�أب على فتح ّقبة ثوبها الطويل لتك�شف عن‬
‫البي�ض‪ .‬الوقت مي�ضي ب�رسعة فيما تتحدث �أم‬ ‫�صدرها العارم أ‬
‫حممود‪ ،‬وهي دائم ًا تتحدث‪ ،‬عن تفا�صيل عالقتها بزوجها‪،‬‬
‫والخر‪ .‬الطعام‬ ‫وترمي النكات اجلن�سية املثرية بني احلني آ‬
‫واجلن�س هما كل ما ي�شغل �أم حممود يف مكان تنتفي فيه متعة‬
‫الطعام وغواية اجلن�س!‬
‫�أما املكان املف�ضل �إليها فكان على ال�سقيفة فوق‬
‫تطل على الكوريدور وتراقب ال�سجانة‬ ‫املزدوجات‪ ،‬حيث ّ‬
‫واملعتقلني الغادين والرائحني‪.‬‬
‫�أما �أميمة فقد كانت فنانة فل�سطينية �أردنية من ال�ضفة‬
‫الغربية‪ ،‬اتهمت بالعمالة املزدوجة‪ ،‬واعتقلت يف �سجون‬
‫�إ�رسائيل ملدة �ستة �أ�شهر‪ .‬حني جاءت �إىل البلد اعتقلت بتهمة‬

‫‪202‬‬
‫التج�س�س ل�شهور �أي�ضاً‪� .‬أحبت �شاب ًا درزي ًا من عرب الـ ‪،48‬‬
‫وهي تدر�س يف جامعة نابل�س‪ ،‬وحني اعتقلت يف �إ�رسائيل‬
‫�أخذوها �إىل مكتب ال�ضابط هناك‪� ،‬أعطوها �إبراً �أ ّدت �إىل‬
‫تنوميها فرتة طويلة‪ ،‬ظلت �أميمة �شهوراً بعدها تتعالج من‬
‫البر �إىل م�سح كامل يف‬ ‫فقدان الذاكرة‪ ،‬وقد �أدت تلك إ‬
‫ذاكرتها‪.‬‬
‫ال �أحد يذكر �أميمة �إال وهي مرتبعة على �أر�ض الزنزانة‬
‫تغني ب�صوت عال �أهزوجة فل�سطينية‪:‬‬
‫خو�ش بو�ش‪ ..‬خو�ش بو�ش‪..‬‬
‫أ�نا و�شامري بنف�س احلو�ش‪.‬‬
‫ر�سمت يف عيد ر�أ�س ال�سنة بابا نويل وهو يحمل كي�س ًا‬
‫تراهن‬
‫ّ‬ ‫كبرياً من الربغل‪ .‬كما ر�سمت ال�صبايا من فوق‪ ،‬وهي‬
‫من ال�سقيفة‪ ،‬يتكئن على حائط املزدوجة الداخلي م�صطفات‬
‫بجانب بع�ضهن يعملن ب�سنانري ال�صوف‪ ،‬تبدو ر ؤ�و�سهن‬
‫من فوق‪� ،‬أياديهن املنهمكة‪ ،‬واخليوط التي تتحول �إىل ثياب‬
‫ملونة‪.‬‬
‫�أما العجوز اللبنانية ال�سبعينية‪ ،‬املتهمة بانتمائها �إىل حزب‬
‫بعث العراق‪ ،‬فقد كانت تقعد يف زاوية الزنزانة بجانب الباب‬
‫ألن الربو مينعها من التنف�س جيداً‪.‬‬
‫الخريات يغنني لها �أغنية‬ ‫كانت بثينة‪.‬ت وال�صبايا أ‬
‫فريوز‪:‬‬

‫‪203‬‬
‫بيتك يا �ستي اخلتيارة بيذكرين ببيت �ستي‬
‫ال منعتها من النطق جيداً‪ ،‬لذا‬ ‫اجللطة التي تعر�ضت لها قب ً‬
‫فلم يكن ي�سمع منها �إال �أ�صوات مبهمة عالية‪� .‬أما م�شهدها‪،‬‬
‫وال�صبايا يحملنها �إىل ال�سقيفة بعد �أن �أنهني حمامها‪ ،‬فقد‬
‫كان م أ�لوف ًا على مدى �شهور اعتقلت فيها تلك العجوز يف‬
‫فرع أ‬
‫المن‪.1‬‬
‫‪...‬‬
‫المن امر�أة ق�صرية‬ ‫يف �أواخر الثمانينيات قدمت �إىل فرع أ‬
‫ال �ضيق ًا وبلوزة ق�صرية‪ ،‬كان ا�سمها عهد‪.‬‬ ‫بدينة‪ ،‬ترتدي بنطا ً‬
‫ع‪.‬‬
‫وعهد من مدينة �شمالية تنتمي �إىل بيئة �شعبية و�أ�رسة حمافظة‬
‫فقرية‪ .‬والدها كان يكتب احلجابات‪ ،‬وقد �أجربت هناك‬
‫على لب�س مالية اللف ال�سوداء‪ .‬اجلو املغلق اخلانق جعل عهداً‬
‫الربعة وتهرب مع ابن جريانها �إىل لبنان‪ ،‬ألنها‬ ‫ترتك �أوالدها أ‬
‫�أرادت‪ ،‬كما عربت �أمام املعتقالت مراراً‪� ،‬أن ترتدي بنطلون‬
‫اجلينز وبلوزة بن�صف كم ال غري‪.‬‬
‫هناك تركها ال�شاب وهرب لت�صبح وحدها متام ًا يف بلد ال‬
‫تعرف فيه �أحداً‪ .‬قررت‪ ،‬يف حلظة ما‪� ،‬أن تذهب �إىل اجلنوب‬
‫وتقوم بعملية انتحارية هناك!‬
‫على الطريق �أم�سك بها بع�ض ال�شباب من مع�سكر‬
‫العرفاتيني لتقعد يف خدمتهم �شهوراً طويلة‪ .‬ومن ثم قاموا‬

‫‪204‬‬
‫بت�سليمها �إىل �أفراد من جي�ش بلدها لت�صل �أخرياً �إىل فرع‬
‫المن‪.‬‬ ‫أ‬
‫حني �أدخلت عهد �إىل املزدوجات كان ينبغي عليها �أن‬
‫متار�س طق�س ًا تقوم به كل معتقلة جديدة‪� :‬أن ت�ستحم �أو ً‬
‫ال‪،‬‬
‫القدم‬‫ومن ثم ترتدي ثياب ًا نظيفة تعطيها �إياها املعتقالت أ‬
‫هناك‪.‬‬
‫كانت عهد تعاين من اجلرب املنت�رش يف كامل ج�سمها‪.‬‬
‫�س أ�لنها �إن كان هناك قمل يف �شعرها ف أ�جابت‪:‬‬
‫المر‪.‬‬ ‫‪ -‬ال يخلو أ‬
‫و�ضعن على �شعرها �شامبو �ضد القمل‪ .‬بعد احلمام �صار‬
‫البي�ض على‬ ‫القمل ينزل من �شعرها‪ ،‬وهن مي�شطنها‪ ،‬كاملطر أ‬
‫�أر�ض املزدوجات‪.‬‬
‫�س أ�لنها �أي�ض ًا �إن كان ثمة �أمرا�ض �أخرى تعاين منها غري‬
‫القمل واجلرب ف أ�جابت‪:‬‬
‫المر؟‬ ‫‪ -‬ال يخلو أ‬
‫‪... -‬؟‬
‫‪ -‬ينزل يل �أحيان ًا من حتت �شلخات �شلخات‪..‬‬
‫�إحدى املمر�ضات ال�شيوعيات‪ ،‬وهي ملك‪.‬خ‪ ،‬راحت‬
‫تدقق يف �إجابات عهد‪ ،‬تالحقها أ‬
‫بال�سئلة واال�ستف�سارات‬
‫عن و�ضعها و�أعرا�ض مر�ضها‪� ..‬أخرياً قفلت ملك عائدة‪،‬‬
‫الخريات �أال يقربن‬ ‫كان وجهها �أ�صفر �شاحب ًا وهي تخرب أ‬

‫‪205‬‬
‫عهد �أبداً فقد كانت م�صابة بالزهري‪.‬‬
‫تلك الليلة حجزت البنات عهداً يف حجرة من حجرات‬
‫الربع حتى ال�صباح‪ .‬ويف ال�صباح طلنب من مدير‬ ‫املزدوجات أ‬
‫المر ب�رسعة و�إال �سينتقل الزهري �إىل جميع‬ ‫حل أ‬‫ال�سجن ّ‬
‫البنات يف الزنزانة‪.‬‬
‫و�ضعت عهد يف زنزانة منفردة ملدة �أربعة �أ�شهر ريثما متت‬
‫معاجلتها متاماً‪ ،‬ومن ثم �أعيدت �إىل املزدوجات من جديد‪.‬‬

‫‪206‬‬
‫‪1992‬‬

‫�إىل �أي مدى ت�ستطيع املعتقلة‪ ،‬يف ظل ظروف م�شابهة‬


‫لظروف املعتقل‪� ،‬أن تقرر ب أ�ي اجتاه �ست�سري نف�سي ًا وروحي ًا‬
‫وج�سدي ًا‪.‬‬
‫كم هي بحاجة‪ ،‬من �أجل ذلك القرار‪� ،‬إىل جرعة كبرية‬
‫من احلرية الروحية التي ال ميكن ألحد �أخذها منها على الرغم‬
‫معنى‬
‫ً‬ ‫كل �شيء‪ .‬تلك احلرية الروحية‪ ،‬وحدها‪ ،‬جتعل للحياة‬
‫وهدف ًا‪� ..‬أي باخت�صار �إميان ًا بامل�ستقبل‪.‬‬
‫مل جتتمع روزيت‪.‬ع طيلة اعتقالها الثاين‪ ،‬الذي ا�ستمر‬
‫المن‪ ،1‬مع معتقالت �سيا�سيات‪ .‬كانت‬ ‫ل�سنة تقريب ًا يف فرع أ‬

‫‪207‬‬
‫المر هكذا‬ ‫ال�سجينة الدائمة معها امر�أة متهمة بالتج�س�س! بقي أ‬
‫حتى جاءت تلك الفتاة الكردية ال�سمراء‪ :‬مهريبان جي جيك‪،‬‬
‫املعروفة با�سمها احلركي �أزميا (عظيمة) من حزب العمال‬
‫الكرد�ستاين (‪.)p.p.k‬‬
‫الثرية بلبا�سها الع�سكري الذي مل‬ ‫�أزميا �أ�ضحت رفيقتي أ‬
‫تخلعه يوم ًا‪ ،‬وعينيها الكرديتني اجلميلتني‪ ،‬وكتابها املف�ضل‬
‫الذي جلبته معها ومل يكن يفارقها‪ ،‬كتاب‪( :‬قائد و�شعب) عن‬
‫�أوجالن‪.‬‬
‫طيلة �شهرين‪ ،‬ق�ضتهما �أزميا يف الزنزانة‪ ،‬كان ال�سجن مي�ضي‬
‫ب�شكل خمتلف‪ ،‬حميم وفاعل وم ؤ�ثر‪ ،‬خا�صة و�أين بقيت حوايل‬
‫ال�شهرين دون �أن �أخرج �إىل التنف�س‪ ،‬و�أكرث من �سبعة �أ�شهر دون‬
‫�أية زيارة‪.‬‬
‫خرجت �أزميا بعد �شهرين كما قلت‪ ،‬وبعد �سنوات جاءتني‬
‫�أخبار �أنها ان�ضمت للجي�ش الكردي يف �شمال العراق‪ ،‬وقتلت‬
‫هناك يف �إحدى املعارك‪.‬‬
‫ودب‪،‬‬
‫هب ّ‬ ‫كانت ال�سجينات يتوالني على الزنزانة ‪ ،‬ما ّ‬
‫(‪)116‬‬

‫يف كل يوم تدخل وجوه جديدة وتخرج �أخرى‪ ،‬تهم معظمهن‬


‫جتاوزات حدود من تركيا والعراق ولبنان وفل�سطني‪.‬‬
‫ن�ساء‪ ..‬ن�ساء‪.‬‬
‫(‪ )116‬الزنزانة كانت عبارة عن جمموعة من �أربع مزدوجات مفتوحة على‬
‫بع�ضها يغلق بابها اخلارجي فقط ملحق بها حمام وحمرك ال�سجان وكوريدور‬
‫�صغري بينها‪.‬‬

‫‪208‬‬
‫فاطمة املتهمة بالتج�س�س من النبطية‪.‬‬
‫�أم فواز وما حملته من �أحاديث عن املخيمات الفل�سطينية‪،‬‬
‫وعن الفقر واجلهل والعذابات التي يعانون منها‪.‬‬
‫ال�صول الديرية من‬ ‫وامر�أة ذاك الطيار العراقي الفار‪ ،‬ذي أ‬
‫بعث العراق‪ ،‬وكانت جميلة للغاية‪ ،‬مرت �أ�شهر اعتقالها دون‬
‫ت�رس ال با�سمها وال با�سم زوجها‪ ،‬ثم �صارت تتعرى لل�سجانة‬ ‫�أن ّ‬
‫يف ال�سقيفة ليال‪ ،‬وهم يراقبونها من الكوريدور اخلارجي‪.‬‬
‫ر�أيتها يوم ًا‪ ،‬وكنت قد ا�ستيقظت فج أ�ة بعد منت�صف الليل‪،‬‬
‫البي�ض يلتمع يف ظالم ال�سقيفة‪ .‬كانت قد خلعت‬ ‫وج�سدها أ‬
‫وتهم بخلع بنطالها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بلوزتها وظلت بال�ستيان فح�سب‪،‬‬
‫�أخرياً جاءت �إىل الزنزانة فتاة عراقية كردية‪ ،‬ال تتجاوز‬
‫التا�سعة ع�رشة من عمرها‪ ،‬متهمة بتجاوز احلدود �أي�ض ًا وقد‬
‫فرت من العراق‪.‬‬‫ّ‬
‫أ‬
‫دخلت تلك الفتاة الناعمة وهي حتجل �إىل الزنزانة‪� .‬قدامها‬
‫متف�سخة من التعذيب‪ .‬ثم ما لبثت �أن دخلت يف واحدة من‬
‫نوبات الربو املزمن‪ ،‬واحدة من نوبات كثرية �ستتالحق خالل‬
‫�شهرين �ستق�ضيهما يف الزنزانة‪.‬‬
‫الوك�سجني يفارق يد العراقية الكردية �أبداً‪.‬‬ ‫مل يكن بخاخ أ‬
‫ت�ستلقي يف ح�ضن روزيت‪ ،‬جتاهد كي تتنف�س م�ستعينة ببخات‬
‫متالحقة يف فمها‪.‬‬
‫يف يوم جاءتها النوبة وهي على ال�سقيفة فوق املزدوجات‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫�صار �صوتها خمنوق ًا وهي تنادي من هناك‪ .‬اعتقدت ال�سجينات‬
‫�أنها نوبة من نوباتها املتكررة‪ ،‬والتي تبالغ بها و�ستم�ضي‪ ،‬لكن‬
‫يكف عن اال�ستنجاد‪ ،‬كانت تنادي با�سم‬ ‫�صوتها املخنوق مل ّ‬
‫روزيت‪ ..‬بدا أ‬
‫المر حقيقي ًا هذه املرة‪.‬‬
‫طفقت �أدق على باب الزنزانة وال�سجان ال يجاوبني‪.‬‬
‫ظللت �أدق و�أدق حتى جاء‪ ،‬ومن وراء الباب احلديدي‬
‫�أخربته �أن البنت تعبانة‪ ..‬تعبانة كتري‪.‬‬
‫لكن ال�سجان ذهب ومل يرجع‪.‬‬
‫�صارت النوبة تزداد‪ ،‬والفتاة نزلت لتنام يف ح�ضني‪،‬‬
‫يخيم على وجهها‪ ،‬و�صوت ح�رشجتها أ‬
‫ميل‬ ‫�شحوب املوت ّ‬
‫الزنزانة‪ .‬عدت �أخبط على الباب من جديد و�أ�رصخ‪ :‬البنت‬
‫عم متوت‪ ..‬دخيلكم �أنقذوها عم متوت‪.‬‬
‫كنت �أراها وهي متوت بني يدي‪� ..‬شبح املوت كان يرفرف‬
‫يف الزنزانة‪.‬‬
‫ط ّلعوها عم متوت‪..‬‬
‫�أخرياً‪� ،‬أخذوها �إىل امل�ست�شفى وهي بني املوت واحلياة‪،‬‬
‫وطيلة يومني كاملني مل ي أ�ت �أي خرب عنها‪.‬‬
‫بعد يومني جا ؤ�وا و�أخذوا �أغرا�ضها القليلة‪ ..‬كانت ال�صبية‬
‫الكردية قد ماتت‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫‪1998-1994‬‬

‫رمبا كانت هذه هي الفائدة من دخول ال�سجن(‪،)117‬‬


‫�إن كانت ثمة فائدة بالطبع‪� ،‬أننا جمربون على االلتفات نحو‬
‫الداخل كي يعي�ش الواحد منا مع ذاته‪ ،‬ي�صري مزدوج ًا‪ ،‬يتعدد‪.‬‬
‫‪ -‬هذه الفكرة رمبا تكون ذهنية يف ر�أ�س ال�سجينة �أو مطلقة‬
‫قبل �أن تدخل ال�سجن‪ ،‬ولكنها ت�صري حقيقة‪ ،‬واقع ًا يعا�ش داخل‬
‫ال�سجن‪.‬‬
‫�ستنطبق هذه املقولة متام ًا على �ضحى‪.‬ع وهي تنوء يف‬
‫الف�ساد االجتماعي امل�ست�رشي يف �سجن الن�ساء املدين‪.‬‬
‫(‪ )117‬فكرة يراها براينت برايتنباغ يف مقالته التي �سبق ونوهت عنها‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫كان عليها �أن تخلق �إيقاع حياة خا�ص ًا بها‪� ،‬إيقاع ًا مغايراً‬
‫تنقطع فيه ال�صلة متام ًا مع كل ما هو خارجها! على الرغم من‬
‫�أن الو�ضع هناك كان �صورة م�صغرة عن املجتمع اخلارجي‪:‬‬
‫ال مع مئات ال�سجينات الق�ضائيات‪ ،‬تلفهم‬ ‫�أكرث من ‪ 32‬طف ً‬
‫حالة من الطبقية العالية وال�رسقة والن�صب‪ ،‬و�أربع معتقالت‬
‫�سيا�سيات و�سط هذا اجلو يجهرن ب�رسقات الطعام‪ ،‬يطالنب‪،‬‬
‫الكل‪ ..‬وما من جميب‪.‬‬ ‫كمن يطالب من بئر عميق‪ ،‬بتح�سني أ‬
‫‪...‬‬
‫كن يقدمن الر�شاوى لعنا�رص ال�رشطة‬ ‫ال�سجينات اللواتي ّ‬
‫ال‪� ،‬أو‬
‫ينلن ميزات خمتلفة من �إدخال ما �شئنه �إىل مهاجعهن مث ً‬
‫ال�سماح لهن بزيارة كل �أ�سبوع ملدة �أربع �ساعات �أحيان ًا‪ ،‬فيما‬
‫ال‪ ،‬حمرومات من الزيارة‪.‬‬ ‫غريهن‪ ،‬كال�سيا�سيات مث ً‬
‫ال�سجينات اللواتي �أقمن عالقات جن�سية مع عنا�رص ال�رشطة‬
‫ا�ستطعن نيل ما يردن �أي�ض ًا‪� .‬إذاً‪ ،‬كحال اخلارج‪ ،‬كانت القوة‬
‫يف الداخل هي للمال واجل�سد‪.‬‬
‫كان هناك بالطبع‪ ،‬كتكملة للم�شهد الدرامي‪ ،‬من ينال‬
‫التاوة! فرئي�سة املهجع تتقا�سم املال مع بنات الدعارة وعنا�رص‬ ‫أ‬
‫ال�رشطة‪ ،‬الفقريات يعملن خادمات عند الغنيات‪ ،‬يطبخن‬
‫وينظفن مقابل مبلغ ما‪ ،‬ومقابل �شيء �أهم بالن�سبة �إليهن وهو‪:‬‬
‫احلماية‪.‬‬
‫�أما الباحثتان االجتماعيتان‪ ،‬ووجودهما كان �شكلي ًا يف‬

‫‪212‬‬
‫بالجرة عند بع�ض البنات املتنفذات‪.‬‬ ‫احلقيقة‪ ،‬فقد عملتا أ‬
‫جن�سيات متنوعة من ال�سجينات‪ ،‬و�ضحى ورفيقاتها‬
‫وحدهن يف هذه املعمعة‪ :‬برازيليات‪� ،‬إ�سبانيات‪ ،‬عربيات‪،‬‬
‫و�أمريكية وحيدة كانت تاجرة خمدرات‪ ،‬تلك ال�سجينة كانت‬
‫تعامل ك أ�ن �أمريكا كلها موجودة يف �سجن الن�ساء‪ ،‬وال�سفارة‬
‫المريكية تر�سل مبعوث ًا خا�ص ًا لزيارة ال�سجينة كل حني‬ ‫أ‬
‫و�إعطائها النقود‪.‬‬
‫قبل انتهاء حكمها ب�ستة �أ�شهر نقلت �ضحى‪.‬ع وحدها �إىل‬
‫�سجن مدين �آخر(‪.)118‬‬
‫مهجع الن�ساء ال�سيا�سيات حماط مبهاجع الرجال‪ ،‬وفيه‬
‫حوايل ‪ 14‬معتقلة‪ :‬معتقلتني من احلزب ال�شيوعي الرتكي‪،‬‬
‫ثالث معتقالت من حزب العمال الكرد�ستاين (‪،)p.k.k‬‬
‫خم�س معتقالت تركمانيات بق�ضايا التفجري يف حاويات‬
‫القمامة‪ ،‬وكان هناك �أي�ض ًا ثالث معتقالت من �شهود يهوه‪.‬‬
‫الزيارات هناك ممنوعة‪.‬‬
‫التنف�س ل�ساعات قليلة فقط بعد الظهر‪.‬‬
‫�أما مهجع الن�ساء فقد كان معزو ًال متام ًا عن بقية ال�سجن‬
‫حتى �أن عنا�رص ال�رشطة كانوا يعملون على تغطية فتحات‬
‫مهاجع الرجال بالبطانيات وت�ستنفر املفارز جميعها لو �أرادت‬
‫�إحدى املعتقالت النزول �إىل غرفة الطبابة مث ً‬
‫ال‪.‬‬
‫(‪ )118‬كانت �ضحى‪ .‬ع قد حكمت بال�سجن ملدة �ست �سنوات ابتداء من �سنة‬
‫اعتقالها يف ‪ 1992‬بعد �أن خ�ضعت للمحاكمة يف حمكمة �أمن الدولة‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫ظلت الرتكمانيات مهمالت ألكرث من ثالث �سنوات‪،‬‬
‫ومل ينزلن �إىل املحاكمة(‪ .)119‬و�سيلة توا�صلهن الوحيدة مع‬
‫اخلارج هي الر�سائل التي كن يرمينها للمعتقلني الرتكمانيني يف‬
‫يطل على باحة تنف�س‬‫فرتات النف�س‪ ،‬حيث كان مهجع الن�ساء ّ‬
‫الرجال‪.‬‬
‫ن�سقن جميعهن للقيام ب إ��رضاب عن الطعام‪� ،‬إ�رضاب‬ ‫�أخرياً ّ‬
‫الهم �أن ي�ضغطن على �إدارة‬ ‫قد ي�ساعدهن يف حتقيق مطالبهن! أ‬
‫ال�سجن إلطالق �رساح من انتهت مدة �سجنها‪ ..‬ومنهن �أنا‪.‬‬
‫كان �إ�رضاب ًا متدرج ًا‪ ..‬كل يوم ت�رضب معتقلة‪.‬‬
‫لكن ر ّد �إدارة ال�سجن كان عنيف ًا‪ ،‬فقد قامت ببناء منفردات‬
‫متطرفة للن�ساء‪ ،‬عددها �أربع منفردات قريبة من املطبخ‪،‬‬
‫ال�رضاب يف �إحداها‪.‬‬ ‫الدارة برمي التي ت�ستمر يف إ‬ ‫وهددت إ‬
‫النفرادي �أن يوقف �إ�رضاب‬ ‫بالفعل ا�ستطاع اخلوف من إ‬
‫بع�ض البنات دون �أن ينلن �شيئ ًا منه‪.‬‬
‫ا�ستمر �إ�رضابي مدة �سبعة ع�رش يوم ًا‪.‬‬
‫كان رئي�س املفرزة (العقيد) ي أ�تي كل يوم �إىل املهجع‬
‫ليقدم العهود يل‪ ،‬لكني مل �أ�صدقه‪ .‬تواىل جميء عقداء من فرع‬
‫ال�رضاب بال جدوى‪.‬‬ ‫المن‪ 2‬الع�سكري يحاولون �إثنائي عن إ‬ ‫أ‬
‫كان أ‬
‫المر بالن�سبة �إيل حتدي ًا حقيقي ًا‪� ،‬إما �س أ�عي�ش حياة م�رشفة‪،‬‬
‫�أو �س أ��رضب عن الطعام حتى املوت‪ .‬التعامل معي بع�شوائية‬

‫(‪ )119‬كان قد ف ّعل عمل حمكمة �أمن الدولة ابتداء من �سنة ‪1992‬وبد�أت‬
‫حماكمات املعتقلني ال�سيا�سيني‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫الن�ساين‪ ،‬ومل �أكن قد فقدته طيلة �سنوات‬ ‫جردين من �شعوري إ‬
‫اعتقايل‪ ،‬و�أنا ال �أدري ما �سبب رميي يف املعتقل بعد انتهاء مدة‬
‫حكمي؟!‬
‫ال�رضاب ا�ستيقظت �صباح ًا‪ ،‬كتبت و�صية‬ ‫يف �أحد �أيام إ‬
‫البنتي ديانا‪ ،‬وكانت خارج ًا مع �أبيها‪ ،‬مل يكن أ‬
‫المر حب ًا‬
‫باملوت‪ ،‬بل حب ًا باحلياة‪ ،‬كنت �أريدها �أن تع�شق احلياة ب�رشف‪.‬‬
‫كنت م�صممة �أن �أ�رضب عن الطعام حتى النهاية‪.‬‬
‫قال يل العقيد يوم ًا‪:‬‬
‫‪ -‬جاء �أخوك اليوم وقال �أن ا�سمك موجود يف قائمة‬
‫العفو بالفرع‪ ..‬لي�ش م�رضبة لهلق؟‬
‫‪ -‬كان الزم �إطلع من متوز‪ ..‬مر �شهرين وما طلعت‪.‬‬
‫ال�رضاب �سن�شحطك على ال�سجن‬ ‫‪� -‬إذا مل تفكي إ‬
‫الكبري‪� ..‬شو ر�أيك؟‬
‫‪... -‬‬
‫ال معه قائمة العفو من الفرع‪،‬‬ ‫حني �أتى �شقيقي �أ�سامة حام ً‬
‫ال�رضاب‪.‬‬ ‫وا�سمي مذكور فيها‪ ،‬توقفت عن إ‬
‫وهذا ما كان‪� .‬أطلق �رساحي بعد ع�رشة �أيام من ذلك �أي يف‬
‫نهايات �سنة ‪.1998‬‬

‫‪215‬‬
216
‫‪1988‬‬

‫اليوم تغريت ر ؤ�ية الكثريات من املعتقالت ال�سيا�سيات كما‬


‫تغريت ر ؤ�يتي متام ًا‪ .‬ك ّنا نعتقد‪ ،‬قبل دخولنا ال�سجن املدين‪� ،‬أننا‬
‫�سنغيرّ العامل بعملنا ال�سيا�سي‪ .‬اكت�شفنا‪ ،‬بعد خروجنا‪� ،‬أننا مل‬
‫نكن نعرف ال�شيء الكثري عن عامل كنا ن�سعى لتغيريه!!‬
‫اعتقلت الع�رشات منا يف �سجون مدنية‪ ،‬ك�سجن الن�ساء‬
‫الب فيها على اغت�صاب‬ ‫ال‪ ،‬تواجدنا مع �أ�رسة كاملة‪ ،‬عمل أ‬ ‫مث ً‬
‫جميع بناته وحتت �إ�رشاف أ‬
‫الم! رمبا كان �شيئ ًا �صادم ًا لنا‪..‬‬
‫قا�سي ًا �إىل درجة ال ميكن تخيلها ونحن على متا�س مبا�رش مع‬

‫‪217‬‬
‫�أولئك الن�سوة وعلى مر ال�سنوات‪ ،‬لكن كان ينبغي �أن نراه‬
‫ونح�سه بكل �أرواحنا!‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ون�سمعه‬
‫�سجينة ق�ضائية قتلت زوجها‪ .‬بع�ضنا‪ ،‬نحن ال�سيا�سيات‪ ،‬ال‬
‫يعرفن �إىل اليوم‪ ،‬بعد �سماع ق�صتها‪ ،‬ما الذي قد نفعله لو كانت‬
‫�إحدانا يف مكانها؟!‬
‫بال�سيد بالتعاون مع ع�شيقها‬ ‫ذوبت زوجها أ‬ ‫�سجينة ّ‬
‫وع�شيقته!!!‬
‫�أمر �أ�سا�سي خرجنا به من ال�سجن باعتقادي يتمثل يف �أنه ال‬
‫ال�صحيح �صحيح باملطلق‪ ،‬وال اخلط أ� خط أ� باملطلق‪ ،‬واحلدود‬
‫بينهما ظرفية‪ ..‬ظرفية للغاية‪.‬‬
‫و�ضعت فاديا‪�.‬ش بداية‪ ،‬حني نقلت �إىل �سجن الن�ساء املدين‪،‬‬
‫ال�سالميات‬ ‫ال�سا�سية رقم ‪ 3‬حيث املعتقالت إ‬ ‫يف الغرفة أ‬
‫وال�شيوعيات مع ًا‪.‬‬
‫ثم نقلت بعد �أيام �إىل املهجع رقم ‪ 7‬حيث كان هناك خليط‬
‫عجيب ي�ضم املعتقالت ال�سيا�سيات (‪� 11‬شيوعية) مع �أربع‬
‫�سجينات بتهم اقت�صادية‪ ،‬وواحدة فقط بتهمة القتل‪ .‬تلك‬
‫الخرية مل تقعد كثرياً يف املهجع‪ ،‬فقد راحت تختلف مع‬ ‫أ‬
‫البي�ض‬ ‫ال�سيا�سيات على القناة التي تريد م�شاهدتها يف تلفزيون أ‬
‫باليدي والع�ض وال�رصاخ‬ ‫وال�سود‪ .‬ثم ا�شتبكت معهن أ‬ ‫أ‬
‫وال�شتائم‪ ..‬حتى �أخرجتها �إدارة ال�سجن من املهجع‪.‬‬
‫كل ما كان ميكن �أن تكرهه فاديا يف املجتمع‪� ،‬أن ت�شمئز منه‬

‫‪218‬‬
‫خ�ضمه متام ًا! مع ذلك‬‫ّ‬ ‫وتهابه‪ ،‬جت ّلى �أمامها هنا‪ ،‬و�ضعت يف‬
‫�صارت عالقتها ببنات الدعارة مث ً‬
‫ال جيدة‪:‬‬
‫م�شوهات ج�سدي ًا ونف�سي ًا‪ .‬مع‬
‫ن�ساء م�سكينات ومعظمهن ّ‬
‫الزمن مل تبق �سجينة منهن مل تعرف فاديا ق�صتها‪ ،‬ومع الزمن‬
‫�صارت تكت�شف �أن معظم تلك الق�ص�ص كاذبة‪..‬‬
‫امر�أة ال�ضابط التي دفعها زوجها �إىل ممار�سة الدعارة‪ ،‬بداية‬
‫مع بائعي البطيخ وانتهاء ب�شبكة دعارة كربى‪.‬‬
‫�صفاء الفل�سطينية‪ ،‬التي كانت تعمل كمعاجلة فيزيائية‬
‫ونا�شطة يف و�سط املقاومة الفل�سطينية‪ ،‬انتهت ك�سجينة‬
‫دعارة‪.‬‬
‫الن�سانية احلميمية جعلت �إدارة ال�سجن تتهم‬ ‫تلك العالقات إ‬
‫ال�سيا�سيات ب أ�نهن ين�شطن‪� ،‬سيا�سي ًا‪ ،‬يف �صفوف الق�ضائيات‪.‬‬
‫المن �إىل ال�سجن املدين‬ ‫المن ال�سيا�سي من فرع أ‬‫�أتى عنا�رص أ‬
‫للتحقيق يف تلك االتهامات‪ .‬يومئذ كانت ال�سيا�سيات ي أ�خذن‬
‫درو�س ًا يف اللغة الفرن�سية‪ ،‬تعطيهن �إياها �إحدى املعتقالت‬
‫ال�شيوعيات وهي هالة‪ .‬ف(‪.)120‬‬
‫المن ال�سيا�سي كل واحدة على حدة كي‬ ‫طلبهن �ضابط أ‬
‫يحقق معها يف غرفة العقيد مدير ال�سجن‪.‬‬
‫ثم جاء دور فاديا‪�.‬ش كي تق�صد غرفة التحقيق‪.‬‬
‫(‪ )120‬هالة‪ .‬ف‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1965‬اعتقلت يف �سنة ‪1987‬‬
‫و�أطلق �رساحها قبل بقية املعتقالت ب�سبب و�ضعها ال�صحي وذلك �سنة‬
‫‪.1990‬‬

‫‪219‬‬
‫ذهبت �إليه كما هي بثياب بالية ممزقة تلب�سها يف احلاالت‬
‫العادية‪ .‬على كل حال مل تكن ت�ستطيع �أن تكون �أكرث قيافة‪،‬‬
‫فلم يكن هناك ثياب كافية جلميع ال�سيا�سيات(‪.)121‬‬
‫�س أ�لها ال�ضابط با�ستغراب وهو يرمقها من أ‬
‫العلى �إىل‬
‫أ‬
‫ال�سفل‪:‬‬
‫‪� -‬إنت فاديا‪� .‬ش؟!!‬
‫‪� -‬أنا‪..‬‬
‫�صمت ال�ضابط لثوان‪ ،‬فيما كان خليط من اال�ستغراب‬
‫ي�شع من عينيه‪ ،‬ثم بادرها من جديد‪:‬‬ ‫وال�شفقة والغ�ضب ّ‬
‫‪� -‬أننت تن�شطن �سيا�سي ًا بني ال�سجينات‪..‬‬
‫ك أ�نها كانت تنتظر كلمة لتنفجر بكل ما كان يعتمل يف‬
‫�صدرها‪� ،‬ألقت كل ذلك يف وجه ال�ضابط‪:‬‬
‫‪ -‬هل تعرف ما الذي يعنيه �أن تكون معتقلة �سيا�سية يف‬
‫�سجن مدين؟!‪ ..‬هل جربت هذا؟! تقرف من كل �شيء حتى‬
‫الخبار فما بالك‬ ‫من حالك‪ ..‬تقرف حتى �إن ت�ستمع �إىل أ‬
‫بالن�شاط ال�سيا�سي بينهن‪..‬‬
‫‪!!... -‬‬
‫‪� -‬أحلم �أن �أعي�ش عمري كله يف منفردة يف الفرع وال‬
‫(‪ )121‬كما �أوردت �سابق ًا‪ .‬كانت الثياب والطعام و�أ�شياء كثرية �أخرى م�شرتكة‬
‫لدى املعتقالت ال�سيا�سيات حتى فرتة بعيدة من االعتقال وذلك يف كل �أماكن‬
‫االعتقال‪ .‬كما كان هناك �صندوق مايل م�شرتك تو�ضع فيه جميع املعونات‬
‫املالية وي�ستخدم يف حال املر�ض �أو ل�رشاء الطعام (يف ال�سجون املدنية فقط) �أو‬
‫يف حاالت ا�ضطرارية‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫�أعي�ش هنا يوم ًا �إ�ضافي ًا‪ ..‬ن�ساء ال ميكن �أن تن�شط معهن يف �شيء‬
‫فما بالك بال�سيا�سة؟!!‬
‫مل ينب�س ال�ضابط بكلمة‪ ،‬اكتفى بال�صمت وهو ينظر �إليها‬
‫ملي ًا‪ ،‬ثم تركها تذهب ومل ي�ستدع �أية �سيا�سية بعدها‪.‬‬
‫هنا كان التحقيق قد توقف‪.‬‬
‫لكن مع الزمن اكت�شفت بع�ض املعتقالت �أن لل�سجانة‬
‫قلوب ب�رش �أي�ض ًا‪:‬‬
‫المن‪ .1‬كان‬ ‫بابا نويل كان لقب ال�سجان ع يف فرع أ‬
‫اللقب منا�سب ًا له بكل ما يحمله من دالالت تاريخية‪.‬‬
‫وكن حوايل �سبع‬ ‫ّ‬ ‫اليام جلبوا للمعتقالت‪،‬‬ ‫يف يوم من أ‬
‫ع�رشة معتقلة يف املزدوجات‪ ،‬ق�صعات برغل كوجبة للع�شاء‪.‬‬
‫طعم الربغل ليلتئذ كان �شبيه ًا بطعم زيت ال�سيارات‪ ،‬ورائحته‬
‫املقرفة تنت�رش حوله حتى ي�صعب االقرتاب من الق�صعة امل�صبوب‬
‫فيها‪.‬‬
‫مل ت�ستطع �أي منهن �أن ت�ضع لقمة يف فمها‪ .‬اللواتي فعلن‪،‬‬
‫حتت �ضغط اجلوع ال�شديد‪ ،‬لفظن كل ما �أكلنه على الفور‪ .‬كن‬
‫جائعات للغاية‪ ،‬خ�صو�ص ًا �أن وجبة الغداء مل تكن كافية‪.‬‬
‫�إحداهن تقي أ�ت كل ما التهمته‪� ،‬رسيع ًا‪ ،‬على �أر�ض‬
‫املزدوجة‪.‬‬
‫�صارت بثينة‪.‬ت تن ّغم �أغنية زياد الرحباين يف الزنزانة‪:‬‬
‫�أنا م�ش كافر‪..‬‬

‫‪221‬‬
‫واملعتقالت يرددن وراءها‪:‬‬
‫ب�س اجلوع كافر‪.‬‬
‫ثم �رصن ي�رصخن ب أ�على �أ�صواتهن‪ :‬جوعانني يا ع‪..‬‬
‫جوعانني يا ع‪.‬‬
‫فتح ال�سجان ع الباب عليهن‪ ،‬رمقهن وهن منت�رشات يف‬
‫�أرجاء الزنزانة‪ ،‬يتو�سدن احليطان وينادينه‪ ..‬ثم �أغلق الباب‪.‬‬
‫بعد دقائق عاد من جديد‪ .‬كان يحمل كي�س ًا مليئ ًا بالطعام‬
‫رماه لهن ثم �أغلق الباب‪..‬‬
‫اندفعت املعتقالت �إيل الكي�س‪ ،‬ومل يكدن يفتحنه‪،‬‬
‫ويتفاج أ�ن بالنفائ�س القادمة‪ ،‬حتى عاد ع من جديد ليلقي‬
‫�إليهن بكي�س �آخر!‬
‫كان ع قد ذهب �إىل مهجع العرفاتية املجاور للمزدوجات‪،‬‬
‫و ّمل منهم ما يزيد على حاجاتهم بعد �أن �أخربهم بحاجة‬
‫املعتقالت للطعام‪.‬‬
‫الكيا�س‪ ،‬املليئة بعلب الطون وال�رسدين املع ّلب والفواكه‬ ‫أ‬
‫وغريها‪ ،‬جعلت املعتقالت يف ذلك امل�ساء يحتفلن كما مل‬
‫يحدث من قبل‪ ،‬ويح�ضرّ ن من التفاح والربتقال‪ ،‬الذي جلبه‬
‫ع‪� ،‬سلطة فواكه فاخرة!!‪..‬‬
‫‪...‬‬
‫الول‪،‬‬‫لكن بثينة‪.‬ت كانت ماتزال تنزف منذ اعتقالها أ‬
‫الربعني يف ‪ ،1986/12/9‬حيث‬ ‫وهي نف�ساء يف يومها أ‬

‫‪222‬‬
‫اعتقلت ملدة �أيام‪ ،‬وحتى اعتقالها الثاين يف ‪.1987/8/14‬‬
‫المن‪� 1‬صارت‬ ‫بعد فرتة من االعتقال الثاين يف فرع أ‬
‫الت�صبغات تنت�رش يف �أنحاء ج�سدها كله‪ ،‬وراح النزف ي�شتد‪..‬‬
‫بعد طول مطالبات و�إحلاح �أخذت �إىل امل�ست�شفى‪ ،‬وهناك‬
‫طالبوها ب إ�جراء خزعة حني ا�شتبه الدكتور ب�رسطان يف الرحم‪.‬‬
‫كان عليها‪ ،‬بال�رضورة‪� ،‬أن تراجعه بعد �أ�سبوع‪� ،‬أ�سبوع واحد‬
‫ال غري‪.‬‬
‫بقيت بثينة يف الزنزانة �أكرث من �شهر دون �أن تعرف نتائج‬
‫اخلزعة وقد منعت من مغادرة الفرع‪.‬‬
‫كانت تعتقد طيلة تلك املدة �أنها م�صابة بال�رسطان‪.‬‬
‫ميد ل�سانه لها �شامت ًا‪ ،‬يجعلها تفكر يف كل‬
‫واملوت‪ ،‬الذي راح ّ‬
‫حلظة بابنتيها يف اخلارج‪ ،‬وما الذي �سيح�صل لهما �إن ا�ستطاع‬
‫ال�رسطان �أن يتغلغل بالفعل يف ج�سدها‪.‬‬
‫�أما النزيف فقد �أ�ضحى م�ستمراً بال توقف‪.‬‬
‫بعد ذلك ال�شهر الع�صيب ُ�سمح لبثينة مبراجعة امل�ست�شفى‪.‬‬
‫مل يكن هناك ت�رسطن يف رحمها‪ ،‬لكن تقرح ًا قدمي ًا غري معالج‬
‫�أدى �إىل كل تلك امل�شاكل‪ ،‬وقد �أ�ضحت خطرية للغاية‪.‬‬
‫مل يعرف الدكتور بالطبع ما �سبب ذلك التقرح! ذلك �أن‬
‫ال�سجان الذي �أخذها مل يف�صح عن و�ضعها احلقيقي‪ .‬كانت‬
‫جمرد مري�ضة تراجعه‪ ،‬والرجل الذي معها جمرد قريب‪.‬‬
‫لكن الدكتور ذاك كان حا�سم ًا‪ :‬ينبغي �أن تخ�ضع بثينة لعمل‬

‫‪223‬‬
‫تعر�ض الرحم لل�رسطنة بالفعل‪.‬‬ ‫جراحي م�ستعجل و�إال ّ‬
‫و�أجرت بثينة العملية‪.‬‬
‫على �رسير امل�شفى املعدين ا�ستيقظت من البنج وحدي‪.‬‬
‫مل يكن هناك �أحد يف الغرفة‪ ،‬وحدي فقط‪ .‬مبا �أن املرافق‬
‫الوحيد كان ال�سجان زياد‪� ،‬سجان قا�س وجاف‪ ،‬جالد بكل‬
‫كاف ألن‬
‫ما تعنيه الكلمة من معنى‪ ،‬كان جمرد وجوده معي ٍ‬
‫يدخلني يف دوامة من االكتئاب‪.‬‬
‫كنت �أ�ستيقظ �شيئ ًا ف�شيئ ًا و�سط غاللة �ضبابية من أ‬
‫اللوان‬
‫وال�صوات املتداخلة‪� ،‬أعي ب�شكل تدريجي ت�ضاري�س املكان‬ ‫أ‬
‫وحالتي‪ :‬يداي مقيدتان �إىل ال�رسير‪� ،‬صوت املمر�ضة العايل‬
‫يتناهى �إيل بعيداً بعيداً‪ ،‬كانت ت�رصخ على ال�سجان زياد‪:‬‬
‫فك يديها حرام عليك‪� ..‬أال تراها لي�س لديها قدرة على‬ ‫‪ّ -‬‬
‫فكها حرام عليك‪..‬‬ ‫حتريك ر�أ�سها‪ ..‬كيف �ستهرب؟!!!‪ّ ..‬‬
‫حرام‪.‬‬
‫يدي ظلتا مقيدتني �إىل ال�رسير و�أنا �أ�ستيقظ باكية ّ‬
‫بهم‬ ‫لكن ّ‬
‫وحيد‪� :‬أن �أعرف ماذا ولدت؟‬
‫ال �أعرف َمل ظننت �أين �أ�ستيقظ من بنج الوالدة! وب أ�ين آ‬
‫الن‬
‫قد و�ضعت طفلتي‪ .‬وملا مل ير ّد �أحد علي �أكملت �رصاخي‬
‫ب�صوت �أعلى‪:‬‬
‫‪ -‬ك�رسمت نزار و�أخذتوه �إىل ال�سجن!‬
‫‪... -‬‬

‫‪224‬‬
‫‪ -‬كر�سي الرئي�س يتهدد �إذا طلعت �أنا من ال�سجن؟!!!‬
‫�شتمت احلكومة‬‫ُ‬ ‫يف ذلك اليوم‪ ،‬على �رسير امل�ست�شفى‪،‬‬
‫والنظام‪� .‬شتمت و�شتمت دون �أن �أتذكر ما الذي قلته‪� .‬أذكر �أن‬
‫ال�سجان زياد حاول �إ�سكاتي ب�شتى الو�سائل دون �أن ي�ستطيع‪.‬‬
‫�أخرياً نظرت �إليه‪ ،‬بني النوم واليقظة‪ ،‬وهم�ست �إليه ب أ�مل‪ :‬قلبك‬
‫�أ�سود يا زياد‪ ..‬قلبك �أ�سود‪..‬‬
‫‪ -‬ملاذا تبكني؟‬
‫�س أ�لني وقد هاله كالمي الذي ينزف �أمل ًا وحقداً‪.‬‬
‫‪ -‬لنك قبالتي‪..‬‬ ‫أ‬
‫�أجبته‪.‬‬
‫‪ -‬بدل �أن �أرى زوجي �أو �أمي و�أوالدي �أراك �أنت‪..‬‬
‫راح بكائي يزداد‪ ،‬خا�صة حني كنت �أملح القيود وهي‬
‫تكبلني �إىل ال�رسير احلديدي البارد‪.‬‬
‫يف اليوم التايل �أعادين ال�سجان زياد �إىل الزنزانة يف الفرع‪.‬‬
‫�س ّلمني �إىل رفيقاتي منهكة متعبة‪ .‬ثم حكى لهن‪ ،‬والدموع‬
‫وهن يرين زياد‬ ‫يف عينيه‪ ،‬ما حدث‪ .‬كانت ده�شتهن كبرية ّ‬
‫يبكي‪ .‬كان ال�سجان‪ ،‬الذي طاملا كان جالداً بامتياز‪ ،‬مت أ�ثراً‬
‫وهو يروي على الباب ما قلته يف امل�ست�شفى و�أنا �أ�ستيقظ من‬
‫البنج‪..‬‬
‫‪ -‬ل�ست �سيئ ًا �إىل هذا احلد‪ ..‬ل�ست �سيئ ًا‪� ..‬أننت تكرهنني!!‬
‫تكرهنني‪..‬‬

‫‪225‬‬
‫يومها �أق�سم زياد �أال يعمل جالداً �أبداً‪ .‬بالفعل مل تلمحه �أي‬
‫من املعتقالت يف �أقبية الفرع بعد تلك الليلة‪.‬‬
‫بعد ذلك ب أ��شهر بعثت بثينة ب أ�ول ر�سالة �إىل �أهلها يف‬
‫اخلارج‪ .‬كان ذلك بعد �ستة �أ�شهر من اعتقالها‪� ،‬أي يف �شباط‬
‫‪ .1988‬ر�سالة ق�صرية كانت‪ ،‬بقلم الر�صا�ص على ورقة مغلفة‬
‫لباكيت �سجائر احلمرا‪ ،‬بعثتها مع ال�سجان م الذي كان لقبه‪،‬‬
‫كما �سبق وقلت‪ ،‬احلمام الزاجل‪.‬‬
‫الر�سالة بد�أت كما يلي‪:‬‬
‫الحبة‪:‬‬‫(ماما وبابا الغاليني‪� ،‬أخوتي أ‬
‫للطفال‪ ،‬للحياة‪� .‬صحتي و�صحة‬ ‫�أ�شواقي بال حدود‪ ،‬لكم‪ ،‬أ‬
‫نزار جيدة‪ ..‬اطمئنوا‪� .‬أحاول �أن �أعي�ش التجربة القا�سية ك أ�ف�ضل‬
‫ما ميكن فهي جتربة رهيبة مل �أهيئ نف�سي قط لها‪� ..‬أعي�ش مع‬
‫�أربعني فتاة‪� ،‬أغلبهن �شيوعيات ومن كافة املحافظات‪ ،‬ونحاول‬
‫�أن نوجد �أفراح ًا �صغرية تخرجنا من وح�شتنا)‪.‬‬
‫وللر�سالة بقية على تلك الورقة‪� .‬أخذ احلمام الزاجل العهدة‬
‫وذهب �إىل �أهل بثينة‪.‬‬
‫يلوح مازح ًا مبجموعة‬ ‫حني عاد م‪ ،‬بعد �ساعات‪ ،‬راح ّ‬
‫من ال�صور وهو قادم يف الكوريدور الطويل املف�ضي �إىل‬
‫املزدوجات‪ .‬كان يعلم �أن بثينة تنتظره وراء باب الزنزانة بفارغ‬
‫ال�صرب وتراقبه من الثقب‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫وقف م وراء باب الزنزانة ليخرب بثينة بتفا�صيل زيارته‪،‬‬
‫ب أ�نه مل ي�ستطع �أن يقول ألمها �شيئ ًا ألنها �رشعت بالبكاء حاملا‬
‫�أعطاها الر�سالة‪.‬‬
‫�إثر ذلك كتبت بثينة ر�سالة ق�صرية للغاية على �صفحة واحدة‬
‫ما زال ال�سيلوفان ملت�صق ًا بها فالوقت مل يكن كافي ًا لنزعه‬
‫ال‪ ،‬والر�سالة امل�ستعجلة مثله‬ ‫عنها‪ .‬كان احلمام الزاجل م�ستعج ً‬
‫رد على زيارته ألهل بثينه‪ ..‬و�أخذها �إليهم من جديد‪.‬‬
‫حني اكت�شف �أمر م يف الفرع‪ ،‬وب أ�نه �أم�ضى �شهوراً يو�صل‬
‫ر�سائل املعتقالت �إىل ذويهن‪ ،‬قام مدير ال�سجن مبعاقبته‪،‬‬
‫عذبه ب�رضبه �رضب ًا مربح ًا يف كوريدور الفرع على م�سمع من‬ ‫ّ‬
‫معتقالت ومعتقلي الزنازين‪ .‬عوقب م لفرتة طويلة‪� ،‬سجن‬
‫القبية‪.‬‬ ‫خاللها ومل ي�سمح له بالنزول �إىل أ‬
‫بعد ذلك مل يعد قادراً على �إي�صال �أية ر�سالة �إىل اخلارج‪.‬‬
‫يف جزء من تلك الر�سالة امل�ستعجلة كتبت بثينة‪:‬‬
‫(�أحبائي‪ :‬الع�رش دقائق التي ق�ضيت بينكم بكل تفا�صيلها‪،‬‬
‫طعم فنجان القهوة‪ ،‬تفا�صيل املنزل وازدحام املر�ضى يف‬
‫العيادة‪ .‬وتلك الطفلة التي خرجت من الغرفة يف نهاية الزيارة‬
‫والتي انفطر قلبي عندها‪ ..‬هل هي راما‪ ،‬كل ذلك �أح�س�ست‬
‫الن‪..‬‬‫به وما زلت �أعي�شه منذ تلك اللحظة وحتى آ‬
‫ماما احلبيبة‪ :‬نبع احلنان والعطاء الذي ال ين�ضب و�ست‬

‫‪227‬‬
‫احلبايب‪ .‬دموعك جرحت قلبي و�أوجعتني‪� ..‬أرجوك ال‬
‫تذرفيها ثانية‪� ..‬أريدك قوية عندما �أعود ف أ�نا بحاجة لكم‬
‫�أقوياء‪� ..‬أريد �أن �أتخيلكم تبت�سمون دوم ًا‪ ،‬وت�سعدون‪،‬‬
‫وت�ستمتعون باحلرية‪ ،‬ال وقت نق�ضيه بالبكاء والقهر‪ ..‬يكفي‬
‫القهر الذي ي�سببونه لنا‪..‬‬
‫واملر�سل‪ :‬ماذا �أو�صيكم ب� أش�نه‪ ..‬منوذج من الب�رش قل مثيله‪..‬‬
‫احر�صوا عليه وعلى م�شاعره وا�شكروه معنوي ًا وال حتاولوا غري‬
‫ذلك‪ .‬دعوه يرى كل �شيء ف أ�نا �أراكم بعيونه‪ ،‬لتكن ر�سائلكم‬
‫بالتف�صيل اململ فهي لي�ست ر�سالة منكم يل‪� ..‬إنها ر�سالة من‬
‫الهايل الثنتني وثالثني فتاة بينهم �أكرث من ع�رش �أمهات‪..‬‬ ‫كل أ‬
‫�ستكون ر�سالتكم زادنا‪ ،‬نلج أ� �إليه كلما لفنا ال�شوق)‪.‬‬

‫�أما ناهد‪ .‬ب فلديها جتربة مغايرة مع ال�سجانني!‬


‫بعد انتهاء التحقيق معها �أخذها ال�سجان ال�شاب �إىل غرفة‬
‫ويثبتها‪.‬‬
‫جانبية مال�صقة لغرفة التحقيق ليكتب �إفادتها ّ‬
‫حد االنهيار‪.‬‬
‫كانت ناهد متعبة ومنهكة ّ‬
‫مبا �إن التحقيق ا�ستكمل مع ناهد فقد بات من املعروف‬
‫ال لفرتة وجيزة‪ ،‬ثم �أطلق‬ ‫�أن لها حبيب ًا يف اخلارج‪ ،‬اعتقل قب ً‬
‫�رساحه‪ .‬ا�سمه كان حا�رضاً يف التحقيق دائم ًا‪ ،‬وعالقتها فيه‬
‫مك�شوفة �أمام املحققني و�أمام ال�سجان �أي�ض ًا‪..‬‬

‫‪228‬‬
‫�أغلق ال�سجان الباب ب�رسعة‪� ،‬أجل�سها على كر�سي قبالة‬
‫الطاولة‪ .‬كان يبدو متحم�س ًا للغاية ومثاراً‪ .‬جل�س على كر�سيه‪،‬‬
‫وبدل �أن يبادر بتدوين �إفادتها �صار ي�س أ�لها بف�ضول عن حبها!‬
‫ا�ستحالت عيناه‪ ،‬اللتان كانتا قبل قليل عيني �سجان‪� ،‬إىل عيني‬
‫�شاب متوفز‪ ،‬يريد �أن يعرف ماهية احلب‪ ،‬يريد �أن ي�سمع عنه‬
‫بل�سان امر�أة غريبة‪ ،‬غريبة ب أ�فكارها‪ ،‬غريبة مبظهرها‪ ،‬أ‬
‫والهم‬
‫غريبة عنه متام ًا بحبها!!‬
‫‪َ -‬مل حتبينه؟!‬
‫الول واملرتدد‪.‬‬ ‫كان �س ؤ�اله أ‬
‫‪ -‬لن �أفكاري مثل �أفكاره‪..‬‬ ‫أ‬
‫�أجابت ناهد‪.‬‬
‫‪ -‬فقط؟! رمبا حتبينه ألنه غني؟!!‬
‫‪ -‬ال‪ ..‬لي�س غني ًا �أبداً‪.‬‬
‫‪ -‬عنده بيت و�سيارة؟!!‬
‫‪ -‬ال‪..‬‬
‫‪َ -‬مل حتبينه �إذاً!!!‬
‫ال‪ .‬مل ينتبه حتى كان وقت‬‫ا�ستمرت ت�سا ؤ�الت ال�شاب طوي ً‬
‫الفادات‪ ،‬ودون �أن ي�سمع‬‫مر دون �أن يدون �أي ًا من إ‬ ‫التحقيق قد ّ‬
‫تدل على ا�ستكمال حتقيقه املفرت�ض‪.‬‬ ‫من يف اخلارج �أ�صوات ًا ّ‬
‫انتف�ض من فوره‪� ،‬صار ي�رضب الكر�سي اجللدي �أمامه‪،‬‬

‫‪229‬‬
‫ويطلب من ناهد ال�رصاخ على �أ�سا�س �أنه ي�رضبها م�ستكم ً‬
‫ال‬
‫�أخذ �إفادتها‪ ..‬ثم عاد لل�س ؤ�ال جمدداً‪:‬‬
‫‪ -‬مل حتبينه؟!! احك يل �أكرث‪..‬‬
‫‪... -‬‬

‫‪230‬‬
‫حب من وراء الق�ضبان‪..‬‬
‫تفا�صيل أ‬
‫النوثة والع�شق‬

‫‪231‬‬
‫رمبا حتدث الكثري من املعتقلني‪� ،‬سواء كتاب ًة �أو م�شافهةً‪ ،‬عن‬
‫الحالم‬‫املر�أة‪ ،‬عن غيابها وح�ضورها الطاغي‪ ،‬ح�ضورها يف أ‬
‫واليقظة‪ ،‬يف الكالم وال�سكوت‪ ،‬يف البيا�ض والعتمة‪.‬‬
‫غ�صت املهاجع والزنازين بال�شهوة‪ ،‬ب أ�حاديث‬ ‫ولطاملا ّ‬
‫الغواية‪ ،‬وبحمحمات لذة كان لها م�سارب خمتلفة للتحقق‪.‬‬
‫لكن ماذا عن ح�ضور الرجل يف حياة املعتقلة؟‬
‫المر بالت أ�كيد خمتلف متام ًا بالن�سبة �إىل الن�ساء‪ :‬فح�ضور‬ ‫أ‬
‫الرجل كان م�شفوع ًا على الدوام بالرغبة واخلوف‪ ،‬الرغبة‬
‫بالذكورة واخلوف والقرف من بط�ش اجلالد‪ .‬كان �إذاً ح�ضوراً‬
‫ال بكل �أغالل املجتمع خارج ًا‪ ،‬وبكل �أغالل‬ ‫حمم ً‬
‫ذكوري ًا ّ‬
‫دواخلهن‪.‬‬
‫الهم �أن ح�ضور الرجل يف حياة املعتقالت‪ ،‬على‬ ‫لكن أ‬
‫عك�س املعتقلني‪ ،‬كان ح�ضوراً فيزيائي ًا‪ .‬ال�سجانة الذكور‬

‫‪232‬‬
‫موجودون يف كل دقيقة من دقائق النهار ويف �صمت الليل‬
‫وجوانبه الغام�ضة‪.‬‬
‫ال يعرف البع�ض‪ ،‬وقد يعرفون‪ ،‬ما قد يفعله �صوت �سجان‬
‫يتناهى يف �صمت الليل �إىل امر�أة معتقلة منذ �سنوات!! ما قد‬
‫ال‪ ،‬من غواية‬‫يحمله ذلك ال�صوت من نب�ش لرغبات كبتت طوي ً‬
‫ال متناهية‪ ،‬من تالطم �أمواج ال�شهوة مع كون الرجل �سجانها‬
‫لي�س �إال‪ ،‬ومن اعتبارات تفر�ضها رقابة اجتماعية يف الزنازين‬
‫�أ�شد هو ًال من رقابة جمتمع ٍ‬
‫طاغ يف اخلارج!!‪.‬‬
‫حني ي�ضحي حذاء عامل ال�صحية‪ ،‬املرتوك بباب املهجع‬
‫وهو ي�صلح احلمام‪ ،‬قادراً على بلبلة املعتقالت أليام يف �سجن‬
‫الن�ساء‪.‬‬
‫ال ألمر ما‪ ،‬وهو يرتدي بيجامته املرق�شة‪،‬‬‫�سجان يهرول لي ً‬
‫يجعلهن ي�ستيقظن ليتدافعن على �شباك املهجع كي يلمحن‬
‫ال ببيجاما‪ ..‬رجل يرتدي بيجاما‪ ..‬يا �إلهي! كم كانت‬ ‫رج ً‬
‫غواية ما بعدها غواية!‬
‫�أن تع�شق معتقلة �سجانها �أمر قد يحدث ورمبا حدث‪.‬‬
‫ال �آخر �أمر يحدث ورمبا حدث‬ ‫�أن تع�شق معتقلة معتق ً‬
‫�أي�ض ًا‪.‬‬
‫بالج�ساد املتداخلة‪ ،‬وبرائحة‬‫القبية بالعالقات‪ ،‬أ‬ ‫�أن تُفغم أ‬
‫الع�شق واجلن�س بني ال�سجانة واملعتقالت وبني املعتقلني‬
‫واملعتقالت‪� ،‬إن �أمكن الظرف بالطبع‪� ،‬أمر حدث ويحدث‬

‫‪233‬‬
‫بالت أ�كيد‪..‬‬
‫والق�ص�ص تتوالد‪ ،‬تتناقل‪ ،‬وتكرب‪.‬‬
‫حدث الكثري هناك‪� ،‬سمع الكثريون عدداً من الق�ص�ص رمبا‬
‫كان بع�ضها حقيقي ًا‪ ،‬ورمبا كان بع�ضها خمتلق ًا! فاملعتقالت يف‬
‫النهاية ن�ساء‪ ،‬ب�رش بالت أ�كيد‪ ،‬ول�سن جمرد متاثيل حجرية‪ .‬والذاكرة‬
‫امل�سترتة ب أ�لف حجاب و�ألف اعتبار‪ ،‬وجدران املعتقل كذلك‪،‬‬
‫هما وحدهما ال�شاهدان يف النهاية‪.‬‬
‫الق�ص�ص ذاتها �ستتكرر‪ ،‬ب�سيناريوهات خمتلفة متباينة‪،‬‬
‫لن يكون هناك فرق بني الثمانينيات والت�سعينيات وحتى‬
‫ولن‬‫ولن ال�سجون واحدة‪ ،‬أ‬ ‫ال�سبعينيات‪ ،‬ألن احلب واحد‪ ،‬أ‬
‫الن�سان‪ ،‬مهما اختلف‪ ،‬واحد‪.‬‬ ‫إ‬
‫�إذاً هو مو�ضوع زمن ال غري‪.‬‬
‫�إحدى تلك الق�ص�ص حدثت يف �سنة ‪:1987‬‬
‫فقد ظل عدنان‪.‬م يف بداية اعتقاله حوايل ثمانية �أ�شهر يف‬
‫المن‪ ،1‬بعدئذ نقل �إىل منفردة �أخرى‬ ‫املنفردة ذاتها يف فرع أ‬
‫حيث بقي فيها حوايل ال�شهر‪.‬‬
‫كانت املنفردة الثانية مال�صقة لزنازين املزدوجات حيث‬
‫ت�سجن املعتقالت‪ .‬الزنزانة واملزدوجات ي�شرتكان باحلائط‬
‫نف�سه‪ ،‬وهناك يف املزدوجات كانت زوجته لينا‪.‬ومعتقلة‪.‬‬
‫عرفت لينا باعتقاله يف تلك املنفردة عن طريق �سجني �آخر‬
‫يف املنفردة املجاورة‪ ،‬كان رفيق ًا �سجين ًا فيها قبل جميء عدنان‪،‬‬

‫‪234‬‬
‫ال وذلك‬ ‫ومعتقالت املزدوجات يتحدثن �إليه عرب احلائط قب ً‬
‫بلغة مور�س‪� ،‬أي بالدق على احلائط امل�شرتك‪.‬‬
‫يف ذلك امل�ساء �أخربها ال�سجني �أن زوجها جيء به اليوم �إىل‬
‫املنفردة املجاورة‪.‬‬
‫حل امل�ساء ورحل ال�سجانة حتى الت�صقت لينا باحلائط‬ ‫ما �إن ّ‬
‫امل�شرتك‪ ،‬وطفقت تدقّ لعدنان حماولة �أن تخربه بوجودها هنا‪.‬‬
‫الول‪ ،‬عرب اجلدار بالطبع‪ ،‬وبعد‬ ‫يف ذلك امل�ساء كان لقا ؤ�هما أ‬
‫�شهور طويلة من الفراق‪.‬‬
‫الم�ضى‬ ‫الكرب لل�سجون‪ ،‬ال�سالح أ‬ ‫ولن احلب هو القاهر أ‬ ‫أ‬
‫يف وجه كل اجلحيم املحيط‪ ،‬ف إ�نه يت�ضخم هناك يف الداخل‪،‬‬
‫يت�ضخم حتى يطغى على كل �أوقات املعتقل‪ /‬املعتقلة‪ ،‬على‬
‫الروح والذاكرة وحتى �أقا�صي العقل‪ ،‬ت�صبح كل ثانية من‬
‫الوقت امل�سفوح بني اجلدران تتوق له فقط‪� ..‬أي للحب‪.‬‬
‫هذا ما جعل �أوقات لينا حتقن ب�شيء جديد بعيداً عن ّ‬
‫�شح‬
‫املزدوجات‪ ،‬حتقن بوجود رجلها الذي جعل احلائط جمرد‬
‫غاللة �شفافة ال ت�سرت وال حتجب �شيئ ًا‪ ،‬حتقن بحبها‪ :‬املعني‬
‫أ‬
‫الكرب على ال�صرب‪.‬‬
‫بداية كنت �أحتدث �إىل عدنان بالدق على احلائط امل�شرتك‪.‬‬
‫ما �إن يغلق ال�سجان باب منفردته حتى �أهرع �إىل احلائط‬
‫الهثة م�شتاقة‪ .‬لكن عدنان كان م�رصاً على �سماع �صوتي‪،‬‬
‫ف�رصت �أل�صق فمي باحلائط‪ ،‬و�أهم�س �إليه خا�صة �أين كنت‬

‫‪235‬‬
‫�أ�ستطيع الكالم ألن ال�سجانة �سيعتقدونني �أحتدث �إىل رفيقاتي‬
‫يف الزنزانة‪� ،‬أما عدنان فكان عليه �أن ي�سمع فح�سب ويجيب‬
‫بالدق‪ ،‬ف أ�ي �صوت �سيخرج من املنفردة‪ ،‬وي�سمعه ال�سجانة‪،‬‬
‫ال ب إ�نزال �أ�شد العقوبات عليه‪.‬‬
‫�سيكون كفي ً‬
‫ا�ستطعت وعدنان �أن ن�رسق �أجمل ال�ساعات بني نوبات‬
‫ال�سجانة كي نلهب احلائط البارد أ‬
‫وال�صم ب�سعري بوحنا و�شوقنا‬
‫املتدفق و�سط احلرمان‪� .‬شوقنا ذاك كنت �أعي�شه كموجة نارية‬
‫تلفح كل برد وعطنة الزنزانة‪.‬‬
‫يف ال�ساعة الثالثة �صباح ًا �أتى �إىل املزدوجات ال�سجان‬
‫م‪ ،‬احلمام الزاجل كما كنا نلقبه‪ .‬املعتقالت جميعهن كن‬
‫نائمات‪:‬‬
‫‪� -‬أين لينا؟‪..‬‬
‫هم�س من وراء الباب ليوقظني‪ .‬حاملا هببت �إىل ال�رشاقة‬
‫�أخربين هم�س ًا �أن �أ�صعد �إىل ال�سقيفة(‪ )122‬على الفور‪ ،‬وغاب‬
‫يف عتمة الكوريدور‪.‬‬
‫حني طللت من �شباك ال�سقيفة‪ ،‬امل�رشف على الكوريدور‬
‫يطل‬‫اخلارجي الطويل‪ ،‬ر�أيته‪ ..‬ك�صاعقة مباغتة كان وجهه ّ‬
‫ال�سفل‪ ..‬يا �إلهي �إنه هو‪ :‬عدنان!!‬‫علي من أ‬
‫كان احلمام الزاجل‪ ،‬وقد خال ال�سجن من املراقبة‪ ،‬قد �ساق‬
‫عدنان خارج املنفردة �إىل الكوريدور و�أ�ضحى بالتايل مواجه ًا‬
‫(‪)122‬وهي �سقيفة فوق املزدوجات على م�ساحتها تطل بنافذة من ال�شبك على‬
‫الكوريدور الفا�صل بني الزنازين‬

‫‪236‬‬
‫متام ًا يل �أنا املطلة من ال�سقيفة‪.‬‬
‫مل �أ�ستطع �أن �أتفوه بن أ�مة! م�شدوهة ظللت �صامتة‪ ،‬م�صعوقة‪،‬‬
‫وعيناي مزروعتان على وجه حبيب مل �أره منذ �شهور طويلة‪.‬‬
‫يا �إلهي كم تغيرّ ‪ ،‬نحل كثرياً‪ ،‬وبدا متعب ًا وهو يرتدي‬
‫البيجاما‪..‬‬
‫بقية املعتقالت حلقن بي �إىل ال�سقيفة‪ ،‬و�رصن يتحدثن‬
‫متلهفات �إىل عدنان‪ ،‬ير�شقنه أ‬
‫بال�سئلة املتالحقة وهو يحاول‬
‫جاهداً الرد‪.‬‬
‫�أما �أنا فبكماء‪ ..‬بكماء‪.‬‬
‫فج أ�ة �صدح �صوت بثينة‪.‬ت يف �صمت الفرع ب أ�غنية‬
‫يجن بداخلي من‬ ‫فريوز‪ .‬ك أ�نها كانت تغنيني‪ ،‬كل ما كان ّ‬
‫كلمات احلب والعتاب وال�شكوى واللهفة وقفت منح�رشة يف‬
‫حلقي‪ ،‬كل ما متنيت ل�شهور �أن �أقوله يف �أح�ضان عدنان قالته‬
‫بثينة ب أ�غنية من ب�ضع كلمات‪:‬‬
‫ل�شو احلكي‪ ..‬طالل علينا قمر‪.‬‬
‫خلي النظر للنظر‪ ..‬ي�رشح هواه وي�شتكي‬ ‫ّ‬
‫ل�شو احلكي؟!‬
‫كانت فريوز‪ ،‬ب�صوت بثينة‪ ،‬حتكي متام ًا ما حدث‪ :‬النظر‬
‫للنظر‪ ،‬واحلب يف العيون فح�سب‪.‬‬
‫ل�شو احلكي عند التالقي �سوا‬
‫�أهل الهوا ع الهوا بيتفاهموا من دون حكي!‬

‫‪237‬‬
‫�شيء �شبيه حدث يف ذكرى زواجهما‪ .‬كان عدنان ال يزال‬
‫يف املنفردة ذاتها‪ ،‬وعرب �إ�شارات املور�س �أخرب لينا �أن تنتظر‬
‫هدية منه �ست�صل اليوم مع ال�سجان امل�س ؤ�ول عن توزيع الطعام‬
‫والتنظيف‪� ،‬سجان اخلدمة جورج‪ ،‬وكان �شاب ًا متعاون ًا للغاية‪.‬‬
‫رك�ضت لينا �إىل باب املزدوجات احلديدي‪ .‬بقيت طوي ً‬
‫ال‬
‫واقفة بانتظار ال�سجان جورج وقد توقعت �أن يقذف لها بهدية‬
‫ال�رشاقة‪ ،.‬ر�سالة �أو ما �شابه حتمل رائحة عدنان وحبه‪،‬‬ ‫ما عرب ّ‬
‫ووعداً ما ب�آت �أجمل و�أكرث دفئ ًا‪.‬‬
‫لكن جورج وقف وراء الباب ومل يفتحه! مل يقذف لها‬
‫ب أ�ي �شيء‪ .‬انتظر هنيهات لي�صدح فج أ�ة �صوته اللطيف ب أ�غنية‬
‫�آ�رسة‪:‬‬
‫كما ينبت الع�شب بني مفا�صل �صخرة وجدنا غريبني مع ًا‪.‬‬
‫وكانت �سماء الربيع ت ؤ�لف جنم ًا وجنمة‬
‫وكنت �أ ؤ�لف فقرة حب‬
‫لعينيك غنيتها‪...‬‬
‫كانت �أغنية مار�سيل خليفة لق�صيدة حممود دروي�ش هي‬
‫الهدية!‬
‫غناها جورج بكل جوارحه ك أ�نه يغنيها حلبيبته‪ .‬راحت لينا‬
‫جته�ش بالبكاء فيما وا�صل جورج غناءه‪:‬‬
‫أ�حبك حب القوافل واحة ع�شب وماء‬
‫وحب الفقري الرغيف‬

‫‪238‬‬
‫حب الفقري الرغيف‬
‫مل يطل الزمن بني ذكرى زواجهما تلك والليلة التي مت‬
‫المن‪� 1‬إىل املهجع قبل‬ ‫ترحيل عدنان فيها من املنفردة يف فرع أ‬
‫�أن ينقل �إىل ال�سجن ال�صحراوي‪.‬‬
‫جاء ال�سجان �إليه بعد الع�شاء قائ ً‬
‫ال‪:‬‬
‫‪� -‬أنهيت طعامك؟‪ ..‬هيئ نف�سك للذهاب‪� ..‬سرتحل‬
‫الليلة‪.‬‬
‫ما �إن �أغلق ال�سجان الباب احلديدي حتى انتف�ض عدنان‬
‫ال�سمنتي اخل�شن باملعلقة البال�ستيكية‬ ‫و�شحط على طول احلائط إ‬
‫التي ي أ�كل بها‪� ،‬إ�شارة كان قد اتفق ولينا عليها يف حال �أتى‬
‫موعد ترحيله من الزنزانة‪ ،‬مل تنته ال�شحطة �أ�سفل احلائط حتى‬
‫كانت امللعقة قد ذابت‪ ،‬ويده التي �أكملت احلركة نفرت الدماء‬
‫منها‪.‬‬
‫ال�شارة انق�ضت على احلائط‪ ،‬لكن‬ ‫حني �سمعت لينا إ‬
‫ال�سجان كان قد عاد �إىل منفردة عدنان و�صوته ي�صل �إليها‬
‫وا�ضح ًا عرب اجلدار‪..‬‬
‫�سيق عدنان دون �أن ت�ستطيع لينا توديعه �أو متويله ب أ�ية كلمة‬
‫آ‬
‫للتي امل ؤ�مل‪.‬‬
‫ومل ت�ستطع لينا �أن ترى زوجها بعدها حتى �أطلق �رساحها‬
‫بعد �سنوات ومت فتح الزيارات يف ال�سجن الذي نقل عدنان �إليه‬
‫ال فيه حتى �سنة ‪2001‬‬ ‫بعد ال�سجن ال�صحراوي‪ ،‬ليظل معتق ً‬

‫‪239‬‬
‫حني �أطلق �رساحه مع جمموعة من املعتقلني‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫البي�ض أ‬
‫وال�سود‬ ‫�أما يف �سنة ‪ 1986‬فلم يكن تلفزيون أ‬
‫ال�صغري‪ ،‬يف منت�صف مهجع املعتقالت ال�سيا�سيات يف �سجن‬
‫ومن�سي فح�سب‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الن�ساء‪ ،‬نافذة م�رشفة على عامل خارجي بعيد‬
‫الخبار ال�سيئة منها �أو ًال قبل اجليدة!‬‫بل كان و�سيلة إلي�صال أ‬
‫الوىل‪ ،‬القناة الوحيدة التي يبثها‬ ‫على قناة التلفزيون أ‬
‫للخبار يف ال�ساعة ‪ 8.5‬لي ً‬
‫ال‬ ‫التلفزيون‪ ،‬و�أثناء الن�رشة الر�سمية أ‬
‫يبث حماكمات امل�سلمني‪� ،‬أو املتعاونني‬ ‫العالم الر�سمي ّ‬ ‫كان إ‬
‫معهم‪ ،‬وقد اتهموا ب�سل�سلة من االغتياالت ه ّزت البالد يف‬
‫الخرية‪ ،‬وكذلك ب�سل�سلة من التفجريات للحافالت‬ ‫ال�سنوات أ‬
‫ومرافق عامة �أخرى‪.‬‬
‫تطل جمموعة من ال�شباب‪ ،‬لهم �سحن اخلارجني‬ ‫كل يوم ّ‬
‫من القبور‪ ،‬على ال�شا�شة ال�ضئيلة يتلون جمموعة من اجلمل‬
‫املتالحقة ك أ�نهم روبوتات لقّنت ما عليها قوله‪.‬‬
‫ال�سالميات‪ ،‬ومعهن‬ ‫ذات ليلة بينما كانت املعتقالت إ‬
‫الخبار يف مهجعن بعد‬ ‫ال�شيوعية الوحيدة هند‪.‬ق‪ ،‬يتابعن أ‬
‫البواب‪� ،‬رصخت ي�رسى‪.‬ح فج أ�ة‪ ،‬و�ضعت يديها على‬ ‫�إغالق أ‬
‫فمها مت�سمرة‪ .‬انتبهت بقية املعتقالت �إليها دون �أن يعرفن ما‬
‫الذي يجري!!‪..‬‬
‫هبت ي�رسى واقفة من فورها‪ ،‬كانت ما تزال تغلق فمها‬ ‫ّ‬

‫‪240‬‬
‫بيديها وهي تدور كاملم�سو�سة يف املهجع وقد انفتحت عيناها‬
‫على �سعتهما‪ ،‬عينان م�صدومتان تن�ضحان رعب ًا هلع ًا وحزن ًا‪.‬‬
‫الر�ض داخلة يف نوبة فظيعة من‬ ‫فج أ�ة انهارت ي�رسى على أ‬
‫البكاء العايل والزعيق املتوح�ش حتى فقدت الوعي‪.‬‬
‫فيما بعد �ستعرف املعتقالت �أن ما حدث مع ي�رسى كان‬
‫الول‬ ‫ب�سبب اخلرب الذي ب ّثه التلفزيون‪ :‬خرب �إعدام زوجها وهو أ‬
‫ال�سالميني املحكومني يف تلك الليلة‪.‬‬ ‫يف قائمة إ‬
‫�ستتكرر الق�ص�ص على مدار ال�سنوات بني جدران الزنازين‪،‬‬
‫تختلف تفا�صيلها فح�سب‪ .‬يف �سنة ‪ 1984‬ويف اليوم ال�سابع‬
‫بال�ضبط العتقالها يف املنفردة طلبت هند‪.‬ق من ال�سجان �أن‬
‫تخرج �إىل التواليت‪ .‬هناك كانت فر�صتها الوحيدة للجلو�س‬
‫الذي كانت حمرومة منه يف الزنزانة �إال خل�سة �أثناء ذهاب‬
‫ال�سجانة‪� .‬إىل التواليت راحت هند تعرج �إذ �أن �أ�سفل قدميها‪،‬‬
‫املتقرح من التعذيب‪ ،‬يجعل �سريها �صعب ًا للغاية‪.‬‬
‫حني عدت �إىل املنفردة فوجئت ب�صابونة لها رائحة ذكية‬
‫مرمية يف عتم الزنزانة‪.‬‬
‫تعج ب أ�بي�ضها يف الزنزانة الفارغة �إال من‬ ‫كانت ال�صابونة ّ‬
‫علبة حمارم‪ ،‬ا�شرتيتها من ال�سجان ببقية املال املتبقي معي‪ ،‬ومن‬
‫املياه التي أ‬
‫متل �أر�ضها‪.‬‬
‫الوىل �شعرت باخلوف من هذه الهدية املفاجئة‪،‬‬ ‫للوهلة أ‬
‫ود�س�ستها ب�رسعة يف علبة املحارم‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫حني خرجت عند الظهر من جديد �إىل التواليت وعدت‬
‫�إىل املنفردة فوجئت بباكيت دخان �أجنبي �أي�ض ًا‪.‬‬
‫اليام ال�سابقة كنت �أالحظ وجود �ست منفردات يف‬ ‫يف أ‬
‫�آخر الكوريدور‪ ،‬واحدة منها يظل بابها مفتوح ًا على الدوام!‬
‫كنت �أعتقد �أن و�ضع املعتقل فيها كو�ضعي‪� ،‬أي �أن نزيلها جمرب‬
‫على فتح باب زنزانته لرياقبه ال�سجان ب�صورة م�ستمرة كما‬
‫يفعلون معي �أنا‪ .‬كنت �أفكر �أنه قد يكون جمرباً على الوقوف‬
‫مثلي طيلة الوقت‪ ،‬ورمبا كان املاء وامللح يخز �أقدامه احلافية‪..‬‬
‫مثلي �أي�ض ًا‪.‬‬
‫مع الزمن �رصت �أالحظ �أن و�ضع تلك املنفردة خا�ص‪ ،‬و�أنا‬
‫�أراقبها من �شق الطاقة يف باب زنزانتي‪.‬‬
‫ال �سمين ًا يتم�شى على هواه يف‬ ‫نزيل تلك املنفردة كان رج ً‬
‫الكوريدور فيما العنا�رص �ساهرة! يعني على مر�أى وم�سمع‬
‫المر الذي كان حما ًال حدوثه مع غريه‪.‬‬ ‫ال�سجانة!! أ‬
‫يف تلك الليلة‪ ،‬يف ال�ساعة الثانية فجراً‪ ،‬دق ّ باب منفردتي‬
‫و�أدخلت �سيجارة �شاعلة من �شق الطاقة!‬
‫العنا�رص كانوا نائمني بالت أ�كيد‪ .‬من يرمي �إيل بال�سيجارة‬
‫�إذاً؟!‪.‬‬
‫قمت من فوري �إىل الطاقة‪� ،‬سحبت ال�سيجارة ب�رسعة‪.‬‬
‫كنت خائفة ومتفاجئة ومرتبكة‪.‬‬
‫لكن �صوت ًا دافئ ًا‪ ،‬ال ي�شبه �صوت �سجاين البتة‪� ،‬أتاين فج أ�ة‪:‬‬

‫‪242‬‬
‫‪ -‬م�سا اخلري يا حلوة‪.‬‬
‫ال‪ ..‬من؟!!‬ ‫‪� -‬أه ً‬
‫قلت له بلهفة وقد �أح�س�ست للحظات ب أ�ين ح ّلقت خارج‬
‫منفردتي و�صوت رجويل حميم يخاطبني‪.‬‬
‫‪ -‬كيفك؟ كيف �أقدامك؟ كيف ج�سمك؟ من �أنت؟ ما‬
‫الذي فعلته حتى يعاملونك هكذا؟!!‬
‫‪... -‬‬
‫‪ -‬هل �أنت رئي�سة حزب ما‪ ..‬قلبي يتقطع عليك‪..‬‬
‫و�صلتك ال�صابونة؟‬
‫‪ -‬من �أنت؟‬
‫مج من لفافة التبغ ال�شهية‪.‬‬ ‫�س أ�لته بعد طول ا�ستماع و�أنا �أ ّ‬
‫كان الرجل قد راح ليهرول حافي ًا �إىل �آخر الكوريدور‪ ،‬اطمئن‬
‫�أن ال�سجانة ال ي�سمعونه‪ ،‬ثم عاد من جديد �إيل‪.‬‬
‫حفيف خطواته املت�سارعة كان يتناهى وا�ضح ًا �إيل‪..‬‬
‫�أجابني �أن ا�سمه �أبو مهند وهو �سكرتري يا�رس عرفات‬
‫الموال عرب طرابل�س‬ ‫ال�شخ�صي‪ .‬كان ينبغي �أن يقوم بتهريب أ‬
‫ف أ�لقي القب�ض عليه‪ ،‬وهو هنا منذ حوايل ت�سعة �أ�شهر‪.‬‬
‫‪ -‬بابي يظل مفتوح ًا‪ ..‬كل ما تريدينه �أ�ستطيع �أن �أجلبه‬
‫لك‪.‬‬
‫اليام وهند يف املنفردة‪ ،‬و�أبو مهند ينام خالل النهار‬ ‫مرت أ‬
‫وعند �أول الليل ي�ستيقظ ليدخل لها �سيجارة �شاعلة من الطاقة‪،‬‬

‫‪243‬‬
‫تنتظرها بفارغ ال�صرب‪ ،‬ويبد�أ باحلديث معها فيما تلمح هي‬
‫م�ضببة من �شق الطاقة ذاته‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫�صورته‬
‫الوراق‪ ،‬ثم �أو�صته �أن‬ ‫طلبت منه يوم ًا قلم ًا وجمموعة من أ‬
‫يكتب لها عناوين اجلرائد وهي ت�صله بانتظام‪.‬‬
‫‪ -‬العناوين فح�سب‪ ،‬كي �أعرف ماذا يدور يف اخلارج‪.‬‬
‫بعد فرتة �س أ�لها �أبو مهند �س ؤ�ا ًال كان ينبغي �أن ي�س أ�له قب ً‬
‫ال‪:‬‬
‫‪ -‬ما ا�سمك؟‬
‫‪ -‬هند‪..‬‬
‫حاملا �سمع �أبو مهند با�سمها اختفى �صوته فج أ�ة! امل�شهد‬
‫من �شق الطاقة بات فارغ ًا �أمام نظر هند‪ ،‬ثم �سمعت من بعيد‬
‫�صوت باب منفردته يغلق بعنف يف �سكون الليل‪.‬‬
‫مل تلبث هند �أن عادت �إىل النوم‪ ،‬كانت م�ستغربة لت�رصفه‬
‫لكنها ال ت�ستطيع �شيئ ًا‪ .‬ثم ا�ستيقظت من جديد على �صوته‬
‫الذي عاد من اخلارج‪.‬‬
‫�س أ�لته عن �سبب ت�رصفه‪.‬‬
‫‪ -‬حقيقة ذهبت ألبكي‪ ..‬مل �أكن �أريدك �أن تريني و�أنا‬
‫�أبكي‪ ..‬ا�سمك كا�سم ابنتي ال�صغرية‪ ..‬هند‪ ..‬ا�شتقت لها‬
‫كثرياً‪.‬‬
‫و�أدخل من �شق الطاقة �صورة البنته وابنه‪ :‬طفالن لطيفان‬
‫�أ�سمران‪ .‬و�أدخل مع ال�صورة ورقة عليها عناوين جرائد‬
‫اليوم‪.‬‬

‫‪244‬‬
‫‪ -‬اليوم ر�أيتك من اخللف و�أنت تخرجني �إىل التواليت‪.‬‬
‫يل حالة �أثريية ال �أقدر على و�صفها‬ ‫�صار �أبو مهند بالن�سبة �إ ّ‬
‫المل والبهجة‬ ‫حتى اليوم‪ ،‬حالة حملت يل طاقة هائلة على أ‬
‫الر�ضي يف منفردتي‪.‬‬ ‫و�سط الظالم ما حتت أ‬
‫الخرى‪:‬‬ ‫كان ي أ�تيني ب أ�خبار املعتقلني يف الزنزانات أ‬
‫�أحد كبار القادة ال�شيوعيني يف املنفردة املقابلة‪.‬‬
‫ال�سالميني‪ ،‬و‪ ...‬و‪...‬‬ ‫�أكرث املعتقلني من حويل من إ‬
‫د�س يل ورقة من �شق الطاقة و�إذ عليها ق�صيدة‬ ‫ذات يوم ّ‬
‫المر! ق�صيدة حب يف زنزانتي‪..‬‬ ‫ت�صور أ‬
‫حب! هل ب إ�مكان �أحد ّ‬
‫كان أ‬
‫المر �أ�سطوري ًا!‪.‬‬
‫�شق الطاقة ميرر �إىل زنزانتي املنفية عناوين اجلرائد‪،‬‬ ‫ا�ستمر ّ‬
‫الخبار‪ ،‬ال�سجائر ال�شاعلة‪ ،‬ال�صوت الدافئ‪ ،‬وق�صائد احلب‪،‬‬ ‫أ‬
‫ق�صائد كفيلة بجعل �أيامي املتعاقبة مت�ضي دون �أن تلوثها مرارة‬
‫ال�سجون‪.‬‬
‫ذات ليلة بادرين �أبو مهند من �شق الباب‪:‬‬
‫‪ -‬جلبت يل امر�أتي بيجامتني �س أ�لب�سهما و�أريك �إياهما‪.‬‬
‫‪ -‬ياهلل‪� ..‬أنا ناطرتك‪.‬‬
‫�شق الطاقة ألراقبه‪ ،‬وابتعد هو كي �أ�ستطيع‪،‬‬ ‫وقفت على ّ‬
‫ال‪ .‬كان قد ارتدى البيجاما‬ ‫بحيز الر ؤ�ية ال�ضيق‪ ،‬ر ؤ�يته كام ً‬
‫ّ‬
‫ً‬
‫اجلديدة ووقف با�ستعداد‪ .‬بدا �شكله م�ضحكا للغاية ببيجامته‬
‫الرمادية ال�ضيقة وكر�شه الكبري فيما �أعلى البنطال يدخل يف‬

‫‪245‬‬
‫تفا�صيل و�سطه ال�سمني‪.‬‬
‫جاهدت لكبت قهقهات خرجت رغم ًا عني من داخل‬
‫املنفردة‪.‬‬
‫‪� -‬أحبك‪.‬‬
‫يل يف �صمت الكوريدور‪..‬‬ ‫هم�س �إ ّ‬
‫يف اليوم التايل‪ ،‬وهو اليوم ال�سابع ع�رش على اعتقالها الثاين‪،‬‬
‫الخر‬ ‫نقلت هند من منفردتها �إىل املنفردة ‪ 36‬يف الكوريدور آ‬
‫المن‪.1‬‬ ‫من فرع أ‬
‫كانت الزنزانة بعيدة للغاية عن �أبي مهند‪.‬‬
‫هناك راح �شعور االختناق يحا�رصها‪ ،‬يطبق بكلتا يديه على‬
‫رقبتها‪ .‬راحت ت�شعر بال�سجن ثانية بغياب �أبي مهند‪ ،‬جدران‬
‫وت�ضيق اخلناق على روحها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املنفردة ت�ضغط على �صدرها‬
‫احلل الوحيد كان �أن تطلب من ال�سجان اال�ستحمام ع ّلها‬
‫تتخل�ص من �شعور االختناق �إن غادرت املنفردة‪ ..‬بعد ألي‬
‫قبل ال�سجان و�أخرجها �إىل التواليتات‪.‬‬
‫يف منت�صف تلك الليلة دقّ باب املنفردة‪ ،‬و�سمعت هند من‬
‫جديد هم�س �أبي مهند!!‬
‫‪ -‬اهلل يلعنهم َمل نقلوك بعيداً عني؟‪ ..‬لكن ال تخايف �س�آتي‬
‫�إليك كل يوم‪ ..‬كل يوم‪..‬‬
‫لكن مل مير وقت طويل حتى نقلت هند‪.‬ق من الزنزانة �إىل‬
‫�سجن الن�ساء املدين فيما بقي �أبو مهند يف الفرع‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫بعد ذلك ب�سنوات‪ ،‬ويف �سنة ‪ ،1988‬كان احلائط الفا�صل‬
‫المن‪ 1‬ومنفرداته هو ال�شاهد الوحيد‬ ‫بني مزدوجات فرع أ‬
‫على ق�صة احلب الغريبة بني عماد وحميدة‪.‬ت‪.‬‬
‫بنواة الزيتون‪ ،‬التي تطرق بلغة مور�س‪ ،‬ا�ستطاع عماد‬
‫وحميدة �أن يلهبا ذاك احلائط بال�شغف‪� ،‬أن يجعال جموده نهراً‬
‫من الغواية واحلب‪.‬‬
‫بنواة الزيتون ا�ستطاع كل منهما �أن ينقل عامله‪ ،‬من وراء‬
‫ال �إىل الثاين‪ .‬ا�ستطاع كل منهما �أن يعي�ش تفا�صيل‬ ‫اجلدار‪ ،‬كام ً‬
‫الخر وحبه و�أوقاته املتطاولة‪ ،‬عي�ش كامل من وراء‬ ‫عي�ش آ‬
‫اجلدار‪ ،‬عامل من التفا�صيل اليومية ال�صغرية يف الزنازين‪:‬‬
‫الحاديث‪ ،‬ال�شجار‪ ،‬وحتى جل�سات‬ ‫الطبخ‪ ،‬القراءة‪ ،‬أ‬
‫احلب احلميمة‪.‬‬
‫كان عماد على علم بتفا�صيل الزيارات يف مزدوجات‬
‫والغرا�ض التي ت�صل معها‪ ،‬بالطعام الذي‬ ‫املعتقالت‪ ،‬بالهدايا أ‬
‫�ستتناوله حميدة‪ ،‬بتفا�صيل �أحالمها وهواج�سها‪ ،‬بفرحها‬
‫وحزنها‪..‬‬
‫باملقابل كانت حميدة تعي�ش الوح�شة القاتلة يف زنزانة‬
‫عماد املنفردة‪ ،‬تق�ضي �أوقاته ثانية بثانية وهي مت�ضي ثقيلة ثقيلة‪،‬‬
‫و�صمت املنفردة تك�رسه طرقات نواة الزيتون‪� ،‬أو طرقات‬
‫الخرى من اجلدار البارد الذي ي�ستحيل‬ ‫�أ�صابعها على اجلهة أ‬
‫فج أ�ة حاراً كاحلب‪.‬‬

‫‪247‬‬
‫بعد �أن يغيب ال�سجانة مت�ضي �ساعات الليل الطويلة‬
‫كلحظات وهما يتحادثان بالدق‪ ..‬بالدق فقط‪.‬‬
‫عماد كان ال�شخ�ص الوحيد الذي ا�ستطاع �أن يعينني على‬
‫حتمل �سنوات ال�سجن‪ :‬م�شاعر عجيبة‪ ،‬ا�ستثنائية‪ ،‬رمبا ال تنتاب‬
‫املر�أة �إال هناك يف عتمة ال�سجن‪.‬‬
‫كان لدي يقني‪ ،‬لن ي�ستطيع �أحد تبديله‪� ،‬أن حياتي كلها‬
‫الخر من‬‫�ستنتهي يف حال غياب دقاته‪ ،‬يف حال غدا اجلانب آ‬
‫احلائط فارغ ًا‪ ،‬فيما تنفتح �أبواب الفردو�س �أمامي �إن ا�ستطعت‬
‫�أن �أملح‪ ،‬من ثقب باب الزنزانة‪ ،‬طرف بيجامة عماد يف‬
‫الكوريدور وهو خارج �إىل املرحا�ض‪ .‬هذه اللمحة قد تكلفني‬
‫�ساعات من االنتظار‪ ،‬و�أنا حمنية الظهر‪� ،‬أ�سرتق النظر من الثقب‪.‬‬
‫كنت �أرقب �أوقات خروج املعتقلني �إىل اخلط ثالث مرات يف‬
‫اليوم‪ ،‬ذلك �أن حماماتنا كانت يف زاوية من املزدوجات لذلك‬
‫مل نكن نخرج البتة‪� .‬أحيان ًا يكون حظي طيب ًا و�أملحه مرة من‬
‫تلك املرات‪.‬‬
‫يف يوم �أهدتني ال�صدفة هدية رائعة وا�ستطعت �أن �أرى‬
‫وجهه وا�ضح ًا وهو ي�سرتق النظر �إىل باب مزدوجاتنا‪.‬‬
‫�أخربته بذلك يف رحلة من رحالت �أحاديثنا املتطاولة‪.‬‬
‫بالن�سبة �إيل كان وجه عماد يف تلك اللحظة �أجمل وجه‬
‫ر�أيته يف حياتي‪ ،‬و�شعوري ب أ�نه ي�سرتق النظر كي يلمحني بعث‬
‫يف متعة هائلة وامتالء غريب له عالقة رمبا بامتالء أ‬
‫النوثة يف‬

‫‪248‬‬
‫داخلي‪.‬‬
‫المن! �ألي�س‬ ‫كنت �أمتلئ �أنوثة و�أنا يف املزدوجات يف فرع أ‬
‫أ‬
‫المر مثرياً لل�ضحك؟!‬
‫بعث عماد يوم ًا بر�سالة �إىل حميدة مع ال�سجان‪.‬‬
‫حتدث فيها عن م�شاعره الغريبة واملت�صارعة‪ ،‬عن حب‬
‫امللح‪ :‬هل نحن‬ ‫اجتاح منفردته أ‬
‫ومل �أوقاته فيها‪ .‬كان �س ؤ�اله ّ‬
‫حق ًا عا�شقان؟ وهل �سنبقى لبع�ضنا وفقط لبع�ضنا؟!‪.‬‬
‫ثم نقل عماد مع بقية املعتقلني �إىل ال�سجن الكبري‪.‬‬
‫هربتها مع‬‫�إىل هناك بعثت حميدة ر�سالة مع �أحد الذاهبني‪ّ ،‬‬
‫الوحد‪ :‬نعم‪.‬‬ ‫ال�سجان‪ ،‬وكان جوابها أ‬
‫خرجت حميدة من املعتقل يف �سنة ‪ ،1990‬وخرج عماد‬
‫بعدها ب�سنوات‪� .‬أ�ضحى لكل منهما حياته اخلا�صة‪ ،‬وهما �إىل‬
‫للخر‪..‬‬ ‫اليوم مل يلتقيا‪ ،‬ومل يعرف �أحدهما ال�شكل احلقيقي آ‬
‫ذلك احلب‪ ،‬الذي خلقه ال�سجن ولياليه الطويلة‪ ،‬ظل هناك‬
‫بني جدرانه الرطبة وممراته وزنازينه املعتمة‪ ،‬احتفظ به رمبا‬
‫لعا�شقني قادمني �سيف�صلهما يوم ًا جدار �آخر‪ ،‬و�سيخلق بينهما‬
‫ك�رساج ي�ضيء ظالم الزنازين ويبدد وح�شتها‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫يف ال�سنة نف�سها‪� ،‬سنة ‪ ،1988‬وبعد �أ�شهر من اعتقال �أمرية‪.‬‬
‫يغ�ص بكل‬‫المن‪ 2‬الع�سكري مبدينة ال�شمال ّ‬ ‫ح كان بهو فرع أ‬
‫املعتقلني ال�شيوعيني‪ :‬رفاق‪ ،‬م�شاريع رفاق‪ ،‬رفاق مر�شحني‪،‬‬

‫‪249‬‬
‫ال�صدقاء كانوا يفرت�شون �أر�ض البهو‪.‬‬ ‫وحتى أ‬
‫كان اعتقا ًال جماعي ًا وم�رض‪.‬ج‪ ،‬زوجها‪ ،‬غري موجود!!‬
‫على الرغم من �أنه كان امل�س ؤ�ول عن منطقة املدينة وينبغي �أن‬
‫يكون من �أوائل املعتقلني!‪.‬‬
‫راح خوف ما ي�ساور �أمرية من عدم �إح�ضار م�رض �إىل الفرع‪،‬‬
‫�أو هذا ما ظ ّنته‪ ،‬على الرغم من �أنه اعتقل قبل �شهرين ون�صف‬
‫الن‪� ..‬أين �سيكون �إذاً؟!!‬
‫من آ‬
‫انتظرت �أمرية بفارغ ال�صرب �أن تراه �أول و�صولها �إىل‬
‫المن‪ ،‬وقت تقرر نقل املعتقالت واملعتقلني‬ ‫العا�صمة‪� ،‬إىل فرع أ‬
‫�إىل هناك‪.‬‬
‫المن بالعا�صمة!‬ ‫لكن م�رض مل يكن يف فرع أ‬
‫�س أ�لت �أمرية ال�سجان عنه‪ ،‬ثم مدير ال�سجن حني �أخذت‬
‫�إىل التحقيق‪ .‬اجلميع �أنكروا وجوده يف الفرع‪� ..‬أنكروا‬
‫و�أنكروا‪.‬‬
‫�أين �سيكون م�رض �إذاً!!‬
‫�إح�سا�س عميق كان ي�ساور �أمرية‪� ،‬إح�سا�س ي�صل ّ‬
‫حد‬
‫المن‪ .‬لكن‪ ،‬رمبا كنوع‬ ‫اليقني‪ ،‬ب أ�ن م�رض موجود هنا يف فرع أ‬
‫كذبت يقينها‪ ،‬و�آخر ما خطر‬ ‫من �أنواع الدفاع عن النف�س‪ّ ،‬‬
‫ببالها �أن يكون م�رض قد قتل‪.‬‬
‫انتقلت مع بقية املعتقالت �إىل �سجن الن�ساء‪ ،‬بعد �أ�شهر‬
‫المن‪ ..‬كان قلبي يخربين منذ زمن �أن‬ ‫من االعتقال يف فرع أ‬

‫‪250‬‬
‫�أمراً �سيئ ًا ح�صل‪ ،‬لكني مل �أرد ت�صديقه‪ ،‬كنت �أحاول تكذيب‬
‫�إح�سا�سي و�سط �إ�شاعات عن غياب م�رض و�أ�سبابه وعما يكون‬
‫قد ح�صل‪.‬‬
‫يف حزيران �سنة ‪ 1988‬جاءت غرناطة‪.‬ج‪ ،‬مع حملة‬
‫من املعتقالت اجلدد �إىل �سجن الن�ساء‪ ،‬بخرب �أكيد �أن م�رض‬
‫ا�ست�شهد‪.‬‬
‫�أي خرب فظيع ذاك الذي حملته غرناطة �إ ّ‬
‫يل‪..‬‬
‫علي‪ ،‬بقدر ما كنت �أعتقد‬ ‫بقدر ما كان للخرب وقع ال�صاعقة ّ‬
‫علي كبح حزين‪ ،‬كبح فجيعتي بكارثة �أتتني م�ضاعفة و�أنا‬ ‫�أن ّ‬
‫يف ال�سجن‪.‬‬
‫ال �أريد �أن �أ�صدق �أن م�رض قتل‪ ..‬لكنه يف النهاية قتل‪.‬‬
‫ظننت وقتها �أن قوتي كمنا�ضلة يف املعتقل تكون بتما�سكي‪.‬‬
‫هذا التما�سك يتم ّثل بتطويع نف�سي ألكون �أ�شبه بتمثال حجري‪،‬‬
‫فيما كنت �أرغب بال�رصاخ‪ ،‬بالبكاء ب�صوت عال كاملجانني‪،‬‬
‫ب�رضب ر�أ�سي باجلدران‪ ،‬بتك�سري أ‬
‫ال�شياء‪.‬‬
‫كنت �أرغب ب أ�ن �أجن حق ًا كي �أرتاح‪.‬‬
‫حبيبي قتل و�أنا حمبو�سة هنا وما بيدي حيلة‪.‬‬
‫بعد زمن �صارت الكوابي�س حتا�رصين‪� .‬أ�ستيقظ و�أنا �أبكي‬
‫كمم�سو�سة‪ ،‬و�أرجتف‪..‬‬
‫المر‪ ،‬ابنتي خارج ًا بال‬ ‫يف النهاية كان م�رض قد قتل وانتهى أ‬
‫�أب �أو �أم‪ ،‬و�أنا هنا يف املعتقل لزمن ال �أ�ستطيع التكهن به‪ ،‬وال‬

‫‪251‬‬
‫�أحد ي�ستطيع ذلك‪ .‬بدا يل �أن نفق حياتي ال نهاية له‪ ،‬مظلم بال‬
‫�أي ب�صي�ص من �أمل‪.‬‬
‫يا �إلهي كم كانت �سنوات ع�صيبة‪ ..‬ع�صيبة للغاية‪.‬‬
‫‪...‬‬
‫يف �سجن الن�ساء املدين كانت ناهد‪.‬ب تكتب الر�سائل‬
‫وتكتبها‪ .‬مل تكن مت أ�كدة من �إمكانية �إي�صالها �إىل حبيبها خارج ًا‬
‫لكنها كانت تكتب له وتكتب وتكتب‪ .‬بع�ض تلك الر�سائل‬
‫الخر ما زال مدون ًا على دفرت الذاكرة‬ ‫و�صل بالفعل‪ ،‬والبع�ض آ‬
‫فح�سب‪ .‬على الرغم من ذلك مل ت�ستطع تلك الر�سائل �أن جتعل‬
‫ال‪ ،‬فقد �أحب امر�أة �أخرى وارتبط‬ ‫ال كحبيبها ينتظرها طوي ً‬ ‫رج ً‬
‫بها قبل �شهور من �إطالق �رساح ناهد‪.‬‬
‫�إحدى تلك الر�سائل بد�أت كما يلي‪:‬‬
‫(�إليك كانت البداية‪:‬‬
‫�أحبك بعمق ال�سنني التي ق�ضيناها مع ًا كرم�شة عني‪.‬‬
‫�أحبك بعمق رائحة البنف�سج يف �سهول الربيع‬
‫�أحبك بعمق جراح الوطن احلزين التي تلم�سناها �سوية‪.‬‬
‫�أحبك بعمق التجربة التي �أخو�ضها‪ ،‬والب�صمات التي‬
‫و�شمتها هي و�أنت على جلدي‪.‬‬
‫(‪)123‬‬
‫‪...‬‬
‫دائم ًا كنت حا�رضاً يف الذاكرة‪ ..‬دائم ًا ومنذ اللحظة‬
‫ال�شارة تعني دائم ًا انقطاع ًا يف ن�ص الر�سالة �إما من أ‬
‫ال�صل �أو ب�سبب‬ ‫(‪ )123‬تلك إ‬
‫خيارات الن�رش‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫الوىل‪ ..‬كنت معي و�أمامي‪� ..‬أحدثك عن كل �شيء‬ ‫أ‬
‫الحزان‪ ..‬مواجهتي مع اجلالد بكل‬ ‫بالتف�صيل‪ ..‬امل�شاعر‪ ..‬أ‬
‫نقاط �ضعفها وقوتها‪ ..‬حلظات الفرح امل�رسوقة من اجلالد‪..‬‬
‫�أ�سماء �صديقاتي اجلدد‪..‬‬
‫‪� ...‬إنني باملقابل �أحب �أن �أعرف كل �شيء عنك وبالتف�صيل‬
‫ال‪ .‬غريتي من بيتنا اجلميل‪ ..‬ومن‬ ‫تخف غريتي قلي ً‬‫ّ‬ ‫اململ كي‬
‫وال�صدقاء‪ ..‬وحتى ال�رشطة‪ ..‬كل‬ ‫ال�سيارات وال�شوارع‪ ..‬أ‬
‫ه ؤ�الء يروك ويلم�سوك وي�شمون رائحتك �إال �أنا‪� ..‬أفال �أغار؟‬
‫و�أنا‪ ..‬ورغم كل �شيء لن �أده�ش ولن �أفاج أ�‪ ..‬ف أ�نا �أعرف‬
‫اليام التي تطعن الذاكرة‪ ..‬وحراب‬ ‫الفرق متام ًا‪ ..‬بني حراب أ‬
‫الن‪ ..‬رغم تداخله‬ ‫تطعن كل �شيء وت�سقي الذاكرة‪ ..‬وحبنا آ‬
‫مع كل اخلاليا‪ ..‬رغم تع�شقه فينا‪ ..‬جمرد ذاكرة رغم خ�صوبتها‬
‫وجمالها وعبقها الدائم)‪.‬‬
‫بدون تاريخ‬ ‫ ‬

‫يف نهاية ر�سالة �أخرى تقول ناهد‪:‬‬


‫(حبيبي الرائع‪:‬‬
‫�إن �س أ�لتني عن احلرية �أقول لك‪ :‬هي الهواء النظيف‪،‬‬
‫�صخب ال�شوارع‪ ،‬أ‬
‫ال�صدقاء اجلميلون‪ ،‬رائحة البحر وعبق‬
‫الهل‪ ،‬زحمة املهرجانات وامل�سارح‪ ..‬كل ذلك‬‫الغابة‪ ،‬حنان أ‬
‫هو حريتي وحلمي الرائع �أحمله على ظهري ويثقل علي‪.‬‬

‫‪253‬‬
‫ال ت�س أ�لني ملاذا مل �أ�ضف عليها كلمة و»�أنت» ألنها بدونك‬
‫ال قيمة لها �أبداً‪.‬‬
‫من ورقة ر�أ�س ال�سنة �شعرت �أنك حزين حزين جداً‪� ..‬أكرث‬
‫مما كنت �أتوقع ومن قبل عندما �أخربتني عن �إ�شكاالت عملك‬
‫وب أ�نه غري مريح �سيطر مزاجك احلزين علي و�رصت �أفكر بك‬
‫بحزن �أكرب من ال�سابق‪ ..‬قلقلة عليك‪� ..‬أريدك �سعيداً رغم‬
‫كل �شيء‪ ..‬ال �أريدك �أن تتعذب وتعاين وال على �أي �صعيد‪..‬‬
‫�أريدك‪ ..‬ولكن �أعود و�أ�س أ�ل نف�سي كيف؟؟ كيف ميكن التوفيق‬
‫بني عنا�رص متنافرة‪ ..‬كيف ميكن التوفيق بني ذكرى وواقع‪..‬‬
‫بني وردة وبوط ع�سكري‪ ..‬بني �رشاع و�إع�صار بني حركة‬
‫البدية و�سكون الرمال على �شواطئه؟؟‪.‬‬ ‫املوج أ‬
‫لن �أذكر املزيد عن هذا املو�ضوع‪ ..‬ولكني �أفاج أ� �أ�صعق‬
‫اليام عن ر�أيي وم�شاعري‪ ..‬فاحلري‬ ‫حني ت�س أ�لني يف يوم من أ‬
‫بي �أن �أ�س أ�لك �أنت‪ ..‬و�أرجو �أن تطلعني على م�شاعرك ب�رصاحة‬
‫بكل حاالتها املتغرية حتى القا�سية منها‪ ..‬فاحلقيقة باملح�صلة‬
‫النهائية هي املريحة‪ ..‬و�إن قا�سينا منها �آالم ّ‬
‫مم�ضة وعميقة‪� ..‬إال‬
‫�أنها الدواء الوحيد)‬
‫�سجن الن�ساء‬ ‫ ‬
‫ ‪1990/2/19‬‬ ‫ ‬ ‫ ‬ ‫ ‬

‫‪254‬‬
‫مبثابة خامتة‬

‫‪255‬‬
‫رمبا كان هذان املقطعان ملخ�صني خلامتة ما‪.‬‬
‫الول كتبته الطفلة جود على دفرت اللغة العربية يف‬ ‫أ‬
‫املدر�سة‪:‬‬
‫(با�سم �أمي و�بي ‪:‬‬
‫أ (‪)124‬‬

‫ملاذا كل النا�س‬
‫مظلومون يف ال�سجن‬
‫هذا لي�س من القانون‬
‫�أرجو من اجلميع االنتباه جيداً)‬
‫االثنني ‪2006/1/9‬‬ ‫ ‬

‫(‪ )124‬جود (‪�8‬سنوات) كتبت هذا املقطع بعد �أن اكت�شفت �أن والديها كانا‬
‫�سجينني‪ .‬جود هي ابنة حميدة‪ .‬ت (معتقلة ثالث �سنوات) وغياث‪ .‬ج‬
‫الحزاب ال�شيوعية‬ ‫(معتقل ع�رش �سنوات)‪ ،‬وكالهما بتهمة االنت�ساب �إىل �أحد أ‬
‫املعار�ضة‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫املقطع الثاين كتبته ناهد(‪ )125‬يف نهاية دفرتها‪:‬‬
‫(�شوارع العا�صمة و�أ�ضوا ؤ�ها الفاتنة تلقي ِ‬
‫عليك التحية‬
‫الر�صفة‬ ‫م�شيت فيها حتى تعبت أ‬
‫تغزلت بها حتى غارت النجوم‬
‫ع�شقتها حتى بكت الرجال‬
‫ومازلت �أ�رصخ منذ عودتي �إليها‪:‬‬
‫يا مدينتي اجلميلة واخلائنة‬ ‫ ‬
‫ها�أنذا قد عدت)‪.‬‬ ‫ ‬

‫الخري الذي �أ�ضيف �إىل دفرت مذكرات ناهد‪ .‬ب يف املعتقل بعد‬ ‫(‪ )125‬املقطع أ‬
‫�إطالق �رساحها ب أ�يام‬

‫‪257‬‬
‫ثبت املعتقالت املذكورات فى الكتاب‬
‫(ال�سماء ح�سب الرتتيب أ‬
‫البجدي)‬ ‫أ‬

‫‪� -‬آ�سيا‪� .‬ص‪ :‬من مواليد ‪ 1960‬اعتقلت من �سنة ‪ 1987‬وحتى ‪.1990‬‬


‫تركت ابنتني �صغريتني يف اخلارج‪.‬‬
‫‪� -‬أمرية‪ .‬ح‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ ،1958‬اعتقلت يف �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى �سنة ‪.1991‬‬
‫‪� -‬أنطوانيت‪ .‬ل‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1967‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى �سنة ‪1990‬‬
‫‪ -‬بثينة‪ .‬ت‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ ،1957‬اعتقلت كرهينة عن زوجها‬
‫يف �سنة ‪ 1987‬وحتى �سنة ‪.1990‬‬
‫‪ -‬متا�رض‪ .‬ع‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪� ،1961‬أخذت رهينة يف �سنة‪،1987‬‬
‫وكانت قد تخرجت من كلية الطب للتو‪ .‬بقيت معتقلة حتى �سنة ‪.1991‬‬
‫‪ -‬تهامة‪ .‬م‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ ،1964‬اعتقلت ملدة �سنة تقريب ًا‪،‬‬
‫وذلك يف �سنة ‪ 1992‬ثم �أطلق �رساحها ومتت حماكمتها وهي يف اخلارج‪.‬‬
‫‪ -‬جميلة‪ .‬ب‪ :‬معتقلة املنظمة ال�شيوعية العربية الوحيدة اعتقلت ب�صورة‬
‫الن يف أ‬
‫الرا�ضي‬ ‫متوا�صلة من �سنة ‪ 1975‬وحتى �سنة ‪ 1991‬وهي تقيم آ‬
‫الفل�سطينية املحتلة يف مدينة القد�س‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫‪ -‬حميدة‪ .‬ت‪ :‬معتقلة �سيا�سية فل�سطينية من مواليد ‪ .1962‬اعتقلت من �سنة‬
‫‪ 1987‬وحتى �سنة ‪.1990‬‬
‫‪ -‬ح�سيبة‪ .‬ع‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ ،1959‬اعتقلت للمرة أ‬
‫الوىل �سنة‬
‫‪ 1979‬وحتى �سنة ‪ 1980‬ويف املرة الثانية من �سنة ‪ 1986‬وحتى �سنة‬
‫‪.1991‬‬
‫الوىل يف‬‫‪ -‬خديجة‪ .‬د‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1959‬اعتقلت للمرة أ‬
‫‪ 1984‬ويف املرة الثانية من �سنة ‪� 1992‬إىل �سنة ‪1998‬‬
‫‪ -‬دالل‪ .‬م‪ :‬من مواليد ‪ 1958‬اعتقلت من �سنة ‪ 1987‬وحتى �سنة ‪1990‬‬
‫ولديها ولدان‪.‬‬
‫‪ -‬روزيت‪ .‬ع‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1955‬اعتقلت من �سنة ‪1978‬‬
‫وحتى �سنة ‪ 1980‬ومن �سنة ‪� 1992‬إىل �سنة ‪.1993‬‬
‫‪ -‬رجاء‪ .‬م‪ :‬من مواليد ‪ . 1960‬اعتقلت من �سنة ‪ 1987‬وحتى �سنة ‪1991‬‬
‫ظل زوجها يف اخلارج وابنتها‪.‬‬
‫‪ -‬رنا‪ .‬م‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1963‬اعتقلت يف �أوائل �سنة ‪1988‬‬
‫وحتى �سنة ‪1991‬‬
‫‪ -‬رماح‪ .‬ب‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1966‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى �سنة ‪1991‬‬
‫‪ -‬زهرة‪ .‬ك (�أم كرم)‪ :‬من �أكرب املعتقالت ال�شيوعيات من مواليد الثالثينيات‬
‫اعتقلت من �سنة ‪ 1987‬وحتى �سنة ‪ 1991‬وتوفيت بعد �إطالق �رساحها‪.‬‬
‫‪� -‬سحر‪ .‬ب‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ ،1957‬اعتقلت يف �سنة ‪1979‬‬
‫وحتى �سنة ‪ ،1980‬ومن �سنة ‪ 1987‬وحتى �سنة ‪.1991‬‬
‫‪� -‬سناء‪ .‬ح‪ :‬معتقلة �سيا�سية مواليد ‪ 1958‬اعتقلت من �سنة ‪ 1987‬وحتى‬
‫�سنة ‪. 1991‬‬

‫‪259‬‬
‫‪� -‬سونا‪� .‬س‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1963‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى �سنة ‪ 1990‬يف فرع أ‬
‫المن‪.‬‬
‫‪� -‬سهام‪ .‬م‪ :‬من مواليد ‪ 1957‬اعتقلت من �سنة ‪ 1987‬وحتى ‪1990‬‬
‫ولديها ولدان‪.‬‬
‫ال�سالميني من مواليد �سنة ‪ 1962‬اعتقلت‬ ‫‪� -‬سلوى‪ .‬ح‪ :‬معتقلة من رهائن إ‬
‫مع �أمها و�أختها من �سنة ‪ 1983‬وكانت حامال بابنتها �سمية‪ .‬و�طلق �رساحها‬
‫أ‬ ‫ً‬
‫يف �سنة ‪1989‬‬
‫‪� -‬سمية‪ .‬ح‪ :‬ابنة �سلوى‪.‬ح‪ .‬ولدت يف ال�سجن �سنة ‪ 1983‬وظلت معتقلة‬
‫مع �أمها حتى �إطالق �رساح إ‬
‫ال�سالميات يف �سنة ‪ 1989‬وكان عمرها �سبع‬
‫�سنوات‪.‬‬
‫‪� -‬سامية‪ .‬ح‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ ،1964‬اعتقلت من �أوائل �سنة‬
‫‪ 1988‬وحتى �سنة ‪.1990‬‬
‫‪� -‬سالفة‪ .‬ب‪ :‬معتقلة من مواليد ‪ 1965‬اعتقلت من �سنة ‪ 1987‬وحتى �سنة‬
‫‪.1991‬‬
‫ال�سالميني من مواليد ‪ 1961‬اعتقلت من �سنة‬
‫‪� -‬شفاء‪ .‬ع‪ :‬معتقلة من إ‬
‫‪ 1981‬وحتى �سنة ‪ 1986‬بفرع أ‬
‫المن‪.‬‬
‫‪� -‬شفق‪ .‬ع‪�( :‬شفيقة) معتقلة من مواليد ‪ 1959‬اعتقلت من �سنة ‪1986‬‬
‫وحتى ‪.1989‬‬
‫‪� -‬ضحى‪ .‬ع‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ ،1965‬اعتقلت يف �أوائل �سنة‬
‫‪ 1993‬وحتى نهايات �سنة ‪.1998‬‬
‫‪ -‬عزيزة ‪.‬ج‪ :‬معتقلة �إ�سالمية رهينة عن زوجها النقيب منفذ عملية املدفعية‪.‬‬
‫بقيت يف �أحد ال�سجون ال�شمالية مدة �أربع �سنوات‪ .‬ثم نقلت �إىل �سجن‬
‫الن�ساء‪� .‬أطلق �رساحها يف �سنة ‪.1991‬‬

‫‪260‬‬
‫‪ -‬غرناطة‪ .‬ج‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ ،1966‬اعتقلت �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى �سنة ‪.1991‬‬
‫‪ -‬غزوة ‪.‬ك‪ :‬معتقلة �سيا�سية �إ�سالمية وهي طبيبة من مواليد ‪ 1964‬اعتقلت‬
‫من �سنة ‪ 1981‬وحتى �سنة ‪.1989‬‬
‫‪ -‬فاديا‪� .‬ش‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1958‬اعتقلت منذ �أوائل �سنة‬
‫‪ 1988‬وحتى �سنة ‪.1991‬‬
‫‪ -‬فاطمة‪ .‬خ‪ :‬معتقلة من مواليد ‪ 1963‬اعتقلت من �سنة ‪ 1987‬وحتى �سنة‬
‫‪ ،1991‬تنقلت بني فروع أ‬
‫المن و�سجن الن�ساء‪.‬‬
‫‪ -‬فاطمة‪ .‬ع‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1964‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى ‪.1991‬‬
‫‪ -‬لينا‪ .‬م‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1961‬اعتقلت يف املرة أ‬
‫الوىل �سنة‬
‫‪ 1984‬ويف املرة الثانية من �سنة ‪� 1987‬إىل �سنة ‪.1991‬‬
‫‪ -‬لينا‪ .‬ع‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1966‬اعتقلت ملدة �سنة واحدة كرهينة‬
‫وذلك من �سنة ‪ 1987‬وحتى ‪.1988‬‬
‫‪ -‬لينا‪ .‬و‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ .1959‬اعتقلت يف �سنة ‪ 1987‬وحتى‬
‫�سنة ‪.1990‬‬
‫‪ -‬جمد‪� .‬أ‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1966‬اعتقلت يف �سنة ‪� .1989‬أطلق‬
‫�رساحها بعد �سنة و�شهرين من االعتقال وذلك �سنة ‪ .1990‬هي اليوم تعي�ش‬
‫كالجئة �سيا�سية يف مدينة هيو�سنت ‪.‬‬
‫‪ -‬مرمي‪ .‬ز‪ :‬اعتقلت ملدة �ستة �أ�شهر من بداية �سنة ‪ 1988‬وحتى �أوا�سطها‪.‬‬
‫‪ -‬منى‪� .‬أ‪ :‬من املعتقالت ال�سيا�سيات مواليد ‪ 1958‬اعتقلت يف �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى �سنة ‪1991‬‬

‫‪261‬‬
‫‪ -‬مي‪ .‬ح‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1957‬اعتقلت يف ‪ 1987‬بقيت‬
‫معتقلة مدة �سنتني ليطلق �رساحها بعد مدة ب�سبب و�ضعها ال�صحي‪.‬‬
‫‪ -‬ناهد‪ .‬ب‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ ،1958‬اعتقلت يف �أواخر �سنة‬
‫‪ 1987‬وحتى نهاية �سنة ‪.1991‬‬
‫‪ -‬هالة‪ .‬ف‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1965‬اعتقلت يف �سنة ‪ 1987‬و�أطلق‬
‫�رساحها قبل بقية املعتقالت ب�سبب و�ضعها ال�صحي وذلك �سنة ‪.1990‬‬
‫‪ -‬هبة ‪.‬د‪ :‬وهي معتقلة �سيا�سية رهينة عن �أخيها النا�شط يف تنظيم إ‬
‫ال�سالميني‪،‬‬
‫اعتقلت من �سنة ‪ 1980‬وحتى �سنة ‪.1989‬‬
‫‪ -‬هتاف‪ .‬ق‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ .1957‬اعتقلت من �سنة ‪1987‬‬
‫وحتى ‪ .1990‬بقي زوجها وطفالها االثنان خارج ًا‪.‬‬
‫‪ -‬هدى‪ .‬ك‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ .1965‬اعتقلت �سنة ‪ 1987‬و�أطلق‬
‫�رساحها بعد �ستة �أ�شهر‪.‬‬
‫‪ -‬هند‪� .‬أ‪ :‬معتقلة من مواليد ‪ 1965‬اعتقلت من �سنة ‪ 1988‬وحتى �سنة‬
‫‪ 1990‬يف فرع أ‬
‫المن‪.‬‬
‫‪ -‬هند‪ .‬ق‪ :‬معتقلة �سيا�سية من مواليد ‪ 1956‬اعتقلت �أول مرة يف �سنة‬
‫‪ 1982‬وحتى �سنة ‪ 1983‬ويف املرة الثانية من �سنة ‪ 1984‬وحتى �سنة‬
‫‪.1991‬‬
‫‪ -‬وفاء‪� .‬إ‪ :‬معتقلة من مواليد ‪ 1956‬اعتقلت من �سنة ‪ 1987‬وحتى �سنة‬
‫‪ 1991‬يف �سجن الن�ساء وهي تعي�ش اليوم يف �أملانيا‪.‬‬
‫‪ -‬وفاء‪ .‬ط‪ :‬معتقلة �سيا�سية فل�سطينية من مواليد ‪ .1960‬اعتقلت يف �سنة‬
‫‪ 1987‬و�أطلق �رساحها بعد �ستة �أ�شهر‪.‬‬
‫‪ -‬ي�رسى‪ .‬ح‪ :‬معتقلة من رهائن امل�سلمني من مواليد ‪ 1964‬اعتقلت‬
‫من �سنة ‪ 1983‬وحتى �سنة ‪ 1989‬حيث �أطلق �رساح جميع املعتقالت‬
‫ال�سالميات‪.‬‬
‫إ‬

‫‪262‬‬
‫ملحق م�صور‬

‫ال�صور التالية التقطت بني عام ‪ 87‬و ‪ ، 90‬التقطتها معتقلة‬


‫ا�سالمية كانت خارجة من ال�سجن‪ ،‬وال�صور فى جمملها‬
‫ملعتقالت �شيوعيات مع بع�ض بناتهن‪ ،‬وقد ا�ستطاعت‬
‫ال�سالمية تهريب الفيلم �إىل اخلارج وحتمي�ضه‪.‬‬
‫املعتقلة إ‬

‫‪263‬‬
264
265
266
267
268

You might also like