Professional Documents
Culture Documents
نيغاتيف من ذاكرة المعتقلات السياسيات
نيغاتيف من ذاكرة المعتقلات السياسيات
من ذاكرة املعتقالت ال�سيا�سيات
(رواية توثيقية)
الكتاب :نيغاتيف :من ذاكرة املعتقالت ال�سيا�سيات
(رواية توثيقية)
ت أ�ليف :روزا يا�سني ح�سن
بطاقة فهر�سة
فهر�سة أ�ثناء الن�شر �إعداد الهيئة العامة لدار الكتب امل�صرية
�إدارة ال�شئون الفنية
آ
الراء الواردة بالكتاب ال تعرب بال�ضرورة عن
الن�سان
مركز القاهرة لدرا�سات حقوق إ
�سل�سلة حقوق ا إلن�سان يف الفنون وا آلداب
()12
نيغـاتيـف
من ذاكرة املعتقالت ال�سيا�سيات
(رواية توثيقية)
مركز القاهرة لدرا�سات حقوق ا إلن�س���ان هو هيئة علمية وبحثية وفكرية
ت�ستهدف تعزيز حقوق ا إلن�سان يف العامل العربي ،ويلتزم املركز يف
ذلك بكافة املواثيق والعهود وا إلعالنات العاملية حلقوق ا إلن�س���ان.
ي�س���عى املرك���ز لتحقيق هذا الهدف ع���ن طريق أالن�ش���طة أ
والعمال
البحثية والعلمية والفكرية ،مبا يف ذلك البحوث التجريبية أ
والن�شطة
التعليمية.
يتبن���ى املركز لهذا الغر����ض برامج علمية وتعليمي���ة ،ت�شمل القيام
بالبحوث النظرية والتطبيقية ،وعق���د امل�ؤمترات والندوات واملناظرات
واحللق���ات الدرا�سية .ويق���دم خدماته للدار�س�ي�ن يف جمال حقوق
ا إلن�سان .
ال ينخرط املركز يف �أن�شطة �سيا�سية وال ين�ضم ألية هيئة �سيا�سية عربية
�أو دولي���ة ت�ؤثر عل���ى نزاهة �أن�شطته ،ويتع���اون مع اجلميع من هذا
املنطلق.
فهر�س
• مبثابة مقدمة9 ..........................................
• أ�نثى الكهف العارية -التعذيب 27 .............................
29 .............................................1987
57 .............................................1984
أ
• احلرب النف�سية �وال -االعتقال 71 .....................................
79 .............................................1982
87 ............................................. 1987
107 ............................................. 1992
115 .............................................1978
• الدخول �إىل مملكة اجلنون :أ�مهات يف املعتقل125 .....................
147 ............................................. 1988
151 ............................................. 1993
• كثافة الزمن املتال�شية :عامل التفا�صيل ال�صغرية 157 ..................
161 ....................................... 1990-1987
177 ....................................... 1991-1987
اليديولوجيات 187 ..................... • املخترب الب�شري :حني تغيب أ
191 ....................................... 1987-1983
207 ............................................. 1992
211 ....................................... 1998-1994
217 ............................................. 1988
• حب من وراء الق�ضبان :تفا�صيل أ
النوثة والع�شق 231 ..................
• مبثابة خامتة 255 ..........................................
• ملحق� :صور لبع�ض املعتقالت أ
و�طفالهن263 .........................
رواية توثيقية!!
ال �أعرف �إن كان ثمة ما ي�سمى :رواية توثيقية!
لكني �أعتقد �أن التخييل هو الف�ضاء الذي تزهر فيه الروايات.
والتوثيق عك�س ذلك متام ًا� .أي �أن الدروب حتت ت أ�ثريه تكون
الجمل مر�سومة قبل البدء بالكتابة! بالتايل فالعامل التخييلي ،أ
حمدد مب�سارب ال يحيد عنها، يف ال�رسد بر�أيي ،هو يف التوثيق ّ
بنهايات منجزة �سلف ًا ،وب�شخ�صيات معروفة وم ؤ�طرة خارج
تطور لغوي ،ينبغي �أن يكون حراً ،وخارج تنويعات ال�رسد
واحلكاية يعبث بهما اخليال اخل ّ
الق.
المر كان هنا خمتلف ًا! لكن أ
يل الق�صة احلقيقية.ألن التخييل �سيعمل ،كالعادة ،على ّ
مبعنى �آخر �سيعمل على حقن ما حدث بنكهة ما مل يحدث،
بالتايل �ستبقى التجارب ،املتاهات ،احليوات ،كل ما كان هناك
ومل يكت�شف ،ومل يعرف عنه ،قيد التخييل فح�سب .وهذا ما
مل �أرده.
�ضحي بروعة التخييل الروائي ،الذي ما كان علي �إذاً �أن �أ ّ
�شد املتحم�سني له ،يف مقابل حفظ احلقيقة� ،أو لنقل، زلت من �أ ّ
مبعنى �أدق ،حفظ التجربة.
ومل َ رواية؟!
رمبا ألن ما حدث هناك مل يحدث �إال لتكتب عنه
الروايات.
روزا يا�سني ح�سن
مبثابة مقدمة
(�إين �أحت�صن يف هذه القلعة ،و�أكابد هذا احل�صار ،ال لكي
�أر�ضي �سلطان ًا �أو �أحمي �إمارة� ،إين هنا كي ال يقال يف قادم
اليام اجتاح تيمورلنك هذه البالد ومل يوجد من يقاوم).. أ
مقولة �أطلقها �أزدار �آمر قلعة دم�شق :ال�شخ�صية امل ؤ�ثرة يف
م�رسحية �سعد اهلل ونو�س “منمنمات تاريخية”.
�ستتلخ�ص يف هذه املقولة ،بر�أيي ،فكرة �أ�سا�سية قد تنظم
ال من حيوات الدونكي�شوتيني الفدائيني ،حيث ن�سق ًا كام ً
الالف ممن وقفوا يف وجه الطغاة على يندرج املئات ورمبا آ
مر الزمن ،الذين كانوا باعتقادي موقنني �أن الطريق �إىل النهاية ّ
أ أ أ
قريب ،و�ن ما ينتظرهم �إما �قبية ال�سجون املظلمة �و حبال
امل�شانق �أو الر�صا�ص الغادر.
جتربة املعار�ضة ال�سيا�سية يف بالد الديكتاتوريات ،ومبختلف
�أطيافها ،جزء ال يتجز�أ من هذا الن�سق� ،سواء بعملها ال�رسي �أو
10
العلني ،هي التي عملت على ت أ�كيد مقولة بري�شت :فغداً لن
يقولوا كان زمن ًا �صعب ًا ،بل �سيقولون ملاذا �صمت ال�شعراء؟.
التجربة الن�سائية بني �صفوف املعار�ضة ت ؤ�كد �أي�ض ًا على
ذلك ،وما جتربتها يف املعتقالت �إال ان�سحاب إلجهار ال�صوت
النوثة ،مبعناها التاريخي تتحول أ
ّ يف زمن ال�صمت ،حني
واملكر�س ،لت�صبح قادرة على الوقوف يف وجه الطغيان ّ النظري
وظلمة املعتقالت.
كان من املمكن �أن ي�ستمر العمل بهذا الكتاب ل�سنوات
�أخرى! ذلك �أن عدد املعتقالت ،اللواتي رحت �أكت�شفهن كل
يوم ،كان يزداد ويزداد! هذا ما جعلني �أ�ضطر �إىل ح�رص العدد
الحاطة بالتجربة و�إال فلن ينتهي الكتاب .فيما مل ميلكني وهم إ
ال يف كتاب واحد ،ألنها ،حقيقة ،حتتاج �إىل كتب كي يتم كام ً
واف.
ر�صدها ب�شكل ٍ
�أثناء بحثي كنت �أ�صطدم على الدوام بالرعب املع�ش�ش يف
ال�سالميات، قلوب الكثريات من املعتقالت ،خا�صة املعتقالت إ
للحاطة مما جعل جتربتهن تبدو ،على الرغم من كل املحاوالت إ
بها ،ناق�صة ،ف أ�ية واحدة قابلتها منهن مل جتر ؤ� على الكالم ،عدا
ا�ستثناءات قليلة جداً ،و�سط هيمنة اخلوف القدمي يف دواخلها.
و�أعتقد �أن هناك ّ
بحق ما يربر ذلك اخلوف.
لذلك كان البد من اتباع �أ�ساليب خمتلفة لك�شف بع�ض
الكرثاجلوانب املتفرقة يف جتاربهن الغنية ،ويف ك�شف احلقيقة أ
11
الخرى .وعلى الن�ساين امل ؤ�مل ،من كل التجارب أ غنى ،مبعناها إ
اليديولوجيات تغيب يف املعتقل ،وهذا الرغم من قناعتي �أن إ
ما حاولت �أن �أ�س ّلط ال�ضوء عليه� ،إال �أنها �ستبدو حا�رضة هنا
ال�سالميات ب�شكل �أو ب�آخر ،ذلك �أن ما تعر�ضت له املعتقالت إ
خمتلف عما تعر�ضت له ال�شيوعيات (باعتبار �أن الكتلتني
ال�سا�سيتني للمعتقالت كانتا من هذين التيارين). أ
لكن ثمة �أمر رافقني طيلة فرتة العمل كاد يتحول �إىل
هاج�س ،وهو �أن �أختار بني �أمرين �أ�سا�سيني :الوفاء للتجربة غري
العادية� ،أو الوفاء للكتابة.
الخرية إلمياين �أال جتربة ت�ستمر �إال �أنا �شخ�صي ًا اخرتت أ
تدون ،وال�ضياع كتب على كل �شيء مل ينق�ش يف احلجر. حني ّ
الوىل ،هو �أن ذلك �أن ما ا�ستحوذ على اهتمامي ،منذ اللحظة أ
�أ�ستطيع �إخراج كتاب ممتع �إىل قارئ مفرت�ض ،كتاب يحاول
�أن ينقل ،لذلك القارئ �أي�ض ًا ،بع�ض الويالت واالنتهاكات
التي ارتكبت بحق الن�ساء ،والرجال على ال�سواء ،دون �أن يعلم
بها.
تلخ�صت يفّ لذلك قد يبدو لقارئ ما �أن جتربة كاملة
المر ال يعني ،بكل ت أ�كيد، الكتاب بق�صة واحدة �أو ق�صتني! .أ
ال من قيمة التجربة برمتها ،ولكن رمبا كان له عالقة مبا تقلي ً
قلت قبل قليل :الوفاء للكتابة فح�سب.
لطاملا ناو�شتني يف هذا املو�ضوع ت�سا ؤ�الت عدة:
12
مِ َل الكتابة عن ال�سجن؟
هل �سيحقق الن�ص اجلمال املطلوب؟
هل �س أ�غدو بعد القراءة كما كنت قبلها؟
اليطايل� ،إننا يف الكتابة بحاجةيرى �إيتالو كالفينو ،الكاتب إ
الله احلداد القابع يف فوهات الرباكني، �إىل تركيز فولكان ،إ
الله اخلفيف وحرفيته املهنية لت�سجيل مغامرات عطارد ،إ
الر�شيق بقدميه املجنحتني.
�أ�سمح لنف�سي �أن �أ�ستعري القول هذا يف معر�ض حديثي :كم
نحن يف حاجة �إىل حرفية اللغة ودالالتها الالمتناهية و�إىل نحت
الكلمات كي ن�ستطيع التعبري عن ذاكرة ال�سجون املع�ش�شة يف
�أرواحنا! وكم نحن يف حاجة �إىل �أمل ال�سجن وجتربته امل�شدودة
كوتر يف �أعماقنا كي نهب اللغة تلك احلقنة من الواقعية امل ؤ�ملة
النهاك!حد إ
ولن جتربة املعتقل جتربة من غري املمكن تدوينها ،كما أ
ولن قلت �آنف ًا ،يف كتاب ،ولن ينجزها كاتب واحد بالت أ�كيد ،أ
كل ما يدونه املرء يتحول� ،شاء �أم �أبى� ،إىل ن�سخة مم�سوخة بل
م�شوهة من املعي�ش ،لذلك ينبغي معاملة الكتاب ،وكل ما ميكن
�أن يكتب عن ال�سجون ،كوم�ضات �ضوء تتواىل يف العتمة ،لن
يت�ضح امل�شهد �إال بتوايل تلك الوم�ضات وتكثيفها يف جتارب
متعددة بتعدد م�سارات الطغاة ،متنوعة بتنوع �أ�ساليب تعذيبهم
وقمعهم ،وعميقة عمق �أقبية ال�سجون.
13
لنعتربها �إذاً حماولة لتدوين جزء من تاريخ ن�سوي �سيا�سي
غيبت جتربة املعار�ضة عموم ًا ومبختلف
غيب �سنين ًا طويلة كما ّ ّ
�أطيافها.
باخت�صار ،التجربة ال تقال بعيداً عن ظرفها إ
الن�ساين .املهم
هو اخلروج من اجلحيم و�أننت ما زلنت مفعمات باحلب واحلياة
والرغبة بالفرح.
�إىل لينا .و ،عرفان ًا باجلميل يا �صديقتي.
�إىل ناهد .ب وهند .ق و�ضحى .ع ،ابت�ساماتكن �أ�ضاءت
الكثري من املناطق املعتمة داخلي.
�إىل كل ال�صبايا املعتقالت...
عليكن العمل كثرياً لف�ضح القليل من امل�سكوت عنه.
14
يف كتابه “�أنت جريح” يرتجى الكاتب الرتكي �أوردال
�أوز ج�سده ،بل�سان بطل روايته ،كي ي�ساعده على االحتمال
يرتجاه كي ي�صمد كيما يحمله �سامل ًا �إىل منطقة �أثناء التحقيقّ ،
المان هنا خمتلفة اختالف الزمان واملكان المان .ومنطقة أ أ
وال�شخ�صية والتقنية امل�ستخدمة واخلامتة �أي�ض ًا!
حني ينتهي التعذيب ي�شكر معتقل �أوز ج�سده ،من ّ
كل
قلبه ،لتبد�أ حياة ال�سجن املتطاولة املمتدة.
هم�ست لينا.و() �أن كلمات �أوردال �أوز ،وحدها ،كانت
() لينا .و :معتقلة �سيا�سية من مواليد .1959اعتقلت يف �سنة 1987وحتى
�سنة .1990
15
ترنّ يف �أذنها وهي تتلقى �رضبات الكرباج الال�سعة على باطن
قدميها .بل�سانها كان بطل الرواية يرتجى ج�سدها �أن ا�صمد يا
ج�سدي ،وبروحها كانت الرواية تنكتب كلمة كلمة!
الخرى ج�سدها ،كما حني انتهى التعذيب �شكرت هي أ
فعل بطل «�أنت جريح» متام ًا.
لكن ما قر�أته لينا بدا �شديد الت أ�ثري قبل اعتقالها ،وجعلها
حتول �إىل حكاية هزيلة وجمتز�أةت�شهق منتحبة ل�ساعات ممتدةّ ،
�إذا ما قورنت بالذي عا�شته داخل املعتقل خالل �سنوات
�سجنها الطويلة!
تتحول الكتابة يف مواجهة املعي�ش قزم ًا ال ي�ستطيع �أن يبلغ ّ
أ ً ً ً
مبلغ الرجال� ،و م�سخا عاجزا ومثريا لل�ضحك .لن ما تلم�سهأ
�أج�سادنا ،مل�س احلقيقة ،ال ميكن للغة ،مهما فاحت منها رائحة
اجلواين.التجربة� ،أن جت�سده بعمقه ّ
-هذا ما يحدث متام ًا ..تتغري كل نظرتنا �إىل احلياة بعد �أن
نخرج!
�أعقبت حديثها.
كلماتها تلك كانت �أ�شبه ب أ��سطورة �أورفيو�س().
ذلك �أنه مل يكن قد م�ضى وقت طويل على زواجه من
حبيبته يوريد�س حني لدغتها �أفعى قابعة يف الع�شب.
ماتت وهي بعد عرو�س �شابة.
( )2عازف القيثارة ال�ساحر يف أ
ال�سطورة اليونانية وهو ابن �أبولو وربة الفنون
كاليوبي.
16
اللهة �صدح �أورفيو�س بحزنه لكل من يتنف�س الهواء من آ
والنا�س ،فلم يجد �أحداً يبحث له عن زوجته يف �أقاليم املوتى.
حينئذ قرر �أن يهبط بنف�سه إلنقاذها من العامل ال�سفلي عن طريق
كهف مهجور وعميق.
هناك ،يف جماهل املوت ،وقف العا�شق �أمام عر�ش بلوتو
وبرو�رسبني ،عزف على قيثارته ،وغ ّنى باكي ًا وجده.
لهي العامل ال�سفلي كان غناء �أورفيو�س م ؤ�ثراً حتى �أن �إ ّ
�سمحا له با�صطحاب حبيبته �إىل عامل ال�ضوء ،عرب ممرات الظالم
ال�شاهقة� ،رشيطة �أال يلتفت �إىل الوراء حتى يخرجا �إىل الهواء
الر�ضي.أ
�سار احلبيبان ب�صمت مطبق حتى اقرتبا من املخرج.
لكن هاج�س فقدانها من جديد جعل �أورفيو�س يلتفت �إىل
الوراء ليلقي نظرة على حبيبته ،نظرة واحدة الغري.
البد.هكذا خ�رسها �إىل أ
هل يكون لظالم ال�سجون ظلمة العامل ال�سفلي!
ال�سلم ال�شاهق ،يف�صل �صقيعها القا�سي عن دفء وذلك ّ
اخلارج ،هو الدرب الطويل ذاته الذي يقطعه كل معتقل
ومعتقلة يف حماولة للتخل�ص من روا�سب االنك�سار أ
والمل!
روا�سب تراكمت على �أرواحهم خالل �سنوات ال�سجن!.
�ستبدو نظرة �أورفيو�س �إىل الوراء كنظرة املعتقل /املعتقلة �إىل
�سنواته� /سنواتها املنق�ضية يف هواء ال�سجن الفا�سد!..
17
لكن رمبا كان ما من�ضيه يف ال�سجن يربجمنا لنوع من التهدمي
لذاتي()! وعلينا �أن نحارب �ضد هذا ال�شعور الذي يبقى معنا
حتى عندما نخرج من ال�سجن.
جمرد نب�شنا ملمار�سات القمع هو طريقة للخال�ص َمل ال يكون ّ
منها ،طريقة ملقاومة ذاك التهدمي الذاتي ي أ�كلنا من جوانيتنا.
لكننا نكت�شف حني نخرج �أن احلكاية خمتلفة متام ًا.
نكت�شف �أن هناك مناطق من �أنف�سنا حرقت نهائي ًا ولي�س من
ال�سهل �أن نتابع احلياة معها .تغدو تفا�صيل العي�ش بعد ال�سجن
خمتلفة متام ًا عما كانت قبله.
احلب غري احلب!
الفرح غري الفرح!
حتى للذة طعم خمتلف ..ك أ�ن الروح ا�ستحالت �إىل روح
�أخرى!
رمبا كان �أهم ما ن�ستطيع فعله هو �أن نبقى �أنا�س ًا ،بكل ما
تعنيه الكلمة من حياة وفاعلية� ،أن ن�سري �أبعد من طعم ذلك
الرماد الذي بقي يف �أفواهنا.
تبدل الكتابة طعم الرماد؟!. هل ّ
بدلت ذلك لدى الكاتبة امل�رصية فريدة النقا�ش ،وهي
()
رمبا ّ
البي�ض يف() هذا ما يراه الكاتب براينت برايتنباغ :املعتقل يف �سجون النظام أ
جنوب �إفريقيا ،وذلك يف مقالته :يعلمنا ال�سجن �أننا �سجناء .املن�شورة يف جملة
الكرمل /ع � 15سنة .1985
() فريدة النقا�ش ،ال�سجن ..الوطن ،دار الكلمة ودار الندمي ،بريوت
.1980
18
�سجل جتربة املعتقل بقلم امر�أة عربية ،بعد �أن �سجنت �أول من ّ
ال كمعتقلة �سيا�سية يف �سجون ال�سادات. طوي ً
ثمة جملة �أطلقتها النقا�ش يف الكتاب رمبا كانت تيمة
�أ�سا�سية يف بالد الطغاة ،كل الطغاة:
(مل يعمل �أحد بال�سيا�سة من �أبناء جيلي ويفلت من جتربة
ال�سجن.
�أ�صبح ال�سجن �إذاً جزءاً من الوجدان الوطني العام).
ال يف ال�سجون هذا ما ت ؤ�يده كاتبة �أخرى ،اعتقلت طوي ً
املغربية ،وهي فاطمة البويه().
دونت البويه كتابها يف املعتقل ،ثم ن�رشته بالعربية بعنوان: ّ
حديث العتمة ،وبالفرن�سية بعنوان :امر�أة ا�سمها ر�شيد.
ر�شيد هو اال�سم الذي �أطلق عليها يف املعتقل حني كانت
�صلبة كرجل!.
تقول فاطمة البويه �إن الدور أ
ال�سا�سي يف �إقناعها بالن�رش كان
مر �أكرث من ع�رشين للكاتبة املغربية فاطمة املرني�سي ،بعد �أن ّ
عام ًا على كتابته .واملرني�سي عملت كذلك على كتابة التاريخ
املغربي بعيون منا�ضالت و�سجينات �سيا�سيات �سابقات.
هل الكتابة عن «الوراء» كافية لتعود كل �أحالم ال�سجني/
ال�سجينة بعامل أ
اللوان �إىل رمادية العامل ال�سفلي؟
() يف مقابلة �أجراها معها �سامي كليب ،من�شورة يف املوقع إ
اللكرتوين:
اجلزيرة نت www.aljazeera.net /يف برنامج زيارة خا�صة عن التعذيب
يف ال�سجون املغربية.
19
لي�ستحيل الولع بالقادم ،الغريب برمته� ،إىل انتكا�سة
مريرة؟
البد با�صطحابه �أم هي حماولة لنب�ش ما دفن هناك وقتله �إىل أ
معنا �إىل النور؟!!
يهم.
ال ّ
لندع احلديث جانب ًا ،ذلك �أن �رصاخ املحقق ،الداخل
م�صم ًا
ّ للتو �إىل الغرفة� ،صعق ناهد.ب() وهو يقتحم املكان
مبهم ًا.
مرت دقائق على خروجه بعد انتهاء حفلة تعذيبها مل تكن قد ّ
بالدوالب() ،حفلة ا�ستمرت �ساعات .قدماها ال تكادان
يجمع حوا�سها كاملة الر�ض الباردة ،و�أمل فظيع ّ حتمالنها على أ
واملدمى..
ّ يف �أ�سفلهما املنتفخ
كانت ترتنح جاهدة للوقوف� ..أو ما ي�شبه الوقوف.
الطمي�شة() ،التي تغطي عينيها بالكامل ،ال ترتك جما ًال ّ
ّ أ آ
�إال خليط نور رفيع �ت من ال�سفل .العرق يت�سلل �إىل عينيها،
يكيل امللح حارق ًا داخلهما ،ور ؤ�ية �ضبابية تلوح لطرف حذاء ّ
() ناهد .ب :معتقلة �سيا�سية �شيوعية من مواليد ،1958اعتقلت يف �أواخر
�سنة 1987وحتى نهاية �سنة .1991
() و�سيلة للتعذيب عبارة عن دوالب �شاحنة جترب املعتقلة على اجللو�س فيه
ويكبله فا�سح ًا املجال للع�صي كي
ّ في�ضغط ج�سدها جامع ًا ر�أ�سها �إىل قدميها،
تطال �أ�سفل قدميها وبقية �أع�ضائها.
() الطمي�شة :قطعة م�ستطيلة م�صنوعة من اجللد الكتيم ،تغطى عينا املعتقل بها
لي�صبح يف �أ�رس ثان من العتمة املطبقة.
20
ال�سود الغري. املحقق أ
�أجابت عن ال�س ؤ�ال للمرة العا�رشة بالمباالة كي تفهمه �أنها
عرفت �صوته ومل يخدعها:
-ناهد..
-ما هو عملك؟
-مهند�سة!..
� -أنت مهند�سة!!� ..أنت عاهرة.
مل جتد ناهد نف�سها �إال وهي ت�صيح كمن ن�سي تعبه فج أ�ة
وكمم�سو�سة:
-البلد كله يعرف من هم العواهر ومن هم غري الـ...
�أتت ال�رضبة جمنونة مباغتة على وجهها لت�سكتها متام ًا،
الر�ض العاري والقذر.وتلقيها بعيداً على بالط أ
ومرة حتاول الدخول تدر ناهد �إال ومقدمة حذاء عري�ضة ّ مل ِ
ب�رشا�سة يف فمها وهو ُيفتح على الرغم منها .مل تكن متتلك �أية
طاقة على حتريك �أي جزء من ج�سدها امل�سجى كجثة المبالية
فيما �سيل ال�شتائم وحده ميور يف الغرفة ،ويتوا�صل منها ًال
عليها.
يف املكان نف�سه كان ثمة فتاة �أخرى تدخل زمن االعتقال
تدعى هند.ق().
() هند .ق :معتقلة �سيا�سية �شيوعية من مواليد 1956اعتقلت �أول مرة يف
�سنة 1982وحتى �سنة 1983ويف املرة الثانية من �سنة 1984وحتى �سنة
.1991
21
لكن �أول ما قامت بفعله هند حال دخولها �إحدى منفردات
المن ،1وحاملا �أغلق ال�سجان الباب احلديدي� ،أن �رشعت فرع أ
تدقّ على جدران الزنزانة ،تدقّ بهي�ستريية ع ّلها ت�صيب ولو
دقّة خافتة من منفردة جماورة على جدران منفردتها ،ت�شعرها
امليت واملميت.بوجود حياة ما يف هذا الظالم ّ
�إنه اعتقالها الثاين ،لذلك كانت تتكهن ،من معرفتها
باملكان� ،أن املنفردات املجاورة مليئة باملعتقلني .كانت ّ
حت�س
بالنفا�س والهمهمات املكبوتة.اجلو املحيط املحقون أ
بالفعل ،بعد ثوان �أجابت على دقاتها اللهفة دقات �أخرى
على احلائط اليميني للمنفردة .بد�أ احلديث بالدقات على
الفور :لغة املعتقلني املعروفة.
�س أ�ل الطارق:
-من �أنت؟ ما هي تهمتك؟
� -أنا واحدة.
� -أعرف �أنك وحدك!!
-ال� ..أنا واحدة ..بنت يعني.
الده�شة� ،أي التوقف عن الدق ،هي ر ّد الفعل الوحيد بدر
عن الطارق املجاور .يبدو �أنه فوجئ بوجود ن�ساء يف هذا
املكان! ذلك �أين كنت من �أوائل املعتقالت يف الفرع قبل �أن
تبد�أ حملة االعتقاالت امل�سعورة �سنة .1987
الحاديث بيننا طوي ً
ال ذاك اليوم. ا�ستمرت أ
22
كلما ابتعدت خطوات ال�سجان �أهرع �إىل احلائط لهفة
ليعلو �صوت الدقات ،وكلما اقرتبت خطواته الطارقة على
بالط كوريدور الفرع ،املليء باملنفردات املتقابلة ،تتال�شى
�أ�صوات الدقات ..حتى راح اخلدر ي�ستقر يف �أطراف �أ�صابعي
وهي حتتك باحلائط العاري اخل�شن طيلة الوقت.
بعد �أيام ا�ستطاع الطارق �إخبار هند �أن هناك طاقة يف �أعلى
حمددة بال�شبك �سقف املنفردة ،حتت ال�سقف امل�ستعار ،وهي ّ
الخرى .ت�ستطيع تطل على الفراغ فوق �سقف املنفردة أ ّ
املعتقلة� ،إذا ت�سلقت جدران املنفردة ال�ضيقة� ،أن ت�سمع �صوت
الخر الهام�س من هناك. آ
جنحت هند ،بعد عدة �سقطات� ،أن تت�سلق املنفردة� ،ساعدها
ج�سدها النحيل على ذلك بو�ضع �ساقيها على حائطيها املتقابلني
حتى و�صلت �إىل �أعلى وا�ستمعت �إىل �صوت ال�شاب:
حممد.ع كان ا�سمه.
حاول الهرب من اجلي�ش �إىل تركيا ،لكنهم ا�ستطاعوا القب�ض
عليه على احلدود لي ّتهم بالفرار من خدمة العلم ،ويرمى هنا
منذ �ستة �أ�شهر.
حدثني عن جحيم عا�شه يف اجلي�ش ،وعن جحيم كان ّ
ينتظره منذ حلظة �إلقاء القب�ض عليه وحتى جميئه �إىل هنا.
-معك دخان؟!! �س أ�موت من �أجل �سيجارة ..ولي�س
لدي نقود..
23
هم�س حممد من بعيد مرتجي ًا.
-معي..
�أجبته �ضاحكة.
من خيوط البطانيات الع�سكرية العفنة ،بالكاد تدر�أ برد
�آذار املجنون يف تلك ال�سنة ،ا�ستطعت ،تنفيذاً لتعليمات حممد،
ال ومتين ًا ،ربطت �إليه �صابونة ،كنت قد ال طوي ً�أن �أن�سج حب ً
ا�شرتيتها من ال�سجان ،وربطت �إليها باكيت دخان “حمراء
ودخنت منهطويلة” ،كنت قد ا�شرتيته �أي�ض ًا ب أ��ضعاف ثمنه ّ
ثالث �سجائر فح�سب يف الليل.
رميت احلبل والباكيت يف �آخره عرب الطاقة �إىل منفردة حممد
املجاورة.
الوىل ،لكن يف الرمية الثانية انزلقت مل �أجنح يف املرة أ
ال�صابونة ،ومعها احلبل والباكيت� ،إىل زنزانته.
بهذه الطريقة املبتكرة ا�ستطعنا ،نحن االثنني� ،أن نتبادل
ال�شياء :كربيت ،حمارم ،ر�سائل ،و�أ�شياء �أخرى مل الكثري من أ
�أعد �أتذكرها جيداً.
ثم راح حممد يحرق �أعواد الثقاب بالع�رشاتّ ،
يكوم
ال�شحار تلة �صغرية يف زاوية منفردته ليكتب به كحرب� .أما
عيدان الثقاب فقد حتولت �إىل �أقالم نفي�سةّ ،
تخط الر�سائل على
ورق كان يوم ًا ما �أغلفة لباكيتات الدخان.
يكتب ،ثم يرمي ر�سائله امللتهبة �إ ّ
يل..
24
يكتب ويرمي.
ر�سائل ع�شق رائعة حتملني بعيداً عن قربي.
ر�سائل ع�شق حتيل عتمة وبرد منفردتي �إىل غرف حميمة،
حميمة ودافئة.
يف ذلك الوقت ا�ستطاع حممد ،الذي مل �أر وجهه يوم ًا� ،أن
يجعلني عا�شقة ولهانة يف منفردة من�سية من فرع أ
المن.
باق هنا ،و�أنت بالت أ�كيد �ستخرجني قريب ًا ..وحينها � -أنا ٍ
وتتعريف عليهم ،وتطمئنيهم عني. ّ �أمتنى �أن تذهبي �إىل �أهلي،
مر
الخرية ،وكان قد ّ اليام أ
هذا ما قاله حممد واثق ًا يف أ
حوايل ال�شهر على اعتقال هند يف املنفردة املجاورة.
ذات �صباح جاء ال�سجان ،رمى لها الفطور يف الق�صعة
جهزي نف�سك �ستنقلني �إىل �سجن الن�ساء(.)10 الّ : املعدنية قائ ً
مل يكن للخرب وقعه الفرح املتوقع!
كان على هند �أن تو�صل �إىل حممد قرار انتقالها املفاجئ.
دقّت على حائط املنفردة لهفة قلقة لتخربه بتحقق ن�صف نبوءته
ال غري ،وب أ�نها �ستخرج لكن �إىل �سجن الن�ساء.
مبا �أن حممد مل يكن ميتلك �أية نقود فقد عملت هند على
الوراق النقدية بال�صابونة، رمي ما تبقى معها له .ربطت أ
وراحت حتاول قذفها عرب الطاقة دون �أن ت�ستطيع ذلك ..كان
تتم املهمة ب�رسعة وقبل جميء ال�سجان ،لكن توترها عليها �أن ّ
( )10يق�صد �سجن الن�ساء املدين الذي كانت املعتقالت ال�سيا�سيات ي�سجن فيه
مع الق�ضائيات.
25
المر �سوءاً. زاد أ
الخرى.. رمتها مرة تلو أ
المر. الخرى ..دون �أن ينجح أ مرة تلو أ
�أخرياً ،قبل دخول ال�سجان بثوان ،جنحت هند يف �إي�صال
هديتها الثمينة �إىل حممد قبل انتقالها.
لكنها ن�سيت يف ذلك اليوم م�سابح نوى الزيتون التي
�صنعتها طيلة ال�شهر املن�رصم ،ن�سيت �أي�ض ًا ر�سائل حممد ّ
احلارة
لتظل �أكرث من �ست �سنوات
حتت البطانية الع�سكرية .وخرجت ّ
الول ،ومن ثم �سجن بعدها يف املعتقالت :يف �سجن الن�ساء أ
الن�ساء الثاين.
�أما حممد ،كما عرفت هند فيما بعد ،فقد ظل حوايل �ست
المن 1قبل �أن يطلق �رساحه يفال يف فرع أ�سنوات بعدها معتق ً
�سنة .1990
26
أ�نثى الكهف العارية..
التعذيب
27
28
1987
29
امل�شهد ذاته يتكرر مراراً ،كما يقول �إلهام �سيف الن�رص،
لكن بتغيرّ ات طفيفة:
غرفة رمادية يتو�سد بالطها معتقل ّ
ملطخ بالدماء.
الر�ض ،بركة خمتلطة بال�صديد غرفة ت�سبح فيها الدماء على أ
غيبه التعذيب عن الوعي. واملاء ي�سكب مراراً على �شاب ّ
معتقلون مرميون يف الكوريدورات وما تزال جروحهم
تنزف ،يتنقل ال�سجانون واملحققون واجلالدون على �أرجلهم
و�أيديهم و�أجزائهم املنهكة.
الملانية( )12هنا وهناك ويف كل مكان.. الكرا�سي أ
الطمي�شات الكتيمة ب أ�لوانها القامتة مع ّلقة على اجلدران.
رائحة دم متخرث� ،أ ّنات مكبوتة� ،رصاخ ،و�صياح
املحققني.
المن 1باخت�صار. هذا هو فرع أ
للحط من النوعّ الكثريون يرون التعذيب جمرد و�سيلة
الن�سان �إىل جمرد كائن مقهور بال �أي الن�ساين� ،أي حتويل إ إ
اعتبار ذاتي �أو كرامة ،بالتايل ت�صبح غريزة البقاء ،لي�س �إال،
ال�سا�سي لوجوده. املحرك أ
1987ع ّريت �إحدى املعتقالت ال�شيوعياتُ يف يوم من �أيام
بثيابها الداخلية فيما كانت تُ�رضب بالكرباج �أمام املالزم،
( )12الكر�سي أ
الملاين :هو كر�سي دون جل�سة �أو م�سند ،جمرد هيكل معدين
يجل�س فيه املعتقل ،يقيد من يديه ورجليه ،ويطوى ظهره باجتاه اخللف حتى
تتقطع �أنفا�سه.
30
وتُ�رضب بعيون اجلالدين التي تلتهمها �شبقة مت�شهية لعريها.
وقت انتهى التعذيب رميت ال�صبية يف غرفة ال�سجان
ولي�س يف الزنزانة كما هي العادة ،كانت الذريعة عدم وجود
�أماكن يف الزنازين ،ولرمبا كانت ذريعة مقبولة و�سط هيجان
االعتقاالت ذاك الزمن.
ح�ست و�سط ظلمة الليل بحركة ال�سجان يف الغرفة .كان �أ ّ
املبنى خالي ًا من العنا�رص كما بدا لها .حفيف حركته يقرتب
منها .ثم �أم�سك بيدها ،وهو يومئ لها بال�سكوت ،قبل �أن
الطباق عليها. يحاول ج�سده إ
على الرغم من �أنها مل تكن تقوى على �إ�صدار ن أ�مة ،فج�سدها
المل والتعب ،حاولت ال�صبية الهرب منه يف منهد حتت وقع أّ
جارة ج�سدها كخرقة .وحني ح�رشها بني �أرجاء الغرفة ال�ضيقة ّ
ج�سده واجلدار ما كان منها �إال �أن بد�أت بال�رصاخ.
�رصخت و�رصخت.
حتى الت أ�مت جمموعة من ال�سجانة املناوبني يف الغرفة
و�أبعدوه عنها.
لكن تلك املعتقلة قررت �أال ت�صمت.
الخر .وم�ساء ،وقت يف اليوم التايل ا�شتكت للمالزم آ
الول على تعريتها ُطلبت من جديد �إىل التحقيق ،عمل املالزم أ
ال وعيناه تتوعدان: كما أ
الم�س قائ ً
-حتى ال تعيديها وت�شتكي مرة �أخرى.
31
ال�شيء الالفت ،الذي ال يحدث �إال يف تلك أ
القبية� ،أن
الوقات� ،ضباط ًا ولي�سوا املعذبني كانوا �ضباط ًا يف معظم أ
جالدين!
�أما �أ�ساليب التعذيب فقد كانت كثرية ومبتكرة:
الوراق بني �أ�صابع �سحر.ب(� ،)13أ�شعلوها ُو�ضعت أ
م�ستمتعني ب�رصاخها وبرائحة جلدها املحروق.
بقية البنات ،يف دفعة اعتقاالت ُ ،1987ع ِّذبن بالكهرباء
ال ُو�ضعت يف الدوالب دون وبالدوالب .حميدة.ت( )14مث ً
ال .يف�أن يلب�سوها البنطلون على الرغم من �رصاخها طوي ً
نهاية التعذيب تركت حميدة مرمية ،وهي ما تزال م�ضغوطة
بالدوالب ،فيما ال�سجان يقهقه �شامت ًا :لقد ر�أيت كلوتك..
لونه �أبي�ض.
عذبت بها حميدة �أي�ض ًا ومعها غرناطة. ثمة طريقة مبتكرة ّ
تتلخ�ص يف و�ضع الر�أ�س يف �أداة الفلق ،عو�ض ًا عن و�ضع
ج(ّ )15
القدمني فيها ،يرفع ال�سجانون أ
الداة واملعتقلة فيها مما ي ؤ�دي
�إىل ان�ضغاط رقبتها بني حبلي الفلق حتى تو�شك �أن تختنق.
يحتقن وجهها حتى يزرق ،وتبد�أ احل�رشجات بالت�صاعد.
(� )13سحر .ب :معتقلة �سيا�سية من مواليد .1957اعتقلت من �سنة 1979
وحتى �سنة ،1980ومن �سنة 1987وحتى �سنة .1991
( )14حميدة .ت :معتقلة �سيا�سية فل�سطينية من مواليد .1962اعتقلت من
�سنة 1987وحتى �سنة .1990
( )15غرناطة .ج :معتقلة �سيا�سية من مواليد ،1966اعتقلت �سنة 1987
وحتى �سنة .1991
32
الخرية. حينها فح�سب يرمونها �أر�ض ًا وهي يف �أنفا�سها أ
رمبا كانت ماهية التعذيب تتلخ�ص يف �إعادة ال�سجني/
الن�سان البدئية الولية ،مركبات إ ال�سجينة �إىل مركباتهما أ
والفطرية ،ليحوله /يحولها �إىل رجل /امر�أة كهف عاريني �إال
من ورقه ال�شجر� ،إن وجدت.
عاريني يف مواجهة قوى الطبيعة الغا�شمة واملبهمة متام ًا
على تف�سرياتهما البدائية والقا�رصة.
تتبدى ال�صورة كما يلي :معتقل /معتقلة �أعزل متام ًا �إال من
ذاكرة �أ�ضحت وبا ًال عليه ،ذاكرة هي املربر الوحيد لكل هذا
اجلحيم امللقى فيه.
معتقل /معتقلة �أعزل يف وجه التعذيب والقهر واخلوف
الطبيعي والغريزي من املوت..
�إذاً عمل التعذيب هنا على الغريزة ..غريزة البقاء
فح�سب.
رمبا كان ذاك ال�ضابط الو�سيم يعبث بتلك الغريزة �أي�ض ًا
وقت غادر مكتبه ،بعيونه اخل�رضاء وقامته ال�سامقة ،لي�رضب
فتاة ملقاة على �أر�ض غرفته بالكرباج.
�رضبها و�رضبها حتى بد�أ باللهاث والت�صبب عرق ًا ،حينئذ
النني رمى الكرباج من يده ،تركها تئن ب�آخر طاقتها على أ
ليعود �إىل مكتبه هادئ ًا ك أ�ن �شيئ ًا مل يكن.
الظافر ،ك أ��س على مكتبه كانت ت�صطف :علبة تقليم أ
33
الوي�سكي والثلج بد�أ بالذوبان فيه ،وزجاجة العطر.
يرت�شف ر�شفة من الك أ��س ،مي�ضم�ض بها وهو يبت�سم �ساخراً
يبخ من رامق ًا الفتاة بغواية ،ثم يزدرد الطعم الالذع واملمتعّ ،
زجاجة العطر ويتن�سم رائحتها تزكم �أنف ال�صبية املرمية �أر�ض ًا
على الرغم من �أن رائحة الدم والقيح تفغم الفراغ املحيط.
�أخرياً يخرج ال�ضابط بهدوء �سيجارة من باكيت املارلبورو،
يدفعها من بعيد ،من خلف مكتبه ،مومئ ًا لل�صبية التي راحت
تراه غائم ًا من خلف حجب تن�سدل على عينيها �شيئ ًا ف�شيئ ًا..
ت�رشبني �سيجارة؟!!.
بالن�سبة �إىل �سناء.ح( )16كان الدوالب �أول �شيء ينتظرها يف
المن 1قبل التحقيق ،وقبل �أن تُ�س أ�ل �أي �س ؤ�ال! فرع أ
رمبا ألنها من �أوائل املعتقالت يف حملة االعتقاالت الوا�سعة
يف ،1987حملة عملت ذات �صباح على اعتقالها يف �أحد
المن �أحياء العا�صمة ونقلها م�سحوبة من �شعرها �إىل �سيارات أ
ومن ثم �إىل مقر الفرع.
ال رمبا ا�ستفزهم ،مل ين�سوه البتة و�أرادوا كان ثمة �أمر حدث قب ً
المن االنتقام .كانت �سناء قد ا�ستطاعت الهرب من عنا�رص أ
قبل �سنة� ،أي يف حملة اعتقاالت ( 1986حملة اعتقاالت
(� )16سناء .ح :معتقلة �سيا�سية �شيوعية مواليد 1958اعتقلت من �سنة 1987
وحتى �سنة . 1991
34
اللجان ال�شعبية) ،حني دوهم بيت جميل.ح( )17و�ألقي القب�ض
على جمموعة من ال�شباب املجتمعني فيه ،فيما هربت �سناء مدعية
�أنها ابنة للجريان.
الول� :أم�سكني ال�ضابط من �شعري ،وطفق اال�ستقبال أ
ي�رضب ر�أ�سي باجلدران بهي�ستريية.
كنت �أتطوح بني يديه كدمية قما�شية ،اجلدران ال�صلدة
تتلقى ه�شا�شة ر�أ�سي قا�سية كما هي دوم ًا.
ح�س ب أ�ن دماغي �سيتطاير �إثر كل �رضبة.�أ ّ
ي�ضيع ر�أ�سي على ال�ضابط متعة التعذيب �ألقاين �أر�ض ًا، قبل �أن ّ
ليجعل ال�ساعات املبهمة القادمة تنق�ضي و�صدمات الكهرباء
ح�س ج�سدي بكليته يرتفع املتتالية على يدي ورجلي جتعلني �أ ّ
الر�ض فج أ�ة ،وروحي ت�صعد معه وتهبط �آنة ثم يخبط على أ
على ق�ساوة البالط.
نهاية اقرتب مدير ال�سجن ،الذي �أ�رشف على تعذيبي
بت�شف على �ساقي امل�شلولتني متام ًا.
ٍّ بنف�سه ،وراح يتم�شى
رحت �أ�رصخ مبا تبقى يل من قوة على ال�رصاخ وهو يفرك
حذاءه على ركبتي ك أ�نه ميع�س �رص�صوراً� ،أو ك أ�نه يحاول هر�س
العظام القابعة حتت اجللد.
كنت �أح�س ب أ�ن العظام تنهر�س حق ًا.
-عاهرة ..حقرية..
( )17قا�ص �شيوعي معروف اعتقل من �سنة � 1978إىل �سنة 1980وحني �أطلق
�رساحه هاجر �إىل فرن�سا وظل فيها حتى تويف هناك.
35
�صاح يف �أذين.
لكني مل �أ�ستطع ال�سكوت حينها وهو يرمي ب�سيل ال�شتائم،
وحني رحت �أر ّد عليها ب�شتائم مماثلة �أقحم حذائه يف فمي وهو
بالقذع ،ويعاود التعذيب ب�شكل �أ�شد. يعاود �شتمي أ
مرت �شهور طويلة ومل ينته تعذيب �سناء.
كلما �أتت دفعة من املعتقلني �أو املعتقالت اجلدد يعاودون
التحقيق معها ،ا�ستجوابها من جديد ،ومن ثم تعذيبها..
تعذيب ..تعذيب..
اليام املتطاولة تلك جعلت طبيب الفرع ي�ضطر �إىل �إعطائها أ
تكف
ّ علبة مهدئ كي ت�ستطيع النوم ،وعلبة ليرباك�س كي
معدتها ،امللتهبة ب�شدة ،عن �إقياء وت�شنج �أ�ضحى ال يحتمل.
يف اليوم الرابع لالعتقال ا�ستيقظت �سناء.ح �صباح ًا ،كان
ج�سدها منهك ًا منهك ًا ّ
حد التال�شي.
الزنزانة خالية �إال من رائحة عفونة� ،أ�صوات ال�سجانة
ال�صباحية ،بطانية ع�سكرية ،وعلبة بال�ستيكية مدورة كانت
فيما م�ضى علبة للحالوة.
تدر �سناء َمل قامت جاء موعد �إخراجها �إىل التواليتات .مل ِ
مبلء علبة احلالوة حتى حافتها باملاء! عادت �إىل الزنزانة ب أ�ناة
وهي حتاول �أال ت�سكب �أية قطرة منها على �أر�ض الكوريدور.
الن �إىل التعذيب �إىل املنفردة قفلت وهي تفكر �أنها �ست�ساق آ
كما كل أ
اليام ال�سابقة .التعذيب �صباح ًا وم�سا ًء..
36
يريدونني �أن �أ�س ّلم �أكرم.ب( ..)18من �أين �أعرف �أين هو
�أكرم؟!!!
هم�ست �سناء �إىل نف�سها.
�أح�ست ب أ�نها متعبة للغاية ،ب أ�نها ال متتلك �أية طاقة على
التحمل وهي يف بئر عميق عميق وداكن على �شكل منفردة،
وب أ�ن ال نهاية لكل ذلك ..ال نهاية.
فقدت الرغبة يف مراقبة االنعكا�سات على بقعة املاء التي
د�أبت على �سكبها وراء باب منفردتها رقم .10تلك البقعة
كانت كمر�آة تعك�س �صورة القادم من الكوريدور املواجه
الر�ض. وذلك عرب الفراغ املت�شكل �أ�سفل الباب املرتفع عن أ
�سناء كانت �أول من يلمح �أي قادم جديد �أو نزيل للمنفردات
من مر�آتها املائية العاك�سة ،لتهم�س �إىل املنفردات املجاورة
باحلدث الطارئ.
لكن �سطوة علبة املهدئ وعلبة الليرباك�س ،املو�ضوعتني �إىل
جانب البطانية ،كانت هي ال�سيدة حلظتئذ.
�سطوة تناديها لالن�صياع.
�أ�صوات التعذيب تتناهى �إليها من غرف التحقيق يف الطابق
العلوي.
كم�سيرّ ةّ ،قي�ض لها ذلك� ،أفرغت �سناء حبوب الدواء كلها
(� )18أكرم .ب� :أحد املعتقلني ال�شيوعيني .كان ع�ضواً يف املكتب ال�سيا�سي
الوىل من �سنة 1978وحتى للحزب وهو من مواليد 1956اعتقل يف املرة أ
1980ويف املرة الثانية يف �أب 1987و�أطلق �رساحه يف عام .2001
37
يف فمها� ،رشبت بعدها كل املاء املوجود يف علبة احلالوة.
...
بداية �أح�س�ست باخلدر يت�سلل �إىل ج�سدي.
كان باب املنفردة يفتح� ،شبح ال�سجان يقف بالباب ويريد
�أن ي أ�خذين �إىل التحقيق .ال�صورة راحت تغيم �أمامي:
-يريدونك فوق.
ح�س ب�سحنتي الغريبة وعيني هم�س ال�سجان .رمبا �أ ّ
الغائمتني .مل �أ�ستطع القيام� ،أجبته واهنة وب�صوت مبحوح:
الن �س أ�رتاح. � -رشبت كل احلبوب ..آ
كنت �أ�شعر ب أ�ين �س أ�رتاح حق ًا.
انقطعت �أنفا�س ال�سجان قبل �أن ي�سابق َنف َْ�سه مهرو ًال �إىل
العلى .كان ي�صيح ب أ�ن �سناء انتحرت� ،أ�سمع �صدى �صوته أ
يل وهو يرتدد يف أ
القبية. يتناهى �إ ّ
مل متر دقائق حتى كان مدير ال�سجن بباب املنفردة ،ملحته
ك�شبح قبل �أن �أغيب عن الوعي متام ًا.
...
ممدة على �رسير م�ست�شفى! حني ا�ستيقظت �سناء.ح كانت ّ
وثمة دكتور قبالتها ي�صيح ب أ�مل مغطي ًا عينيه بيديه:
-ه ؤ�الء يهود ..ما الذي فعلوه بج�سدك؟! جمرمني
�سفاحني.
الكدمات الزرقاء القامتة منت�رشة على ج�سد �سناء ،متل ؤ�ه
38
كله ،ذراعاها و�ساقاها متف�سختان ،اجلروح عليها متقيحة،
ووجهها متورم حتى ال تكاد عيناها تظهران فيه.
يف ذلك اليوم ،بعد غ�سل معدتها� ،أعيدت �سناء م�سا ًء �إىل
املنفردة ..ومل يقم �أحد بتعذيبها!
مطم�شة �إىل غرفة التحقيق. يف �صباح اليوم الثاين �أخذوين ّ
و�صلوا �أ�رشطة الكهرباء �إىل معظم مناطق ج�سدي� :إىل
وذراعي ،ثم �إىل بطني ليبد�أّ ر�سغي
ّ وذراعي� ،إىل
ّ مع�صمي
ّ
أ
التعذيب .لده�شتي ،بعد �قل من خم�س دقائق� ،سمعت �صوت
و�شو�شات وهم�سات يف الغرفة ثم فج أ�ة توقف التعذيب،
وخرج اجلميع.
على الرغم من الطمي�شة ،تغطي عيني بالكامل� ،إال �أين
خيم على �أح�س�ست بعدم وجود �أحد حويل .كان ال�صمت قد ّ
املكان!
ما يف حدا هون؟!!
�صحت .لكن �أحداً مل يجب!
الطمي�شة بحفّها به، زحفت �إىل احلائط ،حاولت �أن �أنزع ّ
خد�ش �سطحه اخل�شن خدي ووجنتي ،لكني �أخرياً جنحت يف
نزعها.
كانت الغرفة فارغة متام ًا!
المن وهم من اخلارج ا�ستطعت �أن �أ�سمع �ضجة عنا�رص أ
وتعرفت على �صوت �أكرم.ب. ميرون يف الكوريدورّ ،
39
�إذاً لقد �ألقوا القب�ض عليه.
بعد �أكرث من ربع �ساعة ،و�أنا من�سية يف الغرفة ،رحت
�أ�رضب على احلائط بكلتا يدي� ،أ�صيح� ،أزعق ،حتى �أتى عن�رص
الطمي�شة للمرة أ
الوىل. و�أنزلني �إىل املنفردة بدون ّ
ألول مرة �أرى املمرات ،الكوريدورات ،ومتاهات الفرع
و�أنا �أعود �إىل منفردتي.
�أح�س أ
بالمر ككابو�س.
مل �أعرف كيف �أتى �أول الليل وعادوا ال�ستدعائي جمدداً.
مدير ال�سجن وجمموعة من ال�ضباط جمتمعني يف غرفة .من
حتت الطمي�شة ا�ستطعت �أن �أملح وجيه.غ (زوربا)( )19ملقى
على وجهه يئن ،ج�سده مثخن باجلروح املفتوحة ،الدماء
الر�ض يف بقعة كبرية تنت�رش حوله. تغطيه ،وتن�سكب منه �إىل أ
الخري.. كان يبدو يف النزع أ
المل ي�سكن �أناته لن لن �أن�سى هيئة زوربا ما حييت .ذاك أ
يغيب �أبداً عن ذاكرتي ..لن يغيب.
غ�صت �أي�ض ًااملنفردات املقابلة واملجاورة ملنفردة �سناء ّ
بالكثري من املعتقالت ال�سيا�سيات.
�إحداها كانت منفردة رقم ،9حيث كانت لينا.و
( )19وجيه .غ :من املعتقلني ال�شيوعيني ،كان ع�ضواً يف املكتب ال�سيا�سي
حلزبه املعار�ض ،اعتقل ملدة � 15سنة ابتداء من �سنة 1987وحتى 2001وهو
من مواليد .1948
40
و�أنطوانيت.ل( )20حم�شورتني يف منفردة ت�ضيق مبعتقلة واحدة.
لطاملا تهام�ستا يف نهاية الليل مع املنفردة املقابلة رقم ،10
منفردة �سناء.
القدام وال�شحاحيط. �-أتعرفني ..عامل املنفردات هو عامل أ
هم�ست لينا لرفيقتها وهي جاثية كالعادة على ركبتيها،
ت�سرتق النظر من حتت باب املنفردة احلديدي.
مير ،ولينا تق�ضيه منبطحة تراقب ،من خالل الوقت ّ
ال�سنتيمرتات القليلة الفا�صلة بني الباب أ
والر�ض� ،أقدام املارة
يف كوريدور الفرع� ،أقدام ال�سجانة واملعتقلني ع ّلها تلتقط
هوية �أحدهم.
�ضمت لينا و�أنطوانيت ألكرث من 33يوم ًا، املنفردة تلك ّ
الخرى. نامتا فيها (عقب ور�أ�س) ،كل منهما حتت�ضن �أقدام أ
على الرغم من ذلك كان الو�ضع يف املنفردة �أكرث ر�أفة من
الر�ضي، ال ،وملدة 12يوم ًا ،يف غرفة يف الطابق أ
وجود لينا قب ً
طابق التعذيب والتحقيق.
هناك كانت ت�شعر �أنها يف م�سلخ حقيقي:
�أ�صوات التعذيب من حولها ترتفع ليل نهار ،ال�رصاخ
والنني ورائحة �صديد حتا�رص روحها وهي تق�ضي الوقت أ
م�ستيقظة حتاول ،كمازوخية ،معرفة ال�شباب والبنات من
�أ�صواتهم ،فيما تتواىل جل�سات التعذيب على الدوالب
(� )20أنطوانيت .ل :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1967اعتقلت من �سنة 1987
وحتى �سنة .1990
41
والكهرباء والكر�سي و ...تتواىل وتتواىل.
يف ليلة من تلك الليايل �سمعت لينا �أحد ال�سجانة� ،أثناء
نوبة حرا�سته الليلة ،يغني بل�سان �أحد امل�سجونني �أغنية �سميح
�شقري:
هي يا �سجانة!! هي يا عتم الزنزانة...
كان �صوته يتهدج وهو يئن:
لو ما �أمي تركتا بعيد..
ولو ما ا�شتقت ل�ضيعتنا..
ثم �صمت.
حت�س لينا ب أ�ن لل�سجان م�شاعر تختنق بروائح ألول مرة ّ
المل و�رصاخ التعذيب ،و�أن الفرع� ،أذنني تتهالكان من �أنات أ
له �أحبة يحتاج �إىل قلبه ليحبهم.
ألول مرة تكت�شف لينا �أن لل�سجان قلب ًا.
...
ذات يوم ،يف وقت ما بني وجبة ال�صباح والظهر ،دفع �أحد
العنا�رص الباب بغتة بحركة منت�رصة .كانوا ثالثة ،عيونهم تن�ضح
ب�زشرات ال�شماتة ونظرات الفرح.
اعتقلوا �أحد رفاقنا.
فكرت.
ُ
رمبا خطرت الفكرة ذاتها لرفيقتي �أنطوانيت .لكنهم مل
�شدوين �إىل
طم�شوينّ ،ينب�سوا بحرف� ،أخذوين فح�سب معهمّ ،
42
فوق ،وراحوا يجرجرونني على ال�سلم باجتاه غرف التحقيق.
كان ج�سدي يرتطم بكل درجة من الدرجات احلجرية
التي بدت يل �أنها لن تنتهي.
هناك ،يف غرفة التحقيق الكبرية ،نزعوا الطمي�شة عن
عيني.
كان �أكرث من خم�سة ع�رش �ضابط ًا متحلقني حول رجل جاث
على ركبتيه يف الو�سط .رحت اقرتب من احللقة ودف�شاتهم يف
تقربني �أكرث.
ظهري ّ
الج�ساد تبتعد عن الو�سط ،و�أنا �أتبني ال�صورة �أو�ضح أ
ف أ�و�ضح:
مدمى..
الرجل ّ
يداه مربوطتان �إىل الوراء
النهاك ال�شديد من التعذيب عليه.. يت�ضح إ
�أ�ضحيت ،وبدف�شة واحدة يف ظهري ،وجه ًا لوجه معه..
كان عدنان .م( ..)21زوجي.
مل �أجد نف�سي �إال و�أنا منهارة على ركبتي �أمامه ،زحفت
مدمى من املفرت�ض �أن يكون زوجي، ً �ضم رج ً
ال �ضمه ،أل ّ
أل ّ
�شدوين بعيداً فيما كان عدنان ي�صيح: لكن العنا�رص ّ
-ال تخايف لينا ..ما بيخوفو ..ال تخايف.
لبطوه على عينه.
( )21عدنان .م :معتقل �سيا�سي �شيوعي اعتقل ملدة � 15سنة من �سنة 1986
وحتى �سنة 2001وقد تنقل فيها بني عدة �سجون.
43
�رصت �أ�سمع �صوت �رصاخه وركالتهم على ج�سده وهم
�صم مبنى ي�شدونني خارج ًا على الرغم من �رصاخي الذي ّ
الفرع برمته.
يف املنفردة كان و�ضع لينا �شبيه ًا بو�صف كولن ول�سن
أل�سلوب النازية أ
الملانية ،فر�ض نظام �أ�سموه :مل يعد �إن�سان ًا.
الن�سان نف�سه ،بالتعذيب والقهر املتوا�صل� ،إال ال يجد إ
وهو يرتاجع عن �إن�سانيته حتى حيوانيته.
ال�سفل� ،أن ي ّتبعا ما العلى ،ولينا يف أ كان على عدنان يف أ
�سبق و�أ�سميته غريزة البقاء� ،أي �أن يفكرا بالبقاء فح�سب .دون
�أية تبعات �إن�سانية جانبية وثانوية يف ذلك الوقت.
كان عليهما �أن يجاهدا للعي�ش.
تركوها طيلة الليل لت�سمع �أ�صوات تعذيبه التي ت�صلها
بو�ضوح �شديد ،جتلدها ،تلذعها ،تطبق اخلناق على �صدرها،
الخري.وحتاول �أن تنتزع نف�سها أ
طيلة الليل بقيت لينا متقوقعة على نف�سها يف الزنزانة بال
حراك.
بعد �أيام قليلة نقلت و�أنطوانيت �إىل املهجع رقم 6دون
حل بعدنان ،ومن ثم نقلتا من جديد �إىل �أن تعرفا ماذا ّ
املزدوجات(.)22
( )22املزدوجات عبارة عن �أربع زنازين �صغرية ( )1.80*1.60لها �سقيفة
واحدة .تتقابل كل زنزانتني منهما ،وبينهما الكوريدور واحلمام وحمرك
ال�سجان والباب اخلارجي املو�صد يطل على كوريدور ال�سجن.
44
هناك كان ينتظرهما ،كما كل املعتقالت ،ما مل يتوقعنه.
45
جمد والورق وقلم الر�صا�ص .
ك أ�نها كانت تكتب النا�س ،ت�ستعي�ض بالكتابة عن عالقتها
باملعتقالت يف الزنزانة ،عن عالقتها بالعامل اخلارجي البعيد.
منكبة على الورق ّ قد متر �ساعات طويلة متوا�صلة وجمد
تكتب!
فج أ�ة بد�أت حاالت الهي�سترييا ت أ�تيها متباعدة :نوبات طويلة
من ال�رصاخ املبهم والت�شنجات العنيفة يف يديها ورجليها.
النوبة قد متتد �أحيان ًا �أربع �ساعات �أو �أكرث يف مكان �ضيق
الج�ساد املتململة.كالزنازين حم�شور بع�رشات أ
يبح �صوتها ،ومن ثم تهمد متام ًا.. �ساعات من العواء حتى ّ
ح�س �أو
لتمتد �ساعات �أخرى من املوات ،موات حقيقي بال ّ
حركة!
ثم ت�صحو ..وتعود �إىل الكتابة.
تلك احلالة ،حالة جمد امل ؤ�ملة ،قد تعيد �إىل الذاكرة ما
كتبته فيلي�سيا الجنر يوم ًا ،وهي �صاحبة الكتاب ال�شهري :ب أ�م
عيني(.)24
كان هناك الكثري من حاالت التعذيب للمعتقلني الفل�سطينيني
ال�رسائيلية .قاد التعذيب الكثري منهم �إىل املوت �أويف ال�سجون إ
المثلة كان ا�سم �سامل جاد عيد اجلنون �أو العاهات الدائمة .من أ
يلوح دوم ًا� :أ�صيب باجلنون ب�سبب التعذيب ،وظل �سنوات
( )24فيلي�سيا الجنر ،ب أ�م عيني ،م ؤ��س�سة أ
الر�ض للدرا�سات الفل�سطينية ،العا�صمة
.1974
46
المرا�ض العقلية .وقا�سم �أبو عكر تويف طويلة يف م�ست�شفى أ
ب�سبب التعذيب �أي�ض ًا ..وحاالت كثرية �أخرى.
لكن التوتر انتقل ب�سبب حالة جمد�.أ �إىل كل الفتيات يف
املزدوجات .احلالة تتطور من �سيء �إىل �أ�سو�أ ،خا�صة حينما
�أخذت جمد ،بعد طول مطالبات� ،إىل امل�ست�شفى للعالج حيث
كانت ال�صدمات الكهربائية هي العالج الوحيد!
�أعطيت ال�صدمات العالجية ملجد بطريقة التعذيب نف�سها!
تدهورت حالتها �أكرث ف أ�كرث ،وهذه املرة فقدت النطق والقدرة
على امل�شي .ثم �أعيدت �إىل املزدوجات نحيلة ب�شكل فظيع،
لكنها ،هذه املرة ،بكماء وتزحف.
المر �أ�شد �سوءاً مما �سبق ،وجمد ت�شحط ج�سدها كل بدا أ
�صباح �إىل احلمام حماولة تهدئة نف�سها ،تفتح الدو�ش البارد
عليها ،وت�شهق متكومة كقطة حتت وابل املاء املثلج.
ثم بد�أت حماوالتها البتالع ل�سانها! خ�صو�ص ًا يف حلظات
الهي�سترييا .لذا كان على ال�صبايا القريبات منها ،اللواتي يعتنني
بها ب�شكل مبا�رش� :سونا�.س( )25وحميدة.ت و�أنطوانيت.ل،
د�س �أ�صابعهن يف فمها� ،أو و�ضع�أن يد�أبن ،كعادة يومية ،على ّ
ملعقة فيه ليمنعنها من ابتالع ل�سانها بالفعل يف �إحدى حاالت
هيجانها.
�أحيان ًا كان ال�سجان �أحمد يعمل على مداعبة الفتيات يف
(� )25سونا� .س :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1963اعتقلت من �سنة 1987
وحتى �سنة 1990يف فرع أ
المن.
47
املزدوجات مبزحاته الثقيلة :يطفئ اللمبة ال�شاحبة يف �أعلى
ال�سقيفة املط ّلة على املزدوجات ب�شبك حديدي مما ي�شيع عتمة
طاغية مرهبة� ،إذا و�ضعت �إحداهن �إ�صبعها �أمام عينها لن
ت�ستطيع ر ؤ�يتها ،ثم يعود لي�شعل ال�ضوء من جديد ،ومن ثم
يطفئه ،في�شعله ...وهكذا.
ت�ضج يف الكوريدور!
ال�ضوء يوم�ض وقهقاته ّ
تنتهي املزحة بنوبة هي�سترييا �شديدة جتتاح جمد ،وحالة
�شقيقة جمنونة مت�سك بر�أ�س لينا.و.
مع الزمن ،حتت ت أ�ثري احلالة ،راحت �أنطوانيت.ل ،وكانت
على متا�س دائم مع جمد ،تعاين من نوبات اختناق �شديدة
مت�سك برقبتها ومتنعها من التنف�س ،ي�ضطر ال�سجانة على �إثرها
�إىل �إخراجها ملدة ما خارج الزنازين كي تعاود قدرتها على
التنف�س.
طفقت الت�شنجات تغزو يدي �سونا�.س ب�سبب مالزمتها
الدائمة �أي�ض ًا ملجد .تلك الت�شنجات امتلكت فكيها �أي�ض ًا،
وحالة الكزاز املزمن راحت متنعها من الكالم بطالقة ،و�أحيان ًا
متنعها متام ًا من الكالم.
بح تخربت فيه حبالها ال�صوتية وجعلت �صوتها �أ ّلي أ�تي يوم ّ
حتى اليوم.
الوحيدة التي �صمدت كانت حميدة.ت و�إىل وقت
المر ب إ�طالق �رساح جمد�.أ للعالج يف لي�س بطويل فقد جاء أ
48
اخلارج.
بداً من بعث مل جتد املعتقالت ،وطيلة فرتة مر�ض جمدّ ،
ر�سائل ا�ستغاثة �إىل اخلارج كي يعرفن ما الذي ميكن �أن يعملنه.
ر�سائل كتبنها على ورق �سجائر احلمراء( ،)26ثم ا�ستطاعت
المن ،1وذلك �أثناء املعتقالت �إخراجها بالتهريب من فرع أ
�إحدى الزيارات النادرة إلحداهن.
كان ذلك يف �أوا�سط �سنة :1990
(بد�أت حالة جمد يف املنفردة بعد االعتقال والتعذيب على
�شكل نوبة واحدة تاريخ � 89/12/9رصاخ �شديد وبكاء �سبقها
�أمل يف الدماغ �شديد جداً و�شعور قبل خم�س �ساعات من النوبة
ب�شخ�صية �أخرى بداخلها .تنكم�ش على نف�سها مطبقة ر�أ�سها
�إىل رجليها وانتهت النوبة ب إ�برة فو�ستان.
يف تاريخ 1990/1/16بد�أت احلالة من جديد بنوبة
�شديدة جداً� ..ضحك وبكاء مع هيجان ع�صبي وا�ضطراب
يف التنف�س .بقيت � 3ساعات ثم نقلت �إىل امل�شفى.
ا�ستمرت النوبات 15يوم ًا ب�شكل يومي .نوبات �رصاخ
وبكاء.
انقطعت لتعود بت�سارع� -شعورها ب�شخ�صية �أخرى
( )26مبا �أن الورق كان ممنوع ًا يف الفرع ،فقد عملت املعتقالت ،ومن قبلهن
املعتقلني ،على نزع الورقة الداخلية لباكيت الدخان ،الذي من املمكن �رشا ؤ�ه
يف الفرع ،ثم تبلل باملاء حتى تنف�صل ال�سيلوفانه عن الورقة ،ثم تن�شّ ف الورقة
ويكتب عليها.
49
وانكما�ش و�أمل �شديد يف الدماغ.
الن �شديدة جداً قد ت�ستمر ل�ساعتني �أو �أكرث النوبات آ
مع �رصاخ وبكاء وهيجان ع�صبي �شديد جداً وت�شنجات يف
ال�ساقني واليدين الل�سان والفك وبالعيون.
ترافق النوبات التي قد ت�ستمر ل�ساعات حاالت ك�آبة،
ا�ستفزاز من �أقل حركة ،كره �شديد للذات� ،شعور بالذل �شديد،
وحزن �شديد(.)27
يف جانب �آخر ،رمبا يف زمن �آخر ،كانت جتربة مغايرة تت�شكل..
كن رهائن ال�سالميات ّ على الرغم من �أن �أغلب املعتقالت إ
عن �أزواجهن� ،أو �أوالدهن� ،أو حتى �أقاربهن� ،إال �أن التعذيب
ال�شديد ،االنتهاكات ،واملعاملة املتميزة بق�سوتها جعلت
حمطمات!.معظمهن يخرجن ّ
ال�سالميات على التعري بلبا�سهن �أجربت الكثري من إ
الداخلي فح�سب .يتم �إح�ضار ال�سجانني كي يتفرجوا عليهن
وهن عاريات ،ي�سمعوهن الكلمات البذيئة التي يتفنن عنا�رص ّ
المن واجلالدون يف اخرتاعها. أ
�إحدى احلاجات �أجربت على التعري ،و�أدخلوا �أخاها
خر مغ�شي ًا عليه
الخ ّ لرياها وهي على تلك احلال .يقال �أن أ
( )27كتبت هذه الر�سالة لينا .و �إحدى معتقالت املزدوجات �إىل �أختها الطبيبة
يف اخلارج ،لتخربهن بالذي عليهن فعله .وكان عدد املعتقالت يف الزنزانة
ذلك الوقت �إ�ضافة �إىل جمد 13معتقلة يف مكان ي�ضيق بعدة معتقالت.
50
على الفور.
-احلرق بال�سجائر يف كافة �أنحاء اجل�سد.
... -
والرجل، اليدي أ -الكهرباء على احللمات ،على أ
واملناطق احل�سا�سة� ..أ�ساليب �أخرى كثرية.
احلاجة ب�صوت خفي�ض. ّ هم�ست
-هل هناك �أ�ساليب �أخرى؟!
ور�ش امللح مع املاء على �أر�ض
-التعليق ل�ساعات طويلةّ ،
الرجل و�إجبارهن املنفردات بعد ال�رضب املربح على باطن أ
على الوقوف حافيات ..هذا غري ال�رضب باخليزرانة والع�صي
والدوالب ..وغري التحر�ش الذي قد ي�صل �إىل االغت�صاب.
المر �إىل االغت�صاب؟ -هل و�صل أ
-نعم� ..إحدى املعتقالت ،كنت �أعرفها �صبية جميلة
من مدينة ال�شمال ،يف الع�رشينيات من عمرها ،كانت تدر�س
الدب العربي قبل �أن ت�سجن ،تعر�ضت لالغت�صاب يف �أوائل أ
الثمانينيات وظلت ت�سعة �شهور بعد االعتداء عليها �شبه فاقدة
الوعي ،ت�ستيقظ لتم�شي كالهائمة يف املهجع وهي عارية،
ومهملة كاملجانني.
ِ و�أحيان ًا ت�رسح م�ش ّعثة
-كنت معها يف املهجع؟
-كنت معها.
!!... -
51
ال وهي ت�رصخ ،ثم تدخل يف نوبة من البكاء -ت�ستيقظ لي ً
العايل ..نوبة قد ال تنتهي حتى ال�صباح.
تد�س طرف حجابها احلاجة و�سهمت بعيداً وهي ّ ّ �سكتت
أ
البي�ض يف ياقة البلوزة القطنية.
يهربن ر�سالة�أتت ليلة وا�ستطاعت بع�ض املعتقالت �أن ّ
المر خماطرة ما بعدها خماطرة لكن طويلة �إىل اخلارج .كان أ
الر�سالة خرجت ب�سالم(.)28
كتبت آ
كالتي متام ًا:
(كم ر�سالة كتبناها .كتبناها ب أ�ناتنا .بدموعنا .بدمنا ..ع ّلها
تلقى من ي�سمعها .مل نكن ن�ستطيع �إر�سال حروف على ورق
ف أ�ر�سلنا �آهات وا�ست�رصخنا يف دجى الليل ،ولكن من ي�سمعنا يف
ظلمتنا ،ومل يتجاوز �صوتنا جدران ًا �سوداء وق�ضبان ًا حديدية.
رحمنا ربنا وا�ستطعنا �إر�سال هذه ال�سطور نلقي فيها
�شعاع ًا يعك�س للعامل ما يجري لنا نحن القابعات يف �أقبية
ال�سجون ،تنهال علينا �ألوان العذاب ليل نهار ،وي أ�تينا الزبانية
ثماىل متوح�شني ..ليتهم ظلوا يعذبوننا كما بد ؤ�وا بال�سياط
والكهرباء..
ليتهم تركوا �أختنا تلفظ �أنفا�سها بعد ما القت من عذاب
العالمية وغري( )28هنا جزء من الر�سالة التي و�صلت �إىل عدد من اجلهات إ
ال�سالمي يف الكويت بعد �أن العالمية يف البالد وقد ن�رشتها جملة املجتمع إ إ
ال�صل عند ال�شيخ الكويتي �أحمد القطان .والر�سالة من�شورةنوهت بوجود أ
كما كتبت متام ًا.
52
ومل ينتزعوا منها عفتها ..ومل ينتزعوا منها عفتها..
ليتنا متنا قبل هذا وكنا ن�سي ًا من�سي ًا ..قالتها مرمي العذراء دون
عذاب ،دون وحو�ش ب�رشية ويف �أح�شائها روح من ربها..
فماذا نقول نحن؟ مباذا ندعو؟
ن�ست�رصخ العامل �أن ينقذنا من عذابنا .ننادي ب أ�على �أ�صواتنا.
بكل جوارحنا..
كل ذرة فينا ت�رصخ وت�ستغيث ..كل قطرة دم..
كل نب�ضة عرق ..كل نف�س ي�صعد ويهبط..
ن�رصخ وامعت�صماه ..وامعت�صماه ..نادت بها امر�أة م�سلمة
واحدة فلبى لها رجال كرث .ونحن هنا مئات من اللواتي
ي�سحقن ..ي�سحقهن طغاة حاقدون ..مئات يعذبن ..يقتلن
يف كل حلظة ب أ�لف قتلة وال مينت..
�أال من معت�صم� ..أال من معت�صم..
�أال من م�سلم ين�رش (ن�ساء ي�سحقن)..
رباه ملن النداء ..طال بنا البقاء� ..أيام و�شهور وتتلوها
�شهور ودماء املجرمني ت�رسي يف عروق جنني يف �أح�شائنا.
ماذا نفعل؟
رباه مل يجبنا �أحد فارحمنا .ال نريد منكم �أن تنقذونا .ال
نريد منكم �أن تنقذونا بل هدموا علينا ال�سجون..
�أفتوننا بقتل �أنف�سنا ..وقتل ما يف بطوننا .فلم نعد نقوى
على ما بنا..
53
ال ليل يقلنا .وال نهار ينري ظلمة حياتنا .يا عامل ا�ستفق طال
بك الرقاد ،ونحن ال نعرف الرقاد..
يا عامل ا�ستفق..
لك يوم تقف فيه بني يدي اهلل لي�س أ�لك ربك ماذا فعلت؟
ماذا فعلت ملن انتهك عر�ضها؟
ماذا فعلت ملن فقدت وعيها من �صدمات الكهرباء؟
ماذا فعلت ملن علقت من قدميها بعد �أن نزع عنها حجابها،
وتناثرت عنها الثياب ،و�رضبت بق�ضيب ثقيل من حديد
ف أ��سلمت وعيها لربها؟
ال تعلموا كم من ال�ساعات على هذه احلال ..ماذا فعلت
�أيها العامل امل�سلم و�أختك هناك يف دوالب طويت فيه تنهال
عليها ال�سياط ..ت�سيل دما ؤ�ها ..تتورم �أخدادها ..تفقد
�صوابها وال مغيث..
ماذا فعلت ملن عذبوا زوجها على مر�آها ،وا�ستغاثت دمائه
فلم يجب �أحد ،فانفجرت تبكي على دمائها؟
ماذا فعلت ملن �سيقت �إىل امل�ست�شفى بني املوت واحلياة بعد
�أن نهب حلمها 26مفرت�س ًا متوح�ش ًا؟
ماذا فعلت؟ ماذا فعلت؟
مباذا �ستجيب؟ ومن �أين لك �أن جتيب ،و�أنت ال تزال يف
الرقاد� ..أال يا عامل ا�ستفيق وانت�شلنا من احلريق ..انت�شلنا من
الغريق ..فلقد جفت العروق وال نهار وال �رشوق يف وح�شة
54
واد �سحيق يف ظلمة بحر عميق..
ننادي ..ننادي ..ننادي ..نلتم�س الطريق ..هل من بريق..
هل من بريق).
�أخواتكم املعذبات يف �سجون الطاغوت ()...
بعد �سنوات طويلة ،حني ا�ستطاعت اللجوء �إىل �أوروبا،
كتبت هبة.د كتابها( )29الذي يحكي بع�ض ًا من �أ�ساليب التعذيب
التي تعر�ضت لها:
(نادى املقدم نا�صيف على �أحدهم ،وقال له :اذهب
و�أح�رض لها بنطا ًال ،و�أعطها �إياه ،خ ّليها تن�سرت ،و�ضعها على
ب�ساط الريح.
تقدم العن�رص مني ،وطرحني على لوح من اخل�شب له �أحزمة،
وطوق بها رقبتي ور�سغي وبطني وركبي وم�شط رجلي .وملا ّ
ت أ�كد من تثبيتي ،رفع الق�سم ال�سفلي من لوح اخل�شب فج�ةأ
فبات كالزاوية القائمة ،ووجدتني و�أنا بني الده�شة والرعب
مرفوعة الرجلني يف الهواء ،وقد �سقط اجللباب عنهما ومل يعد
يغطيهما �إال اجلوارب وال�رسوال ال�شتوي الطويل ،وال قدرة يل
على حتريك �أي من مفا�صل ج�سدي).
( )29هذه الفقرة من ف�صل معنون بب�ساط الريح كتبتها هبة .د يف كتابها املن�شور
يف لندن «خم�س دقائق فح�سب ..ت�سع �سنوات يف ال�سجون» الذي يتحدث
عن جتربتها يف املعتقل .وهبة.د هي معتقلة �سيا�سية رهينة عن �أخيها النا�شط
ال�سالميني .اعتقلت من �سنة 1980وحتى �سنة .1989والف�صل يف تنظيم إ
من�شور كما كتب متاماً.
55
كتبت هبة .د �أي�ض ًا:
(عائ�شة ،وهي طبيبة من مدينة ال�شمال يف �سجن( ...معتقلة
ال�سالميني املالحقني). ألنها قامت بعالج �شاب من إ
توىل التحقيق معها م�صطفى.ت ،ف�س أ�لها يف البداية:
� -أتر�ضي �أن تبقي بال جلباب؟
-ال طبع ًا
-فما ر�أيك �أن تبقي بال جلباب؟
انتف�ضت تتطلع �إىل مكان تلج أ� �إليه ،لكنه مل يرتك لها فر�صة،
وهجم عليها كالوح�ش ،ي�صفعها وي�رضبها ،وهو ميزق ثيابها
قطعة قطعة ،وهي مكبلة تقاوم بكل ما �أوتيت من قوة دون �أن
ت�ستطيع الدفع ..فلما مزق كل �شيء و�صل �إىل جواربها ،وقال
لها� :س أ�تركهم عليك حتى ال تربدي.
ومر عليها بكافة �أنواع
و�أمر فمددوها على ب�ساط الريحّ ،
التعذيب :اخليزران والع�صي والكهرباء ..عالوة على نزع
نظارتها الطبية وحرمانها من ا�ستعمالها فرتة من الزمن.
كبل يديهاثم �أتى دور عمر ،ف أ�جل�سها على كر�سي وقد ّ
ورجليها من اخللف ببع�ضهم البع�ض ،وجعل يطفئ �أعقاب
ال�سجائر يف �أعف منطقة ببدنها).
56
1984
57
�رصخ ال�ضابط قبل �أن يغادر غرفة التعذيب ويرتكها لعدد
مبهم من العنا�رص كي يكملوا تعذيبها.
بد ؤ�وا بالدوالب ،ح�رشوها فيه ،راحت الع�صي تنهال
على قدميها و�ساقيها وج�سدها املطوي حتى كاد يغمى عليها.
وتنفيذاً ألوامر ال�ضابط �شحطوها ،وهي �شبه فاقدة للوعي،
حتت املاء البارد.
يغيبني عنالكرة مرات ..حني يكاد التعذيب ّ ّ �أعيدت
الوعي يعمل الدو�ش البارد على �إعادتي �إىل احلياة.
ال �أذكر �إال ج�سدي وهو ي�سبح يف ف�ضاء �آخر� .أمل فظيع
يجعلني �أتهاوى ،ثم دفق ماء بارد كالثلج يعيدين من جديد �إىل
غرفة التعذيب.
علي ،هم�س �إيل ب�صوت مبحوح �أخرياً �أ�شفق �أحد العنا�رص ّ
خافت بعد �أن �أ�صبحنا وحدنا:
-ا�شلحي الفيلد لتلب�سيه بعد الدو�ش ..وقفي �إىل
جانبي.
ما كان منه �إال �أن تركني �أتهاوى على احلائط ،وعاد بعد
حلظات جالب ًا ق�صعة معدنية عب أ�ها باملاء ،و�صار ّ
ير�شني بها
بلطف .لكني مل �أ�ستطع �أن �أتبني وجهه من حتت الطمي�شة.
هم�س �إيل من جديد:
� -إذا قالوا لك قعدت حتت الدو�ش؟ تقولني نعم
قعدت..
58
ظلوا ي�رضبونني طيلة الليل.
يف �أول ال�صباح تركوين واقفة بال ا�سرتاحة يف غرفة
التحقيق .كنت منهكة حتى املوت ،لكن �إح�سا�سي من حتت
الر�ض. الطمي�شة بوجود مراقب منعني من االنهيار على أ
كان اجللو�س� ،أو حتى االتكاء ،يعني عقاب ًا جديداً لي�س
حتمله بعد .بقدرة ما ظل ج�سدي متما�سك ًا ومل با�ستطاعتي ّ
الجزاء املفككة تعب ًا و�أمل ًا الر�ض �إىل ع�رشات أ يت�شظ على أ
ّ
و�إح�سا�س ًا بالعجز �أمام كل ذلك القهر الالمنتهي.
حني دخل املحقق من جديد ،م�صطحب ًا �شتائمه معه ،وعلم
بعدم اعرتايف �صاح كاملم�سو�س:
-ال تطعموا هذه الكلبة ..ترمونها يف املنفردة ،وجتعلون
�أر�ضها كلها ماء وبدون بطانيات..
!... -
-باب املنفردة يبقى مفتوح ًا ..ويظل عن�رص على
الباب ..متنعونها من النوم والطمي�شة على عيونها ،وحني جتل�س
ت�رضبونها حتى تقف ..لن�شوف �أنا �أم هذه الكلبة..
... -
رميت يف املنفردة حافية.
كان حما ًال �أن يدخل �أي حذاء يف قدمي املنتفختني
واملتقرحتني .امللح ،املر�شو�ش على �أر�ض الزنزانة ،ي�ستف ّز �أ�سفل
تركز هناك ،ي�صعقني كل والمل ،الذي ّ قدمي كال�سكاكني ،أ
59
حد املوت.
حلظة حتى ي�صل ّ
ثم مل ؤ�وا الزنزانة باملاء ،و�أجربوين على الوقوف حافية طيلة
الوقت يف �شتاء �آذار الذي كان ا�ستثنائي ًا مبطره وبرده يف تلك
ال�سنة� :سنة .1984
يف اليوم الثالث لوقوف هند يف املنفردة ،وحني مل تعرتف،
و�ضع اجلالدون الكهرباء بني �أ�صابع قدميها.
املتقرح غابت عن الوعي. بعد �رضبتني على اجللد ّ
وقت ا�ستيقظت كانت هند ممدة على طاولة معدنية عالية
البي�ض يدهن �أ�سفل قدميها باليود.ورجل يرتدي أ
رائحة اليود القا�سية تثري غثيانها� ،أمل عميق يت�ش ّعب من
ال�سفل مروراً ب أ�جزائها وحتى داخل ر�أ�سها ،والطبيب أ
املتجهم �صامت طيلة الوقت مل ينطق بكلمة .كانت هند تتمنى ّ
�أن يك ّلمها ذاك الرجل أ
البي�ض ،ي�س أ�لها عن �أي �شيء� ،أو حتى
ي�شد �أزرها بنظرة ،لرمبا ن�شلها هم�سه املتعاطف من �ضعف ّ
مقيم امتلكها.
مل يتنازل عن �صمته!
بعد �أن انتهى �أعيدت هند �إىل الزنزانة من جديد.
مع الوقت �صار ال�سجان يغادر باب الزنزانة لفرتات وجيزة.
المر الذي جعل هند جتل�س ،ولو لدقائق ،حني يذهب ،وتعود أ
للوقوف وقت تقرتب خطواته يف كوريدور الفرع.
مع الزمن �صارت مت أ�كدة من �أنه يقوم بكل ذلك تعاطف ًا
60
معها ،يجعل باب املنفردة موارب ًا بدل �أن يكون مفتوح ًا ب�شكل
الر�ض بقدميه عامداً، دائم! وحني يعود يعمل على خبط أ
فتتحامل هند على نف�سها وتقف ،على الرغم من �أن �صدى
ت�ضج ب�صداها
ّ خطواته القادمة كانت �أ�شبه بخطوات فيل
جدران الفرع كلها.
اليام ا�ستطاعت هند �أن ت�شرتي من ال�سجان، خالل تلك أ
ببقايا نقود بقيت يف جيب الفيلد الع�سكري الذي ما تزال
ترتديه ،باكيتني دخان حمراء ،من�شفتني ،وعلبة حمارم
تواليت.
الربعة فقد حتولت �إىل �سجادة واهية، �أما روالت املحارم أ
مل يكن املاء ي�صلها حتى تنقلب �إىل و�سادة �أ�سفنجية مبللة ،تزيد
الربد يف ج�سدها بدل �أن تقيها منه..
الربد كان جمنون ًا جمنون ًا..
بعد �سبعة �أيام كنت ما �أزال متكئة يف زاوية املنفردة ،ورمبا
ح�س بج�سدي يتال�شى� ،أ�شعر كان منظري يرثى له :كنت �أ ّ
بهزاله بعد �أن راح �رسج البنطال ال يعلق بخ�رصي .كنت �أ ّ
ح�س
ب�شفقة بع�ض ال�سجانني علي من رمقاتهم الطويلة.
دون طعام وال بطانيات.
الر�ض و�أنا بال حذاء.. املاء ما زال يغطي أ
تقيحت وراحت تن ّز �صديدها. ركبتاي توجعانني ،جروحي ّ
مرت �أيام طويلة دون �أن �أمتدد ولو لدقائق.
61
فُتح الباب فج أ�ة ،مل �أ�ستطع الوقوف من فوري فقد كان
�إنهاكي �أ�شبه باملوت ،فكرت لثوان� :س أ�عاقب بالت أ�كيد..
�إال �أن ال�سجان ،لده�شتي ،مل يقل �أية كلمة ومل يقم ب أ�ي فعل
متكومة يف مكاين يفّ �إال �أنه �أغلق الباب .تنف�ست ال�صعداء و�أنا
الزاوية.
ال ثم عاد. غاب ال�سجان قلي ً
المن وقلوبهم احلجرية ،يلعن ي�سب عنا�رص أ ّ كان ي�شتم،
زمن ًا رماه هنا وجعله يرى �صبية على هذه احلال.
ي�شتم وي�شتم..
الر�ض ،ورمى جلب معه بطانيتني :واحدة فر�شها على أ
بالخرى يل .ثم قال قبل �أن يذهب: أ
� -ستنتهي دوريتي يف ال�ساعة ،6ال�صبح الزم تفيقي قبل
ما تخل�ص حتى ال يعرفوا �أين �أعطيتك البطانية.
مل �أ�صدق �أن ب إ�مكاين �أخرياً �أن �أمتدد! �أن �أنام كالب�رش العاديني
م�ستلقية ،و�أتدثر �أي�ض ًا ببطانية!!
يا �إلهي! ..كان احلدث �أكرب من �أحالمي.
ال �أذكر �إال �إين خالل ثوان غبت يف نوم عميق عميق.
...
مرت عليها هنيهات، مل ت�ستيقظ هند �إال و�ساعات الليل قد ّ
وكان ثمة رجل يه ّزها بجنون �صائح ًا:
-قومي يا( 48 )30قومي يا ..48
( )30رقم املنفردة امل�سجونة فيها.
62
وهند ال ت�ستطيع اال�ستيقاظ..
�شد البطانية من حتتها، ح�س ب أ�ن ال�رصاخ لن يفيد ّ ملا �أ ّ
الخرى ،وطفق يهرول يف الكوريدور قبل �أن يلمحه خطف أ
�أحدهم.
الر�ض الرطبة كانت هند ،غواية النوم والتد ّثر مرمية على أ
ما تزال متتلكها ،و�شعور االمتنان لل�سجان الغريب يغمرها
متام ًا.
بقيت هند.ق يف املنفردة خم�سة ع�رش يوم ًا بدون
بطانيات.
�سمحوا لها يف اليوم ال�سابع باخلروج �إىل احلمامات ،حينئذ
ال .كان التواليت بالن�سبة �إليها ترويح ًا ا�ستطاعت �أن تقعد قلي ً
عن النف�س.
الكل �صباح ًا فلم ت أ�كل، يف اليوم اخلام�س ع�رش جلبوا لها أ
مما حدا مبدير ال�سجن للمجيء ،ووقف �صائح ًا �أمام املنفردة:
-خري يا 48ملاذا ال ت أ�كلني؟
-مل �أعد �أ�ستطيع التحمل بدون بطانيات.
هز ر�أ�سه وذهب.
بعد قليل جاء �أحد العنا�رص ،الذي طاملا كان لطيف ًا مع هند،
ي�رصخ فرح ًا وهو يقرتب يف الكوريدور ،حتى �أن �صوته �سمعه
جميع معتقلي املنفردات:
�سمحوا لك بالبطانيات� ..سمحوا لك بالبطانيات..
63
يومئذ �أعطاها ع�رش بطانيات ع�سكرية وعازلني(.)31
ألول مرة ،بعد �أيام طويلة ،تنام هند باطمئنان ل�ساعات
ال حتى ا�ستيقظت وقد ّ
حل متوا�صلة .ويبدو �أنها �أغفت طوي ً
الليل يف طاقة الزنزانة ال�صغرية.
...
مع الزمن ومن �أجزاء الفروج ،الذي كانوا يدخلونه �إليها
كل حني� ،شفّت هند عظمة مدببة قا�سية� ،صارت ت�ستخدمها،
ال�سمنتي العاري ّ
لتحك على احلائط إ والوراق، القالم أبغياب أ
ما يخطر لها.
ملت بذلك نق�شت هند كثرياً من اجلمل واخلرب�شات ،أ
الغاين جدران الزنزانة بكل ما اعتمل يف روحها ،بكل أ
والكلمات ،بحاالت احلب الغام�ض ،وباحلزن أ
والمل.
الثرية :غاب �أما فوق الباب مبا�رشة فقد حفرت جملتها أ
نهار �آخر.
بالعظمة �أي�ض ًا عملت هند على نق�ش روزنامتها اخلا�صة التي
اليام املت�شابهة واملتكررة،ا�ستطاعت من خاللها معرفة مرور أ
املتكررة كدوامة ال بداية لها وال نهاية.
كانت الروزنامة تبد�أ بيوم االثنني :يوم اعتقايل.
ومبا �إين مل �أكن ألتكهن مبدة اعتقايل فقد رحت ،يف �صباح
كل اثنني� ،أ�شخط خط ًا �صغرياً عمودي ًا حتى ي�ستوعب حائط
( )31العازل هو عبارة عن بطانية ع�سكرية �سميكة خميط �إليها عازل نايلوين
�سميك من �أ�سفلها.
64
الخذة باالمتداد كل �أ�سبوع .كما الزنزانة ال�ضيق روزنامتي آ
�أين حفرتها وراء الباب احلديدي حتى ال يلمحها ال�سجانون
حني يدخلون الزنزانة.
ال�سا�سي الذي كان علي �أن �أت أ�كد منه كل �صباح.. ال�شيء أ
هو قدوم ال�صباح!
مل يكن ذلك �صعب ًا يف احلقيقة ،على الرغم من غياب ال�شم�س
و�ضوء احلياة ،ألن ال�صخب املجنون الذي يخلقه ال�سجانة كل
�صباح ،وهم يفتحون ويغلقون �أبواب الزنازين احلديدية على
طول كوريدور ال�سجن الطويل ،كان كافي ًا ،ألن ذلك يعني
�أنهم يوزعون ق�صع الفطور على املعتقلني ،وي أ�خذونهم ،كل
بدوره� ،إىل اخلط(.)32
بقيت يف االعتقال الثاين �أكرث من �شهرين يف املنفردة ذاتها،
ُ
الول ،وبعده �إىل �سجن الن�ساءومن ثم ُنقلت �إىل �سجن الن�ساء أ
الثاين.
�أما هناك فقد كانت حياة جديدة ..جديدة متام ًا!
بعد �سنتني من ذلك ،يف �سنة ،1986اعتقلت ح�سيبة.
ع(.)33
مر �أكرث من 11يوم ًا حتى اكت�شف فرع ال�ضابطة الفدائية ّ
( )32اخلط :هو خروج املعتقلني ثالث مرات يف اليوم �إىل التواليتات.
الوىل( )33ح�سيبة .ع :معتقلة �سيا�سية من مواليد ،1959اعتقلت للمرة أ
�سنة 1979وحتى �سنة 1980ويف املرة الثانية من �سنة 1986وحتى �سنة
.1991
65
الفل�سطينية هويتها .كان هذا هو االعتقال الثاين لها وال�سنة ما
تزال يف بدايتها.
�إثر اكت�شافهم �أن ح�سيبة عملت على �إخفاء حقيقة هويتها
وال�سمال يف فمها، �صار العنا�رص يقحمون اخلرق الو�سخة أ
يغلقونه بتلك القاذورات حتى كادت تختنق.
ي�شف ،فانهالوا عليها بالكابالت َ لكن غ ّلهم جتاهها مل
الخرى وهي الرباعية على قدميها و�ساعديها و�أجزاء ج�سدها أ
مقيدة مرمية �أر�ض ًا بحيث ال ت�ستطيع احلراك.
ّ
أ
كلما كان ج�سدها يو�شك على االنهيار� ،و تقرتب من
الغماء ،يدلقون �سطول املاء عليها كي ت�ستيقظ. إ
ويعاودون التعذيب جمدداً.
كتكملة حلفلة التعذيب مت �صعق ح�سيبة بالكهرباء� .صعقت
مرات ومرات قبل �أن تبعث� ،شبه منهارة ج�سدي ًا� ،إىل فرع
المن 2الع�سكري. أ
المن 2كان ينتظر ح�سيبة ما هو �أكرب. يف فرع أ
االعتقاالت هناك على قدم و�ساق ،الفرع مليء باملعتقلني،
المر الذي جعلهم يرمونني يف والزنازين متخمة على �آخرها أ
كوريدور الفرع.
�أفكر اليوم ب أ�ين ع�شت اجلحيم بكل معناه.
بقيت �أيام ًا بال نوم وال طعام ،ال ميكنني �أن �أ�سمع �إال
�رصاخ املعتقلني وهم يعذبون بوح�شية ،و�أ�صوات املحققني
66
أ
والنات..
أليام مل �أ ِع �شيئ ًا متمايزاً! كنت كمن �ألقي يف هيوىل لي�س
والطمي�شة على عيني الّ لها حتديد ،هيوىل قامتة� ،أترنح فيها
ي�سمحون يل بخلعها.
ال �أذكر �إال دخويل �إىل غرفة التعذيبّ ،
مطم�شة بالطبع،
عذب ل�ساعات ،يحقق معي ،ثم �أرمى يف الكوريدور حتى �أ ّ
موعد اجلل�سة التالية.
ح�س ب أ�ج�ساد املعتقلني واملعتقالت ،امل�شلوحني مثلي على �أ ّ
الر�ض ،حتيط بي من كل جانب. أ
دماء وماء و�صياح و�أ ّنات� ..إنه اجلحيم احلقيقي.
الملاين كان له ن�صيب �أي�ض ًا من ج�سدي ،هذا ما الكر�سي أ
�أتذكره بدقة ،على الرغم من �أن تفا�صيل التعذيب تغيب عني
الحيان ،ال �أكاد �أ�ستح�رضها بدقة و�أنا يف ذاك اجلنون يف بع�ض أ
أليام.
ال ،وهو يتم ّلخ بني �أيديهم،
�أذكر �شعري ،وكان وقتها طوي ً
ي�رضبون ر�أ�سي باجلدار ،ي�شحطونني على بالط الغرفة ،ثم
ي�سلخونني بالكهرباء على فمي ول�ساين و�أ�صابع قدمي ويدي.
مل �أكن �أعرف من �أين ي أ�تيني ال�رضب ،وال من �أين ت�صيبني
ل�سعات الكهرباء..
�أ�صوات يف كل مكان� ..أ�صوات� ..أ�صوات..
67
الر�ض. ك أ�ين دجاجة مذبوحة للتو تفرفر على أ
بعد �أكرث من �أربعة �أ�شهر يف املنفردة نقلت ح�سيبة �إىل مهجع
املعتقالت .كان يف املهجع معتقلون من بعث العراق ومعتقلة
عرفاتية واحدة.
يومئذ ُ�أح�رض الطعام لهن وهو ق�صعة من الربغل لكل
الوقات .على الرغم من اجلوع ال�شديد معتقلة كما يف معظم أ
واالنتظار امل�ضني للطعام تركت املعتقلتان ق�صعتيهما جانب ًا بعد
تذوق لقيمات قليلة منه ،فيما راحت العرفاتية يف نوبة من
ال�سعال.
ثم جل�سن ده�شات يت أ� ّملن ح�سيبة التي ا�ستمرت ت أ�كل بنهم
�شديد ك أ�ن �شيئ ًا مل يكن.
الكل؟! -كيف ت�ستطيعني أ
�س أ�لتها العرفاتية م�ستغربة.
الكل مالح كتري. -أ
�أردفت معتقلة بعث العراق.
حلظتئذ فقط عرفت ح�سيبة �أن ثمة م�شكلة ما يف التذوق
لديها ،وال بد �أن يكون ب�سبب ل�سعات الكهرباء على ل�سانها،
المر الذي مل تكت�شفه وحدها يف املنفردة طيلة �شهور ،فلم أ
يكن هناك من يقول لها ب أ�ن الطعام مالح جداً.
المر �إىل �شهور �أخرى كي يعود �شعور ح�سيبة احتاج أ
68
بالطعوم تدريجي ًا.
دونتها ناهد.ب حاملا زمان الفرع ذاك و�أيامه الع�صيبة ّ
انتقلت �إىل �سجن الن�ساء.
كانت ت�شعر �أن كل ما حدث هناك �سين�سى �إن مل تكتبه،
اليام من الذاكرة مهما كان �سي�ضيع من احلقيقة ،وتن�شله أ
را�سخ ًا.
دفرت مدر�سي �صغري ومهمل ،ا�شرتته من الندوة ال�صغرية يف
�آخر باحة ال�سجن� ،أ�صبح ديوان ًا لكل ما ميكن �أن ت�شعر به،
حتلمه ،يحدث لها �أو لغريها.
�سمته :دفرت مذكراتي .وعليه كتبت(:)34 ّ
(�سمعنا �رصاخ انت�صار وت�صفيق ،وهي عادتهم عند كل
اعتقال رفيق جديد يعتربونه مهم ًا ،من نافذة فوق ال�سقيفة
مطلة على الطابق العلوي حيث يجري التحقيق.
ثم تال ال�ضجيج �رصخات �أمل ناجتة عن التعذيب� .رصنا
نطرق جدران الزنازين ع ّلنا نح�صل على ا�سم املعتقل اجلديد.
ال �إذ فتح باب املزدوجة ،وطلبوا بثينة. ومل يدم بحثنا طوي ً
فتهاوينا مدركني �أنه نزار زوجها ،وكانت قد �أخذت رهينة
( )34معظم �أيام ال�سجن وتفا�صيله دونتها ناهد على ذلك الدفرت ،وكذلك
وال�شعار ،ليغدو الدفرت ذاك وثيقة الغاين أ مالحظاتها و�أفكارها وبع�ض أ
عن زمن االعتقال وتفا�صيله .ومن ذاك الدفرت ا�ستعارت الرواية هذه الكثري.
واليوميات املن�شورة هي كذلك مرتوكة كما كتبت متام ًا.
69
من �أجله .وعندما عادت �أخربتنا ب أ�نهم عذبوها �أمامه(.)35
يف نف�س اليوم علمنا �أنهم اعتقلوا م�رض.ج( ،)36وكنا قد
�سمعنا �أ�صوات تعذيبه ،دون �أن ندري �أنه هو ،ملدة ت�سع
�ساعات متوا�صلة).
المن �إىل غرفة التعذيب فوق، (� )35أخذت بثينة .ت من الزنزانة يف قبو فرع أ
كان زوجها مربوط ًا من �ساعديه �إىل ال�سقف واجلالدون يبا�رشون بتعذيبه،
ج�سده مليء بالقروح والدماء والطمي�شة تغطي عينيه .حاولت بثينة االقرتاب
لكن اجلالدين مل ي�سمحوا لها ،ا�ستطاعت �أن تتمل�ص لثوان من بني �أيديهم
الحاطة بج�سده املعلق لرتمي الطمي�شة عن عيون نزار وترمتي �أر�ض ًا حماولة إ
لكنها مل تطل �سوى �ساقه لرتمي قبلة �رسيعة خاطفة على ركبته املدماة.
( )36م�رض .ج من مواليد � 1960أحد املعتقلني ال�شيوعيني املعار�ضني .كان
امل�س ؤ�ول عن منطقية املدينة ال�شمالية .تويف �سنة 1987يف املعتقل حتت
التعذيب ،وبعد ع�رش �ساعات فقط من اعتقاله ب�سبب حالة الربو التي كان
يعاين منها .مل ت�س ّلم جثته �إىل �أهله حتى اليوم ،ومل يعرتف ر�سمي ًا بعد مبقتله.
70
احلرب النف�سية أ�و ً
ال..
االعتقـال
71
الغاين:أ
اخليالة
بكرا ملا بريجعوا ّ
برتجع يا حبيبي..
المن 1قاهراً �صوت بثينة.ت ي�صدح يف ممرات فرع أ
()37
72
�أغنيات تتواىل وتت�صاعد حتى ال�صباح.
ك أ�ن الغناء كان الو�سيلة الوحيدة إلعادة الروح �إىل مكانها
بعد �أن م�سخها املعتقل!
حتى ال�سجانة بكوا �أحيان ًا حتت ع�صف �أغنية ما! ولطاملا
ناجاها امل�ساعد «�أبو �شادي»:
ال� ..صوتك حلو ..غ ّني قلي ً
ال. -غ ّني قلي ً
يتمايل حتت �سطوة الطرب وهو قابع على كر�سي املراقبة،
تخ�ش مع
ّ ومفاتيح الزنازين تتحول بني يديه �إىل �آلة مو�سيقية
النغمات.
رمبا حتيل تلك الفكرة للذاكرة فيلم ًا كرتوني ًا من �إنتاج �رشكة
النكليزي والت ديزين لل�سينما .الفيلم يحكي ق�صة املتمرد إ
ال�شهري روبن هود يف حربه �ضد امللك املزيف.
ظل مرابط ًا يف غابات �شريوود حتى روبن هود (الثعلب) ّ
(ال�سد) من حروبه وا�ستعادته الكر�سي عودة امللك ريت�شارد أ
امللكي من جديد.
يف ذاك الفيلم الكرتوين يعمل املتمردون يف الغابة على
ال�صلع)، (ال�سد أالخ أ ت أ�ليف وتلحني �أغنية �ساخرة عن امللك أ
الطاغية الذي ا�ستوىل على العر�ش يف غياب �أخيه ،وراح
الغنية �إىل الق�رص ي�ضطهد النا�س وي�رسق �أموالهم .و�صلت أ
للغنيات �أجنحة يف العادة .و�صلت بال�ضبط امللكي ،ذلك �أن أ
ثم م�شهد معبرّ للغاية يغ ّني �إىل م�سمع جنود امللك .لي أ�تي من ّ
73
فيه قائد جند امللك (الدب) أ
الغنية نف�سها التي تف�ضح الطاغية
وتهز�أ به ،يغنيها وهو َط ِرب م أ�خوذ بنغماتها اللطيفة ،في�سمعها
الخر الغناء بدوره.(احلية) منه ويبد�أ هو آ
الوزير ّ
رمبا كان أ
للغاين قوة ال ت�ستطيع �أية �سلطة �أن ّ
تقو�ضها.
للغاين �أجنحة قادرة على هزمية �أية جدران مهما علت أ
ع�صية على االخرتاق.وبدت ّ
للغاين مكان يف القلب ال عالقة له بانتماءاتنا ،ذلك �أنها أ
تخاطب ذاك اجلزء العميق واملدفون يف داخل كل منا مهما
كان ،ومهما اختلفت دوافعه و�آرا ؤ�ه واعتباراته وم�صاحله.
يف م�شهد لي�س ببعيد كانت بثينة.ت تغ ّني ذات ليل ،وتر ّد
الخرى املقابلة حتى طلع عليها حميدة.ت من املزدوجات أ
ال�صبح حوايل ال�ساعة ال�ساد�سة.
حينئذ جاء ال�سجان م ،امللقّب باحلمام الزاجل( ،)38وهم�س
�إىل بثينة من وراء باب الزنزانة مت أ�ثراً:
-كنت �أ�سمعك منذ بداية الليل.
الغنية التي حتبها ..ياَ -مل مل تقل يل؟ كنت غ ّنيت لك أ
جبل البعيد.
( )38كان ال�سجان م يد�أب على نقل الر�سائل بني املعتقلني داخل الفرع ،و�إىل
�إي�صال ر�سائلهم املكتوبة وال�شفوية �إىل �أهاليهم وذويهم يف اخلارج .حني
اكت�شف �أمره ،قام مدير ال�سجن مبعاقبته وتعذيبه ،وعمل على �رضبه ب�شكل
متوح�ش يف كوريدور الفرع ال�سفلي املطل على املنفردات والزنازين وعلى
م�سمع من املعتقلني واملعتقالت �إمعان ًا يف حتقريه.
74
عرفت �أين �أ�سمعك ملا غ ّنيت مثلما غنيت اليوم ..كان ِ -لو
غناك حلو ..حلو كتري.
حنا اجلودة �أي�ض ًا كان �رشيك ًا يف حفالت الغناء.
هو رجل لبناين فل�سطيني نحيل غزا ال�شيب كامل ر�أ�سه
ف أ��ضحى كتاج من ف�ضة مييزه.
كان حنا متهم ًا بتزوير جوازات �سفر ،و�إدارة ال�سجن
ت�ستخدمه جللب املعلومات من بقية املعتقلني .على الرغم
من �أن اجلميع ،تقريب ًا ،كان عارف ًا بوظيفة حنا املخابراتية �إال
�أن �صوته اجلميل ،خ�صو�ص ًا حني يغني مواويل عبد الوهاب
وي�صدح يف كوريدورات الفرع ،ين�سيهم �أي موقف م�سبق
منه:
بالبحر مل فتكم بالرب فتوين
بالترب مل بعتكم بالتنب بعتوين..
�أمام زنزانته رقم 201كان حنا ي�ستطيع اجللو�س على
كر�سيه بعد �أن ير�شو ال�سجانة مببلغ ما .ككل ليلة كان يبد�أ بغناء
�شيفرته التي �صارت معروفة يف الفرع :ر ّدي علي ك ّلميني.
حينئذ تر ّد بثينة ،وقد فهمت ال�شيفرة وحفظتها ،من الطاقة
على ال�سقيفة فوق املزدوجات ،فيبدو �صوتها هادراً ك أ�نها
تغني يف مكرب لل�صوت.
ال�رس حتى يبكي ال�شجي آ
ّ يبد�أ الثنائي ،بثينة وحنا ،بالغناء
ال�سجن كله.
75
لكن ذاك اليوم �أتى واكت�شف �أطباء ال�سجن �أن مر�ض
ال�رسطان طال كبد حنا اجلودة بالكامل ،و�أن �أيامه غدت
معدودة .جلبوه من امل�ست�شفى ليودع ال�سجن بكل نزالئه:
ال�سجانة واملعتقلني.
يحب دائم ًا
ّ و�ضعوا له الكر�سي يف الكوريدور ،كما كان
طيلة �سني �سجنه ،لكن هذه املرة بجانب مزدوجات ال�صبايا.
ومن هناك ا�ستطاعت املعتقالت ر ؤ�يته من ثقب الباب.
كل بدورها تتل�ص�ص عليه ثم ترتك الثقب لرفيقتها.
ال للغاية و�شاحب ًا ك�شبح.كان حنا اجلودة قد �أ�ضحى نحي ً
وقتئذ ،وحاملا ملحته بثينة على هيئته املحزنة� ،صارت تناديه من
علي كلميني .ال�شيفرة التي كان يناجيها بها. الداخل :ردي ّ
ال على كر�سيه وال يرد.لكنه بقي �صامت ًا هزي ً
�أخرياً غ ّنت له بثينة:
قدي�ش حلوة هال�شيبة
بتنقّط ح�سن وهيبة
...
الخرية.وبكى حنا اجلودة للمرة أ
بعد يومني �أعيد �إىل امل�ست�شفى ومات هناك.
الغاين كتبت ناهد.ب يف مذكراتها: عن أ
الخرى للمقاومة وللتوا�صل مع (كان الغناء هو الو�سيلة أ
الزنازين �أي�ض ًا .خا�صة �أن �أزواج بع�ض رفيقاتنا كانوا هناك.
76
بعد نوم احلرا�س كان �صوت بثينة ال�شجي يح�رض �أغاين فريوز
لعندنا فيغيب املكان والزمان ،ونطري مع طيارة فريوز الورقية،
وجنل�س حتت العري�شة �سوا ،والزنابق حدنا تعلو ،ون�شم رائحة
الطيون يا �ستي ،ون�سهر على ال�سطح كي ال ين�سانا القمر.
كانت جتل�س على ال�سقيفة فوق املزدوجات بجانب
النافذة املطلة على املمر ،وتبد�أ الغناء لي�سمع زوجها ورفاقه يف
الزنازين..
يا حلو �شو بخاف �إين �ضيعك..
طلعنا على ال�شم�س طلعنا ع احلرية..
يا حرية يا طفلة وح�شية ..يا حرية).
77
78
1982
79
بنغمات �رسيعة �أو متهادية� ..ألقته كله!
لتذكر �أغنية جديدة. ثم بد�أت جتاهد ّ
رمبا مرت �ساعات وهند تق ّلب ذاكرتها بحث ًا ،وحني تتذكر
�أغنية من�سية ت�شعر ب�سعادة غامرة وهي تدندنها ك أ�نها �أهديت
اللق يف خوائها. بث أ كتاب ًا جديداً يعمل على ّ
�إنه �أ�سلوب نف�سي ال غري� ،أنا مقتنعة بذلك.
االعتقال والتحقيق حرب نف�سية ال غري ..وينبغي �أال �أ�سمح
ملعنوياتي باالنهيار.
يهد كياين بل احلرب النف�سية �أو ًال. مل يكن التعذيب هو ما ّ
يريدونني �أن �أنهار قبل �أن �أتلقى �صفعة واحدة� ،أن �أدخل
غرفة التعذيب و�أنا منهارة وحمطمة ،بالتايل ي أ�تي ال�رضب تتمة
لالنهيار النف�سي.
بعد �أكرث من 45يوم ًا من �سجني يف املنفردة قمت ب�صنع
ال آلكل بها بدل ملعقة من عظم ظهر الفروج ،ا�ستخدمتها طوي ً
املالعق املنفّرة التي كان ال�سجانة ي أ�تونني بها مع ق�صع الطعام
املعدنية.
اعتدت امللعقة� ،أحببتها� ،صارت جزءاً من عاملي ال�ضيق،
ال�شياء. جزءاً خا�ص ًا ومميزاً يف مكان ال حميمية فيه �إال مع أ
كانت تلك امللعقة من �أ�شيائي احلميمية هنا.
�أتى وقت بليت فيه مع اال�ستعمال ،فبكيت ..بكيت طوي ً
ال
ويخ�صني قد غاب.
ّ عليها� ،أح�س�ست ب أ�ن جزءاً دافئ ًا
80
احلرمان كان يحيط هند بكليتها.
المر كما و�صفته متام ًا :حرب. احلرمان من كل �شيء .كان أ
حرب ي ؤ�يدها �شعور �أليم بالوحدة واحل�صار والعجز .لكن
الكرث �إيالم ًا كان حرمانها من رائحة القهوة أ
الثرية �إىل المر أ أ
قلبها.
مل يكن ل�صباحات الزنزانة معنى ال�صباحات وهي مت�ضي
دون رائحة خرجت من ذاكرتها لتحا�رصها يف كل دقيقة.
انح�رصت كل رغباتها يف حلظة بر�شفة من القهوة تفوح منها
رائحة الهيل ّ
املنكه.
ر�شفّة واحدة قد تخت�رص كل رغباتها ،تك ّثفها.
جتر�أت ذات �صباح وقالت لل�سجان:
� -أنا على ا�ستعداد �أن �أعطيك كل ما معي من نقود .فقط
اجلب يل فنجان ًا من القهوة� ..أيام طويلة مرت مل �أتن�شق فيها
رائحة القهوة ..فنجان ًا واحداً فقط.
كانت متلك يف ذلك اليوم حوايل املئة لرية.
الوىل ،نظر �إليها اللكن ال�سجان مل ي�ستجب لها يف املرة أ
مبالي ًا ،رمى لها الق�صعة ،وخرج مغلق ًا الباب.
�صارت تطالبه بالقهوة كلما �أدخل لها الطعام� ،أو �أخرجها
�إىل التواليتات� ،أو فتح عليها الزنزانة ..حتا�رصه بحنينها
العا�صف لر�شفة.
ذات يوم جاءين ظهراً� ،س أ�لني عن كا�سة ال�ستانل�س التي
81
�أ�رشب فيها.
-وين كا�ستك يا 36؟
هم�س برقم زنزانتي وقد �صار هو ا�سمي.
لده�شتي �أخرج من وراء ظهره �إبريق ًا معدني ًا� ،سكب �سائ ً
ال
البني املعتق يف ك أ��سي ،لت�صعدبني ًا له رائحة القهوة ولونها ّ
الهبلة( )40حولها ،وتعبق الرائحة يف الزنزانة ال�ضيقة.
رائحة نفاذة تف ّتح الروح حتى �أين خ�شيت �أن ّ
ي�شمها من يف
اخلارج .كانت تلك �أثمن هدية قد تتلقاها امر�أة يف زنزانة :ك أ��س
كامل من القهوة ال�ساخنة ..يا �إلهي كم كانت �ساخنة و�شهية
ومليئة بالغواية!
ظللت �أرت�شف من القهوة حتى امل�ساء.
ر�شفة فر�شفة..
ك أ�ين كنت �أخ�شى �أن تنتهي .كلما فُتح باب الزنزانة �أخبئ
كنزي وراء الفر�شة التي �أتو�سدها ،ألعود �إليه من جديد� ،أتوحد
مع لذته ،حال انغالق الباب.
بعد ت�سعة �أ�شهر يف املنفردة ،بال زيارات وال �أغرا�ض ،ومع
توقف التحقيق منذ وقت طويل كان الكيل قد فا�ض بهند ،ومل
تعد تقوى على االحتمال.
ذات �صباح حني جلبوا لها الفطور �صاحت بال�سجان،
جمعتهما طيلة ال�شهور املا�ضية: بكل ما �أوتيت من قوة وحزم ّ
( )40الهبلة :دخان القهوة.
82
� -أنا م�رضبة عن الطعام ..اذهب وقل ملديرك.
ما كان من ال�سجان �إال �أن ذهب من فوره ،لي أ�تي رئي�س
ال�سجانة� .أجابته اجلواب نف�سه فما كان من أ
الخري �إال �أن
ذهب م�رسع ًا لي أ�تي �ضابط جديد ،وي�س أ�ل عن ال�سبب.
� -إما اعطوين كتب �أو جرايد.
قالت هند وهي تتكئ على احلائط يف زاوية الزنزانة.
� -أنت �سجينة وتريدين �أن تطلبي وتتغنجي؟ �أن�سيت �أنك
�سجينة؟
-انقلوين �إىل مهجع الن�سوان �إذاً.
-ومن قال لك �أن عندنا ن�سوان؟!!
-ال ..عندكم ن�سوان..
-وهل جنلب لك ن�ساء من ال�شارع حتى تفرحي؟!
�رصخ ال�ضابط �ساخراً بتك�شرية مرعبة على وجهه
الغا�ضب.
م�رصة فقد فا�ض الكيل بها حق ًا .ت�سعة �أ�شهر لكنها كانت ّ
يف منفردة مل تكن لعبة باملرة.
�ضب �أغرا�ضي.
يف ال�ساعة الثالثة ظهراً قالوا يل �أن �أ ّ
مل يكن لدي الكثري :ب�شكري وحمارم تواليت وكا�سة ميالمني
ودخان حمرا .خالل دقائق كانوا ينقلونني �إىل مهجع ا�سمه:
املهجع .11
تناهى �إىل �سمعي ،و�أنا �أقرتب يف الكوريدور� ،صوت
83
و�شو�شات ناعمة كانت تت�صاعد وال�سجان يفتح يل الباب.
وان�سفحت �أمام ناظري جمموعة ن�ساء مبعرثات يف املهجع.
ال�سالميات!كان مهجع ًا للمعتقالت إ
مل �أكن �أت�صور البتة �أن هناك �سبع �إ�سالميات معتقالت قربي
الن �أ�صبحت �أنا املعتقلة الثامنة يف قبو الفرع وطيلة �شهور .آ
بينهن.
يدمر الب�رش باملعنى الداخلي .ال�سجون �أ�ساليب لكن ال�سجن ّ
ال�سو�أ ،وكل ما عمل لقتل الب�رش يف الب�رشُ .يغلق الباب فيفي�ض أ
الن�سان �أياملرء خارج ًا على �إخفائه �أو مداراته� ،أ�سو�أ ما يف إ
اجلانب الذي مل يفكر به يوم ًا ،يخرج بكل و�ضوح.
النا�س عارية هناك �أمام بع�ضها ،عارية متام ًا ،والعري �صعب
�أمام النف�س فما بالك �أمام الغري.
ال�سالميات طلبها يف اليوم الثاين ملجيئها �إىل مهجع إ
ال�سالميات يطلقنه على مدير ال�سجن. (املعلم) :ا�سم كانت إ
خاطبها (املعلم) بلهجة هادئة غري م أ�لوفة بعد �أن طلب من
احلاجب �أن يقدم لها ك أ��س ًا من الزهورات ال�ساخنة .كانت املرة
الوىل التي ت�صعد �إىل الوىل التي تراه هند فيها ،ألنها املرة أ أ
مكتبه دون �أن تكون الطمي�شة على عينيها.
-ارحتت يف املهجع؟
-كله �سجن.
ال�سالميات؟ -طيب ..ما ر�أيك �أن تنا�ضلي بني إ
84
-هذه لي�ست �شغلتي.
كان جواب هند على اقرتاح املعلم �أن تعمل خمربة و�سط
ال ي�رشح لها كيف ال�سالميات .لكن مع ذلك ظل املدير طوي ً إ
وال�سالميون �أخط ؤ�وا، يجب �أن يعاقب املرء حني يخطئ ،إ
وعليهم �أن يعاقبوا .ورمبا كانت هذه و�سيلة كي تكفّر هند عن
�أخطائها بحق الوطن ..وما �إىل ذلك من خطبة طويلة ا�ستمعت
�إليها هند مرغمة.
ن�صف �ساعة كاملة وهو يتكلم فيما ت�ستمتع هند بدفء
ال�سائل املحلى ينزل متهادي ًا �إىل ج�سدها.
نهاية احلديث كان وا�ضح ًا �أن املعلم �أ�سقط يف يده.
-هل تريدين �شيئ ًا؟
�س أ�لها بجفاء هذه املرة ،واعتقدت هند �أنه �سيعيدها على
الفور �إىل املنفردة.
� -أريد ت�شعيلة للدخان فقط.
-اطلبي من ال�سجانة عندما حتتاجني �إليها.
-كلما طلبت منه يتمايع ويتغالظ ..يف احلقيبة التي جئت
بها ت�شعيلة ..بدي �إياها ب�س.
-وماذا �أي�ض ًا؟
-كتب �أو جرايد وجمالت� ..س أ��صبح �أمية بعد فرتة �إذا
ظللت هكذا.
نزلت هند من مكتب املعلم ،لكن �إىل املهجع 11ولي�س
85
�إىل الزنزانة ،معها الت�شعيلة فقط ،دون كتب وجمالت بالطبع..
لتظل حوايل ال�شهرين قبل �أن يطلق �رساحها من اعتقالها
الول. أ
86
1987
87
الربعني لوالدتها. ليلتئذ كانت بثينة قد �أمتّت اليوم أ
مدعية ا�ستيقاظي للتو� ،أ�شهر ال�ضابط فتحت البابّ ، ُ حني
المنية يف وجهي: الهوية أ
-زوجي لي�س هنا.
بالطبع مل يكتفوا بكلمتي ،دخلوا البيت من فورهم
بالع�رشات كالداخل �إىل �ساحة حرب .ف ّت�شوا كل زاوية فيه،
بالدبيات :البيانات واملنا�شري واملجالت... كان مليئ ًا أ
د�سوا الفر�شة وكانت ما تزال دافئة ،هذا يعني �أن نزار مل ّ
يبتعد.
�أجربوين ،بعد انتهائهم من التفتي�ش ،على النزول من البيت
المن (�ستي�شن بي�ضاء) مع ابنتي ،و�أنا ما زلت �أرتدي �إىل �سيارة أ
قمي�ص النوم يف برد كانون ،مل يدعوين �أغيرّ ه� ،أو �أرمي ردا ًء ما
على ال�صغريتني.
الربعني يوم ًا بعد، ابنتي ال�صغرى راما ،مل تكن تبلغ أ
الربع �شدها بقوة �إىل �صدري ،فيما �أنزلوا الكربى النا ،ذات أ �أ ّ
�سنوات ،حافية باكية ورائي.
المن.1 �أخذوهن على الفور �إىل فرع أ
هناك يف زنزانة يف جماهل الطابق ال�سفلي بقيت االبنتان مع
الم حتى �أقبل الليل حني �أتت جدتهما و�أخذتهما .كان �أطول أ
مر على بثينة يف حياتها ،ق�ضته يف حماولة حلماية الطفلتني نهار ّ
من الربد والوح�شة ،ويف درء �شعور بالعجز الكامل راح ّ
يقطع
88
دواخلها.
�أما ال�صغريتان فقد ق�ضتا نهاراً من الرعب احلقيقي يف ذاك
املكان الغريب البارد واملوح�ش.
ظلت بثينة.ت �أكرث من خم�سة �أيام يف املنفردة ،وهي نف�ساء
تنزف .كان ال�سجانة ي�ضطرون �إىل �أخذها يومي ًا �إىل امل�ست�شفى،
ثم �إعادتها من جديد ،ذلك �أن �شحوب وجهها ،والدماء ومن ّ
املن�سابة ،التي ّلوثت ثيابها والفر�شة وحتى �أر�ض املنفردة،
جعلتهم يرتعبون من �إمكانية موتها .مل يكونوا بحاجة �إىل
�شهيدة جديدة ،ويف الوقت نف�سه لن يطلقوا �رساحها قبل
�أن ي ؤ�تي اعتقالها ثماره� ،أي :ال�ضغط على زوجها كي ي�س ّلم
نف�سه.
اليام اخلم�سة عانت بثينة ل�سنوات قادمة نتيجة تلك أ
تقرح يف الرحم� ،إ�ضافة �إىل الكثري من امل�شاكل الن�سائية من ّ
الخرى ،جعلتها تخ�ضع ألكرث من عملية جراحية م�ستقبلية. أ
بثينة �أخذت كرهينة على الرغم من �أن زوجها اعتقل بعدها
ب�شهر واحد فقط.
مل يطلق �رساحها �إال بعد ذلك ب�سنوات ثالث.
يف ال�سنة ذاتها و�صلت دفعة من ال�صبايا املعتقالت يف مدينة
ال�شمال بعد اعتقالهن هناك مدة �شهر تقريب ًا.
89
كن ثماين معتقالت هن :مي.ح(� ،)41سحر.ب ،لينا.ع(،)42 ّ
أ
�أمرية.ح ،وفاء.ط �صاحبة ال�صوت اجلميل و�غاين �صباح
()44 ()43
90
�صقيع ال�ساعة الثانية فجراً من بيت جدتها .كان خالها قد
المن �س أ�ل عنها يف املدينة اجلامعيةات�صل منذ �ساعة وقال �إن أ
حيث ت�سكن ،ومن ثم �س أ�ل يف بيت خالها يف املدينة نف�سها.
مل �أكن �أعرف ماذا �س أ�فعل؟
فتاة مثلي يف مدينة حمافظة كهذه املدينة ،ويف وقت ع�صيب
كالثمانينيات ،وبعد منت�صف الليل ..ما الذي �س أ�فعله آ
الن؟!
نزلت �إىل ال�شارع ،ومل �أجد نف�سي �إال و�أنا �أوقف �سيارة
تاك�سي ألذهب �إىل بيت �أ�صدقاء من املمكن �أن يكون بيتهم
�آمن ًا .لكني مل �أجد �أحداً يف البيت ،فلم يكن مني �إال �أن عدت
و�أوقفت �سيارة تاك�سي من جديد.
حتديقات �شوفري التاك�سي كانت حتا�رصين ،جتربين على تربير
وجودي يف مثل هذا الزمان واملكان� .رصت �أ ؤ�لف ق�صة ما
تبدو مقنعة� :أين تعاركت مع زوجي يف الليل� ،أين هاربة منه
ومن بط�شه �إىل بيت �أهلي ..وما �إىل ذلك.
حينها �س أ�لني ال�شوفري :لوين بدك تروحي؟
مل يكن يف ذهني �شيء ،رمبا كنت قد �أخذت التاك�سي ألترك
لنف�سي ف�سحة للتفكري ..حينها تذكرت بيت �صديق حميم،
وتوجهت �إليه على الفور.
حني نزلت من ال�سيارة مل يكن هناك �أحد يف املنزل ،م�شيت
ال ،كان هناك بناية ببيت درج زجاجي ،دخلت �إىل أ
المام قلي ً
�إليها وقعدت �إىل ال�صبح .الربد كان �شديداً .كلما �سمعت �صوت ًا
91
العلى ثم �أعود حاملا يختفي. مقرتب ًا �أ�صعد الدرجات �إىل أ
طل الفجر حتى كنت قد انهرت متام ًا ،فقررت ما �أن �أ ّ
الذهاب �إىل بيت �أ�صدقاء �آخرين.
الباب اخلارجي هناك كان مغلق ًا .هذه ر�سالة تعني �أن هناك
المن بالت أ�كيد. �أحداً يف الداخل :رجال أ
على الرغم من ذلك فتحت البوابة ،ودخلت من فوري،
كانت ال�ساعة قد بلغت ال�سابعة �صباح ًا.
ال.المن كانوا يف الداخل فع ً رجال أ
�أنا �أ�شبه بطفلة مت�رشدة يف الع�رشينيات ،ترجتف من الربد
والتعب.
-ماذا تريدين قبل �أن نذهب؟
المن على غري عادته وقت االعتقال. �س أ�لني �ضابط أ
� -أريد �أن �أنام.
بالفعل تركني �أنام يف الداخل حوايل �ساعتني.
الغريب �أين ارمتيت بكامل مالب�سي على ال�رسير ،وغرقت
يف نوم عميق خالل هنيهات على الرغم من كل اجلو املتوتر
املحيط بي .يف التا�سعة متام ًا �أيقظني:
-مل نعد ن�ستطيع الت أ�خر �أكرث من ذلك ..يا اهلل.
قال ال�ضابط ،ثم طلب مني �أن �أغيرّ ثيابي .كنت �أرتدي
تنورة وجاكيت وكندرة ،فلب�ست بنطلون وبوط �صديقي،
المن 2الع�سكري. ومن ثم �أخذوين �إىل فرع أ
92
مل يكن �أمام ال�صبايا الثماين ،املنقوالت بالبا�ص من مدينة
ال�شمال �إىل العا�صمة� ،إال �أن يغنني طيلة الطريق .كانت مي.ح،
التي اعتقلت �سابق ًا يف فرع العا�صمة ،تنقل �إليهن طيلة الوقت
�صورة مفزعة عن الو�ضع يف الفرع ،هذا ما جعلهن خائفات
للغاية.
الو�ساخ والقذارة هناك ،عن احل�رشات حدثتهن عن أ
العجيبة والفئران ،عن الوح�شية التي �سيعاملن بها .حدثتهن
�أي�ض ًا عن اعتقالها ال�سابق وقت �أتتها الدورة ال�شهرية ،بعد �أيام
ير�ض ال�سجان �أن ي أ�تيها باملحارم الن�سائية،
من االعتقال ،ومل َ
للمر ،وجتلب معها ألنها ،ح�سب قوله ،كان ينبغي �أن حتتاط أ
الفوط قبل االعتقال!!.
ا�ضطرت مي وقتئذ �إىل ا�ستعمال اجلرائد التي �أتاها ال�سجان
بها بدل الفوط الن�سائية.
على الرغم من كل ذلك �أملت ال�صبايا بو�ضع مغاير قلي ً
ال.
ألن الفرع يف مدينة ال�شمال كان قذراً للغاية ،وال يعقل �أن
يكون هناك �أقذر منه .حتى �أن بع�ضهن كحميدة ا�ضطرت �إىل
الو�ساخ عملت على جعل البثور �أخذ م�ضادات حت�س�س ،ألن أ
جتن يف ج�سدها� .إ�ضافة �إىل �أنهن ح�رشن ،وهن حوايل احلمراء ّ
خم�س ع�رشة معتقلة ،يف زنزانة �ضيقة مما جعلهن م�ضطرات
�إىل تق�سيم �أدوار النوم ،ق�سم ينام بطريقة الت�سييف( )46فيما
الخر دوره عند الباب. ينتظر الق�سم آ
( )46تنام املعتقلة على جنبها وقدماها عند ر�أ�س زميلتها اخت�صاراً للم�سافة.
93
الو�ضع كان مرهق ًا حق ًا ،ازداد ب ؤ��سه بوجود حالة ع�صبية
زادت الطني بلة :فتاة كردية �شابة تدر�س يف املعهد الطبي.
على الرغم من عدم قيام الفتاة ب أ�ي فعل �سيا�سي خارج ًا،
وعدم انت�سابها �إىل �أي ف�صيل معار�ض ،فقد اعتقلت ب�رشا�سة
�سمي :امل ؤ�مترات الطالبية تلك ال�سنة
وذلك بتهمة ح�ضورها ملا ّ
يف جامعة ال�شمال ،حيث ا�شتعلت امل�شاكل بني طالب االحتاد
الوطني للطلبة /حامل لواء ال�سلطة وبني طلبة املعار�ضة.
كانت تلك الفتاة من بني البنات الكثريات اللواتي �سقن يف
ذلك الوقت �إىل ال�سجون.
اعتقلت الفتاة مع �صديقها الكردي� :آزاد.
يف ذلك اليوم عملت العنا�رص على تعرية الفتى متام ًا ،ومن
ثم ّ
عذبوه تعذيب ًا وح�شي ًا وملدة طويلة وهم يجربونها على مراقبة
ذلك ،كلما حاولت �إغما�ض عينيها يجربونها على فتحهما،
ي�شدون �شعرها ،ويعاجلونها يغر�سون �أ�صابعهم بني جفنيهاّ ،
ب�رضبة مباغتة جتربها على البحلقة!
دخلت الفتاة يف حالة من االنهيار الع�صبي .ظلت بعدها
�أكرث من ع�رشة �أيام وهي ت�رضب �أبواب املهجع بيديها ورجليها،
وت�رصخ بجنون فيما املكان ال�ضيق ،الذي ينوء باملعتقالت
املح�شورات ،يهت ّز من �صدى �ضجيجها و�ضجيج ال�رضب
على �أبواب احلديد.
ظلت الفتاة الكردية ت�رصخ ،تزعق ،تخبط ،ت�شتم ،وتتلوى
94
يف �أر�ض الزنزانة حتى �أخرجوها منها .لكن �إىل �أين؟ هذا ما
مل يعرفه �أحد!
و�صل البا�ص من مدينة ال�شمال �إىل �ساحة رئي�سة يف
العا�صمة ،وهناك راحت ال�صبايا يغنني:
زينوا ال�ساحة ..وال�ساحة لينا..
كن يحاولن بالغناء �أن يطردن �شبح ًا قبيح ًا الزمهن عن رمبا ّ
حرة كانت العا�صمة� ،أو كن يحاولن �أن ي�سرتجعنها كمدينة ّ
الحرار ويف هذه ال�ساحة بالذات. تزف أال ّ قب ً
متت اليوم ب�صلة لكل ما كانته.
تلك ال�ساحة ال ّ
التي املرعب حتى رمبا كن يحاولن حت�صني �أرواحهن من آ
المن 2الع�سكري. و�صلن فرع أ
حملة االعتقاالت التي طالت �أطياف املعار�ضة كانت �آنذاك
المنية من معلومات كان يف �آخرها ،وكل ما تريده ال�سلطات أ
تكهن مي.ح يف غري مكانه. مك�شوف ًا لها ،لذا فقد كان ّ
و�ضعت ال�صبايا يف غرفة و�أغلق الباب.
ال�شد خ�صو�ص ًا �أنهن و�صلن بعد هنا بد�أت الرحلة أ
المر الذي جعل �إمكانية تقدمي الطعام م�ستحيلة، الع�شاء ،أ
وهن جائعات ..جائعات جداً .لذا كان البد من جمع كل ما ّ
لهن بب�ضعمعهن من نقود ،و�إعطائها لل�سجان املناوب لي أ�تي ّ
زيتونات ،ي�سددن بها رمقهن.
الربعة ،الذين ُو�ضعوا يف الغرفة املجاورة ،د�أبوا ال�شباب أ
95
على دق احلائط امل�شرتك :كانوا جائعني �أي�ض ًا.
لكن ما كان متاح ًا لل�صبايا مل يكن متاح ًا لهم ،لذا فقد
حاولت البنات ا�ستخدام متديدات الكهرباء غري املنجزة ،التي
�أحدثت ثقب ًا يف احلائط بني الغرفتني ،ليدخلن حبات الزيتون
حبة حبة يف الثقب ،ثم ينتظرن ليتلقني بذورها بعد �أن ي أ�كلها
ال�شباب.
الن�سب كيال يكت�شف ال�سجانة بذر ما فعلنه كان احلل أ
الزيتون يف مهجع ال�شباب ،وحينها �سيتعر�ضون للعقاب
امل ؤ�كد.
المن 2الع�سكري كان كل �شيء ممنوع ًا حتى يف فرع أ
ال�صوات ..عليك �أن تهم�سي هم�س ًا. أ
اجلدران �صماء لكنها تنقل �أية ن أ�مة.
�صم لكنهم يلتقطون تنهيدة النف�س. ال�سجانة ّ
�صم ال يرد �صوت ًا وال �ضجيج ًا. وباب احلديد �أ ّ
المن كان كل �شيء ممنوع ًا حتى احلياة ،ورمبا كانت يف فرع أ
�أول أ
ال�شياء املمنوعة!
يف �صباح اليوم التايل �أخذوا �سحر.ب و�أمرية.ح ،وتركوا
البقية يف الغرفة.
رميتا يف زنزانة م أ�لوفة بعد �أن �أخرجوهما من مزدوجة
�أخرى ،قيل �أن اجلرب ا�ست�رشى فيها.
كانت الزنزانة اجلديدة زنزانة هند .ق قدمي ًا .مل تت أ�خر
96
�أمرية و�سحر باكت�شاف ذلك ،فقد كانت مليئة بب�صمات هند
اخلا�صة ،بالكتابات وبخرب�شات احلك والقلم ،والروزنامة
على احلائط وراء الباب احلديدي ،واجلملة املتوهجة التي
نق�شتها هند فوق الباب :غاب نهار �آخر..
بث ال�سلوى يف روحيهما كان لتلك اجلملة قدرة ال�سحر يف ّ
القانطتني.
كل �شيء يف زنزانة هند على حاله ،ك أ�ن ال�سنوات الثالث
متر على تلك اجلدران الوفية .وزنزانة �أبي مهند ،املعتقل مل ّ
الفل�سطيني الذي كان �سكرترياً ليا�رس عرفات ،ما تزال على
حالها بجانب زنزانة هند ،و�ساكنها ما يزال نف�سه :ذاكرته
وميزاته الكثرية ،دون بقية املعتقلني ،ال متقدة حا�رضةّ ،
البواب على الزنازين تزال :زنزانته مفتوحة دائم ًا فيما تغلق أ
الحيان ليتم�شى ببيجامة الريا�ضة الخرى ،يخرج يف بع�ض أ أ
املحرم بالطبع على باقي املعتقلني �إال
ّ يف الكوريدور ،أ
المر
والهم لديهحني الذهاب �إىل اخلط ،يدرد�ش مع العنا�رص ،أ
راديو مفتوح دائم ًا ،وب�صوت عال ،على �صوت فل�سطني..
ال�صوت الوحيد و�سط �صمت الزنازين و�رصاخ ال�سجانة
وخبطات �أبواب احلديد.
�أول �أغنية �سمعتها �أمرية.ح ،بعد زمن طويل من االعتقال،
كانت من راديو �أبي مهند :ثوري ثوري .حينئذ فقط علمت،
الرا�ضي املحتلة.هي و�سحر� ،أن انتفا�ضة 87قد قامت يف أ
97
�أما بقية ال�صبايا فقد نقلن �إىل املهجع رقم .6
حميدة.ت كانت تعاين من �إدرار بول �شديد ،واالعتقال زاد
المر الذي جعلها ال ت�ستطيع انتظار حالتها �سوءاً على �سوء ،أ
الليل بطوله كي ي أ�تي ال�صباح ،وبالتايل تدخل �إىل احلمامات
وقت ي�سوق ال�سجانة املعتقالت �إىل اخلط .كما �إنها مل ت�ستطع
االعتياد ،كما معظم املعتقالت ،على التبول على مر�أى من
اجلميع يف علبة بال�ستيكية كانت خم�ص�صة فيما م�ضى ملعجون
اجللي.
تلك العلبة البال�ستيكية حتولت �إىل مرحا�ض �صغري متحرك:
لونه قامت وتفوح منه رائحة ن�شادر قاتلة تفغم املهجع بكامله.
كان ذلك يف املهجع قبل �أن تُنقل ال�صبايا �إىل املزدوجات
حيث احلمام من �ضمن الفراغ املغلق عليهن.
املهجع رقم 6كان حماط ًا بزنازين املعتقلني .قبالته منفردة
فيها معتقل �شيوعي �شاب ا�سمه :موري�س ،فيما بقية الزنازين
مليئة بع�ساكر معاقبني.
مل يكن �أمام املعتقالت �إال طلب املعونة من رفيقهن املقابل،
�شق ال�رشاقة يف باب املهجع ،وكان على وذلك عرب مناداته من ّ
موري�س م�ساعدة حميدة يف حمنتها ب أ�ية و�سيلة كانت ،فامل�سكينة
المل ،ومثانتها تكاد تنفجر!. كانت تتلوى من أ
بالفعل ا�ستطاع موري�س اخرتاع طريقة مبتكرة ّ
حلل
امل�شكلة :نادى يف �صمت الليل على �سجني املنفردة املجاورة
98
له ،وهو ع�سكري معاقب ب�سبب �رسقته ل�سيارة �ضابطه
�رشاقة الع�سكري كانت مفتوحة ،بخالف وهربه بها .ومبا �أن ّ
ب�شق النف�س ،مترير حزامه ال�سيا�سيني ،فقد ا�ستطاع موري�سّ ،
يطوح باحلزام من �رشاقته اجللدي �إليه� .إثر ذلك راح الع�سكري ّ
�إىل باب املهجع املقابل :مهجع املعتقالت .ف�شلت حماوالت
عديدة يف جعل بكلة احلزام املعدنية تعلق باملزالج الذي يغلق
املهجع من اخلارج .امتد الزمن واملحاوالت الفا�شلة تتاىل،
وحميدة يكاد يغمى عليها.
لكن اخلطة جنحت �أخرياً فقد َع ِلقت البكلة املعدنية باملزالج،
وا�ستطاع الع�سكري �أن ي�سحبه ويفتح باب املهجع.
بخفة قطة جمربة ت�سللت حميدة عرب الكوريدور ،ال�صامت
امللحة ب�رسعة،
واملعتم� ،إىل احلمامات يف نهايته لتق�ضي حاجتها ّ
وتعود من فورها ،وعلى ر ؤ�و�س �أ�صابعها� ،إىل املهجع الذي
المر، يغ�ص باملعتقالت املنتظرات واخلائفات لئال يكت�شف أ ّ
يتكهن ب�رشا�سته.
يكن ّ ويخ�ضعن ك ّلهن لعقاب جماعي مل ّ
...
بعد �أيام يف املنفردة نقلت �سحر و�أمرية �إىل املهجع � 6أي�ض ًا،
حيث �صار عدد املعتقالت هناك حوايل �إحدى و�أربعني معتقلة
من تهم خمتلفة� :شيوعيات ،عرفاتيات ،بعث عراق ،ودعارة
�سيا�سية ،وذلك قبل �أن ينقل بع�ضهن �إىل املزدوجات يف فرع
المن ،1حيث ق�ضني الثالث �سنوات القادمة ،وينقل بع�ضهن أ
99
الربع القادمة. الخر �إىل �سجن الن�ساء ليق�ضني ال�سنوات أ آ
من ال�صعب و�صف ذاك ال�شوق الكبري الذي ا�ستقبلت
المن .كان عددهن ت�سع �شيوعيات به املعتقالت يف فرع أ
الخريات .الفرع ممتلئ ،حتى فح�سب �إ�ضافة �إىل املعتقالت أ
التخمة ،باملعتقلني واملعتقالت .ال�شباب يف املزدوجات املقابلة
المر اجليد ،الوحيد رمبا� ،أن املعتقالت ّ
كن ملزدوجاتهن .أ
قادرات على ر ؤ�ية رفاقهن من ال�سقيفة فوق املزدوجة ،وذلك
يطل على الكوريدور عن طريق �شبك الباب الفوقاين الذي ّ
املطل بدوره على �سقيفة مزدوجات ال�شباب.
تعر�ضحتدثت البنات لرفيقاتهن عن التعذيب ال�شديد الذي ّ
له املعتقلون قبل قدومهن ،وذلك حني طالبوا بتح�سني اخلبز
(ما ا�صطلح على ت�سميته فيما بعد انتفا�ضة اخلبز).
�رضبوهم ب�شكل م�سعور يف الكوريدور.
�شبحوهم ل�ساعات طويلة على �أبواب احلديد �أمام
اجلميع..
ميل الفرع :عبا�س.ع� ،سمري.ح� ،أكرم.ب، كان �رصاخهم أ
فرج.ب ،مازن�.ش ،ورا�شد�.ص.
حينها جلب ال�سجانة �أكل الغداء للبنات يف املزدوجات،
فكوا ال�شباب عن ال�شبك. فرف�ضن �أن ي أ�كلن حتى ّ
بالن�سبة �إىل القادمات اجلدد كان جمرد �سماع الق�صة يحرك
�أمل ًا عميق ًا ال ي�ستطعن احتماله فما بالك باللواتي ع�شنه.
100
انتفا�ضة اخلبز تلك �شهدتها ح�سيبة.ع �أي�ض ًا.
ي�ضج حولها حتى وحيدة يف منفردتها كانت ،وما حدث ّ
اللحظة :كانوا ي�رضبونهم بجنون ..بجنون وهي منكم�شة
على نف�سها ،حتاول �أن متنع �أ�صواتهم املت أ�ملة من الدخول �إىل
ر�أ�سها.
ال�رضاب مل ي أ�كل �أحد يف ذلك اليوم ،كان يجب �أن ُيعلن إ
العام لكنها كانت حملة اعتقاالت م�سعورة و�أي ر ّد من هذا
القبيل �سي�شعل النريان �أكرث!
الم�ضى امل�شهر �أبداً يف وجه احلرب النف�سية هي ال�سالح أ
املعتقل .رمبا هذا ما حدا باملحققني �إىل و�ضع املعتقالت يف جو
من الرعب والتحقري :ل�ست بطلة ..ل�ست �صامدة� ..أنت �شيء
�صغري �صغري جداً� ..أنت باخت�صار وبفي�ض كالم :ال�شيء.
علي وقت تلك احلرب النف�سية كانت �أول حرب ّ
ت�شن ّ
اعتقايل حني رميت �إىل جانب مزدوجات البنات يف منفردة
حمايدة ..وحدي وحدي..
مر �أكرث من �سنة على اعتقايل الثاين ،وب�ضعة �أ�شهر كان قد ّ
على وجودي يف �سجن الن�ساء ،حني �أعدت من جديد �إىل
المن 1للتحقيق معي .يبدو �أن جملة معلومات �إ�ضافية فرع أ
اكت�شفت� ،إثر حملة االعتقاالت الكبرية يف �سنة ،1987
المر ،على ما و�أرادوا �أن يتحققوا مني ب� أش�نها� .أو رمبا كان أ
ت�رسبت من �سجن الن�ساء عن كوين �أتكلم يبدو ،جمرد �أخبار ّ
101
ب أ��شياء لها عالقة بال�سيا�سة �أثناء زيارات ال�شبك� ..أو �شيء من
هذا القبيل.
ونيف.بقيت يف املنفردة �أربعة �أ�شهر ّ
الزنازين حويل مليئة باملعتقلني طيلة �شهور� ،أ�صوات
التعذيب ت�صلني يف كل وقت ،يف ال�صباح وامل�ساء ،يف الظهرية
وبعدها� ،رصاخ م ؤ�مل مينعني النوم والتفكري وحتى التنف�س.
يف تلك املنفردة كانت القوة النف�سية هي املهمة ،القوة
المر باعتقادي �إىل حتول أاليديولوجياتّ . الداخلية ولي�ست إ
امتحان ،امتحان حقيقي ،وال توجد و�سائل تقاتلني بها �إال
اجل�سد..
علي �أن �أقاتل االعتقال والزنازين وبط�شهم �إذاً كان ّ
بج�سدي.
الكثريات مثل ح�سيبة حاربن االعتقال وال�سجن ب أ�ج�سادهن
ال البتة وخمالب الوحدة والعجز المر مل يكن �سه ً ال غري .لكن أ
تنه�ش فيهن يوم ًا بعد يوم.
تخف وط أ�ة العنا�رص املراقبة يف
ّ يخيم،
حني كان الليل ّ
الحاديث احلميمة الكوريدورات ،يبد�أ ليل املعتقلني ،ليل من أ
وال�صوات امل أ�لوفة واحلب ،ليل يجعل النهار اجلحيمي مي�ضي أ
بعيداً.
فاديا�.ش( )47كح�سيبة ،وغريها من املعتقلني ،تنتظر الليل
( )47فاديا� .ش :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1958اعتقلت منذ �أوائل �سنة
1988وحتى �سنة .1991
102
بفارغ ال�صرب لتتحدث مع قاطني الزنازين املجاورة ،وذلك من
تو�سد
الر�ضّ . حتت الباب الذي يرتفع �سنتيمرتات قليلة عن أ
البواب ال�سمنت ،وبعني واحدة تراقب أ ر�أ�سها �إىل �صلب إ
املو�صدة للمنفردات املقابلة ،ترمي كلماتها ب�صوت هام�س،
وت�ستمع �إىل الدقّ على اجلدران امل�شرتكة بني مهجع املعتقالت
ومنفردات املعتقلني.
والحاديث كانت فاديا حتاول �أن حتيك ،من الهم�سات أ
اخلافتة والطرقات� ،أم�سيات عذبة وحميمية على الرغم من
كل �شيء.
تبدد ظلمة يف ليل الزنازين ت�رشق �شم�س جديدة� ،شم�س ّ
الوحدة وال�صمت وقهر ال�سجون.
بعد كل تلك ال�شهور والتحقيق �أعيدت ح�سيبة.ع من
جديد �إىل �سجن الن�ساء .كانت ت�صيح يف الكوريدور ب�صوت
يجرها ال�سجان من يدها:عال وهي تغادر الفرع ّ
� -أنا خارجة ..هل هناك من يريد �شيئ ًا مني؟ �أنا ذاهبة �إىل
دوما هل...
مل ترد على �صياحها �إال النحنحات من املنفردات املتقابلة،
حتملها وعود املعتقلني. النحنحات املت�صاعدة والوجلة ،وهي ّ
فيما �أ ّنات زوربا (وجيه.غ) ت�صاحبها وهي تغادر ،وي�صاحبها
مدمى من حتى اللحظة �صوته املتعب وهو مرمي يف املنفردة ّ
لي أ
التعذيب ،يطلب من ال�سجان كل حني طلبه الوحد� :ش ّع ّ
103
�سيجارة..
104
دخلت �إىل الغرفة ووجدت فيها خم�س معتقالت هن� :آ�سيا،
رجاء ،هتاف� ،أم ب�سام ،ورقية ،وعرفت فيما بعد �أنهن من نف�س
التهمة .وكان و�ضعهن النف�سي �صعب ًا فقد تركن وراءهن �أطفا ًال
�صغاراً ورقية كانت حام ً
ال.
وا�صلنا احلياة ب أ�ق�صى ما ن�ستطيع من التحايل على هذه
الظروف ال�سيئة .ابتدعنا طرق ًا للتوا�صل عرب اجلدران مع رفاقنا
يف الزنازين وكانت ت�ضم �أ�سامة وعدنان ونزار و� ..آخرين.
يف البداية كنا نكتب الكلمة بقطعة معدنية ويحاول الرفيق
الذن ال�صغاء بل�صق أالخر �إدراكها عن طريق إ على الطرف آ
على اجلدار� ،إال �أنها كانت و�سيلة �صعبة وغري ناجحة يف
الحيان .فابتكرنا طريقة �أخرى تعتمد على الطرق على بع�ض أ
احلائط عدد من الطرقات ي�ساوي موقع احلرف الذي نريده يف
الخبار البجدية مع فا�صل بني احلرف واحلرف وهكذا تبادلنا أ أ
ودارت �أحاديث طويلة).
�أما هبة .د فقد كتبت بعد �سنوات طويلة عن االعتقال يف كتابها:
(اخلروج ..لكن �إىل:)49(...
الفطار يف ال�سجن �إىل كنا نراقب خروج ال�شباب بعد إ
( )49هذه الفقرة كتبتها هبة .د يف كتابها املن�شور يف لندن «خم�س دقائق
فح�سب» الذي يتحدث عن جتربة ال�سجن .وهي معتقلة �سيا�سية رهينة عن
ال�سالمي ،اعتقلت من �سنة 1980وحتى �سنة �أخيها النا�شط يف التنظيم إ
.1989
105
اخلط ،فيقبل بع�ضنا �إىل �شق يف طاقة بابنا تراقب ما يجري
وترتقب بع�ضهن �أن ترى �أخ ًا لها �أو قريب ًا بينهم ..ومل تكن تلك
ال�صلة الوحيدة بيننا وبني ال�شباب ،فلقد اكت�شفت البنات قبلنا
وجود فراغ ب�سيط حول �أنبوب التدفئة بني مهجعنا واملهجع
املجاور فطلنب من العنا�رص خرطوم ًا بحجة ا�ستعماله يف احلمام
ف أ�ح�رضوه لهن ،فمددوه عرب الفراغ و�رصن يحادثن ال�شباب عربه
الخرى( )50با�ستثنائنا �أو ميررن لهم املاء من خالله ألن املهاجع أ
مل تكن فيها حمامات �أو �صنابري مياه ،ومل يكونوا ي�سمحون
ألحد بطلب ماء �أو الذهاب للحمام �إال يف املواعيد.
ذات يوم وبينما كانت احلاجة( )51حتادث ال�شباب يف الزنزانة
النبوب �أتاها من وراء اجلدار �صوت �سائل منهم املجاورة عرب أ
ي�س أ�ل �إن كان بيننا حمويات .فقالت له :نعم ..فقال لها :يا
خالتي نحن من املدينة �أي�ض ًا و�سنخرج غداً �إفراج ،فلو كانت
لدى �أي من احلمويات ر�سالة ألهاليهن اكتبوها و�ضعوها يف
�شق الطاقة ونحن �سن�سحبها ب إ�ذن اهلل �أثناء خروجنا �إىل اخلط
بطريقة ال ت�شعر العنا�رص ونو�صلها لهم..
والذي تبني فيما بعد �أن ه ؤ�الء ال�شباب امل�ساكني وعدوا
باخلروج يف اليوم التايل وبالفعل ولكن اخلروج كان يف احلقيقة
�إىل ).!...
ال�سالميني.
( )50وكانت مليئة وقتها باملعتقلني إ
( )51تق�صد باحلاجة والدتها التي كانت معتقلة يف نف�س املهجع مع ابنتها هبة
رهينتني عن ولدها خالد.
106
1992
المن و�سيلة لل�ضغط على �أ�رسة �ضحى. مل يعدم عنا�رص أ
ال�شكال :بقوا �شهوراً طويلة يرتددون جربوا خمتلف أ ع ّ .
()52
107
المن� ،أخذوا �أختها ال�صغرى لينا.ع على ت�سليم ابنتهم �إىل أ
رهينة عن �ضحى لتبقى معتقلة ل�سنة كاملة من 1987بفرع
المن 2بالعا�صمة.أ
الرهاب النف�سي على العائلة، المن يزيدون من إ كان عنا�رص أ
الم بات�صاالتهم �أو بزياراتهم املتالحقة: وهم ي�ضغطون على أ
الخرى.�س ّلمي �ضحى نعيد �إليك ابنتك أ
على الرغم من عدم تعاون أ
الم �أطلق �رساح لينا قبل �أن يتم
الخرية متخفية للقاء �أختها. القب�ض على �ضحى ،لتذهب أ
ما بقي يف ذهني بعد تلك الزيارة هو تعب �أختي ،نحولها
ال�شديد� ،شحوبها وخوفها ..كانت نتائج التجربة عليها �سيئة
للغاية ،هذا ما و�ضح يل متام ًا.
انقطعت �إثر ذلك عن ر ؤ�ية �أهلي لزمن طويل ،ثم تزوجت
المن ا�ستطاع اعتقايل خالل هذه املدة من �أحد رفاقي .لكن أ
بعد �أربع �سنوات ونيف من ذاك اليوم.
اعتقلت يف العا�صمة
ُ كان �صباح يوم من عام 1992وقت
ال حينذاك يف �شهري الثالث. وكنت حام ً
املوعد احلزبي كان مقرراً عند �أحد الفنادق ال�ضخمة.
�شيء داخلي غام�ض يخربين ب أ�ين �س أ�عتقل� .إىل اليوم ال �أعرف
ال�سبب الذي جعلني �أذهب �إىل املوعد! رمبا كنت مقتنعة �أن ما
�سيح�صل �سيح�صل ،رمبا �أح�س�ست بالتعب ،بالتعب ال�شديد،
من التخفي الطويل الذي ا�ستمر ل�سنوات طويلة ويف ظروف
108
غاية يف الق�سوة.
جل رفاقي يف حمالت االعتقال املتوالية طالت وقتئذ ّ
احلزب ،حتى العدد القليل الذي بقي خارج ًا اعتقل م ؤ�خراً:
�أربعة من رفاقنا ال�شباب ،وقبلهم خديجة .د( ،)53فيما ظللت
�أنا فح�سب خارج ًا.
جهز نف�سي للذهاب �إىل املوعد� ،أن ّ
علي فكرت ،و�أنا �أ ّ
�رشب احلليب ،ارتداء �سرتة ف�ضفا�ضة وكبرية ،وعلي �أال �أحمل
�أية �أوراق قد ت�ستخدم �ضدي يف حال مت اعتقايل .ويجب �أن
�أنزع املحب�س من يدي كي ال يعلموا �أين متزوجة ،وبالتايل
يطالبونني بت�سليم زوجي �أي�ض ًا ..يجب �أال يعلموا بزواجي
البتة.
ن�س �شيئ ًا ،لكني خرجت دون �أن �أنزع اعتقدت �أين مل �أ َ
املحب�س ..ن�سيته يف غمرة ارتباكي.
عند مدخل الفندق حا�رصين �أكرث من ع�رشة عنا�رص،
وراحوا ي�شدونني �إىل ال�سيارة .كنت �أ�رصخ ،و�أنا �أحمي بطني
بيدي ،حماولة معرفة اجلهة التي �ستعتقلني .بالفعل ا�ستجاب
النقيب امل�رشف على االعتقال و�أ�شهر بطاقته يف وجهي� :أمن
�سيا�سي.
كانت فرحة �إدارة ال�سجن ال تقدر بثمن وقد اعتقلت
الخرية يف احلزب. املحاربة أ
( )53خديجة .د :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1959اعتقلت للمرة أ
الوىل يف
1984ويف املرة الثانية من �سنة � 1992إىل �سنة 1998
109
كنت �أ�شعر ب�سعادة غام�ضة و�أنا �أ�سمع با�سمي بعد كل تلك
قدر علي �أال �أ�سمع ،طيلة �سنوات ال�سنوات� :ضحى.ع ،وقد ّ
طويلة طويلة� ،إال ب�سل�سلة �أ�سمائي احلركية املتتالية.
ا�ستمر التحقيق مع �ضحى مدة ثمانية �أيام.
�أخفت فيهما حقيقة حملها وزواجها ،وظلت كذلك حتى
نقلت �إىل �سجن الن�ساء .حينها كان ال�ضغط قائم ًا على البلد
المر الذي لتوقيع الوثيقة العاملية ملنع التعذيب يف ال�سجون ،أ
�أرخى بالقليل من امليزات عليها� ،إ�ضافة �إىل �أنهم مل يكونوا
يريدون منها ت�سليم �أحد :اجلميع كان يف الداخل ،فاملطلوب
هو اعتقالها فح�سب.
امل�شكلة كانت� ،أول حلظات االعتقال ،هي التخل�ص من
ي�شع يف �إ�صبعها ك�شاهد ال يقبل الرتاجع. املحب�س الذي ّ
يف الطابق الثالث للفرع �أدخلوها �إىل غرفة الرائد .مل يكن
من �ضحى �إال �أن ا ّدعت �إ�صابتها بنوبة ربو مفاج أ�ة ،فكرة طارئة
خطرت لها ،وو�سط �سعالها امل�سعور ارتبك العنا�رص وتبلبلوا،
ثم تركوها تخرج �إىل ال�رشفة ريثما يجلبون لها زجاجة بخاخ
الك�سجني. أ
كانت �ضحى تفكر ب�شيء واحد :التخل�ص من املحب�س
فكرت لهنيهات بابتالع املحب�س ،لكنها، ومفتاح البيتّ .
ال�سفل.حني �أ�صبحت يف ال�رشفة ،رمته من فورها �إىل أ
�إذاً مل يبق �إال مفتاح البيت.
110
� -إذا ا�ستجبت للتحقيق وكنت �إيجابية �سنخرجك غداً.
�ست�صدق �أقدم كذبة على
ّ قال الرائد وهو يعتقد �أن �ضحى
الطالق. إ
� -أريد �أن �أدخل احلمام.
كان جوابها.
هناك يف احلمام تخل�صت من املفتاح برميه يف احلفرة.
كل �شيء جيد حتى اللحظة .تنف�ست �ضحى ال�صعداء وهي
تخرج من احلمام ،وت�ستعد للقادم الذي كان غام�ض ًا ومظلم ًا
ورهيب ًا �أمامها.
بقيت يف الزنزانة مدة �شهرين.
مل �أعرف خالل تلك الفرتة الليل من النهار! عندما يفتح
باب الزنزانة �صباح ًا ،لريمي ال�سجان الفطور �أمامي� ،أعرف �أن
تغطى ال�صباح �أتى ،ف أ�ن�سل خيط ًا من البطانية الع�سكرية التي �أ ّ
بها ،و�أخبئه حتت الفر�شة �إيذان ًا ببدء يوم جديد يف الزنزانة/
القرب.
يحتج ب�شدة على هذا الويلّ علي ،جنينيبد�أ احلمل ي�ضغط ّ
زجه فيه: �أ ّ
ح�س بج�سدي يتهاوى �شيئ ًا بالقياء ال تفارقني� .أ ّ رغبة إ
ف�شيئ ًا.
عفن ورطوبة ي�ستفزان �أنفا�سي يف كل حلظة!
حد الكل! كل ما يح�رضونه يل يبدو مقرف ًا ّ ال �أ�ستطيع أ
111
الغثيان ورائحته منفرة ..خ�صو�ص ًا ق�صعات ال�ستانل�س تلك.
ال من �أ�سيد يطحن
احلرقة ت أ�كل معدتي ،جتعلني �أعتقد �أن �سائ ً
جويف ،يجعله يت�آكل ويتح ّلل.
واملاء بارد.
�شتاء قا�س للغاية.
اجلرذان وال�رصا�صري ت�سكن معي ،تقا�سمني كل دقيقة من
وقتي ،وكل فتات من طعامي ..كان الو�ضع جحيمي ًا.
خمبئ ًا حتت �سرتتي التي
بطني يكرب �شيئ ًا ف�شيئ ًا لكنه بقي ّ
مازالت ف�ضفا�ضة .هذا �أف�ضل ما فعلته قبل االعتقال� :أن ارتدي
�شيئ ًا ف�ضفا�ض ًا.
مر وقت مل �أقرب فيه طعامي املنفّر �صار العنا�رص حني ّ
يجلبون يل الفواكه ال�شهية ليت أ�كدوا من �أين غري م�رضبة عن
الطعام .حتى �أن �إدارة ال�سجن بعثت يل يف يوم واحد� :أربع
تفاحات وثالث برتقاالت! قمت ب إ�عطاء ال�سجان ن�صفها.
تلك الفواكه بدت يل كهدايا مر�سلة من اجلنة ،ذلك �أن الفاكهة
تقبلته معدتي املتقلبة يف تلك الفرتة هي ال�شيء الوحيد الذي ّ
و�أنا �أدخل �شهر حملي الرابع.
تدون حلظات ال�سجن واالعتقال يف �أغلب الكتب التي ّ
ي�صور املعتقل /املعتقلة نف�سه� ،أو هناك من ّ
ي�صوره، ال�سيا�سي ّ
على �أنه بطل ال يقهر! نا�سني� ،أو متنا�سني� ،أنه �إن�سان ،بكل ما
للكلمة من معانٍ ،ولي�س �صخراً �أ�صم.
112
المر كثرياً من الدمياغوجية: يرى براينت برايتنباغ(� )54أن يف أ
«ندعي البطولة والقوة ،ي�صري الواحد منا «�سوبرمان» يف ّ
الوقت الذي ي�ستحيل فيه �إال �أن يكون �ضعيف ًا� ،ضعيف ًا مبا تعنيه
كلمة �إن�سان».
مل يكن �أمام �ضحى يف هذا املوقف �إال �أن تكون كذلك.
�أي �أن تعرتف بلحظات العذاب التي راحت تقهر دواخلها
املليئة بحياة جديدة .من هذا املنطلق ف أ�ننا نكون �أكرث ذكاء حني
ن�رشح للنا�س تناق�ضات هذا العامل الفظيع ،وما نقوم به يف تلك
املجاهل اخلانقة.
الكالم مع اجلنني كان ت�سلية �ضحى الوحيدة يف �شهري
الزنزانة .حني نقلوا خديجة.د �إىل زنزانتها �صار الو�ضع
بوجودها �أكرث �إن�سانية� ،أ�ضحى هناك �إن�سان �آخر يقا�سمها
والمل ،مل تعد الزنزانة والوجاع أ الهواء والطعام والكالم أ
يغ�ص ب أ�ملها ووحدتها وباجلرذان وال�رصا�صري. جمرد قرب ّ
نهاية نقلت �ضحى.ع وخديجة.د �إىل �سجن الن�ساء وذلك
يف �سنة ،1992لتظال هناك حتى �سنة 1998حيث �أطلق
�رساحهما.
()54وذلك يف مقالته :يعلمنا ال�سجن �أننا �سجناء .املن�شورة يف جملة الكرمل /ع
� 15سنة 1985
113
114
1978
115
�رصخ املحقق فيها.
تلوح يف داخل روزيت �ضاربة على جدران جملة كانت ّ
قلبها املرتعب ،جملة عنت �أن حفلة التعذيب املعتادة �ستبد�أ.
المر بدا جلي ًا �أمام ناظريها حني �ألب�سوها بنطلون بيجاما أ
الج�ساد املتتالية القت رجايل له رائحة عفنة ،ك أ�ن ع�رشات أ
فيه عذابها ،وتركت فيه ذاكرتها ورائحة عرقها املت�صبب من
المل. أ
ثم راحت �أ�صوات متداخلة ،ت�صدر عن �أحذية خمتلفة ،تكيل
التي .م�ضا�ضة ال�شتائم لها وهي تقف و�سط الغرفة يف مهب آ
ال�صوات، تتلم�س أ
االنتظار تقتلها ،وال ميكنها �سوى �أن ّ
والهم كان �صوت ارتطام دوالب التعذيب الكاوت�شوكي أ
بالر�ض وقد �أح�رضوه للتو. أ
-من امل ؤ�كد �أن الكبل الرباعي معه.
فكرت روزيت وهم ميطرونها ب أ��سئلة ال تنتهي.
...
نقلت وبقية املعتقالت �إىل ال�سجن ُ بعد انتهاء التحقيق
ال�سيا�سي .هناك يف غرفة علوية من ال�سجن ،الذي كان يوم ًا ما
ق�رصاً للرئا�سة( ،)56رمينا ل�سنوات طويلة.
كنا ع�رش معتقالت و�أنا معهن .ثم ان�ضمت �إلينا ح�سيبة.
()56ال�سجن الذي كان ق�رصا للرئا�سة يف �أحد عهود اجلمهورية وغدا �سجن ًا
�سيا�سي ًا يف ال�سبعينيات .
116
الختني خلود.ع( )57وهالة. ع لن�صبح �إحدى ع�رشة معتقلة :أ
ع( ،)58جنود.ي( ،)59ليلى.ن( ،)60فريوز.خ(� ،)61سناء.ك(،)62
راغدة.ع( ،)63رنا�.س( ،)64و�صباح.ع(.)65
بدا وا�ضح ًا �أن نوافذ الغرفة /الزنزانة كانت فيما م�ضى
باللوان وتناغماتغاية يف اجلمال :زجاج ق�رص بديع م�شغول أ
اللوان طليت بدهان غامق ،ب�شكل القي�شاين .لكن كل تلك أ
فظ وكيفما اتفق ،ليمنعونا من ر ؤ�ية اخلارج ،طم�ست كل
املعامل اجلميلة لتتحول �إىل نوافذ �سجن حقيقي ،وتتحول كل
( )57خلود .ع :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1952اعتقلت من �سنة 1978
وحتى �سنة .1980
( )58هالة .ع :من مواليد 1956اعتقلت من �سنة 1978وحتى �سنة 1980
ثم هاجرت �إىل فرن�سا مع زوجها لي�ستقرا هناك منذ �سنة 1980
( )59جنود .ي :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1955اعتقلت من �سنة 1978
وحتى �سنة .1980
( )60ليلى .ن :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1947اعتقلت �سنة 1978وقت
الوىل ومل يطلق �رساحها حتى �سنة 1980حيث ال�شهر أ كانت ابنتها عزة يف أ
اعتقل زوجها حتى �سنة .1994
( )61فريوز .خ :معتقلة �سيا�سية من مواليد �سنة 1957اعتقلت من �سنة 1978
وحتى �سنة .1980
ال�صل من مواليد 1957اعتقلت من (� )62سناء .ك :معتقلة �سيا�سية فل�سطينية أ
�سنة 1978وحتى �سنة ،1980ومن ثم توفيت يف نهايات الت�سعينيات.
( )63راغدة .ع :معتقلة �سيا�سية من مواليد �سنة .1957اعتقلت من �سنة
1978وحتى �سنة .1980
( )64رنا� .س :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1955اعتقلت من �سنة 1978
وحتى .1980
(� )65صباح .ع :معتقلة من مواليد �سنة 1958اعتقلت من �سنة 1978وحتى
.1980
117
الغرف الفارهة واملمرات وال�صاالت �إىل مهاجع وزنازين.
بي للق�رص اللهم �إالمبا�ض عريق و�أ ّيذكر ٍمل يعد هناك ما ّ
�أ�شباح مبهمة حت ّلق فوقه ،تندب ما�ضيه وذاكرته املن�سية.
خ�شخ�شة مفاتيح ال�سجان:
�صوت عمل دوم ًا على زلزلة روحي� .أعتقد �أنه كان
يفعل ال�شيء ذاته مع املعتقالت جميعهن ،خا�صة �إذا كانت
اخل�شخ�شة يف غري �أوقات اخلط ومواعيد جميء الطعام.
ذاك ال�صوت كان كافي ًا ليجعلنا نتجمد من الرعب ،ننتظر
حاب�سات �أنفا�سنا متوج�سات ،وقت يتناهى �إلينا مع قرع حذاء
ال�سجان �صاعداً الدرج �إىل الزنزانة يف الطابق العلوي ..هذا
يعني �أن معتقلة جديدة �أ�ضيفت �إىل �سل�سلة املعتقالت اللواتي
رمني هنا .رمبا تكون قد ُعذبت بوح�شية لرتمى عندنا يف
الزنزانة وهي �أ�شبه بجثة حيه مت أ�وهة ..وتعود جروحنا لتتفتح
من جديد ونحن نراقب عذابها �أمامنا.
لن �أ�ستطيع �أن �أن�سى يوم ًا �أ�صوات التعذيب تزعق طوال
الوقت يف �أذين� ،أ�صوات مت ّزق هدوء الليل ووداعة احلي
ال�سكني املحيط بال�سجن.
عذب معتقل ذات يوم. ّ
كانت احلارة كلها ت�سمع �رصاخه و�أنينه� .أت�ساءل �إىل
البنية ال�سكنية املكتظة! اليوم كيف مل ينتف�ض النا�س يف تلك أ
ال�صوات. �أرواحهم كانت جتلد يف كل وقت على وقع تلك أ
118
ثم �صمت الرجل فج أ�ة ،لريين بعد �ضجيجه هدوء غريب
ومريب� .آخر الليل ،من ثقب باب الزنزانة /الغرفة ،ر�أينا
المن يحمالن جثته امللفوفة بالبطانية ،كما عن�رصين من أ
الدراج ب�رسعة. يحمالن �سجادة عفنة ،وينزالن أ
�أ�صوات التعذيب كانت حترمنا النوم لليالٍ طويلة ،خ�صو�ص ًا
�أن حملة االعتقاالت كانت �شديدة ذاك الوقت .مل مير يوم
دون �رصاخ �أمل� ،أو �شتائم جمنونة من العنا�رص� ،أو �ضجة ولغط
االعتقال والتعذيب.
الكثريات من معتقالت ذاك ال�سجن ما زلن يذكرن �رصاخ
المل الذي ي�صدر عن ح�سيبة.ع وهي حتت التعذيب ،يتناهى أ
�إليهن حافراً يف �أوقاتهن و�أدمغتهن.
تركوها وقتئذ يف املنفردة ال�سفلية حتى الت أ�مت جروحها
وحروقها ،ثم �أح�رضوها �إىل الزنزانة امل�شرتكة .لكن �آثار
الكدمات الزرقاء ،حروق ال�سجائر املطف أ�ة على ج�سدها،
ت�ضج �شاهدة على ما ح�صل يف أ
ال�سفل� ،أما ّ كانت ما تزال
�صوتها فقد بقي مبحوح ًا لفرتة طويلة بعدها.
...
الهم بيوم ،ب إ�طالقكانت روزيت قد حلمت ،قبل احلدث أ
ر�صا�ص يف احلارات ال�ضيقة واملزدحمة املحيطة بال�سجن.
يف ذاك امل�ساء من �سنة 1978كانت املعتقالت جميع ًا
جال�سات يف الزنزانة العلوية يتل�ص�صن من فوق امل�ساحة
119
املعتمة ،التي تغطي ال�شبابيك� ،إىل البيوت املحيطة وال�سجانة
املنت�رشين يف �أنحاء الق�رص مدججني ب�سالحهم ،ي�سمعن �صوت
فريوز من م�سجلة اجلريان:
كملها.
جايني ع الدار ..دار العز ّ
الغنية من ن�صيب روزيت. ويحظظن عليها .كانت أ
والدار بالعيد م�ضوية منازلها..
يبدو �أن النبوءة حتققت ،ففي اليوم التايل ،وحاملا نزلت
املعتقالت �إىل التنف�س يف الباحة ال�سفلية ،هم�س �أحد الرفاق
املطل علىّ املعتقلني يف الزنازين ال�سفلية ،ومن �شباكه ال�ضيق
�ساحة التنف�س ،ب أ�ن �أكرم.ب قد اعتقل.
هل كان عليها �أن تفرح �أم حتزن؟!
تطوحها بني جدران باحة التنف�س. م�شاعر خمتلطة راحت ّ
�أن يعتقل �أكرم يعني �أن الكارثة ح ّلت .لكن اعتقاله يعني �أي�ض ًا
�أنها �ستلمح حبيبها �أخرياً وقد مرت �شهور طويلة دون �أن
تراه.
كان للق�سم ال�رشقي من ال�سجن ،وهو عبارة عن بيت
اخلدمة واملونة واملطبخ� ،شبابيك على �ساحة التنف�س .ال�ساحة
ت�شكل جزءاً من احلو�ش الكبري للق�رص اقتطعت منه مب�ساحة ال ّ
تتجاوز � 5 ،4أمتار .حني كان ي أ�تي وقت تنف�س املعتقالت
يغطي ال�سجانة �شبابيك زنازين املعتقلني ب أ�لواح من اخل�شب
حتى ينتهي الوقت املخ�ص�ص ،بذلك ي�ضمنون �إجها�ض �أية
120
فكرة للتوا�صل مهما ق ّلت بني الرفاق.
يف ذلك اليوم ،الذي عرفت فيه روزيت باعتقال �أكرم،
�أخرجه ال�سجان (ال�صديق) �إىل احلمام عرب ال�ساحة ،ورمبا عمل
المر بحيث تكون روزيت يف وقت التنف�س. على توقيت أ
الوىل. حينها ر�أته للمرة أ
كان بعيداً ومتعب ًا .مل ت�ستطع �أن تلم�سه على الرغم من
حماوالتها امل�ستميتة إلقناع ال�سجان بذلك .حلظات وم�ضى
عراب احلب �أكرم داخل املبنى .مع ذلك كان ذاك ال�سجان ّ
الذي راح ين�ضج هناك يف املعتقل.
بعد مدة من حماوالت اللقاء امل�ستمرة ،والر�سائل عرب
ال�سجان ويف ف�سحات التنف�س ،ا�ستطاع عمي �أن يجلب من
الكني�سة ورقة زواج كتبها اخلوري املتعاون!
جلب معها حمب�سني ،حمب�سني �صغريين كانا ي�شكالن يل كل
�أملي .ويف غرفة من غرف ال�سجن متت خطوبتنا �أنا و�أكرم يف
�سنة .1979
لكن مل مي�ض وقت طويل بعدها حتى نقل �أكرم �إىل �سجن
�آخر .بعد ذلك �صار ي ؤ�تى به لن�صف �ساعة كل �أ�سبوع �إىل
ال�سجن كي يراين ،زيارة عا�شقني لن�صف �ساعة ال غري ،لكنه
يف النهاية كان �أمراً رائع ًا �أن �أ�ستطيع ر ؤ�يته و�أنا يف ال�سجن!
ال�سبوع دقيقة بدقيقة� ،ساعة ب�ساعة ،كي ت أ�تي ن�صف �أنتظر أ
ال�ساعة تلك .ن�صف �ساعة فح�سب كانت قادرة على تخفيف
121
�ضغط الزنازين واالعتقال ،ن�صف �ساعة كانت حتملني على
�أجنحة فرا�شات �إىل حلم جميل رحت �أر�سمه يف خيايل.
ن�صف �ساعة ثم يعاد به �إىل �سجنه من جديد.
ا�ستمر الو�ضع هكذا حتى بدايات �سنة 1980حني مت
�إطالق �رساحي و�رساح �أكرم من االعتقال أ
الول لنا.
...
�ستمر �سنوات طويلة قبل �أن ت�ستدعى روزيت.ع من جديد
المن.1يف �سنة � 1992إىل فرع أ
ال منذ �سنة � ،1987أي بعد ثماين �سنوات كان زوجها معتق ً
الول. من �إطالق �رساحه أ
�سجن قب ً
ال، ّ يف ذلك الوقت مت ا�ستدعاء رفيقاتها ،اللواتي
الخرى وب أ��شكال خمتلفة� .إحداهن �أخذوها من الواحدة تلو أ
العمل ،الثانية مبذكرة �إح�ضار من البيت ،والثالثة �ألقوا القب�ض
عليها يف ال�شارع ،وهكذا ..هذا ما جعل �إح�سا�س ًا �أكيداً
بقرب االعتقال يراودها.
كانت ت�شعر �أنها تنتظر دورها كمن ينتظر قرار �إعدامه يف
�سعري احلرب .كلما دقّ الباب �أو �سمعت خطوات مقرتبة من
مدخل البيت تقول لنف�سها� :أتوا .كانت تنتظر نهايتها ال غري.
المن1 المر فقد ا�ستدعيت روزيت لرتاجع فرع أ مل يطل أ
وب�رسعة� .شعور عميق جعلها حتر�ص يف تلك الليلة على توديع
ابنتها بي�سان ،ك أ�ن الزيارة الق�صرية تلك �ستطول.
122
ال�صغرية كانت تبكي وتبكي بال توقف ك أ�نها ت�شعر بقرب
غياب �أمها .وروزيت تو ّدعها مت�صنعة الهدوء واعدة �إياها
بعدم الت أ�خر:
� -ساعات و�أعود يا حبيبتي ال تبكي..
حني تركت منزل �أهلي ،وذهبت تاركة ابنتي هناك ،كنت
ح�س بقلبي يتفتت المر �سيطول �أكرث من �ساعات� ،أ ّ متيقنة �أن أ
الخرية .كنت �إىل �أجزاء و�أنا �أرى مالمح بي�سان الباكية للمرة أ
حتملته تلك ال�صغرية دون ذنب ،بالذي عانت منه �أفكر بالذي ّ
والن بغياب �أمها .ابنتي ال�صغرية ُح ّملت فوق بغياب والدها ،آ
طاقتها دون �أي ذنب �سوى �أنها ولدت يف هذا املكان ولهذين
أ
البوين!.
...
المن 1حتى امل�ساء. انتظرت روزيت يف فرع أ
تركوها يف املنفردة طيلة الوقت من�سية� ،أو تق�صدوا ن�سيانها،
كي يجعلها الرتقب �أكرث خوف ًا و�ضعف ًا.
�أ�صوات التعذيب وال�رصاخ حتا�رصها من كل �صوب.
املعتقلون ُي�رضبون ويعذبون يف املمرات وبني الزنازين.
على الرغم من �أن التعذيب ،ح�سب العادة ،كان يجري يف
ال�سفل بني الزنازين.. العلى ،يف غرف التعذيب ولي�س يف أ أ
المن 1كان �أ�شبه بجحيم م�ستعر يف تلك الليلة الطويلة فرع أ
الطويلة.
123
كل حني كانت طاقة الباب احلديدي ال�ضيقة تُفتح،
وروزيت ت�سمع �صوت �رضبات قلبها الوجل ،ينظر العن�رص
�إليها وهي قابعة يف الزاوية املعتمة ملتفة على نف�سها ،وي�س أ�ل:
� -أنت امر�أة �أكرم.ب؟.
ته ّز بر�أ�سها ألن �صوتها بعد حني �أبى �أن يخرج من جوفها،
فيغلق ال�سجان الطاقة ومي�ضي .يعود �سجان �آخر بعد فرتة لي�س أ�ل
ال�س ؤ�ال ذاته ،ومي�ضي ..وهكذا.
المر على هذه احلال ،وبعد حتقيق ق�صري ُنقلت مل يطل أ
روزيت.ع �إىل املزدوجات لت�سجن مع بقية املعتقالت حتى
�سنة .1993
124
الدخول �إىل مملكة اجلنون..
أ�مهات فى املعتقل
125
بلد ي�سجن فيه أالطفال ب�سبب جرائم آ�بائهم..
�إننا ندخل مملكة اجلنون.
مليكة �أوفقري (ال�سجينة)
126
ال�شباك العالية املحددة بال�شبك املعدين ،املط ّلة على �أر�ضية �ساحة
ال�سجن اخلارجية ،تنكم�شان على نف�سيهما ،كل منهما حتت�ضن
املق�سمة �إىل
ركبتيها وتراقب قطعة ال�سماء ال�صغرية الكحلية ّ
مربعات حديدية.
جلية للغاية ،ونقية ب�شكل مثري لل�شجن..كانت ليلة ّ
غطى الفوهة القامتة وجه نوراين ،مالك ظهر �أمام فج أ�ة ّ
ناظريهما ب�شكل خاطف وك أ�نه بعث �إليهما من ال�سماء حق ًا!
مرت هنيهات قبل �أن تكت�شف غرناطة ومنى �أن البدر ّ
أ
الذي ��رشق فج�ة كان وجه طفل ،طفل حقيقي يف هذا املكان أ
القاحل كال�صحراء واملعتم كقرب.
كان عمره قريب ًا من عمر جمد :ابن منى.
الم للحظات ،كحلم �أو كطيف بعيد مل رمبا جت ّلى جمد �أمام أ
يغب لثانية واحدة عن خيالها الذي مل ي�ستطيعوا اعتقاله �أبداً.
ك أ�ن القدر بعثه �إليها كي ين�شلها من هذا العذاب.
�صارت منى حتاول التقرب منه ،وقد بدا �أن قطعة من
قلبها تع ّلقت بوجه الطفل املطل من ال�شباك العايل .ثم راحت
الخريات تتزاحمن حتت الفوهة العالية ،م�رشئبات املعتقالت أ
ب أ�عناقهن جتاه الطفل ،حماوالت ،كل بدورها� ،أن تتحادث معه
تخيلت كل �أم منهن طفلها ماث ً
ال يف وجهه. �أي�ض ًا .رمبا ّ
مل يجب الطفل ،عيناه مفتوحتان على �سعتهما ،الده�شة
الج�ساد والوجوه ت�رشئب تقطر منهما وهو يحاول تبينّ كتلة أ
127
�إليه ،واللمبة ال�صفراء حتيلها �إىل تهوميات �ضبابية �شاحبة
كاملوت.
�أخرياً ،بعد طول حماوالت ،ا�ستطاعت منى �أن جتعله
يجيبها ،ولكن بجملة واحدة:
-ما الزم �إحكي معكون �أنتو جمرمات.
�صاح ال�صغري وهرب .غاب فج أ�ة كما �أ�رشق.
حتطم يف داخلهن ،بدا ذلك على وجوه ثمة �شيء ما ّ
ال�سجينات ،وعلى مالمح منى وعينيها اللتني أ
امتلتا بالدمع.
عادت املعتقالت للجلو�س من جديد واالنتظار ،كما
عادت منى وغرناطة �إىل الزنزانة .لكن �شيئ ًا داخلي ًا مل يعد كما
كان ،مل يعد البتة كما كان.
مل متر حلظات حتى رجع وجه ال�صغري من جديد لينري
الزنزانة من ال�شباك .مل تكد منى تعي رجوعه حتى طفق يرمي
الزهار تنمو لهن بزهور �صغرية برية ،برية و�صفراء ،من تلك أ
المن.1 يف كل مكان حتى يف باحة معتقل كفرع أ
كان يدخل كل زهرة على حدة من فراغات ال�شبك
احلديدي ال�صغرية والقا�سية لتتهادى الزهرة بغواية �إىل عمق
للم�ساك العلى ،والفتيات يت�سابقن إ الزنزانة كنور ي�سقط من أ
به.
زهرة فزهرة فزهرة..
كان يبدو �أن ما لقّنه له والده ال�ضابط مل يكن كافي ًا جلعل
128
الطفل يبتعد عنهن كمجرمات ..كن ي�شبهن �أمه �أي�ض ًا!
مرت دقائق فح�سب ا�ستطاعت منى خاللها �أن تعاود ّ
احلديث مع الطفل ،لتخلق الكلمات حيا ًة جديدة يف فراغ
روحها ،ولتجعل �صورة جمد ابنها تظلل �أوقاتها ،قبل �أن
ت�سحب يد ثقيلة وجه الطفل من ال�شباك ،ويعود الظالم من
المهات �إىل البكاء الذي ما جديد �إىل املهجع رقم ،6وتعود أ
انقطعن عنه.
المهات املعتقالت، المن كان هناك الكثري من أيف فرع أ
حوايل ال�سبع �أمهات من �أ�صل اثنتي ع�رشة معتقلة ،ظللن �أكرث
من ثالث �سنوات يف املعتقل بعيدات عن �أطفالهن :دالل.
م( ،)69لينا.و ،رجاء.م( ،)70بثينة.ت ،منى�.أ ،هتاف.ق(،)71
�آ�سيا�.ص( ،)72منرية�.ص ،و�سهام.م(.)73
منظمات يف �أي حزب، بع�ضهن مثل رجاء وبثينة مل يكن ّ
مع ذلك ق�ضني �سنوات طويلة يف ال�سجون.
( )69دالل .م :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1958اعتقلت من �سنة 1987
وحتى �سنة 1990ولديها ولدان.
( )70رجاء .م :معتقلة �سيا�سية من مواليد .1960اعتقلت من �سنة 1987
وحتى �سنة 1991ظل زوجها وابنتها يف اخلارج.
( )71هتاف .ق :معتقلة �سيا�سية من مواليد .1957اعتقلت من �سنة 1987
وحتى .1990بقي زوجها وطفالها خارج ًا.
(� )72آ�سيا� .ص :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1960اعتقلت من �سنة 1987
وحتى .1990تركت ابنتني �صغريتني يف اخلارج.
(� )73سهام .م :معتقلة �سيا�سية من مواليد .1957اعتقلت من �سنة 1987
وحتى 1990ولديها ولدان.
129
امللقبة ب أ�م حديد ،ولدان يف اخلارج ،وزوجها لدى �سهام.مّ ،
معتقل كذلك .و�سهام لقّبت ب أ�م حديد ألن زوجها ،وكان
�صديق ًا للحزب ،بد�أ يوم ًا ببناء بيت جديد له ،وكان احلزب
يحتاج �إىل بع�ض املال ،فما كان منه �إال �أن باع احلديد ليتربع
بالمر قال فيها: بثمنه للحزب .ثم كتب ر�سالة �إىل املعنيني أ
زوجتي لي�ست �أقل مني حما�سة لتقدمي م�ساعدة للحزب.
نتيجة لذلك دفعت �سهام (�أم حديد) ثمن حما�ستها ال�شفهية
ونيف من عمرها وعمر �أطفالها يف املعتقل. ثالث �سنوات ّ
البواب احلديدية توقظهن �صباح ًا حني كانت �أ�صوات أ
تلقي املعتقالت حتية ال�صباح على بع�ضهن:
�صباح �سندوي�شات اللبنة..
�صباح كوي ال�صداري..
لكن ال�صباحات كانت مت�ضي دون �أن ي�ستطعن تعوي�ض
الطفال عنهن ،وغيابهن عن حياة �أطفال الغياب :غياب أ
تركوا يف اخلارج بال �أمهات ،ويف الغالب بال �آباء �أي�ض ًا.
والخري بالن�سبة �إىل معتقالت الول أالغياب كان العذاب أ
المن ،1خا�صة �أن الزيارات كانت قليلة بل نادرة يف فرع أ
الحيان.بع�ض أ
بالن�سبة �إىل بثينة.ت كان أ
المر ِّ
حمطم ًا.
ذلك �أن ابنتها راما �أبعدت عن �صدرها وهي تر�ضع بعد،
�أخذوها ومل تكن قد بلغت �شهرها العا�رش .حينذاك كانت بثينة
130
المن 1طيلة �أيام وتطالب براما ،لكنهم ت�رصخ يف زنزانة فرع أ
مل يجلبوها بالطبع .بقي �صدر بثينة ،املمتلئ باحلليب ،ي�ضغط
عليها ب�آالم �شديدة وابنتها بعيدة ،حتى �سقطت مري�ضة حممومة
طيلة �أيام.
بعد �سنة ون�صف من االعتقال ،وقت ُ�سمح ب أ�ول زيارة يف
المن 1ألهل �سونا�.س ،و�صلت مع الزيارة جمموعة من فرع أ
ال�صور �إىل جميع املعتقالت.
�رصت �آخذ ال�صور من احلقيبة ألوزعها على رفيقاتي.
�أ�ستلم ال�صورة� ،أنظر �إىل اخللف ألقر�أ اال�سم ،ثم �أنادي با�سم
الخرية �إىل كنزها ،وتتلقفه بولع .وقت وقعت �صاحبتها لتقفز أ
تلك ال�صورة بني يدي مل �أعرف ملن� :صورة طفلة �صغرية
وجميلة ،وال يوجد ا�سم خلف ال�صورة .حينئذ �صحت و�أنا
�أرفعها:
-ملني هال�صورة؟� .صورة طفلة �صغرية ..ملني؟!
� -إنها �صورة ابنتك بثينة� ..صورة راما� ..أمل تعرفيها؟!!
�صاحت �إحدى الرفيقات اللواتي كن يعرفن ابنتي جيداً.
�صعقت ،ثم �شعرت قلبي يتفتت ببطء و�أنا �أت أ�مل ال�صورة
من بني دموعي .كان م ؤ�مل ًا للغاية اكت�شايف :ال�صورة البنتي راما
حق ًا ،العينان الناعمتان وال�ضحكة ال�ساحرة .و�أنا مل �أتعرف
عليها؟!!
كنت �أ�سال نف�سي هل هناك �أم ال تعرف ابنتها؟!
131
مل �أ�ستطع ر ؤ�ية راما �إال بعد �سنتني ون�صف من اعتقايل حني
�سمحوا ب أ�ول زيارة يل .جاء �أبي و�أمي و�أختي ومعهم �صغرية
يحملونها .بحلقت بال�صغرية ومل �أعرفها من جديد ،كانت
راما الطفلة التي كربت!� .أما ابنتي الكربى :النا فلم يح�رضوها
�إىل املعتقل البتة ،كنت م�صرّ ة �أال تت�شوه ذاكرتها الغ�ضة مب�شهد
اعتقايل يف ذاك املكان املقيت ،ومل �أرها حتى خرجت يف �سنة
،1990وكانت النا قد جتاوزت الثامنة من عمرها.
132
يل ال�صور ..وابعثي يل �صوف إلعمل لك طقم حلو� ..إنتي
�أ�رشي يل عليه عاجلورنال و�أنا بعمل لك �إياه..
�شفت بال�صور �سنوناتك اجلداد ..دخيل عيونك و�سنانك
وقلبك يا النا� .رصت �صبية و�أكيد قربت ت�صريي بطويل..
بكره يا ماما برجع وبفهمك كل �شي� .أهم �شي يا حلوة ما
تن�سي �أبداً �أنو �أنا وبابا غبنا عنك من �شانك ومن �شان راما وكل
الطفال احللوين وال�شاطرين و�أنو نحن بدنا نرجع ب�س ما عم أ
يخلو ّنا..
�إذا �إجت تيتي لعندي (كلمات ممحوة) م�شتاقتلك كتري
وم�شتاقه لراما..
كيفك �إنت وياها يا �صبية �أكيد عم تعتني ب أ�ختك ألن �إنت
الكبرية.
اكتبي يل ر�سالة يا ماما بخطك احللو ..على فكرة ،خطك
حلو كتري و�أكيد �إنت �شاطرة باملدر�سة ..بدي ياكي تطلعي
الوىل هاه ..وبدي تبعتي يل اجلالء ب�س تاخديه. أ
النا :ال تفكري �أبداً يا ماما �أن فينا نكون جنبك وما عم
نرجع .كل �شي عم ي�صري غ�صب ع ّنا وع ّنك ..وب�س �إرجع
بحكي لك كل �شي بالتف�صيل.
ل�سا عم غنيلك (عم تكرب الفرحة) و�إنت ل�سه النا� :أنا ّ
رفيقتي و�أنا رفيقتك ..وهلق بغيابي الزم تيتي ونانا وجدو
وجوجو ..يكونوا رفقاتك وحتكي لهم كل �شي عم تفكري
133
فيه ..مئة بو�سة على خدودك وعيونك وعيون راما يا �أحلى
احللوين)
ماما وبابا
...
بعد �سنتني من االعتقال جاءت زيارة لدالل.م (�أم علي)
ورجاء.م على ال�شبك� :أي يف�صل بني املعتقلة والزوار حاجزان
من ال�شبك احلديدي ،وبني احلاجزين م�سافة يتم�شى ال�سجان
فيها طيلة فرتة الزيارة.
الوالد ويروا �أمهاتهم يغ�ض ال�سجان النظر ليدخل أعادة ما ّ
داخل ال�شبك .دقائق قليلة تتن�شق فيها املعتقلة رائحة طفلها
وقوداً ل�شهور قادمة ،ورمبا ا�ستطاع طفلها �أن يتمتع ،لدقائق
ب�ضمة �أمه وحنانها على الرغم من حالة الرعب التي �أي�ض ًاّ ،
تزرعها فيه رهبة املعتقل وحواجز ال�شبك و�رصاخ ال�سجانة.
هذا ما م ّنت دالل نف�سها به وهي تخرج للزيارة حماولة
ترتيب ثيابها على الدرجات القليلة الفا�صلة بني القبو والطابق
العلوي حيث ينتظرها �أوالدها.
حني خرجت �إىل ال�شبك متلهفة الهثة مل �أ َر �أحداً ينتظرين!
كان �أهل رجاء.م ينتظرون مقدمها من وراء ال�شبك� .س أ�لتهم:
� -أين �أوالدي؟؟
ب�صغريي
ّ �أجابوين �أنهم منعوا �سلفي و�سلفتي ،وهما يعتنيان
بعد اعتقايل و�أبيهم ،من الدخول �إىل الفرع ،باعتبار �أنهما ال
134
القارب! والزيارة ممنوعة يعدان ،ح�سب عرف ال�سجن ،من أ ّ
والوالد أ
والبوين. للخوة أ �إال أ
فج أ�ة وقبل �أن �أقفل عائدة �إىل القبو نظرت خلفي ألرى
طفلي ،مي التي مل تبلغ الرابعة وعلي الذي مل يبلغ ال�ساد�سة، ّ
يدخالن وحيدين لزيارتي!
كانت �صدمة كبرية يل �أن ُيرتك �صغرياي ليدخال وحدهما
ميل وجهيهما ال�صغريين ،وهما يلتفتان �إىل هذا اجلحيم .الهلع أ
مينة وي�رسة ويبحثان عني ،فيما ال يواجههما �إال ال�شبك
وال�سجانة وبكاء �أهل رجاء.
ماذا �أفعل؟ باهلل ماذا �أفعل؟
هل �أتركهما و�أهرب من هذا امل�شهد القا�سي كي ال يروين؟
ماذا �س أ�قول لهما؟
مل �أ�ستفق من ال�صدمة حتى كانت �سلفتي قد دخلت عنوة
وراء الولدين ،يف اللحظة ذاتها هدر �صوت مدير ال�سجن
�صارخ ًا �أال تدخل ،وانتهت الزيارة بخروج اجلميع.
�إىل املهجع املظلم واخلانق عدت.
ت�شو�ش الر ؤ�ية �أمامي .رحت �أ�شتم و�أ ّ
�سب كانت الدموع ّ
ب�صوت عالٍ ألين كنت �س أ�موت اختناق ًا �إن مل �أفعل� .أ�شتم
اجلالدين القتلة ال�سفلة وال�سجان ي�سوقني �إىل املهجع ،يحاول
جاهداً �أن يهدئني لئال ي�سمع مدير ال�سجن �رصاخي..
135
كان املفرت�ض بالزيارات �أن تكون �أ�شبه بطاقة نورانية تفتح
ال �أخ�رض وعطراً و�سط عفن �أيامها ،لكنها �أمام ال�سجينة �سه ً
حتولت يف هذا املكان �إىل رحلة عذاب؟!
رحلة عذاب حقيقية خا�ضتها مرمي.ز( )76كذلك.
المن 1ومل تكن ابنتها كانت مرمي قد اعتقلت يف فرع أ
فداء قد بلغت اخلم�س �سنوات من عمرها بعد .وفداء عا�شت
طيلة فرتة اعتقال �أمها يف بيت جدتها ألمها( ،)77ومل ت�ستطع
ر ؤ�ية مرمي �إال بعد ثالثة �أ�شهر من بدء االعتقال حني �سمح لها
الوىل.بالزيارة للمرة أ
يف ذلك اليوم �أتت �أم مرمي و�أختها و�أخوها م�صطحبني
فداء معهم .كانوا قد �أفهموا ال�صغرية �أن الفرع مكان عمل
�أمها اجلديد لي�س �إال ،وعليها �أن ترى �أمها لدقائق كي تعود أ
الم
�إىل عملها من جديد.
اجلميع كان مقتنع ًا �أن فداء �صدقت ما قالوه! لكن �إىل
اليوم ،وقد �أ�ضحت فداء �أم ًا يف اخلام�سة والع�رشين من عمرها،
و�صورة تلك الزيارة حمفورة يف ذاكرتها ،ال يخد�ش دقتها �شيء
العوام: على الرغم من مرور أ
( )76مرمي .ز :معتقلة �سيا�سية اعتقلت ملدة �ستة �أ�شهر من بداية �سنة 1988
وحتى �أوا�سطها.
( )77كان والد فداء زوج مرمي معار�ض ًا �شيوعي ًا وقد اختفى منذ �سنة 1982
حني ذهب �إىل بلد جماور .فيما بعد �رست �إ�شاعات �أن عماد قد ا�ست�شهد على
�أيدي ف�صائل م�سلحة هناك .لكن احلقيقة ما زالت جمهولة.
136
المن على الباب. عن�رص أ
الرائد يجل�س �إىل كر�سي يف و�سطهم ،ي�سكتهم عندما ال
يعجبه احلديث ،ويهز ر�أ�سه را�ضي ًا عندما يعجبه.
ووجه �أمها املتعب وال�شاحب وهي ت�ضمه.
المن ،يرتب�صون بكل تغ�ص بعنا�رص أ
الزيارة كانت يف غرفة ّ
تنم عن �أحدهم. ن أ�مة تخرج من �أفواه الزائرين وكل حركة ّ
ا�ستمرت الزيارة ن�صف �ساعة تقريب ًا ،ظ ّلت فداء فيها منكم�شة
تتح�س�سها فح�سب، ّ يف ح�ضن �أمها دون �أن تنب�س بكلمة،
ت�شتمها ،وتراقب مالمح وجهها وهي تك ّلم الزائرين ،وتطبع ّ
كل حني قبلة على وجه �صغريتها.
حني ُ�أمروا باملغادرة نزلت االبنة عن ح�ضن �أمها م�ست�سلمة،
د�ست اجلدة مبلغ ًاكانت تبكي ب�صمت وهي مت�سك بيدها فيما ّ
من املال يف يد ابنتها مرمي قبل الوداع.
فداء ،التي كانت تلتقط كل ما يحدث كرادار� ،أخرجت
م�رصوفها اليومي من جيب اجلاكيت ،لرية واحدة كانت اجلدة
وتلهف �إىل �أمها كما تهبها �إياها كل �صباح ،ودفعتها ب�رسعة ّ
فعلت اجلدة متام ًا:
-ماما ..خذي هذه �أي�ض ًا حتى ت�شرتي فيها.
...
المر خمتلف ًا كثرياً يف �سجن الن�ساء .كان هناك �أي�ض ًا مل يكن أ
المر املختلف مت ّثل يف وجود بع�ض المهات .لكن أ العديد من أ
137
الطفال والطفالت املعتقالت مع �أمهاتهن يف املعتقل!. أ
المهات ال�شيوعيات� :أمرية.ح ،فاديا. كان هناك الكثري من أ
�ش� ،سحر.ب ،رنا.م� ،أم �أكرم (زهرة.ك) وتالي ًا �ضحى.ع.
ال�سالميات! لكن أ
المر كان �أق�سى بالن�سبة �إىل املعتقالت إ
هناك �صغرية ا�سمها �سمية ابنة �سلوى.ح� ،إحدى املعتقالت
ال�سالميات� ،صار عمرها �سبع �سنوات وهي يف ال�سجن مع إ
ال�سالميات من الفراج عن إ �أمها ،وظ ّلت معتقلة حتى وقت إ
الول .1989 �سجن الن�ساء ،وذلك يف �شهر كانون أ
رمبا كانت تلك اجلملة التي ّ
خطتها �سمية ال�صغرية بيدها
المن 2الع�سكري ،حيث نقلوا على جدران الزنزانة يف فرع أ
ال�سالميات قبل وقت قليل من �إطالق �رساحهن ،ما تزال إ
�شاهدة:
�أنا �سمية من مواليد �سجن� ...سكنت يف �سجون ...و...
الم (�سلوى.ح) �أن مل يكن ثمة �أحد يف اخلارج ت�ستطيع أ
توكل �إليه تربية ال�صغرية ،لذلك كان البد من �إبقائها معها يف
املعتقل.
جاءت ن�ساء تلك العائلة �إىل �سجن الن�ساء يف ،1985بعد
�أن ق�ضني حوايل ال�سنتني يف ال�سجن ال�صحراوي� ،أم ح�سان
138
وحفيدتها وابنتاها� :سلوى.ح( )78وي�رسى.ح(.)79
كن رهائن لزوجي االبنتني :حممد�.ش زوج الربع ّ الن�ساء أ
الردن فيما بعد، ال�سالميني الذين هربوا �إىل أ
�سلوى ،وهو من إ
ال�سالميني. وزوج ي�رسى الذي �أعدم �إثر حماكمات إ
عن ال�صغرية �سمية كتبت هبة.د يف كتابها ،عنونت الف�صل
بـ :والدة �أ�صغر املعتقالت:
(�سيقت �سلوى و�أمها و�أختها ومعهم ليلى �إىل ( )...وهناك
يف ذاك املكان املرعب ،الذي كن يرين فيه مواكب املعتقلني
العدام ،حان موعد والدة �سلوى ت�ساق �صباح كل يوم �إىل إ
دون �أن تكون لديهن �أية و�سيلة لذلك �أو حتى �أية مالب�س
للمولد القادم .لكن اهلل رحمهن بوجود قابلة معتقلة معهن
ا�سمها رغداء �س.
متى جاء �سلوى الطلق كتمن اخلرب و�صياحها معه خ�شية
�أن يكون ذلك �سبب لعذاب جديد لها �أو حتى لهن!! حتى
�إذا ولدت �سمع �أحد احلرا�س على ال�سطح بكاء املولودة ف�س أ�ل
ف أ�خربنه ،فجاء هذا ال�شاب الذي مل متت فيه بقايا إ
الن�سانية بعد
و�أدىل لهن علبة �صفيح فارغة وعود كربيت ف أ��شعلن من ثيابهن
ال�سالميات من مواليد �سنة 1962 (� )78سلوى .ح :معتقلة من الرهائن إ
اعتقلت مع �أمها و�أختها �سنة ،1983وكانت حام ً
ال بابنتها �سمية التي ولدت
يف ال�سجن �سنة 1983و�أطلق �رساحها يف �سنة 1989
ال�سالميني من مواليد 1964اعتقلت ( )79ي�رسى .ح :معتقلة من رهائن إ
من �سنة 1983وحتى �سنة 1989حيث �أطلق �رساح جميع املعتقالت
ال�سالميات.إ
139
حمموا به املولودة ،وروت أ
الم فيها ما يكفي لت�سخني ماء ّ
بنف�سها �إنهن ق�ص�صن لها احلبل ال�رسي بقطعة تنك اقتطعنها
من علبة ال�صفيح تلك!
غري �أن امل أ��ساة مل تنته بعد ،واخلطر مل يبتعد عن هذه املولودة
الم �سمية .وقد قامت �إحدى املعتقالت الربيئة التي �أ�سمتها أ
بالبالغ عن العن�رص فح�رض مدير ال�سجن املقدم في�صل غامن إ
والهانات والتهديدات ال من ال�شتائم إ وجعل ي�سمعهن �سي ً
كعادته ثم �أخرج عائدة ك ونزع عنها حجابها وجعل يدو�سه
بقدميه وال�شتائم ال تزال تتدفق من فمه املننت ..فلما انتهى
وهد�أت نف�سه �أمر مبعاقبة املهجع كله ونقله �إىل “ال�سيلون”
وهو عبارة عن قبو كبري رطب ومعتم ال منف�س فيه م�سكون
بالعناكب وال�رصا�صري واحل�رشات .وقتها كان عمر �سمية
ع�رشين يوم ًا فقط ،وكان عليها �أن تنتقل �إىل ال�سيلون مع بقية
ال�سجينات ،ف أ��صيبت امل�سكينة من حينها بربو مزمن مل ت�شف
منه �إىل آ
الن).
...
المر مغايراً �أي�ض ًا .لكنهابالن�سبة �إىل �أمرية.ح مل يكن أ
الوىل بعد ثالث فكرت لهنيهات ،وهي تلمح ابنتها �سنا للمرة أ
�سنوات على غيابها:
هل من املمكن �أن تكون هذه ابنتي؟
مل تكن تلك الطفلة الواقفة يف غرفة الزيارة ،الالهثة من
140
اللهفة ،ت�شبه �صورتها �أبداً� :صورة �صغرية مع ّلقة فوق فر�شة
نوم �أمرية على حائط املهجع العاري يف �سجن الن�ساء .كنز
تهربه �إىل الداخل بعد �سنة من بدء ا�ستطاعت �أختها �سمر �أن ّ
االعتقال ،وذلك يف زيارة ألهل ح�سيبة.ع وكانت معتقلة
معها يف �سجن الن�ساء.
فكرت من جديد.
ُ مل تكن ت�شبه ال�صورة �أبداً،
�صورة لفتاة لطيفة جعلتني �أتذكر �سنا ابنتي ب�شكلها اجلميل
والقدمي .تلك ال�صورة عملت على هدم كل امل�سافات بيننا،
على خلق �شيء �شبيه باخلرافات بني روحي وروحها ،كنت
ح�سها بني يدي و�أنا نائمة ويف �صحوي ،ت�صاحبني يف كل �أ ّ
دقيقة من دقائق عي�شي..
ما الذي حدث لها يف غيابي؟.
تخفي و�سنتني من
ّ كانت �سنا قد بلغت ال�سابعة بعد �سنة من
اعتقايل .طيلة فرتة الزيارة ،التي ا�ستمرت حوايل ال�ساعة ،وهي
جتل�س يف ح�ضن حرمت منه طيلة تلك الفرتة.
كنت �أحت�ضنها بكلتا يدي وهي تت�شبث بي بقوة ،تدور
بعينيها ذات اليمني وال�شمال .وجه يحمل خوف العامل كله،
ال�سئلة التي ال �إجابات لها، قلقه� ،شحوبه ،وينوء بع�رشات أ
�أ�سئلة فوق طاقة طفل بعمرها ،و�أنا �أغالب دموع ًا كانت م�صرّ ة
بعناد على الهطول �أمام �صغريتي و�أهلي.
نهاية الزيارة عدت من جديد �إىل املهجع.
141
كنت �أ�شعر باالختناق ،يد �شبحية ثقيلة تطبق على رقبتي
حتى تكاد تقطع تنف�سي .مل �أقدر على مداراة فجيعتي بطفلة
ظلمت بال رغبة �أو ق�صد .فجيعة حقيقية..
حلظة دخويل املهجع ملحت رفيقتي متا�رض وجهي املحتقن.
عيني ،وج�سدي �أ�شحطه �شحط ًا ح�س بالنار تخرج من ّ كنت �أ ّ
ك أ�ين �أنوء ب أ�ثقال فظيعة.
رمت جملتها كقنبلة يف وجهي ..جملة جعلتني �أنفجر
ل�ساعات ببكاء طاملا كب ّته:
-خرجك اهلل ال يردك ..التي ت أ�تي بطفل �إىل احلياة تبقى
معه لرتبيه ال لرتميه هكذا..
على الرغم من ق�ساوة اجلملة �إال �أنها كانت حمقة!
كان غيابي عن �سنا �شبح ًا يطاردين منذ ذلك الوقت وحتى
اللحظة ،على الرغم من �أين كنت ،وال زلت ،مقتنعة �أال يد يل
يف كل ما ح�صل!
للحبة يف اخلارج ،من املواد القليلة رمبا كان �صنع الهدايا أ
املتوافرة يف املعتقل ،طريقة ت�صعيدية للتعوي�ض عن غيابهم،
حب املعتقلة يف قطع �ستلم�سها �أيدي �أو رمبا طريقة لبث كل ّ
�أحبابها ،وبهذا �سي�شعرون بكل ما ير�سله قلبها �إليهم.
هذا ما حدا ب أ�مرية ،كغريها الكثري من املعتقالت� ،إىل �صنع
الهدايا البنتها يف اخلارج.
مير كطيف خفيف م�رسع يف املعتقل� ،ساعات تنق�ضي الوقت ّ
142
و�أمرية منكبة على حياكة ف�ستان ل�سنا� ،أو تطريز �شيء �آخر لها.
كل غرزة �صوف مثقلة باحلب ،بال�شوق ،وب أ�مل الفقد .ومبا �أن
واليجابية تت�ضخم جداً يف املعتقل ،فقد كانت امل�شاعر ال�سلبية إ
�أمرية تعمل � 12ساعة �أحيان ًا دون �أن تعي وهي تفكر ب�سنا،
وب�سنا فقط ،وكيف �ست�ستقبل �صغريتها هديتها هذه.
�أول هدية بعثتها �أمرية.ح البنتها كانت جزدان ًا من اخلرز،
نق�شت عليه ا�سم� :سنا� ،إ�ضافة �إىل بطة �صغرية �صنعتها جميلة.
()81
ب( ،)80وف�ستان ب�سنارة واحدة حاكته هند.ق� .أما وفاء�.إ
فقد بعثت معها ع�صفوراً �صغرياً م�صنوع ًا من اخلرز امللون .كل
تلك الهدايا �أر�سلت �إىل �سنا من �سجن الن�ساء مع �سجينة ق�ضائية
جرى �إطالق �رساحها يف ذلك الوقتُ .ح ّملت بكل ما ميكن
الم ورفيقاتها ل�صغرية وحيدة خارج ًا. �أن يخبئه قلب أ
لكن تلك الهدايا الثمينة مل ت�صل حتى اليوم!
...
يف �سجن الن�ساء كتبت هند.ق ق�صة تدور يف الفلك ذاته.
�أ�سمتها :وراء الق�ضبان .كانت حادثة حقيقية جرت معها،
( )80جميلة .ب :معتقلة املنظمة ال�شيوعية العربية الوحيدة اعتقلت ب�صورة
متوا�صلة من �سنة 1975وحتى �سنة 1991منها قرابة ال�سبع �سنوات يف �أحد
ال�سجون ال�شمالية ،ومن ثم نقلت �إىل �سجن الن�ساء بالعا�صمة .وهي تقيم آ
الن
الرا�ضي الفل�سطينية املحتلة يف مدينة القد�س.يف أ
( )81وفاء� .إ :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1956اعتقلت من �سنة 1986
وحتى �سنة 1991يف �سجن الن�ساء عانت من فرتة حتقيق طويلة وتعذيب
�شديد لعالقتها باملكتب ال�سيا�سي للحزب ومبطبعته �أي�ض ًا ،وهي تعي�ش اليوم
يف �أملانيا.
143
عملت على تدوينها يف دفرت �صغري ا�شرتته من الندوة يف
ال�سجن.
على ذلك الدفرت �ستكتب هند ،خالل �سنوات �سجنها
الطويلة ،الكثري من الق�ص�ص:
الطفال (�آه من أ
�آه من براءتهم ،من �صفائهم و�شفافيتهم.
�آه من وجوههم الن�رضة ونظرتهم ال�صادقة ..وقلبهم
البي�ض..أ
�آه ..و�آه ..و�ألف �آه.
اليوم جاءت �أختي لزيارتي يف ال�سجن ,جاءت كطائر حزين
يحت�ضن �صغاره حتت جناحيه .جاءت وكانت املفاج أ�ة!
ألول مرة �أ�شعر باالرتباك والعجز ..و�أمام من؟؟ �أمام طفل
الثماين �سنوات.
الحرف، ألول مرة يعجز ل�ساين عن النطق .ت�رشبكت أ
وت أ�ت أ� الل�سان و ..و ..نعم ..طفل الثماين �سنوات ..يقلب
وي�شل تفكريي (و�أنا املنا�ضلة وراء الق�ضبان)!! ب�س ؤ�اله
ّ كياين،
احلزين الربيء:
-خالتو لي�ش حطك ال�رشطي باحلب�س؟
كان ي�س أ�لني وحزن قا�س على وجهه ،ودموع جتول يف
عينيه ،ونظرة حارقة م ؤ�ملة لعيني.
اختل توازين ،كدت �أتهاوى لوال التحامي بالق�ضبان
144
الباردة .هرول ال�رشطي �صارخ ًا بوجه الرباءة الطفولية:
-عمو ا�سكت ..ويال روح من هون.
الهانة ،وبرباءة الطفولة �أي�ض ًا �رصخمل يتحمل الطفل هذه إ
يف وجه ال�رشطي:
-يا حمار لي�ش حاب�س خالتي بدي اخدها معي ..
لي�شدين من وراء الق�ضبان.
ومد يده ال�صغرية ّ
والوجع ،ونرته والقوى أ ال�رسع ألكن يد ال�رشطي كانت أ
خارجا مع �أهلي ،لتنتهي زيارتي و�صدى �س ؤ�اله:
خالتو لي�ش حمبو�سه؟
بال جواب)...
145
146
1988
147
مع مرور الوقت راح الطلق ي�شتد ،ورنا مرمية على
المنو�سي ي�سيل با�ستمرار، الفر�شة يف �أق�صى املهجع .ال�سائل أ
و�رصخات أ
المل تزداد تواتراً وقوة مع مرور الليل.
لكن �أحداً مل يرد على �صيحات اال�ستغاثة.
متر ،وال�رصخات العديدة ،املطالبة ب إ��سعاف رنا،
ال�ساعات ّ
تت�صاعد وتقوى من وراء �أبواب املهاجع املغلقة.
مل يعرهن �أحد اهتمام ًا حتى راحت ال�صيحات تت�صاعد من
مهاجع الق�ضائيات( )83املجاورة مطالبات ب إ��سعاف رنا .حني
ال�سعاف ويف ال�ساعة راحت املهاجع كلها تطالب بح�ضور إ
الثالثة والن�صف فجراً دخلت �سجانة هزيلة ،مل ت�ستطيع ّ
حتمل
كل هذا ال�صياح امل�ستنجد� ،إىل مهجع ال�سيا�سيات حيث كانت
رنا.م تو�شك على الوالدة.
�أخذتها وحدها �إىل امل�ست�شفى ،وقد راح و�ضعها يغدو
مقلق ًا لرفيقاتها ،ومرعب ًا لل�سجينات البعيدات.
غابت رنا ال�ساعات الباقية من الليل ،فيما املعتقالت
ينتظرنها يف و�ضع ال يح�سدن عليه .يف ال�صباح عادت وهي
حتمل �صغرية على يديها لتنطلق الزغاريد يف كل املهاجع ويف
الباحة املليئة ب أ�كرث من � 200سجينة ق�ضائية و�سيا�سية.
( )83مبا �أن �سجن الن�ساء �سجن مدين فقد كانت املعتقالت م�سجونات مع
الق�ضائيات (املحكومات ب�سبب جرائم جنائية) من خمتلف التهم :قتل ،دعارة،
خمدرات...
148
جميء تلك ال�صغرية غدا عر�س ًا حقيقي ًا يف �سجن الن�ساء.
�أتت الطفلة ماريا ك�شعاع م�رشق اقتحم �سجن الن�ساء .وقد
ا�ستطاعت ،خالل �أيام� ،أن تخرج كل ذلك القهر املرتاكم من
دواخل املعتقالت ،حتى �أن الق�ضائيات احتفلن على طريقتهن
اخلا�صة مبجيء �صغرية جديدة� ،أتت بعينني مفتوحتني
على �سعتهما ك أ�نهما حتاوالن اجتياف كل ما يحيط بها من
غمو�ض.
�أعطيت زاوية مهجع ال�سيا�سيات لرنا ور�ضيعتها على
فر�شتني متال�صقتني ،وبقيتا يف تلك الزاوية طيلة الوقت الذي
ق�ضته ماريا ال�صغرية مع �أمها يف املعتقل� ،أي ما يقرب من 11
ال من فراغ �شهراً� .شهور حاولت فيها كل معتقلة �أن تردم قلي ً
راح يكرب كلما م�ضى الزمن وهي بعيدة عن �أطفالها.
كل معتقلة يف املهجع �صارت �أم ًا ملاريا.
بهذه املنا�سبة ُكتبت افتتاحية جملة :اجلرح املكابر(� )84إثر
الوالدة:
(لك هذه الورود يا ماريا:
ماذا ميكننا �أن نقول؟!
�أنقول غمرتنا زقزقة الع�صافري ،رائحة اليا�سمني� ،أ�رساب
ال�سنونو التي تب�رش بالربيع ،ف�سحة �سماء تطل منها �شم�س
( )84اجلرح املكابر :جملة كانت املعتقالت ال�شيوعيات يكتبنها ويوزعنها على
ال�سجينات ب�شكل �رسي .وقد عملت على حتريرها كل من :رماح .ب ،
وجدان .ن ،وناهد .ب .
149
امل�ستقبل؟.
العمى ،أ
اليدي ال�سوداء التي ال �أم نقول ،لقد طالنا احلقد أ
تفرق بني الطفل وحجر ال�صوان.
غمرنا �شعور بالقهر والتحدي� ،شعور باحلزن واملرارة .كل
ذلك جمتمع ًا قد ح�صل ،جمعت كل تلك املعاين يف حلظة من
الزمن واحدة...
�شكراً� ..شكراً لك يا ماريا على حلظات فرح وم�شاعر حب
لبذرة نتجمع حولها ،ن�سقيها ونرعاها ،نعلمها ونتعلم منها.
لنقل لها� :آه يا ماريا كم حتتاجني ،وكم نحتاج ،وكم يحتاج
امل�ستقبل كي يزهر �إىل احلرية.
..احلرية حلم ومناخ و�صليب نحمله على ظهرنا ومن�ضي).
�سجن الن�ساء 1988
...
لكن ال�سجن مل يكن بحال منا�سب ًا لرتبية �صغرية� .صارت
المرا�ض تتواىل على ماريا .ت أ�مني احتياجاتها غدا �أ�صعب أ
ف أ��صعب ،لذلك كان ال بد من انف�صالها عن �أمها احلقيقية
الخريات. و�أمهاتها أ
خرجت ماريا من املعتقل تاركة املهجع �أكرث فراغ ًا مما كان
قبل والدتها ،لتبقى �أمها وحدها حوايل �سنتني ون�صف يف
�سجن الن�ساء قبل �أن يطلق �رساحها.
150
1993
151
الزيارة جاءت لتهامة.م .كانت �سعادة ما بعدها �سعادة،
رك�ضت �ضحى لهفة لرتى �أهل تهامة على ال�شبك فوقعت قبل
�أن ت�صل ،وبد�أ النزيف على الفور.
ليومني كاملني ا�ستمر النزيف دون توقف ،ثم راحت
�ضحى ت�شعر �أن جنينها توقف عن احلركة يف بطنها .بعد
يومني جاءت طبيبة من م�شفى �سجن الن�ساء ،وحاملا ك�شفت
حولتها على الفور �إىل امل�ست�شفى.
عليها ّ
اليكو ..كانت تلك ال�سعادة، الوىل ترى اجلنني على إ للمرة أ
ال و�أيدي �صغرية تتحرك على ال�شا�شة ،كفيلة وهي ترى �أرج ً
مر معها من �آالم طيلة
بجعلها تن�سى ال�سجن وال�سجانة وكل ما ّ
أ
ال�شهر ال�سابقة.
جاءين الطلق يف �سجن الن�ساء ،ب�شكل مفاجئ ويف يوم
جمعة ،وقد �صادف دوري يف الطبخ للمهجع كله(.)87
بد�أ الطلق منذ ال�صباح وا�ستمر طيلة النهار .كنت ملقاة على
الفر�شة �أتلوى ،وال�سائل املحيط باجلنني ين ّز مني وال من جميب.
ح�س ب�رصاخ ال�صبايا وهن يوا�صلن الطلبات إل�سعايف كنت �أ ّ
�إىل امل�ست�شفى� .إدارة ال�سجن املدين ال ت�ستطيع نقلي �إال مبوافقة
الفرع ،والفرع يف يوم العطلة ال يجيب على الربقيات املتالحقة
يبعثها ال�سجن ..ال جواب البتة.
( )87يف ذلك الوقت �سنة 1993كان قد قل عدد املعتقالت ال�سيا�سيات يف
�سجن الن�ساء لذلك كان دور واحدة من ال�سيا�سيات يف كل يوم للطبخ ولي�س
اثنتني كما كان �سابق ًا.
152
والخرى وقد راحت تتقارب كنت �أمتزق بني الطلقة أ
حتى مل يعد يف�صل بينها دقائق ،مما حدا باملعتقالت يف املهجع
لل�رضب على الباب ب�شكل هي�ستريي .كن ي�رصخن وي�رصخن،
ألين على ما يبدو كنت قد تعبت كثرياً.
بعد مدة �سمعت �إجابة ال�سجانة من وراء الباب وك أ�نه
�صوت من عامل �آخر:
-ال ن�ستطيع �إخراجها على م�س ؤ�وليتنا حتى ال�ساعة
ال�ساد�سة �صباح ًا.
-حتى ال�ساد�سة ..تكون قد ماتت ..الرحم ال يفتح.
�رصخت �إحداهن.
جوابها جعلني �أدخل يف دوامة رعب مرافقة ألملي.
نهاية ،راحت املعتقالت يبكني ،الو�ضع بدا ميئو�س ًا منه وما
من حل ..حني جاء رد الفرع.
كانت ال�سوائل املحيطة باجلنني قد ذهبت كلها ،وبد�أ اجلنني
ي�ضغط على ظهري ،على فقرات ظهري ال�سفلية بال�ضبط،
المر جعلني ال �أ�ستطيع احلركة بعد دون �أن ي�ستطيع اخلروج .أ
والدتي ملدة 40يوم ًا.
نقلت �إىل امل�ست�شفى �أخرياً ،و�أنا �أح�س ب أ�ين بني املوت
واحلياة بعد �أن ا�ستمر الطلق طيلة النهار.
بعد �ساعتني ال غري عدت.
مل �أكن �أحمل فرحة �أم جديدة ،ف�صغريتي ديانا نحيلة
153
للغاية ،وثمة ت�شوه وا�ضح يف قدميها .كنت �أ�شعر ب أ�ين �أحمل
ثمرة ظلمي لهذه ال�صغرية ،و�أفكر ،و�أنا �أفل�ش قماطها� ،أن هذا
الت�شوه رمبا كان من نق�ص الكل�س وفقر الدم ال�شديد الذي
عانيت منه طيلة �أ�شهر االعتقال� ،أو رمبا من اجللو�س اخلاطئ
�أثناء احلمل و�أنا �أحاول �إخفاء حقيقة حملي عن ال�سجانة
و�إدارة ال�سجن.
كانت �صغريتي امل�سكينة تغرز يف قلبي ع�رشات ال�سكاكني
كلما �أمعنت فيها �أكرث .منهكة للغاية كنت� ،أ�شعر بالذنب
يكبلني ..ما ذنب هذا املخلوق ال�صغري ..ما ذنبه!!
حاملا دخلت �ضحى من باب ال�سجن �إىل الباحة بد�أت
البنات يزغردن ويبكني ،ال�سيا�سيات والق�ضائيات على ال�سواء،
ويومئذ قمن بتنظيف باحة ال�سجن :حو�ش البيت العربي قدمي ًا،
وطالنب بتمديد فرتة �إغالق �أبواب املهاجع ،من ال�ساعة الثامنة
ال �إىل احلادية ع�رشة ،كي ي�ستمتعن �أطول بال�ضيفة اجلديدة لي ً
القادمة.
الم تخ�شى �أن حتمل ال�صغرية لذا فقد ا�ستلمتها كانت أ
رفيقاتها عنها ،ثم رحن يح�رضنها كي تر�ضعها فح�سب ،ويعدن
�إىل �أخذها من جديد ،و�ضحى ما تزال طريحة الفرا�ش.
للمومة هو كل ما ر�أته �ضحى يف الوجه امل ؤ�مل واحلزين أ
والخرية .مل ت�ستطع �أن تفرح بتلك الوىل أ جتربة والدتها أ
القادمة �إىل هذا الوجود املرير ،كان القلق والتوتر يحا�رصانها
154
ولي�س فرح الوالدة اجلديدة.
بعد ألي �سمحوا البراهيم ،زوج �ضحى ،بزيارتها ور ؤ�ية
طفلته ولكن عرب طاقة يف الباب :تو�ضع كر�سي ل�ضحى من
الخر.هذا اجلانب وكر�سي لزوجها من اجلانب آ
�إبراهيم كان �سعيداً للغاية على الرغم من كل ح�صل ،فرح ًا
وم�ستب�رشاً ،و�ضحى منهكة وخائفة على ال�صغرية التي كان
يجب �أن ت ؤ�خذ �إىل امل�ست�شفى على الفور.
الطفال فوراً ..و�ضع -الزم تطلبي �أخذها �إىل م�ست�شفى أ
ابنتك غري جيد ..الزم تعر�ضيها على طبيب عظمية.
كان كالم طبيب ال�سجن ،بعد �أن ك�شف على ال�صغرية،
حا�سم ًا ومقلق ًا للغاية .لذلك فقد ظل �إبراهيم ،ألكرث من
�أ�سبوع ،ي أ�تي بديانا كل عدة �ساعات �إىل ال�سجن ألر�ضعها،
ومن ثم يعود بها �إىل امل�ست�شفى.
متاثلت ال�صغرية لل�شفاء ،ولكن قدميها ظلتا كما هما..
وحني غدا عمر ال�صغرية ثالثة �أ�شهر قُطعت زيارة والدها.
تلك القابلة ال�سجينة ،واملتهمة بالقتل ،كانت خري معني
يل .تهتم بال�صغرية وحتممها� ،إ�ضافة �إىل م�ساعدة الرفيقات يف
المر الذي �ساعد على متاثل ال�صغرية لل�شفاء وا�ستعادة املهجع ،أ
�صحتي رويداً رويداً.
لكن الو�ضع يف ال�سجن مل يكن منا�سب ًا لتظل ديانا فيه .كان
ال يف ال�سجن مع �أمهاتهم .يف هناك حوايل اثنني وثالثني طف ً
155
ال�صيف خ�صو�ص ًا ي�سود �ضجيج و�شجار و�سيول من ال�شتائم
املقذعة .لذلك فقد ظلت ديانا معي يف املعتقل �سنة و�شهرين
قبل �أن تغادره ،ثم �صارت تزورين مرة كل 15يوم ًا..
كان قراراً �صعب ًا �أن �أبعث بابنتي �إىل اخلارج ،ألن الفراغ
الن متام ًا بعد رحيل ال�صغرية .كانت واحلزن متكنا مني آ
متل فراغ ال�سجن ووح�شته ،منذ حلظة اعتقايل وهي �صغريتي أ
يف �أح�شائي ت ؤ�ن�سني وحتى �ساعة ذهابها� ،ساعدتني على
احتمال جحيم املعتقل وهي يف بطني �أو على يدي.
بخروج ديانا فقط �أح�س�ست ب أ�ن ال�سجن قد بد�أ ..بد�أ
ب�رشا�سة.
...
توىل والد ديانا يف اخلارج تربيتها حتى �إطالق �رساح �أمها
ال حتى يف �سنة ،1998وخ�ضعت للعالج الفيزيائي طوي ً
متاثلت تقريب ًا لل�شفاء.
156
كثافة الزمن املتال�شية..
عامل التفا�صيل ال�صغرية
157
الول يف املعتقل �أو لنقل العدو أ
الكرب! الزمن هو اجلالد أ
ويتحور ليغدو فكرة مهيمنة،
ّ حني يعود بال �أية كثافة ،يتبدل
ليغدو كل �شيء وال �شيء يف وقت واحد ،ك أ�نه هيوىل تغ ّلف
والج�ساد ،فريزح املعتقل /املعتقلة يف قلبها دون �أن الرواح أ أ
ميايز التفا�صيل.
الزمن مباهيته هو الزمن املتبدل ،املتطور ،ورمبا املت أ�خر،
مبعنى �إنه الزمن :الديناميكي .يف املعتقل يغدو الزمن �ستاتيكي ًا.
فاملعتقل /املعتقلة يكون خارج الزمن باملعنى الديناميكي فيما
هو يف �ستاتيكيا دائمة.
-على الرغم من ذلك على يدفع �أتاوات الزمن باعتبار
متر على روحي وج�سدي ودماغي كما متر على �أن ال�سنوات ّ
�أي �إن�سانة يف داخل الزمن /خارج املعتقل.
اعرت�ضت �أمرية .ح على احلديث الدائر بني ال�صبايا .كن
البدي يختلفن حول ماهية الزمن يف املعتقل .ذاك اخلالف أ
158
الذي ظل دائراً بني معظم املعتقلني.
المر يختلف بني معتقلة ومعتقل ف�سنوات الزمن -أ
كانت �أقل وط أ�ة علينا منها على املعتقلني ،وذلك العتبارات
الطياف خمتلفة منها �أن �سنوات �سجن املعتقلني ،بكافة أ
اليديولوجية ،كانت �أكرث عدداً ،أ
ولننا عموم ًا �سجنا �إما يف إ
المن ،ل�سنوات �أق�صاها خم�س� ،أو يف ال�سجون املدنية فروع أ
مع املتهمات بجرائم جنائية! وتلك ال�سجون كانت ب�شكل من
ال�شكال جمرد ف�سحة م�ص ّغرة عن العامل ال�سفلي خارج ًا. أ
بع�ض املعتقالت كن يرين �أن عليهن �إم�ضاء ال�سجن
فح�سب ،ألن عالقتهن مع �سجنهن جمرد عالقة تعداد ال غري
ولي�ست عالقة تعاي�ش البتة .تلك املعتقلة رف�ضت التعاي�ش مع
�أمر� ،أو مكان� ،أجربت على التواجد فيه ،و�سفحت جزءاً من
عمرها بني تفا�صيله التافهة .بالتايل كان جمرد التعاي�ش معه،
�أو اعتبار �أن زمنه هو ف�سحة إلعادة تدوين حياتها اخلا�صة،
�أو جمرد حماوالتها لتطويع �ستاتيكية زمن اعتقالها هو قبول ملا
فر�ضه الطغاة عليها.
رمبا كانت تلك العالقة ال�سلبية مع الزمن جمرد و�سيلة
لالحتجاج ..ورمبا ال.
تكت�شف املعتقلة بعد م�ضي �سنوات ال�سجن ،الثقيلة والبطيئة
ك�سلحفاة عجوز� ،أنها كانت مت�شي على روحها حتى �أبلتها.
بع�ضهن ر�أين الزمن خمتلف ًا!
المر ك أ�نها يف حلبة للم�صارعة ،لكن اخل�صم وح�ش لي�س بدا أ
159
الخر ،ف إ�ما �ستعمل املعتقلة على هزم �إال ،و�أحدهما �سيقتل آ
الزمن �أو على العك�س� ،سيعمل الزمن على هزمها �رش هزمية.
وقد اختفلت �أ�شكال الهزمية تلك من معتقلة �إىل �أخرى.
لكن يف كل احلاالت الزمن يف املعتقل� :إنه املطلق.
ثم ندخل دوامة التفا�صيل اليومية ،تفا�صيل �صغرية تغدو
ال�سنان لكل معتقلة �أهم من فيها نقطة ال�شامبو ونقطة معجون أ
وجودها نف�سه .امل�س أ�لة م ؤ�ذية حني تكون املواد قليلة للغاية.
جو املعتقل ،خالفات على كل واخلالفات ال�صغرية ت�سمم ّ
�شيء :على ف�صل الثياب الداخلية ،التي كانت م�شرتكة ،ثم
ف�صل الثياب اخلارجية ،على ح�ص�ص الطعام ...خالفات على
كل تف�صيل حياتي �صغري.
الحوال تربة جيدة إلن�ضاج ال�سجن مل يكن بحال من أ
عالقات �سوية بني املعتقالت .معظمهن كن �شابات ،يف
الع�رشينيات �أو الثالثينيات ،ال يعرفن متى �سيطلق �رساحهن،
وال �إذا كان قطار الزواج �سيفوتهن وهن معتقالت .احل�صار
يكبلهن ،خوفهن على �أهاليهن و�أطفالهنّ االجتماعي خارج ًا
وتوج�سهن من ر�أي املجتمع ،ألنهن يف النهاية ن�ساء ،ن�ساء يف
ّ
مكر�س.
جمتمع بطريركي ّ
�إح�سا�س بالذنب والت�شتت.
الم�ضى التي تنك�رس عندها الزمن يف املعتقل :احلافة أ
الحالم ،لتغدو املباراة يف النهاية من تنقذ �أحالمها ،ومت�ضي أ
�أبعد من �سيف الزمن امل�س ّلط فوقها يف كل حركة.
160
1990-1987
161
من التحايل على ذاك الزمن واملكان واجلالد.
ال�شياء التي قامت املعتقالت ب�صنعها هي �أحجار �أول أ
�شطرجن ،من عجني اخلبز املبلل باملاء ،جففوها لتغدو قا�سية،
الدوية القليلة التي قد تدخل الزنازين ومن ثم ّلونوها ب�صبغات أ
يف حاالت املر�ض ال�شديد .قمن بعد ذلك بتطريز رقعة ال�شطرجن
البرة فقد ا�ستعرنها من من خيوط البطانيات الع�سكرية� .أما إ
�أحد ال�سجانني املتعاونني.
قمن بعمل موقدة من العجني كذلك .خا�صة �أن فرتة طويلة
لهن خبز اجلي�ش ال�سميك .كن مرت و�إدارة ال�سجن تقدم ّ ّ
يدهن. أ
طيعة بني � ّ ي أ�خذن ّلبه ،يعج ّنه مع املاء حتى يغدو عجينة ّ
�شكلن جرن ًا �صغرياً ،و�ضعن فيه زيت املازوال، من تلك العجينة ّ
الذي ي�شرتونه من �إدارة ال�سجن ،ثم فتحن املحارم الن�سائية
لي�ستخرجن قطنها ويٍ�شعلنه يف اجلرن ،ثم يعدن طبخ الطعام
الكل قلي ً
ال. ال بتح�سني أالذي ي أ�تيهن ..كان ذلك كفي ً
ي أ�تي ال�شتاء لتزداد �أو�ضاع الزنازين �سوءاً.
املياه الباردة� ،صيف ًا �شتا ًء ،تزداد برودتها حتى تغدو
الج�ساد ،وتتحول فوهات التهوية ،التي ك�سكاكني تخ ّز أ
الر�ض ،فوهات الوك�سجني املفقود يف زنازين حتت أ ت�ضخ أ
حد �سواء .فالهواء البارد الذي ت أ�تي به للحياة واملوت على ّ
الج�ساد املرتاكمة دون �أية تدفئة .لذلك كانت كفيل بتجميد أ
املعتقالت يف�ضلن �أحيان ًا �أن يغطني الفوهات بالبطانيات �أو
162
بالثياب حتى لو اختنقن ..الربد كان جهنمي ًا.
النارة فكانت من �ضوء يف �أعلى ال�سقيفة ّ
يطل �شاحب ًا �أما إ
�إىل املزدوجة ال�سفلى من خالل ال�شبك يف �سقفها املفتوح
بدوره على ال�سقيفة.
يف �أول ال�شتاء الثاين على االعتقال �صار عدد ال�صبايا
ال�شيوعيات14معتقلة يف املزدوجات ،وقد ان�ضمت �إليهن
�سناء.ح و�سامية.ح(� ،)88إ�ضافة �إىل عدد من الكتائبيات
والعرفاتيات املتبدالت ومعتقالت بعث العراق ،فيما �أخذت
بقية املعتقالت ال�شيوعيات �إىل �سجن الن�ساء ،وقبلهن كل
ال�سالميات.
املعتقالت إ
يف ذلك ال�شتاء �أتت تلك الهدية ك أ�نها قادمة من حلم بعيد!
هدية من �أثمن الهدايا التي تلقتها معتقالت الفرع.
كان املهجع املجاور لهن مهجع ال�شباب العرفاتية ،ي�شرتك
املهجع واملزدوجات ببالوعة لل�رصف ال�صحي ت�صل بني
احلمامني يف الفراغني .يف ذاك امل�ساء ا�ستطاع العرفاتيون ،عرب
الدق بال�شيفرات على احلائط امل�شرتك� ،أن يخربوا البنات �إنهم
بعثوا لهن ب�شيء عرب البالوعة.
كانت الهدية ملفوف ًة بكي�س من النايلون وهي عبارة عن �آلة
اخرتعها ال�شباب لت�سخني املياه :علبة طون فارغة مق�صو�صة
ك�صفيحتي معدن وفيها قطعتا بور�سالن وو�شيعة بينهما.
(� )88سامية.ح :معتقلة �سيا�سية من مواليد ،1964اعتقلت من �أوائل �سنة 1988
وحتى �سنة .1990وكانت تدر�س الريا�ضيات يف اجلامعة حني اعتقلت.
163
ما كان على املعتقالت �إال و�صل الو�شيعة �إىل �أ�سالك ال�ضوء
العارية يف �سقف ال�سقيفة فوق املزدوجات ،ثم و�ضع آ
اللة يف
املاء لت�سخنه على الفور.
الوىل ،بعد �أكرث من �سنة وثالثة �أ�شهر ،التي �إنها املرة أ
الوىل التي ي�رشبن القهوة ت�ستحم فيها البنات مبياه دافئة ،املرة أ
فيها �ساخنة ولي�ست باردة يف كا�سات ال�ستانل�س.
جل�سن متحلقات حول ركوة القهوة ،رائحتها الزكية
وهبلتها تت�صاعد يف الزنزانة ،ثم رحن يغنني وهن يتمتعن
مبذاقها ال�ساحر:
دارت القهوة وعنني بدها تدور..
علي وفنجاين مك�سور. دارت ّ
ال�رسي/
ّ فيما بعد راح ال�شباب العرفاتية يبعثون ،عرب املمر
البالوعة ،هدايا متعددة ملفوفة ب أ�كيا�س النايلون ،يدف�شونها
بالنربيج ،وي�سكبون املاء �إثرها لت�صل �إىل املزدوجات املجاورة:
ملب�س عرب البالوعة ،قطع حلوى �أي�ض ًا ،والكثري الكثري من قطع ّ
الغذية املحفوظة. معلبات أ
...
حتت وط أ�ة الزمن البطيء البطيء ،الذي ي�شمت يف كل
ال�رضاب عن الطعام و�سيلة ال بد منها ،ذلك حلظة فيهن� ،صار إ
�أن عبئه الثقيل قد يغدو �أكرث خفة مع وجود و�سيلة للتوا�صل مع
ال�رضاب قد ي ؤ�ثر على �إدارة ال�سجن، اخلارج .كن يعتقدن �أن إ
164
وتقتنع ب إ�دخال اجلرائد �أو املجالت التي كانت ممنوعة منذ �أكرث
من �سنتني ون�صف.
الول ،وكان �إ�رضاب ًا حتذيري ًا ،ا�ستمر ليومني ال�رضاب أبد�أ إ
ثم انتهى.
ال�رضاب الثاين ،بعده ب أ�يام ،فقد كان مفتوح ًا. �أما إ
تلبى مطالبهن، ال�رضاب حتى ّ اتفقت املعتقالت �أال يك�رسن إ
�أي ي�ضحي الطعام �أف�ضل ،املعاملة �أف�ضل ،وتُدخل �إليهن اجلرائد
واملجالت والكتب.
ال�رضاب نزل مدير ال�سجن �إىل املزدوجات، �إثر �إعالن ذلك إ
دخل كوح�ش �إىل الن�ساء هناك ،ثم بد�أ ي�رضبهن بالكرباج
يرو الكرباجكاملجنون ذات اليمني وذات ال�شمال ،وحني مل ِ
غليله راح ي�صفعهن بيديه ،يركلهن بقدميه ،ي�رصخ ومالمح
االنت�شاء والن�رص على وجهه.
يف نهاية حفلة ال�رضب �أم�سك ب إ�حدى املعتقالت ،وهي هند.
ال و�أ�سود ،لفّه على �ساعده، �أ( ،)89وكان �شعرها طوي ً
ال م�سرت�س ً
و�صاح بال�سجان الذي يلوذ خلفه لي أ�تي ب�آلة ج ّز ال�شعر.
باللة من �شعر تردد ال�سجان ،ويداه ترجتفان ،وهو يقرتب آ
هند التي كانت تتك�رس ملتوية حتت �ساعده .وحني و�ضعها
وهم باجلز �رصخت الفتاة متو�سلة ..وتوقف �أخرياً على �شعرها ّ
ال�رضاب. إ
( )89هند� .أ :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1965اعتقلت من �سنة 1988وحتى
المن. �سنة 1990يف فرع أ
165
ال�رضابني �سمحت �إدارة ال�سجن ب إ�دخال جملة العربي بعد إ
فح�سب ،وظلت املطبوعة الوحيدة التي تدخل الفرع حتى
نهاية االعتقال .مع �أن تلك املجلة �أعانت املعتقالت ،يف
حتمل الزمن البليد �إال �إنّ
ال�شهر الباقية من االعتقال ،على ّ أ
كثريات منهن ال ي�ستطعن حتى اليوم ر ؤ�ية جملة العربي� :شكلها
�شبيه ب�شكل العفن املرتاكم على �أرواحهن طيلة �سنوات ال�سجن
القبية املظلمة هناك يف املم�ضة ،ورائحتها ت�شبه رائحة أ
ّ الطويلة
المن.1 فرع أ
...
من املهجع املجاور ملزدوجات املعتقالت ،وهو ذاته مهجع
ال�شباب العرفاتيةُ ،رمي ذات ليلة جهاز راديو.
ال�ضيق ،فوق الباب ّ كانت ال�ساعة الثانية فجراً ،وال�شباك
احلديدي للمزدوجات ،يحمل �إىل �صمت الزنزانة راديو
�صغرياً و�أحمر.
ثالث �سنوات انق�ضت مل ت�سمع واحدة منهن �سوى
�صوتها� ،أ�صوات رفيقاتها ورمبا غناءهن� ،رصاخ ال�سجانة،
املدوي .هذه هي الذاكرة ال�صوتية البواب احلديدية ّ و�إغالق أ
املت�شكلة طيلة تلك الفرتة!
حني رمي الراديو يف ذاك الفجر التقطته لينا.و ذاهلة.
بدا الراديو ك أ�نه �أعطية بعثت فج أ�ة من الفردو�س! ومبا �أن
جميعهن كن نائمات فقد راحت لينا تق ّلب موجات الراديو
166
و�شات مت�صاعدة على طول املحطات وحدها .مل ت�صلها �إال ّ
املغلقة يف ال�ساعة الثانية فجراً.
عند ال�ساعة ال�ساد�سة �صباح ًا ،بعد �سهرة طويلة بانتظار
يبث �شيئ ًا ما� ،صوت منخف�ض لنجميء ال�صباح ،بد�أ الراديو ّ
ي�ستطيع ال�سجانة �أن ي�سمعوه مهما كانوا قريبني .بد�أت حمطة
ما ببث تالوة قر�آنية جميلة ب�صوت عبد البا�سط عبد ال�صمد،
ثم تهادى �صوت �ساحر ك�صوت املالئكة يف فراغ و�صمت
املزدوجات.
كان �صوت فريوز.
�صوت مالئكي ممتزج ب�صمت مقيم ينا�سب �صداها
امل�شع�شع:
�إنت أو�نا يا ما نبقى
نوقف على حدود ال�سهل
ثالث �سنوات مرت دون �صوت فريوز! يا �إلهي كم كانت
احلياة فقرية!
وهن
حملت لينا الراديو ،و�صارت تدور على املعتقالت ّ
الخرية منفتهب أ
ّ نائمات ،ت�ضع الراديو على �أذن كل واحدة
نومها ده�شة ك أ�نها ا�ستيقظت يف اجلنة.
وعلى خط ال�سما الزرقا
مر�سومي طريق النحل
هكذا �أيقظتهن معتقلة معتقلة على هديل فريوز ال�صباحي.
167
الر�ض ،يف منت�صف الزنزانة ،ب�صوته و�ضعن الراديو على أ
الواطئ �إياه ،واجتمعت ر ؤ�و�سهن حوله وهن منبطحات على
الر�ض مل�صقات �آذانهن �إليه! كان يوم ًا ال ين�سى يف تلك أ
املزدوجات!
المن 1كان �شبيه ًا مبا قالته مليكة و�ضع ال�صبايا يف فرع أ
�أوفقري ،وهي عا�شت مع عائلتها ع�رشين �سنة يف �سجون ملك
املغرب احل�سن الثاين ،وذلك يف روايتها :ال�سجينة .تقول مليكة
�أن فرتات النهار كانت طويلة جداً ال نهاية لها� .أما عدوهم
ونح�س به ،نقا�سي منه متوح�ش ًا،
ّ الرئي�سي فكان الوقت :نراه،
الن فنق�ضي يومنا بالت�سلية اململة .متابعة �سري مهدداً� ...أما آ
ال .ت�صفية الذهن .تبدل ال�رصا�صري من ثقب آلخر .النوم قلي ً
لون ال�سماء ،والنهار يف طريقه �إىل النهاية.
ال يف المر يبدو متماث ً ما حتكيه مليكة عن الوقت يجعل أ
كل ال�سجون! ويجعل حياة ال�سجني /ال�سجينة جمرد �رصاع مع
ال�شيطان أ
الكرب :الزمن!
168
ق�صعة �شوربا مع البح�ص مث ً
ال.
اللحم كان ي�ستحق احتفا ًال خا�ص ًا بقدومه حني ّ
يقدم �إليهن
ال�سبوع وبكميات قليلة للغاية ،فيما الفطور ملرة واحدة يف أ
عبارة عن بي�ضة م�سلوقة فح�سب للمعتقلة� ،أو ملعقة لبنة
حمم�ضة� ،أو ملعقة مربى مع ع�رش زيتونات بالعدد� .أما الزعرت ّ
أ
كن ي�كلنه مع املاء ليقت�صدن بالزيت امل�شرتى.
فقد ّ
فيما بعد� ،أي بعد االعتقال ب�سنوات�ُ ،سمح ب إ�دخال الطعام
كن يحاولن حفظ الطعام ،خا�صة يف مع الزيارات .حينها ّ
ال�صيف ،بو�ضعه يف ق�صعة معدنية ،وغمره باملاء البارد طيلة
الوقت .مع ذلك كن ي�ضطررن �أحيان ًا �إىل تناوله وهو ن�صف
فا�سد!
رمبا كان االن�شغال بكل تلك التفا�صيل الطعامية و�سيلة
�أي�ض ًا لتم�ضية ذلك الزمن الثقيل.
كل ما حدث يف املزدوجات ،على مدار الزمن الذي
اعتقلت فيه لينا.و ،حدا بها �أن تكتب �أكرث من ر�سالة(.)90
تقول يف �إحدها:
(ظروف �سجننا قا�سية جداً ،حيث ال كتب فقد عادوا
ومنعوها ..ال جرائد -والتنف�س ح�سب مزاج مدير ال�سجن-
المن ألهلها بخط( )90كتبت الر�سالتان لينا .و يف �أوائل �سنة 1990يف فرع أ
�صغري للغاية على ورق �سجائر احلمراء وقد كان الورق ممنوع ًا وكتبت بقلم
ا�ستطاع �أحد ال�سجانني املتعاطفني متريره �إليها وقد هربت الر�سالة أ
الوىل
يف �إحدى الزيارات عند امل�صافحة� ،أما الثانية فقد ا�ستطاعوا متريرها عرب
أ
الغرا�ض.
169
قد يكون �أ�سبوعي ًا �أو �شهري ًا .ال وال ..وال ...ال �شيء �سوى
ميل حياتنا من جدراننا املوح�شة التي يغطيها الغ�سيل الفراغ أ
املن�شور �إىل قلوبنا التي �أيب�سها االنتظار.
(الكالم الباقي ممحو ب�سبب الرطوبة)
ويف ر�سالة ثانية تقول:
(�أحبتي الغوايل:
()...
عدة �أج�ساد نائمة تعانق حلم ًا بعيداً ،حت�ضن يف عيونها
الحبة واحلياة واجلمال .البع�ض يقر�أ� ،إحداهن النائمة �صور أ
حتت�ضن �صور �أطفالها ،تعانقهم يف ال�صور وحتادثهم ،والبع�ض
يطبخ (رز جديد مع �إ�صالح فا�صولياء حب جا ؤ�وا به بال�سجن)
و�صاحبة زيارة اليوم تتحدث بحرارة عن تفا�صيل زيارتها
«رجاء» زوجها وطفلتها .و�أنا �ضمن هذه ال�صورة ب أ�كملها
�أحدثكم.
انتقلنا �إىل بيتنا اجلديد.
الن خمتلف -غرفة وا�سعة ()4*5م فيها حمام واثنتا بيتنا آ
ع�رشة فتاة من نف�س التهمة .هذا م�سكننا اجلديد -ننتظر الراديو
وامل�سجلة وقد �أ�صبح لدينا تلفزيون �أعارنا �إياه العميد.
()...
ال «وليمة ألع�شاب البحر»حيدر لدينا كتب ..قر�أت مث ً
حيدر و»مدن امللح» عبد الرحمن منيف والعديد من
170
الروايات ،هذا غيرّ كثرياً من �ضعفنا النف�سي� ،أ�صبحت حياتنا
�أف�ضل مبا ال يقا�س مما كانت� .صحيح �إن �شوقنا للحياة كبري-
ولطفالنا لكن ظروفنا اجلديدة ت�ساعدنا على حتمل لكم -أ
ال�سجن �أكرث)...
بعد ألي ا�ستطاع والد حميدة.ت �أن يزورها يف فرع
المن.1 أ
مل تتوقع حميدة �أية زيارة من �أهلها ،ألنها تعرف �أحوالهم
املادية ال�سيئة للغاية ،وتعرف �أنه ال بد من و�ساطات ودفع
الهايل ر ؤ�ية بناتهن املرميات يف الفرع منذ �أموال كي ي�ستطيع أ
�شهور.
كان والدها قد ذهب �إىل املدينة ال�ساحلية ال�صغرية ،حيث
يقطن ال�شخ�ص الذي �سي ؤ� ّمن له الوا�سطة ،وهناك �أنهى كل
الخري ،وبعد العمال املتعلقة بالتمديدات ال�صحية يف بيت أ أ
ع�رش �ساعات من العمل املتوا�صل �أعطاه الرجل ورقة ال�سماح
بالزيارة.
من هناك اجته �إىل العا�صمة على الفور لينتظر �أ�سبوع ًا كام ً
ال
قبل �أن ي�ستطيع زيارة ابنته حميدة.
طق قفل الباب احلديدي يوم اجلمعة ثالث طقات ،هذا
يعني زيارة إلحدى املعتقالت.
وقف ال�سجان بالباب و�صاح :حميدة.ت.
حني �سمعت ا�سمي مل �أتوقع �أية زيارة ،رمبا كان جمرد �س ؤ�ال
171
وجواب ال غري ،لكني ا�ستجبت لرغبة ال�صبايا يف �أن �ألب�س لبا�س
الزيارة الذي ترتديه كل معتقلة يف زيارتها.
كان �أجمل لبا�س لدينا :بلوزة قطنية خ�رضاء وبنطال من
جينز بلون �أزرق حائل.
لب�ست الزي غري مقتنعة وخرجت وراء ال�سجان.
وقت ملحت والدي ،من �شباك غرفة املدير املطلة على
الكوريدور ،دف�شت ال�سجان ورك�ضت ألرمتي يف ح�ضنه.
يا اهلل كم كنت م�شتاقة له! م�شتاقة ..م�شتاقة.
كان والدي متعب ًا وبدا �أكرث �شيخوخة مما هو عليه .يا
�إلهي كم غيرّ ته تلك ال�شهور املا�ضية! كان وجهه قامت ًا ومليئ ًا
بالتجاعيد!
�أول �س ؤ�ال �س أ�له وهو يحت�ضنني بني ذراعيه:
-هل اقرتب منك �أحدهم؟
قرب. -ال يابا ..ما حدا ّ
تنف�س الكهل ال�صعداء ك أ�نه ينتظر هذا اجلواب منذ �شهور..
وتهاوى على كر�سيه.
كان والدي يعرف �أين �أعاين منذ مراهقتي من م�شكلة مع
علي دائم ًا ت�رسيحه .يف �شعري .كان جمعداً للغاية ،وي�صعب ّ
اخلارج كان قد جلب يل جهازاً لتملي�س ال�شعر� ،أما يف الفرع
كان قد غدا م�شعث ًا للغاية ومزعج ًا .ابت�سم وهو يرمقه:
-جلبت لك م�سب ً
ال لل�شعر يابا.
172
الغرا�ض مبت�سم ًا .كانت حقيبة متخمة وقدم يل حقيبة أ ّ
ف ّت�شها ال�سجانة كما مل يفت�شوا حقيبة من قبل.
احلقيبة /الهدية كانت مليئة بباكيتات الدخان ،بالثياب،
د�سهاوبكنزات ال�صوف التي حاكتها والدتي ،و 500لرية ّ
والدي يف يدي �آخر الزيارة التي ا�ستمرت ع�رش دقائق ال غري.
يف املهجع اكت�شفت ،حني فل�شت احلقيبة مع ال�صبايا� ،أن
م�سبل ال�شعر الذي جلبه والدي ما هو �إال بل�سم “دياميم” ّ
لت�رسيح ال�شعر بعد احلمام.
�آه يابا ..كم كانت زيارتك �سبب ًا لتوليد �أمل م�ضاعف يف
داخلي� ،أمل احلنني واحلب والفراق� ..آه يابا.
...
رمبا كانت العزلة ،التي يفر�ضها ال�سجن علينا ،جتربنا
حد
التوحد فيها ّّ على الرتكيز يف عي�ش هذه التجربة ،وعلى
التماهي! هذه هي املفارقة! تتغري يف ال�سجن املفاهيم التي ك ّنا
ال ،والكثري نعي�ش عليها من قبل ،مفهوم الزمان واملكان مث ً
الخرى �شخ�صية كانت �أم عامة .ما كنا جنده من املفاهيم أ
ال ي�صبحطبيعي ًا يف اخلارج يتغري فج أ�ة هنا! ما كنا جنده م�ستحي ً
المر جعل كتاب ًا �صغرياً ،كديوان ممكن ًا ،بل ممكن ًا جداً! هذا أ
وعل يف الغابة ،يفتح �أبواب احلنني على ريا�ض ال�صالح احل�سني ٌ
م�رصاعيها ،وميار�س لعبة الغواية التي ال تقاوم.
المن 1قد ا�ستطعن تهريبه يف كانت املعتقالت يف فرع أ
173
�إحدى الزيارات.
معظمهن ع�شن ،ومنهن غرناطة.ج� ،أجواء رومان�سية غريبة
مع الديوان .قر�أته غرناطة ،كغريها ،ب أ��صوات تتناغم وتتهادى
للرواح .وهي اليوم تتذكر �أنها �سكرت، ك أ�نها ترتّل �أهزوجة أ
ال �إحدى تدب يف �أنحائها فيما هي تقر�أ لي ًوراحت الن�شوة ّ
ق�صائد الديوان!
عا�شت حالة غريبة ،وجدانية وعميقة ،نامت فيها منى�.أ
على ح�ضنها ،و�صارت تعبث ب�شعرها ،وتقر�أ الديوان.
حتى يف ذلك املكان القذر ال ت�ستطيع املر�أة �أن تعي�ش بال
يف من جديد، بث احلب ّ حب! ذاك الديوان ال�صغري عمل على ّ
بعد �أن كادت تق�ضي عليه ال�شهور ال�سبعة يف أ
القبية� .سبعة
الر�ض بال �شم�س �أو هواء حتى �أن حلم املعتقالت �أ�شهر حتت أ
الوحيد ،و�أنا منهن� ،أن يخرجن �إىل ال�ساحة كي يتن�سمن هواء
لي�س بفا�سد ،ويرين �شم�س ًا كدن ين�سني �سطوعها والزنازين
مثقلة ب أ�ج�سادهن املتال�صقة.
بعد م�ضي تلك املدة �سمحوا لنا باخلروج �إىل ال�ساحة
الر�ضية ملدة ن�صف �ساعة فح�سب. أ
خرجنا �إىل ال�ساحة �أخرياً ،غزالن انفلتت من عقالها وطفقت
العلى .رك�ضنا على الدرجات تهرول على درج الفرع �إىل أ
وهبت تلك الن�سمة املنع�شة ،كانت املف�ضية �إىل العامل اخلارجي ّ
تعم الباحة� ،صباح �صيفي م�رشق جعل من ال�صعب ال�شم�س ّ
174
علينا �أن نفتح عيوننا يف هذا ال�ضوء املبهر الرائع ّ
حد احللم.
�أم�سكنا ب أ�يدي بع�ضنا ،و�رصنا ندور فرحات ك أ�طفال ،ندور
م�شكالت حلقة كبرية جميع من فيها يقفز فرح ًا!
درنا ودرنا..
ت�سمرنا م�صدومات ،ثمة �شيء يف النظرات كان فج أ�ة ّ
ينك�رس! ال�ضوء املبهر قام بك�شف ما مل يكن موجوداً يف عتمة
العامل ال�سفلي ،ما مل نكن قادرات على التقاطه هناك يف الظالم:
العفن.
العفن يع�ش�ش بني جذور �شعورنا.
يف زوايا �أفواهنا
وعلى رمو�شنا!
العفن كان يغلفنا بكل تفا�صيلنا.
راحت ال�ضحكات تتال�شى وهي تطبق على العفن الذي
و�صل �إىل ما بني أ
ال�سنان!
النثى انك�رست داخلنا، المر �أن أ رمبا كان املحزن يف أ
ال�سفل كنا نعتقد �أنف�سنا جميالت، انك�رست ب�صورة قا�سية .يف أ
الرواحمر ،يف اخلارج بدا �أن العفن طال أ على الرغم من كل ما ّ
النثى دون �أن ندري ..عفن ..عفن. �أو ًال ثم تفا�صيل أ
بعد حوايل ال�سنة والن�صف ا�ستطاعت املعتقالت يف فرع
المن ،1عرب �إحدى الزيارات النادرة ،تهريب ملقط �شعر أ
ومر�آة �صغرية ،بذلك ا�ستطعن نزع �شعر حواجبهن بعد كل
175
ال فقد �أو�صني على علبة علك كبرية ونزعن تلك املدة� .أما قب ً
�شعر �سيقانهن مب�ضغات العلك تلك.
بعد ذلك ب أ��شهر ا�ستطعن �إدخال قطع من العقيدة وم�شط
بال�ستيكي ،كان �أ�شبه بنعمة �سماوية ،جعلهن ّ
ي�رسحن �شعورهن
بعد �أ�شهر طويلة مل تعرف ر ؤ�و�سهن امل�شط فيها.
176
1991-1987
يف �سجن الن�ساء كان الوقت �أخف وط أ�ة مبا �أنه كان �سجن ًا
مدني ًا يجمع الكثري من احلاالت املتباينة.
ال�سجن ذاك كان فيما م�ضى بيت ًا عربي ًا بحو�ش مك�شوف
فيه نافورة يف الو�سط و�أربعة �أحوا�ض كبرية للنباتات ،د�أبت
�سالفة.ب ،92املهند�سة الزراعية ،على العمل فيها كعا�شقة،
تزرع الورد والليف و�أنواع النبات املختلفة ،ترك�شها وت�سقيها
الربعة �إىل جنة حقيقية، الحوا�ض أ حولت أ كل يوم حتى ّ
(� )92سالفة .ب :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1965اعتقلت من �سنة 1987
وحتى �سنة .1991
177
تغطيها �شتاء بالنايلون ،وترعاها ك أ�طفالها ..حتى �أنها زرعت ّ
البقدون�س ،ودعت ال�صبايا يف بع�ض االوقات ألكل التبولة
الطازجة.
الن�سان،يرى فكتور فرانكل (الوجودي الديني) �أن نوع إ
الذي يتحول �إليه ال�سجني /ال�سجينة� ،إمنا يتم نتيجة لقرار
داخلي ،قرار يتخذه ال�سجني /ال�سجينة نف�سه ،ولي�س جمرد
نتيجة ي�صريها ب�سبب ت أ�ثريات املع�سكر.
ماذا �س أ�كون؟
�إىل �أين �س أ��صل؟
ما الذي �ست�سفر عنه �سنوات ال�سجن؟
كانت �أ�سئلة مم�ضة ظلت تدور يف ذهن الكثريات من
املعتقالت ال�سيا�سيات يف ال�سجون.
هل كان القرار الداخلي هو الفي�صل يف عي�شهن تلك
ال�سنوات الطويلة يف املعتقل �أم ال؟!!
بهن �إىل اختالق الو�سائل لتزجية الوقت: رمبا ذلك ما حدا ّ
من القراءة� ،إىل �إ�صدار جملة (اجلرح املكابر) � ،إىل جمموعة
()93
178
كانت اللجنة املوازية تقيم احللقات امل ؤ�لفة من حوايل
اثنتي ع�رشة معتقلة( .)95نوق�شت العديد من املوا�ضيع يف تلك
احللقات الثقافية من تاريخ احلزب� ،إىل برنامج احلزب� ،إىل عدد
من املوا�ضيع الفكرية املتنوعة مثل اجتياح الكويت �أو قراءات
اليديولوجية،يف كتب ح�سني مروة وغريه .لكن ال�صبغة إ
التي كانت حتيط تلك احللقات ،جعلت الكثريات يبتعدن
اليديولوجيات عنها ،و�أحيان ًا يتجننب ح�ضورها ،وقد فقدت إ
غوايتها القدمية مع الزمن ،وراحت تفا�صيل العي�ش ودواخل
الفكار الوىل يف العي�ش ولي�ست أاملعتقلة الدفينة حتتل املرتبة أ
الكربى.
كانت الرغبات يف املعتقل خمتلفة عن الرغبات خارج ًا.
المر هذا يتجلى فيما كتبته هند.ق على دفرتها يف �سجن أ
الن�ساء:
(رغبات:
الر�ض� :أريد �أن �أمتدد آلخري ...لكن املكان �ضيق �أيتها أ
�أيها القمر� :أريد �أن �أفرد خاليا ج�سدي كلها ...لكن املكان
�ضيق
�أيتها ال�شم�س� :أريد �أن �أفر�ش بع�ضي كله ...لكن املكان �ضيق
�أيها البحر� :أريد �أن �أتبعرث يف �أعماقك ...لكن املكان �ضيق
�ضيق ...و�ضيق ...و�ضيق
( )95وهن :ناهد .ب ،ح�سيبة .ع � ،سحر .ح� ،أمرية .ح � ،سمر� .ش ،لينا .م ،
رنا .م ،فاديا� .ش � ،سحر .ب ،وفاء� .إ ،وهند .ق .
179
�أيها الكون� :أ�س أ�لك �أت�سمعني؟؟ �أين �أجد هذا املكان؟!
ج�سدي ينتف�ض ع�شق ًا ،و�أريد مكان ًا لعا�شقني
لغجرية تعبة ...وحبيب غائب وجمهول
واملكان �ضيق هنا� ..ضيق �ضيق و...
�ضيق هنا)
�سجن الن�ساء
1989/7/13
يف يوم من �سنة 1990مت ا�ستدعاء جميع املعتقالت
العلى. المن� 1إىل ال�ساحة اخلارجية يف أ ال�شيوعيات من فرع أ
قر�أ ال�ضابط �أ�سماءهن جميع ًا با�ستئناء ا�سمني� :سناء.ح ومنى�.أ.
-لي�ش ما مذكور �إ�سمي!!
�صاحت �سناء فيما كان ال�سجانة يحاولون ت�سيري املعتقالت
�إىل ال�سيارات.
�أم�سكت البنات بيدها يردنها معهن ،و�أم�سكها مدير
ت�شد �إليها �أكرث.
الخرى كي يبقيها ،كل جهة ّ ال�سجن باليد أ
�شعرت �سناء حينها �أنها �أ�شبه بطفل فقد �أمه ،ك أ�نها رميت
وحيدة يف بئر دون قرار..
المن2 و�ضعوهن يف �سيارات الفرع ،وذهبوا بهن �إىل فرع أ
الع�سكري.
�أما �سناء فقد عادت وحدها �إىل املزدوجات .كانت موح�شة
امتلت قبل قليل ببقية رفيقاتها ،ب أ�ج�سادهن أ للغاية فيما
180
و�أ�صواتهن ،بعبق وجودهن يف املكان اخلاوي ،اخلاوي حد
الرعب.
الن ظلت وحدها مع العرفاتيات. آ
ح�ست به يكوي كانت تبكي بحرقة الوحدة والظلم الذي �أ ّ
داخلها.
اليام القادمة بعثت �سناء بكتابني �إىل عميد ال�سجن: خالل أ
َمل كان عليها �أن تبقى وحدها فيما جميعهن نقلن �إىل �سجن
الن�ساء؟ حيث اعتقدت �أن رفيقاتها نقلن �إليه.
لكن �أحداً مل يرد عليها.
يف املرة الثانية حني �س ّلمت الكتاب �إىل ال�سجان بادرها:
-ر�أيت رفيقتك يف الطريق �أم�س.
اكت�شفت �سناء ،مت أ�خرة� ،أن رفيقاتها �أطلق �رساحهن ومل
ينقلن ،كما اعتقدت� ،إىل �سجن الن�ساءَ .مل هي هنا �إذاً؟!!
مل يكن �أمامها �إال التهديد باالنتحار من جديد� ،أو القيام
بحركات �شغب كالطب�ش على الباب احلديدي وال�رصاخ يف
الكوريدورات .كان عليها فعل امل�ستحيل كي ال ترمى من�سية
ل�شهور طويلة �أخرى يف الفرع.
�أخرياً ،مت نقل �سناء �إىل فرع 2حيث كانت منى�.أ وحدها
كذلك .وهناك �أقامتا ملدة �شهرين تقريب ًا قبل �أن تُنقال �إىل �سجن
الن�ساء.
181
يف دفرت مذكراتها( )96كتبت ناهد .ب:
(فج أ�ة دون مقدمات دخلت هذه الق�صيدة �إلينا.
اخرتقت �أ�سوار ال�سجن ونف�ضت غبار �أعوام طويلة .لن
�أ�ستطيع و�صف ما حدث يل حني قر�أتها اليوم .كنت �س أ�تعارك
مع البنات حويل حني مل يتفاعلوا معي يف حلظة اكت�شايف
وجود الق�صيدة يف ديوان نزار قباين جاء ب إ�حدى الزيارات.
ولكني جتنبت املعركة وحملت الديوان وانفعاالتي ورك�ضت
خارجة من الغرفة �أبحث عن رماح(.)97
وجدتها تقر�أ كتاب ًا �سيا�سي ًا ،اقتلعتها منه ،وجل�سنا نقر�أ
الجمل منها الق�صيدة .كم هي جميلة .ولكني تفاج أ�ت ب أ�ن أ
هي ق�صائد نزار عن بريوت و�أنا مل �أكن �أعرفها ،وبد�أت �أ�س أ�ل
�أيهما �أجمل ق�صائده عن العا�صمة �أم عن بريوت...
تابعنا وت�شابكنا �أنا ورماح والق�صائد يف كتلة من امل�شاعر
ذات الزخم مل �أ�شعر به منذ زمن بعيد فقد كانت دواخلنا يف
المواج فيه �أم �أن كلمات الق�صائد تلك اللحظات بحر تتالطم أ
كانت تتدفق فينا بحيث مل يعد وجود ألج�سادنا؟ ال �أعرف ،ما
�أعرفه �أننا �شكرنا ربنا ب أ�ن مقولة �شعر الر�أ�س يقف عند االنفعال
غري �صحيحة� ،أو كنا عندها �سنتحول �أمام من يراقبنا عن بعد
( )96كتبتها ناهد .ب يف �سجن الن�ساء .وتتحدث اليوميات عن ق�صيدة نزار
قباين التي كتبها عن حادثة �شارع فردان .وقد دخلت يف �إحدى الزيارات
يف كتاب له.
( )97رماح .ب :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1966اعتقلت من �سنة 1987
وحتى �سنة 1991
182
�إىل قنفذين مي�سكان كتاب ًا.
بعدها جاء الت أ�مني( )98توجهنا كل �إىل غرفتها.
�أخذت رماح الديوان وقلبي معه وذهبت� .شعرت برغبة
جارفة بالبكاء .اجتهت �إىل غرفتي ووجدت لينا( )99بوجهي
�ضممتها وحكيت لها عن جمال تلك الق�صائد ب�صوت ي�شبه
البكاء .ولكنه كان حدث ًا ق�صرياً جداً �إذ �أن باب املهجع الرابع
�سيقفل �أي�ض ًا).
1990/6/23
فقد كتبت من فرع أ
المن ر�سالة �إىل �أهلها �أما بثينة .ت
()100
قالت فيها:
الحبة: (ماما احلبيبة ..بابا احلبيب� ..أخوتي أ
بكل �شوق الع�صفور احلبي�س لك�رس ق�ضبان �سجنه و�إطالق
جناحيه للريح �أتوجه �إليكم ،عرب هذه الطريقة الرائعة ..ولن
�أوفر فر�صة �أطمئنكم بها ،و�أطمئن عليكم.
مل الدنيا ،وعبق جاء الربيع وتاله ال�صيف ..ونوار أ
اليا�سمني وزهر الليمون يفوح على الطريق بني املوقف وبيتنا..
( )98الت أ�مني :هو وقت �إقفال �أبواب املهاجع يف �سجن الن�ساء .وقد كان ال�سجن
والبوابعبارة عن بيت عربي قدمي �صيرّ ت غرفة مهاجع بعد �أن حددت النوافذ أ
بال�شبك احلديدي .كان هناك مهاجع للق�ضائيات :مهجع قتل ،مهجع دعارة،
مهجع خمدرات ،ومهاجع لل�سيا�سيات� :إ�سالميات و�شيوعيات.
أ
( )99لينا .م :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1961اعتقلت يف املرة الوىل �سنة
1984ويف املرة الثانية من �سنة � 1987إىل �سنة .1991
المن �أوائل �سنة 1989على ورق ( )100جزء من ر�سالة كتبت �أي�ض ًا يف فرع أ
ال�سجائر ومت �إي�صالها عرب ال�سجان م.
183
ما �أخبار الطبيعة لديكم؟ ..كيف النارجنة والكبادة والليمونة
وامللي�سة واليا�سمني العراتلي ..و ..و ..الخ؟ هل ال زالت تلك
ّ
أ
ال�شجار الرائعة التي ما زالت ت أ��رسين ،هل ما زالت موجودة �أم
طالتها يد التغيري يف احلديقة ..كيف �أ�شجار ال�رسو الرائعة على
�سور بيتنا؟ �أ�صبحت �أروع و�أ�شمخ حتم ًا� ..أ�شتاق لكل �شرب
يف اخلارج �أ�شتاق �إليكم ..كيف زريعاتك يا بابا؟ هل ما زلت
جل وقتك مع أ
الخ�رض؟!. تق�ضي ّ
�أحبتي :هل ت�ستمعون كل �صباح باهتمام لزقزقة ع�صافري
ال�صباح وهي ت ؤ�ذن ببداية نهار جديد هل ما زال بابا يقطف
كل �صباح باقة من �أزهار اليا�سمني ويزين بها الغرفة؟ ..هل
تراقبون بانتباه منو زهرة �صغرية (جملة ممحوة ..)..تبدل
الف�صول و�أنواع الزهور ،و�رشوق ال�شم�س ،وبزوغ القمر،
ولون ال�سماء ،وروعة الرتاب ،ورائحة دخان ال�سيارات وزحمة
الطفال و�ضحكات الفرح ،واحلكايا ال�شوارع ،وعيون أ
اخلجولة تنتقل من فم �إىل فم ب�صوت هام�س والن�سمات العليلة
تدغدغ الروح وتبعث بها الن�شوة..؟ هل ..وهل ..وهل..؟!
�شوقي كبري لكم وللربيع واحلياة ..و�شوقي كبري لربيعي
طفلتي ،براعمي ال�صغرية تتفتح يوم ًا بعد يوم و�أنا
ّ اخلا�ص،
بعيدة.
ماما احلبيبة :كل �شوق العامل لك ..لعينيك احلنونتني،
ويديك الدافئتني� .أ�شتاقك كثرياً ،ولي�س لدي بديل عنك.
184
ال عني� .ضميهما بكل وت�شتاقني كثرياً وعندك النا وراما بدي ً
دفء �صدرك الذي يق�شعر بدين لذكراه ..عو�ضي عني بهما
فهما بحاجة لك �أكرث ..و�أكرث� ..أكالتك الطيبة تدغدغني،
والمان .مل �أزل قوية ،ومل تزل ب�سمتي تعيدين �إىل �أيام الطفولة أ
على �شفتي ،ال تقلقي ..ومل �أزل �أتذكركم و�أعيد� ،أنتم هروبنا
الوحيد هنا ،و�أنتم بل�سم احلياة بالن�سبة �إلينا..
ي�سلموا �إيديك يا غالية على �أكالت الكبة والرز بفول
والبامياء والرز واللوبياء( ،)101و�صلت جميعها �ساخنة و�أكلناها
مبا�رشة ،و�أكل منها اجلميع .الكميات التي تر�سلونها ممتازة،
تكفي غداء واحد م�شبع للجميع ( 18فتاة 13 ،بنف�س التهمة)
فقط لو تكرثي من �أكالت الزيت ألنها تبقى لليوم الثاين فت�صبح
�أي�ض ًا غداء م�شبع.
كان احتفال رفيقاتي بي رائع ًا� ،رشبنا القهوة ،وغنينا
الوىل التي ن أ�كل فيها التبولة .بابا: ورق�صنا ،وكانت تلك املرة أ
الغرا�ض على ورقة م�ستقلة طريقة رائعة ت�ضمن طريقة كتابة أ
و�صول كل �شيء..
()102
�أبكتني علبة البهارات ،هدية النا يف زيارة �سونا
الخرية� :رصخت عندما قر�أت ا�سمها على العلبة قبلتها قبل أ
( )101الطعام الذي كان ي�سمح ب إ�دخاله يف الزيارات النادرة التي كان ي�سمح
بها للمعتقالت يف فرع أ
المن.
( )102مبا �أن الزيارات مل تكن م�سموحة �إال الثنتني من املعتقالت لذلك فقد كان
الهايل يبعثون أ
الغرا�ض لبناتهن مع �أهل �سونا� .س. أ
185
كثرياً ،فيدي النا ال�صغريتني احلبيبتني قد مل�ستاها .ترى ،ما
الغرا�ض التي تر�سل يل ،هل هي معلومات النا عني وعن أ
تعرف �أنها يل؟ هل زاركم �أحد من البنات اللواتي خرجن،
والهم كيف كان رد فعل جوليا ،زينب� ..أمينة ..مي� ..إلخ .أ
الخبار التي حملوها� ..أرجوكم �أخربوين النا جتاههم وجتاه أ
بالتف�صيل عن ذلك ألعرف �أين �أ�صبح موقعي بالن�سبة �إليها.
�أحبتي :قلقي على نزار( )103كبري ..انقطاع �أخباره عني يكاد
يقتلني ،ال خرب مطلق ًا منذ حزيران قبل املا�ضي� .أتوقع �أن �أهله
يتوا�صلون مع �أهايل املعتقلني معه يف ( )...ويطمئنون عليه.
طمئنوين عنه �أتو�سل �إليكم� ،إذا كان لديكم �أي خرب ال تبخلوا
علي� ..أر�سلوه كتابي ًا �أو �شفهي ًا .ل�ست �أدري ملاذا تبخلون علي
ب أ�خباركم التف�صيلية� ،أخبار اجلميع� .أطالب بالتفا�صيل فت أ�تيني
�أخبار �رسيعة)..
( )103نزار .م� :أحد املعتقلني ال�شيوعيني وهو زوج بثينة .ت اعتقل من
�سنة 1987وحتى �سنة 2001ويف ذلك الوقت كان قد نقل �إىل �سجن
ال�صحراء.
186
املخترب الب�شري..
اليديولوجيات
حني تغيب إ
187
المن1 نقل عدد كبري من املعتقالت ال�شيوعيات من فرع أ
�إىل �سجن الن�ساء فيما ظلت الباقيات يف الفرع.
ثم نقلت خم�س منهن فقط ،وذلك يف �صيف ،1988
وهن� :آ�سيا�.ص ،فاطمة.خ(،)104
المن 2الع�سكري ّ �إىل فرع أ
هتاف.ق ،ليلى.ع ،ومنرية�.ص.
ظلت املعتقالت اخلم�س �أكرث من �سنة ون�صف يف فرع
المن ،2ثم نقلن �إىل �سجن الن�ساء ليبقني حتى �إطالق �رساح أ
اجلميع يف �سنة .1991
ال�سالميات هناك قبلهن ب�سنوات. فيما كانت املعتقالت إ
الوىل كانت يف �أماكن النوم!الزمة أ
أ
ففي املهجعني الثالث والرابع كانت الغالبية العظمى من
ال�سالميات وبع�ض املعتقالت بتهمة التج�س�س وحزب بعث إ
( )104فاطمة .خ :معتقلة من مواليد 1963اعتقلت من �سنة 1987وحتى
�سنة ،1991تنقلت بني فروع أ
المن و�سجن الن�ساء.
188
العراق .كان على القادمات اجلدد �أن ينمن على ح�ساب
ال�سالميات مما �أدى �إىل الكثري من الفراغات بني فر�شات إ
اخلالفات وامل�شاحنات.
تكرب امل�شاكل ال�صغرية مع الزمن ،ويتملك ال�سجينة ،كما
يتملك ال�سجني� ،شعور مهيمن �أن جزءاً من روحها ت�آكلت.
الزمة الثانية بد�أت حني قدمت الدفعة اجلديدة من أ
املعتقالت .فقد قدمن وقدم معهن قرار منع الزيارات على
الخريات ال�سيا�سيات فح�سب فيما كانت ال�سجينات أ
(الق�ضائيات :قتل ودعارة وح�شي�ش و )...يتمتعن بالزيارة
أ
ال�سبوعية با�ستمرار يف كل يوم �أربعاء.
عن ذاك املخترب الب�رشي ،الذي راح يتو�ضح يف �سجن
الن�ساء وينيخ بثقله على اجلو ،كتبت ناهد .ب(:)105
(نيف وثالثون امر�أة جيء بنا كي نعي�ش حياة م�شرتكة ّ
ب�شكل ق�رسي.
جيء بنا من خمتلف �أرجاء البالد ،يجمعنا العمل �أو حماولة
العمل يف ال�سيا�سة من املوقع الي�ساري املعار�ض( .)106جيء بنا
الخرى ،اختالفات يف العمر وكل منا حتمل اختالفاتها عن أ
والتجربة ..اختالفات يف الن� أش�ة والرتبية والعادات اليومية..
المزجة وامليول ال�شخ�صية .وهنا ابتد�أ ،ما اختالفات يف أ
( )105من يوميات كتبتها ناهد .ب يف املعتقل (�سجن الن�ساء)
ال�سالميات يف �أواخر �سنة 1989وبقيت( )106بعد �أن خرجت املعتقالت إ
الي�ساريات حتى نهاية 1991
189
�سميته يوم ًا ،املخترب الب�رشي املركز والذي ال يتاح �إال يف مثل
الماكن.هذه أ
خمترب تخ�ضع فيه �شخ�صياتنا �إىل �أق�سى جتارب اجتماعية
ميكن �أن يخو�ضها الب�رش و�أق�سى و�أهم جتربة من هذه التجارب،
النا واكت�شافها ،وال�شعور بالده�شة من هي جتربة املواجهة مع أ
اليجابية �أم ال�سلبية.
موا�صفاتها �سواء إ
كذلك كانت جتربة املواجهة مع التاريخ الذي انقطع يف
حلظة االعتقال ،يف عملية مراجعة �أ ّدعي �أنها ال تتم يف عامل
احلرية ،بالرتكيز والقوة التي تتم هنا).
بدون تاريخ
190
1987-1983
الول بقيت هند.ق ،بعد �شهور املنفردة يف االعتقال أ
المن.1 ال�سالميات بفرع أ
الت�سعة ،ملدة �شهرين يف مهجع إ
كن �سبع ًا وهي الثامنة.
ال�سالميات يف املهجع ّ املعتقالت إ
منهن :رجاء�.أ (�أم زهري)� ،أم خالد� ،أم �صالح ،أ
والهم �شفاء.
ع( ،)107ا�ستطاعت �أن تبني وهند عالقة وطيدة على الرغم من
كل امل�سافات بينهما.
كانت الليايل مت�ضي وهما حتاوالن تذكر بيوت ال�شعر
الغنيات وحماوالت الختالق اجلديد منها. و�إكمالها ،تذكر أ
�شفاء �صبية مل تكن قد جتاوزت الع�رشين حني اعتقلت
ال�سالميات من مواليد 1961اعتقلت
(� )107شفاء .ع :معتقلة من املعتقالت إ
من �سنة 1981وحتى �سنة 1986بفرع أ
المن.
191
كرهينة عن زوجها ،وكان �صديق ًا ألخيها .كانت تدر�س
الدب العربي يف اجلامعة ،وزواجها ،الذي مل ي�ستمر �سوى أ
�سنة واحدة ،انتهى باعتقالها وهرب زوجها �إىل بلد جماور.
هناك يف عتمة ال�سجون تعلمت هند �أال مكان
للراء امل�سبقة ،كلها ترتاجع ل�صالح احلياة لليديولوجيات �أو آ إ
الن�سان .يبقى الو�ضع �أن املعتقلة م�ضطرة ملعاي�شة �أنا�س وحقيقة إ
يف احليز ال�ضيق نف�سه من املكان �شاءت ذلك �أم �أبت.
�إن�سان إلن�سان ال غري ..معتقلة ملعتقلة ال غري.
يف االعتقال الثاين �سنة 1984نقلت هند.ق ،بعد �شهرين
ال�سالميات يف �سجن المن� ،1إىل مهجع املعتقالت إ يف فرع أ
الن�ساء املدين ..كانت كالداخل �إىل حقل �ألغام.
ال�سالميات ،حاملا ملحنها واجلة �إىل باحة ال�سجن راحت إ
الداخلية ،يهم�سن لل�رشطي القادم بها �أال ي�ضعها يف مهجعهن،
�إذا كان عليه �أن ي�ضعها يف مهجع ما فلي�ضعها �إما يف مهجع
القتل �أو احل�شي�ش �أو الدعارة ،ذلك �أن لفظة �شيوعية بالن�سبة
والحلاد.�إليهن كانت تعني �شيئ ًا واحداً :الكفر إ
لكن ال�سجان ،ل�سبب ما بالت أ�كيد ،و�ضع هند يف مهجع
ال�سالميات ،و�أغلق عليها الباب. إ
هناك ظلت هند حوايل ثالث �سنوات.
رمبا ي�ستطيع املرء �أن يداري حقيقته الداخلية �شهراً �أو
�شهرين ،لكن من ال�صعب �أن يداريها ل�سنوات .هناك يف
192
الن�سان ،تنك�شف كل دواخله ،كل ما حاول ال�سجن يتعرى إ
الهروب منه من م�شاكل داخلية تظهر �إىل ال�سطح ،تتعرى،
الخرين. وتف�ضحه �أمام آ
ال�سالميات كان ي�ضم �أربع ع�رشة معتقلة وهي مهجع إ
العمار والطبقات ،خمتلفات يف اخلام�سة ع�رشة ،خمتلفات يف أ
مرتالخريات ّ المزجة والت�رصفات ،والعالقة بينها وبني أ أ
مبخا�ضات طويلة وع�سرية حتى ا�ستقامت يف النهاية عالقات
ودية مع معظمهن.
معتقلتان ،مل تتجاوزا الع�رشين من عمرهما� ،أ�صبحتا
�صديقتني لهند وراحتا تف�شيان �أ�رسارهما �أمامها.
ال�سالمية ،وكانت يف ال�صف الثاين الثانوي حني تلك إ
الخريةاعتقلت� ،أ�ضحت �صديقة هند العزيزة ،وكانت أ
�شكل منعطف ًا يف عالقتهما :جلب حا�رضة يف ذاك اليوم الذي ّ
�أهل ال�صبية ،يف �أول زيارة لهم ،م�سجلة كانت �سعيدة بها
للغاية ،و�أدارت قفلها لت�ستمع �إىل �أغنية ما وهي تدخل املهجع
عائدة من الزيارة .كانت تتمايل حتت ع�صف �أحد أ
الحلان
حني خطفت �إحدى احلاجات امل�سجلة من يدها ورمتها على
الر�ض لتتحطم �إىل قطع:أ
-هذه �أداة للف�سق ..كان الزم اك�رسها.
�أجابت احلاجة على بكاء ال�صبية الهي�ستريي وعلى
ال�سالميات يف املهجع. اعرتا�ضات بع�ض إ
193
�أما ال�صغرية �سمية( )108فقد �رصن مع الوقت يطلقن عليها:
بنت هند.
حني كان �أهل هند يزورونها كانوا ي أ�خذون ال�صغرية يف
م�شوار ق�صري حول مبنى ال�سجن ،ذلك �أن ال�صغرية ون�ساء
عائلتها مل يكن ي أ�تيهن زيارات البتة .لكن املفاجئ �أن �سمية
حد الرعب من العامل اخلارجي ،تبقى طيلة فرتة كانت تخاف ّ
رحلتها منكم�شة تراقب اخلارج بتوج�س وريبة ،وال يعود
وجهها ال�صغري �إىل �أمانه حتى تدخل باب ال�سجن من جديد.
جلبوا لل�صغرية املحرومة من الزيارات(� )109ألعاب ًا وكتب ًا
للطفال و�أرجوحة ن�صبت يف منت�صف املهجع. وكا�سيتات أ
و�أخرياً كانت الفرحة الكربى حني �أهديت دراجة هوائية
لتلعب بها يف باحة ال�سجن �أثناء فتح �أبواب املهاجع.
...
الوىل من معتقالت �سنة 1987يف وقت قدمت الدفعة أ
المن� 1أ�صبح عدد ال�شيوعيات يف �سجن الن�ساء خم�س فرع أ
معتقالت وهن :فاطمة.ع(� ،)110أم كرم (زهرة.ك)(،)111
(�)108سمية ابنة �سلوى .ح التي �أوردت ق�صتها كام ً
ال يف ف�صول �سابقة.
( )109حتى حني فتحت الزيارات مل يكن لتلك العائلة �أي قريب يف اخلارج
ليزورهم بعد �أن دمرت العائلة بالكامل.
( )110فاطمة .ع معتقلة �سيا�سية من مواليد 1964اعتقلت من �سنة 1987
وحتى .1991
( )111من �أكرب املعتقالت ال�شيوعيات من مواليد الثالثينيات اعتقلت من �سنة
1987وحتى �سنة 1991وتوفيت بعد �إطالق �رساحها.
194
�شفق.ع( ،)112وح�سيبة.ع.
بداية ،مت و�ضعهن يف مهجع القتل ،وهناك بقيت ح�سيبة
أ
كالخريات �شهوراً طويلة.
ال�سالميات ي أ�تني من مهجعهن املجاور كانت املعتقالت إ
�إىل مهجع القتل لزيارتها ..ن� أش�ت عالقات طيبة بني تلك
وال�سالميات� .أما ال�صديقة املقربة لها فقد كانت ال�شيوعية إ
طبيبة �أخوانية تكتب ال�شعر ا�سمها :غزوة.ك .
()113
195
حني كانتا تغ�سالن الثياب �سوية ت�س أ�لها ح�سيبة:
�سبعت الغ�سيل؟! ّ -
والمر م أ�خوذ عن كناية عن منط الغ�سيل باملاء �سبع مرات ،أ
حديث للر�سول حممد.
ابت�سامة عزيزة كانت الرد الوحيد على ممازحة ح�سيبة.
ا�شرتكت املعتقلتان يف الكثري من �أ�شياء احلياة وتفا�صيل
الن�سان هو االعتقال اليومية .ذلك �أن املعتقل يجعل داخل إ
الن�سان يف الهم ،املزاج ال�شخ�صي هو احلاكم ،ومعدن إ أ
اليديولوجيات. تفا�صيل عي�شه اليومي ولي�س إ
بعد ذلك مت نقل جميع املعتقالت ال�سيا�سيات بكافة
الخر.�أطيافهن �إىل �سجن الن�ساء املدين آ
ال�سالميات املهجع رقم 3و ،4فيما هناك �أخذت إ
�أقامت ال�شيوعيات يف املهجع رقم � .6أما املهجع 7فقد
كان لل�شيوعيات والق�ضائيات مع ًا ،هذا ما جعل العالقة بني
ال�سجينات تعود �إىل �سابق عهدها فاترة نوع ًا ما .لكن ذلك
مل مينع الطبيبة ال�شيوعية :متا�رض.ع( )115من �أن تكون طبيبة
ال�سالميات وال�شيوعيات والق�ضائيات ب�آن .حني كانت إ
المن� ،1أو حني نقلت �إىل �سجن الن�ساء ،مل متنعها يف فرع أ
196
تهمة املعتقلة املري�ضة� ،أي ًا كانت ،من ال�سهر بجانبها ل�ساعات
طوال.
يف �سجن الن�ساء كتبت هند.ق ن�ص ًا حكت فيه عن بداية
ال�سالميات: العالقة بينها وبني املعتقالت إ
(كدوي فتح باب زنزانتي :تعي فوراً..
المن 2الع�سكري : ووجه ًا لوجه �رصت �أمام رئي�س فرع أ
� -شو يا هند� ,إلك عنا �ستة �شهور ما خدنا منك ال حق
وال باطل .مفكرة �إذا ما حكيتي �شي راح نطلعك ,واهلل
خللي ال�سجن ي أ�كل من حلمك �شقف� ..إنت واحده منا�ضله,
نا�ضجة ومثقفه ,ب�س ناق�صك �شغله واحده ,ناق�صك ثقافة
البطرونات (البرتونات) وال�رشاميط! راح ابعتك عا�سجن
الق�ضائيات ب�سجن الن�ساء م�شان تكملي ثقافتك� ,شو ر�أيك
؟ واهلل الرميكي رمية الكالب ,وتختخ عظامك ,وخليكي
مزتوته ليطلعو رفقاتك ال�شباب بال�سجن بتتطلعي معهم.
روحي تثقفي ب�سجن الن�ساء ونا�ضلي بني الربوليتاريا تبعكم,
الزرق ما يعرف دعارة وح�شي�ش وقتل و و ...واهلل خللي اجلن أ
وينك ...انقلعي ...خذوها.
عدت لزنزانتي �أ�ضحك يف عبي� .أخرياً انتهيت من التحقيق
والتعذيب ،و�أ�صوات التعذيب �أي�ض ًا.
مل �أفكر بكلماته �أبداً� :سجن الن�ساء!! ..م�ستحيل .بادره
ال�سالميات �أما نحنمل حت�صل �سابق ًا .هناك بع�ض ال�سيا�سيات إ
197
ال .اعتربت كالمه نوعا من التهديد ,كالم بكالم� .صار ذهني
كالزمربك� ,أكيد �سيخلي �سبيلي� ..إفراج ,لي�ش أل ,ما علي
�شي.
�أخذت نف�س ًا عميق ًا ,حاولت اال�ستلقاء ,ما كاد ج�سدي
الر�ض حتى اقتحم ال�سجان مملكتي: يالم�س أ
�ضبي غرا�ضك ويال قومي. ّ -
كلب�شوين ,وو�ضعوا الطمي�شة على عيني� ,أدخلوين القف�ص
و�ساقوين ل�سجن الن�ساء.
الحياء فوق :ال�شم�س ,ال�سماء, كم ت�شوقت �إىل عامل أ
الطفال بلبا�سهم املدر�سي.ال�شجر ,وجوه املارة ,أ
ال�شياء يف طريقي .تزاحمت مل ي�ستوقفني �أي من هذه أ
علي� :س أ�لتقي �أولئك أ
ال�سئلة ،و�س ؤ�ال وحيد �أرعبني و�سيطر ّ
الن�سوة ؟!! ن�سوة الكتب والكتاب؟ ال ال ال �أ�صدق .عامل
الكتب �شيء والواقع �شيء �آخر.
اق�شعر بدين ,خوف ,ذعر ,توتر ,ال �أ�صدق وجه ًا لوجه مع
عامل الن�سوة هذا ؟ ويف مكان واحد وزمن واحد ,يف دوامتي
هذه!! جاءين �صوته :
-و�صلنا يال انزيل .
ماذا ؟ و�صلنا! بهذه ال�رسعة ,ثوان ,م�ستحيل,عاد ال�صوت
�أقوى:
� -شو ما �سمعت ,انزيل بقا.
198
و ..نزلت.
ا�ستقبلني ال�رشطي منفوخ ًا �أمامهم ي�سبق كالمه ج�سده:
-خرجك� ,شو حم�سبي البلد �سايبه.
ختم �صك عبوديتي ,و�أ�سلمني لدهاليز �سجن الن�ساء.
كم من �أبواب احلديد وال�شبك!!
ال �أعرف كيف �رصت يف باحة ال�سجن ,تراجعت مذعورة
والت�صق ظهري ببابه .تراك�ضت الن�سوة ,وكبلهاء وقفت دون
حراك� ,ضممت كي�س �أغرا�ضي وع�رصته بيدي ،ك أ�نني �أحمي
نف�سي من �شيء ما.
�أ�صواتهم تلت�صق بي� :سيا�سيه!! �شكال �سيا�سيه� ...شويف
ثيابها واهلل �سيا�سيه.
معهم حق ،كيف ال ..و�صلت يف �شهر �آب وكنت �ألب�س
بنطال جوخ وفيلد �شتوي ,ولوين �أ�صفر باهت ,و�شعر منفو�ش,
وكي�س �صغري فيه ممتلكاتي :ك أ��س و�صحن ودخان ومن�شفة.
اليدي والوجوه تكومت الن�سوة فوقي ،واختلطت أ
وال�صوات: أ
-تهمتي ح�شي�ش..
� -أنا �رسقة ..وهي دعارة..
� -أما �أنا قتل..
-ال تخايف نحن ما منخوف..
-هي كر�سي اقعدي ارتاحي..
199
-بدك قهوة و ّال �شاي؟ ..بدك كا�سة مي؟
-قدي�ش �إلك بال�سجن؟..
-ما حدا معك..؟!!!
هطلت �أ�سئلتهم كالر�صا�ص و�أنا املذعورة� ,أتقلقز على
�أقدامي� ,أخافهم ،ال �أريد مل�سهم وال كالمهم وال حتى
�ضيافتهم .حاولت االبتعاد عنهم� ,أردت �أن �أ�رصخ :ح ّلوا
عني.
عرب�ش الكالم بحنجرتي واختنقت ,فع�رصت كي�سي بكل
ما تبقى يل من قوة وهر�سته ،مت�سكت به كغريق يتعلق بق�شه،
ون�سوة الكتب حويل يروحون وي أ�تون� .ضجيج� ،صخب،
وكالمهم يرتطم على ر�أ�سي على ج�سدي ،ومل يعدين لر�شدي
�إال �صوت جهوري ووقح :ك�ش ّبره وبعيد ,ناق�صنا كافره,
حطها بالغرفة الثانية.
حل خويف وتوتري بني ه ؤ�الء الن�سوة ن�سوة الكتب, فج أ�ة ّ
وقع الكي�س من يدي ,أللتفت باجتاه ال�صوت اللعني ,وفهمت
ال�سالميات ال�سيا�سيات. كل �شيء .كان ال�صوت من غرف إ
مقفلة كانت غرفهم حيث ال اختالط بالتنف�س .ن�صف النهار
الخر للق�ضائيات .لكنهن يرين كل لل�سيا�سيات ،والن�صف أ
�شيء من �شبك �أبواب احلديد� .أذعن ال�رشطي وذهب للغرفة
الثانية� ,سبقه �صوت �آخر رمبا �أقوى ورمبا �أوقح:
-ال ..حطها مع الق�ضائيات ,مكانا مو عنا.
200
ون�ساء الكتب مازالوا يحومون حويل� ,أ�سمع هم�س
كلماتهم:
-يا حرام حلالها لو معا حدى ,بكره بجننوها ,يا حرام.
ج�سدي يرتنح� ,أذناي تلتقط �أن�صاف الكالم ,وعيني
تراقب امل�شهد ,وال�رشطي ال حول له وال قوة �أمام �سالطني
املال والدين ,ون�سوة الكتب حويل ,ون�سوة ال�سيا�سة يف
�أوكارها متلي على ال�رشطي مهمته .و�أنا � ..أين �أنا من هذا ؟
و�أي عامل من القذارة هذا؟؟!!
عند امل�ساء ,وبعد �أن فر�ضت فر�ض ًا يف �إحدى غرف
ال�سالميات ,تكور ج�سدي املتعب احلزين يف فرا�شي ,وكي�سي إ
املقهور يالزمني ك�صديق يوا�سيني ،ي ؤ�ازرين ,ويحميني.
ويف عتمة الليل ,هرب النوم مني ,ف أ�خذت �أعد الثواين,
منتظرة بفارغ ال�صرب خيوط الفجر ألهرول عند ن�سوة الكتب,
نعم ن�سوة الكتب الت�صق بهم ,و�أعتذر� ,أجل� ..أعتذر منهم.
ورمبا ...
رمبا� ...أبكي على �صدر �إحداهن)
�سجن الن�ساء 1984/8/17
201
كانت هناك �أختان ،تبلغ �إحداهما ال�سابعة ع�رشة والثانية
ال�ساد�سة ع�رشة ،ا�سمهما بديعة وماري.
فتاة مل تبلغ ال�ساد�سة ع�رشة بعد متهمة ب أ�نها عملت مع
القوات اللبنانية.
ال�سجن ال�سيا�سي كان تعبرياً حقيقي ًا عن ف�سيف�ساء املجتمع
بكل طوائفه و�أديانه ،بكل اجتاهاته ال�سيا�سية والفكرية
واالجتماعية ،ال�سجن ،ويا لل�سخرية ،كان نواة حقيقية
ملجتمع مدين حلم.
الربعينيات ،ممتلئة ذات �أم حممود العرفاتية �سيدة يف نهاية أ
وجه جميل ،تد�أب على فتح ّقبة ثوبها الطويل لتك�شف عن
البي�ض .الوقت مي�ضي ب�رسعة فيما تتحدث �أم �صدرها العارم أ
حممود ،وهي دائم ًا تتحدث ،عن تفا�صيل عالقتها بزوجها،
والخر .الطعام وترمي النكات اجلن�سية املثرية بني احلني آ
واجلن�س هما كل ما ي�شغل �أم حممود يف مكان تنتفي فيه متعة
الطعام وغواية اجلن�س!
�أما املكان املف�ضل �إليها فكان على ال�سقيفة فوق
تطل على الكوريدور وتراقب ال�سجانة املزدوجات ،حيث ّ
واملعتقلني الغادين والرائحني.
�أما �أميمة فقد كانت فنانة فل�سطينية �أردنية من ال�ضفة
الغربية ،اتهمت بالعمالة املزدوجة ،واعتقلت يف �سجون
�إ�رسائيل ملدة �ستة �أ�شهر .حني جاءت �إىل البلد اعتقلت بتهمة
202
التج�س�س ل�شهور �أي�ضاً� .أحبت �شاب ًا درزي ًا من عرب الـ ،48
وهي تدر�س يف جامعة نابل�س ،وحني اعتقلت يف �إ�رسائيل
�أخذوها �إىل مكتب ال�ضابط هناك� ،أعطوها �إبراً �أ ّدت �إىل
تنوميها فرتة طويلة ،ظلت �أميمة �شهوراً بعدها تتعالج من
البر �إىل م�سح كامل يف فقدان الذاكرة ،وقد �أدت تلك إ
ذاكرتها.
ال �أحد يذكر �أميمة �إال وهي مرتبعة على �أر�ض الزنزانة
تغني ب�صوت عال �أهزوجة فل�سطينية:
خو�ش بو�ش ..خو�ش بو�ش..
أ�نا و�شامري بنف�س احلو�ش.
ر�سمت يف عيد ر�أ�س ال�سنة بابا نويل وهو يحمل كي�س ًا
تراهن
ّ كبرياً من الربغل .كما ر�سمت ال�صبايا من فوق ،وهي
من ال�سقيفة ،يتكئن على حائط املزدوجة الداخلي م�صطفات
بجانب بع�ضهن يعملن ب�سنانري ال�صوف ،تبدو ر ؤ�و�سهن
من فوق� ،أياديهن املنهمكة ،واخليوط التي تتحول �إىل ثياب
ملونة.
�أما العجوز اللبنانية ال�سبعينية ،املتهمة بانتمائها �إىل حزب
بعث العراق ،فقد كانت تقعد يف زاوية الزنزانة بجانب الباب
ألن الربو مينعها من التنف�س جيداً.
الخريات يغنني لها �أغنية كانت بثينة.ت وال�صبايا أ
فريوز:
203
بيتك يا �ستي اخلتيارة بيذكرين ببيت �ستي
ال منعتها من النطق جيداً ،لذا اجللطة التي تعر�ضت لها قب ً
فلم يكن ي�سمع منها �إال �أ�صوات مبهمة عالية� .أما م�شهدها،
وال�صبايا يحملنها �إىل ال�سقيفة بعد �أن �أنهني حمامها ،فقد
كان م أ�لوف ًا على مدى �شهور اعتقلت فيها تلك العجوز يف
فرع أ
المن.1
...
المن امر�أة ق�صرية يف �أواخر الثمانينيات قدمت �إىل فرع أ
ال �ضيق ًا وبلوزة ق�صرية ،كان ا�سمها عهد. بدينة ،ترتدي بنطا ً
ع.
وعهد من مدينة �شمالية تنتمي �إىل بيئة �شعبية و�أ�رسة حمافظة
فقرية .والدها كان يكتب احلجابات ،وقد �أجربت هناك
على لب�س مالية اللف ال�سوداء .اجلو املغلق اخلانق جعل عهداً
الربعة وتهرب مع ابن جريانها �إىل لبنان ،ألنها ترتك �أوالدها أ
�أرادت ،كما عربت �أمام املعتقالت مراراً� ،أن ترتدي بنطلون
اجلينز وبلوزة بن�صف كم ال غري.
هناك تركها ال�شاب وهرب لت�صبح وحدها متام ًا يف بلد ال
تعرف فيه �أحداً .قررت ،يف حلظة ما� ،أن تذهب �إىل اجلنوب
وتقوم بعملية انتحارية هناك!
على الطريق �أم�سك بها بع�ض ال�شباب من مع�سكر
العرفاتيني لتقعد يف خدمتهم �شهوراً طويلة .ومن ثم قاموا
204
بت�سليمها �إىل �أفراد من جي�ش بلدها لت�صل �أخرياً �إىل فرع
المن. أ
حني �أدخلت عهد �إىل املزدوجات كان ينبغي عليها �أن
متار�س طق�س ًا تقوم به كل معتقلة جديدة� :أن ت�ستحم �أو ً
ال،
القدمومن ثم ترتدي ثياب ًا نظيفة تعطيها �إياها املعتقالت أ
هناك.
كانت عهد تعاين من اجلرب املنت�رش يف كامل ج�سمها.
�س أ�لنها �إن كان هناك قمل يف �شعرها ف أ�جابت:
المر. -ال يخلو أ
و�ضعن على �شعرها �شامبو �ضد القمل .بعد احلمام �صار
البي�ض على القمل ينزل من �شعرها ،وهن مي�شطنها ،كاملطر أ
�أر�ض املزدوجات.
�س أ�لنها �أي�ض ًا �إن كان ثمة �أمرا�ض �أخرى تعاين منها غري
القمل واجلرب ف أ�جابت:
المر؟ -ال يخلو أ
... -؟
-ينزل يل �أحيان ًا من حتت �شلخات �شلخات..
�إحدى املمر�ضات ال�شيوعيات ،وهي ملك.خ ،راحت
تدقق يف �إجابات عهد ،تالحقها أ
بال�سئلة واال�ستف�سارات
عن و�ضعها و�أعرا�ض مر�ضها� ..أخرياً قفلت ملك عائدة،
الخريات �أال يقربن كان وجهها �أ�صفر �شاحب ًا وهي تخرب أ
205
عهد �أبداً فقد كانت م�صابة بالزهري.
تلك الليلة حجزت البنات عهداً يف حجرة من حجرات
الربع حتى ال�صباح .ويف ال�صباح طلنب من مدير املزدوجات أ
المر ب�رسعة و�إال �سينتقل الزهري �إىل جميع حل أال�سجن ّ
البنات يف الزنزانة.
و�ضعت عهد يف زنزانة منفردة ملدة �أربعة �أ�شهر ريثما متت
معاجلتها متاماً ،ومن ثم �أعيدت �إىل املزدوجات من جديد.
206
1992
207
المر هكذا ال�سجينة الدائمة معها امر�أة متهمة بالتج�س�س! بقي أ
حتى جاءت تلك الفتاة الكردية ال�سمراء :مهريبان جي جيك،
املعروفة با�سمها احلركي �أزميا (عظيمة) من حزب العمال
الكرد�ستاين (.)p.p.k
الثرية بلبا�سها الع�سكري الذي مل �أزميا �أ�ضحت رفيقتي أ
تخلعه يوم ًا ،وعينيها الكرديتني اجلميلتني ،وكتابها املف�ضل
الذي جلبته معها ومل يكن يفارقها ،كتاب( :قائد و�شعب) عن
�أوجالن.
طيلة �شهرين ،ق�ضتهما �أزميا يف الزنزانة ،كان ال�سجن مي�ضي
ب�شكل خمتلف ،حميم وفاعل وم ؤ�ثر ،خا�صة و�أين بقيت حوايل
ال�شهرين دون �أن �أخرج �إىل التنف�س ،و�أكرث من �سبعة �أ�شهر دون
�أية زيارة.
خرجت �أزميا بعد �شهرين كما قلت ،وبعد �سنوات جاءتني
�أخبار �أنها ان�ضمت للجي�ش الكردي يف �شمال العراق ،وقتلت
هناك يف �إحدى املعارك.
ودب،
هب ّ كانت ال�سجينات يتوالني على الزنزانة ،ما ّ
()116
208
فاطمة املتهمة بالتج�س�س من النبطية.
�أم فواز وما حملته من �أحاديث عن املخيمات الفل�سطينية،
وعن الفقر واجلهل والعذابات التي يعانون منها.
ال�صول الديرية من وامر�أة ذاك الطيار العراقي الفار ،ذي أ
بعث العراق ،وكانت جميلة للغاية ،مرت �أ�شهر اعتقالها دون
ت�رس ال با�سمها وال با�سم زوجها ،ثم �صارت تتعرى لل�سجانة �أن ّ
يف ال�سقيفة ليال ،وهم يراقبونها من الكوريدور اخلارجي.
ر�أيتها يوم ًا ،وكنت قد ا�ستيقظت فج أ�ة بعد منت�صف الليل،
البي�ض يلتمع يف ظالم ال�سقيفة .كانت قد خلعت وج�سدها أ
وتهم بخلع بنطالها.
ّ بلوزتها وظلت بال�ستيان فح�سب،
�أخرياً جاءت �إىل الزنزانة فتاة عراقية كردية ،ال تتجاوز
التا�سعة ع�رشة من عمرها ،متهمة بتجاوز احلدود �أي�ض ًا وقد
فرت من العراق.ّ
أ
دخلت تلك الفتاة الناعمة وهي حتجل �إىل الزنزانة� .قدامها
متف�سخة من التعذيب .ثم ما لبثت �أن دخلت يف واحدة من
نوبات الربو املزمن ،واحدة من نوبات كثرية �ستتالحق خالل
�شهرين �ستق�ضيهما يف الزنزانة.
الوك�سجني يفارق يد العراقية الكردية �أبداً. مل يكن بخاخ أ
ت�ستلقي يف ح�ضن روزيت ،جتاهد كي تتنف�س م�ستعينة ببخات
متالحقة يف فمها.
يف يوم جاءتها النوبة وهي على ال�سقيفة فوق املزدوجات.
209
�صار �صوتها خمنوق ًا وهي تنادي من هناك .اعتقدت ال�سجينات
�أنها نوبة من نوباتها املتكررة ،والتي تبالغ بها و�ستم�ضي ،لكن
يكف عن اال�ستنجاد ،كانت تنادي با�سم �صوتها املخنوق مل ّ
روزيت ..بدا أ
المر حقيقي ًا هذه املرة.
طفقت �أدق على باب الزنزانة وال�سجان ال يجاوبني.
ظللت �أدق و�أدق حتى جاء ،ومن وراء الباب احلديدي
�أخربته �أن البنت تعبانة ..تعبانة كتري.
لكن ال�سجان ذهب ومل يرجع.
�صارت النوبة تزداد ،والفتاة نزلت لتنام يف ح�ضني،
يخيم على وجهها ،و�صوت ح�رشجتها أ
ميل �شحوب املوت ّ
الزنزانة .عدت �أخبط على الباب من جديد و�أ�رصخ :البنت
عم متوت ..دخيلكم �أنقذوها عم متوت.
كنت �أراها وهي متوت بني يدي� ..شبح املوت كان يرفرف
يف الزنزانة.
ط ّلعوها عم متوت..
�أخرياً� ،أخذوها �إىل امل�ست�شفى وهي بني املوت واحلياة،
وطيلة يومني كاملني مل ي أ�ت �أي خرب عنها.
بعد يومني جا ؤ�وا و�أخذوا �أغرا�ضها القليلة ..كانت ال�صبية
الكردية قد ماتت.
210
1998-1994
211
كان عليها �أن تخلق �إيقاع حياة خا�ص ًا بها� ،إيقاع ًا مغايراً
تنقطع فيه ال�صلة متام ًا مع كل ما هو خارجها! على الرغم من
�أن الو�ضع هناك كان �صورة م�صغرة عن املجتمع اخلارجي:
ال مع مئات ال�سجينات الق�ضائيات ،تلفهم �أكرث من 32طف ً
حالة من الطبقية العالية وال�رسقة والن�صب ،و�أربع معتقالت
�سيا�سيات و�سط هذا اجلو يجهرن ب�رسقات الطعام ،يطالنب،
الكل ..وما من جميب. كمن يطالب من بئر عميق ،بتح�سني أ
...
كن يقدمن الر�شاوى لعنا�رص ال�رشطة ال�سجينات اللواتي ّ
ال� ،أو
ينلن ميزات خمتلفة من �إدخال ما �شئنه �إىل مهاجعهن مث ً
ال�سماح لهن بزيارة كل �أ�سبوع ملدة �أربع �ساعات �أحيان ًا ،فيما
ال ،حمرومات من الزيارة. غريهن ،كال�سيا�سيات مث ً
ال�سجينات اللواتي �أقمن عالقات جن�سية مع عنا�رص ال�رشطة
ا�ستطعن نيل ما يردن �أي�ض ًا� .إذاً ،كحال اخلارج ،كانت القوة
يف الداخل هي للمال واجل�سد.
كان هناك بالطبع ،كتكملة للم�شهد الدرامي ،من ينال
التاوة! فرئي�سة املهجع تتقا�سم املال مع بنات الدعارة وعنا�رص أ
ال�رشطة ،الفقريات يعملن خادمات عند الغنيات ،يطبخن
وينظفن مقابل مبلغ ما ،ومقابل �شيء �أهم بالن�سبة �إليهن وهو:
احلماية.
�أما الباحثتان االجتماعيتان ،ووجودهما كان �شكلي ًا يف
212
بالجرة عند بع�ض البنات املتنفذات. احلقيقة ،فقد عملتا أ
جن�سيات متنوعة من ال�سجينات ،و�ضحى ورفيقاتها
وحدهن يف هذه املعمعة :برازيليات� ،إ�سبانيات ،عربيات،
و�أمريكية وحيدة كانت تاجرة خمدرات ،تلك ال�سجينة كانت
تعامل ك أ�ن �أمريكا كلها موجودة يف �سجن الن�ساء ،وال�سفارة
المريكية تر�سل مبعوث ًا خا�ص ًا لزيارة ال�سجينة كل حني أ
و�إعطائها النقود.
قبل انتهاء حكمها ب�ستة �أ�شهر نقلت �ضحى.ع وحدها �إىل
�سجن مدين �آخر(.)118
مهجع الن�ساء ال�سيا�سيات حماط مبهاجع الرجال ،وفيه
حوايل 14معتقلة :معتقلتني من احلزب ال�شيوعي الرتكي،
ثالث معتقالت من حزب العمال الكرد�ستاين (،)p.k.k
خم�س معتقالت تركمانيات بق�ضايا التفجري يف حاويات
القمامة ،وكان هناك �أي�ض ًا ثالث معتقالت من �شهود يهوه.
الزيارات هناك ممنوعة.
التنف�س ل�ساعات قليلة فقط بعد الظهر.
�أما مهجع الن�ساء فقد كان معزو ًال متام ًا عن بقية ال�سجن
حتى �أن عنا�رص ال�رشطة كانوا يعملون على تغطية فتحات
مهاجع الرجال بالبطانيات وت�ستنفر املفارز جميعها لو �أرادت
�إحدى املعتقالت النزول �إىل غرفة الطبابة مث ً
ال.
( )118كانت �ضحى .ع قد حكمت بال�سجن ملدة �ست �سنوات ابتداء من �سنة
اعتقالها يف 1992بعد �أن خ�ضعت للمحاكمة يف حمكمة �أمن الدولة.
213
ظلت الرتكمانيات مهمالت ألكرث من ثالث �سنوات،
ومل ينزلن �إىل املحاكمة( .)119و�سيلة توا�صلهن الوحيدة مع
اخلارج هي الر�سائل التي كن يرمينها للمعتقلني الرتكمانيني يف
يطل على باحة تنف�سفرتات النف�س ،حيث كان مهجع الن�ساء ّ
الرجال.
ن�سقن جميعهن للقيام ب إ��رضاب عن الطعام� ،إ�رضاب �أخرياً ّ
الهم �أن ي�ضغطن على �إدارة قد ي�ساعدهن يف حتقيق مطالبهن! أ
ال�سجن إلطالق �رساح من انتهت مدة �سجنها ..ومنهن �أنا.
كان �إ�رضاب ًا متدرج ًا ..كل يوم ت�رضب معتقلة.
لكن ر ّد �إدارة ال�سجن كان عنيف ًا ،فقد قامت ببناء منفردات
متطرفة للن�ساء ،عددها �أربع منفردات قريبة من املطبخ،
ال�رضاب يف �إحداها. الدارة برمي التي ت�ستمر يف إ وهددت إ
النفرادي �أن يوقف �إ�رضاب بالفعل ا�ستطاع اخلوف من إ
بع�ض البنات دون �أن ينلن �شيئ ًا منه.
ا�ستمر �إ�رضابي مدة �سبعة ع�رش يوم ًا.
كان رئي�س املفرزة (العقيد) ي أ�تي كل يوم �إىل املهجع
ليقدم العهود يل ،لكني مل �أ�صدقه .تواىل جميء عقداء من فرع
ال�رضاب بال جدوى. المن 2الع�سكري يحاولون �إثنائي عن إ أ
كان أ
المر بالن�سبة �إيل حتدي ًا حقيقي ًا� ،إما �س أ�عي�ش حياة م�رشفة،
�أو �س أ��رضب عن الطعام حتى املوت .التعامل معي بع�شوائية
( )119كان قد ف ّعل عمل حمكمة �أمن الدولة ابتداء من �سنة 1992وبد�أت
حماكمات املعتقلني ال�سيا�سيني.
214
الن�ساين ،ومل �أكن قد فقدته طيلة �سنوات جردين من �شعوري إ
اعتقايل ،و�أنا ال �أدري ما �سبب رميي يف املعتقل بعد انتهاء مدة
حكمي؟!
ال�رضاب ا�ستيقظت �صباح ًا ،كتبت و�صية يف �أحد �أيام إ
البنتي ديانا ،وكانت خارج ًا مع �أبيها ،مل يكن أ
المر حب ًا
باملوت ،بل حب ًا باحلياة ،كنت �أريدها �أن تع�شق احلياة ب�رشف.
كنت م�صممة �أن �أ�رضب عن الطعام حتى النهاية.
قال يل العقيد يوم ًا:
-جاء �أخوك اليوم وقال �أن ا�سمك موجود يف قائمة
العفو بالفرع ..لي�ش م�رضبة لهلق؟
-كان الزم �إطلع من متوز ..مر �شهرين وما طلعت.
ال�رضاب �سن�شحطك على ال�سجن � -إذا مل تفكي إ
الكبري� ..شو ر�أيك؟
... -
ال معه قائمة العفو من الفرع، حني �أتى �شقيقي �أ�سامة حام ً
ال�رضاب. وا�سمي مذكور فيها ،توقفت عن إ
وهذا ما كان� .أطلق �رساحي بعد ع�رشة �أيام من ذلك �أي يف
نهايات �سنة .1998
215
216
1988
217
�أولئك الن�سوة وعلى مر ال�سنوات ،لكن كان ينبغي �أن نراه
ونح�سه بكل �أرواحنا!.
ّ ون�سمعه
�سجينة ق�ضائية قتلت زوجها .بع�ضنا ،نحن ال�سيا�سيات ،ال
يعرفن �إىل اليوم ،بعد �سماع ق�صتها ،ما الذي قد نفعله لو كانت
�إحدانا يف مكانها؟!
بال�سيد بالتعاون مع ع�شيقها ذوبت زوجها أ �سجينة ّ
وع�شيقته!!!
�أمر �أ�سا�سي خرجنا به من ال�سجن باعتقادي يتمثل يف �أنه ال
ال�صحيح �صحيح باملطلق ،وال اخلط أ� خط أ� باملطلق ،واحلدود
بينهما ظرفية ..ظرفية للغاية.
و�ضعت فاديا�.ش بداية ،حني نقلت �إىل �سجن الن�ساء املدين،
ال�سالميات ال�سا�سية رقم 3حيث املعتقالت إ يف الغرفة أ
وال�شيوعيات مع ًا.
ثم نقلت بعد �أيام �إىل املهجع رقم 7حيث كان هناك خليط
عجيب ي�ضم املعتقالت ال�سيا�سيات (� 11شيوعية) مع �أربع
�سجينات بتهم اقت�صادية ،وواحدة فقط بتهمة القتل .تلك
الخرية مل تقعد كثرياً يف املهجع ،فقد راحت تختلف مع أ
البي�ض ال�سيا�سيات على القناة التي تريد م�شاهدتها يف تلفزيون أ
باليدي والع�ض وال�رصاخ وال�سود .ثم ا�شتبكت معهن أ أ
وال�شتائم ..حتى �أخرجتها �إدارة ال�سجن من املهجع.
كل ما كان ميكن �أن تكرهه فاديا يف املجتمع� ،أن ت�شمئز منه
218
خ�ضمه متام ًا! مع ذلكّ وتهابه ،جت ّلى �أمامها هنا ،و�ضعت يف
�صارت عالقتها ببنات الدعارة مث ً
ال جيدة:
م�شوهات ج�سدي ًا ونف�سي ًا .مع
ن�ساء م�سكينات ومعظمهن ّ
الزمن مل تبق �سجينة منهن مل تعرف فاديا ق�صتها ،ومع الزمن
�صارت تكت�شف �أن معظم تلك الق�ص�ص كاذبة..
امر�أة ال�ضابط التي دفعها زوجها �إىل ممار�سة الدعارة ،بداية
مع بائعي البطيخ وانتهاء ب�شبكة دعارة كربى.
�صفاء الفل�سطينية ،التي كانت تعمل كمعاجلة فيزيائية
ونا�شطة يف و�سط املقاومة الفل�سطينية ،انتهت ك�سجينة
دعارة.
الن�سانية احلميمية جعلت �إدارة ال�سجن تتهم تلك العالقات إ
ال�سيا�سيات ب أ�نهن ين�شطن� ،سيا�سي ًا ،يف �صفوف الق�ضائيات.
المن �إىل ال�سجن املدين المن ال�سيا�سي من فرع أ�أتى عنا�رص أ
للتحقيق يف تلك االتهامات .يومئذ كانت ال�سيا�سيات ي أ�خذن
درو�س ًا يف اللغة الفرن�سية ،تعطيهن �إياها �إحدى املعتقالت
ال�شيوعيات وهي هالة .ف(.)120
المن ال�سيا�سي كل واحدة على حدة كي طلبهن �ضابط أ
يحقق معها يف غرفة العقيد مدير ال�سجن.
ثم جاء دور فاديا�.ش كي تق�صد غرفة التحقيق.
( )120هالة .ف :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1965اعتقلت يف �سنة 1987
و�أطلق �رساحها قبل بقية املعتقالت ب�سبب و�ضعها ال�صحي وذلك �سنة
.1990
219
ذهبت �إليه كما هي بثياب بالية ممزقة تلب�سها يف احلاالت
العادية .على كل حال مل تكن ت�ستطيع �أن تكون �أكرث قيافة،
فلم يكن هناك ثياب كافية جلميع ال�سيا�سيات(.)121
�س أ�لها ال�ضابط با�ستغراب وهو يرمقها من أ
العلى �إىل
أ
ال�سفل:
� -إنت فاديا� .ش؟!!
� -أنا..
�صمت ال�ضابط لثوان ،فيما كان خليط من اال�ستغراب
ي�شع من عينيه ،ثم بادرها من جديد: وال�شفقة والغ�ضب ّ
� -أننت تن�شطن �سيا�سي ًا بني ال�سجينات..
ك أ�نها كانت تنتظر كلمة لتنفجر بكل ما كان يعتمل يف
�صدرها� ،ألقت كل ذلك يف وجه ال�ضابط:
-هل تعرف ما الذي يعنيه �أن تكون معتقلة �سيا�سية يف
�سجن مدين؟! ..هل جربت هذا؟! تقرف من كل �شيء حتى
الخبار فما بالك من حالك ..تقرف حتى �إن ت�ستمع �إىل أ
بالن�شاط ال�سيا�سي بينهن..
!!... -
� -أحلم �أن �أعي�ش عمري كله يف منفردة يف الفرع وال
( )121كما �أوردت �سابق ًا .كانت الثياب والطعام و�أ�شياء كثرية �أخرى م�شرتكة
لدى املعتقالت ال�سيا�سيات حتى فرتة بعيدة من االعتقال وذلك يف كل �أماكن
االعتقال .كما كان هناك �صندوق مايل م�شرتك تو�ضع فيه جميع املعونات
املالية وي�ستخدم يف حال املر�ض �أو ل�رشاء الطعام (يف ال�سجون املدنية فقط) �أو
يف حاالت ا�ضطرارية.
220
�أعي�ش هنا يوم ًا �إ�ضافي ًا ..ن�ساء ال ميكن �أن تن�شط معهن يف �شيء
فما بالك بال�سيا�سة؟!!
مل ينب�س ال�ضابط بكلمة ،اكتفى بال�صمت وهو ينظر �إليها
ملي ًا ،ثم تركها تذهب ومل ي�ستدع �أية �سيا�سية بعدها.
هنا كان التحقيق قد توقف.
لكن مع الزمن اكت�شفت بع�ض املعتقالت �أن لل�سجانة
قلوب ب�رش �أي�ض ًا:
المن .1كان بابا نويل كان لقب ال�سجان ع يف فرع أ
اللقب منا�سب ًا له بكل ما يحمله من دالالت تاريخية.
وكن حوايل �سبع ّ اليام جلبوا للمعتقالت، يف يوم من أ
ع�رشة معتقلة يف املزدوجات ،ق�صعات برغل كوجبة للع�شاء.
طعم الربغل ليلتئذ كان �شبيه ًا بطعم زيت ال�سيارات ،ورائحته
املقرفة تنت�رش حوله حتى ي�صعب االقرتاب من الق�صعة امل�صبوب
فيها.
مل ت�ستطع �أي منهن �أن ت�ضع لقمة يف فمها .اللواتي فعلن،
حتت �ضغط اجلوع ال�شديد ،لفظن كل ما �أكلنه على الفور .كن
جائعات للغاية ،خ�صو�ص ًا �أن وجبة الغداء مل تكن كافية.
�إحداهن تقي أ�ت كل ما التهمته� ،رسيع ًا ،على �أر�ض
املزدوجة.
�صارت بثينة.ت تن ّغم �أغنية زياد الرحباين يف الزنزانة:
�أنا م�ش كافر..
221
واملعتقالت يرددن وراءها:
ب�س اجلوع كافر.
ثم �رصن ي�رصخن ب أ�على �أ�صواتهن :جوعانني يا ع..
جوعانني يا ع.
فتح ال�سجان ع الباب عليهن ،رمقهن وهن منت�رشات يف
�أرجاء الزنزانة ،يتو�سدن احليطان وينادينه ..ثم �أغلق الباب.
بعد دقائق عاد من جديد .كان يحمل كي�س ًا مليئ ًا بالطعام
رماه لهن ثم �أغلق الباب..
اندفعت املعتقالت �إيل الكي�س ،ومل يكدن يفتحنه،
ويتفاج أ�ن بالنفائ�س القادمة ،حتى عاد ع من جديد ليلقي
�إليهن بكي�س �آخر!
كان ع قد ذهب �إىل مهجع العرفاتية املجاور للمزدوجات،
و ّمل منهم ما يزيد على حاجاتهم بعد �أن �أخربهم بحاجة
املعتقالت للطعام.
الكيا�س ،املليئة بعلب الطون وال�رسدين املع ّلب والفواكه أ
وغريها ،جعلت املعتقالت يف ذلك امل�ساء يحتفلن كما مل
يحدث من قبل ،ويح�ضرّ ن من التفاح والربتقال ،الذي جلبه
ع� ،سلطة فواكه فاخرة!!..
...
الول،لكن بثينة.ت كانت ماتزال تنزف منذ اعتقالها أ
الربعني يف ،1986/12/9حيث وهي نف�ساء يف يومها أ
222
اعتقلت ملدة �أيام ،وحتى اعتقالها الثاين يف .1987/8/14
المن� 1صارت بعد فرتة من االعتقال الثاين يف فرع أ
الت�صبغات تنت�رش يف �أنحاء ج�سدها كله ،وراح النزف ي�شتد..
بعد طول مطالبات و�إحلاح �أخذت �إىل امل�ست�شفى ،وهناك
طالبوها ب إ�جراء خزعة حني ا�شتبه الدكتور ب�رسطان يف الرحم.
كان عليها ،بال�رضورة� ،أن تراجعه بعد �أ�سبوع� ،أ�سبوع واحد
ال غري.
بقيت بثينة يف الزنزانة �أكرث من �شهر دون �أن تعرف نتائج
اخلزعة وقد منعت من مغادرة الفرع.
كانت تعتقد طيلة تلك املدة �أنها م�صابة بال�رسطان.
ميد ل�سانه لها �شامت ًا ،يجعلها تفكر يف كل
واملوت ،الذي راح ّ
حلظة بابنتيها يف اخلارج ،وما الذي �سيح�صل لهما �إن ا�ستطاع
ال�رسطان �أن يتغلغل بالفعل يف ج�سدها.
�أما النزيف فقد �أ�ضحى م�ستمراً بال توقف.
بعد ذلك ال�شهر الع�صيب ُ�سمح لبثينة مبراجعة امل�ست�شفى.
مل يكن هناك ت�رسطن يف رحمها ،لكن تقرح ًا قدمي ًا غري معالج
�أدى �إىل كل تلك امل�شاكل ،وقد �أ�ضحت خطرية للغاية.
مل يعرف الدكتور بالطبع ما �سبب ذلك التقرح! ذلك �أن
ال�سجان الذي �أخذها مل يف�صح عن و�ضعها احلقيقي .كانت
جمرد مري�ضة تراجعه ،والرجل الذي معها جمرد قريب.
لكن الدكتور ذاك كان حا�سم ًا :ينبغي �أن تخ�ضع بثينة لعمل
223
تعر�ض الرحم لل�رسطنة بالفعل. جراحي م�ستعجل و�إال ّ
و�أجرت بثينة العملية.
على �رسير امل�شفى املعدين ا�ستيقظت من البنج وحدي.
مل يكن هناك �أحد يف الغرفة ،وحدي فقط .مبا �أن املرافق
الوحيد كان ال�سجان زياد� ،سجان قا�س وجاف ،جالد بكل
كاف ألن
ما تعنيه الكلمة من معنى ،كان جمرد وجوده معي ٍ
يدخلني يف دوامة من االكتئاب.
كنت �أ�ستيقظ �شيئ ًا ف�شيئ ًا و�سط غاللة �ضبابية من أ
اللوان
وال�صوات املتداخلة� ،أعي ب�شكل تدريجي ت�ضاري�س املكان أ
وحالتي :يداي مقيدتان �إىل ال�رسير� ،صوت املمر�ضة العايل
يتناهى �إيل بعيداً بعيداً ،كانت ت�رصخ على ال�سجان زياد:
فك يديها حرام عليك� ..أال تراها لي�س لديها قدرة على ّ -
فكها حرام عليك.. حتريك ر�أ�سها ..كيف �ستهرب؟!!!ّ ..
حرام.
يدي ظلتا مقيدتني �إىل ال�رسير و�أنا �أ�ستيقظ باكية ّ
بهم لكن ّ
وحيد� :أن �أعرف ماذا ولدت؟
ال �أعرف َمل ظننت �أين �أ�ستيقظ من بنج الوالدة! وب أ�ين آ
الن
قد و�ضعت طفلتي .وملا مل ير ّد �أحد علي �أكملت �رصاخي
ب�صوت �أعلى:
-ك�رسمت نزار و�أخذتوه �إىل ال�سجن!
... -
224
-كر�سي الرئي�س يتهدد �إذا طلعت �أنا من ال�سجن؟!!!
�شتمت احلكومةُ يف ذلك اليوم ،على �رسير امل�ست�شفى،
والنظام� .شتمت و�شتمت دون �أن �أتذكر ما الذي قلته� .أذكر �أن
ال�سجان زياد حاول �إ�سكاتي ب�شتى الو�سائل دون �أن ي�ستطيع.
�أخرياً نظرت �إليه ،بني النوم واليقظة ،وهم�ست �إليه ب أ�مل :قلبك
�أ�سود يا زياد ..قلبك �أ�سود..
-ملاذا تبكني؟
�س أ�لني وقد هاله كالمي الذي ينزف �أمل ًا وحقداً.
-لنك قبالتي.. أ
�أجبته.
-بدل �أن �أرى زوجي �أو �أمي و�أوالدي �أراك �أنت..
راح بكائي يزداد ،خا�صة حني كنت �أملح القيود وهي
تكبلني �إىل ال�رسير احلديدي البارد.
يف اليوم التايل �أعادين ال�سجان زياد �إىل الزنزانة يف الفرع.
�س ّلمني �إىل رفيقاتي منهكة متعبة .ثم حكى لهن ،والدموع
وهن يرين زياد يف عينيه ،ما حدث .كانت ده�شتهن كبرية ّ
يبكي .كان ال�سجان ،الذي طاملا كان جالداً بامتياز ،مت أ�ثراً
وهو يروي على الباب ما قلته يف امل�ست�شفى و�أنا �أ�ستيقظ من
البنج..
-ل�ست �سيئ ًا �إىل هذا احلد ..ل�ست �سيئ ًا� ..أننت تكرهنني!!
تكرهنني..
225
يومها �أق�سم زياد �أال يعمل جالداً �أبداً .بالفعل مل تلمحه �أي
من املعتقالت يف �أقبية الفرع بعد تلك الليلة.
بعد ذلك ب أ��شهر بعثت بثينة ب أ�ول ر�سالة �إىل �أهلها يف
اخلارج .كان ذلك بعد �ستة �أ�شهر من اعتقالها� ،أي يف �شباط
.1988ر�سالة ق�صرية كانت ،بقلم الر�صا�ص على ورقة مغلفة
لباكيت �سجائر احلمرا ،بعثتها مع ال�سجان م الذي كان لقبه،
كما �سبق وقلت ،احلمام الزاجل.
الر�سالة بد�أت كما يلي:
الحبة:(ماما وبابا الغاليني� ،أخوتي أ
للطفال ،للحياة� .صحتي و�صحة �أ�شواقي بال حدود ،لكم ،أ
نزار جيدة ..اطمئنوا� .أحاول �أن �أعي�ش التجربة القا�سية ك أ�ف�ضل
ما ميكن فهي جتربة رهيبة مل �أهيئ نف�سي قط لها� ..أعي�ش مع
�أربعني فتاة� ،أغلبهن �شيوعيات ومن كافة املحافظات ،ونحاول
�أن نوجد �أفراح ًا �صغرية تخرجنا من وح�شتنا).
وللر�سالة بقية على تلك الورقة� .أخذ احلمام الزاجل العهدة
وذهب �إىل �أهل بثينة.
يلوح مازح ًا مبجموعة حني عاد م ،بعد �ساعات ،راح ّ
من ال�صور وهو قادم يف الكوريدور الطويل املف�ضي �إىل
املزدوجات .كان يعلم �أن بثينة تنتظره وراء باب الزنزانة بفارغ
ال�صرب وتراقبه من الثقب.
226
وقف م وراء باب الزنزانة ليخرب بثينة بتفا�صيل زيارته،
ب أ�نه مل ي�ستطع �أن يقول ألمها �شيئ ًا ألنها �رشعت بالبكاء حاملا
�أعطاها الر�سالة.
�إثر ذلك كتبت بثينة ر�سالة ق�صرية للغاية على �صفحة واحدة
ما زال ال�سيلوفان ملت�صق ًا بها فالوقت مل يكن كافي ًا لنزعه
ال ،والر�سالة امل�ستعجلة مثله عنها .كان احلمام الزاجل م�ستعج ً
رد على زيارته ألهل بثينه ..و�أخذها �إليهم من جديد.
حني اكت�شف �أمر م يف الفرع ،وب أ�نه �أم�ضى �شهوراً يو�صل
ر�سائل املعتقالت �إىل ذويهن ،قام مدير ال�سجن مبعاقبته،
عذبه ب�رضبه �رضب ًا مربح ًا يف كوريدور الفرع على م�سمع من ّ
معتقالت ومعتقلي الزنازين .عوقب م لفرتة طويلة� ،سجن
القبية. خاللها ومل ي�سمح له بالنزول �إىل أ
بعد ذلك مل يعد قادراً على �إي�صال �أية ر�سالة �إىل اخلارج.
يف جزء من تلك الر�سالة امل�ستعجلة كتبت بثينة:
(�أحبائي :الع�رش دقائق التي ق�ضيت بينكم بكل تفا�صيلها،
طعم فنجان القهوة ،تفا�صيل املنزل وازدحام املر�ضى يف
العيادة .وتلك الطفلة التي خرجت من الغرفة يف نهاية الزيارة
والتي انفطر قلبي عندها ..هل هي راما ،كل ذلك �أح�س�ست
الن..به وما زلت �أعي�شه منذ تلك اللحظة وحتى آ
ماما احلبيبة :نبع احلنان والعطاء الذي ال ين�ضب و�ست
227
احلبايب .دموعك جرحت قلبي و�أوجعتني� ..أرجوك ال
تذرفيها ثانية� ..أريدك قوية عندما �أعود ف أ�نا بحاجة لكم
�أقوياء� ..أريد �أن �أتخيلكم تبت�سمون دوم ًا ،وت�سعدون،
وت�ستمتعون باحلرية ،ال وقت نق�ضيه بالبكاء والقهر ..يكفي
القهر الذي ي�سببونه لنا..
واملر�سل :ماذا �أو�صيكم ب� أش�نه ..منوذج من الب�رش قل مثيله..
احر�صوا عليه وعلى م�شاعره وا�شكروه معنوي ًا وال حتاولوا غري
ذلك .دعوه يرى كل �شيء ف أ�نا �أراكم بعيونه ،لتكن ر�سائلكم
بالتف�صيل اململ فهي لي�ست ر�سالة منكم يل� ..إنها ر�سالة من
الهايل الثنتني وثالثني فتاة بينهم �أكرث من ع�رش �أمهات.. كل أ
�ستكون ر�سالتكم زادنا ،نلج أ� �إليه كلما لفنا ال�شوق).
228
�أغلق ال�سجان الباب ب�رسعة� ،أجل�سها على كر�سي قبالة
الطاولة .كان يبدو متحم�س ًا للغاية ومثاراً .جل�س على كر�سيه،
وبدل �أن يبادر بتدوين �إفادتها �صار ي�س أ�لها بف�ضول عن حبها!
ا�ستحالت عيناه ،اللتان كانتا قبل قليل عيني �سجان� ،إىل عيني
�شاب متوفز ،يريد �أن يعرف ماهية احلب ،يريد �أن ي�سمع عنه
بل�سان امر�أة غريبة ،غريبة ب أ�فكارها ،غريبة مبظهرها ،أ
والهم
غريبة عنه متام ًا بحبها!!
َ -مل حتبينه؟!
الول واملرتدد. كان �س ؤ�اله أ
-لن �أفكاري مثل �أفكاره.. أ
�أجابت ناهد.
-فقط؟! رمبا حتبينه ألنه غني؟!!
-ال ..لي�س غني ًا �أبداً.
-عنده بيت و�سيارة؟!!
-ال..
َ -مل حتبينه �إذاً!!!
ال .مل ينتبه حتى كان وقتا�ستمرت ت�سا ؤ�الت ال�شاب طوي ً
الفادات ،ودون �أن ي�سمعمر دون �أن يدون �أي ًا من إ التحقيق قد ّ
تدل على ا�ستكمال حتقيقه املفرت�ض. من يف اخلارج �أ�صوات ًا ّ
انتف�ض من فوره� ،صار ي�رضب الكر�سي اجللدي �أمامه،
229
ويطلب من ناهد ال�رصاخ على �أ�سا�س �أنه ي�رضبها م�ستكم ً
ال
�أخذ �إفادتها ..ثم عاد لل�س ؤ�ال جمدداً:
-مل حتبينه؟!! احك يل �أكرث..
... -
230
حب من وراء الق�ضبان..
تفا�صيل أ
النوثة والع�شق
231
رمبا حتدث الكثري من املعتقلني� ،سواء كتاب ًة �أو م�شافهةً ،عن
الحالماملر�أة ،عن غيابها وح�ضورها الطاغي ،ح�ضورها يف أ
واليقظة ،يف الكالم وال�سكوت ،يف البيا�ض والعتمة.
غ�صت املهاجع والزنازين بال�شهوة ،ب أ�حاديث ولطاملا ّ
الغواية ،وبحمحمات لذة كان لها م�سارب خمتلفة للتحقق.
لكن ماذا عن ح�ضور الرجل يف حياة املعتقلة؟
المر بالت أ�كيد خمتلف متام ًا بالن�سبة �إىل الن�ساء :فح�ضور أ
الرجل كان م�شفوع ًا على الدوام بالرغبة واخلوف ،الرغبة
بالذكورة واخلوف والقرف من بط�ش اجلالد .كان �إذاً ح�ضوراً
ال بكل �أغالل املجتمع خارج ًا ،وبكل �أغالل حمم ً
ذكوري ًا ّ
دواخلهن.
الهم �أن ح�ضور الرجل يف حياة املعتقالت ،على لكن أ
عك�س املعتقلني ،كان ح�ضوراً فيزيائي ًا .ال�سجانة الذكور
232
موجودون يف كل دقيقة من دقائق النهار ويف �صمت الليل
وجوانبه الغام�ضة.
ال يعرف البع�ض ،وقد يعرفون ،ما قد يفعله �صوت �سجان
يتناهى يف �صمت الليل �إىل امر�أة معتقلة منذ �سنوات!! ما قد
ال ،من غوايةيحمله ذلك ال�صوت من نب�ش لرغبات كبتت طوي ً
ال متناهية ،من تالطم �أمواج ال�شهوة مع كون الرجل �سجانها
لي�س �إال ،ومن اعتبارات تفر�ضها رقابة اجتماعية يف الزنازين
�أ�شد هو ًال من رقابة جمتمع ٍ
طاغ يف اخلارج!!.
حني ي�ضحي حذاء عامل ال�صحية ،املرتوك بباب املهجع
وهو ي�صلح احلمام ،قادراً على بلبلة املعتقالت أليام يف �سجن
الن�ساء.
ال ألمر ما ،وهو يرتدي بيجامته املرق�شة،�سجان يهرول لي ً
يجعلهن ي�ستيقظن ليتدافعن على �شباك املهجع كي يلمحن
ال ببيجاما ..رجل يرتدي بيجاما ..يا �إلهي! كم كانت رج ً
غواية ما بعدها غواية!
�أن تع�شق معتقلة �سجانها �أمر قد يحدث ورمبا حدث.
ال �آخر �أمر يحدث ورمبا حدث �أن تع�شق معتقلة معتق ً
�أي�ض ًا.
بالج�ساد املتداخلة ،وبرائحةالقبية بالعالقات ،أ �أن تُفغم أ
الع�شق واجلن�س بني ال�سجانة واملعتقالت وبني املعتقلني
واملعتقالت� ،إن �أمكن الظرف بالطبع� ،أمر حدث ويحدث
233
بالت أ�كيد..
والق�ص�ص تتوالد ،تتناقل ،وتكرب.
حدث الكثري هناك� ،سمع الكثريون عدداً من الق�ص�ص رمبا
كان بع�ضها حقيقي ًا ،ورمبا كان بع�ضها خمتلق ًا! فاملعتقالت يف
النهاية ن�ساء ،ب�رش بالت أ�كيد ،ول�سن جمرد متاثيل حجرية .والذاكرة
امل�سترتة ب أ�لف حجاب و�ألف اعتبار ،وجدران املعتقل كذلك،
هما وحدهما ال�شاهدان يف النهاية.
الق�ص�ص ذاتها �ستتكرر ،ب�سيناريوهات خمتلفة متباينة،
لن يكون هناك فرق بني الثمانينيات والت�سعينيات وحتى
ولنولن ال�سجون واحدة ،أ ال�سبعينيات ،ألن احلب واحد ،أ
الن�سان ،مهما اختلف ،واحد. إ
�إذاً هو مو�ضوع زمن ال غري.
�إحدى تلك الق�ص�ص حدثت يف �سنة :1987
فقد ظل عدنان.م يف بداية اعتقاله حوايل ثمانية �أ�شهر يف
المن ،1بعدئذ نقل �إىل منفردة �أخرى املنفردة ذاتها يف فرع أ
حيث بقي فيها حوايل ال�شهر.
كانت املنفردة الثانية مال�صقة لزنازين املزدوجات حيث
ت�سجن املعتقالت .الزنزانة واملزدوجات ي�شرتكان باحلائط
نف�سه ،وهناك يف املزدوجات كانت زوجته لينا.ومعتقلة.
عرفت لينا باعتقاله يف تلك املنفردة عن طريق �سجني �آخر
يف املنفردة املجاورة ،كان رفيق ًا �سجين ًا فيها قبل جميء عدنان،
234
ال وذلك ومعتقالت املزدوجات يتحدثن �إليه عرب احلائط قب ً
بلغة مور�س� ،أي بالدق على احلائط امل�شرتك.
يف ذلك امل�ساء �أخربها ال�سجني �أن زوجها جيء به اليوم �إىل
املنفردة املجاورة.
حل امل�ساء ورحل ال�سجانة حتى الت�صقت لينا باحلائط ما �إن ّ
امل�شرتك ،وطفقت تدقّ لعدنان حماولة �أن تخربه بوجودها هنا.
الول ،عرب اجلدار بالطبع ،وبعد يف ذلك امل�ساء كان لقا ؤ�هما أ
�شهور طويلة من الفراق.
الم�ضى الكرب لل�سجون ،ال�سالح أ ولن احلب هو القاهر أ أ
يف وجه كل اجلحيم املحيط ،ف إ�نه يت�ضخم هناك يف الداخل،
يت�ضخم حتى يطغى على كل �أوقات املعتقل /املعتقلة ،على
الروح والذاكرة وحتى �أقا�صي العقل ،ت�صبح كل ثانية من
الوقت امل�سفوح بني اجلدران تتوق له فقط� ..أي للحب.
هذا ما جعل �أوقات لينا حتقن ب�شيء جديد بعيداً عن ّ
�شح
املزدوجات ،حتقن بوجود رجلها الذي جعل احلائط جمرد
غاللة �شفافة ال ت�سرت وال حتجب �شيئ ًا ،حتقن بحبها :املعني
أ
الكرب على ال�صرب.
بداية كنت �أحتدث �إىل عدنان بالدق على احلائط امل�شرتك.
ما �إن يغلق ال�سجان باب منفردته حتى �أهرع �إىل احلائط
الهثة م�شتاقة .لكن عدنان كان م�رصاً على �سماع �صوتي،
ف�رصت �أل�صق فمي باحلائط ،و�أهم�س �إليه خا�صة �أين كنت
235
�أ�ستطيع الكالم ألن ال�سجانة �سيعتقدونني �أحتدث �إىل رفيقاتي
يف الزنزانة� ،أما عدنان فكان عليه �أن ي�سمع فح�سب ويجيب
بالدق ،ف أ�ي �صوت �سيخرج من املنفردة ،وي�سمعه ال�سجانة،
ال ب إ�نزال �أ�شد العقوبات عليه.
�سيكون كفي ً
ا�ستطعت وعدنان �أن ن�رسق �أجمل ال�ساعات بني نوبات
ال�سجانة كي نلهب احلائط البارد أ
وال�صم ب�سعري بوحنا و�شوقنا
املتدفق و�سط احلرمان� .شوقنا ذاك كنت �أعي�شه كموجة نارية
تلفح كل برد وعطنة الزنزانة.
يف ال�ساعة الثالثة �صباح ًا �أتى �إىل املزدوجات ال�سجان
م ،احلمام الزاجل كما كنا نلقبه .املعتقالت جميعهن كن
نائمات:
� -أين لينا؟..
هم�س من وراء الباب ليوقظني .حاملا هببت �إىل ال�رشاقة
�أخربين هم�س ًا �أن �أ�صعد �إىل ال�سقيفة( )122على الفور ،وغاب
يف عتمة الكوريدور.
حني طللت من �شباك ال�سقيفة ،امل�رشف على الكوريدور
يطلاخلارجي الطويل ،ر�أيته ..ك�صاعقة مباغتة كان وجهه ّ
ال�سفل ..يا �إلهي �إنه هو :عدنان!!علي من أ
كان احلمام الزاجل ،وقد خال ال�سجن من املراقبة ،قد �ساق
عدنان خارج املنفردة �إىل الكوريدور و�أ�ضحى بالتايل مواجه ًا
()122وهي �سقيفة فوق املزدوجات على م�ساحتها تطل بنافذة من ال�شبك على
الكوريدور الفا�صل بني الزنازين
236
متام ًا يل �أنا املطلة من ال�سقيفة.
مل �أ�ستطع �أن �أتفوه بن أ�مة! م�شدوهة ظللت �صامتة ،م�صعوقة،
وعيناي مزروعتان على وجه حبيب مل �أره منذ �شهور طويلة.
يا �إلهي كم تغيرّ ،نحل كثرياً ،وبدا متعب ًا وهو يرتدي
البيجاما..
بقية املعتقالت حلقن بي �إىل ال�سقيفة ،و�رصن يتحدثن
متلهفات �إىل عدنان ،ير�شقنه أ
بال�سئلة املتالحقة وهو يحاول
جاهداً الرد.
�أما �أنا فبكماء ..بكماء.
فج أ�ة �صدح �صوت بثينة.ت يف �صمت الفرع ب أ�غنية
يجن بداخلي من فريوز .ك أ�نها كانت تغنيني ،كل ما كان ّ
كلمات احلب والعتاب وال�شكوى واللهفة وقفت منح�رشة يف
حلقي ،كل ما متنيت ل�شهور �أن �أقوله يف �أح�ضان عدنان قالته
بثينة ب أ�غنية من ب�ضع كلمات:
ل�شو احلكي ..طالل علينا قمر.
خلي النظر للنظر ..ي�رشح هواه وي�شتكي ّ
ل�شو احلكي؟!
كانت فريوز ،ب�صوت بثينة ،حتكي متام ًا ما حدث :النظر
للنظر ،واحلب يف العيون فح�سب.
ل�شو احلكي عند التالقي �سوا
�أهل الهوا ع الهوا بيتفاهموا من دون حكي!
237
�شيء �شبيه حدث يف ذكرى زواجهما .كان عدنان ال يزال
يف املنفردة ذاتها ،وعرب �إ�شارات املور�س �أخرب لينا �أن تنتظر
هدية منه �ست�صل اليوم مع ال�سجان امل�س ؤ�ول عن توزيع الطعام
والتنظيف� ،سجان اخلدمة جورج ،وكان �شاب ًا متعاون ًا للغاية.
رك�ضت لينا �إىل باب املزدوجات احلديدي .بقيت طوي ً
ال
واقفة بانتظار ال�سجان جورج وقد توقعت �أن يقذف لها بهدية
ال�رشاقة ،.ر�سالة �أو ما �شابه حتمل رائحة عدنان وحبه، ما عرب ّ
ووعداً ما ب�آت �أجمل و�أكرث دفئ ًا.
لكن جورج وقف وراء الباب ومل يفتحه! مل يقذف لها
ب أ�ي �شيء .انتظر هنيهات لي�صدح فج أ�ة �صوته اللطيف ب أ�غنية
�آ�رسة:
كما ينبت الع�شب بني مفا�صل �صخرة وجدنا غريبني مع ًا.
وكانت �سماء الربيع ت ؤ�لف جنم ًا وجنمة
وكنت �أ ؤ�لف فقرة حب
لعينيك غنيتها...
كانت �أغنية مار�سيل خليفة لق�صيدة حممود دروي�ش هي
الهدية!
غناها جورج بكل جوارحه ك أ�نه يغنيها حلبيبته .راحت لينا
جته�ش بالبكاء فيما وا�صل جورج غناءه:
أ�حبك حب القوافل واحة ع�شب وماء
وحب الفقري الرغيف
238
حب الفقري الرغيف
مل يطل الزمن بني ذكرى زواجهما تلك والليلة التي مت
المن� 1إىل املهجع قبل ترحيل عدنان فيها من املنفردة يف فرع أ
�أن ينقل �إىل ال�سجن ال�صحراوي.
جاء ال�سجان �إليه بعد الع�شاء قائ ً
ال:
� -أنهيت طعامك؟ ..هيئ نف�سك للذهاب� ..سرتحل
الليلة.
ما �إن �أغلق ال�سجان الباب احلديدي حتى انتف�ض عدنان
ال�سمنتي اخل�شن باملعلقة البال�ستيكية و�شحط على طول احلائط إ
التي ي أ�كل بها� ،إ�شارة كان قد اتفق ولينا عليها يف حال �أتى
موعد ترحيله من الزنزانة ،مل تنته ال�شحطة �أ�سفل احلائط حتى
كانت امللعقة قد ذابت ،ويده التي �أكملت احلركة نفرت الدماء
منها.
ال�شارة انق�ضت على احلائط ،لكن حني �سمعت لينا إ
ال�سجان كان قد عاد �إىل منفردة عدنان و�صوته ي�صل �إليها
وا�ضح ًا عرب اجلدار..
�سيق عدنان دون �أن ت�ستطيع لينا توديعه �أو متويله ب أ�ية كلمة
آ
للتي امل ؤ�مل.
ومل ت�ستطع لينا �أن ترى زوجها بعدها حتى �أطلق �رساحها
بعد �سنوات ومت فتح الزيارات يف ال�سجن الذي نقل عدنان �إليه
ال فيه حتى �سنة 2001 بعد ال�سجن ال�صحراوي ،ليظل معتق ً
239
حني �أطلق �رساحه مع جمموعة من املعتقلني.
...
البي�ض أ
وال�سود �أما يف �سنة 1986فلم يكن تلفزيون أ
ال�صغري ،يف منت�صف مهجع املعتقالت ال�سيا�سيات يف �سجن
ومن�سي فح�سب،
ّ الن�ساء ،نافذة م�رشفة على عامل خارجي بعيد
الخبار ال�سيئة منها �أو ًال قبل اجليدة!بل كان و�سيلة إلي�صال أ
الوىل ،القناة الوحيدة التي يبثها على قناة التلفزيون أ
للخبار يف ال�ساعة 8.5لي ً
ال التلفزيون ،و�أثناء الن�رشة الر�سمية أ
يبث حماكمات امل�سلمني� ،أو املتعاونني العالم الر�سمي ّ كان إ
معهم ،وقد اتهموا ب�سل�سلة من االغتياالت ه ّزت البالد يف
الخرية ،وكذلك ب�سل�سلة من التفجريات للحافالت ال�سنوات أ
ومرافق عامة �أخرى.
تطل جمموعة من ال�شباب ،لهم �سحن اخلارجني كل يوم ّ
من القبور ،على ال�شا�شة ال�ضئيلة يتلون جمموعة من اجلمل
املتالحقة ك أ�نهم روبوتات لقّنت ما عليها قوله.
ال�سالميات ،ومعهن ذات ليلة بينما كانت املعتقالت إ
الخبار يف مهجعن بعد ال�شيوعية الوحيدة هند.ق ،يتابعن أ
البواب� ،رصخت ي�رسى.ح فج أ�ة ،و�ضعت يديها على �إغالق أ
فمها مت�سمرة .انتبهت بقية املعتقالت �إليها دون �أن يعرفن ما
الذي يجري!!..
هبت ي�رسى واقفة من فورها ،كانت ما تزال تغلق فمها ّ
240
بيديها وهي تدور كاملم�سو�سة يف املهجع وقد انفتحت عيناها
على �سعتهما ،عينان م�صدومتان تن�ضحان رعب ًا هلع ًا وحزن ًا.
الر�ض داخلة يف نوبة فظيعة من فج أ�ة انهارت ي�رسى على أ
البكاء العايل والزعيق املتوح�ش حتى فقدت الوعي.
فيما بعد �ستعرف املعتقالت �أن ما حدث مع ي�رسى كان
الول ب�سبب اخلرب الذي ب ّثه التلفزيون :خرب �إعدام زوجها وهو أ
ال�سالميني املحكومني يف تلك الليلة. يف قائمة إ
�ستتكرر الق�ص�ص على مدار ال�سنوات بني جدران الزنازين،
تختلف تفا�صيلها فح�سب .يف �سنة 1984ويف اليوم ال�سابع
بال�ضبط العتقالها يف املنفردة طلبت هند.ق من ال�سجان �أن
تخرج �إىل التواليت .هناك كانت فر�صتها الوحيدة للجلو�س
الذي كانت حمرومة منه يف الزنزانة �إال خل�سة �أثناء ذهاب
ال�سجانة� .إىل التواليت راحت هند تعرج �إذ �أن �أ�سفل قدميها،
املتقرح من التعذيب ،يجعل �سريها �صعب ًا للغاية.
حني عدت �إىل املنفردة فوجئت ب�صابونة لها رائحة ذكية
مرمية يف عتم الزنزانة.
تعج ب أ�بي�ضها يف الزنزانة الفارغة �إال من كانت ال�صابونة ّ
علبة حمارم ،ا�شرتيتها من ال�سجان ببقية املال املتبقي معي ،ومن
املياه التي أ
متل �أر�ضها.
الوىل �شعرت باخلوف من هذه الهدية املفاجئة، للوهلة أ
ود�س�ستها ب�رسعة يف علبة املحارم.
241
حني خرجت عند الظهر من جديد �إىل التواليت وعدت
�إىل املنفردة فوجئت بباكيت دخان �أجنبي �أي�ض ًا.
اليام ال�سابقة كنت �أالحظ وجود �ست منفردات يف يف أ
�آخر الكوريدور ،واحدة منها يظل بابها مفتوح ًا على الدوام!
كنت �أعتقد �أن و�ضع املعتقل فيها كو�ضعي� ،أي �أن نزيلها جمرب
على فتح باب زنزانته لرياقبه ال�سجان ب�صورة م�ستمرة كما
يفعلون معي �أنا .كنت �أفكر �أنه قد يكون جمرباً على الوقوف
مثلي طيلة الوقت ،ورمبا كان املاء وامللح يخز �أقدامه احلافية..
مثلي �أي�ض ًا.
مع الزمن �رصت �أالحظ �أن و�ضع تلك املنفردة خا�ص ،و�أنا
�أراقبها من �شق الطاقة يف باب زنزانتي.
ال �سمين ًا يتم�شى على هواه يف نزيل تلك املنفردة كان رج ً
الكوريدور فيما العنا�رص �ساهرة! يعني على مر�أى وم�سمع
المر الذي كان حما ًال حدوثه مع غريه. ال�سجانة!! أ
يف تلك الليلة ،يف ال�ساعة الثانية فجراً ،دق ّ باب منفردتي
و�أدخلت �سيجارة �شاعلة من �شق الطاقة!
العنا�رص كانوا نائمني بالت أ�كيد .من يرمي �إيل بال�سيجارة
�إذاً؟!.
قمت من فوري �إىل الطاقة� ،سحبت ال�سيجارة ب�رسعة.
كنت خائفة ومتفاجئة ومرتبكة.
لكن �صوت ًا دافئ ًا ،ال ي�شبه �صوت �سجاين البتة� ،أتاين فج أ�ة:
242
-م�سا اخلري يا حلوة.
ال ..من؟!! � -أه ً
قلت له بلهفة وقد �أح�س�ست للحظات ب أ�ين ح ّلقت خارج
منفردتي و�صوت رجويل حميم يخاطبني.
-كيفك؟ كيف �أقدامك؟ كيف ج�سمك؟ من �أنت؟ ما
الذي فعلته حتى يعاملونك هكذا؟!!
... -
-هل �أنت رئي�سة حزب ما ..قلبي يتقطع عليك..
و�صلتك ال�صابونة؟
-من �أنت؟
مج من لفافة التبغ ال�شهية. �س أ�لته بعد طول ا�ستماع و�أنا �أ ّ
كان الرجل قد راح ليهرول حافي ًا �إىل �آخر الكوريدور ،اطمئن
�أن ال�سجانة ال ي�سمعونه ،ثم عاد من جديد �إيل.
حفيف خطواته املت�سارعة كان يتناهى وا�ضح ًا �إيل..
�أجابني �أن ا�سمه �أبو مهند وهو �سكرتري يا�رس عرفات
الموال عرب طرابل�س ال�شخ�صي .كان ينبغي �أن يقوم بتهريب أ
ف أ�لقي القب�ض عليه ،وهو هنا منذ حوايل ت�سعة �أ�شهر.
-بابي يظل مفتوح ًا ..كل ما تريدينه �أ�ستطيع �أن �أجلبه
لك.
اليام وهند يف املنفردة ،و�أبو مهند ينام خالل النهار مرت أ
وعند �أول الليل ي�ستيقظ ليدخل لها �سيجارة �شاعلة من الطاقة،
243
تنتظرها بفارغ ال�صرب ،ويبد�أ باحلديث معها فيما تلمح هي
م�ضببة من �شق الطاقة ذاته. ّ �صورته
الوراق ،ثم �أو�صته �أن طلبت منه يوم ًا قلم ًا وجمموعة من أ
يكتب لها عناوين اجلرائد وهي ت�صله بانتظام.
-العناوين فح�سب ،كي �أعرف ماذا يدور يف اخلارج.
بعد فرتة �س أ�لها �أبو مهند �س ؤ�ا ًال كان ينبغي �أن ي�س أ�له قب ً
ال:
-ما ا�سمك؟
-هند..
حاملا �سمع �أبو مهند با�سمها اختفى �صوته فج أ�ة! امل�شهد
من �شق الطاقة بات فارغ ًا �أمام نظر هند ،ثم �سمعت من بعيد
�صوت باب منفردته يغلق بعنف يف �سكون الليل.
مل تلبث هند �أن عادت �إىل النوم ،كانت م�ستغربة لت�رصفه
لكنها ال ت�ستطيع �شيئ ًا .ثم ا�ستيقظت من جديد على �صوته
الذي عاد من اخلارج.
�س أ�لته عن �سبب ت�رصفه.
-حقيقة ذهبت ألبكي ..مل �أكن �أريدك �أن تريني و�أنا
�أبكي ..ا�سمك كا�سم ابنتي ال�صغرية ..هند ..ا�شتقت لها
كثرياً.
و�أدخل من �شق الطاقة �صورة البنته وابنه :طفالن لطيفان
�أ�سمران .و�أدخل مع ال�صورة ورقة عليها عناوين جرائد
اليوم.
244
-اليوم ر�أيتك من اخللف و�أنت تخرجني �إىل التواليت.
يل حالة �أثريية ال �أقدر على و�صفها �صار �أبو مهند بالن�سبة �إ ّ
المل والبهجة حتى اليوم ،حالة حملت يل طاقة هائلة على أ
الر�ضي يف منفردتي. و�سط الظالم ما حتت أ
الخرى: كان ي أ�تيني ب أ�خبار املعتقلني يف الزنزانات أ
�أحد كبار القادة ال�شيوعيني يف املنفردة املقابلة.
ال�سالميني ،و ...و... �أكرث املعتقلني من حويل من إ
د�س يل ورقة من �شق الطاقة و�إذ عليها ق�صيدة ذات يوم ّ
المر! ق�صيدة حب يف زنزانتي.. ت�صور أ
حب! هل ب إ�مكان �أحد ّ
كان أ
المر �أ�سطوري ًا!.
�شق الطاقة ميرر �إىل زنزانتي املنفية عناوين اجلرائد، ا�ستمر ّ
الخبار ،ال�سجائر ال�شاعلة ،ال�صوت الدافئ ،وق�صائد احلب، أ
ق�صائد كفيلة بجعل �أيامي املتعاقبة مت�ضي دون �أن تلوثها مرارة
ال�سجون.
ذات ليلة بادرين �أبو مهند من �شق الباب:
-جلبت يل امر�أتي بيجامتني �س أ�لب�سهما و�أريك �إياهما.
-ياهلل� ..أنا ناطرتك.
�شق الطاقة ألراقبه ،وابتعد هو كي �أ�ستطيع، وقفت على ّ
ال .كان قد ارتدى البيجاما بحيز الر ؤ�ية ال�ضيق ،ر ؤ�يته كام ً
ّ
ً
اجلديدة ووقف با�ستعداد .بدا �شكله م�ضحكا للغاية ببيجامته
الرمادية ال�ضيقة وكر�شه الكبري فيما �أعلى البنطال يدخل يف
245
تفا�صيل و�سطه ال�سمني.
جاهدت لكبت قهقهات خرجت رغم ًا عني من داخل
املنفردة.
� -أحبك.
يل يف �صمت الكوريدور.. هم�س �إ ّ
يف اليوم التايل ،وهو اليوم ال�سابع ع�رش على اعتقالها الثاين،
الخر نقلت هند من منفردتها �إىل املنفردة 36يف الكوريدور آ
المن.1 من فرع أ
كانت الزنزانة بعيدة للغاية عن �أبي مهند.
هناك راح �شعور االختناق يحا�رصها ،يطبق بكلتا يديه على
رقبتها .راحت ت�شعر بال�سجن ثانية بغياب �أبي مهند ،جدران
وت�ضيق اخلناق على روحها.
ّ املنفردة ت�ضغط على �صدرها
احلل الوحيد كان �أن تطلب من ال�سجان اال�ستحمام ع ّلها
تتخل�ص من �شعور االختناق �إن غادرت املنفردة ..بعد ألي
قبل ال�سجان و�أخرجها �إىل التواليتات.
يف منت�صف تلك الليلة دقّ باب املنفردة ،و�سمعت هند من
جديد هم�س �أبي مهند!!
-اهلل يلعنهم َمل نقلوك بعيداً عني؟ ..لكن ال تخايف �س�آتي
�إليك كل يوم ..كل يوم..
لكن مل مير وقت طويل حتى نقلت هند.ق من الزنزانة �إىل
�سجن الن�ساء املدين فيما بقي �أبو مهند يف الفرع.
246
بعد ذلك ب�سنوات ،ويف �سنة ،1988كان احلائط الفا�صل
المن 1ومنفرداته هو ال�شاهد الوحيد بني مزدوجات فرع أ
على ق�صة احلب الغريبة بني عماد وحميدة.ت.
بنواة الزيتون ،التي تطرق بلغة مور�س ،ا�ستطاع عماد
وحميدة �أن يلهبا ذاك احلائط بال�شغف� ،أن يجعال جموده نهراً
من الغواية واحلب.
بنواة الزيتون ا�ستطاع كل منهما �أن ينقل عامله ،من وراء
ال �إىل الثاين .ا�ستطاع كل منهما �أن يعي�ش تفا�صيل اجلدار ،كام ً
الخر وحبه و�أوقاته املتطاولة ،عي�ش كامل من وراء عي�ش آ
اجلدار ،عامل من التفا�صيل اليومية ال�صغرية يف الزنازين:
الحاديث ،ال�شجار ،وحتى جل�سات الطبخ ،القراءة ،أ
احلب احلميمة.
كان عماد على علم بتفا�صيل الزيارات يف مزدوجات
والغرا�ض التي ت�صل معها ،بالطعام الذي املعتقالت ،بالهدايا أ
�ستتناوله حميدة ،بتفا�صيل �أحالمها وهواج�سها ،بفرحها
وحزنها..
باملقابل كانت حميدة تعي�ش الوح�شة القاتلة يف زنزانة
عماد املنفردة ،تق�ضي �أوقاته ثانية بثانية وهي مت�ضي ثقيلة ثقيلة،
و�صمت املنفردة تك�رسه طرقات نواة الزيتون� ،أو طرقات
الخرى من اجلدار البارد الذي ي�ستحيل �أ�صابعها على اجلهة أ
فج أ�ة حاراً كاحلب.
247
بعد �أن يغيب ال�سجانة مت�ضي �ساعات الليل الطويلة
كلحظات وهما يتحادثان بالدق ..بالدق فقط.
عماد كان ال�شخ�ص الوحيد الذي ا�ستطاع �أن يعينني على
حتمل �سنوات ال�سجن :م�شاعر عجيبة ،ا�ستثنائية ،رمبا ال تنتاب
املر�أة �إال هناك يف عتمة ال�سجن.
كان لدي يقني ،لن ي�ستطيع �أحد تبديله� ،أن حياتي كلها
الخر من�ستنتهي يف حال غياب دقاته ،يف حال غدا اجلانب آ
احلائط فارغ ًا ،فيما تنفتح �أبواب الفردو�س �أمامي �إن ا�ستطعت
�أن �أملح ،من ثقب باب الزنزانة ،طرف بيجامة عماد يف
الكوريدور وهو خارج �إىل املرحا�ض .هذه اللمحة قد تكلفني
�ساعات من االنتظار ،و�أنا حمنية الظهر� ،أ�سرتق النظر من الثقب.
كنت �أرقب �أوقات خروج املعتقلني �إىل اخلط ثالث مرات يف
اليوم ،ذلك �أن حماماتنا كانت يف زاوية من املزدوجات لذلك
مل نكن نخرج البتة� .أحيان ًا يكون حظي طيب ًا و�أملحه مرة من
تلك املرات.
يف يوم �أهدتني ال�صدفة هدية رائعة وا�ستطعت �أن �أرى
وجهه وا�ضح ًا وهو ي�سرتق النظر �إىل باب مزدوجاتنا.
�أخربته بذلك يف رحلة من رحالت �أحاديثنا املتطاولة.
بالن�سبة �إيل كان وجه عماد يف تلك اللحظة �أجمل وجه
ر�أيته يف حياتي ،و�شعوري ب أ�نه ي�سرتق النظر كي يلمحني بعث
يف متعة هائلة وامتالء غريب له عالقة رمبا بامتالء أ
النوثة يف
248
داخلي.
المن! �ألي�س كنت �أمتلئ �أنوثة و�أنا يف املزدوجات يف فرع أ
أ
المر مثرياً لل�ضحك؟!
بعث عماد يوم ًا بر�سالة �إىل حميدة مع ال�سجان.
حتدث فيها عن م�شاعره الغريبة واملت�صارعة ،عن حب
امللح :هل نحن اجتاح منفردته أ
ومل �أوقاته فيها .كان �س ؤ�اله ّ
حق ًا عا�شقان؟ وهل �سنبقى لبع�ضنا وفقط لبع�ضنا؟!.
ثم نقل عماد مع بقية املعتقلني �إىل ال�سجن الكبري.
هربتها مع�إىل هناك بعثت حميدة ر�سالة مع �أحد الذاهبنيّ ،
الوحد :نعم. ال�سجان ،وكان جوابها أ
خرجت حميدة من املعتقل يف �سنة ،1990وخرج عماد
بعدها ب�سنوات� .أ�ضحى لكل منهما حياته اخلا�صة ،وهما �إىل
للخر.. اليوم مل يلتقيا ،ومل يعرف �أحدهما ال�شكل احلقيقي آ
ذلك احلب ،الذي خلقه ال�سجن ولياليه الطويلة ،ظل هناك
بني جدرانه الرطبة وممراته وزنازينه املعتمة ،احتفظ به رمبا
لعا�شقني قادمني �سيف�صلهما يوم ًا جدار �آخر ،و�سيخلق بينهما
ك�رساج ي�ضيء ظالم الزنازين ويبدد وح�شتها.
...
يف ال�سنة نف�سها� ،سنة ،1988وبعد �أ�شهر من اعتقال �أمرية.
يغ�ص بكلالمن 2الع�سكري مبدينة ال�شمال ّ ح كان بهو فرع أ
املعتقلني ال�شيوعيني :رفاق ،م�شاريع رفاق ،رفاق مر�شحني،
249
ال�صدقاء كانوا يفرت�شون �أر�ض البهو. وحتى أ
كان اعتقا ًال جماعي ًا وم�رض.ج ،زوجها ،غري موجود!!
على الرغم من �أنه كان امل�س ؤ�ول عن منطقة املدينة وينبغي �أن
يكون من �أوائل املعتقلني!.
راح خوف ما ي�ساور �أمرية من عدم �إح�ضار م�رض �إىل الفرع،
�أو هذا ما ظ ّنته ،على الرغم من �أنه اعتقل قبل �شهرين ون�صف
الن� ..أين �سيكون �إذاً؟!!
من آ
انتظرت �أمرية بفارغ ال�صرب �أن تراه �أول و�صولها �إىل
المن ،وقت تقرر نقل املعتقالت واملعتقلني العا�صمة� ،إىل فرع أ
�إىل هناك.
المن بالعا�صمة! لكن م�رض مل يكن يف فرع أ
�س أ�لت �أمرية ال�سجان عنه ،ثم مدير ال�سجن حني �أخذت
�إىل التحقيق .اجلميع �أنكروا وجوده يف الفرع� ..أنكروا
و�أنكروا.
�أين �سيكون م�رض �إذاً!!
�إح�سا�س عميق كان ي�ساور �أمرية� ،إح�سا�س ي�صل ّ
حد
المن .لكن ،رمبا كنوع اليقني ،ب أ�ن م�رض موجود هنا يف فرع أ
كذبت يقينها ،و�آخر ما خطر من �أنواع الدفاع عن النف�سّ ،
ببالها �أن يكون م�رض قد قتل.
انتقلت مع بقية املعتقالت �إىل �سجن الن�ساء ،بعد �أ�شهر
المن ..كان قلبي يخربين منذ زمن �أن من االعتقال يف فرع أ
250
�أمراً �سيئ ًا ح�صل ،لكني مل �أرد ت�صديقه ،كنت �أحاول تكذيب
�إح�سا�سي و�سط �إ�شاعات عن غياب م�رض و�أ�سبابه وعما يكون
قد ح�صل.
يف حزيران �سنة 1988جاءت غرناطة.ج ،مع حملة
من املعتقالت اجلدد �إىل �سجن الن�ساء ،بخرب �أكيد �أن م�رض
ا�ست�شهد.
�أي خرب فظيع ذاك الذي حملته غرناطة �إ ّ
يل..
علي ،بقدر ما كنت �أعتقد بقدر ما كان للخرب وقع ال�صاعقة ّ
علي كبح حزين ،كبح فجيعتي بكارثة �أتتني م�ضاعفة و�أنا �أن ّ
يف ال�سجن.
ال �أريد �أن �أ�صدق �أن م�رض قتل ..لكنه يف النهاية قتل.
ظننت وقتها �أن قوتي كمنا�ضلة يف املعتقل تكون بتما�سكي.
هذا التما�سك يتم ّثل بتطويع نف�سي ألكون �أ�شبه بتمثال حجري،
فيما كنت �أرغب بال�رصاخ ،بالبكاء ب�صوت عال كاملجانني،
ب�رضب ر�أ�سي باجلدران ،بتك�سري أ
ال�شياء.
كنت �أرغب ب أ�ن �أجن حق ًا كي �أرتاح.
حبيبي قتل و�أنا حمبو�سة هنا وما بيدي حيلة.
بعد زمن �صارت الكوابي�س حتا�رصين� .أ�ستيقظ و�أنا �أبكي
كمم�سو�سة ،و�أرجتف..
المر ،ابنتي خارج ًا بال يف النهاية كان م�رض قد قتل وانتهى أ
�أب �أو �أم ،و�أنا هنا يف املعتقل لزمن ال �أ�ستطيع التكهن به ،وال
251
�أحد ي�ستطيع ذلك .بدا يل �أن نفق حياتي ال نهاية له ،مظلم بال
�أي ب�صي�ص من �أمل.
يا �إلهي كم كانت �سنوات ع�صيبة ..ع�صيبة للغاية.
...
يف �سجن الن�ساء املدين كانت ناهد.ب تكتب الر�سائل
وتكتبها .مل تكن مت أ�كدة من �إمكانية �إي�صالها �إىل حبيبها خارج ًا
لكنها كانت تكتب له وتكتب وتكتب .بع�ض تلك الر�سائل
الخر ما زال مدون ًا على دفرت الذاكرة و�صل بالفعل ،والبع�ض آ
فح�سب .على الرغم من ذلك مل ت�ستطع تلك الر�سائل �أن جتعل
ال ،فقد �أحب امر�أة �أخرى وارتبط ال كحبيبها ينتظرها طوي ً رج ً
بها قبل �شهور من �إطالق �رساح ناهد.
�إحدى تلك الر�سائل بد�أت كما يلي:
(�إليك كانت البداية:
�أحبك بعمق ال�سنني التي ق�ضيناها مع ًا كرم�شة عني.
�أحبك بعمق رائحة البنف�سج يف �سهول الربيع
�أحبك بعمق جراح الوطن احلزين التي تلم�سناها �سوية.
�أحبك بعمق التجربة التي �أخو�ضها ،والب�صمات التي
و�شمتها هي و�أنت على جلدي.
()123
...
دائم ًا كنت حا�رضاً يف الذاكرة ..دائم ًا ومنذ اللحظة
ال�شارة تعني دائم ًا انقطاع ًا يف ن�ص الر�سالة �إما من أ
ال�صل �أو ب�سبب ( )123تلك إ
خيارات الن�رش.
252
الوىل ..كنت معي و�أمامي� ..أحدثك عن كل �شيء أ
الحزان ..مواجهتي مع اجلالد بكل بالتف�صيل ..امل�شاعر ..أ
نقاط �ضعفها وقوتها ..حلظات الفرح امل�رسوقة من اجلالد..
�أ�سماء �صديقاتي اجلدد..
� ...إنني باملقابل �أحب �أن �أعرف كل �شيء عنك وبالتف�صيل
ال .غريتي من بيتنا اجلميل ..ومن تخف غريتي قلي ًّ اململ كي
وال�صدقاء ..وحتى ال�رشطة ..كل ال�سيارات وال�شوارع ..أ
ه ؤ�الء يروك ويلم�سوك وي�شمون رائحتك �إال �أنا� ..أفال �أغار؟
و�أنا ..ورغم كل �شيء لن �أده�ش ولن �أفاج أ� ..ف أ�نا �أعرف
اليام التي تطعن الذاكرة ..وحراب الفرق متام ًا ..بني حراب أ
الن ..رغم تداخله تطعن كل �شيء وت�سقي الذاكرة ..وحبنا آ
مع كل اخلاليا ..رغم تع�شقه فينا ..جمرد ذاكرة رغم خ�صوبتها
وجمالها وعبقها الدائم).
بدون تاريخ
253
ال ت�س أ�لني ملاذا مل �أ�ضف عليها كلمة و»�أنت» ألنها بدونك
ال قيمة لها �أبداً.
من ورقة ر�أ�س ال�سنة �شعرت �أنك حزين حزين جداً� ..أكرث
مما كنت �أتوقع ومن قبل عندما �أخربتني عن �إ�شكاالت عملك
وب أ�نه غري مريح �سيطر مزاجك احلزين علي و�رصت �أفكر بك
بحزن �أكرب من ال�سابق ..قلقلة عليك� ..أريدك �سعيداً رغم
كل �شيء ..ال �أريدك �أن تتعذب وتعاين وال على �أي �صعيد..
�أريدك ..ولكن �أعود و�أ�س أ�ل نف�سي كيف؟؟ كيف ميكن التوفيق
بني عنا�رص متنافرة ..كيف ميكن التوفيق بني ذكرى وواقع..
بني وردة وبوط ع�سكري ..بني �رشاع و�إع�صار بني حركة
البدية و�سكون الرمال على �شواطئه؟؟. املوج أ
لن �أذكر املزيد عن هذا املو�ضوع ..ولكني �أفاج أ� �أ�صعق
اليام عن ر�أيي وم�شاعري ..فاحلري حني ت�س أ�لني يف يوم من أ
بي �أن �أ�س أ�لك �أنت ..و�أرجو �أن تطلعني على م�شاعرك ب�رصاحة
بكل حاالتها املتغرية حتى القا�سية منها ..فاحلقيقة باملح�صلة
النهائية هي املريحة ..و�إن قا�سينا منها �آالم ّ
مم�ضة وعميقة� ..إال
�أنها الدواء الوحيد)
�سجن الن�ساء
1990/2/19
254
مبثابة خامتة
255
رمبا كان هذان املقطعان ملخ�صني خلامتة ما.
الول كتبته الطفلة جود على دفرت اللغة العربية يف أ
املدر�سة:
(با�سم �أمي و�بي :
أ ()124
ملاذا كل النا�س
مظلومون يف ال�سجن
هذا لي�س من القانون
�أرجو من اجلميع االنتباه جيداً)
االثنني 2006/1/9
( )124جود (�8سنوات) كتبت هذا املقطع بعد �أن اكت�شفت �أن والديها كانا
�سجينني .جود هي ابنة حميدة .ت (معتقلة ثالث �سنوات) وغياث .ج
الحزاب ال�شيوعية (معتقل ع�رش �سنوات) ،وكالهما بتهمة االنت�ساب �إىل �أحد أ
املعار�ضة.
256
املقطع الثاين كتبته ناهد( )125يف نهاية دفرتها:
(�شوارع العا�صمة و�أ�ضوا ؤ�ها الفاتنة تلقي ِ
عليك التحية
الر�صفة م�شيت فيها حتى تعبت أ
تغزلت بها حتى غارت النجوم
ع�شقتها حتى بكت الرجال
ومازلت �أ�رصخ منذ عودتي �إليها:
يا مدينتي اجلميلة واخلائنة
ها�أنذا قد عدت).
الخري الذي �أ�ضيف �إىل دفرت مذكرات ناهد .ب يف املعتقل بعد ( )125املقطع أ
�إطالق �رساحها ب أ�يام
257
ثبت املعتقالت املذكورات فى الكتاب
(ال�سماء ح�سب الرتتيب أ
البجدي) أ
258
-حميدة .ت :معتقلة �سيا�سية فل�سطينية من مواليد .1962اعتقلت من �سنة
1987وحتى �سنة .1990
-ح�سيبة .ع :معتقلة �سيا�سية من مواليد ،1959اعتقلت للمرة أ
الوىل �سنة
1979وحتى �سنة 1980ويف املرة الثانية من �سنة 1986وحتى �سنة
.1991
الوىل يف -خديجة .د :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1959اعتقلت للمرة أ
1984ويف املرة الثانية من �سنة � 1992إىل �سنة 1998
-دالل .م :من مواليد 1958اعتقلت من �سنة 1987وحتى �سنة 1990
ولديها ولدان.
-روزيت .ع :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1955اعتقلت من �سنة 1978
وحتى �سنة 1980ومن �سنة � 1992إىل �سنة .1993
-رجاء .م :من مواليد . 1960اعتقلت من �سنة 1987وحتى �سنة 1991
ظل زوجها يف اخلارج وابنتها.
-رنا .م :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1963اعتقلت يف �أوائل �سنة 1988
وحتى �سنة 1991
-رماح .ب :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1966اعتقلت من �سنة 1987
وحتى �سنة 1991
-زهرة .ك (�أم كرم) :من �أكرب املعتقالت ال�شيوعيات من مواليد الثالثينيات
اعتقلت من �سنة 1987وحتى �سنة 1991وتوفيت بعد �إطالق �رساحها.
� -سحر .ب :معتقلة �سيا�سية من مواليد ،1957اعتقلت يف �سنة 1979
وحتى �سنة ،1980ومن �سنة 1987وحتى �سنة .1991
� -سناء .ح :معتقلة �سيا�سية مواليد 1958اعتقلت من �سنة 1987وحتى
�سنة . 1991
259
� -سونا� .س :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1963اعتقلت من �سنة 1987
وحتى �سنة 1990يف فرع أ
المن.
� -سهام .م :من مواليد 1957اعتقلت من �سنة 1987وحتى 1990
ولديها ولدان.
ال�سالميني من مواليد �سنة 1962اعتقلت � -سلوى .ح :معتقلة من رهائن إ
مع �أمها و�أختها من �سنة 1983وكانت حامال بابنتها �سمية .و�طلق �رساحها
أ ً
يف �سنة 1989
� -سمية .ح :ابنة �سلوى.ح .ولدت يف ال�سجن �سنة 1983وظلت معتقلة
مع �أمها حتى �إطالق �رساح إ
ال�سالميات يف �سنة 1989وكان عمرها �سبع
�سنوات.
� -سامية .ح :معتقلة �سيا�سية من مواليد ،1964اعتقلت من �أوائل �سنة
1988وحتى �سنة .1990
� -سالفة .ب :معتقلة من مواليد 1965اعتقلت من �سنة 1987وحتى �سنة
.1991
ال�سالميني من مواليد 1961اعتقلت من �سنة
� -شفاء .ع :معتقلة من إ
1981وحتى �سنة 1986بفرع أ
المن.
� -شفق .ع�( :شفيقة) معتقلة من مواليد 1959اعتقلت من �سنة 1986
وحتى .1989
� -ضحى .ع :معتقلة �سيا�سية من مواليد ،1965اعتقلت يف �أوائل �سنة
1993وحتى نهايات �سنة .1998
-عزيزة .ج :معتقلة �إ�سالمية رهينة عن زوجها النقيب منفذ عملية املدفعية.
بقيت يف �أحد ال�سجون ال�شمالية مدة �أربع �سنوات .ثم نقلت �إىل �سجن
الن�ساء� .أطلق �رساحها يف �سنة .1991
260
-غرناطة .ج :معتقلة �سيا�سية من مواليد ،1966اعتقلت �سنة 1987
وحتى �سنة .1991
-غزوة .ك :معتقلة �سيا�سية �إ�سالمية وهي طبيبة من مواليد 1964اعتقلت
من �سنة 1981وحتى �سنة .1989
-فاديا� .ش :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1958اعتقلت منذ �أوائل �سنة
1988وحتى �سنة .1991
-فاطمة .خ :معتقلة من مواليد 1963اعتقلت من �سنة 1987وحتى �سنة
،1991تنقلت بني فروع أ
المن و�سجن الن�ساء.
-فاطمة .ع :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1964اعتقلت من �سنة 1987
وحتى .1991
-لينا .م :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1961اعتقلت يف املرة أ
الوىل �سنة
1984ويف املرة الثانية من �سنة � 1987إىل �سنة .1991
-لينا .ع :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1966اعتقلت ملدة �سنة واحدة كرهينة
وذلك من �سنة 1987وحتى .1988
-لينا .و :معتقلة �سيا�سية من مواليد .1959اعتقلت يف �سنة 1987وحتى
�سنة .1990
-جمد� .أ :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1966اعتقلت يف �سنة � .1989أطلق
�رساحها بعد �سنة و�شهرين من االعتقال وذلك �سنة .1990هي اليوم تعي�ش
كالجئة �سيا�سية يف مدينة هيو�سنت .
-مرمي .ز :اعتقلت ملدة �ستة �أ�شهر من بداية �سنة 1988وحتى �أوا�سطها.
-منى� .أ :من املعتقالت ال�سيا�سيات مواليد 1958اعتقلت يف �سنة 1987
وحتى �سنة 1991
261
-مي .ح :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1957اعتقلت يف 1987بقيت
معتقلة مدة �سنتني ليطلق �رساحها بعد مدة ب�سبب و�ضعها ال�صحي.
-ناهد .ب :معتقلة �سيا�سية من مواليد ،1958اعتقلت يف �أواخر �سنة
1987وحتى نهاية �سنة .1991
-هالة .ف :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1965اعتقلت يف �سنة 1987و�أطلق
�رساحها قبل بقية املعتقالت ب�سبب و�ضعها ال�صحي وذلك �سنة .1990
-هبة .د :وهي معتقلة �سيا�سية رهينة عن �أخيها النا�شط يف تنظيم إ
ال�سالميني،
اعتقلت من �سنة 1980وحتى �سنة .1989
-هتاف .ق :معتقلة �سيا�سية من مواليد .1957اعتقلت من �سنة 1987
وحتى .1990بقي زوجها وطفالها االثنان خارج ًا.
-هدى .ك :معتقلة �سيا�سية من مواليد .1965اعتقلت �سنة 1987و�أطلق
�رساحها بعد �ستة �أ�شهر.
-هند� .أ :معتقلة من مواليد 1965اعتقلت من �سنة 1988وحتى �سنة
1990يف فرع أ
المن.
-هند .ق :معتقلة �سيا�سية من مواليد 1956اعتقلت �أول مرة يف �سنة
1982وحتى �سنة 1983ويف املرة الثانية من �سنة 1984وحتى �سنة
.1991
-وفاء� .إ :معتقلة من مواليد 1956اعتقلت من �سنة 1987وحتى �سنة
1991يف �سجن الن�ساء وهي تعي�ش اليوم يف �أملانيا.
-وفاء .ط :معتقلة �سيا�سية فل�سطينية من مواليد .1960اعتقلت يف �سنة
1987و�أطلق �رساحها بعد �ستة �أ�شهر.
-ي�رسى .ح :معتقلة من رهائن امل�سلمني من مواليد 1964اعتقلت
من �سنة 1983وحتى �سنة 1989حيث �أطلق �رساح جميع املعتقالت
ال�سالميات.
إ
262
ملحق م�صور
263
264
265
266
267
268