You are on page 1of 6

‫الخطبة الثالثة في المفطرات‬

‫الحمد هلل الذي بين لعباده الحرام والحالل ‪ .‬وحد لهم الحدود بينة‬
‫المعالم ‪ ،‬فال غموض فيها ‪ ،‬وال إشكال ‪ .‬وأشهد أن ال إله إال اهلل وحده‬
‫ال شريك له الملك الكبير المتعال ‪ ،‬أشهد أن محمدا عبده ورسوله أتقى‬
‫الخلق هلل وأهداهم في المقال والفعال ‪ .‬صلى اهلل عليه وعلى آله‬
‫وأصحابه ومن تبعهم بإحسان ما تعاقبت األيام والليالي وسلم تسليما ‪.‬‬
‫أما بعد ‪ :‬أيها الناس اتقوا اهلل تعالى ‪ ،‬واشكروه على ما أبان لكم من‬
‫معالم الدين ‪ ،‬والتزموا طاعته وتقواه سيرة النبيين والمرسلين ‪ ،‬فإن اهلل‬
‫فرض فرائض ‪ ،‬فال تضيعوها ‪ ،‬وحد حدودا ‪ ،‬فال تعتدوها ‪ ،‬وإن مما‬
‫حد اهلل ‪ ،‬وأوضحه ‪ ،‬وأبانه ‪ ،‬وأظهره ذلك الصيام الذي هو أحد أركان‬
‫اإلسالم بين اهلل متى ابتداء الصوم وانتهاؤه شهريا ‪ ،‬ومتى ابتداؤه ‪،‬‬
‫ب‬ ‫ِ‬
‫وه َّن َو ْابَتغُوا َما َكتَ َ‬
‫وانتهاؤه يوميا ‪ ،‬فقال في الشهر ‪ { :‬فَاآْل َن بَاش ُر ُ‬
‫ض ِم َن الْ َخ ْي ِط‬ ‫اللَّهُ لَ ُك ْم َو ُكلُوا َوا ْش َربُوا َحتَّى َيتََبيَّ َن لَ ُك ُم الْ َخ ْي ُ‬
‫ط اأْل َْبيَ ُ‬
‫الصيَ َام إِلَى اللَّْي ِل } ‪ .‬فإذا تبين الفجر إما‬ ‫اأْل َ ْس َو ِد ِم َن الْ َف ْج ِر ثُ َّم أَتِ ُّموا ِّ‬
‫بمشاهدته إن كان اإلنسان في فضاء ‪ ،‬وإما بسماع المؤذنين الذين‬
‫يؤذنون على طلوع الفجر دخل وقت الصيام إلى غروب الشمس لقول‬
‫النبي صلى اهلل عليه وسلم للصحابة رضي اهلل عنهم ‪ « :‬إن بالال يؤذن‬
‫بليل فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم ‪ ،‬فإنه ال يؤذن حتى‬
‫يطلع الفجر » ‪ .‬وقال ‪ « :‬إذا أقبل الليل من هاهنا ‪ ،‬وأشار إلى المشرق‬
‫‪ ،‬وأدبر النهار من هاهنا ‪ ،‬وأشار إلى المغرب ‪ ،‬وغربت الشمس ‪ ،‬فقد‬
‫أفطر الصائم » ‪.‬‬
‫أيها الناس ‪ :‬إن المفطرات التي تجنب في الصيام سبعة أنواع ‪ :‬األول‬
‫الجماع ‪ ،‬وهو أعظم المفطرات ‪ ،‬وفيه الكفارة المغلظة إذا حصل في‬
‫نهار رمضان ممن يجب عليه الصيام وكفارته عتق رقبة ‪ ،‬فإن لم يجد‬
‫فصيام شهرين متتابعين ‪ ،‬فإن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا ‪ .‬الثاني‬
‫إنزال المني باختياره بتقبيل أو لمس أو ضم أو استمناء أو غير ذلك ‪،‬‬
‫فأما إنزال المني باالحتالم ‪ ،‬فال يفطر ؛ ألنه من نائم ‪ ،‬والنائم ال اختيار‬
‫له ‪ .‬الثالث األكل والشرب ‪ ،‬وهو إيصال الطعام والشراب إلى جوفه‬
‫سواء كان ذلك الطعام والشراب حالال أم حراما نافعا أم غير نافع ‪،‬‬
‫وسواء كان عن طريق الفم أم طريق األنف لقول النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ « :‬بالغ في االستنشاق » ‪ .‬يعني في الوضوء إال أن تكون صائما‬
‫فدل هذا على أن الداخل من األنف كالداخل من الفم ‪ ،‬فأما شم‬
‫الروائح ‪ ،‬فال يفطر ؛ ألنه ليس للرائحة جرم يدخل إلى الجوف ‪ .‬الرابع‬
‫ما كان بمعنى األكل والشرب مثل اإلبر المغذية وهي التي يستغنى بها‬
‫عن الطعام والشراب ؛ ألنها بمعناهما فأما غير المغذية ‪ ،‬وهي التي‬
‫للتداوي وتنشيط الجسم ‪ ،‬فإنها ال تفطر سواء أخذت مع العرق أم مع‬
‫العضالت ألنها ليست بمعنى األكل والشرب ‪ .‬الخامس من المفطرات‬
‫إخراج الدم بالحجامة لقول النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ « :‬أفطر الحاجم‬
‫والمحجوم » ‪ .‬وال يفطر بخروج الدم بالرعاف ونحوه ؛ ألنه بغير‬
‫اختياره ‪ .‬وال يفطر بخروج الدم من قلع السن أو الضرس ؛ ألنه غير‬
‫مقصود لكن ال يبلع الدم ألن بلع الدم حرام على الصائم وغيره ‪ .‬وال‬
‫يفطر بشق الجرح إلخراج القيح منه ‪ ،‬ولو خرج منه دم ‪ .‬فأما سحب‬
‫الدم من الصائم ليحقن في شخص آخر محتاج له ‪ ،‬فإنه يفطر ؛ ألنه‬
‫كثير يؤثر على البدن كما تؤثر الحجامة ‪ ،‬وعلى هذا فال يجوز لمن‬
‫صومه واجب أن يمكن من سحب الدم منه ‪ ،‬إال أن يكون لشخص‬
‫مضطر ال يمكن صبره إلى الغروب ‪ ،‬ويرجى انتفاعه بهذا الدم ‪ ،‬فله أن‬
‫يمكن من سحب الدم منه لهذا المضطر ‪ ،‬ويأكل ‪ ،‬ويشرب ‪ ،‬ويقضي‬
‫يوما مكانه ‪ .‬السادس من المفطرات القيء وهو إخراج ما في معدته من‬
‫الطعام أو الشراب إذا تعمده ‪ ،‬فأما إن هاجت معدته ‪ ،‬وخرج الطعام‬
‫بدون تعمد منه ‪ ،‬فال يفطر لقول النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ « :‬من‬
‫ذرعه القيء أي ‪ :‬غلبه فليس عليه قضاء ‪ ،‬ومن استقاء عمدا فليقض » ‪.‬‬
‫وهذه المفطرات الستة ال يفطر بها الصائم إال إذا فعلها عالما ذاكرا‬
‫مختارا ‪ ،‬فال يفطر إن فعلها جاهال مثل أن يفعل شيئا من المفطرات يظن‬
‫أنه ال يفطر وهو يفطر ‪ ،‬أو يظن أن الفجر لم يطلع وهو طالع ‪ ،‬أو يظن‬
‫أن الشمس قد غربت ‪ ،‬وهي لم تغرب ‪ ،‬فليس عليه في ذلك حرج وال‬
‫يما أَ ْخطَأْتُ ْم بِ ِه َولَ ِك ْن َما‬‫قضاء لقوله تعالى ‪ { :‬ولَيس َعلَي ُكم جنَ ِ‬
‫اح ف َ‬
‫َْ َ ْ ْ ُ ٌ‬
‫ت ُقلُوبُ ُك ْم } ‪ .‬وفي صحيح البخاري عن أسماء بنت أبي بكر‬ ‫َت َع َّم َد ْ‬
‫رضي اهلل عنهما قالت ‪ « :‬أفطرنا على عهد النبي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫في يوم غيم ‪ ،‬ثم طلعت الشمس » ‪ ،‬ولم تذكر أن النبي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم أمرهم بالقضاء ‪ ،‬ولو أمرهم لذكرته ألهميته ‪ ،‬وما كان اهلل ليضيع‬
‫على عباده حكما واجبا بدون بيان لكن متى علم أنه في نهار وجب عليه‬
‫التوقف عن تناول المفطر ‪ ،‬فإن استمر في تناول المفطر بطل صومه ‪.‬‬
‫وال يفطر إذا فعل شيئا من المفطرات ناسيا لقوله تعالى ‪َ { :‬ر َّبنَا اَل‬
‫ُت َؤ ِ‬
‫اخ ْذنَا إِ ْن نَ ِسينَا أ َْو أَ ْخطَأْنَا } وقول النبي صلى اهلل عليه وسلم « من‬
‫نسي وهو صائم ‪ ،‬فأكل ‪ ،‬أو شرب ‪ ،‬فليتم صومه ‪ ،‬فإنما أطعمه اهلل ‪،‬‬
‫وسقاه » لكن إذا ذكر ‪ ،‬أو ذكر وجب عليه التوقف عن تناول المفطر ‪،‬‬
‫فإن استمر بطل صومه حتى لو كان الشيء في فمه ‪ ،‬فبلعه بعد ذكره‬
‫بطل صومه ‪ ،‬ومن رأى صائما يأكل أو يشرب ناسيا ‪ ،‬فليذكره فإن ذلك‬
‫من التعاون على البر والتقوى ‪ .‬وال يفطر إذا حصل عليه شيء من‬
‫المفطرات بغير اختياره ‪ ،‬فلو طال إلى جوفه غبار أو تسرب إليه ماء عند‬
‫المضمضة أو االستنشاق بغير اختياره ‪ ،‬فصومه صحيح وال شيء عليه ‪.‬‬
‫النوع السابع من المفطرات خروج دم الحيض أو النفاس ‪ ،‬فمتى خرج‬
‫ذلك ‪ ،‬ولو قبل الغروب بلحظة بطل الصوم ‪ ،‬ولو أحست بحركته قبل‬
‫الغروب ‪ ،‬ولم يخرج إال بعده ولو بزمن قليل فالصوم صحيح ألنه ال‬
‫يبطل إال بخروجه ‪.‬‬
‫ويجوز للصائم أن يتكحل بأي كحل شاء ‪ ،‬وأن يقطر دواء في عينه أو‬
‫أذنه ‪ ،‬وأن يداوي جروحه ‪ ،‬وأن يتطيب بالبخور وغيره لكن ال يستنشق‬
‫دخان البخور ‪ ،‬فيدخل إلى جوفه ‪ ،‬ويجوز للصائم أن يفعل ما يخفف‬
‫عنه الحر ‪ ،‬والعطش كالتبرد بالماء ‪ ،‬وبل الثوب ‪ ،‬ونحوه ‪ ،‬فقد روى‬
‫اإلمام مالك عن بعض أصحاب النبي صلى اهلل عليه وسلم قال ‪ « :‬لقد‬
‫رأيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يصب الماء على رأسه من العطش‬
‫أو من الحر يعني وهو صائم » ‪ .‬وبل ابن عمر ثوبه ‪ ،‬وألقاه على بدنه ‪.‬‬
‫ويجوز للصائم أن يتسوك في أول النهار وآخره ‪ ،‬وهو سنة له كما هو‬
‫سنة لغيره ‪ ،‬ويتأكد عند الصالة والضوء والقيام من النوم ‪ ،‬وأول ما‬
‫يدخل بيته ‪ .‬والسنة أن يفطر على رطب ‪ ،‬فإن لم يكن فتمر ‪ ،‬فإن لم‬
‫يكن فماء ‪ ،‬فإن لم يكن فعلى أي طعام أو شراب حالل ‪ ،‬فإن غربت‬
‫الشمس وهو في مكان ليس عنده شيء نوى الفطر بقلبه ‪ ،‬وال يمص‬
‫أصبعه كما يفعله بعض العوام ‪.‬‬
‫واحفظوا أيها المسلمون صيامكم من اللغو والرفث وقول الزور وفعله ‪،‬‬
‫فإن من لم يدع قول الزور والعمل به فليس هلل حاجة في أن يدع طعامه‬
‫وشرابه ‪ .‬أقيموا الصالة في أوقاتها مع الجماعة ‪ ،‬أكثروا من الصالة‬
‫والذكر وقراءة القرآن والصدقة وغيرها من الطاعات ‪ ،‬اجتنبوا ما حرم‬
‫اهلل عليكم من الغيبة والنميمة والغش والكذب والسب والشتم ‪ ،‬وإن‬
‫سابكم أحد ‪ ،‬فقولوا ‪ :‬إني صائم ‪ ،‬ابتعدوا عن استماع المعازف وآالت‬
‫اللهو من الراديو أو غيره ‪ ،‬فإن الصوم جنة يتقي بها الصائم اآلثام ‪،‬‬
‫وينجو بها من النار ‪ ،‬فمن تجرأ على المحرمات ‪ ،‬أو تهاون بالواجبات‬
‫ب َعلَْي ُك ُم‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫آمنُوا ُكت َ‬
‫ين َ‬ ‫في صيامه نقص ذلك من أجره ‪ { : .‬يَاأ َُّي َها الذ َ‬
‫ين ِم ْن َق ْبلِ ُك ْم لَ َعلَّ ُك ْم َتَّت ُقو َن } ‪.‬‬ ‫َّ ِ‬
‫ب َعلَى الذ َ‬
‫ِ‬
‫ام َك َما ُكت َ‬
‫الصيَ ُ‬
‫ِّ‬
‫بارك اهلل لي ولكم في القرآن العظيم ‪ . .‬الخ ‪.‬‬

You might also like