Professional Documents
Culture Documents
Turki Usmani
Turki Usmani
ت َعلِ ّي ٔه عُث َما ِنیّه؛ بالتركية الحديثة :هي إمبراطورية إسالمية أسسها عثمان األول بن أرطغرل،
دَولَ ِ
الدولة العثمانية (بالتركية العثمانيةْ :
]واستمرت قائمة ملا يقرب من 600سنة -،وبالتحديد منذ حوايل 27يوليو سنة 1299م حىت 29أكتوبر سنة 1923م
بلغت الدولة العثمانية ذروة جمدها وقوهتا خالل القرنني السادس عشر والسابع عشر ،فامتدت أراضيها لتشمل أحناء واسعة من قارات العامل القدمي
الثالثة -:أوروبا وآسيا وأفريقيا ،حيث خضعت هلا كامل آسيا الصغرى وأجزاء كبرية من جنوب شرق أوروبا ،وغريب آسيا ،ومشايل أفريقيا وصل
عدد الواليات العثمانية إىل 29والية -،وكان للدولة -سيادة امسية على عدد من الدول واإلمارات اجملاورة يف أوروبا ،اليت أضحى بعضها يُشكل
.جزءًا فعليًا من الدولة مع مرور الزمن ،بينما حصل بعضها اآلخر على نوع من االستقالل الذايت
.لفرتة مؤقتة ،كما يف حالة جزيرة "أنزاروت" يف احمليط األطلسي ،واليت فتحها العثمانيون سنة 1585م
أضحت الدولة العثمانية يف عهد السلطان سليمان األول "القانوين" (حكم منذ عام 1520م حىت عام 1566م)ّ ،قوة عظمى من الناحيتني
السياسية والعسكرية ،وأصبحت -عاصمتها القسطنطينية -تلعب دور صلة الوصل بني العاملني األورويب املسيحي والشرقي اإلسالمي ،وبعد انتهاء
عهد السلطان سالف الذكر ،الذي يُعترب عصر الدولة العثمانية الذهيب ،أصيبت الدولة بالضعف والتفسخ وأخذت تفقد ممتلكاهتا شيءًا فشيئًا ،على
.الرغم من أهنا عرفت فرتات من االنتعاش واإلصالح -إال أهنا مل تكن كافية إلعادهتا إىل وضعها السابق
انتهت الدولة العثمانية بصفتها السياسية بتاريخ 1نوفمرب سنة 1922م ،وأزيلت بوصفها دولة قائمة حبكم القانون يف 24يوليو سنة 1923م،
بعد توقيعها على معاهدة لوزان ،وزالت هنائيًا يف 29أكتوبر من نفس السنة عند قيام اجلمهورية الرتكية -،اليت تعترب حاليًا الوريث الشرعي للدولة
العثماين
لعل أبرزها هو "الدولة العليّة" -وهو اختصار المسها الرمسي "الدولة العليّة العثمانية" -،كذلك
ُعرفت الدولة العثمانية بأمساء خمتلفة يف اللغة العربيةّ ،
وخصوصا بالد الشام ومصر" ،الدولة العثمليّة" ،اشتقاقًا من كلمة" -عثملى " الرتكية -،اليت تعين
ً كان يُطلق عليها حمليًا يف العديد من الدول العربية،
"عثماين" -.ومن األمساء األخرى اليت أضيفت لألمساء العربية نقالً من تلك األوروبية" -:اإلمرباطورية العثمانية" (بالرتكية :كذلك يُطلق البعض عليها
التاريخ
األول يف آسيا الوسطى ،يف البوادي الواقعة بني جبال آلطاي شرقًا وحبر قزوين
والصينيون وغريهم -من شعوب آسيا الشرقية .وكان موطن األتراك ّ
مشايل غريب
يف الغرب ،وقد انقسموا إىل عشائر وقبائل عديدة منها عشرية "قايي" ،اليت نزحت يف عهد زعيمها "كندز ألب" إىل املراعي الواقعة ّ
أرمينيا قرب مدينة خالط ،عندما استوىل املغول بقيادة جنكيز خان على خراسان إن احلياة السياسية املبكرة هلذه العشرية يكتنفها الغموض ،وهي
أقرب إىل األساطري منها إىل احلقائق ،وإمنا كل ما يُعرف عنها هو استقرارها يف تلك املنطقة لفرتة من الزمن ،ويُستدل على صحة هذا القول عن
طريق عدد من األحجار والقبور تعود ألجداد بين عثمان .ويُستفاد من املعلومات املتوافرة أن هذه العشرية تركت منطقة خالط حوايل سنة
1229م حتت ضغط األحداث العسكرية اليت شهدهتا املنطقة ،بفعل احلروب اليت أثارها السلطان جالل الدين اخلوارزمي وهبطت إىل حوض هنر
دجلة
تويف "كندز ألب" يف العام التايل لنزوح عشريته -إىل حوض دجلة -،فرتأس العشرية ابنه سليمان ،مث حفيده "أرطغرل" الذي ارحتل مع عشريته إىل
مسرح ا للقتال بني السالجقة واخلوارزميني ،فالتحق خبدمة السلطان عالء الدين سلطان قونية ،إحدى اإلمارات
ً مدينة إرزينجان ،وكانت
السلجوقية -اليت تأسست عقب احنالل دولة السالجقة العظام ،وسانده يف حروبه ضد اخلوارزميني ،فكافأه السلطان السلجوقي بأن أقطع عشريته
بعض األراضي اخلصبة قرب مدينة أنقرة .وظل أرطغرل حلي ًف ا للسالجقة حىت أقطعه السلطان السلجوقي منطقة يف أقصى الشمال الغريب من
األناضول على احلدود البيزنطية ،يف املنطقة املعروفة باسم "سوغوت" حول مدينة أسكي شهر ،حيث بدأت العشرية هناك حياة جديدة إىل جانب
إمارات تركمانية سبقتها إىل املنطقة .عال شأن أرطغرل لدى السلطان بعد أن أثبت إخالصه للسالجقة ،وأظهرت عشريته كفاءة قتالية عالية يف
دوما يف مقدمة اجليوش ومتّ النصر على يدي أبنائها ،فكافأه السلطان بأن خلع عليه لقب "أوج بكي" ،أي حمافظ احلدود،
كل معركة ووجدت ً
اعرتافًا بعظم أمره .غري أن أرطغرل كان ذا أطماع سياسية بعيدة ،فلم يقنع هبذه املنطقة اليت أقطعه إياها السلطان السلجوقي ،وال باللقب الذي
ظفر به ،وال مبهمة حراسة احلدود واحلفاظ عليها؛ بل شرع يهاجم باسم السلطان ممتلكات البيزنطيني يف األناضول فاستوىل على مدينة أسكي شهر
وضمها إىل أمالكه -،واستطاع أن يوسع أراضيه خالل مدة نصف قرن قضاها كأمري على مقاطعة حدودية ،وتويف يف سنة 1281م عن عمر يُناهز
بعد أرطغرل توىّل زعامة اإلمارة ابنه البكر عثمان ،فأخلص الوالء للدولة السلجوقية على الرغم مما كانت تتخبط فيه من اضطراب وما كان
يتهددها من أخطار .أظهر عثمان يف بداية عهده براعة سياسية يف عالقاته مع جريانه ،فعقد حتالفات مع اإلمارات الرتكمانية -اجملاورة ،ووجه نشاطه
العسكري حنو األراضي البيزنطية الستكمال رسالة دولة سالجقة الروم بفتح األراضي البيزنطية كافة ،وإدخاهلا ضمن األراضي اإلسالمية ،وشجعه
على ذلك حالة الضعف اليت دبت يف جسم اإلمرباطورية البيزنطية وأجهزهتا ،واهنماكها باحلروب يف أوروبا ،فأتاح له ذلك سهولة -التوسع باجتاه
غريب األناضول ،ويف عبور الدردنيل إىل أوروبا الشرقية اجلنوبية -.ومن الناحية اإلدارية ،فقد أظهر عثمان مقدرة فائقة يف وضع النظم اإلدارية
كبري ا على طريق التحول من نظام القبيلة املتنقلة إىل نظام اإلدارة املستقرة ،ما ساعدها على توطيد
إلمارته ،حبيث قطع العثمانيون يف عهده شوطًا ً
سريع ا إىل دولة كربى .وقد أبدى السلطان السلجوقي عالء الدين كيقباد الثالث تقديره العميق خلدمات عثمان ،فمنحه لقب
مركزها وتطورها ً
"".عثمان غازي حارس احلدود العايل اجلاه ،عثمان باشا
أقدم عثمان بعد أن ثبّت أقدامه يف إمارته على توسيع -حدودها على حساب البيزنطيني ،ففي عام 1291م فتح مدينة "قره جه حصار" الواقعة إىل
اجلنوب من سوغوت ،وجعلها قاعدة له ،وأمر بإقامة اخلطبة بامسه ،وهو أول مظهر من مظاهر السيادة والسلطة ،ومنها قاد عشريته إىل حبر مرمرة
والبحر األسود .وحني تغلب املغول على دولة قونية السلجوقية ،سارع عثمان إىل إعالن استقالله عن السالجقة ول ّقب نفسه "پاديشاه آل عثمان"
وخلع
عاما ،بعد أن وضع أسس الدولة ومهد هلا درب النمو واالزدهارُ ،
مقربة من حبر مرمرة،ويف هذه السنة تويف عثمان عن عمر يناهز السبعني ً
عليه لقب آخر هو "قره عثمان" ،وهو يعين "عثمان األسود" باللغة الرتكية -احلديثة -،لكن يُقصد به "الشجاع" أو "الكبري" أو "العظيم" يف الرتكية
.العثمانية
حمكما ،فقسمها إىل سناجق أو واليات ،وجعل من بورصة عاصمةً هلا ،وضرب النقود بامسه ،ونظّم اجليش،
تنظيما ً
ُعين أورخان بتنظيم مملكته ً
جيشا قويًا ُعرف جبيش
فألّف فرقًا من الفرسان النظاميني ،وأنشأ من الفتيان املسيحيني الروم واألوروبيني الذين مجعهم من خمتلف األحناء ً
وخصهم بامتيارات كبرية ،فتعلقوا بشخصه وأظهروا له الوالء .وعمل أورخان على
صارما ّ
درب أورخان هؤالء الفتيان تدريبًا ً
اإلنكشارية .وقد ّ
شن
مدينيت إزميد ونيقية .ويف عام 1337م ّ
ّ توسيع الدولة -،فكان طبيعيًا أن ينشأ بينه وبني البيزنطيني صراعٌ عنيف كان من نتيجته استيالؤه على
هجوم ا على القسطنطينية عاصمة البيزنطيني نفسها ،ولكنه أخفق يف احتالهلا .ومع ذلك فقد أوقعت هذه الغزوة الرعب يف قلب إمرباطور الروم
ً
"أندرونيقوس الثالث" ،فسعى إىل التحالف معه وزوجه ابنته .ولكن هذا الزواج مل حيل بني العثمانيني وبني االندفاع إىل األمام ،وتثبيت أقدامهم
سنة 1357م يف شبه جزيرة غاليبويل ،وهكذا اشتد اخلطر العثماين على القسطنطينية من جديد -.شهد املسلمون يف عهد أورخان ّأول استقرار
للعثمانيني يف أوروبا ،وأصبحت الدولة -العثمانية متتد من أسوار أنقرة يف آسيا الصغرى إىل تراقيا يف البلقان ،وشرع املبشرون يدعون السكان إىل
اعتناق اإلسالم .تويف أورخان األول يف سنة 1360م بعد أن أيّد الدولة الفتيّة بفتوحاته اجلديدة وتنظيماته -العديدة -،وتوىّل بعده ابنه "مراد اهلل"،
كانت فاحتة أعمال مراد األول احتالل مدينة أنقرة مقر إمارة القرمان ،وذلك أن أمريها وامسه عالء الدين ،أراد انتهاز فرصة انتقال امللك من
ُ
فيوما،
يوما ً
السلطان أورخان إىل ابنه مراد إلثارة محية األمراء اجملاورين وحتريضهم على قتال العثمانيني ليقوضوا أركان ملكهم اآلخذ يف االمتداد ً
فكانت عاقبة دسائسه أن فقد أهم مدنه .وحتالف مراد مع بعض أمراء األناضول مقابل بعض التنازالت لصاحل العثمانيني ،وأجرب آخرين على
واجلهاد يف أوروبا ،وقد ظلت عاصمة للعثمانيني حىت فتحوا القسطنطينية -يف وقت الحق ،كما مت فتح ع ّدة مدن أخرى مثل صوفيا وسالونيك-،
وبذلك صارت القسطنطينية -حماطة بالعثمانيني من كل جهة يف أوروبا .ويف 12يونيو سنة 1385م ،املوافق فيه 19مجادى اآلخرة سنة 791هـ،
قوى من اجملر والبلغار واأللبانيني -يف إقليم "قوصوة" ،املعروف حاليًا باسم "كوسوڤو"-،
التقت اجليوش العثمانية بالقوى الصربية -تساندها ً
فدارت بني الطرفني معركة عنيفة انتصر فيها العثمانيون ،إال أن السلطان قتل يف هنايتها على يد أحد اجلنود الذي تظاهر باملوت
.معركة نيقوبولس بني العثمانيني واألوروبيني .يعترب العديد من املؤرخني هذه املعركة آخر محلة صليبية كربى نُظمت يف القرون الوسطى
توىّل عرش آل عثمان بعد مراد األول ابنه بايزيد ،وعند ذلك كانت الدولة قد اتسعت حدودها بشكل كبري -،فانصرف إىل تدعيمها بكل ما ميلك
تاما .فجزع
إخضاعا ً
ً من وسائل ،وانتزع من البيزنطينيني مدينة آالشهر -،وكانت آخر ممتلكاهتم يف آسيا الصغرى ،وأخضع البلغار عام 1393م
خصوصا بعد أن تامخت حدود بالده مناطق السيطرة العثمانية -،فاستنجد -بأوروبا الغربية ،فدعا
ً "سيگسموند" ملك اجملر من هذا التوسع -العثماين،
البابا "بونيفاس التاسع" إىل محلة صليبية جديدة ضد العثمانيني ملنعهم من التوغل يف قلب أوروبا ،فلىّب الدعوة ملك اجملر سالف الذكر ،وعدد من
أمراء فرنسا وباڤاريا والنمساوفرسان القديس يوحنا يف رودس ومجهورية البندقية ،وقدمت إنگلرتا مساعدات عسكرية .تقابل اجليشني العثماين
واألورويب يف 25سبتمرب سنة 1396م ،املوافق فيه 21ذي احلجة سنة 798هـ ،ودارت بينهما رحى معركة ضارية ُهزم فيها األوروبيون وردوا
على أعقاهبم .حاصر بايزيد القسطنطينية -مرتني متواليتني ،ولكن حصوهنا املنيعة صمدت يف وجه هجماته العنيفة ،فارتد عنها خائبًا .ومل ينس بايزيد
تيمورلنك .وهكذا خف الضغط العثماين على البيزنطيني ،وتأخر سقوط القسطنطينية -يف أيدي العثمانيني مخسني سنة وني ًفا .ويف ربيع سنة
"جبق آباد" ودارت معركة طاحنة اهنزم فيها العثمانيون وأُسر السلطان
1402م ،تق ّد م تيمورلنك حنو سهل أنقرة لقتال بايزيد ،فالتقى اجلمعان عند ُ
بايزيد ومحله -املغول معهم عائدين إىل مسرقند عاصمة -الدولة ا حيث عاش بقية أيامه ومات يف سنة1403 -م
وبعد موت السلطان بايزيد جتزأت الدولة -إىل ع ّدة إمارت صغرية كما حصل بعد سقوط الدولة -السلجوقية ،ألن تيمورلنك أعاد إىل أمراء
قسطموين وصاروخان وكرميان وآيدين -ومنتشا وقرمان ما فقدوه من البالد .واستقل يف هذه الفرتة كل من البلغار والصرب والفالخ ،ومل يبق
تابع ا للراية العثمانية إال قليل من البلدان .ومما زاد اخلطر على الدولة عدم اتفاق أوالد بايزيد على تنصيب أحدهم ،بل كان كل منهم يدعي األحقية
ً
لنفسه .فنشبت بينهم -حروب ضارية ،ولكن النصر كان آخر األمر من نصيب حممد بن بايزيد ،امللقب مبحمد األول أو "حممد -چليب" ،الذي
ُ
استطاع أن يعيد للدولة بعض ما فقدته من أمالكها يف األناضول .وبعد حممد -األول توىّل عرش السلطنة العثمانية مراد الثاين ،فاستمر بإخضاع
املدن واإلمارات اليت استقلت عن الدولة العثمانية ،وحاصر القسطنطينية -،ولكنه مل يُوفق إىل احتالهلا .مث حاول أن يعيد إخضاع البلقان لسيطرته،
وملا تويف السلطان مراد الثاين ارتقى عرش العثمانيني ابنه حممد -،فكان عليه بادئ األمر أن خُي ضع ثورة نشبت ضده يف إمارة قرمان بآسيا الصغرى،
ّ
فاستغل اإلمرباطور البيزنطي قسطنطني احلادي عشر هذا األمر ،وطلب من السلطان مضاعفة اجلزية اليت كان والده يدفعها إىل البيزنطيني لقاء
أسرهم األمري أورخان حفيد سليمان بن بايزيد املطالب بالعرش العثماين .فاستاء السلطان حممد من هذا الطلب ملا كان ينطوي عليه من هتديد
أصر على البناء ملا يف القلعة من أمهية اسرتاتيجية .واستنجد اإلمرباطور قسطنطني بالدول األوروبية فلم تنجده إال بعض املدن اإليطالية ،أما البابا
بل ّ
تعصب الشعب حال
ولكن ّ
فقد أبدى استعداده ملساعدة اإلمرباطور شرط أن تتحد الكنيستان الشرقية والغربية ،ووافق قسطنطني على املشروعّ ،
.دون حتقيق ذلك
يوما على احلصار حىت كان العثمانيون قد دخلوا املدينة بعد أن
والواقع أن البيزنطيني استماتوا يف الدفاع عن عاصمتهم ،لكن ما أن مضى ً 53
جدا دارت رحاه يف الشوارع ،وذهب
ُه دمت أجزاء كبرية من أسوارها بفعل القصف املدفعي املتكرر ،واشتبكوا مع البيزنطيني يف قتال عنيف ً
ضحيته اإلمرباطور نفسه وكثري من جنوده .حىت إذا انتصف النهار دخل حممد املدينة وأصدر أمره إىل جنوده بالكف عن القتال ،بعد أن قضى على
املقاومة البيزنطية ونشر راية السالم .اختذ السلطان حممد لقب "الفاتح" بعد فتح املدينة -،وأضاف إليه لقب "قيصر الروم" ،على الرغم من عدم
اعرتاف بطريركية القسطنطينية وال أوروبا الغربية هبذا األمر ،ونقل مركز العاصمة من أدرنة إىل القسطنطينية اليت غرّي امسها إىل "إسالمبول" -،أي
مدينة اإلسالم أو ختت اإلسالم ،وأعطى للمسيحني اآلمان وحرية إقامة شعائرهم الدينية ،ودعا من هاجر منهم خوفًا إىل العودة إىل بيوهتم .سقطت
اإلمرباطورية البيزنطية عند فتح املدينة بعد أن استمرت أحد عشر قرنًا وني ًفا ،وتابع السلطان حممد -فتوحاته يف أوروبا خالل السنوات الالحقة اليت
أعقبت سقوط القسطنطينية ،فأخضع بالد الصرب وقضى على استقالهلا ،وفتح بالد املورة يف جنوب اليونان ،وإقليم األفالق وبالد البشناق
مُي كن تقسيم هذه الفرتة يف التاريخ العثماين إىل حقبتني مميزتني :حقبة النمو واالزدهار العسكري والثقايف واحلضاري واالقتصادي ،وهي متتد حىت
ركودا سياسيًا وعسكريًا ،وختللتها فرتات إصالح وانتعاش ،وقد دامت حىت سنة 1683م
.سنة 1566م ،وحقبة شهدت بأغلبها ً
.السلطان الغازي بايزيد خان الثاين امللقب "بالصويف" ،جلنوحه إىل السلم وابتعاده عن احلرب
ُ
بعد موت السلطان حممد -الفاتح تنازع ابناه "جم" و"بايزيد" على العرش .ولكن الغلبة كانت من نصيب بايزيد ،ففر جم إىل مصر حيث احتمى
بسلطان املماليك "قايتباي" ،مث إىل رودس حيث حاول أن يتعاون مع فرسان القديس يوحنا والدول الغربية على أخيه ،لكن بايزيد استطاع إقناع
دولة الفرسان بإبقاء األمري جم على اجلزيرة مقابل مبلغ من املال ،وتعهد بأن ال ميس جزيرهتم طيلة فرتة حكمه ،فوافقوا على ذلك ،لكنهم عادوا
وسلموا األمري إىل البابا "إنوسنت -الثامن" كحل وسط ،وعند وفاة األخري قام خليفته بدس السم لألمري بعد أن أجربه الفرنسيون على تسليمهم إياه،
مدافعا ،فقاتل
ود فن فيها .اتصف السلطان بايزيد بأنه سلطان مسامل ال يدخل احلروب إال ً
فتويف يف مدينة ناپويل ،ونقل جثمانه فيما بعد إىل بورصة ُ
مجهورية البندقية بسبب اهلجمات اليت قام هبا أسطوهلا على بالد املورة ،وحارب املماليك حني قرر السلطان قايتباي السيطرة على إمارة ذي القدر
ومدينة -ألبستان التابعتني للدولة -العثمانية ،وعدا ذلك فكان يفضل جمالسة العلماء واألدباء .ويف عهده سقطت غرناطة آخر معاقل املسلمني يف
أيضا ظهرت ساللة وطنية
األندلس؛ فبعث بع ّدة سفن لتحمل -األندلسيني املسلمني واليهود إىل القسطنطينية -وغريها من مدن الدولة -،ويف عهده ً
.شيعية يف بالد فارس ،هي الساللة الصفوية ،اليت استطاعت بزعامة الشاه إمساعيل بن حيدر ،أن هتدد باخلطر إمرباطورية العثمانيني يف الشرق
دب النزاع بني أوالده بسبب من والية العهد .ذلك أن بايزيد اختار ابنه أمحد خلالفته ،فغضب ابنه اآلخر سليم -،وأعلن
ويف أواخر عهد بايزيد ّ
الثورة على والده ،وكان لثورة سليم -أسباب سياسية ومذهبية -وجتارية وعرقية ،ذلك أن الصفويني كانوا يعملون على نشر املذهب الشيعي يف
األناضول على حساب املذهب -السين ،وقطعوا طريق التجارة مع اهلند والشرق األقصى ،ومنعوا نزوح املزيد من قبائل الرتكمان من آسيا الوسطى
إىل األناضول وأوروبا الشرقية ،وكان الشاه إمساعيل يدعم -األمري أمحد للوصول إىل سدة احلكم ومل حيرك األخري ساكنًا ملنع التدخل الصفوي يف
الشؤون العثمانية -.نتيجة لكل ما سلف ،ثار سليم -على والده وشقيقه مث استوىل على أدرنة ،فما كان من بايزيد إال أن انربى لقتال ابنه سليم-،
فهزمه وقرر نفيه ،لكن اجلنود اإلنكشارية قاموا بالضغط على السلطان وأرغموه بالتنازل عن العرش لصاحل ابنه سليم -.وقد مات بايزيد يوم 26
مايو سنة 1512م ،املوافق فيه 10ربيع األول سنة 918هـ ،واختلف املؤرخون على سبب الوفاة .كان على سليم ،بعد اعتالئه العرش ،تثبيت
أقدامه يف احلكم والتفاهم مع الدول األوروبية الفاعلة ليتفرغ ألخطر أزمة واجهتها الدولة منذ أعقاب معركة أنقرة ،أال وهي القضية الصفوية،
األندلس وقيام الربتغاليني بالتحالف مع الصفويني وإنشائهم ملستعمرات يف بعض املواقع يف جنوب العامل اإلسالمي .وكان الشيعة املقيمون يف آسيا
اعتمادا على تأييد الصفويني ،فأخضع سليم هذه الثورة وعمد إىل اضطهاد الشيعة ،فذهب ضحية هذه
ً الصغرى قد ثاروا على الدولة العثمانية
السياسة أربعون أل ًف ا منهم ،مث انربى لقتال الشاه ،فالتقى الفريقان يف سهل چالديران والتحما يف معركة كبرية كان النصر فيها لصاحل السلطان
تقدم العثمانيون ،بعد انتصارهم على الصفويني ،إلخضاع السلطنة اململوكية -،فنشبت بينهم -وبني املماليك معركة على احلدود الشاميّة الرتكية
تُعرف مبعركة مرج دابق ،انتصر فيها العثمانيون وقُتل سلطان املماليك "قنصوه الغوري" ،مث تابعوا زحفهم حنو مصر والتحموا باملماليك من جديد
جمددا ودخلوا القاهرة فاحتني .ويف أثناء ذلك ق ّدم شريف مكة مفاتيح احلرمني
يف معركة الريدانية اليت قررت مصري مصر كلها ,وانتصروا عليهم ً
الشريفني إىل السلطان سليم -اعرتافًا خبضوع األراضي املقدسة -اإلسالمية للعثمانيني ،وتنازل يف الوقت ذاته آخر اخللفاء العباسيني ،حممد الثالث
املتوكل على اهلل ،عن اخلالفة لسلطان آل عثمان ،فأصبح كل سلطان منذ ذلك التاريخ خليفة للمسلمني ،وحيمل -لقب "أمري املؤمنني" و"خليفة
كبريا لإلمرباطورية
ومنافسا ً
ً رسول رب العاملني" .وعند هناية محلته -الشرقية ،كان السلطان سليم قد جعل من الدولة العثمانية قوة إقليمية كربى
باسم "العظيم" -.والواقع أن الفتوح يف الشرق شغلت السلطان سليم طوال أيام حكمه ،فكان طبيعيًا أن ينصرف السلطان سليمان إىل ناحية الغرب
ليُتم الفتوح اليت كان أسالفه قد بدأوها من قبله .واحتل سليمان مدينة بلغراد يف سهولة ،عام 1521م ،وعقد العزم على ما كان أبوه السلطان
اشتبكت اجليوش العثمانية مع نظريهتا اجملرية يف وادي موهاج باجملر بتاريخ 26أغسطس سنة 1526م ،يف معركة دامت حوايل الساعتني ،وانتصر
الزمن ،وملا أفرج عنهم محّلهم -رسالة إىل امللك ليستعد ملالقاته .وقاتل سليمان فرديناد جبيش عظيم ،فلم يصمد يف وجهه ،فراح سليمان يتعقبه حىت
ّ
ثغرا يف أسوارها إال أن الذخرية
ڤيينا العاصمة ،وهنا ضرب سليمان احلصار على هذه املدينة القائمة يف قلب أوروبا ،وأحدثت اجلنود العثمانية ً
الكرة ،فحاصر ڤيينا من جديد ،ولكن
واملؤن نفدت منهم ،وأقبل فصل الشتاء فقفل السلطان ورجع إىل بالده.ويف عام 1532م ،عاود سليمان ّ
صلحا احتفظ مبوجبه جبميع -ما استوىل عليه من األراضي اجملرية .وكان مما ر ّغب سليمان
أيضا ،فعقد مع فرديناند ً
التوفيق خانه يف محلته الثانية هذه ً
يف عقد الصلح اضطراره إىل االلتفات صوب الشرق بعد أن توترت العالقات بينه وبني "طهماسب بن إمساعيل الصفوي" شاه فارس ،وتفصيل
ذلك أن عامل بغداد من قبل طهماسب خان مواله الصفوي واحناز إىل العثمانيني بناءً على إحلاح الشعب بسبب سياسة التطرف املذهيب اليت
انتهجها الصفويون،فسار إليه طهماسب يريد تأديبه ،فلم يكن من السلطان سليمان إال أن اغتنم هذه الفرصة لالنقضاض على بالد فارس ،وهكذا
.احتل تربيز عاصمة الفرس ،مث استوىل على بغداد ودخلها يف أهّب ة بالغة
.خري الدين بربروس باشا يهزم األساطيل احلليفة يف معركة بروزة سنة 1538م
وضم
البحار يوناين األصل ،خري الدين بربروس ،الذي كان سبق ّ
حقق العثمانيون أيام السلطان سليمان ع ّدة فتوحات حبرية مهمة ،وذلك بفضل ّ
أمريا للبحر عام 1533م ،فنهض باألسطول -العثماين هنضة جبارة
اجلزائر للدولة العثمانية أيام السلطان سليم -.عنّي السلطان سليمان خري الدين هذا ً
مكنته من انتزاع تونس من أيدي اإلسبان وإخضاعها للسلطة العثمانية ولو لفرتة قصرية من الزمن .ويف سنة1538 -م حقق خري الدين للدولة-
كبريا ،فقد وفّق إىل إنزال هزمية قاسية بأندريا دوريا الذي كان يقود أساطيل كارلوس اخلامس ملك إسبانيا والبابا بولس
نصرا حبريًا ً
العثمانية ً
الثالث والبندقية جمتمعة،وذلك قرب بروزة ،الواقعة على خليج آرتا يف الشمال الغريب من اليونان .ومن الفتوح اهلامة اليت حققها األسطول العثماين
يف عهد السلطان سليمان ،فتح طرابلس الغرب وحتريرها من اإلسبان وفرسان القديس يوحنا على يد القبطان "طورغول بك" ]58[.تويف السلطان
سليمان يف 5سبتمرب سنة 1566م ،املوافق فيه 20صفر سنة 974هـ ،وكانت الدولة العثمانية آنذاك قد بلغت أعلى درجات الكمال وأصبح
وجودها ضروريًا حلفظ التوازن السياسي يف الشرق األوسط وأوروبا ،ووصل عدد سكاهنا إىل 15,000,000نسمة حبسب بعض املصادر[.
]64
.الصدر األعظم حممد باشا صقللي ،ربّان السفينة العثمانية خالل عهد السلطان سليم -الثاين
يُعترب عصر سليمان القانوين عصر الدولة العثمانية الذهيب ،وما أن انقضى هذا العصر حىت أصاب الدولة -الضعف والتفسخ .فقد كان سليم الثاين،
حاكما منحالً
ً خليفة سليمان -،سلطانًا ضعي ًفا ال يتصف مبا يؤهله -للقيام حبفظ فتوحات أبيه فضالً عن إضافة شيء إليها ،باإلضافة إىل أنه كان
خامالً ،وكان ماجنًا س ّك ًريا ]65[.وما مييّز عهد هذا السلطان هو أن وظيفة الصدر األعظم -أصبحت جتعل من يتقلدها احلاكم الفعلي وقائد
اجليوش ]66[،فلوال وجود الصدر األعظم حممد -باشا صقللي املخضرم يف األعمال السياسية واحلربية للحق الدولة الفشل ]67[،لكن حسن سياسة
جيشا
هذا الرجل وعظم اسم الدولة ومهابتها يف قلوب أعدائها حفظها من السقوط مرة واحدة ]67[.ومن أعمال حممد باشا صقللي أن أرسل ً
كبريا إىل اليمن سنة 1569 -م بقيادة عثمان باشا يسانده سنان باشا وايل مصر ،لقمع ثورة األهايل ،ومتكن اجليش من إمخاد الثورة ،ودخل مدينة
ً
أيضا فتح جزيرة قربص وانتزاعها من أيدي البنادقة ]67[.شنّت الدولة العثمانية
صنعاء بعد أن فتح مجيع القالع ]67[.ومن أعمال الصدر األعظم ً
أيضا محلة -على مدينة أسرتخان ،الواقعة على مصب هنر الڤولغا يف حبر قزوين ،هبدف اسرتداد اإلمارة ووضع حد المتداد روسيا
يف عام 1569م ً
من ناحية اجلنوب ،خشية أن يؤدي توسعها إىل استيالئها على الطرق التجارية واألسواق الكربى وإىل هيمنتها على جتارة البلدان اإلسالمية]68[،
إال أن هذه احلملة كان مصريها الفشل ،بسبب امتناع خاقان القرم" ،دولت گراي األول" ،عن التعاون مع اجليش العثماين وسعيه شخصيًا ألن
يقوم باالستيالء -على أسرتخان وقازان ،كما تعذر ضرب احلصار على املدينة ألن الروس بنوا قلعة قوية إىل اجلنوب منها ،على الطريق املؤدية إليها
هزت صورة البحرية العثمانية واجليش العثماين الذي اعتربه كثريون ال يُقهر.
ويف عهد السلطان سليم -الثاين جرت موقعة ليبانتو البحرية اليت ّ
وتفصيل ذلك أنه بعد ازدياد اخلطر العثماين يف البحر املتوسط على أوروبا ،وخاصة بعد فتح جزيرة قربص ،وبعض املواقع على البحر األدرياتيكي[،
] 66حتالف فيليب الثاين ملك إسبانيا مع البابا بيوس اخلامس ومجهورية البندقية لوقف التقدم العثماين باجتاه إيطاليا من جهة ،واسرتداد مجيع املواقع
اليت فتحوها على حساب أوروبا وخباصة يف مشال أفريقيا ،من جهة أخرى .فجمعوا مائتني وثالثني سفينة وثالثني ألف جندي ]70[،وسلموا لواء
القيادة إىل الدون يوحنا النمساوي ،الذي أحبر إىل خليج پاتراس ،أحد فروع البحر األيوين ،وهناك اشتبك األسطوالن -العثماين واألورويب يف معركة
حبرية طاحنة هي إحدى أكرب املعارك يف التاريخ احلديث ،أسفرت عن انتصار األوروبيني واهنزام العثمانيني هزمية منكرة ]67[.ومل تُقعد هذه
احلادثة مهّة الصدر األعظم حممد باشا صقللي ،بل انتهز فرصة الشتاء وعدم إمكانية استمرار احلرب لتجهيز أسطول جديد -،وبذل النفس والنفيس
يف جتهيزه وتسليحه -حىت إذا أقبل صيف سنة 1572م كان قد متّ بناء 250سفينة مبا فيها 8غاليني حديثة ]71[،وأعلم -الصدر األعظم البنادقة
باستعداده للجولة الثانية ]71[،ففضلت البندقية أن جتنح للسالم ووقعت مع الدولة العثمانية معاهدة بذلك سنة1573 -م ]72[،فتفرغ العثمانيون
معركة وادي املخازن عام 1578بني الدولة املغربية يف ميني الصورة ،مبشاركة 15ألف إنكشاري أرسلتهم الدولة العثمانية كمساعدة عسكرية،
واإلمرباطورية الربتغالية يف يسار الصورة ،مبشاركة متطوعني من قشتالة وإيطاليا ،ومرتزقة من اإلقليم الفالمندي وأملانيا وحلفاء مغاربة]73[.
تويف السلطان سليم -الثاين يوم 12ديسمرب سنة 1574م ،املوافق فيه 27شعبان سنة 982هـ ]67[،وتوىّل بعده ابنه مراد الثالث .ويف عهد هذا
السلطان تدخلت الدولة العثمانية يف انتخاب حليفها "أتيني باتوري" ،أمري ترانسلڤانيا ،مل ًكا على بولندا بعد شغور العرش ،وبذا حتولت احلماية
الثوار
العثمانية على بولندا من محاية امسية إىل محاية فعلية ]74[.وساعد العثمانيون سلطان مراكش إلمخاد ثورة اندلعت يف بالده ،فاصطدموا مع ّ
والربتغاليني الذين ساندوهم يف موقعة القصر الكبري وانتصروا عليهم وأعادوا السلطان إىل احلكم ]66[.أما أهم ما حصل يف عهد السلطان مراد
الثالث هو التوسع -العثماين يف الشرق ،على حساب الدولة الصفوية ،فبعد وفاة الشاه طهماسب األول من غري أن يسمي من سيخلفه -،تنازع أبناؤه
على السلطة ،فأرسل الصدر األعظم -حممد باشا صقللي محلة عسكرية إىل بالد فارس لفتح ما تيسر من مدهنا ،فضموا إليهم من أمالكها بالد
ومتر د اإلنكشارية ،وراح الوالة يتنافسون فيما بينهم على منصب الصدارة العظمى .ويف
فعمت الفوضى بعد موته بفعل ضعف حلفائه ّ
1579مّ ،
صلحا مع الصفويني ،أعرتفوا فيه مبا مت ضمه -إىل الدولة العثمانية ،إضافةً إىل جنوب أذربيجان مبا فيها العاصمة تربيز[.
عام 1590م أبرم العثمانيون ً
نظرا هلبوط
] 66وبعد إبرام الصلح استتب األمن على حدود الدولة ،إن يف الشرق أو يف الغرب ،فثار اإلنكشارية يف القسطنطينية ويف الواليات ً
ونظرا ملا وصل إليه اإلنكشارية
قيمة أجورهم ،األمر الذي دفع الصدر األعظم اجلديد ،سنان باشا ،أن يشغلهم باحلروب مع النمسا يف اجملرً ]76[،
من فوضى توالت عليهم -اهلزائم ،وفقدوا بعض القالع ،وعلى الرغم من أن سنان باشا استطاع أن يسرتدها الح ًقا ]76[،إال أن أمراء األفالق
والبغدان وترانسلڤانيا استغلوا املوقف وانتصروا على اجليوش العثمانية يف بضعة معارك واسرتدوا منهم بعض املدن ]76[.وتويف السلطان مراد
الثالث مساء 19يناير سنة 1595م ،املوافق فيه 8مجادى األوىل سنة 1003هـ ،بعد أن أصيب بداء عياء]1[.
توىّل عرش آل عثمان بعد مراد الثالث ابنه حممد ،الذي خرج عن القاعدة اليت استفحلت منذ أيام جده سليم الثاين ،وهي تويل الصدر األعظم قيادة
اجليش ،فقاد اجليوش بنفسه وخرج لقتال اجملر والنمسا ،وانتصر عليهم -يف موقعة كرزت سنة 1596م ]77[.ويف بداية القرن السابع عشر حصلت
خصوصا وأن نار احلروب كانت مشتعلة على حدود اجملر والنمسا،
ً يف األناضول ثورة داخلية كادت أن تكون عاقبتها وخيمة على الدولة-،
وخالصتها أن قائد إحدى فرق اإلنكشارية اليت نفيت إىل األناضول عقابًا هلا لعدم ثباهتا يف موقعة كرزت ،إدعى أنه رأى النيب حممد يف منامه
يبشره بالنصر على العثمانيني ]78[،فأعلن العصيان وثار على الدولة وقام بعدد من الفنت إىل جانب شقيقه ،مث مات بعد أن أصيب جبراح يف
إحدى املعارك ]78[،لكن شقيقه استمر يعصي الدولة إىل أن أعطته والية البوسنة -ليحارب األوروبيني حىت هلكت جيوشه عن آخرها يف
املناوشات املستمرة بينها وبني النمسا واجملر ]79[.وأعقبت هذه الثورة الكبرية ثورة أخرى يف القسطنطينية -هي ثورة اخليالة ،الذين طالبوا
جمددا]78[.
جراء الثورة السابقة ،فاستعانت الدولة عليهم -جبنود اإلنكشارية وأدخلتهم يف طاعتها ً
بتعويضهم عما حلق هبم من أضرار ّ
.اجليش العثماين يقاتل اجليش النمساوي اجملري يف سلوڤينيا خالل عهد آل كوبرويل
وانغماس ا يف امللذات ،على الرغم من بروز بعض الشخصيات القوية منهم ،مثل السلطان عثمان
ً السلطان حممد الثالث ظهر سالطني أكثر ضع ًفا
وعضدا للسلطان
ً الثاين ومراد الرابع ،وبعض الوزراء الذين عملوا على صون هيبة وسلطان الدولة ،ومن هؤالء مراد باشا القبوجي ،الذي كان عونًا
أمحد األول الذي توىّل وهو مل يتجاوز الرابعة عشر إال بقليل ]81[.ويف تلك الفرتة تنازلت الدولة -العثمانية عن عراق العجم للدولة الصفوية،
فكانت تلك أول معاهدة تركت فيها الدولة فتوحاهتا ،وكانت مبثابة فاحتة االحنطاط ]81[.وبعد أمحد األول توىّل أخيه مصطفى العرش لثالثة
أشهر فقط ،قبل أن يُعنّي عثمان الثاين بدالً منه ،الذي حدثت يف عهده سابقة كانت األوىل من نوعها ،وتدل على مدى االحنطاط الذي وصلت
ومهدان وتربيز ويريڤان وكامل أذربيجان من الصفويني ]84[.ويف عهد خليفته إبراهيم األول ،انتعشت الدولة بعض االنتعاش ،فدخل األسطول
العثماين جزيرة كريت من غري أن يلقى مقاومة تذكر ]65[،وبعد هذا العهد عرف العثمانيون فرت ًة من الضعف والعجز مل ينتشلهم -منها إال املصلح
الكبري "حممد -كوبرويل" الذي توىّل منصب الصدارة العظمى عام 1656م يف عهد السلطان حممد -الرابع ،فنهض بالدولة هنضة جديدة وطهرها من
آفاهتا الفتاكة ،وهكذا اشتد ساعدها من جديد ]65[.وبعد حممد كوبرويل توىّل ابنه "فاضل أمحد" ذات املنصب وسار على هنج أبيه ]85[،فقامت
القوات العثمانية سنة 1663م هبجوم على بالد اجملر وهددت ڤيينا نفسها بالسقوط ]65[.ويف سنة 1672م استوىل العثمانيون على أوكرانيا
ص ّدت عنها[.
وكانت تابعة مللك بولندا ]86[.ويف 17يوليو سنة 1683م ،حاصرت جيوش السلطان حممد الرابع ڤيينا للمرة األخرية ،ولكنها ُ
]65
توسع -الدولة العثمانية منذ قيامها حىت بداية دور الركود يف سنة 1683
ّ .
يُنقذ الدولة من تلك املشاكل إال "مصطفى كوبرويل باشا" ،االبن اآلخر للمصلح الكبري حممد -كوبرويل ،فبذل جهده يف بث روح النظام يف اجلنود،
وأحسن للنصارى بشكل كبري حىت استمال مجيع مسيحيي الدولة ،واستطاع اسرتجاع بلغراد وإقليم ترانسلڤانيا ]88[.لكن على الرغم من ذلك،
فإن الدولة العثمانية مل حتقق أي فتوحات جديدة وراء احلدود اليت رمسها السلطان سليمان -القانوين ،فكانت حروهبا وفتوحاهتا خالل هذه احلقبة
السرتداد ما ُسلب منها إمجاالً ،ففي عهد السلطان مصطفى الثاين ،انتصر العثمانيون على بولندا وأجربوا قيصر الروس بطرس األكرب على فك
احلصار عن مدينة آزوف ،واستعادوا البوسنة وبعض اجلزر يف حبر إجية ،لكن الروس ما لبثوا أن عادوا لفتح آزوف ،وانتصر النمساويون مرة أخرى
على العثمانيني يف "معركة زانطة" ] 89[،وحتالفوا مع بضعة دول أوروبية ضد الدولة العثمانية وأجربوها على توقيع معاهدة "كارلوڤتش" ،اليت
فقدت فيها مدينة آزوف لصاحل روسيا ،وما بقي هلا من بالد اجملر للنمسا ،وأوكرانيا وبودوليا لبولندا ،وساحل دملاسيا وبعض جزر حبر إجية
للبندقية]88[.
أيضا باسم "شارل الثاين عشر" .جلأ إىل الدولة العثمانية بعد هزميته على يد الروس يف سنة ،1709يف
ملك السويد كارل الثاين عشر ،املعروف ً
حتديدا ،طلبت
إزداد وضع الدولة العثمانية سوءًا خالل السنوات القليلة -الالحقة ،ففي أوائل القرن الثامن عشر ،ويف عهد السلطان أمحد الثالث ً
السويد دعم العثمانيني يف حرهبا ضد الروس ،لكن األخرية رفضت يف بداية األمر ،فمالت كفة امليزان لصاحل الروس الذين هزموا السويد وأرغموا
بطرس األكرب ،لكن الصدر األعظم رفع احلصار عنه بعد تلقيه رشوة من خليلة القيصر كاترين .كذلك أجرب العثمانيون على توقيع معاهدة جديدة
هي معاهدة "بيساروفتش" ،وذلك بعد أن استنجدت -البندقية بالنمسا لتجرب األخرية العثمانيني على إعادة جزيرة كريت إىل البندقية ،واضطرت
الدولة -يف هذه املعاهدة أن تستغين عن بلغراد ،ومعظم بالد الصرب وجزءًا من األفالق للنمسا ،وأن تظل البندقية مسيطرة على سواحل دملاسيا،
أيضا بعض املدن اليت فقدهتا ساب ًقا لصاحل الصفويني ،مثل مهدان وتربيز وإقليم
مقابل عودة بالد مورة للعثمانيني ]88[.اسرتجعت الدولة العثمانية ً
سجلت هذه املرحلة بداية اليقظة العثمانية باالنفتاح على الغرب ]90[،وبدأت ترمجة بعض املؤلفات الغربية ،ومُس ح بإنشاء مكتب للطباعة يف
ّ
مبجري اعتنق اإلسالم ،لبناء املطبعة وتشغيلها ]91[.وأخذت وجهة اإلصالح تتجه حنو االقتباس من الغرب األورويب
ّ العاصمة ،وجرت االستعانة
مع احملافظة على األصول العثمانية اإلسالمية ،إذ كانت احلضارة الغربية تتسرب ،بشكل أو بآخر ،إىل الدولة ولكن ببطء ،وظهر عدد من املثقفني
العلمانيني ،كما وفد إىل البالد عدد من اخلرباء األجانب الذين وضعوا خرباهتم يف خدمة الدولة]92[.
جمدد ا بني روسيا والدولة العثمانية خالل عقد الثالينيات من القرن الثامن عشر بسبب احتالل األخرية لبولندا بدعم من النمسا،
قامت احلرب ً
فاحتدت الدولة العثمانية مع الفرس واستطاعت دحر اجليش الروسي والنمساوي وثأرت لنفسها من النمسا بعد أن أرغمتها على توقيع معاهدة
بلغراد اليت نصت على عودة بلغراد وما استحوذت عليه النمسا من أراضي الصرب واألفالق إىل الدولة العثمانية -،وأن تلتزم روسيا هبدم قالع مدينة
الروس احتالل طرابزون ولكنهم مل يستطيعوا ]88[،ولكنهم استطاعوا الح ًقا فصل القرم عن الدولة العثمانية ،وقاومت الدولة العثمانية بكل ما
أتيح هلا من وسائل حىت أجلت الروس عن كثري من املناطق اليت احتلوها .وعند هذه النقطة جلأت اإلمرباطورية الروسية إىل أسلوب آخر لزعزعة
كيان الدولة العثمانية ،هو أسلوب الفتنة الداخلية -،فقامت بإثارة مسيحيي املورة على العثمانيني ]88[،واجته األسطول الروسي إىل املورة لدعم
الثورة ،ولكنه ُمين باهلزمية ،ولكن بعض السفن اليت أفلتت متكنت من إحراق جزء كبري من األسطول -العثماين ،مث اجتهت الحتالل جزيرة "ملنوس"،
فأجربهتا البحرية العثمانية على التقهقر ،وأمخدت الثورة يف املورة .ويف 10يونيو سنة 1772م ،املوافق فيه 9ربيع األول سنة 1186هـ ،هتادن
لعل أمهها هو حقها يف محاية مجيع املسيحيني األرثوذكس يف الدولة العثمانية ]94[.ويف غضون
الفريقان مقابل بعض االمتيازات لصاحل روسيا ّ
احلرب العثمانية الروسية ،ظهرت حركتان استقالليتان عن الدولة العثمانية هي :حركة علي بك الكبري يف مصر وحركة الشيخ ظاهر العمر يف
.السلطان الغازي سليم -خان الثالث ،رائد احلركة اإلصالحية يف الدولة العثمانية
البالد قد وصلت إىل حالة متدنية -،وكان العثمانيون قد عادوا للحرب مع روسيا والنمسا ،ومل يكن باستطاعة أي سلطان أن يقوم حبملة -إصالحات
ورحى احلرب دائرة ،لكن جاءت عناية القدر ،عندما ظهرت الثورة الفرنسية وانشغل اإلمرباطور النمساوي هبا ،وخاف أن متتد إىل بالده ،فعقد
صلحا مع العثمانيني أعاد إليهم مبوجبه بالد الصرب وبلغراد ]99[.واجهت السلطان سليم الثالث يف بداية حياته السياسية -،املشكالت التقليدية-
ً
تفوق الغرب ،واالجتاه احملافظ لشعبه ،وكان بطبعه مياالً لإلصالح حبيث مل يرتدد يف األخذ ببعض األمناط الغربية ،بعد أن حصل على
القدميةّ :
معلومات عن املؤسسات املدنية -والعسكرية لدول أوروبا الغربية وأسباب تفوقها على العثمانيني .فجاء بفكرة اجلنود النظامية ليتخلص من
منبع ا للفنت واهلزائم ،وأصلح الثغور وبىن القالع احلصينة حلمايتها وجعل إنشاء السفن على الطريقة الفرنسية ،واستعان
اإلنكشارية الذين أصبحوا ً
نظاما هرميًا للقيادة العسكرية ،وأخضع التجنيد-
بالسويد يف وضع املدافع ،وترجم املراجع العلمية -يف الرياضيات والفن العسكري ]99[،كما وضع ً
ودعي هذا النظام "بالنظام اجلديد"]98[.
نظام ا للجنود املشاة تضمن تعليمات ملساعدة اجلنود على التصرف كوحدةُ ،
لقواعد أكثر صرامة ،ووضع ً
كان من الطبيعي أن تربز املعارضة إلصالحات السلطان سليم -الثالث العسكرية من جانب احملافظني عند إدراكهم لنتائجها ،فنظر اإلنكشارية إىل
هذه اإلصالحات نظرة ارتياب خاصة بعد فصل السلطان األسطول واملدفعية عن فرقتهم -،فثاروا ومعهم اجلنود غري النظاميني وأجربوا اخلليفة على
إلغاء النظام العسكري اجلديد ]99[،ومل يكتفوا بذلك بل عزلوا السلطان وقاموا بقتله الح ًقا بناءً على أمر خليفته ]100[،ويُعترب سليم الثالث
الثو ار الصربيني تساندهم النمسا وروسيا ،والدولة العثمانية -،بريشة "أفاناسيج شيلوموڤ
".معركة "ميشار" ( )1806بني ّ
.معركة ناڤارين ( )1827بني األسطول العثماين واألورويب ،بريشة لويس أمربواز گرناري
وكان من أبرز األحداث اليت حصلت يف عهد سليم الثالث قيام احلملة الفرنسية على مصر بقيادة نابليون بونابرت األول ،فتحول أعداء األمس إىل
حلفاء والعكس صحيح ،حيث اهنارت الصداقة العثمانية الفرنسية اليت قامت منذ عهد السلطان سليمان القانوين ،وحتالفت روسيا وبريطانيا مع
أيضا تكونت مجهورية مستقلة يف اليونان حتت محاية الدولة العثمانية ]99[.وبعد سليم-
الدولة -العثمانية إلخراج الفرنسيني من مصر ،ويف عهده ً
الثالث توىّل مصطفى الرابع عرش آل عثمان ،ومل يدم ملكه طويالً قبل أن تثور اإلنكشارية عليه -ويقوموا بعزله وتنصيب أخاه حممود بدالً منه[.
] 102امتأل عهد حممود الثاين بأحداث مهمة ،سواء على الصعيد الداخلي أو اخلارجي ،فنتيجة للضعف الشديد الذي دب يف أوصال الدولة
العثمانية ظهر فيها اجتاهان :االجتاه األول الذي أرجع ما وصلت إليه الدولة العثمانية من ضعف إىل االبتعاد عن اإلسالم ،والذي ما كان للمسلمني
وصلت إليه من تقدم وازدهار ]99[.وكان من نتيجة -اإلميان باالجتاه األول أن قامت احلركة الوهابية يف شبه اجلزيرة العربية[،معلومة ]10
واجتذبت إليها الكثري من أهلها ،ودعت إىل تطهري اإلسالم من كامل الشوائب اليت تعلقت به عرب القرون ]103[.وملا رأى السلطان حممود أنه من
الضروري قمع هذه الفئة اليت خيشى من امتدادها على تفريق كلمة اإلسالم ،كلّف حممد -علي باشا ،وايل مصر ومؤسس أسرهتا اخلديوية العلوية،
مبحاربتها والقضاء عليها ،ففعل ما طُلب منه وأباد احلركة الوهابية -،مثّ شرع يف إصالح مصر وتنظيمها وفق النظام األورويب ]103[.ويف بداية
عهد حممود الثاين استقلّت ع ّدة دول أوروبية عن الدولة -العثمانية ،وكانت بداية انشقاق أوروبا الشرقية عن الدولة العثمانية عندما ثار الصربيون
وطالبوا باستقالهلم ،فقمعتهم الدولة العثمانية مرتني ،وتعهدت أال تتدخل يف شؤون الصرب الداخلية ،وأن تكون السيطرة للعثمانيني يف الصرب
على القالع فقط ] 105[]104[.سرعان ما أعقب هذه الثورة عصيان "علي باشا" وايل مدينة يانية األلبانية ،حيث امتنع عن دفع اخلراج واحرتام
جيشا متكن قائده من القبض عليه -وإعدامه ]106[.وما فتئت املشاكل تنهال على الدولة
األوامر اليت تُرسل إليه من اآلستانة -،فأرسل إليه السلطان ً
العثمانية ،فقد ثار اليونانيون طلبًا لالستقالل وهزموا فرقة عسكرية عثمانية أرسلت -لقمعهم ،فلم جيد السلطان إلمخاد الثورة يف اليونان غري حممد-
علي باشا وايل مصر ،فاستجاب األخري لطلبه وأرسل سفنًا حربية حمملة باجلنود إىل اليونان ]107[،استطاعت أن حتقق انتصارات كاسحة -على
الثوار .غري أن ثورة اليونانيني جنحت -،واستطاع الثائرون أن يستقلوا ببلدهم -عن الدولة -العثمانية بعد املساعدات اليت تلقوها من الدول األوروبية.
ّ
كذلك كان األسطول العثماين قد حتطم يف معركة ناڤارين عام 1827م ،على يد السفن الربيطانية -والروسية]107[.
لباسا رمسيًا
.السلطان الغازي حممود خان الثاين "أبو اإلصالح" ،بعد إقراره اعتماد اللباس األورويب ً
سريع ا وفقداهنا ملعظم ممتلكاهتا الباقية يف أوروبا ،وقيام السلطان حممود الثاين بعدد من اإلصالحات
تتميز هذه املرحلة باحندار الدولة العثمانية ً
وأول ما قام به السلطان حممود الثاين يف هذا اجملال كان إلغائه
الكبرية اهلادفة جلعل الدولة تواكب أوروبا الغربية يف التطور واالزدهارّ ]108[.
لطائفة اإلنكشارية بعد أن أصبحت إحدى عوامل ختلّف وتراجع الدولة يقينًا ،فاعرتض اإلنكشارية على ذلك وحاولوا التمرد وجتمعوا يف أحد
كذلك قام بعدد من اإلصالحات املدنية مثل إقامة املدارس احلديثة -ورفع يد اهليئة اإلسالمية عن اإلشراف على التعليم ]108[،وإرسال بعثات
طالبية إىل اخلارج ]108[،واجته بالبالد إىل تقليد أوروبا حىت إنه تزيا بزيهم ،واستبدل -بالعمامة الطربوش ،والعباءة واجللباب بالبذلة الغربية[.
]108
أعلنت روسيا احلرب على العثمانيني بعد أن رفضت الدولة -العثمانية االعرتاف بقرارات مؤمتر لندن الذي نص على استقالل اليونان ،ومتكنت من
احتالل البغدان واألفالق ،بل وصلت -إىل مدينة أدرنه وهددت اآلستانة بالسقوط ،فتدخلت بريطانيا وفرنسا لوقف تقدم روسيا خوفًا على
فع قدت بني الروس والعثمانيني معاهدة أدرنه اليت نصت على عودة املناطق اليت احتلها الروس إىل الدولة العثمانية مقابل متتع
مصاحلها يف الشرقُ ،
روسيا ببعض االمتيازات وتعويضها عن اخلسائر اليت تكبدهتا يف احلرب ،واستقالل بالد الصرب وتسليم ما حتتفظ به الدولة من قالعها]109[.
جمددا ،بعد أن نفذت األخرية ما كانت تنويه من م ّدة ،أال وهو االستيالء
ويف أواسط سنة 1830م ،ساءت العالقات بني الدولة -العثمانية وفرنسا ً
على والية -اجلزائر بدعوى منع تعدي القراصنة املسلمني على مراكبها التجارية ]110[،وبذلك فقدت الدولة العثمانية اجلزائر إىل األبد ،على الرغم
.من استبسال املقاومة بقيادة األمري عبد القادر اجلزائري ،الذي اضطر لالستسالم بعد أن دافع عن بالده مدة سبع -عشرة سنة
.حممد -علي باشا ،أبرز والة الشرق العريب العثماين يف أواسط القرن التاسع عشر ،وأشهر من أعلن العصيان على الدولة العثمانية يف ذلك الوقت
استمرت املشاكل تنهال على الدولة العثمانية بعد سقوط اجلزائر ،وذلك أن وايل مصر حممد -علي باشا طمع يف توسيع رقعة نفوذه بعد أن غدا
أقوى والة السلطان العثماين يف الشرق العريب ]111[،وكان السلطان حممود الثاين قد وعد حممد علي بأن يوليه على بالد الشام لقاء خدماته
األخرى ،وسرعان ما حلقت هبا سوريا الوسطى والشمالية ،وامتد زحف اجليش املصري إىل األناضول حيث هزم اجليش العثماين حديث النشأة يف
قونية ]113[]112[،وأصبح قاب قوسني أو أدىن من اآلستانة ،حىت ُخيل للعامل يف ذلك الوقت أن هناية الدولة العثمانية أصبحت قريبة]111[.
عقب هزمية قونية -،استنجد السلطان حممود الثاين بالدول األوروبية للوقوف يف وجه اخلطر املداهم ،فلم ينجده إال روسيا ،اليت أرسلت 15ألف
جندي إىل اآلستانة للدفاع عنها ،فخشيت بريطانيا وفرنسا من امتداد النفوذ الروسي وتوسطت للصلح مع حممد علي ]99[،حيث أقر له السلطان
بوالية مصر وجزيرة كريت وفلسطني ولبنان وأضنة -،لقاء نفس األموال اليت كان يؤديها عن الشام الوالة العثمانيون من قبل ]111[.ويف غضون
خصوص ا بعد أن أبرم السلطان معاهدة مع روسيا تعهدت فيها األخرية بالدفاع عن الدولة -العثمانية لو هامجها
ً توسع النفوذ الروسي يف الدولة
ذلك ّ
جديدا ،ونشط عمالؤه يف الشام حيرضون
جيشا ً
املصريون أو غريهم -.عمل السلطان حممود الثاين يف أواخر أيامه على استعادة الشام ومصر ،فجمع ً
الشعب للثورة على املصريني ،مث سار اجليش وقام هبجوم عرب الفرات أسفر عن كارثة نزلت به ،إذ بدده اجليش املصري يف معركة نصيبني عام
1839م .ومل تصل أنباء هذه اهلزمية إىل السلطان حممود الثاين ،إذ تويف قبل ذلك بأيام]111[.
صيب مل يبلغ الثامنة عشرة من عمره ]114[،وكانت الدولة العثمانية على شفري
خلف السلطان عبد اجمليد األول أباه السلطان حممود الثاين ،وهو ّ
االهنيار ،إذ أصبحت بال جيش ،بفعل خسارة اجليوش العثمانية أمام املصريني ،وتشتيت القوى املسلحة -،وبال أسطول ،بفعل انضمام األسطول
العثماين طواعية إىل األسطول املصري يف اإلسكندرية ]115[،فسارع السلطان الفىت إىل إجراء مفاوضات مع حممد علي ،فاشرتط األخري ،لعقد
الصلح ،أن يكون احلكم يف الشام ومصر ح ًقا وراثيًا يف أسرته ]111[.وكاد السلطان عبد اجمليد يقبل شروط حممد علي لو مل تصله مذكرة
وعرضوها على حممد -علي ،وهي تنص على بقاء والية -مصر وراثية يف عائلته -،ووالية عكا مدى حياته ]115[،فرفض حممد علي ذلك وطرد
املندوبني األوروبيني واملندوب العثماين من مصر ]115[،وبناءً على ذلك هامجت البوارج احلربية الربيطانية والنمساوية والعثمانية مدن الساحل
كبريا على جيوش حممد -علي بقيادة ابنه إبراهيم باشا ،وأجربته على العودة إىل مصر واالنكماش فيها ،وبذلك
انتصارا ً
ً الشامي واستطاعت أن حترز
عادت الشام إىل ربوع الدولة العثمانية ،وأصبحت -سيادة الدولة على مصر سياد ًة امسيّة ]111[.توصلت -الدول األوروبية الكربى ،بعد انتهاء
األزمة العثمانية -املصرية ،إىل عقد اتفاقية مجاعية مع الدولة -العثمانية ،أُطلق عليها تسمية "معاهدة املضائق" أو "اتفاقية لندن للمضائق" ،وقد
نظاما للمضائق العثمانية ظل مطب ًقا بدون إدخال تعديالت جوهرية عليه حىت قيام احلرب العاملية األوىل ]116[.حدث يف
أرست هذه االتفاقية ً
عهد السلطان عبد اجمليد عدد من الفنت الداخلية يف الواليات العثمانية -،وازدادت الدولة ضع ًفا على ضعف ،مما زاد من أطماع الدول األوروبية
فدعيت باسم "الرجل املريض" ،وأخذ األوروبيون خيططون القتسام تركتها مستقبالً
.فيهاُ ،
.حصار سيڤاستوبول من قبل اجليوش العثمانية واألوروبية -خالل حرب القرم ،بريشة فرانز روبو
.واقعة سينوب البحرية أثناء حرب القرم ،اليت جنم عنها انتصار الروس واهنزام العثمانيني ]117[،بريشة إيڤان آيڤازوڤسكي
اختذت املسألة الشرقية يف أواخر القرن الثامن عشر ،شكلها احلديث ]118[،وبرزت مع بداية احنسار املد التوسعي العثماين عن أوروبا ،ومع اجتاه
العثمانيني املتزايد حنو فقداهنم تفوقهم العسكري أمام الدول األوروبية ،وخباصة روسيا والنمسا ،وقد حتكمت هبا ثالثة عوامل هي :ضعف الدولة
العثمانية املتزايد وظهور عدد من القوميات املسيحية الصغرية يف شبه جزيرة البلقان والفنت الداخلية املستمرة يف بعض الواليات ،وقد مسحت مجيع
هذه العوامل للدول األوروبية أن تتدخل يف الشؤون الداخلية للدولة -وتسريها حسب مصاحلها ]118[.ومن أبرز األحداث اليت استغلتها أوروبا
للتدخل يف الشؤون العثمانية كانت الفنت الطائفية اليت وقعت يف بالد الشام خالل عقد األربعينيات من القرن التاسع عشر ،وبلغت ذروهتا يف جبل
لبنان ،فتدخلت فرنسا حبجة محاية الكاثوليك وبشكل رئيسي املوارنة ،وتدخلت بريطانيا لدعم -الدروز ،وروسيا لدعم األرثوذكس ،فوقعت يف
البالد مذابح عظيمة ختللتها سنوات قليلة من السالم ]119[.كما اجتهت الدولة حنو سياسة نقل أمور الواليات إىل سلطة داخلية فأهنوا حكم
مماليك العراق يف بغداد والبصرة وآل جليلي يف املوصل يف ثالثينيات القرن التاسع عشر ،كما قضوا على اإلمارات الكردية شبه املستقلة يف
حكاري وسوران وبادينان إثر ضغط دويل عقب جمازر بدر خان يف األربعينيات من نفس القرن ]120[.تُع ّد حرب القرم اليت ابتدأت عام
1854م بني روسيا والدولة العثمانية ،من أهم مراحل املسألة الشرقية ،فقد دفعت هذه احلرب بالعالقات الدولية حنو التأزم ،وغرّي ت التحالفات
السياسية -،فوقفت بريطانيا وفرنسا إىل جانب الدولة العثمانية للدفاع عن سالمة أراضيها ضد الروس ]121[.وتتخلص -هذه احلرب يف أن القيصر
الروسي نيقوال األول اعتقد أن بإمكانه أن يطرح قضية إهناء املسألة الشرقية بشكل جذري ،وأبدى نيته يف اقتسام أمالك الدولة العثمانية -،فعرض
إن مل تعد الدولة العثمانية لإلمرباطورية الروسية حق محاية املسيحيني األرثوذكس الذي فقدته وفق نص معاهدة املضائق ]122[،فلم يعرها
السلطان أي اهتمام بعد أن وعدته -بريطانيا وفرنسا بالدفاع عن الدولة ضد أي هجوم حمتمل -،فأقدمت روسيا على تنفيذ هتديدها -،فتحالف
العثمانيون مع بريطانيا وفرنسا والنمسا ومملكة البيمونت -بإيطاليا والسويد -،وقصفت أساطيلهم -ميناء سيڤاستوبول يف شبه جزيرة القرم ،وضربت
الكثري من قالعه باإلضافة لإلغارة على الكثري من موانئ روسيا على البحر األسود ،وتوغلت -القوات املتحالفة يف أراضي روسيا حىت طلبت
فع قدت معاهدة سالم يف باريس أهنت احلرب وأنقذت الدولة العثمانية من اخلطر الروسي الذي كان يتهددها ،وبات من املنتظر أن تغدوا
الصلحُ ،
متحدا يأخذ بركب احلياة الدستورية -كما عرفها الغرب ،وتنضم إىل سائر أعضاء املنظمة الدولة على قدم املساواة]123[.
بلدا ً
ً
خصوصا ]124[،فوقعت مذابح مؤملة وبلغ عدد القتلى اثين عشر أل ًفا ]124[،وكان ممثلو بريطانيا وفرنسا
ً عموما ،والدروز واملوارنة
واملسيحيني ً
يشجعون الفريقني على االنتقام ويساعدوهنم على الثأر ،فخشي السلطان أن تؤدي هذه الفتنة إىل تدخل الدول األجنبية العسكري ،فأوعز إىل
املسؤولني العثمانيني يف بريوت ودمشق بوجوب إمخادها حاالً ]124[،وأوفد يف الوقت ذاته وزير اخلارجية فؤاد باشا الذي ُعرف بالدهاء واحلزم،
وخوله سلطات مطلقة ملعاجلة املوقف ،فقام مبهمته خري قيام وأعدم معظم الذين تسببوا باملذابح وسجن الباقني ونفى بعضهم وأعاد بعض املسلوبات
إىل أصحاهبا من املنكوبني املسيحيني ،ومجع تربعات كثرية أنفقها على ترميم القرى ]124[.وكانت الدول األوروبية قد ضغطت على السلطان
ومحلته على القبول بتشكيل جلنة دولية يوكل إليها أمر إعادة اهلدوء إىل جبل لبنان ودمشق ،وتصفية ذيول الفتنة ]124[.تويف السلطان عبد اجمليد
يوم 6يونيو سنة 1861م ،املوافق فيه 17ذي احلجة سنة 1277هـ ،عن أربعني سنة ]125[،بعد أن قام ببعض اإلصالحات الكبرية يف الدولة-،
أبرزها فرمانه الشهري الصادر سنة 1856م ،الذي ساوى فيه بني مجيع رعايا الدولة مهما اختلفت عقيدهتم الدينية ]124[،فتحسن وضع
املسيحيني بشكل أكرب ،وازدادت نسبة املتعلمني منهم ]126[،األمر الذي ساهم يف إنعاش اقتصاد الدولة الح ًقا]126[.
.حفل افتتاح قناة السويس يف مدينة بور سعيد سنة ،1869خالل عهد السلطان عبد العزيز األول
بويع السلطان عبد العزيز األول باخلالفة وعرش آل عثمان بعد وفاة أخيه عبد اجمليد ،ومما يذكر يف عهده :افتتاح قناة السويس وقيام ثورة يف جزيرة
كريت مت إمخادها ] 115[.وكان هذا السلطان كثري التجوال يف البالد اخلارجية ،فزار مصر وزار فرنسا ،وحاول تقريب روسيا إليه حىت ختافه دول
.إخالء املسلمني ملدينة -نيكوبول البلغارية بعد سقوطها بيد روسيا ،وفق ما نصت عليه معاهدة سان ستيفانو
وبعد مراد اخلامس بويع عبد احلميد الثاين باخلالفة وعرش السلطنة ،ويف ذلك احلني كانت البالد متر يف أزمات حادة ومصاعب مالية كبرية ،وتشهد
تتوثب لتحقيق انفصاهلا ،وتتعرض ملؤامرات سياسية هبدف اقتسام تركة "الرجل املريض" .ومنذ اليوم
ّ ثورات عاتية يف البلقان تقوم هبا عناصر قومية
األول الرتقائه العرش ،واجه السلطان عبد احلميد موق ًفا دقي ًقا وعصيبًا ،فقد كانت األزمات هتدد كيان الدولة -،وازدادت سرعة انتشار األفكار
االنفصالية ،وأصبح للوطنية معىن جديد أخذت فكرته تنمو وترتعرع يف الواليات العثمانية ،ووجد السلطان نفسه مشبع بالثورة واالضطراب[.
إقليمي البوسنة واهلرسك ،واستمرت يف بلغاريا ،وكان الصرب واجلبل األسود يف حالة حرب مع الدولة]128[.
ّ ]128فقد جتددت الثورة يف
وهلذه األسباب تدخلت الدول األوروبية الستغالل املوقف بغية حتقيق مصاحلها حبجة إحالل السالم .فشجعت روسيا والنمسا الصرب واجلبل
األسود على حرب العثمانيني ،حيث رغبت النمسا بضم البوسنة -واهلرسك ،بينما رغبت روسيا بضم األفالق والبغدان وبلغاريا ،ووعدت -روسيا
النمسا والصرب واجلبل األسود بالوقوف جبانبهم إذا قامت حرب بينهم وبني العثمانيني ]129[.وبالفعل قامت احلرب بني الدولة العثمانية وتلك
الدول -،إال أن اجليوش العثمانية استطاعت االنتصار ووصلت -إىل مشارف بلغراد ،غري أن تدخل أوروبا أوقف احلرب ]129[.ق ّدمت الدول
األوروبية الكربى الئحة للدولة -العثمانية تقضي بتحسني األحوال املعيشية لرعاياها املسيحيني -،ومراقبة الدول األوروبية لتنفيذ إجراءات التحسني،
فرفضت الدولة الالئحة؛ ألن هذا يعترب تدخالً صرحيًا يف شؤوهنا ،فاستغلت روسيا الرفض واعتربته سببًا كافيًا للحرب ،ويف هذه املرة أطلقت
كيلومرتا
ً أوروبا العنان لروسيا لتتصرف كيفما تشاء مع العثمانيني ،فاحتلت األفالق والبغدان وبلغاريا ووصلت أدرنة وأصبحت على بعد 50
فقط من اآلستانة ]129[،كذلك دخلت جيوشها األناضول ]130[،وعادت الصرب واجلبل األسود لتعلن احلرب على الدولة العثمانية،
فاضطرت األخرية إىل طلب الصلح ،وأبرمت معاهدة سان ستيفانو مع روسيا ،اليت اعرتفت فيها باستقالل الصرب واجلبل األسود واألفالق
والبغدان وبلغاريا ،مثّ متّ تعديل هذه املعاهدة يف مؤمتر ُعقد يف برلني متّ مبوجبه سلخ املزيد من األراضي عن الدولة العثمانية ]131[.كشفت قرارات
مؤمتر برلني عن ضعف الدولة -العثمانية ،فاستغلت الكيانات السياسية والقومية هذا الضعف ،وقامت بانتفاضات على احلكم املركزي هبدف
احلصول على االستقالل الكامل ،ودعمتها أوروبا يف سبيل حتقيق ذلك ،وهكذا توالت األزمات السياسية يف وجه السلطان عبد احلميد الثاين بعد
احلرب العثمانية الروسية ومؤمتر برلني .إنضمت تونس إىل قائمة األقاليم اليت فقدهتا الدولة العثمانية لصاحل أوروبا يف عهد عبد احلميد -الثاين عندما
احتلتها فرنسا ،مث حلقتها قربص اليت احتلتها بريطانيا ،وأتبعتها مبصر والسودان ،حبجة محاية الدولة العثمانية من أي اعتداء]132[.
لعل أهم األحداث اليت جرت يف عهد عبد احلميد هي األزمة األرمنية وقيام احلركة الصهيونية -،ويتفق املؤرخون ،املسلمون -منهم خاصةً ،أن هذين
ّ
احلدثني مها ما ساهم يف تشويه صورة الدولة -العثمانية والسلطان عبد احلميد الثاين .وتفصيل األزمة األرمنية أن األرمن طالبوا بعد مؤمتر برلني
باستقالهلم ،خاصة أن السلطان مل يقم بتطوير يُذكر ألوضاعهم -،وعملت -البعثات التبشريية -األوروبية واألمريكية على إذكاء الشعور القومي
األرمين ،ويف الوقت نفسه اعتقدت الدوائر احلاكمة يف اآلستانة أن بعض األرمن يعملون كعمالء لروسيا وبريطانيا ،وساورها الشكوك حول
عمت
والئهم -،ومن مث نظرت إليهم على أهنم خطر يهدد كيان الدولة ومستقبلها وأمنها ]133[.وتصاعد التوتر يف بالد األرمن ،ومل تلبث أن ّ
االضطرابات ،فخرج حوايل 4000ارمين عن طاعة السلطان يف بدليس بعد تأخر اإلصالحات املوعودة ]134[،فقام العثمانيون بالرد على ثورة
الثوار ومن
كثريا من ّ
دمروا العديد من القرى األرمنية وقتلوا ً
جيشا مؤل ًفا مبعظمه من األكراد[ ]135إىل مناطق الثورة حيث ّ
األرمن بأن أرسلوا ً
ساندهم -،فيما أصبح يُعرف باسم "اجملازر احلميدية" ]136[،وتطور العنف ليشمل املسيحيني بشكل عام كالسريان كما يف جمازر ديار بكر[.
] 137أما احلركة الصهيونية ،فنشأت بقيادة ثيودور هرتزل ،ودعت إىل إنشاء وطن قومي ليهود العامل يف فلسطني اخلاضعة للدولة العثمانية
وتشجيع اليهود على اهلجرة إليها ،فأصدر السلطان عبد احلميد فرمانًا مينع هجرة اليهود إىل األراضي املقدسة -،لكنه اضطر يف هناية املطاف إىل
.مظاهرة ملؤيدي مجعية تركيا الفتاة يف ناحية السلطان أمحد من اآلستانة يف سنة 1908
كانت األفكار القومية قد تغلغلت بشكل كبري يف جسم الدولة العثمانية أواخر عهد السلطان عبد احلميد الثاين ،وأنشأ الداعون هلذه املفاهيم
املؤسسات واجلمعيات اليت حتمل أفكارهم ،وكان من أهم هذه اجلمعيات مجعية تركيا الفتاة ،اليت تأسست يف باريس وكان هلا فروع أخرى يف
والرتقي يف الدولة ،فضم إليه الكثري من ضباط الفيلق األول املسيطر على اآلستانة -،وكذلك الفيلقني الثاين والثالث املرابطني يف الواليات العثمانية
خصوصا
ً ومتسك بفكرة اجلامعة اإلسالمية ،لكنه فشل أمامهم،
الباقية يف أوروبا .وقد حاول السلطان عبد احلميد مقاومة هذه اجلمعيات ،فنادى ّ
بعد أن سيطروا على أكثر اجليش ]129[.فرض االحتاديون على السلطان إعالن دستور جديد للبالد خيلف الدستور األول أو "القانون األساسي"
الذي أعلنه سنة 1876م ،فذعن ملطلبهم وأعلن الدستور ،فسيطر االحتاديون على معظم مقاعد اجملالس النيابية ،ووجدوا أن السلطان سيكون عائ ًقا
.مصطفى كمال "أتاتورك" ،رئيس اجلمهورية الرتكية -مستقبالً ،إىل جانب بعض املقاومني الليبيني ،أثناء احلرب العثمانية اإليطالية
توىّل حممد "رشاد" اخلامس العرش والدولة يف احتضار ،ولكنها كانت ما تزال متماسكة ،وأصبح االحتاديون هم احلكام الفعليني للبالد ،أما
يوما بعد
كثريا من بالدها يف أوروبا ،واألفكار القومية تنتشر ً
جمرد ألعوبة يف أيديهم -،ويف ذلك الوقت كانت الدولة قد أضاعت ً
السلطان فكان ّ
يوم ،والبالد يف حالة إفالس بسبب احلروب املتواصلة -،واألوروبيون قد تسلطوا على مالية الدولة الستيفاء ما هلم عليها من ديون ]139[.ويف نفس
السنة العتالء حممد رشاد العرش ،سيطرت اإلمرباطورية النمساوية اجملرية على البوسنة -واهلرسك ،وبعد ثالث سنوات هامجت إيطاليا ليبيا ،آخر
املمتلكات العثمانية الفعلية يف مشال أفريقيا ،فقاومها العثمانيون بكل طاقتهم -،لكنهم مل يستطيعوا شيءًا ،فسقطت البالد بعد سنة من املعارك
الشديدة ]139[.مث جاءت حرب البلقان األوىل اليت توىّل كربها كل من مملكة صربيا ومملكة اجلبل األسود ومملكة اليونان ومملكة بلغاريا ،وفقدت
فيها الدولة العثمانية ما تبقى هلا من ممتلكات يف البلقان عدا تراقيا الشرقية ومدينة أدرنة ،وانسحب حوايل 400,000مسلم من س ّكان تلك
البالد إىل تركيا خوفًا من ما قد تُقدم عليه -جنود العدو ]140[.ويف تلك الفرتة ظهرت النزعة الرتكية -الطورانية بقوة وعنف ،وسعى حزب االحتاد
والرتقي إىل ترتيك الشعوب غري الرتكية املشرتكة -مع األتراك يف العيش حتت ظل الدولة العثمانية ،مثل العرب والشركس واألكراد واألرمن[.
مؤمتر ا يف باريس ،واختذوا مقررات أكدوا فيها على رغبة العرب يف االحتفاظ بوحدة الدولة
]139ويف سنة 1913م عقد الوطنيون العرب ً
حكما ذاتيًا وفق نظام
العثمانية بشرط أن تعرتف احلكومة حبقوقهم ،كون العرب أكرب الشركاء يف الدولة ،وطالب هؤالء أن حُت كم األراضي العربية ً
الالمركزية ،وقد وعد االحتاديون الزعماء العرب األحرار بقبول مطالبهم ،لكن ذلك مل يتحقق بفعل نشوب احلرب العاملية األوىل]141[.
.إحدى البوارج األملانية تفر هاربة إىل داخل البحر األسود ،وتبدو -يف اخللفية السفن الربيطانية يف إثرها
.جنود روس يتفقدون جثث جنود عثمانيني قضوا أثناء محلة -القوقاز على اجلبهة الشرقية
فتدخلت روسيا لدعم -صربيا مدعومة من فرنسا وحتركت أملانيا ضدمها ،وما لبثت أن دخلت بريطانيا احلرب بعد ذلك بفرتة قليلة ،ومن مث
تشكلت األحالف ،فدخلت الدولة العثمانية احلرب إىل جانب معسكر دول احملور ،أي أملانيا والنمسا وبلغاريا ]142[،بعد أن فقد العثمانيون
فعلي ]144[،بعد أن مسحت لبارجتني أملانيتني كانتا تطوفان البحر املتوسط ،بعبور مضيق
1914م ،دخلت الدولة العثمانية احلرب بشكل ّ
الدردنيل حنو البحر األسود هربًا من مطاردة السفن الربيطانية ]145[.وخطا الباب العايل خطوة هامة باجتاه االشرتاك باحلرب ،حيث أعلن الصدر
األعظم إلغاء االمتيارات األجنبية ،ملبيًا بذلك إحدى املطالب الرئيسية للقوميني األتراك ،مث اختذ خطوة أخرى يف طريق التحدي بإغالقه املضائق
بوجه املالحة التجارية ،كما ألغى مكاتب الربيد األجنبية ومجيع السلطات القضائية غري العثمانية ]143[.بعثت االنتصارات األملانية اخلاطفة على
اجلبهة الروسية -األمل يف نفوس االحتاديني ،بشأن إمكانية استعادة األراضي العثمانية املفقودة لصاحل روسيا املهزومة ،فهاجم األسطول العثماين
واقعا زج بالدولة العثمانية يف احلرب ،فأعلنت روسيا احلرب على الدولة العثمانية -،واقتدت
أمرا ً
املوانئ الروسية يف البحر األسود ،وقد ش ّكل ذلك ً
ورد السلطان حممد -اخلامس بإعالن احلرب ،ودعا املسلمني إىل اجلهاد ،إال أن ذلك مل يتحقق ،فأغلب مسلمي العامل
هبا كل من بريطانيا وفرنساّ ،
أيضا يف جيوشها ]143[.خاضت
بعضا منهم ً
كانوا يزرحون حتت نري االستعمار الربيطاين أو الفرنسي ،وكانت السلطات االستعمارية قد جندت ً
اجليوش العثمانية احلرب على جبهات متعددة من دون استعداد كامل ،فعلى اجلبهة الروسية ُمنيت احلملة -العثمانية هبزمية فادحة ،حيث فتك القتال
والصقيع والوباء بتسعني ألف جندي عثماين -،ويف اجلنوب نزل الربيطانيون يف الفاو على اخلليج العريب واستولوا على العراق ،أما عملية قناة
السويس فجرت قبل املوعد احملدد ،وفيها اتفق العثمانيون مع املصريني على قتال الربيطانيني ،لكنها أسفرت عن هزمية العثمانيني وأودت حبياة
الكثريين دون طائل .وقام أسطول احللفاء مبهامجة مضيق الدردنيل يف خطوة لالستيالء على اآلستانة وإخراج الدولة العثمانية من احلرب ،وإمداد
اجلبهة الروسية ]146[،لكن هذا األسطول الضخم عجز عن اجتياز املضيق وهزم العثمانيون طاقمه هزمية كبرية يف معركة بريّة ،كانت النجاح
الوحيد هلم يف مقابل سلسلة من اإلخفاقات ،وبرز يف هذه املعركة القائد مصطفى كمال]143[.
وأثريت أثناء املعارك ،اليت اندلعت على اجلبهة الشرقية وهجوم احللفاء يف الدردنيل وغاليبويل ،قضية األرمن مرة أخرى ،إذ قام االحتاديون بنقل
سكان املناطق األرمنية يف واليات الشرق وكيليكيا واألناضول الغربية إىل بالد الشام ،هبدف تأمني حياة السكان املدنيني ومحاية القوات املسلحة
عددا من السكان
من خيانة حمتملة من جانب العناصر املوالية لروسيا ]143[.وكان بعض األرمن قد تطوعوا يف اجليش الروسي ]147[،وقتلوا ً
تعرض املرحلون لعمليات تعذيب وقتل فيما أصبح يُعرف باسم "مذابح األرمن"[]149[]148[.
املسلمني يف األناضول الشرقية ،ونتيجة -لذلك ّ
]150بعد فشل احلملة العثمانية على مصر ،جرت اتصاالت سريّة بني الربيطانيني يف مصر وشريف مكة حسني بن علي اهلامشي ،وبعض الزعماء
العرب ،ومتّ االتفاق بني الفريقني على أن يثور العرب على األتراك وينضموا إىل احللفاء مقابل وعد من هؤالء مبنح العرب االستقالل وإعادة اخلالفة
إليهم .وتنفي ًذا هلذا االتفاق أعلن شريف مكة حسني يف يونيو سنة 1916م الثورة العربية على األتراك ،فأخرجهم من احلجاز وأرسل ّقواته مشاالً
بقيادة ولديه فيصل وعبد اهلل لتشارك القوات الربيطانية يف السيطرة على بالد الشام ]151[.ويف غضون ذلك ُسحقت املقاومة البلغارية يف البلقان،
مما أرغم حكومة صوفيا على طلب اهلدنة -،فأدرك الباب العايل خطورة املوقف ،ألن احلرب أضحت قريبة من األراضي الرتكية ،وميكن للعدو أن
يتغلغل حبريّة يف تراقيا الشرقية ويزحف حىت أبواب اآلستانة -،فأبرم العثمانيون معاهدة مودروس مع احللفاء ،خرجوا مبوجبها من احلرب]143[.
تويف السلطان حممد اخلامس قبل أشهر من انتهاء احلرب ،وخلفه أخاه حممد "وحيد الدين" -السادس .وبعد مرور شهر على توقيع هدنة مودروس،
كمال ]153[،واليت ُعرفت بامسه "احلركة الكماليّة" ،لتواجه خضوع احلكومة لرغبات احللفاء وتعاون السلطان حممد السادس مع احملتلني،
وحماوالت اليونان توسيع املناطق اليت احتلتها ،وازدياد الثورات األرمنية .وعقدت احلركة الكمالية مؤمترات عديدة -يف طول البالد وعرضها
الستنهاض الوعي القومي وإنقاذ البالد من التقسيم ،وتش ّكلت حكومة وطنية برئاسة مصطفى كمال هبدف إقامة دولة تركية مستقلة ،ألغت مجيع
القوانني والتعليمات اليت أصدرهتا احلكومة السابقة ،ووضعت السلطان وحكومته خارج إطار القانون ]152[.وقد حاول السلطان القضاء على
.السلطان حممد" -وحيد الدين" السادس ،آخر سالطني بين عثمان ،يغادر البالد إىل املنفى يف سنة 1922
فاستعاد كمال األراضي اليت احتلوها ،وفرض على احللفاء توقيع هدنة جديدة اعرتفت فيها اليونان بانتصارات تركيا ]152[،فأضحى مصطفى
كمال بطالً قوميًا ،وبرز يف الواجهة السياسية يف حني ظل السلطان يف الظل ،فما كان منه إال أن تنازل عن العرش واعتزل احلياة السياسية -،وغادر
البالد على ظهر بارجة بريطانية نقلته إىل جزيرة مالطة ،يف 17أكتوبر سنة 1922م ،املوافق فيه 27ربيع األول سنة 1341هـ]152[.
ويل العهد عبد اجمليد الثاين ،وبعد أن أصبح مصطفى كمال سيد املوقف ،وقّع
اعتلى عرش السلطنة العثمانية ،بعد تنازل السلطان حممد -السادسّ ،
جمرد
جرد السلطان من السلطة الزمنية وجعله ّ
معاهدة لوزان مع احللفاء اليت تنازل مبقتضاها عن باقي األراضي العثمانية غري الرتكية ]154[،مث ّ
أيضا .مث ألغى اخلالفة سنة 1924وطرد عبد اجمليد من البالد ،وهبذا سقطت الدولة
خليفة ،أي أشبه بشيخ اإلسالم ،ولكن من غري سلطة روحيّة ً
العثمانية فعليًا بعد أن استمرت ملا يقرب من 600سنة -،واهنارت معها اخلالفة اإلسالمية بعد أن استمرت ما يزيد عن ألف سنة ]155[.وقد رثا
أمري الشعراء أمحد شوقي الدولة العثمانية واخلالفة اإلسالمية بأبيات من الشعر قال فيها]156[:
.أرطغرل عثمان ،آخر وريث شرعي لعرش آل عثمان ُولد يف ربوع الدولة العثمانية
عندما طرد مصطفى كمال عبد اجمليد الثاين من البالد ،طرد معه كامل أفراد األسرة العثمانية وصادر أمالكهم ]157[،فذهب هؤالء ليعيشوا يف
"حممد -أورخان" ابن األمري حممد عبد القادر ،الذي تويف يف سنة ،1994 -و"أرطغرل عثمان" أصغر أحفاد السلطان عبد احلميد الثاين .يشتهر
مرات ،قائالً أنه "مواطن عثماين" -،لكنه على الرغم من ذلك قال أنه ال يتمىن
أرطغرل عثمان برفضه محل اجلنسية الرتكية رغم عرضها عليه ع ّدة ّ
جيدا يف تركيا" ]158[.عاد أرطغرل عثمان إىل تركيا يف سنة 1992م،
هنوض الدولة -العثمانية من جديد -،وأفاد أن "الدميقراطية تسري سريانًا ً
وكانت تلك املرة األوىل اليت يدوس فيها أرض وطنه األم منذ نفيه وأفراد األسرة احلاكمة يف عشرينيات القرن العشرين ،وحصل على اجلنسية
يُعترب "إبراهيم توفيق" ،وهو حفيد حفيد السلطان عبد اجمليد األول الوريث األول لعرش آل عثمان ،كذلك تقول احلكومة الرتكية أن أحد املواطنني
األمريكيني من أصل تركي ،وامسه "عدنان گلكور" ،هو الوريث األصغر لعرش الدولة العثمانية]161[.
االقتصاد
رسم للسوق الكبري املغطى يف اآلستانة خالل العهد العثماين .بىن السلطان حممد -الفاتح هذا السوق إلنعاش اقتصاد املدينة -بعد أن فتحها ال سيما
اعتىن العثمانيون بالعواصم املختلفة لدولتهم عناية خاصة ،فجعلوا من مدن بورصة وأدرنة والقسطنطينية مراكز صناعية وجتارية مهمة يف الشرق
الثاين وحفيده سليم -األول ،فخالل عهد هؤالء السالطني فُتحت مناطق كثرية يف أوروبا الشرقية والعامل العريب ،وكان العثمانيون ينقلون معهم
أيضا كان
غالبًا أمهر الصنّاع واحلرفيني إىل عاصمتهم ،كما فعل السلطان سليم -األول عندما فتح تربيز ومن مث القاهرة ]163[،ويف ذلك العهد ً
عدد من املسلمني واليهود األندلسيني قد غادر شبه اجلزيرة األيبريية بفعل اضطهاد اإلسبان هلم بعد سقوط األندلس -،فاستقبلهم -العثمانيون وقدموا
نظّم العثمانيون ماليّة دولتهم وخزينتها بشكل أفضل وأكثر فعاليّة من أي دولة إسالمية سابقة ،واستمر نظامهم املايل أفضل نظم عصره وفاق مجيع
النظم املالية لكل الدول من إمرباطوريات ومجهوريات وممالك وإمارات معاصرة حىت القرن السابع عشر ،عندما أخذت الدول األوروبية الغربية
تتفوق عليها يف هذا اجملال ]165[.يُعزى ازدهار اخلزينة العثمانية خالل العصر الذهيب للدولة إىل إنشائهم لوزارة خاصة ختتص باألمور املالية للدولة
من إنفاق واستدانة وإدانة ،عُرفت الح ًقا باسم "وزارة املالية" -،وكان يرأسها شخص خمتص هو "الدفرتدار" الذي أصبح يُعرف الح ًقا باسم "وزير
املالية" ] 165[،وكان حلسن تدبري بعض وزراء املالية أثر كبري يف جناح فتوحات السالطني ومحالهتم العسكرية ،إذ استطاعوا بفضل هؤالء وسالمة
سياستهم املالية اليت رمسوها للدولة -،أن يصرفوا على اجليش ويزودوه بكامل املعدات الالزمة وأحدث أسلحة العصر]166[.
العملة
كانت العملة العثمانية يف بداية عهد الدولة تُعرف باسم "الغروش" أو "القروش" ،وكانت تُسك من معدن الربونز النحاس ،ويف أواخر عهد الدولة-
أصبحت "اللرية" مرادفًا السم العملة العثمانية ،وكان يُضاف إليها اسم السلطان الذي صدرت يف عهده ،فكان يُقال "لرية جميدية" -و"لرية رشادية"
عبارة عن نقود ذهبية يف بادئ األمر ،مث أصدرت الدولة يف عهد احلرب العاملية األوىل أوراقًا نقدية ألول مرة يف تاريخ البالد ،بسبب املبالغ الطائلة
اليت أنفقتها على احلرب ] 167[،وأكثرت من الكميات اليت أنزلتها إىل السوق ،فهبطت قيمة هذه العملة بالنسبة للنقد الذهيب والفضي ،هبوطًا
تصر على اعتبار اللرية الورقية مساوية للرية الذهبية -،وكانت جترب الناس على قبضها والتعامل هبا ]167[.تعامل
كبريا ،ولكن احلكومة كانت ّ
ً
أيض ا بالعملة املصرية ،ومنها اكتسبت النقود تسمية "مصاري" و"مصريات" اللتان ال تزاالن تستعمالن يف بالد
الشوام يف أواخر العهد العثماين ً
التجارة
مجيع أنواع السلع والبضائع تباع وتشرتى يف هذه املراكز التجارية ،وكان بعضها يتخصص يف بيع أنواع معينة من البضائع ،مثل اجملوهرات أو
البُسط أو األقمشة أو البهارات أو الكتب أو العطورات ،وكان يوجد حول تلك املراكز بياعو احلاجيات اليومية من أغذية -أو وقود أو مواد خام[.
]168
كانت التجارة الدولية يف القرن الرابع عشر بيد الربتغاليني والبنادقة ،وكانت البضائع الثمينة تتجمع يف املوانئ ،حيث تتم التجارة فيها عن طريق
النقل البحري بواسطة السفن .كانت الدولة العثمانية على وعي بأن ازدهار التجارة يف أي بلد يساعد على ازدهاره ،وختلفها يعين ختلفه .لذا قامت
وأمنت بذلك حتول التجارة إىل الطريق الربي مرة أخرى ]168[.لذا بنت اخلانات ومراكز التجارة على الطرق
بإحياء طريق احلرير التارخييّ ،
التجارية املهمة ،وأنشأت هذه املراكز يف داخل املدن أيضاً .واستطاعت الدولة -بتحقيقها األمن واألمان للتجارة والتجار يف أراضيها الواسعة
وتيسري سبل التجارة أمامهم -السيطرة على التجارة الدولية بدءً من القرن الرابع عشر حىت القرن السابع عشر]168[.
التج ار يف العهد العثماين على نوعني :التجار املتجولون ،والتجار املقيمون يف املدن .فكانت مباين البدستان حمل عمل التجار املقيمني يف املدن
كان ّ
ومركز ا لتعيني أسعار البضائع ،كما كانت دائرة الستيفاء الضرائب .وكان املوظفون الرمسيون الذين يعيّنون األسعار ويستوفون الضرائب يقيمون
ً
هناك ،لذا مل يكن يُسمح بزيادة األسعار خارج احلد املعقول ،أي مل يكن يُسمح بالتعامل بالسوق السوداء ]168[.كان أصحاب احلرف املختلفة
يعملون -يف البدستان كعائلة واحدة ،وكانت هلم منظمات ذات تقاليد عريقة ومستقرة مثل "نقابة األخوة" .ومل يكن يؤخذ إىل هذه النقابة من
أصحاب املهن من مل مير مبرحلة التدريب والتعليم اليت تتدرج من مرحلة املتعلم الناشئ أو العامل املبتدئ إىل املتدرب إىل املعلم أو "األسطة"[.
]168
الزراعة والصناعة
وحوضي دجلة والفرات ،ووادي النيل ،وسهول -آسيا الصغرى ومشال أفريقيا .وقد اشتهرت مجيع هذه املناطق يف سائر العصور خبصب تربتها
ّ
متنوعا ،فالقمح احلبوب األخرى كان يُعتمد يف إنتاجها على سهول الشام ومصر واألناضول،
ووفرة مياهها وغىن إنتاجها .وكان اإلنتاج الزراعي ً
وزيت الزيتون كان يُنتج يف الشام واألناضول والبلقان .واشتهرت اليونان وسوريا ولبنان وفلسطني وبعض أحناء مشايل أفريقيا بالفاكهة واألمثار،
كالعنب والتني والكرز واخلوخ واإلجاص والتفاح والدراق والسفرجل واللوز وغري ذلك ]169[.ومل تكن الثروة احليوانية أقل أمهية من اإلنتاج
الزراعي ،فقد كانت قطعان الغنم املاعز البقر واإلبل وجواميس املاء سارحة يف هضاب البلقان وآسيا الصغرى وبوادي الشام ووادي النيل]169[.
وانتشرت يف الكثري من أحناء الدولة الصناعات الغذائية واملستخرجة من مصادر حيوانية ونباتية ،وأبرزها صناعة احلرير والصوف والصابون]169[.
ويف عصر الدولة الذهيب نشطت الصناعة العسكرية لتليب حاجة اجليوش الفاحتة ،ويف مقدمتها صناعة األسلحة النارية من بنادق ومسدسات ومدافع،
ويف الكثري من األحيان توىّل هذه الصناعة مهندسون جمريون ومنساويون وفرنسيون وسويديون -،وتليها صناعة األسلحة -البيضاء من سيوف ورماح
.ونبال ،وصناعة الدروع .وقد تضائلت أمهية هذه الصناعة مع ازدياد ضعف الدولة وتراجعها مقابل تقدم أوروبا الغربية
نظام احلكم
تنظيما بسيطًا لدولتهم ،حيث ابتكروا جهازين إداريني للحكم -:جهاز إداري مركزي وجهاز إداري حملي ،وكان يتم اتباع هرميّة
اتبع العثمانيون ً
قمة هذا اهلرم .أخذ العثمانيون بالكثري من العادات
معينة يف كل جهاز منها ،وكان السلطان بوصفه حاكم البالد ،وخليفة املسلمني ،يقبع على ّ
العربية والفارسية -والبيزنطية يف تنظيمهم لألجهزة اإلدارية ،ودجموا معها بعض العادات الرتكية القدمية ،وصهروها كلها يف بوتقة واحدة مميزة ،مما
جعل الدولة العثمانية تظهر مبظهر الوريث الشرعي جلميع تلك احلضارات اليت سبقتها]170[.
".السلطان أمحد الثالث يستقبل السفري الفرنسي "شارل آل فريول" يف الديوان السلطاين سنة ،1699بريشة "جان بابتيست ڤامور
املناصب اإلدارية املركزية أو اإلقليمية -.أما الطبقة احلاكمة فكان يُشار إىل أفرادها باسم "العساكرة" أو "العسكر" ،ومفردها "عسكري" ،وهي
تشمل :الدفرتدار ،أي الشخص امل كلف بالشؤون املالية وحساب موارد الدولة ومصاريفها؛ الكاهية باشا ،وهو املوظف العسكري الذي يتكلف
ُ
بتسري الشؤون العسكرية للدولة؛ الشاويش باشا (بالرتكية -العثمانية :چاويش پاشا؛ نقحرة :تشاويش پاشا) وهو موظف ينفذ األحكام القضائية اليت
يصدرها القضاة؛ رئيس الكتّأب ،وشيخ اإلسالم وطبقة العلماء .كان السلطان العثماين هو صاحب القرار النهائي الفاصل يف أغلب األحيان ،وقد
استمر األمر على هذا املنوال حىت عهد السلطان مراد الرابع ،عندما ازداد نفوذ الديوان وأخذ السالطني ال يشاركون يف جلساته أكثر فأكثر.
جرت العادة منذ العهد العثماين على إطالق تسمية" -الباب العايل" على احلكومة العثمانية ،وهي تسمية تعين يف األصل قصر السلطان ،ومع مرور
.الوقت أصبح املقصود بالباب العايل :أعلى سلطة -تتجسد يف قوة السلطان املستمدة من قوة جيشه
عمرا ]171[،وكان رأس األسرة هو السلطان ،وهو يف نفس الوقت رأس الدولة،
تعترب الساللة العثمانية أطول سالالت األسر اإلسالمية احلاكمةً -
حكما مطل ًقا ،وال يقيده إال حدود
وخليفة املسلمني ،وكان يُشار إليه باسم "پاديشاه" مبعىن "ملك امللوك" أو "سيّد امللوك" ،وكان حيكم الدولةً -
الشريعة اإلسالمية ،حيث كان شيخ اإلسالم يتمتع -بسلطة عزل السلطان لو ثبت أنه ختطى حدود الشريعة أو أصيب بعاهة عقلية أو جسدية متنعه
من ممارسة عمله واالهتمام بشؤون العباد على أكمل وجه[.معلومة ]14وقد كان السالطني األوائل الذين بلغت الدولة يف عهدهم -ذروة جمدها
وزراء كانوا أحيانًا مثاالً للفساد ،وأحيانًا أخرى مشفقني على الدولة من االهنيار ،كما كانوا يقومون بإصالحات تعطي الدولة حيوية متكنها من
إدارة أمورها لسنوات ع ّدة ] 172[.كانت األسرة العثمانية أسرة تركية من الناحية العرقية واإلرثية فقط ،ويف واقع األمر أصبح البيت العثماين يف
ذروة اتساع الدولة عبارة عن مزيج ثقايف واسع للحضارات والثقافات اجملاورة ،األمر الذي جعل العنصر الرتكي للدولة يفقد هيمنته مع مرور
الزمن ،وأصبحت -الدولة ككل يُشار إليها يف أوروبا باسم "املشرق" ]173[.كان لكل سلطان ختم خاص به يُصنع يف بداية عهده ويستخدمه
يُالحظ خالل مدة القرنني السابع عشر والثامن عشر ،ضعف اهتمام السالطني مبزاولة شؤون الدولة -.وكان عدد من هؤالء السالطني ،قبل أن
يتولوا العرش ،سجناء يف دار احلرمي أو يف أقبية ،ما انعكس سلبًا على سلوكهم خالل توليهم احلكم ،ومنهم من كان شديد -اإلسراف يف األهبة
تأثريهن
ّ والقتل ،فيما البعض اآلخر ُش غل بالقنص ومعاقرة اخلمر والفساد والسطو على مالية الدولة وأخذ الرشوة وبيع املناصب ،وكان لنساء القصر
حكمهن]175[.
ّ وخصوصا يف القرن السابع عشر ،حيث كانت الدولة يف بعض األوقات حتت
ً القوي على السالطني،
ّ
استمر السالطني هم احل ّك ام الفعليني للدولة منذ عهد مصطفى الرابع حىت عبد احلميد الثاين ،عندما أصبح تسيري أمور البالد بيد مجعية االحتاد
ظل اهلل يف األرضني وسلطان البحرين وخادم احلرمني الشريفني ،ملك األناضول والروملي
متوج امللوك ّ
املؤمنني وخليفة رسول رب العاملنيّ ،
وقرمان الروم ووالية ذي القدريّة وديار بكر وكردستان وأذربيجان والعجم والشام وحلب ومصر ومجيع ديار العرب واليمن وممالك كثرية أخرى،
.الصدر األعظم "إبراهيم باشا" يستقبل أعضاء الوفد الفرنسي إىل الباب العايل بتاريخ 10أكتوبر سنة 1724م
وأول من لُقب بالصدر األعظم كان الوزير "خليل خري الدين باشا" وزير
كان لقب "الوزير" هو املستخدم خالل املراحل األوىل للدولة -العثمانيةّ -.
السلطان مراد األول .والغرض من اللقب اجلديد -هو متييز حامل اخلتم السلطاين من الوزراء اآلخرين .مث بدأ اللقب اجلديد "صدر أعظم" -حيل حمل
اللقب القدمي "وزير أعظم" -تدرجييًا وإن كانا هلما نفس املعىن والرتبة .وخالل التاريخ العثماين ظهرت ألقاب جديدة للصدر األعظم مثل الصدر
العايل والوكيل املطلق وصاحب الدولة والسردار األكرم والسردار األعظم والذات العايل .وقد برزت أمهية الصدور العظام بعد عهد السلطان
سليمان القانوين ،عندما أصبحوا يتولون شؤون الدولة ،ومن أشهرهم آل "كوبرويل" ]178[.وبعد فرتة التنظيمات يف القرن التاسع عشر ،أصبح
من يتوىّل منصب الصدر األعظم يقوم بدور أكرب مما هو يف منصب رئيس الوزراء يف امللكيات الغربية .وبعد إقرار دستور سنة 1908أصبح
ابتزاز ما ُدفع من الضرائب الباهظة اليت كان يفرضها على الرعيّة ومن املوظفني اخلاضعني لسلطته -،كما كان طبيعيًا أن يعمد هؤالء املوظفون
وع رف هذا النظام ،أي جباية الضرائب السنوية عن مساحة من األرض من أهلها من
بدورهم إىل ابتزاز املال مبختلف الوسائل من أفراد الشعبُ ،
متميز ا عن غريه من الوالة بإضافة منصب إمارة احلج عليه ،وكانت مهمة "أمري احلج"
الفالحني ،باسم "نظام االلتزام" ]143[.كان وايل الشام ً
حجاجا من أحناء بالد الشام واألناضول والبلقان ،وتأمني ما يلزم لسالمة احلجاج ،من ماء وجنود
ً اإلشراف على قافلة احلج الشامي اليت تضم
ودليل خبري بالطريق أو أكثر من دليل ،وغري ذلك من األمور .كان عدد واليات الدولة يتفاوت بني احلني واآلخر ،وفق ما تكسبه أو تفقده من
أنشأ العثمانيون خالل بعض الفرتات من تارخيهم تقسيمات إدارية حملية جديدة -،ففي عهد التوسع والفتوحات أصبحت الدولة تضم ألوية جديدة
وعني على رأس كل والية أمري أمراء األلوية ،ولقبه "بكلر بك".
كان من الصعب ربطها بالعاصمة ،فاضطرت إىل ضم عدد منها يف والية واحدةُ ،
كذلك أنشأ العثمانيون نظام "املتصرفية" خالل فرتة أفول جنم الدولة -،بضغط من األوروبيني ،وهذا النظام يهدف من األساس حلماية األقليات
نوع ا من االستقالل الذايت ،كما يف حالة متصرفية جبل لبنان ،أو حلماية بعض املناطق املقدسة -عند أهل الكتاب
الدينية -املسيحية يف الدولة وإعطائها ً
"املتصرف" ،ويف حالة متصرفية جبل لبنان ،فقد كان
ّ عموما ،مثل متصرفية القدس .وكان يُعني على رأس املتصرفية موظف عثماين يُعرف باسم
ً
جيب أن يكون مسيحيًا عثمانيًا غري لبناين أو تركي]181[.
.السلطان عبد العزيز خان األولّ ،أول سلطان عثماين أسس جملس ذو طابع شبه دستوري
ترجع بداية احلياة الدستورية يف الدولة العثمانية إىل عام 1808م ،وهو العام الذي تبوأ فيه السلطان حممود الثاين عرش السلطنة -،ففي بداية عهده
دعا الصدر األعظم مصطفى باشا البريقدار إىل عقد جملس استشاري يف اآلستانة وعرض فيه برناجمًا إصالحيًا أبرز ما جاء فيه إلزام ح ّكام الواليات
وتعهد الدولة املركزية بالطاعة التامة لقراراته ،وحدد االتفاق العالقات بني ح ّكام الواليات بعضهم ببعض ،وبالتايل بني موظفي
بالوالء للسلطانّ ،
الدولة -على أساس ضمانات متبادلة قائمة على العدالة ]182[.وكان ميكن هلذا االتفاق أن يكون أساس دستور حقيقي للدولة -العثمانية ،إال أنه مل
انتقاصا من سلطته ،لذا قرر إلغاءه عند
ً مضطرا لتصديقه وإصداره ،بفعل أنه ع ّده
ً مرغما ،حني رأى نفسه
يعش طويالً ،فالسلطان مل يوقع عليه -إال ً
سنوح ّأول فرصة ،واستطاع ذلك عندما قُتل البريقدار ،وخالل السنوات التالية أخضع السلطان الواليات العثمانية حلكومة مركزية قوية]182[.
صدرت يف عهد السلطان عبد اجمليد األول قوانني إصالحية ع ّد ة ذات طابع شبه دستوري ،مثل منشور الكلخانة ومنشور التنظيمات اخلريية ،وينظر
جملسا ُعرف باسم "جملس -أعيان الواليات" يتكون من عضوين عن كل والية -،خيتارات من بني أصحاب املعرفة
1856م أنشأ السلطان عبد اجمليد ً
واالحرتام ،هدفه إبداء الرأي باإلصالحات الواجب إدخاهلا على أجهزة الدولة ،على أن يُبدي كل منهم وجهة نظهره يف ذلك .كانت هذه التجربة
األوىل من نوعها يف تاريخ احلياة النيابية يف الدولة العثمانية ،إال أهنا باءت بالفشل لعدم قدرة املندوبني على استيعاب املشكلة برمتها ،كما داخلهم
الشك يف نوايا احلكومة املركزية ]182[.وأنشأ السلطان عبد العزيز األول يف عام 1876م "جملس الدولة" -أو "شوري دولت" ،الذي متيز بطابع
شبه دستوري ،ومشلت اختصاصاته إعداد مشاريع القوانني للدولة وإبداء الرأي للوزارات باملسائل اخلاصة بتطبيق القوانني ،كما كان مبثابة حمكمة
ينظر بالقضايا اإلدارية وحُي اكم املوظفني املتهمني باالحنراف ]184[.وقد ُوصف هذا اجمللس بأنه بداية انطالق جمللس النواب]182[.
احلمية" مدحت باشا أن اإلقدام على هذا العمل جيعل الدول األوروبية تتوقف عن تدخلها يف الشؤون الداخلية للدولة -ال سيما وإنه سيُصلح وضع
الرعايا املسيحيني يف البلقان والشام .تشكلت جلنة عامة برئاسة مدحت باشا ،وجلان فرعية لدرس مشروع الدستور قبل إصداره ،وانتهت بعد
مداوالت طويلة -إىل وضع هيكل للنظام الربملاين يقوم على جملسني -:جملس شيوخ -،يُطلق عليه" -جملس -األعيان" ،وجملس نواب يُطلق عليه" -جملس
املبعوثان"]185[.
كان الدستور العثماين ينص على تقييد السلطة املطلقة للسلطان وإنه حامي الدين اإلسالمي ،يتمتع -شخصه حبرمة قدسية ،وهو غري مسؤول عن
اقرتاحات أعضاء اجمللسني فيجب أن تُعرض على السلطان ،فإذا وافق عليها حُي يلها إىل الربملان عن طريق جملس الدولة الذي يوافق عليها ،وينتهي
األمر بصدور موافقة السلطان ،أما إذا رفض أحد اجمللسني مشروع قانون فال يعيد النظر فيه يف دورة انعقاده نفسها]186[.
بالدستور يف 14فرباير سنة 1878م ،املوافق فيه 11صفر سنة 1295هـ ]182[.وبدأت املرحلة الثانية حني قرر السلطان عبد احلميد إعادة
العمل بالدستور يف شهر يوليو من عام 1908م ،واستمرت إىل ما بعد عهده ،حيث انتهت يف 18مارس سنة 1920م ،املوافق فيه 26مجادى
قرارا
مسمى ،مث أصدر السلطان حممد -السادس يف 11أبريل من نفس العام ً
اآلخرة سنة 1338هـ ،حني قرر الربملان إيقاف جلساته إىل أجل غري ّ
حبله]182[.
وطعموه بكثري من املؤثرات البيزنطية أوالً ،مث بكثري من املؤثرات األوروبية بعد
العصر العبّاسي ،ولكنه امتداد طبعه العثمانيون بطابعهم الرتكي ّ
ذلك]187[.
البنية االجتماعية
.راوي يف إحدى املقاهي يروي قصة لتسلية الناس .كانت هذه الظاهرة الثقافية ظاهرة مشرتكة -بني العديد من املدن يف أرجاء الدولة -العثمانية
اتسم العثمانيون بعدم اتباعهم لسياسة هضم القوميات ،األمر الذي ساعد على منو العصبات احلاكمة وحفظ للقوميات طابعها القومي ،فقد وضع
خاصا ُعرف بنظام "امللل" ،قسموا مبقتضاه الشعوب اخلاضعة هلم ،ووضعوا كل ملّة أو عصبية حتت حكم زعيم هلا هو املسؤول
نظاما ً
السالطني ً
عنها أمام السلطان ]188[.يقول بعض املؤرخني أن هذه السياسة هي أحد األسباب الرئيسية اليت ّأدت لضعف الدولة وانفصال بعض القوميات
عنها يف وقت الحق ،بينما يقول آخرون أن التعددية هي ما كان وراء دوام استمرار الدولة لسنني طويلة ]188[.منح السالطني بعض األقليات
العرقية والدينية حق اإلقامة يف ربوع الدولة العثمانية وأعطوهم األمان ومسحوا هلم مبمارسة شعائرهم الدينية -حبريّة لقاء اجلزية ،كما فعل السلطان
حممد الفاتح مع اليهود والروم الفنارية عندما دعاهم ليسكنوا القسطنطينية .طُبعت بعض املدن الكربى يف الدولة -العثمانية بطابع ثقايف واجتماعي
خمتلط كما القسطنطينية ،كوهنا كانت إما مرافئ جتارية مهمة أو عواصم واليات ،أو ذات أمهية دينية ،ومن هذه املدن اليت ما زالت حتتفظ بطابع
عثماين :سراييڤو ،سكوبيه ،سالونيك ،دمشق ،بغداد ،بريوت ،مكة ،القدس ،واجلزائر ،فال يزال املرء يُشاهد يف هذه املدن عدد من املعامل املعمارية
العثمانية األثرية واحلديثة املبنية على هذا الطراز ،كما أن العديد من سكان هذه املدن نزح إليها من مناطق أخرى خالل العهد العثماين]189[.
كان لالنتماء اجملايل تأثري كبري على وضعية ومكانة صاحب منصب ما يف الدولة العثمانية ،ويتمثل -ذلك يف ترابية أجهزة الدولة وفيما خيص
بروتوكول اإلستقبال .فقاضي الروملي كان أقرب وأعلى مكانة للسلطان من قاضي األناضول ،وهذان القاضيان مها أول من يدخل على السلطان،
يليهما الصدر األعظم مث رئيس الكتّأب ورئيس بيت املال وال يرى غريهم -.وقد اتبع أسلوب التشريفات هذا بعض احل ّكام احملليني وطبقوه كما
التعليم
مدرسة العشائر السلطانية -،أنشئت يف سنة 1892على يد السلطان عبد احلميد الثاين وأغلقت يف سنة ]191[.1907
أمهلت الدولة العثمانية ،خالل مراحل تارخيها ،تنشيط التعليم املدين ،إال يف نطاق املدارس التابعة للهيئة -الدينية اإلسالمية ،وقامت إىل جانب هذه
املدارس ،مدارس امللل بإشراف الطوائف الدينية -غري اإلسالمية أو البعثات التبشريية ]192[.ومل يتطور التعليم يف الدولة العثمانية إالّ يف بداية عهد
السلطان عبد اجمليد األول وباقي السالطني الذين تلوه ،وأبرزهم عبد احلميد الثاين ،الذي أنشأ املدارس املتوسطة والعليا واملعاهد الفنية لتخريج
السلطان عبد اجمليد األول ،فأعاد تنظيمها وفق خطة علمية -،وحتديثها مبناهج دراسية جديدة ،وفتح أبواهبا للطالب القائمني يف العاصمة ،والوافدين
هاما .وأنشأ السلطان بدءًا من عام 1878م ،املدرسة السلطانية للشؤون املالية ،ومدرسة
مركزا ثقافيًا ً
من خمتلف األقاليم العثمانية ،حىت غدت ً
احلقوق ،ومدرسة الفنون اجلميلة -،ومدرسة التجارة ،ومدرسة اهلندسة املدنية -،ومدرسة الطب البيطري ،ومدرسة -الشرطة ،ومدرسة اجلمارك ،كما
كبريا من املدارس
عددا ً
دارا منتشرة يف العاصمة -وحواضر الواليات والسنجقيات ]196[،وأنشأ السلطان ً
عددها يف عام 1908م ،مثان وثالثني ً
الرشدية -اليت كانت مبثابة مدارس متوسطة .ومن اجلامعات الكربى اليت تأسست -خارج احلدود الرتكية -يف أواخر العهد العثماين :الكليّة السورية
اإلجنيلية اليت أصبحت اجلامعة األمريكية يف بريوت ،سنة 1866م ،وجامعة القديس يوسف ،سنة 1874م ،وجامعة القاهرة ،سنة 1908م،
وغريها .يفيد بعض األدباء واملؤرخني الذين عاصروا أواخر العهد العثماين أن اليوم الدراسي كان يبدأ بتالوة سورة الفاحتة ،عند املسلمني ،واملزمور
،23عند املسيحيني ،مث يتلوها عبارة "عاش موالنا السلطان" (بالرتكية -العثمانية :پاديشاه متشوق يا شاه) مث تتلوها ترتيلة تركية]197[.
العبودية
مهما ال غىن عنه يف اجملتمع العثماين ]198[،وكانت هذه الطبقة تتألف من الصبية والبنات األوروبيني الذين
كانت طبقة العبيد تُشكل جزءًا ً
خيطفهم القراصنة أو يتم سبيهم -خالل املعارك واحلروب ،ومن األفارقة الذين كان خيطفهم جتّار الرقيق من قراهم جنوب الصحراء الكربى .ألغى
السلطان حممود الثاين جتارة الرقيق األبيض يف أوائل القرن التاسع عشر ]199[،فتحرر مجيع العبيد من يونانيني وجورجيني وأرمن وشركس،
وأصبحوا مواطنني عثمانيني يتمتعون بسائر احلقوق اليت يتمتع هبا األحرار .إال أن جتارة الرقيق األسود استمرت قائمة حىت أواخر عهد الدولة
العثمانية ،كذلك يفيد بعض املؤرخني أن جتارة اآلمات استمرت قائمة حىت سنة1908 -م ]200[.كان حرمي السلطان يتألف مبعظمه من اآلمات،
شديدا
تزو ج بعض السالطني بآمة أو أكثر مما ملكوا ،مثل السلطان سليمان القانوين ،الذي عشق آمته األوكرانية املدعوة "روكسالنا" عش ًقا ً
وقد ّ
وتزوج هبا ،فولدت له السلطان سليم -الثاين ]201[.وقد حقق بعض العبيد العثمانيني شهرة كبرية ووصلوا إىل مراكز مهمة ،ومنهم علي بك
متر د على الدولة العثمانية ومسى نفسه سلطان مصر وخاقان البحرين (األمحر واملتوسط)]95[،
الكبري يوناين األصل ،الذي كان وايل مصر ،مث ّ
وأمحد باشا اجلزار بشناقي األصل ،الذي أصبح وايل عكا واستطاع صد هجوم نابليون بونابرت على املدينة]202[.
اخصاء العبيد وبيعهم للخدمة يف قصور ملوك الدول املختلفة جتارة رائجة يف العصور القدمية والوسطى وشطر من العصور احلديثة قبل منع الرق
دوليًا ]204[.كانت هناك طائفتان من اخلصيان :اخلصيان السود وهم املخصيون خصاءً كامالً ،واخلصيان البيض وهم املخصيون خصاءً جزئيًا،
وكان يُطلق على رئيسهم "قبو آغاسي" ]205[،يف حني كان يُطلق على رئيس اخلصيان السود ،الذي هو يف الوقت نفسه الرئيس األعلى يف
القصور السلطانية" ،قيزلر آغاسي ،أي "آغا البنات" و"آغا دار السعادة" ]206[،ووضعت الدولة أنظمة -خاصة تُطبق على خدمتهم يف القصور
السلطانية -.وقام تنافس شديد بني هذين النوعني كان مرده رغبة كل فريق االستئثار بالنفوذ األعلى يف دوائر القصور السلطانية ويف شؤون الدولة،
وقد ارتفع مقام رئيس اخلصيان السود نتيجة -اتصاله املباشر بالسلطان ووصل إىل املركز الثالث من حيث األمهية بعد الصدر األعظم وشيخ اإلسالم،
[ ] 205وأضحى الوزراء يتملقونه واملستوزرون يتقربون منه .يتحدر اليوم مجيع األتراك من أصل أفريقي من هؤالء األشخاص الذين عملوا
عُ ين العثمانيون بالناحية العمرانية عناية واضحة ،فأقاموا شبكة واسعة من الطرق واجلسور يف طول الدولة وعرضها مستعينني على ذلك مبهرة
العامة
سهلت حركة املواصالت ّ
الصنّاع البيزنطيني البلغار ]207[.ومع أن هذه الشبكة أنشئت ،يف املقام األول ،ألغراض عسكرية ،إال أهنا ّ
أيضا .كذلك ُع ين العثمانيون بتشييد املدارس ومعاهد التعليم اليت كانت تتسع لسكىن األساتذة والطالّب ،وبإقامة
وأسدت إليها خدمة جليلةً -
الفارسية من الفرس الساسانيون ،وأدخلوا عليها بعض التعديالت حىت أصبحت مسة بارزة يف معظم آثارهم املعمارية ]209[]208[.ازدهرت
راكد ا كما الدولة يف فرتة الركود ،ويف فرتة الحقة أدخل املعماريون أمناطًا
العمارة العثمانية يف عهد التوسع -والفتوحات ،مث أصبح النشاط املعماري ً
.معمارية من أوروبا الغربية ودجموها مع النمط العثماين ،ومن هذه األمناط :الباروكيه -،الروكوكو -،والنمط اإلمرباطوري
.د األزرق
تعترب بعض املساجد من أبرز آثار العمارة العثمانية ،ومنها :مسجد السلطان حممد الفاتح يف إسطنبول -،وقد عهد السلطان حممد -ببنائه إىل مهندس
أيضا،
يوناين يُدعى "خريستو دولوس" ]207[،وهو من أروع آثار العمارة العثمانية وأقرهبا إىل الكمال .ومسجد السلطان أمحد يف إسطنبول ً
مواده البنائية وبزخرفته على الطريقة الفارسية ]207[.ومسجد السلطان سليمان القانوين ،الذي نافس
ومسجد السلطان بايزيد الذي ميتاز بفخامة ّ
يف مجاله آيا صوفيا ،والذي ُع هد بتشييده إىل املهندس العثماين الشهري "سنان آغا" .والواقع أن سنان هذا كان أعظم املهندسني العثمانيني على
ومخسا
اإلطالق ،فقد أنشأ ،باإلضافة إىل هذا املسجد العظيم ،عشرات املساجد األخرى منها مسجد السلطان سليم -الثاين ،أو مسجد سليميةً -،
قصرا ،ومثانية عشر خانًا ،ومخسة متاحف[.
مطعما عموميًا ،وثالثة مستشفيات ،وسبعة جسور ،وثالثة وثالثني ً
ومخسني مدرسة ،وسبعة عشر ً
]207وقد بلغ من براعة سنان آغا وبعض املهندسني الذين تلوه أهنم دجموا يف تصاميمهم -النمط البيزنطي بالنمط الصيين]210[.
الفنون واآلداب
أدب تركي
موسيقيون من حلب يف أواسط القرن الثامن عشر يعزفون على آالت تركية وعربية هي( :من اليسار إىل اليمني) -الدف ،التنبور ،الناي ،الکمانچه،
.وطبلة النقرة
اهتمت الطبقة احلاكمة العثمانية باملوسيقى والطرب ،وبلغ من درجة اهتمام بعض السالطني باملوسيقى والغناء أن نظموا بعض املقاطع املوسيقية
بأنفسهم وحلنوها ،ومن هؤالء السلطان سليم -الثالث .تتميز املوسيقى العثمانية -،كما معظم السمات احلضارية للعثمانيني ،أهنا خليط بني املوسيقى
البيزنطية والعربية والفارسية ،وكانت تُنظم وفق وحدات إيقاعية تُسمى "أصول" ،ووحدات حلنيّة تُسمى "مقام" .استخدم العثمانيون أدوات
موسيقية ابتُكرت يف آسيا الوسطى مثل الساز والکمانچه ،وأخرى ابتكرها العرب مثل العود والتنبور القانون الناي ،ومن مث أضافوا إليها بعض
األدوات األوروبية مثل الكمان البيانو .برز نوعان من املوسيقى يف الدولة العثمانية بفعل اتساع رقعة الدولة وبعد األقاليم عن بعضها البعض:
املوسيقى العثمانية التقليدية أو الكالسيكية -،واملوسيقى العثمانية الفلكلورية؛ وكان هناك أشكل مميزة من املوسيقى العثمانية أبرزها :موسيقى
اإلنكشارية ،وموسيقى الغجر ،وموسيقى الرقص الشرقي ،وموسيقى الرتك الفلكلورية .وقد اقتبس اليونانيون الشوام املصريون وبعض الشعوب
تأثّر الشعر العثماين بنظريه الفارسي بشكل كبري ،وبالشعر العريب إىل حد أقل ،وكان هلذا الدمج بني اللغتني العربية والفارسية تأثري كبري يف نشأة
اللغة الرتكية العثمانية ] 211[،وقد استمر الشعراء ،وبعض السالطني العثمانيني ،ينظمون الشعر بالفارسية والعربية حىت وقت متأخر من القرن
التاسع عشر ،عندما أخذ األتراك يلجؤون إىل اللغة الرتكية -يف نظم الشعر ]212[.كان النثر العثماين عبارة عن سرد ألحداث قدمية وقعت بالفعل،
قصصا خيالة
.واستمر بصفته هذه حىت القرن التاسع عشر عندما تأثّر بالروايات األوروبية -،وخاصةً الفرنسية -،وأخذ الكتّأب يبتدعون ً
أمهل العثمانيون فن التمثيل يف بداية عهدهم -،واستعاضوا عنه بعروض الدمى املتحركة -،املعروفة باسم "كركوز وعواظ" ،وقد انتشرت هذه الظاهرة
الثقافية يف معظم البلدان الشرقية اخلاضعة للدولة -،وجلأ إليها الناس للرتفيه عن أنفسهم طيلة العهد العثماين ،واستمرت قائمة يف بعض األماكن حلني
املطبخ
.قهوة تركية -،من أبرز مسات املطبخ العثماين املشرتكة حاليًا بني تركيا وبالد الشام والبلقان ومشال أفريقيا
سائد ا يف العاصمة وعواصم الواليات ،وما زالت مطابخ هذه املناطق العثمانية السابقة متطابقة أحيانًا
يُقصد باملطبخ العثماين ذاك املطبخ الذي كان ً
ومشرتكة -يف أنواع معينة من املأكوالت يف أحيان أخرى .إنصهرت هذه املطابخ مجيعها يف اآلستانة ،ذلك أن السالطني كانوا حييطون أنفسهم
بعدد من الطبّاخني من خمتلف الواليات العثمانية ،ويسمحون هلم بتجربة أشكال جديدة من الوصفات أو خلط تلك اخلاصة هبم مع أخرى خاصة
بشعب آخر .وكان هؤالء الطباخني ينشرون املأكوالت اجلديدة اليت تعرفوا عليها يف العاصمة يف بلداهنم عندما يرجعون إليها ،وهبذه الطريقة،
والبوسين واحلليب واللبناين والفلسطيين والدمشقي وغريها -.من أبرز املأكوالت املشرتكة بني تركيا وعدد من الواليات العثمانية السابقة :القهوة
.الرتكية -،اللحم بعجني ،الكباب املعروف باسم "الشاورما" ،اليربق أو "ورق العريش" أو "ورق العنب" ،البقالوة ،وغريها كثري
الدميغرافيا
يُشكل احتساب عدد سكان الدولة العثمانية موضع جدال بني املؤرخني ،ذلك ألن املصادر األوىل اليت تشري هلذه املسألة ضئيلة ومبهمة -.ومل تعتمد-
الدولة -العثمانية إحصاءًا للسكان باستخدام األساليب احلديثة حىت سنة 1831م ،ومل يظهر اإلحصاء الرمسي األول حىت سنة 1881م ]215[،إال
أن هذه اإلحصاءات ال تساعد بالرغم من هذا على حتديد -إمجايل عدد السكان ،فإحصاء سنة 1831 -على سبيل املثال إحتسب الرجال فقط دون
النساء ومل ي ِ
غط كافة أحناء الدولة]216[.ُ
اللغة
كان هناك ثالث لغات كربى سائدة يف الدولة العثمانية :الرتكية -،وهي اللغة األم لألتراك ،وقد تكلّم هبا أغلبية -سكان األناضول وتراقيا ،باإلضافة
إىل املسلمني البلقانيني عدا األلبان وسكان البوسنة ،وبطبيعة احلال انتشرت اللغة الرتكية بني األشخاص املثقفني من غري األتراك وبشكل خاص
أولئك املوظفني يف الدوائر احلكومية ]217[.كذلك كان للغة الفارسية انتشار حمدود بني املثقفني العثمانيني ]217[،أما ثاين لغة من حيث األمهية
فكانت اللغة العربية ،وقد تكلمها سكان املناطق العربية اخلاضعة للحكم العثماين ،باإلضافة إىل األتراك وباقي الشعوب املسلمة يف الدولة ،كوهنا
انتشرت بعض اللغات األخرى على نطاق ضيّق يف الدولة العثمانية ،ومنها :الكردية ،والصربية ،واليونانية ،واجملرية ،واألرمنية ،والبلغارية ،كذلك
كان لبعض الطوائف لغاهتا الطقسية اخلاصة ،مثل السريانية والقبطية للمسيحيني الشوام واملصريني ،والعربية بالنسبة لليهود .اقتبس العرب ،وبشكل
خاص الشوام واملصريني عدد من الكلمات الرتكية وأصبحت -تشكل جزءًا من لغة التواصل اليومية يف بالدهم -،ومن هذه الكلمات :بصمة -،وأصلها
"باصماق" وتشري إىل وطأة القدم؛ "بلكي" وتعين التوقع واالحتمال؛ "بويا" أصلها "بوياغ" وتعين الطالء؛ "مجرك" وتعين الضريبة اليت تؤخذ على
أيضا لإلشارة يف السري إىل األمام؛ "أوضة" -أصلها "أودة" وتعين غرفة؛ "برطمان" أي
البضائع" ،دوغري" أصلها "دوغرو" وتعين املستقيم ،وتُستخدم ً
الدين
كان اإلسالم هو الدين الرمسي يف الدولة العثمانية ،وقد اعتنقته األغلبية الساحقة من السكان يف الواليات اآلسيوية -واألفريقية ،ويف بعض أحناء
البلقان ،وف ًق ا للمذهب السين ،وكان هناك أقلية شيعية تنتشر بشكل رئيسي يف بعض مناطق العراق كالنجف وبعض أحناء الشام ،كذلك كان هناك
نسبة قليلة من الدروز والعلويني يف لبنان وسوريا وفلسطني واألناضول -.اتبع عدد من املسلمون العثمانيون األتراك ،مبا فيهم كثري من السالطني،
ع ّد ة طرق صوفية ،ومنها الطريقة البكداشية واملاتردية والباطنية واملولوية -.ظهرت خالل العهد العثماين حركة عقائدية صوفية كربى ذات أبعاد
سياسية واقتصادية ،وانطوت على حماولة التقريب بني اإلسالم واملسيحية واليهودية ،تلك كانت حركة الشيخ "بدر الدين" ،وهي تتصدر أهم
احلركات الدينية واالجتماعية -على مدار التاريخ العثماين ،كون الداعي هلا قال ببعض األفكار اليت تناقض املعتقدات اإلسالمية ،ومنها إنكار اجلنة
وقص ر الشهادة على قسمها األول ،أي "ال إله إال اهلل" وحذف نصفها الثاين ،أي "حممد -رسول اهلل"،
والنار ويوم القيامة واملالئكة والشياطنيّ ،
ودعا إىل الزهد املطلق واملهدي املنتظر .وقد متكنت هذه الدعوة من جذب الكثري من املسيحيني وقليل من اليهود وعدد من املسلمني -،وقد استطاع
العثمانيون إيقاف هذه الدعوة وحتجيمها ،لكن اتباعها استمروا ،وأصبحوا يعرفون باسم "العالهيني"]219[.
.بطاقة بريدية -عثمانية من أوائل القرن العشرين تُظهر كنيسة القديس أسطفان البلغارية يف اآلستانة
مسح العثمانيون لليهود واملسيحيني أن ميارسوا شعائرهم الدينية حبرية حتت محاية الدولة ،وف ًقا ملا تنص عليه الشريعة اإلسالمية ،وهبذا فإن أهل
الكتاب من غري املسلمني كانوا يعتربون رعايا عثمانيني لكن دون أن يُطبق عليهم -قانون الدولة ،أي أحكام الشريعة اإلسالمية ،وفرض العثمانيون-،
كجميع -الدول اإلسالمية من قبلهم ،اجلزية على الرعايا غري املسلمني مقابل إعفائهم من اخلدمة يف اجليش .كانت امللّة األرثوذكسية أكرب امللل غري
اإلسالمية يف الدولة العثمانية ،وقد انقسم أتباعها إىل ع ّد ة كنائس أبرزها كنيسة الروم ،واألرمن ،واألقباط ،والبلغار ،والصرب ،والسريان ،وكانت
جمايل السياسة
خص العثمانيون املسيحيني األرثوذكس بعدد من االمتيازات يف ّ
هذه الكنائس تُطبق قانون جستنيان يف مسائل األحوال الشخصيةّ .
والتجارة ،وكانت هذه يف بعض األحيان بسبب والء األرثوذكسيني للدولة العثمانية ]221[]220[.اتبع بعض املسيحيني اخلاضعني للدولة-
العثمانية املذهب الكاثوليكي ،لكنهم كانوا يشكلون أقلية طيلة عهد الدولة ،وقد انتمت معظم الكنائس الكاثوليكية إىل الفرع الشرقي ،وأبرزها:
الكنيسة املارونية والكنيسة اآلشورية والروم الكاثوليك وغريها .كانت عالقة الدولة العثمانية ببعض الكنائس عالقة سلمية أغلب عهدها ،فكان
الروم األرثوذكس يذعنون عن طيب خاطر للسلطان طاملا مل يتعرض هلم أحد يف دينهم -،ومسح السالطني ،وأوهلم حممد الفاتح ،مسحوا لألرمن ببناء
كنائسهم داخل حدود اآلستانة ،فيما كان البيزنطيني يعتقدون أن األرمن هراطقة ومل يسمحوا هلم مبمارسة شعائرهم داخل جدران القسطنطينية،
امتياز ا ميزهم عن سائر الطوائف املسيحية ،وهو عدم وجوب طلب البطريرك واملطارنة الفرمان من الباب العايل ،كي
وأعطى العثمانيون للموارنة ً
ودجمت يف
تعرتف احلكومة بسلطتهم -على رعاياهم ]222[،وأعاد العثمانيون إنشاء الكنيسة البلغارية األرثوذكسية -،بعد أن كانت قد ُحلّت ساب ًقا ُ
جسم كنيسة -الروم األرثوذكس]223[.
األندلسيني املسلمني إىل أحناء خمتلفة من الدولة -،وبشكل خاص اآلستانة وسالونيك وبعض مدن الشام ومصر ،وكان رئيس الطوائف اليهودية
العثمانية كانت تقوم على تشجيع -اليهود على اهلجرة إىل ممتلكاهتا ،غري أهنا كانت ختشى أن يقيم اليهود دولة هلم يف منطقة حول القدس ،فيؤدي
ساءت عالقة العثمانيني بالعديد -من الطوائف غري اإلسالمية يف أواخر عهد الدولة ألسباب خمتلفة ،منها بروز احلركات القومية اليت تبنتها شعوب
غالبًا ما كانت تتعاطف معها بعض الطوائف كوهنا تنتمي لذات القومية أو املذهب الديين ،وعند -نشوب احلرب العاملية األوىل ضيّق العثمانيون
منعا حلصول أي اتصال بينهم -وبني أعداء الدولة من الربيطانيني والروس والفرنسيني ،وخالل هذه الفرتة ارتكبت
اخلناق على الرعايا املسيحيني ً
الدولة -بضعة أعمال واختذت بعض اإلجراءات اليت جنم عنها قتل وتشريد الكثري من املسيحيني واليهود ،وقد اعترب البعض هذه األعمال جمازر
.ومذابح هادفة الضطهاد األقليات الدينية -،فيما اعتربها آخرون أعمال قد تقوم هبا أي دولة يف زمن احلرب للحفاظ على أمنها
القانون والقضاء
كانت الشريعة اإلسالمية هي أساس القانون العثماين .ويف بادئ األمر كان "قاضي العسكر" هو رأس اهليئة القضائية .مث ُعنّي إىل جانبه قاضيان
آخران أحدمها ألفريقيا والثاين ألوروبا ]180[.ومل تكن سلطة -قضاة اجليش هؤالء مقصورة على الشؤون العسكرية ،بل تعدهتا إىل نواحي القانون
بأكمله .وكان هؤالء القضاة هم الذين يُعينون املوظفني القضائيني والقضاة ونواهبم .وكان يتلو قضاة اجليش يف الرتتيب "العلماء الكبار" وهم قضاة
العاصمة ،مث "العلماء الصغار" الذين كانوا يتولون القضاء يف عشر مدن ثانوية من مدن الواليات كبغداد وصوفيا ]180[.أما قضاة الدرجة الثانية
اعتمد السلطان عبد اجمليد األول تدوين القانون املدين العثماين كخطوة من خطواته التنظيمية ،فجعل كبار الفقهاء والعلماء جيمعون التشريعات يف
ما أصبح يُعرف مبجلة األحكام العدلية -.تتكون هذه اجمللة من ستة عشر كتاب أوهلا كتاب البيوع وآخرها كتاب القضاء ،وكل كتاب يتناول
موضوع ومكون من أبواب ،وكل باب مكون من فصول ]226[.صدرت اجمللة سنة 1882م ،وهي تعترب أول تدوين للفقة االسالمي يف اجملال
املدين يف إطار بنود قانونية ،على مذهب اإلمام أيب حنيفة النعمان .وهي القاعدة اليت بُين عليها القانون املدين يف أغلب الدول العربية مثل العراق
.ومصر واألردن
اجليش
مل يكن لإلمارة العثمانية عند قيامها جيش نظامي تعتمد عليه ،وقد وقع عبء الفتوح األوىل على عاتق اجملاهدين والباحثني عن الغنائم ومجاعات
.جندي من اإلنكشارية
يُعترب السلطان أورخان األول مؤسس اجليش العثماين احلقيقي ،فقد أدرك من خالل معاركه حاجته إىل جيش من املشاة يستطيع فتح القالع
جيشا نظاميًا مؤل ًفا من فرق متعددة ،كل فرقة منقسمة إىل
واقتحام األسوار املنيعة ،وال يعرف أفراده حرفة سوى القتال ]227[،فأنشأ أول األمر ً
وحدات تتألف من عشرة أنفار ،ومئة نفر ،وألف نفر ]227[.مث اختار أل ًفا من أسرى احلروب ،وأغلبهم -من صغار السن ،بني السابعة والعاشرة،
وضم إليهم األوالد املسيحيني املشردين واأليتام الذين تويف آباؤهم أو أمهاهتم خالل الغزوات واملعارك ،مث صهر اجلميع يف بوتقة واحدة ،وأنشأهم
ّ
على الدين اإلسالمي وعلى التعلق بشخصه واإلخالص له وللدين -والوطن ،فكان هؤالء هم نواة جيش اإلنكشارية (بالرتكية -العثمانية -:يکيچرى؛
أي اجليش احلديث) ]228[.كان اإلنكشارية ال يعرفون حرفة وال عمل إال القتال واحلرب ،وتألّف اجليش اإلنكشاري من ثالث فرق خمتلفة هي:
السكمان واجلماعة والفرقة ،وكان رئيسه األعلى يُعرف باسم "آغا اإلنكشارية" .تكاثر عدد اإلنكشارية مع الزمن فبلغ يف بعض األحوال ستني
أل ًفا ]228[،ومجيع املؤرخون متفقون على إطراء روح النظام اليت متيّز هبا هؤالء اجلنود يف العصر الذهيب للدولة -،فلم يكن عندهم مكان للخمر أو
جيشا من
والتجديد -،فأبادهم السلطان حممود الثاين عن بكرة أبيهم وألغى مجيع أزيائهم وألقاهبم ]227[.أنشأ العثمانيون إىل جانب جيش املشاة ً
كبريا يف تقدم
دورا ً
الفرسان ُعرف باسم "الفرسان السواري" أو سپاهی ،ويُعرفهم معظم الكتّأب العرب باسم "الفرسان السيباه" ،وقد لعب هؤالء ً
الفتوح عرب أوروبا ،لكنهم أصيبوا بالفساد كما اإلنكشارية يف أواخر عهدهم -،واشرتكوا معهم يف نفس املصري ]229[.عُين العثمانيون بسالح
املدفعية عناية عظمى ،وأنشأوا فرقة خاصة يف اجليش هي فرقة املدفعية أو "الطوجبيّة" -.وكانت املدفعية تتقدم اجليش عند اهلجوم ،يف حني كان
بعد أن قضى السلطان حممود الثاين على اإلنكشارية ،أقدم على إلغاء مجيع الفرق العسكرية غري املنتظمة ،وأضحى اجليش كله -مؤل ًفا من جنود
منتظمني مسلحني بأحدث األسلحة وصل تعدادهم حبلول عام 1826م إىل اثين عشر ألف جندي وارتفع هذا العدد إىل مخسة وسبعني أل ًفا حبلول
عام 1828م ]230[.أطلق السلطان على اجليش اجلديد اسم "العساكر املنصورة احملمدية" -،واستدعى ضباطًا ومهندسني فرنسيني وأملانًا لتدريب
أفراده وفق النموذج األورويب .وأسس السلطان أكادميية عسكرية يف عام 1834م ،وأرسل بعض خرجييها إىل العواصم األوروبية الستكمال
موجودا بصفة رمسية حىت قيام اجلمهورية الرتكية -،عندما أصبحت -مجيع القوات العثمانية إىل جانب
ً دراساهتم العليا ]231[.استمر اجليش العثماين
البحرية واألسطول-
.صورة لألسطول العثماين داخل مضيق القرن الذهيب على بطاقة بريدية أملانية تعود للسنوات األوىل من احلرب العاملية األوىل
.